You are on page 1of 148

‫احلكامة الأمنية اجليدة‬

‫�أو‬
‫�إ�صالح قطاع الأمن على �ضوء‬
‫تو�صيات هيئة الإن�صاف وامل�صاحلة‬

‫�أ�شغال ندوة‬
‫‪2008‬‬ ‫الرباط ‪� 10-9‬أبريل‬
‫‪N° du dépôt légal : 2010MO1341‬‬
‫‪Mise en page Edition : NADACOM‬‬
‫‪imprimeur : Elbidaoui‬‬

‫املركز الدويل للعدالة االنتقالية يتقدم بخال�ص �شكره لوزارة اخلارجية‬


‫الهولندية وم�ؤ�س�سة كنتون لدعمهما لهذا الن�شاط‬
‫تقدمي‬

‫تعترب احلكامة الأمنية من املوا�ضيع اجلديدة يف احلقل احلقوقي‪.‬‬


‫وقد �أ�صبحت حتظى باهتمام متنام على امل�ستويني الوطني‬
‫والدويل‪� .‬سواء من حيث بلورة املعايري �أو لتحديد املفاهيم‬
‫�أو و�ضع اخلطط و اال�سرتاتيجيات‪ ،‬كل ذلك يف ارتباط مع‬
‫متطلبات �ضمان الأمن و اال�ستقرار و حماية حقوق الإن�سان‬
‫واحلريات يف �إطار بناء دولة القانون‪.‬‬
‫وقد انخرط املغرب يف هذه الدينامية يف �سياق تطور الذي‬
‫حققته حقوق الإن�سان على امل�ستويات العملية و الت�رشيعية‬
‫وامل�ؤ�س�ساتية‪.‬‬
‫و�إذا كانت جتربة هيئة الإن�صاف و امل�صاحلة حمطة بارزة‬
‫يف هذا املجال‪ ،‬ف�إن التحديات التي طرحتها ق�ضايا الإرهاب‬
‫(خا�صة منذ �أحداث الدار البي�ضاء �سنة ‪ ) 2003‬وغريها من‬
‫مظاهر امل�س بكرامة الإن�سان ( املخدرات‪ ،‬االجتار يف الب�رش‪،‬‬
‫تهريب‪ )...،‬طرحت بحدة �رضورة �إيالء املو�ضوع اهتماما خا�صا‪،‬‬
‫وجعل مو�ضوع احلكامة الأمنية ان�شغاال جمتمعيا‪.‬‬
‫وقد �شكلت تو�صيات هيئة الإن�صاف وامل�صاحلة مدخال مهما‬

‫احلكامة الأمنية اجليدة‬


‫‪3‬‬
‫يف هذا الباب‪ ،‬مما دفع مركز درا�سات حقوق الإن�سان‬
‫والدميقراطية �إىل �إيالئها �أهمية خا�صة‪.‬‬
‫ويف هذا الإطار‪ ،‬جاء تنظيم الندوة التي نقدم �أ�شغالها �ضمن هذا‬
‫الكتاب و التي خ�ص�صت ملو�ضوع» �إ�صالحات قطاع الأمن على‬
‫�ضوء تو�صيات هيئة الإن�صاف و امل�صاحلة «‪ ،‬و التي �شكلت بحق‬
‫حدثا غري م�سبوق جمع ثلة من ممثلي القطاعات احلكومية‬
‫املعنية و امل�ؤ�س�سات الأمنية و ن�شطاء حقوق الإن�سان و خرباء‬
‫دوليني للتداول يف املو�ضوع‪.‬‬
‫لقد اختار املنظمون‪ ،‬مركز درا�سات حقوق الإن�سان‬
‫والدميقراطية ومركز جنيف للمراقبة الدميقراطية للقوات‬
‫امل�سلحة واملركز الدويل للعدالة االنتقالية‪� ،‬أن تكون هذه‬
‫الندوة مدخال للمو�ضوع من خالل تعريف باملفاهيم و التجارب‪،‬‬
‫و�إبراز راهنية املو�ضوع دوليا من خالل مكانته يف دول من‬
‫قارات خمتلفة‪� ،‬إ�ضافة �إىل مكانته يف �سياق العدالة االنتقالية‬
‫باملغرب و يف ارتباط مع م�سل�سل البناء الدميقراطي و تدعيم‬
‫مرتكزات دولة احلق والقانون‪.‬‬
‫ونود يف هذا التقدمي �أن ننوه بتعاون �رشكائنا الدوليني‬
‫وانخراطهم يف هذا الور�ش الوطني الذي د�شنه املغرب بجر�أة‬
‫وقناعة‪ ،‬كما نحيي التجاوب الكبري الذي وجدناه لدى‬
‫خمتلف الفاعلني احلكوميني من وزارتي العدل و الداخلية‬
‫و�إدارة الأمن والدرك امللكي والقوات امل�ساعدة‪ .‬كما نعرب‬
‫عن اعتزازنا باملكانة التي حظي بها هذا الربنامج من قبل‬
‫منظمات املجتمع املدين وو�سائل الإعالم من قنوات تلفزية‬
‫و�إذاعة و�صحافة‪.‬‬

‫احلكامة الأمنية اجليدة‬


‫‪4‬‬
‫�إن هذه الدينامية التي انطلقت مع هذه الندوة تربز املكانة‬
‫اخلا�صة للمو�ضوع �ضمن �أورا�ش الإ�صالح يف املغرب خدمة‬
‫ملتطلبات �ضمان الأمن وتر�سيخ االختيار الدميقراطي و مواجهة‬
‫حتديات الع�رص‪.‬‬
‫وهذا ما دفع املركز �إىل موا�صلة اال�شتغال يف هذا املجال من‬
‫خالل بلورة م�رشوع متكامل‪� ،‬شمل جتميع الن�صو�ص الت�رشيعية‬
‫كاملة‪ ،‬و تنظيم لقاء �إقليمي حول دور املجتمع املدين يف‬
‫�إ�صالح الت�رشيع اخلا�ص بالقطاعات الأمنية �إ�ضافة �إىل �أن�شطة‬
‫�أخرى يف طور الإعداد‪.‬‬
‫احلبيب بلكو�ش‬

‫رئي�س مركز درا�سات‬

‫حقوق الإن�سان والدميقراطية‬

‫احلكامة الأمنية اجليدة‬


‫‪5‬‬
‫اجلل�سة االفتتاحية‬

‫�أو�ضح ال�سيد احلبيب بلكو�ش رئي�س مركز درا�سات حقوق‬


‫الإن�سان والدميقراطية خالل اجلل�سة االفتتاحية لهذه الندوة‪،‬‬
‫والتي ح�رضها عدد كبري من ممثلي القطاعات الأمنية‬
‫ووزارة الداخلية ووزارة العدل والربملان ومنظمات املجتمع‬
‫املدين وو�سائل الإعالم وخرباء دوليني يف جمال الأمن‪،‬‬
‫الإطار العام الذي تندرج فيه هذه الندوة‪ ،‬الذي يتمثل يف‬
‫انخراط املغرب منذ بداية الت�سعينات من القرن املا�ضي يف‬
‫م�سل�سل من الإ�صالح ي�سري يف اجتاه احرتام حقوق الإن�سان‬
‫والدميقراطية‪.‬‬
‫كما ت�أتي هذه الندوة‪ ،‬ي�ضيف ال�سيد احلبيب بلكو�ش‪ ،‬يف �إطار‬
‫حر�ص مركز درا�سات حقوق الإن�سان والدميقراطية على‬
‫مواكبة تو�صيات هيئة الإن�صاف وامل�صاحلة‪ ،‬وخا�صة التو�صية‬
‫املتعلقة ب�إ�صالح قطاع الأمن ملا لها من �أهمية يف �سريورة‬
‫دمقرطة البالد وحتديثه‪.‬‬
‫و�أ�شار يف هذا ال�صدد �إىل عدد من التدابري التي لها �صلة بهذه‬
‫ال�سريورة التي عرفها املغرب‪ ،‬من قبيل مراجعة قانون‬

‫احلكامة الأمنية اجليدة‬


‫‪7‬‬
‫امل�سطرة اجلنائية وتعيني م�س�ؤولني جدد عن امل�ؤ�س�سات‬
‫الأمنية‪ ،‬من بينهم �شخ�صيات مدنية‪ ،‬ومراجعة نظم التكوين‬
‫يف �أكادميية ال�رشطة‪ ،‬و�إدخال حقوق الإن�سان �ضمن برامج‬
‫التكوين والتكوين امل�ستمر ملوظفي الأمن والدرك واجلي�ش‬
‫والتدابري امل�ؤ�س�ساتية والت�أديبية والتح�سي�سية‪.‬‬
‫كما �أو�ضح رئي�س مركز درا�سات حقوق الإن�سان والدميقراطية‬
‫�أن املكافحة الدولية للإرهاب قد �أنتجت عددا من التدابري‬
‫الت�رشيعية والعملية التي جتعل من مو�ضوع احلكامة الأمنية‬
‫مو�ضوع ال�ساعة‪ .‬ولعل ن�صو�ص قوانني مكافحة الإرهاب‬
‫واملقت�ضيات املتعلقة بالتن�صت على املكاملات الهاتفية‬
‫والتقاطها م�ؤ�رشات على هذا االجتاه‪ .‬م�شريا يف ذات الوقت‬
‫�إىل �أن �أحداث �سنتي ‪ 2003‬و‪ 2007‬الإرهابية التي عرفتها مدينة‬
‫الدار البي�ضاء تطرح بحدة بالغة �إ�شكالية ت�أمني الأمن مع احرتام‬
‫حقوق الإن�سان مبا يحول دون تكرار انتهاكات املا�ضي‪.‬‬
‫و�أبرز �أن احلكامة الأمنية اجليدة تندرج �ضمن اختيارات املغرب‬
‫يف جمال توطيد دولة احلق والقانون وتوفري القوانني والآليات‬
‫الالزمة لتح�صينها‪ .‬كما �أكد على اعتبار احلكامة الأمنية‬
‫م�س�ؤولية جمتمعية �أي�ضا اعتبارا لكون �ضمان الأمن واال�ستقرار‬
‫من �رشوط ممار�سة احلريات والتمتع باحلقوق‪ .‬و�ضمن هذا‬
‫الإطار‪ ،‬ف�إن كل امل�ؤ�س�سات مدعوة لالنخراط يف هذا الور�ش‬
‫اال�سرتاتيجي �أداء وتقييما ومرافقة‪.‬‬
‫ومن جهته �أكد الكاتب العام لوزارة العدل خالل اجلل�سة‬
‫االفتتاحية �أن احلكامة ال تنح�رص يف و�ضع �آليات �أو�ضوابط‪،‬‬
‫�إذ �أن الواقع ي�ستدعي تفعيل هذه احلكامة بنوع من الإبداع‪،‬‬

‫احلكامة الأمنية اجليدة‬


‫‪8‬‬
‫والتطبيق ال�سليم‪ ،‬و�إعطاء البعد الإن�ساين لكل تعامل‪ ،‬حتى‬
‫ن�ضفي على �أجواء ت�رصيفها ما يفيد الإميان بال�رشعية وبدولة‬
‫احلق والقانون وامل�ؤ�س�سات‪.‬‬
‫كما �أكد �أن هــذا اللقــاء احلــقوقي �س ــيكون ال حم ــال ــة‬
‫فـ ــر�صة للنــقا�ش وتبادل الر�ؤى ومعاجلة كل مقاربات احلكامة‬
‫التي ينبغي �أن نحر�ص على �أن تكون يف م�ستوى خيارنا الر�صني‬
‫الذي ابتغاه املغرب بدون رجعة‪ ،‬خيار مرجعية وتكري�س‬
‫مبادئ حقوق الإن�سان‪.‬‬
‫عبد احلي املودن ع�ضواملجل�س اال�ست�شاري حلقوق الإن�سان‬
‫�ألقى خالل هذه اجلل�سة كلمة رئي�س املجل�س نيابة عنه‬
‫حيث �أكد �أننا �أمام م�س�ألة لها �أهميتها الق�صوى ملا تت�سم به‬
‫من راهنية‪ ،‬وباعتبارها �أحد املجاالت التي ينبغي �أن تعرف‬
‫�إعماال فعليا حلقوق الإن�سان ب�صفة عامة؛ م�شريا �إىل �أن احلكامة‬
‫الأمنية تعني جانبا من التو�صيات اخلتامية لهيئة الإن�صاف‬
‫وامل�صاحلة التي كلف املجل�س اال�ست�شاري حلقوق الإن�سان‪،‬‬
‫كم�ؤ�س�سة وطنية م�ستقلة للنهو�ض بحقوق الإن�سان و�صيانتها‪،‬‬
‫مبتابعة تفعيلها‪.‬‬
‫ومن جهة �أخرى‪� ،‬أكد �أن املجل�س اال�ست�شاري حلقوق‬
‫الإن�سان‪ ،‬الذي �أنيطت به متابعة تنفيذ تو�صيات هيئة الإن�صاف‬
‫وامل�صال‬
‫بجرب الأ�رضار الفردية واجلماعية‪ ،‬والتغطية ال�صحية لفائدة‬
‫�ضحايا االنتهاكات اجل�سيمة حلقوق الإن�سان وذوي حقوقهم‪،‬‬
‫وا�ستكمال الك�شف عن احلقيقة بخ�صو�ص حاالت جمهويل‬
‫امل�صري التي بقيت عالقة؛ كما فتح املجل�س‪ ،‬منذ مدة‪،‬‬

‫احلكامة الأمنية اجليدة‬


‫‪9‬‬
‫بتعاون مع الأطراف املعنية �أورا�شا للتتفكري بخ�صو�ص‬
‫الإ�صالحات امل�ؤ�س�ساتية والت�رشيعية‪ ،‬بل �إن بع�ض تلك الأورا�ش‬
‫انتهت بتحقيق نتائج مهمة‪ ،‬ومنها على �سبيل الذكر اعتماد‬
‫الأر�ضية املواطنة للنهو�ض بثقافة حقوق الإن�سان من قبل كل‬
‫الأطراف املعنية‪ ،‬والتي تعني قي جانب من مكوناتها مو�ضوع‬
‫احلكامة الأمنية‪ ،‬وخا�صة ما يتعلق بالنهو�ض بثقافة حقوق‬
‫الإن�سان لدى املكلفني بتنفيذ القوانني‪.‬‬
‫ويف �إطار الرتبية على حقوق الإن�سان‪ ،‬مت التذكري مبا‬
‫قام به املجل�س من تعاون مع الأطراف احلكومية املعنية‬
‫يف جمال له �صلة باحلكامة الأمنية‪ ،‬وذلك من خالل �إبرام‬
‫اتفاقية �رشاكة مع وزارة الداخلية تهم الرتبية والتكوين‬
‫و�إعادة تكوين �أطر امل�ؤ�س�سات التابعة لهذه الوزارة �أواخلا�ضعة‬
‫لو�صايتها‪ .‬كما تروم هذه ال�رشاكة ر�صد حاجيات هذه‬
‫امل�ؤ�س�سات ق�صد امل�ساهمة يف توفري �رشوط و�ضمانات‬
‫احرتام احلريات واحلقوق الأ�سا�سية للأفراد واجلماعات �أثناء‬
‫ممار�ستها ملهامها املتعلقة باحرتام النظام العام والأمن‬
‫العمومي‪ .‬و�ست�ساهم �رشاكة املجل�س ووزارة الداخلية‪،‬‬
‫ال حمالة‪ ،‬يف تعزيز املبادرات ال�سابقة واحلالية‪ ،‬الرامية‬
‫�إىل التح�سي�س والتكوين يف جمال حقوق الإن�سان لفائدة‬
‫�أطر هذه الوزارة املكلفني ب�إعمال القانون‪ ،‬وعنا�رص الأمن‬
‫الوطني والقوات امل�ساعدة والوقاية الأمنية‪ ،‬طبقا للمعايري‬
‫الدولية يف هذا املجال‪،‬مع اعتماد �آليات للتبع والتقومي‬
‫امل�ستمر لإعمال تلك الربامج‪.‬‬
‫ومن جهته �أ�شار ال�سيد �أرنولد ليوتهلد مدير منطقة �شمال‬

‫احلكامة الأمنية اجليدة‬


‫‪10‬‬
‫�إفريقيا وال�رشق الأو�سط مبركز املراقبة الدميقراطية على‬
‫القوات امل�سلحة بجنيف �إىل تنامي �أهمية �إ�صالح قطاع الأمن‬
‫�ضمن خطاب التنمية‪ ،‬ويف املحافل الدولية‪ .‬ففي �أقل من ‪12‬‬
‫�سنة تبنت �أالمم املتحدة‪ ،‬ومنظمة التعاون والتنمية االقت�صادية‪،‬‬
‫واالحتاد الأوروبي‪ ،‬واملجموعة االقت�صادية لدول غرب �إفريقيا‬
‫العديد من الن�صو�ص يف هذا املجال؛ كما تعمل الدول املانحة‬
‫ووكاالت التنمية على �أن تتوفر على قدرات جديدة‪ ،‬وت�ستعد‬
‫لإحداث �آليات مالية جديدة لدعم �إ�صالح قطاع الأمن‪.‬‬
‫وقد رد هذا االهتمام املفاجئ ب�إ�صالح القطاع الأمني �إىل‬
‫�سياق انبثاقه املتمثل يف انهيار ال�شيوعية ب�أوروبا ال�رشقية‬
‫وببلدان البلقان‪ ،‬والتطورات ال�سيا�سية التي تلت ذلك والتي‬
‫حفزت على االهتمام باملراقبة ال�سيا�سية للقوات امل�سلحة‪.‬‬
‫فالدميقراطيات القائمة كانت ت�سعى �إىل م�ساعدة الدميقراطيات‬
‫ال�صاعدة على تعزيز حكامات اجلي�ش وقوات الأمن وم�صالح‬
‫اال�ستخبارات بها‪ ،‬مولية يف نف�س الوقت �أهمية مل�صلحة �أمن‬
‫البلدان الأوروبية؛ كما كانت ت�سعى �إىل �أن حتول دون �أن‬
‫تت�رصف القوات امل�سلحة بهذه البلدان كدولة و�سط الدولة‪.‬‬
‫وباملوازاة مع ذلك‪ ،‬كانت البلدان النامية ب�إفريقيا و�أمريكا‬
‫الالتينية تعرب عن اهتمامها باخلربات املتوفرة يف جمال‬
‫احلكامة اجليدة يف جمايل الدفاع والأمن‪.‬‬
‫و�أ�ضاف �أن �إ�صالح قطاع الأمن بالبلدان النامية ير�سم ‪،‬‬
‫اليوم‪� ،‬سريورة بناء الأنظمة الوطنية نظاما �أمنيا فعاال وم�س�ؤوال‬
‫بالن�سبة للدولة واملواطن‪ .‬وخلدمة املواطن‪ ،‬يجب �أن يكون‬
‫نظام الأمن �شفافا‪ ،‬و�أن ي�رشك كل قوات الأمن وكل الفاعلني‬

‫احلكامة الأمنية اجليدة‬


‫‪11‬‬
‫الوطنيني يف مراقبته‪ ،‬كما يجب �أن يعمل هذا النظام يف‬
‫احرتام تام حلقوق الإن�سان ودولة احلق والقانون‪.‬‬
‫�إن قطاعا �أمنيا عرف الإ�صالح ال يخيف النا�س‪ ،‬بل‬
‫يطمئنهم‪ ،‬كما يتمتع بال�رشعية و�سط ال�شعب؛ وبذلك ميكنه‬
‫�أن يعتمد على ال�سكان‪ ،‬مما يرفع من فعاليته‪ .‬ففي مثل هذ‬
‫املقاربة يعزز الأمن والفعالية وامل�س�ؤولية واحلكامة الدميقراطية‬
‫بع�ضها البع�ض‪ .‬وهذا يعني‪� ،‬إىل حد كبري‪� ،‬أن تدبري قطاع‬
‫الأمن لي�س خمتلفا كثريا عن تدبري �أي قطاع �آخر‪.‬‬
‫فكيف ميكن �أن تتغري امل�ؤ�س�سات لرفع هذا التحدي؟‬
‫وكيف ميكن تقريب تدبري الأمن من املواطن؟ عن هذا‬
‫ال�س�ؤال �سيجيب ب�أنه لي�س هناك �صيغة جاهزة للجواب على‬
‫هذين ال�س�ؤالني‪ .‬فعلى كل دولة‪ ،‬وعلى كل جمتمع �أن يجد‬
‫حله اخلا�ص الذي ي�أخذ بعني االعتبار اخل�صو�صيات الثقافية‬
‫وال�سيا�سية للبلد‪.‬‬
‫�إىل �أن املغرب عرب‪ ،‬ب�إحداث هيئة الإن�صاف وامل�صاحلة‪،‬‬
‫عن �إرادته يف مواجهة ما�ضيه بغر�ض طي �صفحة ومواجهة‬
‫امل�ستقبل؛ كما �أن ال�سريورة التي عرفتها هذه العملية �إىل �أن‬
‫مت �إ�صدار التو�صيات تدعو�إىل االحرتام والإعجاب‪.‬‬
‫�إن �إ�صالح قطاع الأمن ي�شكل برناجما طموحا‪ ،‬و�سريورة‬
‫�سيا�سية لي�س بالن�سبة للبلدان التي توجد يف مرحلة انتقالية‬
‫فقط‪ ،‬بل بالن�سبة للدميقراطيات القائمة‪ .‬كما �أن البحث عن‬
‫التوازن بني احلرية والأمن ميثل حتديا م�ستمرا‪ ،‬و�رضوريا‬
‫لي�س بالن�سبة لأمن املواطن فقط‪ ،‬بل و�أي�ضا من �أجل توفري‬

‫احلكامة الأمنية اجليدة‬


‫‪12‬‬
‫�ضمانات ل�صالح رجال الأمن‪ ،‬وت�أ�سي�س عملهم يف �إطار قانوين‬
‫�سليم‪.‬‬
‫و�أو�ضح �أن املركز الذي ولد مببادرة �سوي�رسية و�أ�صبح‬
‫ي�ضم ع�ضوية ‪ 50‬دولة‪ ،‬ي�سعى �إىل دعم الفاعلني يف جمال‬
‫�إ�صالح قطاع الأمن‪ ،‬وذلك من خالل توفري الولوج املجاين �إىل‬
‫ممار�سات الدول‪.‬‬
‫ويف الأخري �أكد �أنه �إذا ما رغب املغرب‪ ،‬يوما‪� ،‬أن ي�صبح‬
‫ع�ضوا يف املركز‪ ،‬فلدي الثقة �أن الدول الأع�ضاء �ست�سانده يف‬
‫ذلك‪ .‬فاملغرب قد يعطي املثال لبلدان �أخرى يف العامل العربي‬
‫والعامل الإ�سالمي والإفريقي التي قد ترغب يف اال�ستلهام من‬
‫جتربته من �أجل �إ�صالح قطاع �أمنهم‪.‬‬
‫�ألك�سندر مايري خبري باملركز الدويل للعدالة االنتقالية‬
‫يف ق�ضايا احلكامة الأمنية‪� ،‬أكد بدوره �أن املغرب يواجه اليوم‬
‫حتديات هامة يف جمال الأمن‪ .‬ومكافحة الإرهاب‪ ،‬على �سبيل‬
‫املثال ال احل�رص‪ ،‬قد �أف�ضت بالعديد من البلدان‪ ،‬التي تعترب‬
‫نف�سها منوذجا يف الدميقراطية‪� ،‬إىل انحرافات وانتهاكات غري‬
‫مقبولة حلقوق الإن�سان‪ .‬وعلى الرغم من كل هذه التحديات‪،‬‬
‫ف�إن املغرب قد و�ضع العجالت‪ ،‬ب�شكل ال ينازع فيه‪ ،‬على �سكة‬
‫�إ�صالح قطاع الأمن‪ .‬ويحمل ح�ضور ممثلي احلكومة‪ ،‬واملجل�س‬
‫اال�ست�شاري حلقوق الإن�سان‪ ،‬والربملان‪ ،‬وال�سلطة الق�ضائية‪،‬‬
‫وقطاع الأمن واملجتمع املدين حول طاولة واحدة �أكرث من‬
‫معنى بخ�صو�ص عزم املغاربة على تعزيز حكامة قطاعهم‬
‫الأمني‪ ،‬والوفاء بالتزاماتهم الدولية يف جمال حقوق الإن�سان‪.‬‬

‫احلكامة الأمنية اجليدة‬


‫‪13‬‬
‫كما �أ�شار �إىل �أنه بات مطروحا على املغاربة وم�ؤ�س�ساتهم‬
‫ال�سيا�سية وجمتمعهم املدين �أن يحددوا كيف يرغبون يف‬
‫�إنفاذ هيئة الإن�صاف وامل�صاحلة تو�صيات وح�سب �أية يومية‪.‬‬
‫فقد �شكل املغاربة �أعمدة العدالة االنتقالية يف ال�رشق �ألو�سط‬
‫و�إفريقيا ال�شمالية؛ ويوجدون‪ ،‬اليوم‪ ،‬على الطريق ال�صحيح لكي‬
‫ي�صبحوا �أعمدة �إ�صالح قطاع الأمن بهذه املنطقة بقول اخلري‪.‬‬
‫و�أكد من جهته �أن املركز الدويل للعدالة االنتقالية‬
‫م�ستعد �أن ي�ضع كل و�سائله رهن �إ�شارة امل�ؤ�س�سات املغربية‪،‬‬
‫واملجل�س اال�ست�شاري حلقوق الإن�سان‪ ،‬وجمعيات املجتمع‬
‫املدين لدعم هذه ال�سريورة‪.‬‬

‫احلكامة الأمنية اجليدة‬


‫‪14‬‬
‫اجلل�سة الأوىل ‪:‬‬
‫احلكامة الأمنية اجليدة مدخل اىل‬
‫مفهوم �إ�صالح قطاع الأمن‬
‫�إ�صالح قطاع الأمن ‪:‬‬
‫الدواعي وم�ؤ�شرات النجاح‬
‫�آرنولد ليوتهلد *‬

‫يتكون قطاع الأمن من جهاز �أمني يجمع خمتلف القوات‪:‬‬


‫اجلي�ش ال�رشطة‪ ،‬القوات ال�شبه ع�سكرية‪ ،‬الدرك وم�صالح‬
‫اال�ستخبارات‪ ،‬كما ي�ضم يف بع�ض البلدان القوات غري اخلا�ضعة‬
‫ملراقبة الدولة‪ ،‬كما هواحلال يف لبنان حيث �أن قوات حزب‬
‫اهلل ال تخ�ضع لت�سيري الدولة‪ .‬ويوجد فوق اجلهاز الأمني م�ستوى‬
‫من املراقبة يطلق عليها املراقبة احلكومية‪ .‬وتتكون من جميع‬
‫الوزارات املعنية‪ :‬وزارة الدفاع‪ ،‬وزارة الداخلية وكذا وزارة‬
‫ال�ش�ؤون اخلارجية التي عليها تدبري البعد الدويل للأمن‪ ،‬ووزارة‬
‫املالية امل�س�ؤولة عن االعتمادات املالية‪ .‬وخارج احلكومة‪،‬‬
‫يوجد م�ستوى �آخر من املراقبة‪ .‬ويتعلق الأمر باملراقبة التي‬
‫ميار�سها الربملان على احلكومة وعربها على الأجهزة الأمنية‪.‬‬
‫ويف بع�ض البلدان هناك ات�صال مبا�رش بني الربملان وقوات‬
‫*مدير منطقة �شمال �إفريقيا وال�رشق الأو�سط مبركز املراقبة الدميقراطية‬
‫على القوات امل�سلحة بجنيف‪.‬‬

‫احلكامة الأمنية اجليدة‬


‫‪17‬‬
‫الأمن‪ .‬وفوق الربملان توجد املراقبة الق�ضائية‪ .‬ففي دولة‬
‫احلق والقانون ال يجب �أن يوجد �أي ن�شاط ال يخ�ضع للمراقبة‬
‫الق�ضائية‪ .‬ومن ثمة �أهمية ا�ستقاللية الق�ضاء‪.‬‬
‫و�إىل جانب هيئات املراقبة الر�سمية‪ ،‬توجد �أ�شكال �أخرى‬
‫غري ر�سمية يزاولها املجتمع املدين وال�صحافة ومنظمات‬
‫حقوق الإن�سان ومراكز التكوين‪...‬وتوجد كل هيئات املراقبة‬
‫هذه �ضمن �إطار قانوين يحدده الد�ستور والت�رشيع الوطني بل‬
‫والت�رشيع الدويل �أي�ضا‪.‬‬
‫بيد �أن هناك من يرى �أن على الإ�صالح الأمني �أن يبقى مق�صورا‬
‫فقط على اجلهاز الأمني‪ ،‬مع غ�ض الطرف عن كل ما عداه من‬
‫مراقبة مدنية‪ .‬وقد حدث هذا يف �أفغان�ستان والعراق وفل�سطني‪،‬‬
‫مع االنعكا�سات التي نتجت عن ذلك‪ ،‬والتي يعرفها اجلميع‪.‬‬
‫هكذا‪ ،‬فعلى كل قطاع �أمني ي�سعى �إىل �أن يعمل ب�شكل‬
‫�سليم �أن يدمج‪ ،‬منذ البداية‪ ،‬خمتلف الفاعلني املدنيني‪.‬‬
‫لن�أخذ �سياق فل�سطني مثال‪ ،‬حيث تواجه ال�سلطات تنظيم‬
‫قوات خمتلفة‪ ،‬منها �رشطة تراقبها احلكومة برام اهلل‪ ،‬و�رشطة‬
‫تابعة حلكومة حما�س يف غزة ‪ ،‬ولي�س هناك �أي تن�سيق بينهما‪.‬‬
‫كما توجد قوات ف�صائل تنتمي ملختلف الأحزاب ال�سيا�سية التي‬
‫ال تخ�ضع يف جزء كبري منها ملراقبة الدولة‪ .‬وهناك‪� ،‬أي�ضا‪،‬‬
‫قوات االحتالل التي لها ت�أثري فعلي يف الواقع‪ .‬ومن ثمة ف�إنها‬
‫ت�شكل جزء ال يتجزء‪ ،‬خالل فرتة االحتالل‪ ،‬من قطاع الأمن؛‬
‫وذلك دون �أن نن�سى تواجد ال�رشطة الدولية التي تدعم ال�رشطة‬
‫الفل�سطينية‪ ،‬ف�ضال عن فاعلني �آخرين مثل القوات الأمريكية‬

‫احلكامة الأمنية اجليدة‬


‫‪18‬‬
‫التي متثل فاعال �أمنيا قويا يف املنطقة والتي تتحرك وفق �أجندتها‬
‫وم�صلحتها اخلا�صة يف النهو�ض ب�إ�صالح قطاع الأمن ‪.‬‬
‫فلماذا الإ�صالح؟‬

‫غالبا ما تكون نقطة انطالق �أي �إ�صالح تغيري ما حدث يف‬


‫املحيط الداخلي �أواخلارجي‪ .‬ففي �سوي�رسا مثال‪ ،‬انطلق �إ�صالح‬
‫القطاع الأمني بف�ضل تغري يف و�ضع التهديد اخلارجي للبالد‪.‬‬
‫لقد كان ل�سوي�رسا جي�ش مكلف جدا‪ ،‬حيث تتم تعبئة ن�صف‬
‫مليون �شخ�ص من �أجل بلد �صغري؛ وذلك بفعل ت�صور يفيد‬
‫�أنها قد تتعر�ض الحتالل �أوغزومن طرف �أحد بلدان املع�سكر‬
‫ال�رشقي‪ .‬غري �أن هذا ال�سيناريومل يعد واقعيا مع التحوالت التي‬
‫عرفتها الت�سعينيات‪ ،‬فكان من ال�رضوري القيام ب�إ�صالحت‬
‫�أ�سا�سية جدا ملراجعة هذا الو�ضع‪ .‬ويكمن التغري الآخر‪ ،‬الذي‬
‫حدث يف املحيط الأمني‪ ،‬يف اجللبة التي قامت بعد ‪� 11‬شتنرب‬
‫التي دفعت العديد من البلدان �إىل حماولة مراجعة التهديدات‬
‫اجلديدة التي قد تواجهها‪.‬‬
‫وقد حتدث حتوالت داخلية كما وقع يف �إفريقيا اجلنوبية‪،‬‬
‫حيث مت تغيري نظام الأبارتايد بنظام �آخر‪ ،‬فكان من ال�رضوري‬
‫�إحداث تغيري جذري على جهاز اال�ستعالمات حتى ي�صبح‬
‫من�سجما مع الواقع اجلديد‪ .‬وقد تدفع �أزمة ما �إىل االنتباه �إىل �أن‬
‫ال�رشعية مهددة‪ ،‬فيتم ال�سعي �إىل حت�سني �أو�ضاع حقوق الإن�سان‬
‫�أوالتقلي�ص من النفقات‪.‬‬
‫وعلى العموم‪ ،‬يو�صى بالإ�صالح على امل�ستوى الدويل كو�سيلة‬
‫لتجنب النزاعات‪� ،‬إذ يعتقد �أن قطاعا �أمنيا ي�شتغل ب�شكل‬

‫احلكامة الأمنية اجليدة‬


‫‪19‬‬
‫�سليم‪ ،‬حيث يتم توزيع الأدوار ب�شكل جيد بني القوات واملجتمع‬
‫املدين املندمج يف التدبري الدولتي‪ ،‬معر�ض �أقل لل�ضلوع يف‬
‫نزاعات م�سلحة‪ .‬غري �أنه غالبا ما يتم �إهمال عن�رص حام يف‬
‫الإ�صالح‪� ،‬إذ يجب و�ضع ال�س�ؤال ب�شكل جذري حول الهدف من‬
‫حالة �إ�صالح الأمن‪� ،‬أي اجلهة التي نريد �أن نرفع من خدمة‬
‫�أمنها‪ .‬ف�أنتم‪ ،‬يف املغرب ويف البلدان املغاربية وبلدان ال�رشق‬
‫الأو�سط‪ ،‬تواجهون مقرتحات من املجتمع الدويل تهدف �إىل‬
‫�إحداث �إ�صالح �أمني؛ وهي ال تهدف‪ ،‬يف الواقع‪� ،‬سوى �إىل‬
‫الرفع من احلفاظ على �أمن الذين يتقدمون بهذه االقرتاحات‪،‬‬
‫وذلك �إما لدواعي نفطية‪� ،‬أوللحماية من دولة �أخرى‪� ،‬أوحلماية‬
‫احلق يف ال�صيد‪� ،‬أومن �أجل احليلولة دون الهجرة الخ‪ .‬بيد �أنه‬
‫ال حظ يف النجاح لإ�صالح �أمني يرى املواطنون انه اليبتغي‬
‫�سوى خدمة م�صلحة طرف �أجنبي‪ .‬و�أعتقد �أن ذلك وراء ف�شل‬
‫الإ�صالح الأمني يف �أفغان�ستان والعراق وفل�سطني وغريها من‬
‫احلاالت‪.‬‬
‫وجتدر الإ�شارة‪ ،‬بهذا ال�صدد‪� ،‬إىل �أن تركيز بلدان جنوب‬
‫�أوروبا على املغرب يرتبط مب�صالح وا�ضحة تتعلق مب�س�ألة‬
‫الهجرة‪ ،‬غري �أنه ال ميكن للإ�صالح الأمني يف املغرب �أن‬
‫يقت�رص اهتمامه على هذه امل�س�ألة فقط‪.‬‬
‫�إن جناح الإ�صالح الأمني يرتبط با�ستجابته �إىل �أربعة م�ستويات‬
‫خمتلفة‪ :‬امل�ستوى املحلي والوطني والإقليمي والدويل‪ .‬ويبدومن‬
‫املهم جدا �أن يحدد البلد املعني بنف�سه متى يجب االهتمام بهذه‬
‫امل�ستويات ووفق �أي ترتيب‪ .‬وميكن الإ�شارة �إىل حالة فل�سطني‬
‫كمثال على ذلك‪ .‬فعندما �صعدت حما�س �إىل ال�سلطة‪ ،‬كان كل‬

‫احلكامة الأمنية اجليدة‬


‫‪20‬‬
‫العامل ي�ضغط عليها من �أجل �إ�صالح �أمني قبل منحها �إمكانية‬
‫�إر�ضاء املواطنني على امل�ستوى املحلي‪ .‬فقد بني ا�ستطالع‬
‫�أن ‪ 97‬يف املائة من الفل�سطينيني كانوا يعتربون الق�ضاء على‬
‫الر�شوة �أهم �إجراء يجب �أن يحققه الإ�صالح الأمني‪ .‬وعندما نطلب‬
‫منهم �أن يعطوا الأولوية ل�ضمان �أمن �إ�رسائيل والأمن الدويل‪،‬‬
‫من قبيل حماربة الإرهاب ونزع ال�سالح‪ ،‬يتم قلب الرتتيب كما‬
‫هويف ت�صور املواطنني‪ .‬فكان امل�آل الف�شل‪ .‬لذا‪ ،‬من املهم القيام‬
‫بحوار جدي بهذا اخل�صو�ص‪.‬‬
‫ما هي م�ؤ�شرات النجاح؟‬

‫توجد العديد من م�ؤ�رشات جناح �إ�صالح قطاعال الأمن‪،‬‬


‫لكن �أهمها يكمن يف ال�شفافية والإ�رشاك وامل�س�ؤولية ‪ .‬فمن‬
‫املهم �أن يتم التوا�صل بخ�صو�ص الأهداف التي ن�صبو�إىل حتقيقها‪،‬‬
‫ومن املهم �أن يكون منط عمل خمتلف الفاعلني وا�ضحا‪،‬‬
‫ومن املهم‪� ،‬أي�ضا‪� ،‬أن يكون كل فاعل م�س�ؤوال عما يقوم به‬
‫�أمام خمتلف الهيئات التي تن�ص عليها قوانني الدولة‪ ،‬والغر�ض‬
‫من كل ذلك �أن ت�صبح قوات الأمن �أكرث فعالية ‪.‬‬
‫وجتدر الإ�شارة �إىل �أن كل هذه العنا�رص ال تبتغي �إر�ضاء‬
‫املواطن فقط‪ ،‬بل �إن رجال الأمن يف حاجة �إليها �أي�ضا‪ .‬فهم‬
‫كذلك يثوقون �إىل �أمنهم االجتماعي و�إىل الإطار الذي ي�ضمن لهم‬
‫العمل يف �إطار ال�رشعية؛ لذلك من املهم البحث عن التوازن‬
‫بني حرية املواطن وامل�ستلزمات الأمنية لدولة املواطن‪.‬‬
‫لقد �سبق يل �أن طرحت على م�س�ؤول مغربي �سام �س�ؤاال‬
‫حول متى ميكن اعتبار �أن الإ�صالح الأمني قد جنح‪ ،‬فكان جوابه‪:‬‬
‫عندما ي�صبح املواطن ال يفر من �أمام رجل الأمن‪ .‬واعترب �أن‬

‫احلكامة الأمنية اجليدة‬


‫‪21‬‬
‫هذا اجلواب يلخ�ص ب�شكل مالئم العالقة ال�سليمة بني من يقدم‬
‫اخلدمة ومن ي�ستفيد منها‪.‬‬
‫ومن جهة �أخرى‪� ،‬أود �أن �أ�شري ب�شكل موجز �إىل العالقة‬
‫بني النظام الأمني وهيئة الإن�صاف وامل�صاحلة‪.‬ف�إذا عدنا �إىل‬
‫التو�صيات‪ ،‬وا�سمحوا يل �أن �أحيي باملنا�سبة كل من �ساهم يف‬
‫�إجناز هذا العمل الهام‪ ،‬جند �أن التو�صية الأوىل والثانية جتيبان‬
‫على �س�ؤال من نريد �أن ننه�ض ب�أمنه‪ .‬اجلواب وا�ضح‪ :‬يف قلب‬
‫االهتمامات الأمنية املغربية ينت�صب املواطن وحماية حقوقه‪.‬‬
‫فالإ�صالح يروم احرتام املغرب حلقوق الإن�سان‪ ،‬والت�رصف‬
‫وفق ما تتطلبه دولة احلق والقانون‪ ،‬وو�ضع حد للإفالت من‬
‫العقاب‪ ،‬كما ين�شد الإقرار بامل�س�ؤولية الفردية؛ �أي �أن رجل‬
‫الأمن لن يعود ب�إمكانه االختباء وراء التعليمات التي قد يتلقاها‬
‫من امل�س�ؤولني الكبار‪ ،‬بل هوجمرب على �أن ينتبه �إىل مدى‬
‫�رشعية هذه التعليمات قبل تنفيذها‪ .‬ومما يبني مدى �أهمية‬
‫هذه التو�صيات‪ ،‬كونها تن�ص على بلورة �سيا�سة عمومية للعدل‬
‫والأمن والنظام العام‪ .‬وجتدر الإ�شارة �أي�ض �إىل �أن من املهم‬
‫دائما �أن نعرف الغايات قبل ال�رشوع يف الإ�صالح‪ ،‬و�أن نت�ساءل‬
‫عن �أي �أمن نريد خدمته‪.‬‬
‫وت�شكل احلكامة الأمنية مو�ضوعا �آخر تهتم به التو�صيات‪.‬‬
‫حيث ت�سعى �إىل تقنني جميع الأجهزة الأمنية من حيث حتديد‬
‫ال�صالحيات‪ ،‬وحتديد التداخل القائم بني م�س�ؤوليات امل�صالح‪،‬‬
‫و�شكل تنظيمها‪ ،‬و�سريورات اتخاذها القرار‪ ،‬وحتديد امل�س�ؤول‬
‫عن مراقبتها‪ .‬ومن نافل القول الت�أكيد �أن ما ورد يف التو�صيات‬
‫ي�شكل برناجما كامال‪.‬‬

‫احلكامة الأمنية اجليدة‬


‫‪22‬‬
‫ومن البديهي �أن �إ�صالح قطاع الأمن مرتبط �شديد االرتباط‬
‫ب�إ�صالح الق�ضاء‪ ،‬وال ميكن جناح الأول بدون القيام بالثاين‪.‬‬
‫لكن هل نبذر �أم نقت�صد عندما نقوم بالإ�صالح الأمني؟‬

‫ربحت �سوي�رسا من الإ�صالح مليارين من الدوالر‪ .‬لكن‬


‫يجب الت�أكيد على �أن �إ�صالح قطاع الأمن مكلف يف البداية‪.‬‬
‫لأن الأمر يتطلب التكوين واتخاذ مبادرات‪ ،‬والقيام با�ستثمارات‬
‫على املدى البعيد‪ .‬وال ميكن �أن ي�صبح الإ�صالح الأمني مربحا‬
‫�إال مع مرور الزمن‪ .‬لذا يجب على الدولة �أن تعالج م�س�ألة‬
‫االعتمادات التي �ستخ�ص�صها لهذا الإ�صالح قبل ال�رشوع فيه‪.‬‬
‫وما دام الإ�صالح مكلفا و�رضوريا يف ذات الآن‪ ،‬فمن‬
‫ال�رضوري االنتباه �إىل �أن هناك العديد من الآليات التي بد�أت‬
‫تظهر �إىل الوجود بهدف م�ساعدة الدول التي ترغب يف التقدم‬
‫على طريق �إ�صالح القطاع الأمني؛ و�أخ�ص بالذكر وكاالت‬
‫خمتلفة تابعة للأمم املتحدة‪ .‬وقد �رشع االحتاد الأوروبي يف‬
‫�إدماج مفهوم الإ�صالح ال�سيا�سي يف ال�سيا�سة التي يعتمدها لتقدمي‬
‫امل�ساعدات؛ كما ت�سمح �سيا�سة اجلوار ب�أن تلتم�س دولة معينة‬
‫دعما ماليا من �أوروبا‪ .‬ويالحظ‪� ،‬أي�ضا‪� ،‬أن بع�ض الدول بد�أت‬
‫تخ�ص�ص �إمكانات متزايدة لتقدمي الدعم املايل واال�ست�شارات‬
‫يف هذا املجال‪ ،‬وميكن الإ�شارة يف هذا ال�صدد �إىل بلدان �أوروبا‬
‫ال�شمالية وبلدان �أوروبية �أخرى وكندا وغريها‪ .‬وميكن الت�أكيد‬
‫يف هذا الإطار �أن املركز الذي �أنتمي �إليه‪ ،‬والذي يتوفر على‬
‫العديد من اخلرباء‪ ،‬ميكن له تقدمي خربة مقارنة يف امليدان‬
‫�إىل �أية دولة تريد القيام ب�إ�صالح منظومتها الأمنية‪.‬‬

‫احلكامة الأمنية اجليدة‬


‫‪23‬‬
‫العدالة االنتقالية و�إ�صالح قطاع الأمن‬
‫�ألك�سندر مايري*‬

‫يتعلق هذا العر�ض بالعالقة بني العدالة االنتقالية و�إ�صالح قطاع‬


‫الأمن؛ و�أ�سنطلق يف التطرق �إىل ذلك مما �أ�شار �إليه ال�سيد �أرنولد‬
‫قبل قليل‪ ،‬ومن تو�صيات هيئة الإن�صاف وامل�صاحلة باملغرب‪.‬‬
‫يف البداية‪� ،‬أود الت�أكيد من جديد على نقطة هامة‪،‬‬
‫تتمثل يف �أن لكل �سياق خا�صياته‪ ،‬و�أن الو�ضعيات االنتقالية‬
‫تختلف عن بع�ضها‪ ،‬وما هو�صائب يف �سياق معني قد يكون‬
‫غري �صائب يف و�ضعية �أخرى‪ .‬كما يجب الت�أكيد على �أن ال‬
‫وجود حللول منطية يف العدالة االنتقالية‪ ،‬وال يف جمال �إ�صالح‬
‫قطاع الأمن‪ .‬غري �أن هناك مبادئ عامة و�سريورات عامة‬
‫تتكرر‪ ،‬والتي ميكن �أن ت�ؤثر يف حتديد منهجية �إيجاد احللول‬
‫املحلية‪ .‬ولهذا �ستنح�رص مالحظاتي حول م�سائل مبدئية‪.‬‬
‫�أقرتح يف البداية �أطروحتني عامتني حول العالقة بني‬
‫العدالة االنتقالية و�إ�صالح قطاع الأمن‪.‬‬

‫* مدير برنامج �إ�صالح قطاع الأمن باملركز الدويل للعدالة االنتقالية‬

‫احلكامة الأمنية اجليدة‬


‫‪24‬‬
‫ •العدالة االنتقالية يف حاجة �إىل �إ�صالح قطاع الأمن؛‬
‫ •العدالة االنتقالية تعزز �إ�صالح قطاع الأمن‪.‬‬
‫العدالة االنتقاالية يف حاجة �إىل �إ�صالح القطاع الأمني‪:‬‬

‫لقد �أ�صدرت هيئة الإن�صاف وامل�صاحلة العديد من التو�صيات‬


‫حول �إ�صالح قطاع الأمن‪ .‬ويبدو�أن الهيئة اعتربت �أن �إ�صالح هذا‬
‫القطاع ي�شكل مو�ضوعا للعدالة االنتقالية‪ .‬ففي تقريرها‪ ،‬حددت‬
‫الهيئة الهدف من هذا الإ�صالح يف عدم تكرار االنتهاكات‬
‫اجل�سيمة حلقوق الإن�سان‪ .‬وهذا يعني �أن العدالة االنتقالية‪،‬‬
‫ال تهتم فقط بالإقرار باالنتهاكات اجل�سيمة حلقوق الإن�سان‪،‬‬
‫�أوالبحث عن احلقيقة واملتابعة اجلنائية �أوجرب ال�رضر ‪ ..‬بل‬
‫تهتم �أي�ضا ب�ضمانات عدم التكرار‪.‬‬
‫�إن عدم تكرار االنتهاكات اجل�سيمة حلقوق الإن�سان‬
‫ي�شكل عن�رصا رئي�سيا يف العدالة االنتقالية‪ .‬ويف هذا ال�سياق‪،‬‬
‫تعترب هيئة الإن�صاف وامل�صاحلة �إ�صالح قطاع الأمن و�سيلة‬
‫�أ�سا�سية ل�ضمان عدم تكرار ما جرى‪ .‬ومن ثمة‪ ،‬ف�إن �إ�صالح‬
‫قطاع الأمن لي�س مهما يف حد ذاته فقط‪ ،‬بل ي�شكل‬
‫�أي�ضا هدفا للعدالة االنتقالية‪ .‬وبعبارة �أو�ضح‪ ،‬ف�إن العدالة‬
‫االنتقالية بدون �إ�صالح قطاع الأمن عدالة ناق�صة وغري‬
‫مكتملة‪.‬‬
‫بيد �أن العالقة بني العدالة االنتقالية و�إ�صالح قطاع الأمن ال‬
‫تتوقف عند هذا احلد‪ ،‬بل تتعدى ما �أ�شارت �إليه هيئة الإن�صاف‬
‫وامل�صاحلة‪ .‬واعتقد �أن ب�إمكان العدالة االنتقالية حت�سني �أداء‬

‫احلكامة الأمنية اجليدة‬


‫‪25‬‬
‫قطاع الأمن‪ .‬كما �أعتقد �أن من م�صلحة قطاع الأمن �أن يهتم‬
‫بالعدالة االنتقالية‪ ،‬وبعالقتها ب�إ�صالح قطاع الأمن‪ .‬لذلك‪� ،‬أقرتح‬
‫اتباع مقاربة لإ�صالح قطاع الأمن مهتمة بالعدالة االنتقالية‪،‬‬
‫والتي من �ش�أنها �أن ترفع من �أداء وفعالية قطاع �ألأمن‪ ،‬وهذا‬
‫يف�ضي بي �إىل �أطروحتي الثانية التي ت�ؤكد �أن العدالة االنتقالية‬
‫تعزز �إ�صالح قطاع الأمن‪.‬‬
‫العدالة االنتقالية تعزز �إ�صالح قطاع الأمن‪.‬‬

‫�إن مقاربة �إ�صالح قطاع الأمن املهتمة بالعدالة االنتقالية‬


‫تدرك �أن للما�ضي ت�أثريا على احلا�رض‪ .‬وتعرف �أن ملا�ضي‬
‫االنتهاكات ت�أثريا �سلبيا على �أداء احلا�رض‪ .‬فعلى �سبيل املثال‪،‬‬
‫ف�إن رجال الأمن الأكرث قدرة والأح�سن تكوينا ال ي�ستطيعون‬
‫�أداء مهامهم بفعالية �إذا كانوا ال يحظون بثقة املواطنني‪ .‬ف�إذا‬
‫كان املواطنون يعتقدون �أن رجال الأمن كانوا متورطني يف‬
‫االنتهاكات‪� ،‬سي�صعب عليهم م�ساعدتهم يف حماربة اجلرمية‪..‬‬
‫ومن جهة �أخرى‪ ،‬ف�إن االنتماء �إىل هيئة �أمنية يتطلب الت�شبع‬
‫بروح الهيئة‪ ،‬ومن ثمة‪ ،‬ف�إن هذه الأخرية ت�ضفي طابعها على‬
‫�أع�ضائها‪ .‬و�إذا كان لهذه الهيئة ما�ض يف االنتهاكات‪ ،‬ف�سيكون‬
‫له ت�أثري وا�ضح على �أداء املنتمني �إليها يف احلا�رض‪ .‬ويبدومن‬
‫خالل هذين املثالني �أهمية عدم �إغفال العالقة القائمة بني‬
‫املا�ضي واحلا�رض يف قطاع الأمن‪ .‬فالإ�صالح الفعال لهذا القطاع‬
‫يتطلب �أخذ املا�ضي وانعكا�ساته على احلا�رض بعني االعتبار‪.‬‬
‫كما �أن مقاربة �إ�صالح قطاع الأمن املهتمة بالعدالة‬
‫االنتقالية ال تدرك فقط �أن للما�ضي ت�أثريا على احلا�رض‪ ،‬بل‬

‫احلكامة الأمنية اجليدة‬


‫‪26‬‬
‫تعرف �أي�ضا كيف ت�أخذ املا�ضي يف االعتبار لإ�صالح القطاع‪.‬‬
‫و�أكتفي بالإ�شارة �إىل ثالثة جوانب لها �أهمية كربى يف جتاوز‬
‫ما�ضي االنتهاكات ويتعلق الأمر ب‪:‬‬
‫ •تقوية نزاهة قطاع الأمن؛‬
‫ •النهو�ض ب�رشعية القطاع؛‬
‫ •تعزيز قدرات املواطنني واملجتمع املدين‪.‬‬
‫لن اقف كثريا عند مو�ضوع تقوية نزاهة قطاع الأمن‪،‬‬
‫لأن ال�سيد �أرنولد حتدث عنه بتف�صيل‪ ،‬كما تطرق �إليه تقرير‬
‫هيئة الإن�صاف وامل�صاحلة‪ .‬غري �أنني �أود التطرق باقت�ضاب‬
‫�إىل مو�ضوع الهوية امل�ؤ�س�سية التي ميكن �أن تكت�سب �رشعية على‬
‫الرغم من ما�ضي االنتهاكات‪.‬‬
‫�إن حتويل الهوية امل�ؤ�س�سية يف قطاع الأمن �سريورة‬
‫طويلة تتطلب من �أع�ضاء القطاع الأمني وهيئاته معرفة ما�ضي‬
‫اخلروقات واالعرتاف بخروقاتهم‪ ،‬والتعبري من جديد عن‬
‫التزامهم بقيم دولة احلق والقانون‪ .‬وال تتطلب هذه ال�سريورة‬
‫تكوين وتربية �أع�ضاء القطاع الأمني وح�سب‪ ،‬بل تتطلب �أي�ضا‬
‫�إجراءات تهتم بالذاكرة وبالإ�صالح الرمزي؛ الأمر الذي يف�ضي‬
‫�إىل احلديث عن �رشعية القطاع‪.‬‬
‫ولل�رشعية ارتباط وثيق بدرجة الثقة و�سط املواطنني‪.‬‬
‫فتاريخ االنتهاكات اجل�سيمة ي�ؤثر �سلبا على �رشعية القطاع‬
‫الأمني وعلى �أدائه بفعالية‪� .‬أكيد �أن �إجراءات تعزيز نزاهة‬
‫القطاع حت�سن من �رشعيته‪ ،‬غري �أنها قد تكون غري كافية‬

‫احلكامة الأمنية اجليدة‬


‫‪27‬‬
‫لتجاوز �أزمة الثقة العميقة التي ت�سم �سياق املرحلة االنتقالية‪.‬‬
‫لهذا‪ ،‬ف�إن �إ�صالح قطاع الأمن املهتم بالعدالة االنتقالية يت�ضمن‪،‬‬
‫�أي�ضا‪ ،‬تبني تدابري رمزية �أوتعبريية تعرتف بانتهاكات‬
‫املا�ضي‪ ،‬وتعرب عن �إرادة جتاوز �إرث االنتهاكات‪ ،‬وت�ؤكد‬
‫من جديد االلتزام مبعايري دولة احلق والقانون‪ .‬وت�ضم هذه‬
‫التدابري‪ ،‬على �سبيل املثال‪ ،‬اعتذارات ممثلي الهيئات الأمنية‬
‫املتورطة يف االنتهاكات‪ ،‬ون�صب تذكارية تخليدا لذكرى‬
‫ال�ضحايا‪ ،‬وتغيري ال�شعارات والعالمات والأزياء املرتبطة مبا�ضي‬
‫االنتهاكات‪ .‬غري �أنه يجب الت�أكيد على �أن هذه الإجراءات‬
‫الرمزية ال ميكنها �أن تقوم مقام الإ�صالحات الهيكلية‪ ،‬دون‬
‫�إنكار �أهميتها �أي�ضا‪.‬‬
‫وعلى �صعيد ثالث‪ ،‬ف�إن �إ�صالح قطاع الأمن ي�ستهدف‪،‬‬
‫على العموم‪ ،‬يف الدرجة الأويل اجلهات التي تقدم اخلدمات‬
‫الأمنية‪� ،‬أي قطاع الأمن وهيئاته وبنيات احلكامة من جهة‪،‬‬
‫كما �أن للعدالة االنتقالية اهتماما خا�صا ب�ضحايا االنتهاكات‬
‫منجهة ثانية‪ .‬ومن ثمة‪ ،‬ف�إن �إ�صالح قطاع الأمن املهتم بالعدالة‬
‫االنتقالية‪ ،‬ال ي�ستهدف مقدمي اخلدمات الأمنية فقط‪ ،‬بل يهتم‬
‫ب�شكل خا�ص بامل�ستفيدين من اخلدمات الأمنية‪� ،‬أومن الال �أمن‬
‫�أحيانا‪ .‬وهكذا ف�إن هذا النوع من الإ�صالح ي�ستهدف املواطنني‬
‫ب�شكل مبا�رش ق�صد م�ساعدتهم على تغيري دورهم من مو�ضوع‬
‫للقمع واالنتهاكات �إىل مواطنني لهم حقوق وم�س�ؤوليات‬
‫وحاجيات‪ .‬وهكذا‪ ،‬ال ي�صبح املواطنون‪ ،‬خا�صة الذين تعر�ضوا‬
‫لالنتهاكات‪ ،‬وهيئات املجتمع املدين فاعلني يف �إ�صالح قطاع‬
‫الأمن فقط بل م�ستفيدين منه �أي�ضا‪ .‬والأ�ساليب التي ميكن‬
‫اللجوء �إليها لتعزيز قدرات املواطنني واملجتمع املدين يف‬
‫هذا الباب متنوعة وكثرية ‪.‬‬

‫احلكامة الأمنية اجليدة‬


‫‪28‬‬
‫لقد �أ�رشت فقط �إىل بع�ض الأمثلة لإبراز كيف ميكن‬
‫للعدالة االنتقالية �أن تغني �إ�صالح قطاع الأمن وجعل هذا الأخري‬
‫�أكرث فعالية‪ .‬غري �أن هذا التحليل ال�سطحي‪ ،‬نف�سه‪� ،‬أبرز �أن‬
‫العدالة االنتقالية والإ�صالح ال يتناق�ضان‪ ،‬بل ميكنهما التكامل‬
‫وتع�ضيد بع�ضهما الآخر‪.‬‬
‫�إن �إ�صالح قطاع الأمن املهتم بالعدالة االنتقالية يلمع �صورة‬
‫قطاع الأمن ويقوي �رشعيته‪ ،‬كما �أنه قادر على حتويل قطاع‬
‫الأمن �إىل مرفق عمومي يحظى باالحرتام‪ ،‬و�إ�ضافة �إىل ذلك‪،‬‬
‫ف�إن �إ�صالح قطاع الأمن الذي يهتم بالعدالة االنتقالية �سيح�سن‬
‫ويعزز العالقة بني عامة النا�س وقطاع الأمن؛ ومن ثمة ف�إن‬
‫الإ�صالح الذي يهتم بالعدالة االنتقالية ال يخدم م�صلحة العدالة‬
‫االنتقالية فقط بل يخدم م�صلحة الأمن نف�سه‪.‬‬

‫احلكامة الأمنية اجليدة‬


‫‪29‬‬
‫اجلل�سة الثانية ‪:‬‬
‫�إ�صالح قطاع الأمن �رضورة‬
‫للبلدان يف مرحلة �إنتقالية �أم‬
‫للبلدان الدميقراطية؟‬
‫�إ�صالح قطاع الأمن ‪ :‬خطوة �ضرورية على درب‬
‫االنتقال الدميقراطي بغواتيماال‬
‫برناردو�آريبالوليون‬

‫�س�أحاول �أن �أقدم لكم نبذة عن الإ�صالحات التي طالت‬


‫قطاع الأمن ببلدي‪ ،‬غواتيماال‪ ،‬خالل الع�رش �سنوات الأخرية‪،‬‬
‫وهي املدة التي بد�أت يف �شهر دجنرب من �سنة ‪ 1996‬عقب‬
‫التوقيع على اتفاقية ال�سالم‪ ،‬وذلك دون الدخول يف التفا�صيل‪،‬‬
‫بخال�صات و�أفكار‪� ،‬أمتنى �أن تكون مدخ ًال‬
‫و�س�أختم مداخلتي ُ‬
‫لأ�سئلة قد تودون طرحها‪.‬‬
‫�س�أق�سم مداخلتي لثالثة �أجزاء‪� :‬سيتمحور اجلزء الأول على‬
‫اخللفية التاريخية التي تقف وراء �إ�صالح القطاع الأمني بغواتيماال‪،‬‬
‫وكذلك �إ�شكالية ع�سكرة الدولة‪� .‬أما اجلزء الثاين ف�سوف �أتطرق‬
‫فيه �إىل ذلك النوع من التوازن الذي ح�صل بعد ذلك‪.‬‬
‫�أول نقطة �س�أبد�أ بها‪ ،‬فيما يخ�ص �أمريكا الالتينية ب�صفة‬
‫عامة وغواتيماال ب�صفة خا�صة‪ ،‬هو�أن �أوىل معامل الإ�صالح بد�أت‬
‫تظهر ب�إزالة معامل الع�سكرة التي كانت �سائدة حينها يف‬

‫احلكامة الأمنية اجليدة‬


‫‪33‬‬
‫جميع قطاعات الدولة وكذا ال�سيا�سة‪ .‬لقد بد�أ ذلك حتى قبل‬
‫�إطالق م�سار الإ�صالحات‪ ،‬وذلك يف ثمانينيات القرن املا�ضي‪،‬‬
‫بجهود ُبدلت لإعادة الأمن و�إبعاد التدخل الع�سكري يف ال�ساحة‬
‫ال�سيا�سية وتعزيز الدميقراطية‪ .‬ففي بلدي غواتيماال‪ ،‬نحن‬
‫نتحدث عن م�سار انطلق منذ �سنة ‪ 1954‬حتى �سنة ‪1996‬‬
‫حيث طورت الدولة بنية للتما�سك ال�سيا�سي ومراقبة احلقل‬
‫ال�سيا�سي لل�سكان‪ ،‬وهي �إ�صالحات تتمحور كلها حول القوات‬
‫امل�سلحة‪ .‬فالفرتة املمتدة ما بني ‪ 1954‬و�سنة ‪ 1965‬كانت‬
‫املرحلة الأوىل التي قامت خاللها القوات امل�سلحة بتفعيل‬
‫القرارات ال�سيا�سية رمبا حتى ب�شكل ق�رسي – وهي قرارات‬
‫كانت ت ُـتخـَذ يف دوائر �أخرى ل�صنع القرار‪� .‬أما ما بني ‪1965‬‬
‫�رشكاء كاملي ال�رشاكة يف العملية‬
‫ً‬ ‫و‪� 1986‬أ�صبح الع�سكر‬
‫ال�سيا�سية ف�أ�صبحت لهم ال�سطوة على كل �شيء يف البالد مبا يف‬
‫ذلك احلقل ال�سيا�سي‪ .‬لذلك كان ُينعث النظام الدميقراطي‬
‫يف البالد بامل�رسحي‪ -‬حيث اعتماد كل �شيء على املظاهر‬
‫فقط – كما كانت الدميقراطية يف بالدنا تُ�سمى بدميقراطية‬
‫املظاهر‪ .‬الأمر �إد ًا يتعلق مببنى لي�س له من اجلمال �سوى‬
‫تلك الواجهة اجلذابة‪ .‬كانت هناك كل مكونات الدميقراطية‬
‫– من كونغر�س وحمكمة عليا وما يرافق ذلك من مظاهر‬
‫خادعة – دون �أن يعمل �أي منها على الوجه ال�صحيح‪� .‬أما عن‬
‫العالقات احلقيقية بخ�صو�ص ميزان القوى ومراكز النفوذ فكان‬
‫يحكمها منطق الت�سلط بامتياز‪ .‬كذاك كان الأمر بالن�سبة‬
‫للقرارات امل�صريية التي كانت تُـتَ خذ من طرف طغمة حتكم‬
‫البالد دون �أن ي�أذن لها �أحد بذلك‪ ،‬ودون الت�شاور مع �أي من‬
‫القوى احلية‪.‬‬

‫احلكامة الأمنية اجليدة‬


‫‪34‬‬
‫كان هناك �إذ ًا غياب �شامل للمحا�سبة‪ ،‬وكان القهر والقوة‬
‫الو�سيلتني الوحيـدتني لتمرير وتربير القرارات‪ ،‬مما �أدى �إىل‬
‫عـجز كامل عن دمقرطة القرار ال�سيا�سي‪ ،‬وه ـ ـ ــوال�شيء الـ ــذي‬
‫�أدى �إىل حرب �أهلـية دامت �أكرث من ربــع قرن (‪.)1986 -1960‬‬
‫كانت هناك طبع ًا انتفا�ضات ومتردات م�سلحة تروم �أ�سا�س ًا‬
‫املطالبة بدمقرطة احلياة ال�سيا�سية‪ ،‬ولقد دفعت تلك احلركات‬
‫املناه�ضة للحكم الدولة ب�أن ت�صري دولة مناه�ضة للع�صيان والتمرد‬
‫(‪ )State Insurgent Counter‬فتمت على �إثر ذلك تعبئة �شاملة‬
‫للقوات امل�سلحة بغر�ض قمع االنتفا�ضات و�إخماد التمردات‬
‫امل�سلحة التي كانت ت�شنها القوى املناوئة حلكم الع�سكر‪.‬‬
‫لقد �أُزهقت �أرواح �أكرث من ‪� 250‬ألف �شخ�ص خالل هذه‬
‫احلرب الأهلية‪ ،‬وللتذكري فنحن نتحدث عن بلد ي�صل تعداد‬
‫�سكانه لع�رش ماليني ن�سمة‪ .‬ولإدراك حجم وهول هذا ال�ضياع‬
‫ف�إنه يتوجب و�ضعه يف �سياقه‪� ،‬إذ كانت هناك حرب مفتوحة‬
‫على كل الأ�صعدة‪ ،‬مما �أدى �إىل ت�صفية الكثري من الوجوه‬
‫ال�سيا�سة خالل ما ُي�سمى بفرتة احلرب القذرة التي كان ُيخط َّـط‬
‫فيها ب�شكل محُ كم لالغتياالت‪ ،‬ناهيك عن املذابح اجلماعية‬
‫التي كانت حت�صل خالل عمليات تطهري عرقي حقيقية‪ .‬لقد‬
‫كانت ن�سبة ‪ 97%‬من تلك اجلرائم تقرتفها الدولة؛ �أما الن�سبة‬
‫اخلال�صات التي‬‫املتبقية فكانت من توقيع الثوار‪ ،‬وتلك �إحدى ُ‬
‫تو�صلت �إليها جلنة �إعادة كتابة التاريخ احلديث وتو�ضيح احلقائق‬
‫التاريخية يف البلد‪ ،‬و�أ�صدرت تقرير ًا بهذا اخل�صو�ص‪.‬‬
‫�إ�ضافة له�ؤالء ال�ضحايا ال�سالف ذكرهم ف�إن ال�رصاعات‬
‫امل�سلحة ترتب عنها �أثران رئي�سيان‪� :‬أول الأثرين يتجلى يف‬

‫احلكامة الأمنية اجليدة‬


‫‪35‬‬
‫الع�سكرة ال�شاملة لنظام احلكم‪ ،‬مما جعل امل�ؤ�س�سة الع�سكرية‬
‫تُ�شكل العمود الفقري للدولة محُ كـِمة بذلك قب�ضتها على النظام‬
‫ال�سيا�سي‪ ،‬ومانحة لنف�سها �سلطات وا�سعة النطاق طالت كل‬
‫املرافق ال�سيا�سية‪� .‬أما الأثر الثاين فيتجلى يف ع�سكرة املجتمع‬
‫كذلك‪� ،‬إذ طالت يد الع�سكر كل مظاهر املجتمع واملواطنني‬
‫الذين �أ�صبحت ت�رصفاتهم حتت جمهر الع�سكر‪ ،‬مما �أدى �إىل‬
‫نظام ُمعقد لهذه الع�سكرة‪ ،‬كما مت ح�شد الدعم لبع�ض القوى‬
‫االجتماعية خدمة ً للقوات امل�سلحة‪.‬‬
‫حني بد�أ البحث عن ال�سبل التي من �ش�أنها �إعادة‬
‫الدميقراطية للبالد‪ ،‬ف�إن حمو�آثار احلكم الع�سكري‬
‫(‪ )demilitarization‬من الدولة كان من بني ال�رشوط الأ�سا�سية‬
‫لتعزيز الدميقراطية يف البلد‪ .‬خالل الفرتة ما بني ‪1986‬‬
‫و‪ 1996‬انخرطنا يف م�سار الدمقرطة‪ ،‬وهوم�سار بد�أ بتنظيم‬
‫انتخابات‪ ،‬على الرغم من �أن احلرب الأهلية مل تكن قد و�ضعت‬
‫�أوزارها بعد‪ .‬كان هناك نظام جديد يرى النور وينبني على‬
‫الدميقراطية‪.‬ومبوازاة ذلك كانت الدولة املناوئة للثوار ال‬
‫تزال قائمة‪ ،‬حيث كانت القوات امل�سلحة مت�ضي ُق ُدما يف‬
‫�سحق املتمردين‪� .‬أما مفاو�ضات ال�سالم التي ا�ستمرت ما بني‬
‫�سنتي ‪ 1990‬و‪ 1996‬فقد �سمحت بالتوقيع على اتفاقية �سالم‪.‬‬
‫غري �أن املجتمع الغواتيمايل وكذا النظام ال�سيا�سي يف تلك‬
‫املرحلة بدءا ينكبان على حتليل تلك التحديات التي كان‬
‫يواجهها املجتمع برمته‪ ،‬اعتبار ًا للتحول يف مفهوم الأمن‬
‫وكذا يف الأجهزة القطاعية الأخرى‪.‬‬
‫كانت هناك ثالثة حتديات تواجه البلد‪� :‬أولها كان حتويل‬

‫احلكامة الأمنية اجليدة‬


‫‪36‬‬
‫نظام الدولة من نظام قمعي ُيعلن حرب ًا بال هوادة على «الأعداء‬
‫الداخليني» �إىل نظام يرتكز على الدميقراطية وبالتايل ُي َ�سخر‬
‫�أجهزته حلماية املواطنني‪� .‬أما التحدي الثاين فكان يتطلب‬
‫�أن نقوم بت�أمني �سلم و�أمن مدنيني من خالل بناء م�ؤ�س�سات‬
‫تتجاوب مع حاجيات وتطلعات املواطنني بحيث �أن امل�ؤ�س�سة‬
‫الع�سكرية املحتـكـِرة حينها لكل مرافق البلد كانت ترافق‬
‫كل امل�ؤ�س�سات املكلفة بتطبيق القانون وا�ستتباب الأمن‪،‬‬
‫حيث مل تُبقي على ما يوحي بوجود �أية م�ؤ�س�سات مدنية اللهم‬
‫جهاز ال�رشطة الوطنية الذي ات�ضح‪ ،‬بعد حني‪� ،‬صعوبة (�إن مل‬
‫نقل ا�ستحالة) ا�ستمالته وبالتايل ا�سرتجاعه �إىل �صفوف امل�ؤ�س�سة‬
‫الدميقراطية‪.‬‬
‫�أما التحدي الثالث فيكمن يف تطوير بع�ض الآليات التي‬
‫من �ش�أنها �ضمان مراقبة تلك امل�ؤ�س�سات املدنية وجهاز الأمن‪،‬‬
‫�إ�ضافة لو�ضع جهاز حما�سبة الدولة ومراقبة �سيا�ساتها الأمنية‬
‫ب�صفة عامة‪ .‬وكجزء من اتفاقية ال�سالم كانت هناك بنود‬
‫خا�صة وتدابري ملمو�سة ملراجعة امل�ؤ�س�سة الع�سكرية وذلك‬
‫من خالل حتويل عدد القوات‪ ،‬ومراجعة امليزانية الع�سكرية‪،‬‬
‫و�إعادة انت�شار القوات امل�سلحة‪ ،‬بل ومراجعة حتى اجلانب‬
‫التكويني للجي�ش‪ ،‬كما مت �إن�شاء جهاز لل�رشطة املدنية‪ ،‬نظر ًا‬
‫لأن اجلهاز ال�سابق لل�رشطة كان ي�ضطلع �أ�سا�س ًا مبهمة قمع‬
‫احلريات و�سحق انتفا�ضات املواطنني‪ ،‬ناهيك عن �ضلوعه‬
‫الكلي يف كل اخلروقات التي طالت حقوق الإن�سان‪.‬‬
‫قمنا كذلك ب�إعادة هيكلة جهاز اال�ستخبارات وحتويله‬
‫�إىل جهاز مدين لال�ستعالمات عك�س دوره الع�سكري �سابق ًا الذي‬

‫احلكامة الأمنية اجليدة‬


‫‪37‬‬
‫كان يكر�س �سطوة الع�سكر‪ .‬كانت احلاجة �إذ ًا خللق �أجهزة‬
‫و�آليات جديدة ملراقبة ال�سري العادي للم�ؤ�س�سات الدميقراطية‪،‬‬
‫مبا يف ذلك مراقبة العمل الربملاين‪.‬‬
‫مل يكن االتفاق دقيق ًا يف كل تفا�صيله بقدر ما قام ب�إر�ساء‬
‫خطوط توجيهية لعمليات الإ�صالح‪ .‬كان االتفاق يرتكز كذلك‬
‫على ر�ؤية جديدة تنادي ب�رضورة تغيري وظيفة الدولة من خدمة‬
‫للم�ؤ�س�سات على ح�ساب املواطن �إىل جعل امل�ؤ�س�سات يف خدمة‬
‫املواطن‪ ،‬كما كان االتفاق ي�شتمل على ت�صور �شامل يهدف �إىل‬
‫حتويل جدري للمجتمع من جمتمع ع�سكري �إىل جمتمع مدين‬
‫تعمل فيه �أجهزة تتجلى مهمتها الأ�سا�سية يف مراقبة وحماية‬
‫امل�سار الدميقراطي‪ .‬امل�س�ألة �إذ ًا ال تنطوي على �سيا�سة ُم َ�سط َّـرة‪،‬‬
‫و�إمنا على توجهات ترمي �إىل �إر�ساء خطة عمل وكذلك تطبيق‬
‫�إ�صالحات يف �شتى امليادين‪ .‬تلكم كانت اخللفية التاريخية‬
‫التي �أمتنى �أن �أكون قد �أعطيتكم من خاللها نظرة �ضافية عن‬
‫التحديات التي كانت تواجهها غواتيماال يف �سنة ‪.1996‬‬
‫�أما يف اجلزء الثاين من مداخلتي‪ ،‬ف�أود تقدمي نوع من‬
‫التوازن بينما ح�صل من تغريات خالل عقد من الزمن‪ .‬فكما‬
‫�أ�سلفنا الذكر ف�إنه من غري املمكن تقدمي الو�صف الدقيق لكل‬
‫املكونات‪ .‬لقد طالت الإ�صالحات جهاز ال�رشطة‪ ،‬والربملان‬
‫وغريها من امل�ؤ�س�سات‪ .‬ومل تـَ�سـِر الأو�ضاع على خط م�ستقيم‪،‬‬
‫كما مل تتعاقب الأحداث على ال�ساحة ب�شكل منتظم‪ .‬و�أمتنى‬
‫ب�أن تتكون لديكم �صورة �أكرث و�ضوح ًا الآن‪� .‬أما هديف الآن‬
‫فهو�إعطا�ؤكم نظرة على طبيعة تلك التحديات وكدا الفر�ص‬
‫التي كانت متاحة‪� ،‬إ�ضافة ملا حققناه من تقدم‪ ،‬وذلك من‬

‫احلكامة الأمنية اجليدة‬


‫‪38‬‬
‫خالل توفر ثالث �رشوط �أ�سا�سية ت�ضمن النجاح لأي عملية‬
‫�إ�صالح �سيا�سي‪� :‬أول ال�رشوط يتجلى يف �رضورة تو�ضيح املفاهيم‬
‫الذي ي�ستوجب بدوره تو�ضيح ًا للإ�شكال املطروح‪ .‬ثاين ال�رشوط‬
‫ي�ستوجب وجود �إرادة �سيا�سية لتغيري الو�ضع‪� .‬أما ثالث ال�رشوط‬
‫فيكمن يف وجود ما ي�سمى ب «القدرة العملياتـية» (‪operational‬‬
‫‪� ،)capacity‬إ�ضافة �إىل القدرة على حتليل وتفعيل ال�سيا�سات قبل‬
‫ترجمتها على �أر�ض الواقع‪ .‬وكما قلت �س�أحاول �إلقاء ال�ضوء‬
‫على التحديات وال�صعاب التي اعرتت �سبيلنا‪.‬‬
‫بالن�سبة للنقطة الأوىل املتعلقة بالو�ضوح املفاهيمي‬
‫(‪ )clarity conceptual‬فلقد كان من ال�رضوري �أن تت�ضح لنا‬
‫الفر�ص املتاحة‪ .‬كانت احلرب قد انتهت وكان املنطق‬
‫ال�سائد يق�ضي ب «حماربة املتمردين»‪ .‬مقابل ذلك كانت‬
‫هناك رغبة يف ن�رش قيم الدميقراطية وهدم ذلك ال�رصح‬
‫الذي بنته الدولة خالل ال�ستة وثالثني �سنة املا�ضية واملرتكز‬
‫على القهر‪ .‬كل هذا حدا باجلميع �إىل التفكري يف �إعادة بناء‬
‫مفهوم الدولة‪� .‬أما على امل�ستوى اخلارجي فلقد كانت هناك‬
‫بع�ض ال�رشوط املواتية‪ ،‬من بينها على وجه اخل�صو�ص نهاية‬
‫احلرب الباردة‪ ،‬مما �أدى لبزوغ �أفكار جديدة وتراجع مفاهيم‬
‫عدة كانت �سائدة فيما قبل‪ .‬على م�ستوى الأمم املتحدة‬
‫كان هناك مفهوم جديد يلوح يف الأفق وينادي ب�رضورة‬
‫توفري «الأمن الإن�ساين» (‪ ، )Security Human‬حيث تزامن ذلك‬
‫مع خروج �أمريكا الالتينية من حقبة حكم الع�سكر‪ .‬كانت‬
‫هناك مفاهيم جديدة تتطور من قبيل «الأمن الدميقراطي»‬
‫(‪ )security democratic‬و»الأمن املتكامل» (‪)security integral‬‬

‫احلكامة الأمنية اجليدة‬


‫‪39‬‬
‫وهومفهوم ُمتداول يف منطقة �أمريكا الو�سطى و�أمريكا‬
‫الالتينية‪.‬وهناك اتفاقية موقعة بهذا ال�ش�أن‪ ،‬تن�ص العديد من‬
‫بنودها على هذا الأمن املتكامل‪.‬‬
‫�أما بخ�صو�ص التحديات‪ ،‬فلقد واجهنا �شُ ح ًا يف الوثائق يف‬
‫بداية فرتة ال�سالم‪ ،‬كما كان هناك القليل مما ميكن القيام‬
‫به لتفعيل اتفاقية ال�سالم‪� .‬أما على �صعيد النظام ال�سيا�سي‬
‫ح�ضور كا�سح ملا ميكن ت�سميته ب»اجلمود‬ ‫ٌ‬ ‫فلقد كان هناك‬
‫اال�ستبدادي» (‪ )inertia Authoritarian‬كنتيجة لت�ضافر الكثري‬
‫من العوامل‪ ،‬منها ف�شل ال�سلطات ال�سيا�سية يف �إدراك مدى‬
‫تطبيق هذا الإ�صالح‪.‬‬
‫�س�أ�ستعمل هنا جملة واحدة فقط لو�صف الو�ضع‪ :‬لقد‬
‫اعتقد الكثري من ال�سا�سة ب�أن عودة الع�سكر �إىل الثكنات ُي�شكل‬
‫حتو ًال كافي ًا يف حد ذاته – كما اعتقدوا ب�أنه لي�س من حاجة‬
‫لإجراء �أية مراجعة للنظام ال�سيا�سي‪ ،‬وذلك ب�سبب ُ�ضعف‬
‫التفكري الذي يتمحور حول الأمن الدميقراطي‪ ،‬حيث غياب‬
‫ال�رشوط والإمكانيات لتطوير هذا الفكر البديل‪ .‬لهذا ال�سبب‬
‫اتخذ التعبري عن التغيري �شكل احتجاجات وم�سريات �ضد‬
‫النظام البائد‪ .‬كان هناك عن�رص �آخر مهم جد ًا يكمن يف حتول‬
‫ال�سيناريوالأمني حيث انتقل الو�ضع من دولة تقوم بخروقات �ضد‬
‫مواطنيها �إىل دولة عاجزة عن مواجهة م�صادر خطر جديدة‬
‫ت�أخذ �أ�شكا ًال من االنفالت الأمني‪ .‬وجدنا �أنف�سنا �إد ًا �أمام �إ�شكال‬
‫جديد علينا مواجهته‪.‬‬
‫باملقابل‪ ،‬كانت هناك بع�ض النقاط التي �سجلناها‬

‫احلكامة الأمنية اجليدة‬


‫‪40‬‬
‫بخ�صو�ص و�ضوح املفاهيم وتقدم عملية االنتقال الدميقراطي‪.‬‬
‫كان هناك جوحمموم تعمه الفو�ضى‪ ،‬و�أحداث ال تتبع خطا‬
‫م�ستقيما يف ت�سل�سلها‪ُ .‬يقابل ذلك تقدم مت حتقيقه يف بع�ض‬
‫املجاالت ال�سيا�سية كالت�شاورات التي ح�صلت بني الفاعلني‬
‫مبن فيهم املنتمون للمجتمع املدين‪ .‬ح�صلت كذلك مراجعة‬
‫للعقيدة الع�سكرية التي بد�أت تقوم بعمل ي�ؤدي �إىل حتول الذهنية‬
‫الع�سكرية التي كانت را�سخة داخل املجتمع‪ .‬كانت هناك‬
‫مراجعة �شاملة جلهاز اال�ستعالمات‪ .‬كل هذا ورد يف ما ُ�سمي‬
‫الحق ًا ب»قانون الأمن القومي»‪ ،‬والذي �صودق عليه يف �شهر‬
‫اعتـمدت فيه املقاربة ال�شمولية‬ ‫مار�س من �سنة ‪ ،2008‬حيث ُ‬
‫بتـ�ضـَ ُّمنـِها لكل �رشوط العمل واملراقبة الدميقراطيني‪ .‬ت�ضـَ َّمن‬
‫َ‬
‫هذا القانون كل التفا�صيل والأجزاء املتعلقة باجلهاز الأمني‪،‬‬
‫ومل يكن ذلك ممكن ًا �سوى نتيجة مل�سار ت�شاركي انخرطت‬
‫فيه منظمات املجتمع املدين الذي �صار ممثلوه قوة فاعلة‪.‬‬
‫انخرطت يف هذا امل�سار كذاك الأحزاب ال�سيا�سية والدولة‬
‫التي �ساعدت على التوافق بني الأطراف للو�صول �إىل هذا‬
‫القانون‪ .‬طبع ًا قد يكون القانون جمي ًال بل ومثالي ًا‪ ،‬و�إمنا‬
‫ي�ستوجب تفعيله‪.‬‬
‫كانت ال�ساحة ال�سيا�سية تُعاين من التفكك؛ لكنه كان‬
‫تفكك ًا يقابله و�ضوح يف الر�ؤيا‪� .‬أما ق�ضية الإرادة ال�سيا�سية فكانت‬
‫تبدويف الواقع �أكرث تعقيد ًا‪ ،‬حيث مل يكن يتطلب الأمر جمرد‬
‫اتخاذ قرارات من �ش�أنها �أن ت ُـف�ضي �إىل تطبيق الإ�صالحات‪،‬‬
‫ولكن‪ ،‬لتطبيق فعلي لتلك الإ�صالحات‪ ،‬كان هناك ثمن يجب‬
‫دفعه وجمازفة يتعني القيام بها �إ�ضافة ل�رضورة توفر �رشوط‬
‫من �ش�أنها يف نهاية املطاف �أن تُرتجم تلك الإرادة �إىل �أفعال‪.‬‬

‫احلكامة الأمنية اجليدة‬


‫‪41‬‬
‫كانت لنا رمبا فر�ص وا�ضحة خالل العقد املا�ضي‪ .‬كان هناك‬
‫فاعلون �سيا�سيون ُجدد �أتوا للم�شاركة يف النظام ال�سيا�سي‪ ،‬كما‬
‫ظهرت حتالفات �سيا�سية و�إمكانيات متاحة‪ .‬كانت هناك‬
‫�أحزاب �سيا�سية حديثة العهد وفتية‪ ،‬كما �أن املجتمع املدين‬
‫طور نوع ًا من االلتزام املنهجي بخ�صو�ص هذا املو�ضوع‪� .‬أما‬
‫امل�ساندة فكانت �شاملة من طرف املنتظم الدويل كبعثة الأمم‬
‫املتحدة املوفدة ملراقبة اتفاقية ال�سالم‪ ،‬والتي كانت كذلك‬
‫حا�رضة لتقدمي الن�صح وامل�شورة بخ�صو�ص كيفية تفعيل بنود‬
‫اتفاقية ال�سالم‪ .‬كانت هناك �أي�ض ًا م�ساندة ت�أتي من طرف‬
‫املنظمات ال�سيا�سية والثنائية واملتعددة الأطراف‪.‬‬
‫بعد التحول الدميقراطي كانت القوات امل�سلحة قد فقدت‬
‫الكثري من �سلطانها‪ .‬وبو�ضع احلرب الأهلية لأوزارها ف�إن الدور‬
‫اجلديد لتلك القوات حتدد يف مواجهة املنتف�ضني �ضد الدولة‪،‬‬
‫غري �أن ذلك �أ�صبح حمدود ًا جد ًا‪ ،‬وبالتايل ف�إن الفر�ص ُ‬
‫املتاحة‬
‫املتمثل يف كيفية ا�ستغالل تلك الفر�ص‬ ‫كان ُيرافقها التحدي ُ‬
‫ال �س�أُ�سمي ذلك ب»الهدم ال�سيا�سي» ‪political‬‬
‫على �أف�ضل وجه‪� .‬أو ً‬
‫‪ destruction‬حيث تت�ضافر عوامل �شتى ت�ؤدي �إىل تراجع �أهمية‬
‫�إ�صالح القطاع الأمني؛ مبعنى �آخر‪ ،‬كانت الدولة تواجه الكثري‬
‫من التحديات كم�س�ألة توزيع الأرا�ضي ومواجهة امل�شاكل‬
‫االقت�صادية وما �إىل ذلك‪ .‬وب�سبب ذلك فـَقـَد مو�ضوع ان�سحاب‬
‫الع�سكر من احللبة ال�سيا�سية الكثري من بريقه كق�ضية تت�صدر‬
‫الأولويات لي�س فقط بالن�سبة للأحزاب ال�سيا�سية و�إمنا كذلك‬
‫بالن�سبة للر�أي العام الذي كان ل�سان حاله يقول‪« :‬الآن وقد‬
‫نحينا الع�سكر جانب ًا ماذا ع�سانا �أن نطلب �أكرث بعد �أن ا�ستتب‬
‫الأمن؟ ملاذا ال نخ�ص�ص تلك املوارد املتوفرة لق�ضايا �أخرى‬

‫احلكامة الأمنية اجليدة‬


‫‪42‬‬
‫كالق�ضايا االجتماعية؟» خلق هذا النقا�ش مناخ ًا مالئم ًا لبزوغ‬
‫قـِوى تقف وراء ذلك اجلمود ال�سيا�سي ب�صفة عامة‪ .‬حاولت‬
‫هذه القوى التعبري عن نف�سها من خالل قطع الطريق على �أية‬
‫عملية �إ�صالح‪ .‬مل تكن تتوفر لتلك القوى الو�سائل التي كان‬
‫القوى‬ ‫من �ش�أنها خلق مقاومة ع�سكرية‪ .‬كانت هناك ِ�ضمن تلك ِ‬
‫الفاعلة بع�ض الأجنحة الع�سكرية التي تقف يف وجه الإ�صالح‪،‬‬
‫ومل يكن ال�سبب يف ذلك يكمن يف تـَقـَ ِّوي �شوكتها من جديد‬
‫و�إمنا كان يكمن يف عدم وجود من ي�أبه بهذا الإ�شكال‪ ،‬اعتبار ًا‬
‫للأهمية غري الق�صوى التي �أ�صبح يمُ ثلها ذلك الإ�شكال ‪.‬‬
‫كما �أ�سلفنا الذكر ‪ ،‬كانت بع�ض القوى الع�سكرية‬
‫املق ِاومة للتغيري ت�سعى �إىل االلتفاف حول التغريات ال�سيا�سية‬
‫احلا�صلة يف البلد‪ .‬مقابل هذا الهدم ال�سيا�سي كانت هناك دولة‬
‫تت�سم بال�ضعف‪ ،‬كما كانت هناك قوى �سيا�سية �ضعيفة وغري‬
‫قادرة على لعب دورها‪ .‬مل تكن هناك من م�ؤ�س�سة �سيا�سية قوية‬
‫قادرة على �أداء املهمة املنوطة بها‪ .‬زد على ذلك ظاهرة‬
‫التقلب ال�سيا�سي (‪ ،)volatility Political‬حيث مل ُيحقق �أي حزب‬
‫فوزا �ساحق ًا لوحده خالل العقد الأخري‪ ،‬فهناك �أحزاب �سيا�سية‬
‫ترى النور لتحكم ثم تختفي لتليها �أحزاب �سيا�سية �أخرى‬
‫لت�سلك نف�س النهج‪ ،‬ناهيك عن ا�ستفحال ظاهرتي الزبونية‬
‫والف�ساد‪ .‬يف هذا ال�سياق كان علينا القيام بتقدم ملمو�س‪� :‬أو ًال‬
‫كان علينا ت�شجيع االنخراط ال�شامل للمجتمع ال�سيا�سي‪ ،‬وكما‬
‫الحظنا ف�إن الدولة مل تكن ‪ -‬كما قلنا‪ -‬قادرة على خلق حراك‬
‫�سيا�سي وال على التفاعل مع الأحداث‪ ،‬عك�س املجتمع املدين‬
‫الذي طور ا�سرتاتيجيات‪ ،‬حماولـَة ً منه لالنخراط يف املجتمع‬
‫ال�سيا�سي عرب الكثري من املجاالت‪ ،‬كاملنا�رصة و�إقامة‬

‫احلكامة الأمنية اجليدة‬


‫‪43‬‬
‫حتالفات مع بع�ض الفاعلني داخل الدولة ومع بع�ض الأقليات‬
‫التواقة لإحداث التغيري‪ ،‬وكذلك داخل امل�ؤ�س�سات الأمنية‪.‬‬
‫لقد ا�ضطلع املجتمع املدين مب�س�ؤولية خلق نوع من االلتزام‬
‫امل�ستدام مع بع�ض املنظمات‪ ،‬وذلك ملواجهة هذا التقلب‬
‫والرتحال ال�سيا�سيني لبع�ض الوجوه ال�سيا�سية بني الأحزاب‪،‬‬
‫وكذا ملواجهة تلك الفو�ضى ال�سيا�سية ال�سائدة حينها‪.‬‬
‫�أما العن�رص الثالث والأخري فهوم�س�ألة القدرة العملياتية‬
‫(‪ )capacity operational‬حيث الإ�شارة هنا �إىل التحديات التقنية‬
‫املرتبطة بالتمكن من و�ضع �سيا�سات لتنظيم عمل ال�رشطة‬
‫وحماربة اجلرمية و�إدارة جهاز اال�ستعالمات‪ ،‬وما �إىل ذلك‪،‬‬
‫ولقد كانت لهذا االتفاق بع�ض التدابري امللمو�سة‪ .‬تلكم كانت‬
‫املجاالت التي كنا نعاين ب�ش�أنها من الكثري من االختالالت‪.‬‬
‫كانت الفر�ص املتاحة تتجلى يف الدعم وامل�ساندة الدوليني‬
‫الذين كنا نحظى بهما‪.‬‬
‫وكما �سلف الذكر‪ ،‬ف�إن احتكار الع�سكر لكل امليادين‬
‫كان �سبب ًا يف منع القدرات املدنية من التطور لذى‬
‫املواطنني‪ .‬كما كان هناك غياب للقوى املدنية �إن على‬
‫م�ستوى احلكومة �أوعلى م�ستوى الدولة ب�صفة عامة‪� .‬أما‬
‫ال�سبب الآخر فيكمن يف الو�ضع املتقلب الذي كان �سائد ًا‬
‫والذي كان مينع املرفق العام من التطور‪ .‬مل تكن هنالك �أية‬
‫م�شاريع للدولة لتكوين عنا�رص قد حتتاجها بع�ض القطاعات‬
‫احلكومية‪ .‬كما كانت احلكومات املتعاقبة تُلغي بكل ب�ساطة‬
‫�إجنازات و�أعمال �سابقاتها‪ ،‬مما خلق �سيناريوهات معقدة يف‬
‫الوظيفة العمومية ب�شكل عام‪ .‬غري �أن بع�ض التقدم قد مت‬

‫احلكامة الأمنية اجليدة‬


‫‪44‬‬
‫�إحرازه على الرغم من ت�شتت املوظفني الذين يلتحقون‬
‫بالقطاع احلكومي �أوينف�صلون عنه‪� ،‬أويغادرون وظائفهم ملدة‬
‫حمددة لتلقي تكوينات يف بع�ض املجاالت‪ ،‬كما كان هناك‬
‫ح�ضور للمجتمع املدين الذي نظم نف�سه يف �إطار اجلمعيات‬
‫املن�ضوية حتت لواءه يف �إطار �شبكة‪ ،‬فـَ َمك َّـن ذلك عنا�رص‬
‫الن�سيج اجلمعوي من لقاء بع�ضهم البع�ض واقت�سام خرباتهم‬
‫وجتاربهم‪ .‬هكذا �أ�صبح من املمكن على موظف حكومي ما‬
‫�أن ي�ضطلع على احلقبة املوالية �أوال�سابقة لتلك التي �سيق�ضيها‬
‫يف عمله‪.‬‬
‫قمنا كذلك بتطوير م�ؤ�س�سات تابعة للمجتمع املدين‬
‫يف �شكل منظمات متخ�ص�صة يف جماالت بعينها‪ .‬ولقد �شكل‬
‫ذلك يف اعتقادي جتربة فريدة من نوعها‪ .‬كان هناك مث ًال‬
‫جمال خا�ص باملعلومات التقنية‪ ،‬ولقد �أدى كل هذا العمل‬
‫املنجز خللق بع�ض الوحدات املخت�صة يف بع�ض امليادين‪.‬‬
‫فبالن�سبة للقانون اجلديد املنظـِّم جلهاز اال�ستعالمات املدنية‬
‫ولي�ست الع�سكرية‪ ،‬وال�ضوابط التي ترافقه‪ ،‬ف�إن معظم قوانينه‬
‫�أتت �أ�سا�س ًا مب�ساهمة املجتمع املدين‪ ،‬وداللة ذلك هو�أن امل�سار‬
‫مل يكن ال بالق�صري وال بالي�سري يف جمال التخ�ص�ص‪ ،‬ولكن هذا‬
‫يعني كذلك ب�أن املجتمع املدين – يف �سياق احلرب الأهلية‬
‫وما بعدها ‪� -‬أ�صبح �أمام مهمة تطوير العديد من املبادرات يف‬
‫جمال التعاون وو�ضع اال�سرتاتيجيات‪.‬‬
‫كان يتعني على املجتمع املدين كذلك �إيجاد �سبل‬
‫جديدة للتعاون دون �أن ين�سى دوره يف جمال املنا�رصة وح�شد‬
‫الدعم‪ .‬كان هناك توازن يف كل هته املكونات يف غواتيماال‪،‬‬

‫احلكامة الأمنية اجليدة‬


‫‪45‬‬
‫ومن اجلدير بالذكر ب�أننا حققنا جناحات باهرة يف جمال‬
‫ت�رسيح و�إعادة انت�شار قوات اجلي�ش (‪ )demobilization‬وخف�ض‬
‫الت�سلح (‪ ،)disarmament‬وكذا �إعادة �إدماج عنا�رص اجلي�ش يف‬
‫احلياة املدنية (‪ ،)reintegration‬وهي عنا�رص مرتبطة بنهاية‬
‫فرتة احلرب وبالتايل بنزع ال�صبغة الع�سكرية عن مظاهر‬
‫احلياة ال�سيا�سية‪ ،‬بحيث مل يعد هناك من دور للجي�ش يف احلياة‬
‫ال�سيا�سية �أواالجتماعية‪ .‬غري �أنه ب�سبب �ضعف الدولة و�ضعف‬
‫املراقبة املدنية �أ�صبحت هذه امل�ؤ�س�سة م�ستقلة متام ًا‪� .‬أما‬
‫بخ�صو�ص قطاع ال�رشطة فلقد واجهنا ف�ش ًال ذريع ًا فيما يخ�ص‬
‫�إعادة تنظيمه‪.‬‬
‫ُ�ضخ من طرف املجتمع الدويل يف هذا‬ ‫بد�أت املوارد ت َ‬
‫القطاع ولكن دون جدوى تُذكر‪� .‬أما الأ�سباب الكامنة وراء ذلك‬
‫فكان �أولها الت�سيي�س الذي عرفه هذا القطاع‪� ،‬إ�ضافة لتف�شي‬
‫الزبونية يف التعامل مع الق�ضايا املعرو�ضة على اجلهاز‪ ،‬ناهيك‬
‫عن الف�ساد الذي ا�ست�رشى لدرجة �أن م�ؤ�س�سة ال�رشطة �أ�صبح‬
‫ُينظر �إليها لي�س كجهاز ي�ضطلع بحماية املواطنني وال�سهر على‬
‫�أمنهم و�سالمتهم‪ ،‬ولكن كجهاز ُيهدد ا�ستقرار املجتمع‪ ،‬حيث‬
‫ت َُـبث ب�أن بع�ض املنظمات الأخطبوطية للجرمية املنظمة‬
‫�أ�صبحت تُدار من داخل جهاز ال�رشطة‪ ،‬ومن طرف بع�ض‬
‫ال�ضباط الفا�سدين‪ .‬يف نف�س احلني ح�صل تطور يف نوعية‬
‫اخلدمات الأمنية اخلا�صة على وجه التحديد‪.‬‬
‫رمبا اجلانب اجليد هوبزوغ نظام لال�ستعالمات املدنية‪،‬‬
‫كما �أنه مند �شهر مت �إعداد مقرتح متكامل يطرح �إطار‬
‫ومقاربة �شاملني لإ�صالح العديد من املرافق املرتبطة بالأمن‪.‬‬

‫احلكامة الأمنية اجليدة‬


‫‪46‬‬
‫�أما بخ�صو�ص تفعيل هذه املقرتحات وترجمتها على �أر�ض‬
‫الواقع فهذا ُي�شكل طبع ًا مو�ضوع ًا �آخر‪.‬‬
‫�إذا ما �س�ألتموين �س�أقول ب�أن هذه حالة جلية تعر�ض‬
‫للإخفاق وكذلك للنجاح يف التعامل مع الواقع‪ .‬مل يكن امل�سار‬
‫م�ستقيما‪ ،‬بل بطيئ ًا وملتوي ًا تتخلله الكثري من ال�صعاب‪ ،‬غري‬
‫�أن �أهم ما فيه هوكونه م�سار م�ستمر مل يتوقف‪ .‬وكما �أ�رشت‬
‫لذلك �سابق ًا كان هناك واقع قد تغري بالفعل‪� ،‬إذ مت �إ�صالح‬
‫النظام الأمني‪ ،‬كما �أن الهدف الرئي�س كان هومنع الدولة من‬
‫ارتكاب �أية خروقات تطال حقوق املواطنني‪ ،‬وذلك ما �أح�س‬
‫به ال�شعب‪ .‬غري �أن الإ�شكال �أ�صبح يتمثل يف كون تهديد �أمن‬
‫املواطنني مل يعد م�صدره الدولة �أوالنظام القائم‪ ،‬و�إمنا عجز‬
‫هذه الأخرية على الوقوف يف وجه امل�صادر الأخرى املهددة‬
‫للمجتمع كاجلرمية املنظمة ومن يمُ ثلها �أويقف وراءها‪،‬‬
‫�أومن و�صفهم املجتمع املدين باملهددين حلقوق الإن�سان‪.‬‬
‫�أخري ًا �أود القول �أن �إ�صالح قطاع الأمن وحمو�آثار ع�سكرة‬
‫املجتمع‪ ،‬يدخالن �ضمن عملية الإ�صالح ال�شامل‪ .‬و�أود �أن �أقول‬
‫كذاك ب�أنه من ال�رضوري ر�صد هذه العالقة اجلدلية بني‬
‫الدمقرطة و�إ�صالح القطاع الأمني‪ ،‬وهي �أ�شياء مت التطرق �إليها‬
‫من قبل‪� .‬إن �إ�صالح اجلهاز الأمني يف البلد ًل ُيعترب من ال�رشوط‬
‫الأ�سا�سية للدمقرطة‪ ،‬ولكن يف نف�س الوقت‪ ،‬ف�إن تطبيق ذلك‬
‫وتفعيله على �أر�ض الواقع يبقى رهين ًا بدرجة فعالية التحوالت‬
‫وتعزيز الدميقراطية‪ ،‬حيث يجب �أن يكون كل ذلك جاهز ًا‬
‫للعمل‪ .‬كما �أن تر�سيخ �إ�صالح هذا القطاع مت من خالل تعزيز‬
‫امل�سار الدميقراطي‪ ،‬ولكنه يف نف�س احلني تعر�ض لبع�ض‬

‫احلكامة الأمنية اجليدة‬


‫‪47‬‬
‫عمليات التوقف ب�سبب حمدودية الأثر الذي �أحدثه امل�سار‬
‫الدميقراطي والذي كان ُيراد منه �أن يكون �شام ًال يف البدء‪ ،‬وهذا‬
‫ين�سحب على التجربة الأمريكية الالتينية برمتها‪ ،‬ولي�س على‬
‫التجربة الغواتيمالية فح�سب‪ .‬ب�صفة عامة‪ ،‬يجب‪ ،‬خالل امل�سار‬
‫الدميقراطي‪ ،‬االنخراط يف �إ�صالح القطاع الأمني‪ ،‬مما �سي�ضمن‬
‫– على املدى البعيد ‪ -‬ا�ستدامة االلتزام وا�سرتاتيجيات مرنة‪.‬‬
‫ومن نافلة القول الت�أكيد ب�أن ذلك �سيتطلب عم ًال وجهد ًا �أطول‪.‬‬
‫�أما امل�س�ألة الثانية فتكمن يف �رضورة �أخذ تلك العالقة‬
‫اجلدلية القائمة بني الدولة من جهة واملجتمع بعني االعتبار‪،‬‬
‫مما ُي�شكل ق�ضايا �سيا�سية كبرية‪ .‬كما �أن �إ�صالح القطاع الأمني‬
‫يرتبط بق�ضايا �سيا�سية تنق�سم ملجموعتني‪� :‬أو ًال‪ ،‬هناك القرارات‬
‫ال�سيا�سية التي تتحدث عن املجاالت املحددة لتحويل العالقات‬
‫داخل الدولة بني امل�ؤ�س�سات واملجتمع‪ ،‬وكذلك اخليارات التقنية‬
‫العملياتية (‪ )Options Operational Technical‬الهادفة للتعامل مع‬
‫املتخذة‪.‬‬
‫َ‬ ‫بع�ض الق�ضايا التي تنبع من هذه القرارات الكربى‬
‫طبع ًا هناك يف بع�ض الأحيان و�ضوح على امل�ستوى ال�سيا�سي‬
‫مما ي�سمح باال�ستمرار‪ .‬غري �أن امل�سار قد يتوقف (وهذا ما �أود‬
‫�إثارة انتباهكم �إليه �إذا ما بدا لكم ذلك ذا قيمة �أومعنى طبع ًا)‬
‫حني ال يكون هناك ما يكفي من احلراك ال�سيا�سي‪� ،‬أوحني يكون‬
‫رمبا هناك �ضعف االنخراط يف النقا�ش ال�سيا�سي الدائر وطني ًا‬
‫بخ�صو�ص اخليارات العملياتية التي من �ش�أنها �أن تخلق و�ضوح ًا‬
‫كافيا للمواقف بالن�سبة لبع�ض الفاعلني يف احلقل ال�سيا�سي �أويف‬
‫دواليب الدولة‪ .‬كذلك الأمر بالن�سبة خللق التغريات ال�سيا�سية‬
‫املالئمة‪� ،‬أوالقدرة على اال�ستمرار يف العمل‪ .‬هذا هوال�ش�أن بالن�سبة‬
‫لإ�صالح جهاز اال�ستعالمات يف غواتيماال‪.‬‬

‫احلكامة الأمنية اجليدة‬


‫‪48‬‬
‫�أخري ًا �أود �أن �أقول ب�أن ما ا�ستخل�صناه من درو�س هو�أن‬
‫هذا املجال املعقد واملطبوع ب�ضعف الدولة على م�ستوى بع�ض‬
‫مرافقها وكذا امل�ؤ�س�سات الوطنية التي �سادها بع�ض اجلمود‬
‫الذي كان يقف حجرة عرثة يف وجه التغيري داخل الدولة‪،‬‬
‫كل تلك العوامل دفعتنا لبناء بع�ض التحالفات بني الفاعلني‬
‫املختلفني داخل ومع الدولة لأن املهمة ال تخ�ص الدولة فقط‬
‫و�إمنا كافة قوى املجتمع املدين التي يجب �أن تنخرط يف هذا‬
‫امل�سار وتديل بدلوها‪ .‬غري �أنه – واعتبار ًا لكل ما �سبق ذكره –‬
‫ف�إنه لي�س من ُ‬
‫املحـَب َّـذ �أن يتم االتكال الكلي على املجتمع املدين‬
‫فقط؛ بل يجب �إ�رشاك كل الفاعلني الآخرين‪ .‬ولقد ات�ضح �أنه‬
‫من ال�رضوري تطوير ا�سرتاتيجيات للحوار ُبغية �ضمان التزام‬
‫وانخراط اجلميع يف هذا امل�سار‪ .‬كان من الواجب �أن تت�سم‬
‫واخلطط املو�ضوعة مبا يكفي من املرونة حتى‬ ‫اال�سرتاتيجيات ُ‬
‫يتم الت�أقلم مع تقلبات املناخ ال�سيا�سي مبا يكفي من ال�سال�سة‪.‬‬
‫كان علينا كمجتمع مدين �أن ننتقل من مرحلة االحتجاج‬
‫�إىل مرحلة انتقاد بع�ض الأو�ضاع والإتيان ببديل‪ ،‬كما كان‬
‫علينا �أن ُنطور ما يكفي من القدرات التقنية حتى ُن�أخذ من‬
‫طرف الدولة على حممل اجلد‪،‬وحتى ن�صري �شرُ كاء كاملي‬
‫ال�رشاكة يف هذا التعريف اجلديد‪.‬‬
‫�س�أختم قويل بالت�أكيد على �أن �أح�سن ٍ‬
‫مثل ميكن �أن ن�سوقه‬
‫بهذا اخل�صو�ص هو�أن تكون هناك موافقة على النظام الوطني‬
‫املنظم لقطاع الأمن القومي‪ .‬كانت لنا الكثري من الآليات التي‬
‫جعلت املجتمع املدين يتفاعل مع الدولة ومن بني تلك الآليات‬
‫مكتب االت�صال الذي كان موجود ًا يف الكونغر�س والذي كانت‬
‫منظمات املجتمع املدين تعمل فيه مبوجب اتفاق ر�سمي‪،‬‬

‫احلكامة الأمنية اجليدة‬


‫‪49‬‬
‫مما جعل هذا املجتمع املدين يعمل كم�ست�شار تقني للجان‬
‫الربملانية العاملة يف هذا املجال �أوذاك؛ ولقد مكن ذلك من‬
‫حتقيق �أح�سن نوع من االخرتاق (مبفهومه الإيجابي) مهد‬
‫لهذه املنظمات العمل يف م�ؤ�س�سات الدولة و�سوف �أتوقف هنا‬
‫�شاكر ًا لكم كرمي عنايتكم‪.‬‬

‫احلكامة الأمنية اجليدة‬


‫‪50‬‬
‫اخلطوات الأوىل على درب �إ�صالح اجلهاز الأمني‬
‫جانني رو�ش*‬

‫منذ مدة لي�ست بالق�صرية و�أنا �أتعاون مع جهاز ال�رشطة ونظام‬


‫العدالة اجلنائية يف جنوب �إفريقيا‪ .‬وتعترب جتربتنا يف جمال‬
‫�إ�صالح جهاز الأمن من بني �أف�ضل التجارب يف �إفريقيا – وللعلم‬
‫ف�إين �أح�رضت معي وثيقة باللغة الفرن�سية ت�ستعر�ض بتف�صيل‬
‫م�سل�سل الإ�صالحات التي قمنا بها داخل م�صالح ال�رشطة يف‬
‫جنوب �إفريقيا‪ .‬ومتت هذه التجربة يف �إطار تغيري النظام‬
‫الذي عرفه البلد‪ ،‬وهوحتول جوهري داخل املجتمع يف جنوب‬
‫�إفريقيا‪ ،‬هم احلياة ال�سيا�سية والعالقات بني املواطنني و�أجهزة‬
‫الدولة‪ .‬غري �أين �س�أركز اليوم على الإرها�صات الأوىل مل�سار‬
‫�إ�صالح جهاز الأمن يف جنوب �إفريقيا خالل املرحلة ال�سابقة‬
‫العتماد الد�ستور الدميقراطي اجلديد للبالد – يعني خالل مرحلة‬
‫املفاو�ضات بني احلكومة ال�سابقة وحركات التحرير – حيث‬
‫ع�شنا مراحل ع�صيبة وم�ؤملة من تاريخ جنوب �إفريقيا‪.‬‬

‫* مركز الدميقراطية بجنوب �إفريقيا‬

‫احلكامة الأمنية اجليدة‬


‫‪51‬‬
‫بد�أت املفاو�ضات بني حكومة امليز العن�رصي وامل�س�ؤولني‬
‫ال�سيا�سيني يف املنفى يف �رسية تامة خالل �سنوات امليز‬
‫العن�رصي‪ .‬غري �أن املفاو�ضات الهامة بد�أت بعد �شهر فرباير‬
‫من عام ‪ 1990‬حينما �أخلت احلكومة ال�سابقة �سبيل ال�سيد‬
‫مانديال ورفعت احلظر الذي كان مفرو�ضا على الأحزاب‬
‫ال�سيا�سية الدميقراطية‪ .‬ودامت املفاو�ضات ملدة ثالث �سنوات‬
‫– متيزت بكثري من الرتدد والعنف ال�سيا�سي وتفكري معمق‬
‫حول �رضورة �إ�صالح جهاز الأمن‪.‬‬
‫�س�أحتدث خالل هذا العر�ض عن بع�ض خ�صائ�ص مرحلة‬
‫املفاو�ضات وكذا بع�ض اخلطوات الأوىل نحو�إ�صالح امل�ؤ�س�سات‬
‫الأمنية بجنوب �إفريقيا‪.‬‬
‫كانت العالقة بني اجلي�ش وم�صالح ال�رشطة يف جنوب �إفريقيا‬
‫وغالبية مواطني هذا البلد بالغة ال�سوء‪� ،‬إذ �أدت ثالثون �سنة‬
‫من نظام امليز العن�رصي وعمليات القمع ال�شنيعة �إىل طغيان‬
‫�شعور اخلوف واحلقد العميقني �إزاء م�صالح �أجهزة الأمن لدى‬
‫غالبة مواطني جنوب �إفريقيا‪ .‬وكان الو�ضع كان على درجة‬
‫من ال�سوء بحيث بد�أ املواطنون ي�ستهدفون عنا�رص ال�رشطة‬
‫خالل اال�ضطرابات العنيفة ذات الطابع العرقي‪ ،‬ما دفع‬
‫بعنا�رص ال�رشطة �إىل العي�ش داخل ثكنات حم�صنة مبعزل عن‬
‫باقي فئات املجتمع الأخرى التي كان يتوجب عليهم �ضمان‬
‫حمايتها‪ .‬وكان عنا�رص ال�رشطة يف كثري من الأحيان هدفا‬
‫العتداءات عنيفة‪ ،‬الأمر الذي يف�رس كون جنوب �إفريقيا‬
‫ت�سجل �أكرب عدد من رجال ال�رشطة الذين قتلوا من جراء‬
‫عمليات العنف عرب العامل‪ ( .‬وهو�أمر خمتلف عن الو�ضع‬

‫احلكامة الأمنية اجليدة‬


‫‪52‬‬
‫يف جمهورية الكونغوالدميقراطية ‪-‬حيث �أ�شتغل حاليا‪ -‬وحيث‬
‫العالقات بني اجلي�ش واملواطنني هي كذلك بالغة ال�سوء‪ ،‬غري‬
‫�أن عالقات املواطنني مع ال�رشطة هي عالقات �إيجابية يف‬
‫الغالب)‪.‬‬
‫كانت ثمة رغبة �سيا�سية قوية لدى قادة كال طريف ال�رصاع‬
‫( قوات امليز العن�رصي وقوات احلركة الدميقراطية) بغية‬
‫الو�صول �إىل حل تفاو�ضي يخدم م�ستقبل جنوب �إفريقيا‪.‬‬
‫وكان الأمر كذلك بالن�سبة للجي�ش وقوات ال�رشطة وم�صالح‬
‫اال�ستخبارات حيث طلب ممن �شارك منهم يف املفاو�ضات ب�أن‬
‫يوا�صلوا العمل حتى يجدوا �أر�ضية للتفاهم‪ ،‬ما �ساعد على خلق‬
‫جومن الوفاق وامل�صاحلة‪.‬‬
‫كانت املفاو�ضات التي انطلقت عام ‪ 1990‬يف جنوب �إفريقيا‬
‫اللقاء الر�سمي الأول بني م�س�ؤويل الأمن التابعني للأحزاب‬
‫ال�سيا�سية – عدا االجتماع الذي �شهد اعتقال قادة حزب امل�ؤمتر‬
‫الوطني الإفريقي (‪ )ANC‬وتعذيبهم و�سجنهم من طرف نظام‬
‫امليز العن�رصي‪ .‬ف�أطراف ال�رصاع كانوا �أعداء يف خ�ضم حربا‬
‫�أهلية‪ ،‬ومل يكن من ال�سهل جمعهم حول مائدة حوار واحدة‬
‫لل�رشوع يف مفاو�ضات بناءة‪.‬‬
‫كانت وجهات نظر الطرفني خمتلفة متاما فيما يخ�ص �إ�صالح‬
‫�أجهزة الأمن‪ ،‬و�س�أ�سوق مثالني لتو�ضيح هذه امل�س�ألة‪:‬‬
‫بالن�سبة لإ�صالح اجلي�ش‪ :‬كانت حركات التحرير تتوفر‬
‫على جمموعات �صغرية من املقاتلني بينما كان نظام امليز‬
‫العن�رصي يتوفر على جي�ش نظامي كبري ومتطور‪ .‬وحينما‬

‫احلكامة الأمنية اجليدة‬


‫‪53‬‬
‫انطلقت املفاو�ضات بني الطرفني‪ ،‬كان قادة قوات الدفاع‬
‫اجلنوب �إفريقيني ي�رصون على �إدماج جميع الوحدات املقاتلة‬
‫الأخرى يف �صفوف اجلي�ش النظامي للبالد و�رضورة تكيفهم مع‬
‫طرق عمل اجلي�ش النظامي وثقافته‪ .‬بينما كان قادة الوحدات‬
‫املقاتلة الأخرى ي�رصون على اعتبارهم يف �إطار جنوب‬
‫�إفريقيا ما بعد امليز العن�رصي «كفائزين» لأنهم هزموا نظام‬
‫امليز العن�رصي؛ وب�أنه يتعني حل اجلي�ش النظامي ال�سابق‬
‫و�رضورة تعيني قادة جدد للجي�ش من بني �صفوف �أبطال الن�ضال‬
‫التحريري‪ .‬وكان من ال�صعب مبكان ال�رشوع يف مفاو�ضات‬
‫حول م�ستقبل جنوب �إفريقيا انطالقا من هذين املوقفني‬
‫املت�ضاربني‪ .‬ويف نهاية املطاف مت ت�شكيل اجلي�ش النظامي‬
‫اجلديد جلنوب �إفريقيا من عملية دمج جميع الوحدات املقاتلة‬
‫للطرفني وجعلها حتت �إمرة وزير للدفاع منحدر من حزب‬
‫امل�ؤمتر الوطني الإفريقي وقائد لأركان اجلي�ش منحدر من‬
‫اجلي�ش النظامي ال�سابق لنظام امليز العن�رصي‪ ،‬مع م�ساعد له‬
‫منحدر من حزب امل�ؤمتر الإفريقي مع �إدخال تعديالت عديدة‬
‫على رموز اجلي�ش النظامي و�سيا�سته العامة‪.‬‬
‫بالن�سبة لإ�صالح م�صالح ال�رشطة‪ :‬كان جتمع الدميقراطيني‬
‫امل�شاركني يف املفاو�ضات يدافعون عن مبادئ من قبيل‬
‫حقوق الإن�سان وامل�ساءلة‪ .‬لقد عهد �إىل عنا�رص ال�رشطة يف‬
‫جنوب �إفريقيا خالل ثالثني �سنة بتنفيذ قوانني نظام امليز‬
‫العن�رصي التي كانت مت�س بحقوق ال�شعوب‪ ،‬كما كانوا‬
‫يتمتعون بح�صانة تامة ويت�رصفون يف بع�ض الأحيان خارج �أي‬
‫�إطار ملراقبة الدولة‪ .‬ومن ثمة‪ ،‬ف�إن مفهوم « امل�سائلة» كان‬
‫غائبا عن ت�صوراتهم وكانوا يتخوفون من �آثار اعتماده‪.‬‬

‫احلكامة الأمنية اجليدة‬


‫‪54‬‬
‫‪ -5‬كانت القوى الدميقراطية (يف احلكومة اجلديدة جلنوب‬
‫�إفريقيا) تعاين من نق�ص كبري يف الكفاءات التقنية ال�رضورية‬
‫ملمار�سة احلكم‪ .‬فرغم توفر كفاءات هامة على م�ستوى‬
‫اجلي�ش وم�صالح اال�ستخبارات‪ ،‬غري �أن ذلك مل يكن م�سخرا‬
‫�إال �إىل مكافحة املجموعات امل�سلحة‪ .‬كما مل تكن تتوفر على‬
‫كفاءات فيما يخ�ص اخت�صا�صات ال�رشطة – خالل فرتة‬
‫املنفى‪ ،‬مل تقم حركات التحرير بتدريب �أي �شخ�ص ل�شغل‬
‫مهام �ضابط �رشطة‪ .‬فامل�صالح الأمنية التابعة لنظام امليز‬
‫العن�رصي كانت م�ستحوذة على جميع املهارات والكفاءات‬
‫الفنية ال�رضورية‪ ،‬ما دفع القوى الدميقراطية �إىل �رضورة‬
‫التكيف مع الو�ضع واعتماد الإ�سرتاجتيتني التاليتني‪:‬‬
‫تدريب عنا�رص من القوى الدميقراطية والتقدميني املنتمني‬
‫�إىل الأحزاب ال�سيا�سية وعنا�رص جي�ش التحرير و�أفراد من‬
‫املجتمع املدين حتى يتمكنوا من املهارات الأ�سا�سية يف جمال‬
‫الأمن التي حتتاجها اجلمهورية اجلديدة جلنوب �إفريقيا‪.‬‬
‫حتديد ال�ضباط الأع�ضاء يف قوات �أمن الدولة الذين التزموا‬
‫ب�شكل تطوعي للعمل على م�ستوى الإدارة اجلديدة‪� ،‬أوالذين‬
‫كانوا يرغبون يف امل�شاركة يف بناء الدميقراطية اجلديدة‬
‫بعد انق�ضاء املرحلة االنتقالية‪ ،‬حتى يتقا�سم ه�ؤالء ال�ضباط‬
‫خربتهم مع العنا�رص اجلديدة واعتماد م�صالح الأمن ملبادئ‬
‫ال�شفافية وو�ضع ت�صور م�شرتك يهم م�ستقبل جهاز الأمن يف‬
‫جنوب �إفريقيا‪.‬‬
‫‪ -6‬كانت جنوب �إفريقيا تتوفر على حركة للمجتمع املدين‬
‫ن�شطة ومنظمة خالل الفرتة االنتقالية نحوالدميقراطية‪.‬‬

‫احلكامة الأمنية اجليدة‬


‫‪55‬‬
‫فغالبية تنظيمات املجتمع املدين (التنظيمات الدينية‬
‫واملنظمات ال�شبابية والهيئات املدنية والنقابات واملنظمات‬
‫غري احلكومية) كانت م�شاركة يف اجلهود املبذولة ملزيد من‬
‫الدميقراطية يف جنوب �إفريقيا (ما جعل من هذه التنظيمات‬
‫تو�صف ب «حلفاء �سيا�سيني» �أو«منا�رصين �سيا�سيني» من‬
‫طرف �سلطات امليز العن�رصي‪ ،‬ما يعترب �أمرا اعتياديا لدى‬
‫احلكومات التي ال ترغب يف التعامل مع تنظيمات من هذا‬
‫القبيل)‪ .‬لقد ا�ضطلع املجتمع املدين بدور هام يف عملية �إ�صالح‬
‫�أجهزة الأمن يف جنوب �إفريقيا‪ ،‬و�س�أركز يف هذا املجال على‬
‫نقطتني �أ�سا�سيتني ‪:‬‬
‫�أوال وكما �سبق ذكره �أعاله ‪ ،‬مل تكن القوى الدميقراطية خالل‬
‫املرحلة االنتقالية يف جنوب �إفريقيا تتوفر على كثري من‬
‫الكفاءات الفنية فيما يخ�ص الإدارة اجليدة �أو�إ�صالح الأجهزة‬
‫الأمنية وبالتايل كان عليها الرفع من قدراتها باالعتماد على‬
‫املجتمع املدين‪ .‬غري �أن ذلك مل يكن كافيا ما دفعها �إىل بذل‬
‫جهود كبرية خالل الت�سعينات لتجميع ما �أمكن من اخلربة‬
‫الدميقراطية املدنية يف جمال �إ�صالح اجلهاز الأمني وكذا دعم‬
‫املفاو�ضات واال�ستعداد للحكم خالل الفرتة ما بعد املفاو�ضات‪.‬‬
‫لقد التزم الكثري من الأفراد بالقيام ب�أبحاث ودرا�سات حول �أجهزة‬
‫ال�رشطة واجلي�ش وم�صالح اال�ستخبارات وحتى بع�ض منظمات‬
‫حقوق الإن�سان كان عليها �أن تتعلم النظم الفنية الداخلية جلهاز‬
‫ال�رشطة والقدرة على مواجهة هذه الأجهزة حول ق�ضايا فنية‬
‫تخ�ص ال�رشطة واحلاجة �إىل ا�ستعمال القوة لإعادة ا�ستتباب‬
‫الأمن‪ .‬و�أتاحت هذه اجلهود حتديد هوية �ضباط قوات الأمن‬

‫احلكامة الأمنية اجليدة‬


‫‪56‬‬
‫الذين التزموا بامل�ساعدة يف جهود دمقرطة النظام‪ ‬والقيام‬
‫بربط عالقات تعاون معهم‪ .‬كما مت تنظيم زيارات عمل لبلدان‬
‫�أجنبية بهدف مالحظة كيفية ت�رصف قوات حفظ الأمن‬
‫على م�ستوى بلد دميقراطي‪ .‬وباملوازاة مع هذه اجلهود‪ ,‬قام‬
‫�أفراد �سابقون من اجلي�ش من كال الطرفني وكذا ن�شطون من‬
‫حركة ال�سالم ومراقبون لو�ضع حقوق الإن�سان ومناه�ضون لأ�شكال‬
‫العنف بالتحرك وتقدمي امل�شورة والدعم للأطراف امل�شاركة يف‬
‫املفاو�ضات واال�ستعداد ملرحلة ما بعد نظام امليز العن�رصي‪.‬‬
‫ورغم كون غالبية امل�ستفيدين من عملية تعزيز القدرات هذه‬
‫خالل مرحلة املفاو�ضات كانوا من املجتمع املدين �إال �أن‬
‫معظمهم غادر تنظيمات املجتمع املدين بعد ذلك بقليل ل�شغل‬
‫منا�صب يف احلكومة الدميقراطية اجلديدة بعد عام ‪ ،1994‬ما �أدى‬
‫�إىل �إ�ضعاف تنظيمات املجتمع املدين ؛ لكن بالرغم من ذلك‪،‬‬
‫ف�إن الأمر يعترب �إيجابيا �إذا ما اعتربنا �أن تنظيمات املجتمع‬
‫املدين كانت يف مقدمة التنظيمات املناه�ضة للحكومة وقوى‬
‫�أمنها خالل �سنوات نظام امليز العن�رصي‪.‬‬
‫�أما الدور الثاين الهام الذي ا�ضطلعت به تنظيمات املجتمع‬
‫املدين فيتمثل يف قيامها بدور الو�ساطة و�صلة الو�صل خالل‬
‫مباحثات الطرفني التي همت الق�ضايا الأمنية‪ .‬وكان لهذا‬
‫الدور بالغ الأثر يف تعزيز احلوار ومتتني ال�صالت بني الطرفني‬
‫�إذ ظهر جليا احلاجة �إىل طرف ثالث يتوىل مهام الو�ساطة ب�سبب‬
‫انعدام ثقة الطرفني يف بع�ضهما البع�ض‪ .‬و�س�أتوىل احلديث ب�إيجاز‬
‫عن مبادرتني هامتني قام بهما املعهد من �أجل الدميقراطية‬
‫يف جنوب �إفريقيا (‪: )IDASA‬‬

‫احلكامة الأمنية اجليدة‬


‫‪57‬‬
‫نظم املعهد من �أجل الدميقراطية يف جنوب �إفريقيا لقاءات بني‬
‫جمموعة من قادة القوات امل�سلحة يف املنفى والتابعة للم�ؤمتر‬
‫الوطني الإفريقي ووفد خمتلط من اجلنوب �إفريقيني يهتمون‬
‫بالق�ضايا الأمنية – كان قادة امل�ؤمتر الوطني الإفريقي ال يزالون‬
‫باملنفى وكثري منهم كانوا �ضمن قائمة الأفراد املطلوبني‬
‫من طرف �أجهزة الأمن بجنوب �إفريقيا؛ وكان وفد اجلنوب‬
‫�إفريقيني م�ؤلفا من جامعيني و�سيا�سيني ون�شطاء من املجتمع‬
‫املدين وكذا بع�ض مندوبي احلكومة الذين كان عليهم رفع‬
‫تقرير مبا�رش لقادة قوات �أمن نظام امليز العن�رصي‪ .‬و�ساعد‬
‫هذا اللقاء يف تهيئة الأجواء لعقد املفاو�ضات بعد ذلك حول‬
‫م�سائل �إ�صالح �أجهزة الأمن و�أجهزة اال�ستخبارات واجلي�ش ‪ ،‬مبا‬
‫�أن اللقاء �سمح للأطراف بالتعرف على بع�ضهم البع�ض باعتبار‬
‫انتمائهم لنف�س البلد وال�شعب‪ ،‬ما �ساهم يف ظهور جومن الثقة‬
‫بني الطرفني‪.‬‬
‫لقد مكن املعهد من �أجل الدميقراطية يف جنوب �إفريقيا من‬
‫عقد لقاءات بني الطرفني لي�س فقط على م�ستوى امل�س�ؤولني‬
‫الكبار بل كذلك على م�ستوى القاعدة‪ ،‬حيث �سهل عديدا من‬
‫لقاءات احلوار بني �أفراد من ال�رشطة املحلية واملجموعات‬
‫املحلية‪ .‬ومل يكن بو�سع ال�رشطة الدعوة �إىل مثل هذه اللقاءات‬
‫مع املجموعات املحلية ( للتباحث ب�ش�أن ق�ضايا الإجرام على‬
‫امل�ستوى املحلي �أوال�سيا�سة اجلديدة لوحدات الأمن) ب�سبب‬
‫ال�شعور القوي بالريبة لدى ال�سكان وكذا خوفها من امل�شاركة‬
‫يف مثل هذه املباحثات؛ مما تطلب تدخل و�سيط ثالث م�ستقل‬
‫للم�ساعدة يف ربط مثل هذه العالقات الهامة بني ال�رشطة‬
‫واملجتمع املحلي‪ .‬واعتمدنا يف هذا الإطار على منوذج ور�شات‬

‫احلكامة الأمنية اجليدة‬


‫‪58‬‬
‫عمل ملدة يومني �أتبث جناحها ب�شكل كبري‪ .‬فخالل �صبيحة‬
‫اليوم الأول‪ ،‬يقوم ممثلوال�رشطة واملجموعة املحلية بتبادل‬
‫مواقفهم وجتاربهم ومطالبهم؛ بينما تخ�ص�ص جل�سة ما بع�ض‬
‫الظهر لأ�شغال يف جمموعات عمل م�صغرة بهدف حتديد جميع‬
‫امل�شاكل التي ت�شوب العالقة بني ال�رشطة واملجموعات‬
‫املحلية‪ .‬وكانت جل�سة ال�صباح الأوىل دائما الأ�صعب بالنظر‬
‫للجوامل�شحون الذي يطبعها والذي ي�صاحبه تعبري عن الغ�ضب‬
‫واالحتقان لدى امل�شاركني – مما ي�ستدعي وجود مي�رس حمايد‬
‫للجل�سة‪ .‬وكنا ن�شجع خالل امل�ساء امل�شاركني على التعرف‬
‫على بع�ضهم البع�ض وتلطيف الأجواء – ويوا�صل امل�شاركون‬
‫يف الغالب نقا�شات اجلل�سة ال�صباحية‪ .‬وعمدنا لت�سهيل احلوار‬
‫�إىل �أداء قيمة ما ي�ستهلكه امل�شاركون من م�رشوبات يف احلانة‬
‫خالل هذه اللقاءات‪ .‬وع�شت �إبان هذه املرحلة فرتات قوية من‬
‫التغيري وامل�صاحلة خالل هذه الور�شات – حيث ي�ستمع عنا�رص‬
‫ال�رشطة �إىل وقع ت�رصفاتهم من �أفواه ال�ضحايا �أوامل�صاحلة بني‬
‫اجلالدين و�ضحايا التعذيب واالتفاق على طي �صفحة املا�ضي‪...‬‬
‫وكلهم كانوا خ�صوما يف ال�سابق والتقوا لكتابة �صفحة جديدة‬
‫من تاريخ جنوب �إفريقيا‪ .‬وخالل اليوم الثاين – ورغم �آثار‬
‫الكحول الذي مت تناوله م�ساء البارحة – يوا�صل امل�شاركون‬
‫�أعمالهم يف جو�أقل توترا ويف جمموعات �صغرية القرتاح بع�ض‬
‫اخلطط حول �سبل حت�سني العالقات بني ال�رشطة واملجتمع‬
‫املحلي وكذا كيفية احلفاظ على الأمن داخل �أحيائهم‪.‬‬
‫‪� .7‬أود التطرق �إىل نقطة �أخرية بخ�صو�ص مقاربتنا جلهود‬
‫الإ�صالح خالل ال�سنوات التي �سبقت ت�شكيل اجلمهورية اجلديدة‬
‫يف جنوب �إفريقيا – ال�سيما بعد �أن اعترب مثال جنوب �إفريقيا‬

‫احلكامة الأمنية اجليدة‬


‫‪59‬‬
‫يف الغالب من الأمثلة الناجحة – وبعدما كنا جميعا منت�شني‬
‫بفكرة ت�شكيل نظام دميقراطي جديد و�إعطاء االنطالقة مل�سار‬
‫م�صاحلة واعد‪� ،‬إال �أننا مل نتحدث كثريا عن ظاهرة الإجرام‬
‫والتهديدات الكبرية لأمن املواطنني يف جنوب �إفريقيا‪.‬‬
‫وخالل عملية تعزيز القدرات ا�ستعدادا للتغيري الذي عرفته‬
‫امل�ؤ�س�سات الأمنية‪ ،‬ركزنا على اجلوانب اخلارجية بدل التفكري‬
‫يف الظروف العامة امل�صاحبة للمرحلة االنتقالية ما بعد النزاع‬
‫امل�سلح والتي �أدت �إىل تنامي ظاهرة الإجرام العنيف‪ .‬ويعد‬
‫التحدي الأكرب بالن�سبة لنا اليوم هوتدريب ما �أمكن من‬
‫اخلرباء داخل احلكومة �أوعلى م�ستوى املجتمع املدين بهدف‬
‫الت�صدي جميعا لظاهرة الإجرام امل�ستفحلة وذلك بكل ال�سبل‬
‫الدميقراطية املتاحة لنا‪.‬‬

‫احلكامة الأمنية اجليدة‬


‫‪60‬‬
‫�إ�صالح جهاز ال�شرطة يف �سوي�سرا‬
‫بيري �أبييلي*‬

‫متهيد‬

‫يعد هذا الن�ص الن�سخة الورقية واملنقحة بع�ض ال�شيء‬


‫للعر�ض الذي ق ُـدم من طرف امل�شار �إليه �أعاله يف الرباط يف‬
‫‪ 9‬من �أبريل ‪ 2008‬يف �إطار الندوة الوطنية حول جتارب �إ�صالح‬
‫�أجهزة الأمن‪.‬‬
‫يعر�ض الن�ص حلركات �إ�صالح جهاز ال�رشطة يف �سوي�رسا‬
‫و ُيـربز الإطار العام لهذه احلركات الإ�صالحية والن�سق اخلا�ص‬
‫الذي كانت تعرفه �سوي�رسا �آنذاك‪.‬‬
‫الإطار العام حلركات �إ�صالح جهاز ال�شرطة‬

‫ت�ضطر جميع �أجهزة ال�رشطة عرب العامل �إىل القيام‬


‫بحركات �إ�صالحية بني الفينة والأخرى حتى تعيد النظر‬

‫* م�ست�شار �سام لل�رشطة ب�سوي�رسا‬

‫احلكامة الأمنية اجليدة‬


‫‪61‬‬
‫يف �آليات عملها وتتكيف مع متطلبات ح�سن �سري عملياتها‬
‫بناء على خم�سة متغريات‬ ‫ً‬ ‫واملبادئ التي تقوم عليها وذلك‬
‫�أ�سا�سية ‪ :‬اختفاء التمييز بني الأمن الداخلي والأمن اخلارجي؛‬
‫والأ�شكال اجلديدة للإجرام؛ وتطلعات ال�سكان �إزاء ال�رشطة‬
‫وكذا املتعاونني؛ وال�ضغوط االقت�صادية ؛ ثم ت�أثري الفكر‬
‫التدبريي احلديث‪.‬‬
‫ويندرج م�سار �إ�صالح جهاز ال�رشطة بهذا ال�صدد يف �إطار‬
‫م�سار الإ�صالح العام الذي طال نظام الأمن بالنظر �إىل التطورات‬
‫احلديثة و�رضورة البحث عن م�ستوى جديد من التوازن‪.‬‬
‫ينعك�س م�سار الإ�صالح على جميع م�ستويات هذا النظام‪،‬‬
‫بدءا مبا هوعام وانتهاء مبا هوخا�ص‪� ،‬إذ يتعلق الأمر ب�إعادة‬
‫حتديد ال�سيا�سية الأمنية حتى ميكن يف هذا الإطار حتديد دور‬
‫ومهام خمتلف الفاعلني املعنيني – قوات اجلي�ش وال�رشطة‬
‫وحر�س احلدود – والعالقات بينهم وتق�سيم الإمكانيات بينهم؛ ثم‬
‫العمل على م�ستوى كل من هذه الوحدات ‪ ،‬وال�سيما بالن�سبة‬
‫لنا يف جهاز ال�رشطة‪،‬على �إعادة النظر يف �أ�شكال التنظيم‬
‫ومناهج التدخل وم�سارات الأداء الوظيفي‪.‬‬
‫يكت�سي الرتابط الذي يجب حتقيقه بني جميع مكونات‬
‫الكيان الأمني �أهمية بالغة ‪ :‬على امل�ستوى ال�سيا�سي (مهام‬
‫ال�رشطة يف ال�سيا�سة الأمنية وتفاعلها مع باقي الفاعلني‬
‫الآخرين) وامل�ستوى اال�سرتاتيجي ( التنظيم العام جلهاز‬
‫ال�رشطة على ال�صعيد الوطني) وامل�ستوى العملياتي ( �أ�شكال‬
‫تنظيم جهاز ال�رشطة و�إطارها العملياتي) وامل�ستوى التكتيكي‬

‫احلكامة الأمنية اجليدة‬


‫‪62‬‬
‫( من حيث املبادئ العامة املنظمة لعمل ال�رشطة و�إجراءاته‬
‫ومناهجه)‪.‬‬
‫يربز هذا النموذج العام جانبني هامني من جوانب �إ�صالح‬
‫�أجهزة ال�رشطة‪� .‬أولهما مرتبط بالقيود النابعة من هيكلة‬
‫�إدارة البالد حيث متار�س ن�شاطها‪ ،‬وثانيهما مرتبط بامل�شاكل‬
‫ذاتها التي تتعامل معها باقي �أجهزة ال�رشطة بالنظر �إىل تطور‬
‫التهديدات الإجرامية والإرهاب‪.‬‬
‫�سنعر�ض للعامل الثاين يف باب متقدم من هذه الدرا�سة؛‬
‫ولنربز �أوال العالقة بني بع�ض هياكل الدولة والتنظيم العام‬
‫لل�رشطة من خالل مثالني ‪.‬‬
‫كانت النم�سا تتوفر حتى عام ‪ 2004‬على �أربعة قوات‬
‫حلفظ النظام م�ستقلة وجميعها حتت مظلة وزارة الداخلية ‪:‬‬
‫قوات الدرك وال�رشطة اجلنائية و�رشطة حفظ الأمن وحر�س‬
‫احلدود‪ .‬ومت بعد ذلك دمج جميع هذه الوحدات يف هيئة‬
‫واحدة تغطي �أقاليم النم�سا الت�سعة‪ .‬ووفقت بذلك النم�سا بني‬
‫خيار الإدارة املركزية ال�سائد منذ عقود طويلة وهياكل الدولة‬
‫التي تطورت خالل املرحلة املعا�رصة والتي ترتكز على تق�سيم‬
‫البالد �إىل ت�سعة مقاطعات �أو�أقاليم‪.‬‬
‫�أما بلجيكا فقد قامت بعد عدد من الأحداث ب�إعادة هيكلة‬
‫جذرية جلهاز �رشطتها ب�إلغاء قوات الدرك وال�رشطة اجلنائية‬
‫و�إحداث جهاز �رشطة فدرالية كلفت مبهام خا�صة مل�ساندة‬
‫مناطق ال�رشطة البالغ عددها ‪ 196‬عرب البالد من خالل دمج‬
‫م�صالح �رشطة البلديات ووحدات الدرك املحلية ال�سابقة‪.‬‬

‫احلكامة الأمنية اجليدة‬


‫‪63‬‬
‫وتكون وحدات ال�رشطة حتت م�س�ؤولية عمداء البلديات‬
‫بالن�سبة للق�ضايا الإدارية‪ ،‬وحتت م�س�ؤولية وكيل امللك بالن�سبة‬
‫للق�ضايا الق�ضائية‪ .‬ومت و�ضع نظام معقد للتن�سيق بني الوحدات‬
‫يعتمد على ا�ستغالل اال�ستعالمات ب�شكل ي�سمح بالتن�سيق بني‬
‫خمتلف هيئات ال�رشطة‪ .‬ويكون بذلك الإ�صالح البلجيكي قد‬
‫�أخذ باالعتبار �أهمية البلديات حيث عمد �إىل تعزيز �صالحيات‬
‫هذه الأخرية فيما يخ�ص الق�ضايا الأمنية‪.‬‬
‫ما هوالو�ضع يف �سوي�رسا يا ترى ؟‬
‫تنظيم جهاز ال�شرطة يف �سوي�سرا‬

‫تعترب �سوي�رسا دولة فدرالية حيث تتقا�سم الكانتونات‬


‫(الأقاليم) والدولة املركزية‪ ،‬ما ي�سمى باالحتاد‪ ،‬املهام‬
‫وامل�س�ؤوليات‪ .‬فالكانتونات حتتفظ ب�صالحيات وا�سعة فيما‬
‫يخ�ص الإ�رشاف على �أجهزة ال�رشطة وقطاعات العدالة‬
‫وال�رضائب املبا�رشة والتعليم‪ .‬ويو�ضح اجلدول �أ�سفله كيف‬
‫تتقا�سم الكانتونات واالحتاد املهام وامل�س�ؤوليات بينهما‪.‬‬
‫يعترب احلفاظ على الأمن فوق �أرا�ضي الكانتونات من‬
‫مهام �أجهزة �رشطة الكانتونات والبلديات‪� .‬أما على م�ستوى‬
‫االحتاد‪ ،‬يتوىل املكتب الفدرايل لل�رشطة والذي ي�ضم �أجهزة‬
‫ال�رشطة اجلنائية الفدرالية وم�صالح التحري والوقاية من‬
‫اجلرمية وامل�صلحة الفدرالية للأمن مهام ال�رشطة اجلنائية‬
‫و�رشطة الوقاية من اجلرمية وحفظ الأمن‪.‬‬

‫احلكامة الأمنية اجليدة‬


‫‪64‬‬
‫الهيئات املكلفة‬
‫م�ستوى الكانتون م�ستوى البلديات‬ ‫م�ستوى االحتاد‬
‫باجلانب ‪:‬‬

‫جمل�س الدولة‬
‫البلدية‬ ‫املجل�س الفدرايل‬
‫املجل�س الأعلى‬ ‫ال�سيا�سي‬
‫جمل�س املقاطعة‬ ‫الربملان الفدرايل‬
‫للدولة‬
‫اجلي�ش �رشطة‬
‫جهاز �رشطة‬
‫�رشطة البلديات‬ ‫احلدود املكتب‬ ‫حفظ الأمن‬
‫الكانتونات‬
‫الفدرايل لل�رشطة‬
‫املحكمة الفدرالية حمكمة الكانتون الأحكام ال�صادرة‬
‫على م�ستوى‬ ‫الإجراءات‬ ‫القانون اجلنائي‬ ‫العدالة‬
‫البلديات‬ ‫القانون املدين اجلنائية واملدنية‬

‫وي�شتمل هذا النظام على عدد من اجلوانب الإيجابية ‪:‬‬

‫•تتيح الالمركزية الأخذ باالعتبار للم�شاكل املحلية يف‬ ‫ ‬


‫جمال الأمن وتقيم عالقات وطيدة بني ال�رشطة واملجتمع‬
‫الذي تن�شط على م�ستواه‪.‬‬

‫•يتيح توفر البالد على عدد من �أجهزة ال�رشطة نوعا من‬ ‫ ‬


‫املناف�سة الإيجابية بينها بحيث ي�سعى كل جهاز �رشطة‬
‫خا�ص بكانتون معني �إىل اتخاذ املبادرة مبا ي�ضمن حلوال‬
‫للم�شاكل التي تواجهه �سواء على امل�ستوى العملياتي �أوالإداري‬
‫�أوالتنظيمي‪ .‬ومبا �أن �أجهزة ال�رشطة هذه تتوفر على نف�س‬
‫التنظيم‪ ،‬ف�إن احللول التي ي�أتي بها جهاز �رشطة معني ت�ستفيد‬

‫احلكامة الأمنية اجليدة‬


‫‪65‬‬
‫منها باقي الأجهزة الأخرى �سواء ب�شكل مبا�رش �أوعرب م�ؤمتر‬
‫قيادات �رشطة الكانتونات الذي ي�سعى لإيجاد �أف�ضل ال�سبل‬
‫لتن�سيق العمل بني خمتلف �أجهزة �رشطة الكانتونات‪.‬‬
‫غري �أن نقاط ال�ضعف التي ت�شوب مثل هذا التنظيم عديدة‬
‫ومتنوعة ‪:‬‬

‫•�أمام تنامي الإجرام العابر للحدود والذي يطال �سوي�رسا وكذا‬ ‫ ‬


‫تف�شي الإجرام الدويل املنظم والإرهاب ‪ ،‬ف�إن املجاالت‬
‫ال�سيا�سية والقانونية وتلك اخلا�صة بال�رشطة ال�سوي�رسية مل‬
‫تعد منا�سبة وطبيعة امل�شاكل الأمنية املطروحة‪.‬‬

‫•يعوق ت�شتت امل�س�ؤوليات حتديد الأهداف امل�شرتكة بني‬ ‫ ‬


‫االحتاد ال�سوي�رسي وبني خمتلف الكانتونات‪ .‬كما �أن‬
‫م�سارات اتخاذ القرار حينما يتعلق الأمر ب�أمور تهم جماالت‬
‫م�س�ؤولية �سيا�سية �أوعملياتية عديدة ت�صبح معقدة و�شائكة؛‬
‫وي�ساهم ت�شتت وحدات ال�رشطة يف ارتفاع كلفة عمليات‬
‫حفظ الأمن ويف كرثة تكرار املهام بينها‪ ،‬مما يحول دون‬
‫ت�شكيل وحدات ال�رشطة هذه للكتلة احلرجة املنا�سبة‬
‫على امل�ستوى التنظيمي والعملياتي؛ وبالتايل يعاين جهاز‬
‫ال�رشطة من نق�ص يف الوحدات االحتياطية يف جميع‬
‫م�ستويات امل�س�ؤولية‪ ،‬ما يجعل اجلهاز يعاين من غياب تام‬
‫يف مرونته العملياتية‪.‬‬

‫•ثمة خطر ان�سياق جهاز ال�رشطة ال�سوي�رسية وراء تيار‬ ‫ ‬


‫املناف�سة بني خمتلف وحدات اجلهاز مما يتطلب و�ضع �آلية‬
‫للتن�سيق بني خمتلف هذه الوحدات‪.‬‬

‫احلكامة الأمنية اجليدة‬


‫‪66‬‬
‫يتم التن�سيق �سواء على م�ستوى �أفقي �أوعمودي بني �أجهزة‬
‫ال�رشطة وبني الهيئات ال�سيا�سية من خالل هياكل دائمة‬
‫�أوخا�صة تو�ضع �إبان الأحداث اال�ستثنائية ( اجتماع نادي الثمانية‬
‫عام ‪� 2003‬أومنتدى دافو�س العاملي لالقت�صاد �أوبطولة �أوروبا لكرة‬
‫القدم عام ‪.)2008‬‬
‫تعترب االتفاقيات وامل�ؤمترات �أهم �آليات التن�سيق بني‬
‫الكانتونات يف جمال حفظ الأمن؛ حيث مت �إبرام �أربعة اتفاقيات‬
‫تغطي جماالتها �سواء اقتناء املعدات والعالقات مع و�سائل الإعالم‬
‫�أوت�شكيل قوة حلفظ الأمن ما بني الكانتونات‪� .‬أما امل�ؤمترات فهي‬
‫عبارة عن هياكل للتن�سيق واملواءمة جتمع بني قادة �أجهزة‬
‫�رشطة الكانتونات و‪ ،‬من اجلانب ال�سيا�سي‪ ،‬مديري �ش�ؤون العدل‬
‫وال�رشطة‪ .‬وت�ضم قيادة �أجهزة �رشطة الكانتونات عديدا من‬
‫اللجان اخلا�صة على امل�ستوى القانوين والفني والدويل ‪�...‬إلخ‪،‬‬
‫وتعمل على مواءمة املبادئ العامية املنظمة لعمل �أجهزة‬
‫ال�رشطة وكذا التجهيزات والبنى التحتية‪ .‬وتعر�ض املقرتحات‬
‫التي ت�صوغها هذه القيادة على مديري �ش�ؤون العدل وال�رشطة‬
‫حينما يتطلب الأمر تدخال على امل�ستوى ال�سيا�سي‪ .‬كما تقيم‬
‫قيادة �أجهزة �رشطة الكانتونات �صالت مع الهيئات الفدرالية مبا‬
‫�أن رئي�س املكتب الفدرايل لل�رشطة هوع�ضويف هذه اللجنة‪.‬‬
‫وثمة كذلك �آليتني دائمتني ت�سهالن مهام التعاون واملواءمة ‪:‬‬
‫اتفاقية تعهدات �أجهزة �رشطة ما بني الكانتونات والتي ت�رشف‬
‫على ق�ضايا التعاون بني �رشطة ما بني الكانتونات يف جمال‬
‫حفظ الأمن – عدد الوحدات التي يجب تعبئتها من طرف كل‬
‫كانتون وظروف عملها وم�س�ؤولياتها‪�...‬إلخ‪ -.‬واملعهد ال�سوي�رسي‬
‫لل�رشطة والذي يوفر تدريبا لفائدة الأطر واملتخ�ص�صني‪ .‬ويبقى‬

‫احلكامة الأمنية اجليدة‬


‫‪67‬‬
‫التدريب الأ�سا�سي لعنا�رص ال�رشطة من م�س�ؤولية الكانتونات‪ .‬ومت‬
‫�إحداث مراكز ما بني الكانتونات لتن�سيق ق�ضايا تدريب عنا�رص‬
‫ال�رشطة وتوحيدها‪.‬‬
‫كما توجد ثمة �آليات خا�صة تكلف مبهام حمددة‪� ،‬أحدثت �سواء‬
‫لتفعيلها عند احلاجة مثل فريق العمليات الذي يتوىل التخطيط‬
‫للعمليات الكربى؛ �أوفرق العمل التي حتدث عند االقت�ضاء‪.‬‬
‫ي�سهر االحتاد ال�سوي�رسي على تدبري �ش�ؤون التعاون الدويل‬
‫يف جمال حفظ الأمن ويقوم ذلك على التعاون املتعدد الأطراف‬
‫من خالل الأنرتبول واتفاقيات التعاون الثنائية الأطراف بني‬
‫�أجهزة ال�رشطة املربمة مع عدد من الدول‪� ،‬أوالتعاون املتعدد‬
‫الأطراف مع البلدان الأوروبية من خالل �أوروبول �أواتفاقيات‬
‫�شنجني‪.‬‬
‫عمليات الإ�صالح التي قامت بها �سوي�سرا‬

‫�سي�شارك يف اجلهود الإ�صالحية امل�س�ؤولون ال�سيا�سيون‬


‫�أوالقائمون على عمليات ال�رشطة مبختلف رتبهم على‬
‫م�ستوى الكانتونات وكذا على امل�ستوى الفدرايل‪ .‬و�سيهم‬
‫الإ�صالح لي�س فقط �أهداف عمليات حفظ الأمن وهياكله بل‬
‫�أي�ضا تنظيم وحدات حفظ الأمن التابعة لل�رشطة واجلي�ش‬
‫وحر�س احلدود والعالقات التي جتمع بينهم وم�ستوى كفاءاتهم‬
‫و�آليات تعاونهم‪ .‬وبذلك ي�شمل الإ�صالح جميع رتب امل�س�ؤولية‬
‫يف �أجهزة حفظ الأمن واجلوانب املرتبطة بنظم الأمن كما‬
‫ورد بيانها �أعاله‪.‬‬

‫احلكامة الأمنية اجليدة‬


‫‪68‬‬
‫وتتمثل �أف�ضل مقاربة يف اعتماد منهج منطقي للإ�صالح‬
‫انطالقا من الإطار العام حتى ن�ضع حمدداته الأ�سا�سية ( �سيا�سة‬
‫حفظ الأمن ودور الفاعلني والعالقات بينهم وتخ�صي�ص‬
‫االعتمادات املالية) ثم االنكباب بعد ذلك على �آليات التعاون بني‬
‫وحدات حفظ الأمن و�أخريا و�ضع التدابري التي يجب اتخاذها من‬
‫طرف فاعلني بعينهم حتى ن�ضمن االن�سجام الكامل بني خمتلف‬
‫مكونات �أجهزة حفظ الأمن‪.‬‬
‫غري �أن هذا النموذج ال ي�رسي على واقع احلال يف �سوي�رسا‪.‬‬
‫فاال�ستقاللية املمنوحة ملتخذي القرار يف جمال حفظ الأمن‬
‫واملجال ال�سيا�سي والعملياتي متنح لهم حرية وا�سعة يف تنظيم‬
‫جمال حفظ الأمن‪ ،‬وبالتايل ال ميكن �ضمان م�ستوى جيد من‬
‫التن�سيق �إال عرب الآليات امل�شار �إليها �أعاله واالت�صاالت املبا�رشة‬
‫بني امل�س�ؤولني ب�شكل ر�سمي �أوغري ر�سمي بهدف �ضمان الرتابط‬
‫املنا�سب الالزم لهذا امل�رشوع‪.‬‬
‫لن�ستعر�ض ثالثة من م�شاريع �إ�صالح �أجهزة حفظ الأمن‬
‫املنفذة على م�ستوى الهيئات الثالث املكلفة بحفظ الأمن‪.‬‬
‫درا�سة نظام حفظ الأمن الداخلي يف �سوي�سرا‬

‫نفذ االحتاد ال�سوي�رسي �إ�صالحات جذرية جلهاز حفظ‬


‫الأمن ملواجهة خطر اجلرمية املنظمة‪ .‬عمدت ال�سلطات‬
‫�أوال �إىل �إكمال القانون اجلنائي ( الذي هومن اخت�صا�ص‬
‫القانون الفدرايل على خالف امل�ساطر اجلنائية التي تبقى‬
‫من اخت�صا�ص الكانتونات)‪ ،‬وكذا �إىل تعزيز قدرات النيابة‬
‫العامة الفدرالية ومدتها ب�صالحيات �أو�سع‪ ،‬كما قامت‬

‫احلكامة الأمنية اجليدة‬


‫‪69‬‬
‫بتعزيز �إمكانيات املكتب الفدرايل لل�رشطة عرب الرفع من‬
‫املوارد الب�رشية لل�رشطة اجلنائية و�إعادة هيكلة م�صالح‬
‫الدرا�سة والوقاية من اجلرمية‪.‬‬
‫وقامت ال�سلطات عام ‪ 1999‬ب�إعطاء االنطالقة لربنامج‬
‫طموح �أال وهودرا�سة نظام حفظ الأمن الداخلي يف‬
‫�سوي�رسا‪ ،‬بهدف القيام بدرا�سة �شاملة ملجموع نظام حفظ‬
‫الأمن الداخلي بالبالد‪ .‬ومت �إ�رشاك جميع الأطراف املعنية‬
‫على م�ستوى اجلي�ش وال�رشطة وحر�س احلدود‪ .‬و�شاركت‬
‫الكانتونات يف امل�رشوع بحيث تولت الإ�رشاف امل�شرتك‬
‫عليه وتفوي�ض ممثلني عنهم لي�شاركوا يف �أعمال خمتلف‬
‫اللجان التي مت ا�ستحداثها‪ .‬كما �شاركت قيادة �أجهزة‬
‫�رشطة الكانتونات بطبيعة احلال يف الأ�شغال على م�ستوى‬
‫رئي�سها الذي كان ع�ضوا يف اللجنة امل�رشفة على امل�رشوع‬
‫وممثلني عنها على م�ستوى خمتلف اللجان‪.‬‬
‫وات�سمت هيكلة امل�رشوع وتنفيذه بطابع كال�سيكي‪ ،‬حيث‬
‫مت تن�صيب جلنة م�رشفة ت�ضم م�س�ؤويل خمتلف الهيئات‬
‫ورئي�س املكتب الفدرايل لل�رشطة ورئي�س قيادة �أجهزة‬
‫�رشطة الكانتونات ورئي�س الأركان العامة للجي�ش ومدير‬
‫اجلمارك‪ .‬وتولت جلان عدة النظر يف ق�ضايا حمددة‬
‫بينما تولت رئي�سة امل�رشوع مهام التن�سيق بني خمتلف‬
‫املتدخلني‪ .‬وتولت الرئا�سة امل�شرتكة التي عينتها الوزارة‬
‫الفدرالية للعدل وال�رشطة وقيادة �أجهزة �رشطة الكانتونات‬
‫مهام التن�سيق مع ال�سلطات ال�سيا�سية‪.‬‬
‫ومكنت املرحلة الأوىل من امل�رشوع من درا�سة و�ضع‬

‫احلكامة الأمنية اجليدة‬


‫‪70‬‬
‫�أجهزة حفظ الأمن يف البالد والتعرف من خالل ذلك‬
‫يف مرحلة ثانية على خمتلف احللول املمكنة والتدابري‬
‫اال�ستعجالية التي يجب اتخاذها‪ .‬ومت يف مرحلة ثالثة القيام‬
‫بدرا�سات مف�صلة حول بع�ض اخليارات املمكنة‪ ،‬وال�سيما‬
‫يف جماالت �أمن احلدود والنقل ال�سككي‪ .‬كما مت تدار�س‬
‫�إمكانية خلق قوة احتياطية حلفظ الأمن على م�ستوى‬
‫البالد ب�شكل معمق‪.‬‬
‫ومت خالل هذه املرحلة القيام بعمل بالغ الأهمية �سمح‬
‫بو�ضع تقرير ركز على احللول العملية املمكنة‪ ،‬وال�سيما يف‬
‫املجاالت التي كانت تهم الكانتونات بالأ�سا�س وهي تعزيز‬
‫�إمكانياتها الذاتية حلفظ الأمن �إبان التظاهرات اال�ستثنائية‪.‬‬
‫غري �أنه مت التخلي عن هذا امل�رشوع مع الأ�سف بناء على‬
‫قرار لرئي�س الوزارة الفدرالية ل�ش�ؤون العدل وال�رشطة الذي‬
‫اعترب �أن ق�ضايا ال�رشطة هي من اخت�صا�ص الكانتونات و�أنه‬
‫بناء على ذلك ال يتعني على االحتاد �أن يتدخل يف �ش�ؤونها‬
‫الأمنية‪ .‬وكان ا�ستياء الكنتونات والأو�ساط التي ر�أت يف‬
‫درا�سة نظام الأمن الداخلي ل�سوي�رسا و�سيلة للتباحث ب�ش�أن‬
‫�رشاكة حقيقية بني خمتلف الأطراف وم�ستقبل قطاع‬
‫الأمن يف �سوي�رسا كبريا للغاية‪.‬‬
‫ثمة مفارقة فيما يخ�ص هذا الإخفاق مبا �أن الكانتونات‬
‫كانت قد اقتنعت بامل�شاركة يف هذا امل�رشوع رغم علمها‬
‫ب�أنه قد يت�ضمن تبعات هامة بالن�سبة لها‪ .‬غري �أن االحتاد‬
‫ال�سوي�رسي ف�ضل عدم امل�سا�س ب�صالحيات الكانتونات‬

‫احلكامة الأمنية اجليدة‬


‫‪71‬‬
‫فيما يخ�ص الق�ضايا الأمنية وو�ضع حدا لهذا امل�رشوع الذي‬
‫كان �سي�سمح له بتعزيز تدخله يف ما يخ�ص حفظ الأمن‬
‫على امل�ستوى الفدرايل‪ .‬وف�شلت بذلك حماولة و�ضع �سيا�سة‬
‫عامة للبالد يف جمال حفظ الأمن وال �أحد يدري متى‬
‫ميكن �إحياء مثل هذا امل�رشوع يف امل�ستقبل‪.‬‬

‫‪-1‬جهاز ال�شرطة للقرن الواحد والع�شرين‬


‫قام م�ؤمتر قيادة �أجهزة �رشطة الكانتونات ال�سوي�رسية‬
‫ب�إعطاء االنطالقة لهذا امل�رشوع عام ‪ 2000‬لدرا�سة �أ�شكال‬
‫تنظيمة جديدة لأجهزة حفظ الأمن ما بني الكنتونات‬
‫مبا يتيح حتقيق وفورات اقت�صادية وي�ضمن تدبريا عقالنيا‬

‫لن�شاطات �أجهزة حفظ الأمن خا�صة بالن�سبة للمهارات‬


‫التي ال تتحكم فيها بع�ض وحدات هذه الأجهزة‪.‬‬
‫وتولت جلنة امل�ستقبل التابعة لقيادة �أجهزة �رشطة‬
‫الكانتونات مهمة الإ�رشاف على امل�رشوع عرب تعاونها مع‬
‫�رشكة خدمات ا�ست�شارية من القطاع اخلا�ص‪ .‬ومت عر�ض‬
‫النتائج الأولية لكل مرحلة من الدرا�سة وكذا املقرتحات‬
‫التي �صيغت على �أ�سا�سها على �أنظار قيادة �أجهزة �رشطة‬
‫الكانتونات للموافقة عليها؛ �أما التقرير النهائي فقد عر�ض‬
‫على القيادة املذكورة على �أ�سا�س �أنها ال�سلطة املخولة‬
‫اتخاذ القرار على امل�ستوى ال�سيا�سي‪.‬‬
‫متت الدرا�سة بناء على «معطيات الأن�شطة اال�سرتاتيجية»‬

‫احلكامة الأمنية اجليدة‬


‫‪72‬‬
‫(‪ ) DAS‬على اعتبار �أنها �أن�شطة �أوجمموعة �أن�شطة ميكن‬
‫�إجنازها ب�شكل م�ستقل داخل جمال معني وباالعتماد على‬
‫موارد وحدة ال�رشطة الذاتية ووفق مقاربة واحدة �سواء‬
‫على امل�ستوى الإداري �أوالعملياتي‪.‬‬
‫مت و�ضع خارطة للإجرام يف �سوي�رسا تغطي �ستة مناطق‬
‫ح�سا�سة يف �سوي�رسا بناء على درا�سة الو�ضع امليداين‬
‫باالعتماد على جل�سات للع�صف الذهني و�إجراء حوارات‬
‫مع الفاعلني الأ�سا�سيني يف جمال حفظ األمن العام في البالد‪.‬‬

‫ومت يف وقت الحق جرد املهام التي تقوم بها �أجهزة‬


‫ال�رشطة وجتميعها على م�ستوى ت�سعة جمموعات �أن�شطة‬
‫ا�سرتاتيجية‪ .‬كما مت حتديد املجال اجلغرايف الذي يقوم‬
‫فيه كل من هذه الأن�شطة مما �سمح بو�ضع عدد من النماذج‬
‫للتكليف باملهام �سواء على امل�ستوى املحلي �أوما بني‬
‫الكانتونات �أوامل�ستوى الفدرايل؛ بناء مثال على التوافقات‬
‫الأربعة �أواملناطق ال�ستة للإجرام بالبالد �أوبح�سب اللغة‬
‫�أو�أي معطى �آخر‪.‬‬
‫ويف نهاية املطاف‪ ،‬مت حتليل كل جمموعة ن�شاط‬
‫ا�سرتاتيجي وحتديد ا�سرتاتيجيتها اخلا�صة بها ‪ :‬احلفاظ على‬
‫الن�شاط �أوتطويره �أوالتقلي�ص من حجمه‪.‬‬
‫مت اقرتاح تعديالت تطال هياكل الإ�رشاف ال�سيا�سي‬
‫والعملياتي على �أجهزة ال�رشطة‪ .‬فنقل الأن�شطة التي تتم على‬
‫م�ستوى الكانتون �إىل امل�ستوى اجلهوي يطرح م�شاكل عملية‬
‫من حيث الإ�رشاف ال�سيا�سي وقيادة العمليات‪ .‬ويجب بالتايل‬

‫احلكامة الأمنية اجليدة‬


‫‪73‬‬
‫ال�سماح لربملان الكانتونات مبمار�سة حقها يف املراقبة على‬
‫الأن�شطة املجمعة على م�ستوى اجلهة‪.‬‬
‫كانت قيادة �أجهزة �رشطة الكانتونات ترغب يف جعل‬
‫امل�رشوع يندرج يف درا�سة نظام الأمن الداخلي يف �سوي�رسا‬
‫والذي يحدد الإطار العام للم�رشوع والذي كانت عملية‬
‫«�رشطة القرن الواحد والع�رشين» ت�شكل هيكله على‬
‫م�ستوى ما بني الكانتونات‪ .‬ومت الربط بني امل�رشوعني‬
‫عرب ممثلي قيادة �أجهزة �رشطة الكانتونات داخل م�رشوع‬
‫درا�سة نظام الأمن الداخلي ل�سوي�رسا‪.‬‬
‫ويتم حاليا اختبار م�رشوع «�رشطة القرن الواحد والع�رشين»‬
‫على م�ستوى جهة واحدة ومن املفرو�ض تعميمه على باقي‬
‫اجلهات الحقا‪ .‬ويتعني الأخذ باالعتبار �أن قيادة �أجهزة �رشطة‬
‫الكانتونات وافقت بالإجماع على الدرا�سة‪ ،‬رغم �أن اخل�صو�صيات‬
‫واحل�سا�سيات املرتبطة بكل كانتون �أخرت ال�رشوع يف‬
‫تنفيذها‪ .‬ومت مع ذلك حتقيق تقدم هام على م�ستوى التدريب‬
‫حيث مت �إحداث مراكز جهوية لهذا الغر�ض‪.‬‬

‫‪-2‬الدمج بني �أجهزة �شرطة الكانتونات والبلديات‬


‫تتوفر عديد من الكانتونات على وحدات �رشطة تابعة‬
‫لها وتعد م�سئولة �أمام اجلهاز التنفيذي للبلدية‪ .‬ويكون‬
‫لهذه الوحدات يف الغالب �صالحيات �ضيقة ال ميكنها‬
‫ممار�ستها �إال يف �إطار املجال الرتابي للبلدية؛ وتخول‬
‫لوحدات �رشطة مدن زيوريخ وبرين ولوزان �صالحيات‬
‫قانونية �أو�سع‪.‬‬

‫احلكامة الأمنية اجليدة‬


‫‪74‬‬
‫يتم التن�سيق بني وحدات �رشطة الكانتونات والبلديات‬
‫ب�شكل جيد يف الغالب‪ ،‬غري �أنه قد يعاين من املناف�سة‬
‫التي قد حتتدم بني بع�ض الأفراد‪ .‬و�ساهم تنامي الإجرام‬
‫الدويل العابر للحدود يف ت�سليط ال�ضوء على العراقيل التي‬
‫تعوق عمل وحدات ال�رشطة ب�شكل منف�صل عن الوحدات‬
‫الأخرى‪ .‬كما �أن وجود عديد من وحدات ال�رشطة يزيد‬
‫من تكاليف حفظ الأمن مما يجعل كلفة هذه الأخرية‬
‫من بني �أعلى التكلفات يف �أوروبا �إذا ما قارننا بني �أعداد‬
‫ال�ساكنة و�أعداد �أفراد �أجهزة ال�رشطة‪.‬‬
‫ووعي ًا منه بهذا الو�ضع‪ ،‬قام كانتون فود متبوعا بعدد‬
‫من الكانتونات الأخرى ب�إعطاء االنطالقة عام ‪1993‬‬
‫مل�رشوع «�رشطة عام ‪ ،»2000‬والذي ا�ستهدف تر�شيد‬
‫تنظيم جهاز ال�رشطة بهذا الكانتون بالتقلي�ص من‬
‫املهام املوكلة جلهاز �رشطة البلدية وتو�سيع ال�صالحيات‬
‫املخولة جلهاز �رشطة الكانتون‪ .‬كما مت و�ضع جهاز قيادة‬
‫موحد �إ�ضافة �إىل �إطار قانوين واحد لعمل �أجهزة ال�رشطة‬
‫وتدريب م�شرتك لعنا�رصها وكذا تن�سيق م�شرتك بني‬
‫التجهيزات املعلوماتية ومعدات التوا�صل وكلها تدابري‬
‫تندرج يف �إطار الأهداف املتوخاة من العملية‪.‬‬
‫ومت �إحداث فرق عمل خمتلفة وجلان �سيا�سية م�شرتكة بني‬
‫الكانتونات والبلديات بهدف درا�سة خمتلف �أوجه امل�رشوع‪.‬‬
‫كما مت يف وقت الحق �إحداث هيكل تنظيمي للم�رشوع‬
‫بهدف �إ�رشاك جميع الأطراف املعنية ومت تعيني جلنة‬
‫�إدارية للإ�رشاف على تنفيذه‪ .‬كما متت اال�ستعانة ب�رشكة‬
‫لال�ست�شارات الفنية بهدف دعم اللجنة الإدارية للم�رشوع‪.‬‬

‫احلكامة الأمنية اجليدة‬


‫‪75‬‬
‫و�ضمانا للأخذ باالعتبار م�صالح الكانتونات والبلديات مت‬
‫تطوير حلول تقوم على التمييز بني خمتلف املهام املوكلة‬
‫�سواء ل�رشطة الكانتون �أول�رشطة البلديات‪ ،‬والتوافقات‬
‫املربمة بني البلديات‪ ،‬كما مت جتريبها على م�ستوى �أربعة‬
‫جهات‪ .‬ومت جتميع املهام التي كانت تقوم بها ال�رشطة‬
‫لفائدة �إدارات �أخرى يف ما �سمي بامل�سار اخلام�س والذي‬
‫عهد به �إىل موظفني مدنيني ولي�س �إىل عنا�رص ال�رشطة‪.‬‬
‫�أظهر واقع احلال �أن تق�سيم امل�سارات بني �أجهزة ال�رشطة‬
‫املو�ضوعة حتت �أوامر قياداتها وكذا ال�سلطات مبختلف �صفاتها‬
‫ي�ؤدي �إىل اختالالت و�ضياع للمعلومات‪ .‬كما �أن �سوء العالقات‬
‫بني بع�ض الكنتونات والبلديات ب�سبب تقا�سم الأعباء املالية‬
‫�أدى �إىل �إف�شال امل�رشوع‪.‬‬
‫وثمة حاليا مبادرة عمومية حظيت بتوقيع �أكرث من‬
‫‪ 22.000‬مواطن �سوي�رسي يطلبون و�ضع جهاز �رشطة واحد‬
‫على م�ستوى الكانتون؛ و�سيعر�ض هذا املطلب لال�ستفتاء‬
‫ال�شعبي خالل عام ‪.2009‬‬
‫�إذا كان امل�رشوع قد ف�شل ب�سبب معار�ضة ال�سيا�سيني على‬
‫م�ستوى بلدية وكانتون فود‪ ،‬ف�إن م�شاريع مماثلة يجري تنفيذها‬
‫بنجاح يف كانتونات �أخرى‪ .‬كما �أن برين ونو�شاتيل �صادقت‬
‫على دمج وحدات �رشطة البلديات والكانتونات وثمة بوادر‬
‫ت�شري �إىل ا�ستعداد كانتونات �أخرى للقيام بنف�س اخلطوة‪.‬‬
‫‪-3‬منوذج حمتمل لتنظيم �أجهزة ال�شرطة يف �سوي�سرا‬
‫يقوم النموذج على احرتام مبد�أ الدولة الفدرالية وي�سمح‬

‫احلكامة الأمنية اجليدة‬


‫‪76‬‬
‫بتحقيق بع�ض الوفورات‪ .‬ويقوم هذا النموذج على �أربعة مبادئ‬
‫ويتمحور حول ثالثة م�ستويات جغرافية ‪:‬‬
‫املبادئ الأربعة هي ‪:‬‬
‫•تفوي�ض املهام ‪ :‬ويعني ذلك �أن ال�صالحيات ميكن تخويلها‬ ‫ ‬
‫على عدد من امل�ستويات حتى يتم اتخاذ القرارات يف‬
‫�أقرب نقطة من وقوع الأحداث �أو�آثارها‪.‬‬
‫•الرتابط بني خمتلف الهياكل ‪ :‬ويعني ذلك �أن كل‬ ‫ ‬
‫م�ستوى يتكامل مع امل�ستويات الأخرى و�أن جميع‬
‫امل�ستويات ت�شكل يف نهاية املطاف كال واحدا‪.‬‬
‫•التكامل العملياتي ‪ :‬ويوفر الظروف املنا�سبة ل�ضمان‬ ‫ ‬
‫تعاون املتدخلني على م�ستوى العمليات وكذا امل�ستوى‬
‫الفني والقانوين‪.‬‬
‫•املرونة ‪ :‬وت�ستهدف االقت�صاد يف املوارد عرب تدبري‬ ‫ ‬
‫مرن للموارد الب�رشية والتعاون بني خمتلف الأطراف‪.‬‬
‫ويعد يف هذا الإطار �إحداث قوات احتياطية ميكن‬
‫اال�ستعانة بها عند احلاجة �إبان احلاالت اال�ستعجالية‬
‫�رشطا �أ�سا�سيا لنجاح النظام‪ .‬ويبقى ال�س�ؤال مطروحا‬
‫حول كيفية �إحداث مثل هذه القوات ‪� :‬إما عرب حتويل‬
‫قوات حر�س احلدود �إىل قوات احتياطية بعد ان�ضمام‬
‫�سوي�رسا �إىل جمال �شنجني‪� ،‬أوبتمويل االحتاد لعنا�رص‬
‫من �رشطة الكانتونات الإ�ضافية‪� ،‬أوتخويل عنا�رص حفظ‬
‫الأمن التابعني للجي�ش �صالحيات جديدة بحث ميكنها‬
‫القيام بهذه املهام «املدنية» وكل هذه البدائل �إمنا هي‬
‫احتماالت قد تفي بالغر�ض‪.‬‬

‫احلكامة الأمنية اجليدة‬


‫‪77‬‬
‫�أما امل�ستويات اجلغرافية الثالثة فهي ‪:‬‬
‫•الكانتونات ‪ :‬بتوفرها على �أجهزة �رشطة خا�صة بها‪،‬‬ ‫ ‬
‫تعترب الكانتونات م�ؤهلة ال�ضطالعها بجميع الأعباء‬
‫التي تدخل يف نطاق اخت�صا�صها‪ ،‬ما يعني تلك التي ال‬
‫تتطلب بالنظر �إىل تعقيداتها �أوحجمها تدابري �إ�ضافية‬
‫للتن�سيق‪.‬‬

‫•م�ســـتوى ما بني الكانتونات ‪ :‬يتوفر هذا امل�ستوى على‬ ‫ ‬


‫هياكل للإ�رشاف واملراقبة الـ ــ�سيا�سية والعملياتية‪.‬‬
‫ويجمع عددا من الأن�شطة (من قبيل التك ـ ــوين وال ـ ــ�رشطة‬
‫العلمية وتخ�ص�صات �أخرى) مل تعد تتوفر الكانتونات‬
‫على الكتلة احلرجة التي ت�ؤهلها اال�ضطالع بها‪.‬‬

‫•م�ستوى االحتاد ال�سوي�رسي ‪ :‬يتوىل االحتاد م�س�ؤولية‬ ‫ ‬


‫الإ�رشاف على هيكلة النظام ( البنية التحتية ومعايري‬
‫التكوين وقواعد البيانات واملبادئ العامة �إلخ‪.).‬‬
‫و�سيخول االحتاد مزيدا من ال�صالحيات ت�ؤهله للتعاون‬
‫مع الكانتونات لو�ضع معايري تنفيذ امل�شاريع‪.‬‬

‫اجلوانب العامة للإ�صالح‬


‫ت�ؤثر هياكل الدولة التابعة للبلد الذي ينفذ �سل�سلة من‬
‫الإ�صالحات على م�صري هذه الأخرية‪ .‬ونرى ذلك بالفعل يف‬
‫املثال ال�سوي�رسي‪ .‬غري �أنه وبغ�ض النظر عن هذا املعطى‪،‬‬
‫ف�إن م�سار التغيري الذي يفر�ض نف�سه على جميع وحدات‬
‫ال�رشطة يرغمها على التعامل مع م�شاكل من نف�س الطبيعة‪.‬‬

‫احلكامة الأمنية اجليدة‬


‫‪78‬‬
‫و�سواء كان مرد ذلك يعود لظاهرة عوملة التهديدات �أوب�سبب‬
‫تطور «ن�سق فكري واحد» يف جمال تدبري حفظ الأمن –‬
‫واملتمثل �أ�سا�سا يف امل�ساعدة الدولية املتوفرة يف جمال �أجهزة‬
‫ال�رشطة – ف�إننا نالحظ يف جميع املناطق حتوال من منوذج‬
‫تقليدي لعمل �أجهزة ال�رشطة نحومنوذج جديد كما هووارد‬
‫يف اجلدول �أ�سفله ‪:‬‬

‫النموذج التقليدي لعمل �أجهزة‬


‫النموذج احلديث‬
‫ال�رشطة‬

‫اعتماد �رشطة مهنية بعيدة عن‬


‫هياكل �شبيهة بوحدات اجلي�ش‬
‫طرق عمل اجلي�ش‬

‫نظام تدبري �أكرث ت�شاركي‬ ‫نظام تدبري �سلطوي ومبا�رش‬

‫تدبري املهام و�إيكالها لفرق خا�صة‬ ‫ت�شتيت املهام‬

‫تدبري امل�شاكل العار�ضة‬ ‫تطبيق مقت�ضيات القانون‬

‫ال مركزة القرارات وتدبري الأمور‬


‫مركزة املعلومات واتخاذ القرار‬
‫بناء على ما يرد من معلومات‬

‫التحرك االحتياطي واال�ستباقي‬ ‫التدخل كرد فعل على حدث ما‬

‫الرتكيز على الأمور اجلاري‬


‫التحرك بناء على التغيري‬
‫تنفيذها‬

‫احلكامة الأمنية اجليدة‬


‫‪79‬‬
‫وميكن يف هذا الإطار الإ�شارة �إىل املعامل الأ�سا�سية التالية ‪:‬‬
‫ •تركيز �أجهزة ال�رشطة على �أن�شطة �أ�سا�سية وترك املهام‬
‫التي ميكن لهيئات �أخرى �أن تقوم بها لهذه الأخرية مبا يحقق‬
‫فعالية واقت�صادا �أف�ضلني؛ مثال تدبري ال�سيارات �أوالقيام ببع�ض‬
‫التحاليل يف �إطار الطب ال�رشعي؛‬

‫ •تطوير �آليات التعاون لي�س فقط بني عنا�رص ال�رشطة‬


‫والفاعلني الآخرين يف جمال حفظ الأمن ولكن �أي�ضا مع‬
‫ممثلي املجتمع املدين وال�سكان للقيام بعمليات حتليل ودرا�سة‬
‫م�شرتكتني وت�صور حلول ممكنة لق�ضايا حفظ الأمن‪ ،‬خا�صة‬
‫تلك التي مت�س املجتمع ب�شكل مبا�رش‪.‬‬

‫ •�إحداث �أ�شكال جديدة للتنظيم والإ�رشاف على �أجهزة‬


‫ال�رشطة لالطالع على خمتلف املهام املوكلة لهذه الأجهزة‬
‫وحت�سني نظم املعلومات من جهة والتقلي�ص من م�ستويات‬
‫امل�س�ؤولية وحتفيز �آليات اتخاذ القرار ال�رسيع عرب تفوي�ض‬
‫ال�صالحيات نحوامل�ستويات الدنيا من جهة �أخرى‪.‬‬

‫ •اعتماد �سيا�سات عملياتية جديدة ‪� :‬رشطة القرب وتدبري‬


‫امل�شاكل الطارئة‪ ،‬تنظيم عمليات �رشطة بناء على‬
‫اال�ستخبارات الواردة وب�شكل عام اعتماد �أن�شطة تعزز اجلانب‬
‫الوقائي‪.‬‬

‫ •الرتكيز على تدبري املوارد الب�رشية بهدف �ضمان اختيار‬


‫�أف�ضل العنا�رص واملتعاونني ومتكينهم من م�سارات مهنية‬
‫حمفزة داخل جهاز حفظ الأمن‪.‬‬

‫احلكامة الأمنية اجليدة‬


‫‪80‬‬
‫ •الأهمية التي يجب �إيال�ؤها للتكوين يف جمال الأخالقيات‪.‬‬

‫ •جميع هذه العنا�رص ما هي �إال �أوجه متعددة مل�سار واحد‬


‫ملواءمة جهاز ال�رشطة مع التطور الذي يطال املحيط‬
‫الذي ين�شط فيه والذي يتميز بظهور تهديدات جديدة وكذا‬
‫تطلعات جديدة لدى املواطنني واملتعاونني على حد �سواء‪،‬‬
‫وكلها ت�صب يف �رضورة تر�شيد عمليات ال�رشطة و�آليات‬
‫تدبريها وكذا جتاوز املعيقات التمويلية واعتماد مناهج‬
‫تدبريية جديدة‪.‬‬

‫ما هي الدرو�س امل�ستخل�صة ؟‬

‫ميكن انطالقا من التجارب املنفذة حتى الآن ا�ستخال�ص‬


‫عنا�رص النجاح التالية وتطبيقها على الإ�صالحات اجلاري تنفيذها‬
‫يف �سوي�رسا‪:‬‬
‫ •ثمة �شعور قوي ب�رضورة اعتماد �إ�صالح عاجل لأجهزة‬
‫ال�رشطة يف البالد‪ ،‬ما يرتتب عنه قناعة قوية ب�رضورة‬
‫�إدخال تعديالت على هذه الأجهزة‪ .‬ففي النم�سا‪ ،‬كانت رغبة‬
‫وزير الداخلية قبل االنتخابات الأخرية قوية يف تنفيذ برنامج‬
‫�إ�صالحي �شامل؛ �أما يف بلجيكا‪ ،‬فالتغيري �أ�ضحى �رضورة‬
‫�سيا�سية بعد عدد من الف�ضائح وخا�صة ف�ضيحة «دوترو» ‪.‬‬

‫ •�أما الإ�صالحات املنفذة يف �سوي�رسا فلم تكن وليدة �ضغوط‬


‫خارجية �أورغبة �سيا�سية داخلية و�إمنا نظرا لكون امل�س�ؤولني‬
‫عن عمليات ال�رشطة كانوا مقتنعني ب�رضورة تغيري �آليات‬
‫عملهم ملواجهة امل�شاكل التي بد�أت تظهر على ال�ساحة (‬

‫احلكامة الأمنية اجليدة‬


‫‪81‬‬
‫�أ�شكال جديدة من الإجرام ونق�ص يف التجهيزات)‪ .‬وتطلب‬
‫الأمر �إقناع ال�سا�سة الذين كانوا يعار�ضون نوعا ما هذا الإ�صالح‬
‫لأنهم يركزون على �صعوبات تنفيذ امل�شاريع الإ�صالحية ولي�س‬
‫على تبعاتها الإيجابية‪ .‬وبد�أ امل�س�ؤولون ال�سيا�سيون يدعمون‬
‫م�سار الإ�صالح عندما ظهرت احلاجة على م�ستوى كل‬
‫كانتون �إىل حتقيق وفورات على م�ستوى املوازنة العامة‪.‬‬

‫ •�إن تطوير ر�ؤية تدعم الإ�صالح ومتكن من حتقيق التكامل‬


‫بني خمتلف عنا�رصه �أمر بالغ الأهمية‪ .‬وم�سارات الإ�صالح‬
‫النم�ساوية والبلجيكية كانت تتوفر على مثل هذه الر�ؤية‪.‬‬
‫ •غري �أن الو�ضع يف �سوي�رسا كان خمتلفا مبا �أن كل م�ستوى‬
‫من م�ستويات امل�س�ؤولية كان قد �رشع يف تنفيذ �إ�صالحات‬
‫خا�صة به‪ .‬وحينما مت حتقيق تكامل جزئي بني بع�ض هذه‬
‫العنا�رص (درا�سة نظام الأمن الداخلي ل�سوي�رسا – برنامج‬
‫�رشطة القرن الواحد والع�رشين) ف�إن ذلك كان يعود بالأ�سا�س‬
‫لرغبة القائمني على هذه امل�شاريع اخلا�صة لتحقيق نوع من‬
‫املواءمة بني هذه الأخرية ولي�س �إىل ت�صور متكامل مل�سار‬
‫الإ�صالح‪ .‬وقد مت التخلي عن الإطار العام الذي كان �سيوفره‬
‫م�رشوع درا�سة نظام الأمن الداخلي يف �سوي�رسا من طرف‬
‫رئي�س ق�سم العدل وال�رشطة الذي كان من املفرو�ض نظريا‬
‫�أن يطور مثل هذه الر�ؤية املتكاملة‪.‬‬
‫ •ي�شكل و�ضوح م�شاريع الإ�صالح ودقتها عنا�رص �أ�سا�سية لنجاحها؛‬
‫مبا �أنها ت�ساعد يف و�ضع �آليات فاعلة للتوا�صل ب�ش�أنها وتعبئ‬
‫طاقات جميع املعنيني بها‪.‬‬

‫ •غري �أننا نالحظ مع الأ�سف يف �سوي�رسا �أن دقة امل�شاريع‬

‫احلكامة الأمنية اجليدة‬


‫‪82‬‬
‫املنفذة من طرف بع�ض امل�س�ؤولني عن العمليات مل تفهم‬
‫ب�شكل جلي من طرف امل�س�ؤولني ال�سيا�سيني �أوحتى من‬
‫طرف ال�سكان‪ .‬ومل ي�ساعد و�ضع البالد اجليد من حيث الأمن‬
‫الداخلي يف �إجناح هذه امل�شاريع الإ�صالحية التي اعتربت يف‬
‫الغالب على �أنها «تكنوقراطية»‪.‬‬
‫ •يلعب الدعم الذي يحظى به اجلهد الإ�صالحي �سواء على‬
‫امل�ستوى الداخلي �أواخلارجي جلهاز حفظ الأمن دورا �أ�سا�سيا‬
‫يف جناحه �أو�إخفاقه‪ .‬ويتعني بالتايل تعبئة ما �أمكن من الدعم‬
‫لإجناح امل�رشوع الإ�صالحي والعمل على �إقناع املرتددين �إزاء‬
‫اجلدوى من وراء مثل هذا العمل الإ�صالحي‪.‬‬

‫ •ففي بلد معروف ب�سيا�سته للقرب من املواطنني‪ ،‬يبقى‬


‫من الأهمية مبكان ك�سب ال�سلطات ال�سيا�سية واملواطنني‬
‫و�إقناعهم بامل�رشوع الإ�صالحي‪ .‬غري �أنه بالن�سبة للق�ضايا‬
‫الأمنية‪ ،‬تتخوف ال�سلطات من فقدان جزء من �صالحياتها‬
‫مبا �أن النظام �شديد املركزية يف البالد؛ وهذا ما يجعل‬
‫من الأخريين خ�صوما عنيدين للإ�صالح‪ .‬فمقارنة امل�سار‬
‫الإ�صالحي يف النم�سا وبلجيكا يعدان هامني من هذه الناحية‪.‬‬
‫فبالن�سبة للمثال الأول‪ ،‬مبا �أن جميع وحدات ال�رشطة كانت‬
‫حتت مظلة وزارة الداخلية‪ ،‬ف�إن الإ�صالح كان �سهال نوعا ما؛‬
‫�أما يف بلجيكا‪ ،‬ف�إن دور عمداء املدن الكربى دفع القائمني‬
‫على الإ�صالح �إىل قبول تنظيم جديد يبقى رغم الإ�صالح �شديد‬
‫التقعيد وباه�ض الكلفة‪� .‬أما يف �سوي�رسا‪ ،‬ف�إن وزن العنا�رص‬
‫املحلية ال ميكن اال�ستهانة بها خا�صة و�أن جتربة كانتون فود‬
‫�أظهرت مقاومة البلديات ال�رش�سة ملحاولة �إدماج وحدات‬
‫�رشطتها يف �صفوف وحدات �رشطة الكانتون‪.‬‬

‫احلكامة الأمنية اجليدة‬


‫‪83‬‬
‫ •يجب �أن تكون وثرية تنفيذ الإ�صالح منا�سبة‪ .‬ف�سيا�سة‬
‫اخلطوات التدريجية ميكن �أن تفر�ض نف�سها يف مرحلة ما‬
‫غري �أن لها كذلك ما ي�شوبها‪.‬‬

‫ •فم�رشوع «�رشطة عام ‪ »2000‬والذي نفذ يف كانتون‬


‫فود عام ‪ 1993‬والذي مل يكتمل بعد يندرج يف هذا الإطار‪.‬‬
‫كما عرفت بلجيكا عددا كبريا من حماوالت الإ�صالح غري‬
‫املكتملة‪� ،‬إال �أن ق�ضية «دوترو» دفعتها يف نهاية املطاف �إىل‬
‫و�ضع خطة عاجلة لإ�صالح جهاز حفظ الأمن بها‪.‬‬

‫وميكن القول يف نهاية املطاف �أن العن�رصين الأ�سا�سيني لنجاح‬


‫م�رشوع الإ�صالح هما ‪:‬‬
‫ •مطابقة امل�رشوع الإ�صالحي ملتطلبات الواقع املعا�ش ؛‬

‫ •الرتابط القائم بني املفهوم العام للإ�صالح وخمتلف عنا�رصه‬

‫اخلال�صة‬

‫�إن ال�صعاب التي اعرت�ضت الإ�صالحات املنفذة يف �سوي�رسا‬


‫�إزاء التغريات الهامة التي تعرفها بلدان �أخرى وال�سيما تلك‬
‫التي خرجت من النزاعات امل�سلحة �أوالتي عا�شت فرتات‬
‫انتقال دميقراطي �أظهرت �أن م�سار التغيري �أكرث تعقيدا‬
‫بالن�سبة لبلد ال يعاين من م�شاكل الإجرام ب�شكل كبري كما‬
‫هواحلال يف بع�ض البلدان الأخرى‪.‬‬

‫�إن جناح التغيري رهني بدرجة كبرية باحلر�ص الذي يجب‬


‫�إيال�ؤه ملعايري جناح الإ�صالح امل�شار �إليها �أعاله‪ .‬ويعد اعتماد‬

‫احلكامة الأمنية اجليدة‬


‫‪84‬‬
‫مقاربات مدرو�سة يف �إطار ر�ؤية متكاملة العنا�رص �أ�سا�سية‬
‫للحفاظ على الرتابط املن�شود على م�ستوى امل�سار‪.‬‬

‫جميع عمليات الإ�صالح تنفذ من قبل موارد ب�رشية وبالتايل‬


‫يجب �أن يحر�ص امل�س�ؤولون على �إ�رشاك اجلميع يف العملية‬
‫الإ�صالحية‪ .‬ويعد التوا�صل يف هذا الإطار وكذا التكوين �آليتني‬
‫جوهريتني ملواكبة برامج الإ�صالح‪.‬‬

‫كما �أنه من �ش�أن و�ضع �آليات على امل�ستوى العام حتفز‬


‫تعاون خمتلف الفاعلني �أن ي�سهل التقارب بني الأخريين‬
‫وي�ضمن جتاوبهم‪ .‬ويعد التكوين �أحد هذه الآليات �إ�ضافة �إىل‬
‫التعاون العملياتي الذي يعترب املجال املنا�سب لتوطيد‬
‫�صالت التكامل بني خمتلف املتدخلني‪ .‬ويعترب تطوير نظام‬
‫م�شرتك للمعلومات بني الأطراف عامال م�ساعدا يف بروز‬
‫م�سار التخاذ القرار قائم على �أهداف حمددة انطالقا من حتليل‬
‫الأو�ضاع امليدانية وعمليات ت�سخر لها موارد عدد من �أجهزة‬
‫ال�رشطة‪.‬‬

‫�إن تطوير مثل هذا التعاون العملياتي ي�شجع على الأخذ‬


‫باالعتبار تدريجيا ملزايا التعاون وي�ساعد على امل�ضي قدما‬
‫على درب تنفيذ �إ�صالحات تطال قطاعات �أخرى‪.‬‬

‫ ‬

‫احلكامة الأمنية اجليدة‬


‫‪85‬‬
‫تعزيز مفهوم امل�سائلة وامل�س�ؤولية لذا جهاز ال�شرطة‪:‬‬

‫التحديات والفر�ص املتاحة يف �إرلندة ال�شمالية‬


‫دام نواال �أولوان‬

‫عمتم �صباح ًا �سيداتي �سادتي‪� .‬أنا �سعيدة بان �أتواجد بينكم‬


‫مبنا�سبة انعقاد هذه املناظرة الهامة‪ ،‬و�أود �أن �أوجه �شكري‬
‫للمنظمني على توجيههم الدعوة يل لأحتدث �أمامكم اليوم‪� .‬إن‬
‫املو�ضوع الذي �سنناق�شه اليوم يكت�سي �أهمية خا�صة يف كل‬
‫البلدان‪.‬‬
‫بادئ ذي بدئ ا�سمحوا يل �أن �أقول كلمة مقت�ضبة حول احلفاظ‬
‫على النظام والأمن‪� ،‬إذ يتوجب على مفهوم احلفاظ على الأمن‬
‫�أن يكون قادر ًا على العمل والت�صدي للجرمية �إن على امل�ستوى‬
‫املحلي �أوالدويل‪ ،‬كما يتوجب عليه �إظهار القدرة على العمل‬
‫دولي ًا ملواجهة خطرين مهددين لل�سالم واال�ستقرار‪� ,‬أول هذين‬
‫اخلطرين هواجلرمية املنظمة‪� ,‬أما ثانيهما فهوالإرهاب‪ .‬لكن‬
‫هذا ال يجب �أن ُي�رض بالثقة يف �سموالقانون – فهي ثقة �أ�سا�سية‬
‫ينبني عليها التطبيق الفعال ملفهوم احلفاظ على الأمن‪ .‬يف‬
‫ايرلندة‪ ،‬كما يف بقية بقاع العامل‪ ،‬هناك خطر ال يخلومن‬

‫احلكامة الأمنية اجليدة‬


‫‪86‬‬
‫�أهمية بخ�صو�ص تطور اجلرمية املنظمة‪ .‬فحدودنا الربية‪،‬‬
‫وكذلك و�ضعية جزيرتنا اجلغرافية‪ ،‬جتعل منا بوابة جذابة‬
‫نحوالقارة الأوروبية وبريطانيا‪ .‬فهناك �أ�شخا�ص يعتربون االجتار‬
‫بالب�رش والتهريب وتبيي�ض الأموال واالجتار يف املخدرات منطا‬
‫من �أمناط العي�ش‪ ،‬بينما يرى �آخرون فوائد جمة ميكن جنيها‬
‫من خالل ا�ستغالل تلك الفر�ص التي تُتيحها بنية وجغرافية‬
‫ايرلندة‪ .‬يجب �أن ي�ستهدف حفظ النظام حماية املجتمع من‬
‫تلك الأخطار‪ .‬ولن يت�أتى ذلك �إال �إذا كان بتوافق وبدعم من‬
‫ال�شعب‪ ،‬و�إال �إذا كانت م�صالح ال�شعب وم�صالح ال�رشطة والأمن‬
‫تتعامل كذلك مع بع�ضها البع�ض عرب احلدود وعرب الأرا�ضي‬
‫ب�صفة عامة‪.‬‬
‫�سوف �أمر الآن �إىل �صيغة املا�ضي لأين �أود �أن �أعك�س م�س�ؤولياتي‬
‫كو�سيط لل�رشطة‪ .‬لقد كنا ‪ -‬كم�ؤ�س�ستني ‪ -‬فيما م�ضى‬
‫منف�صلني عن جهاز ال�رشطة وكنا نقدم خدمات م�ستقلة‬
‫وغري منحازة‪ ،‬للتحقيق يف كل املزاعم املتعلقة بعدم قيام‬
‫ال�رشطة بواجبها‪ ،‬وكذلك بخ�صو�ص املمار�سات وال�سيا�سات‬
‫�أوالف�شل يف تطبيقها من طرف الأق�سام اخلم�سة لل�رشطة‬
‫املتواجدة ب�شمال ايرلندة ووكالة حماربة اجلرمية املنظمة‬
‫واملت�سمة باخلطورة‪ ،‬وذلك بارتباط مع �أن�شطة �أجهزة ال�رشطة‬
‫يف �شمال �إرلندة‪ ،‬وبا�ستعمالها لل�سلطات املخولة لها قانون ًا‪.‬‬
‫وتُعترب هذه القاعدة الت�رشيعية من الأهمية مبكان حيث كنا‬
‫نخ�ضع للقوانني املن�صو�ص عليها يف الكثري من الت�رشيعات‬
‫املنظـِّمة لعمل التحقيق يف اجلرمية‪.‬‬
‫ب�صفة عامة كنا نحقق يف �ش�ؤون ح�صلت خالل الإثنى ع�رش‬

‫احلكامة الأمنية اجليدة‬


‫‪87‬‬
‫�شهر ًا املا�ضية‪ ،‬بل وكنا كذلك نتوفر على �سلطة التحقيق يف‬
‫حاالت غري حديثة العهد مهما بلغت درجة تقادمها‪� ،‬إذ �أن‬
‫هناك مزاعم كانت يف بع�ض الأحيان جد خطرية �أوا�ستثنائية‬
‫ُو�ضعت �شكايات ب�ش�أنها‪ ،‬كما حققنا ب�شكايات ‪� -‬إما حديثة‬
‫�أوقدمية العهد ‪ -‬كانت قد ظهرت بع�ض الأدلة بخ�صو�صها‪ .‬هذه‬
‫احلاالت كانت تت�ضمن �ضحايا كانوا من مدنيني كاثوليك‬
‫وبروت�ستانت و�ضباط �رشطة‪ ،‬وجنود وكذلك حرا�س �سجون‪،‬‬
‫ي�أتون من كل حدب و�صوب بالن�سبة ملجتمعنا‪ .‬تو�صلنا ب‬
‫‪� 21000‬شكاية و‪ 30000‬من املزاعم يف �سبع �سنوات‪ ،‬وهوكم هائل‬
‫من احلاالت التي كان علينا التعامل معها‪ .‬ولإجناز ذلك كان‬
‫علينا كذلك تخ�صي�ص ميزانية تبلغ ‪ 8‬ماليني جنيه �إ�سرتليني‬
‫وجتنيد ‪ 151‬موظف‪ .‬عملنا على الرتاب ال�شمال ايرلندي كما‬
‫قمنا بتوفري خدمات على مدار ال�ساعة‪ .‬كان املوظفون جزء ًا‬
‫من ال�ساكنة التي كنا نخدمها‪ .‬وكنا ننق�سم �إىل كاثوليك‬
‫وبروت�ستانت ممُ َ ـث َّـلني ِتباع ًا ب ‪  45%‬و‪� ،46%‬إ�ضافة �إىل ن�سبة‬
‫‪ 9%‬ممن ميثلون ديانات �أخرى �أ وممن ال يدينون ب�أية ديانة‪.‬‬
‫كانت ال�شكايات ت�أتينا مبا�رشة من هذا املجتمع املنق�سم‪.‬‬
‫كانت لنا �سلطات وا�سعة النطاق لإلقاء القب�ض على امل�شتبه‬
‫فيهم والقيام بتفتي�ش املنازل وكذلك حجز املحظورات‪،‬‬
‫كما كان لنا احلق �أو�سلطة الولوج لكل املعطيات واملعلومات‬
‫البولي�سية‪ .‬كنا قادرين ‪ -‬عند ال�رضورة ‪ -‬على �إلقاء القب�ض‬
‫حتى على �ضباط �رشطة‪ ،‬بل متكنا كذلك من حجز بع�ض‬
‫الدالئل كعربات ال�رشطة وهراوات ال�رشطة والأ�سلحة النارية‬
‫والهواتف اخللوية ل�ضباط ال�رشطة و�أجهزة احلا�سوب وبع�ض‬
‫الوثائق واللوازم واملعدات الأخرى‪ .‬قمنا بالتحقيق يف �شكايات‬

‫احلكامة الأمنية اجليدة‬


‫‪88‬‬
‫تقدم بها عموم اجلمهور كما حققنا يف حاالت تقدم بها رئي�س‬
‫وجـهات من احلكومة ومن طرف جمل�س‬ ‫جهاز ال�رشطة‪ِ َ ،‬‬
‫حفظ النظام (‪ ،)Policing Board‬ومن طرف الوكيل العام‪ ،‬وذلك‬
‫�إذا حينما توفرت �أدلة تثبت تورط �ضابط يف احلنث بالق�سم‬
‫�أمام املحكمة �أوتلفيق بع�ض الأدلة خالل املحاكمة‪ .‬كان‬
‫هناك قا�ضي ُيحقق يف ق�ضية تورط رجل يف تفجريات «�أوماغ»‬
‫املتابع للق�ضية كدب‬ ‫(‪ )Omagh‬ل�سنة ‪ 1998‬والحظ القا�ضي ُ‬
‫بع�ض �ضباط ال�رشطة خالل الإدالء ب�شهاداتهم‪ ،‬ف�أحال القا�ضي‬
‫هذه احلالة على مكتبي‪ ،‬وكانت كل احلاالت تحُ ال على جلنة‬
‫مراجعة الق�ضايا اجلنائية‪ ،‬وهي جلنة تنكب على ثبوت الإدانة‬
‫ب�شكل قانوين‪ ،‬وكانت لها كذلك �سلطة �إحالة ق�ضايا ا�ستئنافية‬
‫م�شكوك يف م�صداقيتها والتي ت�ؤدي بها �إىل اال�ستنتاج �إىل عدم‬
‫ثبوت الأدلة ب�ش�أنها‪� .‬أر�سلت لنا جلنة مراجعة الق�ضايا اجلنائية‬
‫مث ًال حالة ل�شاب كان قد �أُدين بجرمية قتل واعرتف خالل‬
‫اال�ستماع لأقواله �أمام حمكمة مبدينة ديبلوك (‪ .)Diplock‬وكان‬
‫هناك اقرتاح ب�أن بع�ض �ضباط ال�رشطة قد قاموا بتلفيق الدالئل‬
‫فتم رف�ض �إدانته من طرف قا�ضي اال�ستئناف‪ ،‬و�أمرنا بتحقيق‬
‫ُم َعم َّــق يف الق�ضية و�أ�صدرنا التو�صيات الرئي�سية ب�ش�أنها‪ .‬ميكننا‬
‫كذلك �أن ن�أمر بالتحقيق من دون �أن تكون �شكاية ُق ِّـدمت �إذا‬
‫ما اعتربنا ب�أن امل�صلحة العامة تدعولذلك‪.‬‬
‫ا�سمحوا يل �أن �أحكي لكم عن �أحد ال�شكايات التي تو�صلنا بها‬
‫وكانت تهم �شخ�ص ًا اعتُ قل بتهمة جرمية‪ ،‬واقتيد ملخفر ال�رشطة‬
‫حيث مت �أخد ب�صماته‪ .‬وخالل الت�صوير ب�رشيط الفيديوداخل‬
‫خمفر ال�رشطة كان ذلك ال�شخ�ص يتحدث لرجل ال�رشطة‬
‫فدفعه هذا الأخري بعنف‪ ،‬مما جعل ال�شاب ي�سقط على كر�سي‬

‫احلكامة الأمنية اجليدة‬


‫‪89‬‬
‫ويتلقى كدمة على ر�أ�سه حني ارتطامه بالباب‪ .‬نتيجة لذلك‪،‬‬
‫�أُدين �ضابط ال�رشطة لتهجمه على ال�شاب ُ‬
‫وف�صل من عمله‪.‬‬
‫ولكم مثل �آخر ي�أتينا من مراقبة �أمريكية خالل متابعتها‬
‫بالت�صوير لتحرك موكب �سيارات رباعية الدفع من طراز «الند‬
‫روفر « ترتك مكان ًا �شهد �أعمال �شغب‪ .‬ما ح�صل هو�أن ال�سيارة‬
‫العا�رشة يف املوكب زاغت عن طريقها فاجتهت نحومطرح‬
‫عمومي للنفايات و�صوب جمموعة من الأ�شخا�ص ممن كانوا‬
‫ُيتابعون حترك ال�سيارات وهي تغادر م�رسح الأحداث‪ .‬بعد‬
‫وف�صل‬ ‫ذلك �أُدين �سائق ال�سيارة العا�رشة ب�سبب �سياقته املتهورة ُ‬
‫من عمله‪ .‬حني يقوم بع�ض ال�ضباط ب�أخطاء خالل مزاولتهم‬
‫ملهامهم ف�إن الذين ُيحققون يف تلك احلاالت يجب �أن يت�سلحوا‬
‫بال�رصامة والتما�سك‪ ،‬كما يجب توفري احلماية ل�شهود العيان‬
‫حتى يبقوا رهن �إ�شارة ال�رشطة عند احلاجة لإدالئهم ب�شهاداتهم‬
‫و�أقوالهم �أمام املحكمة‪ .‬على هذا لأ�سا�س مت ا�ستدعاء املراقـِبة‬
‫الأمريكية مرتني للمثول �أمام املحكمة ال�شمال ايرلندية وتقدمي‬
‫�شهاداتها‪.‬‬
‫يجب �إحالة �أية حالة وفاة ُيحتمل نتوجها عن ت�رصف غري‬
‫الئق ل�ضابط �رشطة على جمل�س الو�سيط (‪ ،)ombudsman‬كما‬
‫يجب التبليغ عن كل حالة وفاة قد تكون ح�صلت خالل فرتة‬
‫احلرا�سة النظرية يكون فيها �ضابط ال�رشطة �آخر من ات�صل‬
‫بال�شخ�ص املتوفى‪.‬‬
‫�إن حفظ النظام يف �شمال ايرلندة يرافقه حاليا نوع من العودة‬
‫للو�ضع الطبيعي واالبتعاد عن مرحلة عدم اال�ستقرار‪� ،‬أما مناذج‬
‫ونوع ال�شكايات التي �أ�صبحنا نتو�صل بها فقد تغري ب�شكل جدري‪.‬‬

‫احلكامة الأمنية اجليدة‬


‫‪90‬‬
‫نت على ر�أ�س م�ؤ�س�سة الو�سيط كانت ‪ 50%‬من‬ ‫حينما ُعيـِّ ُ‬
‫ال�شكايات التي ت�صلنا مرتبطة بق�ضايا تـَهـَ ُّجم وتـَ َح ُّـر�ش وم�ضايقة‬
‫تورط فيها �ضباط �رشطة؛ كما �أن تلك احلاالت مل حت�صل خالل‬
‫وقوع مظاهرات �أو�أعمال �شغب مهددة للأمن واال�ستقرار‪ .‬كانت‬
‫هناك ‪ 23%‬من احلاالت فقط تتعلق بف�شل بع�ض ال�ضباط يف‬
‫القيام بواجبهم‪� .‬أما الآن فلقد اختلف امل�شهد كلية‪ .‬هناك ‪39%‬‬
‫من حاالت الإخالل بالواجب و‪ 37%‬من حاالت التهجم �إ�ضافة‬
‫ملزاعم ُيبـَل َّـغ عنها �ضد ال�رشطة‪ .‬هناك كذلك ا�ستخدام �أقل‬
‫لهراوات ال�رشطة‪ ،‬ناهيك عن الأ�سلحة النارية‪ ،‬حيث يتعلق‬
‫الأمر با�ستعمال �ضيق النطاق ويف حاالت منعزلة ح�سب �أرقام‬
‫�سنة ‪ 2005‬و‪� ،2007‬إذ مل يتم اللجوء لتلك الأدوات منذ �سنة ‪.2002‬‬
‫نف�س الأمر ين�سحب على ا�ستعمال القنابل والغازات ُ‬
‫امل�سيلة‬
‫أمر �أ�صدره رئي�س ق�سم‬ ‫للدموع‪ ،‬حيث تبِ ع ذلك اال�ستعمال � ٌ‬
‫ال�رشطة بفتح حتقيق �أف�ضى ملحاكمة ب�ش�أن ا�ستعمال الع�صي‬
‫الكهربائية (‪ .)TASER‬وكم�سئولة عن مكتب الو�سيط قمت‬
‫بتقييم العديد من التو�صيات بخ�صو�ص التغيريات ال�رضورية‬
‫التي يجب �إتباعها بخ�صو�ص ال�سيا�سة وال�سلوك ال�رشطي‪ .‬الآن‬
‫�أ�صبح عموم اجلمهور موقن ًا ب�أننا نقوم مب�ساهمة ذات قيمة و�أهمية‬
‫لتح�سني �رشوط وظروف حفظ النظام‪ ،‬حيث �أ�صبح هناك ‪82%‬‬
‫ممن يعتقدون ب�أننا ن�ساهم بفعالية يف حت�سني هذا املفهوم‪.‬‬
‫�إن عودة ا�ستتباب الأمن يعك�س �شيئان على الأقل‪� :‬أن مفهوم‬
‫ا�ستتباب الأمن يتغري‪ ،‬فاجلمهور �أ�صبح الآن ُيقـِر ب�رضورة تطبيق‬
‫التدابري الالزمة ال�ستتباب الأمن‪ ،‬و ُي َعبـِّر عن ا�ستعداده للتعاون‬
‫مع ال�رشطة لبلوغ ذلك الهدف‪ .‬يف بع�ض الأحيان يت�سم عمل‬
‫ال�رشطة وتعاون اجلمهور معها بالرتنح وعدم الثبات‪ ،‬غري �أن‬

‫احلكامة الأمنية اجليدة‬


‫‪91‬‬
‫ذلك ُيعترب بداية طبيعية ُيقابلها تزايد اهتمام اجلمهور‪ .‬يف بع�ض‬
‫املنا�سبات كنت �أكل َّـف بالذهاب لبلدات و�أماكن خمتلفة‬
‫وفهم �أف�ضل ل�سبل التعاون‬
‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫ا�ستك�شاف‬ ‫حتى يتمكن املواطنون من‬
‫مع ال�رشطة‪ ،‬و�إمكانية االنخراط يف ذلك‪ ،‬ك�أن يت�أكدوا من‬
‫عدم وجود �أخطار حتف بهذه العالقة‪� ،‬أوب�أن ال�رشطة لن تقوم‬
‫مب�ضايقتهم �أوالتحر�ش بهم‪ .‬قد تت�سم مثل هذه املحادثات مع‬
‫املواطنني بالكثري من ال�صعوبة واحل�سا�سية‪ .‬يف بع�ض الأحيان‬
‫كنا نتوجه �إىل بع�ض الأحياء ُرفقة ال�رشطة لتكثيف مثل تلك‬
‫اللقاءات‪ .‬كانت تلك اللقاءات تكت�سي غاية يف الأهمية‪ ،‬فقد‬
‫تكون هناك عوامل �صغرية من �ش�أنها �أن تُ�ساعد على التقارب بني‬
‫املواطنني و�أجهزة �إنفاذ القانون‪ .‬ماذا كان رد فعل ه�ؤالء وكيف‬
‫كان موقفهم منا؟ لقد �أبان ‪ 86%‬من املواطنني عن اعتقادهم‬
‫ب�أننا م�ستقلون يف عملنا‪ ،‬بل قمنا بتقدمي بع�ض الدالئل ترتكز‬
‫على بع�ض التو�صيات بخ�صو�ص مقا�ضاة بع�ض �ضباط ال�رشطة‪.‬‬
‫حينما كان لزام ًا علينا القيام بذلك‪ ،‬قمنا �أو ًال بالت�أكيد على‬
‫�أن امل�سئولني �أو ًال هم ب�رش ِي�ؤدون عملهم‪ ،‬يلتزمون يف ذلك‬
‫بالقانون وين�ضبطون له‪ .‬عندما متر عملية ا�ستتباب الأمن‬
‫دون م�شاكل ُنعلن عن ذلك‪ ،‬وحينما يت�رصف �ضباطنا ب�شكل‬
‫�شجاع نقولها عالنية‪ .‬وحني يح�صل خط�أ‪ ،‬دون �أن يكون مرده‬
‫لعدم كفاءة ال�ضباط �أو�ضباط ال�صف و�إمنا ب�سبب �إخفاق يف‬
‫التدبري �أوالت�أطري نقوم بالتعامل مع هذه احلالة مبا ت�ستلزمه من‬
‫تدابري‪ .‬هناك ‪ 78%‬من املواطنني الذين �أبدوا اقتناعهم بخ�صو�ص‬
‫التزامنا احلياد‪ .‬كما �أن ‪ 84%‬من املواطنني موقنون بالتزامنا‬
‫بالعدل بخ�صو�ص تعاملنا مع ال�شكايات‪ .‬وحتى حينما قام �ضباط‬
‫ال�رشطة بالتحقيق‪ ،‬ومت تقييم �أدائهم ب�شكل غري علني‪� ،‬أقروا‬

‫احلكامة الأمنية اجليدة‬


‫‪92‬‬
‫ب�أن هناك درجة عالية من الثقة‪ ،‬كما �أن هناك ‪ 92%‬من �ضباط‬
‫ال�رشطة الذين ُحقـِّ َق ب�ش�أن عملهم واعرتفوا بنزاهة واحرتافية‬
‫امل�ستجوبني‬
‫َ‬ ‫املحـقـقني‪ ،‬كما عرب ‪ 84%‬من‬ ‫وكذلك ا�ستقاللية ُ‬
‫عن ثقتهم بعدالة تلك التحقيقات‪.‬‬
‫لقد كان الو�ضع يف احلقيقة خمتلف ًا عما �أ�صبح عليه بعد تعييني‬
‫على ر�أ�س مكتب الأمبود�سمان‪ .‬وحني بد�أ املواطنون يعاينون‬
‫ب�أنف�سهم كيف �أُدين بع�ض �ضباط ال�رشطة ‪� ،‬أو ُف ِ�صلوا من‬
‫عملهم ‪� ،‬أو ُاجبـِروا على اال�ستقالة �أومت ت�أديبهم جراء تقدمي‬
‫تظلمات �ضدهم‪ ،‬ف�إن ن�سبة ثقة املواطنني يف نظام تقدمي‬
‫ال�شكايات �أوالتظلمات ارتفعت ب�شكل ملحوظ‪ .‬ولقد ف�رسنا‬
‫لبع�ض اجلهات امل�س�ؤولة ب�أن بع�ض ال�ضباط مل يكونوا قد‬
‫تلقوا تدريبات جيدة‪ ،‬مما دفع بنا لتقدمي تو�صيات ب�رضورة‬
‫تلقي ه�ؤالء لتدريبات �أف�ضل عو�ض �أن تتم معاقبتهم‪ ،‬ف�أبدى‬
‫امل�س�ؤولون تفهم ًا للأمر‪.‬‬
‫�إن املقاربة القمعية للعمل على ا�ستتباب الأمن – حتى و�إن‬
‫كان الهدف من وراءها تني �أومنع بع�ض املواطنني عن بع�ض‬
‫ال�سلوكيات‪� ،‬أوحني معاينة بع�ض اجلرائم اخلطرية – ف�إن‬
‫النتائج املرتتبة عن تلك املقاربة قد تكون عك�سية‪ .‬كما �أن‬
‫طريقة تنفيذ بع�ض الأوامر‪ ،‬وكذا االنطباع الذي يرتكه‬
‫املكلفون بتنفيذ تلك الأوامر‪ ،‬هي كلها �أ�شياء ال تخلومن‬
‫�أهمية‪ .‬فعلى �سبيل املثال‪� ،‬إذا تعلق الأمر بتفتي�ش بع�ض‬
‫املمتلكات خ�صو�ص ًا املنزلية‪ ،‬يتوجب الأخذ بعني االعتبار‬
‫لبع�ض املخاطر املتعلقة بقاطني البيت الذي �سيتم تفتي�شه‪:‬‬
‫هل هناك مث ًال �أطفال �صغار‪� ،‬أون�ساء حوامل �أو�أ�شخا�ص م�سنون‪،‬‬

‫احلكامة الأمنية اجليدة‬


‫‪93‬‬
‫�أو�أ�شخا�ص ذوي حاجيات خا�صة �أو�أ�شخا�ص يف و�ضعية ه�شة؟‬
‫كل هذه الأمور جتب مراعاتها خالل التخطيط اال�سرتاتيجي‬
‫لأي عملية تفتي�ش‪ ،‬مما �سي�ؤَدي �إىل �أدنى درجة يف ا�ستعمال‬
‫القوة �أوالعنف‪ .‬لقد قمت يف ال�سنة املا�ضية برفع تقرير ب�ش�أن‬
‫معاينات قمت بها بخ�صو�ص �شكاية تقدم بها �شخ�ص ُيدعى‬
‫ماكورد» (‪ )McCord Raymond‬وي�شري فيها �إىل غياب‬ ‫ّ‬ ‫«راميوند‬
‫حتقيقات مالئمة ب�ش�أن جرمية قتل ابنه راميوند‪ ،‬وب�أنه بعد‬
‫�سنوات من ذلك ف�إن ال�رشطة قامت بحماية �شخ�ص ما ومن‬
‫ُيعتقد �أن يكون �رشيكه‪ ،‬بل �أن ال�رشطة امتنعت حتى عن‬
‫اعتقاله ومتابعته بالعديد من التهم‪ .‬وادعى الرجل كذلك‬
‫ب�أن املتهم كان خمرب ًا لل�رشطة‪ .‬ولقد �أك َّـدَ ت معاينتي‬
‫ماكورد من �أقوال‪ ،‬كما ق َّـد َمت‬
‫ّ‬ ‫وحترياتي ما �أدىل به ال�سيد‬
‫تلك التحريات جرد ًا لبع�ض املمار�سات التي تُظهر تواطئ ًا بني‬
‫�ضباط ال�رشطة بخ�صو�ص بع�ض احلاالت‪ ،‬وهي ممار�سات تبقى‬
‫دون تف�سريات‪ ،‬كما ثبتت وجود بع�ض النواق�ص اخلطرية‬
‫التي ت�شوب ال�سيا�سات وال�سلوكيات املتبعة من لذن رجال‬
‫ال�رشطة ل�سنوات‪ .‬ولقد كنت �سعيدة لكوين متكنت من رفع‬
‫تقرير ير�صد جتاوب ال�رشطة مع الكثري من التو�صيات التي‬
‫تقدمت بها بخ�صو�ص ال�سلوكيات الف�ضلى وكذا التعامل مع‬
‫املخربين واملعلومات التي ميدون بها جهاز ال�رشطة‪.‬‬
‫ينتمي معظم املخربين للجماعات التي يقدمون معلومات‬
‫عنها‪� ،‬سواء كانوا خمربين بالن�سبة حلاالت جنائية �أو ق�ضايا‬
‫�أمنية على ال�صعيد الوطني �أوالقومي‪ .‬و�إذا ما راحت فئة من‬
‫املواطنني �ضحية لإفراط ال�رشطة يف ا�ستعمال الق�سوة �أثناء‬
‫حماولتها تطبيق القانون وا�ستتباب الأمن‪ ،‬خ�صو�ص ًا حينما‬

‫احلكامة الأمنية اجليدة‬


‫‪94‬‬
‫تهدف ال�رشطة �إىل احلد من اجلرمية املنظمة‪ ،‬فمن املحتمل‬
‫ب�أن تويل هذه الفئة من املواطنني ظهرها لل�رشطة‪ ،‬بل‬
‫وتنا�صبها العداء‪ ،‬ناهيك عن احتمال تعر�ض املخربين لعملية‬
‫قتل �أومالحقة‪� ،‬إذ ُي�صبحون يف نظر ال�سكان خونة متعاونني‬
‫مع العدو(والعدوهنا هوجهاز ال�رشطة)‪ .‬يف �إرلندة ال�شمالية‬
‫كان املخربون ُيقتلون ب�شكل روتيني حينما ينك�شف �أمرهم‪،‬‬
‫وذلك بعد التنكيل بهم من طرف اجلماعات التي كانت تُلقي‬
‫عليهم القب�ض رغبة منها يف معرفة مدى االخرتاق الذي‬
‫تعر�ضت له من طرف ال�رشطة‪ .‬كما كان يمُ َ ث َّـل بجثة املخرب‬
‫قبل �أن تُلقى يف العراء‪ ،‬حيث ُي�شكل ذلك ر�سالة موجهة لكل‬
‫من تُ�سـَ ِّول له نف�سه �أن ي�سلك نف�س الطريق‪ .‬لهذا وجب متتيع‬
‫املخربين بحماية ال�رشطة وتدبري �أمورهم بعناية نظر ًا لقيمة‬
‫املعلومات التي قد ميدوا ال�رشطة بها‪ ،‬والتي من �ش�أنها �أن‬
‫تجُ نب انف�ضاح بل وقتل �ضباط �رشطة �أورجال ا�ستعالمات‬
‫�أوخمربين �آخرين‪ .‬هناك طبع ًا و�سائل �أخرى �أكرث تعقيد ًا‬
‫للك�شف عن نوايا املجرمني‪ ،‬كالتن�صت عليهم �أواعرتا�ض‬
‫و�إجها�ض خططهم‪ ،‬زيادة على تقنيات تمُ َ كن من جتميع �أخبار‬
‫ا�ستعالماتية‪ .‬غري �أن �سموالقانون يجب �أن يبقى دائم ًا حا� ً‬
‫رضا‬
‫يف �أدهان املكل َّـفني مبالحقة املجرمني العتاة الذين يبدلون‬
‫ق�صارى جهودهم لإحباط العمليات ال�رشطية‪.‬‬
‫تتعر�ض حياة ال�سكان للخطر حني ترتفع ن�سبة اجلرمية يف‬
‫منطقة ما‪ ،‬كما ُيالقي من يقومون بفر�ض النظام يف تلك‬
‫املناطق �صعوبات جمة‪ .‬بالن�سبة ال�ستتباب الأمن هناك‬
‫�إقرار ب�رضورة جعل التدابري الأمنية مماثلة يف حجمها حلجم‬
‫املخاطر‪ .‬كما يتعني على �ضباط ال�رشطة �إقناع ال�ساكنة ب�أن‬

‫احلكامة الأمنية اجليدة‬


‫‪95‬‬
‫تواجدهم ي�ستهدف حماية املواطنني ولي�س منا�صبتهم العداء‪.‬‬
‫وليت�أتى ذلك يجب تطوير �سيا�سات ا�ستتباب الأمن قبل �أن تظهر‬
‫بع�ض امل�شاكل الحق ًا‪ ،‬كما يجب معاملة ال�سكان باحرتام‬
‫وتقدير‪ ،‬لأن ما عدى ذلك �سيدفعهم لالنعزال واالنغالق على‬
‫�أنف�سهم يف مواجهة جهاز الأمن‪ ،‬مما قد ي�ؤدي لأ�رضار ج�سيمة‬
‫كما تبني ذلك يف مناطق عدة عرب العامل‪.‬‬
‫تمُ ثل م�س�ألة حماربة اجلرمية املنظمة ومنعها من خالل‬
‫تفكيك الع�صابات ال�ضالعة فيها‪ ،‬وكذلك حماربة الإرهاب‬
‫وخالياه‪ ،‬ق�ضايا جوهرية بعالقة مع عملية ا�ستتباب الأمن يف‬
‫كل البلدان‪ .‬ولن ُتقلل من �أهمية ذلك التحقيقات امل�ستقلة‬
‫اجلناة‪ .‬لقد‬‫عند القيام بها خالل متابعة ور�صد حتركات ُ‬
‫علمتني جتربتي كو�سيط لل�رشطة ب�أنه‪ ،‬يف بع�ض الأحيان‪،‬‬
‫يمُ كن للمنظمات ال�رشطية وكذا �أجهزة تطبيق القانون �أن‬
‫ُت َك ِّون م�صالح �أوبنيات لتجميع وتدبري املعلومات اال�ستخباراتية‬
‫ُبغية حماية الأمن القومي �أوحماربة اجلرمية بكل �أ�شكالها‪.‬‬
‫ولكن هناك داخل تلك املنظمات ه�ؤالء الذين ال يت�شبثون‬
‫بتلك القيم‪ ،‬ممن ي�صريون فا�سدين من جراء عدم تبنيهم‬
‫�سيبعدهم عن املهمة احلقيقية لل�رشطة‬ ‫لنف�س القيم‪ ،‬وهذا ُ‬
‫بل قد يجرهم ملمار�سة الإجرام كذلك‪.‬‬
‫تبدواملخاطر وا�ضحة‪ ،‬فاملخربون الذين يتحركون يف عامل‬
‫غام�ض حمفوف باملخاطر ويكتنفه الإجرام ‪ ،‬قد ين�ساقون وراء‬
‫امليوالت الإجرامية كذلك‪ ،‬بل وي�صريون �ضالعني يف بع�ض‬
‫اجلرائم اخلطرية‪ ،‬مما قد يدفع املتعاونني معهم �إىل االن�سياق‬
‫نحونف�س املمار�سات‪ .‬فاملجرم الذي يبحث عن حماية لأن�شطته‬

‫احلكامة الأمنية اجليدة‬


‫‪96‬‬
‫يمُ كن �أن ُيبدي تعاونا مع �ضباط ال�رشطة‪ ،‬و�أن ي�صري خمرب ًا‬
‫ل�ضابط �رشطة جنح يف اخرتاق منظمة �إجرامية ما‪ ،‬فيخربه‬
‫بو�صول ب�ضاعة تتكون من املحظورات كاملخدرات مث ًال؛ ومن‬
‫املحتمل كذلك �أن ُيعطي املخرب جزء ًا من تلك الب�ضاعة‬ ‫ُ‬
‫للمخرب‬‫املحظورة لذلك املجرم‪ ،‬مما قد ُيعطي م�صداقية ُ‬
‫ول�صاحب الب�ضاعة �أي�ض ًا‪ .‬ويمُ كن يف بع�ض الأحيان كذلك‬
‫للطرفني مع ًا �أن يقت�سما الغنيمة‪ .‬هكذا يخون املجرم الأع�ضاء‬
‫الآخرين يف الع�صابة‪ ،‬كما ينتهي الأمر ُ‬
‫باملخرب �أن يتقا�ضى‬
‫�أجر ًا للتعامل مع (�أوالت�سرت على) املجرم‪ .‬وقد ي�ؤدي هذا �إىل‬
‫املخرب للخطوط احلمراء يف ق�ضايا قد ال يكون م�سموح ًا‬ ‫جتاوز ُ‬
‫املخرب على‬ ‫له بتجاوزها‪ .‬يف حاالت �أخرى قد يكون ر�ؤ�ساء ُ‬
‫علم بتورط مر�ؤو�سهم يف ق�ضية ما دون التدخل لإيقاف ذلك‬
‫بحجة نوعية وقيمة املعلومات التي ميدهم بها‪ ،‬مما قد ُيقوي‬ ‫ُ‬
‫�شوكة املجرم و�سطوته ويمُ تعه باكتفاء ذاتي‪ .‬ما قد يح�صل‬
‫املخرب يف دفع �أجر للمجرم‬ ‫يف مثل هته احلاالت هوا�ستمرار ُ‬
‫مقابل املعلومات التي ي�ستمدها منه‪ ،‬بينما ي�ستمر املجرمون‬
‫يف ممار�سة �إجرامهم‪ .‬يح�صل هذا يف اجلرائم العادية كما قد‬
‫يح�صل يف �سياق مت�سم بالإرهاب‪.‬‬
‫لقد الحظنا مثل هذه احلاالت يف �شمال �إرلندة‪ ،‬حيث تتواط�أ‬
‫بع�ض قوات ال�رشطة مع بع�ض الإرهابيني يف حماربة بع�ض‬
‫الأعداء امل�شرتكني للطرفني‪ .‬يح�صل ذلك ك�أن تُ�سلم ال�رشطة‬
‫بع�ض التفا�صيل �أواملعلومات حول ه�ؤالء الأعداء امل�شرتكني‬
‫ُ‬
‫وامل�ستهدفني‪� ،‬أوك�أن يمُ َ ك ـِّن جهاز ال�رشطة بع�ض القتلة‬
‫من الو�صول ل�ضحاياهم‪� ،‬أوك�أن تُخفق ال�رشطة يف التعامل‬

‫احلكامة الأمنية اجليدة‬


‫‪97‬‬
‫مع بع�ض املعلومات التي ا�ستقتها قواتها والتي ُيفرت�ض �أن‬
‫ت�ساعد هذه اخلربة يف منع مثل تلك الأ�شياء من احل�صول‪� .‬إن‬
‫عملية التدبري املنظماتي (‪ )management organizational‬تكت�سي‬
‫�أهمية بالغة‪ ،‬غري �أن بع�ض الأ�شياء قد حت�صل ب�شكل ُمعاك�س‬
‫توقع‪ ،‬مما ي�ستوجب وجود �آليات م�ساءلة لتدارك املوقف‬ ‫للم َّ‬
‫ُ‬
‫وتقومي كل زيغ �أواعوجاج حمتملني يف امل�سار املو�ضوع لعملية‬
‫ما‪ ،‬وكذلك للت�أكد مما ح�صل‪ .‬على �سبيل املثال‪� ،‬إذا �أَ ْخ َط َر‬
‫رب �ضابط �رشطة بو�شك ح�صول جرمية‪ ،‬دون �أن ُيخطر‬ ‫ٌ‬ ‫مخُ‬
‫هذا الأخري ر�ؤ�سائه �أوم�ساعديه باملعلومة ُمع ِّل ًال ذلك باحتمال‬
‫املخرب للخطر‪ ،‬ف�إنه يتوجب وجود نظام يمُ َ ِّكن‬ ‫تعري�ض حياة ُ‬
‫من تقفي كل املراحل التي قد تقطعها تلك اجلرمية‪ ،‬كما‬
‫مررت بها‬ ‫يجب �أن تكون هناك و�سيلة لتحليل الطريقة التي ُ ِّ‬
‫املخرب لل�ضابط‪ ،‬وما كان يتعني على ال�ضابط‬ ‫املعلومة من ُ‬
‫القيام به حني تو�صله باملعلومة‪ ،‬و�أخري ًا من له م�س�ؤولية �إدارة‬
‫املخرب‪� .‬أما الغر�ض من كل ذلك فيكمن يف �إمكانية‬ ‫هذا ُ‬
‫واملخرب‪ ،‬وكذا نوع التجاوب احلا�صل‬ ‫ُ‬ ‫تقييم م�صداقية اخلرب‬
‫مع املعلومة حني التو�صل بها‪ ،‬و�إن كان ذلك قد ح�صل‬
‫على �ضوء القوانني ال�سارية املفعول؛ بل يجب الت�أكد من �أن‬
‫طبقة بخ�صو�ص تلك احلالة بعينها هي قوانني جيدة‬ ‫القوانني ُ‬
‫امل َّ‬
‫ومالئمة‪ .‬نف�س الأ�سئلة يجب طرحها بخ�صو�ص املعلومات التي‬
‫مت احل�صول عليها مبوارد �أُخرى غري املوارد الب�رشية‪.‬‬
‫�إن الإرهاب بوجهه الكوين وكذا اجلرمية املنظمة ب�شكلها‬
‫الدويل يرتبطان ببع�ضهما البع�ض ب�شكل وثيق‪ ،‬مما ُي َعقـِّد‬
‫�سبل حماربتهما‪ ،‬وهذا ي�ستدعي ت�ضافر كل اجلهود والتقنيات‬

‫احلكامة الأمنية اجليدة‬


‫‪98‬‬
‫املتوفرة‪� ،‬إ�ضافة ال�سرتاتيجيات فعالة ترافقها �شجاعة نادرة‬
‫ملحاربي اجلرمية املنظمة والإرهاب‪ .‬ولن يت�أتى كل ذلك �إال �إذا‬
‫انخرط املواطنون يف هذا امل�سار‪ .‬وبناء ًا على ما �سلف ذكره‬
‫ف�إن �إحجام املواطنني يف بلد ما عن م�ساعدة ال�رشطة يف حماربة‬
‫حت�صل الأ�شياء ب�شكل‬
‫اجلرمية �سيزيد من �صعوبة املهمة‪ .‬وحني ُ‬
‫خاطئ‪ ،‬خ�صو�ص ًا حينما تُزهق �أرواح عن طريق اخلط�أ �أو�سوء‬
‫ُ‬
‫�سي َو َّجه جلهاز ال�رشطة‪ .‬لهذا‬ ‫التقدير‪ ،‬ف�إن �أ�صبع االتهام دائم ًا ُ‬
‫مكن من �إجراء حما�سبة‬ ‫�سي ِّ‬
‫الغر�ض‪ ،‬ف�إن وجود �آليات م�ستقلة ُ‬
‫�سي َمكن من بعث روح الثقة والأمان‬ ‫ومراقبة جهاز ال�رشطة‪ ،‬كما ُ‬
‫يف نفو�س املواطنني من جهة‪ ،‬كما �سيمنح من جهة �أخرى‬
‫الثقة لدا �ضباط ال�رشطة امللتزمني بالقوانني املهنية – وما‬
‫اخلطة الرامية ال�ستتباب الأمن‬ ‫�أكرثهم ‪ -‬بعدالة مواقفهم‪� .‬إن ُ‬
‫�ست�شكل الدرع ال�ضامن للعدالة وال�سلم داخل املجتمع‪.‬‬
‫لقد كنت حمظوظة حني توفرت يل كل �رشوط اال�ستقاللية‬
‫يف مزاولة مهامي مع جهاز ال�رشطة خالل ت�أ�سي�س مكتب‬
‫الو�سيط الذي �أعمل فيه و�أتر�أ�سه منذ �سبع �سنوات‪ .‬بالن�سبة‬
‫ملجتمع يتوق للفعالية‪ ،‬و ُي َ�سخـِّر لأجل ذلك ما يكفي من‬ ‫ُ‬
‫ال�ضمانات يف جمال احرتام حقوق الإن�سان‪ ،‬ف�إن الأمر يتطلب‬
‫ال حمالة �شجاعة و�إ�رصار ًا من طرف احلكومة لتتمكن من‬
‫�إعطاء ما يكفي من امل�صداقية لعملياتها‪ ،‬وحتى تتمكن من‬
‫القيام بتحريات وحتقيقات م�ستقلة ب�ش�أن م�صاحلها ال�رشطية‬
‫وم�صاحلها املكلفة با�ستتباب الأمن؛ وال يراودين �شك يف �أن‬
‫ال�شجاعة يمُ كن ا�ستمدادها من ُخطط تنبني يف املقام الأول‬
‫على �أُ�س�س متينة‪.‬‬

‫احلكامة الأمنية اجليدة‬


‫‪99‬‬
‫اجلل�سة الثالثة ‪:‬‬
‫�إ�صالح قطاع الأمن يف املغرب ‪:‬‬
‫الأورا�ش اجلارية‬
‫هيئة الإن�صاف وامل�صاحلة‬
‫واحلكامة الأمنية اجليدة‬
‫�أحمد �شوقي بنيوب*‬

‫بعدما ا�ستمعنا البارحة للتحاليل العميقة لتجربة هيئة الإن�صاف‬


‫وامل�صاحلة ال ميكن يل كمغربي �إال �أن �أ�شعر باالعتزاز؛ وال‬
‫ميكنني �إال �أن �أعرب عن مدى اعتزازي بال�صديق املنا�ضل‬
‫واملثقف الع�ضوي احلبيب بلكو�ش الذي كان يف ريادة جميع‬
‫مراحل العدالة االنتقالية باملغرب‪ .‬كما ي�شكل هذا اللقاء اليوم‬
‫حلظة تكرمي دولية �أخرى مل�ؤ�س�س العدالة االنتقالية باملغرب‬
‫�إدري�س بنزكري رحمه اهلل‪.‬‬
‫وي�رشفني �أن �أقدم هذا العر�ض يف ح�ضور منا�ضلني كبار من‬
‫موقع هيئة الإن�صاف وامل�صاحلة و�أعني لطيفة اجبابدي و�صالح‬
‫الوديع‪ ،‬ومن �أطرها الإدارية الكربى مثل امل�صدق ونعيمة‬
‫بنواكرمي �إ�ضافة �إىل قادة كبار للمجتمع املدين منهم حممد‬

‫* ع�ضو �سابق بهيئة الإن�صاف وامل�صاحلة‪.‬‬

‫احلكامة الأمنية اجليدة‬


‫‪103‬‬
‫ال�صبار رئي�س منظمة ال�ضحايا‪ ،‬املنمتدى املغربي للحقيقة‬
‫والإن�صاف‪ ،‬و�أمينة بوعيا�ش رئي�سة املنظمة املغربية حلقوق‬
‫الإن�سان‪ ،‬ورئي�سة اجلل�سة خديجة املروازي رئي�سة منظمة‬
‫الو�سيط للدميقراطية وحقوق ان�سان‪.‬‬
‫كيف قاربت هيئة الإن�صاف وامل�صاحلة مو�ضوع احلكامة الأمنية؟‬

‫كما تعلمون‪ ،‬و�ضعت هيئة الإن�صاف وامل�صاحلة قانونها‬


‫الأ�سا�سي بنف�سها‪ .‬وعندما كنا ن�صوغ هذا النظام كنا‬
‫واعني �أننا نعي�ش حلظة تاريخية مهمة من م�سل�سل �سيا�سي‬
‫مطبوع بالقطائع الإيجابية‪ ،‬ال�رسيعة �أحيانا والبطيئة تارة‬
‫�أخرى‪ ،‬من �أجل االنتقال �إىل الدميقراطية‪ .‬ومن بني ما‬
‫ت�شمله هذه القطائع عالقة الأمن والقانون وال�سيا�سة وحقوق‬
‫الإن�سان يف جمتمع دميقراطي‪ .‬وعندما بلغنا �إىل �صياغة‬
‫الفقرة املتعلقة بالعالقة مع الأجهزة الأمنية‪ ،‬جرى نقا�ش‬
‫عميق بيننا ك�أع�ضاء‪ ،‬فكتبنا عن وعي ومب�س�ؤولية عبارة‬
‫«وتتعاون الأجهزة الأمنية مع هيئة الإن�صاف وامل�صاحلة‪»،‬‬
‫وكان ب�إمكاننا �أن نكتب «وتلزم الأجهزة الأمنية بالتعاون مع‬
‫الهيئة‪ .»..‬لكننا مل نقم بذلك‪ ،‬لأن املو�ضوع مل يكن يتعلق‬
‫بعبارة لغوية‪ ،‬بل كان تعبريا عن مو�ضوع تتداخل فيه ثالثة‬
‫�أبعاد‪ :‬معايري القانون الدويل حلقوق الإن�سان‪ ،‬وجراحات‬
‫و�آالم ال�ضحايا‪ ،‬ومكر ال�سيا�سة‪.‬‬
‫لقد كان بعد احلكامة الأمنية حا�رضا يف جميع املراحل‪ :‬يف‬
‫و�ضع القانون الأ�سا�سي‪ ،‬ويف التحريات امليدانية‪ ،‬ويف الك�شف‬
‫عن احلقيقة‪ ،‬ويف الإقرار العمومي بها‪ ،‬ويف رف�ض االختالالت‬
‫التي حتكمت يف عالقة الأمن بالقانون وال�سيا�سة‪.‬‬

‫احلكامة الأمنية اجليدة‬


‫‪104‬‬
‫فما هي الإ�سرتاتيجية التي اعتمدناها يف تفعيل العالقة مع‬
‫الأجهزة الأمنية ان�سجاما مع مفهوم التعاون ولي�س الإلزام؟‬
‫لقد اعتمدنا مقاربة ت�شاركية‪� ،‬أوا�سرتاتيجية تعاونية ات�سم‬
‫منهجها بالإعداد اجليد لفر�ضياتنا حول ما�ضي االنتهاكات‪،‬‬
‫وبالتف�سري والتو�ضيح و�إبراز احلجج والقرائن التي بني �أيدينا‪،‬‬
‫كما ات�سم بعدم اال�ستعجال يف ك�سب نتائج يف اجلولة الأوىل‪،‬‬
‫وحر�صنا على زرع الثقة يف جدية العمل الذي نقوم به‪ ،‬وال�سعي‬
‫لإجناح جتارب ميدانية‪ .‬فقد كنا نعترب �أن ذلك ي�شكل املخترب‬
‫الأول يف تاريخ املغرب امل�ستقل منذ ‪� 1956‬إىل حني ميالد‬
‫هيئة الإن�صاف وامل�صاحلة‪.‬‬
‫و�إليكم بع�ض النماذج‪ :‬مكنتنا عملية ا�ستخراج بع�ض الرفاة‬
‫من املقابر الفردية واجلماعية‪ ،‬علما ب�أنه لأول مرة ت�ستخرج‬
‫رفاة من مقربة تنتمي لبلد عربي �إ�سالمي‪ ،‬من �أن ن�شارك يف‬
‫العملية‪ .‬فبالإ�ضافة �إىل وفد هيئة الإن�صاف وامل�صاحلة امل�شكل‬
‫من �صالح الوديع ولطيفة اجبابدي‪ ،‬وهما من كبار اخلرباء يف‬
‫هذا املجال‪ ،‬كان يوجد ممثلون من م�ستوى عال لل�سلطات‬
‫الأمنية‪ ،‬وال�سلطات الق�ضائية‪ ،‬وال�سلطات الإدارية وفريق طبي‬
‫من نف�س امل�ستوى‪ .‬وعندما ا�ستخرجنا الرفاة‪ ،‬و�أقمنا مرا�سيم‬
‫الدفن‪ ،‬وفق ال�رشيعة الإ�سالمية احلنيفة وا�ستخرجنا عينات‬
‫للتحليل‪ ،‬كان اجلميع ويف مقدمتهم جهاز الأمن ير�سم ‪ ،‬ولأول‬
‫مرة‪ ،‬عملية نظامية يف �إطار القانون وحقوق الإن�سان‪.‬‬
‫ومن جهة �أخرى‪ ،‬ملا نظمنا جل�سات اال�ستماع العمومية ومت‬
‫ك�شف �إفال�س مقاربة الأمن التي �سادت لأربعني �سنة‪� ،‬أمام ال�شعب‬
‫املغربي و�أمام العامل‪� ،‬رسع م�سل�سل الك�شف العمومي عن احلقيقة‬

‫احلكامة الأمنية اجليدة‬


‫‪105‬‬
‫من وثرية عقد جل�سات مع م�س�ؤولني �أمنيني كبار‪ ،‬ومكننا‬
‫ذلك من �أن نتقدم يف التو�صل مبعلومات ووثائق تخ�ص ال�سلطات‬
‫الأمنية والع�سكرية‪ ،‬كما �أن الك�شف عن احلقيقة �رسع فتح �أبواب‬
‫للمراكز ال�رسية ال�سابقة النتهاكات حقوق الإن�سان‪.‬‬
‫وعلى �صعيد ثالث‪� ،‬سمح لنا م�سل�سل الدرا�سات التي قمنا‬
‫بها لل�سياق التاريخي‪ ،‬ويف عالقته بالأحداث االجتماعية‬
‫وال�سيا�سية‪� ،‬أن نقف بامللمو�س عند وجود فراغ قانوين حقيقي‬
‫ينظم �صالحيات واخت�صا�صات �أجهزة الأمن؛ كما متكنا‪� ،‬أي�ضا‪،‬‬
‫من الوقوف عند عدم وجود �أر�شيف منظم ومتاح للعموم‪،‬‬
‫كما تبني لنا عدم وجود حما�رض �أوم�ستندات تتعلق مب�سل�سل‬
‫اتخاذ القرارات الأمنية املتعلقة با�ستخدام القوة‪ .‬وا�ستطعنا �أن‬
‫نثبت فر�ضية عدم اخت�صا�ص الربملان‪ ،‬و�أحيانا عدم قدرته‬
‫على الرقابة على عمل الأجهزة الأمنية‪ ،‬كما متكنا‪� ،‬أي�ضا‪،‬‬
‫من الوقوف عند عدم قدرة احلكومة‪ ،‬ك�سلطة �سيا�سية‪ ،‬على‬
‫تتبع عمل �أجهزة الأمن التي من املفرو�ض �أن توجد حتت‬
‫رقابتها الإدارية‪..‬‬
‫هكذا‪ ،‬مكنتنا الدرا�سات والتحريات ومنا�سبة �إجناز التقرير‬
‫اخلتامي من و�ضع ت�صور للحكامة الأمنية‪ ،‬ينطلق من مبادئ‬
‫حقوق الإن�سان والف�صل بني ال�سلط وتعزيز دور الربملان وتقوية‬
‫ال�سلطة الق�ضائية وعدم الإفالت من العقاب‪ ،‬وذلك يف �إطار‬
‫منظور لل�سيا�سة اجلنائية‪ ،‬تعر�ضها احلكومة‪ ،‬ويقرها الربملان‬
‫يف ان�سجام مع خمطط وطني للرتبية على حقوق الإن�سان‪.‬‬
‫�إنها فل�سفة مقاربتنا للحكامة الأمنية‪ .‬وعلى هذا الأ�سا�س‪ ،‬ر�سمنا‬
‫م�سارات واردة يف التقرير اخلتامي‪ ،‬من عناوينها ‪ :‬احلكومة‬

‫احلكامة الأمنية اجليدة‬


‫‪106‬‬
‫م�س�ؤولة ب�شكل ت�ضامني‪ ،‬الأحزاب م�س�ؤولة‪ ،‬بحكم متثيليتها‪،‬‬
‫عن االقرتاح يف جمال مراقبة ال�سيا�سة الأمنية‪� ،‬رضورة تقوية‬
‫�آلية امل�ساءلة الربملانية‪� ،‬رضورة و�ضع وتو�ضيح ون�رش الن�صو�ص‬
‫القانونية املنظمة للحكامة الأمنية‪� ،‬رضورة تو�صيف وت�صنيف‬
‫حاالت الأزمة التي يتم فيها ا�ستعمال القوة‪ ،‬و�ضع �آليات الأمن‬
‫وتدخالت القوات العمومية ب�أمر من �سلطات �إقليمية حتت‬
‫�إ�رشاف ق�ضائي‪..‬‬
‫فما هوالتقدم املحرز يف املغرب‪ ،‬اليوم‪ ،‬على �ضوء نتائج هيئة‬
‫الإن�صاف وامل�صاحلة‪ ،‬ومقاربتها التي ن�رشت باتفاق �أعلى �سلطة‬
‫يف البالد املتمثلة يف �صاحب اجلاللة؟‬
‫يتمثل التقدم الذي ميكن قيا�سه اليوم بخ�صو�ص احلكامة‬
‫الأمنية يف �إقدام هيئة احلقيقة والإن�صاف على �إحداث اخرتاق‬
‫ثقايف و�سيا�سي ظل حمرما لعقود من الزمن‪� .‬أما العن�رص الثاين‬
‫فيتج�سد يف وجود مداخل �سيا�سية‪ ،‬وقانونية‪ ،‬ومعيارية لإدماج‬
‫مفهوم احلكامة الأمنية يف ال�سيا�سات العمومية‪ ،‬ويف ت�أييد‬
‫مبدئي لهذه املقاربة من طرف فاعلني �سيا�سيني ومدنيني‪.‬‬
‫ويف ظل االنتقال وجتربة العدالة االنتقالية‪ ،‬توجد اليوم نخبة‬
‫جيدة وممتازة على ر�أ�س �أجهزة كربى يف البلد‪ ،‬و�أذكر‬
‫منها ثُالث حاالت‪ .‬احلالة الأوىل تتعلق باملدير العام احلايل‬
‫لال�ستخبارات الع�سكرية الذي دعم جتربة العدالة االنتقالية‬
‫يف كل املراحل‪ ،‬وتتعلق احلالة الثانية باملدير العام احلايل‬
‫لإدارة الأمن الوطني الذي دعم بدوره جتربة العدالة االنتقالية‪،‬‬
‫وقبلها حركة ومطالب ال�ضحايا‪� ،‬أما احلالة الثالثة فتتج�سد يف‬
‫الوايل املدير العام لوزارة الداخلية الذي كان من ال�شخ�صيات‬

‫احلكامة الأمنية اجليدة‬


‫‪107‬‬
‫التي رافقت امل�سل�سل احلقوقي‪ ،‬بل كان ع�ضوهيئة التحكيم يف‬
‫املرحلة ال�سابقة‪.‬‬
‫ومن الأمور التي ميكن قيا�سها انطالق عمل �أويل مهم على‬
‫م�ستوى معاهد ال�رشطة‪ .‬ويتجلى يف �إدماج الرتبية على حقوق‬
‫الإ ن�سان يف التكوين والتكوين امل�ستمر‪.‬‬
‫لقد اكت�شفت م�ؤخرا حماولة �إرهابية ب�أ�سلحة �سيقول فيها‬
‫الق�ضاء كلمته‪ .‬وعلى الرغم من كثافة احلدث وكرثة الأ�سلحة‬
‫املكت�شفة‪ ،‬قدمت ال�سلطات الأمنية الق�ضائية امل�شتبه فيهم‪،‬‬
‫لأول مرة‪� ،‬إىل قا�ضي التحقيق قبل �أن ينق�ضي �أجل احلرا�سة‬
‫النظرية‪.‬‬
‫لكن كيف ميكن تفعيل تو�صيات الهيئة ؟‬

‫�إن تفعيل تو�صيات احلكامة الأمنية ال يتعلق برغبات‪ ،‬بل هي‬


‫عملية تخ�ص بناء دولة احلق والقانون‪ .‬فالتو�صيات ال�صادرة‬
‫عن هيئة الإن�صاف وامل�صاحلة تتعلق بف�صل ال�سلط‪ ،‬والرقابة‬
‫الق�ضائية‪ ،‬وعدم الإفالت من العقاب‪ ،‬والتحقيق الربملاين‪...‬‬
‫لذلك‪ ،‬ال ي�صلح ا�ستعمال مفهوم التفعيل باملعنى ال�ضيق له‪،‬‬
‫لأننا ل�سنا �أمام تو�صيات تقنية‪ ،‬بل �أمام تو�صية ثقافية و�سيا�سية‬
‫تتعلق بدولة امل�ؤ�س�سات‪.‬‬
‫و�أخذا بعني االعتبار التزامات املغرب الدولية يف جمال‬
‫حقوق الإن�سان‪ ،‬واملناخ الدويل املعقد حاليا‪ ،‬وحتديات مواجهة‬
‫الإرهاب‪ ،‬واملوقع اجليو�سرتاتيجي للمغرب‪ ،‬والثقافة ال�سيا�سية‬
‫للإ�صالح يف جمتمع متخلف ومت�أخر‪ ،‬اعتقد �أن جمال النقا�ش‬
‫حول احلكامة الأمنية اجليدة هوالربملان‪ .‬ف�إذا مل يرتق النقا�ش‬

‫احلكامة الأمنية اجليدة‬


‫‪108‬‬
‫يف هذا املو�ضوع �إىل الربملان �سنبقى يف مرحلة التحاليل‬
‫وتبادل الآراء‪ .‬وال �شك �أن النقا�ش يف الربملان �سيكون تفاو�ضيا‪،‬‬
‫معقدا وطويال‪ ،‬لأنه يتعلق بعمارة الدولة واملجتمع‪.‬‬
‫وعلى �صعيد �آخر‪ ،‬يجب التفكري يف �إجناح �أربع جتارب ميدانية‬
‫قطاعية‪:‬‬
‫‪‬يجب �أن يتم تفكري قانوين و�سيا�سي جدي لتدبري ف�ضاء‬ ‫ ‬
‫احلريات يف ال�شارع العمومي‪ ،‬من خالل �ضمان ما تن�ص‬
‫عليه املعايري الدولية بخ�صو�ص حقوق الأفراد والنظام‬
‫العام ‪...‬؛‬
‫‪‬وي�شكل تدبري الهجرة ال�رسية جماال ثانيا يف هذا ال�صدد‪،‬‬ ‫ ‬
‫وذلك مبا يحرتم التزامات املغرب‪ ،‬و�ضمان حقوق‬
‫املهاجرين وت�سوية الأو�ضاع القانونية؛‬
‫‪�‬إعادة النظر يف ال�سيا�سات اجلنائية املتعلقة بالأو�ضاع يف‬ ‫ ‬
‫ال�سجون التي بلغت الإفال�س التام؛‬
‫‪�‬أما القطاع الرابع‪ ،‬فيتعلق بعالقة الت�صدي للإرهاب‬ ‫ ‬
‫واحرتام احلق يف املحاكمة العادلة يف جميع‬
‫الأطوار‪.‬‬
‫ومن املداخل امل�ؤ�س�سة ل�سلم الأولويات على �أجندة الإ�صالح‬
‫نقل وتعميم املعرفة حول احلكامة الأمنية اجليدة‪ ،‬واال�ستفادة‬
‫من خربات الدول الدميقراطية العريقة ب�أوروبا ولي�س من‬
‫الواليات املتحدة‪ .‬لأن البلدان الأوروبية عرفت‪ ،‬منذ نهاية‬
‫ال�سبعينات‪ ،‬نقا�شا قانونيا و�سيا�سيا وم�ؤ�س�ساتيا ما بني �سلطات‬

‫احلكامة الأمنية اجليدة‬


‫‪109‬‬
‫ق�ضاء التحقيق وال�رشطة الأمنية والر�أي العام يف كيفية‬
‫التعامل مع احلكامة الأمنية‪ .‬ويف هذا الإطار‪ ،‬يجب �أن ت�صبح‬
‫احلكامة الأمنية اجليدة مادة للتدري�س يف اجلامعة‪ ،‬ومو�ضوعا‬
‫للبحث العلمي‪ .‬كما يجب �أن ت�صبح مو�ضوع عمل منظمات‬
‫حقوق الإن�سان‪ .‬وال �شك �أن املنظمات احلقوقية ذات النف�س‬
‫الإ�صالحي هي القادرة على مناق�شة مو�ضوع احلكامة الأمنية‪.‬‬
‫�أ�ؤكد من جديد �أنه عمل �شاق‪ ،‬غري �أن عنا�رص جناحه يف‬
‫املغرب راجحة‪ .‬و�أختم بحدث اعتربه هاما‪ .‬لقد �أخربنا‬
‫�أحد كبار امل�س�ؤولني يف وزارة الداخلية‪ ،‬بعد انتهاء عمل‬
‫هيئة الإن�صاف وامل�صاحلة ب�شهور‪� ،‬أن امل�س�ؤولني الذين‬
‫ا�شتغلوا مع الهيئة بنجاح‪ ،‬قد مت �أخذ جناحهم كمعيار يف‬
‫الرتقية الإدارية ‪.‬‬

‫احلكامة الأمنية اجليدة‬


‫‪110‬‬
‫امل�صالح الأمنية باملغرب ‪ :‬ت�شخي�ص الو�ضع‬
‫امليلودي حمدو�شي*‬

‫تتمحور مقاربة هذه الندوة اخلا�صة باحلكامة الأمنية حول‬


‫الن�شاط الق�ضائي لأجهزة الأمن وتداعياته اخلا�صة بانتهاكات‬
‫احلقوق الأ�سا�سية للإن�سان ‪ .‬ولذلك ف�إن العر�ض الذي �س�أتقدم‬
‫به ‪�،‬سيتطرق �إىل هذا الن�شاط الق�ضائي و�إىل حفظ النظام العام‬
‫باعتبار �أن هذين املفهومني ي�شكالن احلقل التي تتجلى فيه‬
‫�إكراهات و�إلزامات النظام الدولتي‪.‬‬
‫فكيف هوحال �أجهزة الأمن باملغرب‪ ،‬ولي�س واقع الأمن به؟‬

‫�إن التحليل التجريبي‪ ،‬الأفقي والعمودي‪ ،‬املنطلق من التجربة‬


‫املعا�شة‪ ،‬ولي�س من الر�ؤى املجردة‪ ،‬يف�ضي �إىل خال�صتني رئي�سيتني‬
‫ال تقبالن اجلدل‪ :‬هناك الجتان�سات �أوتنافرات )‪(incohérences‬‬
‫قانونية من جهة ‪،‬ونواق�ص ذات طابع مهني من جهة ثانية‪.‬‬

‫* جامعي وعميد �رشطة �سابق‬

‫احلكامة الأمنية اجليدة‬


‫‪111‬‬
‫ف�إذا �سلمنا ب�أن ال�رشطة الق�ضائية ‪،‬الأمن الوطني والدرك امللكي‪،‬‬
‫متار�س ال�شطط يف ا�ستعمال ال�سلطة ‪،‬فيجب الت�سا�ؤل عن ال�سبب‬
‫وراء ذلك ‪.‬وال �شك �أن اجلواب �سيف�ضي بنا ‪،‬يف الأخري ‪�،‬إىل‬
‫الت�أكيد على �أن هذين اجلهازين غري م�س�ؤولني عن ذلك كما‬
‫قد يعتقد؛ بل ميكن القول �إن هناك م�س�ؤولية م�شرتكة بني‬
‫ال�سلطات العمومية و�أجهزة الأمن ‪.‬ولعل �أول هذه التناق�ضات‬
‫الناجتة عن عدم حتكم نف�س املنطق يف �صياغة الن�صو�ص‬
‫القانونية املتعلقة بالأمن الوطني والدرك امللكي ‪،‬تناق�ضات‬
‫قانونية ‪،‬م�س�ؤول عنها الربملان‪.‬‬
‫وجتدر الإ�شارة ‪،‬قبل اال�ستمرار يف هذا التحليل ‪�،‬إىل �أننا نعني‬
‫بامل�صالح الأمنية �أجهزة الأمن الوطني والدرك امللكي والقوات‬
‫امل�ساعدة‪.‬‬
‫فالأمن الوطني ينظمه املر�سوم ‪ 879.75.2‬كما مت تعديله و�إمتامه‪.‬‬
‫وينظم القوات امل�ساعدة ظهري مبثابة قانون رقم ‪.73.75.1‬بتاريخ‬
‫‪�12‬أبريل ‪ 1976 ،‬كما مت تعديله و�إمتامه ‪�.‬أما الدرك امللكي الذي‬
‫�أحدث مبوجب الظهري ‪ 079.57.1‬بتاريخ ‪� 29‬أبريل‪ 1975 ،‬فلم ينل‬
‫احلظ الكايف من اهتمام امل�رشعني ‪،‬با�ستثناء الظهري‪280.57.1‬‬
‫بتاريخ ‪ 14‬يناير ‪ 1985‬املتعلق مب�صالح هذا اجلهاز‪.‬‬
‫�إن ال�شح الت�رشيعي‪ ،‬ال�ضعيف �أ�صال ب�سبب العديد من‬
‫اال�ستثناءات‪ ،‬قد �أدى على م�ستوى ن�شاط الأمن الوطني والدرك‬
‫امللكي �إىل مواجهات بني الن�صو�ص ‪.‬‬
‫لن�أخذ مثال على ذلك‪ :‬فالفقرة الأخرية من املادة ‪ 71‬من‬
‫الظهري املتعلق بالدرك امللكي‪ ،‬تبني �أنه �إذا كان هناك من‬

‫احلكامة الأمنية اجليدة‬


‫‪112‬‬
‫�شطط فال ميكن رده بالكامل �إىل جهاز الدرك امللكي‪ ،‬بل يجب‬
‫البحث عن امل�س�ؤولية عنه يف احلقل الت�رشيعي؛ �إذ تن�ص هده‬
‫الفقرة على انه ال ميكن �إبطال حما�رض هذا اجلهاز ب�سبب‬
‫عيوب يف ال�شكل‪ .‬يف حني �أن املواد ‪ 293 ، 289‬و‪ 751‬من‬
‫املدونة اجلديدة للم�سطرة اجلنائية ت�ؤكد مبد�أ معاك�سا على‬
‫ما يبدو‪ ،‬ونف�س ال�شيء بالن�سبة للمادة ‪ 63‬من نف�س املدونة‪.‬‬
‫فكيف ل�ضابط �أمن �أين يوفق بني املقت�ضيات الواردة يف املادة‬
‫‪ 71‬واملادة ‪ 63‬مثال‪.‬‬
‫�إن طرح ال�س�ؤال يتطلب �إيجاد حل‪ ،‬يف حني �أن احلل ال‬
‫ميكن �إال �أن يكون كفكاويا �ضاغطا‪ .‬هناك ن�صان ينظمان نف�س‬
‫احلقل؛ فما هوالن�ص القابل للتطبيق علما ب�أن الق�ضاء الزجري‬
‫املغربي يطبق الن�ص اخلا�ص كلما �صادف ن�صني‪ ،‬واحد‬
‫خا�ص والآخر عام‪ ،‬ينظمان �أويعاقبان نف�س الفعل؟‬
‫هكذا‪� ،‬سيتم تطبيق الن�ص الأول الذي ي�ؤكد بو�ضوح �أن املحا�رض‬
‫التي ينجزها الدرك امللكي الميكن �إبطالها ب�سبب عيوب يف‬
‫ال�شكل‪ .‬فكيف ميكن‪ ،‬واحلالة هذه‪ ،‬حماية احلريات الفردية‬
‫والعامة للمواطنني؟‬
‫ومن جهة �أخرى‪ ،‬ف�إن ديباجة الد�ستور املغربي تن�ص على �أن‬
‫اللغة العربية هي اللغة الر�سمية‪ ،‬ولي�س الوطنية‪ ،‬للملكة املغربية‪.‬‬
‫غري ان جل الن�صو�ص متت �صياغتها بالفرن�سية ثم ترجمت �إىل‬
‫العربية‪ .‬وهكذا‪ ،‬ف�إن �إرادة امل�رشع توجد يف ال�صيغة الفرن�سية‬
‫للن�ص ولي�س يف ال�صيغة العربية‪ ،‬يف حني �أن املحاكم‪ ،‬وطبقا‬
‫ملا هووارد يف الد�ستور املغربي بخ�صو�ص اللغة العربية كلغة‬

‫احلكامة الأمنية اجليدة‬


‫‪113‬‬
‫ر�سمية‪ ،‬ت�ستعمل اللغة العربية ولي�س الفرن�سية‪ .‬وما جتدر الإ�شارة‬
‫�إليه �أن الرتجمة غالبا ما تكون �ضعيفة بل ورديئة �إىل حد �أنها‬
‫تغري املعنى ب�شكل جذري �أحيانا‪ .‬ولفهم الن�صو�ص يتم االنق�سام‬
‫�إىل قطبني‪ ،‬من جهة هناك الت�أكيد على �أن املعنى حمدد يف‬
‫الن�ص‪ ،‬وال يتعلق الأمر �إال باكت�شافه وتطبيقه على الواقع‪ ،‬ومن‬
‫جهة �أخرى‪ ،‬يتمخ�ض املعنى من قراءة للن�ص فيكون ف�ضفا�ضا‪،‬‬
‫ليتم تطبيقه على واقع غري قابل للإدراك‪.‬‬
‫و�إذا كان مفهوم الن�شاط الق�ضائي ال يهم‪ ،‬بالأ�سا�س‪� ،‬سوى‬
‫جهازي الأمن الوطني والدرك امللكي‪ ،‬ف�إن مفهوم حفظ‬
‫النظام العام يهم ثالثة اجهزة‪ .‬ويتعلق الأمر بالأمن الوطني‬
‫والدرك امللكي والقوات امل�ساعدة‪ .‬وميكن �أن نالحظ بهذا‬
‫اخل�صو�ص الال ان�سجام على م�ستويني اثنني على الأقل‪� .‬أولهما‪:‬‬
‫الظهري مبثابة قانون املحدث للقوات امل�ساعدة الذي ي�ؤكد‬
‫يف ف�صله الأول على �أن القوات امل�ساعدة ت�ضمن‪ ،‬يف �إطار‬
‫املهام املوكولة لها (من طرف من؟ الن�ص ال ي�شري �إىل ذلك)‪،‬‬
‫حفظ النظام والأمن الوطني‪ .‬وي�ستعمل امل�رشع هنا «الواو»‬
‫ك�أداة عطف ولي�س «�أو»‪ .‬ويكت�سي هذا �أهمية كبرية‪.‬‬
‫وميكن �أن �أ�ستبق اخلال�صات‪ ،‬والقول �إن من ال�رضوري مراجعة‬
‫القوانني الأ�سا�سية لهذه الأجهزة التي تتدخل معا يف جمال‬
‫ال�رشطة الق�ضائية وحفظ الأمن‪ .‬كما جتدر الإ�شارة‪� ،‬أي�ضا‪� ،‬إىل‬
‫�أنه غالبا ما ت�ستعمل م�صطلحات ال يفهم معناها‪ ،‬مثل ا�ستعمال‬
‫حفظ النظام (‪ )ordre’l de maintien‬عندما نريد التعبري عن‬
‫�إعادة النظام (‪.... )ordre’l de rétablissement‬‬

‫احلكامة الأمنية اجليدة‬


‫‪114‬‬
‫�إن الظهري مبثابة قانون امل�ؤ�س�س للقوات امل�ساعدة ين�ص على‬
‫�أن هذا اجلهاز ي�ضمن‪ ،‬يف �إطار املهام املوكولة �إليه‪ ،‬حفظ‬
‫النظام والأمن الوطني مع قوات حفظ النظام الأخرى‪ .‬ف�إذا‬
‫�أعدنا قراءة الن�ص جند �أن هناك �أولأ فعل ي�ضمن ثم م�صطلح‬
‫«يف �إطار» (‪ )de cadre le dans‬وهوتعبري �أدبي ال ي�ستعمله رجال‬
‫القانون لكونه غري دقيق‪ ،‬لأنه اليعني �أي �شيء ويعني كل �شيء‬
‫يف ذات الآن‪ ،‬حيث يف�ضلون م�صطلح «يف حدود» (‪la dans‬‬
‫‪)....( .)de limite‬‬
‫لن يقبل �أي رجل قانون يف العامل القول ب�أن رجل �أمن يف حالة‬
‫دفاع عن النف�س‪� ،‬إذ �أن الأمر يتعلق بالدولة‪ ،‬ورجل الأمن‬
‫ال يقوم �سوى بتمثيل الدولة؛ غري �أنه ال ميكن للدولة �أن تكون‬
‫يف حالة دفاع عن النف�س‪ ،‬لذا يجب تعديل الن�صو�ص ب�شكل‬
‫ي�سمح لرجال الأمن با�سرتجاع الأمن �إحقاقا للقانون يف ظل‬
‫احرتام �أخالقيات املهنة واحرتام القواعد الد�ستورية‪� .‬إن الأمر‬
‫لي�س �سهال؛ �إذ يجب‪� ،‬أوال‪ ،‬توفري تكوين منا�سب لرجل الأمن‬
‫والدركي‪ ،...‬كما يجب ا�شرتاط م�ستوى ثقايف و�أكادميي‬
‫جيد حتى يتمكن رجال الأمن من متابعة درو�س حول حقوق‬
‫الإن�سان‪ ،‬وحقوق املواطن الخ؛ وهوما لي�س حا�صال الآن‪ ،‬وخا�صة‬
‫بالن�سبة لعموم رجال الأمن‪ ،‬ولي�س ال�ضباط والعمداء‪...‬‬
‫كما يجب مراجعة الن�صو�ص ق�صد حماية رجال الأمن‪ ،‬وذلك‬
‫من خالل بلورة م�شاريع قوانني ل�سد الثغرات الت�رشيعية‪ ،‬وجتاوز‬
‫النواق�ص ذات الطابع املهني‪.‬‬
‫قال هرني رول�س �سنة ‪ 1942‬بخ�صو�ص «�سكوتالنديار» �إن املحققني‬

‫احلكامة الأمنية اجليدة‬


‫‪115‬‬
‫ال يتوفرون �إال على و�سيلتني رهن �إ�شارتهم‪ :‬املخرب وامل�ؤ�رش‪.‬‬
‫وللأ�سف ف�إن �أمننا الوطننا ودركنا امللكي مل يتجاوزا هذه‬
‫املرحلة بعد‪ ،‬ونحن يف �سنة ‪.2008‬‬
‫و�إذا كانت املوارد املادية ال تطرح م�شاكل كبرية يف املغرب‪،‬‬
‫ف�إن املوارد الب�رشية تطرح العديد منها‪ .‬وجتدر الإ�شارة �إىل‬
‫�أنه غالبا ما يتم تدبري هذه املوارد اعتمادا على ممار�سات‬
‫عرفية‪ .‬فال يوجد قانون‪ ،‬مثال‪ ،‬ي�سمح مبكاف�أة الأ�شخا�ص الذي‬
‫ميدون �أجهزة الأمن مبعلومات من �ش�أنها �أن ت�ؤدي �إىل اكت�شاف‬
‫اجلرائم �أوالتعرف على فاعليها‪ ،‬كما ال يوجد قانون حلماية‬
‫رجال الأمن املت�رسبني داخل جماعات معينة‪� ،‬أوحول توجيه‬
‫وبرجمة الأمن‪� .‬إننا نطلب من رجل الأمن �أوالدركي ال�سهر‬
‫على احرتام حفظ الأمن دون �أن منكنه من الو�سائل ال�رضورية‬
‫لذلك‪.‬‬
‫ففي جميع بلدان العامل‪ ،‬يف الدميقراطيات العتيقة كما يف‬
‫الأنظمة ال�شمولية �أوالدكتاتورية‪ ،‬تتوفر م�صالح الأمن على و�سائل‬
‫العمل‪ ،‬ولوملكاف�أة م�صادر الأخبار واملخربين وباقي املتعاونني‪.‬‬
‫غري �أن املغرب ال يتوفر عل ن�ص ميكنه من تنظيم هذا املجال‪.‬‬
‫فماذا يتم يف الواقع؟ يلج�أ رجال الأمن والدرك �إىل �أن ا�ستعمال‬
‫�أنا�س من الو�سط؛ يغ�ضون الطرف عن املهربني ال�صغار حتى‬
‫يزودونهم بني احلني والآخر مبعلومات حول املهربني الكبار‪.‬‬
‫ولكن‪� ،‬إذا ما مت اعتقال املهرب ال�صغري واعرتف ب�أنه ي�شتغل‬
‫حتت حماية رجل �أمن ما‪ ،‬فم�صري هذا الأخري يكون ال�سجن‪.‬‬
‫�إنه م�أزق حقيقي وال ميكن معاجلته �إال بوا�سطة القانون‪ ،‬الذي‬
‫ب�إمكانه �إ�ضفاء الطابع القانوين عل ما هوقائم فعال‪.‬‬

‫احلكامة الأمنية اجليدة‬


‫‪116‬‬
‫كما من ال�رضوري الت�أكيد على �أهمية املنتجات املعيارية‪،‬‬
‫والربملان وال�سلطات العمومية التي يجب �أن ت�أخذ بيدها م�س�ألة‬
‫الأمن حتى ت�سمح مل�صالح الأمن الوطني والدرك امللكي من‬
‫تو�سيع جمموعة الأحكام املتعلقة بها‪ ،‬والأجوبة املمكنة على‬
‫كل الأخطار املحتملة التي حتذق باملجتمع وتهدد ا�ستمرارية‬
‫امل�ؤ�س�سات‪.‬‬

‫احلكامة الأمنية اجليدة‬


‫‪117‬‬
‫اجلل�سة الرابعة ‪:‬‬
‫نحو فتح نقا�ش حول �إ�صالح قطاع‬
‫الأمن يف املغرب‬
‫احلكامة الأمنية اجليدة وحقوق الإن�سان‬
‫�أحمد �أيت الطالب*‬

‫لقد �أخذ النقا�ش حول الأمن يف جمتمعنا املغربي‬


‫مداه يف الآونة الأخرية‪ ،‬ومل يعد متمحورا‪ ،‬كما كان يف‬
‫املا�ضي‪ ،‬حول مطلب �إ�صالح قطاع الأمن من �أجل التح�صني‬
‫من جتاوزات العاملني يف هذا القطاع‪ ،‬بل �أ�صبح النقا�ش �أكرث‬
‫خ�صوبة و�شمولية‪ ،‬ويهتم بالتفكري والتداول يف الو�سائل املنا�سبة‬
‫لإدماج حقوق الإن�سان يف كل عمل يهم برجمة وتنظيم النظام‬
‫الأمني والتخطيط له ب�شكل عام‪.‬‬
‫�إن املو�ضوع يتطلب‪ ،‬يف املقام الأول‪ ،‬حتليل مو�ضوعة‬
‫احلكامة الأمنية‪ ،‬وو�ضع ال�س�ؤال عن �أي حكامة �أمنية نريد‬
‫باملغرب‪.‬‬
‫يف ندوات �سابقة‪ ،‬وعندما تناولت هذا املو�ضوع‪ ،‬باعتباري‬
‫مالحظا داخليا‪ ،‬كنت م�ضطرا �إىل البحث عن �إطار مرجعي‬

‫* من املعهد امللكي لل�رشطة‬

‫احلكامة الأمنية اجليدة‬


‫‪121‬‬
‫م�ؤ�س�سي ي�سمح لنا بتحديد املبادئ التي يجب �أن يعتمدها‬
‫تنظيم وت�سيري الأمن‪ ،‬وخا�صة من طرف الفاعلني العموميني‬
‫يف هذا املجال‪ ،‬لبلوغ احلكامة الأمنية اجليدة‪ .‬وبدا �أنه باللجوء‬
‫�إىل مقاربة قانونية وتاريخية و�سو�سيولوجية يف ذات الآن‪ ،‬ميكن‬
‫�أن نعرث على �إطار مرجعي‪ ،‬وعلى �أ�سا�س ي�سمح لنا بتحديد‬
‫ومعاجلة ثوابت احلكامة الأمنية‪.‬‬
‫يف هذه احلالة‪ ،‬نعترب �أن اخلطاب امللكي ليوم ‪ 12‬نونرب‬
‫‪ 1999‬الذي مت �إلقا�ؤه بالق�رصامللكي بالدار البي�ضاء ي�شكل نقطة‬
‫انطالق مفهوم احلكامة الأمنية اجليدة‪ ،‬التي ميكن �أن جتد‬
‫�أ�س�سها يف املفهوم اجلديد لل�سلطة الذي ابتدعه �صاحب اجلاللة‬
‫حممد ال�ساد�س‪ ،‬حيث و�ضع الركائز والتوجهات العامة ملثل‬
‫هذه احلكامة يف اخلطاب الذي �أ�رشت �إليه‪.‬‬
‫�إن املفهوم اجلديد لل�سلطة يرتكز �أي�ضا على املقت�ضيات‬
‫الواردة يف الد�ستور الذي ين�ص على احرتام املغرب حلقوق‬
‫الإن�سان كما هومتعارف عليها عامليا‪.‬‬
‫ومن �أ�س�س هذا املفهوم القانونية والنظرية املبادرات‬
‫امللكية املتتالية التي ت�صب يف �إطار تكري�س هذه احلكامة‪،‬‬
‫خا�صة من خالل املبادرات املتعددة الرامية �إىل النهو�ض بحقوق‬
‫الإن�سان و�صيانتها‪ ،‬و�إ�صالح الإطارالقانوين‪ ،‬وخا�صة ما يتعلق بو�ضع‬
‫املر�أة‪ ،‬وت�شجيع �إحداث امل�ؤ�س�سات الوطنية حلقوق الإن�سان‪،‬‬
‫وخا�صة الو�ضع اجلديد للمجل�س اال�ست�شاري حلقوق الإن�سان‪،‬‬
‫وديوان املظامل وغريها من املبادرات امللكية يف هذا ال�ش�أن‪.‬‬
‫ويرتكز هذا املفهوم اجلديد لل�سلطة‪ ،‬والذي ميكن �أن‬

‫احلكامة الأمنية اجليدة‬


‫‪122‬‬
‫ي�شكل كذلك قاعدة للحكامة الأمنية اجلديدة باملغرب‪� ،‬أي�ضا‪،‬‬
‫على تو�صيات هيئة الإن�صاف وامل�صاحلة التي �أ�صدرت تو�صية‬
‫وا�ضحة بخ�صو�ص تر�شيد النظام الأمني باملغرب من خالل‬
‫الت�أكيد على احلكامة الأمنية‪.‬‬
‫وجتدر الإ�شارة �إىل �أن مفهوم احلكامة الأمنية اجليدة قد‬
‫ظهر‪ ،‬لأول مرة‪ ،‬على امل�ستوى الر�سمي يف تو�صيات هيئة‬
‫الإن�صاف وامل�صاحلة التي وافق عليها جاللة امللك حممد‬
‫ال�ساد�س‪.‬‬
‫و�س�أقت�رص هنا على �إعطاء بع�ض املعلومات حول التدابري‬
‫التي ميكن اتخاذها‪ ،‬وحول ال�رشوط املطلوبة لتنفيذ التو�صيات‬
‫املتعلقة باحلكامة الأمنية كما هي واردة يف تقرير هيئة الإن�صاف‬
‫وامل�صاحلة‪ ،‬علما ب�أنني لن �أحتدث عن التدابري التي تكت�سي طابعا‬
‫�سيا�سيا‪ ،‬مكتفيا بالإجراءات التي تكت�سي طابعا مهنيا لها عالقة‬
‫بقطاع الأمن وخا�صة املديرية العامة للأمن الوطني‪.‬‬
‫يف تقريرها‪ ،‬تو�صي هيئة الإن�صاف وامل�صاحلة بن�رش‬
‫الإطار القانوين والقوانني والقواعد والأفعال والوثائق التي ت�ؤطر‬
‫�أن�شطة امل�صالح الأمنية‪ ،‬وتنظيمها‪ ،‬والأ�ساليب التي تنهجها‬
‫للقيام مبهامها والتي تتحكم يف توجيه تدخالتها‪.‬‬
‫فبخ�صو�ص الن�صو�ص‪ ،‬يخ�ضع ن�رش القوانني والقواعد‬
‫للم�سطرة القانونية العادية امل�ستعملة يف هذا املجال‪� .‬أما‬
‫ما يتعلق بالأفعال والوثائق التي ميكن اعتبارها �إجراءات‬
‫داخلية من قبيل املذكرات والدوريات والدرا�سات وغريها‬
‫من الوثائق‪ ،‬ف�إن الإجراء التي تو�صي به الهيئة �إجراء حممود‪،‬‬

‫احلكامة الأمنية اجليدة‬


‫‪123‬‬
‫باعتباره ميكن من تو�ضيح �أ�ساليب عمل ال�رشطة والتعريف‬
‫بها و�إ�ضفاء ال�شفافية عليها‪ .‬غري �أن هذا يتطلب عمال بحثيا‬
‫ذا طابع نظري وعلمي وتقني‪ ،‬كما يتطلب‪ ،‬تبعا لذلك تعبئة‬
‫للموارد‪ ،‬و�إحداث بنيات ت�سمح ببلورة وثائق مالئمة يف هذا‬
‫املجال‪ ،‬مع الأخذ بعني االعتبار املتطلبات والثوابت املرتبطة‬
‫ب�أي عمل �أمني‪.‬‬
‫لقد طرحت بالأم�س �أ�سئلة حول واجبات العاملني بقطاع‬
‫الأمن‪ ،‬و�أريد �أن �أ�شري �إىل �أنه منذ ثالث �سنوات م�ضت تقريبا‪،‬‬
‫قامت املديرية العامة للأمن الوطني مببادرة يف جمال الن�رش‬
‫من خالل �إ�صدار جملة الأمن الوطني‪ ،‬التي �سمحت لنا‪ ،‬منذ‬
‫�إن�شائها‪ ،‬بالتوا�صل ومعاجلة العديد من الق�ضايا ذات العالقة‬
‫بتنظيم و�إعادة هيكلة املديرية العامة للأمن الوطني‪� ،‬سواء‬
‫على ال�صعيد املركزي �أواملحلي‪.‬‬
‫كما ان�صبت جهود الن�رش على �إ�صدار مادة خا�صة حول‬
‫�أخالقيات مهنة ال�رشطة التي ت�شكل دليال عمليا لأخالقيات‬
‫املهنة يف قطاع الأمن الوطني‪ .‬ويعتمد هذا الدليل على الإطار‬
‫القانوين‪ ،‬وعلى خمتلف املقت�ضيات التنظيمية اجلاري بها‬
‫العمل؛ وبذلك يتيح �إمكانية تقدمي العديد من التدقيقات‬
‫والتو�ضيحات‪ ،‬خا�صة و�أن املقاربة تتمحور حول الت�أويالت‬
‫العملية للعديد من الإجراءات والتدخالت والأن�شطة الأمنية‪.‬‬
‫كما متت معاجلة كل ما له عالقة بالتعامل مع املجرمني‬
‫وال�ضحايا وال�شهود‪..،‬‬
‫�أما بخ�صو�ص حتديد معايري ا�ستعمال القوة العمومية‬
‫واللجوء �إىل القوة ب�شكل عام‪ ،‬ف�إن احلاالت التي ميكن اعتبارها‬

‫احلكامة الأمنية اجليدة‬


‫‪124‬‬
‫حاالت ا�ستعمال مبالغ فيه للقوة‪ ،‬وخا�صة حاالت اللجوء �إىل‬
‫الأ�سلحة النارية‪ ،‬ال تنم عن و�ضع مقلق باعتبار �أن احلاالت‬
‫حمدودة جدا‪ ،‬وال تتطلب تعزيز عمليات التح�سي�س بني‬
‫موظفي الأمن الوطني‪ ،‬خالفا ملا هوواقع يف بلدان ذات تقاليد‬
‫دميقراطية‪ ،‬حيث ال يرتدد رجال ال�رشطة يف �شهر �أ�سلحتهم‬
‫وتوجيهها نحوامل�شتبه فيهم‪� ،‬أويف وجه الأ�شخا�ص الذين يتم‬
‫اعتقالهم ب�سبب �أب�سط عمليات حتقيق الهوية �أواملراقبات‬
‫الروتينية‪ .‬وال �أعتقد �أن الزمالء يف م�صالح الأمن املغربية‬
‫مت�شبعون بثقافة اللجوء �إىل الأ�سلحة النارية يف �إطار القيام‬
‫مبهامهم‪ .‬والإح�صاءات ناطقة يف هذا ال�ش�أن‪.‬‬
‫ويف ما يتعلق مبراقبة م�صالح الأمن وغريها من الفاعلني‬
‫يف جمال الأمن العمومي‪� ،‬أعتقد �شخ�صيا �أن الإفراط يف التقنني‬
‫واملراقبة يقتل القانون ويقتل الفعل �أي�ضا‪ .‬كما �أعتقد �أنه‬
‫�سيكون من املالئم �أكرث تطوير ثقافة املراقبة الذاتية داخل‬
‫م�صالح الأمن‪� ،‬إ�ضافة �إىل عمليات املراقبة الأخرى الداخلية‬
‫واخلارجية امل�ؤ�س�ساتية‪.‬‬
‫�إن الن�صو�ص اجلاري بها العمل يف هذا املجال تن�ص‬
‫على العديد من عمليات املراقبة‪� ،‬سواء ذات العالقة بالهرم‬
‫الإداري احلا�رضة يف كل عمليات اتخاذ القرار وعلى �صعيد‬
‫تنفيذ املهام‪ ،‬باملوازاة مع املراقبة الق�ضائية عندما يتعلق‬
‫الأمر مبهام ال�رشطة الق�ضائية؛ كما �أن املفت�شية العامة‪ ،‬كما‬
‫هواحلال يف خمتلف القطاعات املركزية‪ ،‬تراقب عمل الأمن‬
‫الوطني على م�ستوى الرتاب الوطني‪ ،‬وتنه�ض بدورها كجهاز‬
‫ت�أديبي ملختلف �أجهزة الأمن الوطني �ضمن �أدوار �أخرى‪....‬‬

‫احلكامة الأمنية اجليدة‬


‫‪125‬‬
‫وذلك‪ ،‬ف�ضال عن املراقبات غري امل�ؤ�س�ساتية التي ت�ضطلع بها‬
‫مكونات املجتمع املدين‪ ،‬وال�صحافة‪ ،‬وخمتلف جمموعات‬
‫ال�ضغط كما هواحلال يف باقي البلدان التي تعي�ش فرتة االنتقال‬
‫الدميقراطي‪.‬‬
‫ومن بني الإجراءات التي تو�صي هيئة الإن�صاف وامل�صاحلة‪،‬‬
‫تكوين م�صالح الأمن يف جمال حقوق الإن�سان‪ .‬ومل تقم الهيئة‬
‫�سوى ب�إعادة ت�أكيد تو�صية قدمية متت بلورتها منذ ‪1993‬‬
‫من طرف املجل�س اال�ست�شاري حلقوق الإن�سان‪ ،‬والتي متت‬
‫امل�صادقة عليها �آنذاك من طرف �صاحب اجلاللة‪ .‬واعتمادا على‬
‫هذه التو�صية‪� ،‬أ�صبحت مناهج تكوين م�صالح م�س�ؤويل وموظفي‬
‫و�أعوان الأمن الوطني حتتوي‪ ،‬منذ ‪ ،1996‬على تكوين يف هذا‬
‫املجال‪.‬‬
‫ويبقى ال�س�ؤال مطروحا حول ال�رشوط والأهداف والو�سائل‬
‫التي �ستتم تعبئتها لإ�ضفاء املزيد من احليوية على هذه التو�صية‪،‬‬
‫حتى ت�صبح �أداة فعلية لإقامة حكامة �أمنية جيدة‪ .‬ويف هذا‬
‫الإطار‪ ،‬مت القيام مبجهودات مكثفة منها �إدماج حقوق الإن�سان‬
‫يف مناهج التكوين‪ ،‬واعتبارها مادة �أ�سا�سية �ش�أنها �ش�أن املواد‬
‫الأخرى‪ ،‬مثل اال�ستعالمات العامة‪ ،‬وال�رشطة الق�ضائية‪ ،‬والأمن‬
‫العمومي‪،‬و�رشطة احلدود‪ ،‬وال�رشطة القانونية‪ ،‬وال�رشطة‬
‫العلمية‪ .‬وت�شهد على هذا التوجه اجلديد املقت�ضيات الواردة يف‬
‫اتفاقية ال�رشاكة التي �أبرمت بني املجل�س اال�ست�شاري حلقوق‬
‫الإن�سان ووزارة الداخلية‪ ،‬املتعلقة بالتح�سي�س والتدري�س وتكوين‬
‫رجال الأمن يف جمال حقوق الإن�سان‪ .‬غري �أن اجلديد يف هذا‬
‫ال�ش�أن يتجلى يف �أن هذه املادة كانت تعترب مادة تكميلية‪،‬‬

‫احلكامة الأمنية اجليدة‬


‫‪126‬‬
‫ف�أ�ضحت مادة رئي�سية �ش�أنها �ش�أن خمتلف املواد الأخرى‪ ،‬وذلك‬
‫ب�أهداف وغايات حمددة وو�سائل بيداغوجية وتقنيات تن�شيطية‬
‫ف�ضال عن �أدوات للتمرين والتقييم‪.‬‬
‫وعلى العموم‪ ،‬يكمن هدف وغاية التكوين على حقوق‬
‫الإن�سان يف املعاهد واملدار�س ومراكز تكوين رجال لأمن‬
‫الوطني يف �أن ي�صبح احرتام حقوق الإن�سان حا�رضا يف ذهن‬
‫رجل الأمن‪ ،‬مهما كان م�ستواه ومهمته والهيئة التي ينتمي‬
‫�إليها‪ ،‬كما يكمن يف اقتناعه ب�أن ذلك ال ي�شكل عائقا �أمام‬
‫تطبيق القانون وفعالية مهام ون�شاط رجال الأمن‪ ،‬بل واعتباره‬
‫�أن انتهاك حقوق االإن�سان وعدم احرتام احلريات الأ�سا�سية‬
‫�سيعيقان بالت�أكيد فعالية م�صالح الأمن‪ ،‬باعتبار �أن من �ش�أن‬
‫ذلك �أن يقل�ص من الثقة يف هذه امل�صالح؛ وقد ي�ؤدي‪ ،‬على‬
‫العموم‪� ،‬إىل متابعة �أ�شخا�ص �أبرياء وتربئة جمرمني‪ ،‬كما قد‬
‫يعيق امل�ساطر الق�ضائية الأخرى‪..‬‬
‫وال �أرى �رضورة لإح�صاء م�ضار عدم احرتام حقوق‬
‫الإن�سان با�سم تطبيق القانون‪ ،‬و�ضمان فعالية عمل امل�صالح‬
‫الأمنية‪ .‬غري �أن من املفيد الإ�شارة �إىل �أن هذا الأ�سلوب‬
‫اجلديد ال يقوم على ح�شودماغ اخلا�ضع للتكوين باملبادئ‬
‫الكونية حلقوق الإن�سان‪ ،‬خا�صة و�أن هذه الطريقة �أظهرت‬
‫عدم جناعتها‪ ،‬ولكنه يقوم على حتديد حاجيات امل�صالح‬
‫اخلارجية‪ ،‬وحتليل �سياقات عمل خمتلف هذه امل�صالح‪،‬‬
‫من �أجل حتديد �أماكن االختالالت والثغرات بل وخماطر‬
‫انتهاك حقوق الإن�سان‪ .‬وانطالقا من هذا الت�شخي�ص العام‬

‫احلكامة الأمنية اجليدة‬


‫‪127‬‬
‫لو�ضعية احرتام �أوعدم احرتام حقوق الإن�سان يتم و�ضع‬
‫برنامج وفق هذه احلاجيات‪ .‬وغالبا ما ت�ؤدي هذه الدرا�سة‬
‫�إىل الوقوف على ا�ستنتاجني‪ :‬هناك من جهة اجلهل‪،‬‬
‫�أحيانا‪ ،‬حتى مببادئ حقوق الإن�سان‪ ،‬وخا�صة طابعها‬
‫الكوين‪ ،‬كما يتم احيانا انتهاك حقوق الإن�سان واحلريات‬
‫الأ�سا�سية نتيجة ت�أويل خاطئ للمقت�ضيات املرتبطة بحقوق‬
‫الإن�سان من جهة ثانية‪.‬‬
‫وانطالقا من هذين اال�ستنتاجني‪ ،‬متكننا من بلورة لي�س‬
‫برنامج وحيد للتكوين على حقوق الإن�سان‪ ،‬بل برامج تكوينية‬
‫متالئمة مع حاجيات خمتلف الفاعلني وخمتلف موظفي‬
‫الأمن الوطني‪ .‬كما بلورنا جمزوءات تكوينية جذيرة بحماية‬
‫موظفي ال�رشطة �أنف�سهم مما قد يجر عليهم انتهاك حقوق‬
‫الإن�سان من �شكاوي ومتابعات وحماكمات‪� ،‬إذ نعترب �أن �سمعة‬
‫ال�رشطة توجد يف مقدمة احرتام حقوق الإن�سان ويف خلق‬
‫روابط الثقة مع حميطها ال�سو�سيومهني‪.‬‬

‫احلكامة الأمنية اجليدة‬


‫‪128‬‬
‫الإ�صالح اجلنائي وحماية حقوق الإن�سان‬
‫الأ�ستاذة �أفروخي*‬

‫تتمحور الأهداف العامة لتوجهات وزارة العدل يف جمال‬


‫الإ�صالح وال�سيا�سة اجلنائية حول حمورين �أ�سا�سيني‪� :‬أولهما‬
‫يتعلق بالت�صدي للجرمية يف خمتلف جتلياتها مبا يلزم من‬
‫حزم‪ ،‬خا�صة مع ما يعرفه العامل‪ ،‬و�ضمنه املغرب‪ ،‬من تكاثر‬
‫اجلرمية وت�شعبها وتعقدها وتزايد خطورتها؛ �أما املحور الثاين‬
‫فيتعلق باملحاكمة العادلة واحرتام حقوق الإن�سان‪.‬‬
‫ولتحقيق هذين الهدفني‪ ،‬ت�صب جمهودات وزارة العدل يف‬
‫اجتاهني‪� ،‬أولهما دعم الت�رشيع املغربي مبا يلزم من �إ�صالحات‬
‫وتعديالت لتقوية �آليات الت�صدي للجرمية من جهة‪ ،‬وتوفري‬
‫ال�ضمانات الكفيلة بتحقيق حماكمة عادلة ومن�صفة �أمام الق�ضاء‬
‫من جهة ثانية‪.‬‬
‫ويف هذا الإطار‪ ،‬ولبلوغ هذه املرامي عرف القانون‬
‫اجلنائي عدة تعديالت ‪:‬‬

‫* قا�ضية ورئي�سة م�صلحة ال�ش�ؤون اجلنائية بوزارة العدل‬

‫احلكامة الأمنية اجليدة‬


‫‪129‬‬
‫يتجلى �أول تعديل‪ ،‬مت خالل ال�سنوات الأخرية‪ ،‬يف‬
‫تعزيز احلماية اجلنائية لكل من الطفل واملر�أة‪ .‬وقد ت�ضمن‬
‫هذا التعديل مقت�ضيات اعتربت‪ ،‬وطنيا ودوليا‪ ،‬ذات �أهمية‪،‬‬
‫وتنم عن جر�أة‪ ،‬وتوفر �ضمانات كافية حلماية املر�أة والطفل‬
‫من كل �أنواع الإ�ساءة �أواالنتهاكات‪ ،‬ف�ضال عن حماية حقوق‬
‫الطفل عندما يكون يف و�ضعية خمالفة للقانون‪.‬‬
‫ويندرج �ضمن هذه التعديالت التعديل املتعلق بالإرهاب‪،‬‬
‫والتعديل املتعلق بتجرمي التعذيب عندما يرتكب من طرف‬
‫�أحد رجال ال�سلطة‪ ،‬وذلك يف �إطار املالءمة مع االتفاقية‬
‫الدولية ملناه�ضة التعذيب‪ ،‬كما يدخل يف هذا الإطار �أي�ضا‬
‫القانون املتعلق بغ�سل الأموال والقانون املتعلق باجلرمية‬
‫املعلوماتية‪.‬‬
‫ومنذ تنظيم الندوة الكربى حول ال�سيا�سة اجلنائية‬
‫مبكنا�س‪ ،‬التي �شارك فيها عدد من امل�شاركني يف هذا اللقاء‪،‬‬
‫مت ت�شكيل جلنة لتعديل القانون اجلنائي‪ ،‬و�ضعت ن�صب �أعينها‬
‫عددا من الأهداف‪ ،‬يف مقدمتها املالءمة مع االتفاقيات‬
‫الدولية التي �صادق عليها املغرب ب�صفة عامة‪ ،‬بل ت�ضمني‬
‫بع�ض املقت�ضيات الواردة يف بع�ض املواثيق التي مل ي�صادق‬
‫عليها املغرب‪ ،‬ومنها على وجه اخل�صو�ص نظام روما الأ�سا�سي‬
‫وما ت�ضمنه من جترمي للجرائم �ضد الإن�سانية وغريها‪.‬‬
‫ومن بني الأهداف التي ترمي �إىل حتقيقها جلنة تعديل‬
‫القانون اجلنائي بلورة منظور جديد للعقوبة‪ ،‬من خالل �إر�ساء‬
‫مبد�أ العقوبة البديلة للعقوبات ال�سالبة للحرية‪ ،‬والتخفيف من‬
‫اللجوء �إىل الإعدام كعقوبة غري �إن�سانية‪ ،‬واالبتعاد ما �أمكن عن‬

‫احلكامة الأمنية اجليدة‬


‫‪130‬‬
‫احلكم بعقوبات طويلة الأمد وبال�سجن امل�ؤبد؛ وكل ذلك �ضمن‬
‫منظور يرمي �إىل تعزيز مبادئ حقوق الإن�سان والرقي بالقوانني‬
‫املغربية �إىل ما تت�ضمنه كل املواثيق واملبادئ الدولية يف‬
‫املو�ضوع‪.‬‬
‫وتواكب املجهودات املغربية يف املجال الت�رشيعي‬
‫جمهودات �أخرى تهم تفعيل دور النيابة العامة يف جمال‬
‫احرتام حقوق الإن�سان‪ ،‬وذلك من خالل تتبع عملها بوا�سطة‬
‫عدد من الر�سائل الدورية التي حتث على تفعيل املقت�ضيات‬
‫القانونية املتعلقة‪ ،‬على �سبيل املثال‪ ،‬ال احل�رص‪ ،‬مبراقبة‬
‫�أماكن احلرا�سة النظرية‪ ،‬و�إجراء اخلربات الطبية عندما‬
‫يتطلب الأمر ذلك‪ ،‬وتفعيل االلتزام بزيارة امل�ؤ�س�سات ال�سجنية‬
‫�إ�ضافة �إىل احلث على جعل االعتقال االحتياطي �إجراء ا�ستثنائيا‬
‫اليتم اللجوء �إليه �إال يف احلاالت ال�رضورية‪ ،‬وعندما ي�ستحيل‬
‫اللجوء �إىل تدبري �آخر بديل‪ ،‬علما �أن هناك �صعوبات كثرية‬
‫تعرت�ض هذه امل�س�ألة‪ ،‬حيث ت�ضطر وزارة العدل �إىل تكثيف‬
‫تتبع هذه العملية من خالل �أعمال النيابات العامة‪.‬‬
‫ومن جت�سيدات مواكبة هذه املجهودات‪ ،‬اهتمام‬
‫وزارة العدل بر�صد ظاهرة اجلرمية من خالل تعبئة النيابات‬
‫العامة باملغرب لتجميع الإح�صائيات املتعلقة بكافة �أنواع‬
‫اجلرمية وحتليلها ملعرفة تطور ظاهرة اجلرمية‪ ،‬ومدى فعالية‬
‫الإجراءات الق�ضائية يف الق�ضاء عليها‪ ،‬وهوما ي�سمح مبعرفة‬
‫وتقييم م�ستمر للعمل الق�ضائي يف هذا املجال‪ ،‬وملدى تفعيل‬
‫مبادئ حقوق الإن�سان واحرتام �ضمانات املحاكمة العادلة‪.‬‬
‫ومن الور�شات الرئي�سية التي تعمل وزارة العدل عليها‪،‬‬

‫احلكامة الأمنية اجليدة‬


‫‪131‬‬
‫حاليا‪ ،‬تعميق البحث يف جمال بدائل العقوبات ال�سالبة‬
‫للحرية‪ .‬وميكن الإ�شارة يف هذا ال�صدد �إىل �أن من بني �أهم‬
‫البدائل للعقوبات ال�سالبة للحرية‪،‬على �سبيل املثال‪ ،‬العمل من‬
‫�أجل املنفعة العامة‪.‬‬

‫احلكامة الأمنية اجليدة‬


‫‪132‬‬
‫دور املجتمع املدين يف تطوير احلكامة الأمنية‬
‫حممد احلبيب بلكو�ش‬

‫�أود يف البداية �إثارة االنتباه �إىل �أن احلكامة الأمنية‬


‫ت�شكل حقال جديدا يتطلب من كل العاملني يف هذا املجال‬
‫واملهتمني به الإملام مبكوناته‪ ،‬باعتبار �أن املعرفة متثل �أحد‬
‫املداخل الأ�سا�سية لكل حقل جديد‪ .‬وال �أدل على ذلك �أكرث‬
‫من جتربة العدالة االنتقالية باملغرب؛ حيث خ�ضنا هذه‬
‫التجربة ونحن نفتقد �إىل ثقافة العدالة االنتقالية‪ ،‬بل بد�أنا نتعلم‬
‫العدالة االنتقالية يف �سريورة عمل هيئة الإن�صاف وامل�صاحلة‪،‬‬
‫وذلك من خالل ن�رش الأدبيات‪ ،‬ودورات التدريب‪ ،‬والبحث عن‬
‫اخلربة وتعميم املعلومات‪� ...‬إذ �أن املعرفة تي�رس املقاربات‬
‫الناجعة التي ميكنها الت�أثري يف ال�سيا�سات العمومية‪.‬‬
‫�إن احلكامة الأمنية حقل له �ضوابطه ومعايريه و�أدبياته‬
‫وخربته‪ ،‬كما �أن هناك العديد من امل�ؤ�س�سات الدولية التي‬
‫قامت ببلورة املعايري واملقومات التي ت�ؤطر هذا احلقل‪،‬‬
‫�سواء داخل الأمم املتحدة �أواالحتاد الأوروبي �أومنظمة التعاون‬
‫والتنمية االقت�صادية �أوغريها‪.‬‬
‫من هذا املنطلق‪ ،‬ميكن القول �إننا يف بداية الطريق‪.‬‬

‫احلكامة الأمنية اجليدة‬


‫‪133‬‬
‫غري �أنه �إذا تطرقنا �إىل احلكامة الأمنية ب�شكل �أو�سع‪ ،‬ميكن‬
‫القول �إن من مداخل عمل املجتمع املدين باملغرب يف جمال‬
‫حقوق الإن�سان الت�أثري يف ال�سيا�سات العامة من �أجل توفري‬
‫ال�رشوط القانونية الحرتام حقوق الإن�سان‪ ،‬من خالل توفري‬
‫املعلومة حول االنتهاكات والتجاوزات التي تطال هذه احلقوق‪،‬‬
‫و�إثارة انتباه ال�سلطات العمومية �إىل هذا الواقع‪� ،‬سواء من خالل‬
‫بيانات �أوتقارير موازية‪� ،‬أومن خالل احلوارات املبا�رشة مع‬
‫امل�ؤ�س�سات امل�س�ؤولة‪.‬‬
‫وقد قام املجتمع املدين‪ ،‬بهذا ال�صدد‪ ،‬بدور �أ�سا�سي خالل‬
‫�سنوات عدة‪ .‬وكان �ضمن الفاعلني الذين �ساهموا يف بلورة‬
‫ال�سيا�سات العمومية يف هذا املجال‪� .‬أكيد �أن اخلربة التي‬
‫كانت متوفرة يف هذا املجال كانت خربة قانونية نظرا‬
‫لتوفر عدد من املحامني والأ�ساتذة اجلامعيني املتخ�ص�صني‬
‫يف القانون داخل هذا الن�سيج‪ ،‬مما �ساعد منظمات حقوق‬
‫الإن�سان‪ ،‬وخا�صة املنظمة املغربية حلقوق الإن�سان التي‬
‫مار�ست يف �صفوفها ل�سنوات‪ ،‬على تقدمي مقرتحات متقدمة‬
‫�سواء تعلق الأمر بالقانون اجلنائي‪� ،‬أوقانون امل�سطرة اجلنائية‪،‬‬
‫�أوقانون ال�سجون �أوغريها من املجاالت التي كانت تر�صد‬
‫فيها حركة حقوق الإن�سان ومكونات املجتمع املدين‬
‫الأخرى االختالالت القائمة بني مقت�ضيات القوانني املغربية‬
‫والتزامات املغرب الدولية‪.‬‬
‫هذا من جهة‪� ،‬أما اجلانب الثاين الذي تبلور يف ظل‬
‫التفتح ال�سيا�سي الذي عرفته البالد‪ ،‬ودينامية التفاعل مع‬
‫املجتمع املدين وامل�ؤ�س�سات الوطنية وامل�ؤ�س�سات احلكومية‪،‬‬

‫احلكامة الأمنية اجليدة‬


‫‪134‬‬
‫وتفتح امل�ؤ�س�سات الت�رشيعية من خالل الأحزاب ال�سيا�سية‪،‬‬
‫فيتعلق بدور ن�رش ثقافة حقوق الإن�سان والتعريف بها والتعريف‬
‫باملقت�ضيات اجلديدة التي التزم بها املغرب �أمام املنتظم‬
‫الدويل‪ .‬ففي املغرب‪ ،‬و�إىل حدود مطلع القرن احلايل‪ ،‬مل تكن‬
‫ثقافة حقوق الإن�سان �سوى �شعار‪ ،‬حيث جند �أن جهات عدة‪،‬‬
‫مبا فيها جهات مكلفة ب�إنفاذ القانون ال تعرف‪ ،‬مثال‪ ،‬التزامات‬
‫املغرب على امل�ستوى الدويل يف جمال حقوق الإن�سان‪ ،‬بل‬
‫جتهل حتى القوانني التي من املفرو�ض �أن متار�س مهنتها‬
‫وفقها‪ .‬و�أعتقد �أن املجتمع املدين قد لعب دورا هاما يف هذا‬
‫الباب من خالل جمموعة من الربامج‪ ،‬و�إن كان ذلك قد‬
‫انح�رص يف الغالب على م�ستوى التعريف فقط؛ �إذ �أن التكوين‬
‫املهني املتطور الذي يهتم باملقت�ضيات امل�ستجيبة حلاجيات‬
‫الفئات املعنية من قبيل الق�ضاة �أومدراء ال�سجون �أوغريهم‪،‬‬
‫واملعرفة بااللتزامات الدولية يتطلبان خربة وجتربة ما زال‬
‫مطروح بدل جهود بخ�صو�صها من طرف كل املعنيني بهذا‬
‫املجال �سواء على امل�ستوى احلكومي �أوغريه‪. .‬‬
‫غري �أن ما قام به املجتمع املدين بهذا ال�ش�أن �شكل مدخال‬
‫لن�رش هذه الثقافة من خالل تنظيم ور�شات وحما�رضات‬
‫ولقاءات اجتمع فيها ن�شطاء حلقوق الإن�سان مع الق�ضاة �أومع‬
‫عاملني يف قطاع ال�رشطة �أو�إدارة ال�سجون �أوغريها‪ .‬وال �شك‬
‫�أن هذه امل�ساهمة تتطلب اليوم تقييما لتطوير �أداء املجتمع‬
‫املدين مبا ي�ستجيب مع تطور الواقع واملتطلبات واحلاجيات‬
‫اجلديدة‪.‬‬
‫ويكمن املعطى الثالث يف هذا املجال‪ ،‬واملرتبط‬

‫احلكامة الأمنية اجليدة‬


‫‪135‬‬
‫بالتطورات التي عرفتها البالد‪ ،‬يف بلورة العديد من التجارب‬
‫امل�شرتكة بني مكونات املجتمع املدين وقطاعات حكومية‪.‬‬
‫وميكن الإ�شارة هنا‪ ،‬على �سبيل املثال‪� ،‬إىل العمل امل�شرتك‬
‫الذي يتم بني جمموعة من مراكز مناه�ضة العنف �ضد‬
‫الن�ساء وال�رشطة والنيابات العامة‪ ،‬كما وقع يف الدار البي�ضاء‬
‫ومراك�ش ‪ ..‬كتجارب منوذجية تعك�س الأ�شكال اجلديدة التي‬
‫تتطلب البحث من �أجل الوقوف على كيفية ر�صد االنتهاكات‪،‬‬
‫وجعل امل�ؤ�س�سات تتغري لي�س من داخلها فقط‪ ،‬ولكن �أي�ضا من‬
‫خالل تفاعلها مع ق�ضايا املجتمع ومع مكونات املجتمع املدين‪،‬‬
‫ومن �أجل ا�ستخال�ص املمار�سات اجليدة يف هذا امليدان‪.‬‬
‫ويف الأخري‪ ،‬جتدر الإ�شارة �إىل �أن الإعالم كان مرافقا‬
‫لكل هذه التحوالت‪� ،‬سواء الإعالم احلزبي يف مرحلة معينة‪،‬‬
‫�أوالإعالم الذي برز مع التفتح الذي عرفه احلقل الإعالمي‬
‫باملغرب وميالد �أجيال جديدة من ال�صحف ت�سمى م�ستقلة‪،‬‬
‫�أومع الأ�شكال اجلديدة املتمثلة يف الإذاعات اخلا�صة التي بد�أت‬
‫تنت�رش يف املغرب طبقا للقوانني التي ت�سري هذا القطاع‪.‬‬
‫ويبدووا�ضحا �أن كل حكامة �أمنية جديدة ت�ستدعي‬
‫تو�سيع دائرة االهتمام بق�ضايا املجتمع‪ ،‬كما ت�ستدعي تدخل‬
‫متدخلني من خمتلف املواقع‪ .‬فالأمن‪ ،‬وعلى الرغم مما‬
‫يتوفر عليه من م�ؤ�س�سات خا�صة ومقت�ضيات ت�رشيعية وقانونية‬
‫وتنظيمية وتقنية‪ ،‬ومن مراقبات متنوعة‪ ،‬لن يكون بالنجاعة‬
‫املطلوبة �إن مل تتو�سع دائرة املتدخلني؛ وذلك من خالل‬
‫التفاعل مع املجتمع ‪ ،‬ومن خالل ال�شفافية يف التدبري‪ ،‬ومن‬
‫خالل التوا�صل وكيفية التفاعل مع خمتلف الفاعلني‪ .‬بيد �أنه‬

‫احلكامة الأمنية اجليدة‬


‫‪136‬‬
‫يالحظ على م�ستوى الإعالم‪ ،‬كذلك‪ ،‬خ�صا�ص يف املعرفة‬
‫والدراية الالزمتني بهذا احلقل‪ ،‬وهوما يتطلب جتاوزه حتى‬
‫يكون التدخل ناجعا ومفيدا وم�ؤثرا‪ ،‬وحتى متار�س اال�صحافة‬
‫حرية ال�صحافة يف عالقة مبقت�ضيات �أخرى كالأمن وغريه‪.‬‬
‫لقد بينت العديد من الق�ضايا التي طرحت يف املغرب‬
‫يف الفرتة الأخرية احلاجة �إىل بلورة حكامة �أمنية تزاوج بني‬
‫مقت�ضيات احلرية ومقت�ضيات النظام‪� .‬إنها �إ�شكالية مطروحة‪،‬‬
‫�أي�ضا‪ ،‬على املجتمع املدين‪ ،‬وال يكفي فيها املوقف املبدئي‪،‬‬
‫بل تتطلب‪ ،‬ف�ضال عن ذلك‪ ،‬وجود حلول عملية ت�أخذ يف‬
‫االعتبار كل هذه املقت�ضيات‪ ،‬الأمر الذي ي�ستدعي املزيد‬
‫من التفكري يف هذا املو�ضوع يف �إطار الدعوة �إىل بلورة حكامة‬
‫�أمنية جيدة يف عالقة بحقوق الإن�سان وتو�صيات هيئة الإن�صاف‬
‫وامل�صاحلة‪.‬‬
‫وال �شك �أن م�ساهمة املجتمع املدين يف تطوير احلكامة‬
‫الأمنية باملغرب تتطلب ا�ستخال�ص الدرو�س من هذا الأداء‪،‬‬
‫ق�صد بلورة الإ�سرتاتيجيات املنا�سبة حتى نخرج تو�صية الهيئة‬
‫من كونها تو�صية عامة �إىل خطط وا�سرتاتيجيات ت�ستجيب‬
‫لإعمال مقت�ضياتها‪ ،‬وحتى يكون للمجتمع املدين دوره‪� ،‬ش�أنه‬
‫�ش�أن باقي القطاعات‪ ،‬يف تطوير احلكامة الأمنية باملغرب‪.‬‬

‫احلكامة الأمنية اجليدة‬


‫‪137‬‬
‫اجلل�سة اخلتامية‬
‫مداخلة �أرنولد ليوتهلد‬

‫�أريد يف البداية �أن �أ�شري �إىل �أن هذه الندوة عرفت نقا�شا غنيا‬
‫ومفتوحا ومتيزت ب�إ�صغاء رائع‪� ،‬إذ �أن النقا�ش املثمر يتطلب‬
‫�إ�ضافة �إىل القول الإ�صغاء املتمعن؛ كما متيزت بجدية كبرية‬
‫يف النقا�ش وتبادل الر�أي‪.‬‬
‫ومن جهة �أخرى‪ ،‬فقد الحظت بت�أثر عميق �إىل �أي مدى يوجد‬
‫تالقي يف التوجهات ال�سيا�سية الكربى‪ ،‬بدءا من خطاب جاللة‬
‫امللك‪ ،‬وتو�صية املجل�س اال�ست�شاري حلقوق الإن�سان‪ ،‬وتو�صيات‬
‫هيئة الإن�صاف وامل�صاحلة‪ ،‬واملواقف املعرب عنها خالل هذه‬
‫الندوة من طرف ممثلي �أجهزة الأمن �أومنظمات املجتمع‬
‫املدين ‪ .‬فالكل يتالقى على القول ب�رضورة االلتزام بالإ�صالح‪،‬‬
‫وتعزيز الدميقراطية‪ ،‬وتقوية املراقبة امل�ؤ�س�سية‪ ،‬كما عرب‬
‫اجلميع عن ا�ستعداده لأن يجعل الفرد واحرتام حقوقه حمورا‬
‫لهذا املفهوم الأمني‪.‬‬
‫وعلى م�ستوى ثالث‪ ،‬الحظت �أن الإطار القانوين غري متالئم‪،‬‬
‫بال�رضورة‪ ،‬مع هذا املنظور‪ ،‬و�أن العمل متفرق وم�شتث‪.‬‬

‫احلكامة الأمنية اجليدة‬


‫‪138‬‬
‫و�أعتقد �أنه مادامت هناك نظرة عامة بخ�صو�ص ما هوموجود‪،‬‬
‫فيجب فهم ما هومتوفر‪ ،‬وترتيبه‪ ،‬و�إدخال االن�سجام عليه‪،‬‬
‫ومن ثمة �إجراء الإ�صالحات ال�رضورية‪ .‬هكذا يبدو�أن هناك‬
‫ور�شا كبريا على م�ستوى فهم ما ميليه اليوم الإطار القانوين‪،‬‬
‫وبلورة ما تتمنون احل�صول عليه‪.‬‬
‫رابعا‪ ،‬يبدويل �أنكم تتفقون جميعا على �رضورة �إ�صالح قطاع‬
‫الأمن‪ ،‬غري �أنه مل يتم الوقوف مبا فيه الكفاية عند ال�سريورة‬
‫ال�سيا�سية التي قد تنجم عن ذلك‪� .‬إن �إ�صالح قطاع الأمن كما مت‬
‫حتديده‪ ،‬بتوزيع الأدوار بني خمتلف امل�ؤ�س�سات ومنح املراقبة‬
‫مل�ؤ�س�سة على �أخرى‪ ،‬يعني نقل ال�سلطة ولوب�شكل ب�سيط‪،‬‬
‫و�إعادة توزيع ال�سلط بني امل�ؤ�س�سات‪ .‬ويتطلب ذلك‪ ،‬وال �شك‪،‬‬
‫جمهودا �سيا�سيا كبريا‪ ،‬وعمال تفاو�ضيا‪� ،‬سي�ؤدي‪� ،‬ش�أنه �ش�أن‬
‫�أية مفو�ضات‪� ،‬إىل ظهور م�ؤ�س�سات و�شخ�صيات رابحة و�أخرى‬
‫خا�رسة‪ .‬ولذي الثقة الكاملة يف الإرث املغربي‪ ،‬ويف قدراته‬
‫الكبرية‪ ،‬ويف لطف ال�شعب املغربي‪ ،‬حيث �ستكون له الهمة‬
‫الكافية لتدبريهذه ال�سريورة باحلذر اللالزم ل�ضمان جناحها‪.‬‬
‫غري ما �أود الت�أكيد عليه‪ ،‬هو�أننا عندما نتحدث عن نقل‬
‫ال�سلط‪ ،‬ومنح دور املراقبة للربملان‪ ،‬وتقوية التدبري واملراقبة‬
‫داخل خمتلف الأجهزة الأمنية‪ ،‬والإقرار بادوار جديدة لفاعلني‬
‫جدد‪ ،‬ف�إن ذلك ي�ستلزم تكوينا جديدا �سواء على م�ستوى‬
‫الأجهزة‪� ،‬أوعلى م�ستوى الوزارات‪ ،‬والربملان واملنظمات‬
‫غري احلكومية �إ�ضافة �إىل توفر قدرة جديدة عل البحث‪.‬‬
‫و�إذا كان �إ�صالح قطاع الأمن ي�شكل م�رشوعا كما متت الإ�شارة‬
‫�إىل ذلك‪ ،‬فيجب طرح ال�س�ؤال حول كيف يجب العمل من‬

‫احلكامة الأمنية اجليدة‬


‫‪139‬‬
‫�أجل تدبري هذا الإ�صالح‪ ،‬وحول ميكانيزمات الت�سيري التي‬
‫ميكنها �أن ت�ساعد عل التقدم على هذا الطريق‪ ،‬وجتنب انح�سار‬
‫امل�سل�سل‪ ،‬و�ضمان نهج نف�س ال�رسعة من طرف كل امل�ؤ�س�سات‬
‫املعنية‪ .‬لذا‪ ،‬يجب �أن يكون هناك �شخ�ص مبقدوره تن�سيق كل‬
‫ذلك‪ .‬وتوجد �أ�سئلة التي ت�ستلزم �أجوبة وا�ضحة منها ما يتعلق‬
‫بامل�ستوى الذي ت�أملون �أن توكلوا له هذه امل�س�ؤولية‪ ،‬وما هي‬
‫كلفة هذا امل�رشوع‪ ،‬وما هي امليزانيات التي �ستتم تعبئتها‪..‬‬
‫الخ‬
‫ويف الأخري‪� ،‬أمتنى لكم النجاح‪ ،‬كما �أود �أن �أ�شكر بحرارة‬
‫م�شاركتكم الن�شيطة يف هذه الندوة‪ ،‬كما �أعرب عن �شكر‬
‫باقي اخلرباء الدوليني الذين لبوا دعوتنا ف�ضال عن زمالئي يف‬
‫مركز جنيف للمراقبة الدميقراطية للقوات امل�سلحة‪ ،‬ويف‬
‫مقدمتهم �أبلي ولوثر‪ .‬كما �أ�شكر �رشكاءنا الذي نظموا هذه‬
‫الندوة معنا‪ :‬ال�سيد حبيب بلكو�ش وفريقه مبركز درا�سات‬
‫حقوق الإن�سان والدميقراطية‪ ،‬و�رشكا�ؤنا يف املركز الدويل‬
‫للعدالة االنتقالية‪.‬‬

‫مداخلة �ألك�سندر مايري‬

‫لقد �شكلت هذه الندوة خطوة هامة يف تنفيذ تو�صيات هيئة‬


‫الإن�صاف وامل�صاحلة املتعلقة ب�إ�صالح قطاع الأمن‪ .‬كما كانت‬
‫خطوة متميزة‪� ،‬إذ اجتمع حول هذه الطاولة ممثلون للحكومة‪،‬‬
‫واملجل�س اال�ست�شاري حلقوق الإن�سان‪ ،‬وممثلون لأجهزة الأمن‪،‬‬
‫وو�سائل الإعالم‪ ،‬وجامعيون ف�ضال عن ممثلي املجتمع املدين‬

‫احلكامة الأمنية اجليدة‬


‫‪140‬‬
‫‪ .‬ويل اليقني �أن هذا احلوار �سي�ستمر؛ و�إليكم تعود مهمة و�ضع‬
‫�إ�سرتاتيجية وبرنامج و�أجندة من �أجل تنفيذ تو�صيات هيئة‬
‫الإن�صاف وامل�صاحلة املتعلقة ب�إ�صالح قطاع الأمن‪.‬‬
‫ومن جهة‪� ،‬أخرى �أريد الت�أكيد من جديد على موقفنا‬
‫كمركز دويل للعدالة االنتقالية بخ�صو�ص ا�ستعدادنا ملد‬
‫خمتلف الفاعلني بكل الدعم �أواخلربات امل�أمولة‪ .‬و�أ�شكر يف‬
‫الأخري كل من �شاركنا يف تنظيم هذه الندوة وكل من‬
‫�ساهم يف �إجناحها‪.‬‬

‫مداخلة �أحمد حرزين‬

‫لقد كنا نف�ضل يف املجل�س اال�ست�شاري حلقوق الإن�سان �أن‬


‫تت�أخر هذه الندوة بع�ض الوقت‪ ،‬وذلك‪� ،‬أ�سا�سا‪ ،‬لكون املو�ضوع‬
‫ي�شكل �أهم ما �أو�صت به هيئة الإن�صاف وامل�صاحلة‪ ،‬والذي مل‬
‫نتمكن من اال�شتغال عليه‪ ،‬نظرا لوجود �أولويات �ضاغطة بقوة؛‬
‫�إذ ن�رشع يف اال�شتغال يف هذا الور�ش �إال قبل �أ�سابيع معدودة‪.‬‬
‫وكنا نتمنى �أن يت�أخر تنظيم هذه الندوة ليكون املجل�س قد‬
‫�أن�ضج املو�ضوع �أكرث مما فعل �إىل حد الآن‪ .‬وقد ا�ستجابت‬
‫لدعوتنا اجلهات املنظمة لهذه الندوة مرتني‪ ،‬ومل يعد بالإمكان‬
‫طلب ت�أجيل الندوة للمرة الثالثة‪.‬‬
‫وكما ال حظتم‪ ،‬وعلى الرغم من ح�ضورنا امل�ستمر يف هذه‬
‫الندوة‪ ،‬غري �أن م�شاركتنا مل تكن كما نود‪ ،‬وعذرنا يف ذلك‬
‫�أن هذه الندوة ت�شكل بداية �ستليها لقاءات وندوات �أخرى‪ .‬وال‬

‫احلكامة الأمنية اجليدة‬


‫‪141‬‬
‫�أخفيكم �أننا ا�ستفدنا من هذه الندوة‪ ،‬وعلى اخل�صو�ص ما قدم‬
‫بخ�صو�ص بع�ض التجارب الأجنبية‪ ،‬كما ا�ستفدنا من خمتلف‬
‫العرو�ض‪ .‬وكل ما ميكن �أن نعد به هو�أن املجل�س �سيحر�س‬
‫على �أن تكون هناك تتمة لهذا اللقاء الأويل‪.‬‬
‫و�إذا كان يل �أن �أقرتح‪ ،‬ف�أقرتح بخ�صو�ص هذه الق�ضية‪ ،‬كما‬
‫بخ�صو�ص كل الق�ضايا التي تهم حقوق الإن�سان‪� ،‬أن نهتم بال�سياق‬
‫التاريخي الذي يحكم طموحاتنا و�أدائنا‪ .‬و�أعني بال�سياق هنا‬
‫االنتقال الدميقراطي‪� ،‬إذ �أن املطروح علينا هو�أن نحقق �أق�صى‬
‫ما ميكن حتقيقه يف �إطار هذا االنتقال الذي تعرفه بالدنا‪.‬‬
‫وي�ستوجب هذا الكثري من االحتياطات‪ .‬وبالطبع ف�إن الأمر ال‬
‫يتعلق ب�أن ننق�ص من حقوق الإن�سان‪� ،‬أو�أن نق�سطها �أوالتنازل‬
‫على ما هومبدئي‪ ،‬وما �أ�صبح لدينا باملغرب ملزما د�ستوريا‪ .‬غري‬
‫�أنه يجب �أن يكون الهم الرئي�س يف مرحلة االنتقال الدميقراطي‪،‬‬
‫على ما اعتقد‪ ،‬هو�إجناح هذا االنتقال لبلوغ دميقراطية م�ؤ�س�ساتية‬
‫عادية‪ .‬وللو�صول �إىل هذا الهدف‪ ،‬ال بد من الت�سلح ب�إرادة قوية‬
‫وبحر�ص م�ستمر على تعبئة كل ما ميكن تعبئته للو�صول �إىل‬
‫احلالة الدميقراطية التي تر�ضينا جميعا‪ .‬كما �أن هذا يتطلب‪،‬‬
‫كذلك‪ ،‬الت�أكيد على �أن احلديث عن االنتقال الدميقراطي‬
‫هوحديث عن حركية �سلمية بالتعريف‪ .‬لهذا يجب الت�سلح‬
‫ب�شيء من الواقعية؛ لي�ست الواقعية االنتهازية‪ ،‬بل الواقعية التي‬
‫ت�سعى �إىل حتقيق كل ما هوممكن‪ ،‬بدون �أن تثقل كاهلها مبا‬
‫ال ت�ستطيع �أن تنجزه يف ال�سياق املذكور‪.‬‬
‫لقد �سمعت الكثري عن دور التكوين والرتبية وعلى حقوق الإن�سان‬
‫يف احلكامة الأمنية اجليدة‪ ،‬بيد �أنني �أريد �أن �أ�شري �إىل دور الرقابة‬

‫احلكامة الأمنية اجليدة‬


‫‪142‬‬
‫ال�شعبية يف هذا املجال‪ ،‬وخا�صة مراقبة الربملان‪ .‬فهذا الدور‬
‫ال ميكن �أن يتناطح عليه كب�شان‪ .‬لكن الت�سا�ؤل املطروح هوهل‬
‫يتوفر املغرب اليوم على برملان ب�إمكانه �أن ميار�س رقابة �شعبية‬
‫حقيقية‪ .‬لذا‪ ،‬يجب �أن يكون عملنا يف جمال حقوق الإن�سان‬
‫خا�ضعا لل�سياق‪ ،‬و�أن يكون عمال �شامال ومتدرجا يف ذات الوقت‪.‬‬
‫ويف النهاية‪� ،‬أود �أن �أهنئ مركز درا�سات حقوق الإن�سان‬
‫والدميقراطية‪ ،‬واملركز الدويل للعدالة االنتقالية‪ ،‬ومركز‬
‫جنيف من �أجل املراقبة الدميقراطية للقوات امل�سلحة‪،‬‬
‫وجميع امل�شاركني عل جناح هذه الندوة‪ .‬ومرة �أخرى‪،‬‬
‫نعدكم �أن نعمل يف املجل�س ال�ست�شاري حلقوق الإن�سان على‬
‫�أن تكون هناك تتمة لهذا العمل؛ ولن تنتهي �سنة ‪ 2008‬حتى‬
‫نكون قد �أنهينا هذا املو�ضوع وبه ننهي تنفيذ تو�صيات هيئة‬
‫الإن�صاف وامل�صاحلة‪.‬‬

‫مداخلة حممد احلبيب بلكو�ش‬

‫�أود يف البداية �أن �أعرب للجميع عن غبطتنا نحن املنظمني‬


‫لهذا امللتقى للتجاوب الذي لقيه لدى خمتلف القطاعات‬
‫التي �ساهمت معنا يف التفكري فيه‪ ،‬علما ب�أننا اعتربنا هذه‬
‫الندوة‪ ،‬منذ البداية‪ ،‬مدخال للتفكري‪ ،‬وحماولة للتقرب من‬
‫مو�ضوع مل نتطرق له من قبل‪ ،‬واقتحام ف�ضاء جديد يلزمنا‬
‫فيه التوفر على �آليات وثقافة ومعرفة وجتربة الخ‪ .‬فكان من‬
‫الالزم �أن نقدم هذا املدخل‪ ،‬ون�أمل �أن نكون قد وفرنا‪� ،‬أ�سا�سا‪،‬‬
‫ف�ضاء للمعرفة والتفاعل بني خمتلف الفرقاء بغ�ض النظر عن‬

‫احلكامة الأمنية اجليدة‬


‫‪143‬‬
‫مواقعهم‪ ،‬وذلك بغية التفكري اجلماعي يف ق�ضية �أ�صبحت من‬
‫�أولويات الق�ضايا لي�س عل م�ستوى املغرب‪ ،‬ولكن على �أي�ضا‬
‫على امل�ستوى الدويل؛ ف�ضاء مكننا‪� ،‬أي�ضا‪ ،‬من االطالع على‬
‫بع�ض التجارب ومعرفة �أن احلكامة الأمنية لي�ست مو�ضوعا‬
‫ملحا لكونها وردت يف تقرير هيئة الإن�صاف وامل�صاحلة فقط‪،‬‬
‫بل لكونهات�شكل‪ ،‬كذلك‪ ،‬معطى �أ�سا�سيا يف ظل التحوالت‬
‫التي يتطلبها بناء املجتمع الدميقراطي ببلدنا‪ ،‬والتي تفر�ض‬
‫النظر �إىل هذه احلكامة بطريقة خمتلفة عن طريقة �إدارتها يف‬
‫ال�سنوات ال�سابقة منذ ا�ستقالل املغرب‪.‬‬
‫وال �شك �أن احلكامة الأمنية �ستكون مو�ضوع لقاء مع املجل�س‬
‫اال�ست�شاري حلقوق الإن�سان‪ ،‬كما ن�أمل ان تكون مو�ضوع لقاء‬
‫مع الربملانيني‪� ،‬إذ ال يعقل �أن يناق�ش برملاين هذا املو�ضوع يف‬
‫غياب �أية دراية به وبحاجياته وا�سرتتيجياته وعقيدته‪.‬‬
‫و�أعتقد �أننا قمنا بخطوة �أوىل على هذا الطريق‪ ،‬وتنتظرنا‬
‫خطوات �أخرى‪ ،‬خا�صة و�أن امل�سار �سيكون طويال الرتباطه‬
‫بامليدان الت�رشيعي‪ ،‬ومبتطلبات التدريب والتكوين‪ ،‬وب�آليات‬
‫املراقبة‪ ،‬و�شفافية التدبري‪...‬علما ب�أن النف�س الطويل هوالذي‬
‫�أو�صل البلد �إىل هذه املحطة‪.‬‬
‫ومن مميزات هذه اجلل�سة‪� ،‬أي�ضا‪� ،‬أننا ا�ستمعنا �إىل قراءات‬
‫متعددة ملو�ضوع احلكامة الأمنية‪ ،‬منها قراءة من داخل‬
‫القطاعات الأمنية نف�سها‪ ،‬لأ�صحابها ر�ؤيتهم وا�سرتتيجياتهم‬
‫و�أولوياتهم و�إجنازاتهم التي �رشعوا فيها‪.‬‬
‫يف الأخري‪� ،‬أود التعبري عن جزيل ال�شكر للخرباء الذين رافقونا‬

‫احلكامة الأمنية اجليدة‬


‫‪144‬‬
‫يف هذه اجلل�سة التي عرفنا من خاللها �أن مو�ضوع احلكامة‬
‫الأمنية ي�شكل �أولوية يف دول ال�شمال كما يف دول اجلنوب‪ ،‬و�أنه‬
‫مطروح يف �إيرلندا ويف �سو�سي�رسا كما هومطروح يف املغرب‬
‫وبلدان �أمريكا الالتينية مع اختالف ال�سياقات والأولويات‪ .‬كما‬
‫�أتوجه ببالغ ال�شكر للمتدخلني املغاربة الذين �ساهموا معنا يف‬
‫تن�شيط هذا الندوة وجلميع امل�شاركني فيها‪.‬‬

‫احلكامة الأمنية اجليدة‬


‫‪145‬‬
‫الفهر�س‬

‫‪3.....................................................................‬‬ ‫تقدمي‬
‫‪7....................................................‬‬ ‫اجلل�سة االفتتاحية‬
‫اجلل�سة الأوىل ‪:‬‬
‫احلكامة الأمنية اجليدة مدخل اىل مفهوم �إ�صالح قطاع‬
‫الأمن ‪15 ...................................................................‬‬

‫‪17................‬‬ ‫�إ�صالح قطاع الأمن‪:‬الدواعي وم�ؤ�رشات النجاح‬


‫�آرنولد ليوطهلر‬
‫الأمن‪24 ..........................‬‬ ‫العدالة االنتقالية و�إ�صالح قطاع‬
‫�ألك�سندر مايري‬
‫اجلل�سة الثانية ‪:‬‬
‫�إ�صالح قطاع الأمن �رضورة للبلدان يف مرحلة‬
‫الدميقراطية ‪31 ................................‬‬ ‫�إنتقالية �أم للبلدان‬

‫احلكامة الأمنية اجليدة‬


‫‪146‬‬
‫�إ�صالح قطاع الأمن ‪ :‬خطوة �رضورية على درب االنتقال‬

‫‪33............................................‬‬ ‫الدميقراطي بغواتيماال‬


‫برناردو �آريبالو ليون‬
‫‪51.............‬‬ ‫اخلطوات الأوىل على درب �إ�صالح اجلهاز الأمني‬
‫جانني رو�ش‬
‫‪61...............................‬‬ ‫�إ�صالح جهاز ال�رشطة يف �سوي�رسا‬
‫بيري �أبييلي‬
‫تعزيز مفهوم امل�سائلة وامل�س�ؤولية لذا جهاز ال�رشطة‪:‬‬
‫ال�شمالية ‪86 ............‬‬ ‫التحديات والفر�ص املتاحة يف �إرلندة‬
‫نواال �أو لوان‬
‫اجلل�سة الثالثة ‪:‬‬
‫‪101 ........‬‬ ‫�إ�صالح قطاع الأمن يف املغرب ‪ :‬الأورا�ض اجلارية‬
‫‪103.......‬‬ ‫هيئة الإن�صاف وامل�صاحلة واحلكامة الأمنية اجليدة‬
‫�أحمد �شوقي بنيوب‬
‫الو�ضع‪111 ....................‬‬ ‫امل�صالح الأمنية باملغرب ‪ :‬ت�شخي�ص‬
‫امليلودي حمدو�شي‬

‫احلكامة الأمنية اجليدة‬


‫‪147‬‬
‫اجلل�سة الرابعة ‪:‬‬
‫املغرب ‪119 ......‬‬ ‫نحو فتح نقا�ش حول �إ�صالح قطاع الأمن يف‬
‫الإن�سان ‪121 .....................‬‬ ‫احلكامة الأمنية اجليدة وحقوق‬

‫�أحمد �أيت الطالب‬

‫الإن�سان ‪129 ......................‬‬ ‫الإ�صالح اجلنائي وحماية حقوق‬

‫الأ�ستاذة �أفروخي‬

‫‪133...........‬‬ ‫دور املجتمع املدين يف تطوير احلكامة الأمنية‬

‫حممد احلبيب بلكو�ش‬


‫اخلتاميــة ‪138 ...................................................‬‬ ‫اجلل�سة‬

‫احلكامة الأمنية اجليدة‬


‫‪148‬‬

You might also like