You are on page 1of 79

‫البنــاء األسلـوبي‬ ‫الفصــل األول‬

‫‪ -1‬أساليـب البنـــاء‬
‫أ‪ -‬األسلـوب في التراث العربي‬
‫طالما دارت كلمة (األسلوب) في كتابات النقاد ودارسي األدب في تنظيرهم وتطبيقاتهم على‬
‫النصوص‪ ،‬ورددها البالغيون المحدثون في أطروحاتهم البالغية الجديدة ورؤاهم المعاصرة؛ له‪//‬ذا‬
‫رغبت في إلقاء الضوء على هذا المصطلح باالعتماد على أراء القدماء والمحدثين مًع ا‪.‬‬
‫‪/‬يرون‪،‬‬ ‫لقد نال األسلوب حًظ ا وافًر ا من الدراسة في التراث العربي وتحدث عنه علم‪/‬‬
‫‪/‬اء كث‪/‬‬
‫فكان يعني عندهم "الكيفية التي يشكل بها المتكلم كالمه سواء كان شعرا أو نثرا"(‪ ،)1‬فاألسلوب مرتبط‬
‫بالدراسة األدبية والنقدية التي لها عالقة بالخطاب وكيفية ترتيبه وصوغه ونظمه‪.‬‬
‫فهو كلمة اشتقت في اللغات األوربية المعروفة‪ ،‬من األصل الالتيني"‪ ،"stilus‬الذي يعني‬
‫أو "المنقاش" للحفر والكتابة (‪ ،)3‬وهو في كل حال من األحوال يعني (ريشة)‪ ،‬ثم انتقل‬ ‫(‪) 2‬‬
‫"اإلزميل"‬
‫عن طريق المجاز ُم تخذًا مفاهيم متعددة تدُّل في الغالب على صناعة الكتابة‪ ،‬فقد كان في بداية أمره‬
‫مرتبطا بالكتابة اليدوية داال على المخطوطات ليصبح بعد أن عرفت المجتمعات تحوالت حضارية‬
‫يطلق على التعبيرات اللغوية األدبية أَّيام خطيبهم الشهير‪ :‬الروماني"شيشرون"(‪.)4‬‬
‫أَّم ا في اللغة العربية فقد توسع المصطلح في االستعماالت المجازية‪ ،‬ف‪َّ /‬‬
‫‪/‬دل على الطري‪//‬ق‬
‫الممتد‪ ،‬يقال‪َ" :‬س َلَبُه َثْو َبُه ‪ ،‬وهو َس ليٌب ‪َ ،‬و َأَخ َذ َس لب القتيل وأْس الب الَقتلى‪ ،‬وَلبْس ُت الثكلى السالب وهو‬
‫‪/‬يب َع ام‪َ ،‬و َس َلْك ُت‬ ‫الَح داد‪ ،‬وَتَس لبت وَس َلْبًت على َم يتها َفهَي مسلب‪ ،‬واإلْح َداُد َع لى الَز وج‪ ،‬والتس‪/‬‬
‫ُأْس ُلوَب ُفالن‪َ :‬ط ريَقَتُه َو َك الَم ُه َع لى َأَس اليَب َح َس َنة‪َ ،‬و مَن الَمَج از‪َ :‬س َلَبُه ُفَؤاَدُه َو َع ْقَلُه َو اْس َتَلَبُه ‪َ ،‬و ُه َو‬
‫وٌق‬ ‫ُمْس َتلُب الَع ْق ل‪َ ،‬و َش َج َر ٌة َس ليٌب ‪َ :‬أَخ َذ َوَر َقَه ا َو َثْمَر َها‪َ ،‬و َش َج ٌر َس لب‪َ ،‬و َناَقٌة َس ُلوٌب ‪َ :‬أَخ َذ َو َلَدَه ا‪َ ،‬و ُن‬
‫َس الئٌب ‪َ ،‬و ُيَقاُل للُم َتَك بر‪َ :‬أْنفه في ُأْس ُلوب إذا َلْم َيْلَتفت ُيْم َنًة َو ال ُيْس َر ًة " (‪.)5‬‬
‫ُأ‬
‫واألسلوب الَّس ْط ر من النخيل‪ ،‬وهو " الطريق‪ ،‬والوجُه ‪ ،‬والَم ْذ َه ُب ؛ ُيَق اُل ‪َ :‬أنتم في ْس ُلوِب‬
‫ُس وٍء‪ ،‬وُيجَم ُع َأساِليَب ‪ ،‬واُألْس ُلوُب ‪ :‬الطريُق تْأخذ فيه‪ ،‬واُألْس لوُب بالضم‪ :‬الَفُّن ؛ ُيَقاُل ‪َ :‬أَخ ذ فالٌن في‬
‫‪ 1‬محمد عبد المطلب‪ ،‬البالغة واألسلوبية ‪ -‬دراسة أدبية ‪ ،-‬الهيئة المصرية العامة للكتاب ‪1984‬م‪ ،‬ص‪.13‬‬
‫‪ 2‬اِإلْز ِميٌل ‪ :‬شديد اَألكل‪ ،‬شبه بالَّش ْف رة‪ ،‬واِإلْز ِميل‪ :‬حديدة كالهالل تجعل في طرف ُر مح لصيد بقر الوحش‪ ،‬وقيل‪ :‬اِإلْز ِميل‬
‫الِم ْط َر قة‪ ،‬وَر ُج ٌل ِإْز ِميٌل ‪ :‬شديد؛ قال‪ :‬وال ِبُغ ّس َع ِنيد الُفْح ِش ِإْز ِميل‪ ،‬وَأخذ الشيء بَز َم لته وَأْز َم له وَأْز ُم له وَأْز َم لته َأي بَأثاثه‪،‬‬
‫وَتَر ك َز َم لة وَأْز َم لة وَأْز َم ًال َأي عياًال‪ ،‬ابن منظور‪ ،‬لسان العرب‪ ،‬دار صادر بيروت للطباعة والنشر (د‪.‬ت)‪( ،‬مادة زمل)‪.‬‬
‫‪ 3‬عدنان بن ذريل‪ ،‬النص واألسلوبية بين النظرية والتطبيق ‪-‬دراسة‪ ،-‬منشورات اتحاد الكتاب العرب‪ ،2000‬ص‪.43‬‬
‫األسلوب بوجه عام طريقة اإلنسان في التعبير عن نفسه كتابة‪ ،‬وهذا هو المعنى المشتق من األصل الالتيني للكلمة األجنبية‬
‫(‪ )stylo‬الذي يَعني القلم‪ ،‬مجدي وهبه‪ ،‬معجم مصطلحات األدب‪ ،‬مكتبة لبنان‪ ،‬بيروت‪ ،‬ص ‪.542‬‬
‫‪ 4‬صالح فضل‪ ،‬علم األسلوب – مبادئه وإجراءاته – ‪ ،‬منشورات دار اآلفاق الجديدة‪ ،‬بيروت (ب‪.‬د)‪ ،‬ص ‪.72‬‬
‫‪ 5‬الزمخشري‪ ،‬أساس البالغة‪ ،‬دار الكتب المصرية القاهرة ‪ ،1953‬مادة (سلب)‪.‬‬
‫‪2‬‬
‫البنــاء األسلـوبي‬ ‫الفصــل األول‬

‫َأساِليَب من القول َأي َأفاِنيَن منه "(‪.)1‬‬


‫هذه المعاني التي وردت عند القدماء قسمان‪ :‬قسم ِح ِّس ي يمثل الوضع األسبق للفظ كس‪//‬طر‬
‫النخيل‪ ،‬وقسم معنوي‪ :‬هو الخطوة الثانية في الوضع اللغوي‪ ،‬حيث تنقل الكلمات من معانيها الحسَّية‬
‫إلى هذه المعاني األدبية والنفسية‪ ،‬وذلك هو الفن من القول‪ ،‬أو المذهب في بعض األحي‪//‬ان‪ ،‬ومن‪//‬ه‬
‫يمكن تبين أمرين هما‪:‬‬
‫األول‪ :‬البعد المادي الذي يمكن أن نلمسه في تحدي‪/‬د مفه‪/‬وم الكلم‪/‬ة من حيث ارتبطت في‬
‫مدلولها بمعنى الطريق الممتد‪ ،‬أو السطر من النخيل‪ ،‬ومن حيث ارتباطها أحياًنا بالنواحي الش‪//‬كلية‬
‫كعدم االلتفات يمنة أو يسرة‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬البعد الفني الذي يتمثل في ربطها بأساليب القول وأفانينه‪ ،‬كما نقول‪ :‬سلكت أس‪//‬لوب‬
‫فالن‪ :‬طريقته وكالمه على أساليب حسنة‪.‬‬
‫‪/‬ه من‬
‫‪/‬ول في ذهن‪/‬‬
‫عما يج‪/‬‬
‫ومن هنا يكون األسلوب الطريقة التي يسلكها األديب للتعبير َّ‬
‫أفكار ومعان‪ ،‬وما يختلج في قلبه من مشاعر وأحاسيس‪ ،‬وهو مجموعة من األلفاظ‪ ،‬يأتي به‪//‬ا‬
‫الكاتب في نظام معين أو نسق يصطفيه لما يجد فيه من الجمال‪ ،‬وعناصر البه‪//‬اء والرون‪//‬ق‪،‬‬
‫ولغتنا العربية فائقة القدرة‪ ،‬تزخر بثروة مفرداتية هائلة‪ُ ،‬تَم كن األديب أن يختار من مفرداتها ما‬
‫يشاء‪ ،‬وينظمها بالطريقة التي يريد ليعبر عن أدق المعاني وأصدق المشاعر‪.‬‬
‫‪/‬تي‬
‫‪/‬ة ال‪/‬‬
‫‪/‬ة الكالمي‪/‬‬
‫أن األسلوب هو الطريق‪/‬‬
‫وقد تواضع المتأدبون وعلماء العربية على َّ‬
‫‪/‬ه المتكلم‬
‫يسلكها المتكلم في تأليف كالمه‪ ،‬واختيار ألفاظه‪ ،‬أو هو المذهب الكالمي الذي انفرد ب‪/‬‬
‫فنه الذي انفرد ب‪/‬ه المتكلم ك‪/‬ذلك‬
‫في تأدية معانيه‪ ،‬ومقاصده من كالمه‪ ،‬أو هو طابع الكالم أو ِّ‬
‫(‪. ) 2‬‬
‫ولعل المعنى االصطالحي النقدي لكلمة أسلوب لم يبعد كثيًر ا عن المعنى اللغوي‪ ،‬فه‪//‬و‬
‫َّ‬
‫‪/‬يزة عن‬
‫‪/‬ة المتم‪/‬‬
‫‪/‬يته األدبي‪/‬‬
‫"طريقة يستعملها الكاتب في التعبير عن موقفه‪ ،‬واإلبانة عن شخص‪/‬‬
‫‪/‬ف من‬
‫سواها السيما في اختيار المفردات‪ ،‬وصياغة العبارات‪ ،‬والتشابيه واإليقاع"(‪ ،)3‬وهو يختل‪/‬‬
‫كاتب إلى آخر‪ ،‬ومن فن إلى آخر‪ ،‬ومن عصر إلى آخر‪.‬‬

‫‪ 1‬ابن منظور‪ ،‬لسان العرب‪( ،‬مادة سلب)‪.‬‬


‫‪ 2‬محمد عبد المطلب‪ ،‬البالغة واألسلوبية ‪ -‬دراسة أدبية ‪ ،-‬ص‪.13‬‬
‫‪ 3‬جبور عبد النور‪ ،‬المعجم األدبي‪ ،‬دار العلم للماليين‪ ،‬ط‪ ،1‬بيروت ‪1979‬م‪ ،‬ص‪.20‬‬
‫‪3‬‬
‫البنــاء األسلـوبي‬ ‫الفصــل األول‬

‫‪/‬ام أداة‬
‫‪/‬ار‪ ،‬وانتظ‪/‬‬
‫‪/‬ق األفك‪/‬‬
‫فاألسلوب في األدب هو طريقة الكتابة التي تشتمل على نس‪/‬‬
‫التعبير ألفاًظ ا وُج مال‪ ،‬فقرات وصور بيانية‪ ،‬وما إلى ذلك من عناصر الكالم‪ ،‬وبنائية ال‪//‬تركيب‬
‫واإلنشاء‪.‬‬
‫واألسلوب الذي تنوعت تعريفاته في طبيعة الحال هو نتاٌج تعبيرٌّي ‪ ،‬ألَّنه الوعاء ال‪//‬ذي‬
‫يفرغ فيه العمل األدبي‪ ،‬فليس األسلوب هو القصيدة أو المسرحية أو القصة أو الرواي‪//‬ة‪ ،‬ب‪//‬ل‬
‫الطريقة والمنوال الذي تجري فيه هذه األجناس األدبية‪ ،‬والمالحظ أَّن األفكار التي تحِّلله تنطلق‬
‫من معنى الفردية في مقابل معنى العمومية‪ ،‬والمقصود بالفردية أَّن األسلوب هو اإلنسان ذات‪/‬‬
‫‪/‬ه‪،‬‬
‫ولذلك كانت العالقة بين األسلوب وعلم اللغة متواشجًة ‪ ،‬وسبب تبُّدل األفكار حول األسلوب عائٌد‬
‫إلى االرتباط بين اللغة واألنماط الثقافية واالجتماعية‪ ،‬واألدب بدوره شطٌر من الثقافة العام‪//‬ة‪،‬‬
‫فالقصيدة الشعرية ال تنبعث دالالتها إَّال من ذلك‪ ،‬فمعاني كلماتها مستمٌّد من لغة الق‪//‬وم ال‪//‬ذين‬
‫‪/‬ره خالل‬
‫‪/‬وم تظه‪/‬‬
‫‪/‬اعي للق‪/‬‬
‫قيلت لهم القصيدة‪ ،‬ولها معناها المنبثق من السياق الثقافي واالجتم‪/‬‬
‫األسلوب‪ ،‬فتلك الدالالت التي تتوصل إليها مقرونة بكيفية التواصل ذاتها أي باألسلوب الذي قد‬
‫يرقى بها إلى درجة الروائع العالمية‪ ،‬فاألسلوب هو الذي يبرز خصائص التفرد لدى ص‪//‬احبه‬
‫حتى يتجلى التفريق بين الكالم واللغة(‪ ،)1‬فاألسلوب ذاتي شخصي‪ ،‬أما اللغة فعامة ومنتشرة بين‬
‫جميع أبناء المجتمع اللغوي‪ ،‬فمن ذلك مثال نجد البكاء على األطالل‪ ،‬وهو ظاهرة تكاد تك‪//‬ون‬
‫ملحوظة لدى أغلب الشعراء منذ العصر الجاهلي‪ ،‬وإذا أحصينا المفردات التي يستعملها الشعراء‬
‫في هذه الظاهرة لوجدناها ممدودة تقريًبا‪ ،‬وإنما االختالف يسهم في كيفية الصياغة أي األسلوب‬
‫مثال يكاد يستخدم األلفاظ نفسها التي استخدمها غيره من الشعراء للوق‪//‬وف‬ ‫فالبحتري(‪284-‬هـ)‬

‫على األطالل والتشبب بالمحبوبة بأسماء مستعارة كما فعل في هذه األبيات‪:‬‬
‫َفَقـد َأشَك ـال بـاديِه ما َو الُم َغ َّيـُب‬ ‫ِبَع مِر َك َتدري َأُّي َش أَنَّي َأعَج ُب‬
‫َو َص غوي ِإلى ُس عدى َو ُس عدى َتَج َّنُب‬ ‫ُج نـوِنَي في َليلى َو َليلى َخ ِلَّيـٌة‬

‫َو َك م َس َتَر ت ُح ّبًا َع لى الناِس َز يَنُب‬ ‫َو َس َّم يُتها ِمن َخ شَيِة الناِس َز يَنبًا‬
‫‪ 1‬أعطى دي سوسير تمييزا أساسيا وقِّيما بين اللغة(‪ )langue‬والكالم (‪ ،)parole‬فاللغة عنده هي مجمـوع العالمـات (‬
‫‪ )signe‬التي تستعمل لالتصال بين أعضاء جماعة لغوية ما‪ ،‬أَّم ا الكالم فهو االستعمال الملموس للغة من أح‪//‬د أعض‪//‬ائها‬
‫بهدف التبليغ أو التفاهم مع غيره‪ ،‬ولتوضيح الفكرة يستعين سوسير بمثالين‪ :‬األول يشبه فيه اللغة بالقاموس ال‪//‬ذي يس‪//‬جل‬
‫عالمات الجماعة ال الفرد‪ ،‬والثاني بالسمفونية التي لها وجودها الخاص بها‪ ،‬أما الكالم فهو االستعمال ذلك القاموس أو أداء‬
‫‪/‬ر‬‫‪/‬ة الجزائ‪/‬‬
‫‪/‬ات الجامعي‪/‬‬ ‫تلك السمفونية‪ ،‬ينظر‪ :‬زبير دراقي‪ ،‬محاضرات في اللسانيات التاريخية والعامة ديوان المطبوع‪/‬‬
‫‪ ،1990‬ص ‪.71‬‬
‫‪4‬‬
‫البنــاء األسلـوبي‬ ‫الفصــل األول‬

‫(‪)1‬‬
‫َو ما ِخ لـُت َأّنا ِبالِج نـاِن ُنَع َّذ ُب‬ ‫َوَج َّنـُة ُخ لـٍد َع َّذ َبتنـا ِبَد ِّلهـا‬

‫يرى البحتري هنا إمكانية استبدال الوقوف على أطالل الحضارة بالوقوف على األطالل‬
‫إن ما يثيره الطلل البدوي في نفس الشاعر الجاهلي بإمكان الطل‪//‬ل الحض‪//‬ري أن‬
‫البدوية‪ ،‬بل َّ‬
‫يثيره أيضًا في نفس الشاعر العباسي لهذا لم يَر ضيرًا في استبدال القصر بأطالل البادي‪/‬ة‪ ،‬وإن‬
‫كان لم يدُع صراحة وجهرًا إلى هذا االستبدال‪ ،‬وموقف البحتري في ذلك أعمق من موقفهم‪ ،‬إذ‬
‫عمد مباشرة إلى التطبيق على حين بقيت دعوة اآلخرين في حّيز التنظير لم تتجاوزه إلى نطاق‬
‫التطبيق العملي في شعره‪ ،‬الحظ قوله كذلك‪:‬‬
‫َوَر ِّب الِح جِر َو الَح َج ِر الَيماني‬ ‫َح َلفُت ِبَر ِّب َز مَز َم َو الُمَص ّلى‬
‫ِتالَو َتُه ـَّن َو الَس بـِع الَم ثـاني‬ ‫َو ِبالَس بِع الِط ـواِل َوَم ن َتَو ّلى‬
‫(‪) 2‬‬
‫َك ما َو َّفرُت َح َّظ َك ِمن ِلساني‬ ‫َلَقد َو َّفرَت ِمن َج دواَك َح ّظ ي‬

‫‪/‬انب‬
‫‪/‬ذلك بالج‪/‬‬
‫والبحتري بحاٍل من األحوال ال مسِّو غ له ليقحم الكلمات‪ ،‬وهذا محكوٌم ك‪/‬‬
‫النحوي للغة الذي يفرض عليه التمسك بتقاليد النحو الخاص بلغته‪ ،‬فال يستطيع تق‪//‬ديم الص‪//‬فة‬
‫على الموصوف في الشعر العربي كما تفعل القواعد الالتينية‪.‬‬
‫(‪)3‬‬
‫ربطًا مصطنعًا‪ ،‬وظهرت الدعوة‬ ‫وربط األسلوب بمبدعه وبيئته عّد في الدراسات البنيوية‬
‫إلى استقالل النص عن كل أثر ومرجعية‪ ،‬ذلك أّن االستقاللية تتيح للنص أن يكسب طاقة إبداعية ال‬
‫‪/‬لوب النص‬
‫‪/‬ف الفعلي عن أس‪/‬‬
‫‪/‬و الكاش‪/‬‬
‫‪/‬ة‪ ،‬وه‪/‬‬
‫ينضب ماؤها‪ ،‬يحتل فيها القارئ منزلة مخصوص‪/‬‬
‫ة‬ ‫الشعري‪ ،‬بينما االرتكاز على الشاعر معناه تميزه من سواه في ترجمة رؤياه وأفكاره‪ ،‬ولهذه العّل‬
‫‪ 1‬البحتري‪ ،‬الديوان‪ ،‬ج‪ ،1‬ص ‪.134‬‬
‫‪ 2‬البحتري‪ ،‬الديوان‪ ،‬ج‪ ،4‬ص‪.2265‬‬
‫‪ 3‬جاء في لسان العرب البن منظور في مادة بنى أَّن البنية‪ " :‬الهيئة التي بني عليها مثل‪ :‬المشية والركبة‪ ،‬وبنى فالن بيتا‬
‫بناء وبنى‪ ،‬مقصورا شدد للكثرة‪ ،‬وابتنى دارا وبنى بمعنى‪ ،‬والبنيان الحائط‪ ،‬قال الجوهري‪ :‬والبُنَى بالضم مقص‪/‬ور مث‪/‬ل‪:‬‬
‫طَرة‪ ،‬وأبنيت الرجل‬‫الف ْ‬
‫جَزى‪ ،‬فالن صحيح البِنْيَة أي ِ‬ ‫جْزيَة َو ِ‬
‫البُنى‪ ،‬يقال‪ :‬بُنْيَة َوبُنَى َوبنية‪ ،‬وبِنَى بكسر الباء مقصور مثل‪ِ :‬‬
‫‪/‬دل‬ ‫‪/‬دل إال بتب‪/‬‬
‫‪/‬ابت ال يتب‪/‬‬‫أعطيته بِناء أو ما يبتني به داره"‪ ،‬وبهذا المعنى تكون بنية الشيء ما هو أصيل فيه وجوهري وث‪/‬‬
‫األوضاع والكيفيات‪.‬‬
‫والبنيوية كعلم قائم بذاته مذهب من مذاهب منهجية الفلسفة والعلوم مؤداه االهتمام أوال بالنظام العام لفكرة أو لع‪//‬دة أفك‪//‬ار‬
‫‪/‬لوب‬ ‫‪/‬ة وعلم األس‪/‬‬ ‫‪/‬ة عام‪/‬‬ ‫مرتبطة بعضها ببعض على حساب العناصر المكونة له‪ ،‬وقد امتدت هذه النظرية إلى علوم اللغ‪/‬‬
‫‪/‬و‬‫خاصة حيث استخدمها العلماء أساًس ا للتمييز الثنائي الذي يعتبر أصال لدراسة النص دراسة لغوية‪ ،‬وهذا التمييز الثنائي ه‪/‬‬
‫ما بين اللغة والكالم في اصطالح جيوم أو بين نظام الكالم والنص نفسه في اصطالح هيمسلف أو بين القدرة الكالمي‪//‬ة أو‬
‫األداء الفعلي للكالم في اصطالح نوام تشومسكي أو بين مفتاح الكالم والرسالة الفعلية في اص‪/‬طالح روم‪/‬ان ياكبس‪/‬ون‪،‬‬
‫مجدي وهبه‪ ،‬معجم مصطلحات األدب‪ ،‬مكتبة لبنان‪ ،‬بيروت‪ ،‬ص ‪.540‬‬
‫‪5‬‬
‫البنــاء األسلـوبي‬ ‫الفصــل األول‬

‫(‪)‬‬
‫أّن ‪" :‬األسلوب هو النص نفسه " (‪.)1‬‬ ‫يقّر ر ريفاتير‬
‫ومن العلماء العرب من أولى األسلوب اهتماًم ا كبيًر ا حتى أن جهودهم تقترب في هذا المجال‬
‫فإنه يقول في براعة التناسق والتنسيق‪" :‬وأجود الشعر‬
‫كثيًر ا من أراء الغربيين الجاحظ (‪255-‬هـ) َّ‬
‫ما رأيته متالحم األجزاء‪ ،‬سهل المخارج‪ ،‬فتعلم بذلك أّنه قد أفرغ إفراغًا واحدًا‪ ،‬وُس بك سبكًا واحدًا "‬
‫(‪.)2‬‬
‫فالجاحظ من خالل هذا النص يشير إلى قدرة الشاعر على إحداث االنسجام بين األفك‪//‬ار‬
‫والتراكيب أي األسلوب الذي يصوغ فيه أفكاره وقدرته على التفرد في األداء الذي يحقق له اإلبداع‪،‬‬
‫فقوله‪( :‬أفرغ إفراغًا واحدًا‪ ،‬وُس بك سبكًا واحدًا) إشارة إلى التفنن في اختيار األلفاظ وانتقاء األساليب‬
‫المناسبة وذلك ألن األداء الكالمي يتطلب مراعاة العالقات بين األلفاظ وف‪//‬ق المح‪//‬ور التركي‪//‬بي‬
‫(األفقي) ومدى مالءمة كل لفظ للفظ الذي يرتبط به ويتعلق بمعناه وداللته لذلك أشار كثيًر ا باللف‪//‬ظ‬
‫حتى ظنوه ممن يغلب اللفظ على المعاني‪ ،‬حيث أنه ليس كذلك وإنما كان همه التنويه بمدى ارتب‪//‬اط‬
‫اللفظ بالمعاني التي يتطلبها المقام وتقتضيها حال المخاطبين‪.‬‬
‫وأَّم ا أبو هالل العسكري(‪395-‬هـ) فإَّن األسلوب عنده هو "الطريقة‪ ،‬يقال‪ :‬أخذ في أساليب‬
‫‪/‬اء المنتظم‬
‫‪/‬و البن‪/‬‬
‫‪/‬ف)‪ ،‬وه‪/‬‬
‫‪/‬ن الرص‪/‬‬
‫من القول‪ ،‬أي في طرق منه"(‪ ،)3‬ويتطرق إلى ما أسماه (حس‪/‬‬
‫المستوي الذي ضّم بعضه إلى بعض‪ ،‬إّنه بديل عن التكلف وشّدة التفكر اللذين يفقدان الشعر طبع‪//‬ه‬
‫‪/‬عها من‬
‫‪/‬اظ في مواض‪/‬‬
‫‪/‬ون األلف‪/‬‬
‫‪/‬كري أن تك‪/‬‬
‫(طالوته ورونقه)‪ ،‬وحسن الرصف في منظور العس‪/‬‬
‫‪/‬ع‬
‫‪/‬ف أن توض‪/‬‬
‫الترتيب‪ ،‬ليكون األسلوب متماسكًا ويحقق للشعر شعريته‪ ،‬إذ يقول‪ " :‬وحسن الرص‪/‬‬
‫األلفاظ مواضعها‪ ،‬وتمّك ن في أماكنها‪ ،‬وال يستعمل فيها التقديم والتأخير‪ ،‬والحذف والزيادة‪ ،‬إال حذفًا‬
‫ال يفسد الكالم‪ ،‬وال ُيعمى المعنى؛ وتضم كل لفظـة منها إلى ما يشكلها‪ ،‬وتضاف إلى لفظها"(‪.)4‬‬
‫وبذلك فإّن حسن الرصف صفة للطبع المتمكن‪ ،‬ويعني قدرة الشاعر على التمي‪//‬يز بين أداء‬
‫أسلوبي وآخر أقل منه مرتبة وتفوقًا‪ ،‬والشعراء يختلفون حسنًا ويتفاوتون جودة في ت‪//‬راكيب جملهم‬
‫وعباراتهم‪ِ ،‬مَّما يجعل االختيار مخصوصًا وموقوفًا على التمكن والوعي في تفضيل أصوات وصيغ‬
‫‪/‬دة‪ ،‬اختص‬ ‫‪/‬ات المتح‪/‬‬ ‫‪ ‬ميشال ريفاتار (‪ )Michel Riffaterre‬أستاذ بجامعة كولوبيا‪ ،‬أهم جامعات نيويورك بالوالي‪/‬‬
‫بالدراسات األسلوبية منذ مطلع العقد الخامس‪ ،‬وأبرز مؤلفاته‪ " :‬محاوالت في األسلوبية الهيكلية"‪.‬‬
‫‪1‬‬
‫‪Michael Riffaterre, La production du texte, Editions du Seuil, Paris, 1979, p8.‬‬
‫‪2‬‬
‫?‪.‬الجاحظ‪ ،‬البيان والتبيين‪ ،‬تحقيق عبد السالم هارون‪ ،‬ط‪ ،5‬مكتبة الخانجي بالقاهرة ‪1985‬م‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪67‬‬
‫‪3‬‬
‫?‪.‬أبو هالل العسكري‪ ،‬جمهرة األمثال‪ ،‬ط‪1310 ،2‬هـ‪ ،‬ص‪273‬‬
‫‪ 4‬أبو هالل العسكري‪ ،‬الصناعتين‪ -،‬الكتابة والشعر ‪ ،-‬تحقيق علي محمد البجاوي ومحمد أبو الفضل إبراهيم‪ ،‬دار الكتاب‬
‫‪1971‬م‪ ،‬ص‪.161‬‬
‫‪6‬‬
‫البنــاء األسلـوبي‬ ‫الفصــل األول‬

‫‪/‬كل نمطي‪،‬‬
‫‪/‬ارات بش‪/‬‬
‫‪/‬ه الجم‪//‬ل والعب‪/‬‬
‫معينة منتجة للنص‪ ،‬ويبقى الشعر أسلوبًا إبداعًيا تتكرر في‪/‬‬
‫‪/‬اره‬
‫فاألسلوب في الشعر إبداع وتفرد تظهر من خالله عبقرية صاحبه في تأدية معانيه وتوصيل أفك‪/‬‬
‫في لباس من األلفاظ والتراكيب من أبرز سماته المتعة والجمال‪ ،‬وروعة األداء‪.‬‬
‫وعني ابن سنان الخفاجي(‪466-‬هـ) باألسلوب في ضوء بحثه عن وعي الش‪//‬اعر بكيفي‪//‬ة‬
‫‪/‬ع‬
‫‪/‬لوب قلب موض‪/‬‬ ‫وضع األلفاظ في موضعها الذي تستسيغه األذواق‪ ،‬من ذلك أّن ما يش‪/‬‬
‫‪/‬ين األس‪/‬‬
‫اللفظة‪ ،‬ألّنه مدعاة إلى فساد المعنى وتحويل غائيته(‪ ،)1‬كقول عروة بن الورد العبسي‪:‬‬
‫غداَة َغ ٍد لمهجته يفوق‬ ‫فلو أني شهدت أبا سعـاد‬
‫وما آلوك إّال ما أطيق‬ ‫فديت بنفسه نفسي وما لي‬

‫فلو َّأنه قال‪( :‬فديت نفسه بنفسي)‪ ،‬لكان الأسلوب واضحا‪ ،‬بيد أن ضرورة الوزن ألجأته إلى‬
‫قلب المعنى كما ترى‪ ،‬فتطرق إلى ما يفسد وضوح األسلوب‪ ،‬كالمعاظلة التي وردت في نقد قدامى‪،‬‬
‫وهي مداخلة الكالم بعضه بعضًا‪ ،‬فاللفظة تدخل من أجل لفظة أخرى تجانسها وتشبهها‪ ،‬مثل‪( :‬خان‪،‬‬
‫ال‪//‬ذي وص‪//‬فه ابن‬ ‫تمام(‪231-‬هـ)‬ ‫ويتخّو ن‪ ،)،‬ويمثل لذلك بعدد من األبيات الشعرية منها قول أبي‬
‫بأنه شديد التعاظل‪:‬‬
‫سنان َّ‬
‫(‪) 2‬‬
‫ِبَص باَبتي َو َأَذ َّل ِع َّز َتَج ُّلدي‬ ‫يا َيوَم َش َّر َد َيوَم َلهوي َلهُوُه‬

‫فقوله‪( :‬يا َيوَم َش َّر َد َيوَم َلهوي َلهُوُه) شديد التعاظل‪ ،‬فهذه األلفاظ إلى قوله "بصبابتي" كأنه‪//‬ا‬
‫سلسلة‪ ،‬من شدة تعلق بعضها ببعض‪ ،‬وقد كان الشاعر أيضا استغنى عن ذكر اليوم في قوله‪( :‬ي‪//‬وم‬
‫لهوى)؛ ألن التشريد إنما هو واقع بلهوه‪ ،‬فلو قال‪( :‬يا يوم شرد لهوى) لكان أصح في المع‪//‬نى من‬
‫‪/‬اللهو‬
‫‪/‬وم األول‪ ،‬وب‪/‬‬
‫قوله‪( :‬يا يوم شرد يوم لهوى) وأقرب في اللفظ؛ فجاء باليوم الثاني من أجل الي‪/‬‬
‫‪/‬ظ أولى‬
‫‪/‬ه‪ ،‬وال لف‪/‬‬
‫‪/‬ا من وساوس‪/‬‬
‫الثاني من أجل اللهو الذي قبله‪ ،‬ولهو اليوم أيضًا بصبابته هو أيض‪/‬‬
‫بالمعاظلة من هذه األلفاظ‪ ،‬واألسلوب المتفوق (المقبول) هو الذي يخلو من مداخلة األلفاظ‪ ،‬وقد ربط‬
‫ابن سنان كذلك الكناية باألسلوب‪ ،‬لكونها أداة جمالية وتمكينية‪ ،‬وحسنها في منظوره أصل من أصول‬
‫الفصاحة وشرط من شروط البالغة‪ ،‬وهذا يبّر ر شروطه في اللفظة الفص‪//‬يحة المف‪//‬ردة وبالغ‪//‬ة‬
‫التركيب‪ ،‬ذلك أنها تحمل في الموضع الذي ال يليق فيه التصريح‪.‬‬

‫‪ 1‬ينظر‪ :‬الخفاجي‪ ،‬سر الفصاحة‪ ،‬تحقيق عبد المتعال الصعيدي‪ ،‬القاهرة ‪1953‬م‪ ،‬ص ‪.106‬‬
‫‪ 2‬ينظر‪ :‬المصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.151-150‬‬
‫‪7‬‬
‫البنــاء األسلـوبي‬ ‫الفصــل األول‬

‫وعلى الرغم من إشارة محمد عبد المطلب إلى أهمية األسلوب في نقد ابن سنان إلى درج‪//‬ة‬
‫‪/‬ة‬
‫‪/‬ب على الناحي‪/‬‬ ‫نعته بأّنه فهم أكثر عمقًا‪ ،‬إَّال أَّنه يستدرك ليقرر‪" :‬أّن فهمه ‪ -‬غالبًا ‪ -‬ك‪/‬‬
‫‪/‬ان ينص‪/‬‬
‫المحسوسة في الصياغة‪ ،‬فإّننا نفتقد عنده التصور الذهني لمفهوم األسلوب‪ ،‬وربما كان مرجع ذل‪//‬ك‬
‫إلى نزعته االعتزالية الغالبة " (‪ ،)1‬ودليله في ذلك ربط ابن سنان األسلوب بالجنس األدبي‪ ،‬الذي َبُعَد‬
‫ألنه قرنه بالسمات الصوتية التي رآها ميزة الشعر من النثر‪ ،‬فالشعر الذي‬
‫فيه عن التصور الذهني‪َّ ،‬‬
‫تتراجع فيه هذه الخواص الصوتية واإليقاعية يخرج األداء عن أصله‪ ،‬بل عن أسلوبه المميز(‪.)2‬‬
‫وتتعمق النظرة إلى األسلوب في التراث البالغي مع أطروحات عبد القاهر الجرجـاني‬
‫ألن األسلوب عنده ال ينفص‪//‬ل عن رؤيت‪//‬ه‬
‫(‪471-‬هـ)؛ إذ نجده يساوي بين األسلوب والنظم‪َّ ،‬‬
‫للنظم (المنوال أو القالب)‪ ،‬بل نجده يماثل بينهما من حيث َّأنهما يشكـالن تنوعًا لغويًا خاص‪ً//‬ا‬
‫‪/‬رب من النظم‬
‫‪/‬لوب "ض‪/‬‬
‫أن األس‪/‬‬
‫‪/‬ذهب إلى َّ‬
‫‪/‬ار‪ ،‬ومن ثم ي‪/‬‬
‫بكل مبدع يصدر عن وعي واختي‪/‬‬
‫والطريقة فيه" (‪.)3‬‬
‫إذا كان األسلوب ‪ -‬كذلك ‪ -‬يجب أن يتوخى فيه المبدع اللفظ لمقتضى التف‪//‬رد ال‪//‬ذاتّي في‬
‫انتقاء اللغة عن وعي‪ ،‬وذلك بمراعاة حال المخاطب‪ ،‬وبهذا يكون الجرجاني قد أضاف أصًال أصيًال‬

‫إلى نظرية األسلوب في البالغة العربية القديمة‪ ،‬إذ جعل األسلوب يق‪//‬وم على األص‪//‬ول العربي‪//‬ة‬
‫أسس له في دالئل اإلعجاز بقول‪//‬ه‪" :‬‬
‫وقواعدها‪ ،‬فالنظم يمتنع معنى إذا لم ينضبط بالنحو‪ ،‬وذلك ما ّ‬
‫أن ليس النظم إال أن تضع كالمك الوضع الذي يقتضيه علم النح‪//‬و‪ ،‬وتعم‪//‬ل على قوانين‪//‬ه‬
‫واعلم َّ‬
‫‪/‬ل‬
‫‪/‬ك‪ ،‬فال تخ‪/‬‬
‫وأصوله‪ ،‬وتعرف مناهجه التي نهجت‪ ،‬فال تزيغ عنها‪ ،‬وتحفظ الرسوم التي رسمت ل‪/‬‬
‫بشيء منها" (‪.)4‬‬
‫‪/‬دها‬
‫‪/‬ة وقواع‪/‬‬
‫ولذلك ركز عبد القاهر الجرجاني في نظرية النظم على اعتماد أصول العربي‪/‬‬
‫ضابًط ا به التركيب في نسقه اإلعرابي العام‪ ،‬حيث جعل منه مستفتحًا لما اس‪//‬تغلق من المع‪//‬نى؛ إذ‬
‫وأن "األغراض كامنة فيها حتى يك‪//‬ون‬
‫األلفاظ مغلقة على معانيها حتى يكون اإلعراب مفتاحًا لها‪َّ ،‬‬
‫‪/‬اس‬
‫هو المستخرج لها‪ ،‬وأنه المعيار الذي ال يتبين نقصان كالم ورجحانه حتى يعرض عليه؛ والمقي‪/‬‬

‫‪ 1‬محمد عبد المطلب‪ ،‬مفهوم األسلوب في التراث‪ ،‬مجلة فصول‪ ،‬ع‪ ،3‬م‪ ،7‬الهيئة المصرية العامة للكتاب‪ ،‬القاهرة ‪،1987‬‬
‫ص‪.53‬‬
‫‪ 2‬المرجع نفسه‪ ،‬ع‪ ،3‬م‪ ،7‬ص‪.53‬‬
‫‪ 3‬الجرجاني‪ ،‬دالئل اإلعجاز‪ ,‬قراءة وتعليق محمود شاكر‪ ,‬مكتبة الخانجي‪ ,‬القاهرة ‪1404‬هـ‪ ،‬ص‪.361‬‬
‫‪4‬‬
‫?‪.‬المصدر نفسه‪ ,‬ص‪64‬‬
‫‪8‬‬
‫البنــاء األسلـوبي‬ ‫الفصــل األول‬

‫‪/‬إذا أدرك‬
‫‪/‬ه"(‪ ،)5‬ف‪/‬‬
‫الذي ال يعرف صحيحًا من سقيم حتى يرجع إليه‪ ،‬وال ينكر ذلك إال من ينكر حس‪/‬‬
‫المبدع ذلك استقام له األسلوب‪.‬‬
‫إن مفهوم النحو عند الجرجاني يتوقف عند موقع الكلمة من الجملة رفعًا أو نصبًا أو ج‪//‬رًا‪،‬‬
‫َّ‬
‫وإنما يتعداه إلى المفهوم الداللي الذي تقتضيه فصاحة المخاطب ونباهة البليغ‪ ،‬ومن ثم نجده ال يقف‬
‫‪/‬ه‬
‫‪/‬د في‪/‬‬
‫‪/‬ه علم يقص‪/‬‬
‫‪/‬راب على أن‪/‬‬
‫في نظرته إلى اإلعراب عند المظهر للحركة‪ ،‬بل ينظر إلى اإلع‪/‬‬
‫التأسيس لفهم يساعد على إدراك معنى المعنى‪.‬‬
‫‪/‬دد‬
‫فإنه قد تش‪َّ /‬‬
‫أكد ضرورة التزام النحو في مفهوم النظم‪َّ ،‬‬
‫وإذا كان عبد القاهر الجرجاني قد ّ‬
‫يميز األسلوب‬
‫تميز شاعرًا عن شاعر آخر‪ ،‬وبذلك نجده ِّ‬
‫في ضرورة النسج على طريقة مخصوصة ِّ‬
‫أن هذه النظرة ال تخ‪//‬رج‬
‫بتميز صاحبه في نظمه عن غيره من أهل النظم واألدب‪ ،‬ومن ثم نالحظ َّ‬
‫عن نظريته في النظم التي يؤكد فيها التزام معاني النحو في التأليف‪ ،‬وذلك من خالل تأكي‪//‬د ت‪//‬وفر‬
‫‪/‬ل‬
‫‪/‬تى يحص‪/‬‬
‫محاسن الكالم في ترتيب المعاني في النفس بطريقة خاصة؛ وحسب مقتضى الحال ح‪/‬‬
‫التجانس‪.‬‬
‫‪ً/‬ا‬
‫‪/‬ورًا عقلي‪/‬‬
‫‪/‬وجب حض‪/‬‬
‫‪/‬و ي‪/‬‬
‫أن قيام النظم عند الجرجاني بتوخي معاني النح‪/‬‬
‫وال شك في َّ‬
‫واستعماًال منطقيًا للغة؛ ولهذا يقوم اإلبداع عنده على جملة من المراحل الواعية‪ ،‬ينتظمها األس‪//‬لوب‬
‫‪/‬زم أن‬
‫‪/‬ا يل‪/‬‬
‫‪/‬ة المتلقي‪ ،‬وهن‪/‬‬
‫الفني بدءًا من الذهن وتصوراته في المعنى والمبنى إلى مرحلة مخاطب‪/‬‬
‫‪/‬ة‬
‫‪ً/‬ا من الرؤي‪/‬‬
‫‪/‬ذا انطالق‪/‬‬
‫يراعي الشاعر حالة المخاطب‪ ،‬ألن النظم يقوم على الرؤية والتفكير‪ ،‬وه‪/‬‬
‫أن النظم يقوم على استحضار الفكرة أوًال‪ ،‬ثم التمثل والنطق ثانيًا‪ ،‬واالعتبار يك‪//‬ون‬
‫المؤسسة على َّ‬
‫بحال واضع للكالم‪.‬‬

‫‪/‬لوب‪،‬‬
‫‪/‬وة األس‪/‬‬
‫‪/‬ال من دواعي ق‪/‬‬
‫‪/‬ى الح‪/‬‬
‫فالترتيب الذهني واإلخراج الفني المراعي لمقتض‪/‬‬
‫‪/‬ارج‬ ‫ورصانته وبالغته وجزالته‪ ،‬وليس الشأن في اللفظ َح ُس َن أو َقُبَح ‪ ،‬بل المفاضلة بين األلف‪/‬‬
‫‪/‬اظ خ‪/‬‬
‫سياق الكالم‪ ،‬وهذا ما جنح إليه الجرجاني‪ ،‬ولعله ‪ -‬هنا ‪ -‬قد خالف معاصريه المعتقدين بفص‪//‬احة‬
‫اللفظة المفردة وجمالها‪ ،‬وسبَق الحقيه وبخاصة الطرح األلسني البنيوي المعاصر الذي ي‪//‬ذهب إلى‬
‫بأن جمال اللفظة ال يكون إال في نظامها كما سنراه في موطنه من هذا البحث‪ ،‬وبذلك يتجلى‬
‫االعتقاد َّ‬
‫ألننا في‬
‫أن األسلوب يقوم على توخي معاني النحو‪َّ ،‬‬
‫لنا طرح الجرجاني وهو يناقش مسألة النظم في َّ‬
‫طلبها نطلب الجمال في األسلوب‪ ،‬والتفرد في الصياغة‪ ،‬والقوة في الصناعة‪.‬‬
‫‪5‬‬
‫?‪.‬نفسه‪ ,‬ص ‪52‬‬
‫‪9‬‬
‫البنــاء األسلـوبي‬ ‫الفصــل األول‬

‫واألساس في األسلوب هو القدرة على إتقان اللغة في تعميق خبرات الشاعر ورؤاه وأشيائه‪،‬‬
‫وقد قال عبد القاهر الجرجاني‪ " :‬وما كّل فكر يهتدي إلى وجه الكشف َ‬
‫عَّما اشتمل علي‪//‬ه‪ ،‬وال ك‪//‬ل‬
‫خاطر يؤذن له في الوصول إليه‪ ،‬فما كّل أحد يفلح في شقِّ الصدفة‪ ،‬ويكون في ذلك من أهل المعرفة‬
‫" (‪. ) 1‬‬
‫وال يستطيع أي القارئ كان الحكم على النص من قراءة بيت أو عدة أبيات‪ ،‬وإنما‬
‫يقتضيه النظر والتأمل في القطعة األدبية بكاملها‪ ،‬ومن هنا يستطيع أن يتبين المزايا التي تجعله‬
‫يقف على ما في النص من براعة النقش وجودة التصوير والتعبير‪ ،‬فال مزية لأللف‪//‬اظ –عن‪//‬د‬
‫الجرجاني‪ -‬من غير سياق وال تفاضل بينها بدونه‪ ،‬وإنما تأتي مزيتها وأهميتها من خالل عالقة‬
‫اللفظة بما سبقها وما يليها من ألفاظ‪ ،‬فاللفظة ال يمكن أن توصف إال باعتبار مكانها في النظم‪،‬‬
‫وهذه من األدلة التي يستند عليها األسلوبيون في منهجهم النقدي‪.‬‬
‫فإن مصطلح األسلوب عنده ُيطل‪//‬ق على التناس‪//‬ب في‬
‫َّ‬ ‫القرطاجني(‪684-‬هـ)‬ ‫أما عند حازم‬
‫َّ‬
‫‪/‬ا في‬
‫التأليفات المعنوية‪ " ،‬فيمثل صورة الحركة اإليقاعية للمعاني في كيفية تواليها واستمرارها‪ ،‬وم‪/‬‬
‫ذلك من حسن االطراد‪ ،‬والتناسب‪ ،‬والتلطف في االنتقال من جهة إلى جهة‪ ،‬والصيرورة من مقصد‬
‫إلى مقصد " (‪.)2‬‬
‫‪/‬ه من ِقَب ِل‬
‫لقد وجد حازم أمامه مفهوًم ا لألسلوب يأتيه من ِقَبِل أرسطو‪ ،‬ومفهوًم ا للنظم يأتي‪/‬‬
‫‪/‬ني‬ ‫الجرجاني‪ ،‬ومن هنا سار في تحديد مفهوم األسلوب متأثًر ا أحياًنا بنظرة أرسطو إلى العم‪/‬‬
‫‪/‬ل الف‪/‬‬
‫باعتباره وحدة متكاملة تمتد لتشمل القطعة األدبية كلها أو القصيدة كلها مالحًظ ا انتقال الش‪//‬اعر من‬
‫موضوع إلى موضوع في القصيدة الواحدة في تسلسل وترابط معنوي‪ ،‬ومتأثًر ا أحياًنا أخرى بالنظم‪،‬‬
‫ولكن مع ربطه بالصياغة اللفظية والعالقات النحوية على نحو ما قال به عبد القاهر‪.‬‬
‫وحازم هاهنا يجعل األسلوب منصًّبا على األمور المعنوية(التناسب فيها)‪ ،‬وجعله في مقاب‪//‬ل‬
‫النظم الذي هو منصب على التأليفات اللفظية‪ ،‬وهذا بخالف نظرة عبد الق‪//‬اهر‪ ،‬حيث جع‪//‬ل النظم‬
‫شامًال لما يتعلق باأللفاظ والمعاني (‪.)3‬‬

‫‪1‬عبد القاهر الجرجاني‪ ،‬أسرار البالغة‪ ،‬تحقيق هـ‪.‬ريتر‪ ،‬ط‪ ،2‬دار المسيرة‪ ،‬بيروت‪ ،1979 ،‬ص‪.143‬‬
‫‪ 2‬حازم القرطاجني‪ ،‬منهاج البلغاء وسراج األدباء‪ ,‬تقديم وتحقيق‪ :‬محمد الحبيب بن خوجة‪ ,‬دار الغرب اإلسالمي‪ ,‬بيروت‪,‬‬
‫‪/‬ة‬
‫ط‪1981 ,2‬م‪ ،‬ص ‪ ،364‬وينظر‪ :‬ابتسام أحمد حمدان‪ ،‬األسس الجمالية لإليقاع البالغي في العصر العباسي مراجع‪/‬‬
‫وتدقيق أحمد عبد اهلل فرهود‪ ،‬ط‪ ،1‬دار القلم العربي‪1997 ،‬م‪ ،‬ص ‪.82‬‬
‫‪ 3‬ينظر‪ :‬فتح اهلل أحمد سليمان‪ ،‬األسلوبية‪ ،‬مدخل نظري ودراسة تطبيقية‪ ,‬الدار الفنية للنشر والتوزيع القاهرة‪1990 ,‬م‪ ,‬ص‬
‫‪ ،30‬وينظر‪ :‬محمد عبد المطلب‪ ،‬البالغة واألسلوبية – دراسة أدبية‪ ،-‬ص ‪ 26‬وما بعدها‪.‬‬
‫‪10‬‬
‫البنــاء األسلـوبي‬ ‫الفصــل األول‬

‫ومن المالحظ أَّن حازما يربط األسلوب ‪ -‬مرة أخرى ‪ -‬بطبيعة الجنس األدبي‪ ،‬حيث تحدث‬
‫في القسم الرابع عن الطرق الشعرية وما تنقسم إليه من أغراض وما تعبر عنه من أحوال(‪ ،)1‬وجعل‬
‫المنهج األول " في اإلبانة عن طرق الشعر من حيث تنقسم إلى جد وهزل‪ ،‬وما تعتبر به أحوالها في‬
‫كل ذلك من حيث تكون مالئمة للنفوس أو منافرة لها " (‪ ،)2‬فيقول‪ " :‬فأَّم ا طريقة الجِّد فهي مذهب في‬
‫الكالم تصدر األقاويل فيه عن ُم روءة وعقل بنزاع الهمة والهوى إلى ذلك‪ ،‬وأَّم ا طريقة الهزل فإَّنها‬
‫مذهب في الكالم تصدر األقاويل فيه عن مجون وسخف بنزاع الهَّم ة والهوى وإلى ذلك "(‪.)3‬‬
‫‪/‬ديا‬
‫‪/‬مي الكومي‪/‬‬
‫‪/‬طو في قس‪/‬‬
‫‪/‬أثره بأرس‪/‬‬
‫‪/‬ا على ت‪/‬‬
‫وهذا التقسيم الذي اعتمده حازم يدل أيض‪/‬‬
‫والتراجيديا‪ ،‬وما الحظه من أَّن الشعراء األخيار مالوا إلى محاكاة الفضائل‪ ،‬والشعراء األرذال مالوا‬
‫‪/‬ل‬
‫‪/‬تخفاف‪ ،‬فجع‪/‬‬
‫إلى محاكاة ينحى بها منحى الجد‪ ،‬والكوميديا محاكاة ينحى بها منحى الهراء واالس‪/‬‬
‫ذلك أساًس ا لتقسيم الشعر العربي إلى طريقتين هما‪ :‬طريقة الجِّد‪ ،‬وطريقة الهزل (‪.)4‬‬
‫وبنظرة أكثر شمولية ينفرد حازم القرطاجّني بتميزه عن غيره من أهل النظر في عل‪/‬‬
‫‪/‬وم‬
‫‪/‬لة‬
‫‪/‬ول" (‪ ،)5‬وأول من أدرك الص‪/‬‬
‫‪/‬ة إلى "فص‪/‬‬
‫قسم القصيدة العربي‪/‬‬
‫البيان والبديع‪ ،‬فهو أول من َّ‬
‫الرابطة بين مطلع القصيدة وآخرها الذي يحمل في ثناياه االنطباع األخير والنهائي عن القصيدة‪،‬‬
‫وبناؤه لهذه النظرة على االستهالل والخاتمة قائم على أسس نفسية تراعي شعور القارئ ونم‪//‬و‬
‫التأثير العاطفي والوجداني فيه‪ ،‬فمن طبيعة القارئ اإلحساس والتجاوب مع المشاعر التي تثيرها‬
‫القصيدة باعتبارها الدافع إلى اتخاذ مواقف معينة‪.‬‬
‫‪/‬لوبيين‬
‫‪/‬رة األس‪/‬‬
‫‪/‬ع نظ‪/‬‬
‫‪/‬ول" م‪/‬‬
‫‪/‬يدة إلى "فص‪/‬‬
‫وتلتقي نظرة القرطاجني في تقسيمه للقص‪/‬‬
‫‪/‬ة" إال‬ ‫المعاصرين في تقسيمهم النص األدبي –بغض النظر عن جنسه‪ -‬إلى "أبنية" ‪ ،‬فم‪/‬‬
‫‪/‬ا "البني‪/‬‬
‫مصطلح مقابل لما أسماه القرطاجني بالفصل حين قصد به التقاء أبيات القصيدة وترابطها مؤلفة‬
‫وحدة معنوية‪.‬‬
‫‪/‬ف‬
‫‪/‬ذلك لط‪/‬‬
‫‪/‬ول‪" :‬وك‪/‬‬
‫وبنظرة أخرى نجد حازم القرطاجني قد نفى من قال بهذه الفكرة فيق‪/‬‬
‫أن قائله عاشق‪ ،‬وخشونة األسلوب وجفاؤه ال يخّيالن ذلك نحو أس‪//‬لوب‬
‫األسلوب ورقته يخّيالن لك َّ‬

‫حازم القرطاجني‪ ،‬منهاج البلغاء وسراج األدباء‪ ,‬ص ‪.327‬‬ ‫‪1‬‬

‫المصدر نفسه‪ ,‬ص ‪.327‬‬ ‫‪2‬‬

‫حازم القرطاجني‪ ،‬منهاج البلغاء وسراج األدباء‪ ،‬ص ‪.327‬‬ ‫‪3‬‬

‫شكري عياد‪ ،‬كتاب أرسطو طاليس في الشعر‪ ،‬دار الكتب العربي‪ ،‬القاهرة‪ ،1967‬ص‪.276‬‬ ‫‪4‬‬

‫ينظر‪ :‬حازم القرطاجني‪ ،‬منهاج البلغاء وسراج األدباء‪ ,‬ص ‪.215‬‬ ‫‪5‬‬

‫‪11‬‬
‫البنــاء األسلـوبي‬ ‫الفصــل األول‬

‫الفرزدق في النسيب"(‪ ،)1‬إال أَّن حازمًا‪ ،‬يكون قد قصد باألسلوب‪ :‬الطريق والم‪//‬ذهب في تعّلقهم‪//‬ا‬
‫‪/‬ة‬
‫‪/‬ذه العالق‪/‬‬
‫‪/‬ول به‪/‬‬
‫بطبيعة النفس‪ ،‬لم يدقق في مدى صلة األسلوب بناشئه‪ ،‬على الرغم من أن‪َّ/‬ه يق‪/‬‬
‫إن األسلوب صورة لشخصية الشاعر وواقعه‪.‬‬
‫ويصّر ح بها‪ ،‬وهي‪َّ :‬‬
‫ويبدو أَّن تحديد مفهوم األسلوب كان سمة تميز الدراسات في الشرق والغ‪//‬رب‪ ،‬فبعض‪//‬هم‬
‫يربطه بمفهوم الصياغة كما قال به الجاحظ‪ ،‬وبعضهم يربطه بالنظم كما فهموه من عب‪//‬د الق‪//‬اهر‪،‬‬
‫وبعضهم يبتعد عن هذا وذاك ويصله بما عرفوه من مباحث األسلوب عند أرسطو(‪.)2‬‬
‫ولعَّل أدق تحديد لماهية األسلوب في االصطالح ما جاء على لسان ابن خلدون (‪808-‬هـ)‬

‫‪/‬ع إلى الكالم‬


‫‪/‬ه‪ ،‬وال يرج‪/‬‬ ‫"إَّنه عبارة عن المنوال الذي تنسج فيه التراكيب أو القالب الذي يف‪/‬‬
‫‪/‬رغ في‪/‬‬
‫باعتبار إفادته كمال المعنى الذي هو وظيفة اإلعراب‪ ،‬وال باعتبار إلفادته أصل المعنى من خواص‬
‫‪/‬و‬
‫‪/‬ذي ه‪/‬‬
‫‪/‬ه ال‪/‬‬
‫التراكيب الذي هو وظيفة البالغة والبيان‪ ،‬وال باعتبار الوزن كما استعمله العرب في‪/‬‬
‫‪/‬ا على‬ ‫وظيفة الَع روض ‪ ...‬وإَّنما ترجع لي صورة ذهنية للتراكيب المنتظمة كلَّية باعتب‪/‬‬
‫‪/‬ار انطباقه‪/‬‬
‫تركيب خاص‪ ،‬تلك الصورة التي ينتزعها الذهن من أعيان ال‪/‬تراكيب وأشخاص‪/‬ها ويص‪/‬يرها في‬
‫الخيال كالقالب أو المنوال‪ ،‬ثم ينتقي التراكيب الصحيحة عند العرب باعتبـار اإلع‪//‬راب والبي‪//‬ان‬
‫فيصيرها فيه رصا كما يفعله البَّنـاء في القالب والنَّس اج في المنوال حتى يتسع الق‪//‬الب بحص‪//‬ول‬
‫التراكيب الوافية بمقصود الكالم ويقع على الصورة الصحيحة باعتبار ملكة اللسان العربي فيه‪ ،‬فإَّن‬
‫لكل فن من الكالم أساليب تختص فيه وتوجد فيه على أنحاء مختلفة"(‪.)3‬‬

‫أعطى ابن خلدون لألسلوب مفهوما ذهنيا خالصا‪ ،‬باعتباره صورة تمأل النفس وتطبع الذوق‪،‬‬
‫وقد أرجع تكوين هذه الصورة إلى ما يستمده األديب من ذخيرته اللغوية على الوضع الذي رس‪//‬مته‬
‫‪/‬د في‬
‫‪/‬ا يتجس‪/‬‬
‫‪/‬دوني إنم‪/‬‬
‫قواعد النحو والصرف والبالغة والعروض‪ ،‬واألسلوب بهذا المفهوم الخل‪/‬‬
‫التراكيب اللغوية الجارية وفق سنن اللغة وطبيعة الناطقين بها‪.‬‬
‫(‪)‬‬
‫‪/‬ل‬
‫التي تتكون لدى ك‪/‬‬ ‫وابن خلدون بهذا العمل يكون قد ربط بين األسلوب والقدرة اللغوية‬
‫‪1‬‬
‫?‪.‬المصدر نفسه‪ ,‬ص ‪364‬‬
‫‪2‬‬
‫?‪.‬محمد عبد المطلب‪ ،‬البالغة واألسلوبية –دراسة أدبية‪ ،-‬ص‪29‬‬
‫‪ 3‬ابن خلدون‪ ،‬المقدمة‪ ،‬تحقيق األستاذ درويش الجويدي‪ ،‬المكتبة العصرية‪ ،‬صيدا‪ ،‬بيروت ‪2002‬م‪ ،‬ص‪ ،569‬ورجاء عيد‪،‬‬
‫‪/‬ال‬‫‪/‬وب وميش‪/‬‬ ‫البحث األسلوبي‪ -‬معاصرة وتراث ‪ ،-‬منشأة المعارف باإلسكندرية ‪1993‬م‪ ،‬ص ‪ ،199‬وإميل بديع يعق‪/‬‬
‫عاصي‪ ،‬المعجم المفصل في اللغة واألدب‪ ،‬مج‪( ،1‬أ‪.‬ز)‪ ،‬دار العلم للماليين‪ ،‬ط‪ ،1‬بيروت ‪1987‬م‪ ،‬ص‪.99‬‬
‫‪ ‬نعني بالقدرة اللغوية الملكة اللسانية‪ ،‬وهي في نظر ابن خلدون قدرة اللسان على التحكم في اللغة والتصرف فيها‪ ،‬وهذا ما‬
‫يتفق مع تفسير المعاجم لمعنى (الملكة) عموما‪ ،‬فهي تعني احتواء الشيء مع االستبداد به‪ ،‬وهي منسوبة إلى اللسان الذي هو‬
‫محلها‪ ،‬وتصير ملكة له إذا احتوى اللغة وتمكن منها واستبد بها‪ ،‬ينظر‪ :‬ميشال زكريا‪ ،‬الملكة اللسانية في مقدمة ابن خلدون‬
‫‪12‬‬
‫البنــاء األسلـوبي‬ ‫الفصــل األول‬

‫فرد من أفراد مجتمع معين وتمكنه من التعبير عَّم ا يريد بجمل معتبرة‪.‬‬
‫واألسلوب عند ابن خلدون يحتكم فيه إلى العقل في تقديره‪ ،‬ألّنه ملكة مركزة في الذهن تتوّلد‬
‫من ممارسة تراكيب الشعراء وحفظها والتعود عليها واحتذائها‪ ،‬وليس قواعد قياسية كما هي ح‪//‬ال‬
‫البالغة اّلتي تخّص هيئات التركيب‪ ،‬أو كاإلعراب في قوانينه القياسية (‪ ،)1‬لكن الّنص ليس تجميع‪ً//‬ا‬
‫‪/‬جّالت مختلف‪/‬‬
‫‪/‬ة من‬ ‫لكلمات تتوالى‪ ،‬إّنه كما يقول تودوروف(‪" :)‬مصنوع من جمل تنتس‪/‬‬
‫‪/‬ب إلى س‪/‬‬
‫سجّالت الكالم‪ ،‬والكالم مفهوم تقترب منه بعض المعاني لفظة أسلوب " (‪ ،)2‬وقد أبان ريف‪//‬اتير عن‬
‫مطابقة تامة بين األسلوب والّنص‪ ،‬فاألسلوب ليس وليد الّنص‪ ،‬إنه " الّنص عينه"(‪ ،)3‬ويض‪//‬يف أَّن ‪:‬‬
‫"النص سنن محدد ومعياري"(‪ ،)4‬ولكن المسدي يخالف ريفاتير في رؤيته لألسلوب‪ ،‬ليقّر ر أَّنه‪" :‬وليد‬
‫الّنص ذاته " (‪.)5‬‬
‫ويعد بحث ابن خلدون في األسلوب إضافًة وتوضيحًا لبحث األسلوب عند حازم القرطاجني‪،‬‬
‫فقد ربط بين األسلوب والفن األدبي‪ ،‬وربط كذلك بين األسلوب والمنشئ‪ ،‬وأَّك د أَّن األسلوب ص‪/‬‬
‫‪/‬ورة‬
‫‪/‬ئ‪،‬‬
‫‪/‬دى المنش‪/‬‬
‫ذهنية ال تأخذ الشكل المتجسد إال بتمام التركيب اللغوي الذي يرتبط بالقدرة اللغوية ل‪/‬‬
‫‪/‬د‬ ‫لدى "نوام تشومسكي"(‪ ،)‬والتي تستدعي معرفة المنش‪/‬‬
‫‪/‬ئ بالقواع‪/‬‬ ‫(‪) 6‬‬
‫والتي ترادف الكفاءة اللغوية‬
‫(دراسة ألسنية)‪ ،‬المؤسسـة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع‪ ،‬ط‪ ،2‬بيروت‪ -‬لبنان ‪1986‬م‪ ،‬ص‪ 35‬ومحمد عي‪//‬د‪،‬‬
‫الملكة اللسانية في نظر ابن خلدون‪ ،‬دار الثقافة العربية للطباعة ‪1979‬م‪ ،‬ص‪.5‬‬
‫‪ 1‬ينظر‪ :‬ابن خلدون‪ ،‬المقدمة‪ ،‬ص ‪.662‬‬
‫‪ ‬ولد تودوروف (‪ )Todorov‬بلغاي سنة ‪ ،1939‬عاش في بلغاريا ودرس فيها األدب البلغاري‪ ،‬ثم هاجر إلى فرنسا سنة‬
‫‪ 1963‬وحصل على جنسيتها فأعد أطروحة الحلقة الثالثة بإشراف روالن بارت‪ ،‬ثم نشرها بعد تحوريها بعن‪//‬وان‪ " :‬األدب‬
‫والداللة"‪ ،‬وهو اآلن باحث في المركز القومي للبحوث العلمية بباريس (‪ ،)C.N.R.S‬ويدرس الخطابة الرمزية بالمدرسة‬
‫‪/‬وم‬‫‪/‬وعي في عل‪/‬‬ ‫العليا التطبيقية بباريس‪ ،‬من أهم أعماله نشره لنظرية األدب‪ ،‬وتأليفه باالشتراك مع ديكرو للقاموس الموس‪/‬‬
‫اللسان‪ ،‬كما أنه يدير مع جيرار جينات (‪ )Gérard Ginette‬مجلة الشعرية (‪.)Poétique‬‬
‫‪2‬‬
‫‪Todorov tzvetan, poétique de la prose, coll., poétique, éd, seuil, paris, p38.‬‬
‫‪3‬‬
‫‪Michael riffaterre, essais de la stylistique structurale, éd, seuil, paris 1983, p26.‬‬
‫‪4‬‬
‫?‪.‬المرجع نفسه‪ ،‬ص‪11‬‬
‫‪ 5‬عبد السالم المسدي‪ ،‬األسلوبية واألسلوبية‪ ،‬الدار العربية للكتاب‪ ،‬ليبيا‪ -‬تونس ‪1977‬م ص‪.88‬‬
‫‪ 6‬إن دراسة اللغة تاريخ غني وطويل جدًا‪ ،‬ألنها بحث في العقل والفكر‪ ،‬فاللغة هي أفضل مزايا العقل وجوهره الثابت‪ ،‬لذلك‬
‫‪/‬ة‬‫‪/‬ة عالق‪/‬‬‫‪/‬ا‪ ،‬فاللغ‪/‬‬‫فهي تستخدم آليات متنوعة راسخة في القوى العقلية اإلنسانية‪ ،‬تعبر عن الفكر الذي يعتبر شيئا ثابتا فيه‪/‬‬
‫وطيدة بالعقل‪ ،‬فهي مكون من مكونات راسخة للمعرفة اإلنسانية‪ ،‬ونتاج عقلي خاص باإلنسان‪ ،‬وتجدر اإلشارة هاهنا في أن‬
‫االكتساب اللغوي مرده إلى الجانب العقلي‪ ،‬ألنه محل نقاش النظرية األلسنية والتوليدية والتحويلية التي تزعمه‪//‬ا الب‪//‬احث‬
‫اللساني تشومسكي‪ ،‬والموضوع الرئيسي لهذه النظرية هو اإلنسان‪ ،‬الذي يستمع ويتكلم ويتقن لغة جيدة‪ ،‬فعملي‪/‬ة التواص‪/‬ل‬
‫عنده اإللمام بلغته ومعرفة قواعدها‪ ،‬وذلك من خالل إنتاج عدد ال متناه من الجمل وضبطها‪ ،‬ينظ‪//‬ر‪ :‬ن‪//‬وام تشومس‪//‬كي‪،‬‬
‫المعرفة اللغوية (طبيعتها‪ ،‬أصولها‪ ،‬واستخدامها)‪ ،‬دار الفكر العربي‪،‬ط‪1992 ،1‬م‪ ،‬ص‪ ،1‬وفاطمة الطبال البركة‪ ،‬النظرية‬
‫األلسنية عند رومان جاكبسون‪ ،‬ط‪ ،1‬المؤسسة الجامعية للطباعة والنشر والتوزيع‪1993‬ص‪.12‬‬
‫‪/‬مبر (‪1928‬م)‬ ‫‪ ‬أفرام نوم تشومسكي لساني أمريكي من أسرة إسرائيلية متطرفة في أفكارها السياسية‪ ،‬ولد سو (‪ )7‬ديس‪/‬‬
‫بمدينة فالديلفيا بنسلفانيا وكان أبو عالًم ا في علم اللغة العبرية‪ ،‬تتلمذ على يد هاريس لكنه خالف أفكاره متأثرا بفكر جاكبسون‬
‫حتى حصل على رسالة الماجستير في علم الفونيمات الصرفي للعبرية الحديثة سنة (‪1955‬م)‪ ،‬ثم عين أس‪//‬تاًذ ا للس‪//‬انيات‬
‫بمعهد ماساتشوست التكنولوجي‪ ،‬ومازال يشغل هذا المنصب إلى يومنا هذا‪ ،‬ينظر‪ :‬جون ليونز‪ ،‬نظرية تشومسكي اللغوية‪،‬‬
‫‪13‬‬
‫البنــاء األسلـوبي‬ ‫الفصــل األول‬

‫الصرفية والنحوية التي ترتبط بها المفردات في البنية العميقة‪.‬‬


‫وبذلك يكون األسلوب لدى ابن خلدون طريقة التعبير المبنية على المستعمل في كالم العرب‪،‬‬
‫‪/‬انت‬
‫‪/‬روض وإن ك‪/‬‬
‫‪/‬ة والع‪/‬‬
‫‪/‬وم البالغ‪/‬‬
‫وهو فن يعتمد على الطبع والتمرس والتلطف خارج عن عل‪/‬‬
‫‪/‬ر‬
‫‪/‬انب آخ‪/‬‬
‫ضرورية إلصالح الكالم في مرتبة تالية لصورة األسلوب في الذهن من جانب‪ ،‬ومن ج‪/‬‬
‫تأكيد على وحدة النظام اللغوي وتفاعل مفرداته‪ ،‬وهذه العلوم متصلة فيما بينها اتصاًال وثيقًا منسجمًا‬
‫ِمَّما يتيح للمبدع أن يتميز في اإلبداع‪.‬‬
‫‪/‬تيعاب‬
‫‪/‬عرية هي اس‪/‬‬ ‫ن ابن خلدون يذهب إلى أَّن وظيفة األس‪/‬‬
‫‪/‬اليب الش‪/‬‬ ‫والمالحظ ِمَّما تقدم أ َّ‬
‫‪/‬ا‪،‬‬
‫‪/‬تي يحمله‪/‬‬
‫العلوم إدراكًا‪ ،‬ثم انتقاء منها ما يناسب التركيب الخاص بالشاعر‪ ،‬والصور الذهنية ال‪/‬‬
‫وهل هي متسعة لوظائف القدرات اللغوية واإلبداعية؟‪.‬‬
‫‪/‬ياغة‬
‫‪/‬ية ص‪/‬‬
‫‪/‬ا في قض‪/‬‬ ‫ومن هنا يتبين أَّن ابن خلدون قد أعطى للموهبة والمه‪/‬‬
‫‪/‬ارة مكانته‪/‬‬
‫األسلوب‪ ،‬كما أَّنه ربط بين الفن النثري والشعري‪ ،‬وفَّر ق بينهما باعتبار أَّن أساليب الشعر تالزم‪//‬ه‬
‫االستعارات والتشبيهات‪ ،‬وخلط الجد بالهزل‪ ،‬في حين يجب أن تنزه المخاطبات الديوانية عن ذلك‪،‬‬
‫‪/‬ات أو‬
‫‪/‬ذف أو إثب‪/‬‬
‫‪/‬از أو ح‪/‬‬
‫وقد صدق قوله حين قال‪ " :‬لكل مقاٍم أسلوب يخصه من إطناب أو إيج‪/‬‬
‫تصريح أو إشارة أو كناية واستعارة " (‪.)1‬‬
‫ومما يلفت االنتباه في تعريفات هؤالء العلماء الثالثة‪( :‬الجرجاني‪ ،‬حازم القرط‪//‬اجني وابن‬
‫َّ‬
‫‪/‬ورة‬
‫‪/‬دون مختص بص‪/‬‬ ‫أن كًّال منهم نظر إلى األسلوب من زاويٍة معينة‪ ،‬فهو عن‪/‬‬
‫‪/‬د ابن خل‪/‬‬ ‫خلدون) َّ‬
‫أما عند عبد القاهر فمفه‪//‬وم األس‪//‬لوب‬
‫األلفاظ (القالب)‪ ،‬وعند حازم هو مختص بصورة المعاني‪َّ ،‬‬
‫ينسحب على الصورتين اللفظية والمعنوية من غير انفصاٍل بينهما‪ ،‬وه‪//‬ذه هي النظ‪//‬رة األش‪//‬مل‬
‫لألسلوب‪.‬‬
‫‪/‬ه‪،‬‬
‫‪/‬اتب من عرض‪/‬‬ ‫وبهذا الدأب نجد أَّن األساليب تختلف فيما بينها وفق ما يهدف إلي‪/‬‬
‫‪/‬ه الك‪/‬‬
‫فالكتابة العلمية ذات طريقة ومنحى تختلف عن منحى الكتابة األدبية‪ ،‬واألسلوب النثري يسلك منهجا‬
‫غير المنهج الذي يسلكه األسلوب الِّش عري في طريقته‪.‬‬
‫ب‪ -‬األسلوب في الدراسات الحديثة‪:‬‬
‫أوضحت أغلب الدراسات الحديثة مفهومها لألسلوب انطالًقا من تعريف الك‪//‬ونت ج‪//‬ورج‬

‫ترجمة حلمي خليل‪ ،‬دار المعرفة الجامعية ‪ ،1990‬ص‪.11‬‬


‫‪1‬‬
‫?‪.‬ابن خلدون‪ ،‬المقدمة‪ ،‬ص‪490‬‬
‫‪14‬‬
‫البنــاء األسلـوبي‬ ‫الفصــل األول‬

‫(‪)‬‬
‫لسببين هما‪ :‬أوالهما‪ ،‬إدانة بيفون لفكرة طبقية األسلوب عند القدامى‪ ،‬وثانيهما‪ ،‬أَّنه وض‪/‬‬
‫‪/‬ع‬ ‫بيفون‬
‫تعريف أفالطون لألسلوب نصب عينه‪ ،‬فقد عَّر ف أفالطون األسلوب بأَّنه شبيه بالسمة الشخصية(‪،)1‬‬
‫فانتهى بيفون في ذلك إلى أَّن األسلوب هو الرجل محاوال من خالله ربط قيمه الجمالية بخاليا التفكير‬
‫الحَّية التي يستعيرها المقلدون عادة من المبدعين دون إدراك حقيقي لقيمها أو استغالل جي‪//‬دها (‪،)2‬‬
‫وقد صدر عن المسدي قوله‪ " :‬إَّن من الهِّيِن أن تنتزع المعارف واألحداث والمكتشفات أو أن ُتبدل‪،‬‬
‫بل كثيًر ا ما تترقى إذا ما عالجها َم ْن هو أكثر مهارة من صاحبها‪ ،‬كل تلك األشيـاء هي خارجة عن‬
‫ذات اإلنسان‪ ،‬أَّم ا األسلوب فهو اإلنسان َع ْيُنُه ‪ ،‬لذلك تعذر انتزاعه أو تحويله أو سلخه"(‪.)3‬‬

‫من خالل هذا النص يتضح أَّن األفكار عند بيفون تشكل وحدها عمق األسلوب المك‪//‬ون من‬
‫النظام والحركة‪ ،‬فهما وحدهما يشكالن آلية التفكير‪ ،‬وبيفون بهذا المنحى يكون قد التقى مع ما أق‪َّ//‬ر ه‬
‫ابن خلدون في نصنا السابق‪.‬‬

‫وقد تردد ذكر تعريف بيفون لألسلوب مئات المرات بأشكال مختلف‪//‬ة‪ ،‬وأدى اقتطاع‪//‬ه من‬
‫سياقه إلى انتقال مشكلة األسلوب إلى نطاق علم النفس الفردي‪ ،‬وجعل مقولة األس‪//‬لوب تش‪//‬ير إلى‬
‫شخصية مؤلف النص وخواصه النفسية‪ ،‬وبطبيعة األمر فإَّن تحليل األسلوب الف‪//‬ردي والخ‪//‬واص‬
‫األسلوبية المتعينة لمؤلف محدد أمر منطقي ومشروع‪ ،‬إال أَّن إقامة العالقة المتبادلة بين األس‪//‬لوب‬
‫‪/‬لوبي‬
‫ووقائع حياة المؤلف أو مالمحه الفردية المادية أو النفسية قد عاق فترة طويلة إقامة تصور أس‪/‬‬
‫يعتمد على مقوالت علم اللغة من ناحية‪ ،‬وتقدير باحث األدب من ناحية أخرى (‪.)4‬‬
‫(‪)‬‬
‫فعّر ف‬ ‫وقد كان لمقولة بيفون هذه أثر واضح في كثيٍر ِمَمن جاءوا بعده‪ ،‬فتبناها شوبنهاور‬

‫‪ ‬جورج بيفون ( ‪ )Georges Louis Leclair Comte Buffon‬عالم في الطبيعيات وأديب في نفس الوقت‪ ،‬عاش بين‬
‫سنتي (‪1707‬م – ‪1788‬م)‪ ،‬اهتم كثيًر ا بقيمة اللغة التي تكتب بها اآلثار عامة‪ ،‬واعتبر أن اللغة في صياغتها ونظام األفكار‬
‫التي تحملها إنما تكشف عن شخصية صاحبها‪ ،‬وال يخلد أثر إال إذا أحمكت لغته‪ ،‬من أبرز مؤلفاته‪ :‬مقاالت في األس‪//‬لوب‪،‬‬
‫ينظر‪ :‬عبد السالم المسدي‪ ،‬األسلوبية واألسلوب‪ ،‬ص‪.240‬‬
‫‪ 1‬هنريش بليث‪ ،‬البالغة واألسلوبية‪ ،‬ترجمة محمد العمري‪ ،‬منشورات دراسات ساك‪ ،‬ص‪.33‬‬
‫‪ 2‬أحمد درويش‪ ،‬دراسة األسلوب بين المعاصرة والتراث‪ ،‬ص‪ ،18‬وينظر‪ :‬عبد السالم المسدي‪ :‬األسلوبية واألسلوب ص‬
‫‪/‬رية‬‫‪ , 63-60‬وينظر‪ :‬أحمد الشايب‪ ،‬األسلوب‪ ،‬دراسة بالغية تحليلية ألصول األساليب األدبية‪ ،‬ط‪ ،6‬النهضة المص‪/‬‬
‫‪1966‬م‪ ،‬ص ‪.7‬‬
‫‪ 3‬عبد السالم المسدي‪ ،‬األسلوبية واألسلوب‪ ،‬ص‪.63‬‬
‫‪ 4‬صالح فضل‪ ،‬علم األسلوب – مبادئه وإجراءاته –‪ ،‬ص‪.84‬‬
‫‪ ‬فيلسوف ألماني (‪ ،)1860-1788‬رأى أن الوجود قائم على اإلرادة المطلقة غير أن إرادة الحياة تنشأ عنها ك ل المفاسد‬
‫‪/‬ر‪:‬‬
‫‪/‬ق الفن‪ ،‬ينظ‪/‬‬ ‫فتؤول باإلنسان إلى دوامة اللذة فاأللم فالقلق على أن اإلنسان قد وهب الذكاء وهو كفيل بتحريره عن طري‪/‬‬
‫عبد السالم المسدي‪ ،‬األسلوبية واألسلوب‪ ،‬ص‪.245‬‬
‫‪15‬‬
‫البنــاء األسلـوبي‬ ‫الفصــل األول‬

‫(‪)‬‬
‫ثم صاغها‪ ،‬فقال‪ً " :‬يعتبر األسلوب وحده طريقة‬ ‫األسلوب بكونه مالمح الفكر (‪ ,)1‬وتمثلها فلوبير‬
‫ن جوهر اإلنسان كامن في لغت‪//‬ه‬
‫مطلقة في تقدير األشياء" (‪ ،)2‬وكذلك فعل ماكس جوب إذ قال‪ " :‬إ َّ‬
‫وحساسيته " (‪.)3‬‬
‫(‪)‬‬
‫‪/‬تخدمًا المنهج‬
‫تحديد مفهوم األسلوب انطالقا من هذه المقولة‪ ،‬مس‪/‬‬ ‫ثم حاول ميشال ريفاتير‬
‫العلمي في الدراسة‪ ،‬ومنتهيًا إلى أنَّه علم ُيعنى بدراسة أسلوب اآلثار األدبية دراس‪//‬ة موض‪//‬وعية‪،‬‬
‫تنطلق من اعتبار النّص األدبي بنية ألسنية‪ ،‬تتحاور مع السياق المضموني تحاورًا خاصًا(‪.)4‬‬
‫‪/‬رحه‬
‫‪/‬ك ش‪/‬‬
‫‪/‬د ذل‪/‬‬
‫ويقدم ريفاتير في كتابه الأسلوبية البنيوية تعريفًا محددًا لألسلوب يتولى بع‪/‬‬
‫والتعليق عليه‪ ،‬فيقول‪" :‬يفهم من األسلوب األدبي كل شكل مكتوب فردي ذي قصد أدبي أي أس‪/‬لوب‬
‫مؤلف ما أو باألحرى أسلوب عمل أدبي محدد يمكن أن نطلق عليه الشعر أو النص وحتى أس‪//‬لوب‬
‫مشهد واحد "(‪.)5‬‬
‫إن هذا التعريف محدود للغاية وكان من األفضل أن‬
‫ويعلق المؤلف نفسه على تعريفه بقوله‪َّ " :‬‬
‫‪/‬ة‬
‫‪/‬تمر نتيج‪/‬‬
‫‪/‬تي ال تس‪/‬‬
‫نقول بدال من (شكل مكتوب)(كل شكل دائم)‪ ،‬حتى يشمل اآلداب الشفاهية ال‪/‬‬
‫للحفاظ المادي عليها كشكل نصي متكامل فحسب‪ ،‬بل بوجود خواص شكلية فيها تجعل من الميسور‬
‫فك شفراتها‪ ،‬مثل‪ :‬االفتتاحية الموسيقية بطريقة منظمة ومستمرة‪ ،‬وقابلة ألن نتعرف عليها ب‪//‬الرغم‬
‫من أي تنويعات أو أخطار في طريقة عزفها أو تفسيرها من مختلف القراء"(‪.)6‬‬
‫أما قوله‪(":‬ذو قصد أدبي) فال يشير في هذه الحالة إلى ما أراد المؤلف أن يقوله‪ ،‬وال يه‪//‬دف‬
‫َّ‬
‫ولكنه يعني أن خواص النص المحدد ت‪//‬دل على أن‪َّ//‬ه ينبغي‬
‫إلى التمييز بين األدب الجيد والرديء‪َّ ،‬‬
‫اعتباره عمًال فنيًا‪ ،‬وليس مجرد تعاقب كلمات‪ ،‬من هذه الخواص شكل الطباعة‪ ،‬وش‪//‬كل ال‪//‬وزن‪،‬‬
‫وعالمات األجناس األدبية‪ ،‬والعناوين الفرعية‪ ،‬مثل‪ :‬رواية أو قصة أو حتى ظه‪//‬وره في ال‪//‬وقت‬

‫‪ 1‬عبد السالم المسدي‪ ،‬األسلوبية واألسلوب‪ ،‬ص ‪.63‬‬


‫‪ ‬كاتب فرنسي (‪ ،)1880 -1821‬حاول وصف النفس البشرية في تقلباتها‪ ،‬ونظريته في الكتابة تتلخص في اعتباره أن‬
‫العبارة كلما قاربت الفكرة التصقت بها‪ ،‬وكلما التصقت بها ازدادت جماال‪ ،‬من أبرز مؤلفاته‪" :‬سالمبو"‪ ،‬و "السيدة بوفاري"‪،‬‬
‫و "التربية العاطفية"‪ ،‬ينظر‪ :‬عبد السالم المسدي‪ ،‬األسلوبية واألسلوب‪ ،‬ص‪.247‬‬
‫‪ 2‬المرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.63‬‬
‫‪ 3‬نفسه‪ ،‬ص ‪.63‬‬
‫‪/‬امس‪،‬‬‫‪ ‬أستاذ بجامعة كولوبيا أهم جامعات نيويورك بالواليات المتحدة‪ ،‬اختص بالدراسات األسلوبية منذ مطلع العقد الخ‪/‬‬
‫وأبرز مؤلفاته " محاوالت في األسلوبية الهيكلية "‪ ،‬ينظر‪ :‬عبد السالم المسدي‪ ،‬األسلوبية واألسلوب‪ ،‬ص‪.243‬‬
‫‪ 4‬عبد السالم المسّدي‪ ،‬محاوالت في األسلوبية الهيكلية‪ ،‬مجلة (الموقف األدبي)‪ ،‬العدد‪ ،3‬آذار ‪ ،1977‬ص‪.7‬‬
‫‪ 5‬صالح فضل‪ ،‬علم األسلوب‪ ،‬ص ‪.96‬‬
‫‪ 6‬المرجع نفسه‪ ،‬ص‪.97‬‬
‫‪16‬‬
‫البنــاء األسلـوبي‬ ‫الفصــل األول‬

‫الحاضر في مجموعات معينة قصصية أو مسرحية أو شعرية " (‪.)1‬‬


‫في كتابه‪( :‬علم األسلوب) م‪//‬ا يزي‪//‬د عن ثالثين تعريف‪ً//‬ا‬ ‫فضل(‪2006-‬م)‬ ‫ويحصي صالح‬
‫أن األسلوب هو محصلة مجموعة من االختيارات المقصودة بين عناصر‬
‫لألسلوب (‪ ،)2‬بيد َّإنه يرجح َّ‬
‫‪/‬اتب‬
‫‪/‬ك الك‪/‬‬
‫‪/‬اء ذل‪/‬‬
‫ن األسلوب المختص بكاتب معين دون سواه هو انتق‪/‬‬
‫اللغة القابلة للتبادل‪ ،‬بمعنى أ َّ‬
‫لتركيبات خاصة أو جمل معينة أو مفردات دون سواها ِمَّما يكشف عن م‪//‬زاج الك‪//‬اتب ورؤيت‪//‬ه‬
‫وأسلوب تفكيره‪.‬‬
‫فهذا موريه يؤكد أَّن األسلوب بالنسبة لنا هو "موقف من الوجود‪ ،‬وشكل من أشكال الكينونة‪،‬‬
‫وليس في الحقيقة شيئا نلبسه ونخلعه كالرداء‪ ،‬ولكنه الفكر الخالص نفسه والتحويل المعجز لش‪//‬يء‬
‫روحي إلى الشكل الوحيد الذي يمكننا به تلقيه وامتصاصه " (‪.)3‬‬
‫وذاك سيدلير يرى أَّن األسلوب هو " طابع العمل اللغوي وخاصيته التي يؤديها‪ ،‬وه‪/‬و أث‪/‬ر‬
‫‪/‬ة‬
‫‪/‬ل وينظم مجموع‪/‬‬
‫‪/‬درس ويحل‪/‬‬
‫عاطفي محدد يحدث في نص ما بوسائل لغوية‪ ،‬وعلم األسلوب ي‪/‬‬
‫الخواص التي يمكن أن تعمل‪ ،‬أو تعمل بالفعل في لغة األثر األدبي ونوعية تأثيرها والعالقات ال‪//‬تي‬
‫تمارسها التشكيالت الفعالة في العمل األدبي " (‪.)4‬‬

‫واآلخر روالن بارت (‪ )‬يرى أَّن األسلوب " ظاهرة ذات طبيعة البذور بهدف إلى نقل الحالة‬
‫والمزاج ليستزرعها الكاتب في نفس القارئ " (‪.)5‬‬
‫(‪)‬‬
‫بأَّنه "الشارة (‪ )Marque‬الدالة على فردانية الذات في‬ ‫وعرفه جون دوبوا (‪)J. Dubois‬‬
‫الخطاب" (‪.)6‬‬

‫‪ 1‬نفسه‪ ،‬ص‪.97‬‬
‫‪2‬‬
‫?‪.‬ينظر‪ :‬نفسه‪ ،‬ص‪ 81‬وما بعدها‬
‫‪3‬‬
‫?‪.‬صالح فضل‪ ،‬علم األسلوب – مبادئه وإجراءاته –‪ ،‬ص ‪85‬‬
‫‪ 4‬المرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.86‬‬
‫‪ ‬فرنسي األصل‪ ،‬ولد سنة (‪1915‬م)‪ ،‬اهتم بالنقد األدبي‪ ،‬فثار على مناهجه المتوارثة حتى شك في قيمة ما تلقنه الدراسات‬
‫الجامعية الكالسيكية في ميدان األدب‪ ،‬وقد عمل على إرساء قواعد نقد حديث فكان كتابه "الدرجة الصفر في الكتابة" بياًن ا‬
‫احتوى على فلسفة في الخطاب األدبي تعريًفا ونقًدا‪ ،‬فأرسى قواعد منهج نقدي نص‪/‬اني‪ ،‬ثم اتجهت عناي‪/‬ة ب‪/‬ارت إلى علم‬
‫العالمات فألف" فصول في علم العالمات " و" نظام الموضة " محاوال في كل ذلك كشف قوانين الداللة عامة مم‪//‬ا جع‪//‬ل‬
‫بحوثه األدبية النقدية تزداد ثراًء وقوًة في درب االعتراض على قدسية المؤلف وقدسية األثر‪ ،‬وقد سعى بارت إلى الكش‪//‬ف‬
‫عن الروابط العميقة بين اإلنسان والعالمات عموًم ا والسيما في أثره " لذة النص "‪ ،‬ينظر‪ :‬عبد السالم المسدي‪ ،‬األس‪//‬لوبية‬
‫واألسلوب‪ ،‬ص‪.237-236‬‬
‫‪ 5‬صالح فضل‪ ،‬علم األسلوب – مبادئه وإجراءاته –‪ ،‬ص ‪.95‬‬
‫‪ ‬ألسني فرنسي وهو أستاذ بجامعة باريس بنانتار (‪ ،)Nanterre‬من أبرز مؤلفاته سلسلة "النحو الهيكلي للغة الفرنسية"‪،‬‬
‫ينظر‪ ،‬عبد السالم المسدي‪ ،‬األسلوبية واألسلوب‪ ،‬ص‪.242‬‬
‫‪6‬‬
‫‪J. Dubois et Autres: Dictionnaire de linguistique, Librairie Larousse, Paris, 1973, p 45‬‬
‫‪17‬‬
‫البنــاء األسلـوبي‬ ‫الفصــل األول‬

‫(‪)‬‬
‫أَّن األسلوب هو " وجه للملفوظ‪ ،‬ينتج عن اختيار أدوات‬ ‫ويرى الناقد الفرنسي بيار جيرو‬
‫التعبير وتحدده طبيعة المتكلم أو الكاتب " (‪.)1‬‬
‫أن األسلوب هو مجموعة ألوان يصطبغ بها الخطاب ليصل‬
‫فجيرو من خالل نصه هذا يرى َّ‬
‫وشد انتباهه‪ ،‬وإثارة خياله‪ ،‬فهو مظهر القول الذي ينجم عن‬
‫عن طريقها إلى إقناع القارئ وإمتاعه‪َّ ،‬‬
‫اختيار وسائل التعبير والتي بدورها تحددها مقاصد المتكلم‪ ،‬أو الكاتب وطبيعته‪ ،‬وهذه عودة لص‪//‬لة‬
‫أن االنتقاء ِمَّما يميز الفنون عامة‪.‬‬
‫األسلوب باالنتقاء حصرًا مع َّ‬
‫وهناك تصورات أسلوبية أخرى تنحو إلى تعريف األسلوب دون اعتبار لمصدره وال تلقيه‪،‬‬
‫بل كشيء ماثل في النص نفسه‪ ،‬لكن على أساس أَّنه عنصر إضافي يتم تزيين النص به كحلية لشكله‬
‫وصياغته فيصبح األسلوب هو القشرة التي تلف ُلًّبا من الفكر أو التعبير الموجود من قب‪/‬ل أو زين‪/‬ة‬
‫تضاف إلى الَّنواة األساسية للقول‪ ،‬ومن نماذج هذا المفهوم تعريف ستاندال(‪" :)‬األس‪//‬لوب ه‪//‬و أن‬
‫تضيف إلى فكر معين جميع المالبسات الكفيلة بأحداث التأثير الذي ينبغي لهذا الفكر أن يحدثه"(‪.)2‬‬
‫ومعنى هذا الكالم أَّنه يسلم بوجود فكر معين قبل تجسده في كلمات‪ ،‬فاألسلوب إذن يص‪//‬بح‬
‫إضافة تقوم بوظيفة ال تتصل بالجمال بل على وجه التحديد بالفعالية والتأثير‪.‬‬
‫ومن هنا يتضح أَّن األسلوب هو البصمة الممّيزة للمبدع‪ ,‬ال‪//‬تي تعكس فك‪//‬ره وشخص‪//‬يته‬
‫ومشاعره وصفاته‪ ,‬وهو أيضًا الصورة التي يعكسها النص عن النواحي المختلفة للمبدع‪.‬‬
‫وقد ذهب هنريش بليث إلى أّن ربط األسلوب بصاحبه هو المفه‪//‬وم التعب‪//‬يري التكوي‪//‬ني‬
‫لألسلوب‪ ،‬وال يهتم بالنص مقصودًا لذاته (‪ ،)3‬والشاعر يكيف خطابه حسب األوض‪//‬اع والمقام‪//‬ات‬
‫االجتماعية‪ ،‬وتكييفه هذا لدى عبد السالم المسدي " ليس اصطناعا‪ ،‬ألّنه عفوي قلما يصحبه ال‪/‬‬
‫‪/‬وعي‬
‫ولكن االجتم‪//‬اعي‬
‫َّ‬ ‫المدرك "(‪ ،)4‬واألساليب عند الشاعر الواحد تتمايز طبقًا للموقف الذي يكون فيه‪،‬‬
‫‪/‬اتج عن‬
‫‪/‬لوب ن‪/‬‬
‫فإن األس‪/‬‬
‫الذي يربط الشعر بوعي الطبع‪ ،‬يلغي التكلف واألخذ في األسلوب‪ ،‬وبذلك َّ‬
‫يتحول بفعل العادة إلى ما يشبه التلقائية العفوية (الاستعداد)‬
‫َّ‬ ‫التمييز الواعي بين الطبقات االجتماعية‪،‬‬
‫‪ ‬ألسني فرنسي ودكتور في اآلداب وهو أستاذ األلسنية بجامعة نيس وجامعة فانكوفار‪ ،‬ألف في معظم فنون األلسنية بما يعد‬
‫مداخل لها‪ ،‬وهو يغذى بمؤلفاته سلسلة "ماذا أعرف؟‪ ،"Que sais je-‬ومما نشره فيها‪" :‬األسلوبية" و "علم أصول الكلمات"‬
‫و "علم العالملت"‪ ،‬المسدي‪ ،‬األسلوبية واألسلوب‪ ،‬ص‪.248‬‬
‫‪1‬‬
‫‪Pierre Guiraud, La stylistique, 7eme ed .coll. ¨que sais je ?¨, N 646. P.U.F.Paris,1972 p109.‬‬
‫‪ ‬أديب فرنسي (‪ ،)1842 – 1783‬تغنى بحساسية الجمال وحرارة العاطفة وصور عبثية المواضعات االجتماعية‪ ،‬ينظر‪:‬‬
‫عبد السالم المسدي‪ ،‬األسلوبية واألسلوب‪ ،‬ص‪.244‬‬
‫‪ 2‬صالح فضل‪ ،‬علم األسلوب‪ ،‬ص‪.87‬‬
‫‪ ? 3‬ينظر‪ :‬هنريش بليث‪ ،‬البالغة واألسلوبية‪ ،‬ترجمة وتعليق‪ :‬محمد العمري‪ ،‬إفريقيا‪ ،‬للشرق‪ ،‬بيروت ‪ ،1999‬ص‪.52‬‬
‫‪ 4‬عبد السالم المسدي‪ ،‬األسلوبية واألسلوب‪ ،‬ص‪.80‬‬
‫‪18‬‬
‫البنــاء األسلـوبي‬ ‫الفصــل األول‬

‫في اختيار الكلمات والجمل المكّو نة لألسلوب كأداة جمالية‪/‬إبالغية‪ ،‬يختارها الشاعر طريقة ومذهبًا‬
‫له‪.‬‬
‫لقد كان تعريف بيفون لألسلوب األثر البالغ األهمية في تغِّير نظرة الدارسين الغربيين‪ ،‬وهذا‬
‫‪/‬ات‬
‫‪/‬أغلب الدراس‪/‬‬
‫‪/‬رب‪ ،‬ف‪/‬‬
‫األثر لم يقتصر على الغرب فقط‪ ،‬بل وجد هذا التعريف منفذا له عند الع‪/‬‬
‫العربية الحديثة لألسلوب ربطت بين األسلوب ومنشئه‪.‬‬
‫الشايب يفهم األسلوب من باب داللة اللفظ على معناه‪ ،‬أي أَّنه مرحلة تالية لفكر‬
‫فاألستاذ أحمد َّ‬
‫الشاعر‪ ،‬فيقول‪" :‬إَّن األسلوب معاٍن مرتبة قبل أن يكون ألفاظًا منّس قة وهو يتكون في العقل قب‪//‬ل أن‬
‫يجري به اللسان أو يجري به القلم" (‪.)1‬‬
‫إّن األسلوب كما يسميه أحمد الشايب (التنسيق) هو وسيلة الشاعر في صوغ الداخل وكشفه‪،‬‬
‫واختيار مرتبط بالجزء المادي الخارجي بالتأليف يفرضه المحتوى‪ ،‬أي َّأنه محتوى ال شكًال ‪ ،‬وق‪//‬د‬
‫يكون الشايب متأثرًا في هذه الرؤية بعبد القاهر الجرجاني‪ ،‬فما رّس خه في الذهن النقدي هو المع‪//‬نى‬
‫(‪)‬‬
‫التي يك‪//‬ون‬ ‫الذي يفرض تركيبًا خاصًا وصورة مخصوصة‪ ،‬والبديل األسلوبي هو شعرية النص‬
‫‪/‬مى‬
‫‪/‬د تس‪/‬‬
‫‪/‬تي ق‪/‬‬
‫‪/‬ة ال‪/‬‬
‫فيها الشكل ذاته المعنى‪ ،‬فيقول في هذا المضمار‪" :‬وأخيًر ا نجد العبارة اللفظي‪/‬‬
‫‪/‬ا‬
‫‪/‬ة ‪ ...‬ومن هن‪/‬‬
‫األسلوب‪ ،‬وهي الالزمة لنقل وإظهار ما في نفس األديب من تلك العناصر المعنوي‪/‬‬
‫نستطيع أن نعرف األدب بأنه الكالم الذي يعبر عن العقل والعاطفة "(‪.)2‬‬
‫كما أَّن أحمد الشايب يربط األسلوب بشخصية الشاعر‪ ،‬إَّنه أداته الجمالية في التأليف والتعبير‬
‫عما في داخله‪ ،‬إذ يقول‪" :‬إَّن أسلوب الكاتب أو الشاعر أو الخطيب نتيجة طبيعية لمواهبه وص‪//‬ورة‬
‫َّ‬
‫‪/‬ه‬
‫‪/‬اغه بلغت‪/‬‬
‫‪/‬ه وص‪/‬‬
‫لشخصيته هو‪ ،‬وإذًا ال يمكن أن يكون صادقًا قويًا ممتازًا إال إذا استمّده من نفس‪/‬‬
‫تبين طريقة تفكيره وكيفي‪//‬ة‬
‫ألن كل األسلوب صورة لصاحبه ِّ‬
‫وعبارته دون تقليد سواه من األدباء‪َّ ،‬‬
‫نظرته لألشياء وتفسيره لها‪ ،‬وطبيعة انفعاالته‪ ،‬فالذاتية هي أساس تكوين األسلوب "(‪.)3‬‬

‫‪/‬ة‬ ‫ويترتب عن هذا أَّن أصل األسلوب هو الطبع غير الخرافي‪ ،‬مجّس دًا في مب‪/‬‬
‫‪/‬دئي الموهب‪/‬‬

‫‪ 1‬أحمد الشايب‪ ،‬األسلوب‪ ،‬ص‪.40‬‬


‫‪ ‬بدأ مصطلح "الشعرية" يتخذ أهمية خاصة في أوائل القرن التاسع عشر بإنجلترا‪ ،‬بعد أن ثار الشعراء الرومانتيكيون على‬
‫‪/‬اص في‬‫‪/‬لوب خ‪/‬‬ ‫‪/‬عر بأس‪/‬‬‫العبرات الشعرية المتكلفة التي كان يتميز بها شعراء القرن الثامن عشر‪ ،‬إال أَّن فكرة اقتران الش‪/‬‬
‫العبارة يرجع إلى أرسطو الذي عالج هذا الموضوع في كتابه " فن الشعر" (الفصل‪ 19‬إلى آخر الفصل ‪ ،)22‬ينظر‪ :‬مجدي‬
‫وهبة‪ ،‬معجم مصطلحات األدب‪ ،‬ص ‪.418‬‬
‫‪ 2‬أحمد الشايب‪ ،‬األسلوب‪ ،‬ص‪.12‬‬
‫‪ 3‬المرجع نفسه‪ ،‬ص‪.133‬‬
‫‪19‬‬
‫البنــاء األسلـوبي‬ ‫الفصــل األول‬

‫واالستعداد‪ ،‬كما أَّنه صنعة مضافة‪ ،‬تنفي أن يكون الشاعر راوية ألساليب الخرافي‪ ،‬وتؤّك د اختي‪/‬‬
‫‪/‬اره‬
‫ووعيه وحضوره‪ ،‬وكّلها معالم ال مجال فيها لألخذ أو التقليد أو السرقة‪.‬‬
‫واألستاذ أمين الخولي في كتابه (فن القول) يهدف إلى التجدي‪//‬د في مي‪//‬دان البحث البالغي‬
‫‪/‬خص‬
‫‪/‬ط بين الش‪/‬‬
‫وربطه بالمباحث الحديثة في األسلوب عند الغربيين‪ ،‬فعم‪//‬د المؤل‪//‬ف إلى الرب‪/‬‬
‫وأسلوبه(‪ ،)1‬وما قيل عن الخولي يقال عن الشايب‪.‬‬
‫اٌع‬ ‫وقد حاول األستاذ أحمد حسن الزيات هو اآلخر أن ُيَع ِّر َف األسلوب من خالل كتابه (ِد َف‬
‫‪/‬لوب‬ ‫َع ِن الَبالَغ ِة)‪ ،‬فحاول فيه الجمع بين التراث البالغي القديم وحصيلة الدراسات المتعلق‪/‬‬
‫‪/‬ة باألس‪/‬‬
‫‪/‬ني من‬ ‫عند الغرب‪ ،‬فرأى أَّن األسلوب ليس هو المعنى وحده‪ ،‬وال اللفظ وحده‪ ،‬وإَّنما هو م‪/‬‬
‫‪/‬ركب ف‪/‬‬
‫‪/‬ور‪،‬‬ ‫عناصر مختلفة َيْس َتِمُّدَه ا الفنان من ذهنه‪ ،‬ومن نفسه وذوقه‪ ،‬تلك العناصر هي األفك‪/‬‬
‫‪/‬ار والص‪/‬‬
‫والعواطف‪ ،‬ثم األلفاظ المركبة‪ ،‬والمحسنات المختلفة (‪ ،)2‬واألسلوب في نظره " طريقة الك‪//‬اتب أو‬

‫الشاعر الخاصة في اختيار األلفاظ وتأليف الكالم‪ ،‬وهذه الطريقة فضال عن اختالفه‪//‬ا في الُك َّت اِب‬
‫والشعراء تختلف في الكاتب أو الشاعر نفسه باختالف الفن‪ ،‬أي يعالجه والموضوع ال‪//‬ذي يكتب‪//‬ه‪،‬‬
‫والشخص الذي يتكلم بلسانه أو يتكلم عنه " (‪.)3‬‬

‫‪/‬ذي‬
‫‪/‬د أمين‪ ،‬ال‪/‬‬
‫ومن الدارسين العرب الذي تأثروا بمقول بيفون ‪ -‬كذلك ‪ -‬نجد األستاذ أحم‪/‬‬
‫يرى أَّن األسلوب هو "اختيار الكالم المناسب لمقاصد صاحبه‪ ،‬أي هو نظم الكالم وطريقة الكاتب أو‬
‫منشئ الخطاب الخاصة في التعبير عن أفكاره‪ ،‬وهذه الكلمات المختارة ال يتم انتقاؤه‪//‬ا من ناحي‪//‬ة‬
‫معانيها‪ ،‬وإَّنما من الناحية الفنية ووقعها الموسيقي‪ ،‬وهذا ما يفِّس ر تآلف كلمة مع كلمة‪ ،‬وعدم ت‪//‬آلف‬
‫نفس الكلمة مع كلمة أخرى " (‪.)4‬‬
‫وُيرجع محمد غنيمي هالل تعريف األسلوب إلى أرسطو في كتابه (الخطابة)‪ ،‬فاألسلوب عند‬
‫أرسطو شامال للشعر وكل الفنون‪ ،‬وهو التعبير ووسائل الصياغة‪ ،‬وهو متصل بنظرية المحاكاة‪ ،‬بيد‬
‫أَّن غنيمي هالل يفرق بين خصائصي أسلوب الشعر والنثر‪ ،‬وفي األسلوب ذاته منها ما هو حقيقي‪،‬‬
‫ومنها ما هو مجازي‪ ،‬ويرجع ذلك إلى قدرة صاحب الخطاب على االبتكار في األسلوب (‪.)5‬‬
‫إَّال أَّن األستاذ رجاء عيد ال ينظر إلى األسلوب على أَّنه يجّس د شخصية الشاعر كلها‪ ،‬مع أَّنه‬
‫‪ 1‬نفسه‪ ،‬ص‪.12‬‬
‫‪ 2‬أحمد حسن الزيات‪ ،‬دفاع عن البالغة‪ ،‬عالم الكتب‪ ،‬ط‪1967 ،2‬م‪ ،‬ص‪.74‬‬
‫‪ 3‬المرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.68‬‬
‫‪ 4‬أحمد أمين‪ ،‬النقد األدبي‪ ،‬طبعة أنيس‪ ،‬الجزائر ‪ 1972‬م‪ ،‬ص‪(.33‬بتصرف)‪.‬‬
‫‪5‬‬
‫?‪.‬محمد غنيمي هالل‪ ،‬النقد األدبي الحديث‪ ،‬ط‪ ،1‬دار العودة‪ ،‬بيروت ‪ ،1982‬ص ‪118‬‬
‫‪20‬‬
‫البنــاء األسلـوبي‬ ‫الفصــل األول‬

‫‪/‬ون‬
‫‪/‬ه‪ ،‬ومن ثّم تك‪/‬‬
‫‪/‬اتب نفس‪/‬‬
‫‪/‬زءًا من ذهن الك‪/‬‬
‫يعبر عن خصوصية في األداء‪ ،‬لذلك فهو يمثل "ج‪/‬‬
‫‪/‬ل‬
‫‪/‬ة "(‪)1‬؛ وتظ‪/‬‬
‫‪/‬ورة عام‪/‬‬
‫خصائصه األسلوبية‪َّ ،‬إنما هي المادة التي تتشكل منها معطيات فكره بص‪/‬‬
‫عبقرية الشاعر مهما يقل عن طبع األسلوب متجّس دة في خلقه لنماذج تعبيرية جديدة ومفاجئة للذوق‪،‬‬
‫ودالة في الوقت نفسه عن عمق البصر بصنعة الشعر تنوعًا واتساعًا‪.‬‬
‫‪/‬اعر‬
‫‪/‬ا الش‪/‬‬
‫‪/‬ة يلهم به‪/‬‬ ‫وهناك من ينظر إلى األسلوب في نشأته ونموه على أَّنه س‪/‬‬
‫‪/‬مة طبيعي‪/‬‬
‫وتكشف عن فرادته وطريقة تفكيره وتقديره لألشياء‪ ،‬بحيث ينجز التطابق بين األسلوب ومحت‪//‬وى‬
‫الخطاب‪ ،‬وهذه النظرة ال تخلو كما يتصور المسّدي من روح عفوية ونسبية قديمة‪ ،‬تشد األس‪//‬لوب‬
‫‪/‬ذه‬
‫‪/‬ا ه‪/‬‬
‫‪/‬وي عليه‪/‬‬ ‫إلى عبقرية صاحبه وكأَّنه يحّس وال يعّبر‪ ،‬أو َّأنه أداة لكشف الطاقات ال‪/‬‬
‫‪/‬تي تنط‪/‬‬
‫العبقرية‪ِ ،‬مَّما يجعل منه في أثناء نشأته حالة تلقائية مستقرة في ال وعي الشاعر(‪.)2‬‬

‫ألنه يتنّز ل على الشاعر‪ ،‬وتتشرب به النفس وتلهم‪،‬‬


‫وهذا المذهب يقّر ب األسلوب من الطبع‪َّ ،‬‬
‫إّن األسلوب حركة إسقاطية إلماحية من أعلى غامض‪ ،‬ال اختيار فيه وال نظر‪ ،‬وهذا ما ال يستس‪/‬‬
‫‪/‬يغه‬
‫األسلوبيون‪ ،‬ويقاومون االعتقاد به‪ ،‬ويؤكدون‪" :‬إّن األسلوب عملية واعية تقوم على اختي‪//‬ار يبل‪//‬غ‬
‫تمامه في إدراك صاحبه كّل مقّو ماته‪ ،‬هو الذي يحدث خط الفصل بين التقديرات الفلسفية لألس‪//‬لوب‬
‫والتقديرات الموضوعية التجريبية " (‪.)3‬‬

‫واألسلوب يتولد في االنتقال الواعي من اإلخبار إلى اإليحاء‪ ،‬أي َّأنه مثير يحدث اس‪//‬تجابة‪،‬‬
‫وجوهر التعبير الشعري هو الجمال المتوّخ ى من نص الخطاب‪َّ ،‬إنه يتض‪//‬من في منظ‪//‬ور من‪//‬ذر‬
‫عّياشي‪" :‬من معاني التفنن والصنعة ما ليس في اللغة النفعية لإليصال المباشر‪ ،‬كما هو منج‪//‬ز في‬
‫الحياة اليومية " (‪.)4‬‬

‫‪/‬ة‬
‫‪/‬داولي (لغ‪/‬‬
‫وقد أوضح عّياشي في دراسته لألسلوب‪ ،‬دور المرسل في اإليصال النفعي الت‪/‬‬
‫الحياة اليومية)‪ ،‬فهو يتكلم لغته الطبيعية ويؤدّيها بطريقة تلقائية تفتقر إلى الممايزة أو ك‪ّ//‬د ال‪//‬ذهن‪،‬‬
‫‪/‬ة‬
‫وطبقًا للقواعد المتواضع عليها من حيث األداء‪ ،‬في جوانبها الصوتية والصرفية والنحوية والداللي‪/‬‬

‫‪ 1‬رجاء عيد‪ ،‬البحث األسلوبي ‪ -‬معاصرة وتراث ‪ ،-‬منشأة المعارف‪ ،‬الإسكندرية ‪ ،1993‬ص ‪.125‬‬
‫‪2‬‬
‫?ينظر‪ :‬المسدي‪ ،‬األسلوبية واألسلوب‪ ،‬ص ‪ 66‬ـ ‪.70‬‬
‫‪3‬‬
‫?‪.‬المرجع نفسه‪ ،‬ص ‪75‬‬
‫‪4‬‬
‫?‪.‬منذر عياشي‪ ،‬مقاالت في األسلوبية‪ ،‬ط‪ ،1‬اتحاد كتاب العرب‪ ،‬دمشق‪ -‬سوريا ‪ ،1990‬ص‪149‬‬
‫‪21‬‬
‫البنــاء األسلـوبي‬ ‫الفصــل األول‬

‫(‪. ) 1‬‬
‫‪/‬د عن‬
‫فالمرسل إذن‪ ،‬يخضع دون نظر (فهم ومعرفة) لما يتفق عليه المجتمع‪ ،‬ويلتزم به ليبع‪/‬‬
‫نفسه كل سوء فهم قد يطرأ سريعًا في حال الرغبة في العدول عن هذا األداء اليومي المباشر الق‪//‬ائم‬
‫على ثالثية محورية هي‪ :‬المرسل والرسالة والمرسل إليه في دائرة مغلقة من التواص‪//‬ل الي‪//‬ومي‪،‬‬
‫‪/‬ة المعجم‬
‫‪/‬اعر في تخطي ثقاف‪/‬‬
‫وهي أقرب إلى الطبع (المعاودة والتلقائية)‪ ،‬وبذلك يتميز أسلوب الش‪/‬‬
‫والمتداول اليومي إلى ثقافة الصنعة‪ ،‬وقد ذهب بيار جيرو ‪ -‬كما ي‪//‬ذكر من‪//‬ذر عياش‪//‬ي‪ -‬إلى أّن‬
‫األسلوب هو ما يستطيع اإلنسان صنعه‪ ،‬أي أنه مساٍو للتصرف(‪.)2‬‬
‫ولتخطي التفسير الغيبي لأللفاظ‪ ،‬الذي يتعارض مع مشيئة الشاعر في أسلوبه‪ ،‬عليه أن يدرك‬
‫‪/‬ة‬
‫‪/‬دي من الحقيق‪/‬‬
‫‪/‬وعي والقص‪/‬‬ ‫أّنه مبتدع ومؤّس س ال تابعًا أو محتذيًا‪َّ ،‬‬
‫فإن األسلوب هو التحول الن‪/‬‬
‫الواقعة إلى األخرى المتوقعة التي هي دليل خصوصية‪ ،‬وال يتأتى ذلك إال باالنتقال من فكرة التكلف‬
‫‪/‬د ع‪َّ/‬ر ف‬
‫‪/‬ة‪ ،‬وق‪/‬‬
‫‪/‬ة تعبيري‪/‬‬
‫‪/‬ة وكثاف‪/‬‬
‫في األسلوب إلى عّده صنعة تكشف في عمقها عن مهارة كيفي‪/‬‬
‫‪/‬ة"(‪،)3‬‬ ‫الشعر بأَّنه‪ " :‬فن لفظي‪ ،‬وإذن فهو يستلزم‪ ،‬قبل كل شيء‪ ،‬استعماًال خاص‪/‬‬
‫‪ً/‬ا للغ‪/‬‬ ‫(‪)‬‬
‫جاكبسون‬
‫بمعنى أّن الشعر هو خلق ضمن نظام اللغة وقوانينها وفعلها‪.‬‬
‫ومن هنا فاألسلوب كصنعة هو "عالمة فارقة لنص من النصوص"(‪ ،)4‬ألّن اللغة باألس‪//‬لوب‬
‫"تخلق شكلها الخاص"(‪ ،)5‬وهذا الشكل الخاص هو ما يفّر ق بين لغة الشعر ولغة الخط‪//‬اب الي‪//‬ومي‬
‫‪/‬ه‬
‫‪/‬رق عن كون‪/‬‬
‫‪/‬اد يف‪/‬‬
‫المبتذل‪ ،‬فاألولى بوساطة جماليات األسلوب تنفرد بشكلها الخاص الذي ال يك‪/‬‬
‫نظامًا‪ ،‬إال أّن اللفظ كداللة معجمية محورية استغرق كثيرًا جهود التراث‪//‬يين‪ ،‬حيث انص‪//‬بت بعض‬
‫تحليالتهم وتنظيراتهم على بنية اللفظ الصوتية‪ ،‬ال على الخطاب الشعري نفسه كبنية كلية‪ ،‬والس ‪ّ/‬يما‬
‫‪ 1‬ينظر‪ :‬المرجع نفسه‪ ،‬ص‪.147‬‬
‫‪ 2‬منذر عياشي‪ ،‬مقاالت في األسلوبية‪ ،‬ص‪.37‬‬
‫‪/‬ير‬ ‫‪/‬و س‪/‬‬‫‪ ‬ولد جاكبسون بموسكو سنة ‪ ،1896‬واهتم منذ سنه األولى باللغة واللهجات والفلكلور فاطلع على أعمال س‪/‬‬
‫وهيسارل‪ ،‬وفي سنة ‪ 1915‬أسس بمعية ستة طلبة "النادي األلسني بموسكو" وعنه تولدت مدرسة الشكالنيين الروس‪ ،‬وفي‬
‫سنة ‪ 1920‬انتقل إلى تشيكوسلوفاكيا فأعد الدكتورة سنة ‪ 1930‬بعد أن أسهم في تأسيس "النادي األلسني ببراغ" وهو النادي‬
‫الذي احتضن مخاض الناهج الهيكلية في صلب البحوث اإلنشائية والصوتية والصرفية‪ ،‬وفي خضم هذه الحقبة تبلورت أهم‬
‫‪/‬درس‬ ‫منطلقات المبدئية في عالقة الدراسة اآلنية بالدراسة الزمانية لدى جاكبسون‪ ،‬وفي سنة ‪ 1933‬انتقل إلى مدينة برنو ف‪/‬‬
‫بجامعة مازاريك وبلور نظريته في الخصائص الصوتية الوظائفية‪ ،‬وفي سنة ‪ 1939‬انتقل إلى الدانمارك والنورفاج فدرس‬
‫‪/‬ل إلى‬‫‪/‬نة ‪ 1941‬رح‪/‬‬ ‫‪/‬ات الكالم‪ ،‬وفي س‪/‬‬‫في كوبنهاق وأسلو وقد تميزت هذه المرحلة بأبحاثه في لغة األطف‪/‬ال وفي عاه‪/‬‬
‫‪/‬وجي‬ ‫‪/‬د التكنول‪/‬‬
‫‪/‬ارد والمعه‪/‬‬‫‪/‬ة هارف‪/‬‬
‫‪/‬ل إلى جامع‪/‬‬ ‫‪/‬تروس‪ ،‬ثم انتق‪/‬‬
‫الواليات المتحدة فدرس في نيويورك وعرف بليفي س‪/‬‬
‫بمساشيوستس وهناك رسخت قدمه في التنظير األلسني حتى غدت أعماله معيًنا لكل التيارات األلسنية‪ ،‬من أبرز مص‪//‬نفاته‬
‫"محاوالت في األلسنية العامة"‪ ،‬عبد السالم المسدي‪ ،‬األسلوبية واألسلوب‪ ،‬ص ‪.241‬‬
‫? ‪3‬‬
‫‪Roman Jakobson, Essais de Linguistique Générale, éd, de minuit, Paris 1970, p77.‬‬
‫‪ 4‬منذر عياشي‪ ،‬مقاالت في األسلوبية‪ ،‬ص‪.41‬‬
‫‪ 5‬المرجع نفسه‪ ،‬ص‪.40‬‬
‫‪22‬‬
‫البنــاء األسلـوبي‬ ‫الفصــل األول‬

‫وإنما ه‪//‬و‬
‫أن هذا النوع من التذوق لم يأِت مصادفة‪َّ ،‬‬
‫في مسألة السرقات الشعرية‪ ،‬وعلى الرغم من َّ‬
‫درجة شبيهة بالطبع‪ ،‬إال أَّنه تعوزه الفاعلية والتدبر والتفكير البعيد لتأّس سه على قبول الشيء سريعًا‬
‫أو رفضه سريعًا‪.‬‬
‫‪/‬نزع‬
‫‪/‬ة الم‪/‬‬
‫‪/‬ة‪ ،‬وأحادي‪/‬‬
‫‪/‬ير متعدي‪/‬‬
‫وقراءة الشعر ‪ -‬على هذا المنوال ‪ -‬هي قراءة بسيطة غ‪/‬‬
‫فإن‬
‫والنظرة‪ ،‬إذ َّإنها حاصرت مخيلة المبدع‪ ،‬وفرضت على تأليفه نوعًا من التقويم الجزئي‪ ،‬وبذلك َّ‬
‫‪/‬اظ‬
‫ل من إتقان النص إلى إتقان اللفظ‪ ،‬أساء كثيرًا إلى التجربة الشعرية وصّيرها إلى مجّر د ألف‪/‬‬
‫حُّو َ‬
‫الت َ‬
‫َّ‬
‫عما يرد‬
‫مبعثرة ومتفاوتة التأثير‪ ،‬فنقاد اللفظ المفرد وضعوا أنفسهم موضع القارئ من حيث الرضى َّ‬
‫أن اللفظ الفصيح طبع (يماثل الذوق ويرضيه)‪ ،‬وغير الفصيح صنعة (يناقض الذوق‬
‫أو تقبيحه‪ ،‬أي َّ‬
‫الفطري الخالص)‪ ،‬فهل كان النقاد التراثيون يعنون بالطبع (الصنعة) في بعض وجوه‪//‬ه ال‪//‬تي لم‬
‫يظهر فيها تكلف؟‪.‬‬
‫إّن أسلوب العمل الشعري هو البديل عن تلك النزعة التجزيئية التي توّح د المواقف الذوقي‪//‬ة‬
‫وتطبعها‪ ،‬وسعيًا لفهمه بمنأى عن سلطة المواد اللفظية ظفر األسلوب بعناية النصوص النقدية القديمة‬
‫‪/‬لوبية‬
‫‪/‬وث األس‪/‬‬
‫‪/‬ر البح‪/‬‬
‫والدارسين والمحدثين في رصيدهم النقدي المتخصص الذي ال يخلو من أث‪/‬‬
‫الغربية‪.‬‬
‫‪/‬د عن‬
‫إن األسلوب يعنى بتقنية الكتابة وآليتها‪ ،‬وبالصياغة والنظم والتنسيق لم نبتع‪/‬‬
‫وإذا قلنا‪َّ :‬‬
‫الصواب‪َّ ،‬إنه مجموعة من العناصر والوجوه‪ ،‬وتأتي التعريفات المتعددة الغزيرة كي تركز على َّ‬
‫أن‬
‫أحد هذه العناصر أو الوجوه‪ ،‬فهي‪ -‬أي التعريفات‪ -‬في مجموعها صحيحة‪ ،‬ومن خالل مجموع هذه‬
‫التعريفات يبرز الكيان الكامل لألسلوب‪.‬‬

‫جـ‪ -‬خصائـص األسلـوب‪ :‬ومن خصائص األسلوب ما يأتي‪:‬‬


‫(‪) 1‬‬

‫‪ -1‬الصحـة‪ :‬وهي أساس جودة الكالم‪ ،‬وتستلزم أمورًا‪ ،‬منها صحة استعمال الكلمات التي‬
‫‪/‬ماء فال‬
‫‪/‬دخل األس‪/‬‬
‫تربط الكالم بعضه ببعض كمتعلقات االسم والفعل بما تشتمل عليه من حروف ت‪/‬‬
‫يصح أن يدخل فيها تقديم أو تأخير أو فصل بينهما وبين هذه المتعلقات‪.‬‬
‫‪ -2‬الوضوح‪ :‬إَّن وضوَح األسلوب شرط أساسي لجودته‪ ،‬ألَّن الكالم الذي يعجز عن أداء‬
‫معناه في وضوح يفوت الغرض منه‪ ،‬واللغة تكون واضحة كل الوضوح إذا تألفت من ألفاظ دارجة‪،‬‬
‫لكنها حينئذ تكون مبتذلة‪ ،‬وتكون واضحة نبيلة بعيدة عن االبتذال إذا استعملت ألفاظا غير مألوفة في‬
‫محمد غنيمي هالل‪ ،‬النقد األدبي الحديث‪ ،‬ص ‪.118‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪23‬‬
‫البنــاء األسلـوبي‬ ‫الفصــل األول‬

‫االستعمال الدارج كالكلمات الغريبة‪ ،‬أي غير المبتذلة كالمجاز واأللفاظ المركبة‪ ،‬ولكن يجب القصد‬
‫‪/‬ة وفي‬
‫‪/‬ات الغريب‪/‬‬
‫‪/‬تخدام الكلم‪/‬‬
‫باستعمال هذه الكلمات غير المبتذلة في المجازات‪ ،‬فاإلفراط في اس‪/‬‬
‫استخدام المجازات ينتج أثًر ا هزلًيا‪.‬‬
‫‪-3‬الدقـة‪ :‬إَّن الدقة في حسن اختيار الكلمات ووقعها على األنغام خاصية أساسية في ك‪//‬ل‬
‫عمل األدبي‪ ،‬وهي أن يجتنب األديب عموما والَّش اعر خصوصا ما ال مبرر له من ابتذال أو س‪//‬مو‪،‬‬
‫وذلك باعتماده على ألفاظ غير شائعة تجذب أنظار سامعيه‪ ،‬ألَّنه في مقام إثارة االنفعاالت‪.‬‬

‫يجب أن تتوفر في جميع أنواع األسلوب األمور الثالثة السابقة الذكر على خالف يس‪//‬ير في‬
‫قليل من االعتبارات الخاصة بالشعر أو النثر‪.‬‬

‫د‪ -‬أشكـال األسلـوب‪ :‬يقسم اللغويون واألسلوبيون "األسلوب" إلى أربعة أشكال تعود إلى‬
‫التصرف بالضمائر وأزمنة األفعال (‪:)1‬‬
‫‪ -1‬األسلوب المباشر(‪ :)style direct‬وهو التركيب اللغوي الذي يحمل صوت المتكلم أي‬
‫األديب المنشئ كما في الشعر الغنائي الذي يتحدث فيه الَّش اعر عن مشاعره‪ ،‬ويقوم بصيغة المتكلم‪.‬‬
‫‪ -2‬األسلوب المندوب‪ :‬وهو األسلوب المباشر‪ ،‬حين يندب فيه المتكلم صوته للغائب ويطلق‬
‫عليه أيضا المباشر المندوب‪ ،‬ويظل للمتكلم فيها صوته وحضوره‪.‬‬
‫‪/‬وت‬ ‫‪-3‬األسلوب غير المباشر(‪:)style indirect‬وهو التركيب اللغوي الذي يحم‪/‬‬
‫‪/‬ل ص‪/‬‬
‫الغائب‪.‬‬
‫‪ -4‬األسلوب غير المباشر الحـِّر (‪ :)libre style indirect‬ويطلق عليه أيضا "أسلوب‬
‫‪/‬اب‪،‬‬
‫‪/‬ذي للغي‪/‬‬
‫الصوتين" فهو يمزج بين األسلوب المباشر الذي للحضور واألسلوب غير المباشر ال‪/‬‬
‫فيسمح بذلك للمتكلم بإثبات صوته إلى جانب صوت الغائب في االستئناف وغيرهما‪.‬‬

‫هـ‪ -‬أنـواع األسلـوب‪ :‬لألسلوب ثالثة أنواع‪ ،‬نبينها فيما يأتي‪:‬‬


‫‪ -1‬األسلوب العلمي‪ :‬يتخذ األسلوب العلمي وسيلة لنشر المعارف وتغذية العق‪//‬ل‪ ،‬دون أن‬
‫تطغى شخصية الكاتب فيه (‪ ،)2‬ويستمد هذا األسلوب طبيعته ومقوماته من الموضوع الذي يعالج‪//‬ه‪،‬‬
‫وهكذا هو الشأن في كل موضوع علمي‪ ،‬واألسلوب هنا يكون بمعنى طريقة التفكير‪ ،‬ألننا نلمس أن‬

‫? ‪.‬رجاء عيد‪ ،‬البحث األسلوبي ‪ -‬معاصرة وتراث‪ ،-‬ص ‪51-50‬‬


‫‪1‬‬

‫‪2‬‬
‫?‪.‬أحمد الشايب‪ ،‬األسلوب‪ ،‬مكتبة النهضة المصرية‪،‬ط‪ ،6،1966‬ص‪57‬‬
‫‪24‬‬
‫البنــاء األسلـوبي‬ ‫الفصــل األول‬

‫هدف الكاتب هو عرض طائفة من الحقائق في ميدان المعرفة (‪.)1‬‬


‫‪/‬تقيم‪،‬‬
‫‪/‬ليم‪ ،‬والفك‪//‬ر المس‪/‬‬
‫ويعتبر هذا النوع من أهدأ األساليب وأكثرها احتياًج ا للمنطق الس‪/‬‬
‫‪/‬رح‬
‫‪/‬ة بالش‪/‬‬
‫وأبعدها عن الخيال الشعري‪ ،‬ألنه يخاطب العقل ويناجي الفكر‪ ،‬ويتناول الحقائق العلمي‪/‬‬
‫والتوضيح من دون غموض أو إيهام أو خفاء‪ ،‬ومن أبرز سماته‪ ،‬الوضوح والرصانة‪ ،‬والسهولة في‬
‫العبارات‪ ،‬واختيار األلفاظ الصريحة في معناها‪ ،‬بحيث تكون ثوًبا شفاًفا للمعنى المقصود(‪.)2‬‬
‫‪/‬نع في‬
‫‪/‬ة‪ ،‬وال إلى تص‪/‬‬
‫‪/‬اظ فخم‪/‬‬
‫وفي هذا النوع من أنواع األساليب ال يحتاج المتكلم إلى ألف‪/‬‬
‫‪/‬امع وُتبع‪/‬‬
‫‪/‬ده‬ ‫خطابه‪ ،‬بل وجب عليه اختيار األلفاظ الواضحة والصريحة التي ُتَقرب المعنى من الس‪/‬‬
‫عما يثير الظنون‪ ،‬ويفتح المجال للتأويل في الخطاب‪ ،‬وهذا هو المعنى الذي يشير إليه التعريف‪ ،‬فال‬
‫‪/‬نى‬
‫‪/‬ال المع‪/‬‬
‫‪/‬ام وإيص‪/‬‬
‫حاجة لنا إلى استعمال المجاز والمحسنات البديعية‪ ،‬فغاية هذا األسلوب اإلفه‪/‬‬
‫بأبسط وأسهل الطرق‪ ،‬ليكون األنسب للخطابات التي تطرح موضوعات علمية‪.‬‬

‫‪ -2‬األسلوب األدبي‪ :‬من أبرز سمات وأظهر خصائص هذا األسلوب الجمال‪ ،‬ومرد الجمال‬
‫إلى روعته في الخيال‪ ،‬ودقة في التصوير‪ ،‬وقدرة في التعبير‪ ،‬وتلمس لوجوه الش‪//‬به بين األش‪//‬ياء‪،‬‬
‫وإلباس المعنوي ثوب المحسوس وإظهار المحسوس في صورة المعنوي(‪ ،)3‬فيلجأ الشاعر أو الكاتب‬
‫في مثل هذا النوع إلى استعمال كل ألوان الصنعة من تشبيه واستعارة وكناية ومحسنات بديعي‪//‬ة من‬
‫طباق ومقابلة وجناس وغيرها(‪ ،)4‬مما يجعل الخطاب أو النص أحسن صورة‪ ،‬فمن السهل أن تعرف‬
‫أن الشعر والنثر هما موطنا هذا األسلوب‪ ،‬ففيهما يزدهر‪ ،‬ونبلغ به قمة الفن والجمال‪.‬‬
‫‪/‬عري‪،‬‬
‫‪/‬ذا الفن الش‪/‬‬
‫وقد يكون األسلوب األدبي شعًر ا‪ ،‬فتبدو فيه مظاهر لفظية تالئم طبيعة ه‪/‬‬
‫وإن لم تكن في أصلها خاصة به‪ ،‬بل يشاركه النثر األدبي فيها إلى حد ما‪ ،‬وبيان ذلك باإليج‪//‬از أن‬
‫النثر األدبي يمتاز من النثر العلمي بدخول عنصر العاطفة (االنفعال) في تكوينه‪ ،‬فإذا تجاوزناه إلى‬
‫‪/‬يقية‬
‫الشعر رأينا أن الشعر كذلك يعبر عن العاطفة والفكرة‪ ،‬ويتخذ الخيال والصور‪ ،‬والعبارة الموس‪/‬‬
‫وسيلة إلى هذه الغاية البيانية (‪.)5‬‬

‫‪/‬ة‬
‫‪/‬اظ‪ ،‬والحج‪/‬‬
‫‪/‬اني واأللف‪/‬‬
‫جـ‪ -‬األسلوب الخطابي‪ :‬يجمع األسلوب الخطابي بين قوة المع‪/‬‬

‫‪1‬‬
‫? ‪.‬محمد الصادق عفيفي‪ ،‬النقد التطبيقي والموازنات‪ ،‬مكتبة الوحدة العربية‪ -‬الدار البيضاء‪ ،1972‬ص‪234‬‬
‫‪ 2‬أحمد محمد فارس‪ ،‬الكتابة والتعبير‪ ،‬دار الفكر البنائي‪ ،‬ط‪ ،3‬ص ‪.176‬‬
‫‪ 3‬أحمد محمد فارس‪ ،‬الكتابة والتعبير‪ ،‬ص ‪.177‬‬
‫‪ 4‬ينظر‪ :‬أحمد الشايب‪ ،‬األسلوب‪ ،‬ص‪.60‬‬
‫‪ 5‬أحمد الشايب‪ ،‬األسلوب‪ ،‬ص‪.62‬‬
‫‪25‬‬
‫البنــاء األسلـوبي‬ ‫الفصــل األول‬

‫‪/‬ار الخطيب في‬


‫‪/‬ائق‪ ،‬ويخت‪/‬‬
‫‪/‬ر الحق‪/‬‬
‫والبرهان‪ ،‬وسالمة المنطق الناتجة عن العقل الخصيب‪ ،‬وتقري‪/‬‬
‫‪/‬تنهض هممهم‪،‬‬ ‫خطبته طريقته وفًقا لموضوع الخطبة‪ ،‬ولمدارك السامعين ليستثير ع‪/‬‬
‫‪/‬زائمهم‪ ،‬ويس‪/‬‬
‫ويحاول النفاذ إلى قرارة نفوسهم للوصول إلى غايته‪ ،‬ومما يزيد في تأثير ه‪//‬ذا األس‪//‬لوب مكان‪//‬ة‬
‫الخطيب‪ ،‬وقوة حجته‪ ،‬وسطوع برهانه‪ ،‬ووضوح أدلته‪ ،‬ونبرات صوته‪ ،‬وروع‪//‬ة أدائ‪//‬ه‪ ،‬ومحكم‬
‫إشارته (‪.)1‬‬
‫ويعتمد هذا األسلوب على نقاوة اللفظ‪ ،‬وقصر العبارة‪ ،‬وجمال اإليقاع‪ ،،‬وموسيقى النغم‪//‬ة‪،‬‬
‫واطراد األسلوب على نسق واضح (‪.)2‬‬
‫ولهذا األسلوب مميزات أظهرها‪ :‬التكرار‪ ،‬استعمال المرادفات‪ ،‬ضرب األمث‪/‬ال‪ ،‬واختي‪/‬ار‬
‫الكلمة الجزلة ذات الرنين‪ ،‬ويحسن فيه أن تتعاقب ضروب التعبير من إخب‪//‬ار‪ ،‬اس‪//‬تفهام‪ ،‬تعجب‪،‬‬
‫واستنكار (‪ ،)3‬وغيرها من المميزات‪.‬‬
‫ويرى أغلب دارسي األسلوب أَّنه كلما كثرت فيه التشبيهات واألخيلة َفَقَد حسنه‪ ،‬بينما ي‪//‬رى‬
‫البعض أن كثرة التكلف تزيد هذا األسلوب جماال (‪ ،)4‬ألن غاية الخطيب هي إثارة عزائم س‪//‬امعيه‪،‬‬
‫فيحتاج إلى تلك األمور السابقة الذكر ليحقق منشئ الخطابة ما يبغيه‪ ،‬وما يطمح إليه‪.‬‬
‫ونجد هذا األسلوب يسود في الخطب الدينية‪ ،‬وخطب الدعوة إلى الجهاد الس‪//‬تنهاض الهمم‪،‬‬
‫وإثارة النفوس‪ ،‬غير أن هذا النوع يدرجه البعض ضمن األسلوب األدبي‪ ،‬وعليه يك‪//‬ون األس‪//‬لوب‬
‫نوعان‪ ،‬علمي وأدبي(‪.)5‬‬
‫و‪ -‬مقومــات األسلـوب‪:‬‬
‫‪ -1‬االختيار‪:‬‬
‫االختيار مصطلح يدخل في تعريف عملية الكالم ذاتها‪ ،‬ويقصد به مجموعة األلف‪//‬اظ ال‪//‬تي‬
‫يمكن أن يأتي بأحد منها في كل نقطة من نقاط سلسلة الكالم ومجموعة تل‪//‬ك األلف‪//‬اظ القائم‪//‬ة في‬
‫الرصيد المعجمي للمتكلم‪ ،‬والتي لها طواعية االستبدال فيما بينها لتقيم عالقات من قابلية االستعاض‬
‫تسمى العالقات االستبدالية‪ ،‬ولذلك أطلق عليها محور االختيار‪ ،‬وتزدوج العالق‪/‬ات االس‪/‬تبدالية في‬
‫الحدث األلسني بالعالقات الركنية‪ ،‬وهي محصول عملية ثانية تلحق عملية اختيار المتكلم من رصيده‬
‫‪ 1‬محمد الصادق عفيفي‪ ،‬النقد التطبيقي والموازنات‪ ،‬ص‪ ،240‬وأحمد محمد فارس‪ ،‬الكتابة والتعبير‪ ،‬ص‪.179‬‬
‫‪ 2‬محمد الصادق عفيفي‪ ،‬النقد التطبيقي والموازنات‪ ،‬ص‪.240-239‬‬
‫‪ 3‬السيد أحمد الهاشمي‪ ،‬جواهر البالغة في المعاني والبيان والبديع‪ ،‬دار الكتب العلمية‪ ،‬بيروت – لبنان‪ ،‬ط‪1988 ،1‬م‪ ،‬ص‬
‫‪.36‬‬
‫‪ 4‬أحمد محمد فارس‪ ،‬الكتابة والتعبير‪ ،‬ص‪.181‬‬
‫‪ 5‬المرجع نفسه‪ ،‬ص‪.180‬‬
‫‪26‬‬
‫البنــاء األسلـوبي‬ ‫الفصــل األول‬

‫ألدواته التعبيرية‪ ،‬وتتمثل في رصف هذه األدوات وتنظيمها حسب تنظيم تقتضي بعض‪//‬ه ق‪//‬وانين‬
‫النحو وتسمح ببعضه اآلخر مجاالت التصرف‪ ،‬وسميت عالقات ركنية باعتبار أنها تخضع لق‪//‬انون‬
‫‪/‬ع‪ ،‬ألن‬
‫‪/‬ور التوزي‪/‬‬
‫التجاور‪ ،‬وداللتها رهينة األركان القائمة في تعاقبها‪ ،‬لذلك أطلق عليها أيضا مح‪/‬‬
‫تنظيمها هو بمثابة رصف لها على سلسلة الكالم‪ ،‬وتتميز هذه العالقات الركنية بأنه‪//‬ا حض‪//‬ورية‪،‬‬
‫فيتحدد بعضها ببعض بما وقع اختياره (‪.)1‬‬
‫ب‪//‬الي(‪1947-‬م)‬ ‫ويبقى االختيار هو الصفة البارزة لألسلوب والمالزمة له‪ ،‬وقد عّبر شارل‬
‫عن صنعة األسلوب بهذا الشكل القصدي‪ ،‬قائًال ‪" :‬إّن رجل األدب يصنع من اللغة اس‪/‬‬
‫‪/‬تعماًال إرادي‪/‬‬
‫‪ً/‬ا‬
‫مقصودًا‪ ،‬ويستعمل اللغة بقصد جمالي" (‪ ،)2‬فاللغة ليست عصية لدى الشاعر المقتدر‪ ،‬كما أّنها ليست‬
‫إلهامًا يتنزل عليه فجأة بل إّن الشاعر بذكائه وفطنته هو الذي ُيملي عليها ش‪//‬روطه في االختي‪//‬ار‪،‬‬
‫ويأخذ ما يناسب القصد‪ ،‬خاصة وأننا " نختار عن وعي معرفي وفق ما يستلهمه شعورنا في حال‪//‬ة‬
‫اإلرسال من جهة‪ ،‬ووفق ما نفترضه من شعور عند المرسل إليه من جهة أخرى"(‪ ،)3‬والق‪//‬درة على‬
‫التعبير هي كذلك جوهر األسلوب‪ ،‬ولذلك كانت مشروعية الربط بين تفكير الشاعر ووضوح أسلوبه‬
‫وقوته‪ ،‬والسّيما وأن األسلوب وثيق الصلة بثقافة المبدع ومزاجه ونمط تفكيره‪ ،‬ويعكس شخص‪//‬يته‬
‫‪/‬ادام‬
‫‪/‬وائيًا‪ ،‬م‪/‬‬
‫قدرة أو اتباعًا‪ ،‬وهكذا فاألسلوب هو نتاج تداخل الشاعر باللغة‪ ،‬وهو تداخل ليس عش‪/‬‬
‫يشكل وجوده من صنعة االختيار‪ ،‬التي ال داللة لها بمعزل عن الممارسة‪ ،‬والتي بها تثري طريق‪//‬ة‬
‫اإلدراك وتتنوع لتصبح أكثر إثارة‪.‬‬
‫‪/‬ئ‬
‫‪/‬ار‪ ،‬فمنش‪/‬‬
‫‪/‬ف أوال على االختي‪/‬‬
‫وقد اعتبر علماء األسلوب أن عملية إنشاء األسلوب تتوق‪/‬‬
‫‪/‬يد‬
‫‪/‬ذلك الرص‪/‬‬
‫الخطاب يختار من رصيده اللغوي ما يناسبه في إنشاء خطابه‪ ،‬ويقوم بعملية توزيع ل‪/‬‬
‫اللغوي‪ ،‬فيكِو ن في األخير خطاًبا‪ ،‬وهذا ينطبق على جميع الخطابات األدبية وغيرها‪ ،‬وهذا االختيار‬
‫دليل على تفضيل المتكلم لبعض السمات اللغوية على األخرى‪ ،‬وال يعتبر كل اختيار يقوم به المتكلم‬
‫اختياًر ا أسلوبًيا‪ ,‬ولذا تم تحديد نوعين من هذه االختيارات هما‪:‬‬
‫‪/‬ة دون‬
‫‪/‬يغ لغوي‪/‬‬
‫أ‪ -‬اختيار محكوم بالوقف والمقام‪ ،‬وهو اختيار نفعي‪ ،‬يؤثر فيه المتكلم بص‪/‬‬
‫غيرها‪.‬‬
‫ب‪ -‬اختيار تتحكم فيه مقتضيات التعبير الخالصة‪ ،‬وهو اختيار نحوي‪ ،‬والمقصود من ذل‪//‬ك‬

‫ينظر‪ :‬عبد السالم المسدي األسلوبية واألسلوب ‪ -‬نحو بذيل ألسني في نقد األدب – ص ‪.136 -134‬‬ ‫‪1‬‬

‫منذر عّياشي‪ ،‬مقاالت في األسلوبية‪ ،‬ص ‪.34‬‬ ‫‪2‬‬

‫منذر عّياشي‪ ،‬مقاالت في األسلوبية‪ ،‬ص‪.39‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪27‬‬
‫البنــاء األسلـوبي‬ ‫الفصــل األول‬

‫هو قواعد اللغة النحوية والصرفية والداللية بناًء على صحتها ودقتها (‪.)1‬‬

‫وفكرة االختيار هذه في تحديد ماهية األسلوب تمتزج في بعض األحيان بكل مقتضيات عملية‬
‫اإلبالغ األلسني‪ ،‬فال تتميز بالسمة اإلبداعية‪ ،‬وتضل شعاًع ا لدائرة الَح دث الخطابي عامة‪ ،‬من ذل‪//‬ك‬
‫أن أحمد الشايب يحدد موضوع الظاهرة األسلوبية انطالقا من تحليل األس‪//‬لوب إلى عناص‪//‬ر هي‬
‫الفكرة والصورة والعبارة‪ ،‬فينتهي إلى أنه عملية اختيار تتسلط على تلك العناصر المكونة اس‪//‬تناًدا‬
‫إلى تصرف في الصياغات " بما تراه أليَق بموضوع الكالم "(‪.)2‬‬

‫‪ -2‬التركيب‪:‬‬
‫وهو العملية اإلبداعية الثانية التي يقوم بها المتكلم بعدما ينتهي من الخطوة األولى المتمثل‪//‬ة‬
‫في اختيار الصيغ اللغوية لخطابه‪ ،‬ويفرغ من اختيار ما يالئم خطابه ليقوم بعملية تركيب الكلمات في‬
‫الخطاب‪ ،‬وذلك انطالقا من مستويين اثنين‪ ،‬هما‪ :‬المستوى فكحضوري‪ ،‬والمستوى الغي‪//‬ابي‪ ،‬وفي‬
‫‪/‬وري‬
‫‪/‬تويين‪ :‬حض‪/‬‬
‫هذا المضمار يقول عبد السالم المسدي‪ " :‬تتركب الكلمات في الخطاب من مس‪/‬‬
‫‪/‬بي‪،‬‬
‫‪/‬وتي وتركي‪/‬‬
‫وغيابي‪ ،‬فهي تتوزع سياقًيا على امتداد خطي‪ ،‬ويكون لتجاورها تأثير داللي وص‪/‬‬
‫‪/‬ة لنفس‬ ‫وهو يدخلها في عالقات ركنية‪ ،‬وهي أيًض ا تتوزع غيابًيا في شكل تداعيات للكلم‪/‬‬
‫‪/‬ة المنتمي‪/‬‬
‫‪/‬اطع‬
‫‪/‬بكة تق‪/‬‬
‫‪/‬ذلك ش‪/‬‬
‫الجدول الداللي‪ ،‬فتحل إذن في عالقات جدلية أو استبدالية‪ ،‬فيصبح األسلوب ب‪/‬‬
‫العالقات الركنية بالعالقات الجدولية‪ ،‬ومجموع عالئق بعضها ببعض"(‪.)3‬‬

‫العالقات القائمة بين العناصر اللسانية‪:‬‬ ‫سوسير(‪1913-‬م)‬ ‫وفي هذا الحقل َم َّيَز دو‬
‫‪/‬ابه‬
‫‪/‬ة على التش‪/‬‬
‫أ‪ -‬عالقة استبدالية أو عالقات ترتيبية‪ :‬تقوم عملية التركيب في هذه العالق‪/‬‬
‫‪/‬لة‬
‫‪/‬ارج السلس‪/‬‬
‫‪/‬ة تتم خ‪/‬‬
‫الذي يتم في الذاكرة (الدماغ) قبل أن يتجسد في خطاب المتكلم‪ ،‬فهي عملي‪/‬‬
‫الكالمية الخطية (‪.)4‬‬
‫ب‪ -‬العالقات الركنية‪ :‬هذا النوع من العالئق هو العناصر اللسانية المنطوقة والمكتوبة التي‬
‫ترتبط فيما بينها بحكم الطبيعة الخطية للغة‪ ،‬فتتوالى هذه العناصر في سلسلة الكالم (‪.)5‬‬

‫‪ 1‬نور الدين السد‪ ،‬األسلوبية وتحليل الخطاب‪ ،‬دار هومة للطباعة والنشر والتوزيع‪ ،‬الجزائر‪،‬ج‪ ،2‬ص‪(156‬بتصرف)‪.‬‬
‫‪ 2‬أحمد الشايب‪ ،‬األسلوب‪ ،‬ص‪.50‬‬
‫‪/‬لوبية‬
‫‪ 3‬عبد السالم المسدي األسلوبية واألسلوب ‪ -‬نحو بذيل ألسني في نقد األدب– ص ‪ ،84‬وينظر ومنذر عياشي‪ ،‬األس‪/‬‬
‫وتحليل الخطاب‪ ،‬ص‪.82‬‬
‫‪ 4‬نور الدين السد‪ ،‬األسلوبية وتحليل الخطاب‪ ،‬ص‪ ،173‬وينظر ومنذر عياشي‪ ،‬األسلوبية وتحليل الخطاب‪ ،‬ص‪.82‬‬
‫‪ 5‬المرجع نفسه‪ ،‬ص‪.179‬‬
‫‪28‬‬
‫البنــاء األسلـوبي‬ ‫الفصــل األول‬

‫جـ‪ -‬االنزياح‪ :‬إَّن اكتمال جماليات النصوص لن يتحقق باتحاد التركيب واالختيار فقط‪ ،‬بل‬
‫الُبَّد من االنزياح‪ ،‬الذي يعد ظاهرة من المقومات األساسية‪ ،‬والَه اَّم ة في هذه الدراسات‪ ،‬وهو يش‪/‬‬
‫‪/‬كل‬
‫الصدارة في دائرة اهتمامات األسلوبيين‪.‬‬
‫ويعرف االنزياح بأَّنه الخروج عن المعهود والمألوف من الكالم‪ ،‬ولذلك فهو خاص‪//‬ية يمكن‬
‫أن يتميز بها النص األدبي عن غيره من النصوص‪ ،‬ولهذا عَّدها بعض الباحثين أَّنها األسلوب األدبي‬
‫ذاته(‪.)1‬‬

‫‪/‬ول‬
‫‪/‬رآني‪ ،‬كق‪/‬‬
‫‪/‬از الق‪/‬‬
‫وكلمة(الخروج) كثيرة الورود في الدراسات النقدية ودراسات اإلعج‪/‬‬
‫األصمعي(‪216-‬هـ)‪" :‬إّن الشيء إذا فاق في حسنه قيل له‪ :‬خارجي "(‪.)2‬‬
‫على الرغم من فطرّية ذوق األصمعي‪ ،‬فالخروج عند ابن جّني خرق لألصول‪ ،‬ويوّض ح ذلك‬
‫بقوله‪ " :‬لقد حذفت العرب الجملة‪ ،‬والمفرد‪ ،‬والحرف‪ ،‬وليس الشيء من ذلك إَّال عن دليل عليه‪ ،‬وإَّال‬

‫كان فيه ضرب من تكليف علم الغيب من معرفته " (‪.)3‬‬

‫جّني(‪392-‬هـ)‬ ‫ويعّد المجاز سمة االنحراف عن نمطّية التركيب والتعبير وهذا ما يؤّك د ابن‬
‫بقوله‪" :‬ومن المجاز كثير من باب الشجاعة في الّلغة‪ :‬من الحذوف‪ ،‬والزيادات‪ ،‬والتقديم‪ ،‬والتأخير‪،‬‬
‫‪/‬اع‬
‫‪/‬و اتس‪/‬‬
‫‪/‬رًا جمالّي ًا ه‪/‬‬
‫والحمل على المعنى‪ ،‬والتحريف "(‪ ،)4‬وأبرز ما يجّس د المجاز ويمنحه أث‪/‬‬
‫االستعمال اّلذي به يتم خرق العادي وتهميشه‪ ،‬وتلك صفة الخطاب الشعري في خصوص‪//‬يته م‪//‬ع‬
‫ممارسة الّلغة‪.‬‬
‫أن يكون البديع وصفًا للشعر وطبيعة فيه‪ ،‬وحّج ته في ذل‪//‬ك‪:‬‬ ‫الباقالني(‪403-‬هـ)‬ ‫وقد رفض‬
‫"أَّن هذا الفن ليس فيه ما يخرق العادة‪ ،‬ويخرج عن العرف "(‪ ،)5‬فالخروج اّلذي يرد بك‪//‬ثرة في كالم‬
‫الباقالني‪ ،‬يعني تخّط ي العادة والعرف‪ ،‬والقرآن الكريم بالنسبة إليه تجاوز حدود القدرة البشرّية‪ ،‬بلغ‬
‫‪/‬عراء اّل تي‬
‫فيه االختيار اّلذي يخلو من كّل تعّس ف وتكّلف ذروته وغايته النهائّية خالفًا ألشعار الش‪/‬‬
‫تتراوح بين المتانة والسهولة والغموض والتكّلف‪.‬‬
‫ويطالب الباقالني الناقد أن يكون فاهمًا ألساليب الشعراء‪ ،‬مدركًا للفروق بينها‪ ،‬حتى ال تخفى‬

‫نفسه‪ ،‬ص‪.179‬‬ ‫‪1‬‬

‫ابن جّني‪ ،‬الخصائص‪ ،‬تحقيق محمد علي النجار‪ ,‬ج‪ ،3‬دار الكتب المصرية‪ ،‬ص ‪.48‬‬ ‫‪2‬‬

‫المصدر نفسه‪ ،‬ج‪ ،2‬ص ‪.362‬‬ ‫‪3‬‬

‫نفسه‪ ،‬ص‪.448‬‬ ‫‪4‬‬

‫الباقالني‪ ،‬إعجاز القرآن‪ ،‬تحقيق السّيد أحمد صقر‪ ،‬دار المعارف بمصر‪ ،‬ط‪ ،3‬القاهرة ‪ ،1978‬ص‪.111‬‬ ‫‪5‬‬

‫‪29‬‬
‫البنــاء األسلـوبي‬ ‫الفصــل األول‬

‫عنه األسرار وتشتبه به الطرق‪ ،‬ذلك ألَّن ‪ " :‬كالم المقتدر نمط‪ ،‬وكالم المتوّس ط باب‪ ،‬وكالم المطبوع‬
‫له طريق‪ ،‬وكالم المتكّلف له منهاج‪ ،‬والكالم المصنوع المطبوع له باب "(‪.)1‬‬

‫ويشترط الباقالني لذلك العلم بالشعر وبالشعراء في أساليبهم مادامت ليست واحدة‪ ،‬فيق‪//‬ول‪:‬‬
‫"والعالم ال يشّذ عنه شيء من ذلك‪ ،‬وال تخفى عليه مراتب هؤالء‪ ،‬وال تهّب عليه أق‪//‬دارهم‪ ،‬حّتى إذا‬
‫عرف طريقة شاعر في قصائد معدودة‪ ،‬فأنِش د غيرها من شعره ‪-‬لم يشك أَّن ذلك من نس‪//‬جه‪ ،-‬ولم‬
‫يرَتب في أَّنها من نظمه "(‪.)2‬‬
‫إَّن الطبع ليس واحدًا‪ ،‬والصنعة ليست واحدة‪ ،‬والشاعر قد يسمو وقد ينحط‪ِ ،‬مّم ا يص‪ّ//‬ع ب‬
‫القصد من انتهاك العادة بالخروج على المألوف‪ ،‬خاّص ة إذا فقد الشاعر البراعة اّلتي هي‪" :‬الح‪//‬ذق‬
‫‪/‬ديعها‬
‫‪/‬اليب وب‪/‬‬ ‫بطريقة الكالم وتجويده " (‪ ،)3‬وبذلك فإَّن العّلة من الخروج هي طلب لطي‪/‬‬
‫‪/‬ف األس‪/‬‬
‫ودقيقها‪ ،‬وهذا ما دفع الباقالني إلى اإلقرار بأَّن البراعة مخصوصة بالشعر‪ ،‬شرط خلّو ه من الغلّو في‬
‫محّبة الصنعة‪.‬‬
‫وعّبر القرطاجني(‪684-‬هـ)عن فعل العدول في إثارة المفاجأة‪ ،‬بقوله‪" :‬ولّم ا كانت النف‪//‬وس‬
‫‪ّ/‬دد‬
‫‪/‬اطها بتج‪/‬‬
‫‪ّ/‬دد نش‪/‬‬
‫تحّب االفتتان في مذاهب الكالم‪ ،‬وترتاح للنقلة من بعض ذلك إلى بعض‪ ،‬ليتج‪/‬‬
‫الكالم عليها‪ ،‬وكانت معاونة الشيء على تحصيل الغاية المقصودة به بما يجدي في ذلك جدواه أدعى‬
‫‪/‬عر‬
‫‪/‬ل من الش‪/‬‬
‫إلى تحصيلها من ترك المعاونة ‪ ...‬فوجب أن يكون الشعر المراوح بين معانيه أفض‪/‬‬
‫‪/‬ن‬
‫‪/‬ه ويحس‪/‬‬ ‫اّلذي ال مراوحة فيه"(‪ ،)4‬ويستدّل على رأيه بالمتنّبي اّلذي عرف بالمراوح‪/‬‬
‫‪/‬ة بين معاني‪/‬‬
‫وضعها الموضع الالئق‪.‬‬
‫والخروج على مألوف األساليب ومعهودها يحّقق المفاجأة اّلتي ت‪/‬‬
‫‪/‬ؤّثر في المتلّقي بم‪/‬‬
‫‪/‬ا ينتج‬
‫عنها من توّتر وانفعال سواء في قبول الشيء أو رفضه‪ ،‬أّم ا األسلوب اّلذي يخلو من العدول‪ ،‬فإَّنه ال‬
‫يثير المفاجأة‪ ،‬وقد عَّد القرطاجّني اإلغراب كذلك من خصوصّيات الشعر كإبداع وتفّو ق‪ ،‬إذ يقول‪" :‬‬
‫الشعر كالم موزون مقّفى من شأنه أن يحّبب إلى النفس ما قصد تحبيبه إليها‪ ،‬ويكّر ه إليها ما قص‪//‬د‬
‫‪/‬راب "(‪،)5‬‬
‫‪/‬ه من إغ‪/‬‬ ‫تكريهه‪ ،‬لتحمل بذلك على طلبه أو الهرب منه‪ ...‬وكّل ذلك يتأّك د بما يق‪/‬‬
‫‪/‬ترن ب‪/‬‬
‫فاإلغراب هو النزوح عن المعهود والبعد عنه‪ ،‬وقد يكون خفّيًا حسنًا أو مغمضًا بعيد الفهم‪ ،‬وقد عّده‬
‫المصدر نفسه‪ ،‬ص‪.120‬‬ ‫‪1‬‬

‫نفسه‪ ،‬ص ‪.120‬‬ ‫‪2‬‬

‫الباقالني‪ ،‬إعجاز القرآن‪ ،‬ص‪.127‬‬ ‫‪3‬‬

‫حازم القرطاجّني‪ ،‬منهاج البلغاء وسراج األدباء‪ ،‬ص‪.361‬‬ ‫‪4‬‬

‫المصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.71‬‬ ‫‪5‬‬

‫‪30‬‬
‫البنــاء األسلـوبي‬ ‫الفصــل األول‬

‫القرطاجّني صنوًا للعدول واالتساع كما يؤّك د أْن ال شعر بدون إغراب‪.‬‬
‫ه‬ ‫ومصطلح االنزياح ‪ -‬هذا الذي نحن بصدد الحديث عنه ‪ -‬مصطلح عسير الترجمة‪ ،‬ألَّن‬
‫غير مستقر في تصوره‪ ،‬لذلك لم يرض به كثير من رواد األلسنية واألسلوبية‪ ،‬فوضعوا مصطلحات‬
‫أو"التجاوز"(‪ ,)3‬كم‪//‬ا‬ ‫(‪) 2‬‬
‫أو "االنحراف"‬ ‫(‪) 1‬‬
‫بديلة عنه كانت مستعملة في تراثنا البالغي كـ‪" :‬العُُدول"‬
‫يقترب هذا المفهوم من قول البالغيين "مراعاة مقتضى حال المخاطب"(‪ ،)4‬أو "انخراق األصول بها"‬
‫الذي أفاد منه فيما بعد ابن األثير(‪.)637-‬‬ ‫(‪) 6‬‬
‫(‪ ،)5‬أو " االتساع "‬
‫أن جون كوهن قد شيد صرحه النظري والمنهجي في تحليل "بنية اللغة الشعرية"‬
‫ونشير إلى َّ‬
‫على مجموعة من الثنائيات‪ ،‬رغبة منه في إضفاء طابع العلمية والموضوعية على عمله من جه‪//‬ة‪،‬‬
‫‪/‬ل أهم ثنائي‪/‬ة‬
‫‪/‬رى‪ ،‬ولع‪/‬‬
‫وتجاوز االنطباعية والتأثرية التي سقطت فيها البالغة القديمة من جهة أخ‪/‬‬
‫اعتمدها كوهن في تحليل الخطاب الشعري ثنائية‪( :‬معيار‪/‬انزياح) أو ما يعرف اختصارا بنظري‪//‬ة‬
‫االنزياح (‪.)7‬‬
‫‪/‬اتير‬
‫أن مفهوم االنزياح قد استعمل أول مرة في الدراسات األسلوبية خاصة عند ريف‪/‬‬
‫والواقع َّ‬
‫وبالي وسبيتزر(‪ ،)8‬ولكن كوهن أعطى المفهوم ُبْعًدا آخر وطوره حتى ارتبط باسمه‪ ،‬فما المقص‪//‬ود‬
‫باالنزياح عنده ؟‪.‬‬
‫إن مفهوم االنزياح عند كوهن ال يختلف عن التعريف الذي يعطيه شارل برون‪//‬و للواقع‪//‬ة‬
‫َّ‬
‫األسلوبية‪ ،‬فاألسلوب عنده هو كل ما هو " ليس شائعاً‪ ،‬وال عادياً‪ ،‬وال مطابقاً للمعيار العام" (‪.)9‬‬
‫‪/‬ا ال‬
‫‪/‬دد م‪/‬‬
‫ومن هنا يمكن القول إن األسلوب انزياح‪ ،‬وحينئذ ال نحدد ما يوجد فيه‪ ،‬ولكن نح‪/‬‬
‫يوجد فيه‪ ،‬أي أن األسلوب هو ما ليس شائعا وال مألوفا وال مصوغا في قوالب مستهلكة‪ ،‬فالرسالة ال‬
‫‪/‬ة‬
‫‪/‬اس إلى درج‪/‬‬
‫تعد شعرية إال إذا انزاحت عن سنن اللغة أو بتعبير بارت " إن األسلوب يحدد بالقي‪/‬‬
‫‪/‬عر‬
‫‪/‬ة‪ ،‬فالش‪/‬‬
‫الصفر في الكتابة "(‪ ،)10‬ذلك أن كوهن ال يؤسس تعريفه للشعر على أساس معايير كمي‪/‬‬

‫‪ 1‬ينظر‪ :‬ابن جني‪ ،‬الخصائص‪ ,‬ص ‪267‬‬


‫‪ 2‬المصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.268‬‬
‫‪ 3‬عبد السالم المسدي األسلوبية واألسلوب ‪ -‬نحو بذيل ألسني في نقد األدب – ص ‪.158‬‬
‫‪ 4‬رجاء عيد‪ ،‬البحث األسلوبي – معاصرة وتراث ‪ ،-‬منشأة المعارف باإلسكندرية ‪ ،1993‬ص ‪.233‬‬
‫‪ 5‬رجاء عيد‪ ،‬البحث األسلوبي‪ ،‬ص‪.231‬‬
‫‪ 6‬المرجع نفسه‪ ،‬ص‪.231‬‬
‫‪/‬رب‬‫‪ 7‬جون كوهن‪ ،‬بنية اللغة الشعرية‪ ،‬ترجمة محمد الولي ومحمد العمري‪ ،‬ط‪ ،1‬دار توبقال للنشر الدار البيضاء‪ -‬المغ‪/‬‬
‫‪1986‬م‪ ،‬ص‪.86‬‬
‫‪ 8‬ينظر‪ :‬عبد السالم المسدي األسلوبية واألسلوب‪ ،‬ص‪.17‬‬
‫‪ 9‬جون كوهن‪ ،‬بنية اللغة الشعرية‪ ،‬ص‪.15‬‬
‫‪ 10‬أحمد درويش‪ ،‬دارسة األسلوب بين المعاصرة والتراث‪ ،‬دار غريب للطباعة والنشر والتوزيع القاهرة‪1998‬م ص‪.24‬‬
‫‪31‬‬
‫البنــاء األسلـوبي‬ ‫الفصــل األول‬

‫نقيض النثر‪.‬‬
‫إن فكرة االنزياح بهذا المعنى تبحث عن المبدأ الثابت في اللغة الفنية‪ ،‬كما تبحث عن القواسم‬
‫َّ‬
‫‪/‬اتهم‪،‬‬
‫‪/‬ط كتاب‪/‬‬
‫‪/‬اتهم‪ ،‬ونم‪/‬‬
‫المشتركة في لغة جميع الشعراء بصرف النظر عن اختالف لغاتهم‪ ،‬وبيئ‪/‬‬
‫فاالنزياح غير فردي وغير مختص بمرحلة أدبية دون أخرى‪ ،‬ويؤكد كوهن أن شعرية النص الفني‬
‫تمر بمرحلتين أساسيتين هما(‪:)1‬‬
‫– مرحلة طرح االنزياح‪ ،‬وفيها يتم مخالفة القواعد النثرية‪ ،‬وتكسير بنيتها التركيبية والداللية‬
‫والصوتية‪.‬‬
‫‪/‬جامها‬
‫‪/‬تعيد انس‪/‬‬
‫‪/‬د كي تس‪/‬‬
‫‪/‬ة من جدي‪/‬‬
‫– مرحلة نفي االنزياح‪ ،‬وفيها يتم إعادة بناء الجمل‪/‬‬
‫ومالءمتها‪ ،‬فالشعرية "عملية ذات وجهين متعايشين متزامنين‪ :‬االنزياح ونفيه‪ ،‬تكسير البنية وإعادة‬
‫البناء من جديد‪ ،‬ولكي تحقق القصيدة شعريتها ينبغي أن تكون داللتها مفق‪//‬ودة أوال‪ ،‬ثم يتم العث‪//‬ور‬
‫عليها‪ ،‬وذلك في وعي القارئ "(‪.)2‬‬
‫‪/‬ا عن‬
‫‪/‬ا انزياح‪/‬‬
‫حلل كوهن مجموعة من الصور البالغية باعتباره‪/‬‬
‫وفي ضوء هذا التصور َّ‬
‫سنن اللغة‪ ،‬وهي صور أسلوبية تنتمي إلى مستويات لسانية مختلفة صوتية وداللية وتركيبية‪.‬‬
‫وهناك سؤال يفرض نفسه وهو‪ :‬هل يكفي وجود االنزياح لكي تحقق الشعر؟‪ ،‬ويجيب كوهن‬
‫َّأنه ال يكفي خرق سنن اللغة لخلق قصيدة شعرية‪ ،‬فاألسلوب خطأ‪ ،‬ولكن ليس كل خطأ أسلوبا‪ ،‬ومن‬
‫بأنه يمثل الشرط الضروري والكافي للواقعة‬
‫فإن "الورود المتواتر لالنزياح في القصيدة ال يؤكد َّ‬
‫هنا َّ‬
‫الشعرية "(‪.)3‬‬
‫‪/‬وش‬
‫‪/‬تي تش‪/‬‬
‫عبر عنه كوهن سمح له بإقصاء سلسلة من االنزياحات ال‪/‬‬
‫إن هذا الموقف الذي َّ‬
‫َّ‬
‫حيث يص‪//‬عب‬ ‫(‪) 4‬‬
‫على العملية الشعرية والوظيفة الشعرية‪ ،‬وفي مقدمتها االنزياح‪//‬ات الس‪//‬ريالية‬
‫االنتقال من المعنى التقريري إلى المعنى اإليحائي المقصود‪ ،‬وفي ه‪//‬ذا الص‪//‬دد ينص ك‪//‬وهن أن‬
‫االنزياح الشعري يتم تحديده من خالل تحول في الداللة‪ ،‬أي االنتقال من المعنى التقريري العقلي إلى‬
‫‪/‬ا في‬
‫المعنى اإليحائي االنفعالي‪ ،‬وأنه ال يتم ظهور المعنى الثاني إال باختفاء األول‪ ،‬ويظهر ذلك جلي‪/‬‬
‫‪/‬ور‬
‫‪/‬ا من الص‪/‬‬
‫‪/‬أخير‪ ،‬وغيره‪/‬‬
‫مختلف مظاهر االنزياح كالنظم‪ ،‬والتحديد‪ ،‬واإلسناد‪ ،‬والتقديم‪ ،‬والت‪/‬‬

‫جون كوهن‪ ،‬بنية اللغة الشعرية‪ ،‬ص‪.205‬‬ ‫‪1‬‬

‫جون كوهن‪ ،‬بنية اللغة الشعرية‪ ،‬ص‪.206-205‬‬ ‫‪2‬‬

‫المرجع نفسه‪ ،‬ص‪.15‬‬ ‫‪3‬‬

‫أحمد درويش‪ ،‬دارسة األسلوب بين المعاصرة والتراث‪ ،‬ص‪.24‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪32‬‬
‫البنــاء األسلـوبي‬ ‫الفصــل األول‬

‫األسلوبية‪ ،‬فاالنزياح عند كوهن "ليس الغاية النهائية في حد ذاته‪ ،‬بل َّإنه مجرد وسيلة"(‪ ،)1‬وهو بذلك‬
‫صفة مخصوصة يشّك ل معضلة في فهمه واستيعابه لتعّلقه بطريقة تحّقق الجم‪/‬ال الش‪/‬عري‪ ،‬وه‪/‬و‬
‫مصطلح أسلوبي‪ ،‬يتخذه الشاعر أداة في الكتابة المخالفة‪ ،‬فهو خرق للمعيار اّلذي يتحّر ك فيه وف‪//‬ق‬
‫‪ّ/‬د أداة‬
‫‪/‬ألوف‪ ،‬يع‪/‬‬
‫‪/‬روج عن الم‪/‬‬
‫أسلوب مرسوم على الرغم من اختالف أساليب الشعراء‪ ،‬وهو كخ‪/‬‬
‫جمالية وإبداعية بين الشعري والالشعري‪ ،‬وقد قال كوهن‪" :‬وظيفة النثر هي المطابق‪//‬ة‪ ،‬ووظيف‪//‬ة‬
‫الشعر اإليحاء" (‪.)2‬‬
‫وهكذا يمكن للعدول كحدث أسلوبي أن يتحّر ر من قيود المكانية والزماني‪//‬ة إلى ج‪//‬انب أَّن‬
‫الشاعر المتفّو ق يستخدم لغة مجازية توّفر إمكانات غير محدودة تفاجئ المتلّقي‪ ،‬وتزيد في طلبه على‬
‫استجالء طبيعة هذا العدول اإلرادي اّلذي ‪ -‬في اآلن نفسه ‪ -‬هو صفة أخرى أساسية للصنعة‪ ،‬حتى‬
‫بالنسبة للذوق الفطري اّلذي كان فيه الطبع صورة للمعيارية‪ ،‬ودون إنكار قدرات ه‪/‬ذا الطب‪/‬ع على‬
‫الفهم وإبراز االختالفات األسلوبية‪ ،‬ولو تّم ذلك في غياب التعليل والتبرير‪ ،‬فاإلحس‪//‬اس بالع‪//‬دول‬
‫األسلوبي ناتج عن مخالفة الخطاب التواصلي العادي في أوضاعه المعّينة‪.‬‬
‫ومن هنا يتبين أن االنزياح ينقسم إلى نوعين رئيسيين هما‪:‬‬
‫االنزياح عن اللغة العادية عامة‪ ،‬وذلك بأن يمثل األسلوب تقابًال مع المستوى الع‪//‬ادي‬ ‫‪-‬‬
‫للكالم ويعتبر خرقًا له‪ ،‬ويكون البحث في خصائص هذا الخرق للواقع األصل بحثًا عما يشكل أركان‬
‫الحدث الفني في األثر " فما االنزياح سوى خروج عن النمط التعبيري المتواضع عليه‪ ،‬فهو خ‪//‬رق‬
‫للقواعد حينًا ولجوء إلى ما عز وندر حينًا آخر " (‪.)3‬‬
‫‪/‬لوب في‬
‫‪/‬ائص األس‪/‬‬
‫االنزياح عن لغة النص التي تمثل السياق الذي يمكن حصر خص‪/‬‬ ‫‪-‬‬
‫نطاقه‪ ،‬فاالنزياح في هذه الحالة يتحدد بالسياق الذي يرد فيه النمط العادي‪ ،‬وهو نسيج الخط‪//‬اب أو‬
‫وهو تعريف جديد لالنزياح لئن اعتبره‬ ‫(‪) 4‬‬
‫النص‪ ،‬والخروج عنه هو مدار األسلوب في ذلك الموطن‬
‫‪/‬ه‬
‫صاحبه ريفتار منعرجًا جديدًا في البحوث األسلوبية بما جاء به من حصر لمجال النمط العادي فإن‪/‬‬
‫لم يخرج عن المنهاج العام لسابقيه الذين حددوا مجال النمط العادي للكالم باللغة العادية إذ أن كليهما‬
‫يستند في تعريفه لألسلوب إلى منهج لساني يعود إلى ثنائية دي سوسير "اللغة – الكالم"‪.‬‬

‫‪ 1‬جون كوهن‪ ،‬بنية اللغة الشعرية‪ ،‬ص‪.16‬‬


‫‪ 2‬المرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.196‬‬
‫‪3‬عبد السالم المسدي‪ ،‬النظرية األسلوبية في النقد األدبي‪ ،‬مجلة القلم‪ ،‬تونس‪ ،‬السنة ‪ -3‬تشرين األول‪ -‬أكتوبر‪ ،1977‬ص‬
‫‪.84-74‬‬
‫‪4‬‬
‫‪Guiraud (Pierre): La stylistique 7eme ed. coll. ¨Que sais je ?¨ N 646. P.U.F. Paris, 1972, p45.‬‬
‫‪33‬‬
‫البنــاء األسلـوبي‬ ‫الفصــل األول‬

‫ز‪ -‬عناصر التحليل األسلوبي‪ :‬يتعامل التحليل األسلوبي مع ثالثة عناصر هي (‪:)1‬‬
‫‪ -1‬العنصر اللغوي‪ :‬وهو يعالج نصوصا قامت اللغة بوضع رموزها‪.‬‬
‫‪ -2‬العنصر النفعي‪ :‬وهو الذي يؤدي إلى أن ندخل في حسابنا مقوالت غير لغوي‪//‬ة مث‪//‬ل‪:‬‬
‫المؤلف‪ ،‬والقارئ‪ ،‬والموقف التاريخي‪ ،‬وهدف الرسالة وغيرها‪.‬‬
‫‪/‬ير‬
‫‪/‬ارئ والتفس‪/‬‬
‫‪/‬أثير النص على الق‪/‬‬
‫‪ -3‬العنصر الجمالي األدبي‪ :‬وهو الذي يكشف عن ت‪/‬‬
‫والتقييم األدبي له‪.‬‬

‫وينبغي للتحليل األسلوبي أن يكون كاشفا في جميع الحاالت عن تلك العناصر الثالثة‪ ،‬فه‪//‬و‬
‫كثيرا ما يغفل ‪ -‬من الوجهة العملية ‪ -‬بعضها مثل مؤلف النص أو الموقف التاريخي إذا لم يتض‪//‬ح‬
‫له الدور الذي يقوم به في تكوينه‪ ،‬بيد أَّن جميع هذه العناصر مترابطة مبدئيا‪ ،‬وينبني بعض‪//‬ها على‬
‫البعض اآلخر(‪ ،)2‬ذلك أَّن األدب يقوم على جوهر اتصالي ِم َّم ا يجعل التحليل األس‪//‬لوبي والتفس‪//‬ير‬
‫اإلعالمي لألدب يقومان على أساس النموذج التواصلي‪ ،‬فكالهما يدرس شيئا واحدا هو النص الذي‬
‫يعُّد مظهرًا من مظاهر "استخدام اللغة التي يوليها اللساني عنايته في بحث األس‪//‬لوب من منظ‪//‬وره‬
‫الخاص" (‪.)3‬‬

‫‪/‬دد‬
‫‪/‬تي تح‪/‬‬
‫‪/‬ة ال‪/‬‬
‫‪/‬ير اإلعالمي لألدب هي النقط‪/‬‬
‫فنقطة االلتقاء بين التحليل األسلوبي والتفس‪/‬‬
‫العناصر األدبية الخالصة وتوضح كيفية فعالياتها‪ ،‬وهو األمر الذي يقتضي أن تؤخ‪/‬ذ في االعتب‪/‬ار‬
‫مقولة تلفي القارئ لتأثير النص الجمالي باعتباره تدعيما للعنصر النفعي‪ ،‬وفي هذه الحال‪//‬ة يت‪//‬ولى‬
‫التحليل الُم َو َّس ُع الشامل للعناصر األسلوبية َم َّدنا ببيانات كافية لتفسير األدب‪ ،‬ويصبح الهدف الرئيسي‬
‫‪/‬ة‬ ‫للتحليل األسلوبي العميق إلدراك مدى تكامل هذه العناصر الثالثة في تحديد الحِّد األقص‪/‬‬
‫‪/‬ى لفعالي‪/‬‬
‫النص (‪.)4‬‬

‫ويجب أن يقوم التحليل األسلوبي على أساس من الوحدة التواص‪/‬لية‪ ،‬ف‪/‬األديب واألس‪/‬لوب‬
‫والوسيلة والمستقبل واالستجابة (‪ ،)5‬إَّنما هي جميعا حلقات متصلة في سلسلة واحدة (‪.)6‬‬

‫صالح فضل‪ ،‬علم األسلوب‪ ،‬ص ‪ ،116-115‬وخفاجي وآخرون‪ ،‬األسلوبية والبيان العربي‪ ،‬ص‪.15‬‬ ‫‪1‬‬

‫صالح فضل‪ ،‬علم األسلوب‪ ،‬ص ‪ ،116-115‬وخفاجي وآخرون‪ ،‬األسلوبية والبيان العربي‪ ،‬ص‪.15‬‬ ‫‪2‬‬

‫سعد مصلوح‪ ،‬في النص األدبي ‪ -‬دراسة أسلوبية إحصائية ‪ ،-‬ط‪ ،1‬دار البالد‪ ،‬جدة‪ ،‬ص‪.28‬‬ ‫‪3‬‬

‫المرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.116‬‬ ‫‪4‬‬

‫محمد عبد المنعم خفاجي وآخرون‪ ،‬األسلوبية والبيان العربي‪ ،‬ص ‪.16-15‬‬ ‫‪5‬‬

‫المرجع نفسه‪ ،‬ص‪.16‬‬ ‫‪6‬‬

‫‪34‬‬
‫البنــاء األسلـوبي‬ ‫الفصــل األول‬

‫تتصل‬ ‫(‪)‬‬
‫فالمتكلم يبعث برسالة إلى السامع‪ ،‬ولكي تكون فعالة فإَّن هذه الرسالة تقتضي سياًقا‬
‫به وتندرج فيه‪ ،‬كما تقتضي كذلك شفرة تشير إليها‪ ،‬وتحدد رموزها كي يستطيع السامع عند التقاطها‬
‫أن يعي مضمونها طبًقا لتلك الشفرة المشتركة بينه وبين المتكلم اشتراًك ا كليا أو جزئًيا على األقل‪.‬‬
‫وكل عنصر من عناصر الرسالة يحدد " وظيفة مختلفة للغة‪ ،‬وبالرغم من أَّننا نميز المظاهر‬
‫‪/‬تركز االختالف‬ ‫األساسية لها إال أَّننا ال نكاد نجد رسالة لغوية تقتصر على وظيفة واحدة منه‪/‬‬
‫‪/‬ا‪ ،‬وي‪/‬‬
‫حينئذ – ال في احتكار كل وظيفة للرسالة‪ -‬وإَّنما في ترتيب األولوية فيما بينها‪ِ ،‬م َّم ا يجع‪//‬ل البني‪//‬ة‬
‫اللغوية تتوقف أساًس ا على الوظيفة السائدة فيها" (‪.)1‬‬
‫فالنموذج التواصلي الذي يشمل المرسل والمستقبل والرسالة‪ ،‬يتض‪//‬من في أعطاف‪//‬ه "بعض‬
‫‪/‬ميها‬
‫‪/‬وابت يس‪/‬‬
‫‪/‬ذه الث‪/‬‬
‫‪/‬ه‪ ،‬وه‪/‬‬
‫الثوابت التي تتحكم في هيكل البناء اللغوي‪ ،‬ويمكن أن تكون مفتاًح ا ل‪/‬‬
‫جاكوبوب الموصالت أو مغيرات السرعة‪ ،‬ومن بينها هذا التقسيم الثالثي للض‪//‬مائر‪ ،‬إلى ض‪//‬مائر‬
‫المتكلم والمخاطب والغائب الذي يلتقي مع تقسيم ثالثي لوظائف اللغة‪ ،‬يتمثل في الوظيفة التعبيرية (أنا‬
‫المتكلم)‪ ،‬والوظيفة التأثيرية (أنت المخاطب)‪ ،‬والوظيفة الذهنية (هو الغائب)‪ ،‬ويلتقي أيًض ا مع تقسيم‬
‫ثالثي في العمل األدبي‪ ،‬يتمثل في المؤلف (أنا)‪ ،‬والقارئ (أنت)‪ ،‬والشخصيات (هو)‪ ،‬ويرتبط ذلك في‬
‫‪/‬يرات الس‪/‬رعة دون‬
‫النهاية بميول بعض األجناس األدبية إلى استعمال بعض هذه الموصالت أو مغ‪/‬‬
‫بعضها اآلخر‪ ،‬فالشعر الملحمي مثال يركز على استعمال ضمير الغائب‪ ،‬ومن ثم على الوظيفة الذهنية‬
‫للغة‪ ،‬في حين أَّن الشعر الغنائي يركز على ضمير المتكلم‪ ،‬ومن ثم على الوظيفة التعبيرية" (‪.)2‬‬
‫‪/‬مات‬
‫ومن المشكالت األساسية التي يعترف بها عدد من األسلوبيين‪ ،‬مشكالت التمييز بين الس‪/‬‬
‫واالتساق التي ال نهاية لها في النص‪ ،‬والتي يمكن عزلها عن طريق التحليل اللغوي‪ ،‬وتلك الس‪//‬مات‬
‫‪/‬ة للنص على‬
‫‪/‬ير الجمالي‪/‬‬ ‫هي السمات األسلوبية‪ ،‬أي أَّنها سمات تعين فعال التأثيرات الجمالي‪/‬‬
‫‪/‬ة‪ ،‬وغ‪/‬‬
‫القارئ‪.‬‬
‫‪/‬ة‬‫‪/‬ير إلى دالل‪/‬‬
‫‪ ‬السياق لغة من الجذر اللغوي (س و ق)‪ ،‬والكلمة مصدر (ساق يسوق سوقًا وسياقًا)‪ ،‬فالمعنى اللغوي يش‪/‬‬
‫الحدث‪ ،‬وهو التتابع‪ ،‬ينظر‪ :‬لسان العرب البن منظور‪ ،‬مادة (َس َو َق )‪ ،‬وذكر التهانوي‪ :‬أن السياق في اللغة بمعنى (اإليراد)‪،‬‬
‫ينظر‪ :‬كشاف اصطالحات الفنون للتهانوي‪،‬ج‪ ،4‬الهيئة المصرية العامة للكتاب سنة ‪1977‬م‪ ،‬ص ‪ ،27‬ويقول تمام حسان‬
‫تأكيدًا لهذه المعاني اللغوية التي تدل على (التتابع أو اإليراد)‪ " :‬المقصود بالسياق (التوالي)‪ ،‬ومن ثم ينظر إليه من ناحيتين‪،‬‬
‫أوالهما‪ :‬توالى العناصر التي يتحقق بها التركيب والسبك‪ ،‬والسياق من هذه الزاوية يسمى (سياق النص)‪ ،‬والثانية‪ :‬ت‪//‬والى‬
‫األحداث التي صاحبت األداء اللغوي وكانت ذات عالقة باالتصال‪ ،‬ومن هذه الناحية يسمى السياق (سياق الموقف)‪ ،‬ينظر‪:‬‬
‫قرينة السياق في كتابه اللغة العربية معناها ومبناها‪ ،‬ص‪ ،375‬ويعد مصطلح " السياق " في الدراسات اللغوية الحديثة من‬
‫المصطلحات العصية على التحديد الدقيق وإن كان يمثل نظرية داللية من أكثر نظريات علم الداللة(‪ )Sémantique‬تماسكًا‬
‫وأضبطها منهجًا‪ ،‬ينظر‪ :‬محمد يوسف حبل‪ ،‬البحث الداللي عند األصوليين‪ ،‬ط‪ ،1‬مكتبة عالم الكتب ‪1991‬م‪ ،‬ص ‪.28‬‬
‫‪ 1‬صالح فضل‪ ،‬علم األسلوب – مبادئه وإجراءاته – ص‪.134‬‬
‫‪ 2‬محمد عبد المنعم خفاجي وآخرون‪ ،‬األسلوبية والبيان العربي‪ ،‬ص‪.21‬‬
‫‪35‬‬
‫البنــاء األسلـوبي‬ ‫الفصــل األول‬

‫ويهدف التحليل األسلوبي إلى تحديد أدبية الخطاب بأَّنها مجموعة من الطاقات اإليحائية في‬
‫الخطاب األدبي‪ ،‬ذلك ألَّن الذي يميزه هو كثافة اإليحاء‪ ،‬وتقلص التصريح‪ ،‬فسمة األدبية في الخطاب‬
‫تتحدد بنسيج الروابط بين الطاقتين التعبيريتين‪ :‬طاقة اإلخبار‪ ،‬وطاقة اإليحاء (‪.)1‬‬
‫ويقتضي البحث الموضوعي في التحليل األسلوبي‪ ،‬أال ينطلق المحلل األس‪//‬لوبي من الّنص‬
‫مباشرة‪ ،‬وإّنما من األحكام التي يبديها القارئ حول الّنص‪ ،‬ولهذا يقتضي البحث االعتماد على قارئ‬
‫باّث ‪ ،‬بمثابة مصدر لالستقراء األسلوبي‪ ،‬ثم يعمد المحلل األسلوبي إلى كّل ما يطلقه ذل‪//‬ك الق‪//‬ارئ‬
‫الباّث من أحكام معيارية‪ ،‬معتبرًا إّياها ضربًا من االستجابات نتجت عن منّبهات كامن‪/‬‬
‫‪/‬ة في ُص لب‬
‫الّنص‪ ،‬ولئن كانت أحكام القارئ الباّث تقييمية ذاتية‪ ،‬فإَّن ربطها بمسبباتها‪ ،‬باعتبار أَّنها ليست عفوية‬
‫وال اعتباطية‪ ،‬هي في أصلها عمل موضوعي يعتمدها المحلل األسلوبي الذي ال يهتم بتسويغ تل‪//‬ك‬
‫األحكام من الوجهة الجمالية‪.‬‬
‫والقارئ الباّث الذي يلجأ إليه المحّلل األسلوبي هو بالطبع يختلف عن المتكلم الذي يلتجئ إليه‬
‫عاِلم األلسنية‪ ،‬فبينما يشترط األلسني في باته أن يكون مّتصفًا بالسذاجة اللغوية‪ ،‬فإّنَ ريفاتير يفض‪/‬‬
‫‪/‬ل‬
‫أن يكون الباّث ‪ ،‬في التحليل األسلوبي‪ ،‬مثقفًا‪ ،‬يتخذ من الّنص فرصة إلبراز معارفه(‪.)2‬‬
‫واالعتماد في التحليل على قارئ باّث كمصدر لالستقراء‪ ،‬هو بمثابة حص‪//‬ن يقي المحّل ل‬
‫‪/‬أثر‬
‫‪/‬ه وبين الت‪/‬‬
‫‪/‬ول بين‪/‬‬
‫األسلوبي من االنزالق إلى الذاتية‪ ،‬كإطالق أحكام جمالية أو معيارية‪ ،‬ويح‪/‬‬
‫‪/‬ة‬
‫‪/‬ق من المالحظ‪/‬‬
‫‪/‬و ينطل‪/‬‬ ‫المباشر بالّنص‪ ،‬ولعّلَ عمله هذا يقترب من عمل العاِلم في مخ‪/‬‬
‫‪/‬بره‪ ،‬فه‪/‬‬
‫‪/‬اول‬ ‫التجريبية (مالحظة الّنص‪ ،‬ومالحظة انفعاالت المتقّبل تجاه الّنص)‪ ،‬فتتجمع لديه ظ‪/‬‬
‫‪/‬واهر يح‪/‬‬
‫الربط بينها ربطًا سببيًا‪ ،‬يقرن االنفعاالت بحوافزها‪ ،‬ومن مجموعة تلك الروابط السببية يبرز الهيكل‬
‫العام المحّدد لخصائص األسلوب في ذلك الّنص‪.‬‬
‫ونشير إلى أَّن األهداف العامة في البحث األسلوبي تقوم على مبادئ علم اللغ‪//‬ة التط‪//‬بيقي‪،‬‬
‫فالدراسة األسلوبية تجعل من البيانات اللغوية مرتكزًا لها‪ ،‬وميزات األساليب األدبية المختلف‪//‬ة عن‬
‫‪/‬ة‬
‫بعضها البعض تستدعي استيعاب العالقة بين اللغة واألداء الفني بغية تبيين حدود التأثيرات اللغوي‪/‬‬
‫في إسهامات الناقد األدبي‪ ،‬فعلم اللغة التطبيقي يتيح رسم ملمٍح شامٍل في حِّيز الدراسة األدبية‪.‬‬
‫وغاية التحليل األسلوبي المعاصر للبالغة ال في استتباعها وأرشفتها‪ ،‬وإَّنما في الكش‪/‬‬
‫‪/‬ف عن‬
‫روابطها المنسجمة أو المتنافرة‪ ،‬وذلك بمعرفة التوظيف البالغي لألنماط‪ ،‬ومعرفة األهمية النس‪//‬بية‬
‫‪1‬عبد السالم المسدي‪ ،‬مدخل إلى النقد الحديث‪ :‬مجلة الحياة الثقافية‪ ،‬تونس‪ ،‬فبراير‪ ،1979‬ص‪ 209‬وما بعدها‪.‬‬
‫‪2‬‬
‫?‪.‬صالح فضل‪ ،‬علم األسلوب – مبادئه وإجراءاته – ص ‪96‬‬
‫‪36‬‬
‫البنــاء األسلـوبي‬ ‫الفصــل األول‬

‫‪ٍ/‬ة‬
‫‪/‬رد عالق‪/‬‬
‫‪/‬ت مج‪/‬‬
‫لهذه األنماط في سياقها النصي المحدد ودورها في تكوين بنيته‪ ،‬فمعالجتها ليس‪/‬‬
‫سيمانطيقية مجردة‪ ،‬فالمضمون مرتبٌط بالشكل والسَّيما في المسألة الشعرية أك‪//‬ثر من غيره‪//‬ا في‬
‫فنون األدب األخرى‪ ،‬وال ريب أَّن خصوصية الشكل تبِّين وتعِّدل في الوقت نفسه من المضمون إلى‬
‫‪/‬ذا‬
‫‪/‬ط ه‪/‬‬
‫أقصى مدى‪ ،‬فالرمزية واألسطورة والغموض من سمات القصيدة الحَّر ة المعاصرة‪ ،‬وارتب‪/‬‬
‫بالشكل أو القالب الشعري له فجاء مبعثرًا على السطور بحسب الطاقة الشعورية‪ ،‬وصارت القصيدة‬
‫ُكًّال ال يتَّج زأ‪ ،‬ولو نظرنا إلى القصيدة العمودية لوجدنا الوضوح والمباش‪//‬رة ارتبط‪//‬ا في ال‪//‬وزن‬
‫العروضي‪ ،‬لذلك جاء شكل القصيدة مكَّو نًا من أبياٍت يشِّك ل كُّل بيٍت منها وحدٌة مستقلٌة ال ارتباط ل‪/‬‬
‫‪/‬ه‬
‫‪/‬ر‪،‬‬
‫‪/‬لوب اآلخ‪/‬‬ ‫ظاهرَّيًا بالبيت السابق أو اآلتي‪ ،‬فلكِّل نمٍط أسلوبه الخاص به الذي ال ينفع مع‪/‬‬
‫‪/‬ه أس‪/‬‬
‫‪/‬ري أو‬
‫‪/‬مون الفك‪/‬‬
‫‪/‬ة‪ ،‬فالمض‪/‬‬
‫والقصة بدورها ال تقبل اللغة العربية ذات األلفاظ الصعبة أو الغامض‪/‬‬
‫االجتماعي للقصة ال ينسجم مع ذلك الشكل اللغوي المتقِّع ر – لو جاز لنا التعبير– بل يحتاج إلى لغٍة‬
‫أقرب إلى لغة العوام لتمِّثل األسلوب الحقيقي للغة أبطال القصة من خالل سياقها الثقافي والفكري‪.‬‬
‫ومن هذا كٍّله نستطيع القول‪ :‬إَّن اللغة تعِّبر واألسلوب يبرز‪ ،‬ويوِّض ح علماء األسلوب طبيعة‬
‫العالقة المتوازية بين مستويات المجالين اللغوي واألسلوبي بالنموذج اآلتي (‪.)1‬‬

‫النظرية األسلوبية‬ ‫علم اللغة النظري‬

‫البحث األسلوبي‬ ‫منطقة التطبيق‬

‫التحليل األسلوبي‬ ‫علم اللغة التطبيقي‬

‫فدراسة األسلوب ذات عالقٍة وثيقٍة بالبحث في أنماٍط لغوَّيٍة متنِّو عٍة عاَّم ٍة‪ ،‬والناق‪//‬د األدبي‬
‫عليه أن يطيل النظر في بنية النص للوصول إلى تحليٍل أسلوبٍّي محكٍم ‪.‬‬

‫حـ‪ -‬األسلوب والبالغة‪:‬‬


‫منذ أوائل الفكر األوربي‬ ‫(‪)La Rhétorique‬‬ ‫ظهر مفهوم األسلوب مقترنا بمصطلح البالغة‬
‫‪/‬ة إلى‬
‫‪/‬ا البالغ‪/‬‬
‫أكثر من اتصاله بفن الشعر‪ ،‬حيث ساعد على تصنيف القواعد المعيارية التي تحمله‪/‬‬
‫الفكر األدبي والعالمي منذ عهد الحضارة اإلغريقية وكتابات أرسطو على نحو خاص‪ِ ،‬مَّما أفض‪//‬ى‬

‫صالح فضل‪ ،‬علم األسلوب – مبادئه وإجراءاته –‪ ،‬ص‪.116‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪37‬‬
‫البنــاء األسلـوبي‬ ‫الفصــل األول‬

‫ببلغاء العصور الوسطى إلى تقسيم األسلوب أنواعًا ثالثة‪ :‬األسلوب البسيط واألس‪//‬لوب المتوس‪//‬ط‬
‫واألسلوب السامي‪ ،‬وهذه األساليب استخلصت من كتابات الَّش اعر الروماني "فرجيل" – الذي عاش‬
‫في القرن األول قبل الميالد – ألَّنها كانت تمثل النمط الراقي عندهم (‪.)1‬‬
‫وُيَع ُّد األسلوب جزءا أساسيًا من وسائل إقناع الجم‪//‬اهير(‪ ،)2‬فان‪//‬درج تحت موض‪//‬وع علم‬
‫‪/‬ال ‪ ))èlocutio‬وتكَّلم‬
‫الخطابة‪ ،‬وذلك في " الجزء الخاص باختيار الكلمات المناسبة لمقتضى الح‪/‬‬
‫عنه أرسطو في الكتاب الثالث من بحثه في الخطابة‪ ،‬ثم تعَّر ض له كونتلي‪//‬انوس (‪)Quintilianus‬‬
‫في الكتاب الثامن من بحثه في نظم الخطابة " (‪.)3‬‬
‫وإذا كان التاريخ األدبي للبالغة يشير إلى أَّنها علم معياري يحمل وجهته إلصدار األحك‪//‬ام‬
‫وتحديد األنماط‪ ،‬وتقييم القول على حسب الشرائط والمعايير‪ ،‬فإَّن البحث األسلوبي يعتمد على المنهج‬
‫الوصفي‪ ،‬ويهتم بتفسير اإلبداع بعد تجسده في أدائه اللغوي‪ ،‬ومن ثم فإَّن البالغة عن‪//‬د المت‪//‬أخرين‬
‫تسبق اإلبداع بتحديد مواصفاته وتحاكمه حسب تحقق تلك المواصفات (‪.)4‬‬
‫فعلم األسلوب إذن علم وصفي يقوم بتفسير سمة األدبية التي تشد نسيج النص األدبي‪ ،‬فه‪//‬و‬
‫ليس علما معياريا كعلم البالغة الذي ينزع إلى تقرير الوقائع اللغوية في الخطاب األدبي‪ ،‬ب‪//‬ل إَّن ه‬
‫يحتكم إلى النص‪ ،‬وما يحبل به من قضايا فنية ومعنوية‪ ،‬وال يقنم حقيقة للمسائل القبلية‪.‬‬
‫ويشير هنريش بليث إلى أَّن خصائص األسلوب هي اّلتي تؤّثر في المتلقي‪ ،‬والبالغة القديمة‬
‫‪/‬دودة‪،‬‬
‫كانت تنظر إلى األسلوب كأثر غايته التعليم أو اإلثارة (‪ ،)5‬وهذا النوع من التصّو ر نتائجه مح‪/‬‬
‫ويبقى مفهوم هذا األسلوب في صلته بالمتلّقي عند مايكل ريفاتير‪ ،‬أكثر فاعلي‪//‬ة‪ ،‬إَّال أَّن نظرت‪//‬ه ‪-‬‬
‫‪/‬ثر دّق ة‬ ‫كغيره ‪ -‬تبقى محدودة األثر وموضع جدل النّقاد (‪ ،)6‬ألّنه لم يتمّك ن من وضع مفه‪/‬‬
‫‪/‬وم أك‪/‬‬
‫للمتلقي‪ ،‬فما نوع القارئ اّلذي يضبط أسلوبية التلّقي؟‪.‬‬
‫إَّن األسلوب يرمي إلى التأثير‪ ،‬في حين أَّن البالغة تنشد اإلقناع باعتماد وسيلة االحتج‪//‬اج‪،‬‬
‫وفي كلتا الحالتين‪ ،‬ال يجب إقصاء فعل الشاعر كوجود إبداعي‪ ،‬يتخّط ى السائد والنمطي‪ ،‬وتط‪ّ//‬ر ق‬
‫المسّدي إلى جهود ريفاتير‪ ،‬فهو قد ربط بين تحديد األسلوب وتأثير الكالم في المتلّقي في ضوء مهّم ة‬

‫‪/‬د‬
‫‪/‬د عب‪/‬‬
‫‪ 1‬أحمد درويش‪ ،‬دراسة األسلوب بين المعاصرة والتراث‪ ،‬دار غريب للطباعة والنشر والتوزيع‪ ،‬ص‪ ،17‬ومحم‪/‬‬
‫المنعم خفاجي وآخرون‪ ،‬األسلوبية والبيان العربي‪ ،‬ط‪ ،1‬الدار المصرية اللبنانية ‪1992‬م‪ ،‬ص‪.12‬‬
‫‪ 2‬ينظر‪ :‬غنيمي هالل‪ ،‬النقد األدبي الحديث‪ ،‬ص ‪.117‬‬
‫‪ 3‬مجدي وهبه‪ ،‬معجم مصطلحات األدب‪ ،‬ص ‪.542‬‬
‫‪ 4‬رجاء عيد‪ ،‬البحث األسلوبي‪ -‬معاصرة وتراث‪ ،-‬ص‪ ،19‬وينظر عبد السالم المسدي‪ ،‬األسلوبية واألسلوب‪ ،‬ص‪48‬‬
‫‪ 5‬هنريش بليث‪ ،‬البالغة واألسلوبية‪ ،‬ص ‪.34‬‬
‫‪ 6‬المرجع نفسه‪ ،‬ص‪.34‬‬
‫‪38‬‬
‫البنــاء األسلـوبي‬ ‫الفصــل األول‬

‫‪/‬اب‬
‫‪/‬رار الخط‪/‬‬ ‫الناقد‪ ،‬وأّنه للناقد أن يبني تقديره للّنص على كفاءة المتلّقي وقدرت‪/‬‬
‫‪/‬ه على إدراك أس‪/‬‬
‫الشعري في عباراته وجمله‪ ،‬وما تتضمّنه من وحدة الداللة‪ ،‬كما يتوّقف دور الناقد على جم‪//‬ع م‪//‬ا‬
‫يصدر عن المتلّقي من أحكام قيمية ذوقية ‪ -‬دون تبريرها جماليًا ‪ -‬تعّد استجابة لدوافع موجودة في‬
‫‪ّ/‬دث‬ ‫الّنص المقروء (‪ ،)1‬وريفاتير يتطّر ق إلى المتلّقي بمعزٍل عن الناقد‪ ،‬ألّنه يظهر األس‪/‬‬
‫‪/‬لوب ويتح‪/‬‬
‫عنه ويضيف إليه‪ ،‬تبعًا لدرجة األثر اّلذي يحدثه في نفسه‪.‬‬
‫ويتعّر ض المسدي كذلك إلى الفرق بين علم األسلوب والبالغة‪ ،‬وأش‪//‬ار إلى أّن الدارس‪//‬ين‬
‫يقّر ون أن األسلوبية وليدة البالغة وبديلها‪ ،‬وهو ما لم يستسغه‪ ،‬وعزا الفرق بينهما إلى تقاطعهما في‬
‫المنهج والتصور‪ ،‬يقول‪" :‬إّن البالغة علم معياري يرسل األحكام التقييمية‪ ،‬ويرمي إلى (تعليم) مادته‬
‫‪/‬ة‬
‫‪/‬ام التقييمي‪/‬‬
‫‪/‬ال األحك‪/‬‬
‫وموضوعه‪ ،‬بينما تنفي األسلوبية عن نفسها كل معيارية‪ ،‬وتعزف عن إرس‪/‬‬
‫‪/‬اط مس‪ّ/‬بقة‬
‫‪/‬ى أنم‪/‬‬ ‫بالمدح أو التهجين‪ ،‬وال تسعى إلى غاية تعليمية البّت ة؛ فالبالغ‪/‬‬
‫‪/‬ة تحكم بمقتض‪/‬‬
‫وتصنيفات جاهزة‪ ،‬بينما تتحدد األسلوبية بقيود منهج العلوم الوصفية‪ ،‬والبالغة ت‪//‬رمي إلى خل‪//‬ق‬
‫‪/‬رر‬
‫‪/‬د أن يتق‪/‬‬
‫‪/‬ة بع‪/‬‬
‫‪/‬اهرة األدبي‪/‬‬
‫‪/‬ل الظ‪/‬‬
‫اإلبداع بوصاياها التقييمية‪ ،‬بينما تسعى األسلوبية إلى تعلي‪/‬‬
‫وجودها"(‪.)2‬‬

‫‪ً/‬ا‬
‫‪/‬دلول‪ ،‬خالف‪/‬‬
‫‪/‬دال والم‪/‬‬
‫‪/‬ل بين ال‪/‬‬
‫فالبالغة إذن‪ ،‬تتأّس س في بلوغ الشيء جماليًا إلى الفص‪/‬‬
‫‪/‬ام‬
‫لألسلوبية التي ال تقّر بذلك‪ ،‬وهكذا يكون الذوق وفق نص المسّدي هو المدار الذي تبنى عليه أحك‪/‬‬
‫‪/‬نعة أو‬
‫‪/‬ع أو الص‪/‬‬
‫البالغة من حيث التصور والتشكل‪ ،‬والحكم على النص الشعري من منظور الطب‪/‬‬
‫التكلف‪ ،‬في حين أّن األسلوبية مقيدة بمنهج علمي تنهض عليه‪ ،‬وقوامه الوصف والتعليل‪.‬‬

‫‪/‬ف‬
‫‪/‬ا في وص‪/‬‬ ‫كما أّن المسدي يعترف بأّن األسلوبية هي وليدة البالغة القديمة وب‪/‬‬
‫‪/‬ديل عنه‪/‬‬
‫األسلوب‪ ،‬أي أّن البالغة تنحو إلى تصور ماهيات األشياء‪ ،‬واألسلوبية تنطلق من تصّو ر وجود هذه‬
‫األشياء‪ ،‬وعلى الرغم من اضطالع البالغة بتحديد األسلوب البليغ الموصوف بسمة الفن‪ ،‬وص‪//‬لته‬
‫بتجربة المتلقي الجمالية‪ ،‬فإّنها تبقى معيارية‪ ،‬تصدر أحكامها وفق قواعد‪ ،‬في الحين أّن األس‪//‬لوبية‬
‫منهج وصفي يفّس ر الخطاب الشعري من حيث أداؤه اللغوي‪ ،‬كما أّن البالغة تصدر عن مقاييس ثابتة‬
‫في الحكم والتذوق‪ ،‬بينما األسلوب يخضع للتحول الختالف إبداعات الش‪//‬عراء في طرائ‪//‬ق األداء‬
‫باختالف سياقاتها وتطورها‪.‬‬
‫عبد السالم المسدي‪ ،‬األسلوبية واألسلوب‪ ،‬ص‪.87‬‬ ‫‪1‬‬

‫عبد السالم المسدي‪ ،‬األسلوبية واألسلوب‪ ،‬ص‪.53 -52‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪39‬‬
‫البنــاء األسلـوبي‬ ‫الفصــل األول‬

‫فإنه تطرق إلى داللة البالغة ووظيفتها منذ القدم‪ ،‬ورأى أنه‪//‬ا "فن يع‪//‬ني‬
‫أّم ا روالن بارت ّ‬
‫مجموعة من اإلرغامات‪ ،‬والتي تسمح سواء باإلقناع‪ ،‬أو بعد ذلك بالتعبير الجيد‪ ،‬وهذا الهدف المعلن‬
‫عنه يجعل من البالغة طبعًا مؤسسة اجتماعية "(‪.)1‬‬

‫وقد رأى بارت كذلك َّأنه يمكن للشعرية أن تؤول إلى بالغة‪ ،‬إذا حققت غايته‪//‬ا‪ ،‬إذ يق‪//‬ول‪:‬‬
‫"والشعرية هي التحليل الذي يسمح باإلجابة عن هذا السؤال‪ :‬ما الذي يجعل من رسالة القولية أث‪//‬رًا‬
‫غنيًا؟‪ ،‬وهذا العنصر الخصوصي هو ما أسميه‪ ،‬من جهتي‪ ،‬بالغة بطريقة تتفادى كّل حصر للشعرية‬
‫في الشعر"(‪.)2‬‬
‫أن موضوع البالغة األساس هو جودة الكتابة(‪ ،)3‬وبالتالي ال يمكن فصلها‬
‫ويخلص بارت إلى َّ‬
‫عن األسلوب كتقنية وبراعة وجودة في األداء‪.‬‬
‫ويمكن القول إّنَ علم األسلوب كمنهج حديث هو إضافة للفك‪//‬ر البالغي الق‪//‬ديم وتط‪//‬ويره‬
‫لبحوثه‪ ،‬وأ َّنه قابل ألن يرتقي ويتطور‪ ،‬أي أّنَ األسلوب ال يمكنه أن يستغني عن استلهام ما جاءت به‬
‫البالغة والنقد من أسس‪ ،‬وبذلك فهو أحوج ما يكون إلى مبادئ هذين الحقلين مع عدم تعارض ه‪//‬ذه‬
‫الحاجة‪ ،‬وبحثها في كيفية أداء األسلوب ونقد األساليب الفردية للشعراء‪.‬‬
‫وإذا كانت علوم البالغة التقليدية في أوربا وريثة علم الخطابة الذي كتب عنه أرسطو‪ ،‬فإَّنها‬
‫‪/‬أثير‪ ،‬فهي لم‬
‫‪/‬د الت‪/‬‬
‫قد انحصرت في جزء من هذا العلم المشتمل على اختيار الكلمات وتنسيقها بقص‪/‬‬
‫‪/‬الي "‬
‫‪/‬ارل ب‪/‬‬
‫‪/‬ري ش‪/‬‬
‫تعش في مناهج التعليم بعد أوائل القرن العشرين‪ ،‬حيث شرع األستاذ السويس‪/‬‬
‫يلقي مجموعة من المحاضرات في علم جديد ع‪/‬رف باألس‪/‬لوبية أو علم‬ ‫(‪)‬‬
‫‪"Charles Bally‬‬
‫األسلوب (‪.)4‬‬

‫‪ -2‬األسلوبيـة علـم مستقـل بذاتـه‬


‫أ‪ -‬تحديد األسلوبية‪:‬‬

‫‪ 1‬المرجع نفسه‪ ،‬ص‪.108‬‬


‫‪ 2‬روالن بارت‪ ،‬قراءة جديدة للبالغة القديمة‪ ،‬ترجمة‪ ،‬عمر أركان‪ ،‬إفريقيا الشرق‪ ،‬بيروت‪ ، 1994‬ص ‪.107‬‬
‫‪ 3‬صالح فضل‪ ،‬علم األسلوب‪ ،‬ص‪.95‬‬
‫‪ ‬ألسني سويسري‪ ،‬ولد بجنيف ومات بها (‪1865‬م‪1947-‬م)‪ ،‬اختص في اليونانية والسنسكريتية‪ ،‬وتتلمذ على سوس‪//‬ير‬
‫فاستهوته وجهة األلسنية الوصفية‪ ،‬ولما تمثل مبادئ المنهج الهيكلي عكف على دراسة األسلوب‪ ،‬فأرسى قواعد األس‪//‬لوبية‬
‫األولى في العصر الحديث‪ ،‬من مؤلفاته‪ " :‬مصنف األسلوبية الفرنسية "‪ " ،‬اللغة والحياة "‪ ،‬األلسنية العامة واأللسنية الفرنسية‬
‫"‪ ،‬ينظر‪ :‬عيد السالم المسدي‪ ،‬األسلوبية واألسلوب‪ ،‬ص‪.237‬‬
‫‪ 4‬مجدي وهبه‪ ،‬معجم مصطلحات األدب‪ ،‬ص ‪.543‬‬
‫‪40‬‬
‫البنــاء األسلـوبي‬ ‫الفصــل األول‬

‫ارتبط مفهوم (األسلوبية) بالدراسات اللغوية منذ نشأته في القرن العشرين‪ ،‬وبالتالي انفصل‬
‫عن (األسلوب) المتعلق بالبالغة‪ ،‬واألسلوب أسبق في الظهور بما أعلن‪//‬ه الفرنس‪//‬ي [جوس‪//‬تاف‬
‫كويرتنج] في عام )‪1886‬م(‪ ،‬حينما قال‪ " :‬إَّن علم األسلوب الفرنسي ميداٌن شبه مهجوٍر تمامًا حَّتى‬
‫اآلن‪ ،‬فواضعو الرسائل يقتصرون على تصنيف وقائع األسلوب التي تلفت أنظارهم طبقًا للمن‪//‬اهج‬
‫التقليدية‪ ،‬لكَّن الهدف الحقيقي لهذا النوع من البحث ينبغي أن يكون أصالة هذا التعبير األسلوبي أو‬
‫‪/‬ف‬
‫‪/‬ا تكش‪/‬‬
‫ذاك‪ ،‬وخصائص العمل أو المؤلف التي تكشف عن أوضاعهما األسلوبية في األدب‪ ،‬كم‪/‬‬
‫بنفس الطريقة عن التأثير الذي مارسته هذه األوضاع "(‪.)1‬‬
‫‪/‬لوب‬
‫‪/‬االت علم األس‪/‬‬ ‫ومعنى هذا – برأي صالح فضل – أَّن العلماء قد حَّددوا آن‪/‬‬
‫‪/‬ذاك مج‪/‬‬
‫الحديث بحثًا عن التعبير المتمِّيز‪ ،‬وأوجزوها في سبعة أبواٍب هي‪ :‬أسلوب العمل األدبي؛ وأسلوب‬
‫المؤِّلف؛ وأسلوب مدرسٍة معينٍة أو عصٍر خاٍّص أو جنٍس أدبٍّي محَّدٍد أو األسلوب األدبي من خالل‬

‫األسلوب الفِّني أو من خالل األسلوب الثقافي العام في عصٍر معَّيٍن‬


‫(‪) 2‬‬

‫وإذا كان مصطلح األسلوب (‪ )le style‬قد سبق مصطلح األسلوبية (‪ )la stylistique‬إلى‬
‫الوجود واالنتشار‪ ،‬فإَّن القواميس التاريخية في اللغة الفرنسية تصعد باألول منهما إلى بداية الق‪//‬رن‬
‫‪/‬ة‬
‫الخامس عشر الميالدي‪ ،‬وبالثاني إلى بداية القرن العشرين (‪ ،)3‬وذلك مع الدراسات اللغوية الحديث‪/‬‬
‫‪/‬ي‬
‫التي قررت أن تتخذ من األسلوب " علما يدرس لذاته أو يوظف في خدمة التحليل األدبي أو النفس‪/‬‬
‫أو االجتماعي " (‪.)4‬‬
‫ومن هنا فإَّن مصطلح "األسلوبية" أو "علم األسلوب" على حد تعبير صالح فضل قد التصق‬
‫بالدراسات اللغوية(‪ ،)5‬وهو بذلك قد انفصل عن مفهوم األسلوب السابق في النشأة منذ قرون‪ ،‬إذ كان‬
‫لصيقا بالدراسات البالغية حتى لمكنت القول‪ :‬أَّن األسلوب مهاد طبيعي لألسلوبية‪ ،‬فهو يق‪//‬وم على‬
‫مبدأ االنتقاء واالختيار للمادة األدائية التي تقوم الدراسات األسلوبية بمهم‪//‬ة تحليله‪//‬ا من الناحي‪//‬ة‬
‫األسلوبية (‪.)6‬‬
‫فإننا نق‪//‬ترب من‬
‫وإنما هو جذرها‪ ،‬وإذا قلنا علم األسلوب َّ‬
‫واألسلوب ليس رديفا لألسلوبية‪َّ ،‬‬
‫ألن األسلوبية في بعض وجوهها ُمتأثرة بالمنطق العلمي والنسق المنهجي‪،‬‬
‫األسلوبية حد الترادف‪َّ ،‬‬
‫صالح فضل‪ ،‬علم األسلوب‪ ،‬ص‪.15‬‬ ‫‪1‬‬

‫صالح فضل‪ ،‬علم األسلوب‪ ،‬ص‪.15‬‬ ‫‪2‬‬

‫محمد عبد المنعم خفاجي وآخرون‪ ،‬األسلوبية والبيان العربي‪ ،‬ص‪.11‬‬ ‫‪3‬‬

‫أحمد درويش‪ ،‬دراسة األسلوب بين المعاصرة والتراث‪ ،‬ص‪.19‬‬ ‫‪4‬‬

‫صالح فضل‪ ،‬علم األسلوب‪ ،‬ص‪.86‬‬ ‫‪5‬‬

‫رجاء عيد‪ ،‬البحث األسلوبي‪ ،‬ص‪.21‬‬ ‫‪6‬‬

‫‪41‬‬
‫البنــاء األسلـوبي‬ ‫الفصــل األول‬

‫ضُع األسلوب‬
‫خ ِ‬
‫وهما من معطيات هذا العصر الذي يهيمن فيه العلم على كل شيء‪ ،‬ومن ذلك َّإنه ُي ْ‬
‫‪/‬رض‬
‫‪/‬ه لع‪/‬‬
‫للرؤية المنهجية‪ ،‬ولذلك يرى الناقد الفرنسي (بيار جيرو) تلميذ شارل بالي في محاولت‪/‬‬
‫ن األسلوب هو مظهر القول‬
‫تصور متكامل للجوانب المختلفة لظاهرة األسلوب على النحو اآلتي‪" :‬إ َّ‬
‫الذي ينجم عن اختيار وسائل التعبير‪ ،‬وهذه الوسائل التي تحددها طبيعة ومقاصد الش‪//‬خص المتكلم‬
‫أو الكاتب" (‪.)1‬‬
‫وسع يشمل التعبير ومظاهره‪ ،‬والشخص المتكلم أو الك‪//‬اتب‬
‫فإن هذا التعريف ُم َّ‬
‫وكما نرى َّ‬
‫وطبيعته ومقاصده‪ ،‬وإن كان يغفل المتلقي دوره في تحديد المظاهر المؤثرة عليه‪ ،‬ويشرح ج‪//‬يرو‬
‫عناصر تعريفه في خمس نقاط نجملها فيما يأتي(‪:)2‬‬
‫‪/‬اني‬
‫أ‪ -‬حدود التعبير‪ ،‬فالتعريفات المختلفة لألسلوب تتنوع بقدر ما نعتد بالتعبير بأوسع مع‪/‬‬
‫الكلمة بما تصوره بشكل محدود مما يجعلها قابلة ألن تشمل‪:‬‬
‫‪ -‬فن الكتابة بالمعنى التقليدي‪ ،‬أي االستخدام الواعي لوسائل التعبير ألهداف أدبية وجمالية‪.‬‬
‫‪ -‬طبيعة الكاتب‪ ،‬وتتمثل في االختيار العفوي الالشعوري الذي يعير عن مزاج الكاتب وتجربته‪.‬‬
‫‪ -‬شمولية العمل‪ ،‬وهي تتجاوز الصيغ اللغوية لتحتضن موقف اإلنسان الكلي ورؤيته للعالم‪.‬‬
‫ب‪ -‬حدود وسائل التعبير‪ ،‬فإذا كان األسلوب هو استخدام وسائل التعبير‪ ،‬فإن بوس‪//‬عنا أن‬
‫نفهم هذه الوسائل على درجات متفاوتة في السعة والشمول بحيث تتضمن‪:‬‬
‫‪ -‬األبنية النحوية من صوتية وصرفية ومعجمية وتركيبية‪.‬‬
‫‪ -‬إجراءات التركيب من صيغ شعرية وأجناس أدبية ووصل وما سواه‪.‬‬
‫‪ -‬الفكر في شموله من موضوعات ورؤى ومواقف فلسفية من العالم‪.‬‬
‫جـ‪ -‬طبيعة التعبير‪ ،‬فالتوصيل اللغوي يتضمن قيمًا مختلفة تتراكب وتترجم الموقف العفوي‬
‫للكاتب‪ ،‬أو التأثير المقصود الذي يريد أن يحدثه في المتلقي‪:‬‬
‫‪ -‬فهناك قسم عقلية‪ ،‬يترتب على غلبتها أن بكون األسلوب واضحًا أو منطقيًا أو مضطربًا‪.‬‬
‫‪ -‬وهناك قسم تعبيرية‪ ،‬فقد يكون أسلوبًا مندفعًا أو طفوليا أو إقليميًا‪.‬‬
‫‪ -‬وهناك قسم انطباعية‪ ،‬فقد يكون أسلوبًا طاغيًا أو ساخرًا أو هزليًا‪.‬‬
‫د‪ -‬مصادر التعبير‪ ،‬ففي منظور متوافق ومجاور للمنظور الس‪//‬ابق يمكن في رأي ج‪//‬يرو‬
‫تصنيف األساليب طبقًا للمعايير اآلتية‪:‬‬
‫المرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.110‬‬ ‫‪1‬‬

‫رجاء عيد‪ ،‬البحث األسلوبي‪ ،‬ص ‪.112-111‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪42‬‬
‫البنــاء األسلـوبي‬ ‫الفصــل األول‬

‫‪ -‬المصدر الحسي والنفسي للتعبير‪ ،‬فتتحدد األساليب طبقًا لالمزجية واألجناس واألعمار والحاالت‬
‫النفسية‪ ،‬فتكون هناك أساليب نسائية وأخرى طفولية أو عصبية أو غبرها‪.‬‬
‫‪ -‬المصدر االجتماعي للتعبير‪ ،‬فتكون هناك أساليب كالسيكية ترتبط بتقاليد المهن أو عادات األقاليم‬
‫أو الطبقات االجتماعية‪.‬‬
‫‪ -‬المصدر الوظيفي للتعبير‪ ،‬فتكون هناك أسلوب إداري أو قانوني أو خطابي أو غير ذلك‪ ،‬ويدخل‬
‫التصنيف األدبي لألساليب في هذا المصدر‪.‬‬
‫‪/‬ات‬
‫‪/‬ة من التعريف‪/‬‬
‫‪/‬ادره مجموع‪/‬‬
‫‪/‬ير ومص‪/‬‬
‫‪/‬ة التعب‪/‬‬
‫هـ‪ -‬مظهر التعبير‪ ،‬وتنبثق عن طبيع‪/‬‬
‫واألوصاف التي تعتمد عند جيرو على ما يأتي‪:‬‬
‫‪ -‬شكل التعبير‪ ،‬فهناك تعبير موجز‪ ،‬وآخر تصويري‪ ،‬وثالث استطرادي مثًال ‪.‬‬
‫‪ -‬جوهر التعبير‪ ،‬بالنظر إلى الفكر الذي يحتويه‪ ،‬فهناك أسلوب رقيق أو حزين أو نشيط‪.‬‬
‫‪ -‬الشكل المتكلم أو الكاتب وموقفه‪ ،‬فهناك أسلوب قديم وآخر شعري‪ ،‬وثالث حديث إلى غير ذل‪//‬ك‬
‫من التصنيفات المختلفة‪.‬‬
‫وأهم ما يالحظ على هذا العرض لمظاهر األسلوب ومجاالته‪َّ ،‬أنه َّيتسم ب‪//‬التنوع الش‪//‬ديد‪،‬‬
‫‪/‬ذا‬
‫‪/‬يرو به‪/‬‬
‫‪/‬ة‪ ،‬وج‪/‬‬
‫ويحتضن األسلوب باعتباره ظاهرة لغوية عامة ال تقتصر على األشكال األدبي‪/‬‬
‫المنحى أمين لمفهوم أستاذه بالي‪ ،‬وإن كان يختلف عنه في إدماجه لألسلوب األدبي‪ ،‬إال َّأنه ال يستقر‬
‫مما يجعل بعض أقسامه متداخلة مضطربة‪ ،‬وه‪//‬و في نهاي‪//‬ة‬
‫على أساس واحد للتقييم والتصنيف َّ‬
‫األمر تبسيط مدرسي للقضايا ذات الجذور الفلسفية والمنهجية‪ ،‬وتوض‪//‬يح منهجي عقلي ينبغي أن‬
‫نتعامل معه دائمًا أو االعتماد عليه‪.‬‬

‫إن األسلوبية تعنى‬


‫وينطبق هذا على األسلوب جذر األسلوبية ومنطلقها وركيزتها‪ ،‬وإذا قلنا َّ‬
‫بتقنية الكتابة وآليتها وبالصياغة والنظم والتنسيق لم نبتعد عن الصواب‪َّ ،‬إنها مجموعة من العناصر‬
‫‪/‬وه‪ ،‬فهي‬
‫أن أحد هذه العناصر أو الوج‪/‬‬
‫والوجوه‪ ،‬وتأتي التعريفات المتعددة الغزيرة كي تركز على َّ‬
‫‪ -‬أي التعريفات‪ -‬في مجموعها صحيحة‪ ،‬ومن خالل مجموع هذه التعريفات يبرز الكيان الكام‪//‬ل‬
‫لألسلوبية‪.‬‬

‫ومصطلح األسلوبية هذا الذي ظهر في العصر الحديث‪ ،‬يدع ما يحيط ب‪//‬النص‪ ،‬ويلج إلى‬
‫داخل مكنوناته‪ ،‬وعناصره الجوهرية‪ ،‬وذلك للوصول إلى فهم أعمق لحقيقة النص من خالل دراسة‬

‫‪43‬‬
‫البنــاء األسلـوبي‬ ‫الفصــل األول‬

‫اللغة عبر االنزياحات اللغوية والبالغية‪ ،‬فأمام المتحدث أو الكاتب مادة لغوية ضخمة ومتعددة يتكلم‬
‫ألنه يجد فيها أكثر تعبيرًا عن‬
‫عَّما سواها‪َّ ،‬‬
‫بها‪ ،‬ويكتب فيها‪ ،‬فاختياره للكلمات والتراكيب ِمَّما يؤثره َ‬
‫‪/‬ا‬
‫‪/‬تخدمت فيه‪/‬‬
‫أفكاره ورؤاه‪ ،‬وأعمق تأثيرًا في المتلقي‪ ،‬فاألسلوبية كيفية القول أو الطريقة التي اس‪/‬‬
‫اللغة‪ ،‬ومدى األثر الذي تركته في المتلقي‪.‬‬

‫وفي تراثنا تظهر مالمح األسلوبية‪ ،‬وبداية من خالل التعريف المت‪//‬داول للبالغ‪//‬ة بأَّنه‪//‬ا‬
‫"مطابقة الكالم لمقتضى الحال مع فصاحته "(‪ ،)1‬فمقتضى الحال يدل على تعدد وتنوع في األساليب‬
‫‪/‬حية‪،‬‬
‫‪/‬ه الص‪/‬‬
‫المستخدمة بين الملقي والمتلقي‪ ،‬بمراعاة وضع المتلقي الثقافي‪ ،‬واالجتماعي‪ ،‬وحالت‪/‬‬
‫‪/‬ات‬
‫‪/‬اة أدق الجزئي‪/‬‬
‫والنفسية وغير ذلك‪ ،‬مع األخذ بعين االعتبار المناسبة التي يقال فيها‪ ،‬أي مراع‪/‬‬
‫أن العرب قالت " لكل مقام مقال "(‪.)2‬‬
‫حتى َّ‬

‫أن البالغيين قد أول‪//‬وه‬


‫فإننا نجد َّ‬
‫وإذا ما نظرنا إلى "المقال" على َّأنه يمثل "السياق اللغوي" َّ‬
‫‪/‬ياقها‬ ‫عناية كبيرة‪ ،‬وليس أدّل على ذلك من ربط العّالمة عبد القاهر الجرجاني فصاحة الكلم‪/‬‬
‫‪/‬ة بس‪/‬‬
‫اللغوي والتركيب الذي قيلت فيه‪ ،‬حيث يقول‪" :‬وجملة األمر أنّا ال نوجب الفصاحة للفظة مقطوعة‬
‫مرفوعة من الكالم الذي هي فيه‪ ،‬ولكّنا نوجبها لها موصولة بغيرها‪ ،‬ومعَّلقا معناها بمعنى ما يليها‪،‬‬

‫فإذا قلنا في لفظة (اشتعل) من قوله تعالى‪ :‬واشتعل الرأس شيبا‪َّ :)3(‬إنه‪//‬ا في أعلى المرتب‪//‬ة من‬
‫ولكن موصوًال بها الرأس معرف‪//‬ا ب‪//‬األلف والالم‪،‬‬
‫َّ‬ ‫الفصاحة‪ ،‬لم توجب تلك الفصاحة لها وحدها‪،‬‬
‫‪/‬دع‬
‫ومقرونا إليها الشيُب منكّر ًا منصوبا "(‪ ،)4‬ويقول في موضع آخر‪ " :‬فقد اتضح إذن اتضاحًا ال ي‪/‬‬
‫‪/‬ردٌة‪َّ ،‬‬
‫وأن‬ ‫‪/‬ردة وال من حيث هي كلٌم مف‪/‬‬ ‫للشك مجاًال َّ‬
‫أن األلفاظ ال تتفاضل من حيث هي ألفاظ مج‪/‬‬
‫األلفاظ َتْثُبُت لها الفضيلة وخالفها في مالءمة معنى اللفظة لمعنى التي تليها أو ما أشبه ذلك مم‪/‬‬
‫‪/‬ا ال‬
‫تعُّلق له بصريح اللفظ"(‪ ،)5‬كما رّد عبد القاهر الجرجاني ادعاء من قال‪" :‬إّنه ال مع‪//‬نى للفص‪//‬احة‬
‫سوى التالؤم اللفظي وتعديل مزاج الحروف" (‪.)6‬‬

‫‪ 1‬عبد القادر البغدادي‪ ،‬خزانة األدب ولب لباب لسان العرب‪ ،‬تحقيق وشرح عبد السالم محمد هارون‪ ،‬ط‪ ،2‬الهيئة المصرية‬
‫العامة للكتاب‪( ،‬د‪.‬ت)‪ ،‬ص ‪.53‬‬
‫‪ 2‬أبو هالل العسكري‪ ،‬كتاب الصناعتين‪ -‬الكتابة والشعر‪ ،-‬ص‪.33‬‬
‫‪ 3‬مريم‪.4 :‬‬
‫‪ 4‬عبد القاهر الجرجاني‪ ،‬دالئل اإلعجاز‪ ،‬ص‪.364‬‬
‫‪ 5‬المصدر نفسه‪ ،‬ص‪.92‬‬
‫‪ 6‬نفسه‪ ،‬ص‪.99‬‬
‫‪44‬‬
‫البنــاء األسلـوبي‬ ‫الفصــل األول‬

‫‪/‬د‬
‫وإذا ما نظرنا إلى " المقام " على َّأنه يمثل " سياق الموقف " وجدنا ذلك أيضا واضحا عن‪/‬‬
‫البالغيين‪ ،‬فهذا عبد القاهر الجرجاني يربط الكالم بمقام استعماله‪ ،‬ومراعاة مقتضى حاله وهو ّ‬
‫لب‬
‫ألنهم لم‬
‫دراسة المعنى اللغوي عنده‪ ،‬ومنبثق من نظريته للنظم‪ ،‬وث‪//‬ار على اللغ‪//‬ويين الع‪//‬رب؛ َّ‬
‫أن كل‬
‫يستفيدوا من مبدأ جيد وضعه سيبويه‪ ،‬مؤداه ربط الكالم بمقام استعماله (‪ ،)1‬بل وقع في ظنهم َّ‬
‫تقديم أو تأخير أو حذف َّإنما هو للعناية واالهتمام كما قال صاحب الكتاب (‪.)2‬‬

‫والُبَّد من اإلشارة في هذا المضمار إلى أَّن األسلوبية تلتقي في كثير من خصائصها بالبالغة‬
‫العربية من جهة‪ ،‬وبنظرية السياق من جهة ثانية‪ ،‬لتصبح علمًا يتناول طريقة التعبير عن الفك‪//‬ر من‬
‫‪/‬تراكيب‬
‫خالل اللغة‪ ،‬وذلك يعني دراسة كيفيـة استخدام المفردات واألبنية الصرفية والنحوية في ال‪/‬‬
‫اللغوية (‪.)3‬‬

‫‪/‬طلح أو‬
‫وفكرة السياق هذه ماثلة في أذهان البالغيين القدماء سواء كان التعبير عنها بالمص‪/‬‬
‫‪/‬امال‬
‫‪/‬ى ع‪/‬‬
‫‪/‬ذا المقتض‪/‬‬
‫بغيره‪ ،‬كمراعاة المقام أو مطابقة الكالم لمقتضى الحال‪ ،‬فالسكاكي يعتبر ه‪/‬‬
‫‪/‬ان‬
‫‪/‬إن ك‪/‬‬
‫أساسيًا يراعى في النص‪ ،‬وبمقتضاه تتحدد الدالالت والمعاني‪ ،‬فيقول في هذا الشأن‪ " :‬ف‪/‬‬
‫مقتضى الحال إطالق الحكم فُح ْس ُن الكالم تجريده من مؤكدات الحكم‪ ،‬وإن كان مقتض‪//‬ى الح‪//‬ال‬
‫بخالف ذلك فُح ْس ُن الكالم تحليه بشيء من ذلك بحسب المقتضى ضعفًا وقوًة‪ ،‬وإن كان المقتض‪//‬ى‬
‫الحال طي ذكر المسند إليه فُح ْس ُن الكالم تركه‪ ،‬وإن كان المقتضى إثباته على وج‪//‬ه من الوج‪//‬وه‬
‫ُن الكالم‬ ‫المذكورة‪ ،‬فُح ْس ُن الكالم وروده عاريًا عن ذكره‪ ،‬وإن كان المقتضى ترك المس‪//‬ند فُح ْس‬
‫وروده عاريًا عن ذكره‪ ،‬وإن كان المقتضى إثباته مخصصًا بشيء من التخصيصات فُح ْس ُن الكالم‬
‫نظمه عند انتظام الجملة مع أخرى فصلها أو وصلها‪ ،‬واإليجاز معها أو اإلطناب‪ ،‬أعني طي الجمل‬
‫عن البين وال طيها فُح ْس ُن الكالم تأليفه مطابقًا لذلك " (‪.)4‬‬

‫ولقد سار علماء البالغة والتفسير على هذا النهج محاولين أن يفسروا الدالالت ويتعمقوا في‬
‫أسرار التراكيب والنصوص الستكناه مضامينها‪.‬‬

‫‪/‬اهرة‬
‫الق‪/‬‬ ‫‪ 1‬ينظر‪ :‬البدراوي زهران‪ ،‬عاِلم اللغة‪ :‬عبد القاهر الجرجاني (المفتُّن في العربية ونحوها)‪ ،‬دار المعارف‪ ،‬ط‪،4‬‬
‫‪1987‬م‪ ،‬ص‪.242 – 238‬‬
‫‪ 2‬وهو المبدأ الذي وضعه سيبويه عند حديثه عن جواز تقديم المفعول على الفاعل‪ ،‬فقال‪" :‬كأنهم إنَّما يقدمون الذي بيانه أهُّم‬
‫لهم وهم ببيانه أعنى‪ ،‬وإن كانا جميعا يهمانهم ويعنيانهم "‪ ،‬الكتاب‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪.34‬‬
‫‪ 3‬العربي قاليلية‪ ،‬التقديم والتأخير في التراكيب اللغوية (دراسة داللية)‪ ،‬رسالة دكتوراه دولة في اللغة ‪ ،‬جامعة وهران‬
‫السانية‪ ،‬الجزائر ‪2001‬م‪ ،‬ص ‪.288‬‬
‫‪ 4‬أبو يعقوب السكاكي‪ ،‬مفتاح العلوم‪ ،‬تحقيق أكرم عثمان يوسف‪ ،‬ط‪ ،1‬دار الكتب العلمية‪ ،‬بيروت ‪1982‬م‪ ،‬ص‪.169‬‬
‫‪45‬‬
‫البنــاء األسلـوبي‬ ‫الفصــل األول‬

‫‪/‬نى‬
‫‪/‬د المع‪/‬‬
‫ويعني مصطلح السياق التركيب أو السياق الذي ترد فيه الكلمة ويسهم في تحدي‪/‬‬
‫‪/‬اة‬
‫‪/‬ز النح‪/‬‬
‫المتصور لها (‪ ،)1‬فهو مصطلح متضمن داخل التعبير المنطوق بطريقة ما(‪ ،)2‬ولذلك رك‪/‬‬
‫على اللغة المنطوقة‪ ،‬فتعّر ضوا للعالقة بين المتكلم وما أراده من معنى‪ ،‬والمخاطب وما فهم‪//‬ه من‬
‫الرسالة‪ ،‬واألحوال المحيطة بالحدث الكالمي‪.‬‬

‫كما أَّن الكلمة ال معنى لها خارج السياق الذي ترد فيه‪ ،‬وربما اتحد المدلول واختلف المعنى‬
‫طبقا للسياق الذي قيلت فيه العبارة أو طبقا ألحوال المتكلمين والزمان والمكان الذي قيلت فيه(‪.)3‬‬

‫ولقد تبلور هذا االتجاه في نظرية عرفت (بنظرية السياق) على يد العالم اإلنجليزي ج‪//‬ون‬
‫‪/‬ذه‬ ‫فيرث(‪ ،)‬ونظرية السياق هي جملة العناصر المكونة للموقف الكالمي أو للحال الكالمي‪/‬‬
‫‪/‬ة‪ ،‬وه‪/‬‬
‫العناصر هي(‪:)4‬‬
‫‪/‬ير المتكلم‬
‫‪/‬هد الكالم غ‪/‬‬
‫‪/‬يات من يش‪/‬‬
‫‪ -‬شخصية المتكلم والسامع وتكوينها الثقافي وشخص‪/‬‬
‫والسامع إن وجدوا وبيان ما لذلك من عالقة بالسلوك اللغوي‪.‬‬
‫‪ -‬العوامل والظواهر االجتماعية ذات العالقة باللغة وبالسلوك اللغ‪//‬وي لمن يش‪//‬ارك في‬
‫الموقف الكالمي‪.‬‬
‫‪ -‬أثر النص الكالمي في المشاركين كاإلقناع أو األلم أو اإلغراء أو الضحك‪.‬‬
‫‪ -‬إن نظرية اللغة التي تقوم على التصور الخاص بسياق الحال تشمل جميع أنواع الوظائف‬
‫الكالمية أي أنها تستطيع أن تدرس وتفسر جميع األغراض التي يخرج إليها الكالم‪.‬‬

‫وما فتئ فيرث يؤكد هذه األفكار والمفاهيم التي ينبغي أن توضع في الحسبان أثناء تحلي‪//‬ل‬
‫‪/‬ا‬
‫النص اللغوي‪ ،‬فالميراث والدوافع والحاجات والرغبات األساسية للحي وللطبيعة االجتماعية كله‪/‬‬
‫عناصر البد من مراعاتها واالهتمام بها باعتبارها ذات أهمية في التحليل اللغوي‪.‬‬

‫‪ 1‬سامي عياد حنا وآخرون‪ ،‬معجم اللسانيات الحديثة‪ ،‬مكتبة لبنان ‪1997‬م‪ ،‬ص‪.28‬‬
‫‪ 2‬محمد حماسة عبد اللطيف‪ ،‬النحو والداللة‪ ،‬ط‪ 1‬القاهرة ‪1403‬هـ ‪1983‬م‪ ،‬ص‪.98‬‬
‫‪ 3‬ينظر‪ :‬المرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.36 ،33‬‬
‫‪/‬زء من‬
‫‪/‬ة كج‪/‬‬‫‪ ‬ولد فيرث سنة ‪1890‬م‪ ،‬اهتم بالدراسات الشرقية وتأثر بنظريات الهنود القدماء‪ ،‬يصر على دراسة اللغ‪/‬‬
‫المسار االجتماعي أو كشكل من أشكال الحياة اإلنسانية وليس كإشارات اصطالحية‪ ،‬وتتكون الداللة برأب‪//‬ه من مجموع‪//‬ة‬
‫العالقات أو الوظائف العائدة للعنصر اللغوي والمرتبطة بمضمون محيطه‪ ،‬توفي سنة ‪1960‬م‪ ،‬ينظر‪ :‬ريم‪//‬ون طح‪//‬ان‪،‬‬
‫األلسنية علم اللغو الحديث‪ ،‬ص‪ 281‬وما بعدها‪.‬‬
‫‪ 4‬العربي قاليلية‪ ،‬التقديم والتأخير في التراكيب اللغوية (دراسة داللية)‪ ،‬ص‪.253‬‬
‫‪46‬‬
‫البنــاء األسلـوبي‬ ‫الفصــل األول‬

‫فالنص اللغوي أو الرسالة عند فيرث يفهم في إطار أركان أساسية هي (‪:)1‬‬
‫‪ -1‬وجوب اعتماد كل تحليل لغوي في السياق‪.‬‬
‫‪ -2‬وجوب تحديد بيئة الكالم المدروس وصيغه لما لها من اثر في تحديد معاني الرس‪//‬الة‬
‫وتوضيح أفكارها وفهم القصد منها‪.‬‬
‫‪ -3‬إن دراسة األحداث الكالمية وتحليلها يقتضي تجزيئه‪//‬ا إلى مراح‪//‬ل للوص‪//‬ول إلى‬
‫النتيجة‪ ،‬ومن هذه المراحل معرفة المعاني األساسية للكالم ثم المعاني الفرعية ال‪//‬تي تس‪//‬تفاد من‬
‫السياق‪ ،‬وكذا الدالالت االجتماعية والعرفية التي غالًبا ما تفرضها البيئة االجتماعية وما يميزها من‬
‫ظروف ومالبسات‪.‬‬

‫‪/‬لوبية في‬
‫‪/‬ات األس‪/‬‬
‫من هنا تبرز ضرورة السياق عند فيرث لتصبح حقال في مجال الدراس‪/‬‬
‫ضوء تحديد وظائف الكلمات والعبارات في النص‪.‬‬
‫(‪)‬‬
‫مصطلح السياق في كتابه (دور الكلمة في اللغ‪//‬ة) ليؤك‪//‬د أن‬ ‫ولقد تناول ستيفن أولمان‬
‫‪/‬ا‬
‫‪/‬ة كله‪/‬‬
‫‪/‬ل والقطع‪/‬‬
‫"السياق ينبغي أن يشمل ال الكلمات والجمل الحقيقية السابقة والالحقة فحسب ب‪/‬‬
‫والكتاب كله‪ ،‬كما ينبغي أن يشمل بوجه من الوجوه كل ما يتصل بالكلمة من ظروف ومالبس‪//‬ات‪،‬‬
‫والعناصر غير اللغوية المتعلقة بالمقام الذي تنطق فيه الكلمة لها هي األخرى أهميتها البالغة في هذا‬
‫الشأن" (‪.)2‬‬
‫والحديث عن نظرية السياق باعتبارها نهجا إلى تحليل النصوص اللغوية نكون قد اقتربن‪//‬ا‬
‫‪/‬ا دالالت‬
‫‪/‬ة‪ ،‬ومنه‪/‬‬
‫‪/‬ا المختلف‪/‬‬
‫‪/‬ان دالالته‪/‬‬
‫من علمائنا القدماء‪ ،‬فإلى أي حد يمكننا اإلفادة منها‪ ،‬وتبي‪/‬‬
‫‪/‬ماء‬
‫‪/‬بي لألس‪/‬‬
‫‪/‬رار النس‪/‬‬
‫‪/‬تركيب الجملي‪ ،‬أو التك‪/‬‬
‫مواضيع األسلوبية‪ ،‬كالوزن والقافية أو أنواع ال‪/‬‬
‫واألفعال والصفات‪ ،‬أو االستعمال المتميز للمجاز واالستعارة والصور وما إليها‪.‬‬
‫إن أول قيمة فنية معنوية تواجهنا في شعر البحتري هي اللفظة‪ ،‬واللفظة في واق‪//‬ع أمره‪//‬ا‬
‫صورة صوتية وتصور ذهني‪ ،‬أَّم ا صورتها الصوتية فتتمثل في مجموعة األصوات التي تتكون منها‬

‫‪ 1‬تمام حسان‪ ،‬مناهج البحث في اللغة‪ ،‬ص ‪.285‬‬


‫‪/‬ألف‬
‫‪ ‬ولد اإلنجليزي ستيفن أولمان سنة ‪ ،1914‬وهو ألسني مختص في اللغات الرومانية‪ ،‬اهتم خاصة بعلم الدالالت ف‪/‬‬
‫"مبادئ علم الدالالت" و "مختصر علم الدالالت في فرنسا" و "مدخل إلى علم الداللة"‪ ،‬ينظر المسدي‪ ،‬األسلوبية واألسلوب‪،‬‬
‫ص‪.236‬‬
‫‪ 2‬ستيفن أولمان‪ ،‬دور الكلمة في اللغة‪ ،‬ص ‪.68‬‬
‫‪47‬‬
‫البنــاء األسلـوبي‬ ‫الفصــل األول‬

‫‪/‬ة‬
‫‪/‬ل كلم‪/‬‬
‫اللفظة‪ ،‬وأَّم ا التصور الذهني فهو مدلول اللفظة أو معناها الذي ينطبع عادة في الذهن‪ ،‬وك‪/‬‬
‫تنطق تحمل معها وجهين – كما للورقة– أو قطبين‪ :‬قطب الصوت‪ ،‬وقطب الداللة (‪.)1‬‬
‫وعلى الرغم من صعوبة الفصل بين الصورة الصوتية والتصور الذهني للكلم‪//‬ة‪ ،‬يق‪//‬ول‬
‫‪/‬وز‬
‫‪/‬ا رم‪/‬‬ ‫مكليش‪ " :‬الكلمات مبنية بناء مزاوجًا‪ ،‬إَّنها أصوات تعتبر رموزًا للمع‪/‬‬
‫‪/‬اني‪ ،‬وهي أيض‪/‬‬
‫‪/‬فة‬
‫‪/‬تعملها بالص‪/‬‬
‫للمعاني تعتبر أصواتًا‪ ،‬وأنت ال تستطيع أن تستعملها بإحدى الصفتين دون أن تس‪/‬‬
‫‪/‬وت‬ ‫الثانية‪ ،‬أي أَّنك ال تستطيع أن تستعمل الجرس دون المعنى‪ ،‬وال تستطيع كذلك أن تغ‪/‬‬
‫‪/‬ير الص‪/‬‬
‫تغييرًا ماديًا دون تغير المعنى" (‪.)2‬‬
‫وسنعنى في دراستنا هذه بتناول األلفاظ في مستوى السياق بصفتها الداللية أي كونها معنى‬
‫ينطبع في الذهن‪ ،‬أَّم ا طبيعتها الصوتية‪ ،‬ومدى انسجامها مع األصوات األخ‪//‬رى‪ ،‬فسندرس‪//‬ها في‬
‫مستوى الموسيقى‪ ،‬ألَّن أصوات الكلمات تسهم بقدر وافر في موسيقى شعر البحتري‪.‬‬
‫ونحن إذ ندرس الكلمة بصفتها الداللية نؤكد أَّن قيمتها الفنية إَّنما تتضح من خالل الس‪//‬ياق‪،‬‬
‫وكان عبد القاهر الجرجاني من أوائل النقاد الذين تنبهوا ألهمية السياق‪ ،‬فعنى بطريقة تركيب العبارة‬
‫عناية بالغة‪ ،‬وكان النظم عنده أساس التفاضل بين النصوص‪ ،‬فاأللفاظ رموز ألفكار‪ ،‬وهياكل جامدة‬
‫‪/‬اظ‬ ‫في المعجم‪ ،‬ولكن السياق الِّش عري يمُّدها بالحياة‪ ،‬فقد قال‪" :‬األلفاظ ال تتفاض‪/‬‬
‫‪/‬ل من حيث هي ألف‪/‬‬
‫مجردة ‪ ،‬وال من حيث هي كلم مفردة‪ ،‬وإَّن األلفاظ تثبت لها الفضيلة وخالفها في مالءم‪//‬ة مع‪//‬نى‬
‫اللفظة لمعنى التي تليها‪ ،‬أو ما أشبه ذلك ِم َّم ا ال تعلق له بصريح اللفظ"(‪.)3‬‬
‫ونص الجرجاني يوضح أَّنه ال يوجد لفظة شعرية‪ ،‬ولفظة غير ش‪//‬عرية خ‪//‬ارج الس‪//‬ياق‬
‫‪/‬لح‬ ‫الِّش عري‪ ،‬ألَّن السياق قادر على إضفاء الصفات الجمالية على كلمات قد تبدو بمفرده‪/‬‬
‫‪/‬ا ال تص‪/‬‬
‫للشعر‪ ،‬ونمثل لذلك بكلمة (إذن) التي تقترن –غالبًا– باستنتاجات علم الرياضيات إال أَّن البح‪//‬تري‬
‫استطاع أن يضعها في سياق خاص‪ ،‬فاكتسبت في بنيتها الجديدة داللة شعرية ذات طابع انفع‪//‬الي‪،‬‬
‫وذلك في قوله‪:‬‬
‫(‪)4‬‬
‫ِإَذ ن َلم َيُقل َأُّي الِر جاِل الُمَه َّذ ُب‬ ‫َخ الِئُق َلو َيلقى ِز ياٌد ِمثاَلها‬

‫‪ 1‬فردينان دي سو سير‪ ،‬علم اللغة العام ‪ ،‬ترجمة يوسف عزيز‪ ،‬ومراجعة مالك يوسف المطلبي‪ ،‬دار آفاق عربي‪//‬ة‪ ،‬بغ‪//‬داد‬
‫‪1985‬م ‪ ،‬ص ‪. 132‬‬
‫‪/‬ورك‬ ‫‪/‬يروت – نيوي‪/‬‬‫‪/‬ايغ‪ ،‬ب‪/‬‬‫‪ 2‬إرشيبالد مكليش‪ ،‬الشعر والتجربة‪ ،‬ترجمة سامي الخضراء الجبوسي‪ ،‬ومراجعة توفيق الص‪/‬‬
‫‪1996‬م‪ ،‬ص ‪. 38‬‬
‫‪ 3‬الجرجاني‪ ،‬دالئل اإلعجاز‪ ،‬ص ‪.38‬‬
‫‪ 4‬البحتري‪ ،‬الديوان‪ ،‬ج‪ ،1‬ص ‪.138‬‬
‫‪48‬‬
‫البنــاء األسلـوبي‬ ‫الفصــل األول‬

‫والسياق هو الذي يخلص الكلمة من كل الدالالت الماضية التي تدعها الذاكرة تتراكم عليه‪//‬ا‬
‫‪/‬تقلة عن‬
‫‪/‬ذهن مس‪/‬‬
‫وهو الذي يخلق لها قيمة حضورية‪ ،‬ولكن الكلمة بكل معانيها الكامنة توجد في ال‪/‬‬
‫‪/‬دعوها(‪،)1‬‬
‫جميع االستعماالت التي تستعمل فيها‪ ،‬ومستعدة للخروج والتشكل بحسب الظروف التي ت‪/‬‬
‫فالسياق يحدد ما إذا كانت كلمة (قريب) ‪ -‬على سبيل المثال – تعني قرابة الرحم‪ ،‬أو قريب المسافة‪،‬‬
‫الحظ قول البحتري‪:‬‬
‫(‪)2‬‬
‫َفَينأى َقريٌب َو َيدنو َبعيد‬ ‫َأفي ُك ِّل َيو َلنا ِر حَلٌة‬
‫ٍم‬

‫والسياق وحده يمكن أن يحدد معنى كلمة (اإلنسان) في قوله كذلك‪:‬‬


‫(‪)3‬‬
‫في ُنبِلِه َأو ُقَّو ًة في ُلِّبِه‬ ‫ما َأضَع َف اِإلنساَن ِإّلا ِه َّم ًة‬

‫فاإلنسان في بيت البحتري‪ ،‬إَّنما هو إنسان العين كما يبدو ذلك من خالل السياق‪.‬‬

‫ولرب معترض يقول‪ :‬أتصلح ألفاظ المعجم كافة لشعر البحتري‪ ،‬وهل للسياق الِّش عري قدرة‬
‫على أن يحتضن أَّية لفظة في المعجم من دون أن تبدو نافرة ؟‪.‬‬
‫وهنا يستحسن أن نحدد مفهومنا للمعجم‪ ،‬حيث نقصد به المعجم المتداول في زمن البح‪//‬تري‬
‫‪/‬ير‬
‫‪/‬ا وغ‪/‬‬
‫‪/‬داول منه‪/‬‬
‫‪/‬ر المت‪/‬‬
‫وليس المعجم الذي عني بجمع ألفاظ اللغة منذ القدم‪ ،‬وحرص على ذك‪/‬‬
‫المتداول‪ ،‬والبحتري كواحد من شعراء وعلماء القرن الثالث للهجرة يتخَّير من ألفاظ لغت‪//‬ه معني‪//‬ة‬
‫للتداول‪ ،‬تميل إلى السالسة والسهولة والنطق بها‪ ،‬وقد يضيف في شعره ألفاظًا جديدة‪ ،‬وعندما نضع‬
‫المعجم المتداول إزاء ناظرنا ال يخامرنا شك في أَّن ألفاظه كافة يمكن أن تبنى بناء شعريًا أو تستخدم‬
‫ألغراض أخرى‪ ،‬وأَّن السياق وحده يحدد المعنى الموضوعي أو العاطفي للفظة‪ ،‬كما أَّنه يحدد تمكن‬
‫البحتري من فِّنه الِّش عري عندما نالحظ لفظة واحدة في سياقين متفاوتين في اإلبداع‪.‬‬
‫ومن هنا يتضح أَّن األلفاظ في شعر البحتري تتجه عادة إلى الرقة‪ ،‬قال قدامى "ولما ك‪//‬ان‬
‫المذهب في الغزل إَّنما هو الرقة واللطافة والشكل والدماثة‪ ،‬كان ما يحتاج فيه أن تك‪//‬ون األلف‪//‬اظ‬
‫لطيفة مستعذبة مقبولة‪ ،‬غير مستكرهة " (‪.)4‬‬
‫كما تتركز أهمية سياق الحال أو المقام في الدرس الداللي في فوائد منه‪//‬ا‪ :‬الوق‪//‬وف على‬

‫‪ 1‬فندريس‪ ،‬اللغة ‪ ،‬تعريب عبد الرحمن الدواخلي ومحمد القصاص‪ ،‬مصر (د‪.‬ت) ‪.‬‬
‫‪ 2‬البحتري‪ ،‬الديوان‪ ،‬ج ‪ ،2‬ص ‪.791‬‬
‫‪ 3‬المصدر نفسه‪ ،‬ج‪ ،1‬ص ‪.276‬‬
‫‪4‬‬
‫?‪ .‬قدامى بن جعفر‪ ،‬نقد الشعر ‪ ،‬تحقيق د‪ .‬محمد عبد المنعم خفاجي ‪ ،‬دار الكتب العلمية‪ ،‬بيروت ‪ ،‬ص ‪191‬‬
‫‪49‬‬
‫البنــاء األسلـوبي‬ ‫الفصــل األول‬

‫‪/‬اطئ‬ ‫‪/‬ر‪ ،‬ورّد المفه‪/‬‬


‫‪/‬وم الخ‪/‬‬ ‫المعنى‪ ،‬وتحديد داللة الكلمات‪ ،‬وإفادة التخصيص‪ ،‬ودفع توهم الحص‪/‬‬
‫وغيرها(‪ ،)1‬وحول تحديد السياق لداللة هذه الظواهر‪ ،‬يقول (فندريس)‪ " :‬الذي يعِّين قيمة الكلمة في‬
‫أن الكلمة توجد في كل مرة تستعمل فيها في جٍّو يحدد‬
‫كل الحاالت التي ناقشناها َّإنما هو السياق‪ ،‬إذ َّ‬
‫معناها تحديدا مؤقتا‪ ،‬والسياق هو الذي يفرض قيمة واحدة بعينها على الكلمة بالرغم من المع‪//‬اني‬
‫المتنوعة التي بوسعها أن تدّل عليها " (‪.)2‬‬
‫بأن في اللغة طرقًا متعددة للتعبير‪ ،‬والقائل أو الكاتب يختار‬
‫إذًا فاألسلوبية والبالغة تنظران َّ‬
‫منها ما يراه مناسبًا ومؤديًا للغرض الذي قيل من أجله‪.‬‬
‫وإذا كان علم اللغة يدرس اللغة في محتوياتها الداللية والتركيبية والصوتية‪ ،‬فإَّن األس‪//‬لوبية‬
‫‪/‬ات‬
‫‪/‬وف على الطاق‪/‬‬
‫‪/‬ل للوق‪/‬‬
‫تسلط أضواَء ها على النص بسائر محتوياته مستخدمة الوصف والتحلي‪/‬‬
‫التعبيرية التي يتمَّيز بها األسلوب (‪.)3‬‬
‫‪/‬ة‬
‫وما يكاد يجمع عليه الدارسون َّأنه ِمَّما يتصل باألسلوبية الحديثة في تراثنا البالغي نظري‪/‬‬
‫النظم‪ ،‬التي فصل الحديث فيها اإلمام عبد القاهر الجرجاني كما أسلفنا من قب‪//‬ل‪ ،‬وذل‪//‬ك من خالل‬
‫دراسته للنحو دراسة جديدة‪ ،‬ال تقوم على اإلعراب كما يفعل اآلخرون‪ ،‬بل نظر إليه نظرة جدي‪//‬دة‬
‫من حيث التقديم والتأخير‪ ،‬التعريف والتنكير وغير ذلك من تغيير في التركيب يتبعه طريقة جدي‪/‬دة‬
‫في التعبير أي أسلوب جديد‪ ،‬فالجملة الواحدة تنتقل من ضرب إلى ضرب‪ ،‬ومن إنشاء إلى خبر أو‬
‫العكس‪ ،‬ومن استفهام إلى تعجب وغير ذلك‪ ،‬وتراثنا فيه من الإشارات والنظرات وبعض الدراسات‬
‫‪/‬دهم‬
‫‪/‬بيق والنص عن‪/‬‬
‫‪/‬روح التط‪/‬‬
‫ِمّم ا يشكل نواة ألسلوبية عربية‪ ،‬وبذلك فالذهنية العربية متشبعة ب‪/‬‬
‫مصدر حركة في التحليل والتأويل ال ينقطع ومعين ال ينضب فأهل العربية أص‪//‬حاب تط‪//‬بيق ال‬
‫تنظير‪ ،‬فاإلطار التطبيقي في األسلوبية العربية واسع رحب ثري خصب‪.‬‬

‫ومن نظرية النظم هذه بنى األسلوبيون منهجهم الحديث "األسلوبية"‪ ،‬فأض‪//‬حت بفض‪//‬ل‬
‫الكثير من المالحظات المتراكمة علمًا خاصًا بدراسة جماليات الشعر والنثر‪.‬‬

‫ولم يعد المنهج األسلوبي يعتمد على األلفاظ وعالقاتها بالجمل وال‪//‬تراكيب والقواع‪//‬د‬
‫‪/‬يغ‬
‫النحوية فحسب‪ ،‬بل توسع مفهوم علم األسلوب ليشمل كل ما يتعلق باللغة من أصوات وص‪/‬‬

‫فندريس‪ ،‬اللغة‪ ،‬ترجمة الدواخلي والقصاص‪ ،‬مكتبة األنجلو المصرية سنة ‪1950‬م‪ ،‬ص‪.231‬‬ ‫‪1‬‬

‫المرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.234‬‬ ‫‪2‬‬

‫العربي قاليلية‪ ،‬التقديم والتأخير في التراكيب اللغوية (دراسة داللية)‪ ،‬ص‪.289‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪50‬‬
‫البنــاء األسلـوبي‬ ‫الفصــل األول‬

‫وكلمات وتراكيب‪ ،‬فتداخل مع علم األصوات‪ ،‬والصرف‪ ،‬والداللة‪ ،‬والتراكيب‪ ،‬لتوضيح الغاية‬
‫‪/‬ل‬
‫منه‪ ،‬والكشف عن الخواطر‪ ،‬واالنفعاالت والصور‪ ،‬وبلوغ أقصى درجة من التأثير الفني‪ ،‬ب‪/‬‬
‫‪/‬رى‬
‫‪/‬وم أخ‪/‬‬
‫‪/‬فة‪ ،‬وعل‪/‬‬
‫أخيرا‪ ،‬واشتمل على علم النفس‪ ،‬واالجتماع‪ ،‬والفلس‪/‬‬
‫ً‬ ‫توسع أكثر من ذلك‬
‫شهدت دقة مناهجها‪ ،‬ومدى صالحيتها في إغناء المنهج األسلوبي‪.‬‬

‫وينبغي هنا أن نشير إلى فرٍق كبيٍر بين أمرين هما‪ :‬علم اللغة واألس‪//‬لوبية فيم‪//‬ا يتص‪//‬ل‬
‫‪/‬لوبية‬
‫باألهداف والنتائج‪ ،‬فالوصف اللغوي يتضَّم ن استنباطًا لقواعد تحكم العبارات‪ ،‬أَّم ا في األس‪/‬‬
‫والتحليل األسلوبي فإَّن غايته الكبرى ليست استنباط قواعد‪ ،‬وإَّنما هي مسألٌة تضمينَّيٌة ‪ ،‬أي إب‪//‬راز‬

‫خواص أسلوٍب بعينه‪ ،‬والواقع أَّن هدف التحليل األسلوبي يطمح في بيان الخواص المميزة ألسلوٍب‬
‫ما(‪.)1‬‬
‫والمهم من هذا كله‪َ ،‬م ْن َأَّص َل هذا العلم‪ ،‬ووضع ُأسسه وقواعده النهائية؟‪.‬‬
‫عرفت األسلوبية في العصور الحديثة تمرحًال ال يخضع ألي منطق تاريخي ذاتي ينبع من‬
‫كيانها الخاص‪ ،‬والسبب في ذلك أنها ظلت منذ قيامها عام (‪1902‬م)على ي‪/‬د تلمي‪/‬ذ فردين‪/‬ان دي‬
‫(‪)‬‬ ‫(‪)‬‬
‫تعيش التبعية وتحيا‬ ‫شارل بالي "‪"Charles Bally‬‬ ‫سوسير "‪"Ferdinand de Saussure‬‬
‫على ما تقدمه لها مناهج الحداثة(‪ ،)2‬وأهم منهج ارتبطت به واحتمت من الطْر ق البالغي للمس‪//‬ائل‬
‫(‪)‬‬
‫كمنهج وصفي تحليلي علمي يقدم لألسلوبية حبل النجاة من ربق االنطباعي‪//‬ة‬ ‫األدبية‪ :‬اللسانيات‬
‫جّ‬
‫ل‬ ‫والمعيارية ليقحمها في جفاف المنهج وليوقفها عند حدود االستقراء الشكلي المجرد‪ ،‬لذلك كان ُ‬
‫‪ 1‬رجاء عيد‪ ،‬تحليل األسلوب والمنهج العلمي لدراسة األدب‪ ،‬مجلة التربية قطر‪ ،‬العدد ‪ ،103‬ديسمبر ‪1992‬ص‪. 173‬‬
‫‪ ‬سويسري (‪ ،)1913 -1857‬درس في جنيف ثم ليبزغ حيث أعد أطروحة موضوعها‪ :‬حول استعمال "المضاف" المطلق‬
‫في اللغة السنسكريتية‪ ،‬ثم استقر بباريس بين ستة ‪ 1880‬وسنة ‪ ،1891‬فدرس بمدرسة الدراسات العليا النحو المق‪//‬ارن‪،‬‬
‫وأعد رسالة عن نظام الحركات في اللغات الهندو‪ -‬أوروبية‪ ،‬ثم عاد إلى جنيف فدرس بها اللغة السنسكريتية والنحو المقارن‬
‫ثم األلسنية العامة سنة ‪ ،1907‬ودروسه طيلة الفترة األخيرة من حياته هي التي نشرها بعض تالميذه في كتاب أط‪g‬ق عليه‬
‫اسم‪" :‬دروس في األلسنية العامة" وكان ذلك سنة ‪1916‬م‪ ،‬المسدي‪ ،‬األسلوبية واألسلوب‪ ،‬ص‪.244‬‬
‫‪ ‬شارل بالي ألسني سويسري‪ ،‬ولد بجنيف‪ ،‬ومات بها (‪ ،)1947 -1865‬اختص في اللغة السنسكريتية وتتلمذ على يد سو‬
‫‪/‬ى‬‫‪/‬وئه‪ ،‬فأرس‪/‬‬ ‫سير فاستهوته وجهة األلسنية الوصفية‪ ،‬ولما تمثل مبادئ المنهج الهيكلي عكف على دراسة األسلوب في ض‪/‬‬
‫قواعد األسلوبية األولى في العصر الحديث‪ ،‬من مؤلفاته‪" :‬مصنف األسلوبية الفرنسية"‪" ،‬اللغة والحياة"‪" ،‬األلس‪//‬نية العام‪//‬ة‬
‫واأللسنية الفرنسية"‪ ،‬ينظر‪ :‬عبد السالم المسدي‪ ،‬األسلوبية واألسلوب‪ ،‬ص ‪.237‬‬
‫‪ 2‬عبد السالم المسدي‪ ،‬األسلوبية واألسلوب‪ ،‬ص‪ ،16‬وصالح فضل‪ ،‬علم األسلوب – مبادئه وإجراءاته–‪ ،‬ص‪ ،86‬وينظر‪:‬‬
‫‪/‬وش‪،‬‬ ‫‪/‬دها‪ ،‬ورابح بوح‪/‬‬ ‫جورج مونان‪ ،‬مفاتيح األسلوبية‪ ،‬ترجمة الطيب بكوش‪ ،‬منشورات الجديد تونس‪ ،‬ص‪ 131‬وما بع‪/‬‬
‫األسلوبيات والمحاوالت العربية‪ ،‬دراسة في أصول البحث العلمي‪ ،‬مجلة بونة للبحوث والدراسات‪ ،‬العدد‪ ،1‬مارس ‪2004‬‬
‫م‪ ،‬ص ‪.104‬‬
‫‪ ‬تعتبر اللسانيات بمفهومها الحديث علما حديث العهد‪ ،‬لم يعرف له تطوره الحالي إال في بداية القرن العشرين‪ ،‬وهو يستمد‬
‫روحه من التجديد الذي ما انفك يطرأ على الدراسات اللغوية بعد أن أدى في العصر الماضي إلى إحداث ما يسمى ب‪//‬النحو‬
‫المقارن‪ ،‬ينظر جورج مونان‪ ،‬علم اللغة في القرن العشرين‪ ،‬ترجمة نجيب غزاوي‪ ،‬ص ‪.24‬‬
‫‪51‬‬
‫البنــاء األسلـوبي‬ ‫الفصــل األول‬

‫خرِجُ األسلوبية من هيمنة اللس‪//‬انيات‬


‫األسلوبيين الجدد الذين جاءوا بعد بالي يقدمون الحلول التي ُت ْ‬
‫مستعينين بما توفره بعض المناهج الموازية للبحوث اللسانية أو النابعة منها مرة‪ ،‬وأخرى بتوظيف‬
‫هذه األسلوبية ضمن شجرة النقد األدبي لتكون رافدًا موضوعيًا له في خضم تمازج االختصاصات‪.‬‬
‫‪/‬انيات أو أن‬
‫‪/‬ميم اللس‪/‬‬
‫وهكذا تكون األسلوبية في صراعها الطويل ‪ -‬بين أن تذوب في ص‪/‬‬
‫تستقل االستقالل الذاتي عنها‪ -‬قد راهنت على اختيارين يصعب التوفي‪//‬ق بينهم‪//‬ا‪ ،‬وأول ه‪//‬ذين‬
‫االختيارين أن تكسر األسلوبية حدود الصرامة اللسانية التي قامت في ممارس‪//‬تها لدراس‪//‬ة الكالم‬
‫‪/‬موالت‬
‫‪/‬ارج مش‪/‬‬
‫البشري على الثنائية السوسيرية التقليدية (اللغة‪/‬العبارة)‪ ،‬ورمت بهذه األخيرة خ‪/‬‬
‫‪/‬ذه‬
‫‪/‬اط ه‪/‬‬
‫‪/‬ك الرتب‪/‬‬
‫البحث العلمي الدقيق لما تطلبته دراسة العبارة من بعد عن علمانية المنهج وذل‪/‬‬
‫العبارة بذات متكلمة " يجب أن يدرس نشاطها ضمن اختصاصات أخرى ال تمت للسانيات بص‪//‬لة‬
‫أما ثاني هذين االختيارين‪ ،‬فهو أال يكون بحث األسلوبية في مختل‪//‬ف‬
‫إال ما تعلق منها باللغة " (‪َّ ،)1‬‬
‫‪/‬ة البحث‬
‫‪/‬روج عن علماني‪/‬‬
‫‪ً/‬ا على الخ‪/‬‬
‫‪/‬انية باعث‪/‬‬
‫مستويات نشاط "األنا" التي أهملتها الدراسة اللس‪/‬‬
‫األسلوبي إلى حقول إنسانية تبعد بالتحليل األسلوبي عن ميدانه الحقيقي الذي هو اللغة أوًال وأخيرًا‪.‬‬
‫وهاهو شارل بالي يحَّل هذا العلم محل " علوم البالغة القديمة " (‪ ،)2‬فهو في نظره ال ينطوي‬
‫على قواعد وتوجيهات‪ ،‬وإَّنما يحاول وصف " اللغة كما هي في حالتها الراهنة‪ ،‬واستنباط القواع‪//‬د‬
‫‪/‬ر‬
‫‪/‬ة نظ‪/‬‬
‫‪/‬ة من وجه‪/‬‬
‫النهائية من تركيباتها الواقعية" (‪ ،)3‬فهو يدرس العناصر التعبيرية للغة المنظم‪/‬‬
‫محتواها التعبيري والتأثيري (‪.)4‬‬
‫‪/‬ح من خالل‬ ‫ويرى "بالي" أَّن األصل في األسلوب هو تلك اإلضافة لمحتوى ت‪/‬‬
‫‪/‬أثيري يتض‪/‬‬
‫التعبير‪ ،‬والشك أَّن هذا المحتوى ذو مضمون عاطفي يحدث في نص ما بوسائل لغوية تدمج القارئ‬
‫‪/‬ل األدبي(‪ ،)5‬والِقَّيم‬
‫‪/‬ة التواص‪/‬‬
‫في النظرية األسلوبية كمتلٍق يعتد بدوره في تحديد التأثير داخل عملي‪/‬‬
‫التعبيرية هذه تتشكل في " تتابع وتراكب مع الجدر الداللي للمعنى‪ ،‬ثم بواس‪//‬طة اكتس‪//‬ابها دالالت‬
‫جانبية‪ ،‬تتفارق مع األصل اللغوي‪ ،‬وإن كانت ال تنبت عنه تماما‪ ،‬غير أَّنها في الوقت ذاته تكتنز ِقَّيمًا‬
‫‪/‬ق‬
‫لها سمة اإلبانة عن المثيرات النفسية من دهشة وتعجب أو حسرة وتضرع‪ ،‬وسوى ذلك ِم َّم ا يتخل‪/‬‬

‫‪ 1‬فردينان دي سوسير‪ ،‬دروس في األلسنية العامة‪ ،‬ترجمة صالح القرمادي وآخرين‪ ،‬ط‪،1‬‬
‫الدار العربية للكتاب‪ ،‬ت‪//‬ونس‬
‫‪1985‬م‪ ،‬ص‪.37‬‬
‫‪ 2‬مجدي وهبه‪ ،‬معجم مصطلحات األدب‪ ،‬ص ‪ ،543‬وينظر عبد السالم المسدي‪ ،‬األسلوبية واألسلوب‪ ،‬ص‪.48‬‬
‫‪ 3‬المرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.543‬‬
‫‪ 4‬صالح فضل‪ ،‬علم األسلوب – مبادئه وإجراءاته –‪ ،‬ص‪.86‬‬
‫‪ 5‬المرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.86‬‬
‫‪52‬‬
‫البنــاء األسلـوبي‬ ‫الفصــل األول‬

‫في السياق والمساق " (‪.)1‬‬

‫ويميز "بالي" بين أمرين هما "األسلوبية الباطنية واألسلوبية الظاهرة‪ ،‬فاألولى تهتم بدراس‪//‬ة‬
‫التوازن والتناقض للمؤثر في مقابل العنصر العقلي في دائرة واحدة من دوائر لغة واحدة‪ ،‬أما الثانية‬
‫فيمكن أن نقول عنها بأَّنها أسلوبية مقارنة ألَّنها تقيم مقارنة بين خواص لغة ما‪ ،‬وبين لغة خ‪//‬واص‬
‫أخرى مغايرة " (‪.)2‬‬

‫واصلت مدرسة بالي مسيرتها على درب أصيل في الساحة العلمي‪//‬ة لتتلقى اإلعج‪//‬اب من‬
‫المتلقين‪ ،‬فهذان " ماروزو " و " كراسو " يناديان بشرعية األسلوبية‪ ،‬فعندهما أَّنها علم له مقومات‪//‬ه‬
‫وأدواته اإلجرائية‪ ،‬وسار في ركابهما "جاكبسون" َو "ميشال ريفاتـر" َو "ستيفـن أولمـان" َو "دي‬
‫لوفـر" َو "سبيتـز" َو " أرمانـد كوالن " َو غيرهم من الباحثين (‪.)3‬‬

‫فاألسلوب إذن هو " انحراف عن قاعدة ما " (‪ ،)4‬أو " انزياح عن النمط التعبيري المألوف أو‬
‫المتواضع عليه " (‪ ،)5‬واالنزياح يكون خرقًا للقواعد حينًا ولجوءًا إلى ما نذر من الصيغ في أحي‪//‬ان‬
‫أخرى‪.‬‬
‫ونعني من ضمن ما قيل أَّن مصطلح "األسلوبية" يتجاوز مصطلح "األسلوب" ألَّنها تفتح أفاقًا‬
‫أوسع تمِّك ن من " دراسة اإلمكانات اللغوية التي تولد تأثيرات جمالية " (‪.)6‬‬

‫وضوحا وأثراها معرفة‪،‬‬


‫ً‬ ‫ولعل أعمق المباحث العربية في تقديم المفهوم األسلوبي‪ ،‬وأصفاها‬
‫أن تكون تلك التي بسطها عبد السالم المسدي في كتابه‪( :‬األسلوبية واألسلوب)‪ ،‬فقد ك‪//‬ان الرج‪//‬ل‬
‫سباقًا إلى نقل المصطلح وترجمته بين الباحثين‪ ،‬حيث ترجم المصطلح "‪ "stylistique‬باألس‪//‬لوبية‬
‫مزاوجا بينه وبين "علم األسلوب" أحيانا‪ ،‬فهو يرى أَّن المصطلح حامل لثنائية أصولية فسواء انطلقنا‬
‫‪/‬تقر‬
‫‪/‬ذي اس‪/‬‬
‫من الدال الالتيني وما تولد عنه في مختلف اللغات الفرعية‪ ،‬أو انطلقنا من المصطلح ال‪/‬‬

‫‪ 1‬رجاء عيد‪ ،‬البحث األسلوبي‪ ،‬ص‪.39‬‬


‫‪ 2‬المرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.37‬‬
‫‪ 3‬ينظر‪ :‬عبد السالم المسدي‪ ،‬األسلوبية واألسلوب‪ ،‬ص ‪ 16‬وما بعدها‪ ،‬ورابح بوحوش‪ ،‬األسلوبيات والمحاوالت العربية‪،‬‬
‫مجلة بونة للبحوث والدراسات‪ ،‬ص‪ 107‬وما بعدها‪.‬‬
‫‪ 4‬صالح فضل‪ ،‬علم األسلوب‪ ،‬ص ‪ ،13 – 12‬مجلة دراسات (السلسلة أ‪ ،‬العلوم اإلنسانية)‪ ،‬الجامعة األردنية‪ ،‬عَّم ان–‬
‫األردن‪ ،‬مج ‪( 19‬أ)‪ ،‬العدد‪1992 ،1‬م‪ ،‬ص ‪.201‬‬
‫‪ 5‬بَّس ام قُّط وس‪َ ،‬م َظ اهر من االنحراف األسلوبي في مجموعة عبد اهلل البروني " وجوه دخانية في مراي‪//‬ا اللي‪//‬ل "‪ ،‬مجل‪//‬ة‬
‫دراسات (السلسلة أ‪ ،‬العلوم اإلنسانية)‪ ،‬األردن‪ ،‬مج ‪( 19‬أ)‪ ،‬العدد ‪1992 ،1‬م‪ ،‬ص ‪.201‬‬
‫‪ 6‬بَّس ام قُّط وس‪َ ،‬م َظ اهر من االنحراف األسلوبي في مجموعة عبد اهلل البروني " وجوه دخانية في مراي‪//‬ا اللي‪//‬ل "‪ ،‬مجل‪//‬ة‬
‫دراسات (السلسلة أ‪ ،‬العلوم اإلنسانية)‪ ،‬األردن‪ ،‬مج ‪( 19‬أ)‪ ،‬العدد ‪1992 ،1‬م‪ ،‬ص ‪.21‬‬
‫‪53‬‬
‫البنــاء األسلـوبي‬ ‫الفصــل األول‬

‫‪/‬ه (ـية ‪)ique -‬‬


‫‪/‬لوب‪ )style -‬والحقت‪/‬‬
‫‪/‬دره (أس‪/‬‬
‫ترجمة له بالعربية وقمنا على دال مركب ج‪/‬‬
‫وخصائص األصل تقابل انطالقا أبعاد الالحقة‪ ،‬فاألسلوب ذو مدلول إنساني ذاتي ونسبي‪ ،‬والالحقة‬
‫‪/‬طالحي إلى‬
‫تختص بالبعد العلماني العقلي والموضوعي‪ ،‬ويمكن في كلتا الحالتين تفكيك الدال االص‪/‬‬
‫مدلوليه بما يطابق عبارة (علم األسلوب – ‪ )science du style‬لذلك تعرف األسلوبية بداه‪/‬‬
‫‪/‬ة‬
‫بالبحث عن األسس الموضوعية إلرساء علم األسلوب" (‪.)1‬‬

‫‪/‬لوبية (أو علم‬


‫‪/‬دد األس‪/‬‬
‫‪/‬ل يح‪/‬‬
‫‪/‬دنان بن ذري‪/‬‬
‫وبشكل مقارب نسبيا لما قدمه المسدي‪ ،‬نجد ع‪/‬‬
‫‪/‬ادي أو األدبي‬
‫‪/‬اب الع‪/‬‬
‫‪/‬ب الخط‪/‬‬
‫‪/‬تي تكس‪/‬‬
‫األسلوب) بأنها علم لغوي حديث‪ ،‬يبحث في الوسائل ال‪/‬‬
‫خصائصه التعبيرية والشعرية‪ ،‬فتميزه من غيره‪ ،‬إَّنها تتقرى الظاهرة األسلوبية بالمنهجية العلمي‪//‬ة‬
‫اللغوية‪ ،‬وتعتبر األسلوب ظاهرة هي في األساس لغوية تدرسها في نصوصها وسياقاتها " (‪.)2‬‬
‫فابن ذريل من خالل نصه هذا نجده يميز بين األسلوبية وبين البالغة‪ ،‬بأن األولى تري‪//‬د أن‬
‫تكون علمية‪ ،‬تقريرية تصف الوقائع وتصنفها بشكل موضوعي‪ ،‬منهجي بعد أن كانت البالغة تدرس‬
‫األسلوب بروح معيارية‪ ،‬نقدية صريحة‪ ،‬وتعِّلم األفضل من القول‪.‬‬
‫وهي عند منذر عياشي "علم يدرس اللغة ضمن نظام الخطاب‪ ،‬ولكنها –أيضا‪ -‬علم ي‪//‬درس‬
‫الخطاب‪ ،‬موزعا على مبدأ هوية األجناس‪ ،‬ولذا كان موضوع هذا العلم متعدد المستويات‪ ,‬مختل‪//‬ف‬
‫‪/‬دان‬
‫‪/‬راً على مي‪/‬‬
‫‪/‬ت حك‪/‬‬
‫المشارب واالهتمامات‪ ,‬متنوع الأهداف واالتجاهات‪ ،‬وما دامت اللغة ليس‪/‬‬
‫‪/‬يري دون‬
‫‪/‬دان تعب‪/‬‬
‫حكرا ‪-‬هو أيضاً‪ -‬على مي‪/‬‬
‫ً‬ ‫إيصالي دون آخر‪ ,‬فإن موضوع علم الأسلوبية ليس‬
‫آخر"(‪.)3‬‬
‫‪/‬اب‬
‫‪/‬ب الخط‪/‬‬ ‫فالأسلوبية بهذا المنحى تعد علمًا لغويًا حديثًا‪ ،‬يبحث في الوسائل ال‪/‬‬
‫‪/‬تي تكس‪/‬‬
‫العادي أو األدبي خصائصه التعبيرية والشعرية‪ ،‬فتميزه من غيره‪ ،‬إَّنها تتقرى الظاهرة األس‪//‬لوبية‬
‫بالمنهجية العلمية اللغوية‪ ،‬وتعتبر األسلوب ظاهرة هي في األساس لغوية تدرس‪//‬ها في نصوص‪//‬ها‬
‫وسياقاتها‪ ،‬وفي هذا المضمار يقول "ابرامز‪ "M.H.Ibrams -‬في معجم مص‪//‬طلحات األدب‪" :‬إَّن‬
‫أفكار علم اللغة الحديث تستخدم للكشف عن السمات األسلوبية أو الخصائص الشكلية التي يقال إَّنها‬
‫‪/‬ون‬
‫‪/‬د تك‪/‬‬
‫‪/‬لوبية ق‪/‬‬
‫عمال معينا‪ ،‬أو كاتبًا معينًا‪ ،‬أو موروثًا أدبيًا أو عصرًا معينًا‪ ،‬وهذه السمات األس‪/‬‬

‫‪ 1‬عبد السالم المسدي‪ ،‬األسلوبية واألسلوب‪ ،‬ص‪ ،30-29‬وبَّس ام قُّط وس‪ ،‬المرجع السابق‪ ،‬ص ‪ 107‬وما بعدها‪.‬‬
‫‪ 2‬اللغة واألسلوب لعمر أوكان‪ ،‬ط‪ِ 1‬اتحاد كتاب العرب‪ ،‬دمشق ‪1980‬م‪ ،‬ص‪.140‬‬
‫‪ 3‬منذر عياشي‪ ،‬األسلوبية وتحليل الخطاب‪ ،‬ط‪ ،1‬حلب‪ ،‬سوريا ‪2002‬م‪ ،‬ص‪ ،27‬وعمر أوكان‪ ،‬اللغة واألسلوب‪ ،‬ط‪ِ 1‬اتحاد‬
‫كتاب العرب‪ ،‬دمشق ‪1980‬م‪ ،‬ص‪.140‬‬
‫‪54‬‬
‫البنــاء األسلـوبي‬ ‫الفصــل األول‬

‫صوتية‪ ،‬كـ‪(:‬األنماط الصوتية للكالم‪ ،‬أو الوزن أو القافية)‪ ،‬أو جملية كـ‪( :‬أنواع التركيب الجملي)‬
‫‪/‬ال‬
‫‪/‬ماء واألفع‪/‬‬
‫‪/‬بي لألس‪/‬‬
‫أو معجمية كـ‪ (:‬الكلمات المجردة ضد الكلمات المحسوسة‪ ،‬التكرار النس‪/‬‬
‫والصفات)أو بالغية كـ‪:‬االستعمال المتميز للمجاز‪ ،‬واالستعارة‪ ،‬والصور وما إليها"(‪.)1‬‬

‫‪/‬ائص‬
‫‪/‬ذ الخص‪/‬‬ ‫من خالل ما سبق يتضح أَّن الدراسة األسلوبية هي تلك الدراسة ال‪/‬‬
‫‪/‬تي تتخ‪/‬‬
‫الجمالية لألساليب بما فيها من سمات تصغى لها األذن‪ ،‬فهي تبحث في المفردات ومدى فص‪//‬احتها‬
‫‪/‬ا‬
‫ومناسبتها للمقام‪ ،‬وألفها على ألسنة األدباء‪ ،‬كما تبحث في األساليب وما بها من موسيقى‪ ،‬ومدى م‪/‬‬
‫تضمنه من وفاق وانسجام‪ ،‬ومدى مناسبة األساليب للتجربة التي تعبر عنها‪ ،‬ومدى ما فيها من ظالل‬
‫‪/‬ة‬
‫‪/‬اص في دالل‪/‬‬
‫‪/‬ابع خ‪/‬‬
‫‪/‬وير ذي ط‪/‬‬
‫وإيحاءات ترتاح لها النفس وتطمئن إليها‪ ،‬وما تضمنه من تص‪/‬‬
‫األسلوب من جانب وتجميله من جانب آخر‪.‬‬
‫فاألسلوبية تتجه إلى دراسة هذه المعاني التي تؤديها الكلمات حسب السياقات التي ترد فيها‪،‬‬
‫‪/‬ا‬
‫‪/‬تراكيب من حيث كونه‪/‬‬
‫‪/‬ة أو إلى ال‪/‬‬
‫وما تحدثه من إيحاءات كثيرة‪ ،‬وال يكفي هنا النظر إلى الكلم‪/‬‬
‫مجازًا أو حقيقة أو استعارة أو تشبيها مثلما هي الحال في الدراسات البالغية من قبل‪ ،‬ب‪//‬ل تح‪//‬اول‬
‫‪/‬دوال‬
‫‪/‬ط بين ال‪/‬‬
‫‪/‬ة الرب‪/‬‬
‫‪/‬تراكيب‪ ،‬وكيفي‪/‬‬
‫األسلوبية أن تكشف طريقة المبدع في استعماله األلفاظ وال‪/‬‬
‫والمدلوالت‪ ،‬ثم كيفية تعامله مع ما تفرضه عليه طبيعة اللغة (‪.)2‬‬
‫‪/‬ة‬ ‫وما يمكن اإلشارة إليه هو أَّننا ال نرى خالفا جذريا بين الباحثين بخصوص تحدي‪/‬‬
‫‪/‬د طبيع‪/‬‬
‫المصطلح‪ ،‬فجميعهم يتفق على أن األسلوبية وعلم األسلوب واألس‪//‬لوبيات هي الدراس‪//‬ة العلمي‪//‬ة‬
‫لألسلوب األدبي‪.‬‬
‫ب‪ -‬األسلوبيـة والعلـوم األخـرى‬
‫ب‪ 1-‬األسلوبية والنقـد‪:‬‬
‫إن استخدام "األسلوب" مصطلحًا نقديًا على نطاق واسع طيلة قرون‪ ،‬غالبًا ما اقتص‪//‬ر على‬
‫َّ‬
‫طريقة انطباعية نسبيًا في محاولة جذب االهتمام ناحّية مّيزات االستخدام اللغوي أو غرابته في نّص‬
‫أدبي محَّدد‪ ،‬أو لدى مؤّلف معّين‪ ،‬أو في مرحلة محّددة‪ ،‬بيد أَّن األسلوبية الحديثة ‪ -‬محاولة لمقارب‪/‬ة‬
‫قضية األسلوب نقديًا في سطور أكثر دقة وأكثر منهجية‪ -‬ليست فرعًا من فروع المعرفة بذاتها‪ ،‬بل‬
‫‪/‬تقّلة ُتث‪/‬‬
‫‪/‬ير‬ ‫هي أشبه بمعبر يوصل بين علم اللسانيات‪ ،‬الذي يعتبر النصوص األدبية مجّر د مادة مس‪/‬‬

‫‪ 1‬محمد عبد المنعم خفاجي‪ ،‬وآخرون‪ ،‬األسلوبية والبيان العربية ‪ ،‬الدار المصرية اللبنانية ‪ ،‬ط‪1992 ، 1‬م‪ ،‬ص‪.11‬‬
‫‪ 2‬العربي قاليلية‪ ،‬التقديم والتأخير في التراكيب اللغوية (دراسة داللية)‪ ،‬ص ‪.293‬‬
‫‪55‬‬
‫البنــاء األسلـوبي‬ ‫الفصــل األول‬

‫االهتمام في الدراسة المتعّم قة للغة‪ ،‬وبين النقد األدبي‪ ،‬وينطلق ذلك من االفتراض بأّن أي فك‪//‬رة أو‬
‫مفهوم يمكن توضيحها أو توضيحه في واحدة من عّدة طرق متباينة‪ ،‬وأَّن المؤلف يمارس خيارًا عن‬
‫وعي أو دون وعي‪ ،‬ويمليه عليه ذوقه الشخصي‪ ،‬أو متطلبات القارئ‪ ،‬أو الجنس األدبي أو أي شيء‬
‫آخر في تقرير شكل الكلمات الدقيق التي يتوّج ب استخدامها‪ ،‬إَّن هذا االفتراض اتفاقي‪ ،‬وقد حّر م‪//‬ه‬
‫النقد الحديث الذي يرفض التفريق بين شكل األدب ومضمونه ما ُك تب قد ُك تب‪.‬‬
‫وقد انتهت أغلب الدراسات التي تناولت األسلوبية إلى إقرار حقيقة واحدة هي أَّن األس‪//‬لوبية‬
‫‪/‬ة‬
‫‪/‬ه اإلجرائي‪/‬‬
‫تجمع بين اللغة والنقد‪ ،‬ساعية إلى توظيف ُم نجزات البحث اللساني استنادا على أدوات‪/‬‬
‫ومفاهيمه في دراسة الظواهر اللغوية في تحليل الخطابات األدبية في مختلف أنواعها‪ ،‬غير أَّن ه‪/‬‬
‫‪/‬ذه‬
‫اإلجراءات وإن كانت هامة في التحليل األسلوبي‪ ،‬فهي ال تحدد الوقائع األسلوبية التي يحق‪//‬ق به‪//‬ا‬
‫الخطاب أدبيته‪ ،‬حيث جعلت أسلوب هذا الخطاب مادة أدبية للبحث تسعى إلى تصنيفها علميا‪ ،‬وتنزع‬
‫إلى تحديد نتائجها‪ ،‬وتقريب حقائقها وفق مناهـج علمية تمكنها من االتسام بالشرعية العلمية (‪.)1‬‬

‫والخطاب األدبي في هذا النسق جملة عالئقية إحالية مكتفية بذاتها حتى لتكاد تكون مغلق‪//‬ة‪،‬‬
‫ومعنى كونها عالئقية أَّنها مجموعة حدود ال قوام لكل منها بذاتها‪ ،‬وهي مكتفيـة بذاتها أي أَّنه‪//‬ا –‬
‫مكانا وزمانا‪ ،‬وجودًا ومقاييس ‪ -‬ال تحتاج إلى غيرها‪ ،‬فالروابط التي تقيمها مع غيرها تؤلف جملة‬
‫أخرى‪ ،‬وهكذا بال نهاية (‪.)2‬‬
‫فالخطاب األدبي بهذا المنظار ال تنطبق عليه الثنائية التي أربكت الفكر الكالسيكي‪ ،‬كال‪//‬ذات‬
‫والموضوع‪ ،‬والداخل والخارج‪ ،‬والشرط والمشروط‪ ،‬والصورة والمضمون‪ ،‬والروح والمادة‪ ،‬فهو‬
‫يأخذ في حضوره لذاته وبذاته(‪ ،)3‬ويذهب جاكبسون في تحديد مفهوم الخطاب األدبي إلى أَّنه " نٌّص‬
‫تغَّلبت فيه الوظيفة الشعرية للكالم‪ ،‬وهو ما يفضي حتما إلى ماهية األسلوب بكونه الوظيفة المركزية‬
‫المنظمة "(‪ ،)4‬ولذلك كان النص حسب جاكبسون خطابا تركب في ذاته ولذاته(‪.)5‬‬
‫والحديث عن الخطاب األدبي وخصوصياته األس‪//‬لوبية والجمالي‪//‬ة‪ ،‬والبحث في أس‪//‬راره‬
‫ومكوناته البنيوية‪ ،‬والوظيفية‪ ،‬كان دائما موضع اهتمام النقاد‪ ،‬ودارسي األدب في كل األزمنة‪ ،‬وفي‬
‫‪/‬احثين‬ ‫جميع األمكنة‪ ،‬غير أَّن البحث في الظاهرة األدبية بدأ في السنوات األخيرة مع جمل‪/‬‬
‫‪/‬ة من الب‪/‬‬
‫?جوزيف ميشال شريم‪ ،‬دليل الدراسات األسلوبية المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع‪ ،‬ط‪1987 ،2‬م‪ ،‬ص‪.7‬‬ ‫‪1‬‬

‫أنطوان مقدسي‪ ،‬الحداثة واألدب‪ ،‬الموقف األدبي‪ ،‬عدد‪ ،9‬جانفي ‪ ،1975‬ص‪.5‬‬ ‫‪2‬‬

‫المرجع نفسه‪ ،‬ص‪.5‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪4‬‬
‫‪Roman Jakobson: Essais de Linguistique Générale, p30-31.‬‬
‫المرجع نفسه‪ ،‬ص‪.31-30‬‬ ‫‪5‬‬

‫‪56‬‬
‫البنــاء األسلـوبي‬ ‫الفصــل األول‬

‫األسلوبيين‪ ،‬واللسانيين‪ ،‬والشعريين‪ ،‬والبنيويين‪ ،‬والسميائيين‪ ،‬الذين حاولوا علمنة دراسة الخط‪//‬اب‬
‫األدبي‪ ،‬وقد تطور البحث في مجال تحديد مفهوم الخطاب األدبي وتحليله‪ ،‬وظَّل هذا النشاط المعرفي‬
‫متصل الحلقات في العقود األخيرة‪ ،‬وبخاصة في ميدان المناهج النقدية الحديثـة(‪.)1‬‬
‫واألسلوبية – من حيث – هي علم له مقاييسه في التعامل مع الخطاب األدبي وتحليله‪ ،‬فإَّنها "‬
‫‪/‬تويات‬
‫‪/‬وار على مس‪/‬‬
‫نوع من الحوار الدائم بين القارئ والكاتب من خالل نص معين‪ ،‬ويتم هذا الح‪/‬‬
‫أربعة‪ :‬النص والجملة واللفظة والصوت " (‪.)2‬‬
‫‪/‬ألوف في‬
‫‪/‬اب عن الم‪/‬‬ ‫ومن هنا يمكننا القول بأَّن أدبية الخطاب تتحدد بمقدار خ‪/‬‬
‫‪/‬روج الخط‪/‬‬
‫تشكيله البنيوي والوظيفي‪ ،‬وتجاوزه لمستوى التقريرية في اإلبالغ‪ ،‬وهذه األدبية هي في األس‪//‬اس‬
‫وليدة تركيبه األسلوبي واللساني (‪.)3‬‬
‫وهناك شرطان في نقد منذر عياشي يحّققان للخطاب األدبي وجوده‪ ،‬هما ش‪/‬عرية الخط‪/‬اب‬
‫وأدبية األسلوب‪ ،‬بهما يعلو على الكالم اليومي‪ ،‬ولن يتحّقق ذلك أيضًا‪ ،‬إَّال إذا توافرت لهذا الخطاب‬
‫األدبي السمات الآتية‪:‬‬
‫‪ -1‬الّلغة فيه ال تؤول إَّال به‪.‬‬
‫‪ -2‬أن يكون مؤّس سًا على فعل الخيال‪.‬‬
‫‪ -3‬األسلوب فيه موضوعه وعاداته‪ ،‬اّلتي ينطوي عليها تمّيزه (‪.)4‬‬

‫ويؤّك د الباحث أَّن علماء العرب ونّقادهم في القديم قد فطنوا إلى أَّن األس‪//‬لوب ليس غالف‪ً//‬ا‬
‫خارجيًا‪ ،‬وإّنما هو " طريقة خاّص ة في نظم الكالم وإنشائه " (‪ ،)5‬فالشعر وفق هذه الرؤية ال يحيل إلى‬
‫شيء غير ذاته‪ ،‬وال يمّثل إَّال كيانه‪ ،‬إَّنه وحدة مستقّلة‪ ،‬وهذا ما دفع المسّدي في تعّر ضه إلى محاصرة‬
‫الّنص أن يصّر ح بقوله‪" :‬إَّن ما يمّيز الخطاب األدبي هو انقطاع وظيفته المرجعية‪ ،‬ألّنه ال يرجعن‪//‬ا‬
‫إلى شيء‪ ،‬وال يبّلغنا أمرًا خارجيًا‪ ،‬وإّنما هو يبّلغ ذاته‪ ،‬وذاته هي المرجع والمنقول في نفس ال‪/‬‬
‫‪/‬وقت‬
‫‪/‬دة‪ ،‬متمّي زة‬
‫‪/‬ة جدي‪/‬‬
‫‪ً/‬ا على لغ‪/‬‬
‫"(‪ ،)6‬فانقطاع األسلوب عن حقيقته المرجعية مرّده إلى كونه مؤّس س‪/‬‬

‫‪ 1‬ينظر‪ :‬نور الدين السد‪ ،‬األسلوبية وتحليل الخطاب دراسة في النقد العربي الحديث‪ ،‬ج‪ ،2‬ص‪ 11‬وما بعدها‪.‬‬
‫‪ 2‬جوزيف ميشال شريم‪ ،‬دليل الدراسات األسلوبية‪ ،‬ص ‪.7‬‬
‫‪ 3‬نور الدين السد‪ ،‬األسلوبية وتحليل الخطاب دراسة في النقد العربي الحديث (تحليل الخطاب الشعري والسردي)‪ ،‬ج‪ 2‬دار‬
‫هومة للطباعات والنشر والتوزيع‪ ،‬الجزائر ص‪.94‬‬
‫‪ 4‬منذر عياشي‪ ،‬مقاالت في األسلوبية‪ ،‬ص‪.150-149‬‬
‫‪ 5‬المرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.209‬‬
‫‪ 6‬عبد السالم المسدي‪ ،‬األسلوبية واألسلوب‪ ،‬ص‪.116‬‬
‫‪57‬‬
‫البنــاء األسلـوبي‬ ‫الفصــل األول‬

‫بمواصفات ذاتية‪ ،‬لكّنها غير ثابتة‪ ،‬أي أَّنها قابلة للتحّو ل‪ ،‬وانفكاك قيود العادة‪ ،‬ومن هنا تبرز حيوّيتها‬
‫البْعَد النوعي في استغالل طاقات الّلغة‪ ،‬ولهذا السبب تط ‪ّ/‬ر ق‬
‫في خلق الشعر‪ ،‬ووقتها يمّثل األسلوب ُ‬
‫‪/‬لوب المتمّث ل في‬
‫‪/‬وظيفي‪ ،‬والكيفي لألس‪/‬‬
‫المسدي إلى التقاء دارسي األسلوبية‪ ،‬والنقد في الطابع ال‪/‬‬
‫الصفة اإلنشائية‪ ،‬إذ يقول‪ " :‬إَّن األسلوب هو الميزة النوعّية لألثر األدبي‪ ،‬وال يعّر ف األثر إَّال بم‪//‬ا‬
‫يمّيزه "(‪ ،)1‬ذلك أَّن الّنص الشعري كوجود ال كحالة ال يستعير من غيره ما هو شائع ومتواتر‪ ،‬ألّن ه‬
‫اختيار يؤّك د صفات القصدّية (سمات أسلوبية خاّص ة)‪ ،‬تمنح للشعر فّنيته‪ ،‬وقد حّدد ياكبسون كيفي‪//‬ة‬
‫تشّك ل األسلوب ومعالمه في كالمه الممّيز عن الوظيفة الشعرية‪ ،‬اّلتي هي الوظيفة الّلسانّية المهيمنة‬
‫على بقية الوظائف األخرى‪ ،‬وهي المرجعية واالنفعالية‪ ،‬واإلفهامية واالنتباهية والميتالسانية (‪.)2‬‬
‫فعلم األسلوب بهذا المنحى يكون بيانًا ألداء التعبير عبر الفكر من خالل اللغة‪ ،‬ومع م‪//‬ا في‬
‫هذا من اِّتساع الفجوة بين الفكر واللغة‪ ،‬وهو يساعد على ملء الفجوة بين الدراسات اللغوية واألدبية‬
‫في مجال التعليم والبحث معًا‪ ،‬وبفضله يمكن الوصول إلى الوحدة الجوهرية الشاملة التي يهدف إليها‬
‫‪/‬ك إلى تحدي‪/‬د أث‪/‬ره‬
‫النقل المتكامل في تغطيته لمختلف مستويات العمل األدبي بنيوَّيًا ليصل من ذل‪/‬‬
‫الجمالي األخير(‪.)3‬‬
‫‪:‬‬ ‫(‪) 4‬‬
‫وفي اإلمكان أن نحِّدد األبعاد اآلتية ألِّي أداٍء لغوٍّي‬
‫‪/‬ورس‬
‫‪ -‬موضوع الحديث‪ ،‬أي الشيء الذي نتحَّدث عنه‪ ،‬وهو ما أطلق عليه العالم شارلز م‪/‬‬
‫تعبير البعد السيمانطيقي (‪.)Sematique dimension‬‬
‫‪ -‬األطراف بمعنى المتكلم والمخاطب‪.‬‬
‫‪ -‬العملية الكالمية بمعنى اللغة التي ترسل بها الرسالة‪.‬‬
‫‪ -‬الصياغة الشعرية وهي اللغة التي نصوغ بها الرسالة‪.‬‬
‫‪ -‬الرسالة والمقصود بها الشكل أو الصيغة التي نقدم موضوع الحديث أو المضمون‪،‬‬
‫وهي بذلك ترتيب المادة الكالمية‪.‬‬
‫إَّن كَّل األبعاد الخمسة المذكورة آنفًا تدخل في اللغة الشعرية مثلما ت‪//‬دخل أيض‪ً//‬ا في الكالم‬
‫العادي‪ ،‬إَّال أَّن هذه األبعاد في اللغة الشعرية تخضع لنظاٍم مغايٍر ‪ ،‬بل إَّن بعض هذه األبعاد تقوم بأداء‬
‫وظيفٍة مختلفٍة في مغزاها عَّم ا نتوقعه في لغة النثر‪ ،‬ولعَّله من الالفت للنظر أَّن كًّال من هذه األبع‪//‬اد‬
‫المرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.110‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪2‬‬
‫‪Roman Jakobson, essais de linguistique générale, p78-79.‬‬
‫صالح فضل‪ ،‬علم األسلوب – مبادئه وإجراءاته –‪ ،‬ص‪.159-158‬‬ ‫‪3‬‬

‫رجاء عيد‪ ،‬تحليل األسلوب والمنهج العلمي لدراسة األدب‪ ،‬مجلة التربية– قطر–‪ ،‬ع‪ ،103‬ديسمبر ‪1992‬ص‪.176‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪58‬‬
‫البنــاء األسلـوبي‬ ‫الفصــل األول‬

‫الخمسة قد ُو ِج د من ينادي له بأَّنه يحوي في داخله الخواص الجوهرية للشعر(‪.)1‬‬


‫ومن هنا يتبين أَّن األسلوبية قد حظيت حقا بجهود معتبرة في الدراسات النقدية المعاصرة‪ ،‬إذ‬
‫تقوم كثير من هذه الدراسات على تحليل األعمال األدبية‪ ،‬واكتشاف قيمتها الجمالية‪ ،‬والفنية انطالق‪/‬ا‬
‫من شكلها اللغوي باعتبار األدب فن قولي‪ ،‬تكمن قيمته في طريقة التعبير عن مضمون ما بخصائص‬
‫تعبيرية وبذلك ألفينا النقاد يجمعون على أَّن النقد "ميزان الموازين في األدب‪ ،‬قد عرف في تاريخ‪//‬ه‬
‫الطويل بصراع أبدي بين الزمانية واآلنية إذ فيه وجهان لحقيقة واحدة‪ :‬ما هو خ‪//‬ارج النص قبل‪//‬ه‬
‫وبعده وما هو ُم كِّو ن لذاتية النص وال تكون األسلوبية إال معيارا آنيا‪ ،‬وهي للعَّلة نفس‪/‬‬
‫‪/‬ها ال تطمح إال‬
‫أن تكون رافدا موضوعيا يغذي النقد فيمُّده ببديل اختباري يحل االرتسام واالنطباع حتى َتْس َلَم أسس‬
‫البناء النقدي‪ ،‬فاألسلوبية إذن دعامة آنية حضورية في كل ممارسة نقدية "(‪.)2‬‬
‫إَّن أسلوب النص بهذا المفهوم ُيَع ُّد جزءا من مكونات البنية الشاملة للعمل األدبي‪ ،‬واألسلوبية‬
‫في تناولها له تسعى إلى تحديد الخصائص النوعية التي خضع لها في تشكيله اللغوي ليصير نظام‪ً//‬ا‬
‫‪/‬ة ك‪ِّ/‬ل مكونات‪/‬‬
‫‪/‬ه من‬ ‫من العالمات له سلطته في ذاته‪ ،‬وال سلطة لسواه عليه‪ ،‬فهي تهدف إلى دراس‪/‬‬
‫أصغر وحدة لغوية فيه إلى أكبر وحدة منه‪ ،‬مع محاولة إدراك األبعاد الداللية التي تتضمنها السياقات‬
‫المنزاحة عن مرجعيتها اللسانية‪.‬‬
‫ويرى فتح اهلل أحمد سليمان أن األسلوبية هي أحد " مجاالت نقد األدب اعتمادًا على بنيت‪//‬ه‬
‫اللغوية دون ما عداها من مؤثرات اجتماعية أو سياسية أو فكرية أو غير ذلك‪ ،‬أي أن األسلوبية تعني‬
‫دراسة النص ووصف طريقة الصياغة والتعبير فيه " (‪.)3‬‬
‫وال يرى فتح اهلل أحمد سليمان فرقًا في استعمال المصطلحين‪ ،‬األس‪//‬لوبية وعلم األس‪//‬لوب‬
‫ألَّنهما مترادفان‪ ،‬غير أَّنه يؤثر في بحثه استخدام األسلوبية‪ ،‬ألَّن هناك من يزعم أَّن األسلوبية ليست‬
‫علمًا (‪ ،)4‬وهو يجنح إلى هذا الرأي ناسيًا أو متناسيًا بأَّنه يعطي انطباعًا عن عدم علمية بحثه ال‪//‬ذي‬
‫يتخذ له األسلوبية منهجًا للدراسة والتطبيقية‪ ،‬ونؤِّك د في هذا السياق أَّن األسلوبية علم يدرس األساليب‬
‫في الخطابات األدبية‪.‬‬
‫ويمكن دراسة جوانب النص األسلوبية بتحديد "الوسائل التعبيرية المختلفة مثل‪ :‬المف‪//‬ردات‪،‬‬

‫المرجع نفسه‪ ،‬ص‪.177‬‬ ‫‪1‬‬

‫عبد السالم المسدي‪ ،‬األسلوبية واألسلوب‪ -‬نحو بذيل ألسني في نقد األدب – ‪ ،‬ص ‪.115‬‬ ‫‪2‬‬

‫فتح اهلل أحمد سليمان‪ ،‬األسلوبية‪ ،‬ط‪ ،1‬الدار الفنية للنشر والتوزيع‪ ،‬القاهرة‪ -‬مصر ‪ ،1990‬ص‪.9‬‬ ‫‪3‬‬

‫المرجع نفسه‪ ،‬ص‪.10‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪59‬‬
‫البنــاء األسلـوبي‬ ‫الفصــل األول‬

‫‪/‬ا‬
‫‪/‬ية وآثاره‪/‬‬
‫‪/‬ا النفس‪/‬‬
‫‪/‬ل إلى بواعثه‪/‬‬
‫‪/‬ة ليص‪/‬‬
‫والتراكيب‪ ،‬والصور‪ ،‬واألوضاع النحوية‪ ،‬واإليقاعي‪/‬‬
‫الجمالية"(‪.)1‬‬
‫واألسلوبية بهذا المنحى تصير علمًا وصفيًا ُيعنى ببحث الخصائص والسمات ال‪//‬تي تم‪//‬يز‬
‫النص األدبي بطريق التحليل الموضوعي لألثر األدبي الذي تتمحور حوله الدراسة األسلوبية‪ ،‬ومن‬
‫هذه النقطة تتحدد عالقة األسلوبية والنقد األدبي بزوايا التقارب والتباعد ونقاط االتفاق واالختالف‪.‬‬
‫واألسلوبية والنقد يلتقيان من حيث إَّن مجال دراس‪//‬تهما ه‪//‬و األدب‪ ،‬وبتحدي‪//‬د أدق النص‬
‫األدبي‪ ،‬لكن األسلوبية تدرس األثر األدبي بمعزل َع َّم ا يحيط به من ظروف‪ ،‬أَّم ا النقد فال يغفل تل‪//‬ك‬
‫األوضاع المحيطة به (‪ ،)2‬وتبقى األسلوبية تعنى بالكيان اللغوي لألثر األدبي‪ ،‬ألَّن عملها يبدأ من لغة‬
‫النص وينتهي إليها‪ ،‬والناقد يرى النص وحدة متكاملة فيدرس جميع مكوناته الفنية (‪.)3‬‬
‫واألسلوبية بهذا الدأب تولي العناية بالكيان اللغوي لألثر األدبي‪ ،‬ألَّن عملها يب‪//‬دأ من لغ‪//‬ة‬
‫النص وينتهي إليها‪ ،‬والناقد يرى النص وحدة متكاملة‪ ،‬فيدرس جميع مكوناته الفنية (‪ ،)4‬وقد ص‪//‬دق‬
‫"جيرو" حين قال "األسلوبية مصُّبها النقد‪ ،‬وبه قوام وجودها" (‪.)5‬‬
‫إَّن ما تتسم به األسلوبية من موض‪/‬وعية في البحث‪ ،‬وعقالني‪/‬ة في المنهج تجنب‪/‬ان الناق‪/‬‬
‫‪/‬د‬
‫األسلوبي مزالق كثيرة قد ال يستطيع أصحاب المذاهب النقدية المختلفة االنفالت منها‪ ،‬ولذلك استحال‬
‫وصار فرعًا من فروعه ومهمته أن َيُم َّد هذا العلم بتعريفات ومعايير جديدة‬ ‫النقد إلى نقد لألسلوب‬
‫(‪) 6‬‬

‫تتمثل في تلك األوضاع المحيطة به‪ ،‬فإذا كان األديب ينطلق من معيارية معينة هي القاسم المشترك‬
‫بين المبدعين جميعهم‪ ،‬فإَّنه في الوقت نفسه يعمل على تأصيل معيارية خاصة بنصه‪ ،‬ألَّن ه ال يمكن‬
‫اإلقرار بأي قيمة جمالية لألثر األدبي ما لم تشرح مادته اللغوية على أساس اتحاد منطوق مدلوالتها‬
‫بملفوظ دوالها‪ ،‬ثم إَّنه ال أسلوبية بدون الغوص في أبعاد الظاهرة اللغوية في حِّد ذاتها‪.‬‬
‫والدراسة األسلوبية ال تكتفي برصد هذه األشكال التعبيرية‪ ،‬بل إَّنها تتجاوز ذلك إلى عملي‪//‬ة‬
‫‪/‬ة‪ ،‬وهي‬
‫‪/‬ه الموروث‪/‬‬
‫‪/‬ط بين األدب ومادت‪/‬‬
‫الكشف عن أفكار النص األدبي وجمالياته من خالل الرب‪/‬‬
‫مساحات كانت محجوزة للنقد األدبي وحده‪ ،‬ولهذا ال نرى اعترافًا من الدارس‪//‬ين المح‪//‬دثين ب‪//‬أَّن‬

‫‪ 1‬عبد السالم المسدي‪ ،‬األسلوبية واألسلوب‪ ،‬ص ‪.115‬‬


‫‪ 2‬فتح اهلل أحمد سليمان‪ ،‬األسلوبية – مدخل نظري ودراسة تطبيقية –‪ ،‬ص‪.31‬‬
‫‪ 3‬المرجع نفسه‪ ،‬ص‪.31‬‬
‫‪4‬‬
‫‪Guiraud (Pierre): La stylistique 7eme ed . coll. ¨ Que sais je, p65.‬‬
‫‪ 5‬فتح اهلل أحمد سليمان‪ ،‬األسلوبية – مدخل نظري ودراسة تطبيقية –‪،‬ص ‪.31‬‬
‫‪/‬ة‬‫‪/‬فة اللغ‪/‬‬
‫‪ 6‬صالح فضل‪ ،‬علم األسلوب‪ ،‬ص ‪ ،166-165‬ولطفي عبد البديع‪ ،‬التركيب اللغوي لألدب – بحث في فلس‪/‬‬
‫واألستطيقا ‪ ،-‬مكتبة النهضة المصرية‪ ،‬القاهرة ‪ ،1970‬ص‪.93‬‬
‫‪60‬‬
‫البنــاء األسلـوبي‬ ‫الفصــل األول‬

‫‪/‬اور‬
‫‪/‬ا من المح‪/‬‬
‫األسلوبية – اليوم – تمثل محورًا نقديًا في إطار التركيبات الجملية إلى جانب غيره‪/‬‬
‫األخرى المتعاصرة التي اعتمدت على قضايا اللغة واألسلوب‪.‬‬

‫ومن هاهنا يتضح أَّن الدراسات األسلوبية اهتمت بدراسة مكونات الخطاب األدبي وتحدي‪//‬د‬
‫‪/‬عرية‬
‫‪/‬ارف كالش‪/‬‬
‫‪/‬ة من المع‪/‬‬
‫‪/‬ع جمل‪/‬‬
‫خصائصه البنيوية والوظيفية‪ ،‬وهي تلتقي في هذا االهتمام م‪/‬‬
‫والسرديات والسميائيات (‪.)1‬‬

‫ب‪ 2 -‬األسلوبية واللسانيات‪:‬‬


‫ُيؤكد االنزياح الذي يمكن اعتباره المحور الرئيسي لكل األسلوبيات على االرتباط القائم بين‬
‫‪/‬ا‬
‫‪/‬ة عمقه‪/‬‬
‫اللسانيات واألسلوبية‪ ،‬فهو مقياس نحدد به الخاصية األسلوبية عمومًا ومساًر ا لتقدير كثاف‪/‬‬
‫ودرجة نجاعتها(‪ )2‬ليكون خرقا للقواعد حينا ‪ -‬وهو من مشموالت علم البالغة مستندا في ذلك على‬
‫أحكام معيارية ‪ -‬ولجوءا إلى ما نذر من صيغ حينا آخر ‪ -‬وهو من مقتض‪//‬يات األلس‪//‬نية عام‪//‬ة‬
‫واألسلوبية خاصة – (‪.)3‬‬
‫فهذا المصطلح له صلة وثيقـة بثنائية دي سوسير المشهـورة (لسان‪/‬كالم) التي تؤك‪//‬د أَّن‬
‫موضوع اللسانيات هو اللسان(‪ ،)4‬وهو األمر الذي ُيْس ِلم إلى تقاطع هذا العلم مع نظيره السابق(‪ ،)5‬وقد‬
‫أشار الدارسون المحدثون إلى هذا االرتباط‪.‬‬
‫في وضع األسلوبية عند " نقطة التق‪//‬اء‬ ‫(‪) 6‬‬
‫يعود الفضل إلى جاكبسون والشكالنيون الروس‬
‫اللسانيات بالنصوص األدبية أي في مركز تقاطع مجموعة من المفاهيم والمناهج المتطورة (التي هي‬
‫اللسانيات البنيوية)‪ ،‬ومجموعة من اإلنتاجات محددة من حيث الشكل واالنتماء واألث‪//‬ر على المتلقي‬
‫(وهي اإلبداعات الفنية‪ ،‬وخصوصا األدبية منها)‪ ،‬ومنذ اللحظة التي عرفت فيها أعمال جاكبس‪//‬ون‬

‫‪ 1‬نور الدين السد‪ ،‬األسلوبية وتحليل الخطاب‪ ،‬ج‪ 2‬ص‪ ،90‬ورابح بوحوش‪ ،‬األسلوبيات والمحاوالت العربية‪ ،‬مجلة بونة‬
‫للبحوث والدراسات‪ ،‬ص ‪ 107‬وما بعدها‪.‬‬
‫‪ 2‬عبد السالم المسدي‪ ،‬األسلوبية واألسلوب‪ ،‬ص ‪.98‬‬
‫‪ 3‬نور الدين السد‪ ،‬األسلوبية وتحليل الخطاب‪ ،‬ج‪ ،2‬ص ‪.90‬‬
‫‪ 4‬عمر أوكان‪ ،‬اللغة والخطاب‪ ،‬دار البيضاء‪ ،‬المغرب‪ ،2001‬ص ‪.168‬‬
‫‪ 5‬تقاطعت األسلوبية مع ألسنية سوسير‪ ،‬وطور معالمها أحد تالميذته شارل بالي في كتابه (بحث األسلوبية الفرنسية) ثم‬
‫(المجمل في األسلوبية) مركزا على البنيوية الوجدانية والتعبيرية اللغوية في محاولة علمية لبناء األسلوبية‪ ،‬ينظر فؤاد أبو‬
‫منصور‪ ،‬النقد البنيوي الحديث بين لبنان وأوربا‪ ،‬ط‪ ،1‬دار الجيل بيروت ‪ ،1985‬ص‪.61‬‬
‫‪ 6‬الشكالنية‪ :‬تيار من الدراسات األدبية تطور في روسيا بين سنتي ألف وتسعمائة وخمسة عشر‪ ،‬وألف وتسعمائة وثالثين‪،‬‬
‫وينبغي وضع هذا التيار في عالقة مع ازدهار اللسانيات البنائية‪ ،‬وخاصة مع الحلقة اللسانية‪ :‬براغ‪ ،‬هذه الحلقة التي تب‪//‬دو‬
‫‪/‬ار‬
‫‪/‬ع التي‪/‬‬‫جزئيا كأصل في نشأته‪ ،‬وينبغي وضع هذا التيار في خط المستقبلين الروس‪ ،‬وينبغي ربطه بشكل أكبر اتساعا م‪/‬‬
‫األدبي والجمالي‪ ،‬ينظر‪ :‬عثماني الميلود‪ ،‬شعرية تودوروف‪ ،‬ط‪ ،1‬الدار البيضاء ‪ ،1990‬ص‪.11‬‬
‫‪61‬‬
‫البنــاء األسلـوبي‬ ‫الفصــل األول‬

‫والشكالنيون الروس أصبحت األسلوبية علما منهجيا يقوم على مبدأ البنيوية‪ ،‬وهي لم ت‪//‬ترك ه‪//‬ذا‬
‫المبدأ حتى أيامنا هذه" (‪.)1‬‬
‫‪/‬اذ‬
‫‪/‬ل في اتخ‪/‬‬ ‫من خالل هذا النص يترأى أَّن أعمال جاكبسون والشكالنيون ال‪/‬‬
‫‪/‬روس الفض‪/‬‬
‫األسلوبية المنهج البنيوي طريقا لها تشق به أفق الدراسة‪ ،‬فتطورت بين أخذ ورِّد وموضوعية الدال‬
‫والمدلول‪ ،‬والقراءة الشخصية‪ ،‬بالرغم من صالبة اللسانيات في صياغة أسسها‪ ،‬ألَّن كل الظ‪//‬واهر‬
‫‪/‬انت‬
‫‪/‬إذا ك‪/‬‬
‫اللغوية المتواجدة في علم اللسانيات تنعكس عليها باالنزياح بغرض خلق داللة جديدة‪ ،‬ف‪/‬‬
‫دراسة األسلوب من اللسانيات‪ ،‬فإَّن األسلوبية هي دراسة اللغة مهما كان َم ْنَش ُؤ َه ا‪.‬‬
‫ويبقى صحيحًا أن األسلوبية ارتبطت حقًا ارتباطا معّقدا بالبنيوية وباإلرث النظ‪//‬ري ال‪//‬ذي‬
‫تركه الشكالنيون الروس فضال عن ارتباطها باللسانيات في ص‪/‬يغتها السوس‪/‬يرية (نس‪/‬بة إلى دي‬
‫سوسير)‪ ،‬فشارل بالي أحد اثنين جمعا محاضرات دي سوسير التي ُنشرت إثر وفاته‪ ،‬وهو الذي أنشأ‬
‫األسلوبية التعبيرية(‪ ،)2‬وفي هذا الصدد يقول جورج مولينييه‪" :‬فأسلوبية بالي ليست إنجازا أدبياً وال‬
‫فردياً‪ ،‬إَّنه يستعمل العمل األدبي كسند وكإطار أو كذريعة تتيح تحليل أفعال اللغة الشعورية‪ ،‬وتكتسي‬
‫‪/‬النظر‬
‫هذه العالقة األخيرة أهميتها انطالقا من هذه النظرية واعتبارًا لعموميتها ولتمثيليتها البنيوية ب‪/‬‬
‫مثل الفرنسية في النصف األول من القرن العشرين‪.‬‬ ‫(‪) 3‬‬
‫إلى النسق الشامل للغة ما"‬

‫ولقد تعددت مذاهب األسلوبية‪ ،‬وكثر مزاولوها‪ ،‬وتكاثر مع ذلك منتقدوها‪ ،‬ب‪//‬ل والق‪//‬ائلون‬
‫ه ال‬ ‫بجفافها وقرب زوالها‪ ،‬ويصّر المتمسكون بهذا المنهج َّأنه صالح للتطبيق على النصوص‪ ،‬وأّن‬
‫يتعارض مع الثورة المعرفية التي تشهدها علوم اللسان ما دام مسلكا إجرائيا في مقاربة الخطاب‪//‬ات‬
‫األدبية خصوصا‪ ،‬فقد كان يظن بعض العلماء أن األسلوبية قد ماتت بين سنتي(‪)1968‬و(‪ ،)1974‬إذ‬
‫إن للعلوم أعماراً‪ ،‬وابتداء من سنة (‪ )1987‬عشنا عودة األسلوبية (‪.)4‬‬

‫‪/‬ال‪:‬‬
‫ففي عام (‪1969‬م) أكد األلماني "ستيفن أولمان" استقرار األسلوبية علما لسانيا نقديًا‪ ،‬فق‪/‬‬
‫"إَّن األسلوبية اليوم أكثر أفنان األلسنية صرامة على ما يعتري غائيات هذا العلم الولي‪//‬د ومناهج‪//‬ه‬

‫‪ 1‬جورج مولينه‪ ،‬األسلوبية‪ ،‬ترجمة بسام بركة ‪ ،‬ط‪ ،1‬المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع‪ ،‬الجزائر ‪1999‬م ص‬
‫‪.14-13‬‬
‫‪ 2‬جورج مولينييه‪ ،‬تاريخ األسلوبية‪ ،‬تعريب عز الدين العامري وعبد المنعم الشنتوف‪ ،‬مجلة الفكر العربي‪ ،‬معهد اإلنماء‬
‫العربي‪ ،‬بيروت‪ ،‬لبنان‪ -‬طرابلس ليبيا‪ ،‬صيف‪ -‬خريف ‪ ،1996‬العددان‪ ،86 -85‬السنة‪ ،17‬ص‪.146‬‬
‫‪ 3‬المرجع نفسه‪ ،‬ص‪.146‬‬
‫‪ 4‬جورج مولينييه تعريب صابر الحباشة‪ ،‬جريدة الصحافة‪ ،‬الورقات الثقافية‪ ،‬العدد ‪ ،243‬أكتوبر‪ ،1999‬ص‪.29‬‬
‫‪62‬‬
‫البنــاء األسلـوبي‬ ‫الفصــل األول‬

‫ومصطلحاته من تردد‪ ،‬ولنا أن نتنبأ بما سيكون للبحوث األس‪//‬لوبية من فض‪//‬ل على النق‪//‬د األدبي‬
‫‪/‬د‬
‫‪/‬ا البع‪/‬‬
‫‪/‬د بكونه‪/‬‬
‫واأللسنية معا"(‪ ،)1‬وشاطره الرأي في ذلك "بيار قيرو" الذي يجعل األسلوبية تتح‪/‬‬
‫اللساني لظاهرة األسلوب طالما جوهر األثر األدبي ال يمكن النفاذ إليه إال عبر صياغته اإلبالغية(‪.)2‬‬

‫وقد تعددت العناوين التي تعتبر األسلوبية مزّو دا منهجيا للمحّلل بقائمة من األدوات والرؤى‬
‫التي تسّه ل على صاحب القراءة الوقوف على أدبية النص من خالل "دراسة شروطها الشكلية دراسًة‬
‫فنية"(‪.)3‬‬
‫إن المقاربة األسلوبية بما هي تطبيقية إجرائية‪ ،‬تلغي األبعاد التي تخرج عن البعد اللس‪//‬اني‬
‫َّ‬
‫المحض للظاهرة األدبية‪ ،‬وإن أقّر ت بوجود نوا اجتماعية‪ ،‬ونفسية‪ ،‬وثقافية‪ ،‬واقتصادية‪ ،‬تؤثر في‬
‫فإنها ال تهتم بها في تحليل النص‪ٍٍٍِِِِِِِِ،‬ح ألّن مثل ذلك االهتمام يؤدي باألسلوبية إلى إب‪/‬‬
‫‪/‬داء‬ ‫صناعة النص‪َّ ،‬‬
‫‪/‬ذي يعطي‬‫‪/‬د األدبي ال‪/‬‬ ‫حكم قيم‪ ،‬وهو ما تعزف عنه عزوفا مبدئيا‪ ،‬وهو ميسٌم فارق يمّيزها عن النق‪/‬‬
‫حكما على األثر (النص المنقود)‪.‬‬
‫بهذا المعنى نفهم االتصال بين األسلوبية والمنهج النّص اني واالنفصال بينهما في الوقت ذاته‪،‬‬
‫وتطبيقا‪ ،‬والشتراكهما في اعتماد الوسائل اللغوي‪//‬ة‬
‫ً‬ ‫إجراء‬
‫ً‬ ‫فهما متصالن النكبابهما كليهما على النص‬
‫‪/‬ان من‬
‫(األصوات‪ ،‬المفردات‪ ،‬التراكيب‪ ،‬الصور‪ ،‬المجازات‪ ،‬الُج َم ل في تحليل النص)‪ ،‬وهما مختلف‪/‬‬
‫جهة الرؤية‪ ،‬فالنص في المنهج النّص اني هو مركز يستقطب التحليل‪ ،‬أّم ا منزلة النص في األس‪//‬لوبية‬
‫فُينظر إليه من جهة وقوعه ضمن ثنائية الُّس َّنة والعدول (أو النمط واالنزياح‪ ،‬أو االستعمال المعياري‬
‫‪/‬ر "إلى‬ ‫واالستعمال األدبي‪ ،‬أو اللغة العادية والكالم األدبي)‪ ،‬لذلك قيل‪ :‬إّن الدراسات النص‪/‬‬
‫‪/‬ية تنظ‪/‬‬
‫‪/‬القوة (‬
‫‪/‬ا ب‪/‬‬
‫‪/‬ارا متحقق‪/‬‬
‫‪/‬دة أو معي‪ً /‬‬
‫‪/‬ع قاع‪/‬‬
‫‪/‬لوبية تض‪/‬‬
‫‪/‬ية‪ ،‬فاألس‪/‬‬
‫المنظور األسلوبي بصورة هامش‪/‬‬
‫‪ )virtuellement réalisé‬في اللغة العادية‪ ،‬وتقابلها مع االنحرافات في األسلوب‪ ،‬ويتعارض هذا‬
‫التصّو ر مع فكرة مركزية النص‪ ،‬إن الشعرية المقارنة تلجأ إلى التحليالت األسلوبية لكنه‪//‬ا تض‪//‬عها‬
‫ضمن نظام حتى أّن مصطلح النقد النصي ذاته ال ُيستخدم إال بشيء من التحّفظ" (‪.)4‬‬
‫ولعل هذه المفارقة التي تسم الممارسة األسلوبية هي التي بّو أتها منزلة العلم المساعد ال‪//‬ذي‬
‫َّ‬

‫‪ 1‬عبد السالم المسدي‪ ،‬األسلوبية واألسلوب‪ ،‬ص ‪ ،20‬ومحمد عبد المنعم خفاجي وآخرون‪ ،‬األسلوبية والبيان العربي‪ ،‬ص‬
‫‪ ،14‬رابح بوحوش‪ ،‬األسلوبيات والمحاوالت العربية‪ ،‬مجلة بونة للبحوث والدراسات‪ ،‬ص‪ 107‬وما بعدها‪.‬‬
‫‪2‬‬
‫‪Pierre Guiraud : Essais de stylistique, 3 eme tirage, Ed Klinckick Paris 1980 p 81.‬‬
‫‪ 3‬جورج مولينييه‪ ،‬تاريخ األسلوبية‪ ،‬مجلة الفكر العربي‪ ،‬السنة‪ ،17‬ص‪.146‬‬
‫‪ 4‬جيزيل فاالنسي‪ ،‬مدخل إلى مناهج النقد األدبي‪ ،‬ترجمة رضوان ظاظا‪ ،‬مراجعة المنصف الشنوفي‪ ،‬ع‪//‬الم المعرف‪//‬ة‪،‬‬
‫الكويت‪ ،‬العدد‪ ،221‬مايو‪ /‬أيار ‪ ،1997‬ص ‪.216‬‬
‫‪63‬‬
‫البنــاء األسلـوبي‬ ‫الفصــل األول‬

‫يقف في مفترق الطرق‪ ،‬فالشكالنيـون الروس من جهة‪ ،‬وشارل باّلي من جهة أخرى‪ ،‬قد حّددوا ‪-‬‬
‫فيما يذكر مولينييه‪ -‬وقوع األسلوبية " في مفترق األدب واللسانيات أي في تقاطع مجموعة مح‪ّ//‬ددة‬
‫‪/‬انيات‬
‫‪/‬ية (اللس‪/‬‬
‫‪/‬ة خصوص‪/‬‬
‫(النصوص األدبية) مع جهاز من التصّو رات والمناهج المتدبرة بطريق‪/‬‬
‫البنيوية)‪ ،‬ومنذ ذلك الحين‪ ،‬لم توجد أسلوبية إال وهي بنيوية" (‪.)1‬‬
‫فاألسلوبية تحلل النصوص األدبية خاصة‪ ،‬تصف أدبيتها وتبّين الخواّص الفنية الموجودة في‬
‫‪/‬ك إلى‬
‫الجماليات الكالمية "(‪ ،)2‬لذلك فهي تقف عند حدود التشخيص والوصف الفني‪ ،‬وال تتجاوز ذل‪/‬‬
‫الحكم على األثر كما هو الحال في النقد األدبي‪ ،‬وال تتبّين االستراتيجية الخطابية للنّص بما هو قول‬
‫كما تفعل ذلك التداولية أو البراغماتية(‪ ،)‬وليس تعيين حدود األسلوبية هذه قوال ُينقص من قيمتها أو‬
‫يدعو إلى هجرها‪ ،‬ولكن من المفيد – فيما نزعم‪ -‬فهم صيرورة المناهج‪ ،‬وأنماط التعاليق الناتجة عن‬
‫احتكاكها وتعاُيشها‪ ،‬كما أّن دعوى التفاضل بين المناهج هي دعوى مردودة لقيامها على مقارنة غير‬
‫علمية‪ ،‬ثم إّنه من الطريف أن نتذّك ر أّن للثورة المعرفية التي حصلت في اللسانيات منذ بداية الق‪//‬رن‬
‫‪/‬اء على‬
‫‪/‬ك األنح‪/‬‬
‫‪/‬ا وراجعت س‪/‬لطة تل‪/‬‬ ‫العشرين لم ُتلِغ األنحاء التقليدية‪َّ ،‬‬
‫ولكنها غّيرت النظر إليه‪/‬‬
‫األلسنة‪ ،‬ببيان حدودها وتبّين وجود منواالت كثيرة ممكنة لوصف األلسنة الطبيعية‪ ،‬وهو أمر وّل د‬
‫‪/‬اء‬
‫‪/‬ذلك األنح‪/‬‬
‫‪/‬ا ك‪/‬‬
‫وضع األنحاء التقليدية بوصفها إحداثيات على شبكة تحليل كبرى ُو ضعت عليه‪/‬‬
‫الصورية واللغات بما هي أنظمة من العالقات اللسانية‪ ،‬وغير ذلك من األنساق ذات القدرة التفسيرية‬
‫‪/‬و الكّلّي (‬
‫‪/‬وم النح‪/‬‬
‫‪/‬ياق مفه‪/‬‬
‫‪/‬ذا الس‪/‬‬ ‫الشاملة للظاهرة اللغوية‪ ،‬ولعّل من المقترحات الب‪/‬‬
‫‪/‬ارزة في ه‪/‬‬
‫‪ )grammaire universelle‬كما صاغه ّنوم تشومسكي‪ ،‬غير َّ‬
‫أن مولينييه يقيم عالقة تواصل متينة‬
‫‪/‬و‬
‫‪/‬ا ه‪/‬‬
‫‪/‬ة‪ ،‬وليس العكس كم‪/‬‬
‫بين األسلوبية والبراغماتية تجعل األولى موّج هة ‪ -‬فيما بدا لنا‪ -‬للثاني‪/‬‬
‫منتظر(‪.)3‬‬

‫ويبقى صحيحا أن األسلوبية فرع من اللسانيات العامة وظيفتها جرد اإلمكانيات والطاق‪//‬ات‬
‫‪ 1‬جورج مولينييه تعريب صابر الحباشة‪ ،‬جريدة الصحافة‪ ،‬الورقات الثقافية‪ ،‬العدد ‪ 29 -243‬أكتوبر ‪.1999‬‬
‫‪ 2‬جورج مولينييه‪ ،‬دراسة األسلوب والبحث‪ ،‬وأدوات الفن األدبي‪ ،‬ترجمة بسام بركة‪ ،‬مجلة الفكر العربي‪ ،‬معهد اإلنماء‬
‫العربي‪ ،‬بيروت لبنان‪ -‬طرابلس ليبيا‪ ،‬شتاء ‪ 1998‬العدد‪ ،94‬السنة ‪ ،19‬ص ‪.231‬‬
‫‪ ‬التداولية علم يدرس الظواهر اللغوية في مجال االستعمال‪ ،‬ويتعرف على القدرات اإلنسانية للتواصل اللغوي‪ ،‬ومن هنا‬
‫تكون جديرة بأن تسمى‪ :‬علم االستعمال اللغوي‪ ،‬أما البراغماتية فهي مشتقة من الكلمة اليونانية (باغما) التي تعني (العمل)‪،‬‬
‫وهي تتألف من مجموعة من الطرق المختلفة التفكير‪ ،‬ويترجم مصطلح البراغماتية (‪ )PRAGMATISM‬إلى العربي‪//‬ة‬
‫ألنها ال تعكس جوهر الكلمة األجنبية‪ ،‬بل تقدم جزءًا من معناها‬
‫بمصطلح الذرائعية‪ ،‬وباعتقادي أن هذه الترجمة غير دقيقة‪َّ ،‬‬
‫فقط‪ .‬إذن ما هو المصطلح العربي األقرب إليها؟ إنه "النفعية"‪ ،‬ينظر‪ :‬جورج مولينييه‪ ،‬األسلوبية‪ ،‬ترجمة بسام برك‪//‬ة‪ ،‬ص‬
‫‪ 155‬وما بعدها‪.‬‬
‫‪ 3‬جورج مولينييه‪ ،‬األسلوبية‪ ،‬ترجمة بسام بركة‪ ،‬ص‪.155‬‬
‫‪64‬‬
‫البنــاء األسلـوبي‬ ‫الفصــل األول‬

‫التعبيرية بالمفهوم السويسري(‪ ،)1‬وبها تنتقل من دراسة الجملة لغة إلى دراسة اللغة نصاً‪ ،‬فخطاب‪//‬اً‪،‬‬
‫فأجناساً‪ ،‬وهو األمر الذي يقره سبيتزر "من أَّن األسلوبية جسر األلسنية على تاريخ األدب" (‪ ،)2‬و َّ‬
‫كأنه‬
‫‪/‬الم‬
‫‪/‬د الس‪/‬‬
‫تعبيد لطريق عتيق شقته البالغة القديمة؛ وقد سار على الوتيرة نفسها الباحث العربي عب‪/‬‬
‫المسدي بقوله‪ " :‬فإذا كانت ألسنية سوسير قد أنجبت أسلوبية بالي‪ ،‬فإَّن هذه األلسنية نفسها قد ول‪/‬‬
‫‪/‬دت‬
‫الهيكلة التي احتكت بالنقد األدبي فأخصبا معًا (شعرية) جاكبسون و(إنشائية) تودوروف و(أسلوبية)‬
‫ريفاتر‪ ،‬ولئن اعتمدت كل هذه المدارس على الرصيد األلسني من المعارف‪ ،‬فإَّن األسلوبية معها قد‬
‫تبوأت منزلة المعرفة المختصة بذاتها أصوال ومناهجًا "(‪.)3‬‬

‫من خالل هذا النص يتضح أَّن األسلوبية استفادت من الحقول المعرفية التي جعلت من النص‬
‫األدبي موضوعًا لها‪ ،‬وهي اللسانيات‪ ،‬والنقد األدبي‪ ،‬والشعرية‪ ،‬واإلنشائية‪.‬‬
‫‪/‬ادي أو‬
‫‪/‬رد للكالم الع‪/‬‬
‫ويشير منذر عياشي إلى أثر اللسانيات في األسلوبية سواء في أداء الف‪/‬‬
‫دة‬ ‫األدبي من خالل األصوات المشكلة‪ ،‬مادامت الغاية من اللسانيات هي استخالص القوانين الموّل‬

‫‪/‬ده‪،‬‬
‫‪/‬ة نق‪/‬‬ ‫للظاهرة اللغوية (‪ ،)4‬أّم ا أثر األسلوبية في اللسانيات فإّنه مرتبط بالخط‪/‬‬
‫‪/‬اب األدبي وطريق‪/‬‬
‫بتخّط ي دراسة اللغة كجملة إلى دراستها كنص‪ ،‬أو كخطاب‪ ،‬أو كجنس أدبي(‪.)5‬‬
‫‪/‬ة إلى‬
‫‪/‬ة الجمل‪/‬‬
‫ويشير الباحث كذلك إلى تطور اللسانيات الكبير‪ ،‬سواء في انتقالها من دراس‪/‬‬
‫دراسة العبارة‪ ،‬وانتقالها كذلك من أسر الدراسات النحوية التركيبية إلى كيفية بناء النص‪ِ ،‬مَّما يجعلها‬
‫أكثر ثراء‪ ،‬إلى جانب عدم غنى الحقول اللغوية والنحوية واألسلوبية عنها(‪ ،)6‬فإلى جانب المفارق‪//‬ة‬
‫‪/‬النحو‪،‬‬ ‫المنهجية بين األسلوبية واللسانيات‪ ،‬وبين األسلوبية والبالغة القديمة‪ ،‬فإّن لها أيضًا ص‪/‬‬
‫‪/‬لة ب‪/‬‬
‫وأن مجاله القيود وس‪//‬ابق لألس‪//‬لوبية‪ ،‬وش‪//‬رط‬
‫الذي أسماه عبد السالم المسّدي بـ‪(:‬بعد العمق)‪َّ ،‬‬
‫جوهري لوجودها‪ ،‬ذلك َّأنها ال تحقق وجود النحو‪ ،‬وال هي تتحقق بمعزل عنه(‪.)7‬‬
‫‪/‬لوبية‬ ‫وإذا كان المسّدي قد قلل من شأن البالغة العربية القديمة‪ ،‬وأرجع ك‪ّ/‬ل الفض‪/‬‬
‫‪/‬ل لألس‪/‬‬
‫الحديثة‪ ،‬ودون أن ينصف الفارق الزمني كبعد‪ ،‬فإّن منذر عياشي انطلق متحمسًا لها‪ ،‬فسما بها‪.‬‬
‫إَّن األسلوبية‪ ،‬تكشف عن صنعة الشعر كاختيار وحضور‪ ،‬وتتجاوز الوقوف عن‪//‬د ح‪//‬دود‬
‫محمد الحناش‪ ،‬البنيوية في األسلوبية‪ ،‬ط‪ ،1‬دار الرشاد الحديثة‪ ،‬المغرب‪ ،‬ص ‪.38 – 36‬‬ ‫‪1‬‬

‫عبد السالم المسدي‪ ،‬األسلوبية واألسلوب‪ ،‬ص ‪.104‬‬ ‫‪2‬‬

‫عبد السالم المسدي‪ ،‬األسلوبية واألسلوب‪ ،‬ص ‪.47‬‬ ‫‪3‬‬

‫ينظر‪ :‬منذر عياشي‪ ،‬مقاالت في األسلوبية‪ ،‬ص ‪.14 ،13‬‬ ‫‪4‬‬

‫المرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.29‬‬ ‫‪5‬‬

‫نفسه‪ ،‬ص ‪.11‬‬ ‫‪6‬‬

‫عبد السالم المسدي‪ ،‬األسلوبية واألسلوب‪ ،‬ص ‪.56-55‬‬ ‫‪7‬‬

‫‪65‬‬
‫البنــاء األسلـوبي‬ ‫الفصــل األول‬

‫البيت الواحد أو الجملة الشعرية الواحدة‪ ،‬ذلك الوقوف الذي كثيرًا ما ارتبط بالطبع وتحّدد به‪.‬‬
‫ويطمئن منذر عياشي كواحد من الباحثين العرب إلى أعمال الغرب‪//‬يين في تحدي‪//‬د أوج‪//‬ه‬
‫‪/‬تى‬ ‫‪/‬لوبية أَّنه‪/‬‬
‫‪/‬ا علم لن يلبث ح‪/‬‬ ‫المقاربة والمفارقة بين هذين العلمين فيقول‪ " :‬لقد كان الظن باألس‪/‬‬
‫‪/‬ة‪،‬‬
‫‪ً/‬ا بالجمل‪/‬‬
‫‪/‬نى أساس‪/‬‬ ‫يحضى باالستقاللية وينفصل كلّيًا عن الدراسات اللسانية‪ ،‬ذلك ألَّن ه‪/‬‬
‫‪/‬ذه تع‪/‬‬
‫واألسلوبية تعنى باإلنتاج الكِّلي للكالم‪ ،‬وإَّن اللسانيات تعنى أساسًا بالتنظير إلى اللغ‪//‬ة كش‪//‬كل من‬
‫‪/‬ة من‬ ‫أشكال الحدوث المفترضة‪ ،‬وأَّن األسلوبية تتجه إلى المحدث فعال‪ ،‬وأَّن اللسانيات تع‪/‬‬
‫‪/‬نى باللغ‪/‬‬
‫حيث هي مدرك مجرد تمثله قوانينها‪ ،‬وأَّن األسلوبية تعنى باللغة من حيث األثر الذي تتركه في نفس‬
‫المتلقي كأداة مباشرة‪ ،‬هذا إلى جملة فروق أخرى"(‪.)1‬‬

‫وِم َّم ا يالحظ على هذه الفروق أَّن موضوَع العلمين واحد هو اللغة‪ ،‬ولكن مستويات تحلي‪//‬ل‬
‫هذه الظاهرة تختلف بينهما بحسب الغايات العلمية التي يتوخاها كال منهما‪.‬‬

‫‪/‬ه‪،‬‬ ‫ومن هنا يتضح أَّنه َثَّم ّة َع الَقٌة متينة بين علم األسلوب‪ ،‬وعلم اللغة‪ ،‬خاصة التط‪/‬‬
‫‪/‬بيقي من‪/‬‬
‫فبالنظر إلى األسلوب على أَّنه نظام لغوي‪ ،‬تقف المعالجة عند كِّل طريف فتهتم بجماليات األصوات‬
‫‪/‬التراكيب‬
‫‪/‬ا تهتم ب‪/‬‬
‫وداللتها ومدى تأثيرها في المتقبل‪ ،‬وتعتني بنسيج الوحدات الفعلية واالسمية‪ ،‬كم‪/‬‬
‫والدالالت‪ ،‬وبالنظر إلى الخصائص األسلوبية تقف الدراسة عند كِّل ظاهرة متميزة سواء تعلق ذلك‬
‫بحسن التصرف واالستعمال كاالختيار والداللة أو تعلق بانتهاكه كالعدول ومخالفة المألوف (‪ ،)2‬وفي‬
‫هذا الصدد يقول صالح فضل‪" :‬في مقابل علم اللغة التطبيقي تقوم عملية البحث األسلوبي التي تعتمد‬
‫على أسس النظرية األسلوبية‪ ،‬وتستمد منها منهج دراسة النصوص وتنظيم المواد بالتض‪//‬افر م‪//‬ع‬
‫‪/‬تكمل‬
‫‪/‬ة ينبغي أن تس‪/‬‬
‫‪/‬وص األدبي‪/‬‬
‫العلوم األخرى في مناطق تالقيها‪ ،‬وفي البحوث األسلوبية للنص‪/‬‬
‫دراسة األسلوب في مستوياته اللغوية باستخدام المقوالت المتص‪//‬لة ب‪//‬األدب وب‪//‬العلوم الفلس‪//‬فية‬
‫واالجتماعية والتاريخية " (‪ ،)3‬ولهذا نجد جاكبسون يلح على ضرورة التعامل مع البنيات اللغوية عند‬
‫إن فن الشعر له صلة بقضايا البنية اللغوية كما يهتم بتحليل الرسم بالبنيات‬
‫تحليل النصوص فيقول‪َّ " :‬‬
‫أن اللسانيات هي العلم العام للبنيات اللغوية‪ ،‬كذلك يمكن اعتبار فن الشعر كجزء متمم‬
‫الصور‪ ،‬وكما َّ‬
‫للسانيات " (‪ ،)4‬ألَّن هذا العلم يصف نظام اللغة العربية باعتماد نص شعري عربي يمثلها في ط‪//‬ور‬
‫منذر عياشي‪ ،‬األسلوبية والنظرية العامة للسانيات‪ ،‬العدد ‪ ،281‬رابطة األدباء في الكويت ‪ ،1989‬ص‪.64‬‬ ‫‪1‬‬

‫رابح بوحش‪ ،‬تجليات الحداثة‪ ،‬ص ‪.186‬‬ ‫‪2‬‬

‫صالح فضل‪ ،‬علم األسلوب‪ ،‬ص ‪.115 -114‬‬ ‫‪3‬‬

‫عبد السالم المسدي‪ ،‬قضية البنيوية‪ ،‬ط‪ ،1‬منشورات دار أمية‪ ،‬تونس ‪1991‬م‪ ،‬ص ‪.141‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪66‬‬
‫البنــاء األسلـوبي‬ ‫الفصــل األول‬

‫‪/‬اعر من‬
‫‪/‬ظ الش‪/‬‬
‫‪/‬دى ح‪/‬‬
‫‪/‬ف عن م‪/‬‬
‫من أطوارها ليبين أسرارها‪ ،‬ومظاهر استعمالها‪ ،‬ومن ثم الكش‪/‬‬
‫التصرف في اللغة واألسلوب‪ ،‬واألثر الذي يتركه فيهما‪ ،‬والخصائص التي تتميز بهما في شعره‪.‬‬

‫أن الِّش عر ُّ‬


‫يمد اللسانيات بمادة غزيرة لتبرز لنا فيها مقوِّمات اإلب‪//‬داع‬ ‫وعلى هذا األسس نجد َّ‬
‫إما بعدول األديب عن المألوف في نظام اللغ‪//‬ة ‪،‬‬
‫وخصائصه‪ ،‬وألنَّ اإلبداع في المادة األدبية يتحقق َّ‬
‫وإَّما بتصرفه في نظامها دون تجوز أو خروج‪.‬‬

‫ونحن أمام هذه التعريفات والخالفات القائمة بين العلماء بقديمهم وحديثهم في األس‪//‬لوبية‪ ،‬ال‬
‫يعنينا التبسط في مختلف أوجها‪ ،‬والبحث عن مواطن الوفاق والخالف‪ ،‬وباألخص في عمل تطبيقي‬
‫‪/‬رب‬
‫‪/‬د الع‪/‬‬
‫‪/‬ا غلب من اآلراء عن‪/‬‬
‫‪/‬ار م‪/‬‬
‫كهذا‪ ،‬ال يسمح بالتوسع وبسط اآلراء‪ ،‬إذ ال يسعنا إال ِاختي‪/‬‬
‫والغرب‪ ،‬وِاطراد العمل فيه‪.‬‬
‫‪/‬ه إلى‬
‫‪/‬ه لكي يحيل‪/‬‬
‫أن األسلوبية علم يرقى بموضوعه‪ ،‬أو هو يعلو علي‪/‬‬
‫ولكن يبقى صحيحا‪َّ ،‬‬
‫درس علمي‪ ،‬ولوال ذلك لما حازت على هذه الصفة‪ ،‬ولما تعددت مدارسها ومذاهبها‪.‬‬

‫‪ -3‬اتجاهـات األسلوبيـة‬
‫أسفر تطور األسلوبية انطالقا من مطلع القرن العشرين عن تشعب موض‪//‬وعاتها‪ ،‬وتع‪//‬دد‬
‫تياراتها‪ ،‬وتزايد االحتفال بها غربا وشرقا‪ ،‬وقد تعرض غير واحد من الدارسين إلى اتجاه‪//‬ات علم‬
‫ولعل أشهر هذه‬
‫َّ‬ ‫األسلوب‪ ،‬وعددوا جملة منها‪ ،‬ورصدوا أصولها وضوابطها ورجاالتها وتطورها‪،‬‬
‫االتجاهات تياران اثنان؛ أحدهما يعزى إلى باّلي‪ ،‬واآلخر إلى سبيتزر(‪.)‬‬
‫أوال‪ :‬األسلوبية التعبيرية‪:‬‬
‫(‬ ‫فأما أسلوبية التعبير(‪ )stylistique de l’expression‬أو األسلوبية الوصفية‬
‫َّ‬
‫‪ )S.descriptive‬التي سبق وأن أشرنا إليها من قبل‪ ،‬فتعنى بمعالجة تعبير اللغة بوصفه ترجمان‬
‫‪/‬ات‬
‫‪/‬ف عن الطاق‪/‬‬
‫أفكارنا‪ ،‬حيث تهتم بالوقوف على القيم التعبيرية والمتغيرات األسلوبية بغية الكش‪/‬‬
‫التعبيرية الكامنة في اللغة (‪.)1‬‬
‫ويعد السويسري شارل باّلي(‪ )Charles Bally‬رائدها بدون منازع وال مدافع‪ ،‬فقد َّ‬
‫شق‬
‫‪ ‬نمساوي النشأة‪ ،‬ألماني التكوين‪ ،‬فرنسي لالختصاص‪ ،‬عاش بين سنتي ‪ 1887‬و ‪ ،1960‬وهو من علماء األلسنية ونقاد‬
‫األدب‪ ،‬من مؤلفاته‪" :‬دراسات في األسلوب"‪" ،‬األسلوبية والنقد األدبي{‪ ،‬المسدي‪ ،‬األسلوبية واألسلوب‪ ،‬ص‪.244‬‬
‫‪ 1‬أحمد درويش‪ ،‬دراسة األسلوب بين المعاصرة والتراث‪ ،‬ص‪.36‬‬
‫‪67‬‬
‫البنــاء األسلـوبي‬ ‫الفصــل األول‬

‫الطريق للتفريق بين أسلوبين‪ ،‬أحدهما ينشد التأثير في القارئ واآلخر ال يعنيه إال إيصال‬
‫األفكار بدقة‪ ،‬وطور تالميذه هذا االتجاه عن طريق التوسع في دراسة التعبير األدبي‪ ,‬فالكاتب‬
‫ال يفصح عن إحساسه الخاص إال إذا أتيحت له أدوات مالئمة‪ ,‬وما على األسلوبي إال البحث‬
‫عن هذه األدوات‪ ،‬وبالي يحدد األسلوبية بأنها "دراسة أحداث (‪ )faits‬التعبير اللغوي المنظم‬
‫لمحتواه العاطفي؛ أي دراسة تعبير اللغة عن أحداث الحساسية (‪ ،)sensibilité‬وفعل أحداث اللغة‬
‫‪/‬ال‬
‫‪/‬ني إال اإليص‪/‬‬
‫‪/‬ة‪ ،‬وال تع‪/‬‬
‫فهذه األسلوبية – كما يؤكد جيرو‪ " -‬تعبيرية بحت‪/‬‬ ‫(‪) 1‬‬
‫على الحساسية"‬
‫المألوف والعفوي‪ ،‬وتستبعد كل اهتمام جمالي أو أدبي"(‪ ،)2‬ومن أشياع هذا االتجاه المتأثرين بمنهاج‬
‫بالي ومفهومه لألسلوبية نلفي "جول ماروزو‪ ،"J. Marouzeau -‬و"كريسو‪.)3("M. Cressot -‬‬

‫ثانيا‪ :‬األسلوبية التأصيلية‪:‬‬


‫‪/‬ول النص‬
‫‪/‬ف" ح‪/‬‬
‫إذا كانت السمة العامة لألسلوبية التعبيرية الوصفية هي طرح السؤال "كي‪/‬‬
‫المدروس‪ ،‬فإن األسلوبية التأصيلية تهتم بأسئلة أخرى مثل "ِمْن أيَن " و"لماذا" وهذا اللون من التساؤل‬
‫يقود الباحث حسب اتجاه المدرسة التي ينتمي إليها‪ ،‬وحسب لون اهتماماتها التاريخية أو االجتماعية‬
‫أو النفسية أو األدبية إلخ‪ ،‬ويمكن أن نقف سريعًا أمام اتجاهين من اتجاهات المدرسة التأصيلية‪.‬‬

‫أ‪ -‬األسلوبية النفسية االجتماعية‪:‬‬


‫‪/‬يكولوجية‬
‫حاول الباحث الفرنسي هنري موريير سنة (‪1959‬م) وضع كتاب تحت عنوان "س‪/‬‬
‫‪/‬الم" من‬
‫‪/‬ة للع‪/‬‬
‫‪/‬ف الخاص‪/‬‬
‫األسلوب"‪ ،‬حيث طرح فيه نظريته الستكشاف ما أسماه بـ‪" :‬رؤية المؤل‪/‬‬
‫‪/‬ة‬
‫خالب أسلوبيه(‪ ،)4‬واكتشاف هذه الرؤية يقوم على خمسة تيارات كبرى هي بمثابة تعبيرات مختلف‪/‬‬
‫‪/‬ة‪ ،‬والحكم‪ ،‬والتالحم‪ ،‬وهي‬
‫تتحرك داخل األنا العميقة‪ ،‬وهذه التيارات هي‪ :‬القوة‪ ،‬واإليقاع‪ ،‬والرغب‪/‬‬
‫األنماط التي تشكل نظام الذات الداخلية (‪.)5‬‬
‫وقد يظهر كل نمط منها في شكل إيجابي أو سلبي‪ ،‬فالقوة قد تكون قاعدتها الِش دَّة أو الضعف‪،‬‬
‫واإليقاع قد يكون متسقًا أو نشاًز ا‪ ،،‬والرغبة قد تكون صريحة أو مكبوتة‪ ،‬وااللتحام قد يكون واثًقا أو‬
‫متردًدا‪ ،‬والحكم قد يكون متفائال أو متشائًم ا‪.‬‬

‫صالح فضل‪ ،‬علم األسلوب‪ ،‬ص‪.86‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪2‬‬
‫‪Pierre Guiraud : Essais de stylistique , 3 eme tirage, Ed Klinckick, Paris 1980 p145.‬‬
‫ينظر‪ :‬عبد السالم المسدي‪ ،‬األسلوبية واألسلوب‪ ،‬ص ‪.16‬‬ ‫‪3‬‬

‫أحمد درويش‪ ،‬دراسة األسلوب بين المعاصرة والتراث‪ ،‬ص ‪.36‬‬ ‫‪4‬‬

‫المرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.36‬‬ ‫‪5‬‬

‫‪68‬‬
‫البنــاء األسلـوبي‬ ‫الفصــل األول‬

‫وموريير بهذا الدأب يحاول ربط هذه الخواص باأللوان التعبيرية التي تلتقي معها كاألفع‪//‬ال‬
‫والصور واختيار صيغة المضارع أو المستقبل أو األمر‪ ،‬واستخدام عالمات الترقيم على نحو معين‪،‬‬
‫‪/‬وان من‬
‫‪/‬وء إلى األل‪/‬‬
‫واللجوء إلى اإلكثار من وضع النقط أو عالمات التعجب‪ ،‬أو االستفهام‪ ،‬واللج‪/‬‬
‫الحروف الصوامت‪ ،‬أو اإلكثار من استخدام حروف ذات مخارج متقاربة‪ ،‬ودالالت ذلك كله على ما‬
‫يسود األنا العميقة(‪.)1‬‬

‫ب‪ -‬األسلوبية األدبية‪ :‬تهتم األسلوبية األدبية بدراسة لغة أديٍب واحٍد من خالل نتاجه متبعًة‬

‫في دراسة اللغة مجموعة من اآلليات‪ ،‬ومعتنية بظروف الكاتب ونفسيته (‪ ،)2‬فهي أخصب ما تف‪//‬رغ‬
‫‪/‬ير إلى‬
‫عن فكرة األسلوبية التأصيلية‪ ،‬وأكثرها تأثيرًا في تاريخ التعبير في القرن العشرين‪ ،‬فهي تش‪/‬‬
‫ضرورة االهتمام باللغة في التاريخ األدبي‪ ،‬فلكي ندرس هذا التاريخ ‪ -‬ألي عصر من العصور‪،-‬‬
‫فإنه ينبغي على األقل االهتمام بالتحليل اللغوي بنفس القدر الذي يهتم فيه بتحليل االتجاهات السياسية‬
‫َّ‬
‫واالجتماعية والدينية لبيئة النص (‪.)3‬‬
‫وقد استطاع العالم النمساوي سبتزر أن ُينمي هذا االتجاه وُيَح وٌِّلٌه إلى نظرية متكاملة في النقد‬
‫‪ً/‬ا‬
‫‪/‬ه نقاط‪/‬‬
‫‪ً/‬ا من‪/‬‬
‫اللغوي أو األسلوبية األدبية‪ ،‬فألف كتابًا هامًا عن النقد اللغوي واألسلوبية‪ ،‬مستخلص‪/‬‬
‫أساسية وفقًا للمنهج المتبع في الدراسة‪ ،‬وهذه النقاط كاآلتي‪:‬‬
‫‪/‬ا‬
‫‪ -1‬المنهج ينبع من اإلنتاج‪ ،‬وليس من مبادئ مسبقة‪ ،‬وكل عمل أدبي فهو مستقل بذاته كم‪/‬‬
‫قال برجسون‪.‬‬
‫‪ -2‬اإلنتاج كل متكامل‪ ،‬وروح المؤلف هي المحور الشمسي الذي تدور حوله بقية ك‪//‬واكب‬
‫العمل ونجومه‪ ،‬والبد من البحث عن التالحم الداخلي‪.‬‬
‫‪ -3‬ينبغي أن تقودنا التفاصيل إلى محور العمل األدبي‪ ،‬ومن المحور نستطيع أن ن‪//‬رى من‬
‫جديد التفاصيل‪ ،‬ويمكن أن نجد مفتاح العمل كله في واحدة من تفاصيله‪.‬‬
‫‪ -4‬نحن نخترق العمل‪ ،‬ونصل إلى محوره من خالل الحدس‪ ،‬ولكن هذا الح‪//‬دس ينبغي أن‬
‫تمحصه المالحظة في حركة ذهاب وعودة من محور العمل إلى حدوده‪ ،‬وبالعكس‪ ،‬وهذا الحدس في‬

‫‪ 1‬نفسه‪ ،‬ص‪.36‬‬
‫‪ 2‬ينظر‪ :‬مازن الوعر‪ ،‬االتجاهات اللسانية المعاصرة ودورها في دراسة األسلوبية‪ ،‬مجلة عالم الفكر‪ ،‬مجلد‪ ،22‬عدد‪ ،3‬ص‬
‫‪ 137‬وما بعدها‪.‬‬
‫‪ 3‬أحمد درويش‪ ،‬دراسة األسلوب بين المعاصرة والتراث‪ ،‬ص‪.37‬‬
‫‪69‬‬
‫البنــاء األسلـوبي‬ ‫الفصــل األول‬

‫ذاته هو نتيجة الموهبة والتجربة والتمرس في اإلصغاء إلى األعمال األدبية‪.‬‬


‫‪ -5‬عندما تتم إعادة تصور عمل ما فإنه ينبغي البحث عن موضعه في دائرة أكبر منه‪ ،‬وهي‬
‫دائرة الجنس الذي ينتمي إليه‪ ،‬والعصر‪ ،‬واألمة‪ ،‬وكل مؤلف يعكس أمته‪.‬‬
‫‪ -6‬الدراسة األسلوبية ينبغي أن تكون نقطة البدء فيها لغوية‪ ،‬ولكن يمكن لجوانب أخرى من‬
‫الدراسة أن تكون نقطة البدء فيها مختلفة‪.‬‬
‫‪ -7‬المالمح الخاصة للعمل الفني هي مجاوزة أسلوبية فردية‪ ،‬وهي وسيلة للكالم الخ‪//‬اص‪،‬‬
‫وابتعاد عن الكالم العام‪ ،‬وكل انحراف عن المعدل في اللغة يعكس انحرافًا في مجاالت أخرى‪.‬‬
‫‪ -8‬النقد األسلوبي ينبغي أن بكون نقدًا تعاطفيًا بالمعنى العام للمص‪/‬طلح‪ ،‬ألن العم‪/‬ل ك‪/‬ل‬
‫متكامل‪ ،‬وينبغي التقاطه في كليته‪ ،‬وفي جزئياته الداخلية(‪.)1‬‬

‫لقد كان هذا المنهج التفصيلي الذي أورده سبتزر في مقدمة كتابه الذي أشرنا إليه ذا أثر كبير‬
‫‪/‬رن‬
‫‪/‬ة الق‪/‬‬
‫‪/‬عي في بداي‪/‬‬
‫‪/‬اه الوض‪/‬‬
‫في إخصاب النقد األدبي وتخليصه من بعض اآلثار السلبية لالتج‪/‬‬
‫حد ذاتها قد فرضت لنفسها في هذه المحطة مهّم ة إخضاع م‪//‬دى الخي‪//‬ار‬
‫العشرين‪ ،‬فاألسلوبية في ِّ‬
‫اللغوي الُم تاح للمؤلفين وتصنيفه‪ ،‬وحّددت الطرائق التي تتبّدى فيها معالم الشكل اللغوي لنّص مثيرة‬
‫‪/‬ة‬
‫‪/‬طلح طليعي‪/‬‬
‫‪/‬ة‪ ،‬ومص‪/‬‬
‫لالهتمام في أسلوبها التعبيري‪ ،‬أو في طرائق أخرى يمكن أن تكون طليعي‪/‬‬
‫مصطلح مفتاحي في األسلوبية األدبية‪ ،‬بعدئذ يمكن تطبيق التصنيفات على نّص محّدد‪ ،‬أو على عدد‬
‫من النصوص‪ ،‬بصورة ما ُتمّك ن من إنارة ميزاتها اللفظية الغريبة؛ ويمكن تطبيق اإلجراء الس‪//‬ابق‬
‫على عدد من االستخدامات على سبيل المثال‪ ،‬إقامة الدليل للتأكيد أو للنفي بأّن أحاسيسنا االنطباعية‬
‫تشّك لت من جّر اء معالم محّددة من معالم األسلوب التي هي مّي زات ألش‪/‬كال مح‪ّ/‬ددة في األدب أو‬
‫لمراحل معّينة منه‪ ،‬لكّن المسألة األكثر خالفية هي أَّن باإلمكان استخدامها حَّتى في محاولة لع‪//‬زل‬
‫البصمات األدبية لمؤلف بالذات‪ ،‬ورَّبما لتحديد المؤّلف الحقيقي‪ ،‬من خالل مشهد‪ ،‬لنصوص أدبي‪//‬ة‬
‫مجهولة المؤّلف‪ ،‬أو مختلف عليها‪ ،‬لكّن هذا اإلجراء مفيد للغاية للنقد األدبي في حال تطبيق‪//‬ه على‬
‫‪/‬ديث في‬ ‫نصوص بطريقة تشير إلى أّن النصوص ليست مجّر د ُبنى لفظية‪ ،‬وكما ُيطّب ق النق‪/‬‬
‫‪/‬د الح‪/‬‬
‫الغالب األعم‪ ،‬وليست مجّر د مجموعات صرفة من الرسائل‪ ،‬بمعنى َّأنها معلومات فنية عن األفكار‪،‬‬
‫بل هي شيء متفّر د بذاتها‪ ،‬وهذه أمثلة ُتطلق األسلوبية عليها لقب الحديث أو المحادثة‪ ،‬ولعّل حال‪//‬ة‬
‫المحادثة هذه‪ ،‬والتي يعتمدها مؤّلف في نّص ه‪ ،‬هي التي تحّدد الطريقة التي يعيها القارئ بوس‪/‬‬
‫‪/‬اطتها‪،‬‬
‫أحمد درويش‪ ،‬دراسة األسلوب بين المعاصرة والتراث‪ ،‬ص‪.38-37‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪70‬‬
‫البنــاء األسلـوبي‬ ‫الفصــل األول‬

‫ولذلك فالتناسب طردي بين تعليل تلك الحالة وتحديدها وبين التفسير‪ ،‬أو التعبير عن كيفية أداء النص‬
‫األدبي لدوره‪.‬‬
‫وغالبية مؤيدي األسلوبية األدبية مستعدون لالعتراف بأَّن النصوص األدبية التي يختارونها‬
‫ويخضعونها لطرائق تحليلهم الخاصة هي نصوص شائقة أو قّيمة في المقام األول لعدد من التعليالت‬
‫التي يمكن مالمستها مستقلة بذاك التحليل‪ ،‬فاألسلوبية ُتسهم في وصف األبعاد اللغوية بصورة ممّيزة‬
‫إلبراز التشويق أو القيمة‪ ،‬أَّم ا بالنسبة للناقد الحديث الذي يقّدم قراءة مقنعة لقصيدة مهجورة منذ زمن‬
‫بعيد‪ ،‬فيمكن أن يأمل من خالل ذلك أن يجعل قّر اء نقده يعيدون النظر في تقييمها‪ ،‬والناقد الذي ُيطّبق‬
‫منهجًا أسلوبيًا يستطيع حقًا أن يأمل في أن يجعل قّر اء نقده يرونها رؤي‪//‬ة جدي‪//‬دة من خالل جعلهم‬
‫‪/‬ول‬
‫‪/‬د أن تق‪/‬‬
‫‪/‬ير تقّييم األدب بع‪/‬‬ ‫ينعمون النظر في المعالم اللغوية التي ُتشّك لها‪ ،‬ويبقى العم‪/‬‬
‫‪/‬ل األخ‪/‬‬
‫األسلوبية كلمتها‪.‬‬
‫‪/‬و‬
‫لقد أثار منهج ليو سبتزر جدال شديدًا بدًء من الربع األول من الق‪/‬رن الف‪/‬ارط‪ ،‬وعلى نح‪/‬‬
‫‪/‬ة‪،‬‬
‫خاص من أتباع دي سوسير وشارل بالي الذين كانوا يهدفون إلى إقامة األسلوبية اللغوية الخالص‪/‬‬
‫‪/‬دة‬
‫لكن من ناحية أخرى تكَّو نت مدرسة أسلوبية حول مبادئ سبتزر أطلق عليها اسم األسلوبية الجدي‪/‬‬
‫‪/‬ل‬
‫‪/‬اء مث‪/‬‬
‫‪/‬د علم‪/‬‬
‫أو األسلوبية النقدية‪ ،‬وتركزت على نحو خاص في الواليات المتحدة األمريكية عن‪/‬‬
‫داماسو ألونسو‪ ،‬وهاتزفيلد‪ ،‬وامتدت أثارها كذلك لتؤثر على اتجاه أصحاب األس‪//‬لوبية البنائي‪//‬ة(‪،)1‬‬
‫ولتتضافر أثارها مع أثار المدرسة التي كانت منافسة لها‪ ،‬وهي مدرسة األسلوبية التعبيري‪//‬ة عن‪//‬د‬
‫شارل بالي في خلق اتجاه نقدي لغوي يحضى اليوم باحترام اللغويين النقاد والمبدعين‪ ،‬ويقترب بهذا‬
‫الفرع من فروع الدراسات اإلنسانية من روح العلم التجريبي في شكل األسلوبية الحديثة‪.‬‬
‫‪/‬ياقية‪،‬‬
‫‪/‬لوبية الس‪/‬‬
‫وإلى جانب هاتين األسلوبيتين يتحدث بعضهم عن أسلوبيات أخرى‪ ،‬كاألس‪/‬‬
‫‪/‬لوبية‬
‫‪/‬اح(‪ ،)2‬وأس‪/‬‬
‫‪/‬لوبية االنزي‪/‬‬
‫‪/‬دة بأس‪/‬‬
‫وممثلها األلمع ميشال ريفاتر‪ ،‬ولهذه األسلوبية عالقة وطي‪/‬‬
‫السجالت التي تعني بتنوع الكالم بحسب االستعمال له (‪ ،)3‬واألسلوبية اإلحصائية‪ ،‬وتنطلق من‬
‫فرضية إمكان الوصول إلى المالمح األسلوبية للنص عن طريق الكم‪ ،‬وتقترح إبعاد الحدس‬
‫لصالح القيم العددية‪ ،‬وتجتهد لتحقيق هذا الهدف بتعداد العناصر المعجمية في النص‪ ،‬أو بالنظر‬
‫إلى متوسط طول الكلمات والجمل أو العالقات بينهما‪ ،‬أو العالقات بين النعوت واألسماء‬

‫أحمد درويش‪ ،‬دراسة األسلوب بين المعاصرة والتراث‪ ،‬ص‪.39‬‬ ‫‪1‬‬

‫ينظر‪ :‬هنريش بليث‪ ،‬البالغة واألسلوبية‪ ،‬ص ‪.38‬‬ ‫‪2‬‬

‫ينظر‪ :‬المرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.39‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪71‬‬
‫البنــاء األسلـوبي‬ ‫الفصــل األول‬

‫واألفعال‪ ،‬ثم مقارنة هذه العالقات الكمية مع مثيلتها في نصوص أخرى(‪.)1‬‬


‫وهناك أسلوبية أخرى غير الذي تناولنا‪ – ،‬وهذا هو األهم‪ -‬وهو (األسلوبية البنيوية) ال‪//‬تي‬
‫أسسها دوسوسير‪ ،‬ومن أعالمها ريفاتير الذي يؤمن بوج‪//‬ود بني‪//‬ة (‪ )structure‬في النص‬
‫وضع ّ‬
‫وبوجوب البحث فيها‪ ،‬ويضيف إلى ذلك أهمية "المتلقي" في تحديد األسلوب واألسلوبية(‪.)2‬‬
‫واألسلوبية البنائية أكثر المذاهب األسلوبية شيوعًا‪ ،‬وهي ُتَع دُّ امتدادًا متطورًا لمذهب ب‪//‬الي‬
‫في األسلوبية الوصفية‪ ،‬وكذلك تعد امتدادًا ألراء دي سوسير الشهيرة التي قامت على التفرق‪//‬ة بين‬
‫اللغة والكالم‪ ،‬وقيمة هذه التفرقة تكمن في التنبه لوجود فرق بين األسلوب باعتباره طاقة كامن‪//‬ة في‬
‫اللغة بالقوة يستطيع المؤلف استخراجها لتوجيهها إلى هدف معين‪ ،‬وبين دراسة األسلوب الفعلي في‬
‫ذاته‪ ،‬أي أنه هناك فرقًا بين مستوى اللغة ومستوى النص‪ ،‬والبالغة التقليدية لم تكن تعهد هذا التفريق‬
‫الذي أخذ أسماًء مختلفة في فروع المدرسة البنائية (‪.)3‬‬
‫‪/‬ة في ثناياه‪/‬ا‬
‫‪/‬ة‪ ،‬حامل‪/‬‬
‫والبنية كاتجاه نقدي في وصف اإلبداع األدبي قد ولدت والدة طبيعي‪/‬‬
‫‪/‬ة‪ ،‬وتمّك نت من أن تقتحم‬ ‫وأعماق مؤّس سيها بذور األثر الشكالني (الّلساني) في بحث اللغ‪/‬‬
‫‪/‬ة والكتاب‪/‬‬
‫حقوًال معارفية وعلمية كاألنتروبولوجيا‪ ،‬وعلم النفس‪ ،‬وعلم االجتم‪//‬اع‪ ،‬والت‪//‬اريخ‪ ،‬وأخض‪//‬عتها‬
‫للّدراسة التطبيقية العملية (‪.)4‬‬

‫‪/‬ؤمن بالس ‪ّ/‬ياق‬ ‫فالّتطور الحضاري الحادث غّير من األدوات واألفكار والقّيم التي ك‪/‬‬
‫‪/‬انت ت‪/‬‬
‫الّنفسي واالجتماعي والثقافي والحضاري‪ ،‬باالتجاه إلى النص األدبي فقط‪ ،‬والبنيوية ارتبطت بالتقدم‬
‫العلمي‪ ،‬الذي بدأ يستقطب الفكر البشري‪ ،‬ويقصد الحاج صالح كيف نشأت البنيوية‪ ،‬ولماذا؟ فهي من‬
‫ابتداعات النصف األول من القرن العشرين للميالد‪ ،‬وظهرت كرّد فعل عنيف للتفسيرات التاريخي‪/‬‬
‫‪/‬ة‬
‫التي سادت منذ القرن التاسع عشر للميالد‪ ،‬وذلك بفضل جهود دوسوس‪//‬ير في بحوث‪//‬ه عن اللغ‪//‬ة‬
‫اإلنسانية‪ ،‬باعتبارها أنظمة خاصة‪ ،‬وأّس س أتباعه (حلقة براغ اللغوية)‪ ،‬التي حّددت وظيفة اللغة في‬
‫‪/‬ة‬
‫التبليغ والبيان‪ ،‬وسارت على دربها المدرسة الوظيفية في شخص زعيمها أندري مارتين‪ ،‬ومدرس‪/‬‬
‫الدانمارك اللغوية بريادة لويس همسليف (‪.)5‬‬

‫‪ 1‬نفسه‪ ،‬ص‪.37‬‬
‫‪ 2‬ينظر‪ :‬صالح فضل‪ ،‬علم األسلوب‪ ،‬ص‪.97‬‬
‫‪ 3‬أحمد درويش‪ ،‬دراسة األسلوب بين المعاصرة والتراث‪ ،‬ص ‪.33‬‬
‫‪ 4‬عمر المهيبل‪ ،‬البنيوية في الفكر الفلسفي المعاصر‪ ،‬ديوان المطبوعات الجامعية‪ ،‬الجزائر‪( ،‬د‪ ،‬ت)‪ ،‬ص‪.16‬‬
‫‪ 5‬ينظر‪ :‬عبد الرحمن الحاج صالح‪ ،‬مدخل إلى علم الّلسان الحديث‪ ،‬مجلة الّلسانيات‪ ،‬ع‪ ،7‬الجمعية الثقافية الجاحظي‪/‬‬
‫‪/‬ة‪،‬‬
‫الجزائر‪ ،1997‬ص‪.7‬‬
‫‪72‬‬
‫البنــاء األسلـوبي‬ ‫الفصــل األول‬

‫إّن البنيوية انطلقت في تشييد صرحها النقدي والمعرفي من تصحيح مبدئي‪ ،‬وتأسيسي لم‪//‬ا‬
‫‪/‬ة‬
‫‪/‬ة الثقافي‪/‬‬
‫‪/‬ه الحقيق‪/‬‬
‫انطبع في ذهن المتلقي من أحكام قيمية ثابتة‪ ،‬بما يصدر عن المؤلف‪ ،‬وما تملي‪/‬‬
‫لإلنسان وتصوراته االجتماعية المتداولة‪ ،‬ولتعدية هذا اإليمان القاصر الذي يرتبط فيه اإلبداع األدبي‬
‫بالخارجي (انعكاس)‪ ،‬والذي يجعل المدلول أولى من الدال في فهم وظيفة الشعر وتقويمه(‪.)1‬‬
‫‪/‬ف‬
‫‪/‬دور المؤل‪/‬‬
‫فالبنيوية قد تأسست على محاصرة القارئ‪ ،‬لتصبح قراءته تعويضًا منهجيًا ل‪/‬‬
‫وحياته وفاعليته‪ ،‬وإذا كان االجتماعي يبني أيضًا تصّو ره على القارئ‪ ،‬فألنه يريد أن يغّيره بوساطة‬
‫‪/‬ل‬
‫المدلول‪ ،‬بينما البنيوية ال تريد تغييره‪ ،‬بل تضفي عليه مهمة أكبر هي وصف النص األدبي وتحلي‪/‬‬
‫مستوياته المختلفة التي يتركب منها‪ ،‬فهي تطالب بقراءة عميقة للّنص من حيث هو وج‪//‬ود (دال) ال‬
‫مثيل له‪ ،‬يحتضنه ويعيد بناءه معتمدًا على قدراته العقلية‪.‬‬
‫‪/‬نعة في‬
‫‪/‬ع الص‪/‬‬
‫‪/‬نعة؟ تتالقى م‪/‬‬
‫والبنيوية التي ال تعنى بإشكالية اإلبداع‪ ،‬هل هو طبع أو ص‪/‬‬
‫رفض تعليق الشعر بالغيبي بوساطة بديل العالمة‪ ،‬كما يذهب روالن بارت‪ ،‬من أن الش‪//‬عر "أبع‪//‬د‬
‫‪/‬ة‬
‫‪/‬ة األدب)‪ ،‬أي طاق‪/‬‬
‫‪/‬ان (ملك‪/‬‬
‫غورا ِمّم ا قد تلهمه ربات الشعر من صورة أو فكر توجد لدى اإلنس‪/‬‬
‫الكالم‪ ،‬ال صلة لها بـ (العبقرية)‪ ،‬نظرًا ألنها لم تصنع من قوى خالقة‪ ،‬وال من إرادات شخص‪//‬ية‪،‬‬
‫وإّنما من قواعد اّدخرت في غيب الكاتب‪ ،‬فال يتعلق األمر بصورة أو أفكار أو أشعار يهمسها صوت‬
‫ربة الفن األسطوري للكاتب‪ ،‬وإنما بالمنطق العظيم للرموز وباألشكال العظيمة الفارغة التي تسمح‬
‫بالكالم والفعل" (‪ ،)2‬كما يهاجم بارت معيار القيمة الذي حاصر كثيرًا الخطاب الشعري‪ ،‬ونأى به عن‬
‫طبيعته بقوله‪ " :‬لقد رأى المجتمع الكالسيكي ـ البرجوازي في الكالم‪ ،‬خالل حقبة طويل‪//‬ة‪ ،‬أداة أو‬
‫وسيلة زخرفة‪ ،‬بينما نرى فيه اآلن عالمة وحقيقة" (‪.)3‬‬
‫‪/‬رض‬
‫‪/‬ا ف‪/‬‬
‫‪/‬القوة مثلم‪/‬‬
‫فمنطق الشعر هو غير معيارية القيمة التي أرادت أن تفرض نفسها ب‪/‬‬
‫المعجم القديم نفسه بقوة على حساب مكتسبات التطور الحضاري‪ ،‬التي لم يعد الطبع فيها إشكالية في‬
‫‪/‬دًا‬ ‫قراءة الشعر‪ ،‬يقول بارت في توصيف األثر األدبي‪" :‬إّن األثر ال يخلد لكونه فرض مع‪/‬‬
‫‪/‬نى وحي‪/‬‬
‫على أناس مختلفين‪ ،‬وإّنما لكونه يوحي بمعاني مختلفة إلنسان وحيد‪ ،‬يتكلم دائمًا اللغة الرمزية نفسها‬
‫خالل أزمنة متعددة‪ ،‬فاألثر يقترح‪ ،‬واإلنسان يدبر"(‪ ،)4‬ولذلك فإّن الّش اعر ليس م‪//‬ؤثرًا‪ ،‬ل‪//‬ذا وجب‬

‫‪ 1‬صالح فضل‪ ،‬نظرية البنائية في النقد األدبي‪ ،‬دار اآلفاق الجديدة بيروت‪،‬ط‪1985 ،3‬م‪ ،‬ص ‪.178‬‬
‫‪ 2‬روالن بارت‪ ،‬النقد والحقيقة‪ ،‬ترجمة وتقديم إبراهيم الخطيب‪ ،‬الشركة المغربية للناشرين المتحدين‪ ،‬ط‪ ،1‬الدار البيضاء‬
‫‪ ،1985‬ص‪.63‬‬
‫‪ 3‬المرجع نفسه‪ ،‬ص‪.53‬‬
‫‪ 4‬نفسه‪ ،‬ص‪.55‬‬
‫‪73‬‬
‫البنــاء األسلـوبي‬ ‫الفصــل األول‬

‫‪/‬اة‬
‫‪/‬د الحي‪/‬‬
‫‪/‬د ألن يعي‪/‬‬
‫تخطيه‪ ،‬ألن األثر لم يعد مرتبطًا بتقدير القصيدة‪ِ ،‬مما ال يمنح أي فرصة للناق‪/‬‬
‫للشاعر‪ ،‬وقد حكم عليه النقد الجديد بالموت‪ ،‬كما حكم بزوال فكرة أّن الشعر يقال ليستهلكه المجتمع‬
‫كمنتوج‪.‬‬
‫لهذا ال بد في منظور بارت دائمًا من أن "نحرر األثر األدبي من إرغامات القص‪//‬د‪ ،‬ونلتقي‬
‫مجددًا بالدرجة األسطورية للحواس؛ إن الموت بمحوه توقيع الكاتب يؤسس جوهر األثر الذي ه‪//‬و‬
‫‪/‬ة‬ ‫لغز"(‪ ،)1‬أّم ا صلة النقد باألثر الشعري فهي عند بارت عالقة معنى بشكل "فالّناقد ال ي‪/‬‬
‫‪/‬دعي ترجم‪/‬‬
‫‪/‬نى‬
‫األثر خاصة بوضوح أكبر‪ ،‬نظرًا ألنه ليس هناك ما هو أو ضح منه ما يستطيعه هو أن يولد مع‪/‬‬
‫معينًا "(‪.)2‬‬
‫وهذه الوظيفة الجديدة التي أنيطت في النقد الجديد بالناقد‪ ،‬تبعده عن إضاعة وقته وجهده في‬
‫مناقشة إشكالية اإلبداع الشعري هل هي طبع أم صنعة‪ ،‬إذ إّن ‪" :‬جزاء الناقد ليس هو القارئ ذات‪//‬ه‪،‬‬
‫إّنما هو مجّر د قارئ " أنابه آخرون للتعبير عن مشاعرهم الخاصة بدعوى معرفت‪/‬ه أو قدرت‪/‬ه على‬
‫إصدار األحكام"(‪ ،)3‬أّم ا القراءة فإّنها "وحدها تعشق األثر األدبي وتقيم معه عالقة شهوة"(‪.)4‬‬
‫إّن البنيوية إذن‪ ،‬ال صلة لها بالطبع وال تناقش حقيقته وتجلياته ومرجعياته‪ ،‬كما أّنها ال تطرح‬
‫إشكالية الكتابة من استعداد وموهبة ودوافع‪ ،‬وال تعطيها أدنى عناية‪ ،‬فضًال عن عدم إيمانها باإلطار‬
‫الخارجي‪ ،‬كما يتمّثل في زمان الّنص أو مكانه‪ ،‬أّم ا الّش عر فإّنه بالنسبة إليها صنعة بالمفهوم التراثي‪،‬‬
‫وبالمفهوم الحديث هو بنية وتركيب ـ البنيوية ال تناقش أيضًا إشكالية الخطاب الشعري ه‪//‬ل ه‪//‬و‬
‫‪/‬دم‬ ‫صنعة ـ والصنعة تّتجه إلى الكيفية‪ ،‬ال إلى كونها إشكالية‪ ،‬وإذا كان الشعر بنية‪ ،‬فهذا معن‪/‬‬
‫‪/‬اه ع‪/‬‬
‫إيالء األهمية للقدرة‪ ،‬ألّنها صادرة من خارج األثر‪ ،‬والّنص بالنسبة إلى البنيوية هو مبني بهذا الشكل‬
‫وكفى‪ ،‬وطريقة البناء وهيئته داللتان على الكيفية التي تعّد مرتكز الصنعة‪.‬‬

‫ونستطيع اآلن أن نعتبر "األسلوبية والبنيوية" طريقتين نقديتين برهنتا على أّنهما مثمرت‪//‬ان‪،‬‬
‫رغم أّنه ليس يسيرًا أن نحّدد دائمًا موقع نهاية إحداهما وبداية األخرى‪.‬‬
‫فإنها موصولة بهما‬
‫وألن األسلوبية تشتغل في موقع وسط بين محطتين هما اللغة واألدب‪َّ ،‬‬
‫‪/‬داعي‬
‫‪/‬ل اإلب‪/‬‬
‫‪/‬ط العم‪/‬‬
‫ومرتبطة بحضورهما معًا‪ ،‬وإذا كانت البنيوية تجب الحبل السري الذي يرب‪/‬‬

‫نفسه‪ ،‬ص‪.65‬‬ ‫‪1‬‬

‫روالن بارت‪ ،‬النقد والحقيقة‪ ،‬ص‪.69‬‬ ‫‪2‬‬

‫المرجع نفسه‪ ،‬ص‪.83‬‬ ‫‪3‬‬

‫نفسه‪ ،‬ص‪.87‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪74‬‬
‫البنــاء األسلـوبي‬ ‫الفصــل األول‬

‫بمؤلفه‪َّ ،‬‬
‫فإن األسلوبية ال تنكر الصلة بين اإلبداع والمبدع‪ ،‬وهي تفيد من التأثير النفسي الذي يوحي‬
‫به العمل اإلبداعي حين يمارس فعله على القارئ أو المتلقي عامة‪.‬‬
‫ن هذا ِمَّما تنكره البنيوية وال تعترف به إذ تعده من أطر النص التي تضيق‬
‫ومن المعروف إ َّ‬
‫الخناق عليه وتلغيه(‪ ،)1‬وإذا كانت ثمة رؤية للبالغة على أنها اإلهاب الجديد لألس‪//‬لوبية ف‪//‬إن في‬
‫‪/‬ه‬
‫البالغة جانبا أدبيا وآخر لغويا‪ ،‬وفي البالغة العربية تنتمي مباحث البديع والبيان إلى األدب بوج‪/‬‬
‫عام‪ ،‬في حين ترتكز معظم مباحث علم المعاني إلى اللغة‪ ،‬وإلى الجانب الداللي منها تحديدًا‪ ،‬وعلى‬
‫وجه العموم فإن البالغة رافد مهم من روافد األسلوبية‪ ،‬وهي على هذا األساس ليست قسيما لها أو‬
‫مرادفا تقتصر عليه األسلوبية‪.‬‬
‫وفي مجال التطبيق يمكن أن تكون األسلوبية منهجا نقديا يعتمد على مهاد خصب‪ ،‬لذلك فإن‬
‫معظم الدراسات التي اعتمدت األسلوبية منهجا اشتغلت وفقا ألنساق أو مستويات أو محاور‪ ،‬يستند‬
‫بعضها إلى اللغة‪ ،‬ويعتمد بعضها اآلخر على البالغة‪ ،‬وثمة ماله صلة بمباحث النقد واألدب عامة‪،‬‬
‫ومن خالل بعض الدراسات التي طبقت األسلوبية على اإلبداع الشعري وج‪/‬دنا مس‪/‬توى إيقاعي‪/‬ا‬
‫يشتغل على الوزن والقافية واإليقاع الداخلي‪ ،‬وهناك المستوى المعجمي الداللي‪ ،‬وثم‪//‬ة مس‪//‬توى‬
‫الصورة الشعرية‪ ،‬ويمكن أن يشتق الباحث من هذه المستويات ما يناسب النص الذي يشتغل علي‪//‬ه‬
‫بحيث يحتضنه المنهج األسلوبي‪ ،‬ومن ثم يتوغل إلى أعماقه ويحيط بأسراره‪.‬‬
‫وأدوات األسلوبية ووسائلها متنوعة وعلى النحو الذي فصلنا فيه إذ تشمل كل مباحث اللغ‪//‬ة‬
‫واألدب بحيث ال تميل إلى جهة ما بل تتجه إلى النص متوازنة متسقة‪ ،‬وهي في خاتم‪//‬ة المط‪//‬اف‬
‫تتلبث عند أسرار النص‪ ،‬وخصوصيات صياغته‪ ،‬وعوامل فرادته‪ ،‬فاألسلوب ‪ -‬ومن هذا المنطلق‪-‬‬
‫منهج متوازن ومتجدد‪ ،‬وإذا ما قورن بالمناهج النقدية األخرى ف‪//‬إن المنهج األس‪//‬لوبي يتخلص من‬
‫عيوب المناهج التقليدية كالمنهج التاريخي والمنهج االجتماعي والمنهج النفسي وسواها من المن‪/‬اهج‬
‫التي اتهمت بأنها تتنكر للنص اإلبداعي متخذة منه وسيلة ال غاية في حين تحتفي األسلوبية ب‪//‬النص‬
‫دون تطرف كما هو شأن البنيوية وتفيد من صلة المبدع بنصه اإلبداعي‪ ،‬وم‪//‬ا الم‪//‬انع في ذل‪//‬ك؟‬
‫فاألسلوبية إذن تفتح آفاقًا على صعيد المناهج النقدية وتعطي للناقد أو الباحث عامة أدوات منهجي‪//‬ة‬
‫مضافة تجدد المنظور النقدي والبالغي واللغوي على حد سواء‪.‬‬
‫وقد سعينا من هذا المنطق إلى إبراز الظواهر اللغوية واألسلوبية التي تميز ديوان البحتري‪،‬‬

‫ينظر‪ :‬صالح فضل‪ ،‬نظرية بنائية في النقد العربي‪ ،‬ص ‪ 179‬وما بعدها‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪75‬‬
‫البنــاء األسلـوبي‬ ‫الفصــل األول‬

‫ألن المعتمد األبنية الصوتية والصرفية والنحوية والبالغية الداللية‪ ،‬وهذا ما يقتضي منا التعري‪//‬ف‬
‫بالشاعر‪.‬‬

‫ال يكـاد يغـادر الطائي أبو تمـام دنيا الشعـر وهو في شـرخ الرجولـة حتى يتسلم منه‬
‫علم الشعـر طائي آخر مثلـه " اسمـه الوليـد بن عبيد اهلل بن يحي بن عبيد بن شمـالل ابن جابر‬
‫بن سلمة ابن مسهـر بن الحـارث بن خيتـم بن أبي حارثـة بن جدي بن تـداول ابن بح‪//‬تر ابن‬
‫عتـود بن عتمـة ابن سلمان بن ثعل بن عمرو بن الغـوث بن جلهمـة وهي طيئ بن أدد بن زيد‬
‫بن كهـالن ابن سبأ بن يشجـب بن يعرب بن قحطـان"(‪ )1‬ويكنى بأبي عبـادة(‪ ،)2‬ولكن االسم الذي‬
‫(‪)‬‬
‫أحد أجداده (‪.)4‬‬ ‫نسبة إلى بحتر‬ ‫(‪)3‬‬
‫شهر به الشاعر في عالم األدب واستتر تحت شهره هو البحتري‬

‫ولد أبو عبادة في العام السادس بعد المائتين للهجرة (‪ 206‬هـ) الموافق للواحد وعشريـن‬
‫بين حلب والفرات ونشأ فيها نشأة عربية خالصـة‪،‬‬ ‫(‪)6‬‬
‫بعد الثمانمائة للميالد (‪ 821‬م)(‪ )5‬بمنبـج‬
‫وذهب بعض العلماء إلى القول‪ :‬إن البحتري ولد في قرية " بزردفنة " وهي قرية من ق‪//‬رى منبج‪،‬‬
‫‪ 1‬أبو الفرج األصفهاني‪ ،‬األغاني‪ ،‬تحقيق سمير جابر‪ ،‬ج‪ 10‬ص‪ ،42‬وابن خلكان‪ ،‬وفيات األعيان‪ ،‬ج‪ 6‬ص‪ ،21‬وأحمد‬
‫بدوي‪ ،‬والبحتري ص‪ ،24‬وهاشم صالح مناع البحتري حياته وشعره‪ ،‬ص‪ ،7‬وينظر‪ :‬مصطفى الشكعة‪ ،‬الشعر والشعراء‬
‫في العصر العباسي ص‪.679‬‬
‫‪ 2‬األصفهاني‪ ،‬األغاني‪ ،‬ج‪ 10‬ص‪ ،45‬اآلمدي‪ ،‬الموازنة بين شعر أبي تمام والبحتري‪ ،‬ج‪ 1‬ص‪ ،26‬وابن خلكان‪ ،‬وفيات‬
‫األعيان‪ ،6،‬ص‪ ،21‬وينظر‪ :‬اآلمدي‪ ،‬الموازنة بين شعر أبي تمام والبحتري‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪ ،26‬وينظر‪ :‬هاشم صالح مناع‪،‬‬
‫البحتري حياته وشعره ص‪ ،7‬وينظر‪ :‬أحمد بدوي‪ ،‬البحتري‪ ،‬ص‪ ،24‬وينظر‪ :‬مصطفى الشكعة‪ ،‬الشعر والشعراء في‬
‫العصر العباسي ص‪.689‬‬
‫* ويكنى البحتري بمجموعة من الكنى‪ ،‬نذكر منها‪ :‬أبو الحسن‪ ،‬وهذه الكنية كانت األولى قبل أن يتصل بالخليفة المتوكل‬
‫علي اهلل (ت ‪247‬هـ)‪ ،‬وأبو عبادة‪ ،‬يقال‪ :‬أنه تكنى أبا عبادة لما دخل العراق‪ ،‬واتصل بالمتوكل وعرف مذهبه‪ ،‬ويقال‪ :‬أن‬
‫المتوكل هو الذي كناه أبا عبادة كما ورد على لسان ابنه أبي الغوث‪.‬‬
‫‪ 3‬لقب البحتري بألقاب كثيرة‪ ،‬منها‪ :‬الطائي‪ ،‬نسبة إلى طيئ أحد أجداده وهو جلهمة بن أدد‪ ،‬والطائي األصغر‪ ،‬للتمييز بينه‬
‫وبين أبي تمام الذي لقب بالطائي األكبر‪ ،‬والبحتري نسبة إلى بحتر أحد أجداده‪ ،‬والنابغة الثاني‪ ،‬والمنبجي‪ ،‬نس‪//‬بة إلى منبج‬
‫التي ولد فيها‪ ،‬ينظر‪ :‬هاشم صالح مناع‪ ،‬البحتري حياته وشعره ص‪.7‬‬
‫‪/‬ر‪ :‬ابن‬ ‫‪/‬اتر ينظ‪/‬‬ ‫‪ ‬البحتر بالضم‪ :‬القصير المجتمع الخلق‪ ،‬وكذلك الحبتر وهو مقلوب منه‪ ،‬واألنثى بحترة‪ ،‬والجمع البح‪/‬‬
‫منظور‪ ،‬لسان العرب (مادة بحتر)‪.‬‬
‫‪ 4‬ابن خلكان‪ ،‬وفيات األعيان‪ ،‬ج‪ ،6‬ص‪ ،21‬وينظر‪ :‬مصطفى الشكعة‪ ،‬الشعر والشعراء في العصر العباسي ص‪.689‬‬
‫‪ 5‬أحمد بدوي‪ ،‬البحتري ص‪ ،24‬وهاشم صالح مناع‪ ،‬البحتري حياته وشعره ص‪.7‬‬
‫‪ 6‬منبج – بالفتح ثم السكون وباء مكسورة وجيم‪ -‬بلد قديم طيب الهواء ولد فيه جماعة من فرسان البالغة منهم‪ :‬البحتري‬
‫وأبو نواس ومن قبلهما عبد الملك بن صالح الذي قال له الرشيد لما دخل منبج‪ :‬أهذا منزلك؟‪ ،‬قال‪ :‬هو لك ولي بك يا أم‪//‬ير‬
‫المؤمنين‪ ،‬قال‪ :‬كيف بناؤه؟‪ ،‬قال‪ :‬دون منازل أهلي وفوق منازل الناس‪ ،‬وقال‪ :‬وكيف ذلك وقدرك فوق أقدارهم؟ قال‪ :‬ذلك‬
‫خلق أمير المؤمنين أتأسى به وأقفو أثره وأحذو حذوه‪ ،‬قال‪ :‬فكيف طيب منبج؟ قال‪ :‬عذبة الماء‪ ،‬طيبة الهواء‪ ،‬قليلة األدواء‬
‫قال فكيف ليلها ؟ قال‪ :‬سحر كله‪.‬‬
‫‪/‬انت‬ ‫ومدينة منبج هذه كان من حقها أن ترتبط باسم البحتري مثلما ارتبطت باسم الشاعر األمير أبي فراس الحمداني‪ ،‬فلقد ك‪/‬‬
‫‪/‬ان‬‫‪/‬ديح بعض من ك‪/‬‬ ‫تلح على خاطري صاحبنا حنينا وشجونا وهو في ذروة مجده األدبي والمادي‪ ،‬فيردد اسمها في مقام م‪/‬‬
‫يمدح من أعيان الزمان‪ ،‬ينظر‪ :‬أحمد بدوي‪ ،‬البحتري ص‪ ،24‬وهاشم صالح مناع‪ ،‬البحتري حياته وشعره ص‪8‬ومصطفى‬
‫الشكعة‪ ،‬لشعر والشعراء في العصر العباسي ص‪.689‬‬
‫‪76‬‬
‫البنــاء األسلـوبي‬ ‫الفصــل األول‬

‫وقضى فيها طفولته وصباه يحصل العلم ويجتني ثمار المعرفـة حتى شب طوقه في دنيا الشعر(‪.)1‬‬
‫تلقى البحتري تعليمه في هذه البلدة العظيمـة‪ ،‬وهي ال تزيد عادة على حفظ القـرآن وشيء‬
‫‪/‬ة‪ ،‬وأخبـار‬
‫من بليغ الشعر والنثر‪ ،‬وتعلم أحكام الدين وسنة رسول اهلل وأخذ طرف من علوم اللغ‪/‬‬
‫الفتوح والمعازي وأيام العـرب وأنسابهم (‪ ،)2‬فجرى الشعر على لسانه فوجد في نفس‪//‬ه موهبـة‬
‫شعرية‪ ،‬فأراد أن يصقلها ويهذبها على يد خبيرة مدربـة‪ ،‬فاتصل بكبـار شعـراء عصره أمثـال‬
‫أبي تمام‪ ،‬دعبل الخزاعي‪ ،‬وابن الرومي وعلي بن الجهـم وابن المعتـز وابن الزيات‪ ،‬وكان أب‪//‬و‬
‫‪/‬رين‪-‬‬
‫‪/‬و ابن العش‪/‬‬
‫‪/‬ه ‪ -‬وه‪/‬‬
‫تمـام أعظم هؤالء الشعـراء تأثيرا في صاحبنا وشعـره(‪ ،)3‬فوفد إلي‪/‬‬
‫ليلتمس منه العلم والتعلم (‪ )4‬فها هو يقـول‪ " :‬كان أول أمري في الشعر أني صرت إلى أبي تمـام‬
‫وهو بحمص فعرضت عليه شعري وكان الشعراء يعرضون عليه أشعارهم‪ ،‬فأقبل عليه وترك سائر‬
‫من حضـر‪ ،‬فلما تفرقوا قال لي‪ :‬أنت أشعـر من أنشدني فكيف باهلل حالك‪ ،‬فشكوت خلة‪ ،‬فكتب إلى‬
‫‪/‬دحهم‪ ،‬فصـرت إليهم‬
‫أهل معـزة النعمان وشهد لي بالحذق بالشعر وشفـع لي إليهم‪ ،‬وقال‪ :‬امت‪/‬‬
‫فأكرموني بكتابه ووظفـوا لي أربعـة آالف درهم فكانت أول مال أصيب"(‪.)5‬‬

‫وأما عن رومه للشعر فيقول‪ " :‬كنت في حداثتي أروم الشعر‪ ،‬وكنت أرجع فيه إلى طبع ولم‬
‫أكن أقف واتكلت في تعريفه عليه فكان أول ما قال لي‪ :‬يا أبا عبادة تخير األوقات وأنت قليل الهموم‬
‫صفر من الغموم واعلم أن العادة في األوقات أن يقصد اإلنسان لتأليف ش‪//‬يء‪ ،‬أو حفظ‪//‬ه في وقت‬
‫السحر وذلك أن النفس قد أخذت حظها من الراحة وقسطها من النوم فإن أردت النسيب فاجعل اللفظ‬
‫رقيقا والمعنى رشيقا‪ ،‬وأكثر فيه بيان الصبابة‪ ،‬وتوجع الكآبة وقلق األشواق ولوع‪//‬ة الف‪//‬راق وإذا‬
‫‪/‬اص‬
‫‪/‬ه وتق‪/‬‬
‫‪/‬رف مقاوم‪/‬‬
‫أخذت في مدح سيد ذي أياد فاشهر مناقبه وأظهر مناسبه وأبن معالمه وش‪/‬‬
‫المعاني‪ ،‬واحذر المجهول منها‪ ،‬وإياك أن تشين شعرك باأللفاظ الزرية وكن كأنك خياط يقطع الثياب‬
‫على مقادير األجسام وإذا عارضك الضجر فأرح نفسك وال تعمل إال وأنت ف‪//‬ارغ القلب‪ ،‬واجع‪//‬ل‬
‫شهوتك لقول الشعر الذريعة إلى حسن نظمه‪ ،‬فإن الشهوة نعم المعين‪ ،‬وجملة الحال أن تعتبر شعرك‬
‫بما سلف من شعر الماضين‪ ،‬فما استحسنه العلماء فاقصده‪ ،‬وما تركوه فاجتنبه ترش‪//‬د إن ش‪//‬اء اهلل‬

‫مصطفى الشكعة‪ ،‬الشعر والشعراء في العصر العباسي ص‪.689‬‬ ‫‪1‬‬

‫أحمد بدوي‪ ،‬البحتري ص‪.25‬‬ ‫‪2‬‬

‫األصفهاني‪ ،‬األغاني‪ ،‬ج‪ 10‬ص‪ ،46‬وأحمد بدوي‪ ،‬البحتري ص ‪.59‬‬ ‫‪3‬‬

‫هاشم صالح مناع‪ ،‬البحتري حياته وشعره ص ‪ ،28‬وأحمد بدوي‪ ،‬البحتري ص ‪.25‬‬ ‫‪4‬‬

‫األصفهاني‪ ،‬األغاني‪ ،‬ج‪ 10‬ص‪ ،46‬وأحمد بدوي‪ ،‬البحتري ص ‪.59‬‬ ‫‪5‬‬

‫‪77‬‬
‫البنــاء األسلـوبي‬ ‫الفصــل األول‬

‫تعالى" (‪.)1‬‬

‫‪/‬ة‬
‫‪/‬ة ثري‪/‬‬
‫‪/‬يلة وملك‪/‬‬
‫توسم أبو تمام النجابة في أبي عبادة بعد أن رأى عنده شاعرية حية أص‪/‬‬
‫العطاء‪ ،‬واستعدادا لم يتوفر عند كثرين من شباب الشعراء المعاصرين له‪ ،‬فأقبل عليه وسر به‪ ،‬وظل‬
‫صاحبنا على اتصال بأستاذه الذي لم يبخل عليه بالتوجيه‪ ،‬وشرح ما غمض من ألوان القول وحف‪//‬ظ‬
‫التاريخ (‪ ،)2‬إلى أن تأتي ساعة الرحيل إلى بغداد طلبا للتكسب فاتصل فيها بخلفاء كثرين‪ ،‬فمنهم من‬
‫مدحه وهجاه‪ ،‬ومنهم من رثاه (‪.)3‬‬
‫‪/‬لوب‬
‫‪/‬ة األس‪/‬‬
‫والبحتري شاعر مطبوع محافظ على عمود الشعر العربي‪ ،‬وهو فارس مدرس‪/‬‬
‫المشرق‪ ،‬ورائد الديباجة الشعرية (‪ )Poétique‬المونقة التي أعادت الشعر إلى سابق عهده وربطته‬
‫من جديد بعمود ووقار القصيد(‪ ،)4‬والسبب في ذلك راجع إلى مقدرته في نظم الشعر‪ ،‬وسعة اطالعه‬
‫‪/‬اد‬
‫على شعر القدماء‪ ،‬ومحفوظاته الشعرية‪ ،‬وذوقه في اختيار النصوص وثقافته النقدية ومجارته لنق‪/‬‬
‫عصره‪ ،‬وبذلك يكون قد جمع بين اإلبداع الشعري واالختيار األدبي والذوق النقدي‪ ،‬إلى أن ضرب‬
‫به المثل بديباجته فقيل ‪ :‬ديباجة بحترية وقد صدق ابن رشيق حين قال‪" :‬وأما البحتري فك‪//‬ان أملح‬
‫صنعة‪ ،‬وأحسن مذهب في الكالم يسلك منه دماثة وسهولة مع إحكام التصنع وقرب المأخذ ال يظهر‬
‫عليه كلفة وال مشقة "(‪.)5‬‬
‫‪/‬ه‬
‫‪/‬و في حقيقت‪/‬‬
‫‪/‬امخ ه‪/‬‬
‫وهو شاعر ذو إيقاع فريد‪ ،‬تدفقت عبقريته المعطاء بفيض شعري ش‪/‬‬
‫تجسيد متوهج لقيمة الكلمة‪ ،‬وشموخ الموسيقى وعظمة التصوير‪ ،‬وانصهارها جميع‪//‬ا في لؤل‪//‬ؤة‬
‫واحدة هي هذا الشعر الذي أمام أعيننا‪.‬‬
‫فهذه الشاعرية لم تكن في وقت ما عرضة للطعن أو النكران ولكن بوسعي الزعم أنها لم تلق‬
‫‪/‬ا حظي‬
‫ما هو جدير بها من تقدير موضوعي‪ ،‬ويتضح ذلك جليا إذا ما قارنا ما حظي به صاحبنا بم‪/‬‬
‫به ضريباه ‪ -‬وأعني أبا تمام وأبا الطيب ‪ -‬من دراسات وشروح في القديم والحديث‪ ،‬وب‪//‬الرغم من‬
‫‪/‬ان ذا‬
‫ذلك فإن هذه الشاعرية ذات مذاق خاص‪ ،‬وتألق مبهر‪ ،‬ولم يكن ذلك في رأيي إال أن الرجل ك‪/‬‬

‫‪ 1‬ابن رشيق‪ ،‬العمدة‪ ،‬تحقيق محمد قرقزان‪ ،‬ج‪ ،2‬ص‪ ،749‬وهاشم صالح مناع‪ ،‬البحتري حياته وشعره ص‪ ،14‬وأحمد‬
‫بدوي‪ ،‬البحتري ص‪ ، 59‬وهاشم صالح مناع‪ ،‬أبو تمام الطائي حياته وشعره ص‪.28‬‬
‫‪ 2‬أحمد بدوي‪ ،‬البحتري ص ‪ ،26‬مصطفى الشكعة‪ ،‬الشعر والشعراء في العصر العباسي‪ ،‬ص‪.292‬‬
‫‪ 3‬من أشهر خلفاء بني العباس الذين اتصل بهم البحتري‪ :‬المعتصم (رثاء)‪ ،‬الواثق (مدح غير مباشر)‪ ،‬المتوك‪//‬ل (م‪//‬دح‬
‫ورثاء)‪ ،‬المنتصر والمستعين (مدح وهجاء)‪ ،‬المعتز والمهتدي والمعتمد والمعتضد (مدح)‪ ،‬ينظر‪ :‬البحتري حياته وش‪//‬عره‬
‫هاشم صالح مناع ص ‪.17‬‬
‫‪ 4‬مصطفى الشكعة‪ ،‬الشعر والشعراء في العصر العباسي ص‪.738‬‬
‫‪ 5‬ابن رشيق‪ ،‬العمدة‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪.261‬‬
‫‪78‬‬
‫البنــاء األسلـوبي‬ ‫الفصــل األول‬

‫موهبة شعرية خالصة وصافية لم يكن متفلسفا وال متعالما وال بالغيا‪ ،‬وإنما كان شاعرا فنان‪//‬ا يتفنن‬
‫‪/‬ه‬
‫‪/‬افة إلى موهبت‪/‬‬
‫‪/‬ل‪ ،‬باإلض‪/‬‬
‫‪/‬تري هي أن الرج‪/‬‬
‫بشعوره ال بعقله‪ ،‬إال أن الحقيقة الساطعة لدى البح‪/‬‬
‫‪/‬ال‬
‫‪/‬لة بمج‪/‬‬
‫الخصبة قد أتقن إتقانا‪ ،‬فامتلك امتالكا أثمن وأوثق األدوات والعناصر الفنية التي لها ص‪/‬‬
‫‪/‬عري‬
‫‪/‬اؤه الش‪/‬‬
‫إبداعه وهي‪:‬التصوير والموسيقى والمشاكلة بين األلفاظ والمعاني‪ ،‬ومن ثم كان عط‪/‬‬
‫مرهونا بطبيعة الشعر‪.‬‬
‫وإن اختلفت اآلراء حول قيمة ما لكل من أبي تمام وأبي عب‪//‬ادة وأبي الطيب في مض‪//‬مار‬
‫الحكمة والصياغة البديعية‪ ،‬فإنه ال يجوز أن تكون الشاعرية المرهفة وتحققها ل‪//‬دى البح‪//‬تري إلى‬
‫‪/‬ع خالف‬
‫‪/‬ه إلى موض‪/‬‬
‫األفهام‪ ،‬وما أقول إال أنه أتى في معانيه بأخالط الغالية ورقى في ديباجة لفظ‪/‬‬
‫خاصة بعد أن حسم القضية واحد من الفرسان الثالثة‪ ،‬وأعني أبا الطيب المتنبي بقولته المش‪//‬هورة‪:‬‬
‫"أنا وأبو تمام حكيمان والشاعر البحتري‪ ،‬ولعمري إنه أنصف في حكمه‪ ،‬وأعرب بقوله عن متان‪//‬ة‬
‫‪/‬وغ من‬
‫‪/‬ظ المص‪/‬‬
‫‪/‬ماء في اللف‪/‬‬
‫علمه‪ ،‬فإن أبا عبادة أتى في شعره بالمعنى المقدود من الصخرة الص‪/‬‬
‫سالسة الماء‪ ،‬فأدرك بذلك بعد المرام مع قربه الدرجة العالية "(‪.)1‬‬
‫ولعل أهم العوامل التي أثرت على هذه الشاعرية هي تلك البيئة التي نشأ فيها وترعرع فقيرا‬
‫يرعى الغنم من أجل لقاء أجر من المال‪ ،‬األمر الذي سهل عليه االتصال بالقبائل عن طريق بحث‪//‬ه‬
‫‪/‬ك‬
‫‪/‬ف إلى ذل‪/‬‬
‫للماء والكأل‪ ،‬ثم ثقافته الضحلة مقارنة بثقافة عصره‪ ،‬وحبه الشديد لميدان الشعر‪ ،‬أض‪/‬‬
‫‪/‬النفع‬
‫خبرته وتجربته وحسن المدرسة التي انتمى إليها‪ ،‬وبحثه عن الدؤوب في كل باب يعود عليه ب‪/‬‬
‫والفائدة‪ ،‬وفوق كل هذا حبه لعلوة بيت زريقة الحلبية وتعلقه بها من جهة‪ ،‬واتصاله بالخلفاء وقياه في‬
‫البالط من جهة أخرى مما ساعده على التعرف على الحضارة بشتى مناحيها‪ ،‬فوجد نفسه في ج‪//‬و‬
‫المنافسة والمعارضة والطعن مما حدا به الدفاع عن فنه (‪.)2‬‬

‫ومن هنا يتضح أن مكانه من الشعر ال يجهل‪ ،‬وشعره هو السهل الممتنع الذي تراه كالشمس‬
‫قريبا ضوئها بعيدا مكانها‪ ،‬وكالقناة لينا مسها‪ ،‬خشنا سنانها‪ ،‬وهو في الحقيق‪//‬ة قين‪//‬ة الش‪//‬عراء في‬

‫‪ 1‬ابن األثير‪ ،‬المثل السائر‪ ،‬ج‪ ،3‬ص‪ ،227‬وهاشم صالح مناع‪ ،‬البحتري حياته وشعره‪ ،‬ص‪ ،117‬لقد أورد ابن خلكان‬
‫الرأي في الشعراء الثالثة منسوبا إلى أبي العالء‪ ،‬فهو عنده القائل‪ " :‬أنا وأبو تمام حكيمان والشاعر البحتري" ينظ‪//‬ر‪ :‬ابن‬
‫خلكان‪ ،‬وفيات األعيان‪ ،‬ج‪ ،6‬ص‪ ،23‬غير أن ابن األثير‪ -‬كما أسلفنا ‪ -‬قد أورد المعنى منسوبا للمتنبي في المثل السائر‪،‬‬
‫‪/‬اعر‬‫‪/‬ميته بالش‪/‬‬‫‪/‬ري ألبي الطيب وتس‪/‬‬ ‫ونحن نميل إلى نسبة الحكم إلى المتنبي نظرا لما يورده ابن األثير عن تعصب المع‪/‬‬
‫وتسمية غيره من الشعراء باسمه‪.‬‬
‫‪ 2‬ينظر‪ :‬هاشم صالح المناع‪ ،‬البحتري حياته وشعره‪ ،‬ص ‪.53-52‬‬
‫‪79‬‬
‫البنــاء األسلـوبي‬ ‫الفصــل األول‬

‫اإلطراب‪ ،‬وعنقاؤهم في اإلغراب(‪ ،)1‬ألنه " أحسن في سبك اللفظ على المع‪//‬نى‪ ،‬وأراد أن يش‪//‬عر‬
‫فغنى‪ ،‬ولقد حاز طرفي الرقة والجزالة على اإلطالق " (‪.)2‬‬

‫‪/‬احب‬
‫‪/‬ه ص‪/‬‬
‫‪/‬عراء‪ ،‬ألن‪/‬‬
‫والشك أن شعر البحتري جذب إليه النقاد‪ ،‬وبهر العلماء‪ ،‬وشغل الش‪/‬‬
‫مخيلة قوية‪ ،‬كان إذا صور األشياء أبرز لها صورا دقيقة الفن‪ ،‬ملونة‪ ،‬تحس فيها الحركة والحياة في‬
‫وكان الب‪//‬اقالني يص‪//‬فه بـ‪:‬‬ ‫(‪)3‬‬
‫شعر حلو النغم‪ ،‬وال عجب أن نراهم يصفونه بـ‪(:‬سالسل الذهب)‬
‫(بعروق الذهب)(‪ ،)4‬وال يكاد كتاب من كتب النقد والبالغة يخلو من وصف شعره والثناء عليه‪ ،‬وال‬
‫غرابة في ذلك إذ أن البحتري َتَبوََّأ الذروة في دوحة الشعر العربي شهدها تاريخ الحضارة اإلسالمية‬
‫الذي حفظ لنا تركة عظيمة للشاعر تتمثل في قصائده العربية المحملة بالمعاني اإلنسانية الراقية‪.‬‬

‫ابن األثير‪ ،‬المثل السائر‪ ،‬ج‪ 3‬ص‪.126‬‬ ‫‪1‬‬

‫المصدر نفسه‪ ،‬ج‪ ،3‬ص‪.227‬‬ ‫‪2‬‬

‫ابن خلكان‪ ،‬وفيات األعيان‪ ،‬ج‪ ،6‬ص‪.23‬‬ ‫‪3‬‬

‫البقالني‪ ،‬إعجاز القرآن‪ ،‬ص‪.220‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪80‬‬

You might also like