You are on page 1of 5

‫المحاضرة الثانية‬

‫‪ .1‬في موضوع الفلسفة العملية والمنهج الصالح لمقاربة موضوعها‬

‫أ‪ .‬في أن غاية السياسة واألخالق هي تحصيل الخير األسمى‬

‫أكدت في المحاضرة السابقة أن تحميمي لبعض التيمات األخالقية األساسية عند أرسطو‬
‫يعتمد عمى كتاب "األخالق إلى نيقوماخوس"‪ .‬أخبركم أعزائي عزيزاتي أنني أعتمد ىنا عمى‬
‫نص الترجمة الفرنسية التي أنجزىا تريكو (‪ )Tricot‬ليذا الكتاب‪ ،‬وىي متاحة لمتحميل عمى‬
‫األنترنيت‪.1‬‬

‫يبدأ كتاب "األخالق إلى نيقوماخوس" بتأكيد قضية قررىا في فمسفتو الطبيعية‪ .‬فال شك أنكم‬
‫التقسيم الرباعي لمعمل عند المعمم األول‪ :‬عمة ىيوالنية‪ ،‬عمة صورية‪ ،‬عمة فاعمة‪ ،‬عمة غائية‪.‬‬
‫إن التمييز بين ىذه العمل غرضو حسب المعمم األول ىو تفسير الطبيعة من جية ما ىي‬
‫مبدأ الحركة والسكون‪ .‬لقد قرر في كتاب "الطبيعة" أن جميع الكائنات الطبيعية‪ ،‬أي التي‬
‫مبدأ حركتيا وسكونيا كامن فييا‪ ،‬تسعى بالطبع إلى غاية ما‪ .‬وىذا المبدأ الغائي ينطبق عمى‬
‫األفعال اإلنسانية أيضا‪ :‬فكما أن األجسام الثقيمة (التراب مثال) تسقط بالطبع‪ ،‬بينما الخفيفة‬
‫(النار مثال) تصعد ‪ ،‬فكذلك يسعى الناس بالطبع إلى المعرفة والسعادة‪ .‬فيا ىو المعمم األول‬
‫يقرر في بداية "األخالق إلى نيقوماخوس" ما يمي‪:‬‬

‫«ترمي كل صناعة‪ 2‬وكل سعي منيجي‪ ،‬وكذلك كل فعل‪ 3‬وكل اختيار فيو تشاور‪ ،4‬عمى ما‬
‫يبدو‪ ،‬إلى خير ما‪ .‬وقد قيل بحق إن الخير ىو ما ترمي إليو األشياء كميا‪»5.‬‬

‫‪1.‬‬ ‫‪Aristote, Éthique à Nicomaque, Traduction (1959) J. Tricot, Éditions Les Échos du‬‬
‫‪Maquis, v. : 1,0, janvier 2014.‬‬
‫‪2. TYCHNÉ : (art, technique).‬‬
‫‪3. PRAXIS : (action).‬‬
‫‪4. PROAIRÊSIS : (choix, décision).‬‬
‫وبما أن الصناعات والعموم كثيرة‪ ،‬وغاياتيا مختمفة‪ ،‬وبما أن ىذه الصناعات والعموم ليست‬
‫سواء‪ ،‬بل إن بعضيا تابعة لبعض‪ ،‬فإن «الغايات التي ترمي إلييا الصناعات الرئيسة أفضل‬
‫شأنا من كل الغايات التي ترمي إلييا الصناعات التابعة‪ ،‬ألن ىذه إنما تُطمب من أجل‬
‫الغايات األولى‪»6.‬‬

‫وىكذا‪ ،‬إن وجدت بين أفعالنا غاية ما نبتغييا لذاتيا‪ ،‬وال نبتغي الغايات األخرى إال من أجميا‬
‫‪-‬وكانت الغايات ال تتسمسل إلى ما ال نياية‪ ،‬واال صارت الرغبة عبثية وغير مجدية‪ ،-‬فإن‬
‫ىذه الغاية المرجوة لذاتيا ستكون بالضبط ىي الخير األسمى‪.7‬‬

‫إنو لمن الميم إذن تحديد طبيعة هذا الخير األسمى ( ‪la nature du Souverain‬‬
‫‪ ،)Bien‬ومعرفة العلم الخاص الذي يجعل منه غاية‪.‬‬

‫إن العمم الذي ييتم بالخير األسمى ال بد أن يكون‪ ،‬حسب أرسطو‪ ،‬ىو أشرف الصناعات‬
‫العممية وأفضميا‪ ،‬أي أقدرىا عمى توجيينا في ىذا الشأن‪ .‬وىذا العمم الذي يسود جميع العموم‬
‫األخرى التي ليا صمة بالشؤون العممية‪ ،‬من قبيل االقتصاد والخطابة وفن قيادة الجيوش‪،‬‬
‫ويشرع ما ينبغي القيام بو‪ ،‬وما ينبغي االمتناع عنو‪ ،‬إنما ىو السياسة؛ ولذلك كانت الغاية‬
‫ُ‬
‫التي ترمي إلييا السياسة شاممة لغايات سائر الصناعات األخرى‪ .‬وبناء عمى ذلك‪« ،‬كانت‬
‫غاية السياسة هي الخير الذي يخص اإلنسان» ( ‪la fin de la Politique est le‬‬
‫‪ .)bien proprement humain‬وال ريب في أن "غاية" الفرد ىي نفسيا "غاية" المدينة‪،‬‬

‫‪5.‬‬ ‫‪« Tout art et toute investigation, et pareillement toute action et tout choix tendent vers‬‬
‫‪quelque bien, à ce qu'il semble .Aussi a-t-on déclaré avec raison que le Bien est ce à quoi‬‬
‫» ‪toutes choses tendent.‬‬
‫‪6. « Les fins des arts architectoniques doivent être préférées à toutes celles des arts‬‬

‫» ‪subordonnés, puisque c'est en vue des premières fins qu'on poursuit les autres.‬‬
‫‪7. « Si donc il y a, de nos activités, quelque fin que nous souhaitons par elle-même, et les‬‬

‫‪autres seulement à cause d'elle, et si nous ne choisissons pas indéfiniment une chose en‬‬
‫‪vue d'une autre (car on procéderait ainsi à l'infini, de sorte que le désir serait futile et‬‬
‫» ‪vain), il est clair que cette fin-là ne saurait être que le bien, le Souverain Bien.‬‬
‫وأن األخالق تبعا لذلك ممزمة بتحديد خير الفرد‪ .‬وىكذا فإن األخالق والسياسة عممان‬
‫مترابطان ترابطا وثيقا‪ ،‬بحيث إنو ال قيام لألولى بدون الثانية‪.‬‬

‫ب‪ .‬في المنهج الصالح لألخالقيات‬

‫يشدد أرسطو عموما عمى أن اختالف الموضوعات أمر ينبغي أخذه في الحسبان عند‬
‫مقاربتيا؛ ولذلك عمينا أن «ال نطالب بالصرامة [الدقة] نفسيا في كل شيء‪ .‬إذ في كل‬
‫مجال‪ ،‬ينبغي أن نطمب قد ار من الدقة بحسب ما تقتضيو المادة التي نعالجيا‪ ،‬وبالمقدار‬
‫المالئم لبحثنا ‪ .‬فالنجار والميندس ينيجان طريقتين مختمفتين في طمب الزاوية القائمة‪ ،‬ألن‬
‫األول ال ينشغل بيا إال بقدر ما ينتفع بيا في عممو‪ ،‬بينما الثاني يسعى إلى معرفة ما ىي‬
‫وما خاصيتيا‪ ،‬ألنو الناظر في حقيقتيا»‪.‬‬

‫وبما أن الشؤون العممية (السياسية واألخالقية‪ )...‬تتميز عموما بأن األمور فييا ال تجري‬
‫عمى وتيرة واحدة دائما وأبدا‪ ،‬فإنو ال بد من أخذ ىذه الخصوصية في االعتبار عند تناوليا‬
‫وتحميميا‪ ،‬فال نطالب بالدقة والصرامة إال بقدر ما تتيحو طبيعة ىذا الموضوع‪« .‬إن األمور‬
‫الجميمة والعادلة‪ ،‬وىي المواد التي تعالجيا السياسة‪ ،‬فييا من التباين ومن الترجيح ما يجعمنا‬
‫نعتقد أنيا ناشئة عن التعاقد [أو القانون]‪ ،‬وليس عن الطبيعة‪ .‬ومثل ىذا الترجيح يظير أيضا‬
‫في خيرات الحياة‪ ،‬نظ ار لألضرار التي تنجم عنيا في الغالب‪ .‬فبعض الناس كان الغنى وباال‬
‫عمييم‪ ،‬وآخرون أىمكتيم شجاعتيم‪ .‬وليذا ينبغي أن نكتفي في معالجتنا لمواد ىذا حاليا‪،‬‬
‫وانطالقا من مبادئ ىذا حاليا‪ ،‬بأن نبين الحقيقة عمى طريق اإلجمال والتقريب‪ .‬وعندما‬
‫نتحدث عن أمور قارة فقط‪ ،‬وننطمق من مبادئ قارة أيضا‪ ،‬ال يمكن أن نصل إال إلى نتائج‬
‫ليا ىذه السمة نفسيا‪»8.‬‬

‫‪8.‬‬‫‪« Les choses belles et les choses justes qui sont l'objet de la Politique, donnent lieu à‬‬
‫‪de telles divergences et à de telles incertitudes qu'on a pu croire qu'elles existaient‬‬
‫‪seulement par convention et non par nature. Une pareille incertitude se présente aussi‬‬
‫‪dans le cas des biens de la vie, en raison des dommages qui en découlent souvent : on a‬‬
‫ال مجال في األمور العممية لمضرورة؛ ومن ال يراعي طبيعة الموضوعات العممية‪ ،‬فيطالب‬
‫بالصرامة والدقة في كل شيء‪ ،‬سيكون كمن يطالب الخطيب باإلتيان ببراىين قاطعة‪ ،‬أو‬
‫ينتظر من الرياضي استدالالت محتممة‪.‬‬

‫إن المنطمق في دراستنا لمشؤون العممية‪ ،‬ليس ىو المعموم أو البين "في ذاتو"‪ ،‬أي البدييي‬
‫الذي يعتبر مبدأ تُستنبط منو النتائج كما ىو الحال في الرياضيات‪ ،‬وانما المنطمق ىنا ىو‬
‫المعموم "بالنسبة إلينا"‪ ،‬أي الوقائع التي نبحث ليا عن مبادئ‪ ،‬دونما حاجة إلى تعميل‬
‫الواقعة‪ .‬وىكذا فإن مبادئ األخالق والسياسة تُدرك باالستقراء واإلدراك الحسي والتعود‬
‫والممارسة‪ .‬وبعبارة أخرى‪ ،‬ال بد في مجال األخالق والسياسة من االنطالق من التجربة ومن‬
‫األحكام التي يصدرىا من اشتيروا بالحكمة والفضية والروية؛ وبعد الغربمة النقدية‪ ،‬أي مقارنة‬
‫اآلراء والترجيح بينيا نصل طبعا إلى "حقائق" راجحة‪ .‬ثم إن من يوثق بحكمو في مجال‬
‫األخالق والسياسة ىو "العاقل" أو "صاحب الروية" (‪ )phronimos‬الذي لو األىمية ألن‬
‫ويقدر أفضل السبل والطرق التي تفضي إلى "الحياة الطيبة" والنجاح‪ .‬والحال أن‬
‫يتشاور ُ‬
‫اإلنسان ال يتشاور في األمور المستحيمة أو في الضروري (= ما ال يمكن أن يكون بخالف‬
‫ما ىو عميو‪ ،‬وىو موضوع العمم)‪.‬‬

‫وىكذا‪ ،‬فإن الحياة الطيبة ال يمكن أن تكون موضوعا لعمم أو لصناعة؛ ألنيا تنطوي عمى‬
‫مبادئ مدموغة بالطابع العرضي (و"العرضي" ىو ما يمكن أن يكون بخالف ما ىو عميو)‪،‬‬
‫وتقتضي تقدي ار عقميا وأخالقيا لما يمكن اعتباره خي ار أو ش ار بالنسبة إلى اإلنسان؛ ولذلك‬
‫كانت الروية (‪« )phronésis‬حاال مقترنة بقاعدة سديدة‪ ،‬وىي تحمل عمى الفعل عندما‬

‫‪vu, en effet, des gens périr par leur richesse, et d'autres périr par leur courage. On doit‬‬
‫‪donc se contenter, en traitant de pareils sujets et partant de pareils principes, de‬‬
‫‪montrer la vérité d'une façon grossière et approchée ; et quand on parle de choses‬‬
‫‪simplement constantes et qu'on part de principes également constants, on ne peut‬‬
‫» ‪aboutir qu'à des conclusions de même caractère.‬‬
‫يتعمق األمر بما ىو خير أو شر بالنسبة إلى اإلنسان»‪ .9‬إن األخالق إذن موضوع لبحث‬
‫"جدلي"‪ ،‬أي يقتصر عمى مناقشة "الصعوبات" وتحميميا‪ ،‬وتقدير أنجع الوسائل الموصمة إلى‬
‫الغايات الخيرة‪ ،‬وال يضع نصب العين إال "الصواب"‪ ،‬أي "الحقائق" الراجحة والمحتممة؛ إال‬
‫أنو مع ذلك قادر عمى أن يستخمص مبادئ موجية لمفعل‪.‬‬

‫‪9.‬‬‫‪«La prudence est une disposition, accompagnée de règle vraie, capable d'agir dans la‬‬
‫» ‪sphère de ce qui est bon ou mauvais pour un être humain.‬‬

You might also like