You are on page 1of 3

‫تطور فكر العالمة شبلي النعماني عن اإلمام ابن تيمية رحمهما هللا‬

‫ديسمبر ‪2019 ,6‬‬


‫بقلم‪ :‬محمد أكرم الندوي‬

‫بسم هللا الرحمن الرحيم‬

‫جاء في آخر مقالي “لماذا نحب ابن تيمية”؟‪ :‬وقال العالمة شبلي النعماني‪“ :‬إن التأليف عن حياة اإلمام ابن تيمية لفريضة أولى‪ ،‬سقط‬
‫الغزالي والرازي من عيني بعد أن اطلعت على هذا الرجل”‪.‬‬

‫فعلق على ذلك شيخنا الجليل مجد بن أحمد مكي‪“ :‬في كالم العالمة شبلي النعماني غلو ظاهر وتعسف وعصبية البن تيمية رحمه هللا‬
‫تعالى وهو رد فعل لغلو المتعصبين على ابن تيمية‪ ،‬واإلنصاف عزيز”‪.‬‬

‫وعلق عليه شيخنا الكريم أحمد عاشور‪“ :‬إن كان العالمة شبلي النعماني بلفظ‪ :‬سقط فالن وفالن من عيني‪ ،‬أو أراد أن منزلتهما العليا في‬
‫نفسه انخفضت بالنسبة إلى حلول من ذكره في نفسه درجة أعلى منها فصارت المنزلة العليا في نفسه له دونهما فيكون سقوطهما بالنسبة‬
‫إليها وبهذا المعنى ال بما قد يتبادر إلى بعض األذهان من سقوطهما الملغي لرفعتهما‪ H‬بالكلية!”‪.‬‬

‫فعلق الشيخ مجد على كالم الشيخ أحمد بقوله‪“ :‬من حقق علوم النظر قطع بأن ابن تيمية ال يلحق مثل الغزالي وال يكاد‪ ،‬نعم هو أرفع منه‬
‫في علوم األثر فلو قيد النعماني كالمه بذلك ألنصف”‪.‬‬

‫فرأيت أنه من ظلم شبلي أن يحكم الناس عليه بنا ًء ا على كلمة منه مقتضبة‪ ،‬وما أحسن ما قاله العالمة حميد الدين الفراهي في كتابه “فاتحة‬
‫تفسير نظام القرآن”‪ … ” :‬وربما نقلوا األقوال من غير استيعاب الدالئل‪ ،‬فهذا ظلم على قائله‪ ،‬وظلمة على من يسمعه” ص ‪ ،39‬ومن ثم‬
‫استحسنت أن أعرض تطور فكرة العالمة شبلي النعماني عن اإلمام ابن تيمية رحمهما هللا‪ ،‬وتأثيره في العالمة السيد سليمان الندوي‬
‫ومفكر اإلسالم أبي الحسن علي الحسن الندوي رحمهما هللا تعالى‪ ،‬فال نقترف جريمة ظلم شبلي النعماني‪.‬‬

‫موقف شبلي من ابن تيمية‪:‬‬


‫كان شبلي أصوليا متكلمًا‪ ،‬مدافعً ا‪ H‬عن مذهب أهل السنة والجماعة‪ ،‬مترددا بين األشاعرة والماتريدية‪ ،‬مع ميل إلى مذهب المحدثين وإشادة‬
‫بجهود اإلمام ابن تيمية رحمه هللا تعالى في الرد على األشاعرة‪ ،‬وقام مع تنويهه ببعض آراء األشاعرة‪ ،‬بانتقادهم في تفلسفهم الغالي‪،‬‬
‫وإضاعتهم جهودهم في المسائل التي التهم اإلسالم‪ ،‬وإثارة كثير من الشكوك والشبهات‪ H‬التي قادتهم إليها عقليتهم المصطنعة‪ ،‬يقول‪:‬‬
‫“يشتمل جزء كبير من كالم األشاعرة على الرد على الفلسفة اإلغريقية‪ ،‬ال شك أن روح علم الكالم هو الرد على قضايا الفلسفة التي‬
‫تعارض اإلسالم‪ ،‬لكن المتكلمين ارتكبوا أخطاء شنيعة‪ ،‬فكثير من القضايا التي كانوا يرونها من الفلسفة اليونانية التمت إليها بصلة‪ ،‬بينما‬
‫كانت كثير من آراء فالسفة اليونان التعارض اإلسالم في الغالب” (علم الكالم ‪.)90‬‬

‫كان علماء الحنفية في القديم متبعين لمذهب أبي منصور الماتريدي‪ ،‬حتى إن ابن األثير كتب في حوادث سنة ست وستين وأربع مائة‪:‬‬
‫“وهذا مما يستظرف أن يكون حنفي أشعريا”‪ ،‬ومال العلماء المتأخرون من الحنفية إلى مذهب األشاعرة‪ ،‬وذلك بتأثير اإلمامين الغزالي‬
‫والرازي‪ ،‬ولكن شبلي لم يرض بهذا المنهج التقليدي‪ ،‬فرد على األشاعرة أخطاءهم‪ ،‬وقبل من الماتريدية ما وافق الصواب من آرائهم‪.‬‬
‫وأشاد في كتاباته بفضل اإلمام ابن تيمية رحمه هللا تعالى‪ ،‬ونوه بانتقاداته للفالسفة والمتكلمين‪ ،‬يقول شبلي‪“ :‬اضطلع ابن تيمية من علم‬
‫الكالم‪ ،‬ونظر في الطرق الكالمية نظرة بحث وتحقيق‪ ،‬درس كالم األشاعرة فوجد فيها مسائل لم ينتقدها أحد مع أنها كانت تستحق النقد‪،‬‬
‫فقام ابن تيمية بكل حرية واستقالل بإبطال هذه المسائل” (علم الكالم ‪.)102‬‬

‫كان شبلي معج ًب ا باإلمام الغزالي أيما إعجاب‪ ،‬ويبدو أنه صار له ميل في آخر حياته إلى مذهب المحدثين‪ ،‬وذلك بفضل ما اطلع عليه من‬
‫كتب شيخ اإلسالم ابن تيمية رحمه هللا تعالى‪ ،‬فأغرم به‪ ،‬وظهر له فضله على غيره‪ ،‬وكانت هذه خطوة جريئة منه في جو الهند المعادي‬
‫لإلمام ابن تيمية أشد المعاداة‪ ،‬ونوى أن يؤلف كتابا حافال عن حياته‪ ،‬ولكن المنية أعجلته‪ ،‬يقول في إحدى رسائله‪“ :‬إن التأليف عن حياة‬
‫اإلمام ابن تيمية لفريضة أولى‪ ،‬سقط الغزالي والرازي من عيني بعد أن اطلعت على هذا الرجل” (مكاتيب شبلي ‪.)115 :2‬‬

‫يقول تلميذه السيد سليمان الندوي‪“ :‬كان إعجابه بالغزالي ثم الرازي أكبر لما ألف كتابه (الكالم)‪ ،‬ولما طبعت كتب العالمة ابن تيمية‬
‫واطلع عليها غلب عليه لون ابن تيمية‪ ،‬وكانت بداية ذلك (الرد على المنطقيين) … وكان يقول لي في آخر حياته‪ :‬أرضى بأن أتبع ابن‬
‫تيمية في كل أمر” (حياة شبلي ص ‪.)830-829‬‬

‫كتب شبلي مقاال في مجلة “الندوة” سنة ‪ 1908‬م تحت عنوان “العالمة ابن تيمية الحراني كمجدد لقرنه‪ ،‬ذكر فيه ثالث صفات أساسية‬
‫لمجدد‪:‬‬

‫‪ -1‬أن يحدث انقالبا هاد ًفا في مجال الدين أو التعليم أو السياسة‪.‬‬

‫‪ -2‬وأن تكون آراؤه اإلصالحية نتيجة لالجتهاد ال التقليد‪.‬‬

‫‪ -3‬وأن يكون قد احتمل مصائب جسدية في سبيل نشر أفكاره‪ ،‬وقدم لها تضحيات من نفسه وروحه‪.‬‬

‫ووجد شبلي هذه الصفات مجتمعة في ابن تيمية‪ ،‬ورآه يفوق كثيرً ا من عباقرة تاريخ اإلسالم (انظر‪ :‬مقاالت شبلي ‪.)67-5/26‬‬

‫تأثير شبلي في السيد سليمان الندوي‪:‬‬


‫وكان من تأثير ذلك أن العالمة السيد سليمان الندوي نشأ على محبة لهذا اإلمام العبقري شيخ اإلسالم ابن تيمية‪ ،‬ويؤكد أنه لما اضطلع من‬
‫دراسة كتب ابن تيمية وابن القيم زال عن قلبه كل أثر من آثار غيرهما‪ ،‬وامحى كل لون من األلوان (انظر‪ :‬الكتب التي لها منة على‬
‫العلماء األعالم ص ‪ ، )18‬وأخذ منهما كثيرً ا من آرائهما في كتابه “سيرة النبي” وغيره من المؤلفات‪ ،‬وقدّم لكتاب “الرد على المنطقيين”‪.‬‬
‫صله وأسسه أرسطو حكيم اليونانيين”‪.‬‬ ‫يبدأ مقدمته بقوله‪“ :‬هذا كتاب لم ينسج على منواله‪ ،‬ولم يسبق له نظير‪ ،‬فهو نقد ما قاله وأ ّ‬

‫ويقول السيد الندوي‪“ :‬وإذا أنعمت‪ H‬النظر في هذا الكتاب تجد مسائل منطقية وفلسفية‪ ،‬ابن تيمية أبو عذرتها‪ ،‬وهي تطابق كل المطابقة بما‬
‫قال فالسفة األفرنج في هذا العصر في بعض مسائل المنطق والفلسفة”‪.‬‬
‫ويقول‪“ :‬فمما يجب عليّ في هذه الوجيزة اإللماع به هو ما قال المصنف في حقيقة الحد والجنس والفصل واللزوم وحقيقة العلة والقياس‬
‫واالستقراء‪ ،‬واالستدالل بالمشهورات‪ ،‬واالكتفاء بمقدمة واحدة في القياس‪ ،‬وغيره من المباحث العويصة التي حل المصنف مشكلها‪ H‬ببيان‬
‫واضح ودليل راهن‪ ،‬وما قال في العلة واللزوم هو عين ما قاله هيوم الفلسفي في كتبه‪ ،‬ومسئلة اللزوم والعلية من المسائل العويصة التي‬
‫ضلت في واديها األفهام‪ H‬ونبعت من عيونها ضالالت الطبائعيين من أهل اإللحاد‪ ،‬وكم لهذا النابغة من نوادر لم يسبقه إليها أحد رضي هللا‬
‫عنه”‪.‬‬

‫ويقول السيد الندوي‪“ :‬أدين في اهتمامي بعلم الكالم لتربية العالمة شبلي‪ ،‬فقرأت مؤلفاته‪ ،‬وراجعت مصادرها‪ ،‬وطالعت “الملل والنحل”‬
‫للشهرستاني‪ ،‬و”الفصل في الملل والنحل” البن حزم‪ ،‬و”كشف األدلة البن رشد” و”حجة هللا البالغة” للشاه ولي هللا‪ ،‬وأثر كل منها في‬
‫نفسي‪ ،‬وأخيرً ا درست مؤلفات العالمة ابن تيمية والحافظ ابن القيم‪ ،‬فاندرس كل رسم‪ ،‬وامحى كل أثر” (الكتب التي لها منة على العلماء‬
‫األعالم ص ‪.)18‬‬

‫اإلمام أبو الحسن علي الندوي واهتمامه بابن تيمية‪:‬‬


‫وورث شيخنا اإلمام أبو الحسن علي الندوي هذا التقدير لشيخ اإلسالم ابن تيمية‪ ،‬واالعتراف بدوره في اإلصالح والتجديد‪ ،‬وأفرد الجزء‬
‫الثاني من كتابه الذائع الصيت رجال الفكر والدعوة لدراسة آثاره وأعماله‪ ،‬ألفه باللغة األردية‪ ،‬ثم ُنقل الكتاب إلى العربية‪ ،‬لخص فيه مآثره‬
‫التجديدية في النواحي األربعة‪ - 1 :‬تجديد عقيدة التوحيد‪ ،‬وإبطال العقائد والتقاليد المشركة‪ -2 ،‬ونقد الفلسفة والمنطق وعلم الكالم‪-2 ،‬‬
‫وترجيح منهج الكتاب والسنة وأسلوبهما على كل منهج وأسلوب‪ - 3 ،‬والرد على الفرق والملل غير اإلسالمية‪ ،‬ومقاومة عقائدها وتقاليدها‬
‫وتأثيرها‪ -4 ،‬وتجديد العلوم الشرعية وبعث الفكر اإلسالمي‪.‬‬

‫يقول الشيخ الندوي في مقدمته للكتاب وهو يعدد جوانب حياة شيخ اإلسالم ابن تيمية التجديدية‪ … ” :‬ويكون مع ذلك من فرسان العمل‬
‫والكفاح‪ ،‬ويجمع بين القلم والسيف‪ ،‬جريئا على الملوك في الصدع بالحق‪ ،‬ال يُحجم عن قيادة الجيش اإلسالمي أمام أضرى عدو مثل‬
‫الوحوش التتار‪ ،‬ويعرفه كل من حلق الدرس‪ ،‬وزوايا المكتبات‪ ،‬وخلوات المساجد‪ ،‬ومجالس المناظرة‪ ،‬ومعتقالت السجون‪ ،‬وساحات‬
‫الحرب كفارس عظيم ورجل ذي شكيمة‪ ،‬مبجال في كل عين‪ ،‬ومعترفا بإمامته في كل طبقة”‪.‬‬

‫“كان القرن الثامن بحاجة إلى مثل هذا الرجل الكامل الذي يسع نشاطه كل مجال من مجاالت الحياة‪ ،‬من غير أن تنزوي جهوده وأعماله‬
‫في زاوية واحدة‪ ،‬أو تتركز على جانب واحد‪ ،‬كان ذلك الرجل هو شيخ اإلسالم الحافظ ابن تيمية الذي مأل العالم اإلسالمي بنشاط وحياة‬
‫بحركات علمية ودينية ال تزال آثارها خالدة باقية على مر القرون واألجيال” (مقدمة الجزء الثاني لرجال الفكر والدعوة )‪.‬‬

You might also like