Professional Documents
Culture Documents
الحمد هلل رِّب العالمين ،والصالة والسالم على نبينا محمد صلى اهلل عليه وسلم ،سيد األولين واآلخرين ،وخ اتم األنبي اء
والمرسلين ،وعلى آله وصحابته أجمعين ،وسَّلم تسليًم ا كثيًر ا إلى يوم الدين ،وبعد:
فلق د ق َّدمِت البالغ ُة العربي ة خدم ًة جليل ة للغ ة العربي ة وللق رآن الك ريم ،لكنه ا -وبع د ازدهاره ا -دخَلْت في عص ور
الجمود والَّتكرار ،مما فرض تجاوَز ها في الدراسة النقدية الحديثة ،ولكن هذا التجاوَز ال يعني القطيع َة اإلستيمولوجية
مع البالغة ،بل مجرد تطوير ،وهكذا أصبح الحديُث عن األسلوبية كبالغة جديدة.
وقد تعَّددت مصطلحات األسلوبية ،ومفاهيمها ،وآليات اشتغالها ،ويعتبر االنزياُح ِم ن أشهر هذه المفاهيم التي ظَه رت
مع الِّش عرية الحديثة ،خاصة في الشعر؛ وذلك ألن اللغة الشعرية تختلف عن غيِر ها اختالًف ا كبيًر ا ،فاللغة العلمية مثاًل
تميل لألسلوب التقريرِّي المباشر الذي تكاد تنع ِد م فيه نسبُة التأويل ،مما يضع المتلقَي أمام داللة واحدٍة على العموم،
رغم اختالف المتلِّق ين ومستوياتهم ومشاربهم الثقافية.
إن ه ذا األم ر نج ده معكوًس ا في الِّش عر؛ حيث يعتم د الِّش عر على لغ ٍة له ا حُّظه ا من التقريرية في بعض األحي ان ،لكنه ا
إيحائية في الغالب األعم ،بل يجب أن تكون كذلك ،وهي تفتح بذلك المتلِّق َي على عاَلٍم ِم ن التأويالت المتعددة التي
تفرضها طبيعة اللغة ،سواء صوتًّيا ،أو صرفًّيا ،أو تركيبًّيا ،أو داللًّيا.
إن الش اعر يه دُف إلى إبه ار المتلِّق ي وش ِّده لقص يدته ،مس تعماًل ع دًد ا من الوس ائل في تحقي ق غايت ه ،وم ا االنزي اُح إال
وسيلٌة من هذه الوسائل ،بل هو أشهرها وأهمها ،وجامعها وبوتقتها التي تنصهر فيها؛ فاالنزياح من الظواهر الُم هَّم ة في
الدراسات األسلوبية التي تقارب النص األدبي عموًم ا ،والنص الِّش عري على وجه الخصوص ،باعتبار أن النص الشعرَّي
ُيمِّيز نفسه بالخروج عن المألوف.
وتحاول هذه الورقة المختصرة تسليَط الضوء على االنزياح في اللغة من الناحية النظرية.
-1تعريف االنزياح لغة:
جاء في مقاييس اللغة" :الزاء والياء والحاء أصٌل واحد ،وهو زوال الشيء وتنِّح يه ،يقال :زاح الشيء يزيح ،إذا ذهب"[
.]1
وجاء في معجم اللغة العربية المعاصرة" :انزاَح انزياًح ا ،فهو ُم نزاح ،والمفعول ُم نزاٌح عنه ،وانزاح الَّش يُء :زاح؛ ذهب
وتباعد ،وانزاَح عن مقعده :تنَّح ى عنه وتباعد"[.]2
وهكذا؛ فاالنزياُح في اللغ ِة يرتبط بال َّذ هاب والتباعد والتنحي ،وفي كل هذا تغييٌر لحالة معينة وعدم االلتزام بها ،وإن
كانت الداللة الُّلغوية األولى مرتبطًة بالمكان ،فإن األمر يتوَّس ع لغيره ،فيقال :زاح عِّني المرُض أو الباطُل :زال عِّني.
-2تعريف االنزياح اصطالًح ا:
اش َتَه ر مفه وُم االنزي اح وانتش ر في الدراس ات النقدي ة واألس لوبية ،وك ان الس بُب في االهتم ام به ذا المفه وم يرج ع
باألساس إلى البحث عن خصائَص مميزة للغة األدبية عموًم ا ،والشعرية خصوًص ا.
وق د تبَّنى ه ذا المفه وَم ع دٌد ِم ن الب احثين والنق اد ،ومنهم ج ون ك وهن ال ذي ي رى "أن الش رط األساس ي والض روري
لحدوِث الِّش عرية هو حصول االنزياح ،باعتباره خرًقا للنظام الُّلغوِّي المعتاد ،وممارسة استيطيقية"[.]3
وهكذا؛ فاالنزياح كما في داللته الُّلغوية خروج عن المألوف والمعتاد ،وتجاُو ٌز للسائد والمتعارف عليه والعادي ،وهو
في الوقت نفسه إضافٌة جمالية يماِر سها الُم بِد ع لنقل تجِر بته الشعورية للمتلقي والتأثير فيه ،وِم ن ذلك ال ُيَعد أُّي خ روج
عن المألوف وتجاُو ٍز للسائد وخرٍق للنظام انزياًح ا إال إذا حَّق ق قيمًة جمالية وتعبيرية.
ويقول جون كوهن:
"األس لوب ه و ك ل م ا ليس ش ائًعا وال عادًّي ا وال َمُص وًغا في ق والَب مس تهلكة ،...ه و مج اوزة بالقي اس إلى المس توى
العادي ،فهو إًذا خطٌأ ُمراد".
ومن أكثر التعريفات الواردة تعريُف فاليري ،الذي قال" :إن األسلوب في جوهره انحراٌف عن قاعدٍة ما".
ي رى ريف اتير أن االنزي اح "يك ون خرًق ا للقواع د حيًن ا ،ولج وًءا إلى م ا ن در حيًن ا آخ ر ،فأم ا في حالت ه األولى ،فه و من
مش موالت علم البالغ ة ،فيقتض ي إًذا تقييًم ا باالعتم اد على أحك اٍم معياري ة ،وأم ا في ص ورته الثاني ة ،ف البحث في ه من
مقتضيات اللسانيات عامة ،واألسلوبية خاصة"[.]4
ويرى بيار ج يرو أن األسلوب هو انزياح écartبالنس بة إلى معيار ،normeوق ال :إن "كل انزياح ُلغ وي يكافئ
انحراًفا déviationعن المعيار على مستوى آخر؛ مزاج ،وسط ،ثقافة ."...
أما قاموس جون ديبوا ،فيشير إلى أن االنزياح َح َد ٌث أسلوبي" ،ذو قيمة جمالية ،يصدر عن قرار لل َّذ اِت المتكِّلمة بفعل
كالمي يبدو خارًق ا transarressantإلحدى قواعد االستعمال التي تسمى معياًر ا ،normeيتحدد باالستعمال
العام للغة مشتركة بين مجموع المتخاطبين بها"[.]5
-3االهتمام باالنزياح:
ِم
رغم أن االنزياح مصطلٌح حديث ارتبط باألسلوبية وبالشعرية الحديثة ،فإن للمفهو الذي يدل عليه جذوًر ا بالغي ًة تعوُد
إلى البالغة اليونانية ،كما نجد عند أرسطو الذي كان ُيفِّر ق بين اللغة العادية المعروفة والشائعة ،وبين اللغة الغريبة غير
المألوفة ،مؤك ًد ا أن الثانية هي اللغة األدبية[]6؛ ألنها -كما يرى كوينتليان -تعبيٌر عن الحركية والتجُّدد والحياة،
على عكس اللغة العادية الدالة على السكون والنمطية الُم ِم َّلة.
أما في البالغة العربية القديمة ،فُصَو ُر االنزياح عَر فِت اهتماَم البالغيين ،رغم أنهم لم يعرفوا المصطلح ،ف إنهم بحثوا في
الخروج عن القاعدة والمألوف بتسميات مختلفة ُتشِّك ل في النهاية علَم البالغة؛ فدرسوا االستعارة ،والتقديم والتأخير،
والعدول ،إلى غير ذلك من المباحث البالغية.
وُيَع ُّد عبدالقاهر الُج رجاني من أبرز النقاد الذين تطَّر قوا لمواضيع ُتالِم س بقوٍة مفهوَم االنزياح بمعناه الحديث؛ حيث
َأْو َلى ِع نايًة خاصة للعدول ،وعَّده ِم يزًة كبيرة للِّش عر.
وفي العصر الحديث اهتَّم بعض النَّق اد العرب بمفهوم االنزياح ،وعلى رأسهم عبدالسالم المسدي ،في كتابه (األسلوب
واألسلوبية) ،وصالح فضل ،وتمام حسان ،ومحمد العمري ،وغيرهم ،إال أن الُم الَح ظ هو أن النقاد العرب يصطلحون
على المفهوِم اصطالحات مختلفة؛ حيث تتداخل مع مصطلح االنزياح عدُة مصطلحات ،أهمها العدول والتغريب:
♦ العدول :لغًة :هو الميل واالنعراج ،وبذلك فإن العدوَل في اللغة هو داللٌة على حياد الشيء عن وجهته وإمالته عنها[
.]7
أما العدول في المعنى االصطالحي ،فهو َم يٌل عن النظام أو األصل الُّلغوي[.]8
ِف ِم
إن ه االنتق اُل باأللف اظ في النِّص ن س ياقها الم ألوف إلى س ياق جدي د غ ير اعتي ادي ،مم ا يث ير التس اؤَل ،وَيْل ت النظَر
واالنتباه.
وقد عَّد أبو ُعَبيدة العدوَل ِم ن أشكال المجاز في القرآن الكريم ،بقوله" :ومجاُز ما جاء لفظه لفظ الواحد ووقع على
الجميع ،ومجاُز ما جاء لفظ الجميع ووقع معناه على االثنين ،ومجاز ما جاء لفظه خبر الجميع على لفظ خبر الواحد،
ومجاز ما جاء الجميع في موضع الواحد ،...وكُّل هذا جائز قد تكَّلموا به"[.]9
♦ التغريب :مصطلٌح ِم ن أدبيات الشكالِنِّيين الُّر وس ،وهو ِس َم ة أدبية ُتمِّيز النص األدبَّي عن غيره ،وهو فع ل قصدي من
المب دع كم ا يظه ر من داللت ه الص رفية؛ فالُم ب ِد ع للنص األدبي -خاص ة النص الش عري -يس عى إلى تغ ريب ُلَغ ة نِّص ه
لصدم المتلِّق ي ،من خالل الخروج على ما هو معتاد؛ وذلك من أجل كسِب تفاُعِله مع النص ،وقد كان أول ما دعا إليه
الش كالنيون ض رورة تج اوز الط ابع التقري رِّي لألدب ،واق ترحوا من الوس ائل لتحقي ق ذل ك مفه وَم التغ ريب؛ أي :جع ل
المألوف لدى المتلقي غريًبا ،عن طريق التنويعات الفنية.
ول ذلك ك ان شلوفس كي يرِبُط ه ذا المفه وم بمفه وَم ِي األداة واإلدراك؛ حيث يق ول" :إن أداة الفِّن هي أداُة تغ ريب
الموضوعات وأداة الشكل التي بها يصير صعًبا ،وهي أداة تزيد ِم ن صعوبة اإلدراك ومدته؛ ألن عملية إدراك الفِّن هي
غاية في حِّد ذاتها؛ ولذلك ينبغي تمديدها"[.]10
-4أنواع االنزياح:
يمكن تقسيُم االنزياح عموًم ا إلى قسمين :انزياح ُلَغوي ،وانزياح غير ُلَغوي.
♦ فأم ا االنزي اح غ ير الُّلغ وي ،فخ روٌج على الس ائد والُع رف في المجتم ع ،وخ رق للتقالي د واألع راف ،فه و ذو طبيع ة
اجتماعية وثقافية.
♦ واالنزياح الُّلغوي يرتبط بالنص ،وينقسم بدوره إلى نوعين اثنين:
-1االنزياح الداللي (االستبدالي):
وهذا النوُع ِم ن االنزياح هو األشهر واألكثر داللًة وتأثيًر ا في القارئ ،يقول عنه صالح فضل -رغم أنه يسميه انحراًف ا
" :-االنحراف االستبدالي يخرُج على قواعد االختيار للرموز الُّلغوية؛ كمثل وضع الفرد مكان الجمع ،أو الصفة مكان
االسم ،أو اللفظ الغريب بدل المألوف"[.]11
وه ذا الن وع ُيع َر ف في البالغ ة بالص ورة الش عرية أو البالغي ة ،وُيَع د التش بيه واالس تعارة والمج از ِم ن أهم أش كال ه ذا
االنزياح الداللي.
-2االنزياح التركيبي:
يرى صالح فضل أن هذا النوَع ِم ن االنزياح يتصل "بالسلسلة السياقية الخطية لإلشارات الُّلغوية ،عندما تخرج على
قواعد النظم والتركيب؛ مثل االختالف في ترتيب الكلمات"[.]12
ف إذا ك انت اللغ ُة تف ِر ُض نمًط ا أو قانوًن ا تركيبًّي ا ُمعيًن ا ،فك ل خ روٍج عن ه ذا الق انون ُيَع ُّد انزياًح ا تركيبًّي ا ،س واء ك ان
الخروج َيَم ُّس ترتيب السلسلة الكالمية؛ أي :التقديم والتأخير؛ كقوله تعالىِ ﴿ :إَّنا َنْح ُن َنِر ُث اَأْلْرَض َو َمْن َعَلْيَه ا َو ِإَلْيَن ا
ُيْر َجُعوَن ﴾ [مريم]40 :؛ ففي اآلية تقديم الجار والمجرور (إلينا يرجعون)؛ إلفادة القصر؛ أي :ال يرجعون إال هلل ،أو
الحذف ،أو كان يمس نظام اللغة الَّنْح وي.
وتجدر اإلشارة أن هذيِن النوعين من االنزياحاِت ال يمكن الفص ُل بينهما دائًم ا ،بل قد يتداخالن ويترتب أحدهما عن
اآلخر.
وخالصة القول:
إن االنزياح ظاهرٌة ُمهَّمٌة في اللغة العربية؛ فهو وسيلة لتوُّس عها ،وأداة فنية وجمالية عَر َفْتها اللغة منذ القديم؛ حيث نجد
أن الع رب ق ديًم ا تنَّبه وا للظاهرة ،ول و بمص طلحات أخ رى أهُّم ه ا الع دول؛ كم ا نج د عن د ابن ج ني ،وعب دالقاهر
الجرجاني ،والقاضي الجرجاني ،وابن رشيق القيرواني ،وغيرهم.
وفي العصر الحديث ظهر مفهوُم االنزياح ،سواء عند العرب أو عند الغرب ،بمصطلحات كثيرة؛ كاالنحراف ،والميل
عن القاعدة ،والتغريب ،والجسارة الُّلغوية.
وق د ارتب ط االنزي اح بالدراس ة األس لوبية؛ حيث ع َّر ف بعُض هم -ومنهم ف اليري -األس لوَب بأن ه انح راف عن قاع دة،
وانزي اٌح عن ق انون أو ع رف ُلَغ وي ،وخ روج عن الم ألوف ،وخ رق للس ائد ،إال أن ال ذي يجب االتف اق علي ه ه و أن
االنزي اح يتطلب أن تك ون ل ه دالل ة ،وأن يحِّق ق إض افة جمالي ة للغ ة ،وإال فه و مج رد ش ذوذ لغ وي ال يق ِّدم وال ي ؤِّخر،
ويعتبر جون كوهين ِم ن أشهر المشتغلين على مفهوم االنزياح.
إن االنزياح يظهر في اللغة في شكليِن اثنين تتوَّلد منهما مجموعٌة ِم ن األشكال والتجليات االنزياحية في اللغة:
فاألول هو االنزياُح الداللي الذي يرتبط بالصور البالغية؛ كاالستعارة والتشبيه والمجاز؛ ولذلك يمكن تسميُته باالنزياح
التصويري.
والثاني هو االنزياح التركيبُّي الذي يرتبط -كما سبقت اإلشارة -بالتركيب والنحو والمعجم وما يتصل بهما.
قائمة المصادر و المراجع:
[ ]1ابن فارس ،مقاييس اللغة ،دار الفكر ،1979 ،ج ،3ص.39
[ ]2أحمد مختار عمر ،معجم اللغة العربية المعاصرة ،عالم الكتب ،ط ،1ج ،2ص.1014
[ ]3إسماعيل شكري ،نقد مفهوم االنزياح ،مجلة فكر ونقد ،العدد ،23نونبر .1999
[ ]4عبدالسالم المسدي ،األسلوب واألسلوبية ،الدار العربية للكتاب ،ط.103 ،3
[ ]5سامية محصول ،مجلة دراسات أدبية ،العدد الخامس ،فبراير .2010
[ ]6محمد ويس ،االنزياح من خالل الدراسات األسلوبية ،المؤسسة الجامعية للدراسات ،2005 ،ص .82
[ ]7الفراهيدي ،معجم العين :مادة (عدل).
[ ]8عبدالحميد هنداوي ،اإلعجاز الصرفي ،ص.141
[ ]9أبو عبيدة ،مجاز القرآن ،مكتبة الخانجي ،القاهرة طبعة 1381هـ ،ص.19 - 18
[ ]10نظرية التلقي ،روبرت هوالب ،ص .20عن الطيب الرحماني ،مجلة أدب وفن اإللكترونية
[ ]11صالح فضل ،علم األسلوب ومبادئه وإجراءاته ،دار الشروق ،القاهرة ،1998 ،ص .212
[ ]12المرجع نفسه ،ص .211