You are on page 1of 7

‫جامعة ابن طفيل‬

‫كلية العلوم اإلنسانية واالجتماعية‬


‫شعبة الفلسفة‬
‫الفصل السادس‬
‫الحصة الثامنة‬

‫املحور الثالث‪ :‬غاية التربية ألجل الطفل أم ألجل املجتمع؟‬

‫هذه املفارقة يمكن صياغتها كالتالي‪ :‬إذا كانت التربية حقا للطفل واجبا على املربي‪،‬فما الذي يتم تكوينه‬
‫داخل هذا الطفل‪ :‬طبيعته األصلية أم قابليته للحياة االجتماعية؟ هل نربي الطفل ألجل ذاته وتفتح‬
‫طبيعته الخاصة(ميوالته‪،‬رغباته‪،‬حاجاته‪،‬مواهبه‪)...‬؟ أم ألجل املجتمع وانخراطه داخل مؤسساته‬
‫وقيمه؟ ما هي وجهة التربية هل اإلنسان أم املواطن؟‬
‫األطروحة األولى صاغ معاملها األولى «مونطيني» وبلورها «روسو» وتعتبر التربية عمال يخدم الطبيعة‬
‫داخل الفرد بشكل يفتحه على العالم ككل‪ .‬والثانية صاغ معاملها «جون لوك»‪ ،‬وتعتبر التربية عمال ييهئ‬
‫الطبيعة داخل الفرد ألجل تكييفها مع غايات الحياة االجتماعية‪.‬‬
‫لقد سبق ل«مونطيني» منذ ق ‪16‬م أن أدان كل عنف ممارس على الطفل احتراما لطفولته‪،‬معتبرا أن‬
‫كل ما ال يمكن أن يتحقق بالعقل والتبصر والروية ال يمكنه أبدا أن يتحقق بواسطة القوة‪ .‬وفي مقابل‬
‫مرب بأن يترك امليول واالستعدادات الطبيعية للطفل تنمو وتتطور من‬ ‫ذلك يطالب «مونطيني» كل ّ‬
‫تلقاء ذاتها أوال على غرار ما يحدث مع كل كائنات الطبيعة‪ .‬وعوض استقبال الطفل الوليد بمجموعة‬
‫كبيرة من العادات والقواعد وإخضاعه إليقاع اجتماعي في النمو يتعارض مع تكوينه الطبيعي‪،‬وشحن‬
‫ذهنه باملعارف والقيم الجاهزة املتوارثة التي ال تصنع سوى أدمغة ممتلئة ال كائنات عاقلة‬
‫متمرسة‪،‬يجب أن نجعل العالم الحس ي هو الكتاب الفعلي للطفل‪ .‬أما نزعة روسو الرومانسية فقد‬
‫منعته من أن يتعامل مع هذه املفارقة بشكل نقدي‪،‬فهو ال يتصور إمكانية الجمع بينهما حيث يقول‬
‫"إما الطبيعة وإما املقوالت االجتماعية‪ .‬فأما أن تجعله إنسانا أو تجعله مواطنا‪،‬إذ يمتنع أن تجعله هذا‬
‫وذاك في آن واحد"‪.1‬فتوجيه تربية الطفل نحو اإلنسان‪،‬يعني اعتباره قيمة مطلقة ال تقاس إال‬
‫بذاتها‪،‬أي بطبيعتها الخاصة‪ .‬وهذا بالذات ما كان يسعى إليه روسو‪ .‬أما توجيه التربية نحو الحياة‬
‫املدنية‪،‬فيعني ربطه بالعالقات االجتماعية واعتباره جزءا من كل ال تقاس قيمته إال في عالقتها بهذا‬
‫الكل ككيان سياس ي‪ .‬غير أن املؤسسات االجتماعية التي «نجحت» حتى اآلن – حسب روسو – هي تلك‬

‫‪ 1‬روسو جان جاك ‪،‬إميل أو التربية من المهد إلى الرشد‪،‬ترجمة نظمي لوقا‪،‬الكتاب الثاني ‪،‬الشركة العربية للطباعة والنشر القاهرة‪،1958،‬ص ‪.28‬‬
‫التي جردت اإلنسان من طبيعته وسلبته وجوده املطلق‪ ،‬لكي تمنحه وجودا نسبيا يذيب ذاته في‬
‫الوحدة العامة‪،‬بحيث ال يرى الفرد نفسه بعدئذ شيئا قائما‪،‬بل جزءا من الكل‪،‬وال يحس إال بإحساس‬
‫الكل‪ .‬وبما أن الحياة االجتماعية حتى اآلن أفسدت طبيعة اإلنسان األصلية فهذا دليل على فساد طرق‬
‫التربية والتعامل مع الطفولة‪.‬ألجل ذلك‪،‬كان السؤال الخفي املوجه لكتاب «إميل» هو‪ :‬كيف تعيد‬
‫التربية لإلنسان طبيعته؟‬
‫إن اإلنسان املتمدين بالنسبة له يولد ويعيش ويموت في رق العبودية‪ .‬حين يولد يوثقونه‬
‫ب"قماط"‪،‬وحين يموت يسمرون عليه تابوتا‪ .‬وما دام على وجه الدنيا‪،‬فهو مكبل بشتى النظم‪،‬بينما‬
‫الطبيعة تريد أن يكون األطفال أطفاال قبل أن يصبحوا رجاال ونساء‪ .‬فإن كنا نريد أن نقلب هذا‬
‫الوضع‪ ،‬فسننتج ثمارا قبل أوانها‪ ،‬ليس فيها نضج وال نكهة‪ ،‬وال تلبث هذه الثمار الفجة أن يدب إليها‬
‫الفساد‪« ،‬نحصل على شبان هم في الواقع أطفال مسنون"‪ .2‬إن الشخص الطبيعي يعيش لنفسه‪ ،‬فهو‬
‫الوحدة العددية‪،‬وهو الكل أيضا باإلطالق وال يتعلق وجوده إال بنفسه‪.‬أما املواطن فهو وحدة عسكرية‪.‬‬
‫هو بسط مقا مه الوطن‪.‬وقيمته ليست في ذاته بل تتعلق بالكل‪ ،‬وبنسبته إلى ذلك الكل الذي هو الهيئة‬
‫االجتماعية‪ .‬لذلك فروسو ال يعنيه أن يكون مصير تلميذه االنضمام إلى الجيش أو الكنيسة أو االشتغال‬
‫بالقانون‪ .‬فالطبيعة تندبه قبل كل ش يء للحياة اإلنسانية‪ .‬والحياة هي املهنة التي يريد أن يلقنها إياه‪،‬‬
‫حيث يقول‪" :‬حين يتخرج من بين يدي لن يكون قاضيا أو جنديا أو قسيسا‪ ،‬بل سيكون إنسانا قبل كل‬
‫ش يء‪ ،‬بكل ما ينبغي أن يكونه اإلنسان"‪ .3‬فلتكن التربية تربية اإلنسان من حيث هو‪ ،‬ال تربية اإلنسان‬
‫من حيث ما ليس هو! ويضيف‪" :‬أال ترون أنكم إذ تعملون على تنشئة الرجل ليعيش في طبقة معينة‬
‫مما يجعله غير صالح لسواها‪ .‬وأنه عند أي تغيير يروق لألقدار سيكون هذا الشخص شقيا‪ ،‬وستكون‬
‫تربيتكم له مجهودا متواصال لإلمعان في شقائه"‪ ،4‬وهو يعيب عن الذين يركنون إلى النظام االجتماعي‬
‫الحالي من غير أن يفكروا في أن ذلك النظام عرضة لثورات ال مناص منها‪ .‬وأنه من املستحيل أن‬
‫يتوقعوا سلفا أو يتنبئوا سلفا بما يمكن أن يحدث ألطفالهم غدا‪" .‬إن الكبير يمس ي صغيرا‪،‬والغني يمس ي‬
‫فقيرا‪،‬وامللك يمس ي رعية‪ .‬وضربات القدر ليست من القلة بحيث تظنون أنفسكم بمنجاة منها‪ .‬إننا‬
‫نقترب من قمة األزمة‪،‬ونقترب من عصر الثورات‪ .‬فمن ذا الذي يضمن لكم ماذا ستكونون عندئذ؟"‪.5‬‬
‫لقد انتقد روسو التربية السائدة لدى اآلباء التي تيهئ الطفل للمهام التي يقوم بها اجتماعيا في وقت كان‬
‫الزما عليهم جعل التربية تخدم الطبيعة والحياة داخل الطفل‪ .‬فالحياة – يقول روسو – هي املهنة التي‬
‫أريد أن أعلمها إياه‪،‬وهو يتخرج من يدي‪،‬لن يكون قاضيا وال جنديا وال راهبا‪،‬سيكون أوال إنسانا‪ .‬اختار‬
‫روسو إذن‪،‬أن تكون التربية موجهة ألجل الطبيعة داخل الطفل مبلورا بذلك الشق األول من املفارقة‬
‫الخاصة بغاية التربية‪.‬‬

‫‪ 2‬روسو ‪،‬جان جاك ‪،‬إميل أو التربية من المهد إلى الرشد‪،‬ترجمة نظمي لوقا‪،‬الكتاب الثاني ‪،‬الشركة العربية للطباعة والنشر القاهرة‪،1958،‬ص ‪.95‬‬
‫‪ 3‬المرجع نفسه ‪،‬ص ‪.32‬‬
‫‪ 4‬المرجع نفسه ص ‪.166‬‬
‫‪ 5‬المرجع نفسه ‪،‬ص ‪.167‬‬
‫بينما يبلور لوك الشق الثاني من املفارقة في أن تأخذ التربية وجهة املجتمع‪،‬وهو ال ينكر اهتمام‬
‫التربية بالطبيعة داخل الفرد‪،‬لكن تربية الطبيعة ينبغي أن تأخذ وجهة املجتمع‪،‬ألن الطفل في هذه‬
‫املرحلة يسهل التحكم فيه إذ يكون أكثر انصياعا وأكثر استعدادا الكتساب عادة ما والتطبع بها‪" .‬كما‬
‫أن لوك ال يتصور التربية على االنضباط واالمتثال للقواعد االجتماعية كبحا للطبيعة الطفلية أو‬
‫ممارسة لسلطة غير متناسبة مع هذه الطبيعة‪،‬فسلطة املربي ينبغي أن تكون قائمة على خبرة‬
‫بيداغوجية قوامها معرفة بالطفولة وحاجاتها"‪.6‬‬
‫يميز كانط في دروسه حول األخالق داخل كل تربية بين نوعين من األنشطة التربوية‪ .‬األول يشمل‬
‫األنشطة التي تخص «تنمية االستعدادات الطبيعية وتطويرها»‪،‬وهنا يكون هدف التربية هو رعاية‬
‫الطفل داخل الفرد وتوجيه نحو التفتح والنمو واالكتمال‪،‬والثاني يتضمن األنشطة التي تهم «اكتساب‬
‫املهارات» عبر مختلف عمليات «التعلم»‪،‬وهنا يكون هدف التربية الديداكتيكية على الخصوص هو‬
‫اكتساب الطفل إجراءات ومهارات جديدة ألنها ليست من صنع الطبيعة‪،‬بل من اكتشاف اإلنسان ذاته‬
‫لسد مختلف الحاجات الجديدة التي يفرضها نمو حياته االجتماعية‪ .‬وهكذا‪ ،‬إذا كانت األنشطة األولى‬
‫موجهة لتنمية الطبيعة داخل الفرد‪ ،‬فإن األنشطة الثانية موجهة لخلق طبيعة أخرى هي الثقافة‬
‫داخل الفرد التي تخدمه ككائن صانع واجتماعي ومواطن داخل الدولة‪ .‬لذلك كان سؤال كانط‬
‫هو‪:‬كيف نقيم مصالحة بين الطبيعة الطفلية وبين املجتمع‪،‬بين مقتضيات النمو التلقائي للميول‬
‫والقدرات‪،‬وبين االستجابة ملقتضيات الحياة املدنية واالجتماعية؟ وإذا اخترنا التربية ألجل الطبيعة‬
‫وحدها‪،‬ماذا سيكون مآل إنسان تمت تربيته فقط بمراعاة ذاته وحدها دون مراعاة الغير واملواطنة‬
‫داخل املجتمع؟ أال تكون التربية ألجل الذات أكبر عائق أمام التربية ألجل املجتمع(مجتمع الحريات‬
‫العمومية القائمة على التعاقد السياس ي)؟ وفي املقابل‪،‬ماذا سيكون مصير الطبيعة الطفلية إذا ما‬
‫اخترنا تربية الطفل بمراعاة شروط الوجود االجتماعي والقيم املدنية وحدها؟ أال تكون التربية من‬
‫أجل املجتمع عائقا أمام تفتح ذات الطفل وتنمية قدراته الطبيعية األصلية؟ وهكذا تصطدم التربية‬
‫بصعوبة املصالحة بين غايات الطبيعة وغايات الثقافة االجتماعية‪ .‬تتطلب غايات الطبيعة أن يكون‬
‫املربي مجرد موجه للطفل يساعده على مسايرة نمو قدراته وقواه الطبيعية‪ .‬في حين تتطلب غايات‬
‫ُ‬
‫املجتمع أن يكون املربي متدخال في هذا النمو ممارسا لسلطة بيداغوجية تكره الطفل على االنضباط‬
‫واالمتثال من جهة‪،‬وتعلمه مهارات معينة دون غيرها تعتبرها الثقافة االجتماعية في فترة تاريخية ما أنفع‬
‫من غيرها لحياة الطفل واندماجه االجتماعي‪ .‬على هذا األساس وجب أن ينصب عمل التربية بالنسبة‬
‫لكانط على تنمية امليلين معا‪ :‬امليل إلى التفرد وامليل إلى الحياة االجتماعية‪ .‬بخصوص تنمية امليل إلى‬
‫التفرد‪،‬ينبغي مساعدة الطفل على تنمية قدراته ومهاراته الطبيعية وتفتحها‪ .‬لكن ذلك يقتض ي من جهة‬
‫أخرى تدخال تربويا يحد من األنانية الفطرية للطفل‪ ،‬حتى ال تتحول إلى عدوانية ضد الغير‪ .‬وهذا‬

‫‪6‬منصف عبد الحق ‪،‬األنوار وسلطة الخبير البيداغوجي‪-‬دراسة نقد ية في نظرية الثقافة والتربية عند إيمانويل كانط‪،‬افريقيا الشرق ‪،2011‬الدار‬
‫البيضاء‪،‬ص ‪.253‬‬
‫بالذات ما يتطلب أيضا تضمن الفعل التربوي إكراها مشروعا يوجه الطبيعة الذاتية للطفل نحو‬
‫العالقات االجتماعية وقيمها العمومية(السياسية والثقافية‪ .)...‬وهذا بالذات ما يفرض على عمل‬
‫التربوي أن يراهن على نوعين من التدخل‪":‬تدخل ألجل الطبيعة الطفلية في ذاتها بغية تنمية‬
‫قدراتها‪،‬وتدخل ألجل املجتمع بهدف االندماج داخل العالقات االجتماعية"‪ .7‬وعلى الرغم من أنه رهان‬
‫صعب إذ يحتوي مفارقة مستحيلة التجاوز كما رأينا‪،‬فقد بدا لكانط أنه رهان ممكن‪،‬شريطة أن تكون‬
‫تربية الطبيعة داخل الذات غاية أولى ألجل غاية ثانية هي تربية الذات ألجل الثقافة االجتماعية(ثقافة‬
‫املواطنة والحقوق والذوق االجتماعي)‪ .‬من املؤكد أن املرور من الغاية األولى إلى الغاية الثانية لن يكون‬
‫مباشرا‪ .‬فاملسافة تبدو بعيدة جدا بين الطبيعة الطفلية وبين املجتمع‪ .‬والبد من وسيط يؤمن ذلك‬
‫العبور‪،‬سيجده كانط فيما يسميه التربية السلبية‪"،‬يقصد بذلك التربية على االنضباط واالمتثال‬
‫للقواعد‪ .‬يجب على هذه الطبيعة أن تتعود الخضوع لقواعد العقل بمعناه التقني‪-‬العملي وكذا‬
‫السياس ي واألخالقي‪،‬حتى تصبح طبيعة انسانية حقا"‪،8‬وفي نفس الصدد يرى جون ديوي أن التربية‬
‫املقصودة تتطلب دراية بنفسية الطفل من جانب وحاجات املجتمع من جانب آخر‪،‬لكن دون أن‬
‫نخضع أحدهما لآلخر‪.‬‬
‫إذا كان التعليم يعتبر كخدمة‪،‬فغاية هذه الخدمة مضاعفة‪،‬ألن املدرس يشتغل من أجل تالمذته‪،‬لكنه‬
‫يشتغل أيضا من أجل املجتمع الذي يكلفه بالتعليم والتثقيف والتقويم‪...‬فإذا كان ال يخدم سوى‬
‫املجتمع يعني مجتمعا معينا‪ ،‬كنيسة أو أمة‪ ،‬فلن يكون سوى مذهبة‪ .‬كذلك إذا أراد خدمة تالمذته‬
‫فقط دون األخذ بعين االعتبار الحاجات االجتماعية‪،‬سيجعل منهم أشخاصا غير متالئمين وال قادرين‬
‫على التكيف‪،‬بالتالي فهو يلعب دورا مزدوجا‪،‬لذلك بالنسبة لروبول "التعليم دائما‪،‬سواء أردنا أم ال‪،‬هو‬
‫ش يء اجتماعي‪ .‬وكل ما يمكن أن نتمناه ونحاول تحقيقه‪،‬هو أن ال يتم اختزال هذا االجتماعي في ما هو‬
‫وطني أو برجوازي؛ألن التعليم ليس فقط في خدمة مجتمع معين‪،‬بل يخدم في املقام األول‬
‫اإلنسانية‪،‬واإلنسان في الطفل"‪.9‬‬
‫ماذا عن االندماج االجتماعي؟ إنه مهم في رأي روبول ‪،‬لكن كل مجتمع يحمل جانبا من التعصب‪،‬و‬
‫األنانية املقدسة‪،‬فهل يجب تكييف الشباب مع مجتمع عنصري‪،‬وهل هناك مجتمع غير عنصري إما‬
‫قليال أو كثيرا؟املشكل هو أن هذا النوع من التربية سيكون ضارا باملجتمع نفسه ألنه سيساهم في‬
‫تحجرها ويعميها عن كل ما يمكن أن تحمله من انفتاح‪ .‬إن املجتمع ليس بسيطا وال قا ّرا‪،‬والتربية عليها‬
‫أن تيهئ الطفل ملا سيعرفه من تعقيد وتطور‪،‬في حين أننا "عندما نسعى إلى جعل الفرد وسيلة‬
‫للمجتمع‪،‬فنحن ننس ى خصوصيته‪،‬ونجعل منه شيئا فقير الوسائل"‪.10‬‬

‫‪7‬منصف عبد الحق ‪،‬األنوار وسلطة الخبير البيداغوجي‪-‬دراسة نقدية في نظرية الثقافة والتربية عند إيمانويل كانط‪،‬افريقيا الشرق ‪،2011‬الدار‬
‫البيضاء‪،‬ص ‪.257‬‬
‫‪ 8‬نفس المرجع ‪،‬ص ‪.257‬‬
‫‪9‬‬
‫‪Reboul, Olivier,Qu’est ce qu’apprendre ?PUF 1980,Paris.P 136.‬‬
‫‪10‬‬
‫‪Rebou, Olivier l,la Philosophie de l’éducation,PUF 1989,Paris.P 24.‬‬
‫من أجل املجتمع أو من أجل الطفل؟ يتعلق األمر – من منظور روبول – ببديل خاطئ؛ذلك أن كل‬
‫مصطلح ال يحمل معناه إال من خالل عيوب اآلخر‪ .‬ألن بين الفرد واملجتمع‪،‬يوجد مصطلح ثالث هو‬
‫"اإلنسانية"‪،‬والتربية نفسها تشهد بذلك‪،‬إذ ال تتم تربية الطفل ليبقى كذلك‪،‬كما ال تتم تربيته ُليجعل‬
‫منه "عامال ومواطنا"‪،‬إنما تتم تربيته من أجل أن ُيجعل منه انسانا‪،‬يعني كائنا قادرا على التواصل مع‬
‫األشخاص‪.‬فوراء كل الثقافات‪،‬هناك الثقافة التي تسمح قبل كل ش يء بأن تتواصل فيما بينها‪ .‬هذا‬
‫الرابط األساس ي مع ما هو إنساني مهم جدا‪،‬يجعل من التربية شيئا آخر غير الترويض أو النضج‬
‫التلقائي‪ .‬فأن تكون إنسانا ‪،‬يعني أن تتعلم كيف تصيره‪ .‬لذلك تبدو غاية التربية بالنسبة لروبول هي‬
‫"السماح لكل واحد باستكمال طبيعته في حضن ثقافة عليها ان تكون إنسانية‪ .‬إذا كانت هذه الغاية‬
‫تبدو طوباوية‪،‬فهي وحدها التي تحمي التربية من «دعه يفعل»‪،‬ومن املذهبة"‪ .11‬إن التربية في جميع‬
‫املجاالت منذ الوالدة إلى آخر يوم‪،‬هي تعلم الصيرورة إنسانا‪ .‬والتربية األسرية‪،‬التعليم‪،‬التكوينات هي‬
‫أجزاء من هذا التعلم‪ .‬في جميع األحوال‪،‬الفرد يتعلم أن يصير إنسانا‪ .‬وإذا أردنا ‪،‬من منظور روبول‬
‫دائما‪،‬تعريف التربية ينبغي التفكير في لفظ "إنسان"‪،‬ويؤكد الباحث على أننا ال ننتهي من الصيرورة‬
‫إنسانا‪،‬والولوج إلى الثقافة اإلنسانية ليس أبدا مكتسبا‪:‬ليس هناك ديبلوم في اإلنسانية يضع حدا‬
‫للتربية‪.‬‬

‫إن التربية ال تهدف إلى صنع راشدين تبعا لنموذج معين‪ ،‬بل هي تهدف إلى تحرير اإلنسان مما يمنعه‬
‫من تحقيق ذاته والتناغم معها‪ .‬فنحن حين نصنع راشدين تبعا لنموذج معين (مثل ذاك الذي تحدث‬
‫نكون بشرا آليين (أو شبيهين باآللة)‬‫عنه واطسون)‪،‬نقع في الطرف املضاد للتربية‪،‬ألننا والحالة هذه ّ‬
‫عاجزين عن فهم ما يفعلون ‪،‬وملاذا يفعلون ما يفعلونه‪،‬ومن هنا فهم يعجزون عن اإلبداعية؛أي عن‬
‫التكيف مع أوضاع جديدة‪ .‬ينبغي أن نفهم من التربية التكوين الشامل لإلنسان‪،‬والذي ال يعتبر التكوين‬
‫املختص والتعليم ذاته سوى أجزاء منه‪ .‬فالتربية هي مجموع الصيرورات واألساليب التي تسمح للطفل‬
‫بالوصول إلى حالة الثقافة باعتبارها تميز اإلنسان عن الحيوان‪ .‬هكذا يبدو لنا أن غاية التربية هي‬
‫السماح لكل واحد بتحقيق طبيعته في حضن ثقافة ينبغي أن تكون إنسانية‪،‬على اعتبار أن التربية " ال‬
‫تهدف إلى خلق مواطن صالح‪،‬وال إلى الحياة االجتماعية أو السياسية‪،‬أو االقتصادية‪،‬إلخ؛بل هدفها‬
‫األساس هو تكوين اإلنسان في اإلنسان"‪.12‬‬
‫تتميز التربية بالقدرة على االبتكار واإلبداعية‪ ،‬وليس بالتقليد والتكرار مثلما يعمل على ذلك الترويض‬
‫الذي ليس تربية على اإلطالق‪،‬لذلك فغاية ما – بالنسبة لروبول – ليست تربوية إال إذا كانت هي ذاتها‬
‫وسيلة ملتابعة التربية‪ .‬وهذا الشرط يؤسس التربية باعتبارها غاية التربية‪ .‬فسوف نخون التربية منذ‬
‫اللحظة التي نربي فيها الفرد من أجل املجتمع وليس من أجل ذاته‪.‬‬

‫‪11‬‬
‫‪Ibid.P 25.‬‬
‫‪12‬روبول‪ ،‬أوليفيي ‪،‬لغة التربية‪-‬تحليل الخطاب البيداغوجي‪،‬ترجمة عمر أوكان‪،‬أفريقيا الشرق ‪،2002‬الدار البيضاء‪،‬ص ‪.31‬‬
‫إن نتيجة متيقنا منها ليست بعد غاية تربوية‪ .‬فإذا كان بإمكان املربي سلفا معرفة أن أولئك الذين‬
‫يربيهم سوف يصيرون بفضله رياضيين أو فضالء‪،‬فإننا لن نهتم كثيرا برياضتهم أو فضيلتهم‪،‬وذلك ألنهم‬
‫مرب لألجيال الصاعدة وال ينبعي أن يكون املطلوب هو‬ ‫لن يكونوا تماما هم ذاتهم‪ .‬إن املطلوب هو ّ‬
‫صانع يريد مسبقا أن يعرف ما هو املنتوج الذي سوف يتم إخراجه من مصنعه‪ .‬من هذا املنطلق لن‬
‫يكون املربي سوى مقدما‪،‬وهو هنا من أجل أن يجعل التلميذ قادرا على الفهم بشكل جيد ومعرفة‬
‫األسباب‪ .‬لكن الكيفية التي يستعمل بها التلميذ هذه الكفاءة ليست متوقعة وال مبرمجة؛ فإذا تعلم أن‬
‫يفكر بنفسه‪ ،‬لن يفكر ربما إطالقا كما أردنا له أن يفكر‪ .‬إذا تعلم اللعب بالكمان‪،‬سيلعب ما يريد‪.‬‬
‫املذهبة تعمل على خنق هذا الفكر‪،‬وهذه اإلرادة‪ .‬ألجل ذلك كان الزما أن تكون هناك قيم كونية وإال‬
‫ستكون التربية فقط ترويضا ومذهبة‪.‬‬
‫لكن ما العنصر الذي يسمح بالقول أن تربية ما ناجحة؟ هناك الكثير‪،‬لكن األساس ي بالنسبة لروبول‬
‫هو أنها ناجحة عندما تكون غير مكتملة‪" .‬إذا أعطت للموضوع الوسائل والرغبة في متابعتها‪،‬وأن يجعل‬
‫منها تربية ذاتية‪ .‬ألننا نصير ربما يوما مهندسين أو أطباء‪،‬أو مواطنين صالحين‪،‬إال أننا ال ننتهي أبدا من‬
‫الصيرورة إنسانا"‪ .13‬إن فكرة النجاح في هذا املجال ال تجري بسهولة‪ .‬أكيد أنه يمكننا الحديث عن‬
‫النجاح في التربية‪،‬مثل تجاوز عسر القراءة أو الصيرورة مهندسا معماريا‪ .‬لكن هل يمكن الحديث عن‬
‫نجاح للتربية‪ ،‬عن تحقيق تربية كاملة أي تامة والتي على إثرها يمكن أن نعلن عن إنهاء يجعل نجاح‬
‫التربية من األن فصاعدا غير مفيد؟ يعتقد روبول أنه ال يمكن ذلك‪ .‬إننا ننتهي ذات يوم أو آخر من‬
‫التدريب أو من الدروس؛إال أننا لن ننتهي أبدا من الصيرورة إنسانا كما سبقت اإلشارة ‪.‬أن ال يصير لك‬
‫بعد ش يء تتعلمه‪،‬معناه أن ال يصير لك ش يء تحياه؛وهذه ليس غاية التربية‪،‬إنه املوت‪ .‬موت يمكن‪،‬مع‬
‫كامل األسف‪،‬أن يسبق بزمن طويل املوت املادي‪ .‬ومن هنا فإن تربية إنسان تتطلب العمر كله وال‬
‫تقتصر على مدة زمنية معينة‪.‬‬
‫إن غاية التربية بالنسبة لديوي هي السماح لكل فرد بمتابعة تربيته‪ .‬نعثر على فكرة مماثلة جدا لدى‬
‫فيلسوف مناقض كليا لديوي‪،‬هو أفالطون‪ .‬إن سقراط في بروتاغوراس‪،‬يقول للشاب هيبوقراط‪ :‬إذا‬
‫كنت قد درست مع هؤالء املدرسين (للنحو‪،‬للموسيقى والرياضة) فليس ذلك من أجل ّفنهم‪،‬بغاية أن‬
‫ُ‬
‫تصير ذاتك تقنيا‪،‬وإنما من أجل تربيتك‪ .‬إنه يوجد بين أفالطون وديوي – وبين آخرين بدون شك – ما‬
‫يسميه روبول بالثابت البيداغوجي‪ .‬وذلك ملعرفة أن التربية ليست لها غاية أخرى سوى ذاتها‪،‬وأنها‬
‫مستمرة بالجوهر‪.‬و"إننا ال نربي األطفال من أجل مرمى خارجي‪،‬مثل التكيف اإلجتماعي أو اإلنتاجي‬
‫االقتصادي‪«،‬وإنما من أجل تربيتهم»‪،‬يعني من أجلهم"‪،14‬وطبقا لذلك فأي نجاح مبرمج ليس تتويجا‬
‫للتربية وإنما إخفاق لها‪.‬‬

‫‪13‬‬
‫‪Reboul, Olivier,la Philosophie de l’éducation,PUF 1989,Paris.P 121.‬‬
‫‪ 14‬روبول‪ ،‬أوليفيي‪ ،‬لغة التربية‪-‬تحليل الخطاب البيداغوجي‪ ،‬ترجمة عمر أوكان‪ ،‬أفريقيا الشرق ‪،2002‬الدار البيضاء‪ ،‬ص ‪.196‬‬
‫إن الطفل ال يتواجد باملدرسة من أجل تلقي حلول ملشكالته‪ ،‬بل ليتعلم طرح مشكالت أخرى‪،‬‬
‫مشكالت الراشد‪ ،‬كذلك ال يتعلق األمر بنقل معارف‪ ،‬وإنما بإدارة ذهنه نحو ما يستحق أن ُيعرف‪.‬‬
‫املعلم في هذا املقام ليس هو ذاك الذي ينقل؛ وإنما هو ذاك الذي يسأل ُويكره من خالل أسئلته‪ ،‬على‬
‫البحث‪.‬‬
‫وإذا كانت القيم الخاصة شيئا ضروريا فالبد من األخذ بعين االعتبار موازاة مع ذلك‪،‬ما هو كوني حتى ال‬
‫نسقط في الترويض واملذهبة‪ .‬السلطة كذلك ش يء ضروري في املجال التربوي‪،‬لكن استعمالها البد أن‬
‫يكون بش يء من الحكمة‪،‬على اعتبار أن الهدف األساس ي هو حمل املتعلم على االنتقال من إكراه الغير‬
‫إلى اكراه الذات‪،‬وهذا لن يتأتى إال من خالل التدريس بواسطة الحرية ألجل الحرية‪،‬وحيث إن السلطة‬
‫ضرورية‪،‬على املدرس أن يمارسها لكن بدون سلطة‪،‬مع الحرص على أن تكون تعامالته مبنية على‬
‫اإلقناع‪ ،‬بحيث يستشعر املتعلم أن السلطة التي تمارس عليه ليست إكراها تعسفيا ال معنى له‪ ،‬وإنما‬
‫يتعامل معها باعتبارها واجبا ومحطة أساسية من أجل الحرية‪ ،‬لذلك يلزمها أن تكون مبنية على‬
‫اإلقناع حتى تكون مقبولة ومجدية‪ .‬أما بخصوص الغايات‪ ،‬فالغاية األولى واألخيرة للتربية هي تربية‬
‫اإلنسان في اإلنسان‪،‬تربية اإلنسان من أجل ذاته حتى يمكنه متابعة تربيته الخاصة دون مساعدة‬
‫اآلخرين؛ومعنى هذا أن التربية ليس لها من غاية سوى ذاتها‪ .‬إننا ال نربي الطفل من أجل أن يبقى‬
‫كذلك‪ .‬كما أننا ال نربيه من أجل أن نجعل منه "عامال ومواطنا"‪ .‬إننا نربيه من أجل أن نجعل منه‬
‫إنسانا؛ يعني كائنا قادرا على أن يتواصل ويتحد ويتفاعل مع األحداث واملواقف البشر‪.‬‬

You might also like