You are on page 1of 4

‫«دراسات يف علوم القرآن ‪ -‬محمد بكر إسامعيل» (ص‪:)327‬‬

‫«‌‌املبحث التاسع والعرشون‪ :‬خصائص أسلوب القرآن‬


‫‌‌مدخل‬
‫…‬
‫املبحث التاسع والعرشون‪ :‬خصائص أسلوب القرآن‬
‫انفرد القرآن الكرمي بطريقة سويِّة يف تأديه املعاين وإ برازها يف قوالب لغوية ال تنافُ َر بني ألفاظها وال بني حروفها‪.‬‬
‫إهنا طريقة مستقمية ال عوج فهيا‪ ،‬وال تناقض وال اختالف‪ ،‬تسكل ابلناس مساكل الهدى من غري تلكُّف وال اعتساف‪ ،‬وتأخذ بتالبيب‬
‫عقوهلم إىل التأ ُّمل والنظر يف احلجج الساطعة اليت يأيت هبا الواقع املشاهَد‪ ،‬حبيث ال يسع أحد إناكره أو املراء فيه‪ ،‬إ اّل من سفه نفسه‪،‬‬
‫وألغى عقهل‪ ،‬وختىل عن فطرته اليت فطره هللا علهيا‪.‬‬
‫فأسلوب القرآن يف اإلقناع مم ِتع‪ ،‬ميكل عىل املؤمنني أفئدهتم‪ ،‬فتلني وختشع من خشية هللا‪ ،‬وتستنري بنور اإلميان اذلي يزداد لكام تُ ِل َيت‬
‫آايته بتدبُّر وتبرُّص ‪.‬‬
‫قال تعاىل‪ُ { :‬ق ْل ُأويِح َ يَل َّ َأن َّ ُه ْاس َت َم َع ن َ َف ٌر ِم َن الْجِ ِّن فَ َقالُوا اَّن مَس ِ ْعنَا ُق ْرآاًن جَع َ ًبا‪ ،‬هَي ْ ِدي ىَل ُّالر ْش ِد فَآ َمنَّا ِب ِه َول َ ْن نُرْش ِكَ ب َ ِِرب ّنَا َأ َحدً ا}‬
‫ِإ‬ ‫ِإ‬ ‫ِإ‬
‫ولهذا األسلوب القرآين خصائصه الفنية‪ ،‬وسامته البالغية‪ ،‬ولطائفه اللغوية‪ ،‬وسواحنه العقلية‪ ،‬وتأثريه اخلاص يف النفوس السوية‪ ،‬ويف‬
‫النفوس اجلاحمة أيضً ا‪.‬‬
‫وهل جامل يعرف وال يوصف‪ ،‬مفهام قيل فيه فهو أمسى وأرفع من أن حتيط بكهنه العقول‪ ،‬أو تعرِّب عنه ألسنة املت ِلكّمني أو أقالم الاكتبني‪.‬‬
‫ولكن ال بُ َّد أن نديل بدلوان املتواضع مع أولئك اذلين سبقوان إىل احلديث املستفيض عن هذه اخلصائص والسامت‪ ،‬واللطائف‬
‫والسواحن‪ ،‬فنتلكم عهنا من خالل الكهمم‪ ،‬ونشهد معهم مبا شهدوا به عىل طالوة أسلوب القرآن وجالهل‪ ،‬بعد أن ذقنا شيًئا من حالوة‬
‫ألفاظه‪ ،‬وعرفنا شيًئا عن سالمة منطقة‪ ،‬وبراعة تعبريه‪ ،‬ودقة تصويره‪ ،‬وروعة بيانه‪.‬‬
‫نقر َر ابدئ ذي بدء أن خصائص القرآن اليت متزَّي َ هبا عن غريه من الكتب الساموية بوجه خاص‪ ،‬وعن الكم الناس بوجه‬ ‫«وينبغي أن ّ ِ‬
‫عام‪ ،‬جفعلته معجِ ًزا يف بيانه وترشيعه‪ .‬قد أفاض يف ذكرها األدابء والبلغاء من أحصاب امللاكت الفريدة‪ ،‬واملواهب الفذة‪ ،‬فاكنوا بني مق ٍّل‬
‫خربا‪ ،‬بل إهنم مجي ًعا مل يقدموا لنا من هذه اخلصائص إال قطرة من حبر‪،‬‬ ‫يف رسدها ومكرِث ‪ ،‬ولكن مل يقل واحد مهنم إنه قد أحاط مبا دليه ً‬
‫فمل يزيدوا عىل أن َّقربوا لنا البعيد بِرَض ْ ٍب من المتثيل بغية اإليضاح والتبيني‪.‬‬
‫ويبقى القرآن أبدً ا هو الكتاب اذلي ال تنهتي جعائبه‪ ،‬وال تنقيض غرائبه‪ ،‬وال تبىل جدته‪ ،‬وال ميهل قارئوه وال سامعوه‪.‬‬
‫وحنن إذا مسحنا ألنفسنا أن نتلكَّم عن بعض هذه اخلصائص القرآنية‪ ،‬فإمنا نذكر عىل وجه المتثيل والتقريب أيضً ا‪ ،‬وما ال يدرك لكه ال‬
‫يرتك جهل»‬
‫«‌‌اخلاصة األوىل‪ :‬جامل التعبري‬
‫اصطفى هللا من ألفاظ اللغة العربية أفصحها وأيرسها عىل اللسان‪ ،‬وأسهلها عىل األفهام‪ ،‬وأمتعها لآلذان‪ ،‬وأقواها تأ ًثريا عىل القلوب‪،‬‬
‫وأوفاها تأدية للمعاين‪ ،‬مث ركَّهَب ا تركي ًبا حممك البنيان‪ ،‬ال يدانيه يف نسجه الكم البرش من قريب وال من بعيد‪ ،‬وذكل ملا يمكن يف ألفاظه من‬
‫اإلحياءات اليت تعرب إىل خلجات النفس‪ ،‬وتقتَ ِحم شغاف القلوب‪.‬‬
‫وما يكون يف تركيبه من ألفة جعيبة‪ ،‬وانسجام وثيق بني هذه األلفاظ‪ ،‬همام تقاربت خمارج حروفها أو تباعدت‪.‬‬
‫فقد جاء رصف املباين وفق رصف املعاين‪ ،‬فالتقى البحران عىل أمر قد قُ ِد َر‪ ،‬فاستساغته مجيع القبائل عىل اختالف لهجاهتا قراءة‬
‫وسامعًا‪.‬‬
‫واستسلمت لهذا النسق الفريد‪ ،‬والرتتيب العجيب أساطني البالغة يف لك زمان وماكن‪ ،‬واسمت َّدت منه النفوس املؤمنة روهحا ورحياهنا‪،‬‬
‫فمل يشبع من دراسته العلامء‪ ،‬ومل مي ّل تالوته أحد من األتقياء»‬
‫«دراسات يف علوم القرآن ‪ -‬محمد بكر إسامعيل» (ص‪:)329‬‬
‫سورا مني ًعا حلفظ القرآن من‬
‫«"ومن جعيب أمر هذا امجلال اللغوي‪ ،‬وذاك النظام الصويت‪ ،‬أهنام كام اكان دليل إجعاز من انحية‪ ،‬اكان ً‬
‫انحية أخرى‪ ،‬وذكل أ ّن من شأن امجلال اللغوي والنظام الصويت أن يسرتعي األسامع‪ ،‬ويثري الانتباه‪ ،‬وحيرك داعية اإلقبال يف لك‬
‫إنسان إىل هذا القرآن الكرمي‪ ،‬وبذكل يبقى أبد ادلهر سائدً ا عىل ألسنة اخللق ويف آذاهنم‪ ،‬وي ُ ْع َرف بذاته ومزاايه بيهنم‪ ،‬فال جيرؤ أحد‬
‫عىل تغيريه وتبيدهل مصداقًا لقوهل سبحانه‪ { :‬اَّن حَن ْ ُن نَ َّزلْنَا ا ِّذل ْك َر َو اَّن هَل ُ ل َ َحا ِف ُظ َ‬
‫ون}‬
‫ِإ‬ ‫ِإ‬
‫وإ ن نظام القرآن الصويت يف ائتالف حراكته وسكناته‪ ،‬ومدَّاته وغنَّاته‪ ،‬واتصاالته وسكتاته‪ ،‬أمر يهبر العقول‪ ،‬ويسرتعي األسامع‬
‫ويسهتوي النفوس‪ ،‬بصورة ختتلف لك الاختالف مَع َّا جيده املتذوق لالكم الناس من نسق وانسجام‪ ،‬فإنه همام اكن الكم البرش سهاًل‬
‫جزرا عذاًب ‪ ،‬فإنه ال خيلو من قصور يف املعىن‪ ،‬أو ِث َقلٍ يف النطق‪ ،‬أو َخلَلٍ يف الرتتيب‪.‬‬ ‫ً‬
‫"وبيان ذكل أن من ألقى مسعه إىل مجموعة القرآن الصوتية‪ ،‬واكن بعيدً ا ال يسمع إ اّل صدى الصوت من غري متيزي للحروف والكامت‪،‬‬
‫متزيا بعضها عن بعض‪ ،‬يشعر من نفسه ‪-‬ولو اكن أجعميًّا ال يعرف العربية‪ -‬بأنه أمام حلن غريب‪ ،‬وتوقيع جعيب‪ ،‬يفوق يف حسنه وجامهل‬ ‫م ً‬
‫لك ما عرف من توقيع املوسيقى وترنمي الشعر؛ ألن املوسيقى تتشابه أجراسها‪ ،‬وتتقارب أنغاهما‪ ،‬فال يفتأ السمع أن ميلَّها‪ ،‬والطبع أن‬
‫ميحهيا‪ ،‬وألن الشعر تَتَّ ِحدُ فيه األوزان‪ ،‬وتتشابه القوايف يف القصيدة الواحدة غال ًبا إو ن طالت عىل منط يورث سامعه السأم وامللل‪ ،‬بيامن‬
‫سامع حلن القرآن ال يسأم وال مي ّل؛ ألنه ينتقل فيه دامئًا بني أحلان متنوعة‪ ،‬وأنغام متجددة‪ ،‬عىل أوضاع خمتلفة‪ ،‬هيز كطل وضع مهنا أواتر‬
‫القلوب‪ ،‬وأعصاب األفئدة‪.‬‬
‫أحسته اآلذان العربية أايم نزول القرآن‪ ،‬ومل تكن عهدت مثهل فامي عرفت من‬
‫وهذا امجلال الصويت أو النظام التوقيعي هو أول يشء َّ‬
‫منثور الالكم‪ ،‬سواء‬
‫‌‌«دراسات يف علوم القرآن ‪ -‬محمد بكر إسامعيل» (ص‪:)330‬‬
‫«أاكن مرساًل أم مسجوعًا‪ ،‬حىت ُخ ِيّ َل إىل هؤالء العرب أن القرآن شعر؛ ألهنم أدركوا يف إيقاعه وترجيعه ذلة‪ ،‬وأخذهتم من ذلة هذا‬
‫اإليقاع والرتجيع هزة‪ ،‬مل يعرفوا شيًئا قري ًبا مهنا إ اّل يف الشعر‪ ،‬ولكن رسعان ما عادوا عىل أنفسهم ابلتخطئة فامي ظنوا‪ ،‬حىت قال قائلهم ‪-‬‬
‫وهو الوليد بن املغرية‪" :‬وما هو ابلشعر" معلاًل ذكل بأنه ليس عىل أعاريض الشعر يف رجزه‪ ،‬وال يف قصيده‪.‬‬
‫تورط يف خطأ أحفش من هذا اخلطأ‪ ،‬حني زمع يف ظالم العناد واحلرية أنه حسر؛ ألنه أخذ من النرث جالهل وروعته‪ ،‬ومن النظم‬ ‫بيد أنه َّ‬
‫جامهل ومتعته‪ ،‬ووقف مهنام يف نقطة وسط خارقة حلدود العادة البرشية‪ ،‬وبني إطالق النرث إو رساهل‪ ،‬وتقييد الشعر وأوزانه‪.‬‬
‫ولو أنصف هؤالء لعلموا أنه الكم منثور؛ لكنه معجز ليس مكثهل الكم‪ ،‬ألنه صادر من متلكم قادر ليس مكثهل يشء‪ ،‬وما هو ابلشعر‬
‫وال ابلسحر؛ ألن الشعر معروف هلم بتقفيته ووزنه‪ ،‬وقانونه ورمسه‪ ،‬والقرآن ليس منه؛ وألن السحر حماوالت خبيثة ال تصدر إ اّل من‬
‫نفس خبيثة‪ ،‬ولقد علمت قريش أكرث من غريمه طهارة النفس احمل َّمدية‪َّ ،‬‬
‫ومسوها ونبلها"‪.1‬‬
‫استكبارا يف األرض‬
‫ً‬ ‫وعلمت كذكل أن هذا القرآن ليس من عند برش‪ ،‬ولكهنم حجدوا ذكل حسدً ا من عند أنفسهم‪ ،‬وتعال ًيا عىل ّ ِ‬
‫احلق‪ ،‬و‬
‫بغري حق‪.‬‬
‫ون فَ هَّن ُ ْم اَل يُ َك ِّذبُون ََك َولَ ِك َّن َّ‬
‫الظا ِل ِم َني ِبآاَي ِت اهَّلل ِ جَي ْ َحدُ َ‬
‫ون} ‪.2‬‬ ‫قال تعاىل‪{ :‬قَدْ ن َ ْعمَل ُ ن َّ ُه ل َ َي ْح ُ نز َُك اذَّل ِ ي ي َ ُقولُ َ‬
‫ِإ‬ ‫ِإ‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬
‫وقال سبحانه‪{َ :‬و َج َحدُ وا هِب َا َو ْاست َ ْي َقنَهْت َا َأنْ ُف ُسهُ ْم ُظل ًما َوعُل ًّوا فَان ُْظ ْر ك ْي َف اَك َن عَا ِق َب ُة ال ُم ْف ِس ِد َين} ‪.3‬‬
‫وخنلص من هذا اذلي ذكرانه آن ًفا إىل أن اللفظ اذلي انتقاه هللا من أفصح لغات العرب ميتاز عن غريه من األلفاظ السائدة يف الكهمم‬
‫بثالث ٍ‬
‫سامت رئيسية‪:‬‬
‫‌‌«األوىل‪ :‬جامل وقعه يف السمع‪.‬‬
‫الثانية‪ :‬انسجامه الاكمل يف املعىن‪.‬‬
‫الثالثة‪ :‬اتساع داللته ملا ال تتسع هل عادة دالالت األلفاظ األخرى‪.‬‬
‫وقد جند هذه السامت الثالثة يف بعض األساليب األدبية‪ ،‬ولكهنا ال جتمتع لكها يف أسلوب أديب‪.‬‬
‫ولو اجمتعت ال َّتطرد يف مجيع الكمه‪ ،‬بل ال بُدَّ أن يش َّذ لفظ عن دائرة الفصاحة‪ ،‬أو يتنافر مع غريه يف الرتكيب‪ ،‬أو يقرِّص عن أداء‬
‫املعىن املراد إبرازه‪ ،‬أو ال يكون هل من امجلال ما يثري اإلجعاب‪ ،‬أو يبعث يف النفوس الرغبة امل ِل ّحة يف القراءة أو يف السامع‪.‬‬
‫أما القرآن الكرمي فإنه يف اذلروة العليا فصاحة وبالغة وبيااًن ‪ ،‬ال قدرة ألحد همام عال قدره يف البالغة واألدب أن يباريه أو جياريه‪ ،‬أو‬
‫يقرتح فيه إبدال لكمة بلكمة‪ ،‬أو حذف لكمة أو زايدة لكمة‪ ،‬أو تقدمي واحدة وتأخري أخرى‪ ،‬مع أنه مل يغلق دوهنم أبواب املعارضة‪ ،‬بل‬
‫فتحها هلم عىل مصاريعها‪ ،‬ودعاها إلهيا أفرادًا وجامعات‪ ،‬وحتدَّامه بسورة من سوره‪ ،‬فعجزوا مجي ًعا عن اإلتيان مبثل آية من آايته‪ ،‬فأدركوا‬
‫من خالل جعزمه أنه ليس من الكم البرش‪ ،‬بل هو من الكم خالق القوى والقدر‪ ،‬وسيأيت بيان هذا التحدي بصوره اخملتلفة يف مبحث‬
‫"إجعاز القرآن" إن شاء هللا تعاىل‪.‬‬
‫"فاجلديد يف لغة القرآن أنه من لك شأن يتناوهل من شئون القول يتخرَّي هل أرشف املواد‪ ،‬وأمسها رمحًا ابملعىن َاملراد‪ ،‬وأمجعها للشوارد‪،‬‬
‫وأقبلها لالمزتاج‪ ،‬ويضع لك مثقال ذرة يف موضعها اذلي هو أحق هبا‪ ،‬ويه أحق به؛ حبيث ال جيد املعىن يف لفظه إ اّل مرآته الناصعة‬
‫وصورته الاكمةل‪ ،‬وال جيد اللفظ يف معناه إ اّل وطنه األمني وقراره املكني‪ ،‬ال يو ًما أو بعض يوم‪ ،‬بل عىل أن تذهب العصور وجتيء‬
‫العصور‪ ،‬فال املاكن يريد بساكنه بداًل ‪ ،‬وال الساكن يبغي عن مزنهل ِحواًل ‪ ،‬وعىل امجلةل جييئك من هذا األسلوب مبا هو املثل األعىل يف‬
‫صناعة البيان‪ ،‬أسلوب جعب‪ ،‬ومهنج من احلديث ف ٌّذ مب َت َكر‪ ،‬أكن ما سواه» «دراسات يف علوم القرآن ‪ -‬محمد بكر إسامعيل» (ص‬
‫‪:)332‬‬
‫«من أوضاع الالكم منقول‪ ،‬وأكنه بيَّهَن ا عىل َح ِّد قول بعض األدابء "وضع مرجتل" ال ترى سابقًا جاء مبثاهل‪ ،‬وال الحقًا ُط ِب َع عىل غراره‪،‬‬
‫احلساس بني رضوب األحلان‪ ،‬أو‬ ‫فلو أن آية منه جاءتك يف مجهرة من أقوال البلغاء عىل ماكهنا‪ ،‬واسامتزت من بيهنا‪ ،‬كام يسمتزي اللحن َّ‬
‫الفاكهة اجلديدة بني ألوان الطعام"‬
‫وهذا مطلب هل دليهل‪ ،‬وإ جامل هل تفصيهل‪ ،‬وحمل ذكل مبحث اإلجعاز‪.‬‬

You might also like