You are on page 1of 64

‫تمهيد‬

‫من األدّلة على احلكم الشرعّي عند األصولّيني اإلمامّية (‪« )1‬العقل» ‪ ،‬إذ يذكرون‬
‫أّن األدّلة على األحكام الشرعّية الفرعّية أربعة ‪ :‬الكتاب ‪ ،‬والسّنة ‪ ،‬واإلمجاع ‪ ،‬والعقل‪.‬‬
‫وسيأيت يف «مباحث احلّج ة» وجه حجّية العقل‬
‫أّم ا هنا فإمّن ا يبحث عن تشخيص صغريات ما حيكم به العقل املفروض أّنه حّج ة ‪،‬‬
‫أي يبحث هنا عن مصاديق أحكام العقل الذي هو دليل على احلكم الشرعّي ‪ .‬وهذا‬
‫نظري البحث يف املقصد األّو ل (مباحث األلفاظ) عن مصاديق أصالة الظهور اليت هي‬
‫حّج ة ‪ ،‬وحّج يتها إمّن ا يبحث عنها يف مباحث احلّج ة‪.‬‬
‫وتوضيح ذلك أّن هنا مسألتني ‪:‬‬
‫‪ .1‬إّنه إذا حكم العقل على شيء أّنه حسن شرعا أو يلزم فعله شرعا ‪ ،‬أو حيكم‬
‫(‬
‫على شيء أّنه قبيح شرعا أو يلزم تركه شرعا بأّي طريق من الطرق اليت سيأيت بياهنا‬
‫‪ ، )3‬هل يثبت هبذا احلكم العقلّي حكم الشرع؟ أي إّنه من حكم العقل هذا هل‬
‫يستكشف أّن الشارع واقعا قد حكم بذلك؟ ومرجع ذلك إىل أّن حكم العقل هذا هل‬
‫هو حّج ة أو ال؟ وهذا البحث ـ كما قلنا ـ إمّن ا يذكر يف مباحث احلّج ة ‪ ،‬وليس هنا‬
‫موقعه‪ .‬وسيأيت بيان إمكان حصول القطع باحلكم الشرعّي من غري الكتاب والسّنة (‪، )1‬‬
‫وإذا حصل ‪ ،‬كيف يكون حّج ة؟‬
‫‪ .2‬إّنه هل للعقل أن يدرك بطريق من الطرق أّن هذا الشيء مثال حسن شرعا أو‬
‫قبيح أو يلزم فعله أو تركه عند الشارع؟ يعين أّن العقل بعد إدراكه حلسن األفعال أو‬
‫لزومها ‪ ،‬ولقبح األشياء أو لزوم تركها يف أنفسها بأّي طريق من الطرق ‪ ...‬هل يدرك‬
‫مع ذلك أهّن ا كذلك عند الشارع؟‬
‫وهذا املقصد الثاين ـ الذي ّمسيناه ‪« :‬حبث املالزمات العقلّية» ـ عقدناه ألجل بيان‬
‫ذلك يف مسائل على النحو الذي سيأتى إن شاء اهلل (تعاىل) ‪ ،‬ويكون فيه تشخيص‬
‫صغريات حجّية العقل املبحوث عنها يف املقصد الثالث (مباحث احلّج ة)‪.‬‬
‫ّمث ال بّد ـ قبل تشخيص هذه الصغريات يف مسائل ـ من ذكر أمرين يتعّلقان‬
‫باألحكام العقلّية مقّد مة للبحث ‪ ،‬نستعني هبا على املقصود ‪ ،‬ومها ‪:‬‬
‫(‪)2‬‬
‫‪ .1‬أقسام الدليل العقلّي‬
‫إّن الدليل العقلّي ـ أو فقل ‪ :‬ما حيكم به العقل الذي يثبت به احلكم الشرعّي ـ‬
‫ينقسم إىل قسمني ‪ :‬ما يستقّل به العقل ‪ ،‬وما ال يستقّل به‪.‬‬
‫وبتعبري آخر نقول ‪ :‬إّن األحكام العقلّية على قسمني ‪ :‬مستقالت ‪ ،‬وغري‬
‫مستقّالت‪.‬‬
‫وهذه التعبريات كثريا ما جتري على ألسنة األصولّيني ويقصدون هبا املعىن الذي‬
‫سنوّض حه‪ .‬وإن كان قد يقولون ‪« :‬إّن هذا ّمما يستقّل به العقل» وال يقصدون هذا املعىن‬
‫‪ ،‬بل يقصدون به معىن آخر ‪ ،‬وهو ما حيكم به العقل بالبداهة وإن كان ليس من‬
‫املستقّالت العقلّية باملعىن اآليت‪.‬‬
‫وعلى كّل حال ‪ ،‬فإّن هذا التقسيم حيتاج إىل شيء من التوضيح ‪ ،‬فنقول ‪:‬‬
‫إّن العلم باحلكم الشرعّي ‪ ،‬كسائر العلوم ال بّد له من عّلة ؛ الستحالة وجود‬
‫املمكن بال عّلة‪ .‬وعّلة العلم التصديقّي ال بّد أن تكون من أحد أنواع احلّج ة الثالثة ‪:‬‬
‫القياس ‪ ،‬أو االستقراء ‪ ،‬أو التمثيل‪ .‬وليس االستقراء ّمما يثبت به احلكم الشرعّي ‪ ،‬وهو‬
‫واضح‪ .‬والتمثيل ليس حبّج ة عندنا ؛ ألّنه هو القياس املصطلح عليه عند األصولّيني الذي‬
‫هو ليس من مذهبنا‪.‬‬
‫فيتعنّي أن تكون العّلة للعلم باحلكم الشرعّي هي خصوص القياس باصطالح‬
‫املناطقة ‪ ،‬وإذا كان كذلك فإّن كّل قياس ال بّد أن يتأّلف من مقّد متني ‪ ،‬سواء كان‬
‫استثنائّيا أو اقرتانّيا‪ .‬وهاتان املقّد متان قد تكونان معا غري عقلّيتني ‪ ،‬فالدليل الذي يتأّلف‬
‫منهما يسّم ى «دليال شرعّيا» يف قبال الدليل العقلّي ‪ .‬وال كالم لنا يف هذا القسم هنا‪.‬‬
‫وقد تكون كّل منهما أو إحدامها عقلّية ـ أي ّمما حيكم العقل به من غري اعتماد على‬
‫حكم شرعّي ـ ‪ ،‬فإّن الدليل الذي يتأّلف منهما يسّم ى «عقلّيا» ‪ ،‬وهو على قسمني ‪:‬‬
‫‪ .1‬أن تكون املقّد متان معا عقلّيتني ‪ ،‬كحكم العقل حبسن شيء أو قبحه ‪ّ ،‬مث‬
‫حكمه بأّنه كّل ما حكم به العقل حكم به الشرع على طبقه‪ .‬وهو القسم األّو ل من‬
‫الدليل العقلّي ‪ ،‬وهو قسم «املستقّالت العقلّية»‪.‬‬
‫‪ .2‬أن تكون إحدى املقّد متني غري عقلّية واألخرى عقلّية ‪ ،‬كحكم العقل بوجوب‬
‫املقّد مة عند وجوب ذيها ‪ ،‬فهذه مقّد مة عقلّية صرفة ‪ ،‬وينضّم إليها حكم الشرع‬
‫بوجوب ذي املقّد مة‪ .‬وامّن ا يسّم ى الدليل الذي يتأّلف منهما «عقلّيا» ألجل تغليب‬
‫جانب املقّد مة العقلّية‪ .‬وهذا هو القسم الثاين من الدليل العقلّي ‪ ،‬وهو قسم «غري‬
‫املستقّالت العقلّية»‪ .‬وامّن ا ّمسي بذلك ؛ ألّنه ـ من الواضح ـ أّن العقل مل يستقّل وحده يف‬
‫الوصول إىل النتيجة ‪ ،‬بل استعان حبكم الشرع يف إحدى مقّد ميت القياس‪.‬‬

‫‪ .2‬لما ذا سّم يت هذه المباحث بالمالزمات العقلّية؟‬


‫املراد باملالزمة العقلّية هنا ‪ ،‬هو حكم العقل باملالزمة بني حكم الشرع وبني أمر‬
‫آخر ‪ ،‬سواء كان حكما عقلّيا أو شرعّيا أو غريمها ‪ ،‬مثل ‪ :‬اإلتيان باملأمور به باألمر‬
‫االضطرارّي الذي يلزمه عقال سقوط األمر االختيارّي لو زال االضطرار يف الوقت أو‬
‫خارجه على ما سيأيت ذلك يف مبحث «اإلجزاء» (‪.)1‬‬
‫وقد خيفى على الطالب ألّو ل وهلة الوجه يف تسمية مباحث األحكام العقلّية بـ‬
‫«املالزمات العقلّية» ‪ ،‬ال سّيما فيما يتعّلق باملستقّالت العقلّية ‪ ،‬ولذلك وجب علينا أن‬
‫نوّض ح ذلك ‪ ،‬فنقول ‪:‬‬
‫‪ .1‬أّم ا يف املستقّالت العقلّية ‪ :‬فيظهر بعد بيان املقّد متني اللتني يتأّلف منهما الدليل‬
‫العقلّي ‪ ،‬ومها ـ مثال ـ ‪:‬‬
‫األولى ‪« :‬العدل حيسن فعله عقال»‪ .‬وهذه قضّية عقلّية صرفة هي صغرى القياس‪.‬‬
‫وهي من املشهورات اليت تطابقت عليها آراء العقالء اليت تسّم ى «اآلراء احملمودة»‪.‬‬
‫وهذه قضّية تدخل يف مباحث علم الكالم عادة ‪ ،‬وإذا حبث عنها هنا فمن باب املقّد مة‬
‫للبحث عن الكربى اآلتية‪.‬‬
‫الثانية ‪« :‬كّل ما حيسن فعله عقال حيسن فعله شرعا»‪ .‬وهذه قضّية عقلّية أيضا‬
‫يستدّل عليها مبا سيأيت يف حمّله ‪ ،‬وهي كربى للقياس ‪ ،‬ومضموهنا املالزمة بني حكم‬
‫العقل وحكم الشرع‪ .‬وهذه املالزمة مأخوذة من دليل عقلّي ‪ ،‬فهي مالزمة عقلّية ‪ ،‬وما‬
‫يبحث عنه يف علم األصول فهو هذه املالزمة ‪ ،‬ومن أجل هذه املالزمة تدخل املستقّالت‬
‫العقلّية يف املالزمات العقلّية‪.‬‬
‫وال ينبغي أن يتوّه م الطالب أّن هذه الكربى معناها حّجّية العقل ‪ ،‬بل نتيجة هاتني‬
‫املقّد متني هكذا ‪« :‬العدل حيسن فعله شرعا» ‪ ،‬وهذا االستنتاج بدليل عقلّي ‪ .‬وقد ينكر‬
‫املنكر أّنه يلزم شرعا ترتيب األثر على هذا االستنتاج واالستكشاف (‪ ، )2‬وسنذكر إن‬
‫شاء اهلل (تعاىل) يف حينه الوجه يف هذا االنكار الذي مرجعه إىل إنكار حّجّية العقل (‪.)3‬‬
‫والحاصل حنن نبحث يف املستقّالت العقلّية عن مسألتني ‪ :‬إحدامها ‪ :‬الصغرى ‪،‬‬
‫وهي بيان املدركات العقلّية يف األفعال االختيارّية [و] أّنه أّيها ينبغي فعله وأّيها ال ينبغي‬
‫فعله؟ ثانيتهما ‪ :‬الكربى ‪ ،‬وهي بيان أّن ما يدركه العقل هل ال بّد أن يدركه الشرع ‪،‬‬
‫أي حيكم على طبق ما حيكم به العقل؟ وهذه هي املسألة األصولّية اليت هي من‬
‫املالزمات العقلّية‪ .‬ومن هاتني املسألتني هنّيئ موضوع مبحث حّجّية العقل‪.‬‬
‫‪ .2‬وأّم ا يف «غري املستقّالت العقلّية» فأيضا يظهر احلال فيها بعد بيان املقّد متني‬
‫اللتني يتأّلف منهما الدليل العقلّي ‪ .‬ومها ـ مثال ـ ‪:‬‬
‫األولى ‪« :‬هذا الفعل واجب» أو «هذا املأّيت به ‪ ،‬مأمور به يف حال االضطرار»‪.‬‬
‫فمثل هذه القضايا تثبت يف علم الفقه ‪ ،‬فهي شرعّية‪.‬‬
‫الثانية ‪« :‬كّل فعل واجب شرعا يلزمه عقال وجوب مقّد مته شرعا» أو «يلزمه‬
‫عقال حرمة ضّد ه شرعا» أو «كّل مأّيت به ـ وهو مأمور به حال االضطرار ـ يلزمه عقال‬
‫اإلجزاء عن املأمور به حال االختيار» ‪ ...‬وهكذا‪ .‬فإّن أمثال هذه القضايا أحكام عقلّية‬
‫مضموهنا املالزمة العقلّية بني ما يثبت شرعا يف القضّية األوىل وبني حكم شرعّي آخر‪.‬‬
‫وهذه األحكام العقلّية هي اليت يبحث عنها يف علم األصول‪ .‬ومن أجل هذا تدخل يف‬
‫باب املالزمات العقلّية‪.‬‬

‫الخالصة‬
‫ومن مجيع ما ذكرنا يّتضح أّن املبحوث عنه يف املالزمات العقلّية هو إثبات‬
‫الكربيات العقلّية اليت تقع يف طريق إثبات احلكم الشرعّي ‪ ،‬سواء كانت الصغرى‬
‫عقلّية ‪ ،‬كما يف املستقّالت العقلّية ‪ ،‬أو شرعّية ‪ ،‬كما يف غري املستقّالت العقلّية‪.‬‬
‫أّم ا الصغرى ‪ :‬فدائما يبحث عنها يف علم آخر غري علم األصول ‪ ،‬كما أّن الكربى‬
‫يبحث عنها يف علم األصول ‪ ،‬وهي (‪ )1‬عبارة عن مالزمة حكم الشرع لشيء آخر‬
‫باملالزمة العقلّية ‪ ،‬سواء كان ذلك الشيء اآلخر حكما شرعّيا أم حكما عقلّيا أم‬
‫غريمها‪ .‬والنتيجة من الصغرى والكربى هاتني تقع صغرى لقياس آخر كرباه حّجّية العقل‬
‫‪ ،‬ويبحث عن هذه الكربى يف مباحث احلّج ة‪.‬‬
‫وعلى هذا فينحصر حبثنا هنا يف بابني ‪« :‬باب املستقّالت العقلّية» ‪ ،‬و «باب غري‬
‫املستقّالت العقلّية» ‪ ،‬فنقول ‪:‬‬
‫الباب األّو ل‬

‫المستقّالت العقلّية‬

‫تمهيد‬
‫الظاهر احنصار املستقّالت العقلّية ـ اليت يستكشف منها احلكم الشرعّي ـ يف مسألة‬
‫واحدة ‪ ،‬وهي مسألة التحسين والتقبيح العقلّيين‪ .‬وعليه ‪ ،‬يجب علينا أن نبحث عن‬
‫هذه المسألة من جميع أطرافها بالتفصيل ‪ ،‬ال سّيما أّنه لم يبحث عنها في كتب‬
‫األصول الدارجة ‪ ،‬فنقول ‪:‬‬
‫وقع البحث هنا في أربعة أمور متالحقة ‪:‬‬
‫‪ .1‬إّنه هل تثبت لألفعال ـ مع قطع النظر عن حكم الشارع وتعّلق خطابه بها ـ‬
‫أحكام عقلّية من حسن وقبح؟ أو إن شئت فقل ‪ :‬لألفعال حسن وقبح بحسب‬
‫ذواتها ‪ ،‬ولها قيم ذاتّية في نظر العقل قبل فرض حكم الشارع عليها ‪ ،‬أو ليس لها‬
‫ذلك‪ ،‬وهذا هو الخالف األصيل بين األشاعرة والعدلّية ‪ ،‬وهو مسألة التحسين‬
‫والتقبيح العقلّيين المعروفة في علم الكالم ونحن نبحث عن هذه المسألة هنا‬
‫باعتبار أّنها من المبادئ لمسألتنا األصولّية‪.‬‬
‫‪ .2‬إّنه بعد فرض القول بأّن لألفعال في حّد أنفسها حسنا وقبحا ‪ ،‬هل يتمّك ن‬
‫العقل من إدراك وجوه الحسن والقبح مستقّال عن تعليم الشارع وبيانه أو ال؟ وهذه‬
‫المسألة هي إحدى نقط الخالف المعروفة بين األصولّيين وجماعة من األخبارّيين‬
‫وهي أيضا ليست من مباحث علم األصول ‪ ،‬ولكّنها من المبادئ لمسألتنا األصولّية‬
‫اآلتية‬
‫‪ .3‬إّنه بعد فرض أّن لألفعال حسنا وقبحا وأّن العقل يدرك الحسن والقبح ‪،‬‬
‫يصّح أن ننتقل إلى التساؤل عّم ا إذا كان العقل يحكم أيضا بالمالزمة بين حكمه‬
‫وحكم الشرع ‪ ،‬بمعنى أّن العقل إذا حكم بحسن شيء أو قبحه هل يلزم عنده عقال‬
‫أن يحكم الشارع على طبق حكمه؟‬
‫وهذه هي المسألة األصولّية المعّبر عنها بمسألة المالزمة التي وقع فيها النزاع‬
‫‪ ،‬فأنكر المالزمة جملة من األخبارّيين (‪ )1‬وبعض األصولّيين كصاحب الفصول‬
‫‪ .4‬إّنه بعد ثبوت المالزمة وحصول القطع بأّن الشارع ال بّد أن يحكم على‬
‫طبق ما حكم به العقل فهل هذا القطع حّج ة شرعا؟ وعلى كّل حال ‪ ،‬فإّن الكالم‬
‫في هذه النواحي سيأتي في مباحث الحّج ة (المقصد الثالث) (‪ )4‬وهو النزاع في‬
‫حّجّية العقل‪ .‬وعليه ‪ ،‬فنحن نتعّر ض هنا للمباحث الثالثة األولى ‪ ،‬ونترك المبحث‬
‫الرابع بنواحيه إلى المقصد الثالث‪.‬‬

‫المبحث األّو ل ‪ :‬التحسين والتقبيح العقلّيان‬


‫اختلف الناس في حسن األفعال وقبحها هل إّنهما عقلّيان أو شرعّيان ‪ ،‬بمعنى‬
‫أّن الحاكم بهما هل هو العقل أو الشرع؟‬
‫فقالت األشاعرة ‪ :‬ال حكم للعقل في حسن األفعال وقبحها ‪ ،‬وليس الحسن‬
‫والقبح عائدين إلى أمر حقيقّي حاصل فعال قبل ورود بيان الشارع ‪ ،‬بل إّن ما‬
‫حّس نه الشارع فهو حسن وما قّبحه الشارع فهو قبيح ‪ ،‬فلو عكس الشارع القضّية‬
‫فحّس ن ما قّبحه وقّبح ما حّس نه لم يكن ممتنعا‪.‬‬
‫وقالت العدلّية ‪ :‬إّن لألفعال قيما ذاتّية عند العقل مع قطع النظر عن حكم‬
‫الشارع‪ .‬والشارع ال يأمر إّال بما هو حسن ‪ ،‬وال ينهى إّال عّم ا هو قبيح‬
‫واآلن أعقد البحث هنا في أمور ‪:‬‬
‫‪ .1‬معنى الحسن والقبح وتصوير النزاع فيهما‬
‫إّن الحسن والقبح ال يستعمالن بمعنى واحد ‪ ،‬بل لهما ثالثة معان ‪ ،‬فأّي هذه‬
‫المعاني هو موضوع النزاع؟ فنقول ‪:‬‬
‫أّو ال ‪ :‬قد يطلق الحسن والقبح ويراد بهما الكمال والنقص‪ .‬فيقال ـ مثال ـ ‪:‬‬
‫«العلم حسن ‪ ،‬والتعّلم حسن» ‪ ،‬وبضّد ذلك يقال ‪« :‬الجهل قبيح ‪ ،‬وإهمال التعّلم‬
‫قبيح»‪ .‬ويراد بذلك أّن العلم والتعّلم كمال للنفس وتطّو ر في وجودها ‪ ،‬وأّن‬
‫الجهل وإهمال التعّلم نقصان فيها ألّن هذه من القضايا اليقينّيات التي وراءها واقع‬
‫خارجّي تطابقه‪،‬‬
‫ثانيا ‪ :‬إّنهما قد يطلقان ويراد بهما المالءمة للنفس والمنافرة لها ‪ ،‬ويقعان‬
‫وصفا بهذا المعنى أيضا لألفعال ‪.‬و يقال في األفعال ‪« :‬نوم القيلولة حسن» ‪،‬‬
‫«األكل عند الجوع حسن» و «الشرب بعد العطش حسن»‪« ،‬النوم على الشبع‬
‫قبيح»‬
‫قال القوشجّي في شرحه للتجريد عن هذا المعنى ‪« :‬وقد يعّبر عنهما ـ أي‬
‫الحسن والقبح ـ بالمصلحة والمفسدة فيقال ‪ :‬الحسن ما فيه مصلحة ‪ ،‬والقبيح ما‬
‫فيه مفسدة ‪ ،‬وما خال منهما ال يكون شيئا منهما» (‪.)2‬‬
‫وهذا راجع إلى ما ذكرناه ‪ ،‬وليس المقصود أّن للحسن والقبح معنى آخر ـ‬
‫بمعنى ما له المصلحة أو المفسدة ـ غير معنى المالءمة والمنافرة‪.‬‬
‫وهذا المعنى من الحسن والقبح أيضا ليس لألشاعرة فيه نزاع‪.‬‬
‫ثالثا ‪ :‬أّنهما يطلقان ويراد بهما المدح والذّم ‪ ،‬ويقعان وصفا بهذا المعنى‬
‫لألفعال االختيارّية فقط‪ .‬ومعنى ذلك ‪ :‬أّن الحسن ما استحّق فاعله عليه المدح‬
‫والثواب عند العقالء كاّفة ‪ ،‬والقبيح ما ينبغي تركه عندهم‪.‬‬
‫وهذا المعنى الثالث هو موضوع النزاع (‪ )2‬فاألشاعرة أنكروا أن يكون للعقل‬
‫إدراك ذلك من دون الشرع ‪ ،‬وخالفتهم العدلّية ‪ ،‬فأعطوا للعقل هذا الحّق من‬
‫اإلدراك‪.‬‬

‫‪ .2‬واقعّية الحسن والقبح في معانيهما ورأى األشاعرة‬

‫إّن الحسن بالمعنى األّو ل ـ أي الكمال ـ ‪ ،‬وكذا مقابله ـ أي القبح ـ أمر واقعّي‬
‫خارجّي ال يختلف باختالف األنظار واألذواق ‪ ،‬وال يتوّقف على وجود من يدركه‬
‫ويعقله ‪ ،‬بخالف الحسن [والقبح] بالمعنيين األخيرين‪.‬‬
‫وهذا ما يحتاج إلى التوضيح والتفصيل ‪ ،‬فنقول ‪:‬‬
‫‪ .1‬أّم ا الحسن بمعنى المالءمة ‪ ،‬وكذا ما يقابله ‪ ،‬فليس له في نفسه إزاء في‬
‫الخارج يحاذيه ويحكي عنه ‪ ،‬وإن كان منشؤه قد يكون أمرا خارجّيا ‪ ،‬كاللون‬
‫والرائحة والطعم وتناسق األجزاء ونحو ذلك‪.‬‬
‫بل حسن الشيء يتوّقف على وجود الذوق العاّم أو الخاّص‬
‫‪ .2‬وأّما الحسن بمعني ما ينبغي أن يفعل عند العقل ‪ ،‬فكذلك ليس له واقعّية‬
‫إّال إدراك العقالء ‪ ،‬أو فقل ‪« :‬تطابق آراء العقالء»‪.‬‬
‫وعلى هذا ‪ ،‬فإن كان غرض األشاعرة من إنكار الحسن والقبح إنكار‬
‫واقعّيتهما بهذا المعنى من الواقعّية فهو صحيح ‪ ،‬ولكن هذا بعيد من أقوالهم ؛ ألّنه‬
‫لّم ا كانوا يقولون بحسن األفعال وقبحها بعد حكم الشارع فإّنه يعلم منه أّنه ليس‬
‫غرضهم ذلك ؛ ألّن حكم الشارع ال يجعل لهما واقعّية وخارجّية ؛ كيف؟ وقد‬
‫رّتبوا على ذلك بأّن وجوب المعرفة والطاعة ليس بعقلّي بل شرعّي ‪ .‬وإن كان‬
‫(‬
‫غرضهم إنكار إدراك العقل ـ كما هو الظاهر من أقوالهم ـ فسيأتي تحقيق الحّق فيه‬
‫‪ ، )2‬وأّنهم ليسوا على صواب في ذلك‪.‬‬
‫‪ .3‬العقل العملّي والنظرّي‬
‫إّن المراد من العقل ـ إذ يقولون ‪ :‬إّن العقل يحكم بحسن الشيء أو قبحه‬
‫بالمعنى الثالث من الحسن والقبح ـ هو «العقل العملّي » في مقابل «العقل‬
‫النظرّي »‪.‬‬
‫ومن هنا تعرف أّن المراد من العقل المدرك للحسن والقبح بالمعنى األّو ل هو‬
‫العقل النظرّي ؛ ألّن الكمال والنقص مّم ا ينبغي أن يعلم ‪ ،‬ال مّم ا ينبغي أن يعمل‪.‬‬
‫وكذا المراد من العقل المدرك للحسن والقبح بالمعنى الثاني هو العقل‬
‫النظرّي ؛ ألّن المالءمة وعدمها ‪ ،‬أو المصلحة والمفسدة مّم ا ينبغي أن يعلم‪.‬‬

‫‪ .4‬أسباب حكم العقل العملّي بالحسن والقبح‬


‫إّن اإلنسان إذ يدرك أّن الشيء ينبغي فعله فيمدح فاعله ‪ ،‬أو ال ينبغي فعله‬
‫فيذّم فاعله ‪ ،‬ال يحصل له اإلدراك جزافا واعتباطا ‪ ،‬بل ال بّد له من سبب ؛ وسببه‬
‫باالستقراء أحد أمور خمسة‪:‬‬
‫األّو ل ‪ :‬أن يدرك أّن هذا الشيء كمال للنفس أو نقص لها‪.‬‬
‫الثاني ‪ :‬أن يدرك مالءمة الشيء للنفس أو عدمها‪.‬‬
‫وكّل من هذين اإلدراكين ـ يكون على نحوين ‪:‬‬
‫‪ .1‬أن يكون اإلدراك لواقعة جزئّية خاّصة ‪ ،‬وهذا اإلدراك ال يكون بقّو ة العقل‬
‫؛ بل إّنما يكون إدراك الجزئّية بقّو ة الحّس أو الواهم أو الخيال‪ ،‬ولكن هذا المدح‬
‫أو الّذ م ال ينبغي أن يسّم ى «عقلّيا» ‪ ،‬بل قد يسّم ى ـ بالتعبير الحديث ـ «عاطفّيا»‪.‬‬
‫‪ .2‬أن يكون اإلدراك ألمر كّلّي ‪ ،‬فيحكم اإلنسان بحسن الفعل لكونه كماال‬
‫للنفس ‪ ،‬كالعلم والشجاعة ‪ ،‬أو لكونه فيه مصلحة نوعّية‪ .‬فهذا اإلدراك إّنما يكون‬
‫بقّو ة العقل بما هو عقل ‪ ،‬فيستتبع مدحا من جميع العقالء‪.‬‬
‫وكذا في إدراك قبح الشيء باعتبار كونه نقصا للنفس ‪.‬وهو معنى الحسن‬
‫والقبح العقلّيين الذي هو محّل النفي واإلثبات‪ .‬وتسّم ى هذه األحكام العقلّية العاّمة‬
‫«اآلراء المحمودة» و «التأديبات الصالحّية‪.‬‬
‫الثالث ‪ :‬ومن أسباب الحكم بالحسن والقبح «الخلق اإلنسانّي » الموجود في‬
‫كّل إنسان على اختالفهم في أنواعه ‪ ،‬نحو خلق الكرم والشجاعة‪ .‬ويجب الرجوع‬
‫في هذا القسم إلى ما ذكرته من «الخلقّيات» في المنطق‪.‬‬
‫الرابع ‪ :‬ومن أسباب الحكم بالحسن والقبح «االنفعال النفسانّي » ‪ ،‬نحو الرّقة‬
‫والرحمة والشفقة والحياء واألنفة والحمّية والغيرة‪.‬‬
‫ولكن هذا الحسن والقبح ال يعّد ان حسنا وقبحا عقلّيين ‪ ،‬بل ينبغي أن يسّم يا‬
‫«عاطفّيين» أو «انفعالّيين»‪ .‬وتسّم ى القضايا هذه عند المنطقّيين بـ «االنفعالّيات»‪.‬‬
‫الخامس ‪ :‬ومن األسباب «العادة عند الناس» ‪ ،‬كاعتيادهم احترام القادم ـ مثال‬
‫ـ بالقيام له ‪.‬وهذا الحسن والقبح أيضا ليسا عقلّيين‪ .‬وتسّم ى القضايا فيهما في‬
‫عرف المناطقة «العادّيات»‪.‬‬
‫فتحّص ل أّنه ليس كّل حسن وقبح بالمعنى الثالث موضوعا للنزاع مع األشاعرة‬
‫‪ ،‬بل خصوص ما كان سببه إدراك كمال الشيء أو نقصه على نحو كّلي ‪ ،‬وما كان‬
‫سببه إدراك مالءمته أو عدمها على نحو كّلي أيضا من جهة مصلحة نوعّية أو‬
‫مفسدة نوعّية‪.‬‬

‫‪ .5‬معنى الحسن والقبح الذاتّيين‬


‫إّن الحسن والقبح بالمعنى الثالث ينقسمان إلى ثالثة أقسام ‪:‬‬
‫‪ .1‬ما هو عّلة للحسن والقبح ‪ ،‬ويسّم ى الحسن والقبح فيه بـ «الذاتّيين» ‪،‬‬
‫مثل العدل والظلم‪.‬‬
‫‪ .2‬ما هو مقتض لهما ‪ ،‬ويسّم ى الحسن والقبح فيه بـ «العرضّيين» ‪ ،‬مثل‬
‫تعظيم الصديق وتحقيره‪.‬‬
‫‪ .3‬ما ال عّلية له وال اقتضاء فيه في نفسه للحسن والقبح أصال‪ ،‬كالضرب ـ‬
‫مثال ـ ‪ ،‬فإّنه حسن للتأديب ‪ ،‬وقبيح للتشّف ي‪.‬‬

‫‪ .6‬أدّلة الطرفين‬
‫بتقديم األمور السابقة نستطيع أن نواجه أدّلة الطرفين بعين بصيرة ؛ فنقول ‪:‬‬
‫‪ .1‬وهو أهّم أدّلتهم ؛ إذ يقولون ‪:‬‬
‫«لو كانت قضّية الحسن والقبح مّم ا يحكم به العقل لما كان فرق بين حكمه‬
‫في هذه القضّية وبين حكمه بأّن الكّل أعظم من الجزء‪ .‬ولكّن الفرق موجود قطعا ؛‬
‫إذ الحكم الثاني ال يختلف فيه اثنان مع وقوع االختالف في األّو ل» (‪.)1‬‬
‫والجواب عنه ‪ :‬أّن المقّد مة األولى ـ وهي الجملة الشرطّية ـ ممنوعة ‪ ،‬ومنعها‬
‫يعلم مّم ا تقّد م آنفا ؛ ألّن قضّية الحسن والقبح ـ كما قلنا ـ من المشهورات ‪،‬‬
‫وقضّية أّن الكّل أعظم من الجزء من األّو لّيات اليقينّيات ‪ ،‬فال مالزمة بينهما‬
‫‪ .2‬ومن أدّلتهم على إنكار الحسن والقبح العقلّيين أن قالوا ‪ :‬إّنه لو كان ذلك‬
‫عقلّيا لما اختلف حسن األشياء وقبحها باختالف الوجوه واالعتبارات ‪ ،‬كالصدق‪.‬‬
‫والجواب عن هذا الدليل وأشباهه يظهر ّمما ذكرناه من أّن حسن األشياء وقبحها‬
‫على أحناء ثالثة ‪ ،‬فما كان ذاتّيا ال يقع فيه اختالف وأّم ا ‪ :‬ما كان عرضّيا فإّنه يختلف‬
‫بالوجوه واالعتبارات‪ .‬والخالصة أّن العدلّية ال يقولون بأّن مجيع األشياء ال بّد أن‬
‫تّتصف باحلسن أبدا أو بالقبح أبدا ‪ ،‬حىّت يلزم ما ذكر من اإلشكال‪.‬‬
‫‪ .3‬وقد استدّل العدلّية على مذهبهم مبا خالصته «أّنه من املعلوم ضرورة حسن‬
‫اإلحسان وقبح الظلم عند كّل عاقل من غري اعتبار شرع ‪ ،‬فإّن ذلك يدركه حىّت منكر‬
‫الشرائع»‪.‬‬
‫‪ .4‬واستدّل العدلّية أيضا بأّن احلسن والقبح لو كانا ال يثبتان إّال من طريق‬
‫الشرع ‪ ،‬فهما ال يثبتان أصال حىّت من طريق الشرع ‪.‬واألحسن تصوير الدليل على وجه‬
‫آخر ‪ ،‬فنقول ‪:‬‬
‫إّنه من املسّلم عند الطرفني وجوب طاعة األوامر والنواهي الشرعّية ‪ ،‬وكذلك‬
‫وجوب املعرفة‪ .‬وهذا الوجوب عند األشاعرة وجوب شرعّي حسب دعواهم ‪ ،‬فنقول‬
‫هلم ‪ :‬من أين يثبت هذا الوجوب؟ ال بّد أن يثبت بأمر من الشارع ؛ فننقل الكالم إىل‬
‫هذا األمر ‪ ،‬فنقول هلم ‪ :‬من أين جتب طاعة هذا األمر؟ فإن كان هذا الوجوب عقلّيا‬
‫فهو املطلوب ‪ ،‬وإن كان شرعّيا أيضا فال بّد له من أمر وال بّد له من طاعة ‪ ،‬فننقل‬
‫الكالم إليه‪..‬‬
‫والنتيجة أّن ثبوت احلسن والقبح شرعا يتوّقف على ثبوهتما عقال‪.‬‬

‫المبحث الثاني ‪ :‬إدراك العقل للحسن والقبح‬


‫الشيء الثابت قطعا عندهم على اإلمجال القول بعدم جواز االعتماد على شيء من‬
‫(‬
‫اإلدراكات العقلّية يف إثبات األحكام الشرعّية‪ .‬وقد فّس ر هذا القول بأحد وجوه ثالثة‬
‫‪ )3‬حسب اختالف عبارات الباحثني منهم ‪:‬‬
‫‪ .1‬إنكار إدراك العقل للحسن والقبح الواقعّيني‪ .‬وهذه هي مسألتنا اليت عقدنا هلا‬
‫هذا املبحث الثاين‪.‬‬
‫‪ .2‬ـ بعد االعرتاف بثبوت إدراك العقل ـ إنكار املالزمة بينه وبني حكم الشرع‪.‬‬
‫وهذه هي املسألة اآلتية يف «املبحث الثالث»‪.‬‬
‫‪ .3‬إنكار وجوب إطاعة احلكم الشرعّي الثابت من طريق العقل ‪ ،‬وسيأيت البحث‬
‫عن ذلك يف اجلزء الثالث من هذا الكتاب (مباحث احلّج ة)‪.‬‬
‫وعليه ‪ ،‬فإن أرادوا التفسري األّو ل بعد االعرتاف بثبوت احلسن والقبح العقلّيني فهو‬
‫كالم ال معىن له ؛ ألّنه قد تقّد م أّنه ال واقعّية للحسن والقبح إّال إدراك العقالء لذلك‬
‫وتطابق آرائهم على مدح فاعل احلسن وذّم فاعل القبيح على ما أوضحناه فيما سبق‪.‬‬
‫وإذا اعرتفوا بثبوت احلسن والقبح هبذا املعىن فهو اعرتاف بإدراك العقل‬

‫المبحث الثالث ‪ :‬ثبوت المالزمة العقلّية بين حكم العقل وحكم الشرع‬
‫والحّق أّن املالزمة ثابتة عقال ‪ ،‬فإّنه إذا تطابقت آراء العقالء مجيعا مبا هم عقالء‬
‫على حسن شيء‪ .‬فإّن احلكم هذا يكون بادئ رأي اجلميع ‪ ،‬فال بّد أن حيكم الشارع‬
‫حبكمهم ؛ ألّنه منهم بل رئيسهم ‪.‬‬
‫توضيح وتعقيب;‬
‫والحّق أّن االلتزام بالتحسني والتقبيح العقلّيني هو نفس االلتزام بتحسني الشارع‬
‫وتقبيحه ‪ ،‬وفقا حلكم العقالء ؛ ألّنه من مجلتهم ‪ ،‬ال أهّن ما شيئان أحدمها يلزم اآلخر ‪،‬‬
‫وإن توّه م ذلك بعضهم‪ .‬وعليه ‪ ،‬فال وجه للبحث عن ثبوت املالزمة بعد فرض القول‬
‫بالتحسني التقبيح‪.‬‬

‫الباب الثاني‬

‫غير المستقّالت العقلّية‬


‫(‪)2‬‬
‫المسألة األولى ‪ :‬اإلجزاء‬

‫تصدير‬
‫وإمّن ا وقع اخلالف ـ أو ميكن أن يقع ـ يف مسألة اإلجزاء فيما إذا كان هناك أمران ‪:‬‬
‫أمر أّو ّيل واقعّي مل ميتثله املكّلف إّم ا لتعّذ ره عليه أو جلهله به ‪ ،‬وأمر ثانوّي إّم ا اضطرارّي‬
‫يف صورة تعّذ ر األّو ل ‪ ،‬وإّم ا ظاهرّي يف صورة اجلهل باألّو ل ؛ فإّنه إذا امتثل املكّلف‬
‫هذا األمر الثانوّي االضطرارّي أو الظاهرّي ّمث زال العذر واالضطرار أو زال اجلهل‬
‫وانكشف الواقع ‪ ،‬صّح اخلالف يف كفاية ما أتى به امتثاال لألمر الثاين عن امتثال األمر‬
‫األّو ل ‪ ،‬وإجزائه عنه إعادة يف الوقت وقضاء يف خارجه‪ .‬وألجل هذا عقدت هذه‬
‫املسألة ‪« :‬مسألة اإلجزاء»‪.‬‬
‫وعلينا أن نعقد البحث يف مقامني‪:‬‬

‫المقام األّو ل ‪ :‬األمر االضطرارّي‬


‫يقع البحث والتساؤل فيما لو ارتفعت تلك احلالة االضطرارّية الثانوّية ورجع‬
‫املكّلف إىل حالته األوىل من التمّك ن من أداء ما كان عليه واجبا يف حالة االختيار ‪ ،‬فهل‬
‫جيزئه ما كان قد أتى به يف حال االضطرار ‪ ،‬أو ال جيزئه ‪ ،‬واملقصود الذي نريد أن نقوله‬
‫بصريح العبارة «أّن اإلتيان بالناقص بالنظرة األوىل ّمما [ال] يقتضي عقال اإلجزاء عن‬
‫الكامل»‪.‬‬
‫فال بّد أن يكون ذهاب الفقهاء إىل اإلجزاء لسّر هناك ‪ :‬إّم ا لوجود مالزمة بني‬
‫اإلتيان بالناقص وبني اإلجزاء عن الكامل ‪ ،‬وإّم ا لغري ذلك من األسباب ‪ ،‬فيجب أن‬
‫نتبنّي ذلك ‪ ،‬فنقول ‪ :‬هناك وجوه أربعة يصلح أن يكون كّلها أو بعضها مستندا للقول‬
‫باإلجزاء نذكرها كّلها ‪:‬‬
‫‪ .1‬إّنه من املعلوم أّن األحكام الواردة يف حال االضطرار واردة للتخفيف على‬
‫ِب‬
‫املكّلفني ‪ ،‬والتوسعة عليهم يف حتصيل مصاحل التكاليف األصلّية األّو لّية (ُيِر يُد اُهلل ُك ُم‬
‫(‪)1‬‬
‫اْلُيْسَر َو ال ُيِر يُد ِبُك ُم اْلُعْسَر )‪.‬‬
‫وليس من شأن التخفيف والتوسعة أن يكّلفهم ثانيا بالقضاء أو األداء ‪ ،‬وإن كان‬
‫الناقص ال يسّد مسّد الكامل يف حتصيل مصلحته امللزمة‪.‬‬
‫‪..dst .2‬‬

‫المقام الثاني ‪ :‬األمر الظاهرّي‬


‫تمهيد‬
‫اصطالحان ‪ :‬أحدمها ‪ :‬وهو املقابل للحكم الواقعّي ‪ ،‬فيختّص الظاهرّي مبا ثبت‬
‫باألصول العملّية‪.‬‬
‫وثانيهما ‪ :‬كّل حكم ثبت ظاهرا عند اجلهل باحلكم الواقعّي الثابت يف علم اهلل‬
‫(تعاىل) ‪ ،‬فيشمل احلكم الثابت باألمارات واألصول معا وهذا املعىن الثاين العاّم هو‬
‫املقصود هنا بالبحث ‪ ،‬فاألمر الظاهرّي ‪ :‬ما تضّم نه األصل أو األمارة‪ .‬وإمّن ا الذي حيسن‬
‫أن نبحث عنه هنا يف هذا الباب هو أّن األمر الواقعّي الواقعّي يف الوقت أداء ويف خارج‬
‫الوقت قضاء ‪ ،‬أو أّنه ال جيب شيء عليه بل جيزئ ما أتى به على طبق األمارة أو األصل‬
‫ويكتفي به؟‬
‫ّمث إّن العمل على خالف الواقع ـ كما سبق ـ تارة يكون باألمارة وأخرى باألصل‪.‬‬
‫ّمث االنكشاف على حنوين ‪ :‬انكشاف على حنو اليقني‪ .‬وانكشاف مبقتضى حّج ة معتربة‪.‬‬
‫فهذه أربع صور‪.‬‬
‫االنكشاف مبقتضى األصل ـ نعقد البحث يف ثالث مسائل ‪:‬‬

‫‪ .1‬اإلجزاء في األمارة مع انكشاف الخطأ يقينا‬


‫إّن قيام األمارة تارة يكون يف األحكام‪ ،‬وأخرى يف املوضوعات ‪ ،‬كقيام البّينة على‬
‫طهارة ثوب صّلى به ‪ ،‬أو ماء توّض أ منه ‪ّ ،‬مث بانت جناسته‪.‬‬
‫واملعروف عند اإلمامّية عدم اإلجزاء مطلقا‪ .‬أّم ا يف «األحكام» ‪ :‬فألجل اّتفاقهم‬
‫على مذهب التخطئة ‪ ،‬ومع انكشاف اخلطأ ال يبقى جمال للعذر ‪ ،‬بل يتنّج ز الواقع‬
‫حينئذ يف حّق ه من دون أن يكون قد جاء بشيء يسّد مسّد ه ويغين عنه‪.‬‬
‫وأّم ا يف «املوضوعات» (‪ : )4‬فالظاهر أّن املعروف عندهم أّن األمارة فيها قد‬
‫أخذت على حنو «الطريقية» (‪ ، )5‬كقاعدة اليد ‪ ،‬والصّح ة ‪ ،‬وسوق املسلمني ‪،‬‬
‫وحنوها ‪ ،‬فإن أصابت الواقع فذاك ‪ ،‬وإن أخطأت فالواقع على حاله ‪,‬وعليه ‪ ،‬فاألمارة‬
‫يف املوضوعات أيضا ال تقتضي اإلجزاء بال فرق بينها وبني األمارة يف األحكام‪.‬‬
‫‪ .2‬اإلجزاء في األصول مع انكشاف الخطأ يقينا‬
‫إذا عرفت ذلك فنقول ‪:‬‬
‫أّو ال ‪ :‬إّن حبث اإلجزاء ال يتصّو ر يف قاعدة االحتياط مطلقا ‪ ،‬سواء كانت عقلّية‬
‫أو‬
‫شرعّية ؛ ألّن املفروض يف االحتياط هو العمل مبا حيّق ق امتثال التكليف الواقعّي ‪ ،‬فال‬
‫يتصّو ر فيه تفويت املصلحة‪.‬‬
‫(‬
‫وثانيا ‪ :‬كذلك ال يتصّو ر حبث اإلجزاء يف األصول العقلّية األخرى ‪ ،‬كالرباءة‬
‫‪ ، )1‬وقاعدة التخيري ؛ ألهّن ا ـ حسب الفرض ـ ال تتضّم ن حكما ظاهرّيا ‪ ،‬حىّت يتصّو ر‬
‫فيها اإلجزاء واالكتفاء باملأّيت به عن الواقع ‪ ،‬بل إّن مضموهنا هو سقوط العقاب‬
‫واملعذورّية اجملّر دة‪.‬‬
‫وعليه ‪ ،‬فينحصر البحث يف خصوص األصول الشرعّية عدا االحتياط ‪،‬‬
‫كاالستصحاب ‪ ،‬وأصالة الرباءة ‪ ،‬واحلّلّية ‪ ،‬وأصالة الطهارة‪.‬‬
‫وهي ألّو ل وهلة ال جمال لتوّه م اإلجزاء فيها ‪ ،‬ال يف األحكام وال يف املوضوعات ؛‬
‫فإهّن ا أوىل من األمارات يف عدم اإلجزاء ‪ ،‬باعتبار أهّن ا ـ كما ذكرنا يف صدر البحث ـ‬
‫وظيفة عملّية يرجع إليها اجلاهل الشاّك لرفع احلرية يف مقام العمل والعالج الوقّيت‪ .‬فال‬
‫يتصّو ر فيه مصلحة وافية يتدارك هبا مصلحة الواقع (‪ )3‬حىّت يقتضي اإلجزاء واالكتفاء به‬
‫عن الواقع‪.‬‬
‫ولذا أفىت علماؤنا املتقّد مون بعدم اإلجزاء يف األصول العملّية‪.‬‬
‫ومع هذا ‪ ،‬فقد قال قوم من املتأّخ رين باإلجزاء ‪ ،‬منهم ‪ :‬شيخنا صاحب الكفاية‪.‬‬
‫ولكن ذلك يف خصوص األصول اجلارية لتنقيح موضوع التكليف وحتقيق متعّلقه ‪،‬‬
‫كقاعدة الطهارة ‪ ،‬وأصالة احلّلّية ‪ ،‬واستصحاهبما‪.‬‬

‫‪ .3‬اإلجزاء في األمارات واألصول مع انكشاف الخطأ بحّج ة معتبرة‬


‫وهذه أهّم مسألة يف اإلجزاء من جهة عموم البلوى هبا للمكّلفني فنقول يف هذه‬
‫األحوال ‪:‬‬
‫وال إشكال ـ أيضا ـ يف مضّي الوقائع السابقة اليت ال يرتّتب عليها أثر أصال يف الزمن‬
‫الالحق‪.‬‬
‫وإمّن ا اإلشكال يف الوقائع الالحقة املرتبطة بالوقائع السابقة ‪ ،‬مثل ما لو انكشف‬
‫اخلطأ اجتهادا أو تقليدا يف وقت العبادة ‪ ،‬وقد عمل مبقتضى احلّج ة السابقة ‪ ،‬أو انكشف‬
‫اخلطأ يف خارج الوقت ‪ ،‬وكان عمله ّمما يقضى ‪ ،‬كالصالة ‪ ،‬ومثل ما لو تزّو ج زوجة‬
‫بعقد غري عرّيب اجتهادا أو تقليدا ‪ّ ،‬مث قامت احلّج ة عنده على اعتبار اللفظ العرّيب ‪،‬‬
‫والزوجة ال تزال موجودة‪.‬‬
‫فإّن املعروف يف املوضوعات اخلارجّية عدم اإلجزاء أّم ا يف األحكام ‪ :‬فقد قيل‬
‫بقيام اإلمجاع على اإلجزاء ‪ ،‬لكن والظاهر أهّن ا ال تقتضي اإلجزاء إّال إذا ثبت اإلمجاع‬
‫عليه‪.‬‬

‫تنبيه في تبّد ل القطع‬


‫لو قطع املكّلف بأمر خطأ فعمل على طبق قطعه ‪ّ ،‬مث بان له يقينا خطؤه ‪ ،‬فإّنه ال‬
‫ينبغي الشّك يف عدم اإلجزاء‪.‬‬

‫المسألة الثانية ‪ :‬مقّد مة الواجب‬

‫تحرير [محّل] النزاع‬


‫إّن العقل ـ ال شّك ـ حيكم بوجوب مقّد مة الواجب ـ أي يدرك لزومها ـ ‪ ،‬ولكن‬
‫هل حيكم أيضا بأهّن ا واجبة أيضا عند من أمر مبا يتوّقف عليها؟ فاملالزمة بني حكم العقل‬
‫وحكم الشرع هي موضع البحث يف هذه املسألة‪.‬‬
‫(‪)3‬‬
‫مقّد مة الواجب من أّي قسم من المباحث األصولّية؟‬
‫إّن هذه املسألة ذات جهتني باختالف األقوال فيها ‪ :‬ميكن أن تدخل يف مباحث‬
‫األلفاظ على بعض األقوال ‪ ،‬وميكن أن تدخل يف املالزمات العقلّية على البعض اآلخر‪.‬‬
‫ولكن ألجل اجلمع بني اجلهتني ناسب إدخاهلا يف املالزمات العقلّية ـ كما صنعنا ـ ؛‬
‫ألّن البحث فيها على كّل حال يف ثبوت املالزمة‪.‬‬

‫ثمرة النزاع‬
‫إّن للمسألة فوائد علمّية كثرية وإن مل تكن هلا فوائد عملّية و هي ترتبط بكثري من‬
‫املسائل ذات الشأن العملّي يف الفقه ‪ ،‬كالبحث عن الشرط املتأّخ ر ‪ ،‬واملقّد مات املفّو تة ‪،‬‬
‫ولذا جتد أّن أهّم مباحث مسألتنا هي هذه األمور املنّو ه عنها وأمثاهلا‪ .‬أّم ا نفس البحث‬
‫عن أصل املالزمة فيكاد يكون حبثا على اهلامش ‪ ،‬بل آخر ما يشغل بال األصولّيني‪.‬‬
‫هذا ‪ ،‬وحنن اّتباعا لطريقتهم نضع التمهيدات قبل البحث عن أصل املسألة يف أمور‬
‫تسعة ‪:‬‬

‫‪ .1‬الواجب النفسّي والغيرّي‬


‫تعريفهما ‪:‬‬
‫الواجب النفسّي ما وجب لنفسه ال لواجب آخر‪.‬‬
‫الواجب الغيرّي ما وجب لواجب آخر‪.‬‬
‫فإّن معىن «ما وجب لنفسه» أّن وجوبه غري مستفاد من الغري وال ألجل الغري يف قبال‬
‫الواجب الغريّي الذي وجوبه ألجل الغري ‪ ،‬ال أّن وجوبه مستفاد من نفسه‪.‬‬
‫وهبذا يّتضح معىن تعريف الواجب الغريّي «ما وجب لواجب آخر» ؛ فإّن معناه‬
‫أّن وجوبه ألجل الغري وتابع للغري‬

‫‪ .2‬معنى التبعّية في الوجوب الغيرّي ‪:‬‬


‫؛ أّن التبعّية يف الوجوب ميكن أن تتصّو ر هلا معان أربعة ‪ ،‬فنقول ‪:‬‬
‫‪ .1‬أن يكون معىن الوجوب التبعّي هو الوجوب بالعرض‪ .‬ومعىن ذلك أّنه ليس يف‬
‫الواقع إّال وجوب واحد حقيقّي ـ وهو الوجوب النفسّي ـ ينسب إىل ذي املقّد مة أّو ال‬
‫وبالذات ‪ ،‬وإىل املقّد مة ثانيا وبالعرض‪.‬‬
‫‪ .2‬أن يكون معىن التبعّية صرف التأّخ ر يف الوجود‪.‬‬
‫‪ .3‬أن يكون معىن التبعّية ترّش ح الوجوب الغريّي من الوجوب النفسّي لذي املقّد مة‬
‫على وجه يكون معلوال له ‪,‬وكأّن هذا الوجه من التبعّية هو املقصود للقوم ‪،‬‬
‫‪ .4‬أن يكون معىن التبعّية هو ترّش ح الوجوب الغريّي من الوجوب النفسّي ولكن‬
‫ال مبعىن أّنه معلول له ‪ ،‬بل مبعىن أّن الباعث للوجوب الغريّي ـ على تقدير القول به ـ هو‬
‫الوجوب النفسّي باعتبار أّن األمر باملقّد مة والبعث حنوها إمّن ا هو لغاية التوّص ل إىل ذيها‬
‫الواجب وحتصيله‪.‬‬
‫وهذا املعىن هو الذي ينبغي أن يكون معىن التبعّية املقصودة يف الوجوب الغريّي ‪.‬‬
‫فيكون البعث حنو املقّد مة ـ على هذا ـ بعثا حقيقّيا ‪ ،‬ال أّنه يتبع البعث إىل ذيها على وجه‬
‫ينسب إليها بالعرض ‪ ،‬كما يف الوجه األّو ل ‪ ،‬وال أّنه يبعثه ببعث مستقّل لنفس املقّد مة‬
‫ولغرض فيها بعد البعث حنو ذيها ‪ ،‬كما يف الوجه الثاين ‪ ،‬وال أّن البعث حنو املقّد مة من‬
‫آثار البعث حنو ذيها على وجه يكون معلوال له كما يف الوجه الثالث‪.‬‬

‫‪ .3‬خصائص الوجوب الغيرّي‬


‫وهي أمور ‪:‬‬
‫‪ .1‬إّن الواجب الغريّي كما ال بعث استقالّيل له ـ كما تقّد م ـ ال إطاعة استقاللّية‬
‫له ‪ ،‬وإمّن ا إطاعته كوجوبه لغرض التوّص ل إىل ذي املقّد مة ‪ ،‬خبالف الواجب النفسّي ؛‬
‫فإّنه واجب لنفسه ويطاع لنفسه‪.‬‬
‫‪ .2‬إّنه بعد أن قلنا ‪ :‬إّنه ال إطاعة استقاللّية للوجوب الغريّي ‪ ،‬فال بّد أّال يكون له‬
‫ثواب على إطاعته (‪ )1‬غري الثواب الذي حيصل على إطاعة وجوب ذي املقّد مة‪.‬‬
‫‪ .3‬إّن الوجوب الغريّي ال يكون إّال توّص لّيا ‪ ،‬أي ال يكون يف حقيقته عبادّيا ‪ ،‬وال‬
‫يقتضي يف نفسه عبادّية املقّد مة ‪،‬‬
‫‪ .4‬إّن الوجوب الغريّي تابع لوجوب ذي املقّد مة إطالقا واشرتاطا ‪ ،‬وفعلّية وقّو ة ‪،‬‬
‫قضاء حلّق التبعّية ‪،‬‬

‫‪ .4‬مقّد مة الوجوب‬
‫قّس موا املقّد مة إىل قسمني مشهورين ‪:‬‬
‫‪ .1‬مقّد مة الوجوب وتسّم ى «املقّد مة الوجوبّية» ‪ ،‬وهي ‪ :‬ما يتوّقف عليها نفس‬
‫الوجوب ‪ ،‬بأن تكون شرطا للوجوب على قول مشهور‪ .‬وقيل ‪ :‬إهّن ا تؤخذ يف الواجب‬
‫على وجه تكون مفروضة التحّق ق ومثاهلا االستطاعة بالنسبة إىل احلّج ‪،‬‬
‫‪ .2‬مقّد مة الواجب وتسّم ى «املقّد مة الوجودّية» ‪ ،‬وهي ما يتوّقف عليها وجود‬
‫الواجب بعد فرض عدم تقييد الوجوب هبا ؛ كالوضوء بالنسبة إىل الصالة ‪ ،‬والسفر‬
‫بالنسبة إىل احلّج وحنو ذلك‪ .‬ويسّم ى الواجب بالنسبة إليها «الواجب املطلق» (‪.)5‬‬
‫واملقصود من ذكر هذا التقسيم بيان أّن حمّل النزاع يف مقّد مة الواجب هو خصوص‬
‫القسم الثاين ‪،‬‬

‫‪ .5‬المقّد مة الداخلّية‬
‫تنقسم املقّد مة الوجودّية إىل قسمني ‪ :‬داخلّية وخارجّية‪.‬‬
‫‪« .1‬املقّد مة الداخلّية» هي جزء الواجب املرّك ب ‪ ،‬كالصالة‪.‬‬
‫‪« .2‬املقّد مة اخلارجّية» وهي كّل ما يتوّقف عليه الواجب وله وجود مستقّل‬
‫خارج عن وجود الواجب‪.‬‬
‫والغرض من ذكر هذا التقسيم هو بيان أّن النزاع يف مقّد مة الواجب هل يشمل‬
‫املقّد مة الداخلّية أو أّن ذلك خيتّص باخلارجّية؟‬
‫‪ .6‬الشرط الشرعّي‬
‫إّن املقّد مة اخلارجّية تنقسم إىل قسمني ‪ :‬عقلّية وشرعّية‪.‬‬
‫‪« .1‬املقّد مة العقلّية» هي كّل أمر يتوّقف عليه وجود الواجب توّقفا واقعّيا يدركه‬
‫العقل بنفسه من دون استعانة بالشرع ‪ ،‬كتوّقف احلّج على قطع املسافة‪.‬‬
‫‪« .2‬املقّد مة الشرعّية» هي كّل أمر يتوّقف عليه الواجب توّقفا ال يدركه العقل‬
‫بنفسه ‪ ،‬بل يثبت ذلك من طريق الشرع ‪ ،‬كتوّقف الصالة على الطهارة ‪ ،‬واستقبال‬
‫القبلة ‪ ،‬وحنومها‪ .‬ويسّم ى هذا األمر أيضا «الشرط الشرعّي »‬
‫والغرض من ذكر هذا التقسيم بيان أّن النزاع يف مقّد مة الواجب هل يشمل الشرط‬
‫الشرعّي ؟‬
‫ولقد ذهب بعض أعاظم مشاخينا ـ على ما يظهر من بعض تقريرات درسه (‪ )2‬ـ إىل‬
‫أّن الشرط الشرعّي كاجلزء ال يكون واجبا بالوجوب الغريّي ‪ ،‬ولكن هذا كالم ال‬
‫يستقيم‬
‫والحاصل أّنه ا فرضتم يف الشرط أّن التقّيد داخل وهو جزء حتليلّي فقد فرضتم‬
‫ّمل‬
‫معه أّن القيد خارج ‪ ،‬فكيف تفرضون مّر ة أخرى أّنه داخل يف املأمور به املتعّلق‬
‫باملقّيد؟!‬

‫‪ .7‬الشرط المتأّخ ر‬
‫هل ميكن أن يكون الشرط الشرعّي متأّخ را يف وجوده زمانا عن املشروط أو ال‬
‫ميكن؟‬
‫ومن قال بعدم إمكانه (‪ )1‬قاس الشرط الشرعّي على الشرط العقلّي ‪ ،‬ومنشأ هذا‬
‫الشّك والبحث ورود بعض الشروط الشرعّية اليت ظاهرها تأّخ رها يف الوجود عن‬
‫(‬
‫املشروط ‪ ،‬وذلك مثل الغسل الليلّي للمستحاضة الكربى الذي هو شرط ـ عند بعضهم‬
‫‪ )2‬ـ لصوم النهار السابق على الليل‪ .‬والذاهبون إىل االستحالة أّو لوا ما ورد يف الشريعة‬
‫بتأويالت كثرية يطول شرحها‪ .‬وأحسن ما قيل يف توجيه إمكان الشرط املتأّخ ر يف‬
‫الشرعّيات‬
‫أّن الكالم تارة يكون يف شرط املأمور به ‪ ،‬وأخرى يف شرط احلكم ‪ ،‬سواء كان‬
‫تكليفّيا أم وضعّيا‪ .‬أّم ا ‪ :‬يف شرط املأمور به ‪ ،‬فإّن جمّر د كونه شرطا شرعّيا للمأمور به ال‬
‫مانع منه ؛ ألّنه ليس معناه إّال أخذه قيدا يف املأمور به على أن تكون احلّص ة اخلاّص ة من‬
‫املأمور به هي املطلوبة‪ .‬وأّم ا ‪ :‬يف شرط احلكم ‪ ،‬سواء كان احلكم تكليفّيا أم وضعّيا ‪،‬‬
‫فإّن الشرط فيه معناه أخذه مفروض الوجود واحلصول يف مقام جعل احلكم وإنشائه ‪،‬‬
‫فإّن احلكم يف الشرط املتأّخ ر يبقى يف فعلّيته مراعى إىل أن حيصل الشرط الذي أخذ‬
‫مفروض احلصول ‪ ،‬هذا خالصة رأي شيخنا املعّظم ‪ ،‬وال خيلو عن مناقشة‪.‬‬

‫‪ .8‬المقّد مات المفّو تة‬


‫ورد يف الشريعة املطّه رة وجوب بعض املقّد مات قبل زمان ذيها يف املوّقتات ‪،‬‬
‫كوجوب قطع املسافة للحّج قبل حلول أّيامه وتسّم ى هذه املقّد مات باصطالحهم ‪:‬‬
‫«املقّد مات املفّو تة» وحنن نقول ‪ :‬فإّن العقل حيكم بلزوم اإلتيان هبا ؛ ألّن تركها موجب‬
‫لتفويت الواجب يف ظرفه ‪ ،‬وحيكم أيضا بأّن التارك هلا يستحّق العقاب على تفويت‬
‫الواجب يف ظرفه بسبب تركها‪ .‬وألّو ل وهلة يبدو أّن هذين احلكمني العقلّيني الواضحني‬
‫ال ينطبقان على القواعد العقلّية البديهّية يف الباب من جهتني ‪:‬‬
‫أّما أّو ال ‪ :‬فألّن وجوب املقّد مة تابع لوجوب ذيها فكيف يفرض الوجوب التابع‬
‫يف زمان سابق على زمان فرض الوجوب املتبوع؟!‬
‫وأّما ثانيا ‪ :‬فألّنه كيف يستحّق العقاب على ترك الواجب برتك مقّد مته قبل‬
‫حضور وقته ‪ ،‬مع أّنه حسب الفرض ال وجوب له فعال؟! وأّم ا يف ظرفه فينبغي أن‬
‫يسقط وجوبه ؛ لعدم القدرة عليه برتك مقّد مته ‪ ،‬وألجل التوفيق بني هاتيك البديهّيات‬
‫العقلّية اليت تبدو كأهّن ا متعارضة ‪,‬حاول مجاعة من أعالم األصولّيني املتأّخ رين تصحيح‬
‫ذلك بفرض انفكاك زمان الوجوب عن زمان الواجب و تقّد مه عليه ‪ ،‬أّم ا كيف يفرض‬
‫تقّد م زمان الوجوب على زمان الواجب؟ وبأّي مناط؟ فهذا ما اختلف فيه األنظار‬
‫واحملاوالت‪:‬‬
‫فأّو ل المحاولين صاحب الفصول الذي قال جبواز تقّد م زمان الوجوب على‬
‫طريقة الواجب املعّلق الذي اخرتعه ‪ ،‬كما أشرنا إليه يف اجلزء األّو ل (‪ .)3‬وذلك يف‬
‫خصوص املوّقتات ‪ ،‬بفرض أّن الوقت يف املوّقتات وقت للواجب فقط ‪ ،‬ال للوجوب‪.‬‬
‫والمحاولة الثانية ‪ :‬ما نسب إىل الشيخ األنصارّي قدس‌سره من رجوع القيد يف‬
‫مجيع شرائط الوجوب إىل املاّد ة ‪ ،‬وإن اشتهر القول برجوعها إىل اهليئة ؛ سواء كان‬
‫الشرط هو الوقت أو غريه ‪ ،‬كاالستطاعة للحّج ‪.‬وعلى هذا التصوير ‪ ،‬فالوجوب يكون‬
‫دائما فعلّيا قبل جميء وقته‪.‬‬
‫والمحاولة الثالثة ‪ :‬ما نسب إىل بعضهم من أّن الوقت شرط للوجوب ‪ ،‬ال‬
‫للواجب كما يف احملاولتني األوليني ‪ ،‬ولكّنه مأخوذ فيه على حنو الشرط املتأّخ ر‪ .‬وكّل‬
‫هذه احملاوالت مذكورة يف كتب األصول املطّو لة ‪ ،‬وفيها مناقشات وأحباث طويلة ال‬
‫يسعها هذا املختصر ‪،‬‬
‫والذي أعتقده أّنه ال موجب لكّل هذه احملاوالت فإّن الصحيح ـ كما أفاده شيخنا‬
‫األصفهاّين رحمه‌هللا ـ أّن وجوب املقّد مة ليس معلوال لوجوب ذيها ‪ ،‬وال مرتّش حا‬
‫منه ‪ ،‬فليس هناك إشكال يف وجوب املقّد مة املفّو تة قبل زمان ذيها حىّت نلتجئ إىل‬
‫إحدى هذه احملاوالت لفّك اإلشكال‪.‬‬
‫ولبيان عدم معلولّية وجوب املقّد مة لوجوب ذيها نذكر أّن األمر ـ يف احلقيقة ـ هو‬
‫فعل اآلمر ‪ ،‬واإلرادة بالطبع مسبوقة بالشوق إىل فعل املأمور به ـ‬
‫والحاصل أّن الشوق إىل ذي املقّد مة والشوق إىل املقّد مة حاصالن قبل وقت ذي‬
‫املقّد مة ‪ ،‬والشوق الثاين منبعث ومنبثق من الشوق األّو ل ‪ ،‬ولكّن الشوق إىل املقّد مة‬
‫يؤّثر أثره ‪ ،‬ويصري إرادة حتمّية ؛ لعدم وجود ما مينع من األمر ‪ ،‬دون الشوق إىل ذي‬
‫املقّد مة ؛ لوجود املانع من األمر‪ .‬وعلى هذا ‪ ،‬فتجب املقّد مة املفّو تة قبل وجوب ذيها‬
‫وال حمذور فيه ‪ ،‬بل هو أمر ال بّد منه‪.‬‬

‫‪ .9‬المقّد مة العبادّية‬
‫ثبت بالدليل أّن بعض املقّد مات الشرعّية ال تقع (‪ )1‬مقّد مة إّال إذا وقعت على وجه‬
‫عبادّي ‪ ،‬وثبت أيضا ترّتب الثواب عليها خبصوصها‪ .‬ومثاهلا منحصر يف الطهارات‬
‫الثالث ‪ :‬الوضوء ‪ ،‬والغسل ‪ ،‬والتيّم م‪.‬‬
‫اإلشكال فيها من جهتني ‪:‬‬
‫من جهة أّن الواجب الغريّي ال يكون إّال توّص لّيا ‪ ،‬فكيف جيوز أن تقع املقّد مة مبا‬
‫هي مقّد مة عبادة؟!‬
‫ومن جهة ثانية ‪ :‬أّن الواجب الغريّي مبا هو واجب غريّي ال استحقاق للثواب‬
‫عليه‪.‬‬
‫وحنن نقول على االختصار ‪ :‬فال بّد أن يفرض الوضوء عبادة قبل فرض تعّلق األمر‬
‫الغريّي به ؛ ألّن األمر الغريّي ـ حسبما فرضناه ـ إمّن ا يتعّلق بالوضوء العبادّي مبا هو‬
‫عبادة ‪ ،‬ال بأصل الوضوء مبا هو‪ .‬ومن هنا يصّح استحقاق الثواب عليه ؛ ألّنه عبادة يف‬
‫نفسه‪.‬‬
‫ولكن ينشأ من هذا البيان إشكال آخر ‪ ،‬وهو أّنه إذا كانت عبادّية الطهارات غري‬
‫ناشئة من األمر الغريّي ‪ ،‬فما هو األمر املصّح ح لعبادّيتها ‪ ،‬واملعروف أّنه ال يصّح فرض‬
‫العبادة عبادة إّال بتعّلق أمر هبا ‪.‬‬
‫وقد أجيب عن هذه الشبهة بوجوه كثرية‪ .‬وأحسنها فيما أرى ـ بناء على ثبوت‬
‫األمر الغريّي ‪ ،‬أي وجوب مقّد مة الواجب ‪ ،‬وبناء على أّن عبادّية العبادة ال تكون إّال‬
‫بقصد األمر املتعّلق هبا ـ هو أّن املصّح ح لعبادّية الطهارات هو األمر النفسّي االستحباّيب‬
‫هلا يف حّد ذاهتا السابق على تعّلق األمر الغريّي هبا‪.‬‬
‫هذا كّله بناء على ثبوت األمر الغريّي باملقّد مة ‪ ،‬وبناء على أّن مناط عبادّية العبادة‬
‫هو قصد األمر املتعّلق هبا‪ .‬وكال املبنيني حنن ال نقول به‪.‬‬
‫فنقول يف تصحيح عبادّية الطهارات ‪ :‬إّن اإلتيان باملقّد مة بنفسه يعّد امتثاال لألمر‬
‫النفسّي بذي املقّد مة العبادّي ‪ .‬ويكفي يف عبادّية الفعل ـ كما قلنا ـ ارتباطه باملوىل‬
‫واإلتيان به متقّر با إليه (تعاىل) مع عدم ما مينع من التعّبد به‪ .‬وال شّك يف أّن قصد‬
‫الشروع بامتثال األمر النفسّي بفعل مقّد ماته قاصدا هبا التوّص ل إىل الواجب النفسّي‬
‫العبادّي يعّد طاعة وانقيادا للموىل (‪.)2‬‬
‫وهبذا تصّح ح عبادّية املقّد مة ‪ ،‬وإن مل نقل بوجوهبا الغريّي ‪ ،‬وال حاجة إىل فرض‬
‫طاعة األمر الغريّي ‪.‬‬

‫النتيجة‬

‫مسألة مقّد مة الواجب واألقوال فيها‬


‫بعد تقدمي تلك التمهيدات نرجع إىل أصل املسألة‪ .‬وقد عرفت يف مدخل املسألة‬
‫موضع البحث فيها أّنه هل حيكم أيضا بأّن املقّد مة واجبة أيضا عند من أمر مبا يتوّقف‬
‫عليها؟‬
‫لقد تكّثرت األقوال جّد ا يف هذه املسألة وهي ‪:‬‬
‫‪ .1‬القول بوجوهبا مطلقا (‪.)1‬‬
‫‪ .2‬القول بعدم وجوهبا مطلقا (‪ ، )2‬وهو احلّق وسيأيت دليله‪.‬‬
‫‪ .3‬التفصيل بني السبب فال جيب ‪ ،‬وبني غريه كالشرط وعدم املانع واملعّد فيجب‬
‫(‪.)3‬‬
‫(‬
‫‪ .4‬التفصيل بني السبب وغريه أيضا ‪ ،‬ولكن بالعكس أي جيب السبب دون غريه‬
‫‪.)4‬‬
‫‪ .5‬التفصيل بني الشرط الشرعّي ‪ ،‬فال جيب بالوجوب الغريّي باعتبار أّنه واجب‬
‫بالوجوب النفسّي ‪ ،‬نظري جزء الواجب ‪ ،‬وبني غريه ‪ ،‬فيجب بالوجوب الغريّي ‪ .‬وهو‬
‫القول‬
‫املعروف عن شيخنا احملّق ق النائيّين (‪.)1‬‬
‫‪ .6‬التفصيل بني الشرط الشرعّي وغريه أيضا ‪ ،‬ولكن بالعكس ‪ ،‬أي جيب الشرط‬
‫الشرعّي بالوجوب املقّد مّي دون غريه (‪.)2‬‬
‫‪ .7‬التفصيل بني املقّد مة املوصلة ـ أي اليت يرتّتب عليها الواجب النفسّي ـ فتجب ‪،‬‬
‫وبني املقّد مة غري املوصلة فال جتب ‪ ،‬وهو املذهب املعروف لصاحب الفصول (‪.)3‬‬
‫‪ .8‬التفصيل بني ما قصد به التوّص ل من املقّد مات فيقع على صفة الوجوب ‪ ،‬وبني‬
‫ما مل يقصد به ذلك فال يقع واجبا‪ .‬وهو القول املنسوب إىل الشيخ األنصارّي‬
‫قدس‌سره (‪.)4‬‬
‫‪ .9‬التفصيل املنسوب إىل صاحب املعامل (‪ )5‬الذي أشار إليه يف مسألة الضّد (‪، )6‬‬
‫وهو اشرتاط وجوب املقّد مة بإرادة ذيها ‪ ،‬فال تكون املقّد مة واجبة على تقدير عدم‬
‫إرادته‪.‬‬
‫‪ .10‬التفصيل بني املقّد مة الداخلّية ـ أي اجلزء ـ فال جتب ‪ ،‬وبني املقّد مة اخلارجّية‬
‫فتجب (‪.)7‬‬
‫وقد قلنا ‪ :‬إّن احلّق يف املسألة عدم وجوهبا مطلقا‪.‬‬
‫والدليل عليه واضح بعد ما قلنا ـ من أّنه يف موارد حكم العقل بلزوم شيء على‬
‫وجه يكون حكما داعيا للمكّلف إىل فعل الشيء ال يبقى جمال لألمر املولوّي ‪ ,‬فإّن هذه‬
‫املسألة من ذلك الباب من جهة العّلة ‪,‬وعليه ‪ ،‬فاألوامر الواردة يف بعض املقّد مات جيب‬
‫محلها على اإلرشاد ‪ ،‬وبيان شرطّية متعّلقها للواجب‪.‬‬

‫المسألة الثالثة ‪ :‬مسألة الضّد‬


‫تحرير محّل النزاع‬
‫اختلفوا يف أّن األمر بالشيء هل يقتضي النهي عن ضّد ه أو ال يقتضي؟ على أقوال‪.‬‬
‫وألجل توضيح حمّل النزاع وحتريره نشرح مرادهم من األلفاظ اليت وردت على‬
‫لساهنم يف حترير حمّل النزاع هذا ‪ ،‬وهي ثالثة ‪:‬‬
‫‪« .1‬الضّد » ‪ ،‬فإّن مرادهم من هذه الكلمة مطلق املعاند واملنايف ‪ ،‬فيشمل نقيض‬
‫الشيء ‪ ،‬أي إّن الضّد عندهم أعّم من األمر الوجودّي والعدمّي (‪ .)2‬وهذا اصطالح‬
‫خاّص لألصولّيني يف خصوص هذا الباب ‪ ،‬وإّال فالضّد مصطلح فلسفّي يراد به ـ يف باب‬
‫التقابل ـ خصوص األمر الوجودّي الذي له مع وجودّي آخر متام املعاندة واملنافرة ‪ ،‬وله‬
‫معه غاية التباعد (‪.)3‬‬
‫ولذا قّس م األصولّيون الضّد إىل «ضّد عاّم» وهو الرتك ـ أي النقيض ـ ‪ ،‬و «ضّد‬
‫خاّص » وهو مطلق املعاند الوجودّي ‪.‬‬
‫وعلى هذا ‪ ،‬فاحلّق أن تنحّل هذه املسألة إىل مسألتني ‪ :‬موضوع إحدامها الضّد‬
‫العاّم ‪ ،‬وموضوع األخرى الضّد اخلاّص ‪ ،‬ال سّيما مع اختالف األقوال يف املوضوعني‪.‬‬
‫‪« .2‬االقتضاء» ‪ ،‬ويراد به البّد ّية ثبوت النهي عن الضّد عند األمر بالشيء ‪ ،‬إّما‬
‫لكون األمر يدّل عليه بإحدى الدالالت الثالث ‪ :‬املطابقة ‪ ،‬والتضّم ن ‪ ،‬وااللتزام ‪ ،‬وإّم ا‬
‫لكونه يلزمه عقال النهي عن الضّد من دون أن يكون لزومه بّينا باملعىن األخّص حىّت يدّل‬
‫عليه بااللتزام‪ .‬فاملراد من االقتضاء عندهم أعّم من كّل ذلك (‪.)1‬‬
‫‪« .3‬النهي» ‪ ،‬ويراد به النهي املولوّي من الشارع وإن كان تبعّيا ‪ ،‬كوجوب‬
‫املقّد مة الغريّي التبعّي (‪ .)2‬والنهي معناه املطابقّي ـ كما سبق يف مبحث النواهي (‪ )3‬ـ هو‬
‫الزجر والردع عّم ا تعّلق به‪ .‬وفّس ره املتقّد مون بطلب الرتك (‪ ، )4‬وهو تفسري بالزم‬
‫معناه ‪ ،‬ولكّنهم فرضوه كأّن ذلك هو معناه املطابقّي ‪ ،‬ولذا اعرتض بعضهم على ذلك‬
‫فقال ‪« :‬إّن طلب الرتك حمال ‪ ،‬فال بّد أن يكون املطلوب الكّف » (‪ .)5‬وهكذا تنازعوا‬
‫يف أّن املطلوب بالنهي الرتك أو الكّف ؟ وال معىن لنزاعهم هذا إّال إذا كانوا قد فرضوا أّن‬
‫معىن النهي هو الطلب ‪ ،‬فوقعوا يف حرية يف أّن املطلوب به أّي شيء هو؟ الرتك ‪ ،‬أو‬
‫الكّف ؟‬
‫ولو كان املراد من النهي هو طلب الرتك ـ كما ظّنوا ـ ملا كان معىن لنزاعهم يف‬
‫الضّد العاّم ؛ فإّن النهي عنه معناه ـ على حسب ظّنهم ـ طلب ترك ترك املأمور به‪ .‬و ا‬
‫ّمل‬
‫كان نفي النفي إثباتا فريجع معىن النهي عن الضّد العاّم إىل معىن طلب فعل املأمور به ‪،‬‬
‫فيكون قوهلم ‪« :‬األمر بالشيء يقتضي النهي عن ضّد ه العاّم» تبديال للفظ بلفظ آخر‬
‫مبعناه ‪ ،‬ويكون عبارة أخرى عن القول بـ «أّن األمر بالشيء يقتضي نفسه»‪ .‬وما أشّد‬
‫سخف مثل هذا البحث!‬
‫(‪)6‬‬
‫ولعّله ألجل هذا التوّه م ـ أي توّه م أّن النهي معناه طلب الرتك ـ ذهب بعضهم‬
‫إىل عينّية األمر بالشيء للنهي عن الضّد العاّم‪.‬‬
‫وبعد بيان هذه األمور الثالثة يف حترير حمّل النزاع يّتضح موضع النزاع ‪ ،‬وكيفّيته‬
‫أّن النزاع معناه يكون أّنه إذا تعّلق أمر بشيء هل إّنه ال بّد أن يتعّلق هني املوىل بضّد ه‬
‫العاّم أو اخلاّص ؟ فالنزاع يكون يف ثبوت النهي املولوّي عن الضّد بعد فرض ثبوت األمر‬
‫بالشيء ‪ ،‬وبعد فرض ثبوت النهي فهناك نزاع آخر يف كيفّية إثبات ذلك‪.‬‬
‫وعلى كّل حال ‪ ،‬فإّن مسألتنا ـ كما قلنا ـ تنحّل إىل مسألتني ‪ :‬إحدامها ‪ :‬يف الضّد‬
‫العاّم‪ .‬والثانية ‪ :‬يف الضّد اخلاّص ‪ ،‬فينبغي البحث عنهما يف بابني ‪:‬‬

‫‪ .1‬الضّد العاّم‬
‫مل يكن اختالفهم يف الضّد العاّم من جهة أصل االقتضاء وعدمه ‪ ،‬فإّن الظاهر أهّن م‬
‫مّتفقون على االقتضاء ‪ ،‬وإمّن ا اختالفهم يف كيفّيته (‪: )1‬‬
‫فقيل (‪ : )2‬إّنه على حنو العينّية ‪ ،‬أي إّن األمر بالشيء عني النهي عن ضّد ه العاّم ‪،‬‬
‫فيدّل عليه حينئذ بالداللة املطابقّية‪.‬‬
‫وقيل ‪ :‬إّنه على حنو اجلزئّية ‪ ،‬فيدّل عليه بالداللة التضّم نّية ‪ ،‬باعتبار أّن‬
‫(‪)3‬‬

‫الوجوب ينحّل إىل طلب الشيء مع املنع من الرتك ‪ ،‬فيكون املنع من الرتك جزءا حتليلّيا‬
‫يف معىن الوجوب‪.‬‬
‫(‬
‫وقيل ‪ :‬إّنه على حنو اللزوم البنّي باملعىن األخّص (‪ ، )4‬فيدّل عليه بالداللة االلتزامّية‬
‫‪.)5‬‬
‫وقيل (‪ : )6‬إّنه على حنو اللزوم البنّي باملعىن األعّم ‪ ،‬أو غري البنّي ‪ ،‬فيكون اقتضاؤه‬
‫له عقلّيا صرفا‪.‬‬
‫والحّق أّنه ال يقتضيه بأّي حنو من أحناء االقتضاء (‪ ، )1‬أي إّنه ليس هناك هني‬
‫مولوّي عن الرتك يقتضيه نفس األمر بالفعل على وجه يكون هناك هني مولوّي وراء‬
‫نفس األمر بالفعل‪.‬‬
‫والدليل عليه أّن الوجوب ـ سواء كان مدلوال لصيغة األمر ‪ ،‬أو الزما عقلّيا هلا‬
‫كما هو احلّق ـ ليس معىن مرّك با ‪ ،‬بل هو معىن بسيط وحداّين ‪ ،‬هو لزوم الفعل ‪ ،‬والزم‬
‫كون الشيء واجبا املنع من تركه‪.‬‬
‫ولكن هذا املنع الالزم للوجوب ليس منعا مولوّيا ‪ ،‬وهنيا شرعّيا ‪ ،‬بل هو منع عقلّي‬
‫تبعّي من غري أن يكون هناك من الشارع منع وهني وراء نفس الوجوب‪ .‬وسّر ذلك‬
‫واضح ‪ ،‬فإّن نفس األمر بالشيء على وجه الوجوب كاف يف الزجر عن تركه ‪ ،‬فال‬
‫حاجة إىل جعل للنهي عن الرتك من الشارع زيادة على األمر بذلك الشيء‪.‬‬
‫فإن كان مراد القائلني باالقتضاء يف املقام أّن نفس األمر بالفعل يكون زاجرا عن‬
‫تركه ‪ ،‬فهو مسّلم ‪ ،‬بل ال بّد منه ؛ ألّن هذا هو مقتضى الوجوب ؛ ولكن ليس هذا هو‬
‫موضع النزاع يف املسألة ‪ ،‬بل موضع النزاع هو النهي املولوّي زائدا على األمر بالفعل ؛‬
‫وإن كان مرادهم أّن هناك هنيا مولوّيا عن الرتك يقتضيه األمر بالفعل ـ كما هو موضع‬
‫النزاع ـ فهو غري مسّلم ‪ ،‬وال دليل عليه ‪ ،‬بل هو ممتنع‪.‬‬
‫وبعبارة أوضح وأوسع ‪ :‬أّن األمر والنهي متعاكسان ـ مبعىن أّنه إذا تعّلق األمر‬
‫بشيء فعلى طبع ذلك يكون نقيضه بالتبع ممنوعا منه ‪ ،‬وإّال خلرج الواجب عن كونه‬
‫واجبا ؛ وإذا تعّلق النهي بشيء فعلى طبع ذلك يكون نقيضه بالتبع مدعّو ا إليه ‪ ،‬وإّال‬
‫خلرج احملّر م عن كونه حمّر ما ‪ ، ...‬ولكن ليس معىن هذه التبعّية يف األمر أن يتحّق ق ـ فعال‬
‫ـ هني مولوّي عن ترك املأمور به باإلضافة إىل األمر املولوّي بالفعل ‪ ،‬كما أّنه ليس معىن‬
‫هذه التبعّية يف النهي أن يتحّق ق ـ فعال ـ أمر مولوّي برتك املنهّي عنه باإلضافة إىل النهي‬
‫املولوّي عن الفعل‪.‬‬
‫والسّر ما قلناه ‪ :‬إّن نفس األمر بالشيء كاف يف الزجر عن تركه ‪ ،‬كما أّن نفس‬
‫النهي عن الفعل كاف للدعوة إىل تركه ‪ ،‬بال حاجة إىل جعل جديد من املوىل يف‬
‫املقامني ‪ ،‬بل ال يعقل اجلعل اجلديد كما قلنا يف مقّد مة الواجب حذو القّذ ة بالقّذ ة ‪،‬‬
‫فراجع‪.‬‬
‫وألجل هذه التبعّية الواضحة اختلط األمر على كثري من احملّر رين هلذه املسألة ‪،‬‬
‫فحسبوا أّن هناك هنيا مولوّيا عن ترك املأمور به وراء األمر بالشيء اقتضاه األمر على حنو‬
‫العينّية ‪ ،‬أو التضّم ن ‪ ،‬أو االلتزام ‪ ،‬أو اللزوم العقلّي ‪ .‬كما حسبوا ـ هنا يف مبحث النهي ـ‬
‫أّن معىن النهي هو الطلب إّم ا للرتك أو الكّف ‪ ،‬وقد تقّد مت اإلشارة إىل ذلك يف حترير‬
‫النزاع (‪.)1‬‬
‫وهذان التومّه ان يف النهي واألمر من واد واحد‪ .‬وعليه ‪ ،‬فليس هناك طلب للرتك‬
‫وراء الردع عن الفعل يف النهي ‪ ،‬وال هني عن الرتك وراء طلب الفعل يف األمر‪.‬‬
‫نعم ‪ ،‬جيوز لآلمر بدال من األمر بالشيء أن يعرّب عنه بالنهي عن الرتك ‪ ،‬كأن يقول‬
‫ـ مثال ـ بدال من قوله «صّل» ‪« :‬ال ترتك الصالة»‪ .‬وجيوز له بدال من النهي عن الشيء‬
‫أن يعرّب عنه باألمر بالرتك ‪ ،‬كأن يقول ـ مثال ـ بدال من قوله «ال تشرب اخلمر» ‪« :‬اترك‬
‫شرب اخلمر» ‪ ،‬فيؤّد ي التعبري الثاين يف املقامني مؤّدى التعبري األّو ل املبدل منه ‪ ،‬أي إّن‬
‫التعبري الثاين حيّق ق الغرض من التعبري األّو ل‪.‬‬
‫فإذا كان مقصود القائل بأّن األمر بالشيء عني النهي عن ضّد ه العاّم هذا املعىن ـ‬
‫أي إّن أحدمها يصّح أن يوضع موضع اآلخر ‪ ،‬وحيّل حمّله يف أداء غرض اآلمر ـ فال بأس‬
‫به وهو صحيح ‪ ،‬ولكن هذا غري العينّية املقصودة يف املسألة على الظاهر‪.‬‬

‫‪ .2‬الضّد الخاّص‬
‫إّن القول باقتضاء األمر بالشيء للنهي عن ضّد ه اخلاّص يبتين ويتفّر ع على القول‬
‫باقتضائه للنهي عن ضّد ه العاّم‪.‬‬
‫و ا ثبت ـ حسبما تقّد م ـ أّنه ال هني مولوّي عن الضّد العاّم ‪ ،‬فبالطريق األوىل نقول‬
‫ّمل‬
‫‪:‬‬
‫إّنه ال هني مولوّي عن الضّد اخلاّص ؛ ملا قلنا من ابتنائه وتفّر عه عليه‪.‬‬
‫وعلى هذا ‪ ،‬فاحلّق أّن األمر بالشيء ال يقتضي النهي عن ضّد ه مطلقا ‪ ،‬سواء كان‬
‫عاّم ا أو خاّص ا‪.‬‬
‫أّم ا كيف يبتين القول بالنهي عن الضّد اخلاّص على القول بالنهي عن الضّد العاّم‬
‫ويتفّر ع عليه فهذا ما حيتاج إىل شيء من البيان ‪ ،‬فنقول ‪:‬‬
‫إّن القائلني بالنهي عن الضّد اخلاّص هلم مسلكان ال ثالث هلما ‪ ،‬وكالمها يبتين‬
‫ويتفّر ع على ذلك ‪:‬‬

‫األّو ل ‪ :‬مسلك التالزم‬


‫وخالصته أّن حرمة أحد املتالزمني تستدعي وتستلزم حرمة مالزمه اآلخر‪.‬‬
‫واملفروض أّن فعل الضّد اخلاّص يالزم ترك املأمور به ـ أي الضّد العاّم ـ ‪ ،‬كاألكل ـ مثال ـ‬
‫املالزم فعله لرتك الصالة املأمور هبا‪ .‬وعندهم أّن الضّد العاّم حمّر م منهّي عنه ـ وهو ترك‬
‫الصالة يف املثال ـ ‪ ،‬فيلزم على هذا أن حيرم الضّد اخلاّص ـ وهو األكل يف املثال ـ ؛ فابتىن‬
‫النهي عن الضّد اخلاّص مبقتضى هذا املسلك على ثبوت النهي عن الضّد العاّم‪.‬‬
‫أّم ا حنن فلّم ا ذهبنا إىل أّنه ال هني مولوّي عن الضّد العاّم ‪ ،‬فال موجب لدينا من‬
‫جهة املالزمة املّد عاة للقول بكون الضّد اخلاّص منهّيا عنه بنهي مولوّي ؛ ألّن مالزمه‬
‫ليس منهّيا عنه حسب التحقيق الذي مّر ‪.‬‬
‫على أّنا نقول ثانيا ـ بعد التنازل عن ذلك والتسليم بأّن الضّد العاّم منهي عنه ـ ‪ :‬إّن‬
‫هذا املسلك ليس صحيحا يف نفسه ‪ ،‬يعىن أّن كرباه غري مسّلمة ‪ ،‬وهي «أّن حرمة أحد‬
‫املتالزمني تستلزم حرمة مالزمه اآلخر» ؛ فإّنه ال جيب اّتفاق املتالزمني يف احلكم ‪ ،‬ال يف‬
‫الوجوب ‪ ،‬وال احلرمة ‪ ،‬وال غريمها من األحكام ‪ ،‬ما دام أّن مناط احلكم غري موجود يف‬
‫املالزم اآلخر‪ .‬نعم ‪ ،‬القدر املسّلم يف املتالزمني أّنه ال ميكن أن خيتلفا يف الوجوب‬
‫واحلرمة على وجه يكون أحدمها واجبا واآلخر حمّر ما ؛ الستحالة امتثاهلما حينئذ من‬
‫املكّلف ‪ ،‬فيستحيل التكليف من املوىل هبما ‪ ،‬فإّم ا أن حيرم أحدمها ‪ ،‬أو جيب اآلخر‪.‬‬
‫يرجع ذلك إىل باب التزاحم الذي سيأيت التعّر ض له‪.‬‬
‫وهبذا تبطل «شبهة الكعّيب » املعروفة اليت أخذت قسطا وافرا من أحباث األصولّيني‬
‫(‪)1‬‬
‫إذا كان مبناها هذه املالزمة املّد عاة ؛ فإّنه نسب إليه القول بنفي املباح بدعوى أّن‬
‫كّل ما يظّن من األفعال أّنه مباح فهو واجب يف احلقيقة ؛ ألّن فعل كّل مباح مالزم‬
‫قهرا لواجب وهو ترك حمّر م واحد من احملّر مات على األقّل‪.‬‬

‫الثاني ‪ :‬مسلك المقّد مّية‬


‫وخالصته دعوى أّن ترك الضّد اخلاّص مقّد مة لفعل املأمور به ‪ ،‬ففي املثال املتقّد م‬
‫يكون ترك األكل مقّد مة لفعل الصالة ‪ ،‬ومقّد مة الواجب واجبة ‪ ،‬فيجب ترك الضّد‬
‫اخلاّص ‪.‬‬
‫وإذا وجب ترك األكل حرم تركه ‪ ،‬ـ أي ترك ترك األكل ـ ؛ ألّن األمر بالشيء‬
‫يقتضي النهي عن الضّد العاّم ؛ وإذا حرم ترك ترك األكل ‪ ،‬فإّن معناه حرمة فعله ؛ ألّن‬
‫نفي النفي إثبات ؛ فيكون الضّد اخلاّص منهّيا عنه‪ .‬هذا خالصة مسلك املقّد مّية‪.‬‬
‫وقد رأيت كيف ابتىن النهي عن الضّد اخلاّص على ثبوت النهي عن الضّد العاّم‪.‬‬
‫وحنن إذ قلنا بأّنه ال هني مولوّي عن الضّد العاّم فال حيرم ترك ترك الضّد اخلاّص حرمة‬
‫مولوّية ـ أي ال حيرم فعل الضّد اخلاص ـ ‪ ،‬فثبت املطلوب‪.‬‬
‫على أّن مسلك املقّد مّية غري صحيح من وجهني آخرين ‪:‬‬
‫أحدهما ‪ :‬أّنه بعد التنّز ل عّم ا تقّد م ‪ ،‬وتسليم حرمة الضّد العاّم ‪ ،‬فإّن هذا املسلك‬
‫كما هو واضح يبتين على وجوب مقّد مة الواجب ‪ ،‬وقد سبق أن أثبتنا أهّن ا ليست واجبة‬
‫(‪)2‬‬
‫ّي‬ ‫الغري‬ ‫بالوجوب‬ ‫واجبا‬ ‫ّص‬‫اخلا‬ ‫ّد‬‫الض‬ ‫ترك‬ ‫يكون‬ ‫ال‬ ‫‪،‬‬ ‫وعليه‬ ‫‪،‬‬ ‫بوجوب مولوّي‬
‫املولوّي حىت‬
‫حيرم فعله‪.‬‬
‫ثانيهما ‪ :‬أّنا ال نسّلم أّن ترك الضّد اخلاّص مقّد مة لفعل املأمور به ‪ ،‬وهذه املقّد مّية ـ‬
‫أعين مقّد مّية ترك الضّد اخلاّص ـ ال تزال مثارا للبحث عند املتأّخ رين حىت أصبحت من‬
‫املسائل الدقيقة املطّو لة (‪ ، )1‬وحنن يف غىن عن البحث عنها بعد ما تقّد م‪.‬‬
‫ولكن حلسم ماّد ة الشبهة ال بأس بذكر خالصة ما يرفع املغالطة يف دعوى مقّد مّية‬
‫ترك الضّد ‪ ،‬فنقول ‪:‬‬
‫إّن املّد عي ملقّد مّية ترك الضّد لضّد ه تبتين دعواه على أّن عدم الضّد من باب عدم‬
‫املانع بالنسبة إىل الضّد اآلخر للتمانع بني الضّد ين ـ أي ال ميكن اجتماعهما معا ـ ‪ ،‬وال‬
‫شّك يف أّن عدم املانع من املقّد مات ؛ ألّنه من متّم مات العّلة ‪ ،‬فإّن العّلة التاّم ة ـ كما هو‬
‫معروف ـ تتأّلف من املقتضي وعدم املانع‪.‬‬
‫فيتأّلف دليله من مقّد متني ‪:‬‬
‫‪ .1‬الصغرى ‪ :‬إّن عدم الضّد من باب «عدم املانع» لضّد ه ؛ ألّن الضّد ين‬
‫متمانعان‪.‬‬
‫‪ .2‬الكبرى ‪ :‬إّن «عدم املانع» من املقّد مات‪.‬‬
‫فينتج من الشكل األّو ل أّن عدم الضّد من املقّد مات لضّد ه‪.‬‬
‫وهذه الشبهة إمّن ا نشأت من أخذ كلمة «املانع» مطلقة‪ .‬فتخّيلوا أّن هلا معىن واحدا‬
‫يف الصغرى والكربى ‪ ،‬فانتظم عندهم القياس الذي ظّنوه منتجا ‪ ،‬بينما أّن احلّق أّن‬
‫التمانع له معنيان ‪ ،‬ومعناه يف الصغرى غري معناه يف الكربى ‪ ،‬فلم يتكّر ر احلّد األوسط ‪،‬‬
‫فلم يتأّلف قياس صحيح‪.‬‬
‫بيان ذلك أّن التمانع تارة يراد منه التمانع يف الوجود ‪ ،‬وهو امتناع االجتماع‬
‫وعدم املالءمة بني الشيئني ‪ ،‬وهو املقصود من التمانع بني الضّد ين ؛ إذ مها ال جيتمعان يف‬
‫الوجود وال يتالءمان ؛ وأخرى يراد منه التمانع يف التأثري وإن مل يكن بينهما متانع‬
‫وتناف يف الوجود ‪ ،‬وهو الذي يكون بني املقتضيني ألثرين متمانعني يف الوجود ؛ وإذ‬
‫يكون‬
‫احملّل غري قابل إّال لتأثري أحد املقتضيني ‪ ،‬فإّن املقتضيني حينئذ يتمانعان يف تأثريمها ‪ ،‬فال‬
‫يؤّثر أحدمها إّال بشرط عدم املقتضي اآلخر ؛ وهذا هو املقصود من املانع يف الكربى ‪،‬‬
‫فإّن املانع الذي يكون عدمه شرطا لتأثري املقتضي هو املقتضي اآلخر الذي يقتضي ضّد‬
‫أثر األّو ل‪ .‬وعدم املانع إّم ا لعدم وجوده أصال أو لعدم بلوغه مرتبة الغلبة على اآلخر يف‬
‫التأثري‪.‬‬
‫وعليه ‪ ،‬فنحن نسّلم أّن عدم الضّد من باب عدم املانع ‪ ،‬ولكّنه عدم املانع يف‬
‫الوجود ‪ ،‬وما هو من املقّد مات عدم املانع يف التأثري ‪ ،‬فلم يتكّر ر احلّد األوسط ؛ فال‬
‫نستنتج من القياس أّن عدم الضّد من املقّد مات‪.‬‬
‫وأعتقد أّن هذا البيان لرفع املغالطة فيه الكفاية للمتنّبه ‪ ،‬وإصالح هذا البيان بذكر‬
‫بعض الشبهات فيه ودفعها حيتاج إىل سعة من القول ال تتحّم لها الرسالة‪ .‬ولسنا حباجة‬
‫إىل نفي املقّد مة إلثبات املختار ‪ ،‬بعد ما قّد مناه (‪.)1‬‬

‫ثمرة المسألة‬
‫إّن ما ذكروه من الثمرات هلذه املسألة خمتّص بالضّد اخلاّص فقط (‪ ، )2‬وأّمهها‬
‫والعمدة فيها هي صّح ة الضّد إذا كان عبادة على القول بعدم االقتضاء ‪ ،‬وفساده على‬
‫القول باالقتضاء (‪.)3‬‬
‫بيان ذلك أّنه قد يكون هناك واجب ـ أّي واجب كان ‪ ،‬عبادة أو غري عبادة ـ ‪،‬‬
‫وضّد ه عبادة ‪ ،‬وكان الواجب أرجح يف نظر الشارع من ضّد ه العبادّي ؛ فإّنه ملكان‬
‫التزاحم بني األمرين للتضاّد بني متعّلقيهما ‪ ،‬واألّو ل أرجح يف نظر الشارع ‪ ،‬ال حمالة‬
‫يكون األمر الفعلّي‬
‫املنّج ز هو األّو ل دون الثاين‪.‬‬
‫وحينئذ ‪ ،‬فإن قلنا بأّن األمر بالشيء يقتضي النهي عن ضّد ه اخلاّص ‪ ،‬فإّن الضّد‬
‫العبادّي يكون منهّيا عنه يف الفرض ‪ ،‬والنهي يف العبادة يقتضي الفساد ‪ ،‬فإذا أيت به وقع‬
‫فاسدا‪ .‬وإن قلنا بأّن األمر بالشيء ال يقتضي النهي عن ضّد ه اخلاّص ‪ ،‬فإّن الضّد العبادّي‬
‫ال يكون منهّيا عنه ‪ ،‬فال مقتضي لفساده‪.‬‬
‫وأرجحّية الواجب على ضّد ه اخلاّص العبادّي تتصّو ر يف أربعة موارد ‪:‬‬
‫‪ .1‬أن يكون الضّد العبادّي مندوبا ‪ ،‬وال شّك يف أّن الواجب مقّد م على‬
‫املندوب ‪ ،‬كاجتماع الفريضة مع النافلة ؛ فإّنه بناء على اقتضاء األمر بالشيء للنهي عن‬
‫ضّد ه ال يصّح االشتغال بالنافلة مع حلول وقت الفريضة ‪ ،‬وال بّد أن تقع النافلة فاسدة‪.‬‬
‫نعم ‪ ،‬ال بّد أن تستثىن من ذلك نوافل الوقت ؛ لورود األمر هبا يف خصوص وقت‬
‫الفريضة ‪ ،‬كنافليت الظهر والعصر‪.‬‬
‫وعلى هذا ‪ ،‬فمن كان عليه قضاء الفوائت ال تصّح منه النوافل مطلقا ‪ ،‬بناء على‬
‫النهي عن الضّد ‪ ،‬خبالف ما إذا مل نقل بالنهي عن الضّد ؛ فإّن عدم جواز فعل النافلة‬
‫حينئذ حيتاج إىل دليل خاّص ‪.‬‬
‫‪ .2‬أن يكون الضّد العبادّي واجبا ‪ ،‬ولكّنه أقّل أمهّية عند الشارع من األّو ل ‪ ،‬كما‬
‫يف مورد اجتماع إنقاذ نفس حمرتمة من اهللكة مع الصالة الواجبة‪.‬‬
‫‪ .3‬أن يكون الضّد العبادّي واجبا ‪ ،‬ولكنه موّس ع الوقت ‪ ،‬واألّو ل مضّيق ‪ ،‬وال‬
‫شّك يف أّن املضّيق مقّد م على املوّس ع وإن كان املوّس ع أكثر أمهّية منه‪ .‬مثاله ‪ :‬اجتماع‬
‫قضاء الدين الفورّي مع الصالة يف سعة وقتها‪ .‬وإزالة النجاسة عن املسجد مع الصالة يف‬
‫سعة الوقت‪.‬‬
‫‪ .4‬أن يكون الضّد العبادّي واجبا أيضا ‪ ،‬ولكّنه خمرّي ‪ ،‬واألّو ل واجب معنّي ‪ ،‬وال‬
‫شّك يف أّن املعنّي مقّد م على املخرّي وإن كان املخرّي أكثر أمهّية منه ؛ ألّن املخرّي ‪ ،‬له بدل‬
‫دون املعنّي ‪ .‬مثاله ‪ :‬اجتماع سفر منذور يف يوم معنّي مع [الصوم من] خصال الكّف ارة ‪،‬‬
‫فلو ترك املكّلف السفر واختار الصوم من خصال الكّف ارة ‪ ،‬فإن كان األمر بالشيء‬
‫يقتضي النهي عن ضّد ه كان الصوم منهّيا عنه فاسدا‪.‬‬
‫هذه خالصة بيان مثرة املسألة مع بيان موارد ظهورها ‪ ،‬ولكن هذا املقدار من‬
‫البيان ال يكفي يف حتقيقها ؛ فإّن ترّتبها وظهورها يتوّقف على أمرين ‪:‬‬
‫األّو ل ‪ :‬القول بأّن النهي يف العبادة يقتضي فسادها حىّت النهي الغريّي التبعّي ؛ ألّنه‬
‫إذا قلنا بأّن النهي مطلقا ال يقتضي فساد العبادة أو خصوص النهي التبعّي ال يقتضي‬
‫الفساد ‪ ،‬فال تظهر الثمرة أبدا‪ .‬وهو واضح ؛ ألّن الضّد العبادّي حينئذ يكون صحيحا ‪،‬‬
‫سواء قلنا بالنهي عن الضّد أم مل نقل‪.‬‬
‫والحّق أّن النهي يف العبادة يقتضي فسادها حىّت النهي الغريّي على الظاهر‪ .‬وسيأيت‬
‫حتقيق ذلك يف موضعه إن شاء اهلل (تعاىل) (‪.)1‬‬
‫واستعجاال يف بيان هذا األمر نشري إليه إمجاال ‪ ،‬فنقول ‪ :‬إّن أقصى ما يقال يف عدم‬
‫اقتضاء النهي التبعّي للفساد هو ‪ :‬أّن النهي التبعّي ال يكشف عن وجود مفسدة يف‬
‫املنهّي عنه ‪ ،‬وإذا كان األمر كذلك فاملنهّي عنه باق على ما هو عليه من مصلحة بال‬
‫مزاحم ملصلحته ‪ ،‬فيمكن التقّر ب فيه إذا كان عبادة بقصد تلك املصلحة املفروضة فيه‪.‬‬
‫وهذا ليس بشيء ـ وإن صدر من بعض أعاظم مشاخينا (‪ )2‬ـ ؛ ألّن املدار يف القرب‬
‫والبعد يف العبادة ليس على وجود املصلحة واملفسدة فقط ؛ فإّنه من الواضح أّن املقصود‬
‫من القرب والبعد من املوىل القرب والبعد املعنوّيان ؛ تشبيها بالقرب والبعد املكانّيني ‪،‬‬
‫وما مل يكن الشيء مرغوبا فيه للموىل فعال ال يصلح للتقّر ب به إليه ‪ ،‬وجمّر د وجود‬
‫مصلحة فيه ال يوجب مرغوبّيته له مع فرض هنيه وتبعيده‪.‬‬
‫وبعبارة أخرى ‪ :‬ال وجه للتقّر ب إىل املوىل مبا أبعدنا عنه ‪ ،‬واملفروض أّن النهي‬
‫التبعّي هني مولوّي ‪ ،‬وكونه تبعّيا ال خيرجه عن كونه زجرا ‪ ،‬وتنفريا ‪ ،‬وتبعيدا عن الفعل‬
‫وإن كان التبعيد ملفسدة يف غريه ‪ ،‬أو لفوات مصلحة الغري‪.‬‬
‫نعم ‪ ،‬لو قلنا بأّن النهي عن الضّد ليس هنيا مولوّيا ‪ ،‬بل هو هني يقتضيه العقل‬
‫الذي‬
‫ال يستكشف منه حكم الشرع ـ كما اخرتناه يف املسألة ـ فإّن هذا النهي العقلّي ال‬
‫يقتضي تبعيدا عن املوىل إّال إذا كشف عن مفسدة مبغوضة للموىل‪ .‬وهذا شيء آخر ال‬
‫يقتضيه حكم العقل يف نفسه‪.‬‬
‫الثاني ‪ :‬أّن صّح ة العبادة والتقّر ب ال يتوّقف على وجود األمر الفعلّي هبا ‪ ،‬بل‬
‫يكفي يف التقّر ب هبا إحراز حمبوبّيتها الذاتّية للموىل ‪ ،‬وإن مل يكن هناك أمر فعلّي هبا‬
‫ملانع‪.‬‬
‫أّم ا إذا قلنا بأّن عبادّية العبادة ال تتحّق ق إّال إذا كانت مأمورا هبا بأمر فعلّي فال‬
‫تظهر هذه الثمرة أبدا ؛ ألّنه قد تقّد م أّن الضّد العبادّي ـ سواء كان مندوبا أو واجبا أقّل‬
‫أّمهية أو موّس عا أو خمرّي ا ـ ال يكون مأمورا به فعال (‪ ، )1‬ملكان املزامحة بني األمرين ‪ ،‬ومع‬
‫عدم األمر به ال يقع عبادة صحيحة وإن قلنا بعدم النهي عن الضّد (‪.)2‬‬
‫والحّق هو األّو ل ـ أي إّن عبادّية العبادة ال تتوّقف على تعّلق األمر هبا فعال ‪ ،‬بل‬
‫إذا أحرز أهّن ا حمبوبة يف نفسها للموىل ‪ ،‬مرغوبة لديه ؛ فإّنه يصّح التقّر ب هبا إليه وإن مل‬
‫يأمر هبا فعال ملانع ـ (‪ ، )3‬ألّنه ـ كما أشرنا إىل ذلك يف مقّد مة الواجب (‪ )4‬ـ يكفي يف‬
‫عبادّية الفعل ارتباطه باملوىل ‪ ،‬واإلتيان به متقّر با به إليه مع ما مينع من التعّبد به من كون‬
‫فعله تشريعا ‪ ،‬أو كونه منهّيا عنه ‪ ،‬وال تتوّقف عبادّيته على قصد امتثال األمر ‪ ،‬كما‬
‫مال إليه (‪ )5‬صاحب اجلواهر قدس‌سره (‪.)6‬‬
‫هذا ‪ ،‬وقد يقال يف املقام ـ نقال عن احملّق ق الثاين (تغّم ده اهلل برمحته) (‪ )7‬ـ ‪ :‬إّن هذه‬
‫الثمرة تظهر حىت مع القول بتوّقف العبادة على تعّلق األمر هبا ‪ ،‬ولكن ذلك يف خصوص‬
‫التزاحم بني الواجبني ‪ :‬املوّس ع ‪ ،‬واملضّيق وحنومها ‪ ،‬دون التزاحم بني األهّم واملهّم‬
‫املضّيقني‪.‬‬
‫والسّر يف ذلك ‪ :‬أّن األمر يف املوّس ع إمّن ا يتعّلق بصرف وجود الطبيعة على أن يأيت‬
‫به املكّلف يف أّي وقت شاء من الوقت الوسيع احملّد د له‪ .‬أّم ا األفراد مبا هلا من‬
‫اخلصوصّيات الوقتّية ‪ ،‬فليست مأمورا هبا خبصوصها ‪ ،‬واألمر باملضّيق إذا مل يقتض النهي‬
‫عن ضّد ه فالفرد املزاحم له من أفراد ضّد ه الواجب املوّس ع ال يكون مأمورا به ال حمالة‬
‫من أجل املزامحة ‪ ،‬ولكّنه ال خيرج بذلك عن كونه فردا من الطبيعة املأمور هبا‪ .‬وهذا‬
‫كاف يف حصول امتثال األمر بالطبيعة ؛ ألّن انطباقها على هذا الفرد املزاحم قهرّي ‪،‬‬
‫فيتحّق ق به االمتثال قهرا ‪ ،‬ويكون جمزئا عقال عن امتثال الطبيعة يف فرد آخر ؛ ألّنه ال‬
‫فرق من جهة انطباق الطبيعة املأمور هبا بني فرد وفرد‪.‬‬
‫وبعبارة أوضح أّنه لو كان الوجوب يف الواجب املوّس ع ينحّل إىل وجوبات متعّد دة‬
‫بتعّد د أفراده الطولّية املمكنة يف مّد ة الوقت احملّد د على وجه يكون التخيري بينها شرعّيا ‪،‬‬
‫فال حمالة ال أمر بالفرد املزاحم للواجب املضّيق ‪ ،‬وال أمر آخر يصّح حه ‪ ،‬فال تظهر‬
‫الثمرة ‪ ،‬ولكّن األمر ليس كذلك ؛ فإّنه ليس يف الواجب املوّس ع إّال وجوب واحد يتعّلق‬
‫بصرف وجود الطبيعة ‪ ،‬غري أّن الطبيعة ا كانت هلا أفراد طولّية متعّد دة ميكن انطباقها‬
‫ّمل‬
‫على كّل واحد منها ‪ ،‬فال حمالة يكون املكّلف خمرّي ا عقال بني األفراد ـ أي يكون خمرّي ا‬
‫بني أن يأيت بالفعل يف أّو ل الوقت ‪ ،‬أو ثانيه ‪ ،‬أو ثالثه ‪ ،‬وهكذا إىل آخر الوقت ـ ‪ ،‬وما‬
‫خيتاره من الفعل يف أّي وقت يكون هو الذي ينطبق عليه املأمور به ‪ ،‬وإن امتنع أن يتعّلق‬
‫األمر به خبصوصه ملانع ‪ ،‬بشرط أن يكون املانع من غري جهة نفس مشول األمر املتعّلق‬
‫بالطبيعة له ‪ ،‬بل من جهة شيء خارج عنه وهو املزامحة مع املضّيق يف املقام‪.‬‬
‫هذا خالصة توجيه (‪ )1‬ما نسب إىل احملّق ق الثاّين رحمه‌هللا يف املقام ‪ ،‬ولكّن شيخنا‬
‫احملّق ق النائيّين رحمه‌هللا مل يرتضه (‪ )2‬؛ ألّنه يرى أّن املانع من تعّلق األمر بالفرد املزاحم‬
‫يرجع إىل نفس مشول األمر املتعّلق بالطبيعة له ‪ ،‬يعين أّنه يرى أّن الطبيعة املأمور هبا مبا‬
‫هي مأمور هبا‬
‫ال تنطبق على الفرد املزاحم وال تشمله ‪ ،‬وانطباق الطبيعة ال مبا هي مأمور هبا على الفرد‬
‫املزاحم ال ينفع وال يكفي يف امتثال األمر بالطبيعة‪ .‬والسّر يف ذلك واضح ‪ ،‬فإّنا إذ نسّلم‬
‫أّن التخيري بني أفراد الطبيعة ختيري عقلّي نقول ‪ :‬إّن التخيري إمّن ا هو بني أفراد الطبيعة‬
‫املأمور هبا مبا هي مأمور هبا ‪ ،‬فالفرد املزاحم خارج عن نطاق هذه األفراد اليت بينها‬
‫التخيري‪.‬‬
‫أّم ا ‪ :‬أّن الفرد املزاحم خارج عن نطاق أفراد الطبيعة املأمور هبا مبا هي مأمور هبا ‪،‬‬
‫فألّن األمر إمّن ا يتعّلق بالطبيعة املقدورة للمكّلف مبا هي مقدورة ‪ :‬ألّن القدرة شرط يف‬
‫(‪)1‬‬
‫ّم‬ ‫عا‬ ‫نفسه‬ ‫يف‬ ‫املأمور به ‪ ،‬مأخوذة يف اخلطاب ‪ ،‬ال أهّن ا شرط عقلّي حمض ‪ ،‬واخلطاب‬
‫شامل يف إطالقه لألفراد املقدورة وغري املقدورة‪.‬‬
‫بيان ذلك أّن األمر إمّن ا هو جلعل الداعي يف نفس املكّلف ‪ ،‬وهذا املعىن بنفسه‬
‫يقتضي كون متعّلقه مقدورا ؛ الستحالة جعل الداعي إىل ما هو ممتنع ؛ فيعلم من هذا‬
‫أّن القدرة مأخوذة يف متعّلق األمر ويفهم ذلك من نفس اخلطاب ‪ ،‬مبعىن أّن اخلطاب ا‬
‫ّمل‬
‫كان يقتضي القدرة على متعّلقه ‪ ،‬فتكون سعة دائرة املتعّلق على قدر سعة دائرة القدرة‬
‫عليه ‪ ،‬ال تزيد وال تنقص ‪ ،‬أي تدور سعته وضيقه مدار سعة القدرة وضيقها‪.‬‬
‫وعلى هذا ‪ ،‬فال يكون األمر شامال ملا هو ممتنع من األفراد ؛ إذ يكون املطلوب به‬
‫الطبيعة مبا هي مقدورة ‪ ،‬والفرد غري املقدور خارج عن أفرادها مبا هي مأمور هبا‪.‬‬
‫نعم ‪ ،‬لو كان اعتبار القدرة مبالك قبح تكليف العاجز فهي شرط عقلّي ال يوجب‬
‫تقييد متعّلق اخلطاب ؛ ألّنه ليس من اقتضاء نفس اخلطاب ‪ ،‬فيكون متعّلق األمر هي‬
‫الطبيعة مبا هي ‪ ،‬ال مبا هي مقدورة ‪ ،‬وإن كان مبقتضى حكم العقل ال بّد أن يقّيد‬
‫الوجوب هبا ‪ ،‬فالفرد املزاحم ـ على هذا ـ هو أحد أفراد الطبيعة مبا هي اليت تعّلق هبا‬
‫كذلك‪.‬‬
‫وتشييد ما أفاده أستاذنا ومناقشته حيتاج إىل حبث أوسع لسنا بصدده اآلن ‪ ،‬راجع‬
‫(‪)1‬‬
‫عنه تقريرات تالمذته الرتّتب‬
‫(‪)2‬‬
‫وإذ امتّد البحث إىل هنا ‪ ،‬فهناك مشكلة فقهّية تنشأ من اخلالف املتقّد م ال بّد‬
‫من التعّر ض هلا مبا يليق هبذه الرسالة‪.‬‬
‫(‪)3‬‬
‫وهي أّن كثريا من الناس جندهم حيرصون ـ حبسب هتاوهنم ـ على فعل بعض‬
‫العبادات املندوبة يف ظرف وجوب شيء هو ضّد للمندوب ‪ ،‬فيرتكون الواجب‬
‫ويفعلون املندوب ‪ ،‬كمن يذهب للزيارة ‪ ،‬أو يقيم مأمت احلسني عليه‌السالم وعليه دين‬
‫واجب األداء ؛ كما جندهم يفعلون بعض الواجبات العبادّية يف حني أّن هناك عليهم‬
‫واجبا أهّم فيرتكونه ‪ ،‬أو واجبا مضّيق الوقت مع أّن األّو ل موّس ع فيقّد مون املوّس ع على‬
‫املضّيق ‪ ،‬أو واجبا معّينا مع أّن األّو ل خمرّي فيقّد مون املخرّي على املعنّي ‪ ...‬وهكذا‪.‬‬
‫وجيمع الكّل تقدمي فعل املهّم العبادّي على األهّم ‪ ،‬فإّن املضّيق أهّم من املوّس ع ‪،‬‬
‫واملعنّي أهّم من املخرّي ‪ ،‬كما أّن الواجب أهّم من املندوب‪ .‬ومن اآلن سنعرّب باألهّم‬
‫واملهّم ونقصد ما هو أعّم من ذلك كّله‪.‬‬
‫فإذا قلنا بأّن صّح ة العبادة ال تتوّقف على وجود أمر فعلّي متعّلق به ‪ ،‬وقلنا بأّنه ال‬
‫هني عن الضّد ‪ ،‬أو النهي عنه ال يقتضي الفساد فال إشكال وال مشكلة ؛ ألّن فعل املهّم‬
‫العبادّي يقع صحيحا حىّت مع فعلّية األمر باألهّم ‪ ،‬غاية األمر يكون املكّلف عاصيا برتك‬
‫األهّم من دون أن يؤّثر ذلك على صّح ة ما فعله من العبادة‪.‬‬
‫وإمّن ا املشكلة فيما إذا قلنا بالنهي عن الضّد ‪ ،‬وأّن النهي يقتضي الفساد ‪ ،‬أو قلنا‬
‫بتوّقف‬
‫(‬
‫صّح ة العبادة على األمر هبا ـ كما هو املعروف عن الشيخ صاحب اجلواهر قدس‌سره‬
‫‪ )1‬ـ ‪ ،‬فإّن أعماهلم هذه كّلها باطلة وال يستحّق ون عليها ثوابا ؛ ألّنه إّم ا منهّي عنها‬
‫والنهي يقتضي الفساد ‪ ،‬وإّم ا ال أمر هبا وصّح تها تتوّقف على األمر‪.‬‬
‫فهل هناك طريقة لتصحيح فعل املهّم العبادّي مع وجود األمر باألهّم؟‬
‫ذهب مجاعة إىل تصحيح العبادة يف املهّم بنحو «الرتّتب» بني األمرين ‪ :‬األمر‬
‫باألهّم واألمر باملهّم ‪ ،‬مع فرض القول بعدم النهي عن الضّد وأّن صّح ة العبادة تتوّقف‬
‫(‪)2‬‬
‫على وجود األمر‪.‬‬
‫والظاهر أّن أّو ل من أّس س هذه الفكرة ‪ ،‬وتنّبه هلا احملّق ق الثاين ‪ ،‬وشّيد أركاهنا‬
‫السّيد املريزا الشريازّي ‪ ،‬كما أحكمها (‪ )3‬ونّق حها شيخنا احملّق ق النائيّين قدس‌سره (‪.)4‬‬
‫وهذه الفكرة وحتقيقها من أروع (‪ )5‬ما انتهى إليه البحث األصوّيل تصويرا وعمقا‪.‬‬
‫وخالصة فكرة «الرتّتب» أّنه ال مانع عقال من أن يكون األمر باملهّم فعلّيا عند‬
‫عصيان األمر باألهّم ‪ ،‬فإذا عصى املكّلف وترك األهّم فال حمذور يف أن يفرض األمر‬
‫(‪)6‬‬
‫باملهّم حينئذ ؛ إذ ال يلزم منه طلب اجلمع بني الضّد ين ‪ ،‬كما سيأيت توضيحه‪.‬‬
‫وإذا مل يكن مانع عقلّي من هذا الرتّتب ؛ فإّن الدليل يساعد على وقوعه ‪ ،‬والدليل‬
‫هو نفس الدليلني املتضّم نني لألمر باملهّم واألمر باألهّم ‪ ،‬ومها كافيان إلثبات وقوع‬
‫الرتّتب‪.‬‬
‫وعليه ‪ ،‬ففكرة الرتّتب وتصحيحها يتوّقف على شيئني رئيسني يف الباب ‪:‬‬
‫أحدمها ‪ :‬إمكان الرتّتب يف نفسه‪ .‬وثانيهما ‪ :‬الدليل على وقوعه‪.‬‬
‫أّما األّو ل ‪ :‬ـ وهو إمكانه يف نفسه ـ فبيانه أّن أقصى ما يقال يف إبطال الرتّتب و‬
‫استحالته هو ‪ :‬دعوى لزوم احملال منه ‪ ،‬وهو فعلّية األمر بالضّد ين يف آن واحد ؛ ألّن‬
‫القائل بالرتّتب يقول بإطالق األمر باألهّم ‪ ،‬ومشوله لصوريت فعل األهّم وتركه ‪ ،‬ففي‬
‫حال فعلّية األمر باملهّم ـ وهو حال ترك األهّم (‪ )1‬ـ يكون األمر باألهّم فعلّيا على قوله ‪،‬‬
‫واألمر بالضّد ين يف آن واحد حمال‪.‬‬
‫ولكن هذه الدعوى ـ عند القائل بالرتّتب ـ باطلة ؛ ألّن قوله ‪« :‬األمر بالضّد ين يف‬
‫آن واحد حمال» فيه مغالطة ظاهرة ‪ ،‬فإّن قيد «يف آن واحد» يوهم أّنه راجع إىل‬
‫«الضّد ين» ‪ ،‬فيكون حماال ؛ إذ يستحيل اجلمع بني الضّد ين ‪ ،‬بينما هو يف احلقيقة راجع‬
‫إىل األمر ‪ ،‬وال استحالة يف أن يأمر املوىل يف آن واحد بالضّد ين ‪ ،‬إذا مل يكن املطلوب‬
‫اجلمع بينهما يف آن واحد ؛ ألّن احملال هو اجلمع بني الضّد ين ‪ ،‬ال األمر هبما يف آن‬
‫واحد وإن مل يستلزم اجلمع بينهما‪.‬‬
‫أّم ا ‪ :‬أّن قيد «يف آن واحد» راجع إىل األمر ال إىل الضّد ين فواضح ؛ ألّن املفروض‬
‫أّن األمر باملهّم مشروط برتك األهّم ‪ ،‬فاخلطاب الرتّتّيب ليس فقط ال يقتضي اجلمع بني‬
‫الضّد ين ‪ ،‬بل يقتضي عكس ذلك ؛ ألّنه يف حال انشغال املكّلف بامتثال األمر باألهّم‬
‫وإطاعته ‪ ،‬ال أمر يف هذا احلال إّال باألهّم ‪ ،‬ونسبة املهّم إليه حينئذ كنسبة املباحات‬
‫إليه ‪ ،‬وأّم ا ‪ :‬يف حال ترك األهّم واالنشغال باملهّم فإّن األمر باألهّم نسّلم أّنه يكون فعلّيا‬
‫وكذلك األمر باملهّم ‪ ،‬ولكن خطاب املهّم حسب الفرض مشروط برتك األهّم وخلّو‬
‫الزمان منه ‪ ،‬ففي هذا احلال املفروض يكون األمر باملهّم داعيا للمكّلف إىل فعل املهّم يف‬
‫حال ترك األهّم ‪ ،‬فكيف يكون داعيا إىل اجلمع بني األهّم واملهّم يف آن واحد؟!‬
‫وبعبارة أوضح ‪ :‬إّن إجياب اجلمع ال ميكن أن يتصّو ر إّال إذا كان هناك مطلوبان يف‬
‫عرض واحد ‪ ،‬على وجه لو فرض إمكان اجلمع بينهما ‪ ،‬لكان كّل منهما مطلوبا ‪ ،‬ويف‬
‫الرتّتب لو فرض حماال إمكان اجلمع بني الضّد ين فإّنه ال يكون املطلوب إّال األهّم ‪ ،‬وال‬
‫يقع املهّم يف هذا احلال على صفة املطلوبّية أبدا ‪ ،‬ألّن طلبه حسب الفرض مشروط‬
‫برتك األهّم ‪ ،‬فمع فعله ال يكون مطلوبا‪.‬‬
‫وأّما الثاني ‪ :‬ـ وهو الدليل على وقوع الرتّتب وأّن الدليل هو نفس دليلي األمرين ـ‬
‫فبيانه أّن املفروض أّن لكّل من األهّم واملهّم ـ حسب دليل كّل منهما ـ حكما مستقّال مع‬
‫قطع النظر عن وقوع املزامحة بينهما ‪ ،‬كما أّن املفروض أّن دليل كّل منهما مطلق‬
‫بالقياس إىل صوريت فعل اآلخر وعدمه‪ .‬فإذا وقع التزاحم بينهما اّتفاقا ‪ ،‬فبحسب‬
‫إطالقهما يقتضيان إجياب اجلمع بينهما ‪ ،‬ولكن ذلك حمال ‪ ،‬فال بّد أن ترفع اليد عن‬
‫إطالق أحدمها ‪ ،‬ولكّن املفروض أّن األهّم أوىل وأرجح ‪ ،‬وال يعقل تقدمي املرجوح على‬
‫الراجح واملهّم على األهّم ‪ ،‬فيتعنّي رفع اليد عن إطالق دليل األمر باملهّم فقط ‪ ،‬وال‬
‫يقتضي ذلك رفع اليد عن أصل دليل املهّم ‪ .‬ألنه إمّن ا نرفع اليد عنه من جهة تقدمي إطالق‬
‫األهّم ملكان املزامحة بينهما وأرجحّية األهّم ‪ ،‬والضرورات إمّن ا تقّد ر بقدرها‪.‬‬
‫وإذا رفعنا اليد عن إطالق دليل املهّم مع بقاء أصل الدليل فإّن معىن ذلك اشرتاط‬
‫خطاب املهّم برتك األهّم ‪ .‬وهذا هو معىن الرتّتب املقصود‪.‬‬
‫والحاصل أّن معىن الرتّتب املقصود هو اشرتاط األمر باملهّم برتك األهّم ‪ ،‬وهذا‬
‫االشرتاط حاصل فعال مبقتضى الدليلني ‪ ،‬مع ضّم حكم العقل بعدم إمكان اجلمع بني‬
‫امتثاهلما معا ‪ ،‬وبتقدمي الراجح على املرجوح الذي ال يرفع إّال إطالق دليل املهّم ‪ ،‬فيبقى‬
‫أصل دليل األمر باملهّم على حاله يف صورة ترك األهّم ‪ ،‬فيكون األمر الذي يتضّم نه‬
‫الدليل مشروطا برتك األهّم ‪.‬‬
‫وبعبارة أوضح أّن دليل املهّم يف أصله مطلق يشمل صورتني ‪ :‬صورة فعل األهّم ‪،‬‬
‫وصورة تركه ‪ ،‬و ا رفعنا اليد عن مشوله لصورة فعل األهّم ملكان املزامحة وتقدمي الراجح‬
‫ّمل‬
‫فيبقى مشوله لصورة ترك األهّم بال مزاحم ‪ ،‬وهذا معىن اشرتاطه برتك األهّم‪.‬‬
‫فيكون هذا االشرتاط مدلوال لدليلي األمرين معا بضميمة حكم العقل ‪ ،‬ولكن هذه‬
‫الداللة من نوع داللة اإلشارة (‪.)1‬‬
‫هذه خالصة فكرة «الرتّتب» على عالهتا ‪ ،‬وهناك فيها جوانب حتتاج إىل مناقشة‬
‫وإيضاح تركناها إىل املطّو الت (‪ ، )1‬وقد وضع هلا شيخنا احملّق ق النائيّين مخس مقّد مات‬
‫لسّد ثغورها ‪ ،‬راجع عنها تقريرات تالمذته (‪.)2‬‬

‫المسألة الرابعة ‪ :‬اجتماع األمر والنهي‬

‫تحرير محّل النزاع‬


‫واختلف األصولّيون من القدمي يف أّنه هل جيوز اجتماع األمر والنهي يف واحد أو‬
‫ال جيوز؟‬
‫والجواب أّن التعبري باجتماع األمر والنهي من خداع العناوين ‪ ،‬فال بّد من‬
‫توضيح مقصودهم من البحث بتوضيح الكلمات الواردة يف هذا العنوان ‪ ،‬وهي كلمة‬
‫«االجتماع ‪ ،‬الواحد ‪ ،‬اجلواز ‪:‬‬
‫‪« .1‬االجتماع» واملقصود منه هو االلتقاء االتفاقّي بني املأمور به واملنهّي عنه يف‬
‫شيء واحد) (‪ijtima’ ini adalah masalahnya‬اجتماعا حقيقّيا ‪ ،‬يعين أّنه فعل واحد يكون‬
‫مطابقا لكّل من العنوانني‬
‫‪« .2‬الواحد» واملقصود منه الفعل الواحد باعتبار أّن له وجودا واحدا يكون‬
‫ملتقى وجممعا للعنوانني يف مقابل املتعّد د حبسب الوجود‪.‬‬
‫‪« .3‬الجواز» واملقصود منه اجلواز العقلّي ـ أي اإلمكان املقابل لالمتناع‪.‬‬
‫(‪)mustanidat‬‬

‫والقائل باجلواز ال بّد أن يستند يف قوله إىل أحد رأيني ‪:‬‬


‫‪ .1‬أن يرى أّن العنوان بنفسه هو متعّلق التكليف ‪ ،‬وال يسري احلكم إىل املعنون ‪،‬‬
‫فانطباق عنوانني على فعل واحد ال يلزم منه أن يكون ذلك الواحد متعّلقا للحكمني ‪،‬‬
‫فال ميتنع االجتماع ـ أي اجتماع عنوان املأمور به مع عنوان املنهّي عنه يف واحد ـ ؛ ألّنه‬
‫ال يلزم منه اجتماع نفس األمر والنهي يف واحد‪.‬‬
‫‪ .2‬أن يرى أّن املعنون ـ على تقدير تسليم أّنه هو متعّلق احلكم حقيقة ال العنوان ـ ‪،‬‬
‫يكون متعّد دا واقعا ‪ ،‬إذا تعّد د العنوان ؛ ألّن تعّد د العنوان يوجب تعّد د املعنون بالنظر‬
‫الدقيق الفلسفّي ‪ ،‬ففي احلقيقة ـ وإن كان فعل واحد يف ظاهر احلال صار مطابقا‬
‫للعنوانني ـ هناك‬
‫معنونان كّل واحد منهما مطابق ألحد العنوانني ‪ ،‬فريجع اجتماع الوجوب واحلرمة‬
‫بالدّقة العقلّية إىل االجتماع املوردّي الذي قلنا ‪ :‬إّنه ال بأس فيه من االجتماع‪.‬‬
‫وعلى هذا ‪ ،‬فليس هناك واحد حبسب الوجود يكون جممعا بني العنوانني يف احلقيقة‬
‫‪ ،‬بل ما هو مأمور به يف وجوده غري ما هو منهّي عنه يف وجوده‪ .‬وال تلزم سراية األمر‬
‫إىل ما تعّلق به النهي ‪ ،‬وال سراية النهي إىل ما تعّلق به األمر ‪ ،‬فيكون املكّلف يف مجعه‬
‫بني العنوانني مطيعا وعاصيا يف آن واحد ‪ ،‬كالناظر إىل األجنبّية يف أثناء الصالة‪.‬‬
‫وهبذا يّتضح معىن القول جبواز اجتماع األمر والنهي ‪ ،‬ويف احلقيقة ليس هو قوال‬
‫باجتماع األمر والنهي يف واحد ‪ ،‬بل إّم ا أّنه يرجع إىل القول باجتماع عنوان املأمور به‬
‫واملنهّي عنه يف واحد دون أن يكون هناك اجتماع بني األمر والنهي ‪ ،‬وإّم ا أن يرجع إىل‬
‫القول باالجتماع املوردّي فقط ‪ ،‬فال يكون اجتماع بني األمر والنهي ‪ ،‬وال بني املأمور‬
‫به واملنهّي عنه‪.‬‬
‫وأّم ا القائل باالمتناع ‪ :‬فال بّد أن يذهب إىل أّن احلكم يسري من العنوان إىل‬
‫املعنون وأّن تعّد د العنوان ال يوجب تعّد د املعنون ؛ فإّنه ال ميكن حينئذ بقاء األمر والنهي‬
‫معا وتوّج ههما متعّلقني بذلك املعنون الواحد حبسب الوجود ؛ ألّنه يلزم اجتماع نفس‬
‫األمر والنهي يف واحد ‪ ،‬وهو مستحيل ‪ ،‬فإّم ا أن يبقى األمر وال هني ‪ ،‬أو يبقى النهي‬
‫وال أمر‪.‬‬
‫ولقد أحسن صاحب املعامل يف حترير النزاع ؛ إذ عرّب بكلمة «التوّج ه» بدال عن‬
‫كلمة «االجتماع» فقال ‪« :‬احلّق امتناع توّج ه األمر والنهي إىل شيء واحد ‪.)1( »...‬‬
‫(‪)2‬‬
‫المسألة من المالزمات العقلّية غير المستقّلة‬
‫ومن التقرير املتقّد م لبيان حمّل النزاع يظهر كيف أّن املسألة هذه ينبغي أن تدخل يف‬
‫املالزمات العقلّية غري املستقّلة ‪ ،‬فإّن معىن القول باالمتناع هو تنقيح صغرى الكربى‬
‫العقلّية القائلة بامتناع اجتماع األمر والنهي يف شيء واحد حقيقّي ‪.‬‬
‫توضيح ذلك أّنه إذا قلنا بأّن احلكم يسري من العنوان إىل املعنون ‪ ،‬وأّن تعّد د‬
‫العنوان ال يوجب تعّد د املعنون ؛ فإّنه يتنّق ح عندنا موضوع اجتماع األمر والنهي يف‬
‫واحد الثابتني شرعا ‪ ،‬فيقال على هنج القياس االستثنائّي هكذا ‪« :‬إذا التقى عنوان‬
‫املأمور به واملنهّي عنه يف واحد بسوء االختيار ‪ ،‬فإن بقي األمر والنهي فعلّيني معا ‪ ،‬فقد‬
‫اجتمع األمر والنهي يف واحد»‪ .‬وهذه هي الصغرى‪.‬‬
‫ومستند هذه املالزمة يف الصغرى هو سراية احلكم من العنوان إىل املعنون ‪ ،‬وأّن‬
‫تعّد د العنوان ال يوجب تعّد د املعنون‪ .‬وإمّن ا تفرض هذه املالزمة حيث يفرض ثبوت األمر‬
‫والنهي شرعا بعنوانيهما‪.‬‬
‫ّمث نقول ‪« :‬ولكّنه يستحيل اجتماع األمر والنهي يف واحد»‪ .‬وهذه هي الكربى‪.‬‬
‫وهذه الكربى عقلّية تثبت يف غري هذه املسألة‪.‬‬
‫وهذا القياس استثنائّي قد استثين فيه نقيض التايل ‪ ،‬فيثبت به نقيض املقّد م ‪ ،‬وهو‬
‫عدم بقاء األمر والنهي فعلّيني معا‪.‬‬
‫وأّم ا بناء على اجلواز ‪ :‬فيخرج هذا املورد من مورد االلتقاء عن أن يكون صغرى‬
‫لتلك الكربى العقلّية‪.‬‬
‫وال جيب يف كون املسألة أصولّية من املستقّالت العقلّية وغريها أن تقع صغرى‬
‫للكربى العقلّية على تقدير مجيع األقوال ‪ ،‬بل يكفي أن تقع صغرى على أحد األقوال‬
‫فقط ‪ ،‬فإّن هذا شأن مجيع املسائل األصولّية املتقّد مة اللفظّية والعقلّية ‪ ،‬أال ترى أّن‬
‫املباحث اللفظّية كّلها لتنقيح صغرى أصالة الظهور ‪ ،‬مع أّن املسألة ال تقع صغرى‬
‫ألصالة الظهور على مجيع األقوال فيها ‪ ،‬كمسألة داللة صيغة «افعل» على الوجوب ‪،‬‬
‫فإّنه على القول باالشرتاك اللفظّي أو املعنوّي ال يبقى هلا ظهور يف الوجوب أو غريه‪.‬‬
‫وال وجه لتوّه م كون هذه املسألة فقهّية ‪ ،‬أو كالمّية ‪ ،‬أو أصولّية لفظّية ‪ ،‬وهو‬
‫واضح بعد ما قّد مناه من شرح حترير النزاع ‪ ،‬وبعد ما ذكرناه سابقا يف أّو ل هذا اجلزء‬
‫من مناط كون‬
‫املسألة األصولّية من باب غري املستقّالت العقلّية (‪.)1‬‬

‫مناقشة الكفاية في تحرير النزاع‬


‫وبعد ما حّر رناه من بيان النزاع يف املسألة يّتضح ابتناء القول باجلواز فيها على أحد‬
‫رأيني ‪ :‬إّم ا القول بأّن متعّلق األحكام هي نفس العنوانات دون معنوناهتا ‪ ،‬وإّم ا القول‬
‫بأّن تعّد د العنوان يستدعي تعّد د املعنون (‪.)2‬‬
‫فتكون مسألة تعّد د املعنون بتعّد د العنوان وعدم تعّد ده حيثّية تعليلّية يف مسألتنا ومن‬
‫املبادئ التصديقّية هلا على أحد احتمالني ‪ ،‬ال أهّن ا هي نفس حمّل النزاع يف الباب ‪ ،‬فإّن‬
‫البحث هنا ليس إّال عن نفس اجلواز وعدمه ‪ ،‬كما عرّب بذلك كّل من حبث عن هذه‬
‫املسألة من القدمي‪.‬‬
‫ومن هنا تتجّلى املناقشة فيما أفاده يف كفاية األصول من رجوع حمّل البحث هنا‬
‫إىل البحث عن استدعاء تعّد د العنوان لتعّد د املعنون وعدمه (‪ ، )3‬فإّنه فرق عظيم بني ما‬
‫هو حمّل النزاع وبني ما يبتين عليه النزاع يف أحد احتمالني ؛ فال وجه للخلط بينهما‬
‫وإرجاع أحدمها إىل اآلخر ‪ ،‬وإن كان يف هذه املسألة ال بّد لألصوّيل من البحث عن أّن‬
‫تعّد د العنوان هل يوجب تعّد د املعنون؟ باعتبار أّن هذا البحث ليس ّمما يذكر يف موضع‬
‫آخر‪.‬‬

‫قيد المندوحة‬
‫ذكرنا فيما سبق أّن بعضهم قّيد النزاع هنا بأن تكون هناك مندوحة يف مقام‬
‫االمتثال (‪.)4‬‬
‫ومعىن «املندوحة» أن يكون املكّلف متمّك نا من امتثال األمر يف مورد آخر غري‬
‫مورد االجتماع‪.‬‬
‫ونظر إىل ذلك كّل من قّيد موضع النزاع مبا إذا كان اجلمع بني العنوانني بسوء‬
‫اختيار املكّلف‪.‬‬
‫وإمّن ا قّيد هبا موضع النزاع لالّتفاق بني الطرفني على عدم جواز االجتماع يف‬
‫صورة عدم وجود املندوحة ‪ ،‬وذلك فيما إذا احنصر امتثال األمر يف مورد االجتماع ‪ ،‬ال‬
‫بسوء اختيار املكّلف‪.‬‬
‫والسّر واضح ؛ فإّنه عند االحنصار تستحيل فعلّية التكليفني ؛ الستحالة امتثاهلما‬
‫معا ؛ ألّنه إن فعل ما هو مأمور به فقد عصى النهي ‪ ،‬وإن تركه فقد عصى األمر ‪ ،‬فيقع‬
‫التزاحم حينئذ بني األمر والنهي‪.‬‬
‫وظاهر أّن اعتبار قيد املندوحة الزم ملا ذكرناه ؛ إذ ليس النزاع جهتّيا ـ كما ذهب‬
‫إليه صاحب الكفاية (‪ )1‬ـ ‪ ،‬أي من جهة كفاية تعّد د العنوان يف تعّد د املعنون وعدمه وإن‬
‫(‬
‫مل جيز االجتماع من جهة أخرى ‪ ،‬حىّت ال حنتاج إىل هذا القيد ‪ ،‬بل النزاع ـ كما تقّد م‬
‫‪ )2‬ـ هو يف جواز االجتماع وعدمه من أّية جهة فرضت وليس جهتّيا‪ .‬وعليه ‪ ،‬فما دام‬
‫النزاع غري واقع يف عدم اجلواز يف صورة عدم املندوحة فهذه الصورة ال تدخل يف حمّل‬
‫النزاع يف مسألتنا‪.‬‬
‫فوجب ـ إذن ـ تقييد عنوان املسألة بقيد املندوحة كما صنع بعضهم (‪.)3‬‬

‫الفرق بين بابي التعارض والتزاحم ومسألة االجتماع‬


‫من املسائل العويصة مشكلة التفرقة بني باب التعارض وباب التزاحم ‪ّ ،‬مث بينهما‬
‫وبني مسألة االجتماع‪ .‬وال بّد من بيان فرق بينها لتنكشف جّيدا حقيقة النزاع يف‬
‫مسألتنا «مسألة االجتماع»‪.‬‬
‫وجه اإلشكال يف التفرقة أّنه ال شبهة يف أّن من موارد التعارض بني الدليلني ما إذا‬
‫كان‬
‫بني دليلي األمر والنهي عموم وخصوص من وجه ‪ ،‬وذلك من أجل العموم من وجه بني‬
‫متعّلقي األمر والنهي ـ أي العموم من وجه الذي يقع بني عنوان املأمور به ‪ ،‬وعنوان‬
‫املنهّي عنه ـ ‪ ،‬بينما أّن التزاحم بني الوجوب واحلرمة من موارده أيضا العموم من وجه‬
‫بني األمر والنهي من هذه اجلهة‪ .‬وكذلك مسألة االجتماع موردها منحصر فيما إذا‬
‫كان بني عنواين املأمور به واملنهّي عنه عموم من وجه‪.‬‬
‫فيّتضح أّنه مورد واحد ـ وهو مورد العموم من وجه بني متعّلقي األمر والنهي ـ‬
‫يصّح أن يكون موردا للتعارض وباب التزاحم ومسألة االجتماع ‪ ،‬فما املائز والفارق؟‬
‫فنقول ‪ :‬إّن العموم من وجه إمّن ا يفرض بني متعّلقي األمر والنهي فيما إذا كان‬
‫العنوانان يلتقيان يف فعل واحد ‪ ،‬سواء كان العنوان بالنسبة إىل الفعل من قبيل العنوان‬
‫ومعنونه ‪ ،‬أو من قبيل الكّلي ‪ ،‬وفرده (‪ )1‬؛ وهذا بديهّي ‪ ،‬ولكّن العنوان املأخوذ يف‬
‫متعّلق اخلطاب من‬
‫جهة عمومه على حنوين ‪:‬‬
‫‪ .1‬أن يكون ملحوظا يف اخلطاب ‪ ،‬فانيا يف مصاديقه على وجه يسع مجيع األفراد‬
‫مبا هلا من الكثرات واملمّيزات ‪ ،‬فيكون شامال يف سعته ملوضع االلتقاء مع العنوان احملكوم‬
‫باحلكم اآلخر ‪ ،‬فيعّد يف حكم املتعّر ض حلكم خصوص موضع االلتقاء ‪ ،‬ولو من جهة‬
‫كون موضع االلتقاء متوّقع احلدوث على وجه يكون من شأنه أن ينّبه عليه املتكّلم يف‬
‫خطابه ‪ ،‬فيكون أخذ العنوان على وجه يسع مجيع األفراد مبا هلا من الكثرات واملمّيزات‬
‫هلذا الغرض من التنبيه وحنوه‪ .‬وال نضايقك أن تسّم ي مثل هذا العموم «العموم‬
‫االستغراقّي » ‪ ،‬كما صنع بعضهم (‪.)1‬‬
‫واملقصود أّن العنوان إذا أخذ يف اخلطاب على وجه يسع مجيع األفراد مبا هلا من‬
‫الكثرات واملمّيزات ‪ ،‬يكون يف حكم املتعّر ض حلكم كّل فرد من أفراده ‪ ،‬فيكون نافيا‬
‫بالداللة االلتزامّية لكّل حكم مناف حلكمه‪.‬‬
‫‪ .2‬أن يكون العنوان ملحوظا يف اخلطاب ‪ ،‬فانيا يف مطلق الوجود املضاف إىل‬
‫طبيعة العنوان من دون مالحظة كونه على وجه يسع مجيع األفراد ـ أي مل تلحظ فيه‬
‫الكثرات واملمّيزات يف مقام األمر بوجود الطبيعة ‪ ،‬وال يف مقام النهي عن وجود الطبيعة‬
‫األخرى ـ ‪ ،‬فيكون املطلوب يف األمر واملنهّي عنه يف النهي صرف وجود الطبيعة‪ .‬وليسّم‬
‫مثل هذا العموم «العموم البدّيل» ‪ ،‬كما صنع بعضهم (‪.)2‬‬
‫فإن كان العنوان مأخوذا يف اخلطاب على النحو األّو ل فإّن موضع االلتقاء يكون‬
‫العاّم حّج ة فيه ‪ ،‬كسائر األفراد األخرى ‪ ،‬مبعىن أن يكون متعّر ضا بالداللة االلتزامّية‬
‫لنفي أّي حكم آخر ‪ ،‬مناف حلكم العاّم بالنسبة إىل األفراد وخصوصّيات املصاديق‪.‬‬
‫ويف هذه الصورة ال بّد أن يقع التعارض بني دليلي األمر والنهي يف مقام اجلعل‬
‫والتشريع ؛ ألهّن ما يتكاذبان بالنسبة إىل موضع االلتقاء من جهة الداللة االلتزامّية يف كّل‬
‫منهما على نفي احلكم اآلخر بالنسبة إىل موضع االلتقاء‪.‬‬
‫والتحقيق أّن التعارض بني العاّم ني من وجه إمّن ا يقع بسبب داللة كّل منهما‬
‫بالداللة االلتزامّية على انتفاء حكم اآلخر ‪ ،‬ومن أجلها يتكاذبان ‪ ،‬وإّال فالداللتان‬
‫املطابقّيتان بأنفسهما يف العاّم ني من وجه ال يتكاذبان ‪ ،‬فال تتعارضان ما مل يلزم من‬
‫ثبوت مدلول إحدامها نفي مدلول األخرى ‪ ،‬فليس التنايف بني املدلولني املطابقّيني إّال‬
‫تنافيا بالعرض ال بالذات‪.‬‬
‫ومن هنا يعلم أّن هذا الفرض ـ وهو فرض كون العنوان مأخوذا يف اخلطاب على‬
‫النحو األّو ل ـ ينحصر يف كونه موردا للتعارض بني الدليلني ‪ ،‬وال تصل النوبة إىل فرض‬
‫التزاحم بني احلكمني فيه ‪ ،‬وال إىل النزاع يف جواز اجتماع األمر والنهي وعدمه ؛ ألّن‬
‫مقتضى القاعدة يف باب التعارض هو تساقط الدليلني عن حّج يتهما بالنسبة إىل مورد‬
‫االلتقاء ‪ ،‬فال جيوز فيه الوجوب وال احلرمة‪ .‬وال يفرض التزاحم ‪ ،‬أو مسألة النزاع يف‬
‫جواز االجتماع إّال حيث يفرض مشول الدليلني ملورد االلتقاء وبقاء حّج يتهما بالنسبة‬
‫إليه ‪ ،‬أي إّنه مل يكن تعارض بني الدليلني يف مقام اجلعل والتشريع‪.‬‬
‫وإن كان العنوان مأخوذا على النحو الثاين ‪ ،‬فهو مورد التزاحم ‪ ،‬أو مسألة‬
‫االجتماع ‪ ،‬وال يقع بني الدليلني تعارض حينئذ‪ .‬وذلك مثل قوله ‪« :‬صّل» ‪ ،‬وقوله ‪:‬‬
‫«ال تغصب» ‪ ،‬باعتبار أّنه مل يلحظ يف كّل من خطاب األمر والنهي الكثرات واملمّيزات‬
‫على وجه يسع العنوان مجيع األفراد ‪ ،‬وإن كان نفس العنوان يف حّد ذاته وإطالقه شامال‬
‫جلميع األفراد ؛ فإّنه يف مثله يكون األمر متعّلقا بصرف وجود الطبيعة للصالة ‪ ،‬وامتثاله‬
‫يكون بفعل أّي فرد من األفراد ‪ ،‬فلم يكن ظاهرا يف وجوب الصالة حىت يف مورد‬
‫الغصب على وجه يكون داّال بالداللة االلتزامّية على انتفاء حكم آخر يف هذا املورد‬
‫ليكون نافيا حلرمة الغصب يف املورد‪ .‬وكذلك النهي يكون متعّلقا بصرف طبيعة الغصب‬
‫‪ ،‬فلم يكن ظاهرا يف حرمة الغصب حىّت يف مورد الصالة على وجه يكون داّال بالداللة‬
‫االلتزامّية على انتفاء حكم آخر يف هذا املورد ؛ ليكون نافيا لوجوب الصالة‪.‬‬
‫ويف مثل هذين الدليلني ـ إذا كانا على هذا النحو ـ يكون كّل منهما أجنبّيا يف‬
‫عموم عنوان متعّلق احلكم فيه عن عنوان متعّلق احلكم اآلخر ـ أي إّنه غري متعّر ض‬
‫بداللته‬
‫االلتزامّية لنفي احلكم اآلخر ـ ‪ ،‬فال يتكاذبان يف مقام اجلعل والتشريع ‪ ،‬فال يقع التعارض‬
‫بينهما ‪ ،‬إذ ال داللة التزامّية لكّل منهما على نفي احلكم اآلخر يف مورد االلتقاء ‪ ،‬وال‬
‫تعارض بني الداللتني املطابقّيتني مبا مها ؛ ألّن املفروض أّن املدلول املطابقّي من كّل‬
‫منهما هو احلكم املتعّلق بعنوان أجنّيب يف نفسه عن العنوان املتعّلق للحكم اآلخر‪.‬‬
‫وحينئذ إذا صادف أن ابتلي املكّلف جبمعهما على حنو االّتفاق فحاله ال خيلو عن‬
‫أحد أمرين ‪ :‬إّم ا أن تكون له مندوحة من اجلمع بينهما ‪ ،‬ولكّنه هو الذي مجع بينهما‬
‫بسوء اختياره وتصّر فه ‪ ،‬وإّم ا أن ال تكون له مندوحة من اجلمع بينهما‪.‬‬
‫فإن كان األّو ل فإّن املكّلف حينئذ يكون قادرا على امتثال كّل من التكليفني ‪،‬‬
‫فيصّلي ويرتك الغصب ‪ ،‬وقد يصّلي ويغصب يف فعل آخر‪ .‬فإذا مجع بينهما بسوء‬
‫اختياره بأن صّلى يف مكان مغصوب ‪ ،‬فهنا يقع النزاع يف جواز االجتماع بني األمر‬
‫والنهي ‪ ،‬فإن قلنا باجلواز كان مطيعا وعاصيا يف آن واحد ‪ ،‬وإن قلنا بعدم اجلواز فإّنه ‪:‬‬
‫إّم ا أن يكون مطيعا ال غري إذا رّج حنا جانب األمر ‪ ،‬أو عاصيا ال غري إذا رّج حنا جانب‬
‫النهي ؛ ألّنه حينئذ يقع التزاحم بني التكليفني فريجع فيه إىل أقوى املالكني‪.‬‬
‫وإن كان الثاين فإّنه ال حمالة يقع التزاحم بني التكليفني الفعلّيني ؛ ألّنه ـ حسب‬
‫الفرض ـ ال معارضة بني الدليلني يف مقام اجلعل واإلنشاء بل املنافاة وقعت من عدم قدرة‬
‫املكّلف على التفريق بني االمتثالني ‪ ،‬فيدور األمر حينئذ بني امتثال األمر وبني امتثال‬
‫النهي ؛ إذ ال ميكنه امتثاهلما معا من جهة عدم املندوحة‪.‬‬
‫هذا هو احلّق الذي ينبغي أن يعّو ل عليه يف سّر التفريق بني بايب التعارض‬
‫والتزاحم ‪ ،‬وبينهما وبني مسألة االجتماع يف مورد العموم من وجه بني متعّلقي اخلطابني‬
‫ـ خطاب الوجوب واحلرمة ـ ‪ ،‬ولعّله ميكن استفادته من مطاوي كلماهتم وإن كانت‬
‫عباراهتم تضيق عن التصريح بذلك ‪ ،‬بل اختلفت كلمات أعالم أساتذتنا رحمهم‌هللا يف‬
‫وجه التفريق‪.‬‬
‫فقد ذهب صاحب الكفاية إىل «أّنه ال يكون املورد من باب االجتماع إّال إذا‬
‫أحرز يف كّل واحد من متعّلقي اإلجياب والتحرمي مناط حكمه مطلقا ‪ ،‬حىّت يف مورد‬
‫التصادق واالجتماع ‪ ،‬وأّم ا إذا مل حيرز مناط كّل من احلكمني يف مورد التصادق مع‬
‫العلم مبناط أحد‬
‫احلكمني بال تعيني فاملورد يكون من باب التعارض ؛ للعلم اإلمجاّيل حينئذ بكذب أحد‬
‫الدليلني املوجب للتنايف بينهما عرضا (‪.»)1‬‬
‫هذا خالصة رأية رحمه‌هللا ‪ ،‬فجعل إحراز مناط احلكمني يف مورد االجتماع‬
‫وعدمه هو املناط يف التفرقة بني مسألة االجتماع وباب التعارض ‪ ،‬بينما أّن املناط عندنا‬
‫يف التفرقة بينهما هو داللة الدليلني بالداللة االلتزامّية على نفي احلكم اآلخر وعدمها ‪،‬‬
‫فمع هذه الداللة حيصل التكاذب بني الدليلني ‪ ،‬فيتعارضان ‪ ،‬وبدوهنا ال تعارض ‪،‬‬
‫فيدخل املورد يف مسألة االجتماع‪.‬‬
‫وميكن دعوى التالزم بني املسلكني يف اجلملة ؛ ألّنه مع تكاذب الدليلني من ناحية‬
‫داللتهما االلتزامّية ال حيرز وجود مناط احلكمني يف مورد االجتماع ‪ ،‬كما أّنه مع عدم‬
‫تكاذهبما ميكن إحراز وجود املناط لكّل من احلكمني يف مورد االجتماع ‪ ،‬بل ال بّد من‬
‫إحراز مناط احلكمني مبقتضى إطالق الدليلني يف مدلوهلما املطابقّي ‪.‬‬
‫وأّم ا شيخنا النائيّين ‪ :‬فقد ذهب إىل «أّن مناط دخول املورد يف باب التعارض أن‬
‫تكون احليثّيتان يف العاّم ني من وجه حيثّيتني تعليلّيتني ؛ ألّنه حينئذ يتعّلق احلكم يف كّل‬
‫منهما بنفس ما يتعّلق به اآلخر ‪ ،‬فيتكاذبان ‪ ،‬وأّم ا إذا كانتا تقييدّيتني ‪ :‬فال يقع التعارض‬
‫بينهما ‪ ،‬ويدخالن حينئذ يف مسألة االجتماع مع املندوحة ‪ ،‬ويف باب التزاحم مع عدم‬
‫املندوحة (‪.»)2‬‬
‫ونحن نقول ‪ :‬يف احليثّيتني التقييدّيتني إذا كان بني الداللتني تكاذب من أجل‬
‫داللتهما االلتزامّية على نفي احلكم اآلخر ـ على حنو ما فّص لناه ـ فإّن التعارض بينهما ال‬
‫حمالة واقع ‪ ،‬وال تصل النوبة يف هذا املورد للدخول يف مسألة االجتماع‪.‬‬
‫ولنا مناقشة معه يف صورة احليثية التعليلّية ‪ ،‬يطول شرحها ‪ ،‬وال يهّم التعّر ض هلا‬
‫اآلن ‪ ،‬وفيما ذكرناه الكفاية ‪ ،‬وفوق الكفاية للطالب املبتدئ‪.‬‬

‫الحّق في المسألة‬
‫بعد ما قّد منا ـ من توضيح حترير النزاع وبيان موضع النزاع ـ نقول ‪ :‬إّن احلّق يف‬
‫املسألة هو «اجلواز»‪ .‬وقد ذهب إىل ذلك مجع من احملّق قني املتأّخ رين (‪.)1‬‬
‫وسندنا يبتين على توضيح واختيار ثالثة أمور مرتّتبة ‪:‬‬
‫أّو ال ‪ :‬أّن متعّلق التكليف ـ سواء كان أمرا أو هنيا ـ ليس هو املعنون (‪ ، )2‬أي الفرد‬
‫اخلارجّي للعنوان مبا له من الوجود اخلارجّي ؛ فإّنه يستحيل ذلك ‪ ،‬بل متعّلق التكليف‬
‫دائما وأبدا هو العنوان ‪ ،‬على ما سيأيت توضيحه (‪.)3‬‬
‫واعترب ذلك بالشوق ‪ ،‬فإّن الشوق يستحيل أن يتعّلق باملعنون ؛ ألّنه إّم ا أن يتعّلق‬
‫به حال عدمه أو حال وجوده ‪ ،‬وكّل منهما ال يكون ؛ أّم ا األّو ل ‪ :‬فيلزم تقّو م املوجود‬
‫باملعدوم ‪ ،‬وحتّق ق املعدوم مبا هو معدوم ـ ألّن املشتاق إليه له نوع من التحّق ق بالشوق‬
‫إليه ـ وهو حمال واضح ؛ وأّم ا الثاين ‪ :‬فألّنه يكون االشتياق إليه حتصيال للحاصل وهو‬
‫حمال ؛ فإذن ال يتعّلق الشوق باملعنون ال حال وجوده ‪ ،‬وال حال عدمه‪.‬‬
‫مضافا إىل أّن الشوق من األمور النفسّية ‪ ،‬وال يعقل أن يتشّخ ص ما يف النفس‬
‫بدون متعّلق ما ‪ ،‬كجميع األمور النفسّية ‪ ،‬كالعلم ‪ ،‬واخليال ‪ ،‬والوهم ‪ ،‬واإلرادة ‪،‬‬
‫وحنوها ‪ ،‬وال يعقل أن يتشّخ ص مبا هو خارج عن أفق النفس من األمور العينّية ؛ فال بّد‬
‫أن يتشّخ ص بالشيء املشتاق إليه مبا له من الوجود العنواّين الفرضّي ‪ ،‬وهو املشتاق إليه‬
‫أّو ال وبالذات ‪ ،‬وهو املوجود بوجود الشوق ‪ ،‬ال بوجود آخر وراء الشوق ‪ ،‬ولكن ا‬
‫ّمل‬
‫كان يؤخذ العنوان مبا هو حاك ومرآة عّم ا يف اخلارج ـ أي عن املعنون ـ فإّن املعنون‬
‫يكون مشتاقا إليه ثانيا و‬
‫بالعرض ‪ ،‬نظري العلم ؛ فإّنه ال يعقل أن يتشّخ ص باألمر اخلارجّي ‪ ،‬واملعلوم بالذات‬
‫دائما وأبدا هو العنوان املوجود بوجود العلم ‪ ،‬ولكن مبا هو حاك ومرآة عن املعنون‪.‬‬
‫وأّم ا املعنون لذلك العنوان فهو معلوم بالعرض باعتبار فناء العنوان فيه‪.‬‬
‫ويف احلقيقة إمّن ا يتعّلق الشوق بشيء إذا كان له جهة وجدان وجهة فقدان ‪ ،‬فال‬
‫يتعّلق باملعدوم من مجيع اجلهات ‪ ،‬وال باملوجود من مجيع اجلهات‪ .‬وجهة الوجدان يف‬
‫املشتاق إليه هو العنوان املوجود بوجود الشوق يف أفق النفس باعتبار ما له من وجود‬
‫عنواّين فرضّي ‪ .‬وجهة الفقدان يف املشتاق إليه هو عدمه احلقيقّي يف اخلارج ‪ ،‬ومعىن‬
‫الشوق إليه هو الرغبة يف إخراجه من حّد الفرض والتقدير إىل حّد الفعلّية والتحقيق‪.‬‬
‫وإذا كان الشوق على هذا النحو ‪ ،‬فكذلك حال الطلب والبعث بال فرق ‪ ،‬فيكون‬
‫حقيقة طلب الشيء هو تعّلقه بالعنوان إلخراجه من حّد الفرض والتقدير إىل حّد الفعلّية‬
‫والتحقيق (‪.)1‬‬
‫ثانيا ‪ :‬أّنا ا قلنا بأّن متعّلق التكليف هو العنوان ال املعنون ال نعين أّن العنوان مبا له‬
‫ّمل‬
‫من الوجود الذهّين يكون متعّلقا للطلب ؛ فإّن ذلك باطل بالضرورة ؛ ألّن مثار اآلثار‬
‫ومتعّلق الغرض والذي ترتّتب عليه املصلحة واملفسدة هو املعنون ال العنوان ؛ بل نعين أّن‬
‫املتعّلق هو العنوان حال وجوده الذهّين ‪ ،‬ال أّنه مبا له من الوجود الذهّين أو هو مفهوم ‪،‬‬
‫ومعىن تعّلقه بالعنوان حال وجوده الذهّين أّنه يتعّلق به نفسه باعتبار أّنه مرآة عن املعنون‬
‫وفان فيه ‪ ،‬فتكون التخلية فيه عن الوجود الذهّين عني التحلية به‪.‬‬
‫ثالثا ‪ :‬أّنا إذ نقول ‪« :‬إّن املتعّلق للتكليف هو العنوان مبا هو مرآة عن املعنون ‪،‬‬
‫وفان فيه» ال نعين أّن املتعّلق احلقيقّي للتكليف هو املعنون ‪ ،‬وأّن التكليف يسري من‬
‫العنوان إىل املعنون باعتبار فنائه فيه ـ كما قيل (‪ )2‬ـ ‪ ،‬فإّن ذلك باطل بالضرورة أيضا ؛ ملا‬
‫تقّد م أّن املعنون يستحيل أن يكون متعّلقا للتكليف بأّي حال من األحوال ‪ ،‬وهو حمال‬
‫حىّت لو كان بتوّس ط العنوان ‪ ،‬فإّن توّس ط العنوان ال خيرجه عن استحالة تعّلق التكليف‬
‫به ؛ بل نعين‬
‫ونقول ‪ :‬إّن الصحيح أّن متعّلق التكليف هو العنوان مبا هو مرآة وفان يف املعنون على أن‬
‫يكون فناؤه يف املعنون هو املصّح ح لتعّلق التكليف به فقط ؛ إذ إّن الغرض إمّن ا يقوم‬
‫باملعنون املفّين فيه ‪ ،‬ال أّن الفناء جيعل التكليف ساريا إىل املعنون ومتعّلقا به‪ .‬وفرق كبري‬
‫بني ما هو مصّح ح لتعّلق التكليف بشيء ‪ ،‬وبني ما هو بنفسه متعّلق التكليف‪ .‬وعدم‬
‫التفرقة بينهما هو الذي أوهم القائلني بأّن التكليف يسري إىل املعنون باعتبار فناء العنوان‬
‫فيه ‪ ،‬وال يزال هذا اخللط بني ما هو بالذات وما هو بالعرض مثار كثري من االشتباهات‬
‫اليت تقع يف علمي األصول والفلسفة‪ .‬والفناء واآللّية يف املالحظة هو الذي يوقع االشتباه‬
‫واخللط ‪ ،‬فيعطى ما للعنوان للمعنون وبالعكس‪.‬‬
‫وإذا عسر عليك تفّه م ما نرمي إليه فاعترب ذلك يف مثال احلرف حينما حنكم عليه‬
‫بأّنه ال خيرب عنه ؛ فإّن عنوان احلرف ومفهومه اسم خيرب عنه ‪ ،‬كيف وقد أخرب بأّنه ال‬
‫خيرب عنه؟ ولكن إمّن ا صّح اإلخبار عنه بذلك فباعتبار فنائه يف املعنون ؛ ألّنه هو الذي له‬
‫هذه اخلاصّية ‪ ،‬ويقوم به الغرض من احلكم ‪ ،‬ومع ذلك ال جيعل ذلك كون املعنون ـ‬
‫وهو احلرف احلقيقّي ـ موضوعا للحكم حقيقة أّو ال وبالذات ؛ فإّن احلرف احلقيقّي‬
‫يستحيل أن يكون موضوعا للحكم وطرفا للنسبة بأّي حال من األحوال ولو بتوّس ط‬
‫شيء ‪ ،‬كيف وحقيقته النسبة والربط ‪ ،‬وخاّص ته أّنه ال خيرب عنه؟‪ .‬وعليه ‪ ،‬فاملخرب عنه‬
‫أّو ال وبالذات هو عنوان احلرف ‪ ،‬لكن ال مبا هو مفهوم موجود يف الذهن ؛ فإّنه هبذا‬
‫االعتبار خيرب عنه ‪ ،‬بل مبا هو فان يف املعنون وحاك عنه ‪ ،‬فاملصّح ح لإلخبار عنه بأّنه ال‬
‫خيرب عنه هو فناؤه يف معنونه ‪ ،‬فيكون احلرف احلقيقّي املعنون خمربا عنه ثانيا وبالعرض ‪،‬‬
‫وإن كان الغرض من احلكم إمّن ا يقوم باملفّين فيه ‪ ،‬وهو احلرف احلقيقّي ‪.‬‬
‫وعلى هذا يّتضح جلّيا كيف أّن دعوى سراية احلكم أّو ال وبالذات من العنوان إىل‬
‫املعنون منشؤها الغفلة [عن التفرقة] بني ما هو املصّح ح للحكم على موضوع باعتبار‬
‫قيام الغرض بذلك املصّح ح ‪ ،‬فيجعل املوضوع عنوانا حاكيا عنه ‪ ،‬وبني ما هو املوضوع‬
‫للحكم القائم به الغرض ‪ ،‬فاملصّح ح للحكم شيء واحملكوم عليه واجملعول موضوعا شيء‬
‫آخر‪ .‬ومن العجيب أن يصدر مثل هذه الغفلة من بعض أهل الفّن يف املعقول‪.‬‬
‫نعم ‪ ،‬إذا كان القائل بالسراية يقصد أّن العنوان يؤخذ فانيا يف املعنون ‪ ،‬وحاكيا‬
‫عنه ‪ ،‬وأّن الغرض إمّن ا يقوم باملعنون فذلك حّق وحنن نقول به ‪ ،‬ولكن ذلك ال ينفعه يف‬
‫الغرض الذي يهدف إليه ؛ ألّنا نقول بذلك من دون أن جنعل متعّلق التكليف نفس‬
‫املعنون ‪ ،‬وإمّن ا يكون متعّلقا له ثانيا وبالعرض ‪ ،‬كاملعلوم بالعرض ـ كما أشرنا إليه فيما‬
‫سبق ـ ‪ ،‬فإّن العلم إمّن ا يتعّلق باملعلوم بالذات ‪ ،‬ويتقّو م به ‪ ،‬وليس هو إّال العنوان املوجود‬
‫بوجود علمّي ‪ ،‬ولكن باعتبار فنائه يف معنونه يقال للمعنون ‪« :‬إّنه معلوم» ‪ ،‬ولكّنه يف‬
‫احلقيقة هو معلوم بالعرض ال بالذات ‪ ،‬وهذا الفناء هو الذي خيّيل الناظر أّن املتعّلق‬
‫احلقيقّي للعلم هو املعنون ‪ ،‬ولقد أحسنوا يف تعريف العلم بأّنه «حصول صورة الشيء‬
‫لدى العقل ‪ ،‬ال حصول نفس الشيء» ‪ ،‬فاملعلوم بالذات هو الصورة ‪ ،‬واملعلوم بالعرض‬
‫نفس الشيء الذي حصلت صورته لدى العقل‪.‬‬
‫وإذا ثبت ما تقّد م ‪ ،‬واّتضح ما رمينا إليه ـ من أّن متعّلق التكليف أّو ال وبالذات هو‬
‫العنوان وأّن املعنون متعّلق له بالعرض ـ يّتضح لك احلّق جلّيا يف مسألتنا «مسألة اجتماع‬
‫األمر والنهي» ‪ ،‬وهو أّن احلّق جواز االجتماع‪.‬‬
‫ومعىن جواز االجتماع أّنه ال مانع من أن يتعّلق اإلجياب بعنوان ‪ ،‬ويتعّلق التحرمي‬
‫بعنوان آخر ‪ ،‬وإذا مجع املكّلف بينهما صدفة بسوء اختياره فإّن ذلك ال جيعل الفعل‬
‫الواحد املعنون لكّل من العنوانني متعّلقا لإلجياب والتحرمي إّال بالعرض ‪ ،‬وليس ذلك‬
‫مبحال ؛ فإّن احملال إمّن ا هو أن يكون الشيء الواحد بذاته متعّلقا لإلجياب والتحرمي‪.‬‬
‫وعليه ‪ ،‬فيصّح أن يقع الفعل الواحد امتثاال لألمر من جهة باعتبار انطباق العنوان‬
‫املأمور به عليه ‪ ،‬وعصيانا للنهي من جهة أخرى باعتبار انطباق عنوان املنهّي عنه عليه‪.‬‬
‫وال حمذور يف ذلك ما دام أّن ذلك الفعل الواحد ليس بنفسه وبذاته متعّلقا لألمر وللنهي‬
‫ليكون ذلك حماال ‪ ،‬بل العنوانان الفانيان مها املتعّلقان لألمر والنهي ‪ ،‬غاية األمر أّن‬
‫تطبيق العنوان املأمور به على هذا الفعل يكون هو الداعي إىل إتيان الفعل ‪ ،‬وال فرق بني‬
‫فرد وفرد يف انطباق العنوان عليه ‪ ،‬فالفرد الذي ينطبق عليه العنوان املنهّي عنه كالفرد‬
‫اخلايل من ذلك يف كون كّل منهما ينطبق عليه العنوان املأمور به بال جهة خلل يف‬
‫االنطباق‪.‬‬
‫وال فرق يف ذلك بني أن يكون تعّد د العنوان موجبا لتعّد د املعنون ‪ ،‬أو مل يكن ما‬
‫دام أّن املعنون ليس هو متعّلق التكليف بالذات‪.‬‬
‫نعم ‪ ،‬لو كان العنوان مأخوذا يف املأمور به واملنهّي عنه على وجه يسع مجيع‬
‫األفراد حىّت موضع االجتماع ـ وهو الفرد الذي ينطبق عليه العنوانان ـ ‪ ،‬ولو كان ذلك‬
‫من جهة إطالق الدليل ؛ فإّنه حينئذ تكون لكّل من الدليلني الداللة االلتزامّية على نفي‬
‫حكم اآلخر (‪ )1‬يف موضع االلتقاء ‪ ،‬فيتكاذبان ‪ ،‬وعليه ‪ ،‬يقع التعارض بينهما وخيرج‬
‫املورد عن مسألة االجتماع كما سبق بيان ذلك مفّص ال‪.‬‬
‫كما أّنه لو كانت القدرة على الفعل مأخوذة يف متعّلق األمر على وجه يكون‬
‫الواجب هو العنوان املقدور مبا هو مقدور فإّن عنوان املأمور به حينئذ ال يسع وال يعّم‬
‫الفرد غري املقدور ‪ ،‬فال ينطبق عنوان املأمور به مبا هو مأمور به على موضع االجتماع ‪،‬‬
‫وال يكون هذا الفرد غري املقدور شرعا من أفراد الطبيعة مبا هي مأمور هبا‪.‬‬
‫خبالف ما إذا كانت القدرة مصّح حة فقط لتعّلق التكليف بالعنوان ‪ ،‬فإّن عنوان‬
‫املأمور به يكون مقدورا عليه ولو بالقدرة على فرد واحد من أفراده ؛ وهلذا قلنا ‪ :‬إّنه لو‬
‫احنصر تطبيق املأمور به يف خصوص موضع االجتماع ـ كما يف مورد عدم املندوحة ـ يقع‬
‫التزاحم بني احلكمني يف موضع االجتماع ؛ ألّنه ال يصّح تطبيق املأمور به على هذا‬
‫الفرد ـ وهو موضع االجتماع ـ إّال إذا مل يكن النهي فعلّيا ‪ ،‬كما ال يصّح تطبيق عنوان‬
‫املنهّي عنه عليه إّال إذا مل يكن األمر فعلّيا ‪ ،‬فال بّد من رفع اليد عن فعلّية أحد‬
‫احلكمني ‪ ،‬وتقدمي األهّم منهما‪.‬‬
‫ولقد ذهب بعض أعالم أساتذتنا (‪ )2‬إىل أّن القدرة مأخوذة يف متعّلق التكليف ‪،‬‬
‫باعتبار أّن اخلطاب بالتكليف نفسه يقتضي ذلك ؛ ألّن األمر إمّن ا هو لتحريك املكّلف‬
‫حنو الفعل على أن يصدر منه باالختيار ‪ ،‬وهذا نفسه يقتضي كون متعّلقه مقدورا ؛‬
‫المتناع جعل الداعي حنو املمتنع وإن كان االمتناع من ناحية شرعّية‪.‬‬
‫ولكّننا مل نتحّق ق صّح ة هذه الدعوى ؛ ألّن صّح ة التكليف بطبيعة الفعل ال تتوّقف‬
‫على أكثر‬
‫من القدرة على صرف وجود الطبيعة ولو بالقدرة على فرد من أفرادها ‪ ،‬فالعقل هو‬
‫الذي حيكم بلزوم القدرة يف متعّلق التكليف ‪ ،‬وذلك ال يقتضي القدرة على كّل فرد من‬
‫أفراد الطبيعة إّال إذا قلنا بأّن التكليف يتعّلق باألفراد أّو ال وبالذات ‪ ،‬وقد تقّد م توضيح‬
‫فساد هذا الوهم (‪.)1‬‬

‫تعّد د العنوان ال يوجب تعّد د المعنون‬


‫بعد ما تقّد م من البيان من أّن التكليف إمّن ا يتعّلق بالعنوان مبا هو مرآة عن أفراده ال‬
‫بنفس األفراد ‪ ،‬فإّن القول باجلواز ال يتوّقف على القول بأّن تعّد د العنوان يوجب تعّد د‬
‫املعنون ـ كما أشرنا إليه فيما سبق ـ ؛ ألّنه سواء كان املعنون متعّد دا بتعّد د العنوان أو غري‬
‫متعّد د ‪ ،‬فإّن ذلك ال يرتبط مبسألتنا نفيا وإثباتا ما دام أّن املعنون ليس متعّلقا للتكليف‬
‫أبدا‪ .‬وعلى كّل حال فاحلّق هو اجلواز ‪ ،‬تعّد د املعنون أو مل يتعّد د‪.‬‬
‫ولو سّلمنا جدال بأّن التكليف يتعّلق باملعنون باعتبار سراية التكليف من العنوان إىل‬
‫املعنون ـ كما هو املعروف ـ ‪ ،‬فإّن احلّق أّنه ال جيب تعّد د املعنون بتعّد د العنوان ‪ ،‬فقد‬
‫يتعّد د وقد ال يتعّد د ‪ ،‬فليس هناك قاعدة عاّم ة تقضي بأن حنكم بأّن تعّد د العنوان يوجب‬
‫تعّد د املعنون ‪ ،‬كما تكّلف بتنقيحها بعض أعاظم مشاخينا (‪ ، )2‬وكأّن نظره الشريف‬
‫يرمي إىل أّن العاّم ني من وجه ميتنع صدقهما على شيء واحد من جهة واحدة ‪ ،‬وإّال ملا‬
‫كانا عاّم ني من وجه ‪ ،‬فال بّد أن يفرض هناك جهتان موجودتان يف اجملمع ‪ :‬إحدامها ‪:‬‬
‫هو الواجب ‪ ،‬وثانيتهما ‪ :‬هو احملّر م ‪ ،‬فيكون الرتكيب بني احليثّيتني تركيبا انضمامّيا ال‬
‫احّت ادّيا ‪ ،‬إّال إذا كانت احليثّيتان املفروضتان تعليلّيتني ال تقييدّيتني ؛ فإّن الواجب واحملّر م‬
‫على هذا الفرض يكونان شيئا واحدا وهو ذات احملّيث هباتني احليثّيتني‪ .‬وحينئذ يقع‬
‫التعارض بني دليلي العاّم ني ‪ ،‬وخيرج املورد عن مسألتنا‪.‬‬
‫ويف هذا التقرير ما ال خيفى على الفطن‪.‬‬
‫أّما أّو ال ‪ :‬فإّن العنوان بالنسبة إىل معنونه تارة يكون منتزعا منه باعتبار ضّم حيثّية‬
‫زائدة‬
‫على الذات ‪ ،‬مباينة هلا ماهية ووجودا ‪ ،‬كاألبيض بالقياس إىل اجلسم ‪ ،‬فإّن صدق‬
‫األبيض عليه باعتبار عرض (‪ )1‬صفة البياض عليه اخلارجة عن مقام ذاته ؛ وأخرى يكون‬
‫منتزعا منه باعتبار نفس ذاته بال ضّم حيثّية زائدة على الذات ‪ ،‬كاألبيض بالقياس إىل‬
‫نفس البياض ؛ فإّن نفس البياض ذاته بذاته منشأ النتزاع األبيض منه بال حاجة إىل ضّم‬
‫بياض آخر إليه ؛ ألّنه بنفس ذاته أبيض ال ببياض آخر‪ .‬ومثل ذلك صفات الكمال لذات‬
‫واجب الوجود ؛ فإهّن ا منتزعة من مقام نفس الذات ال بضّم حيثّية أخرى زائدة على‬
‫الذات‪.‬‬
‫وعليه ‪ ،‬فال جيب يف كّل عنوان منتزع أن يكون انتزاعه من الذات باعتبار ضّم‬
‫حيثّية زائدة على الذات‪.‬‬
‫وأّما ثانيا ‪ :‬فإّن العنوان ال جيب فيه أن يكون كاشفا عن حقيقة متأّص لة على وجه‬
‫يكون انطباق العنوان أو مبدئه عليه من باب انطباق الكّلي على فرده ‪ ،‬بل من العناوين‬
‫ما هو جمعول ومعترب لدى العقل لصرف احلكاية والكشف عن املعنون ‪ ،‬من دون أن‬
‫يكون بإزائه يف اخلارج حقيقة متأّص لة ‪ ،‬مثل عنوان «العدم» و «املمتنع» ‪ ،‬بل مثل‬
‫عنوان «احلرف» و «النسبة» ؛ فإّنه ال جيب يف مثله فرض حيثّية متأّص لة ينتزع منها‬
‫العنوان‪ .‬ومثل هذا العنوان املعترب قد يكون عاّم ا يصّح انطباقه على حقائق متعّد دة ‪ ،‬من‬
‫دون أن يكون بإزائه حيثّية واقعية غري تلك احلقائق املتأّص لة‪ .‬ولعّل عنوان الغصب من‬
‫هذا الباب يف انطباقه على الصالة ـ اليت تتأّلف من حقائق متباينة ـ وعلى غريها من سائر‬
‫التصّر فات ‪ ،‬فكّل تصّر ف يف مال الغري بدون رضاه غصب مهما كانت حقيقة ذلك‬
‫التصّر ف ‪ ،‬ومن أّية مقولة كانت‪.‬‬

You might also like