You are on page 1of 76

‫تمهيد‬

‫من األدّلة على احلكم الشرعّي عند األصولّيني اإلمامّية (‪« )1‬العقل» ‪ ،‬إذ يذكرون أّن األدّلة على‬
‫األحكام الشرعّية الفرعّية أربعة ‪ :‬الكتاب ‪ ،‬والسّنة ‪ ،‬واإلمجاع ‪ ،‬والعقل‪.‬‬
‫وسيأيت يف «مباحث احلّج ة» وجه حجّية العقل (‪.)2‬‬
‫أّم ا هنا فإمّن ا يبحث عن تشخيص صغريات ما حيكم به العقل املفروض أّنه حّج ة ‪ ،‬أي يبحث هنا عن‬
‫مصاديق أحكام العقل الذي هو دليل على احلكم الشرعّي ‪ .‬وهذا نظري البحث يف املقصد األّو ل (مباحث‬
‫األلفاظ) عن مصاديق أصالة الظهور اليت هي حّج ة ‪ ،‬وحّج يتها إمّن ا يبحث عنها يف مباحث احلّج ة‪.‬‬
‫وتوضيح ذلك أّن هنا مسألتني ‪:‬‬
‫‪ .1‬إّنه إذا حكم العقل على شيء أّنه حسن شرعا أو يلزم فعله شرعا ‪ ،‬أو حيكم على شيء أّنه قبيح‬
‫شرعا أو يلزم تركه شرعا بأّي طريق من الطرق اليت سيأيت بياهنا (‪ ، )3‬هل يثبت هبذا احلكم العقلّي حكم‬
‫الشرع؟ أي إّنه من حكم العقل هذا هل يستكشف أّن الشارع واقعا قد حكم بذلك؟ ومرجع ذلك إىل أّن‬
‫حكم العقل هذا هل هو حّج ة أو ال؟ وهذا البحث ـ كما قلنا ـ إمّن ا يذكر يف مباحث احلّج ة ‪ ،‬وليس هنا موقعه‪.‬‬
‫وسيأيت بيان إمكان حصول القطع باحلكم الشرعّي من غري الكتاب والسّنة (‪ ، )1‬وإذا حصل ‪ ،‬كيف يكون‬
‫حّج ة؟‬
‫‪ .2‬إّنه هل للعقل أن يدرك بطريق من الطرق أّن هذا الشيء مثال حسن شرعا أو قبيح أو يلزم فعله أو‬
‫تركه عند الشارع؟ يعين أّن العقل بعد إدراكه حلسن األفعال أو لزومها ‪ ،‬ولقبح األشياء أو لزوم تركها يف‬
‫أنفسها بأّي طريق من الطرق ‪ ...‬هل يدرك مع ذلك أهّن ا كذلك عند الشارع؟‬
‫وهذا املقصد الثاين ـ الذي ّمسيناه ‪« :‬حبث املالزمات العقلّية» ـ عقدناه ألجل بيان ذلك يف مسائل على‬
‫النحو الذي سيأتى إن شاء اهلل (تعاىل) ‪ ،‬ويكون فيه تشخيص صغريات حجّية العقل املبحوث عنها يف املقصد‬
‫الثالث (مباحث احلّج ة)‪.‬‬
‫ّمث ال بّد ـ قبل تشخيص هذه الصغريات يف مسائل ـ من ذكر أمرين يتعّلقان باألحكام العقلّية مقّد مة‬
‫للبحث ‪ ،‬نستعني هبا على املقصود ‪ ،‬ومها ‪:‬‬

‫‪ .1‬أقسام الدليل العقلّي‬


‫(‪)2‬‬

‫إّن الدليل العقلّي ـ أو فقل ‪ :‬ما حيكم به العقل الذي يثبت به احلكم الشرعّي ـ ينقسم إىل قسمني ‪ :‬ما‬
‫يستقّل به العقل ‪ ،‬وما ال يستقّل به‪.‬‬
‫وبتعبري آخر نقول ‪ :‬إّن األحكام العقلّية على قسمني ‪ :‬مستقالت ‪ ،‬وغري مستقّالت‪.‬‬
‫وهذه التعبريات كثريا ما جتري على ألسنة األصولّيني ويقصدون هبا املعىن الذي سنوّض حه‪ .‬وإن كان قد‬
‫يقولون ‪« :‬إّن هذا ّمما يستقّل به العقل» وال يقصدون هذا املعىن ‪ ،‬بل يقصدون به معىن آخر ‪ ،‬وهو ما حيكم‬
‫به العقل بالبداهة وإن كان ليس من املستقّالت العقلّية باملعىن اآليت‪.‬‬
‫وعلى كّل حال ‪ ،‬فإّن هذا التقسيم حيتاج إىل شيء من التوضيح ‪ ،‬فنقول ‪:‬‬
‫إّن العلم باحلكم الشرعّي ‪ ،‬كسائر العلوم ال بّد له من عّلة ؛ الستحالة وجود املمكن بال عّلة‪ .‬وعّلة‬
‫العلم التصديقّي ال بّد أن تكون من أحد أنواع احلّج ة الثالثة ‪ :‬القياس ‪ ،‬أو االستقراء ‪ ،‬أو التمثيل‪ .‬وليس‬
‫االستقراء ّمما يثبت به احلكم الشرعّي ‪ ،‬وهو واضح‪ .‬والتمثيل ليس حبّج ة عندنا ؛ ألّنه هو القياس املصطلح عليه‬
‫عند األصولّيني الذي هو ليس من مذهبنا‪.‬‬
‫فيتعنّي أن تكون العّلة للعلم باحلكم الشرعّي هي خصوص القياس باصطالح املناطقة ‪ ،‬وإذا كان كذلك‬
‫فإّن كّل قياس ال بّد أن يتأّلف من مقّد متني ‪ ،‬سواء كان استثنائّيا أو اقرتانّيا‪ .‬وهاتان املقّد متان قد تكونان معا‬
‫غري عقلّيتني ‪ ،‬فالدليل الذي يتأّلف منهما يسّم ى «دليال شرعّيا» يف قبال الدليل العقلّي ‪ .‬وال كالم لنا يف هذا‬
‫القسم هنا‪ .‬وقد تكون كّل منهما أو إحدامها عقلّية ـ أي ّمما حيكم العقل به من غري اعتماد على حكم شرعّي‬
‫ـ ‪ ،‬فإّن الدليل الذي يتأّلف منهما يسّم ى «عقلّيا» ‪ ،‬وهو على قسمني ‪:‬‬
‫‪ .1‬أن تكون املقّد متان معا عقلّيتني ‪ ،‬كحكم العقل حبسن شيء أو قبحه ‪ّ ،‬مث حكمه بأّنه كّل ما حكم‬
‫به العقل حكم به الشرع على طبقه‪ .‬وهو القسم األّو ل من الدليل العقلّي ‪ ،‬وهو قسم «املستقّالت العقلّية»‪.‬‬
‫‪ .2‬أن تكون إحدى املقّد متني غري عقلّية واألخرى عقلّية ‪ ،‬كحكم العقل بوجوب املقّد مة عند وجوب‬
‫ذيها ‪ ،‬فهذه مقّد مة عقلّية صرفة ‪ ،‬وينضّم إليها حكم الشرع بوجوب ذي املقّد مة‪ .‬وامّن ا يسّم ى الدليل الذي‬
‫يتأّلف منهما «عقلّيا» ألجل تغليب جانب املقّد مة العقلّية‪ .‬وهذا هو القسم الثاين من الدليل العقلّي ‪ ،‬وهو‬
‫قسم «غري املستقّالت العقلّية»‪ .‬وامّن ا ّمسي بذلك ؛ ألّنه ـ من الواضح ـ أّن العقل مل يستقّل وحده يف الوصول‬
‫إىل النتيجة ‪ ،‬بل استعان حبكم الشرع يف إحدى مقّد ميت القياس‪.‬‬

‫‪ .2‬لما ذا سّم يت هذه المباحث بالمالزمات العقلّية؟‬


‫املراد باملالزمة العقلّية هنا ‪ ،‬هو حكم العقل باملالزمة بني حكم الشرع وبني أمر آخر ‪ ،‬سواء كان‬
‫حكما عقلّيا أو شرعّيا أو غريمها ‪ ،‬مثل ‪ :‬اإلتيان باملأمور به باألمر االضطرارّي الذي يلزمه عقال سقوط األمر‬
‫االختيارّي لو زال االضطرار يف الوقت أو خارجه على ما سيأيت ذلك يف مبحث «اإلجزاء» (‪.)1‬‬
‫وقد خيفى على الطالب ألّو ل وهلة الوجه يف تسمية مباحث األحكام العقلّية بـ «املالزمات العقلّية» ‪ ،‬ال‬
‫سّيما فيما يتعّلق باملستقّالت العقلّية ‪ ،‬ولذلك وجب علينا أن نوّض ح ذلك ‪ ،‬فنقول ‪:‬‬
‫‪ .1‬أّم ا يف املستقّالت العقلّية ‪ :‬فيظهر بعد بيان املقّد متني اللتني يتأّلف منهما الدليل العقلّي ‪ ،‬ومها ـ مثال ـ‬
‫‪:‬‬
‫األولى ‪« :‬العدل حيسن فعله عقال»‪ .‬وهذه قضّية عقلّية صرفة هي صغرى القياس‪ .‬وهي من املشهورات‬
‫اليت تطابقت عليها آراء العقالء اليت تسّم ى «اآلراء احملمودة»‪ .‬وهذه قضّية تدخل يف مباحث علم الكالم‬
‫عادة ‪ ،‬وإذا حبث عنها هنا فمن باب املقّد مة للبحث عن الكربى اآلتية‪.‬‬
‫الثانية ‪« :‬كّل ما حيسن فعله عقال حيسن فعله شرعا»‪ .‬وهذه قضّية عقلّية أيضا يستدّل عليها مبا سيأيت‬
‫يف حمّله ‪ ،‬وهي كربى للقياس ‪ ،‬ومضموهنا املالزمة بني حكم العقل وحكم الشرع‪ .‬وهذه املالزمة مأخوذة من‬
‫دليل عقلّي ‪ ،‬فهي مالزمة عقلّية ‪ ،‬وما يبحث عنه يف علم األصول فهو هذه املالزمة ‪ ،‬ومن أجل هذه املالزمة‬
‫تدخل املستقّالت العقلّية يف املالزمات العقلّية‪.‬‬
‫وال ينبغي أن يتوّه م الطالب أّن هذه الكربى معناها حّجّية العقل ‪ ،‬بل نتيجة هاتني املقّد متني هكذا ‪:‬‬
‫«العدل حيسن فعله شرعا» ‪ ،‬وهذا االستنتاج بدليل عقلّي ‪ .‬وقد ينكر املنكر أّنه يلزم شرعا ترتيب األثر على‬
‫هذا االستنتاج واالستكشاف (‪ ، )2‬وسنذكر إن شاء اهلل (تعاىل) يف حينه الوجه يف هذا االنكار الذي مرجعه‬
‫إىل إنكار حّجّية العقل (‪.)3‬‬
‫والحاصل حنن نبحث يف املستقّالت العقلّية عن مسألتني ‪ :‬إحدامها ‪ :‬الصغرى ‪ ،‬وهي بيان املدركات‬
‫العقلّية يف األفعال االختيارّية [و] أّنه أّيها ينبغي فعله وأّيها ال ينبغي فعله؟ ثانيتهما ‪ :‬الكربى ‪ ،‬وهي بيان أّن ما‬
‫يدركه العقل هل ال بّد أن يدركه الشرع ‪ ،‬أي حيكم على طبق ما حيكم به العقل؟ وهذه هي املسألة األصولّية‬
‫اليت هي من املالزمات العقلّية‪ .‬ومن هاتني املسألتني هنّيئ موضوع مبحث حّجّية العقل‪.‬‬
‫‪ .2‬وأّم ا يف «غري املستقّالت العقلّية» فأيضا يظهر احلال فيها بعد بيان املقّد متني اللتني يتأّلف منهما‬
‫الدليل العقلّي ‪ .‬ومها ـ مثال ـ ‪:‬‬
‫األولى ‪« :‬هذا الفعل واجب» أو «هذا املأّيت به ‪ ،‬مأمور به يف حال االضطرار»‪ .‬فمثل هذه القضايا‬
‫تثبت يف علم الفقه ‪ ،‬فهي شرعّية‪.‬‬
‫الثانية ‪« :‬كّل فعل واجب شرعا يلزمه عقال وجوب مقّد مته شرعا» أو «يلزمه عقال حرمة ضّد ه‬
‫شرعا» أو «كّل مأّيت به ـ وهو مأمور به حال االضطرار ـ يلزمه عقال اإلجزاء عن املأمور به حال‬
‫االختيار» ‪ ...‬وهكذا‪ .‬فإّن أمثال هذه القضايا أحكام عقلّية مضموهنا املالزمة العقلّية بني ما يثبت شرعا يف‬
‫القضّية األوىل وبني حكم شرعّي آخر‪ .‬وهذه األحكام العقلّية هي اليت يبحث عنها يف علم األصول‪ .‬ومن أجل‬
‫هذا تدخل يف باب املالزمات العقلّية‪.‬‬

‫الخالصة‬
‫ومن مجيع ما ذكرنا يّتضح أّن املبحوث عنه يف املالزمات العقلّية هو إثبات الكربيات العقلّية اليت تقع يف‬
‫طريق إثبات احلكم الشرعّي ‪ ،‬سواء كانت الصغرى عقلّية ‪ ،‬كما يف املستقّالت العقلّية ‪ ،‬أو شرعّية ‪ ،‬كما يف‬
‫غري املستقّالت العقلّية‪.‬‬
‫أّم ا الصغرى ‪ :‬فدائما يبحث عنها يف علم آخر غري علم األصول ‪ ،‬كما أّن الكربى يبحث عنها يف علم‬
‫األصول ‪ ،‬وهي (‪ )1‬عبارة عن مالزمة حكم الشرع لشيء آخر باملالزمة العقلّية ‪ ،‬سواء كان ذلك الشيء‬
‫اآلخر حكما شرعّيا أم حكما عقلّيا أم غريمها‪ .‬والنتيجة من الصغرى والكربى هاتني تقع صغرى لقياس آخر‬
‫كرباه حّجّية العقل ‪ ،‬ويبحث عن هذه الكربى يف مباحث احلّج ة‪.‬‬
‫وعلى هذا فينحصر حبثنا هنا يف بابني ‪« :‬باب املستقّالت العقلّية» ‪ ،‬و «باب غري املستقّالت العقلّية» ‪،‬‬
‫فنقول ‪:‬‬

‫الباب األّو ل‬

‫المستقّالت العقلّية‬

‫تمهيد‬
‫الظاهر احنصار املستقّالت العقلّية ـ اليت يستكشف منها احلكم الشرعّي ـ يف مسألة واحدة ‪ ،‬وهي مسألة‬
‫التحسني والتقبيح العقلّيني‪ .‬وعليه ‪ ،‬جيب علينا أن نبحث عن هذه املسألة من مجيع أطرافها بالتفصيل ‪ ،‬ال‬
‫سّيما أّنه مل يبحث عنها يف كتب األصول الدارجة ‪ ،‬فنقول ‪:‬‬
‫وقع البحث هنا يف أربعة أمور متالحقة ‪:‬‬
‫‪ .1‬إّنه هل تثبت لألفعال ـ مع قطع النظر عن حكم الشارع وتعّلق خطابه هبا ـ أحكام عقلّية من حسن‬
‫وقبح؟ أو إن شئت فقل ‪ :‬لألفعال حسن وقبح حبسب ذواهتا ‪ ،‬وهلا قيم ذاتّية يف نظر العقل قبل فرض حكم‬
‫الشارع عليها ‪ ،‬أو ليس هلا ذلك ‪ ،‬وإمّن ا احلسن ما حّس نه الشارع والقبيح ما قّبحه ‪ ،‬والفعل مطلقا يف حّد‬
‫نفسه من دون حكم الشارع ليس حسنا وال قبيحا؟‬
‫وهذا هو اخلالف األصيل بني األشاعرة والعدلّية ‪ ،‬وهو مسألة التحسني والتقبيح العقلّيني املعروفة يف‬
‫علم الكالم ‪ ،‬وعليها ترتّتب مسألة االعتقاد بعدالة اهلل (تعاىل) وغريها‪ .‬وإمّن ا ّمسيت العدلّية «عدلّية» لقوهلم بأّنه‬
‫(تعاىل) عادل ‪ ،‬بناء على مذهبهم يف ثبوت احلسن والقبح العقلّيني‪.‬‬
‫وحنن نبحث عن هذه املسألة هنا باعتبار أهّن ا من املبادئ ملسألتنا األصولّية كما أشرنا إىل ذلك فيما‬
‫سبق‪.‬‬
‫‪ .2‬إّنه بعد فرض القول بأّن لألفعال يف حّد أنفسها حسنا وقبحا ‪ ،‬هل يتمّك ن العقل من إدراك وجوه‬
‫احلسن والقبح مستقّال عن تعليم الشارع وبيانه أو ال؟ وعلى تقدير متّك نه ‪ ،‬هل للمكّلف أن يأخذ به بدون‬
‫بيان الشارع وتعليمه أو ليس له ذلك إّم ا مطلقا أو يف بعض املوارد؟‬
‫وهذه املسألة هي إحدى نقط اخلالف املعروفة بني األصولّيني ومجاعة من األخبارّيني ‪ )1( ،‬وفيها تفصيل‬
‫من بعضهم (‪ )2‬على ما يأيت (‪ .)3‬وهي أيضا ليست من مباحث علم األصول ‪ ،‬ولكّنها من املبادئ ملسألتنا‬
‫األصولّية اآلتية ؛ ألّنه بدون القول بأّن العقل يدرك وجوه احلسن والقبح ال تتحّق ق عندنا صغرى القياس اليت‬
‫تكّلمنا عنها سابقا‪.‬‬
‫وال ينبغي أن خيفى عليكم أّن حترير هذه املسألة سببه املغالطة اليت وقعت لبعضهم ‪ )4( ،‬وإّال فبعد حترير‬
‫املسألة األوىل على وجهها الصحيح ـ كما سيأيت ـ ال يبقى جمال هلذا النزاع‪ .‬فانتظر توضيح ذلك يف حمّله‬
‫( ‪)5‬‬
‫القريب‪.‬‬
‫‪ .3‬إّنه بعد فرض أّن لألفعال حسنا وقبحا وأّن العقل يدرك احلسن والقبح ‪ ،‬يصّح أن ننتقل إىل التساؤل‬
‫عّم ا إذا كان العقل حيكم أيضا باملالزمة بني حكمه وحكم الشرع ‪ ،‬مبعىن أّن العقل إذا حكم حبسن شيء أو‬
‫قبحه هل يلزم عنده عقال أن حيكم الشارع على طبق حكمه؟‬
‫وهذه هي املسألة األصولّية املعرّب عنها مبسألة املالزمة اليت وقع فيها النزاع ‪ ،‬فأنكر املالزمة مجلة من‬
‫األخبارّيني (‪ )1‬وبعض األصولّيني كصاحب الفصول (‪.)2‬‬
‫‪ .4‬إّنه بعد ثبوت املالزمة وحصول القطع بأّن الشارع ال بّد أن حيكم على طبق ما حكم به العقل فهل‬
‫هذا القطع حّج ة شرعا؟‬
‫ومرجع هذا النزاع إىل ثالث نواح ‪:‬‬
‫األولى ‪ :‬يف إمكان أن ينفي الشارع حجّية هذا القطع وينهى عن األخذ به‪.‬‬
‫الثانية ‪ :‬بعد فرض إمكان نفي الشارع حجّية القطع هل هنى عن األخذ حبكم العقل وإن استلزم القطع‬
‫كقول اإلمام عليه‌السالم ‪« :‬إّن دين اهلل ال يصاب بالعقول» (‪ )3‬على تقدير تفسريه بذلك؟‬
‫والنزاع يف هاتني الناحيتني وقع مع األخبارّيني جّلهم أو كّلهم‪.‬‬
‫الثالثة ‪ :‬بعد فرض عدم إمكان نفي الشارع حّجّية القطع هل معىن حكم الشارع على طبق حكم‬
‫العقل هو أمره وهنيه ‪ ،‬أو أّن حكمه إدراكه وعلمه بأّن هذا الفعل ينبغي فعله أو تركه ‪ ،‬وهو شيء آخر غري‬
‫أمره وهنيه ‪ ،‬فإثبات أمره وهنيه حيتاج إىل دليل آخر ‪ ،‬وال يكفي القطع بأّن الشارع حكم مبا حكم به العقل؟‬
‫وعلى كّل حال ‪ ،‬فإّن الكالم يف هذه النواحي سيأيت يف مباحث احلّج ة (املقصد الثالث) (‪ )4‬وهو النزاع‬
‫يف حّجّية العقل‪ .‬وعليه ‪ ،‬فنحن نتعّر ض هنا للمباحث الثالثة األوىل ‪ ،‬ونرتك املبحث الرابع بنواحيه إىل املقصد‬
‫الثالث‪.‬‬

‫المبحث األّو ل ‪ :‬التحسين والتقبيح العقلّيان‬


‫اختلف الناس يف حسن األفعال وقبحها هل إهّن ما عقلّيان أو شرعّيان ‪ ،‬مبعىن أّن احلاكم هبما هل هو‬
‫العقل أو الشرع؟‬
‫فقالت األشاعرة ‪ :‬ال حكم للعقل يف حسن األفعال وقبحها ‪ ،‬وليس احلسن والقبح عائدين إىل أمر‬
‫حقيقّي حاصل فعال قبل ورود بيان الشارع ‪ ،‬بل إّن ما حّس نه الشارع فهو حسن وما قّبحه الشارع فهو‬
‫قبيح ‪ ،‬فلو عكس الشارع القضّية فحّس ن ما قّبحه وقّبح ما حّس نه مل يكن ممتنعا وانقلب األمر فصار القبيح‬
‫حسنا واحلسن قبيحا ‪ ،‬ومّثلوا لذلك بالنسخ من احلرمة إىل الوجوب ومن الوجوب إىل احلرمة (‪.)1‬‬
‫وقالت العدلّية ‪ :‬إّن لألفعال قيما ذاتّية عند العقل مع قطع النظر عن حكم الشارع ‪ ،‬فمنها ‪ :‬ما هو‬
‫حسن يف نفسه ‪ ،‬ومنها ‪ :‬ما هو قبيح يف نفسه ‪ ،‬ومنها ‪ :‬ما ليس له هذان الوصفان‪ .‬والشارع ال يأمر إّال مبا‬
‫هو حسن ‪ ،‬وال ينهى إّال عّم ا هو قبيح ‪ ،‬فالصدق يف نفسه حسن وحلسنه أمر اهلل (تعاىل) به ‪ ،‬ال أّنه أمر اهلل‬
‫(تعاىل) به فصار حسنا ‪ ،‬والكذب يف نفسه قبيح ولذلك هنى اهلل (تعاىل) عنه ‪ ،‬ال أّنه هنى عنه فصار قبيحا (‪.)2‬‬
‫هذه خالصة الرأيني‪ .‬وأعتقد عدم اّتضاح رأي الطرفني هبذا البيان ‪ ،‬وال تزال نقط غامضة يف البحث‬
‫إذا مل نبّينها بوضوح ال نستطيع أن حنكم ألحد الطرفني‪ .‬وهو أمر ضرورّي مقّد مة للمسألة األصولّية ‪،‬‬
‫ولتوّقف وجوب املعرفة عليه‪ .‬فال بّد من بسط البحث بأوسع ّمما أخذنا على أنفسنا من االختصار يف هذا‬
‫الكتاب ؛ ألّمهّية هذا املوضوع من جهة ؛ ولعدم إعطائه حّق ه من التنقيح يف أكثر الكتب الكالمّية واألصولّية‬
‫من جهة أخرى‪.‬‬
‫وأكّلفكم قبل الدخول يف هذا البحث بالرجوع إىل ما حّر رته يف اجلزء الثالث من املنطق عن القضايا‬
‫املشهورات (‪ )3‬؛ لتستعينوا به على ما هنا‪.‬‬
‫واآلن أعقد البحث هنا يف أمور ‪:‬‬

‫‪ .1‬معنى الحسن والقبح وتصوير النزاع فيهما‬


‫إّن احلسن والقبح ال يستعمالن مبعىن واحد ‪ ،‬بل هلما ثالثة معان ‪ ،‬فأّي هذه املعاين هو موضوع النزاع؟‬
‫فنقول ‪:‬‬
‫أّو ال ‪ :‬قد يطلق احلسن والقبح ويراد هبما الكمال والنقص‪ .‬ويقعان وصفا هبذا املعىن لألفعال االختيارّية‬
‫وملتعّلقات األفعال ‪ ،‬فيقال ـ مثال ـ ‪« :‬العلم حسن ‪ ،‬والتعّلم حسن» ‪ ،‬وبضّد ذلك يقال ‪« :‬اجلهل قبيح ‪،‬‬
‫وإمهال التعّلم قبيح»‪ .‬ويراد بذلك أّن العلم والتعّلم كمال للنفس وتطّو ر يف وجودها ‪ ،‬وأّن اجلهل وإمهال‬
‫التعّلم نقصان فيها وتأّخ ر يف وجودها‪.‬‬
‫وكثري من األخالق اإلنسانّية حسنها وقبحها باعتبار هذا املعىن ‪ ،‬فالشجاعة والكرم واحللم والعدالة‬
‫واإلنصاف وحنو ذلك إمّن ا حسنها باعتبار أهّن ا كمال للنفس وقّو ة يف وجودها‪ .‬وكذلك أضدادها قبيحة ؛ ألهّن ا‬
‫نقصان يف وجود النفس وقّو هتا‪ .‬وال ينايف ذلك أّنه يقال لألوىل ‪« :‬حسنة» وللثانية ‪« :‬قبيحة» باعتبار معىن‬
‫آخر من املعنيني اآلتيني‪.‬‬
‫وليس لألشاعرة ظاهرا نزاع يف احلسن والقبح هبذا املعىن ‪ ،‬بل مجلة منهم يعرتفون بأهّن ما عقلّيان (‪ )1‬؛‬
‫ألّن هذه من القضايا اليقينّيات اليت وراءها واقع خارجّي تطابقه ‪ ،‬على ما سيأيت (‪.)2‬‬
‫ثانيا ‪ :‬إهّن ما قد يطلقان ويراد هبما املالءمة للنفس واملنافرة هلا ‪ ،‬ويقعان وصفا هبذا املعىن أيضا لألفعال‬
‫ومتعّلقاهتا من أعيان وغريها‪.‬‬
‫فيقال يف املتعّلقات ‪« :‬هذا املنظر حسن مجيل» ‪« ،‬هذا الصوت حسن مطرب» ‪« ،‬هذا املذوق حلو‬
‫حسن» ‪ ...‬وهكذا‪.‬‬
‫ويقال يف األفعال ‪« :‬نوم القيلولة حسن» ‪« ،‬األكل عند اجلوع حسن» و «الشرب بعد العطش‬
‫حسن» ‪ ...‬وهكذا‪.‬‬
‫وكّل هذه األحكام ألّن النفس تلتّذ هبذه األشياء وتتذّو قها ملالءمتها هلا‪ .‬وبضّد ذلك يقال يف املتعّلقات‬
‫واألفعال ‪« :‬هذا املنظر قبيح» ‪« ،‬ولولة النائحة قبيحة» ‪« ،‬النوم على الشبع قبيح» ‪ ...‬وهكذا‪ .‬وكّل ذلك ؛‬
‫ألّن النفس تتأمّل أو تشمئّز من ذلك‪.‬‬
‫فريجع معىن احلسن والقبح ـ يف احلقيقة ـ إىل معىن اللّذ ة واألمل ‪ ،‬أو فقل ‪« :‬إىل معىن املالءمة للنفس‬
‫وعدمها» ‪ ،‬ما شئت فعرّب ‪ ،‬فإّن املقصود واحد‪.‬‬
‫ّمث إّن هذا املعىن من احلسن والقبح يّتسع إىل أكثر من ذلك ؛ فإّن الشيء قد ال يكون يف نفسه ما‬
‫يوجب لّذ ة أو أملا ‪ ،‬ولكّنه بالنظر إىل ما يعقبه من أثر تلتّذ به النفس أو تتأمّل منه يسّم ى أيضا ‪« :‬حسنا» أو‬
‫«قبيحا» ‪ ،‬بل قد يكون الشيء يف نفسه قبيحا تشمئّز منه النفس ‪ ،‬كشرب الدواء املّر ‪ ،‬ولكّنه باعتبار ما‬
‫يعقبه من الصّح ة والراحة ـ اليت هي أعظم بنظر العقل من ذلك األمل الوقّيت ـ يدخل فيما يستحسن ‪ ،‬كما قد‬
‫يكون الشيء بعكس ذلك حسنا تلتّذ به النفس ‪ ،‬كاألكل اللذيذ املضّر بالصّح ة ‪ ،‬ولكن باعتبار ما يعقبه ـ من‬
‫مرض أعظم من اللّذ ة الوقتّية ـ يدخل فيما يستقبح‪.‬‬
‫واإلنسان بتجاربه الطويلة وبقّو ة متييزه العقلّي يستطيع أن يصّنف األشياء واألفعال إىل ثالثة أصناف ‪:‬‬
‫ما يستحسن ‪ ،‬وما يستقبح ‪ ،‬وما ليس له هاتان املزّيتان‪ .‬ويعترب هذا التقسيم حبسب ما له من املالءمة واملنافرة‬
‫ولو بالنظر إىل الغاية القريبة أو البعيدة اليت هي قد تسمو (‪ )1‬عند العقل على ما له من لّذ ة وقتّية أو أمل وقّيت ‪،‬‬
‫كمن يتحّم ل املشاّق الكثرية ويقاسي احلرمان يف سبيل طلب العلم ‪ ،‬أو اجلاه ‪ ،‬أو الصّح ة ‪ ،‬أو املال ‪ ،‬وكمن‬
‫يستنكر بعض اللّذ ات اجلسدّية استكراها لشؤم عواقبها‪.‬‬
‫وكّل ذلك يدخل يف احلسن والقبح مبعىن املالئم وغري املالئم ‪ ،‬قال القوشجّي يف شرحه للتجريد عن‬
‫هذا املعىن ‪« :‬وقد يعرّب عنهما ـ أي احلسن والقبح ـ باملصلحة واملفسدة فيقال ‪ :‬احلسن ما فيه مصلحة ‪ ،‬والقبيح‬
‫ما فيه مفسدة ‪ ،‬وما خال منهما ال يكون شيئا منهما» (‪.)2‬‬
‫وهذا راجع إىل ما ذكرناه ‪ ،‬وليس املقصود أّن للحسن والقبح معىن آخر ـ مبعىن ما له املصلحة أو‬
‫املفسدة ـ غري معىن املالءمة واملنافرة ‪ ،‬فإّن استحسان املصلحة إمّن ا يكون للمالءمة واستقباح املفسدة للمنافرة‪.‬‬
‫وهذا املعىن من احلسن والقبح أيضا ليس لألشاعرة فيه نزاع ‪ ،‬بل مها عندهم هبذا املعىن عقلّيان ‪ )1( ،‬أي‬
‫ّمما يدركه العقل من غري توّقف على حكم الشرع‪ .‬ومن توّه م أّن النزاع بني القوم يف هذا املعىن ‪ ،‬فقد ارتكب‬
‫شططا ومل يفهم كالمهم‪.‬‬
‫ثالثا ‪ :‬أهّن ما يطلقان ويراد هبما املدح والذّم ‪ ،‬ويقعان وصفا هبذا املعىن لألفعال االختيارّية فقط‪ .‬ومعىن‬
‫ذلك ‪ :‬أّن احلسن ما استحّق فاعله عليه املدح والثواب عند العقالء كاّفة ‪ ،‬والقبيح ما استحّق عليه فاعله الذّم‬
‫والعقاب عندهم كاّفة‪.‬‬
‫وبعبارة أخرى ‪ :‬إّن احلسن ما ينبغي فعله عند العقالء ـ أي إّن العقل عند الكّل يدرك أّنه ينبغي فعله ـ ‪،‬‬
‫والقبيح ما ينبغي تركه عندهم ‪ ،‬أي إّن العقل عند الكّل يدرك أّنه ال ينبغي فعله أو ينبغي تركه‪.‬‬
‫وهذا اإلدراك للعقل هو معىن حكمه باحلسن والقبح ‪ ،‬وسيأيت توضيح هذه النقطة ‪ ،‬فإهّن ا مهّم ة جّد ا يف‬
‫الباب‪.‬‬
‫وهذا املعىن الثالث هو موضوع النزاع (‪ )2‬فاألشاعرة أنكروا أن يكون للعقل إدراك ذلك من دون‬
‫الشرع ‪ ،‬وخالفتهم العدلّية ‪ ،‬فأعطوا للعقل هذا احلّق من اإلدراك‪.‬‬
‫تنبيه ‪ :‬وّمما جيب أن يعلم هنا أّن الفعل الواحد قد يكون حسنا أو قبيحا جبميع املعاين الثالثة ‪ ،‬كالتعّلم‬
‫واحللم واإلحسان ‪ ،‬فإهّن ا كمال للنفس ‪ ،‬ومالئمة هلا باعتبار ما هلا من نفع ومصلحة ‪ ،‬وّمما ينبغي أن يفعلها‬
‫اإلنسان عند العقالء‪.‬‬
‫وقد يكون الفعل حسنا بأحد املعاين ‪ ،‬قبيحا أو ليس حبسن باملعىن اآلخر ‪ ،‬كالغناء ـ مثال ـ ‪ ،‬فإّنه حسن‬
‫مبعىن املالءمة للنفس ‪ ،‬ولذا يقولون عنه ‪« :‬إّنه غذاء للروح» (‪ ، )3‬وليس حسنا باملعىن األّو ل أو الثالث ‪ ،‬فإّنه‬
‫ال يدخل عند العقالء مبا هم عقالء فيما ينبغي أن يفعل‬
‫وليس كماال للنفس ‪ ،‬وإن كان هو كماال للصوت مبا هو صوت ‪ ،‬فيدخل يف املعىن األّو ل للحسن من هذه‬
‫اجلهة ؛ ومثله التدخني أو ما تعتاده النفس من املسكرات واملخّد رات ‪ ،‬فإّن هذه حسنة مبعىن املالءمة فقط ‪،‬‬
‫وليس كماال للنفس وال ّمما ينبغي فعلها عند العقالء مبا هم عقالء‪.‬‬

‫‪ .2‬واقعّية الحسن والقبح في معانيهما ورأى األشاعرة‬


‫إّن احلسن باملعىن األّو ل ـ أي الكمال ـ ‪ ،‬وكذا مقابله ـ أي القبح ـ أمر واقعّي خارجّي ال خيتلف‬
‫باختالف األنظار واألذواق ‪ ،‬وال يتوّقف على وجود من يدركه ويعقله ‪ ،‬خبالف احلسن [والقبح] باملعنيني‬
‫األخريين‪.‬‬
‫وهذا ما حيتاج إىل التوضيح والتفصيل ‪ ،‬فنقول ‪:‬‬
‫‪ .1‬أّم ا احلسن مبعىن املالءمة ‪ ،‬وكذا ما يقابله ‪ ،‬فليس له يف نفسه إزاء يف اخلارج حياذيه وحيكي عنه ‪،‬‬
‫وإن كان منشؤه قد يكون أمرا خارجّيا ‪ ،‬كاللون والرائحة والطعم وتناسق األجزاء وحنو ذلك‪.‬‬
‫بل حسن الشيء يتوّقف على وجود الذوق العاّم أو اخلاّص ‪ ،‬فإّن اإلنسان هو الذي يتذّو ق املنظور أو‬
‫املسموع أو املذوق بسبب ما عنده من ذوق جيعل هذا الشيء مالئما لنفسه فيكون حسنا عنده ‪ ،‬أو غري‬
‫مالئم فيكون قبيحا عنده‪ .‬فإذا اختلفت األذواق يف الشيء كان حسنا عند قوم ‪ ،‬قبيحا عند آخرين‪ .‬وإذا‬
‫اّتفقوا يف ذوق عاّم ‪ ،‬كان ذلك الشيء حسنا عندهم مجيعا ‪ ،‬أو قبيحا كذلك‪.‬‬
‫والحاصل ‪ :‬أّن احلسن ـ مبعىن املالئم ـ ليس صفة واقعّية لألشياء كالكمال ‪ ،‬وليس واقعّية هذه الصفة إّال‬
‫إدراك اإلنسان وذوقه ‪ ،‬فلو مل يوجد إنسان يتذّو ق وال من يشبهه يف ذوقه مل يكن لألشياء يف حّد أنفسها‬
‫حسن مبعىن املالءمة‪.‬‬
‫وهذا مثل ما يعتقده الرأي احلديث (‪ )1‬يف األلوان ‪ ،‬إذ يقال ‪ :‬إهّن ا ال واقع هلا ‪ ،‬بل هي حتصل من‬
‫انعكاسات أطياف الضوء على األجسام ‪ ،‬ففي الظالم حيث ال ضوء ليست هناك ألوان‬
‫موجودة بالفعل ‪ ،‬بل املوجود حقيقة أجسام فيها صفات حقيقّية هي منشأ النعكاس األطياف عند وقوع‬
‫الضوء عليها ‪ ،‬وليس كّل واحد من األلوان إّال طيفا أو أطيافا فأكثر ترّك بت‪.‬‬
‫وهكذا نقول يف حسن األشياء ومجاهلا مبعىن املالءمة ‪ ،‬والشيء الواقعّي فيها ما هو منشأ املالءمة يف‬
‫األشياء ‪ ،‬كالطعم والرائحة وحنومها ‪ ،‬الذي هو كالصفة يف اجلسم ‪ ،‬إذ تكون منشأ النعكاس أطياف الضوء‪.‬‬
‫كما أّن نفسي اللّذ ة واألمل أيضا أمران واقعّيان ‪ ،‬ولكن ليسا مها احلسن والقبح اللذين مها من صفات األشياء ‪،‬‬
‫واللّذ ة واألمل من صفات النفس املدركة للحسن والقبح‪.‬‬
‫‪ .2‬وأّم ا احلسن مبعين ما ينبغي أن يفعل عند العقل ‪ ،‬فكذلك ليس له واقعّية إّال إدراك العقالء ‪ ،‬أو‬
‫فقل ‪« :‬تطابق آراء العقالء»‪ .‬والكالم فيه كالكالم يف احلسن مبعىن املالءمة‪ .‬وسيأيت تفصيل معىن تطابق‬
‫العقالء على املدح والذّم أو إدراك العقل للحسن والقبح (‪.)1‬‬
‫وعلى هذا ‪ ،‬فإن كان غرض األشاعرة من إنكار احلسن والقبح إنكار واقعّيتهما هبذا املعىن من الواقعّية‬
‫فهو صحيح ‪ ،‬ولكن هذا بعيد من أقواهلم ؛ ألّنه ا كانوا يقولون حبسن األفعال وقبحها بعد حكم الشارع‬
‫ّمل‬
‫فإّنه يعلم منه أّنه ليس غرضهم ذلك ؛ ألّن حكم الشارع ال جيعل هلما واقعّية وخارجّية ؛ كيف؟ وقد رّتبوا‬
‫على ذلك بأّن وجوب املعرفة والطاعة ليس بعقلّي بل شرعّي ‪ .‬وإن كان غرضهم إنكار إدراك العقل ـ كما هو‬
‫الظاهر من أقواهلم ـ فسيأيت حتقيق احلّق فيه (‪ ، )2‬وأهّن م ليسوا على صواب يف ذلك‪.‬‬

‫‪ .3‬العقل العملّي والنظرّي‬


‫إّن املراد من العقل ـ إذ يقولون ‪ :‬إّن العقل حيكم حبسن الشيء أو قبحه باملعىن الثالث من احلسن والقبح‬
‫ـ هو «العقل العملّي » يف مقابل «العقل النظرّي »‪.‬‬
‫وليس االختالف بني العقلني إّال باالختالف بني املدركات ‪ ،‬فإن كان املدرك ـ بالفتح ـ‬
‫ّمما ينبغي أن يفعل أو ال يفعل مثل «حسن العدل وقبح الظلم» ‪ ،‬فيسّم ى إدراكه ‪« :‬عقال عملّيا» ‪ ،‬وإن كان‬
‫املدرك ّمما ينبغي أن يعلم مثل قوهلم ‪« :‬الكّل أعظم من اجلزء» الذي ال عالقة له بالعمل فيسّم ى إدراكه ‪:‬‬
‫«عقال نظرّيا»‪.‬‬
‫ومعىن حكم العقل ـ على هذا ـ ليس إّال إدراك أّن الشيء ّمما ينبغي أن يفعل أو يرتك‪ .‬وليس للعقل إنشاء‬
‫بعث وزجر ‪ ،‬وال أمر وهني ‪ ،‬إّال مبعىن أّن هذا اإلدراك يدعو العقل إىل العمل ‪ ،‬أي يكون سببا حلدوث اإلرادة‬
‫يف نفسه للعمل وفعل ما ينبغي ؛ إذن ‪ ،‬املراد من األحكام العقلّية هي مدركات العقل العملّي وآراؤه‪.‬‬
‫ومن هنا تعرف أّن املراد من العقل املدرك للحسن والقبح باملعىن األّو ل هو العقل النظرّي ؛ ألّن الكمال‬
‫والنقص ّمما ينبغي أن يعلم ‪ ،‬ال ّمما ينبغي أن يعمل‪ .‬نعم ‪ ،‬إذا أدرك العقل كمال الفعل أو نقصه ‪ ،‬فإّنه يدرك‬
‫معه أّنه ينبغي فعله أو تركه ‪ ،‬فيستعني العقل العملّي بالعقل النظرّي ‪ .‬أو فقل ‪« :‬حيّص ل العقل العملّي فعال بعد‬
‫حصول العقل النظرّي »‪.‬‬
‫وكذا املراد من العقل املدرك للحسن والقبح باملعىن الثاين هو العقل النظرّي ؛ ألّن املالءمة وعدمها ‪ ،‬أو‬
‫املصلحة واملفسدة ّمما ينبغي أن يعلم ‪ ،‬ويستتبع ذلك إدراك أّنه ينبغي الفعل أو الرتك على طبق ما علم‪.‬‬
‫ومن العجيب ما جاء يف جامع السعادات ؛ إذ يقول ـ رّدا على الشيخ الرئيس خّر يت هذه الصناعة ـ ‪:‬‬
‫«إّن مطلق اإلدراك واإلرشاد إمّن ا هو من العقل النظرّي ‪ ،‬فهو مبنزلة املشري الناصح ‪ ،‬والعقل العملّي مبنزلة املنّف ذ‬
‫اجملري إلشاراته» (‪.)1‬‬
‫وهذا منه خروج عن االصطالح ‪ ،‬وما ندري ما يقصد من العقل العملّي إذا كان اإلرشاد والنصح‬
‫للعقل النظرّي ؟ وليس هناك عقالن يف احلقيقة كما قّد منا ‪ ،‬بل هو عقل واحد ‪ ،‬ولكّن االختالف يف مدركاته‬
‫ومتعّلقاته ‪ ،‬وللتمييز بني املوارد يسّم ى تارة ‪« :‬عملّيا» وأخرى «نظرّيا» ؛ وكأّنه يريد من العقل العملّي نفس‬
‫التصميم واإلرادة للعمل ‪ ،‬وتسمية اإلرادة عقال وضع جديد يف اللغة‪.‬‬

‫‪ .4‬أسباب حكم العقل العملّي بالحسن والقبح‬


‫إّن اإلنسان إذ يدرك أّن الشيء ينبغي فعله فيمدح فاعله ‪ ،‬أو ال ينبغي فعله فيذّم فاعله ‪ ،‬ال حيصل له‬
‫اإلدراك جزافا واعتباطا ‪ ،‬وهذا شأن كّل ممكن حادث ‪ ،‬بل ال بّد له من سبب ؛ وسببه باالستقراء أحد أمور‬
‫مخسة نذكرها هنا لنذكر ما يدخل منها يف حمّل النزاع يف مسألة التحسني والتقبيح العقلّيني ‪ ،‬فنقول ‪:‬‬
‫األّو ل ‪ :‬أن يدرك أّن هذا الشيء كمال للنفس أو نقص هلا ‪ ،‬فإّن إدراك العقل لكماله أو نقصه يدفعه‬
‫للحكم حبسن فعله أو قبحه ‪ ،‬كما تقّد م قريبا (‪ )1‬؛ حتصيال لذلك الكمال أو دفعا لذلك النقص‪.‬‬
‫الثاني ‪ :‬أن يدرك مالءمة الشيء للنفس أو عدمها إّم ا بنفسه أو ملا فيه من نفع عاّم أو خاّص ‪ ،‬فيدرك‬
‫حسن فعله أو قبحه حتصيال للمصلحة أو دفعا للمفسدة‪.‬‬
‫وكّل من هذين اإلدراكني ـ أعين إدراك الكمال أو النقص ‪ ،‬وإدراك املالءمة أو عدمها ـ يكون على‬
‫حنوين ‪:‬‬
‫‪ .1‬أن يكون اإلدراك لواقعة جزئّية خاّص ة ‪ ،‬فيكون حكم اإلنسان باحلسن والقبح بدافع املصلحة‬
‫الشخصّية‪ .‬وهذا اإلدراك ال يكون بقّو ة العقل ؛ ألّن العقل شأنه إدراك األمور الكّلّية ال األمور اجلزئّية ‪ ،‬بل‬
‫إمّن ا يكون إدراك اجلزئّية بقّو ة احلّس أو الواهم أو اخليال ‪ ،‬وإن كان مثل هذا اإلدراك قد يستتبع مدحا أو ذّم ا‬
‫لفاعله ولكن هذا املدح أو الّذ م ال ينبغي أن يسّم ى «عقلّيا» ‪ ،‬بل قد يسّم ى ـ بالتعبري احلديث ـ «عاطفّيا» ؛‬
‫ألّن سببه حتكيم العاطفة الشخصّية ‪ ،‬وال بأس هبذا التعبري‪.‬‬
‫‪ .2‬أن يكون اإلدراك ألمر كّلّي ‪ ،‬فيحكم اإلنسان حبسن الفعل لكونه كماال للنفس ‪ ،‬كالعلم‬
‫والشجاعة ‪ ،‬أو لكونه فيه مصلحة نوعّية ‪ ،‬كمصلحة العدل حلفظ النظام وبقاء النوع اإلنساّين‪ .‬فهذا اإلدراك‬
‫إمّن ا يكون بقّو ة العقل مبا هو عقل ‪ ،‬فيستتبع مدحا من مجيع العقالء‪.‬‬
‫وكذا يف إدراك قبح الشيء باعتبار كونه نقصا للنفس ‪ ،‬كاجلهل ‪ ،‬أو لكونه فيه مفسدة‬
‫نوعّية ‪ ،‬كالظلم ‪ ،‬فيدرك العقل مبا هو عقل ذلك ويستتبع ذّم ا من مجيع العقالء‪ .‬فهذا املدح والذّم إذا تطابقت‬
‫عليه آراء مجيع العقالء باعتبار تلك املصلحة أو املفسدة النوعّيتني ‪ ،‬أو باعتبار ذلك الكمال أو النقص النوعّيني‬
‫فإّنه يعترب من األحكام العقلّية اليت هي موضع النزاع‪ .‬وهو معىن احلسن والقبح العقلّيني الذي هو حمّل النفي‬
‫واإلثبات‪ .‬وتسّم ى هذه األحكام العقلّية العاّم ة «اآلراء احملمودة» و «التأديبات الصالحّية»‪ .‬وهي من قسم‬
‫القضايا املشهورات اليت هي قسم برأسه يف مقابل القضايا الضرورّيات‪ .‬فهذه القضايا غري معدودة من قسم‬
‫الضرورّيات ‪ ،‬كما تومّه ه بعض الناس (‪ )1‬ومنهم األشاعرة ‪ ،‬كما سيأيت يف دليلهم (‪ .)2‬وقد أوضحت ذلك يف‬
‫اجلزء الثالث من املنطق يف مبادئ القياسات ‪ ،‬فراجع (‪.)3‬‬
‫ومن هنا يّتضح لكم جّيدا أّن العدلّية ـ إذ يقولون باحلسن والقبح العقلّيني ـ يريدون أّن احلسن والقبح من‬
‫اآلراء احملمودة والقضايا املشهورة املعدودة من التأديبات الصالحّية ‪ ،‬وهي اليت تطابقت عليها آراء العقالء مبا‬
‫هم عقالء‪.‬‬
‫والقضايا املشهورة ليس هلا واقع وراء تطابق اآلراء ـ أي إّن واقعها ذلك ـ‪ .‬فمعىن حسن العدل أو العلم‬
‫( ‪)4‬‬
‫عندهم أّن فاعله ممدوح لدى العقالء ‪ ،‬ومعىن قبح الظلم واجلهل أّن فاعله مذموم لديهم‪.‬‬
‫ويكفينا شاهدا على ما نقول ـ من دخول أمثال هذه القضايا يف املشهورات الصرفة اليت ال واقع هلا إّال‬
‫الشهرة ‪ ،‬وأهّن ا ليست من قسم الضرورّيات ـ ما قاله الشيخ الّر ئيس يف منطق اإلشارات ‪« :‬ومنها اآلراء‬
‫املسّم اة باحملمودة‪ .‬ورمّب ا خّص صناها باسم املشهورة ؛ إذ ال عمدة هلا إّال الشهرة ‪ ،‬وهي آراء لو خّلي اإلنسان‬
‫وعقله اجملّر د وومهه وحّس ه ومل يؤّد ب بقبول قضاياها واالعرتاف هبا ‪ ...‬مل يقض هبا اإلنسان طاعة لعقله أو‬
‫ومهه أو‬
‫حّس ه ‪ ،‬مثل حكمنا بأّن سلب مال اإلنسان قبيح ‪ ،‬وأّن الكذب قبيح ال ينبغي أن يقدم عليه ‪ .)1( »...‬وهكذا‬
‫وافقه شارحها العظيم اخلواجه نصري الدين الطوسي (‪.)2‬‬
‫الثالث ‪ :‬ومن أسباب احلكم باحلسن والقبح «اخللق اإلنساّين» املوجود يف كّل إنسان على اختالفهم يف‬
‫أنواعه ‪ ،‬حنو خلق الكرم والشجاعة ‪ ،‬فإّن وجود هذا اخللق يكون سببا إلدراك أّن أفعال الكرم ـ مثال ـ ّمما‬
‫ينبغي فعلها فيمدح فاعلها ‪ ،‬وأفعال البخل ّمما ينبغي تركها فيذّم فاعلها‪.‬‬
‫وهذا احلكم من العقل قد ال يكون من جهة املصلحة العاّم ة أو املفسدة العاّم ة وال من جهة الكمال‬
‫للنفس أو النقص ‪ ،‬بل بدافع اخللق املوجود‪.‬‬
‫وإذا كان هذا اخللق عاّم ا بني مجيع العقالء ‪ ،‬يكون هذا احلسن والقبح مشهورين بينهم تتطابق عليهما‬
‫آراؤهم‪ .‬ولكن إمّن ا يدخل يف حمّل النزاع إذا كان اخللق من جهة أخرى فيه كمال للنفس أو مصلحة عاّم ة‬
‫( ‪)3‬‬
‫نوعّية ‪ ،‬فيدعو ذلك إىل املدح والذّم ‪ .‬وجيب الرجوع يف هذا القسم إىل ما ذكرته من «اخللقّيات» يف املنطق‬
‫لتعرف توجيه قضاء اخللق اإلنساّين هبذه املشهورات‪.‬‬
‫الرابع ‪ :‬ومن أسباب احلكم باحلسن والقبح «االنفعال النفساّين» ‪ ،‬حنو الرّقة والرمحة والشفقة واحلياء‬
‫واألنفة واحلمّية والغرية ‪ ...‬إىل غري ذلك من انفعاالت النفس اليت ال خيلو منها إنسان غالبا‪.‬‬
‫فنرى اجلمهور حيكم بقبح تعذيب احليوان اّتباعا ملا يف الغريزة من الرّقة والعطف‪ .‬واجلمهور ميدح من‬
‫يعني الضعفاء واملرضى ويعين برعاية األيتام واجملانني بل احليوانات ؛ ألّنه مقتضى الرمحة والشفقة‪ .‬وحيكم بقبح‬
‫كشف العورة والكالم البذيء ؛ ألّنه مقتضى احلياء‪ .‬وميدح املدافع عن األهل والعشرية والوطن واألّم ة ؛ ألّنه‬
‫مقتضى الغرية واحلمّية ‪ ...‬إىل غري ذلك من أمثال هذه األحكام العاّم ة بني الناس‪.‬‬
‫ولكن هذا احلسن والقبح ال يعّد ان حسنا وقبحا عقلّيني ‪ ،‬بل ينبغي أن يسّم يا «عاطفّيني» أو‬
‫«انفعالّيني»‪ .‬وتسّم ى القضايا هذه عند املنطقّيني بـ «االنفعالّيات»‪ .‬وألجل هذا ال يدخل هذا احلسن والقبح يف‬
‫حمّل النزاع مع األشاعرة ‪ ،‬وال نقول حنن بلزوم متابعة الشرع للجمهور يف هذه األحكام ؛ ألّنه ليس للشارع‬
‫هذه االنفعاالت ؛ بل يستحيل وجودها فيه ؛ ألهّن ا من صفات املمكن‪ .‬وإمّن ا حنن نقول مبالزمة حكم الشارع‬
‫حلكم العقل باحلسن والقبح يف اآلراء احملمودة والتأديبات الصالحّية ـ على ما سيأيت (‪ )1‬ـ ‪ ،‬فباعتبار أّن الشارع‬
‫من العقالء بل رئيسهم ‪ ،‬بل خالق العقل فال بّد أن حيكم حبكمهم مبا هم عقالء ‪ ،‬ولكن ال جيب أن حيكم‬
‫حبكمهم مبا هم عاطفّيون‪ .‬وال نقول ‪ :‬إّن الشارع يتابع الناس يف أحكامهم متابعة مطلقة‪.‬‬
‫الخامس ‪ :‬ومن األسباب «العادة عند الناس» ‪ ،‬كاعتيادهم احرتام القادم ـ مثال ـ بالقيام له ‪ ،‬واحرتام‬
‫الضيف بالطعام ‪ ،‬فيحكمون ألجل ذلك حبسن القيام للقادم وإطعام الضيف‪.‬‬
‫والعادات العاّم ة كثرية ومتنّو عة ‪ ،‬فقد تكون العادة ختتّص بأهل بلد أو قطر أو أّم ة ‪ ،‬وقد تعّم مجيع‬
‫الناس يف مجيع العصور أو يف عصر‪ .‬فتختلف ألجل ذلك ‪ ،‬القضايا اليت حيكم هبا حبسب العادة ‪ ،‬فتكون‬
‫مشهورة عند القوم الذين هلم تلك العادة دون غريهم‪.‬‬
‫وكما ميدح الناس احملافظني على العادات العاّم ة يذّم ون املستهينني هبا ‪ ،‬سواء كانت العادة حسنة من‬
‫ناحية عقلّية أو عاطفّية أو شرعّية ‪ ،‬أو سّيئة قبيحة من إحدى هذه النواحي ‪ ،‬فرتاهم يذّم ون من يرسل حليته إذا‬
‫اعتادوا حلقها ويذّم ون احلليق إذا اعتادوا إرساهلا ‪ ،‬وتراهم يذّم ون من يلبس غري املألوف عندهم جملّر د أهّن م مل‬
‫يعتادوا لبسه ‪ ،‬بل رمّب ا يسخرون به أو يعّد ونه مارقا‪.‬‬
‫وهذا احلسن والقبح أيضا ليسا عقلّيني ‪ ،‬بل ينبغي أن يسّم يا «عادّيني» ؛ ألّن منشأمها العادة‪ .‬وتسّم ى‬
‫القضايا فيهما يف عرف املناطقة «العادّيات»‪ .‬ولذا ال يدخل أيضا هذا احلسن والقبح يف حمّل النزاع‪ .‬وال نقول‬
‫حنن ـ أيضا ـ بلزوم متابعة الشارع للناس يف أحكامهم هذه ؛ ألهّن م مل حيكموا فيها مبا هم عقالء بل مبا هم‬
‫معتادون ‪ ،‬أي بدافع العادة‪.‬‬
‫نعم ‪ ،‬بعض العادات قد يكون موضوعا حلكم الشارع ‪ ،‬مثل حكمه حبرمة لباس الشهرة ‪ ،‬أي اللباس‬
‫غري املعتاد لبسه عند الناس ‪ ،‬ولكن هذا احلكم ال ألجل املتابعة حلكم الناس ‪ ،‬بل ألّن خمالفة الناس يف زّيهم‬
‫على وجه يثري فيهم السخرّية واالمشئزاز فيها مفسدة موجبة حلرمة هذا اللباس شرعا ‪ ،‬وهذا شيء آخر غري ما‬
‫حنن فيه‪.‬‬
‫فتحّص ل من مجيع ما ذكرنا ـ وقد أطلنا الكالم لغرض كشف املوضوع كشفا تاّم ا ـ أّنه ليس كّل حسن‬
‫وقبح باملعىن الثالث موضوعا للنزاع مع األشاعرة ‪ ،‬بل خصوص ما كان سببه إدراك كمال الشيء أو نقصه‬
‫على حنو كّلي ‪ ،‬وما كان سببه إدراك مالءمته أو عدمها على حنو كّلي أيضا من جهة مصلحة نوعّية أو‬
‫مفسدة نوعّية ؛ فإّن األحكام العقلّية الناشئة من هذه األسباب هي أحكام للعقالء مبا هم عقالء ‪ ،‬وهي اليت‬
‫نّد عي فيها أّن الشارع ال بّد أن يتابعهم يف حكمهم‪ .‬وهبذا تعرف ما وقع من اخللط يف كالم مجلة من الباحثني‬
‫عن هذا املوضوع‪.‬‬

‫‪ .5‬معنى الحسن والقبح الذاتّيين‬


‫إّن احلسن والقبح باملعىن الثالث ينقسمان إىل ثالثة أقسام ‪:‬‬
‫‪ .1‬ما هو عّلة للحسن والقبح ‪ ،‬ويسّم ى احلسن والقبح فيه بـ «الذاتّيني» ‪ ،‬مثل العدل والظلم ‪ ،‬والعلم‬
‫واجلهل ؛ فإّن العدل مبا هو عدل ال يكون إّال حسنا أبدا ‪ ،‬أي إّنه مىت ما صدق عنوان العدل فإّنه ال بّد أن‬
‫ميدح عليه فاعله عند العقالء ويعّد عندهم حمسنا ‪ ،‬وكذلك الظلم مبا هو ظلم ال يكون إّال قبيحا ‪ ،‬أي إّنه مىت‬
‫ما صدق عنوان الظلم فإّن فاعله مذموم عندهم ويعّد مسيئا‪.‬‬
‫‪ .2‬ما هو مقتض هلما ‪ ،‬ويسّم ى احلسن والقبح فيه بـ «العرضّيني» ‪ ،‬مثل تعظيم الصديق وحتقريه ‪ ،‬فإّن‬
‫تعظيم الصديق ـ لو خّلي ونفسه ـ فهو حسن ممدوح عليه ‪ ،‬وحتقريه كذلك قبيح لو خّلي ونفسه ؛ ولكن‬
‫تعظيم الصديق بعنوان أّنه تعظيم الصديق جيوز أن يكون قبيحا مذموما ‪ ،‬كما إذا كان سببا لظلم ثالث ‪،‬‬
‫خبالف العدل فإّنه يستحيل أن يكون قبيحا مع بقاء صدق عنوان العدل‪ .‬كذلك حتقري الصديق بعنوان أّنه‬
‫حتقري له جيوز أن يكون حسنا‬
‫ممدوحا عليه ‪ ،‬كما إذا كان سببا لنجاته ‪ ،‬ولكن يستحيل أن يكون الظلم حسنا مع بقاء صدق عنوان الظلم‪.‬‬
‫‪ .3‬ما ال عّلية له وال اقتضاء فيه يف نفسه للحسن والقبح أصال ‪ ،‬وإمّن ا قد يّتصف باحلسن تارة إذا انطبق‬
‫عليه عنوان حسن ‪ ،‬كالعدل ‪ ،‬وقد يّتصف بالقبح أخرى إذا انطبق عليه عنوان قبيح ‪ ،‬كالظلم‪ .‬وقد ال ينطبق‬
‫عليه عنوان أحدمها فال يكون حسنا وال قبيحا ‪ ،‬كالضرب ـ مثال ـ ‪ ،‬فإّنه حسن للتأديب ‪ ،‬وقبيح للتشّف ي ‪ ،‬وال‬
‫حسن وال قبيح كضرب غري ذي الروح‪.‬‬
‫ومعىن كون احلسن أو القبح ذاتّيا أّن العنوان احملكوم عليه بأحدمها مبا هو يف نفسه ويف حّد ذاته يكون‬
‫حمكوما به ‪ ،‬ال من جهة اندراجه حتت عنوان آخر‪ .‬فال حيتاج إىل واسطة يف اّتصافه بأحدمها‪.‬‬
‫ومعىن كونه مقتضيا ألحدمها أّن العنوان ليس يف حّد ذاته مّتصفا به ‪ ،‬بل بتوّس ط عنوان آخر ‪ ،‬ولكّنه ـ‬
‫لو خّلي وطبعه ـ كان داخال حتت العنوان احلسن أو القبيح ‪ ،‬أال ترى تعظيم الصديق ـ لو خّلي ونفسه ـ يدخل‬
‫حتت عنوان العدل الذي هو حسن يف ذاته ‪ ،‬أي هبذا االعتبار تكون له مصلحة نوعّية عاّم ة ؛ أّم ا لو كان سببا‬
‫هلالك نفس حمرتمة كان قبيحا ؛ ألّنه يدخل حينئذ مبا هو تعظيم الصديق حتت عنوان الظلم وال خيرج عن‬
‫عنوان كونه تعظيما للصديق‪.‬‬
‫وكذلك يقال يف حتقري الصديق ‪ ،‬فإّنه ـ لو خّلي ونفسه ـ يدخل حتت عنوان الظلم الذي هو قبيح حبسب‬
‫ذاته ‪ ،‬أي هبذا االعتبار تكون له مفسدة نوعّية عاّم ة ؛ فلو كان سببا لنجاة نفس حمرتمة كان حسنا ؛ ألّنه‬
‫يدخل حينئذ حتت عنوان العدل ‪ ،‬وال خيرج عن عنوان كونه حتقريا للصديق‪.‬‬
‫وأّم ا العناوين اليت من القسم الثالث فليست يف حّد ذاهتا لو خّليت وأنفسها داخلة حتت عنوان حسن أو‬
‫قبيح ‪ ،‬فلذلك ال تكون هلا عّلّية وال اقتضاء‪.‬‬
‫وعلى هذا يّتضح معىن العّلّية واالقتضاء هنا ‪ ،‬فإّن املراد من العّلّية أّن العنوان بنفسه هو متام موضوع‬
‫حكم العقالء باحلسن أو القبح‪ .‬واملراد من االقتضاء أّن العنوان ـ لو خّلي وطبعه ـ يكون داخال فيما هو‬
‫موضوع حلكم العقالء باحلسن أو القبح‪ .‬وليس املراد من‬
‫العّلّية واالقتضاء ما هو معروف من معنامها أّنه مبعىن التأثري واإلجياد ‪ ،‬فإّنه من البديهّي أّنه ال عّلّية وال اقتضاء‬
‫لعناوين األفعال يف أحكام العقالء إّال من باب عّلّية املوضوع حملموله‪.‬‬

‫‪ .6‬أدّلة الطرفين‬
‫بتقدمي األمور السابقة نستطيع أن نواجه أدّلة الطرفني بعني بصرية ؛ لنعطي احلكم العادل ألحدمها‬
‫ونأخذ النتيجة املطلوبة‪ .‬وحنن نبحث عن ذلك يف عّد ة مواّد ‪ ،‬فنقول ‪:‬‬
‫‪ .1‬إّنا ذكرنا أّن قضّية احلسن والقبح من القضايا املشهورات ‪ ،‬وأشرنا إىل ما كنتم درستموه يف اجلزء‬
‫الثالث من املنطق من أّن املشهورات قسم يقابل الضرورّيات السّت كّلها‪ .‬ومنه نعرف املغالطة يف دليل‬
‫األشاعرة ‪ ،‬وهو أهّم أدّلتهم ؛ إذ يقولون ‪:‬‬
‫«لو كانت قضّية احلسن والقبح ّمما حيكم به العقل ملا كان فرق بني حكمه يف هذه القضّية وبني حكمه‬
‫بأّن الكّل أعظم من اجلزء‪ .‬ولكّن الفرق موجود قطعا ؛ إذ احلكم الثاين ال خيتلف فيه اثنان مع وقوع‬
‫االختالف يف األّو ل» (‪.)1‬‬
‫وهذا الدليل من نوع القياس االستثنائّي قد استثين فيه نقيض التايل لينتج نقيض املقّد م‪.‬‬
‫والجواب عنه ‪ :‬أّن املقّد مة األوىل ـ وهي اجلملة الشرطّية ـ ممنوعة ‪ ،‬ومنعها يعلم ّمما تقّد م آنفا ؛ ألّن‬
‫قضّية احلسن والقبح ـ كما قلنا ـ من املشهورات ‪ ،‬وقضّية أّن الكّل أعظم من اجلزء من األّو لّيات اليقينّيات ‪ ،‬فال‬
‫مالزمة بينهما‪ .‬وليس مها من باب واحد حىّت يلزم من كون القضّية األوىل ّمما حيكم به العقل أّال يكون فرق‬
‫بينها وبني القضية الثانية‪ .‬وينبغي أن نذكر مجيع الفروق بني املشهورات هذه وبني األّو لّيات ‪ ،‬ليكون أكثر‬
‫وضوحا بطالن قياس إحدامها على األخرى‪ .‬والفارق من وجوه ثالثة ‪:‬‬
‫األّو ل ‪ :‬أّن احلاكم يف قضايا التأديبات العقل العملّي ‪ ،‬واحلاكم يف األّو لّيات العقل النظرّي ‪.‬‬
‫الثاني ‪ :‬أّن القضّية التأديبّية ال واقع هلا إّال تطابق آراء العقالء ‪ ،‬واألّو لّيات هلا واقع خارجّي ‪.‬‬
‫الثالث ‪ :‬أّن القضّية التأديبّية ال جيب أن حيكم هبا كّل عاقل لو خّلي ونفسه ‪ ،‬ومل يتأّدب بقبوهلا‬
‫واالعرتاف هبا ‪ ،‬كما قال الشيخ الرئيس على ما نقلناه من عبارته فيما سبق يف األمر الثاين ‪ ،‬وليس كذلك‬
‫القضّية األّو لّية اليت يكفي تصّو ر طرفيها يف احلكم ‪ ،‬فإّنه ال بّد أّال يشّك عاقل يف احلكم هبا ألّو ل وهلة‪.‬‬
‫‪ .2‬ومن أدّلتهم على إنكار احلسن والقبح العقلّيني أن قالوا ‪ :‬إّنه لو كان ذلك عقلّيا ملا اختلف حسن‬
‫األشياء وقبحها باختالف الوجوه واالعتبارات ‪ ،‬كالصدق ؛ إذ يكون مّر ة ممدوحا عليه وأخرى مذموما عليه‬
‫إذا كان فيه ضرر كبري‪ .‬وكذلك الكذب بالعكس يكون [مّر ة] مذموما عليه و [أخرى] ممدوحا عليه إذا كان‬
‫فيه نفع كبري ؛ كالضرب والقيام والقعود وحنوها ّمما خيتلف حسنه وقبحه (‪.)1‬‬
‫والجواب عن هذا الدليل وأشباهه يظهر ّمما ذكرناه من أّن حسن األشياء وقبحها على أحناء ثالثة ‪ ،‬فما‬
‫كان ذاتّيا ال يقع فيه اختالف ؛ فإّن العدل مبا هو عدل ال يكون قبيحا أبدا ‪ ،‬وكذلك الظلم مبا هو ظلم ال‬
‫يكون حسنا أبدا ‪ ،‬أي إّنه ما دام عنوان العدل صادقا فهو ممدوح ‪ ،‬وما دام عنوان الظلم صادقا فهو مذموم‪.‬‬
‫وأّم ا ‪ :‬ما كان عرضّيا فإّنه خيتلف بالوجوه واالعتبارات ‪ ،‬فمثال الصدق إن دخل حتت عنوان العدل‬
‫كان ممدوحا ‪ ،‬وإن دخل حتت عنوان الظلم كان قبيحا‪ .‬وكذلك الكذب وما ذكر من األمثلة‪.‬‬
‫والخالصة أّن العدلّية ال يقولون بأّن مجيع األشياء ال بّد أن تّتصف باحلسن أبدا أو بالقبح أبدا ‪ ،‬حىّت‬
‫يلزم ما ذكر من اإلشكال‪.‬‬
‫‪ .3‬وقد استدّل العدلّية على مذهبهم مبا خالصته «أّنه من املعلوم ضرورة حسن اإلحسان وقبح الظلم‬
‫عند كّل عاقل من غري اعتبار شرع ‪ ،‬فإّن ذلك يدركه حىّت منكر الشرائع» (‪.)2‬‬
‫وأجيب عنه بأّن احلسن والقبح يف ذلك مبعىن املالءمة واملنافرة أو مبعىن صفة الكمال والنقص ‪ ،‬وهو‬
‫( ‪)1‬‬
‫مسّلم ال نزاع فيه‪ .‬وأّم ا باملعىن املتنازع فيه فإّنا ال نسّلم جزم العقالء به‪.‬‬
‫ونحن نقول ‪ :‬إّن من يّد عي ضرورة حكم العقالء حبسن اإلحسان وقبح الظلم يّد عي ضرورة مدحهم‬
‫لفاعل اإلحسان وذّم هم لفاعل الظلم‪ .‬وال شّك يف أّن هذا املدح والذّم من العقالء ضرورّيان ؛ لتواترمها عن‬
‫مجيع الناس ‪ ،‬ومنكرمها مكابر‪ .‬والذي يدفع العقالء هلذا ـ كما قّد منا ـ شعورهم بأّن العدل كمال للعادل ‪،‬‬
‫ومالءمته ملصلحة النوع اإلنساّين وبقائه ‪ ،‬وشعورهم بنقص الظلم ‪ ،‬ومنافرته ملصلحة النوع اإلنساّين وبقائه‪.‬‬
‫‪ .4‬واستدّل العدلّية أيضا بأّن احلسن والقبح لو كانا ال يثبتان إّال من طريق الشرع ‪ ،‬فهما ال يثبتان‬
‫( ‪)2‬‬
‫أصال حىّت من طريق الشرع‪.‬‬
‫وقد صّو ر بعضهم (‪ )3‬هذه املالزمة على النحو اآليت ‪:‬‬
‫إّن الشارع إذا أمر بشيء فال يكون حسنا إّال مدح مع ذلك الفاعل عليه ‪ ،‬وإذا هنى عن شيء فال‬
‫يكون قبيحا إّال إذا ذّم الفاعل عليه‪ .‬ومن أين تعرف أّنه جيب أن ميدح الشارع فاعل املأمور به ويذّم فاعل‬
‫املنهّي عنه ‪ ،‬إّال إذا كان ذلك واجبا عقال؟ فتوّقف حسن املأمور به وقبح املنهّي عنه على حكم العقل ‪ ،‬وهو‬
‫املطلوب‪.‬‬
‫ّمث لو ثبت أّن الشارع مدح فاعل املأمور به وذّم فاعل املنهّي عنه ‪ ،‬واملفروض أّن مدح الشارع ثوابه‬
‫وذّم ه عقابه ‪ ،‬فمن أين نعرف أّنه صادق يف مدحه وذّم ه ‪ ،‬إّال إذا ثبت أّن الكذب قبيح عقال يستحيل عليه؟‬
‫فيتوّقف ثبوت احلسن والقبح شرعا على ثبوهتما عقال ‪ ،‬فلو مل يكن هلما ثبوت عقال فال ثبوت هلما شرعا‪.‬‬
‫وقد أجاب بعض األشاعرة (‪ )4‬عن هذا التصوير بأّنه يكفي يف كون الشيء حسنا أن يتعّلق به األمر ‪،‬‬
‫ويف كونه قبيحا أن يتعّلق به النهي ـ حسب الفرض ـ ‪[ ،‬ومها] ثابتان وجدانا ‪ ،‬وال حاجة إىل فرض ثبوت مدح‬
‫وذّم من الشارع‪.‬‬
‫وهذا الكالم ـ يف احلقيقة ـ يرجع إىل أصل النزاع يف معىن احلسن والقبح ‪ ،‬فيكون الدليل وجوابه صرف‬
‫دعوى ومصادرة على املطلوب ؛ ألّن املستدّل يرجع قوله إىل أّنه جيب املدح والذّم عقال ‪ ،‬ألهّن ما واجبان يف‬
‫اّتصاف الشيء باحلسن والقبح ‪ ،‬واجمليب يرجع قوله إىل أهّن ما ال جيبان عقال ‪ ،‬ألهّن ما غري واجبني يف احلسن‬
‫والقبح‪.‬‬
‫واألحسن تصوير الدليل على وجه آخر ‪ ،‬فنقول ‪:‬‬
‫إّنه من املسّلم عند الطرفني وجوب طاعة األوامر والنواهي الشرعّية ‪ ،‬وكذلك وجوب املعرفة‪ .‬وهذا‬
‫الوجوب عند األشاعرة وجوب شرعّي حسب دعواهم ‪ ،‬فنقول هلم ‪ :‬من أين يثبت هذا الوجوب؟ ال بّد أن‬
‫يثبت بأمر من الشارع ؛ فننقل الكالم إىل هذا األمر ‪ ،‬فنقول هلم ‪ :‬من أين جتب طاعة هذا األمر؟ فإن كان‬
‫هذا الوجوب عقلّيا فهو املطلوب ‪ ،‬وإن كان شرعّيا أيضا فال بّد له من أمر وال بّد له من طاعة ‪ ،‬فننقل الكالم‬
‫إليه ‪ ...‬وهكذا منضي إىل غري النهاية ‪ ،‬وال نقف حىّت ننتهي إىل طاعة وجوهبا عقلّي ال يتوّقف على أمر‬
‫الشارع ‪ ،‬وهو املطلوب‪.‬‬
‫بل ثبوت الشرائع من أصلها يتوّقف على التحسني والتقبيح العقلّيني ‪ ،‬ولو كان ثبوهتا من طريق‬
‫شرعّي ‪ ،‬الستحال ثبوهتا ؛ ألّنا ننقل الكالم إىل هذا الطريق الشرعّي فيتسلسل إىل غري النهاية‪.‬‬
‫والنتيجة أّن ثبوت احلسن والقبح شرعا يتوّقف على ثبوهتما عقال‪.‬‬

‫المبحث الثاني ‪ :‬إدراك العقل للحسن والقبح‬


‫بعد ما تقّد م من ثبوت احلسن والقبح العقلّيني يف األفعال ‪ ،‬فقد نسب بعضهم (‪ )1‬إىل مجاعة من‬
‫األخبارّيني (‪ )1‬ـ على ما يظهر من كلمات بعضهم ـ (‪ )2‬إنكار أن يكون للعقل حّق إدراك ذلك احلسن والقبح ‪،‬‬
‫فال يثبت شيء من احلسن والقبح الواقعّيني بإدراك العقل‪.‬‬
‫والشيء الثابت قطعا عندهم على اإلمجال القول بعدم جواز االعتماد على شيء من اإلدراكات العقلّية‬
‫يف إثبات األحكام الشرعّية‪ .‬وقد فّس ر هذا القول بأحد وجوه ثالثة (‪ )3‬حسب اختالف عبارات الباحثني‬
‫منهم ‪:‬‬
‫‪ .1‬إنكار إدراك العقل للحسن والقبح الواقعّيني‪ .‬وهذه هي مسألتنا اليت عقدنا هلا هذا املبحث الثاين‪.‬‬
‫‪ .2‬ـ بعد االعرتاف بثبوت إدراك العقل ـ إنكار املالزمة بينه وبني حكم الشرع‪ .‬وهذه هي املسألة اآلتية‬
‫يف «املبحث الثالث»‪.‬‬
‫‪ .3‬ـ بعد االعرتاف بثبوت إدراك العقل وثبوت املالزمة ـ إنكار وجوب إطاعة احلكم الشرعّي الثابت‬
‫من طريق العقل ‪ ،‬ومرجع ذلك إىل إنكار حّجّية العقل‪ .‬وسيأيت البحث عن ذلك يف اجلزء الثالث من هذا‬
‫الكتاب (مباحث احلّج ة)‪.‬‬
‫وعليه ‪ ،‬فإن أرادوا التفسري األّو ل بعد االعرتاف بثبوت احلسن والقبح العقلّيني فهو كالم ال معىن له ؛‬
‫ألّنه قد تقّد م (‪ )4‬أّنه ال واقعّية للحسن والقبح باملعىن املتنازع فيه مع األشاعرة ـ وهو املعىن الثالث ـ إّال إدراك‬
‫العقالء لذلك وتطابق آرائهم على مدح فاعل احلسن وذّم فاعل القبيح على ما أوضحناه فيما سبق‪.‬‬
‫وإذا اعرتفوا بثبوت احلسن والقبح هبذا املعىن فهو اعرتاف بإدراك العقل‪ .‬وال معىن للتفكيك بني ثبوت‬
‫احلسن والقبح وبني إدراك العقل هلما إّال إذا جاز تفكيك الشيء عن نفسه‪.‬‬
‫نعم ‪ ،‬إذا فّس روا احلسن والقبح باملعنيني األّو لني جاز هذا التفكيك ولكّنهما ليسا موضع النزاع عندهم‪.‬‬
‫وهذا األمر واضح ال حيتاج إىل أكثر من هذا البيان بعد ما قّد مناه يف املبحث األّو ل‪.‬‬

‫المبحث الثالث ‪ :‬ثبوت المالزمة العقلّية بين حكم العقل وحكم الشرع‬
‫ومعىن املالزمة العقلّية هنا ـ على ما تقّد م ـ أّنه إذا حكم العقل حبسن شيء أو قبحه هل يلزم عقال أن‬
‫حيكم الشرع على طبقه؟‬
‫وهذه هي املسألة األصولّية اليت ختّص علمنا ‪ ،‬وكّل ما تقّد م من الكالم كان كاملقّد مة هلا‪ .‬وقد قلنا‬
‫سابقا (‪ : )1‬إّن األخبارّيني فّس ر كالمهم ـ يف أحد الوجوه الثالثة املقّد مة الذي يظهر من كالم بعضهم ـ بإنكار‬
‫هذه املالزمة‪ .‬وأّم ا األصولّيون فقد أنكرها منهم صاحب الفصول (‪ ، )2‬ومل نعرف له موافقا‪ .‬وسيأيت توجيه‬
‫( ‪)3‬‬
‫كالمه وكالم األخبارّيني‪.‬‬
‫والحّق أّن املالزمة ثابتة عقال ‪ ،‬فإّن العقل إذا حكم حبسن شيء أو قبحه ـ أي إّنه إذا تطابقت آراء‬
‫العقالء مجيعا مبا هم عقالء على حسن شيء ملا فيه من حفظ النظام وبقاء النوع ‪ ،‬أو على قبحه ملا فيه من‬
‫اإلخالل بذلك ـ فإّن احلكم هذا يكون بادئ رأي اجلميع ‪ ،‬فال بّد أن حيكم الشارع حبكمهم ؛ ألّنه منهم بل‬
‫رئيسهم ‪ ،‬فهو مبا هو عاقل ـ بل خالق العقل ـ كسائر العقالء ‪ ،‬ال بّد أن حيكم مبا حيكمون‪ .‬ولو فرضنا أّنه مل‬
‫يشاركهم يف حكمهم ‪ ،‬ملا كان ذلك احلكم بادئ رأي اجلميع ‪ ،‬وهذا خالف الفرض‪.‬‬
‫وبعد ثبوت ذلك ينبغي أن نبحث هنا عن مسألة أخرى ‪ ،‬وهي أّنه لو ورد من الشارع أمر يف مورد‬
‫حكم العقل ‪ ،‬كقوله (تعاىل) ‪َ( :‬أِط يُعوا اَهلل َو َأِط يُعوا الَّر ُس وَل ) (‪ )1‬فهذا األمر من الشارع هل هو أمر مولوّي ـ‬
‫أي إّنه أمر منه مبا هو موىل ـ أو إّنه أمر إرشادّي ‪ ،‬أي إّنه أمر ألجل اإلرشاد إىل ما حكم به العقل ‪ ،‬أي إّنه‬
‫أمر منه مبا هو عاقل؟ وبعبارة أخرى ‪ :‬إّن النزاع هنا يف أّن مثل هذا األمر من الشارع هل هو أمر تأسيسّي ـ‬
‫وهذا معىن أّنه مولوّي ـ أو أّنه أمر تأكيدّي ‪ ،‬وهو معىن أّنه إرشادّي ؟‬
‫لقد وقع اخلالف يف ذلك ‪ ،‬واحلّق أّنه لإلرشاد حيث يفرض أّن حكم العقل هذا كاف لدعوة املكّلف‬
‫إىل الفعل احلسن واندفاع إرادته للقيام به ‪ ،‬فال حاجة إىل جعل الداعي من قبل املوىل ثانيا ‪ ،‬بل يكون عبثا‬
‫ولغوا ‪ ،‬بل هو مستحيل ؛ ألّنه يكون من باب حتصيل احلاصل‪.‬‬
‫وعليه ‪ ،‬فكّل ما يرد يف لسان الشرع من األوامر يف موارد املستقّالت العقلّية ال بّد أن يكون تأكيدا‬
‫حلكم العقل ال تأسيسا‪.‬‬
‫نعم ‪ ،‬لو قلنا بأّن ما تطابقت عليه آراء العقالء هو استحقاق املدح والذّم فقط على وجه ال يلزم منه‬
‫ّل‬ ‫ك‬ ‫ذلك‬ ‫يدرك‬ ‫ال‬ ‫ولكن‬ ‫( ‪)2‬‬
‫استحقاق الثواب والعقاب من قبل املوىل ‪ ،‬أو أّنه يلزم منه ذلك بل هو عينه‬
‫أحد ‪ ،‬فيمكن أّال يكون نفس إدراك استحقاق املدح والذّم كافيا لدعوة كّل أحد إىل الفعل إّال لألفذاذ (‪ )3‬من‬
‫الناس ‪ ،‬فال يستغين أكثر الناس عن األمر من املوىل ‪ ،‬املرتّتب على موافقته الثواب وعلى خمالفته العقاب يف‬
‫مقام الدعوة إىل الفعل وانقياده ؛ فإذا ورد أمر من املوىل يف مورد حكم العقل املستقّل فال مانع من محله على‬
‫األمر املولوّي ‪ ،‬إّال إذا لزم منه حمال التسلسل ‪ ،‬كاألمر بالطاعة واألمر باملعرفة ؛ بل مثل هذه املوارد ال معىن‬
‫ألن يكون األمر فيها مولوّيا ؛ ألّنه ال يرتّتب على موافقته غري ما يرتّتب على متعّلق املأمور به ‪ ،‬نظري األمر‬
‫باالحتياط يف أطراف العلم اإلمجاّيل‪.‬‬
‫توضيح وتعقيب‬
‫والحّق أّن االلتزام بالتحسني والتقبيح العقلّيني هو نفس االلتزام بتحسني الشارع وتقبيحه ‪ ،‬وفقا حلكم‬
‫( ‪)1‬‬
‫العقالء ؛ ألّنه من مجلتهم ‪ ،‬ال أهّن ما شيئان أحدمها يلزم اآلخر ‪ ،‬وإن توّه م ذلك بعضهم‪.‬‬
‫ولذا ترى أكثر األصولّيني والكالمّيني مل جيعلومها مسألتني بعنوانني ‪ ،‬بل مل يعنونوا إّال مسألة واحدة‬
‫هي مسألة «التحسني والتقبيح العقلّيني»‪.‬‬
‫وعليه ‪ ،‬فال وجه للبحث عن ثبوت املالزمة بعد فرض القول بالتحسني والتقبيح وأّم ا حنن فإمّن ا جعلنا‬
‫املالزمة مسألة مستقّلة فللخالف الذي وقع فيها بتوّه م التفكيك‪.‬‬
‫ومن العجيب ما عن صاحب الفصول رحمه‌هللا من إنكاره للمالزمة ‪ ،‬مع قوله بالتحسني والتقبيح‬
‫العقلّيني ‪ ،‬وكأّنه ظّن أّن كّل ما أدركه العقل من املصاحل واملفاسد ـ ولو بطريق نظرّي أو من غري سبب عاّم‬
‫( ‪)2‬‬

‫من األسباب املتقّد مة ذكرها ـ يدخل يف مسألة التحسني والتقبيح ‪ ،‬وأّن القائل باملالزمة يقول باملالزمة أيضا يف‬
‫مثل ذلك‪.‬‬
‫ولكن حنن قلنا ‪ :‬إّن قضايا التحسني والتقبيح هي القضايا اليت تطابقت عليها آراء العقالء كاّفة مبا هم‬
‫عقالء ‪ ،‬وهي بادئ رأي اجلميع ‪ ،‬ويف مثلها نقول باملالزمة ال مطلقا‪ .‬فليس كّل ما أدركه العقل من أّي‬
‫سبب كان ـ ولو مل تتطابق عليه اآلراء ‪ ،‬أو تطابقت ولكن ال مبا هم عقالء ـ يدخل يف هذه املسألة‪.‬‬
‫وقد ذكرنا حنن سابقا (‪ : )3‬أّن ما يدركه العقل من احلسن والقبح بسبب العادة أو االنفعال و حنومها ‪،‬‬
‫وما يدركه ال من سبب عاّم للجميع ‪ ،‬ال يدخل يف موضوع مسألتنا‪.‬‬
‫ونزيد هذا بيانا وتوضيحا هنا ‪ ،‬فنقول ‪:‬‬
‫إّن مصاحل األحكام الشرعّية املولوّية ـ اليت هي نفسها مالكات أحكام الشارع ـ ال تندرج حتت ضابط‬
‫حنن ندركه بعقولنا ؛ إذ ال جيب فيها أن تكون هي بعينها املصاحل العمومّية املبّين عليها حفظ النظام العاّم‬
‫وإبقاء النوع اليت هي ـ أعين هذه املصاحل العمومّية ـ مناطات األحكام العقلّية يف مسألة التحسني والتقبيح‬
‫العقلّيني‪.‬‬
‫وعلى هذا ‪ ،‬فال سبيل للعقل مبا هو عقل إىل إدراك مجيع مالكات األحكام الشرعّية ‪ ،‬فإذا أدرك العقل‬
‫املصلحة يف شيء أو املفسدة يف آخر ومل يكن إدراكه مستندا إىل إدراك املصلحة أو املفسدة العاّم تني اللتني‬
‫يتساوى يف إدراكهما مجيع العقالء ؛ فإّنه ـ أعين العقل ـ ال سبيل له إىل احلكم بأّن هذا املدرك جيب أن حيكم به‬
‫الشارع على طبق حكم العقل ‪ ،‬إذ يتحمل أّن هناك ما هو مناط حلكم الشارع غري ما أدركه العقل ‪ ،‬أو أّن‬
‫هناك مانعا مينع من حكم الشارع على طبق ما أدركه العقل ‪ ،‬وإن كان ما أدركه مقتضيا حلكم الشارع‪.‬‬
‫وألجل هذا نقول ‪ :‬إّنه ليس كّل ما حكم به الشرع جيب أن حيكم به العقل ؛ وإىل هذا يرمى قول‬
‫إمامنا الصادق عليه‌السالم ‪« :‬إّن دين اهلل ال يصاب بالعقل» (‪ )1‬؛ وألجل هذا أيضا حنن ال نعترب القياس‬
‫واالستحسان من األدّلة الشرعّية على األحكام‪.‬‬
‫وعلى هذا التقدير ‪ ،‬فإن كان ما أنكره صاحب الفصول واألخبارّيون من املالزمة هي املالزمة يف مثل‬
‫تلك املدركات العقلّية اليت هي ليست من املستقّالت العقلّية اليت تطابقت عليها آراء العقالء ـ مبا هم عقالء ـ‬
‫فإّن إنكارهم يف حمّله ‪ ،‬وهم على حّق فيه ‪ ،‬ال نزاع لنا معهم فيه‪ .‬ولكن هذا أمر أجنّيب عن املالزمة املبحوث‬
‫عنها يف املستقّالت العقلّية‪ .‬وإن كان ما أنكروه هو مطلق املالزمة حىّت يف املستقّالت العقلّية ـ كما قد يظهر‬
‫من بعض تعبرياهتم (‪ )1‬ـ فهم ليسوا على حّق فيما أنكروا ‪ ،‬وال مستند هلم‪.‬‬
‫وعلى هذا ‪ ،‬فيمكن التصاحل بني الطرفني بتوجيه كالم األخبارّيني وصاحب الفصول مبا يّتفق ما‬
‫( ‪)2‬‬
‫أوضحناه ‪ ،‬ولعّله ال يأباه بعض كالمهم‪.‬‬

‫الباب الثاني‬

‫غير المستقّالت العقلّية‬

‫تمهيد‬
‫سبق أن قلنا ‪ :‬إّن املراد من «غري املستقّالت العقلّية» هو ما مل يستقّل العقل به وحده يف الوصول إىل‬
‫النتيجة ‪ ،‬بل يستعني حبكم شرعّي (‪ )1‬يف إحدى مقّد ميت القياس وهي الصغرى ‪ ،‬واملقّد مة األخرى ـ وهي‬
‫الكربى ـ‪.‬‬
‫احلكم العقلّي الذي هو عبارة عن حكم العقل باملالزمة عقال بني احلكم يف املقّد مة األوىل وبني حكم‬
‫شرعّي آخر‪ .‬مثاله حكم العقل باملالزمة بني وجوب ذي املقّد مة شرعا وبني وجوب املقّد مة شرعا‪.‬‬
‫وهذه املالزمة العقلّية هلا عّد ة موارد وقع فيها البحث وصارت موضعا للنزاع ‪ ،‬وحنن ذاكرون هنا أهّم‬
‫هذه املواضع يف مسائل ‪:‬‬
‫(‪)2‬‬
‫المسألة األولى ‪ :‬اإلجزاء‬

‫تصدير‬
‫ال شّك يف أّن املكّلف إذا أتى مبا أمر به مواله على الوجه املطلوب ـ أي أتى‬
‫باملطلوب على طبق ما أمر به جامعا جلميع ما هو معترب فيه من األجزاء والشرائط ‪ ،‬شرعّية أو عقلّية ـ فإّن هذا‬
‫الفعل منه يعترب امتثاال لنفس ذلك األمر ‪ ،‬سواء كان األمر اختيارّيا واقعّيا ‪ ،‬أو اضطرارّيا ‪ ،‬أو ظاهرّيا‪ .‬وليس‬
‫يف هذا خالف ‪ ،‬أو ال ميكن أن يقع فيه اخلالف‪.‬‬
‫وكذا ال شّك وال خالف يف أّن هذا االمتثال على تلك الصفة جيزئ ويكتفى به عن امتثال آخر ؛ ألّن‬
‫املكّلف ـ حسب الفرض ـ قد جاء مبا عليه من التكليف على الوجه املطلوب‪ .‬وكفى!‬
‫وحينئذ ‪ ،‬يسقط األمر املوّج ه إليه ‪ ،‬ألّنه قد حصل بالفعل ما دعا إليه ‪ ،‬وانتهى أمده ‪ ،‬ويستحيل أن‬
‫يبقى بعد حصول غرضه وما كان قد دعا إليه ؛ (‪ )1‬النتهاء أمد دعوته حبصول غايته الداعية إليه ‪ ،‬إّال إذا‬
‫( ‪)2‬‬
‫جّو زنا احملال ‪ ،‬وهو حصول املعلول بال عّلة‪.‬‬
‫وإمّن ا وقع اخلالف ـ أو ميكن أن يقع ـ يف مسألة اإلجزاء فيما إذا كان هناك أمران ‪ :‬أمر أّو ّيل واقعّي مل‬
‫ميتثله املكّلف إّم ا لتعّذ ره عليه أو جلهله به ‪ ،‬وأمر ثانوّي إّم ا اضطرارّي يف صورة تعّذ ر األّو ل ‪ ،‬وإّم ا ظاهرّي يف‬
‫صورة اجلهل باألّو ل ؛ فإّنه إذا امتثل املكّلف هذا األمر الثانوّي االضطرارّي أو الظاهرّي ّمث زال العذر‬
‫واالضطرار أو زال اجلهل وانكشف الواقع ‪ ،‬صّح اخلالف يف كفاية ما أتى به امتثاال لألمر الثاين عن امتثال‬
‫األمر األّو ل ‪ ،‬وإجزائه عنه إعادة يف الوقت وقضاء يف خارجه‪.‬‬
‫وألجل هذا عقدت هذه املسألة ‪« :‬مسألة اإلجزاء»‪.‬‬
‫وحقيقتها هي البحث عن ثبوت املالزمة ـ عقال ـ بني اإلتيان باملأمور به باألمر االضطرارّي أو‬
‫الظاهرّي ‪ ،‬وبني اإلجزاء واالكتفاء به عن امتثال األمر األّو ّيل االختيارّي الواقعّي ‪.‬‬
‫وقد عرّب بعض علماء األصول املتأّخ رين عن هذه املسألة بقوله ‪« :‬هل اإلتيان باملأمور به على وجهه‬
‫( ‪)1‬‬
‫يقتضي اإلجزاء أو ال يقتضي؟»‬
‫واملراد من «االقتضاء» يف كالمه االقتضاء مبعىن العّلّية والتأثري (‪ ، )2‬أي إّنه هل يلزم ـ عقال ـ من اإلتيان‬
‫باملأمور به سقوط التكليف شرعا أداء وقضاء؟‬
‫ومن هنا تدخل هذه املسألة يف باب املالزمات العقلّية ‪ ،‬على ما حّر رنا البحث يف صدر هذا املقصد عن‬
‫املراد باملالزمة العقلّية (‪ .)3‬وال وجه جلعلها من باب مباحث األلفاظ (‪ ، )4‬ألّن ذلك ليس من شئون الداللة‬
‫اللفظّية‪.‬‬
‫وعلينا أن نعقد البحث يف مقامني ‪ :‬األّو ل ‪ :‬يف إجزاء املأمور به باألمر االضطرارّي ‪ .‬الثاين ‪ :‬يف إجزاء‬
‫املأمور به باألمر الظاهرّي ‪:‬‬

‫المقام األّو ل ‪ :‬األمر االضطرارّي‬


‫وردت يف الشريعة املطّه رة أوامر ال حتصى ختتّص حبال الضرورات وتعّذ ر امتثال األوامر األّو لّية أو حبال‬
‫احلرج يف امتثاهلا ‪ ،‬مثل التيّم م ‪ ،‬ووضوء اجلبرية وغسلها ‪ ،‬وصالة العاجز عن القيام أو القعود ‪ ،‬وصالة‬
‫الغريق‪.‬‬
‫وال شّك يف أّن االضطرار ترتفع به فعلّية التكليف ؛ ألّن اهلل (تعاىل) ال يكّلف نفسا إّال وسعها‪ .‬وقد‬
‫ورد يف احلديث النبوّي صلى‌هللا‌عليه‌وآله املشهور الصحيح ‪« :‬رفع عن أّم يت ما اضطّر وا إليه» (‪.)1‬‬
‫غري أّن الشارع املقّد س ـ حرصا على بعض العبادات ال سّيما الّص الة اليت ال ترتك حبال (‪ )2‬ـ أمر عباده‬
‫باالستعاضة عّم ا اضطّر وا إىل تركه باإلتيان ببدل عنه ‪ ،‬فأمر ـ مثال ـ بالتيّم م بدال عن الوضوء أو الغسل ‪ ،‬وقد‬
‫جاء يف احلديث ‪« :‬يكفيك عشر سنني»‪ )3( .‬وأمر باملسح على اجلبرية بدال عن غسل بشرة العضو يف الوضوء‬
‫والغسل (‪ .)4‬وأمر بالّص الة من جلوس بدال عن الّص الة من قيام ‪ )5( ...‬وهكذا فيما ال حيصى من األوامر‬
‫الواردة يف حال اضطرار املكّلف وعجزه عن امتثال األمر األّو ّيل االختيارّي ‪ ،‬أو يف حال احلرج يف امتثاله‪.‬‬
‫وال شّك يف أّن هذه األوامر االضطرارّية هي أوامر واقعّية حقيقّية ذات مصاحل ملزمة ‪ ،‬كاألوامر األّو لّية‬
‫‪ ،‬وقد تسّم ى «األوامر الثانوّية» تنبيها على أهّن ا واردة حلاالت طارئة ثانوّية على املكّلف ‪ ،‬وإذا امتثلها املكّلف‬
‫أّدى ما عليه يف هذا احلال ‪ ،‬وسقط عنه التكليف هبا‪.‬‬
‫ولكن يقع البحث والتساؤل فيما لو ارتفعت تلك احلالة االضطرارّية الثانوّية ورجع املكّلف إىل حالته‬
‫األوىل من التمّك ن من أداء ما كان عليه واجبا يف حالة االختيار ‪ ،‬فهل جيزئه ما كان قد أتى به يف حال‬
‫االضطرار ‪ ،‬أو ال جيزئه ‪ ،‬بل ال بّد له من إعادة الفعل يف الوقت أداء إذا كان ارتفاع االضطرار قبل انتهاء‬
‫وقت الفعل وكّنا قلنا جبواز البدار ‪ )1( ،‬أو إعادته خارج الوقت قضاء إذا كان ارتفاع االضطرار بعد الوقت؟‬
‫إّن هذا أمر يصّح فيه الشّك والتساؤل ‪ ،‬وإن كان املعروف بني الفقهاء يف فتاويهم القول باإلجزاء‬
‫( ‪)2‬‬
‫مطلقا أداء وقضاء‪.‬‬
‫غري أّن إطباقهم على القول باإلجزاء ليس مستندا إىل دعوى أّن البديهّية العقلّية تقضي به ؛ ألّنه هنا‬
‫ميكن تصّو ر عدم اإلجزاء بال حمذور عقلّي ‪ ،‬أعين ميكننا أن نتصّو ر عدم املالزمة بني اإلتيان باملأمور به باألمر‬
‫االضطرارّي وبني اإلجزاء به عن األمر الواقعّي االختيارّي ‪.‬‬
‫توضيح ذلك أّنه ال إشكال يف أّن املأّيت به يف حال االضطرار أنقص من املأمور به حال االختيار ‪،‬‬
‫والقول باإلجزاء فيه معناه كفاية الناقص عن الكامل مع فرض حصول التمّك ن من أداء الكامل يف الوقت أو‬
‫خارجه‪ .‬وال شّك يف أّن العقل ال يرى بأسا باألمر بالفعل ثانيا بعد زوال الضرورة ؛ حتصيال للكامل الذي قد‬
‫فات منه ؛ بل قد يلزم العقل بذلك إذا كان يف الكامل مصلحة ملزمة ال يفي هبا الناقص وال يسّد مسّد الكامل‬
‫يف حتصيلها‪.‬‬
‫واملقصود الذي نريد أن نقوله بصريح العبارة «أّن اإلتيان بالناقص بالنظرة األوىل ّمما [ال] يقتضي عقال‬
‫اإلجزاء عن الكامل»‪.‬‬
‫فال بّد أن يكون ذهاب الفقهاء إىل اإلجزاء لسّر هناك ‪ :‬إّم ا لوجود مالزمة بني اإلتيان بالناقص وبني‬
‫اإلجزاء عن الكامل ‪ ،‬وإّم ا لغري ذلك من األسباب ‪ ،‬فيجب أن نتبنّي ذلك ‪ ،‬فنقول ‪ :‬هناك وجوه أربعة يصلح‬
‫أن يكون كّلها أو بعضها مستندا للقول باإلجزاء نذكرها كّلها ‪:‬‬
‫‪ .1‬إّنه من املعلوم أّن األحكام الواردة يف حال االضطرار واردة للتخفيف على املكّلفني ‪ ،‬والتوسعة‬
‫( ‪)1‬‬
‫عليهم يف حتصيل مصاحل التكاليف األصلّية األّو لّية (ُيِريُد اُهلل ِبُك ُم اْلُيْسَر َو ال ُيِر يُد ِبُك ُم اْلُعْسَر )‪.‬‬
‫وليس من شأن التخفيف والتوسعة أن يكّلفهم ثانيا بالقضاء أو األداء ‪ ،‬وإن كان الناقص ال يسّد مسّد‬
‫الكامل يف حتصيل مصلحته امللزمة‪.‬‬
‫ِج‬
‫‪ .2‬إّن أكثر األدّلة الواردة يف التكاليف االضطرارّية مطلقة ‪ ،‬مثل قوله (تعاىل) ‪َ( :‬فَلْم َت ُد وا ماًء‬
‫َفَتَيَّم ُم وا َصِعيدًا َطِّيبًا) أي إّن ظاهرها مبقتضى اإلطالق االكتفاء بالتكليف الثاين حلال الضرورة ‪ ،‬وأّن‬
‫( ‪)2‬‬

‫التكليف منحصر فيه وليس وراءه تكليف آخر ‪ ،‬فلو أّن األداء أو القضاء واجب أيضا لوجب البيان‬
‫والتنصيص على ذلك وإذ مل يبنّي ذلك علم أّن الناقص جيزئ عن أداء الكامل أداء وقضاء ‪ ،‬ال سّيما مع ورود‬
‫( ‪)3‬‬
‫مثل قوله صلى‌هللا‌عليه‌وآله ‪« :‬إّن الرتاب يكفيك عشر سنني»‪.‬‬
‫‪ .3‬إّن القضاء باخلصوص إمّن ا جيب فيما إذا صدق الفوت ‪ ،‬وميكن أن يقال ‪« :‬إّنه ال يصدق الفوت يف‬
‫املقام ؛ ألّن القضاء إمّن ا يفرض فيما إذا كانت الضرورة مستمّر ة يف مجيع وقت األداء»‪ .‬وعلى هذا التقدير ‪ ،‬ال‬
‫أمر بالكامل يف الوقت ‪ ،‬وإذا مل يكن أمر فقد يقال ‪« :‬إّنه ال يصدق بالنسبة إليه فوت الفريضة ‪ ،‬إذ ال‬
‫فريضة»‪.‬‬
‫وأّم ا األداء ‪ :‬فإمّن ا يفرض فيما جيوز البدار به ‪ ،‬وقد ابتدر املكّلف ـ حسب الفرض ـ إىل فعل الناقص يف‬
‫األزمنة األوىل من الوقت ‪ّ ،‬مث زالت الضرورة قبل انتهاء الوقت‪ .‬ونفس الرخصة يف البدار ـ لو ثبتت ـ تشري إىل‬
‫مساحمة الشارع يف حتصيل الكامل عند التمّك ن ‪ ،‬وإّال لفرض عليه االنتظار حتصيال للكامل‪.‬‬
‫‪ .4‬إذا كّنا قد شككنا يف وجوب األداء والقضاء ‪ ،‬واملفروض أّن وجوهبما مل ننفه بإطالق وحنوه ‪ ،‬فإّن‬
‫هذا شّك يف أصل التكليف‪ .‬ويف مثله ‪ ،‬جتري أصالة الرباءة القاضية بعدم وجوهبما‪.‬‬
‫فهذه الوجوه األربعة كّلها أو بعضها أو حنوها هي سّر حكم الفقهاء باإلجزاء قضاء أو أداء‪ .‬والقول‬
‫باإلجزاء ـ على هذا ـ أمر ال مفّر منه‪ .‬ويتأّك د ذلك يف الّص الة اليت هي العمدة يف الباب‪.‬‬

‫المقام الثاني ‪ :‬األمر الظاهرّي‬


‫تمهيد‬
‫للحكم الظاهرّي اصطالحان ‪ :‬أحدمها ‪ :‬ما تقّد م يف أوائل اجلزء األّو ل‪ )1( .‬وهو املقابل للحكم‬
‫الواقعّي ‪ ،‬وإن كان الواقعّي مستفادا من األدّلة االجتهادّية الظنّية ‪ ،‬فيختّص الظاهرّي مبا ثبت باألصول العملّية‪.‬‬
‫وثانيهما ‪ :‬كّل حكم ثبت ظاهرا عند اجلهل باحلكم الواقعّي الثابت يف علم اهلل (تعاىل) ‪ ،‬فيشمل احلكم الثابت‬
‫باألمارات واألصول معا ‪ ،‬فيكون احلكم الظاهرّي باملعىن الثاين أعّم من األّو ل‪.‬‬
‫وهذا املعىن الثاين العاّم هو املقصود هنا بالبحث ‪ ،‬فاألمر الظاهرّي ‪ :‬ما تضّم نه األصل أو األمارة‪.‬‬
‫ّمث إّنه ال شّك يف أّن األمر الواقعّي يف موردي األصل واألمارة غري منّج ز على املكّلف ـ مبعىن أّنه ال‬
‫عقاب على خمالفته بسبب العمل باألمارة واألصل لو اّتفق خمالفتهما له (‪ )2‬ـ ؛ ألّنه من الواضح أّن كّل تكليف‬
‫غري واصل إىل املكّلف بعد الفحص واليأس غري منّج ز عليه ؛ ضرورة أّن التكليف إمّن ا يتنّج ز بوصوله بأّي حنو‬
‫من أحناء الوصول ‪ ،‬ولو بالعلم اإلمجاّيل‪.‬‬
‫هذا كّله ال كالم فيه ‪ ،‬وسيأيت يف مباحث احلّج ة تفصيل احلديث عنه (‪ .)3‬وإمّن ا الذي حيسن أن نبحث‬
‫عنه هنا يف هذا الباب هو أّن األمر الواقعّي اجملهول لو انكشف فيه بعد ذلك خطأ األمارة أو األصل ‪ ،‬وقد‬
‫عمل املكّلف ـ حسب الفرض ـ على خالفه اّتباعا لألمارة اخلاطئة أو األصل املخالف للواقع ‪ ،‬فهل جيب على‬
‫املكّلف امتثال األمر الواقعّي يف الوقت أداء ويف خارج الوقت قضاء ‪ ،‬أو أّنه ال جيب شيء عليه بل جيزئ ما‬
‫أتى به على طبق األمارة أو األصل ويكتفي به؟‬
‫ّمث إّن العمل على خالف الواقع ـ كما سبق ـ تارة يكون باألمارة وأخرى باألصل‪ّ .‬مث االنكشاف على‬
‫حنوين ‪ :‬انكشاف على حنو اليقني‪ .‬وانكشاف مبقتضى حّج ة معتربة‪ .‬فهذه أربع صور‪.‬‬
‫والختالف البحث يف هذه الصور مع اّتفاق صورتني منها يف احلكم ـ ومها صورتا االنكشاف حبّج ة‬
‫معتربة مع العمل على طبق األمارة ومع العمل مبقتضى األصل ـ نعقد البحث يف ثالث مسائل ‪:‬‬

‫‪ .1‬اإلجزاء في األمارة مع انكشاف الخطأ يقينا‬


‫إّن قيام األمارة تارة يكون يف األحكام ‪ ،‬كقيام األمارة على وجوب صالة الظهر يوم اجلمعة حال الغيبة‬
‫بدال عن صالة اجلمعة ‪ ،‬وأخرى يف املوضوعات ‪ ،‬كقيام البّينة على طهارة ثوب صّلى به ‪ ،‬أو ماء توّض أ منه ‪،‬‬
‫ّمث بانت جناسته‪.‬‬
‫واملعروف عند اإلمامّية عدم اإلجزاء مطلقا ‪ ،‬يف األحكام واملوضوعات (‪.)1‬‬
‫أّم ا يف «األحكام» ‪ :‬فألجل اّتفاقهم على مذهب التخطئة (‪ ، )2‬أي إّن اجملتهد خيطئ ويصيب ؛ ألّن هلل‬
‫(تعاىل) أحكاما ثابتة يف الواقع يشرتك فيها العامل واجلاهل ‪ ،‬أي إّن اجلاهل مكّلف هبا كالعامل ‪ ،‬غاية األمر أهّن ا‬
‫غري منّج زة بالفعل بالنسبة إىل اجلاهل القاصر (‪ )1‬حني جهله ‪ ،‬وإمّن ا يكون معذورا يف املخالفة لو اّتفقت له‬
‫باّتباع األمارة ؛ إذ ال تكون األمارة عندهم إّال طريقا حمضا لتحصيل الواقع‪.‬‬
‫ومع انكشاف اخلطأ ال يبقى جمال للعذر ‪ ،‬بل يتنّج ز الواقع حينئذ يف حّق ه من دون أن يكون قد جاء‬
‫بشيء يسّد مسّد ه ويغين عنه‪.‬‬
‫وال يصّح القول باإلجزاء إّال إذا قلنا ‪ :‬إّنه بقيام األمارة على وجوب شيء حتدث فيه مصلحة ملزمة‬
‫على أن تكون هذه املصلحة وافية مبصلحة الواقع ‪ ،‬يتدارك هبا مصلحة الواجب الواقعّي ‪ ،‬فتكون األمارة‬
‫مأخوذة على حنو املوضوعّية للحكم ؛ ضرورة أّنه مع هذا الفرض يكون ما أتى به على طبق األمارة جمزئا عن‬
‫الواقع ؛ ألّنه قد أتى مبا يسّد مسّد ه ‪ ،‬ويغين عنه يف حتصيل مصلحة الواقع‪.‬‬
‫ولكن هذا معناه التصويب املنسوب إىل املعتزلة (‪ ، )2‬أي إّن أحكام اهلل (تعاىل) تابعة آلراء اجملتهدين وإن‬
‫كانت له أحكام واقعّية ثابتة يف نفسها ‪ ،‬فإّنه يكون ـ عليه ـ كّل رأي أّدى إليه نظر اجملتهد قد أنشأ اهلل (تعاىل)‬
‫على طبقه حكما من األحكام‪ .‬والتصويب هبذا املعىن قد أمجعت اإلمامّية على بطالنه (‪ ، )3‬وسيأيت البحث عنه‬
‫( ‪)4‬‬
‫يف «مباحث احلّج ة»‪.‬‬
‫وأّم ا ‪ :‬القول باملصلحة السلوكّية ـ أي إّن نفس متابعة األمارة فيها مصلحة ملزمة يتدارك هبا ما فات من‬
‫مصلحة الواقع ‪ ،‬وإن مل حتدث مصلحة يف نفس الفعل الذي أّدت األمارة إىل وجوبه (‪ )1‬ـ فهذا قول لبعض‬
‫اإلمامّية (‪ )2‬؛ لتصحيح جعل الطرق واألمارات يف فرض التمّك ن من حتصيل العلم ‪ ،‬على ما سيأيت بيانه يف حمّله‬
‫( ‪)3‬‬
‫إن شاء اهلل (تعاىل)‪.‬‬
‫ولكّنه ـ على تقدير صّح ة هذا القول ـ ال يقتضي اإلجزاء أيضا ؛ ألّنه على فرضه تبقى مصلحة الواقع‬
‫على ما هي عليه عند انكشاف خطأ األمارة يف الوقت أو يف خارجه‪.‬‬
‫توضيح ذلك أّن املصلحة السلوكّية املّد عاة هي مصلحة تدارك الواقع باعتبار أّن الشارع ا جعل األمارة‬
‫ّمل‬
‫يف حال متّك ن املكّلف من حتصيل العلم بالواقع ؛ فإّنه قد فّو ت عليه الواقع ‪ ،‬فال بّد من فرض تداركه مبصلحة‬
‫تكون يف نفس اّتباع األمارة ‪ ،‬والالزم من املصلحة اليت يتدارك هبا الواقع أن تقّد ر بقدر ما فات من الواقع من‬
‫مصلحة ال أكثر‪ .‬وعند انكشاف اخلطأ يف الوقت مل يفت من مصلحة الواقع إّال مصلحة فضيلة أّو ل الوقت ‪،‬‬
‫وعند انكشاف اخلطأ يف خارج الوقت مل تفت إّال مصلحة الوقت‪ .‬أّم ا مصلحة أصل الفعل فلم تفت من‬
‫املكّلف ؛ إلمكان حتصيلها بعد االنكشاف ‪ ،‬فما هو امللزم للقول حبصول مصلحة يتدارك هبا أصل مصلحة‬
‫الفعل حىّت يلزم اإلجزاء؟!‬
‫وأّم ا يف «املوضوعات» (‪ : )4‬فالظاهر أّن املعروف عندهم أّن األمارة فيها قد أخذت على حنو‬
‫«الطريقية» (‪ ، )5‬كقاعدة اليد ‪ ،‬والصّح ة ‪ ،‬وسوق املسلمني ‪ ،‬وحنوها ‪ ،‬فإن أصابت الواقع فذاك ‪ ،‬وإن‬
‫أخطأت فالواقع على حاله ‪ ،‬وال حتدث بسببها مصلحة يتدارك هبا مصلحة الواقع ‪ ،‬غاية األمر أّن املكّلف‬
‫معها معذور عند اخلطأ وشأهنا يف ذلك شأن األمارة يف األحكام‪.‬‬
‫والسّر يف محلها على «الطريقّية» ‪ ،‬هو أّن الدليل الذي دّل على حّجّية األمارة يف األحكام هو نفسه دّل‬
‫على حّجّيتها يف املوضوعات بلسان واحد يف اجلميع ‪ ،‬ال أّن القول باملوضوعّية هنا يقتضي حمذور التصويب‬
‫( ‪)1‬‬
‫اجملمع على بطالنه عند اإلمامّية ‪ ،‬كاألمارة يف األحكام‪.‬‬
‫وعليه ‪ ،‬فاألمارة يف املوضوعات أيضا ال تقتضي اإلجزاء بال فرق بينها وبني األمارة يف األحكام‪.‬‬

‫‪ .2‬اإلجزاء في األصول مع انكشاف الخطأ يقينا‬


‫ال شّك يف أّن العمل باألصل إمّن ا يصّح إذا فقد املكّلف الدليل االجتهادّي على احلكم‪ .‬فريجع إليه‬
‫باعتبار أّنه وظيفة للجاهل ال بّد منها للخروج من احلرية‪.‬‬
‫فاألصل ـ يف حقيقته ـ وظيفة للجاهل الشاّك ينتهي إليه يف مقام العمل ؛ إذ ال سبيل له غري ذلك لرفع‬
‫احلرية ‪ ،‬وعالج حالة الشّك ‪.‬‬
‫ّمث إّن األصل على قسمني ‪:‬‬
‫‪ .1‬أصل عقلّي ‪ :‬واملراد منه ما حيكم به العقل ‪ ،‬وال يتضّم ن جعل حكم ظاهرّي من الشارع ‪،‬‬
‫كاالحتياط ‪ ،‬وقاعدة التخيري ‪ ،‬والرباءة العقلّية اليت مرجعها إىل حكم العقل بنفي العقاب بال بيان ‪ ،‬فهي ال‬
‫مضمون هلا إّال رفع العقاب ‪ ،‬ال جعل حكم باإلباحة من الشارع‪.‬‬
‫‪ .2‬أصل شرعّي ‪ :‬وهو اجملعول من الشارع يف مقام الشّك واحلرية ‪ ،‬فيتضّم ن جعل حكم ظاهرّي ‪،‬‬
‫كاالستصحاب والرباءة الشرعّية اليت مرجعها إىل حكم الشارع باإلباحة ‪ ،‬ومثلها أصالة الطهارة واحلّلّية‪.‬‬
‫إذا عرفت ذلك فنقول ‪:‬‬
‫أّو ال ‪ :‬إّن حبث اإلجزاء ال يتصّو ر يف قاعدة االحتياط مطلقا ‪ ،‬سواء كانت عقلّية أو‬
‫شرعّية ؛ ألّن املفروض يف االحتياط هو العمل مبا حيّق ق امتثال التكليف الواقعّي ‪ ،‬فال يتصّو ر فيه تفويت‬
‫املصلحة‪.‬‬
‫وثانيا ‪ :‬كذلك ال يتصّو ر حبث اإلجزاء يف األصول العقلّية األخرى ‪ ،‬كالرباءة (‪ ، )1‬وقاعدة التخيري ؛‬
‫ألهّن ا ـ حسب الفرض ـ ال تتضّم ن حكما ظاهرّيا ‪ ،‬حىّت يتصّو ر فيها اإلجزاء واالكتفاء باملأّيت به عن الواقع ‪،‬‬
‫بل إّن مضموهنا هو سقوط العقاب واملعذورّية اجملّر دة‪.‬‬
‫وعليه ‪ ،‬فينحصر البحث يف خصوص األصول الشرعّية عدا االحتياط ‪ ،‬كاالستصحاب ‪ ،‬وأصالة الرباءة‬
‫(‪ ، )2‬واحلّلّية ‪ ،‬وأصالة الطهارة‪.‬‬
‫وهي ألّو ل وهلة ال جمال لتوّه م اإلجزاء فيها ‪ ،‬ال يف األحكام وال يف املوضوعات ؛ فإهّن ا أوىل من‬
‫األمارات يف عدم اإلجزاء ‪ ،‬باعتبار أهّن ا ـ كما ذكرنا يف صدر البحث ـ وظيفة عملّية يرجع إليها اجلاهل الشاّك‬
‫لرفع احلرية يف مقام العمل والعالج الوقّيت‪ .‬أّم ا الواقع فهو على واقعّيته ‪ ،‬فيتنّج ز حني العلم به وانكشافه ‪ ،‬وال‬
‫مصلحة يف العمل باألصل غري رفع احلرية عند الشّك ‪ ،‬فال يتصّو ر فيه مصلحة وافية يتدارك هبا مصلحة الواقع‬
‫(‪ )3‬حىّت يقتضي اإلجزاء واالكتفاء به عن الواقع‪.‬‬
‫( ‪)4‬‬
‫ولذا أفىت علماؤنا املتقّد مون بعدم اإلجزاء يف األصول العملّية‪.‬‬
‫ومع هذا ‪ ،‬فقد قال قوم من املتأّخ رين باإلجزاء ‪ ،‬منهم ‪ :‬شيخنا صاحب الكفاية (‪ ، )5‬وتبعه تلميذه‬
‫أستاذنا الشيخ حممد حسني األصفهاّين قدس‌سره (‪ .)6‬ولكن ذلك يف خصوص األصول اجلارية لتنقيح‬
‫موضوع التكليف وحتقيق متعّلقه ‪ ،‬كقاعدة الطهارة ‪ ،‬وأصالة احلّلّية ‪ ،‬واستصحاهبما ‪ ،‬دون األصول اجلارية يف‬
‫نفس األحكام‪.‬‬
‫ومنشأ هذا الرأي عنده (‪ )1‬اعتقاده بأّن دليل األصل يف موضوعات األحكام موّس ع لدائرة الشرط أو‬
‫اجلزء املعترب يف موضوع التكليف ومتعّلقه ‪ ،‬بأن يكون مثل قوله عليه‌السالم ‪« :‬كّل شيء طاهر حىّت تعلم‬
‫أّنه قذر» (‪ )2‬يدّل على أّن كّل شيء قبل العلم بنجاسته حمكوم بالطهارة ‪ ،‬واحلكم بالطهارة حكم برتتيب‬
‫آثارها وإنشاء ألحكامها التكليفّية والوضعّية اليت منها الشرطّية ‪ ،‬فتصّح الصالة مبشكوك الطهارة ‪ ،‬كما تصّح‬
‫بالطاهر الواقعّي ‪.‬‬
‫ويلزم من ذلك أن يكون الشرط يف الصالة ـ حقيقة ـ أعّم من الطهارة الواقعّية والطهارة الظاهرّية‪.‬‬
‫وإذا كان األمر كذلك فإذا انكشف اخلالف ال يكون ذلك موجبا النكشاف فقدان العمل لشرطه ‪،‬‬
‫بل يكون بالنسبة إليه من قبيل ارتفاعه من حني ارتفاع اجلهل‪ .‬فال يتصّو ر حينئذ معىن لعدم اإلجزاء بالنسبة إىل‬
‫ما أتى به حني الشّك ‪ ،‬واملفروض أّن ما أتى به يكون واجدا لشرطه املعترب فيه حتقيقا ‪ ،‬باعتبار أّن الشرط هو‬
‫( ‪)3‬‬
‫األعّم من الطهارة الواقعّية والظاهرّية حني اجلهل ‪ ،‬فال يكون فيه انكشاف للخالف وال فقدان للشرط‪.‬‬
‫وقد ناقشه شيخنا املريزا الّنائيّين (‪ )4‬بعّد ة مناقشات يطول ذكرها ‪ ،‬وال يسعها هذا املختصر‪ .‬واملوضوع‬
‫من املباحث الدقيقة اليت هي فوق مستوى كتابنا (‪.)5‬‬

‫‪ .3‬اإلجزاء في األمارات واألصول مع انكشاف الخطأ بحّج ة معتبرة‬


‫وهذه أهّم مسألة يف اإلجزاء من جهة عموم البلوى هبا للمكّلفني ؛ فإّن اجملتهدين كثريا ما حيصل هلم‬
‫تبّد ل يف الرأي مبا يوجب فساد أعماهلم السابقة ظاهرا‪ .‬وبتبعهم املقّلدون هلم‪ .‬واملقّلدون أيضا قد ينتقلون من‬
‫تقليد شخص إىل تقليد شخص آخر‬
‫خيالف األّو ل يف الرأي مبا يوجب فساد األعمال السابقة‪.‬‬
‫فنقول يف هذه األحوال ‪:‬‬
‫إّنه بعد قيام احلّج ة املعتربة الالحقة بالنسبة إىل اجملتهد أو املقّلد ال إشكال يف وجوب األخذ هبا يف‬
‫الوقائع الالحقة غري املرتبطة بالوقائع السابقة‪.‬‬
‫وال إشكال ـ أيضا ـ يف مضّي الوقائع السابقة اليت ال يرتّتب عليها أثر أصال يف الزمن الالحق‪.‬‬
‫وإمّن ا اإلشكال يف الوقائع الالحقة املرتبطة بالوقائع السابقة ‪ ،‬مثل ما لو انكشف اخلطأ اجتهادا أو تقليدا‬
‫يف وقت العبادة ‪ ،‬وقد عمل مبقتضى احلّج ة السابقة ‪ ،‬أو انكشف اخلطأ يف خارج الوقت ‪ ،‬وكان عمله ّمما‬
‫يقضى ‪ ،‬كالصالة ‪ ،‬ومثل ما لو تزّو ج زوجة بعقد غري عرّيب اجتهادا أو تقليدا ‪ّ ،‬مث قامت احلّج ة عنده على‬
‫اعتبار اللفظ العرّيب ‪ ،‬والزوجة ال تزال موجودة‪.‬‬
‫فإّن املعروف يف املوضوعات اخلارجّية عدم اإلجزاء (‪.)1‬‬
‫أّم ا يف األحكام ‪ :‬فقد قيل بقيام اإلمجاع على اإلجزاء ‪ ،‬ال سّيما يف األمور العبادّية ‪ ،‬كاملثال األّو ل‬
‫املتقّد م‪ )2( .‬ولكّن العمدة يف الباب أن نبحث عن القاعدة ما ذا تقتضي هنا؟‬
‫هل تقتضي اإلجزاء أو ال تقتضيه؟ والظاهر أهّن ا ال تقتضي اإلجزاء‪.‬‬
‫وخالصة ما ينبغي أن يقال ‪ :‬إّن من يّد عي اإلجزاء ال بّد أن يّد عي أّن املكّلف ال يلزمه يف الزمان‬
‫الالحق إّال العمل على طبق احلّج ة األخرية اليت قامت عنده‪ .‬وأّم ا ‪ :‬عمله السابق فقد كان على طبق حّج ة‬
‫ماضية عليه يف حينها‪.‬‬
‫ولكن يقال له ‪ :‬إّن التبّد ل الذي حصل له ‪ ،‬إّم ا أن يّد عى أّنه تبّد ل يف احلكم الواقعّي أو‬
‫تبّد ل يف احلّج ة عليه‪ .‬وال ثالث هلما‪.‬‬
‫أّم ا ‪ :‬دعوى التبّد ل يف احلكم الواقعّي فال إشكال يف بطالهنا ؛ ألهّن ا تستلزم القول بالتصويب ‪ ،‬وهو‬
‫ظاهر‪.‬‬
‫وأّم ا ‪ :‬دعوى التبّد ل يف احلّج ة ‪ ،‬فإن أراد أّن احلّج ة األوىل هي حّج ة بالنسبة إىل األعمال السابقة ‪،‬‬
‫وبالنظر إىل وقتها فقط فهذا ال ينفع يف اإلجزاء بالنسبة إىل األعمال الالحقة وآثار األعمال السابقة ‪ ،‬وإن أراد‬
‫أّن احلّج ة األوىل هي حّج ة مطلقا حىّت بالنسبة إىل األعمال الالحقة وآثار األعمال السابقة فالدعوى باطلة‬
‫قطعا ؛ ألّنه يف تبّد ل االجتهاد ينكشف حبّج ة معتربة أّن املدرك السابق مل يكن حّج ة مطلقا حىّت بالنسبة إىل‬
‫أعماله الالحقة ‪ ،‬أو أّنه ختّيله حّج ة وهو ليس حبّج ة ‪ ،‬ال أّن املدرك األّو ل حّج ة مطلقا ‪ ،‬وهذا الثاين حّج ة‬
‫أخرى‪.‬‬
‫وكذلك الكالم يف تبّد ل التقليد ‪ ،‬فإّن مقتضى التقليد الثاين هو انكشاف بطالن األعمال الواقعة على‬
‫طبق التقليد األّو ل ‪ ،‬فال بّد من ترتيب األثر على طبق احلّج ة الفعلّية ‪ ،‬فإّن احلّج ة السابقة ـ أي التقليد األّو ل ـ‬
‫كال حّج ة بالنسبة إىل اآلثار الالحقة ‪ ،‬وإن كانت حّج ة عليه يف وقته ‪ ،‬واملفروض عدم التبّد ل يف احلكم‬
‫الواقعّي ‪ ،‬فهو باق على حاله ؛ فيجب العمل على طبق احلّج ة الفعلّية وما تقتضيه‪ .‬فال إجزاء إّال إذا ثبت‬
‫اإلمجاع عليه‪.‬‬
‫وتفصيل الكالم يف هذا املوضوع حيتاج إىل سعة من القول فوق مستوى هذا املختصر‪.‬‬

‫تنبيه في تبّد ل القطع‬


‫لو قطع املكّلف بأمر خطأ فعمل على طبق قطعه ‪ّ ،‬مث بان له يقينا خطؤه ‪ ،‬فإّنه ال ينبغي الشّك يف عدم‬
‫اإلجزاء ‪ ،‬والسّر واضح ؛ ألّنه عند القطع األّو ل مل يفعل ما استوىف مصلحة الواقع بأّي وجه من وجوه‬
‫االستيفاء ‪ ،‬فكيف يسقط التكليف الواقعّي ؟! ألّنه يف احلقيقة ال أمر موّج ه إليه ‪ ،‬وإمّن ا كان يتخّيل األمر‪ .‬وعليه‬
‫‪ ،‬فيجب امتثال الواقع يف الوقت أداء ويف خارجه قضاء‪.‬‬
‫نعم ‪ ،‬لو أّن العمل الذي قطع بوجوبه كان من باب االّتفاق حمّق قا ملصلحة الواقع فإّنه ال بّد أن يكون‬
‫جمزئا‪ .‬ولكن هذا أمر آخر اّتفاقّي ليس من جهة كونه مقطوع الوجوب‪.‬‬

‫المسألة الثانية ‪ :‬مقّد مة الواجب‬

‫تحرير [محّل] النزاع‬


‫كّل عاقل جيد من نفسه أّنه إذا وجب عليه شيء وكان حصوله يتوّقف على مقّد مات (‪ )1‬فإّنه ال بّد له‬
‫من حتصيل تلك املقّد مات ليتوّص ل إىل فعل ذلك الشيء هبا (‪.)2‬‬
‫وهذا األمر هبذا املقدار ليس موضعا للشّك والنزاع ‪ ،‬وإمّن ا الذي وقع موضعا للشّك وجرى فيه النزاع‬
‫عند األصولّيني هو أّن هذه الالبّد ّية العقلّية للمقّد مة اليت ال يتّم الواجب إّال هبا هل يستكشف منها الالبّد ّية‬
‫شرعا أيضا؟ يعين أّن الواجب هل يلزم عقال من وجوبه الشرعّي وجوب مقّد مته شرعا؟ أو فقل على حنو‬
‫العموم ‪ :‬كّل فعل واجب عند موىل من املوايل هل يلزم منه عقال وجوب مقّد مته أيضا عند ذلك املوىل؟‪.‬‬
‫وبعبارة رابعة أكثر وضوحا ‪ :‬إّن العقل ـ ال شّك ـ حيكم بوجوب مقّد مة الواجب ـ أي يدرك لزومها ـ ‪ ،‬ولكن‬
‫هل حيكم أيضا بأهّن ا واجبة أيضا عند من أمر مبا يتوّقف عليها؟‬
‫وعلى هذا البيان فاملالزمة بني حكم العقل وحكم الشرع هي موضع البحث يف هذه املسألة‪.‬‬

‫مقّد مة الواجب من أّي قسم من المباحث األصولّية؟‬


‫(‪)3‬‬

‫وإذا اّتضح ما تقّد م يف حترير حمّل النزاع نستطيع أن نفهم أّنه يف أّي قسم من أقسام املباحث األصولّية‬
‫ينبغي أن تدخل هذه املسألة‪.‬‬
‫وتوضيح ذلك أّن هذه املالزمة ـ على تقدير القول هبا ـ تكون على أحناء ثالثة ‪ :‬إّم ا‬
‫مالزمة غري بّينة ‪ ،‬أو بّينة باملعىن األعّم ‪ ،‬أو بّينة باملعىن األخّص ‪.‬‬
‫فإن كانت هذه املالزمة ـ يف نظر القائل هبا ـ غري بّينة ‪ ،‬أو بّينة باملعىن األعّم فإثبات الالزم ـ وهو وجوب‬
‫املقّد مة شرعا ـ ال يرجع إىل داللة اللفظ أبدا ‪ ،‬بل إثباته إمّن ا يتوّقف على حّجّية هذا احلكم العقلّي باملالزمة ‪،‬‬
‫وإذا حتّق قت هناك داللة فهي من نوع داللة اإلشارة‪ )1( .‬وعلى هذا فيجب أن تدخل املسألة يف حبث املالزمات‬
‫( ‪)2‬‬
‫العقلّية غري املستقّلة ‪ ،‬وال يصّح إدراجها يف مباحث األلفاظ‪.‬‬
‫وإن كانت هذه املالزمة ـ يف نظر القائل هبا ـ مالزمة بّينة باملعىن األخّص فإثبات الالزم يكون ال حمالة‬
‫بالداللة اللفظّية ‪ ،‬وهي الداللة االلتزامّية خاّص ة (‪ .)3‬والداللة االلتزامّية من الظواهر اليت هي حّج ة‪.‬‬
‫ولعّله ألجل هذا أدخلوا هذه املسألة يف مباحث األلفاظ ‪ ،‬وجعلوها من مباحث األوامر باخلصوص (‪.)4‬‬
‫وهم على حّق يف ذلك إذا كان القائل باملالزمة ال يقول هبا إّال لكوهنا مالزمة بّينة باملعىن األخّص ‪ ،‬ولكّن‬
‫األمر ليس كذلك‪.‬‬
‫إذن ‪ ،‬ميكننا أن نقول ‪ :‬إّن هذه املسألة ذات جهتني باختالف األقوال فيها ‪ :‬ميكن أن تدخل يف مباحث‬
‫األلفاظ على بعض األقوال ‪ ،‬وميكن أن تدخل يف املالزمات العقلّية على البعض اآلخر‪.‬‬
‫ولكن ألجل اجلمع بني اجلهتني ناسب إدخاهلا يف املالزمات العقلّية ـ كما صنعنا ـ ؛ ألّن البحث فيها‬
‫على كّل حال يف ثبوت املالزمة ‪ ،‬غاية األمر أّنه على أحد األقوال تدخل‬
‫صغرى (‪ )1‬حلّجّية الظهور كما تدخل صغرى حلّجّية العقل‪ .‬وعلى القول اآلخر تتمّح ض يف الدخول صغرى‬
‫حلّجّية العقل‪ .‬واجلامع بينهما هو جعلها صغرى حلجّية العقل‪.‬‬

‫ثمرة النزاع‬
‫إّن مثرة النزاع املتصّو رة ـ أّو ال وبالذات ـ هلذه املسألة هي استنتاج وجوب املقّد مة شرعا باإلضافة إىل‬
‫وجوهبا العقلّي الثابت‪ .‬وهذا املقدار كاف يف مثرة املسألة األصولّية ؛ ألّن املقصود من علم األصول هو‬
‫االستعانة مبسائله على استنباط األحكام من أدّلتها‪.‬‬
‫ولكّن هذه مثرة غري عملّية باعتبار أّن املقّد مة بعد فرض وجوهبا العقلّي ‪ ،‬والبّد ّية اإلتيان هبا ال فائدة يف‬
‫القول بوجوهبا شرعا ‪ ،‬أو بعدم وجوهبا ؛ إذ ال جمال للمكّلف أن يرتكها حبال ما دام هو بصدد امتثال ذي‬
‫املقّد مة‪.‬‬
‫وعليه ‪ ،‬فالبحث عن هذه املسألة ال يكون حبثا عملّيا مفيدا ‪ ،‬بل يبدو ألّو ل وهلة أّنه لغو من القول ال‬
‫طائل حتته ‪ ،‬مع أّن هذه املسألة من أشهر مسائل هذا العلم ‪ ،‬وأدّقها ‪ ،‬وأكثرها حبثا‪.‬‬
‫ومن أجل هذا أخذ بعض األصولّيني املتأّخ رين يفّتشون عن فوائد عملّية هلذا البحث غري مثرة أصل‬
‫الوجوب‪ .‬ويف احلقيقة أّن كّل ما ذكروه من مثرات ال تسمن وال تغين من جوع‪( .‬راجع عنها املطّو الت إن‬
‫شئت) (‪.)2‬‬
‫فيا ترى هل كان البحث عنها كّله لغوا؟ وهل من األصّح أن نرتك البحث عنها؟ نقول ‪ :‬ال ؛ إّن‬
‫للمسألة فوائد علمّية كثرية وإن مل تكن هلا فوائد عملّية ‪ ،‬وال يستهان بتلك الفوائد ‪ ،‬كما سرتى ‪ّ ،‬مث هي‬
‫ترتبط بكثري من املسائل ذات الشأن العملّي يف الفقه ‪ ،‬كالبحث عن الشرط املتأّخ ر ‪ ،‬واملقّد مات املفّو تة ‪،‬‬
‫وعبادّية بعض املقّد مات ‪ ،‬كالطهارات الثالث ّمما ال يسع األصوّيل أن يتجاهلها ‪ ،‬ويغفلها‪ .‬وهذا كّله ليس‬
‫بالشيء القليل وإن مل تكن هي‬
‫من املسائل األصولّية‪.‬‬
‫ولذا جتد أّن أهّم مباحث مسألتنا هي هذه األمور املنّو ه عنها وأمثاهلا‪ .‬أّم ا نفس البحث عن أصل‬
‫املالزمة فيكاد يكون حبثا على اهلامش ‪ ،‬بل آخر ما يشغل بال األصولّيني‪.‬‬
‫هذا ‪ ،‬وحنن اّتباعا لطريقتهم نضع التمهيدات قبل البحث عن أصل املسألة يف أمور تسعة ‪:‬‬

‫‪ .1‬الواجب النفسّي والغيرّي‬


‫تقّد م يف اجلزء األّو ل (‪ )1‬معىن الواجب النفسّي والغريّي ‪ ،‬وجيب توضيحهما اآلن ؛ فإّنه هنا موضع‬
‫احلاجة لبحثهما ؛ ألّن الوجوب الغريّي هو نفس وجوب املقّد مة ـ على تقدير القول بوجوهبا ـ ‪ ،‬وعليه فنقول‬
‫يف تعريفهما ‪:‬‬
‫الواجب النفسّي ما وجب لنفسه ال لواجب آخر‪.‬‬
‫الواجب الغيرّي ما وجب لواجب آخر‪.‬‬
‫وهذان التعريفان أسّد التعريفات هلما وأحسنها (‪ ، )2‬ولكن حيتاجان إىل بعض من التوضيح ‪ ،‬فإّن قولنا ‪:‬‬
‫«ما وجب لنفسه» قد يتّو هم منه املتوّه م ألّو ل نظرة أّن العبارة تعطي أّن معناها أن يكون وجوب الشيء عّلة‬
‫لنفسه يف الواجب النفسّي ‪ ،‬وذلك مبقتضى املقابلة لتعريف الواجب الغريّي إذ يستفاد منه أّن وجوب الغري عّلة‬
‫لوجوبه ‪ ،‬كما عليه املشهور (‪ .)3‬وال شّك يف أّن هذا حمال يف الواجب النفسّي ؛ إذ كيف يكون الشيء عّلة‬
‫لنفسه؟!‬
‫ويندفع هذا التوّه م بأدىن تأّم ل ‪ ،‬فإّن ذلك التعبري عن الواجب النفسّي صحيح ال غبار عليه ‪ ،‬وهو نظري‬
‫تعبريهم عن اهلل (تعاىل) بأّنه «واجب الوجود لذاته» ؛ فإّن غرضهم منه أّن وجوده ليس مستفادا من الغري وال‬
‫ألجل الغري كاملمكن ‪ ،‬ال أّن معناه أّنه معلول لذاته‪.‬‬
‫وكذلك هنا نقول يف الواجب النفسّي ؛ فإّن معىن «ما وجب لنفسه» أّن وجوبه غري مستفاد من الغري وال‬
‫ألجل الغري يف قبال الواجب الغريّي الذي وجوبه ألجل الغري ‪ ،‬ال أّن وجوبه مستفاد من نفسه‪.‬‬
‫وهبذا يّتضح معىن تعريف الواجب الغريّي «ما وجب لواجب آخر» ؛ فإّن معناه أّن وجوبه ألجل الغري‬
‫وتابع للغري ؛ لكونه مقّد مة لذلك الغري الواجب‪ .‬وسيأيت يف البحث اآليت توضيح معىن التبعّية هذه ليتجّلى لنا‬
‫املقصود من الوجوب الغريّي يف الباب‪.‬‬

‫‪ .2‬معنى التبعّية في الوجوب الغيرّي ‪:‬‬


‫قد شاع يف تعبرياهتم كثريا قوهلم ‪« :‬إّن الواجب الغريّي تابع يف وجوبه لوجوب غريه» ‪ ،‬ولكن هذا‬
‫التعبري جممل جّد ا ؛ ألّن التبعّية يف الوجوب ميكن أن تتصّو ر هلا معان أربعة ‪ ،‬فال بّد من بياهنا ‪ ،‬وبيان املعىن‬
‫املقصود منها هنا ‪ ،‬فنقول ‪:‬‬
‫‪ .1‬أن يكون معىن الوجوب التبعّي هو الوجوب بالعرض‪ .‬ومعىن ذلك أّنه ليس يف الواقع إّال وجوب‬
‫واحد حقيقّي ـ وهو الوجوب النفسّي ـ ينسب إىل ذي املقّد مة أّو ال وبالذات ‪ ،‬وإىل املقّد مة ثانيا وبالعرض‪.‬‬
‫وذلك نظري الوجود بالنسبة إىل اللفظ واملعىن حينما يقال ‪« :‬املعىن موجود باللفظ» ‪ ،‬فإّن املقصود بذلك أّن‬
‫هناك وجودا واحدا حقيقّيا ينسب إىل اللفظ أّو ال وبالذات ‪ ،‬وإىل املعىن ثانيا وبالعرض‪.‬‬
‫ولكن هذا الوجه من التبعّية ال ينبغي أن يكون هو املقصود من التبعّية هنا ؛ ألّن املقصود من الوجوب‬
‫الغريّي وجوب حقيقّي آخر يثبت للمقّد مة غري وجوب ذيها النفسّي ‪ ،‬بأن يكون لكّل من املقّد مة وذيها‬
‫وجوب قائم به حقيقة‪ .‬ومعىن التبعّية يف هذا الوجه أّن الوجوب احلقيقّي واحد ويكون الوجوب الثاين وجوبا‬
‫جمازّيا‪ .‬على أّن هذا الوجوب بالعرض ليس وجوبا يزيد على الالبّد ّية العقلّية للمقّد مة حىّت ميكن فرض النزاع‬
‫فيه نزاعا عملّيا‪.‬‬
‫‪ .2‬أن يكون معىن التبعّية صرف التأّخ ر يف الوجود ‪ ،‬فيكون ترّتب الوجوب الغريّي على الوجوب‬
‫النفسّي نظري ترّتب أحد الوجودين املستقّلني على اآلخر ‪ ،‬بأن يفرض البعث املوّج ه للمقّد مة بعثا مستقّال ‪،‬‬
‫ولكّنه بعد البعث حنو ذيها ‪ ،‬مرّتب عليه يف الوجود ‪ ،‬فيكون‬
‫من قبيل األمر باحلّج املرّتب وجودا على حصول االستطاعة ‪ ،‬ومن قبيل األمر بالصالة بعد حصول البلوغ أو‬
‫دخول الوقت‪.‬‬
‫ولكن هذا الوجه من التبعّية أيضا ال ينبغي أن يكون هو املقصود هنا ؛ فإّنه لو كان ذلك هو املقصود ‪،‬‬
‫لكان هذا الوجوب للمقّد مة ـ يف احلقيقة ـ وجوبا نفسّيا آخر يف مقابل وجوب ذي املقّد مة ‪ ،‬وإمّن ا يكون‬
‫وجوب ذي املقّد مة له السبق يف الوجود فقط‪ .‬وهذا ينايف حقيقة املقّد مّية ؛ فإهّن ا ال تكون إّال موصلة إىل ذي‬
‫املقّد مة يف وجودها ويف وجوهبا معا‪.‬‬
‫‪ .3‬أن يكون معىن التبعّية ترّش ح الوجوب الغريّي من الوجوب النفسّي لذي املقّد مة على وجه يكون‬
‫معلوال له ومنبعثا منه انبعاث األثر من مؤّثره التكويّين ‪ ،‬كانبعاث احلرارة من النار‪.‬‬
‫وكأّن هذا الوجه من التبعّية هو املقصود للقوم ‪ ،‬ولذا قالوا بأّن وجوب املقّد مة تابع لوجوب ذيها‬
‫إطالقا واشرتاطا (‪ )1‬ملكان هذه املعلولّية ؛ ألّن املعلول ال يتحّق ق إّال حيث تتحّق ق عّلته ‪ ،‬وإذا حتّق قت العّلة ال‬
‫بّد من حتّق قه بصورة ال يتخّلف عنها‪ .‬وأيضا عّللوا امتناع وجوب املقّد مة قبل وجوب ذيها بامتناع وجود‬
‫املعلول قبل وجود عّلته‪.‬‬
‫ولكن هذا الوجه ال ينبغي أن يكون هو املقصود من تبعّية الوجوب الغريّي ‪ ،‬وإن اشتهر على األلسنة ؛‬
‫ألّن الوجوب النفسّي لو كان عّلة للوجوب الغريّي فال يصّح فرضه إّال عّلة فاعلّية تكوينّية دون غريها من‬
‫العلل ؛ فإّنه ال معىن لفرضه عّلة صورّية ‪ ،‬أو ماّدّية ‪ ،‬أو غائية ‪ ،‬ولكن فرضه عّلة فاعلّية أيضا باطل جزما ؛‬
‫لوضوح أّن العّلة الفاعلّية احلقيقّية للوجوب هو اآلمر ؛ ألّن األمر فعل اآلمر‪.‬‬
‫والظاهر أّن السبب يف اشتهار معلولّية الوجوب الغريّي هو أّن شوق اآلمر للمقّد مة هو الذي يكون‬
‫منبعثا من الشوق إىل ذي املقّد مة ؛ ألّن اإلنسان إذا اشتاق إىل فعل شيء اشتاق بالتبع إىل فعل كّل ما يتوّقف‬
‫عليه‪ .‬ولكّن الشوق إىل فعل الشيء من الغري ليس هو الوجوب ‪ ،‬وإمّن ا الشوق إىل فعل الغري يدفع اآلمر إىل‬
‫األمر به إذا مل حيصل ما مينع من األمر به ‪ ،‬فإذا صدر منه األمر ـ وهو أهل له ـ انتزع منه الوجوب‪.‬‬
‫والحاصل ‪ :‬ليس الوجوب الغريّي معلوال للوجوب النفسّي يف ذي املقّد مة ‪ ،‬وال ينتهي إليه يف سلسلة‬
‫العلل ‪ ،‬وإمّن ا ينتهي الوجوب الغريّي يف سلسلة علله إىل الشوق إىل ذي املقّد مة إذا مل يكن هناك مانع لدى‬
‫اآلمر من األمر باملقّد مة ‪ ،‬ألّن الشوق ـ على كّل حال ـ ليس عّلة تاّم ة إىل فعل ما يشتاق إليه‪ .‬فتذّك ر هذا ‪ ،‬فإّنه‬
‫سينفعك يف وجوب املقّد مة املفّو تة ويف أصل وجوب املقّد مة ‪ ،‬فإّنه هبذا البيان سيّتضح كيف ميكن فرض‬
‫وجوب املقّد مة املفّو تة قبل وجوب ذيها؟ ‪ ،‬وهبذا البيان سيّتضح أيضا كيف إّن املقّد مة مطلقا ليست واجبة‬
‫بالوجوب املولوّي ؟‪.‬‬
‫‪ .4‬أن يكون معىن التبعّية هو ترّش ح الوجوب الغريّي من الوجوب النفسّي ولكن ال مبعىن أّنه معلول‬
‫له ‪ ،‬بل مبعىن أّن الباعث للوجوب الغريّي ـ على تقدير القول به ـ هو الوجوب النفسّي باعتبار أّن األمر باملقّد مة‬
‫والبعث حنوها إمّن ا هو لغاية التوّص ل إىل ذيها الواجب وحتصيله ‪ ،‬فيكون وجوهبا وصلة وطريقا إىل حتصيل ذيها‬
‫‪ ،‬ولو ال أّن ذاها كان مرادا للموىل ملا أوجب املقّد مة‪.‬‬
‫ويشري إىل هذا املعىن من التبعّية تعريفهم للواجب الغريّي بأّنه ‪« :‬ما وجب لواجب آخر» ‪ ،‬أي لغاية‬
‫واجب آخر ولغرض حتصيله والتوّص ل إليه ‪ ،‬فيكون الغرض من وجوب املقّد مة ـ على تقدير القول به ـ هو‬
‫حتصيل ذيها الواجب‪.‬‬
‫وهذا املعىن هو الذي ينبغي أن يكون معىن التبعّية املقصودة يف الوجوب الغريّي ‪ .‬ويلزمها أن يكون‬
‫الوجوب الغريّي تابعا لوجوبه إطالقا واشرتاطا‪.‬‬
‫وعليه ‪ ،‬فالوجوب الغريّي وجوب حقيقّي ولكّنه وجوب تبعّي توّص لّي آّيل ‪ ،‬وشأن وجوب املقّد مة‬
‫شأن نفس املقّد مة‪ .‬فكما أّن املقّد مة مبا هي مقّد مة ال يقصد فاعلها إّال التوّص ل إىل ذيها ‪ ،‬كذلك وجوهبا إمّن ا‬
‫هو للتوّص ل إىل حتصيل ذيها ‪ ،‬كاآللة املوصلة اليت ال تقصد باألصالة واالستقالل‪.‬‬
‫وسّر هذا واضح ‪ ،‬فإّن املوىل ـ بناء على القول بوجوب املقّد مة ـ إذا أمر بذي املقّد مة ‪ ،‬فإّنه ال بّد له‬
‫لغرض حتصيله من املكّلف أن يدفعه ويبعثه حنو مقّد ماته ‪ ،‬فيأمره هبا توّص ال إىل غرضه‪.‬‬
‫فيكون البعث حنو املقّد مة ـ على هذا ـ بعثا حقيقّيا ‪ ،‬ال أّنه يتبع البعث إىل ذيها على وجه ينسب إليها‬
‫بالعرض ‪ ،‬كما يف الوجه األّو ل ‪ ،‬وال أّنه يبعثه ببعث مستقّل لنفس املقّد مة ولغرض فيها بعد البعث حنو ذيها ‪،‬‬
‫كما يف الوجه الثاين ‪ ،‬وال أّن البعث حنو املقّد مة من آثار البعث حنو ذيها على وجه يكون معلوال له كما يف‬
‫الوجه الثالث‪ .‬وسيأيت تتّم ة للبحث يف املقّد مات املفّو تة‪.‬‬

‫‪ .3‬خصائص الوجوب الغيرّي‬


‫بعد ما اّتضح معىن التبعّية يف الوجوب الغريّي تّتضح لنا خصائصه اليت هبا ميتاز عن الوجوب النفسّي ‪،‬‬
‫وهي أمور ‪:‬‬
‫‪ .1‬إّن الواجب الغريّي كما ال بعث استقالّيل له ـ كما تقّد م ـ ال إطاعة استقاللّية له ‪ ،‬وإمّن ا إطاعته‬
‫كوجوبه لغرض التوّص ل إىل ذي املقّد مة ‪ ،‬خبالف الواجب النفسّي ؛ فإّنه واجب لنفسه ويطاع لنفسه‪.‬‬
‫‪ .2‬إّنه بعد أن قلنا ‪ :‬إّنه ال إطاعة استقاللّية للوجوب الغريّي ‪ ،‬وإمّن ا إطاعته كوجوبه لصرف التوّص ل‬
‫إىل ذي املقّد مة ‪ ،‬فال بّد أّال يكون له ثواب على إطاعته (‪ )1‬غري الثواب الذي حيصل على إطاعة وجوب ذي‬
‫املقّد مة ‪ ،‬كما ال عقاب على عصيانه غري العقاب على عصيان وجوب ذي املقّد مة‪ .‬ولذا جند أّن من ترك‬
‫الواجب برتك مقّد ماته ال يستحّق أكثر من عقاب واحد على نفس الواجب النفسّي ‪ ،‬ال أّنه يستحّق عقابات‬
‫متعّد دة بعدد مقّد ماته املرتوكة‪.‬‬
‫وأّم ا ‪ :‬ما ورد يف الشريعة ـ من الثواب على بعض املقّد مات مثل ما ورد من الثواب على املشي على‬
‫القدم إىل احلّج (‪ )1‬أو زيارة احلسني عليه‌السالم (‪ )2‬وأّنه يف كّل خطوة كذا من الثواب ـ فينبغي ـ على هذا ـ أن‬
‫حيمل على توزيع ثواب نفس العمل على مقّد ماته باعتبار «أّن أفضل األعمال أمحزها» (‪ ، )3‬وكّلما كثرت‬
‫مقّد مات العمل وزادت صعوبتها كثرت محازة العمل ومشّق ته ‪ ،‬فينسب الثواب إىل املقّد مة جمازا ثانيا وبالعرض‬
‫‪ ،‬باعتبار أهّن ا السبب يف زيادة مقدار احلمازة واملشّق ة يف نفس العمل ‪ ،‬فتكون السبب يف زيادة الثواب ‪ ،‬ال أّن‬
‫الثواب على نفس املقّد مة‪.‬‬
‫ومن أجل أّنه ال ثواب على املقّد مة استشكلوا يف استحقاق الثواب على فعل بعض املقّد مات ‪،‬‬
‫( ‪)4‬‬
‫كالطهارات الثالث ‪ ،‬الظاهر منه أّن الثواب على نفس املقّد مة مبا هي‪ .‬وسيأيت حّله إن شاء اهلل (تعاىل)‪.‬‬
‫‪ .3‬إّن الوجوب الغريّي ال يكون إّال توّص لّيا ‪ ،‬أي ال يكون يف حقيقته عبادّيا ‪ ،‬وال يقتضي يف نفسه‬
‫عبادّية املقّد مة ‪ ،‬إذا ال يتحّق ق فيه قصد االمتثال على حنو االستقالل ‪ ،‬كما قلنا يف اخلاّص ة األوىل ‪ :‬أّنه ال‬
‫إطاعة استقاللّية له ‪ ،‬بل إمّن ا يؤتى باملقّد مة بقصد التوّص ل إىل ذيها ‪ ،‬وإطاعة أمر ذيها ‪ ،‬فاملقصود باالمتثال به‬
‫نفس أمر ذيها‪.‬‬
‫(‬
‫ومن هنا استشكلوا يف عبادّية بعض املقّد مات ‪ ،‬كالطهارات الثالث‪ .‬وسيأيت حّله إن شاء اهلل (تعاىل)‪.‬‬
‫‪)5‬‬

‫‪ .4‬إّن الوجوب الغريّي تابع لوجوب ذي املقّد مة إطالقا واشرتاطا ‪ ،‬وفعلّية وقّو ة ‪ ،‬قضاء حلّق التبعّية ‪،‬‬
‫كما‬
‫تقّد م‪ .‬ومعىن ذلك ‪ :‬أّنه كّل ما هو شرط يف وجوب ذي املقّد مة فهو‬
‫شرط يف وجوب املقّد مة ‪ ،‬وما ليس بشرط ال يكون شرطا لوجوهبا ‪ ،‬كما أّنه كّلما حتّق ق وجوب ذي املقّد مة‬
‫حتّق ق معه وجوب املقّد مة‪ .‬وعلى هذا قيل ‪ :‬يستحيل حتّق ق وجوب فعلّي للمقّد مة قبل حتّق ق وجوب ذيها ؛‬
‫الستحالة حصول التابع قبل حصول متبوعه ‪ ،‬أو الستحالة حصول املعلول قبل حصول عّلته بناء على أّن‬
‫وجوب املقّد مة معلول لوجوب ذيها‪.‬‬
‫ومن هنا استشكلوا يف وجوب املقّد مة قبل زمان ذيها يف املقّد مات املفّو تة ‪ ،‬كوجوب الغسل ـ مثال ـ‬
‫قبل الفجر إلدراك الصوم على طهارة حني طلوع الفجر ‪ ،‬فعدم حتصيل الغسل قبل الفجر يكون مفّو تا‬
‫للواجب يف وقته ‪ ،‬وهلذا ّمسيت ‪« :‬مقّد مة مفّو تة» باعتبار أّن تركها قبل الوقت يكون مفّو تا للواجب يف وقته ‪،‬‬
‫فقالوا بوجوهبا قبل الوقت مع أّن الصوم ال جيب قبل وقته ‪ ،‬فكيف تفرض فعلّية وجوب مقّد مته؟!‬
‫وسيأيت إن شاء اهلل (تعاىل) حّل هذا اإلشكال يف حبث املقّد مات املفّو تة (‪.)1‬‬

‫‪ .4‬مقّد مة الوجوب‬
‫قّس موا املقّد مة إىل قسمني مشهورين ‪:‬‬
‫‪ .1‬مقّد مة الوجوب وتسّم ى «املقّد مة الوجوبّية» ‪ ،‬وهي ‪ :‬ما يتوّقف عليها نفس الوجوب ‪ ،‬بأن تكون‬
‫شرطا للوجوب على قول مشهور (‪ .)1‬وقيل ‪ :‬إهّن ا تؤخذ يف الواجب على وجه تكون مفروضة التحّق ق‬
‫والوجود على قول آخر (‪ ، )2‬ومع ذلك تسّم ى «مقّد مة الوجوب»‪ .‬ومثاهلا االستطاعة بالنسبة إىل احلّج ‪،‬‬
‫وكالبلوغ ‪ ،‬والعقل ‪ ،‬والقدرة بالنسبة إىل مجيع الواجبات ‪ ،‬ويسّم ى الواجب بالنسبة إليها «الواجب‬
‫املشروط»‪.‬‬
‫‪ .2‬مقّد مة الواجب وتسّم ى «املقّد مة الوجودّية» ‪ ،‬وهي ما يتوّقف عليها وجود الواجب بعد فرض‬
‫عدم تقييد الوجوب هبا ؛ بل يكون الوجوب بالنسبة إليها (‪ )3‬مطلقا ‪ ،‬وال تؤخذ بالنسبة إليه (‪ )4‬مفروضة‬
‫الوجود ‪ ،‬بل ال بّد من حتصيلها مقّد مة لتحصيله ‪ ،‬كالوضوء بالنسبة إىل الصالة ‪ ،‬والسفر بالنسبة إىل احلّج‬
‫وحنو ذلك‪ .‬ويسّم ى الواجب بالنسبة إليها «الواجب املطلق» (‪.)5‬‬
‫واملقصود من ذكر هذا التقسيم بيان أّن حمّل النزاع يف مقّد مة الواجب هو خصوص القسم الثاين ‪ ،‬أعين‬
‫املقّد مة الوجودّية ‪ ،‬دون املقّد مة الوجوبّية‪ .‬والسّر واضح ؛ ألّنه إذا كانت املقّد مة الوجوبّية مأخوذة على أهّن ا‬
‫مفروضة احلصول فال معىن لوجوب حتصيلها ‪ ،‬فإّنه خلف (‪ ، )6‬فال جيب حتصيل االستطاعة ألجل احلّج ‪ ،‬بل‬
‫إن اّتفق حصول االستطاعة ‪ ،‬وجب‬
‫احلّج عندها‪ .‬وذلك نظري الفوت يف قوله عليه‌السالم ‪« :‬اقض ما فات كما فات» (‪ )1‬؛ فإّنه ال جيب حتصيله‬
‫ألجل امتثال األمر بالقضاء ‪ ،‬بل إن اّتفق الفوت وجب القضاء‪.‬‬

‫‪ .5‬المقّد مة الداخلّية‬
‫تنقسم املقّد مة الوجودّية إىل قسمني ‪ :‬داخلّية وخارجّية‪.‬‬
‫‪« .1‬املقّد مة الداخلّية» هي جزء الواجب املرّك ب ‪ ،‬كالصالة‪ .‬وإمّن ا اعتربوا اجلزء مقّد مة ‪ ،‬فباعتبار أّن‬
‫املرّك ب متوّقف يف وجوده على أجزائه ‪ ،‬فكّل جزء يف نفسه هو مقّد مة لوجود املرّك ب ‪ ،‬كتقّد م الواحد على‬
‫االثنني‪ .‬وإمّن ا ّمسيت ‪« :‬داخلّية» فألجل أّن اجلزء داخل يف قوام املرّك ب ‪ ،‬وليس للمرّك ب وجود مستقّل غري‬
‫نفس وجود األجزاء‪.‬‬
‫‪« .2‬املقّد مة اخلارجّية» وهي كّل ما يتوّقف عليه الواجب وله وجود مستقّل خارج عن وجود‬
‫الواجب‪.‬‬
‫والغرض من ذكر هذا التقسيم هو بيان أّن النزاع يف مقّد مة الواجب هل يشمل املقّد مة الداخلّية أو أّن‬
‫ذلك خيتّص باخلارجّية؟‬
‫ولقد أنكر مجاعة مشول النزاع للداخلّية (‪ .)2‬وسندهم يف هذا اإلنكار أحد أمرين ‪:‬‬
‫األّو ل ‪ :‬إنكار املقّد مّية للجزء رأسا ‪ ،‬باعتبار أّن املرّك ب نفس األجزاء باألسر فكيف يفرض توّقف‬
‫( ‪)3‬‬
‫الشيء على نفسه؟!‬
‫الثاين ‪ :‬بعد تسليم أّن اجلزء مقّد مة ‪ ،‬ولكن يستحيل اّتصافه بالوجوب الغريّي ما دام أّنه واجب‬
‫بالوجوب النفسّي ؛ ألّن املفروض أّنه جزء الواجب بالوجوب النفسّي ‪ ،‬وليس املرّك ب إّال أجزاءه باألسر ‪،‬‬
‫( ‪)1‬‬
‫فينبسط الوجوب على األجزاء‪ .‬وحينئذ لو وجب اجلزء بالوجوب الغريّي أيضا ‪ ،‬الّتصف اجلزء بالوجوبني‪.‬‬
‫وقد اختلفوا يف بيان وجه استحالة اجتماع الوجوبني (‪ ، )2‬وال يهّم نا بيان الوجه فيه بعد االّتفاق على‬
‫االستحالة‪.‬‬
‫و ا كان هذا البحث ال نتوّقع منه فائدة عملّية حىّت مع فرض الفائدة العملّية يف مسألة وجوب املقّد مة ‪،‬‬
‫ّمل‬
‫مع أّنه حبث دقيق يطول الكالم حوله ‪ ،‬فنحن نطوي عنه صفحا حميلني الطالب إىل املطّو الت إن شاء (‪.)3‬‬

‫‪ .6‬الشرط الشرعّي‬
‫إّن املقّد مة اخلارجّية تنقسم إىل قسمني ‪ :‬عقلّية وشرعّية‪.‬‬
‫‪« .1‬املقّد مة العقلّية» هي كّل أمر يتوّقف عليه وجود الواجب توّقفا واقعّيا يدركه العقل بنفسه من‬
‫دون استعانة بالشرع ‪ ،‬كتوّقف احلّج على قطع املسافة‪.‬‬
‫‪« .2‬املقّد مة الشرعّية» هي كّل أمر يتوّقف عليه الواجب توّقفا ال يدركه العقل بنفسه ‪ ،‬بل يثبت ذلك‬
‫من طريق الشرع ‪ ،‬كتوّقف الصالة على الطهارة ‪ ،‬واستقبال القبلة ‪ ،‬وحنومها‪ .‬ويسّم ى هذا األمر أيضا‬
‫«الشرط الشرعّي » باعتبار أخذه شرطا وقيدا يف املأمور به عند الشارع ‪ ،‬مثل قوله عليه‌السالم ‪« :‬ال صالة‬
‫إّال بطهور» (‪ )1‬املستفادة منه شرطّية الطهارة للصالة‪.‬‬
‫والغرض من ذكر هذا التقسيم بيان أّن النزاع يف مقّد مة الواجب هل يشمل الشرط الشرعّي ؟‬
‫ولقد ذهب بعض أعاظم مشاخينا ـ على ما يظهر من بعض تقريرات درسه ـ إىل أّن الشرط الشرعّي‬
‫( ‪)2‬‬

‫كاجلزء ال يكون واجبا بالوجوب الغريّي ‪ ،‬وّمساه ‪« :‬مقّد مة داخلّية باملعىن األعم» ‪ ،‬باعتبار أّن التقّيد ا كان‬
‫ّمل‬
‫داخال يف املأمور به وجزءا له (‪ )3‬فهو واجب بالوجوب النفسّي ‪ .‬و ا كان انتزاع التقّيد إمّن ا يكون من القيد ـ‬
‫ّمل‬
‫أي منشأ انتزاعه هو القيد ـ واألمر بالعنوان املنتزع أمر مبنشإ انتزاعه ؛ إذ ال وجود للعنوان املنتزع إّال بوجود‬
‫منشأ انتزاعه ‪ ،‬فيكون األمر النفسّي املتعّلق بالتقّيد متعّلقا بالقيد ؛ وإذا كان القيد واجبا نفسّيا فكيف يكون‬
‫مّر ة أخرى واجبا بالوجوب الغريّي ؟!‬
‫ولكن هذا كالم ال يستقيم عند شيخنا احملّق ق األصفهاّين رحمه‌هللا ‪ ،‬وقد ناقشه يف جملس حبثه‬
‫مبناقشات مفيدة‪ .‬وهو على حّق يف مناقشاته ‪:‬‬
‫أّما أّو ال ‪ :‬فألّن هذا التقّيد املفروض دخوله يف املأمور به ال خيلو ‪ :‬إّم ا أن يكون دخيال يف أصل الغرض‬
‫من املأمور به ‪ ،‬وإّم ا أن يكون دخيال يف فعلّية الغرض منه ‪ ،‬وال ثالث هلما‪.‬‬
‫فإن كان من قبيل األّو ل فيجب أن يكون مأمورا به باألمر النفسّي ‪ ،‬ولكن مبعىن أّن متعّلق األمر ال بّد‬
‫أن يكون اخلاّص مبا هو خاّص ‪ ،‬وهو املرّك ب من املقّيد والقيد ‪ ،‬فيكون القيد والتقّيد معا داخلني‪ .‬والسّر يف‬
‫ذلك واضح ؛ ألّن الغرض يدعو باألصالة إىل إرادة ما هو واف بالغرض ‪ ،‬وما يفي بالغرض ـ حسب الفرض ـ‬
‫هو اخلاّص مبا هو خاّص ـ أي املرّك ب من املقّيد والقيد ـ ‪ ،‬ال أّن اخلصوصّية تكون خصوصّية يف املأمور به‬
‫املفروغ عن كونه مأمورا به ؛ ألّن املفروض أّن ذات املأمور به ذي اخلصوصّية ليس وحده دخيال يف الغرض‪.‬‬
‫وعلى هذا فيكون هذا القيد جزءا من املأمور به كسائر أجزائه األخرى ‪ ،‬وال فرق بني جزء وجزء يف كونه‬
‫من مجلة املقّد مات الداخلّية ؛ فتسمية مثل هذا اجلزء باملقّد مة الداخلّية باملعىن األعّم ‪ ،‬بال وجه ‪ ،‬بل هو مقّد مة‬
‫داخلّية بقول مطلق ‪ ،‬كما ال وجه لتسميته بالشرط‪.‬‬
‫وإن كان من قبيل الثاين فهذا هو شأن الشرط ‪ ،‬سواء كان شرطا شرعّيا أو عقلّيا ‪ ،‬ومثل هذا ال يعقل‬
‫أن يدخل يف حّيز األمر النفسّي ‪ ،‬ألّن الغرض ـ كما قلنا ـ ال يدعو باألصالة إّال إىل إرادة ذات ما يفي بالغرض‬
‫ويقوم به يف اخلارج ‪ ،‬وأّم ا ما له دخل يف تأثري السبب ـ أي يف فعلّية الغرض ـ فال يدعو إليه الغرض يف عرض‬
‫ذات السبب ‪ ،‬بل الذي يدعو إىل إجياد شرط التأثري ال بّد أن يكون غرضا تبعّيا يتبع الغرض األصلّي وينتهي‬
‫إليه‪.‬‬
‫وال فرق بني الشرط الشرعّي وغريه يف ذلك ‪ ،‬وإمّن ا الفرق أّن الشرط الشرعّي ا كان ال يعلم دخله يف‬
‫ّمل‬
‫فعلّية الغرض إّال من قبل املوىل ‪ ،‬كالطهارة واالستقبال وحنومها بالنسبة إىل الصالة ‪ ،‬فال بّد أن ينّبه املوىل على‬
‫اعتباره ولو بأن يأمر به ‪ ،‬إّم ا باألمر املتعّلق باملأمور به ‪ ،‬أي يأخذه قيدا فيه ‪ ،‬كأن يقول مثال ‪« :‬صّل عن‬
‫طهارة» ‪ ،‬أو بأمر مستقّل كأن يقول مثال ‪« :‬تطّه ر للصالة» ‪ ،‬وعلى مجيع األحوال ال تكون اإلرادة املتعّلقة‬
‫به يف عرض إرادة ذات السبب حىّت يكون مأمورا به باألمر النفسّي ‪ ،‬بل اإلرادة فيه تبعّية وكذا األمر به‪.‬‬
‫فإن قلتم ‪ :‬على هذا يلزم سقوط األمر املتعّلق بذات السبب الواجب إذا جاء به املكّلف من دون‬
‫الشرط‪.‬‬
‫قلت ‪ :‬من لوازم االشرتاط عدم سقوط األمر بالسبب بفعله من دون شرطه ‪ ،‬وإّال كان االشرتاط لغوا‬
‫وعبثا‪.‬‬
‫وأّما ثانيا ‪ :‬فلو سّلمنا دخول التقّيد يف الواجب على وجه يكون جزءا منه ؛ فإّن هذا‬
‫ال يوجب أن يكون نفس القيد والشرط ـ الذي هو حسب الفرض منشأ النتزاع التقّيد ـ مقّد مة داخلّية ‪ ،‬بل‬
‫هو مقّد مة خارجّية ‪ ،‬فإّن وجود الطهارة ـ مثال ـ يوجب حصول تقّيد الصالة هبا ‪ ،‬فتكون مقّد مة خارجّية‬
‫للتقّيد الذي هو جزء حسب الفرض‪ .‬وهذا يشبه املقّد مات اخلارجّية لنفس أجزاء املأمور هبا اخلارجّية ‪ ،‬فكما‬
‫أّن مقّد مة اجلزء ليست جبزء فكذلك مقّد مة التقّيد ليست جزءا‪.‬‬
‫والحاصل أّنه ا فرضتم يف الشرط أّن التقّيد داخل وهو جزء حتليلّي فقد فرضتم معه أّن القيد خارج ‪،‬‬
‫ّمل‬
‫فكيف تفرضون مّر ة أخرى أّنه داخل يف املأمور به املتعّلق باملقّيد؟!‬

‫‪ .7‬الشرط المتأّخ ر‬
‫ال شّك يف أّن من الشروط الشرعّية ما هو متقّد م يف وجوده زمانا على املشروط ‪ ،‬كالوضوء والغسل‬
‫بالنسبة إىل الصالة وحنوها ‪ ،‬بناء على أّن الشرط نفس األفعال ال أثرها الباقي إىل حني الصالة‪.‬‬
‫ومنها ‪ :‬ما هو مقارن للمشروط يف وجوده زمانا ‪ ،‬كاالستقبال وطهارة اللباس للصالة‪.‬‬
‫وإمّن ا وقع الشّك يف الشرط املتأّخ ر ‪ ،‬أي إّنه هل ميكن أن يكون الشرط الشرعّي متأّخ را يف وجوده زمانا‬
‫عن املشروط أو ال ميكن؟‬
‫ومن قال بعدم إمكانه (‪ )1‬قاس الشرط الشرعّي على الشرط العقلّي ‪ ،‬فإّن املقّد مة العقلّية يستحيل فيها‬
‫أن تكون متأّخ رة عن ذي املقّد مة ؛ ألّنه ال يوجد الشيء إّال بعد فرض وجود عّلته التاّم ة املشتملة على كّل ما‬
‫له دخل يف وجوده ؛ الستحالة وجود املعلول بدون عّلته التاّم ة‪ .‬وإذا وجد الشيء فقد انتهى ‪ ،‬فأّية حاجة له‬
‫تبقى إىل ما سيوجد بعد‪.‬‬
‫ومنشأ هذا الشّك والبحث ورود بعض الشروط الشرعّية اليت ظاهرها تأّخ رها يف الوجود عن‬
‫املشروط ‪ ،‬وذلك مثل الغسل الليلّي للمستحاضة الكربى الذي هو شرط ـ عند بعضهم (‪ )2‬ـ لصوم النهار‬
‫( ‪)1‬‬
‫السابق على الليل‪ .‬ومن هذا الباب إجازة بيع الفضوّيل بناء على أهّن ا كاشفة عن صّح ة البيع ال ناقلة‪.‬‬
‫وألجل ما ذكرنا من استحالة الشرط املتأّخ ر يف العقلّيات اختلف العلماء يف الشرط الشرعّي اختالفا‬
‫كثريا جّد ا ‪ ،‬فبعضهم ذهب إىل إمكان الشرط املتأّخ ر يف الشرعّيات (‪ ، )2‬وبعضهم ذهب إىل استحالته قياسا‬
‫على الشرط العقلّي كما ذكرنا آنفا (‪ ، )3‬والذاهبون إىل االستحالة أّو لوا ما ورد يف الشريعة بتأويالت كثرية‬
‫( ‪)4‬‬
‫يطول شرحها‪.‬‬
‫وأحسن ما قيل يف توجيه إمكان الشرط املتأّخ ر يف الشرعّيات ما عن بعض مشاخينا األعاظم‬
‫قدس‌سرهم يف بعض تقريرات درسه (‪ .)5‬وخالصته ‪« :‬أّن الكالم تارة يكون يف شرط املأمور به ‪ ،‬وأخرى يف‬
‫شرط احلكم ‪ ،‬سواء كان تكليفّيا أم وضعّيا‪.‬‬
‫أّم ا ‪ :‬يف شرط املأمور به ‪ ،‬فإّن جمّر د كونه شرطا شرعّيا للمأمور به ال مانع منه ؛ ألّنه ليس معناه إّال‬
‫أخذه قيدا يف املأمور به على أن تكون احلّص ة اخلاّص ة من املأمور به هي املطلوبة‪ .‬وكما جيوز ذلك يف األمر‬
‫السابق واملقارن فإّنه جيوز يف الالحق بال فرق‪ .‬نعم ‪ ،‬إذا رجع الشرط الشرعّي إىل شرط واقعّي ‪ ،‬كرجوع‬
‫شرط الغسل الليلّي للمستحاضة إىل أّنه رافع للحدث يف النهار ‪ ،‬فإّنه يكون حينئذ واضح االستحالة ‪،‬‬
‫كالشرط الواقعّي بال فرق‪.‬‬
‫وسّر ذلك أّن املطلوب ا كان هو احلّص ة اخلاّص ة من طبيعّي املأمور به ‪ ،‬فوجود القيد املتأّخ ر ال شأن له‬
‫ّمل‬
‫إّال الكشف عن وجود تلك احلّص ة يف ظرف كوهنا مطلوبة‪ .‬وال حمذور يف ذلك ‪ ،‬إمّن ا احملذور يف تأثري املتأّخ ر‬
‫يف املتقّد م‪.‬‬
‫وأّم ا ‪ :‬يف شرط احلكم ‪ ،‬سواء كان احلكم تكليفّيا أم وضعّيا ‪ ،‬فإّن الشرط فيه معناه أخذه مفروض‬
‫الوجود واحلصول يف مقام جعل احلكم وإنشائه ‪ ،‬وكونه مفروض الوجود ال يفرق فيه بني أن يكون متقّد ما ‪،‬‬
‫أو مقارنا ‪ ،‬أو متأّخ را ‪ ،‬كأن جيعل احلكم يف الشرط املتأّخ ر على املوضوع املقّيد بقيد أخذ مفروض الوجود‬
‫بعد وجود املوضوع‪.‬‬
‫ويتقّر ب ذلك إىل الذهن بقياسه على الواجب املرّك ب التدرجيّي احلصول ‪ ،‬فإّن التكليف يف فعلّيته يف‬
‫اجلزء األّو ل وما بعده يبقى مراعى إىل أن حيصل اجلزء األخري من املرّك ب ‪ ،‬وقد بقيت ـ إىل حني حصول‬
‫كمال األجزاء ـ شرائط التكليف من احلياة والقدرة وحنومها‪.‬‬
‫وهكذا يفرض احلال فيما حنن فيه ‪ ،‬فإّن احلكم يف الشرط املتأّخ ر يبقى يف فعلّيته مراعى إىل أن حيصل‬
‫الشرط الذي أخذ مفروض احلصول ‪ ،‬فكما أّن اجلزء األّو ل من املرّك ب التدرجيّي الواجب يف فرض حصول‬
‫مجيع األجزاء يكون واجبا وفعلّي الوجوب من أّو ل األمر ‪ ،‬ال أّن فعلّيته تكون بعد حصول مجيع األجزاء ‪،‬‬
‫وكذا باقي األجزاء ال تكون فعلّية وجوهبا بعد حصول اجلزء األخري ‪ ،‬بل حني حصوهلا ولكن يف فرض‬
‫حصول اجلميع ‪ ،‬فكذلك [يف] ما حنن فيه يكون الواجب املشروط بالشرط املتأّخ ر فعلّي الوجوب من أّو ل‬
‫األمر يف فرض حصول الشرط يف ظرفه ‪ ،‬ال أّن فعلّيته تكون متأّخ رة إىل حني الشرط‪».‬‬
‫هذا خالصة رأي شيخنا املعّظم ‪ ،‬وال خيلو عن مناقشة (‪ ، )1‬والبحث عن املوضوع بأوسع ّمما ذكرنا ال‬
‫يسعه هذا املختصر‪.‬‬

‫‪ .8‬المقّد مات المفّو تة‬


‫ورد يف الشريعة املطّه رة وجوب بعض املقّد مات قبل زمان ذيها يف املوّقتات ‪ ،‬كوجوب قطع املسافة‬
‫للحّج قبل حلول أّيامه ‪ ،‬ووجوب الغسل من اجلنابة للصوم قبل الفجر ‪ ،‬ووجوب الوضوء أو الغسل ـ على‬
‫قول (‪ )1‬ـ قبل وقت الصالة عند العلم بعدم التمّك ن منه بعد دخول وقتها ‪ ...‬وهكذا‪.‬‬
‫وتسّم ى هذه املقّد مات باصطالحهم ‪« :‬املقّد مات املفّو تة» باعتبار أّن تركها موجب لتفويت الواجب‬
‫يف وقته كما تقّد م‪.‬‬
‫وحنن نقول ‪ :‬لو مل حيكم الشارع املقّد س بوجوب مثل هذه املقّد مات فإّن العقل حيكم بلزوم اإلتيان هبا‬
‫؛ ألّن تركها موجب لتفويت الواجب يف ظرفه ‪ ،‬وحيكم أيضا بأّن التارك هلا يستحّق العقاب على تفويت‬
‫الواجب يف ظرفه بسبب تركها‪.‬‬
‫وألّو ل وهلة يبدو أّن هذين احلكمني العقلّيني الواضحني ال ينطبقان على القواعد العقلّية البديهّية يف‬
‫الباب من جهتني ‪:‬‬
‫أّما أّو ال ‪ :‬فألّن وجوب املقّد مة تابع لوجوب ذيها على أّي حنو فرض من أحناء التبعّية ‪ ،‬ال سّيما إذا‬
‫كان من حنو تبعّية املعلول لعّلته على ما هو املشهور‪ .‬فكيف يفرض الوجوب التابع يف زمان سابق على زمان‬
‫فرض الوجوب املتبوع؟!‬
‫وأّما ثانيا ‪ :‬فألّنه كيف يستحّق العقاب على ترك الواجب برتك مقّد مته قبل حضور وقته ‪ ،‬مع أّنه‬
‫حسب الفرض ال وجوب له فعال؟! وأّم ا يف ظرفه فينبغي أن يسقط وجوبه ؛ لعدم القدرة عليه برتك مقّد مته ‪،‬‬
‫والقدرة شرط عقلّي يف الوجوب‪.‬‬
‫وألجل التوفيق بني هاتيك البديهّيات العقلّية اليت تبدو كأهّن ا متعارضة ـ وإن كان يستحيل التعارض يف‬
‫األحكام العقلّية وبديهّيات العقل ـ حاول مجاعة من أعالم األصولّيني املتأّخ رين تصحيح ذلك بفرض انفكاك‬
‫زمان الوجوب عن زمان الواجب و تقّد مه عليه ‪ ،‬إّم ا يف خصوص املوّقتات (‪ )1‬أو يف مطلق الواجبات (‪، )2‬‬
‫على اختالف املسالك‪ .‬وبذلك حيصل هلم التوفيق بني تلك األحكام العقلّية ؛ ألّنه حينما يفرض تقّد م وجوب‬
‫ذي املقّد مة على زمانه فال مانع من فرض وجوب املقّد مة قبل وقت الواجب ‪ ،‬وكان استحقاق العقاب على‬
‫ترك الواجب على القاعدة ؛ ألّن وجوبه كان فعلّيا حني ترك املقّد مة‪.‬‬
‫أّم ا كيف يفرض تقّد م زمان الوجوب على زمان الواجب؟ وبأّي مناط؟ فهذا ما اختلف فيه األنظار‬
‫واحملاوالت‪.‬‬
‫فأّو ل المحاولين حلّل هذه الشبهة ـ فيما يبدو ـ صاحب الفصول الذي قال جبواز تقّد م زمان الوجوب‬
‫على طريقة الواجب املعّلق الذي اخرتعه ‪ ،‬كما أشرنا إليه يف اجلزء األّو ل (‪ .)3‬وذلك يف خصوص املوّقتات ‪،‬‬
‫بفرض أّن الوقت يف املوّقتات وقت للواجب فقط ‪ ،‬ال للوجوب ‪ ،‬أي إّن الوقت ليس شرطا وقيدا للوجوب ‪،‬‬
‫بل هو قيد للواجب ‪ ،‬فالوجوب ـ على هذا الفرض ـ متقّد م على الوقت ولكّن الواجب معّلق على حضور‬
‫وقته‪ .‬والفرق بني هذا النوع وبني الواجب املشروط هو أّن التوّقف يف املشروط للوجوب ويف املعّلق للفعل‪.‬‬
‫وعليه ‪ ،‬ال مانع من فرض وجوب املقّد مة قبل زمان ذيها (‪.)4‬‬
‫ولكن نقول ‪ :‬على تقدير إمكان فرض تقّد م زمان الوجوب على زمان الواجب ‪ ،‬فإّن فرض رجوع‬
‫القيد إىل الواجب ال إىل الوجوب حيتاج إىل دليل ‪ ،‬ونفس ثبوت وجوب املقّد مة املفّو تة قبل زمان وجوب‬
‫ذيها ال يكون وحده دليال على ثبوت الواجب املعّلق ؛ ألّن الطريق يف تصحيح وجوب املقّد مة املفّو تة ال‬
‫ينحصر فيه ‪ ،‬كما سيأيت بيان الطريق الصحيح‪.‬‬
‫والمحاولة الثانية ‪ :‬ما نسب إىل الشيخ األنصارّي قدس‌سره من رجوع القيد يف مجيع شرائط الوجوب‬
‫إىل املاّدة (‪ ، )5‬وإن اشتهر القول برجوعها إىل اهليئة ؛ سواء كان الشرط هو الوقت أو غريه ‪ ،‬كاالستطاعة‬
‫للحّج والقدرة والبلوغ والعقل وحنوها من الشرائط العاّم ة جلميع التكاليف‪ .‬ومعىن ذلك أّن الوجوب الذي هو‬
‫مدلول اهليئة يف مجيع الواجبات مطلق دائما غري مقّيد بشرط أبدا ‪ ،‬وكّل ما يتوّه م من رجوع القيد إىل‬
‫الوجوب فهو راجع يف احلقيقة إىل الواجب الذي هو مدلول املاّدة ؛ غاية األمر أّن بعض القيود مأخوذ يف‬
‫الواجب على وجه يكون مفروض احلصول والوقوع ‪ ،‬كاالستطاعة بالنسبة إىل احلّج ‪ ،‬ومثل هذا ال جيب‬
‫حتصيله ويكون حكمه حكم ما لو كان شرطا للوجوب ؛ وبعضها ال يكون مأخوذا على وجه يكون مفروض‬
‫احلصول ‪ ،‬بل جيب حتصيله توّص ال إىل الواجب ؛ ألّن الواجب يكون هو املقّيد مبا هو مقّيد بذلك القيد‪.‬‬
‫وعلى هذا التصوير ‪ ،‬فالوجوب يكون دائما فعلّيا قبل جميء وقته ‪ ،‬وشأنه يف ذلك شأن الوجوب على‬
‫القول بالواجب املعّلق ‪ ،‬ال فرق بينهما يف املوّقتات بالنسبة إىل الوقت ‪ ،‬فإذا كان الواجب استقبالّيا فال مانع‬
‫من وجوب املقّد مة املفّو تة قبل زمان ذيها‪.‬‬
‫والمحاولة الثالثة ‪ :‬ما نسب إىل بعضهم من أّن الوقت شرط للوجوب ‪ ،‬ال للواجب كما يف احملاولتني‬
‫األوليني ‪ ،‬ولكّنه مأخوذ فيه على حنو الشرط املتأّخ ر (‪ .)1‬وعليه ‪ ،‬فالوجوب يكون سابقا على زمان الواجب‬
‫نظري القول باملعّلق ‪ ،‬فيصّح فرض وجوب املقّد مة املفّو تة قبل زمان ذيها ؛ لفعلّية الوجوب قبل زمانه ‪ ،‬فتجب‬
‫مقّد مته‪.‬‬
‫وكّل هذه احملاوالت مذكورة يف كتب األصول املطّو لة (‪ ، )2‬وفيها مناقشات وأحباث طويلة ال يسعها‬
‫هذا املختصر ‪ ،‬ومع الغّض عن املناقشة يف إمكاهنا يف أنفسها ال دليل عليها إّال ثبوت وجوب املقّد مة قبل زمان‬
‫[وجوب] ذيها ‪ ،‬إذ كّل صاحب حماولة منها يعتقد أّن التخّلص من إشكال وجوب املقّد مة قبل زمان‬
‫[وجوب] ذيها ينحصر يف احملاولة اليت يتصّو رها ‪ ،‬فالدليل الذي يدّل على وجوب املقّد مة املفّو تة قبل وقت‬
‫الواجب ال حمالة يدّل عنده على حماولته‪.‬‬
‫والذي أعتقده أّنه ال موجب لكّل هذه احملاوالت لتصحيح وجوب املقّد مة قبل زمان ذيها ‪ ،‬فإّن‬
‫الصحيح ـ كما أفاده شيخنا األصفهاّين رحمه‌هللا ـ أّن وجوب املقّد مة ليس معلوال لوجوب ذيها ‪ ،‬وال‬
‫مرتّش حا منه ‪ ،‬فليس هناك إشكال يف وجوب املقّد مة املفّو تة قبل زمان ذيها حىّت نلتجئ إىل إحدى هذه‬
‫احملاوالت لفّك اإلشكال ‪ ،‬وكّل هذه الشبهة إمنا جاءت من هذا الفرض ‪ ،‬وهو فرض معلولّية وجوب املقّد مة‬
‫لوجوب ذيها ‪ ،‬وهو فرض ال واقع له أبدا ‪ ،‬وإن كان هذا القول يبدو غريبا على األذهان املشبعة بفرض أّن‬
‫وجوب ذي املقّد مة عّلة لوجوب املقّد مة ‪ ،‬بل نقول أكثر من ذلك ‪ :‬إّنه جيب يف املقّد مة املفّو تة أن يتقّد م‬
‫وجوهبا على وجوب ذيها ‪ ،‬إذا كّنا نقول بأّن مقّد مة الواجب واجبة ‪ ،‬وإن كان احلّق ـ وسيأيت ـ عدم وجوهبا‬
‫مطلقا‪.‬‬
‫ولبيان عدم معلولّية وجوب املقّد مة لوجوب ذيها نذكر أّن األمر ـ يف احلقيقة ـ هو فعل اآلمر ‪ ،‬سواء‬
‫كان األمر نفسّيا أم غريّيا ‪ ،‬فاآلمر هو العّلة الفاعلّية له دون سواه ‪ ،‬ولكن كّل أمر إمّن ا يصدر عن إرادة اآلمر ؛‬
‫ألّنه فعله االختيارّي ‪ ،‬واإلرادة بالطبع مسبوقة بالشوق إىل فعل املأمور به ـ أي إّن اآلمر ال بّد أن يشتاق أّو ال‬
‫إىل فعل الغري على أن يصدر من الغري ـ ‪ ،‬فإذا اشتاقه ال بّد أن يدعو الغري ويدفعه وحيّثه على الفعل ‪ ،‬فيشتاق‬
‫إىل األمر به ‪ ،‬وإذا مل حيصل مانع من األمر فال حمالة يشتّد الشوق إىل األمر حىّت يبلغ اإلرادة احلتمّية ‪ ،‬فيجعل‬
‫الداعي يف نفس الغري للفعل املطلوب ‪ ،‬وذلك بتوجيه األمر حنوه‪.‬‬
‫هذا حال كّل مأمور به ‪ ،‬ومن مجلته «مقّد مة الواجب» ؛ فإّنه إذا ذهبنا إىل وجوهبا من قبل املوىل ال بّد‬
‫أن نفرض حصول الشوق أّو ال يف نفس اآلمر إىل صدورها من املكّلف ‪ ،‬غاية األمر أّن هذا الشوق تابع‬
‫للشوق إىل فعل ذي املقّد مة ومنبثق منه ؛ ألّن املختار إذا اشتاق إىل حتصيل شيء وأحّبه اشتاق وأحّب بالتبع‬
‫كّل ما يتوّقف عليه ذلك الشيء على حنو املالزمة بني الشوقني‪ .‬وإذا مل يكن هناك مانع من األمر باملقّد مات‬
‫حصلت لدى اآلمر ـ ثانيا ـ اإلرادة احلتمّية اليت تتعّلق باألمر هبا ‪ ،‬فيصدر حينئذ األمر‪.‬‬
‫إذا عرفت ذلك ‪ ،‬فإّنك تعرف أّنه إذا فرض أّن املقّد مة متقّد مة بالوجود الزماّين على ذيها على وجه ال‬
‫حيصل ذوها يف ظرفه وزمانه إّال إذا حصلت هي قبل حلول زمانه ‪ ،‬كما يف أمثلة املقّد مات املفّو تة ‪ ،‬فإّنه ال‬
‫شّك يف أّن اآلمر يشتاقها أن حتصل يف ذلك الزمان املتقّد م ‪ ،‬وهذا الشوق بالنسبة إىل املقّد مة يتحّو ل إىل‬
‫اإلرادة احلتمّية باألمر ‪ ،‬إذ ال مانع من البعث حنوها حينئذ ‪ ،‬واملفروض أّن وقتها قد حان فعال ‪ ،‬فال بّد أن يأمر‬
‫هبا فعال‪ .‬أّم ا ذو املقّد مة فحسب الفرض ال ميكن البعث حنوه ‪ ،‬واألمر به قبل وقته ؛ لعدم حصول ظرفه ‪ ،‬فال‬
‫أمر قبل الوقت ‪ ،‬وإن كان الشوق إىل األمر به حاصل حينئذ ‪ ،‬ولكن ال يبلغ مبلغ الفعلّية ؛ لوجود املانع‪.‬‬
‫والحاصل أّن الشوق إىل ذي املقّد مة والشوق إىل املقّد مة حاصالن قبل وقت ذي املقّد مة ‪ ،‬والشوق‬
‫الثاين منبعث ومنبثق من الشوق األّو ل ‪ ،‬ولكّن الشوق إىل املقّد مة يؤّثر أثره ‪ ،‬ويصري إرادة حتمّية ؛ لعدم‬
‫وجود ما مينع من األمر ‪ ،‬دون الشوق إىل ذي املقّد مة ؛ لوجود املانع من األمر‪.‬‬
‫وعلى هذا ‪ ،‬فتجب املقّد مة املفّو تة قبل وجوب ذيها وال حمذور فيه ‪ ،‬بل هو أمر ال بّد منه ‪ ،‬وال يصّح‬
‫أن يقع غري ذلك‪.‬‬
‫وال تستغرب ذلك ‪ ،‬فإّن هذا أمر مّطرد حىّت بالنسبة إىل أفعال اإلنسان نفسه ‪ ،‬فإّنه إذا اشتاق إىل فعل‬
‫شيء اشتاق إىل مقّد ماته تبعا ‪ ،‬و ا كانت املقّد مات متقّد مة بالوجود زمانا على ذيها فإّن الشوق إىل املقّد مات‬
‫ّمل‬
‫يشتّد حىت يبلغ درجة اإلرادة احلتمّية احملّر كة للعضالت فيفعلها ‪ ،‬مع أّن ذا املقّد مة مل حين وقته بعد ‪ ،‬ومل‬
‫حتصل له اإلرادة احلتمّية احملّر كة للعضالت ‪ ،‬وإمّن ا ميكن أن حتصل له اإلرادة احلتمّية إذا حان وقته بعد طّي‬
‫املقّد مات‪.‬‬
‫فإرادة الفاعل التكوينّية للمقّد مة متقّد مة زمانا على إرادة ذيها ‪ ،‬وعلى قياسها اإلرادة التشريعّية ‪ ،‬فال بّد‬
‫أن حتصل للمقّد مة املتقّد مة زمانا قبل أن حتصل لذيها املتأّخ ر زمانا ‪ ،‬فيتقّد م الوجوب الفعلّي للمقّد مة على‬
‫الوجوب الفعلّي لذيها زمانا ‪ ،‬على العكس ّمما اشتهر وال حمذور فيه بل هو املتعنّي ‪.‬‬
‫وهذا حال كّل متقّد م بالنسبة إىل املتأّخ ر ‪ ،‬فإّن الشوق يصري شيئا فشيئا قصدا وإرادة ‪ ،‬كما يف األفعال‬
‫التدرجيّية الوجود (‪.)1‬‬
‫وقد تقّد م معىن تبعّية وجوب املقّد مة لوجوب ذيها ‪ ،‬فال نعيد ‪ ،‬وقلنا ‪ :‬إّنه ليس معناه معلولّيته لوجوب‬
‫ذي املقّد مة ‪ ،‬وتبعّيته له وجودا ‪ ،‬كما اشتهر على لسان األصولّيني (‪.)1‬‬
‫فان قلت ‪ :‬إّن وجوب املقّد مة ـ كما سبق (‪ )2‬ـ تابع لوجوب ذي املقّد مة إطالقا واشرتاطا ‪ ،‬وال شّك يف‬
‫أّن الوقت ـ على الرأي املعروف ـ شرط لوجوب ذي املقّد مة ‪ ،‬فيجب أن يكون أيضا وجوب املقّد مة مشروطا‬
‫به ؛ قضاء حلّق التبعّية‪.‬‬
‫قلت ‪ :‬إّن الوقت على التحقيق ليس شرطا للوجوب مبعىن أّنه دخيل يف مصلحة األمر ‪ ،‬كاالستطاعة‬
‫بالنسبة إىل وجوب احلّج ‪ ،‬وإن كان دخيال يف مصلحة املأمور به ‪ ،‬ولكّنه ال يتحّق ق البعث قبله ‪ ،‬فال بّد أن‬
‫يؤخذ مفروض الوجود مبعىن عدم الدعوة إليه ؛ ألّنه غري اختيارّي للمكّلف‪ .‬أّم ا عدم حتّق ق وجوب املوّقت قبل‬
‫الوقت فالمتناع البعث قبل الوقت‪.‬‬
‫والسّر واضح ؛ ألّن البعث ـ حىت اجلعلّي منه ـ يالزم االنبعاث إمكانا ووجودا ‪ ،‬فإذا أمكن االنبعاث‬
‫أمكن البعث وإّال فال ‪ ،‬وإذ يستحيل االنبعاث قبل الوقت استحال البعث حنوه حىّت اجلعلّي ‪ .‬ومن أجل هذا‬
‫نقول بامتناع الواجب املعّلق ‪ ،‬ألّنه يالزم انفكاك االنبعاث عن البعث‪.‬‬
‫وهذا خبالف املقّد مة قبل وقت الواجب ‪ ،‬فإّنه ميكن االنبعاث حنوها ‪ ،‬فال مانع من فعلّية البعث بالنظر‬
‫إليها لو ثبت ‪ ،‬فعدم فعلّية الوجوب قبل زمان الواجب إمّن ا هو لوجود املانع ال لفقدان الشرط ‪ ،‬وهذا املانع‬
‫موجود يف ذي املقّد مة قبل وقته ‪ ،‬مفقود يف املقّد مة‪.‬‬
‫ويتفّر ع على هذا فرع فقهّي ‪ ،‬وهو ‪ :‬أّنه حينئذ ال مانع يف املقّد مة املفّو تة العبادّية ـ كالطهارات الثالث ـ‬
‫من قصد الوجوب يف النّية قبل وقت الواجب لو قلنا بأّن مقّد مة الواجب واجبة‪.‬‬
‫والحاصل أّن العقل حيكم بلزوم اإلتيان باملقّد مة املفّو تة قبل وقت ذيها ‪ ،‬وال مانع عقلّي من ذلك‪.‬‬
‫هذا كّله من جهة إشكال انفكاك وجوب املقّد مة عن وجوب ذيها‪ .‬وأّم ا من جهة‬
‫إشكال استحقاق العقاب على ترك الواجب برتك مقّد مته مع عدم فعلّية وجوبه فيعلم دفعه ّمما سبق ؛ فإّن‬
‫التكليف بذي املقّد مة املوّقت يكون تاّم االقتضاء ‪ ،‬وإن مل يصر فعلّيا لوجود املانع ‪ ،‬وهو عدم حضور وقته‪.‬‬
‫وال ينبغي الشّك يف أّن دفع التكليف مع متامّية اقتضائه تفويت لغرض املوىل املعلوم امللزم ‪ ،‬وهذا يعّد ظلما يف‬
‫حّق ه ‪ ،‬وخروجا عن زّي الرّقّية ‪ ،‬ومتّر دا عليه ‪ ،‬فيستحّق عليه العقاب واللوم من هذه اجلهة ‪ ،‬وإن مل يكن فيه‬
‫خمالفة للتكليف الفعلّي املنّج ز‪.‬‬
‫وهذا ال يشبه دفع مقتضي التكليف ‪ ،‬كعدم حتصيل االستطاعة للحّج ‪ ،‬فإّن مثله ال يعّد ظلما ‪،‬‬
‫وخروجا عن زّي الرّقّية ‪ ،‬ومتّر دا على املوىل ؛ ألّنه ليس فيه تفويت لغرض املوىل املعلوم التاّم االقتضاء‪ .‬واملدار‬
‫يف استحقاق العقاب هو حتّق ق عنوان الظلم للموىل ‪ ،‬القبيح عقال‪.‬‬

‫‪ .9‬المقّد مة العبادّية‬
‫ثبت بالدليل أّن بعض املقّد مات الشرعّية ال تقع (‪ )1‬مقّد مة إّال إذا وقعت على وجه عبادّي ‪ ،‬وثبت أيضا‬
‫ترّتب الثواب عليها خبصوصها‪ .‬ومثاهلا منحصر يف الطهارات الثالث ‪ :‬الوضوء ‪ ،‬والغسل ‪ ،‬والتيّم م‪.‬‬
‫وقد سبق يف األمر الثاين (‪ )2‬اإلشكال فيها من جهتني ‪ :‬من جهة أّن الواجب الغريّي ال يكون إّال توّص لّيا‬
‫‪ ،‬فكيف جيوز أن تقع املقّد مة مبا هي مقّد مة عبادة؟! ومن جهة ثانية ‪ :‬أّن الواجب الغريّي مبا هو واجب غريّي‬
‫ال استحقاق للثواب عليه‪.‬‬
‫ويف احلقيقة إّن هذا اإلشكال ليس إّال إشكاال على أصولنا اليت أّص لناها للواجب الغريّي ‪ ،‬فنقع يف حرية‬
‫يف التوفيق بني ما فهمناه عن الواجب الغريّي ‪ ،‬وبني عبادّية هذه املقّد مات الثابتة عبادّيتها ‪ ،‬وإّال فكون هذه‬
‫املقّد مات عبادّية يستحّق الثواب عليها أمر مفروغ عنه ‪ ،‬ال ميكن رفع اليد عنه‪.‬‬
‫فإذن ‪ ،‬ال بّد لنا من توضيح ما أّص لناه يف الواجب الغريّي بتوجيه عبادّية املقّد مة على وجه يالئم توّص لّية‬
‫األمر الغريّي ‪ ،‬وقد ذهبت اآلراء أشتاتا يف توجيه ذلك‪.‬‬
‫وحنن نقول على االختصار ‪ :‬إّنه من املتيّق ن ـ الذي ال ينبغي أن يتطّر ق إليه الشّك من أحد ـ أّن الصالة ـ‬
‫مثال ـ ثبت من طريق الشرع توّقف صّح تها على إحدى الطهارات الثالث ‪ ،‬ولكن ال تتوّقف على جمّر د أفعاهلا‬
‫كيفما اّتفق وقوعها ‪ ،‬بل إمّن ا تتوّقف على فعل الطهارة إذا وقع على الوجه العبادّي ‪ ،‬أي إذا وقع متقّر با به إىل‬
‫اهلل (تعاىل) ‪ ،‬فالوضوء العبادّي ـ مثال ـ هو الشرط ‪ ،‬وهو املقّد مة اليت تتوّقف صّح ة الصالة عليها‪.‬‬
‫وعليه ‪ ،‬فال بّد أن يفرض الوضوء عبادة قبل فرض تعّلق األمر الغريّي به ؛ ألّن األمر الغريّي ـ حسبما‬
‫فرضناه ـ إمّن ا يتعّلق بالوضوء العبادّي مبا هو عبادة ‪ ،‬ال بأصل الوضوء مبا هو ؛ فلم تنشأ عبادّيته من األمر‬
‫الغريّي حىّت يقال ‪« :‬إّن عبادّيته ال تالئم توّص لّية األمر الغريّي » ‪ ،‬بل عبادّيته ال بّد أن تكون مفروضة التحّق ق‬
‫( ‪)1‬‬
‫قبل فرض تعّلق األمر الغريّي به‪ .‬ومن هنا يصّح استحقاق الثواب عليه ؛ ألّنه عبادة يف نفسه‪.‬‬
‫ولكن ينشأ من هذا البيان إشكال آخر ‪ ،‬وهو أّنه إذا كانت عبادّية الطهارات غري ناشئة من األمر‬
‫الغريّي ‪ ،‬فما هو األمر املصّح ح لعبادّيتها ‪ ،‬واملعروف أّنه ال يصّح فرض العبادة عبادة إّال بتعّلق أمر هبا ليمكن‬
‫قصد امتثاله ؛ ألّن قصد امتثال األمر هو املقّو م لعبادّية العبادة عندهم ‪ ،‬وليس هلا يف الواقع إّال األمر الغريّي ‪،‬‬
‫فرجع األمر باألخري إىل الغريّي لتصحيح عبادّيتها (‪)2‬؟‬
‫على أّنه يستحيل أن يكون األمر الغريّي هو املصّح ح لعبادّيتها ؛ لتوّقف عبادّيتها ـ حينئذ ـ على سبق‬
‫األمر الغريّي ‪ ،‬واملفروض أّن األمر الغريّي متأّخ ر عن فرض عبادّيتها ؛ ألّنه إمّن ا تعّلق هبا مبا هي عبادة ‪ ،‬فيلزم‬
‫تقّد م املتأّخ ر وتأّخ ر املتقّد م ‪ ،‬وهو خلف حمال أو دور على ما قيل (‪.)3‬‬
‫وقد أجيب عن هذه الشبهة بوجوه كثرية (‪.)4‬‬
‫وأحسنها فيما أرى ـ بناء على ثبوت األمر الغريّي ‪ ،‬أي وجوب مقّد مة الواجب ‪ ،‬وبناء على أّن عبادّية‬
‫العبادة ال تكون إّال بقصد األمر املتعّلق هبا ـ هو أّن املصّح ح لعبادّية الطهارات هو األمر النفسّي االستحباّيب هلا‬
‫يف حّد ذاهتا السابق على تعّلق األمر الغريّي هبا‪ .‬وهذا االستحباب باق حىّت بعد فرض األمر الغريّي ‪ ،‬ولكن ال‬
‫حبّد االستحباب الذي هو جواز الرتك ؛ إذ املفروض أّنه قد وجب فعلها ‪ ،‬فال جيوز تركها ‪ ،‬وليس‬
‫االستحباب إّال مرتبة ضعيفة بالنسبة إىل الوجوب ‪ ،‬فلو طرأ عليه الوجوب ال ينعدم ‪ ،‬بل يشتّد وجوده ؛‬
‫فيكون الوجوب استمرارا له كاشتداد السواد والبياض من مرتبة ضعيفة إىل مرتبة أقوى ‪ ،‬وهو وجود واحد‬
‫مستمّر ‪ .‬وإذا كان األمر كذلك فاألمر الغريّي حينئذ يدعو إىل ما هو عبادة يف نفسه ‪ ،‬فليست عبادّيتها متأّتية‬
‫من األمر الغريّي حىّت يلزم اإلشكال (‪.)1‬‬
‫ولكن هذا اجلواب ـ على حسنه ـ غري كاف هبذا املقدار من البيان لدفع الشبهة‪ .‬وسّر ذلك أّنه لو كان‬
‫املصّح ح لعبادّيتها هو األمر االستحباّيب النفسّي باخلصوص لكان يلزم أّال تصّح هذه املقّد مات إّال إذا جاء هبا‬
‫املكّلف بقصد امتثال األمر االستحباّيب فقط ‪ ،‬مع أّنه ال يفيت بذلك أحد ‪ ،‬وال شّك يف أهّن ا تقع صحيحة لو‬
‫أيت هبا بقصد امتثال أمرها الغريّي ‪ ،‬بل بعضهم اعترب قصده يف صّح تها بعد دخول وقت الواجب املشروط هبا‪.‬‬
‫فنقول إكماال للجواب ‪ :‬إّنه ليس مقصود اجمليب من كون استحباهبا النفسّي مصّح حا لعبادّيتها أّن‬
‫املأمور به باألمر الغريّي هو الطهارة املأّيت هبا بداعي امتثال األمر االستحباّيب‪ .‬كيف وهذا اجمليب قد فرض عدم‬
‫بقاء االستحباب حبّد ه بعد ورود األمر الغريّي (‪ ، )2‬فكيف يفرض أّن املأمور به هو املأّيت به بداعي امتثال األمر‬
‫االستحباّيب؟! بل مقصود اجمليب أّن األمر الغريّي ا كان متعّلقه هو الطهارة مبا هي عبادة ‪ ،‬وال ميكن أن‬
‫ّمل‬
‫تكون عبادّيتها ناشئة من نفس األمر الغريّي مبا هو أمر غريّي ‪ ،‬فال بّد من فرض عبادّيتها ال من جهة األمر‬
‫الغريّي وبفرض سابق عليه ‪ ،‬وليس هو إّال األمر االستحباّيب النفسّي املتعّلق هبا ‪ ،‬وهذا يصّح ح عبادّيتها قبل‬
‫فرض تعّلق األمر الغريّي هبا ‪ ،‬وإن كان حني توّج ه األمر الغريّي ال يبقى ذلك االستحباب حبّد ه وهو جواز‬
‫الرتك ‪ ،‬ولكن ال تذهب بذلك عبادّيتها ؛ ألّن املناط يف عبادّيتها ليس جواز الرتك كما هو واضح ‪ ،‬بل املناط‬
‫مطلوبّيتها الذاتّية ورجحاهنا النفسّي ‪ ،‬وهي باقية بعد تعّلق األمر الغريّي ‪ .‬وإذا صّح تعّلق األمر الغريّي هبا مبا‬
‫هي عبادة واندكاك االستحباب فيه ـ مبعىن أّن األمر الغريّي يكون استمرارا لتلك املطلوبّية ـ فإّنه حينئذ ال يبقى‬
‫إّال األمر الغريّي صاحلا للدعوة إليها ‪ ،‬ويكون هذا األمر‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬هذا اجلواب ما أفاده احملّق ق اخلوئّي يف تعليقاته على أجود التقريرات ‪ 255 : 1‬ـ ‪ ، 256‬واحملاضرات ‪ 401 : 2‬ـ ‪.402‬‬
‫(‪ )2‬فإّنه قال ‪« :‬فإّن األمر االستحباّيب ولو فرض تبّد له باألمر الوجوّيب لزوال حّد االستحباب بعرض * الوجوب الغريّي ‪ .»...‬راجع‬
‫تعليقاته على أجود التقريرات ‪.256 : 1‬‬
‫الغريّي نفسه أمرا عبادّيا ‪ ،‬غاية األمر أّن عبادّيته مل جتئ من أجل نفس كونه أمرا غريّيا ‪ ،‬بل من أجل كونه‬
‫(‬
‫امتدادا لتلك املطلوبّية النفسّية وذلك الرجحان الذاّيت الذي حصل من ناحية األمر االستحباّيب النفسّي السابق‬
‫‪.)1‬‬
‫وعليه ‪ ،‬فينقلب األمر الغريّي عبادّيا ‪ ،‬ولكّنه عبادّي بالعرض ال بالذات حىّت يقال ‪« :‬إّن األمر الغريّي‬
‫توّص لّي ال يصلح للعبادّية»‪.‬‬
‫من هنا ال يصّح اإلتيان بالطهارة بقصد االستحباب بعد دخول الوقت للواجب املشروط هبا ؛ ألّن‬
‫االستحباب حبّد ه قد اندّك يف األمر الغريّي ‪ ،‬فلم يعد موجودا حىّت يصّح قصده‪.‬‬
‫نعم ‪ ،‬يبقى أن يقال ‪ :‬إّن األمر الغريّي إمّن ا يدعو إىل الطهارة الواقعة على وجه العبادة ؛ ألّنه حسب‬
‫الفرض متعّلقه هو الطهارة بصفة العبادة ‪ ،‬ال ذات الطهارة ‪ ،‬واألمر ال يدعو إّال إىل ما تعّلق به ‪ ،‬فكيف صّح‬
‫أن يؤتى بذات العبادة بداعي امتثال أمرها الغريّي ‪ ،‬وال أمر غريّي بذات العبادة؟!‬
‫ولكن ندفع هذا اإلشكال بأن نقول ‪ :‬إذا كان الوضوء ـ مثال ـ مستحّبا نفسّيا فهو قابل ألن يتقّر ب به‬
‫من املوىل ‪ ،‬وفعلّية التقّر ب تتحّق ق بقصد األمر الغريّي املندّك فيه األمر االستحباّيب‪.‬‬
‫وبعبارة أخرى ‪ :‬قد فرضنا الطهارات عبادات نفسّية يف مرتبة سابقة على األمر الغريّي املتعّلق هبا ‪،‬‬
‫واألمر الغريّي إمّن ا يدعو إىل ذلك ‪ ،‬فإذا جاء املكّلف هبا بداعي األمر الغريّي املندّك فيه االستحباب ـ واملفروض‬
‫[أّنه] ليس هناك أمر موجود غريه ـ صّح التقّر ب به ‪ ،‬ووقعت عبادة ال حمالة ‪ ،‬فيتحّق ق ما هو شرط الواجب‬
‫ومقّد مته‪.‬‬
‫هذا كّله بناء على ثبوت األمر الغريّي باملقّد مة ‪ ،‬وبناء على أّن مناط عبادّية العبادة هو قصد األمر‬
‫املتعّلق هبا‪.‬‬
‫وكال املبنيني حنن ال نقول به‪.‬‬
‫أّم ا األّو ل ‪ :‬فسيأيت يف البحث اآليت الدليل على عدم وجوب مقّد مة الواجب ‪ ،‬فال أمر غريّي أصال‪.‬‬
‫وأّم ا الثاين ‪ :‬فألّن احلّق أّنه يكفي يف عبادّية الفعل ارتباطه باملوىل ‪ ،‬واإلتيان به متقّر با إليه (تعاىل)‪ .‬غاية‬
‫األمر أّن العبادات قد ثبت أهّن ا توقيفّية ‪ ،‬فما مل يثبت رضا املوىل بالفعل ‪ ،‬وحسن االنقياد ‪ ،‬وقصد وجه اهلل‬
‫بالفعل ال يصّح اإلتيان بالفعل عبادة ‪ ،‬بل يكون تشريعا حمّر ما‪ .‬وال يتوّقف ذلك على تعّلق أمر املوىل بنفس‬
‫الفعل على أن يكون أمرا فعلّيا من املوىل ‪ ،‬ولذا قيل ‪« :‬يكفي يف عبادّية العبادة حسنها الذاّيت وحمبوبّيتها الّذ اتّية‬
‫للموىل حىّت لو كان هناك مانع من توّج ه األمر الفعلّي هبا (‪.»)1‬‬
‫وإذا ثبت ذلك ‪ ،‬فنقول يف تصحيح عبادّية الطهارات ‪ :‬إّن فعل املقّد مة بنفسه يعّد شروعا يف امتثال ذي‬
‫املقّد مة ـ الذي هو حسب الفرض يف املقام عبادة يف نفسه مأمور هبا ـ فيكون اإلتيان باملقّد مة بنفسه يعّد امتثاال‬
‫لألمر النفسّي بذي املقّد مة العبادّي ‪ .‬ويكفي يف عبادّية الفعل ـ كما قلنا ـ ارتباطه باملوىل واإلتيان به متقّر با إليه‬
‫(تعاىل) مع عدم ما مينع من التعّبد به‪ .‬وال شّك يف أّن قصد الشروع بامتثال األمر النفسّي بفعل مقّد ماته قاصدا‬
‫هبا التوّص ل إىل الواجب النفسّي العبادّي يعّد طاعة وانقيادا للموىل (‪.)2‬‬
‫وهبذا تصّح ح عبادّية املقّد مة ‪ ،‬وإن مل نقل بوجوهبا الغريّي ‪ ،‬وال حاجة إىل فرض طاعة األمر الغريّي ‪.‬‬
‫ومن هنا يصّح أن تقع كّل مقّد مة عبادة ‪ ،‬ويستحّق عليها الثواب هبذا االعتبار ‪ ،‬وإن مل تكن يف نفسها‬
‫معتربا فيها أن تقع على وجه العبادة ‪ ،‬كتطهري الثوب ـ مثال ـ مقّد مة للصالة ‪ ،‬أو كاملشي حافيا مقّد مة للحّج‬
‫أو الزيارة ‪ ،‬غاية األمر أّن الفرق بني املقّد مات العبادّية وغريها أّن غري العبادّية ال يلزم فيها أن تقع على وجه‬
‫قرّيب ‪ ،‬خبالف املقّد مات املشروط فيها أن تقع عبادة ‪ ،‬كالطهارات الثالث‪.‬‬
‫ويؤّيد ذلك ما ورد من الثواب على بعض املقّد مات ‪ ،‬وال حاجة إىل التأويل الذي ذكرناه سابقا يف‬
‫األمر الثالث ـ من أّن الثواب على ذي املقّد مة يوّز ع على املقّد مات باعتبار دخالتها يف زيادة محازة الواجب (‪ )1‬ـ‬
‫‪ ،‬فإّن ذلك التأويل مبّين على فرض ثبوت األمر الغريّي وأّن عبادّية املقّد مة واستحقاق الثواب عليها ال ينشئان‬
‫إّال من جهة األمر الغريّي ؛ اّتباعا للمشهور املعروف بني القوم‪.‬‬
‫فإن قلت ‪ :‬إّن األمر ال يدعو إّال إىل ما تعّلق به ‪ ،‬فال يعقل أن يكون األمر بذي املقّد مة داعيا بنفسه إىل‬
‫املقّد مة إّال إذا قلنا برتّش ح أمر آخر منه باملقّد مة ‪ ،‬فيكون هو الداعي ‪ ،‬وليس هذا األمر اآلخر املرتّش ح إّال األمر‬
‫الغريّي ‪ ،‬فرجع اإلشكال جذعا‪.‬‬
‫قلت ‪ :‬نعم ‪ ،‬األمر ال يدعو إّال إىل ما تعّلق به ‪ ،‬ولكّنا ال نّد عي أّن األمر بذي املقّد مة هو الذي يدعو‬
‫إىل املقّد مة ‪ ،‬بل نقول ‪ :‬إّن العقل هو الّد اعي إىل فعل املقّد مة توّص ال إىل فعل الواجب (‪ ، )2‬وسيأيت أّن هذا‬
‫احلكم العقلّي ال يستكشف منه ثبوت أمر غريّي من املوىل ‪ ،‬وال يلزم أن يكون هناك أمر بنفس املقّد مة‬
‫لتصحيح عبادّيتها ‪ ،‬ويكون داعيا إليها (‪.)3‬‬
‫والحاصل أّن الّد اعي إىل فعل املقّد مة هو حكم العقل ‪ ،‬واملصّح ح لعبادّيتها شيء آخر ‪ ،‬هو قصد‬
‫التقّر ب هبا ‪ ،‬ويكفي يف التقّر ب هبا إىل اهلل أن يأيت هبا بقصد التوّص ل إىل ما هو عبادة ‪ ،‬ال أّن الداعي إىل فعل‬
‫املقّد مة هو نفس املصّح ح لعبادّيتها ‪ ،‬وال أّن املصّح ح لعبادّية العبادة منحصر يف قصد األمر املتعّلق هبا ‪ ،‬وقد‬
‫سبق توضيح ذلك‪.‬‬
‫وعليه ‪ ،‬فإن كانت املقّد مة ذات الفعل كالتطهري من اخلبث ‪ ،‬فالعقل ال حيكم إّال بإتياهنا على أّي وجه‬
‫وقعت ‪ ،‬ولكن لو أتى هبا املكّلف متقّر با هبا إىل اهلل توّص ال إىل العبادة صّح ت ووقعت على صفة العبادّية ‪،‬‬
‫واستحّق عليها الثواب‪ .‬وإن كانت املقّد مة عمال عبادّيا كالطهارة من احلدث ‪ ،‬فالعقل يلزم باإلتيان هبا كذلك‬
‫‪ ،‬واملفروض أّن املكّلف متمّك ن من ذلك ‪ ،‬سواء كان هناك أمر غريّي أم مل يكن ‪ ،‬وسواء كانت املقّد مة يف‬
‫نفسها مستحّبة أم مل تكن‪.‬‬
‫فال إشكال من مجيع الوجوه يف عبادّية الطهارات‪.‬‬

‫النتيجة‬

‫مسألة مقّد مة الواجب واألقوال فيها‬


‫بعد تقدمي تلك التمهيدات نرجع إىل أصل املسألة ‪ ،‬وهو البحث عن وجوب مقّد مة الواجب ‪ ،‬الذي‬
‫قلنا ‪ :‬إّنه آخر ما يشغل بال األصولّيني‪.‬‬
‫وقد عرفت يف مدخل املسألة موضع البحث فيها ببيان حترير [حمّل] النزاع ‪ ،‬وهو ـ كما قلنا ـ املالزمة‬
‫بني حكم العقل وحكم الشرع ؛ إذ قلنا ‪ :‬إّن العقل حيكم بوجوب مقّد مة الواجب ـ أي إّنه يدرك لزومها ـ ‪،‬‬
‫ولكن وقع البحث يف أّنه هل حيكم أيضا بأّن املقّد مة واجبة أيضا عند من أمر مبا يتوّقف عليها؟‬
‫لقد تكّثرت األقوال جّد ا يف هذه املسألة على مرور الزمن ‪ ،‬نذكر أّمهها ‪ ،‬ونذكر ما هو احلّق منها ‪،‬‬
‫وهي ‪:‬‬
‫‪ .1‬القول بوجوهبا مطلقا (‪.)1‬‬
‫‪ .2‬القول بعدم وجوهبا مطلقا (‪ ، )2‬وهو احلّق وسيأيت دليله‪.‬‬
‫‪ .3‬التفصيل بني السبب فال جيب ‪ ،‬وبني غريه كالشرط وعدم املانع واملعّد فيجب (‪.)3‬‬
‫‪ .4‬التفصيل بني السبب وغريه أيضا ‪ ،‬ولكن بالعكس أي جيب السبب دون غريه (‪.)4‬‬
‫‪ .5‬التفصيل بني الشرط الشرعّي ‪ ،‬فال جيب بالوجوب الغريّي باعتبار أّنه واجب بالوجوب النفسّي ‪،‬‬
‫نظري جزء الواجب ‪ ،‬وبني غريه ‪ ،‬فيجب بالوجوب الغريّي ‪ .‬وهو القول‬
‫املعروف عن شيخنا احملّق ق النائيّين (‪.)1‬‬
‫‪ .6‬التفصيل بني الشرط الشرعّي وغريه أيضا ‪ ،‬ولكن بالعكس ‪ ،‬أي جيب الشرط الشرعّي بالوجوب‬
‫املقّد مّي دون غريه (‪.)2‬‬
‫‪ .7‬التفصيل بني املقّد مة املوصلة ـ أي اليت يرتّتب عليها الواجب النفسّي ـ فتجب ‪ ،‬وبني املقّد مة غري‬
‫املوصلة فال جتب ‪ ،‬وهو املذهب املعروف لصاحب الفصول (‪.)3‬‬
‫‪ .8‬التفصيل بني ما قصد به التوّص ل من املقّد مات فيقع على صفة الوجوب ‪ ،‬وبني ما مل يقصد به ذلك‬
‫فال يقع واجبا‪ .‬وهو القول املنسوب إىل الشيخ األنصارّي قدس‌سره (‪.)4‬‬
‫‪ .9‬التفصيل املنسوب إىل صاحب املعامل (‪ )5‬الذي أشار إليه يف مسألة الضّد (‪ ، )6‬وهو اشرتاط وجوب‬
‫املقّد مة بإرادة ذيها ‪ ،‬فال تكون املقّد مة واجبة على تقدير عدم إرادته‪.‬‬
‫‪ .10‬التفصيل بني املقّد مة الداخلّية ـ أي اجلزء ـ فال جتب ‪ ،‬وبني املقّد مة اخلارجّية فتجب (‪.)7‬‬
‫وهناك تفصيالت أخرى عند املتقّد مني ‪ ،‬ال حاجة إىل ذكرها‪.‬‬
‫وقد قلنا ‪ :‬إّن احلّق يف املسألة ـ كما عليه مجاعة من احملّق قني املتأّخ رين (‪ )8‬ـ‬
‫القول الثاين ‪ ،‬وهو عدم وجوهبا مطلقا‪.‬‬
‫والدليل عليه واضح بعد ما قلنا ـ من أّنه يف موارد حكم العقل بلزوم شيء على وجه يكون حكما داعيا‬
‫للمكّلف إىل فعل الشيء ال يبقى جمال لألمر املولوّي (‪ )1‬فإّن هذه املسألة من ذلك الباب من جهة العّلة ؛‬
‫وذلك ألّنه إذا كان األمر بذي املقّد مة داعيا للمكّلف إىل اإلتيان باملأمور به فإّن دعوته هذه ـ ال حمالة حبكم‬
‫العقل ـ حتمله وتدعوه إىل اإلتيان بكّل ما يتوّقف عليه املأمور به حتصيال له‪ .‬ومع فرض وجود هذا الداعي يف‬
‫نفس املكّلف ال تبقى حاجة إىل داع آخر من قبل املوىل ‪ ،‬مع علم املوىل ـ حسب الفرض ـ بوجود هذا‬
‫الداعي ‪ ،‬ألّن األمر املولوّي ـ سواء كان نفسّيا أم غريّيا ـ إمّن ا جيعله املوىل لغرض حتريك املكّلف حنو فعل املأمور‬
‫به ‪ ،‬إذ جيعل الداعي يف نفسه حيث ال داعي‪ .‬بل يستحيل يف هذا الفرض جعل الداعي الثاين من املوىل ؛ ألّنه‬
‫يكون من باب حتصيل احلاصل‪.‬‬
‫وبعبارة أخرى ‪ :‬إّن األمر بذي املقّد مة لو مل يكن كافيا يف دعوة املكّلف إىل اإلتيان باملقّد مة فأّي أمر‬
‫باملقّد مة ال ينفع ‪ ،‬وال يكفي للدعوة إليها مبا هي مقّد مة ‪ ،‬ومع كفاية األمر بذي املقّد مة لتحريكه إىل املقّد مة ‪،‬‬
‫وللدعوة إليها ‪ ،‬فأّية حاجة تبقى إىل األمر هبا من قبل املوىل؟ ‪ ،‬بل يكون عبثا ولغوا ‪ ،‬بل ميتنع ؛ ألّنه حتصيل‬
‫للحاصل‪.‬‬
‫وعليه ‪ ،‬فاألوامر الواردة يف بعض املقّد مات جيب محلها على اإلرشاد ‪ ،‬وبيان شرطّية متعّلقها للواجب‬
‫وتوّقفه عليها ‪ ،‬كسائر األوامر اإلرشادّية يف موارد حكم العقل ‪ ،‬وعلى هذا حيمل قوله عليه‌السالم ‪« :‬إذا‬
‫زالت الشمس ‪ ،‬فقد وجب الطهور والصالة» (‪.)2‬‬
‫ومن هذا البيان نستحصل على النتيجة اآلتية ‪:‬‬
‫«إّنه ال وجوب غريّي أصال ‪ ،‬وينحصر الوجوب املولوّي بالواجب النفسّي فقط‪ .‬فال موقع إذن لتقسيم‬
‫الواجب إىل النفسّي والغريّي ‪ .‬فليحذف ذلك من سجّل األحباث األصولّية»‪.‬‬
‫املسألة الثالثة ‪ :‬مسألة الضّد‬
‫( ‪)1‬‬

‫تحرير محّل النزاع‬


‫اختلفوا يف أّن األمر بالشيء هل يقتضي النهي عن ضّد ه أو ال يقتضي؟ على أقوال‪.‬‬
‫وألجل توضيح حمّل النزاع وحتريره نشرح مرادهم من األلفاظ اليت وردت على لساهنم يف حترير حمّل‬
‫النزاع هذا ‪ ،‬وهي ثالثة ‪:‬‬
‫‪« .1‬الضّد » ‪ ،‬فإّن مرادهم من هذه الكلمة مطلق املعاند واملنايف ‪ ،‬فيشمل نقيض الشيء ‪ ،‬أي إّن الضّد‬
‫عندهم أعّم من األمر الوجودّي والعدمّي (‪ .)2‬وهذا اصطالح خاّص لألصولّيني يف خصوص هذا الباب ‪ ،‬وإّال‬
‫فالضّد مصطلح فلسفّي يراد به ـ يف باب التقابل ـ خصوص األمر الوجودّي الذي له مع وجودّي آخر متام‬
‫املعاندة واملنافرة ‪ ،‬وله معه غاية التباعد (‪.)3‬‬
‫ولذا قّس م األصولّيون الضّد إىل «ضّد عاّم» وهو الرتك ـ أي النقيض ـ ‪ ،‬و «ضّد خاّص » وهو مطلق‬
‫املعاند الوجودّي ‪.‬‬
‫وعلى هذا ‪ ،‬فاحلّق أن تنحّل هذه املسألة إىل مسألتني ‪ :‬موضوع إحدامها الضّد العاّم ‪ ،‬وموضوع‬
‫األخرى الضّد اخلاّص ‪ ،‬ال سّيما مع اختالف األقوال يف املوضوعني‪.‬‬
‫‪« .2‬االقتضاء» ‪ ،‬ويراد به البّد ّية ثبوت النهي عن الضّد عند األمر بالشيء ‪ ،‬إّم ا لكون األمر يدّل عليه‬
‫بإحدى الدالالت الثالث ‪ :‬املطابقة ‪ ،‬والتضّم ن ‪ ،‬وااللتزام ‪ ،‬وإّم ا لكونه يلزمه عقال النهي عن الضّد من دون‬
‫أن يكون لزومه بّينا باملعىن األخّص حىّت يدّل عليه بااللتزام‪ .‬فاملراد من االقتضاء عندهم أعّم من كّل ذلك (‪.)1‬‬
‫‪« .3‬النهي» ‪ ،‬ويراد به النهي املولوّي من الشارع وإن كان تبعّيا ‪ ،‬كوجوب املقّد مة الغريّي التبعّي (‪.)2‬‬
‫والنهي معناه املطابقّي ـ كما سبق يف مبحث النواهي (‪ )3‬ـ هو الزجر والردع عّم ا تعّلق به‪ .‬وفّس ره املتقّد مون‬
‫بطلب الرتك (‪ ، )4‬وهو تفسري بالزم معناه ‪ ،‬ولكّنهم فرضوه كأّن ذلك هو معناه املطابقّي ‪ ،‬ولذا اعرتض‬
‫بعضهم على ذلك فقال ‪« :‬إّن طلب الرتك حمال ‪ ،‬فال بّد أن يكون املطلوب الكّف » ‪ .‬وهكذا تنازعوا يف أّن‬
‫( ‪)5‬‬

‫املطلوب بالنهي الرتك أو الكّف ؟ وال معىن لنزاعهم هذا إّال إذا كانوا قد فرضوا أّن معىن النهي هو الطلب ‪،‬‬
‫فوقعوا يف حرية يف أّن املطلوب به أّي شيء هو؟ الرتك ‪ ،‬أو الكّف ؟‬
‫ولو كان املراد من النهي هو طلب الرتك ـ كما ظّنوا ـ ملا كان معىن لنزاعهم يف الضّد العاّم ؛ فإّن النهي‬
‫عنه معناه ـ على حسب ظّنهم ـ طلب ترك ترك املأمور به‪ .‬و ا كان نفي النفي إثباتا فريجع معىن النهي عن‬
‫ّمل‬
‫الضّد العاّم إىل معىن طلب فعل املأمور به ‪ ،‬فيكون قوهلم ‪« :‬األمر بالشيء يقتضي النهي عن ضّد ه العاّم»‬
‫تبديال للفظ بلفظ آخر مبعناه ‪ ،‬ويكون عبارة أخرى عن القول بـ «أّن األمر بالشيء يقتضي نفسه»‪ .‬وما أشّد‬
‫سخف مثل هذا البحث!‬
‫ولعّله ألجل هذا التوّه م ـ أي توّه م أّن النهي معناه طلب الرتك ـ ذهب بعضهم (‪ )6‬إىل عينّية األمر‬
‫بالشيء للنهي عن الضّد العاّم‪.‬‬
‫وبعد بيان هذه األمور الثالثة يف حترير حمّل النزاع يّتضح موضع النزاع ‪ ،‬وكيفّيته أّن النزاع معناه يكون‬
‫أّنه إذا تعّلق أمر بشيء هل إّنه ال بّد أن يتعّلق هني املوىل بضّد ه العاّم أو اخلاّص ؟ فالنزاع يكون يف ثبوت النهي‬
‫املولوّي عن الضّد بعد فرض ثبوت األمر بالشيء ‪ ،‬وبعد فرض ثبوت النهي فهناك نزاع آخر يف كيفّية إثبات‬
‫ذلك‪.‬‬
‫وعلى كّل حال ‪ ،‬فإّن مسألتنا ـ كما قلنا ـ تنحّل إىل مسألتني ‪ :‬إحدامها ‪ :‬يف الضّد العاّم‪ .‬والثانية ‪ :‬يف‬
‫الضّد اخلاّص ‪ ،‬فينبغي البحث عنهما يف بابني ‪:‬‬

‫‪ .1‬الضّد العاّم‬
‫مل يكن اختالفهم يف الضّد العاّم من جهة أصل االقتضاء وعدمه ‪ ،‬فإّن الظاهر أهّن م مّتفقون على‬
‫االقتضاء ‪ ،‬وإمّن ا اختالفهم يف كيفّيته (‪: )1‬‬
‫فقيل (‪ : )2‬إّنه على حنو العينّية ‪ ،‬أي إّن األمر بالشيء عني النهي عن ضّد ه العاّم ‪ ،‬فيدّل عليه حينئذ‬
‫بالداللة املطابقّية‪.‬‬
‫وقيل (‪ : )3‬إّنه على حنو اجلزئّية ‪ ،‬فيدّل عليه بالداللة التضّم نّية ‪ ،‬باعتبار أّن الوجوب ينحّل إىل طلب‬
‫الشيء مع املنع من الرتك ‪ ،‬فيكون املنع من الرتك جزءا حتليلّيا يف معىن الوجوب‪.‬‬
‫وقيل ‪ :‬إّنه على حنو اللزوم البنّي باملعىن األخّص (‪ ، )4‬فيدّل عليه بالداللة االلتزامّية (‪.)5‬‬
‫وقيل (‪ : )6‬إّنه على حنو اللزوم البنّي باملعىن األعّم ‪ ،‬أو غري البنّي ‪ ،‬فيكون اقتضاؤه له عقلّيا صرفا‪.‬‬
‫والحّق أّنه ال يقتضيه بأّي حنو من أحناء االقتضاء (‪ ، )1‬أي إّنه ليس هناك هني مولوّي عن الرتك يقتضيه‬
‫نفس األمر بالفعل على وجه يكون هناك هني مولوّي وراء نفس األمر بالفعل‪.‬‬
‫والدليل عليه أّن الوجوب ـ سواء كان مدلوال لصيغة األمر ‪ ،‬أو الزما عقلّيا هلا كما هو احلّق ـ ليس‬
‫معىن مرّك با ‪ ،‬بل هو معىن بسيط وحداّين ‪ ،‬هو لزوم الفعل ‪ ،‬والزم كون الشيء واجبا املنع من تركه‪.‬‬
‫ولكن هذا املنع الالزم للوجوب ليس منعا مولوّيا ‪ ،‬وهنيا شرعّيا ‪ ،‬بل هو منع عقلّي تبعّي من غري أن‬
‫يكون هناك من الشارع منع وهني وراء نفس الوجوب‪ .‬وسّر ذلك واضح ‪ ،‬فإّن نفس األمر بالشيء على وجه‬
‫الوجوب كاف يف الزجر عن تركه ‪ ،‬فال حاجة إىل جعل للنهي عن الرتك من الشارع زيادة على األمر بذلك‬
‫الشيء‪.‬‬
‫فإن كان مراد القائلني باالقتضاء يف املقام أّن نفس األمر بالفعل يكون زاجرا عن تركه ‪ ،‬فهو مسّلم ‪،‬‬
‫بل ال بّد منه ؛ ألّن هذا هو مقتضى الوجوب ؛ ولكن ليس هذا هو موضع النزاع يف املسألة ‪ ،‬بل موضع‬
‫النزاع هو النهي املولوّي زائدا على األمر بالفعل ؛ وإن كان مرادهم أّن هناك هنيا مولوّيا عن الرتك يقتضيه‬
‫األمر بالفعل ـ كما هو موضع النزاع ـ فهو غري مسّلم ‪ ،‬وال دليل عليه ‪ ،‬بل هو ممتنع‪.‬‬
‫وبعبارة أوضح وأوسع ‪ :‬أّن األمر والنهي متعاكسان ـ مبعىن أّنه إذا تعّلق األمر بشيء فعلى طبع ذلك‬
‫يكون نقيضه بالتبع ممنوعا منه ‪ ،‬وإّال خلرج الواجب عن كونه واجبا ؛ وإذا تعّلق النهي بشيء فعلى طبع ذلك‬
‫يكون نقيضه بالتبع مدعّو ا إليه ‪ ،‬وإّال خلرج احملّر م عن كونه حمّر ما ‪ ، ...‬ولكن ليس معىن هذه التبعّية يف األمر‬
‫أن يتحّق ق ـ فعال ـ هني مولوّي عن ترك املأمور به باإلضافة إىل األمر املولوّي بالفعل ‪ ،‬كما أّنه ليس معىن هذه‬
‫التبعّية يف النهي أن يتحّق ق ـ فعال ـ أمر مولوّي برتك املنهّي عنه باإلضافة إىل النهي املولوّي عن الفعل‪.‬‬
‫والسّر ما قلناه ‪ :‬إّن نفس األمر بالشيء كاف يف الزجر عن تركه ‪ ،‬كما أّن نفس النهي عن الفعل‬
‫كاف للدعوة إىل تركه ‪ ،‬بال حاجة إىل جعل جديد من املوىل يف املقامني ‪ ،‬بل ال يعقل اجلعل اجلديد كما قلنا‬
‫يف مقّد مة الواجب حذو القّذ ة بالقّذ ة ‪ ،‬فراجع‪.‬‬
‫وألجل هذه التبعّية الواضحة اختلط األمر على كثري من احملّر رين هلذه املسألة ‪ ،‬فحسبوا أّن هناك هنيا‬
‫مولوّيا عن ترك املأمور به وراء األمر بالشيء اقتضاه األمر على حنو العينّية ‪ ،‬أو التضّم ن ‪ ،‬أو االلتزام ‪ ،‬أو‬
‫اللزوم العقلّي ‪ .‬كما حسبوا ـ هنا يف مبحث النهي ـ أّن معىن النهي هو الطلب إّم ا للرتك أو الكّف ‪ ،‬وقد‬
‫تقّد مت اإلشارة إىل ذلك يف حترير النزاع (‪.)1‬‬
‫وهذان التومّه ان يف النهي واألمر من واد واحد‪ .‬وعليه ‪ ،‬فليس هناك طلب للرتك وراء الردع عن الفعل‬
‫يف النهي ‪ ،‬وال هني عن الرتك وراء طلب الفعل يف األمر‪.‬‬
‫نعم ‪ ،‬جيوز لآلمر بدال من األمر بالشيء أن يعرّب عنه بالنهي عن الرتك ‪ ،‬كأن يقول ـ مثال ـ بدال من قوله‬
‫«صّل» ‪« :‬ال ترتك الصالة»‪ .‬وجيوز له بدال من النهي عن الشيء أن يعرّب عنه باألمر بالرتك ‪ ،‬كأن يقول ـ مثال‬
‫ـ بدال من قوله «ال تشرب اخلمر» ‪« :‬اترك شرب اخلمر» ‪ ،‬فيؤّدي التعبري الثاين يف املقامني مؤّدى التعبري األّو ل‬
‫املبدل منه ‪ ،‬أي إّن التعبري الثاين حيّق ق الغرض من التعبري األّو ل‪.‬‬
‫فإذا كان مقصود القائل بأّن األمر بالشيء عني النهي عن ضّد ه العاّم هذا املعىن ـ أي إّن أحدمها يصّح أن‬
‫يوضع موضع اآلخر ‪ ،‬وحيّل حمّله يف أداء غرض اآلمر ـ فال بأس به وهو صحيح ‪ ،‬ولكن هذا غري العينّية‬
‫املقصودة يف املسألة على الظاهر‪.‬‬

‫‪ .2‬الضّد الخاّص‬
‫إّن القول باقتضاء األمر بالشيء للنهي عن ضّد ه اخلاّص يبتين ويتفّر ع على القول باقتضائه للنهي عن‬
‫ضّد ه العاّم‪.‬‬
‫و ا ثبت ـ حسبما تقّد م ـ أّنه ال هني مولوّي عن الضّد العاّم ‪ ،‬فبالطريق األوىل نقول ‪:‬‬
‫ّمل‬
‫إّنه ال هني مولوّي عن الضّد اخلاّص ؛ ملا قلنا من ابتنائه وتفّر عه عليه‪.‬‬
‫وعلى هذا ‪ ،‬فاحلّق أّن األمر بالشيء ال يقتضي النهي عن ضّد ه مطلقا ‪ ،‬سواء كان عاّم ا أو خاّص ا‪.‬‬
‫أّم ا كيف يبتين القول بالنهي عن الضّد اخلاّص على القول بالنهي عن الضّد العاّم ويتفّر ع عليه فهذا ما‬
‫حيتاج إىل شيء من البيان ‪ ،‬فنقول ‪:‬‬
‫إّن القائلني بالنهي عن الضّد اخلاّص هلم مسلكان ال ثالث هلما ‪ ،‬وكالمها يبتين ويتفّر ع على ذلك ‪:‬‬

‫األّو ل ‪ :‬مسلك التالزم‬


‫وخالصته أّن حرمة أحد املتالزمني تستدعي وتستلزم حرمة مالزمه اآلخر‪ .‬واملفروض أّن فعل الضّد‬
‫اخلاّص يالزم ترك املأمور به ـ أي الضّد العاّم ـ ‪ ،‬كاألكل ـ مثال ـ املالزم فعله لرتك الصالة املأمور هبا‪ .‬وعندهم‬
‫أّن الضّد العاّم حمّر م منهّي عنه ـ وهو ترك الصالة يف املثال ـ ‪ ،‬فيلزم على هذا أن حيرم الضّد اخلاّص ـ وهو األكل‬
‫يف املثال ـ ؛ فابتىن النهي عن الضّد اخلاّص مبقتضى هذا املسلك على ثبوت النهي عن الضّد العاّم‪.‬‬
‫أّم ا حنن فلّم ا ذهبنا إىل أّنه ال هني مولوّي عن الضّد العاّم ‪ ،‬فال موجب لدينا من جهة املالزمة املّد عاة‬
‫للقول بكون الضّد اخلاّص منهّيا عنه بنهي مولوّي ؛ ألّن مالزمه ليس منهّيا عنه حسب التحقيق الذي مّر ‪.‬‬
‫على أّنا نقول ثانيا ـ بعد التنازل عن ذلك والتسليم بأّن الضّد العاّم منهي عنه ـ ‪ :‬إّن هذا املسلك ليس‬
‫صحيحا يف نفسه ‪ ،‬يعىن أّن كرباه غري مسّلمة ‪ ،‬وهي «أّن حرمة أحد املتالزمني تستلزم حرمة مالزمه‬
‫اآلخر» ؛ فإّنه ال جيب اّتفاق املتالزمني يف احلكم ‪ ،‬ال يف الوجوب ‪ ،‬وال احلرمة ‪ ،‬وال غريمها من األحكام ‪ ،‬ما‬
‫دام أّن مناط احلكم غري موجود يف املالزم اآلخر‪ .‬نعم ‪ ،‬القدر املسّلم يف املتالزمني أّنه ال ميكن أن خيتلفا يف‬
‫الوجوب واحلرمة على وجه يكون أحدمها واجبا واآلخر حمّر ما ؛ الستحالة امتثاهلما حينئذ من املكّلف ‪،‬‬
‫فيستحيل التكليف من املوىل هبما ‪ ،‬فإّم ا أن حيرم أحدمها ‪ ،‬أو جيب اآلخر‪.‬‬
‫يرجع ذلك إىل باب التزاحم الذي سيأيت التعّر ض له‪.‬‬
‫وهبذا تبطل «شبهة الكعّيب » املعروفة اليت أخذت قسطا وافرا من أحباث األصولّيني إذا كان مبناها هذه‬
‫املالزمة املّد عاة ؛ فإّنه نسب إليه القول بنفي املباح (‪ )1‬بدعوى أّن كّل ما يظّن من األفعال أّنه مباح فهو واجب‬
‫يف احلقيقة ؛ ألّن فعل كّل مباح مالزم قهرا لواجب وهو ترك حمّر م واحد من احملّر مات على األقّل‪.‬‬

‫الثاني ‪ :‬مسلك المقّد مّية‬


‫وخالصته دعوى أّن ترك الضّد اخلاّص مقّد مة لفعل املأمور به ‪ ،‬ففي املثال املتقّد م يكون ترك األكل‬
‫مقّد مة لفعل الصالة ‪ ،‬ومقّد مة الواجب واجبة ‪ ،‬فيجب ترك الضّد اخلاّص ‪.‬‬
‫وإذا وجب ترك األكل حرم تركه ‪ ،‬ـ أي ترك ترك األكل ـ ؛ ألّن األمر بالشيء يقتضي النهي عن الضّد‬
‫العاّم ؛ وإذا حرم ترك ترك األكل ‪ ،‬فإّن معناه حرمة فعله ؛ ألّن نفي النفي إثبات ؛ فيكون الضّد اخلاّص منهّيا‬
‫عنه‪ .‬هذا خالصة مسلك املقّد مّية‪.‬‬
‫وقد رأيت كيف ابتىن النهي عن الضّد اخلاّص على ثبوت النهي عن الضّد العاّم‪ .‬وحنن إذ قلنا بأّنه ال‬
‫هني مولوّي عن الضّد العاّم فال حيرم ترك ترك الضّد اخلاّص حرمة مولوّية ـ أي ال حيرم فعل الضّد اخلاص ـ ‪،‬‬
‫فثبت املطلوب‪.‬‬
‫على أّن مسلك املقّد مّية غري صحيح من وجهني آخرين ‪:‬‬
‫أحدهما ‪ :‬أّنه بعد التنّز ل عّم ا تقّد م ‪ ،‬وتسليم حرمة الضّد العاّم ‪ ،‬فإّن هذا املسلك كما هو واضح يبتين‬
‫على وجوب مقّد مة الواجب ‪ ،‬وقد سبق أن أثبتنا أهّن ا ليست واجبة بوجوب مولوّي (‪ ، )2‬وعليه ‪ ،‬ال يكون‬
‫ترك الضّد اخلاّص واجبا بالوجوب الغريّي املولوّي حىت‬
‫حيرم فعله‪.‬‬
‫ثانيهما ‪ :‬أّنا ال نسّلم أّن ترك الضّد اخلاّص مقّد مة لفعل املأمور به ‪ ،‬وهذه املقّد مّية ـ أعين مقّد مّية ترك‬
‫الضّد اخلاّص ـ ال تزال مثارا للبحث عند املتأّخ رين حىت أصبحت من املسائل الدقيقة املطّو لة (‪ ، )1‬وحنن يف غىن‬
‫عن البحث عنها بعد ما تقّد م‪.‬‬
‫ولكن حلسم ماّد ة الشبهة ال بأس بذكر خالصة ما يرفع املغالطة يف دعوى مقّد مّية ترك الضّد ‪ ،‬فنقول ‪:‬‬
‫إّن املّد عي ملقّد مّية ترك الضّد لضّد ه تبتين دعواه على أّن عدم الضّد من باب عدم املانع بالنسبة إىل الضّد‬
‫اآلخر للتمانع بني الضّد ين ـ أي ال ميكن اجتماعهما معا ـ ‪ ،‬وال شّك يف أّن عدم املانع من املقّد مات ؛ ألّنه من‬
‫متّم مات العّلة ‪ ،‬فإّن العّلة التاّم ة ـ كما هو معروف ـ تتأّلف من املقتضي وعدم املانع‪.‬‬
‫فيتأّلف دليله من مقّد متني ‪:‬‬
‫‪ .1‬الصغرى ‪ :‬إّن عدم الضّد من باب «عدم املانع» لضّد ه ؛ ألّن الضّد ين متمانعان‪.‬‬
‫‪ .2‬الكبرى ‪ :‬إّن «عدم املانع» من املقّد مات‪.‬‬
‫فينتج من الشكل األّو ل أّن عدم الضّد من املقّد مات لضّد ه‪.‬‬
‫وهذه الشبهة إمّن ا نشأت من أخذ كلمة «املانع» مطلقة‪ .‬فتخّيلوا أّن هلا معىن واحدا يف الصغرى‬
‫والكربى ‪ ،‬فانتظم عندهم القياس الذي ظّنوه منتجا ‪ ،‬بينما أّن احلّق أّن التمانع له معنيان ‪ ،‬ومعناه يف الصغرى‬
‫غري معناه يف الكربى ‪ ،‬فلم يتكّر ر احلّد األوسط ‪ ،‬فلم يتأّلف قياس صحيح‪.‬‬
‫بيان ذلك أّن التمانع تارة يراد منه التمانع يف الوجود ‪ ،‬وهو امتناع االجتماع وعدم املالءمة بني الشيئني‬
‫‪ ،‬وهو املقصود من التمانع بني الضّد ين ؛ إذ مها ال جيتمعان يف الوجود وال يتالءمان ؛ وأخرى يراد منه التمانع‬
‫يف التأثري وإن مل يكن بينهما متانع وتناف يف الوجود ‪ ،‬وهو الذي يكون بني املقتضيني ألثرين متمانعني يف‬
‫الوجود ؛ وإذ يكون‬
‫احملّل غري قابل إّال لتأثري أحد املقتضيني ‪ ،‬فإّن املقتضيني حينئذ يتمانعان يف تأثريمها ‪ ،‬فال يؤّثر أحدمها إّال بشرط‬
‫عدم املقتضي اآلخر ؛ وهذا هو املقصود من املانع يف الكربى ‪ ،‬فإّن املانع الذي يكون عدمه شرطا لتأثري‬
‫املقتضي هو املقتضي اآلخر الذي يقتضي ضّد أثر األّو ل‪ .‬وعدم املانع إّم ا لعدم وجوده أصال أو لعدم بلوغه‬
‫مرتبة الغلبة على اآلخر يف التأثري‪.‬‬
‫وعليه ‪ ،‬فنحن نسّلم أّن عدم الضّد من باب عدم املانع ‪ ،‬ولكّنه عدم املانع يف الوجود ‪ ،‬وما هو من‬
‫املقّد مات عدم املانع يف التأثري ‪ ،‬فلم يتكّر ر احلّد األوسط ؛ فال نستنتج من القياس أّن عدم الضّد من املقّد مات‪.‬‬
‫وأعتقد أّن هذا البيان لرفع املغالطة فيه الكفاية للمتنّبه ‪ ،‬وإصالح هذا البيان بذكر بعض الشبهات فيه‬
‫ودفعها حيتاج إىل سعة من القول ال تتحّم لها الرسالة‪ .‬ولسنا حباجة إىل نفي املقّد مة إلثبات املختار ‪ ،‬بعد ما‬
‫قّد مناه (‪.)1‬‬

‫ثمرة المسألة‬
‫إّن ما ذكروه من الثمرات هلذه املسألة خمتّص بالضّد اخلاّص فقط (‪ ، )2‬وأّمهها والعمدة فيها هي صّح ة‬
‫الضّد إذا كان عبادة على القول بعدم االقتضاء ‪ ،‬وفساده على القول باالقتضاء (‪.)3‬‬
‫بيان ذلك أّنه قد يكون هناك واجب ـ أّي واجب كان ‪ ،‬عبادة أو غري عبادة ـ ‪ ،‬وضّد ه عبادة ‪ ،‬وكان‬
‫الواجب أرجح يف نظر الشارع من ضّد ه العبادّي ؛ فإّنه ملكان التزاحم بني األمرين للتضاّد بني متعّلقيهما ‪،‬‬
‫واألّو ل أرجح يف نظر الشارع ‪ ،‬ال حمالة يكون األمر الفعلّي‬
‫املنّج ز هو األّو ل دون الثاين‪.‬‬
‫وحينئذ ‪ ،‬فإن قلنا بأّن األمر بالشيء يقتضي النهي عن ضّد ه اخلاّص ‪ ،‬فإّن الضّد العبادّي يكون منهّيا‬
‫عنه يف الفرض ‪ ،‬والنهي يف العبادة يقتضي الفساد ‪ ،‬فإذا أيت به وقع فاسدا‪ .‬وإن قلنا بأّن األمر بالشيء ال‬
‫يقتضي النهي عن ضّد ه اخلاّص ‪ ،‬فإّن الضّد العبادّي ال يكون منهّيا عنه ‪ ،‬فال مقتضي لفساده‪.‬‬
‫وأرجحّية الواجب على ضّد ه اخلاّص العبادّي تتصّو ر يف أربعة موارد ‪:‬‬
‫‪ .1‬أن يكون الضّد العبادّي مندوبا ‪ ،‬وال شّك يف أّن الواجب مقّد م على املندوب ‪ ،‬كاجتماع الفريضة‬
‫مع النافلة ؛ فإّنه بناء على اقتضاء األمر بالشيء للنهي عن ضّد ه ال يصّح االشتغال بالنافلة مع حلول وقت‬
‫الفريضة ‪ ،‬وال بّد أن تقع النافلة فاسدة‪ .‬نعم ‪ ،‬ال بّد أن تستثىن من ذلك نوافل الوقت ؛ لورود األمر هبا يف‬
‫خصوص وقت الفريضة ‪ ،‬كنافليت الظهر والعصر‪.‬‬
‫وعلى هذا ‪ ،‬فمن كان عليه قضاء الفوائت ال تصّح منه النوافل مطلقا ‪ ،‬بناء على النهي عن الضّد ‪،‬‬
‫خبالف ما إذا مل نقل بالنهي عن الضّد ؛ فإّن عدم جواز فعل النافلة حينئذ حيتاج إىل دليل خاّص ‪.‬‬
‫‪ .2‬أن يكون الضّد العبادّي واجبا ‪ ،‬ولكّنه أقّل أمهّية عند الشارع من األّو ل ‪ ،‬كما يف مورد اجتماع‬
‫إنقاذ نفس حمرتمة من اهللكة مع الصالة الواجبة‪.‬‬
‫‪ .3‬أن يكون الضّد العبادّي واجبا ‪ ،‬ولكنه موّس ع الوقت ‪ ،‬واألّو ل مضّيق ‪ ،‬وال شّك يف أّن املضّيق‬
‫مقّد م على املوّس ع وإن كان املوّس ع أكثر أمهّية منه‪ .‬مثاله ‪ :‬اجتماع قضاء الدين الفورّي مع الصالة يف سعة‬
‫وقتها‪ .‬وإزالة النجاسة عن املسجد مع الصالة يف سعة الوقت‪.‬‬
‫‪ .4‬أن يكون الضّد العبادّي واجبا أيضا ‪ ،‬ولكّنه خمرّي ‪ ،‬واألّو ل واجب معنّي ‪ ،‬وال شّك يف أّن املعنّي‬
‫مقّد م على املخرّي وإن كان املخرّي أكثر أمهّية منه ؛ ألّن املخرّي ‪ ،‬له بدل دون املعنّي ‪ .‬مثاله ‪ :‬اجتماع سفر‬
‫منذور يف يوم معنّي مع [الصوم من] خصال الكّف ارة ‪ ،‬فلو ترك املكّلف السفر واختار الصوم من خصال‬
‫الكّف ارة ‪ ،‬فإن كان األمر بالشيء يقتضي النهي عن ضّد ه كان الصوم منهّيا عنه فاسدا‪.‬‬
‫هذه خالصة بيان مثرة املسألة مع بيان موارد ظهورها ‪ ،‬ولكن هذا املقدار من البيان ال يكفي يف حتقيقها‬
‫؛ فإّن ترّتبها وظهورها يتوّقف على أمرين ‪:‬‬
‫األّو ل ‪ :‬القول بأّن النهي يف العبادة يقتضي فسادها حىّت النهي الغريّي التبعّي ؛ ألّنه إذا قلنا بأّن النهي‬
‫مطلقا ال يقتضي فساد العبادة أو خصوص النهي التبعّي ال يقتضي الفساد ‪ ،‬فال تظهر الثمرة أبدا‪ .‬وهو‬
‫واضح ؛ ألّن الضّد العبادّي حينئذ يكون صحيحا ‪ ،‬سواء قلنا بالنهي عن الضّد أم مل نقل‪.‬‬
‫والحّق أّن النهي يف العبادة يقتضي فسادها حىّت النهي الغريّي على الظاهر‪ .‬وسيأيت حتقيق ذلك يف‬
‫موضعه إن شاء اهلل (تعاىل) (‪.)1‬‬
‫واستعجاال يف بيان هذا األمر نشري إليه إمجاال ‪ ،‬فنقول ‪ :‬إّن أقصى ما يقال يف عدم اقتضاء النهي التبعّي‬
‫للفساد هو ‪ :‬أّن النهي التبعّي ال يكشف عن وجود مفسدة يف املنهّي عنه ‪ ،‬وإذا كان األمر كذلك فاملنهّي عنه‬
‫باق على ما هو عليه من مصلحة بال مزاحم ملصلحته ‪ ،‬فيمكن التقّر ب فيه إذا كان عبادة بقصد تلك املصلحة‬
‫املفروضة فيه‪.‬‬
‫وهذا ليس بشيء ـ وإن صدر من بعض أعاظم مشاخينا (‪ )2‬ـ ؛ ألّن املدار يف القرب والبعد يف العبادة ليس‬
‫على وجود املصلحة واملفسدة فقط ؛ فإّنه من الواضح أّن املقصود من القرب والبعد من املوىل القرب والبعد‬
‫املعنوّيان ؛ تشبيها بالقرب والبعد املكانّيني ‪ ،‬وما مل يكن الشيء مرغوبا فيه للموىل فعال ال يصلح للتقّر ب به‬
‫إليه ‪ ،‬وجمّر د وجود مصلحة فيه ال يوجب مرغوبّيته له مع فرض هنيه وتبعيده‪.‬‬
‫وبعبارة أخرى ‪ :‬ال وجه للتقّر ب إىل املوىل مبا أبعدنا عنه ‪ ،‬واملفروض أّن النهي التبعّي هني مولوّي ‪،‬‬
‫وكونه تبعّيا ال خيرجه عن كونه زجرا ‪ ،‬وتنفريا ‪ ،‬وتبعيدا عن الفعل وإن كان التبعيد ملفسدة يف غريه ‪ ،‬أو‬
‫لفوات مصلحة الغري‪.‬‬
‫نعم ‪ ،‬لو قلنا بأّن النهي عن الضّد ليس هنيا مولوّيا ‪ ،‬بل هو هني يقتضيه العقل الذي‬
‫ال يستكشف منه حكم الشرع ـ كما اخرتناه يف املسألة ـ فإّن هذا النهي العقلّي ال يقتضي تبعيدا عن املوىل إّال‬
‫إذا كشف عن مفسدة مبغوضة للموىل‪ .‬وهذا شيء آخر ال يقتضيه حكم العقل يف نفسه‪.‬‬
‫الثاني ‪ :‬أّن صّح ة العبادة والتقّر ب ال يتوّقف على وجود األمر الفعلّي هبا ‪ ،‬بل يكفي يف التقّر ب هبا‬
‫إحراز حمبوبّيتها الذاتّية للموىل ‪ ،‬وإن مل يكن هناك أمر فعلّي هبا ملانع‪.‬‬
‫أّم ا إذا قلنا بأّن عبادّية العبادة ال تتحّق ق إّال إذا كانت مأمورا هبا بأمر فعلّي فال تظهر هذه الثمرة أبدا ؛‬
‫ألّنه قد تقّد م أّن الضّد العبادّي ـ سواء كان مندوبا أو واجبا أقّل أّمهية أو موّس عا أو خمرّي ا ـ ال يكون مأمورا به‬
‫فعال ‪ ،‬ملكان املزامحة بني األمرين ‪ ،‬ومع عدم األمر به ال يقع عبادة صحيحة وإن قلنا بعدم النهي عن الضّد‬
‫( ‪)1‬‬

‫(‪.)2‬‬
‫والحّق هو األّو ل ـ أي إّن عبادّية العبادة ال تتوّقف على تعّلق األمر هبا فعال ‪ ،‬بل إذا أحرز أهّن ا حمبوبة يف‬
‫نفسها للموىل ‪ ،‬مرغوبة لديه ؛ فإّنه يصّح التقّر ب هبا إليه وإن مل يأمر هبا فعال ملانع ـ (‪ ، )3‬ألّنه ـ كما أشرنا إىل‬
‫ذلك يف مقّد مة الواجب (‪ )4‬ـ يكفي يف عبادّية الفعل ارتباطه باملوىل ‪ ،‬واإلتيان به متقّر با به إليه مع ما مينع من‬
‫التعّبد به من كون فعله تشريعا ‪ ،‬أو كونه منهّيا عنه ‪ ،‬وال تتوّقف عبادّيته على قصد امتثال األمر ‪ ،‬كما مال‬
‫إليه (‪ )5‬صاحب اجلواهر قدس‌سره (‪.)6‬‬
‫هذا ‪ ،‬وقد يقال يف املقام ـ نقال عن احملّق ق الثاين (تغّم ده اهلل برمحته) (‪ )7‬ـ ‪ :‬إّن هذه الثمرة تظهر حىت مع‬
‫القول بتوّقف العبادة على تعّلق األمر هبا ‪ ،‬ولكن ذلك يف خصوص التزاحم بني الواجبني ‪ :‬املوّس ع ‪ ،‬واملضّيق‬
‫وحنومها ‪ ،‬دون التزاحم بني األهّم واملهّم املضّيقني‪.‬‬
‫والسّر يف ذلك ‪ :‬أّن األمر يف املوّس ع إمّن ا يتعّلق بصرف وجود الطبيعة على أن يأيت به املكّلف يف أّي‬
‫وقت شاء من الوقت الوسيع احملّد د له‪ .‬أّم ا األفراد مبا هلا من اخلصوصّيات الوقتّية ‪ ،‬فليست مأمورا هبا‬
‫خبصوصها ‪ ،‬واألمر باملضّيق إذا مل يقتض النهي عن ضّد ه فالفرد املزاحم له من أفراد ضّد ه الواجب املوّس ع ال‬
‫يكون مأمورا به ال حمالة من أجل املزامحة ‪ ،‬ولكّنه ال خيرج بذلك عن كونه فردا من الطبيعة املأمور هبا‪ .‬وهذا‬
‫كاف يف حصول امتثال األمر بالطبيعة ؛ ألّن انطباقها على هذا الفرد املزاحم قهرّي ‪ ،‬فيتحّق ق به االمتثال‬
‫قهرا ‪ ،‬ويكون جمزئا عقال عن امتثال الطبيعة يف فرد آخر ؛ ألّنه ال فرق من جهة انطباق الطبيعة املأمور هبا بني‬
‫فرد وفرد‪.‬‬
‫وبعبارة أوضح أّنه لو كان الوجوب يف الواجب املوّس ع ينحّل إىل وجوبات متعّد دة بتعّد د أفراده الطولّية‬
‫املمكنة يف مّد ة الوقت احملّد د على وجه يكون التخيري بينها شرعّيا ‪ ،‬فال حمالة ال أمر بالفرد املزاحم للواجب‬
‫املضّيق ‪ ،‬وال أمر آخر يصّح حه ‪ ،‬فال تظهر الثمرة ‪ ،‬ولكّن األمر ليس كذلك ؛ فإّنه ليس يف الواجب املوّس ع‬
‫إّال وجوب واحد يتعّلق بصرف وجود الطبيعة ‪ ،‬غري أّن الطبيعة ا كانت هلا أفراد طولّية متعّد دة ميكن انطباقها‬
‫ّمل‬
‫على كّل واحد منها ‪ ،‬فال حمالة يكون املكّلف خمرّي ا عقال بني األفراد ـ أي يكون خمرّي ا بني أن يأيت بالفعل يف‬
‫أّو ل الوقت ‪ ،‬أو ثانيه ‪ ،‬أو ثالثه ‪ ،‬وهكذا إىل آخر الوقت ـ ‪ ،‬وما خيتاره من الفعل يف أّي وقت يكون هو الذي‬
‫ينطبق عليه املأمور به ‪ ،‬وإن امتنع أن يتعّلق األمر به خبصوصه ملانع ‪ ،‬بشرط أن يكون املانع من غري جهة نفس‬
‫مشول األمر املتعّلق بالطبيعة له ‪ ،‬بل من جهة شيء خارج عنه وهو املزامحة مع املضّيق يف املقام‪.‬‬
‫هذا خالصة توجيه ما نسب إىل احملّق ق الثاّين رحمه‌هللا يف املقام ‪ ،‬ولكّن شيخنا احملّق ق النائيّين‬
‫( ‪)1‬‬

‫رحمه‌هللا مل يرتضه (‪ )2‬؛ ألّنه يرى أّن املانع من تعّلق األمر بالفرد املزاحم يرجع إىل نفس مشول األمر املتعّلق‬
‫بالطبيعة له ‪ ،‬يعين أّنه يرى أّن الطبيعة املأمور هبا مبا هي مأمور هبا‬
‫ال تنطبق على الفرد املزاحم وال تشمله ‪ ،‬وانطباق الطبيعة ال مبا هي مأمور هبا على الفرد املزاحم ال ينفع وال‬
‫يكفي يف امتثال األمر بالطبيعة‪ .‬والسّر يف ذلك واضح ‪ ،‬فإّنا إذ نسّلم أّن التخيري بني أفراد الطبيعة ختيري عقلّي‬
‫نقول ‪ :‬إّن التخيري إمّن ا هو بني أفراد الطبيعة املأمور هبا مبا هي مأمور هبا ‪ ،‬فالفرد املزاحم خارج عن نطاق هذه‬
‫األفراد اليت بينها التخيري‪.‬‬
‫أّم ا ‪ :‬أّن الفرد املزاحم خارج عن نطاق أفراد الطبيعة املأمور هبا مبا هي مأمور هبا ‪ ،‬فألّن األمر إمّن ا يتعّلق‬
‫بالطبيعة املقدورة للمكّلف مبا هي مقدورة ‪ :‬ألّن القدرة شرط يف املأمور به ‪ ،‬مأخوذة يف اخلطاب ‪ ،‬ال أهّن ا‬
‫شرط عقلّي حمض ‪ ،‬واخلطاب (‪ )1‬يف نفسه عاّم شامل يف إطالقه لألفراد املقدورة وغري املقدورة‪.‬‬
‫بيان ذلك أّن األمر إمّن ا هو جلعل الداعي يف نفس املكّلف ‪ ،‬وهذا املعىن بنفسه يقتضي كون متعّلقه‬
‫مقدورا ؛ الستحالة جعل الداعي إىل ما هو ممتنع ؛ فيعلم من هذا أّن القدرة مأخوذة يف متعّلق األمر ويفهم‬
‫ذلك من نفس اخلطاب ‪ ،‬مبعىن أّن اخلطاب ا كان يقتضي القدرة على متعّلقه ‪ ،‬فتكون سعة دائرة املتعّلق على‬
‫ّمل‬
‫قدر سعة دائرة القدرة عليه ‪ ،‬ال تزيد وال تنقص ‪ ،‬أي تدور سعته وضيقه مدار سعة القدرة وضيقها‪.‬‬
‫وعلى هذا ‪ ،‬فال يكون األمر شامال ملا هو ممتنع من األفراد ؛ إذ يكون املطلوب به الطبيعة مبا هي‬
‫مقدورة ‪ ،‬والفرد غري املقدور خارج عن أفرادها مبا هي مأمور هبا‪.‬‬
‫نعم ‪ ،‬لو كان اعتبار القدرة مبالك قبح تكليف العاجز فهي شرط عقلّي ال يوجب تقييد متعّلق‬
‫اخلطاب ؛ ألّنه ليس من اقتضاء نفس اخلطاب ‪ ،‬فيكون متعّلق األمر هي الطبيعة مبا هي ‪ ،‬ال مبا هي مقدورة ‪،‬‬
‫وإن كان مبقتضى حكم العقل ال بّد أن يقّيد الوجوب هبا ‪ ،‬فالفرد املزاحم ـ على هذا ـ هو أحد أفراد الطبيعة‬
‫مبا هي اليت تعّلق هبا كذلك‪.‬‬
‫وتشييد ما أفاده أستاذنا ومناقشته حيتاج إىل حبث أوسع لسنا بصدده اآلن ‪ ،‬راجع عنه تقريرات تالمذته‬
‫( ‪)1‬‬
‫الرتّتب‬
‫وإذ امتّد (‪ )2‬البحث إىل هنا ‪ ،‬فهناك مشكلة فقهّية تنشأ من اخلالف املتقّد م ال بّد من التعّر ض هلا مبا يليق‬
‫هبذه الرسالة‪.‬‬
‫وهي أّن كثريا من الناس جندهم حيرصون ـ حبسب هتاوهنم ـ على فعل بعض (‪ )3‬العبادات املندوبة يف‬
‫ظرف وجوب شيء هو ضّد للمندوب ‪ ،‬فيرتكون الواجب ويفعلون املندوب ‪ ،‬كمن يذهب للزيارة ‪ ،‬أو يقيم‬
‫مأمت احلسني عليه‌السالم وعليه دين واجب األداء ؛ كما جندهم يفعلون بعض الواجبات العبادّية يف حني أّن‬
‫هناك عليهم واجبا أهّم فيرتكونه ‪ ،‬أو واجبا مضّيق الوقت مع أّن األّو ل موّس ع فيقّد مون املوّس ع على املضّيق ‪،‬‬
‫أو واجبا معّينا مع أّن األّو ل خمرّي فيقّد مون املخرّي على املعنّي ‪ ...‬وهكذا‪.‬‬
‫وجيمع الكّل تقدمي فعل املهّم العبادّي على األهّم ‪ ،‬فإّن املضّيق أهّم من املوّس ع ‪ ،‬واملعنّي أهّم من‬
‫املخرّي ‪ ،‬كما أّن الواجب أهّم من املندوب‪ .‬ومن اآلن سنعرّب باألهّم واملهّم ونقصد ما هو أعّم من ذلك كّله‪.‬‬
‫فإذا قلنا بأّن صّح ة العبادة ال تتوّقف على وجود أمر فعلّي متعّلق به ‪ ،‬وقلنا بأّنه ال هني عن الضّد ‪ ،‬أو‬
‫النهي عنه ال يقتضي الفساد فال إشكال وال مشكلة ؛ ألّن فعل املهّم العبادّي يقع صحيحا حىّت مع فعلّية األمر‬
‫باألهّم ‪ ،‬غاية األمر يكون املكّلف عاصيا برتك األهّم من دون أن يؤّثر ذلك على صّح ة ما فعله من العبادة‪.‬‬
‫وإمّن ا املشكلة فيما إذا قلنا بالنهي عن الضّد ‪ ،‬وأّن النهي يقتضي الفساد ‪ ،‬أو قلنا بتوّقف‬
‫صّح ة العبادة على األمر هبا ـ كما هو املعروف عن الشيخ صاحب اجلواهر قدس‌سره (‪ )1‬ـ ‪ ،‬فإّن أعماهلم هذه‬
‫كّلها باطلة وال يستحّق ون عليها ثوابا ؛ ألّنه إّم ا منهّي عنها والنهي يقتضي الفساد ‪ ،‬وإّم ا ال أمر هبا وصّح تها‬
‫تتوّقف على األمر‪.‬‬
‫فهل هناك طريقة لتصحيح فعل املهّم العبادّي مع وجود األمر باألهّم؟‬
‫ذهب مجاعة إىل تصحيح العبادة يف املهّم بنحو «الرتّتب» بني األمرين ‪ :‬األمر باألهّم واألمر باملهّم ‪ ،‬مع‬
‫( ‪)2‬‬
‫فرض القول بعدم النهي عن الضّد وأّن صّح ة العبادة تتوّقف على وجود األمر‪.‬‬
‫والظاهر أّن أّو ل من أّس س هذه الفكرة ‪ ،‬وتنّبه هلا احملّق ق الثاين ‪ ،‬وشّيد أركاهنا السّيد املريزا الشريازّي ‪،‬‬
‫كما أحكمها (‪ )3‬ونّق حها شيخنا احملّق ق النائيّين قدس‌سره (‪.)4‬‬
‫وهذه الفكرة وحتقيقها من أروع (‪ )5‬ما انتهى إليه البحث األصوّيل تصويرا وعمقا‪.‬‬
‫وخالصة فكرة «الرتّتب» أّنه ال مانع عقال من أن يكون األمر باملهّم فعلّيا عند عصيان األمر باألهّم ‪،‬‬
‫فإذا عصى املكّلف وترك األهّم فال حمذور يف أن يفرض األمر باملهّم حينئذ ؛ إذ ال يلزم منه طلب اجلمع بني‬
‫( ‪)6‬‬
‫الضّد ين ‪ ،‬كما سيأيت توضيحه‪.‬‬
‫وإذا مل يكن مانع عقلّي من هذا الرتّتب ؛ فإّن الدليل يساعد على وقوعه ‪ ،‬والدليل هو نفس الدليلني‬
‫املتضّم نني لألمر باملهّم واألمر باألهّم ‪ ،‬ومها كافيان إلثبات وقوع الرتّتب‪.‬‬
‫وعليه ‪ ،‬ففكرة الرتّتب وتصحيحها يتوّقف على شيئني رئيسني يف الباب ‪ :‬أحدمها ‪ :‬إمكان الرتّتب يف‬
‫نفسه‪ .‬وثانيهما ‪ :‬الدليل على وقوعه‪.‬‬
‫أّما األّو ل ‪ :‬ـ وهو إمكانه يف نفسه ـ فبيانه أّن أقصى ما يقال يف إبطال الرتّتب و‬
‫استحالته هو ‪ :‬دعوى لزوم احملال منه ‪ ،‬وهو فعلّية األمر بالضّد ين يف آن واحد ؛ ألّن القائل بالرتّتب يقول‬
‫بإطالق األمر باألهّم ‪ ،‬ومشوله لصوريت فعل األهّم وتركه ‪ ،‬ففي حال فعلّية األمر باملهّم ـ وهو حال ترك األهّم‬
‫(‪ )1‬ـ يكون األمر باألهّم فعلّيا على قوله ‪ ،‬واألمر بالضّد ين يف آن واحد حمال‪.‬‬
‫ولكن هذه الدعوى ـ عند القائل بالرتّتب ـ باطلة ؛ ألّن قوله ‪« :‬األمر بالضّد ين يف آن واحد حمال» فيه‬
‫مغالطة ظاهرة ‪ ،‬فإّن قيد «يف آن واحد» يوهم أّنه راجع إىل «الضّد ين» ‪ ،‬فيكون حماال ؛ إذ يستحيل اجلمع‬
‫بني الضّد ين ‪ ،‬بينما هو يف احلقيقة راجع إىل األمر ‪ ،‬وال استحالة يف أن يأمر املوىل يف آن واحد بالضّد ين ‪ ،‬إذا‬
‫مل يكن املطلوب اجلمع بينهما يف آن واحد ؛ ألّن احملال هو اجلمع بني الضّد ين ‪ ،‬ال األمر هبما يف آن واحد‬
‫وإن مل يستلزم اجلمع بينهما‪.‬‬
‫أّم ا ‪ :‬أّن قيد «يف آن واحد» راجع إىل األمر ال إىل الضّد ين فواضح ؛ ألّن املفروض أّن األمر باملهّم‬
‫مشروط برتك األهّم ‪ ،‬فاخلطاب الرتّتّيب ليس فقط ال يقتضي اجلمع بني الضّد ين ‪ ،‬بل يقتضي عكس ذلك ؛‬
‫ألّنه يف حال انشغال املكّلف بامتثال األمر باألهّم وإطاعته ‪ ،‬ال أمر يف هذا احلال إّال باألهّم ‪ ،‬ونسبة املهّم إليه‬
‫حينئذ كنسبة املباحات إليه ‪ ،‬وأّم ا ‪ :‬يف حال ترك األهّم واالنشغال باملهّم فإّن األمر باألهّم نسّلم أّنه يكون‬
‫فعلّيا وكذلك األمر باملهّم ‪ ،‬ولكن خطاب املهّم حسب الفرض مشروط برتك األهّم وخلّو الزمان منه ‪ ،‬ففي‬
‫هذا احلال املفروض يكون األمر باملهّم داعيا للمكّلف إىل فعل املهّم يف حال ترك األهّم ‪ ،‬فكيف يكون داعيا‬
‫إىل اجلمع بني األهّم واملهّم يف آن واحد؟!‬
‫وبعبارة أوضح ‪ :‬إّن إجياب اجلمع ال ميكن أن يتصّو ر إّال إذا كان هناك مطلوبان يف عرض واحد ‪ ،‬على‬
‫وجه لو فرض إمكان اجلمع بينهما ‪ ،‬لكان كّل منهما مطلوبا ‪ ،‬ويف الرتّتب لو فرض حماال إمكان اجلمع بني‬
‫الضّد ين فإّنه ال يكون املطلوب إّال األهّم ‪ ،‬وال يقع املهّم يف هذا احلال على صفة املطلوبّية أبدا ‪ ،‬ألّن طلبه‬
‫حسب الفرض مشروط‬
‫برتك األهّم ‪ ،‬فمع فعله ال يكون مطلوبا‪.‬‬
‫وأّما الثاني ‪ :‬ـ وهو الدليل على وقوع الرتّتب وأّن الدليل هو نفس دليلي األمرين ـ فبيانه أّن املفروض أّن‬
‫لكّل من األهّم واملهّم ـ حسب دليل كّل منهما ـ حكما مستقّال مع قطع النظر عن وقوع املزامحة بينهما ‪ ،‬كما‬
‫أّن املفروض أّن دليل كّل منهما مطلق بالقياس إىل صوريت فعل اآلخر وعدمه‪ .‬فإذا وقع التزاحم بينهما اّتفاقا ‪،‬‬
‫فبحسب إطالقهما يقتضيان إجياب اجلمع بينهما ‪ ،‬ولكن ذلك حمال ‪ ،‬فال بّد أن ترفع اليد عن إطالق أحدمها ‪،‬‬
‫ولكّن املفروض أّن األهّم أوىل وأرجح ‪ ،‬وال يعقل تقدمي املرجوح على الراجح واملهّم على األهّم ‪ ،‬فيتعنّي رفع‬
‫اليد عن إطالق دليل األمر باملهّم فقط ‪ ،‬وال يقتضي ذلك رفع اليد عن أصل دليل املهّم‪ .‬ألنه إمّن ا نرفع اليد عنه‬
‫من جهة تقدمي إطالق األهّم ملكان املزامحة بينهما وأرجحّية األهّم ‪ ،‬والضرورات إمّن ا تقّد ر بقدرها‪.‬‬
‫وإذا رفعنا اليد عن إطالق دليل املهّم مع بقاء أصل الدليل فإّن معىن ذلك اشرتاط خطاب املهّم برتك‬
‫األهّم‪ .‬وهذا هو معىن الرتّتب املقصود‪.‬‬
‫والحاصل أّن معىن الرتّتب املقصود هو اشرتاط األمر باملهّم برتك األهّم ‪ ،‬وهذا االشرتاط حاصل فعال‬
‫مبقتضى الدليلني ‪ ،‬مع ضّم حكم العقل بعدم إمكان اجلمع بني امتثاهلما معا ‪ ،‬وبتقدمي الراجح على املرجوح‬
‫الذي ال يرفع إّال إطالق دليل املهّم ‪ ،‬فيبقى أصل دليل األمر باملهّم على حاله يف صورة ترك األهّم ‪ ،‬فيكون‬
‫األمر الذي يتضّم نه الدليل مشروطا برتك األهّم‪.‬‬
‫وبعبارة أوضح أّن دليل املهّم يف أصله مطلق يشمل صورتني ‪ :‬صورة فعل األهّم ‪ ،‬وصورة تركه ‪ ،‬و ا‬
‫ّمل‬
‫رفعنا اليد عن مشوله لصورة فعل األهّم ملكان املزامحة وتقدمي الراجح فيبقى مشوله لصورة ترك األهّم بال مزاحم‬
‫‪ ،‬وهذا معىن اشرتاطه برتك األهّم‪.‬‬
‫فيكون هذا االشرتاط مدلوال لدليلي األمرين معا بضميمة حكم العقل ‪ ،‬ولكن هذه الداللة من نوع‬
‫داللة اإلشارة (‪.)1‬‬
‫هذه خالصة فكرة «الرتّتب» على عالهتا ‪ ،‬وهناك فيها جوانب حتتاج إىل مناقشة وإيضاح تركناها إىل‬
‫(‬
‫املطّو الت (‪ ، )1‬وقد وضع هلا شيخنا احملّق ق النائيّين مخس مقّد مات لسّد ثغورها ‪ ،‬راجع عنها تقريرات تالمذته‬
‫‪.)2‬‬

‫المسألة الرابعة ‪ :‬اجتماع األمر والنهي‬

‫تحرير محّل النزاع‬


‫واختلف األصولّيون من القدمي يف أّنه هل جيوز اجتماع األمر والنهي يف واحد أو ال جيوز (‪)1‬؟‬
‫ذهب إىل اجلواز أغلب األشاعرة (‪ ، )2‬ومجلة من أصحابنا ‪ ،‬أّو هلم الفضل بن شاذان على ما هو املعروف‬
‫عنه (‪ ، )3‬وعليه مجاعة من حمّق قي املتأّخ رين (‪ .)4‬وذهب إىل االمتناع أكثر املعتزلة (‪ ، )5‬وأكثر أصحابنا (‪.)6‬‬
‫وكأّن املسألة ـ فيما يبدو من عنواهنا ـ من األحباث التافهة (‪ )1‬؛ إذ ال ميكن أن نتصّو ر النزاع يف إمكان‬
‫اجتماع األمر والنهى يف واحد حىت لو قلنا بعدم امتناع التكليف باحملال ‪ ،‬كما تقوله األشاعرة ؛ ألّن التكليف‬
‫هنا نفسه حمال ‪ ،‬وهو األمر والنهي بشيء واحد‪ .‬وامتناع ذلك من أوضح الواضحات ‪ ،‬وهو حمّل وفاق بني‬
‫اجلميع‪.‬‬
‫إذن ‪ ،‬فكيف صّح هذا النزاع من القوم؟! وما معناه؟‬
‫والجواب أّن التعبري باجتماع األمر والنهي من خداع العناوين ‪ ،‬فال بّد من توضيح مقصودهم من‬
‫البحث بتوضيح الكلمات الواردة يف هذا العنوان ‪ ،‬وهي كلمة «االجتماع ‪ ،‬الواحد ‪ ،‬اجلواز»‪ّ .‬مث ينبغي أن‬
‫نبحث أيضا عن قيد آخر لتصحيح النزاع ‪ ،‬وهو قيد «املندوحة» الذي أضافه بعض املؤّلفني (‪ ، )2‬وهو على‬
‫حّق ‪ .‬وعليه نقول ‪:‬‬
‫‪« .1‬االجتماع» واملقصود منه هو االلتقاء االتفاقّي بني املأمور به واملنهّي عنه يف شيء واحد‪ .‬وال‬
‫يفرض ذلك إّال حيث يفرض تعّلق األمر بعنوان ‪ ،‬وتعّلق النهي بعنوان آخر ال ربط له بالعنوان األّو ل ‪ ،‬ولكن‬
‫قد يّتفق نادرا أن يلتقي العنوانان يف شيء واحد وجيتمعا فيه ‪ ،‬وحينئذ جيتمع ـ أي يلتقي ـ األمر والنهي‪.‬‬
‫ولكن هذا االجتماع وااللتقاء بني العنوانني على حنوين ‪:‬‬
‫أ ـ أن يكون اجتماعا موردّيا ‪ ،‬يعين أن ال يكون هنا فعل واحد مطابقا لكّل من العنوانني ‪ ،‬بل يكون‬
‫هنا فعالن تقارنا وجتاورا يف وقت واحد ‪ ،‬أحدمها يكون مطابقا لعنوان الواجب ‪ ،‬وثانيهما مطابقا لعنوان‬
‫احملّر م ‪ ،‬مثل النظر إىل األجنبّية يف أثناء الصالة ‪ ،‬فال النظر هو مطابق عنوان الصالة وال الصالة مطابق عنوان‬
‫النظر إىل األجنبّية ‪ ،‬وال مها ينطبقان على فعل واحد ؛ فإّن مثل هذا االجتماع املوردّي مل يقل أحد بامتناعه ‪،‬‬
‫وليس هو داخال يف مسألة االجتماع هذه ‪ ،‬فلو مجع املكّلف بينهما بأن نظر إىل األجنبّية يف أثناء‬
‫الصالة فقد عصى وأطاع يف آن واحد ‪ ،‬وال تفسد صالته‪.‬‬
‫ب ـ أن يكون اجتماعا حقيقّيا ‪ ،‬وإن كان ذلك يف النظر العرّيف ‪ ،‬ويف بادئ الرأي ـ يعين أّنه فعل واحد‬
‫يكون مطابقا لكّل من العنوانني ‪ ،‬كاملثال املعروف «الصالة يف املكان املغصوب» ‪ ،‬فإّن مثل هذا املثال هو‬
‫حمّل النزاع يف مسألتنا ‪ ،‬املفروض فيه أّنه ال ربط لعنوان الصالة املأمور به بعنوان الغصب املنهّي عنه ؛ ولكن‬
‫قد يّتفق للمكّلف صدفة أن جيمع بينهما بأن يصّلي يف مكان مغصوب ‪ ،‬فيلتقي العنوان املأمور به ـ وهو‬
‫الصالة ـ مع العنوان املنهّي عنه ـ وهو الغصب ـ ‪ ،‬وذلك يف الصالة املأّيت هبا يف مكان مغصوب ‪ ،‬فيكون هذا‬
‫الفعل الواحد مطابقا لعنوان الصالة ولعنوان الغصب معا‪ .‬وحينئذ إذا اّتفق ذلك للمكّلف فإّنه يكون هذا الفعل‬
‫الواحد داخال فيما هو مأمور به من جهة ‪ ،‬فيقتضي أن يكون املكّلف مطيعا لألمر ممتثال ‪ ،‬وداخال فيما هو‬
‫منهّي عنه من جهة أخرى ‪ ،‬فيقتضي أن يكون املكّلف عاصيا به خمالفا‪.‬‬
‫‪« .2‬الواحد» واملقصود منه الفعل الواحد باعتبار أّن له وجودا واحدا يكون ملتقى وجممعا للعنوانني يف‬
‫مقابل املتعّد د حبسب الوجود ‪ ،‬كالنظر إىل األجنبّية والصالة ‪ ،‬فإّن وجود أحدمها غري وجود اآلخر ‪ ،‬فإّن‬
‫االجتماع يف مثل هذا يسّم ى «االجتماع املوردّي » كما تقّد م‪.‬‬
‫والفعل الواحد مبا له من الوجود الواحد إذا كان ملتقى للعنوانني ‪ ،‬فإّن التقاء العناوين فيه ال خيلو من‬
‫حالتني ‪ :‬إحدامها ‪ :‬أن يكون االلتقاء بسبب ماهّيته الشخصّية‪ .‬وثانيتهما ‪ :‬أن يكون االلتقاء بسبب ماهّيته‬
‫الكّلية ‪ ،‬كأن يكون الكّلي نفسه جممعا للعنوانني ‪ ،‬كالكون الكّلي الذي ينطبق عليه أّنه صالة وغصب‪.‬‬
‫وعليه ‪ ،‬فاملقصود من الواحد يف املقام الواحد يف الوجود (‪ ، )1‬فال معىن لتخصيص النزاع بالواحد‬
‫الشخصّي (‪.)2‬‬
‫ومبا ذكرنا يظهر خروج الواحد باجلنس عن حمّل الكالم ؛ واملراد به ما إذا كان‬
‫املأمور به واملنهّي عنه متغايرين وجودا ‪ ،‬ولكّنهما يدخالن حتت ماهّية واحدة ‪ ،‬كالسجود هلل والسجود للصنم‬
‫‪ ،‬فإهّن ما واحد باجلنس باعتبار أّن كّال منهما داخل حتت عنوان السجود ‪ ،‬وال شّك يف خروج ذلك عن حمّل‬
‫النزاع‪.‬‬
‫‪« .3‬الجواز» واملقصود منه اجلواز العقلّي ـ أي اإلمكان املقابل لالمتناع ـ وهو واضح ؛ ويصّح أن يراد‬
‫منه اجلواز العقلّي املقابل للقبح العقلّي ‪ ،‬وهو قد يرجع إىل األّو ل باعتبار أّن القبيح ممتنع على اهلل (تعاىل)‪.‬‬
‫واجلواز له معان أخر ‪ ،‬كاجلواز املقابل للوجوب واحلرمة الشرعّيني ‪ ،‬واجلواز مبعىن االحتمال ؛ وكّلها‬
‫غري مرادة قطعا‪.‬‬
‫إذا عرفت تفسري هذه الكلمات الثالث الواردة يف عنوان املسألة يّتضح لك جّيدا حترير النزاع فيها ‪،‬‬
‫فإّن حاصل النزاع يف املسألة يكون أّنه يف مورد التقاء عنواين املأمور به ‪ ،‬واملنهّي عنه يف واحد وجودا هل‬
‫جيوز اجتماع األمر والنهي؟‬
‫ومعىن ذلك ‪ :‬أّنه هل يصّح أن يبقى األمر متعّلقا بذلك العنوان املنطبق على ذلك الواحد ‪ ،‬ويبقى النهي‬
‫كذلك متعّلقا بالعنوان املنطبق على ذلك الواحد ‪ ،‬فيكون املكّلف مطيعا وعاصيا معا يف الفعل الواحد ‪ ،‬أو أّنه‬
‫ميتنع ذلك وال جيوز ‪ ،‬فيكون ذلك اجملتمع للعنوانني إّم ا مأمورا به فقط ‪ ،‬أم منهّيا عنه فقط ‪ ،‬أي إّنه إّم ا أن‬
‫يبقى األمر على فعلّيته فقط ‪ ،‬فيكون املكّلف مطيعا ال غري ‪ ،‬أو يبقى النهي على فعلّيته فقط ‪ ،‬فيكون املكّلف‬
‫عاصيا ال غري‪.‬‬
‫والقائل باجلواز ال بّد أن يستند يف قوله إىل أحد رأيني ‪:‬‬
‫‪ .1‬أن يرى أّن العنوان بنفسه هو متعّلق التكليف ‪ ،‬وال يسري احلكم إىل املعنون ‪ ،‬فانطباق عنوانني‬
‫على فعل واحد ال يلزم منه أن يكون ذلك الواحد متعّلقا للحكمني ‪ ،‬فال ميتنع االجتماع ـ أي اجتماع عنوان‬
‫املأمور به مع عنوان املنهّي عنه يف واحد ـ ؛ ألّنه ال يلزم منه اجتماع نفس األمر والنهي يف واحد‪.‬‬
‫‪ .2‬أن يرى أّن املعنون ـ على تقدير تسليم أّنه هو متعّلق احلكم حقيقة ال العنوان ـ ‪ ،‬يكون متعّد دا‬
‫واقعا ‪ ،‬إذا تعّد د العنوان ؛ ألّن تعّد د العنوان يوجب تعّد د املعنون بالنظر الدقيق الفلسفّي ‪ ،‬ففي احلقيقة ـ وإن‬
‫كان فعل واحد يف ظاهر احلال صار مطابقا للعنوانني ـ هناك‬
‫معنونان كّل واحد منهما مطابق ألحد العنوانني ‪ ،‬فريجع اجتماع الوجوب واحلرمة بالدّقة العقلّية إىل‬
‫االجتماع املوردّي الذي قلنا ‪ :‬إّنه ال بأس فيه من االجتماع‪.‬‬
‫وعلى هذا ‪ ،‬فليس هناك واحد حبسب الوجود يكون جممعا بني العنوانني يف احلقيقة ‪ ،‬بل ما هو مأمور‬
‫به يف وجوده غري ما هو منهّي عنه يف وجوده‪ .‬وال تلزم سراية األمر إىل ما تعّلق به النهي ‪ ،‬وال سراية النهي‬
‫إىل ما تعّلق به األمر ‪ ،‬فيكون املكّلف يف مجعه بني العنوانني مطيعا وعاصيا يف آن واحد ‪ ،‬كالناظر إىل األجنبّية‬
‫يف أثناء الصالة‪.‬‬
‫وهبذا يّتضح معىن القول جبواز اجتماع األمر والنهي ‪ ،‬ويف احلقيقة ليس هو قوال باجتماع األمر والنهي‬
‫يف واحد ‪ ،‬بل إّم ا أّنه يرجع إىل القول باجتماع عنوان املأمور به واملنهّي عنه يف واحد دون أن يكون هناك‬
‫اجتماع بني األمر والنهي ‪ ،‬وإّم ا أن يرجع إىل القول باالجتماع املوردّي فقط ‪ ،‬فال يكون اجتماع بني األمر‬
‫والنهي ‪ ،‬وال بني املأمور به واملنهّي عنه‪.‬‬
‫وأّم ا القائل باالمتناع ‪ :‬فال بّد أن يذهب إىل أّن احلكم يسري من العنوان إىل املعنون وأّن تعّد د العنوان‬
‫ال يوجب تعّد د املعنون ؛ فإّنه ال ميكن حينئذ بقاء األمر والنهي معا وتوّج ههما متعّلقني بذلك املعنون الواحد‬
‫حبسب الوجود ؛ ألّنه يلزم اجتماع نفس األمر والنهي يف واحد ‪ ،‬وهو مستحيل ‪ ،‬فإّم ا أن يبقى األمر وال‬
‫هني ‪ ،‬أو يبقى النهي وال أمر‪.‬‬
‫ولقد أحسن صاحب املعامل يف حترير النزاع ؛ إذ عرّب بكلمة «التوّج ه» بدال عن كلمة «االجتماع»‬
‫فقال ‪« :‬احلّق امتناع توّج ه األمر والنهي إىل شيء واحد ‪.)1( »...‬‬
‫(‪)2‬‬
‫المسألة من المالزمات العقلّية غير المستقّلة‬
‫ومن التقرير املتقّد م لبيان حمّل النزاع يظهر كيف أّن املسألة هذه ينبغي أن تدخل يف‬
‫املالزمات العقلّية غري املستقّلة ‪ ،‬فإّن معىن القول باالمتناع هو تنقيح صغرى الكربى العقلّية القائلة بامتناع‬
‫اجتماع األمر والنهي يف شيء واحد حقيقّي ‪.‬‬
‫توضيح ذلك أّنه إذا قلنا بأّن احلكم يسري من العنوان إىل املعنون ‪ ،‬وأّن تعّد د العنوان ال يوجب تعّد د‬
‫املعنون ؛ فإّنه يتنّق ح عندنا موضوع اجتماع األمر والنهي يف واحد الثابتني شرعا ‪ ،‬فيقال على هنج القياس‬
‫االستثنائّي هكذا ‪« :‬إذا التقى عنوان املأمور به واملنهّي عنه يف واحد بسوء االختيار ‪ ،‬فإن بقي األمر والنهي‬
‫فعلّيني معا ‪ ،‬فقد اجتمع األمر والنهي يف واحد»‪ .‬وهذه هي الصغرى‪.‬‬
‫ومستند هذه املالزمة يف الصغرى هو سراية احلكم من العنوان إىل املعنون ‪ ،‬وأّن تعّد د العنوان ال يوجب‬
‫تعّد د املعنون‪ .‬وإمّن ا تفرض هذه املالزمة حيث يفرض ثبوت األمر والنهي شرعا بعنوانيهما‪.‬‬
‫ّمث نقول ‪« :‬ولكّنه يستحيل اجتماع األمر والنهي يف واحد»‪ .‬وهذه هي الكربى‪ .‬وهذه الكربى عقلّية‬
‫تثبت يف غري هذه املسألة‪.‬‬
‫وهذا القياس استثنائّي قد استثين فيه نقيض التايل ‪ ،‬فيثبت به نقيض املقّد م ‪ ،‬وهو عدم بقاء األمر والنهي‬
‫فعلّيني معا‪.‬‬
‫وأّم ا بناء على اجلواز ‪ :‬فيخرج هذا املورد من مورد االلتقاء عن أن يكون صغرى لتلك الكربى العقلّية‪.‬‬
‫وال جيب يف كون املسألة أصولّية من املستقّالت العقلّية وغريها أن تقع صغرى للكربى العقلّية على‬
‫تقدير مجيع األقوال ‪ ،‬بل يكفي أن تقع صغرى على أحد األقوال فقط ‪ ،‬فإّن هذا شأن مجيع املسائل األصولّية‬
‫املتقّد مة اللفظّية والعقلّية ‪ ،‬أال ترى أّن املباحث اللفظّية كّلها لتنقيح صغرى أصالة الظهور ‪ ،‬مع أّن املسألة ال‬
‫تقع صغرى ألصالة الظهور على مجيع األقوال فيها ‪ ،‬كمسألة داللة صيغة «افعل» على الوجوب ‪ ،‬فإّنه على‬
‫القول باالشرتاك اللفظّي أو املعنوّي ال يبقى هلا ظهور يف الوجوب أو غريه‪.‬‬
‫وال وجه لتوّه م كون هذه املسألة فقهّية ‪ ،‬أو كالمّية ‪ ،‬أو أصولّية لفظّية ‪ ،‬وهو واضح بعد ما قّد مناه‬
‫من شرح حترير النزاع ‪ ،‬وبعد ما ذكرناه سابقا يف أّو ل هذا اجلزء من مناط كون‬
‫املسألة األصولّية من باب غري املستقّالت العقلّية (‪.)1‬‬

‫مناقشة الكفاية في تحرير النزاع‬


‫وبعد ما حّر رناه من بيان النزاع يف املسألة يّتضح ابتناء القول باجلواز فيها على أحد رأيني ‪ :‬إّم ا القول‬
‫(‬
‫بأّن متعّلق األحكام هي نفس العنوانات دون معنوناهتا ‪ ،‬وإّم ا القول بأّن تعّد د العنوان يستدعي تعّد د املعنون‬
‫‪.)2‬‬
‫فتكون مسألة تعّد د املعنون بتعّد د العنوان وعدم تعّد ده حيثّية تعليلّية يف مسألتنا ومن املبادئ التصديقّية‬
‫هلا على أحد احتمالني ‪ ،‬ال أهّن ا هي نفس حمّل النزاع يف الباب ‪ ،‬فإّن البحث هنا ليس إّال عن نفس اجلواز‬
‫وعدمه ‪ ،‬كما عرّب بذلك كّل من حبث عن هذه املسألة من القدمي‪.‬‬
‫ومن هنا تتجّلى املناقشة فيما أفاده يف كفاية األصول من رجوع حمّل البحث هنا إىل البحث عن‬
‫استدعاء تعّد د العنوان لتعّد د املعنون وعدمه (‪ ، )3‬فإّنه فرق عظيم بني ما هو حمّل النزاع وبني ما يبتين عليه‬
‫النزاع يف أحد احتمالني ؛ فال وجه للخلط بينهما وإرجاع أحدمها إىل اآلخر ‪ ،‬وإن كان يف هذه املسألة ال بّد‬
‫لألصوّيل من البحث عن أّن تعّد د العنوان هل يوجب تعّد د املعنون؟ باعتبار أّن هذا البحث ليس ّمما يذكر يف‬
‫موضع آخر‪.‬‬

‫قيد المندوحة‬
‫ذكرنا فيما سبق أّن بعضهم قّيد النزاع هنا بأن تكون هناك مندوحة يف مقام االمتثال (‪.)4‬‬
‫ومعىن «املندوحة» أن يكون املكّلف متمّك نا من امتثال األمر يف مورد آخر غري مورد االجتماع‪.‬‬
‫ونظر إىل ذلك كّل من قّيد موضع النزاع مبا إذا كان اجلمع بني العنوانني بسوء اختيار املكّلف‪.‬‬
‫وإمّن ا قّيد هبا موضع النزاع لالّتفاق بني الطرفني على عدم جواز االجتماع يف صورة عدم وجود‬
‫املندوحة ‪ ،‬وذلك فيما إذا احنصر امتثال األمر يف مورد االجتماع ‪ ،‬ال بسوء اختيار املكّلف‪.‬‬
‫والسّر واضح ؛ فإّنه عند االحنصار تستحيل فعلّية التكليفني ؛ الستحالة امتثاهلما معا ؛ ألّنه إن فعل ما‬
‫هو مأمور به فقد عصى النهي ‪ ،‬وإن تركه فقد عصى األمر ‪ ،‬فيقع التزاحم حينئذ بني األمر والنهي‪.‬‬
‫(‬
‫وظاهر أّن اعتبار قيد املندوحة الزم ملا ذكرناه ؛ إذ ليس النزاع جهتّيا ـ كما ذهب إليه صاحب الكفاية‬
‫‪ )1‬ـ ‪ ،‬أي من جهة كفاية تعّد د العنوان يف تعّد د املعنون وعدمه وإن مل جيز االجتماع من جهة أخرى ‪ ،‬حىّت ال‬
‫حنتاج إىل هذا القيد ‪ ،‬بل النزاع ـ كما تقّد م (‪ )2‬ـ هو يف جواز االجتماع وعدمه من أّية جهة فرضت وليس‬
‫جهتّيا‪ .‬وعليه ‪ ،‬فما دام النزاع غري واقع يف عدم اجلواز يف صورة عدم املندوحة فهذه الصورة ال تدخل يف حمّل‬
‫النزاع يف مسألتنا‪.‬‬
‫فوجب ـ إذن ـ تقييد عنوان املسألة بقيد املندوحة كما صنع بعضهم (‪.)3‬‬

‫الفرق بين بابي التعارض والتزاحم ومسألة االجتماع‬


‫من املسائل العويصة مشكلة التفرقة بني باب التعارض وباب التزاحم ‪ّ ،‬مث بينهما وبني مسألة االجتماع‪.‬‬
‫وال بّد من بيان فرق بينها لتنكشف جّيدا حقيقة النزاع يف مسألتنا «مسألة االجتماع»‪.‬‬
‫وجه اإلشكال يف التفرقة أّنه ال شبهة يف أّن من موارد التعارض بني الدليلني ما إذا كان‬
‫بني دليلي األمر والنهي عموم وخصوص من وجه ‪ ،‬وذلك من أجل العموم من وجه بني متعّلقي األمر والنهي ـ‬
‫أي العموم من وجه الذي يقع بني عنوان املأمور به ‪ ،‬وعنوان املنهّي عنه ـ ‪ ،‬بينما أّن التزاحم بني الوجوب‬
‫واحلرمة من موارده أيضا العموم من وجه بني األمر والنهي من هذه اجلهة‪ .‬وكذلك مسألة االجتماع موردها‬
‫منحصر فيما إذا كان بني عنواين املأمور به واملنهّي عنه عموم من وجه‪.‬‬
‫فيّتضح أّنه مورد واحد ـ وهو مورد العموم من وجه بني متعّلقي األمر والنهي ـ يصّح أن يكون موردا‬
‫للتعارض وباب التزاحم ومسألة االجتماع ‪ ،‬فما املائز والفارق؟‬
‫فنقول ‪ :‬إّن العموم من وجه إمّن ا يفرض بني متعّلقي األمر والنهي فيما إذا كان العنوانان يلتقيان يف فعل‬
‫واحد ‪ ،‬سواء كان العنوان بالنسبة إىل الفعل من قبيل العنوان ومعنونه ‪ ،‬أو من قبيل الكّلي ‪ ،‬وفرده (‪ )1‬؛ وهذا‬
‫بديهّي ‪ ،‬ولكّن العنوان املأخوذ يف متعّلق اخلطاب من‬
‫جهة عمومه على حنوين ‪:‬‬
‫‪ .1‬أن يكون ملحوظا يف اخلطاب ‪ ،‬فانيا يف مصاديقه على وجه يسع مجيع األفراد مبا هلا من الكثرات‬
‫واملمّيزات ‪ ،‬فيكون شامال يف سعته ملوضع االلتقاء مع العنوان احملكوم باحلكم اآلخر ‪ ،‬فيعّد يف حكم املتعّر ض‬
‫حلكم خصوص موضع االلتقاء ‪ ،‬ولو من جهة كون موضع االلتقاء متوّقع احلدوث على وجه يكون من شأنه‬
‫أن ينّبه عليه املتكّلم يف خطابه ‪ ،‬فيكون أخذ العنوان على وجه يسع مجيع األفراد مبا هلا من الكثرات واملمّيزات‬
‫هلذا الغرض من التنبيه وحنوه‪ .‬وال نضايقك أن تسّم ي مثل هذا العموم «العموم االستغراقّي » ‪ ،‬كما صنع‬
‫بعضهم (‪.)1‬‬
‫واملقصود أّن العنوان إذا أخذ يف اخلطاب على وجه يسع مجيع األفراد مبا هلا من الكثرات واملمّيزات ‪،‬‬
‫يكون يف حكم املتعّر ض حلكم كّل فرد من أفراده ‪ ،‬فيكون نافيا بالداللة االلتزامّية لكّل حكم مناف حلكمه‪.‬‬
‫‪ .2‬أن يكون العنوان ملحوظا يف اخلطاب ‪ ،‬فانيا يف مطلق الوجود املضاف إىل طبيعة العنوان من دون‬
‫مالحظة كونه على وجه يسع مجيع األفراد ـ أي مل تلحظ فيه الكثرات واملمّيزات يف مقام األمر بوجود الطبيعة‬
‫‪ ،‬وال يف مقام النهي عن وجود الطبيعة األخرى ـ ‪ ،‬فيكون املطلوب يف األمر واملنهّي عنه يف النهي صرف‬
‫وجود الطبيعة‪ .‬وليسّم مثل هذا العموم «العموم البدّيل» ‪ ،‬كما صنع بعضهم (‪.)2‬‬
‫فإن كان العنوان مأخوذا يف اخلطاب على النحو األّو ل فإّن موضع االلتقاء يكون العاّم حّج ة فيه ‪،‬‬
‫كسائر األفراد األخرى ‪ ،‬مبعىن أن يكون متعّر ضا بالداللة االلتزامّية لنفي أّي حكم آخر ‪ ،‬مناف حلكم العاّم‬
‫بالنسبة إىل األفراد وخصوصّيات املصاديق‪.‬‬
‫ويف هذه الصورة ال بّد أن يقع التعارض بني دليلي األمر والنهي يف مقام اجلعل والتشريع ؛ ألهّن ما‬
‫يتكاذبان بالنسبة إىل موضع االلتقاء من جهة الداللة االلتزامّية يف كّل منهما على نفي احلكم اآلخر بالنسبة إىل‬
‫موضع االلتقاء‪.‬‬
‫والتحقيق أّن التعارض بني العاّم ني من وجه إمّن ا يقع بسبب داللة كّل منهما بالداللة االلتزامّية على انتفاء‬
‫حكم اآلخر ‪ ،‬ومن أجلها يتكاذبان ‪ ،‬وإّال فالداللتان املطابقّيتان بأنفسهما يف العاّم ني من وجه ال يتكاذبان ‪،‬‬
‫فال تتعارضان ما مل يلزم من ثبوت مدلول إحدامها نفي مدلول األخرى ‪ ،‬فليس التنايف بني املدلولني املطابقّيني‬
‫إّال تنافيا بالعرض ال بالذات‪.‬‬
‫ومن هنا يعلم أّن هذا الفرض ـ وهو فرض كون العنوان مأخوذا يف اخلطاب على النحو األّو ل ـ ينحصر‬
‫يف كونه موردا للتعارض بني الدليلني ‪ ،‬وال تصل النوبة إىل فرض التزاحم بني احلكمني فيه ‪ ،‬وال إىل النزاع يف‬
‫جواز اجتماع األمر والنهي وعدمه ؛ ألّن مقتضى القاعدة يف باب التعارض هو تساقط الدليلني عن حّج يتهما‬
‫بالنسبة إىل مورد االلتقاء ‪ ،‬فال جيوز فيه الوجوب وال احلرمة‪ .‬وال يفرض التزاحم ‪ ،‬أو مسألة النزاع يف جواز‬
‫االجتماع إّال حيث يفرض مشول الدليلني ملورد االلتقاء وبقاء حّج يتهما بالنسبة إليه ‪ ،‬أي إّنه مل يكن تعارض‬
‫بني الدليلني يف مقام اجلعل والتشريع‪.‬‬
‫وإن كان العنوان مأخوذا على النحو الثاين ‪ ،‬فهو مورد التزاحم ‪ ،‬أو مسألة االجتماع ‪ ،‬وال يقع بني‬
‫الدليلني تعارض حينئذ‪ .‬وذلك مثل قوله ‪« :‬صّل» ‪ ،‬وقوله ‪« :‬ال تغصب» ‪ ،‬باعتبار أّنه مل يلحظ يف كّل من‬
‫خطاب األمر والنهي الكثرات واملمّيزات على وجه يسع العنوان مجيع األفراد ‪ ،‬وإن كان نفس العنوان يف حّد‬
‫ذاته وإطالقه شامال جلميع األفراد ؛ فإّنه يف مثله يكون األمر متعّلقا بصرف وجود الطبيعة للصالة ‪ ،‬وامتثاله‬
‫يكون بفعل أّي فرد من األفراد ‪ ،‬فلم يكن ظاهرا يف وجوب الصالة حىت يف مورد الغصب على وجه يكون‬
‫داّال بالداللة االلتزامّية على انتفاء حكم آخر يف هذا املورد ليكون نافيا حلرمة الغصب يف املورد‪ .‬وكذلك‬
‫النهي يكون متعّلقا بصرف طبيعة الغصب ‪ ،‬فلم يكن ظاهرا يف حرمة الغصب حىّت يف مورد الصالة على وجه‬
‫يكون داّال بالداللة االلتزامّية على انتفاء حكم آخر يف هذا املورد ؛ ليكون نافيا لوجوب الصالة‪.‬‬
‫ويف مثل هذين الدليلني ـ إذا كانا على هذا النحو ـ يكون كّل منهما أجنبّيا يف عموم عنوان متعّلق احلكم‬
‫فيه عن عنوان متعّلق احلكم اآلخر ـ أي إّنه غري متعّر ض بداللته‬
‫االلتزامّية لنفي احلكم اآلخر ـ ‪ ،‬فال يتكاذبان يف مقام اجلعل والتشريع ‪ ،‬فال يقع التعارض بينهما ‪ ،‬إذ ال داللة‬
‫التزامّية لكّل منهما على نفي احلكم اآلخر يف مورد االلتقاء ‪ ،‬وال تعارض بني الداللتني املطابقّيتني مبا مها ؛ ألّن‬
‫املفروض أّن املدلول املطابقّي من كّل منهما هو احلكم املتعّلق بعنوان أجنّيب يف نفسه عن العنوان املتعّلق للحكم‬
‫اآلخر‪.‬‬
‫وحينئذ إذا صادف أن ابتلي املكّلف جبمعهما على حنو االّتفاق فحاله ال خيلو عن أحد أمرين ‪ :‬إّم ا أن‬
‫تكون له مندوحة من اجلمع بينهما ‪ ،‬ولكّنه هو الذي مجع بينهما بسوء اختياره وتصّر فه ‪ ،‬وإّم ا أن ال تكون له‬
‫مندوحة من اجلمع بينهما‪.‬‬
‫فإن كان األّو ل فإّن املكّلف حينئذ يكون قادرا على امتثال كّل من التكليفني ‪ ،‬فيصّلي ويرتك الغصب ‪،‬‬
‫وقد يصّلي ويغصب يف فعل آخر‪ .‬فإذا مجع بينهما بسوء اختياره بأن صّلى يف مكان مغصوب ‪ ،‬فهنا يقع‬
‫النزاع يف جواز االجتماع بني األمر والنهي ‪ ،‬فإن قلنا باجلواز كان مطيعا وعاصيا يف آن واحد ‪ ،‬وإن قلنا بعدم‬
‫اجلواز فإّنه ‪ :‬إّم ا أن يكون مطيعا ال غري إذا رّج حنا جانب األمر ‪ ،‬أو عاصيا ال غري إذا رّج حنا جانب النهي ؛‬
‫ألّنه حينئذ يقع التزاحم بني التكليفني فريجع فيه إىل أقوى املالكني‪.‬‬
‫وإن كان الثاين فإّنه ال حمالة يقع التزاحم بني التكليفني الفعلّيني ؛ ألّنه ـ حسب الفرض ـ ال معارضة بني‬
‫الدليلني يف مقام اجلعل واإلنشاء بل املنافاة وقعت من عدم قدرة املكّلف على التفريق بني االمتثالني ‪ ،‬فيدور‬
‫األمر حينئذ بني امتثال األمر وبني امتثال النهي ؛ إذ ال ميكنه امتثاهلما معا من جهة عدم املندوحة‪.‬‬
‫هذا هو احلّق الذي ينبغي أن يعّو ل عليه يف سّر التفريق بني بايب التعارض والتزاحم ‪ ،‬وبينهما وبني‬
‫مسألة االجتماع يف مورد العموم من وجه بني متعّلقي اخلطابني ـ خطاب الوجوب واحلرمة ـ ‪ ،‬ولعّله ميكن‬
‫استفادته من مطاوي كلماهتم وإن كانت عباراهتم تضيق عن التصريح بذلك ‪ ،‬بل اختلفت كلمات أعالم‬
‫أساتذتنا رحمهم‌هللا يف وجه التفريق‪.‬‬
‫فقد ذهب صاحب الكفاية إىل «أّنه ال يكون املورد من باب االجتماع إّال إذا أحرز يف كّل واحد من‬
‫متعّلقي اإلجياب والتحرمي مناط حكمه مطلقا ‪ ،‬حىّت يف مورد التصادق واالجتماع ‪ ،‬وأّم ا إذا مل حيرز مناط‬
‫كّل من احلكمني يف مورد التصادق مع العلم مبناط أحد‬
‫احلكمني بال تعيني فاملورد يكون من باب التعارض ؛ للعلم اإلمجاّيل حينئذ بكذب أحد الدليلني املوجب للتنايف‬
‫بينهما عرضا (‪.»)1‬‬
‫هذا خالصة رأية رحمه‌هللا ‪ ،‬فجعل إحراز مناط احلكمني يف مورد االجتماع وعدمه هو املناط يف‬
‫التفرقة بني مسألة االجتماع وباب التعارض ‪ ،‬بينما أّن املناط عندنا يف التفرقة بينهما هو داللة الدليلني بالداللة‬
‫االلتزامّية على نفي احلكم اآلخر وعدمها ‪ ،‬فمع هذه الداللة حيصل التكاذب بني الدليلني ‪ ،‬فيتعارضان ‪،‬‬
‫وبدوهنا ال تعارض ‪ ،‬فيدخل املورد يف مسألة االجتماع‪.‬‬
‫وميكن دعوى التالزم بني املسلكني يف اجلملة ؛ ألّنه مع تكاذب الدليلني من ناحية داللتهما االلتزامّية ال‬
‫حيرز وجود مناط احلكمني يف مورد االجتماع ‪ ،‬كما أّنه مع عدم تكاذهبما ميكن إحراز وجود املناط لكّل من‬
‫احلكمني يف مورد االجتماع ‪ ،‬بل ال بّد من إحراز مناط احلكمني مبقتضى إطالق الدليلني يف مدلوهلما‬
‫املطابقّي ‪.‬‬
‫وأّم ا شيخنا النائيّين ‪ :‬فقد ذهب إىل «أّن مناط دخول املورد يف باب التعارض أن تكون احليثّيتان يف‬
‫العاّم ني من وجه حيثّيتني تعليلّيتني ؛ ألّنه حينئذ يتعّلق احلكم يف كّل منهما بنفس ما يتعّلق به اآلخر ‪،‬‬
‫فيتكاذبان ‪ ،‬وأّم ا إذا كانتا تقييدّيتني ‪ :‬فال يقع التعارض بينهما ‪ ،‬ويدخالن حينئذ يف مسألة االجتماع مع‬
‫املندوحة ‪ ،‬ويف باب التزاحم مع عدم املندوحة (‪.»)2‬‬
‫ونحن نقول ‪ :‬يف احليثّيتني التقييدّيتني إذا كان بني الداللتني تكاذب من أجل داللتهما االلتزامّية على‬
‫نفي احلكم اآلخر ـ على حنو ما فّص لناه ـ فإّن التعارض بينهما ال حمالة واقع ‪ ،‬وال تصل النوبة يف هذا املورد‬
‫للدخول يف مسألة االجتماع‪.‬‬
‫ولنا مناقشة معه يف صورة احليثية التعليلّية ‪ ،‬يطول شرحها ‪ ،‬وال يهّم التعّر ض هلا اآلن ‪ ،‬وفيما ذكرناه‬
‫الكفاية ‪ ،‬وفوق الكفاية للطالب املبتدئ‪.‬‬

‫الحّق في المسألة‬
‫بعد ما قّد منا ـ من توضيح حترير النزاع وبيان موضع النزاع ـ نقول ‪ :‬إّن احلّق يف املسألة هو «اجلواز»‪.‬‬
‫وقد ذهب إىل ذلك مجع من احملّق قني املتأّخ رين (‪.)1‬‬
‫وسندنا يبتين على توضيح واختيار ثالثة أمور مرتّتبة ‪:‬‬
‫أّو ال ‪ :‬أّن متعّلق التكليف ـ سواء كان أمرا أو هنيا ـ ليس هو املعنون (‪ ، )2‬أي الفرد اخلارجّي للعنوان مبا‬
‫له من الوجود اخلارجّي ؛ فإّنه يستحيل ذلك ‪ ،‬بل متعّلق التكليف دائما وأبدا هو العنوان ‪ ،‬على ما سيأيت‬
‫توضيحه (‪.)3‬‬
‫واعترب ذلك بالشوق ‪ ،‬فإّن الشوق يستحيل أن يتعّلق باملعنون ؛ ألّنه إّم ا أن يتعّلق به حال عدمه أو حال‬
‫وجوده ‪ ،‬وكّل منهما ال يكون ؛ أّم ا األّو ل ‪ :‬فيلزم تقّو م املوجود باملعدوم ‪ ،‬وحتّق ق املعدوم مبا هو معدوم ـ ألّن‬
‫املشتاق إليه له نوع من التحّق ق بالشوق إليه ـ وهو حمال واضح ؛ وأّم ا الثاين ‪ :‬فألّنه يكون االشتياق إليه‬
‫حتصيال للحاصل وهو حمال ؛ فإذن ال يتعّلق الشوق باملعنون ال حال وجوده ‪ ،‬وال حال عدمه‪.‬‬
‫مضافا إىل أّن الشوق من األمور النفسّية ‪ ،‬وال يعقل أن يتشّخ ص ما يف النفس بدون متعّلق ما ‪،‬‬
‫كجميع األمور النفسّية ‪ ،‬كالعلم ‪ ،‬واخليال ‪ ،‬والوهم ‪ ،‬واإلرادة ‪ ،‬وحنوها ‪ ،‬وال يعقل أن يتشّخ ص مبا هو‬
‫خارج عن أفق النفس من األمور العينّية ؛ فال بّد أن يتشّخ ص بالشيء املشتاق إليه مبا له من الوجود العنواّين‬
‫الفرضّي ‪ ،‬وهو املشتاق إليه أّو ال وبالذات ‪ ،‬وهو املوجود بوجود الشوق ‪ ،‬ال بوجود آخر وراء الشوق ‪،‬‬
‫ولكن ا كان يؤخذ العنوان مبا هو حاك ومرآة عّم ا يف اخلارج ـ أي عن املعنون ـ فإّن املعنون يكون مشتاقا إليه‬
‫ّمل‬
‫ثانيا و‬
‫بالعرض ‪ ،‬نظري العلم ؛ فإّنه ال يعقل أن يتشّخ ص باألمر اخلارجّي ‪ ،‬واملعلوم بالذات دائما وأبدا هو العنوان‬
‫املوجود بوجود العلم ‪ ،‬ولكن مبا هو حاك ومرآة عن املعنون‪.‬‬
‫وأّم ا املعنون لذلك العنوان فهو معلوم بالعرض باعتبار فناء العنوان فيه‪.‬‬
‫ويف احلقيقة إمّن ا يتعّلق الشوق بشيء إذا كان له جهة وجدان وجهة فقدان ‪ ،‬فال يتعّلق باملعدوم من مجيع‬
‫اجلهات ‪ ،‬وال باملوجود من مجيع اجلهات‪ .‬وجهة الوجدان يف املشتاق إليه هو العنوان املوجود بوجود الشوق‬
‫يف أفق النفس باعتبار ما له من وجود عنواّين فرضّي ‪ .‬وجهة الفقدان يف املشتاق إليه هو عدمه احلقيقّي يف‬
‫اخلارج ‪ ،‬ومعىن الشوق إليه هو الرغبة يف إخراجه من حّد الفرض والتقدير إىل حّد الفعلّية والتحقيق‪.‬‬
‫وإذا كان الشوق على هذا النحو ‪ ،‬فكذلك حال الطلب والبعث بال فرق ‪ ،‬فيكون حقيقة طلب الشيء‬
‫هو تعّلقه بالعنوان إلخراجه من حّد الفرض والتقدير إىل حّد الفعلّية والتحقيق (‪.)1‬‬
‫ثانيا ‪ :‬أّنا ّملا قلنا بأّن متعّلق التكليف هو العنوان ال املعنون ال نعين أّن العنوان مبا له من الوجود الذهّين‬
‫يكون متعّلقا للطلب ؛ فإّن ذلك باطل بالضرورة ؛ ألّن مثار اآلثار ومتعّلق الغرض والذي ترتّتب عليه املصلحة‬
‫واملفسدة هو املعنون ال العنوان ؛ بل نعين أّن املتعّلق هو العنوان حال وجوده الذهّين ‪ ،‬ال أّنه مبا له من الوجود‬
‫الذهّين أو هو مفهوم ‪ ،‬ومعىن تعّلقه بالعنوان حال وجوده الذهّين أّنه يتعّلق به نفسه باعتبار أّنه مرآة عن املعنون‬
‫وفان فيه ‪ ،‬فتكون التخلية فيه عن الوجود الذهّين عني التحلية به‪.‬‬
‫ثالثا ‪ :‬أّنا إذ نقول ‪« :‬إّن املتعّلق للتكليف هو العنوان مبا هو مرآة عن املعنون ‪ ،‬وفان فيه» ال نعين أّن‬
‫(‬
‫املتعّلق احلقيقّي للتكليف هو املعنون ‪ ،‬وأّن التكليف يسري من العنوان إىل املعنون باعتبار فنائه فيه ـ كما قيل‬
‫‪ )2‬ـ ‪ ،‬فإّن ذلك باطل بالضرورة أيضا ؛ ملا تقّد م أّن املعنون يستحيل أن يكون متعّلقا للتكليف بأّي حال من‬
‫األحوال ‪ ،‬وهو حمال حىّت لو كان بتوّس ط العنوان ‪ ،‬فإّن توّس ط العنوان ال خيرجه عن استحالة تعّلق التكليف‬
‫به ؛ بل نعين‬
‫ونقول ‪ :‬إّن الصحيح أّن متعّلق التكليف هو العنوان مبا هو مرآة وفان يف املعنون على أن يكون فناؤه يف‬
‫املعنون هو املصّح ح لتعّلق التكليف به فقط ؛ إذ إّن الغرض إمّن ا يقوم باملعنون املفّين فيه ‪ ،‬ال أّن الفناء جيعل‬
‫التكليف ساريا إىل املعنون ومتعّلقا به‪ .‬وفرق كبري بني ما هو مصّح ح لتعّلق التكليف بشيء ‪ ،‬وبني ما هو‬
‫بنفسه متعّلق التكليف‪ .‬وعدم التفرقة بينهما هو الذي أوهم القائلني بأّن التكليف يسري إىل املعنون باعتبار‬
‫فناء العنوان فيه ‪ ،‬وال يزال هذا اخللط بني ما هو بالذات وما هو بالعرض مثار كثري من االشتباهات اليت تقع‬
‫يف علمي األصول والفلسفة‪ .‬والفناء واآللّية يف املالحظة هو الذي يوقع االشتباه واخللط ‪ ،‬فيعطى ما للعنوان‬
‫للمعنون وبالعكس‪.‬‬
‫وإذا عسر عليك تفّه م ما نرمي إليه فاعترب ذلك يف مثال احلرف حينما حنكم عليه بأّنه ال خيرب عنه ؛ فإّن‬
‫عنوان احلرف ومفهومه اسم خيرب عنه ‪ ،‬كيف وقد أخرب بأّنه ال خيرب عنه؟ ولكن إمّن ا صّح اإلخبار عنه بذلك‬
‫فباعتبار فنائه يف املعنون ؛ ألّنه هو الذي له هذه اخلاصّية ‪ ،‬ويقوم به الغرض من احلكم ‪ ،‬ومع ذلك ال جيعل‬
‫ذلك كون املعنون ـ وهو احلرف احلقيقّي ـ موضوعا للحكم حقيقة أّو ال وبالذات ؛ فإّن احلرف احلقيقّي‬
‫يستحيل أن يكون موضوعا للحكم وطرفا للنسبة بأّي حال من األحوال ولو بتوّس ط شيء ‪ ،‬كيف وحقيقته‬
‫النسبة والربط ‪ ،‬وخاّص ته أّنه ال خيرب عنه؟‪ .‬وعليه ‪ ،‬فاملخرب عنه أّو ال وبالذات هو عنوان احلرف ‪ ،‬لكن ال مبا‬
‫هو مفهوم موجود يف الذهن ؛ فإّنه هبذا االعتبار خيرب عنه ‪ ،‬بل مبا هو فان يف املعنون وحاك عنه ‪ ،‬فاملصّح ح‬
‫لإلخبار عنه بأّنه ال خيرب عنه هو فناؤه يف معنونه ‪ ،‬فيكون احلرف احلقيقّي املعنون خمربا عنه ثانيا وبالعرض ‪،‬‬
‫وإن كان الغرض من احلكم إمّن ا يقوم باملفّين فيه ‪ ،‬وهو احلرف احلقيقّي ‪.‬‬
‫وعلى هذا يّتضح جلّيا كيف أّن دعوى سراية احلكم أّو ال وبالذات من العنوان إىل املعنون منشؤها‬
‫الغفلة [عن التفرقة] بني ما هو املصّح ح للحكم على موضوع باعتبار قيام الغرض بذلك املصّح ح ‪ ،‬فيجعل‬
‫املوضوع عنوانا حاكيا عنه ‪ ،‬وبني ما هو املوضوع للحكم القائم به الغرض ‪ ،‬فاملصّح ح للحكم شيء واحملكوم‬
‫عليه واجملعول موضوعا شيء آخر‪ .‬ومن العجيب أن يصدر مثل هذه الغفلة من بعض أهل الفّن يف املعقول‪.‬‬
‫نعم ‪ ،‬إذا كان القائل بالسراية يقصد أّن العنوان يؤخذ فانيا يف املعنون ‪ ،‬وحاكيا عنه ‪ ،‬وأّن الغرض إمّن ا‬
‫يقوم باملعنون فذلك حّق وحنن نقول به ‪ ،‬ولكن ذلك ال ينفعه يف الغرض الذي يهدف إليه ؛ ألّنا نقول بذلك‬
‫من دون أن جنعل متعّلق التكليف نفس املعنون ‪ ،‬وإمّن ا يكون متعّلقا له ثانيا وبالعرض ‪ ،‬كاملعلوم بالعرض ـ كما‬
‫أشرنا إليه فيما سبق ـ ‪ ،‬فإّن العلم إمّن ا يتعّلق باملعلوم بالذات ‪ ،‬ويتقّو م به ‪ ،‬وليس هو إّال العنوان املوجود بوجود‬
‫علمّي ‪ ،‬ولكن باعتبار فنائه يف معنونه يقال للمعنون ‪« :‬إّنه معلوم» ‪ ،‬ولكّنه يف احلقيقة هو معلوم بالعرض ال‬
‫بالذات ‪ ،‬وهذا الفناء هو الذي خيّيل الناظر أّن املتعّلق احلقيقّي للعلم هو املعنون ‪ ،‬ولقد أحسنوا يف تعريف‬
‫العلم بأّنه «حصول صورة الشيء لدى العقل ‪ ،‬ال حصول نفس الشيء» ‪ ،‬فاملعلوم بالذات هو الصورة ‪،‬‬
‫واملعلوم بالعرض نفس الشيء الذي حصلت صورته لدى العقل‪.‬‬
‫وإذا ثبت ما تقّد م ‪ ،‬واّتضح ما رمينا إليه ـ من أّن متعّلق التكليف أّو ال وبالذات هو العنوان وأّن املعنون‬
‫متعّلق له بالعرض ـ يّتضح لك احلّق جلّيا يف مسألتنا «مسألة اجتماع األمر والنهي» ‪ ،‬وهو أّن احلّق جواز‬
‫االجتماع‪.‬‬
‫ومعىن جواز االجتماع أّنه ال مانع من أن يتعّلق اإلجياب بعنوان ‪ ،‬ويتعّلق التحرمي بعنوان آخر ‪ ،‬وإذا‬
‫مجع املكّلف بينهما صدفة بسوء اختياره فإّن ذلك ال جيعل الفعل الواحد املعنون لكّل من العنوانني متعّلقا‬
‫لإلجياب والتحرمي إّال بالعرض ‪ ،‬وليس ذلك مبحال ؛ فإّن احملال إمّن ا هو أن يكون الشيء الواحد بذاته متعّلقا‬
‫لإلجياب والتحرمي‪.‬‬
‫وعليه ‪ ،‬فيصّح أن يقع الفعل الواحد امتثاال لألمر من جهة باعتبار انطباق العنوان املأمور به عليه ‪،‬‬
‫وعصيانا للنهي من جهة أخرى باعتبار انطباق عنوان املنهّي عنه عليه‪ .‬وال حمذور يف ذلك ما دام أّن ذلك‬
‫الفعل الواحد ليس بنفسه وبذاته متعّلقا لألمر وللنهي ليكون ذلك حماال ‪ ،‬بل العنوانان الفانيان مها املتعّلقان‬
‫لألمر والنهي ‪ ،‬غاية األمر أّن تطبيق العنوان املأمور به على هذا الفعل يكون هو الداعي إىل إتيان الفعل ‪ ،‬وال‬
‫فرق بني فرد وفرد يف انطباق العنوان عليه ‪ ،‬فالفرد الذي ينطبق عليه العنوان املنهّي عنه كالفرد اخلايل من ذلك‬
‫يف كون كّل منهما ينطبق عليه العنوان املأمور به بال جهة خلل يف االنطباق‪.‬‬
‫وال فرق يف ذلك بني أن يكون تعّد د العنوان موجبا لتعّد د املعنون ‪ ،‬أو مل يكن ما دام أّن املعنون ليس‬
‫هو متعّلق التكليف بالذات‪.‬‬
‫نعم ‪ ،‬لو كان العنوان مأخوذا يف املأمور به واملنهّي عنه على وجه يسع مجيع األفراد حىّت موضع‬
‫االجتماع ـ وهو الفرد الذي ينطبق عليه العنوانان ـ ‪ ،‬ولو كان ذلك من جهة إطالق الدليل ؛ فإّنه حينئذ تكون‬
‫لكّل من الدليلني الداللة االلتزامّية على نفي حكم اآلخر (‪ )1‬يف موضع االلتقاء ‪ ،‬فيتكاذبان ‪ ،‬وعليه ‪ ،‬يقع‬
‫التعارض بينهما وخيرج املورد عن مسألة االجتماع كما سبق بيان ذلك مفّص ال‪.‬‬
‫كما أّنه لو كانت القدرة على الفعل مأخوذة يف متعّلق األمر على وجه يكون الواجب هو العنوان‬
‫املقدور مبا هو مقدور فإّن عنوان املأمور به حينئذ ال يسع وال يعّم الفرد غري املقدور ‪ ،‬فال ينطبق عنوان املأمور‬
‫به مبا هو مأمور به على موضع االجتماع ‪ ،‬وال يكون هذا الفرد غري املقدور شرعا من أفراد الطبيعة مبا هي‬
‫مأمور هبا‪.‬‬
‫خبالف ما إذا كانت القدرة مصّح حة فقط لتعّلق التكليف بالعنوان ‪ ،‬فإّن عنوان املأمور به يكون‬
‫مقدورا عليه ولو بالقدرة على فرد واحد من أفراده ؛ وهلذا قلنا ‪ :‬إّنه لو احنصر تطبيق املأمور به يف خصوص‬
‫موضع االجتماع ـ كما يف مورد عدم املندوحة ـ يقع التزاحم بني احلكمني يف موضع االجتماع ؛ ألّنه ال يصّح‬
‫تطبيق املأمور به على هذا الفرد ـ وهو موضع االجتماع ـ إّال إذا مل يكن النهي فعلّيا ‪ ،‬كما ال يصّح تطبيق‬
‫عنوان املنهّي عنه عليه إّال إذا مل يكن األمر فعلّيا ‪ ،‬فال بّد من رفع اليد عن فعلّية أحد احلكمني ‪ ،‬وتقدمي األهّم‬
‫منهما‪.‬‬
‫ولقد ذهب بعض أعالم أساتذتنا (‪ )2‬إىل أّن القدرة مأخوذة يف متعّلق التكليف ‪ ،‬باعتبار أّن اخلطاب‬
‫بالتكليف نفسه يقتضي ذلك ؛ ألّن األمر إمّن ا هو لتحريك املكّلف حنو الفعل على أن يصدر منه باالختيار ‪،‬‬
‫وهذا نفسه يقتضي كون متعّلقه مقدورا ؛ المتناع جعل الداعي حنو املمتنع وإن كان االمتناع من ناحية‬
‫شرعّية‪.‬‬
‫ولكّننا مل نتحّق ق صّح ة هذه الدعوى ؛ ألّن صّح ة التكليف بطبيعة الفعل ال تتوّقف على أكثر‬
‫من القدرة على صرف وجود الطبيعة ولو بالقدرة على فرد من أفرادها ‪ ،‬فالعقل هو الذي حيكم بلزوم القدرة‬
‫يف متعّلق التكليف ‪ ،‬وذلك ال يقتضي القدرة على كّل فرد من أفراد الطبيعة إّال إذا قلنا بأّن التكليف يتعّلق‬
‫باألفراد أّو ال وبالذات ‪ ،‬وقد تقّد م توضيح فساد هذا الوهم (‪.)1‬‬

‫تعّد د العنوان ال يوجب تعّد د المعنون‬


‫بعد ما تقّد م من البيان من أّن التكليف إمّن ا يتعّلق بالعنوان مبا هو مرآة عن أفراده ال بنفس األفراد ‪ ،‬فإّن‬
‫القول باجلواز ال يتوّقف على القول بأّن تعّد د العنوان يوجب تعّد د املعنون ـ كما أشرنا إليه فيما سبق ـ ؛ ألّنه‬
‫سواء كان املعنون متعّد دا بتعّد د العنوان أو غري متعّد د ‪ ،‬فإّن ذلك ال يرتبط مبسألتنا نفيا وإثباتا ما دام أّن‬
‫املعنون ليس متعّلقا للتكليف أبدا‪ .‬وعلى كّل حال فاحلّق هو اجلواز ‪ ،‬تعّد د املعنون أو مل يتعّد د‪.‬‬
‫ولو سّلمنا جدال بأّن التكليف يتعّلق باملعنون باعتبار سراية التكليف من العنوان إىل املعنون ـ كما هو‬
‫املعروف ـ ‪ ،‬فإّن احلّق أّنه ال جيب تعّد د املعنون بتعّد د العنوان ‪ ،‬فقد يتعّد د وقد ال يتعّد د ‪ ،‬فليس هناك قاعدة‬
‫عاّم ة تقضي بأن حنكم بأّن تعّد د العنوان يوجب تعّد د املعنون ‪ ،‬كما تكّلف بتنقيحها بعض أعاظم مشاخينا (‪، )2‬‬
‫وكأّن نظره الشريف يرمي إىل أّن العاّم ني من وجه ميتنع صدقهما على شيء واحد من جهة واحدة ‪ ،‬وإّال ملا‬
‫كانا عاّم ني من وجه ‪ ،‬فال بّد أن يفرض هناك جهتان موجودتان يف اجملمع ‪ :‬إحدامها ‪ :‬هو الواجب ‪،‬‬
‫وثانيتهما ‪ :‬هو احملّر م ‪ ،‬فيكون الرتكيب بني احليثّيتني تركيبا انضمامّيا ال احّت ادّيا ‪ ،‬إّال إذا كانت احليثّيتان‬
‫املفروضتان تعليلّيتني ال تقييدّيتني ؛ فإّن الواجب واحملّر م على هذا الفرض يكونان شيئا واحدا وهو ذات احملّيث‬
‫هباتني احليثّيتني‪ .‬وحينئذ يقع التعارض بني دليلي العاّم ني ‪ ،‬وخيرج املورد عن مسألتنا‪.‬‬
‫ويف هذا التقرير ما ال خيفى على الفطن‪.‬‬
‫أّما أّو ال ‪ :‬فإّن العنوان بالنسبة إىل معنونه تارة يكون منتزعا منه باعتبار ضّم حيثّية زائدة‬
‫على الذات ‪ ،‬مباينة هلا ماهية ووجودا ‪ ،‬كاألبيض بالقياس إىل اجلسم ‪ ،‬فإّن صدق األبيض عليه باعتبار عرض‬
‫(‪ )1‬صفة البياض عليه اخلارجة عن مقام ذاته ؛ وأخرى يكون منتزعا منه باعتبار نفس ذاته بال ضّم حيثّية زائدة‬
‫على الذات ‪ ،‬كاألبيض بالقياس إىل نفس البياض ؛ فإّن نفس البياض ذاته بذاته منشأ النتزاع األبيض منه بال‬
‫حاجة إىل ضّم بياض آخر إليه ؛ ألّنه بنفس ذاته أبيض ال ببياض آخر‪ .‬ومثل ذلك صفات الكمال لذات‬
‫واجب الوجود ؛ فإهّن ا منتزعة من مقام نفس الذات ال بضّم حيثّية أخرى زائدة على الذات‪.‬‬
‫وعليه ‪ ،‬فال جيب يف كّل عنوان منتزع أن يكون انتزاعه من الذات باعتبار ضّم حيثّية زائدة على‬
‫الذات‪.‬‬
‫وأّما ثانيا ‪ :‬فإّن العنوان ال جيب فيه أن يكون كاشفا عن حقيقة متأّص لة على وجه يكون انطباق العنوان‬
‫أو مبدئه عليه من باب انطباق الكّلي على فرده ‪ ،‬بل من العناوين ما هو جمعول ومعترب لدى العقل لصرف‬
‫احلكاية والكشف عن املعنون ‪ ،‬من دون أن يكون بإزائه يف اخلارج حقيقة متأّص لة ‪ ،‬مثل عنوان «العدم» و‬
‫«املمتنع» ‪ ،‬بل مثل عنوان «احلرف» و «النسبة» ؛ فإّنه ال جيب يف مثله فرض حيثّية متأّص لة ينتزع منها‬
‫العنوان‪ .‬ومثل هذا العنوان املعترب قد يكون عاّم ا يصّح انطباقه على حقائق متعّد دة ‪ ،‬من دون أن يكون بإزائه‬
‫حيثّية واقعية غري تلك احلقائق املتأّص لة‪ .‬ولعّل عنوان الغصب من هذا الباب يف انطباقه على الصالة ـ اليت تتأّلف‬
‫من حقائق متباينة ـ وعلى غريها من سائر التصّر فات ‪ ،‬فكّل تصّر ف يف مال الغري بدون رضاه غصب مهما‬
‫كانت حقيقة ذلك التصّر ف ‪ ،‬ومن أّية مقولة كانت‪.‬‬

You might also like