Professional Documents
Culture Documents
تعريف النوازل:
النوازل جمع نازلة ،والنازلة في اللغة :اسم فاعل من نزل ينزل إذا حل .قال ابن فارس:
"تدل على هبوط ش يء ووقوعه ...والنازلة :الشديدة من شدائد الدهر تنزل" .قال الشافعي:
ُ ً ُ
املخرج ولرب ناز ٍلة يضيق بها الفتى * ذرعا وعند هللا منها
ويختلف مفهوم النازلة في االصطالح عند أهل العلم في القديم والحديث على ثالثة اصطالحات:
أوال :تطلق النوازل في اصطالح الحنفية على الفتاوى والواقعات ،وهي مسائل استنبطها
املجتهدون املتأخرون ملا ُسئلوا عن ذلك ،ولم يجدوا فيها رواية عن أهل املذهب املتقدمين ،وهم
أصحاب أبي يوسف ومحمد ،وأصحاب أصحابهما.
ً
ثانيا :تطلق النوازل في اصطالح املالكية على القضايا والوقائع التي يفصل فيها القضاة طبقا
للفقه .ومن ذلك النوازل الجديدة الكبرى فيما ألهل فاس وغيرهم من البدو والقرى ملحمد
املهدي الوزاني الفاس ي (ت1342هـ) املسماة بـ"املعيار الجديد الجامع املعرب عن فتاوى املتأخرين
من علماء املغرب" 8مجلدات ،و"النوازل الصغرى" 4مجلدات ملحمد املهدي الوزاني جمع فيه
مؤلفه فتاوى املتأخرين من املالكية ،ورتبه على أبواب مختصر خليل ،والنوازل لعيس ي بن علي
الحسني العلمي.
كما تطلق على األسئلة واألجوبة والفتاوى مثل :نوازل ابن رشد الجد ت 520ه ،وتسمى
أيضا الفتاوى واألجوبة ،جمعها تلميذه أبو الحسن الوزان ،واإلعالم بنوازل األحكام لعيس ى بن
سهل الغرناطي ت486ه ،و"مذاهب الحكام في نوازل األحكام" للقاض ي عياض ت544ه وابنه،
ْ
وكتاب النوازل لإلمام أبي جعفر بن َبش َتغير األندلس ي اللورقي ت516هـ.
ً
ثالثا :تطلق النوازل في اصطالح عامة الفقهاء على املسائل الواقعة الجديدة التي تتطلب اجتهادا
وبيان حكم .ومن ذلك قول ابن عبد البر ت 463ه في جامع بيان العلم وفضله " :باب اجتهاد الرأي
على األصول عند عدم النصوص في حين نزول النازلة".
ويمكن تعريف فقه النوازل بأنه "معرفة الحوادث التي تحتاج إلى حكم شرعي".
املعرفة :وتشمل العلم والظن ،فخرج بذلك الجهل والوهم والشك ،ألن إدراك األحكام
الفقهية قد يكون يقينيا وقد يكون ظنيا .قال ابن القيم في "إعالم املوقعين"" :إذا نزلت بالحاكم أو
املفتي النازلة ،فإما أن يكون عاملا بالحق فيها أو غالبا على ظنه بحيث إنه استفرغ وسعه في طلبه
ومعرفته أو ال ،فإن لم يكن عاملا بالحق فيها وال غلب على ظنه ،لم يحل له أن يفتي وال يقض ي بما
ال يعلم".
الحوادث :ويراد بها الش يء الذي يقع على غير مثال سابق .ولها عدة صور:
-حوادث جديدة تقع ألول مرة ،مثل :النقود الورقية ،وزراعة األعضاء.
-حوادث جديدة تغير حكمها لتغير ما اعتمدت عليه من عرف ،مثل :صور قبض املبيع
املعاصرة.
-حوادث اشترك في تكوينها أكثر من صورة من الصور القديمة ،مثل :عقد االستصناع،
بيع املرابحة لآلمر بالشراء.
تحتاج إلى حكم شرعي :يخرج بهذا القيد الحوادث التي ال تحتاج إلى حكم شرعي ،مثل
الزالزل والكوارث والبراكين.
إن النوازل إنما ُتطلق على املسائل الواقعة إذا كانت مستجدة ،وكانت ملحة ،وتستدعي
ً
شرعيا. ً
حكما
وأما الوقائع فإنها ُتطلق على كل واقعة مستجدة كانت أو غير مستجدة ،ملحة كانت أو غير
ً
شرعيا وقد ال تستدعيه. ملحة ،وقد تستدعي ً
حكما
وأما املستجدات فإنها ُتطلق على كل مسألة جديدة ،سواء كانت املسألة من قبيل الواقعة أو
ً
شرعيا وقد ال تستدعيه ،بمعنى أنها قد املقدرة ،ثم إن هذه املسألة الجديدة قد تستدعي ً
حكما
تكون ملحة وقد ال تكون ملحة.
وجوهر الفرق :أن النوازل يلزم أن يتعلق بها حكم شرعي ،أما الوقائع واملستجدات فال يلزم أن
يتعلق بها حكم شرعي.
وبهذا يظهر أن العالقة بين علم الفقه وعلم فقه النوازل هي العموم والخصوص
الوجهي؛ ذلك أنهما يجتمعان في معرفة أحكام الوقائع العملية املستجدة ،ثم إن علم الفقه أعم
من علم فقه النوازل ،من جهة أن الفقه يشمل معرفة أحكام املسائل العملية ،سواء أكانت هذه
املسائل واقعة أم مقدرة ،مستجدة أم غير مستجدة ،كما أن علم فقه النوازل أعم من علم
الفقه ،من جهة أن فقه النوازل يشمل األحكام الشرعية للوقائع املستجدة ،سواء كانت هذه
الوقائع عملية أو غير عملية.
أقسام النوازل:
االجتهاد في النوازل واجب على هذه األمة ،فهو من فروض الكفاية ،وربما يتعين هذا
واجبا ً
عينيا. الواجب على بعض املتهيئين للنظر في بعض النوازل؛ فيصير النظر في نازلة ما ً
وقد ذكر ابن عبد البر عن جمهور أهل العلم أنهم كانوا يكرهون استعمال الرأي في الوقائع قبل
ً أن تنزل ،وتفريع الكالم عليها قبل أن تقعُّ ،
وعدوا ذلك اشتغاال بما ال ينفع.
وقد ورد في ذلك ما أخرجه الطبراني في املعجم الكبير أن النبي صلى هللا عليه وسلم قال«:ال
تعجلوا بالبلية قبل نزولها ،وقاربوا وسددوا ،فإن عجلتم بها قبل نزولها ،فإنه سيسيل بكم السيل
ههنا وههنا».
لذلك كان من شروط املسألة املجتهد فيها أن تكون من املسائل النازلة باملسلمين ،أما املسائل غير
الواقعة ،فيكره االجتهاد فيها ،وقد يحرم.
وال يجب النظر في تلك املسائل التي تخص الكفار وحدهم؛ كمسألة بنوك املني.
أهمية الفتوى في النوازل:
تظهر أهمية االجتهاد في النوازل املعاصرة في النقاط التالية:
– البحث فيها يبرهن على صدق اإلسالم وخلوده وصالحيته للقيادة والريادة في هذه الحياة.
– إن لفقه النوازل أهمية كبرى تتصل بصفة النوازل الواقعية التي تعرض لنا صورا
من املجتمع الذي وقعت فيه تلك النوازل من الناحية الفكرية واالجتماعية والسياسية
واالقتصادية والتاريخية واألدبية.
فمن الناحية الفكرية :يعرفنا فقه النوازل بالعالقة بين املذاهب الفقهية ،ويظهر ذلك
من خالل املناظرات واملناقشات العلمية التي كانت تدور بين علماء املذاهب في أثناء التعرض
لنازلة من النوازل.
ومن الناحية االجتماعية :تقدم النوازل الكثير من اإلشارات إلى أحوال املجتمع اإلسالمي
في منطقة النازلة ،األمر الذي يجعل منها مصدرا وثيقا لعالم االجتماع مثلما هو للفقيه والعالم.
وهذا يقتض ي نوعين من الحركة :إحداهما :في دراسة النصوص واألدلة ،واألخرى في
ً
التبصر بالواقع ،لتنزيل األحكام على الوقائع ،وإذا اعتبرنا كون الواقع متجددا ،فليجدد الفقيه
معرفته بالوقائع والنوازل كلما تجددت .قال ابن القيم":وال يتمكن املفتي وال الحاكم من الفتوى
والحكم بالحق إال بنوعين من الفهم:
أحدهما :فهم الواقع والفقه فيه واستنباط علم حقيقة ما وقع بالقرائن واألمارات
والعالمات حتى يحيط به علما.
والنوع الثاني :فهم الواجب في الواقع ،وهو فهم حكم هللا الذي حكم به في كتابه أو على
لسان قوله في هذا الواقع ،ثم يطبق أحدهما على اآلخر؛ فمن بذل جهده واستفرغ وسعه في ذلك
لم يعدم أجرين أو أجرا؛ فالعالم من يتوصل بمعرفة الواقع والتفقه فيه إلى معرفة حكم هللا
ورسوله ،كما توصل شاهد يوسف بشق القميص من دبر إلى معرفة براءته وصدقه وكما توصل
سليمان -صلى هللا عليه وسلم -بقوله " :ائتوني بالسكين حتى أشق الولد بينكما " إلى معرفة عين
األم ،وكما توصل أمير املؤمنين علي -عليه السالم -بقوله للمرأة التي حملت كتاب حاطب ما
أنكرته لتخرجن الكتاب أو ألجردنك إلى استخراج الكتاب منها".
وقال ابن عابدين في رسالته "نشر العرف"" :املفتي ال بد له من ضرب اجتهاد ومعرفة بأحوال
الناس" ،ثم قال :و"من لم يكن عاملا بأهل زمانه فهو جاهل".
على أن املطلوب معرفة الواقع لتكييفه بالشرع ،وإدارته على قاعدة االستصالح ،ال للخضوع
لفساد طرأ عليه ،فكما أن للواقع سطوته ،فللشرع حجته ،فال تأخذنا واقعية الوقائع ،عن
مشروعية الشرائع.
مراحل النظرفي النازلة الفقهية:
يمكن تقسيم العملية االجتهادية في استخراج الرأي الفقهي الصائب إلى مراحل:
-1التصوير:
وتصوير النازلة :يتحقق بتشخيص واقعها كما هو ،وذلك بعد ارتسام صورتها الحقيقية في
ذهن الباحث دون لبس بما يشتبه بها ،وهذه املرحلة في غاية األهمية ،إذ يرتبط فقه النص بفقه
التصوير الواقعي ارتباط املناط بالحكم ،والعلة باملعلول ،وكل خطأ في التصوير يعقب خطأ في
التوصيف والتنزيل الفقهيين ،وقل من يجمع األمرين ،وقد قال الزمخشري " :من لم يؤت من سوء
الفهم ،أتي من سوء اإلفهام ،وقل من أوتي أن يفهم ُويفهم".
فلو كان البحث عن حكم الذهب األبيض للرجال ،فمطلوب التصوير الصحيح هنا أن
يعلم قدر الذهب املخلوط بالنسبة إلى املعادن األخرى ،ليصير بعدئذ إلى تنزيل أحكام الذهب
الحقيقي عليه من عدمه.1
وأولى درجات العلم بالش يء :حصول صورته في العقل ،إما بطريق الجزم أو الظن الغالب ،بال
حكم عليه بنفي أو إثبات ،وهو ما يسمى التصور الساذج ،فإذا اجتمع التصور مع الحكم :سمي
ً ً
تصديقا تاما .فالتصور كما قال الجرجاني في "التعريفات" ":إدراك الحقائق مجردة عن األحكام،
ً
والتصديق إدراك نسبة حكمية بين الحقائق باإليجاب أو السلب" .وسمي التصديق تصديقا
الشتماله على كالم يصدق أو يكذب.
ً
فلو سئل الفقيه عن مسألة "زواج املسيار" مثال ،فيحتاج حينئذ إلى تصور هذا العقد على ما هو
عليه ،وحصر صوره في الواقع ،ورصد شروطه وآثاره العقدية ،ولو فرضنا أنه أجرى على هذا
ً ً
العقد أحكام عقد الزواج قبل أن يتصور حقيقته؛ لكان مخطئا في بناء الحكم ،مستحقا لللوم،
وحينها يصدق عليه قول العالمة محمد بن الحسن الحجوي " :تهور قبل أن يتصور"2
1قال أهل الخبرة :إلعداد كيلو من الذهب عيار 18يخلط 750جم من الذهب الخالص مع 250جم من الفضة والنحاس ،فإن
أضفنا نفس الوزن ( 250جم) من البالديوم بدال من الفضة أو النحاس حصل عندنا كيلو من الذهب األبيض عيار )18
ً 2زواج املسيار هو :أن يعقد الرجل زواجه على امرأة ً
عقدا شرعيا مستوفي األركان والشروط ،لكن تتنازل فيه املرأة عن بعض حقوقها
ً
كالسكن أو النفقة أو املبيت .فمنعه األلباني لعدم وجود السكن ،وألنه ينعكس سلبا على األوالد لبعد األب عنهم ،ورخص فيه ابن باز،
وأباحه ابن عثيمين ،ثم توقف فيه بسبب ما تخلله من فساد في التطبيق.
إن من ضمانات الفتوى املالية الجادة أن توسع الهيئات الشرعية مصادرها في الحصول
على املعلومة ،لتتعرف على طبيعة املنتج املقدم للدراسة ،وأبعاد البيئة التي سيوظف فيها.
ب ـ مسالك التصوير:
ال بد للفقيه ليتحقق له تصور النازلة من سلوك أحد طريقين :أولهما :أن يقف على النازلة
بنفسه ،وثانيهما :أن يتعرف عليها عبر وسيط.
األول :أن يقف على النازلة بنفسه:
كان بعض الفقهاء ال يكتفي باإلحاطة بالنصوص واألصول الشرعية وعلوم اآللة ،بل ينزل إلى
األسواق ،ويقف على معامالت التجار بنفسه ،وكان محمد بن الحسن الشيباني كما في "البحر
الرائق" البن نجيم يذهب إلى الصباغين ،ويسأل عن معامالتهم .وكان شهاب الدين القرافي قد
كتب عن الحشيشة التي يتعاطاها الفساق في كتابه "الفروق" ،ونقل االتفاق على منعها ،لكن
حكى الخالف في كونها مسكرة توجب الحد ،أو مغيبة للعقل فتوجب التعزير ،ثم قال" :وسألت
جماعة ممن يعانيها ،فاختلفوا على قولين؛ فمنهم من ،3"...ورض ي هللا عن الفاروق حين أوص ى أبا
موس ى األشعري ،فقال " :فافهم إذا أدلي إليك ،فالفهم طريق العلم ".
وقد ذكر شيئا من هذا االختالف النجم الغزي في الكواكب السائرة فقال عن القهوة
":ولم تكن القهوة معروفة حتى القرن العاشر الهجري ،واختلف العلماء في أوائل القرن العاشر في
القهوة وفي أمرها ،حتى ذهب إلى تحريمها جماعة ترجح عندهم أنها مضرة ...واألكثرون ذهبوا إلى
أنها مباحة ،وقد انعقد اإلجماع بعد من ذكرناه على ذلك ،أي على اإلباحة".
ً
وقد ذكر أيضا القرافي في مقدمة "الفروق" أنه مكث ثمان سنين يطلب الفرق بين الشهادة
والرواية ،ويسأل الفضالء عنه ،فلم يظفر به .الخ ،فهذا يبين عنايتهم بسؤال هل الخبرة فيما طريقه
الخبرة.
ً
وهذه الطريقة مفيدة جدا في حسن تصوير النازلة ،ألن الفقيه يباشر الوقوف عليها بنفسه ،بيد أنها
ً ً
تستدعي منه جهدا ووقتا للبحث واالستقصاء ،وقد ال يتسع وقته للوقوف على كل النوازل.
وكلما كان الفقيه أقرب إلى موضع النازلة؛ كان بها أعرف ،وعلى التنزيل أقدر ،ولهذا قالوا" :يفتى بقول
3قال تقي الدين السبكي ":واألصل في تحريمها ما رواه أحمد في مسنده وأبو داود في سننه بسند صحيح عن أم سلمة رض ي هللا
عنها قالت :نهى رسول هللا صلى هللا عليه وسلم عن كل مسكر ومفتر" ،وقال ابن تيمية ":ومن استحلها فقد كفر" .وذهب ابن
تيمية إلى أن الحشيشة نجسة مسكرة يحرم تناول قليلها وكثيرها ،ويجب إقامة حد الخمر عليها" ،وذهب القرافي إلى أنها ليست
نجسة وال حد فيها ،كما ذهب إلى جواز تناول اليسير منها.
أبي يوسف فيما يتعلق بالقضاء ،لكونه جرب الوقائع وعرف أحوال الناس".
الثاني :أن يتعرف عليها بواسطة:
من طرق التعرف على النازلة :أن يتلقاها الفقيه من الخبير ،أو السائل وطالب الجواب ،وهذه الطريقة
جادة مسلوكة للفقهاء واملفتين في املسائل االعتيادية منذ الصدر األول.
فقد كانوا يستعينون على تحقيق املناط الخاص بأهل الخبرة ،فعن ابن عمر ـرض ي هللا عنهما ـ قال:
خرج عمر بن الخطاب رض ي هللا عنه من الليل ،فسمع امرأة تقول:
َ َُ
حبيب أالعبه تطاول هذا الليل واسود جانبه *** وأرقني أن ال
ُ
جوانبه فوهللا لوال خشية هللا وحده *** ُ
لح ِرك من هذا السرير
فقال عمر بن الخطاب رض ي هللا عنه لحفصة بنت عمر ـ رض ي هللا عنها ـ :كم أكثر ما تصبر املرأة عن
زوجها ،فقالت :ستة أو أربعة أشهر ،فقال عمر :ال أحبس الجيش أكثر من هذا"4
وهذه الطريقة مع كونها توفر وقت الفقيه وجهده ،وهي نافعة في حال توفر الخبير الثقة
ُ
مصلحته الشخصية َ
الخبير أو السائل املتقن ،إال أنها مشوبة بآفتين :الهوى والجهل ،فقد يحمل
وغرضه الخاص على أن يحجب عن الفقيه بعض عناصر الواقعة ،أو يصورها على غير ما هي
عليه ،ابتغاء الحصول على ٍ
حكم يحقق غرضه ،وقد تفاقمت هذه الظاهرة في العصور املتأخرة
حين تغيرت أخالق الناس ،وصار للناس أغراض في االستفتاء ،وقد يقع ش يء من هذا في قرارات
ً
بعض الهيئات الشرعية في املؤسسات اإلسالمية أحيانا.
ً
ومن آفاتها أن بعض املستفتين ال يكون واعيا بطرق السؤال الصحيحة ،فيكون تصويره لها
ً
قاصرا ،فيقع الجواب غير مالق للسؤال.
وهذه الفجوة املوجودة اليوم بين البحوث الفقهية والتطبيقات العملية ينبغي أن تردم بإيجاد
ً
قنوات موضوعية للتواصل مع الواقع العملي ،فليس كل باحث قادرا على الوقوف على النوازل في
مواطنها بكل صورها.
ومن تلك القنوات :إنشاء مراكز لتشخيص الواقع ،لتقريبه للفقيه ،وتكون هذه املراكز برصد
بعدئذ
ٍ النوازل على ما هي عليه ،وحصر صورها ،وتشخيص عناصرها وأطرافها ،ويبقى للفقيه
دور التوصيف والتنزيل.
ومثل ذلك اختالف علماء الشرع في أقص ى مدة تمكثها املرأة وهي حامل على أقوال:
أخرجه البيهقي في الكبرى وعبد الرزاق قال ابن كثير في تفسيره" :وهو من املشهورات". 4
-قال أصحاب املذهب الظاهري :أقص ى مدة للحمل تسـعة أشـهر ،وقال محمد بن عبد
الحكمَ :
سنة واحدة ،واختاره ابن رشد ،وقال الحنفية سنتان ،وقال الليث بن سعد :ثالث سنين،
وقال ربيعة الرأي :سبع سنين ،وقال الشوكاني :ال حد ألكثر الحمل ،واختاره الشنقيطي وابن باز
وابن العثيمين .ومذهب الشافعية والحنابلة وأشهر القولين عند املالكية :أربع سنين ،ملا روي عن
الوليد بن مسلم قال" :قلت ملالك بن أنس :حديث عائشة :ال تزيد املرأة على السنتين في الحمل،
قال مالك :سبحان هللا! من يقول هذا؟ هذه جارتنا امرأة محمد بن عجالن تحمل أربع سنين".
واملنظمة اإلسالمية للعلوم الطبية أن الجنين يعتمد في غذائه على املشيمة ،فإذا بلغ
َ الحمل َ
نهايت ُه املعتادة ضعفت املشيمة ،ولم ت ُع ْد قادرة على إمداد الجنين بالغذاء الذي يحتاجه ُ
ُ
الجنين من املجاعة ،فإذا طالت املدة ولم تحصل الستمرار حياته ،فإن لم تحصل الوالدة عانى
َ
الوالدة قض ى ن ْح َب ُه داخل الرحم ،ومن النادر أن ينجو من املوت جنين بقي في الرحم 45أسبوعا،
ً
والستيعاب النادر والش ِاذ فإن هذه املدة تمدد أسبوعين آخرين لتصبح 330يوما.
وعلل األطباء حكايات الحمل املمتد لسنين بعدة تعليالت ،وهي :الحمل الوهمي أو
ً
الكاذب ،الخطأ في الحساب من بعض الحوامل ،ظهور أسنان عند بعض املولودين حديثا ،موت
الحمل في بطن أمه وبقاؤه فيها مدة طويلة ،عدم صحة هذه األخبار.
وقد ذهب ابن رشد "بداية املجتهد" إلى أن مستند هذه األحكام العادة ال الشرع فقال
":وهذه املسألة مرجوع فيها إلى العادة والتجربة ،وقول ابن عبد الحكم والظاهرية :هو أقرب إلى
ً املعتادُ ،
والحكم :إنما يجب أن يكون باملعتاد ،ال بالنادر ولعله أن يكون مستحيال"
ٌ ً
حسن ،وال وقال ابن حبيب في النفساء :تجلس ستين يوما ،قال ابن عبد البر :هو "عدل
ُ
تسأل عن ذلك نساء أهل زماننا ،لقلة معرفتهن" .وأكثر أهل العلم على أن أكثر مدة النفاس
أربعون يوما ،قال ابن قدامة في "املغني" " :وأكثر النفاس أربعون يوما ،هذا قول أكثر أهل العلم
قال أبو عيس ى الترمذي :أجمع أهل العلم من أصحاب النبي صلى هللا عليه وسلم ومن بعدهم
على أن النفساء تدع الصالة أربعين يوما إال أن ترى الطهر قبل ذلك فتغتسل وتصلي"،
وقال الطحاوي " :لم يقل بالستين أحد من الصحابة ،وإنما هو قول من بعدهم".
2-التوصيف :
أ ـ مفهوم التوصيف:
التوصيف هو :تعيين صفة الش يء ،والتوصيف الفقهي هو تعيين صفة النازلة بحسب اللغة
الفقهية املعهودة لدى علماء الفن ،ومقتضاه :إجالة النظر في األوصاف الفقهية املناسبة للنازلة
محل البحث ،وإلحاق صورتها بما يماثلها من مسائل الفقه املسماه ،كأن نصفها بأنها بيع ،أو
إجارة ،أو رهن وهكذا.
ً ً
فإذا لم تشبه شيئا من معهودات الفقهاء فهي إذا من النوازل الجديدة ،التي لم يرد بشأنها نص
ً ً ً
خاص ،فهذه يستأنف الفقيه لها وصفا مناسبا ،بحسب ما يظهر له من واقعها ،استئناسا بأدلة
ً ً
الشرع وقواعده وكلياته ،بحيث ال يخرج باسمها عن لغة الفن ،وال يعارض بها اسما معهودا
لديهم.
وهذه املرحلة يمكن تسميتها بفقه الواقعة ،وقد حدد ابن القيم نوعين من الفهم ،ال بد منهما
للمفتي والحاكم ،أولهما :فهم الواقع ،والفقه فيه ،والثاني :فهم الواجب في الواقع إعالم املوقعين.
والتوصيف الفقهي يحتاج إلى ملكة علمية خاصة ،وإال فإنه ال يصعب على املتفقه املتوسط أن
يحفظ نصوص األدلة ،ويجرد الفروع الفقهية ،ويشرف على مواطن الخالف العالي ،لكن
توصيف النوازل يحتاج فوق ذلك إلى فقه النفس ،وإلى ذائقة فقهية ،كحاجة الطبيب إلى مهارة
التشخيص ،وحاجة القانوني إلى مهارة التكييف.
والتعبير بـ "التوصيف" أصدق وأشمل من التعبير بـ "التكييف" ،فإن هذا األخير أخص من األول،
ففي مرحلة التوصيف يفتش الفقيه عن الصيغة الفقهية املناسبة للواقعة ،بحسب األحوال
ً ً
املمكنة ،فإما أن يجد له وصفا مسمى في الفقه املدون ،فيكون عمله تخريجا ،وإال أسبغ عليه
ً ً ً
وصفا مناسبا ،وهو ما يسمى في بعض البحوث املعاصرة تكييفا ،أو أن هذا املسمى هو األقرب إلى
ً
تسميته بالتكييف ،فالتوصيف إذا يشمل :التخريج والتكييف ،وهو ما تعرضه الفقرة اآلتية.
ب ـ مسالك التوصيف:
ال تخلو النازلة املبحوثة من أحد احتمالين :فإما أن تكون مسألة مسماة على لسان الشرع أو
الفقهاء ،فهذه مسألة نمطية ،وإما أن تكون من املسائل املستجدة ،التي لم يعهد لها نظير في
الشريعة وال الفقه ،وللباحث إزاء هذين االحتمالين مسلكان:
ً ً
أولهما :أن تكون من املسائل املسماة شرعا أو فقها ،ففي هذه الحال يكون توصيفها الفقهي
ً ً
بإلحاقها بما يماثلها شرعا أو فقها ،بعد تفقد شرائط اإللحاق ،وهو ما يسمى بتخريج الفروع على
الفروع ،أي إلحاق الفروع الجديدة بما يماثلها من املسائل التي بحث املتقدمون أحكامها.
وهذا ال يعني بالضرورة التزام جدد التقليد في هذه الحال ،بل املقصود إجراؤها مجرى سابقتها من
حيث تسكينها في محلها من أبواب الفقه ومسائله ،ومن حيث الوفاق والخالف ،مع مالحظة
الفروق التي تلم بأعطاف النازلة ،فرب نازلة يظنها الباحث مسماة في الشريعة والحال أنها
مستجدة ،أو العكس.
ً
على أنه ينتبه هنا إلى أن كثيرا من مصنفات املتأخرين من الفقهاء قد توسعت في تخريج الفروع
على األصول حتى خرجت في مواضع منها عن مقاصد األئمة وأقوالهم ،وربما نسبت إليهم ما
يصرحون بمنعه ،وكان هذا التوسع محل انتقاد من عدد من محققي املذاهب الفقهية.
يقول ابن تيمية " :فالواجب على من شرح هللا صدره لإلسالم إذا بلغته مقالة ضعيفة عن بعض
األئمة أن ال يحكيها ملن يتقلد بها ،بل يسكت عن ذكرها إلى أن يتيقن صحتها وإال توقف في قبولها،
فما أكثر ما يحكى عن األئمة ما ال حقيقة له ،وكثير من املسائل يخرجها بعض األتباع على قاعدة
متبوعة مع أن ذلك اإلمام لو رأى أنها تفض ي إلى ذلك ملا التزمها ،والشاهد يرى ما ال يرى الغائب".
ثانيهما :أن تكون مسألة جديدة ،لم يسبق لها ذكر بذاتها ،ال في النصوص الشرعية ،وال في
املصنفات الفقهية ،وحينئذ يصدق عليها اسم :النازلة الفقهية ،وفي هذه الحال يستأنف الفقيه
ً ً ً
لها نظرا جديدا ،مراعيا أصول الشريعة وقواعدها وأدلتها العامة ،وهذا هو التكييف في اصطالح
بعض الباحثين.
وقد تكون النازلة مستجدة برمتها ،كما أنها قد تكون مركبة من كيفيات معهودة في الفقه ،وتكون
جدتها من حيث تركيبها ،ال من حيث تبسيطها وما ُّ
نتحل إليه.
ومن املهم أن يتنبه الباحث إلى األخطاء الشائعة في توصيف بعض الوقائع ،فقد يعبر السائل عن
الواقعة بما يوحي للفقيه أن هذه الواقعة تندرج تحت باب ما من أبواب الفقه ،فإذا ما سدد
النظر تكشف له خطأ السائل ،فقد يسأل السائل عن حكم االقتراض من املصرف (البنك) ،وهو
ً ً
يقصد إجراء التورق املصرفي مثال ،وهذا قد تكرر مع كثير من املناسبات مرارا ،بسبب جهل
السائلين بلسان الشرع ولغة الفقه.
3-التدليل:
ويقصد بالتدليل :استحضار األدلة والشواهد ،ويلتحق بذلك استدعاء النقول الفقهية من
األصول والقواعد وأقوال األئمة ،وهذه األخيرة وإن لم تكن أدلة حاكمة باملعنى االصطالحي ،إال
أنها أدرجت في هذا املوضع من حيث هي مفسرة ومقاربة للدليل وليست به.
والبحث النوازلي يحتاج في هذه املرحلة إلى بيان أمرين :أولهما :خطوات التدليل ،وثانيهما :أنواع
النقول التي يحتاجها.
ً
أوال :خطوات التدليل:
إن التناول االستداللي للنازلة الفقهية يستدعي إعمال معياري الفقه والسياسة الشرعية ،أو
إجراء النظر في النازلة ً
بناء على ما تقتضيه الصناعة الفقهية ،والسياسة الشرعية ،فهاتان
خطوتان يمر بهما البحث النوازلي ،وهذا بيانهما:
أ ـ الصناعة الفقهية :وحقيقتها إعمال اآللة الفقهية في تجهيز الحكم ،وأعني بها تزود الباحث في
النوازل باآلالت الفقهية ،وهي أدلة الفقه وقواعد االستنباط.
ب ـ السياسة الشرعية :وحقيقتها إعمال آلة السياسة الشرعية في تجهيز الحكم .أي تزود الباحث
بأدلة السياسة الشرعية ،وهي األدلة التبعية :كقاعدة الذرائع ،واملصلحة املرسلة ،واالستحسان،
وتفصيل هاتين املرحلتين فيما يأتي:
1-الصناعة الفقهية :هنا يستدعي الفقيه أدوات الفقه وآالته ،ويقوم بتوظيفها التوظيف
الصحيح ،فيجمع النصوص واآلثار ،ويرصد القواعد والضوابط الخاصة بالنازلة.
وهو في هذه املرحلة معتكف في محراب الفقه ،يبحث ويفتش ،يفحص ويتأمل ،يقارن ويرجح،
وينقطع عن املألوفات االجتماعية ،وينعزل عن املعهودات واملفاهيم املدرسية ،وقد ذكر أبو
حامد الغزالي أنه ال بد لطالب العلم من " االنفكاك عن داعية العناد ،وضراوة االعتياد ،وحالوة
املألوف من االعتقاد ،فالضراوة بالعادة مخيلة البالدة ،والشغف بالعناد ،مجلبة الفساد،
والجمود على تقليد االعتقاد مدفعة الرشاد" .ومن دقيق نظر ابن حزم أنه يلفت إلى الفرق بين
الثبات على القول واللجاج فيه ،فالثبات يستند إلى صحة املبدأ ،واللجاج يستند إلى العناد.
2-السياسة الشرعية:
وهنا يوظف الفقيه معايير املقاصد العامة واملصالح واملفاسد ،وأدلة السياسة
ً
الشرعية ،ويوظف الرخصة والعزيمة كال في محله األوفق.
ً
ثانيا :أنواع النقول:
النقول التي يحتاجها الفقيه في بحث النازلة الفقهية على أنواع ،وهي األدلة الشرعية بأنواعها،
والقواعد الفقهية ،واملقاصد والنقول الفقهية ،والقرارات املجمعية ،والفتاوي العصرية.
أ -األدلة الشرعية :سواء كانت أدلة أصلية :وهي نصوص الكتاب والسنة واإلجماع
والقياس ،أو تبعية :كاملصلحة املرسلة والذرائع واالستحسان وقول الصحابي.
ومن املهم هنا تناول هذه األدلة وتفسيرها بالطرق املعتبرة ،فكالم هللا ورسوله له مبان وتصريفات
وعوارض ال يحيط بها إال من يفهم اللسان العربي .قال يحيى بن نضلة املديني :سمعت مالك بن
ً
أنس يقول " :ال أوتى برجل يفسر كتاب هللا غير عالم بلغة العرب إال جعلته نكاال ".
ولتفسير نصوص الكتاب والسنة قواعد أوعب األصوليون فيها القول ،مستمدين في ذلك من
مصنفات النحو فيما يتعلق بالحروف ،ومن مصنفات اللغة والصرف فيما يتعلق باألسماء
واألفعال.
وطريقة الراسخين من أهل العلم جمع النصوص في الباب ،وتخريج مناطاتها ،والتأليف بينها،
وعدم ضرب بعضها ببعض ،فإن التجزئة طريقة متبعي الشبهات ،الذين يجعلون القرآن ِعضين،
ً ً ً ُ
دليل كان ،عفوا وأخذا أوليا ،وإن كان ثم ما يعارضه من كلي أو جزئي"، دليل ما ،أي ٍودأبهم " أخذ ٍ
وقد ذكر ابن عباس ـ رض ي هللا عنهما ـ ل لخوارج أن التحكيم في أمر أميرين ألجل دماء األمة أولى من
ٌ
استدالل من ابن التحكيم في أمر الزوجين والتحكيم ألجل دم الصيد ،قال ابن تيمية " :وهذا
عباس باالعتبار وقياس األولى ،وهو من امليزان ،فاستدل عليهم بالكتاب وامليزان".
ُ
وهذا يبين أن الخوارج إنما أتوا من قصور النظر في األدلة ،واختالل امليزان العلمي ،فوقع منهم
ُ َ
الغلو في جانب من الشريعة ،والجفاء في جوانب أخر ،وهكذا الباحثون في الفقهيات ،فكل من
قصر منهم في باب من أبواب العلم ،أو منعه ،أوضيق على نفسه أو غيره فيه ،فال بد أن يضطر
باب آخر أكثر مما يحتمله.
إلى أن يتوسع في ٍ
ومن املعايير املهمة في تفسير النصوص الشرعية :رعاية مقاصد األلفاظ الشرعية ،فإن الفقيه
الثقة يستحضر املعاني واملقاصد ،دون الوقوف على أحرف األلفاظ واملباني وإهمال املقاصد
واملعاني ،فإن " العارف يقول :ماذا أراد ،واللفظي يقول :ماذا قال؟ " ،ومن ثم قال اإلمام ابن
عيينة " :الحديث مضلة إال للفقهاء".
ب ـ القواعد الفقهية:
ومما يلزم الباحث النوازلي مراعاته :القواعد والضوابط املقررة في علم القواعد الفقهية ،وهذه
لها أهميتها البالغة في ضبط النظر الفقهي في مرحلة التوصيف والتنزيل ،ومن ثم اشترط ٌ
جمع من
ََ َ
استنباط أحكام الفروع املتجددة ،التي ال نقل
ِ األصوليين في الفقيه املجتهد ملكة االقتدار على
فيها عن صاحب املذهب ،من األصول التي مهدها صاحب املذهب.
على أنه يجب التنبه إلى أنه من الغلط اعتقاد اطراد القواعد الفقهية االصطالحية في جميع
ً
تطبيقاتها ،فإن للقواعد استثناءات ومخصصات ومقيدات ،ولعل باحثا يغفل عن ذلك؛ فينزل
القاعدة في مواضع االستثناء والتخصيص.
ومن يتفحص القواعد التي اصطنعها الفقهاء يجد أنهم كانوا يتطلبون اختصار الجزئيات الكثيرة
ً
في ألفاظ مختصرة وجيزة ،وأنهم لم ينشغلوا كثيرا لدى الصياغة بمسألة االطراد ،ولم يقصدوا
طردها في جميع مواردها ،وإنما قصدوا صياغة قواعد منظمة لكثير من فروع األبواب ،فكانوا
يقتصرون في ألفاظ القواعد على الحد األدنى من األلفاظ ،ويعبرون عن القاعدة بلفظين:
ً
موضوع ومحمول ،دون اإلفاضة في الضوابط واملقيدات ،تسهيال للحفظ ،ويراعون في ألفاظها
ٍ
التنصيص على املدرك املؤثر.
ج ـ املقاصد:
وهي أهداف شرعية عالية ،وغايات ونهايات دينية جاءت الشريعة بمراعاتها ،ال يقوم البحث
الفقهي إال بالتوجه إلى حفظها وصونها ،وال يقبل النظر في الشريعة إال باستيعابها .فهذه تراعى
بحسب مراتبها ،فإنها تتفاوت في درجة قوتها ،فتقدم الضروريات ،فالحاجيات ،فالتحسينيات،
ويراعي ما هو أصل ،وما هو تتمة وتكملة.
ُّ َ ً
تختص وحكما لحظها الشارع في جميع أحوال التشريع ،أو معظمها ،بحيث ال معان ِ
إن ثمة ٍ
خاص من أحكام الشريعة .وإهمال هذه الغايات الكبرى عند النظر في
ٍ مالحظتها بالكون في ٍ
نوع
ً ً ً
النوازل يورث البحث الفقهي شذوذا وتناقضا واضطرابا.
كثيرة منها،
أنواع ٍ
كما أن ثمة مقاصد خاصة ،ال تلحظ في جميع أنواع األحكام ،ولكنها ملحوظة في ٍ
تلزم مراعاتها في بابها .
فمراعاة حفظ النظام العام ،وجلب املصالح ،ودرء املفاسد ،وعمارة األرض ،وإقامة العدل بين
ُ
وجعل األمة مطمئنة البال ،يحفظ الناس ،وحسم الشجار ،وجعل الشريعة ُمهابة مطاعة نافذة،
نظام االستدالل الفقهي ،ويوجهه الوجهة الرشيدة.
ً
وثمة مقاصد خاصة تختص بباب واحد أو أكثر ،كمقاصد أبواب املعامالت خصوصا ،وهي
الكيفيات املقصودة للشارع لتحقيق مقاصد الناس النافعة ،أو لحفظ مصالحهم العامة في
حكمة روعيت في تشريع أحكام تصرفات الناس ،مثل :قصد التوثق في
ٍ تصرفاتهم الخاصة ،فكل
عقدة الرهن ،وإقامة نظام املنزل والعائلة في عقدة النكاح ،ودفع الضرر املستدام في مشروعية
الطالق ،فهذه تجب مراعاتها في مواضعها من كل باب.
وإذا تعود الذهن على رعاية املقارنة بين األدلة واملقاصد صار من يمارسها :فقيه النفس ،وقد
جعل أبو املعالي الجويني فقه النفس "هو الدستور" في باب االجتهاد والفتوى ،أي :أن شروط
الفقيه راجعة في الحقيقة إلى فقه النفس ،وتابعه على ذلك جماعة من أهل األصول ،واشترطوا
له الدربة واالرتياض في استعمال األدلة ،مع الضبط ألمهات املسائل وتفاريعها املفروغ من
ً
تمهيدها فقها.
د ـ النقول الفقهية:
وهي أقوال الفقهاء املتقدمين ،كأئمة املذاهب األربعة ونحوهم ،والغرض من استحضار
ً
هذه النقول االستئناس بها ،والتخريج عليها عند االقتضاء ،فهذا ليس باستدالل أصال ،بل
سبيله :مقاربة األدلة ،وهو أنفع ما يكون حين تعوز األدلة في الباب.
على أن من أوجه الوقوع في الزلل في البحث النوازلي ،األخذ باألقوال الضعيفة والشاذة ،املضادة
ملقاصد الشريعة ،واملخالفة ألدلتها ،فإذا ما اختبرها الفقيه بمعيار األدلة واملقاصد؛ تبين له وجه
الصواب فيها ،وانفرز الصحيح من الضعيف.
ً ً ً ُ ً
إن قوال من األقوال التي تعزى إلى ٍ
إمام من األئمة ،نصا أو خريجا ،ربما كان راسخا في الداللة،
ً
عصر من األعصر السالفة ،لكن ملا تغير العصر ،واستجدت للناس ٍ مناسبا ملقاصد الشريعة في
ً ً
أحوال لم تكن قبل؛ عاد القول به ضعيفا ،غريبا على مقاصد الشريعة وأحكامها ،ال ينتهض
ً
لألخذ به شرعا ،بحيث لو ُع ِرض على قائله من األئمة لم يلتزم لوازمه ،ولرجع عنه.
والتخريج الفقهي يحتاج مهارة فقهية عالية ،بحيث يتحاش ى الباحث مسالك الرعونة والجمود في
مطرد أحكامه ،وينأى عن اإلسقاطات التي ال تتسق مع طبيعة هذه الشريعة وسماحتها.
واعتبر ذلك في مسألة سعة الطريق إذا وقع فيها نز ٌ
اع بين املتجاورين ،فقد كان الحكم فيما مض ى
أنهم إذا تشاجروا في سعة الطريق أن تجعل سبعة أذرع ،لحديث أبي هريرة قال" :قض ى النبي صلى
هللا عليه وسلم إذا تشاجروا في الطريق بسبعة أذرع" ،وقد نص الحنابلة على أن هذا القدر ال
ً ً ُ ً
األحمال واألثقال دخوال وخروجا ،ويسع ما ال يغير بعد وضعه ،لكن ملا كان ذلك معلال بأن تسلكها
ً
بد لهم من طرحه عند األبواب ،وكان هذا مناسبا لوسائل النقل القديمة من الدواب ،فلما
استجد للناس هذه املركبات الحديثة ،التي ال يسعها ما يسع تلك الدواب القديمة؛ أفتى
املعاصرون بجواز التغيير وتوسعة الطريق مع تعويض أصحاب األمالك.
هـ ـ القرارات املجمعية:
ومن املهم في البحث النوازلي استحضار القرارات الصادرة في املوضوع من قبل املجامع الفقهية
ً
املعاصرة ،ومؤسسات اإلفتاء الجماعي ،ويضم إلى ذلك أيضا سائر الفتاوي العصرية الصادرة من
أهل العلم املحققين ،والبحوث واملصنفات العلمية الصادرة في النازلة.
وال غنى للباحث النوازلي عن مطالعة دواوين الفتاوى والبحوث الحديثة ،وهي:
-1فتاوي الجهات الرسمية :كفتاوى املجلس العلمي األعلى باملغرب ،ودار اإلفتاء باألزهر،
ولجنة الفتوى باألزهر ،وفتاوي قطاع اإلفتاء بالكويت ،واللجنة الدائمة باململكة العربية
السعودية.
-2فتاوي املجامع والهيئات الشرعية ،مثل :مجمع البحوث اإلسالمية باألزهر ،وهيئة كبار
العلماء ،ومجمع الرابطة ،ومجمع منظمة املؤتمر اإلسالمي ، ،وفتاوي الهيئات الشرعية في البنوك.
-4التنزيل:
النوازل بطبيعتها مستأنفة ،ال يتقدم لها نظير في العادة ،ولو فرض تقدم النظير لبعض الوقائع في
نفس األمر ،فإنه لم يتقدم لنا بحسب علمنا ،وحتى لو علمنا ذلك فال بد من النظر في كونها مثلها
أو ال .وإذا ثبت هذا فال بد عند البحث فيها من االجتهاد في طلب الحكم املناسب ،بحيث يقوم
الباحث بتنزيل الحكم الكلي.
ويقصد بمرحلة التنزيل :إيقاع الحكم على النازلة ،وسبيله تحقيق املناط على الوقائع
املتجددة ،فإن الحكم املعلق بوصف يحتاج في الحكم على املعين أن يعلم ثبوت ذلك الوصف
فيه .وهو ضربان:
-تحقيق املناط في النوع ،أي في عموم نوع النازلة ،ومثاله أن تقول :إن التورق جائز.
ً
-تحقيق املناط في العين ،أي في آحاد النوازل ،ومثاله أن تقول إن هذه املعاملة تسمى تورقا،
فهي جائزة.
َْ َ َ ُ ْ
ات ِلل ُف َق َراء َوامل َس ِاك ِين} [التوبة (،])60 ومن أمثلة التنزيل على األشخاص :قوله تعالى{ِ :إن َما الصدق
فالفقر واملسكنة أوصاف شرعية ،ويبقى النظر في الشخص املعين :هل هو من الفقراء أو املساكين
املذكورين في القرآن أم ال ؟ ،وكما حرم هللا الخمر والربا عموما ،ويبقى الكالم في الشراب املعين :هل
هو خمر أم ال ؟ ،قال ابن تيمية" :وهذا النوع مما اتفق عليه املسلمون ،بل العقالء؛ بأنه ال يمكن أن
ينص الشارع على حكم كل شخص ،إنما يتكلم بكالم عام ،وكان نبينا صلى هللا عليه وسلم قد أوتي
جوامع الكلم".
َ
وموجب ومعلوم أن األحكام الشرعية تكون تجريدية ،وأن الوقائع تكون متشخصة في األفراد واألعيان،
إعمال الشريعة :تنزيل أحكامها على الوقائع ،فهذا هو محك ديمومة الشريعة واستمرارها.
وفي هذه املرحلة من البحث يقوم الفقيه ببيان توفر متعلق الحكم في النازلة ،وقد يكون املتعلق علة،
ً ً ً
أو سببا ،أو شرطا ،أو مانعا للحكم ،أو معنى تضمنه الحكم املأمور به ،أو املنهي عنه ،أو معنى تعلق به
لفظ التعريف ،أو اللفظ العام ،أو املطلق ،وله أفراد ينظر في اندراجها تحته.
ويراعي الباحث في هذه املرحلة ما تقتضيه األدلة النقلية والعقلية ،وما ترشد إليه قواعد السياسة
ً
الشرعية ،كما ينبغي رعاية املآالت ،والتدرج من األخف إلى األشد ،ومن الرخص إلى العزائم ،وصوال إلى
منهج فقهي إسالمي يتسم بدرجة مناسبة من االلتزام الشرعي والفني.
ويقرر الشاطبي أن مرحلة التنزيل هذه بالغة األهمية ،وأن منها ما هو سهل يسير ،ومنها ما هو صعب
َ ْ
عسير .ومنشأ الصعوبة في هذا املوضع أن يكون مما تتنازعه األصول .فإن الشارع إذا قال{َ :وأش ِه ُدوا
ً ُ َ
ذ َو ْي َع ْد ٍل ِمنك ْم}[الطالق ( ،])2وثبت عندنا معنى العدالة شرعا ،افتقرنا إلى تعيين من حصلت فيه
ً ً
حد سواء ،بل ذلك يختلف اختالفا متباينا ،فإنا إذا هذه الصفة ،وليس الناس في وصف العدالة على ٍ
تأملنا العدول ،وجدنا التصافهم بها طرفين وواسطة ،طرف أعلى في العدالة ال إشكال فيه ،كأبي بكر
الصديق ،وطرف آخر ،هو أول درجة في الخروج عن مقتض ى الوصف ،كاملجاوز ملرتبة الكفر إلى
ً
الحكم بمجرد اإلسالم ،فضال عن مرتكبي الكبائر ،املحدودين فيها ،وبينهما مراتب ال تنحصر ،وهذا
الوسط غامض ،ال بد فيه من بلوغ حد الوسع ،وهو االجتهاد ،فهذا مما يفتقر إليه الحاكم في كل
ً
شاهد ،ثم ضرب الشاطبي مثاال فقال :كما إذا أوص ى بماله للفقراء ،فال شك أن من الناس من ال ش يء
له ،فيتحقق فيه اسم الفقر ،فهو من أهل الوصية ،ومنهم من ال حاجة به وال فقر ،وإن لم يملك
نصابا ،وبينهما وسائط ،كالرجل يكون له الش يء وال سعة له ،فينظر فيه :هل الغالب عليه حكم
الفقر ،أو حكم الغنى.
ثم ذكر أن هذا املوضع مما يختلف باختالف األحوال واألوقات وغير ذلك من األمور التي ال تنضبط
ٌ
بحصر ،وال يمكن استيفاء القول في آحادها .وذلك أن كل صورة من صوره النازلة نازلة مستأنفة في
نفسها ،لم يتقدم لها نظير.
ً
والشريعة لم تنص على حكم كل جزئية على حدتها ،وإنما أتت بأمور كلية ،تتناول أعدادا ال تنحصر،
ومع ذلك فلكل معين خصوصية ليست في غيره .فال يبقى صورة من الصور الوجودية املعينة إال
نظر سهل أو صعب ،حتى يحقق تحت أي دليل تدخل ،فإن أخذت بشبه من الطرفين وللعالم فيها ٌ
فاألمر أصعب ،وهذا كله بين ملن شدا في العلم.
ولهذا فإن االقتصار في الفتيا على االجتهاد االستنباطي ،دون االجتهاد التنزيلي ،من مثارات الغلط ،إذ ال
يكفي حفظ الدليل الواحد في فقه التنزيل ،وفي ذلك يقول السيوطي" :وإن خاضوا تنزيل الفقه الكلي،
تبصر زائد على حفظ الفقه وأدلته ".
ٍ على املوضع الجزئي ،فذلك يحتاج إلى
ومن شروط جودة التنزيل :توفر مهارات البحث الفقهي ،ومن أهمها :الثقة والحسم،
ومأخذهما :الدربة واملران ،وإال فإن بعض الباحثين يقطع دهره في التردد في حسم مسألة من
املسائل ،وهي أهون من ذلك ،فهذا بسبب قصور الدربة واملران ،وقد تقصر الدربة عن مواضع
ً ً
اإلشكال العسيرة الخفية ،وربما استغلقت املسألة على العالم الثقة دهرا طويال ،كما صرح به
ٌ
جمع من املتقدمين ،كاإلمام القرافي وغيره.
ومن أهم املهارات الفقهية التي يتعين على الباحث اكتسابها :حسن التصرف في مضايق النظر،
وذلك عندما تتعارض األدلة ،وتتقابل األصول في املسألة الواحدة ،فهذا مما يمتحن هللا به
الفقهاء.
َ
وينعقد اإلشكال التنزيلي في البحث النوازلي ساعة يتزاحم على املسألة دليالن فأكثر والتزاحم هنا
إنما يقع في مبادئ النظر ،وبادي الرأي ،وإال فإن األدلة الصحيحة ال تتعارض في نفس األمر ،ثم
ما يقع بين العام والخاص ،واملطلق واملقيد ،ونحو ذلك مما هو مقرر في علم األصول ،وهنا دور
ورد املتشابه إليه" ،ولذلك ال تجد البتة دليلين أجمع املسلمون
املجتهد في تحقيق األخذ باألحكمِ ،
على تعارضهما ،بحيث وجب عليهم الوقوف ،لكن ملا كان أفراد املجتهدين غير معصومين من
الخطأ؛ أمكن التعارض بين األدلة عندهم".
َ
العوارض من فوائد الفقه املستند إلى القواعد أنه يراعي عند التعارض بين األدلة؛
صورة النازلة ،فال ُ َ
تغيب عنه عند تنزيل األدلة على الوقائع؛ جهتا اقتضاء األدلة ِ الطارئة على
ً
لألحكام ،وهما جهتا االقتضاء األصلي ،واالقتضاء التبعي .فحينئذ يحسن إجراء البحث أخذا
ً
بمجامع الفقه ،وضبطا ألصول املسائل ،كمسائل :الحقنة بأنواعها للصائم ،وزكاة املال الحرام،
والتورق ،وتأجير البناية لبنك ربوي ،وشراء الذهب بصور النقد الحديثة ،وغيرها كثير من
املسائل التي ما تزال محل استشكال لدى الكثيرين ،وذلك أن النازلة ال تكون في املسائل الواضحة
ً ً
للمفطر مثال ،و ال حكم املال الحرام ،وال شراء
ِ غالبا ،فال يستشكل الناس حكم تعاطي الحقنة
السيارة بقصد تملكها ،وال تأجير البناية ملن يستعملها في مباح ،وال شراء الذهب بالنقد ،فهذه ال
إشكال فيها على أحد .على أن مبنى الفقه على الظنون الغالبة ،واملقاربة أصل من أصول الحسم
الفقهي ،وهي جادة مسلوكة لدى املتقدمين مع شدة ورعهم ،وقد قال اإلمام ابن أبي زيد
يقرب األمر فيه ،كي تظهر له لوائح الحق".
القيرواني "ومن ابتلي فإنه ِ