Professional Documents
Culture Documents
يتعلق األمر هاهنا ب "الثابت"؛ وهو التعليم الذي يستلزم وجود مدرسة ومد ّرس محتوى .ومن جهة
أخرى باالبتكار؛ الذي هو مختلف الرؤى البديلة للتمدرس ،والتي جاء بها عدد من املنظرين في املجال
التربوي ،محاولين بذلك اإلتيان بأشياء جديدة ،إال أنها – وكما سنرى – قد مست املنظومة التعليمية
في أساسها بشكل جذري لدرجة أنها عملت على زعزعة هذا الثابت الذي ُيستوجب استحضاره
واالنطالق منه عند أي خطوة أو محاولة للتجديد والتغيير في مجال التعليم .
طبعا ال أحد يستطيع انكار قيمة وأهمية املدرسة ملا تقوم به من أدوار طالئعية و أساسية في املجتمع،
إال أن األزمة التي تعيشها املؤسسة التربوية ،جعلت البعض يوجهون لها عددا من االنتقادات تروم
للدعوة إلى إلغاء املدرسة كمؤسسة ثابتة ! ربما هذا االدعاء يجعلنا ال نقبله منذ اللحظة األولى ،لكن
كيفما كان الحال البد من استحضاره والكشف عن مبرراته دون أن نغفل املسرح االجتماعي الذي
ظهرت عليه.
وقبل الدخول في الحديث عن زعيم هذا التوجه الالمدرس ي وهو (إيليتش) ،البد من االشارة إلى مفكرين
وحدة .إن موجة الهجوم على مهدوا له وآزروه في دعواه وإن كان ذلك بشكل أخف ضررا ّ آخرين ّ
املدرسة كانت لها إرهاصاتها في القرن الثامن عشر وعلى يد املفكر الشهير (جان جاك روسو) الذي يعتبر
ّ
أن التعليم النظامي الذي تقدمه معاهد األطفال ،يفسد األطفال بما يبثه فيهم من قيم اجتماعية ،ال
تخلو في معظمها مما يشوب هذه الحياة االجتماعية من الكذب والغش والنفاق واالتكالية واملداهنة
والخداع.
وأن "أفضل ما يمكن أن نؤديه من خدمة ألطفالنا أن ندعهم يواجهون الطبيعة مباشرة ،فهم ّ
بطبيعتهم الخيرة ،وهي بطبيعتها الجميلة ستنتج طفال مستقل الذات يعتمد على نفسه ،يسلك وفق ما
تمليه عليه نوازعه الطيبة التي لم تدنسها مفاسد املجتمع" .1مع العلم أن روسو ال يرفض املدرسة
بشكل قطعي ،وإنما يرفض تمدرس األطفال في سن مبكر ،فمن منظور روسو ال ينبغي أن يلج التلميذ
املدرسة إال بعد الثانية عشرة من عمره ،أي بعد أن يكتمل نموه ويصبح قادرا على استيعاب بشكل
جيد ما يقدم له من معارف في املدرسة .وقبل هذه املرحلة يكون كتابه الوحيد هو الحياة فقط،
بحيث ال ينبغي ألحد أن يتدخل في تربيته ،أو يقمع نموه وتلقائيته .وما ينبغي أن نوفره له في هذه السن
2روسو ،جان جاك ،إميل أو تربية الطفل من المهد إلى الرشد،الكتاب األول،ترجمة نظامي لوقا،الشركة العربية للطباعة والنشر القاهرة،1908،ص
.127
3اسماعيل،سعيد علي،فلسفات تربوية معاصرة ،ص .195
4
Reboul, Olivier,Qu’est ce qu’apprendre ?,PUF,1980,Paris, P 110.
5غي.أفانزيني:الجمود والتجديد في التربية المدرسية،ترجمة عبد هللا الدايم،ص ،436عن سعيد اسماعيل علي،فلسفات تربوية،عالم المعرفة،ص
.196
6
Ibid ,P 109.
املهيمنة ا لتي توهم األفراد بأنها تعمل من أجلهم ،بينما هي تعمل من أجل أصحابها" .7من هنا جاءت
الدعوة الالمدرسية محاولة أن تقف في وجه التنميط العام الذي ساد حضارة العصر ،اعتمادا على
مدارس تستقبل جموعا بين أفرادها ال حصر له من اختالفات وفروق ،فتحاول هذه املدارس أن
تصبهم في قوالب موحدة جامدة ،مما دفع بعض التربويين إلى الهجوم الحاد على (املدرسة) واملناداة بأن
تكون التربية حرة عن طريق كافة القنوات القادرة على تشكيل السلوك االنساني بغير قولبة ودون
تنميط .ولم يكن( إيليتش) وحده من تزعم الدعوة الجديدة ،فقد شاركه أيضا (إيفرت ريمر) الذي
"تنبه إلى أن (املدرسة) إن هي إال أداة في يد الطبقات البرجوازية لكي تحكم سيطرتها على املجتمع عن
طريق تسييد ثقافتها وقيمها ومعاييرها ،فأصدر ريمر كتابه املعروف (وفاة املدرسة) أما إيليتش فقد
سمى أشهر كتبه ب(مجتمع بال مدارس)" .8ولعل ذلك يظهر من خالل رؤيته للمدرسة ،إذ بالنسبة له
فهي تشكو من الفاعلية ،ذلك أن إلزاميتها تفقد األشخاص طعم التعلم ،وهي ضارة أيضا ألنها إن
فشلت بشكل كبير في تعليم الفقراء ،إال أنها نجحت مع ذلك في مذهبتهم من خالل تلقينهم الشعور
بالنقص الذي يستعص ي مداواته .ويمكن أن نفهم أكثر قصد إيليتش من خالل التعريف الذي يعطيه
للمدرسة ،حيث يعتبرها "مكانا تتجمع فيه كائنات بشرية في سن معين حول مدرس .يخضعون فيها
محددة" ،9ومعنى ذلك أن إيليتش ينتقد املدرسة من جهة لحضور إجباري مع ضرو ة اتباع برامج ّ
ر
إلزاميتها وكذا من جهة احتكاريتها على اعتبار أن "املدرسة االجبارية تدمر لدى الشباب الرغبة في التعلم
وتعارض هكذا الغاية التي تدعي أنها تخدمها"،10خصوصا وأن النظام املدرس ي يقتض ي أن يتفرغ
التالميذ تماما للمدرسة ،وأن يجيئوا إليها في مواعيد محددة منتظمة ،ويتعلموا في فصول دراسية
منتظمة بحيث يمارس املدرس سلطته اآلمرة في سياج مقدس حتى يتمكن من مهمة التدريس .وهو هنا
ال يلغي سلطة املدرس فحسب ،وإنما املدرس ذاته .ففي الوقت الذي يسعى فيه التربويون إلى حصر
مزاولة مهنة التعليم على من يحملون أهلية وتخصصا في التعليم ،نجد أن إيليتش يسخر من هذا
االتجاه ويدعو إلى ضرورة االستفادة من أصحاب الخبرة ممن ال يعملون في مهنة التدريس ،إذ يمكن
للفرد أن يستعين بهؤالء كلما احتاج إليهم مستغنيا في ذلك عن كل مدرس.
والبد من اإلشارة هنا إلى أن" هجوم إيليتش على املدرسة لم يكن يستهدف هذه املؤسسة وحدها في
حد ذاتها ،وإنما كان ذلك في إطار نقد عام لالتجاه (املؤسس ي) في املجتمع الغربي الصناعي" .11إننا في
مجتمعات العالم الثالث نتحرق شوقا إلى أن يظل هذا االتجاه املؤسس ي في حياتنا االجتماعية ،بحيث
ال تترك األمور لألهواء الذاتية ،والنزعات الخاصة ،والعالقات القرابية ،والزبونية ،واملصالح الشخصية.
ولن يتم هذا إال بالقدر الذي تنحو فيه حياتنا االجتماعية نحوا موضوعيا يكون فيه الحكم للقانون
واملؤسسات ،لكن هذا االتجاه ،فيما يبدو قد بولغ في أهميته وضرورته" ،فهذا إيليتش يؤكد أن مناخا