Professional Documents
Culture Documents
القضاء والقدر حق وعدل
القضاء والقدر حق وعدل
حق وعدل
هشام عبد الرزاق احلمصي
بسم اهلل وكفى ،والَّص الة والَّس الم على سيدنا املصطفى ،وعلى آله وص--حبه ومن وىّف
ووىف .وبعد:
ف-إَّن احلديَث عن القض-اء والق-در ش-ائٌك وخطٌ-ري ملن جه-ل حقيقت-ه ،وَس ْه ٌل واضٌ-ح ملن
فهم الديَن ،بوعي ،وأحسَن املقارنَة بني النصوص الشرعية ،وَأيقن بعدالة اهلل تعاىل.
ولق -- -د انزلَ- - -ق كثٌ- - -ري من املس -- -لمني اجلاهلني إىل مه -- -اوي ال- - -ذِّل ،والكس -- -ل ،والتق -- -اعس،
واجلنب ،والتواك-- - -ل؛ جلهلهم حبقيق-- - -ة القض-- - -اء والق-- - -در ،ف-- - -أمهلوا األس-- - -باَب ،وانتظ-- - -روا الَّنْص ر
والفالح ،دون أن يسلكوا سبيَلهما ،ففاهتم النجاح.
ولو أردنا اِإل طالَة والتفصيل لطال بنا اجملال ،وك-ثر ،املق--ال ،ولكْن خُ-ري الكالم م--ا قَّ-ل
ودَّل .
ُيق-ال :قّ-د ر فالٌن الش-يء ،أي :حّ-د د مق-داره ،وق-در الش-يء بالش-يء ،أي :قاس-ه ب-ه وجعل-ه
على مقداره.
ويقال :قّد ر اخلياط ،أي :قاس طوَل فالن وحجمه؛ فَق َّص الثوَب مناسبًا لقامته.
وقّد ر اُهلل األمَر َ :عِلم وَعَر ف ما َفَعله اإلنس-اُن من خ-ري أو شّ-ر ،ف-أمر وحكم ،وقض-ى
أن يكافأ عطاًء وثوابًا إن أحسن ،أو ُيعاقب جزاًء وفاقًا إن أساء:
َفَم ْن َيْع َم ْل ِم ْثَقاَل َذ َّر ٍة َخ ْي رًا َي َر ُه * َو َم ْن َيْع َم ْل ِم ْثَق اَل َذ َّر ٍة َش ّر ًا َي َر ُه
[الزلزلة]٨ – ٧ :
وُيقال :قضى اهلل الشيَء ،أي :قّد ره .وقضى اهلل بالشيء ،أي :أمر به .ومنه:
َو َقَض ى َر ُّبَك َأاَّل َتْعُبُد وا ِإاَّل ِإَّياُه َو ِباْلَو اِلَد ْيِن ِإْح َس انًا ِإَّم ا َيْبُلَغَّن ِع ْنَدَك اْلِكَب َر
َأَح ُدُهَم ا َأْو ِكالُهَم ا َفال َتُق ْل َلُهَم ا ُأٍّف َو ال َتْنَهْر ُهَم ا َو ُق ْل َلُهَم ا َق ْو ًال َك ِر ً
يما
[اإلسراء]23 :
واملنطلُق الَّص حيُح يف هذا البحث هو العدالُة اإلهليُة احلق .قال تعاىل:
َأَلْيَس ُهَّللا ِبَأْح َك ِم اْلَح اِكِم يَن [ التني]8 :
َوَو َج ُد وا َم ا َع ِم ُلوا َح اِض رًا َو ال َيْظِلُم َر ُّبَك َأَح دًا[ الكهف]49 :
ويف احلديث القدسي« :يا عب-ادي! ِإيِّن حَّ-ر ْمُت الُّظْلَم على نفس-ي ،وجعلُته بينكم حمَّر مً-ا
َفال تظ-- -املوا ...إىل قول-- -ه :ي-- -ا عب-- -ادي! إمنا هي أعم-- -اُلكم ُأحص-- -يها عليكم ،مث أوّفيكم إياه-- -ا،
فمن وجَد َخ ريًا فليحمِد اَهلل ،وَم ن َو َج َد غري ذلك فال يلومّن إال نفَس ه»(.)1
اللهم رِّض نا بقضائك وقدرك ،واجعلنا من الراشدين.
دمشق يف 1رمضان 1414ﻫ
(?) رواه أمحد ومسلم وأبو داود والرتمذي وابن ماجه. 1
وكتبه هشام الحمصي
المسؤولية تقتضي الحرية
على العبد الب-الغ ،العاق-ل ،املخت-ار ،غ-ري املك-ره ،عن ك-ل لقد رَّتب اُهلل تعاىل مسؤوليًة
املسؤولية تقتضي احلرّية ،وإال كان العقاُب ظلمًا: ما قال ،أو فعل ،أو عمل .وهذه
ِه َو َم ْن َأَس اَء َفَع َلْيَه ا َو َم ا َر ُّب َك ِبَظاَّل ٍم ِلْلَع ِبيِد َم ْن َع ِم َل َص اِلحًا َفِلَنْفِس
[فصلت]46 :
ولذلك ُيعاقب القضاُة اجملرمني ،ألن اجملرَم أساء مبحِض إرادته ،وقد خَّطط جلرميته .وال
ُتعت--رب نتيج ُ-ة االمتح--ان للطالب عادل ً-ة إال ِإذا ُأعطي الط--الُب احلري َ-ة الكامل َ-ة يف أن يكتب،
وجييب عن األسئلة ،كما يعرف ويريد.
وآدُم َأَّو ُل خملوٍق من البشر ُم ِنع من أكل الشجرة ،وأعطي حرية التصرف ،ومل ُيكره
على تركه--ا ،وك--ذا ح--واء ،ف--أكال منه--ا خمت--ارين ،فحري--ة التص--رف منحه--ا اُهلل تع--اىل للبش--ر
منذ البداية ،ويف ذلك تكرٌمي لإلنسان وسعادة.
وال ريَب َأَّن َعقي --دَة اجلرب واإلك --راه تطيُح ب --الوحي والَّتْنزي --ل ،ومتن --ع النش --اَط اإلنس --اَّين
والعم --ل ،وُتفق --د اإلنس --ان األم َ-ل ،وُتْغري --ه بال --ذّل والكس --ل ،وهي تك --ذيٌب ملا ج --اء عن اهلل
تعاىل ورسله الكرام من العدل:
َفِلَّلِه اْلُحَّج ُة اْلَباِلَغ ُة[ األنعام]149 :
وأهُّم عناصر هذه احلجة:
-1العق -- -ل ال -- -ذي وهب -- -ه اهلل لإلنس -- -ان ،وجعل -- -ه من -- -اَط التكلي -- -ف؛ ليم -- -يَز ب -- -ه بني احلق
والباطل ،ويصَل به إىل اإلميان باخلالق العظيم وامتثال أوامره ،واجتناب نواهيه.
-2والفطرة اليت فطر اُهلل الناَس عليها:
َو َلِكَّن الَّلَه َح َّبَب ِإَلْيُكُم اِإْل يَم اَن َو َز َّيَنُه ِفي ُقُلوِبُكْم َو َك َّر َه ِإَلْيُكُم اْلُكْفَر َو اْلُفُسوَق
َو اْلِع ْص َياَن ُأوَلِئ َك ُهُم الَّراِش ُدوَن * َفْض ًال ِم َن الَّل ِه َو ِنْع َم ًة َو الَّل ُه َع ِليٌم َحِكيٌم *
[الحجرات]8-7 :
-3أرسل الرسل مبشرين ومنذرين.
-4أنزل عليهم الكتَب ،فيها شرائُع اهلل تعاىل لعباده ،فيها ما ي--أمرهم ب--ه ،أو ينه--اهم
عنه.
-5أكرم اإلنساَن حبرية التصرف واالختيار ،وَّمحل-ه أمانً-ة هي العق--ل ،يفك-ر ب-ه فيخت-ار
احلق ،ويرفض الباطل ،ويفعل اخلري ،ويتجنب الشر ،ويقوم بالتكاليف الشرعية كما ش--رعها
اهلل تعاىل ،يفعل ذلك خمت-ارًا ال ُم ْك َر هً-ا ،فيس-عد يف دني-اه وأخ-راه ،ف-إن أس-اء فأعم-ل عقل-ه
وحواسه وطاقاته ،وعصى ربه ،خاب وخسر؛ ألن-ه آث-ر أن يك-وَن ظلومً-ا لنفس-ه ،وجمتمع-ه،
ومستقبله ،جهوًال ،خيبط خبط عشواء:
ِإَّنا َع َر ْض َنا اَأْلَم اَن َة َع َلى الَّس َم اَو اِت َو اَأْلْر ِض َو اْلِج َب اِل َف َأَبْيَن َأْن َيْح ِم ْلَنَه ا
َو َأْش َفْقَن ِم ْنَها َو َح َم َلَها اِإْل ْنَس اُن ِإَّنُه َك اَن َظُلومًا َج ُهوًال[ األحزاب]72 :
وإمنا أعط--اه حري َ-ة التص ُّ-ر ِف ليكرم--ه ب--ذلك ،ويس--عده .فاحلري--ة َأْغ لى م--ا ميل ُ-ك اإلنس--ان،
ويس-- -عد ب-- -ه .واهلل خل-- -ق اإلنس-- -اَن ألَّن ه أراَد أن ُيْو ج-- -د خملوق ً- -ا يعب-- -ده ،ويس-- -تجيب ل-- -ه عن
طواعية ،وقناع-ة ،وتَعّق ل ،ورض-ا ،ورس-م ل-ه طريَ-ق النج-اة والف-وز باجلن-ة ،يس-ري إليه-ا وبي-ده
خيٌط من حرير ال سلسلة من حديد.
أال ما أسعَد اإلنسان حني يذوُق حالوَة جهده وإخالص--ه ،في--ؤمن عن يقني ،ويس--تقيم
عن رضا.
وم --ا أس --عد الط --الَب حني ينجح جبه --ده ودراس --ته ،فيخ --رج إىل احلي --اة العملي --ة بس --الِح
العلم الَّص حيح ،فيعطي العطاَء النافع ،ويثمر الثمَر اليانع.
ولن يسعَد إنساٌن عاش مقهورًا ،أو ِس ْيَق إىل االعتقاد ،أو إىل اخلري ْجُمربًا.
ولن يس --عَد ط --الٌب جنح غًّش ا وزورًا ،ولن يفلح يف احلي --اة العملي --ة ،ولن ينتج خ --ريًا،
ولن يعيَش مسرورًا.
وه --ل ُخ ِل َق اإلنس --اُن إال ليس --عَد يف ال --دارين؟! يعيُش يف ال --دنيا يس --ابُق غ --ريه يف س --احة
الَّس عي للخلود بصحبة اخلالق يوم الدين ،فإذا فاز يف سباق اإلميان والعم--ل الص--احل ،حظي
باملغفرة والرضا واجلنة:
َفَم ْن َكاَن َيْر ُجوا ِلَقاَء َر ِّبِه َفْلَيْع َم ْل َع َم ًال َص اِلحًا َو ال ُيْش ِرْك ِبِعَباَدِة َر ِّبِه َأَح دًا
[ الكهف]110 :
-6جع -- -ل ب -- -اَب اهلداي -- -ة مفتوحً- - -ا ملن أراد .فالرسُ- - -ل ت -- -دُّل على طري -- -ق اإلميان ،واحلق،
والفضائل ،وتدعو إليه باحلكمة واحلسىن ،دون إكراه وال قسر:
َو ِإَّنَك َلَتْهِد ي ِإَلى ِصَر اٍط ُم ْسَتِقيٍم [ الشورى]52 :
َو ِإَّنَك َلَتْدُع وُهْم ِإَلى ِصَر اٍط ُم ْسَتِقيٍم [ المؤمنون]73 :
َفَذِّك ْر ِإَّنَم ا َأْنَت ُم َذِّك ٌر * َلْسَت َع َلْيِهْم ِبُمَص ْيِط ٍر [ الغاشية]22-21 :
َفِإْن َتَو َّلْيُتْم َفاْع َلُم وا َأَّنَم ا َع َلى َر ُسوِلَنا اْلَبالُغ اْلُم ِبيُن [ المائدة]92 :
ف--إن َو َج َد اُهلل تع--اىل من العب--د ِص ْد قًا وإخالصً-ا يف اإلقب--ال على طلب احلق ،واإلميان،
واهلدى ،وَّفقه لذلك ،ومّك ن ذلك يف فؤاده.
ِإَّنَك ال َتْهِد ي َم ْن َأْح َبْبَت َو َلِكَّن الَّلَه َيْهِد ي َم ْن َيَش اُء [ القصص]56 :
أي :إَّن مهمتك أيها الرسول الك-رمي :التبلي-غ ،والدالل-ة ،واإلرش-اد ،أم-ا متكني اهلدى من
القلوب فهو بيد اهلل وحده .فهو سبحانه وتعاىل:
َو َيْهِد ي ِإَلْيِه َم ْن َأَناَب [ الرعد]27 :
وقد يّس ر سبيل اهلداية لكل الن-اس ،وأم-ا من طغى ،وأع-رض ،وآث-ر احلي-اة ال-دنيا ،فق-د
فعل ذلك مبحض إرادته ،فالبد من عقابه:
َو َأَّم ا َثُم وُد َفَهَدْيَناُهْم َفاْسَتَح ُّبوا اْلَع َم ى َع َلى اْلُهَدى[ فصلت]17 :
َفَلَّم ا َزاُغ وا َأَز اَغ ُهَّللا ُقُلوَبُهْم َو ُهَّللا ال َيْهِد ي اْلَقْو َم اْلَفاِسِقيَن [ الصف]5 :
فهم الذين أرادوا الزيَغ ،وَأصُّر وا عليه ،فرتكهم وشأهنم ،فتابعوا طريق الض--الل خمت--ارين
ال مكرهني ،إذ:
ال ِإْك َر اَه ِفي الِّديِن َقْد َتَبَّيَن الُّر ْش ُد ِم َن اْلَغ ِّي [ البقرة]256 :
فالرشُ- -د واضٌ- -ح ،ميس --ر ،حمّبب للنف --وس ،والغي واض --ح ،معَّس ر ،مك --ره للنف --وس كم --ا
رأيت من قب --ل يف س --ورة احلج --رات .واهلل تع --اىل ق --د سّ- -و ى نفَس اإلنس --ان ،وَفَطره --ا على
ُح ِّب اإلميان ،وزَّين ذلك يف قلوب الن-اس ،وكَّ-ر ه إليهم الكف--ر ،والفس-وق ،والعص--يان ،ف-إن
استجابوا لتلك الفطرة الزكية النقية كانوا هم الراشدين.
وقد َجَعَل اُهلل تعاىل مس-ؤوليَة الَّص غري على والدي-ه ،وَّمحلهم-ا أمانَ-ة تربيت-ه وتوجيه-ه حنو
اإلميان ،واحلق ،والفضائل:
َيا َأُّيَها اَّل ِذ يَن آَم ُن وا ُق وا َأْنُفَس ُكْم َو َأْهِليُكْم َن ارًا َو ُقوُدَه ا الَّن اُس َو اْلِحَج اَر ُة
[التحريم]6 :
وق-- -د بنَّي رس-- -ول اهلل أَّن ك َّ- -ل مول-- -ود ُيول-- -د على الفط-- -رة ،وأَّن أبوي-- -ه مها الل-- -ذان
جينحان به حنو الكفر والضالل إن كانا على غري هدى؛ ألنه يقِّلد ويستجيب دون متي--يز،
ومقتض --ى العدال--ة اإلهلي--ة أن ُيرف--ع القلُم واحلس--اُب عن الطف --ل وه --و ص --غري ،ق--ال ُ« :ر ف--ع
القلُم عن ثالث :عن الص--يب ح--ىت يبل--غ ،واجملن--ون ح--ىت يعق--ل ،والن--ائم ح--ىت يس--تيقظ»( )1ألَّن
تصُّر فهم عن غري وعي وال إرادة.
وِإذا ك--ان الفَّالُح ُيسِّ-و ي األرض ،أي :يزي--ل منه--ا احلش--ائش الض--ارة ،فيحرثه--ا وميه--دها
لتصبح قابلًة للزراعة ،فقد يزرُع فيها ما حيل وينفع ،وهو مطلوٌب منه ،أو ما يضُّر وه--و
حمَّر ٌم علي --ه .واهلل ع --ز وج --ل ق --د س َّ-و ى نفَس اإلنس --ان ،ونَّقاه --ا ،وفطره --ا على حب اهلدى،
(?) رواه أمحد وأبو داود. 1
واخلري ،وكره الضاللة والشر:
َو َنْفٍس َو َم ا َس َّو اَها * َفَأْلَهَم َها ُفُجوَر َها َو َتْقَو اَها[ الشمس]8-7 :
وجع--ل مس--ؤولية الطف--ل على َم ن رَّب اه وه--و ص--غري ،ف--إذا بل--غ ع--اقًال ص--ار مس--ؤوًال .والتوجي ُ-ه حنو
اخلري مطلوب ومفروض ،فإن كان حنو الشر فهو حمّر م ومرفوض:
َفَم ا ُيَك ِّذ ُبَك َبْعُد ِبالِّديِن * َأَلْيَس ُهَّللا ِبَأْح َك ِم اْلَح اِكِم يَن [ التني]8-7 :
الفرق بين المشيئة والرضا
يف حبث القضاء والقدر جيُب أن نفِّر ق بني املش-يئة والرض-ا ،فاهلل تع-اىل يش-اُء كَّ-ل م-ا
جيري يف هذا الكون أو يكون ،وما من حركة وال س--كون إال بإذن--ه ،ومش--يئته ،وإرادت--ه،
فإن أراد الشيَء كان ،وإال مل يكن .وكُّل ذلك حلكمٍة أرادها ،وهو احلكيم اخلبري:
َو َم ا َتَش اُءوَن ِإاَّل َأْن َيَش اَء ُهَّللا َر ُّب اْلَع اَلِم يَن [ التكوير]29 :
فه-- -و ُس بحانه وتع-- -اىل يري ُ- -د اإلمياَن ،واحلَّق ،واخلري ،والفض-- -ائل ،ويرض-- -ى ب-- -ذلك ،ويري ُ- -د الكف --ر،
والباط--ل ،والش--ر ،والرذيل--ة ،ولكن--ه ال يرض--ى هبا ،يريُ-د ها ألن--ه أعطى حريَ-ة التصُّ-ر ف ،ومل ُيك--ره أح--دًا
على خري وال شّر :
َو َلْو َش اَء ُهَّللا َلَجَع َلُك ْم ُأَّم ًة َو اِح َد ًة َو َلِكْن ِلَيْبُلَو ُك ْم ِفي َم ا آَت اُك ْم َفاْس َتِبُقوا اْلَخْي َر اِت ِإَلى
ِهَّللا َم ْر ِج ُع ُك ْم َجِم يعًا َفُيَنِّبُئُك ْم ِبَم ا ُكْنُتْم ِفيِه َتْخ َتِلُفوَن [ املائدة]48 :
أي :ول--و ش--اء اهلل أن ُيك--رَه كم على ش--يء جلعلكم مجيعً-ا على مَّل ة واح--دة ،ولكن--ه أعط--اُك م حريَ-ة
التصُّر ف؛ ألنه خلقكم ليمتحنكم:
ِلَيْبُلَو ُك ْم َأُّيُك ْم َأْح َس ُن َع َم ًال[ امللك]2 :
فِ- -إذا أردمت النج --اَح يف س --باق اخلل --ود بص --حبة اخلالق العظيم ،والَّنج --اة من ِعقاب --ه األليم ،فاس --تبقوا
اخلريات ،فإليه املرجُع واملآب ،حيُث جزيل الثواب ،أو شديد العقاب:
ِإَّن ِإَلْيَنا ِإَياَبُهْم * ُثَّم ِإَّن َع َلْيَنا ِح َس اَبُهْم [ الغاشية]26-25 :
ويفسر ما مّر معنا قوله تعاىل يف سورة األنعام:
َو َلْو َش اَء ُهَّللا َلَج َم َع ُهْم َع َلى اْلُهَدى َفال َتُك وَنَّن ِم َن اْلَج اِهِليَن ] [35
َو َلْو َش اَء ُهَّللا َم ا َأْش َر ُك وا َو َم ا َجَع ْلَناَك َع َلْيِهْم َح ِفيظًا] [107
َو َلْو َش اَء َر ُّبَك َم ا َفَع ُلوُه َفَذ ْر ُهْم َو َم ا َيْفَتُروَن ] [112
ُقْل َفِلَّلِه اْلُحَّج ُة اْلَباِلَغ ُة َفَلْو َش اَء َلَهَداُك ْم َأْج َم ِع يَن ] [149
واملفع --ول ب --ه لفع --ل ش --اء حمذوف ،أي :ل --و ش --اء إك --راهكم على ش --يء ألك --رهكم على
اهلدى ،ولكن أعط --اُك م حري َ-ة التص --رف ليس --عدكم ،ويص --دق االبتالء واالمتح --ان .ويف حري --ة
التصُّر ف واالختيار كرامٌة لكم وسعادة.
وه--ذه اآلي--اُت من س--ورة األنع--ام – وهلا يف الق--رآن أمث--اٌل أخ--رى – واض--حُة الدالل--ة
على َأَّن اهلل تعاىل منح اإلنساَن حرية التصرف المتحان--ه وس--عادته ،وأم--ره مبا ينجي--ه ،وهناه
عَّم ا ُيرديه ،فإن استجاَب أراد اُهلل تعاىل ورضي ،وإن عصى أراد اهلل ومل َيْر َض .
قال تعاىل:
إِْن َتْكُف ُروا َف ِإَّن َهَّللا َغ ِنٌّي َع ْنُك ْم َو ال َيْر َض ى ِلِع َب اِدِه اْلُك ْف َر َو ِإْن َتْش ُك ُروا
َيْر َض ُه َلُك ْم َو ال َت ِز ُر َو اِز َر ٌة ِو ْز َر ُأْخ َر ى ُثَّم ِإَلى َر ِّبُك ْم َم ْر ِج ُع ُك ْم َفُيَنِّبُئُك ْم ِبَم ا
ُكْنُتْم َتْع َم ُلوَن ِإَّنُه َع ِليٌم ِبَذ اِت الُّص ُد وِر [ الزمر]7 :
وسأض--رب ل-ك – عزي-زي الق--ارئ – مثًال ت-درُك من-ه الف--رَق بني املش-يئة والرض--ا .ك-ل
وال --د حيُّب ول --ده ،ويرج --و ل --ه التوفي --ق ،والس --عادة ،والرض --ا .ف --إن ك --ان عاًّق ا فاِس دًا نص --حه،
وصرب عليه كثريًا ،فإذا متادى الولُد يف عقوقه وفساده ،طرده والده من بيته بإرادت--ه ،ح--ىت
إذا ذهَب الولُ-د دمعْت عين--ا وال--ده؛ ألن--ه ال يرض--ى بعق--وق وض--ياع ول--ده .وُقْل مثَ-ل ذل--ك
يف األس--تاذ يريُ-د ويرج--و لتلمي--ذه النج--اح ،والتف--وق ،ف--إذا تكاسَ-ل التلميُ-ذ وضَ-ع ل--ه األس--تاُذ
عالمة اإلخفاق والرس-وب بإرادت-ه؛ ألن ذل-ك ه-و العدالُ-ة واإلنص-اف للف-رد واجملتم-ع ،ولكَّن
قلَب األس --تاذ يعتصُ- -ر أًس ى وأملًا على طالب --ه الراس --ب؛ ألن --ه ال يرض --ى ل --ه الرس --وَب ،وال
تطيُب نفُس ه بذلك.
ومن هذا الفهم واملنطلق الَّس ليم نقول:
ِإ
َّن اَهلل ُيري ُ-د االنتح --ار واحلس --د وال يرض --ى هبم --ا؛ ألَّن كًّال من املنتح --ر واحلاس --د ح ّ-ر
التصُّر ف كما رأينا وأثبتنا من قب-ل ،ومس-ؤول عن تصُّ-ر فه ه-ذا ،وال يق-ع ش-يٌء يف الك-ون
إال مبشيئة اهلل ،وهو:
َفَّعاٌل ِلَم ا ُيِر يُد [ هود]107 :
واالنتح-- -اُر واحلس ُ- -د كبريت-- -ان هنى اهلل تع-- -اىل ورس-- -وله عنهم-- -ا هني ً- -ا قاطع ً- -ا ،ففي س --ورة
النساء [:]29
َو ال َتْقُتُلوا َأْنُفَس ُك ْم ِإَّن َهَّللا َك اَن ِبُك ْم َر ِح يمًا
ويف سورة طه [:]131
َو ال َتُم َّد َن َع ْيَنْي َك ِإَلى َم ا َم َّتْعَن ا ِب ِه َأْز َو اجًا ِم ْنُهْم َز ْه َر َة اْلَحَي اِة الُّد ْنَيا
ِلَنْفِتَنُهْم ِفيِه َو ِر ْز ُق َر ِّبَك َخْيٌر َو َأْبَقى
ويف سورة الفلق [:]5
َو ِم ْن َش ِّر َح اِس ٍد ِإَذ ا َح َس َد [ الفلق]5 :
ويف احلديث الش --ريفَ« :م ن ت- -رَّدى ِم ن جبٍ- -ل فقت --ل نفَس ه فه --و يف ن --ار جهنم ي --رتّدى
خالدًا فيها أبدًا.)1(»...
وُيق --اس على ذل --ك ك ُّ-ل وس --يلة لالنتح --ار .ويف احلديث أيض ً-ا« :وال حتاس --دوا»( )2ب --النهي
(?) ارجع إىل كتايب« :نظ-رات يف كت-اب اهلل تع-اىل» جتْد في-ه حبثً-ا مقنعً-ا مرض-يًا عن س-يدنا يوس-ف 1
إزالُة الّلبس في فهم َبْعض
اآليات القرآنية الكريمة
واألحاديث النبوية الشريفة
(?) رواه أمحد ومسلم وأبو داود والرتمذي وابن ماجه. 2
ومن استقام كما أمر اهلل تعاىل ،فإَّن اخلَري ال-ذي س-يجده لن يس-تطيَع إحص-اءه لكثرت-ه
يف الدنيا واآلخرة ،ولعّل هذا معىن احلديث الشريف« :استقيموا ولن حتصوا»(.)3
وإمنا دعاين ِلَش ْر ح املراد من ح-ديث« :اعمل-وا فكٌّ-ل ُمَيَّس ٌر ِلم-ا ُخ ِل ق ل-ه» م-ا أمسعه من
عاَّم ة الناِس اجلاهلني حقيقة القضاء والقدر ،حيث ي-ذكرون احلديث ،ويستش-هدون ب-ه حني
ي --رون عاص --يًا يكتس --ب من فع --ل ح --رام ،أو يفع --ل املعاص --ي واملوبق --ات ،فاُهلل خَل َق اَخلْل َق
ليعبدوه ال ليعصوه ،وأمرهم بالطاعة ،وهناهم عن املعصية ،وصدق اهلل العظيم:
َو َم ا َخ َلْقُت اْلِج َّن َو اِإْل ْنَس ِإاَّل ِلَيْعُبُد وِن [ الذاريات]56 :
وم-ا أس-وأ ال-ذين يلتمس-ون للعاص-ي أو ألنفس-هم – إن عص-وا – الع-ذر ،ويستش-هدون
ل-- -ذلك بآي-- -ة ،أو ح-- -ديث ،ال يعرف-- -ون معنامها ،فيغرون الن-- -اس باملعاص-- -ي ،ويظلم-- -ون احلَّق ،
ويفسدون اجملتمع ،فليتقوا اهلل ،وليقولوا قوًال سديدًا.
فلنعلم أَّن املرأة إذا عملت يف س --احة م --ا ُخ لقت ل --ه؛ ك --أم ص --احلة ،أو زوج --ة خملص --ة
كرمية ،أو طبيب --ة ،أو ممرض --ة ،أو خياط --ة ،أو معلم --ة للنس --اء ،أو مربي --ة لألطف --ال ،وج --دت
هي وقومه --ا التيس --ري واهلن --اء والتوفي --ق ،ف --إذا انطلقت من ح --دود الش --رع والفض --يلة ،وآث --رت
اهلوى على اهلدى ،وج--دت هي وقومه--ا الراض--ون عن ذل--ك ك َّ-ل تعس--ري وش--قاء ،ف--اعتربوا
يا أويل األبصار.
الُّس َنن الكونية والُّس َنن االجتماعية
ُيْق ِب ُل كث ٌ-ري من الش--باب على أم--وٍر كث--رية دون وعٍي وال بص--رية ،فه--ذا يق--وُد س--يارته
برعونة وسرعة جنونية ،فيعِّر ض نفَس ه وغ-ريه للخط-ر املاحق ،وكم من ش-اب بعم-ر ال-ورود
ثكلته أمه إثر حادث أليم! والناس يقولون« :هذا نصيبه – قضاء وق--در »...وك--أهنم جلهلهم
حبقيق --ة ال --دين يلتمس --ون لرعونت --ه وانتح --اره ُع ْذ رًا ،وه --ذا انتح --اٌر بال ريب ،وإذا قت --ل غ --ريه
ف--أرى أن ُيعت--رب القت--ل عم--دًا ،ألن--ه َس َلَك طريق ً-ا ي -ؤِّدي إىل قت--ل نفس--ه ،أو قت--ل غ--ريه ،أو
قتلهم--ا معً-ا ،ول--و ُع وقب أمث--ال ه--ذا الش--اب األرعن عقوبَ-ة َم ن َقَت َل عم--دًا – إذا قت--ل –
المتن َ-ع الش --باُب الط --ائش ،التائ --ه ،الش --ارد ،الع --ابث عن الرعون --ة ،واحلم --ق ،ولس --لمْت أرواُح
الناس ،ودماؤهم ،وأمواهلم ،من اخلطر ،أو التلف ،والضياع:
َو َلُك ْم ِفي اْلِقَص اِص َحَياٌة َيا ُأوِلي اَأْلْلَباِب َلَع َّلُك ْم َتَّتُقوَن [ البقرة]179 :
ف -- - - -اجملتمُع العاقُ- - - - -ل ،الس -- - - -ليُم ،يقيُم القص -- - - -اَص ،ويع -- - - -اقب اجملرم واملس -- - - -يء ليتقي اجلرمية
واألخطار ،وحيمي اجلميَع من مفاسد األشرار.
ف--ذاك ش--اٌب يق--دُم على خطب--ة فت--اة اس--تهواه ح--ديُثها املزَّيف ،أو ش--كلها الف--اتن؛ ال--ذي
أعطته املساحيُق والزينُة غري حقيقته ،دون أن يدرَس ُخ ُلقها وُخ ُلق أهلها ،ودون أن يرعى
التناس-- - -ب املطل-- - -وب بينهم-- - -ا يف الس-- - -ن ،والثقاف-- - -ة ،واجلم-- - -ال ،والط-- - -ول ،واحلال االجتماعي -- -ة،
والعادات ،والتقاليد ،و...
ينصحه أبواه بالخير ،ويبّصرانه باألمر ،فيعرض عنهما ،ويتبع ه--واه ،ف-إذا لم يفلح ذل-ك
ال--زواج -وه--و الغالُب -عّض على يدي--ه نادم ً-ا .والت س--اعة من--دم ،فق--ال أو ق--ال الن--اُس :
«نصيب ،ال تلوموه.»...
والنص-- -يُب ه-- -و ال-- -ذي ينال-- -ه اإلنس-- -اُن بع-- -د أن يس ّ- -د د إىل ه-- -دٍف م-- -ا بعناي-- -ة ،وبص-- -ر،
وبص--رية ،ومتحيص ،وت--دقيق ،ف--إن أحس َ-ن التس--ديَد أص--اب م--ا يري--د ،وك--ان النص--يُب خ--ريًا،
وإن تع-- - - -امى ،أو جتاه-- - - -ل ،أو أع-- - - -رض عن الوجه-- - - -ة الس-- - - -ليمة ،ورمى الس-- - - -هَم عن طيش،
ورعونة ،وهوى ،مل يصب خريًا ،وكان الندم واخلسارُة عاقبة أمره:
ِإَّن َهَّللا ال ُيْص ِلُح َع َم َل اْلُم ْفِس ِد يَن [ يونس]81 :
واهلل تع --اىل ورس --وله أَم َر ا باحلذر ،وَأْخ ذ احليط --ة ،ومحاي --ة النفس ،وُحْس ن االختي --ار،
والتسديد ،ليظفر اإلنسان خبري ما يريد.
ففي القرآن الكرمي:
ُخ ُذ وا ِح ْذ َر ُك ْم [ النساء]71 :
َو ال ُتْلُقوا ِبَأْيِد يُك ْم ِإَلى الَّتْهُلَك ِة [ البقرة]195 :
َو ال َتْقُتُلوا َأْنُفَس ُك ْم ِإَّن َهَّللا َك اَن ِبُك ْم َر ِح يمًا[ النساء]29 :
ويف احلديث الشريف:
«خترَّي وا لنطفكم ،وأنكحوا اَألْك َف اء»(.)1
«إذا أتاكم َم ن ترضون دين-ه وُخ ُلق-ه فزِّو ج-وه ،إَّال تفعل-وا تكن فتنٌ-ة يف األرض وفس-اٌد
عريض»(.)2
«ُتنكح املرأُة ألرب-- - -ع :ملاهلا ،ومجاهلا ،وحس-- - -بها ،ودينه-- - -ا ،ف-- - -اظفْر ب-- - -ذات الِّ-- - -دين ت-- - -ربْت
يداك»(.)3
أي :افتقرت إن مل تظفر بذات الدين .والظفُر ي--أيت بع--د ُحْس ن االختي--ار ،وه--ذا يتطَّلُب
وعي ً-ا ،ودراس--ة ،وفهم ً-ا ،واستش--ارة أله--ل ال--وعي ،واخلربة ،وأن--اًة ،وحلم ً-ا ،وُحْس ن تس--ديد،
ليتحقق الظفر خبري النساء.
«َه َّال بكرًا تالعبها وتالعبك»(.)4
أي :هال ت --زوجت بك --رًا ...ويف احلديث حّث على اختي --ار األفض --ل ،وُحْس ن االنتق --اء؛
فإن «األبكار أعذب أفواهًا ،وَأْنَتق أرحامًا ،وأرضى باليسري» ،كما ورد يف األثر(.)5
وقد نصح صاٌحل حكيٌم ولَد ه فقال:
«يا بين! إياك واجلماَل البارَع ،فإنه ما فاق اجلمال إال حلقه يف العرض مقال.
وأنشد:
إال وجدَت به آثاَر منتجع ولن متَّر بزرٍع مونٍق أبدًا
ف--إذا ظف--رَت ب--ه فاس--رته ،وحاف--ظ علي--ه ،وامحه من النظ--رة الطائش--ة ،والكلم--ة الفاحش--ة،
ومن أنظار الناظرين ،وطمع الفاسدين».
أال ترى إىل اجلوهرة ،أو اللؤلؤة ،أو قطعة املاس ،تظهرها فيطمع هبا الطامعون؟
ونصح آخُر ولده فقال: