Professional Documents
Culture Documents
الجمل عالقات)) ،فيكون النص شبكة متراصفة األجزاء ،ومتناسقة األبعاد الداللية ّ ،
فكل كلمة وكل جملة تتشاكل وتتعالق مع سابقتها ()12
والحقتها ،فالسبك هو (( مجموع اإلمكانيات المتاحة في اللغة لجعل أجزاء النص متماسكاً بعضها ببعض ))( .)13فهو خاصية نحوية داللية
للخطاب يقوم على بناء العالقات بين جملة وأخرى ،وينشأ غالباً من األدوات التي تظهر بشكل مباشر في النص كأحرف العطف والوصل
وأسماء اإلشارة وغيرها ,والتي لها أثرها في إحداث ترابط وتآلف بين الجمل على المستوى السطحي والعميق ،بل تجعل النص كتل ًة و ً
احدة ()14
أجزائه ،وسنقف على الوسائل التي استثمرها الشاعر في بناء قصيدته وتواشج أجزائها.
فكل جملة يتحقق وجودها التفاعلي والداللي بتماسكها
إن النص – كما ّبينا – وحدة لغوية تواصلية تنماز باالستم اررية الداللية ّ ،
ّأوالً :اإلحالة ّ :
مع الجمل األُخرى ،فالنص ذو طبيعية أفقية ُيعنى بالتتابع الجملي ،ومن أهم الخيوط التي تسهم في البناء العالئقي داخل النص هي اإلحالة
،والتي يمكن القول َّإنها :عالقة (( بين العبارات من جهة وبين األشياء والمواقف في العالم الخارجي الذي تشير إليه العبارات ))( ، )22فهي
بإحالة إلى عناصر مما يجعلها (( فعل تداولي تعاوني بين متكّلم ومخاطب في بنية تواصلية معينة ))
()23
تُحدث ترابط داخل النص وخارجه ّ ،
لغوية ذات داللة نصية أو مقامية ،وهذا التكوين العالئقي يخضع لوجوب التطابق الداللي بين العنصر المحيل والمحال إليه( ، )24واإلحالة
تقسم على قسمين :
-إحالة نصية (داخل النص) :وتقسم على نوعين :إحالة قبلية (( :وهي تعود على مفسر سبق التلفظ ،وهي أكثر األنواع دوراناً في الكالم
...وبعدية :وهي تعود على عنصر إشاري مذكور بعدها في النص والحق عليها ))(.)25
-إحالة مقامية (خارج النص) :وهي (( :إحالة عنصر لغوي إحالي إلى عنصر إشاري غير لغوي موجود في المقام الخارجي ))(.)26
والعنصر اإلحالي الظاهر في النص يكون ضمي اًر ،أو اسم إشارة ،أو أداة من أدوات المقارنة( ،)27وقد و ّ
ظف الشاعر هذه العناصر
: ()28
اإلحالية في ميمية في مواطن منها قوله في مطلع القصيدة
ــــق َّ
الد ُم قول ِّ
الش ْع ُــر ِإ ْن َن َ ِ ِ ِ
ط َ َما َذا َي ُ كلــــم
ـــاك َعلى َفمي َت َت ُ هذي د َم َ
الض ِ
عيف ُي َح ّك ُم هر َّ ظ ِ السوطُ ِفي َ
و َّ الي ِد َرَّنــــ ٌة ِ
ولألصفاد في َ
ْ فت
َه َت ْ
ابتدأ زلزلة قصيدته بزلزلة متلقيها صورياً وصوتياً وحسياً ،بتراكم اإلحاالت وتجاورها إذ افتتح صدر بيته األول بإحالة بعدية عبر ذكر
العنصر اإلحالي (هذي) الذي ُيحيل إلى العنصر اإلشاري (الدماء) ،مجاو اًر لها إحالة مقامية في (دماك) بذكر العنصر اإلحالي (كاف
ظة باإليحاءات الداللية امتزجت مع طرح
) ،فهذه االفتتاحية المكت ّ المحيل إلى عنصر إشاري خارج النص وهو الحسين ( الخطاب) ُ
معادلة ثنائية الطرفين ،عن عنصرين نقيضين هما (الدم) و(الشعر) بوساطة صورة الدماء المشحونة باآلالم واألحزان والحماس عبر االستعارة
إن اختيار الشاعر للفظة الدم اختيار عبقري ،فالدم
توهجها هذا إسكات للشعر .و َّ
توهج الدماء المتكّلمة على فم الشاعر ،وفي ّ
المكنية في ّ
تنفك من قيود التعبير التي تحكم اللغة والشعر إلى فضاء واصف مليء بدالالت الحرب والثورة وجدلية االنتصار أو
يرمز إلى أبعاد معنوية ّ
المتفجرة بشخص لم ُيذكر في النص ،بل اكتفى الشاعر بذكر رمزية الدماء للداللة عليه ،فضالً عن أنه
ّ االستشهاد ،وارتبطت هذه الدالالت
ابتدأ بطرح اإلجابة في صدر البيت ثم جاء السؤال متأخ اًر في العجز بطريقة إدهاشية مثيرة ؛ من أجل ايقاظ صورة الدم المنفلتة من القيود
تقدم الجواب (هذي دماك على فمي تتكلم) على السؤال (ماذا يقول الشعر إن نطق الدم)الواقعية ،فهي قلبت موازين السؤال والجواب إلى ّ
ضدت صورة الدموع ّ
وتفوقها بكل ما تحويه لغة الدم من تعبيرات مؤلمة وحارة على لغة الشعر؛ فتشابكت وتعالقت بإحالتين قبلية ومقامية ُ ،
أكثر باالستعارة المكنية األخرى في البيت الثاني بجعل الدماء تهتف وتصدح بصوت الحق دفاعاً عن المظلوميةّ ,
وعج البيت بصور صوتية
من رنين السالسل واألصفاد والضرب بالسوط ،التي تتواشج مع صورة الدماء الهاتفة.
: ()29
ومن أشكال اإلحالة التي وردت في القصيدة قوله
عــــــــــــــم؟ غصن ،ويخنق بر يذوي بها حــــــــرُم ِ
ُ ٌ ما للعطاشـــى من ُفرات َك ُت َ
ــــــــــــــــــــــــم؟
ُ اك فـي َخيرِاتهـــــــا َي َتَن ّع
وســو َ ربوعهــا نيك ُ
يـــك وفي َب َ ضيق ِف َ
أَ َت ُ
غنــــــــــــــــــــــــــــــم؟ وم شاع َ ِ مـــاء ال ُفــــر ِ
صد عن ِ أَ ُت ُّ
ُ للدخيل َ هب ُم َُن ٌ رد ُه
ات َو َو ُ
في َ ِ رد عنه ،ومن ب ِ
ويــرزم؟
ُ غمام
الجدب ،يس َتسقى ال ُ نان َك طالمـــــــا َ أ ُت ُّ ُ
المتخمرة في طياته ،فالنص هنا ينفتح
ّ إن للنص إمكانية تعبيرية تُثمر على فتح باب التأويل للمتلقي ؛ لسبر غوره واكتشاف الدالالت ّ
على طرح جدلية الصراع بين الحق والباطل –الظلم ، -ووّلد السبك السطحي فيه دالالت عميقة الغايات والمطالب بتزاحم اإلحاالت النصية
حمالً بإحالة مقامية عبر (كاف الخطاب) ،الدالة على
المكثّفة المعاني ،فابتدأ باستفهام عن العطاشى المحرومين من الفرات الذي جاء ُم ّ
وحدته ؛ التخاذ موقف صارم بوعي شعوري يستوعب الحالة الشعورية والتأملية التي يعيشها النص ،فجاء ُم ّ
حمالً ،والقسم يرتبط بقوة الخطاب ّ
) عطشاً -واآلفاق الجمالية تنمو برؤية ديناميكية تفترش دالالت من قسم الشاعر بماء الفرات -وهو الماء الذي ُحرم منه الحسين (
بشكل أكبر عن طريق مغامرة المفارقة في رسم معالم الصورة المتش ّكلة بين النقيضين (الشهد السائغ عند الطامعين) و(العلقم في شفاه الحسين
)) ،وبذلك ترّبع معنى العتاب في سبك النص جمالياً بوساطة الحذف الذي خلق لغة فاضت بالخيال والجمال ،فـ((النص ليس مجرد (
سلسلة من الجمل؛ بمعنى أنه ليس وحدة نحوية أكبر من الجملة مختلفة عنها في الحجم فقط ،و ّإنما هو وحدة من نوع مختلف ،وحدة داللية
،تلك الوحدة هي وحدة المعني في السياق ))( ،)38لذا جاء الحذف سابكاً للنص متآز اًر مع المفارقة ،باثاً المعنى بتعبير جمالي متشاكل.
ثالثاً :الوصل (الربط)
هو من وسائل السبك النحوي الذي يربط أجزاء الكالم بعضها ببعض مكوناً ّ
نصاً متالحماً داللياً ،فالنص (( عبارة عن أو متتاليات
متعاقبة خطياً ،ولكي تدرك كوحدة متماسكة تحتاج إلى عناصر رابطة متنوعة تصل بين أجزاء النص))( ,)39وتختلف هذه اإلجرائية عن
إجراءات السبك األُخرى ،فهي ال تتمثل بعالئقية إحالة عنصر إلى آخر ،سابق أو الحق ،فتلك اإلجراءات تحفظ بقاء مساحات المعلومات
نصاً متواصل
،لكن الوصل أو الربط يتمثل في العالقات التي بين المساحات أو بين األشياء في تلك المساحات ,وتلك العالئقية توّلد ّ
()40
ال داللة بحضور أدوات الربط ،فالوصل (( عبارة عن وسائل متنوعة تسمح باإلشارة إلى مجموعة المتواليات السطحية بعضها ببعض ))(،)41
النصية ،فتثمر هذه األدوات عن نشأة أنواع مختلفة من العالقات الداللية الصريحة
ويظهر بوساطة استعمال أدوات ربط مختلفة في البنية ّ
وصنفت في علم لغة النص األدوات الرابطة له على أربعة عناصر :اإلضافي ،واالستدراكي ،والزمني ,والسببي( ،)42ووظف
والضمنية ُ ،
زلزلة وسائل الربط في قصيدته بوصفها وسائل تضفي تعالقاً داللي ذا أثر مفعم بالجمال ،في قوله(:)43
ِ
فتنســـــــــــــــــــم
ُ داك
ؤرجهــــا َن َ يح ُ ،ي ِّر ٌ قت بها ط َف ْ اص َ
للصحــــراء َف ْ أسريت َّ
َ
ـــــــــــــمظــــــــر ت َتن ّ ِ فِإ َذا ِّ
ُ خور َجواه ٌ الص ُ َوِإ َذا ّ ــــــــر
َحم ُ تبــــر أ َ الحمـــر ٌ
ُ مال
الر ُ
ــــم ِ ِ
الجناح َعلى الرحال َوَتجث ُ َ ُتلقي طيــورَها َمذعـــــــــــورًة ُ إليـك
َهر َع ْـت َ
يــــــــــدها وُتسلِــــــــ ُم كفـــــــــك ِج ُت ِ
ثني لِ عوبــــــــــــــــــــ ًة
َ َ امهــــــــــــا َمر َ
فتت آر ُوَتَل ْ
الدخيل ُي ِّ
حـــــو ُم؟ ِ ق ِحمى الموت فو َ و ُ ماك دخيلـــــــــــ ًة َعجباً أتأمن في ِح َ
يأخذنا الشاعر في هذا النص إلى فضاء الطبيعة ومشاهدها المثيرة ،وينقل لنا لقطات سابحة في فضاء النص عبر لغة زئبقية استم اررية
) التي وّلدها العطف اإلضافي بربط الجمل وصورها ربطاً جمالياً ،يسافر بالمتلقي عبر الزمن ؛ ليعيش لحظة وصول ركب الحسين (
قت بها ِر ٌ
يح طَف ْ
اص َ
خالقة من ربط جملة (أسريت في الصحراء) بجملة (َف ْ
إلى كربالء ،ويأتي الوصل أو العطف خالقاً جواً مناسباً لشعرية ّ
داك فتنس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُـم) بأداة الربط (الفاء) ،وربط جمل البيت الثالث (هرعت إليك طيورها مذعورة تلقب الجناح على الرحال ويختم) بجمل
ؤرجهـ ــا َن َ
ُي ّ
البيت الرابع (وتلفتت آرامها مرعوبة) ،وأخي اًر بربط صدر البيت األخير (عجباً أتأمن في حماك دخيلة) بجملة العجز (والموت فوق حمى الدخيل
يحوم) بحرف الواو الرابط ،وبذلك تم ّكن الشاعر من بعث دينامية في النص ،وإمداده باستم اررية متدّفقة بوساطة الربط الداللي الجوهري
ٍ
كل واحد ))( ،)44لذا ارتبط
المسترسل ،فالنص(( نسج من الكلمات يترابط بعضها ببعض ،وهذه الخيوط تجمع عناصره المختلفة والمتباعدة في ّ
صوره الشاعر برياح متداركة قالعة ،تُنث رائحتها الزكية في أرجاء الصحراء
الفواح ،والذي ّ
) في الصحراء باتشار عطره ّ سير اإلمام (
التكرار الفعلي للعبارات ،ويمكن للعناصر المعادة أن تكون هي نفسها ،أو مختلفة اإلحالة ،أو متراكبة اإلحالة ،ويختلف مدى المحتوى
مناح بالغية
المفهومي الذي يمكن أن تنشطه هذه اإلحاالت بحسب هذا التنوع))( ،)52ولم يغفل علماء البالغة عن آلية التكرار ،لما فيها من ٍ
وجمالية ،إذ أفرد ابن قتيبة (ت276ه) له باباً أسماه (باب تكرار الكالم والزيادة فيه) ,معالجاً المصطلح عبر األمثلة القرآنية والشعرية(،)53
وعده أبو هالل العسكري (ت395ه) آلية من آليات اإلطناب في الكالم( ،)54وجعله ابن رشيق (ت456ه) معيا اًر لتمييز جيد الشعر من ّ
وحده ابن األثير (ت637ه) قائالً (( :هو داللة
وتحدث عن قسم من األبعاد الداللية له ّ ،
()55
ّ رديئه ،في باب منفرد عنوانه (باب التكرار) ،
اللفظ على المعنى َّ
مردداً))( ، )56فالمدونة العربية التراثية اهتمت بالتكرار وآثاره التي يفرزها في النص ،من أبعاد صوتية وداللية .فكان لهذه
يعج بالصخب ،والصوت المتعالي الذي ُيشعر القارئ بما تحمله تلك الدماء من قداسة ،وثورة ّ ،
قوة ،وباستعمال مظهر التكرار خلق الشاعر ّ
جواً متوت اًر وصاخباً مولعاً بالدهشة ؛ ليؤسس ضجيجاً يوازي وقع المعركة في ذهن متلقي النص ،باستثمار أقصى طاقات الخزانة اللغوية عبر
النسق التماسكي ،فـ((المتأمل للغة يراها صورة من نظام متشابك تتوقف صالحية هذا النظام على تكافل أركانه ؛ للوصول إلى كيفية تفيد
المتلقي ،حيث تتكافل األنظمة الداخلية مع األنظمة الخارجية؛ للوصل إلى صورة ترتبط فيها المفاهيم ،وتتعالق األجزاء ،وتتواصل الداللة
في تفاعل ومنطقية ))(.)61
ثانياً :المصاحبات المعجمية (التضام)
إن الوسائل التي تُ ِ
حدث تعالقاً داللياً تُسهم في سبك النص ،وتتظافر فيما بينها حتى تجعل النص بنية من شبكة ترابطية من الدالالت ّ
،ويعد التضام أحد الوسائل السبك المعجمي التي تعطي النص ترابطاً وتماسكاً على المستوى المعجمي ،إذ يقوم على (( توارد زوج من
الكلمات بالفعل ،أو القوة نظ اًر الرتباطها بحكم هذه العالقة أو تلك))( ،)62وتلك العالقات باتت مفهومة ومعروفة عند مستعملي اللغة ،وباإلمكان
توّقع المفردات في النص نتيجة وجود تعالق داللي لمفردات أُخر ،إذ يعمل التضام (( على استم اررية المعنى عبر وجود مجموعة من الكلمات
))1ينظر :معجم األدباء من العصر الجاهلي حتى سنة 2002م .328 / 3 :
))2ينظر :شعراء العراق في القرن العشرين . 378 -377 / 1 :
))3ينظر :القصائد الخالدات .139 :
))4كتاب العين :مادة (سبك).
))5معجم مقاييس اللغة .129/3 :
) (6البيان والتبيين .67 / 1 :
) (7كتاب الصناعتين . 14 :
) (8بديع القرآن .166 / 2 :
))9مدخل إلى علم النص ومجاالت تطبيقه .59 :
))10ينظر :علم النص مدخل متداخل االختصاصات .275 :
))11النص والخطاب واإلجراء .103 :