You are on page 1of 16

‫الدولة الدينية والدولة املدنية‬

‫أتمالت يف املفاهيم والنتائج‬


‫كتبه‬
‫سعيد فودة‬
‫مفهوم الدولة على وجه اإلمجال ‪:‬‬
‫الدولة تتألف إمجاال من ثالثة أركان ‪ :‬مساحة من األرض أو اإلقليم املعني‪ ،‬والشعب‪ ،‬ونظم‬
‫معينة تطبق على الناس القاطنني هبا‪ ،‬من هيئة مسؤولة عن ذلك‪ ،‬بناء على قوانني معينة معتربة‬
‫من تلك اهليئة أو الناس ‪.‬‬
‫فالشق املتعلق ابألرض املسكونة‪ ،‬وسيادة الناس عليها‪ ،‬ووجود نظم‪ ،‬مطلق نظم حيتكم إليها‬
‫هؤالء الناس‪ ،‬ووجود هيئة هي احلاكم أو الرئيس ومساعدوه وسائر املوظفني يف خمتلف مراتبهم‬
‫الذين يقومون على االعتناء بتطبيق النظام والقوانني املعتربة‪ ،‬هذه األركان موجودة يف كل ما‬
‫يسمى دولة يف العامل ‪.‬‬
‫فما الذي مييز الدولة املدنية‪ ،‬عن الدولة الدينية‪ .‬وما الذي مييز الدولة الفاضلة عن الدولة‬
‫الظاملة‪....‬‬

‫أوال‪ :‬مفهوم الدولة الفاضلة أو العادلة‬


‫العدل هو إعطاء كل ذي ٍّ‬
‫حق حقه‪ ،‬والدولة العادلة هي اليت حترص يف قوانينها وتطبيق تلك‬
‫القوانني على تنفيذ ذلك املفهوم من العدل‪ .‬وكل دولة ال حترص على ذلك نظراي أو عمليا فهي‬
‫دولة غري عادلة‪ ،‬بل هي دولة ظاملة ‪.‬‬
‫وليس البحث اآلن يف منشأ احلق‪ ،‬وحدوده‪ ،‬وكيفية تعيينه‪ ،‬فهذا له موضع آخر‪.‬‬
‫اثنياً‪ :‬الدولة املستبدة‬
‫شخص أو جمموعة من األشخاص يصرفون األموال‬ ‫ٌ‬ ‫هي كل دولة يستبد فيها بتنفيذ احلكم‬
‫لصاحل جمموعة خاصة دون غريها بدون وجه حق وال استحقاق‪ .‬ويقومون حبماية ذلك التصرف‬
‫اجلائر بشىت الطرق‪ ،‬سواء كانت طرقا سلمية أو غري سلمية‪ ،‬أو خمابراتية أو بوليسية‪ ،‬أو غري‬
‫ذلك من التصرفات اليت تؤدي إىل حصر الرزق يف أيدي جمموعة معينة‪ ،‬وإىل منع احلق عن‬
‫أصحابه ‪.‬‬
‫وللدولة املستبدة أشكال‪ :‬منها بوليسية‪ ،‬منها عسكرية‪ ،‬ومنها عشائرية‪ ،‬ومنها قانونية‪،‬‬
‫ومنها غري ذلك ‪.‬‬
‫وقد يستغرب أن نقول إن من أشكال الدولة املستبدة الدولةَ القانونيةَ‪ ،‬ولكن ذلك ال ينبغي‬
‫الع ْد ِل‪ ،‬واملعترب يف‬ ‫ِ ٍّ‬ ‫أن يُوقِ َع يف االستغراب‪َّ ،‬‬
‫ألن مفهوم القانون يف هذا الزمان صار ِبَْع ِزل عن َ‬
‫جمرد القانون‪ ،‬فما يطلق عليه اسم قانون اآلن صار أمرا‬ ‫العدل ال ُ‬
‫درء الظلم واجلَور إمنا هو ُ‬
‫اعتباراي ميكن أن يصدق على الظلم يف بعض األحيان‪ ،‬وميكن أن يصدق على غري الظلم‪،‬‬
‫فليس كل ما يسمى ابلقانون‪ ،‬فهو ابلضرورة عدالا‪.‬‬
‫فاملرجع يف مناقشة جدوى ما يُ َس َّمى اآلن بدولة القانون‪ ،‬ليس جمرد نسبتها إىل القانون‪ ،‬بل‬
‫يف مناقشة عني القانون املنسوبة هي إليه‪ ،‬هل هو قانون حيقق العدل واإلنصاف بني البشر‪ ،‬أم‬
‫هو قانون ويؤسس للظلم واالحنراف‪ ،‬ويؤصل حلماية املنحرفني عن اجلادة املستغلني حلقوق‬
‫لبشر‪ .‬فنحن ال نغرت إذن ِبجرد إطالق وصف دولة القانون لنقول بعد ذلك‪ :‬إهنا دولة عادلة ‪.‬‬
‫العدل إىل‬
‫وكذلك‪ :‬فقد يكون بعض الناس يستبدون ابحلكم دون غريهم‪ ،‬ولكنهم يُوصلون َ‬
‫أصحابه ما داموا يف احلكم‪ ،‬وال يظلمون أحدا‪ ،‬وهذا األمر ال ينبغي أن يستغرب منه‪ ،‬فليس‬
‫عادي بني احنصار السلطة التنفيذية يف أيدي بعض الناس‪ ،‬وبني صريورة‬
‫هناك تالزم عقلي وال ٌّ‬
‫هؤالء الناس ظاملني جائرين غاصبني للحقوق‪.‬‬

‫‪2‬‬
‫اثلثا‪ :‬مفهوم الدولة الدينية‬
‫الدولة بقيد وصفها ابلدينية‪ ،‬ميكن أن تنطلق على أكثر من مصداق ‪:‬‬
‫فبعض هذه املصاديق ما ميكن أن يُ َس َّمى بدولة األكلريوس‪ ،‬أو الناس الذين يدعون أهنم ال‬
‫وحى‬ ‫حيكمون إال بوحي إهلي ِ‬
‫خاص يف كل جزئية من اجلزئيات احلادثة‪ ،‬وهؤالء قد يدعون أهنم يُ َ‬
‫إليهم أو يكشف هلم عن األحكام اخلاصة بكل قضية من القضااي املطروحة بني أيديهم بوحي‬
‫خاص من عند هللا‪ ،‬يريدون بذلك أن يغطوا أحكامهم وأعماهلم ابلقداسة والتنزه عن االحنراف‪،‬‬
‫وإبعاد االنتقاد عليهممن الناس ‪.‬‬
‫وبعض ما قد يسمى ابلدولة الدينية هو ‪ :‬الدولة اليت حترص على استمداد األحكام من دين‬
‫معني‪ ،‬بدون أن يدعي املستمدون واملستنبطون أهنم يوحى إليهم بوحي مباشر على النحو‬
‫السابق‪ ،‬وبدون ادعاء العصمة يف االستنباط‪ ،‬ولكنهم يصرحون أن املرجع يف األحكام ينبغي أن‬
‫يكون هو شريعة ذلك الدين اليت تنسب إليه هذه الدولة أو تلك ‪.‬‬
‫وشتَّان ما بني ‪:‬‬
‫‪ -‬الدولة الدينية ِبعىن هيئة األكلريوس اليت تزعم العصمة يف استمداد األحكام ويف تطبيقها‬
‫اإلهلام من رب العباد يف كل ٍّ‬
‫أمر‪ .‬وأكثر املنفرين من الدولة الدينية يعتمدون يف‬ ‫َ‬ ‫أيض ا‪ ،‬وتدعي‬
‫تنفريهم الناس منها على هذا الشكل هلا‪ ،‬مث حياولون تعميمه على كل ما سواه‪ ،‬وهو أسلوب من‬
‫أساليب املغالطات ال خيفى على املتأمل‪.‬‬
‫‪ -‬وبني الدولة الدينية ابملعىن الثاين وهو الذي يقول‪ :‬إن هناك أصوال وبعض األحكام الكلية‬
‫اليت أتكدان من ثبوهتا يف الدين‪ ،‬فالدولة أحكاما ونظما ينبغي أال خترج عنها‪ ،‬بل ينبغي أن‬
‫تعمل هبا‪ ،‬وتؤسس عليها‪ ،‬ويقول هؤالء‪ :‬إننا ال نقول إن تطبيقنا هلذه األحكام والتأسيس عليها‬
‫بشري‪ ،‬قد يصيب وقد خيطئ ‪.‬‬‫إهلي‪ ،‬بل هو اجتهاد ٌّ‬ ‫ال يكون إال أبمر ووحي ٍّ‬
‫فالنزاع ‪-‬إن وقع‪ -‬مع األوىل فسيكون يف دعواهم العصمة يف اجلزئيات والكليات‪ ،‬ويف‬
‫التطبيق والتفريع والتأصيل ‪.‬‬
‫وأما النزاع مع الثانية‪ ،‬فإن كان فسيكون يف تلك األصول اليت يزعمون أهنا دينية أوال‪ ،‬مث‬

‫‪3‬‬
‫يزعمون أهنا تؤدي إىل العدل يف اعتقادهم‪ .‬أما ما وراء ذلك فإهنم يستوون مع غريهم من الدول‬
‫اليت تصرح أبهنا دول وضعية مطلقا ال دينية‪ ،‬يف األصول واألحكام ويف التطبيق هلذه األحكام‪.‬‬
‫أن النزاع يف هذا املقام سيكون مع الذين يعارضون األسس اليت يقوم عليها الدين‬ ‫وذلك يعين َّ‬
‫مثالا‪ ،‬وال يؤمنون ابألحكام الشرعية الفرعية‪ ،‬ويقولون بعدم لزومها‪ ،‬أو بعدم جدواها أو‬
‫صالحيتها‪ .‬وقد يقع النزاع أيضا مع بعض املنتسبني لإلسالم الذين يعتقدون أن الدولة ال ينبغي‬
‫أن يكون هلا عالقة ابلدين من قريب أو بعيد‪.‬‬
‫الدولة اإلسالمية‬
‫الدولة اإلسالمية ال ختتلف عن غريها من الدول إال يف أهنا تقول‪ :‬إن هناك أحكاما معينة‬
‫(قلت أو كثرت) ال ينبغي جتاوزها‪ ،‬وال ينبغي إمهال العمل هبا‪ ،‬ألن هذه األحكام ال يقول‬
‫العدل املمكن يف احلياة الدنيا إال بناء عليها‪ ،‬وال يتوصل اإلنسان إىل نفي الظلم من بني الناس‬
‫إال ابلبناء عليها ‪.‬‬
‫يشك أحد من املطلعني على حقيقة الدولة اإلسالمية أهنا تعىن ابحلقوق املدنية‪ ،‬ولكنها‬
‫فال ُّ‬
‫تصوغها وتقيدها وتؤسسها على األصول الكلية والقواعد املرعية يف اإلسالم‪ .‬أما أن يقال إن‬
‫الدولة اإلسالمية دولة ال عالقة هلا احلقوق املدنية‪ ،‬وال ترعى واجبات الناس وال ما هلم عليها‪،‬‬
‫وما هلم بني بعضهم لبعض‪ ،‬فهذا القول من أبعد األوصاف للدولة اإلسالمية‪.‬‬
‫فاألحكام اليت حتتكم إليها الدولة اإلسالمية‪ :‬قسمان‪:‬‬
‫األول منها هو تلك األحكام الثابتة املقطوع هبا املشار إليها (حنو حترمي الراب‪ ،‬وحترمي الزان‪،‬‬
‫والسرقة‪ ،‬والقتل‪ ،‬وحترمي أنواع معينة من البيوع‪ ،‬وتنظيم العالقات االجتماعية على وجه معني‬
‫دون غريه من الوجوه املمكنة بني البشر‪... ،‬وغريها)‪.‬‬
‫والثاين من هذه األحكام ما ال منلك فيه إال أصوال كلية‪ ،‬أما التفريعات اجلزئية فينبغي أن‬
‫تبىن على تلك األصول (اليت منها املصلحة ترجح على املفسدة‪ ،‬التنظيمات احلادثة بني الناس‪،‬‬
‫كرتتيبات أمور السري‪ ،‬وتوزيع املياه والكهرابء‪...‬وحنو ذلك من األمور اليت ميكن أن ختتلف‬
‫ابختالف الزمان واملكان) فقد أجاز الشرع فيها للفقهاء وألصحاب الدولة أن يروا يف ذلك‬

‫‪4‬‬
‫رأيهم بناء على القواعد الكلية املعتربة يف الشريعة‪ ،‬وحبيث ال يؤدي التطبيق اجلزئي العملي إىل‬
‫خمالفة أصول كلية اثبتة‪ ،‬وال أحكام مصرح هبا أو مقطوع هبا يف الشريعة ‪.‬‬
‫ولو دققنا قليال يف امليزات اليت تتميز هبا الدولة اإلسالمية عن غريها‪ ،‬فهي واحدة ال غري‪:‬‬
‫وهي تلك األحكام الثابتة يف الشريعة اإلسالمية‪ ،‬واالصول الكلية احملرتمة يف الدين اإلسالمي‬
‫واليت منها أن إنشاء األحكام ال يكون إال عن طريق القواعد واألصول املقبولة يف اإلسالم‪ ،‬وهي‬
‫املفرعة على‬
‫بد من االحتكام إليها‪ ،‬وعدم جتاوزها‪ ،‬أو جتاوز ما ينبين عليها من األحكام َّ‬ ‫اليت ال َّ‬
‫القسم األول التابع له‪ ،‬وال بُ َّد من اعتبارها أساس ا يف الدولة َ‬
‫املؤ َّسسة‪ ،‬ال تتبدل وال تتغري‪ ،‬إن‬
‫تتسمى ابلدولة اإلسالمية‪ ،‬وحتقق أركاهنا ‪.‬‬
‫يد هلذه الدولة أن َّ‬‫أُر َ‬
‫وهذا األمر –يف نظري‪ -‬ينبغي أن يكون منصوصا عليه يف الدساتري املكتوبة أو احملفوظة‬
‫أمر آخر مغاير لذلك‪ ،‬كأن‬ ‫املتعاهد عليها عند أتسيس الدولة اإلسالمية‪ ،‬أما لو اتفق على ٍّ‬
‫َ‬
‫تعليق‬
‫يقال‪ :‬إن تلك األحكام ال ينبغي أن حترتم إال ما دام الناس راضني هبا‪ ،‬فاحلاصل إذن ُ‬
‫إجياب العمل بتلك األحكام على رضا الناس واختيارهم هلا‪ ،‬سواء كان رضا مؤقتا أو دائم ا‪ ،‬أَو‬
‫ص على أن الناس لو اختاروا غري تلك األحكام‪ ،‬ورفضوها كلها أو قسم ا منها‪ ،‬فال ينبغي أن‬ ‫نُ َّ‬
‫اف‬
‫تكون تلك األحكام حمرتمة وال معموال هبا وال معتىن هبا‪ ،‬وال مرجوعا إليها إال ما دام االعرت ُ‬
‫هبا من الناس‪ ،‬فإن تغري االعرتاف تغري الرجوع واالعتبار‪ .‬فهذه الدولة اليت هذا شأهنا ال ميكن‬
‫أن تكون إسالمية‪ ،‬بل هي من نوع آخر سنبينه‪.‬‬
‫فيمكن أن نقول إذن‪ :‬إن الدولة إن أريد هلا أن تكون إسالمية‪ ،‬أو يُطْلَ َق عليها أهنا دولة‬
‫إسالمية‪ ،‬ينبغي أن يكون تطبيق تلك األحكام على النحو املذكور مقصودا لذاته‪ ،‬مصرحا به يف‬
‫املؤس َس ِة لتلك الدولة‪ ،‬وبغري ذلك فال ينبغي لتلك الدولة أن تسمى ابسم الدولة‬ ‫النصوص ِ‬
‫يصح أن تَ َقيَّد بذلك القيد‪ .‬فإن قيد اإلسالمية يعين‪" :‬أن منشأ األحكام ال‬ ‫اإلسالمية‪ ،‬وال ُّ‬
‫يكون إال من اإلسالم أو من مصدر اعتربه اإلسالم تبعا لإلسالم ولشريعة اإلسالم"‪ ،‬فال ينبغي‬
‫تبة اثنية‪ ،‬أو اثلثة أو‬‫أن تعترب الشريعة اإلسالميةُ اتبعةا لغريها من الشرائع‪ ،‬أو موضوعةا يف ر ٍّ‬
‫ت يف دستورها أو قوانينها أن‬ ‫صْ‬‫فأي دولة نَ َّ‬
‫خامسة أو سادسة يف ترتيب األخذ لألحكام‪ُّ .‬‬
‫املرجع لالستمداد من القوانني هو أمر غري الشريعة اإلسالمية‪ ،‬وجعلت الشريعة اثنيةا أو اثلثة أو‬

‫‪5‬‬
‫يصح إطالق وصف (اإلسالمية) عليها‬
‫غري ذلك من املراتب والدرجات‪ ،‬فالذي أراه أن ال َّ‬‫َ‬
‫وتقييدها به‪.‬‬
‫صُّرفِ ِه ُحكْم ا إسالمي ا‪ ،‬من غري أن يكون قاصدا هلذا احلكم‪ ،‬ومن دون أن‬
‫فمن وافق يف تَ َ‬
‫إسالمي‪ ،‬أو أن تقيُّ َده مطابق‬
‫ٌّ‬ ‫يعلن عن نفسه أنه مسلم أصال‪ ،‬فكيف نقول إن تصرفه يف ذلك‬
‫أن اإلسالم ليس مقصودا له‪ ،‬وال‬ ‫احلال َّ‬
‫لإلسالم؟ فضالا عن أن يقال‪ :‬إنه ملتزم ابإلسالم! و ُ‬
‫اعى عنده‪ ،‬وال مالحظ ا يف فعله الناشيء‪.‬‬
‫مر ا‬
‫فقيد االلتزام ابألحكام اإلسالمية عن قصد ينبغي أن يكون قيدا ُمعتربا يف مفهوم الدولة‬
‫اإلسالمية‪ ،‬فكل دولة ال يكون فيها هذا القيد معتربا‪ ،‬أو يكون فيها مهمال مهالا‪ ،‬أو يكون فيها‬
‫مناف له‪ ،‬أو يكون معتربا اثنيا أو اثلثا ْبع َد غ ِريهِ ا ِ‬
‫ألصيل‪ ،‬فليست بدولة إسالمية بل هلا‬ ‫قيد ٍّ‬
‫تصنيف آخر‪ ،‬وذلك حبسب احلقيقة اليت التزمت هبا‪.‬‬

‫الدولة املدنية ‪:‬‬


‫املع ِرفون ابلدولة املدنية‪":‬أهنا تلك الدولة اليت تراعي حقوق الناس وحتقق العدالة هلم‪،‬‬
‫يزع ُم َ‬
‫ُ‬
‫األحكام فيها بناء على ما خيتاره الشعب‪ ،‬فالشعب مصدر السلطات"‪ ،‬واملراد‬ ‫ُ‬ ‫س‬
‫وتؤس ُ‬
‫َّ‬
‫ابلسلطات هنا أمران ‪:‬‬
‫‪ -1‬سلطة اإلنشاء لألحكام والتقرير هلا‪ ،‬واالختيار هلا‪.‬‬
‫‪ -2‬سلطة املراقبة على القائمني على املنفذين لتلك األحكام‪ ،‬وحماسبتهم ِبقتضى القوانني‬
‫املعتربة ‪.‬‬
‫وليس املراد ابلسلطات املنسوبة للشعب يف الدولة املدنية أحد هذين االمرين فقط‪ ،‬بل مها‬
‫مع ا‪ .‬فال تكون الدولة مدنية ابلتعريف إال إذا ُوِج َد يف أصول أتسيسها و ِ‬
‫املعرفات حلقيقة تلك‬
‫الدولة كال األمرين ‪.‬‬
‫إن دولة ما‪ :‬تستمد أحكامها من الشريعة اإلسالمية فقط‪ ،‬ولكنها تفوض مراقبة‬‫فلو قلنا‪َّ :‬‬
‫التنفيذ هلذه األحكام‪ ،‬وحماكمة املنحرفني واملستغلني والظاملني من موظفي الدولة للشعب‪ ،‬فهل‬
‫‪6‬‬
‫هذه الدولة يقال عليها‪ ،‬حبسب التعريف اخلالص للدولة املدنية‪ :‬إهنا دولة مدنية؟‬
‫من الواضح أن جمرد تقييد أخذ األحكام وإنشائها من الشريعة اإلسالمية‪ ،‬قادح يف كون‬
‫تلك الدولة مدنية حبسب التعريف‪.‬‬
‫وال يكفي يف عرف العارفني حلقيقة املفاهيم أن تكون السلطات (التنفيذية واملراقبة‬
‫واحملاسبة‪ )...‬موكولة إىل الشعب لكي تصري الدولة مدنية ‪.‬‬
‫مؤ َّسسة على األحكام الشرعية اإلسالمية‪ ،‬هو قيد‬‫وتقييد الدولة املدنية بكون األحكام فيها َ‬
‫زائد ملفهوم الدولة املدنية‪ ،‬وهو مناقض لكونه مدنيا مطلق ا‪ ،‬الذي يفهم منه كون منشأ األحكام‬
‫مدنيا كما أن تنفيذها وومراقبة منفيذها وحماسبتهما يكون مدنيا ابلطبع‪ .‬وإن قبل بعض الناس‬
‫هبذا القيد‪ ،‬فلن يقوى يف املستقبل على الصمود يف مقابل النقد بل النقض املوجه إليه‪ ،‬وذلك‬
‫حاملا تربز التناقضات عند التأصيل والتفريع‪ ،‬تلك التناقضات الكامنة بني القيد واملقيَّد اليت‬
‫كانت غائبة أو ُمغيَّبةا عن ُم ْق َِرتحي هذا الرأي ‪.‬‬
‫يظن أحد أن نزاعنا مع الغرب‪ ،‬أو أن نزاع الغرب لنا أو لدولة اإلسالم يف املاضي أو‬ ‫وهل ُّ‬
‫احلاضر‪ ،‬كان يدور على أن الغرب يريدون لنا أن نقيم دولة مدنية (هبذا املفهوم املَتزأ) وأهنم‬
‫يريدوهنا مبنيةا على أحكام شرعية صحيحة‪ ،‬لتحفظ حقوق البشر على أصول اإلسالم‪ ،‬بينما‬
‫عىن ابحلقوق املدنية وال‬‫كنا حنن املسلمني نريد دولة إسالمية غري مدنية مدنية هبذا املعىن‪ ،‬وال تُ َ‬
‫تراعيها!؟‬
‫وحاصل هذا الزعم كما لو قال قائل‪ :‬إن غاية ما يريده الغرب (دوال وأفرادا) لنا إمنا هو دولة‬
‫السلطات حبيث حتفظ حقوق الناس‪ ،‬وأهنم ال أيهبون إن كانت مبنية على أصول‬ ‫ُ‬ ‫س عليها‬
‫تؤس ُ‬
‫َّ‬
‫ومبادئ إسالمية حقَّة‪ ،‬أو غري ذلك‪ ،‬بل غايتهم احملضة اخلالصة إمنا هي احلفاظ على حقوق‬
‫وغري مسلمني‪ .‬وهذا يساوي الزعم القائل‪ :‬إن أمريكا بسياساهتا املعروفة إمنا تريد‬
‫الناس مسلمني َ‬
‫حق حقَّه‪ ،‬وال تسعى إال‬ ‫احلفاظ على احلرايت للشعوب والعدالة االجتماعية‪ ،‬وإعطاء كل ذي ٍّ‬
‫إىل حفظ الضعيف من املتغول على حقه‪ ،‬ودفع ظلم الظامل عنه‪.‬‬
‫ظن ذلك‪ ،‬أو يصدَّق به‪ ،.‬وحنن نرى نقائضه النظرية والعملية‬ ‫َّ‬
‫إن من السذاجة البالغة أن يُ َّ‬

‫‪7‬‬
‫ترتى‪.‬‬
‫وبناء على ذلك فال جيوز أبي وجه أن يتم اإليهام أبن املسألة تنتهي وتنحل جذرايا إن مت‬
‫يتم السماح له أبن ينفَّذ‬
‫العمل هبذا االقرتاح‪ ،‬بل إن هذا االقرتاح يف ظل الظروف احلالية لن َّ‬
‫حبالة رضائية‪ ،‬وإن متَّ اإلصرار عليه فإنك سوف ترى شىت النزعات العرقية والدينية واملذهبية‬
‫تش َّم يوما رائحة ذلك‪ ،‬إىل أن يتم االبتعاد عن كل ما يؤدي‬‫تشتعل يف شىت البالد العربية اليت مل َ‬
‫إىل أتصيل وتثبيت األحكام الشرعية اإلسالمية يف أصول الدولة‪ ،‬أبن ُْجتعل يف مرتبة ِ‬
‫آخَرةٍّ‪ ،‬وهذا‬ ‫ََ‬
‫عني االعرتاف ابلنسخ الكلي أو اجلزئي هلا‪ ،‬وهو خيالف حكم ا قطعي ا من قطعيات الشريعة‬
‫اخلامتة‪.‬‬
‫حماولة أسلمة مفهوم الدولة املدنية ‪:‬‬
‫حياول بعض الكاتبني يف هذا املال إعادة تعريف الدولة املدنية‪ :‬فيقولون‪ :‬إننا نعين ابلدولة‬
‫وعد َم‬
‫حقوق اإلنسان واملواطنني‪ ،‬وحترص على العدل بينهم‪َ ،‬‬ ‫َ‬ ‫املدنية تلك الدولةَ اليت تراعي‬
‫الظُّْل ِم ومقاومة االستغالل وحنو ذلك من االحنرافات‪ ،‬ولكن ال بُ َّد أن يكون ذلك بناءا على‬
‫األحكام الشرعية اإلسالمية‪.‬‬
‫ويقول هؤالء‪ :‬ال نريد ابلدولة املدنية إال هذا املعىن‪ ،‬وهو املعىن الذي نريده إذا أطلقنا‬
‫مصطلح "الدولة املدنية"‪ ،‬ولذلك فنحن ندعو إىل أتسيس "الدولة املدنية" هبذا املعىن يف البالد‬
‫العربية املعاصرة‪.‬‬
‫ومْن َشأٌ من لَ ُد ْن غ ِريِهم‪ ،‬وقد‬
‫معرف ُ‬
‫وقد غيَّب هؤالء عن أذهاهنم أن مصطلح الدولة املدنية‪َّ ،‬‬
‫أاتان هذا املصطلح من الغرب‪ ،‬فال حيسن يف عرف الباحثني والعلماء املنصفني‪ ،‬أن جنعل هلذا‬
‫املصطلح مفاهيم أخرى‪ ،‬بزايدة قيد أو إنقاص قيد ضروري منها‪ ،‬مث ندعو إىل عني املصطلح‪.‬‬
‫فهذا التصرف احنراف عن اجلادة‪ ،‬وال يذكران إال أبساليب بعض السابقني عندما أطلقوا القول‪:‬‬
‫أبن اإلسالم اشرتاكي‪ ،‬أو من أطلق القول أبن أاب ذر الغفاري أول شيوعي يف اإلسالم‪ ،‬أو قال‪:‬‬ ‫َّ‬
‫إن الديقراطية ال تعين إال معىن الشورى عندان‪ ،‬وهكذا‪...‬‬
‫فهذا النحو من التفكري‪ ،‬هو –كما نراه‪ -‬عبارة عن صيغة معاصرة للتلفيق والتحريف الذي‬

‫‪8‬‬
‫ال ينفعنا من حيث حنن مسلمون‪ ،‬وال ينخدع به املخالفون لإلسالم الداعون إىل اإلجهاز على‬
‫دولة اإلسالم‪ ،‬والعاملني على مقاومة أي عنصر ميكن أن يكون ِ‬
‫مؤسسا هلا يف احلاضر أو‬
‫املستقبل؛ فإنه أوضح من أن ينخدعوا به ‪.‬‬
‫ومن هنا إننا إذا رأينا قول الشيخ القرضاوي‪" :‬إن الدولة يف املفهوم اإلسالمي هي دولة‬
‫مدنية حصرا‪ ،‬فهي ال ميكن إال أن تكون دولة مدنية"‪ ،‬أو يقول‪":‬فالدولة املدنية هي الدولة اليت‬
‫يطرحها الفقه اإلسالمي وال يطرح سواها يف املذاهب السنية‪ ..‬دولة مدنية غري علمانية وال دينية‬
‫أو عسكرية أو بوليسية‪ ،"..‬فإننا نعتقد أنه جانَب الصواب‪ ،‬وأبعد النجعة‪ ،‬وأخطأ املقصد‬
‫والطريق ‪.‬‬
‫يدل على ذلك املعىن ِ‬
‫العريف اخلاص الذي جعله هو وصحبه‬ ‫فإن مصطلح الدولة املدنية‪ ،‬ال ُّ‬
‫له‪ ،‬ومل يوافقه عليه غريه ممن اخرتعوا أصل هذا املفهوم‪ ،‬وال من اختلط عليهم أبحناء أخرى من‬
‫االختالطات ‪.‬‬
‫وفضالا عن ذلك‪ ،‬فإننا نعتقد أيضا‪ :‬أن إطالق مصطلح "الدولة الدينية" على الدولة اليت‬
‫يكون فيها "اإلكلريوس" هو احلاكم أبمر هللا تعاىل يف اجلزئيات والكليات‪ ،‬بدعوى العصمة‬
‫وويستمرون على هذا ولو أدى ذلك إىل ظلم الناس يف حقوقهم الدنيوية‪ ،‬قد َّأدى إىل حتريف‬
‫وتشويه مصطلح "الدولة الدينية" الذي كنا ‪-‬حنن املسلمني‪ -‬نطلقه على الدولة اإلسالمية‪ ،‬فلم‬
‫يكن اإلسالميون يرتددون عن القول‪ :‬إن الدولة اليت نريدها هي دولة إسالمية‪ ،‬ولكن ما دام قد‬
‫حصل هذا التشويه‪ ،‬فلذلك خنتار اآلن حترمي إطالق القول أبن الدولة اليت نريدها هي دولة‬
‫دينية‪ ،‬ويتحتم علينا القول أبن الدولة اليت نطلبها ما هي إال الدولة املدنية‪.‬‬
‫املنع منه؟‬
‫هل حتريف املصطلح يوجب حترميَ استعماله و َ‬
‫صحيح عندان؟‬
‫ٌ‬ ‫املنع سائغ ا حىت لو كان هلذا املصطلح ‪-‬املمنوع منه‪ -‬معىن‬
‫وهل يبقى هذا ُ‬
‫أم إن هذا الوضع املقصود من إقالء الشبهات والتنفري من املعاين املقبولة شرع ا يوجب عليينا‬
‫متييز األمور‪ ،‬دفاع ا عنه وحفاظا على املعاين الشرعية الصحيحة‬‫إعادة تبيني املصطلح الشرعي و َ‬
‫اليت يقوم ابلداللة عليها‪.‬‬

‫‪9‬‬
‫أما أن يقال إن ذلك اخللط والشبهة اليت وردت على مصطلح ما من طرف الفكر العلماين‬
‫واحلداثي املنايف لألداين قاطبة ال لإلسالم فقط‪ ،‬يوجب علينا التسليم بوجوب النفرة عن‬
‫استعمال املصطلح املعروف عندان‪ ،‬والدال على معاين شرعية صحيحة‪ ،‬ويوجب علينا الركون‬
‫إىل ذلك املصطلح الوافد اجلديد‪ ،‬بعد قيامنا إبعادة تعريفه تعريفا ال يوافقنا عليه غريان ‪.‬‬
‫هذا مع أن املصطلح اجلديد تتوافر فيه نفس احملذورات اليت من أجلها يطلب منها النفور‬
‫عن املصطلح القدمي‪ ،‬وهي اشتماله على ما ينايف العقيدة الدينية والشريعة اإلسالمية ‪.‬‬
‫فهل تغيري املصطلحات الصحيحة من قبل املعارضني يوجب علينا النفور من أصل‬
‫املصطلح‪ ،‬فضال عن أن يوجب علينا الرضوخ للمصطلح الذي يقرتحونه‪ ،‬مث إعادة تعريفه‬
‫ابلطريقة التلفيقية اليت أشران إليها!‬
‫فإن قوله إن الدولة يف اإلسالم هي الدولة املدنية‪ ،‬ال الدولة العلمانية‪ ،‬أمر متناقض‬ ‫وأيض ا‪َّ :‬‬
‫ُطلق فإنه ال يراد غريها عند أغلب البشر‪ ،‬ومنشأ‬ ‫مع مفهوم "الدولة املدنية" املعروفة الذي إذا أ َ‬
‫هذا التناقض هو دعوى اجلمع بني إثبات الدولة املدنية‪ ،‬ونفي مفهوم الدولة العلمانية مطلقا‬
‫ف فيه أيضا‪ ،‬وذلك‬ ‫هكذا‪ ،‬مع أن بينهما تالزما ال خيفى على العارفني‪ ،‬إال إذا قمنا بفعل متكلَّ ٍّ‬
‫أن نعيد تعريف الدولة العلمانية‪ ،‬لنجعلها صادقة فقط على الدولة اليت تنص على معاداة‬
‫األداين‪ ،‬مع أن العلمانية يف نفس األمر شاملة هلذا النوع‪ ،‬وهي املسماة ابلعلمانية الدوغمائية‪،‬‬
‫ولغريه من الدول اليت ال يشرتط فيها أن تنص على أصل معاداة األداين‪ ،‬وحماولة إبطاهلا‬
‫وإعدامها من وجود البشر‪ ،‬بل تكتفي فقط بدعوى أن األداين مجيعا (مساوية أو غري مساوية) يف‬
‫منزلة واحدة‪ ،‬وال ميزة لواحد منها على غريه‪ ،‬وال يصح اشرتاط كون بعض هذه األداين منشأ‬
‫لألحكام املعتربة (كلية كانت أو جزئية) يف الدولة املؤسسة على هذا النمط من العلمانية‪ ،‬وهي‬
‫املسماة ابلعلمانية احلداثية أو العلمانية املنفتحة ‪.‬‬
‫ي بني املواطنني فيها‪ ،‬وأن ال تكون‬‫فإن من أصول مفاهيم الدولة املدنية (والعلمانية) أ ْن تُ َس ِو َ‬
‫األحكام فيها مستمدة إال من اختيار املواطنني‪ ،‬ولو زعم ا خمالفا لواقع احلال‪ ،‬وال جيوز التمييز‬
‫وظيفة‪ ،‬وال منح بعض احلقوق فيها بناء على الدين‪ ،‬مهما كان ذلك الدين‪،‬‬ ‫ٍّ‬ ‫يف حكم وال يف‬
‫إىل آخر ذلك من األحكام اليت تشكل بعض أصول الدولة املدنية‪ ،‬وهذا القدر من التعريف ال‬

‫‪10‬‬
‫َّ‬
‫بد منه يف الدولة املدنية اتفاق ا بني العارفني ابملفاهيم ‪.‬‬
‫ولكنا نعلم أن اإلسالم قد رتب أحكاما معينة فجعلها خمتصة ابملسلمني‪ ،‬ومنع بعض‬
‫الوظائف عن غري املسلمني‪ ،‬وإن كانوا مواطنني حمرتمة حقوقهم املدنية يف دولة اإلسالم‪ .‬وقد‬
‫أجاز الدين للمسلم أن يتزوج املرأة املسلمة أو غريها من النساء من أهل الكتاب‪ ،‬ومنعته‬
‫الشريعة من تزوج الوثنيات مثال‪ ،‬وحرم على املرأة املسلمة تزوج غري املسلم‪ ،‬وهذه القيود كلها‬
‫ممنوعه وم رفوضة يف الدولة املدنية‪ ،‬ألهنا تسوي بني املواطنني‪ ،‬ولعلها تعترب ذلك تفرقة بني البشر‬
‫بناء على الدين‪ ،‬وهو األمر املرفوض فيها كما هو معلوم‪ ،‬وهذا مثال واحد فقط على وجود‬
‫تناقض واضح بني األحكام يف الدولة املدنية واألحكام يف الدولة اإلسالمية ‪.‬‬
‫فاإلسالم قد يفرق إذن ‪-‬ولو يف بعض األمور‪ -‬بني املواطنني‪ ،‬على أساس الدين خالفا‬
‫للدولة املدنية والعلمانية ‪.‬‬
‫ويف الدولة املدنية ‪ ،‬ال جيوز أن يكون الدين من حيث هو دين‪ ،‬موجها لسياسات الدولة‬
‫الداخلية واخلارجية‪ ،‬إال أن حيصل اتفاق وأغلبية من املواطنني على ذلك‪ ،‬فيعترب ما دام هذا‬
‫االتفاق حاصال‪ ،‬ولكن ما إن يتغري ويتحول هذا األتفاق األغليب بطريقة أو أخرى‪ ،‬ولو بتغري‬
‫وتبديل بعض أصول الدساتري ِبا ال يعود‬
‫ُ‬ ‫عاد صياغةُ القوانني‬
‫األهواء واختالف اآلراء‪ ،‬حىت يُ َ‬
‫ابلنقض على أصل مفهوم الدولة املدنية اليت هي دولة علمانية يف جوهرها‪.‬‬
‫فينصرف بعد تغري االتفاق األغليب مواطنوا تلك الدولة املدنية عن مراعاة هذه األحكام‬
‫واألصول املتوافقة مع اإلسالم‪ ،‬إىل غريها‪ ،‬مما خيالفه خمالفة ظاهرة أو جمانبة أو مضادة ‪.‬‬
‫فالعربة يف الدولة املدنية إذن ال تكون إال للسلطان الذي خيتاره الشعب ابلطرق املعتربة‪ ،‬ال‬
‫أن هذا احلكم والتقييد إسالمي أو غري إسالمي‪.‬‬ ‫بقيد َّ‬
‫ولنا أن نتعجب ممن يرضى أن يطلق على حنو هذه الدولة أهنا دولة إسالمية‪ ،‬أو يتجرأ على‬
‫القول أبهنا غري خمالفة يف جوهرها لإلسالم ‪.‬‬
‫وكذلك فإن استغرابنا يزداد عندما نقرأ كالم أيب العال ماضي من حزب الوسط (مصر) وهو‬
‫يقول‪":‬وعليه فنحن (يف حزب الوسط ) ال نقبل منوذج الدولة الدينية كما عررفناها يف أول هذا‬

‫‪11‬‬
‫املقال من حيث حكم علماء الدين أو رجال الدين أو قيام دولة على أساس ديين حمض يف‬
‫عضوية هذه الدولة ‪ ،‬ولكن نقبل وننادي وندعم الدولة املدنية احلديثة القائمة على سلطة‬
‫الشعب يف التشريع وكما ورد ابلنص يف برانمج حزب الوسط اجلديد يف احملور السياسي‪" :‬‬
‫الشعب مصدر مجيع السلطات اليت جيب الفصل بينها واستقالل كل منها عن األخرى يف إطار‬
‫من التوازن العام ‪ ،‬وهذا املبدأ يتضمن حق الشعب يف أن يشرع لنفسه وبنفسه القوانني اليت تتفق‬
‫ومصاحله "‬
‫املؤ ِسسون بتوزيع السلطات بني السلطات الثالث التشريعية والتنفيذية‬ ‫وكذلك يؤمن َ‬
‫والقضائية كما يؤمنون أبساس املساواة التامة يف احلقوق والواجبات بكافة أشكاهلا ومنها‬
‫السياسية بني الرجل واملرأة واملسلم وغري املسلم على أساس املواطنة الكاملة ‪ ،‬ويؤمنون ابلتعددية‬
‫الفكرية والدينية والسياسية والثقافية ‪ ،‬ويؤمنون بتداول السلطة واحرتام رأي الناخبني ‪ ،‬وااللتزام‬
‫ابلقانون وكونه حكم ا بني كل األطراف واإلقرار بكافة احلقوق من حقوق اإلنسان وكل احلرايت‬
‫‪...‬اخل ‪ ،‬فهذه أهم مالمح الدولة املدنية احلديثة اليت نقبل هبا ونرفض كل أشكال الدولة الدينية‬
‫اليت تقوم على فكرة أن هناك حكما ابسم هللا وأن هناك من ميثل إرادة هللا ويعرب عنها مهما كان‬
‫هذا الشخص أو اجلهة أو اجلماعة أو احلزب فكل هذا غري مقبول"‪.‬‬
‫ونرى هذا الكالم جمانبا للصواب يف كثري من اجلهات فيه ‪.‬‬
‫فها هو يصرح أن الشعب هو املشرع لنفسه‪ ،‬وليس مراقبا فقط وال حماسبا على أساس‬
‫التشريع اإلسالمي‪ ،‬وال بناء على أحكام الدين‪ ،‬والعربة يف التشاريع اليت يعتمدها (حزب‬
‫الوسط) هو مصلحة الشعب فقط‪ ،‬فمن هو الذي حيدد مصلحة الشعب‪ ،‬إن كان غري‬
‫اإلسالم‪ ،‬بل هو جمرد اختيار الشعب بال قيد وال رابط‪ ،‬فهذا خروج عن قاطع من قواطع الدين‪،‬‬
‫وإن كان اإلسالم ولو يف بعض األحكام‪ ،‬فهو عودة إىل ما متَّ اهلروب عنه ‪.‬‬
‫وال أريد اخلوض معهم يف مناقشة بعض التفاصيل واللوازم الالزمة عن اإلطالقات اليت‬
‫ذكروها يف كالمهم‪ ،‬فرِبا يكون لنا حبث خاص فيه يف موضع آخر‪.‬‬

‫‪12‬‬
‫أقول ‪:‬‬
‫ويف النهاية ُ‬
‫إنين أرى أن ما حيصل اآلن من احلرص على إعادة التعريفات ولو قسرا‪ ،‬والركض هبا ابجتاه‬
‫حتصيل املواءمة ولو قهرا‪ ،‬للمفاهيم اليت أطلقها الغرب‪ ،‬بدون مراعاة للقواطع اإلسالمية‪ ،‬إما‬
‫عدم قطعيَّتِها‪ ،‬أرى يف ذلك خطرا عظيما يتهدد‬‫بغض النظر عنها‪ ،‬وكأن مل تَ ُكن‪ ،‬أو بدعوى ِ‬
‫ْ‬ ‫ِ‬
‫الفكر اإلسالمي يف املستقبل‪ ،‬ال َّ‬
‫بد من التصدي لنقده واإلعالن عن ضده‪.‬‬
‫وهللا املستعان‬
‫سعيد فودة‬

‫‪13‬‬
‫خصائص السيادة يف السلطة اإلسالمية ‪:‬‬
‫‪ -1‬السيادة للتشريع اإلسالمي يف جمال العقيدة والعمليات الفقهية واملقاصد الكلية ‪.‬‬
‫‪ -2‬مسؤولية الشعب عن تنفيذ هذه السيادة وحتقيقها‪ ،‬فاإلمامة واجبة على الناس ال على‬
‫هللا تعاىل‪ ،‬فالناس خيتارون اإلمام ويوكلونه تكليفا إبقامة هذه األحكام‪ ،‬وابلتايل فإن‬
‫الناس هم املطلوب منهم إقامة اإلمامة بكل أركاهنا‪ ،‬من اإلمامة إىل تنفيذ أقل األحكام‬
‫اإلسالمية درجةا وسيادهتا على غريها من األحكام‪ ،‬وهذا يستلزم ضرورة مراقبة من‬
‫أوكل إليه الناس أن يقوم على ذلك‪ ،‬ومتابعته بطرق كافية‪ ،‬ال ِبجرد الوعظ والتذكري‪.‬‬
‫فتفاوت هذه الطرق وقوهتا إذن يكون حبسب احلاجة ‪.‬‬
‫فأي دولة احنرفت عن جمموع هذين األساسني‪ ،‬فقد ابتعدت عن مفهوم الدولة اإلسالمية‬
‫وحقيقتها‪ .‬والركن األول منهما ال ميكن التنازل عنه‪ ،‬وكل دولة مل تعرتف به ومل تتخذه نرباسا هلا‬
‫‪ ،‬فليست بدولة إسالمية أصال‪ .‬أما الركن الثاين‪ ،‬فلما كان املقصود منه ضمانة حتقيق الركن‬
‫انسد ابب شيء منه‪ ،‬فال يستلزم ابلضرورة خروج الدولة عن مفهوم الدولة‬ ‫األول‪ ،‬فإن َّ‬
‫اإلسالمية ابلكلية‪ ،‬ولكن االحنراف يتسلزم ابلضرورة‪ ،‬احنرافها عن الكمال يف حتقيق هذه املفهوم‬
‫الشريف‪ ،‬وكلما ازداد االحنراف ازداد االبتعاد عن هذا الكمال‪ ،‬حىت قد يصري األمر مشكالا يف‬
‫التمييز بينها وبني الدولة غري اإلسالمية‪ ،‬ويعسر احلكم عليها أبهنا إسالمية‪.‬‬
‫فالدولة اإلسالمية يف حاصلها عبارة عن تعاقد بني الشعب واهليئة املوكلة بتنفيذ األحكام‬
‫بد أن يكون هناك رقابة من املوكل‬ ‫الشرعية ورعايتها‪ ،‬ال بد للهيئة من تنفيد ما أوكل إليها‪ ،‬وال َّ‬
‫على الوكيل‪ ،‬للحرص والتأكد على سريه يف الطريق املطلوب منه‪.‬‬
‫وأهم الوظائف للدولة مطلقا‪ :‬حفظ الثغور والدفاع عن األمة بكل عناصرها وقيمها‪ ،‬وحفظ‬
‫مصاحلها‪ ،‬واحلرص على حتقيق العدالة فيها حبسب الشريعة املعتربة عندها ‪.‬‬
‫ودولة اإلسالم ال خترج عن هذه املباين الكلية للدولة ‪.‬‬

‫‪14‬‬
‫مالحظة يف زايدة بيان الفرق بني الدولة الدينية والدولة املدنية ‪:‬‬
‫قد يقول بعض املتكلمني يف هذا املال ‪:‬‬
‫إن مفهوم الدولة الدينية ال تتحقق إال إذا كان على رأسها واحد يتلقى أحكامه من عند هللا‬
‫تعاىل يف شؤون الدولة كلها‪ ،‬وهذا ال يكون إال إن كان نبيا مقيما أو حنو ذلك‪ ،‬وهذا حمال يف‬
‫عصران ألن النبوة ختمت بسيدان حممد عليه أفضل الصالة والسالم‪ ،‬فآخر دولة دينية كانت يف‬
‫عصر الرسول عليه الصالة والسالم‪ ،‬أما بعد ذلك فلم يتحقق ذلك إال ابلدعوى غري املسلمة‬
‫من النصارى يف القرون الوسطى حني كانوا يزعمون أهنم يتلقون أحكامهم بوحي اإلله ‪.‬‬
‫وأقول‪ :‬هذا الكالم فيه ما فيه ‪:‬‬
‫أوالا ‪ :‬ال نسلم أن الصورة الوحيد للدولة الدينية هي تلك اليت يتلقى فيها رأس الدولة‬
‫األحكام كلها من عند هللا تعاىل‪ ،‬بل قد تكون دينية إذا كانت أحكامها املعمول هبا مأخوذة‬
‫من الشريعة الدينية اليت أنزهلا هللا تعاىل على رسوله احلق‪ ،‬فيعمل ابلنص فيما هو نص‬
‫وابالجتهاد واالستنباط فيما ال نص فيه ‪.‬‬
‫اثنيا‪ :‬ال نسلم أنه عندما كان الرسول عليه الصالة والسالم رئيسا للمسلمني أنه كان ال‬
‫يعمل أمرا وال حيكم حكما من األحكام املتعلقة إبدارة البالد واحلكم يف العباد إال بوحي من‬
‫عند هللا تعاىل‪ ،‬بل إن النصوص تدل بوضوح على خالف ذلك‪ ،‬فكثري من شؤون احلرب كان‬
‫يرجع فيها إىل املسلمني‪ ،‬وأحكامه اجلزئية على املسلمني كان حيكم فيها غالبا حبسب ما يظهر‬
‫له من حجة املتخاصمني‪ ،‬ولذلك كان عليه السالم حيذرهم من الكذب أو املبالغة أو التحريف‬
‫للحجج واالفرتاء على الغري ألن ها يلحق هبم يف اآلخرة‪ ،‬وأحكامه على الناس كانت حبسب‬
‫الظاهر منهم‪ ،‬وإن علم حقيقتهم بوحي احلق كما يف حال املنافقني‪ ،‬وغري ذلك كثري‪ .‬فدعوى‬
‫أن حكومته على املسلمني كانت دولة دينية ابملعىن املدَّعى (أي أنه كان يتلقى أحكامه فيها‬
‫مباشرة عن الوحي) دعوى جمردة عن الدليل ‪.‬‬
‫اثلثا‪ :‬ما كان يدعيه البااب والرئيس األعلى للنصارى من أنه يتلقى أحكامه اجلزئية مباشرة من‬
‫اإلله‪ ،‬ال يسلَّم له يف نفس األمر‪ ،‬ولكن ذلك ال يستلزم عدم تسليم وجود دولة دينية إال هبذا‬

‫‪15‬‬
‫املعىن‪ .‬فنحن إذن خنالف التعريف املدَّعى للدولة الدينية ‪.‬‬
‫فلم ال يقال‪ :‬الدولة قد تكون يف أحكامها اتبعة للدين احلق الذي أرسلت به الرسل املربهن‬
‫يتم‬
‫على رسالتهم كسيدان حممد عليه الصالة والسالم‪ ،‬الذين مل حترف رسالتهم وال شريعتهم‪ ،‬مث ُّ‬
‫االجتهاد يف التنزيل والتاصيل‪ .‬فهذا القدر ٍّ‬
‫كاف يف كون الدولة دينية هبذا املعىن‪ .‬وال يشرتط يف‬
‫هذه الدولة وجود نيب مقيم وال معصوم على رأسها‪ ،‬بل إنسان جيتهد يف ترسيخ قواعد الشريعة‬
‫حبسب قدرته ومن معه ‪.‬‬
‫إن حماولة حصر مفهوم الدولة الدينية ابلدولة اليت يكون على رأسها معصوم يزعم أنه ال‬
‫حيكم يف كلي وال جزئي إال حبكم هللا وبوحي منه‪ ،‬حماولة مغالطية فاسدة ال ينبغي التسليم هبا‪،‬‬
‫وال الرضوخ هلا‪.‬‬
‫بعد‬
‫قصد –يف نظري‪ -‬دعوى ذلك احلصر وال املوافقة عليه إال ليتم التوسل بذلك من ُ‬ ‫وال يُ َ‬
‫إىل وصف الدولة يف اإلسالم أبهنا دولة مدنية ال غري‪ ،‬فإن رجعنا وقلنا إن دولة اإلسالم دولة‬
‫مدنية بشرط كون أحكامها مستمدة من الشريعة‪ ،‬رجعنا إىل ما هربنا عنه‪ ،‬وإن سلمنا أن الدولة‬
‫يف اإلسالم دولة مدنية مطلقا حبسب التعريف املعتمد للدولة املدنية‪ ،‬وهو أن تكون أحكامها‬
‫مستمدة من سلطة الشعب ابعتبار واحد فقط وهو كوهنم مواطنني‪ ،‬وليس املعين هبا جمرد أن‬
‫يكون الشعب رقيبا على تنفيذ األحكام‪ ،‬واملواطنة ال يؤخذ فيها معىن الدين‪ ،‬على اختالف‬
‫أنواعه وأشكاله‪ ،‬وال عدم الدين أيضا مأخوذ يف تعريف الدولة املدنية‪ ،‬فال جيوز يف الدولة املدنية‬
‫ترجيح دين على دين‪ ،‬وال جعل الدولة املدنية حبسب التعريف عاملة ِببدأ عقدي دون غريه‪ ،‬بل‬
‫كل األداين واملبادئ الفكرية والعقدية ابلنسبة إىل الدولة املدنية على السوية‪ .‬ولذلك فال جيوز‬
‫أن يكون منشأ األحكام فيها لدين أو مبدأ دون دين أو مبدأ آخر‪.‬‬
‫فالتسوية بني األداين ضرورة الزمة يف الدولة املدنية‪ ،‬وخبالف ذلك يبطل كوهنا دولة مدنية‪.‬‬

‫‪16‬‬

You might also like