Professional Documents
Culture Documents
Materi Ustad Zainal Baru
Materi Ustad Zainal Baru
من األدّلة على احلكم الشرعّي عند األصولّيني اإلمامّية (« )1العقل» ،إذ يذكرون أّن األدّلة على
األحكام الشرعّية الفرعّية أربعة :الكتاب ،والسّنة ،واإلمجاع ،والعقل.
وسيأيت يف «مباحث احلّج ة» وجه حجّية العقل (.)2
أّم ا هنا فإمّن ا يبحث عن تشخيص صغريات ما حيكم به العقل املفروض أّنه حّج ة ،أي يبحث هنا عن
مصاديق أحكام العقل الذي هو دليل على احلكم الشرعّي .وهذا نظري البحث يف املقصد األّو ل (مباحث
األلفاظ) عن مصاديق أصالة الظهور اليت هي حّج ة ،وحّج يتها إمّن ا يبحث عنها يف مباحث احلّج ة.
وتوضيح ذلك أّن هنا مسألتني :
.1إّنه إذا حكم العقل على شيء أّنه حسن شرعا أو يلزم فعله شرعا ،أو حيكم على شيء أّنه قبيح
شرعا أو يلزم تركه شرعا بأّي طريق من الطرق اليت سيأيت بياهنا ( ، )3هل يثبت هبذا احلكم العقلّي حكم
الشرع؟ أي إّنه من حكم العقل هذا هل يستكشف أّن الشارع واقعا قد حكم بذلك؟ ومرجع ذلك إىل أّن
حكم العقل هذا هل هو حّج ة أو ال؟ وهذا البحث ـ كما قلنا ـ إمّن ا يذكر يف مباحث احلّج ة ،وليس هنا موقعه.
وسيأيت بيان إمكان حصول القطع باحلكم الشرعّي من غري الكتاب والسّنة ( ، )1وإذا حصل ،كيف يكون
حّج ة؟
.2إّنه هل للعقل أن يدرك بطريق من الطرق أّن هذا الشيء مثال حسن شرعا أو قبيح أو يلزم فعله أو
تركه عند الشارع؟ يعين أّن العقل بعد إدراكه حلسن األفعال أو لزومها ،ولقبح األشياء أو لزوم تركها يف
أنفسها بأّي طريق من الطرق ...هل يدرك مع ذلك أهّن ا كذلك عند الشارع؟
وهذا املقصد الثاين ـ الذي ّمسيناه « :حبث املالزمات العقلّية» ـ عقدناه ألجل بيان ذلك يف مسائل على
النحو الذي سيأتى إن شاء اهلل (تعاىل) ،ويكون فيه تشخيص صغريات حجّية العقل املبحوث عنها يف املقصد
الثالث (مباحث احلّج ة).
ّمث ال بّد ـ قبل تشخيص هذه الصغريات يف مسائل ـ من ذكر أمرين يتعّلقان باألحكام العقلّية مقّد مة
للبحث ،نستعني هبا على املقصود ،ومها :
إّن الدليل العقلّي ـ أو فقل :ما حيكم به العقل الذي يثبت به احلكم الشرعّي ـ ينقسم إىل قسمني :ما
يستقّل به العقل ،وما ال يستقّل به.
وبتعبري آخر نقول :إّن األحكام العقلّية على قسمني :مستقالت ،وغري مستقّالت.
وهذه التعبريات كثريا ما جتري على ألسنة األصولّيني ويقصدون هبا املعىن الذي سنوّض حه .وإن كان قد
يقولون « :إّن هذا ّمما يستقّل به العقل» وال يقصدون هذا املعىن ،بل يقصدون به معىن آخر ،وهو ما حيكم
به العقل بالبداهة وإن كان ليس من املستقّالت العقلّية باملعىن اآليت.
وعلى كّل حال ،فإّن هذا التقسيم حيتاج إىل شيء من التوضيح ،فنقول :
إّن العلم باحلكم الشرعّي ،كسائر العلوم ال بّد له من عّلة ؛ الستحالة وجود املمكن بال عّلة .وعّلة
العلم التصديقّي ال بّد أن تكون من أحد أنواع احلّج ة الثالثة :القياس ،أو االستقراء ،أو التمثيل .وليس
االستقراء ّمما يثبت به احلكم الشرعّي ،وهو واضح .والتمثيل ليس حبّج ة عندنا ؛ ألّنه هو القياس املصطلح عليه
عند األصولّيني الذي هو ليس من مذهبنا.
فيتعنّي أن تكون العّلة للعلم باحلكم الشرعّي هي خصوص القياس باصطالح املناطقة ،وإذا كان كذلك
فإّن كّل قياس ال بّد أن يتأّلف من مقّد متني ،سواء كان استثنائّيا أو اقرتانّيا .وهاتان املقّد متان قد تكونان معا
غري عقلّيتني ،فالدليل الذي يتأّلف منهما يسّم ى «دليال شرعّيا» يف قبال الدليل العقلّي .وال كالم لنا يف هذا
القسم هنا .وقد تكون كّل منهما أو إحدامها عقلّية ـ أي ّمما حيكم العقل به من غري اعتماد على حكم شرعّي
ـ ،فإّن الدليل الذي يتأّلف منهما يسّم ى «عقلّيا» ،وهو على قسمني :
.1أن تكون املقّد متان معا عقلّيتني ،كحكم العقل حبسن شيء أو قبحه ّ ،مث حكمه بأّنه كّل ما حكم
به العقل حكم به الشرع على طبقه .وهو القسم األّو ل من الدليل العقلّي ،وهو قسم «املستقّالت العقلّية».
.2أن تكون إحدى املقّد متني غري عقلّية واألخرى عقلّية ،كحكم العقل بوجوب املقّد مة عند وجوب
ذيها ،فهذه مقّد مة عقلّية صرفة ،وينضّم إليها حكم الشرع بوجوب ذي املقّد مة .وامّن ا يسّم ى الدليل الذي
يتأّلف منهما «عقلّيا» ألجل تغليب جانب املقّد مة العقلّية .وهذا هو القسم الثاين من الدليل العقلّي ،وهو
قسم «غري املستقّالت العقلّية» .وامّن ا ّمسي بذلك ؛ ألّنه ـ من الواضح ـ أّن العقل مل يستقّل وحده يف الوصول
إىل النتيجة ،بل استعان حبكم الشرع يف إحدى مقّد ميت القياس.
الخالصة
ومن مجيع ما ذكرنا يّتضح أّن املبحوث عنه يف املالزمات العقلّية هو إثبات الكربيات العقلّية اليت تقع يف
طريق إثبات احلكم الشرعّي ،سواء كانت الصغرى عقلّية ،كما يف املستقّالت العقلّية ،أو شرعّية ،كما يف
غري املستقّالت العقلّية.
أّم ا الصغرى :فدائما يبحث عنها يف علم آخر غري علم األصول ،كما أّن الكربى يبحث عنها يف علم
األصول ،وهي ( )1عبارة عن مالزمة حكم الشرع لشيء آخر باملالزمة العقلّية ،سواء كان ذلك الشيء
اآلخر حكما شرعّيا أم حكما عقلّيا أم غريمها .والنتيجة من الصغرى والكربى هاتني تقع صغرى لقياس آخر
كرباه حّجّية العقل ،ويبحث عن هذه الكربى يف مباحث احلّج ة.
وعلى هذا فينحصر حبثنا هنا يف بابني « :باب املستقّالت العقلّية» ،و «باب غري املستقّالت العقلّية» ،
فنقول :
الباب األّو ل
المستقّالت العقلّية
تمهيد
الظاهر احنصار املستقّالت العقلّية ـ اليت يستكشف منها احلكم الشرعّي ـ يف مسألة واحدة ،وهي مسألة
التحسني والتقبيح العقلّيني .وعليه ،جيب علينا أن نبحث عن هذه املسألة من مجيع أطرافها بالتفصيل ،ال
سّيما أّنه مل يبحث عنها يف كتب األصول الدارجة ،فنقول :
وقع البحث هنا يف أربعة أمور متالحقة :
.1إّنه هل تثبت لألفعال ـ مع قطع النظر عن حكم الشارع وتعّلق خطابه هبا ـ أحكام عقلّية من حسن
وقبح؟ أو إن شئت فقل :لألفعال حسن وقبح حبسب ذواهتا ،وهلا قيم ذاتّية يف نظر العقل قبل فرض حكم
الشارع عليها ،أو ليس هلا ذلك ،وإمّن ا احلسن ما حّس نه الشارع والقبيح ما قّبحه ،والفعل مطلقا يف حّد
نفسه من دون حكم الشارع ليس حسنا وال قبيحا؟
وهذا هو اخلالف األصيل بني األشاعرة والعدلّية ،وهو مسألة التحسني والتقبيح العقلّيني املعروفة يف
علم الكالم ،وعليها ترتّتب مسألة االعتقاد بعدالة اهلل (تعاىل) وغريها .وإمّن ا ّمسيت العدلّية «عدلّية» لقوهلم بأّنه
(تعاىل) عادل ،بناء على مذهبهم يف ثبوت احلسن والقبح العقلّيني.
وحنن نبحث عن هذه املسألة هنا باعتبار أهّن ا من املبادئ ملسألتنا األصولّية كما أشرنا إىل ذلك فيما
سبق.
.2إّنه بعد فرض القول بأّن لألفعال يف حّد أنفسها حسنا وقبحا ،هل يتمّك ن العقل من إدراك وجوه
احلسن والقبح مستقّال عن تعليم الشارع وبيانه أو ال؟ وعلى تقدير متّك نه ،هل للمكّلف أن يأخذ به بدون
بيان الشارع وتعليمه أو ليس له ذلك إّم ا مطلقا أو يف بعض املوارد؟
وهذه املسألة هي إحدى نقط اخلالف املعروفة بني األصولّيني ومجاعة من األخبارّيني )1( ،وفيها تفصيل
من بعضهم ( )2على ما يأيت ( .)3وهي أيضا ليست من مباحث علم األصول ،ولكّنها من املبادئ ملسألتنا
األصولّية اآلتية ؛ ألّنه بدون القول بأّن العقل يدرك وجوه احلسن والقبح ال تتحّق ق عندنا صغرى القياس اليت
تكّلمنا عنها سابقا.
وال ينبغي أن خيفى عليكم أّن حترير هذه املسألة سببه املغالطة اليت وقعت لبعضهم )4( ،وإّال فبعد حترير
املسألة األوىل على وجهها الصحيح ـ كما سيأيت ـ ال يبقى جمال هلذا النزاع .فانتظر توضيح ذلك يف حمّله
( )5
القريب.
.3إّنه بعد فرض أّن لألفعال حسنا وقبحا وأّن العقل يدرك احلسن والقبح ،يصّح أن ننتقل إىل التساؤل
عّم ا إذا كان العقل حيكم أيضا باملالزمة بني حكمه وحكم الشرع ،مبعىن أّن العقل إذا حكم حبسن شيء أو
قبحه هل يلزم عنده عقال أن حيكم الشارع على طبق حكمه؟
وهذه هي املسألة األصولّية املعرّب عنها مبسألة املالزمة اليت وقع فيها النزاع ،فأنكر املالزمة مجلة من
األخبارّيني ( )1وبعض األصولّيني كصاحب الفصول (.)2
.4إّنه بعد ثبوت املالزمة وحصول القطع بأّن الشارع ال بّد أن حيكم على طبق ما حكم به العقل فهل
هذا القطع حّج ة شرعا؟
ومرجع هذا النزاع إىل ثالث نواح :
األولى :يف إمكان أن ينفي الشارع حجّية هذا القطع وينهى عن األخذ به.
الثانية :بعد فرض إمكان نفي الشارع حجّية القطع هل هنى عن األخذ حبكم العقل وإن استلزم القطع
كقول اإلمام عليهالسالم « :إّن دين اهلل ال يصاب بالعقول» ( )3على تقدير تفسريه بذلك؟
والنزاع يف هاتني الناحيتني وقع مع األخبارّيني جّلهم أو كّلهم.
الثالثة :بعد فرض عدم إمكان نفي الشارع حّجّية القطع هل معىن حكم الشارع على طبق حكم
العقل هو أمره وهنيه ،أو أّن حكمه إدراكه وعلمه بأّن هذا الفعل ينبغي فعله أو تركه ،وهو شيء آخر غري
أمره وهنيه ،فإثبات أمره وهنيه حيتاج إىل دليل آخر ،وال يكفي القطع بأّن الشارع حكم مبا حكم به العقل؟
وعلى كّل حال ،فإّن الكالم يف هذه النواحي سيأيت يف مباحث احلّج ة (املقصد الثالث) ( )4وهو النزاع
يف حّجّية العقل .وعليه ،فنحن نتعّر ض هنا للمباحث الثالثة األوىل ،ونرتك املبحث الرابع بنواحيه إىل املقصد
الثالث.
.6أدّلة الطرفين
بتقدمي األمور السابقة نستطيع أن نواجه أدّلة الطرفني بعني بصرية ؛ لنعطي احلكم العادل ألحدمها
ونأخذ النتيجة املطلوبة .وحنن نبحث عن ذلك يف عّد ة مواّد ،فنقول :
.1إّنا ذكرنا أّن قضّية احلسن والقبح من القضايا املشهورات ،وأشرنا إىل ما كنتم درستموه يف اجلزء
الثالث من املنطق من أّن املشهورات قسم يقابل الضرورّيات السّت كّلها .ومنه نعرف املغالطة يف دليل
األشاعرة ،وهو أهّم أدّلتهم ؛ إذ يقولون :
«لو كانت قضّية احلسن والقبح ّمما حيكم به العقل ملا كان فرق بني حكمه يف هذه القضّية وبني حكمه
بأّن الكّل أعظم من اجلزء .ولكّن الفرق موجود قطعا ؛ إذ احلكم الثاين ال خيتلف فيه اثنان مع وقوع
االختالف يف األّو ل» (.)1
وهذا الدليل من نوع القياس االستثنائّي قد استثين فيه نقيض التايل لينتج نقيض املقّد م.
والجواب عنه :أّن املقّد مة األوىل ـ وهي اجلملة الشرطّية ـ ممنوعة ،ومنعها يعلم ّمما تقّد م آنفا ؛ ألّن
قضّية احلسن والقبح ـ كما قلنا ـ من املشهورات ،وقضّية أّن الكّل أعظم من اجلزء من األّو لّيات اليقينّيات ،فال
مالزمة بينهما .وليس مها من باب واحد حىّت يلزم من كون القضّية األوىل ّمما حيكم به العقل أّال يكون فرق
بينها وبني القضية الثانية .وينبغي أن نذكر مجيع الفروق بني املشهورات هذه وبني األّو لّيات ،ليكون أكثر
وضوحا بطالن قياس إحدامها على األخرى .والفارق من وجوه ثالثة :
األّو ل :أّن احلاكم يف قضايا التأديبات العقل العملّي ،واحلاكم يف األّو لّيات العقل النظرّي .
الثاني :أّن القضّية التأديبّية ال واقع هلا إّال تطابق آراء العقالء ،واألّو لّيات هلا واقع خارجّي .
الثالث :أّن القضّية التأديبّية ال جيب أن حيكم هبا كّل عاقل لو خّلي ونفسه ،ومل يتأّدب بقبوهلا
واالعرتاف هبا ،كما قال الشيخ الرئيس على ما نقلناه من عبارته فيما سبق يف األمر الثاين ،وليس كذلك
القضّية األّو لّية اليت يكفي تصّو ر طرفيها يف احلكم ،فإّنه ال بّد أّال يشّك عاقل يف احلكم هبا ألّو ل وهلة.
.2ومن أدّلتهم على إنكار احلسن والقبح العقلّيني أن قالوا :إّنه لو كان ذلك عقلّيا ملا اختلف حسن
األشياء وقبحها باختالف الوجوه واالعتبارات ،كالصدق ؛ إذ يكون مّر ة ممدوحا عليه وأخرى مذموما عليه
إذا كان فيه ضرر كبري .وكذلك الكذب بالعكس يكون [مّر ة] مذموما عليه و [أخرى] ممدوحا عليه إذا كان
فيه نفع كبري ؛ كالضرب والقيام والقعود وحنوها ّمما خيتلف حسنه وقبحه (.)1
والجواب عن هذا الدليل وأشباهه يظهر ّمما ذكرناه من أّن حسن األشياء وقبحها على أحناء ثالثة ،فما
كان ذاتّيا ال يقع فيه اختالف ؛ فإّن العدل مبا هو عدل ال يكون قبيحا أبدا ،وكذلك الظلم مبا هو ظلم ال
يكون حسنا أبدا ،أي إّنه ما دام عنوان العدل صادقا فهو ممدوح ،وما دام عنوان الظلم صادقا فهو مذموم.
وأّم ا :ما كان عرضّيا فإّنه خيتلف بالوجوه واالعتبارات ،فمثال الصدق إن دخل حتت عنوان العدل
كان ممدوحا ،وإن دخل حتت عنوان الظلم كان قبيحا .وكذلك الكذب وما ذكر من األمثلة.
والخالصة أّن العدلّية ال يقولون بأّن مجيع األشياء ال بّد أن تّتصف باحلسن أبدا أو بالقبح أبدا ،حىّت
يلزم ما ذكر من اإلشكال.
.3وقد استدّل العدلّية على مذهبهم مبا خالصته «أّنه من املعلوم ضرورة حسن اإلحسان وقبح الظلم
عند كّل عاقل من غري اعتبار شرع ،فإّن ذلك يدركه حىّت منكر الشرائع» (.)2
وأجيب عنه بأّن احلسن والقبح يف ذلك مبعىن املالءمة واملنافرة أو مبعىن صفة الكمال والنقص ،وهو
( )1
مسّلم ال نزاع فيه .وأّم ا باملعىن املتنازع فيه فإّنا ال نسّلم جزم العقالء به.
ونحن نقول :إّن من يّد عي ضرورة حكم العقالء حبسن اإلحسان وقبح الظلم يّد عي ضرورة مدحهم
لفاعل اإلحسان وذّم هم لفاعل الظلم .وال شّك يف أّن هذا املدح والذّم من العقالء ضرورّيان ؛ لتواترمها عن
مجيع الناس ،ومنكرمها مكابر .والذي يدفع العقالء هلذا ـ كما قّد منا ـ شعورهم بأّن العدل كمال للعادل ،
ومالءمته ملصلحة النوع اإلنساّين وبقائه ،وشعورهم بنقص الظلم ،ومنافرته ملصلحة النوع اإلنساّين وبقائه.
.4واستدّل العدلّية أيضا بأّن احلسن والقبح لو كانا ال يثبتان إّال من طريق الشرع ،فهما ال يثبتان
( )2
أصال حىّت من طريق الشرع.
وقد صّو ر بعضهم ( )3هذه املالزمة على النحو اآليت :
إّن الشارع إذا أمر بشيء فال يكون حسنا إّال مدح مع ذلك الفاعل عليه ،وإذا هنى عن شيء فال
يكون قبيحا إّال إذا ذّم الفاعل عليه .ومن أين تعرف أّنه جيب أن ميدح الشارع فاعل املأمور به ويذّم فاعل
املنهّي عنه ،إّال إذا كان ذلك واجبا عقال؟ فتوّقف حسن املأمور به وقبح املنهّي عنه على حكم العقل ،وهو
املطلوب.
ّمث لو ثبت أّن الشارع مدح فاعل املأمور به وذّم فاعل املنهّي عنه ،واملفروض أّن مدح الشارع ثوابه
وذّم ه عقابه ،فمن أين نعرف أّنه صادق يف مدحه وذّم ه ،إّال إذا ثبت أّن الكذب قبيح عقال يستحيل عليه؟
فيتوّقف ثبوت احلسن والقبح شرعا على ثبوهتما عقال ،فلو مل يكن هلما ثبوت عقال فال ثبوت هلما شرعا.
وقد أجاب بعض األشاعرة ( )4عن هذا التصوير بأّنه يكفي يف كون الشيء حسنا أن يتعّلق به األمر ،
ويف كونه قبيحا أن يتعّلق به النهي ـ حسب الفرض ـ [ ،ومها] ثابتان وجدانا ،وال حاجة إىل فرض ثبوت مدح
وذّم من الشارع.
وهذا الكالم ـ يف احلقيقة ـ يرجع إىل أصل النزاع يف معىن احلسن والقبح ،فيكون الدليل وجوابه صرف
دعوى ومصادرة على املطلوب ؛ ألّن املستدّل يرجع قوله إىل أّنه جيب املدح والذّم عقال ،ألهّن ما واجبان يف
اّتصاف الشيء باحلسن والقبح ،واجمليب يرجع قوله إىل أهّن ما ال جيبان عقال ،ألهّن ما غري واجبني يف احلسن
والقبح.
واألحسن تصوير الدليل على وجه آخر ،فنقول :
إّنه من املسّلم عند الطرفني وجوب طاعة األوامر والنواهي الشرعّية ،وكذلك وجوب املعرفة .وهذا
الوجوب عند األشاعرة وجوب شرعّي حسب دعواهم ،فنقول هلم :من أين يثبت هذا الوجوب؟ ال بّد أن
يثبت بأمر من الشارع ؛ فننقل الكالم إىل هذا األمر ،فنقول هلم :من أين جتب طاعة هذا األمر؟ فإن كان
هذا الوجوب عقلّيا فهو املطلوب ،وإن كان شرعّيا أيضا فال بّد له من أمر وال بّد له من طاعة ،فننقل الكالم
إليه ...وهكذا منضي إىل غري النهاية ،وال نقف حىّت ننتهي إىل طاعة وجوهبا عقلّي ال يتوّقف على أمر
الشارع ،وهو املطلوب.
بل ثبوت الشرائع من أصلها يتوّقف على التحسني والتقبيح العقلّيني ،ولو كان ثبوهتا من طريق
شرعّي ،الستحال ثبوهتا ؛ ألّنا ننقل الكالم إىل هذا الطريق الشرعّي فيتسلسل إىل غري النهاية.
والنتيجة أّن ثبوت احلسن والقبح شرعا يتوّقف على ثبوهتما عقال.
المبحث الثالث :ثبوت المالزمة العقلّية بين حكم العقل وحكم الشرع
ومعىن املالزمة العقلّية هنا ـ على ما تقّد م ـ أّنه إذا حكم العقل حبسن شيء أو قبحه هل يلزم عقال أن
حيكم الشرع على طبقه؟
وهذه هي املسألة األصولّية اليت ختّص علمنا ،وكّل ما تقّد م من الكالم كان كاملقّد مة هلا .وقد قلنا
سابقا ( : )1إّن األخبارّيني فّس ر كالمهم ـ يف أحد الوجوه الثالثة املقّد مة الذي يظهر من كالم بعضهم ـ بإنكار
هذه املالزمة .وأّم ا األصولّيون فقد أنكرها منهم صاحب الفصول ( ، )2ومل نعرف له موافقا .وسيأيت توجيه
( )3
كالمه وكالم األخبارّيني.
والحّق أّن املالزمة ثابتة عقال ،فإّن العقل إذا حكم حبسن شيء أو قبحه ـ أي إّنه إذا تطابقت آراء
العقالء مجيعا مبا هم عقالء على حسن شيء ملا فيه من حفظ النظام وبقاء النوع ،أو على قبحه ملا فيه من
اإلخالل بذلك ـ فإّن احلكم هذا يكون بادئ رأي اجلميع ،فال بّد أن حيكم الشارع حبكمهم ؛ ألّنه منهم بل
رئيسهم ،فهو مبا هو عاقل ـ بل خالق العقل ـ كسائر العقالء ،ال بّد أن حيكم مبا حيكمون .ولو فرضنا أّنه مل
يشاركهم يف حكمهم ،ملا كان ذلك احلكم بادئ رأي اجلميع ،وهذا خالف الفرض.
وبعد ثبوت ذلك ينبغي أن نبحث هنا عن مسألة أخرى ،وهي أّنه لو ورد من الشارع أمر يف مورد
حكم العقل ،كقوله (تعاىل) َ( :أِط يُعوا اَهلل َو َأِط يُعوا الَّر ُس وَل ) ( )1فهذا األمر من الشارع هل هو أمر مولوّي ـ
أي إّنه أمر منه مبا هو موىل ـ أو إّنه أمر إرشادّي ،أي إّنه أمر ألجل اإلرشاد إىل ما حكم به العقل ،أي إّنه
أمر منه مبا هو عاقل؟ وبعبارة أخرى :إّن النزاع هنا يف أّن مثل هذا األمر من الشارع هل هو أمر تأسيسّي ـ
وهذا معىن أّنه مولوّي ـ أو أّنه أمر تأكيدّي ،وهو معىن أّنه إرشادّي ؟
لقد وقع اخلالف يف ذلك ،واحلّق أّنه لإلرشاد حيث يفرض أّن حكم العقل هذا كاف لدعوة املكّلف
إىل الفعل احلسن واندفاع إرادته للقيام به ،فال حاجة إىل جعل الداعي من قبل املوىل ثانيا ،بل يكون عبثا
ولغوا ،بل هو مستحيل ؛ ألّنه يكون من باب حتصيل احلاصل.
وعليه ،فكّل ما يرد يف لسان الشرع من األوامر يف موارد املستقّالت العقلّية ال بّد أن يكون تأكيدا
حلكم العقل ال تأسيسا.
نعم ،لو قلنا بأّن ما تطابقت عليه آراء العقالء هو استحقاق املدح والذّم فقط على وجه ال يلزم منه
ّل ك ذلك يدرك ال ولكن ( )2
استحقاق الثواب والعقاب من قبل املوىل ،أو أّنه يلزم منه ذلك بل هو عينه
أحد ،فيمكن أّال يكون نفس إدراك استحقاق املدح والذّم كافيا لدعوة كّل أحد إىل الفعل إّال لألفذاذ ( )3من
الناس ،فال يستغين أكثر الناس عن األمر من املوىل ،املرتّتب على موافقته الثواب وعلى خمالفته العقاب يف
مقام الدعوة إىل الفعل وانقياده ؛ فإذا ورد أمر من املوىل يف مورد حكم العقل املستقّل فال مانع من محله على
األمر املولوّي ،إّال إذا لزم منه حمال التسلسل ،كاألمر بالطاعة واألمر باملعرفة ؛ بل مثل هذه املوارد ال معىن
ألن يكون األمر فيها مولوّيا ؛ ألّنه ال يرتّتب على موافقته غري ما يرتّتب على متعّلق املأمور به ،نظري األمر
باالحتياط يف أطراف العلم اإلمجاّيل.
توضيح وتعقيب
والحّق أّن االلتزام بالتحسني والتقبيح العقلّيني هو نفس االلتزام بتحسني الشارع وتقبيحه ،وفقا حلكم
( )1
العقالء ؛ ألّنه من مجلتهم ،ال أهّن ما شيئان أحدمها يلزم اآلخر ،وإن توّه م ذلك بعضهم.
ولذا ترى أكثر األصولّيني والكالمّيني مل جيعلومها مسألتني بعنوانني ،بل مل يعنونوا إّال مسألة واحدة
هي مسألة «التحسني والتقبيح العقلّيني».
وعليه ،فال وجه للبحث عن ثبوت املالزمة بعد فرض القول بالتحسني والتقبيح وأّم ا حنن فإمّن ا جعلنا
املالزمة مسألة مستقّلة فللخالف الذي وقع فيها بتوّه م التفكيك.
ومن العجيب ما عن صاحب الفصول رحمههللا من إنكاره للمالزمة ،مع قوله بالتحسني والتقبيح
العقلّيني ،وكأّنه ظّن أّن كّل ما أدركه العقل من املصاحل واملفاسد ـ ولو بطريق نظرّي أو من غري سبب عاّم
( )2
من األسباب املتقّد مة ذكرها ـ يدخل يف مسألة التحسني والتقبيح ،وأّن القائل باملالزمة يقول باملالزمة أيضا يف
مثل ذلك.
ولكن حنن قلنا :إّن قضايا التحسني والتقبيح هي القضايا اليت تطابقت عليها آراء العقالء كاّفة مبا هم
عقالء ،وهي بادئ رأي اجلميع ،ويف مثلها نقول باملالزمة ال مطلقا .فليس كّل ما أدركه العقل من أّي
سبب كان ـ ولو مل تتطابق عليه اآلراء ،أو تطابقت ولكن ال مبا هم عقالء ـ يدخل يف هذه املسألة.
وقد ذكرنا حنن سابقا ( : )3أّن ما يدركه العقل من احلسن والقبح بسبب العادة أو االنفعال و حنومها ،
وما يدركه ال من سبب عاّم للجميع ،ال يدخل يف موضوع مسألتنا.
ونزيد هذا بيانا وتوضيحا هنا ،فنقول :
إّن مصاحل األحكام الشرعّية املولوّية ـ اليت هي نفسها مالكات أحكام الشارع ـ ال تندرج حتت ضابط
حنن ندركه بعقولنا ؛ إذ ال جيب فيها أن تكون هي بعينها املصاحل العمومّية املبّين عليها حفظ النظام العاّم
وإبقاء النوع اليت هي ـ أعين هذه املصاحل العمومّية ـ مناطات األحكام العقلّية يف مسألة التحسني والتقبيح
العقلّيني.
وعلى هذا ،فال سبيل للعقل مبا هو عقل إىل إدراك مجيع مالكات األحكام الشرعّية ،فإذا أدرك العقل
املصلحة يف شيء أو املفسدة يف آخر ومل يكن إدراكه مستندا إىل إدراك املصلحة أو املفسدة العاّم تني اللتني
يتساوى يف إدراكهما مجيع العقالء ؛ فإّنه ـ أعين العقل ـ ال سبيل له إىل احلكم بأّن هذا املدرك جيب أن حيكم به
الشارع على طبق حكم العقل ،إذ يتحمل أّن هناك ما هو مناط حلكم الشارع غري ما أدركه العقل ،أو أّن
هناك مانعا مينع من حكم الشارع على طبق ما أدركه العقل ،وإن كان ما أدركه مقتضيا حلكم الشارع.
وألجل هذا نقول :إّنه ليس كّل ما حكم به الشرع جيب أن حيكم به العقل ؛ وإىل هذا يرمى قول
إمامنا الصادق عليهالسالم « :إّن دين اهلل ال يصاب بالعقل» ( )1؛ وألجل هذا أيضا حنن ال نعترب القياس
واالستحسان من األدّلة الشرعّية على األحكام.
وعلى هذا التقدير ،فإن كان ما أنكره صاحب الفصول واألخبارّيون من املالزمة هي املالزمة يف مثل
تلك املدركات العقلّية اليت هي ليست من املستقّالت العقلّية اليت تطابقت عليها آراء العقالء ـ مبا هم عقالء ـ
فإّن إنكارهم يف حمّله ،وهم على حّق فيه ،ال نزاع لنا معهم فيه .ولكن هذا أمر أجنّيب عن املالزمة املبحوث
عنها يف املستقّالت العقلّية .وإن كان ما أنكروه هو مطلق املالزمة حىّت يف املستقّالت العقلّية ـ كما قد يظهر
من بعض تعبرياهتم ( )1ـ فهم ليسوا على حّق فيما أنكروا ،وال مستند هلم.
وعلى هذا ،فيمكن التصاحل بني الطرفني بتوجيه كالم األخبارّيني وصاحب الفصول مبا يّتفق ما
( )2
أوضحناه ،ولعّله ال يأباه بعض كالمهم.
الباب الثاني
تمهيد
سبق أن قلنا :إّن املراد من «غري املستقّالت العقلّية» هو ما مل يستقّل العقل به وحده يف الوصول إىل
النتيجة ،بل يستعني حبكم شرعّي ( )1يف إحدى مقّد ميت القياس وهي الصغرى ،واملقّد مة األخرى ـ وهي
الكربى ـ.
احلكم العقلّي الذي هو عبارة عن حكم العقل باملالزمة عقال بني احلكم يف املقّد مة األوىل وبني حكم
شرعّي آخر .مثاله حكم العقل باملالزمة بني وجوب ذي املقّد مة شرعا وبني وجوب املقّد مة شرعا.
وهذه املالزمة العقلّية هلا عّد ة موارد وقع فيها البحث وصارت موضعا للنزاع ،وحنن ذاكرون هنا أهّم
هذه املواضع يف مسائل :
()2
المسألة األولى :اإلجزاء
تصدير
ال شّك يف أّن املكّلف إذا أتى مبا أمر به مواله على الوجه املطلوب ـ أي أتى
باملطلوب على طبق ما أمر به جامعا جلميع ما هو معترب فيه من األجزاء والشرائط ،شرعّية أو عقلّية ـ فإّن هذا
الفعل منه يعترب امتثاال لنفس ذلك األمر ،سواء كان األمر اختيارّيا واقعّيا ،أو اضطرارّيا ،أو ظاهرّيا .وليس
يف هذا خالف ،أو ال ميكن أن يقع فيه اخلالف.
وكذا ال شّك وال خالف يف أّن هذا االمتثال على تلك الصفة جيزئ ويكتفى به عن امتثال آخر ؛ ألّن
املكّلف ـ حسب الفرض ـ قد جاء مبا عليه من التكليف على الوجه املطلوب .وكفى!
وحينئذ ،يسقط األمر املوّج ه إليه ،ألّنه قد حصل بالفعل ما دعا إليه ،وانتهى أمده ،ويستحيل أن
يبقى بعد حصول غرضه وما كان قد دعا إليه ؛ ( )1النتهاء أمد دعوته حبصول غايته الداعية إليه ،إّال إذا
( )2
جّو زنا احملال ،وهو حصول املعلول بال عّلة.
وإمّن ا وقع اخلالف ـ أو ميكن أن يقع ـ يف مسألة اإلجزاء فيما إذا كان هناك أمران :أمر أّو ّيل واقعّي مل
ميتثله املكّلف إّم ا لتعّذ ره عليه أو جلهله به ،وأمر ثانوّي إّم ا اضطرارّي يف صورة تعّذ ر األّو ل ،وإّم ا ظاهرّي يف
صورة اجلهل باألّو ل ؛ فإّنه إذا امتثل املكّلف هذا األمر الثانوّي االضطرارّي أو الظاهرّي ّمث زال العذر
واالضطرار أو زال اجلهل وانكشف الواقع ،صّح اخلالف يف كفاية ما أتى به امتثاال لألمر الثاين عن امتثال
األمر األّو ل ،وإجزائه عنه إعادة يف الوقت وقضاء يف خارجه.
وألجل هذا عقدت هذه املسألة « :مسألة اإلجزاء».
وحقيقتها هي البحث عن ثبوت املالزمة ـ عقال ـ بني اإلتيان باملأمور به باألمر االضطرارّي أو
الظاهرّي ،وبني اإلجزاء واالكتفاء به عن امتثال األمر األّو ّيل االختيارّي الواقعّي .
وقد عرّب بعض علماء األصول املتأّخ رين عن هذه املسألة بقوله « :هل اإلتيان باملأمور به على وجهه
( )1
يقتضي اإلجزاء أو ال يقتضي؟»
واملراد من «االقتضاء» يف كالمه االقتضاء مبعىن العّلّية والتأثري ( ، )2أي إّنه هل يلزم ـ عقال ـ من اإلتيان
باملأمور به سقوط التكليف شرعا أداء وقضاء؟
ومن هنا تدخل هذه املسألة يف باب املالزمات العقلّية ،على ما حّر رنا البحث يف صدر هذا املقصد عن
املراد باملالزمة العقلّية ( .)3وال وجه جلعلها من باب مباحث األلفاظ ( ، )4ألّن ذلك ليس من شئون الداللة
اللفظّية.
وعلينا أن نعقد البحث يف مقامني :األّو ل :يف إجزاء املأمور به باألمر االضطرارّي .الثاين :يف إجزاء
املأمور به باألمر الظاهرّي :
التكليف منحصر فيه وليس وراءه تكليف آخر ،فلو أّن األداء أو القضاء واجب أيضا لوجب البيان
والتنصيص على ذلك وإذ مل يبنّي ذلك علم أّن الناقص جيزئ عن أداء الكامل أداء وقضاء ،ال سّيما مع ورود
( )3
مثل قوله صلىهللاعليهوآله « :إّن الرتاب يكفيك عشر سنني».
.3إّن القضاء باخلصوص إمّن ا جيب فيما إذا صدق الفوت ،وميكن أن يقال « :إّنه ال يصدق الفوت يف
املقام ؛ ألّن القضاء إمّن ا يفرض فيما إذا كانت الضرورة مستمّر ة يف مجيع وقت األداء» .وعلى هذا التقدير ،ال
أمر بالكامل يف الوقت ،وإذا مل يكن أمر فقد يقال « :إّنه ال يصدق بالنسبة إليه فوت الفريضة ،إذ ال
فريضة».
وأّم ا األداء :فإمّن ا يفرض فيما جيوز البدار به ،وقد ابتدر املكّلف ـ حسب الفرض ـ إىل فعل الناقص يف
األزمنة األوىل من الوقت ّ ،مث زالت الضرورة قبل انتهاء الوقت .ونفس الرخصة يف البدار ـ لو ثبتت ـ تشري إىل
مساحمة الشارع يف حتصيل الكامل عند التمّك ن ،وإّال لفرض عليه االنتظار حتصيال للكامل.
.4إذا كّنا قد شككنا يف وجوب األداء والقضاء ،واملفروض أّن وجوهبما مل ننفه بإطالق وحنوه ،فإّن
هذا شّك يف أصل التكليف .ويف مثله ،جتري أصالة الرباءة القاضية بعدم وجوهبما.
فهذه الوجوه األربعة كّلها أو بعضها أو حنوها هي سّر حكم الفقهاء باإلجزاء قضاء أو أداء .والقول
باإلجزاء ـ على هذا ـ أمر ال مفّر منه .ويتأّك د ذلك يف الّص الة اليت هي العمدة يف الباب.
وإذا اّتضح ما تقّد م يف حترير حمّل النزاع نستطيع أن نفهم أّنه يف أّي قسم من أقسام املباحث األصولّية
ينبغي أن تدخل هذه املسألة.
وتوضيح ذلك أّن هذه املالزمة ـ على تقدير القول هبا ـ تكون على أحناء ثالثة :إّم ا
مالزمة غري بّينة ،أو بّينة باملعىن األعّم ،أو بّينة باملعىن األخّص .
فإن كانت هذه املالزمة ـ يف نظر القائل هبا ـ غري بّينة ،أو بّينة باملعىن األعّم فإثبات الالزم ـ وهو وجوب
املقّد مة شرعا ـ ال يرجع إىل داللة اللفظ أبدا ،بل إثباته إمّن ا يتوّقف على حّجّية هذا احلكم العقلّي باملالزمة ،
وإذا حتّق قت هناك داللة فهي من نوع داللة اإلشارة )1( .وعلى هذا فيجب أن تدخل املسألة يف حبث املالزمات
( )2
العقلّية غري املستقّلة ،وال يصّح إدراجها يف مباحث األلفاظ.
وإن كانت هذه املالزمة ـ يف نظر القائل هبا ـ مالزمة بّينة باملعىن األخّص فإثبات الالزم يكون ال حمالة
بالداللة اللفظّية ،وهي الداللة االلتزامّية خاّص ة ( .)3والداللة االلتزامّية من الظواهر اليت هي حّج ة.
ولعّله ألجل هذا أدخلوا هذه املسألة يف مباحث األلفاظ ،وجعلوها من مباحث األوامر باخلصوص (.)4
وهم على حّق يف ذلك إذا كان القائل باملالزمة ال يقول هبا إّال لكوهنا مالزمة بّينة باملعىن األخّص ،ولكّن
األمر ليس كذلك.
إذن ،ميكننا أن نقول :إّن هذه املسألة ذات جهتني باختالف األقوال فيها :ميكن أن تدخل يف مباحث
األلفاظ على بعض األقوال ،وميكن أن تدخل يف املالزمات العقلّية على البعض اآلخر.
ولكن ألجل اجلمع بني اجلهتني ناسب إدخاهلا يف املالزمات العقلّية ـ كما صنعنا ـ ؛ ألّن البحث فيها
على كّل حال يف ثبوت املالزمة ،غاية األمر أّنه على أحد األقوال تدخل
صغرى ( )1حلّجّية الظهور كما تدخل صغرى حلّجّية العقل .وعلى القول اآلخر تتمّح ض يف الدخول صغرى
حلّجّية العقل .واجلامع بينهما هو جعلها صغرى حلجّية العقل.
ثمرة النزاع
إّن مثرة النزاع املتصّو رة ـ أّو ال وبالذات ـ هلذه املسألة هي استنتاج وجوب املقّد مة شرعا باإلضافة إىل
وجوهبا العقلّي الثابت .وهذا املقدار كاف يف مثرة املسألة األصولّية ؛ ألّن املقصود من علم األصول هو
االستعانة مبسائله على استنباط األحكام من أدّلتها.
ولكّن هذه مثرة غري عملّية باعتبار أّن املقّد مة بعد فرض وجوهبا العقلّي ،والبّد ّية اإلتيان هبا ال فائدة يف
القول بوجوهبا شرعا ،أو بعدم وجوهبا ؛ إذ ال جمال للمكّلف أن يرتكها حبال ما دام هو بصدد امتثال ذي
املقّد مة.
وعليه ،فالبحث عن هذه املسألة ال يكون حبثا عملّيا مفيدا ،بل يبدو ألّو ل وهلة أّنه لغو من القول ال
طائل حتته ،مع أّن هذه املسألة من أشهر مسائل هذا العلم ،وأدّقها ،وأكثرها حبثا.
ومن أجل هذا أخذ بعض األصولّيني املتأّخ رين يفّتشون عن فوائد عملّية هلذا البحث غري مثرة أصل
الوجوب .ويف احلقيقة أّن كّل ما ذكروه من مثرات ال تسمن وال تغين من جوع( .راجع عنها املطّو الت إن
شئت) (.)2
فيا ترى هل كان البحث عنها كّله لغوا؟ وهل من األصّح أن نرتك البحث عنها؟ نقول :ال ؛ إّن
للمسألة فوائد علمّية كثرية وإن مل تكن هلا فوائد عملّية ،وال يستهان بتلك الفوائد ،كما سرتى ّ ،مث هي
ترتبط بكثري من املسائل ذات الشأن العملّي يف الفقه ،كالبحث عن الشرط املتأّخ ر ،واملقّد مات املفّو تة ،
وعبادّية بعض املقّد مات ،كالطهارات الثالث ّمما ال يسع األصوّيل أن يتجاهلها ،ويغفلها .وهذا كّله ليس
بالشيء القليل وإن مل تكن هي
من املسائل األصولّية.
ولذا جتد أّن أهّم مباحث مسألتنا هي هذه األمور املنّو ه عنها وأمثاهلا .أّم ا نفس البحث عن أصل
املالزمة فيكاد يكون حبثا على اهلامش ،بل آخر ما يشغل بال األصولّيني.
هذا ،وحنن اّتباعا لطريقتهم نضع التمهيدات قبل البحث عن أصل املسألة يف أمور تسعة :
.4إّن الوجوب الغريّي تابع لوجوب ذي املقّد مة إطالقا واشرتاطا ،وفعلّية وقّو ة ،قضاء حلّق التبعّية ،
كما
تقّد م .ومعىن ذلك :أّنه كّل ما هو شرط يف وجوب ذي املقّد مة فهو
شرط يف وجوب املقّد مة ،وما ليس بشرط ال يكون شرطا لوجوهبا ،كما أّنه كّلما حتّق ق وجوب ذي املقّد مة
حتّق ق معه وجوب املقّد مة .وعلى هذا قيل :يستحيل حتّق ق وجوب فعلّي للمقّد مة قبل حتّق ق وجوب ذيها ؛
الستحالة حصول التابع قبل حصول متبوعه ،أو الستحالة حصول املعلول قبل حصول عّلته بناء على أّن
وجوب املقّد مة معلول لوجوب ذيها.
ومن هنا استشكلوا يف وجوب املقّد مة قبل زمان ذيها يف املقّد مات املفّو تة ،كوجوب الغسل ـ مثال ـ
قبل الفجر إلدراك الصوم على طهارة حني طلوع الفجر ،فعدم حتصيل الغسل قبل الفجر يكون مفّو تا
للواجب يف وقته ،وهلذا ّمسيت « :مقّد مة مفّو تة» باعتبار أّن تركها قبل الوقت يكون مفّو تا للواجب يف وقته ،
فقالوا بوجوهبا قبل الوقت مع أّن الصوم ال جيب قبل وقته ،فكيف تفرض فعلّية وجوب مقّد مته؟!
وسيأيت إن شاء اهلل (تعاىل) حّل هذا اإلشكال يف حبث املقّد مات املفّو تة (.)1
.4مقّد مة الوجوب
قّس موا املقّد مة إىل قسمني مشهورين :
.1مقّد مة الوجوب وتسّم ى «املقّد مة الوجوبّية» ،وهي :ما يتوّقف عليها نفس الوجوب ،بأن تكون
شرطا للوجوب على قول مشهور ( .)1وقيل :إهّن ا تؤخذ يف الواجب على وجه تكون مفروضة التحّق ق
والوجود على قول آخر ( ، )2ومع ذلك تسّم ى «مقّد مة الوجوب» .ومثاهلا االستطاعة بالنسبة إىل احلّج ،
وكالبلوغ ،والعقل ،والقدرة بالنسبة إىل مجيع الواجبات ،ويسّم ى الواجب بالنسبة إليها «الواجب
املشروط».
.2مقّد مة الواجب وتسّم ى «املقّد مة الوجودّية» ،وهي ما يتوّقف عليها وجود الواجب بعد فرض
عدم تقييد الوجوب هبا ؛ بل يكون الوجوب بالنسبة إليها ( )3مطلقا ،وال تؤخذ بالنسبة إليه ( )4مفروضة
الوجود ،بل ال بّد من حتصيلها مقّد مة لتحصيله ،كالوضوء بالنسبة إىل الصالة ،والسفر بالنسبة إىل احلّج
وحنو ذلك .ويسّم ى الواجب بالنسبة إليها «الواجب املطلق» (.)5
واملقصود من ذكر هذا التقسيم بيان أّن حمّل النزاع يف مقّد مة الواجب هو خصوص القسم الثاين ،أعين
املقّد مة الوجودّية ،دون املقّد مة الوجوبّية .والسّر واضح ؛ ألّنه إذا كانت املقّد مة الوجوبّية مأخوذة على أهّن ا
مفروضة احلصول فال معىن لوجوب حتصيلها ،فإّنه خلف ( ، )6فال جيب حتصيل االستطاعة ألجل احلّج ،بل
إن اّتفق حصول االستطاعة ،وجب
احلّج عندها .وذلك نظري الفوت يف قوله عليهالسالم « :اقض ما فات كما فات» ( )1؛ فإّنه ال جيب حتصيله
ألجل امتثال األمر بالقضاء ،بل إن اّتفق الفوت وجب القضاء.
.5المقّد مة الداخلّية
تنقسم املقّد مة الوجودّية إىل قسمني :داخلّية وخارجّية.
« .1املقّد مة الداخلّية» هي جزء الواجب املرّك ب ،كالصالة .وإمّن ا اعتربوا اجلزء مقّد مة ،فباعتبار أّن
املرّك ب متوّقف يف وجوده على أجزائه ،فكّل جزء يف نفسه هو مقّد مة لوجود املرّك ب ،كتقّد م الواحد على
االثنني .وإمّن ا ّمسيت « :داخلّية» فألجل أّن اجلزء داخل يف قوام املرّك ب ،وليس للمرّك ب وجود مستقّل غري
نفس وجود األجزاء.
« .2املقّد مة اخلارجّية» وهي كّل ما يتوّقف عليه الواجب وله وجود مستقّل خارج عن وجود
الواجب.
والغرض من ذكر هذا التقسيم هو بيان أّن النزاع يف مقّد مة الواجب هل يشمل املقّد مة الداخلّية أو أّن
ذلك خيتّص باخلارجّية؟
ولقد أنكر مجاعة مشول النزاع للداخلّية ( .)2وسندهم يف هذا اإلنكار أحد أمرين :
األّو ل :إنكار املقّد مّية للجزء رأسا ،باعتبار أّن املرّك ب نفس األجزاء باألسر فكيف يفرض توّقف
( )3
الشيء على نفسه؟!
الثاين :بعد تسليم أّن اجلزء مقّد مة ،ولكن يستحيل اّتصافه بالوجوب الغريّي ما دام أّنه واجب
بالوجوب النفسّي ؛ ألّن املفروض أّنه جزء الواجب بالوجوب النفسّي ،وليس املرّك ب إّال أجزاءه باألسر ،
( )1
فينبسط الوجوب على األجزاء .وحينئذ لو وجب اجلزء بالوجوب الغريّي أيضا ،الّتصف اجلزء بالوجوبني.
وقد اختلفوا يف بيان وجه استحالة اجتماع الوجوبني ( ، )2وال يهّم نا بيان الوجه فيه بعد االّتفاق على
االستحالة.
و ا كان هذا البحث ال نتوّقع منه فائدة عملّية حىّت مع فرض الفائدة العملّية يف مسألة وجوب املقّد مة ،
ّمل
مع أّنه حبث دقيق يطول الكالم حوله ،فنحن نطوي عنه صفحا حميلني الطالب إىل املطّو الت إن شاء (.)3
.6الشرط الشرعّي
إّن املقّد مة اخلارجّية تنقسم إىل قسمني :عقلّية وشرعّية.
« .1املقّد مة العقلّية» هي كّل أمر يتوّقف عليه وجود الواجب توّقفا واقعّيا يدركه العقل بنفسه من
دون استعانة بالشرع ،كتوّقف احلّج على قطع املسافة.
« .2املقّد مة الشرعّية» هي كّل أمر يتوّقف عليه الواجب توّقفا ال يدركه العقل بنفسه ،بل يثبت ذلك
من طريق الشرع ،كتوّقف الصالة على الطهارة ،واستقبال القبلة ،وحنومها .ويسّم ى هذا األمر أيضا
«الشرط الشرعّي » باعتبار أخذه شرطا وقيدا يف املأمور به عند الشارع ،مثل قوله عليهالسالم « :ال صالة
إّال بطهور» ( )1املستفادة منه شرطّية الطهارة للصالة.
والغرض من ذكر هذا التقسيم بيان أّن النزاع يف مقّد مة الواجب هل يشمل الشرط الشرعّي ؟
ولقد ذهب بعض أعاظم مشاخينا ـ على ما يظهر من بعض تقريرات درسه ـ إىل أّن الشرط الشرعّي
( )2
كاجلزء ال يكون واجبا بالوجوب الغريّي ،وّمساه « :مقّد مة داخلّية باملعىن األعم» ،باعتبار أّن التقّيد ا كان
ّمل
داخال يف املأمور به وجزءا له ( )3فهو واجب بالوجوب النفسّي .و ا كان انتزاع التقّيد إمّن ا يكون من القيد ـ
ّمل
أي منشأ انتزاعه هو القيد ـ واألمر بالعنوان املنتزع أمر مبنشإ انتزاعه ؛ إذ ال وجود للعنوان املنتزع إّال بوجود
منشأ انتزاعه ،فيكون األمر النفسّي املتعّلق بالتقّيد متعّلقا بالقيد ؛ وإذا كان القيد واجبا نفسّيا فكيف يكون
مّر ة أخرى واجبا بالوجوب الغريّي ؟!
ولكن هذا كالم ال يستقيم عند شيخنا احملّق ق األصفهاّين رحمههللا ،وقد ناقشه يف جملس حبثه
مبناقشات مفيدة .وهو على حّق يف مناقشاته :
أّما أّو ال :فألّن هذا التقّيد املفروض دخوله يف املأمور به ال خيلو :إّم ا أن يكون دخيال يف أصل الغرض
من املأمور به ،وإّم ا أن يكون دخيال يف فعلّية الغرض منه ،وال ثالث هلما.
فإن كان من قبيل األّو ل فيجب أن يكون مأمورا به باألمر النفسّي ،ولكن مبعىن أّن متعّلق األمر ال بّد
أن يكون اخلاّص مبا هو خاّص ،وهو املرّك ب من املقّيد والقيد ،فيكون القيد والتقّيد معا داخلني .والسّر يف
ذلك واضح ؛ ألّن الغرض يدعو باألصالة إىل إرادة ما هو واف بالغرض ،وما يفي بالغرض ـ حسب الفرض ـ
هو اخلاّص مبا هو خاّص ـ أي املرّك ب من املقّيد والقيد ـ ،ال أّن اخلصوصّية تكون خصوصّية يف املأمور به
املفروغ عن كونه مأمورا به ؛ ألّن املفروض أّن ذات املأمور به ذي اخلصوصّية ليس وحده دخيال يف الغرض.
وعلى هذا فيكون هذا القيد جزءا من املأمور به كسائر أجزائه األخرى ،وال فرق بني جزء وجزء يف كونه
من مجلة املقّد مات الداخلّية ؛ فتسمية مثل هذا اجلزء باملقّد مة الداخلّية باملعىن األعّم ،بال وجه ،بل هو مقّد مة
داخلّية بقول مطلق ،كما ال وجه لتسميته بالشرط.
وإن كان من قبيل الثاين فهذا هو شأن الشرط ،سواء كان شرطا شرعّيا أو عقلّيا ،ومثل هذا ال يعقل
أن يدخل يف حّيز األمر النفسّي ،ألّن الغرض ـ كما قلنا ـ ال يدعو باألصالة إّال إىل إرادة ذات ما يفي بالغرض
ويقوم به يف اخلارج ،وأّم ا ما له دخل يف تأثري السبب ـ أي يف فعلّية الغرض ـ فال يدعو إليه الغرض يف عرض
ذات السبب ،بل الذي يدعو إىل إجياد شرط التأثري ال بّد أن يكون غرضا تبعّيا يتبع الغرض األصلّي وينتهي
إليه.
وال فرق بني الشرط الشرعّي وغريه يف ذلك ،وإمّن ا الفرق أّن الشرط الشرعّي ا كان ال يعلم دخله يف
ّمل
فعلّية الغرض إّال من قبل املوىل ،كالطهارة واالستقبال وحنومها بالنسبة إىل الصالة ،فال بّد أن ينّبه املوىل على
اعتباره ولو بأن يأمر به ،إّم ا باألمر املتعّلق باملأمور به ،أي يأخذه قيدا فيه ،كأن يقول مثال « :صّل عن
طهارة» ،أو بأمر مستقّل كأن يقول مثال « :تطّه ر للصالة» ،وعلى مجيع األحوال ال تكون اإلرادة املتعّلقة
به يف عرض إرادة ذات السبب حىّت يكون مأمورا به باألمر النفسّي ،بل اإلرادة فيه تبعّية وكذا األمر به.
فإن قلتم :على هذا يلزم سقوط األمر املتعّلق بذات السبب الواجب إذا جاء به املكّلف من دون
الشرط.
قلت :من لوازم االشرتاط عدم سقوط األمر بالسبب بفعله من دون شرطه ،وإّال كان االشرتاط لغوا
وعبثا.
وأّما ثانيا :فلو سّلمنا دخول التقّيد يف الواجب على وجه يكون جزءا منه ؛ فإّن هذا
ال يوجب أن يكون نفس القيد والشرط ـ الذي هو حسب الفرض منشأ النتزاع التقّيد ـ مقّد مة داخلّية ،بل
هو مقّد مة خارجّية ،فإّن وجود الطهارة ـ مثال ـ يوجب حصول تقّيد الصالة هبا ،فتكون مقّد مة خارجّية
للتقّيد الذي هو جزء حسب الفرض .وهذا يشبه املقّد مات اخلارجّية لنفس أجزاء املأمور هبا اخلارجّية ،فكما
أّن مقّد مة اجلزء ليست جبزء فكذلك مقّد مة التقّيد ليست جزءا.
والحاصل أّنه ا فرضتم يف الشرط أّن التقّيد داخل وهو جزء حتليلّي فقد فرضتم معه أّن القيد خارج ،
ّمل
فكيف تفرضون مّر ة أخرى أّنه داخل يف املأمور به املتعّلق باملقّيد؟!
.7الشرط المتأّخ ر
ال شّك يف أّن من الشروط الشرعّية ما هو متقّد م يف وجوده زمانا على املشروط ،كالوضوء والغسل
بالنسبة إىل الصالة وحنوها ،بناء على أّن الشرط نفس األفعال ال أثرها الباقي إىل حني الصالة.
ومنها :ما هو مقارن للمشروط يف وجوده زمانا ،كاالستقبال وطهارة اللباس للصالة.
وإمّن ا وقع الشّك يف الشرط املتأّخ ر ،أي إّنه هل ميكن أن يكون الشرط الشرعّي متأّخ را يف وجوده زمانا
عن املشروط أو ال ميكن؟
ومن قال بعدم إمكانه ( )1قاس الشرط الشرعّي على الشرط العقلّي ،فإّن املقّد مة العقلّية يستحيل فيها
أن تكون متأّخ رة عن ذي املقّد مة ؛ ألّنه ال يوجد الشيء إّال بعد فرض وجود عّلته التاّم ة املشتملة على كّل ما
له دخل يف وجوده ؛ الستحالة وجود املعلول بدون عّلته التاّم ة .وإذا وجد الشيء فقد انتهى ،فأّية حاجة له
تبقى إىل ما سيوجد بعد.
ومنشأ هذا الشّك والبحث ورود بعض الشروط الشرعّية اليت ظاهرها تأّخ رها يف الوجود عن
املشروط ،وذلك مثل الغسل الليلّي للمستحاضة الكربى الذي هو شرط ـ عند بعضهم ( )2ـ لصوم النهار
( )1
السابق على الليل .ومن هذا الباب إجازة بيع الفضوّيل بناء على أهّن ا كاشفة عن صّح ة البيع ال ناقلة.
وألجل ما ذكرنا من استحالة الشرط املتأّخ ر يف العقلّيات اختلف العلماء يف الشرط الشرعّي اختالفا
كثريا جّد ا ،فبعضهم ذهب إىل إمكان الشرط املتأّخ ر يف الشرعّيات ( ، )2وبعضهم ذهب إىل استحالته قياسا
على الشرط العقلّي كما ذكرنا آنفا ( ، )3والذاهبون إىل االستحالة أّو لوا ما ورد يف الشريعة بتأويالت كثرية
( )4
يطول شرحها.
وأحسن ما قيل يف توجيه إمكان الشرط املتأّخ ر يف الشرعّيات ما عن بعض مشاخينا األعاظم
قدسسرهم يف بعض تقريرات درسه ( .)5وخالصته « :أّن الكالم تارة يكون يف شرط املأمور به ،وأخرى يف
شرط احلكم ،سواء كان تكليفّيا أم وضعّيا.
أّم ا :يف شرط املأمور به ،فإّن جمّر د كونه شرطا شرعّيا للمأمور به ال مانع منه ؛ ألّنه ليس معناه إّال
أخذه قيدا يف املأمور به على أن تكون احلّص ة اخلاّص ة من املأمور به هي املطلوبة .وكما جيوز ذلك يف األمر
السابق واملقارن فإّنه جيوز يف الالحق بال فرق .نعم ،إذا رجع الشرط الشرعّي إىل شرط واقعّي ،كرجوع
شرط الغسل الليلّي للمستحاضة إىل أّنه رافع للحدث يف النهار ،فإّنه يكون حينئذ واضح االستحالة ،
كالشرط الواقعّي بال فرق.
وسّر ذلك أّن املطلوب ا كان هو احلّص ة اخلاّص ة من طبيعّي املأمور به ،فوجود القيد املتأّخ ر ال شأن له
ّمل
إّال الكشف عن وجود تلك احلّص ة يف ظرف كوهنا مطلوبة .وال حمذور يف ذلك ،إمّن ا احملذور يف تأثري املتأّخ ر
يف املتقّد م.
وأّم ا :يف شرط احلكم ،سواء كان احلكم تكليفّيا أم وضعّيا ،فإّن الشرط فيه معناه أخذه مفروض
الوجود واحلصول يف مقام جعل احلكم وإنشائه ،وكونه مفروض الوجود ال يفرق فيه بني أن يكون متقّد ما ،
أو مقارنا ،أو متأّخ را ،كأن جيعل احلكم يف الشرط املتأّخ ر على املوضوع املقّيد بقيد أخذ مفروض الوجود
بعد وجود املوضوع.
ويتقّر ب ذلك إىل الذهن بقياسه على الواجب املرّك ب التدرجيّي احلصول ،فإّن التكليف يف فعلّيته يف
اجلزء األّو ل وما بعده يبقى مراعى إىل أن حيصل اجلزء األخري من املرّك ب ،وقد بقيت ـ إىل حني حصول
كمال األجزاء ـ شرائط التكليف من احلياة والقدرة وحنومها.
وهكذا يفرض احلال فيما حنن فيه ،فإّن احلكم يف الشرط املتأّخ ر يبقى يف فعلّيته مراعى إىل أن حيصل
الشرط الذي أخذ مفروض احلصول ،فكما أّن اجلزء األّو ل من املرّك ب التدرجيّي الواجب يف فرض حصول
مجيع األجزاء يكون واجبا وفعلّي الوجوب من أّو ل األمر ،ال أّن فعلّيته تكون بعد حصول مجيع األجزاء ،
وكذا باقي األجزاء ال تكون فعلّية وجوهبا بعد حصول اجلزء األخري ،بل حني حصوهلا ولكن يف فرض
حصول اجلميع ،فكذلك [يف] ما حنن فيه يكون الواجب املشروط بالشرط املتأّخ ر فعلّي الوجوب من أّو ل
األمر يف فرض حصول الشرط يف ظرفه ،ال أّن فعلّيته تكون متأّخ رة إىل حني الشرط».
هذا خالصة رأي شيخنا املعّظم ،وال خيلو عن مناقشة ( ، )1والبحث عن املوضوع بأوسع ّمما ذكرنا ال
يسعه هذا املختصر.
.9المقّد مة العبادّية
ثبت بالدليل أّن بعض املقّد مات الشرعّية ال تقع ( )1مقّد مة إّال إذا وقعت على وجه عبادّي ،وثبت أيضا
ترّتب الثواب عليها خبصوصها .ومثاهلا منحصر يف الطهارات الثالث :الوضوء ،والغسل ،والتيّم م.
وقد سبق يف األمر الثاين ( )2اإلشكال فيها من جهتني :من جهة أّن الواجب الغريّي ال يكون إّال توّص لّيا
،فكيف جيوز أن تقع املقّد مة مبا هي مقّد مة عبادة؟! ومن جهة ثانية :أّن الواجب الغريّي مبا هو واجب غريّي
ال استحقاق للثواب عليه.
ويف احلقيقة إّن هذا اإلشكال ليس إّال إشكاال على أصولنا اليت أّص لناها للواجب الغريّي ،فنقع يف حرية
يف التوفيق بني ما فهمناه عن الواجب الغريّي ،وبني عبادّية هذه املقّد مات الثابتة عبادّيتها ،وإّال فكون هذه
املقّد مات عبادّية يستحّق الثواب عليها أمر مفروغ عنه ،ال ميكن رفع اليد عنه.
فإذن ،ال بّد لنا من توضيح ما أّص لناه يف الواجب الغريّي بتوجيه عبادّية املقّد مة على وجه يالئم توّص لّية
األمر الغريّي ،وقد ذهبت اآلراء أشتاتا يف توجيه ذلك.
وحنن نقول على االختصار :إّنه من املتيّق ن ـ الذي ال ينبغي أن يتطّر ق إليه الشّك من أحد ـ أّن الصالة ـ
مثال ـ ثبت من طريق الشرع توّقف صّح تها على إحدى الطهارات الثالث ،ولكن ال تتوّقف على جمّر د أفعاهلا
كيفما اّتفق وقوعها ،بل إمّن ا تتوّقف على فعل الطهارة إذا وقع على الوجه العبادّي ،أي إذا وقع متقّر با به إىل
اهلل (تعاىل) ،فالوضوء العبادّي ـ مثال ـ هو الشرط ،وهو املقّد مة اليت تتوّقف صّح ة الصالة عليها.
وعليه ،فال بّد أن يفرض الوضوء عبادة قبل فرض تعّلق األمر الغريّي به ؛ ألّن األمر الغريّي ـ حسبما
فرضناه ـ إمّن ا يتعّلق بالوضوء العبادّي مبا هو عبادة ،ال بأصل الوضوء مبا هو ؛ فلم تنشأ عبادّيته من األمر
الغريّي حىّت يقال « :إّن عبادّيته ال تالئم توّص لّية األمر الغريّي » ،بل عبادّيته ال بّد أن تكون مفروضة التحّق ق
( )1
قبل فرض تعّلق األمر الغريّي به .ومن هنا يصّح استحقاق الثواب عليه ؛ ألّنه عبادة يف نفسه.
ولكن ينشأ من هذا البيان إشكال آخر ،وهو أّنه إذا كانت عبادّية الطهارات غري ناشئة من األمر
الغريّي ،فما هو األمر املصّح ح لعبادّيتها ،واملعروف أّنه ال يصّح فرض العبادة عبادة إّال بتعّلق أمر هبا ليمكن
قصد امتثاله ؛ ألّن قصد امتثال األمر هو املقّو م لعبادّية العبادة عندهم ،وليس هلا يف الواقع إّال األمر الغريّي ،
فرجع األمر باألخري إىل الغريّي لتصحيح عبادّيتها ()2؟
على أّنه يستحيل أن يكون األمر الغريّي هو املصّح ح لعبادّيتها ؛ لتوّقف عبادّيتها ـ حينئذ ـ على سبق
األمر الغريّي ،واملفروض أّن األمر الغريّي متأّخ ر عن فرض عبادّيتها ؛ ألّنه إمّن ا تعّلق هبا مبا هي عبادة ،فيلزم
تقّد م املتأّخ ر وتأّخ ر املتقّد م ،وهو خلف حمال أو دور على ما قيل (.)3
وقد أجيب عن هذه الشبهة بوجوه كثرية (.)4
وأحسنها فيما أرى ـ بناء على ثبوت األمر الغريّي ،أي وجوب مقّد مة الواجب ،وبناء على أّن عبادّية
العبادة ال تكون إّال بقصد األمر املتعّلق هبا ـ هو أّن املصّح ح لعبادّية الطهارات هو األمر النفسّي االستحباّيب هلا
يف حّد ذاهتا السابق على تعّلق األمر الغريّي هبا .وهذا االستحباب باق حىّت بعد فرض األمر الغريّي ،ولكن ال
حبّد االستحباب الذي هو جواز الرتك ؛ إذ املفروض أّنه قد وجب فعلها ،فال جيوز تركها ،وليس
االستحباب إّال مرتبة ضعيفة بالنسبة إىل الوجوب ،فلو طرأ عليه الوجوب ال ينعدم ،بل يشتّد وجوده ؛
فيكون الوجوب استمرارا له كاشتداد السواد والبياض من مرتبة ضعيفة إىل مرتبة أقوى ،وهو وجود واحد
مستمّر .وإذا كان األمر كذلك فاألمر الغريّي حينئذ يدعو إىل ما هو عبادة يف نفسه ،فليست عبادّيتها متأّتية
من األمر الغريّي حىّت يلزم اإلشكال (.)1
ولكن هذا اجلواب ـ على حسنه ـ غري كاف هبذا املقدار من البيان لدفع الشبهة .وسّر ذلك أّنه لو كان
املصّح ح لعبادّيتها هو األمر االستحباّيب النفسّي باخلصوص لكان يلزم أّال تصّح هذه املقّد مات إّال إذا جاء هبا
املكّلف بقصد امتثال األمر االستحباّيب فقط ،مع أّنه ال يفيت بذلك أحد ،وال شّك يف أهّن ا تقع صحيحة لو
أيت هبا بقصد امتثال أمرها الغريّي ،بل بعضهم اعترب قصده يف صّح تها بعد دخول وقت الواجب املشروط هبا.
فنقول إكماال للجواب :إّنه ليس مقصود اجمليب من كون استحباهبا النفسّي مصّح حا لعبادّيتها أّن
املأمور به باألمر الغريّي هو الطهارة املأّيت هبا بداعي امتثال األمر االستحباّيب .كيف وهذا اجمليب قد فرض عدم
بقاء االستحباب حبّد ه بعد ورود األمر الغريّي ( ، )2فكيف يفرض أّن املأمور به هو املأّيت به بداعي امتثال األمر
االستحباّيب؟! بل مقصود اجمليب أّن األمر الغريّي ا كان متعّلقه هو الطهارة مبا هي عبادة ،وال ميكن أن
ّمل
تكون عبادّيتها ناشئة من نفس األمر الغريّي مبا هو أمر غريّي ،فال بّد من فرض عبادّيتها ال من جهة األمر
الغريّي وبفرض سابق عليه ،وليس هو إّال األمر االستحباّيب النفسّي املتعّلق هبا ،وهذا يصّح ح عبادّيتها قبل
فرض تعّلق األمر الغريّي هبا ،وإن كان حني توّج ه األمر الغريّي ال يبقى ذلك االستحباب حبّد ه وهو جواز
الرتك ،ولكن ال تذهب بذلك عبادّيتها ؛ ألّن املناط يف عبادّيتها ليس جواز الرتك كما هو واضح ،بل املناط
مطلوبّيتها الذاتّية ورجحاهنا النفسّي ،وهي باقية بعد تعّلق األمر الغريّي .وإذا صّح تعّلق األمر الغريّي هبا مبا
هي عبادة واندكاك االستحباب فيه ـ مبعىن أّن األمر الغريّي يكون استمرارا لتلك املطلوبّية ـ فإّنه حينئذ ال يبقى
إّال األمر الغريّي صاحلا للدعوة إليها ،ويكون هذا األمر
__________________
( )1هذا اجلواب ما أفاده احملّق ق اخلوئّي يف تعليقاته على أجود التقريرات 255 : 1ـ ، 256واحملاضرات 401 : 2ـ .402
( )2فإّنه قال « :فإّن األمر االستحباّيب ولو فرض تبّد له باألمر الوجوّيب لزوال حّد االستحباب بعرض * الوجوب الغريّي .»...راجع
تعليقاته على أجود التقريرات .256 : 1
الغريّي نفسه أمرا عبادّيا ،غاية األمر أّن عبادّيته مل جتئ من أجل نفس كونه أمرا غريّيا ،بل من أجل كونه
(
امتدادا لتلك املطلوبّية النفسّية وذلك الرجحان الذاّيت الذي حصل من ناحية األمر االستحباّيب النفسّي السابق
.)1
وعليه ،فينقلب األمر الغريّي عبادّيا ،ولكّنه عبادّي بالعرض ال بالذات حىّت يقال « :إّن األمر الغريّي
توّص لّي ال يصلح للعبادّية».
من هنا ال يصّح اإلتيان بالطهارة بقصد االستحباب بعد دخول الوقت للواجب املشروط هبا ؛ ألّن
االستحباب حبّد ه قد اندّك يف األمر الغريّي ،فلم يعد موجودا حىّت يصّح قصده.
نعم ،يبقى أن يقال :إّن األمر الغريّي إمّن ا يدعو إىل الطهارة الواقعة على وجه العبادة ؛ ألّنه حسب
الفرض متعّلقه هو الطهارة بصفة العبادة ،ال ذات الطهارة ،واألمر ال يدعو إّال إىل ما تعّلق به ،فكيف صّح
أن يؤتى بذات العبادة بداعي امتثال أمرها الغريّي ،وال أمر غريّي بذات العبادة؟!
ولكن ندفع هذا اإلشكال بأن نقول :إذا كان الوضوء ـ مثال ـ مستحّبا نفسّيا فهو قابل ألن يتقّر ب به
من املوىل ،وفعلّية التقّر ب تتحّق ق بقصد األمر الغريّي املندّك فيه األمر االستحباّيب.
وبعبارة أخرى :قد فرضنا الطهارات عبادات نفسّية يف مرتبة سابقة على األمر الغريّي املتعّلق هبا ،
واألمر الغريّي إمّن ا يدعو إىل ذلك ،فإذا جاء املكّلف هبا بداعي األمر الغريّي املندّك فيه االستحباب ـ واملفروض
[أّنه] ليس هناك أمر موجود غريه ـ صّح التقّر ب به ،ووقعت عبادة ال حمالة ،فيتحّق ق ما هو شرط الواجب
ومقّد مته.
هذا كّله بناء على ثبوت األمر الغريّي باملقّد مة ،وبناء على أّن مناط عبادّية العبادة هو قصد األمر
املتعّلق هبا.
وكال املبنيني حنن ال نقول به.
أّم ا األّو ل :فسيأيت يف البحث اآليت الدليل على عدم وجوب مقّد مة الواجب ،فال أمر غريّي أصال.
وأّم ا الثاين :فألّن احلّق أّنه يكفي يف عبادّية الفعل ارتباطه باملوىل ،واإلتيان به متقّر با إليه (تعاىل) .غاية
األمر أّن العبادات قد ثبت أهّن ا توقيفّية ،فما مل يثبت رضا املوىل بالفعل ،وحسن االنقياد ،وقصد وجه اهلل
بالفعل ال يصّح اإلتيان بالفعل عبادة ،بل يكون تشريعا حمّر ما .وال يتوّقف ذلك على تعّلق أمر املوىل بنفس
الفعل على أن يكون أمرا فعلّيا من املوىل ،ولذا قيل « :يكفي يف عبادّية العبادة حسنها الذاّيت وحمبوبّيتها الّذ اتّية
للموىل حىّت لو كان هناك مانع من توّج ه األمر الفعلّي هبا (.»)1
وإذا ثبت ذلك ،فنقول يف تصحيح عبادّية الطهارات :إّن فعل املقّد مة بنفسه يعّد شروعا يف امتثال ذي
املقّد مة ـ الذي هو حسب الفرض يف املقام عبادة يف نفسه مأمور هبا ـ فيكون اإلتيان باملقّد مة بنفسه يعّد امتثاال
لألمر النفسّي بذي املقّد مة العبادّي .ويكفي يف عبادّية الفعل ـ كما قلنا ـ ارتباطه باملوىل واإلتيان به متقّر با إليه
(تعاىل) مع عدم ما مينع من التعّبد به .وال شّك يف أّن قصد الشروع بامتثال األمر النفسّي بفعل مقّد ماته قاصدا
هبا التوّص ل إىل الواجب النفسّي العبادّي يعّد طاعة وانقيادا للموىل (.)2
وهبذا تصّح ح عبادّية املقّد مة ،وإن مل نقل بوجوهبا الغريّي ،وال حاجة إىل فرض طاعة األمر الغريّي .
ومن هنا يصّح أن تقع كّل مقّد مة عبادة ،ويستحّق عليها الثواب هبذا االعتبار ،وإن مل تكن يف نفسها
معتربا فيها أن تقع على وجه العبادة ،كتطهري الثوب ـ مثال ـ مقّد مة للصالة ،أو كاملشي حافيا مقّد مة للحّج
أو الزيارة ،غاية األمر أّن الفرق بني املقّد مات العبادّية وغريها أّن غري العبادّية ال يلزم فيها أن تقع على وجه
قرّيب ،خبالف املقّد مات املشروط فيها أن تقع عبادة ،كالطهارات الثالث.
ويؤّيد ذلك ما ورد من الثواب على بعض املقّد مات ،وال حاجة إىل التأويل الذي ذكرناه سابقا يف
األمر الثالث ـ من أّن الثواب على ذي املقّد مة يوّز ع على املقّد مات باعتبار دخالتها يف زيادة محازة الواجب ( )1ـ
،فإّن ذلك التأويل مبّين على فرض ثبوت األمر الغريّي وأّن عبادّية املقّد مة واستحقاق الثواب عليها ال ينشئان
إّال من جهة األمر الغريّي ؛ اّتباعا للمشهور املعروف بني القوم.
فإن قلت :إّن األمر ال يدعو إّال إىل ما تعّلق به ،فال يعقل أن يكون األمر بذي املقّد مة داعيا بنفسه إىل
املقّد مة إّال إذا قلنا برتّش ح أمر آخر منه باملقّد مة ،فيكون هو الداعي ،وليس هذا األمر اآلخر املرتّش ح إّال األمر
الغريّي ،فرجع اإلشكال جذعا.
قلت :نعم ،األمر ال يدعو إّال إىل ما تعّلق به ،ولكّنا ال نّد عي أّن األمر بذي املقّد مة هو الذي يدعو
إىل املقّد مة ،بل نقول :إّن العقل هو الّد اعي إىل فعل املقّد مة توّص ال إىل فعل الواجب ( ، )2وسيأيت أّن هذا
احلكم العقلّي ال يستكشف منه ثبوت أمر غريّي من املوىل ،وال يلزم أن يكون هناك أمر بنفس املقّد مة
لتصحيح عبادّيتها ،ويكون داعيا إليها (.)3
والحاصل أّن الّد اعي إىل فعل املقّد مة هو حكم العقل ،واملصّح ح لعبادّيتها شيء آخر ،هو قصد
التقّر ب هبا ،ويكفي يف التقّر ب هبا إىل اهلل أن يأيت هبا بقصد التوّص ل إىل ما هو عبادة ،ال أّن الداعي إىل فعل
املقّد مة هو نفس املصّح ح لعبادّيتها ،وال أّن املصّح ح لعبادّية العبادة منحصر يف قصد األمر املتعّلق هبا ،وقد
سبق توضيح ذلك.
وعليه ،فإن كانت املقّد مة ذات الفعل كالتطهري من اخلبث ،فالعقل ال حيكم إّال بإتياهنا على أّي وجه
وقعت ،ولكن لو أتى هبا املكّلف متقّر با هبا إىل اهلل توّص ال إىل العبادة صّح ت ووقعت على صفة العبادّية ،
واستحّق عليها الثواب .وإن كانت املقّد مة عمال عبادّيا كالطهارة من احلدث ،فالعقل يلزم باإلتيان هبا كذلك
،واملفروض أّن املكّلف متمّك ن من ذلك ،سواء كان هناك أمر غريّي أم مل يكن ،وسواء كانت املقّد مة يف
نفسها مستحّبة أم مل تكن.
فال إشكال من مجيع الوجوه يف عبادّية الطهارات.
النتيجة
املطلوب بالنهي الرتك أو الكّف ؟ وال معىن لنزاعهم هذا إّال إذا كانوا قد فرضوا أّن معىن النهي هو الطلب ،
فوقعوا يف حرية يف أّن املطلوب به أّي شيء هو؟ الرتك ،أو الكّف ؟
ولو كان املراد من النهي هو طلب الرتك ـ كما ظّنوا ـ ملا كان معىن لنزاعهم يف الضّد العاّم ؛ فإّن النهي
عنه معناه ـ على حسب ظّنهم ـ طلب ترك ترك املأمور به .و ا كان نفي النفي إثباتا فريجع معىن النهي عن
ّمل
الضّد العاّم إىل معىن طلب فعل املأمور به ،فيكون قوهلم « :األمر بالشيء يقتضي النهي عن ضّد ه العاّم»
تبديال للفظ بلفظ آخر مبعناه ،ويكون عبارة أخرى عن القول بـ «أّن األمر بالشيء يقتضي نفسه» .وما أشّد
سخف مثل هذا البحث!
ولعّله ألجل هذا التوّه م ـ أي توّه م أّن النهي معناه طلب الرتك ـ ذهب بعضهم ( )6إىل عينّية األمر
بالشيء للنهي عن الضّد العاّم.
وبعد بيان هذه األمور الثالثة يف حترير حمّل النزاع يّتضح موضع النزاع ،وكيفّيته أّن النزاع معناه يكون
أّنه إذا تعّلق أمر بشيء هل إّنه ال بّد أن يتعّلق هني املوىل بضّد ه العاّم أو اخلاّص ؟ فالنزاع يكون يف ثبوت النهي
املولوّي عن الضّد بعد فرض ثبوت األمر بالشيء ،وبعد فرض ثبوت النهي فهناك نزاع آخر يف كيفّية إثبات
ذلك.
وعلى كّل حال ،فإّن مسألتنا ـ كما قلنا ـ تنحّل إىل مسألتني :إحدامها :يف الضّد العاّم .والثانية :يف
الضّد اخلاّص ،فينبغي البحث عنهما يف بابني :
.1الضّد العاّم
مل يكن اختالفهم يف الضّد العاّم من جهة أصل االقتضاء وعدمه ،فإّن الظاهر أهّن م مّتفقون على
االقتضاء ،وإمّن ا اختالفهم يف كيفّيته (: )1
فقيل ( : )2إّنه على حنو العينّية ،أي إّن األمر بالشيء عني النهي عن ضّد ه العاّم ،فيدّل عليه حينئذ
بالداللة املطابقّية.
وقيل ( : )3إّنه على حنو اجلزئّية ،فيدّل عليه بالداللة التضّم نّية ،باعتبار أّن الوجوب ينحّل إىل طلب
الشيء مع املنع من الرتك ،فيكون املنع من الرتك جزءا حتليلّيا يف معىن الوجوب.
وقيل :إّنه على حنو اللزوم البنّي باملعىن األخّص ( ، )4فيدّل عليه بالداللة االلتزامّية (.)5
وقيل ( : )6إّنه على حنو اللزوم البنّي باملعىن األعّم ،أو غري البنّي ،فيكون اقتضاؤه له عقلّيا صرفا.
والحّق أّنه ال يقتضيه بأّي حنو من أحناء االقتضاء ( ، )1أي إّنه ليس هناك هني مولوّي عن الرتك يقتضيه
نفس األمر بالفعل على وجه يكون هناك هني مولوّي وراء نفس األمر بالفعل.
والدليل عليه أّن الوجوب ـ سواء كان مدلوال لصيغة األمر ،أو الزما عقلّيا هلا كما هو احلّق ـ ليس
معىن مرّك با ،بل هو معىن بسيط وحداّين ،هو لزوم الفعل ،والزم كون الشيء واجبا املنع من تركه.
ولكن هذا املنع الالزم للوجوب ليس منعا مولوّيا ،وهنيا شرعّيا ،بل هو منع عقلّي تبعّي من غري أن
يكون هناك من الشارع منع وهني وراء نفس الوجوب .وسّر ذلك واضح ،فإّن نفس األمر بالشيء على وجه
الوجوب كاف يف الزجر عن تركه ،فال حاجة إىل جعل للنهي عن الرتك من الشارع زيادة على األمر بذلك
الشيء.
فإن كان مراد القائلني باالقتضاء يف املقام أّن نفس األمر بالفعل يكون زاجرا عن تركه ،فهو مسّلم ،
بل ال بّد منه ؛ ألّن هذا هو مقتضى الوجوب ؛ ولكن ليس هذا هو موضع النزاع يف املسألة ،بل موضع
النزاع هو النهي املولوّي زائدا على األمر بالفعل ؛ وإن كان مرادهم أّن هناك هنيا مولوّيا عن الرتك يقتضيه
األمر بالفعل ـ كما هو موضع النزاع ـ فهو غري مسّلم ،وال دليل عليه ،بل هو ممتنع.
وبعبارة أوضح وأوسع :أّن األمر والنهي متعاكسان ـ مبعىن أّنه إذا تعّلق األمر بشيء فعلى طبع ذلك
يكون نقيضه بالتبع ممنوعا منه ،وإّال خلرج الواجب عن كونه واجبا ؛ وإذا تعّلق النهي بشيء فعلى طبع ذلك
يكون نقيضه بالتبع مدعّو ا إليه ،وإّال خلرج احملّر م عن كونه حمّر ما ، ...ولكن ليس معىن هذه التبعّية يف األمر
أن يتحّق ق ـ فعال ـ هني مولوّي عن ترك املأمور به باإلضافة إىل األمر املولوّي بالفعل ،كما أّنه ليس معىن هذه
التبعّية يف النهي أن يتحّق ق ـ فعال ـ أمر مولوّي برتك املنهّي عنه باإلضافة إىل النهي املولوّي عن الفعل.
والسّر ما قلناه :إّن نفس األمر بالشيء كاف يف الزجر عن تركه ،كما أّن نفس النهي عن الفعل
كاف للدعوة إىل تركه ،بال حاجة إىل جعل جديد من املوىل يف املقامني ،بل ال يعقل اجلعل اجلديد كما قلنا
يف مقّد مة الواجب حذو القّذ ة بالقّذ ة ،فراجع.
وألجل هذه التبعّية الواضحة اختلط األمر على كثري من احملّر رين هلذه املسألة ،فحسبوا أّن هناك هنيا
مولوّيا عن ترك املأمور به وراء األمر بالشيء اقتضاه األمر على حنو العينّية ،أو التضّم ن ،أو االلتزام ،أو
اللزوم العقلّي .كما حسبوا ـ هنا يف مبحث النهي ـ أّن معىن النهي هو الطلب إّم ا للرتك أو الكّف ،وقد
تقّد مت اإلشارة إىل ذلك يف حترير النزاع (.)1
وهذان التومّه ان يف النهي واألمر من واد واحد .وعليه ،فليس هناك طلب للرتك وراء الردع عن الفعل
يف النهي ،وال هني عن الرتك وراء طلب الفعل يف األمر.
نعم ،جيوز لآلمر بدال من األمر بالشيء أن يعرّب عنه بالنهي عن الرتك ،كأن يقول ـ مثال ـ بدال من قوله
«صّل» « :ال ترتك الصالة» .وجيوز له بدال من النهي عن الشيء أن يعرّب عنه باألمر بالرتك ،كأن يقول ـ مثال
ـ بدال من قوله «ال تشرب اخلمر» « :اترك شرب اخلمر» ،فيؤّدي التعبري الثاين يف املقامني مؤّدى التعبري األّو ل
املبدل منه ،أي إّن التعبري الثاين حيّق ق الغرض من التعبري األّو ل.
فإذا كان مقصود القائل بأّن األمر بالشيء عني النهي عن ضّد ه العاّم هذا املعىن ـ أي إّن أحدمها يصّح أن
يوضع موضع اآلخر ،وحيّل حمّله يف أداء غرض اآلمر ـ فال بأس به وهو صحيح ،ولكن هذا غري العينّية
املقصودة يف املسألة على الظاهر.
.2الضّد الخاّص
إّن القول باقتضاء األمر بالشيء للنهي عن ضّد ه اخلاّص يبتين ويتفّر ع على القول باقتضائه للنهي عن
ضّد ه العاّم.
و ا ثبت ـ حسبما تقّد م ـ أّنه ال هني مولوّي عن الضّد العاّم ،فبالطريق األوىل نقول :
ّمل
إّنه ال هني مولوّي عن الضّد اخلاّص ؛ ملا قلنا من ابتنائه وتفّر عه عليه.
وعلى هذا ،فاحلّق أّن األمر بالشيء ال يقتضي النهي عن ضّد ه مطلقا ،سواء كان عاّم ا أو خاّص ا.
أّم ا كيف يبتين القول بالنهي عن الضّد اخلاّص على القول بالنهي عن الضّد العاّم ويتفّر ع عليه فهذا ما
حيتاج إىل شيء من البيان ،فنقول :
إّن القائلني بالنهي عن الضّد اخلاّص هلم مسلكان ال ثالث هلما ،وكالمها يبتين ويتفّر ع على ذلك :
ثمرة المسألة
إّن ما ذكروه من الثمرات هلذه املسألة خمتّص بالضّد اخلاّص فقط ( ، )2وأّمهها والعمدة فيها هي صّح ة
الضّد إذا كان عبادة على القول بعدم االقتضاء ،وفساده على القول باالقتضاء (.)3
بيان ذلك أّنه قد يكون هناك واجب ـ أّي واجب كان ،عبادة أو غري عبادة ـ ،وضّد ه عبادة ،وكان
الواجب أرجح يف نظر الشارع من ضّد ه العبادّي ؛ فإّنه ملكان التزاحم بني األمرين للتضاّد بني متعّلقيهما ،
واألّو ل أرجح يف نظر الشارع ،ال حمالة يكون األمر الفعلّي
املنّج ز هو األّو ل دون الثاين.
وحينئذ ،فإن قلنا بأّن األمر بالشيء يقتضي النهي عن ضّد ه اخلاّص ،فإّن الضّد العبادّي يكون منهّيا
عنه يف الفرض ،والنهي يف العبادة يقتضي الفساد ،فإذا أيت به وقع فاسدا .وإن قلنا بأّن األمر بالشيء ال
يقتضي النهي عن ضّد ه اخلاّص ،فإّن الضّد العبادّي ال يكون منهّيا عنه ،فال مقتضي لفساده.
وأرجحّية الواجب على ضّد ه اخلاّص العبادّي تتصّو ر يف أربعة موارد :
.1أن يكون الضّد العبادّي مندوبا ،وال شّك يف أّن الواجب مقّد م على املندوب ،كاجتماع الفريضة
مع النافلة ؛ فإّنه بناء على اقتضاء األمر بالشيء للنهي عن ضّد ه ال يصّح االشتغال بالنافلة مع حلول وقت
الفريضة ،وال بّد أن تقع النافلة فاسدة .نعم ،ال بّد أن تستثىن من ذلك نوافل الوقت ؛ لورود األمر هبا يف
خصوص وقت الفريضة ،كنافليت الظهر والعصر.
وعلى هذا ،فمن كان عليه قضاء الفوائت ال تصّح منه النوافل مطلقا ،بناء على النهي عن الضّد ،
خبالف ما إذا مل نقل بالنهي عن الضّد ؛ فإّن عدم جواز فعل النافلة حينئذ حيتاج إىل دليل خاّص .
.2أن يكون الضّد العبادّي واجبا ،ولكّنه أقّل أمهّية عند الشارع من األّو ل ،كما يف مورد اجتماع
إنقاذ نفس حمرتمة من اهللكة مع الصالة الواجبة.
.3أن يكون الضّد العبادّي واجبا ،ولكنه موّس ع الوقت ،واألّو ل مضّيق ،وال شّك يف أّن املضّيق
مقّد م على املوّس ع وإن كان املوّس ع أكثر أمهّية منه .مثاله :اجتماع قضاء الدين الفورّي مع الصالة يف سعة
وقتها .وإزالة النجاسة عن املسجد مع الصالة يف سعة الوقت.
.4أن يكون الضّد العبادّي واجبا أيضا ،ولكّنه خمرّي ،واألّو ل واجب معنّي ،وال شّك يف أّن املعنّي
مقّد م على املخرّي وإن كان املخرّي أكثر أمهّية منه ؛ ألّن املخرّي ،له بدل دون املعنّي .مثاله :اجتماع سفر
منذور يف يوم معنّي مع [الصوم من] خصال الكّف ارة ،فلو ترك املكّلف السفر واختار الصوم من خصال
الكّف ارة ،فإن كان األمر بالشيء يقتضي النهي عن ضّد ه كان الصوم منهّيا عنه فاسدا.
هذه خالصة بيان مثرة املسألة مع بيان موارد ظهورها ،ولكن هذا املقدار من البيان ال يكفي يف حتقيقها
؛ فإّن ترّتبها وظهورها يتوّقف على أمرين :
األّو ل :القول بأّن النهي يف العبادة يقتضي فسادها حىّت النهي الغريّي التبعّي ؛ ألّنه إذا قلنا بأّن النهي
مطلقا ال يقتضي فساد العبادة أو خصوص النهي التبعّي ال يقتضي الفساد ،فال تظهر الثمرة أبدا .وهو
واضح ؛ ألّن الضّد العبادّي حينئذ يكون صحيحا ،سواء قلنا بالنهي عن الضّد أم مل نقل.
والحّق أّن النهي يف العبادة يقتضي فسادها حىّت النهي الغريّي على الظاهر .وسيأيت حتقيق ذلك يف
موضعه إن شاء اهلل (تعاىل) (.)1
واستعجاال يف بيان هذا األمر نشري إليه إمجاال ،فنقول :إّن أقصى ما يقال يف عدم اقتضاء النهي التبعّي
للفساد هو :أّن النهي التبعّي ال يكشف عن وجود مفسدة يف املنهّي عنه ،وإذا كان األمر كذلك فاملنهّي عنه
باق على ما هو عليه من مصلحة بال مزاحم ملصلحته ،فيمكن التقّر ب فيه إذا كان عبادة بقصد تلك املصلحة
املفروضة فيه.
وهذا ليس بشيء ـ وإن صدر من بعض أعاظم مشاخينا ( )2ـ ؛ ألّن املدار يف القرب والبعد يف العبادة ليس
على وجود املصلحة واملفسدة فقط ؛ فإّنه من الواضح أّن املقصود من القرب والبعد من املوىل القرب والبعد
املعنوّيان ؛ تشبيها بالقرب والبعد املكانّيني ،وما مل يكن الشيء مرغوبا فيه للموىل فعال ال يصلح للتقّر ب به
إليه ،وجمّر د وجود مصلحة فيه ال يوجب مرغوبّيته له مع فرض هنيه وتبعيده.
وبعبارة أخرى :ال وجه للتقّر ب إىل املوىل مبا أبعدنا عنه ،واملفروض أّن النهي التبعّي هني مولوّي ،
وكونه تبعّيا ال خيرجه عن كونه زجرا ،وتنفريا ،وتبعيدا عن الفعل وإن كان التبعيد ملفسدة يف غريه ،أو
لفوات مصلحة الغري.
نعم ،لو قلنا بأّن النهي عن الضّد ليس هنيا مولوّيا ،بل هو هني يقتضيه العقل الذي
ال يستكشف منه حكم الشرع ـ كما اخرتناه يف املسألة ـ فإّن هذا النهي العقلّي ال يقتضي تبعيدا عن املوىل إّال
إذا كشف عن مفسدة مبغوضة للموىل .وهذا شيء آخر ال يقتضيه حكم العقل يف نفسه.
الثاني :أّن صّح ة العبادة والتقّر ب ال يتوّقف على وجود األمر الفعلّي هبا ،بل يكفي يف التقّر ب هبا
إحراز حمبوبّيتها الذاتّية للموىل ،وإن مل يكن هناك أمر فعلّي هبا ملانع.
أّم ا إذا قلنا بأّن عبادّية العبادة ال تتحّق ق إّال إذا كانت مأمورا هبا بأمر فعلّي فال تظهر هذه الثمرة أبدا ؛
ألّنه قد تقّد م أّن الضّد العبادّي ـ سواء كان مندوبا أو واجبا أقّل أّمهية أو موّس عا أو خمرّي ا ـ ال يكون مأمورا به
فعال ،ملكان املزامحة بني األمرين ،ومع عدم األمر به ال يقع عبادة صحيحة وإن قلنا بعدم النهي عن الضّد
( )1
(.)2
والحّق هو األّو ل ـ أي إّن عبادّية العبادة ال تتوّقف على تعّلق األمر هبا فعال ،بل إذا أحرز أهّن ا حمبوبة يف
نفسها للموىل ،مرغوبة لديه ؛ فإّنه يصّح التقّر ب هبا إليه وإن مل يأمر هبا فعال ملانع ـ ( ، )3ألّنه ـ كما أشرنا إىل
ذلك يف مقّد مة الواجب ( )4ـ يكفي يف عبادّية الفعل ارتباطه باملوىل ،واإلتيان به متقّر با به إليه مع ما مينع من
التعّبد به من كون فعله تشريعا ،أو كونه منهّيا عنه ،وال تتوّقف عبادّيته على قصد امتثال األمر ،كما مال
إليه ( )5صاحب اجلواهر قدسسره (.)6
هذا ،وقد يقال يف املقام ـ نقال عن احملّق ق الثاين (تغّم ده اهلل برمحته) ( )7ـ :إّن هذه الثمرة تظهر حىت مع
القول بتوّقف العبادة على تعّلق األمر هبا ،ولكن ذلك يف خصوص التزاحم بني الواجبني :املوّس ع ،واملضّيق
وحنومها ،دون التزاحم بني األهّم واملهّم املضّيقني.
والسّر يف ذلك :أّن األمر يف املوّس ع إمّن ا يتعّلق بصرف وجود الطبيعة على أن يأيت به املكّلف يف أّي
وقت شاء من الوقت الوسيع احملّد د له .أّم ا األفراد مبا هلا من اخلصوصّيات الوقتّية ،فليست مأمورا هبا
خبصوصها ،واألمر باملضّيق إذا مل يقتض النهي عن ضّد ه فالفرد املزاحم له من أفراد ضّد ه الواجب املوّس ع ال
يكون مأمورا به ال حمالة من أجل املزامحة ،ولكّنه ال خيرج بذلك عن كونه فردا من الطبيعة املأمور هبا .وهذا
كاف يف حصول امتثال األمر بالطبيعة ؛ ألّن انطباقها على هذا الفرد املزاحم قهرّي ،فيتحّق ق به االمتثال
قهرا ،ويكون جمزئا عقال عن امتثال الطبيعة يف فرد آخر ؛ ألّنه ال فرق من جهة انطباق الطبيعة املأمور هبا بني
فرد وفرد.
وبعبارة أوضح أّنه لو كان الوجوب يف الواجب املوّس ع ينحّل إىل وجوبات متعّد دة بتعّد د أفراده الطولّية
املمكنة يف مّد ة الوقت احملّد د على وجه يكون التخيري بينها شرعّيا ،فال حمالة ال أمر بالفرد املزاحم للواجب
املضّيق ،وال أمر آخر يصّح حه ،فال تظهر الثمرة ،ولكّن األمر ليس كذلك ؛ فإّنه ليس يف الواجب املوّس ع
إّال وجوب واحد يتعّلق بصرف وجود الطبيعة ،غري أّن الطبيعة ا كانت هلا أفراد طولّية متعّد دة ميكن انطباقها
ّمل
على كّل واحد منها ،فال حمالة يكون املكّلف خمرّي ا عقال بني األفراد ـ أي يكون خمرّي ا بني أن يأيت بالفعل يف
أّو ل الوقت ،أو ثانيه ،أو ثالثه ،وهكذا إىل آخر الوقت ـ ،وما خيتاره من الفعل يف أّي وقت يكون هو الذي
ينطبق عليه املأمور به ،وإن امتنع أن يتعّلق األمر به خبصوصه ملانع ،بشرط أن يكون املانع من غري جهة نفس
مشول األمر املتعّلق بالطبيعة له ،بل من جهة شيء خارج عنه وهو املزامحة مع املضّيق يف املقام.
هذا خالصة توجيه ما نسب إىل احملّق ق الثاّين رحمههللا يف املقام ،ولكّن شيخنا احملّق ق النائيّين
( )1
رحمههللا مل يرتضه ( )2؛ ألّنه يرى أّن املانع من تعّلق األمر بالفرد املزاحم يرجع إىل نفس مشول األمر املتعّلق
بالطبيعة له ،يعين أّنه يرى أّن الطبيعة املأمور هبا مبا هي مأمور هبا
ال تنطبق على الفرد املزاحم وال تشمله ،وانطباق الطبيعة ال مبا هي مأمور هبا على الفرد املزاحم ال ينفع وال
يكفي يف امتثال األمر بالطبيعة .والسّر يف ذلك واضح ،فإّنا إذ نسّلم أّن التخيري بني أفراد الطبيعة ختيري عقلّي
نقول :إّن التخيري إمّن ا هو بني أفراد الطبيعة املأمور هبا مبا هي مأمور هبا ،فالفرد املزاحم خارج عن نطاق هذه
األفراد اليت بينها التخيري.
أّم ا :أّن الفرد املزاحم خارج عن نطاق أفراد الطبيعة املأمور هبا مبا هي مأمور هبا ،فألّن األمر إمّن ا يتعّلق
بالطبيعة املقدورة للمكّلف مبا هي مقدورة :ألّن القدرة شرط يف املأمور به ،مأخوذة يف اخلطاب ،ال أهّن ا
شرط عقلّي حمض ،واخلطاب ( )1يف نفسه عاّم شامل يف إطالقه لألفراد املقدورة وغري املقدورة.
بيان ذلك أّن األمر إمّن ا هو جلعل الداعي يف نفس املكّلف ،وهذا املعىن بنفسه يقتضي كون متعّلقه
مقدورا ؛ الستحالة جعل الداعي إىل ما هو ممتنع ؛ فيعلم من هذا أّن القدرة مأخوذة يف متعّلق األمر ويفهم
ذلك من نفس اخلطاب ،مبعىن أّن اخلطاب ا كان يقتضي القدرة على متعّلقه ،فتكون سعة دائرة املتعّلق على
ّمل
قدر سعة دائرة القدرة عليه ،ال تزيد وال تنقص ،أي تدور سعته وضيقه مدار سعة القدرة وضيقها.
وعلى هذا ،فال يكون األمر شامال ملا هو ممتنع من األفراد ؛ إذ يكون املطلوب به الطبيعة مبا هي
مقدورة ،والفرد غري املقدور خارج عن أفرادها مبا هي مأمور هبا.
نعم ،لو كان اعتبار القدرة مبالك قبح تكليف العاجز فهي شرط عقلّي ال يوجب تقييد متعّلق
اخلطاب ؛ ألّنه ليس من اقتضاء نفس اخلطاب ،فيكون متعّلق األمر هي الطبيعة مبا هي ،ال مبا هي مقدورة ،
وإن كان مبقتضى حكم العقل ال بّد أن يقّيد الوجوب هبا ،فالفرد املزاحم ـ على هذا ـ هو أحد أفراد الطبيعة
مبا هي اليت تعّلق هبا كذلك.
وتشييد ما أفاده أستاذنا ومناقشته حيتاج إىل حبث أوسع لسنا بصدده اآلن ،راجع عنه تقريرات تالمذته
( )1
الرتّتب
وإذ امتّد ( )2البحث إىل هنا ،فهناك مشكلة فقهّية تنشأ من اخلالف املتقّد م ال بّد من التعّر ض هلا مبا يليق
هبذه الرسالة.
وهي أّن كثريا من الناس جندهم حيرصون ـ حبسب هتاوهنم ـ على فعل بعض ( )3العبادات املندوبة يف
ظرف وجوب شيء هو ضّد للمندوب ،فيرتكون الواجب ويفعلون املندوب ،كمن يذهب للزيارة ،أو يقيم
مأمت احلسني عليهالسالم وعليه دين واجب األداء ؛ كما جندهم يفعلون بعض الواجبات العبادّية يف حني أّن
هناك عليهم واجبا أهّم فيرتكونه ،أو واجبا مضّيق الوقت مع أّن األّو ل موّس ع فيقّد مون املوّس ع على املضّيق ،
أو واجبا معّينا مع أّن األّو ل خمرّي فيقّد مون املخرّي على املعنّي ...وهكذا.
وجيمع الكّل تقدمي فعل املهّم العبادّي على األهّم ،فإّن املضّيق أهّم من املوّس ع ،واملعنّي أهّم من
املخرّي ،كما أّن الواجب أهّم من املندوب .ومن اآلن سنعرّب باألهّم واملهّم ونقصد ما هو أعّم من ذلك كّله.
فإذا قلنا بأّن صّح ة العبادة ال تتوّقف على وجود أمر فعلّي متعّلق به ،وقلنا بأّنه ال هني عن الضّد ،أو
النهي عنه ال يقتضي الفساد فال إشكال وال مشكلة ؛ ألّن فعل املهّم العبادّي يقع صحيحا حىّت مع فعلّية األمر
باألهّم ،غاية األمر يكون املكّلف عاصيا برتك األهّم من دون أن يؤّثر ذلك على صّح ة ما فعله من العبادة.
وإمّن ا املشكلة فيما إذا قلنا بالنهي عن الضّد ،وأّن النهي يقتضي الفساد ،أو قلنا بتوّقف
صّح ة العبادة على األمر هبا ـ كما هو املعروف عن الشيخ صاحب اجلواهر قدسسره ( )1ـ ،فإّن أعماهلم هذه
كّلها باطلة وال يستحّق ون عليها ثوابا ؛ ألّنه إّم ا منهّي عنها والنهي يقتضي الفساد ،وإّم ا ال أمر هبا وصّح تها
تتوّقف على األمر.
فهل هناك طريقة لتصحيح فعل املهّم العبادّي مع وجود األمر باألهّم؟
ذهب مجاعة إىل تصحيح العبادة يف املهّم بنحو «الرتّتب» بني األمرين :األمر باألهّم واألمر باملهّم ،مع
( )2
فرض القول بعدم النهي عن الضّد وأّن صّح ة العبادة تتوّقف على وجود األمر.
والظاهر أّن أّو ل من أّس س هذه الفكرة ،وتنّبه هلا احملّق ق الثاين ،وشّيد أركاهنا السّيد املريزا الشريازّي ،
كما أحكمها ( )3ونّق حها شيخنا احملّق ق النائيّين قدسسره (.)4
وهذه الفكرة وحتقيقها من أروع ( )5ما انتهى إليه البحث األصوّيل تصويرا وعمقا.
وخالصة فكرة «الرتّتب» أّنه ال مانع عقال من أن يكون األمر باملهّم فعلّيا عند عصيان األمر باألهّم ،
فإذا عصى املكّلف وترك األهّم فال حمذور يف أن يفرض األمر باملهّم حينئذ ؛ إذ ال يلزم منه طلب اجلمع بني
( )6
الضّد ين ،كما سيأيت توضيحه.
وإذا مل يكن مانع عقلّي من هذا الرتّتب ؛ فإّن الدليل يساعد على وقوعه ،والدليل هو نفس الدليلني
املتضّم نني لألمر باملهّم واألمر باألهّم ،ومها كافيان إلثبات وقوع الرتّتب.
وعليه ،ففكرة الرتّتب وتصحيحها يتوّقف على شيئني رئيسني يف الباب :أحدمها :إمكان الرتّتب يف
نفسه .وثانيهما :الدليل على وقوعه.
أّما األّو ل :ـ وهو إمكانه يف نفسه ـ فبيانه أّن أقصى ما يقال يف إبطال الرتّتب و
استحالته هو :دعوى لزوم احملال منه ،وهو فعلّية األمر بالضّد ين يف آن واحد ؛ ألّن القائل بالرتّتب يقول
بإطالق األمر باألهّم ،ومشوله لصوريت فعل األهّم وتركه ،ففي حال فعلّية األمر باملهّم ـ وهو حال ترك األهّم
( )1ـ يكون األمر باألهّم فعلّيا على قوله ،واألمر بالضّد ين يف آن واحد حمال.
ولكن هذه الدعوى ـ عند القائل بالرتّتب ـ باطلة ؛ ألّن قوله « :األمر بالضّد ين يف آن واحد حمال» فيه
مغالطة ظاهرة ،فإّن قيد «يف آن واحد» يوهم أّنه راجع إىل «الضّد ين» ،فيكون حماال ؛ إذ يستحيل اجلمع
بني الضّد ين ،بينما هو يف احلقيقة راجع إىل األمر ،وال استحالة يف أن يأمر املوىل يف آن واحد بالضّد ين ،إذا
مل يكن املطلوب اجلمع بينهما يف آن واحد ؛ ألّن احملال هو اجلمع بني الضّد ين ،ال األمر هبما يف آن واحد
وإن مل يستلزم اجلمع بينهما.
أّم ا :أّن قيد «يف آن واحد» راجع إىل األمر ال إىل الضّد ين فواضح ؛ ألّن املفروض أّن األمر باملهّم
مشروط برتك األهّم ،فاخلطاب الرتّتّيب ليس فقط ال يقتضي اجلمع بني الضّد ين ،بل يقتضي عكس ذلك ؛
ألّنه يف حال انشغال املكّلف بامتثال األمر باألهّم وإطاعته ،ال أمر يف هذا احلال إّال باألهّم ،ونسبة املهّم إليه
حينئذ كنسبة املباحات إليه ،وأّم ا :يف حال ترك األهّم واالنشغال باملهّم فإّن األمر باألهّم نسّلم أّنه يكون
فعلّيا وكذلك األمر باملهّم ،ولكن خطاب املهّم حسب الفرض مشروط برتك األهّم وخلّو الزمان منه ،ففي
هذا احلال املفروض يكون األمر باملهّم داعيا للمكّلف إىل فعل املهّم يف حال ترك األهّم ،فكيف يكون داعيا
إىل اجلمع بني األهّم واملهّم يف آن واحد؟!
وبعبارة أوضح :إّن إجياب اجلمع ال ميكن أن يتصّو ر إّال إذا كان هناك مطلوبان يف عرض واحد ،على
وجه لو فرض إمكان اجلمع بينهما ،لكان كّل منهما مطلوبا ،ويف الرتّتب لو فرض حماال إمكان اجلمع بني
الضّد ين فإّنه ال يكون املطلوب إّال األهّم ،وال يقع املهّم يف هذا احلال على صفة املطلوبّية أبدا ،ألّن طلبه
حسب الفرض مشروط
برتك األهّم ،فمع فعله ال يكون مطلوبا.
وأّما الثاني :ـ وهو الدليل على وقوع الرتّتب وأّن الدليل هو نفس دليلي األمرين ـ فبيانه أّن املفروض أّن
لكّل من األهّم واملهّم ـ حسب دليل كّل منهما ـ حكما مستقّال مع قطع النظر عن وقوع املزامحة بينهما ،كما
أّن املفروض أّن دليل كّل منهما مطلق بالقياس إىل صوريت فعل اآلخر وعدمه .فإذا وقع التزاحم بينهما اّتفاقا ،
فبحسب إطالقهما يقتضيان إجياب اجلمع بينهما ،ولكن ذلك حمال ،فال بّد أن ترفع اليد عن إطالق أحدمها ،
ولكّن املفروض أّن األهّم أوىل وأرجح ،وال يعقل تقدمي املرجوح على الراجح واملهّم على األهّم ،فيتعنّي رفع
اليد عن إطالق دليل األمر باملهّم فقط ،وال يقتضي ذلك رفع اليد عن أصل دليل املهّم .ألنه إمّن ا نرفع اليد عنه
من جهة تقدمي إطالق األهّم ملكان املزامحة بينهما وأرجحّية األهّم ،والضرورات إمّن ا تقّد ر بقدرها.
وإذا رفعنا اليد عن إطالق دليل املهّم مع بقاء أصل الدليل فإّن معىن ذلك اشرتاط خطاب املهّم برتك
األهّم .وهذا هو معىن الرتّتب املقصود.
والحاصل أّن معىن الرتّتب املقصود هو اشرتاط األمر باملهّم برتك األهّم ،وهذا االشرتاط حاصل فعال
مبقتضى الدليلني ،مع ضّم حكم العقل بعدم إمكان اجلمع بني امتثاهلما معا ،وبتقدمي الراجح على املرجوح
الذي ال يرفع إّال إطالق دليل املهّم ،فيبقى أصل دليل األمر باملهّم على حاله يف صورة ترك األهّم ،فيكون
األمر الذي يتضّم نه الدليل مشروطا برتك األهّم.
وبعبارة أوضح أّن دليل املهّم يف أصله مطلق يشمل صورتني :صورة فعل األهّم ،وصورة تركه ،و ا
ّمل
رفعنا اليد عن مشوله لصورة فعل األهّم ملكان املزامحة وتقدمي الراجح فيبقى مشوله لصورة ترك األهّم بال مزاحم
،وهذا معىن اشرتاطه برتك األهّم.
فيكون هذا االشرتاط مدلوال لدليلي األمرين معا بضميمة حكم العقل ،ولكن هذه الداللة من نوع
داللة اإلشارة (.)1
هذه خالصة فكرة «الرتّتب» على عالهتا ،وهناك فيها جوانب حتتاج إىل مناقشة وإيضاح تركناها إىل
(
املطّو الت ( ، )1وقد وضع هلا شيخنا احملّق ق النائيّين مخس مقّد مات لسّد ثغورها ،راجع عنها تقريرات تالمذته
.)2
قيد المندوحة
ذكرنا فيما سبق أّن بعضهم قّيد النزاع هنا بأن تكون هناك مندوحة يف مقام االمتثال (.)4
ومعىن «املندوحة» أن يكون املكّلف متمّك نا من امتثال األمر يف مورد آخر غري مورد االجتماع.
ونظر إىل ذلك كّل من قّيد موضع النزاع مبا إذا كان اجلمع بني العنوانني بسوء اختيار املكّلف.
وإمّن ا قّيد هبا موضع النزاع لالّتفاق بني الطرفني على عدم جواز االجتماع يف صورة عدم وجود
املندوحة ،وذلك فيما إذا احنصر امتثال األمر يف مورد االجتماع ،ال بسوء اختيار املكّلف.
والسّر واضح ؛ فإّنه عند االحنصار تستحيل فعلّية التكليفني ؛ الستحالة امتثاهلما معا ؛ ألّنه إن فعل ما
هو مأمور به فقد عصى النهي ،وإن تركه فقد عصى األمر ،فيقع التزاحم حينئذ بني األمر والنهي.
(
وظاهر أّن اعتبار قيد املندوحة الزم ملا ذكرناه ؛ إذ ليس النزاع جهتّيا ـ كما ذهب إليه صاحب الكفاية
)1ـ ،أي من جهة كفاية تعّد د العنوان يف تعّد د املعنون وعدمه وإن مل جيز االجتماع من جهة أخرى ،حىّت ال
حنتاج إىل هذا القيد ،بل النزاع ـ كما تقّد م ( )2ـ هو يف جواز االجتماع وعدمه من أّية جهة فرضت وليس
جهتّيا .وعليه ،فما دام النزاع غري واقع يف عدم اجلواز يف صورة عدم املندوحة فهذه الصورة ال تدخل يف حمّل
النزاع يف مسألتنا.
فوجب ـ إذن ـ تقييد عنوان املسألة بقيد املندوحة كما صنع بعضهم (.)3
الحّق في المسألة
بعد ما قّد منا ـ من توضيح حترير النزاع وبيان موضع النزاع ـ نقول :إّن احلّق يف املسألة هو «اجلواز».
وقد ذهب إىل ذلك مجع من احملّق قني املتأّخ رين (.)1
وسندنا يبتين على توضيح واختيار ثالثة أمور مرتّتبة :
أّو ال :أّن متعّلق التكليف ـ سواء كان أمرا أو هنيا ـ ليس هو املعنون ( ، )2أي الفرد اخلارجّي للعنوان مبا
له من الوجود اخلارجّي ؛ فإّنه يستحيل ذلك ،بل متعّلق التكليف دائما وأبدا هو العنوان ،على ما سيأيت
توضيحه (.)3
واعترب ذلك بالشوق ،فإّن الشوق يستحيل أن يتعّلق باملعنون ؛ ألّنه إّم ا أن يتعّلق به حال عدمه أو حال
وجوده ،وكّل منهما ال يكون ؛ أّم ا األّو ل :فيلزم تقّو م املوجود باملعدوم ،وحتّق ق املعدوم مبا هو معدوم ـ ألّن
املشتاق إليه له نوع من التحّق ق بالشوق إليه ـ وهو حمال واضح ؛ وأّم ا الثاين :فألّنه يكون االشتياق إليه
حتصيال للحاصل وهو حمال ؛ فإذن ال يتعّلق الشوق باملعنون ال حال وجوده ،وال حال عدمه.
مضافا إىل أّن الشوق من األمور النفسّية ،وال يعقل أن يتشّخ ص ما يف النفس بدون متعّلق ما ،
كجميع األمور النفسّية ،كالعلم ،واخليال ،والوهم ،واإلرادة ،وحنوها ،وال يعقل أن يتشّخ ص مبا هو
خارج عن أفق النفس من األمور العينّية ؛ فال بّد أن يتشّخ ص بالشيء املشتاق إليه مبا له من الوجود العنواّين
الفرضّي ،وهو املشتاق إليه أّو ال وبالذات ،وهو املوجود بوجود الشوق ،ال بوجود آخر وراء الشوق ،
ولكن ا كان يؤخذ العنوان مبا هو حاك ومرآة عّم ا يف اخلارج ـ أي عن املعنون ـ فإّن املعنون يكون مشتاقا إليه
ّمل
ثانيا و
بالعرض ،نظري العلم ؛ فإّنه ال يعقل أن يتشّخ ص باألمر اخلارجّي ،واملعلوم بالذات دائما وأبدا هو العنوان
املوجود بوجود العلم ،ولكن مبا هو حاك ومرآة عن املعنون.
وأّم ا املعنون لذلك العنوان فهو معلوم بالعرض باعتبار فناء العنوان فيه.
ويف احلقيقة إمّن ا يتعّلق الشوق بشيء إذا كان له جهة وجدان وجهة فقدان ،فال يتعّلق باملعدوم من مجيع
اجلهات ،وال باملوجود من مجيع اجلهات .وجهة الوجدان يف املشتاق إليه هو العنوان املوجود بوجود الشوق
يف أفق النفس باعتبار ما له من وجود عنواّين فرضّي .وجهة الفقدان يف املشتاق إليه هو عدمه احلقيقّي يف
اخلارج ،ومعىن الشوق إليه هو الرغبة يف إخراجه من حّد الفرض والتقدير إىل حّد الفعلّية والتحقيق.
وإذا كان الشوق على هذا النحو ،فكذلك حال الطلب والبعث بال فرق ،فيكون حقيقة طلب الشيء
هو تعّلقه بالعنوان إلخراجه من حّد الفرض والتقدير إىل حّد الفعلّية والتحقيق (.)1
ثانيا :أّنا ّملا قلنا بأّن متعّلق التكليف هو العنوان ال املعنون ال نعين أّن العنوان مبا له من الوجود الذهّين
يكون متعّلقا للطلب ؛ فإّن ذلك باطل بالضرورة ؛ ألّن مثار اآلثار ومتعّلق الغرض والذي ترتّتب عليه املصلحة
واملفسدة هو املعنون ال العنوان ؛ بل نعين أّن املتعّلق هو العنوان حال وجوده الذهّين ،ال أّنه مبا له من الوجود
الذهّين أو هو مفهوم ،ومعىن تعّلقه بالعنوان حال وجوده الذهّين أّنه يتعّلق به نفسه باعتبار أّنه مرآة عن املعنون
وفان فيه ،فتكون التخلية فيه عن الوجود الذهّين عني التحلية به.
ثالثا :أّنا إذ نقول « :إّن املتعّلق للتكليف هو العنوان مبا هو مرآة عن املعنون ،وفان فيه» ال نعين أّن
(
املتعّلق احلقيقّي للتكليف هو املعنون ،وأّن التكليف يسري من العنوان إىل املعنون باعتبار فنائه فيه ـ كما قيل
)2ـ ،فإّن ذلك باطل بالضرورة أيضا ؛ ملا تقّد م أّن املعنون يستحيل أن يكون متعّلقا للتكليف بأّي حال من
األحوال ،وهو حمال حىّت لو كان بتوّس ط العنوان ،فإّن توّس ط العنوان ال خيرجه عن استحالة تعّلق التكليف
به ؛ بل نعين
ونقول :إّن الصحيح أّن متعّلق التكليف هو العنوان مبا هو مرآة وفان يف املعنون على أن يكون فناؤه يف
املعنون هو املصّح ح لتعّلق التكليف به فقط ؛ إذ إّن الغرض إمّن ا يقوم باملعنون املفّين فيه ،ال أّن الفناء جيعل
التكليف ساريا إىل املعنون ومتعّلقا به .وفرق كبري بني ما هو مصّح ح لتعّلق التكليف بشيء ،وبني ما هو
بنفسه متعّلق التكليف .وعدم التفرقة بينهما هو الذي أوهم القائلني بأّن التكليف يسري إىل املعنون باعتبار
فناء العنوان فيه ،وال يزال هذا اخللط بني ما هو بالذات وما هو بالعرض مثار كثري من االشتباهات اليت تقع
يف علمي األصول والفلسفة .والفناء واآللّية يف املالحظة هو الذي يوقع االشتباه واخللط ،فيعطى ما للعنوان
للمعنون وبالعكس.
وإذا عسر عليك تفّه م ما نرمي إليه فاعترب ذلك يف مثال احلرف حينما حنكم عليه بأّنه ال خيرب عنه ؛ فإّن
عنوان احلرف ومفهومه اسم خيرب عنه ،كيف وقد أخرب بأّنه ال خيرب عنه؟ ولكن إمّن ا صّح اإلخبار عنه بذلك
فباعتبار فنائه يف املعنون ؛ ألّنه هو الذي له هذه اخلاصّية ،ويقوم به الغرض من احلكم ،ومع ذلك ال جيعل
ذلك كون املعنون ـ وهو احلرف احلقيقّي ـ موضوعا للحكم حقيقة أّو ال وبالذات ؛ فإّن احلرف احلقيقّي
يستحيل أن يكون موضوعا للحكم وطرفا للنسبة بأّي حال من األحوال ولو بتوّس ط شيء ،كيف وحقيقته
النسبة والربط ،وخاّص ته أّنه ال خيرب عنه؟ .وعليه ،فاملخرب عنه أّو ال وبالذات هو عنوان احلرف ،لكن ال مبا
هو مفهوم موجود يف الذهن ؛ فإّنه هبذا االعتبار خيرب عنه ،بل مبا هو فان يف املعنون وحاك عنه ،فاملصّح ح
لإلخبار عنه بأّنه ال خيرب عنه هو فناؤه يف معنونه ،فيكون احلرف احلقيقّي املعنون خمربا عنه ثانيا وبالعرض ،
وإن كان الغرض من احلكم إمّن ا يقوم باملفّين فيه ،وهو احلرف احلقيقّي .
وعلى هذا يّتضح جلّيا كيف أّن دعوى سراية احلكم أّو ال وبالذات من العنوان إىل املعنون منشؤها
الغفلة [عن التفرقة] بني ما هو املصّح ح للحكم على موضوع باعتبار قيام الغرض بذلك املصّح ح ،فيجعل
املوضوع عنوانا حاكيا عنه ،وبني ما هو املوضوع للحكم القائم به الغرض ،فاملصّح ح للحكم شيء واحملكوم
عليه واجملعول موضوعا شيء آخر .ومن العجيب أن يصدر مثل هذه الغفلة من بعض أهل الفّن يف املعقول.
نعم ،إذا كان القائل بالسراية يقصد أّن العنوان يؤخذ فانيا يف املعنون ،وحاكيا عنه ،وأّن الغرض إمّن ا
يقوم باملعنون فذلك حّق وحنن نقول به ،ولكن ذلك ال ينفعه يف الغرض الذي يهدف إليه ؛ ألّنا نقول بذلك
من دون أن جنعل متعّلق التكليف نفس املعنون ،وإمّن ا يكون متعّلقا له ثانيا وبالعرض ،كاملعلوم بالعرض ـ كما
أشرنا إليه فيما سبق ـ ،فإّن العلم إمّن ا يتعّلق باملعلوم بالذات ،ويتقّو م به ،وليس هو إّال العنوان املوجود بوجود
علمّي ،ولكن باعتبار فنائه يف معنونه يقال للمعنون « :إّنه معلوم» ،ولكّنه يف احلقيقة هو معلوم بالعرض ال
بالذات ،وهذا الفناء هو الذي خيّيل الناظر أّن املتعّلق احلقيقّي للعلم هو املعنون ،ولقد أحسنوا يف تعريف
العلم بأّنه «حصول صورة الشيء لدى العقل ،ال حصول نفس الشيء» ،فاملعلوم بالذات هو الصورة ،
واملعلوم بالعرض نفس الشيء الذي حصلت صورته لدى العقل.
وإذا ثبت ما تقّد م ،واّتضح ما رمينا إليه ـ من أّن متعّلق التكليف أّو ال وبالذات هو العنوان وأّن املعنون
متعّلق له بالعرض ـ يّتضح لك احلّق جلّيا يف مسألتنا «مسألة اجتماع األمر والنهي» ،وهو أّن احلّق جواز
االجتماع.
ومعىن جواز االجتماع أّنه ال مانع من أن يتعّلق اإلجياب بعنوان ،ويتعّلق التحرمي بعنوان آخر ،وإذا
مجع املكّلف بينهما صدفة بسوء اختياره فإّن ذلك ال جيعل الفعل الواحد املعنون لكّل من العنوانني متعّلقا
لإلجياب والتحرمي إّال بالعرض ،وليس ذلك مبحال ؛ فإّن احملال إمّن ا هو أن يكون الشيء الواحد بذاته متعّلقا
لإلجياب والتحرمي.
وعليه ،فيصّح أن يقع الفعل الواحد امتثاال لألمر من جهة باعتبار انطباق العنوان املأمور به عليه ،
وعصيانا للنهي من جهة أخرى باعتبار انطباق عنوان املنهّي عنه عليه .وال حمذور يف ذلك ما دام أّن ذلك
الفعل الواحد ليس بنفسه وبذاته متعّلقا لألمر وللنهي ليكون ذلك حماال ،بل العنوانان الفانيان مها املتعّلقان
لألمر والنهي ،غاية األمر أّن تطبيق العنوان املأمور به على هذا الفعل يكون هو الداعي إىل إتيان الفعل ،وال
فرق بني فرد وفرد يف انطباق العنوان عليه ،فالفرد الذي ينطبق عليه العنوان املنهّي عنه كالفرد اخلايل من ذلك
يف كون كّل منهما ينطبق عليه العنوان املأمور به بال جهة خلل يف االنطباق.
وال فرق يف ذلك بني أن يكون تعّد د العنوان موجبا لتعّد د املعنون ،أو مل يكن ما دام أّن املعنون ليس
هو متعّلق التكليف بالذات.
نعم ،لو كان العنوان مأخوذا يف املأمور به واملنهّي عنه على وجه يسع مجيع األفراد حىّت موضع
االجتماع ـ وهو الفرد الذي ينطبق عليه العنوانان ـ ،ولو كان ذلك من جهة إطالق الدليل ؛ فإّنه حينئذ تكون
لكّل من الدليلني الداللة االلتزامّية على نفي حكم اآلخر ( )1يف موضع االلتقاء ،فيتكاذبان ،وعليه ،يقع
التعارض بينهما وخيرج املورد عن مسألة االجتماع كما سبق بيان ذلك مفّص ال.
كما أّنه لو كانت القدرة على الفعل مأخوذة يف متعّلق األمر على وجه يكون الواجب هو العنوان
املقدور مبا هو مقدور فإّن عنوان املأمور به حينئذ ال يسع وال يعّم الفرد غري املقدور ،فال ينطبق عنوان املأمور
به مبا هو مأمور به على موضع االجتماع ،وال يكون هذا الفرد غري املقدور شرعا من أفراد الطبيعة مبا هي
مأمور هبا.
خبالف ما إذا كانت القدرة مصّح حة فقط لتعّلق التكليف بالعنوان ،فإّن عنوان املأمور به يكون
مقدورا عليه ولو بالقدرة على فرد واحد من أفراده ؛ وهلذا قلنا :إّنه لو احنصر تطبيق املأمور به يف خصوص
موضع االجتماع ـ كما يف مورد عدم املندوحة ـ يقع التزاحم بني احلكمني يف موضع االجتماع ؛ ألّنه ال يصّح
تطبيق املأمور به على هذا الفرد ـ وهو موضع االجتماع ـ إّال إذا مل يكن النهي فعلّيا ،كما ال يصّح تطبيق
عنوان املنهّي عنه عليه إّال إذا مل يكن األمر فعلّيا ،فال بّد من رفع اليد عن فعلّية أحد احلكمني ،وتقدمي األهّم
منهما.
ولقد ذهب بعض أعالم أساتذتنا ( )2إىل أّن القدرة مأخوذة يف متعّلق التكليف ،باعتبار أّن اخلطاب
بالتكليف نفسه يقتضي ذلك ؛ ألّن األمر إمّن ا هو لتحريك املكّلف حنو الفعل على أن يصدر منه باالختيار ،
وهذا نفسه يقتضي كون متعّلقه مقدورا ؛ المتناع جعل الداعي حنو املمتنع وإن كان االمتناع من ناحية
شرعّية.
ولكّننا مل نتحّق ق صّح ة هذه الدعوى ؛ ألّن صّح ة التكليف بطبيعة الفعل ال تتوّقف على أكثر
من القدرة على صرف وجود الطبيعة ولو بالقدرة على فرد من أفرادها ،فالعقل هو الذي حيكم بلزوم القدرة
يف متعّلق التكليف ،وذلك ال يقتضي القدرة على كّل فرد من أفراد الطبيعة إّال إذا قلنا بأّن التكليف يتعّلق
باألفراد أّو ال وبالذات ،وقد تقّد م توضيح فساد هذا الوهم (.)1