Professional Documents
Culture Documents
هذه املفارقة يمكن صياغتها كالتالي :إذا كانت التربية حقا للطفل واجبا على املربي،فما الذي يتم تكوينه
داخل هذا الطفل :طبيعته األصلية أم قابليته للحياة االجتماعية؟ هل نربي الطفل ألجل ذاته وتفتح
طبيعته الخاصة(ميوالته،رغباته،حاجاته،مواهبه)...؟ أم ألجل املجتمع وانخراطه داخل مؤسساته
وقيمه؟ ما هي وجهة التربية هل اإلنسان أم املواطن؟
األطروحة األولى صاغ معاملها األولى «مونطيني» وبلورها «روسو» وتعتبر التربية عمال يخدم الطبيعة
داخل الفرد بشكل يفتحه على العالم ككل .والثانية صاغ معاملها «جون لوك» ،وتعتبر التربية عمال ييهئ
الطبيعة داخل الفرد ألجل تكييفها مع غايات الحياة االجتماعية.
لقد سبق ل«مونطيني» منذ ق 16م أن أدان كل عنف ممارس على الطفل احتراما لطفولته،معتبرا أن
كل ما ال يمكن أن يتحقق بالعقل والتبصر والروية ال يمكنه أبدا أن يتحقق بواسطة القوة .وفي مقابل
مرب بأن يترك امليول واالستعدادات الطبيعية للطفل تنمو وتتطور من ذلك يطالب «مونطيني» كل ّ
تلقاء ذاتها أوال على غرار ما يحدث مع كل كائنات الطبيعة .وعوض استقبال الطفل الوليد بمجموعة
كبيرة من العادات والقواعد وإخضاعه إليقاع اجتماعي في النمو يتعارض مع تكوينه الطبيعي،وشحن
ذهنه باملعارف والقيم الجاهزة املتوارثة التي ال تصنع سوى أدمغة ممتلئة ال كائنات عاقلة
متمرسة،يجب أن نجعل العالم الحس ي هو الكتاب الفعلي للطفل .أما نزعة روسو الرومانسية فقد
منعته من أن يتعامل مع هذه املفارقة بشكل نقدي،فهو ال يتصور إمكانية الجمع بينهما حيث يقول
"إما الطبيعة وإما املقوالت االجتماعية .فأما أن تجعله إنسانا أو تجعله مواطنا،إذ يمتنع أن تجعله هذا
وذاك في آن واحد".1فتوجيه تربية الطفل نحو اإلنسان،يعني اعتباره قيمة مطلقة ال تقاس إال
بذاتها،أي بطبيعتها الخاصة .وهذا بالذات ما كان يسعى إليه روسو .أما توجيه التربية نحو الحياة
املدنية،فيعني ربطه بالعالقات االجتماعية واعتباره جزءا من كل ال تقاس قيمته إال في عالقتها بهذا
الكل ككيان سياس ي .غير أن املؤسسات االجتماعية التي «نجحت» حتى اآلن – حسب روسو – هي تلك
1روسو جان جاك ،إميل أو التربية من المهد إلى الرشد،ترجمة نظمي لوقا،الكتاب الثاني ،الشركة العربية للطباعة والنشر القاهرة،1958،ص .28
التي جردت اإلنسان من طبيعته وسلبته وجوده املطلق ،لكي تمنحه وجودا نسبيا يذيب ذاته في
الوحدة العامة،بحيث ال يرى الفرد نفسه بعدئذ شيئا قائما،بل جزءا من الكل،وال يحس إال بإحساس
الكل .وبما أن الحياة االجتماعية حتى اآلن أفسدت طبيعة اإلنسان األصلية فهذا دليل على فساد طرق
التربية والتعامل مع الطفولة.ألجل ذلك،كان السؤال الخفي املوجه لكتاب «إميل» هو :كيف تعيد
التربية لإلنسان طبيعته؟
إن اإلنسان املتمدين بالنسبة له يولد ويعيش ويموت في رق العبودية .حين يولد يوثقونه
ب"قماط"،وحين يموت يسمرون عليه تابوتا .وما دام على وجه الدنيا،فهو مكبل بشتى النظم،بينما
الطبيعة تريد أن يكون األطفال أطفاال قبل أن يصبحوا رجاال ونساء .فإن كنا نريد أن نقلب هذا
الوضع ،فسننتج ثمارا قبل أوانها ،ليس فيها نضج وال نكهة ،وال تلبث هذه الثمار الفجة أن يدب إليها
الفساد« ،نحصل على شبان هم في الواقع أطفال مسنون" .2إن الشخص الطبيعي يعيش لنفسه ،فهو
الوحدة العددية،وهو الكل أيضا باإلطالق وال يتعلق وجوده إال بنفسه.أما املواطن فهو وحدة عسكرية.
هو بسط مقا مه الوطن.وقيمته ليست في ذاته بل تتعلق بالكل ،وبنسبته إلى ذلك الكل الذي هو الهيئة
االجتماعية .لذلك فروسو ال يعنيه أن يكون مصير تلميذه االنضمام إلى الجيش أو الكنيسة أو االشتغال
بالقانون .فالطبيعة تندبه قبل كل ش يء للحياة اإلنسانية .والحياة هي املهنة التي يريد أن يلقنها إياه،
حيث يقول" :حين يتخرج من بين يدي لن يكون قاضيا أو جنديا أو قسيسا ،بل سيكون إنسانا قبل كل
ش يء ،بكل ما ينبغي أن يكونه اإلنسان" .3فلتكن التربية تربية اإلنسان من حيث هو ،ال تربية اإلنسان
من حيث ما ليس هو! ويضيف" :أال ترون أنكم إذ تعملون على تنشئة الرجل ليعيش في طبقة معينة
مما يجعله غير صالح لسواها .وأنه عند أي تغيير يروق لألقدار سيكون هذا الشخص شقيا ،وستكون
تربيتكم له مجهودا متواصال لإلمعان في شقائه" ،4وهو يعيب عن الذين يركنون إلى النظام االجتماعي
الحالي من غير أن يفكروا في أن ذلك النظام عرضة لثورات ال مناص منها .وأنه من املستحيل أن
يتوقعوا سلفا أو يتنبئوا سلفا بما يمكن أن يحدث ألطفالهم غدا" .إن الكبير يمس ي صغيرا،والغني يمس ي
فقيرا،وامللك يمس ي رعية .وضربات القدر ليست من القلة بحيث تظنون أنفسكم بمنجاة منها .إننا
نقترب من قمة األزمة،ونقترب من عصر الثورات .فمن ذا الذي يضمن لكم ماذا ستكونون عندئذ؟".5
لقد انتقد روسو التربية السائدة لدى اآلباء التي تيهئ الطفل للمهام التي يقوم بها اجتماعيا في وقت كان
الزما عليهم جعل التربية تخدم الطبيعة والحياة داخل الطفل .فالحياة – يقول روسو – هي املهنة التي
أريد أن أعلمها إياه،وهو يتخرج من يدي،لن يكون قاضيا وال جنديا وال راهبا،سيكون أوال إنسانا .اختار
روسو إذن،أن تكون التربية موجهة ألجل الطبيعة داخل الطفل مبلورا بذلك الشق األول من املفارقة
الخاصة بغاية التربية.
2روسو ،جان جاك ،إميل أو التربية من المهد إلى الرشد،ترجمة نظمي لوقا،الكتاب الثاني ،الشركة العربية للطباعة والنشر القاهرة،1958،ص .95
3المرجع نفسه ،ص .32
4المرجع نفسه ص .166
5المرجع نفسه ،ص .167
بينما يبلور لوك الشق الثاني من املفارقة في أن تأخذ التربية وجهة املجتمع،وهو ال ينكر اهتمام
التربية بالطبيعة داخل الفرد،لكن تربية الطبيعة ينبغي أن تأخذ وجهة املجتمع،ألن الطفل في هذه
املرحلة يسهل التحكم فيه إذ يكون أكثر انصياعا وأكثر استعدادا الكتساب عادة ما والتطبع بها" .كما
أن لوك ال يتصور التربية على االنضباط واالمتثال للقواعد االجتماعية كبحا للطبيعة الطفلية أو
ممارسة لسلطة غير متناسبة مع هذه الطبيعة،فسلطة املربي ينبغي أن تكون قائمة على خبرة
بيداغوجية قوامها معرفة بالطفولة وحاجاتها".6
يميز كانط في دروسه حول األخالق داخل كل تربية بين نوعين من األنشطة التربوية .األول يشمل
األنشطة التي تخص «تنمية االستعدادات الطبيعية وتطويرها»،وهنا يكون هدف التربية هو رعاية
الطفل داخل الفرد وتوجيه نحو التفتح والنمو واالكتمال،والثاني يتضمن األنشطة التي تهم «اكتساب
املهارات» عبر مختلف عمليات «التعلم»،وهنا يكون هدف التربية الديداكتيكية على الخصوص هو
اكتساب الطفل إجراءات ومهارات جديدة ألنها ليست من صنع الطبيعة،بل من اكتشاف اإلنسان ذاته
لسد مختلف الحاجات الجديدة التي يفرضها نمو حياته االجتماعية .وهكذا ،إذا كانت األنشطة األولى
موجهة لتنمية الطبيعة داخل الفرد ،فإن األنشطة الثانية موجهة لخلق طبيعة أخرى هي الثقافة
داخل الفرد التي تخدمه ككائن صانع واجتماعي ومواطن داخل الدولة .لذلك كان سؤال كانط
هو:كيف نقيم مصالحة بين الطبيعة الطفلية وبين املجتمع،بين مقتضيات النمو التلقائي للميول
والقدرات،وبين االستجابة ملقتضيات الحياة املدنية واالجتماعية؟ وإذا اخترنا التربية ألجل الطبيعة
وحدها،ماذا سيكون مآل إنسان تمت تربيته فقط بمراعاة ذاته وحدها دون مراعاة الغير واملواطنة
داخل املجتمع؟ أال تكون التربية ألجل الذات أكبر عائق أمام التربية ألجل املجتمع(مجتمع الحريات
العمومية القائمة على التعاقد السياس ي)؟ وفي املقابل،ماذا سيكون مصير الطبيعة الطفلية إذا ما
اخترنا تربية الطفل بمراعاة شروط الوجود االجتماعي والقيم املدنية وحدها؟ أال تكون التربية من
أجل املجتمع عائقا أمام تفتح ذات الطفل وتنمية قدراته الطبيعية األصلية؟ وهكذا تصطدم التربية
بصعوبة املصالحة بين غايات الطبيعة وغايات الثقافة االجتماعية .تتطلب غايات الطبيعة أن يكون
املربي مجرد موجه للطفل يساعده على مسايرة نمو قدراته وقواه الطبيعية .في حين تتطلب غايات
ُ
املجتمع أن يكون املربي متدخال في هذا النمو ممارسا لسلطة بيداغوجية تكره الطفل على االنضباط
واالمتثال من جهة،وتعلمه مهارات معينة دون غيرها تعتبرها الثقافة االجتماعية في فترة تاريخية ما أنفع
من غيرها لحياة الطفل واندماجه االجتماعي .على هذا األساس وجب أن ينصب عمل التربية بالنسبة
لكانط على تنمية امليلين معا :امليل إلى التفرد وامليل إلى الحياة االجتماعية .بخصوص تنمية امليل إلى
التفرد،ينبغي مساعدة الطفل على تنمية قدراته ومهاراته الطبيعية وتفتحها .لكن ذلك يقتض ي من جهة
أخرى تدخال تربويا يحد من األنانية الفطرية للطفل ،حتى ال تتحول إلى عدوانية ضد الغير .وهذا
6منصف عبد الحق ،األنوار وسلطة الخبير البيداغوجي-دراسة نقد ية في نظرية الثقافة والتربية عند إيمانويل كانط،افريقيا الشرق ،2011الدار
البيضاء،ص .253
بالذات ما يتطلب أيضا تضمن الفعل التربوي إكراها مشروعا يوجه الطبيعة الذاتية للطفل نحو
العالقات االجتماعية وقيمها العمومية(السياسية والثقافية .)...وهذا بالذات ما يفرض على عمل
التربوي أن يراهن على نوعين من التدخل":تدخل ألجل الطبيعة الطفلية في ذاتها بغية تنمية
قدراتها،وتدخل ألجل املجتمع بهدف االندماج داخل العالقات االجتماعية" .7وعلى الرغم من أنه رهان
صعب إذ يحتوي مفارقة مستحيلة التجاوز كما رأينا،فقد بدا لكانط أنه رهان ممكن،شريطة أن تكون
تربية الطبيعة داخل الذات غاية أولى ألجل غاية ثانية هي تربية الذات ألجل الثقافة االجتماعية(ثقافة
املواطنة والحقوق والذوق االجتماعي) .من املؤكد أن املرور من الغاية األولى إلى الغاية الثانية لن يكون
مباشرا .فاملسافة تبدو بعيدة جدا بين الطبيعة الطفلية وبين املجتمع .والبد من وسيط يؤمن ذلك
العبور،سيجده كانط فيما يسميه التربية السلبية"،يقصد بذلك التربية على االنضباط واالمتثال
للقواعد .يجب على هذه الطبيعة أن تتعود الخضوع لقواعد العقل بمعناه التقني-العملي وكذا
السياس ي واألخالقي،حتى تصبح طبيعة انسانية حقا"،8وفي نفس الصدد يرى جون ديوي أن التربية
املقصودة تتطلب دراية بنفسية الطفل من جانب وحاجات املجتمع من جانب آخر،لكن دون أن
نخضع أحدهما لآلخر.
إذا كان التعليم يعتبر كخدمة،فغاية هذه الخدمة مضاعفة،ألن املدرس يشتغل من أجل تالمذته،لكنه
يشتغل أيضا من أجل املجتمع الذي يكلفه بالتعليم والتثقيف والتقويم...فإذا كان ال يخدم سوى
املجتمع يعني مجتمعا معينا ،كنيسة أو أمة ،فلن يكون سوى مذهبة .كذلك إذا أراد خدمة تالمذته
فقط دون األخذ بعين االعتبار الحاجات االجتماعية،سيجعل منهم أشخاصا غير متالئمين وال قادرين
على التكيف،بالتالي فهو يلعب دورا مزدوجا،لذلك بالنسبة لروبول "التعليم دائما،سواء أردنا أم ال،هو
ش يء اجتماعي .وكل ما يمكن أن نتمناه ونحاول تحقيقه،هو أن ال يتم اختزال هذا االجتماعي في ما هو
وطني أو برجوازي؛ألن التعليم ليس فقط في خدمة مجتمع معين،بل يخدم في املقام األول
اإلنسانية،واإلنسان في الطفل".9
ماذا عن االندماج االجتماعي؟ إنه مهم في رأي روبول ،لكن كل مجتمع يحمل جانبا من التعصب،و
األنانية املقدسة،فهل يجب تكييف الشباب مع مجتمع عنصري،وهل هناك مجتمع غير عنصري إما
قليال أو كثيرا؟املشكل هو أن هذا النوع من التربية سيكون ضارا باملجتمع نفسه ألنه سيساهم في
تحجرها ويعميها عن كل ما يمكن أن تحمله من انفتاح .إن املجتمع ليس بسيطا وال قا ّرا،والتربية عليها
أن تيهئ الطفل ملا سيعرفه من تعقيد وتطور،في حين أننا "عندما نسعى إلى جعل الفرد وسيلة
للمجتمع،فنحن ننس ى خصوصيته،ونجعل منه شيئا فقير الوسائل".10
7منصف عبد الحق ،األنوار وسلطة الخبير البيداغوجي-دراسة نقدية في نظرية الثقافة والتربية عند إيمانويل كانط،افريقيا الشرق ،2011الدار
البيضاء،ص .257
8نفس المرجع ،ص .257
9
Reboul, Olivier,Qu’est ce qu’apprendre ?PUF 1980,Paris.P 136.
10
Rebou, Olivier l,la Philosophie de l’éducation,PUF 1989,Paris.P 24.
من أجل املجتمع أو من أجل الطفل؟ يتعلق األمر – من منظور روبول – ببديل خاطئ؛ذلك أن كل
مصطلح ال يحمل معناه إال من خالل عيوب اآلخر .ألن بين الفرد واملجتمع،يوجد مصطلح ثالث هو
"اإلنسانية"،والتربية نفسها تشهد بذلك،إذ ال تتم تربية الطفل ليبقى كذلك،كما ال تتم تربيته ُليجعل
منه "عامال ومواطنا"،إنما تتم تربيته من أجل أن ُيجعل منه انسانا،يعني كائنا قادرا على التواصل مع
األشخاص.فوراء كل الثقافات،هناك الثقافة التي تسمح قبل كل ش يء بأن تتواصل فيما بينها .هذا
الرابط األساس ي مع ما هو إنساني مهم جدا،يجعل من التربية شيئا آخر غير الترويض أو النضج
التلقائي .فأن تكون إنسانا ،يعني أن تتعلم كيف تصيره .لذلك تبدو غاية التربية بالنسبة لروبول هي
"السماح لكل واحد باستكمال طبيعته في حضن ثقافة عليها ان تكون إنسانية .إذا كانت هذه الغاية
تبدو طوباوية،فهي وحدها التي تحمي التربية من «دعه يفعل»،ومن املذهبة" .11إن التربية في جميع
املجاالت منذ الوالدة إلى آخر يوم،هي تعلم الصيرورة إنسانا .والتربية األسرية،التعليم،التكوينات هي
أجزاء من هذا التعلم .في جميع األحوال،الفرد يتعلم أن يصير إنسانا .وإذا أردنا ،من منظور روبول
دائما،تعريف التربية ينبغي التفكير في لفظ "إنسان"،ويؤكد الباحث على أننا ال ننتهي من الصيرورة
إنسانا،والولوج إلى الثقافة اإلنسانية ليس أبدا مكتسبا:ليس هناك ديبلوم في اإلنسانية يضع حدا
للتربية.
إن التربية ال تهدف إلى صنع راشدين تبعا لنموذج معين ،بل هي تهدف إلى تحرير اإلنسان مما يمنعه
من تحقيق ذاته والتناغم معها .فنحن حين نصنع راشدين تبعا لنموذج معين (مثل ذاك الذي تحدث
نكون بشرا آليين (أو شبيهين باآللة)عنه واطسون)،نقع في الطرف املضاد للتربية،ألننا والحالة هذه ّ
عاجزين عن فهم ما يفعلون ،وملاذا يفعلون ما يفعلونه،ومن هنا فهم يعجزون عن اإلبداعية؛أي عن
التكيف مع أوضاع جديدة .ينبغي أن نفهم من التربية التكوين الشامل لإلنسان،والذي ال يعتبر التكوين
املختص والتعليم ذاته سوى أجزاء منه .فالتربية هي مجموع الصيرورات واألساليب التي تسمح للطفل
بالوصول إلى حالة الثقافة باعتبارها تميز اإلنسان عن الحيوان .هكذا يبدو لنا أن غاية التربية هي
السماح لكل واحد بتحقيق طبيعته في حضن ثقافة ينبغي أن تكون إنسانية،على اعتبار أن التربية " ال
تهدف إلى خلق مواطن صالح،وال إلى الحياة االجتماعية أو السياسية،أو االقتصادية،إلخ؛بل هدفها
األساس هو تكوين اإلنسان في اإلنسان".12
تتميز التربية بالقدرة على االبتكار واإلبداعية ،وليس بالتقليد والتكرار مثلما يعمل على ذلك الترويض
الذي ليس تربية على اإلطالق،لذلك فغاية ما – بالنسبة لروبول – ليست تربوية إال إذا كانت هي ذاتها
وسيلة ملتابعة التربية .وهذا الشرط يؤسس التربية باعتبارها غاية التربية .فسوف نخون التربية منذ
اللحظة التي نربي فيها الفرد من أجل املجتمع وليس من أجل ذاته.
11
Ibid.P 25.
12روبول ،أوليفيي ،لغة التربية-تحليل الخطاب البيداغوجي،ترجمة عمر أوكان،أفريقيا الشرق ،2002الدار البيضاء،ص .31
إن نتيجة متيقنا منها ليست بعد غاية تربوية .فإذا كان بإمكان املربي سلفا معرفة أن أولئك الذين
يربيهم سوف يصيرون بفضله رياضيين أو فضالء،فإننا لن نهتم كثيرا برياضتهم أو فضيلتهم،وذلك ألنهم
مرب لألجيال الصاعدة وال ينبعي أن يكون املطلوب هو لن يكونوا تماما هم ذاتهم .إن املطلوب هو ّ
صانع يريد مسبقا أن يعرف ما هو املنتوج الذي سوف يتم إخراجه من مصنعه .من هذا املنطلق لن
يكون املربي سوى مقدما،وهو هنا من أجل أن يجعل التلميذ قادرا على الفهم بشكل جيد ومعرفة
األسباب .لكن الكيفية التي يستعمل بها التلميذ هذه الكفاءة ليست متوقعة وال مبرمجة؛ فإذا تعلم أن
يفكر بنفسه ،لن يفكر ربما إطالقا كما أردنا له أن يفكر .إذا تعلم اللعب بالكمان،سيلعب ما يريد.
املذهبة تعمل على خنق هذا الفكر،وهذه اإلرادة .ألجل ذلك كان الزما أن تكون هناك قيم كونية وإال
ستكون التربية فقط ترويضا ومذهبة.
لكن ما العنصر الذي يسمح بالقول أن تربية ما ناجحة؟ هناك الكثير،لكن األساس ي بالنسبة لروبول
هو أنها ناجحة عندما تكون غير مكتملة" .إذا أعطت للموضوع الوسائل والرغبة في متابعتها،وأن يجعل
منها تربية ذاتية .ألننا نصير ربما يوما مهندسين أو أطباء،أو مواطنين صالحين،إال أننا ال ننتهي أبدا من
الصيرورة إنسانا" .13إن فكرة النجاح في هذا املجال ال تجري بسهولة .أكيد أنه يمكننا الحديث عن
النجاح في التربية،مثل تجاوز عسر القراءة أو الصيرورة مهندسا معماريا .لكن هل يمكن الحديث عن
نجاح للتربية ،عن تحقيق تربية كاملة أي تامة والتي على إثرها يمكن أن نعلن عن إنهاء يجعل نجاح
التربية من األن فصاعدا غير مفيد؟ يعتقد روبول أنه ال يمكن ذلك .إننا ننتهي ذات يوم أو آخر من
التدريب أو من الدروس؛إال أننا لن ننتهي أبدا من الصيرورة إنسانا كما سبقت اإلشارة .أن ال يصير لك
بعد ش يء تتعلمه،معناه أن ال يصير لك ش يء تحياه؛وهذه ليس غاية التربية،إنه املوت .موت يمكن،مع
كامل األسف،أن يسبق بزمن طويل املوت املادي .ومن هنا فإن تربية إنسان تتطلب العمر كله وال
تقتصر على مدة زمنية معينة.
إن غاية التربية بالنسبة لديوي هي السماح لكل فرد بمتابعة تربيته .نعثر على فكرة مماثلة جدا لدى
فيلسوف مناقض كليا لديوي،هو أفالطون .إن سقراط في بروتاغوراس،يقول للشاب هيبوقراط :إذا
كنت قد درست مع هؤالء املدرسين (للنحو،للموسيقى والرياضة) فليس ذلك من أجل ّفنهم،بغاية أن
ُ
تصير ذاتك تقنيا،وإنما من أجل تربيتك .إنه يوجد بين أفالطون وديوي – وبين آخرين بدون شك – ما
يسميه روبول بالثابت البيداغوجي .وذلك ملعرفة أن التربية ليست لها غاية أخرى سوى ذاتها،وأنها
مستمرة بالجوهر.و"إننا ال نربي األطفال من أجل مرمى خارجي،مثل التكيف اإلجتماعي أو اإلنتاجي
االقتصادي«،وإنما من أجل تربيتهم»،يعني من أجلهم"،14وطبقا لذلك فأي نجاح مبرمج ليس تتويجا
للتربية وإنما إخفاق لها.
13
Reboul, Olivier,la Philosophie de l’éducation,PUF 1989,Paris.P 121.
14روبول ،أوليفيي ،لغة التربية-تحليل الخطاب البيداغوجي ،ترجمة عمر أوكان ،أفريقيا الشرق ،2002الدار البيضاء ،ص .196
إن الطفل ال يتواجد باملدرسة من أجل تلقي حلول ملشكالته ،بل ليتعلم طرح مشكالت أخرى،
مشكالت الراشد ،كذلك ال يتعلق األمر بنقل معارف ،وإنما بإدارة ذهنه نحو ما يستحق أن ُيعرف.
املعلم في هذا املقام ليس هو ذاك الذي ينقل؛ وإنما هو ذاك الذي يسأل ُويكره من خالل أسئلته ،على
البحث.
وإذا كانت القيم الخاصة شيئا ضروريا فالبد من األخذ بعين االعتبار موازاة مع ذلك،ما هو كوني حتى ال
نسقط في الترويض واملذهبة .السلطة كذلك ش يء ضروري في املجال التربوي،لكن استعمالها البد أن
يكون بش يء من الحكمة،على اعتبار أن الهدف األساس ي هو حمل املتعلم على االنتقال من إكراه الغير
إلى اكراه الذات،وهذا لن يتأتى إال من خالل التدريس بواسطة الحرية ألجل الحرية،وحيث إن السلطة
ضرورية،على املدرس أن يمارسها لكن بدون سلطة،مع الحرص على أن تكون تعامالته مبنية على
اإلقناع ،بحيث يستشعر املتعلم أن السلطة التي تمارس عليه ليست إكراها تعسفيا ال معنى له ،وإنما
يتعامل معها باعتبارها واجبا ومحطة أساسية من أجل الحرية ،لذلك يلزمها أن تكون مبنية على
اإلقناع حتى تكون مقبولة ومجدية .أما بخصوص الغايات ،فالغاية األولى واألخيرة للتربية هي تربية
اإلنسان في اإلنسان،تربية اإلنسان من أجل ذاته حتى يمكنه متابعة تربيته الخاصة دون مساعدة
اآلخرين؛ومعنى هذا أن التربية ليس لها من غاية سوى ذاتها .إننا ال نربي الطفل من أجل أن يبقى
كذلك .كما أننا ال نربيه من أجل أن نجعل منه "عامال ومواطنا" .إننا نربيه من أجل أن نجعل منه
إنسانا؛ يعني كائنا قادرا على أن يتواصل ويتحد ويتفاعل مع األحداث واملواقف البشر.