You are on page 1of 22

‫كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية الرباط‬

‫شعبة الدراسات اإلسالمية‬


‫مسار الفقه وأصوله‬
‫– الفصل السادس‪-‬‬

‫"وحدة النوازل الفقهية"‬

‫تعريف النوازل‪:‬‬

‫النوازل جمع نازلة‪ ،‬والنازلة في اللغة‪ :‬اسم فاعل من نزل ينزل إذا حل‪ .‬قال ابن فارس‪:‬‬
‫"تدل على هبوط ش يء ووقوعه‪ ...‬والنازلة‪ :‬الشديدة من شدائد الدهر تنزل"‪ .‬قال الشافعي‪:‬‬
‫ُ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬
‫املخرج‬ ‫ولرب ناز ٍلة يضيق بها الفتى * ذرعا وعند هللا منها‬

‫ويختلف مفهوم النازلة في االصطالح عند أهل العلم في القديم والحديث على ثالثة اصطالحات‪:‬‬
‫أوال‪ :‬تطلق النوازل في اصطالح الحنفية على الفتاوى والواقعات‪ ،‬وهي مسائل استنبطها‬
‫املجتهدون املتأخرون ملا ُسئلوا عن ذلك‪ ،‬ولم يجدوا فيها رواية عن أهل املذهب املتقدمين‪ ،‬وهم‬
‫أصحاب أبي يوسف ومحمد‪ ،‬وأصحاب أصحابهما‪.‬‬
‫ً‬
‫ثانيا‪ :‬تطلق النوازل في اصطالح املالكية على القضايا والوقائع التي يفصل فيها القضاة طبقا‬
‫للفقه ‪ .‬ومن ذلك النوازل الجديدة الكبرى فيما ألهل فاس وغيرهم من البدو والقرى ملحمد‬
‫املهدي الوزاني الفاس ي (ت‪1342‬هـ) املسماة بـ"املعيار الجديد الجامع املعرب عن فتاوى املتأخرين‬
‫من علماء املغرب" ‪ 8‬مجلدات‪ ،‬و"النوازل الصغرى" ‪ 4‬مجلدات ملحمد املهدي الوزاني جمع فيه‬
‫مؤلفه فتاوى املتأخرين من املالكية‪ ،‬ورتبه على أبواب مختصر خليل‪ ،‬والنوازل لعيس ي بن علي‬
‫الحسني العلمي‪.‬‬

‫كما تطلق على األسئلة واألجوبة والفتاوى مثل‪ :‬نوازل ابن رشد الجد ت ‪520‬ه ‪ ،‬وتسمى‬
‫أيضا الفتاوى واألجوبة‪ ،‬جمعها تلميذه أبو الحسن الوزان‪ ،‬واإلعالم بنوازل األحكام لعيس ى بن‬
‫سهل الغرناطي ت‪486‬ه‪ ،‬و"مذاهب الحكام في نوازل األحكام" للقاض ي عياض ت‪544‬ه وابنه‪،‬‬
‫ْ‬
‫وكتاب النوازل لإلمام أبي جعفر بن َبش َتغير األندلس ي اللورقي ت‪516‬هـ‪.‬‬
‫ً‬
‫ثالثا‪ :‬تطلق النوازل في اصطالح عامة الفقهاء على املسائل الواقعة الجديدة التي تتطلب اجتهادا‬
‫وبيان حكم‪ .‬ومن ذلك قول ابن عبد البر ت ‪463‬ه في جامع بيان العلم وفضله ‪" :‬باب اجتهاد الرأي‬
‫على األصول عند عدم النصوص في حين نزول النازلة"‪.‬‬

‫ويمكن تعريف فقه النوازل بأنه "معرفة الحوادث التي تحتاج إلى حكم شرعي"‪.‬‬

‫املعرفة‪ :‬وتشمل العلم والظن‪ ،‬فخرج بذلك الجهل والوهم والشك‪ ،‬ألن إدراك األحكام‬
‫الفقهية قد يكون يقينيا وقد يكون ظنيا‪ .‬قال ابن القيم في "إعالم املوقعين"‪" :‬إذا نزلت بالحاكم أو‬
‫املفتي النازلة‪ ،‬فإما أن يكون عاملا بالحق فيها أو غالبا على ظنه بحيث إنه استفرغ وسعه في طلبه‬
‫ومعرفته أو ال‪ ،‬فإن لم يكن عاملا بالحق فيها وال غلب على ظنه‪ ،‬لم يحل له أن يفتي وال يقض ي بما‬
‫ال يعلم"‪.‬‬

‫الحوادث‪ :‬ويراد بها الش يء الذي يقع على غير مثال سابق‪ .‬ولها عدة صور‪:‬‬

‫‪ -‬حوادث جديدة تقع ألول مرة‪ ،‬مثل‪ :‬النقود الورقية‪ ،‬وزراعة األعضاء‪.‬‬

‫‪ -‬حوادث جديدة تغير حكمها لتغير ما اعتمدت عليه من عرف‪ ،‬مثل‪ :‬صور قبض املبيع‬
‫املعاصرة‪.‬‬

‫‪ -‬حوادث اشترك في تكوينها أكثر من صورة من الصور القديمة‪ ،‬مثل‪ :‬عقد االستصناع‪،‬‬
‫بيع املرابحة لآلمر بالشراء‪.‬‬

‫تحتاج إلى حكم شرعي‪ :‬يخرج بهذا القيد الحوادث التي ال تحتاج إلى حكم شرعي‪ ،‬مثل‬
‫الزالزل والكوارث والبراكين‪.‬‬

‫والنازلة ال بد من اشتمالها على ثالثة معان‪:‬‬


‫‪ -‬الوقوع‪ :‬ويعني الحلول والحصول‪ ،‬وبذلك تخرج املسائل االفتراضية املقدرة‪.‬‬

‫‪-‬الجدة‪ :‬وبذلك تخرج املسائل التي سبق وقوعها من قبل‪.‬‬


‫‪ -‬الشدة ‪ :‬وبذلك تخرج املسائل الجديدة غير امللحة من الناحية الشرعية‪ ،‬كاألمراض غير‬
‫املعهودة‪ ،‬أو الكوارث الطبيعية والتقلبات السياسية‪ .‬فال تعتبر نوازل إال إذا تعلق بها حكم شرعي‬
‫مثل السيدا‪ ،‬وما ترتب عنه من أحكام كالحضانة والرضاعة والتفرقة بين الزوجين‪.‬‬

‫الفرق بين النوازل والوقائع واملستجدات‪:‬‬

‫إن النوازل إنما ُتطلق على املسائل الواقعة إذا كانت مستجدة‪ ،‬وكانت ملحة‪ ،‬وتستدعي‬
‫ً‬
‫شرعيا‪.‬‬ ‫ً‬
‫حكما‬
‫وأما الوقائع فإنها ُتطلق على كل واقعة مستجدة كانت أو غير مستجدة‪ ،‬ملحة كانت أو غير‬
‫ً‬
‫شرعيا وقد ال تستدعيه‪.‬‬ ‫ملحة‪ ،‬وقد تستدعي ً‬
‫حكما‬
‫وأما املستجدات فإنها ُتطلق على كل مسألة جديدة‪ ،‬سواء كانت املسألة من قبيل الواقعة أو‬
‫ً‬
‫شرعيا وقد ال تستدعيه‪ ،‬بمعنى أنها قد‬ ‫املقدرة‪ ،‬ثم إن هذه املسألة الجديدة قد تستدعي ً‬
‫حكما‬
‫تكون ملحة وقد ال تكون ملحة‪.‬‬
‫وجوهر الفرق‪ :‬أن النوازل يلزم أن يتعلق بها حكم شرعي‪ ،‬أما الوقائع واملستجدات فال يلزم أن‬
‫يتعلق بها حكم شرعي‪.‬‬

‫لقبا على علم معين‪:‬‬ ‫معنى فقه النوازل باعتباره ً‬

‫يمكن تعريف فقه النوازل باعتباره َع َل ًما ً‬


‫ولقبا بأنه"معرفة األحكام الشرعية للوقائع‬
‫ُ‬
‫املستجدة امل ِلحة"‪.‬‬

‫وبهذا يظهر أن العالقة بين علم الفقه وعلم فقه النوازل هي العموم والخصوص‬
‫الوجهي؛ ذلك أنهما يجتمعان في معرفة أحكام الوقائع العملية املستجدة‪ ،‬ثم إن علم الفقه أعم‬
‫من علم فقه النوازل‪ ،‬من جهة أن الفقه يشمل معرفة أحكام املسائل العملية‪ ،‬سواء أكانت هذه‬
‫املسائل واقعة أم مقدرة‪ ،‬مستجدة أم غير مستجدة‪ ،‬كما أن علم فقه النوازل أعم من علم‬
‫الفقه‪ ،‬من جهة أن فقه النوازل يشمل األحكام الشرعية للوقائع املستجدة‪ ،‬سواء كانت هذه‬
‫الوقائع عملية أو غير عملية‪.‬‬
‫أقسام النوازل‪:‬‬

‫يمكن تقسيم النوازل باعتبارات متعددة إلى ما يأتي‪:‬‬


‫‪1‬ـ تقسيم النوازل بالنظرإلى موضوعها إلى‪:‬‬
‫‪ -‬نوازل فقهية‪ :‬وهي ما كان من قبيل األحكام الشرعية العملية‪.‬‬
‫‪ -‬نوازل غير فقهية‪ :‬مثل النوازل العقدية؛ كظهور بعض الفرق والنحل‪ ،‬ومثل املسائل اللغوية‬
‫املعاصرة؛ كتسمية بعض املخترعات الجديدة‪ ،‬وهنالك قضايا تربوية حادثة‪ ،‬واكتشافات علمية‬
‫مبتكرة‪.‬‬
‫وبهذا ُيعلم أن مصطلح فقه النوازل يشمل جميع النوازل؛ فقهية كانت أو غير فقهية‪ .‬أما إطالق‬
‫ً‬
‫خصوصا‪ ،‬وقصره عليها دون غيرها‪ ،‬فهو أمر غير‬ ‫مصطلح "فقه النوازل" على النوازل الفقهية‬
‫دقيق‪ ،‬بالرغم من شيوعه‪ .‬واألولى أن ُيسمى هذا القسم من النوازل بالنوازل الفقهية‪ ،‬أو نوازل‬
‫الفقه‪.‬‬
‫‪2‬ـ تقسيم النوازل من حيث خطورتها وأهميتها إلى‪:‬‬
‫‪ -‬نوازل كبرى‪ :‬وهي القضايا املصيرية التي نزلت بأمة اإلسالم‪ ،‬وهي الحوادث والباليا التي ُت َدبر‬
‫للقضاء على املسلمين من قبل أعدائهم‪ ،‬وما يتصل بذلك من املكائد واملؤامرات والحروب املعلنة‬
‫وغير املعلنة‪ ،‬في شتى املجاالت العسكرية والفكرية واالقتصادية والسياسة واالجتماعية‪.‬‬
‫‪ -‬نوازل أخرى دون ذلك‪.‬‬
‫وال شك أن القضايا املصيرية ال بد في مواجهتها وعند بيان حكمها من جمع الكلمة على الهدى ونبذ‬
‫الخالف‪ ،‬والنأي عن التعصب؛ إذ ال يليق بمثل هذا النوع من النوازل االعتماد على رأي فرد أو‬
‫اجتهاد طائفة معينة‪.‬‬
‫‪3‬ـ تقسيم النوازل بالنظرإلى كثرة وقوعها وسعة انتشارها إلى‪:‬‬
‫‪ -‬نوازل ال يسلم في الغالب من االبتالء بها أحد؛ كالتعامل باألوراق النقدية‪.‬‬
‫‪ -‬نوازل يعظم وقوعها؛ كالصالة في الطائرة‪ ،‬والتعامل بالبطاقات البنكية‪.‬‬
‫‪ -‬نوازل يقل وقوعها؛ كمداواة تلف عضو في حد أو بسبب جريمة وقعت منه‪.‬‬
‫ً‬
‫منسيا؛ كاستخدام املدافع والبرقيات في إثبات‬ ‫‪ -‬نوازل قد انقطع وقوعها واندثرت‪ ،‬وصارت ً‬
‫نسيا‬
‫دخول شهر رمضان وخروجه‪.‬‬
‫‪ -4‬تقسيم النوازل بالنسبة لجدتها إلى‪:‬‬
‫ً‬
‫قليال وال ً‬
‫كثيرا‪ ،‬مثل أطفال األنابيب‪.‬‬ ‫‪ -‬نوازل محضة‪ :‬وهي التي لم يسبق وقوعها من قبل‪ ،‬ال‬
‫‪ -‬نوازل نسبية‪ :‬وهي التي سبق وقوعها من قبل‪ ،‬لكنها تطورت من جهة أسبابها والواقع املحيط بها‪،‬‬
‫وتجددت في بعض هيئاتها وأحوالها‪ ،‬حتى صارت بهذا النظر كأنها نازلة جديدة‪ ،‬مثل بيوع‬
‫التقسيط‪ ،‬والعمليات الطبية الجراحية‪ ،‬والزواج بنية الطالق‪.‬‬
‫وهذا القسم من النوازل ـ على وجه الخصوص ـ يفتقر وال بد إلى تحديث مستمر وتجديد ملا يتعلق‬
‫به من صفات وهيئات‪.‬‬

‫حكم الفتوى في النوازل‪:‬‬

‫االجتهاد في النوازل واجب على هذه األمة‪ ،‬فهو من فروض الكفاية‪ ،‬وربما يتعين هذا‬
‫واجبا ً‬
‫عينيا‪.‬‬ ‫الواجب على بعض املتهيئين للنظر في بعض النوازل؛ فيصير النظر في نازلة ما ً‬
‫وقد ذكر ابن عبد البر عن جمهور أهل العلم أنهم كانوا يكرهون استعمال الرأي في الوقائع قبل‬
‫ً‬ ‫أن تنزل‪ ،‬وتفريع الكالم عليها قبل أن تقع‪ُّ ،‬‬
‫وعدوا ذلك اشتغاال بما ال ينفع‪.‬‬
‫وقد ورد في ذلك ما أخرجه الطبراني في املعجم الكبير أن النبي صلى هللا عليه وسلم قال‪«:‬ال‬
‫تعجلوا بالبلية قبل نزولها‪ ،‬وقاربوا وسددوا‪ ،‬فإن عجلتم بها قبل نزولها‪ ،‬فإنه سيسيل بكم السيل‬
‫ههنا وههنا»‪.‬‬
‫لذلك كان من شروط املسألة املجتهد فيها أن تكون من املسائل النازلة باملسلمين‪ ،‬أما املسائل غير‬
‫الواقعة‪ ،‬فيكره االجتهاد فيها‪ ،‬وقد يحرم‪.‬‬
‫وال يجب النظر في تلك املسائل التي تخص الكفار وحدهم؛ كمسألة بنوك املني‪.‬‬
‫أهمية الفتوى في النوازل‪:‬‬
‫تظهر أهمية االجتهاد في النوازل املعاصرة في النقاط التالية‪:‬‬
‫– البحث فيها يبرهن على صدق اإلسالم وخلوده وصالحيته للقيادة والريادة في هذه الحياة‪.‬‬

‫– بيان ما يمتاز به الفقه اإلسالمي عن غيره من التشريعات البشرية بثروته الهائلة‪،‬‬


‫وتنوعه الشامل‪ ،‬وقواعده املحكمة وعطائه املتواصل مما يستوجب االهتمام به علما وعمال‪،‬‬
‫دراسة وتطبيقا‪.‬‬
‫– إن بحثها يعطي إمكانية االطالع على الجهود الفقهية العظيمة في كل عصر من‬
‫العصور اإلسالمية والتي واجهت كل طارئ وجديد‪ ،‬وكيف أن الفقه اإلسالمي نجح في مواجهة تلك‬
‫ً‬
‫اإلشكاالت الواقعية امليدانية في حياة الناس اليومية‪ ،‬وأنه لم يقف يوما جامدا عاجزا عن‬
‫مواجهة تطورات الحياة ومشاكلها‪.‬‬

‫– إن لفقه النوازل أهمية كبرى تتصل بصفة النوازل الواقعية التي تعرض لنا صورا‬
‫من املجتمع الذي وقعت فيه تلك النوازل من الناحية الفكرية واالجتماعية والسياسية‬
‫واالقتصادية والتاريخية واألدبية‪.‬‬

‫فمن الناحية الفكرية ‪ :‬يعرفنا فقه النوازل بالعالقة بين املذاهب الفقهية‪ ،‬ويظهر ذلك‬
‫من خالل املناظرات واملناقشات العلمية التي كانت تدور بين علماء املذاهب في أثناء التعرض‬
‫لنازلة من النوازل‪.‬‬

‫ومن الناحية االجتماعية ‪ :‬تقدم النوازل الكثير من اإلشارات إلى أحوال املجتمع اإلسالمي‬
‫في منطقة النازلة‪ ،‬األمر الذي يجعل منها مصدرا وثيقا لعالم االجتماع مثلما هو للفقيه والعالم‪.‬‬

‫ضو ابط النظرفي النوازل‪:‬‬


‫ً‬ ‫ً‬
‫عمال بشريا‪ ،‬ومن ثم فهو يتفاوت في مستوى‬ ‫إن البحث الفقهي في النوازل ال يعدو كونه‬
‫اإلتقان والجودة‪ ،‬وذلك بحسب الجهد واالجتهاد‪ ،‬والقصور والتقصير‪ ،‬وقد قال ابن مالك في‬
‫فاتحة كتابه تسهيل الفوائد‪" :‬وإذا كانت العلوم منحا إلهية‪ ،‬ومواهب اختصاصية‪ ،‬فغير مستبعد‬
‫أن يدخر لبعض املتأخرين ما عسر على كثير من املتقدمين‪ ،‬أعاذنا هللا من حسد يسد باب‬
‫اإلنصاف‪ ،‬ويصد عن جميل األوصاف "‪.‬‬
‫وأهم املعايير الضابطة للنظر الفقهي في النوازل‪ ،‬الضامنة لجودة التأصيل والتنزيل‪ ،‬معايير‬
‫أربعة‪:‬‬
‫األول‪ :‬الكفاءة الفقهية‪ :‬وذلك بأال يتصدى الباحث ملسألة إال إذا توفر على اآللة العلمية الالزمة‬
‫لها‪ ،‬واستكمل الحد األدنى من شرائط االجتهاد الجزئي‪.‬‬
‫وال تكفي مجرد اإلحاطة بالفروع الفقهية‪ ،‬فإن البحث الفقهي صنعة فكرية‪.‬‬

‫الثاني‪ :‬نظام االستدالل ‪:‬‬


‫إن البحث الفقهي مبناه على الفهم الصحيح واالستدالل املوافق ملراد الشارع‪ ،‬وما لم يلتزم‬
‫الباحث رعاية هذه الجادة‪ ،‬فإنه يوشك أن يتصور خطأ‪ ،‬أو يتكلم بباطل‪ ،‬ويندرج تحت هذا‬
‫املعيار مراعاة مراحل النظر الفقهي‪ .‬ويدل لذلك ما أخرجه الدارقطني في سننه‪ ،‬والبيهقي في سننه‬
‫الكبرى قول الفاروق عمر في وصيته الشهيرة ألبي موس ى األشعري ‪" :‬ثم الفهم الفهم فيما أدلي‬
‫إليك‪ ،‬مما ليس في قرآن وال سنة‪ ،‬ثم قايس األمور عند ذلك‪ ،‬واعرف األمثال واألشباه‪ ،‬ثم اعمد‬
‫إلى أحبها إلى هللا فيما ترى‪ ،‬وأشبهها بالحق"‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬استفراغ الوسع‪:‬‬
‫إن بذل واستفراغ الجهد في البحث في حكم النازلة شرط في صحة هذا العمل‪ ،‬واملطلوب من‬
‫الفقيه بذل الجهد‪ ،‬ال إصابة الحق بذاته‪ ،‬فإن أصاب فله أجران‪ ،‬وإال ذهب باألجر الواحد‪.‬‬
‫إن البحث النوازلي مرهق للذهن والجسم‪ ،‬فهو مجموعة من املقاربات والتبصرات‪ ،‬واملقارنات‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫والترجيحات‪ ،‬ثم هو بعد ذلك قرار يتخذه الباحث بعد إضناء عقله بحثا وفتشا‪ ،‬مستندا فيه إلى‬
‫مقدمات متراكبة ونتائج متراتبة‪ ،‬بناها خالل بحثه‪.‬‬
‫الر ابع‪ :‬معرفة الو اقع‪:‬‬
‫إ ن الفقه من العلوم العملية‪ ،‬ال النظرية‪ ،‬ولهذا جاء نعت الفقهاء في القرآن بوصف النفير "‪َ " :‬و َما‬
‫ْ َ‬ ‫َ‬ ‫َ ْ َ َ ٌ ََ ْ‬ ‫ُ‬ ‫ْ َ ً ََ َ َ َ‬ ‫َ َ ُْْ ُ َ‬
‫نذ ُروا ق ْو َم ُه ْم‬ ‫كان املؤ ِمنون ِل َي ِنف ُروا كآفة فل ْوال نف َر ِمن ك ِل ِف ْرق ٍة ِمن ُه ْم طآ ِئفة ِل َيتفق ُهوا ِفي ِ‬
‫الد ِين و ِل ُي ِ‬
‫َ‬ ‫ْ َ َ‬ ‫َ‬
‫ِإذا َر َج ُعوا ِإل ْي ِه ْم ل َعل ُه ْم َي ْحذ ُرون" التوبة‬

‫وهذا يقتض ي نوعين من الحركة‪ :‬إحداهما‪ :‬في دراسة النصوص واألدلة‪ ،‬واألخرى في‬
‫ً‬
‫التبصر بالواقع‪ ،‬لتنزيل األحكام على الوقائع‪ ،‬وإذا اعتبرنا كون الواقع متجددا‪ ،‬فليجدد الفقيه‬
‫معرفته بالوقائع والنوازل كلما تجددت‪ .‬قال ابن القيم‪":‬وال يتمكن املفتي وال الحاكم من الفتوى‬
‫والحكم بالحق إال بنوعين من الفهم‪:‬‬

‫أحدهما‪ :‬فهم الواقع والفقه فيه واستنباط علم حقيقة ما وقع بالقرائن واألمارات‬
‫والعالمات حتى يحيط به علما‪.‬‬

‫والنوع الثاني‪ :‬فهم الواجب في الواقع‪ ،‬وهو فهم حكم هللا الذي حكم به في كتابه أو على‬
‫لسان قوله في هذا الواقع‪ ،‬ثم يطبق أحدهما على اآلخر؛ فمن بذل جهده واستفرغ وسعه في ذلك‬
‫لم يعدم أجرين أو أجرا؛ فالعالم من يتوصل بمعرفة الواقع والتفقه فيه إلى معرفة حكم هللا‬
‫ورسوله‪ ،‬كما توصل شاهد يوسف بشق القميص من دبر إلى معرفة براءته وصدقه وكما توصل‬
‫سليمان ‪ -‬صلى هللا عليه وسلم ‪ -‬بقوله‪ " :‬ائتوني بالسكين حتى أشق الولد بينكما " إلى معرفة عين‬
‫األم‪ ،‬وكما توصل أمير املؤمنين علي ‪ -‬عليه السالم ‪ -‬بقوله للمرأة التي حملت كتاب حاطب ما‬
‫أنكرته لتخرجن الكتاب أو ألجردنك إلى استخراج الكتاب منها"‪.‬‬
‫وقال ابن عابدين في رسالته "نشر العرف"‪" :‬املفتي ال بد له من ضرب اجتهاد ومعرفة بأحوال‬
‫الناس"‪ ،‬ثم قال‪ :‬و"من لم يكن عاملا بأهل زمانه فهو جاهل"‪.‬‬
‫على أن املطلوب معرفة الواقع لتكييفه بالشرع‪ ،‬وإدارته على قاعدة االستصالح‪ ،‬ال للخضوع‬
‫لفساد طرأ عليه‪ ،‬فكما أن للواقع سطوته‪ ،‬فللشرع حجته‪ ،‬فال تأخذنا واقعية الوقائع‪ ،‬عن‬
‫مشروعية الشرائع‪.‬‬
‫مراحل النظرفي النازلة الفقهية‪:‬‬
‫يمكن تقسيم العملية االجتهادية في استخراج الرأي الفقهي الصائب إلى مراحل‪:‬‬

‫‪-1‬التصوير‪:‬‬

‫وتصوير النازلة‪ :‬يتحقق بتشخيص واقعها كما هو‪ ،‬وذلك بعد ارتسام صورتها الحقيقية في‬
‫ذهن الباحث دون لبس بما يشتبه بها‪ ،‬وهذه املرحلة في غاية األهمية‪ ،‬إذ يرتبط فقه النص بفقه‬
‫التصوير الواقعي ارتباط املناط بالحكم‪ ،‬والعلة باملعلول‪ ،‬وكل خطأ في التصوير يعقب خطأ في‬
‫التوصيف والتنزيل الفقهيين‪ ،‬وقل من يجمع األمرين‪ ،‬وقد قال الزمخشري‪ " :‬من لم يؤت من سوء‬
‫الفهم‪ ،‬أتي من سوء اإلفهام‪ ،‬وقل من أوتي أن يفهم ُويفهم"‪.‬‬

‫فلو كان البحث عن حكم الذهب األبيض للرجال‪ ،‬فمطلوب التصوير الصحيح هنا أن‬
‫يعلم قدر الذهب املخلوط بالنسبة إلى املعادن األخرى‪ ،‬ليصير بعدئذ إلى تنزيل أحكام الذهب‬
‫الحقيقي عليه من عدمه‪.1‬‬
‫وأولى درجات العلم بالش يء‪ :‬حصول صورته في العقل‪ ،‬إما بطريق الجزم أو الظن الغالب‪ ،‬بال‬
‫حكم عليه بنفي أو إثبات‪ ،‬وهو ما يسمى التصور الساذج‪ ،‬فإذا اجتمع التصور مع الحكم‪ :‬سمي‬
‫ً ً‬
‫تصديقا تاما‪ .‬فالتصور كما قال الجرجاني في "التعريفات" ‪":‬إدراك الحقائق مجردة عن األحكام‪،‬‬
‫ً‬
‫والتصديق إدراك نسبة حكمية بين الحقائق باإليجاب أو السلب"‪ .‬وسمي التصديق تصديقا‬
‫الشتماله على كالم يصدق أو يكذب‪.‬‬
‫ً‬
‫فلو سئل الفقيه عن مسألة "زواج املسيار" مثال‪ ،‬فيحتاج حينئذ إلى تصور هذا العقد على ما هو‬
‫عليه‪ ،‬وحصر صوره في الواقع‪ ،‬ورصد شروطه وآثاره العقدية‪ ،‬ولو فرضنا أنه أجرى على هذا‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫العقد أحكام عقد الزواج قبل أن يتصور حقيقته؛ لكان مخطئا في بناء الحكم‪ ،‬مستحقا لللوم‪،‬‬
‫وحينها يصدق عليه قول العالمة محمد بن الحسن الحجوي‪ " :‬تهور قبل أن يتصور"‪2‬‬

‫‪ 1‬قال أهل الخبرة‪ :‬إلعداد كيلو من الذهب عيار ‪ 18‬يخلط ‪ 750‬جم من الذهب الخالص مع ‪ 250‬جم من الفضة والنحاس ‪ ،‬فإن‬
‫أضفنا نفس الوزن (‪ 250‬جم) من البالديوم بدال من الفضة أو النحاس حصل عندنا كيلو من الذهب األبيض عيار ‪)18‬‬
‫ً‬ ‫‪ 2‬زواج املسيار هو ‪ :‬أن يعقد الرجل زواجه على امرأة ً‬
‫عقدا شرعيا مستوفي األركان والشروط ‪ ،‬لكن تتنازل فيه املرأة عن بعض حقوقها‬
‫ً‬
‫كالسكن أو النفقة أو املبيت‪ .‬فمنعه األلباني لعدم وجود السكن‪ ،‬وألنه ينعكس سلبا على األوالد لبعد األب عنهم‪ ،‬ورخص فيه ابن باز‪،‬‬
‫وأباحه ابن عثيمين‪ ،‬ثم توقف فيه بسبب ما تخلله من فساد في التطبيق‪.‬‬
‫إن من ضمانات الفتوى املالية الجادة أن توسع الهيئات الشرعية مصادرها في الحصول‬
‫على املعلومة‪ ،‬لتتعرف على طبيعة املنتج املقدم للدراسة‪ ،‬وأبعاد البيئة التي سيوظف فيها‪.‬‬

‫ب ـ مسالك التصوير‪:‬‬
‫ال بد للفقيه ليتحقق له تصور النازلة من سلوك أحد طريقين‪ :‬أولهما‪ :‬أن يقف على النازلة‬
‫بنفسه‪ ،‬وثانيهما‪ :‬أن يتعرف عليها عبر وسيط‪.‬‬
‫األول‪ :‬أن يقف على النازلة بنفسه‪:‬‬
‫كان بعض الفقهاء ال يكتفي باإلحاطة بالنصوص واألصول الشرعية وعلوم اآللة‪ ،‬بل ينزل إلى‬
‫األسواق‪ ،‬ويقف على معامالت التجار بنفسه‪ ،‬وكان محمد بن الحسن الشيباني كما في "البحر‬
‫الرائق" البن نجيم يذهب إلى الصباغين‪ ،‬ويسأل عن معامالتهم‪ .‬وكان شهاب الدين القرافي قد‬
‫كتب عن الحشيشة التي يتعاطاها الفساق في كتابه "الفروق"‪ ،‬ونقل االتفاق على منعها‪ ،‬لكن‬
‫حكى الخالف في كونها مسكرة توجب الحد‪ ،‬أو مغيبة للعقل فتوجب التعزير‪ ،‬ثم قال‪" :‬وسألت‬
‫جماعة ممن يعانيها‪ ،‬فاختلفوا على قولين؛ فمنهم من‪ ،3"...‬ورض ي هللا عن الفاروق حين أوص ى أبا‬
‫موس ى األشعري ‪ ،‬فقال ‪ " :‬فافهم إذا أدلي إليك‪ ،‬فالفهم طريق العلم ‪".‬‬

‫وقد ذكر شيئا من هذا االختالف النجم الغزي في الكواكب السائرة فقال عن القهوة‬
‫‪":‬ولم تكن القهوة معروفة حتى القرن العاشر الهجري‪ ،‬واختلف العلماء في أوائل القرن العاشر في‬
‫القهوة وفي أمرها‪ ،‬حتى ذهب إلى تحريمها جماعة ترجح عندهم أنها مضرة‪ ...‬واألكثرون ذهبوا إلى‬
‫أنها مباحة‪ ،‬وقد انعقد اإلجماع بعد من ذكرناه على ذلك‪ ،‬أي على اإلباحة‪".‬‬
‫ً‬
‫وقد ذكر أيضا القرافي في مقدمة "الفروق" أنه مكث ثمان سنين يطلب الفرق بين الشهادة‬
‫والرواية‪ ،‬ويسأل الفضالء عنه‪ ،‬فلم يظفر به‪ .‬الخ‪ ،‬فهذا يبين عنايتهم بسؤال هل الخبرة فيما طريقه‬
‫الخبرة‪.‬‬
‫ً‬
‫وهذه الطريقة مفيدة جدا في حسن تصوير النازلة‪ ،‬ألن الفقيه يباشر الوقوف عليها بنفسه‪ ،‬بيد أنها‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫تستدعي منه جهدا ووقتا للبحث واالستقصاء‪ ،‬وقد ال يتسع وقته للوقوف على كل النوازل‪.‬‬
‫وكلما كان الفقيه أقرب إلى موضع النازلة؛ كان بها أعرف‪ ،‬وعلى التنزيل أقدر‪ ،‬ولهذا قالوا‪" :‬يفتى بقول‬

‫‪ 3‬قال تقي الدين السبكي ‪":‬واألصل في تحريمها ما رواه أحمد في مسنده وأبو داود في سننه بسند صحيح عن أم سلمة رض ي هللا‬
‫عنها قالت‪ :‬نهى رسول هللا صلى هللا عليه وسلم عن كل مسكر ومفتر"‪ ،‬وقال ابن تيمية ‪":‬ومن استحلها فقد كفر"‪ .‬وذهب ابن‬
‫تيمية إلى أن الحشيشة نجسة مسكرة يحرم تناول قليلها وكثيرها‪ ،‬ويجب إقامة حد الخمر عليها"‪ ،‬وذهب القرافي إلى أنها ليست‬
‫نجسة وال حد فيها‪ ،‬كما ذهب إلى جواز تناول اليسير منها‪.‬‬
‫أبي يوسف فيما يتعلق بالقضاء‪ ،‬لكونه جرب الوقائع وعرف أحوال الناس"‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬أن يتعرف عليها بواسطة‪:‬‬
‫من طرق التعرف على النازلة‪ :‬أن يتلقاها الفقيه من الخبير‪ ،‬أو السائل وطالب الجواب‪ ،‬وهذه الطريقة‬
‫جادة مسلوكة للفقهاء واملفتين في املسائل االعتيادية منذ الصدر األول‪.‬‬
‫فقد كانوا يستعينون على تحقيق املناط الخاص بأهل الخبرة‪ ،‬فعن ابن عمر ـرض ي هللا عنهما ـ قال‪:‬‬
‫خرج عمر بن الخطاب رض ي هللا عنه من الليل‪ ،‬فسمع امرأة تقول‪:‬‬
‫َ َُ‬
‫حبيب أالعبه‬ ‫تطاول هذا الليل واسود جانبه *** وأرقني أن ال‬
‫ُ‬
‫جوانبه‬ ‫فوهللا لوال خشية هللا وحده *** ُ‬
‫لح ِرك من هذا السرير‬
‫فقال عمر بن الخطاب رض ي هللا عنه لحفصة بنت عمر ـ رض ي هللا عنها ـ‪ :‬كم أكثر ما تصبر املرأة عن‬
‫زوجها‪ ،‬فقالت‪ :‬ستة أو أربعة أشهر‪ ،‬فقال عمر‪ :‬ال أحبس الجيش أكثر من هذا"‪4‬‬

‫وهذه الطريقة مع كونها توفر وقت الفقيه وجهده‪ ،‬وهي نافعة في حال توفر الخبير الثقة‬
‫ُ‬
‫مصلحته الشخصية‬ ‫َ‬
‫الخبير أو السائل‬ ‫املتقن‪ ،‬إال أنها مشوبة بآفتين‪ :‬الهوى والجهل‪ ،‬فقد يحمل‬
‫وغرضه الخاص على أن يحجب عن الفقيه بعض عناصر الواقعة‪ ،‬أو يصورها على غير ما هي‬
‫عليه‪ ،‬ابتغاء الحصول على ٍ‬
‫حكم يحقق غرضه‪ ،‬وقد تفاقمت هذه الظاهرة في العصور املتأخرة‬
‫حين تغيرت أخالق الناس‪ ،‬وصار للناس أغراض في االستفتاء‪ ،‬وقد يقع ش يء من هذا في قرارات‬
‫ً‬
‫بعض الهيئات الشرعية في املؤسسات اإلسالمية أحيانا‪.‬‬
‫ً‬
‫ومن آفاتها أن بعض املستفتين ال يكون واعيا بطرق السؤال الصحيحة‪ ،‬فيكون تصويره لها‬
‫ً‬
‫قاصرا‪ ،‬فيقع الجواب غير مالق للسؤال‪.‬‬
‫وهذه الفجوة املوجودة اليوم بين البحوث الفقهية والتطبيقات العملية ينبغي أن تردم بإيجاد‬
‫ً‬
‫قنوات موضوعية للتواصل مع الواقع العملي‪ ،‬فليس كل باحث قادرا على الوقوف على النوازل في‬
‫مواطنها بكل صورها‪.‬‬
‫ومن تلك القنوات‪ :‬إنشاء مراكز لتشخيص الواقع‪ ،‬لتقريبه للفقيه‪ ،‬وتكون هذه املراكز برصد‬
‫بعدئذ‬
‫ٍ‬ ‫النوازل على ما هي عليه‪ ،‬وحصر صورها‪ ،‬وتشخيص عناصرها وأطرافها‪ ،‬ويبقى للفقيه‬
‫دور التوصيف والتنزيل‪.‬‬

‫ومثل ذلك اختالف علماء الشرع في أقص ى مدة تمكثها املرأة وهي حامل على أقوال‪:‬‬

‫أخرجه البيهقي في الكبرى وعبد الرزاق قال ابن كثير في تفسيره‪" :‬وهو من املشهورات"‪.‬‬ ‫‪4‬‬
‫‪ -‬قال أصحاب املذهب الظاهري‪ :‬أقص ى مدة للحمل تسـعة أشـهر‪ ،‬وقال محمد بن عبد‬
‫الحكم‪َ :‬‬
‫سنة واحدة‪ ،‬واختاره ابن رشد ‪ ،‬وقال الحنفية سنتان‪ ،‬وقال الليث بن سعد‪ :‬ثالث سنين‪،‬‬
‫وقال ربيعة الرأي‪ :‬سبع سنين‪ ،‬وقال الشوكاني‪ :‬ال حد ألكثر الحمل‪ ،‬واختاره الشنقيطي وابن باز‬
‫وابن العثيمين‪ .‬ومذهب الشافعية والحنابلة وأشهر القولين عند املالكية‪ :‬أربع سنين ‪ ،‬ملا روي عن‬
‫الوليد بن مسلم قال‪" :‬قلت ملالك بن أنس‪ :‬حديث عائشة‪ :‬ال تزيد املرأة على السنتين في الحمل‪،‬‬
‫قال مالك‪ :‬سبحان هللا! من يقول هذا؟ هذه جارتنا امرأة محمد بن عجالن تحمل أربع سنين"‪.‬‬

‫واملنظمة اإلسالمية للعلوم الطبية أن الجنين يعتمد في غذائه على املشيمة‪ ،‬فإذا بلغ‬
‫َ‬ ‫الحمل َ‬
‫نهايت ُه املعتادة ضعفت املشيمة‪ ،‬ولم ت ُع ْد قادرة على إمداد الجنين بالغذاء الذي يحتاجه‬ ‫ُ‬
‫ُ‬
‫الجنين من املجاعة‪ ،‬فإذا طالت املدة ولم تحصل‬ ‫الستمرار حياته‪ ،‬فإن لم تحصل الوالدة عانى‬
‫َ‬
‫الوالدة قض ى ن ْح َب ُه داخل الرحم‪ ،‬ومن النادر أن ينجو من املوت جنين بقي في الرحم ‪ 45‬أسبوعا‪،‬‬
‫ً‬
‫والستيعاب النادر والش ِاذ فإن هذه املدة تمدد أسبوعين آخرين لتصبح ‪ 330‬يوما‪.‬‬

‫وعلل األطباء حكايات الحمل املمتد لسنين بعدة تعليالت‪ ،‬وهي ‪ :‬الحمل الوهمي أو‬
‫ً‬
‫الكاذب‪ ،‬الخطأ في الحساب من بعض الحوامل‪ ،‬ظهور أسنان عند بعض املولودين حديثا‪ ،‬موت‬
‫الحمل في بطن أمه وبقاؤه فيها مدة طويلة‪ ،‬عدم صحة هذه األخبار‪.‬‬

‫وقد ذهب ابن رشد "بداية املجتهد" إلى أن مستند هذه األحكام العادة ال الشرع فقال‬
‫‪":‬وهذه املسألة مرجوع فيها إلى العادة والتجربة‪ ،‬وقول ابن عبد الحكم والظاهرية ‪ :‬هو أقرب إلى‬
‫ً‬ ‫املعتاد‪ُ ،‬‬
‫والحكم ‪ :‬إنما يجب أن يكون باملعتاد‪ ،‬ال بالنادر ولعله أن يكون مستحيال"‬
‫ٌ‬ ‫ً‬
‫حسن‪ ،‬وال‬ ‫وقال ابن حبيب في النفساء‪ :‬تجلس ستين يوما‪ ،‬قال ابن عبد البر‪ :‬هو "عدل‬
‫ُ‬
‫تسأل عن ذلك نساء أهل زماننا‪ ،‬لقلة معرفتهن"‪ .‬وأكثر أهل العلم على أن أكثر مدة النفاس‬
‫أربعون يوما‪ ،‬قال ابن قدامة في "املغني" ‪" :‬وأكثر النفاس أربعون يوما‪ ،‬هذا قول أكثر أهل العلم‬
‫قال أبو عيس ى الترمذي ‪ :‬أجمع أهل العلم من أصحاب النبي صلى هللا عليه وسلم ومن بعدهم‬
‫على أن النفساء تدع الصالة أربعين يوما إال أن ترى الطهر قبل ذلك فتغتسل وتصلي"‪،‬‬
‫وقال الطحاوي ‪" :‬لم يقل بالستين أحد من الصحابة‪ ،‬وإنما هو قول من بعدهم"‪.‬‬

‫‪2-‬التوصيف ‪:‬‬
‫أ ـ مفهوم التوصيف‪:‬‬
‫التوصيف هو‪ :‬تعيين صفة الش يء‪ ،‬والتوصيف الفقهي هو تعيين صفة النازلة بحسب اللغة‬
‫الفقهية املعهودة لدى علماء الفن‪ ،‬ومقتضاه‪ :‬إجالة النظر في األوصاف الفقهية املناسبة للنازلة‬
‫محل البحث‪ ،‬وإلحاق صورتها بما يماثلها من مسائل الفقه املسماه‪ ،‬كأن نصفها بأنها بيع‪ ،‬أو‬
‫إجارة‪ ،‬أو رهن وهكذا‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫فإذا لم تشبه شيئا من معهودات الفقهاء فهي إذا من النوازل الجديدة‪ ،‬التي لم يرد بشأنها نص‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫خاص‪ ،‬فهذه يستأنف الفقيه لها وصفا مناسبا‪ ،‬بحسب ما يظهر له من واقعها‪ ،‬استئناسا بأدلة‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫الشرع وقواعده وكلياته‪ ،‬بحيث ال يخرج باسمها عن لغة الفن‪ ،‬وال يعارض بها اسما معهودا‬
‫لديهم‪.‬‬
‫وهذه املرحلة يمكن تسميتها بفقه الواقعة‪ ،‬وقد حدد ابن القيم نوعين من الفهم‪ ،‬ال بد منهما‬
‫للمفتي والحاكم‪ ،‬أولهما‪ :‬فهم الواقع‪ ،‬والفقه فيه‪ ،‬والثاني‪ :‬فهم الواجب في الواقع إعالم املوقعين‪.‬‬
‫والتوصيف الفقهي يحتاج إلى ملكة علمية خاصة‪ ،‬وإال فإنه ال يصعب على املتفقه املتوسط أن‬
‫يحفظ نصوص األدلة‪ ،‬ويجرد الفروع الفقهية‪ ،‬ويشرف على مواطن الخالف العالي‪ ،‬لكن‬
‫توصيف النوازل يحتاج فوق ذلك إلى فقه النفس‪ ،‬وإلى ذائقة فقهية‪ ،‬كحاجة الطبيب إلى مهارة‬
‫التشخيص‪ ،‬وحاجة القانوني إلى مهارة التكييف‪.‬‬
‫والتعبير بـ "التوصيف" أصدق وأشمل من التعبير بـ "التكييف"‪ ،‬فإن هذا األخير أخص من األول‪،‬‬
‫ففي مرحلة التوصيف يفتش الفقيه عن الصيغة الفقهية املناسبة للواقعة‪ ،‬بحسب األحوال‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫املمكنة‪ ،‬فإما أن يجد له وصفا مسمى في الفقه املدون‪ ،‬فيكون عمله تخريجا‪ ،‬وإال أسبغ عليه‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫وصفا مناسبا‪ ،‬وهو ما يسمى في بعض البحوث املعاصرة تكييفا‪ ،‬أو أن هذا املسمى هو األقرب إلى‬
‫ً‬
‫تسميته بالتكييف‪ ،‬فالتوصيف إذا يشمل‪ :‬التخريج والتكييف‪ ،‬وهو ما تعرضه الفقرة اآلتية‪.‬‬
‫ب ـ مسالك التوصيف‪:‬‬
‫ال تخلو النازلة املبحوثة من أحد احتمالين‪ :‬فإما أن تكون مسألة مسماة على لسان الشرع أو‬
‫الفقهاء‪ ،‬فهذه مسألة نمطية‪ ،‬وإما أن تكون من املسائل املستجدة‪ ،‬التي لم يعهد لها نظير في‬
‫الشريعة وال الفقه‪ ،‬وللباحث إزاء هذين االحتمالين مسلكان‪:‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫أولهما‪ :‬أن تكون من املسائل املسماة شرعا أو فقها‪ ،‬ففي هذه الحال يكون توصيفها الفقهي‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫بإلحاقها بما يماثلها شرعا أو فقها‪ ،‬بعد تفقد شرائط اإللحاق‪ ،‬وهو ما يسمى بتخريج الفروع على‬
‫الفروع‪ ،‬أي إلحاق الفروع الجديدة بما يماثلها من املسائل التي بحث املتقدمون أحكامها‪.‬‬
‫وهذا ال يعني بالضرورة التزام جدد التقليد في هذه الحال‪ ،‬بل املقصود إجراؤها مجرى سابقتها من‬
‫حيث تسكينها في محلها من أبواب الفقه ومسائله‪ ،‬ومن حيث الوفاق والخالف‪ ،‬مع مالحظة‬
‫الفروق التي تلم بأعطاف النازلة‪ ،‬فرب نازلة يظنها الباحث مسماة في الشريعة والحال أنها‬
‫مستجدة‪ ،‬أو العكس‪.‬‬
‫ً‬
‫على أنه ينتبه هنا إلى أن كثيرا من مصنفات املتأخرين من الفقهاء قد توسعت في تخريج الفروع‬
‫على األصول حتى خرجت في مواضع منها عن مقاصد األئمة وأقوالهم‪ ،‬وربما نسبت إليهم ما‬
‫يصرحون بمنعه‪ ،‬وكان هذا التوسع محل انتقاد من عدد من محققي املذاهب الفقهية‪.‬‬
‫يقول ابن تيمية‪ " :‬فالواجب على من شرح هللا صدره لإلسالم إذا بلغته مقالة ضعيفة عن بعض‬
‫األئمة أن ال يحكيها ملن يتقلد بها‪ ،‬بل يسكت عن ذكرها إلى أن يتيقن صحتها وإال توقف في قبولها‪،‬‬
‫فما أكثر ما يحكى عن األئمة ما ال حقيقة له‪ ،‬وكثير من املسائل يخرجها بعض األتباع على قاعدة‬
‫متبوعة مع أن ذلك اإلمام لو رأى أنها تفض ي إلى ذلك ملا التزمها‪ ،‬والشاهد يرى ما ال يرى الغائب"‪.‬‬
‫ثانيهما‪ :‬أن تكون مسألة جديدة‪ ،‬لم يسبق لها ذكر بذاتها‪ ،‬ال في النصوص الشرعية‪ ،‬وال في‬
‫املصنفات الفقهية‪ ،‬وحينئذ يصدق عليها اسم‪ :‬النازلة الفقهية‪ ،‬وفي هذه الحال يستأنف الفقيه‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫لها نظرا جديدا‪ ،‬مراعيا أصول الشريعة وقواعدها وأدلتها العامة‪ ،‬وهذا هو التكييف في اصطالح‬
‫بعض الباحثين‪.‬‬
‫وقد تكون النازلة مستجدة برمتها‪ ،‬كما أنها قد تكون مركبة من كيفيات معهودة في الفقه‪ ،‬وتكون‬
‫جدتها من حيث تركيبها‪ ،‬ال من حيث تبسيطها وما ُّ‬
‫نتحل إليه‪.‬‬
‫ومن املهم أن يتنبه الباحث إلى األخطاء الشائعة في توصيف بعض الوقائع‪ ،‬فقد يعبر السائل عن‬
‫الواقعة بما يوحي للفقيه أن هذه الواقعة تندرج تحت باب ما من أبواب الفقه‪ ،‬فإذا ما سدد‬
‫النظر تكشف له خطأ السائل‪ ،‬فقد يسأل السائل عن حكم االقتراض من املصرف (البنك)‪ ،‬وهو‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫يقصد إجراء التورق املصرفي مثال‪ ،‬وهذا قد تكرر مع كثير من املناسبات مرارا‪ ،‬بسبب جهل‬
‫السائلين بلسان الشرع ولغة الفقه‪.‬‬
‫‪ 3-‬التدليل‪:‬‬
‫ويقصد بالتدليل‪ :‬استحضار األدلة والشواهد‪ ،‬ويلتحق بذلك استدعاء النقول الفقهية من‬
‫األصول والقواعد وأقوال األئمة‪ ،‬وهذه األخيرة وإن لم تكن أدلة حاكمة باملعنى االصطالحي‪ ،‬إال‬
‫أنها أدرجت في هذا املوضع من حيث هي مفسرة ومقاربة للدليل وليست به‪.‬‬
‫والبحث النوازلي يحتاج في هذه املرحلة إلى بيان أمرين‪ :‬أولهما‪ :‬خطوات التدليل‪ ،‬وثانيهما‪ :‬أنواع‬
‫النقول التي يحتاجها‪.‬‬
‫ً‬
‫أوال‪ :‬خطوات التدليل‪:‬‬
‫إن التناول االستداللي للنازلة الفقهية يستدعي إعمال معياري الفقه والسياسة الشرعية‪ ،‬أو‬
‫إجراء النظر في النازلة ً‬
‫بناء على ما تقتضيه الصناعة الفقهية‪ ،‬والسياسة الشرعية‪ ،‬فهاتان‬
‫خطوتان يمر بهما البحث النوازلي‪ ،‬وهذا بيانهما‪:‬‬
‫أ ـ الصناعة الفقهية‪ :‬وحقيقتها إعمال اآللة الفقهية في تجهيز الحكم‪ ،‬وأعني بها تزود الباحث في‬
‫النوازل باآلالت الفقهية‪ ،‬وهي أدلة الفقه وقواعد االستنباط‪.‬‬
‫ب ـ السياسة الشرعية‪ :‬وحقيقتها إعمال آلة السياسة الشرعية في تجهيز الحكم‪ .‬أي تزود الباحث‬
‫بأدلة السياسة الشرعية‪ ،‬وهي األدلة التبعية‪ :‬كقاعدة الذرائع‪ ،‬واملصلحة املرسلة‪ ،‬واالستحسان‪،‬‬
‫وتفصيل هاتين املرحلتين فيما يأتي‪:‬‬
‫‪1-‬الصناعة الفقهية ‪ :‬هنا يستدعي الفقيه أدوات الفقه وآالته‪ ،‬ويقوم بتوظيفها التوظيف‬
‫الصحيح‪ ،‬فيجمع النصوص واآلثار‪ ،‬ويرصد القواعد والضوابط الخاصة بالنازلة‪.‬‬
‫وهو في هذه املرحلة معتكف في محراب الفقه‪ ،‬يبحث ويفتش‪ ،‬يفحص ويتأمل‪ ،‬يقارن ويرجح‪،‬‬
‫وينقطع عن املألوفات االجتماعية‪ ،‬وينعزل عن املعهودات واملفاهيم املدرسية‪ ،‬وقد ذكر أبو‬
‫حامد الغزالي أنه ال بد لطالب العلم من " االنفكاك عن داعية العناد‪ ،‬وضراوة االعتياد‪ ،‬وحالوة‬
‫املألوف من االعتقاد‪ ،‬فالضراوة بالعادة مخيلة البالدة‪ ،‬والشغف بالعناد‪ ،‬مجلبة الفساد‪،‬‬
‫والجمود على تقليد االعتقاد مدفعة الرشاد"‪ .‬ومن دقيق نظر ابن حزم أنه يلفت إلى الفرق بين‬
‫الثبات على القول واللجاج فيه‪ ،‬فالثبات يستند إلى صحة املبدأ‪ ،‬واللجاج يستند إلى العناد‪.‬‬

‫‪2-‬السياسة الشرعية‪:‬‬

‫وهنا يوظف الفقيه معايير املقاصد العامة واملصالح واملفاسد‪ ،‬وأدلة السياسة‬
‫ً‬
‫الشرعية‪ ،‬ويوظف الرخصة والعزيمة كال في محله األوفق‪.‬‬
‫ً‬
‫ثانيا‪ :‬أنواع النقول‪:‬‬
‫النقول التي يحتاجها الفقيه في بحث النازلة الفقهية على أنواع‪ ،‬وهي األدلة الشرعية بأنواعها‪،‬‬
‫والقواعد الفقهية‪ ،‬واملقاصد والنقول الفقهية‪ ،‬والقرارات املجمعية‪ ،‬والفتاوي العصرية‪.‬‬

‫أ‪ -‬األدلة الشرعية‪ :‬سواء كانت أدلة أصلية‪ :‬وهي نصوص الكتاب والسنة واإلجماع‬
‫والقياس‪ ،‬أو تبعية‪ :‬كاملصلحة املرسلة والذرائع واالستحسان وقول الصحابي‪.‬‬
‫ومن املهم هنا تناول هذه األدلة وتفسيرها بالطرق املعتبرة‪ ،‬فكالم هللا ورسوله له مبان وتصريفات‬
‫وعوارض ال يحيط بها إال من يفهم اللسان العربي‪ .‬قال يحيى بن نضلة املديني‪ :‬سمعت مالك بن‬
‫ً‬
‫أنس يقول‪ " :‬ال أوتى برجل يفسر كتاب هللا غير عالم بلغة العرب إال جعلته نكاال "‪.‬‬
‫ولتفسير نصوص الكتاب والسنة قواعد أوعب األصوليون فيها القول‪ ،‬مستمدين في ذلك من‬
‫مصنفات النحو فيما يتعلق بالحروف‪ ،‬ومن مصنفات اللغة والصرف فيما يتعلق باألسماء‬
‫واألفعال‪.‬‬
‫وطريقة الراسخين من أهل العلم جمع النصوص في الباب‪ ،‬وتخريج مناطاتها‪ ،‬والتأليف بينها‪،‬‬
‫وعدم ضرب بعضها ببعض‪ ،‬فإن التجزئة طريقة متبعي الشبهات‪ ،‬الذين يجعلون القرآن ِعضين‪،‬‬
‫ً ً‬ ‫ً‬ ‫ُ‬
‫دليل كان‪ ،‬عفوا وأخذا أوليا‪ ،‬وإن كان ثم ما يعارضه من كلي أو جزئي"‪،‬‬ ‫دليل ما‪ ،‬أي ٍ‬‫ودأبهم " أخذ ٍ‬
‫وقد ذكر ابن عباس ـ رض ي هللا عنهما ـ ل لخوارج أن التحكيم في أمر أميرين ألجل دماء األمة أولى من‬
‫ٌ‬
‫استدالل من ابن‬ ‫التحكيم في أمر الزوجين والتحكيم ألجل دم الصيد‪ ،‬قال ابن تيمية‪ " :‬وهذا‬
‫عباس باالعتبار وقياس األولى‪ ،‬وهو من امليزان‪ ،‬فاستدل عليهم بالكتاب وامليزان"‪.‬‬
‫ُ‬
‫وهذا يبين أن الخوارج إنما أتوا من قصور النظر في األدلة‪ ،‬واختالل امليزان العلمي‪ ،‬فوقع منهم‬
‫ُ َ‬
‫الغلو في جانب من الشريعة‪ ،‬والجفاء في جوانب أخر‪ ،‬وهكذا الباحثون في الفقهيات‪ ،‬فكل من‬
‫قصر منهم في باب من أبواب العلم‪ ،‬أو منعه‪ ،‬أوضيق على نفسه أو غيره فيه‪ ،‬فال بد أن يضطر‬
‫باب آخر أكثر مما يحتمله‪.‬‬
‫إلى أن يتوسع في ٍ‬
‫ومن املعايير املهمة في تفسير النصوص الشرعية‪ :‬رعاية مقاصد األلفاظ الشرعية‪ ،‬فإن الفقيه‬
‫الثقة يستحضر املعاني واملقاصد‪ ،‬دون الوقوف على أحرف األلفاظ واملباني وإهمال املقاصد‬
‫واملعاني‪ ،‬فإن " العارف يقول‪ :‬ماذا أراد‪ ،‬واللفظي يقول‪ :‬ماذا قال؟ "‪ ،‬ومن ثم قال اإلمام ابن‬
‫عيينة‪ " :‬الحديث مضلة إال للفقهاء"‪.‬‬
‫ب ـ القواعد الفقهية‪:‬‬
‫ومما يلزم الباحث النوازلي مراعاته‪ :‬القواعد والضوابط املقررة في علم القواعد الفقهية‪ ،‬وهذه‬
‫لها أهميتها البالغة في ضبط النظر الفقهي في مرحلة التوصيف والتنزيل‪ ،‬ومن ثم اشترط ٌ‬
‫جمع من‬
‫ََ َ‬
‫استنباط أحكام الفروع املتجددة‪ ،‬التي ال نقل‬
‫ِ‬ ‫األصوليين في الفقيه املجتهد ملكة االقتدار على‬
‫فيها عن صاحب املذهب‪ ،‬من األصول التي مهدها صاحب املذهب‪.‬‬
‫على أنه يجب التنبه إلى أنه من الغلط اعتقاد اطراد القواعد الفقهية االصطالحية في جميع‬
‫ً‬
‫تطبيقاتها‪ ،‬فإن للقواعد استثناءات ومخصصات ومقيدات‪ ،‬ولعل باحثا يغفل عن ذلك؛ فينزل‬
‫القاعدة في مواضع االستثناء والتخصيص‪.‬‬
‫ومن يتفحص القواعد التي اصطنعها الفقهاء يجد أنهم كانوا يتطلبون اختصار الجزئيات الكثيرة‬
‫ً‬
‫في ألفاظ مختصرة وجيزة‪ ،‬وأنهم لم ينشغلوا كثيرا لدى الصياغة بمسألة االطراد‪ ،‬ولم يقصدوا‬
‫طردها في جميع مواردها‪ ،‬وإنما قصدوا صياغة قواعد منظمة لكثير من فروع األبواب‪ ،‬فكانوا‬
‫يقتصرون في ألفاظ القواعد على الحد األدنى من األلفاظ‪ ،‬ويعبرون عن القاعدة بلفظين‪:‬‬
‫ً‬
‫موضوع ومحمول‪ ،‬دون اإلفاضة في الضوابط واملقيدات‪ ،‬تسهيال للحفظ‪ ،‬ويراعون في ألفاظها‬
‫ٍ‬
‫التنصيص على املدرك املؤثر‪.‬‬
‫ج ـ املقاصد‪:‬‬
‫وهي أهداف شرعية عالية‪ ،‬وغايات ونهايات دينية جاءت الشريعة بمراعاتها‪ ،‬ال يقوم البحث‬
‫الفقهي إال بالتوجه إلى حفظها وصونها‪ ،‬وال يقبل النظر في الشريعة إال باستيعابها ‪ .‬فهذه تراعى‬
‫بحسب مراتبها‪ ،‬فإنها تتفاوت في درجة قوتها‪ ،‬فتقدم الضروريات‪ ،‬فالحاجيات‪ ،‬فالتحسينيات‪،‬‬
‫ويراعي ما هو أصل‪ ،‬وما هو تتمة وتكملة‪.‬‬
‫ُّ‬ ‫َ ً‬
‫تختص‬ ‫وحكما لحظها الشارع في جميع أحوال التشريع‪ ،‬أو معظمها‪ ،‬بحيث ال‬ ‫معان ِ‬
‫إن ثمة ٍ‬
‫خاص من أحكام الشريعة‪ .‬وإهمال هذه الغايات الكبرى عند النظر في‬
‫ٍ‬ ‫مالحظتها بالكون في ٍ‬
‫نوع‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫النوازل يورث البحث الفقهي شذوذا وتناقضا واضطرابا‪.‬‬
‫كثيرة منها‪،‬‬
‫أنواع ٍ‬
‫كما أن ثمة مقاصد خاصة‪ ،‬ال تلحظ في جميع أنواع األحكام‪ ،‬ولكنها ملحوظة في ٍ‬
‫تلزم مراعاتها في بابها ‪.‬‬
‫فمراعاة حفظ النظام العام‪ ،‬وجلب املصالح‪ ،‬ودرء املفاسد‪ ،‬وعمارة األرض‪ ،‬وإقامة العدل بين‬
‫ُ‬
‫وجعل األمة مطمئنة البال‪ ،‬يحفظ‬ ‫الناس‪ ،‬وحسم الشجار‪ ،‬وجعل الشريعة ُمهابة مطاعة نافذة‪،‬‬
‫نظام االستدالل الفقهي‪ ،‬ويوجهه الوجهة الرشيدة‪.‬‬
‫ً‬
‫وثمة مقاصد خاصة تختص بباب واحد أو أكثر‪ ،‬كمقاصد أبواب املعامالت خصوصا‪ ،‬وهي‬
‫الكيفيات املقصودة للشارع لتحقيق مقاصد الناس النافعة‪ ،‬أو لحفظ مصالحهم العامة في‬
‫حكمة روعيت في تشريع أحكام تصرفات الناس‪ ،‬مثل‪ :‬قصد التوثق في‬
‫ٍ‬ ‫تصرفاتهم الخاصة‪ ،‬فكل‬
‫عقدة الرهن‪ ،‬وإقامة نظام املنزل والعائلة في عقدة النكاح‪ ،‬ودفع الضرر املستدام في مشروعية‬
‫الطالق‪ ،‬فهذه تجب مراعاتها في مواضعها من كل باب‪.‬‬
‫وإذا تعود الذهن على رعاية املقارنة بين األدلة واملقاصد صار من يمارسها‪ :‬فقيه النفس‪ ،‬وقد‬
‫جعل أبو املعالي الجويني فقه النفس "هو الدستور" في باب االجتهاد والفتوى‪ ،‬أي‪ :‬أن شروط‬
‫الفقيه راجعة في الحقيقة إلى فقه النفس‪ ،‬وتابعه على ذلك جماعة من أهل األصول‪ ،‬واشترطوا‬
‫له الدربة واالرتياض في استعمال األدلة‪ ،‬مع الضبط ألمهات املسائل وتفاريعها املفروغ من‬
‫ً‬
‫تمهيدها فقها‪.‬‬
‫د ـ النقول الفقهية‪:‬‬

‫وهي أقوال الفقهاء املتقدمين‪ ،‬كأئمة املذاهب األربعة ونحوهم‪ ،‬والغرض من استحضار‬
‫ً‬
‫هذه النقول االستئناس بها‪ ،‬والتخريج عليها عند االقتضاء‪ ،‬فهذا ليس باستدالل أصال‪ ،‬بل‬
‫سبيله‪ :‬مقاربة األدلة‪ ،‬وهو أنفع ما يكون حين تعوز األدلة في الباب‪.‬‬
‫على أن من أوجه الوقوع في الزلل في البحث النوازلي‪ ،‬األخذ باألقوال الضعيفة والشاذة‪ ،‬املضادة‬
‫ملقاصد الشريعة‪ ،‬واملخالفة ألدلتها‪ ،‬فإذا ما اختبرها الفقيه بمعيار األدلة واملقاصد؛ تبين له وجه‬
‫الصواب فيها‪ ،‬وانفرز الصحيح من الضعيف‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ً‬
‫إن قوال من األقوال التي تعزى إلى ٍ‬
‫إمام من األئمة‪ ،‬نصا أو خريجا‪ ،‬ربما كان راسخا في الداللة‪،‬‬
‫ً‬
‫عصر من األعصر السالفة‪ ،‬لكن ملا تغير العصر‪ ،‬واستجدت للناس‬ ‫ٍ‬ ‫مناسبا ملقاصد الشريعة في‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫أحوال لم تكن قبل؛ عاد القول به ضعيفا‪ ،‬غريبا على مقاصد الشريعة وأحكامها‪ ،‬ال ينتهض‬
‫ً‬
‫لألخذ به شرعا‪ ،‬بحيث لو ُع ِرض على قائله من األئمة لم يلتزم لوازمه‪ ،‬ولرجع عنه‪.‬‬
‫والتخريج الفقهي يحتاج مهارة فقهية عالية‪ ،‬بحيث يتحاش ى الباحث مسالك الرعونة والجمود في‬
‫مطرد أحكامه‪ ،‬وينأى عن اإلسقاطات التي ال تتسق مع طبيعة هذه الشريعة وسماحتها‪.‬‬
‫واعتبر ذلك في مسألة سعة الطريق إذا وقع فيها نز ٌ‬
‫اع بين املتجاورين‪ ،‬فقد كان الحكم فيما مض ى‬
‫أنهم إذا تشاجروا في سعة الطريق أن تجعل سبعة أذرع‪ ،‬لحديث أبي هريرة قال‪" :‬قض ى النبي صلى‬
‫هللا عليه وسلم إذا تشاجروا في الطريق بسبعة أذرع"‪ ،‬وقد نص الحنابلة على أن هذا القدر ال‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ً‬
‫األحمال واألثقال دخوال وخروجا‪ ،‬ويسع ما ال‬ ‫يغير بعد وضعه‪ ،‬لكن ملا كان ذلك معلال بأن تسلكها‬
‫ً‬
‫بد لهم من طرحه عند األبواب‪ ،‬وكان هذا مناسبا لوسائل النقل القديمة من الدواب‪ ،‬فلما‬
‫استجد للناس هذه املركبات الحديثة‪ ،‬التي ال يسعها ما يسع تلك الدواب القديمة؛ أفتى‬
‫املعاصرون بجواز التغيير وتوسعة الطريق مع تعويض أصحاب األمالك‪.‬‬
‫هـ ـ القرارات املجمعية‪:‬‬
‫ومن املهم في البحث النوازلي استحضار القرارات الصادرة في املوضوع من قبل املجامع الفقهية‬
‫ً‬
‫املعاصرة‪ ،‬ومؤسسات اإلفتاء الجماعي‪ ،‬ويضم إلى ذلك أيضا سائر الفتاوي العصرية الصادرة من‬
‫أهل العلم املحققين‪ ،‬والبحوث واملصنفات العلمية الصادرة في النازلة‪.‬‬
‫وال غنى للباحث النوازلي عن مطالعة دواوين الفتاوى والبحوث الحديثة‪ ،‬وهي‪:‬‬
‫‪ -1‬فتاوي الجهات الرسمية‪ :‬كفتاوى املجلس العلمي األعلى باملغرب‪ ،‬ودار اإلفتاء باألزهر‪،‬‬
‫ولجنة الفتوى باألزهر‪ ،‬وفتاوي قطاع اإلفتاء بالكويت‪ ،‬واللجنة الدائمة باململكة العربية‬
‫السعودية‪.‬‬

‫‪ -2‬فتاوي املجامع والهيئات الشرعية‪ ،‬مثل‪ :‬مجمع البحوث اإلسالمية باألزهر‪ ،‬وهيئة كبار‬
‫العلماء‪ ،‬ومجمع الرابطة‪ ،‬ومجمع منظمة املؤتمر اإلسالمي‪ ، ،‬وفتاوي الهيئات الشرعية في البنوك‪.‬‬

‫‪ -3.‬فتاوي املعاصرين‪ ،‬كالشيخ مصطفى الزرقا والشيخ يوسف القرضاوي‪ ،‬والشيخ‬


‫وهبة الزحيلي‪...‬‬
‫وهذه القرارات والفتاوي والبحوث تفيد الباحث في مقاربة الصواب في املسائل النازلة‪ ،‬وتوفر له‬
‫قاعدة من البيانات واالستدالالت التي قد تخفى عليه فيما لو تصدى للبحث دون االطالع عليها‪،‬‬
‫وقد نقل الزركش ي في مقدمة كتابه "البرهان في علوم القرآن" عن شمس الدين الخويي قوله‪:‬‬
‫"واعلم أن بعض الناس يفتخر ويقول‪ :‬كتبت هذا وما طالعت شيئا من الكتب‪ ،‬ويظن أنه فخر‪،‬‬
‫وال يعلم أن ذلك غاية النقص‪ ،‬فإنه ال يعلم مزية ما قاله على ما قيل‪ ،‬وال مزية ما قيل على ما‬
‫قاله‪ ،‬فبماذا يفتخر‪ .‬ومع هذا ما كتبت شيئا إال خائفا من هللا مستعينا به معتمدا عليه‪ ،‬فما كان‬
‫حسنا فمن هللا وفضله بوسيلة مطالعة كالم عباد هللا الصالحين‪ ،‬وما كان ضعيفا فمن النفس‬
‫األمارة بالسوء"‪.‬‬
‫والقصد أن أقوال الفقهاء كثيرة جمة‪ ،‬والشأن في الباحث أن يفتش عن الصواب منها‪ ،‬ويهتدي إلى‬
‫مواضع الرجحان‪.‬‬

‫‪ -4‬التنزيل‪:‬‬
‫النوازل بطبيعتها مستأنفة‪ ،‬ال يتقدم لها نظير في العادة‪ ،‬ولو فرض تقدم النظير لبعض الوقائع في‬
‫نفس األمر‪ ،‬فإنه لم يتقدم لنا بحسب علمنا‪ ،‬وحتى لو علمنا ذلك فال بد من النظر في كونها مثلها‬
‫أو ال‪ .‬وإذا ثبت هذا فال بد عند البحث فيها من االجتهاد في طلب الحكم املناسب‪ ،‬بحيث يقوم‬
‫الباحث بتنزيل الحكم الكلي‪.‬‬

‫ويقصد بمرحلة التنزيل‪ :‬إيقاع الحكم على النازلة‪ ،‬وسبيله تحقيق املناط على الوقائع‬
‫املتجددة‪ ،‬فإن الحكم املعلق بوصف يحتاج في الحكم على املعين أن يعلم ثبوت ذلك الوصف‬
‫فيه‪ .‬وهو ضربان‪:‬‬
‫‪-‬تحقيق املناط في النوع‪ ،‬أي في عموم نوع النازلة‪ ،‬ومثاله أن تقول‪ :‬إن التورق جائز‪.‬‬
‫ً‬
‫‪-‬تحقيق املناط في العين‪ ،‬أي في آحاد النوازل‪ ،‬ومثاله أن تقول إن هذه املعاملة تسمى تورقا‪،‬‬
‫فهي جائزة‪.‬‬
‫َْ‬ ‫َ َ ُ ْ‬
‫ات ِلل ُف َق َراء َوامل َس ِاك ِين} [التوبة (‪،])60‬‬ ‫ومن أمثلة التنزيل على األشخاص‪ :‬قوله تعالى‪{ِ :‬إن َما الصدق‬
‫فالفقر واملسكنة أوصاف شرعية‪ ،‬ويبقى النظر في الشخص املعين‪ :‬هل هو من الفقراء أو املساكين‬
‫املذكورين في القرآن أم ال ؟‪ ،‬وكما حرم هللا الخمر والربا عموما‪ ،‬ويبقى الكالم في الشراب املعين‪ :‬هل‬
‫هو خمر أم ال ؟‪ ،‬قال ابن تيمية‪" :‬وهذا النوع مما اتفق عليه املسلمون‪ ،‬بل العقالء؛ بأنه ال يمكن أن‬
‫ينص الشارع على حكم كل شخص‪ ،‬إنما يتكلم بكالم عام‪ ،‬وكان نبينا صلى هللا عليه وسلم قد أوتي‬
‫جوامع الكلم"‪.‬‬
‫َ‬
‫وموجب‬ ‫ومعلوم أن األحكام الشرعية تكون تجريدية‪ ،‬وأن الوقائع تكون متشخصة في األفراد واألعيان‪،‬‬
‫إعمال الشريعة‪ :‬تنزيل أحكامها على الوقائع‪ ،‬فهذا هو محك ديمومة الشريعة واستمرارها‪.‬‬
‫وفي هذه املرحلة من البحث يقوم الفقيه ببيان توفر متعلق الحكم في النازلة‪ ،‬وقد يكون املتعلق علة‪،‬‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫أو سببا‪ ،‬أو شرطا‪ ،‬أو مانعا للحكم‪ ،‬أو معنى تضمنه الحكم املأمور به‪ ،‬أو املنهي عنه‪ ،‬أو معنى تعلق به‬
‫لفظ التعريف‪ ،‬أو اللفظ العام‪ ،‬أو املطلق‪ ،‬وله أفراد ينظر في اندراجها تحته‪.‬‬
‫ويراعي الباحث في هذه املرحلة ما تقتضيه األدلة النقلية والعقلية‪ ،‬وما ترشد إليه قواعد السياسة‬
‫ً‬
‫الشرعية‪ ،‬كما ينبغي رعاية املآالت‪ ،‬والتدرج من األخف إلى األشد‪ ،‬ومن الرخص إلى العزائم‪ ،‬وصوال إلى‬
‫منهج فقهي إسالمي يتسم بدرجة مناسبة من االلتزام الشرعي والفني‪.‬‬
‫ويقرر الشاطبي أن مرحلة التنزيل هذه بالغة األهمية‪ ،‬وأن منها ما هو سهل يسير‪ ،‬ومنها ما هو صعب‬
‫َ ْ‬
‫عسير‪ .‬ومنشأ الصعوبة في هذا املوضع أن يكون مما تتنازعه األصول‪ .‬فإن الشارع إذا قال‪{َ :‬وأش ِه ُدوا‬
‫ً‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫ذ َو ْي َع ْد ٍل ِمنك ْم}[الطالق (‪ ،])2‬وثبت عندنا معنى العدالة شرعا‪ ،‬افتقرنا إلى تعيين من حصلت فيه‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫حد سواء‪ ،‬بل ذلك يختلف اختالفا متباينا‪ ،‬فإنا إذا‬ ‫هذه الصفة‪ ،‬وليس الناس في وصف العدالة على ٍ‬
‫تأملنا العدول‪ ،‬وجدنا التصافهم بها طرفين وواسطة‪ ،‬طرف أعلى في العدالة ال إشكال فيه‪ ،‬كأبي بكر‬
‫الصديق‪ ،‬وطرف آخر‪ ،‬هو أول درجة في الخروج عن مقتض ى الوصف‪ ،‬كاملجاوز ملرتبة الكفر إلى‬
‫ً‬
‫الحكم بمجرد اإلسالم‪ ،‬فضال عن مرتكبي الكبائر‪ ،‬املحدودين فيها‪ ،‬وبينهما مراتب ال تنحصر‪ ،‬وهذا‬
‫الوسط غامض‪ ،‬ال بد فيه من بلوغ حد الوسع‪ ،‬وهو االجتهاد‪ ،‬فهذا مما يفتقر إليه الحاكم في كل‬
‫ً‬
‫شاهد‪ ،‬ثم ضرب الشاطبي مثاال فقال‪ :‬كما إذا أوص ى بماله للفقراء‪ ،‬فال شك أن من الناس من ال ش يء‬
‫له‪ ،‬فيتحقق فيه اسم الفقر‪ ،‬فهو من أهل الوصية‪ ،‬ومنهم من ال حاجة به وال فقر‪ ،‬وإن لم يملك‬
‫نصابا‪ ،‬وبينهما وسائط‪ ،‬كالرجل يكون له الش يء وال سعة له‪ ،‬فينظر فيه‪ :‬هل الغالب عليه حكم‬
‫الفقر‪ ،‬أو حكم الغنى‪.‬‬
‫ثم ذكر أن هذا املوضع مما يختلف باختالف األحوال واألوقات وغير ذلك من األمور التي ال تنضبط‬
‫ٌ‬
‫بحصر‪ ،‬وال يمكن استيفاء القول في آحادها‪ .‬وذلك أن كل صورة من صوره النازلة نازلة مستأنفة في‬
‫نفسها‪ ،‬لم يتقدم لها نظير‪.‬‬
‫ً‬
‫والشريعة لم تنص على حكم كل جزئية على حدتها‪ ،‬وإنما أتت بأمور كلية‪ ،‬تتناول أعدادا ال تنحصر‪،‬‬
‫ومع ذلك فلكل معين خصوصية ليست في غيره‪ .‬فال يبقى صورة من الصور الوجودية املعينة إال‬
‫نظر سهل أو صعب‪ ،‬حتى يحقق تحت أي دليل تدخل‪ ،‬فإن أخذت بشبه من الطرفين‬ ‫وللعالم فيها ٌ‬
‫فاألمر أصعب‪ ،‬وهذا كله بين ملن شدا في العلم‪.‬‬
‫ولهذا فإن االقتصار في الفتيا على االجتهاد االستنباطي‪ ،‬دون االجتهاد التنزيلي‪ ،‬من مثارات الغلط‪ ،‬إذ ال‬
‫يكفي حفظ الدليل الواحد في فقه التنزيل‪ ،‬وفي ذلك يقول السيوطي‪" :‬وإن خاضوا تنزيل الفقه الكلي‪،‬‬
‫تبصر زائد على حفظ الفقه وأدلته "‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫على املوضع الجزئي‪ ،‬فذلك يحتاج إلى‬

‫ومن شروط جودة التنزيل‪ :‬توفر مهارات البحث الفقهي‪ ،‬ومن أهمها‪ :‬الثقة والحسم‪،‬‬
‫ومأخذهما‪ :‬الدربة واملران‪ ،‬وإال فإن بعض الباحثين يقطع دهره في التردد في حسم مسألة من‬
‫املسائل‪ ،‬وهي أهون من ذلك‪ ،‬فهذا بسبب قصور الدربة واملران‪ ،‬وقد تقصر الدربة عن مواضع‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫اإلشكال العسيرة الخفية‪ ،‬وربما استغلقت املسألة على العالم الثقة دهرا طويال‪ ،‬كما صرح به‬
‫ٌ‬
‫جمع من املتقدمين‪ ،‬كاإلمام القرافي وغيره‪.‬‬
‫ومن أهم املهارات الفقهية التي يتعين على الباحث اكتسابها‪ :‬حسن التصرف في مضايق النظر‪،‬‬
‫وذلك عندما تتعارض األدلة‪ ،‬وتتقابل األصول في املسألة الواحدة‪ ،‬فهذا مما يمتحن هللا به‬
‫الفقهاء‪.‬‬
‫َ‬
‫وينعقد اإلشكال التنزيلي في البحث النوازلي ساعة يتزاحم على املسألة دليالن فأكثر والتزاحم هنا‬
‫إنما يقع في مبادئ النظر‪ ،‬وبادي الرأي‪ ،‬وإال فإن األدلة الصحيحة ال تتعارض في نفس األمر‪ ،‬ثم‬
‫ما يقع بين العام والخاص‪ ،‬واملطلق واملقيد‪ ،‬ونحو ذلك مما هو مقرر في علم األصول‪ ،‬وهنا دور‬
‫ورد املتشابه إليه‪" ،‬ولذلك ال تجد البتة دليلين أجمع املسلمون‬
‫املجتهد في تحقيق األخذ باألحكم‪ِ ،‬‬
‫على تعارضهما‪ ،‬بحيث وجب عليهم الوقوف‪ ،‬لكن ملا كان أفراد املجتهدين غير معصومين من‬
‫الخطأ؛ أمكن التعارض بين األدلة عندهم"‪.‬‬
‫َ‬
‫العوارض‬ ‫من فوائد الفقه املستند إلى القواعد أنه يراعي عند التعارض بين األدلة؛‬
‫صورة النازلة‪ ،‬فال ُ‬ ‫َ‬
‫تغيب عنه عند تنزيل األدلة على الوقائع؛ جهتا اقتضاء األدلة‬ ‫ِ‬ ‫الطارئة على‬
‫ً‬
‫لألحكام‪ ،‬وهما جهتا االقتضاء األصلي‪ ،‬واالقتضاء التبعي‪ .‬فحينئذ يحسن إجراء البحث أخذا‬
‫ً‬
‫بمجامع الفقه‪ ،‬وضبطا ألصول املسائل‪ ،‬كمسائل‪ :‬الحقنة بأنواعها للصائم‪ ،‬وزكاة املال الحرام‪،‬‬
‫والتورق‪ ،‬وتأجير البناية لبنك ربوي‪ ،‬وشراء الذهب بصور النقد الحديثة‪ ،‬وغيرها كثير من‬
‫املسائل التي ما تزال محل استشكال لدى الكثيرين‪ ،‬وذلك أن النازلة ال تكون في املسائل الواضحة‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫للمفطر مثال‪ ،‬و ال حكم املال الحرام‪ ،‬وال شراء‬
‫ِ‬ ‫غالبا‪ ،‬فال يستشكل الناس حكم تعاطي الحقنة‬
‫السيارة بقصد تملكها‪ ،‬وال تأجير البناية ملن يستعملها في مباح‪ ،‬وال شراء الذهب بالنقد‪ ،‬فهذه ال‬
‫إشكال فيها على أحد‪ .‬على أن مبنى الفقه على الظنون الغالبة‪ ،‬واملقاربة أصل من أصول الحسم‬
‫الفقهي‪ ،‬وهي جادة مسلوكة لدى املتقدمين مع شدة ورعهم‪ ،‬وقد قال اإلمام ابن أبي زيد‬
‫يقرب األمر فيه‪ ،‬كي تظهر له لوائح الحق"‪.‬‬
‫القيرواني "ومن ابتلي فإنه ِ‬

You might also like