Professional Documents
Culture Documents
ch 2 دور الدولة الاقتصادي PDF
ch 2 دور الدولة الاقتصادي PDF
الدولة االقتصادي
تمهید:
یحتل موضوع السیاسة اإلقتصادیة حيزا كبيرا من اهتمام اإلقتصادیين ورجال السیاسة
واملجتمع باعتباره حيث أن السیاسة اإلقتصادیة تعتبر مقياسا لدور الدولة في الحیاة اإلقتصادیة
وبالتالي فمن املناسب أوال مناقشة دور الدولة في الحیاة اإلقتصادیة في االقتصادات الحديثة.
تشهد األدبیات اإلقتصادیة الكثير من الجدل بين رجال السیاسة واإلقتصاد حول موضوع
مدى تدخل الدولة في الحیاة اإلقتصادیة للدول ،وتتضارب األراء ووجهات النظر بين مؤید
ومعارض لهذا التدخل بحسب التوجهات الفكریة لكل منهم ولكل توجه بالطبع حجج ومبررات،
أذكتها التطورات اإلقتصادیة املتعاقبة التي أثمرت تحوالت كبيرة في الفكر اإلقتصادي وبخاصة
منذ أزمة الكساد الكبير في العام 1929مرورا بأزمة الركود التضخمي الذي كان في عام 1973
وصوال لألزمة املالیة العاملیة التي عانى منها االقتصاد العاملي في العام ،2008وجميعها وبينها
أزمات استدعت إعادة النظر في موضوع تدخل الدولة في الحیاة اإلقتصادیة والتي يمكن
استعراض أهم مالمحها فيما يلي:
أوال :املؤیدون لتدخل الدولة في النشاط اإلقتصادي
تقود املدرسة الكینزیة" التي وضع أسسها االقتصادي البريطاني الشهير "جون ماینارد كینز" التوجه
الفكري املؤید للتدخل الواسع للحكومات في النشاط اإلقتصادي ،وتبرر هذه املدرسة وجهة نظرها
بشكل عام بفرضية "إخفاق آلیة السوق" ،وهي الحالة التي ينتج عنها عدم الكفاءة في تخصیص املوارد
بين األنشطة اإلقتصادية وفقا ملا يسمى بـ"أمثلية باریتو" وهي الحالة اإلقتصادیة التي ال یمكن بخالفها
تخصیص املوارد اإلقتصادیة بشكل یمكن من تحسين مستوى رفاهیة فرد ما دون املساس بمستوى
رفاهیة فرد آخر ،1وبالتالي فإن عدم تحقق "أمثلية باریتو" في اقتصاد دولة ما يعتبر دليال على تحقق
فرضية "إخفاق آلیة السوق" من وجهة نظر هذه املدرسة ،يبرر البحث عن طريق آخر يمكن معه
تحسين مستوى رفاهیة الفرد دون املساس بمستوى الرفاهیة التي يحصل عليها الفرد الخر ويجادل
1 Michael Howard: « Public sector economics for developing countries », university of the West Indies press, Canada, 2001,2.
موسجراف ،1959أن الوظائف الرئیسیة للدولة التي تبرر هذا التدخل وبخاصة عبر نفقاتها العامة
تكمن في :2إعادة تخصیص املوارد ،إعادة توزیع الدخل وتحقیق اإلستقرار اإلقتصادي ووفقا ألدبيات
هذه املدرسة فإن مبررات هذا التدخل يمكن بيان أسبابها بش يء من التفصيل فيمايلي- :
أوال :عدم كمال األسواق :فالحكومة یتوجب عليها التدخل في النشاط االقتصادي لتعدیل ما
ینتج من اختالالت وعدم كمال وكفاءة األسواق سواء كانت أسواق للسلع والخدمات ،أو أسواق العمل
أو أسواق النقود في تخصيص املوارد بحكم أن تلك األسواق التي تغطي مختلف النشاطات اإلقتصادية
تتميز بالصفات التالية-:
▪ املنافسة غیرالكاملة
یهدف القطاع الخاص من نشاطه اإلقتصادي إلى تعظيم أرباحه دون اعتبار إلى تحقيق املصلحة
العامة غالبا ،وبما أن العمل في بيئة تنافسية تامة يؤدي في الغالب إلى انتاج سلع وخدمات تتميز
3 William Boyes and Michael Melvin: « Fundamentals of economics », 4th edition, Houghton Mifflin company, USA, 2009, pp133-135.
معلومات متفاوتة في حجمها ونوعيتها عن بعضهم البعض حول مختلف جوانب النشاط اإلقتصادي،
ومن ثم فإن عدم تماثل املعلومات في السوق یعتبر عامال رئیسیا في عدم تحقق الكفاءة السوقیة ،و
ینتج عنه ظاهرتين رئیسیتين في النشاط اإلقتصادي هما:4
-1سيادة الخياراألسوأ :وهي الحالة التي يتم فيها اختيار األسواء في ظل وجود األجود وينتج عن هذا
السلوك إبعاد الش يء الجيد من السوق .فنقص البیانات في سوق اإلئتمان عن ظروف املخاطرة
لطالبي القروض مثال تجعل البنوك ترفع معدالت الفائدة بغض النظر عن مستوى املخاطرة
للمتقديمين بطلبات القرض وذلك لكي تتجنب أي خسائر غير متوقعة من قبلهم ،ونتیجة لذلك
فإن طالبي القروض ذوو الخطر املنخفض سوف یمتنعون عن طلب القروض ألنهم یدركون أن
معدل الفائدة مبالغ فیه مقارنة باملخاطر املالیة التي يقدرونها ألنفسهم ،وبالتالي فإن البنك سوف
یتعامل فقط مع طالبي القروض ذوو الخطر املرتفع ألنهم ال یرون في معدل الفائدة املرتفع أي
یعرف األثر الخارجي بأنه األثر الناتج عن أي نشاط فردي یمس رفاهیة الطرف الخر سواء بشكل
إیجابي أو بشكل سلبي ،6وفي هذا الصدد یفرق "بیجو" بين الثار الخارجیة اإلیجابیة التي تكون فيها
املنفعة الحدیة العامة أكبر من املنفعة الحدیة الخاصة ،والثار الخارجیة السلبیة التي تكون فيها
املنفعة الحدیة الخاصة أكبر من املنفعة الحدیة العامة 7فالدولة تتدخل للحد من الثار الخارجیة
السلبیة الناتجة عن نشاط القطاع الخاص والتي تتعارض مع مصلحة املجتمع وأهمها التلوث البیئي،
كما تسعى من خالل نفقاتها العامة إلى تولید آثار خارجیة إیجابیة ومن أمثلة ذلك نفقات التعلیم
والصحة التي تساهم في تحسين املستوى الصحي والتعلیمي لرأس املال البشري مما یؤدي للتأثير إیجابا
على دور عنصر العمل في العملیة اإلنتاجیة.
6 Gregory Mankiw: « principles of economics », 5th edition. South-western Cengage Learning, 2011, p11.
7 Warren J. Samuels et al: « A companion to the history of economic thought », Blackwell Publishing, USA, 2003, p 439.
رابعا :تشريع اللوائح والقواعد التنظیمیة:
من مهام الدولة تشريع اللوائح والقواعد التنظیمیة التي يجب على القطاع الخاص االلتزام بها في
ممارسته للنشاط اإلقتصادي ومن ذلك على سبيل املثال:8
-1اإللزام باإلفصاح :حيث تقوم الدولة بإجبار الكيانات االقتصادية على اإلفصاح التام
والشفافیة في اعدادها القوائم املالية ألنشطتها؛ بما یمكن املتعاملين من اتخاذ أفضل القرارات
اإلستثماریة التي تعكس واقع املؤسسة وطبیعة أدائها.
-2األحكام املانعة أو املقيدة :تعمل الدولة على حظر العديد من من األنشطة واملمارسات على
مؤسسات القطاع الخاص ،كأن تمنع التواطؤ على تحدید األسعار أو تجريم أي املمارسات التي
تتعارض واملنافسة التامة في السوق ،كما قد تحظر على املتعاملين في األسواق املالیة بعض
املمارسات املضاربیة التي قد تؤدي إلى تحقیق أرباح غير طبيعية.
8 Joseph Stiglitz: « Government Failure vs. Market Failure: Principles of Regulation », presentation, initiative for policy dialogue, 2008, pp 5-11.
-3التفویض (التخصيص) :على عكس ما تفرضه الدولة من قیود على القطاع الخاص قد تمنع
عنه القیام بأنشطة معينة ،فإن التفویض يعني قيام الدولة بإجبار القطاع الخاص بالقیام
بتنفيذ أنشطة محددة أو اإللتزام بتنفيذ إجراءات معينة تراها الدولة ضروریة من أجل ضمان
السير الحسن للنشاط اإلقتصادي ،حیث یحظى هذا الشكل بقبول واسع نظرا ألنه یعبر عن
توفير للحاجات العامة دون أن ینجر عن ذلك أي إنفاق عام تتحمله خزینة الدولة.
ثانيا :املعارضون لتدخل الدولة في النشاط اإلقتصادي
يبرر مؤيدوا هذا التوجه 9الذين يوصفون بالتقلیديين وهم أتباع املدرسة الكالسیكیة التي يتزعمها
"آدم سمیث" الذي یعتبر مؤسس الفكر اإلقتصادي املبني على الحریة اإلقتصادیة والحد األدنى للدولة
في النشاط اإلقتصادي ،ومنهم أيضا اإلقتصادي النمساوي "فریدیریك فون هایك" وهو أحد رموز هذا
التوجه الذين استمروا في معارضة تدخل الدولة في النشاط اإلقتصادي حتى في الفترة التي القت فيها
أفكار التیار املؤید لتدخل الدولة رواجا واسعا في اإلقتصادیات العاملیة ،حیث ارتكز في فكره على دعم
الحریة الفردیة كعامل رئیس ي في تطور النشاط اإلقتصادي والتأكید على أن الدولة املتدخلة تحد منها
وتؤثر سلبا على آلیة سير النشاط اإلقتصادي.
أما "میلتون فریدمان" فكان قائد الثورة املضادة للفكر الكینزي في العصر الحدیث ،حیث أبرز من
خالل فكره النقدي الذي حظي بقبول واسع بدایة من ستینات القرن العشرین على أهمیة تحریر
األسواق ،وأن التعاظم الكبير للقطاع العام في النشاط اإلقتصادي بسبب أفكار أنصار الدولة املتدخلة
9 Brian Atkinson et al: « economic policy », Macmillan press, London, 1996, p 12.
كان السبب الرئیس ي في تعرض اإلقتصاد العاملي في السبعینات ألزمة الكساد التضخم معارضته لتدخل
الدولة في الحیاة اإلقتصادیة انطالقا من اعتقاده بأن "آلیة السوق" ممثلة في القطاع الخاص هي أكفأ
من الدولة ممثلة في القطاع العام فیما یخص تخصیص املوارد ،وعلى هذا األساس فإنهم یعتبرون أن10
تدخل القطاع العام في النشاط اإلقتصادي ال جدوى منه باعتبار أن كل ما یمكنه القیام به یمكن
للقطاع الخاص أن یقوم به بشكل أفضل؛ بل إن تدخل القطاع العام قد یدفع إلى:
▪ تراجع دور القطاع الخاص في النشاط اإلقتصادي؛
▪ انخفاض الرفاهیة اإلجتماعیة بسبب هیكل التحفيزات في املؤسسات العامة یشير إلى أن
أنشطة القطاع العام
▪ التأثير سلبا على األنشطة اإلنتاجیة باعتبار أن القطاع العام األقل كفاءة یسیطر على املوارد
بدل القطاع الخاص األكثر فعالیة.
10 Joseph Stiglitz: « Redefining the role of the state: what should it do? How should it do it? And how should these decisions be made? », A paper Presented on the
▪ العالقة السلبیة بین اإلنفاق العام والنمو اإلقتصادي ،والتي تعود لألسباب التالیة:13
.1ارتفاع تكلفة التمویل :تتسبب الخيارات املطروحة أمام الدولة لتمویل نفقاتها العامة في
حدوث آثار سلبیة على النشاط اإلقتصادي ،إذ أن لجوء الدولة إلى املزيد من فرض الضرائب
یحد من معدالت اإلدخار ومن ثم نقص اإلستثمار ،كما أن لجوءها إلى اإلقتراض سيساهم
13 Daniel Mitchel: « the impact of government spending on economic growth », the heritage foundation, N°1831, 2005, pp 4,5.
في رفع معدالت الفائدة مما يخفض اإلستثمار ،في حين أن اللجوء من قبلها إلى اإلصدار
النقدي سیدفع الرتفاع معدالت التضخم.
.2تنحية القطاع الخاص :إن ندرة املوارد اإلقتصادیة تتطلب استخدامها بكفاءة ،وهذا ال
یتحقق في حالة تدخل الدولة وقیامها باألنشطة اإلقتصادیة بدال من القطاع الخاص،
وتنحية القطاع الخاص عن النشاط اإلقتصادي يعني بصورة من الصور إنعدام عنصر
املنافسة ومن ثم نقص اإلبداع واإلبتكار بالشكل الذي یعود بالسلب على تطور النشاط
اإلقتصادي كما وكيفا.
.3غیاب الكفاءة :إن توفير الدولة ملختلف الخدمات من تعلیم وصحة وكذا إنتاجها لبعض
املنتجات سيرافقه في الغالب التبذیر وعدم الرشادة في استخدام املوارد املتاحة ،نظرا
لتغليبها الشأن اإلجتماعي الذي يتمثل في تحقیق املصلحة العامة بغض النظر عن تحقق
الربح من عدمه ،بدال من تغليب املنطق اإلقتصادي الذي یتمثل في اإلحتكام إلى مفهوم تكلفة
الفرصة البدیلة ،الذي يتمثله القطاع الخاص في سلوكه في استخدام املوارد وصوال إلى
تعظیم أرباحه وهو ما يؤثر إيجابا على اإلستخدام الكفء للموارد االقتصادية املتاحة.
.4غیاب اإلبداع واإلبتكار :في ظل سيادة القطاع العام للنشاط االقتصادي يتوقع تراجع
مستویات اإلبداع واإلبتكار سواء كان ذلك في طرق اإلنتاج أو في نوعیة املنتجات والخدمات،
بسبب غیاب عامل املنافسة ،والربح الذي بدوره يغذي النمطية في النشاط اإلقتصادي.
والخالصة:
الشك أن إخفاقات آلیة السوق من جهة ٕواخفاقات تدخل الدولة من جهة أخرى تجعل من
الضروري تبني سياسة التكامل بين كل من دور القطاع الخاص ودور القطاع العام لتحقیق
الفعالیة والكفاءة في سير وأداء النشاط اإلقتصادي ،حیث یمكن كل طرف من تدارك
إخفاقات الطرف الخر ومن ثم ضمان توافر أفضل الظروف والعوامل لتطویر األداء
اإلقتصادي ،بحكم أن التجارب املتعددة عبر التاریخ اإلقتصادي أثبتت ومنذ عقود أنه ال
اقتصاد السوق القائم على الهیمنة شبه املطلقة للقطاع الخاص وال اإلقتصاد القائم على
التدخل املفرط للقطاع العام تمكنا من إعطاء تصور سلیم للیة سير النشاط اإلقتصادي
بما یضمن تحقیق الكفاءة والفعالیة في األداء اإلقتصادي .وفي هذا الصدد يقترح "جوزیف
ستیغلیتز" إطارا فكریا لتدخل الدولة بما یمكن من تكامله مع دور القطاع الخاص في النشاط
اإلقتصادي ،حیث یرتكز على خمسة محاور رئیسیة هي:14
▪ تقیید تدخل الدولة املباشر في العملیة اإلنتاجیة الذي یؤثر سلبا على األنشطة
اإلقتصادیة؛
▪ تقیید أنشطة الدولة التي تساهم في الحد من املنافسة ،في مقابل العمل على تعزیز أي
تدخل للدولة من شأنه تعزیز املنافسة في السوق؛
▪ تعزیز التوجه على مستوى الدولة نحو اإلنفتاح والشفافیة؛
▪ تمكين القطاع الخاص من مشاركة القطاع العام في صنع القرار؛
▪ تحقیق التوازن على مستوى هیئات الدولة ما بين الخبرة والتمثیل املتوازن وتعزیز
املسائلة.
14 Joseph Stiglitz: « Redefining the role of the state: what should it do? How should it do it? And how should these decisions be made? », op-cit, pp 11-20.
وهذا ما يدعونا إلى ما نبه إليه الباحثون في اإلقتصاد اإلسالمي الذين يؤكدون أن للدولة
أدوارا مختلفة في مستوى التدخل في االقتصاد املحلي تتمثل في :
(أ) الدور التنظيمي ،وذلك من خالل سن القوانين والتشريعات وحفظ األمن والنظام لتوفير
ً
بيئة مستقرة لنمو االقتصاد ،وهذا الدور أساس ،وغالبا ما ُيبتدأ به.
(ب) الدور اإلنمائي ،وذلك بترشيد النشاط االقتصادي للقطاع العام ،وتجويد األداء في شتى
الجوانب االقتصادية واالجتماعية والثقافية ،وقد ارتكز هذا على الفكر االقتصادي الذي
نادى به قادة الفكر اإلسالمي اإلقتصادي ومنذ وقت مبكر نجده مبثوثا في الكتب املتخصصة
أو في الكتابات املتفرقة أمثا األسهامات الفكرية التي تقدم بها القاض ي أبو يوسف في كتابه
الخراج ويحيى بن آدم في كتابه الخراج والحسن الشيبانب في كتابه الكسب وهوالء جميعا
كانوا من مفكري الدولة اإلسالمية في عهد هارون الرشيد رحمهم هللا وهو يقول به مفكرون
اقتصادييون في العصر الحديق وفي مقدمتهم االقتصادي البريطاني الشهير (جون كينز)
بداعي رفع مستوى الطلب الفعال.
(ج) الدور التصحيحي ،وذلك في حالة تدهور األوضاع االقتصادية مثل االنخفاض الشديد
في أسعار السلع التصديرية ،والتباطؤ في معدالت النمو وازدياد الفقر …الخ(.)3
إن ما سبق من بيانات عن دور الدولة في االقتصاد هو من قبيل الحكمة والفكر اإلنساني
املشترك ،وتجدر اإلشارة إلى أن قواعد االقتصاد اإلسالمي ال تتنافى مع هذا الفكر ،إال أن
االقتصاد اإلسالمي يتميز عما سبق بمراعاة أحكام ومبادىء الشريعة اإلسالمية ،وما فيها من
قيم اقتصادية .ومما طرح من قبل الباحثين االقتصاديين وغيرهم في تبرير تدخل الدولة في
إطار االقتصاد اإلسالمي األسباب التالية-:
أوال :تحقيق املقاصد الشرعية
فكل تصرف من تصرفات األفراد يجب أن يكون منسجما مع مقاصد الشريعة وأهدافها،
فإذا كان العمل الذي قام به الفرد منافيا للمقاصد الشرعية ،فعندئذ يعتبر هذا العمل
ممنوعا ال لذاته ولكن ملنافاته لتلك املقاصد التي ترتبط بمصالح الناس ،لهذا فقد جاءت
قواعد كثيرة في الشريعة اإلسالمية تؤكد على تقديم درء املفاسد على جلب املصالح .فاإلسالم
يقرر حرية الفرد في ممارسة النشاط االقتصادي ويحرص على الحرية كفطرة طبيعية
لإلنسان ،كما يعترف بامللكية الخاصة ويؤكد على ضرورة حمايتها ،إال أنه يخضع هذه
الحقوق والحريات للضوابط الشرعية التي تتفق والطبيعة االستخالفية للبشر والوظيفة
االجتماعية للمال .
ثانيا :حماية املصالح الجماعية
نصت الشريعة اإلسالمية على كثير من األحكام الجزئية حماية ملصلحة عامة ،ومنها :مبدأ
النزع الجبري للملكية لتحقيق مصلحة عامة ،كانتزاع األرض املجاورة للمسجد أو للطريق
لتوسيعهما ،كما أجازت الشريعة لولي األمر أن يبيع األموال املحتكرة جبرا عن أصحابها بسعر
املثل حماية ملصلحة املستهلكين .إن مفهوم املصالح الجماعية ليس جامدا وال محددا بصورة
ثابتة ،لذلك فإن الدولة مكلفة بوضع القوانين واألحكام التي تستطيع من خاللها حماية
املصالح الجماعية ،واليجوز للدولة نزع امللكية الخاصة إال لتحقيق مصلحة عامة ضرورية،
وفي كل الحاالت يتعين عليها إذا ما اضطرت لنزع ملكية خاصة تعويض أصحابها تعويضا
عادال .
ثالثا :تعزيز املبادئ األخالقية
تهدف املقاصد الشرعية إلى تحقيق املصالح الجماعية ،ألن الشريعة ما جاءت بأحكامها إال
إلقرار املبادئ األخالقية ورعايتها وتعزيزها عن طريق القوة اإللزامية التي يتصف بها التشريع،
حيث أن معظم املبادئ الشرعية األساسية كالعدالة واإلحسان وتحريم االستغالل ما هي إال
مبادئ أخالقية .رعاية ملثل هذه املبادئ ،فإنه يمنع التشريع أي فعل ولو كان مباحا في األصل،
إذا كان يتضمن معنى اإلضرار أو یهدف إليه وفي النتيجة يجب أن يحافظ هذا التدخل على
منظومة من القيم التي من أهمها:
▪ العدل واإلحسان :العدل في التوزيع ،واإلحسان في إعادة التوزيع.
ً ً
▪ الشورى واإلدارة :وهي – فضال عن كونها مبدأ سياسيا – تطبق في االقتصاد واالجتماع
واإلدارة من أجل استخالص أقوى األداء.
▪ الصبر :مع العمل وبذل الجهد ،ألن التقدم والفالح منوط باملصابرة.
▪ التوكل :بعد العلم والعمل واتخاذ األسباب ،وفيه إعداد النفس لقبول النتائج وتكرار
املحاولة.
▪ املسؤولية الفردية ،وبخاصة عن املال من أين اكتسبه صاحبه وفيم أنفقه(.)7
▪ الحرية االقتصادية :وأهم مظاهرها حرية الدخول في النشاط اإلنتاجي والخروج منه،
وحرية تنقل عوامل اإلنتاج وشفافية السوق .وهذه الحرية مقيدة بقيود تشريعية
وأخالقية مستمدة من األحكام الشرعية (مبدأ الحالل والحرام).
▪ وأخيرا نستحضر قوله صلى هللا عليه وسلم« :دعوا الناس يرزق بعضهم من بعض»(.)8
وهذا املبدأ النبوي أقدم بقرون مما تردد عند االقتصاديين من مبدأ «دعه يعمل دعه
يمر».