Professional Documents
Culture Documents
الأسرة بين العدل والفضل
الأسرة بين العدل والفضل
�إ�شارات و�إثارات
2
د .فريد �شكري
من مواليد املغرب ،حا�صل على دكتوراه الدولة يف الدرا�سات الإ�سالمية ،يعمل
�أ�ستاذا لأ�صول الفقه ومقا�صد ال�شريعة بكلية الآداب والعلوم الإن�سانية،
املحمدية باملغرب.
وهو ع�ضو االحت��اد العاملي لعلماء امل�سلمني ،وع�ضو املجل�س العلمي املحلي
باملحمدية -املغرب ،وخبري باملجمع الفقهي بجدة.
له درا�سات وبحوث من�شورة باملجالت والدوريات املحكمة.
33
مت طبع هذا الكتاب يف هذه ال�سل�سلة للمرة الأوىل،
وال يجوز �إعادة طبعه �أو طبع �أجزاء منه ب�أية و�سيلة �إلكرتونية �أو غري
44
فهر�س املحتويات
9 ت�صدير
11 متهيد
13 املبحث الأول:العدل والف�ضل :مفاهيم وظالل
15
مفهوم العدل والف�ضل:
17 � -ص َيغ الف�ضل:
31 -جمال العدل والف�ضل:
35 -العدل والف�ضل يف القر�آن الكرمي :مناذج
47 املبحث الثاين� :إطار العدل والف�ضل يف العالقة الزوجية
املبحث الثالث :اجتاهات العدل والف�ضل يف القر�آن الكرمي:
63 يف جمال الأ�سرة
84 خامتة
55
ت�صدير
احلمد هلل رب العاملني ،وال�صالة وال�سالم على �سيد املر�سلني وعلى �آله
و�صحبه �أجمعني.
يزخر ال��ق��ر�آن الكرمي بالعديد من املبادئ والقواعد التي تنظم حياة
الإن�سان يف خمتلف املجاالت الفردية واجلماعية ،وهي مبادئ حمتاجة من
العقل امل�سلم �إلى �أن يح�سن تدبرها ومتثلها وتنزيلها يف واقع احلياة ،ويعيد
�صياغة م�ألوفاته الفكرية وال�سلوكية على وزان هدايات القيم القر�آنية.
وقد �سعى الباحث فريد �شكري �إلى �أن يجمع عنا�صر �إحدى تلك القواعد ،
ويعيد �سلكها يف منظومة متوازنة تك�شف عن جوهر التوجيهات القر�آنية يف
مو�ضوع الأ�سرة ت�أ�سي�سا وع�شرة وتفاعال ،وقد دلل على �أن تلك التوجيهات
تقدم «نظرية» ت�ضبط العالقة بني مكونات الأ�سرة يف ظل التعاليم ال�سمحة
للقر�آن الكرمي.
وي�سر �إدارة الثقافة الإ�سالمية بوزارة الأوقاف وال�ش�ؤون الإ�سالمية بدولة
الكويت �أن تقدم هذا الكتاب �إل��ى جمهور القراء الكرام� ،إ�سهاما منها
يف تقوية روح الفهم ال�سديد لهدايات القر�آن التي جتعل من العالقة بني
مكونات الأ�سرة امل�سلمة رابطة تتجاوز �إطار العدل لرتتقي يف �آفاق الف�ضل
والإح�سان.
والأمل معقود على �أن يحقق الكتاب الغاية من ن�شره ،مع الدعاء مل�ؤلفه
بالتوفيق وال�سداد.
7 7
متهيد:
تتميز ال�شريعة الإ�سالمية مبنظومة ت�شريعية متما�سكة
مع َّززة مبجموعة من القيم ت�ش ِّكل �سداها ومت ِّثل حلمتها،
غري مقت�صرة على اجلانب الإجرائي والقانوين.
ومن �أب��رز القيم و�أه ِّمها قيمة العدل وقيمة الف�ضل،
فالعدل مي ِّثل �أر�ضية �صلبة يقوم عليها بناء املنظومة
الت�شريعية ،والف�ضل ميثل الف�ضاء ال��ذي ميتد فيه هذا
البناء ويتطاول وي�شمخ بنيانا مر�صو�صا بالقيم ي�شد بع�ضه
بع�ضا.
وبالت�أمل الأويل يف القر�آن الكرمي ،نخرج مبالحظة
�أول��ي��ة ،وه��ي ا�شتمال ال��ق��ر�آن الكرمي على نظرية كاملة
للعدل والف�ضل يف كافة الأحكام ال�شرعية وخا�صة �أحكام
الأ�سرة.
وت��روم ه��ذه الدرا�سة التعريف الأويل بهذه النظرية
وتتبع خيوطها ،ور�سم مالحمها العامة ومعاملها الكربى
يف �أفق متديد ف�صولها بعد حتديد �أ�صولها.
�إن العدل والف�ضل قيمتان مت ِّثالن دم ًا ي�سري يف �شرايني
الأحكام ِمت ّدانها بطاقة اال�ستقرار وروح اال�ستمرار ،وكما
9
�صفتي ال�صدق وال��ع��دل ف�إن
ْ �أن كلمات اهلل ت��دور ح��ول
�أحكام اهلل تدور حول �صفتي العدل والف�ضل .ولو جاز �أن
نحاكي قول اهلل ع َّز وجل }ﮪﮫﮬﮭ ﮮ{ َ
(االنعام )115:ونن�سج على منواله جلاز لنا �أن نقول« :ومتت
�أحكام ر ِّبك عد ًال وف�ض ًال».
ومبا �أن الأ�سرة مت ِّثل وحدة قيا�سية للمجتمع وت�ش ِّكل
ي�صدرها عرب و�سائط حم�ضن القيم الذي ينتج القيم و ِّ
تربوية ،فاملنا�سب �أن ت�سبح الأ�سرة �أي�ضا يف ف�ضاء قيمي
يحقق لها التما�سك الأ�سري ال�سليم واالمتداد االجتماعي
القومي.
�أما الف�ضل فهو ف�ضاء رحب قابل للتفا�ضل والرتقي يف
مدارجه وال�سمو يف معارجه.
ومي ِّثل العدل احلد الأدن��ى ال��ذي تنطلق منه الأحكام
ال�شرعية وتُبنى عليه ،وما دونه دركات الظلم التي ميكن
�أن ن�صطلح عليها بالع�ضل(((.
-1ا�ستعملت « الع�ضل» لأن معناه ي�ؤول �إلى الظلم الذي هو «و�ضع ال�شيء يف غري مو�ضعه،
والت�صرف يف حق الغري ،وجم��اوزة حد ال�شارع»( .الكليات :معجم يف امل�صطلحات
والفروق اللغوية� ،ص � 594أبو البقاء الكفوي ،مقابلة :عدنان دروي�ش ،حممد امل�صري،
الطبعة الأولى ،1992 ،م�ؤ�س�سة الر�سالة� ،سوريا).
وكذلك مراعاة للجنا�س ومل �أق�صد املعنى الوارد يف قوله تعالى } ﮉ ﮊ ﮋ
ﮌ ﮍ{ الذي يعني امتناع الويل من تزويج موليته من الكفء حيث يجب
عليه هذا التزويج.
10
و�إذا كان العدل قيمة مجُ معا عليه ومطلبا متفقا عليه
من ِق َبل الت�شريعات الو�ضعية يف كافة احل�ضارات ويف كافة
املجاالت ،ف� َّإن الإ�ضافة النوعية التي يتميز بها الت�شريع
الإ���س�لام��ي ه��ي زاوي���ة النظر �إل���ى ه��ذه القيمة ووجهة
اعتبارها.
ذلك � َّأن العدل مي ِّثل لنا مع�شر امل�سلمني �أر�ضية ننطلق
منها ونقف عليها ابتدا ًء بينما هو ميث ُّل لغري امل�سلمني �سقف ًا
يرومون الو�صول �إليه انتها ًء.
بالإ�ضافة �إلى �أن ال�شريعة الإ�سالمية مل تكتف بتحقيق
العدل و�إقامته واملطالبة به فح�سب كما تطمح �إليه عامة
الأحكام القانونية الو�ضعية ،و�إمنا ندبت �إلى حتقيقه بنفَ�س
وح�س الإح�سان وذلك حلكمتني: الف�ضل ِّ
احلكمة الأولى� :إن الف�ضل مبثابة املاء الذي ت�سبح فيه
قيمة العدل والهواء الذي ت�ستن�شقه والف�ضاء الذي ترفرف
فيه ،وهذا يك�سبها املرونة واالمتداد.
احلكمة الثانية :وهي �أنَّ��ه يف حالة اخلط�أ يف حتقيق
�أحكام ال�شرع القائمة على الف�ضل ف���إن امل�سلم لن يقع
11
مبا�شرة يف الع�ضل ((( ،بل «�أ�سو�أ» ما ي�سقط فيه هو مرتبة
العدل.
فالعدل ال مي ِّثل الأر�ضية ال�صلبة التي ينبني عليها البناء
الأ�سري ل�ضمان �سالمته عند تطاوله يف �آماد الزمن يف
حالة الوفاق فح�سب ،ولكنَّه مي ِّثل �أي�ضا الطبقة الإِ�سفنجية
ال�صدام وت�شنّجات اخلالف يف حالة التي مت َّت�ص رعونات ِّ
ال�شقاق .
-1رغم خطاب الف�ضل ال��وارد يف القر�آن الكرمي وخا�صة يف مو�ضوع الأ�سرة ،فقد
املحذرة من الوقوع يف الع�ضل كما يف قوله تعالى }ﭖ وردت الآيات القر�آنية ِّ
ﭗ ﭘ ﭙ ﭚﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ{
البقرة()231
} ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫﯬ ﯭ ﯮ ﯯ
ﯰ{ البقرة(.)233
}ﯨ ﯩ ﯪﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ{ البقرة(.)282
} ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫﮬ ﮭ ﮮ ﮯ{ الن�ساء(.)12
}ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ{ الطالق()6
}ﯵ ﯶﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ{ البقرة(.)190
} ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ { البقرة (.)178
َت بِهِ ِت ْل َك ُحدُو ُد ِﰏ َف اَل تَ ْعتَدُوهَا َو َم ْن يَتَ َع َّد ُحدُو َد ﰏﯭ ﯮ
}ﯹﯺﯻ فِي َما ا ْفتَد ْ
ﯯ{ البقرة (.)231
12
املبحث الأول
العدل والف�ضل :مفاهيم وظالل
1313
مفهوم العدل والف�ضل:
يق�صد بالعدل يف معناه ال��ل��غ��وي :امل�����س��اواة(((� ،أما
مفهوميا((( ف�إين �أق�صد بالعدل القيام باحلد الأدنى يف
الت�صرفات و�إيفاء احلقوق ،و�أق�صد بالف�ضل القيام باحلد
الأق�صى يف الت�صرفات و�إيفاء احلقوق ،فالعدل «�أن ت�أخذ
مالك و تعطي ما عليك»(((.
وعليه ف�إن الإح�سان �أو الف�ضل((( لي�س �أن ت�أخذ ما هو
مما هو لك و �أ َّال تعطي ما
لك فح�سب ،بل �أن ت�أخذ �أقل ّ
مما عليك.
عليك فح�سب ،بل �أن تعطي �أكرث ّ
ويقول الإم���ام اب��ن ح��زم يف ن�ص نفي�س حم ِّ��ددا هذه
املعاين«:ح ُّد العدل �أن تعطي من نف�سك الواجب وت�أخذه،
وح ُّد اجلور �أن ت�أخذه وال تعطيه ،وح ُّد الكرم� ،أن تعطي من
1الذريعة �إلى مكارم ال�شريعة��� ،ص ،253-252الراغب الأ�صفهاين ،حت� :أبو اليزيد
�أبو زيد العجمي ،ط ،1،2007دار ال�سالم.
- 2ف�إين لن �أطيل يف التحديدات مبعناها املنطقي ،لكن غر�ضي هنا بيان ما �أرومه من
�إطالقي مل�صطلحي «العدل والف�ضل».
- 3الكليات� ،ص. 639
- 4ن�ستعمل الإح�سان والف�ضل مبعنى واحد دون الوقوف عند التفريق بينهما كما ذهب
�إليه اجلرجاين بقوله «الف�ضل ابتداء �إح�سان بال علة» معجم التعريفات� ،ص ،141
ال�شريف اجلرجاين ،حتقيق ودرا�سة :حممد �صديق املن�شاوي ،دار الف�ضيلة ،القاهرة.
15
نف�سك احلق طائعا وتتجافى عن حقِّك لغريك قادرا ،وهو
ف�ضل �أي�ضا...والف�ضل فر�ض زادت عليه نافلة»(((.
ويعترب الإمام الغزايل الإح�سان «فعل ما ينتفع به املعامل
تف�ضل منه ف�إن الواجب يدخلوهو غري واجب عليه ،ولكنه ُّ
يف باب العدل وترك الظلم»(((.
وبعبارة موجزة ومر َّكزة ،ف���إن العدل هو عمل اخلري
والف�ضل هو خري العمل ،والعدل هو �أر�ضية القيم والف�ضل
قمة القيم.
وعلى الرغم من � َّأن هناك اتفاقا على قيمة العدل
وو�ضوح ف�ضيلته ،ف�إن العدل ملتب�س مب�ستويات من اخلفاء
يف تفا�صيله و�أ�شكاله و�صوره مما يرتتب عليه اختالف
يف اعتباره ،وه��ذا ما الحظه الإم���ام اب��ن تيمية وعبرّ
عنه بقوله «فمن العدل فيها ما هو ظاهر يعرفه كل �أحد
بعقله كوجوب ت�سليم الثمن على امل�شرتي ،وت�سليم املبيع
على البائع للم�شرتي ،وحترمي تطفيف املكيال وامليزان،
- 1الأخالق وال�سري� ،ص ، 31حتقيق :ندى تومي�ش ،اللجنة الدولية لرتجمة الروائع،
بريوت.1961،
� - 2إحياء علوم الدين ،75 / 2،دار القلم ،بريوت ،طبعة . 3
16
ووجوب ال�صدق والبيان ،وحترمي الكذب واخليانة والغ�ش،
و�أن جزاء القر�ض الوفاء واحلمد.
ومنه ما هو خفي جاءت به ال�شرائع �أو �شريعتنا �-أهل
الإ���س�لام ،-ف���إن عامة ما نهى عنه الكتاب وال�سنة من
املعامالت يعود �إلى حتقيق العدل والنهي عن الظلم د ّقه
وجله...
من ذلك ما قد ينازع فيه امل�سلمون خلفائه وا�شتباهه،
فقد يرى هذا العقد والقب�ض �صحيحا عدال ،و�إن كان غريه
(((
يرى فيه جورا يوجب ف�ساده»....
ولهذا اتفقت ال�شرائع ال�سماوية والت�شريعات الو�ضعية
يف كثري م��ن القيم كاخلري واحل��ق واجل��م��ال و�إمن���ا نتج
االخ��ت�لاف بينهما يف ال��ق��ن��وات الت�شريعية التف�صيلية
املو�صلة �إليها والإجراءات الت�صريفية املحقِّقة لها .
� -ص َيغ الف�ضل:
وردت يف القر�آن الكرمي عدة �صيغ تفيد معنى الف�ضل
نورد بع�ضها اخت�صارا على �سبيل املثال:
-1ال�سيا�سة ال�شرعية �ضمن جمموعة الفتاوى 213/ 27دار الوفاء ط� 2سنة 2001
17
�أ-الإح�سان:
هو من امل�صطلحات املركزية املعبرِّ ة عن قيمة الف�ضل
وق��د ا�ستعمله ال��ق��ر�آن الكرمي ب�شكل كبري ،كما يف قوله
تعالى } ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ{ (النحل)90:
وقوله} ﮪﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ {(البقرة.)195 :
وقوله}ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ{ (البقرة.)229 :
واال�ستقراء املفهومي والداليل مل�صطلح الإح�سان يحيلنا
على معنيني:
«�أحدهما :الإنعام على الغري ،يقال �أح�سن �إلى فالن،
والثاين �إح�سان يف فعله ،وذلك �إذا علم علما ح�سنا �أو عمل
عمال ح�سنا»(((.
والإح�����س��ان يحمل يف طياته دالل��ة احل�سن واجلمال
اللذين ي�صدران عن الإتقان �أي الإح�سان يف الفعل.
وجت��در الإ���ش��ارة �إل��ى �أن الإم��ام الع َّز بن عبد ال�سالم
خ�ص�ص كتابه امل��و���س��وم ب�شجرة امل��ع��ارف لثنائية ق��د َّ
العدل والإح�سان يف ِّ
كل تفا�صيل ال�شريعة� .إ َّال �أنه يطلق
- 1املفردات يف غريب القر�آن� ،أبو القا�سم احل�سن الراغب الأ�صفهاين� ،ص ،126
مراجعة وتقدمي :وائل �أحمد عبد الرحمن ،املكتبة التوقيفية.
18
الإح�سان ويق�صد به العدل بالنظر �إلى �أثره ،ومثال ذلك
قوله «العدل �إح�سان ،يتعدى نفعه �إلى كل من يتعلق به،
من ظامل ومظلوم ،وغابن ومغبون ،وباذل ومبذول له»(((.
ويو�ضح ذل��ك بخلفيته املقا�صدية يف مقام �آخ��ر بقوله
«الإح�سان عبارة عن جلب م�صالح الدارين �أو �إحداهما،
ودفع مفا�سدهما �أو مفا�سد �إحداهما.(((»...
ولهذا فهو يعترب كل �أوجه اخلري من «الإجمال ،والإنعام،
والإف�ضال ،من جملة �أنواع الإح�سان ،ف�إن الإح�سان يعبرَّ
به عن جلب املنافع كلها� ،أو دفع امل�ضار ب�أ�سره»(((.
و�سبب ا�ستعمال الإم���ام اب��ن عبد ال�سالم الإح�سان
مبعنى العدل ،عو�ض �أن ي�ستعمله يف مقابله كما هو يف
القر�آن الكرمي «�إن اهلل ي�أمر بالعدل واالح�سان» ،راجع
�إلى �أنه يق�صد بالإح�سان ما يقابل الإ�ساءة وهذا وا�ضح يف
قوله «ف�إرادة النفع �إح�سان لكونها �سببا فيه .و�إرادة ال�ضر
�إ�ساءة لأنها �سبب فيه»(((.
� - 1شجرة املعارف والأح��وال و�صالح الأقوال والأعمال ،عز الدين بن عبد ال�سالم،
�ص ،22حت� :إياد خالد الطباع ،الطبعة الأولى ،1989 ،دار الطباع.
� - 2ص.137
� - 3ص.35
� - 4ص.137
19
�أ ّما الإح�سان با�صطالحنا فيعبرِّ عنه ب�إح�سان الإح�سان
ومثال ذلك قوله «�إح�سان الإح�سان .وهو �أن يفعل على
�أعلى مراتبه خليا من ال�شبه ،والأذية ،والعيوب ،والإذالل،
واملنة»(((.
ب� -أح�سن:
قال اهلل تعالى } :ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ
ﭘ ﭙ { (العنكبوت ،)46:وقال} :ﮮ ﮯ
ﮰ ﮱ{ (النحل .)125 :
ق����ال اهلل ت��ع��ال��ى } :ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ{
(الأع��������������راف ،)145:وق������ال} :ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ
ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ{ (ال��زم��ر،)18-17 :
وق���ال} :ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ {
(الزمر.)55:
وق�����������������ال}:ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ{
(الإ��������س�������راء } ،)63:ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ
ﰄ{الن�ساء .86
� - 1ص.143
20
والتخفى داللة �صيغة «�أف َعل» على التف�ضيل والعل ِّو يف
الف�ضل فكيف لو كان التفا�ضل يف مدارج احل�سن �إلى غاية
الو�صول �إلى الأح�سن.
ج�-صيغة املبالغة :ق ّوامون:
} ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ { (الن�ساء)34:
} ﭒﭓﭔﭕﭖﭗ{
(الن�ساء ،)135:فيالحظ �أن اهلل �سبحانه مل يقل« :كونوا
قائمني» ،لأن القيام يحقق احلد الأدنى املتمثل يف العدل،
ولكنه عبرَّ عنه بلفظ «ق ّوامني» وهو الذي يكون مبالغا يف
قيامه مبا ُطلب منه و يعطي �أكرث مما هو مفرو�ض عليه.
د-الف�ضل:
}ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ{ (البقرة.)237 :
والف�ضل كما قال اجلرجاين ،هو «ابتداء �إح�سان
(((
بال علة».
هـ-الو�صف باجلمال:
} ﮑ ﮒ ﮓ {( ،املزمل } )10:ﮕ
21
ﮖ ﮗ {( ،الأح����������زاب } ،)49:ﯓ ﯔ
ﯕ{( ،احلجر} )85:ﮮﮯ{ (يو�سف،)83:
وامل�لاح��ظ يف ه��ذه الآي���ات �أن ال�سلوكيات املطلوبة يف
ال�سلبية ينبغي �إتيانها واالت�صاف بها ب�شكلال�سياقات َّ
جميل.
وتعليل ذلك كون املقام َ�سلبيا ي�سوده التو ُّتر والت�شنُّج
وت�صدر عن الإن�سان انفعاالت غري من�ضبطة وغري م�أمونة
مما يجعله مظنة الوقوع يف العواقب وهو مقام مغالبةَّ ،
الع�ضل .ولهذا فامل�سلم ال يطا َلب بالعدل يف هذا املقام
بقدر ما يطالب بالإح�سان ،لأنه �إذا غالب نف�سه و�أخط�أ
املغالبة ف�إنه ال ينزل عن درجة العدل �إلى درجة الع�ضل.
و-الإيفاء:
قال اهلل تعالى} :ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ
ﯨ{ (الإ���س��ـ��ـ��راء ،)35:وق���ال} :ﭝ ﭞ
ﭟ ﭠ{ (الأنعام .)152
ويجدر التنبيه على � َّأن القر�آن الكرمي يف ِّرق بني العدل
والق�سط لأن «الق�سط هو العدل البينِّ الظاهر ،ومنه
22
�سمي «املكيال» ق�سطا ،و«امليزان» ق�سطا لأنه ي�ص ِّور لك
العدل يف ال��وزن حتى تراه ظاهرا ،وقد يكون من العدل
م��ا يخفى ،ول��ه��ذا قلنا� :إن الق�سط ه��و الن�صيب الذي
ب ِّينت وجوهه» (((.فاحل ُّد الأدنى هو الق�سط يف امليزان ،
ولكن احل َّد الأق�صى هو الف�ضل وهو �أن تويف بالكيل لأن َّ
الإيفاء زيادة على املطلوب وبلوغ التمام((( .يقول ابن
عا�شور «والتوفية �أ�صلها �إعطاء ال�شيء وافي ًا � ،أي زائد ًا
على املقدار املطلوب ،وملّا كان حتقّق امل�ساواة يخفَى لق ّلة
ا َملوازين عندهم ،والعتمادهم على الكيل ،جعلوا حتقّق
ف�ضل على املقدار امل�ساوي � ،أطلقت امل�ساواة مبقدار فيه ْ
التوفية على �إعطاء املعادل»(((.
ز-العفو:
}ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ{
(الأعراف.)199:
}ﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡ
23
ﮢ ﮣ{ (ال���ب���ق���ـ���ـ���رة} ،)178:ﮱ ﯓ ﯔ
ﯕ ﯖ ﯗ{(ال�شورى} ،)40:ﭥ ﭦ ﭧ{
(�آل عمران } ،)134:ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ
ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ {(الن�ساء} ،)149:ﮈ
ﮉﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ{ (النور.) 22:
يت َّبني من خ�لال ه��ذه الآي��ات القر�آنية � َّأن «العفو � ْأن
ي�ستحق حقًّا ف ُي�سقطه ويربئ عنه من ق�صا�ص �أو غرامة،
(((
احللم وكظم الغيظ».وهو غري ِ
كما �أن العفو :هو ترك امل�ؤاخذة بالذنب ،وال�صفح :ترك
الترثيب ،وا�شتقاقه من جتاوز ال�صفحة التي �أثبت فيها
ذنوبه �أو الإعرا�ض ب�صفحة الوجه عن التلف �إلى ما كان
منه ،وهو حممود �إذا كان على الوجه الذي يجب .ولهذا
ق��ال تعالى } :ﯓ ﯔ ﯕ { (احل��ج��ر)85:
فخ�ص تنبيها على ما يحمل منه وق��د ن��دب اهلل تعالى
�إل��ى ذل��ك بقوله} :ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ
ﭧ{ (�آل عمران )134:و�أمر باحللم والعفو وقال:
24
}ﮈ ﮉ{ (ال��ن��ور)22:وق��ال } :ﯣ ﯤ
ﯥﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ { (املائدة )13:وقال:
}ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ{(ال�شورى.)40:
والعفو �إمنا ي�ستحب فيما �إذا كانت الإ�ساءة خم�صو�صة
بالعايف كمن �أخذ ماله� ،أو �شتم عر�ضه ،ف�أما �إذا كانت
الإ�ساءة عائدة بال�ضرر على ال�شرع �أو على جماعة النا�س
ف�إنه �إن كان فيها �أدنى �شبهة فلل�سلطان العفو لقوله عليه
ال�سالم« :ادر�ؤوا احل��دود بال�شبهات» و�إن مل يكن �شبهة
فلي�س له العفو ،ولهذا قال تعالى يف الزنا}'' :ﭤ ﭥ ﭦ
ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ{(النور.)2:
ح-ال�صدقة:
ترد ال�صدقة مبعنى الف�ضل يف القر�آن يف �سياقني:
�-سياق الإعفاء و�إ�سقاط حق متعلق بالذمة كما هو
ال�ش�أن يف كفارة القتل اخلط�أ ،قال تعالى} :ﭑ ﭒ
ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ
ﭞﭟﭠﭡﭢﭣ ﭤﭥ ﭦ
ﭧ{ (الن�ساء )92وقال �سبحانه يف �إ�سقاط ال َّدين:
25
} ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫﯬ ﯭﯮ ﯯ ﯰ ﯱ
ﯲﯳ ﯴ ﯵ ﯶ { ( البقرة)280
كما ترد يف �سياق الق�صا�ص مبعنى الف�ضل} ،ﮮ
ﮯ ﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗ
ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞﯟ
ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ
ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ{ (املائدة )45
-ويف �سياق الإعطاء } :ﯽﯾﯿﰀ ﰁ
ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ{ ( احلديد.)18
-رتبة الإح�سان:
ال �شك �أن الإح�سان كما قال الراغب اال�صفهاين «فوق
العدل… فالإح�سان زائد على العدل»(((.
وف�ضيلته تكمن يف �أنه «الزيادة على الواجب» �أي �أنه
وتف�ضل بالزيادة»(((.وهو الذي
«خروج عن احلق بيقنيُّ ،
اعتربناه مانعا من الوقوع يف الع�ضل.
ول�ل�إم��ام ال��غ��زايل التفاتة لطيفة �إل��ى مكانة العدل
- 1املفردات� ،ص .126
� - 2شجرة املعارف� ،ص.222
26
والف�ضل بالنظر �إلى تفاوت قيمتهما وم�آالتهما وقد م َّثل
لهما مبجال التجارة بقوله «والعدل �سبب النجاة فقط
وهو يجري من التجارة جمرى ر�أ�س املال والإح�سان �سبب
الفوز ونيل ال�سعادة وهو يجري من التجارة جمرى الربح
وال ُيع ُّد من العقالء من قنع يف معامالت الدنيا بر�أ�س ماله
فكذا يف معامالت الآخرة فال ينبغي للمتد ِّين �أن يقت�صر
على العدل واجتناب الظلم ويدع �أبواب الإح�سان»(((.
-حكمه:
لقد وقفنا �آنف ًا على كثري من الآيات القر�آنية التي ُّ
حتث
على الإح�سان بجميع �صيغه من ذلك:
قوله تعالى }ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ
ﮁﮂﮃﮄﮅ ﮆﮇ {
(النحل.)90:
ورود الأمر بالعدل والإح�سان يف هذه الآية امل ِّكية يعطيه
�صبغة ت�أ�صيلية و�صيغة ت�شريعية كل َّية بجانب الكليات
العقدية التي عنيت الآيات املكية برت�سيخها يف النفو�س
امل�ؤمنة ،وذلك لتكون لبنة ت�ؤ�س�س للبناء العقدي والإمياين،
� -1إحياء علوم الدين ،74/2 ،دار القلم.
27
مما يف�سح املجال ال حقا للآيات املدنية بتف�صيل الأحكام
و�صياغتها.
ولقد اعتُربت هذه الآي��ة قطب القر�آن و�أجمع �آي��ة يف
كتاب اهلل للخري وال�شر كما روي عن ابن م�سعود ر�ضي
اهلل عنه.
وعن قتادة قوله «لي�س من خلق ح�سن كان يف اجلاهلية
يعمل وي�ستحب �إال �أمر اهلل تعالى به يف هذه الآية ولي�س من
خلق �سيء �إال نهى اهلل عنه يف هذه الآية»(((.
كما �أُ ِثر عن علي ر�ضي اهلل عنه �أ ّنه م َّر بقوم يتح َّدثون
فقال فيم �أنتم؟ فقالوا نتذاكر املروءة فقال �أو ما كفاكم
اهلل عز وجل ذاك يف كتابه «�إن اهلل ي�أمر بالعدل والإح�سان»
1مفاتيح الغيب 263/20فخر الدين الرازي دار �إحياء الرتاث العربي
لقد خ�ص�ص جمموعة من العلماء هذه الآية بت�آليف خم�صو�صة مثل:
-نهاية الإح�سان يف تف�سري قوله تعالى «�إن اهلل يامر بالعدل والإح�سان» ابن
املو�صل.
-قالئد العقيان يف قوله تعالى» �إن اهلل يامر بالعدل و الإح�سان» مرعي بن
يو�سف الكرمي
–حتقيق عبد احلكيم الأني�س ن�شرته دار البحوث للدرا�سات اال�سالمية و�إحياء
الرتاث ،دبي ،ط.2005
-فتح الرحيم الرحمن يف تف�سري�آية «�إن اهلل يامر بالعدل و الإح�سان»� ،أبو احل�سن
علي ال�شربيني.
28
فالعدل الإن�صاف والإح�سان التف�ضل فما بقي بعد هذا.
وم���ن ال�صيغ ال��ق��ر�آن��ي��ة امل َ��ح�� ِّب��ب��ة يف الإح�����س��ان وعد
املح�سنني بجزيل الثواب }ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ
ﮘ{(النحل }.) 30ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱﭲ ﭳ
ﭴ ﭵ{(الزمر.)30 :
ووع����ده����م مب��ع��ي��ة اهلل }ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ{
(ال��ع��ن��ك��ب��وت} )69:ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ
ﰆ{(النحل } ،)128:ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ
ﯡ ﯢ{ (الأعراف.)56:
بحب اهلل �أكرب اجلزاء
بحب اهلل لهم وكفى ِّووعدهم ِّ
و�أج��زل��ه } ﯝ ﮧ ﭪ ﭫ{ (البقرة)195:
(املائدةَ ( )13 :وﮧ ﭪ ﭫ) ( املائدة )93
يقول الإمام ابن عا�شور}« :ﯝ ﮧ ﭪ ﭫ{
تذييل للرتغيب يف الإح�سان ،لأن حمبة اهلل عبده غاية
ما يطلبه النا�س �إذ حمبة اهلل العبد �سبب ال�صالح واخلري
دنيا و�آخرة ،والالم لال�ستغراق العريف واملراد املح�سنون
من امل�ؤمنني»(((.
29
�إن امل�سلم ينبغي له ،بل يجب عليه� ،أن يتح َّرى العدل
يف جميع الأح��ك��ام املفرو�ضة عليه لأنها املنطلق الأول
والأر�ضية التي تقف عليها �سائر الأحكام ،بينما حت ّري
امل��ك��ارم كما ذه��ب اليه ال��راغ��ب الأ�صفهاين «م��ن باب
تف�ضل
الف�ضل والنفل ،وال ُيقبل تنفُّل من �أهمل الفر�ض ،وال ُّ
من ترك العدل ،بل ال ي�صح تعاطي الف�ضل �إال بعد العدل،
ف�إن العدل فعل ما يجب ،والتف�ضل الزيادة على ما يجب،
وكيف ي�صح ت�صور الزيادة على �شيء هو غري حا�صل يف
ذاته ،ولهذا قيل :ال ي�ستطيع الو�صول من �ضيع الأ�صول.
فمن �شغله الفر�ض عن الف�ضل فمعذور ،ومن �شغله
الف�ضل عن الفر�ض فمغرور ،وقد �أ�شار تعالى بالعدل �إلى
الأحكام ،وبالإح�سان �إلى املكارم بقوله تعالى } :ﭻ ﭼ
(((
ﭽ ﭾ ﭿ { (النحل.»)90:
وهو ما �أك��ده الراغب الأ�صفهاين يف املفردات بقوله
«فتح ّري العدل واجب وحت ّري الإح�سان ندب وتطوع»(((.
وقد الحظ الإمام �أبو هالل الع�سكري يف تف�سريه لهذه
- 1الذريعة� ،ص.94
� - 2ص.126
30
الآية تداخل العدل والإح�سان فيما بينهما فقال« :والإح�سان
داخل يف العدل ،والعدل داخل يف الإح�سان ،ومع هذا ف�إن
الفرق بينهما معروف ،وقد يعطف ال�شيء على ال�شيء و�إن
كانا يرجعان �إلى �شيء واحد �إذا كان يف �أحدهما خالف
للآخر» (((.
-جمال العدل والف�ضل:
يقول الإم��ام ابن عا�شور عن قوله تعالى « :و�أح�سنوا
�إن اهلل يحب املح�سنني» ''ويف حذف متعلق �أح�سنوا تنبيه
على �أن الإح�سان مطلوب يف كل حال وي�ؤيده قوله --
يف احلديث ال�صحيح �' :إن اهلل كتب الإح�سان على كل
�شيء(((»((( ،فهذا احلديث م� ِّؤطر لنظرية الإح�سان ،ذلكم
�أن الإح�سان ال ينبغي �أن يكون انتقائيا �أو يف مواطن دون
�أخرى ،بل ينبغي �أن يكون م�ستغرقا لكافة جوانب احلياة
الإن�سانية ،و«كل �شيء» هنا تفيد اال�ستغراق وتفيد مطلق
العموم .واملثري يف هذا احلديث �أن النبي م َّثل للإح�سان
يف مقام ُي�ستغرب فيه الت�صرف بالإح�سان ولو �صدر فيه
-1الوجوه والنظائر يف القر�آن الكرمي� ،ص 246ـ ،247دار الكتب العلمية.
- 2رواه م�سلم .
-3التحرير والتنوير. 405/2 ،
31
الإن�سان عن غري الإح�سان لكان معذورا ،هذا املقام هو
مقام الذبح ،ومقام القتل «ف�إذا ذبحتم ف�أح�سنوا الذبحة
و �إذا قتلتم ف�أح�سنوا القتلة».
يقول الإمام ابن عبد ال�سالم «� َّإن اهلل كتب الإح�سان يف
كل �شيء حتى يف قتل ما �أمر بقتله ،وذبح ما �أمر بذبحه،
(((
ورجم من �أمر برجمه»..
�أي �أن هذا املقام لو �أت��اه الإن�سان بغري �إح�سان لكان
معذورا لأنه مقام �سلبي ،ورغم ذلك �أُمرنا فيه �أن نكون
حم�سنني ،فيكون من باب �أولى �أن نكون �أكرث �إح�سان ًا يف
خمتلف املجاالت املدنية واحل�ضارية..
�إن حتري امل�سلم العدل يف الأحكام عند االت�صاف بها
وحتقيقها يف حياته والتحقق بها تورثه �صفة العدالة التي
هي ف�ضيلة للنف�س و«هيئة يختار بها �أبدا الإن�صاف من
نف�سه على نف�سه �أوال ،ثم الإن�صاف واالنت�صاف من غريه
ول���ه»((( .بالإ�ضافة �إل��ى العائد الإيجابي واخل�يري على
هم بالعدل وحت ّراه
ال�صادر عنه «والعادل مع النا�س �إذا َّ
� - 1شجرة املعارف� ،ص.348
- 2تهذيب الأخ�لاق ،م�سكويه� ،ص ،18حت :ق�سطنطني زريق ،اجلامعة الأمريكية ،
بريوت .1996
32
(((
فقد عدل مع نف�سه قبل �أن يعدل مع غريه».
ثم �إن انعدام ف�ضيلة الف�ضل يف حياة املجتمعات والأفراد
م��ورث ملجموعة من الأم��را���ض االجتماعية والتجاوزات
ال�سلوكية.
والنا�س متى تركوا تعاطي الإح�سان والأف�ضال وحتري
العدالة فيما بينهم ،فال ي�أتونها ال خلقا وال تخلقا،
وال رياء وال �سمعة ،وال رغبة وال رهبة ،ف�صاروا يف تعاطي
ال�شر �سوا�سية ك�أ�سنان احلمار ،عدمت فيهم الف�ضيلة
(((
والوفاء.
�إذن فالف�ضل درجة فوق العدل كما م َّر بنا �سالفا،
�إال �أن جماله كل املعامالت بني النا�س ما عدا املنازعات
التي يف�صل فيها القا�ضي.
لأن احلاكم الميلك حقًّا يعطيه من عنده حتى يعط َيه
وزيادة ففاقد ال�شيء ال يعطيه ،و�إمنا ينزعه من الظامل
وي��ع��ط��ي��ه ل��ل��م��ظ��ل��وم} .ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ
ﯧ{(الن�ساء.)58:
- 1الذريعة.358،357 ،
- 2الذريعة�،ص .161
33
بينما �صاحب احلق يف حالة الوفاق والوئام ولي�س يف
حالة ال�شقاق و اخل�صام هو ال��ذي ميلك �أن يعطي فوق
مايجب عليه وي�أخذ �أقل ما ي�ستحقه.
وللإمام الراغب الأ�صفهاين كالم نفي�س يف هذا ال�صدد
يقول فيه« :الإف�ضال والإح�سان �أ�شرف من العدل �إذا كان
احلكم بينك وبني غريك ،ف�أما �إذا حكمت بني اثنني فلي�س
�إال العدل ،و�إمنا الإح�سان �إلى املتحاكمني ،ولهذا قال تعالى:
}ﭥﭦﭧﭨﭩ{ (املائدة ،)42:وقال
تعالى} :ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ
ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ{ (الن�ساء ،)58:وقال
ملن له احلق} :ﯵﯶﯷﯸﯹ ﯺﯻﯼ
ﯽ{ (البقرة ،»)237 :وقال يحيى بن معاذ« :ا�صحبوا
النا�س بالف�ضل ال بالعدل فمع العدل ،اال�ستق�صاء ،ومع
الف�ضل اال�ستبقاء ،و�إين لأرجو �أن يحا�سب اهلل تعالى عباده
بالف�ضل ال بالعدل ،وقد �أمرهم �أن ي�صاحب بع�ضهم بع�ضا
عظم اهلل تعالى �أمر الإح�سان والإف�ضال بالف�ضل ،وقد َّ
ف��ق��ال} :ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ{ (ي��ون�����س،)26:
وقال :وهل ي�أمر احلكيم مبا ال يفعله؟ وكيف يرتك الكرمي
التف�ضل ويقت�صر على العدالة وقد بني �أن الف�ضل �أكرم
و�أف�ضل –تعالى ع��ن �أدن���ى املنزلتني -وكيف ال ُيرجى
34
تف�ضله و�أفعاله كلها عدل وعدله كله تف�ضل ،لأنه مبتدئ
مبا ال يلزمه واالبتداء مبا ال يلزم تف�ضل ،وهل يجوز �أن
يرتك التف�ضل انتها ًء وقد حت ّراه ابتدا ًء؟(((»
والعدل يبقى ف�ضيلة من الف�ضائل ،بل هو «تارة يقال
هو الف�ضائل كلها من حيث �إنه ال يخرج �شيء من الف�ضائل
عنه»((( وينبغي االت�صاف به« ،فالإن�سان يف حتري فعل
العدالة يكون تام الف�ضيلة �إذا ح�صل مع فعله هيئة مميزة
لتعاطيه»((( .و�إذا كان العدل «يجري جمرى النقطة من
الدائرة فتجاوزها من جهة الإفراط عدوان .والعدل �أي�ضا
و�سط واع��ت��دال ،و�أي ع��دول عنه فهو خ��روج «م��ن و�سط
بزيادة �أو نق�صان ،ولذلك �صار اجلور واخلط�أ – بالإ�ضافة
�إلى العدل وال�صواب – من ح ِّيز ما ال نهاية له ،والعدل
وال�صواب من ح ِّيز املتناهي»(((.
-العدل والف�ضل يف القر�آن الكرمي:مناذج
ميكن الوقوف على قيمة العدل والف�ضل يف القر�آن
الكرمي بدون عناء يف ِّ
كل �أحكام ال�شريعة الإ�سالمية ويف
- 1الذريعة.253-252 ،
- 2نف�سه.
- 3نف�سه.
- 4نف�سه.
35
ٍ
ومعامالت ٍ
عادات ٍ
عبادات و ِّ
كل جماالت الن�شاط الإن�ساين
ٍ
وجنايات .
و�س�أكتفي ب�إيراد بع�ض الآيات القر�آنية ِّ
املغطية لأغلب
الن�شاط الإن�ساين انتقا ًء ال ا�ستق�صا ًء �أو ا�ستقرا ًء ،و يكفي
من القالدة ما يحيط بالعنق.
-1ال َّدين:
� -آي��ة املداينة } ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ
ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ{ (البقرة.)282 :
والت�سا�ؤل الذي يتبادر �إلى الذهن هو كيف ُيعقل �أن
تكون �أطول �آية يف القر�آن هي �آية املداينة عك�س ما ينبغي
�أن تكون عليه الآيات الطوال ،كالآيات العقدية �أو الآيات
العبادية؟
والذي يعزِّ ز م�شروعية هذا الت�سا�ؤل هو �أن الإن�سان لي�س
يف حاجة �إلى من ي�أمره �أو يذ ِّكره بتوثيق ديونه نظر ًا �إلى
حر�صه على ذلك بحكم احلر�ص الفطري ومما ي�ؤكد
فطرية هذا احلر�ص هو �أن غري امل�سلمني يو ِّثقون الديون
من تلقاء �أنف�سهم.
36
ومن ع��ادة ال�شرع �أن��ه عندما يكون داع��ي الطبع قويا
ف�إن داعي ال�شرع يكون �ضعيفا ،و�أما �إذا كان داعي الطبع
�ضعيفا ف�إن داعي ال�شرع يكون قويا .يقول الإمام ال�شاطبي:
«�إذا كان الداعي قويا جدا بحيث يحمله ـ �أي املكلف ـ قهرا
على ذلك ،مل ي�ؤكد عليه ـ �أي ال�شارع ـ الطلب بالن�سبة �إلى
نف�سه»(((.
داع فطري للزواج ولهذا ف�إن فالإن�سان مثال عنده ٍ
الآي���ات القر�آنية التي حتث على ال���زواج قليلة ال��ى حد
الندرة واملت�أمل فيها يجدها ذات طابع ت�سديدي اختياري
}ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ{
(النور} ، )32:ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶﭷ ﭸ
ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾﭿ ﮀ ﮁ
ﮂ ﮃ ﮄﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ
ﮌ{ (البقرة الآي��ة )221وه��ذا بخالف الآيات
التكليفية وخا�صة العبادية فهي كثرية جدا يف القر�آن
الكرمي حيث داعي الطبع �ضعيف جدا عند املكلف.
وعلى هذا الأ�سا�س ف���إن امل�س�ألة فيها تنا�سب عك�سي
«كلما كان داعي الطبع �ضعيفا كان داعي ال�شرع قويا».
1ـ املوافقات ،ال�شاطبي ،138/2 ،حت :عبد اهلل دراز ،ط ،2005 ،7دار الكتب العلمية.
37
�إذن ،ف���إن الأ�صل يف الإن�سان �أن يكون داع��ي الطبع
يدعوه �إلى توثيق الديون ،فلماذا �أتت �آية طويلة جدا التي
هي �أطول من بع�ض ال�سور الق�صرية لتكون فيها تفا�صيل
لتفا�صيل جميع االح��ت��م��االت «ف����إن مل يكونا – ف���إن مل
حث القر�آن الكرمي
يكن »...يف �آية متعلقة بال َّدين؟ ثم ملاذا َّ
على كتابة ال َّدين وندب �إليها؟ وملاذا �أطال يف اجلزئيات
والتفا�صيل اخلا�صة باملداينة �إلى حد �إعفاء املقرت�ض من
ر ِّد �أ�صل ال َّدين ودعوة املقر�ض �إلى �إ�سقاطه عنه } ﯧ
ﯨ ﯩ ﯪ ﯫﯬ ﯭﯮ ﯯ ﯰﯱﯲﯳ
ﯴ ﯵ ﯶ{ (البقرة)280:؟
لعل الإجابة عن هذه الأ�سئلة تكمن يف �أن �آية املداينة
حتقق احلد الأدنى الذي هو العدل ،ذلك �أن الديون �إذا
مل تو َّثق ابتدا ًء فقد يقع املتداينون يف الظلم انتها ًء .ولهذا
ال�سبب ف ��إن املقر�ض مطالب باالنخراط يف �إج��راءات
عفي املقرت�ض من التوثيق والكتابة ،و�إن كان يف نيته �أن ُي َ
رد ال َّدين لأن ذلك هو الذي يحمي املقر�ض من �أن يتجر�أ
عفى ابتدا ًء
عليه املقرت�ض فيظلمه خا�صة �إذا علم �أنه ُم ً
من رد ال َّدين بقرينة عدم كتابته وتوثيقه.
38
والف�ضل عموما -ويف هذه امل�س�ألة خ�صو�ص ًا -درجات
ترتقي من الأدنى �إلى الأق�صى.
فالعدل يف القر�ض هو الوفاء بر ِّده يف املوعد املن�صو�ص
عليه يف العقد.
و�أما الف�ضل يف حده الأدنى فهو �إمهال املقرت�ض مدة
تتي�سر له الظروف }ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ �إلى �أن َّ
ﯬ ﯭ{ ،و�أما الف�ضل يف حده الأق�صى ف�إنه ي�صل �إلى
درج��ة �إ�سقاط ال َّدين كليا} ،ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ{
يقول العز بن عبد ال�سالم «ال�صدقة بالإبراء خري من
الإنظار»(((.
– 2الق�صا�ص:
قال تعالى} :ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ
ﮐ{ (البقرة. )178:
يقت�ص لنف�سه من املعتدي لأنه
فالإن�سان بطبعه يحب �أن َّ
ي�شعر بالظلم من ج ّراء اعتداء غريه عليه واالقت�صا�ص
يتم
من الظامل حق طبيعي للمظلوم .ومن العدل �أن َّ
له ذلك }ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐﮑ
� - 1شجرة املعارف�،ص .181
39
ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ { (البقرة.)178:
ولكنه يف حالة الت�سامي ال��ذات��ي وال�صفاء الروحي
تف�ض ًال ومكرمة ،و�أن ُي�سقط
يحب �أن يعفو ُّ
والنقاء اخللقي ُّ
الق�صا�ص يف حالة املقدرة لأن خ�ير العفو ما ك��ان مع
املقدرة.
والآي�������ات ال���ق���ر�آن���ي���ة امل�����ش��ج��ع��ة ع��ل��ى ال��ع��ف��و كثرية
م���ن���ه���ا} ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ
ﮡ ﮢ ﮣ{ (ا ل�������ب�������ق�������رة })178 :ﭥ ﭦ
ﭧ {(الن�ساء } ،)92 :ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ
ﯖ ﯗ { (ال�شورى }،)40 :ﭥ ﭦ ﭧ {
( �آل ع����م����ران } ،)134 :ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ
ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ{(الن�ساء،)149:
}ﮈﮉﮋﮌﮍﮎﮏﮐ{ (النور.)22:
وبهذا ال�صدد يقول الإم��ام عز الدين بن عبد ال�سالم
«و�إح�سان املقت�ص :بالعفو عن الدية والق�صا�ص� ،أو عن
الق�صا�ص �إلى الدية ،فيطالب بها باملعروف ،وي�ؤدي
اجلاين الدية �إليه ب�إح�سان .والعفو عن كل ق�صا�ص
40
خمتلف فيه �آكد و�أف�ضل»(((.
واذا ك��ان« .العفو �أن ي�ستحق حقا في�سقطه ويربئ
عنه من ق�صا�ص �أو غرامة»((( ،كما قال الإمام الغزايل،
ف�إن �إ�سقاط الق�صا�ص ُيعترب «من �أف�ضل ال�صدقات» لأنه
ت�ص ُّدق باحلياة �أو ببع�ض الأع�ضاء وال�صفات .وت�ش ُرف
ال�صدقات ب�شرف املت�ص َّدق ب��ه ،و�أي �شيء �أ�شرف من
(((
احلياة بعد �سالمة الأديان!.
وطعم خا�ص ولذيذ على نف�سية و للعفو �أث��ر �إيجابي َ
امل�سلم �إلى درجة «�أن لذة العفو �أطيب من لذة الت�شفي
لأن لذة العفو يلحقها حمد العاقبة ،ولذة العقوبة يلحقها
ذ ُّم الندم ،والعقوبة �أَ ْ ألَ ُم حاالت ذوي القدرة ،وهي طرف
من اجل��زع ،ومن ر�ضي �أن ال يكون بينه وبني الظامل له
�إال �سرت رقيق فلينت�صف ،وقد نبه اهلل تعالى على ذلك
بلطيف م��ن امل��ق��ال ،ف��ق��ال تعالى} :ﮬ ﮭ ﮮ
ﮯ{ (ال�شورى )40:ف�سمى جم��ازاة امل�سيء ب�إ�ساءته
41
�إ����س���اءة ،وق���ال ت��ع��ال��ى} :ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ
ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ{ (ال��ب��ق��رة )194:ف�سمى املجازي
على االعتداء معتديا تنبيها على �أنه قد كاد يكون �إياه،
والعقوبات فيما بني النا�س �أقبحها ما كان فيما مل يظهر
(((
بالفعل.
والعفو ف�ضيلة مندوبة لقول اهلل تعالى }ﭵ ﭶ ﭷ
ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ{(.الأعراف)199:
قال جعفر ال�صادق � :أمر اهلل نبيه مبكارم الأخالق يف
هذه الآية ،ولي�س يف القر�آن �آية �أجمع ملكارم الأخالق من
هذه الآية .وقال �صلى اهلل عليه و�سلم « :بعثت لأمتم مكارم
الأخالق»((( (((.
وقد �أمر القر�آن الكرمي بالعفو �أخذ ًا ال �إعطاء ،رغم �أنه
تف�ضل ،ولكن احلكمة يف هذا التعبري يف الواقع �إعطاء لأنه ُّ
القر�آين هي �إ�شاعة هذه القيمة اخللقية التي قد ي�صعب
على كثري �أن يتخ َّلق بها خا�ص ًة �إذا ا�ست�شعر امل�أمور به ب�أنه
ال�ضن بهذه الف�ضيلة والبخل ِّ بذل وعطاء ما يدعوه �إلى
- 1الذريعة.344-342 :
- 2رواه �أحمد عن �أبي هريرة ر�ضي اهلل .
3اجلامع لأحكام القر�آن (.)345/7
42
عي �إلى الأخذ بدل العطاء.
بها .بينما قد يت�شجع �إذا ُد َ
هذا بالإ�ضافة �إلى �أن الإن�سان ي�ستجيب تلقائيا ملا فيه
�أخذ ويتل َّك�أ و يرت َّدد يف ما فيه عطاء.ومبالحظة هدا التعبري
الذي ا�ستعملته الآية ميكن القول ب� َّأن العفو �إذا كان عطا ًء
وحال ف�إنه �أخذ انتها ًء وم� اًآل.
ابتدا ًء اً
-3ر ُّد االعتداء:
}ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ{
(البقرة)195 :
يقول الإمام الراغب «ف�سمي اعتداء و�سيئة ،وهذا النحو
هو املعني بقوله } :ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ{ �أن
(((
يقابل اخلري ب�أكرث منه وال�شر ب�أقل منه»
ف��رد االع��ت��داء باملثل مي�� ِّث��ل احل��د الأدن����ى ال���ذي هو
العدل ،و�أ ّم��ا احلد الأق�صى ال��ذي هو الإح�سان فيتم َّثل
يف قوله جل وعال } وﭓ ﯝ ﮧ ﭪ ﭫ{
(البقرة.)195:
وعن حكمة ورود الأمر بالإح�سان يف هذا ال�سياق يقول
الإم��ام ابن عا�شور «ويف الأمر بالإح�سان بعد ذكر الأمر
-1املفردات� ،ص .329
43
باالعتداء على املعتدي والإنفاق يف �سبيل اهلل والنهي عن
الإلقاء باليد �إلى التهلكة �إ�شارة �إلى � ّأن ك ّل هاته الأحوال
يالب�سها الإح�سان ويحفُّ بها ،ففي االعتداء يكون الإح�سان
بالوقوف عند احلدود واالقت�صاد يف االعتداء واالقتناع
مبا يح�صل به ال�صالح املطلوب ،ويف اجلهاد يف �سبيل اهلل
يكون الإح�سان بالرفق بالأ�سري واملغلوب وبحفظ �أموال
املغلوبني وديارهم من التخريب والتحريق ،والعرب تقول:
(ملكت ف�أ�سجح ) ،واحلذر من الإلقاء باليد �إلى التهلكة
(((
�إح�سان».
-4االنت�صار:
قال اهلل عز وج��ل} :ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ
ﯤ ﯥ ﯦ{ (ال�شورى)41:
وقال �سبحانه وتعالى} :ﮥﮦﮧ ﮨﮩﮪ{
(ال�شورى ،)39:يقول الإم��ام ابن عبد ال�سالم «مدحهم
باالنت�صار لأنهم مل يزيدوا عليه� .إذ لو زادوا عليه لكان
تعديا ومل يكن انت�صارا»(((.
44
-5الرفق يف رد ال�سائل:
ق�����ال اهلل ت���ع���ال���ى} :ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ
ﯙ ﯚ ﯛ{ (ال���ب���ق���رة ،)263:وق���ال} :ﭑ
ﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚ ﭛ
ﭜ{ (الإ���س��راء ،)28:وق��ال} :ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ{
(ال�ضحى.)10:
يقول الإم��ام العز بن عبد ال�سالم «ال�سائل منك�سر
بالفقر ِّ
وذل ال�س�ؤال ف���إذا �ضممت �إل��ى ذل��ك �سوء الرد
ت�ضاعف ك�سره .ف�إن مل حت�سن �إليه بالبذل فال �أقل من
ح�سن الرد»(((.
45
املبحث الثاين
�إطار العدل والف�ضل
يف العالقة الزوجية
4747
�إطار العدل والف�ضل يف العالقة الزوجية
قبل ا�ستعرا�ض الآيات القر�آنية التف�صيلية التي ت َُد ِّثر
الأ�سرة امل�سلمة بق َيم الف�ضل ،يح�سن بنا �إيراد بع�ض الآيات
القر�آنية التي ت�ش ِّكل �إطار ال�صورة الوظيفية التي ينبغي �أن
تكون عليها الأ�سرة امل�سلمة.
ونحن نعلم الوظيفة ال َّتجميلية وال َّتحديدية للإطار.
فالإطار ير�سم احلدود التي ينبغي �أ َّال تتجاوزها ال�صورة
بالإ�ضافة �إلى �أنه يزيد ال�صورة جماال.
-الآية الأوىل :هي قول اهلل ع َّز وجل} ﮣ ﮤ
ﮥ ﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭ
ﮮ ﮯ{ (�سورة الفرقان.)74 :
ت�ضمنت ه���ذه الآي����ة ال��ك��رمي��ة ال�����واردة دع����ا ًء على
ل�سان عباد الرحمن وظيفة الأ�سرة اجلامعة بني املتعة
والر�سالية ،فاملتعة تتم َّثل يف � َّأن ال��زواج تَق ُّر به الأعني
�إجنابا وا�ستمتاعا ،والر�سالية يكون فيها امل�ؤمن املتزوج
ر�ساليا بل �إمام املتقني.
وهذه الآية حمورية يف املو�ضوع لأنها جاءت يف �سياق
«عباد الرحمن» ولي�س يف �سياق «عبيد الرحمن» ،يقول
49
احلق ج َّل وع�لا } :ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ
ﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞ
ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ { (�سـ ـ ــورة
الفرقان 63:ـ ـ ،)64فع َّدد احلقُ �سبحانه وتعالى �صفاتهم
�إلى �أن قال } :ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ
ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ {(�سورة
الفرقان )74:ذلكم �أن العبادية يف القر�آن الكرمي �صفة
ا�صطفائية انتقائية مبقت�ضى الألوهية بخالف العبيدية
التي هي �صفة قهرية يجتمع وي�شرتك فيها النا�س مبقت�ضى
الربوبية فاهلل ع َّز وجل يقول} :ﰗ ﰘ ﰙ ﰚ{
(�سورة ف�صلت ،)46 :فاملق�صود هنا كل العبيد كافرهم
وم�ؤمنهم ،ولكن العباد يف القر�آن تطلق دائما على الذين
اختاروا �أن يكونوا عبادا هلل اختيارا ال الذين هم عباد
هلل ا�ضطرارا ،ويظهر لنا هذا بجالء �إذا تتبعنا الآيات
القر�آنية} ،ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ
ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ{ (الفرقان)63 :
}ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ{ (ال��ب��ق��رة} )186 :ﭣ
50
ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ{
(الأعراف.)32 :
ومن هنا نخل�ص �إلى �أن «العباد» يف القر�آن �إذا ذكر
ين�صرف �إلى العبادية اال�صطفائية االنتقائية ،ولي�س �إلى
مطلق العبودية التي ي�شرتك فيها عامة النا�س.
خا�صة العباد الذين هم عباد الرحمن مي َّثلون ف�إذا كان َّ
القمة يف الورع والتد ُّين لأنَّهم يبيتون لر ِّبهم �سجدا وقياما،
ف���إن ه��ذا ال ينايف �إطالقا �أن ي��ت��زوج��وا،وال يتعار�ض �أن
يتزوجوا بخلفية ا�ستمتاعية مع مقت�ضيات الر�سالية ،ولهذا
فالنبي �صلى اهلل عليه و�سلم يقول عن نف�سه -وهو الذي
يل من دنياكم مي ِّثل القمة العبادية اال�صطفائيةُ -
«ح ٍّبب �إ َّ
الن�ساء و الطيب»((( ،ولكن الذي مييزه عن جميع النا�س
«وجعلت قرة عيني يف ال�صالة» مبعنى ميكنك �أن ت�ستمتع
ماديا وج�سديا بت�ساوق مع اال�ستمتاع معنويا و روحيا.
وميكن �أن ن�ستخل�ص من هذه الآي��ة التي وردت دعا ًء
على ل�سان عباد الرحمن �إ�شارتني منهجيتني:
-1عن �أن�س بن مالك رواه احمد ،والن�سائي ،واحلاكم يف م�ستدركه وقال� :صحيح على
�شرط م�سلم.
51
تتمثل الأول��ى يف كون هذه الأدعية ذات حمولة قيمية
ومن هنا ،ينبغي �إعادة االعتبار القيمي للدعاء و �أ َّال ي�صبح
التعامل معه باعتبار الطلب فح�سب.
�أما الثانية فتتجلى يف �أن ه���ؤالء العباد الذي ميثلون
مثاال للتدين ،بل قمة التدين ،ال يتنافى �إطالقا عندهم هذا
املقام مع االلتفات �إلى احلاجيات البيولوجية والغريزية،
واال�ستمتاع بها ،وعدم االكتفاء بها يف ُبعدها ال�ضروري،
بل �إتيانها حتى يف ُبعدها التح�سيني و املكارمي.
-الآية الثانية} :ﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏ
ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ{
(الروم.)21 :
وميكن �أن نتعامل مع هذه الآية يف �أربعة م�ستويات:
امل�ستوى الأول:اع��ت�بر القر�آن الكرمي الزوجية وبناء
الأ�سرة من �آيات اهلل ،والآية الكونية مدعاة للت�أمل املتف ِّكر
و التف ُّكر املت�أمل امتثاال لقوله تعالى } ﮉﮊ ﮋ ﮌ
ﮍﮎﮏﮐﮑ ﮒﮓﮔﮕ
ﮖﮗﮘﮙ ﮚﮛﮜﮝ ﮞ
ﮟﮠ ﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨ
52
ﮩ{ ( �آل ع��م��ران} )191- 190:ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ
ﮁﮂﮃﮄ ﮅﮆ ﮇﮈﮉﮊﮋﮌ
ﮍﮎﮏ ﮐﮑﮒﮓﮔﮕ
ﮖﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ
ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦﮧ ﮨ ﮩ ﮪ
ﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱ ﯓﯔ
ﯕ ﯖﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ
ﯠﯡﯢ ﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩ
ﯪ ﯫ ﯬ ﯭﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ{
(الروم20:ـ ـ ـ.)24
فالتف ُّكر يف الآي��ة الأ�سرية من�صو�ص عليه �صراحة
بقوله تعالى «�إن يف ذلك لآيات لقوم يتفكرون» ،وهو تف ُّكر
متجدد للوقوف على املعاين املتعددة والدالالت املتجددة
التي توحي بها الأ�سرة مفهوم ًا ووظيف ًة بعيدا عن التعامل
ال�ساذج وال��ب��ارد والبليد مع الأ���س��رة باعتبارها ظاهرة
اجتماعية م�ألوفة وعادية..
امل�ستوى الثاين� :أن اهلل عز و جل اعترب الإن�سان الذي
يتزوج امر�أة و�إن كانت غريبة عنه ف�إمنا يتزوج جزءا منه
ومكمال له لأنها من نف�سه }ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ِّ
53
ﮏ ﮐ{ ،وذل��ك مدعاة لرفع ال�شعور بالنفور
ب�سبب الغربة والوح�شة.
يقول الإمام ابن عا�شور« :لأن الزوجني يكرث �أال يكونا
قريبني و�سببه اال�صطحابي ،يف �أول عقد التزوج حتى
تطول املعا�شرة ويكت�سب كل من الآخر خلقه� ،إال �أن اهلل
تعالى جعل يف رغبة الرجل يف املر�أة �إلى حد �أن خطبها،
ويف ميله �إلى التي يراها ،مذ انت�سبت به واقرتنت ،ويف نيته
معا�شرتها معا�شرة طيبة ،ويف مقابلة املر�أة الرجل مبثل
ذلك ما يغرز يف نف�س الزوجني نوايا وخواطر �شريفة وثقة
باخلري ،تقوم مقام ال�سبب اجلبلي ،ثم تعقبها معا�شرة
و�إلف تكمل ما يقوم مقام ال�سبب اال�صطحابي»(((.
والزوجية قانون كوين وخَ لقي كما هو من�صو�ص عليه يف
الآيات املتلوة ومبثوث يف الآيات املجلوة كما يف قوله تعالى
} ﭑ ﭒ ﭓﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ
ﭛ ﭜﭝ ﭞ ﭟﭠ ﭡ ﭢ ﭣﭤ ﭥ ﭦ
ﭧ { (ال�شورى.)11:
}ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ وقوله:
ﰊ ﰋ ﰌ{ (النحل.)72 :
-1التحرير والتنوير .)460/2( ،
54
والزوجية الأ�سرية نعمة عظمى�« ،إذ جعل قرين الإن�سان
ُ
ال�ضط ّر الإن�سان متك ّون ًا من نوعه ،ولو مل يجعل له ذلك
�إل��ى طلب الت�أ ُّن�س بنوع �آخ��ر فلم يح�صل الت�أ ُّن�س بذلك
للزوجني .وهذه احلالة و�إن كانت موجودة يف �أغلب �أنواع
احليوان فهي نعمة يدركها الإن�سان وال يدركها غريه
من الأن��واع .ولي�س من قوام ماه ّية النّعمة �أن ينفرد بها
املنعم عليه»(((.
وللزوجية الأ�سرية ظالل معنوية ونف�سية وعاطفية تلقي
بها على احلياة العائلية .ذلك � َّأن «الو�صف بالزوج ي�ؤذن
مبالزمته لآخ��ر ،فلذا �س ّمي بالزوج قرين امل��ر�أة وقرين ُة
اخت�ص بها الإن�سان �إذ �ألهمه اهلل
ّ الرجل .وه��ذه نعمة
جعل قرين له وجبله على نظام حم ّبة وغرية ال ي�س َمحان
له ب�إهمال زوجه كما تُهمل العجماوات �إناثها وتن�صرف
(((
�إناثها عن ذكورها».
و�إذا ت�أملنا يف الآية ،تتبينَّ لنا �إ�شارة تربوية منهجية
ها ّمة ،هي �أن الزوجني �إذا اعترب كل واحد منهما �أن الآخر
حب �أحد الزوجني لنف�سه ال ب َّد �أن
جزء منه وامتداد له ف�إن َّ
ين�صرف �إلى زوجه ،بل حتى الأنانيات الفردية و اال�ستئثار
-1التحرير والتنوير.218/14 ،
- 2نف�سه.
55
ال�شخ�صي الذي ي�ست�أثر به الإن�سان عاد ًة لنف�سه �سيكون
حل�ساب الزوجني ولي�س على ح�ساب �أحدهما.
وهذه الزوجية مدعاة لل�سكن كما الحظه الإم��ام ابن
حزم بقوله« :فجعل علة ال�سكون �أنها منه ،ولو كان علة
احل��ب ح�سن ال�����ص��ورة اجل�سدية ل��وج��ب �أال ي�ستح�سن
الأنق�ص يف ال�صورة»(((.
-امل�ستوى الثالث� :أن اهلل عز وجل قال} :ﮉ ﮊ
ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ{ ومل يقل
لت�سكنوا معها ،و كثري من الأزواج يحققون ال�سكن «مع»
�أزواجهم وال يحققون ال�سكن «�إل��ى» �أزواج��ه��م ،و الفرق
بني ال�سكن «مع» وال�سكن «�إلى» فرق بني املعيار احلجري
واملعيار الب�شري ،فكل زواج قائم على املعيار املادي هو الذي
يتحقق فيه ال�سكن مع ،وال��زواج الذي يتحقق فيه معيار
الدين «فاظفر بذات الدين ترِ بت يداك»((( «�إذا جاءكم
من تر�ضون دينه وخلقه فزوجوه»((( هو الذي يتحقق معه
ال�سكن «�إلى» ،ولهذا انهارت جمموعة من زيجاتنا لأنها
- 1طوق احلمامة(، 94/ 1 ،ر�سائل ابن ح��زم) ،حتقيق� :إح�سان عبا�س ،امل�ؤ�س�سة
العربية للدرا�سات والن�شر بريوت .1980
2رواه البخاري يف كتاب النكاح.
3رواه الرتمذي.
56
ر َّكزت على اجلانب املادي فقط حيث حتقق لها ال�سكن
«مع» ومل يتحقق لها ال�سكن «�إلى».
يقول الإمام ويل اهلل الدهلوي« :فاملال واجلاه مق�صد
من غلب عليه حجاب الر�سم.واجلمال وما ي�شبهه من
ال�شباب مق�صد من غلب عليه حجاب الطبيعة.والدين
مق�صد من تهذَّ ب بالفطرة ف�أحب �أن تعونه امر�أته يف دينه
ورغب يف �صحبة �أهل اخلري»(((.
-امل�ستوى الرابع :املودة والرحمة}ﮓ ﮔ
ﮕ ﮖ{ والعالقة الزوجية قائمة ابتدا ًء وامتداد ًا
على احلب ،واحلب يف حياة النا�س قائم على عدة اعتبارات
يقول م�سكويه «:املحبة �أنواع و�أ�سبابها تكون بعدد �أنواعها،
ف�أحد �أنواعها ما ينعقد �سريعا وينح ُّل �سريعا ،والثاين:
ما ينعقد �سريعا وينح ُّل بطيئا ،والثالث :ما ينعقد بطيئا
وينح ُّل �سريعا ،والرابع :ما ينعقد بطيئا وينح ُّل بطيئا،
و�إمنا انق�سمت �إلى هذه الأنواع فقط لأن مقا�صد النا�س يف
مطالبهم و�سريهم ثالثة ويرتكب بينها رابع وهي اللذة،
واخلري ،واملنافع واملرتكب منها»(((.
1حجة اهلل البالغة 190/2دار اجليل ط. 1
2تهذيب الأخالق �ص .136-135
57
و�أ�سباب انعقادها وا�ستمرارها متعددة« ،ف�أما املحبة
التي يكون �سببها اللذة فهي التي تنعقد �سريعا وتنحل
�سريعا ،وذلك �أن اللذة �سريعة التغري...
و�أما التي ترتكب من هذه الثالثة �إذا كان فيها اخلري
ف�إنها تنعقد بطيئا وتنح ُّل بطيئا.
و�أما املحبة التي �سببها املنافع فهي التي تنعقد بطيئا
وتنح ُّل �سريعا.
و�أما املحبة التي �سببها اخلري فهي التي تنعقد �سريعا
وتنحل بطيئا.
وهذه املحبات كلُّها حتدث بني النا�س خا�صة لأنها تكون
ب�إرادة ورو َّية ويكون فيها جمازاة ومكاف�أة»(((.
-الآي�����ة ال��ث��ال��ث��ة} :ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ{
(�سورة البقرة.)184 :
فهذه الآي��ة الكرمية توحي مبا ينبغي �أن تكون عليه
العالقة الأ�سرية �أو العالقة الزوجية ،فتعبري القر�آن
الكرمي عن العالقة الأ�سرية بهذا اللفظ «لبا�س» له �أكرث
-1نف�سه .
58
من معنى((( لأن اللبا�س امل��ادي يحيل على خم�سة �أبعاد
على الأقلُ :بعد الدفءُ ،بعد التج ُّملُ ،بعد ال�سرت ،و ُبعد
االلت�صاق ،و ُبعد االختيار.
كل هذه الإيحاءات والأبعاد احل�سية ِل ِّلبا�س ينبغي �أن
تن�صرف �إلى �أبعاد معنوية يف العالقة الزوجية ،فالعالقة
الزوجية يجب �أن يتحقق فيها ال��دفء العاطفي ،لأنها
- 1وردت عند املف�سرين �إ�شارات بالغية وبيانية يف معنى اللبا�س ال��وارد يف الآية
قال االمام القرطبي �« :أ�صل اللبا�س يف الثياب ،ثم �سمي امتزاج كل واحد من الزوجني
ب�صاحبه لبا�سا ،الن�ضمام اجل�سد وامتزاجهما وتالزمهما ت�شبيها بالثوب .وقال النابغة
اجلعدي:
�إذا ما ال�ضجيع ثنى جيدها تداعت فكانت عليه لبا�سا
وقال �أي�ضا:
و�أفنيت بعد �أنا�س �أنا�سا لب�ست �أنا�سا ف�أفنيتهم
وقال بع�ضهم :يقال ملا �سرت ال�شيء وداراه :لبا�س .فجائز �أن يكون كل واحد منهما �سرتا
ل�صاحبه عما ال يحل اجلامع» . 315 -314 / 2
�أما االمام فخر الدين الرازي فقد قال «�أنه ملا كان الرجل واملر�أة يعتنقان ،في�ضم كل
واحد منهما ج�سمه �إلى ج�سم �صاحبه حتى ي�صري كل واحد منهما ل�صاحبه كالثوب
الذي يلب�سه� ،سمي كل واحد منهما لبا�سا� ... ،أنه تعالى جعلها لبا�سا للرجل ،من حيث
�إنه يخ�صها بنف�سه ،كما يخ�ص لبا�سه بنف�سه ،ويراها �أهال لأن يالقي كل بدنه كل بدنها
كما يعمله يف اللبا�س...
يحتمل �أن يكون املراد �سرته بها عن جميع املفا�سد التي تقع يف البيت ،لو مل تكن املر�أة
حا�ضرة ،كما ي�سترت الإن�سان بلبا�سه عن احلر والربد وكثري من امل�ضار» مفاتيح الغيب،
.5/267
�أما الإمام ابن عا�شور فقدعلل ورود هذا اللفظ بكونه «ت�أكيد ًا ل�شدة التلب�س واالت�صال
من كل جهة»...التحرير والتنوير(.)158/28
59
عالقة قائمة على االلت�صاق و احلميمية ،والعالقة الزوجية
قائمة على ال�سرت ،لي�س فقط �سرت العالقة احلميمية ،بل
حتى �سرت الأ�سرار الزوجية واحلر�ص �أ َّال تخرج و�أ َّال ت�شيع،
باعتبار �أن الأ�سرار الزوجية عبارة عن عورات والإن�سان
�أُم��ر �أن ي�سرت العورات �سواء املادية �أو املعنوية ،ثم �إن
اللبا�س ع��اد ًة ما نختاره ،فمبد�أ ال��زواج ينبغي �أن ينبني
على االختيار و لي�س على الإجبار.
احل�سية اخلم�سة ِل ِّلبا�س
ومن هذا املنطلق ،فهذه الأبعاد ِّ
تن�صرف �إلى اجلانب املعنوي يف العالقة الزوجية وينبغي
للمتزوجني �أن يحققوه يف حياتهم الأ�سرية.
-الآي�����������ة ال������راب������ع������ة } :ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ{
(البقرة.)237:
وهذه الآية فيها �إ�شارة بالغية يجدر التنويه بها ،ذلكم �أن
اهلل ج َّل وعال اعترب الف�ضل موجودا �أ�صال يف فطرة الأزواج
يتم التذكري به
ولي�س �أمرا طارئا عليهم ،فقط ُيحتاج لأن َّ
يف حقِّ الأزواج لكي ال ُين�سى ،فالف�ضل قيمة �أ�صلية و�أ�صيلة
يف حياة الزوجني ولي�س قيمة دخيلة عليهما.
بالإ�ضافة �إل��ى �أن الأم��ر بعدم ن�سيان الف�ضل«لزيادة
60
التف�ضل ال��دن��ي��وي ،ويف
ُّ الرتغيب يف العفو مب��ا فيه م��ن
حب الف�ضل ...ف�أُمروا يف هاته الآية ب�أن ِّ
الطباع ال�سليمة ُّ
يتعاهدوا الف�ضل وال ين�سوه ؛ لأن ن�سيانه يباعد بينهم وبينه،
ِ
في�ضمح ُّل منهم ،ومو�شك �أن يحتاج �إلى عفو غريه عنه يف
واقعة �أخرى ،ففي تعاهده عون كبري على الإلف والتحابب،
وذلك �سبيل وا�ضحة �إلى االحتاد وامل�ؤاخاة واالنتفاع بهذا
الو�صف عند حلول التجربة»(((.
61
املبحث الثالث
اجتاهات العدل والف�ضل
يف القر�آن الكرمي:
يف جمال الأ�رسة
6363
اجتاهات العدل والف�ضل يف القر�آن الكرمي:
يف جمال الأ�سرة
�إن العالقة الزوجية ال ينبغي �أن تقوم على العدل
فح�سب ،بل ينبغي �أن تقوم على الف�ضل باعتباره م�ؤطرا
وحا�ضن ًا لتلك العالقة ،بحيث �إذا �أخط�أ الإن�سان الف�ضل
يف تفا�صيل حياته الزوجية ،ف�إنه ي�سقط يف مرتبة العدل،
ال عن مرتبة العدل �إلى مرتبة الع�ضل .و�إذا كان القر�آن
الكرمي قد ن��دب �إل��ى الف�ضل يف العالقات االجتماعية
والعالقات املالية والعالقات اجلنائية ،فمن باب �أولى
�أن يكون الف�ضل مطلوبا يف العالقة الزوجية ،وذلك لعدة
اعتبارات منها �أن الإن�سان قد ال يحتاج �أو ي�ضط ُّر �إلى تلك
املجاالت ،كاالقرتا�ض� ،أو الق�صا�ص...
بينما العالقة الزوجية �أو الأ�سرية هي عالقة �ضرورية
ودائمة و دائبة وال ي�ستغني �أي �إن�سان عنها �سوا ًء �أكان �أب ًا
�أو زوج ًا �أو ابن ًا .لأن الأ�سرة هي اخللية االجتماعية التي
يعي�ش ك ُّل �إن�سان فيها وبها .بالإ�ضافة �إلى �أنَّها حميمية
ما�س
احل�سية ،وال َّت ِّ
وقائمة على االحتكاك اليومي واملعا�شرة ِّ
النف�سي ،مما ي�ستدعي اخت�ضانا قيمي ًا من الف�ضل .
65
ثم �إن العالقة الزوجية ال ميكن �أن حت ِّلق �إ ّال بجناحي
العدل والف�ضل يف الف�ضاء االجتماعي حتى يتحقق لها
اال�ستقرار واال�ستمرار واال�ستثمار .و االكتفاء بجناح واحد
ال ي�ضمن يف �أح�سن الأحوال �إ َّال النهو�ض والإقالع و التحليق
القريب ال البعيد.
و ميكن �أن نالحظ �أن العدل والف�ضل يف القر�آن يف
جمال الأ�سرة يتجهان �إلى كل �أفراد ومكونات الأ�سرة .
-النوع الأول :الف�ضل من الرجل �إىل املر�أة
يعترب هذا النوع هو الغالب يف القر�آن الكرمي ،ونورد
بع�ض هذه الأحكام ب�آياتها على �سبيل الإ�شارة والإثارة.
}ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ{ -ال������ق������وام������ة
(الن�ساء.)34:
هذه الآية �أ�صل ت�شريعي ُك ِّل ّي تتف ّرع عنه الأحكام التي
يف الآيات بعده ((( ،و�إذا ت�أملناها ف�إنها تفيد وحتيل على
قيمة الف�ضل ،لأن الرجل لي�س مطالبا فقط ب���أن يكون
قائم ًا ب�ش�ؤون الأ�سرة ،فالقائمون هم الذين يحققون احلد
الأدن��ى /العدل ،ولكنَّه مطا َلب ب���أن يكون ق َّوام ًا (هكذا
-1التحرير والتنوير .402/2
66
ب�صيغة املبالغة) التي تفيد التكثري و الت�ش ُّوف �إلى احلد
الأق�صى من القيام.يقول الإم��ام القرطبي « َق�� ّوام» ف ّعال
للمبالغة؛ من القيام على ال�شيء واال�ستبداد بالنظر فيه
وحفظه باالجتهاد .فقيام ال ّرجال على الن�ساء هو على
هذا احلد»(((.
-ال��ط�لاق }ﮦ ﮧﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ
ﮭ{ (البقرة.)229:
«والإم�ساك حقيقته قب�ض اليد على �شيء خمافة �أن
ي�سقط �أو يتف َّلت ،وهو هنا ا�ستعارة لدوام املعا�شرة»((( .
موجه للرجل ب�أنه �إذا �أراد �أن يطلق فهذا اخلطاب َّ
املر�أة فليطلقها ب�إح�سان ال بعدل ،لأن الطالق مقام �سلبي
والزوجان يكونان متو ِّت َرين و ميكن �أن ت�صدر عنهما �أخطاء
وت�شنُّجات� ،إذن فال بد �أن ُيتح َّرى الإح�سان حتى �إذا �أخط�أ
الزوجان درجة الف�ضل وقعا يف درجة العدل ومل يقعا عن
درجة العدل �إلى درك الع�ضل.
ثم �إن «يف ح�سن امل�صاحبة واملفارقة حفظ للوداد،
حب
وبعد من البغ�ضاء والعداوة� ،إذ ُجبلت القلوب على ِّ
-1اجلامع لأحكام القر�آن � 168 /5أبو عبد اهلل القرطبي دار الكتب العلمية .
-2التحرير والتنوير ج.407/2
67
(((
من �أح�سن �إليها وبغ�ض من �أ�ساء �إليها».
وهناك ملحظ �آخر �أ�شار �إليه الإمام ابن عا�شور بقوله
فالأمر «�إم�ساك مبعروف �أو ت�سريح ب�إح�سان» على طريقة
«ف�صرب جميل » ...واملق�صود من هذه اجلملة �إدماج الو�صاية
بالإح�سان يف حال املراجعة ،ويف حال تركها ،ف�إن اهلل كتب
الإح�سان على كل �شيء ،وقد ظهر من هذا �أن املق�صود
من اجلملة هو الإم�ساك �أو الت�سريح ْ
املط َلقني و�أما تقييد
الإم�ساك باملعروف والت�سريح بالإح�سان ،فهو �إدماج لو�صية
�أخرى يف كلتا احلالتني � ،إدماج ًا للإر�شاد يف �أثناء الت�شريع .
وامل��ع��روف هنا ه��و م��ا عرفه النا�س يف معامالتهم من
احلقوق التي قررها الإ�سالم �أو قررتها العادات التي
ال تنايف �أحكام الإ�سالم .وهو ينا�سب الإم�ساك لأنه ي�شتمل
على �أحكام الع�صمة كلها من �إح�سان معا�شرة ،وغري ذلك،
فهو �أعم من الإح�سان .
و�أما الت�سريح فهو فراق ومعروفه منح�صر يف الإح�سان
�إلى املفارقة بالقول احل�سن والبذل باملتعة ،كما قال تعالى:
}ﮔ ﮕﮖ ﮗ{ ( الأحزاب )49:وقد
68
ك��ان الأزواج يظلمون املطلقات ومينعونهن من حليهن
وريا�شهن ،وي��ك�ثرون الطعن فيهن ,ق��ال اب��ن عرفة يف
(تف�سريه)« :ف���إن قلت هال قيل ف�إم�ساك ب�إح�سان
�أو ت�سريح مبعروف قلت عادتهم يجيبون ب���أن املعروف
�أخ��ف من الإح�سان �إذ املعروف ح�سن الع�شرة و�إعطاء
حقوق الزوجية ،والإح�سان �أال يظلمها من حقها فيقت�ضي
الإعطاء ،وبذل املال �أ�شق على النفو�س من ح�سن املعا�شرة
فجعل املعروف مع الإم�ساك املقت�ضي دوام الع�صمة،
�إذ ال ي�ضر تكرره ،وجعل الإح�سان ال�شاق مع الت�سريح
(((
الذي ال يتكرر ».
وتخ�صي�ص الت�سريح بالإح�سان ،بدل الإم�ساك ،لأن
الزواج يكون يف العموم يف حالة الوفاق والرتا�ضي وتكون
نفو�س الأزواج مفتوحة على املكارمة والبذل والعطاء �إلى
درجة ن�سيان الذّات �أحيان ًا ،بينما يت ُّم الطالق يف �أجواء
(((
امل�شاحة
َّ ال�شقاق والتقا�ضي وتكون النفو�س مفتوحة على
69
وال�ضن �إلى درجة التطاول على احلقوق وه�ضمها.
ِّ وال�شَّ ره
والأم��ر بالإح�سان �أو الف�ضل يف هذا املقام هو من باب
قوي املنطق ال�شرعي القائم على«ك َّلما �ض ُعف داعي َّ
الطبع َ
داعي ال�شَّ رع».
ومن الآيات القر�آنية �أي�ض ًا قول احلق ج َّل جالله:
}ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ
ﮬ ﮭﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ
ﯘﯙ ﯚ ﯛ ﯜ{ (البقرة،)236:
فهناك احلد الأدنى/العدل الذي هو} :ﮡ ﮢ ﮣ
ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ{ ،ولكن
الف�ضل �أن حت�سن يف هذا املقام مقام الفراق والطالق
وعدم الوفاق } ﯗ ﯘﯙ ﯚ ﯛ ﯜ{»(((.
يحدد ال�شرع قيمة املتعة و�إمنا تركها لأريحية الزوج
مل ِّ
املح�سن الذي يحتكم �إلى قيم الف�ضل } .ﮯﮰ ﮱ
ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘﯙ ﯚ ﯛ ﯜ {
(البقرة.)236:
-1التحرير والتنوير .407-405/2
70
ومن الآيات قول اهلل عز و جل } :ﭑ ﭒ ﭓ
ﭔﭕﭖﭗ ﭘﭙﭚ
ﭛ ﭜ ﭝﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ
ﭣﭤﭥﭦﭧ ﭨﭩﭪ
ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ {(الن�ساء)21-20:
تفيد هذه الآي��ة �أن��ه ال يحق للمطلق �أن ي�أخذ ما �أعطى
املر�أة ولو كان قنطارا من الذهب لأنه مبنطق العدل قد
ا�ستوفاه و�أخذه ا�ستمتاعا� ،أما مبنطق الف�ضل فال ي�أخذه
}ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ
ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ{ (الن�ساء،)21:
فح َّرك يف الإن�سان بعد ًا معنوي ًا و لي�س بعد ًا مادي ًا فح�سب.
وعلى الزوج �أن ال ينظر �إلى الع�شرة الزوجية هل تعادل
ما �أعطاها من املهر �أم ال؟! ،فحتى و لو كانت قيمة املال
يف مقابل اال�ستمتاع فالعالقة الزوجية �أك�بر و�أكرث،
فال يليق �أخالقيا ،ومكارميا� ،أن ي�أخذ الزوج مقابال عن
العالقة الزوجية ملا وقع من الإف�ضاء ومن التداخل و �أخذ
امليثاق الغليظ.يقول الإم��ام ال��رازي «قوله } :ﭤ
ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ{ كلمة تعجب،
�أي لأي وجه ولأي معنى تفعلون هذا؟ فانها بذلت نف�سها
71
لك وجعلت ذاتها لذَّ تك ومتتعك ،وح�صلت الألفة التامة
واملودة الكاملة بينكما ،فكيف يليق بالعاقل �أن ي�سرتد منها
�شيئا بذله لها بطيبة نف�سه؟ �إن هذا ال يليق البتة مبن له
(((
طبع �سليم وذوق م�ستقيم».
�أي�ضا يقول اهلل عز و جل يف �سياق الطالق } ﭑ ﭒ
ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙﭚ ﭛ
ﭜ ﭝﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ
ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ{ (الطالق.)1:
واملثري يف هذه ا لآية �أن اهلل ع َّز وجل مل يقل:
«ال تخرجوهن من بيوتكم» ،لأن البيت ع��اد ًة يكون يف
ملكية الزوج ،ولكنه ن�سب البيت �إلى املر�أة ،رغم �أنها يف
العادة ال متلكه العتبارين:
االعتبار الأول :لأنها مط َّلقة ،واالعتبار الثاين :لأن
البيت و� ْإن مل يكن مل َكها وهي متزوجة ،ف�إن اهلل �سبحانه
�أثبت لها امللكية يف �سياق الطالق� ،أي �أن املط ِّلق ال يحق له
�أن يخرجها من البيت لأنه بيتها ،ولو �أنها كانت ال متلكه
وهي متزوجة عين ًا وعد ًال�.إ ّال �أنها متلكه وهي مط َّلقة ً
معنى
-1مفاتيح الغيب .1011
72
ال�صرف فالبيتوف�ض ًال ،ف�إذا ما اعتمدنا احل�ساب املادي ِّ
من حق الرجل ،و لكن ح�ساب الف�ضل يعطيها امتالك ذلك
البناء الذي بنته معنويا وعاطفيا ،فالبناء احلجري الذي
ميلكه الزوج عين ًا �أُ ِّثث مب�شاعر املر�أة وعاطفتها وتفانيها
وت�ضحياتها فا�ستحقت بذلك ملكية البيت ولو معنى.
-تعدد الزوجات:
�أي�ضا هناك �آية �أخرى ميكن �أن ن�ست�شف منها ثنائية
العدل و الف�ضل و هي تلكم التي تتعلق بتعدد الزوجات
فقول اهلل تعالى} ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ
ﮀ{ (الن�ساء ،)129:هو العدل الذي ميثل احلد
الأدن��ى يف حالة التعدد ،ولكن قوله عز وجل عقب ذلك
}ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ{
املعدد ب�أن يرتقي �إميانيا
(الن�ساء ،)129:يدعو امل�سلم ِّ
ليحقق التقوى و يحقق الإ���ص�لاح معنويا .فيفي�ض على
زوجاته ف�ضال و�إح�سانا.
النوع الثاين :الف�ضل من الزوجة �إىل الزوج
-املهر}ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ{ (الن�ساء.)4:
يعترب ال�صداق �شعار ال��زواج وعنوان املحبة و�صدق
73
االرتباط الذي يعبرِّ به الزوج للمر�أة التي �سريتبط بها يف
�إطار الزواج.
وقد عبرّ القر�آن عن املهر بال�صدقات مبا يلقيه من
ظالل ال�صدق ونبل االرتباط ،كما و�سمها بال ِنحلة «�إبعاد ًا
لل�صدقات عن �أنواع الأعوا�ض ،وتقريب ًا بها �إلى الهدية،
�إذ لي�س ال�صداق عو�ض ًا عن منافع املر�أة عند التحقيق،
ف� ّإن النكاح عقد بني الرجل واملر�أة ق�صد منه املعا�شرة،
و�إيجاد �آ�صرة عظيمة ،وتبادل حقوق بني الزوجني ،وتلك
عو�ضها
�أغلى من �أن يكون لها عو�ض مايل ،ولو جعل لكان ُ
جزي ًال ومتج ّدد ًا بتج ّدد املنافع ،وامتداد �أزمانها� ،ش�أن
الأعوا�ض ك ّلها»(((.
فمن العدل ا�ستحقاق املر�أة للمهر و �أخذها له كامال،
ومن الف�ضل �أن تتنازل عن �شيء منه } ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ
ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ{ (الن�ساء)4:
وهذا التنازل املن�سوب �إلى قيمة الف�ضل هو ال�صادر
عن طيب خاطر ولي�س �أي ت��ن��ازل ،ولهذا «مل يقل:
ف�إن وهنب �أو �سمحن� ،إعالما ب�أن املراعى هو جتايف
-1التحرير والتنوير .231-230 /40
74
نف�سها عن املوهوب طيبة»(((.
75
ومعنى كون العفو �أقرب للتقوى � :أن العفو �أقرب �إلى �صفة
التقوى من التم�سك باحلق ؛ لأن التم�سك باحلق ال ينايف
التقوى لكنه ي�ؤذن بت�صلب �صاحبه و�شدته ،والعفو ي�ؤذن
ب�سماحة �صاحبه ورحمته ،والقلب املطبوع على ال�سماحة
والرحمة �أقرب �إلى التقوى من القلب ال�صلب ال�شديد،
لأن التقوى تقرب مبقدار ق��وة ال��وازع ،وال���وازع �شرعي
وطبيعي ،ويف القلب املفطور على الر�أفة وال�سماحة لني
يزعه عن املظامل والق�ساوة ،فتكون التقوى �أقرب �إليه ،
(((
لكرثة �أ�سبابها فيه .
النوع الثالث :من الأم �إىل الطفل
-الإر�ضاع:
قال تعالى } ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮﮯ
ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ
ﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥ ﯦﯧ
ﯨ ﯩ ﯪ ﯫﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰﯱ ﯲ ﯳ ﯴ
ﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀ
ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉﰊ ﰋ
ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ { البقرة()233
-1التحرير والتنوير .464-463/2
76
وال��وال��دات لي�س املق�صود بهن الأمهات املتزوجات،
و�إمن����ا الأم���ه���ات امل��ط�� َّل��ق��ات((( ،ف��اخل��ط��اب للمط َّلقة،
فيمكن من ب��اب امل�ضا َّرة للزوج �أن ال تكمل الإر�ضاع،
ف����أم���رت ،يف ه���ذا ال�����س��ي��اق وه���و ���س��ي��اق ط�ل�اق باحلد
الأق�صى يف الإر���ض��اع ال��ذي هو ح��والن كامالن ،ولكنها
مي��ك��ن �أن ت��ر���ض��ع �أق���ل م��ن ذل���ك .ي��ق��ول اب���ن عا�شور:
«وقد جعل اهلل الر�ضاع حولني رعي ًا لكونهما �أق�صى مدة
يحتاج فيها الطفل للر�ضاع �إذا عر�ض له ما اقت�ضى زيادة
�إر�ضاعه ،ف�أما بعد احلولني فلي�س يف منائه ما ي�صلح له
الر�ضاع بع ُد»(((.
النوع الرابع :الف�ضل من الأبناء اىل الآباء.
-الإح�سان:
}ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞﮟ ﮠ ﮡ
-1يقول ابن عا�شور «والوالدات معناه :والوالدات منهن � ،أي من املطلقات املتقدم
الإخبار عنهن يف الآي املا�ضية � ،أي املطلقات الالئي لهن �أوالد يف �سن الر�ضاعة ،ودليل
التخ�صي�ص �أن اخلالف يف مدة الإر�ضاع ال يقع بني الأب والأم �إ ّال بعد الفراق ،وال يقع
يف حالة الع�صمة ؛ �إذ من العادة املعروفة عند العرب ومعظم الأمم �أن الأمهات ير�ضعن
�أوالدهن يف مدة الع�صمة ،و�أنهن ال متتنع منه من متتنع �إ ّال ل�سبب طلب التزوج بزوج
جديد بعد فراق والد الر�ضيع ؛ ف�إن املر�أة املر�ضع ال يرغب الأزواج منها ؛ لأنها ت�شتغل
بر�ضيعها عن زوجها يف �أحوال كثرية» .التحرير والتنوير.429/2
-2التحرير والتنوير .431/2
77
ﮢﮣﮤﮥ ﮦﮧﮨﮩ ﮪﮫﮬ
ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ{ (الإ�سراء.)23:
�إذا كانت العالقة بني الآباء والأبناء مبنية على الف�ضل
�شرع ًا رغم فطرية الإح�سان املجبول عليه الآب��اء جتاه
الأبناء طبع ًا ف�إن �أمر الأبناء بالإح�سان �إلى الآباء �أوكد
و�أ�شد بداعي ال�شرع لأن �إتيانه من الأبناء �ضعيف بداعي
الطبع.
وال�لاف��ت لالنتباه يف ه��ذا احل��ث ال��ق��ر�آين الإح�ساين
وروده مبفردات و�سياقات وف�ضاءات تنا�سب املقام.
و�أول ما نبد�أ به هو �سياق الأمر بالإح�سان �أو ما ي�صطلح
عليه �أ�صولي ًا بداللة االق�تران.ذل��ك �أن الأم��ر بالإح�سان
بالوالدين ورد مبا�شرة بعد الأم��ر بتوحيد اهلل بالعبادة
}ﮗﮘﮙﮚﮛﮜ ﮝﮞ{ ومل يقت�صر
مطرد كما يفهذا االق�تران يف هذه الآية فح�سب بل هو َّ
قوله تعالى } ﮁﮂ ﮃﮄ{ (لقمان ،)14:وقوله:
}يا بني ال ت�شرك باهلل �إن ال�شرك لظلم عظيم ﭶ
ﭷ ﭸ{ (لقمان ،)13:يقول الإم��ام ابن عا�شور
عن دالالت هذا االق�تران التعبدي و التخلقي« :وعطف
78
الأمر بالإح�سان �إلى الوالدين على ما هو يف معنى الأمر
بعبادة اهلل لأن اهلل هو اخلالق فا�ستحق العبادة لأنه
�أوجد النا�س .وملا جعل اهلل الأبوين مظه َر �إيجاد النا�س
�أمر بالإح�سان �إليهما ،فاخلالق م�ستحق العبادة لغناه عن
و�سبب
ُ الإح�سان ،ولأنها �أعظم ال�شكر على �أعظم منة ،
الوجود دون ذلك فهو ي�ستحق الإح�سان ال العبادة لأنه
حمتاج �إل��ى الإح�سان دون العبادة ،ولأن��ه لي�س ُمبوجد
حقيقي ،ولأن اهلل جبل الوالدين على ال�شفقة على ولدهما،
ف�أمر الولد مبجازاة ذلك بالإح�سان �إلى �أبويه.(((»....
ول�ل�إم��ام ال����رازي تعليل لطيف ل��ه��ذا االق��ت�ران ن��ورده
رغم طوله لنفا�سته «الوجه الأول� :أن ال�سبب احلقيقي
ل���وج���ود الإن�������س���ان ه���و ت��خ��ل��ي��ق اهلل ت��ع��ال��ى و�إي����ج����اده،
وال�سبب الظاهري ه��و الأب����وان ،ف���أم��ر بتعظيم ال�سبب
احلقيقي ،ثم �أتبعه بالأمر بتعظيم ال�سبب الظاهري.
الوجه الثاين� :أن املوجود �إما قدمي و�إما حمدث ،ويجب
�أن تكون معاملة الإن�����س��ان م��ع الإل���ه ال��ق��دمي بالتعظيم
والعبودية ،ومع املحدث ب�إظهار ال�شفقة وهو امل��راد من
قوله عليه ال�سالم« :التعظيم لأم��ر اهلل وال�شفقة على
-1التحرير والتنوير(.)68/15
79
خلق اهلل» و�أحق اخللق ب�صرف ال�شفقة �إليه هو الأبوان
ل��ك�ثرة �إنعامهما على الإن�����س��ان فقوله} :ﮗ ﮘ ﮙ
ﮚ ﮛ ﮜ{ �إ���ش��ارة �إل��ى التعظيم لأم��ر اهلل وقوله:
}ﮝ ﮞﮟ{ �إ�شارة �إل��ى ال�شفقة على خلق اهلل.
ال��وج��ه ال��ث��ال��ث� :أن اال�شتغال ب�شكر املنعم واج���ب ،ثم
املنعم احلقيقي هو اخلالق �سبحانه وتعالى .وقد يكون
�أح��د من املخلوقني منعما عليك ،و�شكره �أي�ضا واجب
لقوله عليه ال�����س�لام« :م��ن مل ي�شكر ال��ن��ا���س مل ي�شكر
اهلل» ولي�س لأح��د من اخلالئق نعمة على الإن�سان مثل
ما للوالدين وتقريره من وج��وه� :أح��ده��ا�:أن الولد قطعة
من الوالدين ،ق��ال عليه ال�سالم «فاطمة ب�ضعة مني».
وثانيها� :أن �شفقة الأبوين على الولد عظيمة وجدهما يف
�إي�صال اخلري �إلى الولد كالأمر الطبيعي واحرتازهما عن
�إي�صال ال�ضرر �إليه كالأمر الطبيعي ،ومتى كانت الدواعي
�إلى �إي�صال اخلري متوفرة ،وال�صوارف عنه زائلة ال جرم
كرث �إي�صال اخل�ير ،فوجب �أن تكون نعم الوالدين على
الولد كثرية �أكرث من كل نعمة ت�صل من �إن�سان �إلى �إن�سان.
وثالثها� :أن الإن�����س��ان ح��ال م��ا ي��ك��ون يف غ��اي��ة ال�ضعف
ونهاية العجز ،يكون يف �إنعام الأبوين ف�أ�صناف نعمهما
80
يف ذلك الوقت وا�صلة �إليه ،و�أ�صناف رحمة ذلك الولد
وا�صلة �إل��ى الوالدين يف ذل��ك ال��وق��ت ،وم��ن املعلوم �أن
الإنعام �إذا كان واقعا على هذا الوجه كان موقعه عظيما.
ورابعها� :أن �إي�صال اخل�ير �إل��ى الغري قد يكون لداعية
�إي�����ص��ال اخل�ير �إل��ي��ه وق��د مي��ت��زج ب��ه��ذا ال��غ��ر���ض �سائر
الأغرا�ض ،و�إي�صال اخلري �إلى الولد لي�س لهذا الغر�ض
فقط.فكان الإنعام فيه �أمت و�أكمل ،فثبت �أنه لي�س لأحد
من املخلوقني نعمة على غريه مثل ما للوالدين على الولد،
فبد�أ اهلل تعالى ب�شكر نعمة اخلالق وه��و قوله} :ﮗ
ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ{ ثم �أردفه ب�شكر نعمة الوالدين وهو
قوله} :ﮝ ﮞﮟ{ وال�سبب فيه ما بينا �أن �أعظم
النعم بعد �إنعام الإله اخلالق نعمة الوالدين((( ،كما �أنه
عز وجل قدم الإح�سان على الوالدين ،و مل يقل :و�إح�سانا
بالوالدين ،بل قال} :ﮝ ﮞﮟ{ فتقدمي ذكرهما
(((
يدل على �شدة االهتمام.
كما �أن الإح�سان ورد نكرة للداللة على التعظيم
لأن��ه ملا كان �إح�سانهما �إليك قد بلغ الغاية العظيمة
81
وجب �أن يكون �إح�سانك �إليهما كذلك ،ثم على جميع
التقديرات فال حت�صل املكاف�أة ،لأن �إنعامهما عليك
ك��ان على �سبيل االب��ت��داء ،ويف الأم��ث��ال امل�شهورة �أن
(((
البادي بالرب ال يكاف�أ.
ولإ�ضفاء �أج��واء الإح�سان يف العالقة الأب��وي��ة يف كل
مظاهرها و�أحوالها فقد«�شمل الإح�سان كل ما ي�صدق فيه
هذا اجلن�س من الأقوال والأفعال والبذل واملوا�ساة»(((.
وقد رفع القر�آن �سقف التعامل مع الآباء عاليا بالأمر
بالإح�سان �إليهما بدل االكتفاء بالتحذير من الإ�ساءة �إليهما
" لأن اهلل �أراد برهما ،وال ّ
رب �إح�سان ،والأم ُر به يت�ض ّمن
النَّهي عن الإ�ساءة �إليهما بطريق فحوى اخلطاب(((.
النوع اخلام�س :عموم �أفراد الأ�سرة
و�سنقف عند منوذجني ما ِل َّيني حرجني هما:
-1الإرث
ي��ق��ول اهلل ع��ز و ج���ل يف �آ ي���ة ا لإرث } :ﭑ
-1نف�سه.
-2التحرير والتنوير(.)68/15
-3التحرير والتنوير.158/8
82
ﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘ ﭙﭚ
ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡﭢ ﭣ ﭤ{
(الن�سا ء: ا لآية .)7هذا هو العدل.
}ﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬ
ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ{ (ال��ن�����س��اء)8 :
ف�إعطا�ؤهم من الق�سمة و هم ال ي�ستحقون منه ن�صيبا
وخماطبتهم باملعروف من القول هو من باب الف�ضل.
-2مال اليتيم:
}ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ
ﭛ{ (الأنعام)152:
}'ﮄﮅﮆﮇﮈﮉ'{(الن�ساء)10 :
�إذا احتيج �إلى مال اليتيم فيجوز الأخذ منه مبقت�ضى
العدل لكن الف�ضل قربانه بالتي هي �أح�سن �أي بالف�ضل .
83
خامتة
84
�سل�سل ــة �إ�صـ ــدارات