Professional Documents
Culture Documents
2
اثلثا :مفهوم الدولة الدينية
الدولة بقيد وصفها ابلدينية ،ميكن أن تنطلق على أكثر من مصداق :
فبعض هذه املصاديق ما ميكن أن يُ َس َّمى بدولة األكلريوس ،أو الناس الذين يدعون أهنم ال
وحى حيكمون إال بوحي إهلي ِ
خاص يف كل جزئية من اجلزئيات احلادثة ،وهؤالء قد يدعون أهنم يُ َ
إليهم أو يكشف هلم عن األحكام اخلاصة بكل قضية من القضااي املطروحة بني أيديهم بوحي
خاص من عند هللا ،يريدون بذلك أن يغطوا أحكامهم وأعماهلم ابلقداسة والتنزه عن االحنراف،
وإبعاد االنتقاد عليهممن الناس .
وبعض ما قد يسمى ابلدولة الدينية هو :الدولة اليت حترص على استمداد األحكام من دين
معني ،بدون أن يدعي املستمدون واملستنبطون أهنم يوحى إليهم بوحي مباشر على النحو
السابق ،وبدون ادعاء العصمة يف االستنباط ،ولكنهم يصرحون أن املرجع يف األحكام ينبغي أن
يكون هو شريعة ذلك الدين اليت تنسب إليه هذه الدولة أو تلك .
وشتَّان ما بني :
-الدولة الدينية ِبعىن هيئة األكلريوس اليت تزعم العصمة يف استمداد األحكام ويف تطبيقها
اإلهلام من رب العباد يف كل ٍّ
أمر .وأكثر املنفرين من الدولة الدينية يعتمدون يف َ أيض ا ،وتدعي
تنفريهم الناس منها على هذا الشكل هلا ،مث حياولون تعميمه على كل ما سواه ،وهو أسلوب من
أساليب املغالطات ال خيفى على املتأمل.
-وبني الدولة الدينية ابملعىن الثاين وهو الذي يقول :إن هناك أصوال وبعض األحكام الكلية
اليت أتكدان من ثبوهتا يف الدين ،فالدولة أحكاما ونظما ينبغي أال خترج عنها ،بل ينبغي أن
تعمل هبا ،وتؤسس عليها ،ويقول هؤالء :إننا ال نقول إن تطبيقنا هلذه األحكام والتأسيس عليها
بشري ،قد يصيب وقد خيطئ .إهلي ،بل هو اجتهاد ٌّ ال يكون إال أبمر ووحي ٍّ
فالنزاع -إن وقع -مع األوىل فسيكون يف دعواهم العصمة يف اجلزئيات والكليات ،ويف
التطبيق والتفريع والتأصيل .
وأما النزاع مع الثانية ،فإن كان فسيكون يف تلك األصول اليت يزعمون أهنا دينية أوال ،مث
3
يزعمون أهنا تؤدي إىل العدل يف اعتقادهم .أما ما وراء ذلك فإهنم يستوون مع غريهم من الدول
اليت تصرح أبهنا دول وضعية مطلقا ال دينية ،يف األصول واألحكام ويف التطبيق هلذه األحكام.
أن النزاع يف هذا املقام سيكون مع الذين يعارضون األسس اليت يقوم عليها الدين وذلك يعين َّ
مثالا ،وال يؤمنون ابألحكام الشرعية الفرعية ،ويقولون بعدم لزومها ،أو بعدم جدواها أو
صالحيتها .وقد يقع النزاع أيضا مع بعض املنتسبني لإلسالم الذين يعتقدون أن الدولة ال ينبغي
أن يكون هلا عالقة ابلدين من قريب أو بعيد.
الدولة اإلسالمية
الدولة اإلسالمية ال ختتلف عن غريها من الدول إال يف أهنا تقول :إن هناك أحكاما معينة
(قلت أو كثرت) ال ينبغي جتاوزها ،وال ينبغي إمهال العمل هبا ،ألن هذه األحكام ال يقول
العدل املمكن يف احلياة الدنيا إال بناء عليها ،وال يتوصل اإلنسان إىل نفي الظلم من بني الناس
إال ابلبناء عليها .
يشك أحد من املطلعني على حقيقة الدولة اإلسالمية أهنا تعىن ابحلقوق املدنية ،ولكنها
فال ُّ
تصوغها وتقيدها وتؤسسها على األصول الكلية والقواعد املرعية يف اإلسالم .أما أن يقال إن
الدولة اإلسالمية دولة ال عالقة هلا احلقوق املدنية ،وال ترعى واجبات الناس وال ما هلم عليها،
وما هلم بني بعضهم لبعض ،فهذا القول من أبعد األوصاف للدولة اإلسالمية.
فاألحكام اليت حتتكم إليها الدولة اإلسالمية :قسمان:
األول منها هو تلك األحكام الثابتة املقطوع هبا املشار إليها (حنو حترمي الراب ،وحترمي الزان،
والسرقة ،والقتل ،وحترمي أنواع معينة من البيوع ،وتنظيم العالقات االجتماعية على وجه معني
دون غريه من الوجوه املمكنة بني البشر... ،وغريها).
والثاين من هذه األحكام ما ال منلك فيه إال أصوال كلية ،أما التفريعات اجلزئية فينبغي أن
تبىن على تلك األصول (اليت منها املصلحة ترجح على املفسدة ،التنظيمات احلادثة بني الناس،
كرتتيبات أمور السري ،وتوزيع املياه والكهرابء...وحنو ذلك من األمور اليت ميكن أن ختتلف
ابختالف الزمان واملكان) فقد أجاز الشرع فيها للفقهاء وألصحاب الدولة أن يروا يف ذلك
4
رأيهم بناء على القواعد الكلية املعتربة يف الشريعة ،وحبيث ال يؤدي التطبيق اجلزئي العملي إىل
خمالفة أصول كلية اثبتة ،وال أحكام مصرح هبا أو مقطوع هبا يف الشريعة .
ولو دققنا قليال يف امليزات اليت تتميز هبا الدولة اإلسالمية عن غريها ،فهي واحدة ال غري:
وهي تلك األحكام الثابتة يف الشريعة اإلسالمية ،واالصول الكلية احملرتمة يف الدين اإلسالمي
واليت منها أن إنشاء األحكام ال يكون إال عن طريق القواعد واألصول املقبولة يف اإلسالم ،وهي
املفرعة على
بد من االحتكام إليها ،وعدم جتاوزها ،أو جتاوز ما ينبين عليها من األحكام َّ اليت ال َّ
القسم األول التابع له ،وال بُ َّد من اعتبارها أساس ا يف الدولة َ
املؤ َّسسة ،ال تتبدل وال تتغري ،إن
تتسمى ابلدولة اإلسالمية ،وحتقق أركاهنا .
يد هلذه الدولة أن َّأُر َ
وهذا األمر –يف نظري -ينبغي أن يكون منصوصا عليه يف الدساتري املكتوبة أو احملفوظة
أمر آخر مغاير لذلك ،كأن املتعاهد عليها عند أتسيس الدولة اإلسالمية ،أما لو اتفق على ٍّ
َ
تعليق
يقال :إن تلك األحكام ال ينبغي أن حترتم إال ما دام الناس راضني هبا ،فاحلاصل إذن ُ
إجياب العمل بتلك األحكام على رضا الناس واختيارهم هلا ،سواء كان رضا مؤقتا أو دائم ا ،أَو
ص على أن الناس لو اختاروا غري تلك األحكام ،ورفضوها كلها أو قسم ا منها ،فال ينبغي أن نُ َّ
اف
تكون تلك األحكام حمرتمة وال معموال هبا وال معتىن هبا ،وال مرجوعا إليها إال ما دام االعرت ُ
هبا من الناس ،فإن تغري االعرتاف تغري الرجوع واالعتبار .فهذه الدولة اليت هذا شأهنا ال ميكن
أن تكون إسالمية ،بل هي من نوع آخر سنبينه.
فيمكن أن نقول إذن :إن الدولة إن أريد هلا أن تكون إسالمية ،أو يُطْلَ َق عليها أهنا دولة
إسالمية ،ينبغي أن يكون تطبيق تلك األحكام على النحو املذكور مقصودا لذاته ،مصرحا به يف
املؤس َس ِة لتلك الدولة ،وبغري ذلك فال ينبغي لتلك الدولة أن تسمى ابسم الدولة النصوص ِ
يصح أن تَ َقيَّد بذلك القيد .فإن قيد اإلسالمية يعين" :أن منشأ األحكام ال اإلسالمية ،وال ُّ
يكون إال من اإلسالم أو من مصدر اعتربه اإلسالم تبعا لإلسالم ولشريعة اإلسالم" ،فال ينبغي
تبة اثنية ،أو اثلثة أوأن تعترب الشريعة اإلسالميةُ اتبعةا لغريها من الشرائع ،أو موضوعةا يف ر ٍّ
ت يف دستورها أو قوانينها أن صْفأي دولة نَ َّ
خامسة أو سادسة يف ترتيب األخذ لألحكامُّ .
املرجع لالستمداد من القوانني هو أمر غري الشريعة اإلسالمية ،وجعلت الشريعة اثنيةا أو اثلثة أو
5
يصح إطالق وصف (اإلسالمية) عليها
غري ذلك من املراتب والدرجات ،فالذي أراه أن ال ََّ
وتقييدها به.
صُّرفِ ِه ُحكْم ا إسالمي ا ،من غري أن يكون قاصدا هلذا احلكم ،ومن دون أن
فمن وافق يف تَ َ
إسالمي ،أو أن تقيُّ َده مطابق
ٌّ يعلن عن نفسه أنه مسلم أصال ،فكيف نقول إن تصرفه يف ذلك
أن اإلسالم ليس مقصودا له ،وال احلال َّ
لإلسالم؟ فضالا عن أن يقال :إنه ملتزم ابإلسالم! و ُ
اعى عنده ،وال مالحظ ا يف فعله الناشيء.
مر ا
فقيد االلتزام ابألحكام اإلسالمية عن قصد ينبغي أن يكون قيدا ُمعتربا يف مفهوم الدولة
اإلسالمية ،فكل دولة ال يكون فيها هذا القيد معتربا ،أو يكون فيها مهمال مهالا ،أو يكون فيها
مناف له ،أو يكون معتربا اثنيا أو اثلثا ْبع َد غ ِريهِ ا ِ
ألصيل ،فليست بدولة إسالمية بل هلا قيد ٍّ
تصنيف آخر ،وذلك حبسب احلقيقة اليت التزمت هبا.
7
ترتى.
وبناء على ذلك فال جيوز أبي وجه أن يتم اإليهام أبن املسألة تنتهي وتنحل جذرايا إن مت
يتم السماح له أبن ينفَّذ
العمل هبذا االقرتاح ،بل إن هذا االقرتاح يف ظل الظروف احلالية لن َّ
حبالة رضائية ،وإن متَّ اإلصرار عليه فإنك سوف ترى شىت النزعات العرقية والدينية واملذهبية
تش َّم يوما رائحة ذلك ،إىل أن يتم االبتعاد عن كل ما يؤديتشتعل يف شىت البالد العربية اليت مل َ
إىل أتصيل وتثبيت األحكام الشرعية اإلسالمية يف أصول الدولة ،أبن ُْجتعل يف مرتبة ِ
آخَرةٍّ ،وهذا ََ
عني االعرتاف ابلنسخ الكلي أو اجلزئي هلا ،وهو خيالف حكم ا قطعي ا من قطعيات الشريعة
اخلامتة.
حماولة أسلمة مفهوم الدولة املدنية :
حياول بعض الكاتبني يف هذا املال إعادة تعريف الدولة املدنية :فيقولون :إننا نعين ابلدولة
وعد َم
حقوق اإلنسان واملواطنني ،وحترص على العدل بينهمَ ، َ املدنية تلك الدولةَ اليت تراعي
الظُّْل ِم ومقاومة االستغالل وحنو ذلك من االحنرافات ،ولكن ال بُ َّد أن يكون ذلك بناءا على
األحكام الشرعية اإلسالمية.
ويقول هؤالء :ال نريد ابلدولة املدنية إال هذا املعىن ،وهو املعىن الذي نريده إذا أطلقنا
مصطلح "الدولة املدنية" ،ولذلك فنحن ندعو إىل أتسيس "الدولة املدنية" هبذا املعىن يف البالد
العربية املعاصرة.
ومْن َشأٌ من لَ ُد ْن غ ِريِهم ،وقد
معرف ُ
وقد غيَّب هؤالء عن أذهاهنم أن مصطلح الدولة املدنيةَّ ،
أاتان هذا املصطلح من الغرب ،فال حيسن يف عرف الباحثني والعلماء املنصفني ،أن جنعل هلذا
املصطلح مفاهيم أخرى ،بزايدة قيد أو إنقاص قيد ضروري منها ،مث ندعو إىل عني املصطلح.
فهذا التصرف احنراف عن اجلادة ،وال يذكران إال أبساليب بعض السابقني عندما أطلقوا القول:
أبن اإلسالم اشرتاكي ،أو من أطلق القول أبن أاب ذر الغفاري أول شيوعي يف اإلسالم ،أو قال: َّ
إن الديقراطية ال تعين إال معىن الشورى عندان ،وهكذا...
فهذا النحو من التفكري ،هو –كما نراه -عبارة عن صيغة معاصرة للتلفيق والتحريف الذي
8
ال ينفعنا من حيث حنن مسلمون ،وال ينخدع به املخالفون لإلسالم الداعون إىل اإلجهاز على
دولة اإلسالم ،والعاملني على مقاومة أي عنصر ميكن أن يكون ِ
مؤسسا هلا يف احلاضر أو
املستقبل؛ فإنه أوضح من أن ينخدعوا به .
ومن هنا إننا إذا رأينا قول الشيخ القرضاوي" :إن الدولة يف املفهوم اإلسالمي هي دولة
مدنية حصرا ،فهي ال ميكن إال أن تكون دولة مدنية" ،أو يقول":فالدولة املدنية هي الدولة اليت
يطرحها الفقه اإلسالمي وال يطرح سواها يف املذاهب السنية ..دولة مدنية غري علمانية وال دينية
أو عسكرية أو بوليسية ،"..فإننا نعتقد أنه جانَب الصواب ،وأبعد النجعة ،وأخطأ املقصد
والطريق .
يدل على ذلك املعىن ِ
العريف اخلاص الذي جعله هو وصحبه فإن مصطلح الدولة املدنية ،ال ُّ
له ،ومل يوافقه عليه غريه ممن اخرتعوا أصل هذا املفهوم ،وال من اختلط عليهم أبحناء أخرى من
االختالطات .
وفضالا عن ذلك ،فإننا نعتقد أيضا :أن إطالق مصطلح "الدولة الدينية" على الدولة اليت
يكون فيها "اإلكلريوس" هو احلاكم أبمر هللا تعاىل يف اجلزئيات والكليات ،بدعوى العصمة
وويستمرون على هذا ولو أدى ذلك إىل ظلم الناس يف حقوقهم الدنيوية ،قد َّأدى إىل حتريف
وتشويه مصطلح "الدولة الدينية" الذي كنا -حنن املسلمني -نطلقه على الدولة اإلسالمية ،فلم
يكن اإلسالميون يرتددون عن القول :إن الدولة اليت نريدها هي دولة إسالمية ،ولكن ما دام قد
حصل هذا التشويه ،فلذلك خنتار اآلن حترمي إطالق القول أبن الدولة اليت نريدها هي دولة
دينية ،ويتحتم علينا القول أبن الدولة اليت نطلبها ما هي إال الدولة املدنية.
املنع منه؟
هل حتريف املصطلح يوجب حترميَ استعماله و َ
صحيح عندان؟
ٌ املنع سائغ ا حىت لو كان هلذا املصطلح -املمنوع منه -معىن
وهل يبقى هذا ُ
أم إن هذا الوضع املقصود من إقالء الشبهات والتنفري من املعاين املقبولة شرع ا يوجب عليينا
متييز األمور ،دفاع ا عنه وحفاظا على املعاين الشرعية الصحيحةإعادة تبيني املصطلح الشرعي و َ
اليت يقوم ابلداللة عليها.
9
أما أن يقال إن ذلك اخللط والشبهة اليت وردت على مصطلح ما من طرف الفكر العلماين
واحلداثي املنايف لألداين قاطبة ال لإلسالم فقط ،يوجب علينا التسليم بوجوب النفرة عن
استعمال املصطلح املعروف عندان ،والدال على معاين شرعية صحيحة ،ويوجب علينا الركون
إىل ذلك املصطلح الوافد اجلديد ،بعد قيامنا إبعادة تعريفه تعريفا ال يوافقنا عليه غريان .
هذا مع أن املصطلح اجلديد تتوافر فيه نفس احملذورات اليت من أجلها يطلب منها النفور
عن املصطلح القدمي ،وهي اشتماله على ما ينايف العقيدة الدينية والشريعة اإلسالمية .
فهل تغيري املصطلحات الصحيحة من قبل املعارضني يوجب علينا النفور من أصل
املصطلح ،فضال عن أن يوجب علينا الرضوخ للمصطلح الذي يقرتحونه ،مث إعادة تعريفه
ابلطريقة التلفيقية اليت أشران إليها!
فإن قوله إن الدولة يف اإلسالم هي الدولة املدنية ،ال الدولة العلمانية ،أمر متناقض وأيض اَّ :
ُطلق فإنه ال يراد غريها عند أغلب البشر ،ومنشأ مع مفهوم "الدولة املدنية" املعروفة الذي إذا أ َ
هذا التناقض هو دعوى اجلمع بني إثبات الدولة املدنية ،ونفي مفهوم الدولة العلمانية مطلقا
ف فيه أيضا ،وذلك هكذا ،مع أن بينهما تالزما ال خيفى على العارفني ،إال إذا قمنا بفعل متكلَّ ٍّ
أن نعيد تعريف الدولة العلمانية ،لنجعلها صادقة فقط على الدولة اليت تنص على معاداة
األداين ،مع أن العلمانية يف نفس األمر شاملة هلذا النوع ،وهي املسماة ابلعلمانية الدوغمائية،
ولغريه من الدول اليت ال يشرتط فيها أن تنص على أصل معاداة األداين ،وحماولة إبطاهلا
وإعدامها من وجود البشر ،بل تكتفي فقط بدعوى أن األداين مجيعا (مساوية أو غري مساوية) يف
منزلة واحدة ،وال ميزة لواحد منها على غريه ،وال يصح اشرتاط كون بعض هذه األداين منشأ
لألحكام املعتربة (كلية كانت أو جزئية) يف الدولة املؤسسة على هذا النمط من العلمانية ،وهي
املسماة ابلعلمانية احلداثية أو العلمانية املنفتحة .
ي بني املواطنني فيها ،وأن ال تكونفإن من أصول مفاهيم الدولة املدنية (والعلمانية) أ ْن تُ َس ِو َ
األحكام فيها مستمدة إال من اختيار املواطنني ،ولو زعم ا خمالفا لواقع احلال ،وال جيوز التمييز
وظيفة ،وال منح بعض احلقوق فيها بناء على الدين ،مهما كان ذلك الدين، ٍّ يف حكم وال يف
إىل آخر ذلك من األحكام اليت تشكل بعض أصول الدولة املدنية ،وهذا القدر من التعريف ال
10
َّ
بد منه يف الدولة املدنية اتفاق ا بني العارفني ابملفاهيم .
ولكنا نعلم أن اإلسالم قد رتب أحكاما معينة فجعلها خمتصة ابملسلمني ،ومنع بعض
الوظائف عن غري املسلمني ،وإن كانوا مواطنني حمرتمة حقوقهم املدنية يف دولة اإلسالم .وقد
أجاز الدين للمسلم أن يتزوج املرأة املسلمة أو غريها من النساء من أهل الكتاب ،ومنعته
الشريعة من تزوج الوثنيات مثال ،وحرم على املرأة املسلمة تزوج غري املسلم ،وهذه القيود كلها
ممنوعه وم رفوضة يف الدولة املدنية ،ألهنا تسوي بني املواطنني ،ولعلها تعترب ذلك تفرقة بني البشر
بناء على الدين ،وهو األمر املرفوض فيها كما هو معلوم ،وهذا مثال واحد فقط على وجود
تناقض واضح بني األحكام يف الدولة املدنية واألحكام يف الدولة اإلسالمية .
فاإلسالم قد يفرق إذن -ولو يف بعض األمور -بني املواطنني ،على أساس الدين خالفا
للدولة املدنية والعلمانية .
ويف الدولة املدنية ،ال جيوز أن يكون الدين من حيث هو دين ،موجها لسياسات الدولة
الداخلية واخلارجية ،إال أن حيصل اتفاق وأغلبية من املواطنني على ذلك ،فيعترب ما دام هذا
االتفاق حاصال ،ولكن ما إن يتغري ويتحول هذا األتفاق األغليب بطريقة أو أخرى ،ولو بتغري
وتبديل بعض أصول الدساتري ِبا ال يعود
ُ عاد صياغةُ القوانني
األهواء واختالف اآلراء ،حىت يُ َ
ابلنقض على أصل مفهوم الدولة املدنية اليت هي دولة علمانية يف جوهرها.
فينصرف بعد تغري االتفاق األغليب مواطنوا تلك الدولة املدنية عن مراعاة هذه األحكام
واألصول املتوافقة مع اإلسالم ،إىل غريها ،مما خيالفه خمالفة ظاهرة أو جمانبة أو مضادة .
فالعربة يف الدولة املدنية إذن ال تكون إال للسلطان الذي خيتاره الشعب ابلطرق املعتربة ،ال
أن هذا احلكم والتقييد إسالمي أو غري إسالمي. بقيد َّ
ولنا أن نتعجب ممن يرضى أن يطلق على حنو هذه الدولة أهنا دولة إسالمية ،أو يتجرأ على
القول أبهنا غري خمالفة يف جوهرها لإلسالم .
وكذلك فإن استغرابنا يزداد عندما نقرأ كالم أيب العال ماضي من حزب الوسط (مصر) وهو
يقول":وعليه فنحن (يف حزب الوسط ) ال نقبل منوذج الدولة الدينية كما عررفناها يف أول هذا
11
املقال من حيث حكم علماء الدين أو رجال الدين أو قيام دولة على أساس ديين حمض يف
عضوية هذه الدولة ،ولكن نقبل وننادي وندعم الدولة املدنية احلديثة القائمة على سلطة
الشعب يف التشريع وكما ورد ابلنص يف برانمج حزب الوسط اجلديد يف احملور السياسي" :
الشعب مصدر مجيع السلطات اليت جيب الفصل بينها واستقالل كل منها عن األخرى يف إطار
من التوازن العام ،وهذا املبدأ يتضمن حق الشعب يف أن يشرع لنفسه وبنفسه القوانني اليت تتفق
ومصاحله "
املؤ ِسسون بتوزيع السلطات بني السلطات الثالث التشريعية والتنفيذية وكذلك يؤمن َ
والقضائية كما يؤمنون أبساس املساواة التامة يف احلقوق والواجبات بكافة أشكاهلا ومنها
السياسية بني الرجل واملرأة واملسلم وغري املسلم على أساس املواطنة الكاملة ،ويؤمنون ابلتعددية
الفكرية والدينية والسياسية والثقافية ،ويؤمنون بتداول السلطة واحرتام رأي الناخبني ،وااللتزام
ابلقانون وكونه حكم ا بني كل األطراف واإلقرار بكافة احلقوق من حقوق اإلنسان وكل احلرايت
...اخل ،فهذه أهم مالمح الدولة املدنية احلديثة اليت نقبل هبا ونرفض كل أشكال الدولة الدينية
اليت تقوم على فكرة أن هناك حكما ابسم هللا وأن هناك من ميثل إرادة هللا ويعرب عنها مهما كان
هذا الشخص أو اجلهة أو اجلماعة أو احلزب فكل هذا غري مقبول".
ونرى هذا الكالم جمانبا للصواب يف كثري من اجلهات فيه .
فها هو يصرح أن الشعب هو املشرع لنفسه ،وليس مراقبا فقط وال حماسبا على أساس
التشريع اإلسالمي ،وال بناء على أحكام الدين ،والعربة يف التشاريع اليت يعتمدها (حزب
الوسط) هو مصلحة الشعب فقط ،فمن هو الذي حيدد مصلحة الشعب ،إن كان غري
اإلسالم ،بل هو جمرد اختيار الشعب بال قيد وال رابط ،فهذا خروج عن قاطع من قواطع الدين،
وإن كان اإلسالم ولو يف بعض األحكام ،فهو عودة إىل ما متَّ اهلروب عنه .
وال أريد اخلوض معهم يف مناقشة بعض التفاصيل واللوازم الالزمة عن اإلطالقات اليت
ذكروها يف كالمهم ،فرِبا يكون لنا حبث خاص فيه يف موضع آخر.
12
أقول :
ويف النهاية ُ
إنين أرى أن ما حيصل اآلن من احلرص على إعادة التعريفات ولو قسرا ،والركض هبا ابجتاه
حتصيل املواءمة ولو قهرا ،للمفاهيم اليت أطلقها الغرب ،بدون مراعاة للقواطع اإلسالمية ،إما
عدم قطعيَّتِها ،أرى يف ذلك خطرا عظيما يتهددبغض النظر عنها ،وكأن مل تَ ُكن ،أو بدعوى ِ
ْ ِ
الفكر اإلسالمي يف املستقبل ،ال َّ
بد من التصدي لنقده واإلعالن عن ضده.
وهللا املستعان
سعيد فودة
13
خصائص السيادة يف السلطة اإلسالمية :
-1السيادة للتشريع اإلسالمي يف جمال العقيدة والعمليات الفقهية واملقاصد الكلية .
-2مسؤولية الشعب عن تنفيذ هذه السيادة وحتقيقها ،فاإلمامة واجبة على الناس ال على
هللا تعاىل ،فالناس خيتارون اإلمام ويوكلونه تكليفا إبقامة هذه األحكام ،وابلتايل فإن
الناس هم املطلوب منهم إقامة اإلمامة بكل أركاهنا ،من اإلمامة إىل تنفيذ أقل األحكام
اإلسالمية درجةا وسيادهتا على غريها من األحكام ،وهذا يستلزم ضرورة مراقبة من
أوكل إليه الناس أن يقوم على ذلك ،ومتابعته بطرق كافية ،ال ِبجرد الوعظ والتذكري.
فتفاوت هذه الطرق وقوهتا إذن يكون حبسب احلاجة .
فأي دولة احنرفت عن جمموع هذين األساسني ،فقد ابتعدت عن مفهوم الدولة اإلسالمية
وحقيقتها .والركن األول منهما ال ميكن التنازل عنه ،وكل دولة مل تعرتف به ومل تتخذه نرباسا هلا
،فليست بدولة إسالمية أصال .أما الركن الثاين ،فلما كان املقصود منه ضمانة حتقيق الركن
انسد ابب شيء منه ،فال يستلزم ابلضرورة خروج الدولة عن مفهوم الدولة األول ،فإن َّ
اإلسالمية ابلكلية ،ولكن االحنراف يتسلزم ابلضرورة ،احنرافها عن الكمال يف حتقيق هذه املفهوم
الشريف ،وكلما ازداد االحنراف ازداد االبتعاد عن هذا الكمال ،حىت قد يصري األمر مشكالا يف
التمييز بينها وبني الدولة غري اإلسالمية ،ويعسر احلكم عليها أبهنا إسالمية.
فالدولة اإلسالمية يف حاصلها عبارة عن تعاقد بني الشعب واهليئة املوكلة بتنفيذ األحكام
بد أن يكون هناك رقابة من املوكل الشرعية ورعايتها ،ال بد للهيئة من تنفيد ما أوكل إليها ،وال َّ
على الوكيل ،للحرص والتأكد على سريه يف الطريق املطلوب منه.
وأهم الوظائف للدولة مطلقا :حفظ الثغور والدفاع عن األمة بكل عناصرها وقيمها ،وحفظ
مصاحلها ،واحلرص على حتقيق العدالة فيها حبسب الشريعة املعتربة عندها .
ودولة اإلسالم ال خترج عن هذه املباين الكلية للدولة .
14
مالحظة يف زايدة بيان الفرق بني الدولة الدينية والدولة املدنية :
قد يقول بعض املتكلمني يف هذا املال :
إن مفهوم الدولة الدينية ال تتحقق إال إذا كان على رأسها واحد يتلقى أحكامه من عند هللا
تعاىل يف شؤون الدولة كلها ،وهذا ال يكون إال إن كان نبيا مقيما أو حنو ذلك ،وهذا حمال يف
عصران ألن النبوة ختمت بسيدان حممد عليه أفضل الصالة والسالم ،فآخر دولة دينية كانت يف
عصر الرسول عليه الصالة والسالم ،أما بعد ذلك فلم يتحقق ذلك إال ابلدعوى غري املسلمة
من النصارى يف القرون الوسطى حني كانوا يزعمون أهنم يتلقون أحكامهم بوحي اإلله .
وأقول :هذا الكالم فيه ما فيه :
أوالا :ال نسلم أن الصورة الوحيد للدولة الدينية هي تلك اليت يتلقى فيها رأس الدولة
األحكام كلها من عند هللا تعاىل ،بل قد تكون دينية إذا كانت أحكامها املعمول هبا مأخوذة
من الشريعة الدينية اليت أنزهلا هللا تعاىل على رسوله احلق ،فيعمل ابلنص فيما هو نص
وابالجتهاد واالستنباط فيما ال نص فيه .
اثنيا :ال نسلم أنه عندما كان الرسول عليه الصالة والسالم رئيسا للمسلمني أنه كان ال
يعمل أمرا وال حيكم حكما من األحكام املتعلقة إبدارة البالد واحلكم يف العباد إال بوحي من
عند هللا تعاىل ،بل إن النصوص تدل بوضوح على خالف ذلك ،فكثري من شؤون احلرب كان
يرجع فيها إىل املسلمني ،وأحكامه اجلزئية على املسلمني كان حيكم فيها غالبا حبسب ما يظهر
له من حجة املتخاصمني ،ولذلك كان عليه السالم حيذرهم من الكذب أو املبالغة أو التحريف
للحجج واالفرتاء على الغري ألن ها يلحق هبم يف اآلخرة ،وأحكامه على الناس كانت حبسب
الظاهر منهم ،وإن علم حقيقتهم بوحي احلق كما يف حال املنافقني ،وغري ذلك كثري .فدعوى
أن حكومته على املسلمني كانت دولة دينية ابملعىن املدَّعى (أي أنه كان يتلقى أحكامه فيها
مباشرة عن الوحي) دعوى جمردة عن الدليل .
اثلثا :ما كان يدعيه البااب والرئيس األعلى للنصارى من أنه يتلقى أحكامه اجلزئية مباشرة من
اإلله ،ال يسلَّم له يف نفس األمر ،ولكن ذلك ال يستلزم عدم تسليم وجود دولة دينية إال هبذا
15
املعىن .فنحن إذن خنالف التعريف املدَّعى للدولة الدينية .
فلم ال يقال :الدولة قد تكون يف أحكامها اتبعة للدين احلق الذي أرسلت به الرسل املربهن
يتم
على رسالتهم كسيدان حممد عليه الصالة والسالم ،الذين مل حترف رسالتهم وال شريعتهم ،مث ُّ
االجتهاد يف التنزيل والتاصيل .فهذا القدر ٍّ
كاف يف كون الدولة دينية هبذا املعىن .وال يشرتط يف
هذه الدولة وجود نيب مقيم وال معصوم على رأسها ،بل إنسان جيتهد يف ترسيخ قواعد الشريعة
حبسب قدرته ومن معه .
إن حماولة حصر مفهوم الدولة الدينية ابلدولة اليت يكون على رأسها معصوم يزعم أنه ال
حيكم يف كلي وال جزئي إال حبكم هللا وبوحي منه ،حماولة مغالطية فاسدة ال ينبغي التسليم هبا،
وال الرضوخ هلا.
بعد
قصد –يف نظري -دعوى ذلك احلصر وال املوافقة عليه إال ليتم التوسل بذلك من ُ وال يُ َ
إىل وصف الدولة يف اإلسالم أبهنا دولة مدنية ال غري ،فإن رجعنا وقلنا إن دولة اإلسالم دولة
مدنية بشرط كون أحكامها مستمدة من الشريعة ،رجعنا إىل ما هربنا عنه ،وإن سلمنا أن الدولة
يف اإلسالم دولة مدنية مطلقا حبسب التعريف املعتمد للدولة املدنية ،وهو أن تكون أحكامها
مستمدة من سلطة الشعب ابعتبار واحد فقط وهو كوهنم مواطنني ،وليس املعين هبا جمرد أن
يكون الشعب رقيبا على تنفيذ األحكام ،واملواطنة ال يؤخذ فيها معىن الدين ،على اختالف
أنواعه وأشكاله ،وال عدم الدين أيضا مأخوذ يف تعريف الدولة املدنية ،فال جيوز يف الدولة املدنية
ترجيح دين على دين ،وال جعل الدولة املدنية حبسب التعريف عاملة ِببدأ عقدي دون غريه ،بل
كل األداين واملبادئ الفكرية والعقدية ابلنسبة إىل الدولة املدنية على السوية .ولذلك فال جيوز
أن يكون منشأ األحكام فيها لدين أو مبدأ دون دين أو مبدأ آخر.
فالتسوية بني األداين ضرورة الزمة يف الدولة املدنية ،وخبالف ذلك يبطل كوهنا دولة مدنية.
16