You are on page 1of 26

‫دور‬

‫الدولة االقتصادي‬
‫تمهید‪:‬‬
‫یحتل موضوع السیاسة اإلقتصادیة حيزا كبيرا من اهتمام اإلقتصادیين ورجال السیاسة‬
‫واملجتمع باعتباره حيث أن السیاسة اإلقتصادیة تعتبر مقياسا لدور الدولة في الحیاة اإلقتصادیة‬
‫وبالتالي فمن املناسب أوال مناقشة دور الدولة في الحیاة اإلقتصادیة في االقتصادات الحديثة‪.‬‬
‫تشهد األدبیات اإلقتصادیة الكثير من الجدل بين رجال السیاسة واإلقتصاد حول موضوع‬
‫مدى تدخل الدولة في الحیاة اإلقتصادیة للدول‪ ،‬وتتضارب األراء ووجهات النظر بين مؤید‬
‫ومعارض لهذا التدخل بحسب التوجهات الفكریة لكل منهم ولكل توجه بالطبع حجج ومبررات‪،‬‬
‫أذكتها التطورات اإلقتصادیة املتعاقبة التي أثمرت تحوالت كبيرة في الفكر اإلقتصادي وبخاصة‬
‫منذ أزمة الكساد الكبير في العام ‪1929‬مرورا بأزمة الركود التضخمي الذي كان في عام ‪1973‬‬
‫وصوال لألزمة املالیة العاملیة التي عانى منها االقتصاد العاملي في العام ‪ ،2008‬وجميعها وبينها‬
‫أزمات استدعت إعادة النظر في موضوع تدخل الدولة في الحیاة اإلقتصادیة والتي يمكن‬
‫استعراض أهم مالمحها فيما يلي‪:‬‬
‫أوال‪ :‬املؤیدون لتدخل الدولة في النشاط اإلقتصادي‬
‫تقود املدرسة الكینزیة" التي وضع أسسها االقتصادي البريطاني الشهير "جون ماینارد كینز" التوجه‬
‫الفكري املؤید للتدخل الواسع للحكومات في النشاط اإلقتصادي‪ ،‬وتبرر هذه املدرسة وجهة نظرها‬
‫بشكل عام بفرضية "إخفاق آلیة السوق"‪ ،‬وهي الحالة التي ينتج عنها عدم الكفاءة في تخصیص املوارد‬
‫بين األنشطة اإلقتصادية وفقا ملا يسمى بـ"أمثلية باریتو" وهي الحالة اإلقتصادیة التي ال یمكن بخالفها‬
‫تخصیص املوارد اإلقتصادیة بشكل یمكن من تحسين مستوى رفاهیة فرد ما دون املساس بمستوى‬
‫رفاهیة فرد آخر‪ ،1‬وبالتالي فإن عدم تحقق "أمثلية باریتو" في اقتصاد دولة ما يعتبر دليال على تحقق‬
‫فرضية "إخفاق آلیة السوق" من وجهة نظر هذه املدرسة‪ ،‬يبرر البحث عن طريق آخر يمكن معه‬
‫تحسين مستوى رفاهیة الفرد دون املساس بمستوى الرفاهیة التي يحصل عليها الفرد الخر ويجادل‬

‫‪1 Michael Howard: « Public sector economics for developing countries », university of‬‬ ‫‪the West Indies press, Canada, 2001,2.‬‬
‫موسجراف ‪ ،1959‬أن الوظائف الرئیسیة للدولة التي تبرر هذا التدخل وبخاصة عبر نفقاتها العامة‬
‫تكمن في‪ :2‬إعادة تخصیص املوارد‪ ،‬إعادة توزیع الدخل وتحقیق اإلستقرار اإلقتصادي ووفقا ألدبيات‬
‫هذه املدرسة فإن مبررات هذا التدخل يمكن بيان أسبابها بش يء من التفصيل فيمايلي‪- :‬‬
‫أوال‪ :‬عدم كمال األسواق‪ :‬فالحكومة یتوجب عليها التدخل في النشاط االقتصادي لتعدیل ما‬
‫ینتج من اختالالت وعدم كمال وكفاءة األسواق سواء كانت أسواق للسلع والخدمات‪ ،‬أو أسواق العمل‬
‫أو أسواق النقود في تخصيص املوارد بحكم أن تلك األسواق التي تغطي مختلف النشاطات اإلقتصادية‬
‫تتميز بالصفات التالية‪-:‬‬
‫▪ املنافسة غیرالكاملة‬
‫یهدف القطاع الخاص من نشاطه اإلقتصادي إلى تعظيم أرباحه دون اعتبار إلى تحقيق املصلحة‬
‫العامة غالبا‪ ،‬وبما أن العمل في بيئة تنافسية تامة يؤدي في الغالب إلى انتاج سلع وخدمات تتميز‬

‫‪2 Ibid, p 24.‬‬


‫بالجودة العالية والسعر األقل وتحقق هذه النتيجة في أرض الواقع ربما يراه املنتجون ضد‬
‫مصالحهم في تعظيم األرباح ولهذا السبب قد یلجأ البعض منهم إلى القيام بإجراءات احتكاریة‬
‫تستهدف رفع السعر لضمان وصولهم إلى تعظیم األرباح‪ ،‬وهو األمر الذي يتعارض مع مصلحة‬
‫القطاع االستهالكي‪ ،‬ولذا تجد الحكومة نفسها مضطرة إلى التدخل في السوق ملحاربة السلوك‬
‫اإلحتكاري للمنتجين من خالل التشریعات والقوانين التي تعزز سلوك املنافسة التامة بما يحقق‬
‫املصلحة العام للقطاعات االقتصادية على حد سواء وفق قاعدة الضرر وال ضرار‪.3‬‬

‫▪ عدم تماثل املعلومات‪:‬‬


‫ینطلق الفكر الرأسمالي من فرضیة أن جميع العاملين في السوق لدیهم القدرة التامة للحصول على‬
‫نفس البیانات واملعلومات املتوفرة في السوق األمر الذي یمكنهم من اتخاذ أفضل القرارات املمكنة‪ .‬لكن‬
‫الواقع الفعلي اليؤيد هذا االفتراض بل الواقع يشهد بخالفه‪ ،‬فمتخذي القرارات اإلقتصادية لدیهم‬

‫‪3‬‬ ‫‪William Boyes and Michael Melvin: « Fundamentals of economics », 4th edition, Houghton Mifflin company, USA, 2009, pp133-135.‬‬
‫معلومات متفاوتة في حجمها ونوعيتها عن بعضهم البعض حول مختلف جوانب النشاط اإلقتصادي‪،‬‬
‫ومن ثم فإن عدم تماثل املعلومات في السوق یعتبر عامال رئیسیا في عدم تحقق الكفاءة السوقیة‪ ،‬و‬
‫ینتج عنه ظاهرتين رئیسیتين في النشاط اإلقتصادي هما‪:4‬‬
‫‪ -1‬سيادة الخياراألسوأ‪ :‬وهي الحالة التي يتم فيها اختيار األسواء في ظل وجود األجود وينتج عن هذا‬
‫السلوك إبعاد الش يء الجيد من السوق‪ .‬فنقص البیانات في سوق اإلئتمان عن ظروف املخاطرة‬
‫لطالبي القروض مثال تجعل البنوك ترفع معدالت الفائدة بغض النظر عن مستوى املخاطرة‬
‫للمتقديمين بطلبات القرض وذلك لكي تتجنب أي خسائر غير متوقعة من قبلهم‪ ،‬ونتیجة لذلك‬
‫فإن طالبي القروض ذوو الخطر املنخفض سوف یمتنعون عن طلب القروض ألنهم یدركون أن‬
‫معدل الفائدة مبالغ فیه مقارنة باملخاطر املالیة التي يقدرونها ألنفسهم‪ ،‬وبالتالي فإن البنك سوف‬
‫یتعامل فقط مع طالبي القروض ذوو الخطر املرتفع ألنهم ال یرون في معدل الفائدة املرتفع أي‬

‫‪ 4‬للمزید حول هذا املوضوع‪ ،‬انظر‪:‬‬


‫‪- Joseph Stiglitz: « Information and the change in the paradigm in economics », Nobel Prize lecture, December 8th, 2001.‬‬
‫مبالغة مقارنة مع الخطر املرتفع الذي يشكلونه على البنك‪ ،‬وبالتالي لن يتعامل البنك إال مع طالبي‬
‫القروض ذوو الخطر املرتفع مما یزید من احتمال عدم قدرته على استرجاع أمواله وخسارته لها‪.‬‬
‫‪ -2‬الخطر االخالقي‪ :‬فنقص املعلومات أو تفاوتها يعمل كحافز للمنتجين أو املستهلكين لتغیير‬
‫سلوكهما‪ ،‬ففي قطاع التأمين مثال‪ ،‬یدفع التأمين على السيارات السائقين إلى القيادة بقليل من‬
‫الحیطة والحذر مقارنة بسلوكهم في القيادة في فترة ما قبل الحصول على التأمين‪ ،‬وهو ما يزيد من‬
‫معدل الحوادث وبالتالي زيادة التكالیف التي تتحملها شركات التأمين‪ ،‬ولذا تلجأ تلك الشركات في‬
‫العادة إلى رفع قيمة أقساط التامين أو رفض التأمين الشامل مثال‪ ،‬كردة فعل على الزیادة التي‬
‫تحملتها من تكالیف‪.‬‬
‫وهكذا فنقص املعلومات املتاحة قد یتسبب في نقص دعم النشاط اإلقتصادي واإلجتماعي‪ ،‬سواء‬
‫من خالل بروز مشكلة عدم القدرة على الحصول على التأمين كرد فعل من طرف شركات التأمين‬
‫لتكالیف الخطر املعنوي‪ ،‬أو لجوء البنوك إلى الحد من القروض املمنوحة نظرا لتعاملها فقط مع‬
‫الفئة األقل جودة من طالبي القروض ذوي الخطر املرتفع‪.‬‬
‫ثانيا‪ :‬انتاج السلع والخدمات العامة‪:‬‬
‫في االقتصادات املعاصرة أصبحت الدول تساهم في توفير ما تعجز آلیات السوق عن توفيره من السلع‬
‫والخدمات العامة وبخاصة منها تلك السلع والخدمات التي تهدف إلى تحسين املستوى املعیش ي ألفراد‬
‫املجتمع‪ ،‬ويتجنب انتاجها القطاع الخاص إما لعدم قدرته أو لسبب أو لخر من األسباب التي تتعارض‬
‫مع هدفه في تعظیم أرباحه‪ ،‬وقد جرت العادة على تقسيم السلع والخدمات العامة إلى نوعين رئيسين‬
‫هما‪:5‬‬
‫▪ سلع وخدمات عامة تتاح للجميع بنفس الشروط من مثل التعليم األساس ي املجاني أو‬
‫الخدمات الصحية األساسية‪ ،‬األمن ‪ ،‬خدمات القضاء ‪ ....‬ونحوها من السلع والخدمات التي ال‬
‫یلغي استفادة املستحق لها حق استفادة الغير كما ونوعا‪.‬‬
‫▪ سلع وخدمات عامة تتاح للبعض بشروط وربما حد حصول البعض عليها من حجم ونوع ما‬
‫يحصل عليها الخرون‪.‬‬

‫‪5 Michael Howard: op-cit, pp 10-15. Michael Howard: optic, pp 10-15.‬‬


‫ثالثا‪ :‬اآلثارالخارجیة‪:‬‬

‫یعرف األثر الخارجي بأنه األثر الناتج عن أي نشاط فردي یمس رفاهیة الطرف الخر سواء بشكل‬
‫إیجابي أو بشكل سلبي‪ ،6‬وفي هذا الصدد یفرق "بیجو" بين الثار الخارجیة اإلیجابیة التي تكون فيها‬
‫املنفعة الحدیة العامة أكبر من املنفعة الحدیة الخاصة‪ ،‬والثار الخارجیة السلبیة التي تكون فيها‬
‫املنفعة الحدیة الخاصة أكبر من املنفعة الحدیة العامة‪ 7‬فالدولة تتدخل للحد من الثار الخارجیة‬
‫السلبیة الناتجة عن نشاط القطاع الخاص والتي تتعارض مع مصلحة املجتمع وأهمها التلوث البیئي‪،‬‬
‫كما تسعى من خالل نفقاتها العامة إلى تولید آثار خارجیة إیجابیة ومن أمثلة ذلك نفقات التعلیم‬
‫والصحة التي تساهم في تحسين املستوى الصحي والتعلیمي لرأس املال البشري مما یؤدي للتأثير إیجابا‬
‫على دور عنصر العمل في العملیة اإلنتاجیة‪.‬‬

‫‪6 Gregory Mankiw: « principles of economics », 5th edition. South-western Cengage Learning, 2011,‬‬ ‫‪p11.‬‬
‫‪7 Warren J. Samuels et al: « A companion to the history of economic thought », Blackwell Publishing, USA, 2003, p 439.‬‬
‫رابعا‪ :‬تشريع اللوائح والقواعد التنظیمیة‪:‬‬
‫من مهام الدولة تشريع اللوائح والقواعد التنظیمیة التي يجب على القطاع الخاص االلتزام بها في‬
‫ممارسته للنشاط اإلقتصادي ومن ذلك على سبيل املثال‪:8‬‬
‫‪ -1‬اإللزام باإلفصاح‪ :‬حيث تقوم الدولة بإجبار الكيانات االقتصادية على اإلفصاح التام‬
‫والشفافیة في اعدادها القوائم املالية ألنشطتها؛ بما یمكن املتعاملين من اتخاذ أفضل القرارات‬
‫اإلستثماریة التي تعكس واقع املؤسسة وطبیعة أدائها‪.‬‬
‫‪ -2‬األحكام املانعة أو املقيدة‪ :‬تعمل الدولة على حظر العديد من من األنشطة واملمارسات على‬
‫مؤسسات القطاع الخاص‪ ،‬كأن تمنع التواطؤ على تحدید األسعار أو تجريم أي املمارسات التي‬
‫تتعارض واملنافسة التامة في السوق‪ ،‬كما قد تحظر على املتعاملين في األسواق املالیة بعض‬
‫املمارسات املضاربیة التي قد تؤدي إلى تحقیق أرباح غير طبيعية‪.‬‬

‫‪8 Joseph Stiglitz: « Government Failure vs. Market Failure: Principles of Regulation », presentation, initiative for policy dialogue, 2008, pp 5-11.‬‬
‫‪ -3‬التفویض (التخصيص)‪ :‬على عكس ما تفرضه الدولة من قیود على القطاع الخاص قد تمنع‬
‫عنه القیام بأنشطة معينة‪ ،‬فإن التفویض يعني قيام الدولة بإجبار القطاع الخاص بالقیام‬
‫بتنفيذ أنشطة محددة أو اإللتزام بتنفيذ إجراءات معينة تراها الدولة ضروریة من أجل ضمان‬
‫السير الحسن للنشاط اإلقتصادي‪ ،‬حیث یحظى هذا الشكل بقبول واسع نظرا ألنه یعبر عن‬
‫توفير للحاجات العامة دون أن ینجر عن ذلك أي إنفاق عام تتحمله خزینة الدولة‪.‬‬
‫ثانيا ‪ :‬املعارضون لتدخل الدولة في النشاط اإلقتصادي‬
‫يبرر مؤيدوا هذا التوجه‪ 9‬الذين يوصفون بالتقلیديين وهم أتباع املدرسة الكالسیكیة التي يتزعمها‬
‫"آدم سمیث" الذي یعتبر مؤسس الفكر اإلقتصادي املبني على الحریة اإلقتصادیة والحد األدنى للدولة‬
‫في النشاط اإلقتصادي‪ ،‬ومنهم أيضا اإلقتصادي النمساوي "فریدیریك فون هایك" وهو أحد رموز هذا‬
‫التوجه الذين استمروا في معارضة تدخل الدولة في النشاط اإلقتصادي حتى في الفترة التي القت فيها‬
‫أفكار التیار املؤید لتدخل الدولة رواجا واسعا في اإلقتصادیات العاملیة‪ ،‬حیث ارتكز في فكره على دعم‬
‫الحریة الفردیة كعامل رئیس ي في تطور النشاط اإلقتصادي والتأكید على أن الدولة املتدخلة تحد منها‬
‫وتؤثر سلبا على آلیة سير النشاط اإلقتصادي‪.‬‬
‫أما "میلتون فریدمان" فكان قائد الثورة املضادة للفكر الكینزي في العصر الحدیث‪ ،‬حیث أبرز من‬
‫خالل فكره النقدي الذي حظي بقبول واسع بدایة من ستینات القرن العشرین على أهمیة تحریر‬
‫األسواق‪ ،‬وأن التعاظم الكبير للقطاع العام في النشاط اإلقتصادي بسبب أفكار أنصار الدولة املتدخلة‬

‫‪9 Brian Atkinson et al: « economic policy », Macmillan press, London, 1996, p 12.‬‬
‫كان السبب الرئیس ي في تعرض اإلقتصاد العاملي في السبعینات ألزمة الكساد التضخم معارضته لتدخل‬
‫الدولة في الحیاة اإلقتصادیة انطالقا من اعتقاده بأن "آلیة السوق" ممثلة في القطاع الخاص هي أكفأ‬
‫من الدولة ممثلة في القطاع العام فیما یخص تخصیص املوارد‪ ،‬وعلى هذا األساس فإنهم یعتبرون أن‪10‬‬

‫تدخل القطاع العام في النشاط اإلقتصادي ال جدوى منه باعتبار أن كل ما یمكنه القیام به یمكن‬
‫للقطاع الخاص أن یقوم به بشكل أفضل؛ بل إن تدخل القطاع العام قد یدفع إلى‪:‬‬
‫▪ تراجع دور القطاع الخاص في النشاط اإلقتصادي؛‬
‫▪ انخفاض الرفاهیة اإلجتماعیة بسبب هیكل التحفيزات في املؤسسات العامة یشير إلى أن‬
‫أنشطة القطاع العام‬
‫▪ التأثير سلبا على األنشطة اإلنتاجیة باعتبار أن القطاع العام األقل كفاءة یسیطر على املوارد‬
‫بدل القطاع الخاص األكثر فعالیة‪.‬‬

‫‪10 Joseph Stiglitz: « Redefining the role of the state: what should it do? How should it do it? And how should these decisions be made? », A paper Presented on the‬‬

‫‪Tenth Anniversary of MITI Research Institute, 1998, Japan, p5.‬‬


‫وكما یبني مؤیدو تدخل الدولة في النشاط اإلقتصادي وجهة نظرهم انطالقا مما یسمى ب"إخفاق آلیة‬
‫السوق"‪ ،‬فإن معارض ي تدخل الدولة في النشاط اإلقتصادي یرتكزون في وجهة نظرهم على ما یسمى‬
‫ب"اإلخفاق الحكومي" الذي یقصد به عجز الدولة عن طریق تدخلها في النشاط اإلقتصادي في تحقیق‬
‫التخصیص األمثل للموارد اإلقتصادیة حسب مفهوم "باریتو"‪ ،‬وذلك بسبب ما یتميز به تدخل القطاع‬
‫العام من‪:‬‬
‫▪ نشرلسلوك البحث عن الریع ‪ Rent seeking behavior‬الذي یعتبر من أهم اإلنتقادات التي‬
‫توجه للقطاع العام وتحد من فعالیته‪ ،‬حیث یرى منتقدو تدخل الدولة أن قطاعا واسعا من‬
‫أصحاب السلطة في الدولة سیسعون من خالل أنشطة القطاع العام إلى تحقیق مصالحهم‬
‫الفردیة أكثر من سعيهم إلى تحقیق املصلحة العامة‪ ،‬إذ أنه غالبا ما یتم فرض اجراءات وقوانين‬
‫تحد من تطور القطاع الخاص ومقدرته التنافسیة لخدمة مصالح أصحاب السلطة بشكل أكبر‬
‫في إطار ما یسمى ب ـ "سلوك البحث عن الریع" وزیادة على ذلك فإن التنافس على العوائد بين‬
‫القائمين على السلطة من خالل أنشطة القطاع العام ستؤدي إلى بروز منافسة غير تامة في‬
‫السوق انطالقا من األفضلیة التي یحظى بها القطاع العام في العديد من املجاالت‪ ،11‬كما أن‬
‫ذلك السلوك یؤدي إلى تبذیر املوارد اإلقتصادیة وانتشار الفساد اإلقتصادي بشقیه سواء‬
‫الفساد اإلداري الذي یتجلى في انتشار البيروقراطية والسلوك اإلنتهازي ضد القطاع الخاص أو‬
‫الفساد املالي في شكل رشوة أو اختالسات مالیة‪ ،‬والذي یبرز من خالل جماعات املصالح‬
‫(اللوبيات) التي تسعى إلى تعظیم مصالحها الخاصة دون وجه حق یبرره املنطق اإلقتصادي على‬
‫حساب القطاع الخاص وعلى حساب املصلحة العامة‪.‬‬
‫▪ التأثیر سلبا على آلیة السعر‪ :‬یعتبر معارضوا تدخل الدولة في النشاط اإلقتصادي أن آلیة‬
‫السعر هي وحدها القادرة على التخصیص األمثل للموارد وفق مفهوم "باریتو"‪ ،‬حیث أن‬
‫األسعار تعكس التكالیف بحكم سریان مفهوم الربح ووجود منافسة بين املنتجين وعدم وجود‬

‫‪11 Ibid, p 7.‬‬


‫معوقات تحد من دخول منتجين منافسين‪ .12‬ومن ثم فال حاجة ألي تدخل من طرف للدولة في‬
‫النشاط اإلقتصادي ألن ذلك سوف یحد من الدور اإلقتصادي للیة السعر ومن ثم یسبب‬
‫اختالال في آلیة سير النشاط اإلقتصادي وفي طبیعة القرارات اإلقتصادیة املتخذة‪ ،‬بحكم أن‬
‫تدخل الدولة یسبب غیابا ملفهوم الربح من جهة كما یسبب غیاب املنافسة من جهة أخرى وهو‬
‫ما یعني اختالل النظام اإلقتصادي ككل‪.‬‬

‫▪ العالقة السلبیة بین اإلنفاق العام والنمو اإلقتصادي‪ ،‬والتي تعود لألسباب التالیة‪:13‬‬
‫‪ .1‬ارتفاع تكلفة التمویل‪ :‬تتسبب الخيارات املطروحة أمام الدولة لتمویل نفقاتها العامة في‬
‫حدوث آثار سلبیة على النشاط اإلقتصادي‪ ،‬إذ أن لجوء الدولة إلى املزيد من فرض الضرائب‬
‫یحد من معدالت اإلدخار ومن ثم نقص اإلستثمار‪ ،‬كما أن لجوءها إلى اإلقتراض سيساهم‬

‫‪12 Brian Atkinson et al: op-cit, p 22.‬‬

‫‪13 Daniel Mitchel: « the impact of government spending on economic growth », the heritage‬‬ ‫‪foundation, N°1831, 2005, pp 4,5.‬‬
‫في رفع معدالت الفائدة مما يخفض اإلستثمار‪ ،‬في حين أن اللجوء من قبلها إلى اإلصدار‬
‫النقدي سیدفع الرتفاع معدالت التضخم‪.‬‬
‫‪ .2‬تنحية القطاع الخاص‪ :‬إن ندرة املوارد اإلقتصادیة تتطلب استخدامها بكفاءة‪ ،‬وهذا ال‬
‫یتحقق في حالة تدخل الدولة وقیامها باألنشطة اإلقتصادیة بدال من القطاع الخاص‪،‬‬
‫وتنحية القطاع الخاص عن النشاط اإلقتصادي يعني بصورة من الصور إنعدام عنصر‬
‫املنافسة ومن ثم نقص اإلبداع واإلبتكار بالشكل الذي یعود بالسلب على تطور النشاط‬
‫اإلقتصادي كما وكيفا‪.‬‬
‫‪ .3‬غیاب الكفاءة‪ :‬إن توفير الدولة ملختلف الخدمات من تعلیم وصحة وكذا إنتاجها لبعض‬
‫املنتجات سيرافقه في الغالب التبذیر وعدم الرشادة في استخدام املوارد املتاحة‪ ،‬نظرا‬
‫لتغليبها الشأن اإلجتماعي الذي يتمثل في تحقیق املصلحة العامة بغض النظر عن تحقق‬
‫الربح من عدمه‪ ،‬بدال من تغليب املنطق اإلقتصادي الذي یتمثل في اإلحتكام إلى مفهوم تكلفة‬
‫الفرصة البدیلة‪ ،‬الذي يتمثله القطاع الخاص في سلوكه في استخدام املوارد وصوال إلى‬
‫تعظیم أرباحه وهو ما يؤثر إيجابا على اإلستخدام الكفء للموارد االقتصادية املتاحة‪.‬‬
‫‪ .4‬غیاب اإلبداع واإلبتكار‪ :‬في ظل سيادة القطاع العام للنشاط االقتصادي يتوقع تراجع‬
‫مستویات اإلبداع واإلبتكار سواء كان ذلك في طرق اإلنتاج أو في نوعیة املنتجات والخدمات‪،‬‬
‫بسبب غیاب عامل املنافسة‪ ،‬والربح الذي بدوره يغذي النمطية في النشاط اإلقتصادي‪.‬‬
‫والخالصة‪:‬‬
‫الشك أن إخفاقات آلیة السوق من جهة ٕواخفاقات تدخل الدولة من جهة أخرى تجعل من‬
‫الضروري تبني سياسة التكامل بين كل من دور القطاع الخاص ودور القطاع العام لتحقیق‬
‫الفعالیة والكفاءة في سير وأداء النشاط اإلقتصادي‪ ،‬حیث یمكن كل طرف من تدارك‬
‫إخفاقات الطرف الخر ومن ثم ضمان توافر أفضل الظروف والعوامل لتطویر األداء‬
‫اإلقتصادي‪ ،‬بحكم أن التجارب املتعددة عبر التاریخ اإلقتصادي أثبتت ومنذ عقود أنه ال‬
‫اقتصاد السوق القائم على الهیمنة شبه املطلقة للقطاع الخاص وال اإلقتصاد القائم على‬
‫التدخل املفرط للقطاع العام تمكنا من إعطاء تصور سلیم للیة سير النشاط اإلقتصادي‬
‫بما یضمن تحقیق الكفاءة والفعالیة في األداء اإلقتصادي‪ .‬وفي هذا الصدد يقترح "جوزیف‬
‫ستیغلیتز" إطارا فكریا لتدخل الدولة بما یمكن من تكامله مع دور القطاع الخاص في النشاط‬
‫اإلقتصادي‪ ،‬حیث یرتكز على خمسة محاور رئیسیة هي‪:14‬‬
‫▪ تقیید تدخل الدولة املباشر في العملیة اإلنتاجیة الذي یؤثر سلبا على األنشطة‬
‫اإلقتصادیة؛‬
‫▪ تقیید أنشطة الدولة التي تساهم في الحد من املنافسة‪ ،‬في مقابل العمل على تعزیز أي‬
‫تدخل للدولة من شأنه تعزیز املنافسة في السوق؛‬
‫▪ تعزیز التوجه على مستوى الدولة نحو اإلنفتاح والشفافیة؛‬
‫▪ تمكين القطاع الخاص من مشاركة القطاع العام في صنع القرار؛‬
‫▪ تحقیق التوازن على مستوى هیئات الدولة ما بين الخبرة والتمثیل املتوازن وتعزیز‬
‫املسائلة‪.‬‬

‫‪14 Joseph Stiglitz: « Redefining the role of the state: what should it do? How should it do it? And how should these decisions be made? », op-cit, pp 11-20.‬‬
‫وهذا ما يدعونا إلى ما نبه إليه الباحثون في اإلقتصاد اإلسالمي الذين يؤكدون أن للدولة‬
‫أدوارا مختلفة في مستوى التدخل في االقتصاد املحلي تتمثل في ‪:‬‬
‫(أ) الدور التنظيمي‪ ،‬وذلك من خالل سن القوانين والتشريعات وحفظ األمن والنظام لتوفير‬
‫ً‬
‫بيئة مستقرة لنمو االقتصاد‪ ،‬وهذا الدور أساس‪ ،‬وغالبا ما ُيبتدأ به‪.‬‬

‫(ب) الدور اإلنمائي‪ ،‬وذلك بترشيد النشاط االقتصادي للقطاع العام‪ ،‬وتجويد األداء في شتى‬
‫الجوانب االقتصادية واالجتماعية والثقافية‪ ،‬وقد ارتكز هذا على الفكر االقتصادي الذي‬
‫نادى به قادة الفكر اإلسالمي اإلقتصادي ومنذ وقت مبكر نجده مبثوثا في الكتب املتخصصة‬
‫أو في الكتابات املتفرقة أمثا األسهامات الفكرية التي تقدم بها القاض ي أبو يوسف في كتابه‬
‫الخراج ويحيى بن آدم في كتابه الخراج والحسن الشيبانب في كتابه الكسب وهوالء جميعا‬
‫كانوا من مفكري الدولة اإلسالمية في عهد هارون الرشيد رحمهم هللا وهو يقول به مفكرون‬
‫اقتصادييون في العصر الحديق وفي مقدمتهم االقتصادي البريطاني الشهير (جون كينز)‬
‫بداعي رفع مستوى الطلب الفعال‪.‬‬
‫(ج) الدور التصحيحي‪ ،‬وذلك في حالة تدهور األوضاع االقتصادية مثل االنخفاض الشديد‬
‫في أسعار السلع التصديرية‪ ،‬والتباطؤ في معدالت النمو وازدياد الفقر …الخ(‪.)3‬‬
‫إن ما سبق من بيانات عن دور الدولة في االقتصاد هو من قبيل الحكمة والفكر اإلنساني‬
‫املشترك‪ ،‬وتجدر اإلشارة إلى أن قواعد االقتصاد اإلسالمي ال تتنافى مع هذا الفكر‪ ،‬إال أن‬
‫االقتصاد اإلسالمي يتميز عما سبق بمراعاة أحكام ومبادىء الشريعة اإلسالمية‪ ،‬وما فيها من‬
‫قيم اقتصادية‪ .‬ومما طرح من قبل الباحثين االقتصاديين وغيرهم في تبرير تدخل الدولة في‬
‫إطار االقتصاد اإلسالمي األسباب التالية‪-:‬‬
‫أوال‪ :‬تحقيق املقاصد الشرعية‬
‫فكل تصرف من تصرفات األفراد يجب أن يكون منسجما مع مقاصد الشريعة وأهدافها‪،‬‬
‫فإذا كان العمل الذي قام به الفرد منافيا للمقاصد الشرعية‪ ،‬فعندئذ يعتبر هذا العمل‬
‫ممنوعا ال لذاته ولكن ملنافاته لتلك املقاصد التي ترتبط بمصالح الناس‪ ،‬لهذا فقد جاءت‬
‫قواعد كثيرة في الشريعة اإلسالمية تؤكد على تقديم درء املفاسد على جلب املصالح‪ .‬فاإلسالم‬
‫يقرر حرية الفرد في ممارسة النشاط االقتصادي ويحرص على الحرية كفطرة طبيعية‬
‫لإلنسان‪ ،‬كما يعترف بامللكية الخاصة ويؤكد على ضرورة حمايتها‪ ،‬إال أنه يخضع هذه‬
‫الحقوق والحريات للضوابط الشرعية التي تتفق والطبيعة االستخالفية للبشر والوظيفة‬
‫االجتماعية للمال ‪.‬‬
‫ثانيا‪ :‬حماية املصالح الجماعية‬
‫نصت الشريعة اإلسالمية على كثير من األحكام الجزئية حماية ملصلحة عامة‪ ،‬ومنها‪ :‬مبدأ‬
‫النزع الجبري للملكية لتحقيق مصلحة عامة‪ ،‬كانتزاع األرض املجاورة للمسجد أو للطريق‬
‫لتوسيعهما‪ ،‬كما أجازت الشريعة لولي األمر أن يبيع األموال املحتكرة جبرا عن أصحابها بسعر‬
‫املثل حماية ملصلحة املستهلكين ‪ .‬إن مفهوم املصالح الجماعية ليس جامدا وال محددا بصورة‬
‫ثابتة‪ ،‬لذلك فإن الدولة مكلفة بوضع القوانين واألحكام التي تستطيع من خاللها حماية‬
‫املصالح الجماعية‪ ،‬واليجوز للدولة نزع امللكية الخاصة إال لتحقيق مصلحة عامة ضرورية‪،‬‬
‫وفي كل الحاالت يتعين عليها إذا ما اضطرت لنزع ملكية خاصة تعويض أصحابها تعويضا‬
‫عادال ‪.‬‬
‫ثالثا‪ :‬تعزيز املبادئ األخالقية‬
‫تهدف املقاصد الشرعية إلى تحقيق املصالح الجماعية‪ ،‬ألن الشريعة ما جاءت بأحكامها إال‬
‫إلقرار املبادئ األخالقية ورعايتها وتعزيزها عن طريق القوة اإللزامية التي يتصف بها التشريع‪،‬‬
‫حيث أن معظم املبادئ الشرعية األساسية كالعدالة واإلحسان وتحريم االستغالل ما هي إال‬
‫مبادئ أخالقية‪ .‬رعاية ملثل هذه املبادئ‪ ،‬فإنه يمنع التشريع أي فعل ولو كان مباحا في األصل‪،‬‬
‫إذا كان يتضمن معنى اإلضرار أو یهدف إليه وفي النتيجة يجب أن يحافظ هذا التدخل على‬
‫منظومة من القيم التي من أهمها‪:‬‬
‫▪ العدل واإلحسان‪ :‬العدل في التوزيع‪ ،‬واإلحسان في إعادة التوزيع‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫▪ الشورى واإلدارة‪ :‬وهي – فضال عن كونها مبدأ سياسيا – تطبق في االقتصاد واالجتماع‬
‫واإلدارة من أجل استخالص أقوى األداء‪.‬‬
‫▪ الصبر ‪ :‬مع العمل وبذل الجهد‪ ،‬ألن التقدم والفالح منوط باملصابرة‪.‬‬
‫▪ التوكل ‪ :‬بعد العلم والعمل واتخاذ األسباب‪ ،‬وفيه إعداد النفس لقبول النتائج وتكرار‬
‫املحاولة‪.‬‬
‫▪ املسؤولية الفردية‪ ،‬وبخاصة عن املال من أين اكتسبه صاحبه وفيم أنفقه(‪.)7‬‬
‫▪ الحرية االقتصادية‪ :‬وأهم مظاهرها حرية الدخول في النشاط اإلنتاجي والخروج منه‪،‬‬
‫وحرية تنقل عوامل اإلنتاج وشفافية السوق‪ .‬وهذه الحرية مقيدة بقيود تشريعية‬
‫وأخالقية مستمدة من األحكام الشرعية (مبدأ الحالل والحرام)‪.‬‬
‫▪ وأخيرا نستحضر قوله صلى هللا عليه وسلم‪« :‬دعوا الناس يرزق بعضهم من بعض»(‪.)8‬‬
‫وهذا املبدأ النبوي أقدم بقرون مما تردد عند االقتصاديين من مبدأ «دعه يعمل دعه‬
‫يمر»‪.‬‬

You might also like