Professional Documents
Culture Documents
ُكّت اب وآراء 2.
إذا كان من سؤال يفرض عنا ،نحن العرب ،إعادة طرحه اليوم أكثر من أي وقت مضى،
العتبارات متعددة من أهمها التحديات والرهانات المرتبطة بالسياق العالمي المليء بالمخاطر التي
تهدد حاضرنا ومستقبلنا ،فهو السؤال “القديم – الجديد” :ما العالقة بين السياسة واالقتصاد؟ ألنهما
المحددان الرئيسيان للحياة االقتصادية واالجتماعية والسياسية في كل بلد وفي كل زمان ،وألن
المتغيرات السياسية واالقتصادية العالمية منذ سقوط حائط برلين تفرض التحيين المستمر لإلجابة
.عن هذا السؤال
تتعدد تعريفات السياسة واالقتصاد حسب الدوافع والخلفيات النظرية لكل باحث أو منظر أو
ممارس .وتبقى الغاية ،كيفما كان المنطلق النظري والخلفيات لكل من هؤالء ،هي تحقيق التنمية.
وما يحكم عن جدوى وأهمية أي مقاربة سياسية أو اقتصادية هو النتائج على أرض الواقع.
.هم المواطنون بمختلف شرائحهم االجتماعية ) (l’arbitreوالحكم
وإذا كان ما يهمنا في هذه الورقة هو مالمسة بعض جوانب العالقة بين السياسة واالقتصاد؛ فهو
أمر يفرض علينا اإلجابة ولو نسبيا عن السؤالين التاليين :متى تختل العالقة بينهما؟ وما العمل
.للحد من االختالل بين الجانبين في حالة وجوده واستفحاله؟
أوال :في العالقة بين السياسة واالقتصاد
كما سبق الذكر فتعريفات السياسة واالقتصاد متعددة ومتباينة ،نظرا لتباين منطلقات وخلفيات
الباحثين والمنظرين والممارسين ،لكن ال أحد من هؤالء ينفي عن االقتصاد والسياسة صفتهما
العلمية .والقصد أن السياسة علم ،واالقتصاد علم كذلك .ولن ندخل في النقاش العقيم حول مدى
.دقة كل منهما
إن العالقة بين علم السياسة وعلم االقتصاد عالقة وثيقة؛ عالقة تالزم وتكامل ،حتى إن بعض
الكتاب والمحققين اإلعالميين اعتبروهما توأمين .وحسب محمد فايز أسعيد ،وقد كان أستاذا للعلوم
السياسية واالجتماع في ألمانيا واألردن ووجدة بالمغرب ،في الثمانينيات من القرن الماضي ،فإن
.علم االقتصاد كان يسمى “االقتصاد السياسي” للداللة على امتزاجه بالسياسة
وكان يفسر االقتصاد في الماضي بأنه قسم من علم الدولة العام ،فقد كان يهتم أوال وقبل كل شيء
بالطرائق التي تستطيع بها الدولة أن تكون غنية وقوية وذات دخل وفير .أما اليوم فقد اتسع أفق
علم االقتصاد ،حيث إنه يشمل جميع األفراد والفعاليات االجتماعية التي لها صلة باإلنتاج
والتوزيع واالستهالك والرخاء .وقد ال يهتم علم السياسة ببعض هذه المسائل (اإلنتاج والتوزيع
واالستهالك…) إال بشكل عرضي وضعيف ،بينما نجد أن االتصال وثيق بينه وبين علم االقتصاد
.في بعضها اآلخر
ويقدم لنا محمد فايز أسعيد في كتابه “قضايا علم السياسة العام” – والفكر يخلد صاحبه ولو بعد
الوفاة -أمثلة توضح بعض جوانب العالقة بين السياسة واالقتصاد؛ فحسبه تكرس قوانين الدولة
كثيرا من اهتماماتها للمشكالت المتعلقة بالملكية والعقود والشركات .ونفهم من ذلك أن الدولة
باعتبارها أهم فاعل سياسي ،بممثليها ،هي التي تعد القوانين التي تنظم النشاطات االقتصادية
والتجارية ،من إنتاج وتوزيع واستهالك وعالقات اقتصادية وتجارية بين األطراف المعنية ،سواء
.على المستوى الوطني أو الدولي
كما يبحث جزء مهم من االقتصاد في فعاليات الدولة الخاصة بالثروة ،فموضوعات الضرائب
والنقود والمشاريع الصناعية الحكومية (…) تشكل بحوثا عامة مشتركة بين علمي االقتصاد
والسياسة؛ وعلم االقتصاد ينظر إليها على أنها جزء من مجموع فعاليات اإلنسان المتصلة
.بالثروة ،بينما يفسرها علم السياسة بأنها وظائف خاصة بأعمال الدولة اإلدارية
األحوال االقتصادية :تؤثر ماديا في تنظيم الدولة وتطورها وفعالياتها ،والعكس ،غالبا ما تقوم
الدولة بدورها بتعديل األحوال االقتصادية من خالل ما تصدره من قوانين .وتتضح الطريقة التي
يمكن للدولة التأثير بها على األحوال االقتصادية في التشريعات الخاصة بالنقابات والشركات
وقوانين التعريفة الجمركية ونظم تحديد العمل .فجميع الفعاليات االقتصادية داخل أي بلد تسير
.وفقا لقوانين وظروف هيئة الدولة باعتبارها فاعال سياسيا
وأكد األستاذ أسعيد أن النظريات السائدة بشأن وظائف الحكومة تؤكد جميعها مدى تأثير ذلك على
الحياة االقتصادية في كل قطر ،وأن عالقة السياسة واالقتصاد أصبحت قوية منذ الثورة
.الصناعية ،أي منذ القرن 18
فإن حدثا )” (Bremond et Gélédanوحسب االقتصاديين الفرنسيين “بريمون و جيليدان
اقتصاديا من قبيل حصول أزمة اقتصادية في صناعة الحديد والصلب قد يصبح حدثا سياسيا
حينما يتأثر اآلالف من العاملين بهذه الصناعة من خالل النقص في أجورهم أو تسريحهم
.فيتظاهرون ويحتجون عن غالء المعيشة وإضعاف قوتهم الشرائية وتعطيلهم عن العمل
إن االقتصاد مرآة تعكس السياسة ،فكل تطور اقتصادي يشهده أي بلد يؤثر حتما في وضعه
السياسي .وكل من االقتصاد والسياسة يخدم اآلخر سلبا وإيجابا؛ فالعالقة الوثيقة بين الجانبين ركن
أساسي في عمل ومبادئ أي دولة لها أهداف محددة ،حيث إن أي تصرف خاطئ يؤدي ال محالة
إلى كارثة رغم وجود اإلمكانات االقتصادية .علما أن هناك بلدانا تجعل من الهدف االقتصادي
.هدفا أساسيا ،وتجعل السياسة في خدمته
وعموما ،فالسياسة في جوهرها كما عبرت عن ذلك اإلعالمية العربية حسنية العلى بشكل مبسط
في تحقيقها اإلعالمي حول “جدلية العالقة بين السياسة واالقتصاد” هي :القدرة على التكيف مع
الواقع وفن الممكن .واالقتصاد هو الذي يحقق هذا التكيف على أرض الواقع من خالل اآلليات
(…).والسياسات االقتصادية والنظريات
.ولنا أن نتساءل اآلن ،متى تختل العالقة بين االقتصاد والسياسة؟
ثانيا :في اختالل العالقة بين السياسة واالقتصاد وانعكاساته
ما تقدم وغيره كثير يوضح أن السياسة واالقتصاد هما فعال مترابطان ومتكامالن ،وهما من خالل
نظرياتهما واآلليات واألدوات التي يقدمانها منظومتان من قواعد التدبير العامة والمجردة التي
.أفرزها الفكر اإلنساني عبر تاريخ تطوره
وبناء على ذلك ،فإنه كما يرى الباحث المغربي في تحليل الخطاب محمد بنحمادة ،في كتابه
الجدير بأكثر من قراءة “السياسة والسلطة والثورة…” ،فالسياسة أفكار والفعل هو وجهها المرئي.
ونضيف أن االقتصاد هو كذلك منظومة فكرية تكمل المنظومة الفكرية السياسة .والفعل المرئي
.هو وجههما معا
والفعل المرئي يحيلنا مباشرة إلى الفاعل السياسي والفاعل االقتصادي .والفاعل لغة هو من يقوم
بعمل الفعل؛ ومن ثم فالفاعل السياسي هو من يقوم بالفعل السياسي ،والفاعل االقتصادي هو من
يقوم بالفعل االقتصادي .وباختصار ،فالفاعل السياسي الرئيسي يتمثل في األحزاب السياسية،
وهناك فاعلون آخرون مساعدون له في الدول الديمقراطية ،وهم النقابات ،والجمعيات،
والمنظمات غير الحكومية ،وجماعات الضغط (…) .وهم يساهمون في هيكلة الحياة السياسية؛
دون نسيان الدور الهام الذي يؤديه المواطنون من خالل تعبيراتهم المختلفة من تظاهرات
(…).واحتجاجات وتقديم العرائض
ويقصد بالفاعلين االقتصاديين :األفراد أو الشركات أو المنظمات أو الحكومات (…) الذين
.يقومون بالنشاطات االقتصادية
وال شك أن ما تقدم يوحي لنا بأنه في حالة حصول اختالل ما ،بدرجة ما ،في العالقة بين السياسة
واالقتصاد ،فمرده حتما إلى الفاعل السياسي والفاعل االقتصادي .ولنا أن نالمس ذلك في ما يأتي
.من سطور
حينما تتحكم في الفعل السياسي المصالح الخاصة /الذاتية للفاعل السياسي ،تنحط اإلدارة
االقتصادية وتنحط معها الثقة بين الفاعلين السياسيين واالقتصاديين؛ وبالنتيجة ،تعم األزمات
االقتصادية والمالية ،وتصبح الخزينة العامة للبلد عاجزة عن سد النفقات الضرورية في المجتمع،
فتلجأ الدولة إلى المديونية الخارجية وتسقط بذلك في فخ المنظمات المالية الدولية واألبناك التي
تفرض عليها شروطا أقل ما يقال عنها إنها تتسبب في أزمات اجتماعية خانقة ،كما حصل في
العديد من دول الجنوب في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي ،ومازال يحصل؛ وربما
تتسبب في زعزعة االستقرار السياسي في البلد الذي يستفحل فيه اختالل العالقة بين الفاعل
.السياسي والفاعل االقتصادي
وال شك أن أكبر مظهر من مظاهر اختالل العالقة بين الفاعل السياسي والفاعل االقتصادي هو:
.تفشي الفساد اإلداري والمالي
الفساد عامة موضوع حساس يثير ردود فعل عنيفة في بعض الدول ،وبقدر ما تحاول بعض
.الحكومات محاربته ،بقدر ما تحول جيوب المقاومة دون ذلك
وتعرف منظمة الشفافية الدولية الفساد بأنه إساءة استعمال السلطة الموكلة لتحقيق مكاسب خاصة،
كما تم تعريفه في وثيقة مكافحة الفساد لتحسين إدارة الحكم في مكتب السياسات اإلنمائية ،الصادر
عن منظمة األمم المتحدة سنة ،1990بأنه “إساءة استعمال القوة العمومية أو المنصب أو السلطة
للمنفعة الخاصة” .وأوضحت الوثيقة ذاتها أن حصول اإلساءة قد يكون عن طريق الرشوة أو
االبتزاز أو استغالل النفوذ أو المحسوبية أو االختالس .وحسب البنك الدولي فالفساد هو “إساءة
”.استعمال الوظيفة العامة للكسب الخاص
استنادا إلى هذه التعاريف وغيرها فإن الفساد يعني وجود فاعل أو عدة فاعلين يملكون القوة
والسلطة معا لتحقيق مآربهم الشخصية أو الجماعية ،والمادية والمعنوية؛ ويتجاوزون بل
يهضمون حقوق الغير؛ وبذلك يتجاوزون القوانين والضوابط ،ما يؤدي إلى انعدام العدالة
.االقتصادية واالجتماعية
إن تفشي الفساد اإلداري والمالي يفضي إلى أزمة الثقة في الفعل العمومي ،والدليل على ذلك في
حالة المغرب ما يتضمنه التقرير العام للنموذج التنموي الجديد الذي أعدته اللجنة المكلفة من لدن
ملك المغرب ،وذلك في “باب المشاورات ،الوضعية الراهنة والتشخيص”؛ فقد أعرب المشاركون
بمختلف أصنافهم لهذه اللجنة عن أزمة الثقة تجاه الفعل العمومي في سياق تردي جودة الخدمات
العمومية وضعف الحس األخالقي وقيم النزاهة على العموم لدى المكلفين بتدبير الشأن العام .كما
عبر المشاركون عن ضعف الثقة إزاء النخب السياسية واالقتصادية والفئات االجتماعية
الميسورة ،ألن هذه النخب ال تنظر إال من زاوية مصالحها وامتيازاتها غير المشروعة ،وهي غير
.حريصة على المصلحة العامة
من جانب آخر ،يشير التقرير العام أعاله إلى أن الفاعلين االقتصاديين قلقون إزاء العالقات التي
تربطهم باإلدارة ونقص الشفافية في قواعد اللعبة االقتصادية؛ وهي وغيرها أمور تحد من دينامية
.المقاولة ومن أخذ المبادرة
لكن ،في تقديرنا يصبح الفاعل االقتصادي صاحب المقاولة على سبيل المثال ال الحصر مشاركا
في الفساد عندما يلجأ إلى الطرق المجانبة للقانون ،من رشوة ومحسوبية ،لالستفادة من الصفقات.
وفي هذا الصدد ،للحد من هذه السلوكيات خطت اإلدارة المغربية خطوات مهمة من خالل قانون
الصفقات األخير ،الذي تعتريه بعض الشوائب التي يمكن تعديلها أو تغييرها ،وهنا نترك الكلمة
لذوي االختصاص .وال شك أن الرقمنة ستسهم في شفافية العمليات االقتصادية .لكن ،دعنا نقول
بكل تجرد إن ما يجري من توافقات في الكواليس بين من يريدون االستفادة من الصفقات ،خارج
االجتماعات التي تعقدها اللجان المكلفة بدراسة الصفقات بالجماعات خاصة ،ال يمكن ضبطه
بسهولة؛ وهو ما يفسد تطبيق القوانين ويفضي إلى ظلم المقاوالت الصغرى والمتوسطة
.والشركات التي تقصى من الصفقات بدعوى عدم توفرها على هذه الوثيقة أو تلك
ولألمانة ،ففي المغرب تصدر الوزارة المعنية بالصفقات بيانا سنويا تحدد فيه بوضوح المقاوالت
والشركات الممنوعة قانونيا من مزاولة النشاطات االقتصادية خالل السنة الجارية أو السنوات
المحددة في البيان .كما أن الجهود التي تبذلها المجالس الجهوية للحسابات في هذا الصدد جد
.محترمة
ختاما :ما العمل في حالة اختالل العالقة بين السياسة واالقتصاد ،وانعكاس ذلك سلبا على
المجتمع؟
نعتقد أنه يجب على الدولة في أي بلد عربي تفعيل اآللية القانونية بصرامة ،ألن مصلحة الوطن
فوق كل اعتبار .والدولة باعتبارها الفاعل السياسي األسمى مرتبة مطالبة بتطبيق القاعدة القانونية
.السامية :ربط المسؤولية بالمحاسبة
من جانب آخر ،إن السياسة واالقتصاد منتجين خالصين للثقافة السائدة والتربية والتعليم في أي
.بلد .وما الفاعلون االقتصاديون والفاعلون السياسيون إال مخرجات لنظام تربوي وتعليمي وثقافي
لذلك يبقى إصالح النظام التربوي والتعليمي والثقافي هو المدخل الحقيقي للعالقة السوية بين
.االقتصاد والسياسة في أي بلد
إقرأ التعليقات ()2
Telegramتابعوا آخر األخبار من هسبريس على WhatsAppتابعوا آخر األخبار من هسبريس على