You are on page 1of 30

‫مجلة اللغة العربية ‪ .

‬العدد الثاني والعشرون‬

‫‪‬‬
‫إشكالية داللة النص التاريخي‬

‫أ‪.‬د‪ .‬ناصر الدين‬


‫سعيدوني‬
‫ج‪ .‬الكويت‬

‫إذا كانت الحضارة هي الوجود كما‬


‫صنعه اإلنسان فإن التاريخ هو دراسة ذلك‬
‫الوجود من خالل تفاعل اإلنسان مع بيئته‬
‫وظروف عصره سلبا أو إيجابا‪ ،‬وهذا ما‬
‫جعل التاريخ بحق الوسيلة الفضلى التي‬
‫تمكن العقل البشري من تلمس ماضي اإلنسان‬
‫في مظاهره المادية وروابطه االجتماعية‪.‬‬
‫فحياة البشرية من خالل أحداث التاريخ ما‬
‫هي إال حوار بين الماضي والحاضر وحوار‬
‫بين األجيال وحوار بين اإلنسان والزمن‬

‫‪ ‬قدمت األفكار الرئيسية هلذا البحث يف ‪ :‬مؤمتر الكويت الدويل لتحليل اخلطاب ( ‪ 28 – 26‬مارس‬
‫‪ ، ) 2005‬ونظرا ألمهية اإلشكالية اليت يطرحها ارتأينا حتويره وإعادة صياغته حىت تكتمل الفائدة منه ‪.‬‬
‫‪199‬‬
‫إشكالية داللة النص التاريخي‬

‫وحوار بين كاتب التاريخ وبين مستقرئه‬


‫وقارئه‪ .‬من هذا المنطلق اكتسب النص‬
‫ومكانة‬ ‫بالغة‬ ‫أهمية‬ ‫(‪)1‬‬ ‫التاريخي‬
‫مرموقة في تكوين شخصية الفرد وبلورة‬
‫ثقافة المجتمع‪.‬‬

‫النص‬ ‫داللة‬ ‫مسألة‬ ‫معالجة‬ ‫إن‬


‫التاريخي تفرض نفسها اليوم على القارئ‬
‫العربي لكونها تستمد قيمتها من قيمة‬
‫النص‬ ‫هذا‬ ‫يتناولها‬ ‫التي‬ ‫القضايا‬
‫والمسائل التي يتعرض لها‪ ،‬ومن هنا جاءت‬
‫صعوبة فهم التوجهات الثقافية المعاصرة‬
‫وتحليل واقع الذهنية العربية التي تفضل‬
‫االستكانة إلى الماضي على التجاوب مع‬
‫الحاضر‪ .‬ومع اقتناعنا بأن تأزم الذهنية‬
‫العربية اليوم بما يفرزه من تذبذب في‬
‫المواقف واضطراب في القناعات وضبابية‬
‫في الرؤية يعود في أساسه إلى قصورنا في‬
‫وظروف‬ ‫الثقافي‬ ‫واقعنا‬ ‫مع‬ ‫تعاملنا‬
‫بيئتنا ومتطلبات عصرنا‪ ،‬إال أن ذلك‬
‫للنص‬ ‫وتحليلنا‬ ‫بفهمنا‬ ‫أيضا‬ ‫يتعلق‬
‫التاريخي‪ ،‬هذا النص الذي نحاول في هذا‬
‫العرض تحليل دالالته التاريخية انطالقا من‬

‫‪200‬‬
‫مجلة اللغة العربية ‪ .‬العدد الثاني والعشرون‬

‫المواصفات التي يختص بها واألفكار التي‬


‫يعبر عنها‪ ،‬وهذا ما يتطلب منا قبل كل‬
‫النص‬ ‫معالجة‬ ‫إشكالية‬ ‫تحديد‬ ‫شيء‬
‫التاريخي‪ ،‬فكما قال أرسطو بأن على من‬
‫يرغبون في الوصول إلى الحقيقة أن‬
‫يسألوا األسئلة الصحيحة‪ ،‬فإننا ال نجد‬
‫مناصا من إثارة تساؤلين اثنين كفيلين‬
‫بمساعدتنا على تحديد فهمنا لطبيعة النص‬
‫التاريخي وتلمس المضامين والمعاني التي‬
‫يحملها‪ .‬فالتساؤل األول ‪ :‬يتصل بمواصفات‬
‫النص التاريخي مبنى ومعنى‪ ،‬والتساؤل‬
‫الثاني ‪ :‬يتعرض إلى أصناف الخطاب‬
‫التاريخي ‪ ،‬وذلك قبل أن نحاول تحديد‬
‫الشروط الكفيلة بتجديد النص التاريخي من‬
‫حيث صياغته وشروط عرضه وجعله أكثر‬
‫تعبيرا عن حاجات وتطلعات القارئ العربي‬
‫انطالقا من القيم واألفكار التي يعبر عنها‬
‫موروث الذاكرة التاريخية التي يختزنها‪.‬‬

‫أوال ‪ :‬مواصفات النص التاريخي‬


‫تتحكم في صياغة النص التاريخي طبيعة‬
‫وشروط‬ ‫الموضوع ومؤهالت الباحث‬

‫‪201‬‬
‫إشكالية داللة النص التاريخي‬

‫المنهج التاريخي‪ ،‬وهذا ما نحاول توضيحه‬


‫في النقاط التالية ‪:‬‬

‫‪ .1‬إشكالية موضوع النص التاريخي ‪:‬‬

‫يفرض النص التاريخي نفسه على القارئ‬


‫على ضوء نوعية الموضوع الذي يعالجه‬
‫وطبيعة المعلومات التي يعرضها‪ ،‬وتتحدد‬
‫قيمته بمدى احترامه والتزامه بقواعد‬
‫المنهج التاريخي (‪ ،)2‬فيعتبر النص‬
‫التاريخي مساهمة جادة وإضافة جديدة تمكن‬
‫صاحبه من فرض حضوره األدبي وتأكيد مكانته‬
‫العلمية كاتبه نفسه وتسمح لقارئ أن‬
‫ينتفع بمضمونها ‪ ،‬إذا توفرت فيها الشروط‬
‫والمواصفات التالية ‪:‬‬

‫‪ .1‬أن يكون موضوع النص صادرا عن رغبة‬


‫في البحث وليس نتاج ميل آني ودافع عرضي‪،‬‬
‫وأن يخصص له الجهد والوقت الالزمان‬
‫إلنجازه‪.‬‬

‫‪202‬‬
‫مجلة اللغة العربية ‪ .‬العدد الثاني والعشرون‬

‫‪ .2‬أن يستند النص التاريخي إلى مصادر‬


‫أولية كافية يمكن الوصول إليها وقراءتها‬
‫واالنتفاع بها‪.‬‬

‫‪ .3‬أن يهدف النص إلى إضافة شيء جديد‬


‫أو توضيح قضية غامضة أو تصحيح خطأ شائع‬
‫أو إكمال نقص مالحظ أو اإلدالء برأي خاص أو‬
‫مناقشة أطروحات شائعة‪.‬‬

‫‪ .4‬أن ال يكون محتوى النص موضوع دراسة‬


‫سابقة وأن ال تكون القضايا التي يعرضها قد‬
‫تمت معالجتها من قبل باحثين آخرين‪.‬‬

‫‪ .5‬أن يتجنب موضوع النص دراسة األحداث‬


‫اآلنية التي ال تزال انعكاساتها ماثلة‬
‫وملموسة في الواقع وأن يبتعد عن المشكالت‬
‫والعالقات‬ ‫العامة‬ ‫والمفاهيم‬ ‫المجردة‬
‫المتشعبة‪ ،‬الفتقارها للمدى الزمني أو‬
‫البعد التاريخي‪.‬‬

‫على أن النص التاريخي الذي يسترشد في‬


‫اختيار موضوعه بالمواصفات السابقة ال‬
‫تحديد‬ ‫بعد‬ ‫إال‬ ‫للبحث‬ ‫قابال‬ ‫يصبح‬
‫"اإلشكالية" التي تضبط خطته وتوجه العمل‬
‫فيه‪ ،‬والمتمثلة أساسا في إثارة أسئلة‬
‫غايتها ضبط الجوانب واالهتمامات وتحديد‬
‫‪203‬‬
‫إشكالية داللة النص التاريخي‬

‫أبعاد الموضوع وتقنين طريقة تناوله‬


‫وكيفية عرض نتائجه‪ ،‬وذلك حتى يمكن إخراج‬
‫موضوع النص في وحدة متكاملة حسب الخطة‬
‫الموضوعة‪.‬‬

‫تقوم اإلشكالية على التساؤل وتهدف إلى‬


‫التحليل وهما أساس عملية بناء النص‬
‫التاريخي‪ ،‬فبدونهما يتحول النص إلى مجرد‬
‫سرد متسلسل لألحداث في سياقها الزمني‬
‫الوصفي‬ ‫عرضها‬ ‫أو‬ ‫(الكرونولوجي)‬
‫(الروائي)‪ .‬فاألخذ باإلشكالية يكسب النص‬
‫التاريخي صفته العلمية ألنها اإلطار‬
‫المناسب بل الضروري للكشف عن الجوانب‬
‫التي نبحث عنها والمنطلق الصحيح لتطبيق‬
‫منهج البحث التاريخي القائم على التحري‬
‫والنقد والوسيلة الكفيلة بفتح أعيننا‬
‫على الجوانب المتعلقة بالمشاكل المثارة‬
‫واآلراء المطروحة‪.‬‬

‫النص التاريخي‬ ‫تحدد إشكالية موضوع‬


‫بصياغة تساؤالت يفترض اإلجابة عنها‪ ،‬وتصاغ‬
‫هذه التساؤالت انطالقا من فرضية تأخذ بعين‬
‫االعتبار أبعاد الموضوع وطبيعته ونوعية‬
‫مصادره والغرض المتوخى منه‪ ،‬وهذا ما‬
‫‪204‬‬
‫مجلة اللغة العربية ‪ .‬العدد الثاني والعشرون‬

‫يتطلب من صاحب النص القراءة الواسعة حول‬


‫موضوع نصه واإللمام بجوانبه والتعرف على‬
‫القضايا المتعلقة به‪ ،‬بحيث يصبح الرقي‬
‫بمستوى اإلشكالية مرهون بالمداومة على‬
‫البحث واالهتمام بطرح القضايا وإثارة‬
‫التساؤالت فيما يكتبه أو يعلق عليه أو‬
‫يقرأه من مواضيع تاريخية‪.‬‬

‫‪ .2‬مؤهالت صاحب النص التاريخي ‪:‬‬

‫يستمد النص التاريخي قيمته من مقدرة‬


‫صاحبه على البحث وكفاءته في تطبيق منهج‬
‫البحث التاريخي‪ ،‬وهذا ما يصبغ على مؤهالت‬
‫صاحب النص وملكاته أهمية كبرى‪ ،‬فبغض‬
‫النظر على الرغبة في البحث والتفرغ له‬
‫وتكريس الجهد الضروري إلنجازه والقدرة‬
‫على الوصول إلى المصادر وجمع المعلومات‬
‫التي سبقت اإلشارة إليها‪ ،‬فإن ملكة النقد‬
‫واالستدالل‬ ‫البرهنة‬ ‫وموهبة‬ ‫والتحري‬
‫واستقاللية الرأي وعدم مجاراة اآلخرين‬
‫فيما يعتبرونه حقيقة‪ ،‬كلها مواصفات‬
‫أساسية في كاتب النص الجيد واألصيل والذي‬

‫‪205‬‬
‫إشكالية داللة النص التاريخي‬

‫واإلقناع‬ ‫والجدية‬ ‫بالجاذبية‬ ‫يتصف‬


‫والتأثير ألنه المظهر الخارجي الذي يتعرف‬
‫من خالله القارئ على شخصية صاحب النص ‪ ،‬ما‬
‫دام النص يشكل الوعاء الفكري الذي يضمنه‬
‫كاتب النص أفكاره ويظهر من خالله قدراته‪،‬‬
‫وهذا ما عبر عنه الكاتب الفرنسي فينيلون‬
‫)‪ (Fénelon‬بقوله األسلوب هو الرجل (‪.)3‬‬

‫في إنتاجه للنص‬ ‫يواجه الباحث‬


‫التاريخي تحديات ومخاطر بعضها يتصل‬
‫بوسيلة التعبير من حيث اللغة واآلخر‬
‫يتعلق بموقفه من أحداث الماضي ومقدرته‬
‫على تحليلها‪ .‬فبالنسبة لوسيلة التواصل‬
‫المتمثلة في الصياغة اللغوية يتوجب على‬
‫الباحث في كتابته للنص التاريخي أن يكون‬
‫متمكنا من اللغة وأن يمتلك األسلوب‬
‫المعبر عن المعلومات التي يتضمنها نصه‪،‬‬
‫هذا النص الذي يفترض فيه أن يكون وسطا‬
‫بين السياق األدبي الذي قد ينجر وراء‬
‫الخيال ويغلب عليه اإلطناب والمبالغة‬
‫واالستطراد‪ ،‬وبين العرض العلمي الذي يأخذ‬
‫والتعابير‬ ‫الجافة‬ ‫التقنية‬ ‫باأللفاظ‬
‫العلمية المقننة‪ ،‬بحيث يلتزم بالسياق‬

‫‪206‬‬
‫مجلة اللغة العربية ‪ .‬العدد الثاني والعشرون‬

‫التاريخي الذي يجمع دقة المعنى وصحة‬


‫المبنى وتفضيل العبارات المركزة والجمل‬
‫البسيطة والعبارات الواضحة مع الحرص على‬
‫سالمة اللغة وسالسة األسلوب وحسن التبليغ‬
‫(‪.)4‬‬

‫أما المخاطر والتحديات الناتجة عن‬


‫موقف صاحب النص من األحداث التي يعرضها‬
‫فليس أقلها أوهامه المهنية عن ذاته‬
‫وطموحه وحلمه في اإلبداع وتذوقه لدراسة‬
‫الماضي وردود فعله وتغير مزاجه بفعل‬
‫متطلبات الحياة أو اندفاع الشباب إحباط‬
‫الشيخوخة (‪ .)5‬فالتاريخ ال يتطور في نظام‬
‫مقفل وأحداثه ال تمر في استعراض وتتابع‪،‬‬
‫فهي بالنسبة للمؤرخ وقائع انتهى حدوثها‬
‫وانقضى زمنها قبل أن يبدأ هو في التفكير‬
‫فيها‪ ،‬وعليه أن يعيد توزيع األدوار من‬
‫خاللها على األشخاص الذين ساهموا فيها حسب‬
‫الطريقة التي يريدها أن يراهم عليها‪.‬‬
‫وهذا ما يطرح مسألة أخالقية صاحب النص على‬
‫المحك‪ ،‬فهو الذي يقرر ما هو أمين وسليم‬
‫وما هو مضمون وموثوق به وما هو منطقي‬
‫وموضوعي ليضمنه النص‪ ،‬وهو الذي يعرض‬

‫‪207‬‬
‫إشكالية داللة النص التاريخي‬

‫االستنتاجات ويثبت البراهين ويسجل اآلراء‪،‬‬


‫األمر الذي يستوجب في صاحب النص االطالع على‬
‫المعارف اإلنسانية والعلوم االجتماعية‬
‫التي لها صلة بموضوعه‪ ،‬ألنها تزوده‬
‫بالمادة التاريخية وتنبهه إلى جوانب قد‬
‫يغفل عنها في بحثه فضال على أنها تكسبه‬
‫الخبرة في تحديد إشكالية موضوعه والوصول‬
‫فيه إلى نتائج ملموسة (‪.)6‬‬

‫مما سبق يتضح لنا أنه يفترض في صاحب‬


‫النص التاريخي‪ ،‬أن يتصف بالمؤهالت التي‬
‫تكسبه القدرة على البحث‪ ،‬وأن يكون ذا‬
‫خيال مبدع وثقافة واسعة وفهم عميق‬
‫للسلوك االجتماعي ونظرة متزنة للظروف‬
‫والمالبسات التي أحاطت باألحداث التي‬
‫يعالجها ‪ ،‬فيوطن نفسه على االلتزام‬
‫والحياد‬ ‫والنزاهة‬ ‫واألمانة‬ ‫بالصدق‬
‫واالبتعاد عن الكذب والتزوير‪ ،‬والزهد في‬
‫الشهرة‪ ،‬والنفور من التزلف والوصولية‬
‫وعدم االنجرار وراء تأثير السلطة وضغط‬
‫المصالح وتأثير الرأي العام‪ ،‬كما يتوجب‬
‫عليه التشبث بالتفكير الحر الذي ال يجاري‬
‫اآلراء الشائعة‪ ،‬وال يتقبل كل ما يتصل‬

‫‪208‬‬
‫مجلة اللغة العربية ‪ .‬العدد الثاني والعشرون‬

‫باألسطورة والخرافة والتحليل الغائي في‬


‫تفسير األحداث‪.‬‬

‫‪ .3‬متطلبات بناء النص التاريخي‬

‫يقوم بناء النص التاريخي على تطبيق‬


‫قواعد المنهج التاريخي الذي تحددت‬
‫خطواته بفضل التطور الذي عرفته الدراسات‬
‫التاريخية في القرنيين الماضيين (‪،)7‬‬
‫بدءا بطرح اإلشكالية ووضع الخطة األولية‬
‫وانتهاء بالصياغة التاريخية ومرورا بجمع‬
‫وتحليلها‪.‬‬ ‫ونقدها‬ ‫التاريخية‬ ‫المادة‬
‫فمنهج البحث التاريخي كما هو معروف يقوم‬
‫في أساسه على ثالث عمليات متتابعة ‪ :‬األولى‬
‫تتمثل في جمع المادة التاريخية التي‬
‫بدونها ينتفي وجود النص التاريخي لكونه‬
‫في أساسه جمع للمعلومات وتدوين مكثف‬
‫لألحداث التاريخية‪ .‬والثانية تتلخص في‬
‫والتمحيص التي تنصب على‬ ‫النقد‬ ‫عملية‬
‫ظاهر النص التاريخي من حيث نسبته لصاحبه‬
‫أو صحة مضمونه أو تركز على تحليل طبيعة‬
‫المعلومات التي يتضمنها والظروف التي‬
‫كتب فيها وتأثر بها ‪ ،‬أما العملية‬
‫الثالثة األساسية في المنهج التاريخي‬
‫‪209‬‬
‫إشكالية داللة النص التاريخي‬

‫فتتعلق بصياغة المعلومات التي تم جمعها‬


‫ونقدها (‪.)8‬‬

‫كل ذلك يتطلب من صاحب النص جهدا‬


‫إضافيا وتركيزا خاصا حتى يمكن له استخالص‬
‫النتائج والتغلب على المشاكل العديدة‬
‫التي تتعلق بتحليل المعلومات وتركيب‬
‫األفكار وصياغة العبارات‪ ،‬فبدون تحليل‬
‫المادة‬ ‫ترتيب‬ ‫يمكن‬ ‫ال‬ ‫المعلومات‬
‫التاريخية لتأخذ شكل بحث‪ ،‬كما أنه بدون‬
‫تركيب األفكار يصعب تسجيل الحقائق وعرض‬
‫األحكام المتعلقة بها‪.‬‬

‫إن أهم إشكال يعترض المؤرخ في تحليله‬


‫وتركيبه للنص التاريخي هو شح المصادر‬
‫ونقص المادة التاريخية أو انعدامها‪ ،‬مما‬
‫يتوجب عليه ملء الفجوات بمقارنة الماضي‬
‫بالحاضر وإيجاد عالقة بين األحداث التي‬
‫وقعت قبال بالتي تلتها‪ ،‬وهذا ما يجعل صاحب‬
‫النص أشبه شيء بفنان يحاول أن يستكمل‬
‫أجزاء ناقصة في صورة ما ‪ ،‬وهذا ال يتأتى‬
‫إال باستعمال أسلوب القياس التاريخي الذي‬
‫يساعده على تكوين فكرة مسبقة لسير‬
‫األحداث التي ال تتوفر حولها الوثائق‬
‫‪210‬‬
‫مجلة اللغة العربية ‪ .‬العدد الثاني والعشرون‬

‫التاريخية‬ ‫التطورات‬ ‫على‬ ‫اعتمادا‬


‫المتعلقة ببحثه‪ ،‬وااللتجاء إلى الخيال‬
‫لبناء ما لم تشر إليه المصادر‪ ،‬فيغدو‬
‫التاريخ بالنسبة إليه في هذه الحالة هو‬
‫الماضي الحي الذي يجعله متفهما لمسلك‬
‫اآلخرين ومبررا ألعمالهم ومتقبال لشهاداتهم‬
‫(‪.)9‬‬

‫ثانيا ‪ :‬أصناف النص التاريخي‬


‫إن النص التاريخي من حيث الموضوع‬
‫ومؤهالت صاحبه والمنهج‬ ‫الذي يتناوله‬
‫المتبع في صياغته يعتبر عمال علميا‬
‫وإنتاجا معرفيا يعكس رأي صاحبه‪ ،‬ويستجيب‬
‫ويتجاوب‬ ‫الثقافي‪،‬‬ ‫الفضاء‬ ‫لمتطلبات‬
‫وحاجات القراء بمختلف مستوياتهم وتباين‬
‫مشاربهم وميولهم ‪ ،‬وهذا ما فرض تعددا في‬
‫أصناف النص التاريخي‪ ،‬وأدى إلى تباين‬
‫توجهاته‪ ،‬حسبما يتضح لنا فيما يلي ‪:‬‬

‫‪ .1‬أصناف النص التاريخي ‪:‬‬

‫تتحدد أصناف النص التاريخي حسب‬


‫المنهج المعتمد في صياغتها والهدف‬
‫المتوخى منها‪ ،‬ثالثة أنواع هي ‪:‬‬
‫‪211‬‬
‫إشكالية داللة النص التاريخي‬

‫أ‪ .‬النص الوصفي االستعراضي ‪:‬‬

‫وهو استمرار لنمط الكتابة التاريخية‬


‫التراث‬ ‫بها‬ ‫يزخر‬ ‫التي‬ ‫التقليدية‬
‫التاريخي العربي اإلسالمي‪ ،‬والتي ال تلتزم‬
‫بمنهج البحث التاريخي الحديث‪ ،‬وإنما‬
‫تسجل األحداث من خالل أسلوب المحدثين‬
‫وطريقة اإلخباريين‪ ،‬فهي ال تهتم إال بفعل‬
‫وعمل الجماعات وإنما تستعرض‬ ‫األشخاص‬
‫األحداث التاريخية وكأنها وقائع جامدة‬
‫ومنعزلة ومجردة عن إطارها المكاني‬
‫وبعدها الزمني‪ ،‬مما يجعل هذا النمط‬
‫الوصفي من النصوص التاريخية مجرد خطاب‬
‫قصصي روائي وعرض توثيقي فاقد الحيوية‪،‬‬
‫غالبا ما يجتر الماضي ويحاول استحضار‬
‫أحداثه اعتمادا على ما توفر حوله من آثار‬
‫ووثائق وروايات‪.‬‬

‫فالتاريخ حسب النص الوصفي االستعراضي‬


‫"مدونة أخبار أمم وحوصلة أعمال شخصيات‬
‫وعرض لمسيرة اإلنسان"‪ ،‬يقتضي تسجيل ما‬
‫تقدم من األعمال وما تم من إنجازات بعيدا‬
‫عن أي نقد أو تمحيص أو تساؤل عن الدالالت‬
‫واألسباب والنتائج المتحكمة في تطور‬
‫عرض‬ ‫مجرد‬ ‫يجعله‬ ‫ما‬ ‫وهذا‬ ‫األحداث‪.‬‬
‫‪212‬‬
‫مجلة اللغة العربية ‪ .‬العدد الثاني والعشرون‬

‫كرونولوجي أو وصف قصصي يشحن الذاكرة‬


‫بتفاصيل وقائع وأحداث وقعت في الماضي‬
‫بعيدا عن الحركية التاريخية وفي معزل عن‬
‫التطور التاريخي العام‪ ،‬ويكرس لدى‬
‫القارئ العادي النظرة المسطحة لسير‬
‫التاريخ والتناول المبسط لمسيرة اإلنسان‬
‫والفهم المحدود إلنجازاته‪.‬‬

‫الوصفي‬ ‫التاريخي‬ ‫النص‬ ‫يحتل‬


‫االستعراضي مكانا مميزا في مساحة المعرفة‬
‫العربية اليوم‪ ،‬وذلك لكونه يلبي حاجة‬
‫جمهور القراء بما يقدمه من معلومات‬
‫تاريخية في صورة مبسطة وأسلوب قصصي مشوق‬
‫بعيدا عن التساؤل والمقارنة وغير مهتم‬
‫بتحليل مصادر الخبر وعرض وجهات النظر‬
‫المتباينة‪.‬‬

‫إن النص التاريخي الوصفي القصصي هو‬


‫تعبير حي عن التقاليد الثقافية السائدة‬
‫وتأكيد لغلبة عوامل المحافظة والجمود‬
‫على دوافع التجديد والحداثة في فهمنا‬
‫للماضي وتعاملنا مع الحاضر ومظهر من‬
‫الوعي‬ ‫وعدم‬ ‫الفكري‬ ‫االنغالق‬ ‫مظاهر‬
‫التاريخي الذي ال يزال يطبع الذهنية‬
‫‪213‬‬
‫إشكالية داللة النص التاريخي‬

‫العربية المثقلة بالماضي والمشدودة إلى‬


‫بطوالته والتي تصر دائما على التقوقع فيه‬
‫تشبثها‬ ‫بحجة‬ ‫ذكرياته‬ ‫على‬ ‫والعيش‬
‫باألعمال‬ ‫بالمثاليات والقيم وإعجابها‬
‫والمواقف البطولية‪.‬‬

‫ب‪ .‬النص التاريخي اإليحائي الموجه ‪:‬‬

‫يتخذ من التاريخ وسيلة توجيه وأداة‬


‫نضال وأسلوب إقناع وطريقة تربية‪ ،‬سواء‬
‫في ما يتصل بالسلوك الفردي أو باألخالق‬
‫العامة أو يتعلق بالمسائل السياسية‬
‫والقضايا اإليديولوجية والمواقف الحزبية‪،‬‬
‫فهو يسخر الماضي ليس من أجل الحاضر فقط‬
‫وإنما من أجل ما يراد تحقيقه في المستقبل‬
‫من مشاريع مقترحة وتوجهات مرسومة وأهداف‬
‫محددة‪ ،‬انطالقا من قناعات شخصية ومواقف‬
‫آنية وحاجات ظرفية وظروف مستجدة‪ ،‬وهذا‬
‫ما يجعل هذا النص التاريخي مشحونا‬
‫بالعواطف طافحا بالذاتية‪ ،‬يأخذ بالحدود‬
‫القصوى في عرض القضايا ومناقشة المواقف‬
‫واألفكار‪ ،‬فهو غالبا ما يدعي امتالك‬
‫الحقيقة ويدعو إلى إلغاء اآلخر أو تسفيه‬
‫رأيه وال يتحرج في أن يلصق الخيانة أو‬
‫‪214‬‬
‫مجلة اللغة العربية ‪ .‬العدد الثاني والعشرون‬

‫يلبس الزعامة على من يريد ما دامت أحداث‬


‫التاريخ بالنسبة إليه يمكن انتقاؤها أو‬
‫تفسيرها وتقييمها حسب الميول والقناعات‪.‬‬

‫إال أن النص اإليحائي الموجه الذي‬


‫اجتاح الساحة العربية منذ الخمسينيات‬
‫وظل سائدا حتى الثمانينيات في ظروف المد‬
‫والشعارات‬ ‫اليساري‬ ‫والتوجه‬ ‫القومي‬
‫الوطنية‪ ،‬تراجع اليوم بعد أن فقد مبررات‬
‫وجوده ولم يعد الفضاء الثقافي العربي‬
‫يتقبله‪.‬‬

‫إن االنتكاسات التي عرفتها الشعوب‬


‫العربية وحالة الضياع التي أصبح يعيشها‬
‫المثقف العربي والتيه الفكري الذي نشأ‬
‫عن المحاوالت العديدة الستخدام التاريخ‬
‫ألغراض سياسية وأهداف إيديولوجية‪ ،‬كلها‬
‫عوامل سوف تقلص من المساحة التي ال زال‬
‫يحتلها هذا الصنف من النص التاريخي‬
‫الموجه‪ ،‬إن لم تضع نهاية له‪ ،‬بعد أن بدأ‬
‫المثقف العربي يسترد وعيه ويرى في‬
‫الخطاب التاريخي اإليديولوجي مجرد ملهاة‬
‫في عرض مسرحي خاصة وأن أغلب المؤرخين‬
‫الملتزمين بهذه الرؤية التاريخية أصبحوا‬
‫‪215‬‬
‫إشكالية داللة النص التاريخي‬

‫ال يجدون ما يقدمونه للقراء‪ ،‬فغدت‬


‫كتاباتهم مجرد استثارة للعاطفة وشحن‬
‫للذاكرة وتبرير لألحداث من خالل مواقف‬
‫انهزامية ونظرة غير واقعية لطبيعة‬
‫وهو في ذلك يفضل الهروب من‬ ‫األشياء‪،‬‬
‫الحاضر للعيش على ذكريات الماضي ويتشبث‬
‫بشعارات لم تعد تنتمي إلى العالم الذي‬
‫نعيشه ونتفاعل معه‪.‬‬

‫جـ‪ .‬النص التاريخي التحليلي المحايد‬


‫‪:‬‬

‫يعتمد على استنطاق األحداث واستقراء‬


‫الوقائع وتحليل األسباب والنتائج وعرض‬
‫المالحظات من خالل نظرة متفحصة وبحث معمق‬
‫يأخذ باالعتبار تفاعل العنصر البشري مع‬
‫محيطه وبيئته اعتمادا على األسئلة التي‬
‫تحدد إشكالية البحث وانطالقا من نظرة‬
‫الحقيقة‬ ‫بمقتضيات‬ ‫تلتزم‬ ‫أن‬ ‫تحاول‬
‫والموضوعية التاريخية "النسبية"‪ ،‬فال‬
‫تحاول تعظيم األشخاص أو الحط من شأنهم‬
‫بدون شواهد ودالالت وأدلة يتوصل إليها‬
‫وإنما تقتصر على تحليل الظروف التي‬

‫‪216‬‬
‫مجلة اللغة العربية ‪ .‬العدد الثاني والعشرون‬

‫بها‬ ‫وتأثروا‬ ‫معها‬ ‫عاشوها وتفاعلوا‬


‫وأثروا فيها‪.‬‬

‫إن النص التحليلي المحايد الذي يطمح‬


‫ألن يعيد تصور الماضي في أقرب صورة ممكنة‬
‫من الحقيقة‪ ،‬يعتبر بحق النموذج الذي‬
‫نأمله من اإلسهام التاريخي العربي‪ ،‬لكن‬
‫الجهد الذي يتطلبه والوقت الذي يستغرقه‬
‫والمواصفات التي يتطلبها والشروط التي‬
‫يستوجبها‪ ،‬كلها عوامل لم تشجع الكثير من‬
‫المشتغلين بكتابة التاريخ على األخذ به‪،‬‬
‫فظل محصورا في نطاق الجامعات ومراكز‬
‫على‬ ‫جله‬ ‫يقتصر‬ ‫يكاد‬ ‫بحيث‬ ‫البحث‪،‬‬
‫الدراسات األكاديمية واألطروحات الجامعية‬
‫‪.‬‬

‫وحتى بعد انتشار التعليم الجامعي‬


‫وارتقاء مستوى الثقافة لدى عموم القراء‬
‫في البالد العربية فإن نموذج النص‬
‫التحليلي ظل محدود االنتشار ال يحتل إال‬
‫مساحة ضيقة في الفضاء الثقافي العربي‪،‬‬
‫وذلك لعدم تقبل المناخ المعرفي العربي‬
‫له بالمقارنة إلى نموذجي النص الوصفي‬
‫والنص اإليحائي‪ .‬لكن المستقبل بما يحمله‬
‫‪217‬‬
‫إشكالية داللة النص التاريخي‬

‫من تفاعل ثقافي ووعي اجتماعي وتأصل‬


‫معرفي في العالم العربي كفيل بتأكيد‬
‫مكانة النص التحليلي‪ ،‬فيغدو بذلك المؤرخ‬
‫العربي رائد حكمته والمعبر عن متطلبات‬
‫عصره وحاجات مجتمعه‪.‬‬

‫إن األخذ بالنص التاريخي التحليلي لهو‬


‫خير مؤشر على انتقال العقل العربي من‬
‫اجترار الماضي والتحمس للمواقف اآلنية‬
‫واآلراء المجردة إلى مالحظة هذا الماضي‬
‫وتحليل معطياته من خالل نظرة نقدية‬
‫تحليلية محايدة قائمة على مبدإ الشك في‬
‫استخالص النتائج واستنتاج الدالالت‪.‬‬

‫ثالثا ‪ :‬نحو نص تاريخي جديد‬


‫إن القارئ العربي اليوم في أمس‬
‫الحاجة إلى نص تاريخي جديد يتجاوز‬
‫األصناف المعروفة واألنماط السائدة‪ ،‬سواء‬
‫في شكلها التقريري الوصفي أم مظهرها‬
‫السياسي اإليديولوجي أم منحاها التربوي‬
‫األخالقي أم طابعها المعرفي العلمي‪ .‬وهذا‬
‫ما يتطلب في رأينا على ضوء مواصفات أصناف‬
‫النصوص التاريخية التي سبقت اإلشارة‬

‫‪218‬‬
‫مجلة اللغة العربية ‪ .‬العدد الثاني والعشرون‬

‫إليها الدعوة إلى صياغة "نص تاريخي‬


‫جديد" يعبر عن ثقافة موضوعية ويصدر عن‬
‫مراجعة واعية للذات‪ ،‬انطالقا من رؤية‬
‫جديدة ونظرة متفتحة ال تكتفي بالعرض‬
‫القصصي الذي ينفي ذاكرتنا في الماضي وال‬
‫يقنع بالفهم السطحي الذي يشدنا إلى‬
‫المواقف السياسية والقناعات اإليديولوجية‬
‫المنافية في أساسها للحرية الفكرية‪ ،‬كما‬
‫ال تلتزم بالتناول العلمي المجرد الذي‬
‫يبعد القارئ العادي عن الواقع ويحصر‬
‫اهتمامه في نقد ومناقشة المعلومات التي‬
‫تتضمنها الوثائق‪.‬‬

‫و هذا ال يتحقق في نظرنا إال بالعمل على‬


‫جعل النص التاريخي المنشود يأخذ بالنقد‬
‫وبالتحليل المعمق‬ ‫الموضوعي لألحداث‬
‫للظواهر التاريخية وبالفهم الذكي للدالالت‬
‫التي تحملها الوثائق واآلراء التي تعبر‬
‫عنها المعلومات‪ ،‬ألن النص التاريخي في‬
‫محتواه ودالالته ليس تقريرا لحقيقة أو‬
‫رواية لقصة أو تسجيال لحكمة أو أخذا‬
‫بعبرة‪ ،‬وإنما هو قبل كل شيء إبداع معرفي‬
‫يرتبط بصاحبه ويستجيب لظروف العصر‬

‫‪219‬‬
‫إشكالية داللة النص التاريخي‬

‫ومتطلبات المجتمع‪ ،‬كما ال يمكن فهمه في‬


‫معزل عن ظروفه وشروطه وال تتم معالجته‬
‫باالقتصار على عرض وقائعه وأحداثه‪.‬‬

‫إن هذا النص التاريخي المأمول الذي‬


‫العربية‬ ‫الثقافة‬ ‫لمتطلبات‬ ‫يستجيب‬
‫اإلسالمية اليوم ويتفاعل معه القارئ‬
‫به‬ ‫وينتفع‬ ‫المثقف‬ ‫ويتفهمه‬ ‫العادي‬
‫اإليديولوجي ويستفيد منه السياسي‪ ،‬هو ذلك‬
‫النص الذي يكون حصيلة تحرر فكري أساسه‬
‫الوعي بالذات وجهد علمي غايته تحليل‬
‫المادة التاريخية واستخالص النتائج منها‪،‬‬
‫وهذا ما يستوجب توفره على مواصفات‬
‫محددة‪ ،‬لعل أهمها في نظرنا ‪:‬‬

‫‪ .1‬األصالة في الطرح واإلبداع في‬


‫المعالجة ‪ :‬بحيث تكون األفكار التي‬
‫يعرضها تتماشى وقواعد المنهج التاريخي‬
‫المالحظة‬ ‫بين‬ ‫وتجمع‬ ‫بالجدية‬ ‫وتتصف‬
‫والتجربة وتعبر عن الشيء الجديد الذي‬
‫حددته اإلشكالية‪ .‬هذا ولعل أهم شيء يحقق‬
‫أصالة النص التاريخي هو تعبيره عن روح‬
‫العصر الذي يرجع إليه وارتباطه بالواقع‬
‫التاريخي الذي يعرضه وإفصاحه عن مستوى‬
‫‪220‬‬
‫مجلة اللغة العربية ‪ .‬العدد الثاني والعشرون‬

‫وعي صاحبه ومقدرته على إضافة الجديد إلى‬


‫ثقافة وسطه‪ ،‬ألن ذلك كفيل بجعل النص‬
‫التاريخي صورة حقيقية لمتطلبات المجتمع‬
‫وانعكاس صادق لدرجة الوعي بالماضي‪.‬‬

‫‪ .2‬الوضوح والتبليغ وحسن األداء ‪ :‬من‬


‫حيث تحديد الدالالت ولفت االنتباه وعرض‬
‫األفكار والقدرة على عرض ما ينتهي إليه‬
‫المنهج التاريخي من أسباب ونتائج‪ ،‬وهذا‬
‫ما يتوجب معه التفكير أوال بدقة لتحديد‬
‫األفكار قبل صياغتها في كلمات معبرة‬
‫وعبارات مالئمة تتزاوج فيها الفكرة‬
‫والكلمة وتتتابع فيها الجمل والتراكيب‬
‫في يسر وتنسيق‪ ،‬ومع إقرارنا بتعذر بلوغ‬
‫كثير ممن يحاول كتابة التاريخ مستوى‬
‫العرض المنشود‪ ،‬إال أنه ال بد من أن يخلو‬
‫النص من األلفاظ الموحية التي تغلب عليها‬
‫العاطفة والخيال وأن يبتعد من التعابير‬
‫الغامضة المضطربة‪.‬‬

‫‪ .3‬المنطقية والقدرة على االستدالل ‪:‬‬


‫تتطلب تحليل األحداث حسب مقتضيات المنهج‬
‫التاريخي قبل عرض نتائجها‪ ،‬مع االلتزام‬
‫بالبرهنة والحرص على االستدالل فيما يتعلق‬
‫‪221‬‬
‫إشكالية داللة النص التاريخي‬

‫بعمل األفراد أو سلوك الجماعات‪ ،‬وذلك حتى‬


‫يتوفر النص التاريخي على المنطقية التي‬
‫تمكننا من الفهم الجيد للنص وتفسير‬
‫أحداثه انطالقا من الجزئي إلى الكلي ومن‬
‫الخاص إلى العام ومن المسلم به إلى‬
‫المختلف حوله‪.‬‬

‫‪ .4‬السعي نحو الحقيقة والموضوعية‬


‫واالتصاف بالحياد والنزاهة ‪ :‬وذلك في‬
‫حدود المعرفة التاريخية وضمن شروط‬
‫المنهج العلمي‪ ،‬بحيث يلتزم الباحث‬
‫التاريخي بالتروي في عملية االجتهاد‬
‫التاريخي‪ ،‬ويتطلب منه الحذر من أي‬
‫استنتاج غير قائم على دليل ثابت‪ ،‬وذلك‬
‫حتى ال يذهب بعيدا فيما يراه صائبا من‬
‫آراء وأحكام‪ .‬كما يتوجب عليه أيضا‬
‫االبتعاد عن تشخيص الحركات وتشبيه النظم‬
‫ألنها بحكم‬ ‫الماضية بالنظم الحاضرة‬
‫طبيعة المادة التاريخية تعتبر حقيقة‬
‫نسبية مهما بلغت درجة الوثوق بها ‪ ،‬وبذلك‬
‫يمكن لنا أن نحقق تقدما ملحوظا في‬
‫معرفتنا التاريخية ‪ ،‬بعد أن سمح لنا منهج‬
‫البحث التاريخي الحديث أن نقترب أكثر‬

‫‪222‬‬
‫مجلة اللغة العربية ‪ .‬العدد الثاني والعشرون‬

‫الماضي‬ ‫في‬ ‫األكيدة‬ ‫الحقائق‬ ‫فأكثر من‬


‫اإلنساني ‪.‬‬

‫خالصة‬
‫بهذه المواصفات المأمولة يحقق‬
‫النص التاريخي الهدف المرجو منه‪ ،‬ويصبح‬
‫الخطاب التاريخي العربي مرآة صادقة‬
‫ولسانا معبرا عن هواجس اإلنسان العربي‬
‫واهتماماته وخصوصيته الحضارية ونظرته‬
‫للحياة‪ ،‬وبذلك يمكن أن تتوافق الذات‬
‫العربية مع ذاكرتها التاريخية‪ ،‬ويتحول‬
‫الموروث التاريخي من إرث ثقيل يتعب‬
‫الذاكرة إلى حافز يوقظ الطاقات الذهنية‬
‫المعطلة ويسمح بالتوطن المعرفي في‬
‫في ثقافتنا‬ ‫البيئات العربية‪ ،‬فيكتمل‬
‫البعد النظري والجانب العملي بعد أن ظال‬
‫غير متوافقين (‪ ،)10‬وبذلك ال نقتصر في‬
‫تعاملنا مع التاريخ على الشطر األول من‬
‫تعريف ابن خلدون له بكونه "ظاهره ال يزيد‬
‫عن أخبار األمم والدول" وإنما نأخذ‬
‫بالجزء اآلخر الذي تغافلنا عنه مع‬
‫أهميته‪ ،‬فيغدو التاريخ بالنسبة لنا‬
‫"نظرة وتحقيق وتحليل لكتابات ومبادئها‬
‫‪223‬‬
‫إشكالية داللة النص التاريخي‬

‫وأسبابها‬ ‫الوقائع‬ ‫بكيفيات‬ ‫دقيق وعلم‬


‫عميق" (‪.)11‬‬

‫الهوامش ‪:‬‬
‫(‪ )1‬نعني بالنص التاريخي في بحثنا‬
‫هذا كل مساهمة تاريخية بغض النظر عن‬
‫حجمها أو مستواها أم الغرض منها‪ ،‬سواء‬
‫كانت تقريرا أم عرضا أم دراسة أو جاءت‬
‫على شكل رواية شفوية مسجلة أو وثائق‬
‫أرشيفية أم أوراق شخصية أم دراسات خاصة‬
‫أم كتب عامة‪ ،‬ألن اهتمامنا ينصب أساسا على‬
‫موضوع النص ودالالته وليس على شكله‪.‬‬

‫(‪ )2‬نقصد بقواعد المنهج التاريخي‬


‫األساليب والطرق المتعارف عليها في‬
‫المعلومات‬ ‫واستخالص‬ ‫الوثائق‬ ‫معالجة‬
‫وصياغتها والتي تنقسم إلى صنفين‪ ،‬أحدهما‬

‫‪224‬‬
‫مجلة اللغة العربية ‪ .‬العدد الثاني والعشرون‬

‫يتمثل في الخطوات التي نتبعها في إنجاز‬


‫أي بحث من طرح لإلشكالية وجمع للمصادر‬
‫ونقد لمادتها وتحليل وتركيب للمعلومات‬
‫المستخلصة منها‪ ،‬أما الصنف الثاني فهو‬
‫يتعلق بتقنيات البحث من حيث المعالجة‬
‫والتنصيص‬ ‫كالتهميش‬ ‫واإلخراج‬ ‫والشكل‬
‫واإلحالة ووضع البيبليوغرافيا وتحضير‬
‫والمالحق وغيرها من‬ ‫الفهارس‬
‫تقنيات البحث‪ .‬ألخذ فكرة مختصرة ومركزة‪،‬‬
‫ناصر الدين سعيدوني‪ ،‬أساسيات‬ ‫راجع ‪:‬‬
‫الجزائر‪،‬‬ ‫القصبة‪،‬‬ ‫دار‬ ‫التاريخ‪،‬‬ ‫منهجية‬
‫‪.2000‬‬

‫‪)3(Fénelon,‬‬‫‪La lettre à l´Académie‬‬


‫‪(1716), in A. Lagarde, L. Michard, XVIIè‬‬
‫& ‪siècle, Bordas, Paris, 1962, pp. 430‬‬
‫‪438.‬‬

‫(‪ )4‬تحاول جل كتب منهجية التاريخ عرض‬


‫تصور مثالي لها‪ ،‬لكن ذلك ال يتجاوز في‬
‫ألن‬ ‫والتوجيه‪،‬‬ ‫النصح‬ ‫تقديم‬ ‫الواقع‬
‫اكتساب ملكة العرض التاريخي مرهون‬
‫بالممارسة والتدريب واالرتقاء باألسلوب‬
‫والسيطرة على اللغة‪.‬‬

‫‪225‬‬
‫إشكالية داللة النص التاريخي‬

‫(‪ )5‬غي تويليه وجان التور‪ ،‬مهنة‬


‫المؤرخ‪ ،‬ترجمة عادل العوا‪ ،‬دار عويدات‪،‬‬
‫بيروت‪،2001 ،‬‬

‫(‪ )6‬العلوم والمعارف التي لها صلة‬


‫تمد‬ ‫التي‬ ‫الرافدة‬ ‫منها‬ ‫بالتاريخ‪،‬‬
‫المؤرخ بالمادة التاريخية كعلوم اآلثار‬
‫ومنها‬ ‫والباليوغرافيا‪،‬‬ ‫والوثائق‬
‫المفسرة لألحداث التاريخية كالجغرافية‬
‫والفلسفة‪ ،‬ومنها ما يساعد على الفهم‬
‫السليم وتدقيق المعلومات كمختلف اآلداب‬
‫والفنون وعلوم الفيلولوجيا والرياضيات‬
‫والتوقيت‪ .‬كل هذه المعارف والعلوم‬
‫توفرللمؤرخ الوقت والجهد وتنبهه إلى‬
‫جوانب قد يغفل عنها في بحثه‪ ،‬وليس‬
‫المطلوب منه أن يتعمق فيها إلى مستوى‬
‫اإلختصاص ‪ ،‬ولكن ال بد له من إلمام أولي‬
‫بها يساعده في عمله ‪ .‬راجع ناصر الدين‬
‫سعيدوني‪ ،‬المصدر نفسه‪.‬‬

‫‪)7(Langlois‬‬ ‫‪et Seignobose, Introduction aux études historiques, Paris,‬‬


‫‪1898‬‬

‫(‪ )8‬نستقي المعلومات التاريخية من‬


‫مضان مختلفة منها ‪ :‬المعالم األثرية‬
‫والبقايا المادية والروايات الشفوية‬
‫‪226‬‬
‫مجلة اللغة العربية ‪ .‬العدد الثاني والعشرون‬

‫وتقاليد‬ ‫عادات‬ ‫من‬ ‫الشعبي‬ ‫والتراث‬


‫باإلضافة إلى المصادر الكتابية التي‬
‫تشتمل على الوثائق الحكومية والتقارير‬
‫والمؤسسات‬ ‫المحاكم‬ ‫وسجالت‬ ‫الرسمية‬
‫والمصالح‬ ‫المؤسسات‬ ‫ومعامالت‬ ‫الوقفية‬
‫الشهادات‬ ‫إلى‬ ‫باإلضافة‬ ‫اإلدارية‪،‬‬
‫واإلجازات واالتفاقيات والعقود واألوراق‬
‫الشخصية والتراجم والمذكرات والتعاليق‬
‫الصحفية وغيرها‪.‬‬

‫(‪ ) )9‬لويس جوتشلك‪ ،‬كيف نفهم التاريخ‬


‫؟ مدخل إلى تطبيق المنهج التاريخي‪،‬‬
‫ترجمة عائدة سليمان عارف وأحمد مصطفى‬
‫أبو حاكمة‪ ،‬الدار العربية للكتاب‪،‬‬
‫بيروت‪ ،1966 ،‬ص‪.163 .‬‬

‫سعيدوني ‪ ،‬نحو‬ ‫(‪ )10‬ناصر الدين‬


‫العرب الحديث "‬ ‫مقاربة جديدة لتاريخ‬
‫تصورات " مجلة‬ ‫مناقشة مفاهيم وعرض‬
‫‪ ،‬الكويت ‪ ،‬العدد‬ ‫الخليج للتاريخ واآلثار‬
‫‪. 148-138‬‬ ‫الثاني‪ ،‬أبريل ‪ ، 2006‬ص‬

‫خلدون‪،‬‬ ‫بن‬ ‫الرحمان‬ ‫عبد‬ ‫(‪)11‬‬


‫المقدمة ‪ ،‬الدار التونسية للنشر ‪ ،‬تونس‬
‫‪ ، 1984 ،‬ج ‪ ، 1 ،‬ص ‪. 30‬‬

‫‪227‬‬
‫إشكالية داللة النص التاريخي‬

‫‪228‬‬

You might also like