You are on page 1of 120

옂䜀 준挀 攢䠀 䄀준愀鈁༢搀 䤀준搢攀 樀儀준꬀꤀攀 먀꬀戀

漀 옂䜀 준挀 ༢ꨀ䴀 ꐀ䔀䜀 ⤀


⠀가攀䜀焀 一栀

༢戀搀䜀 搀준뀀唀 ⸀伀
‫قيم معيارية منتقاة للوفاء بحق كتاب الله‬
‫( إلى حملة كتاب الله ُ‬
‫وخ ّدامه)‬
‫(إلى حملة كتاب الله ُ‬
‫وخ ّدامه)‬
‫قيم منتقاة للوفاء بحق كتاب الله‬

‫ت�أليف‬
‫د‪� .‬صالح بن �أحمد الدقلة الزهراين‬
‫ح صالح بن أمحد بن حيي الزهراين‪١٤٤١ ،‬هـ‬

‫فهرسة مكتبة امللك فهد الوطنية أثناء النرش‬


‫الزهراين‪ ،‬صالح بن أمحد بن حيي‬
‫ميثاق أهل القرآن‪ / .‬صالح بن أمحد بن حيي الزهراين ‪ -‬مكة املكرمة‪١٤٤١ ،‬هـ‬
‫‪ ١٢٠‬ص؛ ‪ ٢١ x ١٤‬سم‬
‫ردمك‪978 -603 -٠٣ -٨٨٥٢ -٣ :‬‬
‫أ‪ -‬العنوان‬ ‫ ‬
‫‪ -1‬القرآن ‪ -‬مباحث عامة‬
‫‪١٤٤٣ / ١٨٨‬‬ ‫ ‬
‫ديوي ‪٢٢٩‬‬
‫رقم اإليداع‪١٤٤٣ / ١٨٨ :‬‬
‫ردمك‪978 -603 -٠٣ -٨٨٥٢ -٣ :‬‬

‫حقوق الطبع محفوظة للمؤلف‬


‫الطبعة األوىل‬
‫‪١٤٤٢‬هـ ‪٢٠٢١ /‬م‬
‫أمي ‪ ‬الذي كان ال يتمكن من قراءة �شيء مكتوب‬
‫ �إلى والدي ال ّ‬
‫�سوى (ربع ي�س)‪.‬‬
‫ �إلى �أمي الأمية التي ال يتوقف �صوت القر�آن يف بيتها‪.‬‬
‫ �إلى زوجتي التي ح ّفظت بناتها كتاب اهلل‪.‬‬
‫ �إلى �أهل القر�آن حيث كانوا‪.‬‬
‫املقدمة‬

‫احلمد هلل وال�صالة وال�سالم على �سيد اخللق �أجمعني حممد بن‬
‫عبداهلل ُمب ّلغ الوحي الأمني‪� ،‬أما بعد‪.‬‬
‫ل�كل مهن�ة �أخالقه�ا الت�ي تنظ�م عالق�ات �أهله�ا وت�ضب�ط‬
‫�س�لوكهم وتغ�ذي ت�صوراته�م‪ ،‬وخير م�ن مت ّث�ل الأخلاق وعا��ش‬
‫به�ا‪ ،‬ه�م �أه�ل الق�ر�آن‪ ،‬وخير �أه�ل الق�ر�آن ر�س�ولنا حمم�د ﷺ‬
‫الذي كان خلقه القر�آن‪.‬‬
‫ولأن عالق�ة �أه�ل الق�ر�آن بالق�ر�آن عالق�ة عه�د وف�اء وميث�اق‬
‫الت�زام؛ كان ال ب�د م�ن تدوي�ن ملخ��ص يح�وي �إ�ش�ارات للمالم�ح‬
‫القيمي�ة له�ذا امليث�اق ال�ش�ريف‪ ،‬ال�ذي ي�س�هم يف �إحي�اء قي�م‬
‫الق�ر�آن الك�رمي يف نفو��س حافظي�ه وطالب�ه ُ‬
‫وخ ّدام�ه‪ ،‬ليتمكن�وا‬
‫م�ن حم�ل ه�ذا ال�ش�رف العظي�م‪ ،‬وامل�س��ؤولية اجل�س�يمة‪ .‬وذل�ك‬
‫من خالل متثل قيم و�أخالق �أهل القر�آن‪.‬‬
‫وحين تعم�ل ه�ذه القي�م كع�رف �أخالق�ي وت�صب�ح مرجع�ا‬
‫نف�س�يا حتتك�م �إلي�ه النف��س كلم�ا �س�اومها اله�وى؛ حينه�ا ت�صب�ح‬
‫ه�ذه القي�م ميثاقا‪�.‬أ�ش�به م�ا يك�ون ب�صحيف�ة �ش�عورية حتت�وي‬
‫عل�ى عه�د يلتزم�ه الإن�س�ان ويح ّكم�ه يف نف�س�ه كمعي�ار ل�ضب�ط‬
‫تفكريه و�شعوره و�سلوكه‪.‬‬
‫‪11‬‬
‫ميثاق أهل القرآن‬

‫وكم�ا �أن ل�كل مهن�ة ميثاقه�ا الأخالق�ي ف��إن �أعظ�م ميث�اق‬


‫حلمل�ة الق�ر�آن ه�و الق�ر�آن نف�س�ه‪ ،‬وحت�ى يت�م بن�اء النفو��س‬
‫ومعاجلته�ا للوف�اء به�ذا امليث�اق العظي�م فالب�د م�ن �إحي�اء بع��ض‬
‫املع�اين الت�ي ق�د تغي�ب ع�ن حام�ل الق�ر�آن في�ضع�ف التزام�ه‬
‫مبيث�اق الق�ر�آن العظي�م ‪ .‬وهن�ا بع��ض عب�ارات الرب�ط بين �س�مات‬
‫هذه القيم وبني كونها معيارا للوفاء مبيثاق القر�آن العظيم‪:‬‬
‫ال�شرف‪ :‬حقيقته عهد يقوم النف�س يلزم من تلقى الت�شريف �أن‬
‫يحرتم التكليف‪.‬‬
‫الوفاء‪ :‬عهد ب�أداء احلق والعناية بالتمام كلما زاد االبتالء‪.‬‬
‫االلتزام ‪ :‬وثيقة يف الذهن ت�ضبط عالقة العقل والنف�س‪.‬‬
‫الإح�سان‪ :‬معيار ال يغيب عن نظر الإن�سان‪� ،‬ضابط مل�ستوى الأداء‬
‫احل�سي واملعنوي‪.‬‬
‫الأخوة ‪ :‬عهد �أوجبه الإ�سالم‪.‬‬
‫ال�صرب‪ :‬و�صية امل�ؤمنني للثبات على احلق‪.‬‬
‫ال�شكر ‪ :‬دين يلزم النفو�س بال�سعي يف حماب املنعم‪.‬‬
‫اجلماعة ‪ :‬عهد وبيعة يف الرقاب‪.‬‬
‫العداوة ‪ :‬عهد من اهلل للخلق بعداوة �إبلي�س‪.‬‬
‫لق�د ج�اءت ه�ذه املد ّون�ة الق�صيرة لتلق�ي ال�ض�وء عل�ى بع��ض‬
‫املع�اين العميق�ة‪ ،‬منتهج� ًة نه�ج العر��ض ال�س�ريع‪ ،‬واالنتق�اء غير‬
‫‪12‬‬
‫ميثاق أهل القرآن‬

‫ال�ش�امل للمو�ضوع�ات‪ ،‬دون تع ّم�ق يف تداعي�ات املع�ارف م�ن الناحي�ة‬


‫البحثي�ة املتبع�ة يف البح�وث والدرا�س�ات‪ ،‬ذل�ك �أن الغر��ض ه�و‬
‫ت�س�هيل و�ص�ول الر�س�الة‪ ،‬ور�ش�اقة الأ�س�لوب‪ ،‬ليتمك�ن الراغ�ب م�ن‬
‫قراءته�ا يف جل�س�ة واح�دة �أو اثنتين دون عن�اء‪ ،‬باحل�د الأدن�ى م�ن‬
‫الرتكيز و�صفاء الذهن‪.‬‬
‫�أملي ورجائي �أن يكتب اهلل لها القبول عنده‪ ،‬وح�سن الفهم‬
‫والعمل عند اخللق‪.‬‬

‫‪13‬‬
14
‫ميثاق ال�شرف‬

‫الن�ش�أة ال�شريفة‬
‫�أخب�ر اهلل ‪ ‬مالئكت�ه ع�ن ق�ادمٍ ل�ه مهم�ة‪ ،‬اخت�اره‬
‫اهلل له�ا‪ ،‬واختاره�ا ل�ه‪ .‬ق�ال اهلل تعال�ى‪( :‬ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ‬
‫ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ)(((‪.‬‬
‫وق�د ظه�رت مالم�ح التكري�م م�ن مج�رد االختي�ار ال�ذي‬
‫ج�اء ف�ي �س�ياق يخال�ف م�ا كان يخ�ش�اه المالئك�ة م�ن �س�فك‬
‫الدم�اء والإف�س�اد ف�ي الأر��ض حي�ن قال�وا‪ ( :‬ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ‬
‫ﭠ ﭡ ﭢ)(((؛ فق�ال اهلل تعال�ى‪( :‬ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ)‪،‬‬
‫وف�ي ه�ذا �إ�ش�ارة �إل�ى خي ٍ�ر يعلم�ه اهلل ف�ي مهم�ة ه�ذا الخليف�ة‬
‫و�س�يرته و�س�يرة ذريت�ه م�ن بع�ده‪.‬‬
‫ث�م ب�د�أت �أول معال�م التكري�م حي�ن خلق�ه اهلل تعال�ى بي�ده‪،‬‬
‫ونف�خ في�ه م�ن روح�ه‪ ،‬و�أم�ر المالئك�ة �أن ي�س�جدوا ل�ه‪ ،‬ث�م ع ّلم�ه‬
‫عل ًم�ا ل�م يعلم�ه المالئك�ة و�أ�س�كنه الجن�ة وم ّكن�ه م�ن رغ�د عي�ش�ها‬
‫بلا ك�د وال تع�ب‪.‬‬
‫((( �سورة البقرة‪� ،‬آية‪.٣٠ :‬‬
‫((( �سورة البقرة‪� ،‬آية‪.٣٠ :‬‬

‫‪15‬‬
‫ميثاق أهل القرآن‬

‫لق�د ب�د�أت م�س�يرة الإن�س�ان به�ذه المقام�ات ال�ش�ريفة ولق�د‬


‫ا�س�تقبل الإن�س�ان مهمت�ه ال�ش�ريفة (خالف�ة الأر��ض) بالت�ش�ريف‬
‫والتكري�م واالمتي�از‪ .‬ولق�د كان له�ذا الت�ش�ريف ِح َك�م عظيم�ة‪،‬‬
‫م�ن �أهمه�ا‪ :‬تمكي�ن الإن�س�ان م�ن تح ّم�ل التكلي�ف؛ حي�ث ي�س�هل‬
‫عل�ى م�ن تلق�ى التكري�م �أن يتقب�ل م�ا ُيك ّل�ف ب�ه مم�ن �أكرم�ه‪.‬‬
‫عالقة الت�أثير بين الت�شريف والتكليف‬
‫࡟ ࡟ما العالقة بين الت�شريف والتكليف؟‬
‫࡟ ࡟كيف ي�ؤثر الت�شريف في جودة الأداء؟‬
‫࡟ ࡟كي�ف يعم�ل الت�ش�ريف كميث�اق �أخالق�ي ل�دى الإن�س�ان‬
‫عموم�ا‪ ،‬ول�دى حمل�ة كت�اب اهلل عل�ى وج�ه الخ�صو��ص؟‬
‫ً‬
‫النف�س الب�شرية تحمل في تكوينها الداخلي ا�ستعدا ًدا فطر ًيا‬
‫ُيم ّكنها من فهم التكريم ومالحظته‪ ،‬وحين تالحظ النف�س مقامات‬
‫ال�شرف التي حظيت بها‪ ،‬ومعالم التكريم التي ُوهبت لها‪ ،‬ف�إنها‬
‫ت�صبح م�ضطرة لقبول التكليف الذي نتج من هذا الت�شريف ‪.‬‬
‫وهذا يعني‪� :‬أن من ا�ست�شعر الت�شريف احترم التكليف‪.‬‬
‫فكلما كان الإن�سان م�ستح�ض ًرا لل�شرف الذي ناله‪ ،‬ف�إنه يبقى‬
‫منتب ًها ل�سلوكه‪ ،‬حتى ال يفعل ما ال يليق بذلك ال�شرف‪.‬‬
‫وهناك ثالثة طرق لتوظيف الت�شريف في تحفيز الإن�سان لكي‬
‫يتقن ويحترم التكليف الذي هو العمل‪:‬‬
‫‪16‬‬
‫ميثاق أهل القرآن‬

‫‪1.1‬الت�شريف قبل التكليف‪ :‬وهو تقديم االمتيازات للإن�سان قبل‬


‫تكليفه بالعمل على �أ�سا�س �أنه �شخ�ص ُيفتر�ض فيه ح�سن‬
‫الوفاء‪ ،‬و�أن هذا التكريم �سيجعله مدي ًنا بالف�ضل‪ ،‬و�سيدفعه‬
‫ا�ست�شعاره للتميز الذي ناله �إلى ال�سعي للمحافظة علي هذا‬
‫التميز والتكريم‪ ،‬و�ستمنعه مروءته من تجاهل هذا الف�ضل‬
‫�أو ن�سيان هذا التميز‪ ،‬وبالتالي ف�إنه �سيتميز � ً‬
‫أي�ضا في �أداءه‬
‫وفي �سلوكه‪.‬‬
‫ونج�اح ه�ذه الطريق�ة مره�ون ب�س�مات ال�ش�خ�صية ل�دى م�ن‬
‫�خ�صا ال يحت�رم التكري�م‬
‫يق�ع علي�ه االختي�ار‪ ،‬ف��إذ كان �ش ً‬
‫ف�إن�ه �س�يتمتع باالمتي�ازات فق�ط‪ ،‬ول�ن ي�س�عى لتقدي�م عم�ل‬
‫الئ�ق بم�ا تمت�ع ب�ه م�ن امتي�ازات‪.‬‬
‫‪2.2‬الت�شريف بعد التكليف‪ :‬وهو �أن نطلب من �أي �إن�سان �أن ي�ؤدي‬
‫ً‬
‫عمل ما‪ ،‬ثم نعده بمكاف�أة �أو امتيازات نوعية �إذا هو �أدى‬
‫عمله بنجاح وتميز‪ .‬والذين يقبلون هذه ال�صفقة يعملون‬
‫وفي �أذهانهم جمال العاقبة‪ ،‬وجمال اللحظة التي �سينالون‬
‫فيها نتيجة عطائهم ومكاف�أة مثابرتهم‪.‬‬
‫ونج�اح ه�ذه الطريق�ة مره�ون ب�ص�دق ووف�اء ال�ذي يمن�ح‬
‫االمتي�از‪ ،‬وي ِع�د بتقدي�م المكاف��أة‪ ،‬ف��إذا كان ظال ًم�ا‪� ،‬أو‬
‫لئي ًم�ا‪ ،‬ف�إن�ه ل�ن يف�ي بوع�ده‪ ،‬لأن�ه يق�دم وع�ودًا وه�و‬
‫يعل�م م�س�ب ًقا �أن�ه ال ي�س�تطيع الوف�اء به�ا‪.‬‬
‫‪17‬‬
‫ميثاق أهل القرآن‬

‫‪3.3‬الطريق�ة الثالث�ة تجم�ع بي�ن الطريقتي�ن ال�س�ابقتين؛ فيت�م‬


‫تقدي�م التكري�م � ًأول‪ ،‬ث�م يت�م تكليف�ه بالعم�ل‪ ،‬م�ع الوع�د‬
‫بمزي�د م�ن التمي�ز والتكري�م �إذا ه�و نج�ح ف�ي عمل�ه �أو‬
‫�أداه وف�ق م�ا ُط ِل�ب من�ه‪.‬‬
‫وهذه الطريقة تعطي للجميع الفر�صة للعمل؛ فالجميع ينال‬
‫أهل لهذا التكريم ويكون ذا‬ ‫التكريم منذ البداية‪ ،‬ومن يكون � ً‬
‫نف�س كريمة ومروءة وحياء �سيثابر في عمله‪ ،‬في�ستحق مزيدً ا‬
‫من العطايا والهبات بعد �إنجاز العمل‪ ،‬ف�إن الذي �أكرمه قبل‬
‫�أن يعمل لن يتخلف عن �إكرامه بعدما عمل‪.‬‬
‫واهلل ‪ ‬ق�د ك� ّرم بن�ي �آدم‪ ،‬ث�م ك ّلفه�م بعبادت�ه‪ ،‬ث�م‬
‫وعده�م �إن ه�م �أح�س�نوا العم�ل؛ بالتمكي�ن وح�س�ن الج�زاء ف�ي‬
‫الدني�ا وف�ي دار كرامت�ه ي�وم القيام�ة‪.‬‬
‫وم�ن يكرم�ك ويخت�ارك من�ذ البداي�ة‪ ،‬فق�د عامل�ك معامل�ة‬
‫النبلاء الذي�ن ُينت ََظ�ر منه�م ح�س�ن الأداء‪ .‬وحي�ن يح�دث من�ك‬
‫م�ا يخال�ف ه�ذه النظ�رة ف��إن النتيج�ة ه�ي خ�س�ران الت�ش�ريف‬
‫و�س�حب االمتي�ازات والتعر��ض للمحا�س�بة‪.‬‬
‫معالم �شرف �أهل القر�آن‬
‫�أبرز معالم الت�شريف التي �صاحبت هذا الكتاب العزيز ما يلي‪:‬‬
‫‪�1.1‬أنه كالم اهلل ‪ ‬وهو خري الكالم و�أكمله و�أح�سنه ً‬
‫لفظا‬
‫ومعنى‪.‬‬
‫‪18‬‬
‫ميثاق أهل القرآن‬

‫‪( :‬ﭻ ﭼ ﭽ‬ ‫‪�2.2‬أن اهلل ر�ضي�ه للخل�ق‪ ،‬ق�ال‬


‫ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ)(((‪.‬‬
‫‪‬‬ ‫‪�3.3‬أن�ه ‪ ‬اخت�ار ل�ه �أ�ش�رف املالئك�ة جربي�ل‬
‫لين�زل ب�ه عل�ى قل�ب �أ�ش�رف اخلل�ق حمم�د ﷺ‪.‬‬
‫‪4.4‬واخت�ار ‪ ‬لوق�ت نزول�ه خير ال�ش�هور (�ش�هر رم�ض�ان)‬
‫وخير اللي�ايل (ليل�ة الق�در)‪.‬‬
‫‪5.5‬واختار ‪ ‬ملكان النزول خري البقاع وخريته من الأر�ض‬
‫(مكة املكرمة)‪.‬‬
‫‪6.6‬ك ّل�ف بحمل�ه وتلقي�ه يف زم�ن نزول�ه ِخيرة اخلل�ق بع�د‬
‫الر�س�ل؛ ال�صحاب�ة ‪� ‬أجمعين‪.‬‬
‫ومع كل هالة ال�شرف هذه فقد تح ّمل هذا الكتاب وتح ّمل م�س�ؤولية‬
‫خدمته والعناية به؛ الأ�شراف من النا�س ً‬
‫جيل بعد جيل‪.‬‬
‫�إنك بحفظك لكتاب اهلل �أو بخدمتك لكتاب اهلل‪ ،‬تختار الوقوف‬
‫في �سل�سلة ال�شرف‪ ،‬ف�أنت لهم خلف وهم لك �سلف‪.‬‬
‫و�سوف ترى وت�شاهد في الحياة طوابير كثيرة ي�صطف النا�س‬
‫فيها‪ ،‬لكنك هنا في �صف �أهل القر�آن‪ ،‬ف�أنظر �أين و�ضعك اهلل‪.‬‬
‫لقد و�ضعك اهلل في �سل�سلة ال�شرف ابتدا ًء ‪.‬‬
‫لقد ا�ستعملك في حمل كالمه ً‬
‫حفظا وتالوة و�إمامة‪.‬‬
‫((( �سورة املائدة‪� ،‬آية‪.٣ :‬‬

‫‪19‬‬
‫ميثاق أهل القرآن‬

‫�أو ا�ستعملك في خدمته بالتعليم �أو الرعاية والعناية‪.‬‬


‫لم�اذا �أن�ت؟!‪ ....‬لم�اذا ت�وزع النا��س ف�ي مج�االت الحي�اة‪،‬‬
‫وج�يء ب�ك لتك�ون م�ع �أه�ل اهلل وخا�صت�ه؟‬
‫�إن�ه الت�ش�ريف ال�ذي منح�ه اهلل ل�ك قب�ل �أن يح ّمل�ك �أي‬
‫تكلي�ف تج�اه كتاب�ه العزي�ز‪ .‬فكم�ا ب�د�أ اهلل �آدم ‪ ‬بالتكري�م‬
‫والت�ش�ريف‪ ،‬فه�ا �أن�ت تن�ال التكري�م بمج�رد �أن تن�ض�م لأه�ل‬
‫الق�ر�آن وقب�ل �أن تق�دم �أي �ش�يء‪.‬‬
‫قلن�ا �إنّ م�ن ين�ال الت�ش�ريف قب�ل التكلي�ف فق�د تلق�ى ر�س�الة‬
‫مفاده�ا �أن المتوق�ع من�ك ه�و الوف�اء والت�ص�رف بم�ا يلي�ق به�ذا‬
‫التوق�ع(((‪ .‬واهلل ‪� ‬أعل�م بال�ش�اكرين‪.‬‬
‫ال يعتق�د �أح�د �أن�ه بخدمت�ه لكت�اب اهلل ق�د ق� ّدم و�أعط�ى‬
‫�أكث�ر مم�ا �أخ�ذ‪ ،‬ف��إن توفي�ق اهلل ل�ه و�إذن�ه ‪ ‬ل�ه ب��أن‬
‫يخ�دم كتاب�ه له�و �ش�رف ال يكاف��ؤه عط�اء العم�ر كل�ه‪ .‬وه�ذا‬
‫�ش�رف ي�ؤخ�ذ ف�ي �س�ياق الم ّن�ة هلل ‪ ‬ولي��س عل�ى‬
‫هيئ�ة الفخ�ر والتباه�ي المج�رد ع�ن العم�ل بم�ا يلي�ق بح�ال‬
‫ال�ش�اكرين‪.‬‬
‫ثمن الت�شريف‪:‬‬
‫الت�ش�ريف َدي�ن‪ ،‬والتكلي�ف �س�داد ذل�ك الدي�ن‪ ،‬ف�اهلل ُيك�رم‬
‫((( التوقع باعتبار القاعدة يف واقع الب�شر‪ ،‬و�أما بالن�سبة �إلى علم اهلل فاهلل عليم بعمل‬
‫العباد ما تقدم منه وما ت�أخر‪.‬‬

‫‪20‬‬
‫ميثاق أهل القرآن‬

‫العب�د ث�م يكلف�ه‪ ،‬لأن النف��س ال�س�وية �إذا نال�ت التكري�م التزم�ت‬
‫بم�ا يترت�ب عليه�ا م�ن واجب�ات‪.‬‬
‫�ريف تكلي ٌ�ف يلي�ق ب�ه وينا�س�به‪ ،‬فم�ن �ش� ّرفه‬
‫ويقاب�ل كل ت�ش ٍ‬
‫اهلل بالعل�م لزم�ه عم�ل ل�م ُيل�زم ب�ه م�ن ل�م ي َن�ل ذل�ك العل�م‪،‬‬
‫والر�س�ل الك�رام كان�وا �أكث�ر النا��س وف�ا ًء ب�ش�رف النب�وة وكرام�ة‬
‫ر�ض�ت له�م‬‫اهلل له�م‪ ،‬فه�م ي�س�تح�ضرون ذل�ك التكري�م كلم�ا َع َ‬
‫الفت�ن وواجهته�م المغري�ات‪ .‬ق�ال اهلل تعال�ى ع�ن نبي�ه يو�س�ف‬
‫‪ ‬وه�و ي�ر ّد الفتن�ة با�س�تح�ضار ف�ض�ل اهلل علي�ه وتكريم�ه‬
‫�إي�اه‪( :‬ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜﭝ‬
‫ﭞ ﭟ ﭠﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ)(((؛ فا�س�تح�ضر ‪ ‬تكري�م‬
‫اهلل ل�ه لي�س�تعين به�ذا المعن�ى (العال�ي) عل�ى دف�ع الرذيل�ة‬
‫(الو�ضيع�ة)‪ ،‬و�س�رعة ح�ض�ور ه�ذا المعن�ى ف�ي ذهن�ه ي�دل عل�ى‬
‫نب�ل نف�س�ه ومروءت�ه‪ ،‬وطي�ب معدن�ه‪.‬‬
‫ولأن التكري�م و�س�يلة فعال�ة ف�ي تحفي�ز النفو��س للعم�ل القوي�م‬
‫والت�ص�رف ال�س�ليم؛ ف��إن اهلل ي�س�تنه�ض النفو��س بم�ا فيه�ا م�ن‬
‫ا�ست�ش�عار لل�ش�رف وتقدي�ر للتمي�ز ال�ذي ٌو ِه�ب له�م لك�ي يقابل�وا‬
‫الت�ش�ريف باحت�رام التكلي�ف‪ ،‬ويقابل�وا العط�اء بالوف�اء ق�ال اهلل‬
‫تعال�ى‪( :‬ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ‬
‫ﭻ ﭼ)(((‪ ،‬وق�ال ‪ُ ‬مب ّي ًن�ا �س�مة التف�ضي�ل و ُمذ ّك� ًرا‬
‫((( �سورة يو�سف‪� ،‬آية‪.23 :‬‬
‫((( �سورة البقرة‪� ،‬آية‪.40 :‬‬

‫‪21‬‬
‫ميثاق أهل القرآن‬

‫به�ا‪( :‬ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ)(((‪،‬‬


‫وبالطريق�ة نف�س�ها يخاط�ب مو�س�ى ‪ ‬قوم�ه (ﮔ ﮕ ﮖ‬
‫ﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢ‬
‫ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ)(((‪ ،‬وعل�ى نف��س المن�وال م�ن‬
‫الإ�ش�ارة �إل�ى االختي�ار والت�ش�ريف والتف�ضي�ل والتمي�ز باعتب�اره‬
‫مقدم�ة م�ؤث�رة ف�ي نفو��س ال�ش�رفاء والكرم�اء و�أ�صح�اب‬
‫الم�روءات والنفو��س الزكي�ة الذي�ن �إذا تذك�روا تكريمه�م‬
‫باال�صطف�اء تح ّمل�وا العم�ل و�أح�س�نوا الأداء؛ يخاط�ب اهلل ‪‬‬
‫ه�ذه الأم�ة بقول�ه‪( :‬ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ‬
‫ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ)(((‪.‬‬
‫والمالح�ظ �أن ا�ست�ش�عار الت�ش�ريف ه�و الف�ارق الم�ؤث�ر بي�ن‬
‫ف�ضله�م اهلل وعمل�وا وف�ق م�راده منه�م‪ ،‬وبي�ن م�ن تباه�وا‬ ‫م�ن ّ‬
‫بالتف�ضي�ل ول�م يعمل�وا وف�ق م�راد اهلل‪ ،‬فلي��س الف�ض�ل ف�ي مج�رد‬
‫ح�ص�ول الت�ش�ريف فق�د ح�ص�ل لبن�ي �إ�س�رائيل من�ه م�ا ل�م ُي��ؤت‬
‫�أح�د م�ن العالمي�ن‪ ،‬لك�ن الف�ض�ل ف�ي ا�س�تح�ضار وا�ست�ش�عار‬
‫ال�ش�رف والتمي�ز عن�د اختي�ار ال�س�لوك‪ ،‬فلا ُيق ِ�دم العب�د عل�ى‬
‫عم�ل غي�ر الئ�ق بم�ن ا�صطفاه�م اهلل �أو اختاره�م �أو ا�س�تعملهم‬
‫ف�ي مهم�ة �ش�ريفة وم�س�يرة ممي�زة‪.‬‬
‫((( �سورة البقرة‪� ،‬آية‪.47 :‬‬
‫((( �سورة املائدة‪� ،‬آية‪.20 :‬‬
‫((( �سورة �آل عمران‪� ،‬آية‪.110 :‬‬

‫‪22‬‬
‫ميثاق أهل القرآن‬

‫࡟ ࡟الت�ش�ريف لي��س امتي�ازات نباه�ي به�ا فق�ط؛ ب�ل ميث�اق‬


‫الت�زام بي�ن �أك�رم الأكرمي�ن ‪ ‬وبي�ن ال�ش�رفاء م�ن‬
‫عب�اده‪.‬‬
‫࡟ ࡟اختي�ار اهلل لن�ا ب��أن نك�ون م�ن �أه�ل الق�ر�آن �أو م�ن‬
‫خ�دام كتاب�ه الكري�م‪ ،‬ال يعن�ي �أنن�ا الأف�ض�ل ب�ل يعن�ي‬
‫�أنن�ا دخلن�ا ف�ي اختب�ار ليبق�ى الأف�ض�ل‪.‬‬
‫فالتباه�ي بحي�ازة معال�م الت�ش�ريف ال يغن�ي ع�ن �صاحب�ه‬
‫حي�ن يتعر��ض للمحا�س�بة عل�ى �ضي�اع التكلي�ف‪ ،‬فت�أم�ل ق�ول‬
‫النب�ي ﷺ وه�و ين�ص�ح لع�ش�يرته والأقربي�ن‪ ،‬وين�ص�ح البنت�ه‬
‫فاطم�ة ‪ ‬ف�ي حدي�ث الم�ش�فق عليه�م وال ُمح� ّذر له�م م�ن‬
‫االت�كال عل�ى قرابته�م من�ه �أو االغت�رار ب�ش�رف الن�س�ب م�ن غي�ر‬
‫�ول اهلل ﷺ ِحي�نَ �أ ْن�زَ َل اهلل‪( :‬ﭿ ﮀ‬ ‫عم�ل حي�ن ق�ام َر�س ُ‬
‫ﮁ) فق�ال‪« :‬ي�ا َم ْع َ�ش� َر ُق َر ْي� ٍ�ش ‪�-‬أ ْو َك ِل َم� ًة َن ْح َو َه�ا‪ْ -‬‬
‫ا�ش� َت ُروا‬
‫�أ ْن ُف َ�س� ُك ْم ال �أُ ْغ ِن�ي َع ْن ُك ْ�م ِم�نَ اهلل �ش�ي ًئا‪ ،‬ي�ا َب ِن�ي عب ِ�د َم َن ٍ‬
‫�اف‬
‫ال �أُ ْغ ِن�ي َع ْن ُك ْ�م ِم�نَ اهلل �ش�ي ًئا‪ ،‬ي�ا َع َّبا� ُ�س ب�نَ عب ِ�د ال ُم َّط ِل ِ�ب ال‬
‫�ول اهلل ال �أُ ْغ ِن�ي‬ ‫�أُ ْغ ِن�ي َع ْن َ�ك ِم�نَ اهلل �ش�ي ًئا‪ ،‬و َي�ا َ�ص ِف َّي� ُة َع َّم� َة َر�س ِ‬
‫َع ْن ِ�ك ِم�نَ اهلل �ش�ي ًئا‪ ،‬و َي�ا َف ِاط َم� ُة ب ْن َ�ت ُم َح َّم ٍ�د َ�س� ِلي ِني م�ا ِ�ش� ْئ ِت‬
‫ِم�ن َما ِل�ي ال �أُ ْغ ِن�ي َع ْن ِ�ك ِم�نَ اهلل �ش�ي ًئا»(((‪.‬‬
‫التكري�م والت�ش�ريف واالختي�ار؛ �إنم�ا الغر��ض منه�ا تمكي�ن‬
‫((( �أخرجه البخاري‪ ،‬وم�سلم‪.‬‬

‫‪23‬‬
‫ميثاق أهل القرآن‬

‫النفو��س م�ن تق ّب�ل العم�ل‪ ،‬وت�ش�جيعها عل�ى القي�ام بم�ا يج�ب‬


‫عليه�ا‪ ،‬لك�ن حي�ن نغت�ر ب�أنف�س�نا وال نعم�ل‪ ،‬ف��إن الت�ش�ريف يك�ون‬
‫�أداة معاتب�ة ويرف�ع م�ن معي�ار المحا�س�بة‪.‬‬
‫كلما زاد الت�شريف زاد معيار المحا�سبة‬
‫من ال�سهل على الأن�سان �أن يتمتع باالمتيازات و�أن ينال خ�صو�صية‬
‫لي�ست لغيره‪ ،‬وي�ستثمر من الفر�ص ما ال يجدها غيره‪ ،‬لكن عند‬
‫المحا�سبة �سوف ي�ؤخذ كل ذلك بعين االعتبار قال اهلل تعالى لن�ساء‬
‫النبي ﷺ‪( :‬ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ‬
‫ﯵﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻﯼ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ‬
‫ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ)(((‪.‬‬
‫وي�أت�ي ه�ذا الن�وع التكليف�ي الجزائ�ي المحا�س�بي‪ ،‬لأنه�ن‬
‫‪ ‬ل�س�ن ك�أح�د م�ن الن�س�اء ت�ش�ري ًفا وتكلي ًف�ا‪( ،‬ﭡ ﭢ‬
‫ﭣ ﭤ ﭥ ﭦﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ‬
‫ﭲ ﭳ ﭴ)(((‪.‬‬
‫من�ذ‬ ‫�إن حم�ل الق�ر�آن يعن�ي قب�ول ح�ق الق�ر�آن والموافق�ة‬
‫�أب�ي‬ ‫البداي�ة عل�ى القي�ام به�ذا الح�ق‪ ،‬فه�ذا �س�الم مول�ى‬
‫عل�ى‬ ‫حذيف�ة ‪ ‬ي�وم معرك�ة اليمام�ة وق�د ا�ش�تد القت�ال‬
‫قل�ب‬ ‫الم�س�لمين وا�س�تح ّر القت�ل فيه�م واخت�رق المرت�دون‬
‫((( �سورة الأحزاب‪� ،‬آية‪.٣١-٣٠ :‬‬
‫((( �سورة الأحزاب‪� ،‬آية‪.٣٢ :‬‬

‫‪24‬‬
‫ميثاق أهل القرآن‬

‫الجي��ش حت�ى و�صل�وا خيم�ة خال�د ب�ن الولي�د و�ص�اح خال�د ف�ي‬
‫النا��س‪ :‬امت�ازوا �أيه�ا النا��س ف�كان كل فئ�ة تح�ت لوائه�م‪ ،‬وكان‬
‫ل�واء المهاجري�ن م�ع �س�الم مول�ى �أب�ي حذيف�ة ‪ ،‬و�أو�ص�وه‬
‫�أال ي�ؤت�وا م�ن قبل�ه‪ ،‬فق�ال كلمت�ه الم�ش�هورة‪( :‬بئ��س حام�ل‬
‫الق�ر�آن �إذن)(((‪ ,‬ومعن�اه‪ ,‬فم�ا قيم�ة انت�س�ابنا للق�ر�آن وحمل�ه‬
‫ف�ي �صدورن�ا �إذا ل�م يظه�ر ف�ي �أفعالن�ا الي�وم‪.‬‬
‫بئ�س حامل القر�آن الذي يقر�أه ال يجاوز حنجرته‪.‬‬
‫بئ��س حام�ل الق�ر�آن ال�ذي ن�ال بالق�ر�آن احت�رام النا��س‪،‬‬
‫ث�م ال ي�س�عى لين�ال ب�ه ر�ض�ا اهلل تعال�ى بتحقي�ق عبادت�ه وح�ده‬
‫ال �ش�ريك ل�ه ب�أجل�ى �صوره�ا‪.‬‬
‫نعم حامل القر�آن الذي كان ُخ ُلقه القر�آن‪.‬‬
‫نع�م حام�ل الق�ر�آن ال�ذي ق� ّدر ه�ذا ال�ش�رف وا�ست�ش�عره‬
‫�زج بنف�س�ه فيم�ا ال يلي�ق بكت�اب اهلل وحفظ�ة كت�اب اهلل‪.‬‬
‫ول�م ي ّ‬
‫�إن �ش�رف الق�ر�آن الكري�م لي��س لحاملي�ه فح�س�ب‪ ،‬ب�ل حت�ى‬
‫للذي�ن يخدم�ون َح َملتَ�ه ويرعونه�م ويربونه�م وينفق�ون عليه�م؛‬
‫وه�ذا يعن�ي �أن ميث�اق ال�ش�رف ي�ش�مل الجمي�ع‪ ،‬فه�ذا الميث�اق‬
‫يل�زم كل م�ن ن�ال الت�ش�ريف �أن يحت�رم التكلي�ف‪ ،‬و�أن يراق�ب‬
‫�س�لوكه و�أفعال�ه و�أقوال�ه وحال�ه‪ ،‬و�أن يجاه�د نف�س�ه ليتحل�ى‬
‫بحلي�ة �أه�ل الق�ر�آن ال�ش�رفية والخلقي�ة‪.‬‬
‫((( البداية والنهاية‪.‬‬

‫‪25‬‬
‫ميثاق أهل القرآن‬

‫يا �أ�صحاب �سورة البقرة‬


‫في غزوة حنين لقي النبي ﷺ وال�صحابة �شدة من القتال‪،‬‬
‫حتى تف ّرق النا�س من �أثر ال�سهام التي انهالت عليهم‪ .‬ف�أمر النبي‬
‫ﷺ ع ّمه العبا�س فنادى بقوله‪ :‬يا �أ�صحاب ال�سمرة(((‪ ،‬يا �أ�صحاب‬
‫�سورة البقرة(((؛ فعادوا يعطفون عليه من فورهم تلمع �سيوفهم في‬
‫عجاج الحرب‪.‬‬
‫لقد كانت بيعة الر�ضوان (عند ال�شجرة) �شر ًفا عظي ًما ومنقبة‬
‫عالية لمن �شهدها‪ ،‬وهي اليوم (يوم حنين) م�س�ؤولية يليق ب�أ�صحابها‬
‫�أن يكونوا حول النبي ﷺ‪ ،‬ويليق بهم قوله ﷺ حين التفوا حوله ودارت‬
‫رحى الب�أ�س (هذا حين حمي الوطي�س)‪.‬‬
‫ولق�د ن�ودي �أ�صح�اب �س�ورة البق�رة لل�س�بب ذات�ه؛ فه�م‬
‫التزام�ا‪.‬‬
‫ً‬ ‫�ألي�ق النا��س به�ا �ش�ر ًفا و�ألي�ق النا��س به�ذا ال�ش�رف‬
‫يا �أهل القر�آن ُح ّف ً‬
‫اظا ومعلمين ُ‬
‫وخدّا ًما‬
‫ي�ا �أه�ل الزهراوي�ن‪ ..‬ي�ا �أه�ل الفرق�ان‪ ..‬ي�ا �أه�ل ح�م‪..‬‬
‫ي�ا �أه�ل اهلل وخا�صت�ه؛ دينك�م و�س�نة نبيك�م الي�وم ف�ي غرب�ة‬
‫مجتمعاتك�م‪ ،‬و�أوطانك�م �إل�ى ن�ور الق�ر�آن ف�ي حاج�ة‪ ،‬وك�أن�ي‬
‫((( م�سند �أحمد ‪ ،1679‬وال�سمرة هي ال�شجرة التي متت حتتها بيعة الر�ضوان يوم‬
‫احلديبية‪.‬‬
‫((( م�سند �أحمد ‪ 1680‬عن كثري بن عبا�س قال‪ :‬كان عبا�س و�أبو �سفيان معه يعني النبي‬
‫ﷺ قال فخطبهم وقال‪ :‬الآن حمي الوطي�س وقال ناد يا �أ�صحاب �سورة البقرة‪.‬‬

‫‪26‬‬
‫بالعبا��س يناديك�م؛ ي�أه�ل �س�ورة البق�رة‪� ...‬أو بل�س�ان الح�ال‪ :‬ي�ا‬
‫ال�س� ُمرة‪.‬‬
‫�أحف�اد �أ�صح�اب َ‬
‫يناديك�م لتكون�وا ق�دوات ف�ي التعام�ل‪ ،‬وق�دوات ف�ي الأخلاق‪.‬‬
‫ثلا علي�ا ف�ي مجتمعاتك�م وخي�ر ًا عل�ى �أهليك�م‪،‬‬
‫يناديك�م لتكون�وا ُم ً‬
‫وفئ�ة ي��أوي النا��س �إليه�ا م�ن الفت�ن �إذا حم�ي الوطي��س‪.‬‬
‫ي�ا ُخ� ّدام كت�اب اهلل‪ :‬ال تتول�وا مدبري�ن لأن �س�هام الت�شوي��ش‬
‫انهال�ت عليك�م‪ ،‬فالق�ر�آن ين�ادي كل م�ن عاه�د اهلل لين�ص�ر‬
‫كتاب�ه‪ ،‬ين�ادي قل�م الكات�ب‪ ،‬وري�ال التاج�ر‪ ،‬وعق�ل القائ�د‪ ،‬و�إدارة‬
‫الخبي�ر ليتطوع�وا ف�ي خدم�ة الق�ر�آن؛ ال�ذي يناديه�م الي�وم كم�ا‬
‫ن�ادى العبا��س �أ�صح�اب ال�س�مرة الذي�ن بايع�وا تح�ت ال�ش�جرة‪،‬‬
‫فلق�د ق� ّل النا�ص�ر و�ض ُع�ف المعي�ن وازدادت المغري�ات‪ ،‬فام�ض�وا‬
‫دم�ا ف�ي العناي�ة بكت�اب اهلل‪.‬‬ ‫ُق ً‬
‫خال�صة ميثاق ال�شرف‪:‬‬
‫يعني �أن نقبل المهمة في �أ�شرف �صورة لها‬ ‫قبول المهمة في‬
‫م�ستح�ضرين م�س�ؤولية الت�شريف‬ ‫الت�شريف الملزم‬
‫كلما عظم الت�شريف حين ن�ستح�ضر منة التكريم ف�إن نفو�سنا تكون‬
‫م�ستعدة للأداء الح�سن الذي يليق بذلك التكريم‬ ‫زاد التكليف‬
‫متى ما ن�سي الفرد �شرف مهمته ف�إنه �سيفقد علو‬ ‫ن�سيان �شرف‬
‫همته و�سيقبل بالخيارات الرخي�صة في غياب‬ ‫المهمة ي�ؤدي �إلى‬
‫ا�ست�شعار التميز‬ ‫تدني الهمة‬

‫‪27‬‬
‫ميثاق أهل القرآن‬

‫الفرق بين الكبر واالعتزاز ب�شرف القر�آن‬


‫حت�ى ال يق�ع االلتبا��س بي�ن م�ن يتباه�ى ب�ش�رف الق�ر�آن‬
‫ويعج�ب بنف�س�ه‪� ،‬أو يتكب�ر ب�س�بب عل�م �أو ن�س�ب‪ ،‬وبي�ن م�ن‬
‫يعت�ز بالم�كارم دون كبري�اء؛ يعتم�د عل�ى م�دى ا�ست�ش�عار ح�ق‬
‫اهلل وف�ضل�ه‪ ،‬ث�م ح�ق النا��س وف�ضله�م‪ ،‬ومالحظ�ة ق�در النف��س‬
‫ي�س�ره م�ن‬
‫ومنزلته�ا‪ ،‬و�أنه�ا ل�م تك�ن �ش�يئا ل�وال ف�ض�ل اهلل وم�ا ّ‬
‫ع�ون العب�اد‪.‬‬
‫ال�ش�رف �ش�عور بالمن�ة‪ ...‬فالنف��س ال�ش�ريفة مفتق�رة هلل ال�ذي‬
‫�ش� ّرفها‪ ،‬والنف��س المغ�رورة‪ ،‬مفتق�رة لثن�اء النا��س غافل�ة ع�ن‬
‫ثن�اء اهلل �أو مقت�ه‪ .‬فق�د تطل�ب ثن�اء النا��س بفع�ل م�ا يمقت�ه اهلل‪.‬‬
‫ال�ش�رف تر ّف�ع ع�ن الرذائ�ل‪ ...‬حي�ث ي�ست�ش�عر الرج�ل النبي�ل‬
‫كل المعان�ي ال�ش�ريفة الت�ي تمنع�ه م�ن فع�ل القبائ�ح‪ ،‬كق�ول‬
‫النب�ي ﷺ‪« :‬م�ا ينبغ�ي لنب�ي �أن تك�ون ل�ه خائن�ة الأعي�ن»(((؛‬
‫ف�ش�رف النب�وة و�أخلاق الأنبي�اء ال ت�س�مح بفع�ل كه�ذا‪.‬‬
‫والكب�ر ترف�ع ع�ن الف�ضائ�ل‪ ...‬فالكب�ر بط�ر الح�ق‪ ،‬فيج�د‬
‫المتكب�ر �صعوب�ة ف�ي قب�ول الح�ق‪ ،‬ويج�د ل�ذة ف�ي غم�ط النا��س‪،‬‬
‫وذل�ك بجح�ود مميزاته�م وع�دم االعت�راف له�م ب��أي ف�ض�ل‪.‬‬
‫فالمتكب�ر معت�ز بنف�س�ه لنف�س�ه‪.‬‬
‫فال�شرف الحقيقي هو ما يناله العبد من ا�ستعمال اهلل له فيما‬
‫((( �صحيح �سنن �أبي داود‪.‬‬

‫‪28‬‬
‫ميثاق أهل القرآن‬

‫يحب‪ ،‬فيجمع بين االعتزاز بنبل هذا االختيار وال�سعي للعمل وفق‬
‫مراد اهلل منه‪ ،‬م�ستح�ضرا م ّنة اهلل عليه بهذا العمل ومفتق ًرا لعون‬
‫ربه لكي يو ّفي بما يلزمه حيال هذه الم ّنة‪.‬‬

‫ال�شعور بال�شرف والتميز‬

‫اعتزاز‬

‫ال�شعور باملنّة هلل الذي‬


‫عمل افتقار‬
‫�شرفنا دون ا�ستحقاق منا‬ ‫الت�صرف مبا يليق‬
‫و�أال نغرت بنعمة اهلل‬ ‫بال�شرف ويبقي عليه‬

‫‪29‬‬
30
‫ميثاق العهد‬
‫�أخ�ذ اهلل عل�ى النا��س ميثا ًق�ا ليعب�دوه وح�ده وال ي�ش�ركوا ب�ه‬
‫�ش�ي ًئا‪ ،‬ق�ال اهلل تعال�ى‪( :‬ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ‬
‫ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳﭴ ﭵ ﭶﭷ ﭸﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ‬
‫ﮀ ﮁ ﮂ)(((‪.‬‬
‫معن�اه يعب�دوه �أي ال ي�صرف�ون لغي�ره ً‬
‫عملا ال يح�ق �إال ل�ه‬
‫وح�ده‪ ،‬وال يتقرب�ون �إلي�ه بعم�ل �أ�ش�ركوا في�ه �س�واه‪ ،‬فه�و غن�ي‬
‫خال�ص�ا دون �س�واه‪ ،‬وه�ذا حق�ه‬
‫ً‬ ‫ع�ن ال�ش�رك فلا يقب�ل �إال‬
‫الح�ص�ري ‪ ‬ال�ذي ال ينازع�ه في�ه اال ظال�م‪.‬‬
‫و�أخ�ذ اهلل عل�ى الر�س�ل بي�ان ه�ذا العه�د وبي�ان تفا�صي�ل‬
‫الوف�اء ب�ه ونظ�ام المحا�س�بة علي�ه‪ ،‬وتذكي�ر الخل�ق ب�ه‪ ،‬ق�ال‬
‫اهلل تعال�ى‪( :‬ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ‬
‫ﭛ ﭜ ﭝﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ)(((‪.‬‬
‫و�أخ�ذ اهلل عل�ى الر�س�ل �أي�ض�ا ميثا ًق�ا �أن ي�ؤمن�وا بالنب�ي‬
‫محم�د ﷺ وبالكت�اب ال�ذي ُين ّزل�ه اهلل مع�ه وه�و الق�ر�آن الكري�م‪،‬‬
‫ق�ال اهلل تعال�ى‪( :‬ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ‬

‫((( �سورة الأعراف‪� ،‬آية‪.172 :‬‬


‫((( �سورة الأحزاب‪� ،‬آية‪.7 :‬‬

‫‪31‬‬
‫ميثاق أهل القرآن‬

‫ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭﮮ ﮯ ﮰ‬
‫ﮱ ﯓ ﯔ ﯕﯖ ﯗ ﯘﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ)(((‪.‬‬
‫فالأ�ص�ل �أن العم�ل المطل�وب م�ن الب�ش�ر م�ا ه�و �إال وف�اء‬
‫بعه�د وميث�اق �س�ابق‪.‬‬
‫ولقد �أخذ اهلل على بني �إ�سرائيل عهدً ا �أن يبينوا الكتاب للنا�س‪،‬‬
‫�سبيل لنيل الدنيا‪ ،‬ولك �أن تت�صور كم هي‬‫ولكنهم جعلوا �آيات اهلل ً‬
‫�صفقة خا�سرة �أن تبيع الغالي لتح�صل على الرخي�ص‪ .‬قال اهلل تعالى‪:‬‬
‫(ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ‬
‫ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢﭣ ﭤ ﭥ ﭦ)(((‪.‬‬
‫لي�س�ت الم�ش�كلة ف�ي �أخ�ذ الثم�ن مقاب�ل تعلي�م كت�اب اهلل‪� ،‬أو‬
‫�رعا‪ ،‬لك�ن الم�ش�كلة‬‫�إمام�ة النا��س ب�ه بال�ص�ورة ال�صحيح�ة �ش ً‬
‫ف�ي طل�ب الدني�ا بالتن�ازل ع�ن محكم�ات كت�اب اهلل‪� ،‬أو �أن نزع�م‬
‫�أنن�ا ن��ؤدي العم�ل وف�اء بح�ق اهلل‪ ،‬ث�م نت�ص�رف بطريق�ة يتح�ول‬
‫فيه�ا العم�ل لغي�راهلل‪� ،‬أو �أن يك�ون طل�ب الدني�ا ه�و المق�ص�د‬
‫الوحي�د م�ن ه�ذا العم�ل الأخ�روي الجلي�ل‪.‬‬
‫الوف�اء بالعه�د ال يك�ون �إال لم�ن �أخ�ذ علين�ا الميث�اق‪ ،‬وكم�ا‬
‫�أن�ه ال وف�اء لغي�ر �صاح�ب العه�د‪ ،‬فلي��س م�ن المعق�ول �أن ن�س�توفي‬
‫م�ن غي�ره � ً‬
‫أي�ض�ا‪.‬‬
‫((( �سورة �آل عمران‪� ،‬آية‪.81 :‬‬
‫((( �سورة �آل عمران‪� ،‬آية‪.187 :‬‬

‫‪32‬‬
‫ميثاق أهل القرآن‬

‫فحي�ن نق�ول ف�ي �أنف�س�نا �أنن�ا نتعل�م الق�ر�آن هلل تعال�ى ف�إنن�ا‬
‫نعن�ي بذل�ك �أن�ه ه�و وح�ده م�ن ننتظ�ر من�ه الج�زاء ونرج�وه‪.‬‬
‫وحين نقول �أننا نقدم ما نقدمه من �أجل كالم اهلل وكتاب اهلل‬
‫و�أهل القر�آن ف�إن هذا يعني �أن الذي نوجه له النية والعمل هو اهلل له‬
‫نوفي ومنه ن�ستوفي‪.‬‬
‫والنا�س في م�سالة ق�صد وجه اهلل ونية العمل �أنواع‪:‬‬
‫الن�وع الأول‪ :‬ن�وع يرائ�ي بتعلم�ه وتعليم�ه وتالوت�ه لكت�اب اهلل‬
‫وه�ذ حال�ه كم�ا ج�اء ف�ي الحدي�ث ال�صحي�ح‪�« :‬إنَّ اهلل‬
‫�زل �إل�ى العب�ا ِد‪ ،‬ليق�ض َ�ي‬ ‫�وم القيام� ِة‪ ،‬ين ُ‬‫‪� ‬إذا كان ي ُ‬
‫أول م�ن ُيدع�ى ب�ه رج� ٌل‬ ‫بينه�م‪ ،‬وك ُّل �أم� ٍة جاثي� ٌة‪ ،‬ف�� ُ‬
‫�بيل اهلل‪ ،‬ورج� ٌل كثي ِ�ر‬ ‫جم�ع الق�ر�آنَ ‪ ،‬ورج� ٌل ُق ِت َ�ل ف�ي �س ِ‬
‫�ول اهلل ‪ ‬للق�اريءِ‪� :‬أل�م �أُع ِّل ْم�ك م�ا �أَنزل�تُ‬ ‫�ال‪ ،‬فيق ُ‬‫الم ِ‬
‫رب‪ ،‬ق�ال‪ :‬فم�ا عمل َ�ت فيم�ا‬ ‫عل�ى ر�س�ولي؟ ق�ال‪ :‬بل�ى ي�ا ِّ‬
‫�وم ب�ه �آن�ا َء اللي ِ�ل و�آن�ا َء النه�ا ِر‪،‬‬‫علم َ�ت؟ ق�ال‪ :‬كن�تُ �أق ُ‬
‫�ول ل�ه المالئك� ُة‪ :‬كذب َ�ت‪،‬‬ ‫�ول اهلل ‪ ‬ل�ه‪ :‬كذب َ�ت‪ ،‬وتق ُ‬ ‫فيق ُ‬
‫�ال‪ :‬فلان ق�اري ٌء‪،‬‬ ‫�ول اهلل ‪ :‬ب�ل �أردتَ �أن يق َ‬ ‫ويق ُ‬
‫وق�د قي�ل ذل�ك»‪.‬‬
‫الن�وع الثان�ي‪ :‬ن�و ٌع تعل�م الق�ر�آن مقتد ًي�ا بم�ن �أُعج�ب به�م‬
‫وبهرت�ه �أ�صواته�م �أو �إتقانه�م لكت�اب اهلل �أو بروزه�م ف�ي‬
‫مج�ال الق�ر�آن الكري�م‪ ،‬ث�م عر��ض نف�س�ه عل�ى الق�ر�آن‬
‫‪33‬‬
‫ميثاق أهل القرآن‬

‫و�ص�دق م�ع نف�س�ه‪ ،‬ف�صنع�ه الق�ر�آن وه�داه اهلل بمواعظ�ه‪،‬‬


‫فثب�ت وا�س�تمر ف�ي الطري�ق‪ ،‬ال يري�د �إال اهلل وحال�ه كم�ن‬
‫ق�ال‪ :‬تعلمن�ا العل�م لغي�ر اهلل ف�أب�ى اهلل �إال يك�ون ل�ه‪.‬‬
‫والن�وع الثال�ث‪ :‬انطل�ق يري�د �ش�رف الق�ر�آن ويري�د م�ا عن�د‬
‫من�زّل الق�ر�آن ‪ ‬م�ن ف�ض�ل و�أج�ر عظي�م‪ ،‬وكلم�ا‬
‫عر�ض�ت ل�ه فتن�ة �أو عقب�ة �أو مان�ع جاه�د ن�وازع نف�س�ه‬
‫وا�س�تح�ضر مق�ص�ده ونيت�ه الأول�ى‪ ،‬وك�أن�ه ي�رى اهلل وال‬
‫ي�رى غي�ره فيتج�اوز كل م�ن بين�ه وبي�ن اهلل‪ ،‬وي�س�ير‬
‫�إلي�ه ال يتوق�ف دون�ه‪ ،‬ففي�ه ال�س�ير و�إلي�ه الم�س�ير وف�ي‬
‫�ضيافت�ه المبي�ت‪.‬‬
‫الن�وع الراب�ع‪ :‬وه�و كالثال�ث م�ن حي�ث ق�ص�ده ونيت�ه وطلب�ه‬
‫لم�ا عن�د اهلل‪ ،‬لكن�ه التف�ت �إل�ى الذي�ن اعتر�ض�وه ف�ي‬
‫الطري�ق ف�ش�غل نف�س�ه به�م وعل�ق نف�س�ه ب�ش�كرهم‬
‫وعونه�م‪ ،‬فلم�ا جح�دوه ول�م يج�د منه�م �ش�ك ًرا وخذل�وه‬
‫ول�م يج�د منه�م عو ًن�ا؛ ع�اد عل�ى نيت�ه فراجعه�ا ون�دم‬
‫عل�ى �صدق�ه م�ع ق�وم ال يق� ّدرون ال�صادقي�ن‪ .‬ون�س�ي �أن�ه‬
‫�إنم�ا عاه�د اهلل و�أن�ه �أجي�ر عن�ده‪ .‬فكي�ف يطل�ب �أجرت�ه‬
‫م�ن غي�ر م�ن ا�س�ت�أجره‪ ،‬وينتظ�ر ال�ش�كر م�ن غي�ر م�ن‬
‫ا�س�توفى من�ه العم�ل وج�رى مع�ه العق�د!؟ فت�رك الق�ر�آن‪،‬‬
‫والعم�ل ل�ه وخدمت�ه وخدم�ة �أهل�ه م�ن غي�ر ع�ذر مان�ع‪.‬‬
‫‪34‬‬
‫ميثاق أهل القرآن‬

‫الن�وع الخام��س‪ :‬ه�و مث�ل الراب�ع‪ ،‬لكن�ه بع�د �أن تنك�رت ل�ه‬
‫الوج�وه ول�م يج�د م�ن النا��س م�ا يتوقع�ه م�ن حف�اوة‪،‬‬
‫يف�ضل�ون علي�ه رع�اع النا��س‬ ‫ّ‬ ‫و�ش�اهد �أه�ل الدني�ا‬
‫و�س�فهاءهم‪ ،‬و�أح�اط ذهن�ه بالتفكي�ر ف�ي كث�رة الخب�ث‪،‬‬
‫وع�دم ج�دوى الثب�ات‪ ،‬فنك��ص عل�ى عقبي�ه وانقل�ب‬
‫ع�ن نيت�ه وعمل�ه م�ع الق�ر�آن و�أهل�ه ف��إذا عاتبت�ه نف�س�ه‬
‫عل�ى م�ا فع�ل‪ ،‬و�ش�عر ب�أل�م لم�ا ف� ّرط في�ه م�ن خي�ر‪،‬‬
‫وخ�اف م�ن �س�وء العاقب�ة؛ �أ�س�عفه ال�ش�يطان بحج�ة‬
‫يغط�ي به�ا م�ا بق�ي م�ن ن�ور الق�ر�آن ف�ي قلب�ه‪ ،‬و�أقنع�ة‬
‫بحج�ة (م�ن الت�أوي�ل والمعاذي�ر) تخف�ف علي�ه ح�رارة‬
‫ال�ش�عور بالنق��ص والذن�ب والخ�س�ارة‪ ،‬ولك�ي يه�رب م�ن‬
‫واقع�ه الألي�م م�ع نف�س�ه يه�رع �إل�ى ت�صدي�ق الباط�ل‪،‬‬
‫ث�م ال يلب�ث �أن يتبن�اه وي�ؤم�ن ب�ه حت�ى ترت�اح نف�س�ه م�ن‬
‫عن�اء االنف�ص�ام‪ .‬فت�راه م�ن �أكث�ر النا��س ع�داوة لأه�ل‬
‫الق�ر�آن‪ ،‬و�إذا عث�ر �أحده�م �أو وق�ع من�ه زل�ة‪ ،‬ط�ار به�ا‬
‫فرح�ا ف�كان م�ن �أقذعه�م نق�دا و�أحدِّ ه�م ل�س�ا ًنا‪ ،‬وك�أن�ه‬
‫يق�ول الحم�د هلل ال�ذي نجان�ي ول�و بقي�ت معه�م ل�كان‬
‫وكان!! ويتباه�ى ب�أ�س�طورته الت�ي ال ي�صدقه�ا غي�ره‪،‬‬
‫والعجي�ب �أن�ه به�ذا الت�ص�رف خ�س�ر �ش�رف �أه�ل الق�ر�آن‪،‬‬
‫ّ‬
‫يتفط�ن �إلي�ه �أه�ل‬ ‫ول�م ين�ل ثن�اء النا��س‪ ،‬ب�ل �س�رعان م�ا‬
‫الباط�ل فينتعلون�ه وي�س�تخدمونه ف�ي ت�ش�ويه �ص�ورة �أه�ل اهلل‬
‫‪35‬‬
‫ميثاق أهل القرآن‬

‫خا�صت�ه‪ ،‬حت�ى �إذا �ش� ِبع م�ن وح�ل اله�راء‪ ،‬وتقط�ع م�ن �ش�دة‬
‫الع�واء‪ ،‬خلع�وه عن�د �أول عتب�ة ي�صلونه�ا وانتعل�وا غي�ره‪.‬‬
‫عقد الوفاء ومرحلة االبتالء‬
‫ج�رت �س�نة اهلل ف�ي �أوليائ�ه �أن يبتليه�م لحكم�ة ه�و المحي�ط‬
‫به�ا علم�ا ورحم�ة وخب�رة‪ ،‬ق�ال اهلل تعال�ى‪( :‬ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ‬
‫ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓﯔ ﯕ ﯖ ﯗ‬
‫ﯘ ﯙ ﯚ)(((‪.‬‬
‫حي�ن يعل�ن الم�ؤمن�ون م�ن �أنف�س�هم �أنه�م م�ؤمن�ون �أو يعمل�ون‬
‫عملاً هلل‪ ،‬فق�د ج�رت �س�نة اهلل تعال�ى �أن يت�م اختب�ار ه�ذا‬
‫�صحيح�ا‪ ،‬فك�م م�ن �أنا��س ظن�وا �أن‬
‫ً‬ ‫الزع�م ول�وكان ف�ي �أ�صل�ه‬
‫نواياه�م �صافي�ة ومقا�صده�م خالي�ة م�ن كل �ش�ائبة ولك�ن اهلل‬
‫يعل�م بخفاي�ا القل�وب الت�ي تخف�ى عل�ى �أ�صحابه�ا فعل�م اهلل بن�ا‬
‫خي�ر م�ن علمن�ا ب�أنف�س�نا‪ ،‬وت�أم�ل م�ا ح�ص�ل م�ن ح�ال ال�صحاب�ة‬
‫الأطه�ار ‪ ‬ي�وم �أح�د‪ ،‬ون�زول ق�ول اهلل تعال�ى‪( :‬ﮒ ﮓ‬
‫ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ)(((‪ ،‬وق�ول اب�ن م�س�عود ع�ن‬
‫ذل�ك‪( :‬م�ا علمن�ا �أن �أح�دً ا م�ن �أ�صح�اب ر�س�ول اهلل ﷺ كان‬
‫يري�د الدني�ا وعر�ضه�ا حت�ى كان يومئ�ذ)((( يعن�ي ي�وم �أح�د‪.‬‬
‫((( �سورة العنكبوت‪� ،‬آية‪.٣-٢ :‬‬
‫((( �سورة �آل عمران‪� ،‬آية‪.152 :‬‬
‫((( تف�سري بن جرير الطربي ماجاء يف ت�أويل قول اهلل تعالى‪( :‬ﭼ ﭽ ﭾ‬
‫ﭿ)‪.‬‬

‫‪36‬‬
‫ميثاق أهل القرآن‬

‫(ف�أم�ا م�ن ق�ال‪� :‬آمن�ت فلا ب�د �أن يمتحن�ه ال�رب ويبتلي�ه‪،‬‬
‫ليتبي�ن‪ :‬ه�ل ه�و �ص�ادق ف�ي قول�ه‪� ،‬آمن�ت‪� ،‬أو كاذب؟ ف��إن كان‬
‫كاذ ًب�ا رج�ع عل�ى عقبي�ه‪ ،‬وف�ر م�ن االمتح�ان‪ ،‬كم�ا يف�ر م�ن‬
‫ع�ذاب اهلل‪ ،‬و�إن كان �صاد ًق�ا ثب�ت عل�ى قول�ه‪ ،‬ول�م ي�زده االبتلاء‬
‫واالمتح�ان �إال �إيما ًن�ا عل�ى �إيمان�ه)(((‪.‬‬
‫فالوف�اء بالحق�وق ف�ي ال�س�راء وال�س�عة والرخ�اء والدع�ة ال‬
‫مح��ص م�ا فيه�ا‪ ،‬ب�ل حي�ن تق�ع الفت�ن‪،‬‬
‫يك�ش�ف حقيق�ة القل�وب وال ُي ّ‬
‫وتتخل�ف التوقع�ات‪ ،‬وتهت�ز النفو��س‪ ،‬مث�ل �أن ي�صط�دم حمل�ة ل�واء‬
‫الق�ر�آن بواق�ع محب�ط �أو معي�ق‪� ،‬أو يتنك�ر له�م القري�ب ويخذله�م‬
‫الحبي�ب‪ ،‬وحي�ن ينف� ّ�ض النا��س م�ن حوله�م ليتبع�وا بري�ق الغ�ي‬
‫وجلب�ة الباط�ل؛ حينه�ا تنك�ش�ف �أر�ص�دة القل�وب‪ ،‬ويق�ع مق�ص�ود‬
‫قول�ه تعال�ى‪( :‬ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ )((( �صدق�وا ف�ي م�ا وع�دوا ب�ه‬
‫اهلل‪ ،‬وم�ا ادع�وه م�ن ال�ص�دق مع�ه ول�ه تعال�ى (ﯙ ﯚ)‬

‫الذي�ن يطن�ون �أنه�م يري�دون اهلل فلم�ا ابتاله�م اتبع�وا غي�ره‪.‬‬


‫الممكنات فر�صة للعطاء ولي�ست ً‬
‫�شرطا لتمام الوفاء‪:‬‬
‫حي�ن تتوف�ر الإمكان�ات يتحف�ز الجمي�ع‪ ،‬فت�رى ال�س�باق عل�ى‬
‫العم�ل لكت�اب اهلل ولخدم�ة �أهل�ه‪ ،‬وت�رى التناف��س بي�ن الحف�اظ‬
‫والتناف��س بي�ن معلميه�م وم�ن يق�وم عل�ى �ش��أنهم‪ ،‬ولك�ن حي�ن‬
‫((( �إغاثة اللهفان ج ‪� 2‬ص ‪.192‬‬
‫((( �سورة العنكبوت‪� ،‬آية‪.٣ :‬‬

‫‪37‬‬
‫ميثاق أهل القرآن‬

‫تق�ل الإمكان�ات ينف� ّ�ض النا��س‪ .‬لي�س�ت الم�ش�كلة �أن يق�ل النا��س‬
‫حي�ن تق�س�وا الظ�روف �أو تق�ل الم�وارد‪ ،‬فلي�س�ت ه�ذه م�ش�كلة‪،‬‬
‫لك�ن الم�ش�كلة حي�ن يع�ود الهارب�ون لي�أخ�ذوا معه�م م�ن بق�ي‬
‫�صام�دً ا (رغ�م ق�س�وة الظ�روف) فه�م كم�ن يقن�ع الباقي�ن عل�ى‬
‫جب�ل الرم�اة بت�رك الجب�ل‪.‬‬
‫ق�د يم�نّ اهلل علين�ا بظ�روف محف�زة وبيئ�ات عم�ل م�ش�جعة‬
‫ليجذبن�ا �إل�ى مائ�دة الق�ر�آن رحم�ة بن�ا ومراع�اة لب�ش�ريتنا‬
‫وت�ألي ًف�ا لقلوبن�ا‪ ،‬ولك�ن بع�د �أن يعلمن�ا الق�ر�آن ويرق�ي �أحوالن�ا‪،‬‬
‫ويزك�ي نفو�س�نا‪ ،‬ف��إن الوق�ت يك�ون ق�د ح�ان لمن�ح المميزي�ن‬
‫مكاف��أة تلي�ق بالدر��س ال�ذي تعلم�وه‪ ،‬واله�دى ال�ذي وج�دوه‪.‬‬
‫فتق�ل الم�وارد وت�ضع�ف المحف�زات‪ ،‬وال يبق�ى �إال م�ن دافع�ه‬
‫م�ن داخل�ه وم�وارده م�ن هداي�ات الق�ر�آن و�أ�س�راره ومواعظ�ه‪.‬‬

‫معادلة الوفاء الكبرى‬


‫ه�ذا الكت�اب العظي�م يعط�ي �أهل�ه ب�س�خاء‪ ،‬ويهبه�م م�ن‬
‫الخي�ر الكثي�ر‪ ،‬لك�ن عطاي�اه درج�ات وم�ن �أعظ�م عطاي�اه �ش�كر‬
‫اهلل لأه�ل الق�ر�آن‪.‬‬
‫م�ن ال�ذي يمكن�ه �أن يف�ي بح�ق اهلل تعال�ى؟‪ ...‬ال �أح�د يمكن�ه‬
‫ذل�ك‪ ،‬فح�ق العظي�م عظي�م‪.‬‬
‫وم�ن ال�ذي ي�س�تحق ال�ش�كر عل�ى ح�ق ال يمكن�ه �أن يف�ي ب�ه؟‬
‫‪38‬‬
‫ميثاق أهل القرآن‬

‫ال �أح�د ي�س�تحق ال�ش�كر حت�ى يوف�ي بم�ا عاه�د علي�ه �أو وج�ب‬
‫علي�ه م�ن الح�ق‪.‬‬
‫لك�ن اهلل تعال�ى م�ن رحمت�ه وف�ضل�ه �أن جع�ل الوف�اء الواج�ب‬
‫فيم�ا ي�س�ع الإن�س�ان القي�ام ب�ه م�ن �إيم�ان وق�ول وفع�ل‪ ،‬ب�ل‬
‫وتف�ض�ل عل�ى م�ن يف�ي به�ذا الق�در بال�ش�كر من�ه تعال�ى‪.‬‬
‫وعندم�ا نتح�دث ع�ن �ش�كر اهلل للعب�د فلنعل�م �أنن�ا نتح�دث‬
‫ع�ن رحل�ة تب�د�أ بالعم�ل وتم�ر باالبتلاء وتنته�ي بال�ش�كر م�ن‬
‫اهلل‪.‬‬
‫فم�ن وف�ى بم�ا الت�زم ب�ه ووف�ق ف�ي الوف�اء بالتزام�ه حي�ن‬
‫يبتل�ى ف�اهلل تعال�ى خي�ر م�ن وف�ى بح�ق (ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ‬
‫ﯵ)(((‪.‬‬
‫ن�ص القانون‪:‬‬
‫(ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ‬ ‫ق�ال اهلل تعال�ى‪:‬‬
‫ﯟ ﯠﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ‬
‫ﯭ ﯮ ﯯﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵﯶ ﯷ ﯸ ﯹ‬
‫ﯺ ﯻﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ)(((‪.‬‬
‫اهلل ا�شترى والم�ؤمنون باعوا فما الثمن؟‬
‫((( �سورة التوبة‪� ،‬آية‪.111 :‬‬
‫((( �سورة التوبة‪� ،‬آية‪.111 :‬‬

‫‪39‬‬
‫ميثاق أهل القرآن‬

‫وحي�ن يك�ون الم�ش�تري ه�و اهلل ‪ ‬فلي��س هن�اك حاج�ة‬


‫لن�ض�ع ال�ش�روط فلا �ش�رط لأح�د عل�ى اهلل‪.‬‬
‫لأن�ه الع�دل ‪ ‬فلا ظل�م‪ ،‬فالحق�وق عن�د اهلل مكفول�ة‬
‫بقول�ه تعال�ى‪( :‬ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ)(((‪.‬‬
‫ولأن�ه ه�و �صاح�ب الإح�س�ان والف�ض�ل لم�ن عم�ل و�أح�س�ن عمل�ه‬
‫(ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ)(((‪.‬‬
‫ولأن�ه الرحي�م ف�ي ا�س�تيفاء حق�ه م�ن عب�اده فلا يكلفه�م‬
‫ف�وق م�ا يطيق�ون‪ ،‬ق�ال ‪( :‬ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ)(((‪( ،‬ﮱ‬
‫ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝﯞ ﯟ ﯠ‬
‫ﯡ)(((‪.‬‬
‫ولكم�ال علم�ه وحكمت�ه وقدرت�ه فلا يخ�ش�ى م�ن يعم�ل ل�ه‬
‫‪� ‬أن يلحق�ه �س�و ٌء؛ لكم�ال خبرت�ه وحكمت�ه وقدرت�ه وح�س�ن‬
‫تدبي�ره‪ ،‬وكم�ال ذات�ه و�صفات�ه ‪ ،‬فالبي�ع هلل مرب�ح والمنقل�ب‬
‫من�ه �آم�ن‪ .‬فل�ن تج�د �أي �س�بب �صحي�ح يدفع�ك لطل�ب الإقال�ة‬
‫م�ن ه�ذا البي�ع‪.‬‬
‫وحي�ن يك�ون العه�د هلل والبي�ع ل�ه وال�س�لعة من�ه فل�ن يك�ون‬
‫�سورة الن�ساء‪� ،‬آية‪.40 :‬‬ ‫(((‬
‫�سورة الن�ساء‪� ،‬آية‪.40 :‬‬ ‫(((‬
‫�سورة التغابن‪� ،‬آية‪.16 :‬‬ ‫(((‬
‫�سورة الأعراف‪� ،‬آية‪.42 :‬‬ ‫(((‬

‫‪40‬‬
‫ميثاق أهل القرآن‬

‫هن�اك ط�رف ثال�ث يمكن�ه الدخ�ول عل�ى ه�ذا العه�د‪ ،‬ومعن�ى‬


‫ه�ذا ال�كالم �أنن�ا حي�ن نم�ض�ي ف�ي �صفق�ة م�ع اهلل ‪‬‬
‫يك�ون مو�ضوعه�ا الق�ر�آن وعلوم�ه وخدمت�ه وخدم�ة �أهل�ه فل�ن‬
‫نقب�ل �أن تتطل�ع نفو�س�نا للوف�اء م�ن غي�ره ‪ ،‬ول�ن يقب�ل‬
‫اهلل ‪ ‬من�ا �أن نوف�ي لغي�ره وق�د عاهدن�اه وح�ده‪.‬‬
‫وله�ذا كان الب�د م�ن مرحل�ة يت�م فيه�ا تخلي��ص القل�وب م�ن‬
‫التطل�ع لغي�ر �ش�كر الخال�ق‪ ،‬و�أال نف�ي هلل بغي�ر م�راده وم�ا يح�ب‪.‬‬
‫�صرب‪ ،‬تثبيت‪ ،‬مزيد هداية‪،‬‬ ‫قلة ال�شكر‪ ،‬قلة التعاون‪،‬‬ ‫ت�شجيع‪ ،‬ثناء‪،‬‬
‫حتقق �أهداف كانت م�ستع�صية‪،‬‬ ‫قلة املحفزات‪ .‬قلة الدعم‬ ‫دعم ومتكني‪ ،‬تقدم‬
‫�صالح القلب‪ ،‬زيادة علم باهلل‬ ‫وتعرث النتائج‬

‫ح�صول‬ ‫الوفاء يف‬ ‫الوفاء يف‬


‫�شكر اهلل‬ ‫ظروف غري‬ ‫ظروف‬
‫لعبده‬ ‫داعمة‬ ‫داعمة‬

‫معــــــــادلة الوفــــــــاء‬

‫ه�ذه المعادل�ة رغ�م �صعوبته�ا فيم�ا يظه�ر لكنه�ا �س�هلة عل�ى‬


‫م�ن �س��أل اهلل الع�ون عل�ى نف�س�ه وجاه�د ف�ي تزكيته�ا‪ ،‬واجته�د‬
‫ف�ي �إ�صلاح قلب�ه‪ ،‬وخال�ط ال�صالحي�ن الذي�ن يحي�ون القل�وب‬
‫وي ّذ كرونه�ا‪.‬‬
‫وهذه المعادلة ال تلغي حق الإن�سان في التوقف عما يعجز عنه‪.‬‬
‫فاهلل ال يطلب منك فوق و�سعك‪.‬‬
‫‪41‬‬
‫ميثاق أهل القرآن‬

‫وال تلغ�ي ه�ذه المعادل�ة �س�عادة النف��س وا�ستب�ش�ارها بر�ؤي�ة‬


‫�دل عل�ى التق�دم‬‫النتائ�ج وح�س�ن الب�ش�رى‪ ،‬م�ن الثن�اء ال�ذي ي ّ‬
‫والنج�اح‪ ،‬و�صح�ة الفع�ل‪ ،‬م�ا ل�م يخالطه�ا عج�ب‪� ،‬أو تعري��ض‬
‫بالمتعثري�ن �أو مزاي�دة عليه�م‪.‬‬
‫�إنم�ا تلغ�ي (ه�ذه المعادل�ة) الجم�ع بي�ن النقي�ضي�ن وه�و �أن‬
‫ندع�ي ف�ي نفو�س�نا �أنن�ا اخترن�ا طري�ق اهلل‪ ،‬ث�م ن�س�ير في�ه عل�ى‬
‫�رك‪،‬‬ ‫ال�ش�ركا ِء ع ِ�ن ِّ‬
‫ال�ش ِ‬ ‫غي�ر �ش�رط اهلل‪ .‬و�ش�رطه ه�و‪�( :‬أن�ا � ْأغ َن�ى ُّ‬
‫و�ش�ر َكه)(((‪.‬‬
‫�رك في�ه م ِع َ�ي غي�ري ترك ُت� ُه ِ‬ ‫عم َ�ل ً‬
‫عملا �أ�ش َ‬ ‫َم�نْ ِ‬
‫يجب علينا �أن ننتبه �إلى كل ما يمر بنا من ظروف ومواقف‬
‫وحوادث وفتن‪ ،‬وهذا االنتباه لأجل الإجابة على �س�ؤال واحد‪:‬‬
‫ماذا يريد اهلل �أن يختبر فينا حين ع ّر�ضنا لهذا؟‬
‫وم�اذا يري�د اهلل من�ا (فعل�ه‪� ،‬أو قول�ه‪� ،‬أو اعتق�اده) لك�ي‬
‫ننج�ح ف�ي تج�اوزه؟‬
‫وتذك�ر دائ ًم�ا‪� :‬أن �ش�كر اهلل �س�لع ٌة غالي�ة‪ ،‬وم�ن الطبيع�ي �أن‬
‫يك�ون ثمنه�ا عل�ى النفو��س باهظ� ًا‪،‬‬
‫كيف ن�ستعد الختبار الوفاء؟‬
‫امتالك قناعات اال�ستعداد‪:‬‬
‫‪1.1‬ال يمك�ن �أن نم�ض�ي ف�ي طري�ق الق�ر�آن بغي�ر ه�دى الق�ر�آن‬
‫((( �أخرجه م�سلم ‪2985‬ـ‬

‫‪42‬‬
‫ميثاق أهل القرآن‬

‫وال�س�نة‪ .‬ف�كل م�ا ّ‬


‫عظم�ه الق�ر�آن فلنعظم�ه وكل م�ا هون�ه‬
‫فلنهون�ه‪ ،‬وليك�ن حظن�ا م�ن �أخلاق الق�ر�آن �أكث�ر م�ن‬
‫ح�ظ غيرن�ا‪.‬‬
‫‪2.2‬ال طري�ق �إل�ى الوف�اء بم�ا وج�ب م�ن ح�ق اهلل �إال ب�اهلل‪.‬‬
‫فحام�ل الق�ر�آن يفتق�ر �إل�ى اهلل ف�ي هداي�ة قلب�ه وي�س�تعينه‬
‫ف�ي القي�ام بم�ا يحب�ه اهلل من�ه‪ ،‬ويت�وكل عل�ى اهلل ف�ي‬
‫طاع�ة اهلل‪.‬‬
‫‪3.3‬ل�ن ن�ش�تاق لمائ�دة الق�ر�آن ونح�ن عل�ى ِ�ش� َب ٍع م�ن مائ�دة‬
‫�أخ�رى‪ .‬فل�ن تج�د ف�ي م�ص�ادر التثقي�ف الهابط�ة‪� ،‬أو‬
‫مج�رد الفارغ�ة‪ ،‬م�ا ي�س�عف قلب�ك‪ ،‬ويق�وي ثبات�ك حي�ن‬
‫تتعر��ض الختب�ار التمحي��ص‪.‬‬
‫‪4.4‬ل�ن يدع�ك �إبلي��س تنتب�ه لعداوت�ه‪ .‬وله�ذا ال تدع�ه يختب�ئ‬
‫خل�ف �أع�داء وهميي�ن؛ ي�ش�غلك بخ�صومته�م وعداوته�م‬
‫لينف�رد ب�ك وح�دك‪.‬‬
‫‪5.5‬ت�أم�ل فع�ل اهلل فيم�ا حول�ك ولي��س �أفع�ال النا��س‪ ،‬حت�ى‬
‫ال تتمح�ور ردود �أفعال�ك ح�ول �س�لوكات النا��س مع�ك‪ ،‬ب�ل‬
‫رك�ز عل�ى فع�ل اهلل ل�ك وت�ص�رف وف�ق م�ا ي�راد من�ك‬
‫كعب�د هلل ف�ي مث�ل ه�ذه الظ�روف‪.‬‬
‫‪6.6‬تذكر �أن ح�سن الظروف اختبار‪ ،‬و�سوء الظروف اختبار‬
‫�آخر‪ .‬ولكل اختبار ت�صرف ينا�سبه‪ .‬ومحور جميع‬
‫‪43‬‬
‫ميثاق أهل القرآن‬

‫الت�صرفات في جميع الظروف‪ :‬ما ذا يريد اهلل �أن يرى‬


‫منك؟ ف�إ ِر اهلل من قولك وفعلك وظنونك وم�شاعرك خي ًرا‪.‬‬
‫عادات من ي�ستعدون الختبار الوفاء(((‪:‬‬
‫‪1.1‬من عادتهم قيام الليل ولو ً‬
‫قليل‪.‬‬
‫‪2.2‬من عادتهم ت�أ ُمل وتدبر كالم اهلل بح�سب كل حال‪.‬‬
‫‪3.3‬يجال�سون الذاكرين‪.‬‬
‫‪4.4‬الإكثار من �س�ؤال اهلل العون على ذكره و�شكره تعالى‪.‬‬
‫‪5.5‬يحر�صون على القرب من جماعة القر�آن‪.‬‬
‫‪6.6‬يجاهدون �سرائرهم مهما غلبتهم نفو�سهم‪.‬‬
‫‪7.7‬يحر�صون على ال�صالة في جماعة‪.‬‬
‫‪8.8‬يتجنبون النزاع والخ�صومات والجدال‪.‬‬
‫‪9.9‬يتجاهل�ون كل قاع�دة �أو فك�رة ته� ِّون م�ن �ص�دق الني�ة �أو‬
‫ُتزهِّ �د ف�ي مكا�س�ب الآخ�رة‪.‬‬
‫‪1010‬يجت ُنب�ون الغيب�ة فلا ي�س�معون لمغت�اب‪ ،‬خا�ص�ة م�ن‬
‫ين�ال م�ن �أه�ل الق�ر�آن �أو العلم�اء‪.‬‬
‫‪1111‬من عادات الأوفياء �أنهم حين يطلبون الرزق في الدنيا‬
‫((( لي�س املق�صود احل�صر‪ ،‬ولكن اختيار هذه العادات‪ ،‬وال�سمات لأنها تعني على الوفاء‬
‫بنائيا �أو عالجيا �أو وقائيا‪ ،‬وخ�شية الإطالة جتنبنا تربير كل �سمة منها ‪.‬‬

‫‪44‬‬
‫ميثاق أهل القرآن‬

‫ف�إنهم يذهبون لل�سوق بقوانين القر�آن‪ ،‬وال ي�أتون للقر�آن‬


‫بقوانين ال�سوق‪.‬‬
‫‪1212‬يجعل�ون ع�داوة �إبلي��س ن�ص�ب �أعينه�م فه�م م�ن كي�ده‬
‫ف�ي تع�وذ وح�ذر‪.‬‬
‫‪1313‬يالحظون حق اهلل عليهم فيما �آتاهم‪.‬‬
‫و�إبراهيم الذي و ّفى‪:‬‬
‫لق�د ا�س�تحق �إبراهي�م الخلي�ل ه�ذه الو�ص�ف م�ن رب‬
‫العالمي�ن بع�د ابتلاءات عظيم�ة ودقيق�ة ج ًّ�دا‪ .‬فلق�د تعر��ض‬
‫قلب�ه اللي�ن و�س�مته الرحيم�ة (ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ)((( (الت�ي‬
‫ه�ي �أ�صع�ب موا�ض�ع االختب�ار) له�زات عاطفي�ة تجع�ل القل�ب‬
‫يق�ف عل�ى المح�ك بي�ن رابطت�ه وعاطفت�ه وغريزت�ه الأبوي�ة‬
‫وبي�ن رابطت�ه برب�ه‪ .‬فلم�ا رزق�ه اهلل ب�إ�س�ماعيل ج�اء االختب�ار‬
‫العظي�م‪ ،‬ق�ال اهلل تعال�ى ي�ص�ف حج�م االبتلاء وقوت�ه عل�ى‬
‫النف��س‪( :‬ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳﯴ ﯵ ﯶ ﯷﯸ ﯹ ﯺ ﯻ‬
‫ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇﰈ ﰉ ﰊ‬
‫ﰋ ﰌ ﰍﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔﰕ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔﭕ‬
‫ﭖ ﭗ ﭘﭙ ﭚ ﭛ ﭜﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡﭢ‬
‫ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ)(((‪.‬‬
‫((( �سورة هود‪� ،‬آية‪.٧٥ :‬‬
‫((( �سورة ال�صافات‪� ،‬آية‪.106 -100 :‬‬

‫‪45‬‬
‫ميثاق أهل القرآن‬

‫فلم�ا ق� ّدم ح�ب اهلل عل�ى كل ح�ب وعل�ى كل عالق�ة‪� ،‬ش�كر‬


‫اهلل ل�ه ورزق�ه الخل�ة فه�و خلي�ل اهلل‪.‬‬
‫وحي�ن تج�اوز كل مواق�ف االبتلاء ب�صب�ر ور�ض�ى‪ ،‬وبال�س�عي‬
‫ف�ي م�راد اهلل ال م�راد نف�س�ه‪ ،‬رزق�ه اهلل الإمام�ة‪ .‬ق�ال اهلل‬
‫تعال�ى‪( :‬ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ)(((‪.‬‬
‫وبه�ذه وبغيره�ا م�ن من�ازل الوف�اء ا�س�تحق ‪ ‬ه�ذا‬
‫ال�ش�رف ال�ذي و�صف�ه اهلل ب�ه فق�ال‪( :‬ﯸ ﯹ ﯺ)(((‪.‬‬

‫((( �سورة البقرة‪� ،‬آية‪.124 :‬‬


‫((( �سورة النجم‪� ،‬آية‪.37 :‬‬

‫‪46‬‬
‫ميثاق االلتزام‬
‫الميث�اق ال ي�ؤخ�ذ اال بني�ة االلت�زام ب�ه‪ ،‬وتحم�ل تبعات�ه والقب�ول‬
‫بم�ا يترت�ب علي�ه م�ن نتائ�ج‪.‬‬
‫ت�أم�ل ق�ول اهلل ‪ ‬لنبي�ه مو�س�ى ولبن�ي �إ�س�رائيل حي�ن‬
‫�آتاه�م الت�وراة الت�ي فيه�ا اله�دى والن�ور‪ :‬ق�ال اهلل تعال�ى‪( :‬ﭑ‬
‫ﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝ‬
‫ﭞﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ‬
‫ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰﭱ ﭲ ﭳ ﭴ)(((‪.‬‬
‫ومعنى (فخذ ما �آتيتك)‪ :‬يقول‪ :‬فخذ ما �أعطيتك من �أمري‬
‫ونهيي وتم�سك به‪ ،‬واعمل به‪ ،‬ومعنى (خذها بقوة)‪ :‬قال‪ :‬بجد‬
‫واجتهاد((( وعزم على الطاعة(((‪.‬‬
‫وذ ِك�ر ف�ي �ش�رح (فخذه�ا بق�وة) �أي‪ :‬بج�د واجته�اد عل�ى‬ ‫ُ‬
‫�إقامته�ا‪ ،‬و�أم�ر قوم�ك ي�أخ�ذوا ب�أح�س�نها وه�ي الأوام�ر الواجب�ة‪،‬‬
‫والم�س�تحبة‪ ،‬ف�إنه�ا �أح�س�نها(((‪.‬‬
‫�سورة الأعراف‪� ،‬آية‪.145-144 :‬‬ ‫(((‬
‫تف�سري الطربي‪.‬‬ ‫(((‬
‫تف�سري ابن كثري‪.‬‬ ‫(((‬
‫تف�سري ال�سعدي‪.‬‬ ‫(((‬

‫‪47‬‬
‫ميثاق أهل القرآن‬

‫وقي�ل‪ :‬بق�وة القل�ب و�صح�ة العزيم�ة‪ ،‬لأن�ه �إذا �أخ�ذه ب�ضع�ف‬


‫الني�ة �أداه �إل�ى الفت�ور(((‪.‬‬
‫فم�ا ال�ذي جع�ل غال�ب بن�ي �إ�س�رائيل ال ينتفع�ون بالت�وراة وه�ي‬
‫ُف�ص�ل‬
‫كم�ا و�صفه�ا اهلل ا�ش�تملت عل�ى مواع�ظ و�أح�كام وت�ش�ريع م ّ‬
‫محك�م م�ن رب العالمي�ن؟!‬
‫الجواب‪� :‬أنهم لم ي�أخذوها بم�س�ؤولية والتزام‪ ،‬ولم يكونوا‬
‫جادين في العمل بها‪ ،‬وتعاملوا معها وفق �أهوائهم وا�ستخدموها‬
‫لأغرا�ض الدنيا وكانوا عنها غافلين‪ .‬قال اهلل تعالى‪( :‬ﭑ ﭒ ﭓ‬
‫ﭔﭕﭖﭗﭘﭙ ﭚﭛﭜﭝﭞ‬
‫ﭟ ﭠ ﭡ ﭢﭣ ﭤ ﭥ ﭦ)(((‪.‬‬
‫ف�أول خطوات االلتزام بحق القر�آن �أخذ �آياته بقوة والتزام‬
‫بالعمل‪ ،‬وتلقي معانيه بم�س�ؤولية‪ ،‬واحترام الحق الذي فيه‪ .‬وال يمكن‬
‫�أن يقوم بالقر�آن وال�سنة �إال رجال ون�ساء يدركون م�س�ؤولية التعامل مع‬
‫حكم اهلل وهداه‪ .‬فكالم اهلل لي�س مجرد بديل عن �صوت الغناء‪� ،‬أو‬
‫عادة تتلى في طقو�س‪� ،‬إنه د�ستور فاعل في النف�س وال�سلوك‪ .‬وحتى‬
‫تتلقاه النفو�س بكفاءة تليق بمقا�صده ال�سامية؛ فالبد �أن تكون هذه‬
‫النفو�س جادة تتمتع بقناعات متزنة ومهارات فاعلة وتفكير نا�ضج‬
‫و�سلوك من�ضبط‪.‬‬
‫((( تف�سري البغوي‪.‬‬
‫((( �سورة �آل عمران‪� ،‬آية‪.187 :‬‬

‫‪48‬‬
‫ميثاق أهل القرآن‬

‫االلتزام يكون على ثالثة م�ستويات‪:‬‬


‫‪1‬ـ التزام عقلي قلبي‪ ،‬ومجاله القناعات و�أعمال القلوب‪.‬‬
‫‪2‬ـ التزام �شخ�صي‪ ،‬ومجاله العادات وال�سلوكات‪.‬‬
‫‪3‬ـ التزام انفعالي‪ ،‬ومجاله �سكينة الم�شاعر وان�ضباط العواطف‪.‬‬
‫االلتزام العقلي‪:‬‬
‫االلت�زام العقل�ي((( ه�و الت�زام �إدراك�ي‪ ،‬ومعن�اه الإيم�ان بم�ا‬
‫يج�ب الإيم�ان ب�ه م�ن �أركان الإيم�ان ال�س�تة والإيم�ان بالغي�ب‪،‬‬
‫والإيم�ان ب�أ�س�ماء اهلل و�صفات�ه‪.‬‬
‫حي�ن نلت�زم عقل ًي�ا فنح�ن نلت�زم قلب ًي�ا ف�ي اللحظ�ة نف�س�ها‬
‫دون انف�ص�ال‪ ،‬ف�كل م�ا ندرك�ه ون�ؤم�ن ب�ه يج�ب �أن يك�ون وف ًق��أ‬
‫لم�ا ج�اء ف�ي الق�ر�آن وال�س�نة‪.‬‬
‫جمي�ع المح�ن والفت�ن الت�ي تعر��ض له�ا جي�ل الق�ر�آن الأول‬
‫كان�ت تبن�ي فيه�م �إدرا ًك�أ‪ ،‬وتختب�ر �إيمانه�م بمعطي�ات الوح�ي‬
‫وكي�ف يعي�ش�ون به�ا ويتعامل�ون م�ع الأزم�ات م�ن خالله�ا‪ .‬وحي�ن‬
‫نلت�زم ميث�اق �أه�ل الق�ر�آن ف�إنن�ا نلت�زم �إدراك م�ا �أدرك�وه‪،‬‬
‫بال�ص�ورة الت�ي به�ا فهم�وه‪.‬‬
‫للقل�ب والعق�ل �أعم�ال و�س�لوك كم�ا للج�وارح �أعم�ال و�س�لوك‪،‬‬
‫ولك�ي يلت�زم القل�ب بم�ا يج�ب علي�ه م�ن �أعم�ال كاليقي�ن والخ�ش�ية‬
‫((( �أي �أن العقل يلتزم مبدركات ال�شرع وعقيدته‪.‬‬

‫‪49‬‬
‫ميثاق أهل القرآن‬

‫والإيم�ان والإناب�ة والخ�ش�وع‪ ،‬وال�س�كينة فالب�د ل�ه م�ن زاد يغذي�ه‪،‬‬


‫ومدر�س�ة تربي�ه‪ .‬وف�ي مح�راب الق�ر�آن ُت�ص َق�ل القل�وب وتترق�ى‬
‫ف�ي م�دارج االلت�زام بالع�روة الوثق�ى‪.‬‬
‫ولنبد�أ من حيث بد�أ جيل القر�آن الأول‪:‬‬
‫ف�ي بداي�ة دع�وة النب�ي ﷺ وف�ي �أول�ى خط�وات ال�س�ابقين‬
‫�إل�ى الإ�سلام كان�ت � ً‬
‫أي�ض�ا بداي�ة التلق�ي والتحم�ل لآي�ات الق�ر�آن‬
‫الكري�م‪ ،‬وكان �أولئ�ك النف�ر القلي�ل الم�س�ت�ضعفون ه�م �أول م�ن‬
‫�ش� ّكل مجتم�ع الق�ر�آن الكري�م‪.‬‬
‫فكيف عالج القر�آن الكريم نفو�سهم لتت�أهل لتحمل م�س�ؤولية‬
‫الوحي‪ ،‬وتواجه القوة التي تحيط بهم من كل جانب؟‬
‫(ﭑ ﭒﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ‬ ‫ق�ال اهلل تعال�ى‪:‬‬
‫ﭝﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪﭫ ﭬ ﭭ ﭮ‬
‫ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ‬
‫ﮁﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ‬
‫ﮑ ﮒ ﮓﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ)(((‪.‬‬
‫في هذه ال�سورة الكريمة يظهر ما يلي‪:‬‬
‫࡟ ࡟امر بقيام الليل (قم الليل �إال قليال‪ ،‬ن�صفه �أو انق�ص منه‬
‫قليال) والغاية منه‪:‬‬
‫((( �سورة املزمل‪� ،‬آية‪.١١-١ :‬‬

‫‪50‬‬
‫ميثاق أهل القرآن‬

‫ ‪�(-‬إنا �سنلقي عليك قوال ثقيال) وهو الوحي وما فيه ‪.‬‬
‫ ‪-‬وكذلك من �أجل (�إن لك في النهار �سبحا طويال) �أي عمل‬
‫كثير ‪.‬‬
‫ومم�ا اعت�ادت علي�ه النفو��س �أنه�ا ترت�اح باللي�ل وت�أخ�ذ �أكب�ر‬
‫ق�در م�ن الن�وم‪� ،‬إذا كان هن�اك عم�ل كثي�ر ف�ي النه�ار‪.‬‬
‫لكن هذه الآيات تر�سل ر�سالة مختلفة‪ ،‬مفادها‪� :‬إذا �أردت تح ّمل‬
‫م�س�ؤولية الوحي (القول الثقيل) واال�ستعداد لعمل النهار ف�إن زادك هو‬
‫محراب القر�آن تتلوه وترتله‪ ،‬وهو كفيل بمنحك القوة التي تحتاجها‬
‫روحك ونف�سك وبدنك‪ ،‬لكي تقوم بم�س�ؤولياتك الج�سام‪.‬‬
‫ولقد التزم النبي ﷺ هذا الأمر‪ ،‬والتزمه ال�صحابة معه‪ ،‬و�سجلوا‬
‫�أروع ال�صور في التزامهم بمقت�ضى القر�آن الكريم وتلقيهم لتعليماته‬
‫بالقبول وااللتزام‪ ،‬وكذلك تحملهم لما يجدونه في �سبيله من الم�شاق‬
‫والتبعات‪ ،‬والظروف(((‪ .‬فعن �أم الم�ؤمنين عائ�شة ‪� :‬أن نبي‬
‫اهلل ﷺ كان يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه‪ ،‬فقالت عائ�شة‪َ :‬لم‬
‫ت�صنع هذا يا ر�سول اهلل وقد غفر اهلل لك ما تقدم من ذنبك وما‬
‫ت�أخر؟! قال‪�« :‬أفال �أحب �أن �أكون عبدا �شكو ًرا»(((‪.‬‬
‫((( قال احلافظ ابن حجر ‪ :‬وذكر ال�شافعي عن بع�ض �أهل العلم �أن �صالة الليل‬
‫كانت مفرو�ضة ثم ُن�سخت بقوله تعالى‪( :‬ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ)‪ ،‬ف�صار الفر�ض قيام‬
‫بع�ض الليل‪ ،‬ثم ن�سخ ذلك بال�صلوات اخلم�س)‪ .‬فتح الباري (‪.)1/554‬‬
‫((( متفق عليه‪.‬‬

‫‪51‬‬
‫ميثاق أهل القرآن‬

‫وكان�ت حال�ه ح�ال المح�س�نين الذي�ن ق�ال اهلل ‪ ‬عنه�م‪:‬‬


‫(ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ)((( ف�س�رها اب�ن عبا��س ‪ ‬فق�ال‪( :‬ل�م‬
‫يك�ن يم�ض�ي عليه�م ليل�ة �إال ي�أخ�ذون منه�ا ول�و �ش�ي ًئا)(((‪.‬‬
‫وهذه و�صية ر�سول اهلل ﷺ لأمته‪« :‬عليكم بقيام الليل ف�إنه‬
‫د�أب ال�صالحين قبلكم‪ ،‬وقربة �إلى اهلل تعالى‪ ،‬ومكفرة لل�سيئات‪،‬‬
‫ومنهاة عن الإثم‪ ،‬ومطردة للداء عن الج�سد»(((‪� .‬إن �أهمية قيام‬
‫الليل بالن�سبة لحملة كتاب اهلل وحملة الر�سالة التي جاء بها الوحي‪،‬‬
‫لي�س فقط لكونه عبادة عظيمة بل لأنه مدر�سة ت�أهيل وبناء بامتياز‪.‬‬
‫�إن م�ا يتلق�اه حمل�ة الق�ر�آن م�ن هداي�ة ون�ور كفي�ل ب��أن‬
‫يمنحه�م الكف�اءة النف�س�ية والبدني�ة‪ ،‬لك�ي يقوم�وا بحق�ه وي��ؤدوا‬
‫م�ا يج�ب عليه�م م�ن خالل�ه‪.‬‬
‫درو�س�ا نوعي�ة‬
‫ً‬ ‫ف�ي مح�راب الق�ر�آن �س�تجد �أن�ك تتلق�ى‬
‫ون�صائ�ح ا�س�تثنائية‪� ،‬س�بق �أن تلقاه�ا �أ�صفي�اء اهلل وعب�اده‬
‫ال�صالح�ون الذي�ن �آمن�وا ب�ه‪ ،‬وتلق�وا ر�س�االته باليقي�ن‪ ،‬وتحمل�وا‬
‫م�س��ؤولية تلقيه�م ل�كالم اهلل ال�ذي �أن�زل عليه�م‪ .‬ولنق�ف وقف�ة‬
‫ن�رى فيه�ا كي�ف يعال�ج الق�ر�آن نفو��س م�ن تحمل�وه‪ ،‬وم�اذا‬
‫منحه�م م�ن ن�وره وه�داه‪.‬‬
‫((( �سورة الذاريات‪� ،‬آية‪.17 :‬‬
‫((( تف�سري الطربي‪.‬‬
‫((( رواه �أحمد و�صححه الألباين‪.‬‬

‫‪52‬‬
‫ميثاق أهل القرآن‬

‫فماذا في القر�آن ليعطيه له�ؤالء الم�ؤمنين الذين يتلونه في‬


‫ليلهم(((؟‬
‫࡟ ࡟القر�آن كالم رب العالمين لي�س فيه باطل ولي�س فيه دعوة‬
‫لغير الخير‪ .‬موزون العبارة محكم المعاني‪ ،‬ين�سجم مع‬
‫النف�س فيرتبها‪ ،‬ويتفق مع العقل فينظمه‪ ،‬لي�س في كالم‬
‫اهلل �شيء ال داعي له‪ ،‬ولي�س فيه نق�ص وال ق�صور‪� .‬إذا‬
‫�سمِ َعتْه الأذن ووعاه القلب طابت حياة القلب وا�ستقام فعل‬
‫الجوارح‪ ،‬من عا�ش مع كالم اهلل �سيكت�شف �أن جميع قواه‬
‫الداخلية انتظمت‪ ،‬وم�شاعره ا�ستقرت‪ ،‬و�أفعاله اتزنت‪،‬‬
‫و�سيجد �أن ال�سكينة والطم�أنينة قد عمرت قلبه‪ .‬فمن تفرقت‬
‫عليه نف�سه �أو �أحاط به الذهول �أو ا�ستعجمت عليه الم�سائل‪،‬‬
‫�أو عجز عن ا�ستب�صار وجه ِته؛ ف�إن تالوة القر�آن بالليل هي‬
‫طب ذلك وعالجه‪.‬‬‫ّ‬
‫࡟ ࡟الق�ر�آن ف�ي جمل�ة معاني�ه يتح�دث ع�ن اهلل‪ ،‬م�ن �أول�ه‬
‫�إل�ى �آخ�ره‪ .‬فمو�ضوع�ه الرئي��س ه�و اهلل؛ حق�ه ‪،‬‬
‫و�أ�س�ما�ؤه احل�س�نى‪ ،‬و�صفات�ه العل�ى‪ ،‬و�أفعال�ه احلكيم�ة‪،‬‬
‫و�أقوال�ه الت�ي مت�ت �صد ًق�ا وع ً‬
‫�دل‪.‬‬
‫فاهلل حين يع ّرفنا قوته وقدرته‪ ،‬ون�ست�شعر �أنها قوة وقدرة‬
‫مطلقة؛ فلن يبقى لأية قوة �أخرى وزن‪ ،‬ولن تجد �أية قدرة‬
‫((( من كتاب ح�سبنا اهلل للم�ؤلف‪.‬‬

‫‪53‬‬
‫ميثاق أهل القرآن‬

‫فر�صتها لتبهرنا‪� ،‬أو تهددنا‪� ،‬أو تعدنا بالحماية؛ لأن القر�آن قد‬
‫و�ضعها في مقارنة خا�سرة‪ ،‬ولم تعد قوة الب�شر تملأ العين بعد‬
‫�أن عرفت قلوب الم�ؤمنين �أن اهلل هو القوي العزيز‪ ،‬و�أنه القاهر‬
‫فوق عباده‪ ،‬و�أنه على كل �شيء قدير‪.‬‬
‫واهلل حين يع ّرفنا رحمته ولطفه ور�أفته‪ ،‬فلن تحفل نفو�سنا‬
‫بمالذ �آخر‪ ،‬ولن ينجح جميع من ي ّدعون الرحمة �أن يقدموا‬
‫مالذا يغني عن رحمة اهلل‪ ،‬وعنايته ولطفه‪ ،‬ورعايته‪،‬‬‫لنا ً‬
‫ومهما كانت �أح�ضان الأمهات دافئة �آمنة‪ ،‬ومهما كانت‬
‫كلمات المحبين لطيفة ناعمة‪ ،‬ف�إن من عا�ش مع القر�آن‬
‫ور�أى فيه كيف هي رحمة اهلل بالخلق ولطفه بعباده ف�سوف‬
‫يفر �إلى اهلل وحده‪.‬‬
‫اهلل حين يق�ص علينا واليته للم�ؤمنين وكفايته ون�صرته‬
‫لهم‪ ،‬ف�إنه بذلك يجعل الم�ست�ضعفين �أكثر النا�س �أما ًنا‪.‬‬
‫لأنهم ي�أوون �إلى ركن �شديد (ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ‬
‫ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ)(((‪.‬‬
‫حين يحدثنا القر�آن عن عفو اهلل ومغفرته وتوبته على عباده‪،‬‬
‫ف�سوف ي�شعر العا�صي �أنه ال يوجد قانون في الدنيا يمكنه‬
‫منحك عف ًوا بال تبعات ويمنحك غفرا ًنا يبتلع كل خطاياك‬
‫مهما عظمت‪ .‬بل ويفرح بتوبتك وعودتك �إليه مثل الذي تجده‬
‫((( �سورة حممد‪� ،‬آية‪.11 :‬‬

‫‪54‬‬
‫ميثاق أهل القرآن‬

‫في جنب اهلل حين تتوب �إليه‪.‬فالقر�آن كفيل لمن تدبره �أن‬
‫يجعله يعي�ش في الدنيا بامتياز خا�ص يتجاوز به كل المتاعب‪،‬‬
‫لأنه �سيعرفه باهلل وحين نعرف اهلل �سن�ضع ما �سواه في‬
‫مو�ضعه مهما حاول التعالي‪.‬‬
‫࡟ ࡟في القر�آن ت�سلية عبر ق�ص�ص الر�سل و�أحداث الأمم‪ .‬فمن‬
‫�أروع ما يحدثه ق�ص�ص القر�آن في الذين يتلونه �أو ي�ستمعون‬
‫له؛ (االندماج) حيث ين�ساق ذهن ال�سامع مع الحدث‬
‫وت�صوير البيان القر�آني حتى يتحد الخيال مع واقع الق�صة‪،‬‬
‫فك�أن ال�سامع يعي�ش تلك الق�صة كما عا�شها �أ�صحابها‪.‬‬
‫فاالندماج يجعلك تبكي مع يعقوب‪ ،‬وتت�أوه مع �إبراهيم‬
‫وتتمنى مع لوط‪ ،‬وت�ضحك مع �سليمان ‪� ‬أجمعني‪.‬‬
‫فالح َ�دث ف�ي الق�ر�آن يجعل�ك تعي��ش التجرب�ة كم�ن عا�ش�ها‬
‫َ‬
‫وتتعل�م منه�ا كم�ن خ�رج منه�ا للت�و‪.‬‬
‫ما �أروع �أن تدخل (الجو) القر�آني ب�أحزانك‪ ،‬وتندمج في ق�صة‬
‫يو�سف ب�آالمك وغربتك ودموعك‪ ،‬وتتعلم منها بعمق؛ �أن التقوى �سبيل‬
‫التمكين (ﮉ ﮊ ﮋ ﮌﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒﮓ ﮔ ﮕ ﮖ‬
‫ﮗﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ)(((‪.‬‬
‫ث�م تخ�رج منه�ا وك�أن�ك تخل�ص�ت م�ن كل حزن�ك حي�ن‬
‫تق�ر�أ (ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ‬

‫((( �سورة يو�سف‪� ،‬آية‪.٩٠ :‬‬

‫‪55‬‬
‫ميثاق أهل القرآن‬

‫ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ‬
‫ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗﯘ ﯙ ﯚ‬
‫ﯛ ﯜ)(((‪ .‬وبع�د كل الآالم وبع�د كل الآم�ال تدفع�ك الق�ص�ة‬
‫�إل�ى نتيج�ة حتمي�ة لم�ن ان�س�اق م�ع محتواه�ا‪ ،‬وه�ي �أن النهاي�ة‬
‫المعتب�رة والنتيج�ة الت�ي تغن�ي ع�ن كل نتيج�ة؛ ه�ي (ﯟ ﯠ ﯡ‬
‫ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ‬
‫ﯰﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ)(((‪.‬‬
‫�إنه�ا الق�ص�ة الت�ي تدع�وك لأن تك�ون �أح�د �أبط�ال الحلق�ة‬
‫الأخي�رة م�ع الذي�ن يدخل�ون الجن�ة بم�ا �صب�روا‪.‬‬
‫وه�و‬ ‫‪‬‬ ‫وف�ي الق�ر�آن تندم�ج م�ع ق�ص�ة نب�ي اهلل ل�وط‬
‫يق�ول‪( :‬ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ)(((‪.‬‬
‫ث�م ت�س�تفيق عل�ى ج�واب (ﰔ ﰕ ﰖﰗ ﰘ ﰙ ﰚ)‪.‬‬
‫فت�رى �أو ك�أن�ك ت�رى (ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ‬
‫ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ)(((؛ فبالأم��س نلتم��س مطل�ق الق�وة‪،‬‬
‫والي�وم ن�ش�اهد �آث�ار الق�وة المطلق�ة‪.‬‬
‫�أ�س�الك ب�اهلل ه�ل هن�اك مقه�ور ل�م تم�ر ب�ه لحظ�ة ال�ضع�ف‬
‫ه�ذه‪ ،‬ث�م ه�ل ي�ش�ك م�ؤم�ن ف�ي �أن�ه �سيعي��ش لحظ�ة الن�ص�ر‬
‫�سورة يو�سف‪� ،‬آية‪.١٠٠ :‬‬ ‫(((‬
‫�سورة يو�سف‪� ،‬آية‪.١٠١ :‬‬ ‫(((‬
‫�سورة هود‪� ،‬آية‪.٨٠ :‬‬ ‫(((‬
‫�سورة هود‪� ،‬آية‪.٨٢ :‬‬ ‫(((‬

‫‪56‬‬
‫ميثاق أهل القرآن‬

‫تل�ك (الت�ي �سيعي��ش الم�ؤمن�ون لحظ�ة مثله�ا) كم�ا عا�ش�وا‬


‫لحظ�ة االنك�س�ار و�س�يذوق الظالم�ون م�رارة (موعده�م ال�صب�ح)‬
‫كم�ا ذاق�وا متع�ة (ق�ل تمتع�وا ف�ي دارك�م) �أه�ـ‪.‬‬
‫ما الذي يف�سد على حامل القر�آن التزامه النف�سي باليقينيات؟‬
‫الج�واب‪ :‬ه�و ف�س�اد الذائق�ة حي�ث يفق�د القل�ب قدرت�ه عل�ى‬
‫ت�ذوق كلم�ات اهلل‪ ،‬ويفق�د معه�ا ت�ذوق كل م�ا يتعل�ق بالآخ�رة‪.‬‬
‫حت�ى �إنّ الإن�س�ان لي�س�تغرب كي�ف ل�م يع�د لدي�ه الخ�ش�وع ال�ذي‬
‫كان ي�ش�عر ب�ه حي�ن �س�ماع الق�ر�آن‪ ،‬ب�ل �إن�ه ق�د ب�د�أ يم�ل م�ن‬
‫�س�ماعه �أو يعان�ي �صعوب�ة تلاوة ورده ال�ذي كان يتل�وه‪.‬‬
‫الذائقة هي التي تعطينا فر�صة التلذذ بما في كالم اهلل من‬
‫فتوحات وهدى ونور‪ ،‬فعندما نغفل عن قلوبنا‪ ،‬وندع الدنيا تنفرد‬
‫بهذه القلوب لتغذيها وتتولى تثقيفها وتربيها على ثقافة اال�ستهالك‬
‫والتباهي والهوى والبهرج واللغو والعبث؛ ف�إن القلوب تعجز عن‬
‫تذوق المواعظ بل ربما تنفر منها‪ ،‬لأنها لم تعد جاذبة للنف�س وال‬
‫يتلذذ بها القلب‪ ،‬وهنا نخ�سر التزامنا النف�سي فال ن�أخذ القر�آن‬
‫بقوة كما �أمرنا‪.‬‬
‫كيف نحافظ على التزامنا النف�سي تجاه القر�آن الكريم‪:‬‬
‫‪1.1‬مالزمة حلق الذكر والتذكير‪.‬‬
‫‪2.2‬التعبد هلل بتالوته خا�صة في خلوات الليالي‪.‬‬
‫‪57‬‬
‫ميثاق أهل القرآن‬

‫‪3.3‬ت�أمل معانيه وتتبع كالم من يعيننا على ت�أمل حكم القر�آن‬


‫وهداياته‪.‬‬
‫‪4.4‬تجنب الإكثار من تتبع الملهيات‪� ،‬أو رموز العبث الذين ُيغرقون‬
‫�أذهاننا بالترهات‪ ،‬والتي ولو كانت مباحة لكن كثرتها تف�سد‬
‫ذائقة القلب‪ ،‬ويف�سد تب ًعا لها �إدراكات النف�س وقناعاتها‪.‬‬
‫‪5.5‬تتب�ع �أخب�ار رم�وز الق�ر�آن الكري�م تلاوة وتعلي ًم�ا وعناي�ة‪،‬‬
‫ف��إن �س�يرتهم تله�م النف��س وتقيه�ا خط�ر االنبه�ار برم�وز‬
‫الغوا ي�ة‪.‬‬
‫‪6.6‬تعلم ال�سنة‪ ،‬والحر�ص على اتباعها‪ ،‬ف�إن �أكثر الذين يمرقون‬
‫من القر�آن فال يجاوز تراقيهم؛ �إنما دخل ال�شيطان عليهم‬
‫من باب هجر ال�سنة والزهد في تعلم العلم ال�شرعي‪.‬‬
‫�إن تح ّم�ل الق�ر�آن الكري�م يعن�ي �أن نتي�ح لقلوبن�ا فر�ص�ة‬
‫تلق�ي م�دركات الق�ر�آن وهدايات�ه ومواعظ�ه؛ لتتمت�ع العق�ول‬
‫والقل�وب باليقي�ن والإيم�ان ال�صحي�ح والق�وة النف�س�ية‪ ،‬الت�ي ال‬
‫تزعزعه�ا الفت�ن وال�ش�بهات وال ت�ضعفه�ا‪.‬‬
‫ومما �سبق يت�ضح �أن محراب القر�آن كفيل بت�أهيل النفو�س‬
‫وتقويتها‪ ،‬ولكن؛ هل كل النفو�س �سوف تلتزم هذا الت�أهيل وتقوم به؟‪.‬‬
‫لذا يجب �أن ندرك �أن التزامنا النف�سي (الإيماني) يحتاج لأنف�س‬
‫لديها التزام �شخ�صي ولياقة �شخ�صية تمكنها من تحمل م�س�ؤولية‬
‫هذا الكتاب العظيم‪.‬‬
‫‪58‬‬
‫ميثاق أهل القرآن‬

‫االلتزام ال�شخ�صي‪:‬‬
‫نق�صد بااللتزام ال�شخ�صي �أن يكون لدى حامل القر�آن قوة‬
‫�شخ�صية((( تمكنه من التحكم في �أمرين‪:‬‬
‫‪1.1‬عاداته (رغباته)‬
‫‪2.2‬انفعاالته‬
‫فكيف نلتزم في عاداتنا؟‬
‫العادات ال�شخ�صية هي الت�صرفات المعتادة التي يفعلها ال�شخ�ص‬
‫كلما تعر�ض لموقف ما‪ ،‬وفي الجدول التالي مثال للعادة ال�سلبية �أو‬
‫الإيجابية التي يمكن �أن تن�ش�أ مع المواقف‪.‬‬
‫العادة‬ ‫احلالة‬ ‫املوقف‬
‫الإجناز‬ ‫‪+‬‬
‫عمل ينبغي اجنازه‬
‫الت�سويف‬ ‫‪-‬‬
‫النهو�ض‬ ‫‪+‬‬
‫موعد اال�ستيقاظ‬
‫زيادة النوم‬ ‫‪-‬‬
‫التجنب‬ ‫‪+‬‬
‫تناول �أكل غري �صحي‬
‫الإكثار‬ ‫‪-‬‬

‫((( قوة ال�شخ�صية ال نعني بها القدرة على مواجهة الآخرين بل القدرة على مواجهة‬
‫الإن�سان لهواه‪ .‬امل�ؤمن القوي ال ي�ضعف �أمام نزعات نف�سه بل يثبت وهذا ما مينحه‬
‫ال�شجاعة والقدرة على قول احلق وجتنب النفاق وم�صاحلة الباطل‪.‬‬

‫‪59‬‬
‫ميثاق أهل القرآن‬

‫ما الذي يمنع االلتزام ال�شخ�صي؟‬


‫الذي يمنع الفرد من تحمل �أي التزام هو �أحد �أمرين‪:‬‬
‫الأول‪ :‬تغير القناعات وهذا يعني �أنه ح�صل تغيير في الإدراك‬
‫ف�ضعف االلتزام (العقلي القلبي) كما �سبق الحديث عنه(((‪.‬‬
‫الثاني‪� :‬ضعف القدرات الناتج عن �سوء العادات‪ ،‬وهذا يعني‬
‫العجز ال�شخ�صي عن اال�ستمرار في الطريق الجاد‪ ،‬ب�سبب‬
‫ما فيه من مقاومة للرغبات‪� ،‬أو �ضبط لالنفعاالت‪ .‬وهذا ما‬
‫نعبر عنه ب�ضعف االلتزام ال�شخ�صي‪.‬‬
‫ت�س�ا�ؤالت ت�س�اعد عل�ى مالحظ�ة �أث�ر الع�ادات ال�ش�خ�صية‬
‫ف�ي تحقي�ق النج�اح(((‪:‬‬
‫•�ش�خ�ص يمل�ك ذكاء يف�وق ذكاء جمي�ع زمالئ�ه ف�ي الدرا�س�ة‬
‫وكثي� ًرا م�ا يتف�وق عليه�م درا�س� ًيا؛ بع�د م�رور ع�دد م�ن‬
‫ال�س�نوات تج�د �أن�ه ل�م يحق�ق �أي نج�اح‪ ،‬و�أن�ه (وف ًق�ا‬
‫ً‬
‫فا�شلا!!‬ ‫للنظ�رة الدارج�ة ف�ي المجتم�ع) �أ�صب�ح‬
‫•�ش�خ�ص مح�دود ال�ذكاء‪ ،‬وكثي� ًرا م�ا يك�ون مو�ض�ع �س�خرية‬
‫زمالئ�ه ف�ي الدرا�س�ة؛ بع�د ع�دد م�ن ال�س�نين يحق�ق تقد ًم�ا‬
‫ونجاح�ا‪ ،‬و ُيع� ّد ف�ي نظ�ر المجتم�ع مث ً�ال للنج�اح‪.‬‬
‫ً‬
‫((( �صفحة ‪.47‬‬
‫((( �سبب التو�سع يف �إي�ضاح مفهوم العادات وذلك كونها �أكرث مهددات االلتزام وكذلك‬
‫خ�شية �أن يلتب�س املفهوم بغريه مما درج يف ال�سنة النا�س‬

‫‪60‬‬
‫ميثاق أهل القرآن‬

‫•ريا�ضي يحقق البطوالت وتتناف�س الأندية على التعاقد معه‪،‬‬


‫وبعد مدة ينحدر م�ستواه ويخ�سر كثي ًرا من مناف�ساته‪ ،‬ثم يتخلى‬
‫عنه الذين كانوا يبحثون عنه‪ ،‬ويخرج من المجال بال عودة‪.‬‬
‫•�شاب يحقق ً‬
‫تقدما كبي ًرا في حفظ القر�آن الكريم‪ ،‬و ُيظهر‬
‫ذكاء في تعلم العلم‪ ،‬وبعد �سنوات يخ�سر جميع ما حفظ‪،‬‬
‫ويعجز حتى عن �إتمام التعليم الر�سمي ال�ضروري‪.‬‬
‫•رجل يرث ثروة هائلة ويتولى �إدارة عدد من الأن�شطة التجارية‬
‫وبعد فترة ينحدر مال ًيا ويخ�سر كل تلك الثروة ويفل�س‪.‬‬
‫ما ال�سبب الم�شترك بين جميع ه�ؤالء؟‬
‫(‪)1‬‬
‫الر�سالة‬ ‫التف�سري ال�شخ�صي‬ ‫احلالة‬
‫مهما كنت ذك ًيا‬ ‫مل ي�ستطع حتمل جدية‬
‫طالب ميلك ذكاء‬
‫االلتزام مبواعيد املدر�سة فالعادات ال�سيئة �سوف‬
‫ثم يخ�سر درا�سته‬
‫وقوانينها والواجبات تعطل ميزة الذكاء لديك‬
‫التزم بكل املهارات اجلادة‬ ‫�شخ�ص حمدود‬
‫ال تقلق �أنك الأقل ذكاء‬
‫مثل الإجناز‪ ،‬الإ�صرار‬ ‫الذكاء يحقق‬
‫�إذا كنت الأف�ضل حماولة‬
‫املثابرة‪ ،‬مقاومة هوى نف�سه‬ ‫وجناحا‬
‫ً‬ ‫تقدما‬
‫ً‬
‫مل ي�ستطع التغلب على‬
‫ك�سله يف الت�أخر عن متارين اللياقة البدنية كاللياقة‬
‫ريا�ضي متفوق ثم‬
‫اللياقة‪ ،‬ومل ي�ستطع مقاومة النف�سية ومن فقد لياقته‬
‫يخ�سر مهاراته‬
‫فقد مهارته‬ ‫الأغذية التي زادت من وزنه‬
‫ففقد لياقته اجل�سمية‬

‫((( هذا التف�سري فقط من جهة التزامه ال�شخ�صي‪ ،‬وهناك تف�سريات �أخرى ال تنا�سب املقام‪.‬‬

‫‪61‬‬
‫ميثاق أهل القرآن‬

‫�شاب يحقق تقدما‬


‫اتباع الهوى والرغبات‬
‫حني حتمل القر�آن فالبد‬ ‫كبريا يف حفظ‬
‫و�شهوات النف�س جعل‬
‫�أن ت�ضع هواك حتت‬ ‫القر�آن الكرمي‪ ،‬ثم‬
‫متطلبات القر�آن الكرمي‬
‫ال�سيطرة‬ ‫يتحول به احلال‬
‫ثقيلة على النف�س‬
‫لل�ضياع‬
‫ال تبقى الرثوات يف �أيدي‬
‫ثروة النف�س قبل ثروة‬ ‫من ال يجيدون عادات‬ ‫رجل يرث ثروة‬
‫املال‬ ‫هائلة ثم يبددها التوفري‪ ،‬واملحا�سبة‪ ،‬وقهر‬
‫النف�س عن فو�ضى ال�شراء‬

‫كيف ن�ش ّكل عادات الجد ونق ّوي التزامنا ال�شخ�صي؟‬


‫عندم�ا نق�ول ع�ادات �ش�خ�صية فنعن�ي به�ا الت�صرف�ات‬
‫الت�ي تتك�رر غال ًب�ا‪ ،‬ولك�ن الع�ادات ال تب�د�أ ع�ادات‪ ،‬ب�ل تب�د�أ‬
‫�س�لو ًكا عاب� ًرا‪ ،‬ث�م م�ع تك�رار الت�ص�رف يكت�س�ب ال�س�لوك �صف�ة‬
‫الديموم�ة بمعن�ى �أن�ه ي�صب�ح ه�و الت�ص�رف التلقائ�ي ال�ذي يب�رز‬
‫� ًأول وتمي�ل �إلي�ه النف��س‪.‬‬
‫في النف�س الب�شرية نزعتان هما‪:‬‬
‫ال ُر�ش�د‪ :‬وي�س�تمد قوت�ه م�ن ق�وة العق�ل ال�ذي يحر��ص عل�ى‬
‫فع�ل ال�ص�واب‪ ،‬وتحقي�ق النف�ع م�ن منظ�ور �صحي�ح‪.‬‬
‫الغ ّ�ي‪ :‬وي�س�تمد قوت�ه م�ن داع�ي اله�وى والرغب�ات‪ ،‬والت�ي‬
‫تحر��ص عل�ى تحقي�ق ل�ذة عاجل�ة دون اعتب�ار لكونه�ا �صوا ًب�ا‬
‫ودون ا�س�تح�ضار لل�ض�رر المترت�ب عليه�ا الح ًق�ا‪.‬‬
‫‪62‬‬
‫ميثاق أهل القرآن‬

‫فحي�ن يك�ون �أم�ام الإن�س�ان موق�ف ويج�ب علي�ه �أن يتخ�ذ‬


‫ق�را ًرا ف��إن داع�ي الر�ش�د يمل�ي علي�ه باتج�اه‪ ،‬وداع�ي الغ�ي‬
‫يمل�ي علي�ه باتج�اه معاك��س‪.‬‬
‫وكل م�ن الر�ش�د‪ ،‬والغ�ي؛ يق� ّدم مبررات�ه لم�ا يخت�ار‪ ،‬وغال ًب�ا‬
‫م�ا ير ّك�ز الر�ش�د والعق�ل عل�ى �إي�ض�اح جان�ب الخط��أ وال�ص�واب‪،‬‬
‫و�إي�ض�اح المنفع�ة وال�ض�رر‪ ،‬ال�س�يما عل�ى الم�دى البعي�د‪ .‬بينم�ا‬
‫يرك�ز داع�ي اله�وى عل�ى تزيي�ن الل�ذة العاجل�ة‪ ،‬ويق�دم ت�أويلات‬
‫لاللتف�اف عل�ى حج�ة العق�ل(((‪ ،‬ويعر��ض تطمين�ات للتخل��ص‬
‫م�ن مخ�اوف �س�وء العاقب�ة‪.‬‬
‫ف��إذا ق�اوم الإن�س�ان ه�واه (وهن�ا تظه�ر ق�وة ال�ش�خ�صية)‬
‫واتج�ه م�ع داع�ي الح�ق والخي�ر ف�ي نف�س�ه‪ ،‬ف�إن�ه يب�د�أ ف�ي‬
‫(الكيا�س�ة‪ ،‬والفطان�ة) وه�ي ع�ادة الج�د والق�وة‬
‫اكت�س�اب ع�ادة ِ‬
‫ال�ش�خ�صية‪ ،‬لتحم�ل المه�ام ال�صعب�ة‪ ،‬والق�درة عل�ى العم�ل‬
‫بموج�ب م�ا ي�ؤم�ن ب�ه م�ن ه�دى الق�ر�آن ومواعظ�ه‪ .‬وم�ع التك�رار‬
‫ُت�ص ًق�ل ه�ذه الع�ادة‪ ،‬وت�صب�ح تلقائي�ة لدي�ه‪.‬‬
‫و�إذا تجاه�ل الإن�س�ان داع�ي الح�ق والخي�ر م�ن داخل�ه‪،‬‬
‫وان�ص�اع لإغ�راءات اله�وى‪ ،‬ف َق ِب�ل الت�أويلات والت�س�ويف‪ ،‬ف�إن�ه‬
‫يب�د�أ ف�ي اكت�س�اب ع�ادة (ال َع َج�ز) وه�ي �ضع�ف االلت�زام‬
‫ال�ش�خ�صي‪ ،‬وع�دم الق�درة عل�ى الثب�ات عل�ى ل�وازم الوح�ي وكالم‬
‫((( حجة العقل ال�سليم الذي ال يخالف مقت�ضى الوحي‪.‬‬

‫‪63‬‬
‫ميثاق أهل القرآن‬

‫اهلل ‪ .‬وم�ع التك�رار تتج�ذر ه�ذه الع�ادة وت�صب�ح مانع�ة‬


‫ل�ه م�ن كثي�ر م�ن مه�ارات النج�اح‪ .‬وال ي�زال يتمن�ى الخي�ر‪،‬‬
‫ويع�د نف�س�ه بالتغيي�ر‪ ،‬ليب�د�أ ف�ي مواجه�ة ه�واه‪.‬‬
‫�ول اهلل‬ ‫ع�ن حذيف�ة ب�ن اليم�ان ‪ ‬ق�ال‪�َ :‬س ِ�م ْع ُت َر ُ�س َ‬
‫�وب َكا ْل َح ِ�صي ِ�ر ُع�ودًا ُع�ودًا‪،‬‬ ‫�ول‪ُ « :‬ت ْع َر� ُ�ض ا ْل ِفتَ�نُ َع َل�ى ا ْل ُق ُل ِ‬‫ﷺ َي ُق ُ‬
‫َف��أَ ُّي َق ْل ٍ�ب ُ�أ ْ�ش ِ�ر َب َها‪ُ ،‬ن ِك َ�ت ِفي� ِه ُن ْكتَ� ٌة َ�س� ْو َدا ُء‪َ ،‬و َ�أ ُّي َق ْل ٍ�ب �أَ ْن َك َر َه�ا‪،‬‬
‫ُن ِك َ�ت ِفي� ِه ُن ْكتَ� ٌة َب ْي َ�ض�ا ُء‪َ ،‬حتَّ�ى ت َِ�صي� َر َع َل�ى َق ْل َب ْي ِ�ن‪َ ،‬ع َل�ى َ�أ ْب َي� َ�ض‬
‫ال ْر� ُ�ض‪،‬‬ ‫ال�س� َما َواتُ َو ْ َ أ‬ ‫ال�ص َف�ا َف َلا ت َُ�ض� ُّر ُه ِف ْت َن� ٌة َم�ا َد َام ِ�ت َّ‬ ‫ِم ْث ِ�ل َّ‬
‫َو ْال َآخ� ُر �أَ ْ�س� َو ُد ُم ْر َب�ا ًّدا((( َكا ْل ُك�وزِ‪ُ ،‬م َج ِّخ ًي�ا((( َل َي ْع ِ�ر ُف َم ْع ُرو ًف�ا‪،‬‬
‫َو َل ُي ْن ِك� ُر ُم ْن َك� ًرا‪� ،‬إِ َّل َم�ا �أُ ْ�ش ِ�ر َب ِم�نْ َه� َوا ُه»(((‪.‬‬
‫فانظ�ر كي�ف ي�ؤث�ر تراك�م الذن�وب ف�ي تغيي�ر ق�درة النف��س‬
‫عل�ى قب�ول الر�ش�د‪ ،‬ويت�س�بب ف�ي العج�ز ع�ن فعل�ه‪ .‬وكي�ف تكت�س�ب‬
‫النف��س ح�صان�ة وق�وة �ض�د الفت�ن‪ ،‬حينم�ا تب�د�أ برف�ضه�ا ور ّده�ا‬
‫من�ذ البداي�ة‪ ،‬بالح�زم‪ ،‬ورد ت�أويلات اله�وى‪.‬‬
‫وبالن�س�بة لحام�ل الق�ر�آن والعاملي�ن علي�ه‪ ،‬فالمباح�ات لي�س�ت‬
‫�ات فح�س�ب‪ ،‬فه�م مث�ل الب�ش�ر ف�ي التمت�ع بالمب�اح‪،‬‬
‫مج�رد مباح ٍ‬
‫ولك�ن م�ن �أراد �أن يمتل�ك لياق�ة �ش�خ�صية‪ ،‬وق�وة نف�س�ية‪ ،‬ف�إن�ه‬
‫((( يعني قامت اللون جدً ا‪.‬‬
‫((( الإناء املقلوب‪.‬‬
‫((( �صحيح م�سلم ‪.239‬‬

‫‪64‬‬
‫ميثاق أهل القرآن‬

‫ُمطا َل�ب بنظ�ام خا��ص‪ ،‬يمنع�ه م�ن بع��ض تل�ك المباح�ات‪� ،‬أو‬
‫ينظ�م ل�ه كيفي�ة التعام�ل معه�ا‪.‬‬
‫فكم�ا ن�ش�اهد ف�ي �صال�ة بن�اء الأج�س�ام وحم�ل الأثق�ال‪� ،‬أن‬
‫�أول م�ا يتعلم�ه م�ن يري�د النج�اح ف�ي ه�ذا المج�ال‪ ،‬ه�و تنظي�م‬
‫طريقت�ه ف�ي الغ�ذاء‪ .‬وم�ن ذل�ك التنظي�م �أن�ه يتقب�ل وبقناع�ة‬
‫من�ذ البداي�ة؛ تج ُن�ب كثي� ًرا م�ن الأطعم�ة الت�ي تمن�ع ج�س�مه‬
‫م�ن اكت�س�اب اللياق�ة‪ ،‬وكذل�ك يمتن�ع ع�ن ع�دد م�ن الممار�س�ات‬
‫ف�ي الحي�اة‪ ،‬لك�ي ُيب ِق�ي عل�ى لياقت�ه‪ ،‬وي�س�تمر ف�ي تنمي�ة قدرت�ه‬
‫عل�ى حم�ل مزي�د م�ن الأثق�ال‪.‬‬
‫ومم�ا تع�ارف علي�ه �أ�صح�اب ه�ذه الريا�ض�ات �أن�ه ال يمك�ن‬
‫الجم�ع بي�ن حري�ة الطع�ام والن�وم م�ن جه�ة‪ ،‬وبي�ن التم ّي�ز‬
‫البدن�ي م�ن جه�ة �أخ�رى‪ .‬فعل�ى الالع�ب �أن يخت�ار �إم�ا قان�ون‬
‫الم�درب �أو قان�ون (البوفي�ه المفت�وح)(((‪.‬‬
‫وحي�ن نك�ون �ضم�ن كوكب�ة الق�ر�آن ف�إنن�ا يج�ب �أن نخت�ار‬
‫�إم�ا قان�ون (فخذه�ا بق�وة) ونعي�د ترتي�ب رغباتن�ا‪� ،‬أو قان�ون‬
‫(�إنم�ا ه�ي حياتن�ا الدني�ا) ونطل�ق لرغباتن�ا العن�ان‪ ،‬فنتخل�ى‬
‫ع�ن �س�باق �أه�ل الق�ر�آن‪ ،‬و�س�باق الفر�س�ان يحت�اج �إل�ى خي�ل‬
‫مر ّو�ض�ة وم�ض ّم�رة(((‪.‬‬
‫((( يق�صد به الطعام املتاح با�ستمرار‪.‬‬
‫((( اخليل امل�ض ّمرة هي التي يتم جتويعها ا�ستعدادا لل�سباق‪.‬‬

‫‪65‬‬
‫ميثاق أهل القرآن‬

‫كيف نلتزم في انفعاالتنا؟‬


‫نعن�ي باالنفع�االت تل�ك الم�ش�اعر الت�ي ت�صاح�ب المواق�ف‬
‫م�ن غ�ض�ب �أو ح�زن �أو خ�وف �أو نحوه�ا‪.‬‬
‫انفع�ال الح�زن والخ�وف �س�بق الإ�ش�ارة �إلي�ه ف�ي الحدي�ث‬
‫ع�ن االلت�زام العقل�ي حي�ث ي��ؤدي اليقي�ن والإيم�ان �إل�ى �ضب�ط‬
‫�ش�عور الخ�وف والح�زن‪.‬‬
‫و�س�يكون تركيزن�ا عل�ى انفع�ال الغ�ض�ب نظ�را لت�أثي�ره عل�ى‬
‫ثب�ات النفو��س وم�ا يحدث�ه م�ن مداخ�ل لل�ش�يطان الت�ي ُتف� ّرق‬
‫الإخ�وة‪ ،‬وتف�س�د ذات بينه�م ث�م ي��ؤدي ذل�ك للإخلال بالتزام�ات‬
‫ميث�اق الق�ر�آن و�أخلاق �أهل�ه‪.‬‬
‫تو�ضيح(((‪:‬‬
‫�س�بق �أن ذكرن�ا �أن التثقي�ف والمع�ارف الجي�دة والخب�رات‬
‫التزام�ا عقل ًي�ا‪ ،‬وكلم�ا حظ�ي الإن�س�ان بخب�رات‬
‫ً‬ ‫الإيجابي�ة ت�صن�ع‬
‫تراكمي�ة �أكث�ر كلم�ا كان �إدراك�ه �أق�وى‪ .‬وحي�ن يواج�ه �أي موق�ف‬
‫ف�إن�ه �س�يهرع �إل�ى خبرات�ه وقناعات�ه وقيم�ه ليعال�ج الموق�ف‬
‫ب�ش�كل �صحي�ح‪ ،‬وبق�در م�ا ت�س�عفه خبرات�ه �س�يكون رد فعل�ه‬
‫بح�ول اهلل‪.‬‬
‫((( التو�سع يف �إي�ضاح عالقة التوتر بالتزامنا ال�شخ�صي نظرا خلفاء هذا املفهوم عن‬
‫الأذهان يف معاجلة �ضبط النف�س‪ ،‬وليتمكن القارئ من تكوين ت�صور ذهني ميكنه‬
‫من التطبيق‪.‬‬

‫‪66‬‬
‫ميثاق أهل القرآن‬

‫فهناك حالتان‪:‬‬
‫‪1.1‬حال�ة ل�ش�خ�ص يتمت�ع بمع�ارف جي�دة وخب�رات ممت�ازة‬
‫وه�ذا يتوق�ع �أن يك�ون �أكث�ر كف�اءة ف�ي مواجه�ة المواق�ف‪.‬‬
‫‪2.2‬وحال�ة �ش�خ�ص قلي�ل الإدراك والخب�رات وه�ذا ُيتوق�ع �أن‬
‫يك�ون �أق�ل كف�اءة ف�ي مواجه�ة المواق�ف‪.‬‬
‫وهناك حال ثالثة وهي‪ :‬حالة �شخ�ص يتمتع بمعارف جيدة‬
‫وخبرات ممتازة‪ ،‬لكنه لم ي�ستطع اال�ستفادة منها في المواقف‪،‬‬
‫وكلما واجهه موقف اكت�شف �أن تلك المعارف والخبرات تتطاير‬
‫عنه وتخذله‪ ،‬وال يتذكر منها �شي ًئا �إال بعد فوات الوقت‪.‬‬
‫ومم�ا ي��ؤدي لذل�ك حال�ة الغ�ض�ب‪ ،‬والت�ي تحج�ب ع�ن العق�ل‬
‫كل م�ا لدي�ه م�ن ر�صي�د‪ ،‬فيعال�ج الموق�ف كم�ا يعالج�ه ال�س�فهاء‬
‫والجهلاء والطائ�ش�ون‪.‬‬
‫�سن�شرح الأمر ب�شكل �أب�سط‪:‬‬
‫تخيل �أن قائدا ُك ِّلف بالدفاع عن بلدة معينة �ضد بع�ض‬
‫الع�صابات‪ ،‬ولديه �ألف جندي ب�أنواع الأ�سلحة‪ .‬ويع�سكرون في‬
‫مكان قريب وي�ستدعيهم متى �شاء‪ ،‬وفي كل مرة يقوم با�ستدعائهم‬
‫ف�إنهم يخرجون من بوابات المع�سكر ويتحركون عبر طريق ممهد‬
‫عر�ضه ع�شرين مت ًرا باتجاه مركز القيادة‪ ،‬وال ي�ستغرق منهم‬
‫حمل الأ�سلحة وتحريك الآليات والمرور عبر الطريق الوا�سع؛‬
‫�سوى ‪ 20‬دقيقة حتى يكونوا جاهزين للدفاع وردع المعتدين الذين‬
‫‪67‬‬
‫ميثاق أهل القرآن‬

‫ال ي�ستطيعون االنت�صار على الجي�ش المدرب والمج ّهز‪ .‬ولذلك‬


‫توقفت الهجمات وهد�أت الأمور لفترة طويلة‪.‬‬
‫وف�ي م�رة م�ن الم�رات نجح�ت الع�صاب�ات ف�ي و�ض�ع �صخ�ور‬
‫كبي�رة و�أك�وام م�ن الرم�ل الهائ�ل ف�ي الطري�ق ال�ذي بي�ن القائ�د‬
‫والمع�س�كر‪ ،‬وبعده�ا هاجم�ت الع�صاب�ة تل�ك البل�دة لت�س�تولي‬
‫عليه�ا ‪.‬‬
‫وحي�ن �ش�عر القائ�د بالخط�ر ا�س�تدعى الجي��ش (كالمعت�اد)‬
‫وفعلا تح�رك �أل�ف جن�دي بمعداته�م الثقيل�ة وعرباته�م‪ ،‬ولكنه�م‬
‫بعدم�ا خرج�وا م�ن المع�س�كر تفاج��أوا �أن�ه مغل�ق‪ ،‬وبع�د جه�د‬
‫ووق�ت تمكن�وا م�ن فت�ح مم�ر عر�ض�ه متري�ن فق�ط‪.‬‬
‫ووج�دوا �أنف�س�هم عالقي�ن ف�ي الطري�ق المكت�ظ بالجن�ود‬
‫والآلي�ات‪ .‬ونتيج�ة للتزاح�م عل�ى المم�ر ال�ضي�ق ا�س�تغرق و�صوله�م‬
‫�س�اعة كامل�ة ول�م ي�ص�ل خالله�ا �إال الأف�راد الذي�ن يحمل�ون‬
‫�أ�س�لحة خفيف�ة فق�ط‪ .‬وبق�ي الآخ�رون �س�اعة �أخ�رى حت�ى تم�ت‬
‫�إزال�ة العوائ�ق وتو�س�يع الطري�ق ً‬
‫وفعلا و�صل�وا بع�د �س�اعتين ولك�ن‬
‫المعرك�ة انته�ت بهزيم�ة القائ�د وخ�س�ارة الموق�ع ال�ذي كان�وا‬
‫يري�دون حمايت�ه‪.‬‬
‫ال�س�ؤال‪ :‬هل خ�سر القائد لأنه ال يملك جي�شا وعتادًا؟‬
‫�أم لأن الجي��ش م�ع العت�اد عج�ز ع�ن الو�ص�ول ب�س�بب �ضي�ق‬
‫الطر ي�ق؟!!‬

‫‪68‬‬
‫ميثاق أهل القرآن‬

‫ت�أمل � ً‬
‫أي�ضا‪:‬‬
‫�أن و�صول الأ�سلحة الخفيفة �أوال لم يكن مفيدً ا؟‬
‫�أن الأ�س�لحة الأكث�ر فعالي�ة كان�ت بطيئ�ة الحرك�ة وا�س�تغرقت‬
‫وقت�ا �أط�ول‪ ،‬واحتاج�ت م�س�ا ًرا �أو�س�ع‪.‬‬
‫ه�ذا بال�ضب�ط م�ا يح�دث لخبراتن�ا ومعلوماتن�ا حي�ن نواج�ه‬
‫�أي موق�ف ونتعر��ض للتوت�ر‪ .‬فالتوت�ر يغل�ق طري�ق و�ص�ول الخب�رات‬
‫�إل�ى الذه�ن‪ ،‬و�إذا و�صل�ت ف�إنه�ا تك�ون خب�رات �س�طحية وغي�ر‬
‫عميق�ة‪ .‬وحي�ن نواج�ه المواق�ف ونح�ن ف�ي حال�ة التوت�ر ف�إنن�ا‬
‫نواجه�ا بخب�رات هزيل�ة فنرتك�ب الأخط�اء والحماق�ات‪.‬‬
‫وبعد �أن ن�ستعيد هدوءنا ونتخل�ص من التوتر؛ ت�صلنا الخبرات‬
‫الحكيمة والر�شيدة ولكنها تكون مت�أخرة وال جدوى من و�صولها‪.‬‬
‫فالتوتر يقطع الطريق بيننا وبين قناعاتنا ومعارفنا وثقافتنا‪،‬‬
‫فنعالج المواقف كما يعالجها عديم الخبرة‪� ،‬أو كما يعالجها ال�سفهاء‬
‫�أحيا ًنا‪ .‬مع العلم �أننا ق�ضينا عم ًرا في تعلم الحكمة‪ ،‬ومهارات‬
‫التعامل‪ ،‬لكن التوتر جردنا منها بكل ب�ساطة‪.‬‬
‫�إن تح ّم�ل معان�ي ومواع�ظ الق�ر�آن الكري�م يحت�اج �إل�ى‬
‫نفو��س حليم�ة‪ ،‬و�أذه�ان غي�ر متوت�رة‪ ،‬وقل�وب تغ�ش�اها ال�س�كينة‪،‬‬
‫حت�ى تتمك�ن م�ن مواجه�ة الذع�ر واال�س�تفزاز بحكم�ة ور�ش�د(((‪.‬‬
‫((( ملزيد من الوعي ب�أهمية ال�سكينة يف ح�سن التعامل مع املفاج�آت والفواجع‪،‬‬
‫واال�ستفزاز ميكن االطالع عليها يف كتاب (ح�سبنا اهلل) للم�ؤلف‪.‬‬

‫‪69‬‬
‫ميثاق أهل القرآن‬

‫ال�سكينة حالة من الطم�أنينة‪ ،‬تمنع �سوء االرتجال وت�ساعد القلب‬


‫�أن ي�ستجمع قواه‪ ،‬وتمكنه من اال�ستفادة من ر�صيد اليقين‪ ،‬والحكمة‬
‫التي تلقاها عبر ال�سنين‪ .‬فتقطع الطريق على �إبلي�س الذي ي�سعى‬
‫للدفع بنا نحو التوتر‪ ،‬لي�سهل عليه قيادتنا قبل �أن ن�ستفيق‪.‬‬
‫وله�ذا نج�د �أنن�ا ن�س�مع كثي� ًرا ع�ن �أف�كار وحل�ول مثالي�ة‬
‫عج�ب به�ا ونتداوله�ا مقتنعي�ن ب�صحته�ا‪،‬‬ ‫للتعام�ل م�ع الآخري�ن‪ ،‬و ُن َ‬
‫ولك�ن المفاج��أة �أنه�ا ُتغ َّي�ب عن�ا حي�ن نتعر��ض لأي موق�ف مت��أزم‪،‬‬
‫�أو ن�س�مع كلم�ة جارح�ة‪� ،‬أو نفه�م �أم� ًرا م�ا بطريق�ة خاطئ�ة‪.‬‬
‫كي�ف �سن�س�تفيد م�ن حكم�ة الق�ر�آن وال�س�نة؛ �إذا كن�ا �س�نفقد‬
‫الك ْب�ر‪� ،‬أو الغ�رور‪،‬‬
‫تل�ك الحكم�ة عن�د �أول معرك�ة م�ع الغ�ض�ب؟ �أو ِ‬
‫�أو �س�وء الظ�ن‪.‬‬
‫ل�ذا ف��إن وعين�ا بانفعاالتن�ا ومالحظ�ة ب�دء حال�ة التوت�ر؛‬
‫مطل�ب �ش�خ�صي لال�س�تفادة م�ن معطي�ات الوح�ي ف�ي حال�ة‬
‫الت��أزم‪.‬‬
‫كيف نتجنب التوتر؟‬
‫�إذا كان التوت�ر يلغ�ي مي�زة الوع�ي والخب�رة خلال التعام�ل‬
‫م�ع المواق�ف ال�ضاغط�ة؛ فم�ن المه�م معرف�ة كيفي�ة ح�دوث‬
‫التوت�ر‪ ،‬وكي�ف نتجنب�ه؟‬
‫‪70‬‬
‫ميثاق أهل القرآن‬

‫(((‬
‫كيف تنطلق �شرارة التوتر‪ ،‬وكيف نتجنبها؟‬
‫�إذا واج�ه الإن�س�ان موق ًف�ا م�ا‪� ،‬أو ر�آه �أو �س�معه �أو عا�ش�ه‪ ،‬ف�إن�ه‬
‫يتعر��ض لمثي�ر خارج�ي يت�س�بب ف�ي تحري�ك انفعاالت�ه‪،‬‬
‫واالنفع�االت الت�ي ُتث�ار م�ن خلال الموق�ف ه�ي نتيج�ة‬
‫تف�س�يرنا للموق�ف وطريق�ة فهمن�ا ل�ه‪.‬‬
‫فالحزن �أو الخوف‪� ،‬أو الغ�ضب والتوتر ال تح�صل ب�سبب المواقف‬
‫ب�شكل م�ستقل‪ ،‬بل ب�سبب طريقة نظرتنا لتلك المواقف وتف�سيرنا لها‪.‬‬
‫فتجد موق ًفا ما‪ ،‬يت�سبب في غ�ضب �شخ�ص‪ ،‬وحين يتعر�ض له‬
‫�شخ�ص �آخر ف�إنه ال يغ�ضب‪.‬‬
‫نتيج�ة له�ذه المقدم�ة‪ :‬ف��إن �ش�رارة التوت�ر تب�د�أ م�ن‬
‫طريقتن�ا ف�ي تف�س�ير وتحلي�ل المواق�ف‪ ،‬و�إذا كان�ت لدين�ا ثقاف�ة‬
‫خاطئ�ة �أو ع�ادات ذهني�ة �س�يئة مث�ل ال�ش�ك‪� ،‬أو �س�وء الظ�ن �أو‬
‫ع�ادات نف�س�ية �س�لبية مث�ل الكبري�اء �أو الح�س�د‪ ،‬ف�إنن�ا �س�نكون‬
‫مر�ش�حين بق�وة للتعر��ض للتوت�ر ف�ي �أغل�ب المواق�ف‪.‬‬
‫وعلى هذا ف�إن �أهم خطوة في تجنب التوتر هو تربية النف�س على‬
‫مهارات ح�سن الظن‪ ،‬وح�سن ت�أويل المواقف ب�شكل مريح للنف�س‪،‬‬
‫وفيما يلي �أبرز خطوات التعامل مع التوتر واكت�ساب الحلم(((‪.‬‬
‫((( جمي�ع م�ا يذك�ر يف ه�ذه الفق�رة ل�ن يك�ون مفي�دً ا �إذا مل ُيط ّب�ق‪ ،‬فلا توج�د‬
‫قيمة لأي حل ال يتم تطبيقه‪.‬‬
‫((( ال قيمة لهذه اخلطوات ما مل تتحول �إلى عمل من الآن‪.‬‬

‫‪71‬‬
‫ميثاق أهل القرآن‬

‫� ًأول‪ /‬خطوة بنائية‪ :‬بناء ال�شخ�صية الحليمة‬


‫وه�ي تزوي�د النف��س بالمع�ارف والثقاف�ات الت�ي ت�ش�يع خل�ق‬
‫ال�س�ماحة‪ ،‬والتقب�ل‪ ،‬والتوا�ض�ع‪ ،‬وتوق�ع الخي�ر‪ ،‬وح�س�ن الظ�ن‪،‬‬
‫وكل م�ا يزي�د م�ن قيم�ة الأخ�وة ويع�زز �أخلاق التعام�ل‪.‬‬
‫وذلك يكون عبر م�سيرة الحياة وكلما �ضعفت هذه الثقافة‬
‫في النف�س فعلى حامل القر�آن معاودة تذكير نف�سه بها‪.‬‬
‫ثان ًيا‪ /‬خطوة عالجية‪ :‬التخل�ص من الطبيعة المتوترة‪ ،‬وذلك‬
‫بما يلي‪:‬‬
‫‪1.1‬مالحظة مواقف التوتر التي حدثت‪ ،‬و�إعادة فهمها ب�شكل‬
‫مريح للنف�س حتى (يتبرمج) الذهن على ح�سن تف�سير‬
‫المواقف‪ ،‬وكذلك ي�صبح لدى الإن�سان قدرة تلقائية على‬
‫نقد المواقف المتوترة‪ ،‬و�إذا �أ�صبح مع التكرار تلقائ ًيا ف�إنه‬
‫ي�ساعد في احتواء المواقف القادمة‪.‬‬
‫‪2.2‬قراءة �أو ا�ستماع �أو م�شاهدة مادة �أو عدة مواد لتثقيف‬
‫النف�س‪ ،‬كيف تتعامل مع الغ�ضب‪ ،‬وكيف تح�سن تف�سير‬
‫و�إدراك الحياة من حولنا‪.‬‬
‫‪3.3‬مالحظة �سلوك النا�س الذين يتمتعون بالحلم ومحاولة‬
‫تقليدهم‪ ،‬وقراءة �أخبار الحكماء والحلماء وخا�صة �سيرة‬
‫النبي محمد ﷺ‪.‬‬
‫‪72‬‬
‫ميثاق أهل القرآن‬

‫‪4.4‬مقاومة التف�سيرات ال�سلبية التي تطلقها النف�س من‬


‫الداخل والرد عليها فو ًرا‪ ،‬من خالل �أ ّية �إجابة تنق�ضها‬
‫وتقلل من ت�أثيرها‪.‬‬
‫‪5.5‬اعتزال متابعة �أ ّية و�سيلة تثقيف تثير النعرات �أو الكبرياء �أو‬
‫تثير االنتقام‪.‬‬
‫بالح ْلم الكت�ساب‬
‫تقدما‪ ،‬وو�صفها ِ‬
‫‪6.6‬تعزيز النف�س كلما حققت ً‬
‫هويتها الجديدة‪.‬‬
‫مواقف �سهلة ال‬
‫ٍ‬ ‫الح ْلم وح�سن التف�سير في‬
‫‪7.7‬التدرب على ِ‬
‫تثير الغ�ضب بقوة‪ ،‬وذلك لت�أهيل النف�س لمواجهة مواقف‬
‫�أكثر ً‬
‫�ضغطا‪.‬‬
‫ثال ًثا‪ /‬خطوة موقفية‪:‬‬
‫والمق�صود بها �أثناء موقف الغ�ضب كيف نت�صرف؟‬
‫‪1.1‬اتباع ال�سنة في حال الغ�ضب ‪.‬‬
‫ا�ستب‬
‫‪.‬أبالتعوذ من ال�شيطان‪ :‬فعن �سليمان بن �صرد قال‪َّ :‬‬
‫رجالن عند ال َّنبي ﷺ‪ ،‬ونحن عنده جلو�س‪ ،‬و�أحدهما‬
‫بي ﷺ‪:‬‬‫ي�سب �صاحبه مغ�ض ًبا قد احم َّر وجهه‪ ،‬فقال ال َّن ُّ‬
‫ُّ‬
‫«�إ ِّني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجد‪ ،‬لو قال‪:‬‬
‫�أعوذ باهلل من ال�شيطان الرجيم»(((‪.‬‬
‫((( البخاري وم�سلم‪.‬‬

‫‪73‬‬
‫ميثاق أهل القرآن‬

‫‪.‬بال�سكوت‪ ،‬فعن ابن عبا�س ‪ ‬قال‪ :‬قال ر�سول اهلل‬


‫ﷺ‪« :‬ع ِّلموا وي�سروا وال تع�سروا‪ ،‬و�إذا غ�ضبت فا�سكت‪،‬‬
‫و�إذا غ�ضبت فا�سكت و�إذا غ�ضبت فا�سكت»(((‪.‬‬
‫‪.‬جتغيير (الو�ضعية) لما هو �أقل ا�ستثارة فعن �أبي ذر ‪‬‬
‫قال‪ :‬قال ر�سول اهلل ﷺ‪�« :‬إذا غ�ضب �أحدكم وهو قائم‬
‫فليجل�س‪ ،‬ف�إن ذهب عنه الغ�ضب و�إال فلي�ضطجع»(((‪.‬‬
‫وق�ال ﷺ‪�« :‬أال �إنَّ الغ�ض�ب جم�ر ٌة ف�ي قل�ب اب�ن �آدم‪،‬‬
‫�أفم�ا ر�أي ُت�م �إل�ى ُحم�رة عيني�ه‪ ،‬وانتف ِ‬
‫�اخ �أوداج�ه؟!»(((؛‬
‫والمق�ص�ود الأعظ�م م�ن الت�صاق�ه بالأر��ض ه�و ع�دم‬
‫الإق�دام عل�ى فع�ل �ش�يء فيلت�ص�ق بالأر��ض تحقي ًق�ا‬
‫للتوق�ف وال�س�كون‪.‬‬
‫‪ 2.2‬تجاه�ل م�ا يت�م �س�ماعه م�ن العب�ارات المثي�رة الت�ي‬
‫تول�د التوت�ر‪ ،‬وذل�ك بع�دم التعم�ق ف�ي معناه�ا ال�س�لبي‪،‬‬
‫وبمج�رد �س�ماعها �أو وروده�ا عل�ى الذه�ن فيب�ادر‬
‫الإن�س�ان للت�س�بيح‪ ،‬لأن�ه يبط�ل مفعوله�ا ال�س�لبي ويمن�ع‬
‫تولي�د �ش�رارة التوت�ر‪ .‬ق�ال اهلل تعال�ى‪( :‬ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ‬
‫ﭷ ﭸ ﭹﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ)(((‪.‬‬
‫رواه الإمام �أحمد و�إ�سناده �صحيح ‪.‬‬ ‫(((‬
‫رواه �أبو داود‪.‬‬ ‫(((‬
‫رواه الرتمذي‪2191 /‬‬ ‫(((‬
‫�سورة احلجر‪� ،‬آية‪.٩٨-٩٧ :‬‬ ‫(((‬

‫‪74‬‬
‫ميثاق أهل القرآن‬

‫‪3.3‬الو�ضوء‪ ،‬حين يعتري الإن�سان غ�ضب ف�إنه يهرع للو�ضوء‬


‫ليطفئ نار الغ�ضب ال�شيطانية‪.‬‬
‫‪4.4‬مغادرة المكان ومحاولة عدم ا�سترجاع �أو تذكر �أي �شيء‬
‫مثير‪.‬‬
‫مالحظ�ة‪ :‬يق�ول البع��ض كي�ف �أف�س�ر المواق�ف �إيجاب ًي�ا و�أن�ا‬
‫تمام�ا �أن م�ا ح�دث �أو م�ا �س�معته ه�و �س�لبي‪ .‬وال�ش�خ�ص‬ ‫مت�أك�د ً‬
‫ال ي�س�تحق �أن �أح�س�ن الظ�ن ب�ه؟‬
‫الجواب‪ :‬عندما نف�سر المواقف ال�سلبية ب�شكل �إيجابي مريح‬
‫للنف�س ف�إننا ال نقدم خدمة للطرف الآخر‪ ،‬بل نقدم خدمة لأنف�سنا‪،‬‬
‫لأن التف�سير ال�سلبي �سيحرمنا خبراتنا و�سوف نعالج المواقف‬
‫بدون تلك الخبرات‪ ،‬وربما يكون الطرف الآخر �أكثر هدو ًءا فيدير‬
‫الموقف بفاعلية ويحقق مكا�سب �إ�ضافية‪ ،‬بينما نحن (تحت وط�أة‬
‫التوتر)نرتكب �أخطاء جديدة تفقدنا حقوقنا‪ .‬و�إذا كنا نعتقد �أن‬
‫الح ْلم عليهم فهذا يعني �أننا نحن � ً‬
‫أي�ضا‬ ‫أنا�سا ال ي�ستحقون ِ‬
‫هناك � ً‬
‫قد ال ن�ستحق الحكمة في مواجهة ما ي�ؤذينا‪.‬‬
‫وهناك فرق كبير بين ال�شدة عندما نكون (داخل ًيا) في هدوء‬
‫تام و�سكينة‪ ،‬وبين ال�شدة التي تنتج عن فقدان ال�سيطرة على‬
‫انفعاالتنا‪.‬‬
‫ف�إذا كنت متوت ًرا فكل �إجراء تتخذه غير التراجع وال�سكون‬
‫�سيكون �إجرا ًء خطي ًرا بالن�سبة لك‪.‬‬
‫‪75‬‬
‫ميثاق أهل القرآن‬

‫وج�ود الغ�ض�ب ف�ي حياتن�ا لي��س م�ش�كلة‪� ،‬إنم�ا الم�ش�كلة ه�ي‬


‫ع�دم ال�س�يطرة علي�ه‪ .‬فالحكم�اء والحلم�اء والعظم�اء يغ�ضب�ون‪،‬‬
‫لكنه�م يح�س�نون �إدارة غ�ضبه�م‪.‬‬
‫خال�صة‪:‬‬
‫ميثاق االلتزام يعني‪:‬‬
‫•التزام معرفي و�إدراكي‪ ،‬تنتج عنه قناعات وقيم را�سخة‪.‬‬
‫•التزام عادات‪ ،‬تنتج عنها جدية في المواقف واالختيارات‪.‬‬
‫•التزام انفعالي تنتج عنه �سكينة واتزان في الم�شاعر‪.‬‬

‫‪76‬‬
‫ميثاق الإح�سان‬
‫كثي�را م�ا يذك�ر الإح�س�ان عن�د الحدي�ث ع�ن االتق�ان‪،‬‬
‫والإح�س�ان باخت�ص�ار عب�ارة ع�ن زي�ادة الح� ّ�س الرقاب�ي‬
‫وا�ست�ش�عار عل�م اهلل ور�ؤيت�ه للعب�د‪ ،‬مم�ا يدفع�ه لإح�س�ان ك ّل عم�ل‬
‫ي�راه اهلل ويعلم�ه‪ .‬وه�ذا يعن�ي �أن�ه ال يوج�د عم�ل يمكنن�ا فعل�ه‬
‫خ�ارج عل�م اهلل‪ ،‬وم�ن هن�ا ولنك�ون مح�س�نين ف�إنن�ا �س�نج ّود‬
‫عم�ل القل�ب كم�ا نج� ّود عم�ل الج�وارح‪.‬‬
‫(ﮩ ﮪ ﮫ ﮬﮭ ﮮ‬ ‫ولنب�د�أ م�ن ق�ول اهلل تعال�ى‪:‬‬
‫ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ)(((‪.‬‬
‫حي�ن قال�ت الفت�اة ع�ن مو�س�ى �أن�ه ق�وي �أمي�ن‪� ،‬س��ألها‬
‫�أبوه�ا‪ :‬وكي�ف عرف ِ�ت؟ ف�أخبرت�ه �أن ق ّوت�ه ظه�رت ف�ي قدرت�ه عل�ى‬
‫رف�ع ال�صخ�رة ع�ن البئ�ر وال�س�قي بق�وة و�س�رعة‪ ،‬و�أمانت�ه ظه�رت‬
‫حي�ن غ��ض ب�ص�ره عنه�ا‪.‬‬
‫وم�ن هن�ا نالح�ظ �أن الق�وة ق�درة عل�ى العم�ل‪ ،‬والأمان�ة‬
‫مراقب�ة اهلل ف�ي العم�ل‪.‬‬
‫وفن ن�صيبها من القوة والأمانة؟‬
‫ولكل مهنة ٍ‬
‫((( �سورة الق�ص�ص‪� ،‬آية‪.26 :‬‬

‫‪77‬‬
‫ميثاق أهل القرآن‬

‫مثلا‪ :‬ف�ي امتلاك ق�درات الكتاب�ة‬‫فق�وة الكات�ب ال�صحف�ي ً‬


‫وفنونه�ا ومهاراته�ا بج�ودة عالي�ة‪ ،‬والأمان�ة ف�ي ا�س�تخدام ه�ذه‬
‫الق�درات ب�ش�كل �صحي�ح وف�ق نظ�ام الأخلاق والدي�ن‪.‬‬
‫وق�وة ق�ارئ الق�ر�آن‪ :‬ف�ي �إتق�ان تالوت�ه و�أحكامه�ا وفنونه�ا‪،‬‬
‫ومه�ارات الترتي�ل‪.‬‬
‫�شرعا‪.‬‬
‫و�أمانته‪ :‬في توظيف ذلك فيما يليق بالقر�آن ً‬
‫ق�وة معل�م الق�ر�آن الكري�م‪ :‬ف�ي �إتق�ان عل�وم الق�ر�آن الت�ي ال‬
‫ُيع�ذر المعل�م بع�دم �إتقانه�ا‪ ،‬واتق�ان فن�ون التعلي�م‪ ،‬وفن�ون �إدارة‬
‫الطلاب‪ ،‬وفن�ون تربيته�م عل�ى �آداب الطل�ب‪ ،‬ومه�ارات التعام�ل‬
‫م�ع طبيع�ة ه�ذه المهم�ة‪ ،‬وم�ش�كالتها ال�ش�ائعة‪.‬‬
‫�أم�ا �أمانت�ه‪ :‬فه�ي ف�ي ال�س�عي الكت�س�اب الق�وة الت�ي ذكرناه�ا‬
‫ف��إن المعل�م �إذا ع�رف �أن لدي�ه ً‬
‫نق�ض�ا م�ا ف�ي مهارات�ه (وكان‬
‫ب�إمكان�ه �إكم�ال ه�ذا النق��ص) ول�م يفع�ل فه�ذا خل�ل ف�ي‬
‫ا لأما ن�ة‪.‬‬
‫وم�ن الأمان�ة‪ :‬العناي�ة بح�س�ن التعلي�م‪ ،‬والقي�ام ب�كل م�ا يوف�ي‬
‫للطال�ب حق�ه ف�ي الح�ص�ول عل�ى فر�صت�ه الكت�س�اب المعرف�ة‪،‬‬
‫والتوجي�ه‪.‬‬
‫وف�ي كل دور م�ن �أدوار العم�ل الت�ي يق�وم به�ا خ�دام كت�اب اهلل‬
‫م�ن تخطي�ط‪ ،‬و�إدارة‪ ،‬وتوجي�ه‪ ،‬وتنمي�ة وتطوي�ر؛ ف�ي كل م�ن ه�ذه‬
‫الأدوار ق�در واج�ب م�ن الق�وة يج�ب اكت�س�ابه وتعلم�ه و�إتقان�ه‪،‬‬
‫‪78‬‬
‫ميثاق أهل القرآن‬

‫ول�كل م�ن ه�ذه الأدوار �ص�ورة م�ن الأداء تبي�ن وج�ه الأمان�ة‬
‫في�ه‪ .‬فل�كل مهم�ة حظه�ا م�ن الأمان�ة وحظه�ا م�ن الغ��ش‪ .‬و�أه�ل‬
‫كل ف�ن يعرف�ون الأداء الن�ص�وح والأداء المغ�شو��ش‪.‬‬
‫حي�ن نجاه�د �أنف�س�نا عل�ى الإح�س�ان ف�ي العم�ل ك�أنن�ا ن�رى‬
‫اهلل‪ ،‬والعم�ل ونح�ن نالح�ظ �أن�ه ‪ ‬يران�ا؛ فل�ن نقب�ل‬
‫ب��أن نمار��س الأعم�ال بغي�ر مه�ارة متقن�ة‪ ،‬وه�ذا �إح�س�ان قوتن�ا‬
‫(�إتق�ان)‪ ،‬ول�ن نقب�ل �أن نتق�ن الأعم�ال لنحق�ق مكا�س�ب غي�ر‬
‫م�ش�روعة‪ ،‬وه�ذه �إح�س�ان �أمانتن�ا (مراقب�ة)‪.‬‬
‫الت�أويل والح�س الرقابي‪:‬‬
‫يوج�د ف�ي نفو��س الف�ضلاء‪،‬‬
‫الأمان�ة ماه�ي �إال ح� ٌ�س رقاب�ي‪َ ،‬‬
‫فيدفعه�م ه�ذا الح��س �إل�ى �أن يمار�س�وا عل�ى �أنف�س�هم رقاب�ة‬
‫داخلي�ة �صارم�ة‪ ،‬ومحا�س�بة م�س�تمرة‪.‬‬
‫وحت�ى ال تفق�د نفو�س�نا ه�ذا الح��س الرقاب�ي‪ ،‬ال ب�د م�ن‬
‫القي�ام ب�صيان�ة م�س�تمرة لقلوبن�ا ونوايان�ا‪ ،‬وقناعاتن�ا‪ .‬لأن�ه �إذا‬
‫تغي�رت قناعاتن�ا ودخل�ت عليه�ا الت�أويلات والتبري�رات‪ ،‬ف��إن ه�ذا‬
‫الح��س الرقاب�ي ي�ضع�ف ويق�ل ت�أثي�ره فت�ضع�ف فاعلي�ة ال�ضب�ط‬
‫الذات�ي‪ ،‬ويق�ل جه�د المحا�س�بة م�ن نفو�س�نا‪ ،‬فنقب�ل بتمري�ر م�ا‬
‫ال يتف�ق م�ع الف�ضيل�ة‪ ،‬لي��س لأنن�ا ل�س�نا �أمن�اء ولك�ن لأنن�ا م�ن‬
‫حي�ث ال ن�ش�عر‪ ،‬وربم�ا ب�س�بب ظ�روف وعوائ�ق (غي�ر قاه�رة)‬
‫وقعن�ا تح�ت ت�أثي�ر مب�ررات �أو ت�أويلات �ش�خ�صية �س� ّهلت عل�ى‬
‫‪79‬‬
‫ميثاق أهل القرآن‬

‫�ضمائرن�ا قب�ول الأداء الأق�ل �إتقا ًن�ا‪ ،‬وخ� ّدرت الح��س الرقاب�ي‬
‫ف�ي نفو�س�نا‪� ،‬أو قلل�ت م�ن فاعليت�ه‪.‬‬
‫�إن حمل�ة كت�اب اهلل‪ ،‬والمنت�س�بين ل�ه ملزم�ون بق�در �إ�ضاف�ي‬
‫م�ن الرقاب�ة الذاتي�ة‪ ،‬وال ي�س�عهم ف�ي ه�ذا م�ا ي�س�ع النا��س‪،‬‬
‫�إنه�م ف�ي حي�اة النا��س بمثاب�ة المث�ل العلي�ا والرم�وز النا�صع�ة‪،‬‬
‫والنم�وذج المحت�ذى ف�ي ال�س�لوك الظاه�ر والباط�ن‪ .‬ولي��س‬
‫كثي� ًرا �أن يك�ون واجبه�م �أكث�ر م�ن غيره�م م�ن مجاه�دة النف��س‬
‫للإح�س�ان‪ ،‬وا�س�تح�ضار رقاب�ة اهلل ونظ�ره له�م وعلم�ه بم�ا ف�ي‬
‫نفو �س�هم ‪.‬‬
‫نع�م ل�ن يك�ون حمل�ة الق�ر�آن وخدام�ه مالئك�ة وال �أنبي�اء‪ ،‬ب�ل‬
‫ه�م ب�ش�ر يعتريه�م م�ا يعت�ري الب�ش�ر‪ ،‬لك�ن طري�ق الق�ر�آن لي��س‬
‫طري�ق غث�اء‪ ،‬ب�ل طري�ق تمحي��ص‪ ،‬وتح ّم�ل‪ ،‬وم�س��ؤولية‪ ،‬وطري�ق‬
‫يق�ف ف�ي مقدمت�ه المالئك�ة والر�س�ل الك�رام‪ ،‬وله�ذا ف��إن روح‬
‫القدا�س�ة الت�ي ت�س�ري ف�ي ه�ذا الطري�ق تفر��ض عل�ى �س�الكيه‬
‫ق�د ًرا عال ًي�ا م�ن الطه�ر والنق�اء‪ .‬ال يتجاه�ل ب�ش�ريتهم لكن�ه ال‬
‫ي�س�مح بالدن��س بحج�ة تل�ك ال�س�مة الب�ش�رية‪.‬‬
‫ي�س�ر اهلل لن�ا طري�ق المجاه�دة‬ ‫ولأن الكم�ال مح�ال‪ ،‬فق�د ّ‬
‫وجعل�ه مقدم�ة لعون�ه وه�داه‪ ،‬ف��إذا غلبتن�ا نفو�س�نا ف��إن ب�اب‬
‫التوب�ة والمجاه�دة يكف�ل لل�صادقي�ن نهاي�ة تلي�ق ب�صدقه�م‬
‫وحر�صه�م عل�ى �أن ي��ؤدوا م�ا عليه�م �أداء المح�س�نين‪ .‬ق�ال اهلل‬

‫‪80‬‬
‫ميثاق أهل القرآن‬

‫تعال�ى‪( :‬ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ)(((‪.‬‬


‫فكلم�ا تفرقن�ا ف�ي دروب الحي�اة‪ ،‬وع�صف�ت بن�ا �أمواجه�ا‪،‬‬
‫فعلين�ا مراجع�ة ميث�اق الإح�س�ان �إتقا ًن�ا ومراقب�ة‪ ،‬ومجاه�دة‬
‫النف��س ف�ي البق�اء عل�ى عه�د اهلل وميثاق�ه‪ .‬فف�ي كل مج�ال م�ن‬
‫مج�االت الحي�اة يج�ب �أن يك�ون لحام�ل الق�ر�آن �ص�ورة م�ش�رقة‬
‫ونموذج�ا م�ش�اهدً ا للق�وي‬
‫ً‬ ‫م�ن الأداء ال�ذي يجعل�ه رم�زً ا ح ًّي�ا‬
‫ا لأمي�ن‪.‬‬
‫وكلما خبت في نفو�سنا تلك اللذة التي نجدها في التزامنا‬
‫بعهد القر�آن وميثاقه‪ ،‬هرعنا �إلى تالوته في هد�أة الليل لي�شفي‬
‫�صدورنا‪ ،‬ويجبر ك�سر نفو�سنا‪ ،‬ويعيد �إ�صالح قلوبنا‪ ،‬ويمنحنا قوة‬
‫جديدة نواجه بها �أمواج المتاعب ورياح الفتن‪.‬‬

‫((( �سورة العنكبوت‪� ،‬آية‪.69 :‬‬

‫‪81‬‬
82
‫ميثاق الأخوة‬
‫ال ُأخ ّوة رابطة وثيقة‪ ،‬و ّثقها القر�آن وق ّوى رابطتها بين عموم‬
‫الم�ؤمنين‪ ،‬وهي بين �أهل القر�آن �أكثر قوة‪ ،‬و�أقوى �آ�صرة‪.‬‬
‫فحين دخل جيل القر�آن الأول �إلى الإ�سالم دخلوا في اللحظة‬
‫نف�سها �إلى دائرة جامعة دمجت كل الدوائر وهيمنت على كل الروابط‪.‬‬
‫وحي�ن هاج�ر جي�ل الق�ر�آن الأول م�ن مك�ة �إل�ى المدين�ة‬
‫حدث�ت �أعظ�م عملي�ة ت�آخ�ي عرفه�ا التاري�خ‪ ،‬فق�د كان ين�زل‬
‫المهاج�ر عل�ى � ٍأخ ل�ه م�ن الأن�ص�ار في�ش�اركه بيت�ه وطعام�ه‬
‫و�ش�رابه ويتقا�س�مان الفر��ص والتحدي�ات كم�ا يتقا�س�مان اللقم�ة‪،‬‬
‫ق�ال اهلل تعال�ى‪( :‬ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ‬
‫ﯰ ﯱﯲﯳﯴ ﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼ‬
‫ﯽﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ)(((‪.‬‬
‫وال توجد �صورة للعالقة بين الم�ؤمنين غير �صورة الأخوة‬
‫(ﯜ ﯝ ﯞ)(((؛ فعالقة الم�ؤمنين هي عالقة �أخ ّوة وكل‬
‫التعامالت التي تحدث بينهم تحدث على �أر�ض الأخوة وقانونها‬
‫الذي �شرعه اهلل ‪ ‬وفيه تعالى قامت تلك الرابطة‪.‬‬
‫((( �سورة احل�شر‪� ،‬آية‪.9 :‬‬
‫((( �سورة احلجرات‪� ،‬آية‪.10 :‬‬

‫‪83‬‬
‫ميثاق أهل القرآن‬

‫حين تكون فر ًدا في مجتمع الإ�سالم ف�أنت �أخ ولك �إخوة‪� ،‬أنت‬
‫�أخ عليك واجب نحو �إخوتك‪�َ ،‬س ّنه الإ�سالم و�أوجبه عليك‪ ،‬كما‬
‫�أوجب على غيرك القيام بحق �أخ ّوتك‪.‬‬
‫فالأخ ّوة رابطة �شرعية‪ ،‬و�أ�صلها �أنها في اهلل‪ ،‬وهذا يعني �أن كل‬
‫وقياما‬
‫ما نبذله تحت �شعار الأخوة ال نبذله �إال لتحقيق مراد اهلل‪ً ،‬‬
‫بحق الإيمان به؛ �إذ ال يوجد قوة تمنح الأخوة كل هذه الرابطة‬
‫والميزة �سوى قوة الإيمان باهلل‪ ،‬ففيه الحب‪ ،‬وفيه البغ�ض‪ ،‬وفيه‬
‫تعالى الو�صل والقطع‪.‬‬
‫الأخوة ميدان قيام الدين‬
‫للأخوة جمال وجاذبية خا�صة في �سن ال�شباب‪ ،‬وهذه الهالة‬
‫والجاذبية والم�شاعر الجيا�شة التي تتولد للوهلة الأولى بين‬
‫ال�شباب‪ ،‬تجعلهم يظنون �أن هذه هي الأخوة التي يريدها ال�شرع‪،‬‬
‫ويحث عليها فقط‪ .‬والحقيقة �أن الأخوة ميثاق بين الم�ؤمنين‪ ،‬وهذا‬
‫الميثاق �إنما غ ّلظ ال�شرع فيه وعظم �ش�أنه لأن جميع �شعائر الدين‬
‫و�أخالق الإ�سالم ال ت�ستقيم وتظهر �إال به‪ .‬فقد روى �أبو الدرداء عن‬
‫ر�سول اهلل ﷺ �أنه قال‪�« :‬أال �أخبركم ب�أف�ضل من درجة ال�صيام‬
‫وال�صالة وال�صدقة قالوا بلى‪ ،‬قال‪� :‬صالح ذات البين‪ ،‬ف�إن ف�ساد‬
‫ذات البين هي الحالقة»(((‪ ،‬وروى الترمذي عنه ﷺ �أنه قال‪« :‬هي‬
‫الحالقة ال �أقول تحلق ال�شعر ولكن تحلق الدين»‪.‬‬
‫((( �صحيح �سنن �أبي داود‪.‬‬

‫‪84‬‬
‫ميثاق أهل القرآن‬

‫وعنه ﷺ‪« :‬من �أحب هلل‪ ،‬و�أبغ�ض هلل‪ ،‬و�أعطى هلل‪ ،‬ومنع‬
‫هلل‪ ،‬فقد ا�ستكمل الإيمان»(((؛ فالأخوة لي�ست خيا ًرا بقدر ماهي‬
‫�ضرورة �شرعية‪ ،‬لبقاء مجتمع الإ�سالم وقيام ال�شعائر فيهم‪ ،‬وما‬
‫ُع ّطلت ال�شعائر و ُق ّطعت الأرحام‪ ،‬وتنازع النا�س في الحق‪ ،‬وبغى‬
‫بع�ضهم على بع�ض‪� ،‬إال حين اعتمد النا�س روابط بديلة عن رابطة‬
‫الدين والإيمان‪ ،‬ففرقت النا�س وخالفت بين القلوب‪ ،‬فح ّول‬
‫و�سالحا‬
‫ً‬ ‫ال�سفهاء القر�آن وال�سنة و�سيلة لتقوية الخالف والتنازع‪،‬‬
‫للمقارعة والجدل‪ً ،‬‬
‫بدل من كونه رابطة تجتمع عليها القلوب‪.‬‬
‫�أخ ّوتنا في الميزان‬
‫م�ا �أجم�ل �ش�عارات وعب�ارات الأخ�وة لكنه�ا تنك�ش�ف عن�د‬
‫المح� ّكات ال�صعب�ة‪ .‬فحي�ن ي�دب الخلاف‪ ،‬وتتك�ون ف�ي النفو��س‬
‫ال�ضغائ�ن‪ ،‬ي�صب�ح حام�ل الق�ر�آن عل�ى المح�ك بي�ن االن�صي�اع‬
‫لن�داء الأخ� ّوة ال�ذي كثي� ًرا م�ا كان ي�ردد �أنه�ا �أخ� ّوة ف�ي اهلل‪،‬‬
‫وبي�ن ن�داء اله�وى وحظ�وظ النف��س‪ ،‬وال�ضغائ�ن‪.‬‬
‫ب�كل ب�س�اطة‪ :‬علين�ا �أال نغال�ط �أنف�س�نا‪ ،‬و�أن نواج�ه �ضمائرن�ا‬
‫بالحقيق�ة الت�ي ه�ي معي�ار ومي�زان لأخوتن�ا‪ .‬وذل�ك بط�رح ه�ذه‬
‫ا لأ�س�ئلة‪:‬‬
‫‪1.1‬هل �سلوكك (القلبي‪ ،‬واللفظي‪ ،‬والفعلي) يخ�ضع لقانون‬
‫تفا�ضل غير قانون التقوى؟‬
‫((( رواه �أبو داود‪.‬‬

‫‪85‬‬
‫ميثاق أهل القرآن‬

‫‪2.2‬هل لديك امتيازات اجتماعية تمنحها لنف�سك ال يق ّرها‬


‫القر�آن الكريم و�صحيح ال�سنة؟‬
‫‪3.3‬هل تجد �صعوبة في تقبل الخالف مع فئة من الم�ؤمنين‬
‫بينما تتقبله من غيرهم العتبارات �شخ�صية �أو نف�سية �أو‬
‫معايير غير �شرعية‪.‬‬
‫‪4.4‬حين تدع �شي ًئا مما تتوقع �أنه حق لك‪ ،‬و ُيقال لك دعه هلل‬
‫الذي فيه ت�آخينا‪ ،‬هل ت�شعر بالغبن؟‬
‫�إن معادل�ة الأخ�وة لي�س�ت معادل�ة بي�ن طرفي�ن هم�ا (�أن�ا‪،‬‬
‫و�أن�ت) ب�ل معادل�ة بي�ن كل من�ا وم�راد اهلل من�ه‪ .‬فالأخ�وة �أداء‪،‬‬
‫�أم�ا الج�زاء فن�س�توفيه م�ن ال�ذي في�ه ت�آخين�ا‪ ،‬ولأجل�ه نح�ب‬
‫ونبغ��ض‪ .‬ف�كل ح�ب وكل بغ��ض‪ ،‬يداخل�ه �ش�يء م�ن حظ�وظ النف��س‬
‫فلا ينبغ�ي �أن ن�صف�ه ب�أن�ه ح�ب ف�ي اهلل �أو بغ��ض ف�ي اهلل‪ ،‬فلي��س‬
‫م�ن البغ��ض ف�ي اهلل �أن نح�دد م�س�ب ًقا م�ن �س�وف نبغ�ضه�م‪ ،‬ث�م‬
‫ننتظ�ر لحظ�ة وقوعه�م ف�ي الخط��أ‪ ،‬فنتع ّل�ق بمب�د�أ الح�ب والبغ��ض‬
‫ف�ي اهلل لك�ي ن�ص ّ�ب م�ش�اعرنا ال�س�لبية م�ن خالله�ا‪ ،‬ونعتب�ر ذل�ك‬
‫(((‬
‫ً‬
‫بغ�ض�ا ف�ي اهلل!!‬
‫بح َملة القر�آن والعاملين على خدمته �أن‬
‫لي�س من الالئق َ‬
‫((( ت�سمع كثريا من يقول‪ :‬فالن �أنا �أبغ�ضه يف اهلل‪ ،‬لأنه فعل وفعل!! بينما هناك �آخرون‬
‫ً‬
‫مماثل �أو رمبا �أ�شد ومل ن�سمع �أحدً ا يقول �أبغ�ضه يف اهلل‪.‬‬ ‫يفعلون ً‬
‫فعل‬

‫‪86‬‬
‫ميثاق أهل القرآن‬

‫ي�ستمدوا ميزان �أخوتهم ومحبتهم من غير الوحي(((‪ ،‬الذي‬


‫وعرفوا به‪.‬‬
‫حفظوه‪ُ ،‬‬
‫الأخوة منزلة عظيمة‬
‫روى الإم�ام �أحم�د عن�ه ﷺ �أن�ه ق�ال‪« :‬وجب�ت محبت�ي‬
‫أي�ض�ا ب�س�ند �صحي�ح ق�ول اهلل ‪‬‬ ‫للمتحابي�ن ف ّ�ي»(((‪ ،‬وروي � ً‬
‫ف�ي الحدي�ث القد�س�ي‪« :‬حق�ت محبت�ي للمتحابي�ن ف ّ�ي‪ ،‬وحق�ت‬
‫محبت�ي للمتزاوري�ن ف�ي‪ ،‬وحق�ت محبت�ي للمتباذلي�ن ف ّ�ي‪، ،‬‬
‫وحق�ت محبت�ي للمتوا�صلي�ن ف َّ�ي»‪ ،‬وعن�ه ﷺ ق�ال‪« :‬م�ن �س�ره‬
‫�أن يج�د حلاوة الإيم�ان فليح�ب الم�رء ال يحب�ه �إال ف�ي اهلل»(((‪.‬‬
‫وع�ن عم�ر ب�ن الخط�اب عن�ه ﷺ �أن�ه ق�ال(((‪�« :‬إن م�ن عب�اد‬
‫اهلل عب�اد ًا يغبطه�م الأنبي�اء وال�ش�هداء»‪ ،‬قي�ل‪ :‬م�ن ه�م لعلن�ا‬
‫نحبه�م؟ ق�ال‪« :‬ه�م ق�وم تحاب�وا بن�ور اهلل م�ن غي�ر �أرح�ام‬
‫وال �أن�س�اب‪ ،‬وجوهه�م ن�ور عل�ى مناب�ر م�ن ن�ور‪ ،‬ال يخاف�ون �إذا‬
‫خ�اف النا��س‪ ،‬وال يحزن�ون �إذا ح�زن النا��س»‪ ،‬ث�م ق�ر�أ‪( :‬ﭑ‬
‫ﭒﭓ ﭔ ﭕ ﭖﭗﭘ ﭙ ﭚ)(((‪.‬‬
‫و�إذا كان للأخوة كل هذه الأهمية‪ ،‬وكل هذا الف�ضل فال‬
‫مي ّثل ذلك كل الوحي‪ ،‬كتابا و�سنة‪.‬‬ ‫(((‬
‫�صحيح رواه الإمام �أحمد‪.‬‬ ‫(((‬
‫ح�سن رواه احلاكم‪.‬‬ ‫(((‬
‫�صحيح �أبي داود‪.‬‬ ‫(((‬
‫�سورة يون�س‪� ،‬آية‪.٦٢ :‬‬ ‫(((‬

‫‪87‬‬
‫ميثاق أهل القرآن‬

‫ت�ستكثر ما تبذله فيها‪ ،‬وال تتح�سر على ما تفقده في �سبيل الإبقاء‬


‫عليها‪ .‬وعليك �أن ت�سعى ليكون لك �إخوة ال يربطك بهم غير ال�سعي‬
‫لتحقيق مراد اهلل‪ ،‬فلعلك تحظى بالأمن يوم يخاف النا�س‪.‬‬
‫مف�سدات الأخوة‪:‬‬
‫الأخ�وة رب�اط مقد��س وله�ذا يج�ب العناي�ة بنقائه�ا و�صفائه�ا‬
‫م�ن المف�س�دات مث�ل‪:‬‬
‫(ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ‬ ‫‪1.1‬ن�سيان عداوة �إبلي�س‪ :‬قال اهلل تعالى‪:‬‬
‫ﭳ ﭴﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ)(((؛ ُ‬
‫فجهد‬
‫�إبلي�س في �إف�ساد الأخوة كبير‪ ،‬لما يعلمه من ال�شر الذي‬
‫ينفتح على النا�س حين يفقدونها‪ .‬ولذلك ف�إن ن�سيان عدائه‬
‫يعني �أننا �سن�ستبدلها بعداوة بيننا‪ ،‬و�سنن�سى حر�صه على‬
‫�إف�ساد الأخوة و�سنخ�ضع لما تمليه علينا و�ساو�سه الخبيثة‪.‬‬
‫و�إذا �أردت �أن تتعامل مع � ْإخو ِتك في حال االختالف دون‬
‫التفريط في عرى الأخوة فا�س�أل نف�سك �س�ؤالين‪:‬‬
‫�أ‪ .‬ل�و خ�رج ال�ش�يطان م�ن ه�ذا الخلاف كي�ف �س�يكون‬
‫موق�ف �أخ�ي؟ وكي�ف �س��أجد م�ا ف�ي نف�س�ي نح�وه؟؛‬
‫ه�ذ ال�س��ؤال �س�يعينك عل�ى توجي�ه �ضغائن�ك �إل�ى‬
‫الع�دو الحقيق�ي وه�و �إبلي��س‪.‬‬
‫ب‪ .‬م�ا الأح�ب �إل�ى اهلل مم�ا �أفعل�ه �أو �أق�وم ب�ه؟ وم�اذا‬
‫((( �سورة فاطر‪� ،‬آية‪.6 :‬‬

‫‪88‬‬
‫ميثاق أهل القرآن‬

‫ل�و �س��ألت ر�س�ول اهلل ﷺ؟ فب�م �س�ين�صحني؟ ول�و �أن‬


‫�صحاب ًي�ا م�ن الع�ش�رة املب�ش�رين باجلن�ة يف م�كاين‬
‫وه�و �أف�ض�ل ق�د ًرا من�ي وحق�ه �أعظ�م م�ن حق�ي؛‬
‫كي�ف �س�يتعامل م�ع ه�ذا اخللاف؟‬
‫‪2.2‬مم�ا يف�س�د الأخ�وة طغي�ان قواني�ن الدني�ا‪ :‬وتح ّك�م‬
‫معاييره�ا ف�ي النف��س مث�ل معي�ار الغلب�ة والهزيم�ة �أو‬
‫الرب�ح والخ�س�ارة‪� ،‬أو الأف�ض�ل والأ�س�و�أ‪ ،‬لأن ه�ذه القواني�ن‬
‫ف�ي معايي�ر �أه�ل الدني�ا ال تتف�ق غال ًب�ا م�ع قواني�ن الأخ�وة‬
‫ربح�ا‪ ،‬والتق�وى‬
‫الت�ي تعتب�ر العف�و انت�ص�ا ًرا‪ ،‬والإيث�ار ً‬
‫خي�ر م�ن كل مي�زة �أخ�رى‪.‬‬
‫‪�3.3‬سوء الظن‪ :‬لأن �سوء الظن يجعل الإن�سان جاهزً ا ل�سوء‬
‫الفعل‪.‬‬
‫‪4.4‬الغيبة‪ :‬لأنها ت�ش ّوه �صورة الأخ عند �إخوانه‪.‬‬
‫‪5.5‬النميمة‪ :‬لأنها تنقل ال�سوء وتف�سد الظنون‪.‬‬
‫‪6.6‬التج�س�س‪ :‬لأنه يك�شف العورات‪ ،‬ويظهر العثرات‪.‬‬
‫الك ْبر‪ :‬لأنه يمنع قبول الحق‪ ،‬وي�ص ِّعب على النف�س تقبل �أخوة‬
‫‪ِ 7.7‬‬
‫ال�ضعفاء‪.‬‬
‫‪8.8‬كثرة المزاح‪ :‬لأنه يوغل ال�صدور وي�سقط االحترام‪ ،‬خا�صة‬
‫�إذا ت�ضمن �سخرية مبنية على عرق �أو جن�س‪� ،‬أو نق�ص‬
‫‪89‬‬
‫ميثاق أهل القرآن‬

‫‪9.9‬قل�ة التوا�ص�ي بالح�ق‪ :‬لأن�ه ُين�س�ي الآخ�رة و ُي�ضع�ف قي�م‬


‫الأخ�وة و�أخالقه�ا‪.‬‬
‫‪1010‬الع�زوف ع�ن تزكي�ة النف��س بالطاع�ات والمواع�ظ‪ :‬لأن‬
‫الع�زوف ع�ن المز ّكي�ات يجع�ل القل�وب قا�س�ية‪ ،‬والنفو��س‬
‫موح�ش�ة‪.‬‬

‫‪90‬‬
‫ميثاق ال�صرب‬
‫(ﭑﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖﭗ ﭘ ﭙ‬ ‫ق�ال اهلل تعال�ى‪:‬‬
‫ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ) (((‪.‬‬
‫ثبات الم�ؤمنين على �إيمانهم يحتاج �إلى‪:‬‬
‫•�شيوع الحق بالتوا�صي به حتى ُيع َلم‪ ،‬والنهي عن المنكر حتى‬
‫ال ي�شيع الباطل‪.‬‬
‫•ال�صبر على الحق‪ ،‬وما تتحمله النف�س في �سبيله‪ ،‬وال�صبر‬
‫عن مغريات الباطل وما تعانيه النفو�س في ر ّده ومعالجته‪.‬‬
‫ما يعتر�ض �أهل القر�آن في �سبيل قيامهم بحق هذا الكتاب‬
‫العظيم وما تاله من الحكمة؛ �أعظم مما يعتر�ض غيرهم من النا�س‪.‬‬
‫فهم يعانون حمل ر�سالتهم‪ ،‬وحمل �أعباء حياتهم‪ ،‬وحمل ما‬
‫يعتر�ضهم في الحياة من ظروف وعقبات و�أمرا�ض وفقر وغربة‬
‫ونحوها‪.‬‬
‫وال يمكن القيام بالم�س�ؤولية واال�ستمرار في حملها بكفاءة‪،‬‬
‫والثبات على طريق �أهل القر�آن من غير زاد تتقوى به النف�س‪،‬‬
‫كزاد ال�صبر‪.‬‬
‫((( �سورة الع�صر‪� ،‬آية‪.٣-١ :‬‬

‫‪91‬‬
‫ميثاق أهل القرآن‬

‫ال�صبر يا �إخوتي؛ قوة نف�سية وعملية‪ ،‬تمنحنا فر�صة �أطول‬


‫للبقاء على الميثاق حتى نبلغ نهاية الرحلة بعون اهلل‪.‬‬
‫ال�صبر قيمة ومهارة‪:‬‬
‫قيمة‪ :‬باعتبار ما فيه من مكونات �إيمانية مثل ح�سن الظن‬
‫باهلل و�صدق التوكل عليه‪ ،‬وما فيه من قناعات ت�ساعد على تغذية‬
‫النف�س بالمثبتات‪ ،‬وتعينها لتتلذذ بانتظار الفرج‪ ،‬فحين تدخل‬
‫اللذة في �شيئ فال معنى حينها لطول الزمن‪ ،‬فالم�ستمتع ال يح�س‬
‫بالزمن‪ ،‬وال يم ّل من االنتظار‪ .‬لأن الملل وال�ضجر وا�ستطالة‬
‫الزمن من �أقوى �أ�سباب تفتيت ال�صمود‪.‬‬
‫ومهارة‪ :‬باعتبار ما يلزم له من قوة �شخ�صية‪ ،‬وتحكم في‬
‫الرغبات واالنفعاالت‪ ،‬و�ضبط لأحاديث النف�س (الداخلية) التي‬
‫تجه�ض ر�صيد ال�صبر‪ ،‬ثم باعتبار ما فيه من تدابير �إجرائية‬
‫ت�ساعد على تقليل حجم المعاناة‪.‬‬
‫التوا�صي بالحق وال�صبر‪:‬‬
‫التوا�صي بال�صبر له قوة فاعلة في الثبات على الحق‪ ،‬وما ذكره‬
‫اهلل ‪ ‬في �سياق بيان عدم الخ�سران في �سورة الع�صر‬
‫�إال لما فيه من قوة عجيبة في تما�سك الجماعة الم�ؤمنة وتما�سك‬
‫نفو�س �أفرادها‪.‬‬
‫التوا�صي هو �أن ي�شيع بين �أهل القر�آن التذكير بما يزيد من‬
‫تعلق النفو�س بمبادئها ويعلقها بموعود ربها ومن ذلك‪:‬‬
‫‪92‬‬
‫ميثاق أهل القرآن‬

‫‪�1.1‬إ�شاعة �أخبار الر�سل الكرام و�أتباعهم من ال�صابرين‪،‬‬


‫لأن ذلك ي�صنع في الأذهان نماذج وقدوات تحيي �سنة‬
‫االقتداء‪ ،‬وت�صنع لذة ملهمة تقاوم �آالم وم�شقة الطريق‪.‬‬
‫‪2.2‬التذكي�ر باالنتم�اء للأم�ة الكب�رى من�ذ �آدم حت�ى مبع�ث‬
‫النب�ي محم�د ﷺ وم�ن تبع�ه ب�إح�س�ان (ﭝ ﭞﭟ‬
‫ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ)(((؛ لأن ه�ذا يخف�ف‬
‫الغرب�ة‪ ،‬وال�ش�عور بالقل�ة �أم�ام كث�رة الباط�ل‪.‬‬
‫‪3.3‬احياء معاني انتظار الغيب وما وعد اهلل به من �آمن به‬
‫و�ص َبر في انتظاره موق ًنا به‪ ،‬لأن هذا ُيحيل نظر العبد من‬
‫َ‬
‫(((‬
‫ت�أمل �سوء واقعه �إلى ت�أمل ح�سن ما ينتظره‪ ،‬فيت�سلى‬
‫ويتقوى به حتى يقطع مراحل الخطر‪ ،‬ويتجاوزها‪.‬‬
‫‪4.4‬التذكير بما وعد به النبي ﷺ �صحابته‪ ،‬جزاء �صربهم‬
‫وقبولهم بالواقع الذي فيه �أ َثرة عليهم‪�« :‬إنكم �ستلقون‬
‫بعدي �أ َثرة فا�صربوا حتى تلقوين على احلو�ض»(((‪ ،‬وهذا‬
‫يحرك احلنني للقياه ﷺ‪ .‬فال تلتفت النفو�س للوراء‪.‬‬
‫‪�5.5‬إحي�اء االعت�زاز ب�ش�عائر الدي�ن و�ش�رف َحم�ل الق�ر�آن(((‪.‬‬
‫((( �سورة الأنبياء‪� ،‬آية‪.92 :‬‬
‫((( الإميان بالغيب ت�سلية مبعنى موا�ساة وبل�سم للروح لأنه حق ‪ ...‬الخ حق ن�ؤمن به ويف‬
‫هذا الإميان موا�ساة للنفو�س وعزمية لها‪.‬‬
‫((( متفق عليه‪.‬‬
‫((( �سبق بيانه يف ميثاق ال�شرف‪.‬‬

‫‪93‬‬
‫ميثاق أهل القرآن‬

‫ف�كل تراج ٍ�ع ُيحدث�ه الإن�س�ان ع�ن �أي مب�د�أ ف��إن م�ن �أب�رز‬
‫�أ�س�بابه انخفا��ض ال�ش�عور بالتمي�ز بذل�ك املب�د�أ‪ .‬فمت�ى‬
‫م�ا ب�د�أ �ش�عور اخلج�ل �أو النق��ص يرتب�ط بامتث�ال قي�م‬
‫الق�ر�آن‪ ،‬ف��إن االعت�زاز يب�د�أ يف النق��ص تب ًع�ا لذل�ك‪،‬‬
‫ويب�د�أ الإن�س�ان ال�ذي نق��ص اعت�زازه باحل�ق يف البح�ث‬
‫ع�ن �أفع�ال (مرتاخي�ة) ُيل ّم�ع به�ا نف�س�ه عن�د م�ن ي�رى‬
‫�أنه�م ينتق�صون�ه‪ ،‬ليتقبل�وه‪ ،‬ث�م ال ي�زال كذل�ك حت�ى‬
‫ي�صع�ب علي�ه ال�صبر عل�ى مبادئ�ه‪ .‬ورمب�ا ان�س�لخ م�ن‬
‫خير كثير �أو ابتل�ي بالنف�اق وه�و ال ي�ش�عر‪.‬‬
‫‪6.6‬التوا�ص�ي بطل�ب اله�دى م�ن اهلل‪ .‬فف�ي احلدي�ث القد�س�ي‬
‫يق�ول اهلل ‪« :‬ي�ا عب�ادي كلك�م �ض ّ‬
‫�ال �إال م�ن هديت�ه‪،‬‬
‫فا�س�تهدوين �أهدك�م»(((؛ فطل�ب الهداي�ة م�ن اهلل يق�وي‬
‫ال�ش�عور باالفتق�ار �إلي�ه‪ ،‬ويلغ�ي ال ُعج�ب‪ ،‬وومين�ع االعت�داد‬
‫بالنف��س حين ي�رى �أن�ه عل�ى ه�دى وغيره عل�ى �ضلال‪،‬‬
‫و�صبرا عل�ى احل�ق‪.‬‬
‫ً‬ ‫فطال�ب الهداي�ة م�ن اهلل �أكثر ثبا ًت�ا‬
‫‪7.7‬التذكري مبا يعزّز ح�سن الظن باهلل‪ ،‬وواليته لل�صاحلني‪.‬‬
‫فما حتمل ال�صابرون ما هم فيه من عناء و�شدة مبثل‬
‫ا�ستح�ضارهم مع ّية اهلل وقربه وواليته لهم‪ ،‬في�سعون‬
‫بذلك �إلى زيادة الإميان‪ ،‬والإح�سان ليحظوا بالوالية‬
‫والعناية والكفالة‪ .‬وكذلك ف�إن ا�ست�شعار الكفالة يلغي‬
‫((( رواه م�سلم‪.‬‬

‫‪94‬‬
‫ميثاق أهل القرآن‬

‫و�ساو�س النف�س‪ ،‬و�إرجاف ال�شيطان وحزبه‪ ،‬فال يهتز‬


‫�صرب ال�صابرين‪.‬‬
‫‪8.8‬التذكير مبن�ازل العبودي�ة وم�ن �أبرزه�ا‪ :‬التوحي�د والت�وكل‬
‫عل�ى اهلل والتفوي��ض‪ ،‬والتوب�ة(((‪ ،‬وه�ذه املن�ازل تقط�ع‬
‫الطري�ق عل�ى خواط�ر ال�س�وء‪ ،‬الت�ي ُتنه�ك الذه�ن بكرثته�ا‪،‬‬
‫والقل�ب مب�ا فيه�ا م�ن الت�ش�كيك‪ ،‬وكلم�ا عظ�م ت�وكل حام�ل‬
‫الق�ر�آن كلم�ا ه�ان علي�ه م�ا يخ�ش�اه‪.‬‬
‫‪9.9‬زي�ادة الوع�ي بحقيق�ة الدني�ا‪ ،‬وم�ا ت�ضخ�ه م�س�تجداتها‬
‫م�ن فتن‪ ،‬وتعزي�ز م�ا يتعل�ق بالإمي�ان بالي�وم الآخ�ر‬
‫ومقت�ضيات�ه‪ .‬فلا يوج�د يف ثقاف�ة الفن�اء والغ�رور م�ا‬
‫يغ�ذي ال�صبر كم�ا تغذي�ه الآخ�رة بثقاف�ة البق�اء وح�س�ن‬
‫املنقل�ب‪ ،‬فال�صبر يكت�س�ب قيمت�ه م�ن جم�ال نهايت�ه‪،‬‬
‫والآخ�رة ه�ي موع�د املج�ازاة الكامل�ة‪( .‬ق�ال ال�س�حرة‬
‫لفرع�ون �إذ توعده�م بقط�ع الأي�دي والأرج�ل م�ن خلاف‪،‬‬
‫وال�صل�ب‪( :‬ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ)(((‪ ،‬يعن�ي باالنقلاب �إل�ى‬
‫اهلل‪ ،‬الرج�وع �إلي�ه وامل�صير)(((‪.‬‬
‫‪�1010‬إ�شاعة كل ما يحيي ال�شعور بالأمل‪ ،‬ويزيد اليقني‪ ،‬ومينع‬
‫((( تُلخ�ص هذه املنازل من كتاب مدارج ال�سالكني �أو خمت�صراته مثل كتاب الإك�سري‪،‬‬
‫املطبوع �أو ال�صوتي‪.‬‬
‫((( �سورة الأعراف‪� ،‬آية‪.125 :‬‬
‫((( تف�سري الطربي‪.‬‬

‫‪95‬‬
‫ميثاق أهل القرآن‬

‫الي�أ�س‪ ،‬والت�شا�ؤم‪ ،‬فالأمل يجعل الذهن يركز على روعة‬


‫امل�أمول وين�صرف عن تركيز ال�شعور مبرارة الواقع‪ ،‬كما‬
‫�أن الأمل ُيربز نهاية الأمل فال تغيب عن الذهن‪ ،‬ومهمة‬
‫�إبلي�س دائ ًم�أ هي حماولة عك�س هذه املعادلة‪ .‬فيعمل على‬
‫ما ير ّكز ذهن العبد على مرارة الواقع‪ ،‬ويلغي من ذهنه‬
‫�إمكانية النهاية‪ ،‬و�إ�شعاره ب�أنه يف ورطة ليقبل بعد ذلك‬
‫بقيادة �إبلي�س له لينقذه‪ ،‬ولي�س له مبنقذ‪.‬‬
‫‪1111‬االهتمام مبواعظ التزكية التي تُعني القلوب على قبول‬
‫احلق والتلذذ به‪ .‬فتزكية النف�س باخل�شية والرجاء‪،‬‬
‫واملحبة‪ ،‬تُ�س ّهل علينا االنتفاع مبا نتوا�صى به من حق و�صرب‪.‬‬
‫‪1212‬التوا�ص�ي ب�إقام�ة ال�صلاة فه�ي م�ن العوا�ص�م الت�ي تزي�د‬
‫م�ن �صبر امل�ؤم�ن يف مواجه�ة القوا�صم‪.‬لأنه�ا مع�راج‬
‫القل�وب �إل�ى ربه�ا(((‪ ،‬وه�ي و�صي�ة اهلل ‪ ‬لر�س�وله‬
‫ف�ي الكرب�ات‪ .‬ق�ال اهلل تعال�ى‪( :‬ﮰ ﮱ ﯓﯔ‬
‫ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ)(((‪.‬‬
‫(ﯱ ﯲ ﯳ‬ ‫‪�1313‬إ�ش�اعة التق�وى لأن�ه مم�ا يي�س�ر ال�دروب‬
‫ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ)(((‪ ،‬ويف� ّرج الك�روب (ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ‬

‫((( يراجع هذا املعنى يف كتاب (ح�سبنا اهلل) للم�ؤلف‪.‬‬


‫((( �سورة البقرة‪� ،‬آية‪.45 :‬‬
‫((( �سورة الطالق‪� ،‬آية‪.4 :‬‬

‫‪96‬‬
‫ميثاق أهل القرآن‬

‫(ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ‬ ‫ﮟ)(((‪ ،‬ويك ّف�ر الذن�وب‬


‫ﰇ ﰈ)(((‪.‬‬
‫وم�ا تراخ�ى بع��ض �أه�ل الإيم�ان‪ ،‬وتراج�ع بع��ض �أه�ل الوف�اء‬
‫�إال حي�ن �ضع�ف التوا�ص�ي‪ ،‬وق�ل التنا�ص�ح‪� ،‬إن جه�د �إبلي��س عل�ى‬
‫�أه�ل الق�ر�آن �أعظ�م م�ن جه�ده عل�ى غيره�م‪ ،‬ل�ذا وج�ب �أن‬
‫يك�ون التنا�ص�ح والتوا�ص�ي والتثبي�ت م�ش�اع ًا بينه�م حت�ى تق�وى‬
‫النفو��س وت�س�تيقظ الهم�م‪ ،‬وتتفط�ن الأذه�ان‪ ،‬وتبط�ل و�ساو��س‬
‫�إبلي��س وت�أويلات جن�د �إبلي��س‪.‬‬
‫يا حامل القر�آن ال تغلق عن قلبك باب �سماع الموعظة‪ ،‬وال‬
‫تحرم نف�سك مما يزكيها‪ ،‬وال تجفوا من ينا�صحك‪ ،‬وال تنفرد‬
‫نف�سك �صوت النا�صحين‬ ‫قاومت ُ‬‫بالر�أي في مواجهة الفتن‪ .‬وكلما َ‬
‫ف� ّأطرها بال�صبر‪ ،‬واعلم �أن �إغالق باب الن�صيحة يعني فتح باب‬
‫الو�سو�سة‪ ،‬والخيار لك‪ .‬ف�إما �أن ت�سمع الذكرى وعهد اهلل (ولقد‬
‫عهدنا �إلى �آدم) �أو ت�سمع الإغراء (فدالهما بغرور) واعلم �أن‬
‫�إبلي�س عدو الإن�سان منذ اللحظة الأولى وال زال‪ .‬ف�أقبل على التوبة‬
‫(فتلقى �آدم من ربه كلمات) وا�ستمع لكالم الرب وعهده لك‪،‬‬
‫ولمن ُيذ ّكرونك بكالم ربك‪ .‬لعلك تحظى بـ (فتاب عليه �إنه هو‬
‫التواب الرحيم)‪.‬‬
‫((( �سورة الطالق‪� ،‬آية‪.2 :‬‬
‫((( �سورة الطالق‪� ،‬آية‪.5 :‬‬

‫‪97‬‬
‫ميثاق أهل القرآن‬

‫ال�صبر ُعدّة للثبات و ُعدّة للأزمات‬


‫ً‬
‫وجميل‪ ،‬فهو �إيمان‪ ،‬وانتظار‪،‬‬ ‫ال�صبر له مكونات تجعله قو ًيا‬
‫ومعالجة‪:‬‬
‫‪�1.1‬إيمان‪ :‬بمعنى ال�صبر باهلل وهلل ومع اهلل(((‪.‬‬
‫•باهلل‪� :‬أي �أن المبتلى ي�س�أل اهلل �أن يفرغ عليه �صب ًرا‪ ،‬و�أن‬
‫يعينه على ح�سن القول والعمل فيما ابتلي به‪ ،‬ويعلم يقي ًنا‬
‫�أنه بال عون اهلل له فلن ي�ستطيع ال�صبر‪ ،‬و�سيفقد قدرته‬
‫على التحمل‪ ،‬وقدرته على انتظار الفرج‪ ،‬و�ستحيط به‬
‫الظنون حتى تخرجه عن �صبره‪ ،‬وتحمله �إلى الحماقات‬
‫والفتن‪ ،‬و�سوء الت�صرف‪ .‬قال اهلل تعالى لنبيه ﷺ‪( :‬ﯯ‬
‫ﯰ ﯱ ﯲ ﯳﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ‬
‫ﯽ)(((‪.‬‬
‫•هلل‪� :‬أي �أنه ي�صبر محبة هلل‪ ،‬وي�صبر لأن ال�صبر عند اهلل‬
‫محمود ومحبوب‪ ،‬ويريد �أن ُي ِر َي اهلل من نف�سه خي ًرا‪،‬‬
‫فتجد المبتلى قد ر�ضي عن اهلل حين ابتاله وا�ستعان به في‬
‫بلواه واجتهد في تلم�س كل و�سائل ال�صبر‪ ،‬لأن اهلل يحب‬
‫ال�صابرين‪ .‬وهذه النية تمنح المبتلى لذة في �صبره وت�سلية‬
‫في م�صيبته‪.‬‬
‫((( تقريب مدارج ال�سالكني منزلة ال�صرب بت�صرف‪.‬‬
‫((( �سورة النحل‪� ،‬آية‪.١٢٧ :‬‬

‫‪98‬‬
‫ميثاق أهل القرآن‬

‫•مع اهلل‪ :‬يعني خالل مدة �صبره ف�إن المبتلى دائ ًما ي�س�أل نف�سه‬
‫ما هو مراد اهلل مني حين ابتالني؟ وما مراده مني �أثناء مدة‬
‫االبتالء‪ ،‬وما مراده مني بعد انك�شاف البالء‪ ،‬ففي كل مرحلة‬
‫من مراحل �أزمته؛ يراقب �شرع اهلل ويفعل ما ير�ضيه‪ ،‬وكلما‬
‫خطر بباله طريقة ليتخل�ص بها من البالء‪ ،‬عر�ضها على قلبه‬
‫هل يليق هذا بحال ال�صابرين؟ وهل يريد اهلل مني غير ذلك؟‬
‫‪2.2‬انتظار‪ :‬يعني ق�ضاء مدة يف البالء يف انتظار الفرج‪.‬‬
‫وال يمكن لأي �إن�سان تحمل �ضغط الأزمة وثقل البالء مدة‬
‫طويلة مالم يكن له في ثنايا الأزمة عمل مع اهلل يجدد به‬
‫حياة قلبه وي�شعر فيه بالتقدم‪ ،‬وين�سيه طول االنتظار‪ ،‬وخير‬
‫ما يرزقه اهلل المبتلى حتى ال ي�ستبطئ الفرج هو الثقة في‬
‫وعد اهلل‪ ،‬و�أن يفتح له في العبادات‪ ،‬والذكر‪ ،‬وترتيل القر�آن‪،‬‬
‫وكلما عر�ضت على المبتلى حالة تفقده �صبره وتجعله‬
‫ي�ستعجل النهاية فما عليه �سوى قراءة �سير الر�سل والأنبياء‬
‫وما ح�صل لهم من ابتالءات ثم يت�أمل كيف ا�ستجاب اهلل‬
‫لهم‪ ،‬ون�صرهم‪.‬‬
‫‪3.3‬معاجلة‪ :‬يعني �أنه كلما عر�ضت على القلب فكرة ت�ضعف‬
‫ال�صرب‪ ،‬قابلها املبتلى بفكرة تنق�ضها‪ ،‬و ُتبطل ت�أثريها على‬
‫النف�س‪ .‬واملعاجلة تكون على م�ستويني (م�ستوى الأفكار‬
‫واخلواطر وم�ستوى العادات والرغبات)‪:‬‬
‫‪99‬‬
‫ميثاق أهل القرآن‬

‫�أ‪ .‬معاجلة الأفكار واخلواطر‪:‬‬


‫لأن الذين يعانون من كربة‪� ،‬أو �أزمة؛ ينهال على عقولهم‬
‫�سيل من الأفكار‪ ،‬فم ّرة �أفكار فيها تخويف‪� ،‬أو �إرجاف‬
‫للقلب‪ ،‬ومرة فيها تذكير بموا�ضع الألم والحزن‪ ،‬ومرة‬
‫ت�شكيك في عاقبة ال�صبر‪ ،‬ومرة خواطر مدمرة تدعو‬
‫المبتلى لفعل ما ال تحمد عقباه‪ ،‬حتى ين�سى حزنه‬
‫وم�شكلته مثل تناول الم�سكرات‪� ،‬أو البيوع المحرمة‪� ،‬أو‬
‫قبول الك�سب الحرام‪� ،‬أو ال�سحر‪� ،‬أو الخيانة‪ ،‬حتى ي�سرع‬
‫بالتخل�ص من معاناته‪ .‬وفي هذه الحالة ف�إن �أنجع عالج‬
‫هو كثرة الذكر‪ ،‬وكثرة �س�ؤال اهلل الهدى‪ ،‬واالعت�صام‬
‫بال�صالة‪ ،‬وكثرة الدعاء بالتوفيق‪ ،‬ومحاولة الإجابة‬
‫على �أية فكرة �سلبية‪ ،‬فيقوم المبتلى بينه وبين نف�سه‬
‫بر ّد �أي �شيء يقلل من ثقته بربه‪ .‬ومراجعة المث ّبتتات‪،‬‬
‫والمب�شرات‪ ،‬و�آيات ال�سكينة‪.‬‬
‫ب‪ .‬معالجة العادات‪:‬‬
‫يعني معالجة الرغبات التي تُ�ضعف الإرادة‪ .‬ومعناه‬
‫�أن المبتلى عليه �أن يقاوم رغبات نف�سه‪ ،‬حتى يكت�سب‬
‫قوة �شخ�صية ي�ستطيع بها اكت�ساب (لياقة نف�سية)‬
‫في�ستطيع تحمل الحرمان‪ ،‬وي�ستطيع تحمل الآالم‪.‬‬
‫و�أكثر النا�س ً‬
‫تحمل لطول المعاناة‪ ،‬هم الذين كانوا‬

‫‪100‬‬
‫ميثاق أهل القرآن‬

‫�أكثر جدية في معاملة �أنف�سهم �إذا ُرزقوا الثقة باهلل‪.‬‬


‫وحول هذا المعنى يقول بن القيم ‪“ :‬وقد تقدم‬
‫�أن ال�صبر م�صارعة باعث العقل والدين لباعث الهوى‬
‫والنف�س وكل مت�صارعين �أراد �أن يتغلب �أحدهما على‬
‫الآخر‪ ،‬فالطريق فيه تقوية من �أراد �أن تكون الغلبة له‬
‫وي�ضعف الآخر”(((‪.‬‬

‫((( ابن القيم‪ ،‬عدة ال�صابرين‪.‬‬

‫‪101‬‬
102
‫ميثاق ال�شكر‬
‫ال�ش�كر ه�و عم�ل ف�ي مقاب�ل نعم�ة‪ .‬ومعن�اه �أن الإن�س�ان �إذا‬
‫�أُ�س�دي ل�ه مع�روف ف�إن�ه يظ�ل مدي ًن�ا بالف�ض�ل‪ ،‬ف��إذا ق�ام بعم�ل‬
‫ي�رد ب�ه ذل�ك الف�ض�ل �أو ج�ز ًءا من�ه ُ�س� ّمي �ش�كر ًا‪.‬‬
‫عمل ليو ّفي حق ًا وجب عليه بالنعمة(((‪.‬‬ ‫فال�شاكر يعمل ً‬
‫فما �س ّر ال�شكر في قوة الميثاق؟‬
‫ال�ش�كر نتيج�ة لمقدم�ة تب�د�أ ف�ي الذه�ن وتن�ض�ج ف�ي النف��س‬
‫الوفي�ة‪ ،‬و ُتثم�ر ً‬
‫عملا‪:‬‬
‫تبد�أ في الذهن‪ :‬يعني �أنه بمجرد ما يتعر�ض الإن�سان لنعمة من‬
‫المنعم ‪� ‬أو ف�ضل منه ‪ ،‬ف�إن ذهنه مبا�شرة يتجه‬
‫للتفكير في حق هذا المنعم‪ ،‬وما هو العمل المنا�سب لمقابلة هذا‬
‫الف�ضل‪ .‬فال�شاكرون �أول ما يوفقون �إليه هو مالحظة حق المنعم‬
‫قبل التفكير في التنعم بالنعمة‪.‬‬
‫تن�ضج في النف�س الوفية‪ :‬يعني �أن النف�س التي من طبيعتها‬
‫المروءة‪ ،‬ت�شعر بالمنة والإدانة ل�صاحب الف�ضل‪ ،‬وترى �أنها مقيدة‬
‫حمل ً‬
‫ثقيل يحتاج لعزيمة على الوفاء به‪،‬‬ ‫بهذا الف�ضل‪ ،‬ومحملة به ً‬

‫ترا�ض‪.‬‬
‫بو�ضع �أو ٍ‬
‫ملزم‪ٍ ،‬‬
‫((( والوفاء قريب منه �إال �أنه يكون يف القيام بحق وجب مبيثاقٍ ٍ‬
‫‪103‬‬
‫ميثاق أهل القرآن‬

‫فتتولد �إرادة وا�ستعداد نف�سي للوفاء‪ ،‬حتى �أنها ال تحتاج لمحفز‬


‫لذلك �سوى انتظار الفر�صة‪.‬‬
‫عمل‪ :‬يعني �أن الإن�سان ال يزال يبحث عن فعل يعبر به عن‬‫تثمر ً‬
‫رده للجميل‪ ،‬و�إذا كان هذا الجميل �أكبر من �أن ي�ستطيع �إن�سان رده‬
‫بالمثل ف�إنه يبحث عما يح ّبه المنعم فيقوم به كتعبير عن ال�شكر له‪.‬‬
‫وال�شكل التالي يو�ضح هذه المعادلة‪:‬‬

‫فبي�ن المن ِع�م وبي�ن المن َع�م علي�ه ميث�اق وف�اء بالد َي�ن‪ ،‬ال‬
‫تف�ي ب�ه �إال نفو��س ال�ش�اكرين‪.‬‬
‫و�إذا علمت �أن ن�سيان الف�ضل يعني ترك العمل وفق مراد‬
‫المتف�ضل‪ ،‬و�أن �إنكار الم ّنة يعني اال�ستعداد للجحود الذي هو كفر‬
‫النعمة فلك �أن تتخيل مدى ال�سوء الذي ي�ضمره �إبلي�س للإن�سان حين‬
‫يتوعده بحرمانه من �أن يكون من ال�شاكرين‪ .‬قال اهلل ‪ ‬يحكي‬
‫جواب �إبلي�س‪( :‬ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏﮐ‬
‫ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ)(((‪.‬‬
‫((( �سورة الأعراف‪� ،‬آية‪.17 :‬‬

‫‪104‬‬
‫ميثاق أهل القرآن‬

‫رب‪� ،‬أكثر بني �آدم �شاكرين لك نعمتك التي‬


‫ومعناه‪( :‬وال تجد‪ِ ،‬‬
‫�أنعمت عليهم‪َ ،‬ك َت ْك ِر َم ِت َك �أباهم �آدم بما �أكرمته به‪ ،‬من �إ�سجادك‬
‫علي)((( وبالتالي ال يقومون بواجب‬
‫له المالئكة‪ ،‬وتف�ضيلك �إياه ّ‬
‫ال�شكر من التوحيد والطاعة‪.‬‬
‫�إن ال�شيطان في موقفه ال�سيء هذا يعلن طريقته في تحقيق‬
‫غايته التي قال عنها‪( :‬ﰖ ﰗ ﰘ ﰙﰚ ﰛ ﰜ ﰝ‬
‫ﰞ)(((‪ ,‬وهذه الطريقة هي تزيين الباطل ومنع النفو�س‬
‫من ر�ؤية ومالحظة النعم وتغييب حق المنعم عن الأذهان‪ ،‬فيكونون‬
‫للجحود �أقرب منهم �إلى ال�شكر‪ .‬وهل ال�شكر �إال التوحيد والطاعة‪.‬‬
‫ومن َع ِلم �أن نعم اهلل عليه �سابغة وت�أمل ف�ضل اهلل عليه بتعليمه‬
‫كتابه الكريم‪ ،‬وجب عليه �أن يفي بميثاق ال�شكر لمواله الذي علمه‬
‫وهداه‪ ،‬قال اهلل تعالى‪( :‬ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ‬
‫ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱﯲ ﯳ ﯴ ﯵ‬
‫ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ)(((‪.‬‬
‫من فوائد ال�شكر‪:‬‬
‫‪1.1‬من ت�أمل النعم وتحرى ر�ؤية ف�ضل اهلل عليه و�شغل ذهنه بما‬
‫يجب عليه تجاه ما �أنعم اهلل به‪ ،‬ف�إن ثباته على الخير و�صبره‬
‫((( تف�سري الطربي‪.‬‬
‫((( �سورة �ص‪� ،‬آية‪.83- 82 :‬‬
‫((( �سورة الن�ساء‪� ،‬آية‪.113 :‬‬

‫‪105‬‬
‫ميثاق أهل القرآن‬

‫تعظم‬‫�سهل‪ ،‬لأن عقلية ال�شكر ِّ‬‫عليه‪ ،‬وتحمله للم�شاق يكون ً‬


‫ال ِن َعم وته ّون ال ِن َقم‪.‬‬
‫�سهل على النف�س‪ ،‬ويجعل العمل �أكرث‬ ‫‪2.2‬ال�شكر يجعل التكليف ً‬
‫ل ّذة‪ ،‬لأن الذي ي�شعر باملنة و�أنه مدان بالف�ضل يكون متحفزا‬
‫وم�ستعدً ا ذهن ًيا ونف�س ًيا ليبا�شر �أي عمل ير ّد فيه اجلميل �أو‬
‫يعب به عن امتنانه و�شكره ملن �أح�سن �إليه(((‪.‬‬ ‫ِّ‬
‫‪3.3‬عقلي�ة ال�ش�كر متن�ح �صاحبه�ا فر�ص�ة الإكث�ار م�ن �أعم�ال‬
‫ال�ش�اكرين (ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ)(((‪.‬‬
‫‪4.4‬ال�سالمة من �أثار امل�صائب‪ ،‬وما يقع حلامل القر�آن من‬
‫عقبات �أو مظامل �أو �أمرا�ض‪ .‬فت�ساعده نف�سه الوفية‪ ،‬وذهنه‬
‫الذي يالحظ النعم على ح�سن الظن باهلل‪ ،‬وعدم ازدراء‬
‫نعمه ‪ ،‬فال يقع له من احلزن ما يقع للمت�سخطني‪،‬‬
‫ومهما فاته من دنياه ال يزال يرى �أنها ال ترقى لي�ساويها بنعمة‬
‫الهدى والعلم‪ ،‬وبقية نعم اهلل التي ال حت�صى‪.‬‬
‫‪5.5‬ح�ص�ول الزي�ادة م�ن النع�م الظاه�رة والباطن�ة‪ ،‬العاجل�ة‬
‫والآجل�ة (ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ)(((‪.‬‬

‫((( ن�سمع كث ًريا من يقول‪ :‬متى ت�أتي الفر�صة التي �أ�ستطيع فيها رد بع�ض اجلميل‬
‫لفالن‪ .‬وهذا يو�ضح ا�ستعداده لل�شكر ومتعته بالقيام به‪.‬‬
‫((( �سورة �سب�أ‪� ،‬آية‪.13 :‬‬
‫((( �سورة �إبراهيم‪� ،‬آية‪.7 :‬‬

‫‪106‬‬
‫ميثاق اجلماعة‬
‫جيل القر�آن الأول بد�أوا م�سيرتهم مع ر�سول اهلل تعالى بعد‬
‫الإيمان به بال�سمع والطاعة‪ ،‬ومبايعته على ذلك في الموا�ضع التي‬
‫�أثبتتها ال�سيرة‪.‬‬
‫ثم ال يزال القر�آن الكريم و�سنة ر�سول اهلل ﷺ تحثّ على لزوم‬
‫الجماعة وتحذر من الفرقة‪ ،‬و�شق ع�صا الطاعة‪ :‬قال اهلل تعالى‪:‬‬
‫(ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ)(((‪ ،‬وقوله ‪( :‬ﭹ‬
‫ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ‬
‫ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ)(((‪ ،‬وقال تعالى �أي�ضا‪( :‬ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ‬
‫ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ‬
‫ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ)(((‪.‬‬
‫وفي �إي�ضاح ف�ضل الجماعة قال ﷺ‪« :‬من �أراد بحبوحة‬
‫الجنة فليلزم الجماعة ف�إن ال�شيطان مع الواحد وهو من االثنين‬
‫�أبعد»(((‪ ،‬وفي بيان خطر مفارقة الجماعة قال ‪:‬‬
‫«و�أنا �آمركم بخم�س اهلل �أمرني بهن‪ :‬ال�سمع والطاعة والجهاد‬
‫�سورة �آل عمران‪� ،‬آية‪.١٠٣ :‬‬ ‫(((‬
‫�سورة الأنعام‪� ،‬آية‪.١٥٩ :‬‬ ‫(((‬
‫�سورة الن�ساء‪� ،‬آية‪.٥٩ :‬‬ ‫(((‬
‫�صحيح �سنن الرتمذي‪.‬‬ ‫(((‬

‫‪107‬‬
‫ميثاق أهل القرآن‬

‫والهجرة والجماعة ف�إنه من فارق الجماعة قيد �شبر فقد خلع‬


‫ربقة الإ�سالم من عنقه �إال �أن يرجع»(((‪.‬‬
‫و�أهل القر�آن �أحوج النا�س �إلى تحري االتباع وتجنب االفتراق‪،‬‬
‫لما قد يقع بين �أهل القر�آن من حوارات ونقا�ش قد ت�ؤدي �إلى‬
‫التنازع تف�ضي للهلكة‪ :‬فعن عبداهلل بن م�سعود ‪ ‬قال‪� :‬سمعت‬
‫ال قر�أ �آية و�سمعت النبي ﷺ يقر�أ خالفها فجئت به النبي ﷺ‬ ‫رج ً‬
‫ف�أخبرته فعرفت في وجهه الكراهية وقال‪« :‬كالكما مح�سن وال‬
‫تختلفوا ف�إن من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا»((( ولحماية القلوب من‬
‫االختالف �أمر النبي ﷺ بالقيام عن القراءة ففي الحديث عنه ﷺ‬
‫قال‪« :‬اقر�ؤوا القر�آن ما ائتلفت عليه قلوبكم ف�إذا اختلفتم فقوموا‬
‫عنه»(((؛ فمن �أجل قطع طريق النزاع يقطع المجل�س الذي يثير‬
‫الفرقة واالختالف‪.‬‬
‫وخطورة ذلك �أن هذا النوع من االختالف يح ّول الخ�صومة من‬
‫ر�أي �إلى ِدين‪ ،‬ومن �أ�صعب الخ�صومات ما كان �أ�صحابها يرون �أن‬
‫ر�أيهم فيها دي ًنا ال رجعة عنه‪.‬‬
‫وميثاق الجماعة يعني جماعة الم�سلمين العامة القائمة التي‬
‫في رقاب �أ�صحابها بيعة لإمام حاكم‪ ،‬ف�إن طاعته واجبة‪ ،‬والوفاء‬
‫بعهد البيعة له من جميع رعيته حق له‪ ،‬وهذا الحق في رقاب �أهل‬
‫((( �صحيح �سنن الرتمذي‪.‬‬
‫((( رواه البخاري‪.‬‬
‫((( البخاري وم�سلم‪.‬‬

‫‪108‬‬
‫ميثاق أهل القرآن‬

‫القر�آن �أوثق‪ ،‬لأنهم ي�ؤمنون بما فيه من تعظيم المواثيق والعهود‪،‬‬


‫ولو �أنكرت النفو�س ما �أنكرت‪ ،‬فمهما ك ّنا غير را�ضين ف�إن الحقوق‬
‫بر�ضى وال �سخط‪ ،‬فمن وجب له حق وجب �أدا�ؤه ولو لم‬
‫ً‬ ‫ال عالقة لها‬
‫ترغب النفو�س ذلك‪ .‬بل �إن �أهل القر�آن حالهم في الحقوق كحال‬
‫�صاحب الزكاة في دفعها عن طيب نف�س منه‪ .‬لأن الذي فر�ضها‬
‫عليه هو الذي رزقه وو�سع عليه‪ .‬وال ُيعذر �أحد بنق�ض بيعة واجبة‬
‫بحجة �أنه يرى �أمو ًرا يكرهها وتنكرها نف�سه‪ ،‬ف�إن الذي �أوجب علينا‬
‫عمل ال�صالحات‪ ،‬وترك المنكرات هو الذي �أوجب علينا الطاعة في‬
‫المن�شط والمكره‪.‬‬
‫ومن نظر �إلى �شدة الخطاب في �ش�أن تفريق الأمة عرف خطر‬
‫ات‪َ ،‬ف َم ْن َ�أ َرا َد‬ ‫المخالفة‪ ،‬فعنه ﷺ �أنه قال‪�ِ « :‬إ َّن ُه َ�س َت ُكونُ َه َن ٌ‬
‫ات َو َه َن ٌ‬
‫ال�س ْي ِف‪َ ،‬كا ِئ ًنا‬ ‫�أَ ْن ُيف َِّر َق �أَ ْم َر َه ِذ ِه الأُ َّم ِة ‪َ -‬و ْه َي َجمِ ي ٌع‪َ -‬ف ْ‬
‫ا�ض ِر ُبو ُه ِب َّ‬
‫َم ْن َكانَ »(((‪.‬‬
‫وفي التحذير من الفتن التي ت�صرف عن لزوم هذا العهد يقول‬
‫معاذ بن جبل وهو ي�س�أل النبي ﷺ‪ُ « :‬ق ْل ُت‪َ :‬ف َما َت�أْ ُم ُر ِني ِ�إنْ َ�أ ْد َر َك ِني‬
‫َذ ِل َك؟ َق َال‪َ « :‬ت ْلزَ ُم َج َم َاع َة ا ْل ُم ْ�سلِمِ ينَ َو ِ�إ َم َام ُه ْم»‪ُ .‬ق ْل ُت‪َ :‬ف ِ�إنْ َل ْم َي ُك ْن‬
‫َل ُه ْم َج َم َاع ٌة َو َال ِ�إ َما ٌم؟ َق َال‪َ « :‬ف ْاعت َِز ْل ِت ْل َك ا ْل ِف َر َق ُك َّل َها‪َ ،‬و َل ْو �أَنْ َت َع َّ�ض‬
‫ِب�أَ ْ�ص ِل َ�ش َج َر ٍة‪َ ،‬حتَّى ُي ْد ِر َك َك ا ْل َم ْو ُت‪َ ،‬و�أَ ْن َت َع َلى َذ ِل َك»(((‪.‬‬
‫((( رواه م�سلم‪.‬‬
‫((( رواه البخاري من حديث حذيفة امل�شهور يف الفنت‪.‬‬

‫‪109‬‬
‫ميثاق أهل القرآن‬

‫ما الذي يع�صم من مفارقة الجماعة‪:‬‬


‫‪1.1‬االفتق�ار ع�دم االغت�رار بعل�م �أو عب�ادة �أو بحف�ظ كت�اب اهلل‬
‫تعال�ى‪ .‬فع�ن عب�داهلل ب�ن م�س�عود �أن ر�س�ول اهلل ﷺ ق�ال‪:‬‬
‫«يخ�رج يف �آخ�ر الزم�ان ق�وم �أح�داث الأ�س�نان �س�فهاء‬
‫الأحلام يق�ر�أون الق�ر�آن ال يج�اوز تراقيه�م‪ ،‬يقول�ون م�ن‬
‫كالم خير الربي�ة‪ ،‬ميرق�ون م�ن الدي�ن كم�ا مي�رق ال�س�هم‬
‫م�ن الرمي�ة»(((‪.‬‬
‫‪2.2‬جتن�ب نب�ز العلم�اء �أو انتقا�صه�م‪� ،‬أو مقابل�ة �أقواله�م‬
‫ب�أق�وال م�ن ال عل�م ل�ه را�س�خ‪( .‬ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ‬
‫ﮏ ﮐ ﮑ ﮒﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ‬
‫ﮜ ﮝ ﮞ ﮟﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ‬
‫ﮧ ﮨ ﮩ)(((‪.‬‬
‫‪3.3‬توخ�ي ال�سلامة م�ن الفتن بالبع�د ع�ن اخلو��ض فيه�ا �أو‬
‫الدخ�ول �إل�ى مواق�ع ومناف�ذ �إ�ش�اعتها‪.‬‬
‫‪4.4‬لزوم العبادة والذكر و�س�ؤال اهلل الهداية‪.‬‬
‫‪5.5‬جتنب متابعة �أقاويل من ي�ستفز ثباتك‪� ،‬أو يزعزع يقينك‬
‫(ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ)(((‪.‬‬
‫((( �صحيح �سنن الرتمذي‪.‬‬
‫((( �سورة الن�ساء‪� ،‬آية‪.83 :‬‬
‫((( �سورة الروم‪� ،‬آية‪.60 :‬‬

‫‪110‬‬
‫ميثاق أهل القرآن‬

‫‪6.6‬االنتباه �إلى من يوظفون ق�ضايا الدين والأمة لأغرا�ض‬


‫م�شبوهة غري معلنة ‪.‬‬
‫‪7.7‬طل�ب املنا�صح�ة م�ن �أه�ل التق�وى وال�ورع والعل�م وقبوله�ا‬
‫منه�م ‪.‬‬
‫‪8.8‬التعلم من درو�س التاريخ التي بقيت فيها اجلماعة وذهب‬
‫املارقون‪.‬‬
‫‪9.9‬تذكر �شرف القر�آن و�أنه لي�س �سلعة يتم توظيفها لأغرا�ض‬
‫ال تليق‪.‬‬
‫‪1010‬ت�أ ُّمل اخلري‪ ،‬ون�شر �أخباره‪ ،‬لي�شيع ال�شعور بال�سكينة‪ ،‬وح�سن‬
‫الظن‪ ،‬حتى ال يقال هلك النا�س‪.‬‬

‫‪111‬‬
112
‫ميثاق العداوة‬
‫�إبلي��س ع�دو الإن�س�ان ال�ذي ال ينبغ�ي ن�س�يان عداوت�ه ق�ال‬
‫اهلل تعال�ى‪( :‬ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼﭽ ﭾ ﭿ ﮀ‬
‫ﮁﮂ ﮃ ﮄﮅ ﮆ ﮇ ﮈﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎﮏ‬
‫ﮐ ﮑ ﮒ)(((‪.‬‬
‫عه�د اهلل �إل�ى �آدم وذريت�ه م�ن بع�ده �أن �إبلي��س ع�دو ب ّي�ن‬
‫لق�د ِ‬
‫الع�داوة له�م‪ ،‬ق�ال تعال�ى‪( :‬ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴﭵ ﭶ ﭷ‬
‫ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ)(((‪ ،‬الوف�اء بعه�د الع�داوة يل�زم من�ه‬
‫مالحظ�ة ع�داوة �إبلي��س‪ ،‬ف�ي كل الأح�وال‪ ،‬وال�س�عي لم�ا ير�ض�ي‬
‫ربن�ا ‪ ،‬ويغي�ظ ع�دو اهلل �إبلي��س‪ .‬ولق�د ظ�ن �إبلي��س ظ ًّن�ا‬
‫فق�ال‪( :‬ﰖ ﰗ ﰘ ﰙﰚ ﰛ ﰜ ﰝ ﰞ)(((؛‬
‫ف�ص� ّدق ظن�ه عل�ى م�ن ت�واله مم�ن كف�روا نعم�ة ربه�م‪ .‬ق�ال اهلل‬
‫تعال�ى‪( :‬ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ)(((‪.‬‬
‫فع�داوة �إبلي��س لن�ا ع�داوة حقيقي�ة‪ ،‬وقائم�ة وم�س�تمرة‪ .‬لك�ن‬
‫ه�ل عداوتن�ا نح�ن ل�ه قائم�ة وم�س�تمرة؟‬
‫�سورة ي�س‪� ،‬آية‪.٦٢-٦٠ :‬‬ ‫(((‬
‫�سورة فاطر‪� ،‬آية‪.6 :‬‬ ‫(((‬
‫�سورة �ص‪� ،‬آية‪.٨٣-٨٢ :‬‬ ‫(((‬
‫�سورة �سب�أ‪� ،‬آية‪.20 :‬‬ ‫(((‬

‫‪113‬‬
‫ميثاق أهل القرآن‬

‫ليكن في قلب حامل القر�آن من الحر�ص والتح ّري �أال يدع لل�شيطان‬
‫فر�صة لين�سيه تلك العداوة‪ ،‬و�أال يتيح له فر�صة �أن ين�سيه عهد ربه‪،‬‬
‫وميثاقه‪ ،‬وكلما نزغه من ال�شيطان نزغ ا�ستعاذ باهلل‪ ،‬واعت�صم بمواله‬
‫م�سه طائف من ال�شيطان تذكر‪ ،‬ف�أب�صر‪.‬‬ ‫من عدوه‪ ،‬وكلما ّ‬
‫وعدا غيب ًيا ال يتخلف (ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ‬
‫حامل القر�آن ينتظر ً‬
‫ﭢ ﭣﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ)(((‪ ،‬والغرور‬
‫هو ال�شيطان كما ف�سره ابن عبا�س((( لكننا من حيث ال ن�شعر‬
‫نن�سى عداوته‪.‬‬
‫فما الذي ين�سينا عداوة �إبلي�س؟‬
‫الجواب‪:‬‬
‫حين ال نت�أمل دور ال�شيطان في ما تنتجه عداته مثل‪:‬‬
‫‪1.1‬الدني�ا وملهياته�ا لأن الدني�ا و�س�يلة ال�ش�يطان‪ ،‬ف�ي تغيي�ب‬
‫ا لأ خ�رة‬
‫‪2.2‬التباغ��ض وا�س�تعداء الم�س�لمين لبع�ضه�م‪ ،‬لأن ف�س�اد ذات‬
‫البي�ن يحل�ق الدي�ن‬
‫‪3.3‬المعا�صي‪ ،‬لأن المع�صية طاعة �إبلي�س‪.‬‬
‫‪4.4‬الغفلة عن الذكر‪ ،‬لأن ذكر اهلل عا�صم‪ ،‬من ال�شيطان‪.‬‬

‫((( �سورة فاطر‪� ،‬آية‪.5 :‬‬


‫((( ابن كثري‪.‬‬

‫‪114‬‬
‫ميثاق أهل القرآن‬

‫‪�5.5‬سوء الظن باهلل‪ ،‬لأن ال�شيطان ي�سعى لإبعاد العبد عن‬


‫الوثوق بوعد اهلل‪.‬‬
‫‪6.6‬الغ�ضب‪ ،‬لأنه من ال�شيطان غال ًبا‪.‬‬
‫‪7.7‬تولي �أهل الباطل والركون �إليهم‪ ،‬لأن في واليتهم عداوة‬
‫الم�ؤمنين‪.‬‬
‫‪8.8‬هجر مجال�س ال�صالحين‪ .‬و�إنما ي�أكل الذئب من الغنم‬
‫القا�صية‪.‬‬
‫وكل ع�داوة ت�صي�ب الم�ؤمني�ن ف��إن وراءه�ا عدوه�م �إبلي��س‪،‬‬
‫وكلم�ا اعت�ص�م الم�ؤم�ن ب�اهلل‪ ،‬وداوم عل�ى �أذكار اال�س�تعاذة‬
‫واالعت�ص�ام من�ه‪ ،‬ع�صم�ه اهلل ووق�اه‪ ،‬ف��إن ام�ر�أة عم�ران قال�ت‬
‫حي�ن و�ضع�ت مري�م (ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮﯯ‬
‫ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ)(((‪.‬‬
‫ولي��س لن�ا ع�دو بع�د �إبلي��س‪� ،‬إال م�ن ح�ا ّد اهلل ور�س�وله م�ن‬
‫الكف�ار والمنافقي�ن(((؛ ف�اهلل ول�ي الذي�ن �آمن�وا و�أولئ�ك وليه�م‬
‫الطاغ�وت‪ .‬ق�ال اهلل تعال�ى‪( :‬ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ‬
‫ﭗ ﭘ ﭙﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ‬
‫ﭢ ﭣﭤ ﭥ ﭦ ﭧﭨ ﭩ ﭪ ﭫ)(((‪.‬‬
‫((( �سورة �آل عمران‪� ،‬آية‪.٣٧-٣٦ :‬‬
‫((( ذك�ر اهلل �أع�داء �آخري�ن مث�ل بع��ض الول�د‪ ،‬وال�زوج لكنن�ا نق�ص�د �أ�ص�ل الع�داوة‬
‫الظاهرة العداء‪.‬‬
‫((( �سورة البقرة‪� ،‬آية‪.257 :‬‬

‫‪115‬‬
‫ميثاق أهل القرآن‬

‫و�أهل القر�آن �أذلة على الم�ؤمنين �أعزة على الكافرين‪.‬‬


‫�أهل القر�آن بع�ضهم �أولياء بع�ض‪ ،‬ال يركنون �إلى الذين ظلموا‪.‬‬
‫�أهل القر�آن قلوبهم لكل الم�سلمين‪ ،‬يخف�ضون جناحهم‬
‫للم�ؤمنين‪ ،‬تت�سع �أخالقهم لما لم تت�سع له �أموالهم‪ .‬فهم كالج�سد‬
‫الواحد �إذا ا�شتكى منه ع�ضو تداعى له �سائر الج�سد بال�سهر‬
‫والحمى‪ .‬مال غنيهم يرد على فقيرهم‪ ،‬وقليله م�شاع بينهم‪.‬‬
‫الكبير يوقرونه‪ ،‬وال�صغير يرحمونه‪ ،‬والعاثر يقيلونه‪ ،‬والمخطئ‬
‫يغفرون له‪ .‬تجمعهم كلمة التوحيد‪ ،‬وتربيهم كلمات اهلل‪ ،‬و�سنة‬
‫ر�سول اهلل ﷺ‪.‬‬

‫‪116‬‬
‫اخلامتة‬
‫وف�ي نهاي�ة ه�ذا الجه�د الب�س�يط �أ�س��أل اهلل �أن يرزقن�ا ح�س�ن‬
‫الوف�اء بح�ق ه�ذا الق�ر�آن‪ ،‬والتم�س�ك ب�ه وب�س�نة الم�صطف�ى ﷺ‬
‫و�أن يعف�و عن�ا �إن�ه ه�و العف�و الغف�ور‪.‬‬

‫‪117‬‬
‫فهر�س املحتويات‬

‫مقدمة‪١١...........................................................‬‬
‫ميثاق ال�شرف ‪١٥...................................................‬‬
‫ميثاق العهد ‪٣١.....................................................‬‬
‫ميثاق االلتزام ‪47..................................................‬‬
‫ميثاق الإح�سان ‪77.................................................‬‬
‫ميثاق الأخوة ‪83....................................................‬‬
‫ميثاق ال�صرب ‪91...................................................‬‬
‫ميثاق ال�شكر ‪103....................................................‬‬
‫ميثاق اجلماعة ‪107.................................................‬‬
‫ميثاق العداوة لإبلي�س ‪113...........................................‬‬
‫اخلامتة ‪117.........................................................‬‬

‫‪119‬‬

You might also like