Professional Documents
Culture Documents
المسؤولية الاجتماعية كمدخل استراتيجي تحسين جودة حياة المهنية داخل المقاولاتية
المسؤولية الاجتماعية كمدخل استراتيجي تحسين جودة حياة المهنية داخل المقاولاتية
مجلة دَورية ُدوليّة محُكمّة تصدر عن المركز الجامعي آفلو مجلةُ الدراسات األكاديمية
:امللخص
عينات الستقصاءالباحث يف هذه املداخلة فلسفةَ املكان يف شعر عثمان لوصيف ؛ متخذا من مناذجه الشعرية ٍ ُ يقارب
األبعاد املكانية مبختلف جتلياهتا وأقسامها فمقوالهتا وعالقاهتا ابآلخر ،من حيث مقوالهتا الظاهرة وأنساقها املضمرة ،ألن
املتمعن يف املنت الشعري عند عثمان لوصيف يستشعر سلطة املكان القصوى يف تشكيل النص الشعري متضمنا مجاليات املكان ّ
ومقوالته ،وهو ما جيعل للمكان يف شعره فلسفته املتفردة يف املشهد الشعري اجلزائري والعريب ،سننطلق يف مداخلتنا من مهاد
نظري ،حيث نتطرق فيه إىل مفهوم الفضاء/املكان وأمهيته يف تشكيل النص الشعري املعاصر ،إ ْذ آثران أن نقف عند حدود
مصطلح الفضاء/املكان ،وذلك ملا تلبسهما من غموض وتداخل ،واستعمال بنفس املفهوم ،فمن الدارسني من يوردمها مبفهوم
واحد ومنهم من يفرق بني املفهومني :الفضاء ،املكان،كما أننا سندرج أمهية املكان/الفضاء يف القصيدة اجلزائرية املعاصرة؛ إ ْذ
إ ّن للمكان أمهية ابلغة يف النص الشعري ،كغريه من النصوص األدبية األخرى حيث يع ّد املكان الركيزة األساس يف جسد القصيد
،كما نتحدث يف مداخلتنا عن أقسام املكان الشعري يف شعر عثمان لوصيف ،وندرج عنصرا للحديث عن عالقة املكان
ابآلخر يف شعره ،ونتحدث يف هذا العنصر عن عالقة املكان -بوصفه مكوان شعراي رئيسا -بعناصر شعرية أخرى ؛ كعالقة
املكان ابلزمن واألنساق املضمرة ،والذوات ،واللغة واللون.
لتؤلف نظرية متكاملة عن الفضاء احلكائي ،مما يؤكد أهنا أحباث ال تزال فعال يف بداية الطريق" ،1إذ ال نكاد
.نعثر على دراسات كثرية متخصصة يف هذا اجملال إال بعض اجلهود املتفرقة هنا وهناك
جاء يف لسان العرب البن منظور يف مادة "فضا" قوله" :فضا :الفضاء /املكان الواسع من األرض،
فاض ...وقد فضى املكان وأفضى إذا اتسع ،وأفضى فالن إىل فالن ،إذا وصلوالفعل فضا يفضو فضوا فهو ٍ
إليه ،وأصله أنه صار يف فرجته وفضائه وحيزه" ،2وهنا يتخذ الفضاء – حسب ابن منظور – معىن االتساع،
وتصري له تسميات كالفرجة ،احليز ،وقد فضل عبد امللك مراتض املصطلح املنظوري "احليز" يف جل أعماله
النقدية للداللة على الفضاء/املكان ،ويعرفه يف كتابه "القصة اجلزائرية املعاصرة"" :احليز ،لدينا ،ليس هو فقط
الفراغ ولكنه يشمل االمتدادات واخلطوط واألحجام واألوزان والظالل واالجتاهات اليت تقع يف حركة األسفار
ملمح مشويل لكل املوجودات من حيث إن الفضاء حىت لو كان السفر أسطوراي" 3وبذلك يكون للفضاء ٌ
حيتوي كل كائن حبركته وسكون وأفعاله ألنه "حيمل مع مجيع الدالالت املالزمة له ،واليت تكون عادة مرتبطة
بعصر من العصور حيث تسود ثقافة معينة أو رؤية خاصة للعامل" 4؛ فيصبح الفضاء انطالقا من رؤية محيد
حلميداين ،اإلطار الذي تتشكل داخله املوجودات مجيعها ،واألفكار والرؤى والثقافات ،وتنطبع فيه بطابعه ،من
منطلق أن للفضاء سلطته على تشكيالته وجزئياته ،ومكوانته ،وأن له أتثرياته عليها .لذلك ختتلف هذه الرؤى
والثقافات ابختالف الفضاءات اليت حتتويها وتشملها وتشكل إطارها وحيزها الذي تدور وتتحرك ،و"تنتظم فيه
الكائنات واألشياء واألفعال»" 5أما عند "غاستون ابشالر" فقد اقرتن الفضاء ابلبيت حيث إن "كل األمكنة
املأهولة حقا ،حتمل جوهر فكرة البيت ( )...وأن اخليال يعمل يف هذا االجتاه أينما لقي اإلنسان مكاان حيمل
أقل صفات املأوى" ،6على الرغم من أن "الدراسات املوجودة حول هذا املوضوع ال تقدم مفهوما واحدا
للفضاء"7
-2أمهية املكان يف النّص الشعري:
للمكان أمهية ابلغة يف النص الشعري ،كغريه من النصوص األدبية األخرى حيث "يقوم املكان يف النص
بوظيفة العمود الفقري" 8يف جسد النص ؛ بل ميكن ع ّد "املكان هوية العمل األديب" 9كله ،وإ ّن للمكان
مدلوالته الفكرية والنفسية واالجتماعية أيضا" ،ويعين املكان ابلنسبة لإلنسان أشياء متعددة ،فهو املأوى
واالنتماء ومسرح األحداث" ، 10وكل ما ميكن أن خيتزن جزءًا هاما من ذاكرة اإلنسان وجتاربه ،وذلك على
يقني من أن "املكان احليز ال ميكن أن يعين شيئا كبريا ،وغنما املكان الذي يعين هو املكان التجربة"،11
املكان احلدث ،املكان الوقائع ،املكان الذي خيتزل فرتات من عمر ،ومراحل من حياة ،لذلك عكف الكتاب
واملبدعون على االشتغال عليه وأتثيثه يف أعماهلم األدبية بكل مكوانته اليت جتعل منه مسرحا هادفا داال ،يؤدي
وظيفته األدبية كما تؤديها عناصر العمل األخرى" ،وميكن القول إن املكان ليس جمرد وعاء خارجي أو شيء
اثنوي ،بل هو الوعاء الذي تزداد قيمته كلما كان متداخال ابلعمل الفين" ،12بل ويتجاوز كونه وعاء إذا كان
الناص واعيا بسلطة املكان وأدائه القوي داخل النص ،ومبقدرته على صدارة العناصر األدبية داللة وتشكيال،
كما أن العالقة بني الناص/الكاتب واملكان كمكون رئيس دال ،من شأهنا أن تنعكس على عناصر العمل
األديب األخرى فتتضافر معها لتشكل قوة/سلطة النص الكلية" .ويف ثنااي ذلك احلديث بني الذات املبدعة
واملكان اخلارجي تنمو لغة أخرى ،وهذه اللغة ختتزل مالمح شعرية املكان ،حيث هترب األمكنة من حقيقته،
ليبين اخليال املكان اآلخر ،املكان اللغوي" ،13وبذلك حتدد قيمة التعامل مع املكان ،بوعي وعمق عوامل لغوية
جديدة تعطي للمكان مفهوما جديدا مغايرا خاصا بكل مبدع/انص" ،ألن املكان يبقى مفهوما ضروراي ،فال
وجود وال زمن وال حركة وال لون وال ظل وال أشياء إال به"14
إن احلديث عن املكان يف أي عمل أديب هو حديث عن العمق والدقة بعيدا عن املعىن السطحي ،فلم
يعد املكان "األرضية اليت تتوزع على خارطتها األحداث وال هو الشكل البالستيكي املبين من الطوب واحلجر
والقصب ( )...كما أنه ليس متكأ للفن الرديء الذي جيد يف أجزائه مادة للوصف املركب وإمنا هو ذلك
الشيء الذي يستحيل الفن بدونه أن يسمى فنا" ،15ومن مثّ فإن حسن التعامل مع "املكان" من حسن
الوعي أبمهيته ودوره يف العمل األديب؛ بعيدا عن استغالله كتوشية وزخرفة البد منها يف النص األديب"،
وتتكشف معضلة املكان يف شكلها املعقد ،حينما يالمس التفسري والتأويل ختوما ،يكون فيها املعىن أكثر
ارتباطا ابملكان وإحياءاته .وكأن املعىن ال يكتسب أبعاده القصوى إالّ إذا اسرتفد املكان ،واستخلص منه
حمموالته الداللية .فإذا اقتصر التأويل على املعطيات الفكرية ،واالجتماعية ،والنفسية..مثال فإن صنيعه ذاك
يظل انقصا ،مهما كانت درجة العمق واإلجادة يف خطابه .بل إننا نزعم الساعة أن التأويل الذي يكتفي بذلك
النزر القليل من الفحص ،أتويل انقص .ال ميكن أن يصل إىل عمق النص أبدا ،مادامت املعطيات نفسها ال
التشعيب الذي يشدها إىل املكان"، 16و يؤكد
تتأسس قاعدة علمية ،إالّ إذا أخذت حظها من االرتباط ّ
حبيب مونسي يف معرض حبثه يف فلسفة املكان على ضرورة االلتفات إىل قراءة املكان واالهتمام به " ،وملا كان
الشعر العريب ،شعرا مكانيا يف ارتباطه ابلبيئة اليت أنتجته ،واإلنسان الذي أبدعه ،كان لزاما على الدرس األديب
أن يلتفت إىل املكان فيه ،نظرة ال حتكمها التابعية ،فتحصر هم املكان يف بعض املظاهر الثانوية ،أو تتخطاه
جملرد ذكره بعبارات اهرتأت استعماالهتا ،و خوت داللتها،و صدئت جدهتا .بل التنقيب يف عمق العالقات اليت
ينشئها املكان بينه وبني خمتلف املعاين ،والعادات القولية ،والفعلية ،واألخالق ،والسلوك .مادامت الغنائية يف
الشعر العريب إمنا تتأسس على اهتمام فردي يف املقام األول ،مث تنفتح لعديد من العالقات األخرى، 17".كما
صات العدد 02جوان - 2019مجلة علميّة ُمتعددة التخ ُ
ص َ
Academic.studies.aflou@gmail.com
151
ISSN 2676-1521
مجلة دَورية ُدوليّة محُكمّة تصدر عن المركز الجامعي آفلو مجلةُ الدراسات األكاديمية
أنه الميكننا أبي حال من األحوال االدعاء أبنه ميكننا ولوج عوامل النص الشعري دون امتالك أدوات قراءة
املكان وتفكيكه واستكناهه ؛ ألن املكان الشعري شريك رمسي يف بناء البيت الشعري ،وإ ّن له حضورا شكليا
كل هذا االهتمام يف الدرس النقدي املعاصر؛ و " لقد أخذ احلديث عن وضمنيا داخل النص ،لذلك لقي َّ
املكان يف الشعر العريب أبعادا خمتلفة ،حبسب زوااي الرؤية اليت عاجلته من جهة ،وحبسب الفهم الذي أنيط به
من جهة اثنية ،وحبسب املعارف الرافدة اليت تؤثث الدراسة .وكل مقاربة للمكان من هذه املنازع إمنا قدمت
نتائجها الدقيقة اليت أعطت للمكان ثقله الفين يف البناء الشعري شكال ومضموان ،حىت غدت مقولة املكان من
اخلطورة ما جيعلها موضوعة تتشعب إىل رؤى ذات طبيعة ميتافيزيقية ،بعدما كانت تدرك فقط يف احلدود
اجلغرافية واالجتماعية و النفسية .ذلك أن املكان يف صلته ابلذات املبدعة واملتلقية ،يتخذ من الصفات
املتشابكة ما جيعله من املقوالت األكثر تعقيدا على مستوى املعىن واملبىن .وأن فك هذه العالقات يقتضي من
الدرس التحليلي أن يسرتفد سائر املعارف اليت أنتجتها العلوم اإلنسانية لفك ألغازه ،حىت تفضي إىل احلقيقة
اليت من أجلها سيق املكان يف الشعر موضوعا ،أو إشارة ،أو رمزا" ، 18وعليه فمن غري املمكن القول مبقاربة
.الشعر بعيدا عن فقه أمكنته والرسوخ يف أتويلها ،ألن املكان عمود الشعر بالمنازع
:اثنيا :فلسفة املكان يف شعر عثمان لوصيف
أحد أندر الشعراء اجلزائريني والعرب املعاصرين الذين عاشوا التجربة الشعرية قبل أن يكتبوها ،والذين
ُ
ضاق هبم الكون الفسيح مبا رحب ،فأعادوا تشكيله شعراي وإهنم فيه ملوسعون ،أولئك الذين سكنتهم األمكنة
إذ سكنوها ،واختذوا منها مواقف فنية وتشكيلية يف نصوصهم املكانية بفلسفتهم ورؤيتهم اخلاصة ،اليت ال
شريك هلم فيها،إنه فقيد الشعرية اجلزائرية املعاصرة ،وأحد أعالمها البارزين يف اتريخ الشعر اجلزائري القدمي
واحلديث ،الذي علمنا" الكتابة ابلنار" حني اليُصغَى لنا ،وحني ينتابنا "شبق اليامسني" يف"أول اجلنون" فنكون
أهال ل"براءة" عشق شعري اندر جدا ،فكان عثمان فعال عالمة شعرية جزائرية مسجلة التقبل التقليد أبدا،
وله يف احلراك الشعري املعاصر "أجبدايت" اليفقهها إال الراسخون يف احللم ،أولئك الشاهدون على" ما"قالت
الوردة" فأقاموا هلا"أعراس امللح"لتخلد "اللؤلؤة" الشعرية اجلزائرية بني أقراهنا العربية شاخمة مشوخ عثمان لوصيف
؛ الذي عاش شاخما شعراي ومات واقفا يف وجه رايح النسيان والتغييب ،فكتب له اخللود؛ وكذلك مير
عظماء التاريخ واحلرف شاخمني وينصرفون ممتلئني حبا وحياة.اتركا من خلفه أماكن تنضح شعرا وفرحا ،ومدان
تتغىن أبشعاره وقد عاش حينا من الشعر والدهر متغنيا هبا ،هو م ّداح املدن حمييها يف زمن راثئها وبكائها يف
أوطان أخرى ،.فأفرد لغرداية القلب والديوان ،وهو العابر الشعري املداح ملدائن كثرية ،فمن بسكرة الس ّكرة إىل
سطيف العروس فباتنة املالذ،إىل وهران احلنون فتيزي وزو التاريخ فورقلة الزهراء والطفلة املدللة ،فمدن أخرى ،
يرحل عثمان وتظل مآذهنا وآذان أهلها صاغية صاغرة لروائعه الشعرية ،هذا هو عثمان قبل دخولنا ممالكه
الشعرية الباذخة من أبواب قرائية متفرقة
.
-1أوجاعُ البحر والصحراء:
الفرد تفاصيل احلياة
فتعمر طويال ،ومل يكن املكا ُن البتّة إطارا وحيزا ميارس فيه ُ
تسكن األمكنةُ الشعراءَ ّ
التفاصيل
َ حبياد ،بل إن الذات البشرية تعيش ذاك احليّ َز بكل ماأوتيت من حس وحياة وذاكرة وحلم ،وتقامسه
وتُسكنه ذاهتا رغبة أو رهبة ،فمن غري املمكن احلديث عن فصل بني ذات املكان وذات اإلنسان أبدا ،ومثلما
يقول األسلوبيون :إن األسلوب هو اإلنسان ،فإننا جنزم أبن املكان هو اإلنسان روحا وجسدا ،ذاكرة وحلما،
حضورا وغيااب " ،واملكان اليتوقف حضوره على املستوى احلسي إمنا يتغلغل عميقا يف الكائن اإلنساين حافرا
مسارات وأخاديد غائرة يف مستوايت الذات املختلفة ليصبح جزءا صميما منها " ،19وإن آمنّا مبوت املؤلف
الناعم وبضموِر السياق لدى مقاربة النص الشعري ،فإننا الننفي أن مقاربة التجربة الشعرية " العثمانية"
ط
موطن الشاعر ومسق ُ
الميكنها أبي حال من األحوال التأويلية أن تتنصل من السياق املكاين ،من حيث ُ
جتاربه الشعرية األوىل(ونقصد الصحراء) ،لذلك آثران مقاربةَ الفضاء األكثر حضورا يف املدونة الشعرية العثمانية
احلضور الصحراوي عفواي عارضا لدى عثمانُ ،وإ ْن بتشكيل وصيغ وأبعاد وصفات خمتلفة ،فلم يكن ذلك
لوصيف ،الذي ارتسمت مالحمُه التعالقية الشعرية مع الصحراء واضحةً عميقة أليمة أليفة قاسية ،فالصحراءُ
"متحفنا الرتاثي األديب حفل منه الشعر اجلاهلي ابخلصوص ابنفتاح كبري وعميق وواع على أمهية الفضاء يف
صياغة الوجود املادي واإلبداعي ،الوعي ابلفضاء كمكان أوال ،مث كعالئق وكذاكرة وكحنني" ، 20ومازال
تحف الشعري بنصوص مكانية كثرية ،أتخذ قيمتهاحيفل به املتحف الشعري املعاصر ،وعثمان ممن أثثوا هذاامل َ
الفنية ابلتقادم ؛ بوصفها حتفا شعرية تكشف عن حسناهتا يوما بعد يوم ،وسنفقه الصحراءَ حني نفهم املكان
واإلنسان والوجود كله من خالل ما امتألت به الصحراء من فراغ رهيب مؤثث ببواعث للحب واحلنني،
كاإلنسان الذي شغل املكان ،واملكان الذي شغل اإلنسان أيضا ،إذ األماكن نسكنها وتسكننا ،وفيها احلياة
كما املوت واالخضرار كما االصفرار واخلصب كما اليباب ،و" هل قدر الصحراء أن تكون موطن النبوات
والعذاابت والتصوف والتجرد واألسرار والنقاء ،الشعر واحلكي" 21فقط ،أم إننا مل ُُنط هبا علما وخربا وحلما
وسرا؟ أم إهنا موطن األحالم واجلمال والتلبس ابحلياة ،ولقد ارتبطت" الصحراء ابلغزو وقطع الطرق فإن
رمزيتها ارتبطت إبحاطتها الواسعة ابلفرد الذي تستلب حريتَه" ، 22لذلك ينزع الشعراء إىل التحرر شعراي يف
كثري من نصوصهم اليت تتخذ من الصحراء أفضية ،ومن مكوانهتا رموزا وبواعث للخروج عن التقاليد الشكلية
التحرر
َ واملوضوعاتية أحياان ،ولنا يف القصيدة احلرة اجلزائرية أمثلة كثرية ،ومنه فإن الصحراء تعين يف ما تعنيه
اخلصب والنماء واملالذ كما صور عثمان لوصيف ذلك ،فأحال َ الفقد الكثري ،وتعين
واالنطالق والتمرد ،و َ
الفضاء الصحراوي املقفر ِ
جنات شعر جتري من حتتها األهنار وحيتمي هبا الطري والبشر بفائض مجال وخمزون َ
أدمع ماطرة23:
وغرسناها فلما أمثرت خاهنا بعد الشباب املطر
وهي ِمن أدمعنا قد حبكت ِ
ومن األدمع ينمو الشجر
نبتت يف الرمل الشيء سوى ٍ
نغم عرب املدى ينحدر
الطُي هبا والبشر
مدت الظل على كل الدان واحتمى ُ
الشاعر احلياة
ُ إهنا الصحراء ال كما هي ،بل كما حيلم الشاعر أن تكون إهنا املوات الذي يبعث فيه
اليباب الذي يزرعه خصبا ومناء ،والطلل الذي حيييه وهو رميم ،إهنا اللحظة الفارقة بني ذاتني؛ ذات
،و ُ
الشاعر اخلصبة وذات املكان احملتضرة ،وفلسفة إحياء املكان شعراي واستدعاء كل أسباب احلياة والبقاء حربا
ودما ودمعا ،لتكون القوةُ الصحراوية الطاردة قوةَ جذب إليها وكانت قبلها قوة جدب منفرة ،إهنا فلسفة
الشعراء األوائل مع الطلل وقد انتبه إليهم حبس أتويلي قرائي رهيب الناقد حبيب مونسي فقال عنهم وأسقط
القول يف النّص الطللي القدمي املتجدد ،الذي يتلبس املعاصرين من حيث
اللبس ،وعلى شعرائنا املعاصرين َ
عنا َ
يدرون وال يدرون ما ضمر منه وما ظهر ،ألن الطلل خالد يف ذاكرة الشعراء "،إنه نص عجيب غريب ،دائم
التحول ! كيف ؟ إن اللحظة املكانية اليت ارتسمت يف قرارة الشاعر ،كانت تعتمد على مجلة من العناصر
املادية املشاهدة ،واليت ما تزال يف رمحة التحول املستمر الذي جتريه الطبيعة على هيئتها من حمو وتثبيت ،كلما
عادت إليها األنواء ،وعدت عليها الرايح ،وتعاقب عليها الشتو واملصيف ..وكل حركة يف هذه الظروف تغري
ما تشاء من سطر ،حموا وإضافة .إن الشاعر يدرك ذلك جيدا ،وال أيمن أن تظل الصحيفة اليت شاهد على
حاهلا ،بل جيزم أهنا ستتغري غدا أو بعد غد ..لذلك كانت صياغته للنص حتمل هذا التحول ،وتشري إليه،
حىت ال ينخدع املتلقي مبا وصف ،وال أيمن بدوره السكون الذي يوحي به املكان ظاهراي" ، 24ومىت سكنت
سر هلا والثبات،
الصحراءُ واؤمتنت على عابريها وساكنيها واملوجوعني هبا ومبن سكنوها فهجروها؟ وهي اليت ال ّ
ذات املزاج الغريب الرهيب ،مقربة كثري من األهواء واألحالم القاسية بشبق انتقامي عتيق كما ورد يف املدونة
الشعرية العربية كثريا ،أليست املقربةَ اليت ح ّدثنا عنها عثمان لوصيف بكل جوامع األمل والكلم ،إهنا احلياة
يتخذ عثمان لوصيف من حوادث الدهر والبحر صورا شعرية معتّقة ،حتيل على الوقفة الطللية اليت
البحر/املكا َن شرعيةَ النصوص األوىل وحق الوقفات اجلاهلية
ظلت ومشا على زند القصيدة املعاصرة ،فيمنح َ
ويبث فيه حرائق الشاعر القدمي أبثر رجعي ،متأمال متأملا وتلك فلسفته مع املكان غالبا ،وتشكلت وقفته
الطللية املعاصرة شعراي ابنفاس سردية موغلة يف التكثيف والصور املتتابعة سردا وامضا وكأ ّن "األليق ابلطلل أن
حيتويه الشعر ،ال أن حتتويه احلكاية ! إن الطلل موضوعة فلسفية يف أساسها األول .وإن كانت مكاان حمددا.
ومن مث كان يف فسحة الشعر جمال للطلل ،ال تقو احلكاية على محله ،ألهنا سرد حمض،27 ".فالغرابة أن
السرد والشعر الذوات اإلنسانية الواقفة
يسرد عثمان لوصيف الوقفة البحرية الطللية شعراي ،فلطاملا تقاسم ُ
ّ
طلليا حبزن الباكية أحبتها وظعائنها حبرقة 28 :
ترجتف
ُ ِ
األلوان يف قاع هذا البح ِر قد سقطت مكسورةَ
والصدف
ُ الذهيب
ُّ والسرخس األمساك يف ٍ
وله ُ هتفو هلا
ُ
ينقذف
ُ واملوج يف الظلماء
ُ ط منذهال ووقفت عند الش ّ
ُ
الشعراء ذوو مقدرة رهيبة على إعادة صياغة الكون شعراي ،فحني توحش هبم أمكنة حياولون ترويضها ،
فإن أبت واستكربت فإهنم يشيدون بروجا غريها ،تبلغ عنا َن اخليال الذي أواهم من أمل وأطعمهم من مسغبة
البحر ابلذات الشاعرة فإهنا حتلّق يف ملكوهتا التخييلي األول البعيد،
احلوادث ،فحني يضيق البَ ُّر/الصحراءُ و ُ
مقتفيةً دروب التبانة الشعرية احلاملة ،فذات الشاعر تضيق ابملساحات ختتنق ابحملدود ،كما فلسفها الشاعر
جدل اخللق ،مستأنسا بفرضياته مستكينا ألوهامه متكئا على
اجلدل القدميَ األولَ ،
عثمان لوصيف يف بعثه َ
حبس صويف مهيب وبرؤى علوية أتملية خالصة تنشدحقائقه السدميية السرمدية قائال حاملا فانيا يف وجود بعيد ّ
اخلالص29:
احلي
وأانامليت ُّ
ُ
كنت أصوغ السدميَ جنوما
فأرسل يف العتمات البدور
ِ
الكون ايدم
َ
اي..ايدمي
العشق انرا ونور
َ أج ِج
ّ
واتل للعاملني كتابَك
ُ
العقول
َ تستفيق
َ كي
صات العدد 02جوان - 2019مجلة علميّة ُمتعددة التخ ُ
ص َ
Academic.studies.aflou@gmail.com
156
ISSN 2676-1521
مجلة دَورية ُدوليّة محُكمّة تصدر عن المركز الجامعي آفلو مجلةُ الدراسات األكاديمية
تبث فيه الروائح واألصوات ،من مههمة ومهس وهدير ..وكل لغط غامض و غريب .وهي يف سعيها ذاك تراعي
– ابتداء -عامال نفسيا مركوزا يف املتلقي الذي متتلئ نفسه فرقا مما يسمع ،ومما يرتسم على وجه "احلاكي " من
هتول الوصف ،وتنفخ فيه األصوات ،وتبث فيه احلركات ، 40".ومن الطرافة الفلسفية أن يتمىن الشاعر تعابري ّ
أصم قاسيا صابرا يهزم كل ماميكن آن ينتابه من أهوال الطبيعة ،وهو ال يريد أن يكون حجرا
كونَه جبال حجراي ّ
صغريا "ماضواي" ليثبت جدارته ابحلياة ،بل يفضل أن يكون جبال شاخما ال يتشقق من خشية اآلخرين ،إ ْذ
تنكسر الريح عند قدميه ،وتتدفق النا ر صاغرة بني أصابعه لتنال من رفات البشر ،فهو كاتب ابلنار معانق هلا
معذب هلا ميتطيها ليبعث وينبعث يف رفات الكون مجيعا41:
جبل ليتن جبل من حجر
تعصف الريح لكنها حتت أقدامه تنكسر
ليتن عاصف أو مطر
ليتن ليتن كيمياء
انر السماء
تتسلق َ
مث هتبط كالصاعقة
يف رفات البشر
جبل ليتن جبل من حجر
ـح املدن ؛ أنساقا وسياقات:
-3مدي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُ
انلت املدينةُ حظا وافرا من احلضور يف األدب العريب منذ القدمي ،بوصفها مكاان غنيا ابألحداث ومبا
خيل النص الشعري القدمي وال املعاصر من استحضار املدينة أيضا ،فمنذ مينحه للنص من مناورات أدبية ،ومل ُ
قسم من الشعر العريب
الشعر اجلاهلي إىل شعران املعاصر واملدن حمظوظة هبذا االستحضار ،حىت إنه ُوسم ٌ
بشعر املدينة أو راثء املدن واملماليك يف طبعته األندلسية ،فكثريا ما تغىن الشعراء ابملدن املشيدة و التليدة
ات وذكرايت وأحالم ،وما املدن سوى خمزون لتفاصيل ساكنيها والساقطة تباعا كذلك ،ففي املدن حيو ٌ
ومصب حنينهم أيضا ،ولقد عُرف عثمان لوصيف بنصوصه' ُّ ات أهوائهم وعواطفهم
وعابريها وهي م ّدخر ُ
املدنية' كثريا وهو يكتب عن عديدها ،تلك اليت زارها أو وقف أو استوقف هبا غريه ،منها اجلزائرية كبسكرة
وسطيف وابتنة ومنها العربية كفلسطني مبدهنا أو مصر بنِيلها ،لذا وددان أن نتوقف عند هذا العشق'املدين' عند
عثمان لوصيف الستجالء مقارابته املدنية وفقهه يف ذلك ،ومن هذه النصوص اليت ذكرت املد َن أبمسائها قوله
عن سطيف42:
آه اي ورقله
أما مدينة تيزي وزو فيستحضرها واترخيَها وأصالتها بصوامعها وزواايها وقرآهنا وعراقتها ومآذهنا ،وعزهتا
األبدية ولو كره الكارهون ،وبكل أنساقها الظاهرة واملضمرة ،ومب ّدخراهتا الصوفية وممنوحاهتا الفكرية اليت حتسسنا
سول له قبحه أن يرمي مدينته بسوء وتفسخ ،فكل مافيها عال وشامخ أبنه شاعر عارف يرد على كل من ّ
ومدعاة لكل تواق إىل الزهاد املتصوفني عشاق اجلمال الروحي اخلالد49:
تيزي وزو
قمم تتشامخ عاليه
متعاليه
قرآن يتلى
ومآذن تتصادى
يف اآلفاق وتعتز
وأان املتصوف فيك
الغارق فيك
أاناملوقظ رحيك
املستنفر روحك
وأان اللغز اللغز
أتنسن املكان و تشيُّؤ اإلنسان:
ُ -4
املدوانت الشعرية ملختلف
ُ حس اغرتايب كبري ،عكسته
الشعر العريب -كما اجلزائري -من ّ
ال خيلو ُ
ومن مينحهم األمان و احلميمية وميأل
األجيال واالجتاهات ؛ وليس أقرب لدى الشعراء من أن يلوذوا مبا َ
اح هؤالء فدنوا منها كما الطبيعة واستأنسوا
الوطن املفقود ،ولقد وسعت األمكنةُ أرو َ
احهم الشاغرةَ الشاعرةَ َ أرو َ
وسلموها أنفسهم وديعني ودخلوا تفاصيلها آمنني ،ومن مثّ ميكننا أن نتحدث عن أتنسن األمكنة وما بث فيها
الشعراءُ من أرواحهم ومن قيم اإلنسانية السمحاء ،يف زمن خلت أصناف بشرية كثرية من هذه العواطف
النبيلة واألهواء الراقية فتشيأ اإلنسان ،وبني َأتنسن الطبيعة واألمكنة واألشياء وبني تشيُؤ اإلنسان ،تنسج كثري
من مقوالت الذات ،ويتغري كثري من مفاهيم األان واآلخر ،ولعل الشعراء األكثر حسا واغرتااب وانكسارا نتيجة
هذا االنقالب القيمي األهوائي اإلنساين ،وحني نتتبع املدونة الشعرية"العثمانية" نستشعر تلك الفلسفةَ املكانية
صات العدد 02جوان - 2019مجلة علميّة ُمتعددة التخ ُ
ص َ
Academic.studies.aflou@gmail.com
163
ISSN 2676-1521
مجلة دَورية ُدوليّة محُكمّة تصدر عن المركز الجامعي آفلو مجلةُ الدراسات األكاديمية
-15ايسني النصري الرواية واملكان ،دار نينوى للطباعة والنشر والتوزيع ،سورية ،الطبعة الثانية ، 2010 ،ص.15
-16حبيب مونسي :فلسفة املكان يف الشعرالعريب ،قراءة موضوعاتية مجالية،منشورات احتاد الكتاب العرب ،دمشق
،2001ص07
-17حبيب مونسي :املرجع نفسه،ص08
-18حبيب مونسي :املرجع نفسه ،ص129
"19غاستون ابشالر :املرجع السابق ص49
.20حسن جنمي :املرجع السابق ،ص32
-21فيصل حصيد :الصحراء يف الكتابة السردية عند بوطاجني ،أعمال امللتقى الوطين الثالث للكتابة السردية،2014 ،
ص.32
-22عبد احلميد حمادين ،جدلية املكان والزمان واإلنسان يف الرواية اخلليجية احلديثة ،املؤسسة العربية للدراسات والنشر،
البحرين ،2001 ،ص65
-23عثمان لوصيف :شبق اليامسني ،املؤسسة الوطنية للكتاب -اجلزائر ،1986 ،ص64
-24حبيب مونسي :املرجع السابق ،ص26
-25عثمان لوصيف :طولقة ،دار هومة ،ط 1997 ،1ص54
- 26عثمان لوصيف :اإلرهاصات ،دار هومة ،ط ،1،1997ص61
27حبيب مونسي :املرجع السابق ،ص49
-28عثمان لوصيف :منش وهديل ،دار هومة ن اجلزائر ،1997ص58
-29عثمان لوصيف:قالت الوردة،دار هومة،2000،ص11
-30حبيب مونسي :املرجع السابق ،ص 79
-31عثمان لوصيف :منش وهديل ص58
-32غاستون ابشالر:املرجع السابق ص38
-33حييىى اجلبوري :احلنني والغربة يف الشعر العريب احلديث،دار جمدالوي للنشر والتوزيع،ط2008 ،1ص67
-34عثمان لوصيف :أعراس امللح ،املؤسسة الوطنية للكتاب،اجلزائر 1988،ص34-33
-35حسني خالد حسني :شعرية املكان يف الرواية اجلديدة،مؤسسة اليمامة الصحفية ن الرايض ،ص76
-36عثمان لوصيف :أعراس امللح ،ص37
-37عثمان لوصيف :املصدر نفسه ،ص79
-38حبيب مونسي :املرجع السابق ،ص .115
-39عثمان لوصيف:لؤلؤة،دار هومة ،ط ،1،1997ص71
-40حبيب مونسي :املرجع السابق ص67
-41عثمان لوصيف:براءة ،دار هومة،ط،1،1997ص40