You are on page 1of 3

‫‪‬‬

‫السؤال‪ :‬هل يف إخراج زكاة الفطر ماال خمالفة حلديث رسول هللا‪ -‬صلى هللا عليه وسلم؟ وهل‬
‫اتفق قول املالكية على حظره؟‬

‫اجلواب‪ :‬احلمد هلل رب العاملني‪ ،‬والصالة والسالم على أشرف األنبياء واملرسلني‪ ،‬وعلى آله‬
‫وصحبه أمجعني‪ ،‬أما بعد‪:‬‬

‫اجملوز لدفع قيمة الصاع يف زكاة الفطر من أهل العلم مل خيالف سنة نبيِّنا حممد‪ -‬صلى هللا‬
‫فإن ِّ‬
‫عليه وسلم‪ -‬وبيان ذلك يتلخص يف اآليت‪:‬‬

‫ِّ‬
‫املأمور هبا إمجاال حىت ينسب‬ ‫عبادةً أخرى تَنوب عن الصدقة‬ ‫‪ِّ -1‬‬
‫اجملوز لدف ِّع القيمة مل يَشَرع َ‬
‫السنة املطهرة‪ ،‬فإخراج القيمة ليس بِّدعا من القول أو ِّ‬
‫الفعل؛ إذ َسبَ َق إليه طائفة من الصحابة‬ ‫إىل خمالفة ُّ‬
‫ً‬
‫والتابعني دون نَكِّ ري‪ ،‬فالقول لعامة الناس احملب ِّة للمصطفى‪ -‬صلى هللا عليه وسلم‪ -‬أبن إخراج القيمة‬
‫وجماف ملا كان عليه سلف األمة‪ -‬يتناىف مع قواعد العلم وأدب اخلالف‪ ،‬جاء يف مصنف‬ ‫ر‬ ‫خمالف للسنة‬
‫ال‪ََِّ :‬سعت أ َََب إِّس َح َ‬
‫اق‪ ،‬يَقول‪« :‬أَد َركت هم َوهم ي عطو َن‬ ‫اب ن أيب ش ي بة‪ ،‬قال‪ :‬حدثنا أبو أسامة َعن زَه ري‪ ،‬قَ َ‬
‫يم ِّة الط َعام"(‪ .)1‬وأبو إسحاق هو عمرو بن عبد هللا السبِّيعي وهو من ِّجلة‬ ‫ِّ ِِّّ‬
‫ضا َن الد َراه َم بق َ‬
‫ِّ‬
‫ِّيف َ‬
‫ص َدقَة َرَم َ‬
‫ب يف ترمجته أنه ولد لسنَ تَني بَِّقيَ تَا من خالفة عثمان‪ ،‬وأنه أدرك مجاعة كبيةً من‬ ‫التابعني‪ .‬وقد ذكر الذ َهِّ ُّ‬
‫أصحاب رسول هللا صلى هللا عليه َو َسل َم(‪ ،)2‬فأبو إسحاق من التابعني‪ ،‬والضمي يف قوله‪( :‬أدركتهم)‬
‫يعود على الصحابة‪ ،‬ومعىن إدراكه هلم‪ ،‬أي‪ :‬عامة من أدرك منهم من غي ختصيص؛ إذ لو كان فيهم من‬
‫ضا َن الد َر ِّاه َم‬ ‫ِّ‬
‫يقول مبنع إخراج القيمة يف زكاة الفطر الستثىن وقال‪( :‬أَد َركت هم َوهم ي عطو َن ِّيف َ‬
‫ص َدقَة َرَم َ‬
‫اآلخ ِّرين َخلَصه أبو إسحاق دون‬ ‫ِّ‬ ‫بِِّّق ِّ‬
‫اهم دون َ‬ ‫يمة الط َعام إال فالان وفالان‪ )..‬ولو أن بعضهم كان خيرجها در َ‬ ‫َ‬
‫غيه فقال‪( :‬أدركت بعضهم أو فالان وفالان‪ )..‬ول ما مل حيصل يف كالمه مثل هذا االستثناء أو‬
‫ضة‪َ -‬دل ذلك على أن مجيع‬ ‫ِّ ِّ‬ ‫ِّ‬
‫معار َ‬
‫األمر عنهم مبا يفيد عموم فعلهم لذلك من غي َ‬ ‫التخصيص‪ ،‬وإمنا نَ َقل َ‬
‫َمن أدركه أبو إسحاق السبِّيعي من الصحابة مل يكونوا يرون أبسا يف إخراج القيمة يف زكاة الفطر‪.‬‬

‫(‪ )1‬املصنف البن أيب شيبة‪ ،‬يف إعطاء الدراهم يف زكاة الفطر‪.10467 ،‬‬
‫(‪ )2‬ينظر‪ :‬سي أعالم النبالء ‪.293-292/5‬‬
‫ال‪َ :‬جاءَ َان كِّتَاب ع َمَر‬
‫"حدثَنَا َوكِّيع‪َ ،‬عن ق رةَ‪ ،‬قَ َ‬
‫وقد جاء يف مصنف ابن أيب شيبة أيضا قال‪َ :‬‬
‫يمته نِّصف ِّدرَه رم"(‪ .)1‬وعمر بن عبد‬ ‫ِّ ر ِّ‬ ‫ِّ ِّ ِّ‬ ‫ِّ‬
‫ب ِّن َعبد ال َع ِّز ِّيز‪ِّ :‬يف َ‬
‫ص َدقَة الفط ِّر نصف َ‬
‫ص راع َعن ك ِّل إن َسان أَو ق َ‬
‫العزيز من أجل علماء التابعني(‪.)2‬‬

‫متاما لثمن الصاع من الطعام‪ ،‬حبيث‬ ‫جملوز لدفع القيمة يتحرى أن تكون القيمة موافقة ً‬‫‪ -2‬ا ِّ‬
‫حبسب‬ ‫ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫ِّ‬
‫ي به غيَه ما يشاء َ‬
‫صاع الطعام‪ ،‬كما يكن أن يَش َرت َ‬
‫يشرتي َبلثمن املدفوع إليه َ‬
‫َ‬ ‫يستطيع الفقي أن‬
‫أعم يف الوفاء حباجات الفقي من الطعام‪،‬‬ ‫ما تلِّ ُّح به حاجته‪ ،‬وبذلك حيصل الوفاء َبملقصود؛ إذ القيمة ُّ‬
‫وليس يف إثبات األعم ما ينفي األخص على كل حال‪ ،‬حىت يكو َن يف القول جبواز قيمة الصاع ما ي نَايف‬
‫ما جاء يف السنة املطهرة من إخراج قدره طعاما‪.‬‬

‫القابض‬
‫َ‬ ‫املأمور به‪ ،‬فاألمر يَؤول يف غايَتِّه إىل أن املستَ ِّحق‬
‫ِّ‬ ‫‪ -3‬القيمة أصلها القدر من الطعام‬
‫للقيمة قابض للصاع حكما‪.‬‬

‫هذا عن الشطر األول من السؤال‪ ،‬أما عن موقف السادة املالكية من هذه املسألة فإن دفع‬
‫القيمة يف زكاة الفطر مل يكن ما أمجعوا على َمنعه يف املذهب‪ ،‬فمن ذلك ما ذكره العالمة الصاوي يف‬
‫ونص كالم الصاوي‪:‬‬‫حاشيته على الشرح الصغي عند قول الدردير‪" :‬فال جيزئ اإلخراج من غيها"‪ُّ ،‬‬
‫فاألظهر اإلجزاء؛ ألنه يَسهل َبلعني َس ُّد َخلتِّه يف ذلك اليوم"(‪.)3‬‬
‫َ‬ ‫"أي‪ :‬إذا مل يكن ذلك الغي عينًا‪ ،‬وإال‬

‫هذا‪ ،‬وإن ذكِّر عن اإلمام مالك املنع فإن إخراج القيمة ال يتناىف مع قواعد املذهب وأصوله‬
‫بتغي األحوال واألزمان؛ من ذلك ِّاختاذ اإلمام ابن أيب زيد‬ ‫العامة‪ ،‬ومن هذه األصول أن الفتوى تتغي ُِّّ‬
‫القيواين َكلبًا حلراسة داره‪ ،‬وهو القائل يف كتاب الرسالة‪" :‬وال يتخذ كلب يف الدور يف احلضر"‪ ،‬فذكِّر له‬
‫أسدا ضارًًي"(‪ .)4‬فكذلك لو أَد ِّرك مالك زمانَنَا ورأى ما يَصنَعه‬
‫ذلك فقال‪" :‬لو أدرك مالك زماننا الختذ ً‬
‫ث الطعام عنده يسبِّب‬ ‫القابض للطعام ِّمن بَيعِّه أبقل ِّمن مثنِّه‪ ،‬هذا إن وجد من يشرتيه منه‪ ،‬وإال فإن مك َ‬
‫الضيق ما ال خيفى‪ -‬أقول‪ :‬لو أن مالكا أَد َرك ذلك ألجاب يف إخراج القيمة َبجلواز‪ .‬ومن‬ ‫له من احلرج و ِّ‬
‫َ‬
‫قواعد املذهب أيضا أن تقليد مذهب من املذاهب املعتربة جائزة شرعا‪ ،‬قال اإلمام القرايف‪" :‬انعقد‬
‫اإلمجاع على أَن من أَسلَم فَلَه أَن ي َقلِّ َد من َشاء ِّمن العلَم ِّاء بِّغَ ِّي حجر"(‪ .)5‬وليس ر‬
‫خباف أن دفع القيمة‬ ‫َ‬ ‫َ َ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬

‫(‪ )1‬املصنف البن أيب شيبة‪ ،‬يف إعطاء الدراهم يف زكاة الفطر‪.10465 ،‬‬
‫(‪ )2‬ينظر‪ :‬سي أعالم النبالء ‪.120/5‬‬
‫(‪ )3‬بلغة السالك ‪.238/1‬‬
‫(‪ )4‬شرح زروق على الرسالة ‪.414/2‬‬
‫(‪ )5‬الذخية ‪.141/1‬‬

‫‪2‬‬
‫ِّ ِّ‬
‫القيمةَ‬
‫دفع َ‬‫وخارجه‪ ،‬وإفتاء الناس ببطالن زكاة فط ِّر الذي َ‬‫َ‬ ‫داخل املذهب‬
‫قد أجازه كثي من أهل العلم َ‬
‫الش َقاق بني الناس‪ ،‬وذلك يَتَ نَاىف مع أصول الشريعة عامةً وأصول املذهب خاصةً‪،‬‬ ‫ي فتَح َبَب للتشغيب و ِّ‬
‫َ‬
‫مس له‬
‫فمن أصول الفتوى يف املذهب أن ما جرى به عمل الناس وتقادم يف عرفهم وعادهتم ينبغي أن يَلتَ َ‬
‫الوزاين نصهم َبلتحفظ على عدم إبطال العقود ما استطاع‪،‬‬ ‫ِّ‬
‫املفيت َخمرجا شرعيا قدر وسعه‪ ،‬فقد نَ َق َل َ‬
‫البني(‪ .)1‬ومن أصول املذهب أيضا‪ :‬مراعاة املصلحة إذا ظهر هلا‬ ‫فإنه ال يَن بَغِّي أن ت ن تَ َقض إال َبألمر ِّ‬
‫فائدة للناس وتوسعة‪ ،‬ومن املعلوم أن دفع القيمة ظهرت مصلحتها‪ ،‬ومن نص على ذلك العالمة ابن‬
‫السراج فقال‪" :‬علِّم من مذهب مالك‪ -‬رمحه هللا‪ -‬مراعاة املصلحة إذا كانت كلِّيةً ِّ‬
‫حاجيةً"(‪.)2‬‬ ‫َ‬
‫وحاصل ما تقدم أنه ال تصادم بني نصوص السنة الن ب ِّوية و ِّ‬
‫القول جبواز دفع القيمة؛ وذلك ألن‬ ‫َ‬
‫السنة النبوية على وجوبه‪ ،‬وما دام كذلك فاملخ ِّرج‬ ‫القيمة أصلها الصاع من الطعام الذي َدلت نصوص ُّ‬
‫اجملوز إلخراج القيمة من أهل العلم‪ -‬وإن كان يبدو يف ظاهر‬ ‫للقيمة يف الواقع خمرِّج للصاع حك ًما‪ .‬و ِّ‬
‫ماض على َمهيَع قواعده‪ِّ ،‬‬
‫خمرج‬ ‫األمر خمالفا لقول اإلمام مالك رمحه هللا‪ -‬فإنه موافق يف احلقيقة ألصوله‪ ،‬ر‬
‫ِّ‬
‫َبألصل أصل‪ .‬وملخص هذه القواعد‪:‬‬ ‫قولَه على مذهب اإلمام‪ .‬واألخذ‬

‫‪ -1‬تغي األحوال واألزمان له أتثي َبلغ يف تغي الفتوى واألحكام‪.‬‬

‫‪ -2‬ما جرى به عمل الناس وتقادم يف عرفهم وعادهتم ينبغي أن يلتمس له خمرج شرعي‪.‬‬

‫‪ -3‬الت َح ُّفظ من عدم إبطال العقود؛ إذ ال تنتقض إال َبألمر البني‪.‬‬

‫‪ -4‬مراعاة املصلحة إذا كانت كلية حاجية؛ إذ من شأهنا التيسي على الناس والرفق هبم‪.‬‬

‫‪ -5‬انعقاد اإلمجاع على أن املسلم له أن ي َقلِّ َد َمن شاءَ ِّمن أهل العلم املعتربين دون حتجي‪.‬‬

‫عليه‪ ،‬فإن الناس يرتكون وال ي تَ َعرض هلم يف َدف ِّع ما شاؤوا من طعام أو نَق رد‪ ،‬فكل على هدى‬
‫وصراط مستقيم إن شاء هللا‪.‬‬
‫ِّ‬
‫هذا‪ ،‬وهللا أعلم‪ ،‬وصلى هللا على سيِّدان حممد وعلى آله وصحبه َ‬
‫وسل َم‪.‬‬

‫د‪ .‬أمحد عمران الكمييت ‪ 24‬رمضان ‪1444‬هـ‪ ،‬املوافق ‪2023-04-15‬م‪.‬‬

‫(‪ )1‬ينظر‪ :‬النوازل اجلديدة الكربى ‪.409/9 ،377/5‬‬


‫(‪ )2‬فتاوى ابن السراج‪ ،‬ص‪.199‬‬

‫‪3‬‬

You might also like