Professional Documents
Culture Documents
250
الرجل األعلى واألساس اخللقي عند كونفشيوس دراسة حتليلية نقدية
ملخص
وتعد النظم،الحضارة الصينية واحدة من أهم الحضارات اآلسيوية القديمة
وعلى الرغم من أنها لم تهتم،الصينية أعظم ما أنتجه ذلك الفكر البشري
لما، إال أنها اهتمت بعناية فائقة بكل ما يعد إنسانيا،نوعا ما بالميتافيزيقا
.كانت ترى أن اإلنسان هو مركز الكون
بل يضاهي،كونفشيوس هو النموذج األعلى المعبر عن روح هذه الحضارة
وفي سبيل الوقوف.بحياته وفكره نموذج الرجل األعلى الذي رسمته فلسفته
على حقيقة الترابط الموضوعي بين عناصر الفلسفة والكونفشيوسية ونمطها
وما إذا كانت تعتبر أصال فلسفة يستخدم الباحث منهجا تحليليا،األخالقي
.في سبيل ذلك
Chinese civilization is one of the most important
ancient Asian civilizations , and Chinese systems
considered on of the greatest products of the human
thinking although it didn’t give high consideration to
metaphysics but it gave intensive care to humanities
where it considered the human as the center of universe.
Confucius life and thoughts were a real expression
of the superior man model which illustrated through his
philosophy.
The researcher here is using analytical study to
investigate the objective correlation between Confucius
philosophy elements and its moral style , and if we
basically can consider it as a philosophy.
250
لعام 2002م – جملة كلية الدراسات اإلسالمية والعربية للبنات بكفر الشيخ
مقدمة
تعد الحضارة الصينية واحدة من أهم الحضارات األسيوية القديمة التي
ظلت لقرون طويلة تمد الثقافة اإلنسانية بكثير من الذوق والرقي ولذا فإن
ديدرو قد أصاب كبد الحقيقة حين قال عنهم :أولئك قوم يفوقون كل من
عداهم من األسيويين في قدم عهدهم ،وفي فنونهم ،وعقليتهم ،وحكمتهم ،
وحسن سياستهم ،وفي تذوقهم للفلسفة ؛ بل إنهم في رأي بعض المؤلفين
ليضارعون في هذه األمور كلها أرقى الشعوب األوروبية وأعظمها استنارة.
وتعد النظم الصينية أعظم ما أنتجه الفكر البشري لسيطرتها على أهلها
ونفاذها في قلوبهم ألربعين قرنا من الزمان دون أن يط أر على هذه النظم
تغيير يذكر سواء في عادات القوم أو لغتهم أو حتى بالنسبة للقوانين ،
فالحضارة الصينية بحق أكمل صورة من صور اإلنسانية كما قال الكونت
كيسرلنج.
فالحضارة الصينية رغم أنها لم تهتم نوعا ما بالميتافيزيقا التي تعتبر
أكثر إشكاليات الفلسفة التقليدية جدال إال أنها اهتمت بعناية فائقة بكل ما يعد
إنسانيا لما كانت ترى أن اإلنسان هو مركز ذلك الكون واألحق بالبحث
والتفكير والعناية ،فهي حضارة باحثة عن اإلنسان ،دائمة السعي وراء
اكتشاف ذلك الكائن العجيب وإبراز مواهبه ومن ثم تنميتها.
الفلسفة الصينية فلسفة اجتماعية ،أخالقية ،تحاول الوصول باإلنسان
ألفضل حياة ممكنة ليحيا حياة طيبة ،ولذا يقول ول ديورنت في قصة
الحضارة عن دراسة هذه الحضارة :إن " دراسة بالد الصين عمال من
األعمال المجيدة " ،ومن بين صفحات هذه الحضارة كان فكر كونفشيوس.
252
الرجل األعلى واألساس اخللقي عند كونفشيوس دراسة حتليلية نقدية
أهمية البحث:
يوضح هذا البحث جانبا من جوانب الحضارة الصينية متخذا
األخالق عند كونفشيوس موضوعا له.
يبرز هذا البحث الصفات المثلى التي رآها كونفشيوس في الرجل
المثالي الذي ظل حياته كلها يبحث عمن لديه االستعداد الداخلي
ليتلقاها عنه.
كما أن البحث يحدد األسس األخالقية التي أقام كونفشيوس عليها
مذهبه.
يشرح البحث كيفية تعامل كونفشيوس مع المجتمع الصيني بكل ما
له وما عليه.
أسباب اختيار البحث:
تعد الحضارة الصينية بوجه عام والكونفشيوسية بوجه خاص من مواد
البحث الخصبة في الدراسات اإلنسانية المعاصرة وذلك لحداثة نسبية في
اكتشاف تاريخها وأفكارها ،ولالتصال الواضح في هذه الحضارة بين الماضي
السحيق والواقع المعاصر ،وللنهضة العلمية التي لحقت األمة الصينية بها
مؤخ ار ،فأراد الباحث أن يتناول جانبا من هذه الحضارة.
إشكاليات البحث:
.1هل تتسم األخالق الكونفشيوسية بالترابط الموضوعي بين عناصرها؟
.2إذا ما كان ثمة ترابط بين عناصر األخالق الكونفشيوسية ،فهل يمكن
تحديد األسس التي أقام كونفشيوس عليها نمطه األخالقي؟
.3هل يمكن أن تدل األخالق الكونفشيوسية على مذهب فلسفي أخالقي؟
253
لعام 2002م – جملة كلية الدراسات اإلسالمية والعربية للبنات بكفر الشيخ
254
الرجل األعلى واألساس اخللقي عند كونفشيوس دراسة حتليلية نقدية
تمهيد
إن مما امتاز به الفكر الصيني القديم نزعته األخالقية واتجاهه إلى
السلوك اإلنساني لتقويمه ،ولقد كان هدف العقل الصيني أن يخرج هذه القيم
األخالقية من إطارها النظري إلى حيز الوجود ممثال في التطبيق اإلنساني
لهذه القيم.
وال يعني هذا أن مفكري الصين لم يكن لهم رأي خاص بغير مباحث
األخالق ،ولكنهم ربما كان لهم رأي سلبي بشأن بعض اإلشكاليات تمثل في
رفضهم لمناقشة بعض هذه المسائل الفلسفية ؛ إما النقطاع صلتها باإلنسان
الذي يعد مركز الكون وله األولوية عند الصينيين القدماء في البحث
والتفكير ،وإما ألن بعض هذه اإلشكاليات مما ليس في مقدور اإلنسان إدراكه
فالبحث فيه بحث فيما ال سبيل للوصول فيه إلى حقيقة.
الكونفشيوسة تعتبر من أعظم النزعات الفلسفية عند الصينيين وهي
نزعة منسوبة إلى مؤسسها " كونج ـ فو ـ دزه أو كونج المعلم كما كان تالميذ
()1
،وموقع هذه كونج ـ تشيو يسمونه في عام 551ق.م ،في مدينة تشو"
المدينة اآلن " هو موقع مقاطعة شاتونج Shatongالحالية "(.)2
" وتحيط بنشأة الفيلسوف الكثير من األساطير ،ولكنه من بين هذه
األساطير يمكن التعرف على بعض ما كانت عليه تلك النشأة من ميالد غير
شرعي في أسرة تنتمي إلى عائلة من أعرق عائالت الصين ؛ من نسل
اإلمبراطور هوانج ـ دي ،والتي لم تزل حتى يومنا هذا.
وكان كونفشيوس قد نشأ في أسرة فقيرة وعمل في طفولته ليساعد
والدته بعد موت أبيه وهو لم يزل في الثالثة من عمره ،والذي كان في
) (1ول ديورنت .قصة الحضارة .م . 4 ، 3ج . 4ص . 44الهيئة المصرية العامة للكتاب .
.2441
) (2د /مدحت دمحم نظيف .األلوهية في الفكر اإلنساني القديم .ص . 131مطابع دار الوثائق .
255
لعام 2002م – جملة كلية الدراسات اإلسالمية والعربية للبنات بكفر الشيخ
السبعين من عمره حين ولد ذلك الفيلسوف ،وراح يوجد لنفسه وقتا يتعلم فيه
الرماية والموسيقى رغم ذلك حتى بلغ الثانية
والعشرين من عمره فبدأ يشتغل بالتعليم ،وكان يتقاضى من التلميذ
ما يستطيع دفعه مقابل تعليمه ،ووضع منهجا لبرنامجه التعليمي الذي اعتمد
فيه على نقل علمه مشافهة شأنه في ذلك شأن سقراط ،فعلم تالمذته مختلف
العلوم والفنون المتاحة في عصره من تاريخ وشعر ،وأداب اللياقة ،وكان قد
()1
أنجب ابنا وحيدا "
ولقد تأثر كونفشيوس بواقع المجتمع الصيني وذلك ألنه " عندما شب هذا
الرجل ووجد الحالة السياسية واالجتماعية في الصين يسودها الظلم
واالنحالل والكراهية بين الحكام والمحكومين إلى غير ذلك من السلبيات بدأ
يدعو إلى مبادئ خاصة ،وهذه المبادئ ناتجة عن تأمالت في الشروط
المطلوبة لمجتمع مثالي " ( ،)2ولقد قضى كونفشيوس حياته في الدعوة لرأيه
متنقال من مكان إلى مكان حتى استدعاه دوق جيه إلى " لو " ليقضي فيها
ما تبقى من حياته التي بلغت تسعة وتسعين عاما ،وقد آثر في ختام حياته
بـ " لو " أن يعتزل الجموع متفرغا لنشر روائع الكتب الصينية وكتابة تاريخ
الصينيين.
) (1انظر :ول ديورنت .قصة الحضارة .مرجع سابق ،تلخيص .
) (2جون كولر .الفكر الشرقي القديم .ت :كامل يوسف حسن .م :د /إمام عبد الفتاح .المجلس
الوطني للثقافة والفنون .الكويت 1995.م .ص. 333
256
الرجل األعلى واألساس اخللقي عند كونفشيوس دراسة حتليلية نقدية
الفصل األول
الرجل األعلى في الفكر الكونفشيوسي
الرجل النبيل في أكثر عصور البشرية هو ذلك الرجل الذي انحدر من
نسل عريق وساللة متميزة عن باقي طبقات الشعب الكادحة.
لم يكن األمر مختلفا عند الصينيين بل إن كلمة << تشون تزو
>> Chun tzuوالتي تعني النبيل " يكاد يكون لها معنى دولي يماثل إلى
()1
حد ما المعنى األصلي لكلمة << الجنتلمان >> Gentlmanعندنا "
ولكن كنفشيثوس قد " غير استعمال هذه الكلمة تماما ،إذ أكد أن أي
رجل يمكن أن يكون نبيال بعيدا عن األنانية وعادال وشفيقا .ومن ناحية
()2
بل على أخرى أكد أنه ال يمكن اعتبار اإلنسان نبيال على أساس المنبت "
أساس من الفضائل التي يتعلمها اإلنسان في تربيته تلك التربية التي " يجب
()3
في مجالها. أال تكون هناك تفرقة طبقية "
فلم يكن طنفشيوس ليرفض راغبا في التعلم قط أيا كان شأنه وأيا كان
المقابل الذي يدفعه له ؛ ألنه كان راغبا في العثور عن الرجل الذي تكتمل
فيه كل الفضائل ليصبح الرجل اإلعلى.
لقد عمل كنفشيوس على تعليم الناس األخالق ليرتقي بهم ،تلك
األخالق التي تستمد من ذاتية الفرد من جهة ،ومن العرف العام من جهة
أخرى ؛ ألن كليهما ال ينفصل عن اآلخر الفرد والمجتمع.
) (1هـ .ج .كريل .الفكر الصيني من كنفشيوس إلى ماوتسي تونج .ت :عبد الحميد سليم .مراجعة
علي أدهم .الهيئة العامة المصرية للكتاب .ص .44
) (2المرجع السابق .ص .45
) (3المقتطفات األدبية 33/15 ،نقال عن :المرجع السابق .ص .44
257
لعام 2002م – جملة كلية الدراسات اإلسالمية والعربية للبنات بكفر الشيخ
) (1د /هالة أبو الفتوح .فلسفة األخالق السياسية .دار القيادة للطباعة والنشر 2444 .م .ص. 15
(2)Confucius Analects,XIV,XVIII,2,in legge, jas, Chinese Classics,Vol,1: Life
نقال عن قصة الحضارة .ت :دمحم بدرانAnd Teachings of Confucius..
252
الرجل األعلى واألساس اخللقي عند كونفشيوس دراسة حتليلية نقدية
) (1د /مراد وهبة .مالك الحقيقة المطلقة .ص .234الهيئة المصرية العامة للكتاب .
259
لعام 2002م – جملة كلية الدراسات اإلسالمية والعربية للبنات بكفر الشيخ
الشئون العامة كما اعتزلها لو ـ دزه ،وآث ار عليها الحياة الزراعية البعيدة عن
جلبة الحياة العامة وعرف أحد الشيخين كونفشيوس ،والم تزه ـ لو على سيره
في ركابه ،وقال له :إن االضط ارب يجتاح البالد اجتياح السيل الجارف ،
ومن ذا الذي يستطيع أن يبدل لكم هذا الحال؟ أليس خي ار لكم أن تتبعوا
أولئك الذين يعتزلون العالم كله ،بدل أن تتبعوا ذلك الذي يخرج من والية إلى
()1
ورغم أن كونفشيوس قد فكر في هذا األمر طويال إال أنه من والية "
المؤكد رفضه لتلك النظرة بدليل عدم إقدامه عليها إال عند إحساسه بقرب
نهايته فآثر الخلوة لينشر " روائع الكتب الصينية وكتابة تاريخ الصين " (.)2
260
الرجل األعلى واألساس اخللقي عند كونفشيوس دراسة حتليلية نقدية
260
لعام 2002م – جملة كلية الدراسات اإلسالمية والعربية للبنات بكفر الشيخ
) (1د /مدحت دمحم نظيف .األلوهية في الفكر اإلنساني القديم .مرجع سابق .ص.133
) .Giles,H. A.,History of Chinese Literature.69. (2نقال عن قصة الحضارة .مرجع
سابق .ص.54
262
الرجل األعلى واألساس اخللقي عند كونفشيوس دراسة حتليلية نقدية
والصالة كان يرد على لسانه أحيانا ،وأنه كان ينصح أتباعه بأال يغفلوا عن
()1
ولكن الطقوس والمراسم التقليدية في عبادة األسالف والقرابين القومية "
ذلك التنبيه منه على تالمذته ال يعدو أن يكون لفتا لهم إلى قوة داخلية
أخالقية تعني المثل العليا.
ويمكن رد ذلك التنبيه على القيام بالطقوس الدينية التقليدية إلى مبدأ
نادى به في االنسجام والتناغم بين الرجل المثالي وبين الوجود ،فكونفشيوس
لم يكن ليصطدم مع ثوابت مجتمعه ولكنه يشترك معهم في تكامل ليحصل
()2
على الوحدة المنشودة كما يقول " :إني أبحث عن الوحدة ،الوحدة الشاملة"
،فالحقيقة الواحدة التي آمن بها كونفشيوس هي اإلنسان فقط وطريقه نحو
الكمال ،ولذا أمضى حياته كلها في سبيل هذه الفكرة.
ولكن كونفشيوس على ما كان موقفه تجاه الدين غير أنه جعل
()3
الذي يتمثل فيما يعتقده الفضيلة الثانية هي االلتزام بـ " القانون العرفي "
ويؤديه المجتمع من طقوس تجاه أرواح القدامى ،وذلك ألن " لي " Liهو
ذلك القانون و " المبدأ الذي جسد من خالله الملوك القدامى شرائع السماء
ونظموا التعبير عن الطبيعة اإلنسانية ،ومن هنا فإن من يحرز " لي "
()4
ويبدو من خالل النظر إلى هذه الفضيلة أن يعيش ومن يفقدها يموت "
كونفشيوس إنما يحافظ على عالقة تالمذته باألرواح ليحفظ لهم عالقتهم
باإلنسان الموجود بالفعل ،فأرواح القدماء وإقامة الطقوس لها والتي هي
) Wilhelm, Short History. (1نقال عن :ول ديورنت .قصة .مرجع سابق .ص.53
) Giles, H. A., History of Chinese Literature . (2نقال عن :ول ديورنت .قصة الحضارة.
مرجع سابق . .ج .4ص54
) (3جمال المرزوقي .الفكر الشرقي القديم .دار األوقاف العربية .القاهرة .2441 .ص .351
) (4جون كولر .الفكر الشرقي القديم .مرجع سابق .ص.351
263
لعام 2002م – جملة كلية الدراسات اإلسالمية والعربية للبنات بكفر الشيخ
) legge,101,VI,20 (1نقال عن :قصة الحضارة .مرجع سابق .ص .53
) (2هـ .ج .كريل .الفكر الصيني من كنفشيوس إلى ماوتسي تونج .ص .41
264
الرجل األعلى واألساس اخللقي عند كونفشيوس دراسة حتليلية نقدية
) (1د /هالة أبو الفتوح .فلسفة األخالق السياسية .مرجع سابق .ص . 15
) (2ول ديورنت .قصة الحضارة .ص.54
) (3المرجع السابق.
265
لعام 2002م – جملة كلية الدراسات اإلسالمية والعربية للبنات بكفر الشيخ
266
الرجل األعلى واألساس اخللقي عند كونفشيوس دراسة حتليلية نقدية
()1
فإلى هذه الدرجة وصل استعداد وحب وكونفشيوس ورغم ذلك مثلي"
يقول " :ولكن الرجل األعلى الذي ال يختلف قوله عن فعله هو ما لم أصل
()2
إليه بعد "
ال يمكن لإلنسان أن يصل إلى الحكمة والرقي بغير تعلم وهذا التعلم
البد لكي يكون من وجود استعداد ذاتي يحث اإلنسان على االستقامة ويطرح
دائما األسئلة على نفسه ليقوم طريقه أم إذا " لم يسائل المرء نفسه باستمرار :
ما الشيء الصواب الذي يؤديه ؟ فإنني [ كنفشيوس ] ال أعرف في الحقيقة
()3
. ما الذي سيلم به "
), legge, Life, V, xxvii (1نقال عن :المرجع السابق .ص .44
) Legge, Life,VII,xxxii (2نقال عن :قصة الحضارة .ص.44
) (3المقتطفات األدبية ، 15/15 :نقال عن :هـ .ج .كريل ،الفكر الصيني ،مرجع سابق .ص
.44
267
لعام 2002م – جملة كلية الدراسات اإلسالمية والعربية للبنات بكفر الشيخ
تعقيب:
لقد نظر كنفشيوس إلى األخالق على أنها األساس الذي يجب على
كل مجتمع أن يقوم عليه ،ونظر إليها على أنها المبحث الحقيقي للمعرفة
الحقة.
اهتم كنفشيوس باألخالق وترك ما عداها من إشكاليات ألن ليس كما
قد يعتقد أنه ينظر إلى الجزئيات والظواهر فقط ،لكن ألنه إنما يؤمن بالكلي؛
فهو ينادي بمحبة الحب لذاته ،ويطلب الوحدة الشاملة ليتوافق مع ذلك
االنسجام بين جزئيات الطبيعة.
وقد تبين أن كنفشيوس ال يلتفت أصال إلى االختالف الظاهري بل يعد
نوعا من التنوع الالزم لحدوث التكامل فال يعترض على طقوس مجتمعه
وعبادتهم وإنما يدعوة إلى ممارسة هذه الطقوس بإخالص ليس ألنه يؤمن
بجدواها ،ولكن ألنه يؤمن بوحدة اإلنسان مع أفراد مجتمعه سواء كانوا
سابقين له وهم األرواح أو معاصرين له وهم العائلة.
كما يمكن أن نلخص مذهب كنفشيوس في الفضيلة بأنه يدعو إلى
الحب بين الناس ليس لما قد يقدمه بعضهم البعض وإنما ألن الحب غاية
يجب أن تطلب لذاتها.
وكنفشيوس ينادي بأن يتعلم الناس بعد أن يختبروا لمعرفة استعدادهم
لتلقي نوعية معينة من العلوم وذلك ـ على حد قوله ـ لتزول الفوارق بين
الطبقات ،حتى يتمكن المعلم من العثور على رجل يملك االستعداد ليكون
الرجل األعلى.
من الواضح أن كنفشيوس قد فكر وجرب كثي ار كي يصل إلى ما آمن
نادى به ،وال ينكر تأثره ببيئة المجتمع الصيني إيجابا و سلبا ،ولكن
إضافته األخالقية ،ونمطه العملي ،ونزعته اإلنسانية كونوا مذهبا كان من
القوة بحيث أثر فيمن حوله من مؤيديه ومعارضيه ،وترك مثاال راسخا ظلت
األجيال تتوارثه من بعده.
262
الرجل األعلى واألساس اخللقي عند كونفشيوس دراسة حتليلية نقدية
الفصل الثاني
االتجاه الخلقي عند كونفشيوس
لقد شكل الفكر الكنفشيوسي مدرسة خاصة ليست كتلك التي عهدتها
الحضارة الصينية ،وقد كان الناس من جميع الطبقات يسعون ليحصلوا على
وظيفة هي الطريق الوحيد ـ تقريبا ـ " للوصول إلى الثروة االقتصادية والمكانة
()1
وذلك عن طريق إجراء اختبارات ،فكانت االجتماعية والسلطة السياسية "
المدارس لمساعدة مختلف الطبقات على اجتياز االمتحان.
لم يكن كنفشيوس ممن يهتمون بذلك فحسب بل كان يهتم بالتربية
بمعنى " :التطور والتثقيف عقليا وأخالقيا لتوسيع المدارك وتقويتها
وتنظيمها(")2
ولقد تميز األسلوب الكنفشيوسي غير التقليدي عن غيره فليست العبرة
بأن ينال المنصب وإنما العبرة أن يصبح كفؤا لذلك المنصب ،ومن هنا كان
لالتجاه األخالقي المتأصل في كل جوانب المعرفة الكنفشيوسية أسس أقيم
عليها هي تلك األسس التي تعهد كنفشيوس غرسها للبناء عليها في نفوس
تالمذته ومن قبلهم في نفسه.
ومن دراسة هذه األسس يمكننا تحديد االتجاه الخلقي الذي سار فيه
كنفشيوس ليزرع فكرته في نفوس تالميذه ومن ثم ليكتب لها كل ذلك التأثير
عبر التاريخ والذي تمتد فروعه إلى يومنا هذا في أمة تعد من أعرق األمم
اإلنسانية.
) (1هـ .ج .كريل ،الفكر الصيني ،مرجع سابق .ص. 14
) (2المرجع السابق .ص . 45
269
لعام 2002م – جملة كلية الدراسات اإلسالمية والعربية للبنات بكفر الشيخ
) (1مجموعة من المؤلفين .تاريخ تطور الفكر الصيني .ت :عبد العزيز حمدي عبد العزيز .المجلس
األعلى للثقافة .ص .51
) (2جون كولر .الفكر الشرقي القديم .ص.341
) (3د /مدحت دمحم نظيف .األلوهية في الفكر اإلنساني القديم .ص.144
270
الرجل األعلى واألساس اخللقي عند كونفشيوس دراسة حتليلية نقدية
270
لعام 2002م – جملة كلية الدراسات اإلسالمية والعربية للبنات بكفر الشيخ
األخالق المطلقة:
األخالق عند كونفشيوس كلية وضرورية وإنما يبحث اإلنسان في
طريقه إلى التعلم عن المعيار الذي يقوده إلى هذه الكليات دون خطأ ،
وما أشبه هذه النظرة بوجهة النظر اإلغريقية التي نادى بها سقراط وتالمذته
من بعده حتى كان أرسطو واضع المنطق كآلة للعصمة من الخطأ عند
البحث عن الحقيقة الكلية.
إذا كانت األخالق ضرورية فإن الناس في مساواة عند البحث عنها
وإدراكها ويتفاضلون فيما بينهم بمعاييرهم الحاكمة ورغباتهم المتحكمة ،
أما األخالق فهي مطلقة.
التعلم واالكتساب للخير:
لقد افترض كونفشيوس أنه قد يولد إنسان بغير تلك الفطرة التي هي
الكمال والخير ولكنه بالتعلم والممارسة قد يكتسبها فيرتقي وبالتالي فإن
اإلنسان قد يولد ليس خي ار وال شري ار بالفطرة.
وقد ذكر معب ار عن هذا القول برفض كونفشيوس فكرة أن يكون
اإلنسان خي ار أو شري ار بالفطرة()1بصورة قطعية كتاب " لون بو" أو كتاب
المحاورات " المعروف عند قراء االنكليزية باسم " مجموعة الشذرات "
()2
وهذا الكتاب أحد أي شذرات كونفشيوس ،كما سماه " لج " " Legge
الشواءات ( كتب الفالسفة ) األربع التي لم يخطها كونفشيوس بيده ولكنها
()3
،وما دعى الباحث إلى التشكيك في هذا آراؤه " كما تذكرها أتباعه "
القطع هو إيمان كونفشيوس نفسه بوحدة الوجود وإيمانه بذلك االنسجام الذي
) (1نقلت هذا القطع بالرفض وأيدته ـ من كتاب Confucius, Analects,2:7ـ د /هالة أبو الفتوح.
فلسفة األخالق والسياسة .ص.42
) (2ول ديورنت .قصة الحضارة .ص.51 ، 54
) (3المرجع السابق .ص.51
272
الرجل األعلى واألساس اخللقي عند كونفشيوس دراسة حتليلية نقدية
يربط جزئيات الطبيعة ،نعم " لقد أكد أهمية نضال الفرد تأكيدا شديدا ،ولكن
يبدو أنه كان يأمل أن تقوم السماء ،كما قال " :بمساعدة اولئك الذين
()1
هذه السماء التي يفهم معناها عنده على أنها تدل يساعدون أنفسهم "" .
()2
أو على أنها ـ كما " على قوة أخالقية في الكون ندركها إدراكا غامضا "
ذهب الباحث قبل قليل ـ الطاو أو النفس المطلقة وال يمكن أن يقول
كونفشيوس بذلك وينفي وجود فطرة أولى لإلنسان ،ولكنه ـ كما سبقت اإلشارة
ـ يقول باحتمال ميالد فرد بغير تلك الفطرة مما يجعله محتاجا للتعلم
واالكتساب.
العقل والوجدان:
يؤمن كونفشيوس بوجود اتجاهين باطنيين في اإلنسان ،أحدهما
االتجاه العقلي ،واآلخر االتجاه الوجداني ،وبين هذين االتجاهين نوع من
التجانس واالنسجام يولد بهما اإلنسان ،ولكنه ما يلبث أن يغلب أحدهما
على اآلخر بفعل الظروف البيئية مما ينشأ عنه عدم التوازن الداخلي في
الفرد وبالتالي فهو يؤثر سلبا على المجتمع بشيوع االضطرابات الداخلية وال
تؤمن معها الفوضى العارمة.
ولتالفي ذلك الخلل يجب أن يحرص الرجل األعلى على الموازنة
بينهما بالتفكير الدائم فيما هو صواب فحين سئل عن " كلمة واحدة يستطيع
اإلنسان أن يتخذها قاعدة يسير عليها طوال حياته ؟ فأجاب المعلم :أليست
()3
أن يتعامل مع كل شيء بما هو له أهل ،وأال هذه الكلمة هي المبادلة "
يضع شيئا مكان آخر ولكي يحدث هذا " يضع الرجل العلى نصب عينيه
تسعة أمور ال ينفك يقلبها في فكره .فأما من حيث عيناه فهو يحرص على
) (1د /مدحت دمحم نظيف .األلوهية في الفكر اإلنساني القديم .ص.144
) (2المرجع السابق.
) (3ول ديورنت .قصة الحضارة .ص.53
273
لعام 2002م – جملة كلية الدراسات اإلسالمية والعربية للبنات بكفر الشيخ
أن يرى بوضوح ...؛ وأما من حيث وجهه فهو يحرص على أن يكون
بشوشا ظريفا ؛ وأما من حيث سلوكه فهو يحرص على أن يكون وقو ار ؛ وفي
حديثه يحرص على أن يكون مخلصا ؛ وفي تصريف شئون عمله يحرص
على أن يبذل فيه عنايته ،وأن يبعث االحترام فيمن معه ؛ وفي األمور التي
يشك فيها يحرص على أن يسأل غيره من الناس ؛ وإذا غضب فكر فيما قد
يجره عليه غضبه من الصعاب ؛ وإذا الحت له المكاسب فكر في العدالة
()1
واالستقامة "
الرجل األعلى معيار أخالقي:
الشك أنه بعد التدرج في التعلم والممارسة من الممكن أن يصل
اإلنسان إلى درجة الرجل األعلى فمن هنا يصبح معيا ار لنفسه ولآلخرين
الذين لم يصلوا بعد يقاس به األخالق ،فقد أصبح ذلك " الفرد الذي يريد أن
يعيش وفقا لقوام اإلنسانية الصحيحة بدون عقاب ،والذي يكره أن يعيش في
تناقض مع هذه القواعد [ ومن ثم] يمكنه أن يتخذ من نفسه مقياسا
()2
ألنه قد صار إلى حالة اإللزام الخلقي الكامل هذا اإللزام الذي لألخالق"
يقود إلى فكرة اإلرادة الخيرة.
274
الرجل األعلى واألساس اخللقي عند كونفشيوس دراسة حتليلية نقدية
275
لعام 2002م – جملة كلية الدراسات اإلسالمية والعربية للبنات بكفر الشيخ
ولهذه الوسطية معيار عند كونفشيوس يقيس اإلنسان به فعله وقوله فـ
" الرجل األعلى يتحرك بحيث تكون حركاته في جميع األجيال طريقا عاما ،
ويكون سلوكه بحيث تتخذه جميع األجيال قانونا عاما ،ويتكلم بحيث تكون
()1
وهو " يحرص على ألفاظه في جميع األجيال مقاييس عامة لقيم األلفاظ "
()2
أال يكون فيما يقوله شيء غير صحيح "
فالفعل اإلنساني قيمته عند كونفشيوس يخالف االتجاه الغائي " وهو
الذي يستمد القيمة الخلقية للفعل من نتيجته الحاصلة عنه ،والتي هي سابقة
في ذهن الشخص على وجود الفعل لكنها متأخرة عن الفعل في الوقوع ،
ويتدرج تحت هذا االتجاه أصحاب مذهب اللذة كالسوفسطائيين والقورينائيين
()3
،ولكنه يتوافق مع اتجاه واألبيقوريين وما تفرع عن هذه المذاهب من آراء "
الدوافع والبواعث الذي يجعل قيمة الفعل الخلقي في ذاته وليست خارجة عنه.
وتلك القيمة الذاتية للفعل التي عبر عنها سقراط بمعرفة الحق والخير
والجمال( ،)4وعبر عنها أفالطون بنظريته الشهيرة في المثل( ،)5كما عبر
عنها أرسطو في مذهبه الغائي بالخير الذي هو طريق السعادة( ،)4فإن
كونفشيوس عبر عنها بالطريق " الطاو " اإلنساني الذي يحوي المثل العليا
والطاو عند كونفشيوس وسطية بين كل شيء ،ووحدة بين اإلنسان والوجود،
فاإلنسان يجب أن يحب نفسه لذا فهو يكره أال يذكر بعد الموت ،وكذلك
276
الرجل األعلى واألساس اخللقي عند كونفشيوس دراسة حتليلية نقدية
يحب عائلته لذا فهو يكره أن يجلب العار لهم بفعله غير الالئق ،وبالتالي
يجب أن يحب اآلخرين بمثل ما أحب نفسه ،وهنا لن يخطئ في أفعاله التي
يريد بها النفع ودفع الضرر وكلمته في ذلك " حب لآلخرين ما تحبه
()1
" وبهذا الحب يتحقق " جين " المحبة ومن ثم يتحقق الخير لنفسك
والصالح والسعادة للجميع لحدوث االنسجام.
) (1تسي تشينخ .إنجيل الحكمة الطاوية في الصين .الوتسو :الطاو .ص144
277
لعام 2002م – جملة كلية الدراسات اإلسالمية والعربية للبنات بكفر الشيخ
272
الرجل األعلى واألساس اخللقي عند كونفشيوس دراسة حتليلية نقدية
) Legge, Life, IV, xiv (1نقالعن :قصة الحضارة .ص . 45
) Doctrine of the Mean, XV, xviii-xx (2نقال عن قصة الحضارة .ص.51
) (3تاريخ تطور الفكر الصيني ،مجموعة .ت :عبد العزيز حمدي عبد العزيز .المجلس األعلى
للثقافة .ط أولى .2441.ص54،51
279
لعام 2002م – جملة كلية الدراسات اإلسالمية والعربية للبنات بكفر الشيخ
بالفضيلة أوال وقد " سعى إلى تحديده ألسمى القيم األخالقية التي البد أن
()1
تتوفر لدى كل إنسان ـ وهذه القيم تسمى بواجبات اإلنسان العشرـ"
فإذا ما كان ذلك الفرد حاكما فإن الفضائل األساسية التي سبق
الحديث عنها في الفصل األول يجب أن تظهر فيه جلية واضحة " ،فيحافظ
الحاكم على نظام الدولة القديم كتطبيق سياسي للفضيلة " لي " ، Liكما أن
الحاكم يتصرف في شئون الحكم عن طريق أكفأ العناصر الموجودة في
الدولة وهو المبدأ الذي جعله كونفشيوس أساس الحكومة الصالحة وال يخفى
أنه تطبيق سياسي للفضيلة " يي " Yiليصبح كل متصرف في شأن من
شئون الحكم مستعدا له فتحدث االستقامة االجتماعية ،ثم يجب على الحاكم
أن يكون مستعينا في كل أموره بالفضيلة ألنه يريد الصالح وال يطلب سواه
كي يذكر دائما بالخير دون أن يجلب فعله المشين العار السمه وعائلته إلى
األبد وذلك تطبيق سياسي للفضيلة " هسياو " ، Hsiaoوفي ذلك كله
تطبيق لـ " جين " .)2(" Jen
إن كونفشيوس حين يتحدث عن قوانين الحكومة وقواعد المجتمع
ونظمه ال يتحدث عن قوانين مكتوبة تتلى عند تنفيذ الحكم ،ولكنه يتحدث
عن قوانين للضمير الفردي ومن ثم للضمير العام ،ال يقصد كونفشيوس أن
يمتنع الناس عن الشر ألن فاعله يعاقب ،ولكنهم يمتنعون ألن فاعل الشري
سيواجه بعاصفة داخلية من نفسه وخارجية من مجتمعة تلقي عليه وعلى
ذكره من بعده وابل من الخزي والعار ،فـترجع عند كونفشيوس " مشكالت
()3
التي تسن الشعب التي ينتج عنها إفساد الدولة إلى السلطة الحاكمة "
القوانين نظريا ولكنها ال تستمدها من الفضيلة التي يجب أن تنشئ الناس
عليها ،ويبين ذلك الموقف " ما أبداه كونفشيوس من اعتراض عندما علم أن
) (1د /هالة أبو الفتوح .فلسفة األخالق السياسية مرجع سابق . .ص .141
) (2انظر معناه :د /إمام عبد الفتاح إمام .األخالق والسياسة .ص،143،144المجلس األعلى
للثقافة2441.م.
) (3جمال المرزوقي .الفكر الشرقي القديم .ص .245دار األوقاف العربية .القاهرة .ط أولى2441.م.
220
الرجل األعلى واألساس اخللقي عند كونفشيوس دراسة حتليلية نقدية
مملكة جين قد سطرت قانونها الجنائي فوق طنجرة برونزية ليتمكن الشعب
()1
هكذا يجب أن تكون من قراءة القانون ومعرفة العقوبة ليكون الردع "
القوانين.
ولكن كونفشيوس لم يتمكن أبدا من أن يصنع ذلك المجتمع ،وال أن
يجد ذلك األمير الذي شاركه أفالطون في البحث الدائم عنه فيما بعد ،
وقضى حياته في النهاية " محطم اآلمال ،قال :لم ينهض حاكم ذكي الفؤاد
()2
رغم أن أفكاره كانت أفكا ار ليتخذني أستاذا له ،وها قد حانت منيتي "
عملية ال نظرية في أغلبها.
لم يعرف عن كنفشيوس قط أنه ألقى محاضرة عامة ذلك ألنه كان "
يزدري دائما ازدراء واضحا :الفصاحة واللغة المنمقة ...وعلى الرغم من ذلك
فالبد وأنه كان متحدثا مقنعا بصورة غير عادية ،سواء لفرد واحد
()3
فالبد أنه دافع عن مبادئه بكل ما أوتي من قوة أو لمجموعة صغيرة "
ثورية ،ولكنها الثورية العاقلة التي تؤمن بخلود الكلمة وتأثيرها.
عالقة الكلمة بالمجتمع عند كنفشيوس إنما هي تعبير عن الفعل
الصادر عن الرجل األعلى ،فال يمكن أن يكون للكلمة تأثير ما لم تسبق
بعمل ؛ ألن من يتكلم قبل أن يعمل إنما هو رجل يعبر خالص التعبير عن
النفاق والكذب.
220
لعام 2002م – جملة كلية الدراسات اإلسالمية والعربية للبنات بكفر الشيخ
تعقيب:
يعتبر كونفشيوس من الفالسفة الذين ينتمون في تحديدهم للمعيار
الخلقي إلى أصحاب المعيار العقلي حيث ذهب إلى تفسير المبادئ
األخالقية بالعقل ،وجعل غايتها عقلية.
وأهم خصائص هذا المعيار في ذلك االتجاه :أن القيم األخالقية عامة
ليست جزئية ،ضرورية وليست عرضية جائزة ،واضحة بذاتها ال تحتاج
إلى برهان وال تحمل تناقض ،ولكنها تحتاج إلى تعلم الكتسابها وممارسة
لتطويرها.
يؤمن كونفشيوس بتأثير البيئة اإليجابي أو السلبي على اإلنسان لذا
فهو ينادي بالتفكر والتأمل والرياضة لكي يقوي اإلنسان الجوانب اإليجابية
في ذلك التأثير ويضعف الجوانب السلبية.
الفطرة عند كونفشيوس إن لم تكن خيرة فعلى األقل ليست شريرة أيضا،
فال مجال لعدم المساواة بين الناس بالنظر إلى النسب أو أصل الخلقة
أوالعرق ،ألنهم إذا ما كانوا كلهم يستطيعون تحصيل الفضيلة فإن الفرق
بينهم يكمن في إرادة اإلنسان أن يرتقي بالمعرفة والتعلم أم ال.
لألخالق عند كونفشيوس جانبان :نظري ،وعملي ولقد كان الجانب
العملي أساس فلسفته الخلقية ،وأما الجانب النظري فقد استمده من تجربته
فهو لم يكن أبدا مدرسا أكاديميا.
يؤمن كنفشيوس بالفرد ،ولكنه يؤمن أيضا بالمجتمع ،كما أنه يؤمن
بالثورة على الباطل ،ولكنه يكره الفوضى واالنحالل ،فهو مفكرر متزن
يعمل على تقوية العقل دون أن يهمل أبدا الوجدان العاطفي.
آمن كنفشيوس بنفسه إيمانا مطلقا ظهر ندما كان يعارضه قومه فكان
يقول :ولكن السماء تفهمني ،األمر الذي ال يدل على أنه آمن باإلله بقدر
ما يدل على أنه آمن بنفسه التي تستمد المعرفة من النفس الكلية التي منها
كان العالم بوحدته المطلقة ،تلك الوحدة التي بحث عنها كنفشيوس لينسجم
معها في تيارها الالنهائي عن طريق االلتزام بالطاو أو الطريق.
222
الرجل األعلى واألساس اخللقي عند كونفشيوس دراسة حتليلية نقدية
خاتمـــة
ضمن الباحث هذه الخاتمة اإلجابة على األسئلة التي طرحها البحث
في مقدمته.
لقد أعطي كونفشيوس إجابة مؤكدة قيما يتعلق بالسؤال األول حين
أفصح عن نسق أخالقي شامل حدد فيه فضائل الرجل األعلى وكيفية ترقي
اإلنسان ليصل إلى هذه المرتبة.
رغم أن كونفشيوس لم يكن يدون مذهبه على أساس منهجي إال أنه
كمعلم وضع منهجا تعليميا لتالمذته فمن الواضح أنه تأثر بذلك حيث يمكن
استخالص عناصر فلسفته من جملة مواقفه ومن أقواله التي حرص ـ فيما
يظهر ـ كل الحرص على أن تكون قاطعة صريحة ،كونفشيوس لم يكن
ليعطي الحلول كاملة ألن الحكمة غير قابلة للتلقين كلها ولكن يكفيه أن
القدر الذي حدده لنفسه من الردود ليكون فيه إجابته يظهر أنه لم يكن من
محبي الغموض والتقعير.
وحتى ال أدرية كونفشيوس ـ المزعومة ـ بشأن األرواح والميتافيزيقا
بشكل عام كانت إجاباته واضحة سواء بالنسبة لمن حكم عليها باال أدرية
أو من حكم عليها بالكفر بهذه المباحث ،فقد كان كونفشيوس يرفض
الحديث عن هذه المسائل بكل وضوح.
لم يغفل كونفشيوس أي جانب من الجوانب اإلنسانية فهو يتحدث عن
عقل اإلنسان ووجدانه ،ويتحدث عن أعماله وغاياته ،وال يغفل الحديث عن
بدنه وسماته الشكلية ،ثم يتحد عن عالقة اإلنسان بمجتمعه ،ومن قبل ذلك
كيفية تحصيل المعرفة وبالتالي األخالق ،وكيفية العمل بها.
ويح ــرص كونفش ــيوس ك ــل الح ــرص عل ــى أن يك ــون منظوم ــة متكامل ــة
محلهــا اإلنســان ،مــن هنــا فــإن الباحــث يســتخلص مــن بحثــه أن النــاس أمــام
مــذهب كونفشــيوس األخالقــي إنمــا هــم أمــا مــذهب متـرابط بكــل موضــوعاته ال
223
لعام 2002م – جملة كلية الدراسات اإلسالمية والعربية للبنات بكفر الشيخ
تشذ جزئية فيه عن األخرى ،وال يرى الناظر في األخالق الكونفشيوسية شيئا
مــن تنــاقض ،وذلــك فيــه مــا فيــه م ـن داللــة علــى أن ذلــك الرجــل كــان مثــاال
للص ـ ــدق الب ـ ــاطني والخ ـ ــارجي بحي ـ ــث ال يختل ـ ــف قول ـ ــه م ـ ــن ح ـ ــين آلخ ـ ــر ،
وال يتناقض فعل له مع فعل آخر.
إن النمط األخالقي عند كونفشيوس يتخذ شكال هرميا رباعيا قمته
الوحدة والتناسق وتحصيل االنسجام ،وجوانبه فضائل أربع :محبة الحب ،
االلتزام بالقيم العامة ،واالحترام المتبادل للعائلة ،واالستعداد الذاتي مع
استقامة المنهج ،وقاعدته الفطرة اإلنسانية التي هي عين الطريق " الطاو "
أو أوامر السماء " النفس المطلقة ".
والحيز المكاني لتلك األخالق الكونفشيوسية يشمل الجنس البشري
بأكمله ويظهر في المبادلة والتعامل مع الغير ،والحيز الزماني مطلق ال حد
له ألن تلك األخالق مطلقة كلية.
على الرغم من أن كونفشيوس لم يفصل القول في كثير من
اإلشكاليات الفلسفية فإن مذهبه وفكره يمكن أن يعتب ار نسقا فلسفيا متكامال ؛
ألن كونفشيوس يتحدث عن كل تعامل إنساني مع الوجود حتى تعامله مع
الميتافيزيقا قد حدده.
ليست العبرة من الفلسفة أن تجد الحل الكامل ولكن العبرة منها أن
تضع برهانا لكل حكم افترضت صحته ،وإذا كان الباحثون قد اعتبروا ما
تحدث عنه فالسفة اإلغريق من أمور ال برهان عليها فلسفة ،فإن
كونفشيوس هو األولى بنسبته إلى الفلسفة ألنه رفض أن يحكم على شيء
ال برهان له به ،فلم يتورط في حديث ما يأتي الناس من بعده ليعتبروه
أساطير األولين ،ولكنه كل ما تحدث به كان قد مارسه عمليا.
لم يك كونفشيوس نبيا فلم يتحدث عن أمور ال تعرف إال بالوحي من
تلقاء نفسه ،ولعدم البرهان على خطأ ما مارسه الناس في عصره من طقوس
224
الرجل األعلى واألساس اخللقي عند كونفشيوس دراسة حتليلية نقدية
لم يرفضها أو يستهجنها لمجرد الرفض واالعتراض كما أنه لم يثبتها لعدم
الدليل.
ولم يك كونفشيوس خبي ار تجريبيا في مجال الطبيعة فلم يتحدث عن
الظواهر العرضية بل هو يرفض اإلجابة عن أسئلة عداإلجابة عنها األطفال
في عصره من البديهيات وتحمل السخرية والطعن عليه بنفس واثقة أكثر
منها راضية ال يريد أن يخبط خبط عشواء.
ورغم ذلك فإن بذور المنهج التجريبي نجدها في الفلسفة الكونفشيوسية
حيث ال يجب أن يتكلم اإلنسان إال بعد أن يعمل فيتكلم بما عمل.
لقد كان لكونفشيوس قوة نفسية جبارة ؛ فلم تعرف نفسه أبدا الشك
المطلق كهؤالء الذين دمروا عقول الكثيرين وسموا رغم هذا بالفالسفة ،مع
أن كونفشيوس يصرح بأن الكثير مما حوله لم يدركه بعد.
لقد كان الشك عند كونفشيوس شكا منهجيا نوعا ما فهو يفكر في كل
اتهام يرمى به ،ويعمل دائما على السير في طريق الطاو دون انحراف ،
وال يضيره أبدا أن يعدل من مساره فها هو يرفض المنصب تارة ويقبله تارة
أخرى ،يجوب الواليات بحثا عن الوالية ،ولكنه نفسه يقدم على االستقالة ،
وكله ثقة في أن الحق المطلق أو السماء تساعد هؤالء الذين يحاولون
مساعدة أنفسهم.
225
لعام 2002م – جملة كلية الدراسات اإلسالمية والعربية للبنات بكفر الشيخ
226
الرجل األعلى واألساس اخللقي عند كونفشيوس دراسة حتليلية نقدية
227
لعام 2002م – جملة كلية الدراسات اإلسالمية والعربية للبنات بكفر الشيخ
222