You are on page 1of 67

‫فوائد رمضانية‬

‫سنة ‪1440‬هـ‬

‫د‪ .‬فهمي إسالم جيوانتو‬

‫‪1‬‬
‫الفائدة األوىل‪:‬‬

‫الصوم ولياقتنا الروحية‬

‫ماذا حدث اذا أمهل النسان جسمه فمل يقم يأي حركة ومل حيمل أي عبء؟ س يضعف اجلسم‬
‫وميرض وقد يؤدي اىل املوت البطيء‪ .‬واليشء نفسه حيدث مع الروح اذا أمهلت فمل تقم بأي دور ومل تتحرك‬
‫ومل تترصف‪.‬‬
‫ان الصيام حتريك للروح ودفع لها أن حتمل عبءا وتقاوم صعوبة‪ُ .‬منع اجلسد أن يتغذى يف هنار‬
‫رمضان حىت تندفع الروح لتخرج طاقة بديةل عن الطاقة الكمييائية الناجتة عن اللك والرشب‪ .‬فان للنسان‬
‫طاقة انبعة من مصدر غري مادي‪ ،‬ويه طاقة روحية‪.‬‬
‫والرايضة تفيد اجلسم لهنا حتركه وتقوي القلب والعضلت‪ .‬وان للروح أيضا رايضة تقوهيا وتنعشها‬
‫وحتررها من ال ْس‪ .‬والصوم رايضة روحية تعطي للنسان حصة نفس ية وسعادة قلبية وقوة يف مواهجة صعوابت‬
‫احلياة‪ .‬وكام أن الرايضيني حظوا بقوة جسدية ولياقة بدنية عالية‪ ،‬فان املسمل اذلي ميارس الصوم حبق يكسب‬
‫لياقة روحية جيدة‪ ،‬فهو أثبت قلبا وأصرب نفسا وأكرث طمأنينة‪.‬‬
‫وللحصول عىل اللياقة الروحية املطلوبة فل بد من مراعاة "القوانني" اليت حتمي الصامئ من اخلسارة‬
‫حبيث حيصل عىل التعب والعطش واجلوع ومل حيصل عىل تكل الفوائد املرجوة‪ ،‬كام قال النيب صىل هللا عليه‬
‫وسمل – فامي رواه أمحد والنسايئ وابن ماجه‪" :‬مك ِم ْن َص ِ‬
‫امئ لَيْ َس َ َُل ِم ْن ِص َيا ِم ِه ا ال الْ ُجو ُع‪ ".‬ويف رواية لدلاريم‪:‬‬
‫ٍ‬
‫ِ‬ ‫" َ ْمك ِم ْن َص ِ‬
‫الظ َمأ‪ ".‬نعوذ ابهلل من هذا الصيام اذلي يرض ول ينفع‪.‬‬ ‫امئ لَيْ َس َ َُل ِم ْن ِص َيا ِم ِه الا ا‬
‫ٍ‬
‫ِ‬
‫وفقنا هللا واايمك حلسن الصيام والقيام‪ ،‬وتقبل هللا منا ومنمك صاحل العامل‪.‬‬

‫مكة‪ 1 ،‬رمضان ‪ 1440‬هـ ‪ 6 /‬مايو ‪ 2019‬م‬


‫‪#‬سلسةل_فوائد_رمضانية_‪1440‬هـ‬
‫الفائدة الثانية‬

‫‪2‬‬
‫صومنا يف السياق التارخيي‬

‫الص َيا ُم َ َمَك ُك ِت َب عَ َىل ا ِاذل َين ِم ْن قَ ْب ِل ُ ْمك‪[ "...‬البقرة‪]183 :‬‬


‫قال تعاىل‪ُ ..." :‬كتِ َب عَلَ ْي ُ ُمك ِ‬
‫أخرب هللا تعاىل أن الصيام مفروض عىل المم قبلنا‪ ،‬فليس الصيام بدعا من العبادات ول املسلمون‬
‫منفردين هبذه الفريضة‪ ،‬فهذا ترشيع الهيي جرى عىل المم السابقة‪ .‬وللك دين صيامه وللك أمة صياهما‪ ،‬ال أن‬
‫هللا حفظ هذا ادلين من أيدي التحريف وعوادي الهامل كام حدث يف المم الغابرة‪.‬‬
‫الص َيا ُم َ َمَك ُك ِت َب عَ َىل ا ِاذل َين ِم ْن قَ ْب ِل ُ ْمك ل َ َعل ا ُ ْمك تَتا ُق َ‬
‫ون}‬ ‫ان قوَل تعاىل‪َ { :‬اي َأهيه َا ا ِاذل َين أ َمنُوا ُك ِت َب عَلَ ْي ُ ُمك ِ‬
‫ون} [البقرة‪:‬‬ ‫[البقرة‪ ]183 :‬جبانب قوَل تعاىل‪َ { :‬اي َأهيه َا النا ُاس ا ْع ُبدُ وا َربا ُ ُمك ا ِاذلي َخلَقَ ُ ْمك َو ا ِاذل َين ِم ْن قَ ْب ِل ُ ْمك لَ َعل ا ُ ْمك تَتا ُق َ‬
‫‪ ]21‬يورد المر الترشيعي يف جمراه التارخيي‪.‬‬
‫واللفت للنظر أن سورة البقرة اليت احتضنت بيان هذه الفريضة قد تضمنت أيضا بيان أحوال المم‬
‫وكشفت مسريهتا التارخيية‪ ،‬مما يكشف لنا اترخي تفاعل البرش مع رشيعة هللا وأوامره ونواهيه‪ .‬وابتدأ البيان‬
‫التارخيي فهيا من نقطة بداية البرش‪ ،‬ويه قصة خلق أدم وترش يحه للخلفة يف الرض‪.‬‬
‫مث اختار هللا من بني تكل المم‪ ،‬بين اسائيل خملاطبهتم‪ ،‬وتسلسل العتاب الطويل هلم‪ ،‬مث ذكر هللا‬
‫كل ِللنا ِاس‬ ‫ات فَأَتَ امه اُن‪ ،‬قَا َل‪ :‬ا ِّن َجا ِع ُ َ‬ ‫قصة ابراهمي اذلي وف لك أوامر هللا ابلاكمل { َوا ِذ ابْتَ َىل ا ْب َرا ِه َمي َرب ه ُه ِب َ َِك َم ٍ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫الظا ِل ِ ِم َني} [البقرة‪]124 :‬‬ ‫ا َما ًما‪ .‬قَا َل‪َ :‬و ِم ْن ُذ ِري ا ِيت‪ .‬قَا َل‪َ :‬ل ي َنَ ُال َعهْ ِدي ا‬
‫ِ‬
‫وبعد ايراد الترشيعات الكثرية من حتويل القبةل اىل أحاكم الطلق‪ ،‬جاءت قصة أول هجاد لبين‬
‫اسائيل واختيار طالوت ملاك هلم مث بروز داود عليه السلم بطل فصار ملاك نبيا‪ .‬وجاء بعده اختصار اترخي‬
‫ات‪،‬‬ ‫اّلل‪َ ،‬و َرفَ َع ب َ ْعضَ ه ُْم د ََر َج ٍ‬ ‫كل هالر ُس ُل فَضا لْنَا ب َ ْعضَ ه ُْم عَ َىل ب َ ْع ٍض‪ِ ،‬مْنْ ُ ْم َم ْن ََكا َم ا ُ‬ ‫الرسل مع أممهم يف قوَل تعاىل‪ِ { :‬ت ْ َ‬
‫اّلل َما ا ْقتَتَ َل ا ِاذل َين ِم ْن ب َ ْع ِد ِ ِْه ِم ْن ب َ ْع ِد َما َج َاءهتْ ُ ُم‬ ‫ات َو َأيادْ انَ ُه ِب ُروحِ الْ ُقدُ ِس‪َ ،‬ولَ ْو َش َاء ا ُ‬ ‫َوأتَيْنَا ِع َيَس ا ْب َن َم ْر َ ََي الْ َب ِينَ ِ‬
‫اّلل ي َ ْف َع ُل َما يُ ِريدُ } [البقرة‪:‬‬ ‫اّلل َما ا ْقتَتَلُوا َولَ ِك ان ا َ‬ ‫ات‪َ ،‬ولَ ِك ِن ا ْختَلَ ُفوا‪ ،‬فَ ِمْنْ ُ ْم َم ْن أ َم َن َو ِمْنْ ُ ْم َم ْن َك َف َر َولَ ْو َش َاء ا ُ‬ ‫الْ َب ِينَ ُ‬
‫‪]253‬‬
‫ومن بني أايت النفاق وأايت التوحيد جاءت ثلث قصص أخرية يف هذه السورة قصة جمادةل ابراهمي‬
‫مكل العراق‪ ،‬وقصة عزير اذلي أماته مائة مث أحياه بعد ذكل‪ ،‬مث قصة طلب ابراهمي عليه السلم مشاهدة‬
‫معلية احياء املوىت‪.‬‬

‫‪3‬‬
‫فهكذا بسقت لواحئ الترشيع من بني معامل التارخي‪ ،‬وازدانت تعالمينا ادلينية برسد القصص الواقعية‪ ،‬مفا‬
‫أكرث الفوائد والشارات اليت ميكن اس تخلصها من هذا الرتتيب البديع!‬
‫ولول أن املقام مقام اختصار‪ ،‬لس تغرق بيان تكل الشارات من هذا الرتتيب العجيب صفحات كثرية‬
‫بل المر اس تحق أن يفرد َل كتاب مس تقل‪ ،‬ولكن خنمت حديثنا بفائدة ذكرها القرأن يف هذه السورة حيث‬
‫ون االر ُسو ُل عَلَ ْي ُ ْمك َشهِيدً ا} [البقرة‪]143 :‬‬ ‫قال‪َ { :‬و َك َذ ِ َكل َج َعلْنَ ُ ْامك أ ام ًة َو َس ًطا ِلتَ ُكونُوا ُشهَدَ َاء عَ َىل النا ِاس َويَ ُك َ‬
‫فهبذه املعلومات التارخيية اليت حباان هللا اايها تكون أمة محمد عليه الصلة والسلم شهودا عىل الناس يوم‬
‫القيامة‪.‬‬
‫اّلل عَلَ ْي ِه َو َس ا َمل «يُدْ َعى ن ُوح ي َ ْو َم الْ ِق َيا َم ِة‪ ،‬فَ ُيقَ ُال ََلُ‪َ :‬ه ْل‬ ‫اّلل َص اىل ا ُ‬ ‫ول ا ِ‬ ‫ف َع ْن َأ ِِب َس ِعي ٍد‪ ،‬قَا َل‪ :‬قَا َل َر ُس ُ‬
‫ون‪َ :‬ما َأاتَ انَ ِم ْن ن َ ِذي ٍر َو َما َأاتَ انَ ِم ْن َأ َح ٍد‪ .‬فَ ُيقَا ُل‬ ‫ول‪ :‬ن َ َع ْم‪ ،‬فَ ُيدْ َعى قَ ْو ُم ُه فَ ُيقَ ُال لَه ُْم‪ :‬ه َْل بَلاغ ُ َْمك؟ فَيَ ُقولُ َ‬
‫بَلاغ َْت؟ فَيَ ُق ُ‬
‫نامك أ ام ًة َو َسط ًا} [رواه البخاري‬ ‫ذكل َج َعلْ ُ ْ‬ ‫ول‪ُ :‬م َح امد َوأ ام ُت ُه‪ .‬قَا َل فَ َذ ِ َكل قوَل‪َ { :‬و َك ِ َ‬ ‫ِل ُنو ٍح‪َ :‬م ْن ي َْشهَدُ َ َكل؟ فَ َي ُق ُ‬
‫والرتمذي والنسايئ وأمحد]‬
‫اّلل عَلَ ْي ِه َو َس ا َمل « ََيِي ُء النا ِ هيب ي َ ْو َم الْ ِق َيا َم ِة َو َم َع ُه االر ُج َل ِن َو َأ ْك َ ُرث‬
‫اّلل َص اىل ا ُ‬ ‫ول ا ِ‬ ‫ويف يف رواية لمحد قَا َل َر ُس ُ‬
‫غت قومك؟ فيقول‪ :‬نعم‪ ،‬فيقال‪:‬‬ ‫ون‪َ :‬ل‪ .‬فَ ُيقَ ُال ََلُ‪ :‬هل بلَ َ‬ ‫ِم ْن َذ ِ َكل‪ ،‬فَ ُيدْ َعى قَ ْو ُمهُ‪ ،‬فيقال‪ :‬ه َْل بَلاغ ُ َْمك ه ََذا؟ فَ َي ُقولُ َ‬
‫ون‪ :‬ن َ َع ْم‪ ،‬فَ ُيقَ ُال‪:‬‬ ‫ول‪ُ :‬م َح امد َوأ ام ُتهُ‪ ،‬فَ ُيدْ َعى محمد َوأ ام ِت ِه‪ ،‬فَ ُيقَ ُال لَه ُْم‪ :‬ه َْل بَل ا َغ ه ََذا قَ ْو َمهُ؟ فَيَ ُقولُ َ‬ ‫َم ْن ي َْشهَدُ َ َكل؟ فَيَ ُق ُ‬
‫نامك أ ام ًة‬ ‫ذكل َج َعلْ ُ ْ‬
‫ون‪َ :‬ج َاءانَ نبينا فَأَخ َ َْربانَ َأ ان هالر ُس َل قَدْ بَل ا ُغوا‪ ،‬فَ َذ ِ َكل قَ ْو ُ َُل َع از َو َج ال‪َ { :‬و َك ِ َ‬ ‫َو َما ِعلْ ُم ُ ْمك؟ فَ َي ُقولُ َ‬
‫َو َسط ًا‪}...‬‬
‫فاهلل أراد الترشيف لهذه المة فلنقابل هذا الترشيف ابمحلد والشكر‪ ،‬ونبادل الحسان ابلحسان‪.‬‬
‫فامحلد هلل عىل السلم‪ ،‬وامحلد هلل عىل الميان‪ ،‬وصل اللهم عىل س يد الانم وعىل أَل وحصبه والتابعني‬
‫ومن تبعهم ابحسان‪.‬‬

‫مكة ‪ 2‬رمضان ‪ 1440‬هـ‪ 7 /‬مايو ‪2019‬م‬


‫‪#‬سلسةل_فوائد_رمضانية_‪1440‬هـ‬

‫الفائدة الثالثة‬
‫‪4‬‬
‫"إمياان واحتسااب"‬

‫ملاذا كرر النيب صىل هللا عليه وسمل عبارة "امياان واحتسااب" يف أحاديثه عن رمضان؟ قال عليه الصلة‬
‫والسلم‪َ « :‬م ْن َصا َم َر َمضَ َان‪ ،‬اميَاانً َوا ْح ِت َس ًااب‪ ،‬غُ ِف َر َ َُل َما تَقَ اد َم ِم ْن َذنْ ِب ِه» وقال‪َ « :‬م ْن قَا َم َر َمضَ َان اميَاانً َوا ْح ِت َس ًااب‪،‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫غُ ِف َر َ َُل َما تَقَ اد َم ِم ْن َذنْ ِب ِه» وقال‪َ « :‬و َم ْن قَا َم ل َ ْي َ َةل الْقَدْ ِر اميَاانً َوا ْح ِت َس ًااب‪ ،‬غُ ِف َر َ َُل َما تَقَ اد َم ِم ْن َذنْ ِب ِه»‬
‫ِ‬
‫ما معىن "امياان واحتسااب"؟ قال النووي رمحه هللا‪ :‬معىن ( امياان ) تصديقا بأنه حق مقتصد فضيل َته ‪،‬‬
‫ومعىن ( احتسااب ) أن يريد هللا تعاىل وحده ل يقصد رؤية الناس ‪ ،‬ول غري ذكل مما خيالف الخلص‪.‬‬
‫أكد النيب صىل هللا عليه وسمل أن الصيام والقيام يف رمضان امنا يؤجر علهيام وتغفر هبام اذلنوب اذا اكان‬
‫بدافع الميان واحتساب ما عند هللا من الثواب‪ .‬فالفعل تق ادر قمي ُته عند هللا ليس بعرضه وطوَل‪ ،‬وامنا عىل‬
‫قدر نية الفاعل وقصده‪ .‬قال النيب صىل هللا عليه وسمل‪" :‬امنا العامل ابلنيات‪ ،‬وامنا للك امرئ ما نوى‪".‬‬
‫فهنا تأيت خطورة من قام بفعل الطاعات ومل يراع ادلافع اذلي يدفعه ذلكل‪ ،‬فقد يصوم النسان اتباعا‬
‫للعادة أو خوفا من ملمة الناس أو طلبا للصحة البدنية فقط وليس بدافع الميان ابهلل ورجاء ثوابه‪ .‬مفع غياب‬
‫النية الصحيحة ضاع الجر ومل حيصل عىل الثواب املطلوب‪ ،‬والعياذ ابهلل‪.‬‬
‫وامعاان لتثبيت النية اشرتط عقد النية يف الليل قبل الصيام‪ ،‬روى أحصاب السنن عن حفصة ريض‬
‫الص َيا َم قَ ْب َل الْ َف ْج ِر فَ َل ِص َيا َم َ َُل‪ ".‬حصحه ابن خزمية‬
‫هللا عْنا أن النيب صىل هللا عليه وسمل قال‪َ " :‬م ْن لَ ْم يُ َب ِي ْت ِ‬
‫وابن حبان‪.‬‬
‫وتبييت النية هو أن يعقد النسان النية والعزم عىل صيام فريضة رمضان‪ ،‬ول يشرتط التلفظ به‪،‬‬
‫واذا عقد النية يف أول الليةل لصيام اكمل الشهر أجزأ عن لك ليةل كام قال أهل العمل‪.‬‬
‫وهنا حمل التذكري بأمهية فعل القلوب‪ ،‬فان الصيام امتناع وليس فعل مبعىن الاندفاع‪ ،‬وهذا الامتناع‬
‫تمكن قميته يف ادلافع اذلي يدفعه للمتناع‪ ،‬ولول ابتغاء رضوان هللا ملا اكن لهذا الترصف وزن عند هللا‪ ،‬كام‬
‫أن الامتناع قد يكون صربا أو يكون جبنا أو يكون كسل‪ ،‬لك ذكل ميزيه ادلافع والنية‪ ،‬وامنا ميدح الصرب‬
‫والامتناع اذا اكن بدافع نبيل وسلمي‪ ،‬قال تعاىل‪َ { :‬و ا ِاذل َين َص َ ُربوا ابْ ِتغ ََاء َو ْج ِه َر ِ ِهب ْم‪َ ،‬و َأقَا ُموا ا‬
‫الص َل َة َو َأنْ َف ُقوا ِم اما‬
‫الس ِيئَ َة أول َ ِئ َك لَهُ ْم ُع ْق ََب ادلا ِار} [الرعد‪ }22 :‬فقيد الصرب اببتغاء وجه‬ ‫ون ِابلْ َح َس نَ ِة ا‬
‫سا َوعَ َل ِن َي ًة‪َ ،‬ويَدْ َر ُء َ‬ ‫َر َز ْقنَ ُ ْ‬
‫اِه ِ ًّ‬
‫هللا‪ ،‬مفن صرب بدافع أخر فل يشمهل هذا املدح‪.‬‬

‫‪5‬‬
‫نسأل هللا أن هيدي قلوبنا ويزيك نفوس نا ويسدد أعاملنا وأقوالنا انه مسيع جميب‪.‬‬

‫مكة ‪ 3‬رمضان ‪1440‬هـ‪ 8/‬مايو ‪2019‬م‬


‫‪#‬سلسةل_فوائد_رمضانية_‪1440‬هـ‬

‫‪6‬‬
‫الفائدة الرابعة‬

‫بني اإلميان اخلرايف واإلميان العلمي‬

‫يعتقد البعض أن العمل والميان شيئان متغايران‪ ،‬ويقولون ان العمل مبدأه العقل وأمور حس ية معقوةل‪،‬‬
‫أما الميان مفنشأه القلب‪ ،‬وليس ابلرضورة أن يكون معقول‪ .‬وهذا ان يصح فامنا ينطبق عىل الميان اخلرايف‬
‫اذلي اعتقده أحصاب ادلايانت الخرى غري ادلين السليم اذلي أسس اميانه عىل العمل‪ ،‬فقال هللا تعاىل‪:‬‬
‫اّلل} [محمد‪ ]19 :‬ودعا اىل التفكري واعامل العقل ليتوصل النسان اىل الميان‪ ،‬واكن شعار‬ ‫{فَا ْع َ ْمل َأن ا ُه َل ا َ ََل ا ال ا ُ‬
‫ِ ِ‬
‫القرأن يف احلجاج العلمي والعقيل قوَل تعاىل‪{ :‬قُ ْل هَاتُوا بُ ْرهَانَ ُ ْمك ا ْن ُك ْن ُ ْمت َصا ِد ِق َني} [البقرة‪[ ]111 :‬المنل‪]64 :‬‬
‫ِ‬
‫ففي ديننا السليم انسجام اتم بني الميان والعمل والعقل‪ .‬ومن حسن حظ هذه المة أن تكون‬
‫املعجزة الكربى اليت دعا هبا النيب صىل هللا عليه وسمل يه القرأن العظمي‪ ،‬بيامن اكن النبياء قبهل جاء خبوارق‬
‫العادات وجعائب الحوال‪ ،‬جاء النيب صىل هللا عليه وسمل بكتاب مقروء دعا اىل التفكري والتأمل واعامل‬
‫رش‪،‬‬ ‫العقل‪ ،‬قال النيب صىل هللا عليه وسمل‪َ « :‬ما ِم َن ا َلنْ ِب َيا ِء ن ِ ٌَّيب ا ال أع ِْط َي ِم َن ال َاي ِت َما ِمثْ ُهل أ َم َن عَلَ ْي ِه البَ َ ُ‬
‫َُ ِ‬
‫ون َأ ْك َ َرث ُ ِْه اتَ ِب ًعا ي َ ْو َم ال ِقيَا َم ِة» [رواه البخاري]‬
‫اّلل ا َ اَل‪ ،‬فَأَ ْر ُجو َأ ْن أك َ‬ ‫يت َو ْحيًا أَ ْو َحا ُه ا ُ‬ ‫َوان ا َما َاك َن ا ِاذلي أو ِت ُ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫فالعمل الصحيح عندان يقود اىل الميان‪ ،‬والميان الصحيح عندان هو اذلي يقوم عىل العمل ل عىل اجلهل‪.‬‬
‫مل يقل ادلعاة عندان كام قال رجال ادلين يف ادلاينة الخرى‪" :‬أمغض عينيك واتبعين!" أو قال‪" :‬اعتقد وأنت‬
‫أمعى!" بل أمارة الضلةل عندان هو عدم اس تعامل العقل والسمع والبرص‪ ،‬قال تعاىل‪َ { :‬ولَقَدْ َذ َر ْأانَ ِل َجهََّنا َ َك ِث ًريا‬
‫ون هبِ َا أولَ ِئ َك َاك ْ َلنْ َعا ِم‬ ‫رصو َن هبِ َا َولَه ُْم أ َذان َل ي َْس َم ُع َ‬ ‫ِم َن الْجِ ِن َو ْالن ْ ِس لَه ُْم قُلُوب َل ي َ ْفقَه َ‬
‫ُون هبِ َا َولَه ُْم َأ ْع ُني َل يُ ْب ِ ُ‬
‫ِ‬
‫ون} [العراف‪]179 :‬‬ ‫ب َ ْل ُ ِْه َأضَ هل أولَ ِئ َك ُ ُِه الْغَا ِفلُ َ‬
‫وليس يف ديننا تعارض بني نص حصيح وعقل رصحي‪ .‬واذا اعرتض أحد عىل منطوق نص حصيح عندان‬
‫فهناك خلل يف قضيته العقلية ول بد‪ .‬واذا وجد بعض املعتقدات عند بعض الناس خيلف العقل السلمي‬
‫والفطرة السلمية فل بد أن تكون تكل املعتقدات انش ئة اما من نص غري حصيح أو فهم غري سلمي‪ ،‬ول خيرج‬
‫المر من هذه ادلائرة‪.‬‬
‫وهبذا هنضت المة السلمية من أول ظهورها‪ ،‬بيامن اكن أوراب حباجة اىل ‪ 1500‬س نة لتْنض وخترج‬
‫من عصورها املظلمة‪ ،‬وذكل لن امياننا مبين عىل العمل‪ ،‬بيامن اكنت املس يحية اليت تلقهتا أوراب مبنية عىل الغرائب‬

‫‪7‬‬
‫والعجائب‪ .‬فان أوراب غارقة يف عامل اخلرافات والساطري منذ القرن الول امليلدي‪ ،‬ومل يفيقوا حىت قاوم العق ُل‬
‫ادلين‪ ،‬وحىت قام الرصاع املرير بني رجال العمل ورجال ادلين‪ .‬يف حني أن عندان رجال ادلين ِه رجال العمل‪،‬‬
‫فمل ينبغ عامل يف السلم ال وهو حيفظ كتاب هللا عن ظهر قلب‪ ،‬فابن سينا صاحب القانون يف الطب اكن‬
‫حافظا لكتاب هللا‪ ،‬وابن رشد اذلي اكن مرجعا يف الفلسفة واملنطق هو أيضا فقهيا متبحرا يف مذاهب الفقه‪،‬‬
‫وابن القمي اذلي جال وصال يف تراثنا السليم اكن ضليعا يف كتب اليوانن عارفا بأقوال أطباهئم‪ ،‬وابن خدلون‬
‫اذلي أسس عمل الاجامتع واخرتع عمل فلسفة التارخي اكن رأسا يف الفقه املاليك‪ .‬وهكذا تطول القامئة جدا‪.‬‬
‫ولكن جرى عىل هذه المة ما جرى عىل المم السابقة حيث مال كثري من أبناهئا اىل اخلرافات وصار‬
‫ادلين عند البعض هو التصديق ابلقصص العجيبة والاعامتد عىل الشعوذة والكهانة‪ ،‬وتعلقت قلوهبم بعجائب‬
‫المور وغرائب الش ياء‪ ،‬وَكام زادت هذه الظاهرة زاد ختلفنا وضعفنا‪ .‬فمل تكن الْنضة ال ابلعمل والعودة اىل‬
‫س قوة هذا ادلين وهو اندماج ادلين ابلعمل واستيعاب المة للعمل واملعرفة‪ ،‬وعودة المة اىل اعامل العقل‬
‫وتطوير العلوم‪.‬‬
‫وأن لمة "اقرأ" أن تقرأ أكرث من غريها‪ ،‬وحان لمة "فاعمل" أن تعمل أكرث من غريها‪َ ،‬يب عىل أمة‬
‫"وقل امعلوا" أن تعمل أحسن من غريها‪.‬‬
‫وفقنا هللا واايمك ملا حيب ويرىض‪ ،‬وهداان اىل رصاطه املس تقمي‪ ،‬وبرصان بكتابه املبني‪ ،‬يرسان لتباع‬
‫هديه القوَي‪.‬‬

‫مكة‪ 4 ،‬رمضان ‪ 1440‬هـ‪ 9/‬مايو ‪2019‬م‬


‫‪#‬سلسةل_فوائد_رمضانية_‪1440‬هـ‬

‫‪8‬‬
‫الفائدة اخلامسة‬

‫مسارات األمم الثالث‬

‫ان املتأمل يف مسارات المم الثلث (الهيود والنصارى واملسلمون) َيد أمرا غريبا‪ ،‬فهناك تشابه كبري‬
‫بيْنا ولكن هناك فوارق تدعو للعجب‪ .‬أما التشابه فان هذه المم الثلث َكها تلقت رساةل السامء وانمتت الهيا‪،‬‬
‫ولكن اذلي يثري العجب يف هذا املقام اختلف املسارات اليت اختطهتا خلل اترخي لك مْنا‪.‬‬
‫أما الهيود فبعد خروهجم من مرص وجناهتم من قبضة فرعون‪ ،‬فهم يتهيون يف حصراء سيناء أربعني س نة‬
‫مث مل يس تقروا ال بعد مرور مئات الس نني‪ ،‬بعد أن متكن جيش طالوت من هزمية جيش جالوت‪ .‬وأنشأوا‬
‫مملكة يف البيت املقدس مل تدم طويل‪ ،‬مل حيمك ال أربعة ملوك‪ :‬طالوت وابنه مث داود وابنه سلامين علهيام السلم‪،‬‬
‫وبعد وفاة سلامين س نة ‪ 926‬قبل امليلد‪ ،‬انقسمت مملكهتم اىل مملكتني‪ :‬مملكة اسائيل شامل ومملكة هيوذا‬
‫جنواب‪ .‬ومل تس مترا طويل‪ ،‬فان مملكة اسائيل اهنارت س نة ‪ 722‬قبل امليلد اثر جهوم الشوريني علهيم‪،‬‬
‫ومملكة هيوذا دمرت ابلاكمل عىل يد نبوخذ نرص البابيل س نة ‪ 586‬قبل امليلد‪ .‬وبعد ذكل مل يشهد الهيود‬
‫اس تقرارا قط يف اترخيهم‪ ،‬فهم اما مرشدون أو يعيشون حتت حمك غريِه‪.‬‬
‫أما النصارى فان الثلمثائة س نة الوىل من فرتة دعوهتم َكها عاشوها حتت قهر وتعذيب شديد من‬
‫قبل ملوك زماهنم‪ ،‬ومل يتعافوا من ذكل القهر والتنكيل ال بعد أن اعتنق امرباطور الروم ادلين املس يحي‪ .‬ولكن‬
‫ذكل فتح مشَكة جديدة‪ ،‬فان قيرص الروم قسطنطني من خلل مؤمتر نيقية أيد مذهب التثليث مقابل‬
‫أحصاب مذهب التوحيد اذلين اكنوا ِه الحق هبذا ادلين‪ ،‬فيبدأ الاضطهاد اجلديد من قبل أنصار التثليث ‪-‬‬
‫وِه مؤيدون من قبل البلط املليك ‪ -‬ضد أحصاب التوحيد واكنوا أول المر يشَكون الغلبية‪ ،‬ولكْنم يقلون‬
‫بعد املطاردة والتقتيل والتعذيب‪ ،‬فتحولت املس يحية بذكل من التوحيد اىل الرشك‪.‬‬
‫أما مسرية أمة محمد صىل هللا عليه وسمل‪ ،‬فتس توجب منا الشكر عىل نعمة العافية والتوفيق بأن يرس‬
‫هللا للمسلمني طريق المتكني يف أول مسريهتم التارخيية‪ .‬فمل تطل معاانة املسلمني يف مكة حىت قتح هللا ابب‬
‫الهجرة اىل املدينة لتبدأ سلسةل الانتصارات الطويةل اليت مل تقف بوفاة الرسول صىل هللا عليه وسمل‪ .‬وحافظت‬
‫المة عىل الاس تقرار قروان طويةل‪ .‬وان سلسةل احلروب الصليبية والهجامت التتارية مل تقلب المة من حاةل‬
‫المتكني اىل حاةل الاس تضعاف‪ ،‬بل بقيت المة حتمك نفسها بنفسها قروان مديدة‪ ،‬اىل أن دخلت عرص الضعف‬
‫التخلف يف قرهنا العارش‪.‬‬

‫‪9‬‬
‫مفعظم اترخي هذه المة اكنت انتصارات وأجمادا‪ ،‬ولكننا ورثنا عرص الاحتلل‪ ،‬وبعضنا أصيب بعقدة‬
‫النقص جراء ذكل‪ ،‬لهنم مل يروا ال احلاةل احلارضة ومل يعرفوا أصوهلم وهجلوا اترخيهم اجمليد‪ .‬وليك خنرج من هذه‬
‫النفس ية املهزومة علينا أن نربط احلارض ابملايض واملس تقبل‪ ،‬فكام أن ماضينا جميد مفس تقبلنا مرشق‪ ،‬وان اكن‬
‫حارضان ليس عىل ما تش هتيه السفن‪ ،‬فان الرسول صىل هللا عليه وسمل أخربان ابلقادم الطيب‪ .‬قال النيب صىل‬
‫اّلل ه ََذا‬ ‫اّلل بَيْ َت َمدَ ٍر َو َل َوبَ ٍر ا ال َأ ْدخ َ َُهل ا ُ‬‫هللا عليه وسمل‪" :‬لَ َي ْبلُغ اَن ه ََذا ْ َال ْم ُر َما بَلَ َغ الل ا ْي ُل َوالْنا َ ُار ‪َ ،‬و َل ي َ ْ ُرتكُ ا ُ‬
‫ِ‬
‫اّلل ِب ِه ْال ُك ْف َر‪ .‬رواه أمحد‬
‫اّلل ِب ِه ْال ْس َل َم‪َ ،‬و ُذ ًّل يُ ِذ هل ا ُ‬ ‫يل‪ِ ،‬ع ًّزا يُ ِع هز ا ُ‬ ‫ِادل َين‪ِ ،‬ب ِع ِز َع ِزي ٍز َأ ْو ب ُِذ ِل َذ ِل ٍ‬
‫ِ‬
‫رص َوالتا ْم ِكنيِ ِيف ْ َال ْر ِض فَ َم ْن َ ِمع َل َ َمع َل ْال ِخ َر ِة ِل هدلنْ َيا‬ ‫رش َه ِذ ِه ْال ام َة ِاب الس نَا ِء َو ِالرفْ َع ِة َوالنا ْ ِ‬ ‫وقال أيضا‪ :‬ب َ ِ ْ‬
‫لَ ْم يَ ُك ْن َ َُل ِيف ْال ِخ َر ِة ن َِصيب‪ .‬رواه أمحد واحلامك والبهيقي‪.‬‬
‫وهذه البشارات تشجعنا عىل العمل جبد لنرصة هذا ادلين ونرشه‪ ،‬ول تدفعنا اىل الاتاكل والرتايخ‪.‬‬
‫لك ُميَ ارس ِل َما ُخ ِل َق َ َُل‪ ".‬متفق عليه‪ ،‬فاخلري قادم وما علينا ال‬ ‫امعلُوا فَ ُ ٌّ‬‫فقد قال النيب صىل هللا عليه وسمل‪َ ْ " :‬‬
‫أن ننضم يف صفوف املصلحني العاملني ونرتك القاعدين املتقاعسني‪.‬‬
‫اللهم اهدان واهد بنا واجعلنا سببا ملن اهتدى‪.‬‬

‫مكة‪ 5 ،‬رمضان ‪ 1440‬هـ‪ 10/‬مايو ‪2019‬م‬


‫‪#‬سلسةل_فوائد_رمضانية_‪1440‬هـ‬

‫‪10‬‬
‫الفائدة السادسة‬

‫"وقوموا هلل قانتني"‬

‫الص َل ِة‪ ،‬يُ َ َِك ُم االر ُج ُل َصا ِح َب ُه َوه َُو ا َىل‬


‫روى الش يخان عن ر َع ْن َزيْ ِد ْب ِن َأ ْرقَ َم‪ ،‬قَا َل‪ُ " :‬كناا نَتَ ََكا ُم ِيف ا‬
‫ِ‬
‫وت‪َ ،‬وهنُ ِينَا َع ِن ْال َ َلَك ِم ‪".‬‬ ‫َجنْ ِب ِه ِيف ا‬
‫الص َل ِة‪َ ،‬ح اىت نَ َزل َ ْت َ{وقُو ُموا ِ ا ِّلل قَا ِن ِت َني} [البقرة‪ ]238 :‬فَأ ِم ْرانَ ِاب هلس ُك ِ‬
‫قال ابن كثري‪{ :‬وقوموا هلل قانتني} أي‪ :‬خاشعني ذليلني مس تكينني بني يديه‪ ،‬وهذا المر مس تلزم‬
‫ترك اللَكم يف الصلة‪ ،‬ملنافاته اايها‪.‬‬
‫وأخرج ابن أِب حامت عن جماهد يف تفسري قوَل تعاىل‪{ :‬وقوموا هلل قانتني} قال‪ :‬من القنوت الركوع‬
‫واخلشوع وطول الركود ‪ -‬يعين طول القيام ‪ -‬وغض البرص وخفض اجلناح ‪ ،‬والرهبة هلل ‪ .‬اكن العلامء اذا قام‬
‫أحدِه اىل الصلة هياب الرمحن أن يشد برصه أو يقلب العيص أو يعبث بيشء أو يلتفت يف الصلة أو حيدث‬
‫نفسه بيشء من أمر ادلنيا ال انس يا‪.‬‬
‫وقال محمد بن سريين‪ :‬اكن أحصاب رسول هللا صىل هللا عليه وسمل يرفعون أبصارِه اىل السامء يف‬
‫الصلة‪ ،‬فلام نزلت هذه الية‪{ :‬قد أفلح املؤمنون‪ .‬اذلين ِه يف صلهتم خاشعون} [املؤمنون‪ ]2-1 :‬خفضوا‬
‫أبصارِه اىل موضع جسودِه‪.‬‬
‫هكذا أمران هللا ابلصلة القانتة اخلاشعة‪ ،‬واخلشوع يف الصلة أوىل أمارات الفلح‪ ،‬كام دل عليه قوَل‬
‫ون (‪ )1‬ا ِاذل َين ُ ِْه ِيف َص َلهتِ ِ ْم خ َِاش ُع َ‬
‫ون} [املؤمنون‪]2-1 :‬‬ ‫تعاىل‪{ :‬قَدْ أَفْلَ َح الْ ُم ْؤ ِمنُ َ‬
‫ومن مقومات اخلشوع حضور القلب وعدم الغفةل أثناء الصلة‪ ،‬قال احلسن البرصي رمحه هللا‪ ُ :‬ه‬
‫لك‬
‫رض ِفهيَا الْقَلْ ُب فَه َِيي اىل العقوبة أسع‪.‬‬ ‫َص َل ٍة َل َ ْحي ُ ُ‬
‫وبسبب نقص حضور القلب مل يكن أجر الصلة للعبد اكمل‪ ،‬فان النسان قد يغفل أثناء الصلة فل‬
‫يكتب من صلته اىل اجلزء اذلي حرض فيه قلبه‪ :‬قال النيب صىل هللا عليه وسمل‪ :‬ا ان الْ َع ْبدَ ل َ ُي َص ِيل ا‬
‫الص َل َة َما‬
‫ِ‬
‫يُ ْكتَ ُب َ َُل ِمْنْ َا ا ال ع ْ ُ‬
‫ُرشهَا ت ُ ْس ُعهَا ثُ ُمْنُ َا ُس ُب ُعهَا ُسدُ ُسهَا ُ ُُخ ُسهَا ُربُ ُعهَا ثُلُُثُ َا ِن ْص ُفهَا‪[ .‬رواه أمحد]‬
‫ِ‬
‫وبني عامر بن ايس سبب ذكل لنه ليس للعبد من صلته ال ما عقل مْنا‪.‬‬
‫مفا أحوجنا اىل الاجهتاد يف حتسني صلواتنا وملء قلوبنا ابلتعظمي واخلضوع بني يدي ربنا عز وجل‪.‬‬

‫‪11‬‬
‫اللهم أعنا عىل ذكرك وشكرك وحسن عبادتك‪ ،‬اللهم أت نفوس نا تقواها‪ ،‬وزكها أنت خري من زاكها‪،‬‬
‫أنت ولهيا ومولها‪.‬‬

‫مكة‪ 6 ،‬رمضان ‪1440‬هـ‪ 11/‬مايو ‪2019‬م‬


‫‪#‬سلسةل_فوائد_رمضانية_‪1440‬هـ‬

‫‪12‬‬
‫الفائدة السابعة‬

‫مقاصد االبتالء‬

‫ل ختلو حياة النسان من الابتلء والصعوابت‪ ،‬فتكل واقعة يف حياتنا ل حماةل‪ ،‬قال تعاىل‪َ { :‬ولَنَ ْبلُ َونا ُ ْمك‬
‫الصا ِب ِر َين} [البقرة‪ ]155 :‬وهللا اذ‬ ‫رش ا‬‫ِيش ٍء ِم َن الْخ َْو ِف َوالْ ُجو ِع َون َ ْق ٍص ِم َن ْ َال ْم َوالِ َو ْ َالنْ ُف ِس َوالث ا َم َر ِات‪َ ،‬وب َ ِ ِ‬
‫بَْ‬
‫كتب هذه املصائب عىل الناس اكن َل مقاصد وغاايت و ِحمك‪.‬‬
‫من هذه املقاصد واحلمك هو رفع درجات املبتىل وترشيفه بظهور الصرب منه وقوة حتمهل‪ ،‬ذلكل فان‬
‫أنبياء هللا والصاحلني ِه أكرث الناس تعرضا للبتلءات‪ ،‬قال النيب صىل هللا عليه وسمل‪" :‬ا ان ِم ْن َأ َش ِد النا ِاس‬
‫ِ‬
‫ب َ َل ًء ْ َالنْ ِب َي َاء ُ امث ا ِاذل َين يَلُوهنَ ُ ْم ُ امث ا ِاذل َين يَلُوهنَ ُ ْم ُ امث ا ِاذل َين يَلُوهنَ ُ ْم‪ ".‬رواه أمحد والنسايئ يف الكربى وابن حبان يف‬
‫حصيحه‬
‫بلء النبياء‪ ،‬مث المثل فالمثل‪ ،‬يُبْتَ َىل الرجل عىل حسب دينه‪ ،‬فان اكن‬ ‫ويف رواية‪" :‬أشد الناس ً‬
‫ف دينه ُصلْ ًبا اش تد ب َ َل ُؤ ُه‪ ،‬وان اكن ف دينه ِرقاة ابْ ُت ِ َىل عىل قدر دينه‪ ".‬أخرجه أمحد والرتمذي واحلامك والبهيقي‬
‫يف الشعب من حديث سعد بن أِب وقاص‬
‫والقاعدة أن اجلزاء من جنس العمل‪ ،‬مفن عظمت مصيبته وعظم صربه عظم جزاءه ورشف ماكنه‪،‬‬
‫يض‬ ‫اّلل ا َذا َأ َح اب قَ ْو ًما ابْتَ َل ُ ِْه‪ ،‬فَ َم ْن َر ِ َ‬ ‫قال النيب صىل هللا عليه وسمل‪" :‬ا ان ِع َظ َم الْ َج َزا ِء َم َع ِع َظ ِم الْ َب َل ِء‪َ ،‬وا ان ا َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫الس َخطُ‪[ ".‬رواه الرتمذي]‬ ‫فَ َ ُهل ِالرضَ ا‪َ ،‬و َم ْن َ َِسطَ فَ َ ُهل ا‬
‫ومن مقاصد الابتلء هو المتيزي بني الصابر واجلازع وبني الصادق والاكذب واملؤمن واملنافق‪ .‬قال‬
‫ون (‪َ )2‬ولَقَدْ فَتَناا ا ِاذل َين ِم ْن قَ ْب ِله ِْم فَلَ َي ْعلَ َم ان ا ُ‬
‫اّلل‬ ‫تعاىل‪َ { :‬أ َح ِس َب النا ُاس َأ ْن ي ُ ْ َرت ُكوا َأ ْن ي َ ُقولُوا أ َمناا َو ُ ِْه َل يُ ْفتَ ُن َ‬
‫ا ِاذل َين َصدَ قُوا َولَ َي ْعلَ َم ان الْ َاك ِذب َِني} [العنكبوت‪]2-1 :‬‬
‫الصا ِب ِر َين َون َ ْبلُ َو َأ ْخ َب َارُ ْمك} [محمد‪]31 :‬‬ ‫وقال تعاىل‪َ { :‬ولَنَ ْبلُ َونا ُ ْمك َح اىت ن َ ْع َ َمل الْ ُم َجا ِه ِد َين ِمنْ ُ ْمك َو ا‬
‫ول يمتزي الميان من النفاق ال ابملواقف العملية الصعبة وبتعرض الناس للنرص والهزمية والمن واخلوف‪،‬‬
‫اّلل‪َ ،‬ولَ ِ ِْئ َج َاء ن َْرص‬ ‫اّلل َج َع َل ِف ْتنَ َة النا ِاس َك َع َذ ِاب ا ِ‬ ‫ول‪ :‬أ َمناا ِاب ا ِّلل‪ .‬فَا َذا أو ِذ َي ِيف ا ِ‬ ‫قال تعاىل‪َ { :‬و ِم َن النا ِاس َم ْن ي َ ُق ُ‬
‫ِ‬
‫اّلل ا ِاذل َين أ َمنُوا‪َ ،‬ولَ َي ْعلَ َم ان‬‫اّلل ِبأَ ْع َ َمل ِب َما ِيف ُصدُ ِور الْ َعالَ ِم َني (‪َ )10‬ول َ َي ْعلَ َم ان ا ُ‬‫ِم ْن َرب َِك لَ َي ُقولُ ان‪ :‬اانا ُكناا َم َع ُ ْمك‪َ .‬أ َولَ ْي َس ا ُ‬
‫ِ‬
‫الْ ُمنَا ِف ِق َني} [العنكبوت‪]11-10 :‬‬
‫‪13‬‬
‫يب‬ ‫ومن مقاصد الابتلء تكفري السيئات وحمو اذلنوب‪ .‬قَا َل النيب صىل هللا عليه وسمل‪َ « :‬ما يُ ِص ُ‬
‫امل ُ ْس ِ َمل‪ِ ،‬م ْن ن ََص ٍب َو َل َو َص ٍب‪َ ،‬و َل َ ٍِه َو َل ُح ْز ٍن َو َل َأ ًذى َو َل َ ٍغ‪َ ،‬ح اىت ا‬
‫الش ْو َك ِة ي ُشَ ا ُكهَا‪ ،‬ا ال َكفا َر ا ُ‬
‫اّلل هبِ َا ِم ْن‬
‫ِ‬
‫خ ََط َااي ُه» رواه البخاري‬
‫وكثري من الابتلءات واملصائب جاء للعقاب وجمازاة املس يئني‪ ،‬قال تعاىل‪َ { :‬و َما َأ َصابَ ُ ْمك ِم ْن ُم ِصي َب ٍة‬
‫يمك} [الشورى‪ ]30 :‬وقال تعاىل‪َ { :‬ظه ََر الْ َف َسا ُد ِيف الْ َ ِرب َوالْ َب ْح ِر ِب َما َك َسبَ ْت َأيْ ِدي النا ِاس‬ ‫فَ ِب َما كَ َسبَ ْت َأيْ ِد ُ ْ‬
‫ون} [الروم‪]41 :‬‬ ‫ِل ُي ِذيقَه ُْم ب َ ْع َض ا ا ِذلي َ ِمعلُوا لَ َعلاه ُْم يَ ْر ِج ُع َ‬
‫والقرأن أخربان عن القاعدة العامة يف قوَل‪َ { :‬م ْن ي َ ْع َم ْل ُس ًوءا ُ َْي َز ِب ِه} [النساء‪ ]123 :‬مفا من معل‬
‫يسء ال وَيد النسان جزاءه‪.‬‬
‫واكنت هذه الية صعبة عىل نفوس حصابة النيب صىل هللا عليه وسمل حىت قال أبو بكر ريض هللا‬
‫الص َل ُح ب َ ْعدَ َه ِذ ِه ْالي َ ِة؟ { لَيْ َس ِبأَ َما ِني ُ ِْمك َو َل َأ َم ِ ِاّن َأه ِْل ْال ِكتَ ِاب َم ْن ي َ ْع َم ْل ُس ًوءا ُ َْي َز‬
‫اّلل َك ْي َف ا‬‫عنه‪َ :‬اي َر ُسو َل ا ِ‬
‫اّلل عَلَ ْي ِه َو َس ا َمل‪ :‬غَ َف َر ا ُ‬
‫اّلل َ َكل َاي َأ َاب بَ ْك ٍر‪َ ،‬ألَ ْس َت تَ ْم َر ُض؟‬ ‫ول ا ِ‬
‫اّلل َص اىل ا ُ‬ ‫لك ُسو ٍء َ ِمعلْنَا ُج ِزينَا ِب ِه؟ فَقَا َل َر ُس ُ‬
‫ِب ِه } فَ ُ ا‬
‫الَّل َوا ُء؟ قَا َل‪ :‬ب َ َىل‪ .‬قَا َل‪ :‬فَه َُو َما ُ ْجت َز ْو َن ِب ِه‪ .‬رواه أمحد وابن‬ ‫َألَ ْس َت تَ ْن َص ُب؟ َألَ ْس َت َ ْحت َز ُن ؟ َألَ ْس َت ت ُِصي ُب َك ا ْ‬
‫حبان‬
‫مفهام اكن املقصود والغاية من الابتلء فان هللا أراد أن يترضع النسان لربه ويس تكني َل ويلجأ اليه‪.‬‬
‫ُون} [النعام‪]42 :‬‬ ‫رضع َ‬ ‫كل فَأَخ َْذانَ ُ ِْه ِابلْ َبأْ َسا ِء َو ا ا‬
‫الرضا ِء لَ َعلاه ُْم يَتَ َ ا‬ ‫قال تعاىل‪َ { :‬ولَقَدْ َأ ْر َسلْنَا ا َىل أ َم ٍم ِم ْن قَ ْب ِ َ‬
‫ِ‬
‫ولقد خرس أقوام مل يفهموا هذه الرسائل اللهية‪ ،‬فأرصوا عىل غفلهتم وبعدِه عن هللا‪ ،‬فاكن البلء‬
‫ُون} [املؤمنون‪:‬‬ ‫عذااب يف ادلنيا والخرة‪ ،‬والعياذ ابهلل‪َ { ،‬ولَقَدْ َأخ َْذانَ ُ ِْه ِابلْ َع َذ ِاب فَ َما ْاس تَ َاكنُوا ِل َر ِ ِهب ْم َو َما يَتَ َ ا‬
‫رضع َ‬
‫‪]76‬‬
‫واملؤمن الكيس اذلي يفهم الرساةل من ربه ل يرصفه البلء ول تغره النعامء‪ ،‬ان أصابته الرضاء صرب‬
‫فاكن خريا َل‪ ،‬وان أصابته الرساء شكر فاكن خريا َل‪ .‬والنيب صىل هللا عليه وسمل حيثنا عىل سؤال العافية‬
‫واذا نزل البلء حفقه الصرب‪ ،‬وهللا مع الصابرين‪.‬‬
‫نسأل هللا الصرب عند البلء‪ ،‬والشكر عند النعامء‪ ،‬والنجاة من الفنت ما ظهر مْنا وما بطن‪.‬‬

‫مكة‪ 7 ،‬رمضان ‪1440‬هـ‪ 12/‬مايو ‪2019‬م‬

‫‪14‬‬
‫‪#‬سلسةل_فوائد_رمضانية_‪1440‬هـ‬
‫الفائدة الثامنة‬

‫الثورة الصناعية األوىل‬

‫اذا أطلقنا مصطلح "الثورة الصناعية" تبادر اىل الذهان تكل الثورة العلمية اليت حدثت يف أورواب‬
‫يف القرن السابع عرش امليلدي حيث اكتشفت أةل الطباعة واملاكينة البخارية والسكك احلديدية وتوليد الكهرابء‬
‫اىل ما هناكل‪ .‬ولكن احلقيقة أن البرشية قد شهدت ثورة صناعية مدهشة قبل ذكل بكثري‪ ،‬قبل ما يقارب‬
‫ثلثة ألف س نة‪.‬‬
‫نعم‪ ،‬وقد تَكم هللا عن هذه الثورة‪ .‬واكن بطل هذه الثورة نبيان صاحلان‪ :‬داود وسلامين علهيام السلم‪.‬‬
‫امع ْل َسا ِبغ ٍ‬
‫َات‬ ‫الط ْ َري َو َألَناا َ َُل الْ َح ِديدَ (‪َ )10‬أ ِن ْ َ‬ ‫قال هللا تعاىل‪َ { :‬ولَقَدْ أتَيْنَا د َُاوو َد ِمناا فَضْ ًل َاي ِج َب ُال َأ ِو ِِب َم َع ُه َو ا‬
‫اُحا َشهْر َو َأ َسلْنَا‬‫ون ب َ ِصري (‪َ )11‬و ِل ُسلَ ْي َم َان ِالر َحي غُدُ هوهَا َشهْر َو َر َو ُ َ‬ ‫امعلُوا َصا ِل ًحا ا ِّن ِب َما تَ ْع َملُ َ‬ ‫الرس ِد َو ْ َ‬
‫َوقَ ِد ْر ِيف ا ْ‬
‫ِ‬
‫الس ِع ِري (‪)12‬‬ ‫َ َُل عَ ْ َني الْ ِق ْط ِر َو ِم َن الْجِ ِن َم ْن ي َ ْع َم ُل ب َ ْ َني يَدَ يْ ِه ِ ِاب ْذ ِن َ ِرب ِه َو َم ْن يَ ِز ْغ ِمْنْ ُ ْم َع ْن َأ ْم ِرانَ ن ُ ِذ ْق ُه ِم ْن عَ َذ ِاب ا‬
‫امعلُوا أ َل د َُاوو َد ُش ْك ًرا َوقَ ِليل ِم ْن‬‫ات ْ َ‬ ‫يب َوتَ َما ِثي َل َو ِج َف ٍان َاكلْ َج َو ِاب َوقُدُ ٍور َر ِاس َي ٍ‬ ‫ون َ َُل َما يَشَ ا ُء ِم ْن َم َح ِار َ‬ ‫ي َ ْع َملُ َ‬
‫الش ُك ُور (‪[ })13‬س بأ‪]13-10 :‬‬ ‫ِع َبا ِد َي ا‬
‫وقد عمل هللا تعاىل داود عليه السلم طريقة مبتكرة يف صناعة ادلروع‪ ،‬حيث اكنت يف السابق صنعت‬
‫عىل شلك صفاحئ‪ ،‬فاكنت ثقيةل وتعيق احلركة‪ ،‬فهدى هللا داود اىل جعلها حلقات مرتاصة‪ ،‬وذكل أخف يف‬
‫الوزن وأسهل يف اللبس ول يعيق حركة اجلندي‪ .‬وقد ألن هللا َل يف تشكيل احلديد – كام قال املفرسون‬
‫– بل تعريضه للنار وطرقه ابملطرقة‪.‬‬
‫وأما سلامين ففتح هللا عليه يف وسائل النقل وبناء املباّن الفخمة وصناعة الاثاثت الضخمة‪ .‬لك ذكل‬
‫بطرق غري معهودة‪ ،‬فاكن أية يف التطور النقين والقوة املادية والتفوق املعريف‪ .‬فاذا اكنت الصناعة يف عهد داود‬
‫اكنت منصبة عىل ألت ادلفاع وأدوات احلرب‪ ،‬اكن الصناعة يف عهد سلامين ترتكز عىل متطلبات احلياة‬
‫السلمية وممكلهتا‪.‬‬
‫امعلُوا أ َل د َُاوو َد ُش ْك ًرا َوقَ ِليل ِم ْن ِع َبا ِد َي ا‬
‫الش ُك ُور}‬ ‫وخمت هللا قصة تكل الثورة الصناعية بقوَل تعاىل‪َ ْ { :‬‬
‫[س بأ‪]13 :‬‬

‫‪15‬‬
‫ومن هناك نس تخلص فوائد كثرية جدا‪ ،‬نذكر مْنا‪:‬‬
‫أول‪ :‬تشجيع الرشع احلكمي عىل تطوير الصناعات مما ينفع الناس يف ديْنم ودنياِه‪.‬‬
‫اثنيا‪ :‬ان جمال الس ياسة الرشعية واسع جدا‪ ،‬ول يلزم أن تتحدد قرارات احلامك بنص جزيئ معني‪ ،‬بل‬
‫َل أن َيهتد يف لك ما يصلح أحوال الناس‪ ،‬كام قال ابن عقيل رمحه هللا‪" :‬الس ياسة الرشعية ما اكن من‬
‫الفعال حبيث يكون الناس معه أقرب اىل الصلح وأبعد عن الفساد‪ ،‬وان مل يرشعه الرسول صىل هللا عليه‬
‫وسمل ول نزل به ويح‪ ".‬وبطبيعة احلال ذكل برشط عدم معارضته لنص رصحي أو قاعدة رشعية اثبتة‪ ،‬كام هو‬
‫معروف يف كتب الصول‪.‬‬
‫اثلثا‪ :‬حث احلاكم املسلمني عىل حتقيق مصاحل ادلين وادلنيا والخرة بش ىت الوسائل‪ ،‬ودفهم اىل اتباكر‬
‫أساليب جديدة لنرصة ادلين ورعاية مصاحل العباد‪.‬‬
‫رابعا‪ :‬قد اهتم الهيود سلامين مبامرسة السحر وزمعوا أن لك ما أجنزه سلامين اكن عن طريق السحر‪.‬‬
‫كل ُسلَ ْي َم َان‪َ ،‬و َما َك َف َر ُسلَ ْي َم ُان‪َ ،‬ولَ ِك ان‬
‫الش َيا ِط ُني عَ َىل ُم ْ ِ‬
‫وقد كذهبم هللا يف قوَل تعاىل‪َ { :‬وات ا َب ُعوا َما تَ ْتلُو ا‬
‫الس ْح َر} [البقرة‪ ]102 :‬واجته كثري من الهيود اىل تعمل السحر ليتوصلوا اىل‬ ‫الش َيا ِط َني َك َف ُروا‪ ،‬يُ َع ِل ُم َ‬
‫ون النا َاس ِ‬ ‫ا‬
‫ما وصل اليه سلامين عليه السلم‪ .‬وبذكل ضاع الهيود واحنرفوا عن مسار التقدم العلمي والتفوق التقين‪ ،‬كام‬
‫ضيعوا التوراة والزبور ولك تعالمي أنبياهئم ضاعوا أيضا عن الانتفاع الصحيح لرث أنبياهئم‪ .‬وذكل جزاء من‬
‫أعرض عن هدي هللا وهدي النبياء‪.‬‬
‫خامسا‪ :‬ان البرشية قد توصلت اىل اكتشاف قوانني طبيعية وطرقا علمية تغين الناس عن حتصيل‬
‫تكل المور اخلارقة‪ ،‬لِئ اكن سلامين َسرت َل الرحي ليقطع املسافة البعيدة فان تقنية الطريان يف عرصان احلارض‬
‫قد جعلت الناس تطري من بدل اىل بدل بسهوةل‪ ،‬وما تقنية الطريان احلديثة ال نوع من تسخري الرحي بطريقة‬
‫علمية معتادة‪ .‬وقل مثل ذكل يف صناعة احلديد واملباّن والزخارف والدوات الضخمة‪ .‬وان هذه المة كام‬
‫أغنت مبعجزة القرأن الكرَي عن معجزات مثل حتويل العصا ثعباان واحياء املوىت وما اىل ذكل‪ ،‬فاهنا أيضا تغين‬
‫البرشية عن تكل اخلوارق املدهشة ابجهتادها يف البحوث والتجارب العلمية‪ ،‬وما ذكل ال نتيجة ملا علمهم‬
‫القرأن اذلي حُثم عىل التفكري والتأمل والتجربة اكتشاف اجلديد من عمل هللا‪.‬‬
‫سادسا‪ :‬لك تكل الجنازات امنا تنفع صاحهبا اذا اس تعان هبا لطاعة هللا وشكر نعمته‪ ،‬ذلكل قال هللا‬
‫امعلُوا أ َل دَا ُوو َد ُش ْك ًرا َوقَ ِليل ِم ْن‬ ‫امعلُوا َصا ِل ًحا ا ِّن ِب َما تَ ْع َملُ َ‬
‫ون ب َ ِصري} [س بأ‪ ]11 :‬وقال‪َ ْ { :‬‬ ‫يف لك مقطع‪َ { :‬و ْ َ‬
‫ِ‬
‫الش ُك ُور} [س بأ‪ ]13 :‬وامعاان ذلكل املعىن ذكر هللا بعد هذه القصة قصة س بأ‪ ،‬وِه أانس أنعم هللا‬ ‫ِع َبا ِد َي ا‬

‫‪16‬‬
‫علهيم بسعة الرزق وخصوبة الرض ورغد العيش ووالتجارة املرحبة والسفار املرحية‪ ،‬ولكن مل يشكروا هللا‬
‫فغريِه من حال اىل حال‪ ،‬نسأل هللا السلمة والعافية‪.‬‬
‫اللهم أعنا عىل شكرك ودوام ذكرك ولزوم طاعتك ونرصة رشيعتك‪.‬‬

‫مكة‪ 8 ،‬رمضان ‪ 1440‬هـ‪ 13/‬مايو ‪2019‬م‬


‫‪#‬سلسةل_فوائد_رمضانية_‪1440‬هـ‬

‫‪17‬‬
‫الفائدة التاسعة‬

‫حرمان املغفرة وموانع التوبة‬

‫رمضان شهر املغفرة‪ ،‬فان هلل يف رمضان ُعتقاء من النار لك ليةل‪ ،‬ولكن الرسول صىل هللا عليه وسمل‬
‫حذران من أن نقع يف الصنف احملروم من ذكل الفوز العظمي‪ ،‬قال عليه الصلة والسلم‪َ " :‬ر ِ َغ َأن ُْف َر ُج ٍل َد َخ َل‬
‫عَلَ ْي ِه َر َمضَ ُان فَان ْ َسلَخَ قَ ْب َل َأ ْن يُ ْغ َف َر َ َُل‪ ".‬رواه أمحد الرتمذي‬
‫مفن هؤلء احملرومني من املغفرة؟ أعاذان هللا واايمك من هذا احلرمان‪.‬‬
‫ُرشكَ ِب ِه‬
‫اّلل َل ي َ ْغ ِف ُر َأ ْن ي ْ َ‬
‫أول هؤلء احملرومني ِه اذلين وقعوا يف الرشك مع هللا‪ ،‬فان هللا قال‪{ :‬ا ان ا َ‬
‫ِ‬
‫ُون َذ ِ َكل ِل َم ْن يَشَ ا ُء} [النساء‪ 48 :‬و‪ ]116‬فهذا نص رصحي بعدم املغفرة لحصاب الرشك‪ ،‬فان‬ ‫َوي َ ْغ ِف ُر َما د َ‬
‫الرشك ظمل عظمي ل يغفر هللا صاحبه حىت يقلع عنه‪ .‬وخلطورة المر فان هللا ركز عىل هذا املوضوع يف كتابه‬
‫الكرَي‪ ،‬وان موضوع توحيد هللا والتحذير من الرشك هو املوضوع الرئيس يف القرأن الكرَي‪ .‬وهذا أمر غري‬
‫اّلل عَلَ ْي ِه الْ َجنا َة َو َمأْ َوا ُه النا ُار} [املائدة‪]72 :‬‬
‫ُرشكْ ِاب ا ِّلل فَقَدْ َح ار َم ا ُ‬
‫قابل للمساومة فان هللا يقول‪َ { :‬م ْن ي ْ ِ‬
‫ومن المور اليت متنع املغفرة هو الرصار عىل املعصية فان من صفات هؤلء اذلين حظوا ابملغفرة أهنم‬
‫ون} [أل معران‪]135 :‬‬ ‫رصوا عَ َىل َما فَ َعلُوا َو ُ ِْه ي َ ْعلَ ُم َ‬
‫{لَ ْم ي ُ ِ ه‬
‫والتوبة لها أراكن ثلثة ل تصح ال ابلتيان بامتهما‪ :‬الندم عىل املعصية والقلع عْنا والعزم عىل عدم‬
‫العودة الهيا‪ ،‬واذا اكنت املعصية متعلقة حبق البرش فل بد من ارجاع احلقوق اىل صاحهبا‪.‬‬
‫وهناك موانع جتعل الصعب عىل بعض الناس التوبة‪ ،‬أول هذه املوانع هو الكرب‪ ،‬فاملتكرب اذلي يرى‬
‫نفسه فوق النقد وحيسب نفسه دامئا عىل صواب‪ ،‬فانه لن يعرتف خبطاه ولن يقلع عن فعهل‪َ { ،‬وا َذا ِقي َل َ َُل ات ِاق‬
‫ِ‬ ‫اّلل َأخ ََذتْ ُه الْ ِع از ُة ِاب ْل ْ ِمث فَ َح ْس ُب ُه َ َهجَّنا ُ َولَ ِبئْ َس الْ ِمهَا ُد} [البقرة‪]206 :‬‬
‫اَ‬
‫ِ‬
‫ومن المور اليت جتعل التوبة مس تحيةل أو ممتنعة هو اجلهل مبعايري اخلطا والصواب‪ ،‬فيحسب اخلطأ‬
‫صوااب والصواب خطأ‪ .‬فهذه مصيبة عظمية‪ .‬أصيب هبا كثري من الناس يف هذا الزمان لبعدِه عن العمل الصحيح‬
‫والهدي القوَي‪ ،‬أانس يرون املنكر معروفا واملعروف منكرا‪ ،‬والبدعة س نة والس نة بدعة‪ .‬قال هللا تعاىل عْنم‪:‬‬
‫ون َأهنا ُ ْم ُ ْحي ِس ُن َ‬
‫ون‬ ‫رس َين أَ ْ َمع ًال (‪ )103‬ا ِاذل َين ضَ ال َس ْعهيُ ُ ْم ِيف الْ َح َيا ِة ادله نْ َيا َو ُ ِْه َ ْحي َس ُب َ‬ ‫{قُ ْل ه َْل نُنَ ِبئُ ُ ْمك ِاب ْ َل ْخ َ ِ‬
‫ُص ْن ًعا} [الكهف‪]104-103 :‬‬
‫‪18‬‬
‫وَكام انعدم الصدق وغلب النفاق اكن الضياع وانقلب املعايري أشد‪ ،‬ذلكل اكن سعي املنافقني معكوسا‪.‬‬
‫وف}‬‫ون ِابلْ ُم ْن َك ِر َويَْنْ َ ْو َن َع ِن الْ َم ْع ُر ِ‬ ‫قال تعاىل يف سعي املنافقني‪{ :‬الْ ُمنَا ِف ُقو َن َوالْ ُمنَا ِفقَ ُ‬
‫ات ب َ ْعضُ ه ُْم ِم ْن ب َ ْع ٍض يَأْ ُم ُر َ‬
‫[التوبة‪]67 :‬‬
‫ومن المور اليت جتعل التوبة بعيدة املنال هو اتباع الهوى‪ ،‬فان النسان قد يرى الصواب واخلطأ‬
‫بوضوح‪ ،‬ولكن هوى النفس يغلبه‪ ،‬فيقدم شهوته ومتعته اخلاطفة عىل اتباع احلق وفعل الصواب‪ .‬ومن أوحض‬
‫المثةل عىل ذكل ما نراه يف سلوك املدخنني‪ ،‬فاهنم يقرأون اللَكم املكتوب عىل علبة السجارة عن أرضار‬
‫التدخني ويعرفون حصة ذكل‪ ،‬ومع ذكل فهم يرصون عىل التدخني تغليبا للهوى عىل العقل وارصارا عىل اخلطا‬
‫وترك الصواب‪ ،‬نسأل هللا السلمة والعافية‪.‬‬
‫وهناك ما هو أخطر من ذكل َكه‪ ،‬وهو تضييع الهوى يف عناوين أخرى مضلةل‪ .‬مثل من يسكر يف‬
‫حب اجلدل ومغالبة اخلصوم ويسمي ذكل ادلفاع عن احلقيقة‪ ،‬ومثل من يرصعه هوى السلطة وطلب الشهرة‬
‫فيسميه الطموح والسعي يف مصلحة المة‪ ،‬اىل صور كثرية من هذا النوع‪ .‬وهذا ما يسميه العلامء "الشهوة‬
‫اخلفية"‪ ،‬وهذا أمر دقيق جدا‪ ،‬ومن مل َيهتد وَياهد نفسه ويفتش قلبه مل يسمل من هذا ادلاء العضال‪ .‬وهنا‬
‫معركة رشسة ل تنهتيي‪ ،‬ويظل رصعى هذا املرض يتساقطون‪ ،‬وأكرث الناس جمادةل عنه أكرثِه وقوعا فيه‪ .‬ومن‬
‫طلب التصديق من الناس أكرث من طلبه من رب الناس فقد ضل الطريق‪.‬‬
‫وليس المر بطعن الناس يف نواايِه‪ ،‬ولكنه التنبيه عىل هذا ادلاء اخلطري‪ ،‬وهللا وَل التوفيق‪.‬‬
‫اللهم أت نفوس نا تقواها وزكها أنت خري من زاكها‪ ،‬أنت ولهيا ومولها‪...‬‬

‫مكة‪ 9 ،‬رمضان ‪1440‬هـ‪ 14/‬مايو ‪2019‬م‬


‫‪#‬سلسةل_فوائد_رمضانية_‪1440‬هـ‬

‫‪19‬‬
‫الفائدة العاشرة‬

‫قانون حفظ النعمة وزواهلا‬

‫ان هللا قد ذكر يف كتابه العزيز أن من شكر نعمة هللا عليه فان هللا متكفل ابلزايدة‪ ،‬ومن كفر ابلنعمة‬
‫فان هللا توعده ابلعذاب الشديد‪ .‬قال تعاىل‪َ { :‬وا ْذ تَأَ اذ َن َربه ُ ْمك لَ ِ ِْئ َش َك ْر ُ ْمت َ َل ِزيدَ نا ُ ْمك َولَ ِ ِْئ َكفَ ْر ُ ْمت ا ان عَ َذ ِاِب لَشَ ِديد}‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫[ابراهمي‪]7 :‬‬
‫وقد حىك هللا تعاىل عن قوم متتعوا ابلمان ورغد العيش فكفروا بتكل النعم فمل يشكروا هللا تعاىل‬
‫اّلل َمث ًَل قَ ْري َ ًة َاكن َْت أ ِمنَ ًة ُم ْط َم ِئنا ًة يَأْ ِتهيَا ِر ْزقُهَا َرغَدً ا ِم ْن ُ ِ‬
‫لك‬ ‫رض َب ا ُ‬
‫فعاقهبم هللا ابخلوف واجلوع‪ ،‬قال تعاىل‪َ { :‬و َ َ‬
‫ون} [النحل‪]12 :‬‬ ‫اّلل ِل َب َاس الْ ُجو ِع َوالْخ َْو ِف ِب َما َاكنُوا ي َ ْصنَ ُع َ‬ ‫َم َاك ٍن فَ َك َف َر ْت ِبأَنْ ُع ِم ا ِ‬
‫اّلل فَأَ َذاقَهَا ا ُ‬
‫تكل س نة من سنن هللا اليت ل تتبدل ول تتغري‪ ،‬وهو قانون مس تقر معروف‪ ،‬قال تعاىل‪{ :‬ا ان ا َ‬
‫اّلل‬
‫ِ‬
‫َل يُغ ِ َُري َما ِبقَ ْو ٍم َح اىت يُغ ِ َُريوا َما ِبأَنْ ُف ِسه ِْم} [الرعد‪]11 :‬‬
‫وقد ذكر ابن كثري يف تفسري هذه الية أثرين‪ ،‬الول ما أخرجه ابن أِب حامت أن هللا أوىح اىل نيب من أنبياء‬
‫بين اسائيل‪ :‬أن قل لقومك‪ :‬انه ليس من أهل قرية ول أهل بيت يكونون عىل طاعة هللا فيتحولون مْنا اىل‬
‫معصية هللا‪ ،‬ال حتول هلم مما حيبون اىل ما يكرهون‪.‬‬
‫والثاّن ما رواه ابن أِب شيبة يف صفة العرش عن عيل بن أِب طالب ريض هللا عنه أن رسول هللا‬
‫صىل هللا عليه وسمل قال‪" :‬قال الرب‪ :‬وعزيت وجلَل‪ ،‬وارتفاعي فوق عريش‪ ،‬ما من أهل قرية ول أهل‬
‫بيت اكنوا عىل ما كرهت من معصييت‪ ،‬مث حتولوا عْنا اىل ما أحببت من طاعيت‪ ،‬ال حتولت هلم عام يكرهون‬
‫من عذاِب اىل ما حيبون من رمحيت‪".‬‬
‫يه معادةل اثبتة غري قابةل للمساومة‪ ،‬مفن أراد أن حيافظ عىل النعمة اليت هو فهيا فعليه أن يشكر هللا‬
‫علهيا‪ ،‬وطريقة الشكر أن حيمد هللا عىل تكل النعمة ول َيحدها‪ ،‬وأن يؤدي حق هللا فهيا‪ ،‬ويطيع هللا هبا‪،‬‬
‫ول يس تعملها يف معصية هللا‪.‬‬
‫اللهم أعنا عىل ذكرك وشكرك وحسن عبادتك‪ ،‬اللهم اان نعوذ بك من زوال نعمتك وحتول عافيتك‬
‫وجفاءة نقمتك ومجيع َسطك‪.‬‬

‫‪20‬‬
‫مكة‪ 10 ،‬رمضان ‪ 1440‬هـ‪ 15/‬مايو ‪2019‬م‬
‫‪#‬سلسةل_فوائد_رمضانية_‪1440‬هـ‬

‫‪21‬‬
‫الفائدة احلادية عشر‬

‫قصة اجلسد الواحد‬

‫امحه ِْم َوت ََو ِاد ِ ِْه َوتَ َع ُاط ِفه ِْم ََكَث َِل الْ َج َس ِد ا َذا ْاش تَ َىك‬
‫قال النيب صىل هللا عليه وسمل‪ :‬تَ َرى الْ ُم ْؤ ِم ِن َني ِيف تَ َر ُ ِ‬
‫ِ‬
‫ُعضْ ًوا تَدَ ا َعى َ َُل َسائِ ُر َج َس ِد ِه ِاب السهَ ِر َوالْ ُح امى‪ .‬متفق عليه‬
‫هكذا املؤمنون ملا اكنوا مؤمنني حقا‪ ،‬اكنوا كتةل صلبة مامتسكة‪ ،‬مل يصهبم جرح حىت تبادروا لعلجه‪.‬‬
‫اكنت هذه المة جسدا مرتابطا من أقىص الرض اىل أقصاها‪ .‬ملا استنجدت امرأة يف معورية ويه منطقة‬
‫متاُخة للروم‪ ،‬انربى اخلليفة املعتصم لنرصهتا‪ ،‬وهدد مكل الروم جبيش جرار‪ ،‬وفعل فتحت معورية تلبية‬
‫لرصخة هذه املرأة‪.‬‬
‫مرت ادلهور وتبدلت العصور حىت أصيب هذا اجلسد الكبري ابلتفكك‪ ،‬لقد اش تكت أعضاء هذا‬
‫اجلسد‪ ،‬يف فلسطني والمين وسوراي‪ ،‬وعاىن طويل اخواننا يف تركس تان الرشقية ‪ -‬ويه منطقة يف غرب الصني‪-‬‬
‫ومعاانة اخواننا يف أرأاكن ل ختفى عىل أحد‪ ،‬وفُتح هذه الايم جرح جديد يف سيلناك حيث قامت السلطات‬
‫بتدمري املساجد وحرق املصاحف وش نوا محلت الاعتقال للمسلمني وِه أقلية مسلمة مساملة وسط جممتع‬
‫بوذي هندويس‪.‬‬
‫وملا اكن من مقاصد الصيام الاستشعار ابلضفعاء والفقراء واملنكوبني‪ ،‬فل أقل أن نلفت أنظاران اىل‬
‫اخواننا هؤلء‪ ،‬نشاركهم يف دعواتنا‪ ،‬عند الفطور ويف صلواتنا وجسداتنا‪" ،‬الْ ُم ْس ِ ُمل َأخُو الْ ُم ْس ِ ِمل‪َ ،‬ل ي َ ْظ ِل ُم ُه َو َل‬
‫َ ْخي ُذ ُ َُل‪ ".‬كام قال النيب صىل هللا عليه وسمل‪.‬‬
‫ومن خذل أخاه ُخ ِذل حني احتاج هو اىل النرصة‪ ،‬قال النيب صلىى هللا عليه وسمل‪َ :‬ما ِم ْن ا ْم ِرئٍ‬
‫اّلل َع از َو َج ال ِيف َم ْو ِط ٍن ُ ِحي هب‬ ‫َ ْخي ُذ ُل ا ْم َر ًأ ُم ْس ِل ًما ِع ْندَ َم ْو ِط ٍن تُنْهتَ َ ُك ِفي ِه ُح ْر َم ُت ُه َويُنْتَقَ ُص ِفي ِه ِم ْن ِع ْر ِض ِه ا ال خ ََذ َ َُل ا ُ‬
‫ِ‬
‫رص ا ْم َر ًأ ُم ْس ِل ًما ِيف َم ْو ِط ٍن يُنْتَقَ ُص ِفي ِه ِم ْن ِع ْر ِض ِه َويُنْهتَ َ ُك ِفي ِه ِم ْن ُح ْر َم ِت ِه ا ال ن َ َ‬
‫َرص ُه‬ ‫ُرصتَ ُه‪َ ،‬و َما ِم ْن ا ْم ِرئٍ ي َ ْن ُ ُ‬ ‫ِفي ِه ن ْ َ‬
‫ِ‬
‫ُرصتَ ُه‪ .‬رواه أمحد وأبو داود‬ ‫اّلل ِيف َم ْو ِط ٍن ُ ِحي هب ِفي ِه ن ْ َ‬ ‫اُ‬
‫ومليار مسمل من املعيب أن يكتفوا َكهم ابدلعاء فقط‪ ،‬فليس َكهم ضعفاء‪ ،‬بل مْنم القوايء والغنياء‬
‫وذوو النفوذ‪ ،‬نسأل هللا أن يتعاف هذا اجلسد الكبري‪ ،‬فل يرتك جرحا ال عاجله‪ ،‬ول َيد عدوا ال قاومه ول‬
‫اس تغاث منه أخ منكوب ال أجنده‪.‬‬

‫‪22‬‬
‫اللهم أصلح أحوالنا وارفع ضعفنا وأعز ديننا ومكننا من نرصة اخواننا‪ ،‬اي يح اي قيوم برمحتك نس تغيث‬
‫أصلح شأننا َكه ول تَكنا اىل أنفس نا طرفة عني‪...‬‬

‫مكة‪ 11 ،‬رمضان ‪1440‬هـ‪ 16/‬مايو ‪2019‬م‬


‫‪#‬سلسةل_فوائد_رمضانية_‪2019‬م‬

‫‪23‬‬
‫الفائدة الثانية عشر‬

‫بقاء اخلري‬

‫قانون اثبت قرره هللا تعاىل يف أكرث من موضع يف كتابه العزيز أن اخلري هو الصل يف هذه ادلنيا ولن‬
‫الس َما ِء َم ًاء فَ َسالَ ْت‬ ‫نعدم اخلري همام اكنت الظروف‪ ،‬صور هللا هذا القانون بوضوح يف قوَل تعاىل‪َ { :‬أ ْن َز َل ِم َن ا‬
‫ون عَلَ ْي ِه ِيف النا ِار ابْ ِتغ ََاء ِحلْ َي ٍة َأ ْو َمتَا ٍع َزبَد ِمث ُ ُْهل َك َذ ِ َكل ي َ ْ ِ‬
‫رض ُب‬ ‫َأ ْو ِديَة ِبقَدَ ِرهَا فَ ْاحتَ َم َل ا‬
‫الس ْي ُل َزب َدً ا َرا ِب ًيا َو ِم اما يُو ِقدُ َ‬
‫اّلل ْ َال ْمث َا َل}‬ ‫اّلل الْ َح اق َوالْ َبا ِط َل فَأَ اما االزبَدُ فَ َي ْذه َُب ُج َف ًاء َو َأ اما َما ي َ ْن َف ُع النا َاس فَ َي ْم ُك ُث ِيف ْ َال ْر ِض َك َذ ِ َكل ي َ ْ ِ‬
‫رض ُب ا ُ‬ ‫اُ‬
‫[الرعد‪]17 :‬‬
‫هنا تصوير بديع يف ظهور اخلري والرش واحلق والباطل عىل مرسح احلياة‪ ،‬عرض هللا يف هذه الية‬
‫مشهدين‪ :‬مشهد ماء املطر ومشهد التنور اذلي توقد فيه املعادن‪ .‬أما مشهد املطر فهو يصور كيف يزنل املطر‬
‫عىل الرض مث يس يل املاء يف أودية خمتلفة الجحام‪ ،‬الوادي الكبري حيمل املاء الكثري والوادي الضيق حيمل‬
‫املاء عىل قدره‪ ،‬وهذه الس يول يف الودية حتمل قدرا من الزبد اذلي يطفو عىل سطح املياه‪.‬‬
‫واملشهد الثاّن مشهد التنور اذلي توقد فيه املواد اخلام ليس تخرج مْنا معدن طيب اكذلهب والفضة‬
‫وغريهام‪ ،‬وأثناء العملية يطفو عىل السطح أيضا رغوة قد تغطي املادة املطلوبة‪.‬‬
‫فهذه يه احلياة‪ ،‬الزبد الطاحف غري املطلوب هو الباطل اذلي قد يبدو للعيان أكرث وأظهر‪ ،‬ولكن اخلري‬
‫اذلي هو املطلوب قد يكون غائبا عن النظار ولكنه الكرث والبقى‪ .‬قال تعاىل‪ { :‬فَأَ اما االزبَدُ فَيَ ْذه َُب ُج َف ًاء َو َأ اما‬
‫اّلل ْ َال ْمث َا َل} [الرعد‪]17 :‬‬ ‫َما ي َ ْن َف ُع النا َاس فَيَ ْم ُك ُث ِيف ْ َال ْر ِض َك َذ ِ َكل ي َ ْ ِ‬
‫رض ُب ا ُ‬
‫فوجود الرش وجود اس تثنايئ وزائل وأما اخلري فهو الصل وهو البايق وهو الكرث أيضا يف احلقيقة‪.‬‬
‫هذا هو الوصف ادلقيق لطبيعة هذه احلياة‪.‬‬
‫فلقد أخطأ بعض الوعاظ اذلين صوروا صورة قامتة لهذه احلياة‪ ،‬وجعلوا الناس يتحدثون عن املصائب‬
‫والبلاي والفنت ول يعرفون طريقا للخلص غري الاستسلم وانتظار املوت‪ .‬وجاء بعضهم حبديث مبتور عن‬
‫س ياقه الاكمل وهو حديث أنس بن ماكل ريض هللا عنه‪ " :‬ل يأيت عليمك زمان ال اذلي بعده رش منه‪ ،‬حىت‬
‫تلقوا ربمك‪ ".‬وهذا احلديث جاء يف س ياق شكوى الناس لظمل احلجاج‪ .‬فقال هلم أنس ريض هللا عنه‪" :‬اصربوا‪،‬‬
‫فانه ل يأيت عليمك زمان ال اذلي بعده رش منه‪ ،‬حىت تلقوا ربمك‪ ،‬مسعته من نبيمك صىل هللا عليه وسمل‪".‬‬

‫‪24‬‬
‫واحلديث يف البخاري‪ ،‬ولكن العلامء اس تدركوا هذا املعىن فقالوا هذا ليس عىل معومه‪ .‬قال ابن جحر‬
‫يف الفتح‪ :‬وحيمتل أن يكون املراد ابلزمنة املذكورة أزمنة الصحابة‪ ،‬بناء عىل أهنم ِه اخملاطبون بذكل‪ ،‬فيختص‬
‫هبم‪ ،‬فأما من بعدِه فمل يقصد يف اخلرب املذكور‪.‬‬
‫نعم ان الفرتة اليت حتدث عْنا أنس وأحصابه اكنت فرتة صعبة تتجه الظروف اىل السوأ برهة من‬
‫الزمن‪ ،‬ولكن التارخي جسل انفراجا بعده حيث يأيت حاكم أفضل من حاكم تكل الفرتة‪.‬‬
‫واس تدل ابن حبان يف حصيحه بأن حديث أنس ليس عىل معومه ابلحاديث الواردة يف املهدي وأنه‬
‫ميَّل الرض عدل بعد أن ملئت جورا‪ .‬وعقد ابب "ذكر اخلرب املرصح بأن خرب أنس بن ماكل مل يرد بعموم‬
‫خطابه عىل الحوال َكها فأورد حديث لَ ْو لَ ْم ي َ ْب َق ِم َن ادله نْ َيا ال ل َ ْي َةل‪ ،‬لَ َم َ َ‬
‫كل ِفهيَا َر ُجل ِم ْن َأه ِْل ب َ ْي ِت النا ِ ِيب صىل‬
‫ِ‬
‫هللا عليه وسمل‪".‬وأقرب من اس تدلل ابن حبان مبجيء املهدي هو فرتة حمك معر بن عبد العزيز اذلي هو خري‬
‫من فرتة تسلط احلجاج‪.‬‬
‫ومن حمكامت القرأن نعرف أن اخلري هو الغالب دامئا والباطل اىل الزوال ل حماةل‪ ،‬قال تعاىل‪َ { :‬و ُق ْل‬
‫َج َاء الْ َح هق َو َزه ََق الْ َبا ِط ُل ا ان الْ َبا ِط َل َاك َن َزهُوق ًا} [الساء‪ ]81 :‬وقال تعاىل‪ { :‬قُ ْل َج َاء الْ َح هق َو َما يُ ْب ِدئُ‬
‫ِ‬
‫الْ َبا ِط ُل َو َما يُ ِعيدُ } [س بأ‪]49 :‬‬
‫ُرسا} [الرشح‪]6-5 :‬‬ ‫رس ي ْ ً‬‫ُرسا (‪ )5‬ا ان َم َع الْ ُع ْ ِ‬ ‫ً‬ ‫رس ي ْ‬‫والقاعدة القرأنية املعروفة‪ { :‬فَا ان َم َع الْ ُع ْ ِ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫واخلري يف هذه المة مس متر اىل قيام الساعة‪ ،‬لقد قال النيب صىل هللا عليه وسمل‪َ " :‬ل تَ َز ُال َطائِ َفة ِم ْن‬
‫هللا َو ُ ِْه َك َذ ِ َكل‪ ".‬متفق عليه‬ ‫أ ام ِيت َظا ِه ِر َين عَ َىل الْ َح ِق‪َ ،‬ل ي َ ُ ه‬
‫رض ُ ِْه َم ْن َخ َذلَه ُْم‪َ ،‬ح اىت يَأْ ِ َيت َأ ْم ُر ِ‬
‫اّلل صىل هللا‬ ‫ول ا ِ‬‫وأخرج أمحد والرتمذي والزبار بس ند حسن عن َأن َ ٍس ريض هللا عنه قَا َل‪ :‬قَا َل َر ُس ُ‬
‫عليه وسمل‪َ " :‬مث َ ُل أ ام ِيت َمث َ ُل الْ َم َط ِر َل يُدْ َرى َأ او ُ َُل خ َْري أَ ْم أ ِخ ُر ُه‪".‬‬
‫َر َوى ِا ْبن َأ ِِب َشيْ َبة ِم ْن َح ِديث َع ْبد االر ْ َمحن ْبن ُج َب ْري ْبن ن ُ َف ْري قَا َل ‪ :‬قَا َل َر ُسول ااّلل َص اىل ااّلل عَلَ ْي ِه‬
‫َو َس ا َمل "ل َ ُيدْ ِر َك ان الْ َم ِس ُيح َأ ْق َوا ًما اهنا ُ ْم لَ ِمثْلُ ُ ْمك َأ ْو خ َْري ‪ -‬ثَ َل ًاث ‪َ -‬ولَ ْن ُ ْخي ِزي ااّلل أ امة َأانَ َأ اولهَا َوالْ َم ِس يح أ ِخر َها‪".‬‬
‫ِ‬
‫ولو اس تقصينا الخبار املبرشة ابخلري لطال اللَكم ولكننا نشري اشارة سيعة للتنبيه عىل هذه النقطة‪.‬‬
‫وهللا الهادي اىل سواء السبيل‪.‬‬
‫اللهم زدان ول تنقصنا‪ ،‬وأكرمنا ول هتنا‪ ،‬وأعطنا ول حترمنا‪ ،‬وأثران ول تؤثر علينا‪ ،‬وأرضنا وارض عنا‪.‬‬

‫‪25‬‬
‫مكة‪ 12 ،‬رمضان ‪1440‬هـ‪ 17/‬مايو ‪2019‬م‬
‫‪#‬سلسةل_فوائد_رمضانية_‪1440‬هـ‬

‫‪26‬‬
‫الفائدة الثالثة عشر‬

‫القرآن حمورا للحياة‬

‫أعقل الناس وأحمكهم هو من جعل القرأن حمور حياته‪ .‬فان من حبث عن أحص املعلومات فيجدها يف‬
‫القرأن‪ ،‬ومن أراد أفضل الرشادات فيجدها يف القرأن‪ ،‬ومن قصد أحمك النصاحئ فيجدها يف القرأن‪ ،‬ومن‬
‫رغب يف أعرف دليل للطريق فيجده يف القرأن‪.‬‬
‫من قرأ القرأن تلقى ارشادات يومية سديدة وقصص مسلية مفيدة‪ ،‬ورزق طمأنينة القلب وحصة‬
‫نفس ية وجسدية‪ .‬ومن اجهتد يف جتويد قراءته حصل عىل الفصاحة واس تقامة النطق‪ .‬وقراءة القرأن تبعد‬
‫النسان عن الش يطان‪ ،‬وترصفه عن اللهو‪ ،‬وتسكب حياته بربكة سابغة وهداية ابلغة ونور مبني‪.‬‬
‫والقرأن رساةل من السامء‪ .‬وهذه حقيقة كربى حيق أن نقف عندها‪ .‬فان اكن الناس اليوم منشغلني‬
‫برسائل من فلن وعلن عرب وسائل التواصل‪ ،‬وكثريا ما اكنت تكل الرسائل ل حتمل أية فائدة‪ ،‬وقد تكون‬
‫خاطئة وجمهوةل املصدر‪ ،‬فكيف نزهد يف تلقي رساةل غاية يف الصحة والوثوق‪ ،‬غزيرة ابلفوائد واملعلومات‬
‫النافعة‪ ،‬أتية من أعىل املصادر وأفضلها وأحصها وأرشفها؟‬
‫قال احلسن البرصي رمحه هللا تعاىل‪ :‬ان من اكن قبلمك رأوا القرأن رسائل من رهبم‪ ،‬فاكنوا يتدبروهنا‬
‫ابلليل وينفذوهنا ابلْنار‪.‬‬
‫واذا حترى النسان أفضل املواد لتغذية جسده‪ ،‬فان عقهل أحق أن َيلب َل أفضل مادة لثرائه‬
‫وتمنيته‪ ،‬وروحه اليت بني جنبيه أحق أن يعطي لها أفضل مادة لحياهئا واش باعها وتطهريها‪.‬‬
‫اهنا أايت بينات تنري البصائر وهتذب املشاعر وحتيي الضامئر وتوجه املصائر‪.‬‬
‫اّلل تَ َع َاىل‪ ،‬فَتَ َعل ا ُموا ِم ْن َمأْ ُدب َ ِت ِه‬
‫اّلل ْب ِن َم ْس ُعو ٍد ‪ ،‬ريض هللا عنه قال‪" :‬ا ان ه ََذا الْ ُق ْرأ َن مأْ ُدب َ ُة ا ِ‬
‫َع ْن َع ْب ِد ا ِ‬
‫ِ‬
‫َما ْاس تَ َط ْع ُ ْمت‪".‬‬
‫ومائدة القرأن متنوعة الطباق‪ ،‬يتغذى مْنا النسان ما ذل وطاب‪ ،‬ففهيا قصص الولني ومصائر‬
‫الخرين‪ ،‬وفهيا بيان العقائد ورشح الحاكم وتعلمي الخلق وطرق الس ياسة ومبادئ الاقتصاد وعمل الاجامتع‪.‬‬

‫‪27‬‬
‫ابلقرأن ميارس النسان عبادات ش ىت من تلوة وتعمل وتدبر وتفكر وحفظ ومراجعة ومدارسة‬
‫واس تنباط أحاكم واس تخلص عرب واس تخراج علوم وتعلمي الناس ودعوهتم اليه‪.‬‬
‫قال بعض العلامء‪ :‬ه ََذا الْ ُق ْرأ ُن َر َسائِ ُل َأتَتْنَا ِم ْن ِق َب ِل َ ِربنَا َع از َو َج ال ِب ُعهُو ِد ِه نتدبرها يف الصلوات ونقف‬
‫علهيا يف اخللوات وننفذها يف الطاعات والسنن املتبعات‪.‬‬
‫هكذا اكن املسلمون الوائل‪ ،‬اكن القرأن شغلهم الشاغل‪ ،‬واكن القرأن حمور حياهتم‪ ،‬ومنطلق حتراكهتم‪،‬‬
‫ومنبع علوهمم ومصدر الهاهمم وسلوى أرواُحم‪.‬‬
‫واكنوا َيدون فيه من الذلة واملتعة ما َيعلهم ل يفارقونه حل وترحال‪ ،‬يقرأونه قياما وقعودا‪ .‬قال عامثن‬
‫ريض هللا عنه‪" :‬لَ ْو َطه َُر ْت قُلُوبُ ُ ْمك َما َش ِب ْع ُ ْمت ِم ْن َلَك ِم ا ِ‬
‫اّلل َع از َو َج ال‪".‬‬
‫وفعل فان الصاحلني ل يش بعون من هذا الكتاب العزيز‪ ،‬مفا زالوا يرددونه ويراجعونه‪ ،‬يبدأون يوهمم‬
‫ابلقرأن ول خيدلون اىل النوم ال بعد قراءة للقرأن‪ .‬فكل امحلد ربنا عىل كتابك العظمي ولك ما منك عظمي‪...‬‬
‫اللهم ارمحنا ابلقرأن واجعهل لنا اماما ونورا وهدى ورمحة‪ ،‬اللهم علمنا منه ما هجلنا‪ ،‬وذكران منه ما‬
‫هجلنا‪ ،‬وارزقنا تلوته أانء الليل وأطراف الْنار‪ ،‬واجعهل لنا جحة اي رب العاملني‪.‬‬

‫مكة‪ 13 ،‬رمضان ‪1440‬هـ‪ 18/‬مايو ‪2019‬م‬


‫‪#‬سلسةل_فوائد_رمضانية_‪1440‬هـ‬

‫‪28‬‬
‫الفائدة الرابعة عشر‬

‫امتالء املتواضع وخواء املتفاخر‬

‫ما تواضع متواضع ال لنه يشعر ابلمتلء والاكتفاء‪ ،‬وما افتخر مفتخر ال لنه يعاّن من النقص‬
‫واخلواء‪ .‬فاملتواضع يشعر ابلطمئنان النفيس والاكتفاء اذلايت ول حيتاج اىل مدح الناس واجعاهبم ليك يس متتع‬
‫ابلس تقرار والاس تغناء والسعادة‪ ،‬مفا بينه وبني ربه يكفيه ليك يشعر بقدر نفسه‪ .‬أما املفتخر فهو يشعر ابلنقص‬
‫اذا مل يعرف الناس فضهل وقدره‪ ،‬وفهو يف افتقار دامئ اىل تقدير البرش‪ ،‬لن ما بينه وبني هللا خا ٍو من املعىن‪،‬‬
‫مفا ظهر للناس أِه اليه مما بينه وبني ربه‪ ،‬وهللا املس تعان‪.‬‬
‫ذلكل قال أيوب السختياّن رمحه هللا‪ :‬ما صدق َ‬
‫هللا عبد أحب الشهرة‪.‬‬
‫ذكل لن املؤمن العارف بربه مس تغن مبا بينه وبني هللا‪ ،‬وهو يعرف زيف احلقائق اليت تظهر عند‬
‫الناس‪ ،‬وهو مطمِئ بأن معرفة الناس َل ل تقدم ول تؤخر‪ ،‬واخللئق َكها ل ترض ولتنفع ال مبا كتب هللا‪،‬‬
‫فيكفيه أن هللا مطلع عىل سائر المور وحقائق الش ياء‪.‬‬
‫هللا أحب أن ل يعرفه الناس‪".‬‬
‫ومن مراسلت السلف اىل بعضهم‪" :‬اي أيخ‪ ،‬من أحب َ‬
‫فأحب القلوب اىل هللا أخلصها َل وأغناها مبا عنده وأزهدها فامي عند الناس‪ .‬قال النيب صىل هللا عليه‬
‫اّلل ُ ِحي هب ْ َال ْب َر َار ْ َالتْ ِق َي َاء ْ َال ْخ ِف َي َاء‪ ،‬ا ِاذل َين ا َذا غَابُوا لَ ْم يُ ْفتَقَدُ وا‪َ ،‬وا ْن َح َ ُ‬
‫رضوا لَ ْم يُدْ َع ْوا َولَ ْم يُ ْع َرفُوا‪،‬‬ ‫وسمل‪" :‬ا ان ا َ‬
‫ِ‬ ‫ُ ِ‬
‫لك غَ ْ َرب َاء ُم ْظ ِل َم ٍة‪ ".‬أخرجه ابن ماجه ِواحلامك وحصحه وعند الطرباّن يف‬ ‫ون ِم ْن ُ ِ‬ ‫ُُ َ‬ ‫ج‬‫ر‬ ‫ْ‬
‫خي‬ ‫َ‬ ‫‪،‬‬‫ى‬ ‫ُدَ‬ ‫ه‬‫ْ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ِيح‬‫قُلوهبُ ُ ْم َم َ ُ‬
‫ب‬‫ا‬ ‫ص‬
‫الوسط زايدة‪..." :‬أولَئِ َك َأئِ ام ُة الْهُدَ ى‪َ ،‬و َم َصاب ُِيح الْ ِع ْ ِمل‪".‬‬
‫ان القلوب اليت ل تلتفت اىل طلب املدح والثناء قلوب نظيفة‪ ،‬ترى المور عىل حقيقهتا‪ ،‬وتزن‬
‫الش ياء مبوازيْنا القسط‪ ،‬فهيي مصابيح الهدى لنصاعهتا وصفاهئا وان هللا يكرهما بنور املعرفة خللوصها هلل عز‬
‫وجل‪ .‬وزهدِه يف ادلنيا وعزوفهم عن طلب اجملد الزائف ينجهيم من الفنت املظلمة واخلطوب املدهلمة‪.‬‬
‫تسمع هذه القلوب هذه الية فتعرف معناها ومغزاها‪{ ،‬ا ْعلَ ُموا َأن ا َما الْ َح َيا ُة ادله نْ َيا لَ ِعب َولَهْو َو ِزينَة‬
‫َوتَ َفاخُر بَيْنَ ُ ْمك َوتَ َاكثُر ِيف ْ َال ْم َوالِ َو ْ َال ْو َل ِد} [احلديد‪]20 :‬‬

‫‪29‬‬
‫والقرأن أراد أن يعاجل ثقافة بعض اجملمتعات اليت تقوم سوقهم عىل التفاخر ومظاهر اخليلء‪ ،‬فأكد هللا‬
‫ُور} [احلديد‪]23 :‬‬ ‫اّلل َل ُ ِحي هب ُ ا‬
‫لك ُمخْ َتالٍ فَخ ٍ‬ ‫ُور} [لقامن‪ ]18 :‬وقال‪َ { :‬و ا ُ‬ ‫اّلل َل ُ ِحي هب ُ ا‬
‫لك ُم ْخ َتالٍ فَخ ٍ‬ ‫مرارا {ا ان ا َ‬
‫ً‬ ‫َ‬ ‫ِ‬
‫ُورا} [النساء‪]36 :‬‬ ‫ً‬ ‫خ‬ ‫َ‬ ‫ف‬ ‫ال‬ ‫ت‬ ‫خْ‬‫م‬ ‫ن‬ ‫َ‬
‫اك‬
‫ه َْ َ ُ َ‬ ‫ن‬ ‫م‬ ‫ب‬ ‫ِ‬
‫حي‬ ‫ُ‬ ‫ل‬ ‫اّلل‬
‫وقال‪ :‬ا ا َ‬
‫ن‬ ‫ا‬ ‫{‬
‫ِ‬
‫وأبدل هللا للمسلمني ثقافة التواضع يف أايت كثرية‪ ،‬فقال هللا تعاىل‪َ { :‬و َل تَ ْم ِش ِيف ْ َال ْر ِض َم َر ًحا ان َاك‬
‫ِ‬
‫لَ ْن َ ْخت ِر َق ْ َال ْر َض َولَ ْن تَ ْبلُ َغ الْجِ َبا َل ُطو ًل} [الساء‪ ]37 :‬وقال أيضا‪َ { :‬و َل ت َُص ِع ْر َخ ادكَ ِللنا ِاس َو َل تَ ْم ِش ِيف‬
‫ُور} [لقامن‪ ]18 :‬وقال عن سلوك عباده الصاحلني‪َ { :‬و ِع َبا ُد االر ْ َمح ِن‬ ‫لك ُمخْ تَالٍ فَخ ٍ‬ ‫ْ َال ْر ِض َم َر ًحا ا ان ا َ‬
‫اّلل َل ُ ِحي هب ُ ا‬
‫ِ‬
‫ون عَ َىل ْ َال ْر ِض ه َْوانً } [الفرقان‪ ]63 :‬قال ابن زيد‪ :‬أي متواضعني ل يتكربون‪.‬‬ ‫ا ِاذل َين ي َ ْم ُش َ‬
‫هللا َأ ْو َىح ا َ اَل َأ ْن ت ََواضَ ُعوا َح اىت َل ي َ ْفخ ََر َأ َحد‬
‫ويف حصيح مسمل قال النيب صىل هللا عليه وسمل‪" :‬وا ان َ‬
‫َِ ِ ِ ا ِ‬
‫عَ َىل َأ َح ٍد‪َ ،‬و َل ي َ ْب ِغي َأ َحد عَ َىل َأ َح ٍد‪ ".‬وقال أيضا‪َ " :‬و َما ت ََواضَ َع أَ َحد اّلل ال َرفَ َع ُه ُ‬
‫هللا‪".‬‬
‫ِ‬
‫اللهم طهر قلوبنا‪ ،‬ونور بصائران‪ ،‬وزك نفوس نا‪ ،‬وسدد أقوالنا‪ ،‬وأصلح أعاملنا‪...‬‬

‫مكة‪ 14 ،‬رمضان ‪ 1440‬هـ‪ 19/‬مايو ‪2019‬م‬


‫‪#‬سلسةل_فوائد_رمضانية_‪1440‬م‬

‫‪30‬‬
‫الفائدة اخلامسة عشر‬

‫بناء نفسية املنتصر‬

‫أراد هللا من املؤمنني أن يكونوا ذوي معنوية عالية ل ترههبم التحدايت ول تقعدِه الصعوابت‪ .‬وهللا‬
‫تعاىل اذ أخرب أن الطريق اىل اجلنة حمفوفة ابملاكره واحملن أخرب هللا أيضا أن نرصه قريب [البقرة‪ ]214 :‬وأن‬
‫رمحته قريب من احملس نني [العراف‪]56 :‬‬
‫ويف ذروة المل اذلي أصاب املسلمني يف غزوة أحد رفع هللا معنويهتم بقوَل‪َ { :‬و َل هتَ ِ ُنوا َو َل َ ْحت َ نزُوا َو َأن ُ ُْمت‬
‫ْ َال ْعلَ ْو َن ا ْن ُك ْن ُ ْمت ُم ْؤ ِم ِن َني} [أل معران‪ ]139 :‬فْنيى هللا عن الوقوع يف مشاعر سلبية اكلشعور ابلعجز والضعف‬
‫ِ‬
‫واحلزن‪ ،‬فهذه املشاعر ل ينبغي أن تس متر ول أن تس تقر‪َ ،‬يب أن يطردها املؤمن‪ ،‬ويتذكر أنه العىل ماكنة‬
‫والقوى س ندا والثقل وزان لنه مؤمن ابهلل وينرص دين هللا‪.‬‬
‫اخلسارة يف معركة واحدة ل تعين هناية العامل‪ ،‬ولك البرش يعاّن من الصعوابت ويتأمل من الصاابت‬
‫ول أحد يسمل من الذى يف هذه ادلنيا‪ .‬بل اذا تواجه املؤمن والاكفر يف معركة فلَكهام يعاّن القروح واجلروح‪،‬‬
‫ون} [النساء‪]104 :‬‬ ‫اّلل َما َل يَ ْر ُج َ‬
‫ون ِم َن ا ِ‬ ‫ون َوتَ ْر ُج َ‬ ‫ون َ َمَك تَأْلَ ُم َ‬ ‫{ ا ْن تَ ُكونُوا تَأْلَ ُم َ‬
‫ون فَاهنا ُ ْم يَأْلَ ُم َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫كل ْ َال ااي ُم ن ُدَ ا ِولُهَا ب َ ْ َني النا ِاس} [أل معران‪]140 :‬‬‫{ا ْن ي َ ْم َس ْس ُ ْمك قَ ْرح فَقَدْ َم اس الْقَ ْو َم قَ ْرح ِمث ُ ُْهل َو ِت ْ َ‬
‫ِ‬
‫اّلل فَ َل غَا ِل َب لَ ُ ْمك}‬
‫رصُمكُ ا ُ‬
‫وتكل طبيعة احلياة اليت ل تدوم عىل حال‪ ،‬ولكن العاقبة دامئا للمتقني‪{ .‬ا ْن ي َ ْن ُ ْ‬
‫ِ‬
‫[أل معران‪]160 :‬‬
‫ومبثل هذه الايت وهذه التوجهيات سارت أجيال وأجيال من هذه المة حتمل راية ادلين‪ ،‬ترفعها‬
‫وف‬‫ون ِابلْ َم ْع ُر ِ‬
‫عالية ول تسقطها‪ .‬وقد حظيت هذه المة ابخلريية املوصوفة‪ُ { :‬ك ْن ُ ْمت خ ْ ََري أ ام ٍة أ ْخ ِر َج ْت ِللنا ِاس تَأْ ُم ُر َ‬
‫ون ِاب ا ِّلل} [أل معران‪]110 :‬‬ ‫َوتَْنْ َ ْو َن َع ِن الْ ُم ْن َك ِر َوت ُْؤ ِمنُ َ‬
‫وأعداء هذه المة قد تؤذهيم ولكْنم ل تصمد دامئا‪ ،‬س تلقى هزمية مؤكدة يف هناية املطاف‪ ،‬قال تعاىل‪:‬‬
‫ون} [أل معران‪]111 :‬‬ ‫ومك ا ال َأ ًذى َوا ْن يُقَا ِتلُو ُ ْمك يُ َولهو ُمكُ ْ َالد َْاب َر ُ امث َل يُ ْن َ ُ‬
‫رص َ‬ ‫رض ُ ْ‬
‫{ لَ ْن ي َ ُ ه‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫قاتلتنا الروم فولوا الدابر‪ ،‬وقاتلتنا الفرس فولوا الدابر‪ ،‬مث جاءتنا امحللت الصليبية فولوا الدابر‪،‬‬
‫وجاءتنا القوى الاس تعامرية‪ ،‬فولوا الدابر كذكل‪ ،‬وس تقاتل هذه المة لك أعداهئا وس تنترص ابذن هللا كام أخرب‬

‫‪31‬‬
‫ول الْ َح َج ُر‪َ :‬اي ُم ْس ِ ُمل ه ََذا هيَ ُو ِد ٌّي َو َر ِايئ فَا ْق ُت ْ ُهل‪[ ".‬رواه‬ ‫الصادق املصدوق‪ " ،‬تُقَا ِتلُ ُ ْمك الْهيَ ُو ُد فَتُ َسل ا ُط َ‬
‫ون عَلَهيْ ِ ْم ُ امث ي َ ُق ُ‬
‫البخاري]‬
‫ون َح اىت َ ْخي َت ِ َِب الْهيَ ُو ِد هي‬ ‫ون الْهيَ ُو َد‪ ،‬فَ َي ْق ُتلُهُ ْم الْ ُم ْس ِل ُم َ‬
‫الساعَ ُة َح اىت يُقَا ِت َل الْ ُم ْس ِل ُم َ‬ ‫ويف رواية مسمل‪َ " :‬ل تَ ُقو ُم ا‬
‫اّلل! ه ََذا هيَ ُو ِد ٌّي َخلْ ِفي فَتَ َعا َل فَا ْق ُت ْ ُهل‪ .‬ا ال‬ ‫الش َج ُر‪َ :‬اي ُم ْس ِ ُمل! َاي َع ْبدَ ا ِ‬ ‫ول الْ َح َج ُر َأ ْو ا‬
‫الش َج ِر‪ ،‬فَيَ ُق ُ‬ ‫ِم ْن َو َرا ِء الْ َح َج ِر َو ا‬
‫ِ‬
‫َش ِر الْهيَ ُو ِد‪".‬‬‫الْغ َْرقَدَ فَان ا ُه ِم ْن َ َ‬
‫ِ‬
‫وهمام فعل أعداء ادلين فان هللا هيأ هذه المة خلوض تكل املرحةل طالت أم قرصت‪ ،‬فقد رفعت‬
‫القلم وجفت الصحف‪.‬‬
‫اللاهُ ام ِزدْانَ َو َل تَ ْن ُق ْصنَا‪َ ،‬و َأ ْك ِر ْمنَا َو َل هتُ ِ ناا‪َ ،‬و َأع ِْطنَا َو َل َ ْحت ِر ْمنَا‪َ ،‬وأ ِث ْرانَ َو َل ت ُْؤ ِث ْر عَلَ ْينَا‪َ ،‬وأ ْر ِضنَا َو ْار َض َعناا‪.‬‬

‫مكة‪ 15 ،‬رمضان ‪1440‬هـ‪ 20/‬مايو ‪2019‬م‬


‫‪#‬سلسةل_فوائد_رمضانية_‪1440‬هـ‬

‫‪32‬‬
‫الفائدة السادسة عشر‬

‫أسرار النفوس يف سجالت األحداث‬

‫ان القرأن الكرَي َل طريقة خاصة يف تسجيل الحداث وتصوير الوقائع‪ .‬فهو خيربان مبا ل ميكن أن‬
‫يطلع عليه البرش‪ ،‬فهو كتاب من عند هللا اذلي يعمل الرس وأخفى‪.‬‬
‫ومن المور الفريدة اليت تفرد هبا القرأن يف سد الحداث‪ :‬تصويره ملا يدور يف قلوب الناس وما خيتلج‬
‫يف صدور الشخاص مما مل يظهر يشء من ذكل يف مرسح الحداث‪ .‬مييل النسان اىل تسجيل أجماده ومأثره‪،‬‬
‫لكن هللا يصور النسان عىل حقيقته‪ ،‬ما يدور يف نفسه وما يظهر من فعهل‪ .‬واذا تَكم النسان عن الجنازات‬
‫والفتوحات سيتَكم عن البطولت واملواقف الشجاعة اليت تأس اللباب وتثري الجعاب‪ .‬ولكن القرأن الكرَي‬
‫كتاب هداية ومْنج تربية فهو ملا تَكم عن الحداث اكن الغرض هو تعلمي الناس وتربيهتم وتعريفهم بأمعق‬
‫احلقائق اليت َيب أن نتعلمها ونعترب هبا‪.‬‬
‫لنأخذ مثل من مواقف نيب هللا موىس عليه السلم‪ ،‬وكيف َشاعته يف جماهبة أعىت الطواغيت يف‬
‫ذكل الزمان وهو فرعون‪ ،‬كيف جترأ هذا النسان العزل ملعارضة أقوى حامك متجرب يف قرصه العظمي ويف وسط‬
‫جنوده؟ مث كيف ثبت موىس عليه السلم يف مواهجة جيش من السحرة املاهرين اذلين جاءوا بسحر عظمي؟‬
‫ولو مل خيربان القرأن مبا جال يف صدر موىس عليه السلم‪ ،‬لقلنا أن موىس ل يعرف اخلوف ول هياب شيئا‪.‬‬
‫وىس (‪)67‬‬ ‫لكن هللا أخرب عام حدث يف نفس موىس وكيف ثبته هللا‪ ،‬قال تعاىل‪{ :‬فَأَ ْو َج َس ِيف ن َ ْف ِس ِه ِخي َف ًة ُم َ‬
‫قُلْنَا َل َ َخت ْف ان َاك َأن َْت ْ َال ْع َىل} [طه‪]68-67 :‬‬
‫ِ‬
‫وعن معركة بدر مييل الخباريون اىل ذكر مواقف مرشفة للصحابة ريض هللا عْنم‪ ،‬ويه مواقف‬
‫صادقة ترفع شأهنم وجتعلهم صفوة هذه المة وخرية الصحابة‪ ،‬ولكن للقرأن طريقة خاصة يف تصوير تكل‬
‫الحداث‪ ،‬فالقرأن يصور ما يف نفوس بعض الصحابة من الرتدد والكراهية يف مواصةل الطريق رغ أن هذا‬
‫املوقف عابر ول يس متر‪ ،‬لن هللا ثبت وهدى قادة الصحابة من املهاجرين والنصار اىل أرشف موقف وأَشع‬
‫خيار‪ .‬جسل هللا ذكل املوقف املرتدد يف سورة النفال‪ ،‬قال تعاىل‪َ َ { :‬مَك َأخ َْر َج َك َرب ه َك ِم ْن بَيْ ِت َك ِابلْ َح ِق َوا ان‬
‫ون ( ِ‪)6‬‬ ‫ون ا َىل الْ َم ْو ِت َو ُ ِْه ي َ ْن ُظ ُر َ‬‫ُون (‪ََ ُ )5‬يا ِدلُون ََك ِيف الْ َح ِق ب َ ْعدَ َما تَ َب ا َني َ ََكن ا َما ي َُساقُ َ‬ ‫فَ ِريقًا ِم َن الْ ُم ْؤ ِم ِن َني لَ َاك ِره َ‬
‫َِ ُ ِ‬
‫اّلل َأ ْن ُ ِحي اق الْ َح اق‬ ‫ون لَ ُ ْمك َويُ ِريدُ ا ُ‬
‫الش ْوكة تَك ُ‬ ‫هون َأ ان غَ ْ َري َذ ِات ا‬ ‫الطائِ َفتَ ْ ِني َأهنا َا لَ ُ ْمك َوت ََود َ‬
‫اّلل ا ْحدَى ا‬ ‫َوا ْذ ي َ ِعدُ ُمكُ ا ُ‬
‫ِ‬
‫ِب ِ َ َِك َما ِت ِه َوي َ ْق َط َع دَا ِب َر الْ َاك ِف ِر َين} [النفال‪]8-5 :‬‬
‫‪33‬‬
‫لقد عرفنا قوةل مقداد للنيب صىل هللا عليه وسمل‪ :‬ل نقول مثل قول بين اسائيل ملوىس "اذهب أنت‬
‫وربك فقاتل اان هاهنا قاعدون"‪ ،‬بل نقول‪" :‬اذهب أنت وربك اان معكام مقاتلون" وقول سعد بن معاذ‪:‬‬
‫"امض اي رسول هللا ملا أردت‪ ،‬ووهللا لِئ اس تعرضت بنا هذا البحر خفضته خلضناه معك وما ختلف منا رجل‬
‫واحد‪".‬‬
‫ورغ هذه الشجاعة ورابطة اجلأش املنقطعة النظري فان هللا جسل موقف بعض املرتددين‪ ،‬ليك يعرف‬
‫النسان حاجته اىل تثبيت وتأييد من هللا‪ ،‬فالقلوب بني أصبعني من أصابع الرمحن يقلهبا كيف يشاء‪ .‬وهللا‬
‫يقول لنبيه احلبيب عليه الصلة والسلم‪َ { :‬و ْاص ِ ْرب َو َما َص ْربُكَ ا ال ِاب ا ِّلل} [النحل‪ ]127 :‬وقال أيضا‪َ { :‬ولَ ْو َل َأ ْن‬
‫ِ‬
‫ثَ ابتْنَاكَ لَقَدْ ِكدْ َت تَ ْر َك ُن الَهيْ ِ ْم َشيْئًا قَ ِل ًيل} [الساء‪]74 :‬‬
‫ِ‬
‫مفهام فعل النسان من أعامل اخلري فهو من توفيق هللا َل‪ ،‬واذا تيرس للنسان أن يقوم ببعض البطولت‬
‫فعليه أل ينَس ضعفه وحاجته اىل هللا‪ ،‬ول يغفل عن حقيقة اثبتة يف قول هللا تعاىل‪َ { :‬و ُخ ِل َق ْالن ْ َس ُان ضَ ِعي ًفا}‬
‫ِ‬
‫[النساء‪]28 :‬‬
‫ربنا ظلمنا أنفس نا وان مل تغفر لنا وترمحنا لنكونن من اخلاسين‪ ،‬اللهم اي مقلب القلوب ثبت قلوبنا‬
‫عىل دينك‪ ،‬واي مقلب القلوب ثبت قلوبنا عىل طاعتك‪...‬‬

‫مكة‪ 17 ،‬رمضان ‪1400‬هـ‪ 21/‬مايو ‪2019‬م‬


‫‪#‬سلسةل_فوائد_رمضانية_‪1440‬هـ‬

‫‪34‬‬
‫الفائدة السابعة عشر‬

‫عن قسوة القلوب‬

‫من المراض اخلطرية اليت تصيب النسان قسوة القلب‪ ،‬فان القلب اذا قسا مل يسمع النصح ومل يقبل‬
‫احلق ومل يرمح الضعيف ومل يرفض الظمل‪ ،‬بل القلب القايس يدفع صاحبه اىل الظمل والرصار عليه‪.‬‬
‫لقد شدد هللا تعاىل النكري عىل أحصاب القلوب القاس ية فقال تعاىل‪{ :‬فَ َويْل ِللْقَ ِاس َي ِة قُلُوهبُ ُ ْم ِم ْن ِذ ْك ِر‬
‫اّلل أولَ ِئ َك ِيف ضَ َللٍ ُمبِنيٍ } [الزمر‪]22 :‬‬
‫اِ‬
‫ملا قست قلوب بين اسائل صارت لك أوامر هللا وأايته ونصاحئ أنبياء هللا مل تنفعهم ومل ترشدِه اىل‬
‫الصواب‪ ُ { ،‬امث قَ َس ْت قُلُوبُ ُ ْمك ِم ْن ب َ ْع ِد َذ ِ َكل فَه َِيي َاكلْ ِح َج َار ِة َأ ْو َأ َش هد قَ ْس َو ًة َوا ان ِم َن الْ ِح َج َار ِة لَ َما يَتَ َف اج ُر ِمنْ ُه ْ َالهنْ َ ُار‬
‫ون} [البقرة‪:‬‬ ‫اّلل ِبغَا ِف ٍل َ امعا تَ ْع َملُ َ‬ ‫اّلل ِ َو َما ا ُ‬
‫َوا ان ِمْنْ َا لَ َما ي اَشقا ُق فَ َيخْ ُر ُج ِمنْ ُه الْ َما ُء َوا ان ِمْنْ َا لَ َما هيَ ْ ِبطُ ِم ْن خ َْش َي ِة ا ِ‬
‫ِ‬ ‫ِ‪]74‬‬
‫ذلكل حذر هللا املؤمنني من الصابة هبذا ادلاء‪ ،‬داء قسوة القلب‪ ،‬فأرشدِه اىل اكتساب خشوع‬
‫اّلل َو َما نَ َز َل ِم َن الْ َح ِق َو َل‬
‫القلب من خلل ذكر هللا‪ ،‬قال تعاىل‪َ { :‬ألَ ْم يَأْ ِن ِل ا ِذل َين أ َمنُوا َأ ْن َ ْختشَ َع قُلُوهبُ ُ ْم ِ ِذل ْك ِر ا ِ‬
‫ون} [احلديد‪]16 :‬‬ ‫يَ ُكونُوا َاك ا ِذل َين أوتُوا ْال ِكتَ َ‬
‫اب ِم ْن قَ ْب ُل فَ َطا َل عَلَهيْ ِ ُم ْ َال َمدُ فَقَ َس ْت قُلُوهبُ ُ ْم َو َك ِثري ِمْنْ ُ ْم فَ ِاس ُق َ‬
‫قال ابن مسعود ريض هللا عنه‪ :‬ما اكن بني اسلمنا وبني أن عاتبنا هللا هبذه الية {أمل يأن لذلين أمنوا‬
‫أن ختشع قلوهبم ذلكر هللا} [الية] ال أربع س نني‪ .‬رواه مسمل‬
‫َكن هللا هبذه الية استبطأ ميض هذه الفرتة من السلم وسامع ذكر هللا دون أن حيدث اخلشوع يف‬
‫القلوب‪ .‬وهذا المر اذا حدث فهو مشَكة َيب التنبه لها‪ ،‬فان من مسع أايت هللا تتىل مث مل يتأثر قلبه فهو‬
‫مؤرش خطري عىل بلدة احلس وغلظ الطبع والغفةل الشديدة‪.‬‬
‫واكنت أفة أهل الكتاب ليس عدم العمل ابحلق ولكن عدم التأثر به‪ ،‬ولقد طال علهيم العهد بسامع أايت‬
‫هللا ومل حترك هذه الايت مشاعرِه ومل ترقق قلوهبم‪ ،‬بل مع كرثة املساس ذهب معهم الحساس‪ ،‬فقست‬
‫قلوهبم‪ ،‬فمل يعظموا هللا حق تعطميه ومل يتقوه حق تقاته‪.‬‬

‫‪35‬‬
‫ون ا ِاذل َين‬ ‫واملؤمن احلق هو اذلي يرجتف قلبه بذكر هللا ويزيد اميانه بأايت هللا‪ ،‬قال تعاىل‪{ :‬ان ا َما الْ ُم ْؤ ِمنُ َ‬
‫ِ‬
‫اّلل َو ِجلَ ْت قُلُوهبُ ُ ْم َوا َذا تُ ِل َي ْت عَلَهيْ ِ ْم أ َايتُ ُه َزا َدهتْ ُ ْم اميَاانً } الية [النفال‪ ]2 :‬مث قال تعاىل‪{ :‬أولَ ِئ َك ُ ُِه‬ ‫ا َذا ُذ ِك َر ا ُ‬
‫ِ‬ ‫ِالْم ْؤ ِمنُون حقًّا} [النفال‪ِ ]4 :‬‬
‫ُ َ َ‬
‫مفن أراد أن يكون مؤمنا حق الميان فليفتش قلبه‪ ،‬أين هو من هذه الية؟ هل خاف من وعيد‬
‫هللا؟ هل َو ِجل قلبه من ذكر هللا؟ هل دمعت عينه شوقا اىل لقاء هللا وخوفا من عذاب هللا؟ كيف تفاعل‬
‫مع كتاب هللا؟‬
‫َاّن‪ ،‬تَ ْقشَ ِع هر ِمنْ ُه ُجلُو ُد ا ِاذل َين َ ْخيشَ ْو َن َرهبا ُ ْم‪ ُ ،‬امث‬ ‫اّلل نَ از َل َأ ْح َس َن الْ َح ِد ِ‬
‫يث ِك َت ًااب ُمتَشَ اهبِ ًا َمث ِ َ‬ ‫قال تعاىل‪ { :‬ا ُ‬
‫اّلل هيَ ْ ِدي ِب ِه َم ْن يَشَ ا ُء} [الزمر‪]23 :‬‬ ‫اّلل‪َ ،‬ذ ِ َكل هُدَ ى ا ِ‬ ‫تَ ِل ُني ُجلُود ُ ُِْه َوقُلُوهبُ ُ ْم ا َىل ِذ ْك ِر ا ِ‬
‫ِ‬
‫من شأن تلوة كتاب هللا وتدبر معانيه أن حيدث اخلشوع يف القلب ويقشعر اجلدل‪ ،‬مفن مل يكن هذه‬
‫حاَل مع كتاب هللا فليبك عىل نفسه من هذا احلرمان‪ ،‬وليترضع اىل هللا يسأل قلبا خاشعا وامياان صادقا‪.‬‬
‫اللهم اان نعوذ بك من عمل ل ينفع‪ ،‬وقلب ل خيشع ودعوة ل يس تجاب لها‪...‬‬

‫مكة‪ 17 ،‬رمضان ‪1440‬هـ‪ 22/‬مايو ‪2019‬م‬


‫‪#‬سلسةل_فوائد_رمضانية_‪1440‬هـ‬

‫‪36‬‬
‫الفائدة الثامنة عشر‬

‫معىن "الدين النصيحة"‬

‫ان لفظ "النصحية" من اللفاظ الفريدة اليت ل يوجد ما مياثل معناها يف اللغة العربية ول غريها من‬
‫اللغات‪ ،‬مفن أدرك معناها أدرك خريا كبريا وفهم قمية عظمية من القمي الخلقية العالية‪ .‬ولفرادة معىن هذا اللفظ‬
‫أخطأ كثري من الناس يف فهم معناها‪ .‬وقد ظن كثري من الناس أن النصيحة معناها املوعظة حفسب‪ ،‬وليس‬
‫كذكل‪ ،‬فان النصيحة أمع من ذكل بكثري‪.‬‬
‫قال المام أبو سلامين اخلطاِب رمحه هللا‪ :‬النصيحة َكمة جامعة معناها حيازة احلظ للمنصوح َل‪...‬‬
‫ويقال‪ :‬هو من وجزي السامء وخمترص اللَكم‪ ،‬وليس يف لَكم العرب َكمة مفردة يس توف هبا العبارة عن معىن‬
‫هذه الَكمة‪.‬‬
‫يه ِا َرا َد ُة الْخ ْ َِري ِللْ َم ْن ُصوحِ‬
‫ومبثل ذكل ذهب ابن الثري يف الْناية‪ ،‬قال ‪ :‬النا ِصي َح ُة َ َِك َمة يُ َع ا ُرب هبِ َا َع ْن ُ ْمج َ ٍةل ِ َ‬
‫ََلُ‪َ ،‬ولَ ْي َس يُ ْم ِك ُن َأ ْن يُ َع ا َرب ه ََذا الْ َم ْع َىن ِب َ َِك َم ٍة َوا ِحدَ ٍة َ ْجت َم ُع َم ْعنَا ُه غَ ْ َريهَا ‪.‬‬
‫أما الراغب الصفهاّن فاكن َل تعبري أخر‪ ،‬قال‪ :‬النصح حتري لك قول أو فعل فيه صلح صاحبه‪.‬‬
‫وأورد احلافظ العيين يف معدة القاري أقوالا أخرى‪ ،‬قال‪ :‬النصح‪ :‬نقيض الْ ِغش‪ ،‬نصح َ َُل ونصحه‬
‫ينصح نصح ًا َأو ُنصو ًحا ونصاحة‪َ .‬و ِيف (الْ َجا ِمع) ‪ :‬النصح‪ :‬بذل الْ َم َوداة َو ِال ْجهتِ َاد ِيف املشورة‪َ .‬و ِيف كتاب ا ْبن‬
‫طريف‪ :‬نصح قلب ْالن ْ َسان‪ :‬خلص من الْ ِغش‪.‬‬
‫ِ‬
‫قال ابن فارس يف مقاييس اللغة‪ :‬النون والصاد واحلاء أصل يد هل عىل ملءم ٍة بني ش يئني واصلح‬
‫هلام‪ .‬وقال‪ :‬النهصح والناصيحة‪ِ :‬خلف ال ِغش‪.‬‬
‫والراغب أرجع معاّن النصح اىل معنيني هام الخلص أو الحاكم‪ ،‬بناء عىل اس تقراء اس تخدامات‬
‫العرب‪ ،‬اذ قالوا‪ :‬ن ََص ْح ُت َل ُالو اد يعين أي‪َ :‬أ ْخلَ ْص ُتهُ‪ ،‬وانَ ِ ُ‬
‫حص ال َع َس ِل يعين خَا ِل ُص ُه‪ .‬وقوهلم‪ :‬ن ََص ْح ُت ا ِجل ْ َدل أي‬
‫اّلل ت َْوب َ ًة ن َُصوح ًا [التحرَي‪ِ ]8 /‬مف ْن َأ َح ِد هذين‪،‬‬ ‫ِخ ْط ُته‪ ،‬والنا ِ ُ‬
‫احص‪ :‬اخلَ اي ُاط‪ .‬والنِ َص ُاح‪ :‬اخلَ ْيطُ‪ .‬وقوَل‪ :‬تُوبُوا ا َىل ا ِ‬
‫ِ‬
‫خلص‪ ،‬وا اما الحاك ُم‪.‬‬ ‫ا اما ال ُ‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ‬

‫‪37‬‬
‫وهكذا تدور دللت َكمة النصح والنصيحة عىل قمي كبرية كتحري الصلح وأرادة اخلري وعدم الغش‪.‬‬
‫فلام خلص النيب صىل هللا عليه وسمل لك معاّن ادلين يف لفظ "النصيحة" اكن ذكل تعبريا دقيقا جدا‪ .‬فان‬
‫النصح هو اللب اذلي قصده هذا ادلين واحملور اذلي تدور عليه لك تعالمي ادلين‪ .‬ذلكل قال العلامء أن هذا‬
‫احلديث يدور عليه معظم تعالمي السلم‪ .‬قال النووي ‪ :‬بل هو وحده حمصل لغرض ادلين َكه‪ .‬وهو حمق‪،‬‬
‫رمحه هللا‪.‬‬
‫فان الميان ل يصدق ول يمكل حىت يتحري املؤمن صلحا يف لك يشء‪ ،‬وحىت يقصد اخلري لللك‪،‬‬
‫وحىت يتجنب الغش يف لك يشء‪.‬‬
‫ولمهية هذا املعىن اكن النيب صىل هللا عليه وسمل ابيع جرير بن عبد هللا ريض هللا عنه عىل هذا‬
‫لك ُم ْس ِ ٍمل‪.‬‬ ‫هللا عَلَ ْي ِه َو َس ا َمل عَ َىل اقَا ِم ا‬
‫الص َل ِة َوايتَا ِء االز َاك ِة‪َ ،‬والنه ْص ِح ِل ُ ِ‬ ‫هللا َص اىل ُ‬
‫المر‪ .‬قال جرير‪َ :‬ابي َ ْع ُت َر ُسو َل ِ‬
‫ِ‬
‫[متفق عليه] ومعىن النصح للك مسمل ليس أن يعظ لك مسمل‪ ،‬كام س بق‪ ِ ،‬بل أن يقصد اخلري َل ويتحرى‬
‫صلحه ول يغشه ول يبخس حقه‪.‬‬
‫اّلل َر ِع اي ًة‪،‬‬
‫ويف هذا املعىن أيضا قال النيب صىل هللا عليه وسمل يف ولة املسلمني‪َ :‬ما ِم ْن َع ْب ٍد ْاس َ ْرتعَا ُه ا ُ‬
‫فَ َ ْمل َ ُحي ْطهَا ِبنَ ِصي َح ٍة‪ ،‬ا ال لَ ْم ََيِدْ َر ِ َاِئ َة اجلَنا ِة‪[ .‬متفق عليه]‬
‫ِ‬
‫يعين أن لك وال من ولة املسلمني مل يتحر الصلح لرعيته ومل يرد اخلري هلم بل غشهم وخبس حقهم‪،‬‬
‫وت َوه َُو غَ ٌّاش لَه ُْم‪ ،‬ا ال َح ار َم‬ ‫مل يدخل اجلنة معهم‪ .‬ويف رواية أخرى‪َ " :‬ما ِم ْن َوالٍ ي َ ِيل َر ِع اي ًة ِم َن امل ُ ْس ِل ِم َني‪ ،‬فَ َي ُم ُ‬
‫ِ‬
‫اّلل عَلَ ْي ِه اجلَنا َة‪[ ".‬متفق عليه]‬ ‫اُ‬
‫ففي هذا احلديث اس تخدم النيب صىل هللا عليه وسمل لفظ الغش نقيضا للنصيحة‪ ،‬واس تخدم عبارة‬
‫حرمان اجلنة بدل عدم دخولها‪ ،‬ويه عبارة أقوى وأوكد‪.‬‬
‫خفلصة ادلين أن يتحرى النسان الصلح للناس اكفة‪ ،‬ويريد هلم اخلري‪ ،‬ول يغشهم ول يبخس حقهم‪.‬‬
‫اللهم وفقنا للك ما حتب وتريض‪ ،‬وخذ بنواصينا للخري والتقوى‪ ،‬ونسأكل فعل اخلريات وترك املنكرات‬
‫وحب املساكني‪ ،‬واذا أردت بقوم فتنة‪ ،‬فاقبضنا اليك غري مفتونني‪...‬‬

‫مكة‪ 18 ،‬رمضان ‪1440‬هـ‪ 23/‬مايو ‪2019‬م‬


‫‪#‬سلسةل_فوائد_رمضانية_‪1440‬هـ‬
‫‪38‬‬
‫الفائدة التاسعة عشر‬

‫دين العزة‬

‫ليس الضعف والهوان والاستسلم من سامت هذا ادلين‪ ،‬بل هللا كتب النرص والظهور لهذا ادلين‪،‬‬
‫ون} [التوبة‪:‬‬ ‫وَل ِابلْهُدَ ى َو ِد ِين الْ َح ِق ِل ُي ْظه َِر ُه عَ َىل ِادل ِين ُ َِك ِه َولَ ْو َك ِر َه الْ ُم ْ ِ‬
‫رش ُك َ‬ ‫قال تعاىل‪{ :‬ه َُو ا ِاذلي َأ ْر َس َل َر ُس َ ُ‬
‫‪ ،33‬الصف‪ ]9 :‬كرر هللا هذه امجلةل مرتني يف سورة التوبة وسورة الصف‪ ،‬وقال يف سورة الفتح‪{ :‬ه َُو ا ِاذلي‬
‫وَل ِابلْهُدَ ى َو ِد ِين الْ َح ِق ِل ُي ْظه َِر ُه عَ َىل ِادل ِين ُ َِك ِه َوكَ َفى ِاب ا ِّلل َشهِيدً ا} [الفتح‪ ]28 :‬فهذا يدل عىل التأكيد‬ ‫َأ ْر َس َل َر ُس َ ُ‬
‫الشديد واملتواصل عىل هذا املعىن‪ .‬وما أكرث تكل التوكيدات عىل انتصار هذا ادلين يف القرأن‪ ،‬كقوَل تعاىل‪:‬‬
‫اّلل َو َر ُس َ ُ‬
‫وَل‬ ‫رص ُر ُسلَنَا َو ا ِاذل َين أ َمنُوا ِيف الْ َح َيا ِة ادله نْ َيا َوي َ ْو َم ي َ ُقو ُم ْ َال ْشهَا ُد} [غافر‪ ]51 :‬وقوَل‪َ { :‬و َم ْن يَتَ َو ال ا َ‬ ‫{اانا لَنَ ْن ُ ُ‬
‫ون} [املائدة‪ ]56 :‬ان هللا يأىب الهوان لهذا ادلين وقال تعاىل‪َ { :‬و ِ ا ِّلل الْ ِع از ُة‬ ‫َو ِ ا ِاذل َين أ َمنُوا فَا ان ِح ْز َب ا ِ‬
‫اّلل ُ ُِه الْغَا ِل ُب َ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ْ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ ِْ ِ‬
‫ون} [املنافقون‪]8 :‬‬ ‫م‬ ‫ل‬
‫َُ َ َ ُ َ‬‫ع‬‫ْ‬ ‫ي‬ ‫ل‬ ‫ني‬ ‫ق‬ ‫ف‬ ‫ا‬ ‫ن‬‫م‬ ‫ل‬‫ا‬ ‫ن‬‫ا‬ ‫ك‬ ‫ل‬‫و‬‫َول َر ُس ِوَل َولل ُم ْؤ َ َ‬
‫ني‬‫ن‬ ‫م‬
‫ذلكل هنيى السلم أبناءه عن الاستسلم لذلل والهوان قبول الظمل‪ ،‬ومن صفات املؤمنني رفضهم‬
‫ون} [الشورى‪ ]39 :‬وهنيى هللا املؤمنني‬ ‫رص َ‬‫للظمل وردِه للعدوان‪ ،‬قال تعاىل { َو ا ِاذل َين ا َذا َأ َصاهبَ ُ ُم الْ َبغ ُْي ُ ِْه يَنْتَ ِ ُ‬
‫ِ‬
‫اّلل َم َع ُ ْمك َولَ ْن‬ ‫الس ْ ِمل َو َأن ُ ُْمت ْ َال ْعلَ ْو َن َو ا ُ‬
‫عن الاستسلم يف موضع الانتصار‪ ،‬قال تعاىل‪{ :‬فَ َل هتَ ِ ُنوا َوتَدْ ُعوا ِا َىل ا‬
‫ي َ ِ َرتُ ْمك َأ ْ َمعالَ ُ ْمك} [محمد‪]35 :‬‬
‫وهبذه روح املقاومة ورد الظمل بقي هذا ادلين صامدا رغ ما اعرتته من فرتات الضعف وعدم موازاهتا‬
‫يف توازن القوى ضد أعداهئا‪ .‬ولكن الاس بتسال والشجاعة اليت أبداها أبناء هذه المة طيةل اترخيها الطويل‬
‫جعلت مسرية هذه المة مس مترة بل توقف‪ ،‬ويه يف طريقها اىل الانهتاض حنو مس تقبل أفضل‪ ،‬وس تكتسب‬
‫هذه المة مقدراهتا وتس تعيد قوهتا وعافيهتا‪ .‬وفاهنا أمة ل ترىض ابلضعف والهوان والاستسلم لقوى الظمل‪،‬‬
‫وقد تعلمت هذه المة من سلفها الصاحل هنج اجلهاد لنرصة ادلين واعلء َكمة هللا‪.‬‬
‫وعمل النيب صىل هللا عليه وسمل أن املؤمن القوي خري وأحب اىل هللا من املؤمن الضعيف‪ .‬وتعلمت‬
‫هذه المة من نيب هللا موىس تصديه للطاغوت املتجرب‪ ،‬وتعلمت من يوسف خطط اخلروج من الزمة‪،‬‬

‫‪39‬‬
‫وتعلمت من داود احلنكة العسكرية‪ ،‬وتعلمت من سلامين مْنج التفوق الصناعي‪ ،‬وتعلمت من نوح ذكل النفس‬
‫الطويل لبلوغ الهدف‪ ،‬وتعلمت من ابراهمي تنويع الساليب لنرش رساةل احلق‪ ،‬وهكذا‪ .‬هذه المة اليت اكتسبت‬
‫خلصة جتارب المم لن تبقى عىل هذه احلاةل الضعيفة‪ ،‬فالضعف طارئ عىل اترخي هذه المة‪ ،‬أما العزة والظهور‬
‫والغلبة فهيي مس تقبلها احملتوم‪ .‬قال تعاىل‪َ { :‬ولَقَدْ َس َبقَ ْت َ َِك َم ُتنَا ِل ِع َبا ِدانَ الْ ُم ْر َس ِل َني (‪ )171‬اهنا ُ ْم لَهُ ُم الْ َم ْن ُص ُور َ‬
‫ون‬
‫ِ‬
‫ون} [الصافات‪]173-171 :‬‬ ‫(‪َ )172‬وا ان ُجنْدَ انَ لَهُ ُم الْغَا ِل ُب َ‬
‫ِ‬
‫اللهم علمنا ما ينفعنا‪ ،‬وانفعنا مبا علمتنا‪ ،‬وزدان علام اي رب العاملني‪.‬‬

‫مكة‪ 19 ،‬رمضان ‪1440‬هـ‪ 24/‬مايو ‪2019‬م‬


‫‪#‬سلسةل_فوائد_رمضانية_‪1440‬هـ‬

‫‪40‬‬
‫الفائدة العشرون‬

‫أثر الدعاء على جمرايت األمور‬

‫مك يه التغريات اليت حدثت واملفاجاءات اليت حصلت بسبب دعوة مس تجابة! مل يطلع أكرث الناس‬
‫عىل جحم هذا التأثري اذلي أحدثه ادلعاء عىل جمرى الحداث‪ .‬انظر اىل موىس العزل اذلي جاء اىل فرعون‬
‫وهو بني جنوده‪ ،‬ل أحد يرفض َل أمرا ول يرد منه حكام‪ .‬حىك هللا هذا احلديث الغريب‪ ،‬قال تعاىل‪َ { :‬وقَا َل‬
‫وىس َولْ َيدْ ُع َرب ا ُه ا ِّن َأخ َُاف َأ ْن ي ُ َب ِد َل ِدينَ ُ ْمك َأ ْو َأ ْن يُ ْظه َِر ِيف ْ َال ْر ِض الْ َف َسا َد} [غافر‪]26 :‬‬
‫ِف ْر َع ْو ُن َذ ُر ِوّن َأ ْق ُت ْل ُم َ‬
‫ِ‬
‫واجه موىس هتديدا ابلقتل من ِق َبل أعىت عتاة الرض وقد قتل بأمره أطفال بين اسائيل بسبب رؤاي‬
‫لك‬‫رأها‪ .‬فمل يزد موىس أمام هذا الهتديد الكيد واخلطر الوش يك عىل أن يقول‪{ :‬ا ِّن عُ ْذ ُت ِب َر ِِب َو َر ِب ُ ْمك ِم ْن ُ ِ‬
‫ِ‬
‫ُمتَ َك ِ ٍرب َل ي ُ ْؤ ِم ُن ِب َي ْو ِم الْ ِح َس ِاب} [غافر‪]27 :‬‬
‫مفاذا حصل؟ هل قتل فرعون موىس؟ وملاذا مل يقتهل ولك وسائل القتل معه‪ ،‬ومعه لك اجلنود اذلين‬
‫ينفذون أوامره بل تردد؟‬
‫انه هللا اذلي بيده نوايص اخللق أمجعني‪ .‬ملا اس تعاذ موىس من هذا اجلربوت اكنت لك الس باب اليت‬
‫بيد فرعون مل تنفعه‪ ،‬لن هللا اس تجاب ملوىس وخذل فرعون‪.‬‬
‫ولو عرف النسان كيف أن ادلعاء َل أثر جعيب يف حياته ملا تركه وملا غفل عنه‪ .‬انظر اىل نيب هللا‬
‫موىس عليه السلم‪ ،‬كيف اكنت دعواته وجلوءه اىل هللا فتح َل املغاليق ويرس َل الس باب وأنقذه من املتاعب‬
‫الكثرية وجلب َل اخلريات الكبرية‪ .‬ملا لحقه جنود فرعون قال موىس‪َ { :‬ر ِب َجن ِِين ِم َن الْقَ ْو ِم ا‬
‫الظا ِل ِم َني} [القصص‪:‬‬
‫‪ ]21‬فأجناه هللا من رش فرعون وجنوده‪ ،‬وأواه هللا اىل مدين‪ ،‬ويه منطقة خارجة عن سلطة فرعون‪.‬‬
‫وملا دخل مدين‪ ،‬احتار أين يتجه يف هذه القرية الغريبة اليت مل يس بق أن دخلها‪ ،‬قال‪َ { :‬ع ََس َر ِِب َأ ْن‬
‫ِيل} [القصص‪ ]22 :‬فهداه هللا اىل التوجه حنو برئ اس تقى مْنا الناس دلواهبم وأخذوا مْنا‬ ‫السب ِ‬ ‫هيَ ْ ِدي َ ِين َس َو َاء ا‬
‫احتياجاهتم‪ ،‬حفصل َل من اخلري ما حصل‪ .‬فلام شعر موىس ابحلاجة اىل بيت يؤويه ورزق يقويه دعا ربه‪َ { :‬ر ِب‬
‫ا ِّن ِل َما َأ ْن َزلْ َت ا َ اَل ِم ْن خ ْ ٍَري فَ ِقري} [القصص‪ ]24 :‬فهيأ هللا َل بيتا وزوجا ورزقا كرميا‪.‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬

‫‪41‬‬
‫وملثل هذا أمثةل كثرية يف حياة الناس شعروا أو مل يشعروا‪ .‬فل ينبغي للنسان أن يرتك ادلعاء أو‬
‫ييأس بسبب طول الانتظار واستبطاء الفرج‪ ،‬فان هللا قال {ا ْدع ُِوّن َأ ْس َتجِ ْب لَ ُ ْمك} [غافر‪ ]60 :‬وقال‪{ :‬أ ِج ُ‬
‫يب‬
‫َدع َْو َة ادلا ا ِع ا َذا َدعَ ِان} [البقرة‪]186 :‬‬
‫ِ‬
‫ان هللا وعد ابلجابة‪ ،‬فل ينبغي أن هيمت النسان ويقلق فان هللا ل خيلف امليعاد‪ .‬قال معر بن اخلطاب‬
‫ريض هللا عنه‪ :‬اّن ل أمحل ِه الجابة ولكن أمحل ِه ادلعاء‪ ،‬فاذا أهلمت ادلعاء فان الجابة معه‪.‬‬
‫هكذا شأن املؤمن‪ ،‬فان قلبه مطمِئ وواثق بوعد هللا‪ .‬ول يس تعجل اجابة ادلعاء‪ ،‬لن هللا َييبه يف‬
‫َعوت َر ِِب‪ ،‬فَمل‬‫ول قَد د ُ‬ ‫اب َل َح ِد ُمك َما لَم ي ْع ْ‬
‫جل‪ :‬ي ُق ُ‬ ‫الوقت اذلي قدره‪ ،‬قال النيب صىل هللا عليه وسمل‪ :‬ي ُ ْس ت َج ُ‬
‫جب َِل‪[ .‬متفق عَلَ ْي ِه]‬ ‫ْيس َت ْ‬
‫ويف ِر َواي َ ٍة مل ُ ْس ِ ٍمل ‪:‬ل َيز ُال ي ُْس تَ َج ُ‬
‫اب ِلل َع ْب ِد َما لَم يد ُع اب ٍمث‪َ ،‬أ ْو قَ ِطيع ِة َر ِح ٍم‪َ ،‬ما لَ ْم ي َْس ت ْعجِ ْل‪ِ .‬قيلَ‪َ :‬اي‬
‫ِ‬
‫رس ِع ْند َذ ِ َكل‪،‬‬
‫يب َل‪ ،‬فَيَ ْس تَ ْح ِ ُ‬ ‫ول‪ :‬قَدْ د َع ْو ُت‪َ ،‬وقَدْ َد َع ْو ُت فَ َمل َأ َر ي َْس تَجِ ُ‬
‫الاس ِت ْع َج ُال؟ قَا َل‪ :‬ي َ ُق ُ‬
‫اّلل َما ْ‬ ‫ُرسو َل ا ِ‬
‫ويَدَ ُع ادله عَ َاء‪.‬‬
‫واكن المام الشافعي حيثنا عىل عدم التقليل من شأن ادلعاء‪ ،‬قال‪:‬‬
‫وما تدري مبا صنع ادلعاء‬ ‫أهتزأ ابدلعــــــاء وتزدريــــه؟‬
‫لها أمـــد ولَّلمد انقضــــاء‬ ‫سهام الليل ل ختطئ ولكن‬
‫اللهم اس تجب دعاءان‪ ،‬وبلغ فامي يرضيك أمالنا‪ ،‬وأرضنا وارض عنا‪ ،‬واعف عنا وارمحنا‪ ،‬وأنت خري‬
‫الرامحني‪...‬‬

‫مكة‪ 20 ،‬رمضان ‪1440‬هـ‪ 25/‬مايو ‪2019‬م‬


‫‪#‬سلسةل_فوائد_رمضانية_‪1440‬هـ‬

‫‪42‬‬
‫الفائدة احلادية والعشرون‬

‫بني هنضتنا وهنضتهم‬

‫كثرية يه الحداث املفصلية اليت تنقل البرشية من طور اىل طور‪ ،‬وخترهجم من حاةل اىل أخرى‪ ،‬وملا‬
‫تزنل القرأن عىل قلب محمد صىل هللا عليه وسمل‪ ،‬اكنت تكل حلظة فارقة بني عرص الظلامت وعهد النوار‪.‬‬
‫ليس القرأن هو الكتاب الوحيد اذلي أنزل هللا عىل البرش‪ ،‬بل س بقه كتب أخرى وتلقاها أمم ش ىت ‪ ،‬ولكن‬
‫ٍ‬
‫وفتوحات معرانية عظمى مل حيصل يشء من ذكل مع غري هذا‬ ‫أن ُحي ِدث كتاب ساموي هنض ًة حضارية كربى‬
‫القرأن العظمي!‬
‫ان هذا القرأن أهنض أمة اكنت ترعى الغَّن اىل أمئة تقود المم‪ ،‬حول القرأن هذه الصحراء القاحةل اىل‬
‫أرض احلضارات ومنبع العلوم وبساتني العمران‪ .‬وهلل امحلد وَل الثناء احلسن‪.‬‬
‫بيامن اكنت المم السابقة أضاعوا كتهبم وعصوا رسلهم‪ ،‬فمل يْنضوا ابلرساةل الساموية كام أمر هللا‪،‬‬
‫ازدهرت حياة هذه المة بربكة امياهنا واتباعها لدلين‪ .‬واملفارقة العجيبة أن الجنيل اذلي أنزل عىل قوم مل يكونوا‬
‫أميني‪ ،‬واكنوا يعيشون يف وسط حضارة رومانية مزدهرة‪ ،‬ولكن احنرف جمرى التارخي بعد تكل الفرتة ودخل‬
‫يف العصور املظلمة كام سامها مؤرخوِه‪.‬‬
‫مل تكن عندِه صةل بني العمل والميان‪ ،‬اكن امياهنم معمتدا عىل ظواهر خارقة للعادة اكحياء املوىت وابراء‬
‫الَكه والبرص‪ .‬فادلين عندِه التصديق بأمور خارجة عن قانون الطبيعة‪ ،‬يف حني أن أمة محمد – صل هللا‬
‫عليه وسمل ‪ -‬يؤمنون بسبب تأملهم يف قانون الطبيعة‪ ،‬يقول أحدِه‪ :‬الثر يدل عىل املسري‪ ،‬والبعرة تدل عىل‬
‫البعري‪ ،‬والسامء ذات البراج والبحار ذات المواج أفل تدل عىل السميع البصري س بحانه؟‬
‫فالقرأن َيعل المور الاعتيادية اليت شاهدها النسان َكها أايت لوجود هللا وعظمته {ا ان ِيف َخلْ ِق‬
‫ِ‬
‫الس َم َاو ِات َو ْ َال ْر ِض َوا ْخ ِت َل ِف الل ا ْي ِل َوالْنا َ ِار َل َاي ٍت ِل ِوَل ْ َاللْ َب ِاب} [أل معران‪َ { ]190 :‬و ِيف ْ َال ْر ِض أ َايت‬‫ا‬
‫ون} [اذلارايت‪ ]21-20 :‬اىل ومئات الايت هبذا الْنج‪ .‬ذلكل هنض‬ ‫رص َ‬ ‫ِللْ ُمو ِق ِن َني (‪َ )20‬و ِيف َأنْ ُف ِس ُ ْمك أَفَ َل تُ ْب ِ ُ‬
‫العمل ونشأت احلضارة هبذا القرأن‪.‬‬
‫ويف اجلزء الخر من العامل‪ ،‬ظلت أورواب تعاّن من الانغلق الفكري حواَل عرشة قرون‪ ،‬بسبب‬
‫داينهتم اليت تعادي النشاط الفكري خارج مقررات الكنيسة‪ .‬اىل أن اثر قس أملاّن يدعى مارثن لوثر (ت‬

‫‪43‬‬
‫‪1546‬م)‪ ،‬فطالب مبراجعة تعالمي الكنيسة‪ ،‬ودعا اىل العودة اىل الجنيل وعدم اخلروج والزايدة عليه‪ ،‬واكنت‬
‫دعوة معقوةل‪ ،‬ولول أن الجنيل اذلي أنزل عىل عيَس مل يكن موجودا ال مقاطع من رواايت الولني مل ختضع‬
‫للتوثيق العلمي الصارم‪ .‬ولكن احلظ حالفهم‪ ،‬بأن يكون اخرتاع أةل الطباعة اكن يف ذكل الزمن عىل يد خمرتع‬
‫أملاّن جوهن غوتنربغ (ت ‪1468‬م)‪ ،‬فاكن أول مادة مطبوعة بشلك واسع هو الجنيل ابللغة الملانية‪ .‬فأقبل‬
‫الوروبيون عىل القراءة مع جو من التحرر ورغبة عارمة يف الاكتشاف‪.‬‬
‫واملفارقة املؤسفة‪ ،‬أن ذكل الزمان اذلي اكنت أورواب تتفتح عقوهلم‪ ،‬وتتحرر من ظلامت اجلهاةل‪،‬‬
‫وتنتعق من دهالزي اخلرافة‪ ،‬اكن العامل السليم قد دخل يف عرص الركود والتخلف‪ ،‬قد ذهبت تكل العقول‬
‫اليت اكنت جتهتد يف أمور ادلين وادلنيا عىل السواء‪ ،‬ابت التقليد هو الصل املتبع عند مسلمي ذكل العرص‪.‬‬
‫وظل التوجس من لك جديد هو السائد دلى العلامء‪ ،‬واكن من الفتاوى املفجعة اليت أصدرها علامء ذكل الزمان‬
‫هو حترَي كتابة القرأن ابلةل الطابعة‪ ،‬واعتربوها بدعة خمالفة لهدي السلف‪.‬‬
‫مل تكن المة رائدة يف العلوم كام اكنت‪ .‬انشغل املسلمون ابلرصاع بني املذاهب‪ ،‬واجته البعض اىل‬
‫عامل ل معقول من البحث عن الكرمات واملاكشفات‪ .‬وقد حتول ادلين عندِه اىل طريقة روحية لرتك ادلنيا‬
‫واهاملها‪ ،‬واقترص مفهوم اجلهاد عندِه عىل جماهدة النفس‪ ،‬والوَل الصاحل املكرم عندِه هو ذكل الضعيف‬
‫املسكني اذلي ل يعرف عن ادلنيا شيئا‪ .‬وترك الناس تراث ابن سينا والرازي والزهراوي وابن الهيمث واخلوارزيم‪،‬‬
‫كل ْ َال ااي ُم ن ُدَ ا ِولُهَا ب َ ْ َني النا ِاس} [أل معران‪:‬‬
‫بيامن تلهف الغرب مبثل هذه العلوم اليت قد أمهلها املسلمون‪َ { .‬و ِت ْ َ‬
‫‪]140‬‬
‫والعودة قريبة‪ ،‬لن أصل املادة هو عندان‪ ،‬اذا عدان اىل هنج القرأن يف بناء العقول وتطوير العلوم‪ ،‬فان‬
‫الْنضة وش يكة‪ ،‬ولن حنتاج اىل طول املدة وكرثة الشاكلت اليت واهجها الغربيون‪ ،‬فان حصيح املنقول عندان‬
‫يوافق السلمي من املعقول‪ ،‬ونتاج العقل السلمي عندان يصدقه الويح‪ .‬وحصيح الس نة قد غربهل العلامء‪ ،‬وكثري‬
‫من الاكتشافات العلمية تصدق اشارات ومعاّن الايت القرأنية والحاديث النبوية‪.‬‬
‫حاول البعض اعاقة عودة المة اىل جمدها‪ ،‬لكن ارادة هللا سابقة وقضاء هللا انفذ‪ ،‬ويف احلديث‪:‬‬
‫"ولن خيزى هللا أمة أان أولها واملس يح أخرها‪[ ".‬رواه ابن أِب شيبة واحلامك وحصحه‪ ،‬وحس نه احلافظ ابن جحر]‬

‫مكة‪ 21 ،‬رمضان ‪1440‬هـ‪ 26/‬مايو ‪2019‬م‬


‫‪#‬سلسةل_فوائد_رمضانية_‪1440‬هـ‬
‫‪44‬‬
45
‫الفائدة الثانية والعشرون‬

‫االعتكاف والتأمل والتفكري العميق‬

‫مل يزل النيب صىل هللا عليه وسمل يعتكف يف العرش الواخر من رمضان حىت توفاه هللا‪ .‬وما الاعتاكف‬
‫ال اس مترارا ملا اكن عليه النيب صىل هللا عليه وسمل من حب اخللوة والتعبد قبل بعثته عليه الصلة والسلم‪.‬‬
‫روت عائشة ريض هللا عْنا عن هذه العادة اليت مارسها النيب صىل هللا عليه وسمل قبل أن بعث نبيا‪ ،‬قَال َ ْت‪:‬‬
‫الصا ِل َح ُة ِيف النا ْو ِم‪ ،‬فَ َاك َن َل يَ َرى ُر ْؤ َاي ا ال‬ ‫يح هالر ْؤ َاي ا‬ ‫ِ‬ ‫هللا عَلَ ْي ِه َو َس ا َمل ِم َن َالو ْ‬ ‫اّلل َص اىل ُ‬ ‫ول ا ِ‬ ‫َأ او ُل َما بُ ِد َئ ِب ِه َر ُس ُ‬
‫ِ‬
‫الص ْب ِح‪ ُ ،‬امث ُحب َِب الَ ْي ِه اخلَ َل ُء‪َ ،‬و َاك َن َ ْخيلُو ِبغ َِار ِح َرا ٍء فَ َيتَ َحنا ُث ِفي ِه ‪َ -‬وه َُو التا َعبهدُ ‪ -‬الل ا َي َِ‬
‫اَل‬ ‫َج َاء ْت ِمثْ َل فَلَ ِق ه‬
‫ِ‬
‫َذ َو ِات ال َعدَ ِد قَ ْب َل َأ ْن ي َ ْ ِزن َع ا َىل َأه ِ ِْهل‪َ ،‬وي َ َ ََت او ُد ِ َذل ِ َكل‪ ُ ،‬امث يَ ْر ِج ُع ا َىل َخ ِد ََي َة فَ َي َ ََت او ُد ِل ِمثْ ِلهَا‪َ ،‬ح اىت َج َاء ُه احل هَق َوه َُو‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ِيف غَ ِار ِح َرا ٍء‪ ...‬احلديث [متفق عليه]‬
‫بقي النيب صىل هللا عليه وحده يف غار حراء أايما ولياَل‪ .‬ماذا اكن يفعل يف هذه املدة؟ اكن يتحنث‬
‫أي يتعبد‪ ،‬والتحنث كام قال قال ابن جحر من التحنف وهو اتباع احلنفية مةل ابراهمي عليه السلم‪.‬‬
‫تكل اكنت بداية انفتاح قلبه للويح اللهيي‪ ،‬اكن ابعَتال الناس ولزوم التعبد والبحث عن الهدوء‬
‫النفيس‪ ،‬والِه من ذكل اكن يبحث عن هيئة تتيحه للتفكري العميق والتأمل الطويل ومناجاة هللا كثريا ل‬
‫يشغهل عن ذكل يشء أخر‪.‬‬
‫هذه يه حقيقة اخللوة اليت واصلها الرسول صىل هللا عليه وسمل بعد البعثة وجعلها اعتاكفا يف مسجده‬
‫صىل هللا عليه ا‬
‫وسمل يف هذا العرش اليت يطلب‬ ‫الرشيف‪ .‬قال ابن رجب رمحه هللا‪" :‬وامنا اكن يعتكف النيب ا‬
‫فهيا ليةل القدر قط ًعا لشغاَل‪ ،‬وتفريغًا لباَل‪ ،‬وختل ًيا ملناجاة ربِه و ِذ ْكره ودعائه‪ ،‬واكن حيتجر ً‬
‫حصريا ا‬
‫يتخىل فهيا‬
‫عن الناس‪ ،‬فل خيالطهم ول يش تغل هبم‪".‬‬
‫فالعتاكف الصحيح هو ترك خمالطة الناس ما أمكن‪ ،‬والاقتصار عىل القدر الرضوري فقط من‬
‫التواصل مع البرش‪ ،‬لن الاعتاكف هو بذل أقىص اجلهد للتواصل مع هللا والاختلء ابلنفس‪.‬‬
‫ومن أِه العامل اليت قام هبا املعتكف هو ممارسة التأمل والتفكري العميق‪ ،‬وما أحوج النسان اىل هذا‬
‫العمل! وما اكتسب النسان حمكة مبثل التأمل والتفكري العميق‪ .‬يقرأ القرأن ويتدبر معانيه بعمق‪ ،‬ويغوص يف‬

‫‪46‬‬
‫أساره هبدوء‪ .‬حياسب النسان نفسه وينقب عن أفات قلبه ويعرتف أمام ربه بقصوره وتقصريه‪ ،‬ما أنفع مثل‬
‫هذه اجللسات! وما حيصلها النسان بغري اخللوة‪.‬‬
‫َيهتد املعتكف أل يقطع تفكريه أحد‪ ،‬ول يفسد هدوءه يشء‪ .‬يقول‪" :‬اللهم أنك عفو كرَي‪ ،‬حتب العفو‬
‫فاعف عين‪ ".‬يقوَل وهو يغرق يف حب هللا‪ ،‬ويرجتف خوفا من غضبه س بحانه‪ ،‬ويعرتف بأخطائه‪ ،‬يقوَل‬
‫والعيون تذرف دموع التوبة والوبة اىل هللا‪ ،‬وقد غاص يف أعامق النفس‪ ،‬يرى عني اليقني ضعف النسان‪،‬‬
‫ويعرف حق اليقني عظمة هللا وعفوه ومودته‪.‬‬
‫يتأمل املعتكف بديع صنع هللا‪ ،‬وطلقة قدرة هللا‪ ،‬وكرثة ألء هللا‪ .‬ما طال اجللوس ال مع طول‬
‫التأمل ومعق الفكر‪ .‬يكتسب املعتكف معرفة ل حيصلها ال هبذه اخللوة الرابنية‪.‬‬
‫ما أعظم هذه اجللسة وهذه اخللوة! ُحق ملن عرف حق هذه العبادة أن يقدهما عىل سائر العامل‪ .‬واي‬
‫خسارة من ضيع هذه العبادة ابللهو والقيل والقال‪ ،‬وجعل الاعتاكف مسرا والتوسع يف املرشب واملألك وفضول‬
‫املقال‪.‬‬
‫اللهم ارزقنا حسن الصيام والقيام وايفاء فرائضك ونوافل العامل‪...‬‬

‫مكة‪ 22 ،‬رمضان ‪1440‬هـ‪ 27/‬مايو ‪2019‬م‬


‫‪#‬سلسةل_فوائد_رمضانية_‪1440‬هـ‬

‫‪47‬‬
‫الفائدة الثالثة والعشرين‬

‫التجديد املستمر‬

‫ان هذا ادلين لن يبىل مبرور الزمن‪ ،‬ولن يضيع مع تغري الوضاع وتقلبات المور‪ .‬لن هللا تكفل‬
‫حبفظ مادة هذا ادلين وظهور أنصاره ومحةل رسالته‪ .‬أما عن حفظ مادة هذا ادلين فان هللا قال‪{ :‬اانا َ ْحن ُن نَ ازلْنَا‬
‫ِ‬
‫ون} [احلجر‪ ]9 :‬وأما عن محةل هذا ادلين فاهنم يتجددون دامئا‪ ،‬اذا ضعفت طائفة عن‬ ‫ِاذل ْك َر َواانا َ َُل لَ َحا ِف ُظ َ‬
‫جاء هللا بأخرى َيددون العهد ويقومون ابملطلوب‪ ،‬قال تعاىل‪َ { :‬اي َأهيه َا ا ِاذل َين أ َمنُوا َم ْن يَ ْرتَ اد ِم ْن ُ ْمك َع ْن ِدي ِن ِه‬ ‫محهل ِ‬
‫ون‬‫اّلل َو َل َ َخيافُ َ‬ ‫ِيل ا ِ‬ ‫ون ِيف َسب ِ‬ ‫اّلل ِبقَ ْو ٍم ُ ِحيهبه ُ ْم َو ُ ِحيبهون َ ُه َأ ِذ ا ٍةل عَ َىل الْ ُم ْؤ ِم ِن َني َأ ِع از ٍة عَ َىل ا ْل َاك ِف ِر َين ُ ََيا ِهدُ َ‬
‫فَ َس ْو َف يَأْ ِيت ا ُ‬
‫اّلل َو ِاسع عَ ِلمي} [املائدة ‪]57‬‬ ‫اّلل ي ُ ْؤ ِتي ِه َم ْن يَشَ ا ُء َو ا ُ‬ ‫لَ ْو َم َة َل ِ ٍمئ َذ ِ َكل فَضْ ُل ا ِ‬

‫وقال النيب صىل هللا عليه وسمل‪" :‬إ ان ا َ‬


‫اّلل ي َ ْب َع ُث ِلهَ ِذ ِه ْال ام ِة عَ َىل َر ْأ ِس ُ ِ‬
‫لك ِمائ َ ِة َس نَ ٍة َم ْن ُ ََي ِد ُد لَهَا‬
‫ِديْنَ َا‪[ ".‬رواه أبو داود واحلامك والطرباّن يف الكبري والوسط وحصحه احلافظ العرايق واللباّن يف السلسةل‬
‫الصحيحة]‬
‫قال صاحب عون املعبود‪َ :‬م ْع َىن التا ْج ِدي ِد ِا ْحيَا ُء َما ان َْدَر َس ِم َن الْ َع َم ِل ِاب ْل ِكتَ ِاب َو ه‬
‫الس نا ِة َو ْ َال ْم ُر‬
‫ِب ُم ْقتَضَ ُ َ‬
‫امها‪.‬‬
‫يعين أن هذا ادلين سيبقى جديدا غضا طراي كام أنزل‪ ،‬لن هللا تكفل لهذه المة ببعث من يقوم‬
‫مسارها اذا اعوجت‪ ،‬ويصحح مفاهميها اذا احنرفت‪ ،‬يعيد الهيا معامل ادلين اذا اندرست‪ ،‬وهكذا‪.‬‬
‫وليس معىن "من َيدد" أنه خشص واحد يف لك مائة س نة‪ ،‬بل اللفظ يشمل الفرد وامجلاعة‪ ،‬قال‬
‫النووي رمحه هللا‪َ :‬يوز أن تكون الطائفة جامعة متعددة من أنواع املؤمنني‪ ،‬ما بني َشاع وبصري ابحلرب وفقيه‬
‫وحمدث ومفرس وقامئ ابلمر ابملعروف والْنيي عن املنكر وزاهد وعابد‪.‬‬
‫ول خيص طائفة من الفقهاء أيضا‪ ،‬فلك ختصص بعث هللا َل من َيدد لهذه المة‪ ،‬قال السخاوي‪:‬‬
‫أنه يعم محةل العمل من لك طائفة ولك صنف من أصناف العلامء من مفرسين‪ ،‬وحمدثني وفقهاء‪ ،‬وحناة ولغويني‪،‬‬
‫اىل غري ذكل من الصناف وهللا أعمل‪.‬‬

‫‪48‬‬
‫وقال املل عيل القاري‪ :‬والوىل محل احلديث عىل العموم فان لفظة "من" تقع عىل الواحد وامجلع‪ ،‬ول‬
‫خيتص أيضا ابلفقهاء‪ ،‬فان انتفاع المة هبم وان اكن كثريا فانتفاعهم بأوَل المر وأحصاب احلديث والقراء‬
‫والوعاظ والزهاد أيضا كثري‪ ،‬اذ حفظ ادلين وقوانني الس ياسة وبث العدل وظيفة أوَل المر‪ ،‬وكذا القراء‬
‫وأحصاب احلديث ينفعون بضبط التزنيل والحاديث اليت يه أصول الرشع وأدلته‪ ،‬والوعاظ ينفعون ابلواعظ‬
‫واحلث عىل لزوم التقوى‪ .‬اهـ‬
‫نعم‪ ،‬ان هللا يقيض لهذه المة أانسا حيفظون هذا ادلين ويدافعون عنه‪ ،‬ول يقترص التجديد أيضا يف‬
‫جمال العمل‪ ،‬بل أيضا يف ساحة العمل وادلفاع عن املقدسات‪ ،‬ومن اللفت أن المام النووي بدأ بذكر الشجاع‬
‫والبصري ابحلرب قبل الفقيه واحملدث‪ .‬وذكل انسجاما مع دللت القرأن والس نة‪ ،‬فان هللا خمت سورة القتال‬
‫ويه سورة محمد بقوَل‪َ { :‬وا ْن تَتَ َول ا ْوا ي َْست َ ْب ِد ْل قَ ْو ًما غَ ْ َريُ ْمك ُ امث َل يَ ُكونُوا َأ ْمث َالَ ُ ْمك} [محمد‪]38 :‬‬
‫ِ‬
‫ُ‬
‫رض ِْه َم ْن‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫والرسول صىل هللا عليه وسمل يقول‪" :‬ل تَ َزال طائ َفة م ْن أ ام ِيت ظاه ِر َين عَىل ال َح ِق‪ ،‬ل ي َ ُ ه‬
‫هللا َو ُ ِْه َك َذ ِ َكل‪[ ".‬متفق عليه] قال البخاري‪ِ :‬ه أهل العمل‪.‬‬ ‫خ ََذلَه ُْم‪َ ،‬ح اىت يَأْ ِ َيت َأ ْم ُر ِ‬
‫ويف رواية أخرى ملسمل رصح النيب صىل هللا عليه وسمل بأهنم أهل اجلهاد بذكر لفظ القتال‪ ،‬قال‪َ " :‬ل‬
‫ون عَ َىل الْ َح ِق َظا ِه ِر َين ا َىل ي َ ْو ِم الْ ِق َيا َم ِة‪".‬‬ ‫تَ َز ُال َطائِ َفة ِم ْن أ ام ِيت يُقَا ِتلُ َ‬
‫ِ‬
‫بل أرصح من ذكل ذكر النيب صىل هللا عليه وسمل أهنم املدافعون عن مقدسات هذه المة يف قبلهتا‬
‫اّلل عَلَ ْي ِه َو َس ا َمل‪َ :‬ل تَ َز ُال َطائِ َفة‬ ‫اّلل َص اىل ا ُ‬ ‫ول ا ِ‬ ‫الوىل‪ ،‬املسجد القىص‪ .‬أخرج أمحد َع ْن َأ ِِب أ َما َم َة قَا َل قَا َل َر ُس ُ‬
‫رض ُ ِْه َم ْن خَالَ َفه ُْم ا ال َما َأ َصاهبَ ُ ْم ِم ْن َ ْل َو َاء‪َ ،‬ح اىت يَأْ ِتهيَ ُ ْم َأ ْم ُر‬ ‫ِم ْن أ ام ِيت عَ َىل الْ َح ِق َظا ِه ِر َين‪ ،‬لَ َعدُ ِو ِ ِْه قَا ِه ِر َين‪َ ،‬ل ي َ ُ ه‬
‫ِ‬
‫اّلل‪َ ،‬و َأ ْي َن ُ ِْه؟ قَا َل‪ِ :‬ب َبيْ ِت الْ َم ْق ِد ِس َو َأ ْكنَ ِاف بَيْ ِت الْ َم ْق ِد ِس‪.‬‬ ‫اّلل َو ُ ِْه َك َذ ِ َكل‪ .‬قَالُوا‪َ :‬اي َر ُسو َل ا ِ‬‫اِ‬
‫محدا هلل عىل هذا التكرَي وهذه املنة حبفظ دينه ونرص أنصاره‪.‬‬
‫اللهم أبرم لهذه المة أمر رشد‪ ،‬يعز فيه أهل طاعتك‪ ،‬ويذل فيه أهل معصيتك‪ ،‬وبؤمر فيه ابملعروف‬
‫ويْنيى فيه عن املنكر‪...‬‬

‫مكة‪ 23 ،‬رمضان ‪1440‬هـ‪ 28/‬مايو ‪2019‬م‬


‫‪#‬سلسةل_فوائد_رمضانية_‪1440‬هـ‬

‫‪49‬‬
50
‫الفائدة الرابعة والعشرين‬

‫وحدة املسلمني‬

‫ون} [النبياء‪]92 :‬‬ ‫{ا ان َه ِذ ِه أ ام ُت ُ ْمك أ ام ًة َوا ِحدَ ًة َو َأانَ َربه ُ ْمك فَا ْع ُبدُ ِ‬
‫ِ‬
‫ون} [املؤمنون‪]52 :‬‬ ‫{ َوا ان َه ِذ ِه أ امتُ ُ ْمك أ ام ًة َوا ِحدَ ًة َو َأانَ َربه ُ ْمك فَات ا ُق ِ‬
‫هذا هو خطاب القرأن للمؤمنني‪ ،‬خطاب اثبت حممك مل ينسخ ومل يلغ‪ ،‬بل زاده تأكيدا بعد تأكيد‪ ،‬قال‬ ‫ِ‬
‫اّلل َ ِمجي ًعا َو َل تَ َف ارقُوا} [أل معران‪ ]103 :‬وهناان عن مشاهبة أهل الكتاب يف تفرقهم‬ ‫تعاىل‪َ { :‬وا ْع َت ِص ُموا ِ َحب ْب ِل ا ِ‬
‫ات َوأول َ ِئ َك لَه ُْم عَ َذاب َع ِظمي} [أل‬ ‫واختلفهم‪ ،‬فقال‪َ { :‬و َل تَ ُكونُوا َاك ا ِذل َين تَ َف ارقُوا َوا ْختَلَ ُفوا ِم ْن ب َ ْع ِد َما َج َاء ُ ُِه الْ َب ِينَ ُ‬
‫معران‪]105 :‬‬
‫وَل َو َل تَنَ َاز ُعوا فَتَ ْفشَ لُوا َوت َْذه ََب ِر ُحي ُ ْمك} [النفال‪:‬‬ ‫اّلل َو َر ُس َ ُ‬ ‫وبني لنا مأل التنازع والاختلف‪َ { :‬و َأ ِطي ُعوا ا َ‬
‫‪]46‬‬
‫وأخربان بأن املؤمنني مجيعا جتمعهم أخوة الميان‪ ،‬فهم اخوة حقيقة ل جمازا‪ ،‬قال تعاىل‪ { :‬ان ا َما الْ ُم ْؤ ِمنُ َ‬
‫ون‬
‫ِ‬
‫ون} [احلجرات‪]10 :‬‬ ‫اّلل لَ َعل ا ُ ْمك تُ ْر َ ُمح َ‬
‫اخ َْوة فَأَ ْص ِل ُحوا ب َ ْ َني َأخ ََو ْي ُ ْمك َوات ا ُقوا ا َ‬
‫ِ‬
‫وقال الرسول عليه الصلة والسلم‪" :‬الْ ُم ْس ِ ُمل َأخُو الْ ُم ْس ِ ِمل َل ي َ ْظ ِل ُم ُه َو َل َ ْخي ُذ ُ َُل َو َل َ ْحي ِق ُر ُه" [متفق عليه‬
‫واللفظ ملسمل]‬
‫وقال النيب صىل هللا عليه وسمل‪َ " :‬و َل َ َحت اس ُسوا‪َ ،‬و َل َ َجت اس ُسوا‪َ ،‬و َل تَنَافَ ُسوا‪َ ،‬و َل َ َحت َاسدُ وا‪َ ،‬و َل‬
‫هللا اخ َْواانً ‪[ ".‬متفق عليه]‬ ‫تَ َباغَضُ وا‪َ ،‬و َل تَدَ ابَ ُروا‪َ ،‬و ُكونُوا ِع َبا َد ِ‬
‫ِ‬
‫وقال أيضا‪" :‬ا ان امل ُ ْؤ ِم َن ِللْ ُم ْؤ ِم ِن َاكلْ ُبنْ َي ِان ي َُش هد ب َ ْعضُ ُه ب َ ْعضً ا» َو َش اب َك َأ َصا ِب َع ُه [متفق عليه]‬
‫ِ‬
‫فهذه الوامر والتوجهيات والتأكيدات َكها جحة ابلغة ورشيعة حممكة‪ ،‬ل يلغهيا حاةل املسلمني من‬
‫الانقسامات والاختلفات‪ .‬والرسول صىل هللا عليه وسمل اذ أخربان حبدوث الاختلف بعد وفاته عليه‬
‫الصلة والسلم‪ ،‬فليست تكل الخبار الغاء ول نسخا لوجوب الاحتاد وذم الاختلف‪.‬‬
‫ومن اخلطا الفادح والضلل املبني أن يركز بعض ادلعاة يف خطاهبم ادلعوي عىل تكريس هذا‬
‫الاختلف‪ ،‬ويكون شغهل الشاغل هو بيان افرتاق المة وتعديد طوائفها‪ ،‬رغ أن هذا احلديث فيه من‬
‫اختلف من الس ند واملنت ما فيه‪ .‬ومع افرتاض حصته‪ ،‬فاخلطاب القدري ل يلغي اخلطاب الرشعي‪ .‬كام أن‬
‫وقوع الرسقة من أفراد المة ل يعين بطلن الْنيي عن الرسقة‪ ،‬فكذكل الاختلف‪ ،‬فان وقوعه ل يعين أن‬
‫المر ابلحتاد صار لغيا‪.‬‬
‫واحلمكة أن يقول النسان للك مقام مقال يناس به‪ ،‬وللك حادث حديثا يصلح َل‪.‬‬
‫مرض كوضْ ع الس ِيف يف موضع الندى‬ ‫َو َوضْ ُع الندى يف ْموضع ِ الس ِيف ابلعىل ‪ٌّ #‬‬
‫‪51‬‬
‫لك َذبِي َحتَنَا فَ َذ ِ َكل امل ُ ْس ِ ُمل ا ِاذلي‬
‫وقال النيب صىل هللا عليه وسمل‪َ " :‬م ْن َص اىل َص َلتَنَا َو ْاس تَ ْقبَ َل ِق ْبلَتَنَا‪َ ،‬و َأ َ َ‬
‫اّلل ِيف ِذ ام ِت ِه‪[ ".‬رواه البخاري]‬ ‫اّلل َو ِذ ام ُة َر ُس ِ ِ‬
‫وَل‪ ،‬فَ َل ُ ْخت ِف ُروا ا َ‬ ‫َ َُل ِذ ام ُة ا ِ‬
‫وهكذا بسط النيب صىل هللا عليه وسمل املسأةل ومل يعقدها‪ .‬نعم‪ ،‬قدر هللا هذا الاختلف ولكن‬
‫يبقى املطلوب هو الوحدة والاحتاد‪ ،‬قد يكون من املس تحيل أن يتفق امجليع عىل لك املسائل‪ ،‬ولكن ليس‬
‫من املس تحيل أن يشلك المة كتةل كبرية متوافقة يف خطوطها العريضة وأهدافها العامة وغاايهتا الكربى ومصاحلها‬
‫العليا‪ ،‬وهللا املوفق وعليه التلَكن‪.‬‬
‫اللهم امجع َكمتنا عىل احلق والهدى‪ ،‬ووحد صفوفنا‪ ،‬وألف بني قلوبنا‪ ،‬وخذ بناصيتنا اىل ما حتب‬
‫وترىض‪ ،‬واغفر لنا وارمحنا وأنت خري الرامحني‪...‬‬

‫مكة‪ 24 ،‬رمضان ‪1440‬هـ‪ 29/‬مايو ‪2019‬م‬


‫‪#‬سلسةل_فوائد_رمضانية_‪1440‬هـ‬

‫‪52‬‬
‫الفائدة اخلامسة والعشرين‬

‫الظلم الوخيم‬

‫من القوال احلامسة القامصة يف قضية الظمل وعاقبته الثر اذلي نقهل ش يخ السلم بن تميية رمحه هللا‬
‫يف مجموع الفتاوى [‪ : ]63/28‬ان هللا ينرص ادلوةل العادةل وان اكنت اكفرة‪ ،‬ول ينرص ادلوةل الظاملة وان اكنت‬
‫مؤمنة‪.‬‬
‫وقال أيضا‪" :‬وأمور الناس امنا تس تقمي يف ادلنيا مع العدل اذلي قد يكون فيه الاشرتاك يف بعض أنواع‬
‫المث‪ ،‬مما تس تقمي مع الظمل يف احلقوق وان مل تشرتك يف امث‪ .‬ولهذا قيل‪ :‬ان هللا يقمي ادلوةل العادةل وان اكنت‬
‫اكفرة‪ ،‬ول يقمي الظاملة وان اكنت مسلمة‪ .‬ويقال‪ :‬ادلنيا تدوم مع العدل والكفر‪ ،‬ول تدوم مع الظمل والسلم‪".‬‬
‫[مجموع القتاوى (‪])145/28‬‬
‫ان السلم أمره واحض وحامس يف النصاف حلقوق العباد‪ ،‬فان هللا قد يغفر عباده عن التقصري يف‬
‫حقه س بحانه‪ ،‬لكن هللا ل يتجاوز عن التعدي يف حقوق عباده حىت يرد الظامل حق املظلوم أو يعفو عنه‬
‫املظلوم عن طيب نفس‪.‬‬
‫اّلل عَلَ ْي ِه َو َس ا َمل‪ :‬ادلا َوا ِو ُين ِع ْندَ ا ِ‬
‫اّلل َع از‬ ‫اّلل َص اىل ا ُ‬ ‫ول ا ِ‬ ‫أخرج المام أمحد عن َع ْن عَائِشَ َة قَال َ ْت قَا َل َر ُس ُ‬
‫اّلل‪ ،‬فَأَ اما ِادل َيو ُان ا ِاذلي‬ ‫اّلل ِمنْ ُه َشيْئًا‪َ ،‬و ِد َيوان َل ي َ ْغ ِف ُر ُه ا ُ‬ ‫اّلل ِب ِه َشيْئًا‪َ ،‬و ِد َيوان َل ي َ ْ ُرتكُ ا ُ‬ ‫َو َج ال ثَ َلثَة‪ِ :‬د َيوان َل ي َ ْع َبأ ا ُ‬
‫اّلل عَلَ ْي ِه الْ َجنا َة} [املائدة‪،]72 :‬‬ ‫ُرشكْ ِاب ا ِّلل فَقَدْ َح ار َم ا ُ‬
‫اّلل َع از َو َج ال‪{ :‬ان ا ُه َم ْن ي ْ ِ‬ ‫الرشكُ ِاب ا ِّلل‪ .‬قَا َل ا ُ‬ ‫َل ي َ ْغ ِف ُر ُه ا ُ‬
‫اّلل‪ :‬فَ ِ ْ‬
‫ِ‬
‫اّلل ِب ِه َشيْئًا‪ :‬فَ ُظ ْ ُمل الْ َع ْب ِد ن َ ْف َس ُه ِفميَا بَيْنَ ُه َوب َ ْ َني َ ِرب ِه ِم ْن َص ْو ِم ي َ ْو ٍم تَ َر َك ُه َأ ْو َص َل ٍة تَ َر َكهَا‪،‬‬
‫َو َأ اما ِادل َيو ُان ا ِاذلي َل ي َ ْع َبأ ا ُ‬
‫اّلل ِمنْ ُه َشيْئًا‪ :‬فَ ُظ ْ ُمل الْ ِع َبا ِد ب َ ْع ِضه ِْم‬ ‫اّلل َع از َو َج ال ي َ ْغ ِف ُر َذ ِ َكل َويَتَ َج َاو ُز ا ْن َش َاء‪َ ،‬و َأ اما ِادل َيو ُان ا ِاذلي َل ي َ ْ ُرتكُ ا ُ‬ ‫فَا ان ا َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ب َ ْعضً ا الْ ِق َص ُاص َل َم َح َ َاةل‪.‬‬
‫فل ينبغي أن يستسهل العبد يف حقوق البرش‪ ،‬فان الظمل فهيا غري قابل للتجاوز والغفال‪ .‬واذا‬
‫اس تغفر العبد واتب من لك اذلنوب ومل يرد احلقوق اىل أحصاهبا فان ذمته مل تربأ‪ .‬قال ش يخ السلم رمحه‬
‫هللا‪" :‬ان التوبة اجملردة تسقط حق هللا من العقاب‪ .‬وأما حق املظلوم فل يسقط مبجرد التوبة‪ ،‬مفن اتب من‬
‫ظمل فل يسقط بتوبته حق املظلوم‪ ،‬ولكن من متام توبته أن يعوضه مبثل مظلمته‪ ،‬وان مل يعوضه يف ادلنيا فل‬
‫بد َل من العوض يف الخرة‪[ ".‬مجموع الفتاوى‪])362/1( :‬‬

‫‪53‬‬
‫مفن أراد اخللص من العذاب يوم القيامة فان الن أوانه لريد احلقوق وينصف املظلوم ويتحلل من‬
‫لك مظلمة‪ .‬قال رسول هللا صىل هللا عليه وسمل‪" :‬من اكنت َل مظلمة من أخيه من عرضه أو يشء فليتحلهل‬
‫منه اليوم قبل أل يكون دينار ول درِه‪ ،‬ان اكن َل معل صاحل أخذ منه بقدر مظلمته‪ ،‬وان مل تكن َل حس نات‬
‫أخذ من سيئات صاحبه حفمل عليه‪[ ".‬أخرجه البخاري]‬
‫والنصاف يف ادلنيا أهون وأسهل من الفلس يف الخرة فان املتعدي حلقوق الناس يضيع حس ناته‬
‫ان اكنت َل حس نات‪ .‬قال النيب صىل هللا عليه وسمل‪ :‬ان املفلس من أميت من يأيت يوم القيامة بصيام وصلة‬
‫وزاكة‪ ،‬ويأيت قد ش مت عرض هذا‪ ،‬وقذف هذا‪ ،‬وألك مال هذا‪ ،‬فيقعد فيقتص هذا من حس ناته‪ ،‬وهذا من‬
‫حس ناته‪ ،‬فان فنيت حس ناته قبل أن يقىض ما عليه من اخلطااي‪ ،‬أخذه من خطاايِه فطرحت عليه‪ ،‬مث طرح‬
‫يف النار‪[ ".‬أخرجه أمحد وابن حبان]‬
‫فيا خسارة من صام وقام وتصدق‪ ،‬ومعه جسلت من الظمل والتعدي عىل الناس! َع ْن أَ ِِب ه َُرْي َر َة قَا َل‪:‬‬
‫اّلل‪ ،‬ا ان فُ َلن َ َة يُ ْذ َك ُر ِم ْن َك ْ َرث ِة َص َلهتِ َا َو ِص َيا ِمهَا َو َصدَ قَهتِ َا غَ ْ َري َأهنا َا ت ُْؤ ِذي ِج َرياهنَ َا ِب ِل َساهنِ َا‪.‬‬‫قَا َل َر ُجل‪َ :‬اي َر ُسو َل ا ِ‬
‫ِ‬
‫يه ِيف النا ِار‪[ .‬رواه أمحد]‬ ‫قَا َل‪َ ِ :‬‬
‫ومن الغريب أن َيهتد بعض الناس يف التعبد يف بيت هللا لكنه مل يتورع يف ايذاء الناس والتعدي‬
‫عىل حقوقهم! مفاذا كسب هذا املسكني؟ هل ظن أن اجهتاده يف العبادة يرفعه اىل مرتبة فوق احملاس بة‬
‫واملؤاخذة؟ وما يدري هذا املسكني أن عباداته مل تعطه ال نتاجئ معكوسة! قال النيب صىل هللا عليه وسمل‪:‬‬
‫اّلل ال بُ ْعدً ا‪[ .‬أخرجه الطرباّن يف الكبري]‬ ‫َم ْن لَ ْم تَْنْ َ ُه َصلتُ ُه َع ِن الْ َف ْحشَ ا ِء َوالْ ُم ْن َك ِر‪ ،‬لَ ْم يَ ْز َد ْد ِم َن ا ِ‬
‫ِ‬
‫انه رضب من التدين املعكوس واملغشوش اذلي ابتيل به بعض الناس! وما أكرث تكل الصور من‬
‫التدين اذلي ل يقدم بل يؤخر‪ ،‬ول يرشف بل خيجل‪ ،‬ول يبين بل يدمر‪ .‬نسأل السلمة والعافية‪ .‬وما أحوج‬
‫أمتنا اىل التدين الرش يد اذلي يبين حياة سوية وحاةل اجامتعية سلمية‪.‬‬
‫اللهم أصلح أعاملنا وسدد أقوالنا وأحسن أحوالنا واغفر ذنوبنا اي أرمح الرامحني‪...‬‬

‫مكة‪ 25 ،‬رمضان ‪1440‬هـ‪ 30/‬مايو ‪2019‬م‬


‫‪#‬سلسةل_فوائد_رمضانية_‪1440‬هـ‬

‫‪54‬‬
‫الفائدة السادسة والعشرين‬

‫"كونوا رابنيني"‬

‫من املعاّن الكربى والقمي احملورية العظمي اليت أرشد الهيا السلم وقام علهيا هذا ادلين هو المر بأن‬
‫اّلل ْال ِكتَ َ‬
‫اب َوالْ ُح ْ َمك َوالنه ُب او َة ُ امث ي َ ُقو َل ِللنا ِاس ُكونُوا‬ ‫يكون املسلمون رابنيني‪ .‬قال تعاىل‪{ :‬ما َاك َن ِلبَ َ ٍ‬
‫رش َأ ْن يُ ْؤ ِت َي ُه ا ُ‬
‫ون} [أل معران‪]79 :‬‬ ‫ون ْال ِكتَ َ‬
‫اب َو ِب َما ُك ْن ُ ْمت تَدْ ُر ُس َ‬ ‫اّلل َولَ ِك ْن ُكونُوا َر ااب ِني َِني ِب َما ُك ْن ُ ْمت تُ َع ِل ُم َ‬
‫ُون ا ِ‬
‫ِع َبادًا َِل ِم ْن د ِ‬
‫ومعىن "كونوا رابنيني" – كام قال ابن عباس وأبو رزين وغري واحد‪ ،‬أي‪ :‬حكامء علامء حلامء‪ .‬وقال‬
‫احلسن وغري واحد‪ :‬فقهاء‪ ،‬وعن احلسن أيضا‪ :‬يعين أهل عبادة وأهل تقوى‪.‬‬
‫والرابّن‪ :‬منسوب اىل الرب‪ ،‬بزايدة اللف والنون للمبالغة‪ ،‬كام يقال لعظمي اللحية‪ :‬حلياّن‪ ،‬ولعظمي‬
‫امجلة‪ :‬جامّن‪ ،‬ولغليظ الرقبة‪ :‬رقباّن‪.‬‬
‫قيل‪ :‬الرابّن‪ :‬اذلي يرِب الناس بصغار العمل قبل كباره‪ ،‬فكنه يقتدي ابلرب س بحانه يف تيسري المور‪.‬‬
‫وقال املربد‪ :‬الرابنيون‪ :‬أرابب العمل‪ ،‬واحدِه رابّن‪ ،‬من قوَل‪ :‬رب اه‪ ،‬يَرب هه‪ ،‬فهو رابن‪ :‬اذا دبره وأصلحه‪،‬‬
‫والياء للنسب‪ ،‬مفعىن الرابّن‪ :‬العامل بدين الرب‪ ،‬القوي المتسك بطاعة هللا وقيل‪ :‬العامل احلكمي‪.‬‬
‫قال الطربي‪ :‬فـ"الرابنيون" ا ًذا‪ِ ،‬ه عام ُد الناس يف الفقه والعمل وأمور ادلين وادلنيا‪ .‬وذلكل قال‬
‫البرص ابلس ياسة‬
‫حبار" ِه العلامء‪ ،‬و"الرابّن" اجلام ُع اىل العمل والفقه‪َ ،‬‬
‫جماهد‪":‬وِه فوق الحبار"‪ ،‬لن"ال َ‬
‫والتدبري والقيام بأمور الرعية‪ ،‬وما يصلحهم يف دُنياِه وديْنم‪.‬‬
‫واذا نظران اىل س ياق الية يتبدى لنا مقصد كبري لهذه الية وهو أن قوَل "كونوا رابنيني" اكن مقابل‬
‫قول أهل الكتاب "كونوا عبادا َل"‪ ،‬وهذا يدل عىل أن الرابنية يف السلم يه نقيض العبودية للمخلوقني‪ ،‬كام‬
‫جرى ذكل عند النصارى اذلين يعبدون عيَس بن مرَي‪.‬‬
‫روى ابن احساق كام نقهل ابن كثري يف تفسريه أنه حني اجمتعت الحبار من الهيود والنصارى من أهل‬
‫جنران‪ ،‬عند رسول هللا صىل هللا عليه وسمل ودعاِه اىل السلم‪ ،‬قالوا‪ :‬أتريد اي محمد أن نعبدك كام تعبد‬
‫‪55‬‬
‫النصارى عيَس ابن مرَي؟ فقال رجل من أهل جنران نرصاّن يقال َل الرئيس‪ :‬أو ذاك تريد منا اي محمد‪ ،‬واليه‬
‫تدعوننا؟ أو كام قال‪ .‬فقال رسول هللا صىل هللا عليه وسمل‪" :‬معاذ هللا أن نعبد غري هللا‪ ،‬أو أن نأمر بعبادة‬
‫غريه‪ ،‬ما بذكل بعثين‪ ،‬ول بذكل أمرّن"‪ .‬أو كام قال صىل هللا عليه وسمل‪ ،‬فأنزل هللا عز وجل يف ذكل من‬
‫قوهلام‪{ :‬ما اكن لبرش أن يؤتيه هللا الكتاب واحلمك والنبوة} [الية]‬
‫فالرابنية عكس الرشك ونقيض العبودية لغري هللا‪ .‬واكن هذا املفهوم غائبا عند النصارى‪ ،‬فهم ملا أطاعوا‬
‫أحبارِه ورهباهنم يف لك ما أصدروه من أحاكم دون بينة ول دليل من الكتاب فهم قد اختذوا أحبارِه‬
‫ورهباهنم أراباب من دون هللا‪.‬‬
‫اّلل َع ْن ُه قَا َل ‪َ :‬أتَ ْي ُت النا ِ اَب ‪ -‬صىل هللا عليه‬ ‫ىض ا ُ‬ ‫روى أمحد والرتمذي والبهيقي َع ْن عَ ِد ِى ْب ِن َح ِ ٍ‬
‫امت َر ِ َ‬
‫ُون ا ِ‬
‫اّلل} قَا َل‬ ‫ول { ا َاخت ُذوا َأ ْحبَ َار ُ ِْه َو ُر ْه َباهنَ ُ ْم َأ ْر َاب ًاب ِم ْن د ِ‬ ‫وسمل ‪َ -‬و ِف ُع ُن ِقى َص ِليب ِم ْن َذه ٍَب قَا َل فَ َس ِم ْع ُت ُه ي َ ُق ُ‬
‫ون‬‫اّلل فَيَ ْس تَ ِحلهون َ ُه‪َ ،‬و ُ َحي ِر ُم َ‬‫ون لَه ُْم َما َح ار َم ا ُ‬‫اّلل‪ ،‬اهنا ُ ْم لَ ْم يَ ُكونُوا ي َ ْع ُبدُ وهنَ ُ ْم‪ .‬قَا َل ‪َ :‬أ َج ْل‪َ ،‬ولَ ِك ْن ُ ِحيل ه َ‬ ‫قُلْ ُت‪َ :‬اي َر ُسو َل ا ِ‬
‫ِ‬
‫كل ِع َبادَهتُ ُ ْم لَه ُْم‪ .‬رواه أمحد والرتمذي والبهيقي‬ ‫اّلل فَ ُي َح ِر ُمون َ ُه‪ ،‬فَ ِت ْ َ‬
‫عَلَهيْ ِ ْم َما َأ َح ال ا ُ‬
‫فل حق لحد أن يصدر حكام خمالفا حلمك هللا‪ ،‬وهذه قاعدة عامة يف لك المور‪ ،‬فقد وضع النيب‬
‫وف‪".‬‬ ‫الطاعَ ُة ِيف امل َ ْع ُر ِ‬ ‫صىل هللا عليه وسمل هذه القاعدة كام رواها الش يخان‪َ " :‬ل َطاعَ َة ِيف َم ْع ِص َي ٍة‪ ،‬ان ا َما ا‬
‫ِ‬
‫ون} [أل‬ ‫اب َو ِب َما ُك ْن ُ ْمت تَدْ ُر ُس َ‬‫ون ْال ِكتَ َ‬‫ومعدة الرابنية يه العمل لقوَل تعاىل‪ُ { :‬كونُوا َر ااب ِني َِني ِب َما ُك ْن ُ ْمت تُ َع ِل ُم َ‬
‫معران‪]79 :‬‬
‫قال الشواكّن رمحه هللا‪ :‬قوَل‪ :‬مبا كنمت تعلمون أي‪ :‬بسبب كونمك عاملني‪ ،‬أي‪ :‬كونوا رابنيني هبذا السبب‪،‬‬
‫فان حصول العمل للنسان وادلراسة َل يتسبب عْنام الرابنية اليت يه التعلمي للعمل‪ ،‬وقوة المتسك بطاعة هللا‪.‬‬
‫وفقنا هللا واايمك ملا حيب ويرىض‪ ،‬اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا مبا علمتنا وزدان علام اي رب العاملني‪.‬‬

‫مكة‪ 26 /‬رمضان ‪1440‬هـ‪ 31/‬مايو ‪2019‬م‬


‫‪#‬سلسةل_فوائد_رمضانية_‪1440‬هـ‬

‫‪56‬‬
‫الفائدة السابعة والعشرين‬

‫ثقل الكلمة‬

‫كثرية يه الش ياء اليت اس هتان هبا النسان ويه عند هللا من عظامئ المور‪ ،‬ورب َكمة قالها النسان‬
‫يظْنا اكلهواء اذلي خيرج من مفه‪ ،‬متيض بل أثر أو حماس بة من هللا‪ ،‬وهو ينَس قول هللا تعاىل‪َ { :‬ما يَلْ ِفظُ ِم ْن‬
‫قَ ْولٍ ال َ َدليْ ِه َرِقيب َع ِتيد} [ق‪]18 :‬‬
‫ِ‬
‫اّلل‪َ ،‬ل يُلْ ِقي لَهَا َاب ًل‪ ،‬يَ ْرفَ ُع ُه ا ُ‬
‫اّلل‬ ‫لَك َم ِة ِم ْن ِرضْ َو ِان ا ِ‬ ‫قال النيب صىل هللا عليه وسمل‪" :‬ا ان ال َع ْبدَ لَ َي َت ََكا ُم ِاب َ ِ‬
‫ِ‬ ‫ات‪َ ،‬وا ان ال َع ْبدَ لَ َيتَ ََكا ُم ِاب َ ِ‬
‫اّلل‪َ ،‬ل يُلْ ِقي لَهَا َاب ًل‪ ،‬هيَ ْ ِوي هبِ َا ِيف َ َهجَّنا َ‪ ".‬رواه البخاري‬ ‫َسطِ ا ِ‬ ‫لَك َم ِة ِم ْن َ َ‬ ‫هبِ َا د ََر َج ٍ‬
‫ِ‬
‫وبعض الَكامت لها من الثر اليسء يف مزيان العبد ما لو سقطت عىل البحر لعكرته وأفسدته‪ ،‬وقد‬
‫نبه النيب صىل هللا عليه وسمل أم املؤمنني عائشة ريض هللا عْنا حني تَكمت يف حق احدى زوجاته أهنا كذا‬
‫وكذا‪ ،‬قال النيب صىل هللا عليه وسمل‪« :‬لَقَدْ قُلْ ِت َ َِك َم ًة لَ ْو ُم ِز َج ْت ِب َما ِء الْ َب ْح ِر لَ َم َز َج ْت ُه» رواه أبو داود‬
‫وذلكل يكون حفظ اللسان من أِه ما ينجي النسان من عذاب هجَّن‪ ،‬قال النيب صىل هللا عليه وسمل‬
‫الص َل ُة َو ِذ ْر َو ُة َس نَا ِم ِه الْجِ هَا ُد‪ ُ ،‬امث قَا َل‪َ :‬أ َل أخ ِْربُكَ‬
‫ملعاذ بن جبل ريض هللا عنه‪َ :‬ر ْأ ُس ْ َال ْم ِر ْال ْس َل ُم َو َ ُمعو ُد ُه ا‬
‫ون‬‫اّلل َواانا لَ ُم َؤاخ َُذ َ‬ ‫اّلل‪ .‬فَ ِأَ َخ َذ ِب ِل َسا ِن ِه قَا َل‪ُ :‬ك اف عَلَ ْي َك ه ََذا‪ .‬قال‪َ :‬اي ن ِ اَيب ا ِ‬ ‫ِب َم َل ِك َذ ِ َكل ُ َِك ِه؟ قال معاذ‪ :‬ب َ َىل َاي ن ِ اَيب ا ِ‬
‫ِب َما نَتَ ََكا ُم ِب ِه؟ فَقَا َل‪ :‬ث ِ َََك ْت َك أ هم َك َاي ُم َعا ُذ َوه َْل يَ ُك هب النا َاس ِيف النا ِار عَ َىل ُو ُجو ِهه ِْم َأ ْو عَ َىل َمنَا ِخ ِر ِ ِ ِْه ا ال َح َصائِدُ‬
‫ِ‬
‫َألْ ِسنَهتِ ِ ْم؟ رواه أمحد والرتمذي وابن ماجه‬
‫وبعض الَكامت قد تسبب يف مرضة الناس أو قتلهم‪ ،‬مفن شارك يف ذكل ولو بنصف َكمة فقد هكل‪.‬‬
‫اّلل عَلَ ْي ِه َو َس ا َمل‪َ :‬م ْن َأعَ َان عَ َىل قَ ْت ِل ُم ْؤ ِم ٍن بِشَ ْط ِر َ َِك َم ٍة‪،‬‬
‫اّلل َص اىل ا ُ‬ ‫ول ا ِ‬ ‫ف َع ْن َأ ِِب ه َُرْي َر َة ريض هللا عنه قَا َل قَا َل َر ُس ُ‬
‫اّلل‪ .‬رواه ابن ماجه والطرباّن يف الكبري‬ ‫اّلل َع از َو َج ال َم ْك ُتوب ب َ ْ َني َع ْين َ ْي ِه‪ :‬أ ِيس ِم ْن َر ْ َمح ِة ا ِ‬ ‫لَ ِق َي ا َ‬
‫والَكامت كام أهنا قد هتكل صاحهبا اذا اش متلت عىل ما يسخط هللا‪ ،‬فاهنا قد ترفع صاحهبا اذا اكنت‬
‫اّلل عَلَ ْي ِه َو َس ا َمل فَقَا َل‪:‬‬
‫َكمة حق يف رضوان هللا تعاىل‪ .‬وقد تكون أفضل اجلهاد‪ ،‬فقد َج َاء َر ُجل ا َىل النا ِ ِيب َص اىل ا ُ‬
‫ِ‬
‫َأ هي الْجِ هَا ِد َأفْضَ ُل؟ قَا َل‪َِ َ :‬ك َم ُة َح ٍق ِع ْندَ ا َما ٍم َجائِ ٍر‪ .‬رواه أمحد وابن ماجه‬
‫ِ‬

‫‪57‬‬
‫ويف خطبة طويةل خطهبا النيب صىل هللا عليه وسمل من بعد العرص اىل قبيل املغرب‪ ،‬قال فهيا‪َ ..." :‬أ َل‬
‫َل ي َ ْمنَ َع ان َر ُج ًل َمهَاب َ ُة النا ِاس أَ ْن ي َ َت ََكا َم ِابلْ َح ِق ا َذا عَ ِل َم ُه‪َ ،‬أ َل ا ان َأفْضَ َل الْجِ هَا ِد َ َِك َم ُة َح ٍق ِع ْندَ ُسلْ َط ٍان َجائِ ٍر‪"...‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫رواه أمحد‬
‫والَكامت أيضا يه اليت اكنت تنجي أابان أدم عليه السلم من العذاب‪ ،‬قال تعاىل‪{ :‬فَتَلَقاى أ َد ُم ِم ْن َ ِرب ِه‬
‫اب عَلَ ْي ِه ان ا ُه ه َُو التا او ُاب االر ِح ُمي} [البقرة‪]37 :‬‬ ‫ات فَتَ َ‬ ‫َ َِك َم ٍ‬
‫ِ‬
‫كتاب هللا‪ ،‬أن الَكامت اليت تلقاهن أد ُم من ربه‪ ،‬هن الَكامت اليت‬ ‫قال الطربي‪ :‬واذلي يدل عليه ُ‬
‫متنصل بقيلها اىل ربه‪ ،‬معرتفًا بذنبه‪ ،‬وهو قوَل‪":‬ربنا ظلمنا أنفس نا وان مل تغفر لنا وترمحنا‬ ‫أخرب هللا عنه أنه قالها ِ‬
‫لنكونن من اخلاسين‪".‬‬
‫والوفاء حبق الَكمة هو اذلي رفع س يدان ابراهمي عليه السلم اىل مقام امامة البرشية‪ ،‬قال تعاىل‪َ { :‬وا ِذ‬
‫ِ‬ ‫كل ِللناا ِس} [البقرة‪]124 :‬‬ ‫ات فَأَتَ امه اُن قَا َل ا ِّن َجا ِع ُ َ‬ ‫ابْتَ َىل ا ْب َرا ِه َمي َرب ه ُه ِب َ َِك َم ٍ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫قال العلامء ان تكل الَكامت اليت ابتيل هبا ابراهمي يه تاكليف وفرائض وأوامر ونوا ٍه‪ ،‬فقد امتثلها ابراهمي‬
‫أحسن امتثال‪ ،‬جفعهل هللا اماما للناس‪.‬‬
‫كام أن َكامت اذلكر من تسبيح وحتميد وهتليل ونصح للناس تعترب صدقة لها أجرها العظمي عند هللا‬
‫يةل َصدَ قَة‪َ ،‬و ُ ه‬
‫لك‬ ‫لك َ ْحت ِميدَ ٍة َصدَ قَة‪َ ،‬و ُ ه‬
‫لك هتَ ْ ِل َ ٍ‬ ‫لك ت َ ْسبِي َح ٍة َصدَ قَة‪َ ،‬و ُ ه‬
‫تعاىل‪ .‬قال النيب صىل هللا عليه وسمل‪" :‬فَ ُ ه‬
‫وف َصدَ قَة‪َ ،‬وهنَ ْيي َع ِن الْ ُم ْن َك ِر َصدَ قَة‪ ".‬رواه مسمل‬ ‫تَ ْكب َِري ٍة َصدَ قَة‪َ ،‬و َأ ْمر ِابلْ َم ْع ُر ِ‬
‫وَكمة التوحيد لها من الوزن ما يفوق وزن الساموات والرض‪ ،‬كام قال النيب صىل هللا عليه وسمل‪:‬‬
‫اّلل" ِيف ِكفا ٍة َر َج َح ْت هبِ ِ ان‬ ‫الس ْب َع لَ ْو ُو ِض َع ْت ِيف ِكفا ٍة‪َ ،‬و ُو ِض َع ْت " َل ا َ ََل ا ال ا ُ‬
‫ا‬ ‫الس ْب َع َو ْ َال ْر ِض َني‬
‫الس َم َو ِات ا‬ ‫‪...‬فَا ان ا‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫اّلل‪ .‬رواه أمحد‬ ‫َل ا َ ََل ا ال ُا‬
‫ِ ِ‬
‫هللا َوالْ َح ْمدُ‬
‫ويف حصيح مسمل قال النيب صىل هللا عليه وسمل‪َ :‬و"الْ َح ْمدُ ِ ا ِّلل" تَ ْم ََّل الْ ِم َزي َان‪َ ،‬و" ُس ْب َح َان ِ‬
‫الس َم َاو ِات َو ْ َال ْر ِض‪ .‬رواه مسمل‬
‫ِ ا ِّلل" تَ ْم َ ََّل ِن ‪َ -‬أ ْو تَ ْم ََّل ‪َ -‬ما ب َ ْ َني ا‬
‫اللهم سدد أقوالنا‪ ،‬وأصلح أعاملنا‪ ،‬وأحسن أحوالنا‪ ،‬واغفر ذنوبنا‪ ،‬واحفظ ديننا من مضلت الفنت‬
‫ودنياان من سوء احملن اي أرمح الرامحني‪...‬‬

‫مكة‪ 27 ،‬رمضان ‪1440‬هـ‪ 1/‬يونيو ‪2019‬م‬


‫‪58‬‬
‫‪#‬سلسةل_فوائد_رمضانية_‪1440‬هـ‬

‫‪59‬‬
‫الفائدة الثامنة والعشرين‬

‫منكرات االعتكاف‬

‫ان الاعتاكف عبادة عظمية‪ ،‬قصده املعتكفون يف العرش الواخر من رمضان اتباعا لهدي النيب صىل‬
‫هللا عليه وسمل وحتراي لليةل القدر‪ .‬ولكن املؤسف أن بعض املساجد تشهد حصول املنكرات من بعض املعتكفني‬
‫واملعتكفات اذلين ل يراعون حرمة هذه العبادة وأداهبا وأحاكهما‪.‬‬
‫ومن تكل املنكرات‪ :‬تربج النساء يف املساجد‪ .‬والتربج حمرم يف املساجد وغري املساجد‪ ،‬وأن تتربج‬
‫املرأة يف املساجد أشد حفشا‪ ،‬وارتاكبه عند الاعتاكف أشد وأشد‪.‬‬
‫ان هللا أمر النساء املؤمنات ابحلشمة والسرت وعدم اظهار زينهتن أمام الرجال الجانب‪ ،‬قال تعاىل‪:‬‬
‫وهج ان‪َ ،‬و َل يُ ْب ِد َين ِزينَهتَ ُ ان ِا ال َما َظه ََر ِمْنْ َا‪َ ،‬ولْ َي ْ ِ ْ‬
‫رضب َن ِ ُخب ُم ِر ِه ان‬ ‫{ َوقُ ْل ِللْ ُم ْؤ ِمنَ ِ‬
‫ات يَغْضُ ضْ َن ِم ْن َأبْ َص ِار ِه ان َو َ ْحي َف ْظ َن فُ ُر َ ُ‬
‫عَ َىل ُج ُيوهبِ ِ ان} الية [النور‪]31 :‬‬
‫وأخرب النيب صىل هللا عليه وسمل أن املرأة اذا تزينت وتعطرت بقصد اغراء الرجال فقد زنت بفعلها‬
‫ذكل‪ ،‬قال النيب صىل هللا عليه وسمل‪َ " :‬أي ه َما ا ْم َر َأ ٍة ْاس تَ ْع َط َر ْت فَ َم ار ْت عَ َىل قَ ْو ٍم ِل َيجِ دُ وا ِم ْن ِر ِحيهَا فَه َِيي َزا ِن َية‪".‬‬
‫رواه النسايئ وأمحد وابن حبان‪.‬‬
‫وهذا احلمك عام يف لك الماكن العامة‪ ،‬ومساجد هللا أوىل ابلتزنيه عن هذا املنكر‪.‬‬
‫ويف املقابل فان الرجال أيضا علهيم أن يتورعوا يف اطلق أبصارِه جتاه النساء‪ ،‬فهذا أيضا منكر ل‬
‫يليق ابلعتاكف واملعتكفني‪ ،‬والمر بغض البرص عام يف لك ماكن ويف املساجد وعند الاعتاكف أوكد‪ ،‬قال‬
‫ون} [النور‪:‬‬ ‫تعاىل‪{ :‬قُ ْل ِللْ ُم ْؤ ِم ِن َني يَغُضه وا ِم ْن َأبْ َص ِار ِ ِْه َو َ ْحي َف ُظوا فُ ُر َ ُ‬
‫وهج ْم َذ ِ َكل َأ ْز ََك لَه ُْم ا ان ا ا َّلل َخبِري ِب َما ي َ ْصنَ ُع َ‬
‫ِ‬
‫‪]30‬‬
‫وقال النيب صىل هللا عليه وسمل‪َ " :‬ل تُتْ ِب ْع النا ْظ َر َة النا ْظ َر َة فَان ا َما َ َكل ْال َوىل َولَي َْس ْت َ َكل ْال ِخ َر ُة‪ ".‬رواه‬
‫ِ‬
‫أمحد وأبو داود والرتمذي‬
‫واملفرتض أن النسان عند الاعتاكف أشد احرتازا من ارتاكب املنكرات‪ ،‬فانه ترك املباحات وتفرغ‬
‫للعبادة لقصد التقرب اىل هللا‪ ،‬فكيف َيمع النسان بني هذه العبادة وهذا املنكر؟‬

‫‪60‬‬
‫ومن املنكرات اليت حصلت يف بعض املساجد املكتظة التنازع عىل املاكن‪ ،‬وقد يؤدي اىل َشار‪ .‬فهذا‬
‫ينبغي أن يتزنه منه املعتكفون‪ .‬واليشء اللئق ابملعتكفني هو التفاِه والتعاون والتسامح فامي بيْنم‪ ،‬وترك املراء‬
‫واجلدال همام اكن السبب‪.‬‬
‫هللا عَلَ ْي ِه َو َس ا َمل‪َ « :‬أانَ َز ِعمي ِب َبيْ ٍت ِيف َرب َ ِض الْ َجنا ِة ِل َم ْن تَ َركَ الْ ِم َر َاء َوا ْن َاك َن ُم ِحقًّا‪،‬‬ ‫ول ا ِ‬
‫اّلل َص اىل ُ‬ ‫قَا َل َر ُس ُ‬
‫َو ِب َبيْ ٍت ِيف َو َسطِ الْ َجنا ِة ِل َم ْن تَ َركَ ْال َك ِذ َب َوا ْن َاك َن َم ِاز ًحا َو ِب َبيْ ٍت ِيف أَ ْع َىل الْ َجنا ِة ِل َم ْن َح اس َن ُخ ِلُقَ ُه» رواه أبو‬
‫ِ‬ ‫داود والرتمذي‬
‫ومن املنكرات أيضا‪ :‬عدم الاهامتم بنظافة املسجد‪ ،‬وجعل املساجد كغرف النوم مما يدفع بعض الناس‬
‫اىل عدم مراعاة حرمة املساجد من وضع الوساخ داخل املسجد واحداث الفوىض فيه‪ .‬وهذه من العامل اليت‬
‫جسلت يف سيئات هذه المة‪ ،‬قال النيب صىل هللا عليه وسمل‪ُ " :‬ع ِرضَ ْت عَ َ ايل أَ ْ َمع ُال أ ام ِيت َح َس ْنُ َا َو َس ِيُئُ َا‪،‬‬
‫ون ِيف الْ َم ْسجِ ِد‪،‬‬ ‫فَ َو َجدْ ُت ِيف َم َح ِاس ِن َأ ْ َمعا ِلهَا ْ َال َذى يُ َم ُاط َع ِن ا‬
‫الط ِر ِيق‪َ ،‬و َو َجدْ ُت ِيف َم َسا ِوي َأ ْ َمعا ِلهَا النهخَاعَ َة تَ ُك ُ‬
‫َل تُدْ فَ ُن‪ ".‬رواه مسمل‬
‫ومن املنكرات أيضا احداث الصخب يف املسجد ورفع الصوات وجعل املسجد َكنه سوق من قةل‬
‫احرتام الناس حلرمة املاكن وايذاء املصلني واملتعبدين‪ .‬فاملساجد ماكن خمصص للصلة واذلكر وقراءة القرأن‪،‬‬
‫فهيي ماكن يتسم ابلهدوء والوقار ليك يتعبد فيه الناس بطمأنينة وسكينة‪.‬‬
‫ومن املنكرات أيضا عدم ضبط الطفال من احلراكت والصوات اليت تؤذي بقية املصلني واملتعبدين‪.‬‬
‫مجيل أن يرِب النسان أولده عىل حب املساجد وارتيادها ولكن ذكل برشط ضبطهم وتوجهيهم لئل حيدثوا‬
‫ضوضاء تؤذي الناس وتشوش عىل املتعبدين فيه‪ .‬ولك ترصفات الطفال مسؤولية الابء والهمات‪ ،‬وما أحدثه‬
‫الطفال من الذى يسجل يف سيئات أابهئم وأهماهتم‪ ،‬فليحرص الابء والهمات أل خيرسوا أجر اعتاكفهم‬
‫بسبب السيئات اليت تسبب هبا أطفاهلم‪.‬‬
‫ومن املنكرات أيضا ترك الواجبات الرضورية بسبب الاعتاكف‪ ،‬وهذا ل ينبغي للمسمل‪ ،‬فان‬
‫الاعتاكف رغ فضهل العظمي وثوابه اجلزيل فانه انفةل من النوافل وليس واجبا عىل املسمل‪ .‬مفن أراد أن يعتكف‬
‫َيب أن يتأكد أنه ل خيل ابلواجبات اليت عليه‪.‬‬
‫وينبغي للمعتكف أن حيرتز من هذه المور حىت ل خيرس أجر الاعتاكف ويضيع فضهل‪ ،‬مفن قرص‬
‫يف السابق فليس تدرك يف اللحق‪.‬‬
‫وفقنا هللا واايمك ملا حيب ويرىض‪.‬‬
‫‪61‬‬
‫مكة‪ 28 ،‬رمضان ‪1440‬هـ‪ 2/‬يونيو ‪2019‬م‬
‫‪#‬سلسةل_فوائد_رمضانية_‪1440‬هـ‬

‫‪62‬‬
‫الفائدة التاسعة والعشرين‬

‫اجملاهدة من أجل اإلخالص‬

‫ان احلصول عىل اخلص العمل ليس ابلمر السهل‪ ،‬لن طبيعة النسان متيل اىل حب احملمدة والثناء‬
‫من الناس‪ .‬ومن أراد أن يكون معهل خالصا هلل تعاىل عليه أن يطرد عن قلبه هذا امليل وأن يفرغه من طلب‬
‫املدح والثناء‪ .‬ذلكل قيل لسهل التسرتي رمحه هللا‪ :‬أي يشء أشد عىل النفس؟ فقال‪ :‬الخلص‪ ،‬اذ ليس لها‬
‫فيه نصيب‪.‬‬
‫قال أبو عيل ادلقاق رمحه هللا‪ :‬الخلص التويق عن ملحظة اخللق‪ ،‬والصدق التنقي عن مطاوعة‬
‫النفس‪ ،‬فاخمللص ل رايء َل‪ ،‬والصادق ل اجعاب َل‪.‬‬
‫ومعىن التويق عن ملحظة اخللق هو عدم الرغبة يف اطلعهم عىل أعامَل الصاحلة فيذهب الجر‬
‫ويفسد الخلص‪.‬‬
‫وقال احلواريون لعيَس عليه السلم‪ :‬ما اخلالص من العامل؟ فقال‪ :‬اذلي يعمل هلل تعاىل ل حيب أن‬
‫حيمده عليه أحد‪.‬‬
‫وقال أبو احلارث احملاس يب‪ :‬الخلص هو اخراج اخللق عن معامةل الرب‪.‬‬
‫وذلكل اكن العمل يف الرس أصفى وأنقى من العمل يف العلن‪ ،‬فذلكل قيل‪ :‬ان الخلص ما اس ترت‬
‫عن اخللق‪ ،‬وصفا عن العلئق‪.‬‬
‫وذهب أخر اىل أبعد من ذكل وهو الخلص يف الخلص‪ ،‬أن َيهتد النسان من أجل الخلص‬
‫يف اخلصه‪ ،‬قال السويس‪ :‬الخلص فَ ْقدُ رؤي ِة الخلص‪ ،‬فان من شاهد يف اخلصه الخلص فقد احتاج‬
‫اخلصه اىل اخلص‪.‬‬
‫أي أل يدعي النسان الخلص‪ ،‬فيقع يف ضده بسبب الجعاب من ْ‬
‫وِه الخلص‪.‬‬
‫قال أبو حامد الغزاَل‪ :‬الناس َكهم هلىك ال العاملون‪ ،‬والعاملون َكهم هلىك ال العاملون‪ ،‬والعاملون‬
‫َكهم هلىك ال اخمللصون‪ ،‬واخمللصون عىل خطر عظمي‪.‬‬

‫‪63‬‬
‫نعم‪ ،‬ان أمر الخلص ليس بيسري‪ .‬وقد قال النيب صىل هللا عليه وسمل‪" :‬ا ان ي َِس َري ِالر َاي ِء ِ ْ‬
‫رشك‪".‬‬
‫ِ‬
‫رواه ابن ماجه والطرباّن يف الكبري والوسط والصغري‪.‬‬
‫وقد حىك النيب صىل هللا عليه وسمل أن أول الناس دخول اىل النار ِه اذلين يعملون العامل الصاحلة‬
‫رايء للناس وطلبا لثناهئم‪ ،‬قال عليه الصلة والسلم‪" :‬ا ان َأ او َل النا ِاس يُ ْق َىض ي َ ْو َم الْ ِقيَا َم ِة عَلَ ْي ِه َر ُجل ا ْستُ ْشهِدَ‪،‬‬ ‫ً‬
‫َ‬ ‫ِ‬
‫يك َح اىت ا ْستُ ْشهِدْ ُت‪ ،‬قَا َل‪َ :‬ك َذبْ َت‪َ ،‬ول ِكن ا َك‬ ‫فَأ ِ َيت ِب ِه فَ َع ارفَ ُه ِن َع َم ُه فَ َع َرفَهَا‪ ،‬قَا َل‪ :‬فَ َما َ ِمعلْ َت ِفهيَا؟ قَا َل‪ :‬قَاتَلْ ُت ِف َ‬
‫قَاتَلْ َت ِ َل ْن يُقَا َل‪َ :‬ج ِريء‪ ،‬فَقَدْ ِقيلَ‪ ُ ،‬امث أ ِم َر ِب ِه فَ ُس ِح َب عَ َىل َو ْ ِهج ِه َح اىت ألْ ِق َي ِيف النا ِار‪َ ،‬و َر ُجل تَ َع ا َمل الْ ِع ْ َمل‪َ ،‬وعَل ا َم ُه‬
‫يك الْ ُق ْرأ َن‪،‬‬ ‫َوقَ َر َأ الْ ُق ْرأ َن‪ ،‬فَأ ِ َيت ِب ِه فَ َع ارفَ ُه ِن َع َم ُه فَ َع َرفَهَا‪ ،‬قَا َل‪ :‬فَ َما َ ِمعلْ َت ِفهيَا؟ قَا َل‪ :‬تَ َعل ا ْم ُت الْ ِع ْ َمل‪َ ،‬وعَل ا ْم ُت ُه َوقَ َر ْأ ُت ِف َ‬
‫قَا َل‪َ :‬ك َذبْ َت‪َ ،‬ولَ ِكن ا َك تَ َعل ا ْم َت الْ ِع ْ َمل ِل ُيقَا َل‪ :‬عَا ِلم‪َ ،‬وقَ َر ْأ َت الْ ُق ْرأ َن ِل ُيقَا َل‪ :‬ه َُو قَ ِارئ‪ ،‬فَقَدْ ِقيلَ‪ ُ ،‬امث أ ِم َر ِب ِه فَ ُس ِح َب‬
‫هللا عَلَ ْي ِه‪َ ،‬و َأع َْطا ُه ِم ْن َأ ْصنَ ِاف الْ َمالِ ُ َِك ِه‪ ،‬فَأ ِ َيت ِب ِه فَ َع ارفَ ُه ِن َع َم ُه‬ ‫عَ َىل َو ْ ِهج ِه َح اىت ألْ ِق َي ِيف النا ِار‪َ ،‬و َر ُجل َو اس َع ُ‬
‫ِيل ُ ِحت هب َأ ْن ي ُ ْن َف َق ِفهيَا ا ال َأنْ َف ْق ُت ِفهيَا َ َكل‪ ،‬قَا َل‪َ :‬ك َذبْ َت‪،‬‬ ‫فَ َع َرفَهَا‪ ،‬قَا َل‪ :‬فَ َما َ ِمعلْ َت ِفهيَا؟ قَا َل‪َ :‬ما تَ َر ْك ُت ِم ْن َسب ٍ‬
‫ِ‬
‫َولَ ِكن ا َك فَ َعلْ َت ِل ُيقَا َل‪ :‬ه َُو َج َواد‪ ،‬فَقَدْ ِقيلَ‪ ُ ،‬امث أ ِم َر ِب ِه فَ ُس ِح َب عَ َىل َو ْ ِهج ِه‪ ُ ،‬امث ألْ ِق َي ِيف النا ِار‪ ".‬رواه مسمل‬
‫وما أتعس النسان اذلي تعب واجهتد مث ل َيد شيئا يف حصيفة معهل‪ ،‬لنه اكن ل خيلص يف معهل‪،‬‬
‫هباء منثور ًا} [الفرقان‪]23 :‬‬ ‫قال تعاىل‪{ :‬وقدمنا اىل ما معلوا من معل جفعلناه ً‬
‫وقد يبدو للعيان صلح النسان تقواه‪ ،‬وهو من أهل النار والعياذ ابهلل‪ ،‬كام يف الصحيحني أن النيب‬
‫صىل هللا عليه وسمل‪" :‬ا ان االر ُج َل لَ َي ْع َم ُل َ َمع َل َأه ِْل الْ َجنا ِة ِفميَا ي َ ْبدُ و ِللنا ِاس‪َ ،‬وه َُو ِم ْن َأه ِْل النا ِار‪".‬‬
‫ِ‬
‫ذلكل اكن سلفنا الصاحل خيافون عىل أنفسهم من هذا ادلاء‪ ،‬قال سفيان الثوري‪" :‬ما عاجلت شيئا‬
‫أشد عيل من نييت‪ ،‬لهنا تتقلب عيل‪".‬‬
‫قال يوسف بن احلسني‪" :‬أعز يشء يف ادلنيا الخلص‪ ،‬ومك أجهتد يف اسقاط الرايء عن قليب فكنه‬
‫ينبت بلون أخر‪".‬‬
‫مفجاهدة النفس من أجل احلصول عىل الخلص أشد صعوبة من العمل نفسه‪ ،‬ذلكل قال يوسف‬
‫بن أس باط‪" :‬ختليص النية من فسادها أشد عىل العاملني من طول الاجهتاد‪".‬‬
‫واكن الصاحلون َيهتدون يف اخفاء أعامهلم الصاحلة كام َيهتدون العوام يف اظهارها‪ .‬وهو عكس سلوك‬
‫الناس يف عرص انتشار وسائل التواصل الاجامتعي (‪ )social media‬فان هذا املعىن ياكد يكون غائبا عن‬
‫ابهلم‪ ،‬فهم يتنافسون يف نرش أعامهلم ومأثرِه بكثري من املبالغة‪ .‬فالناس الن يتنافسون من أجل الكثار من‬
‫عدد املشاهدات و"اللَياكت"‪ ،‬ول خيافون من ذهاب الجر والثواب اذلي يمتنونه‪ .‬وان اكن هذا أقل سوءا‬
‫‪64‬‬
‫من اذلين ينرشون الرذائل والتفاهات عرب الثري‪ .‬ولكن منطق أهل ادلنيا قد يقلب موازين ضعاف العقول‬
‫فيؤتون عىل حني غرة‪ ،‬والعياذ ابهلل‪.‬‬
‫اللهم ارزقنا الخلص يف القول والعمل‪ ،‬ول ترتكنا للفتنة والزلل‪ ،‬بك نس تعني وعليك التلَكن‪.‬‬

‫مكة‪ 29 ،‬رمضان ‪1440‬هـ‪ 3/‬يونيو ‪2019‬م‬


‫‪#‬سلسةل_فوائد_رمضانية_‪1440‬هـ‬

‫‪65‬‬
‫الفهرس‬
‫الصوم ولياقتنا الروحية‪2 ..................................................................‬‬
‫صومنا يف السياق التارخيي ‪3 ..............................................................‬‬
‫"إمياان واحتسااب" ‪5 .......................................................................‬‬
‫بني اإلميان اخلرايف واإلميان العلمي ‪7 .......................................................‬‬
‫مسارات األمم الثالث‪9 ..................................................................‬‬
‫"وقوموا هلل قانتني" ‪11 ...................................................................‬‬
‫مقاصد االبتالء ‪13 ......................................................................‬‬
‫الثورة الصناعية األوىل ‪15 ................................................................‬‬
‫حرمان املغفرة وموانع التوبة ‪18 ...........................................................‬‬
‫قانون حفظ النعمة وزواهلا ‪20 ............................................................‬‬
‫قصة اجلسد الواحد ‪22 ..................................................................‬‬
‫بقاء اخلري ‪24 ............................................................................‬‬
‫القرآن حمورا للحياة ‪27 ..................................................................‬‬
‫امتالء املتواضع وخواء املتفاخر ‪29 .......................................................‬‬
‫بناء نفسية املنتصر ‪31 ...................................................................‬‬
‫أسرار النفوس يف سجالت األحداث ‪33 ..................................................‬‬
‫عن قسوة القلوب‪35 ....................................................................‬‬

‫‪66‬‬
‫معىن "الدين النصيحة" ‪37 ...............................................................‬‬
‫دين العزة ‪39 ............................................................................‬‬
‫أثر الدعاء على جمرايت األمور ‪41 ........................................................‬‬
‫بني هنضتنا وهنضتهم ‪43 ..................................................................‬‬
‫االعتكاف والتأمل والتفكري العميق ‪46 ....................................................‬‬
‫التجديد املستمر ‪48 .....................................................................‬‬
‫وحدة املسلمني ‪51 ......................................................................‬‬
‫الظلم الوخيم ‪53 ........................................................................‬‬
‫"كونوا رابنيني"‪55 .......................................................................‬‬
‫ثقل الكلمة ‪57 ..........................................................................‬‬
‫منكرات االعتكاف ‪60 ..................................................................‬‬
‫اجملاهدة من أجل اإلخالص ‪63 ...........................................................‬‬

‫‪67‬‬

You might also like