Professional Documents
Culture Documents
-1أساليـب البنـــاء
أ -األسلـوب في التراث العربي
طالما دارت كلمة (األسلوب) في كتابات النقاد ودارسي األدب في تنظيرهم وتطبيقاتهم على
النصوص ،ورددها البالغيون المحدثون في أطروحاتهم البالغية الجديدة ورؤاهم المعاصرة؛ له//ذا
رغبت في إلقاء الضوء على هذا المصطلح باالعتماد على أراء القدماء والمحدثين مًع ا.
/يرون، لقد نال األسلوب حًظ ا وافًر ا من الدراسة في التراث العربي وتحدث عنه علم/
/اء كث/
فكان يعني عندهم "الكيفية التي يشكل بها المتكلم كالمه سواء كان شعرا أو نثرا"( ،)1فاألسلوب مرتبط
بالدراسة األدبية والنقدية التي لها عالقة بالخطاب وكيفية ترتيبه وصوغه ونظمه.
فهو كلمة اشتقت في اللغات األوربية المعروفة ،من األصل الالتيني" ،"stilusالذي يعني
أو "المنقاش" للحفر والكتابة ( ،)3وهو في كل حال من األحوال يعني (ريشة) ،ثم انتقل () 2
"اإلزميل"
عن طريق المجاز ُم تخذًا مفاهيم متعددة تدُّل في الغالب على صناعة الكتابة ،فقد كان في بداية أمره
مرتبطا بالكتابة اليدوية داال على المخطوطات ليصبح بعد أن عرفت المجتمعات تحوالت حضارية
يطلق على التعبيرات اللغوية األدبية أَّيام خطيبهم الشهير :الروماني"شيشرون"(.)4
أَّم ا في اللغة العربية فقد توسع المصطلح في االستعماالت المجازية ،فَّ /
/دل على الطري//ق
الممتد ،يقالَ" :س َلَبُه َثْو َبُه ،وهو َس ليٌب َ ،و َأَخ َذ َس لب القتيل وأْس الب الَقتلى ،وَلبْس ُت الثكلى السالب وهو
/يب َع امَ ،و َس َلْك ُت الَح داد ،وَتَس لبت وَس َلْبًت على َم يتها َفهَي مسلب ،واإلْح َداُد َع لى الَز وج ،والتس/
ُأْس ُلوَب ُفالنَ :ط ريَقَتُه َو َك الَم ُه َع لى َأَس اليَب َح َس َنةَ ،و مَن الَمَج ازَ :س َلَبُه ُفَؤاَدُه َو َع ْقَلُه َو اْس َتَلَبُه َ ،و ُه َو
وٌق ُمْس َتلُب الَع ْق لَ ،و َش َج َر ٌة َس ليٌب َ :أَخ َذ َوَر َقَه ا َو َثْمَر َهاَ ،و َش َج ٌر َس لبَ ،و َناَقٌة َس ُلوٌب َ :أَخ َذ َو َلَدَه اَ ،و ُن
َس الئٌب َ ،و ُيَقاُل للُم َتَك برَ :أْنفه في ُأْس ُلوب إذا َلْم َيْلَتفت ُيْم َنًة َو ال ُيْس َر ًة " (.)5
ُأ
واألسلوب الَّس ْط ر من النخيل ،وهو " الطريق ،والوجُه ،والَم ْذ َه ُب ؛ ُيَق اُل َ :أنتم في ْس ُلوِب
ُس وٍء ،وُيجَم ُع َأساِليَب ،واُألْس ُلوُب :الطريُق تْأخذ فيه ،واُألْس لوُب بالضم :الَفُّن ؛ ُيَقاُل َ :أَخ ذ فالٌن في
1محمد عبد المطلب ،البالغة واألسلوبية -دراسة أدبية ،-الهيئة المصرية العامة للكتاب 1984م ،ص.13
2اِإلْز ِميٌل :شديد اَألكل ،شبه بالَّش ْف رة ،واِإلْز ِميل :حديدة كالهالل تجعل في طرف ُر مح لصيد بقر الوحش ،وقيل :اِإلْز ِميل
الِم ْط َر قة ،وَر ُج ٌل ِإْز ِميٌل :شديد؛ قال :وال ِبُغ ّس َع ِنيد الُفْح ِش ِإْز ِميل ،وَأخذ الشيء بَز َم لته وَأْز َم له وَأْز ُم له وَأْز َم لته َأي بَأثاثه،
وَتَر ك َز َم لة وَأْز َم لة وَأْز َم ًال َأي عياًال ،ابن منظور ،لسان العرب ،دار صادر بيروت للطباعة والنشر (د.ت)( ،مادة زمل).
3عدنان بن ذريل ،النص واألسلوبية بين النظرية والتطبيق -دراسة ،-منشورات اتحاد الكتاب العرب ،2000ص.43
األسلوب بوجه عام طريقة اإلنسان في التعبير عن نفسه كتابة ،وهذا هو المعنى المشتق من األصل الالتيني للكلمة األجنبية
( )styloالذي يَعني القلم ،مجدي وهبه ،معجم مصطلحات األدب ،مكتبة لبنان ،بيروت ،ص .542
4صالح فضل ،علم األسلوب – مبادئه وإجراءاته – ،منشورات دار اآلفاق الجديدة ،بيروت (ب.د) ،ص .72
5الزمخشري ،أساس البالغة ،دار الكتب المصرية القاهرة ،1953مادة (سلب).
2
البنــاء األسلـوبي الفصــل األول
/ام أداة
/ار ،وانتظ/
/ق األفك/
فاألسلوب في األدب هو طريقة الكتابة التي تشتمل على نس/
التعبير ألفاًظ ا وُج مال ،فقرات وصور بيانية ،وما إلى ذلك من عناصر الكالم ،وبنائية ال//تركيب
واإلنشاء.
واألسلوب الذي تنوعت تعريفاته في طبيعة الحال هو نتاٌج تعبيرٌّي ،ألَّنه الوعاء ال//ذي
يفرغ فيه العمل األدبي ،فليس األسلوب هو القصيدة أو المسرحية أو القصة أو الرواي//ة ،ب//ل
الطريقة والمنوال الذي تجري فيه هذه األجناس األدبية ،والمالحظ أَّن األفكار التي تحِّلله تنطلق
من معنى الفردية في مقابل معنى العمومية ،والمقصود بالفردية أَّن األسلوب هو اإلنسان ذات/
/ه،
ولذلك كانت العالقة بين األسلوب وعلم اللغة متواشجًة ،وسبب تبُّدل األفكار حول األسلوب عائٌد
إلى االرتباط بين اللغة واألنماط الثقافية واالجتماعية ،واألدب بدوره شطٌر من الثقافة العام//ة،
فالقصيدة الشعرية ال تنبعث دالالتها إَّال من ذلك ،فمعاني كلماتها مستمٌّد من لغة الق//وم ال//ذين
/ره خالل
/وم تظه/
/اعي للق/
قيلت لهم القصيدة ،ولها معناها المنبثق من السياق الثقافي واالجتم/
األسلوب ،فتلك الدالالت التي تتوصل إليها مقرونة بكيفية التواصل ذاتها أي باألسلوب الذي قد
يرقى بها إلى درجة الروائع العالمية ،فاألسلوب هو الذي يبرز خصائص التفرد لدى ص//احبه
حتى يتجلى التفريق بين الكالم واللغة( ،)1فاألسلوب ذاتي شخصي ،أما اللغة فعامة ومنتشرة بين
جميع أبناء المجتمع اللغوي ،فمن ذلك مثال نجد البكاء على األطالل ،وهو ظاهرة تكاد تك//ون
ملحوظة لدى أغلب الشعراء منذ العصر الجاهلي ،وإذا أحصينا المفردات التي يستعملها الشعراء
في هذه الظاهرة لوجدناها ممدودة تقريًبا ،وإنما االختالف يسهم في كيفية الصياغة أي األسلوب
مثال يكاد يستخدم األلفاظ نفسها التي استخدمها غيره من الشعراء للوق//وف فالبحتري(284-هـ)
على األطالل والتشبب بالمحبوبة بأسماء مستعارة كما فعل في هذه األبيات:
َفَقـد َأشَك ـال بـاديِه ما َو الُم َغ َّيـُب ِبَع مِر َك َتدري َأُّي َش أَنَّي َأعَج ُب
َو َص غوي ِإلى ُس عدى َو ُس عدى َتَج َّنُب ُج نـوِنَي في َليلى َو َليلى َخ ِلَّيـٌة
َو َك م َس َتَر ت ُح ّبًا َع لى الناِس َز يَنُب َو َس َّم يُتها ِمن َخ شَيِة الناِس َز يَنبًا
1أعطى دي سوسير تمييزا أساسيا وقِّيما بين اللغة( )langueوالكالم ( ،)paroleفاللغة عنده هي مجمـوع العالمـات (
)signeالتي تستعمل لالتصال بين أعضاء جماعة لغوية ما ،أَّم ا الكالم فهو االستعمال الملموس للغة من أح//د أعض//ائها
بهدف التبليغ أو التفاهم مع غيره ،ولتوضيح الفكرة يستعين سوسير بمثالين :األول يشبه فيه اللغة بالقاموس ال//ذي يس//جل
عالمات الجماعة ال الفرد ،والثاني بالسمفونية التي لها وجودها الخاص بها ،أما الكالم فهو االستعمال ذلك القاموس أو أداء
/ر/ة الجزائ/
/ات الجامعي/ تلك السمفونية ،ينظر :زبير دراقي ،محاضرات في اللسانيات التاريخية والعامة ديوان المطبوع/
،1990ص .71
4
البنــاء األسلـوبي الفصــل األول
()1
َو ما ِخ لـُت َأّنا ِبالِج نـاِن ُنَع َّذ ُب َوَج َّنـُة ُخ لـٍد َع َّذ َبتنـا ِبَد ِّلهـا
يرى البحتري هنا إمكانية استبدال الوقوف على أطالل الحضارة بالوقوف على األطالل
إن ما يثيره الطلل البدوي في نفس الشاعر الجاهلي بإمكان الطل//ل الحض//ري أن
البدوية ،بل َّ
يثيره أيضًا في نفس الشاعر العباسي لهذا لم يَر ضيرًا في استبدال القصر بأطالل البادي/ة ،وإن
كان لم يدُع صراحة وجهرًا إلى هذا االستبدال ،وموقف البحتري في ذلك أعمق من موقفهم ،إذ
عمد مباشرة إلى التطبيق على حين بقيت دعوة اآلخرين في حّيز التنظير لم تتجاوزه إلى نطاق
التطبيق العملي في شعره ،الحظ قوله كذلك:
َوَر ِّب الِح جِر َو الَح َج ِر الَيماني َح َلفُت ِبَر ِّب َز مَز َم َو الُمَص ّلى
ِتالَو َتُه ـَّن َو الَس بـِع الَم ثـاني َو ِبالَس بِع الِط ـواِل َوَم ن َتَو ّلى
() 2
َك ما َو َّفرُت َح َّظ َك ِمن ِلساني َلَقد َو َّفرَت ِمن َج دواَك َح ّظ ي
/انب
/ذلك بالج/
والبحتري بحاٍل من األحوال ال مسِّو غ له ليقحم الكلمات ،وهذا محكوٌم ك/
النحوي للغة الذي يفرض عليه التمسك بتقاليد النحو الخاص بلغته ،فال يستطيع تق//ديم الص//فة
على الموصوف في الشعر العربي كما تفعل القواعد الالتينية.
()3
ربطًا مصطنعًا ،وظهرت الدعوة وربط األسلوب بمبدعه وبيئته عّد في الدراسات البنيوية
إلى استقالل النص عن كل أثر ومرجعية ،ذلك أّن االستقاللية تتيح للنص أن يكسب طاقة إبداعية ال
/لوب النص
/ف الفعلي عن أس/
/و الكاش/
/ة ،وه/
ينضب ماؤها ،يحتل فيها القارئ منزلة مخصوص/
ة الشعري ،بينما االرتكاز على الشاعر معناه تميزه من سواه في ترجمة رؤياه وأفكاره ،ولهذه العّل
1البحتري ،الديوان ،ج ،1ص .134
2البحتري ،الديوان ،ج ،4ص.2265
3جاء في لسان العرب البن منظور في مادة بنى أَّن البنية " :الهيئة التي بني عليها مثل :المشية والركبة ،وبنى فالن بيتا
بناء وبنى ،مقصورا شدد للكثرة ،وابتنى دارا وبنى بمعنى ،والبنيان الحائط ،قال الجوهري :والبُنَى بالضم مقص/ور مث/ل:
طَرة ،وأبنيت الرجلالف ْ
جَزى ،فالن صحيح البِنْيَة أي ِ جْزيَة َو ِ
البُنى ،يقال :بُنْيَة َوبُنَى َوبنية ،وبِنَى بكسر الباء مقصور مثلِ :
/دل /دل إال بتب/
/ابت ال يتب/أعطيته بِناء أو ما يبتني به داره" ،وبهذا المعنى تكون بنية الشيء ما هو أصيل فيه وجوهري وث/
األوضاع والكيفيات.
والبنيوية كعلم قائم بذاته مذهب من مذاهب منهجية الفلسفة والعلوم مؤداه االهتمام أوال بالنظام العام لفكرة أو لع//دة أفك//ار
/لوب /ة وعلم األس/ /ة عام/ مرتبطة بعضها ببعض على حساب العناصر المكونة له ،وقد امتدت هذه النظرية إلى علوم اللغ/
/وخاصة حيث استخدمها العلماء أساًس ا للتمييز الثنائي الذي يعتبر أصال لدراسة النص دراسة لغوية ،وهذا التمييز الثنائي ه/
ما بين اللغة والكالم في اصطالح جيوم أو بين نظام الكالم والنص نفسه في اصطالح هيمسلف أو بين القدرة الكالمي//ة أو
األداء الفعلي للكالم في اصطالح نوام تشومسكي أو بين مفتاح الكالم والرسالة الفعلية في اص/طالح روم/ان ياكبس/ون،
مجدي وهبه ،معجم مصطلحات األدب ،مكتبة لبنان ،بيروت ،ص .540
5
البنــاء األسلـوبي الفصــل األول
()
أّن " :األسلوب هو النص نفسه " (.)1 يقّر ر ريفاتير
ومن العلماء العرب من أولى األسلوب اهتماًم ا كبيًر ا حتى أن جهودهم تقترب في هذا المجال
فإنه يقول في براعة التناسق والتنسيق" :وأجود الشعر
كثيًر ا من أراء الغربيين الجاحظ (255-هـ) َّ
ما رأيته متالحم األجزاء ،سهل المخارج ،فتعلم بذلك أّنه قد أفرغ إفراغًا واحدًا ،وُس بك سبكًا واحدًا "
(.)2
فالجاحظ من خالل هذا النص يشير إلى قدرة الشاعر على إحداث االنسجام بين األفك//ار
والتراكيب أي األسلوب الذي يصوغ فيه أفكاره وقدرته على التفرد في األداء الذي يحقق له اإلبداع،
فقوله( :أفرغ إفراغًا واحدًا ،وُس بك سبكًا واحدًا) إشارة إلى التفنن في اختيار األلفاظ وانتقاء األساليب
المناسبة وذلك ألن األداء الكالمي يتطلب مراعاة العالقات بين األلفاظ وف//ق المح//ور التركي//بي
(األفقي) ومدى مالءمة كل لفظ للفظ الذي يرتبط به ويتعلق بمعناه وداللته لذلك أشار كثيًر ا باللف//ظ
حتى ظنوه ممن يغلب اللفظ على المعاني ،حيث أنه ليس كذلك وإنما كان همه التنويه بمدى ارتب//اط
اللفظ بالمعاني التي يتطلبها المقام وتقتضيها حال المخاطبين.
وأَّم ا أبو هالل العسكري(395-هـ) فإَّن األسلوب عنده هو "الطريقة ،يقال :أخذ في أساليب
/اء المنتظم
/و البن/
/ف) ،وه/
/ن الرص/
من القول ،أي في طرق منه"( ،)3ويتطرق إلى ما أسماه (حس/
المستوي الذي ضّم بعضه إلى بعض ،إّنه بديل عن التكلف وشّدة التفكر اللذين يفقدان الشعر طبع//ه
/عها من
/اظ في مواض/
/ون األلف/
/كري أن تك/
(طالوته ورونقه) ،وحسن الرصف في منظور العس/
/ع
/ف أن توض/
الترتيب ،ليكون األسلوب متماسكًا ويحقق للشعر شعريته ،إذ يقول " :وحسن الرص/
األلفاظ مواضعها ،وتمّك ن في أماكنها ،وال يستعمل فيها التقديم والتأخير ،والحذف والزيادة ،إال حذفًا
ال يفسد الكالم ،وال ُيعمى المعنى؛ وتضم كل لفظـة منها إلى ما يشكلها ،وتضاف إلى لفظها"(.)4
وبذلك فإّن حسن الرصف صفة للطبع المتمكن ،ويعني قدرة الشاعر على التمي//يز بين أداء
أسلوبي وآخر أقل منه مرتبة وتفوقًا ،والشعراء يختلفون حسنًا ويتفاوتون جودة في ت//راكيب جملهم
وعباراتهمِ ،مَّما يجعل االختيار مخصوصًا وموقوفًا على التمكن والوعي في تفضيل أصوات وصيغ
/دة ،اختص /ات المتح/ ميشال ريفاتار ( )Michel Riffaterreأستاذ بجامعة كولوبيا ،أهم جامعات نيويورك بالوالي/
بالدراسات األسلوبية منذ مطلع العقد الخامس ،وأبرز مؤلفاته " :محاوالت في األسلوبية الهيكلية".
1
Michael Riffaterre, La production du texte, Editions du Seuil, Paris, 1979, p8.
2
?.الجاحظ ،البيان والتبيين ،تحقيق عبد السالم هارون ،ط ،5مكتبة الخانجي بالقاهرة 1985م ،ج ،1ص67
3
?.أبو هالل العسكري ،جمهرة األمثال ،ط1310 ،2هـ ،ص273
4أبو هالل العسكري ،الصناعتين -،الكتابة والشعر ،-تحقيق علي محمد البجاوي ومحمد أبو الفضل إبراهيم ،دار الكتاب
1971م ،ص.161
6
البنــاء األسلـوبي الفصــل األول
/كل نمطي،
/ارات بش/
/ه الجم//ل والعب/
معينة منتجة للنص ،ويبقى الشعر أسلوبًا إبداعًيا تتكرر في/
/اره
فاألسلوب في الشعر إبداع وتفرد تظهر من خالله عبقرية صاحبه في تأدية معانيه وتوصيل أفك/
في لباس من األلفاظ والتراكيب من أبرز سماته المتعة والجمال ،وروعة األداء.
وعني ابن سنان الخفاجي(466-هـ) باألسلوب في ضوء بحثه عن وعي الش//اعر بكيفي//ة
/ع
/لوب قلب موض/ وضع األلفاظ في موضعها الذي تستسيغه األذواق ،من ذلك أّن ما يش/
/ين األس/
اللفظة ،ألّنه مدعاة إلى فساد المعنى وتحويل غائيته( ،)1كقول عروة بن الورد العبسي:
غداَة َغ ٍد لمهجته يفوق فلو أني شهدت أبا سعـاد
وما آلوك إّال ما أطيق فديت بنفسه نفسي وما لي
فلو َّأنه قال( :فديت نفسه بنفسي) ،لكان الأسلوب واضحا ،بيد أن ضرورة الوزن ألجأته إلى
قلب المعنى كما ترى ،فتطرق إلى ما يفسد وضوح األسلوب ،كالمعاظلة التي وردت في نقد قدامى،
وهي مداخلة الكالم بعضه بعضًا ،فاللفظة تدخل من أجل لفظة أخرى تجانسها وتشبهها ،مثل( :خان،
ال//ذي وص//فه ابن تمام(231-هـ) ويتخّو ن ،)،ويمثل لذلك بعدد من األبيات الشعرية منها قول أبي
بأنه شديد التعاظل:
سنان َّ
() 2
ِبَص باَبتي َو َأَذ َّل ِع َّز َتَج ُّلدي يا َيوَم َش َّر َد َيوَم َلهوي َلهُوُه
فقوله( :يا َيوَم َش َّر َد َيوَم َلهوي َلهُوُه) شديد التعاظل ،فهذه األلفاظ إلى قوله "بصبابتي" كأنه//ا
سلسلة ،من شدة تعلق بعضها ببعض ،وقد كان الشاعر أيضا استغنى عن ذكر اليوم في قوله( :ي//وم
لهوى)؛ ألن التشريد إنما هو واقع بلهوه ،فلو قال( :يا يوم شرد لهوى) لكان أصح في المع//نى من
/اللهو
/وم األول ،وب/
قوله( :يا يوم شرد يوم لهوى) وأقرب في اللفظ؛ فجاء باليوم الثاني من أجل الي/
/ظ أولى
/ه ،وال لف/
/ا من وساوس/
الثاني من أجل اللهو الذي قبله ،ولهو اليوم أيضًا بصبابته هو أيض/
بالمعاظلة من هذه األلفاظ ،واألسلوب المتفوق (المقبول) هو الذي يخلو من مداخلة األلفاظ ،وقد ربط
ابن سنان كذلك الكناية باألسلوب ،لكونها أداة جمالية وتمكينية ،وحسنها في منظوره أصل من أصول
الفصاحة وشرط من شروط البالغة ،وهذا يبّر ر شروطه في اللفظة الفص//يحة المف//ردة وبالغ//ة
التركيب ،ذلك أنها تحمل في الموضع الذي ال يليق فيه التصريح.
1ينظر :الخفاجي ،سر الفصاحة ،تحقيق عبد المتعال الصعيدي ،القاهرة 1953م ،ص .106
2ينظر :المصدر نفسه ،ص .151-150
7
البنــاء األسلـوبي الفصــل األول
وعلى الرغم من إشارة محمد عبد المطلب إلى أهمية األسلوب في نقد ابن سنان إلى درج//ة
/ة
/ب على الناحي/ نعته بأّنه فهم أكثر عمقًا ،إَّال أَّنه يستدرك ليقرر" :أّن فهمه -غالبًا -ك/
/ان ينص/
المحسوسة في الصياغة ،فإّننا نفتقد عنده التصور الذهني لمفهوم األسلوب ،وربما كان مرجع ذل//ك
إلى نزعته االعتزالية الغالبة " ( ،)1ودليله في ذلك ربط ابن سنان األسلوب بالجنس األدبي ،الذي َبُعَد
ألنه قرنه بالسمات الصوتية التي رآها ميزة الشعر من النثر ،فالشعر الذي
فيه عن التصور الذهنيَّ ،
تتراجع فيه هذه الخواص الصوتية واإليقاعية يخرج األداء عن أصله ،بل عن أسلوبه المميز(.)2
وتتعمق النظرة إلى األسلوب في التراث البالغي مع أطروحات عبد القاهر الجرجـاني
ألن األسلوب عنده ال ينفص//ل عن رؤيت//ه
(471-هـ)؛ إذ نجده يساوي بين األسلوب والنظمَّ ،
للنظم (المنوال أو القالب) ،بل نجده يماثل بينهما من حيث َّأنهما يشكـالن تنوعًا لغويًا خاصً//ا
/رب من النظم
/لوب "ض/
أن األس/
/ذهب إلى َّ
/ار ،ومن ثم ي/
بكل مبدع يصدر عن وعي واختي/
والطريقة فيه" (.)3
إذا كان األسلوب -كذلك -يجب أن يتوخى فيه المبدع اللفظ لمقتضى التف//رد ال//ذاتّي في
انتقاء اللغة عن وعي ،وذلك بمراعاة حال المخاطب ،وبهذا يكون الجرجاني قد أضاف أصًال أصيًال
إلى نظرية األسلوب في البالغة العربية القديمة ،إذ جعل األسلوب يق//وم على األص//ول العربي//ة
أسس له في دالئل اإلعجاز بقول//ه" :
وقواعدها ،فالنظم يمتنع معنى إذا لم ينضبط بالنحو ،وذلك ما ّ
أن ليس النظم إال أن تضع كالمك الوضع الذي يقتضيه علم النح//و ،وتعم//ل على قوانين//ه
واعلم َّ
/ل
/ك ،فال تخ/
وأصوله ،وتعرف مناهجه التي نهجت ،فال تزيغ عنها ،وتحفظ الرسوم التي رسمت ل/
بشيء منها" (.)4
/دها
/ة وقواع/
ولذلك ركز عبد القاهر الجرجاني في نظرية النظم على اعتماد أصول العربي/
ضابًط ا به التركيب في نسقه اإلعرابي العام ،حيث جعل منه مستفتحًا لما اس//تغلق من المع//نى؛ إذ
وأن "األغراض كامنة فيها حتى يك//ون
األلفاظ مغلقة على معانيها حتى يكون اإلعراب مفتاحًا لهاَّ ،
/اس
هو المستخرج لها ،وأنه المعيار الذي ال يتبين نقصان كالم ورجحانه حتى يعرض عليه؛ والمقي/
1محمد عبد المطلب ،مفهوم األسلوب في التراث ،مجلة فصول ،ع ،3م ،7الهيئة المصرية العامة للكتاب ،القاهرة ،1987
ص.53
2المرجع نفسه ،ع ،3م ،7ص.53
3الجرجاني ،دالئل اإلعجاز ,قراءة وتعليق محمود شاكر ,مكتبة الخانجي ,القاهرة 1404هـ ،ص.361
4
?.المصدر نفسه ,ص64
8
البنــاء األسلـوبي الفصــل األول
/إذا أدرك
/ه"( ،)5ف/
الذي ال يعرف صحيحًا من سقيم حتى يرجع إليه ،وال ينكر ذلك إال من ينكر حس/
المبدع ذلك استقام له األسلوب.
إن مفهوم النحو عند الجرجاني يتوقف عند موقع الكلمة من الجملة رفعًا أو نصبًا أو ج//رًا،
َّ
وإنما يتعداه إلى المفهوم الداللي الذي تقتضيه فصاحة المخاطب ونباهة البليغ ،ومن ثم نجده ال يقف
/ه
/د في/
/ه علم يقص/
/راب على أن/
في نظرته إلى اإلعراب عند المظهر للحركة ،بل ينظر إلى اإلع/
التأسيس لفهم يساعد على إدراك معنى المعنى.
/دد
فإنه قد تشَّ /
أكد ضرورة التزام النحو في مفهوم النظمَّ ،
وإذا كان عبد القاهر الجرجاني قد ّ
يميز األسلوب
تميز شاعرًا عن شاعر آخر ،وبذلك نجده ِّ
في ضرورة النسج على طريقة مخصوصة ِّ
أن هذه النظرة ال تخ//رج
بتميز صاحبه في نظمه عن غيره من أهل النظم واألدب ،ومن ثم نالحظ َّ
عن نظريته في النظم التي يؤكد فيها التزام معاني النحو في التأليف ،وذلك من خالل تأكي//د ت//وفر
/ل
/تى يحص/
محاسن الكالم في ترتيب المعاني في النفس بطريقة خاصة؛ وحسب مقتضى الحال ح/
التجانس.
ً/ا
/ورًا عقلي/
/وجب حض/
/و ي/
أن قيام النظم عند الجرجاني بتوخي معاني النح/
وال شك في َّ
واستعماًال منطقيًا للغة؛ ولهذا يقوم اإلبداع عنده على جملة من المراحل الواعية ،ينتظمها األس//لوب
/زم أن
/ا يل/
/ة المتلقي ،وهن/
الفني بدءًا من الذهن وتصوراته في المعنى والمبنى إلى مرحلة مخاطب/
/ة
ً/ا من الرؤي/
/ذا انطالق/
يراعي الشاعر حالة المخاطب ،ألن النظم يقوم على الرؤية والتفكير ،وه/
أن النظم يقوم على استحضار الفكرة أوًال ،ثم التمثل والنطق ثانيًا ،واالعتبار يك//ون
المؤسسة على َّ
بحال واضع للكالم.
/لوب،
/وة األس/
/ال من دواعي ق/
/ى الح/
فالترتيب الذهني واإلخراج الفني المراعي لمقتض/
/ارج ورصانته وبالغته وجزالته ،وليس الشأن في اللفظ َح ُس َن أو َقُبَح ،بل المفاضلة بين األلف/
/اظ خ/
سياق الكالم ،وهذا ما جنح إليه الجرجاني ،ولعله -هنا -قد خالف معاصريه المعتقدين بفص//احة
اللفظة المفردة وجمالها ،وسبَق الحقيه وبخاصة الطرح األلسني البنيوي المعاصر الذي ي//ذهب إلى
بأن جمال اللفظة ال يكون إال في نظامها كما سنراه في موطنه من هذا البحث ،وبذلك يتجلى
االعتقاد َّ
ألننا في
أن األسلوب يقوم على توخي معاني النحوَّ ،
لنا طرح الجرجاني وهو يناقش مسألة النظم في َّ
طلبها نطلب الجمال في األسلوب ،والتفرد في الصياغة ،والقوة في الصناعة.
5
?.نفسه ,ص 52
9
البنــاء األسلـوبي الفصــل األول
واألساس في األسلوب هو القدرة على إتقان اللغة في تعميق خبرات الشاعر ورؤاه وأشيائه،
وقد قال عبد القاهر الجرجاني " :وما كّل فكر يهتدي إلى وجه الكشف َ
عَّما اشتمل علي//ه ،وال ك//ل
خاطر يؤذن له في الوصول إليه ،فما كّل أحد يفلح في شقِّ الصدفة ،ويكون في ذلك من أهل المعرفة
" (. ) 1
وال يستطيع أي القارئ كان الحكم على النص من قراءة بيت أو عدة أبيات ،وإنما
يقتضيه النظر والتأمل في القطعة األدبية بكاملها ،ومن هنا يستطيع أن يتبين المزايا التي تجعله
يقف على ما في النص من براعة النقش وجودة التصوير والتعبير ،فال مزية لأللف//اظ –عن//د
الجرجاني -من غير سياق وال تفاضل بينها بدونه ،وإنما تأتي مزيتها وأهميتها من خالل عالقة
اللفظة بما سبقها وما يليها من ألفاظ ،فاللفظة ال يمكن أن توصف إال باعتبار مكانها في النظم،
وهذه من األدلة التي يستند عليها األسلوبيون في منهجهم النقدي.
فإن مصطلح األسلوب عنده ُيطل//ق على التناس//ب في
َّ القرطاجني(684-هـ) أما عند حازم
َّ
/ا في
التأليفات المعنوية " ،فيمثل صورة الحركة اإليقاعية للمعاني في كيفية تواليها واستمرارها ،وم/
ذلك من حسن االطراد ،والتناسب ،والتلطف في االنتقال من جهة إلى جهة ،والصيرورة من مقصد
إلى مقصد " (.)2
/ه من ِقَب ِل
لقد وجد حازم أمامه مفهوًم ا لألسلوب يأتيه من ِقَبِل أرسطو ،ومفهوًم ا للنظم يأتي/
/ني الجرجاني ،ومن هنا سار في تحديد مفهوم األسلوب متأثًر ا أحياًنا بنظرة أرسطو إلى العم/
/ل الف/
باعتباره وحدة متكاملة تمتد لتشمل القطعة األدبية كلها أو القصيدة كلها مالحًظ ا انتقال الش//اعر من
موضوع إلى موضوع في القصيدة الواحدة في تسلسل وترابط معنوي ،ومتأثًر ا أحياًنا أخرى بالنظم،
ولكن مع ربطه بالصياغة اللفظية والعالقات النحوية على نحو ما قال به عبد القاهر.
وحازم هاهنا يجعل األسلوب منصًّبا على األمور المعنوية(التناسب فيها) ،وجعله في مقاب//ل
النظم الذي هو منصب على التأليفات اللفظية ،وهذا بخالف نظرة عبد الق//اهر ،حيث جع//ل النظم
شامًال لما يتعلق باأللفاظ والمعاني (.)3
1عبد القاهر الجرجاني ،أسرار البالغة ،تحقيق هـ.ريتر ،ط ،2دار المسيرة ،بيروت ،1979 ،ص.143
2حازم القرطاجني ،منهاج البلغاء وسراج األدباء ,تقديم وتحقيق :محمد الحبيب بن خوجة ,دار الغرب اإلسالمي ,بيروت,
/ة
ط1981 ,2م ،ص ،364وينظر :ابتسام أحمد حمدان ،األسس الجمالية لإليقاع البالغي في العصر العباسي مراجع/
وتدقيق أحمد عبد اهلل فرهود ،ط ،1دار القلم العربي1997 ،م ،ص .82
3ينظر :فتح اهلل أحمد سليمان ،األسلوبية ،مدخل نظري ودراسة تطبيقية ,الدار الفنية للنشر والتوزيع القاهرة1990 ,م ,ص
،30وينظر :محمد عبد المطلب ،البالغة واألسلوبية – دراسة أدبية ،-ص 26وما بعدها.
10
البنــاء األسلـوبي الفصــل األول
ومن المالحظ أَّن حازما يربط األسلوب -مرة أخرى -بطبيعة الجنس األدبي ،حيث تحدث
في القسم الرابع عن الطرق الشعرية وما تنقسم إليه من أغراض وما تعبر عنه من أحوال( ،)1وجعل
المنهج األول " في اإلبانة عن طرق الشعر من حيث تنقسم إلى جد وهزل ،وما تعتبر به أحوالها في
كل ذلك من حيث تكون مالئمة للنفوس أو منافرة لها " ( ،)2فيقول " :فأَّم ا طريقة الجِّد فهي مذهب في
الكالم تصدر األقاويل فيه عن ُم روءة وعقل بنزاع الهمة والهوى إلى ذلك ،وأَّم ا طريقة الهزل فإَّنها
مذهب في الكالم تصدر األقاويل فيه عن مجون وسخف بنزاع الهَّم ة والهوى وإلى ذلك "(.)3
/ديا
/مي الكومي/
/طو في قس/
/أثره بأرس/
/ا على ت/
وهذا التقسيم الذي اعتمده حازم يدل أيض/
والتراجيديا ،وما الحظه من أَّن الشعراء األخيار مالوا إلى محاكاة الفضائل ،والشعراء األرذال مالوا
/ل
/تخفاف ،فجع/
إلى محاكاة ينحى بها منحى الجد ،والكوميديا محاكاة ينحى بها منحى الهراء واالس/
ذلك أساًس ا لتقسيم الشعر العربي إلى طريقتين هما :طريقة الجِّد ،وطريقة الهزل (.)4
وبنظرة أكثر شمولية ينفرد حازم القرطاجّني بتميزه عن غيره من أهل النظر في عل/
/وم
/لة
/ول" ( ،)5وأول من أدرك الص/
/ة إلى "فص/
قسم القصيدة العربي/
البيان والبديع ،فهو أول من َّ
الرابطة بين مطلع القصيدة وآخرها الذي يحمل في ثناياه االنطباع األخير والنهائي عن القصيدة،
وبناؤه لهذه النظرة على االستهالل والخاتمة قائم على أسس نفسية تراعي شعور القارئ ونم//و
التأثير العاطفي والوجداني فيه ،فمن طبيعة القارئ اإلحساس والتجاوب مع المشاعر التي تثيرها
القصيدة باعتبارها الدافع إلى اتخاذ مواقف معينة.
/لوبيين
/رة األس/
/ع نظ/
/ول" م/
/يدة إلى "فص/
وتلتقي نظرة القرطاجني في تقسيمه للقص/
/ة" إال المعاصرين في تقسيمهم النص األدبي –بغض النظر عن جنسه -إلى "أبنية" ،فم/
/ا "البني/
مصطلح مقابل لما أسماه القرطاجني بالفصل حين قصد به التقاء أبيات القصيدة وترابطها مؤلفة
وحدة معنوية.
/ف
/ذلك لط/
/ول" :وك/
وبنظرة أخرى نجد حازم القرطاجني قد نفى من قال بهذه الفكرة فيق/
أن قائله عاشق ،وخشونة األسلوب وجفاؤه ال يخّيالن ذلك نحو أس//لوب
األسلوب ورقته يخّيالن لك َّ
شكري عياد ،كتاب أرسطو طاليس في الشعر ،دار الكتب العربي ،القاهرة ،1967ص.276 4
ينظر :حازم القرطاجني ،منهاج البلغاء وسراج األدباء ,ص .215 5
11
البنــاء األسلـوبي الفصــل األول
الفرزدق في النسيب"( ،)1إال أَّن حازمًا ،يكون قد قصد باألسلوب :الطريق والم//ذهب في تعّلقهم//ا
/ة
/ذه العالق/
/ول به/
بطبيعة النفس ،لم يدقق في مدى صلة األسلوب بناشئه ،على الرغم من أنَّ/ه يق/
إن األسلوب صورة لشخصية الشاعر وواقعه.
ويصّر ح بها ،وهيَّ :
ويبدو أَّن تحديد مفهوم األسلوب كان سمة تميز الدراسات في الشرق والغ//رب ،فبعض//هم
يربطه بمفهوم الصياغة كما قال به الجاحظ ،وبعضهم يربطه بالنظم كما فهموه من عب//د الق//اهر،
وبعضهم يبتعد عن هذا وذاك ويصله بما عرفوه من مباحث األسلوب عند أرسطو(.)2
ولعَّل أدق تحديد لماهية األسلوب في االصطالح ما جاء على لسان ابن خلدون (808-هـ)
أعطى ابن خلدون لألسلوب مفهوما ذهنيا خالصا ،باعتباره صورة تمأل النفس وتطبع الذوق،
وقد أرجع تكوين هذه الصورة إلى ما يستمده األديب من ذخيرته اللغوية على الوضع الذي رس//مته
/د في
/ا يتجس/
/دوني إنم/
قواعد النحو والصرف والبالغة والعروض ،واألسلوب بهذا المفهوم الخل/
التراكيب اللغوية الجارية وفق سنن اللغة وطبيعة الناطقين بها.
()
/ل
التي تتكون لدى ك/ وابن خلدون بهذا العمل يكون قد ربط بين األسلوب والقدرة اللغوية
1
?.المصدر نفسه ,ص 364
2
?.محمد عبد المطلب ،البالغة واألسلوبية –دراسة أدبية ،-ص29
3ابن خلدون ،المقدمة ،تحقيق األستاذ درويش الجويدي ،المكتبة العصرية ،صيدا ،بيروت 2002م ،ص ،569ورجاء عيد،
/ال/وب وميش/ البحث األسلوبي -معاصرة وتراث ،-منشأة المعارف باإلسكندرية 1993م ،ص ،199وإميل بديع يعق/
عاصي ،المعجم المفصل في اللغة واألدب ،مج( ،1أ.ز) ،دار العلم للماليين ،ط ،1بيروت 1987م ،ص.99
نعني بالقدرة اللغوية الملكة اللسانية ،وهي في نظر ابن خلدون قدرة اللسان على التحكم في اللغة والتصرف فيها ،وهذا ما
يتفق مع تفسير المعاجم لمعنى (الملكة) عموما ،فهي تعني احتواء الشيء مع االستبداد به ،وهي منسوبة إلى اللسان الذي هو
محلها ،وتصير ملكة له إذا احتوى اللغة وتمكن منها واستبد بها ،ينظر :ميشال زكريا ،الملكة اللسانية في مقدمة ابن خلدون
12
البنــاء األسلـوبي الفصــل األول
فرد من أفراد مجتمع معين وتمكنه من التعبير عَّم ا يريد بجمل معتبرة.
واألسلوب عند ابن خلدون يحتكم فيه إلى العقل في تقديره ،ألّنه ملكة مركزة في الذهن تتوّلد
من ممارسة تراكيب الشعراء وحفظها والتعود عليها واحتذائها ،وليس قواعد قياسية كما هي ح//ال
البالغة اّلتي تخّص هيئات التركيب ،أو كاإلعراب في قوانينه القياسية ( ،)1لكن الّنص ليس تجميعً//ا
/جّالت مختلف/
/ة من لكلمات تتوالى ،إّنه كما يقول تودوروف(" :)مصنوع من جمل تنتس/
/ب إلى س/
سجّالت الكالم ،والكالم مفهوم تقترب منه بعض المعاني لفظة أسلوب " ( ،)2وقد أبان ريف//اتير عن
مطابقة تامة بين األسلوب والّنص ،فاألسلوب ليس وليد الّنص ،إنه " الّنص عينه"( ،)3ويض//يف أَّن :
"النص سنن محدد ومعياري"( ،)4ولكن المسدي يخالف ريفاتير في رؤيته لألسلوب ،ليقّر ر أَّنه" :وليد
الّنص ذاته " (.)5
ويعد بحث ابن خلدون في األسلوب إضافًة وتوضيحًا لبحث األسلوب عند حازم القرطاجني،
فقد ربط بين األسلوب والفن األدبي ،وربط كذلك بين األسلوب والمنشئ ،وأَّك د أَّن األسلوب ص/
/ورة
/ئ،
/دى المنش/
ذهنية ال تأخذ الشكل المتجسد إال بتمام التركيب اللغوي الذي يرتبط بالقدرة اللغوية ل/
/د لدى "نوام تشومسكي"( ،)والتي تستدعي معرفة المنش/
/ئ بالقواع/ () 6
والتي ترادف الكفاءة اللغوية
(دراسة ألسنية) ،المؤسسـة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع ،ط ،2بيروت -لبنان 1986م ،ص 35ومحمد عي//د،
الملكة اللسانية في نظر ابن خلدون ،دار الثقافة العربية للطباعة 1979م ،ص.5
1ينظر :ابن خلدون ،المقدمة ،ص .662
ولد تودوروف ( )Todorovبلغاي سنة ،1939عاش في بلغاريا ودرس فيها األدب البلغاري ،ثم هاجر إلى فرنسا سنة
1963وحصل على جنسيتها فأعد أطروحة الحلقة الثالثة بإشراف روالن بارت ،ثم نشرها بعد تحوريها بعن//وان " :األدب
والداللة" ،وهو اآلن باحث في المركز القومي للبحوث العلمية بباريس ( ،)C.N.R.Sويدرس الخطابة الرمزية بالمدرسة
/وم/وعي في عل/ العليا التطبيقية بباريس ،من أهم أعماله نشره لنظرية األدب ،وتأليفه باالشتراك مع ديكرو للقاموس الموس/
اللسان ،كما أنه يدير مع جيرار جينات ( )Gérard Ginetteمجلة الشعرية (.)Poétique
2
Todorov tzvetan, poétique de la prose, coll., poétique, éd, seuil, paris, p38.
3
Michael riffaterre, essais de la stylistique structurale, éd, seuil, paris 1983, p26.
4
?.المرجع نفسه ،ص11
5عبد السالم المسدي ،األسلوبية واألسلوبية ،الدار العربية للكتاب ،ليبيا -تونس 1977م ص.88
6إن دراسة اللغة تاريخ غني وطويل جدًا ،ألنها بحث في العقل والفكر ،فاللغة هي أفضل مزايا العقل وجوهره الثابت ،لذلك
/ة/ة عالق//ا ،فاللغ/فهي تستخدم آليات متنوعة راسخة في القوى العقلية اإلنسانية ،تعبر عن الفكر الذي يعتبر شيئا ثابتا فيه/
وطيدة بالعقل ،فهي مكون من مكونات راسخة للمعرفة اإلنسانية ،ونتاج عقلي خاص باإلنسان ،وتجدر اإلشارة هاهنا في أن
االكتساب اللغوي مرده إلى الجانب العقلي ،ألنه محل نقاش النظرية األلسنية والتوليدية والتحويلية التي تزعمه//ا الب//احث
اللساني تشومسكي ،والموضوع الرئيسي لهذه النظرية هو اإلنسان ،الذي يستمع ويتكلم ويتقن لغة جيدة ،فعملي/ة التواص/ل
عنده اإللمام بلغته ومعرفة قواعدها ،وذلك من خالل إنتاج عدد ال متناه من الجمل وضبطها ،ينظ//ر :ن//وام تشومس//كي،
المعرفة اللغوية (طبيعتها ،أصولها ،واستخدامها) ،دار الفكر العربي،ط1992 ،1م ،ص ،1وفاطمة الطبال البركة ،النظرية
األلسنية عند رومان جاكبسون ،ط ،1المؤسسة الجامعية للطباعة والنشر والتوزيع1993ص.12
/مبر (1928م) أفرام نوم تشومسكي لساني أمريكي من أسرة إسرائيلية متطرفة في أفكارها السياسية ،ولد سو ( )7ديس/
بمدينة فالديلفيا بنسلفانيا وكان أبو عالًم ا في علم اللغة العبرية ،تتلمذ على يد هاريس لكنه خالف أفكاره متأثرا بفكر جاكبسون
حتى حصل على رسالة الماجستير في علم الفونيمات الصرفي للعبرية الحديثة سنة (1955م) ،ثم عين أس//تاًذ ا للس//انيات
بمعهد ماساتشوست التكنولوجي ،ومازال يشغل هذا المنصب إلى يومنا هذا ،ينظر :جون ليونز ،نظرية تشومسكي اللغوية،
13
البنــاء األسلـوبي الفصــل األول
()
لسببين هما :أوالهما ،إدانة بيفون لفكرة طبقية األسلوب عند القدامى ،وثانيهما ،أَّنه وض/
/ع بيفون
تعريف أفالطون لألسلوب نصب عينه ،فقد عَّر ف أفالطون األسلوب بأَّنه شبيه بالسمة الشخصية(،)1
فانتهى بيفون في ذلك إلى أَّن األسلوب هو الرجل محاوال من خالله ربط قيمه الجمالية بخاليا التفكير
الحَّية التي يستعيرها المقلدون عادة من المبدعين دون إدراك حقيقي لقيمها أو استغالل جي//دها (،)2
وقد صدر عن المسدي قوله " :إَّن من الهِّيِن أن تنتزع المعارف واألحداث والمكتشفات أو أن ُتبدل،
بل كثيًر ا ما تترقى إذا ما عالجها َم ْن هو أكثر مهارة من صاحبها ،كل تلك األشيـاء هي خارجة عن
ذات اإلنسان ،أَّم ا األسلوب فهو اإلنسان َع ْيُنُه ،لذلك تعذر انتزاعه أو تحويله أو سلخه"(.)3
من خالل هذا النص يتضح أَّن األفكار عند بيفون تشكل وحدها عمق األسلوب المك//ون من
النظام والحركة ،فهما وحدهما يشكالن آلية التفكير ،وبيفون بهذا المنحى يكون قد التقى مع ما أقَّ//ر ه
ابن خلدون في نصنا السابق.
وقد تردد ذكر تعريف بيفون لألسلوب مئات المرات بأشكال مختلف//ة ،وأدى اقتطاع//ه من
سياقه إلى انتقال مشكلة األسلوب إلى نطاق علم النفس الفردي ،وجعل مقولة األس//لوب تش//ير إلى
شخصية مؤلف النص وخواصه النفسية ،وبطبيعة األمر فإَّن تحليل األسلوب الف//ردي والخ//واص
األسلوبية المتعينة لمؤلف محدد أمر منطقي ومشروع ،إال أَّن إقامة العالقة المتبادلة بين األس//لوب
/لوبي
ووقائع حياة المؤلف أو مالمحه الفردية المادية أو النفسية قد عاق فترة طويلة إقامة تصور أس/
يعتمد على مقوالت علم اللغة من ناحية ،وتقدير باحث األدب من ناحية أخرى (.)4
()
فعّر ف وقد كان لمقولة بيفون هذه أثر واضح في كثيٍر ِمَمن جاءوا بعده ،فتبناها شوبنهاور
جورج بيفون ( )Georges Louis Leclair Comte Buffonعالم في الطبيعيات وأديب في نفس الوقت ،عاش بين
سنتي (1707م – 1788م) ،اهتم كثيًر ا بقيمة اللغة التي تكتب بها اآلثار عامة ،واعتبر أن اللغة في صياغتها ونظام األفكار
التي تحملها إنما تكشف عن شخصية صاحبها ،وال يخلد أثر إال إذا أحمكت لغته ،من أبرز مؤلفاته :مقاالت في األس//لوب،
ينظر :عبد السالم المسدي ،األسلوبية واألسلوب ،ص.240
1هنريش بليث ،البالغة واألسلوبية ،ترجمة محمد العمري ،منشورات دراسات ساك ،ص.33
2أحمد درويش ،دراسة األسلوب بين المعاصرة والتراث ،ص ،18وينظر :عبد السالم المسدي :األسلوبية واألسلوب ص
/رية , 63-60وينظر :أحمد الشايب ،األسلوب ،دراسة بالغية تحليلية ألصول األساليب األدبية ،ط ،6النهضة المص/
1966م ،ص .7
3عبد السالم المسدي ،األسلوبية واألسلوب ،ص.63
4صالح فضل ،علم األسلوب – مبادئه وإجراءاته – ،ص.84
فيلسوف ألماني ( ،)1860-1788رأى أن الوجود قائم على اإلرادة المطلقة غير أن إرادة الحياة تنشأ عنها ك ل المفاسد
/ر:
/ق الفن ،ينظ/ فتؤول باإلنسان إلى دوامة اللذة فاأللم فالقلق على أن اإلنسان قد وهب الذكاء وهو كفيل بتحريره عن طري/
عبد السالم المسدي ،األسلوبية واألسلوب ،ص.245
15
البنــاء األسلـوبي الفصــل األول
()
ثم صاغها ،فقالً " :يعتبر األسلوب وحده طريقة األسلوب بكونه مالمح الفكر ( ,)1وتمثلها فلوبير
ن جوهر اإلنسان كامن في لغت//ه
مطلقة في تقدير األشياء" ( ،)2وكذلك فعل ماكس جوب إذ قال " :إ َّ
وحساسيته " (.)3
()
/تخدمًا المنهج
تحديد مفهوم األسلوب انطالقا من هذه المقولة ،مس/ ثم حاول ميشال ريفاتير
العلمي في الدراسة ،ومنتهيًا إلى أنَّه علم ُيعنى بدراسة أسلوب اآلثار األدبية دراس//ة موض//وعية،
تنطلق من اعتبار النّص األدبي بنية ألسنية ،تتحاور مع السياق المضموني تحاورًا خاصًا(.)4
/رحه
/ك ش/
/د ذل/
ويقدم ريفاتير في كتابه الأسلوبية البنيوية تعريفًا محددًا لألسلوب يتولى بع/
والتعليق عليه ،فيقول" :يفهم من األسلوب األدبي كل شكل مكتوب فردي ذي قصد أدبي أي أس/لوب
مؤلف ما أو باألحرى أسلوب عمل أدبي محدد يمكن أن نطلق عليه الشعر أو النص وحتى أس//لوب
مشهد واحد "(.)5
إن هذا التعريف محدود للغاية وكان من األفضل أن
ويعلق المؤلف نفسه على تعريفه بقولهَّ " :
/ة
/تمر نتيج/
/تي ال تس/
نقول بدال من (شكل مكتوب)(كل شكل دائم) ،حتى يشمل اآلداب الشفاهية ال/
للحفاظ المادي عليها كشكل نصي متكامل فحسب ،بل بوجود خواص شكلية فيها تجعل من الميسور
فك شفراتها ،مثل :االفتتاحية الموسيقية بطريقة منظمة ومستمرة ،وقابلة ألن نتعرف عليها ب//الرغم
من أي تنويعات أو أخطار في طريقة عزفها أو تفسيرها من مختلف القراء"(.)6
أما قوله(":ذو قصد أدبي) فال يشير في هذه الحالة إلى ما أراد المؤلف أن يقوله ،وال يه//دف
َّ
ولكنه يعني أن خواص النص المحدد ت//دل على أنَّ//ه ينبغي
إلى التمييز بين األدب الجيد والرديءَّ ،
اعتباره عمًال فنيًا ،وليس مجرد تعاقب كلمات ،من هذه الخواص شكل الطباعة ،وش//كل ال//وزن،
وعالمات األجناس األدبية ،والعناوين الفرعية ،مثل :رواية أو قصة أو حتى ظه//وره في ال//وقت
واآلخر روالن بارت ( )يرى أَّن األسلوب " ظاهرة ذات طبيعة البذور بهدف إلى نقل الحالة
والمزاج ليستزرعها الكاتب في نفس القارئ " (.)5
()
بأَّنه "الشارة ( )Marqueالدالة على فردانية الذات في وعرفه جون دوبوا ()J. Dubois
الخطاب" (.)6
1نفسه ،ص.97
2
?.ينظر :نفسه ،ص 81وما بعدها
3
?.صالح فضل ،علم األسلوب – مبادئه وإجراءاته – ،ص 85
4المرجع نفسه ،ص .86
فرنسي األصل ،ولد سنة (1915م) ،اهتم بالنقد األدبي ،فثار على مناهجه المتوارثة حتى شك في قيمة ما تلقنه الدراسات
الجامعية الكالسيكية في ميدان األدب ،وقد عمل على إرساء قواعد نقد حديث فكان كتابه "الدرجة الصفر في الكتابة" بياًن ا
احتوى على فلسفة في الخطاب األدبي تعريًفا ونقًدا ،فأرسى قواعد منهج نقدي نص/اني ،ثم اتجهت عناي/ة ب/ارت إلى علم
العالمات فألف" فصول في علم العالمات " و" نظام الموضة " محاوال في كل ذلك كشف قوانين الداللة عامة مم//ا جع//ل
بحوثه األدبية النقدية تزداد ثراًء وقوًة في درب االعتراض على قدسية المؤلف وقدسية األثر ،وقد سعى بارت إلى الكش//ف
عن الروابط العميقة بين اإلنسان والعالمات عموًم ا والسيما في أثره " لذة النص " ،ينظر :عبد السالم المسدي ،األس//لوبية
واألسلوب ،ص.237-236
5صالح فضل ،علم األسلوب – مبادئه وإجراءاته – ،ص .95
ألسني فرنسي وهو أستاذ بجامعة باريس بنانتار ( ،)Nanterreمن أبرز مؤلفاته سلسلة "النحو الهيكلي للغة الفرنسية"،
ينظر ،عبد السالم المسدي ،األسلوبية واألسلوب ،ص.242
6
J. Dubois et Autres: Dictionnaire de linguistique, Librairie Larousse, Paris, 1973, p 45
17
البنــاء األسلـوبي الفصــل األول
()
أَّن األسلوب هو " وجه للملفوظ ،ينتج عن اختيار أدوات ويرى الناقد الفرنسي بيار جيرو
التعبير وتحدده طبيعة المتكلم أو الكاتب " (.)1
أن األسلوب هو مجموعة ألوان يصطبغ بها الخطاب ليصل
فجيرو من خالل نصه هذا يرى َّ
وشد انتباهه ،وإثارة خياله ،فهو مظهر القول الذي ينجم عن
عن طريقها إلى إقناع القارئ وإمتاعهَّ ،
اختيار وسائل التعبير والتي بدورها تحددها مقاصد المتكلم ،أو الكاتب وطبيعته ،وهذه عودة لص//لة
أن االنتقاء ِمَّما يميز الفنون عامة.
األسلوب باالنتقاء حصرًا مع َّ
وهناك تصورات أسلوبية أخرى تنحو إلى تعريف األسلوب دون اعتبار لمصدره وال تلقيه،
بل كشيء ماثل في النص نفسه ،لكن على أساس أَّنه عنصر إضافي يتم تزيين النص به كحلية لشكله
وصياغته فيصبح األسلوب هو القشرة التي تلف ُلًّبا من الفكر أو التعبير الموجود من قب/ل أو زين/ة
تضاف إلى الَّنواة األساسية للقول ،ومن نماذج هذا المفهوم تعريف ستاندال(" :)األس//لوب ه//و أن
تضيف إلى فكر معين جميع المالبسات الكفيلة بأحداث التأثير الذي ينبغي لهذا الفكر أن يحدثه"(.)2
ومعنى هذا الكالم أَّنه يسلم بوجود فكر معين قبل تجسده في كلمات ،فاألسلوب إذن يص//بح
إضافة تقوم بوظيفة ال تتصل بالجمال بل على وجه التحديد بالفعالية والتأثير.
ومن هنا يتضح أَّن األسلوب هو البصمة الممّيزة للمبدع ,ال//تي تعكس فك//ره وشخص//يته
ومشاعره وصفاته ,وهو أيضًا الصورة التي يعكسها النص عن النواحي المختلفة للمبدع.
وقد ذهب هنريش بليث إلى أّن ربط األسلوب بصاحبه هو المفه//وم التعب//يري التكوي//ني
لألسلوب ،وال يهتم بالنص مقصودًا لذاته ( ،)3والشاعر يكيف خطابه حسب األوض//اع والمقام//ات
االجتماعية ،وتكييفه هذا لدى عبد السالم المسدي " ليس اصطناعا ،ألّنه عفوي قلما يصحبه ال/
/وعي
ولكن االجتم//اعي
َّ المدرك "( ،)4واألساليب عند الشاعر الواحد تتمايز طبقًا للموقف الذي يكون فيه،
/اتج عن
/لوب ن/
فإن األس/
الذي يربط الشعر بوعي الطبع ،يلغي التكلف واألخذ في األسلوب ،وبذلك َّ
يتحول بفعل العادة إلى ما يشبه التلقائية العفوية (الاستعداد)
َّ التمييز الواعي بين الطبقات االجتماعية،
ألسني فرنسي ودكتور في اآلداب وهو أستاذ األلسنية بجامعة نيس وجامعة فانكوفار ،ألف في معظم فنون األلسنية بما يعد
مداخل لها ،وهو يغذى بمؤلفاته سلسلة "ماذا أعرف؟ ،"Que sais je-ومما نشره فيها" :األسلوبية" و "علم أصول الكلمات"
و "علم العالملت" ،المسدي ،األسلوبية واألسلوب ،ص.248
1
Pierre Guiraud, La stylistique, 7eme ed .coll. ¨que sais je ?¨, N 646. P.U.F.Paris,1972 p109.
أديب فرنسي ( ،)1842 – 1783تغنى بحساسية الجمال وحرارة العاطفة وصور عبثية المواضعات االجتماعية ،ينظر:
عبد السالم المسدي ،األسلوبية واألسلوب ،ص.244
2صالح فضل ،علم األسلوب ،ص.87
? 3ينظر :هنريش بليث ،البالغة واألسلوبية ،ترجمة وتعليق :محمد العمري ،إفريقيا ،للشرق ،بيروت ،1999ص.52
4عبد السالم المسدي ،األسلوبية واألسلوب ،ص.80
18
البنــاء األسلـوبي الفصــل األول
في اختيار الكلمات والجمل المكّو نة لألسلوب كأداة جمالية/إبالغية ،يختارها الشاعر طريقة ومذهبًا
له.
لقد كان تعريف بيفون لألسلوب األثر البالغ األهمية في تغِّير نظرة الدارسين الغربيين ،وهذا
/ات
/أغلب الدراس/
/رب ،ف/
األثر لم يقتصر على الغرب فقط ،بل وجد هذا التعريف منفذا له عند الع/
العربية الحديثة لألسلوب ربطت بين األسلوب ومنشئه.
الشايب يفهم األسلوب من باب داللة اللفظ على معناه ،أي أَّنه مرحلة تالية لفكر
فاألستاذ أحمد َّ
الشاعر ،فيقول" :إَّن األسلوب معاٍن مرتبة قبل أن يكون ألفاظًا منّس قة وهو يتكون في العقل قب//ل أن
يجري به اللسان أو يجري به القلم" (.)1
إّن األسلوب كما يسميه أحمد الشايب (التنسيق) هو وسيلة الشاعر في صوغ الداخل وكشفه،
واختيار مرتبط بالجزء المادي الخارجي بالتأليف يفرضه المحتوى ،أي َّأنه محتوى ال شكًال ،وق//د
يكون الشايب متأثرًا في هذه الرؤية بعبد القاهر الجرجاني ،فما رّس خه في الذهن النقدي هو المع//نى
()
التي يك//ون الذي يفرض تركيبًا خاصًا وصورة مخصوصة ،والبديل األسلوبي هو شعرية النص
/مى
/د تس/
/تي ق/
/ة ال/
فيها الشكل ذاته المعنى ،فيقول في هذا المضمار" :وأخيًر ا نجد العبارة اللفظي/
/ا
/ة ...ومن هن/
األسلوب ،وهي الالزمة لنقل وإظهار ما في نفس األديب من تلك العناصر المعنوي/
نستطيع أن نعرف األدب بأنه الكالم الذي يعبر عن العقل والعاطفة "(.)2
كما أَّن أحمد الشايب يربط األسلوب بشخصية الشاعر ،إَّنه أداته الجمالية في التأليف والتعبير
عما في داخله ،إذ يقول" :إَّن أسلوب الكاتب أو الشاعر أو الخطيب نتيجة طبيعية لمواهبه وص//ورة
َّ
/ه
/اغه بلغت/
/ه وص/
لشخصيته هو ،وإذًا ال يمكن أن يكون صادقًا قويًا ممتازًا إال إذا استمّده من نفس/
تبين طريقة تفكيره وكيفي//ة
ألن كل األسلوب صورة لصاحبه ِّ
وعبارته دون تقليد سواه من األدباءَّ ،
نظرته لألشياء وتفسيره لها ،وطبيعة انفعاالته ،فالذاتية هي أساس تكوين األسلوب "(.)3
/ة ويترتب عن هذا أَّن أصل األسلوب هو الطبع غير الخرافي ،مجّس دًا في مب/
/دئي الموهب/
واالستعداد ،كما أَّنه صنعة مضافة ،تنفي أن يكون الشاعر راوية ألساليب الخرافي ،وتؤّك د اختي/
/اره
ووعيه وحضوره ،وكّلها معالم ال مجال فيها لألخذ أو التقليد أو السرقة.
واألستاذ أمين الخولي في كتابه (فن القول) يهدف إلى التجدي//د في مي//دان البحث البالغي
/خص
/ط بين الش/
وربطه بالمباحث الحديثة في األسلوب عند الغربيين ،فعم//د المؤل//ف إلى الرب/
وأسلوبه( ،)1وما قيل عن الخولي يقال عن الشايب.
اٌع وقد حاول األستاذ أحمد حسن الزيات هو اآلخر أن ُيَع ِّر َف األسلوب من خالل كتابه (ِد َف
/لوب َع ِن الَبالَغ ِة) ،فحاول فيه الجمع بين التراث البالغي القديم وحصيلة الدراسات المتعلق/
/ة باألس/
/ني من عند الغرب ،فرأى أَّن األسلوب ليس هو المعنى وحده ،وال اللفظ وحده ،وإَّنما هو م/
/ركب ف/
/ور، عناصر مختلفة َيْس َتِمُّدَه ا الفنان من ذهنه ،ومن نفسه وذوقه ،تلك العناصر هي األفك/
/ار والص/
والعواطف ،ثم األلفاظ المركبة ،والمحسنات المختلفة ( ،)2واألسلوب في نظره " طريقة الك//اتب أو
الشاعر الخاصة في اختيار األلفاظ وتأليف الكالم ،وهذه الطريقة فضال عن اختالفه//ا في الُك َّت اِب
والشعراء تختلف في الكاتب أو الشاعر نفسه باختالف الفن ،أي يعالجه والموضوع ال//ذي يكتب//ه،
والشخص الذي يتكلم بلسانه أو يتكلم عنه " (.)3
/ذي
/د أمين ،ال/
ومن الدارسين العرب الذي تأثروا بمقول بيفون -كذلك -نجد األستاذ أحم/
يرى أَّن األسلوب هو "اختيار الكالم المناسب لمقاصد صاحبه ،أي هو نظم الكالم وطريقة الكاتب أو
منشئ الخطاب الخاصة في التعبير عن أفكاره ،وهذه الكلمات المختارة ال يتم انتقاؤه//ا من ناحي//ة
معانيها ،وإَّنما من الناحية الفنية ووقعها الموسيقي ،وهذا ما يفِّس ر تآلف كلمة مع كلمة ،وعدم ت//آلف
نفس الكلمة مع كلمة أخرى " (.)4
وُيرجع محمد غنيمي هالل تعريف األسلوب إلى أرسطو في كتابه (الخطابة) ،فاألسلوب عند
أرسطو شامال للشعر وكل الفنون ،وهو التعبير ووسائل الصياغة ،وهو متصل بنظرية المحاكاة ،بيد
أَّن غنيمي هالل يفرق بين خصائصي أسلوب الشعر والنثر ،وفي األسلوب ذاته منها ما هو حقيقي،
ومنها ما هو مجازي ،ويرجع ذلك إلى قدرة صاحب الخطاب على االبتكار في األسلوب (.)5
إَّال أَّن األستاذ رجاء عيد ال ينظر إلى األسلوب على أَّنه يجّس د شخصية الشاعر كلها ،مع أَّنه
1نفسه ،ص.12
2أحمد حسن الزيات ،دفاع عن البالغة ،عالم الكتب ،ط1967 ،2م ،ص.74
3المرجع نفسه ،ص .68
4أحمد أمين ،النقد األدبي ،طبعة أنيس ،الجزائر 1972م ،ص(.33بتصرف).
5
?.محمد غنيمي هالل ،النقد األدبي الحديث ،ط ،1دار العودة ،بيروت ،1982ص 118
20
البنــاء األسلـوبي الفصــل األول
/ون
/ه ،ومن ثّم تك/
/اتب نفس/
/زءًا من ذهن الك/
يعبر عن خصوصية في األداء ،لذلك فهو يمثل "ج/
/ل
/ة "()1؛ وتظ/
/ورة عام/
خصائصه األسلوبيةَّ ،إنما هي المادة التي تتشكل منها معطيات فكره بص/
عبقرية الشاعر مهما يقل عن طبع األسلوب متجّس دة في خلقه لنماذج تعبيرية جديدة ومفاجئة للذوق،
ودالة في الوقت نفسه عن عمق البصر بصنعة الشعر تنوعًا واتساعًا.
/اعر
/ا الش/
/ة يلهم به/ وهناك من ينظر إلى األسلوب في نشأته ونموه على أَّنه س/
/مة طبيعي/
وتكشف عن فرادته وطريقة تفكيره وتقديره لألشياء ،بحيث ينجز التطابق بين األسلوب ومحت//وى
الخطاب ،وهذه النظرة ال تخلو كما يتصور المسّدي من روح عفوية ونسبية قديمة ،تشد األس//لوب
/ذه
/ا ه/
/وي عليه/ إلى عبقرية صاحبه وكأَّنه يحّس وال يعّبر ،أو َّأنه أداة لكشف الطاقات ال/
/تي تنط/
العبقريةِ ،مَّما يجعل منه في أثناء نشأته حالة تلقائية مستقرة في ال وعي الشاعر(.)2
واألسلوب يتولد في االنتقال الواعي من اإلخبار إلى اإليحاء ،أي َّأنه مثير يحدث اس//تجابة،
وجوهر التعبير الشعري هو الجمال المتوّخ ى من نص الخطابَّ ،إنه يتض//من في منظ//ور من//ذر
عّياشي" :من معاني التفنن والصنعة ما ليس في اللغة النفعية لإليصال المباشر ،كما هو منج//ز في
الحياة اليومية " (.)4
/ة
/داولي (لغ/
وقد أوضح عّياشي في دراسته لألسلوب ،دور المرسل في اإليصال النفعي الت/
الحياة اليومية) ،فهو يتكلم لغته الطبيعية ويؤدّيها بطريقة تلقائية تفتقر إلى الممايزة أو كّ//د ال//ذهن،
/ة
وطبقًا للقواعد المتواضع عليها من حيث األداء ،في جوانبها الصوتية والصرفية والنحوية والداللي/
1رجاء عيد ،البحث األسلوبي -معاصرة وتراث ،-منشأة المعارف ،الإسكندرية ،1993ص .125
2
?ينظر :المسدي ،األسلوبية واألسلوب ،ص 66ـ .70
3
?.المرجع نفسه ،ص 75
4
?.منذر عياشي ،مقاالت في األسلوبية ،ط ،1اتحاد كتاب العرب ،دمشق -سوريا ،1990ص149
21
البنــاء األسلـوبي الفصــل األول
(. ) 1
/د عن
فالمرسل إذن ،يخضع دون نظر (فهم ومعرفة) لما يتفق عليه المجتمع ،ويلتزم به ليبع/
نفسه كل سوء فهم قد يطرأ سريعًا في حال الرغبة في العدول عن هذا األداء اليومي المباشر الق//ائم
على ثالثية محورية هي :المرسل والرسالة والمرسل إليه في دائرة مغلقة من التواص//ل الي//ومي،
/ة المعجم
/اعر في تخطي ثقاف/
وهي أقرب إلى الطبع (المعاودة والتلقائية) ،وبذلك يتميز أسلوب الش/
والمتداول اليومي إلى ثقافة الصنعة ،وقد ذهب بيار جيرو -كما ي//ذكر من//ذر عياش//ي -إلى أّن
األسلوب هو ما يستطيع اإلنسان صنعه ،أي أنه مساٍو للتصرف(.)2
ولتخطي التفسير الغيبي لأللفاظ ،الذي يتعارض مع مشيئة الشاعر في أسلوبه ،عليه أن يدرك
/ة
/دي من الحقيق/
/وعي والقص/ أّنه مبتدع ومؤّس س ال تابعًا أو محتذيًاَّ ،
فإن األسلوب هو التحول الن/
الواقعة إلى األخرى المتوقعة التي هي دليل خصوصية ،وال يتأتى ذلك إال باالنتقال من فكرة التكلف
/د عَّ/ر ف
/ة ،وق/
/ة تعبيري/
/ة وكثاف/
في األسلوب إلى عّده صنعة تكشف في عمقها عن مهارة كيفي/
/ة"(،)3 الشعر بأَّنه " :فن لفظي ،وإذن فهو يستلزم ،قبل كل شيء ،استعماًال خاص/
ً/ا للغ/ ()
جاكبسون
بمعنى أّن الشعر هو خلق ضمن نظام اللغة وقوانينها وفعلها.
ومن هنا فاألسلوب كصنعة هو "عالمة فارقة لنص من النصوص"( ،)4ألّن اللغة باألس//لوب
"تخلق شكلها الخاص"( ،)5وهذا الشكل الخاص هو ما يفّر ق بين لغة الشعر ولغة الخط//اب الي//ومي
/ه
/رق عن كون/
/اد يف/
المبتذل ،فاألولى بوساطة جماليات األسلوب تنفرد بشكلها الخاص الذي ال يك/
نظامًا ،إال أّن اللفظ كداللة معجمية محورية استغرق كثيرًا جهود التراث//يين ،حيث انص//بت بعض
تحليالتهم وتنظيراتهم على بنية اللفظ الصوتية ،ال على الخطاب الشعري نفسه كبنية كلية ،والس ّ/يما
1ينظر :المرجع نفسه ،ص.147
2منذر عياشي ،مقاالت في األسلوبية ،ص.37
/ير /و س/ ولد جاكبسون بموسكو سنة ،1896واهتم منذ سنه األولى باللغة واللهجات والفلكلور فاطلع على أعمال س/
وهيسارل ،وفي سنة 1915أسس بمعية ستة طلبة "النادي األلسني بموسكو" وعنه تولدت مدرسة الشكالنيين الروس ،وفي
سنة 1920انتقل إلى تشيكوسلوفاكيا فأعد الدكتورة سنة 1930بعد أن أسهم في تأسيس "النادي األلسني ببراغ" وهو النادي
الذي احتضن مخاض الناهج الهيكلية في صلب البحوث اإلنشائية والصوتية والصرفية ،وفي خضم هذه الحقبة تبلورت أهم
/درس منطلقات المبدئية في عالقة الدراسة اآلنية بالدراسة الزمانية لدى جاكبسون ،وفي سنة 1933انتقل إلى مدينة برنو ف/
بجامعة مازاريك وبلور نظريته في الخصائص الصوتية الوظائفية ،وفي سنة 1939انتقل إلى الدانمارك والنورفاج فدرس
/ل إلى/نة 1941رح/ /ات الكالم ،وفي س/في كوبنهاق وأسلو وقد تميزت هذه المرحلة بأبحاثه في لغة األطف/ال وفي عاه/
/وجي /د التكنول/
/ارد والمعه//ة هارف/
/ل إلى جامع/ /تروس ،ثم انتق/
الواليات المتحدة فدرس في نيويورك وعرف بليفي س/
بمساشيوستس وهناك رسخت قدمه في التنظير األلسني حتى غدت أعماله معيًنا لكل التيارات األلسنية ،من أبرز مص//نفاته
"محاوالت في األلسنية العامة" ،عبد السالم المسدي ،األسلوبية واألسلوب ،ص .241
? 3
Roman Jakobson, Essais de Linguistique Générale, éd, de minuit, Paris 1970, p77.
4منذر عياشي ،مقاالت في األسلوبية ،ص.41
5المرجع نفسه ،ص.40
22
البنــاء األسلـوبي الفصــل األول
وإنما ه//و
أن هذا النوع من التذوق لم يأِت مصادفةَّ ،
في مسألة السرقات الشعرية ،وعلى الرغم من َّ
درجة شبيهة بالطبع ،إال أَّنه تعوزه الفاعلية والتدبر والتفكير البعيد لتأّس سه على قبول الشيء سريعًا
أو رفضه سريعًا.
/نزع
/ة الم/
/ة ،وأحادي/
/ير متعدي/
وقراءة الشعر -على هذا المنوال -هي قراءة بسيطة غ/
فإن
والنظرة ،إذ َّإنها حاصرت مخيلة المبدع ،وفرضت على تأليفه نوعًا من التقويم الجزئي ،وبذلك َّ
/اظ
ل من إتقان النص إلى إتقان اللفظ ،أساء كثيرًا إلى التجربة الشعرية وصّيرها إلى مجّر د ألف/
حُّو َ
الت َ
َّ
عما يرد
مبعثرة ومتفاوتة التأثير ،فنقاد اللفظ المفرد وضعوا أنفسهم موضع القارئ من حيث الرضى َّ
أن اللفظ الفصيح طبع (يماثل الذوق ويرضيه) ،وغير الفصيح صنعة (يناقض الذوق
أو تقبيحه ،أي َّ
الفطري الخالص) ،فهل كان النقاد التراثيون يعنون بالطبع (الصنعة) في بعض وجوه//ه ال//تي لم
يظهر فيها تكلف؟.
إّن أسلوب العمل الشعري هو البديل عن تلك النزعة التجزيئية التي توّح د المواقف الذوقي//ة
وتطبعها ،وسعيًا لفهمه بمنأى عن سلطة المواد اللفظية ظفر األسلوب بعناية النصوص النقدية القديمة
/لوبية
/وث األس/
/ر البح/
والدارسين والمحدثين في رصيدهم النقدي المتخصص الذي ال يخلو من أث/
الغربية.
/د عن
إن األسلوب يعنى بتقنية الكتابة وآليتها ،وبالصياغة والنظم والتنسيق لم نبتع/
وإذا قلناَّ :
الصوابَّ ،إنه مجموعة من العناصر والوجوه ،وتأتي التعريفات المتعددة الغزيرة كي تركز على َّ
أن
أحد هذه العناصر أو الوجوه ،فهي -أي التعريفات -في مجموعها صحيحة ،ومن خالل مجموع هذه
التعريفات يبرز الكيان الكامل لألسلوب.
-1الصحـة :وهي أساس جودة الكالم ،وتستلزم أمورًا ،منها صحة استعمال الكلمات التي
/ماء فال
/دخل األس/
تربط الكالم بعضه ببعض كمتعلقات االسم والفعل بما تشتمل عليه من حروف ت/
يصح أن يدخل فيها تقديم أو تأخير أو فصل بينهما وبين هذه المتعلقات.
-2الوضوح :إَّن وضوَح األسلوب شرط أساسي لجودته ،ألَّن الكالم الذي يعجز عن أداء
معناه في وضوح يفوت الغرض منه ،واللغة تكون واضحة كل الوضوح إذا تألفت من ألفاظ دارجة،
لكنها حينئذ تكون مبتذلة ،وتكون واضحة نبيلة بعيدة عن االبتذال إذا استعملت ألفاظا غير مألوفة في
محمد غنيمي هالل ،النقد األدبي الحديث ،ص .118 1
23
البنــاء األسلـوبي الفصــل األول
االستعمال الدارج كالكلمات الغريبة ،أي غير المبتذلة كالمجاز واأللفاظ المركبة ،ولكن يجب القصد
/ة وفي
/ات الغريب/
/تخدام الكلم/
باستعمال هذه الكلمات غير المبتذلة في المجازات ،فاإلفراط في اس/
استخدام المجازات ينتج أثًر ا هزلًيا.
-3الدقـة :إَّن الدقة في حسن اختيار الكلمات ووقعها على األنغام خاصية أساسية في ك//ل
عمل األدبي ،وهي أن يجتنب األديب عموما والَّش اعر خصوصا ما ال مبرر له من ابتذال أو س//مو،
وذلك باعتماده على ألفاظ غير شائعة تجذب أنظار سامعيه ،ألَّنه في مقام إثارة االنفعاالت.
يجب أن تتوفر في جميع أنواع األسلوب األمور الثالثة السابقة الذكر على خالف يس//ير في
قليل من االعتبارات الخاصة بالشعر أو النثر.
د -أشكـال األسلـوب :يقسم اللغويون واألسلوبيون "األسلوب" إلى أربعة أشكال تعود إلى
التصرف بالضمائر وأزمنة األفعال (:)1
-1األسلوب المباشر( :)style directوهو التركيب اللغوي الذي يحمل صوت المتكلم أي
األديب المنشئ كما في الشعر الغنائي الذي يتحدث فيه الَّش اعر عن مشاعره ،ويقوم بصيغة المتكلم.
-2األسلوب المندوب :وهو األسلوب المباشر ،حين يندب فيه المتكلم صوته للغائب ويطلق
عليه أيضا المباشر المندوب ،ويظل للمتكلم فيها صوته وحضوره.
/وت -3األسلوب غير المباشر(:)style indirectوهو التركيب اللغوي الذي يحم/
/ل ص/
الغائب.
-4األسلوب غير المباشر الحـِّر ( :)libre style indirectويطلق عليه أيضا "أسلوب
/اب،
/ذي للغي/
الصوتين" فهو يمزج بين األسلوب المباشر الذي للحضور واألسلوب غير المباشر ال/
فيسمح بذلك للمتكلم بإثبات صوته إلى جانب صوت الغائب في االستئناف وغيرهما.
2
?.أحمد الشايب ،األسلوب ،مكتبة النهضة المصرية،ط ،6،1966ص57
24
البنــاء األسلـوبي الفصــل األول
-2األسلوب األدبي :من أبرز سمات وأظهر خصائص هذا األسلوب الجمال ،ومرد الجمال
إلى روعته في الخيال ،ودقة في التصوير ،وقدرة في التعبير ،وتلمس لوجوه الش//به بين األش//ياء،
وإلباس المعنوي ثوب المحسوس وإظهار المحسوس في صورة المعنوي( ،)3فيلجأ الشاعر أو الكاتب
في مثل هذا النوع إلى استعمال كل ألوان الصنعة من تشبيه واستعارة وكناية ومحسنات بديعي//ة من
طباق ومقابلة وجناس وغيرها( ،)4مما يجعل الخطاب أو النص أحسن صورة ،فمن السهل أن تعرف
أن الشعر والنثر هما موطنا هذا األسلوب ،ففيهما يزدهر ،ونبلغ به قمة الفن والجمال.
/عري،
/ذا الفن الش/
وقد يكون األسلوب األدبي شعًر ا ،فتبدو فيه مظاهر لفظية تالئم طبيعة ه/
وإن لم تكن في أصلها خاصة به ،بل يشاركه النثر األدبي فيها إلى حد ما ،وبيان ذلك باإليج//از أن
النثر األدبي يمتاز من النثر العلمي بدخول عنصر العاطفة (االنفعال) في تكوينه ،فإذا تجاوزناه إلى
/يقية
الشعر رأينا أن الشعر كذلك يعبر عن العاطفة والفكرة ،ويتخذ الخيال والصور ،والعبارة الموس/
وسيلة إلى هذه الغاية البيانية (.)5
/ة
/اظ ،والحج/
/اني واأللف/
جـ -األسلوب الخطابي :يجمع األسلوب الخطابي بين قوة المع/
1
? .محمد الصادق عفيفي ،النقد التطبيقي والموازنات ،مكتبة الوحدة العربية -الدار البيضاء ،1972ص234
2أحمد محمد فارس ،الكتابة والتعبير ،دار الفكر البنائي ،ط ،3ص .176
3أحمد محمد فارس ،الكتابة والتعبير ،ص .177
4ينظر :أحمد الشايب ،األسلوب ،ص.60
5أحمد الشايب ،األسلوب ،ص.62
25
البنــاء األسلـوبي الفصــل األول
ألدواته التعبيرية ،وتتمثل في رصف هذه األدوات وتنظيمها حسب تنظيم تقتضي بعض//ه ق//وانين
النحو وتسمح ببعضه اآلخر مجاالت التصرف ،وسميت عالقات ركنية باعتبار أنها تخضع لق//انون
/ع ،ألن
/ور التوزي/
التجاور ،وداللتها رهينة األركان القائمة في تعاقبها ،لذلك أطلق عليها أيضا مح/
تنظيمها هو بمثابة رصف لها على سلسلة الكالم ،وتتميز هذه العالقات الركنية بأنه//ا حض//ورية،
فيتحدد بعضها ببعض بما وقع اختياره (.)1
ب//الي(1947-م) ويبقى االختيار هو الصفة البارزة لألسلوب والمالزمة له ،وقد عّبر شارل
عن صنعة األسلوب بهذا الشكل القصدي ،قائًال " :إّن رجل األدب يصنع من اللغة اس/
/تعماًال إرادي/
ً/ا
مقصودًا ،ويستعمل اللغة بقصد جمالي" ( ،)2فاللغة ليست عصية لدى الشاعر المقتدر ،كما أّنها ليست
إلهامًا يتنزل عليه فجأة بل إّن الشاعر بذكائه وفطنته هو الذي ُيملي عليها ش//روطه في االختي//ار،
ويأخذ ما يناسب القصد ،خاصة وأننا " نختار عن وعي معرفي وفق ما يستلهمه شعورنا في حال//ة
اإلرسال من جهة ،ووفق ما نفترضه من شعور عند المرسل إليه من جهة أخرى"( ،)3والق//درة على
التعبير هي كذلك جوهر األسلوب ،ولذلك كانت مشروعية الربط بين تفكير الشاعر ووضوح أسلوبه
وقوته ،والسّيما وأن األسلوب وثيق الصلة بثقافة المبدع ومزاجه ونمط تفكيره ،ويعكس شخص//يته
/ادام
/وائيًا ،م/
قدرة أو اتباعًا ،وهكذا فاألسلوب هو نتاج تداخل الشاعر باللغة ،وهو تداخل ليس عش/
يشكل وجوده من صنعة االختيار ،التي ال داللة لها بمعزل عن الممارسة ،والتي بها تثري طريق//ة
اإلدراك وتتنوع لتصبح أكثر إثارة.
/ئ
/ار ،فمنش/
/ف أوال على االختي/
وقد اعتبر علماء األسلوب أن عملية إنشاء األسلوب تتوق/
/يد
/ذلك الرص/
الخطاب يختار من رصيده اللغوي ما يناسبه في إنشاء خطابه ،ويقوم بعملية توزيع ل/
اللغوي ،فيكِو ن في األخير خطاًبا ،وهذا ينطبق على جميع الخطابات األدبية وغيرها ،وهذا االختيار
دليل على تفضيل المتكلم لبعض السمات اللغوية على األخرى ،وال يعتبر كل اختيار يقوم به المتكلم
اختياًر ا أسلوبًيا ,ولذا تم تحديد نوعين من هذه االختيارات هما:
/ة دون
/يغ لغوي/
أ -اختيار محكوم بالوقف والمقام ،وهو اختيار نفعي ،يؤثر فيه المتكلم بص/
غيرها.
ب -اختيار تتحكم فيه مقتضيات التعبير الخالصة ،وهو اختيار نحوي ،والمقصود من ذل//ك
ينظر :عبد السالم المسدي األسلوبية واألسلوب -نحو بذيل ألسني في نقد األدب – ص .136 -134 1
27
البنــاء األسلـوبي الفصــل األول
هو قواعد اللغة النحوية والصرفية والداللية بناًء على صحتها ودقتها (.)1
وفكرة االختيار هذه في تحديد ماهية األسلوب تمتزج في بعض األحيان بكل مقتضيات عملية
اإلبالغ األلسني ،فال تتميز بالسمة اإلبداعية ،وتضل شعاًع ا لدائرة الَح دث الخطابي عامة ،من ذل//ك
أن أحمد الشايب يحدد موضوع الظاهرة األسلوبية انطالقا من تحليل األس//لوب إلى عناص//ر هي
الفكرة والصورة والعبارة ،فينتهي إلى أنه عملية اختيار تتسلط على تلك العناصر المكونة اس//تناًدا
إلى تصرف في الصياغات " بما تراه أليَق بموضوع الكالم "(.)2
-2التركيب:
وهو العملية اإلبداعية الثانية التي يقوم بها المتكلم بعدما ينتهي من الخطوة األولى المتمثل//ة
في اختيار الصيغ اللغوية لخطابه ،ويفرغ من اختيار ما يالئم خطابه ليقوم بعملية تركيب الكلمات في
الخطاب ،وذلك انطالقا من مستويين اثنين ،هما :المستوى فكحضوري ،والمستوى الغي//ابي ،وفي
/وري
/تويين :حض/
هذا المضمار يقول عبد السالم المسدي " :تتركب الكلمات في الخطاب من مس/
/بي،
/وتي وتركي/
وغيابي ،فهي تتوزع سياقًيا على امتداد خطي ،ويكون لتجاورها تأثير داللي وص/
/ة لنفس وهو يدخلها في عالقات ركنية ،وهي أيًض ا تتوزع غيابًيا في شكل تداعيات للكلم/
/ة المنتمي/
/اطع
/بكة تق/
/ذلك ش/
الجدول الداللي ،فتحل إذن في عالقات جدلية أو استبدالية ،فيصبح األسلوب ب/
العالقات الركنية بالعالقات الجدولية ،ومجموع عالئق بعضها ببعض"(.)3
العالقات القائمة بين العناصر اللسانية: سوسير(1913-م) وفي هذا الحقل َم َّيَز دو
/ابه
/ة على التش/
أ -عالقة استبدالية أو عالقات ترتيبية :تقوم عملية التركيب في هذه العالق/
/لة
/ارج السلس/
/ة تتم خ/
الذي يتم في الذاكرة (الدماغ) قبل أن يتجسد في خطاب المتكلم ،فهي عملي/
الكالمية الخطية (.)4
ب -العالقات الركنية :هذا النوع من العالئق هو العناصر اللسانية المنطوقة والمكتوبة التي
ترتبط فيما بينها بحكم الطبيعة الخطية للغة ،فتتوالى هذه العناصر في سلسلة الكالم (.)5
1نور الدين السد ،األسلوبية وتحليل الخطاب ،دار هومة للطباعة والنشر والتوزيع ،الجزائر،ج ،2ص(156بتصرف).
2أحمد الشايب ،األسلوب ،ص.50
/لوبية
3عبد السالم المسدي األسلوبية واألسلوب -نحو بذيل ألسني في نقد األدب– ص ،84وينظر ومنذر عياشي ،األس/
وتحليل الخطاب ،ص.82
4نور الدين السد ،األسلوبية وتحليل الخطاب ،ص ،173وينظر ومنذر عياشي ،األسلوبية وتحليل الخطاب ،ص.82
5المرجع نفسه ،ص.179
28
البنــاء األسلـوبي الفصــل األول
جـ -االنزياح :إَّن اكتمال جماليات النصوص لن يتحقق باتحاد التركيب واالختيار فقط ،بل
الُبَّد من االنزياح ،الذي يعد ظاهرة من المقومات األساسية ،والَه اَّم ة في هذه الدراسات ،وهو يش/
/كل
الصدارة في دائرة اهتمامات األسلوبيين.
ويعرف االنزياح بأَّنه الخروج عن المعهود والمألوف من الكالم ،ولذلك فهو خاص//ية يمكن
أن يتميز بها النص األدبي عن غيره من النصوص ،ولهذا عَّدها بعض الباحثين أَّنها األسلوب األدبي
ذاته(.)1
/ول
/رآني ،كق/
/از الق/
وكلمة(الخروج) كثيرة الورود في الدراسات النقدية ودراسات اإلعج/
األصمعي(216-هـ)" :إّن الشيء إذا فاق في حسنه قيل له :خارجي "(.)2
على الرغم من فطرّية ذوق األصمعي ،فالخروج عند ابن جّني خرق لألصول ،ويوّض ح ذلك
بقوله " :لقد حذفت العرب الجملة ،والمفرد ،والحرف ،وليس الشيء من ذلك إَّال عن دليل عليه ،وإَّال
جّني(392-هـ) ويعّد المجاز سمة االنحراف عن نمطّية التركيب والتعبير وهذا ما يؤّك د ابن
بقوله" :ومن المجاز كثير من باب الشجاعة في الّلغة :من الحذوف ،والزيادات ،والتقديم ،والتأخير،
/اع
/و اتس/
/رًا جمالّي ًا ه/
والحمل على المعنى ،والتحريف "( ،)4وأبرز ما يجّس د المجاز ويمنحه أث/
االستعمال اّلذي به يتم خرق العادي وتهميشه ،وتلك صفة الخطاب الشعري في خصوص//يته م//ع
ممارسة الّلغة.
أن يكون البديع وصفًا للشعر وطبيعة فيه ،وحّج ته في ذل//ك: الباقالني(403-هـ) وقد رفض
"أَّن هذا الفن ليس فيه ما يخرق العادة ،ويخرج عن العرف "( ،)5فالخروج اّلذي يرد بك//ثرة في كالم
الباقالني ،يعني تخّط ي العادة والعرف ،والقرآن الكريم بالنسبة إليه تجاوز حدود القدرة البشرّية ،بلغ
/عراء اّل تي
فيه االختيار اّلذي يخلو من كّل تعّس ف وتكّلف ذروته وغايته النهائّية خالفًا ألشعار الش/
تتراوح بين المتانة والسهولة والغموض والتكّلف.
ويطالب الباقالني الناقد أن يكون فاهمًا ألساليب الشعراء ،مدركًا للفروق بينها ،حتى ال تخفى
ابن جّني ،الخصائص ،تحقيق محمد علي النجار ,ج ،3دار الكتب المصرية ،ص .48 2
الباقالني ،إعجاز القرآن ،تحقيق السّيد أحمد صقر ،دار المعارف بمصر ،ط ،3القاهرة ،1978ص.111 5
29
البنــاء األسلـوبي الفصــل األول
عنه األسرار وتشتبه به الطرق ،ذلك ألَّن " :كالم المقتدر نمط ،وكالم المتوّس ط باب ،وكالم المطبوع
له طريق ،وكالم المتكّلف له منهاج ،والكالم المصنوع المطبوع له باب "(.)1
ويشترط الباقالني لذلك العلم بالشعر وبالشعراء في أساليبهم مادامت ليست واحدة ،فيق//ول:
"والعالم ال يشّذ عنه شيء من ذلك ،وال تخفى عليه مراتب هؤالء ،وال تهّب عليه أق//دارهم ،حّتى إذا
عرف طريقة شاعر في قصائد معدودة ،فأنِش د غيرها من شعره -لم يشك أَّن ذلك من نس//جه ،-ولم
يرَتب في أَّنها من نظمه "(.)2
إَّن الطبع ليس واحدًا ،والصنعة ليست واحدة ،والشاعر قد يسمو وقد ينحطِ ،مّم ا يصّ//ع ب
القصد من انتهاك العادة بالخروج على المألوف ،خاّص ة إذا فقد الشاعر البراعة اّلتي هي" :الح//ذق
/ديعها
/اليب وب/ بطريقة الكالم وتجويده " ( ،)3وبذلك فإَّن العّلة من الخروج هي طلب لطي/
/ف األس/
ودقيقها ،وهذا ما دفع الباقالني إلى اإلقرار بأَّن البراعة مخصوصة بالشعر ،شرط خلّو ه من الغلّو في
محّبة الصنعة.
وعّبر القرطاجني(684-هـ)عن فعل العدول في إثارة المفاجأة ،بقوله" :ولّم ا كانت النف//وس
ّ/دد
/اطها بتج/
ّ/دد نش/
تحّب االفتتان في مذاهب الكالم ،وترتاح للنقلة من بعض ذلك إلى بعض ،ليتج/
الكالم عليها ،وكانت معاونة الشيء على تحصيل الغاية المقصودة به بما يجدي في ذلك جدواه أدعى
/عر
/ل من الش/
إلى تحصيلها من ترك المعاونة ...فوجب أن يكون الشعر المراوح بين معانيه أفض/
/ن
/ه ويحس/ اّلذي ال مراوحة فيه"( ،)4ويستدّل على رأيه بالمتنّبي اّلذي عرف بالمراوح/
/ة بين معاني/
وضعها الموضع الالئق.
والخروج على مألوف األساليب ومعهودها يحّقق المفاجأة اّلتي ت/
/ؤّثر في المتلّقي بم/
/ا ينتج
عنها من توّتر وانفعال سواء في قبول الشيء أو رفضه ،أّم ا األسلوب اّلذي يخلو من العدول ،فإَّنه ال
يثير المفاجأة ،وقد عَّد القرطاجّني اإلغراب كذلك من خصوصّيات الشعر كإبداع وتفّو ق ،إذ يقول" :
الشعر كالم موزون مقّفى من شأنه أن يحّبب إلى النفس ما قصد تحبيبه إليها ،ويكّر ه إليها ما قص//د
/راب "(،)5
/ه من إغ/ تكريهه ،لتحمل بذلك على طلبه أو الهرب منه ...وكّل ذلك يتأّك د بما يق/
/ترن ب/
فاإلغراب هو النزوح عن المعهود والبعد عنه ،وقد يكون خفّيًا حسنًا أو مغمضًا بعيد الفهم ،وقد عّده
المصدر نفسه ،ص.120 1
30
البنــاء األسلـوبي الفصــل األول
القرطاجّني صنوًا للعدول واالتساع كما يؤّك د أْن ال شعر بدون إغراب.
ه ومصطلح االنزياح -هذا الذي نحن بصدد الحديث عنه -مصطلح عسير الترجمة ،ألَّن
غير مستقر في تصوره ،لذلك لم يرض به كثير من رواد األلسنية واألسلوبية ،فوضعوا مصطلحات
أو"التجاوز"( ,)3كم//ا () 2
أو "االنحراف" () 1
بديلة عنه كانت مستعملة في تراثنا البالغي كـ" :العُُدول"
يقترب هذا المفهوم من قول البالغيين "مراعاة مقتضى حال المخاطب"( ،)4أو "انخراق األصول بها"
الذي أفاد منه فيما بعد ابن األثير(.)637- () 6
( ،)5أو " االتساع "
أن جون كوهن قد شيد صرحه النظري والمنهجي في تحليل "بنية اللغة الشعرية"
ونشير إلى َّ
على مجموعة من الثنائيات ،رغبة منه في إضفاء طابع العلمية والموضوعية على عمله من جه//ة،
/ل أهم ثنائي/ة
/رى ،ولع/
وتجاوز االنطباعية والتأثرية التي سقطت فيها البالغة القديمة من جهة أخ/
اعتمدها كوهن في تحليل الخطاب الشعري ثنائية( :معيار/انزياح) أو ما يعرف اختصارا بنظري//ة
االنزياح (.)7
/اتير
أن مفهوم االنزياح قد استعمل أول مرة في الدراسات األسلوبية خاصة عند ريف/
والواقع َّ
وبالي وسبيتزر( ،)8ولكن كوهن أعطى المفهوم ُبْعًدا آخر وطوره حتى ارتبط باسمه ،فما المقص//ود
باالنزياح عنده ؟.
إن مفهوم االنزياح عند كوهن ال يختلف عن التعريف الذي يعطيه شارل برون//و للواقع//ة
َّ
األسلوبية ،فاألسلوب عنده هو كل ما هو " ليس شائعاً ،وال عادياً ،وال مطابقاً للمعيار العام" (.)9
/ا ال
/دد م/
ومن هنا يمكن القول إن األسلوب انزياح ،وحينئذ ال نحدد ما يوجد فيه ،ولكن نح/
يوجد فيه ،أي أن األسلوب هو ما ليس شائعا وال مألوفا وال مصوغا في قوالب مستهلكة ،فالرسالة ال
/ة
/اس إلى درج/
تعد شعرية إال إذا انزاحت عن سنن اللغة أو بتعبير بارت " إن األسلوب يحدد بالقي/
/عر
/ة ،فالش/
الصفر في الكتابة "( ،)10ذلك أن كوهن ال يؤسس تعريفه للشعر على أساس معايير كمي/
نقيض النثر.
إن فكرة االنزياح بهذا المعنى تبحث عن المبدأ الثابت في اللغة الفنية ،كما تبحث عن القواسم
َّ
/اتهم،
/ط كتاب/
/اتهم ،ونم/
المشتركة في لغة جميع الشعراء بصرف النظر عن اختالف لغاتهم ،وبيئ/
فاالنزياح غير فردي وغير مختص بمرحلة أدبية دون أخرى ،ويؤكد كوهن أن شعرية النص الفني
تمر بمرحلتين أساسيتين هما(:)1
– مرحلة طرح االنزياح ،وفيها يتم مخالفة القواعد النثرية ،وتكسير بنيتها التركيبية والداللية
والصوتية.
/جامها
/تعيد انس/
/د كي تس/
/ة من جدي/
– مرحلة نفي االنزياح ،وفيها يتم إعادة بناء الجمل/
ومالءمتها ،فالشعرية "عملية ذات وجهين متعايشين متزامنين :االنزياح ونفيه ،تكسير البنية وإعادة
البناء من جديد ،ولكي تحقق القصيدة شعريتها ينبغي أن تكون داللتها مفق//ودة أوال ،ثم يتم العث//ور
عليها ،وذلك في وعي القارئ "(.)2
/ا عن
/ا انزياح/
حلل كوهن مجموعة من الصور البالغية باعتباره/
وفي ضوء هذا التصور َّ
سنن اللغة ،وهي صور أسلوبية تنتمي إلى مستويات لسانية مختلفة صوتية وداللية وتركيبية.
وهناك سؤال يفرض نفسه وهو :هل يكفي وجود االنزياح لكي تحقق الشعر؟ ،ويجيب كوهن
َّأنه ال يكفي خرق سنن اللغة لخلق قصيدة شعرية ،فاألسلوب خطأ ،ولكن ليس كل خطأ أسلوبا ،ومن
بأنه يمثل الشرط الضروري والكافي للواقعة
فإن "الورود المتواتر لالنزياح في القصيدة ال يؤكد َّ
هنا َّ
الشعرية "(.)3
/وش
/تي تش/
عبر عنه كوهن سمح له بإقصاء سلسلة من االنزياحات ال/
إن هذا الموقف الذي َّ
َّ
حيث يص//عب () 4
على العملية الشعرية والوظيفة الشعرية ،وفي مقدمتها االنزياح//ات الس//ريالية
االنتقال من المعنى التقريري إلى المعنى اإليحائي المقصود ،وفي ه//ذا الص//دد ينص ك//وهن أن
االنزياح الشعري يتم تحديده من خالل تحول في الداللة ،أي االنتقال من المعنى التقريري العقلي إلى
/ا في
المعنى اإليحائي االنفعالي ،وأنه ال يتم ظهور المعنى الثاني إال باختفاء األول ،ويظهر ذلك جلي/
/ور
/ا من الص/
/أخير ،وغيره/
مختلف مظاهر االنزياح كالنظم ،والتحديد ،واإلسناد ،والتقديم ،والت/
32
البنــاء األسلـوبي الفصــل األول
األسلوبية ،فاالنزياح عند كوهن "ليس الغاية النهائية في حد ذاته ،بل َّإنه مجرد وسيلة"( ،)1وهو بذلك
صفة مخصوصة يشّك ل معضلة في فهمه واستيعابه لتعّلقه بطريقة تحّقق الجم/ال الش/عري ،وه/و
مصطلح أسلوبي ،يتخذه الشاعر أداة في الكتابة المخالفة ،فهو خرق للمعيار اّلذي يتحّر ك فيه وف//ق
ّ/د أداة
/ألوف ،يع/
/روج عن الم/
أسلوب مرسوم على الرغم من اختالف أساليب الشعراء ،وهو كخ/
جمالية وإبداعية بين الشعري والالشعري ،وقد قال كوهن" :وظيفة النثر هي المطابق//ة ،ووظيف//ة
الشعر اإليحاء" (.)2
وهكذا يمكن للعدول كحدث أسلوبي أن يتحّر ر من قيود المكانية والزماني//ة إلى ج//انب أَّن
الشاعر المتفّو ق يستخدم لغة مجازية توّفر إمكانات غير محدودة تفاجئ المتلّقي ،وتزيد في طلبه على
استجالء طبيعة هذا العدول اإلرادي اّلذي -في اآلن نفسه -هو صفة أخرى أساسية للصنعة ،حتى
بالنسبة للذوق الفطري اّلذي كان فيه الطبع صورة للمعيارية ،ودون إنكار قدرات ه/ذا الطب/ع على
الفهم وإبراز االختالفات األسلوبية ،ولو تّم ذلك في غياب التعليل والتبرير ،فاإلحس//اس بالع//دول
األسلوبي ناتج عن مخالفة الخطاب التواصلي العادي في أوضاعه المعّينة.
ومن هنا يتبين أن االنزياح ينقسم إلى نوعين رئيسيين هما:
االنزياح عن اللغة العادية عامة ،وذلك بأن يمثل األسلوب تقابًال مع المستوى الع//ادي -
للكالم ويعتبر خرقًا له ،ويكون البحث في خصائص هذا الخرق للواقع األصل بحثًا عما يشكل أركان
الحدث الفني في األثر " فما االنزياح سوى خروج عن النمط التعبيري المتواضع عليه ،فهو خ//رق
للقواعد حينًا ولجوء إلى ما عز وندر حينًا آخر " (.)3
/لوب في
/ائص األس/
االنزياح عن لغة النص التي تمثل السياق الذي يمكن حصر خص/ -
نطاقه ،فاالنزياح في هذه الحالة يتحدد بالسياق الذي يرد فيه النمط العادي ،وهو نسيج الخط//اب أو
وهو تعريف جديد لالنزياح لئن اعتبره () 4
النص ،والخروج عنه هو مدار األسلوب في ذلك الموطن
/ه
صاحبه ريفتار منعرجًا جديدًا في البحوث األسلوبية بما جاء به من حصر لمجال النمط العادي فإن/
لم يخرج عن المنهاج العام لسابقيه الذين حددوا مجال النمط العادي للكالم باللغة العادية إذ أن كليهما
يستند في تعريفه لألسلوب إلى منهج لساني يعود إلى ثنائية دي سوسير "اللغة – الكالم".
ز -عناصر التحليل األسلوبي :يتعامل التحليل األسلوبي مع ثالثة عناصر هي (:)1
-1العنصر اللغوي :وهو يعالج نصوصا قامت اللغة بوضع رموزها.
-2العنصر النفعي :وهو الذي يؤدي إلى أن ندخل في حسابنا مقوالت غير لغوي//ة مث//ل:
المؤلف ،والقارئ ،والموقف التاريخي ،وهدف الرسالة وغيرها.
/ير
/ارئ والتفس/
/أثير النص على الق/
-3العنصر الجمالي األدبي :وهو الذي يكشف عن ت/
والتقييم األدبي له.
وينبغي للتحليل األسلوبي أن يكون كاشفا في جميع الحاالت عن تلك العناصر الثالثة ،فه//و
كثيرا ما يغفل -من الوجهة العملية -بعضها مثل مؤلف النص أو الموقف التاريخي إذا لم يتض//ح
له الدور الذي يقوم به في تكوينه ،بيد أَّن جميع هذه العناصر مترابطة مبدئيا ،وينبني بعض//ها على
البعض اآلخر( ،)2ذلك أَّن األدب يقوم على جوهر اتصالي ِم َّم ا يجعل التحليل األس//لوبي والتفس//ير
اإلعالمي لألدب يقومان على أساس النموذج التواصلي ،فكالهما يدرس شيئا واحدا هو النص الذي
يعُّد مظهرًا من مظاهر "استخدام اللغة التي يوليها اللساني عنايته في بحث األس//لوب من منظ//وره
الخاص" (.)3
/دد
/تي تح/
/ة ال/
/ير اإلعالمي لألدب هي النقط/
فنقطة االلتقاء بين التحليل األسلوبي والتفس/
العناصر األدبية الخالصة وتوضح كيفية فعالياتها ،وهو األمر الذي يقتضي أن تؤخ/ذ في االعتب/ار
مقولة تلفي القارئ لتأثير النص الجمالي باعتباره تدعيما للعنصر النفعي ،وفي هذه الحال//ة يت//ولى
التحليل الُم َو َّس ُع الشامل للعناصر األسلوبية َم َّدنا ببيانات كافية لتفسير األدب ،ويصبح الهدف الرئيسي
/ة للتحليل األسلوبي العميق إلدراك مدى تكامل هذه العناصر الثالثة في تحديد الحِّد األقص/
/ى لفعالي/
النص (.)4
ويجب أن يقوم التحليل األسلوبي على أساس من الوحدة التواص/لية ،ف/األديب واألس/لوب
والوسيلة والمستقبل واالستجابة ( ،)5إَّنما هي جميعا حلقات متصلة في سلسلة واحدة (.)6
صالح فضل ،علم األسلوب ،ص ،116-115وخفاجي وآخرون ،األسلوبية والبيان العربي ،ص.15 1
صالح فضل ،علم األسلوب ،ص ،116-115وخفاجي وآخرون ،األسلوبية والبيان العربي ،ص.15 2
سعد مصلوح ،في النص األدبي -دراسة أسلوبية إحصائية ،-ط ،1دار البالد ،جدة ،ص.28 3
محمد عبد المنعم خفاجي وآخرون ،األسلوبية والبيان العربي ،ص .16-15 5
34
البنــاء األسلـوبي الفصــل األول
تتصل ()
فالمتكلم يبعث برسالة إلى السامع ،ولكي تكون فعالة فإَّن هذه الرسالة تقتضي سياًقا
به وتندرج فيه ،كما تقتضي كذلك شفرة تشير إليها ،وتحدد رموزها كي يستطيع السامع عند التقاطها
أن يعي مضمونها طبًقا لتلك الشفرة المشتركة بينه وبين المتكلم اشتراًك ا كليا أو جزئًيا على األقل.
وكل عنصر من عناصر الرسالة يحدد " وظيفة مختلفة للغة ،وبالرغم من أَّننا نميز المظاهر
/تركز االختالف األساسية لها إال أَّننا ال نكاد نجد رسالة لغوية تقتصر على وظيفة واحدة منه/
/ا ،وي/
حينئذ – ال في احتكار كل وظيفة للرسالة -وإَّنما في ترتيب األولوية فيما بينهاِ ،م َّم ا يجع//ل البني//ة
اللغوية تتوقف أساًس ا على الوظيفة السائدة فيها" (.)1
فالنموذج التواصلي الذي يشمل المرسل والمستقبل والرسالة ،يتض//من في أعطاف//ه "بعض
/ميها
/وابت يس/
/ذه الث/
/ه ،وه/
الثوابت التي تتحكم في هيكل البناء اللغوي ،ويمكن أن تكون مفتاًح ا ل/
جاكوبوب الموصالت أو مغيرات السرعة ،ومن بينها هذا التقسيم الثالثي للض//مائر ،إلى ض//مائر
المتكلم والمخاطب والغائب الذي يلتقي مع تقسيم ثالثي لوظائف اللغة ،يتمثل في الوظيفة التعبيرية (أنا
المتكلم) ،والوظيفة التأثيرية (أنت المخاطب) ،والوظيفة الذهنية (هو الغائب) ،ويلتقي أيًض ا مع تقسيم
ثالثي في العمل األدبي ،يتمثل في المؤلف (أنا) ،والقارئ (أنت) ،والشخصيات (هو) ،ويرتبط ذلك في
/يرات الس/رعة دون
النهاية بميول بعض األجناس األدبية إلى استعمال بعض هذه الموصالت أو مغ/
بعضها اآلخر ،فالشعر الملحمي مثال يركز على استعمال ضمير الغائب ،ومن ثم على الوظيفة الذهنية
للغة ،في حين أَّن الشعر الغنائي يركز على ضمير المتكلم ،ومن ثم على الوظيفة التعبيرية" (.)2
/مات
ومن المشكالت األساسية التي يعترف بها عدد من األسلوبيين ،مشكالت التمييز بين الس/
واالتساق التي ال نهاية لها في النص ،والتي يمكن عزلها عن طريق التحليل اللغوي ،وتلك الس//مات
/ة للنص على
/ير الجمالي/ هي السمات األسلوبية ،أي أَّنها سمات تعين فعال التأثيرات الجمالي/
/ة ،وغ/
القارئ.
/ة/ير إلى دالل/
السياق لغة من الجذر اللغوي (س و ق) ،والكلمة مصدر (ساق يسوق سوقًا وسياقًا) ،فالمعنى اللغوي يش/
الحدث ،وهو التتابع ،ينظر :لسان العرب البن منظور ،مادة (َس َو َق ) ،وذكر التهانوي :أن السياق في اللغة بمعنى (اإليراد)،
ينظر :كشاف اصطالحات الفنون للتهانوي،ج ،4الهيئة المصرية العامة للكتاب سنة 1977م ،ص ،27ويقول تمام حسان
تأكيدًا لهذه المعاني اللغوية التي تدل على (التتابع أو اإليراد) " :المقصود بالسياق (التوالي) ،ومن ثم ينظر إليه من ناحيتين،
أوالهما :توالى العناصر التي يتحقق بها التركيب والسبك ،والسياق من هذه الزاوية يسمى (سياق النص) ،والثانية :ت//والى
األحداث التي صاحبت األداء اللغوي وكانت ذات عالقة باالتصال ،ومن هذه الناحية يسمى السياق (سياق الموقف) ،ينظر:
قرينة السياق في كتابه اللغة العربية معناها ومبناها ،ص ،375ويعد مصطلح " السياق " في الدراسات اللغوية الحديثة من
المصطلحات العصية على التحديد الدقيق وإن كان يمثل نظرية داللية من أكثر نظريات علم الداللة( )Sémantiqueتماسكًا
وأضبطها منهجًا ،ينظر :محمد يوسف حبل ،البحث الداللي عند األصوليين ،ط ،1مكتبة عالم الكتب 1991م ،ص .28
1صالح فضل ،علم األسلوب – مبادئه وإجراءاته – ص.134
2محمد عبد المنعم خفاجي وآخرون ،األسلوبية والبيان العربي ،ص.21
35
البنــاء األسلـوبي الفصــل األول
ويهدف التحليل األسلوبي إلى تحديد أدبية الخطاب بأَّنها مجموعة من الطاقات اإليحائية في
الخطاب األدبي ،ذلك ألَّن الذي يميزه هو كثافة اإليحاء ،وتقلص التصريح ،فسمة األدبية في الخطاب
تتحدد بنسيج الروابط بين الطاقتين التعبيريتين :طاقة اإلخبار ،وطاقة اإليحاء (.)1
ويقتضي البحث الموضوعي في التحليل األسلوبي ،أال ينطلق المحلل األس//لوبي من الّنص
مباشرة ،وإّنما من األحكام التي يبديها القارئ حول الّنص ،ولهذا يقتضي البحث االعتماد على قارئ
باّث ،بمثابة مصدر لالستقراء األسلوبي ،ثم يعمد المحلل األسلوبي إلى كّل ما يطلقه ذل//ك الق//ارئ
الباّث من أحكام معيارية ،معتبرًا إّياها ضربًا من االستجابات نتجت عن منّبهات كامن/
/ة في ُص لب
الّنص ،ولئن كانت أحكام القارئ الباّث تقييمية ذاتية ،فإَّن ربطها بمسبباتها ،باعتبار أَّنها ليست عفوية
وال اعتباطية ،هي في أصلها عمل موضوعي يعتمدها المحلل األسلوبي الذي ال يهتم بتسويغ تل//ك
األحكام من الوجهة الجمالية.
والقارئ الباّث الذي يلجأ إليه المحّلل األسلوبي هو بالطبع يختلف عن المتكلم الذي يلتجئ إليه
عاِلم األلسنية ،فبينما يشترط األلسني في باته أن يكون مّتصفًا بالسذاجة اللغوية ،فإّنَ ريفاتير يفض/
/ل
أن يكون الباّث ،في التحليل األسلوبي ،مثقفًا ،يتخذ من الّنص فرصة إلبراز معارفه(.)2
واالعتماد في التحليل على قارئ باّث كمصدر لالستقراء ،هو بمثابة حص//ن يقي المحّل ل
/أثر
/ه وبين الت/
/ول بين/
األسلوبي من االنزالق إلى الذاتية ،كإطالق أحكام جمالية أو معيارية ،ويح/
/ة
/ق من المالحظ/
/و ينطل/ المباشر بالّنص ،ولعّلَ عمله هذا يقترب من عمل العاِلم في مخ/
/بره ،فه/
/اول التجريبية (مالحظة الّنص ،ومالحظة انفعاالت المتقّبل تجاه الّنص) ،فتتجمع لديه ظ/
/واهر يح/
الربط بينها ربطًا سببيًا ،يقرن االنفعاالت بحوافزها ،ومن مجموعة تلك الروابط السببية يبرز الهيكل
العام المحّدد لخصائص األسلوب في ذلك الّنص.
ونشير إلى أَّن األهداف العامة في البحث األسلوبي تقوم على مبادئ علم اللغ//ة التط//بيقي،
فالدراسة األسلوبية تجعل من البيانات اللغوية مرتكزًا لها ،وميزات األساليب األدبية المختلف//ة عن
/ة
بعضها البعض تستدعي استيعاب العالقة بين اللغة واألداء الفني بغية تبيين حدود التأثيرات اللغوي/
في إسهامات الناقد األدبي ،فعلم اللغة التطبيقي يتيح رسم ملمٍح شامٍل في حِّيز الدراسة األدبية.
وغاية التحليل األسلوبي المعاصر للبالغة ال في استتباعها وأرشفتها ،وإَّنما في الكش/
/ف عن
روابطها المنسجمة أو المتنافرة ،وذلك بمعرفة التوظيف البالغي لألنماط ،ومعرفة األهمية النس//بية
1عبد السالم المسدي ،مدخل إلى النقد الحديث :مجلة الحياة الثقافية ،تونس ،فبراير ،1979ص 209وما بعدها.
2
?.صالح فضل ،علم األسلوب – مبادئه وإجراءاته – ص 96
36
البنــاء األسلـوبي الفصــل األول
ٍ/ة
/رد عالق/
/ت مج/
لهذه األنماط في سياقها النصي المحدد ودورها في تكوين بنيته ،فمعالجتها ليس/
سيمانطيقية مجردة ،فالمضمون مرتبٌط بالشكل والسَّيما في المسألة الشعرية أك//ثر من غيره//ا في
فنون األدب األخرى ،وال ريب أَّن خصوصية الشكل تبِّين وتعِّدل في الوقت نفسه من المضمون إلى
/ذا
/ط ه/
أقصى مدى ،فالرمزية واألسطورة والغموض من سمات القصيدة الحَّر ة المعاصرة ،وارتب/
بالشكل أو القالب الشعري له فجاء مبعثرًا على السطور بحسب الطاقة الشعورية ،وصارت القصيدة
ُكًّال ال يتَّج زأ ،ولو نظرنا إلى القصيدة العمودية لوجدنا الوضوح والمباش//رة ارتبط//ا في ال//وزن
العروضي ،لذلك جاء شكل القصيدة مكَّو نًا من أبياٍت يشِّك ل كُّل بيٍت منها وحدٌة مستقلٌة ال ارتباط ل/
/ه
/ر،
/لوب اآلخ/ ظاهرَّيًا بالبيت السابق أو اآلتي ،فلكِّل نمٍط أسلوبه الخاص به الذي ال ينفع مع/
/ه أس/
/ري أو
/مون الفك/
/ة ،فالمض/
والقصة بدورها ال تقبل اللغة العربية ذات األلفاظ الصعبة أو الغامض/
االجتماعي للقصة ال ينسجم مع ذلك الشكل اللغوي المتقِّع ر – لو جاز لنا التعبير– بل يحتاج إلى لغٍة
أقرب إلى لغة العوام لتمِّثل األسلوب الحقيقي للغة أبطال القصة من خالل سياقها الثقافي والفكري.
ومن هذا كٍّله نستطيع القول :إَّن اللغة تعِّبر واألسلوب يبرز ،ويوِّض ح علماء األسلوب طبيعة
العالقة المتوازية بين مستويات المجالين اللغوي واألسلوبي بالنموذج اآلتي (.)1
فدراسة األسلوب ذات عالقٍة وثيقٍة بالبحث في أنماٍط لغوَّيٍة متنِّو عٍة عاَّم ٍة ،والناق//د األدبي
عليه أن يطيل النظر في بنية النص للوصول إلى تحليٍل أسلوبٍّي محكٍم .
37
البنــاء األسلـوبي الفصــل األول
ببلغاء العصور الوسطى إلى تقسيم األسلوب أنواعًا ثالثة :األسلوب البسيط واألس//لوب المتوس//ط
واألسلوب السامي ،وهذه األساليب استخلصت من كتابات الَّش اعر الروماني "فرجيل" – الذي عاش
في القرن األول قبل الميالد – ألَّنها كانت تمثل النمط الراقي عندهم (.)1
وُيَع ُّد األسلوب جزءا أساسيًا من وسائل إقناع الجم//اهير( ،)2فان//درج تحت موض//وع علم
/ال ))èlocutioوتكَّلم
الخطابة ،وذلك في " الجزء الخاص باختيار الكلمات المناسبة لمقتضى الح/
عنه أرسطو في الكتاب الثالث من بحثه في الخطابة ،ثم تعَّر ض له كونتلي//انوس ()Quintilianus
في الكتاب الثامن من بحثه في نظم الخطابة " (.)3
وإذا كان التاريخ األدبي للبالغة يشير إلى أَّنها علم معياري يحمل وجهته إلصدار األحك//ام
وتحديد األنماط ،وتقييم القول على حسب الشرائط والمعايير ،فإَّن البحث األسلوبي يعتمد على المنهج
الوصفي ،ويهتم بتفسير اإلبداع بعد تجسده في أدائه اللغوي ،ومن ثم فإَّن البالغة عن//د المت//أخرين
تسبق اإلبداع بتحديد مواصفاته وتحاكمه حسب تحقق تلك المواصفات (.)4
فعلم األسلوب إذن علم وصفي يقوم بتفسير سمة األدبية التي تشد نسيج النص األدبي ،فه//و
ليس علما معياريا كعلم البالغة الذي ينزع إلى تقرير الوقائع اللغوية في الخطاب األدبي ،ب//ل إَّن ه
يحتكم إلى النص ،وما يحبل به من قضايا فنية ومعنوية ،وال يقنم حقيقة للمسائل القبلية.
ويشير هنريش بليث إلى أَّن خصائص األسلوب هي اّلتي تؤّثر في المتلقي ،والبالغة القديمة
/دودة،
كانت تنظر إلى األسلوب كأثر غايته التعليم أو اإلثارة ( ،)5وهذا النوع من التصّو ر نتائجه مح/
ويبقى مفهوم هذا األسلوب في صلته بالمتلّقي عند مايكل ريفاتير ،أكثر فاعلي//ة ،إَّال أَّن نظرت//ه -
/ثر دّق ة كغيره -تبقى محدودة األثر وموضع جدل النّقاد ( ،)6ألّنه لم يتمّك ن من وضع مفه/
/وم أك/
للمتلقي ،فما نوع القارئ اّلذي يضبط أسلوبية التلّقي؟.
إَّن األسلوب يرمي إلى التأثير ،في حين أَّن البالغة تنشد اإلقناع باعتماد وسيلة االحتج//اج،
وفي كلتا الحالتين ،ال يجب إقصاء فعل الشاعر كوجود إبداعي ،يتخّط ى السائد والنمطي ،وتطّ//ر ق
المسّدي إلى جهود ريفاتير ،فهو قد ربط بين تحديد األسلوب وتأثير الكالم في المتلّقي في ضوء مهّم ة
/د
/د عب/
1أحمد درويش ،دراسة األسلوب بين المعاصرة والتراث ،دار غريب للطباعة والنشر والتوزيع ،ص ،17ومحم/
المنعم خفاجي وآخرون ،األسلوبية والبيان العربي ،ط ،1الدار المصرية اللبنانية 1992م ،ص.12
2ينظر :غنيمي هالل ،النقد األدبي الحديث ،ص .117
3مجدي وهبه ،معجم مصطلحات األدب ،ص .542
4رجاء عيد ،البحث األسلوبي -معاصرة وتراث ،-ص ،19وينظر عبد السالم المسدي ،األسلوبية واألسلوب ،ص48
5هنريش بليث ،البالغة واألسلوبية ،ص .34
6المرجع نفسه ،ص.34
38
البنــاء األسلـوبي الفصــل األول
/اب
/رار الخط/ الناقد ،وأّنه للناقد أن يبني تقديره للّنص على كفاءة المتلّقي وقدرت/
/ه على إدراك أس/
الشعري في عباراته وجمله ،وما تتضمّنه من وحدة الداللة ،كما يتوّقف دور الناقد على جم//ع م//ا
يصدر عن المتلّقي من أحكام قيمية ذوقية -دون تبريرها جماليًا -تعّد استجابة لدوافع موجودة في
ّ/دث الّنص المقروء ( ،)1وريفاتير يتطّر ق إلى المتلّقي بمعزٍل عن الناقد ،ألّنه يظهر األس/
/لوب ويتح/
عنه ويضيف إليه ،تبعًا لدرجة األثر اّلذي يحدثه في نفسه.
ويتعّر ض المسدي كذلك إلى الفرق بين علم األسلوب والبالغة ،وأش//ار إلى أّن الدارس//ين
يقّر ون أن األسلوبية وليدة البالغة وبديلها ،وهو ما لم يستسغه ،وعزا الفرق بينهما إلى تقاطعهما في
المنهج والتصور ،يقول" :إّن البالغة علم معياري يرسل األحكام التقييمية ،ويرمي إلى (تعليم) مادته
/ة
/ام التقييمي/
/ال األحك/
وموضوعه ،بينما تنفي األسلوبية عن نفسها كل معيارية ،وتعزف عن إرس/
/اط مسّ/بقة
/ى أنم/ بالمدح أو التهجين ،وال تسعى إلى غاية تعليمية البّت ة؛ فالبالغ/
/ة تحكم بمقتض/
وتصنيفات جاهزة ،بينما تتحدد األسلوبية بقيود منهج العلوم الوصفية ،والبالغة ت//رمي إلى خل//ق
/رر
/د أن يتق/
/ة بع/
/اهرة األدبي/
/ل الظ/
اإلبداع بوصاياها التقييمية ،بينما تسعى األسلوبية إلى تعلي/
وجودها"(.)2
ً/ا
/دلول ،خالف/
/دال والم/
/ل بين ال/
فالبالغة إذن ،تتأّس س في بلوغ الشيء جماليًا إلى الفص/
/ام
لألسلوبية التي ال تقّر بذلك ،وهكذا يكون الذوق وفق نص المسّدي هو المدار الذي تبنى عليه أحك/
/نعة أو
/ع أو الص/
البالغة من حيث التصور والتشكل ،والحكم على النص الشعري من منظور الطب/
التكلف ،في حين أّن األسلوبية مقيدة بمنهج علمي تنهض عليه ،وقوامه الوصف والتعليل.
/ف
/ا في وص/ كما أّن المسدي يعترف بأّن األسلوبية هي وليدة البالغة القديمة وب/
/ديل عنه/
األسلوب ،أي أّن البالغة تنحو إلى تصور ماهيات األشياء ،واألسلوبية تنطلق من تصّو ر وجود هذه
األشياء ،وعلى الرغم من اضطالع البالغة بتحديد األسلوب البليغ الموصوف بسمة الفن ،وص//لته
بتجربة المتلقي الجمالية ،فإّنها تبقى معيارية ،تصدر أحكامها وفق قواعد ،في الحين أّن األس//لوبية
منهج وصفي يفّس ر الخطاب الشعري من حيث أداؤه اللغوي ،كما أّن البالغة تصدر عن مقاييس ثابتة
في الحكم والتذوق ،بينما األسلوب يخضع للتحول الختالف إبداعات الش//عراء في طرائ//ق األداء
باختالف سياقاتها وتطورها.
عبد السالم المسدي ،األسلوبية واألسلوب ،ص.87 1
39
البنــاء األسلـوبي الفصــل األول
فإنه تطرق إلى داللة البالغة ووظيفتها منذ القدم ،ورأى أنه//ا "فن يع//ني
أّم ا روالن بارت ّ
مجموعة من اإلرغامات ،والتي تسمح سواء باإلقناع ،أو بعد ذلك بالتعبير الجيد ،وهذا الهدف المعلن
عنه يجعل من البالغة طبعًا مؤسسة اجتماعية "(.)1
وقد رأى بارت كذلك َّأنه يمكن للشعرية أن تؤول إلى بالغة ،إذا حققت غايته//ا ،إذ يق//ول:
"والشعرية هي التحليل الذي يسمح باإلجابة عن هذا السؤال :ما الذي يجعل من رسالة القولية أث//رًا
غنيًا؟ ،وهذا العنصر الخصوصي هو ما أسميه ،من جهتي ،بالغة بطريقة تتفادى كّل حصر للشعرية
في الشعر"(.)2
أن موضوع البالغة األساس هو جودة الكتابة( ،)3وبالتالي ال يمكن فصلها
ويخلص بارت إلى َّ
عن األسلوب كتقنية وبراعة وجودة في األداء.
ويمكن القول إّنَ علم األسلوب كمنهج حديث هو إضافة للفك//ر البالغي الق//ديم وتط//ويره
لبحوثه ،وأ َّنه قابل ألن يرتقي ويتطور ،أي أّنَ األسلوب ال يمكنه أن يستغني عن استلهام ما جاءت به
البالغة والنقد من أسس ،وبذلك فهو أحوج ما يكون إلى مبادئ هذين الحقلين مع عدم تعارض ه//ذه
الحاجة ،وبحثها في كيفية أداء األسلوب ونقد األساليب الفردية للشعراء.
وإذا كانت علوم البالغة التقليدية في أوربا وريثة علم الخطابة الذي كتب عنه أرسطو ،فإَّنها
/أثير ،فهي لم
/د الت/
قد انحصرت في جزء من هذا العلم المشتمل على اختيار الكلمات وتنسيقها بقص/
/الي "
/ارل ب/
/ري ش/
تعش في مناهج التعليم بعد أوائل القرن العشرين ،حيث شرع األستاذ السويس/
يلقي مجموعة من المحاضرات في علم جديد ع/رف باألس/لوبية أو علم ()
"Charles Bally
األسلوب (.)4
ارتبط مفهوم (األسلوبية) بالدراسات اللغوية منذ نشأته في القرن العشرين ،وبالتالي انفصل
عن (األسلوب) المتعلق بالبالغة ،واألسلوب أسبق في الظهور بما أعلن//ه الفرنس//ي [جوس//تاف
كويرتنج] في عام )1886م( ،حينما قال " :إَّن علم األسلوب الفرنسي ميداٌن شبه مهجوٍر تمامًا حَّتى
اآلن ،فواضعو الرسائل يقتصرون على تصنيف وقائع األسلوب التي تلفت أنظارهم طبقًا للمن//اهج
التقليدية ،لكَّن الهدف الحقيقي لهذا النوع من البحث ينبغي أن يكون أصالة هذا التعبير األسلوبي أو
/ف
/ا تكش/
ذاك ،وخصائص العمل أو المؤلف التي تكشف عن أوضاعهما األسلوبية في األدب ،كم/
بنفس الطريقة عن التأثير الذي مارسته هذه األوضاع "(.)1
/لوب
/االت علم األس/ ومعنى هذا – برأي صالح فضل – أَّن العلماء قد حَّددوا آن/
/ذاك مج/
الحديث بحثًا عن التعبير المتمِّيز ،وأوجزوها في سبعة أبواٍب هي :أسلوب العمل األدبي؛ وأسلوب
المؤِّلف؛ وأسلوب مدرسٍة معينٍة أو عصٍر خاٍّص أو جنٍس أدبٍّي محَّدٍد أو األسلوب األدبي من خالل
وإذا كان مصطلح األسلوب ( )le styleقد سبق مصطلح األسلوبية ( )la stylistiqueإلى
الوجود واالنتشار ،فإَّن القواميس التاريخية في اللغة الفرنسية تصعد باألول منهما إلى بداية الق//رن
/ة
الخامس عشر الميالدي ،وبالثاني إلى بداية القرن العشرين ( ،)3وذلك مع الدراسات اللغوية الحديث/
/ي
التي قررت أن تتخذ من األسلوب " علما يدرس لذاته أو يوظف في خدمة التحليل األدبي أو النفس/
أو االجتماعي " (.)4
ومن هنا فإَّن مصطلح "األسلوبية" أو "علم األسلوب" على حد تعبير صالح فضل قد التصق
بالدراسات اللغوية( ،)5وهو بذلك قد انفصل عن مفهوم األسلوب السابق في النشأة منذ قرون ،إذ كان
لصيقا بالدراسات البالغية حتى لمكنت القول :أَّن األسلوب مهاد طبيعي لألسلوبية ،فهو يق//وم على
مبدأ االنتقاء واالختيار للمادة األدائية التي تقوم الدراسات األسلوبية بمهم//ة تحليله//ا من الناحي//ة
األسلوبية (.)6
فإننا نق//ترب من
وإنما هو جذرها ،وإذا قلنا علم األسلوب َّ
واألسلوب ليس رديفا لألسلوبيةَّ ،
ألن األسلوبية في بعض وجوهها ُمتأثرة بالمنطق العلمي والنسق المنهجي،
األسلوبية حد الترادفَّ ،
صالح فضل ،علم األسلوب ،ص.15 1
محمد عبد المنعم خفاجي وآخرون ،األسلوبية والبيان العربي ،ص.11 3
41
البنــاء األسلـوبي الفصــل األول
ضُع األسلوب
خ ِ
وهما من معطيات هذا العصر الذي يهيمن فيه العلم على كل شيء ،ومن ذلك َّإنه ُي ْ
/رض
/ه لع/
للرؤية المنهجية ،ولذلك يرى الناقد الفرنسي (بيار جيرو) تلميذ شارل بالي في محاولت/
ن األسلوب هو مظهر القول
تصور متكامل للجوانب المختلفة لظاهرة األسلوب على النحو اآلتي" :إ َّ
الذي ينجم عن اختيار وسائل التعبير ،وهذه الوسائل التي تحددها طبيعة ومقاصد الش//خص المتكلم
أو الكاتب" (.)1
وسع يشمل التعبير ومظاهره ،والشخص المتكلم أو الك//اتب
فإن هذا التعريف ُم َّ
وكما نرى َّ
وطبيعته ومقاصده ،وإن كان يغفل المتلقي دوره في تحديد المظاهر المؤثرة عليه ،ويشرح ج//يرو
عناصر تعريفه في خمس نقاط نجملها فيما يأتي(:)2
/اني
أ -حدود التعبير ،فالتعريفات المختلفة لألسلوب تتنوع بقدر ما نعتد بالتعبير بأوسع مع/
الكلمة بما تصوره بشكل محدود مما يجعلها قابلة ألن تشمل:
-فن الكتابة بالمعنى التقليدي ،أي االستخدام الواعي لوسائل التعبير ألهداف أدبية وجمالية.
-طبيعة الكاتب ،وتتمثل في االختيار العفوي الالشعوري الذي يعير عن مزاج الكاتب وتجربته.
-شمولية العمل ،وهي تتجاوز الصيغ اللغوية لتحتضن موقف اإلنسان الكلي ورؤيته للعالم.
ب -حدود وسائل التعبير ،فإذا كان األسلوب هو استخدام وسائل التعبير ،فإن بوس//عنا أن
نفهم هذه الوسائل على درجات متفاوتة في السعة والشمول بحيث تتضمن:
-األبنية النحوية من صوتية وصرفية ومعجمية وتركيبية.
-إجراءات التركيب من صيغ شعرية وأجناس أدبية ووصل وما سواه.
-الفكر في شموله من موضوعات ورؤى ومواقف فلسفية من العالم.
جـ -طبيعة التعبير ،فالتوصيل اللغوي يتضمن قيمًا مختلفة تتراكب وتترجم الموقف العفوي
للكاتب ،أو التأثير المقصود الذي يريد أن يحدثه في المتلقي:
-فهناك قسم عقلية ،يترتب على غلبتها أن بكون األسلوب واضحًا أو منطقيًا أو مضطربًا.
-وهناك قسم تعبيرية ،فقد يكون أسلوبًا مندفعًا أو طفوليا أو إقليميًا.
-وهناك قسم انطباعية ،فقد يكون أسلوبًا طاغيًا أو ساخرًا أو هزليًا.
د -مصادر التعبير ،ففي منظور متوافق ومجاور للمنظور الس//ابق يمكن في رأي ج//يرو
تصنيف األساليب طبقًا للمعايير اآلتية:
المرجع نفسه ،ص .110 1
42
البنــاء األسلـوبي الفصــل األول
-المصدر الحسي والنفسي للتعبير ،فتتحدد األساليب طبقًا لالمزجية واألجناس واألعمار والحاالت
النفسية ،فتكون هناك أساليب نسائية وأخرى طفولية أو عصبية أو غبرها.
-المصدر االجتماعي للتعبير ،فتكون هناك أساليب كالسيكية ترتبط بتقاليد المهن أو عادات األقاليم
أو الطبقات االجتماعية.
-المصدر الوظيفي للتعبير ،فتكون هناك أسلوب إداري أو قانوني أو خطابي أو غير ذلك ،ويدخل
التصنيف األدبي لألساليب في هذا المصدر.
/ات
/ة من التعريف/
/ادره مجموع/
/ير ومص/
/ة التعب/
هـ -مظهر التعبير ،وتنبثق عن طبيع/
واألوصاف التي تعتمد عند جيرو على ما يأتي:
-شكل التعبير ،فهناك تعبير موجز ،وآخر تصويري ،وثالث استطرادي مثًال .
-جوهر التعبير ،بالنظر إلى الفكر الذي يحتويه ،فهناك أسلوب رقيق أو حزين أو نشيط.
-الشكل المتكلم أو الكاتب وموقفه ،فهناك أسلوب قديم وآخر شعري ،وثالث حديث إلى غير ذل//ك
من التصنيفات المختلفة.
وأهم ما يالحظ على هذا العرض لمظاهر األسلوب ومجاالتهَّ ،أنه َّيتسم ب//التنوع الش//ديد،
/ذا
/يرو به/
/ة ،وج/
ويحتضن األسلوب باعتباره ظاهرة لغوية عامة ال تقتصر على األشكال األدبي/
المنحى أمين لمفهوم أستاذه بالي ،وإن كان يختلف عنه في إدماجه لألسلوب األدبي ،إال َّأنه ال يستقر
مما يجعل بعض أقسامه متداخلة مضطربة ،وه//و في نهاي//ة
على أساس واحد للتقييم والتصنيف َّ
األمر تبسيط مدرسي للقضايا ذات الجذور الفلسفية والمنهجية ،وتوض//يح منهجي عقلي ينبغي أن
نتعامل معه دائمًا أو االعتماد عليه.
ومصطلح األسلوبية هذا الذي ظهر في العصر الحديث ،يدع ما يحيط ب//النص ،ويلج إلى
داخل مكنوناته ،وعناصره الجوهرية ،وذلك للوصول إلى فهم أعمق لحقيقة النص من خالل دراسة
43
البنــاء األسلـوبي الفصــل األول
اللغة عبر االنزياحات اللغوية والبالغية ،فأمام المتحدث أو الكاتب مادة لغوية ضخمة ومتعددة يتكلم
ألنه يجد فيها أكثر تعبيرًا عن
عَّما سواهاَّ ،
بها ،ويكتب فيها ،فاختياره للكلمات والتراكيب ِمَّما يؤثره َ
/ا
/تخدمت فيه/
أفكاره ورؤاه ،وأعمق تأثيرًا في المتلقي ،فاألسلوبية كيفية القول أو الطريقة التي اس/
اللغة ،ومدى األثر الذي تركته في المتلقي.
وفي تراثنا تظهر مالمح األسلوبية ،وبداية من خالل التعريف المت//داول للبالغ//ة بأَّنه//ا
"مطابقة الكالم لمقتضى الحال مع فصاحته "( ،)1فمقتضى الحال يدل على تعدد وتنوع في األساليب
/حية،
/ه الص/
المستخدمة بين الملقي والمتلقي ،بمراعاة وضع المتلقي الثقافي ،واالجتماعي ،وحالت/
/ات
/اة أدق الجزئي/
والنفسية وغير ذلك ،مع األخذ بعين االعتبار المناسبة التي يقال فيها ،أي مراع/
أن العرب قالت " لكل مقام مقال "(.)2
حتى َّ
فإذا قلنا في لفظة (اشتعل) من قوله تعالى :واشتعل الرأس شيباَّ :)3(إنه//ا في أعلى المرتب//ة من
ولكن موصوًال بها الرأس معرف//ا ب//األلف والالم،
َّ الفصاحة ،لم توجب تلك الفصاحة لها وحدها،
/دع
ومقرونا إليها الشيُب منكّر ًا منصوبا "( ،)4ويقول في موضع آخر " :فقد اتضح إذن اتضاحًا ال ي/
/ردٌةَّ ،
وأن /ردة وال من حيث هي كلٌم مف/ للشك مجاًال َّ
أن األلفاظ ال تتفاضل من حيث هي ألفاظ مج/
األلفاظ َتْثُبُت لها الفضيلة وخالفها في مالءمة معنى اللفظة لمعنى التي تليها أو ما أشبه ذلك مم/
/ا ال
تعُّلق له بصريح اللفظ"( ،)5كما رّد عبد القاهر الجرجاني ادعاء من قال" :إّنه ال مع//نى للفص//احة
سوى التالؤم اللفظي وتعديل مزاج الحروف" (.)6
1عبد القادر البغدادي ،خزانة األدب ولب لباب لسان العرب ،تحقيق وشرح عبد السالم محمد هارون ،ط ،2الهيئة المصرية
العامة للكتاب( ،د.ت) ،ص .53
2أبو هالل العسكري ،كتاب الصناعتين -الكتابة والشعر ،-ص.33
3مريم.4 :
4عبد القاهر الجرجاني ،دالئل اإلعجاز ،ص.364
5المصدر نفسه ،ص.92
6نفسه ،ص.99
44
البنــاء األسلـوبي الفصــل األول
/د
وإذا ما نظرنا إلى " المقام " على َّأنه يمثل " سياق الموقف " وجدنا ذلك أيضا واضحا عن/
البالغيين ،فهذا عبد القاهر الجرجاني يربط الكالم بمقام استعماله ،ومراعاة مقتضى حاله وهو ّ
لب
ألنهم لم
دراسة المعنى اللغوي عنده ،ومنبثق من نظريته للنظم ،وث//ار على اللغ//ويين الع//رب؛ َّ
أن كل
يستفيدوا من مبدأ جيد وضعه سيبويه ،مؤداه ربط الكالم بمقام استعماله ( ،)1بل وقع في ظنهم َّ
تقديم أو تأخير أو حذف َّإنما هو للعناية واالهتمام كما قال صاحب الكتاب (.)2
والُبَّد من اإلشارة في هذا المضمار إلى أَّن األسلوبية تلتقي في كثير من خصائصها بالبالغة
العربية من جهة ،وبنظرية السياق من جهة ثانية ،لتصبح علمًا يتناول طريقة التعبير عن الفك//ر من
/تراكيب
خالل اللغة ،وذلك يعني دراسة كيفيـة استخدام المفردات واألبنية الصرفية والنحوية في ال/
اللغوية (.)3
/طلح أو
وفكرة السياق هذه ماثلة في أذهان البالغيين القدماء سواء كان التعبير عنها بالمص/
/امال
/ى ع/
/ذا المقتض/
بغيره ،كمراعاة المقام أو مطابقة الكالم لمقتضى الحال ،فالسكاكي يعتبر ه/
/ان
/إن ك/
أساسيًا يراعى في النص ،وبمقتضاه تتحدد الدالالت والمعاني ،فيقول في هذا الشأن " :ف/
مقتضى الحال إطالق الحكم فُح ْس ُن الكالم تجريده من مؤكدات الحكم ،وإن كان مقتض//ى الح//ال
بخالف ذلك فُح ْس ُن الكالم تحليه بشيء من ذلك بحسب المقتضى ضعفًا وقوًة ،وإن كان المقتض//ى
الحال طي ذكر المسند إليه فُح ْس ُن الكالم تركه ،وإن كان المقتضى إثباته على وج//ه من الوج//وه
ُن الكالم المذكورة ،فُح ْس ُن الكالم وروده عاريًا عن ذكره ،وإن كان المقتضى ترك المس//ند فُح ْس
وروده عاريًا عن ذكره ،وإن كان المقتضى إثباته مخصصًا بشيء من التخصيصات فُح ْس ُن الكالم
نظمه عند انتظام الجملة مع أخرى فصلها أو وصلها ،واإليجاز معها أو اإلطناب ،أعني طي الجمل
عن البين وال طيها فُح ْس ُن الكالم تأليفه مطابقًا لذلك " (.)4
ولقد سار علماء البالغة والتفسير على هذا النهج محاولين أن يفسروا الدالالت ويتعمقوا في
أسرار التراكيب والنصوص الستكناه مضامينها.
/اهرة
الق/ 1ينظر :البدراوي زهران ،عاِلم اللغة :عبد القاهر الجرجاني (المفتُّن في العربية ونحوها) ،دار المعارف ،ط،4
1987م ،ص.242 – 238
2وهو المبدأ الذي وضعه سيبويه عند حديثه عن جواز تقديم المفعول على الفاعل ،فقال" :كأنهم إنَّما يقدمون الذي بيانه أهُّم
لهم وهم ببيانه أعنى ،وإن كانا جميعا يهمانهم ويعنيانهم " ،الكتاب ،ج ،1ص.34
3العربي قاليلية ،التقديم والتأخير في التراكيب اللغوية (دراسة داللية) ،رسالة دكتوراه دولة في اللغة ،جامعة وهران
السانية ،الجزائر 2001م ،ص .288
4أبو يعقوب السكاكي ،مفتاح العلوم ،تحقيق أكرم عثمان يوسف ،ط ،1دار الكتب العلمية ،بيروت 1982م ،ص.169
45
البنــاء األسلـوبي الفصــل األول
/نى
/د المع/
ويعني مصطلح السياق التركيب أو السياق الذي ترد فيه الكلمة ويسهم في تحدي/
/اة
/ز النح/
المتصور لها ( ،)1فهو مصطلح متضمن داخل التعبير المنطوق بطريقة ما( ،)2ولذلك رك/
على اللغة المنطوقة ،فتعّر ضوا للعالقة بين المتكلم وما أراده من معنى ،والمخاطب وما فهم//ه من
الرسالة ،واألحوال المحيطة بالحدث الكالمي.
كما أَّن الكلمة ال معنى لها خارج السياق الذي ترد فيه ،وربما اتحد المدلول واختلف المعنى
طبقا للسياق الذي قيلت فيه العبارة أو طبقا ألحوال المتكلمين والزمان والمكان الذي قيلت فيه(.)3
ولقد تبلور هذا االتجاه في نظرية عرفت (بنظرية السياق) على يد العالم اإلنجليزي ج//ون
/ذه فيرث( ،)ونظرية السياق هي جملة العناصر المكونة للموقف الكالمي أو للحال الكالمي/
/ة ،وه/
العناصر هي(:)4
/ير المتكلم
/هد الكالم غ/
/يات من يش/
-شخصية المتكلم والسامع وتكوينها الثقافي وشخص/
والسامع إن وجدوا وبيان ما لذلك من عالقة بالسلوك اللغوي.
-العوامل والظواهر االجتماعية ذات العالقة باللغة وبالسلوك اللغ//وي لمن يش//ارك في
الموقف الكالمي.
-أثر النص الكالمي في المشاركين كاإلقناع أو األلم أو اإلغراء أو الضحك.
-إن نظرية اللغة التي تقوم على التصور الخاص بسياق الحال تشمل جميع أنواع الوظائف
الكالمية أي أنها تستطيع أن تدرس وتفسر جميع األغراض التي يخرج إليها الكالم.
وما فتئ فيرث يؤكد هذه األفكار والمفاهيم التي ينبغي أن توضع في الحسبان أثناء تحلي//ل
/ا
النص اللغوي ،فالميراث والدوافع والحاجات والرغبات األساسية للحي وللطبيعة االجتماعية كله/
عناصر البد من مراعاتها واالهتمام بها باعتبارها ذات أهمية في التحليل اللغوي.
1سامي عياد حنا وآخرون ،معجم اللسانيات الحديثة ،مكتبة لبنان 1997م ،ص.28
2محمد حماسة عبد اللطيف ،النحو والداللة ،ط 1القاهرة 1403هـ 1983م ،ص.98
3ينظر :المرجع نفسه ،ص .36 ،33
/زء من
/ة كج/ ولد فيرث سنة 1890م ،اهتم بالدراسات الشرقية وتأثر بنظريات الهنود القدماء ،يصر على دراسة اللغ/
المسار االجتماعي أو كشكل من أشكال الحياة اإلنسانية وليس كإشارات اصطالحية ،وتتكون الداللة برأب//ه من مجموع//ة
العالقات أو الوظائف العائدة للعنصر اللغوي والمرتبطة بمضمون محيطه ،توفي سنة 1960م ،ينظر :ريم//ون طح//ان،
األلسنية علم اللغو الحديث ،ص 281وما بعدها.
4العربي قاليلية ،التقديم والتأخير في التراكيب اللغوية (دراسة داللية) ،ص.253
46
البنــاء األسلـوبي الفصــل األول
فالنص اللغوي أو الرسالة عند فيرث يفهم في إطار أركان أساسية هي (:)1
-1وجوب اعتماد كل تحليل لغوي في السياق.
-2وجوب تحديد بيئة الكالم المدروس وصيغه لما لها من اثر في تحديد معاني الرس//الة
وتوضيح أفكارها وفهم القصد منها.
-3إن دراسة األحداث الكالمية وتحليلها يقتضي تجزيئه//ا إلى مراح//ل للوص//ول إلى
النتيجة ،ومن هذه المراحل معرفة المعاني األساسية للكالم ثم المعاني الفرعية ال//تي تس//تفاد من
السياق ،وكذا الدالالت االجتماعية والعرفية التي غالًبا ما تفرضها البيئة االجتماعية وما يميزها من
ظروف ومالبسات.
/لوبية في
/ات األس/
من هنا تبرز ضرورة السياق عند فيرث لتصبح حقال في مجال الدراس/
ضوء تحديد وظائف الكلمات والعبارات في النص.
()
مصطلح السياق في كتابه (دور الكلمة في اللغ//ة) ليؤك//د أن ولقد تناول ستيفن أولمان
/ا
/ة كله/
/ل والقطع/
"السياق ينبغي أن يشمل ال الكلمات والجمل الحقيقية السابقة والالحقة فحسب ب/
والكتاب كله ،كما ينبغي أن يشمل بوجه من الوجوه كل ما يتصل بالكلمة من ظروف ومالبس//ات،
والعناصر غير اللغوية المتعلقة بالمقام الذي تنطق فيه الكلمة لها هي األخرى أهميتها البالغة في هذا
الشأن" (.)2
والحديث عن نظرية السياق باعتبارها نهجا إلى تحليل النصوص اللغوية نكون قد اقتربن//ا
/ا دالالت
/ة ،ومنه/
/ا المختلف/
/ان دالالته/
من علمائنا القدماء ،فإلى أي حد يمكننا اإلفادة منها ،وتبي/
/ماء
/بي لألس/
/رار النس/
/تركيب الجملي ،أو التك/
مواضيع األسلوبية ،كالوزن والقافية أو أنواع ال/
واألفعال والصفات ،أو االستعمال المتميز للمجاز واالستعارة والصور وما إليها.
إن أول قيمة فنية معنوية تواجهنا في شعر البحتري هي اللفظة ،واللفظة في واق//ع أمره//ا
صورة صوتية وتصور ذهني ،أَّم ا صورتها الصوتية فتتمثل في مجموعة األصوات التي تتكون منها
/ة
/ل كلم/
اللفظة ،وأَّم ا التصور الذهني فهو مدلول اللفظة أو معناها الذي ينطبع عادة في الذهن ،وك/
تنطق تحمل معها وجهين – كما للورقة– أو قطبين :قطب الصوت ،وقطب الداللة (.)1
وعلى الرغم من صعوبة الفصل بين الصورة الصوتية والتصور الذهني للكلم//ة ،يق//ول
/وز
/ا رم/ مكليش " :الكلمات مبنية بناء مزاوجًا ،إَّنها أصوات تعتبر رموزًا للمع/
/اني ،وهي أيض/
/فة
/تعملها بالص/
للمعاني تعتبر أصواتًا ،وأنت ال تستطيع أن تستعملها بإحدى الصفتين دون أن تس/
/وت الثانية ،أي أَّنك ال تستطيع أن تستعمل الجرس دون المعنى ،وال تستطيع كذلك أن تغ/
/ير الص/
تغييرًا ماديًا دون تغير المعنى" (.)2
وسنعنى في دراستنا هذه بتناول األلفاظ في مستوى السياق بصفتها الداللية أي كونها معنى
ينطبع في الذهن ،أَّم ا طبيعتها الصوتية ،ومدى انسجامها مع األصوات األخ//رى ،فسندرس//ها في
مستوى الموسيقى ،ألَّن أصوات الكلمات تسهم بقدر وافر في موسيقى شعر البحتري.
ونحن إذ ندرس الكلمة بصفتها الداللية نؤكد أَّن قيمتها الفنية إَّنما تتضح من خالل الس//ياق،
وكان عبد القاهر الجرجاني من أوائل النقاد الذين تنبهوا ألهمية السياق ،فعنى بطريقة تركيب العبارة
عناية بالغة ،وكان النظم عنده أساس التفاضل بين النصوص ،فاأللفاظ رموز ألفكار ،وهياكل جامدة
/اظ في المعجم ،ولكن السياق الِّش عري يمُّدها بالحياة ،فقد قال" :األلفاظ ال تتفاض/
/ل من حيث هي ألف/
مجردة ،وال من حيث هي كلم مفردة ،وإَّن األلفاظ تثبت لها الفضيلة وخالفها في مالءم//ة مع//نى
اللفظة لمعنى التي تليها ،أو ما أشبه ذلك ِم َّم ا ال تعلق له بصريح اللفظ"(.)3
ونص الجرجاني يوضح أَّنه ال يوجد لفظة شعرية ،ولفظة غير ش//عرية خ//ارج الس//ياق
/لح الِّش عري ،ألَّن السياق قادر على إضفاء الصفات الجمالية على كلمات قد تبدو بمفرده/
/ا ال تص/
للشعر ،ونمثل لذلك بكلمة (إذن) التي تقترن –غالبًا– باستنتاجات علم الرياضيات إال أَّن البح//تري
استطاع أن يضعها في سياق خاص ،فاكتسبت في بنيتها الجديدة داللة شعرية ذات طابع انفع//الي،
وذلك في قوله:
()4
ِإَذ ن َلم َيُقل َأُّي الِر جاِل الُمَه َّذ ُب َخ الِئُق َلو َيلقى ِز ياٌد ِمثاَلها
1فردينان دي سو سير ،علم اللغة العام ،ترجمة يوسف عزيز ،ومراجعة مالك يوسف المطلبي ،دار آفاق عربي//ة ،بغ//داد
1985م ،ص . 132
/ورك /يروت – نيوي//ايغ ،ب/ 2إرشيبالد مكليش ،الشعر والتجربة ،ترجمة سامي الخضراء الجبوسي ،ومراجعة توفيق الص/
1996م ،ص . 38
3الجرجاني ،دالئل اإلعجاز ،ص .38
4البحتري ،الديوان ،ج ،1ص .138
48
البنــاء األسلـوبي الفصــل األول
والسياق هو الذي يخلص الكلمة من كل الدالالت الماضية التي تدعها الذاكرة تتراكم عليه//ا
/تقلة عن
/ذهن مس/
وهو الذي يخلق لها قيمة حضورية ،ولكن الكلمة بكل معانيها الكامنة توجد في ال/
/دعوها(،)1
جميع االستعماالت التي تستعمل فيها ،ومستعدة للخروج والتشكل بحسب الظروف التي ت/
فالسياق يحدد ما إذا كانت كلمة (قريب) -على سبيل المثال – تعني قرابة الرحم ،أو قريب المسافة،
الحظ قول البحتري:
()2
َفَينأى َقريٌب َو َيدنو َبعيد َأفي ُك ِّل َيو َلنا ِر حَلٌة
ٍم
فاإلنسان في بيت البحتري ،إَّنما هو إنسان العين كما يبدو ذلك من خالل السياق.
ولرب معترض يقول :أتصلح ألفاظ المعجم كافة لشعر البحتري ،وهل للسياق الِّش عري قدرة
على أن يحتضن أَّية لفظة في المعجم من دون أن تبدو نافرة ؟.
وهنا يستحسن أن نحدد مفهومنا للمعجم ،حيث نقصد به المعجم المتداول في زمن البح//تري
/ير
/ا وغ/
/داول منه/
/ر المت/
وليس المعجم الذي عني بجمع ألفاظ اللغة منذ القدم ،وحرص على ذك/
المتداول ،والبحتري كواحد من شعراء وعلماء القرن الثالث للهجرة يتخَّير من ألفاظ لغت//ه معني//ة
للتداول ،تميل إلى السالسة والسهولة والنطق بها ،وقد يضيف في شعره ألفاظًا جديدة ،وعندما نضع
المعجم المتداول إزاء ناظرنا ال يخامرنا شك في أَّن ألفاظه كافة يمكن أن تبنى بناء شعريًا أو تستخدم
ألغراض أخرى ،وأَّن السياق وحده يحدد المعنى الموضوعي أو العاطفي للفظة ،كما أَّنه يحدد تمكن
البحتري من فِّنه الِّش عري عندما نالحظ لفظة واحدة في سياقين متفاوتين في اإلبداع.
ومن هنا يتضح أَّن األلفاظ في شعر البحتري تتجه عادة إلى الرقة ،قال قدامى "ولما ك//ان
المذهب في الغزل إَّنما هو الرقة واللطافة والشكل والدماثة ،كان ما يحتاج فيه أن تك//ون األلف//اظ
لطيفة مستعذبة مقبولة ،غير مستكرهة " (.)4
كما تتركز أهمية سياق الحال أو المقام في الدرس الداللي في فوائد منه//ا :الوق//وف على
1فندريس ،اللغة ،تعريب عبد الرحمن الدواخلي ومحمد القصاص ،مصر (د.ت) .
2البحتري ،الديوان ،ج ،2ص .791
3المصدر نفسه ،ج ،1ص .276
4
? .قدامى بن جعفر ،نقد الشعر ،تحقيق د .محمد عبد المنعم خفاجي ،دار الكتب العلمية ،بيروت ،ص 191
49
البنــاء األسلـوبي الفصــل األول
ومن نظرية النظم هذه بنى األسلوبيون منهجهم الحديث "األسلوبية" ،فأض//حت بفض//ل
الكثير من المالحظات المتراكمة علمًا خاصًا بدراسة جماليات الشعر والنثر.
ولم يعد المنهج األسلوبي يعتمد على األلفاظ وعالقاتها بالجمل وال//تراكيب والقواع//د
/يغ
النحوية فحسب ،بل توسع مفهوم علم األسلوب ليشمل كل ما يتعلق باللغة من أصوات وص/
فندريس ،اللغة ،ترجمة الدواخلي والقصاص ،مكتبة األنجلو المصرية سنة 1950م ،ص.231 1
العربي قاليلية ،التقديم والتأخير في التراكيب اللغوية (دراسة داللية) ،ص.289 3
50
البنــاء األسلـوبي الفصــل األول
وكلمات وتراكيب ،فتداخل مع علم األصوات ،والصرف ،والداللة ،والتراكيب ،لتوضيح الغاية
/ل
منه ،والكشف عن الخواطر ،واالنفعاالت والصور ،وبلوغ أقصى درجة من التأثير الفني ،ب/
/رى
/وم أخ/
/فة ،وعل/
أخيرا ،واشتمل على علم النفس ،واالجتماع ،والفلس/
ً توسع أكثر من ذلك
شهدت دقة مناهجها ،ومدى صالحيتها في إغناء المنهج األسلوبي.
وينبغي هنا أن نشير إلى فرٍق كبيٍر بين أمرين هما :علم اللغة واألس//لوبية فيم//ا يتص//ل
/لوبية
باألهداف والنتائج ،فالوصف اللغوي يتضَّم ن استنباطًا لقواعد تحكم العبارات ،أَّم ا في األس/
والتحليل األسلوبي فإَّن غايته الكبرى ليست استنباط قواعد ،وإَّنما هي مسألٌة تضمينَّيٌة ،أي إب//راز
خواص أسلوٍب بعينه ،والواقع أَّن هدف التحليل األسلوبي يطمح في بيان الخواص المميزة ألسلوٍب
ما(.)1
والمهم من هذا كلهَ ،م ْن َأَّص َل هذا العلم ،ووضع ُأسسه وقواعده النهائية؟.
عرفت األسلوبية في العصور الحديثة تمرحًال ال يخضع ألي منطق تاريخي ذاتي ينبع من
كيانها الخاص ،والسبب في ذلك أنها ظلت منذ قيامها عام (1902م)على ي/د تلمي/ذ فردين/ان دي
() ()
تعيش التبعية وتحيا شارل بالي ""Charles Bally سوسير ""Ferdinand de Saussure
على ما تقدمه لها مناهج الحداثة( ،)2وأهم منهج ارتبطت به واحتمت من الطْر ق البالغي للمس//ائل
()
كمنهج وصفي تحليلي علمي يقدم لألسلوبية حبل النجاة من ربق االنطباعي//ة األدبية :اللسانيات
جّ
ل والمعيارية ليقحمها في جفاف المنهج وليوقفها عند حدود االستقراء الشكلي المجرد ،لذلك كان ُ
1رجاء عيد ،تحليل األسلوب والمنهج العلمي لدراسة األدب ،مجلة التربية قطر ،العدد ،103ديسمبر 1992ص. 173
سويسري ( ،)1913 -1857درس في جنيف ثم ليبزغ حيث أعد أطروحة موضوعها :حول استعمال "المضاف" المطلق
في اللغة السنسكريتية ،ثم استقر بباريس بين ستة 1880وسنة ،1891فدرس بمدرسة الدراسات العليا النحو المق//ارن،
وأعد رسالة عن نظام الحركات في اللغات الهندو -أوروبية ،ثم عاد إلى جنيف فدرس بها اللغة السنسكريتية والنحو المقارن
ثم األلسنية العامة سنة ،1907ودروسه طيلة الفترة األخيرة من حياته هي التي نشرها بعض تالميذه في كتاب أطgق عليه
اسم" :دروس في األلسنية العامة" وكان ذلك سنة 1916م ،المسدي ،األسلوبية واألسلوب ،ص.244
شارل بالي ألسني سويسري ،ولد بجنيف ،ومات بها ( ،)1947 -1865اختص في اللغة السنسكريتية وتتلمذ على يد سو
/ى/وئه ،فأرس/ سير فاستهوته وجهة األلسنية الوصفية ،ولما تمثل مبادئ المنهج الهيكلي عكف على دراسة األسلوب في ض/
قواعد األسلوبية األولى في العصر الحديث ،من مؤلفاته" :مصنف األسلوبية الفرنسية"" ،اللغة والحياة"" ،األلس//نية العام//ة
واأللسنية الفرنسية" ،ينظر :عبد السالم المسدي ،األسلوبية واألسلوب ،ص .237
2عبد السالم المسدي ،األسلوبية واألسلوب ،ص ،16وصالح فضل ،علم األسلوب – مبادئه وإجراءاته– ،ص ،86وينظر:
/وش، /دها ،ورابح بوح/ جورج مونان ،مفاتيح األسلوبية ،ترجمة الطيب بكوش ،منشورات الجديد تونس ،ص 131وما بع/
األسلوبيات والمحاوالت العربية ،دراسة في أصول البحث العلمي ،مجلة بونة للبحوث والدراسات ،العدد ،1مارس 2004
م ،ص .104
تعتبر اللسانيات بمفهومها الحديث علما حديث العهد ،لم يعرف له تطوره الحالي إال في بداية القرن العشرين ،وهو يستمد
روحه من التجديد الذي ما انفك يطرأ على الدراسات اللغوية بعد أن أدى في العصر الماضي إلى إحداث ما يسمى ب//النحو
المقارن ،ينظر جورج مونان ،علم اللغة في القرن العشرين ،ترجمة نجيب غزاوي ،ص .24
51
البنــاء األسلـوبي الفصــل األول
1فردينان دي سوسير ،دروس في األلسنية العامة ،ترجمة صالح القرمادي وآخرين ،ط،1
الدار العربية للكتاب ،ت//ونس
1985م ،ص.37
2مجدي وهبه ،معجم مصطلحات األدب ،ص ،543وينظر عبد السالم المسدي ،األسلوبية واألسلوب ،ص.48
3المرجع نفسه ،ص .543
4صالح فضل ،علم األسلوب – مبادئه وإجراءاته – ،ص.86
5المرجع نفسه ،ص .86
52
البنــاء األسلـوبي الفصــل األول
ويميز "بالي" بين أمرين هما "األسلوبية الباطنية واألسلوبية الظاهرة ،فاألولى تهتم بدراس//ة
التوازن والتناقض للمؤثر في مقابل العنصر العقلي في دائرة واحدة من دوائر لغة واحدة ،أما الثانية
فيمكن أن نقول عنها بأَّنها أسلوبية مقارنة ألَّنها تقيم مقارنة بين خواص لغة ما ،وبين لغة خ//واص
أخرى مغايرة " (.)2
واصلت مدرسة بالي مسيرتها على درب أصيل في الساحة العلمي//ة لتتلقى اإلعج//اب من
المتلقين ،فهذان " ماروزو " و " كراسو " يناديان بشرعية األسلوبية ،فعندهما أَّنها علم له مقومات//ه
وأدواته اإلجرائية ،وسار في ركابهما "جاكبسون" َو "ميشال ريفاتـر" َو "ستيفـن أولمـان" َو "دي
لوفـر" َو "سبيتـز" َو " أرمانـد كوالن " َو غيرهم من الباحثين (.)3
فاألسلوب إذن هو " انحراف عن قاعدة ما " ( ،)4أو " انزياح عن النمط التعبيري المألوف أو
المتواضع عليه " ( ،)5واالنزياح يكون خرقًا للقواعد حينًا ولجوءًا إلى ما نذر من الصيغ في أحي//ان
أخرى.
ونعني من ضمن ما قيل أَّن مصطلح "األسلوبية" يتجاوز مصطلح "األسلوب" ألَّنها تفتح أفاقًا
أوسع تمِّك ن من " دراسة اإلمكانات اللغوية التي تولد تأثيرات جمالية " (.)6
1عبد السالم المسدي ،األسلوبية واألسلوب ،ص ،30-29وبَّس ام قُّط وس ،المرجع السابق ،ص 107وما بعدها.
2اللغة واألسلوب لعمر أوكان ،طِ 1اتحاد كتاب العرب ،دمشق 1980م ،ص.140
3منذر عياشي ،األسلوبية وتحليل الخطاب ،ط ،1حلب ،سوريا 2002م ،ص ،27وعمر أوكان ،اللغة واألسلوب ،طِ 1اتحاد
كتاب العرب ،دمشق 1980م ،ص.140
54
البنــاء األسلـوبي الفصــل األول
صوتية ،كـ(:األنماط الصوتية للكالم ،أو الوزن أو القافية) ،أو جملية كـ( :أنواع التركيب الجملي)
/ال
/ماء واألفع/
/بي لألس/
أو معجمية كـ (:الكلمات المجردة ضد الكلمات المحسوسة ،التكرار النس/
والصفات)أو بالغية كـ:االستعمال المتميز للمجاز ،واالستعارة ،والصور وما إليها"(.)1
/ائص
/ذ الخص/ من خالل ما سبق يتضح أَّن الدراسة األسلوبية هي تلك الدراسة ال/
/تي تتخ/
الجمالية لألساليب بما فيها من سمات تصغى لها األذن ،فهي تبحث في المفردات ومدى فص//احتها
/ا
ومناسبتها للمقام ،وألفها على ألسنة األدباء ،كما تبحث في األساليب وما بها من موسيقى ،ومدى م/
تضمنه من وفاق وانسجام ،ومدى مناسبة األساليب للتجربة التي تعبر عنها ،ومدى ما فيها من ظالل
/ة
/اص في دالل/
/ابع خ/
/وير ذي ط/
وإيحاءات ترتاح لها النفس وتطمئن إليها ،وما تضمنه من تص/
األسلوب من جانب وتجميله من جانب آخر.
فاألسلوبية تتجه إلى دراسة هذه المعاني التي تؤديها الكلمات حسب السياقات التي ترد فيها،
/ا
/تراكيب من حيث كونه/
/ة أو إلى ال/
وما تحدثه من إيحاءات كثيرة ،وال يكفي هنا النظر إلى الكلم/
مجازًا أو حقيقة أو استعارة أو تشبيها مثلما هي الحال في الدراسات البالغية من قبل ،ب//ل تح//اول
/دوال
/ط بين ال/
/ة الرب/
/تراكيب ،وكيفي/
األسلوبية أن تكشف طريقة المبدع في استعماله األلفاظ وال/
والمدلوالت ،ثم كيفية تعامله مع ما تفرضه عليه طبيعة اللغة (.)2
/ة وما يمكن اإلشارة إليه هو أَّننا ال نرى خالفا جذريا بين الباحثين بخصوص تحدي/
/د طبيع/
المصطلح ،فجميعهم يتفق على أن األسلوبية وعلم األسلوب واألس//لوبيات هي الدراس//ة العلمي//ة
لألسلوب األدبي.
ب -األسلوبيـة والعلـوم األخـرى
ب 1-األسلوبية والنقـد:
إن استخدام "األسلوب" مصطلحًا نقديًا على نطاق واسع طيلة قرون ،غالبًا ما اقتص//ر على
َّ
طريقة انطباعية نسبيًا في محاولة جذب االهتمام ناحّية مّيزات االستخدام اللغوي أو غرابته في نّص
أدبي محَّدد ،أو لدى مؤّلف معّين ،أو في مرحلة محّددة ،بيد أَّن األسلوبية الحديثة -محاولة لمقارب/ة
قضية األسلوب نقديًا في سطور أكثر دقة وأكثر منهجية -ليست فرعًا من فروع المعرفة بذاتها ،بل
/تقّلة ُتث/
/ير هي أشبه بمعبر يوصل بين علم اللسانيات ،الذي يعتبر النصوص األدبية مجّر د مادة مس/
1محمد عبد المنعم خفاجي ،وآخرون ،األسلوبية والبيان العربية ،الدار المصرية اللبنانية ،ط1992 ، 1م ،ص.11
2العربي قاليلية ،التقديم والتأخير في التراكيب اللغوية (دراسة داللية) ،ص .293
55
البنــاء األسلـوبي الفصــل األول
االهتمام في الدراسة المتعّم قة للغة ،وبين النقد األدبي ،وينطلق ذلك من االفتراض بأّن أي فك//رة أو
مفهوم يمكن توضيحها أو توضيحه في واحدة من عّدة طرق متباينة ،وأَّن المؤلف يمارس خيارًا عن
وعي أو دون وعي ،ويمليه عليه ذوقه الشخصي ،أو متطلبات القارئ ،أو الجنس األدبي أو أي شيء
آخر في تقرير شكل الكلمات الدقيق التي يتوّج ب استخدامها ،إَّن هذا االفتراض اتفاقي ،وقد حّر م//ه
النقد الحديث الذي يرفض التفريق بين شكل األدب ومضمونه ما ُك تب قد ُك تب.
وقد انتهت أغلب الدراسات التي تناولت األسلوبية إلى إقرار حقيقة واحدة هي أَّن األس//لوبية
/ة
/ه اإلجرائي/
تجمع بين اللغة والنقد ،ساعية إلى توظيف ُم نجزات البحث اللساني استنادا على أدوات/
ومفاهيمه في دراسة الظواهر اللغوية في تحليل الخطابات األدبية في مختلف أنواعها ،غير أَّن ه/
/ذه
اإلجراءات وإن كانت هامة في التحليل األسلوبي ،فهي ال تحدد الوقائع األسلوبية التي يحق//ق به//ا
الخطاب أدبيته ،حيث جعلت أسلوب هذا الخطاب مادة أدبية للبحث تسعى إلى تصنيفها علميا ،وتنزع
إلى تحديد نتائجها ،وتقريب حقائقها وفق مناهـج علمية تمكنها من االتسام بالشرعية العلمية (.)1
والخطاب األدبي في هذا النسق جملة عالئقية إحالية مكتفية بذاتها حتى لتكاد تكون مغلق//ة،
ومعنى كونها عالئقية أَّنها مجموعة حدود ال قوام لكل منها بذاتها ،وهي مكتفيـة بذاتها أي أَّنه//ا –
مكانا وزمانا ،وجودًا ومقاييس -ال تحتاج إلى غيرها ،فالروابط التي تقيمها مع غيرها تؤلف جملة
أخرى ،وهكذا بال نهاية (.)2
فالخطاب األدبي بهذا المنظار ال تنطبق عليه الثنائية التي أربكت الفكر الكالسيكي ،كال//ذات
والموضوع ،والداخل والخارج ،والشرط والمشروط ،والصورة والمضمون ،والروح والمادة ،فهو
يأخذ في حضوره لذاته وبذاته( ،)3ويذهب جاكبسون في تحديد مفهوم الخطاب األدبي إلى أَّنه " نٌّص
تغَّلبت فيه الوظيفة الشعرية للكالم ،وهو ما يفضي حتما إلى ماهية األسلوب بكونه الوظيفة المركزية
المنظمة "( ،)4ولذلك كان النص حسب جاكبسون خطابا تركب في ذاته ولذاته(.)5
والحديث عن الخطاب األدبي وخصوصياته األس//لوبية والجمالي//ة ،والبحث في أس//راره
ومكوناته البنيوية ،والوظيفية ،كان دائما موضع اهتمام النقاد ،ودارسي األدب في كل األزمنة ،وفي
/احثين جميع األمكنة ،غير أَّن البحث في الظاهرة األدبية بدأ في السنوات األخيرة مع جمل/
/ة من الب/
?جوزيف ميشال شريم ،دليل الدراسات األسلوبية المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع ،ط1987 ،2م ،ص.7 1
أنطوان مقدسي ،الحداثة واألدب ،الموقف األدبي ،عدد ،9جانفي ،1975ص.5 2
4
Roman Jakobson: Essais de Linguistique Générale, p30-31.
المرجع نفسه ،ص.31-30 5
56
البنــاء األسلـوبي الفصــل األول
األسلوبيين ،واللسانيين ،والشعريين ،والبنيويين ،والسميائيين ،الذين حاولوا علمنة دراسة الخط//اب
األدبي ،وقد تطور البحث في مجال تحديد مفهوم الخطاب األدبي وتحليله ،وظَّل هذا النشاط المعرفي
متصل الحلقات في العقود األخيرة ،وبخاصة في ميدان المناهج النقدية الحديثـة(.)1
واألسلوبية – من حيث – هي علم له مقاييسه في التعامل مع الخطاب األدبي وتحليله ،فإَّنها "
/تويات
/وار على مس/
نوع من الحوار الدائم بين القارئ والكاتب من خالل نص معين ،ويتم هذا الح/
أربعة :النص والجملة واللفظة والصوت " (.)2
/ألوف في
/اب عن الم/ ومن هنا يمكننا القول بأَّن أدبية الخطاب تتحدد بمقدار خ/
/روج الخط/
تشكيله البنيوي والوظيفي ،وتجاوزه لمستوى التقريرية في اإلبالغ ،وهذه األدبية هي في األس//اس
وليدة تركيبه األسلوبي واللساني (.)3
وهناك شرطان في نقد منذر عياشي يحّققان للخطاب األدبي وجوده ،هما ش/عرية الخط/اب
وأدبية األسلوب ،بهما يعلو على الكالم اليومي ،ولن يتحّقق ذلك أيضًا ،إَّال إذا توافرت لهذا الخطاب
األدبي السمات الآتية:
-1الّلغة فيه ال تؤول إَّال به.
-2أن يكون مؤّس سًا على فعل الخيال.
-3األسلوب فيه موضوعه وعاداته ،اّلتي ينطوي عليها تمّيزه (.)4
ويؤّك د الباحث أَّن علماء العرب ونّقادهم في القديم قد فطنوا إلى أَّن األس//لوب ليس غالفً//ا
خارجيًا ،وإّنما هو " طريقة خاّص ة في نظم الكالم وإنشائه " ( ،)5فالشعر وفق هذه الرؤية ال يحيل إلى
شيء غير ذاته ،وال يمّثل إَّال كيانه ،إَّنه وحدة مستقّلة ،وهذا ما دفع المسّدي في تعّر ضه إلى محاصرة
الّنص أن يصّر ح بقوله" :إَّن ما يمّيز الخطاب األدبي هو انقطاع وظيفته المرجعية ،ألّنه ال يرجعن//ا
إلى شيء ،وال يبّلغنا أمرًا خارجيًا ،وإّنما هو يبّلغ ذاته ،وذاته هي المرجع والمنقول في نفس ال/
/وقت
/دة ،متمّي زة
/ة جدي/
ً/ا على لغ/
"( ،)6فانقطاع األسلوب عن حقيقته المرجعية مرّده إلى كونه مؤّس س/
1ينظر :نور الدين السد ،األسلوبية وتحليل الخطاب دراسة في النقد العربي الحديث ،ج ،2ص 11وما بعدها.
2جوزيف ميشال شريم ،دليل الدراسات األسلوبية ،ص .7
3نور الدين السد ،األسلوبية وتحليل الخطاب دراسة في النقد العربي الحديث (تحليل الخطاب الشعري والسردي) ،ج 2دار
هومة للطباعات والنشر والتوزيع ،الجزائر ص.94
4منذر عياشي ،مقاالت في األسلوبية ،ص.150-149
5المرجع نفسه ،ص .209
6عبد السالم المسدي ،األسلوبية واألسلوب ،ص.116
57
البنــاء األسلـوبي الفصــل األول
بمواصفات ذاتية ،لكّنها غير ثابتة ،أي أَّنها قابلة للتحّو ل ،وانفكاك قيود العادة ،ومن هنا تبرز حيوّيتها
البْعَد النوعي في استغالل طاقات الّلغة ،ولهذا السبب تط ّ/ر ق
في خلق الشعر ،ووقتها يمّثل األسلوب ُ
/لوب المتمّث ل في
/وظيفي ،والكيفي لألس/
المسدي إلى التقاء دارسي األسلوبية ،والنقد في الطابع ال/
الصفة اإلنشائية ،إذ يقول " :إَّن األسلوب هو الميزة النوعّية لألثر األدبي ،وال يعّر ف األثر إَّال بم//ا
يمّيزه "( ،)1ذلك أَّن الّنص الشعري كوجود ال كحالة ال يستعير من غيره ما هو شائع ومتواتر ،ألّن ه
اختيار يؤّك د صفات القصدّية (سمات أسلوبية خاّص ة) ،تمنح للشعر فّنيته ،وقد حّدد ياكبسون كيفي//ة
تشّك ل األسلوب ومعالمه في كالمه الممّيز عن الوظيفة الشعرية ،اّلتي هي الوظيفة الّلسانّية المهيمنة
على بقية الوظائف األخرى ،وهي المرجعية واالنفعالية ،واإلفهامية واالنتباهية والميتالسانية (.)2
فعلم األسلوب بهذا المنحى يكون بيانًا ألداء التعبير عبر الفكر من خالل اللغة ،ومع م//ا في
هذا من اِّتساع الفجوة بين الفكر واللغة ،وهو يساعد على ملء الفجوة بين الدراسات اللغوية واألدبية
في مجال التعليم والبحث معًا ،وبفضله يمكن الوصول إلى الوحدة الجوهرية الشاملة التي يهدف إليها
/ك إلى تحدي/د أث/ره
النقل المتكامل في تغطيته لمختلف مستويات العمل األدبي بنيوَّيًا ليصل من ذل/
الجمالي األخير(.)3
: () 4
وفي اإلمكان أن نحِّدد األبعاد اآلتية ألِّي أداٍء لغوٍّي
/ورس
-موضوع الحديث ،أي الشيء الذي نتحَّدث عنه ،وهو ما أطلق عليه العالم شارلز م/
تعبير البعد السيمانطيقي (.)Sematique dimension
-األطراف بمعنى المتكلم والمخاطب.
-العملية الكالمية بمعنى اللغة التي ترسل بها الرسالة.
-الصياغة الشعرية وهي اللغة التي نصوغ بها الرسالة.
-الرسالة والمقصود بها الشكل أو الصيغة التي نقدم موضوع الحديث أو المضمون،
وهي بذلك ترتيب المادة الكالمية.
إَّن كَّل األبعاد الخمسة المذكورة آنفًا تدخل في اللغة الشعرية مثلما ت//دخل أيضً//ا في الكالم
العادي ،إَّال أَّن هذه األبعاد في اللغة الشعرية تخضع لنظاٍم مغايٍر ،بل إَّن بعض هذه األبعاد تقوم بأداء
وظيفٍة مختلفٍة في مغزاها عَّم ا نتوقعه في لغة النثر ،ولعَّله من الالفت للنظر أَّن كًّال من هذه األبع//اد
المرجع نفسه ،ص .110 1
2
Roman Jakobson, essais de linguistique générale, p78-79.
صالح فضل ،علم األسلوب – مبادئه وإجراءاته – ،ص.159-158 3
رجاء عيد ،تحليل األسلوب والمنهج العلمي لدراسة األدب ،مجلة التربية– قطر– ،ع ،103ديسمبر 1992ص.176 4
58
البنــاء األسلـوبي الفصــل األول
عبد السالم المسدي ،األسلوبية واألسلوب -نحو بذيل ألسني في نقد األدب – ،ص .115 2
فتح اهلل أحمد سليمان ،األسلوبية ،ط ،1الدار الفنية للنشر والتوزيع ،القاهرة -مصر ،1990ص.9 3
59
البنــاء األسلـوبي الفصــل األول
/ا
/ية وآثاره/
/ا النفس/
/ل إلى بواعثه/
/ة ليص/
والتراكيب ،والصور ،واألوضاع النحوية ،واإليقاعي/
الجمالية"(.)1
واألسلوبية بهذا المنحى تصير علمًا وصفيًا ُيعنى ببحث الخصائص والسمات ال//تي تم//يز
النص األدبي بطريق التحليل الموضوعي لألثر األدبي الذي تتمحور حوله الدراسة األسلوبية ،ومن
هذه النقطة تتحدد عالقة األسلوبية والنقد األدبي بزوايا التقارب والتباعد ونقاط االتفاق واالختالف.
واألسلوبية والنقد يلتقيان من حيث إَّن مجال دراس//تهما ه//و األدب ،وبتحدي//د أدق النص
األدبي ،لكن األسلوبية تدرس األثر األدبي بمعزل َع َّم ا يحيط به من ظروف ،أَّم ا النقد فال يغفل تل//ك
األوضاع المحيطة به ( ،)2وتبقى األسلوبية تعنى بالكيان اللغوي لألثر األدبي ،ألَّن عملها يبدأ من لغة
النص وينتهي إليها ،والناقد يرى النص وحدة متكاملة فيدرس جميع مكوناته الفنية (.)3
واألسلوبية بهذا الدأب تولي العناية بالكيان اللغوي لألثر األدبي ،ألَّن عملها يب//دأ من لغ//ة
النص وينتهي إليها ،والناقد يرى النص وحدة متكاملة ،فيدرس جميع مكوناته الفنية ( ،)4وقد ص//دق
"جيرو" حين قال "األسلوبية مصُّبها النقد ،وبه قوام وجودها" (.)5
إَّن ما تتسم به األسلوبية من موض/وعية في البحث ،وعقالني/ة في المنهج تجنب/ان الناق/
/د
األسلوبي مزالق كثيرة قد ال يستطيع أصحاب المذاهب النقدية المختلفة االنفالت منها ،ولذلك استحال
وصار فرعًا من فروعه ومهمته أن َيُم َّد هذا العلم بتعريفات ومعايير جديدة النقد إلى نقد لألسلوب
() 6
تتمثل في تلك األوضاع المحيطة به ،فإذا كان األديب ينطلق من معيارية معينة هي القاسم المشترك
بين المبدعين جميعهم ،فإَّنه في الوقت نفسه يعمل على تأصيل معيارية خاصة بنصه ،ألَّن ه ال يمكن
اإلقرار بأي قيمة جمالية لألثر األدبي ما لم تشرح مادته اللغوية على أساس اتحاد منطوق مدلوالتها
بملفوظ دوالها ،ثم إَّنه ال أسلوبية بدون الغوص في أبعاد الظاهرة اللغوية في حِّد ذاتها.
والدراسة األسلوبية ال تكتفي برصد هذه األشكال التعبيرية ،بل إَّنها تتجاوز ذلك إلى عملي//ة
/ة ،وهي
/ه الموروث/
/ط بين األدب ومادت/
الكشف عن أفكار النص األدبي وجمالياته من خالل الرب/
مساحات كانت محجوزة للنقد األدبي وحده ،ولهذا ال نرى اعترافًا من الدارس//ين المح//دثين ب//أَّن
/اور
/ا من المح/
األسلوبية – اليوم – تمثل محورًا نقديًا في إطار التركيبات الجملية إلى جانب غيره/
األخرى المتعاصرة التي اعتمدت على قضايا اللغة واألسلوب.
ومن هاهنا يتضح أَّن الدراسات األسلوبية اهتمت بدراسة مكونات الخطاب األدبي وتحدي//د
/عرية
/ارف كالش/
/ة من المع/
/ع جمل/
خصائصه البنيوية والوظيفية ،وهي تلتقي في هذا االهتمام م/
والسرديات والسميائيات (.)1
1نور الدين السد ،األسلوبية وتحليل الخطاب ،ج 2ص ،90ورابح بوحوش ،األسلوبيات والمحاوالت العربية ،مجلة بونة
للبحوث والدراسات ،ص 107وما بعدها.
2عبد السالم المسدي ،األسلوبية واألسلوب ،ص .98
3نور الدين السد ،األسلوبية وتحليل الخطاب ،ج ،2ص .90
4عمر أوكان ،اللغة والخطاب ،دار البيضاء ،المغرب ،2001ص .168
5تقاطعت األسلوبية مع ألسنية سوسير ،وطور معالمها أحد تالميذته شارل بالي في كتابه (بحث األسلوبية الفرنسية) ثم
(المجمل في األسلوبية) مركزا على البنيوية الوجدانية والتعبيرية اللغوية في محاولة علمية لبناء األسلوبية ،ينظر فؤاد أبو
منصور ،النقد البنيوي الحديث بين لبنان وأوربا ،ط ،1دار الجيل بيروت ،1985ص.61
6الشكالنية :تيار من الدراسات األدبية تطور في روسيا بين سنتي ألف وتسعمائة وخمسة عشر ،وألف وتسعمائة وثالثين،
وينبغي وضع هذا التيار في عالقة مع ازدهار اللسانيات البنائية ،وخاصة مع الحلقة اللسانية :براغ ،هذه الحلقة التي تب//دو
/ار
/ع التي/جزئيا كأصل في نشأته ،وينبغي وضع هذا التيار في خط المستقبلين الروس ،وينبغي ربطه بشكل أكبر اتساعا م/
األدبي والجمالي ،ينظر :عثماني الميلود ،شعرية تودوروف ،ط ،1الدار البيضاء ،1990ص.11
61
البنــاء األسلـوبي الفصــل األول
والشكالنيون الروس أصبحت األسلوبية علما منهجيا يقوم على مبدأ البنيوية ،وهي لم ت//ترك ه//ذا
المبدأ حتى أيامنا هذه" (.)1
/اذ
/ل في اتخ/ من خالل هذا النص يترأى أَّن أعمال جاكبسون والشكالنيون ال/
/روس الفض/
األسلوبية المنهج البنيوي طريقا لها تشق به أفق الدراسة ،فتطورت بين أخذ ورِّد وموضوعية الدال
والمدلول ،والقراءة الشخصية ،بالرغم من صالبة اللسانيات في صياغة أسسها ،ألَّن كل الظ//واهر
/انت
/إذا ك/
اللغوية المتواجدة في علم اللسانيات تنعكس عليها باالنزياح بغرض خلق داللة جديدة ،ف/
دراسة األسلوب من اللسانيات ،فإَّن األسلوبية هي دراسة اللغة مهما كان َم ْنَش ُؤ َه ا.
ويبقى صحيحًا أن األسلوبية ارتبطت حقًا ارتباطا معّقدا بالبنيوية وباإلرث النظ//ري ال//ذي
تركه الشكالنيون الروس فضال عن ارتباطها باللسانيات في ص/يغتها السوس/يرية (نس/بة إلى دي
سوسير) ،فشارل بالي أحد اثنين جمعا محاضرات دي سوسير التي ُنشرت إثر وفاته ،وهو الذي أنشأ
األسلوبية التعبيرية( ،)2وفي هذا الصدد يقول جورج مولينييه" :فأسلوبية بالي ليست إنجازا أدبياً وال
فردياً ،إَّنه يستعمل العمل األدبي كسند وكإطار أو كذريعة تتيح تحليل أفعال اللغة الشعورية ،وتكتسي
/النظر
هذه العالقة األخيرة أهميتها انطالقا من هذه النظرية واعتبارًا لعموميتها ولتمثيليتها البنيوية ب/
مثل الفرنسية في النصف األول من القرن العشرين. () 3
إلى النسق الشامل للغة ما"
ولقد تعددت مذاهب األسلوبية ،وكثر مزاولوها ،وتكاثر مع ذلك منتقدوها ،ب//ل والق//ائلون
ه ال بجفافها وقرب زوالها ،ويصّر المتمسكون بهذا المنهج َّأنه صالح للتطبيق على النصوص ،وأّن
يتعارض مع الثورة المعرفية التي تشهدها علوم اللسان ما دام مسلكا إجرائيا في مقاربة الخطاب//ات
األدبية خصوصا ،فقد كان يظن بعض العلماء أن األسلوبية قد ماتت بين سنتي()1968و( ،)1974إذ
إن للعلوم أعماراً ،وابتداء من سنة ( )1987عشنا عودة األسلوبية (.)4
/ال:
ففي عام (1969م) أكد األلماني "ستيفن أولمان" استقرار األسلوبية علما لسانيا نقديًا ،فق/
"إَّن األسلوبية اليوم أكثر أفنان األلسنية صرامة على ما يعتري غائيات هذا العلم الولي//د ومناهج//ه
1جورج مولينه ،األسلوبية ،ترجمة بسام بركة ،ط ،1المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع ،الجزائر 1999م ص
.14-13
2جورج مولينييه ،تاريخ األسلوبية ،تعريب عز الدين العامري وعبد المنعم الشنتوف ،مجلة الفكر العربي ،معهد اإلنماء
العربي ،بيروت ،لبنان -طرابلس ليبيا ،صيف -خريف ،1996العددان ،86 -85السنة ،17ص.146
3المرجع نفسه ،ص.146
4جورج مولينييه تعريب صابر الحباشة ،جريدة الصحافة ،الورقات الثقافية ،العدد ،243أكتوبر ،1999ص.29
62
البنــاء األسلـوبي الفصــل األول
ومصطلحاته من تردد ،ولنا أن نتنبأ بما سيكون للبحوث األس//لوبية من فض//ل على النق//د األدبي
/د
/ا البع/
/د بكونه/
واأللسنية معا"( ،)1وشاطره الرأي في ذلك "بيار قيرو" الذي يجعل األسلوبية تتح/
اللساني لظاهرة األسلوب طالما جوهر األثر األدبي ال يمكن النفاذ إليه إال عبر صياغته اإلبالغية(.)2
وقد تعددت العناوين التي تعتبر األسلوبية مزّو دا منهجيا للمحّلل بقائمة من األدوات والرؤى
التي تسّه ل على صاحب القراءة الوقوف على أدبية النص من خالل "دراسة شروطها الشكلية دراسًة
فنية"(.)3
إن المقاربة األسلوبية بما هي تطبيقية إجرائية ،تلغي األبعاد التي تخرج عن البعد اللس//اني
َّ
المحض للظاهرة األدبية ،وإن أقّر ت بوجود نوا اجتماعية ،ونفسية ،وثقافية ،واقتصادية ،تؤثر في
فإنها ال تهتم بها في تحليل النصٍٍٍِِِِِِِِ،ح ألّن مثل ذلك االهتمام يؤدي باألسلوبية إلى إب/
/داء صناعة النصَّ ،
/ذي يعطي/د األدبي ال/ حكم قيم ،وهو ما تعزف عنه عزوفا مبدئيا ،وهو ميسٌم فارق يمّيزها عن النق/
حكما على األثر (النص المنقود).
بهذا المعنى نفهم االتصال بين األسلوبية والمنهج النّص اني واالنفصال بينهما في الوقت ذاته،
وتطبيقا ،والشتراكهما في اعتماد الوسائل اللغوي//ة
ً إجراء
ً فهما متصالن النكبابهما كليهما على النص
/ان من
(األصوات ،المفردات ،التراكيب ،الصور ،المجازات ،الُج َم ل في تحليل النص) ،وهما مختلف/
جهة الرؤية ،فالنص في المنهج النّص اني هو مركز يستقطب التحليل ،أّم ا منزلة النص في األس//لوبية
فُينظر إليه من جهة وقوعه ضمن ثنائية الُّس َّنة والعدول (أو النمط واالنزياح ،أو االستعمال المعياري
/ر "إلى واالستعمال األدبي ،أو اللغة العادية والكالم األدبي) ،لذلك قيل :إّن الدراسات النص/
/ية تنظ/
/القوة (
/ا ب/
/ارا متحقق/
/دة أو معيً /
/ع قاع/
/لوبية تض/
/ية ،فاألس/
المنظور األسلوبي بصورة هامش/
)virtuellement réaliséفي اللغة العادية ،وتقابلها مع االنحرافات في األسلوب ،ويتعارض هذا
التصّو ر مع فكرة مركزية النص ،إن الشعرية المقارنة تلجأ إلى التحليالت األسلوبية لكنه//ا تض//عها
ضمن نظام حتى أّن مصطلح النقد النصي ذاته ال ُيستخدم إال بشيء من التحّفظ" (.)4
ولعل هذه المفارقة التي تسم الممارسة األسلوبية هي التي بّو أتها منزلة العلم المساعد ال//ذي
َّ
1عبد السالم المسدي ،األسلوبية واألسلوب ،ص ،20ومحمد عبد المنعم خفاجي وآخرون ،األسلوبية والبيان العربي ،ص
،14رابح بوحوش ،األسلوبيات والمحاوالت العربية ،مجلة بونة للبحوث والدراسات ،ص 107وما بعدها.
2
Pierre Guiraud : Essais de stylistique, 3 eme tirage, Ed Klinckick Paris 1980 p 81.
3جورج مولينييه ،تاريخ األسلوبية ،مجلة الفكر العربي ،السنة ،17ص.146
4جيزيل فاالنسي ،مدخل إلى مناهج النقد األدبي ،ترجمة رضوان ظاظا ،مراجعة المنصف الشنوفي ،ع//الم المعرف//ة،
الكويت ،العدد ،221مايو /أيار ،1997ص .216
63
البنــاء األسلـوبي الفصــل األول
يقف في مفترق الطرق ،فالشكالنيـون الروس من جهة ،وشارل باّلي من جهة أخرى ،قد حّددوا -
فيما يذكر مولينييه -وقوع األسلوبية " في مفترق األدب واللسانيات أي في تقاطع مجموعة محّ//ددة
/انيات
/ية (اللس/
/ة خصوص/
(النصوص األدبية) مع جهاز من التصّو رات والمناهج المتدبرة بطريق/
البنيوية) ،ومنذ ذلك الحين ،لم توجد أسلوبية إال وهي بنيوية" (.)1
فاألسلوبية تحلل النصوص األدبية خاصة ،تصف أدبيتها وتبّين الخواّص الفنية الموجودة في
/ك إلى
الجماليات الكالمية "( ،)2لذلك فهي تقف عند حدود التشخيص والوصف الفني ،وال تتجاوز ذل/
الحكم على األثر كما هو الحال في النقد األدبي ،وال تتبّين االستراتيجية الخطابية للنّص بما هو قول
كما تفعل ذلك التداولية أو البراغماتية( ،)وليس تعيين حدود األسلوبية هذه قوال ُينقص من قيمتها أو
يدعو إلى هجرها ،ولكن من المفيد – فيما نزعم -فهم صيرورة المناهج ،وأنماط التعاليق الناتجة عن
احتكاكها وتعاُيشها ،كما أّن دعوى التفاضل بين المناهج هي دعوى مردودة لقيامها على مقارنة غير
علمية ،ثم إّنه من الطريف أن نتذّك ر أّن للثورة المعرفية التي حصلت في اللسانيات منذ بداية الق//رن
/اء على
/ك األنح/
/ا وراجعت س/لطة تل/ العشرين لم ُتلِغ األنحاء التقليديةَّ ،
ولكنها غّيرت النظر إليه/
األلسنة ،ببيان حدودها وتبّين وجود منواالت كثيرة ممكنة لوصف األلسنة الطبيعية ،وهو أمر وّل د
/اء
/ذلك األنح/
/ا ك/
وضع األنحاء التقليدية بوصفها إحداثيات على شبكة تحليل كبرى ُو ضعت عليه/
الصورية واللغات بما هي أنظمة من العالقات اللسانية ،وغير ذلك من األنساق ذات القدرة التفسيرية
/و الكّلّي (
/وم النح/
/ياق مفه/
/ذا الس/ الشاملة للظاهرة اللغوية ،ولعّل من المقترحات الب/
/ارزة في ه/
)grammaire universelleكما صاغه ّنوم تشومسكي ،غير َّ
أن مولينييه يقيم عالقة تواصل متينة
/و
/ا ه/
/ة ،وليس العكس كم/
بين األسلوبية والبراغماتية تجعل األولى موّج هة -فيما بدا لنا -للثاني/
منتظر(.)3
ويبقى صحيحا أن األسلوبية فرع من اللسانيات العامة وظيفتها جرد اإلمكانيات والطاق//ات
1جورج مولينييه تعريب صابر الحباشة ،جريدة الصحافة ،الورقات الثقافية ،العدد 29 -243أكتوبر .1999
2جورج مولينييه ،دراسة األسلوب والبحث ،وأدوات الفن األدبي ،ترجمة بسام بركة ،مجلة الفكر العربي ،معهد اإلنماء
العربي ،بيروت لبنان -طرابلس ليبيا ،شتاء 1998العدد ،94السنة ،19ص .231
التداولية علم يدرس الظواهر اللغوية في مجال االستعمال ،ويتعرف على القدرات اإلنسانية للتواصل اللغوي ،ومن هنا
تكون جديرة بأن تسمى :علم االستعمال اللغوي ،أما البراغماتية فهي مشتقة من الكلمة اليونانية (باغما) التي تعني (العمل)،
وهي تتألف من مجموعة من الطرق المختلفة التفكير ،ويترجم مصطلح البراغماتية ( )PRAGMATISMإلى العربي//ة
ألنها ال تعكس جوهر الكلمة األجنبية ،بل تقدم جزءًا من معناها
بمصطلح الذرائعية ،وباعتقادي أن هذه الترجمة غير دقيقةَّ ،
فقط .إذن ما هو المصطلح العربي األقرب إليها؟ إنه "النفعية" ،ينظر :جورج مولينييه ،األسلوبية ،ترجمة بسام برك//ة ،ص
155وما بعدها.
3جورج مولينييه ،األسلوبية ،ترجمة بسام بركة ،ص.155
64
البنــاء األسلـوبي الفصــل األول
التعبيرية بالمفهوم السويسري( ،)1وبها تنتقل من دراسة الجملة لغة إلى دراسة اللغة نصاً ،فخطاب//اً،
فأجناساً ،وهو األمر الذي يقره سبيتزر "من أَّن األسلوبية جسر األلسنية على تاريخ األدب" ( ،)2و َّ
كأنه
/الم
/د الس/
تعبيد لطريق عتيق شقته البالغة القديمة؛ وقد سار على الوتيرة نفسها الباحث العربي عب/
المسدي بقوله " :فإذا كانت ألسنية سوسير قد أنجبت أسلوبية بالي ،فإَّن هذه األلسنية نفسها قد ول/
/دت
الهيكلة التي احتكت بالنقد األدبي فأخصبا معًا (شعرية) جاكبسون و(إنشائية) تودوروف و(أسلوبية)
ريفاتر ،ولئن اعتمدت كل هذه المدارس على الرصيد األلسني من المعارف ،فإَّن األسلوبية معها قد
تبوأت منزلة المعرفة المختصة بذاتها أصوال ومناهجًا "(.)3
من خالل هذا النص يتضح أَّن األسلوبية استفادت من الحقول المعرفية التي جعلت من النص
األدبي موضوعًا لها ،وهي اللسانيات ،والنقد األدبي ،والشعرية ،واإلنشائية.
/ادي أو
/رد للكالم الع/
ويشير منذر عياشي إلى أثر اللسانيات في األسلوبية سواء في أداء الف/
دة األدبي من خالل األصوات المشكلة ،مادامت الغاية من اللسانيات هي استخالص القوانين الموّل
/ده،
/ة نق/ للظاهرة اللغوية ( ،)4أّم ا أثر األسلوبية في اللسانيات فإّنه مرتبط بالخط/
/اب األدبي وطريق/
بتخّط ي دراسة اللغة كجملة إلى دراستها كنص ،أو كخطاب ،أو كجنس أدبي(.)5
/ة إلى
/ة الجمل/
ويشير الباحث كذلك إلى تطور اللسانيات الكبير ،سواء في انتقالها من دراس/
دراسة العبارة ،وانتقالها كذلك من أسر الدراسات النحوية التركيبية إلى كيفية بناء النصِ ،مَّما يجعلها
أكثر ثراء ،إلى جانب عدم غنى الحقول اللغوية والنحوية واألسلوبية عنها( ،)6فإلى جانب المفارق//ة
/النحو، المنهجية بين األسلوبية واللسانيات ،وبين األسلوبية والبالغة القديمة ،فإّن لها أيضًا ص/
/لة ب/
وأن مجاله القيود وس//ابق لألس//لوبية ،وش//رط
الذي أسماه عبد السالم المسّدي بـ(:بعد العمق)َّ ،
جوهري لوجودها ،ذلك َّأنها ال تحقق وجود النحو ،وال هي تتحقق بمعزل عنه(.)7
/لوبية وإذا كان المسّدي قد قلل من شأن البالغة العربية القديمة ،وأرجع كّ/ل الفض/
/ل لألس/
الحديثة ،ودون أن ينصف الفارق الزمني كبعد ،فإّن منذر عياشي انطلق متحمسًا لها ،فسما بها.
إَّن األسلوبية ،تكشف عن صنعة الشعر كاختيار وحضور ،وتتجاوز الوقوف عن//د ح//دود
محمد الحناش ،البنيوية في األسلوبية ،ط ،1دار الرشاد الحديثة ،المغرب ،ص .38 – 36 1
65
البنــاء األسلـوبي الفصــل األول
البيت الواحد أو الجملة الشعرية الواحدة ،ذلك الوقوف الذي كثيرًا ما ارتبط بالطبع وتحّدد به.
ويطمئن منذر عياشي كواحد من الباحثين العرب إلى أعمال الغرب//يين في تحدي//د أوج//ه
/تى /لوبية أَّنه/
/ا علم لن يلبث ح/ المقاربة والمفارقة بين هذين العلمين فيقول " :لقد كان الظن باألس/
/ة،
ً/ا بالجمل/
/نى أساس/ يحضى باالستقاللية وينفصل كلّيًا عن الدراسات اللسانية ،ذلك ألَّن ه/
/ذه تع/
واألسلوبية تعنى باإلنتاج الكِّلي للكالم ،وإَّن اللسانيات تعنى أساسًا بالتنظير إلى اللغ//ة كش//كل من
/ة من أشكال الحدوث المفترضة ،وأَّن األسلوبية تتجه إلى المحدث فعال ،وأَّن اللسانيات تع/
/نى باللغ/
حيث هي مدرك مجرد تمثله قوانينها ،وأَّن األسلوبية تعنى باللغة من حيث األثر الذي تتركه في نفس
المتلقي كأداة مباشرة ،هذا إلى جملة فروق أخرى"(.)1
وِم َّم ا يالحظ على هذه الفروق أَّن موضوَع العلمين واحد هو اللغة ،ولكن مستويات تحلي//ل
هذه الظاهرة تختلف بينهما بحسب الغايات العلمية التي يتوخاها كال منهما.
/ه، ومن هنا يتضح أَّنه َثَّم ّة َع الَقٌة متينة بين علم األسلوب ،وعلم اللغة ،خاصة التط/
/بيقي من/
فبالنظر إلى األسلوب على أَّنه نظام لغوي ،تقف المعالجة عند كِّل طريف فتهتم بجماليات األصوات
/التراكيب
/ا تهتم ب/
وداللتها ومدى تأثيرها في المتقبل ،وتعتني بنسيج الوحدات الفعلية واالسمية ،كم/
والدالالت ،وبالنظر إلى الخصائص األسلوبية تقف الدراسة عند كِّل ظاهرة متميزة سواء تعلق ذلك
بحسن التصرف واالستعمال كاالختيار والداللة أو تعلق بانتهاكه كالعدول ومخالفة المألوف ( ،)2وفي
هذا الصدد يقول صالح فضل" :في مقابل علم اللغة التطبيقي تقوم عملية البحث األسلوبي التي تعتمد
على أسس النظرية األسلوبية ،وتستمد منها منهج دراسة النصوص وتنظيم المواد بالتض//افر م//ع
/تكمل
/ة ينبغي أن تس/
/وص األدبي/
العلوم األخرى في مناطق تالقيها ،وفي البحوث األسلوبية للنص/
دراسة األسلوب في مستوياته اللغوية باستخدام المقوالت المتص//لة ب//األدب وب//العلوم الفلس//فية
واالجتماعية والتاريخية " ( ،)3ولهذا نجد جاكبسون يلح على ضرورة التعامل مع البنيات اللغوية عند
إن فن الشعر له صلة بقضايا البنية اللغوية كما يهتم بتحليل الرسم بالبنيات
تحليل النصوص فيقولَّ " :
أن اللسانيات هي العلم العام للبنيات اللغوية ،كذلك يمكن اعتبار فن الشعر كجزء متمم
الصور ،وكما َّ
للسانيات " ( ،)4ألَّن هذا العلم يصف نظام اللغة العربية باعتماد نص شعري عربي يمثلها في ط//ور
منذر عياشي ،األسلوبية والنظرية العامة للسانيات ،العدد ،281رابطة األدباء في الكويت ،1989ص.64 1
عبد السالم المسدي ،قضية البنيوية ،ط ،1منشورات دار أمية ،تونس 1991م ،ص .141 4
66
البنــاء األسلـوبي الفصــل األول
/اعر من
/ظ الش/
/دى ح/
/ف عن م/
من أطوارها ليبين أسرارها ،ومظاهر استعمالها ،ومن ثم الكش/
التصرف في اللغة واألسلوب ،واألثر الذي يتركه فيهما ،والخصائص التي تتميز بهما في شعره.
ونحن أمام هذه التعريفات والخالفات القائمة بين العلماء بقديمهم وحديثهم في األس//لوبية ،ال
يعنينا التبسط في مختلف أوجها ،والبحث عن مواطن الوفاق والخالف ،وباألخص في عمل تطبيقي
/رب
/د الع/
/ا غلب من اآلراء عن/
/ار م/
كهذا ،ال يسمح بالتوسع وبسط اآلراء ،إذ ال يسعنا إال ِاختي/
والغرب ،وِاطراد العمل فيه.
/ه إلى
/ه لكي يحيل/
أن األسلوبية علم يرقى بموضوعه ،أو هو يعلو علي/
ولكن يبقى صحيحاَّ ،
درس علمي ،ولوال ذلك لما حازت على هذه الصفة ،ولما تعددت مدارسها ومذاهبها.
-3اتجاهـات األسلوبيـة
أسفر تطور األسلوبية انطالقا من مطلع القرن العشرين عن تشعب موض//وعاتها ،وتع//دد
تياراتها ،وتزايد االحتفال بها غربا وشرقا ،وقد تعرض غير واحد من الدارسين إلى اتجاه//ات علم
ولعل أشهر هذه
َّ األسلوب ،وعددوا جملة منها ،ورصدوا أصولها وضوابطها ورجاالتها وتطورها،
االتجاهات تياران اثنان؛ أحدهما يعزى إلى باّلي ،واآلخر إلى سبيتزر(.)
أوال :األسلوبية التعبيرية:
( فأما أسلوبية التعبير( )stylistique de l’expressionأو األسلوبية الوصفية
َّ
)S.descriptiveالتي سبق وأن أشرنا إليها من قبل ،فتعنى بمعالجة تعبير اللغة بوصفه ترجمان
/ات
/ف عن الطاق/
أفكارنا ،حيث تهتم بالوقوف على القيم التعبيرية والمتغيرات األسلوبية بغية الكش/
التعبيرية الكامنة في اللغة (.)1
ويعد السويسري شارل باّلي( )Charles Ballyرائدها بدون منازع وال مدافع ،فقد َّ
شق
نمساوي النشأة ،ألماني التكوين ،فرنسي لالختصاص ،عاش بين سنتي 1887و ،1960وهو من علماء األلسنية ونقاد
األدب ،من مؤلفاته" :دراسات في األسلوب"" ،األسلوبية والنقد األدبي{ ،المسدي ،األسلوبية واألسلوب ،ص.244
1أحمد درويش ،دراسة األسلوب بين المعاصرة والتراث ،ص.36
67
البنــاء األسلـوبي الفصــل األول
الطريق للتفريق بين أسلوبين ،أحدهما ينشد التأثير في القارئ واآلخر ال يعنيه إال إيصال
األفكار بدقة ،وطور تالميذه هذا االتجاه عن طريق التوسع في دراسة التعبير األدبي ,فالكاتب
ال يفصح عن إحساسه الخاص إال إذا أتيحت له أدوات مالئمة ,وما على األسلوبي إال البحث
عن هذه األدوات ،وبالي يحدد األسلوبية بأنها "دراسة أحداث ( )faitsالتعبير اللغوي المنظم
لمحتواه العاطفي؛ أي دراسة تعبير اللغة عن أحداث الحساسية ( ،)sensibilitéوفعل أحداث اللغة
/ال
/ني إال اإليص/
/ة ،وال تع/
فهذه األسلوبية – كما يؤكد جيرو " -تعبيرية بحت/ () 1
على الحساسية"
المألوف والعفوي ،وتستبعد كل اهتمام جمالي أو أدبي"( ،)2ومن أشياع هذا االتجاه المتأثرين بمنهاج
بالي ومفهومه لألسلوبية نلفي "جول ماروزو ،"J. Marouzeau -و"كريسو.)3("M. Cressot -
2
Pierre Guiraud : Essais de stylistique , 3 eme tirage, Ed Klinckick, Paris 1980 p145.
ينظر :عبد السالم المسدي ،األسلوبية واألسلوب ،ص .16 3
أحمد درويش ،دراسة األسلوب بين المعاصرة والتراث ،ص .36 4
68
البنــاء األسلـوبي الفصــل األول
وموريير بهذا الدأب يحاول ربط هذه الخواص باأللوان التعبيرية التي تلتقي معها كاألفع//ال
والصور واختيار صيغة المضارع أو المستقبل أو األمر ،واستخدام عالمات الترقيم على نحو معين،
/وان من
/وء إلى األل/
واللجوء إلى اإلكثار من وضع النقط أو عالمات التعجب ،أو االستفهام ،واللج/
الحروف الصوامت ،أو اإلكثار من استخدام حروف ذات مخارج متقاربة ،ودالالت ذلك كله على ما
يسود األنا العميقة(.)1
ب -األسلوبية األدبية :تهتم األسلوبية األدبية بدراسة لغة أديٍب واحٍد من خالل نتاجه متبعًة
في دراسة اللغة مجموعة من اآلليات ،ومعتنية بظروف الكاتب ونفسيته ( ،)2فهي أخصب ما تف//رغ
/ير إلى
عن فكرة األسلوبية التأصيلية ،وأكثرها تأثيرًا في تاريخ التعبير في القرن العشرين ،فهي تش/
ضرورة االهتمام باللغة في التاريخ األدبي ،فلكي ندرس هذا التاريخ -ألي عصر من العصور،-
فإنه ينبغي على األقل االهتمام بالتحليل اللغوي بنفس القدر الذي يهتم فيه بتحليل االتجاهات السياسية
َّ
واالجتماعية والدينية لبيئة النص (.)3
وقد استطاع العالم النمساوي سبتزر أن ُينمي هذا االتجاه وُيَح وٌِّلٌه إلى نظرية متكاملة في النقد
ً/ا
/ه نقاط/
ً/ا من/
اللغوي أو األسلوبية األدبية ،فألف كتابًا هامًا عن النقد اللغوي واألسلوبية ،مستخلص/
أساسية وفقًا للمنهج المتبع في الدراسة ،وهذه النقاط كاآلتي:
/ا
-1المنهج ينبع من اإلنتاج ،وليس من مبادئ مسبقة ،وكل عمل أدبي فهو مستقل بذاته كم/
قال برجسون.
-2اإلنتاج كل متكامل ،وروح المؤلف هي المحور الشمسي الذي تدور حوله بقية ك//واكب
العمل ونجومه ،والبد من البحث عن التالحم الداخلي.
-3ينبغي أن تقودنا التفاصيل إلى محور العمل األدبي ،ومن المحور نستطيع أن ن//رى من
جديد التفاصيل ،ويمكن أن نجد مفتاح العمل كله في واحدة من تفاصيله.
-4نحن نخترق العمل ،ونصل إلى محوره من خالل الحدس ،ولكن هذا الح//دس ينبغي أن
تمحصه المالحظة في حركة ذهاب وعودة من محور العمل إلى حدوده ،وبالعكس ،وهذا الحدس في
1نفسه ،ص.36
2ينظر :مازن الوعر ،االتجاهات اللسانية المعاصرة ودورها في دراسة األسلوبية ،مجلة عالم الفكر ،مجلد ،22عدد ،3ص
137وما بعدها.
3أحمد درويش ،دراسة األسلوب بين المعاصرة والتراث ،ص.37
69
البنــاء األسلـوبي الفصــل األول
لقد كان هذا المنهج التفصيلي الذي أورده سبتزر في مقدمة كتابه الذي أشرنا إليه ذا أثر كبير
/رن
/ة الق/
/عي في بداي/
/اه الوض/
في إخصاب النقد األدبي وتخليصه من بعض اآلثار السلبية لالتج/
حد ذاتها قد فرضت لنفسها في هذه المحطة مهّم ة إخضاع م//دى الخي//ار
العشرين ،فاألسلوبية في ِّ
اللغوي الُم تاح للمؤلفين وتصنيفه ،وحّددت الطرائق التي تتبّدى فيها معالم الشكل اللغوي لنّص مثيرة
/ة
/طلح طليعي/
/ة ،ومص/
لالهتمام في أسلوبها التعبيري ،أو في طرائق أخرى يمكن أن تكون طليعي/
مصطلح مفتاحي في األسلوبية األدبية ،بعدئذ يمكن تطبيق التصنيفات على نّص محّدد ،أو على عدد
من النصوص ،بصورة ما ُتمّك ن من إنارة ميزاتها اللفظية الغريبة؛ ويمكن تطبيق اإلجراء الس//ابق
على عدد من االستخدامات على سبيل المثال ،إقامة الدليل للتأكيد أو للنفي بأّن أحاسيسنا االنطباعية
تشّك لت من جّر اء معالم محّددة من معالم األسلوب التي هي مّي زات ألش/كال محّ/ددة في األدب أو
لمراحل معّينة منه ،لكّن المسألة األكثر خالفية هي أَّن باإلمكان استخدامها حَّتى في محاولة لع//زل
البصمات األدبية لمؤلف بالذات ،ورَّبما لتحديد المؤّلف الحقيقي ،من خالل مشهد ،لنصوص أدبي//ة
مجهولة المؤّلف ،أو مختلف عليها ،لكّن هذا اإلجراء مفيد للغاية للنقد األدبي في حال تطبيق//ه على
/ديث في نصوص بطريقة تشير إلى أّن النصوص ليست مجّر د ُبنى لفظية ،وكما ُيطّب ق النق/
/د الح/
الغالب األعم ،وليست مجّر د مجموعات صرفة من الرسائل ،بمعنى َّأنها معلومات فنية عن األفكار،
بل هي شيء متفّر د بذاتها ،وهذه أمثلة ُتطلق األسلوبية عليها لقب الحديث أو المحادثة ،ولعّل حال//ة
المحادثة هذه ،والتي يعتمدها مؤّلف في نّص ه ،هي التي تحّدد الطريقة التي يعيها القارئ بوس/
/اطتها،
أحمد درويش ،دراسة األسلوب بين المعاصرة والتراث ،ص.38-37 1
70
البنــاء األسلـوبي الفصــل األول
ولذلك فالتناسب طردي بين تعليل تلك الحالة وتحديدها وبين التفسير ،أو التعبير عن كيفية أداء النص
األدبي لدوره.
وغالبية مؤيدي األسلوبية األدبية مستعدون لالعتراف بأَّن النصوص األدبية التي يختارونها
ويخضعونها لطرائق تحليلهم الخاصة هي نصوص شائقة أو قّيمة في المقام األول لعدد من التعليالت
التي يمكن مالمستها مستقلة بذاك التحليل ،فاألسلوبية ُتسهم في وصف األبعاد اللغوية بصورة ممّيزة
إلبراز التشويق أو القيمة ،أَّم ا بالنسبة للناقد الحديث الذي يقّدم قراءة مقنعة لقصيدة مهجورة منذ زمن
بعيد ،فيمكن أن يأمل من خالل ذلك أن يجعل قّر اء نقده يعيدون النظر في تقييمها ،والناقد الذي ُيطّبق
منهجًا أسلوبيًا يستطيع حقًا أن يأمل في أن يجعل قّر اء نقده يرونها رؤي//ة جدي//دة من خالل جعلهم
/ول
/د أن تق/
/ير تقّييم األدب بع/ ينعمون النظر في المعالم اللغوية التي ُتشّك لها ،ويبقى العم/
/ل األخ/
األسلوبية كلمتها.
/و
لقد أثار منهج ليو سبتزر جدال شديدًا بدًء من الربع األول من الق/رن الف/ارط ،وعلى نح/
/ة،
خاص من أتباع دي سوسير وشارل بالي الذين كانوا يهدفون إلى إقامة األسلوبية اللغوية الخالص/
/دة
لكن من ناحية أخرى تكَّو نت مدرسة أسلوبية حول مبادئ سبتزر أطلق عليها اسم األسلوبية الجدي/
/ل
/اء مث/
/د علم/
أو األسلوبية النقدية ،وتركزت على نحو خاص في الواليات المتحدة األمريكية عن/
داماسو ألونسو ،وهاتزفيلد ،وامتدت أثارها كذلك لتؤثر على اتجاه أصحاب األس//لوبية البنائي//ة(،)1
ولتتضافر أثارها مع أثار المدرسة التي كانت منافسة لها ،وهي مدرسة األسلوبية التعبيري//ة عن//د
شارل بالي في خلق اتجاه نقدي لغوي يحضى اليوم باحترام اللغويين النقاد والمبدعين ،ويقترب بهذا
الفرع من فروع الدراسات اإلنسانية من روح العلم التجريبي في شكل األسلوبية الحديثة.
/ياقية،
/لوبية الس/
وإلى جانب هاتين األسلوبيتين يتحدث بعضهم عن أسلوبيات أخرى ،كاألس/
/لوبية
/اح( ،)2وأس/
/لوبية االنزي/
/دة بأس/
وممثلها األلمع ميشال ريفاتر ،ولهذه األسلوبية عالقة وطي/
السجالت التي تعني بتنوع الكالم بحسب االستعمال له ( ،)3واألسلوبية اإلحصائية ،وتنطلق من
فرضية إمكان الوصول إلى المالمح األسلوبية للنص عن طريق الكم ،وتقترح إبعاد الحدس
لصالح القيم العددية ،وتجتهد لتحقيق هذا الهدف بتعداد العناصر المعجمية في النص ،أو بالنظر
إلى متوسط طول الكلمات والجمل أو العالقات بينهما ،أو العالقات بين النعوت واألسماء
71
البنــاء األسلـوبي الفصــل األول
/ؤمن بالس ّ/ياق فالّتطور الحضاري الحادث غّير من األدوات واألفكار والقّيم التي ك/
/انت ت/
الّنفسي واالجتماعي والثقافي والحضاري ،باالتجاه إلى النص األدبي فقط ،والبنيوية ارتبطت بالتقدم
العلمي ،الذي بدأ يستقطب الفكر البشري ،ويقصد الحاج صالح كيف نشأت البنيوية ،ولماذا؟ فهي من
ابتداعات النصف األول من القرن العشرين للميالد ،وظهرت كرّد فعل عنيف للتفسيرات التاريخي/
/ة
التي سادت منذ القرن التاسع عشر للميالد ،وذلك بفضل جهود دوسوس//ير في بحوث//ه عن اللغ//ة
اإلنسانية ،باعتبارها أنظمة خاصة ،وأّس س أتباعه (حلقة براغ اللغوية) ،التي حّددت وظيفة اللغة في
/ة
التبليغ والبيان ،وسارت على دربها المدرسة الوظيفية في شخص زعيمها أندري مارتين ،ومدرس/
الدانمارك اللغوية بريادة لويس همسليف (.)5
1نفسه ،ص.37
2ينظر :صالح فضل ،علم األسلوب ،ص.97
3أحمد درويش ،دراسة األسلوب بين المعاصرة والتراث ،ص .33
4عمر المهيبل ،البنيوية في الفكر الفلسفي المعاصر ،ديوان المطبوعات الجامعية ،الجزائر( ،د ،ت) ،ص.16
5ينظر :عبد الرحمن الحاج صالح ،مدخل إلى علم الّلسان الحديث ،مجلة الّلسانيات ،ع ،7الجمعية الثقافية الجاحظي/
/ة،
الجزائر ،1997ص.7
72
البنــاء األسلـوبي الفصــل األول
إّن البنيوية انطلقت في تشييد صرحها النقدي والمعرفي من تصحيح مبدئي ،وتأسيسي لم//ا
/ة
/ة الثقافي/
/ه الحقيق/
انطبع في ذهن المتلقي من أحكام قيمية ثابتة ،بما يصدر عن المؤلف ،وما تملي/
لإلنسان وتصوراته االجتماعية المتداولة ،ولتعدية هذا اإليمان القاصر الذي يرتبط فيه اإلبداع األدبي
بالخارجي (انعكاس) ،والذي يجعل المدلول أولى من الدال في فهم وظيفة الشعر وتقويمه(.)1
/ف
/دور المؤل/
فالبنيوية قد تأسست على محاصرة القارئ ،لتصبح قراءته تعويضًا منهجيًا ل/
وحياته وفاعليته ،وإذا كان االجتماعي يبني أيضًا تصّو ره على القارئ ،فألنه يريد أن يغّيره بوساطة
/ل
المدلول ،بينما البنيوية ال تريد تغييره ،بل تضفي عليه مهمة أكبر هي وصف النص األدبي وتحلي/
مستوياته المختلفة التي يتركب منها ،فهي تطالب بقراءة عميقة للّنص من حيث هو وج//ود (دال) ال
مثيل له ،يحتضنه ويعيد بناءه معتمدًا على قدراته العقلية.
/نعة في
/ع الص/
/نعة؟ تتالقى م/
والبنيوية التي ال تعنى بإشكالية اإلبداع ،هل هو طبع أو ص/
رفض تعليق الشعر بالغيبي بوساطة بديل العالمة ،كما يذهب روالن بارت ،من أن الش//عر "أبع//د
/ة
/ة األدب) ،أي طاق/
/ان (ملك/
غورا ِمّم ا قد تلهمه ربات الشعر من صورة أو فكر توجد لدى اإلنس/
الكالم ،ال صلة لها بـ (العبقرية) ،نظرًا ألنها لم تصنع من قوى خالقة ،وال من إرادات شخص//ية،
وإّنما من قواعد اّدخرت في غيب الكاتب ،فال يتعلق األمر بصورة أو أفكار أو أشعار يهمسها صوت
ربة الفن األسطوري للكاتب ،وإنما بالمنطق العظيم للرموز وباألشكال العظيمة الفارغة التي تسمح
بالكالم والفعل" ( ،)2كما يهاجم بارت معيار القيمة الذي حاصر كثيرًا الخطاب الشعري ،ونأى به عن
طبيعته بقوله " :لقد رأى المجتمع الكالسيكي ـ البرجوازي في الكالم ،خالل حقبة طويل//ة ،أداة أو
وسيلة زخرفة ،بينما نرى فيه اآلن عالمة وحقيقة" (.)3
/رض
/ا ف/
/القوة مثلم/
فمنطق الشعر هو غير معيارية القيمة التي أرادت أن تفرض نفسها ب/
المعجم القديم نفسه بقوة على حساب مكتسبات التطور الحضاري ،التي لم يعد الطبع فيها إشكالية في
/دًا قراءة الشعر ،يقول بارت في توصيف األثر األدبي" :إّن األثر ال يخلد لكونه فرض مع/
/نى وحي/
على أناس مختلفين ،وإّنما لكونه يوحي بمعاني مختلفة إلنسان وحيد ،يتكلم دائمًا اللغة الرمزية نفسها
خالل أزمنة متعددة ،فاألثر يقترح ،واإلنسان يدبر"( ،)4ولذلك فإّن الّش اعر ليس م//ؤثرًا ،ل//ذا وجب
1صالح فضل ،نظرية البنائية في النقد األدبي ،دار اآلفاق الجديدة بيروت،ط1985 ،3م ،ص .178
2روالن بارت ،النقد والحقيقة ،ترجمة وتقديم إبراهيم الخطيب ،الشركة المغربية للناشرين المتحدين ،ط ،1الدار البيضاء
،1985ص.63
3المرجع نفسه ،ص.53
4نفسه ،ص.55
73
البنــاء األسلـوبي الفصــل األول
/اة
/د الحي/
/د ألن يعي/
تخطيه ،ألن األثر لم يعد مرتبطًا بتقدير القصيدةِ ،مما ال يمنح أي فرصة للناق/
للشاعر ،وقد حكم عليه النقد الجديد بالموت ،كما حكم بزوال فكرة أّن الشعر يقال ليستهلكه المجتمع
كمنتوج.
لهذا ال بد في منظور بارت دائمًا من أن "نحرر األثر األدبي من إرغامات القص//د ،ونلتقي
مجددًا بالدرجة األسطورية للحواس؛ إن الموت بمحوه توقيع الكاتب يؤسس جوهر األثر الذي ه//و
/ة لغز"( ،)1أّم ا صلة النقد باألثر الشعري فهي عند بارت عالقة معنى بشكل "فالّناقد ال ي/
/دعي ترجم/
/نى
األثر خاصة بوضوح أكبر ،نظرًا ألنه ليس هناك ما هو أو ضح منه ما يستطيعه هو أن يولد مع/
معينًا "(.)2
وهذه الوظيفة الجديدة التي أنيطت في النقد الجديد بالناقد ،تبعده عن إضاعة وقته وجهده في
مناقشة إشكالية اإلبداع الشعري هل هي طبع أم صنعة ،إذ إّن " :جزاء الناقد ليس هو القارئ ذات//ه،
إّنما هو مجّر د قارئ " أنابه آخرون للتعبير عن مشاعرهم الخاصة بدعوى معرفت/ه أو قدرت/ه على
إصدار األحكام"( ،)3أّم ا القراءة فإّنها "وحدها تعشق األثر األدبي وتقيم معه عالقة شهوة"(.)4
إّن البنيوية إذن ،ال صلة لها بالطبع وال تناقش حقيقته وتجلياته ومرجعياته ،كما أّنها ال تطرح
إشكالية الكتابة من استعداد وموهبة ودوافع ،وال تعطيها أدنى عناية ،فضًال عن عدم إيمانها باإلطار
الخارجي ،كما يتمّثل في زمان الّنص أو مكانه ،أّم ا الّش عر فإّنه بالنسبة إليها صنعة بالمفهوم التراثي،
وبالمفهوم الحديث هو بنية وتركيب ـ البنيوية ال تناقش أيضًا إشكالية الخطاب الشعري ه//ل ه//و
/دم صنعة ـ والصنعة تّتجه إلى الكيفية ،ال إلى كونها إشكالية ،وإذا كان الشعر بنية ،فهذا معن/
/اه ع/
إيالء األهمية للقدرة ،ألّنها صادرة من خارج األثر ،والّنص بالنسبة إلى البنيوية هو مبني بهذا الشكل
وكفى ،وطريقة البناء وهيئته داللتان على الكيفية التي تعّد مرتكز الصنعة.
ونستطيع اآلن أن نعتبر "األسلوبية والبنيوية" طريقتين نقديتين برهنتا على أّنهما مثمرت//ان،
رغم أّنه ليس يسيرًا أن نحّدد دائمًا موقع نهاية إحداهما وبداية األخرى.
فإنها موصولة بهما
وألن األسلوبية تشتغل في موقع وسط بين محطتين هما اللغة واألدبَّ ،
/داعي
/ل اإلب/
/ط العم/
ومرتبطة بحضورهما معًا ،وإذا كانت البنيوية تجب الحبل السري الذي يرب/
74
البنــاء األسلـوبي الفصــل األول
بمؤلفهَّ ،
فإن األسلوبية ال تنكر الصلة بين اإلبداع والمبدع ،وهي تفيد من التأثير النفسي الذي يوحي
به العمل اإلبداعي حين يمارس فعله على القارئ أو المتلقي عامة.
ن هذا ِمَّما تنكره البنيوية وال تعترف به إذ تعده من أطر النص التي تضيق
ومن المعروف إ َّ
الخناق عليه وتلغيه( ،)1وإذا كانت ثمة رؤية للبالغة على أنها اإلهاب الجديد لألس//لوبية ف//إن في
/ه
البالغة جانبا أدبيا وآخر لغويا ،وفي البالغة العربية تنتمي مباحث البديع والبيان إلى األدب بوج/
عام ،في حين ترتكز معظم مباحث علم المعاني إلى اللغة ،وإلى الجانب الداللي منها تحديدًا ،وعلى
وجه العموم فإن البالغة رافد مهم من روافد األسلوبية ،وهي على هذا األساس ليست قسيما لها أو
مرادفا تقتصر عليه األسلوبية.
وفي مجال التطبيق يمكن أن تكون األسلوبية منهجا نقديا يعتمد على مهاد خصب ،لذلك فإن
معظم الدراسات التي اعتمدت األسلوبية منهجا اشتغلت وفقا ألنساق أو مستويات أو محاور ،يستند
بعضها إلى اللغة ،ويعتمد بعضها اآلخر على البالغة ،وثمة ماله صلة بمباحث النقد واألدب عامة،
ومن خالل بعض الدراسات التي طبقت األسلوبية على اإلبداع الشعري وج/دنا مس/توى إيقاعي/ا
يشتغل على الوزن والقافية واإليقاع الداخلي ،وهناك المستوى المعجمي الداللي ،وثم//ة مس//توى
الصورة الشعرية ،ويمكن أن يشتق الباحث من هذه المستويات ما يناسب النص الذي يشتغل علي//ه
بحيث يحتضنه المنهج األسلوبي ،ومن ثم يتوغل إلى أعماقه ويحيط بأسراره.
وأدوات األسلوبية ووسائلها متنوعة وعلى النحو الذي فصلنا فيه إذ تشمل كل مباحث اللغ//ة
واألدب بحيث ال تميل إلى جهة ما بل تتجه إلى النص متوازنة متسقة ،وهي في خاتم//ة المط//اف
تتلبث عند أسرار النص ،وخصوصيات صياغته ،وعوامل فرادته ،فاألسلوب -ومن هذا المنطلق-
منهج متوازن ومتجدد ،وإذا ما قورن بالمناهج النقدية األخرى ف//إن المنهج األس//لوبي يتخلص من
عيوب المناهج التقليدية كالمنهج التاريخي والمنهج االجتماعي والمنهج النفسي وسواها من المن/اهج
التي اتهمت بأنها تتنكر للنص اإلبداعي متخذة منه وسيلة ال غاية في حين تحتفي األسلوبية ب//النص
دون تطرف كما هو شأن البنيوية وتفيد من صلة المبدع بنصه اإلبداعي ،وم//ا الم//انع في ذل//ك؟
فاألسلوبية إذن تفتح آفاقًا على صعيد المناهج النقدية وتعطي للناقد أو الباحث عامة أدوات منهجي//ة
مضافة تجدد المنظور النقدي والبالغي واللغوي على حد سواء.
وقد سعينا من هذا المنطق إلى إبراز الظواهر اللغوية واألسلوبية التي تميز ديوان البحتري،
ينظر :صالح فضل ،نظرية بنائية في النقد العربي ،ص 179وما بعدها. 1
75
البنــاء األسلـوبي الفصــل األول
ألن المعتمد األبنية الصوتية والصرفية والنحوية والبالغية الداللية ،وهذا ما يقتضي منا التعري//ف
بالشاعر.
ال يكـاد يغـادر الطائي أبو تمـام دنيا الشعـر وهو في شـرخ الرجولـة حتى يتسلم منه
علم الشعـر طائي آخر مثلـه " اسمـه الوليـد بن عبيد اهلل بن يحي بن عبيد بن شمـالل ابن جابر
بن سلمة ابن مسهـر بن الحـارث بن خيتـم بن أبي حارثـة بن جدي بن تـداول ابن بح//تر ابن
عتـود بن عتمـة ابن سلمان بن ثعل بن عمرو بن الغـوث بن جلهمـة وهي طيئ بن أدد بن زيد
بن كهـالن ابن سبأ بن يشجـب بن يعرب بن قحطـان"( )1ويكنى بأبي عبـادة( ،)2ولكن االسم الذي
()
أحد أجداده (.)4 نسبة إلى بحتر ()3
شهر به الشاعر في عالم األدب واستتر تحت شهره هو البحتري
ولد أبو عبادة في العام السادس بعد المائتين للهجرة ( 206هـ) الموافق للواحد وعشريـن
بين حلب والفرات ونشأ فيها نشأة عربية خالصـة، ()6
بعد الثمانمائة للميالد ( 821م)( )5بمنبـج
وذهب بعض العلماء إلى القول :إن البحتري ولد في قرية " بزردفنة " وهي قرية من ق//رى منبج،
1أبو الفرج األصفهاني ،األغاني ،تحقيق سمير جابر ،ج 10ص ،42وابن خلكان ،وفيات األعيان ،ج 6ص ،21وأحمد
بدوي ،والبحتري ص ،24وهاشم صالح مناع البحتري حياته وشعره ،ص ،7وينظر :مصطفى الشكعة ،الشعر والشعراء
في العصر العباسي ص.679
2األصفهاني ،األغاني ،ج 10ص ،45اآلمدي ،الموازنة بين شعر أبي تمام والبحتري ،ج 1ص ،26وابن خلكان ،وفيات
األعيان ،6،ص ،21وينظر :اآلمدي ،الموازنة بين شعر أبي تمام والبحتري ،ج ،1ص ،26وينظر :هاشم صالح مناع،
البحتري حياته وشعره ص ،7وينظر :أحمد بدوي ،البحتري ،ص ،24وينظر :مصطفى الشكعة ،الشعر والشعراء في
العصر العباسي ص.689
* ويكنى البحتري بمجموعة من الكنى ،نذكر منها :أبو الحسن ،وهذه الكنية كانت األولى قبل أن يتصل بالخليفة المتوكل
علي اهلل (ت 247هـ) ،وأبو عبادة ،يقال :أنه تكنى أبا عبادة لما دخل العراق ،واتصل بالمتوكل وعرف مذهبه ،ويقال :أن
المتوكل هو الذي كناه أبا عبادة كما ورد على لسان ابنه أبي الغوث.
3لقب البحتري بألقاب كثيرة ،منها :الطائي ،نسبة إلى طيئ أحد أجداده وهو جلهمة بن أدد ،والطائي األصغر ،للتمييز بينه
وبين أبي تمام الذي لقب بالطائي األكبر ،والبحتري نسبة إلى بحتر أحد أجداده ،والنابغة الثاني ،والمنبجي ،نس//بة إلى منبج
التي ولد فيها ،ينظر :هاشم صالح مناع ،البحتري حياته وشعره ص.7
/ر :ابن /اتر ينظ/ البحتر بالضم :القصير المجتمع الخلق ،وكذلك الحبتر وهو مقلوب منه ،واألنثى بحترة ،والجمع البح/
منظور ،لسان العرب (مادة بحتر).
4ابن خلكان ،وفيات األعيان ،ج ،6ص ،21وينظر :مصطفى الشكعة ،الشعر والشعراء في العصر العباسي ص.689
5أحمد بدوي ،البحتري ص ،24وهاشم صالح مناع ،البحتري حياته وشعره ص.7
6منبج – بالفتح ثم السكون وباء مكسورة وجيم -بلد قديم طيب الهواء ولد فيه جماعة من فرسان البالغة منهم :البحتري
وأبو نواس ومن قبلهما عبد الملك بن صالح الذي قال له الرشيد لما دخل منبج :أهذا منزلك؟ ،قال :هو لك ولي بك يا أم//ير
المؤمنين ،قال :كيف بناؤه؟ ،قال :دون منازل أهلي وفوق منازل الناس ،وقال :وكيف ذلك وقدرك فوق أقدارهم؟ قال :ذلك
خلق أمير المؤمنين أتأسى به وأقفو أثره وأحذو حذوه ،قال :فكيف طيب منبج؟ قال :عذبة الماء ،طيبة الهواء ،قليلة األدواء
قال فكيف ليلها ؟ قال :سحر كله.
/انت ومدينة منبج هذه كان من حقها أن ترتبط باسم البحتري مثلما ارتبطت باسم الشاعر األمير أبي فراس الحمداني ،فلقد ك/
/ان/ديح بعض من ك/ تلح على خاطري صاحبنا حنينا وشجونا وهو في ذروة مجده األدبي والمادي ،فيردد اسمها في مقام م/
يمدح من أعيان الزمان ،ينظر :أحمد بدوي ،البحتري ص ،24وهاشم صالح مناع ،البحتري حياته وشعره ص8ومصطفى
الشكعة ،لشعر والشعراء في العصر العباسي ص.689
76
البنــاء األسلـوبي الفصــل األول
وقضى فيها طفولته وصباه يحصل العلم ويجتني ثمار المعرفـة حتى شب طوقه في دنيا الشعر(.)1
تلقى البحتري تعليمه في هذه البلدة العظيمـة ،وهي ال تزيد عادة على حفظ القـرآن وشيء
/ة ،وأخبـار
من بليغ الشعر والنثر ،وتعلم أحكام الدين وسنة رسول اهلل وأخذ طرف من علوم اللغ/
الفتوح والمعازي وأيام العـرب وأنسابهم ( ،)2فجرى الشعر على لسانه فوجد في نفس//ه موهبـة
شعرية ،فأراد أن يصقلها ويهذبها على يد خبيرة مدربـة ،فاتصل بكبـار شعـراء عصره أمثـال
أبي تمام ،دعبل الخزاعي ،وابن الرومي وعلي بن الجهـم وابن المعتـز وابن الزيات ،وكان أب//و
/رين-
/و ابن العش/
/ه -وه/
تمـام أعظم هؤالء الشعـراء تأثيرا في صاحبنا وشعـره( ،)3فوفد إلي/
ليلتمس منه العلم والتعلم ( )4فها هو يقـول " :كان أول أمري في الشعر أني صرت إلى أبي تمـام
وهو بحمص فعرضت عليه شعري وكان الشعراء يعرضون عليه أشعارهم ،فأقبل عليه وترك سائر
من حضـر ،فلما تفرقوا قال لي :أنت أشعـر من أنشدني فكيف باهلل حالك ،فشكوت خلة ،فكتب إلى
/دحهم ،فصـرت إليهم
أهل معـزة النعمان وشهد لي بالحذق بالشعر وشفـع لي إليهم ،وقال :امت/
فأكرموني بكتابه ووظفـوا لي أربعـة آالف درهم فكانت أول مال أصيب"(.)5
وأما عن رومه للشعر فيقول " :كنت في حداثتي أروم الشعر ،وكنت أرجع فيه إلى طبع ولم
أكن أقف واتكلت في تعريفه عليه فكان أول ما قال لي :يا أبا عبادة تخير األوقات وأنت قليل الهموم
صفر من الغموم واعلم أن العادة في األوقات أن يقصد اإلنسان لتأليف ش//يء ،أو حفظ//ه في وقت
السحر وذلك أن النفس قد أخذت حظها من الراحة وقسطها من النوم فإن أردت النسيب فاجعل اللفظ
رقيقا والمعنى رشيقا ،وأكثر فيه بيان الصبابة ،وتوجع الكآبة وقلق األشواق ولوع//ة الف//راق وإذا
/اص
/ه وتق/
/رف مقاوم/
أخذت في مدح سيد ذي أياد فاشهر مناقبه وأظهر مناسبه وأبن معالمه وش/
المعاني ،واحذر المجهول منها ،وإياك أن تشين شعرك باأللفاظ الزرية وكن كأنك خياط يقطع الثياب
على مقادير األجسام وإذا عارضك الضجر فأرح نفسك وال تعمل إال وأنت ف//ارغ القلب ،واجع//ل
شهوتك لقول الشعر الذريعة إلى حسن نظمه ،فإن الشهوة نعم المعين ،وجملة الحال أن تعتبر شعرك
بما سلف من شعر الماضين ،فما استحسنه العلماء فاقصده ،وما تركوه فاجتنبه ترش//د إن ش//اء اهلل
هاشم صالح مناع ،البحتري حياته وشعره ص ،28وأحمد بدوي ،البحتري ص .25 4
77
البنــاء األسلـوبي الفصــل األول
تعالى" (.)1
/ة
/ة ثري/
/يلة وملك/
توسم أبو تمام النجابة في أبي عبادة بعد أن رأى عنده شاعرية حية أص/
العطاء ،واستعدادا لم يتوفر عند كثرين من شباب الشعراء المعاصرين له ،فأقبل عليه وسر به ،وظل
صاحبنا على اتصال بأستاذه الذي لم يبخل عليه بالتوجيه ،وشرح ما غمض من ألوان القول وحف//ظ
التاريخ ( ،)2إلى أن تأتي ساعة الرحيل إلى بغداد طلبا للتكسب فاتصل فيها بخلفاء كثرين ،فمنهم من
مدحه وهجاه ،ومنهم من رثاه (.)3
/لوب
/ة األس/
والبحتري شاعر مطبوع محافظ على عمود الشعر العربي ،وهو فارس مدرس/
المشرق ،ورائد الديباجة الشعرية ( )Poétiqueالمونقة التي أعادت الشعر إلى سابق عهده وربطته
من جديد بعمود ووقار القصيد( ،)4والسبب في ذلك راجع إلى مقدرته في نظم الشعر ،وسعة اطالعه
/اد
على شعر القدماء ،ومحفوظاته الشعرية ،وذوقه في اختيار النصوص وثقافته النقدية ومجارته لنق/
عصره ،وبذلك يكون قد جمع بين اإلبداع الشعري واالختيار األدبي والذوق النقدي ،إلى أن ضرب
به المثل بديباجته فقيل :ديباجة بحترية وقد صدق ابن رشيق حين قال" :وأما البحتري فك//ان أملح
صنعة ،وأحسن مذهب في الكالم يسلك منه دماثة وسهولة مع إحكام التصنع وقرب المأخذ ال يظهر
عليه كلفة وال مشقة "(.)5
/ه
/و في حقيقت/
/امخ ه/
وهو شاعر ذو إيقاع فريد ،تدفقت عبقريته المعطاء بفيض شعري ش/
تجسيد متوهج لقيمة الكلمة ،وشموخ الموسيقى وعظمة التصوير ،وانصهارها جميع//ا في لؤل//ؤة
واحدة هي هذا الشعر الذي أمام أعيننا.
فهذه الشاعرية لم تكن في وقت ما عرضة للطعن أو النكران ولكن بوسعي الزعم أنها لم تلق
/ا حظي
ما هو جدير بها من تقدير موضوعي ،ويتضح ذلك جليا إذا ما قارنا ما حظي به صاحبنا بم/
به ضريباه -وأعني أبا تمام وأبا الطيب -من دراسات وشروح في القديم والحديث ،وب//الرغم من
/ان ذا
ذلك فإن هذه الشاعرية ذات مذاق خاص ،وتألق مبهر ،ولم يكن ذلك في رأيي إال أن الرجل ك/
1ابن رشيق ،العمدة ،تحقيق محمد قرقزان ،ج ،2ص ،749وهاشم صالح مناع ،البحتري حياته وشعره ص ،14وأحمد
بدوي ،البحتري ص ، 59وهاشم صالح مناع ،أبو تمام الطائي حياته وشعره ص.28
2أحمد بدوي ،البحتري ص ،26مصطفى الشكعة ،الشعر والشعراء في العصر العباسي ،ص.292
3من أشهر خلفاء بني العباس الذين اتصل بهم البحتري :المعتصم (رثاء) ،الواثق (مدح غير مباشر) ،المتوك//ل (م//دح
ورثاء) ،المنتصر والمستعين (مدح وهجاء) ،المعتز والمهتدي والمعتمد والمعتضد (مدح) ،ينظر :البحتري حياته وش//عره
هاشم صالح مناع ص .17
4مصطفى الشكعة ،الشعر والشعراء في العصر العباسي ص.738
5ابن رشيق ،العمدة ،ج ،1ص.261
78
البنــاء األسلـوبي الفصــل األول
موهبة شعرية خالصة وصافية لم يكن متفلسفا وال متعالما وال بالغيا ،وإنما كان شاعرا فنان//ا يتفنن
/ه
/افة إلى موهبت/
/ل ،باإلض/
/تري هي أن الرج/
بشعوره ال بعقله ،إال أن الحقيقة الساطعة لدى البح/
/ال
/لة بمج/
الخصبة قد أتقن إتقانا ،فامتلك امتالكا أثمن وأوثق األدوات والعناصر الفنية التي لها ص/
/عري
/اؤه الش/
إبداعه وهي:التصوير والموسيقى والمشاكلة بين األلفاظ والمعاني ،ومن ثم كان عط/
مرهونا بطبيعة الشعر.
وإن اختلفت اآلراء حول قيمة ما لكل من أبي تمام وأبي عب//ادة وأبي الطيب في مض//مار
الحكمة والصياغة البديعية ،فإنه ال يجوز أن تكون الشاعرية المرهفة وتحققها ل//دى البح//تري إلى
/ع خالف
/ه إلى موض/
األفهام ،وما أقول إال أنه أتى في معانيه بأخالط الغالية ورقى في ديباجة لفظ/
خاصة بعد أن حسم القضية واحد من الفرسان الثالثة ،وأعني أبا الطيب المتنبي بقولته المش//هورة:
"أنا وأبو تمام حكيمان والشاعر البحتري ،ولعمري إنه أنصف في حكمه ،وأعرب بقوله عن متان//ة
/وغ من
/ظ المص/
/ماء في اللف/
علمه ،فإن أبا عبادة أتى في شعره بالمعنى المقدود من الصخرة الص/
سالسة الماء ،فأدرك بذلك بعد المرام مع قربه الدرجة العالية "(.)1
ولعل أهم العوامل التي أثرت على هذه الشاعرية هي تلك البيئة التي نشأ فيها وترعرع فقيرا
يرعى الغنم من أجل لقاء أجر من المال ،األمر الذي سهل عليه االتصال بالقبائل عن طريق بحث//ه
/ك
/ف إلى ذل/
للماء والكأل ،ثم ثقافته الضحلة مقارنة بثقافة عصره ،وحبه الشديد لميدان الشعر ،أض/
/النفع
خبرته وتجربته وحسن المدرسة التي انتمى إليها ،وبحثه عن الدؤوب في كل باب يعود عليه ب/
والفائدة ،وفوق كل هذا حبه لعلوة بيت زريقة الحلبية وتعلقه بها من جهة ،واتصاله بالخلفاء وقياه في
البالط من جهة أخرى مما ساعده على التعرف على الحضارة بشتى مناحيها ،فوجد نفسه في ج//و
المنافسة والمعارضة والطعن مما حدا به الدفاع عن فنه (.)2
ومن هنا يتضح أن مكانه من الشعر ال يجهل ،وشعره هو السهل الممتنع الذي تراه كالشمس
قريبا ضوئها بعيدا مكانها ،وكالقناة لينا مسها ،خشنا سنانها ،وهو في الحقيق//ة قين//ة الش//عراء في
1ابن األثير ،المثل السائر ،ج ،3ص ،227وهاشم صالح مناع ،البحتري حياته وشعره ،ص ،117لقد أورد ابن خلكان
الرأي في الشعراء الثالثة منسوبا إلى أبي العالء ،فهو عنده القائل " :أنا وأبو تمام حكيمان والشاعر البحتري" ينظ//ر :ابن
خلكان ،وفيات األعيان ،ج ،6ص ،23غير أن ابن األثير -كما أسلفنا -قد أورد المعنى منسوبا للمتنبي في المثل السائر،
/اعر/ميته بالش//ري ألبي الطيب وتس/ ونحن نميل إلى نسبة الحكم إلى المتنبي نظرا لما يورده ابن األثير عن تعصب المع/
وتسمية غيره من الشعراء باسمه.
2ينظر :هاشم صالح المناع ،البحتري حياته وشعره ،ص .53-52
79
البنــاء األسلـوبي الفصــل األول
اإلطراب ،وعنقاؤهم في اإلغراب( ،)1ألنه " أحسن في سبك اللفظ على المع//نى ،وأراد أن يش//عر
فغنى ،ولقد حاز طرفي الرقة والجزالة على اإلطالق " (.)2
/احب
/ه ص/
/عراء ،ألن/
والشك أن شعر البحتري جذب إليه النقاد ،وبهر العلماء ،وشغل الش/
مخيلة قوية ،كان إذا صور األشياء أبرز لها صورا دقيقة الفن ،ملونة ،تحس فيها الحركة والحياة في
وكان الب//اقالني يص//فه بـ: ()3
شعر حلو النغم ،وال عجب أن نراهم يصفونه بـ(:سالسل الذهب)
(بعروق الذهب)( ،)4وال يكاد كتاب من كتب النقد والبالغة يخلو من وصف شعره والثناء عليه ،وال
غرابة في ذلك إذ أن البحتري َتَبوََّأ الذروة في دوحة الشعر العربي شهدها تاريخ الحضارة اإلسالمية
الذي حفظ لنا تركة عظيمة للشاعر تتمثل في قصائده العربية المحملة بالمعاني اإلنسانية الراقية.
80