Professional Documents
Culture Documents
ملحق خاص بأبحاث املؤتمر السنوي الثالث -الحوكمة والتنظيم القانوني ألسواق املال -العدد ( - )1الجزء األول 19
اقتصاديات الحوكمة دراسة يف األصول القانونية والسياسية واالقتصادية للحوكمة
وانتهت الدرا�سة �إىل �أن احلوكمة هي �آلية جديدة للتوازن بني احلرية وامل�س�ؤولية
تلبي حاجة حقيقية للمجتمعات وامل�ؤ�س�سات املعا�رصة ،خا�صة يف الدول النامية،
ب�رشط �أن ت�صاغ على نحو كفء وفعال و�أن جتد فر�صتها يف التطبيق الواقعي.
مقدمة:
قد ال ن�ضيف جديد ًا �إذا �أ�رشنا �إىل �أن م�صطلح احلوكمة ،الذي ال ميتد عمره �إال �إىل
عقود قليلة ،قد غزا تقريب ًا خمتلف العلوم االجتماعية و�أ�ضحى حمل اهتمام كبري من
الباحثني اجلادين .و�إذا كان قد بد�أ ظهور هذا امل�صطلح يف �أدب االقت�صاد املايل يف �إطار
البحث عن زيادة كفاءة ال�رشكات ،ف�إن مطالعة جل املراجع املتاحة ت�ؤكد �أنه قد حظي
م�ؤخر ًا با�ستخدام وا�سع ومتزايد من الباحثني يف علوم القانون واالقت�صاد وال�سيا�سة
والإدارة واالجتماع على ال�سواء ،و�إن تباينت ب�شكل وا�ضح الأطر التي يندرج فيها هذا
اال�ستخدام.
والواقع �أنه بعد مطالعة وافية للأدب الذي تناول مو�ضوع احلوكمة وجدنا �أنه
من املنا�سب �أن نخ�ص�ص هذه الدرا�سة لإطاللة على الأ�صول املرجعية للحوكمة يف
علوم القانون وال�سيا�سة واالقت�صاد ،كي نتيح للباحثني العرب نظرة نقدية متكاملة
للمو�ضوع .وقد ق�سمنا هذا التناول �إىل �أربعة �أجزاء نعر�ض فيها على التوايل ملو�ضوعات:
مفهوم اقت�صاديات احلوكمة وركائزها ،والأ�صول القانونية للحوكمة ،واحلوكمة من
منظور العلوم ال�سيا�سية والإدارية ،و�أخري ًا :احلوكمة والتنمية االقت�صادية.
مجلة كلية القانون الكويتية العاملية -السنة الرابعة -مايو 2016 20
�أ.د� .أحمد جمال الدين مو�سى
،slipperyلأنه لي�س حمل اتفاق بني الدار�سني يف خمتلف العلوم االجتماعية؛ �إال
�أنه ميكن �أن جند تفاهم ًا حول كون احلوكمة ت�سعى لفهم طبيعة احلكومة والهيئات
العامة وامل�ؤ�س�سات واملنظمات اخلا�صة والأهلية امل�ؤثرة على رفاه الأفراد وعلى تطور
املجتمعات ،وحماولة الت�أثري عليها لزيادة فاعليتها وكفاءتها؛ فنظرية احلوكمة تطمح
للإحاطة مبدى كفاءة عملية اتخاذ القرار عند امل�ستويات املختلفة للم�ؤ�س�سات واملنظمات
العامة واخلا�صة ،ال�سيما من حيث طبيعة العالقات واملفاو�ضات والتفاهمات و�أ�ساليب
التعامل ومقدار النزاهة ودرجة ال�شفافية.
وقد �شهدت ال�سنوات الأخرية قبو ًال �أكرب بني االقت�صاديني وغريهم من
املتخ�ص�صني يف العلوم االجتماعية الأخرى للتو�سع يف تطبيق قواعد احلوكمة على
خمتلف الأ�سواق ،خا�صة الأ�سواق املالية؛ خروج ًا على النظرة ال�سائدة لعقود طويلة
لدى املدر�سة الكال�سيكية ،املتم�سكة برتك احلرية كاملة لقوى العر�ض والطلب والآليات
الذاتية للأ�سواق .وترجع �أهمية احلوكمة لكون الأن�شطة االقت�صادية والأ�سواق
واملعامالت ب�شكل عام ال جتري على نحو منتظم بدونها؛ فنحن نحتاجها ك�رشط
�أ�سا�سي م�سبق حل�سن �سري اقت�صاد ال�سوق.
ويكرث يف الآونة الأخرية يف نطاق اقت�صاديات التنمية ،وبدعم من البنك الدويل،
ا�ستخدام م�صطلح «احلوكمة احلميدة» �أو «احلوكمة اجليدة» Good Governance
الذي ين�رصف �إىل جمموعة من الركائز من �أبرزها� :شفافية ال�سيا�سات والإجراءات
التي تتبعها ال�سلطات العامة ،وحماربة الف�ساد ،وتعزيز دولة القانون وحت�سني �أداء
م�ؤ�س�ساتها الأ�سا�سية ،واحرتام القيم الدميقراطية ،وتوفري البنية الأ�سا�سية املادية
واملعلوماتية ،و�ضبط �آليات عمل الأ�سواق مبا ي�ضمن حقوق امللكية و�إنفاذ العقود
وال يخل بت�شجيع مبادرات القطاع اخلا�ص .وي�شري تقرير للأمم املتحدة �إىل �أن هناك
توافق ًا consensusبني م�ؤ�س�سات التنمية الدولية على �أن احلوكمة احلميدة هي
متطلب �أ�سا�سي basic pre-requisiteللتنمية االقت�صادية امل�ستدامة؛ فبناء القدرة
capacity buildingعلى حتقيق احلوكمة على �أر�ض الواقع يعترب �أداة فعالة
لإجناح برامج حماربة الفقر(.)1
( )1انظر6-1 .P ,)2000( United Nations :
ملحق خاص بأبحاث املؤتمر السنوي الثالث -الحوكمة والتنظيم القانوني ألسواق املال -العدد ( - )1الجزء األول 21
اقتصاديات الحوكمة دراسة يف األصول القانونية والسياسية واالقتصادية للحوكمة
و�إذا نظرنا �إىل مكونات احلوكمة على نحو �أكرث تف�صي ًال ،ف�إننا �سنجد �أن من �أبرزها
«حماية حقوق امللكية» التي ال تقت�رص فقط على �سن القوانني التي حتمي تلك احلقوق
و�ضمان فعالية �إنفاذها يف مواجهة الل�صو�ص واملغت�صبني الأفراد الذين ي�سعون
ل�سلب حقوق الغري ،و�إمنا متتد �أي�ض ًا ملواجهة حماوالت بع�ض امل�ؤ�س�سات احلكومية
تهديد حقوق ملكية الأفراد؛ �سواء ب�صورة مبا�رشة من خالل امل�صادرة �أو الت�أميم �أو
احلرا�سة� ،أو ب�صورة غري مبا�رشة من خالل الزيادة املبالغ فيها يف �أ�سعار ال�رضائب
والر�سوم �أو تقييد ا�ستخدام حقوق امللكية والت�رصف يف املكا�سب والدخول �أو التغيري
امل�ستمر يف ا�شرتاطات الرتاخي�ص والبناء .والأخطر من كل ما �سبق هو انت�شار الر�شوة
والف�ساد حيث يقتطع بع�ض امل�سئولني �صغار ًا �أو كبار ًا من املواطنني ب�شكل مبا�رش �أو
ب�شكل غري مبا�رش جزء ًا من حقوقهم و�أموالهم خارج �إطار القانون.
وقد �أثبتت العديد من الدرا�سات االقت�صادية التطبيقية �أن �ضعف حقوق امللكية
ب�سبب انت�شار درجة عالية من الف�ساد و�صدور ت�رشيعات وتعليمات مباغتة ،وما
يرتبط بها من �شعور بعدم اليقني ،يحول بني العديد من الدول النامية وانتقالها �إىل
م�ستويات �أعلى من التنمية االقت�صادية( .)1ويف ر�أي غالبية االقت�صاديني ف�إن الدولة
عندما حتمي حقوق ملكية الأفراد من كل تعد خا�ص �أو عام ،ف�إنها تقدم لهم احلافز
للم�شاركة بن�شاط يف الأن�شطة االقت�صادية ،خا�صة اال�ستثمار يف م�رشوعات جديدة،
الأمر الذي يغذي النمو االقت�صادي ويحقق يف نهاية املطاف التنمية(.)2
وبح�سب �أوليفر وليام�سون( Oliver E. Williamson )3احلائز على جائزة
نوبل يف االقت�صاد لعام ،2009ف�إن الركائزالأ�سا�سية التي يقوم عليها فهم م�صطح
«اقت�صاديات احلوكمة» تن�رصف �إىل� :إجالء هدف احلوكمة ،ونفقات املبادالت،
والتكيف مع الظروف املتغرية ،والتكامل بني العلوم االجتماعية ،خا�صة علمي القانون
واالقت�صاد .ويف �إطار الركيزة الأوىل ،ف�إن احلوكمة هي يف جوهرها و�سيلة لفر�ض
النظام ،مما ي�ؤدي �إىل تخفيف احتماالت النزاع بني �أطراف املبادلة االقت�صادية ،وهو
مجلة كلية القانون الكويتية العاملية -السنة الرابعة -مايو 2016 22
�أ.د� .أحمد جمال الدين مو�سى
ما يقود يف نهاية املطاف �إىل حتقيقهم مكا�سب متبادلة .وفيما يتعلق بنفقات املبادالت
transactions costsالتي ظل التيار املت�شدد يف املدر�سة الكال�سيكية ينكر �أهميتها
يف التحليل االقت�صادي ،ف�إن الدرا�سات املتميزة لكل من رونالد كوز Ronald Coase
(جائزة نوبل يف االقت�صاد لعام )1991وكينيث �أرو ( Kenneth Arrowجائزة
نوبل يف االقت�صاد لعام )1972قد خل�صت �إىل �أن نفقة العمليات التي جتري يف الأ�سواق
املتناف�سة �أكرب من �صفر.
ويعتقد العديد من االقت�صاديني ومن بينهم فريدريك هايك Friedrich Hayek
(جائزة نوبل يف االقت�صاد لعام � )1974أن التكيف �أو الت�أقلم يعد املو�ضوع الرئي�س يف
التنظيم االقت�صادي ،ولذلك جند �أن كل الفاعلني االقت�صاديني economic actors
ي�سعون ب�شكل م�ستمر للتكيف مع املتغريات التي تعرتي ال�سوق .غري �أن مفهوم
التكيف adaptationيختلف عند االقت�صاديني؛ فبينما يراه هايك ذاتي ًا يتم داخل
�إطار ال�سوق ،ف�إن اقت�صادي ًا �آخر هو ت�شي�سرت برنارد )1( Chester Barnardيجده
غري عفوي ويجري ب�شكل واع ومق�صود يف �إطار تنظيمي .وت�ؤكد الركيزة الرابعة
التي يقرتحها وليام�سون �أن التداخل والتكامل Interdisciplinaryبني العلوم
االجتماعية مهم للإحاطة الوافية مبفهوم احلوكمة ،ال�سيما امل�ساهمات العلمية لكل من
نظرية التنظيم organization theoryوقانون العقد .)2(contract law
وتنطوي �أ�ساليب احلوكمة على تنوع ،كما يتفاوت ا�ستخدامها وفق ًا لأهمية وتعقد
املعامالت حمل االهتمام ،وهي تختلف �أي�ض ًا من حيث نفقتها وما قد تنطوي عليه من
�آثار جانبية �سلبية .ومن بني �أ�ساليب احلوكمة :التدخل الالئحي ،والرقابة الإدارية،
وتنظيم �أكرث كفاءة للت�رشيعات املطبقة ،وتفعيل امل�ستويات الرئا�سية يف امل�ؤ�س�سات
وال�رشكات والهيئات االقت�صادية( .)3وميكن القول �إجما ًال �إن احلوكمة تهتم على وجه
اخل�صو�ص ب�أمرين :الأول هو القواعد القانونية التي حتمي حقوق امللكية وتي�رس
ملحق خاص بأبحاث املؤتمر السنوي الثالث -الحوكمة والتنظيم القانوني ألسواق املال -العدد ( - )1الجزء األول 23
اقتصاديات الحوكمة دراسة يف األصول القانونية والسياسية واالقتصادية للحوكمة
التبادل بني النا�س ،وهي ما ميكن �أن نطلق عليها قواعد ال�سوق ،والثاين هو دور و�آليات
(.)1
عمل امل�ؤ�س�سات التي تدعم وتي�رس الإنتاج والتبادل خارج �إطار عمل ال�سوق
ويف اعتقادنا �أن االرتباط وثيق بني الأمرين ال�سابقني و�أن كليهما بحاجة حقيقية
لقواعد احلوكمة القائمة على ال�شفافية والنزاهة والكفاءة ،ويكفينا يف جمال «قواعد
ال�سوق» يف ظل النظام الر�أ�سمايل املعا�رص �أن ن�ستعر�ض ال�صورة التي ير�سمها راندل
مورك ولويد �ستري( Randall Morck and Lloyd Steier )2لالقت�صاد الأمريكي
يف �أوائل القرن احلادي والع�رشين .فالر�أ�سمالية يف �أمريكا تتمثل يف نظام تتناف�س فيه
�أعداد �ضخمة من ال�رشكات امل�ستقلة للح�صول على الزبائن .ورغم �أن االحتكارات
جمرم ٌة قانون ًا� ،إال �أن املحاكم توفر حماية غري كافية من خماطرها.
َّ monopolies
ويف كل �رشكة من ال�رشكات الكربى يوجد رئي�س تنفيذي CEOير�سم �سيا�ستها
ويحدد ا�سرتاتيجيتها ،على حني يكون دور جمل�س الإدارةBoard of directors
�سلبي ًا يف �أغلب الأحيان .وتعود ملكية هذه ال�رشكات للماليني من �أ�صحاب الأ�سهم
املنتمني يف معظمهم للطبقة الو�سطى ،و�إن كانت ملكية كلٍ منهم تقت�رص على ب�ضع
مئات �أو �آالف من الأ�سهم؛ وهم عادة غري منظمني disorganizedويفتقدون �أي
�سلطة حقيقية . powerlessيوجد فقط حفنة handfulمن امل�ستثمرين امل� َؤ�س�سني
institutional investorsقادرون على �أن يراكموا كتلة كبرية من الأ�سهم
قد ت�صل �إىل � %3أو %5من �إجمايل ر�أ�س املال ،مما مينحهم احلق يف التعبري عن
تف�ضيالتهم ورمبا التمثيل يف جمل�س الإدارة .ويف الوقت ذاته يتمتع ر�ؤ�ساء ال�رشكات
التنفيذيني ب�سلطة قوية ،غالب ًا ما ي�سيئون ا�ستخدامها بح�سب معتقداتهم ال�شخ�صية،
ال�سيا�سية واالجتماعية واالقت�صادية .وهكذا ف�إن الر�أ�سمالية كما ت�سود يف معظم دول
العامل تتمثل يف نظام ي�سمح لعدد حمدود للغاية من العائالت الغنية بال�سيطرة على
ال�رشكات الكربى ،بل وعلى احلكومات ذاتها؛ وفيه ال تعدو املناف�سة �أن تكون �رساب ًا
� mirageإال يف حاالت قليلة .وت�ستخدم ال�سالالت الأوليجاركية الرثية oligarchic
family dynastiesاملديرين التنفيذيني املحرتفني للحفاظ على �سلطتهم ونفوذهم
مجلة كلية القانون الكويتية العاملية -السنة الرابعة -مايو 2016 24
�أ.د� .أحمد جمال الدين مو�سى
و�أو�ضاعهم املتميزة ،حتى و�إن كان ذلك ي�رض باالقت�صادات التي تعمل فيها
�رشكاتهم(.)1
وتدعونا هذه ال�صورة الواقعية للأو�ضاع االقت�صادية يف ظل الر�أ�سمالية املعا�رصة،
والتي ميكن �أن جندها �أكرث قتامة يف الدول النامية ،للت�أكيد على �أنه �إذا كانت احلكومات
حتتاج �إىل احلوكمة لزيادة كفاءتها وتعزيز �شفافيتها وت�أكيد خ�ضوعها للمحا�سبة ،ف�إن
ال�رشكات اخلا�صة الكربى حتتاج �أي�ض ًا �إىل احلوكمة لتحقيق ذات الأهداف .وحتتاج
�أي�ض ًا امل�ؤ�س�سات الدولية لتطبيق قواعد احلوكمة يف �إطار ما �أ�صبح متداو ًال حتت م�سمى
«احلوكمة االقت�صادية الكونية» Global Economic Governanceوالتي لن
نتناولها يف �إطار هذه الدرا�سة(.)2
ملحق خاص بأبحاث املؤتمر السنوي الثالث -الحوكمة والتنظيم القانوني ألسواق املال -العدد ( - )1الجزء األول 25
اقتصاديات الحوكمة دراسة يف األصول القانونية والسياسية واالقتصادية للحوكمة
وميكن �أن ن�ستخل�ص من حتليل �أوليفر وليام�سون �أن بروز «اقت�صاديات احلوكمة»
يعود �إىل عدة �أ�سباب من بينها الت�أكيد على �أن املهمة الأ�سا�سية للتنظيم االقت�صادي هي
التكيف مع القالقل واال�ضطرابات التي تعرتي النظامني االقت�صادي واالجتماعي،
و�أن �سيا�سة الدولة جتاه الأن�شطة االقت�صادية يجب �أن تتم يف �إطار ر�ؤية تنظيمية
وا�سعة تهدف �إىل حتقيق �أكرب قدر من الكفاءة والفاعلية .ويتم ذلك �أ�سا�س ًا من خالل
الأداتني الأبرز وهما التنظيم االقت�صادي والإطار التعاقدي؛ ولذلك ف�إنه ال يكفي اتخاذ
�إجراءات حمدودة مثل تغيري �أ�سلوب عمل ال�رشكات �أو و�ضع قيود جديدة على الدخول
�إىل الأ�سواق �أو فر�ض �أدوات حتد من املخاطرة ،بل يتعني دمج كافة هذه الإجراءات
وغريها يف �إطار ر�ؤية �أ�شمل للتنظيم القانوين واالقت�صادي للمجتمع.
و�إذا نظرنا ب�شكل �أدق للتبادل يف �صورتيه القانونية واالقت�صادية ،ف�إنه من
املتفق عليه وجوب مراعاة ما يتميز به وعاء (مو�ضوع) املبادلة من عنا�رص التحديد
specificityوالتكرار frequencyوعدم اليقني ،uncertaintyوذلك عند
حتديد ما ي�رسي عليه من قواعد احلوكمة ،فعلى �سبيل املثال جند �أن تنفيذ بع�ض
التعاقدات االقت�صادية �أو املالية قد يتعر�ض لال�ضطراب ب�سبب تغري طارئ يف الظروف،
مع عدم القدرة على التكيف مع هذا التغري؛ ومن ثم ف�شل �أحد �أطراف التعاقد يف الوفاء
بالتزاماته .يف مثل هذه احلالة لن ي�سعفنا جمرد احرتام �رشوط التعاقد �أو �إنفاذ
الن�صو�ص القانونية التي تنبني على افرتا�ض توافر ا�ستقرار يف الأو�ضاع والظروف
خالل مدة تنفيذ العقد �أو الت�سليم بقدرات قوى العر�ض والطلب على �ضمان التحقق
الذاتي للتوازن االقت�صادي .وتظهر خطورة امل�س�ألة �إذا ات�سم التغري الطارئ بالعمومية
واالت�ساع ،وهي ال�سمة التي �صاحبت تواتر الأزمات املالية العديدة التي �شهدها العامل
يف العقود املا�ضية؛ لذلك يتوجب ت�صميم �آليات للتعامل مع هذه االحتماالت تتجاوز
منطق مبد�أ حرية الإرادة �أو جمرد الثقة يف �آليات التوازن التلقائي للأ�سواق.
ويعترب فهم طبيعة و�شكل الرتتيبات التعاقدية �أمر ًا مهم ًا لن�ستطيع النظر يف
�أ�ساليب احلوكمة التي تنظم عمل امل�ؤ�س�سات وال�رشكات ،خا�صة يف عامل الأعمال.
وميكن القول �إجما ًال �إن العقد contractيي�رس التبادل والتجارة ،ومن ثم ي�ساعد
على زيادة ثروة الأمم .ولكي يحقق العقد الكفاءة والفاعلية ،من وجهة نظر املدر�سة
مجلة كلية القانون الكويتية العاملية -السنة الرابعة -مايو 2016 26
�أ.د� .أحمد جمال الدين مو�سى
االقت�صادية النيوكال�سيكية ،ف�إن عليه �أن يعظم املكا�سب ال�صافية لطريف العقد؛ ويكون
ذلك من خالل التعاون والتفاو�ض احلر بينهما ،والعمل على تقليل نفقات املبادالت التي
قد ت�أخذ �أ�شكا ًال متعددة مثل :تكاليف التفاو�ض وامل�ساومة ،و�إعداد العقد ،وتوقيعه،
و�أتعاب املحامني ،والوقت املهدر الذي قد ي�صحب عملية التعاقد .ويفرت�ض �أن يكفل
النظام القانوين – متى متيز بالكفاءة – �إنفاذ العقد والتعامل مع الظروف الطارئة التي
قد تعرتي تنفيذه.
وعلى الرغم من اهتمام باحثني كرث يف خمتلف العلوم االجتماعية بنظرية العقد،
�إال �أن منهج تناولهم قد تفاوت ب�شكل بارز ،و�إن جمعهم �سعيهم امل�شرتك لأن
ت�ؤخذ يف االعتبار كافة الظروف املحيطة بالتعاقد .وقد انتهى معظمهم ،خا�صة من
االقت�صاديني� ،إىل �أن كل العقود تت�ضمن عن�رص ًا عالئقي ًا ،relational element
وذلك على الأقل باعتبار �أنه من امل�ستحيل كتابة عقد ال يت�ضمن عنا�رص غري قابلة
للتنفيذ � unenforceableإال بتدخل الغري (طرف ثالث ،مثل املحاكم) لتحقيقها �أو
�إنفاذها(.)1
ويتوافق ذلك مع ما ذهب �إليه �أ�ستاذ القانون الأمريكي ال�شهري �إيان ماكنيل Ian
Macneilمن �أنه ،حتى يف التبادل املنفرد �أو املعزول ،discrete exchange
توجد عنا�رص عالئقية( ،)2لكون العقد يجرى تنفيذه دائم ًا داخل جمتمع؛ فالواقع �أن
التبادل املنفرد هو ذاته منتج لأنواع معينة من العالقات االجتماعية (مثل احل�صول
على ترخي�ص معني �أو حتفيز معني من ال�سوق �أو املنظم) ،وهو على �أي حال يلعب دور ًا
حمدود ًا ووظيفة معينة يف �أي اقت�صاد ،مهما كانت توجهات ال�سوق فيه .فيعتقد ماكنيل
�أن التبادل املنفرد – على خالف ما يتبناه التوجه امل�سيطر على الفكر االقت�صادي
والقانوين الغربي املت�أثر بكل من النظرية النيوكال�سيكية ونظرية املنفعة– ال ي�شكل
( )1انظر:
MOUZAS (S.) and BLOIS (R.), (2009), P. 2-4
( )2يعتقد ماكنيل �أن التفكري العالئقي relational thoughtيعد عن�رصا �رضوري ًا لأي �إدراك مقنع للتطور القانوين
واالقت�صادي .وهو يرمز بهذا امل�صطلح �إىل مدخل ي�ستوعب الأمناط املعقدة للعالقات الإن�سانية املتداخلة التي حتيط
بكل تبادل .انظر483.P ,)1985( ,).MACNEIL (I :
ملحق خاص بأبحاث املؤتمر السنوي الثالث -الحوكمة والتنظيم القانوني ألسواق املال -العدد ( - )1الجزء األول 27
اقتصاديات الحوكمة دراسة يف األصول القانونية والسياسية واالقتصادية للحوكمة
�أبد ًا الوظيفة االقت�صادية الأ�سا�سية الوحيدة للإنتاج �أو التوزيع �أو اال�ستهالك النهائي
لل�سلع �أو اخلدمات(.)1
ومل ي�سلم هذا الر�أي من النقد ،حيث يتم�سك القانونيون من ذوي االجتاه الليربايل
بفكرة «الر�ضا» ك�أ�سا�س لاللتزام التعاقدي ،وينتقدون ب�شدة «النظرية العالئقية للعقد
ملاكنيل» Macneil›s relational Theory of Contractلأ�سباب �أبرزها
ثالثة� :أو ًال -اعتبار ماكنيل الر�ضا consentجمرد خيال ،fictionو�أنه ال يتعدى
كونه معاد ًال للوعد promise؛ ثاني ًا -جتنب ماكنيل ربط نظريته االجتماعية للعقد
ب�أي مفهوم اجتماعي للملكية؛ ثالث ًا� -إهمال ماكنيل املفهوم الليربايل حلرية التعاقد
،principle of freedom of contractومن ثم عدم اعرتافه بالدور االجتماعي
احليوي لهذه احلرية؛ وهو ما قاده ملنح الر�ضا مكانة تابعة subordinate
positionيف نظريته العالئقية( .)2ويف املقابل يحظى ماكنيل بت�أييد قانونيني �آخرين
يعتربون نظريته �أف�ضل قاعدة واعدة most promising basisلتقدمي فقه بديل
alternative jurisprudenceللمبادالت ال�سوقية ،يف وقت �أثبت فيه قانون
العقد التقليدي ف�شله يف التعامل مع الأو�ضاع احلديثة(.)3
وجدير باملالحظة �أن هناك تفاوت ًا يف التناول بني منهج ويليام�سون الدينامي الذي
يركز على حتليل العالقات التبادلية من خالل فكرة نفقات املبادالت Transactions
،Costsو�صو ًال �إىل حت�سني كفاءة �أ�ساليب احلوكمة ،واملدخل اال�ستاتيكي الذي
يذهب �إليه �إيان ماكنيل ،الذي يركز على العالقات االجتماعية Social Relations
يف حماولته ل�رشح �سلوك �أطراف التبادل .ورغم ذلك يجمع بينهما يف ر�أينا الت�أكيد على
�أهمية االعرتاف بالطبيعة االجتماعية للعقد والأخذ بعني االعتبار هذه الطبيعة عند
�صياغة �أ�س�س وقواعد احلوكمة.
( )1انظر:
MACNEIL (I.), (1985), P.485-486
( )2انظر تفا�صيل ذلك يف:
BARNETT (R.), (1992), P. 1180-1206
( )3انظر:
CAMPBELL (D.), (2004), P. 2
مجلة كلية القانون الكويتية العاملية -السنة الرابعة -مايو 2016 28
�أ.د� .أحمد جمال الدين مو�سى
وي�ساند ما �سبق ر�ؤية بع�ض املنظرين للحوكمة ك�أداة لعالج الق�صور يف كل من
التنظيم االقت�صادي والتنظيم القانوين .وقد �سبق لربنارد � Barnardأن �أكد احلاجة
�إىل �إيجاد توازن دقيق �رضوري بني خمتلف �أنواع احلوافز incentivesداخل املنظمة
ل�ضمان جناحها .غري �أن مثل هذا التوازن اجليد يتوقف ب�شكل كبري على بيئة خارجية
غري م�ستقرة �(unstable environmentأحوال املناف�سة) وظروف التطور
الداخلي للمنظمة (تو�سعها وتغري �أ�شخا�ص العاملني بها ومدى جودة قنوات التوا�صل
بني �أع�ضائها)؛ ومن ثم ف�إن نظم العقود املحفزة ت�ضحى غري قادرة وحدها على حكم
كافة الأن�شطة داخل املنظمة.
ويف�رس جان جاك الفون Jean-Jacques Laffontودافيد مارتيمورت
David Martimortما �سلف ،بلغة معا�رصة ،ب�أن الق�صور يف نظم العقود وكذلك
ما يطلق عليه “العقالنية املحدودة” �أو “الر�شد املقيد”1bounded rationality
لدى العاملني يف املنظمة يتطلب منح امل�س�ؤولني �سلطة ما التخاذ القرارات يف الظروف
التي ال ميكن توقعها بدقة يف العقود .فالبد من االعرتاف باحلاجة لنوع من التدخل
التنظيمي غري العقدي ل�ضمان حتقيق م�صلحة املنظمة واملجتمع ككل ،و�سيكون
ذلك التدخل مقبو ًال من الأفراد �إذا ر�أوه من منظور الحق Ex postمتى كان يحقق
م�صلحتهم(.)2
ويجد تدخل الدولة لفر�ض نظم وقواعد احلوكمة – رغم تقييدها �أحيان ًا ملبد�أ حرية
الإرادة يف التعاقد والت�رصف� -أ�سا�سه الفكري يف نظرة خمتلفة للعقد ،كان قد عرب عنها
يف وقت مبكر ن�سبي ًا كارل لوالني(� Karl Llewellyn )3أحد �أهم املنظرين القانونيني
( )1اقرتح هربرت �سيمون Herbert Simonمفهوم الر�شد املقيد للداللة على �أن الأفراد عندما يتخذون قراراتهم
يكون ر�شدهم ال�سلوكي مقيدا مبا يتوافر لديهم من معلومات ،وباحلدود الإدراكية لعقولهم ،و�أي�ض ًا بالوقت املتاح
لهم التخاذ القرار؛ ومن ثم ف�إن متخذ القرار �سيتجه غالب ًا �إىل احلل املر�ضي بد ًال من احلل الأمثل .وهذه النتيجة
تتناق�ض مع ما روجت له طوي ًال املدر�سة الكال�سيكية من �أن اتخاذ القرارات االقت�صادية هي عملية ر�شيدة متام ًا؛
فالواقع �أنها وفق ًا ل�سيمون قد تكون ر�شيدة ب�شكل ن�سبي �أو مقيد .ويتوقف مدى الر�شد فيها على مدى جودة �أو
رداءة العنا�رص ال�سالف الإ�شارة �إليها .انظر.134-125.P .)1991( ,)Simon (H :
( )2انظر:
Laffont (J.) & Martimort (D.), (2001), P.21-23
(3) LLEWELLYN (K.), (1960).
ملحق خاص بأبحاث املؤتمر السنوي الثالث -الحوكمة والتنظيم القانوني ألسواق املال -العدد ( - )1الجزء األول 29
اقتصاديات الحوكمة دراسة يف األصول القانونية والسياسية واالقتصادية للحوكمة
الأمريكيني بقوله« :الأهمية الكربى للعقد القانوين هي كونه يزود الأطراف ب�إطار
frameworkال يعك�س بدقة عالقات العمل الواقعية ،لكنه يزودهم مب�ؤ�رش �إجمايل �أو
تقريبي rough indicationيتعني �أن تدور حوله هذه العالقات ،وهو �أي�ض ًا مبثابة
دليل عر�ضي occasional guideي�ستخدم يف حالة ال�شك ،ومعيار مرجعي عند
حدوث نزاع �أو حني توقف العالقات الواقعية عن العمل» .وي�ستنتج وليام�سون من
ذلك �أن غاية العقد لي�ست ت�أكيد قانونية االلتزامات و�إمنا �ضمان تنفيذ الأعمال على
�أر�ض الواقع(.)1
وعلى الرغم من �أن لوالني يعتقد �أن الأطراف عندما تتعاقد تبحث عن م�صاحلها
الذاتية ،مبا يعظم منفعتها املتوقعة (وذلك يف ر�أيه قرينة جيدة على �أن هذا االتفاق
كفء)؛ ف�إنه يرى �أنه عندما يفر�ض �أحد الأطراف �رشوطه يف العقد من مركز قوة� ،سواء
ب�سبب مركزه امل�ؤثر يف ال�سوق �أو ب�سبب حيازته ملعلومات �أف�ضل مقارنة بالطرف
الآخر ،ف�إن العقد يفتقد جوهره التفاو�ضي؛ ومن ثم يتعني على املحاكم �إجراء حتقيق
م�ستقل للت�أكد من مدى املالءمة املعيارية للعقد حلظة تعبري الأطراف عن ر�ضاها.
وي�ؤكد كارل لوالني �أن القواعد القانونية النمطية تظل منا�سبة متى ظلت القدرات
التفاو�ضية بني الأطراف مت�ساوية؛ �أما يف غري هذه احلالة ،ف�إن الت�سليم بالقوة الإلزامية
للعقد �سينطوي على معاقبة الطرف الأ�ضعف؛ فالعقد ي�صبح جوهري ًا غري من�صف
� substantively unfairإذا كان غري متوازن . lop-sidedوباعتبار �أن القانون
متوازن يف تعريفه للمخاطر وااللتزامات؛ ف�إنه يجب �أال يقبل �أن تخلق الأطراف القوية
خل ًال imbalanceيف التوازن عند التعاقد(.)2
ويندرج هذا الو�ضع يف �إطار احلالة املعروفة عند االقت�صاديني بف�شل ال�سوق
.market failureولهذا يرى لوالني �أن من واجب الدولة التدخل لإعادة التوازن
للعقد غري املتوازن من خالل� :أو ًال -دور امل�رشع legislative interventionيف
( )1انظر:
WILLIAMSON (O.), (2005), P.21
( )2انظر:
SCHWARTZ (A.), (2000), P.32
مجلة كلية القانون الكويتية العاملية -السنة الرابعة -مايو 2016 30
�أ.د� .أحمد جمال الدين مو�سى
احلد من ال�رشوط املجحفة وو�ضع �ضمانات للتوازن العقدي ،وثاني ًا -دور املحاكم
courtsيف �إعادة التوازن للعقد عن طريق اللجوء للخربة ،expertiseمبا يعك�س
ال�سائد يف ال�سوق؛ فالقانون يف ر�أيه هو علم تطبيقي � empirical scienceأكرث من
كونه علم ًا معياري ًا .)1(normative science
وهذه الأفكار رغم عموميتها �ساهمت يف تطوير ما �أ�صبح اليوم النهج الأ�سا�سي
للتدخل التنظيمي يف املجال العقدي بغر�ض حتقيق الإن�صاف ،و�أدواته الرئي�سية كانت:
�أو ًال� -إدخال مفهوم ح�سن النية good faithيف قانون العقود؛ ثاني ًا� -صياغة النظرية
التي ر�سخت فيما بعد حتت ا�سم «عدم الإدراك الواعي»(Unconscionability )2
Theory؛ ثالث ًا -تطوير العديد من الأحكام التي ت�ضمنها القانون التجاري الأمريكي
املوحد ،Uniform Commercial Codeخا�صة املادة الثانية منه التي �صاغها
لوالني و�سمحت ب�إمكانية قيام العقد بناء على ال�سلوك ،by conductولي�س فقط
بالإيجاب ال�شفوي �أو التحريري الذي يعقبه القبول(.)3
ولفهم جذور هذا التطور البد من الرجوع �إىل تيار «الواقعية القانونية» Legal
Realismالذي �صبغ النظرية القانونية الأمريكية لعقود طويلة .لقد كان القانون
الأمريكي يف بداياته �أ�سري مفاهيم الفقيه والقا�ضي الإجنليزي وليم بالك�ستون
)1780 -1723( William Blackstoneالذي افرت�ض �أن مبادئ القانون العام
� Common Lawصاحلة دائم ًا وال تت�أثر بالزمن timeless؛ ومن ثم فهي قادرة
على مواجهة �أية م�شاكل اجتماعية جديدة قد تثور .وكنتيجة لذلك؛ ف�إن دور القا�ضي
هو تطبيقها كما هي ،دون �أي ت�أويل �أو �سلطة تقديرية.
وقد �أخذ تيار متزايد من فقهاء القانون مثل �أوليفر هوملز Oliver W. Holmes
وعلماء االجتماع القانوين مثل رو�سكو باوند Roscoe Poundيف االعرتا�ض على
( )1انظر:
CLARK (R.), (1978), P.495-496
( )2انظر:
SCHWARTZ (A.), (2000), P.15-17
( )3انظر:
HART (D.), (2011), P.62-63
ملحق خاص بأبحاث املؤتمر السنوي الثالث -الحوكمة والتنظيم القانوني ألسواق املال -العدد ( - )1الجزء األول 31
اقتصاديات الحوكمة دراسة يف األصول القانونية والسياسية واالقتصادية للحوكمة
هذا املنظور ،لأنه -يف ر�أي هوملز -عقيم منطقي ًا ،لأن القانون لي�س منطقي ًا يف حد ذاته
و�إمنا هو يعك�س خربة وجتربة املجتمع املا�ضية؛ فهو جت�سيد لتاريخ تطور الأمة خالل
القرون املا�ضية ،ومن ثم ال يجب التعامل معه ككتاب ريا�ضيات يت�ضمن م�سلمات
للم�س(.)1
ِّ axiomsغري قابلة
ويف ر�أي باوند ،ف�إن القانون هو �أداة للهند�سة االجتماعية ،social engineering
وبالتايل يتعني على املحاكم �أال تقت�رص يف �أحكامها على القواعد املنطقية لال�ستدالل
logical rules of deduction؛ وهو ما يعني �أنه ينبغي على الق�ضاة تبني منظور
�أو�سع broader perspectiveيحيط بالظروف االجتماعية واالقت�صادية التي
تنعك�س عملي ًا يف املعارف التي تزودهم بها علوم االقت�صاد وال�سيا�سة واالجتماع.
وباعتبار �أن القانون لي�س غاية يف حد ذاته ،و�إمنا هو و�سيلة لتحقيق غاية �أكرب means
،to a greater endفاالقت�صار على التطبيق احلريف لقواعد القانون العام القائمة
على ال�سوابق الق�ضائية ،case law precedentاملعتمدة على ما�ضي املجتمع،
لن يلبي احلاجات امل�ستجدة يف جماالت مهمة كحقوق امللكية والعقود واحلقوق
الفردية( .)2وميكن �أن جند تطبيق ًا لهذا املفهوم يف قول باوند« :يظن البع�ض �أن القانون
هو االقت�صاد ،ويف هذا يوجد الكثري مما يقال؛ ويرى �آخرون �أن القانون هو الأخالق،
بينما يقدم البع�ض القانون على �أنه الهند�سة االجتماعية .الواقع �إنهم جميع ًا خمطئون،
فالقانون هو ٌ
كل ذلك»(.)3
كانت تلك هي املفاهيم التي ا�ستفاد منها كارل لوالني وطور �أدواتها التطبيقية،
لكن م�ساهماته وغريه من منظري مدر�سة «الواقعية القانونية» مل ت�سلم من النقد.
فيالحظ البع�ض �أن الفقه القانوين قد تبدل �شكلي ًا من املفهوم ال�ساكن للإيجاب والقبول
( )1انظر:
P.493-494(CLARK (R.), (1978 ,
( )2انظر:
CLARK (R.), (1978),P.494
( )3انظر:
DONNELLY(S.), (1975), P. 915
مجلة كلية القانون الكويتية العاملية -السنة الرابعة -مايو 2016 32
�أ.د� .أحمد جمال الدين مو�سى
( )1انظر:
HART (D.), (2011), P.65-72
( )2يعترب التحليل االقت�صادي للقانون (ب�صورة �إجمالية) مدخ ًال ي�سعى لتطبيق �أدوات التحليل االقت�صادي على النظرية
القانونية ،وذلك لبيان مدى الكفاءة والفاعلية االقت�صادية لقواعد القانون املطبقة �أو املقرتحة وانعكا�ساتها املتوقعة
على �أفراد املجتمع وم�ؤ�س�ساته .وقد كانت قوانني ال�رضائب واجلمارك واحلماية من االحتكار والإغراق �سباقة
يف اال�ستئثار باهتمام االقت�صاديني� .أما الآن فقد انت�رش جمال التحليل االقت�صادي للقانون لي�شمل خمتلف فروع
القانون مبا فيها قانون امللكية وقانون العقد وقانون امل�س�ؤولية وقانون العمل وقانون ال�رشكات وقانون العقوبات
وغريها.
ملحق خاص بأبحاث املؤتمر السنوي الثالث -الحوكمة والتنظيم القانوني ألسواق املال -العدد ( - )1الجزء األول 33
اقتصاديات الحوكمة دراسة يف األصول القانونية والسياسية واالقتصادية للحوكمة
( )1من بني كال�سيكيات التحليل االقت�صادي للقانون يف جمال العقود ،انظر على �سبيل املثال:
FARBER (D.), (1983), P. 303-393
)BROUSSEAU (E.) and GLACHANT (J.- M.), (2002
( )2انظر:
POSNER (E.), (2002), P. 1-3
(3) GILMORE (G.), (1974).
( )4انظر:
DIATHESOPOULOS (M.), (2010), P.9
GORDON (R.), (1974), P. 1216-1239
( )5انظر:
DIXIT (A.), (2007), P.8-9
مجلة كلية القانون الكويتية العاملية -السنة الرابعة -مايو 2016 34
�أ.د� .أحمد جمال الدين مو�سى
( )1انظر:
ELLICKSON (R.), (1991), P. 284-286
( )2انظر:
SONIN (K.), (2003), P716-718; 726-727.
ملحق خاص بأبحاث املؤتمر السنوي الثالث -الحوكمة والتنظيم القانوني ألسواق املال -العدد ( - )1الجزء األول 35
اقتصاديات الحوكمة دراسة يف األصول القانونية والسياسية واالقتصادية للحوكمة
تبني �سيا�سات احلوكمة ،على الأو�ضاع التنموية يف العامل الثالث .غري �أن نتائج هذه
الدرا�سات قد جاءت �إىل حد ما مت�ضاربة' حيث تو�صل بع�ضها �إىل غياب هذا الت�أثري،
بينما �أبرز البع�ض الآخر حدوث ت�أثري �إيجابي(.)1
ومن بني الدرا�سات التي تو�صلت �إىل حدوث ذلك الت�أثري االيجابي كانت درا�سة
�سوجاتا في�ساريا Sujata Visariaعن الإ�صالح القانوين ومدفوعات الدين يف
الهند( ,)2فقد تو�صلت هذه الدرا�سة �إىل �أن �إدخال م�ؤ�س�سة ق�ضائية جديدة يف الهند (التي
تعاين من بطء �شديد يف ح�سم املنازعات الق�ضائية) عام ،1993هي حماكم ا�سرتجاع
الديون ، )Debt Recovery Tribunals (DRTsالتي ا�ستهدفت تقليل الوقت
الالزم ال�سرتجاع الديون غري منتظمة ال�سداد ،قد خف�ض فرتات الت�أخر يف ت�سديد
الديون بن�سب ترتاوح ما بني %3و ،%11كما ترتب على �إن�شاء هذه املحاكم تقليل
معدل الفائدة التي تفر�ضها البنوك على امل�رشوعات اجلديدة ما بني %1.4و.%2
وت�ستنتج في�ساريا من ذلك �أن �إ�صالح النظام الق�ضائي امل�ؤثر على �سوق االئتمان
ميكن �أن يقود �إىل معدالت منو اقت�صادي �أعلى(.)3
مجلة كلية القانون الكويتية العاملية -السنة الرابعة -مايو 2016 36
�أ.د� .أحمد جمال الدين مو�سى
وفا�شلة يف �إدارة مرافق الدولة وتوفري اخلدمات الالزمة للمواطنني( .)1فالدولة �أ�ضحت
�ضعيفة ،weakغري م�ستقرة ،unstableم�رسفة ،ومنهارة ، collapsingومن
ثم غري قادرة على تلبية طموحات املواطنني ,على حني جنح املجتمع املدين والقطاع
اخلا�ص يف الآونة الأخرية يف اكت�ساب مهارات حوكمة متميزة ت�ستجيب لتغري وتنوع
وتعقد احلاجات اجلماعية املت�صاعدة .ولعل �أكرث ما مييز احلوكمة يف �صورتها اجلديدة
()2
هو طبيعتها التفاعلية « interactingعلى عك�س عادة الدولة يف احلكم منفردة»
.doing things alone
وين�سب بع�ض املتخ�ص�صني يف العلوم الإدارية �أول ا�ستخدام مل�صطلح «احلوكمة»
لهارالن كليفالند H. Clevelandالذي اقرتحه كبديل لعبارة «الإدارة العامة»،
وين�سبون �إليه �أي�ض ًا جملة« :النا�س تريد حكومة �أقل وحوكمة �أكرث» ،ويق�صد كليفالند
باحلوكمة تخلي امل�ؤ�س�سات عن الهرم الرئا�سي hierarchical pyramidالذي
مينح القمة ال�سيطرة الكاملة� ،إىل نظام جديد يقل فيه التحكم وت�شيع ال�سلطة وتتعدد
مراكز اتخاذ القرار لت�أخذ �شك ًال �أفقي ًا يعتمد كبديل للنمط الرئا�سي التقليدي(.)3
( )1انظر:
BJORK (P.) and JOHANSSON (H), (1999), P. 4-5
( )2انظر:
KOOIMAN (J.) and al., (2008), P.2
( )3انظر:
), P. 3 FREDERICKSON (H.), (2004
( )4ماك�س فيرب Max Weberعامل اجتماع وقانوين وفيل�سوف �أملاين ( )1920-1864يعد من �أوائل من حللوا
الظاهرة البريوقراطية .راجع يف تفا�صيل �آرائه وامل�ساهمات العلمية الالحقة عليه يف حتليل هذه الظاهرة درا�ستنا:
«البريوقراطية والكفاءة االقت�صادية» ،من�شورة يف «جملة العلوم القانونية واالقت�صادية» (ت�صدرها كلية احلقوق
جامعة املن�صورة) ،العدد � ،14أكتوبر .1993
ملحق خاص بأبحاث املؤتمر السنوي الثالث -الحوكمة والتنظيم القانوني ألسواق املال -العدد ( - )1الجزء األول 37
اقتصاديات الحوكمة دراسة يف األصول القانونية والسياسية واالقتصادية للحوكمة
باحلاجة �إىل ت�أمني تعاون وا�سع املدى بني املواطنني .وكذلك جند لدى �أن�صار مدر�سة
االقت�صاد امل�ؤ�س�سي ،وعلى ر�أ�سهم دوجال�س نورث ( Douglass Northجائزة
نوبل يف االقت�صاد لعام ،)1993توجه ًا للرتكيز على دور م�ؤ�س�سات الدولة املركزية
يف �ضمان اال�ستقرار وخف�ض نفقة املبادالت لتعزيز التنمية االقت�صادية( .)1غري �أن الأثر
املزدوج للتقلي�ص الذي طر�أ على دور الدولة املركزية ،والتعقد املتزايد وال�رسيع للعامل
املتغري الذي نعي�ش فيه ،هو منح �أولوية �أكرب للحاجة للت�أقلم واملرونة؛ فذلك ال غنى عنه
لتقليل املخاطر التي تتعر�ض لها الأمم املعا�رصة �إذا مت�سكت بنظم حكم جامدة(.)2
و َيق�رص دار�سون �آخرون معنى احلوكمة اجليدة على نوعية الأ�سلوب العملي
الذي تتبعه ال�سلطات ال�سيا�سية والإدارية يف �صنع ال�سيا�سات العامة ،ومن ثم ف�إنها
تغطي ثالثة جماالت �سيا�سية و�إدارية هي :احلوكمة العامة ،public governance
وال�سيا�سات العامة ،والتنظيم ،وبالتايل هي تركز على تقدمي �إجابة عن �أ�سئلة هامة من
نوعية :كيف نحكم how to governوكيف نقود ونوجه .how to steerوهكذا
هم يعتربون �أن احلوكمة اجليدة م�س�ألة فنية good governance is technical
قبل �أي �شيء �آخر ،طموحها الأ�سا�سي – رغم ارتباطها �إىل حد كبري مبفهوم الر�شد
ال�سيا�سي - political rationalityهو التطوير امل�ستمر وحت�سني �أ�ساليب الأداء
لتمكني امل�ؤ�س�سات العامة من القيام مبهامها بكفاءة .والأدوات الأ�سا�سية امل�ستخدمة
يف هذا الغر�ض هي تقييم الأداء والتقييم الذاتي وامل�ؤ�س�سي وحت�سني اجلودة وو�ضع
املقايي�س املرجعية والنماذج الإر�شادية واملتابعة والرقابة والتفتي�ش ،فالهدف هو
ا�ستحداث �إطار للحوكمة الذاتية framework for self-governanceكمدخل
لتح�سني القدرات الذاتية للحكم .)3(self-governing capacity
( )1راجع يف �أهمية الإ�صالح امل�ؤ�س�سي كمدخل للحوكمة مبفهومها ال�شامل و�آراء دوجال�س نورث الرائدة م�ؤلفنا:
الإ�صالح امل�ؤ�س�سي �سبيل م�رص �إىل م�ستقبل �أكرث �إ�رشاق ًا ،القاهرة ،دار نه�ضة م�رص ،يناير .2010وانظر �أي�ض ًا يف
�أ�صول االقت�صاد امل�ؤ�س�سي:
), P.173-194 RUTHERFORD (M.), (2001
( )2انظرDUIT (A.) and GALAZ (V.), (2008), P.328-32 :
( )3انظرBANG (A.) and ESMARK (A.), (2013), P. 2-5 :
مجلة كلية القانون الكويتية العاملية -السنة الرابعة -مايو 2016 38
�أ.د� .أحمد جمال الدين مو�سى
وي�ؤكد التوجه ال�سابق تعريف بع�ض �أ�ساتذة الإدارة للحوكمة على �أنها «جمموع
الآليات الإدارية وامل�ؤ�س�سية التي من �ش�أنها �أن تقيد ال�سلطات délimiter les
،pouvoirsو�أن ت�ؤثر على قرارات امل�س�ؤولني»؛ وهو ما يعني يف قول �آخر :الآليات
التي تتحكم يف �سلوك ه�ؤالء امل�س�ؤولني وتحُ دد جمال �سلطتهم التقديرية leur espace
.)1(discrétionnaire
ويبدو لنا �أن هذا املنحي يف تعريف احلوكمة ي�ض ِّيق كثريا من جمالها ويحيلها �إىل
جمرد �أ�سلوب �إداري �أو فني لتح�سني �أداء ال�رشكات �أو احلكومة وم�ؤ�س�ساتها العامة،
على حني ر�أينا �أن املتخ�ص�صني يف علمي القانون واالقت�صاد يو�سعون يف �إطارها
وم�ضمونها .وكذلك ف�إننا نرى �أن اخت�صار مفهوم احلوكمة يف جمرد تقلي�ص الدولة
هو توجه �أيديولوجي «نيوليربايل» قد ال ينا�سب الدول النامية �إذا �أُ ِخ َذ على �إطالقه.
فاملع�ضلة التي تواجهها هذه الدول ال تتعلق بحجم �أو �أهمية دور الدولة ،ولكنها
تتعلق بكفاءة الدولة وكيف يتم تعزيز قدرتها على �أداء مهامها التنموية يف �إطار «دولة
القانون» التي يخ�ضع فيها اجلميع للتقييم واملحا�سبة.
وعلى خالف ما تقدم من وجهات نظر ،وعلى عك�س ال�صيحة املنت�رشة يف الكثري من
الكتابات ال�سيا�سية احلديثة حول «احلوكمة بدون حكومة «governance without
،governmentجند جون بيري John Pierreوب .جاي بيرتز B. Guy Peters
يقدمان نظرة �أكرث واقعية ،ترى �أن الدولة ،و�إن كانت مل تعد حتكم املجتمع على النحو
التقليدي الذي ا�ستمر قرون ًا عديدة -نتيجة تغيريات جوهرية �أبرزها ثورة املعلومات
وظهور �شبكات networksاجتماعية ذات طبيعة م�ستقلة � ،-إال �أنها التزال قادرة
على قيادة عملية احلوكمة؛ بل �إن دور احلكومة ال ميكن اال�ستغناء عنه ل�ضمان حتقق
حوكمة دميوقراطية democratic governanceتلبي الأولويات اجلماعية
للمواطنني .ويف �إطار هذا املفهوم ت�شتمل احلوكمة على �أربعة �أن�شطة(:)2
( )1انظر:
), P. 2 CHARRAUX (G.), (2004
( )2انظر:
PIERRE (J.) and PETERS (B.), (2005), P. 3-6
ملحق خاص بأبحاث املؤتمر السنوي الثالث -الحوكمة والتنظيم القانوني ألسواق املال -العدد ( - )1الجزء األول 39
اقتصاديات الحوكمة دراسة يف األصول القانونية والسياسية واالقتصادية للحوكمة
مجلة كلية القانون الكويتية العاملية -السنة الرابعة -مايو 2016 40
�أ.د� .أحمد جمال الدين مو�سى
االقرتاع االنتخابي التايل .وال جدال يف �أن تطبيق مبد�أ اخل�ضوع للم�ساءلة يعد �أكرث
ندرة يف املجتمعات غري الدميقراطية ،و�إن ظل مع ذلك مطلب ًا ملح ًا ملواطنيها ونخبها
املثقفة.
ويتعني مع ذلك مراعاة �أن هذه الأن�شطة �أو مظاهر احلوكمة تتطلب لنجاحها درجة
عالية من القدرة امل�ؤ�س�سية institutional capacityالتي تتوقف بدورها على
املوارد امل�ؤ�س�سية املتمثلة يف القدرات املالية املتاحة ،ونوعية العاملني ومقدار كفاءتهم
املهنية واحرتافهم professionalismوخربتهم ،وتوافر درجة معقولة من
امل�رشوعية legitimacyوثقة trustاملجتمع .ف�أحد �أبرز النتائج التي خل�ص �إليها
الباحثون عند الدرا�سة التطبيقية لدور احلوكمة يف العملية ال�سيا�سية متثلت يف �أن قوة
امل�ؤ�س�سات كانت نتاج ًا م�شرتك ًا للقدرة امل�ؤ�س�سية ،والو�صول �إىل املعلومات ،ور�ضا
املجتمع ودعمه .وهناك �أي�ض ًا ملمح ًا مهم ًا للقدرة امل�ؤ�س�سية هو النزاهة integrity
التي بدونها ي�صعب �إ�صدار وتطبيق القرارات غري ال�شعبية ،و�إن كانت �رضورية
لدفع املجتمع للأمام ،فامل�ؤ�س�سات غري النزيهة ت�ضحى �أ�سرية للم�صالح املرتبطة
بها ،وغري قادرة من َث َّم على �صنع �أحكام م�ستقلة �سيا�سي ًا واقت�صادي ًا ،وكذلك ال
يتوقع جناح احلوكمة بدون توافر املعلومات املوثوقة availability of reliable
informationعن �أو�ضاع املجتمع ،وت�أثريات القرارات ال�سابقة ،واالنعكا�سات
املحتملة لبدائل القرارات املطروحة على حل امل�شاكل القائمة ،وال غنى �أي�ض ًا عن �ضمان
تدفق املعلومات من �أ�سفل ومن �أعلى يف عملية التوا�صل امل�ستمر مع املواطنني(.)1
ويرى بع�ض الدار�سني �أن التغيري امل�ؤ�س�سي الأبرز الذي �شهدته معظم الدول
الغربية يف �أواخر القرن الع�رشين كان التوجه نحو الالمركزية decentralisation
بهدف تقلي�ص �أو تفريغ hollowing outدور احلكومة املركزية ،وقد اقت�ضى ذلك
نقل �سلطة اتخاذ القرار � decision-making capacitiesإىل وحدات حملية �أو
م�ؤ�س�سات متخ�ص�صة �أو م�ستويات �إدارية �أدنى داخل �أروقة احلكومة ذاتها .وقد قاد
ذلك التطور �إىل تغيري الأو�ضاع التي يحكم من خاللها املجتمع ،مما ا�ستوجب جتريب
( )1انظر:
PIERRE (J.) and PETERS (B.), (2005), P. 7-8
ملحق خاص بأبحاث املؤتمر السنوي الثالث -الحوكمة والتنظيم القانوني ألسواق املال -العدد ( - )1الجزء األول 41
اقتصاديات الحوكمة دراسة يف األصول القانونية والسياسية واالقتصادية للحوكمة
�أ�ساليب جديدة للحكم والإدارة �أكرث دميقراطية و ُبعد ًا عن البريوقراطية واقرتاب ًا من
اهتمامات وم�صالح املواطنني ،ويرتبط بذلك �إعادة �صياغة دور ال�سلطات العامة ،من
دور قائم على ممار�سة ال�سلطة الق�رسية � ، pouvoir coercitifإىل دور يعتمد على
التحفيز والتن�سيق مع �رشكاء متعددين partenariatsمن املجتمع املدين .والإطار
املتميز لتطبيق احلوكمة بهذا املعنى اجلديد هو املجال املحلي(.)1
وقد دفعت هذه التطورات البع�ض للقول ب�أننا قد انتقلنا من احلكومة
� governmentإىل احلوكمة ،governanceويق�صد بتعبري احلوكمة هنا تغيري
�أو�ضاع و�أ�ساليب حكم املجتمع( .)2وعلى الرغم من مبالغة هذا الر�أي يف تبني فكرة
«تفريغ دور احلكومة املركزية»؛ ف�إننا نعتقد �أن التوجه نحو الالمركزية ي�شكل �أداة
جوهرية لتفعيل احلوكمة الدميوقراطية على �أر�ض الواقع ،لكنها �أداة مهدرة حتى الآن
يف العديد من الدول النامية.
ويطرح بع�ض الدار�سني مفهوم «احلوكمة التفاعلية»interactivegovernance
التي تفرت�ض م�شاركة فاعلة يف �إدارة ال�ش�ؤون العامة من �أفراد ينتمون �إىل م�ستويات
ومراكز وطبقات اجتماعية خمتلفة ،مما يعترب تعبري ًا مهم ًا عن الدميقراطية( .)3والواقع
�أن �صياغة مفهوم احلوكمة وتطبيقاتها لي�س �أمر ًا ي�سري ًا ،خا�صة يف ظل التعقد الكبري
للروابط بني الدولة واملجتمع؛ وقد يكون من ال�سذاجة افرتا�ض �أن هناك منوذج ًا وحيد ًا
للحوكمة �صاحل ًا للتطبيق يف كل الدول ،بل حتى يف الدول الدميقراطية ذاتها.
ولذلك يفرت�ض بيري وبيرتز خم�سة مناذج للحوكمة يف هذه الدول ،هي باخت�صار(:)4
æمنوذج الدولة املهيمنة �أو ما �أ�سمياه ، Étatisteوالذي يفرت�ض �أن الدولة هي الفاعل
الأ�سا�سي يف كل مظاهر احلوكمة و�أنها املتحكمة يف الطريقة التي ي�سمح بها للفاعلني
الآخرين امل�شاركة يف العمل العام.
مجلة كلية القانون الكويتية العاملية -السنة الرابعة -مايو 2016 42
�أ.د� .أحمد جمال الدين مو�سى
ملحق خاص بأبحاث املؤتمر السنوي الثالث -الحوكمة والتنظيم القانوني ألسواق املال -العدد ( - )1الجزء األول 43
اقتصاديات الحوكمة دراسة يف األصول القانونية والسياسية واالقتصادية للحوكمة
غالب ًا �أعمى ،blindوعلى النقي�ض ف�إنه يف منوذج «احلوكمة بدون حكومة» تكون
املعلومات غنية ،ولكن الدولة تفتقد م�رشوعية ال�سلطة التخاذ قرارات فعالة ،خا�صة
تلك التي مت�س قطاعات وا�سعة من املجتمع.
وهكذا ف�إنه رغم اختالف هذين النموذجني املت�ضادين ،جند �أن كفاءتهما يف منتج
احلوكمة تكاد تكون متعادلة؛ ورمبا لهذا ال�سبب جند �أن منوذج «الدولة املركزية» هو
الأكرث تطبيق ًا يف دول �أوروبا القارية (�أملانيا وال�سويد كمثال) لأنه �أكرث �أ�شكال احلوكمة
كفاءة ،النفتاحه على املجتمع مما ميكنه من جمع املعلومات املفيدة واملوثوقة من
ناحية ،ولقدرته على اتخاذ القرارات وو�ضعها مو�ضع التنفيذ من ناحية ثانية(.)1
وتبني قواعد احلوكمة ال ي�ضمن يف حد ذاته تطبيقها الفعلي على �أر�ض الواقع.
فهذا التطبيق يتوقف على كفاءة امل�ؤ�س�سات القائمة �سيا�سية كانت �أو اقت�صادية .ويف
هذا ال�صدد مييز بيرت لي�سون وكلوديا ويليام�سونPeter Leeson and Claudia
Williamsonبني ثالثة �أنواع يف قائمة احلوكمة« :احلوكمة ال�سيا�سية املثالية»
، ideal political governanceو«احلوكمة ال�سيا�سية ال�ضارة» predatory
، political governanceو«غياب احلوكمة ال�سيا�سية �أو الفو�ضى» no
،political governance, or anarchyوهما يعتربان �أن الو�ضع الذي حتمي
فيه احلكومة حقوق ملكية املواطنني ي�شكل «حوكمة �سيا�سية مثالية» ،ومثاله التطبيقي
يف الوقت احلايل يوجد يف دول �أمريكا ال�شمالية و�أوروبا الغربية ،مع االعرتاف ب�أنه ال
توجد حكومة حتمي هذه احلقوق ب�شكل مطلق .ولكي تتمكن دولة ما من بلوغ هذا
امل�ستوى من احلوكمة يتعني عليها حتقيق �أربعة �رشوط م�ؤ�س�سية هي(:)2
-1فر�ض القيود على احلكام وامل�س�ؤولني للحيلولة بينهم وبني �إ�ساءة ا�ستخدام
ال�سلطة لتحقيق مكا�سب خا�صة �أو �شخ�صية ،و�إال ف�إن ال�سلطة تتحول �إىل و�سيلة
للف�ساد و�أداة الغت�صاب حقوق ملكية املواطنني ،بد ًال من حمايتها.
مجلة كلية القانون الكويتية العاملية -السنة الرابعة -مايو 2016 44
�أ.د� .أحمد جمال الدين مو�سى
-2و�ضع نظام قانوين وق�ضائي فعال من خالل �صياغة قواعد قانونية حتدد
بو�ضوح حقوق امللكية املحمية ،و�إقامة �آليات –مثل املحاكم -قادرة على ح�سم
النزاعات املتعلقة بهذه احلقوق.
-3ت�أمني نظام �رشطي كفء ونزيه قادر على �إنفاذ القواعد والأحكام التي حتمي
حقوق ملكية املواطنني.
-4توفري املرافق العامة التي تزود املجتمع بالبنية الأ�سا�سية وال�سلع العامة public
goodsالتي متثل احلد الأدنى الالزم ،مثل التعليم وال�صحة والطرق واالت�صاالت.
ف�إذا توافرت هذه ال�رشوط الأربعة ،ف�إن «احلوكمة ال�سيا�سية املثالية» ت�صبح
ممكنة ،مما يقود �إىل ما �أطلق عليه جيم�س بوكانان( James Buchanan )1الدولة
احلامية ( protectiveفيما يتعلق بدورها يف حماية حقوق ملكية الأفراد) واملنتجة
( productiveفيما يتعلق بدورها يف �إنتاج الرثوة املعززة للم�صالح وال�سلع
العامة)(.)2
وبالن�سبة للدول التي تف�شل يف حتقيق «احلوكمة ال�سيا�سية املثالية» ،لعدم قدرتها
على حتقيق ال�رشوط ال�سابقة ،خا�صة ال�رشط الأول ،ف�إنها تواجه اخليار بني بديلني
من �صور احلوكمة؛ �إما «احلوكمة ال�سيا�سية ال�ضارة» و�إما «الفو�ضى �أو الالحوكمة».
وتت�صف «احلوكمة ال�سيا�سية ال�ضارة» بعدة �صفات �أبرزها :ميل امل�سيطرين على
احلكم للتع�سف يف ا�ستخدام ال�سلطة ال�سيا�سية abuse political authority
لتحقيق مكا�سب �شخ�صية ،وي�أخذ هذا التع�سف �أ�شكا ًال عدة مثل املعاملة التف�ضيلية
preferential treatmentلأقلية �سيا�سية �أو عرقية �أو اقت�صادية مرتبطة �أو
منتمية له�ؤالء ،واال�ضطهاد والقب�ض الع�شوائي واالعتقال ،و�أحيانا االغتيال و�إعدام
املعار�ضني ،وقد تكون �صور التع�سف هذه �رصيحة معاقب عليها قانون ًا (كالر�شوة
ملحق خاص بأبحاث املؤتمر السنوي الثالث -الحوكمة والتنظيم القانوني ألسواق املال -العدد ( - )1الجزء األول 45
اقتصاديات الحوكمة دراسة يف األصول القانونية والسياسية واالقتصادية للحوكمة
واالختال�س) ،كما قد تكون مقننة مثل امل�صادرة ونزع امللكية التع�سفي وامل�شاركة يف
�أن�شطة ت�ستهدف احل�صول على مكا�سب ريعية .)1( rent-seeking activities
ويتمثل البديل الثاين لهذه الدول يف الفو�ضى �أو غياب احلوكمة ال�سيا�سية؛ حيث
ال تكون هناك �سلطة �أو جهة حتتكر اال�ستعمال امل�رشوع للقوة legitimate use of
َدم ال�صومال منذ عام 1991كنموذج لدولة الفو�ضى forceعلى �أر�ض الإقليم .و ُتق ُ
�أو الدولة املنهارة .ويرتك للأفراد يف دولة الفو�ضى حرية ا�ستخدام الو�سائل التي
حتقق م�صاحلهم دون رقابة �أو تدخل من �أحد؛ فال توجد �سلطة تفر�ض �سيا�سة �ضارة
�أو متييزية ل�صالح البع�ض على ح�ساب البع�ض الآخر.
وال�س�ؤال الذي يثار هو �أيهما �أف�ضل :احلوكمة ال�ضارة �أم الالحوكمة يف ظل
الفو�ضى؟ مع مالحظة �أن درا�سات عديدة قد �أظهرت �أن الأفراد قادرون على �إقامة
ترتيبات م�ؤ�س�سية خا�صة private institutional arrangementsفيما بينهم
لتي�سري م�شاركتهم املجتمعية وحماية حقوق ملكيتهم وتوفري بع�ض �أ�شكال ال�سلع
العامة عندما تغيب احلكومة؛ فالفو�ضي ال تعني بال�رضوة غياب احرتام القانون
وتواتر النزاع امل�سلح واللجوء �إىل التع�سف الدموي الع�شوائي(.)2
وقد �أظهرت بع�ض الدرا�سات التطبيقية �أن ال�صومال يف ظل �سيادة الفو�ضى
بعد عام 1991حقق نتائج اقت�صادية �أف�ضل مقارنة بفرتة (زياد بري) ،حيث كان
احلكم دكتاتوري ًا ميثل �صورة �صارخة للحوكمة ال�ضارة .و�أكدت درا�سات �أخرى �أن
امل�ؤ�رشات االقت�صادية والتنموية لل�صومال يف ظل الفو�ضى �أو�ضحت حت�سن ًا حققه هذا
البلد مقارنة ببلد مثل �سرياليون وبالد �أخرى تعاين من احلوكمة ال�ضارة .ويف �ضوء
ذلك تخل�ص نتائج درا�سة لي�سون وويليام�سون �إىل �أن «الفو�ضى» �أف�ضل من «احلوكمة
ال�سيا�سية ال�ضارة» كطريق لتحقيق درجة �أعلى من التنمية للبالد الفقرية اخلا�ضعة
حلكومات فا�شلة �أو متع�سفة(.)3
مجلة كلية القانون الكويتية العاملية -السنة الرابعة -مايو 2016 46
�أ.د� .أحمد جمال الدين مو�سى
ملحق خاص بأبحاث املؤتمر السنوي الثالث -الحوكمة والتنظيم القانوني ألسواق املال -العدد ( - )1الجزء األول 47
اقتصاديات الحوكمة دراسة يف األصول القانونية والسياسية واالقتصادية للحوكمة
خام�س ًا �« :سيادة القانون» ، Rule of Lawوهو يت�ضمن م�ؤ�رشات فرعية عديدة
تقي�س املدى الذي يثق فيه املواطنون والفاعلون االقت�صاديون يف القانون املطبق ،ومدى
التزامهم باخل�ضوع له ،وكذلك مدى ات�ساق وفاعلية النظام الق�ضائي وما يتمتع به من
احرتام وتنفيذ لأحكامه.
�ساد�س ًا « :الف�ساد» ،Graftويق�صد به قيا�س حجم الف�ساد Corruption
املتمثل �أ�سا�س ًا يف ا�ستعمال ال�سلطة العامة لتحقيق منافع خا�صة ،وهو م�ؤ�رش ُيظهر -
عند انت�شار الف�ساد -الف�شل الفادح يف تطبيق احلوكمة.
وقد �أظهرت النتائج التطبيقية لهذه الدرا�سة على عينة كبرية من الدول النامية
وجود عالقة �سببية �إيجابية قوية strong positive causal relationship
بني حت�سني م�ؤ�رشات احلوكمة والعديد من املعطيات التنموية ،مثل الدخل الفردي
املتو�سط ،per capita incomeومعدل وفيات الر�ضع ، infant mortality
ومعدل حمو �أمية البالغني( .adult literacy )1وقد جاءت نتائج درا�سة تطبيقية �أحدث
لتدعم النتائج ال�سابقة؛ حيث تو�صلت زهور �أحمد وعائ�شة �سليم من باك�ستان �إىل �أن
م�ؤ�رشات احلوكمة وعلى ر�أ�سها فاعلية احلكومة وال�سيطرة على الف�ساد واال�ستقرار
ال�سيا�سي وحت�سني النظام القانوين تلعب دور ًا حيوي ًا يف تنمية ر�أ�س املال الإن�ساين
.)2(human capitalوقد �أظهرت نتائج درا�سة تطبيقية ثالثة �أن العالقات بني النمو
االقت�صادي – مقا�س ًا مب�ستوى الدخل الفردي املتو�سط – وكل م�ؤ�رش من م�ؤ�رشات
احلوكمة ظل م�ؤثر ًا significantقبل وبعد ن�شوب الأزمة املالية العاملية يف عام
،2008و�إن تفاوتت �أهمية الت�أثري تبع ًا مل�ستويات منو الدول(.)3
وب�ش�أن العالقة بني الدميوقراطية كواحدة من �آليات احلوكمة والنمو االقت�صادي،
ك�شفت نتائج �إحدى الدرا�سات عن �أن حت�سن م�ؤ�رشات الدميوقراطية يقود �إىل زيادة
معدل النمو يف الدول التي تتمتع مب�شاركة �سيا�سية عالية .ففي هذه الطائفة من الدول
يوجد حافز لدى ال�سلطة ال�سيا�سية لال�ستثمار يف ال�سلع العامة كي حتوز على ر�ضا
مجلة كلية القانون الكويتية العاملية -السنة الرابعة -مايو 2016 48
�أ.د� .أحمد جمال الدين مو�سى
املواطنني ،فت�ضمن البقاء يف احلكم؛ وهو ما يقود �إىل رفع معدل النمو االقت�صادي .وعلى
النقي�ض من ذلك جند �سلوك النخب احلاكمة يف البلدان الأقل دميوقراطية يخ�ص�صون
جانب ًا من الإنفاق العام لل�سلع الريعية كي ي�ضمنوا والء �أن�صارهم وم�ؤيديهم؛ وهو ما
يقود �إىل تقليل معدل النمو(.)1
غري �أنه با�ستخدام امل�ؤ�رشات املجمعة ال�ستة ذاتها ،وتطبيقها على عينة كبرية
من الدول النامية ،تو�صل باحثون �آخرون من «بنني» �إىل نتائج مغايرة .فقد تبني �أن
م�ؤ�رشين فقط هما «التعبري واخل�ضوع للم�ساءلة» و»فاعلية احلكومة» كان لهما ت�أثري
�إيجابي ُ positiveمعترب significativeعلى النمو االقت�صادي ،على حني �أن م�ؤ�رش
أثر �سلبي ًا négativementعلى النمو؛ �إ�ضافة �إىل �أن هذه النتائج
«�سيادة القانون» � َّ
تتفاوت وفقا مل�ستوى الدخل الفردي املتو�سط للدول حمل الدرا�سة(.)2
وتثور يف الأدب االقت�صادي مناق�شة حامية ب�ش�أن امل�ؤ�رش اخلا�ص مبحاربة
الف�ساد ،وين�ضوي حتت م�صطلح الف�ساد �أ�شكال عديدة من االنحراف تت�ضمن
الر�شوة واالختال�س واملح�سوبية واالبتزاز ،والتهرب ال�رضيبي ،وا�ستغالل الوظيفة،
وتعار�ض امل�صالح وحجب �أو �إف�شاء الأ�رسار االقت�صادية بغري الطريق امل�رشوع ،وغري
ذلك من �صور ا�ستغالل ال�سلطة �أو الوظيفة للح�صول على مكا�سب خا�صة ،ويعتقد
معظم الباحثني وكذلك امل�ؤ�س�سات املالية الدولية �أن تطبيق قواعد احلوكمة كفيل
بتحجيم الف�ساد املنت�رش يف الدول النامية على وجه اخل�صو�ص .وقد جاءت العديد من
الدرا�سات لتظهر �أن �أثر م�ؤ�رش حماربة الف�ساد كان �إيجابي ًا يف عملية النمو االقت�صادي،
على حني تنتهي درا�سات �أخرى للتحفظ ب�ش�أن احتمالية هذا الأثر الإيجابي ،والواقع
�أنه قد ظهر اجتاه يعتقد �أنه يف ظل ال�سيطرة الديكتاتورية والبريوقراطية الثقيلة التي
تعاين منها بع�ض الدول النامية ،قد يكون الف�ساد مفيد ًا «لت�شحيم» عجل grease the
wheelsو«تزييت ترو�س» البريوقراطية ،ليكون متاح ًا للقطاع اخلا�ص الفر�صة
ملمار�سة ن�شاطه وحتقيق خطوة تنموية للأمام.
ملحق خاص بأبحاث املؤتمر السنوي الثالث -الحوكمة والتنظيم القانوني ألسواق املال -العدد ( - )1الجزء األول 49
اقتصاديات الحوكمة دراسة يف األصول القانونية والسياسية واالقتصادية للحوكمة
�ضمن االجتاه الأول ،جاءت نتائج درا�سة باولو مورو Paolo Mauroالرائدة
يف املو�ضوع حا�سمة يف �إثبات قيام عالقة �سلبية بني الف�ساد وكل من اال�ستثمار
والنمو؛ ويرجع ذلك بوجه خا�ص �إىل الدور ال�سلبي الذي تلعبه البريوقراطية الفا�سدة
يف الإ�رضار باال�ستثمار والنمو واال�ستقرار ال�سيا�سي ،وقد �سبق لذات الباحث �أن
�أظهر �أن احلكومات الفا�سدة وغري امل�ستقرة تنفق �أقل على التعليم مقارنة بغريه من
بنود الإنفاق( .)1وتو�صلت نتائج درا�سة �أخرى �إىل �أن زيادة مقدارها % 1يف م�ستوى
الف�ساد ميكن �أن تقلل معدل النمو االقت�صادي بنحو .% 0.72ويرجع اجلانب الأكرب
من ذلك للت�أثري ال�سلبي للف�ساد على عدم اال�ستقرار ال�سيا�سي� ،إ�ضافة لت�أثريه ال�سلبي
على م�ستوى ر�أ�س املال الإن�ساين ،وعلى م�شاركة اال�ستثمار اخلا�ص( ،)2وكذلك ك�شفت
�إحدى الدرا�سات عن عالقة ارتباط �سلبية بني الف�ساد ومتو�سط الرثوة احلقيقية للفرد
(وهو مقيا�س مبا�رش للتنمية امل�ستدامة) ،على حني �أن الف�ساد ي�ؤثر ب�شكل طفيف على
معدل منو الدخل الفردي املتو�سط(.)3
و�أكدت درا�سة �أخرى وجود عالقة ارتباط �سلبية بني الف�ساد والنمو االقت�صادي
من خالل �إعاقته لل�سري احل�سن للم�ؤ�س�سات( ،)4ويدعم ذلك تو�صل �إحدى الدرا�سات
�إىل �أن ا�ستمرار الدول يف احرتام قواعد النظام الدميقراطي لفرتة طويلة ( 30عام ًا)
قد ارتبط بانخفا�ض م�ؤ�رشات الف�ساد ،على حني ارتفعت هذه امل�ؤ�رشات يف ظل عدم
اال�ستقرار ال�سيا�سي ،ووجدت هذه الدرا�سة �أي�ض ًا �أن انت�شار ال�صحافة وحرية الإعالم
ارتبط مب�ستويات �أدنى من الف�ساد( ،)5وغيرَّ بعيد عن ذلك ما تو�صلت �إليه درا�سة
�أخرى من �أن خف�ض الف�ساد يرفع معدل النمو ب�شكل �أكرب يف الدول الدكتاتورية مقارنة
بالدول الدميوقراطية( .)6وقد جاءت نتيجة درا�سة �شارك فيها �أ�ستاذ �شاب من كلية
حقوق املن�صورة لتظهر-على خالف درا�سات �سابقة� -أن متغريات مثل :وفرة املوارد
مجلة كلية القانون الكويتية العاملية -السنة الرابعة -مايو 2016 50
�أ.د� .أحمد جمال الدين مو�سى
ملحق خاص بأبحاث املؤتمر السنوي الثالث -الحوكمة والتنظيم القانوني ألسواق املال -العدد ( - )1الجزء األول 51
اقتصاديات الحوكمة دراسة يف األصول القانونية والسياسية واالقتصادية للحوكمة
على �ضمان تطبيقها على �أر�ض الواقع؛ مع الأخذ بعني االعتبار �أنه ال توجد �سيا�سة
موحدة �أو منطية “ ”one-size-fits-allخلف�ض معدل الف�ساد( .)1ويف ذات االجتاه
انتهت درا�سة قائمة على حتليل املعطيات الإح�صائية ل�ستة م�ؤ�رشات متعلقة بالف�ساد
على م�ستوى الدول وال�رشكات ،ولي�س على م�ستوى الدول فقط كما جرت العادة� ،إىل
�أن ت�أثري الف�ساد على اال�ستثمار املحفز للنمو يتفاوت بو�ضوح بني مناطق العامل؛ فهو
�سلبي متاما يف دول التحول االقت�صادي �( Transition Countriesأوروبا ال�رشقية
�سابق ًا) ،لكنه غري م�ؤثر يف منطقتي �أمريكا الالتينية و�أفريقيا جنوب ال�صحراء(.)2
و�أ�شارت نتائج �إحدى الدرا�سات التطبيقية على 33دولة �أفريقية �أن الف�ساد ي�ؤثر
ب�شكل مبا�رش على النمو االقت�صادي من خالل ت�أثريه على اال�ستثمار املحلي ،غري �أن
هذا الت�أثري كان متفاوت ًا بح�سب نوع اال�ستثمار؛ حيث ت�شري النتائج �إىل �أنه كان للف�ساد
ت�أثري �إيجابي على اال�ستثمار العام ،بينما كان ت�أثريه �سلبي ًا على اال�ستثمار اخلا�ص،
ويدعم االرتباط الإيجابي بني الف�ساد واال�ستثمار العام وجهة النظر التي ترى �أن
البريوقراطيني الفا�سدين ي�سعون �إىل زيادة النفقات اال�ستثمارية الر�أ�سمالية capital
( expenditureعلى ح�ساب نفقات ال�صيانة )maintenanceلتعظيم مكا�سبهم
الريعية اخلا�صة ،وعلى العك�س ف�إن نتائج الدرا�سة ت�ؤكد �أن الف�ساد ُيحبط اال�ستثمار
اخلا�ص؛ لأنه يرفع نفقة الأعمال ويزيد ال�شعور بعدم اليقني ب�ش�أن امل�ستقبل ،وهذه
النتائج تدعم فكرة �أن الف�ساد يعيق النمو ،مما ي�ستلزم القيام ب�إ�صالحات م�ؤ�س�سية
لتح�سني نوعية احلوكمة كمتطلب �سابق للتنمية( .)3وعلى الرغم من انتقاد درا�سة
حديثة ن�سبي ًا ملا وجدته من انحياز biasيف معظم الدرا�سات ال�سابقة ،مما �أثر على
مو�ضوعية نتائجها؛ ف�إنها ت�ؤكد �أن املعطيات اجلدية تدعم وجود �أثر �سلبي للف�ساد على
النمو(.)4
مجلة كلية القانون الكويتية العاملية -السنة الرابعة -مايو 2016 52
�أ.د� .أحمد جمال الدين مو�سى
وعلى النقي�ض مما �سبق� ،أظهرت نتائج درا�سة تطبيقية على كوريا اجلنوبية خالل
الفرتة 2011-1970عدم وجود عالقة ارتباط �سلبي negative correlations
بني الف�ساد والنمو االقت�صادي( .)1ويدعم ذلك ما خل�صت �إليه درا�سة تطبيقية على
دول �رشق �آ�سيا من �أنه على حني يبطئ الف�ساد النمو ويقلل اال�ستثمار يف معظم الدول
النامية ،خا�صة ال�صغرية منها ،ف�إنه يزيد النمو يف اقت�صادات �رشق �آ�سيا الكبرية .وهذه
النتيجة تدعم مقولة «املفارقة الآ�سيوية» Asian Paradoxالتي تعرب عن االرتباط
بني انت�شار الف�ساد وارتفاع معدل النمو(.)2
وبعد التطبيق على 60دولة ،انتهت �إحدى الدرا�سات �إىل �أن الف�ساد ي�ضعف
النمو االقت�صادي يف البالد التي تعاين من �ضعف احلرية االقت�صادية economic
،freedomعلى حني �أنه يح�سن النمو يف البالد املتمتعة بدرجة عالية من احلرية
االقت�صادية( ،)3وخل�صت نتائج درا�سة �أخرى� ،سعت للربط بني نوعية التنظيم
امل�ؤ�س�سي للدولة وكل من الف�ساد والنمو� ،إىل �أن انت�شار الف�ساد ال ي�ؤثر على معدل
النمو االقت�صادي يف الدول التي تعاين من �ضعف امل�ؤ�س�سات؛ مما يدعم مقولة �إن
الف�ساد قد يكون مفيد ًا «لت�شحيم العجالت» ورفع الكفاءة ،باعتباره و�سيلة للتغلب على
العجز امل�ؤ�س�سي ال�صارخ ،وعلى النقي�ض ف�إنه قد ثبت �أن الف�ساد �ضار بالنمو يف الدول
التي تتمتع مب�ؤ�س�سات تتميز بالكفاءة(.)4
و�إذا فهمنا احلوكمة على �أنها �أداة لتحقيق الكفاءة االقت�صادية للم�ؤ�س�سات والدول،
ف�إننا البد و�أن ننظر لآلياتها يف الدول النامية مبنظور خمتلف قلي ًال عن الدول الغربية؛
حيث ال يكفي �أن نعرف �أف�ضل �أداء ممكن للم�ؤ�س�سات لتحقيق الأهداف املتوخاة ،و�إمنا
يلزم �أي�ض ًا التعامل بواقعية مع امل�ؤ�س�سات ال�ضعيفة �أو املعيبة لإ�صالحها ،كي تتمكن
من لعب دورها يف عملية التطوير رغم �صعوبات الواقع ال�سيا�سي واالقت�صادي.
ملحق خاص بأبحاث املؤتمر السنوي الثالث -الحوكمة والتنظيم القانوني ألسواق املال -العدد ( - )1الجزء األول 53
اقتصاديات الحوكمة دراسة يف األصول القانونية والسياسية واالقتصادية للحوكمة
مجلة كلية القانون الكويتية العاملية -السنة الرابعة -مايو 2016 54
�أ.د� .أحمد جمال الدين مو�سى
من البحوث التطبيقية حول حماية حقوق امللكية والف�ساد مدى ات�ساع الفجوة
املوجودة بني احلوكمة يف حكم القانون De jureوتلك املطبقة واقعيا .De facto
ويذكر يف هذا ال�صدد التناق�ض بني ال�صني ورو�سيا ،فال�صني مل تكن تقدم حتى
وقت قريب �سوى حماية قانونية ر�سمية متوا�ضعة حلقوق امللكية ،خا�صة بالن�سبة
للم�ستثمرين الأجانب؛ على حني �أنها -يف الواقع -كانت قادرة على �أن تقدم لهم
�ضمانات كافية ،مما جذب �أحجام ًا هائلة من اال�ستثمارات الأجنبية ،ويف املقابل كان
الإطار القانوين للحوكمة يف رو�سيا – على الورق� -أف�ضل بكثري ،لكنه عند التطبيق
بدا �أكرث �سوء ًا(.)1
وبح�سب ت�شاملر�س جون�سون Chalmers Johnsonف�إن املعجزة االقت�صادية
اليابانية Japanese miracleهي نتاج منوذج ناجح للحوكمة االقت�صادية ت�ضمن
عنا�رص عديدة� ،أبرزها خم�سة� :أو ًال -بريوقراطية حمدودة العدد تقودها نخبةelite
من امل�س�ؤولني �أ�صحاب املواهب الإدارية املتميزة ،ثاني ًا -نظام �سيا�سي كفء مينح
النخبة البريوقراطية القيادية هام�ش ًا منا�سب ًا للمبادرة والت�رصف بكفاءة ،ثالث ًا-
�سوق ي�سمح للدولة بالتدخل والتوجيه والرقابة ،رابع ًا� -سيا�سات حكومية حمفزة
بقوة لأرباب الأعمال والعمال على حد �سواء ،و�أخري َا -م�ؤ�س�سات خا�صةJapan›s
Special Institutionsقائدة (مثل بنوك االدخار التي تعبئ مدخرات العائالت
وتدفعها لال�ستثمار املنتج) قادرة على الدفع باالقت�صاد نحو �آفاق جديدة(.)2
ويرجع جناح ال�صني بح�سب ينجي ت�شيان Yingyi Qianب�صورة جوهرية
لدور الالمركزية ،فمن ناحية �سمح نظام م�شاريع البلدات والقرى Township)-
)Village Enterprises) (TVEsللمحليات للتعامل مع امل�رشوعات القائمة
واجلديدة كملاّ ك ،مما منحها احلافز التخاذ قرارات ذات كفاءة عالية ونزيهة ،و�إال
عانت من تبعة اخليارات الرديئة �أو الفا�سدة ،ومن ناحية ثانية �سمح النظام ال�رضيبي
بنوع من ال�رشاكة �أو التعاقد بني احلكومة املركزية واحلكومات املحلية لت�شجيع
املحليات على حتقيق ازدهارها االقت�صادي؛ فقد ُ�سمح للمحليات باالحتفاظ بن�سبة
ملحق خاص بأبحاث املؤتمر السنوي الثالث -الحوكمة والتنظيم القانوني ألسواق املال -العدد ( - )1الجزء األول 55
اقتصاديات الحوكمة دراسة يف األصول القانونية والسياسية واالقتصادية للحوكمة
مجلة كلية القانون الكويتية العاملية -السنة الرابعة -مايو 2016 56
�أ.د� .أحمد جمال الدين مو�سى
�إذا �صدرت لها نظمها االقت�صادية ،خا�صة حقوق امللكية وال�سوق احلرة ،بد ًال من �أن
ت�صدر لها نظمها ال�سيا�سية الدميوقراطية(.)1
ويبدو لنا �أن ميزيل و�أولد �أوديا قد �سارا �أي�ض ًا على نف�س الدرب الذي �سبق �إليه
النت بريت�شت Lant Pritchettيف درا�سته التطبيقية على الفلبني وفيتنام؛ فقد
�أظهر �أ�ستاذ هارفارد �أنه على الرغم من التح�سن الن�سبي يف امل�ؤ�س�سات ال�سيا�سية
يف الفلبني بعد عزل الرئي�س ماركو�س ،ف�إن عدم اليقني امل�ؤ�س�سي institutional
uncertaintyقد زاد ،مما جعل الفاعلني االقت�صاديني غري قادرين على توقع
قواعد اللعبة ( rules of the gameجيدة كانت �أو رديئة) ،الأمر الذي �أدى �إىل ركود
يف م�ستوى الإنتاج الذي يعتد به يف ديناميكا النمو ،growth dynamicويف املقابل
ف�إنه يف فيتنام ويف �أندوني�سيا �أثناء حكم �سوهارتو ،بل يف الفلبني نف�سها �أثناء حكم
ماركو�س -ورغم �ضعف امل�ؤ�س�سات ال�سيا�سية الدميقراطية �أو غيابها -ا�ستطاعت
هذه الأنظمة رفع معدل النمو ب�شكل ملحوظ ،الأمر الذي يجد تف�سريه يف توفر نظرة
معقولة للم�ستقبل ونظام قادر على �إنفاذ العقود و�ضمان اال�ستقرار على النحو الذي
يلبي توقعات امل�ستثمرين ،ورغم ت�ساهل تلك الأنظمة مع م�ستوى معني من الف�ساد؛
ف�إنها كانت قادرة على حتقيق قدر من الكفاءة ُيحجم الت�أثري املُ�شوِ �ش disorganized
لذلك الف�ساد .هذه احلاالت عرفت �إذن م�ستوى �إنتاج �أعلى ،حتى مع وجود الف�ساد،
مما دعم معدل النمو االقت�صادي ال�رسيع(.)2
ولعل هذه املقارنة تنطبق على م�رص قبل وبعد يناير ،2011حيث مل يحل م�ستوى
الف�ساد املنت�رش يف غ�ضون الن�صف الثاين من العقد الأول من القرن احلادي والع�رشين
من حتقيق البالد �أعلى معدالت منوها االقت�صادي؛ ورمبا يعود ذلك �إىل توافر ثقة
امل�ستثمرين املحليني والأجانب يف م�ستقبل االقت�صاد امل�رصي ،وعلى النقي�ض ،ف�إن
هذه الثقة قد تراجعت ،وتدهور معها م�ستوى الإنتاج ومعدل النمو ،ب�سبب عدم اليقني
الذي �صبغ امل�شهد امل�رصي يف ال�سنوات الالحقة على الثورة؛ لقد كان امل�ستثمرون
فيما يبدو قادرين على التعامل مع امل�ستويات املتوقعة من الف�ساد ،ماداموا واثقني من
ملحق خاص بأبحاث املؤتمر السنوي الثالث -الحوكمة والتنظيم القانوني ألسواق املال -العدد ( - )1الجزء األول 57
اقتصاديات الحوكمة دراسة يف األصول القانونية والسياسية واالقتصادية للحوكمة
حتقيقهم مل�ستويات �أعلى من الأرباح .ويف املقابل �أ�ضحوا ،يف ظل عدم اليقني واخل�شية
مما �سي�أتي به امل�ستقبل ،غري قادرين �أو غري راغبني يف حتمل خماطرة اال�ستثمار.
غري �أننا يجب هنا �أن نالحظ ثالثة �أمور� :أو ًال� -إن هذا التحليل يغفل الآثار املتعلقة
بالعدالة االجتماعية وبالقيم الأخالقية والقانونية التي ال تغفر الف�ساد مهما بدا �صغري ًا،
وال جتد عذر ًا لكل تقاع�س من جانب ر�أ�س املال اخلا�ص ،ثاني ًا� -إن النمو االقت�صادي يف
ظل الف�ساد والدكتاتورية يكون عادة ق�صري ال َّنفَ�س ويفتقد اال�ستدامة الالزمة لتحقيق
التنمية مبعناها ال�شامل ،ثالث ًا� -إن االنتقال �إىل م�ستويات �أعلى من النمو ،مماثلة للدول
املتقدمة ،ي�ستوجب حماربة كل �صور الف�ساد ،وااللتزام بكامل قواعد احلوكمة التي
�سلفت الإ�شارة �إليها ،وهو ما تواترت على ت�أكيده كما �أ�سلفنا معظم الدرا�سات التطبيقية
التي �أجريت يف ال�سنوات الأخرية.
مجلة كلية القانون الكويتية العاملية -السنة الرابعة -مايو 2016 58
�أ.د� .أحمد جمال الدين مو�سى
خامتة:
�سعت هذه الدرا�سة �إىل عر�ض الأ�صول القانونية وال�سيا�سية واالقت�صادية التي
ت�ستند �إليها الدعوة لتطبيق مفهوم احلوكمة ،على الرغم من ات�ساع وتنوع هذا املفهوم.
ولعل الالفت لالنتباه هو وجود قدر كبري من الت�سليم ب�أن هناك حاجة �إىل نوع من
التنظيم والتن�سيق� ،سواء على م�ستوى ال�رشكات وامل�ؤ�س�سات �أو على م�ستوى الدولة
يتجاوز املفهوم التقليدي للحرية املطلقة للإرادة �أو الثقة العمياء يف قدرة �آليات ال�سوق
على حتقيق التوازن االقت�صادي واالجتماعي ب�شكل �آيل ،وكذلك بدت جلية احلاجة
�إىل و�ضع عالمات هادية وقيود و�آليات تقومي وحما�سبة يخ�ضع لها امل�س�ؤولون
الإداريون وال�سيا�سيون على ال�سواء ،ومع ذلك ال يجب اخللط بني احلوكمة و�أ�شكال
التقييد املتع�سف لالخت�صا�صات وال�سلطات و�إال قادت �إىل مزيد من البريوقراطية
والعجز التنظيمي ،كما ال يجب اخللط بينها وبني دعاوى اال�ستغناء عن احلكومات
وترك املجال لل�شبكات والهياكل الأفقية لتقود عاملنا يف القرن احلادي والع�رشين ،و�إال
بلغت جمتمعاتنا مرحلة من التفكك والفو�ضى� ،سيكون �أبرز �ضحاياها الأقل تنظيم ًا
والأكرث �ضعف ًا وفقر ًا.
�إنه ال�سعي ،وكما كان احلال دائم ًا منذ ن�ش�أة التجمعات الب�رشية ،نحو التوازن
الدقيق وال�صعب بني احلرية وامل�س�ؤولية؛ فاحلوكمة هي جمرد �أداة جديدة قد تكون
�أكرث فاعلية وكفاءة من �سابقيها يف حتقيق ذلك التوازن� ،إذا �صيغت على نحو يتجنب
وط ِّبقت ب�إخال�ص فع ًال على �أر�ض الواقع؛ وذلك يف اعتقادنا واجب
الإفراط والتفريط ُ
الدول النامية قبل غريها ،حلاجتها امللحة للخروج من �أزماتها املتالحقة وواقعها املر.
ملحق خاص بأبحاث املؤتمر السنوي الثالث -الحوكمة والتنظيم القانوني ألسواق املال -العدد ( - )1الجزء األول 59
اقتصاديات الحوكمة دراسة يف األصول القانونية والسياسية واالقتصادية للحوكمة
:املراجع
- AHMAD (N.), (2015): “Reinforcement of Good Governance in the
International Financial Institutions”, Law, Social Justice & Global
Development Journal (LGD), No.1 October 2015. https://www2.
warwick.ac.uk/fac/soc/law/elj/lgd/20151/ahmed/lgd_2015_1_
ahmed_pdf.pdf
- AIDT (T.), DUTTA (J.) and SENA (V.), (2008): “Governance Regimes,
Corruption and Growth: Theory and Evidence”, Journal of
Comparative Economics, Vol. 36 (2008), PP. 195–220.
61 الجزء األول- )1( العدد- الحوكمة والتنظيم القانوني ألسواق املال- ملحق خاص بأبحاث املؤتمر السنوي الثالث
اقتصاديات الحوكمة دراسة يف األصول القانونية والسياسية واالقتصادية للحوكمة
- DONNELLY (S.), (1975): Books Review: “Karl Llewellyn and the Realist
Movement”, By William Twining; “Roscoe Pound: Philosopher of
Law”, By David Wigdor, Hofstra Law Review, Vol. 3, Issue 3, p.899-
916.
63 الجزء األول- )1( العدد- الحوكمة والتنظيم القانوني ألسواق املال- ملحق خاص بأبحاث املؤتمر السنوي الثالث
اقتصاديات الحوكمة دراسة يف األصول القانونية والسياسية واالقتصادية للحوكمة
- HODGE (A.) and al., (2009): Exploring the links between corruption
and growth, The University of Queensland, Australia, School of
Economics Discussion, Paper No. 392, June 2009. http://www.
uq.edu.au/economics/abstract/392.pdf
- JOHNSON (CH.), (1993): MITI and the Japanese Miracle: The Growth
of Industrial Policy, 1925-1975, Stanford University Press, Stanford,
California, 1993.
- KIM (C.) and LIM (G.), (2015): “Corruption and Economic Growth:
A South Korean Study”, Journal of Reviews on Global Economics,
2015, 4, 1-7.
65 الجزء األول- )1( العدد- الحوكمة والتنظيم القانوني ألسواق املال- ملحق خاص بأبحاث املؤتمر السنوي الثالث
اقتصاديات الحوكمة دراسة يف األصول القانونية والسياسية واالقتصادية للحوكمة
- MEISEL (N.) & OULD AOUDIA (J.), (2008): « L’insaisissable relation entre
‘Bonne Gouvernance’ et Développement », Revue économique,
Vol. 59, 2008/6, P.1159-1191.
- MOHAN (R.) and KAPUR (M.), (2015): Emerging Powers and Global
Governance: Whither the IMF?, IMF Working Paper, WP/15/219,
October 2015. http://www.imf.org/external/pubs/ft/wp/2015/
wp15219.pdf
- MORCK (R) and STEIR (L.), (2005): The Global History of Corporate
Governance: An Introduction, NBER Working Paper No. 11062,
January 2005.
- QIAN (Y.), (2003): “How Reform Worked in China”, in: RODRIK (D.):
In Search of Prosperity: Analytic Narratives on Economic Growth,
Princeton University Press, 2003, PP.297-333.
67 الجزء األول- )1( العدد- الحوكمة والتنظيم القانوني ألسواق املال- ملحق خاص بأبحاث املؤتمر السنوي الثالث
اقتصاديات الحوكمة دراسة يف األصول القانونية والسياسية واالقتصادية للحوكمة
- SONIN (K.), (2003): “Why the rich may favor poor protection of
property rights”, Journal of Comparative Economics, Vol.31 (2003),
P. 715–731.
69 الجزء األول- )1( العدد- الحوكمة والتنظيم القانوني ألسواق املال- ملحق خاص بأبحاث املؤتمر السنوي الثالث
اقتصاديات الحوكمة دراسة يف األصول القانونية والسياسية واالقتصادية للحوكمة
ال�صفحة املــو�ضــوع
19 ملخ�ص
20 مقـــدمــة
59 خــامتــة
60 املراجع
مجلة كلية القانون الكويتية العاملية -السنة الرابعة -مايو 2016 70