Professional Documents
Culture Documents
قاعدة كل مجتهد مصيب وتطبيقاتها في السياسة الشرعية كتاب الأحكام السلطانية للماوردي نموذجا
قاعدة كل مجتهد مصيب وتطبيقاتها في السياسة الشرعية كتاب الأحكام السلطانية للماوردي نموذجا
الملخص:
يندرج هذا المقال في إطار اإلسهام في تجديد منهجية البحث في علم
السياسة الشرعية وربطه بأصوله الفقهية؛ حيث ينطلق الباحث من مسألة اإلصابة
والخطأ في االجتهاد وهي مسألة لها دون شك تأثيرات وتداعيات على مستوى
الفروع الفقهية ،ومن هذه الفروع مباحث اإلمامة.
يحاول الباحث إزالة الغموض وااللتباس الذي ميز الخالف األصولي
فيها ،وتقرير ما يراه صوابا ثم ينتقل بعد ذلك إلى مباحث السياسة الشرعية ومن
خالل كتاب األحكام السلطانية للماوردي يطبق القاعدة -التي تبناها في الشق
األصولي -إجماال وتفصيال ،وهنا يكتشف انسجاما تاما بين ما تقرر في الشق
األصولي وما أفرزه تحليل آراء فقهاء السياسة في بعض مسائل اإلمامة ،وفي
أثناء ذلك تبين للباحث أهمية اختالف الفقهاء في مسائل السياسة الدستورية بالنسبة
لولي األمر ،وكذلك تمكن الباحث من تحديد أهم الضوابط التي يعتمد عليها ولي
األمر في اختياراته الفقهية عند تعدد اآلراء وتشابكها وتعدد المصالح وتعارضها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 76
الطيب بن حرز هللا.د
نبراسىا يستضىىاء بىىه فىىي طريىىق حىىل المشىىكالت والمعضىىالت التىىي تواجىىه األمىىة
واالستجابة لمتطلبات حياة المجتمع اإلسالمي .ويم ل علم السياسة الشرعية أهىم
الفروع الفقهية التي تهىتم بمواكبىة التطىورات واألحىداث التىي يمىر بهىا المجتمىع
اإلسىىىالمي ،ويحتىىىاج إلىىىى منهجيىىىة أصىىىيلة تربطىىىه بأصىىىوله االشىىىرعية ،وفعالىىىة
تستجيب لسرعة دوران عجلة الىزمن ،وأمىام ضىغط الواقىع ومتطلباتىه وحوادثىه
الجديىىدة دعى الحاجىىة بعىىض العلمىىاء المعاصىىرين إلىىى محاولىىة تجديىىد المنهجيىىة
اإلسالمية المتم لة في علىم أصىول الفقىه ،وذلىك بىالتركيز علىى مقاصىد الشىريعة
التي بدت وكأنها المفتاح لما أغلىق مىن مشىكالت العصىر ،وذلىك ألن النصىو
منتهية والوقائع غير منتهية ،فكيف يمكن أن نواجه ما يتناهى بما ال يتنىاهى إن
لم يكن عن طريق النظر في مقاصد الشريعة.
وسىىىبق اإلمىىىام الشىىىاطبي(ت 097هىىىـ) إلىىىى تأسىىىيس نظريىىىة للمقاصىىىد
الشرعية؛ حيث عمل على نقلها من مجرد إشارة في باب القياس األصولي -عند
تقسىىيم العلىىة -إلىىى نظريىىة متكاملىىة ،ثىىم جىىاء الشىىيب ع الطىىاهر بىىن عاشىىور(ت
1191هـ) وأكد ضرورة هذا التحول عندما اعتبر معظم مسىائل أصىول الفقىه ال
ترجع إلى خدمة مقاصد الشريعة ،وجزم بأن المقاصد لها أهمية كبرى في إغاثة
المسلمين بتشريع مصالحهم متى طرأت الحوادث واشىتبك النىوازل ،بىل يمكىن
للمقاصد-بنظىره -أن تقضىي حتىى علىى الخىالف الفقهىي الىذي تخىبط فىي أوحالىه
الفقه اإلسالمي.
وأسىىىاس هىىىذه النظريىىىة – عنىىىد أنصىىىارها -يقىىىوم علىىىى اعتبىىىار النظىىىر
المصىىلحي أصىىال لنظريىىة المقاصىىد ،وفىىي مقابىىل هىىذا يظسىىتبعد النظىىر الظىىاهري
والقياسي أمام النظر المصلحي عند تعارض األدلة في المسألة الواحدة ،وبالتالي
فهي تتبنى قول المخطئة في أن المصيب واحد في الفروع الفقهية.
والباحىىث مىىن خىىالل تخصصىىه فىىي مجىىال السياسىىة الشىىرعية -التىىي مىىن
خصائصىىها التغيىىر المسىىتمر ألحكامهىىا ،ودورانهىىا مىىع المصىىالح -الحىى عنىىد
دراسىىته لىىبعض العينىىات فىىي كتىىب التىىراث السياسىىي اإلسىىالمي ضىىمن مباحىىث
السياسة الشرعية بمختلف فروعهىا أنىه رغىم تعىارض آراء الفقهىاء فىي المسىألة
الواحدة فإن كل رأي منها يحمىل فىي طياتىه مصىالح شىرعية سىواء فهىرت فىي
استدالل المجتهد كما هو الحال في النظر المصلحي ،أم خفي كما هو الشأن في
النظر الظاهري والنظر القياسىي؛ حيىث يىدلنا التأمىل فيهمىا علىى وجىود مصىالح
شىىرعية كامنىىة .فىىإذا كىىان حضىىور المصىىلحة فىىي النظىىر واالجتهىىاد هىىو المعيىىار
الستيفاء المقاصىد الشىرعية فكيىف نصىوب أصىحاب النظىر المصىلحي الظىاهر
ونخطئ اآلخرين أصحاب النظر القياسي أو الظاهري بناء على رأي المخطئة،
وآراؤهم بالمصالح مشبعة
هذا اإلشكال الذي طفا على مستوى فروع السياسة باإلضافة إلى وجود
بعض المسلمات الشرعية كبع ة النبي ع ملسو هيلع هللا ىلص التي ما كان إال رحمىة للعىالمين،
وهىىذه الرحمىىة قطعىىا تتنىىاول دائىىرة التكليىىف وتشىىمل األحكىىام الشىىرعية ،وكىىون
العلمىىىاء ورثىىىة ل،نبيىىىاء ،فكيىىىف تكىىىون بع ىىىة النبىىىي ملسو هيلع هللا ىلص رحمىىىة ويكىىىون العلمىىىاء
المجتهىىدون الكمىىل ورثىىة للنبىىي ملسو هيلع هللا ىلص فىىي بيىىان األحكىىام الشىىرعية ثىىم ال يوفىىق إلىىى
الصواب إال أحدهم أو بعضهم -في هذا البيان -ويخطئ اآلخرون ثىم إن القىول
بأن "المصيب واحد" مسألة خالفية اختلف فيها النقل عن األئمة المجتهدين رغم
انتماء جمهىور العلمىاء إلىى المخطئىة .كىل هىذا دفعنىي إلىى إعىادة النظىر فىي هىذا
الموضوع والتساؤل عن:
-حقيقة مذهب المصوبة في اعتبارهم كل مجتهد مصيب في الفروع الفقهية
الظنية أو مذهب المخطئة في اعتبارهم أن المصيب واحد
-اآلثار المترتبة -عند الفصل في هذه المسألة -على مستوى مباحث السياسة
الشرعية الدستورية
أهمية هذا البحث تكمن في تحديده للضوابط التي يمكن لىولي األمىر مىن
خاللهىىىا اعتبىىىار مصىىىلحة بعينهىىىا وترجيحهىىىا علىىىى غيرهىىىا مىىىن المصىىىالح ،إذا
تعارضى األدلىىة وتشىىابك المصىىالح ،وذلىىك عىىن طريىىق وضىىع معىىالم واضىىحة
للتمييىىز بىىين المقاصىىد والوسىىائل الشىىرعية انطالقىىا مىىن ربىىط مسىىائل السياسىىة
الشرعية الدستورية بأصولها الشرعية.
وحسىىب علمىىي فىىإن الموضىىوع لىىم يطىىره مىىن قبىىل بهىىذه الكيفيىىة التىىي
أتناولهىىا ،عبىىر ربىىط األصىىول بىىالفروع ،وتسىىجيل أثرهىىا اإليجىىابي فىىي مسىىائل
الفهىىم فىىي صىىورته العمليىىة القابلىىة للتكليىىف -فىىي شىىكل الفقىىه اإلسىىالمي -إال إلىىى
بعض المكلفين دون غيرهم كأن يصيب الحق أتباع مذهب واحد فقط في جميىع
الفروع أو يصيب كل مذهب بعض الحق في بعض الفروع دون غيرها
هىىذا مىىا يتنىىافى وطبيعىىة التكليىىف التىىي تسىىتلزم القىىدرة علىىى فهىىم خطىىاب
التكليف من جميع المجتهدين باعتبارهم ورثىة األنبيىاء فىي تبليىر الرسىالة ،يقىول
أبىىو حامىىد الغزالىىي":ومىىن نظىىر فىىي المسىىائل الفقهيىىة ،التىىي ال ن ى فيهىىا ،علىىم
ضرورة انتفاء دليل قاطع فيها .وإذا انتفى الدليل فتكليف اإلصابة مىن غيىر دليىل
قاطع تكليف محال ،فإذا انتفى التكليف انتفى الخطأ".4
ورغم الحيرة التي يبديها بعض المخطئة عند وقوع اختالف بين العلماء
ورثىىة األنبيىىاء فىىي المسىىائل الفقهيىىة ،فىىإن الىىبعض اآلخىىر كالشىىيب شىىلتوت م ى ال
يتجاهل هذا األمر ويجزم أنه "ال يمكن أن يقال إن الكل دين يجب اتباعىه ،ألنهاا
آراء متناقضااة ،وال أن الىىدين واحىىد معىىين منهىىا ،ألنىىه ال أولويىىة لبعضىىها علىىى
بعض ،وال أن الدين واحد منهىا ال بعينىه ،ألنىه شىائع ال يعىرف علىى التحديىد"،5
ويرى أن هىذه اآلراء مىا هىي إال "آراء وأفهىام للحىاكم أن يختىار فىي العمىل أيهىا
شاء تبعا ً لما يراه من المصلحة" .6ويصطدم هىذا الىرأي الوجيىه بوقىوع الخىالف
في فروع العبىادات ،وك يىر مىن فىروع األحىوال الشخصىية التىي ال دخىل للحىاكم
فيها وال تتعلق بالمصلحة وبمسائل السياسة الشرعية ،فهنا ال نملك تعليالً مقبىوال
لالختالف ،وهذا ما يدفع إلى إعادة النظر في المقدمات ال الث التىي انطلىق منهىا
الشيب شلتوت.
ثم إن بعض مسائل السياسىة الشىرعية نفسىها منهىا مىا يتجاذبىه عىدة أدلىة
بعضىىها ينتمىىي إلىىى المصىىلحة الظىىاهرة وبعضىىها يكىىون قياسىىا ،وبعضىىها اآلخىىر
يكون فاهر حديث أو آية ،وقد دل االستقراء لفىروع السياسىة الشىرعية علىى أن
كل هذه األدلة في النهاية تتضمن مصالح شرعية قد تكون فىاهرة كمىا يبىدو فىي
المصىىالح المرسىىلة وقىىد تكىىون مصىىالح كامنىىة كمىىا يظهىىر فىىي القيىىاس والنظىىر
الظاهري ،7وهذا االستدالل يكون بحسىب المدرسىة أو النزعىة التىي ينتمىي إليهىا
المجتهد؛ فعندنا المدرسة الظاهرية ،والمدرسة التعليلية وداخل المدرسة التعليلية
نجد أيضا فروقا في درجة اعتبار المصالح ،فكيف يصىح لىولي األمىر أن يختىار
رأي واحىىد مىىن بىىين اآلراء المختلفىىة فىىي المسىىألة الواحىىدة مىىن مسىىائل السياسىىة
الشرعية بناء على ما يىراه مىن مصىلحة ظهارت لىه ،ويهمىل اآلراء األخىرى مىع
أنها كلهىا تتضىمن مقاصىد شىرعية أو بىاألحرى مصىالح كامناة فىي الىدليل الغيىر
مصلحي (فىاهر نى أو قيىاس مى ال) وفىي هىذه الحالىة أيضىا ال نملىك تعلىيالً
مقبوال لالختالف ،مىا دامى اآلراء المختلفىة فىي مسىائل السياسىة الشىرعية كلهىا
تستند إلى المصالح سواء أكان فاهرة أم باطنة ،وهذا ما يدفع أيضا إلى إعادة
النظر في المقدمات ال الث التي انطلق منها الشيب شلتوت.
وإذا كنا نوافق الشىيب شىلتوت -والفريىق الىذي يم لىه-الىرأي فىي المقدمىة
ال انيىىة " وال أن الىىدين واحىىد معىىين منهىىا ،ألنىىه ال أولويىىة لبعضىىها علىىى بعىىض"،
باعتبار الكىل يىدور فىي فلىك الظىن ،وكىذلك نوافقىه علىى المقدمىة ال ال ىة "وال أن
الدين واحد منها ال بعينه ،ألنه شائع ال يعىرف علىى التحديىد" ،ألن عىدم التحديىد
يكرس الغموض الذي يكتنف هذا الىرأي .ولكىن نخالفىه فىي المقدمىة األولىى" :ال
يمكن أن يقال إن الكل دين يجب اتباعه ،ألنها آراء متناقضة" .وهي فىي نظىري
خاطئة وتحتاج إلى مزيد من البحث والتمحي .
ثانيا ا -تصوير المسألة وتحرير محل النزاع
-1إن أول مىىا يمكىىن أن ننطلىىق منىىه نحىىو إثبىىات خطىىأ هىىذه المقدمىىة وصىىحة
خالفهىىا -أي أن الكىىل ديىىن يجىىب إتباعىىه وأن هىىذه اآلراء ال تعتبىىر متناقضىىة بىىل
مكملة لبعضها البعض -هىو عبىارة عىن م ىال محسىوس أورده الشىيب أبىو زهىرة
ونسىىبه ألفالطىىون يقىىول فيىىه" :إن الحىىق لىىم يصىىبه النىىاس فىىي كىىل وجوهىىه وال
أخطأوه في كل وجوهه ،بل أصاب كل إنسان جهىة ،وم ىال ذلىك عميىان انطلقىوا
إلى فيل ،وأخذ كل منهم جارحة منه فجسها بيده ،وم لهىا فىي نفسىه ،فىأخبر الىذي
مس الرجل أن خلقة الفيل طويلىة مسىتديرة شىبيهة بأصىل الشىجرة ،وأخبىر الىذي
مس الظهر أن خلقته تشبه الهضبة العالية ،والرابية المرتفعة ،وأخبىر الىذي مىس
أذنه أنه منبسط دقيق يطويىه وينشىره .فكىل واحىد مىنهم قىد أدى بعىض مىا أدر ،
وكىىل يكىىذب صىىاحبه ويىىدعي عليىىه الخطىىأ والجهىىل فيمىىا يصىىفه مىىن خلىىق الفيىىل،
فىانظر إلىى الصىده كيىف جمعهىم وانظىر إلىى الكىذب والخطىأ كيىف دخىل علىيهم
حتى فرقهم" ،8فكذلك أهل االجتهاد يمكن اعتبارهم كهىؤالء العميىان باعتبىار أن
المولى عز وجل اقتض حكمته أن يعرف كل مجتهد طرفىا ً مىن الحقيقىة يناسىب
حال بعض المكلفين على أن يكون مجموع ما يعرفه المجتهىدون مىن أمىة سىيدنا
ع ملسو هيلع هللا ىلص هو عين الشريعة المحمدية التي جاءت لتناسب حال جميع المكلفين.
-2والذي دفع المخطئة إلى رأيهم هذا هىو ذلىك التنىاقض العقلىي الىذي يظهىر
عند محاولة تصويب جميع المجتهدين ،يقول الشوكاني" :وأك ىر الفقهىاء إلىى أن
الحق في أحد األقوال ،ولىم يتعىين لنىا ،وهىو عنىد هللا متعىين؛ السىتحالة أن يكىون
الشىيء الواحىىد فىىي الزمىىان الواحىىد فىىي الشىىخ الواحىىد ،حىىالال وحرامىا ً" .9هىىذا
التناقض يرجع بدوره إلى اختالف العلماء في مسألة أخرى لها صلة بالموضوع
أال وهىىي :هىىل ت تعىىالى حكىىم فىىي كىىل حادثىىة أم ال فالىىذي ذهىىب إليىىه محققىىو
المصوبة أنه ليس فىي الواقعىة التىي ال نى فيهىا حكىم معىين يطلىب بىالظن ،مىن
جىىواز وحظىىر وحىىالل وحىىرام بىىل الحكىىم يتبىىع الظىىن ،وحكىىم هللا تعىىالى علىىى كىل
مجتهد ما غلب على فنىه .10وذهىب قىوم مىن المخطئىة إلىى أن ت تعىالى فىي كىل
حادثة حكما بعينه 11قبل االجتهاد من جواز وحظر ،بل وفىي كىل حركىة يتحىر
بهىىا اإلنسىىان حكىىم تكليىىف مىىن تحليىىل وتحىىريم ،وإنمىىا يرتىىاده المجتهىىد بالطلىىب
واالجتهاد ،إذ الطلب ال بىد لىه مىن مطلىوب واالجتهىاد يجىب أن يكىون مىن شىيء
إلى شيء فالطلب المرسل ال يعقل ،12ويلزم من هذا المىذهب أن المصىيب واحىد
من المجتهدين في الحكم المطلوب.
ثالثا -نتيجة
وعند النظر والتحقيق في كالم المصوبة يجد المرء أن المصوبة ال
تناقض عندهم في المسألة؛ ذلك أن منشأ التناقض عند المخطئة يرجع إلى كون
الحق متعينا عند هللا قبل اجتهاد المجتهد ،وما دام اآلراء متناقضة فال شك أن
المصيب أحدها .لكن الذي فات بعض المخطئة أن عدم التعيين عند المصوبة ال
يعني إطالقا ً أن يكون الشيء الواحد في الزمان الواحد في الشخ الواحد،
حالال وحراماً؛ بل عدم التعيين يعني عندهم أن الشارع راعى اختالف األحوال
عند األشخا فما يصلح لزيد قد يضر عمر ٍو ،وهكذا؛ أي أن هذا الشيء قد
آخر الختالف أحوال حراما ً في حق شخ يكون حالال في حق شخ
األشخا قوة وضعفا ً في الدين بحسب انقسام الشريعة إلى مراتب أو مقامات
ثالثة متدرجة معروفة وهي اإلسالم ثم اإليمان ثم اإلحسان ،وكذلك قوة وضعفا
في البدن تتناسب وأحوال المكلفين ،13وبنا ًء على فكرة مراعاة اختالف األحوال
62 مجلة اإلحياء
د.الطيب بن حرز هللا
وهىذا النىوع مىن المسىائل يظهىر كمىا قلى سىابقا ً أنىه ال يتعلىق باالجتهىاد
النظىىري التقعيىىدي األصىىولي المقاصىىدي الفقهىىي الىىذي يتىىواله علمىىاء الشىىريعة؛
وإنمىىا يتعلىىق بتحقيىىق منىىاط النصىىو أو القواعىىد الشىىرعية وهىىي جوانىىب فنيىىة
علمية تقديرية تتعلق بخبىرات علمىاء متخصصىين فىي مختلىف الميىادين كالطىب
والقضاء واالقتصاد والسياسة وغيرها .17وإذا فهم األمر علىى هىذا األسىاس فىإن
قاعدة اختالف األحوال مطردة في المجال الذي نحن بصدد البرهنة عليه.
ونوع آخر من المسائل الظنية ال ن قطعىي فيهىا ،وبالتىالي الحىق فيهىا
غير متعين (متعدد) ،وهنا ال خطأ فيها عنىد االجتهىاد؛ أي ينتفىي الخطىأ الحقيقىي
وكذلك المجازي.18
المطلب الثاني :تأويل اختال ف فقهاء السياسة الشرعية في مباحث اإلمامة من
خالل كتاب "األحكام السلطانية للماوردي"
الفرع األول :أهمية تقساي اجتهااد ولاي األمار إلاى تعياين المنااط وتحقيقا فاي
مسائل السياسة الشرعية الدستورية
ال شك أن ولي األمر في مسائل السياسة عليه أن يحسىم األمىر ويختىار،
وال شك أن تصىرفه علىى الرعيىة منىوط بالمصىلحة كمىا ذكىر العلمىاء ولكىن هىذا
االختيار ال يعنىي أن اآلراء األخىرى التىي تركهىا ليسى صىوابا أو أنهىا أخطىأت
مقصد الشارع الحكيم؛ بل كلها تدور في فلك المقاصد الشرعية ،ولكن هىذا علىى
المسىىتوى النظىىري؛ أي علىىى مسىىتوى تعيىىين منىىاط الحكىىم الشىىرعي؛ أمىىا علىىى
مستوى تحقيق مناط الحكم الشرعي وهو أمر يتعلق بالتطبيق على أرض الواقىع
وهنىىا يكىىون ولىىي األمىىر معرضىىا للخطىىأ والصىىواب عنىىد تحقيىىق منىىاط الحكىىم
الشىىرعي كمىىا سىىبق تقريىىره فىىي المطلىىب األول ،ويمكىىن القىىول إن اإلمىىام حينمىىا
يختار رأيا واحدا مىن هىذه اآلراء بنىاء علىى دليىل شىرعي معىين فىإن هىذا الىرأي
بدليلىه متضىمن فىي حقيقىة األمىر اجتهىىادين اثنىين فىي نفىس الوقى ؛ األول تعيىىين
مناط (المقصد) الحكم الشرعي للواقعة المدروسة ونحكم بصواب اجتهىاده مهمىا
تخير من اآلراء التي قررها علماء مجتهدون قبله ،واالجتهاد ال اني تحقيق مناط
( اختيار وسىيلة تحقيىق المقصىد) الحكىم الشىرعي ،وهىذا االجتهىاد ال ىاني يىرتبط
بىىالواقع وهىىو عمىىل تقنىىي فنىىي كمىىا سىىبق ذكىىره ،وهىىذا االجتهىىاد هىىو الىىذي يكىىون
صىىوابا ً إذا اسىىتند فيىىه ولىىي األمىىر إلىىى المصىىلحة الظىىاهرة ،وهىىو الىىذي قىىال فيىىه
العلماء "تصرف اإلمىام علىى الرعيىة منىوط بالمصىلحة" .19والفىره بىين الىرأي
الصواب تعيينا وتحقيقا للمناط وغيره من اآلراء األخىرى التىي وافقى الصىواب
في تعيين المناط وجانبته في تحقيىق المنىاط هىو فكىرة أو دليىل اخىتالف األحىوال
الذي أشرت إليه في المطلب األول استنادا إلى كالم الغزالي والقرافي وغيرهمىا
من العلماء المحققين؛ وولي األمر إذا أصاب تحقيق مناط الحكم الشرعي فمعنىاه
أنه اسىتطاع بنظىره المصىلحي -مىن موقعىه كىولي ل،مىر -أن ينىزل منىاط الحكىم
الشرعي على النازلة التي يعالجها ،أي أن الحكم الشرعي الذي تبناه ولىي األمىر
وهو حكم يتضمن وسائل شرعية وافق حال المجتمع في تلك الحادثىة؛ أي وافقىه
من حيث القوة والضعف فىي الىدين (مراعىاة مراتىب الشىريعة الى الث اإلسىالم ،
اإليمان واإلحسان) والقوة والضعف في الجسم (إمكانيىات المجتمىع اإلسىالمي)،
فيكىىون الحكىىم الشىىرعي محققىىا للمقاصىىد المرجىىوة منىىه (منىىاط الحكىىم) بالوسىىائل
المتضىمنة فيىىه .بينمىىا إذا أخطىأ تحقيىىق منىاط الحكىم الشىىرعي فمعنىىاه أن الوسىىائل
التي اختارها ولي األمر والمتضمنة في الحكم الشرعي الذي رجحىه لىم تتناسىب
وأحوال المجتمع في النازلىة المدروسىة مىن حيىث كمىا قلى القىوة والضىعف فىي
الدين والجسم ،والخطأ هنا كما سبق ذكره خطأ مجىازي؛ أي أن الخطىأ قىد ي بى
في حق المجتهد؛ لكن على سىبيل اإلضىافة إلىى عىدم وصىوله إلىى مطلوبىه وهىو
الحىىق المتعىىين عنىىد هللا تعىىالى وهىىو أمىىر خفىىي يتجىىاوز أدوات النظىىر االجتهىىادي
المعروفىىة ،وإنمىىا يتعلىىق بتحقيىىق منىىاط النصىىو أو القواعىىد الشىىرعية وهىىي
جوانىىب فنيىىة علميىىة تقديريىىة تتعلىىق بخبىىرات علمىىاء متخصصىىين فىىي مختلىىف
الميىىادين كالطىىب والقضىىاء واالقتصىىاد والسياسىىة وغيرهىىا كلهىىا تتبىىع مهىىام ولىىي
األمر.
وربما يتساءل البعض ما جدوى كل هذا الكالم وتقسيم الرأي الواحد في
المسىىألة إلىىى اجتهىىادين -األول تعيىىين للمنىىاط يصىىيبه جميىىع المجتهىىدين وال ىىاني
تحقيىق لىه يصىيبه أحىىدهم -مىا دامى النتيجىىة فىي النهايىة واحىىدة وهىي كىون ولىىي
األمر في كلتا الحالتين سيختار الرأي الراجح بناء على المصلحة (الوسيلة) التي
يراها محققة للمقصد الشرعي من الحكم والجواب:
-1إن الغرض من ذلك أوال بيان وإثبات الحق في الفروع الفقهية والسياسية كما
ثب في األصول عندما ذكرنا مؤيدات صحة قاعدة "كل مجتهد مصيب".
-2إن في الذهاب إلى تخطئة العلماء المجتهدين في قضايا تعيين المناط أي
التي تتعلق باالجتهاد في الشرعيات فلم لهم ،خاصة في المسائل السياسية التي
يتحامل الناس فيها على العلماء وهذا عند الفتن فيظتهموا في دينهم وعدالتهم
بتأويل ما وقعوا فيه من أخطاء بأنهم يحرفون الكلم عن موضعه وبالتالي
يظصنفون بأنهم علماء السلطان ،وهذا بخالف ما إذا حملنا أخطاءهم على الخطأ
في تحقيق المناط وهو أمر تختلف فيه األنظار وال يسلم منه النظار ،واختالف
الصحابة -رضوان هللا عليهم -في شؤون السياسة بعد وفاة النبي ملسو هيلع هللا ىلص من هذا
النوع.
-1كذلك تحامل بعض الباح ين المعاصرين المتأثرين بالنظرية الغربية في
السياسة على العلماء القدامى ،وربما السخرية من آرائهم غير مميزين بين
اجتهادهم في الشرعيات عند تعيين مناط األحكام الشرعية وهذا يستند إلى
مصادر التشريع اإلسالمي وهذا ال يمكن أن يخطئ فيه أهل االجتهاد بناء على
قاعدة "كل مجتهد مصيب" ،واجتهادهم في تحقيق المناط وهذا يستند إلى
أزمانهم وأماكنهم التي عاشوا فيها ،وكذلك فروف مصالح (وسائل) تخ
وأحوال مجتمعاتهم من حيث القوة والضعف في الدين والجسم ،وهذا متوقع أن
يخطئوا فيه في أزمنتهم فضال عن األزمنة الالحقة ،وال يخفى على اللبيب أن
م ل هذا التحامل بغير وجه حق يزعزع ثقة الناس في "العلماء ورثة األنبياء"،
وربما تعدى ذلك إلى مصادر تشريعهم ،فماذا ننتظر إذا وصلنا إلى مرحلة "
آخر هذه األمة يلعن أولها" !! وهذا الجهد يأتي إذا في إطار إحسان الظن
بالعلماء المجتهدين ،واالرتقاء بالبحث العلمي الشرعي إلى خلق اإلحسان.
-4على عكس الفريق من الباح ين الذي ذكرناه في النقطة ال ال ة هنا فريق
آخر ينتمي إلى مدرسة تقديس التراث السياسي اإلسالمي ،وهذا الفريق يكاد
يعتبر كل ما أنتجه السلف في السياسة ال يزال صالحا إلى يوم الناس هذا ،فربما
اختلط عندهم المقاصد بالوسائل وال واب بالتاريب؛ ويظهر الدين والمنظومة
التشريعية بمظهر القصور عن مواكبة مقتضيات العصر ،وهذا إن حدث يرجع
إلى عدم التمييز بين االجتهادين :تعيين المناط المرتبط بتعيين المقاصد الشرعية
ال ابتة وتحقيق المناط المتغير المرتبط بتنزيل هذه المقاصد على أرض الواقع.
-5إن تقسيم اجتهاد العالم في المسألة الواحدة إلى اجتهادين في نفس الوق
هما تعيين المناط وتحقيقه يساهم بدرجة كبيرة في ضبط المصلحة المطلوب من
ولي األمر أن يستقصيها ويتبناها؛ ألن هذه المصلحة يصبح لها إحداثيات تتعين
بها من زمان ومكان وأحوال تختلف قوة وضعفا في الدين والجسم فتكون
الوسيلة (المصلحة) الراجحة عند ولي األمر تتناسب شدتها وضعفها بحسب هذه
األحوال شدة وضعفا ،اتساعا وضيقا.
-6هذا التقسيم يتناسب والزمن الذي نعيش فيه؛ حيث تفتق مختلف العلوم
عن معلومات ومعارف ال يكاد يحصيها العد ،ولم يعد بإمكان العالم في الشريعة
اإلحاطة بها ،وبالتالي لم يعد بإمكانه االستقالل بتحقيق مناط الحكم الشرعي ،أي
لم يعد له الحق في االنفراد بسلطة التشريع فضال عن سلطة التنفيذ ،وهذا يناسب
حال المجتمع اإلسالمي في هذا الزمن حيث تفاقم االستبداد وع َّم ،واحتي فيه
إلى الفصل بين السلطات ،وبذلك يتخل رجل الدين -كما يسميه مناوئيه -من
مسؤولية وتبعات األحكام التي تصدر عنه في الجزء المتعلق بتحقيق مناط ك ير
من القضايا المعاصرة.
مىن أجىل هىذه األسىباب يحىاول الباحىث فىي هىذا المطلىب عىرض بعىىض
مسىىائل السياسىىة الشىىرعية الدسىىتورية المتعلقىىة بمبحىىث اإلمامىىة مىىن خىىالل كتىىاب
"األحكىىىام السىىىلطانية للمىىىاوردي" ،وبيىىىان صىىىحة واطىىىراد قاعىىىدة "كىىىل مجتهىىىد
مصيب" في فروع السياسة الدستورية ،وفي أثناء ذلك الوقوف على بعض ثمار
اخىىتالف فقهىىاء السياسىىة فىىي مسىىائلها ،مىىن حيىىث المقاصىىد الشىىرعية والمصىىالح
(الوسائل) المحققة لها.
الفاارع الثاااني :تخااريب بعااض مسااائل اإلمامااة 20الااواردة فااي كتاااب األحكااام
السلطانية للماوردي على قاعدة "كل مجتهد مصيب"
يحاول الباحث في هذا الفرع:
-ذكر أقوال الفقهاء اعتمادا على كتاب "األحكام السلطانية للماوردي.
-تعيين المناط ،وسنرى أنه واحد غير مختلف فيه عند جميع الفقهاء في أي
مسألة سنذكرها.
-وتحقيق المناط مع بيان المصيب من المخطئ.
-واإلصابة تكون بتبني الفقيه للنظر المصلحي عند استدالله على المسألة في
إطار ما يجب أن يكون في زمنه (الحالة العادية للمجتمع= قوة) إذا كان
المسألة بطبيعتها قابلة للتغير.
-والخطأ يكون بتبني الفقيه للنظر الظاهري أو القياسي عند استدالله على
المسألة في إطار ما يجب أن يكون في زمنه إذا كان المسألة بطبيعتها قابلة
للتغير.
-ثم نذكر الحالة التي يمكن أن يصبح فيها الخطأ صوابا؛ أي نبين ال مرة
المرجوة من اختالف الفقهاء في الرأي ،ألن خطأ الفقيه في تحقيق مناط مسألة
معينة يعني أنه فشل في تنزيلها على زمنه (واقعه) في إطار ما يجب أن
يكون ،ولكن اجتهاده هذا يمكن أن يكون صوابا عند تنزيله على زمن آخر ألن
رأيه في هذه الحالة يكون است ناء من الرأي الذي ظوفق إلى الصواب بداية،
وهذا االست ناء يناسب أزمنة وأحوال للمجتمع ربما تتكرر في المستقبل بحسب
طبيعة المسألة ،وفي هذا إثراء للفقه السياسي الشرعي.
أول -مسألة أقل عدد تنعقد ب اإلمامة من جماعة أهل الحل والعقد
ذكىىر المىىاوردي اخىىتالف العلمىىاء فىىي عىىدد مىىن تنعقىىد بىىه اإلمامىىة وعىىدد
آراءهم وأدلتهم كاآلتي :21
-1قال ى طائفىىة ال تنعقىىد إال بجمهىىور أهىىل العقىىد والحىىل فىىي كىىل بلىىد ليكىىون
الرضاء بىه عامىا والتسىليم إلمامتىه إجماعىا .وعلىق المىاوردي بىأن هىذا المىذهب
مىدفوع ببيعىة أبىي بكىر رضىي هللا عنىه علىى الخالفىة باختيىار مىن حضىرها ولىىم
ينتظر ببيعته قدوم غائب عنها.
-2وقال طائفة أخرى أقل من تعقد به اإلمامة خمسة يجتمعون علىى عقىدها
أو يعقدها أحدهم برضا األربعىة اسىتدالال بىأمرين :األول بيعىة الصىديق انعقىدت
بخمسة اجتمعوا عليها ثم تابعهم الناس ،وال اني :عمر جعل الشىورى فىي سىتة
ليظعقد ألحدهم برضى الخمسة ،وهو قول أك ر الفقهاء والمتكلمين من البصرة.
-1وذهب آخرون من فقهاء الكوفىة إلىى انعقادهىا ب الثىة يتوالهىا أحىدهم برضىى
االثنين ليكونوا حاكما وشاهدين كما يصح عقد النكاح بولي وشاهدين.
-4وقال طائفة أخرى تنعقد بواحد ألن العباس قال لعلي –رضوان هللا عليهما-
امدد يد أبايعك فيقول الناس عم رسول هللا ملسو هيلع هللا ىلص بايع ابىن عمىه فىال يختلىف عليىك
اثنان ،وألنه حكم ،وحكم الواحد نافذ.
ويمكىن القىىول بعىىد عىرض مختلىىف آراء الفقهىىاء فىي المسىىألة :إن المنىىاط
واحد وكل اآلراء تحوم حوله وهو أهمية تحصيل رضا األمة مان خاالل جماعاة
أهاال الحاال والعقااد ألجاال اسااتقرار منصااب اإلمامااة ،وانتظىىام األمىىة تحى سىىلطة
شرعية تنظم شؤونها وتحرس بيضتها ،ولكىن اختلىف الفقهىاء فىي وسىيلة تحقيىق
هذا المناط تبعا ً الخىتالفهم فىي تقىدير فىروف وأحىوال المجتمىع الىذي هىم بصىدد
التنظير له:
-1فالرأي األول يرى أصحابه أن تحقيق االستقرار ال يكون إال برضا األمة
والرضا ال يحصل إال بموافقة جمهور أهل الحل والعقد في كل بلىد ،وهىذا يعتبىر
عمل فيه النظر تحقيقا للمناط ويمكن القول إنه تحقيق يوصف بالصواب؛ ألنه است ظ ِ
ظنظىرون فىي إطىار مىا يجىب أن يكىون فىي المصلحي؛ والفقهاء فىي هىذه المسىألة ي ِ و
اللحالة العادية أي مجتمع راشد وفروف وأحوال عادية .وفي فل هذه الظروف
فإن مصلحة األمة واستقرارها يقتضي توسيع دائرة التشاور والرضا بين مم لي
األمة ألجل تحقيق إجماع حول اإلمام المرشح خاصة في هذا الزمن الذي يسمح
بهذا النوع من االستشارة في وق وجيز.
- 2بينمىىا الىىرأي ال ىىاني الىىذي يىىرى أن أقىىل عىىدد تنعقىىد بىىه اإلمامىىة خمسىىة؛
فتحقيقه للمناط اعتمد فيه على القياس وهو خطأ –في نظر الباحث-؛ حيىث قىاس
ما جرى في زمن الصحابة علىى مىا يجىب أن يكىون فىي زمنىه ،ويىرى أصىحاب
هىىذا الىىرأي أن منىىاط الرضىىا واسىىتقرار منصىىب اإلمامىىة يمكىىن تحقيقىىه بخمسىىة
أشىىخا ي عقىىدون اإلمامىىة نيابىىة عىىن األمىىة طبعىىا بىىدليل حىىدوث ذلىىك عنىىد بيعىىة
الصديق ،وكذلك لما اختار عمر سىتة للشىورى يعقىدونها ألحىدهم ،وهىذا صىحيح
فقد حصل الرضا واستقرار منصب اإلمامة بهذا العدد في زمن الصحابة؛ ولكىن
كما قل هذا األمر ليس مطردا في كل زمىان نسىتقبله؛ بىل هنىا فىروف معينىة
حصل في زمن الصحابة جعل اختيار الخليفة يكون بهذه الطريقة وهذا العدد،
والمهىىم أن المقصىىد الشىىرعي تحقىىق فىىي زمىىن الصىىحابة بالوسىىيلة التىىي اختارهىىا
الصىىحابة فىىي ذلىىك الوق ى ،ولكىىن هىىذه الظىىروف يسىىتعبد أن تتكىىرر فىىي الىىزمن
المستقبل؛ ألن ك يرا من مسائل السياسة كما هو معىروف متغيىرة بطبيعتهىا ،وال
يمكن أن نستوعبها بالقياس فهىو يجعىل المسىائل تميىل إلىى ال بىات عكىس النظىر
المصىلحي ،وإن حىدث وتكىىررت نفىس الظىروف فىىي الىزمن المسىتقبل وتطابقى
أحواله مع أحوال زمن الصحابة ففي هذه الحالة يكون هذا الرأي أصىاب تحقيىق
المناط.
-1كذلك الرأي ال الث الذي يرى أن أقل عدد تنعقد به اإلمامة ثالثة "يتوالها
أحىىدهم برضىىى االثنىىين" ،اعتمىىد فىىي تحقيقىىه للمنىىاط علىىى القيىىاس؛ حيىىث قىىاس
اإلمامة على عقد النكاح ،ويرى أصحاب هىذا الىرأي أن منىاط الرضىا واسىتقرار
منصب اإلمامىة يمكىن تحقيقىه ب الثىة أشىخا يعقىدون اإلمامىة نيابىة عىن األمىة
وهذا يستند إلى عقد النكاح؛ حيث يشىرف عليىه ثالثىة أشىخا :حىاكم وشىاهدي
عدل للداللة على وجود الرضا بين طرفي العقد الزوج والزوجة ،والحق أن هذا
قياس مع الفاره؛ ألن عقد الزواج يتعلق بأفراد واإلمامة تتعلق بأمىة ،والزوجىة
لهىىا ولىىي واحىىد يم لهىىا ونتبىىين مىىن خاللىىه رضىىاها ،فكيىىف نتبىىين رضىىا أمىىة تعىىد
بىىالماليين مىىن خىىالل ثالثىىة أشىىخا ،فمىىن يكىىون هىىؤالء األشىىخا ومىىا هىىي
مواصفاتهم حتىى ترضىى األمىة بتم ىيلهم صىحيح حىدث ذلىك فىي الماضىي فىي
زمن الصىحابة المبىار ،ويمكىن أن يحىدث فىي المسىتقبل وهىذا بحسىب فىروف
وأحوال المجتمع اإلسىالمي ،لكىن اسىت ناء 22ولىيس فىي إطىار مىا يجىب أن يكىون
وليس في فل فروف وأحوال عادية ،وهذا هو السبب في خطأ هىذا الفريىق فىي
تحقيىىق المنىىاط؛ إذ اعتمىىد علىىى القيىىاس والقيىىاس فىىي م ىىل هىىذا النىىوع مىىن مسىىائل
السياسة يعطي نتائ ثابتة ال تتناسب مع تغيرات المجتمع وأحواله التي يمر بها.
-4والرأي الرابىع يشىبه الىرأي ال ىاني وال الىث فىي اعتمىاده علىى القيىاس فىي
تحقيق مناط رضا األمة ،إال أنه اكتفى في عقد اإلمامة بشخ واحد ينىوب عىن
األمة بدليل حصول ذلك في زمن علي رضي هللا عنه ،ومن الفقهاء من يرى أن
بيعة الصديق أيضا إنما صح ببيعة واحد هو عمر عنه ،وما قيل في الرأي
ال اني يقال في هذا الموضع.
ثانيا -مسألة حس جماعة الحل والعقد للنزاع الواقع بين مرشحين لإلمامة
يقول الماوردي " :فإن وقىف االختيىار[= اإلمىام] علىى واحىد مىن اثنىين
فتنازعاها فقد قال بعض الفقهاء يكون قدحا لمنعهما ويعدل إلىى غيرهمىا .والىذي
عليه جمهور العلماء والفقهاء أن التنازع فيها ال يكىون قىدحا مانعىا .ولىيس طلىب
اإلمامة مكروها ،فقد تنازع فيها أهل الشورى فما رد عنهىا طالىب وال منىع منهىا
راغب".23
لم يذكر الماوردي دليل الفريق الىذي اعتبىر التنىازع مانعىا مىن اإلمامىة،
ولكن ربما استند هذا الفريق إلى نهي النبي ملسو هيلع هللا ىلص بعض أصحابه طلىب اإلمىارة،24
وذكر دليىل ا لفريىق ال ىاني الىذي ذهىب إلىى أن طلىب اإلمامىة والتنىازع حولهىا ال
يعتبر مانعا من اإلمامة .ودليلهم القياس فكما أن أهل الشورى الذين عيىنهم عمىر
على أن يكون اإلمام واحدا من بينهم تنازعوا اإلمامة .فىيمكن القىول :إن منااط
الحك الشرعي في هذه المسىألة يتعلىق بكىون منصىب اإلمامىة مسىؤولية عظيمىة
تتطلب الحذر وعدم اإلقدام عليها رغم توفر الشروط الظاهرة في المرشح التي
أقرهىىا الشىىارع ،وجميىىع الفقهىىاء مىىدركون لهىىذا المنىىاط ،واجتهىىادهم علىىى هىىذا
المستوى صحيح نظرا الختيار كىل فريىق منهمىا رأيىا يسىعى مىن خاللىه لتحقيىق
هذا المناط؛ فالفريق األول وعلى فرض أن دليلىه مىا ذكرتىه فإنىه فهىم مىن النهىي
الىىوارد فىىي األحاديىىث الشىىريفة أن طلىىب الخالفىىة والتنىىازع عليهىىا أمىىارة علىىى
الحر مع أنها مسؤولية ثقيلة تنوء بحملها الجبىال ،وال يحىر عليهىا إال مىن
كان غير مقدر لما ينتظره وتسرعه هىذا يرجىع لضىعفه وهىذا مىؤثر فيهىا؛ لىذلك
التزمىىوا الىىن الىىوارد فىىي الحىىديث الشىىريف ،وهىىذا التحقيىىق فىىي حقيقىىة األمىىر
يناسىب حىىال بعىض األفىىراد أو األزمنىة التىىي تضىعف فيهىىا األمىة وتبتلىىى بوجىىود
تكالىىب علىىى السىىلطة واعتبارهىىا مغنمىىا ال مغرمىىا كحىىال زماننىىا هىىذا .أمىىا الفريىىق
ال ىاني فهىىو يعىىرف منىىاط النهىي عىىن طلىىب اإلمىىارة ،ويعتبىر هىىذا النهىىي فىىي حىىق
الضىىعفاء بىىدليل مىىا حىىدث مىىع أهىىل الشىىورى بمىىرأى ومسىىمع جماعىىة أهىىل الحىىل
والعقد في ذلك الوق ؛ ألن القوي في الدين والجسم (اإلمكانيات) كعلىي وع مىان
-رضىىي هللا عنهمىىا -ال يخشىىى عليىىه مىىن طلىىب اإلمىىارة بىىل طلبهىىا فىىي حقىىه ربمىىا
واجب ،إذا شعر أنه أقدر وأكفأ من أي شخ آخر ،وهذا ما سعى الفريق ال اني
إلى تقريره .وهنا يمكن أن نصف االجتهاد األول بالصواب؛ ألنىه يناسىب األمىة
فىىي حىىال الضىىعف دينىىا وجسىىما؛ حيىىث تصىىبح المسىىؤولية تشىىريفا ولىىيس تكليفىىا
ومغنمىىا ال مغرمىىا وهىىذا الحىىال هىىو الغالىىب علىىى األمىىة منىىذ نهايىىة زمىىن الخالفىىة
الراشدة إلى يومنا هذا ،فيكون النهي من باب التحذير والوعيد .أمىا تحقيىق منىاط
الفريىق ال ىىاني فهىو خطىىأ؛ ألنىه يناسىىب األمىىة فىي حىىال قىوة أفرادهىىا المتصىىدرين
للمسؤولية إذا أحسوا أنهم أقدر من غيرهم على تسيير شؤون الدولة ،وهىو علىى
ما يبدو حال است نائي حدث في زمن الصحابة ،وقد يتكرر في المستقبل.
ثالثا -مسألة قطع التنازع بين مرشحين لإلمامة مع تكافؤ أحوالهما
يقىىول المىىاوردي" :واختلىىف الفقهىىاء فيمىىا يقطىىع بىىه تنازعهمىىا مىىع تكىىافؤ
أحوالهما ،فقال طائفة :يقىرع بينهمىا ويقىدم مىن قىرع منهمىا .وقىال آخىرون :بىل
يكون أهل االختيار بالخيار في بيعة أيهما شاءوا من غيرة قرعة".25
عرض الماوردي لمسألة قطع التنازع بين مرشىحين لممامىة مىع تكىافؤ
أحوالهما ،فذهب الفريق األول إلى إجراء القرعة بينهمىا ،وهىذا قياسىا علىى رأي
اإلمام أحمد في األذان عنىد التنىازع فيىه ،فقىد قىال فىي مسىجد فيىه رجىالن تىداعيا
األذان فيه "يقرع بينهما" واحت بقول سعد ، 26والفريق ال اني ذهب إلى إعطىاء
الحرية ألهل الحل والعقد في اختيار أيهما شاؤوا ،،ولم يىذكر المىاوردي دلىيلهم،
والظن أنه نظر مصلحي ،ومناط هذه المسألة واحد وهو وجوب الب في نصىب
اإلمام عند تكافؤ المرشحين حفافا على مقاصد الشرع ،والقرعة كوسيلة لتحقيق
مناط اختيار اإلمام -عند تكافؤ المرشحين -يصعب تحقيقها في كل األزمنة ألن
التكافؤ الحقيقي بين مرشحي اإلمامة غيىر ممكىن ،لكىن هنىا جانىب إيجىابي فىي
هىىىذا الىىىرأي يتعلىىىق بالتضىىىييق مىىىن صىىىالحيات جماعىىىة الحىىىل والعقىىىد وإلزامهىىىا
بالقرعة ،وهذا ما نحتاجىه فىي حىاالت ضىعف هىذه الجماعىة وعىدم جىود انسىجام
بين أفرادها فيكون الحسىم عىن طريىق القرعىة أنسىب .وهىذا التحقيىق للمنىاط هىو
خطىىأ مىىن حيىىث أنىىه يناسىىب حالىىة عرضىىية تتم ىىل فىىي تكىىافؤ المرشىىحين وكىىذلك
ضعف جماعة الحل والعقد.
أمىىا الفريىىق ال ىىاني فيىىرى أن تحقيىىق منىىاط وجىىوب اختيىىار اإلمىىام –عنىىد
التكافؤ -يكىون بإعطىاء الحريىة لجماعىة الحىل والعقىد والتوسىيع مىن صىالحياتها
حتىىى تختىىار اإلمىىام بنىىاء علىىى تىىوازن القىىوى داخىىل المجتمىىع ،وهىىذا الىىرأي هىىو
األنسب في حال كان هذه الجماعة قوية ،و هنا تنسيق وتفاهم بىين أعضىائها،
وهذا ما يجب أن يكون ،ولذلك يوصف هذا التحقيق للمناط بالصواب.
رابعا ا -مسألة عقد البيعة للمفضول مع وجود األفضل بغير عهر
يقىىول المىىاوردي" :وإن بويىىع لغيىىر عىىذر فقىىد اخت ظ ِل ىف فىىي انعقىىاد بيعتىىه
وصحة إمامته ،فذهب طائفة منهم الجىاح إلىى أن بيعتىه ال تنعقىد ألن االختيىار
إذا دعىىي إلىىى أولىىى األمىىرين لىىم يجىىز العىىدول عنىىه إلىىى غيىىره ممىىا لىىيس بىىأولى
كاالجتهىىاد فىىي األحكىىام الشىىرعية .وقىىال األك ىىر مىىن الفقهىىاء والمتكلمىىين تجىىوز
إمامته وصح بيعته ،وال يكون وجود األفضل مانعا من إمامة المفضول إذا لىم
يكن مقصرا عن شروط اإلمامة كما يجوز في والية القضاء تقليد المفضىول مىع
وجود األفضل ،ألن زيادة الفضل مبالغة في االختيار وليس معتبرة في شىروط
االستحقاه".27
هىىذه الواقعىىة تتعلىىق بوجىىود مرشىىحين فاضىىل ومفضىىول وانتفىىاء عىىذر
شىىرعي يىىدعو إلىىى تقىىديم المفضىىول "مىىن كىىون األول غائبىىا أو مريضىىا أو كىىون
المفضىىول أطىىوع فىىي النىىاس وأقىىرب فىىي القلىىوب" ،28والمقصىىود باألفضىىل هنىىا
التفاضىىل فىىي الىىدين والعلىىم ،ومنىىاط هىىذه المسىىألة واحىىد وهىىو يتعل ىق بصىىالحيات
جماعة الحل والعقد في اختيار اإلمام ،ولىذلك نجىد طائفىة مىن الفقهىاء سىع إلىى
تحقيق هذا المناط بمنع بيعة المفضول مع وجود األفضل بغير عذر ،وهي بىذلك
قلص من صالحيات جماعة الحل والعقد وضيق عليها ،واسىتدل علىى تقىديم
اإلمام الفاضل على المفضول بالقياس على تقديم الرأي الراجح علىى المرجىوح.
أما الجمهور فاختار التوسىعة علىى جماعىة الحىل والعقىد وإعطاءهىا مجىاال أكبىر
للتحىىر فىىي اختيىىار اإلمىىام ،وأجىىاز تقىىديم المفضىىول علىىى الفاضىىل لغيىىر عىىذر
مستدال بقياس ذلك على جواز تقديم المفضول على الفاضل في القضاء.
وزاد دليال آخر ونظرا مصىلحيا عنىدما علىل الجىواز بقولىه" :ألن زيىادة
الفضىىل مبالغىىة فىىي االختيىىار وليس ى معتبىىرة فىىي شىىروط االسىىتحقاه" ،وهكىىذا
يصبح لدينا نظر قياسي في مقابل نظر مصلحي ،وبهىذا يمكىن أن نحكىم بإصىابة
الجمهور للصواب حينما وسعوا من صالحيات جماعة الحل والعقد لتتخذ القرار
المناسب حتى من غير عىذر؛ ألنهىا -فىي إطىار مىا يجىب أن يكىون -تم ىل األمىة
ومىىا تختىىاره يكىىون نيابىىة عىىن األمىىة ،وإن كانى السىىيادة للشىىرع فالسىىلطة ل،مىىة،
وهذا يناسب الحالة العادية حينما تكون هىذه الجماعىة قويىة بىدينها وبرضىا األمىة
عنهىا وباالنسىجام بىين أعضىائها؛ بينمىا نحكىم بتخطئىة أصىحاب النظىر القياسىي،
الذي ضيقوا من صالحيات هذه الجماعة وألزموها بعقد اإلمامىة للفاضىل ،وهىذا
التحقيق للمناط ال يناسب التنظيىر فىي إطىار مىا يجىب أن يكىون ،ويناسىب بعىض
الحاالت ربما االست نائية حينمىا تكىون هىذه الجماعىة ضىعيفة غيىر منسىجمة فيمىا
بينها ،فيكون األفضل سىد ذريعىة الخىالف ،وهىو أمىر يمكىن أن يحىدث رغىم أنىه
است ناء من الحالة األصلية (ما يجب أن يكون) ،بل ربما هىو الغالىب علىى األمىة
في األزمنة والعصور.
والمسىىألة مظنونىىة فقىىد يكىىون العكىىس هىىو الصىىحيح؛ ألننىىا بصىىدد مسىىائل
شرعية دستورية تدور مع النظىر المصىلحي ،صىحيح إن الفريىق الىذي منىع مىن
عقىىد بيعىىة المفضىىول اسىىتدل بالقيىىاس ،ولكىىن يمكىىن أن نضىىيف النظىىر المصىىلحي
السىىتدالله؛ ألن تقىىديم الفاضىىل علىىى المفضىىول فىىي حقيقىىة األمىىر هىىو تىىدرج فىىي
االستصالح فكلنا يعلم مراتب مقاصد الشريعة ال الث وهي قائمىة علىى تحصىيل
الضروري ثم الحىاجي ثىم التحسىيني ،فيكىون تقىديم الفاضىل علىى المفضىول فىي
الىىدين والعلىىم مىىن ب ىاب التحسىىيني الىىذي هىىو مطلىىوب مىىن جهىىة الشىىرع ،وعنىىدها
يصىىبح هىىذا الىىرأي هىىو األليىىق واألنسىىب للتنظيىىر فىىي إطىىار مىىا يجىىب أن يكىىون،
ويكىىون الىىرأي اآلخىىر اسىىت ناء يلجىىأ إليىىه عنىىد وجىىود عىىذر يمنىىع مىىن ذلىىك يتعلىىق
بجماعىىة الحىىل والعقىىد وال يتعلىىق باإلمىىام الفاضىىل ألن المسىىألة مقيىىدة منىىذ البدايىىة
بعدم وجود عذر يخ اإلمام الفاضل.
العامىىة -نيابىىة عىىن األمىىة ،وهىىذا مىىا لىىم يىىذكره الفريىىق األول؛ ولىىذلك ال يمكىىن أن
نصف تحقيقهم للمناط بالصواب؛ ألن استدالالهم المصلحي لم يكتمىل ،لكىن هىذا
التحقيق يصلح في بعض الحاالت االست نائية التي يمكن أن تمر بهىا األمىة ،عنىد
ضعف جماعة الحل والعقد في دينها ولم يعد لها أي تم يل ل،مة ،أو تضعف فىي
جسمها وال تتمكن مىن القىدرة الفعليىة علىى الحىل والعقىد وهىذا يتصىور فىي حالىة
التغلب واالستيالء على السلطة ،ففي هذه الحالىة إن فهىر شىخ تفىرد بشىروط
اإلمامىة وزكىىاه العلمىاء ،31ففىىي هىىذه الحالىة يمكىىن أن يسىىتولي علىى السىىلطة بنىىاء
على أصل األمر بالمعروف والنهي عن المنكر دون حاجة إلى عقد اإلمامىة مىن
طرف هذه الجماعة؛ لكن مع مالحظة أيضا أن هذا الرأي فيه جانب سلبي كونىه
يفىتح الذريعىة للمتغلبىين المىدعين ممىن ال تتىوفر فىيهم شىروط اإلمامىة لالسىتيالء
على السلطة.
ومنهم من ذهب إلى أن إمامة المتفىرد ال تنعقىد إال بالرضىى واالختيىار،
لكىىن يلىىزم أهىىل الحىىل والعقىىد عقىىد اإلمامىىة لىىه ،واسىىتدلوا بىىالنظر القياسىىي ،كىىون
اإلمامة عقد كغيرها من العقود ال تتم إال بعاقد ،وكذلك قياسا على القضىاء إذا لىم
يكىىن مىىن يصىىلح لىىه إال واحىىد لىىم يصىىر قاضىىيا حتىىى يىىواله ،والنظىىر القياسىىي فىىي
تحقيق المناط وافق النظر المصلحي في جزء من هذه المسألة في إطار ما يجىب
أن يكون؛ لذلك فهو صواب ،ولكنه أخطأ في الحاالت االست نائية ألن قياس تفرد
اإلمىىام بصىىفته علىىى تفىىرد القاضىىي بصىىفته فىىي عىىدم توليىىه المنصىىب إال بتوليىىة،
قيىاس مىع الفىاره؛ ألن القاضىي المتفىرد بصىفته يخضىع لسىلطة أعلىى منىه وهىىو
الخليفة المسؤول عن تعيين القضاة؛ بينما اإلمىام المتفىرد بصىفته ال توجىد سىلطة
أعلىىى مىىن المنصىىب المرشىىح لتوليىىه ،صىىحيح يمكىىن أن يغطىىي النظىىر القياسىىي
الحاالت العادية (قوة الجماعة دينا وجسىما) فىي إطىار مىا يجىب أن يكىون وتقىوم
جماعىىة الحىىل والعقىىد بتعيىىين اإلمىىام نيابىىة عىىن األمىىة ،ولكىىن النظىىر القياسىىي ال
يغطىىي الحالىىة االسىىت نائية التىىي تضىىعف فيهىىا هىىذه الجماعىىة ،بحيىىث يىىزول عنهىىا
تم يل األمة عند ضىعفها دينىا ،وكىذلك قىد تعجىز عىن وفيفتهىا فىي خلىع إمىام فقىد
شروط اإلمامة (مستبد قوي) واستبداله بهذا المتفرد .وهذه الحالىة تعتبىر اسىت ناء
مىىن االسىىت ناء؛ أي تنتمىىي إلىىى التنظيىىر فىىي إطىىار مىىا يجىىب أن يكىىون؛ ألنىىه عنىىد
القدرة يجب تغيير المنكر وخلع اإلمام المستبد الظالم المتسلط واستبداله بشخ
تفرد بشروط اإلمامة والخروج من حالىة الضىعف .ولىذلك نصىفه بأنىه أخطىأ فىي
هذا الجزء ال اني من تحقيق هذه المسألة في إطار ما يجب أن يكون.
ونخرج من هذه المسألة بنتيجة وهىي أن الىرأي األول يشىدد علىى األمىة
من خالل التضييق على جماعة الحل والعقد في ممارسة صىالحياتها فىي توليىة
اإلمىىام إذا لىىم تعىىد األمىىة تملىىك القىىدرة بمؤسسىىاتها الدسىىتورية علىىى ذلىىك ،والىىرأي
ال اني فيه تخفيف على األمة مىن خىالل توسىيع صىالحيات جماعىة الحىل والعقىد
في تولية اإلمام إذا كان تملك القدرة على ذلك.
خاتمة
في نهاية هذه الدراسة يمكن أن أسجل بعض النتائ المهمة في النقاط التالية:
-8يمكن تقرير قاعدة في مسألة الخطأ والصواب في االجتهاد والقول بأن
كل مجتهد مصيب في الفروع الفقهية الظنية؛ ألن مجال االجتهاد يكون في
الظنيات؛ حيث ال ن قطعي في المسألة ،وبالتالي ال يوجد حكم متعين من هللا
تعالى فيها ،وما يسميه البعض أدلة إنما هو مجرد أمارات نصبها الشارع الحكيم
لموافقة طباع المجتهدين .وما يظهر من تعارض بين آراء المجتهدين في
المسألة الواحدة ال يعد تناقضا بقدر ما هو مراعاة من الشارع الختالف أحوال
المكلفين.
-2هذه القاعدة لها بعض المست نيات ،وهي المسائل التي ترجع إلى تحقيق
مناط النصوص والقواعد الشرعية ،فيكون الخطأ فيها مجازيا؛ بمعنى أن
الخطأ ي ب في حق المجتهد لكن على سبيل اإلضافة إلى عدم وصوله إلى
مطلوبه؛ ال إلى ما وجب عليه وهو اتباع ما غلب على فنه ،ألن الحق في هذا
النوع م ن المسائل واحد متعين عند هللا ،وهي مسائل ال تتعلق باالجتهاد النظري
الذي ينفرد بممارسته علماء الشريعة ،بل تتعلق باالجتهاد التطبيقي وهي جوانب
فنية علمية تقديرية تسند إلى خبراء وعلماء متخصصين في ميادين مختلفة
كالقضاء والطب واالقتصاد وغيرها .وعليه فالقاعدة مطردة في مجالها.
-0عند تطبيق هذه القاعدة بقيودها ومست نياتها على بعض مسائل السياسة
الشرعية الواردة في كتاب األحكام السلطانية للماوردي ،فهر للباحث انسجام
تام بين القاعدة وهذه الفروع التابعة لها؛ حيث تبين صواب جميع اآلراء الواردة
في كل مسألة من المسائل المدروسة على مستوى تعيين المناط .أما على
مستوى تحقيق المناط فقد تبين صواب الرأي الهي تبنى أصحاب نظرا مصلحيا،
وخطأ اآلراء التي تبنى أصحابها نظرا ً فاهريا أو قياسيا .ومع ذلك فيمكن أن
نصف اآلراء األخرى باإلصابة على مستوى تحقيق المناط أيضا ألن خطأها
حاالت است نائية للمجتمع يتعل ق بإطار ما يجب أن يكون ،وصوابها يخ
اإلسالمي في الزمان والمكان.
-4يمكن لولي األمر أن يتبنى من اآلراء الفقهية المختلفة التي تصدر عن
مجلس الشورى في المسألة النازلة ما يكون مستندا إلى المصلحة ،وهذه
المصلحة تبين أنها وسيلة شرعية لكي تحقق المقصد الشرعي -الذي يتفق عليه
عادة جميع الفقهاء المجتهدين -ينبغي أن تتناسب مع قوة وضعف المجتمع
اإلسالمي دينا وجسما في الزمان والمكان المحددين.
-4عبد الكريم بن أبي بكر أحمد الشهرستاني(ت 544هـ) :الملل والنحل ،دار
المعرفة :بيروت ،تحقيق :أمير علي مهنا ،علي حسن قاعود ،ط1991 ،1م.
-9علي بن ع الماوردي (ت 457هـ) :األحكام السلطانية ،تحقيق :عبد الرحمن
عميرة ،دار االعتصام :القاهرة.
-17ع بن ع أبو حامد الغزالي (ت 575هـ) :المستصفى ،تحقيق :حمزة بن زهير
حاف ،شركة المدينة المنورة للطباعة :المدينة المنورة.
-11ع أبو زهرة :تاريب المذاهب اإلسالمية في السياسة والعقائد وتاريب المذاهب
الفقهية ،دار الفكر العربي :القاهرة.
-12ع بن إسحاه ابن خزيمة (ت111هـ) :صحيح ابن خزيمة ،تحقيق :ع مصطفى
األعظمي ،المكتب اإلسالمي :بيروت1197 ،هـ1907-م.
-11ع بن إسماعيل البخاري(ت 256هـ) :صحيح البخاري ،دمشق :دار ابن ك ير،
ط1421 ،1هـ2772-م.
-14ع بن الحسين أبو يعلى الفراء (ت454هـ) :األحكام السلطانية ،تحقيق :ع حامد
الفقي ،دار الكتب العلمية :بيروت2777 ،م.
-15ع بن علي الشوكاني(ت 1257هـ) :إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم
األصول ،تحقيق :أبي حف سامي بن العربي األشري ،دار الفضيلة :الرياض،
ط2777 ،1م.
-16ع بن عيسى الترمذي(ت209هـ) :الجامع الصحيح سنن الترمذي ،تحقيق :أحمد
ع شاكر وآخرون ،بيروت :دار إحياء التراث العربي.
-10ع مصطفى الزحيلي :القواعد الفقهية وتطبيقاتها في المذاهب األربعة ،دار
الفكر :دمشق1420 ،هـ2776-م.
-14ع بن يزيد ابن ماجه(ت 201هـ) :سنن ابن ماجه ،دار الفكر :بيروت ،تحقيق:
ع فؤاد عبد الباقي.
-19محمود شلتوت :اإلسالم عقيدة وشريعة ،دار الشروه :القاهرة ،ط1945 ،11م.
-27مسلم بن الحجاج بن مسلم (ت261هـ) ،صحيح مسلم ،تحقيق :ع فؤاد عبد
الباقي ،دار إحياء التراث العربي :بيروت.
-21منصور بن ع ،أبو المظفر السمعاني(ت449هـ) :قواطع األدلة ،تحقيق :ع
حسن إسماعيل الشافعي ،دار الكتب العلمية :بيروت ،ط1990 ،1م.
-22وهبة الزحيلي :أصول الفقه اإلسالمي ،دار الفكر :دمشق ،ط1946 ،1م.
-21يعقوب بن إبراهيم ،أبو يوسف(ت142هـ) :الخراج ،دار المعرفة للطباعة
والنشر :بيروت 1909 ،م.
الهوامش:
-1إبراهيم بن موسى الشاطبي(ت 097هـ) :الموافقات ،تحقيق :أبو عبيدة مشهور بن حسن
آل سلمان ،دار ع مان ابن عفان للنشر والتوزيع :المملكة العربية السعودية ،ط 1410 ،1هـ
1990-م ،ج.01 ،5
-2عبد الكريم بن أبي بكر أحمد الشهرستاني(ت 544هـ) :الملل والنحل ،دار المعرفة:
.242 بيروت ،تحقيق :أمير علي مهنا ،علي حسن فاعود ،ط1991 ،1م .ج،1
- 3إبراهيم بن موسى الشاطبي(ت 097هـ) :الموافقات ،ج.92 ،2
-4ع بن ع أبو حامد الغزالي (ت 575هـ) :المستصفى ،تحقيق :حمزة بن زهير حاف ،
شركة المدينة المنورة للطباعة :المدينة المنورة ،ج.51 ،4
-5محمود شلتوت :اإلسالم عقيدة وشريعة ،دار الشروه :القاهرة ،ط1945 ،1م-445 .
.446
-6محمود شلتوت :م .س.446-445 ،
-7تأويل هذا الكالم يظهر في الفرع ال اني من المطلب ال اني.
-8ع أبوزهرة :تاريب المذاهب اإلسالمية في السياسة والعقائد وتاريب المذاهب الفقهية ،دار
الفكر العربي :القاهرة.0 ،
-9ع بن علي الشوكاني (ت 1257هـ) :إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم األصول،
تحقيق :أبي حف سامي بن العربي األشري ،دار الفضيلة :الرياض ،ط2777 ،1م ج،1
.1760
-10أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية( ت024هـ) :مجموع فتاوى ابن تيمية ،مجمع الملك فهد:
المدينة المنورة1995 ،م .ج.277 ،27
-11ع بن ع أبو حامد الغزالي (ت 575هـ) :المستصفى ،تحقيق :حمزة بن زهير حاف ،
شركة المدينة المنورة للطباعة :المدينة المنورة ،ج.49-44 ،4
.241 - ،49-44الشهرستاني :م .س ،ج،1 -12الغزالي (ت 575هـ) :م.ن ،ج،4
-13يقول الشاطبي عن انقسام الدين إلى ثالث مراتب" :فإن حف الدين حاصله في ثالث
معان اإلسالم واإليمان واإلحسان فأصلها في الكتاب وبيانها في السنة" ،الموافقات ،ج،4
،140ويقول ابن تيمية" :الدين هو اإلسالم واإليمان واإلحسان ،فتبين أن ديننا يجمع
ال الثة لكن هو درجات ثالث :مسلم ثم مؤمن ثم محسن" ،مجموع الفتاوى ،ج،17 ،0
أما عن قوة وضعف البدن فيستند إلى قول هللا عز وجل :فاتقوا هللا ما استطعتم( التغابن:
.)16
-14شهاب الدين أحمد بن أبي العالء القرافي(644هـ) :الذخيرة ،تحقيق :ع حجي ،دار
الغرب اإلسالمي :بيروت 1994 ،م ،ج.46-45 ،17
-15نقول هذا الكالم ألنه حتى المسائل التي توصف بأن الحق فيها غير متعين عند هللا تعالى
ليس المقصود منها عدم التحديد بل المقصود تعدد الحق وإنما عدم التعيين المقصود به عدم
انفراد الحق في جهة واحدة.
-16الغزالي (ت 575هـ) :م.س ،ج.00 ،4
-17ورد في "نهاية السول في شرح منهاج الوصول" ما يؤيد هذا الكالم واعتبار هذا النوع
ليس اجتهادا ً بالمعنى الشرعي وإنما هو اجتهاد بالمعنى الخا " :وهذا الحد فاسد الشتماله
على التكرار ،وألنه يدخل فيه ما ليس باجتهاد في عرف الفقهاء كاالجتهاد في العلوم
اللغوية والعقلية والحسية ،وفي األمور العرفية ,وفي االجتهاد في قيم المتلفات وأروش
الجنايات ،وجهة القبلة ،وطهارة األواني وال ياب "( .عبد الرحيم بن الحسن األسنوي (ت
).524 002هـ) ،نهاية السول شرح منهاج الوصول ،عالم الكتب :الرياض ،ج،4
-18الغزالي (ت 575هـ) :الغزالي :م.س ،ج.174 ،4
-19لمزيد االطالع على أهمية هذه القاعدة انظر :ع مصطفى الزحيلي :القواعد الفقهية
وتطبيقاتها في المذاهب األربعة ،دار الفكر :دمشق1420 ،هـ2776-م ،ج.492 ،1
-20اكتفي ببعض المسائل ألن المجال ال يتسع لذكر جميعها ،وحرص على ذكرها مرتبة
كما وردت في كتاب "األحكام السلطانية" حتى ال أتهم بتخير المسائل التي تتفق مع توجه
الباحث.
-21الماوردي،علي بن ع (ت 457هـ) :األحكام السلطانية ،تحقيق :عبد الرحمن عميرة،
دار االعتصام :القاهرة ،ج 64-61 ،1بتصرف.
-22في هذه الحالة يكون هذا أصحاب هذا الرأي أصابوا تحقيق المناط.
-23الماوردي (ت 457هـ) ،م.س ،ج.65 ،1
- 24عن عبد الرحمن بن سمرة ،قال :قال لي النبي ملسو هيلع هللا ىلص ( :يا عبد الرحمن بن سمرة ،ال تسأل
اإلمارة ،فإنك إن أعطيتها عن مسألة ،وكل إليها ،وإن أعطيتها عن غير مسألة ،أعن
عليها ،)...صحيح البخاري ،تحقيق :ع زهير بن ناصر الناصر ،دار طوه النجاة:
بيروت ،ط1422 ،1هـ ،ج.61 ،9
-وعن أبي ذر قال :قل :أال تستعملني يا رسول هللا فضرب بيده على منكبي ثم قال( :إنك
ضعيف ،وإنها أمانة ،وإنها يوم القيامة خزي وندامة ،إال من أخذها بحقها ،وأدى الذي عليه
فيها) ،صحيح مسلم ،تحقيق :ع فؤاد عبد الباقي ،دار إحياء التراث العربي :بيروت ،ج،1
.450
-وعن أبي هريرة رضي هللا عنه أن رسول هللا ملسو هيلع هللا ىلص قال( :إنكم ستحرصون على اإلمارة،
وستكون ندامة يوم القيامة ،)...البخاري ،م.س ،ج.61 ،9
.65 -25الماوردي (ت 457هـ) :م.س ،ج،1
62 مجلة اإلحياء
د.الطيب بن حرز هللا
-26لم يذكر الماوردي دليل هذا الفريق ،وذكره الفراء (أبو يعلى ع بن الحسين) في
كتابه"األحكام السلطانية"ـ تحقيق :ع حامد الفقي ،دار الكتب العلمية :بيروت2777 ،م،
العكبري بإسناده عن ابن شبرمة أن الناس .21ولف الحديث :ما رواه أبو حف
تشاحوا في األذان يوم القادسية ،فأقرع بينهم سعد" ،سنن البيهقي الكبرى ،تحقيق :ع عبد
القادر عطا ،مكتبة دار الباز :مكة المكرمة 1414 ،هـ1994-م ،رقم ،1461 :ج،1
.424
-27الماوردي (ت 457هـ) :م.س ،ج.66-65 ،1
-28الماوردي (ت 457هـ) :م.س ،ج.65 ،1
-29الماوردي (ت 457هـ) :م.س ،ج.65 ،1
-30الماوردي (ت 457هـ) :م.س ،ج.66 ،1
-31العلماء في هذه الحال يم لون األمة بعلمهم ،ولكن ال قوة لهم.