You are on page 1of 53

‫القضاء والقدر‬

‫حق وعدل‬
‫هشام عبد الرزاق احلمصي‬
‫‪‬‬
‫بسم اهلل وكفى‪ ،‬والَّص الة والَّس الم على سيدنا املصطفى‪ ،‬وعلى آله وص‪--‬حبه ومن وىّف‬
‫ووىف‪ .‬وبعد‪:‬‬
‫ف‪-‬إَّن احلديَث عن القض‪-‬اء والق‪-‬در ش‪-‬ائٌك وخط‪ٌ-‬ري ملن جه‪-‬ل حقيقت‪-‬ه‪ ،‬وَس ْه ٌل واض‪ٌ-‬ح ملن‬
‫فهم الديَن ‪ ،‬بوعي‪ ،‬وأحسَن املقارنَة بني النصوص الشرعية‪ ،‬وَأيقن بعدالة اهلل تعاىل‪.‬‬
‫ولق ‪-- -‬د انزل‪َ- - -‬ق كث‪ٌ- - -‬ري من املس ‪-- -‬لمني اجلاهلني إىل مه ‪-- -‬اوي ال‪- - -‬ذِّل ‪ ،‬والكس ‪-- -‬ل‪ ،‬والتق ‪-- -‬اعس‪،‬‬
‫واجلنب‪ ،‬والتواك‪-- - -‬ل؛ جلهلهم حبقيق‪-- - -‬ة القض‪-- - -‬اء والق‪-- - -‬در‪ ،‬ف‪-- - -‬أمهلوا األس‪-- - -‬باَب ‪ ،‬وانتظ‪-- - -‬روا الَّنْص ر‬
‫والفالح‪ ،‬دون أن يسلكوا سبيَلهما‪ ،‬ففاهتم النجاح‪.‬‬
‫ولو أردنا اِإل طالَة والتفصيل لطال بنا اجملال‪ ،‬وك‪-‬ثر‪ ،‬املق‪--‬ال‪ ،‬ولكْن خ‪ُ-‬ري الكالم م‪--‬ا ق‪َّ-‬ل‬
‫ودَّل ‪.‬‬
‫ُيق‪-‬ال‪ :‬ق‪ّ-‬د ر فالٌن الش‪-‬يء‪ ،‬أي‪ :‬ح‪ّ-‬د د مق‪-‬داره‪ ،‬وق‪-‬در الش‪-‬يء بالش‪-‬يء‪ ،‬أي‪ :‬قاس‪-‬ه ب‪-‬ه وجعل‪-‬ه‬
‫على مقداره‪.‬‬
‫ويقال‪ :‬قّد ر اخلياط‪ ،‬أي‪ :‬قاس طوَل فالن وحجمه؛ فَق َّص الثوَب مناسبًا لقامته‪.‬‬
‫وقّد ر اُهلل األمَر ‪َ :‬عِلم وَعَر ف ما َفَعله اإلنس‪-‬اُن من خ‪-‬ري أو ش‪ّ-‬ر ‪ ،‬ف‪-‬أمر وحكم‪ ،‬وقض‪-‬ى‬
‫أن يكافأ عطاًء وثوابًا إن أحسن‪ ،‬أو ُيعاقب جزاًء وفاقًا إن أساء‪:‬‬
‫‪َ‬فَم ْن َيْع َم ْل ِم ْثَقاَل َذ َّر ٍة َخ ْي رًا َي َر ُه * َو َم ْن َيْع َم ْل ِم ْثَق اَل َذ َّر ٍة َش ّر ًا َي َر ُه‪‬‬
‫[الزلزلة‪]٨ – ٧ :‬‬
‫وُيقال‪ :‬قضى اهلل الشيَء‪ ،‬أي‪ :‬قّد ره‪ .‬وقضى اهلل بالشيء‪ ،‬أي‪ :‬أمر به‪ .‬ومنه‪:‬‬
‫‪َ‬و َقَض ى َر ُّبَك َأاَّل َتْعُبُد وا ِإاَّل ِإَّياُه َو ِباْلَو اِلَد ْيِن ِإْح َس انًا ِإَّم ا َيْبُلَغَّن ِع ْنَدَك اْلِكَب َر‬
‫َأَح ُدُهَم ا َأْو ِكالُهَم ا َفال َتُق ْل َلُهَم ا ُأٍّف َو ال َتْنَهْر ُهَم ا َو ُق ْل َلُهَم ا َق ْو ًال َك ِر ً‬
‫يما‪‬‬
‫[اإلسراء‪]23 :‬‬
‫واملنطلُق الَّص حيُح يف هذا البحث هو العدالُة اإلهليُة احلق‪ .‬قال تعاىل‪:‬‬
‫‪َ‬أَلْيَس ُهَّللا ِبَأْح َك ِم اْلَح اِكِم يَن ‪[ ‬التني‪]8 :‬‬
‫‪َ‬وَو َج ُد وا َم ا َع ِم ُلوا َح اِض رًا َو ال َيْظِلُم َر ُّبَك َأَح دًا‪[ ‬الكهف‪]49 :‬‬
‫ويف احلديث القدسي‪« :‬يا عب‪-‬ادي! ِإيِّن ح‪َّ-‬ر ْمُت الُّظْلَم على نفس‪-‬ي‪ ،‬وجعلُته بينكم حمَّر م‪ً-‬ا‬
‫َفال تظ‪-- -‬املوا‪ ...‬إىل قول‪-- -‬ه‪ :‬ي‪-- -‬ا عب‪-- -‬ادي! إمنا هي أعم‪-- -‬اُلكم ُأحص‪-- -‬يها عليكم‪ ،‬مث أوّفيكم إياه‪-- -‬ا‪،‬‬
‫فمن وجَد َخ ريًا فليحمِد اَهلل‪ ،‬وَم ن َو َج َد غري ذلك فال يلومّن إال نفَس ه»(‪.)1‬‬
‫اللهم رِّض نا بقضائك وقدرك‪ ،‬واجعلنا من الراشدين‪.‬‬
‫دمشق يف ‪ 1‬رمضان ‪1414‬ﻫ‬

‫(?) رواه أمحد ومسلم وأبو داود والرتمذي وابن ماجه‪.‬‬ ‫‪1‬‬
‫وكتبه هشام الحمصي‬

‫‪‬‬
‫المسؤولية تقتضي الحرية‬
‫على العبد الب‪-‬الغ‪ ،‬العاق‪-‬ل‪ ،‬املخت‪-‬ار‪ ،‬غ‪-‬ري املك‪-‬ره‪ ،‬عن ك‪-‬ل‬ ‫لقد رَّتب اُهلل تعاىل مسؤوليًة‬
‫املسؤولية تقتضي احلرّية‪ ،‬وإال كان العقاُب ظلمًا‪:‬‬ ‫ما قال‪ ،‬أو فعل‪ ،‬أو عمل‪ .‬وهذه‬
‫ِه َو َم ْن َأَس اَء َفَع َلْيَه ا َو َم ا َر ُّب َك ِبَظاَّل ٍم ِلْلَع ِبيِد ‪‬‬ ‫‪َ‬م ْن َع ِم َل َص اِلحًا َفِلَنْفِس‬
‫[فصلت‪]46 :‬‬
‫ولذلك ُيعاقب القضاُة اجملرمني‪ ،‬ألن اجملرَم أساء مبحِض إرادته‪ ،‬وقد خَّطط جلرميته‪ .‬وال‬
‫ُتعت‪--‬رب نتيج ‪ُ-‬ة االمتح‪--‬ان للطالب عادل ‪ً-‬ة إال ِإذا ُأعطي الط‪--‬الُب احلري ‪َ-‬ة الكامل ‪َ-‬ة يف أن يكتب‪،‬‬
‫وجييب عن األسئلة‪ ،‬كما يعرف ويريد‪.‬‬
‫وآدُم َأَّو ُل خملوٍق من البشر ُم ِنع من أكل الشجرة‪ ،‬وأعطي حرية التصرف‪ ،‬ومل ُيكره‬
‫على تركه‪--‬ا‪ ،‬وك‪--‬ذا ح‪--‬واء‪ ،‬ف‪--‬أكال منه‪--‬ا خمت‪--‬ارين‪ ،‬فحري‪--‬ة التص‪--‬رف منحه‪--‬ا اُهلل تع‪--‬اىل للبش‪--‬ر‬
‫منذ البداية‪ ،‬ويف ذلك تكرٌمي لإلنسان وسعادة‪.‬‬
‫وال ريَب َأَّن َعقي ‪--‬دَة اجلرب واإلك ‪--‬راه تطيُح ب ‪--‬الوحي والَّتْنزي ‪--‬ل‪ ،‬ومتن ‪--‬ع النش ‪--‬اَط اإلنس ‪--‬اَّين‬
‫والعم ‪--‬ل‪ ،‬وُتفق ‪--‬د اإلنس ‪--‬ان األم ‪َ-‬ل‪ ،‬وُتْغري ‪--‬ه بال ‪--‬ذّل والكس ‪--‬ل‪ ،‬وهي تك ‪--‬ذيٌب ملا ج ‪--‬اء عن اهلل‬
‫تعاىل ورسله الكرام من العدل‪:‬‬
‫‪َ‬فِلَّلِه اْلُحَّج ُة اْلَباِلَغ ُة‪[ ‬األنعام‪]149 :‬‬
‫وأهُّم عناصر هذه احلجة‪:‬‬
‫‪ -1‬العق ‪-- -‬ل ال ‪-- -‬ذي وهب ‪-- -‬ه اهلل لإلنس ‪-- -‬ان‪ ،‬وجعل ‪-- -‬ه من ‪-- -‬اَط التكلي ‪-- -‬ف؛ ليم ‪-- -‬يَز ب ‪-- -‬ه بني احلق‬
‫والباطل‪ ،‬ويصَل به إىل اإلميان باخلالق العظيم وامتثال أوامره‪ ،‬واجتناب نواهيه‪.‬‬
‫‪ -2‬والفطرة اليت فطر اُهلل الناَس عليها‪:‬‬
‫‪َ‬و َلِكَّن الَّلَه َح َّبَب ِإَلْيُكُم اِإْل يَم اَن َو َز َّيَنُه ِفي ُقُلوِبُكْم َو َك َّر َه ِإَلْيُكُم اْلُكْفَر َو اْلُفُسوَق‬
‫َو اْلِع ْص َياَن ُأوَلِئ َك ُهُم الَّراِش ُدوَن * َفْض ًال ِم َن الَّل ِه َو ِنْع َم ًة َو الَّل ُه َع ِليٌم َحِكيٌم *‪‬‬
‫[الحجرات‪]8-7 :‬‬
‫‪ -3‬أرسل الرسل مبشرين ومنذرين‪.‬‬
‫‪ -4‬أنزل عليهم الكتَب ‪ ،‬فيها شرائُع اهلل تعاىل لعباده‪ ،‬فيها ما ي‪--‬أمرهم ب‪--‬ه‪ ،‬أو ينه‪--‬اهم‬
‫عنه‪.‬‬
‫‪ -5‬أكرم اإلنساَن حبرية التصرف واالختيار‪ ،‬وَّمحل‪-‬ه أمان‪ً-‬ة هي العق‪--‬ل‪ ،‬يفك‪-‬ر ب‪-‬ه فيخت‪-‬ار‬
‫احلق‪ ،‬ويرفض الباطل‪ ،‬ويفعل اخلري‪ ،‬ويتجنب الشر‪ ،‬ويقوم بالتكاليف الشرعية كما ش‪--‬رعها‬
‫اهلل تعاىل‪ ،‬يفعل ذلك خمت‪-‬ارًا ال ُم ْك َر ه‪ً-‬ا‪ ،‬فيس‪-‬عد يف دني‪-‬اه وأخ‪-‬راه‪ ،‬ف‪-‬إن أس‪-‬اء فأعم‪-‬ل عقل‪-‬ه‬
‫وحواسه وطاقاته‪ ،‬وعصى ربه‪ ،‬خاب وخسر؛ ألن‪-‬ه آث‪-‬ر أن يك‪-‬وَن ظلوم‪ً-‬ا لنفس‪-‬ه‪ ،‬وجمتمع‪-‬ه‪،‬‬
‫ومستقبله‪ ،‬جهوًال‪ ،‬خيبط خبط عشواء‪:‬‬
‫‪ِ‬إَّنا َع َر ْض َنا اَأْلَم اَن َة َع َلى الَّس َم اَو اِت َو اَأْلْر ِض َو اْلِج َب اِل َف َأَبْيَن َأْن َيْح ِم ْلَنَه ا‬
‫َو َأْش َفْقَن ِم ْنَها َو َح َم َلَها اِإْل ْنَس اُن ِإَّنُه َك اَن َظُلومًا َج ُهوًال‪[ ‬األحزاب‪]72 :‬‬
‫وإمنا أعط‪--‬اه حري ‪َ-‬ة التص ‪ُّ-‬ر ِف ليكرم‪--‬ه ب‪--‬ذلك‪ ،‬ويس‪--‬عده‪ .‬فاحلري‪--‬ة َأْغ لى م‪--‬ا ميل ‪ُ-‬ك اإلنس‪--‬ان‪،‬‬
‫ويس‪-- -‬عد ب‪-- -‬ه‪ .‬واهلل خل‪-- -‬ق اإلنس‪-- -‬اَن ألَّن ه أراَد أن ُيْو ج‪-- -‬د خملوق ‪ً- -‬ا يعب‪-- -‬ده‪ ،‬ويس‪-- -‬تجيب ل‪-- -‬ه عن‬
‫طواعية‪ ،‬وقناع‪-‬ة‪ ،‬وتَعّق ل‪ ،‬ورض‪-‬ا‪ ،‬ورس‪-‬م ل‪-‬ه طري‪َ-‬ق النج‪-‬اة والف‪-‬وز باجلن‪-‬ة‪ ،‬يس‪-‬ري إليه‪-‬ا وبي‪-‬ده‬
‫خيٌط من حرير ال سلسلة من حديد‪.‬‬
‫أال ما أسعَد اإلنسان حني يذوُق حالوَة جهده وإخالص‪--‬ه‪ ،‬في‪--‬ؤمن عن يقني‪ ،‬ويس‪--‬تقيم‬
‫عن رضا‪.‬‬
‫وم ‪--‬ا أس ‪--‬عد الط ‪--‬الَب حني ينجح جبه ‪--‬ده ودراس ‪--‬ته‪ ،‬فيخ ‪--‬رج إىل احلي ‪--‬اة العملي ‪--‬ة بس ‪--‬الِح‬
‫العلم الَّص حيح‪ ،‬فيعطي العطاَء النافع‪ ،‬ويثمر الثمَر اليانع‪.‬‬
‫ولن يسعَد إنساٌن عاش مقهورًا‪ ،‬أو ِس ْيَق إىل االعتقاد‪ ،‬أو إىل اخلري ْجُمربًا‪.‬‬
‫ولن يس ‪--‬عَد ط ‪--‬الٌب جنح غًّش ا وزورًا‪ ،‬ولن يفلح يف احلي ‪--‬اة العملي ‪--‬ة‪ ،‬ولن ينتج خ ‪--‬ريًا‪،‬‬
‫ولن يعيَش مسرورًا‪.‬‬
‫وه ‪--‬ل ُخ ِل َق اإلنس ‪--‬اُن إال ليس ‪--‬عَد يف ال ‪--‬دارين؟! يعيُش يف ال ‪--‬دنيا يس ‪--‬ابُق غ ‪--‬ريه يف س ‪--‬احة‬
‫الَّس عي للخلود بصحبة اخلالق يوم الدين‪ ،‬فإذا فاز يف سباق اإلميان والعم‪--‬ل الص‪--‬احل‪ ،‬حظي‬
‫باملغفرة والرضا واجلنة‪:‬‬
‫‪َ‬فَم ْن َكاَن َيْر ُجوا ِلَقاَء َر ِّبِه َفْلَيْع َم ْل َع َم ًال َص اِلحًا َو ال ُيْش ِرْك ِبِعَباَدِة َر ِّبِه َأَح دًا‬
‫‪[ ‬الكهف‪]110 :‬‬
‫‪ -6‬جع ‪-- -‬ل ب ‪-- -‬اَب اهلداي ‪-- -‬ة مفتوح‪ً- - -‬ا ملن أراد‪ .‬فالرس‪ُ- - -‬ل ت ‪-- -‬دُّل على طري ‪-- -‬ق اإلميان‪ ،‬واحلق‪،‬‬
‫والفضائل‪ ،‬وتدعو إليه باحلكمة واحلسىن‪ ،‬دون إكراه وال قسر‪:‬‬
‫‪َ‬و ِإَّنَك َلَتْهِد ي ِإَلى ِصَر اٍط ُم ْسَتِقيٍم ‪[ ‬الشورى‪]52 :‬‬
‫‪َ‬و ِإَّنَك َلَتْدُع وُهْم ِإَلى ِصَر اٍط ُم ْسَتِقيٍم ‪[ ‬المؤمنون‪]73 :‬‬
‫‪َ‬فَذِّك ْر ِإَّنَم ا َأْنَت ُم َذِّك ٌر * َلْسَت َع َلْيِهْم ِبُمَص ْيِط ٍر ‪[ ‬الغاشية‪]22-21 :‬‬
‫‪َ‬فِإْن َتَو َّلْيُتْم َفاْع َلُم وا َأَّنَم ا َع َلى َر ُسوِلَنا اْلَبالُغ اْلُم ِبيُن ‪[ ‬المائدة‪]92 :‬‬
‫ف‪--‬إن َو َج َد اُهلل تع‪--‬اىل من العب‪--‬د ِص ْد قًا وإخالص‪ً-‬ا يف اإلقب‪--‬ال على طلب احلق‪ ،‬واإلميان‪،‬‬
‫واهلدى‪ ،‬وَّفقه لذلك‪ ،‬ومّك ن ذلك يف فؤاده‪.‬‬
‫‪ِ‬إَّنَك ال َتْهِد ي َم ْن َأْح َبْبَت َو َلِكَّن الَّلَه َيْهِد ي َم ْن َيَش اُء ‪[ ‬القصص‪]56 :‬‬
‫أي‪ :‬إَّن مهمتك أيها الرسول الك‪-‬رمي‪ :‬التبلي‪-‬غ‪ ،‬والدالل‪-‬ة‪ ،‬واإلرش‪-‬اد‪ ،‬أم‪-‬ا متكني اهلدى من‬
‫القلوب فهو بيد اهلل وحده‪ .‬فهو سبحانه وتعاىل‪:‬‬
‫‪َ‬و َيْهِد ي ِإَلْيِه َم ْن َأَناَب ‪[ ‬الرعد‪]27 :‬‬
‫وقد يّس ر سبيل اهلداية لكل الن‪-‬اس‪ ،‬وأم‪-‬ا من طغى‪ ،‬وأع‪-‬رض‪ ،‬وآث‪-‬ر احلي‪-‬اة ال‪-‬دنيا‪ ،‬فق‪-‬د‬
‫فعل ذلك مبحض إرادته‪ ،‬فالبد من عقابه‪:‬‬
‫‪َ‬و َأَّم ا َثُم وُد َفَهَدْيَناُهْم َفاْسَتَح ُّبوا اْلَع َم ى َع َلى اْلُهَدى‪[ ‬فصلت‪]17 :‬‬
‫‪َ‬فَلَّم ا َزاُغ وا َأَز اَغ ُهَّللا ُقُلوَبُهْم َو ُهَّللا ال َيْهِد ي اْلَقْو َم اْلَفاِسِقيَن ‪[ ‬الصف‪]5 :‬‬
‫فهم الذين أرادوا الزيَغ ‪ ،‬وَأصُّر وا عليه‪ ،‬فرتكهم وشأهنم‪ ،‬فتابعوا طريق الض‪--‬الل خمت‪--‬ارين‬
‫ال مكرهني‪ ،‬إذ‪:‬‬
‫‪‬ال ِإْك َر اَه ِفي الِّديِن َقْد َتَبَّيَن الُّر ْش ُد ِم َن اْلَغ ِّي ‪[ ‬البقرة‪]256 :‬‬
‫فالرش‪ُ- -‬د واض‪ٌ- -‬ح ‪ ،‬ميس ‪--‬ر‪ ،‬حمّبب للنف ‪--‬وس‪ ،‬والغي واض ‪--‬ح‪ ،‬معَّس ر‪ ،‬مك ‪--‬ره للنف ‪--‬وس كم ‪--‬ا‬
‫رأيت من قب ‪--‬ل يف س ‪--‬ورة احلج ‪--‬رات‪ .‬واهلل تع ‪--‬اىل ق ‪--‬د س‪ّ- -‬و ى نفَس اإلنس ‪--‬ان‪ ،‬وَفَطره ‪--‬ا على‬
‫ُح ِّب اإلميان‪ ،‬وزَّين ذلك يف قلوب الن‪-‬اس‪ ،‬وك‪َّ-‬ر ه إليهم الكف‪--‬ر‪ ،‬والفس‪-‬وق‪ ،‬والعص‪--‬يان‪ ،‬ف‪-‬إن‬
‫استجابوا لتلك الفطرة الزكية النقية كانوا هم الراشدين‪.‬‬
‫وقد َجَعَل اُهلل تعاىل مس‪-‬ؤوليَة الَّص غري على والدي‪-‬ه‪ ،‬وَّمحلهم‪-‬ا أمان‪َ-‬ة تربيت‪-‬ه وتوجيه‪-‬ه حنو‬
‫اإلميان‪ ،‬واحلق‪ ،‬والفضائل‪:‬‬
‫‪َ‬يا َأُّيَها اَّل ِذ يَن آَم ُن وا ُق وا َأْنُفَس ُكْم َو َأْهِليُكْم َن ارًا َو ُقوُدَه ا الَّن اُس َو اْلِحَج اَر ُة‪‬‬
‫[التحريم‪]6 :‬‬
‫وق‪-- -‬د بنَّي رس‪-- -‬ول اهلل ‪ ‬أَّن ك ‪َّ- -‬ل مول‪-- -‬ود ُيول‪-- -‬د على الفط‪-- -‬رة‪ ،‬وأَّن أبوي‪-- -‬ه مها الل‪-- -‬ذان‬
‫جينحان به حنو الكفر والضالل إن كانا على غري هدى؛ ألنه يقِّلد ويستجيب دون متي‪--‬يز‪،‬‬
‫ومقتض ‪--‬ى العدال‪--‬ة اإلهلي‪--‬ة أن ُيرف‪--‬ع القلُم واحلس‪--‬اُب عن الطف ‪--‬ل وه ‪--‬و ص ‪--‬غري‪ ،‬ق‪--‬ال ‪ُ« :‬ر ف‪--‬ع‬
‫القلُم عن ثالث‪ :‬عن الص‪--‬يب ح‪--‬ىت يبل‪--‬غ‪ ،‬واجملن‪--‬ون ح‪--‬ىت يعق‪--‬ل‪ ،‬والن‪--‬ائم ح‪--‬ىت يس‪--‬تيقظ»(‪ )1‬ألَّن‬
‫تصُّر فهم عن غري وعي وال إرادة‪.‬‬
‫وِإذا ك‪--‬ان الفَّالُح ُيس‪ِّ-‬و ي األرض‪ ،‬أي‪ :‬يزي‪--‬ل منه‪--‬ا احلش‪--‬ائش الض‪--‬ارة‪ ،‬فيحرثه‪--‬ا وميه‪--‬دها‬
‫لتصبح قابلًة للزراعة‪ ،‬فقد يزرُع فيها ما حيل وينفع‪ ،‬وهو مطلوٌب منه‪ ،‬أو ما يضُّر وه‪--‬و‬
‫حمَّر ٌم علي ‪--‬ه‪ .‬واهلل ع ‪--‬ز وج ‪--‬ل ق ‪--‬د س ‪َّ-‬و ى نفَس اإلنس ‪--‬ان‪ ،‬ونَّقاه ‪--‬ا‪ ،‬وفطره ‪--‬ا على حب اهلدى‪،‬‬
‫(?) رواه أمحد وأبو داود‪.‬‬ ‫‪1‬‬
‫واخلري‪ ،‬وكره الضاللة والشر‪:‬‬
‫‪َ‬و َنْفٍس َو َم ا َس َّو اَها * َفَأْلَهَم َها ُفُجوَر َها َو َتْقَو اَها‪[ ‬الشمس‪]8-7 :‬‬
‫وجع‪--‬ل مس‪--‬ؤولية الطف‪--‬ل على َم ن رَّب اه وه‪--‬و ص‪--‬غري‪ ،‬ف‪--‬إذا بل‪--‬غ ع‪--‬اقًال ص‪--‬ار مس‪--‬ؤوًال‪ .‬والتوجي ‪ُ-‬ه حنو‬
‫اخلري مطلوب ومفروض‪ ،‬فإن كان حنو الشر فهو حمّر م ومرفوض‪:‬‬
‫‪َ‬فَم ا ُيَك ِّذ ُبَك َبْعُد ِبالِّديِن * َأَلْيَس ُهَّللا ِبَأْح َك ِم اْلَح اِكِم يَن ‪[ ‬التني‪]8-7 :‬‬
‫‪‬‬
‫الفرق بين المشيئة والرضا‬
‫يف حبث القضاء والقدر جيُب أن نفِّر ق بني املش‪-‬يئة والرض‪-‬ا‪ ،‬فاهلل تع‪-‬اىل يش‪-‬اُء ك‪َّ-‬ل م‪-‬ا‬
‫جيري يف هذا الكون أو يكون‪ ،‬وما من حركة وال س‪--‬كون إال بإذن‪--‬ه‪ ،‬ومش‪--‬يئته‪ ،‬وإرادت‪--‬ه‪،‬‬
‫فإن أراد الشيَء كان‪ ،‬وإال مل يكن‪ .‬وكُّل ذلك حلكمٍة أرادها‪ ،‬وهو احلكيم اخلبري‪:‬‬
‫‪َ‬و َم ا َتَش اُءوَن ِإاَّل َأْن َيَش اَء ُهَّللا َر ُّب اْلَع اَلِم يَن ‪[ ‬التكوير‪]29 :‬‬
‫فه‪-- -‬و ُس بحانه وتع‪-- -‬اىل يري ‪ُ- -‬د اإلمياَن ‪ ،‬واحلَّق ‪ ،‬واخلري‪ ،‬والفض‪-- -‬ائل‪ ،‬ويرض‪-- -‬ى ب‪-- -‬ذلك‪ ،‬ويري ‪ُ- -‬د الكف ‪--‬ر‪،‬‬
‫والباط‪--‬ل‪ ،‬والش‪--‬ر‪ ،‬والرذيل‪--‬ة‪ ،‬ولكن‪--‬ه ال يرض‪--‬ى هبا‪ ،‬يري‪ُ-‬د ها ألن‪--‬ه أعطى حري‪َ-‬ة التص‪ُّ-‬ر ف‪ ،‬ومل ُيك‪--‬ره أح‪--‬دًا‬
‫على خري وال شّر ‪:‬‬
‫‪َ‬و َلْو َش اَء ُهَّللا َلَجَع َلُك ْم ُأَّم ًة َو اِح َد ًة َو َلِكْن ِلَيْبُلَو ُك ْم ِفي َم ا آَت اُك ْم َفاْس َتِبُقوا اْلَخْي َر اِت ِإَلى‬
‫ِهَّللا َم ْر ِج ُع ُك ْم َجِم يعًا َفُيَنِّبُئُك ْم ِبَم ا ُكْنُتْم ِفيِه َتْخ َتِلُفوَن ‪[ ‬املائدة‪]48 :‬‬
‫أي‪ :‬ول‪--‬و ش‪--‬اء اهلل أن ُيك‪--‬رَه كم على ش‪--‬يء جلعلكم مجيع‪ً-‬ا على مَّل ة واح‪--‬دة‪ ،‬ولكن‪--‬ه أعط‪--‬اُك م حري‪َ-‬ة‬
‫التصُّر ف؛ ألنه خلقكم ليمتحنكم‪:‬‬
‫‪ِ‬لَيْبُلَو ُك ْم َأُّيُك ْم َأْح َس ُن َع َم ًال‪[ ‬امللك‪]2 :‬‬
‫ف‪ِ- -‬إذا أردمت النج ‪--‬اَح يف س ‪--‬باق اخلل ‪--‬ود بص ‪--‬حبة اخلالق العظيم‪ ،‬والَّنج ‪--‬اة من ِعقاب ‪--‬ه األليم‪ ،‬فاس ‪--‬تبقوا‬
‫اخلريات‪ ،‬فإليه املرجُع واملآب‪ ،‬حيُث جزيل الثواب‪ ،‬أو شديد العقاب‪:‬‬
‫‪ِ‬إَّن ِإَلْيَنا ِإَياَبُهْم * ُثَّم ِإَّن َع َلْيَنا ِح َس اَبُهْم ‪[ ‬الغاشية‪]26-25 :‬‬
‫ويفسر ما مّر معنا قوله تعاىل يف سورة األنعام‪:‬‬
‫‪َ‬و َلْو َش اَء ُهَّللا َلَج َم َع ُهْم َع َلى اْلُهَدى َفال َتُك وَنَّن ِم َن اْلَج اِهِليَن ]‪ [35‬‬
‫‪َ‬و َلْو َش اَء ُهَّللا َم ا َأْش َر ُك وا َو َم ا َجَع ْلَناَك َع َلْيِهْم َح ِفيظًا]‪ [107‬‬
‫‪َ‬و َلْو َش اَء َر ُّبَك َم ا َفَع ُلوُه َفَذ ْر ُهْم َو َم ا َيْفَتُروَن ]‪ [112‬‬
‫‪ُ‬قْل َفِلَّلِه اْلُحَّج ُة اْلَباِلَغ ُة َفَلْو َش اَء َلَهَداُك ْم َأْج َم ِع يَن ]‪ [149‬‬
‫واملفع ‪--‬ول ب ‪--‬ه لفع ‪--‬ل ش ‪--‬اء حمذوف‪ ،‬أي‪ :‬ل ‪--‬و ش ‪--‬اء إك ‪--‬راهكم على ش ‪--‬يء ألك ‪--‬رهكم على‬
‫اهلدى‪ ،‬ولكن أعط ‪--‬اُك م حري ‪َ-‬ة التص ‪--‬رف ليس ‪--‬عدكم‪ ،‬ويص ‪--‬دق االبتالء واالمتح ‪--‬ان‪ .‬ويف حري ‪--‬ة‬
‫التصُّر ف واالختيار كرامٌة لكم وسعادة‪.‬‬
‫وه‪--‬ذه اآلي‪--‬اُت من س‪--‬ورة األنع‪--‬ام – وهلا يف الق‪--‬رآن أمث‪--‬اٌل أخ‪--‬رى – واض‪--‬حُة الدالل‪--‬ة‬
‫على َأَّن اهلل تعاىل منح اإلنساَن حرية التصرف المتحان‪--‬ه وس‪--‬عادته‪ ،‬وأم‪--‬ره مبا ينجي‪--‬ه‪ ،‬وهناه‬
‫عَّم ا ُيرديه‪ ،‬فإن استجاَب أراد اُهلل تعاىل ورضي‪ ،‬وإن عصى أراد اهلل ومل َيْر َض ‪.‬‬
‫قال تعاىل‪:‬‬
‫‪‬إِْن َتْكُف ُروا َف ِإَّن َهَّللا َغ ِنٌّي َع ْنُك ْم َو ال َيْر َض ى ِلِع َب اِدِه اْلُك ْف َر َو ِإْن َتْش ُك ُروا‬
‫َيْر َض ُه َلُك ْم َو ال َت ِز ُر َو اِز َر ٌة ِو ْز َر ُأْخ َر ى ُثَّم ِإَلى َر ِّبُك ْم َم ْر ِج ُع ُك ْم َفُيَنِّبُئُك ْم ِبَم ا‬
‫ُكْنُتْم َتْع َم ُلوَن ِإَّنُه َع ِليٌم ِبَذ اِت الُّص ُد وِر ‪[ ‬الزمر‪]7 :‬‬
‫وسأض‪--‬رب ل‪-‬ك – عزي‪-‬زي الق‪--‬ارئ – مثًال ت‪-‬درُك من‪-‬ه الف‪--‬رَق بني املش‪-‬يئة والرض‪--‬ا‪ .‬ك‪-‬ل‬
‫وال ‪--‬د حيُّب ول ‪--‬ده‪ ،‬ويرج ‪--‬و ل ‪--‬ه التوفي ‪--‬ق‪ ،‬والس ‪--‬عادة‪ ،‬والرض ‪--‬ا‪ .‬ف ‪--‬إن ك ‪--‬ان عاًّق ا فاِس دًا نص ‪--‬حه‪،‬‬
‫وصرب عليه كثريًا‪ ،‬فإذا متادى الولُد يف عقوقه وفساده‪ ،‬طرده والده من بيته بإرادت‪--‬ه‪ ،‬ح‪--‬ىت‬
‫إذا ذهَب الول‪ُ-‬د دمعْت عين‪--‬ا وال‪--‬ده؛ ألن‪--‬ه ال يرض‪--‬ى بعق‪--‬وق وض‪--‬ياع ول‪--‬ده‪ .‬وُقْل مث‪َ-‬ل ذل‪--‬ك‬
‫يف األس‪--‬تاذ يري‪ُ-‬د ويرج‪--‬و لتلمي‪--‬ذه النج‪--‬اح‪ ،‬والتف‪--‬وق‪ ،‬ف‪--‬إذا تكاس‪َ-‬ل التلمي‪ُ-‬ذ وض‪َ-‬ع ل‪--‬ه األس‪--‬تاُذ‬
‫عالمة اإلخفاق والرس‪-‬وب بإرادت‪-‬ه؛ ألن ذل‪-‬ك ه‪-‬و العدال‪ُ-‬ة واإلنص‪-‬اف للف‪-‬رد واجملتم‪-‬ع‪ ،‬ولكَّن‬
‫قلَب األس ‪--‬تاذ يعتص‪ُ- -‬ر أًس ى وأملًا على طالب ‪--‬ه الراس ‪--‬ب؛ ألن ‪--‬ه ال يرض ‪--‬ى ل ‪--‬ه الرس ‪--‬وَب ‪ ،‬وال‬
‫تطيُب نفُس ه بذلك‪.‬‬
‫ومن هذا الفهم واملنطلق الَّس ليم نقول‪:‬‬
‫ِإ‬
‫َّن اَهلل ُيري ‪ُ-‬د االنتح ‪--‬ار واحلس ‪--‬د وال يرض ‪--‬ى هبم ‪--‬ا؛ ألَّن كًّال من املنتح ‪--‬ر واحلاس ‪--‬د ح ‪ّ-‬ر‬
‫التصُّر ف كما رأينا وأثبتنا من قب‪-‬ل‪ ،‬ومس‪-‬ؤول عن تص‪ُّ-‬ر فه ه‪-‬ذا‪ ،‬وال يق‪-‬ع ش‪-‬يٌء يف الك‪-‬ون‬
‫إال مبشيئة اهلل‪ ،‬وهو‪:‬‬
‫‪َ‬فَّعاٌل ِلَم ا ُيِر يُد ‪[ ‬هود‪]107 :‬‬
‫واالنتح‪-- -‬اُر واحلس ‪ُ- -‬د كبريت‪-- -‬ان هنى اهلل تع‪-- -‬اىل ورس‪-- -‬وله عنهم‪-- -‬ا هني ‪ً- -‬ا قاطع ‪ً- -‬ا‪ ،‬ففي س ‪--‬ورة‬
‫النساء [‪:]29‬‬
‫‪َ‬و ال َتْقُتُلوا َأْنُفَس ُك ْم ِإَّن َهَّللا َك اَن ِبُك ْم َر ِح يمًا‪‬‬
‫ويف سورة طه [‪:]131‬‬
‫‪َ‬و ال َتُم َّد َن َع ْيَنْي َك ِإَلى َم ا َم َّتْعَن ا ِب ِه َأْز َو اجًا ِم ْنُهْم َز ْه َر َة اْلَحَي اِة الُّد ْنَيا‬
‫ِلَنْفِتَنُهْم ِفيِه َو ِر ْز ُق َر ِّبَك َخْيٌر َو َأْبَقى‪‬‬
‫ويف سورة الفلق [‪:]5‬‬
‫‪َ‬و ِم ْن َش ِّر َح اِس ٍد ِإَذ ا َح َس َد ‪[ ‬الفلق‪]5 :‬‬
‫ويف احلديث الش ‪--‬ريف‪َ« :‬م ن ت‪- -‬رَّدى ِم ن جب‪ٍ- -‬ل فقت ‪--‬ل نفَس ه فه ‪--‬و يف ن ‪--‬ار جهنم ي ‪--‬رتّدى‬
‫خالدًا فيها أبدًا‪.)1(»...‬‬
‫وُيق ‪--‬اس على ذل ‪--‬ك ك ‪ُّ-‬ل وس ‪--‬يلة لالنتح ‪--‬ار‪ .‬ويف احلديث أيض ‪ً-‬ا‪« :‬وال حتاس ‪--‬دوا»(‪ )2‬ب ‪--‬النهي‬

‫(?) رواه أمحد ومسلم والرتمذي والنسائي‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫(?) رواه البخاري ومسلم‪.‬‬ ‫‪2‬‬


‫اجلازم‪.‬‬
‫فِإذا أصَّر املنتحُر على قتل نفسه فمات‪ ،‬وأصَّر احلاسُد على ُك ْر ه ِنَعم اهلل تع‪--‬اىل على‬
‫عباده‪ ،‬فحسَد الناَس عليها‪ ،‬مادية كانت أو معنوية‪ ،‬وس‪--‬عى يف ذهاهبا عنهم بش‪--‬ىت وس‪--‬ائل‬
‫الكيد‪ ،‬واملك‪-‬ر‪ ،‬والِو ش‪-‬اية‪ ،‬واألذى؛ فحص‪-‬ل من احلس‪-‬د ض‪-‬رٌر للمحس‪-‬ود‪ .‬ف‪-‬إَّن م‪-‬وَت املنتح‪-‬ر‪،‬‬
‫ون‪--‬زول الَّض رر باحملس‪--‬ود‪ ،‬ال يقع‪--‬ان إال بقض‪--‬اء اهلل وإرادت‪--‬ه‪ .‬وغاي‪--‬ة م‪--‬ا يف األم‪--‬ر أهنم‪--‬ا وافق‪--‬ا‬
‫قدر اهلل وَقضاءه‪ ،‬زمانًا ومكانًا‪ ،‬فوق‪-‬ع م‪-‬ا ق‪َّ-‬در اُهلل وقض‪-‬ى‪ ،‬وُع وقب املنتح‪ُ-‬ر واحلاس‪ُ-‬د على‬
‫ِفْع لهم ‪--‬ا‪ ،‬حبيث ل ‪--‬و مل ينتح ‪--‬ر األوُل ‪ ،‬ومل حيس ‪--‬د الث ‪--‬اين‪ ،‬لوق ‪--‬ع م ‪--‬ا ق ‪ّ-‬د ره اهلل من م ‪--‬وت أو‬
‫ضرر‪.‬‬
‫هذا وإَّن املوَت ليس نتيجَة احلوادث‪ ،‬فق‪-‬د تق‪ُ-‬ع أش‪ُّ-‬د احلوادث وال يعقبه‪-‬ا م‪-‬وت؛ ألن‬
‫سبَب املوت واحٌد ال يتعَّدد‪ ،‬هو انقضاُء األجل مبشيئة اهلل وقدره وقضائه‪ .‬فكم من أن‪--‬اس‬
‫أق ‪--‬دموا على االنتح ‪--‬ار ب ‪--‬أعنف الوس ‪--‬ائل ومل ميوت ‪--‬وا‪ ،‬وأنق ‪--‬ذوا‪ ،‬وُعوجلوا‪ ،‬وعاش ‪--‬وا بع ‪--‬د ذل ‪--‬ك‬
‫طويًال! وكم من حاسدين حسدوا‪ ،‬والغيظ ميأل قلوهبم‪ ،‬فلم حيصل من حسدهم شيء من‬
‫ضرر أو أذى!‬
‫ففي سورة األعراف [‪:]34‬‬
‫‪َ‬و ِلُك ِّل ُأَّمٍة َأَج ٌل َفِإَذ ا َج اَء َأَج ُلُهْم ال َيْسَتْأِخ ُروَن َس اَع ًة َو ال َيْسَتْقِدُم وَن ‪‬‬
‫ويف سورة يونس [‪:]49‬‬
‫‪ِ‬لُك ِّل ُأَّمٍة َأَج ٌل ِإَذ ا َج اَء َأَج ُلُهْم َفال َيْسَتْأِخ ُروَن َس اَع ًة َو ال َيْسَتْقِدُم وَن ‪‬‬
‫ويف سورة النحل [‪:]61‬‬
‫‪َ‬و َلْو ُيَؤ اِخ ُذ ُهَّللا الَّناَس ِبُظْلِم ِهْم َم ا َتَر َك َع َلْيَها ِم ْن َد اَّبٍة َو َلِكْن ُيَؤ ِّخ ُر ُهْم ِإَلى‬
‫َأَج ٍل ُمَس ّمًى َفِإَذ ا َج اَء َأَج ُلُهْم ال َيْسَتْأِخ ُروَن َس اَع ًة َو ال َيْسَتْقِدُم وَن ‪‬‬
‫وأخطأ الشاعر حني قال‪:‬‬
‫تعددِت األسباُب واملوُت واحد‬ ‫من مل ميْت بالَّس يِف مات بغريه‬
‫ألَّن سبَب املوت واحد ال يتعدد‪َ ،‬أال وهو (انقضاء األجل)‪:‬‬
‫بعد موِت الطبيِب والعّو اِد!‬ ‫كم مريض قد عاَش من بعد يأٍس‬
‫وحيُّل البال بال ـ اِد‬ ‫قد ُيصاُب القطا فينجو سليمًا‬
‫ُء ّص ّي‬
‫* * *‬
‫ِإذا جَّن لي هل تعيُش إىل الفجِر‬ ‫تزَّو ْد من الدنيا فإنك ال تدري‬
‫ٌل‬
‫وكم من عليٍل عاش ِح ينًا من‬ ‫فكم من صحيٍح مات من غري‬
‫الَّدهِر !‬ ‫عَّلٍة!‬
‫وقد ُنِس َج ْت أكفاُنه وهو ال‬ ‫وكم من فىت ميسي ويصبح الهيًا!‬
‫يدري‪-‬ارُع األبط‪--‬ال‪ .‬وس‪--‬يدنا خال‪--‬د بن الولي‪--‬د‬ ‫فق‪--‬د ُيص‪--‬اب اجلب‪--‬ان يف آخ‪--‬ر الص‪ِّ-‬ف ‪ ،‬وينج‪--‬و مق‪-‬‬
‫– رضي اهلل عن‪-‬ه – خ‪-‬اَض من احلروب قب‪-‬ل إس‪-‬المه وبع‪-‬د إس‪-‬المه م‪-‬ا ال حيص‪-‬ى‪ ،‬وك‪-‬ان‬
‫الشجاَع املقداَم يف أول الصفوف‪ ،‬ومتىّن أن ميوَت شهيدًا‪ ،‬فلم ميت إال على فراشه‪.‬‬
‫واإلنس ‪--‬ان على أي ‪--‬ة ح ‪--‬ال ُمط ‪--‬الب أن يس ‪--‬لَك ُس ُبَل اخلري‪ ،‬والعلم‪ ،‬والس ‪--‬المة‪ ،‬والعافي ‪--‬ة‪،‬‬
‫طالبًا من اهلل العوَن ‪ ،‬والتوفيق‪ ،‬والَّس داد‪ ،‬والَّر شاد‪.‬‬
‫ويف سورة يوسف [‪:]64‬‬
‫‪َ‬فاُهَّلل َخْيٌر َح اِفظًا َو ُهَو َأْر َحُم الَّراِحِم يَن ‪‬‬
‫ف‪-- -‬إن أفلح وجنا فبق‪-- -‬در اهلل وقض‪-- -‬ائه‪ ،‬وإن خ‪-- -‬اب وأخف‪-- -‬ق فبق‪-- -‬در اهلل وقض‪-- -‬ائه‪ ،‬وك ‪ٌ- -‬ل‬
‫حلكمٍة أرادها اُهلل‪ ،‬واهلل هو احلكيم اخلبري‪.‬‬
‫والت ‪-- -‬اريُخ حُي ِّدثنا أَّن أب ‪-- -‬ا عبي ‪-- -‬دة بن اجلراح – رض‪-- - -‬ي اهلل عن ‪-- -‬ه – ملا أراد أن يت ‪-- -‬ابَع‬
‫زحف‪--‬ه وفتوحات‪--‬ه يف بالد الش‪--‬ام‪ ،‬وق‪--‬د انتش‪--‬ر ط‪--‬اعون عم‪--‬واس‪ ،‬أم‪--‬ره عم ‪ُ-‬ر بن اخلط‪--‬اب –‬
‫رض‪-- -‬ي اهلل عن‪-- -‬ه – باالحنس‪-- -‬ار عن مك‪-- -‬ان الط‪-- -‬اعون‪ ،‬ومحاي‪-- -‬ة اجليش من الوب‪-- -‬اء‪ ،‬وه‪-- -‬و م‪-- -‬ا‬
‫ُيس ‪َّ-‬م ى الي ‪--‬وم (احلج ‪--‬ر الّص حي) فأرس ‪--‬ل ل ‪--‬ه أب ‪--‬و عبي ‪--‬دة‪ :‬أنف ‪ُّ-‬ر من قض ‪--‬اء اهلل وق ‪--‬دره؟ فأجاب ‪--‬ه‬
‫عم‪-‬ر‪ :‬نعم‪ ،‬نف‪ُّ-‬ر من قض‪-‬اء اهلل وق‪-‬دره إىل قض‪-‬اء اهلل وق‪-‬دره‪ .‬أرأيت ي‪-‬ا أب‪-‬ا عبي‪-‬دة! ل‪-‬و كنَت‬
‫ِخ‬
‫راعي غنم‪ ،‬وأمام ‪-- -‬ك أرض ‪-- -‬ان‪ :‬األوىل فيه ‪-- -‬ا ص ‪-- -‬ب ومناء‪ ،‬والثاني‪-- -‬ة خاوي‪-- -‬ة ج‪-- -‬دوب‪ ،‬ف‪-- -‬أّي‬
‫األرض ‪--‬ني ت ‪--‬رعى فيه ‪--‬ا غنم ‪--‬ك؟ فأجاب ‪--‬ه‪ :‬يف األوىل‪ ،‬ذات اخلص ‪--‬ب والنم ‪--‬اء‪ .‬فق ‪--‬ال‪ِ :‬إذًا فاحف ‪ِ-‬ظ‬
‫اجليَش من الوباء والداء‪ ،‬واسلْك به سبيَل النجاة‪ ،‬والسالمة‪ ،‬واهلناء‪.‬‬
‫ولش‪ّ-‬د م‪--‬ا ك‪--‬ان فرُح ه عظيم‪ً-‬ا حني أخ‪--‬ربه أح‪ُ-‬د الَّص حابة‪ ،‬وأقس‪--‬م ل‪--‬ه أن‪--‬ه مسع الرس‪--‬ول‬
‫‪ ‬يق‪-- - - -‬ول‪« :‬إذا مسعتم بالّط اعون يف أرٍض فال ت‪-- - - -‬دخُلوها‪ ،‬وإذا كنتم فيه‪-- - - -‬ا فال خترج‪-- - - -‬وا‬
‫منها»(‪ .)1‬فأقام الدليَل على أيب عبيدة عقًال ونقًال‪ .‬ويف سورة البقرة [‪:]195‬‬
‫‪َ‬و ال ُتْلُقوا ِبَأْيِد يُك ْم ِإَلى الَّتْهُلَك ِة ‪‬‬
‫ويف سورة النساء [‪:]71‬‬
‫‪َ‬يا َأُّيَها اَّلِذ يَن آَم ُنوا ُخ ُذ وا ِح ْذ َر ُك ْم ‪‬‬
‫ورحم اهلل َم ن قال‪:‬‬

‫فأنَت عن كِّل ما اسرتعيَت‬ ‫يا راعَي الَّشاِء ال هتمْل رعايتها‬


‫مسؤوُليقٍني بأين عنه منقوُل‬
‫على‬ ‫ِإيِّن لفي َم ْنزٍل ما زلُت أعمره‬

‫(?) رواه البخاري ومسلم‪.‬‬ ‫‪1‬‬


‫وكُّل ذي ُأُك ٍل ال ُبَّد مأكوُل‬ ‫ُك ْل ما بدا لك فاآلكاُل فانيٌة‬
‫‪‬‬
‫الفرق بين المصيبة والمعصية‬
‫ال ُبَّد أن منيَز بني املصيبة واملعصية‪.‬‬
‫فاملعص ‪--‬يُة من العب ‪--‬د‪ ،‬وه ‪--‬و مس ‪--‬ؤول‪ ،‬وُمع ‪--‬اَقٌب عليه ‪--‬ا؛ ألن ‪--‬ه ُح ُّر التص ‪ُّ-‬ر ف‪ ،‬وق ‪--‬د فعله ‪--‬ا‬
‫راض ‪--‬يًا هبا‪ ،‬س ‪--‬اعيًا هلا‪ ،‬خمت ‪--‬اًر ا‪ ،‬وال ُم ْك َر ه ‪ً-‬ا‪ ،‬ولكن ‪--‬ه مل َيْف َعْله ‪--‬ا قس ‪--‬رًا عن إرادة اهلل‪ ،‬إذ ال‬
‫جيري يف الك ‪--‬ون ش ‪--‬يٌء إال ب ‪--‬إذن اهلل وإرادت ‪--‬ه‪ .‬وق ‪--‬د رأين ‪--‬ا أَّن اَهلل يري ‪ُ-‬د املعص ‪--‬ية‪ ،‬ولكن ‪--‬ه ال‬
‫يرضى هبا‪ ،‬وشرحنا ذلك يف حينه‪.‬‬
‫وق ‪--‬د ق ‪--‬ال بعُض العلم ‪--‬اء‪ :‬حنن ن ‪--‬ؤمُن بالق ‪--‬در والقض ‪--‬اء‪ ،‬وحنتُّج هبم ‪--‬ا يف املص ‪--‬ائب ال يف‬
‫املعاصي واملعائب‪ .‬فاحتجاُج العاصي بالقضا تبُّج ح ال ُيرتضى‪.‬‬
‫واهلل تع‪-- - -‬اىل ق ‪-- -‬د َخ َل َق يف العب ‪-- -‬د طاق ‪ً- -‬ة على احلرك ‪-- -‬ة‪ ،‬والق‪-- - -‬ول‪ ،‬والعم ‪-- -‬ل‪ ،‬وأم ‪-- -‬ره أن‬
‫يستخدَم ها يف اخلري‪ ،‬واحلق‪ ،‬واإلميان‪ ،‬والفض‪--‬ائل‪ ،‬ال يف الش‪ّ-‬ر ‪ ،‬والباط‪--‬ل‪ ،‬والكف‪--‬ر‪ ،‬والرذائ‪-‬ل‪.‬‬
‫وطالب ‪--‬ه بإص ‪--‬الح نفس ‪--‬ه‪ ،‬وح ‪َّ-‬ذ ره من فس ‪--‬ادها‪ ،‬ووع ‪--‬ده إن ه ‪--‬و امتث ‪--‬ل واس ‪--‬تجاب أن يفلح‪،‬‬
‫وأوعده إن هو عصى‪ ،‬وأعرض عن اهلل‪ ،‬أن خييب ويندم‪ .‬قال تعاىل‪:‬‬
‫‪َ‬قْد َأْفَلَح َم ْن َز َّك اَها * َو َقْد َخ اَب َم ْن َدَّساَها‪[ ‬الشمس‪]10-9 :‬‬
‫وأص‪--‬اَب احلكم‪َ-‬ة‪ ،‬وك‪--‬ان على س‪--‬داد ورش‪--‬اد‪َ ،‬م ن ق‪--‬ال‪ُ« :‬تنس‪--‬ب األعم‪--‬اُل إىل اهلل َخ ْلق‪ً-‬ا‬
‫وإجيادًا‪ ،‬وإىل العبد كسبًا وإرادة»‪.‬‬
‫ففي الي‪-- - - -‬د طاق ‪ٌ- - - -‬ة ميكن أن ُتس‪-- - - -‬تخدم خلري أو ش‪-- - - -‬ر‪ ،‬واخلري مف‪-- - - -‬روٌض والش‪-- - - -‬ر ح‪-- - - -‬رام‬
‫ومرف‪-- - -‬وض‪ ،‬ويف العني طاق ‪ٌ- - -‬ة ميكن أن ُتفتح حلالل أو ح‪-- - -‬رام‪ ،‬واحلالل مف ‪-- -‬روض‪ ،‬واحلالل‬
‫ممن ‪--‬وع ومرف ‪--‬وض‪ .‬ويف احلدي ‪--‬د ميكن أن ُتس ‪--‬تخدم للجه ‪--‬اد‪ ،‬وال ‪--‬دفاع‪ ،‬ورّد الظلم والع ‪--‬دوان‪،‬‬
‫ويف س‪-- - - -‬بيل إعالء كلم‪-- - - -‬ة اهلل‪ ،‬ومحاي‪-- - - -‬ة املؤمن أن يفنت يف دين‪-- - - -‬ه‪ ،‬أو ُيس‪-- - - -‬اء إىل حقوق‪-- - - -‬ه‬
‫ومقّد ساته‪ ،‬وذل‪-‬ك مطل‪-‬وب ومف‪-‬روض‪ ،‬وميكن أن ُتس‪-‬تخدم للجرمية‪ ،‬والظلم‪ ،‬وإقام‪-‬ة ص‪-‬روح‬
‫الطغيان والفساد‪ ،‬وذلك حرام ومرفوض‪:‬‬
‫‪َ‬و َأْنَز ْلَن ا اْلَحِد يَد ِفيِه َب ْأٌس َش ِد يٌد َو َم َن اِفُع ِللَّن اِس َو ِلَيْع َلَم ُهَّللا َم ْن َيْنُص ُر ُه‬
‫َو ُرُس َلُه ِباْلَغْيِب ِإَّن َهَّللا َقِو ٌّي َع ِز يٌز ‪[ ‬احلديد‪]25 :‬‬
‫والكتاب السماوي الوحيُد الذي اهتَّم بالحديد هو الق‪-‬رآُن الك‪-‬ريم‪ ،‬فق‪-‬د أف‪-‬رد الل‪-‬ه تع‪-‬الى‬
‫له سورة كاملة‪ ،‬هي سورة الحديد‪ .‬وإن تعجْب فعجب أن أمَة القرآن‪ ،‬أمة سورة الحديد‪،‬‬
‫هم أض ‪--‬عف الن ‪--‬اس وأقّلهم خ ‪--‬برًة في مج ‪--‬ال ص ‪--‬ناعة الحدي ‪--‬د؛ ال ‪--‬ذي ُيعت ‪--‬بر أهم المع ‪--‬ادن في‬
‫مضمار الحضارة‪ ،‬وساحة الحروب والجهاد!‪.‬‬
‫إَّن حبَذ الدنيا‪ ،‬وكراهية املوت‪ ،‬جعلتهم على ك‪-‬ثرهتم غث‪-‬اًء كغث‪-‬اء الس‪-‬يل‪ ،‬وق‪-‬ذفت يف‬
‫قلوهبم الوهن فتجرأ عليهم عدوهم‪.‬‬
‫ولق ‪--‬د ك ‪--‬ان ِم ن َك ِذب الكف ‪--‬ار‪ ،‬وس ‪--‬خفهم‪ ،‬أهنم اّدع ‪--‬وا أَّن اهلل أرغمهم وآب ‪--‬اءهم على‬
‫الشرك‪ ،‬هتُّر بًا من املسؤولية‪ ،‬وإصرارًا على الباطل والكفر‪ ،‬فردذ اُهلل عليهم رًّدا مفحم ‪ً-‬ا يف‬
‫سورة األنعام [‪:]148‬‬
‫‪َ‬سَيُقوُل اَّلِذ يَن َأْش َر ُك وا َلْو َش اَء ُهَّللا َم ا َأْش َر ْك َنا َو ال آَباُؤَن ا َو ال َح َّر ْم َن ا ِم ْن‬
‫َش ْي ٍء َك َذ ِلَك َك َّذ َب اَّلِذ يَن ِم ْن َقْبِلِهْم َح َّتى َذ اُق وا َبْأَس َنا ُق ْل َه ْل ِع ْن َد ُك ْم ِم ْن ِع ْلٍم‬
‫َفُتْخ ِر ُجوُه َلَنا ِإْن َتَّتِبُعوَن ِإاَّل الَّظَّن َو ِإْن َأْنُتْم ِإاَّل َتْخ ُرُصوَن ‪‬‬
‫فهم ك‪-- -‬اذبون فيم‪-- -‬ا اّدع‪-- -‬وا‪ ،‬وم‪-- -‬ا كف‪-- -‬روا إال باختي‪-- -‬ارهم‪ .‬وق‪-- -‬د رأين‪-- -‬ا أَّن اإلنس‪-- -‬ان ح ‪ُّ- -‬ر‬
‫التصرف‪ ،‬مسؤول‪ .‬ولذا ج‪-‬اءت اآلي‪-‬ة [‪ ]149‬من س‪-‬ورة األنع‪-‬ام نفس‪-‬ها تت‪-‬ابع املع‪-‬ىن‪ ،‬وتق‪ّ-‬ر ر‬
‫حّر يَة التصُّر ف عند اإلنسان‪ ،‬وأَّن هلل احلجة البالغة‪ ،‬إذ مل ُيكره أحدًا‪:‬‬
‫‪ُ‬قْل َفِلَّلِه اْلُحَّج ُة اْلَباِلَغ ُة َفَلْو َش اَء َلَهَداُك ْم َأْج َم ِع يَن ‪[ ‬األنعام‪]149 :‬‬
‫أي‪ :‬ل ‪-- -‬و ش ‪-- -‬اء إك ‪-- -‬راهكم على ش ‪-- -‬يء ألك ‪-- -‬رهكم على اهلدى‪ ،‬ولكن ‪-- -‬ه منحكم حري‪َ- - -‬ة‬
‫التص‪ُّ- -‬ر ف؛ لتحقي ‪--‬ق س ‪--‬عادتكم يف ال ‪--‬دنيا واآلخ ‪--‬رة‪ ،‬إذ ال س ‪--‬عادة ب ‪--‬دون حري ‪--‬ة‪ ،‬فل ‪--‬ه عليكم‬
‫احلّج ُة القاطع ‪ُ-‬ة البالغُة‪ ،‬وال دلي ‪َ-‬ل وال حج ‪َ-‬ة لكم فيم ‪--‬ا أق ‪--‬دمتم علي ‪--‬ه من كف ‪--‬ر‪ ،‬أو حترمي‬
‫ُم ب‪--‬اح‪ ،‬أو حتلي‪--‬ل ح‪--‬رام؛ إمنا تّتبع‪--‬ون أه‪--‬واءكم‪ .‬ويف س‪--‬ورة األع‪--‬راف [‪ ]29 - 28‬رّد ُمفحم‬
‫آخ‪-- -‬ر للمش‪-- -‬ركني‪ ،‬ال‪-- -‬ذين ادع‪-- -‬وا ك‪-- -‬ذبًا وزورًا‪ :‬أن اهلل أم‪-- -‬رهم مبا يقوم‪-- -‬ون ب‪-- -‬ه من س‪-- -‬وء‪،‬‬
‫وفحشاء‪ ،‬وظلم‪:‬‬
‫‪َ‬و ِإَذ ا َفَع ُلوا َفاِح َش ًة َقاُلوا َو َج ْد َنا َع َلْيَها آَباَء َنا َو ُهَّللا َأَم َر َنا ِبَه ا ُق ْل ِإَّن َهَّللا ال‬
‫َي ْأُم ُر ِباْلَفْح َش اِء َأَتُقوُل وَن َع َلى ِهَّللا َم ا ال َتْع َلُم وَن * ُق ْل َأَم َر َر ِّبي ِباْلِقْس ِط‬
‫َو َأِقيُم وا ُو ُج وَهُك ْم ِع ْن َد ُك ِّل َم ْس ِج ٍد َو اْدُع وُه ُم ْخ ِلِص يَن َل ُه الِّد يَن َك َم ا َب َد َأُك ْم‬
‫َتُعوُد وَن ‪[ ‬األعراف‪]29-28 :‬‬
‫واآلي‪-- - -‬ة [‪ ]30‬بع‪-- - -‬د ذل‪-- - -‬ك بَّينِت الس‪-- - -‬بَب يف ض‪-- - -‬الهلم‪ ،‬وكف‪-- - -‬رهم‪ ،‬وه‪-- - -‬و أهنم اختذوا‬
‫الَّش ياطني‪ ،‬ش‪-- -‬ياطني اِإل نس واجلن‪ ،‬أولي‪-- -‬اء هلم من ُدون اهلل‪ ،‬وظُّن وا أهَّن م على ص‪-- -‬واب يف‬
‫ذلك‪:‬‬
‫‪َ‬فِر يقًا َهَدى َو َفِر يقًا َح َّق َع َلْيِهُم الَّضالَلُة ِإَّنُهُم اَّتَخ ُذ وا الَّش َياِط يَن َأْو ِلَي اَء ِم ْن‬
‫ُد وِن ِهَّللا َو َيْح َس ُبوَن َأَّنُهْم ُم ْهَتُد وَن ‪[ ‬األعراف‪]30 :‬‬
‫فالن ‪--‬اُس فريق ‪--‬ان‪ ،‬فري ‪--‬ق اهت ‪--‬دى هبدى اهلل تع ‪--‬اىل‪ ،‬وباب ‪--‬ه مفت ‪--‬وح لك ‪--‬ل من أراد وأقب ‪--‬ل‬
‫خملصًا‪ .‬وفريق ضَّل خمتاًر ا‪ ،‬فظهرت به وعليه آثاُر الضاللة من ندم‪ ،‬وخس‪--‬ارة؛ ألهّن م اختذوا‬
‫الشياطني أولياء‪ ...‬ومجلة‪:‬‬
‫‪ِ‬إَّنُهُم اَّتَخ ُذ وا الَّش َياِط يَن َأْو ِلَياَء ِم ْن ُد وِن ِهَّللا‪‬‬
‫مجلة استئنافية تعليلي‪-‬ة‪ ،‬بّينت س‪-‬بَب ض‪--‬الهلم وخس‪-‬ارهتم‪ ،‬وَأَّن ذل‪-‬ك باختي‪-‬ارهم‪ ،‬ال ب‪-‬أمر‬
‫من اهلل؛ ألن اَهلل ال يأمر بالفحشاء‪ ،‬بل باحلق‪ ،‬والعدل‪ ،‬والفضيلة‪.‬‬
‫والَّص حابُة الك‪--‬رام – رض‪--‬ي اهلل عنهم – ق‪--‬د عاش‪--‬وا ف‪--‬رتَة ال‪--‬وحي وس‪--‬ألوا الرس‪--‬ول ‪‬‬
‫عن ك‪-- -‬ل ش‪-- -‬يء أش‪-- -‬كَل عليهم‪ .‬ويف ت‪-- -‬ارخيهم املش‪-- -‬رق م‪-- -‬ا ي‪-- -‬دُّل على َفْه م عمي‪-- -‬ق للقض‪-- -‬اء‬
‫والق ‪-- -‬در‪ ،‬فعم‪-- -‬ر بن اخلط ‪-- -‬اب – رض ‪-- -‬ي اهلل عن‪-- -‬ه – وه ‪-- -‬و الش‪-- -‬ديُد يف احلق‪ُ ،‬أيت بس‪-- -‬ارق‬
‫توفرت فيه شروُط قطع اليد‪ ،‬فأمر عمر بقط‪-‬ع ي‪-‬ده‪ ،‬فاس‪-‬تعطفه ُم َّدعيًا أن‪-‬ه مل يس‪-‬رْق قبله‪--‬ا‬
‫ق‪--‬ط‪ ،‬وأن‪--‬ه ت‪--‬اب‪ ،‬ولن يع‪--‬ود ملثله‪--‬ا أب‪--‬دًا‪ ،‬وُأقيم علي‪--‬ه احلد‪ ،‬فلح‪--‬ق ب‪--‬ه س‪--‬يدنا علي – ك ‪َّ-‬ر م‬
‫اهلل وجهه – وقال له‪ :‬إَّن الذي أعرفه من عدالة اهلل ورمحته أنه ال يأخ‪--‬ذ العب‪َ-‬د من أَّو ل‬
‫ذنٍب ‪ ،‬فأسألك باهلل أن تصدقين‪ ،‬فأجابه‪ :‬لقد سرقت قبل ه‪--‬ذه عش‪--‬رين م‪--‬رة أو أك‪--‬ثر‪ ،‬فلم‬
‫َأْر َعِو ‪ ،‬ومل أزدجر حىت وقعُت فيما أستحق من عقاب‪.‬‬
‫أال ما أعدل اهلل يف حكمه وخلقه! وما أجهل اإلنساَن وما أظلمه!‪:‬‬
‫‪َ‬و ِإْن َتُع ُّد وا ِنْع َم َت ِهَّللا ال ُتْح ُصوَها ِإَّن اِإْل ْنَس اَن َلَظُلوٌم َك َّفاٌر ‪[ ‬إبراهيم‪]34 :‬‬
‫وس‪--‬يدنا علي – رض‪--‬ي اهلل عن‪--‬ه – ُأيت بس‪--‬ارق فس‪--‬أله‪َ :‬مِل س‪--‬رقَت ؟ ظاًّنا أن ل‪--‬ه ع‪--‬ذرًا‬
‫خيّف ف عن‪--‬ه‪ .‬فأج‪--‬اب الَّس ارق‪ :‬قض‪--‬اًء وق‪--‬درًا‪ .‬فظه‪--‬ر الغض‪ُ-‬ب على وج‪--‬ه أم‪--‬ري املؤم‪--‬نني علي –‬
‫كرم اهلل وجهه – وقال‪« :‬اقطعوا يَد ه ألن‪-‬ه س‪-‬رق‪ ،‬واجل‪-‬دوه مثانني جل‪-‬دًة ألن‪-‬ه اف‪-‬رتى على‬
‫اهلل الك ‪-- - -‬ذب‪ ،‬فالقض ‪-- - -‬اء والق ‪-- - -‬در ال يس ‪-- - -‬لبان من العب ‪-- - -‬د االختي ‪-- - -‬ار‪ ،‬وال يوقعان ‪-- - -‬ه يف حّي ز‬
‫االضطرار»‪.‬‬
‫ويف ه‪-- -‬ذه القص‪-- -‬ة تأكي ‪ٌ- -‬د على حري‪-- -‬ة اإلنس‪-- -‬ان يف التص‪-- -‬رف‪ ،‬وأن‪-- -‬ه مس‪-- -‬ؤوٌل عن قول ‪--‬ه‬
‫وعمله‪.‬‬
‫ولع ‪َّ-‬ل من اجلمي ‪--‬ل هن ‪--‬ا أن ن ‪--‬ذكَر ق ‪--‬وَل س ‪--‬يدنا علي – رض ‪--‬ي اهلل عن ‪--‬ه – أيض ‪ً-‬ا‪« :‬من‬
‫اهَّت م مسلمًا بفاحشة – أي‪ :‬قذفه هبا – أقمُت عليه حَّد القذف مثانني جلدة إن مل يأت‬
‫ببّين‪--‬ة‪ ،‬ف‪--‬إن اهتم رس‪--‬وًال أو نبي ‪ً-‬ا جلدُت ه مئ‪--‬ة وس‪--‬تني جل‪--‬دة» أي‪ :‬ض‪--‬اعفت ل‪--‬ه العقوب‪--‬ة؛ ألن‬
‫الرسَل واألنبي‪-‬اء ق‪-‬دوة معص‪-‬ومون‪ ،‬ويف الطعن هبم ك‪-‬ذٌب ‪ ،‬واف‪-‬رتاء‪ ،‬وتض‪-‬ليل للن‪-‬اس‪ ،‬وإفس‪-‬اد‬
‫لألمة‪.‬‬
‫ففي سورة ص اآلية [‪ 82‬و ‪ ]83‬على لسان إبليس‪:‬‬
‫‪َ‬قاَل َفِبِع َّز ِتَك ُأَلْغ ِو َيَّنُهْم َأْج َم ِع يَن * ِإاَّل ِع َب اَدَك ِم ْنُهُم اْلُم ْخ َلِص يَن ‪[ ‬ص‪-82 :‬‬
‫‪]83‬‬
‫والرسل واألنبياء هم أول العباد املخَلصني‪.‬‬
‫ويف سورة يوسف [‪:]24‬‬
‫‪َ‬ك َذ ِلَك ِلَنْص ِر َف َع ْنُه الُّسوَء َو اْلَفْح َش اَء ِإَّنُه ِم ْن ِعَباِد َنا اْلُم ْخ َلِص يَن ‪‬‬
‫فالش‪-- -‬يطاُن يق ‪ُّ- -‬ر أن ال س‪-- -‬لطاَن ل‪-- -‬ه على أه‪-- -‬ل التق‪-- -‬وى‪ ،‬واإلميان‪ ،‬واإلخالص والس‪-- -‬يما‬
‫الرسل واألنبياء‪ .‬وصدق اهلل العظيم‪:‬‬
‫‪ِ‬إَّنُه َلْيَس َلُه ُس ْلَطاٌن َع َلى اَّلِذ يَن آَم ُنوا َو َع َلى َر ِّبِهْم َيَتَو َّك ُلوَن ‪[ ‬النحل‪]99 :‬‬
‫ولقد حَّر ف اليهوُد التوراَة‪ ،‬واشرتوا بآيات اهلل مثنًا قليًال‪ ،‬واهَّت م‪-‬وا األنبي‪-‬اَء والرس‪-‬ل‪ ،‬مبا‬
‫ال يلي ‪ُ- -‬ق هبم ُخ لق ‪ً- -‬ا‪ ،‬وعقًال‪ ،‬واف‪-- -‬رتوا على اهلل الك‪-- -‬ذَب ‪ ،‬ودّس وا من اإلس‪-- -‬رائيليات املض ‪ّ- -‬للة‬
‫املنحرف‪-‬ة الكث‪-‬ري؛ مما ينبغي التنب‪-‬ه ل‪-‬ه‪ ،‬ورفض‪-‬ه‪ ،‬وش‪-‬جبه‪ ،‬وإنك‪-‬اره‪ ،‬حيث قرأت‪-‬ه‪ ،‬أو مسعته أو‬
‫وجدته‪ِ ،‬ح ْر صًا على احلقيقة‪ ،‬وحفاظًا على أخالف األفراد واألمم‪.‬‬
‫ول‪--‬و رجعَت إلى األص‪--‬ول والنص‪--‬وص الص‪--‬حيحة ل‪--‬رأيَت عص‪--‬مة الرس‪--‬ل واألنبي‪--‬اء حق ‪ً-‬ا ال‬
‫ريب فيه‪ ،‬فهم‪:‬‬
‫‪‬اَّلِذ يَن ُيَبِّلُغ وَن ِر َس االِت ِهَّللا َو َيْخ َش ْو َنُه َو ال َيْخ َش ْو َن َأَح دًا ِإاَّل َهَّللا َو َكَفى ِباِهَّلل‬
‫َح ِس يبًا‪[ ‬األحزاب‪]39 :‬‬
‫أَّم ا املصيبُة فهي من اهلل تعاىل‪ ،‬ولكنها تصيُب اإلنساَن حلكمٍة أرادها اهلل‪:‬‬
‫‪َ‬م ا َأَص اَب ِم ْن ُمِص يَبٍة ِفي اَأْلْر ِض َو ال ِفي َأْنُفِس ُك ْم ِإاَّل ِفي ِكَتاٍب ِم ْن َقْبِل‬
‫َأْن َنْبَر َأَها ِإَّن َذ ِلَك َع َلى ِهَّللا َيِس يٌر * ِلَك ْيال َتْأَس ْو ا َع َلى َم ا َف اَتُك ْم َو ال َتْفَر ُح وا‬
‫ِبَم ا آَتاُك ْم َو ُهَّللا ال ُيِح ُّب ُك َّل ُم ْخ َتاٍل َفُخ وٍر ‪[ ‬احلديد‪]23-22 :‬‬
‫وكلم‪-- -‬ة ‪ِ‬لَك ْيال‪ ‬تفي ‪ُ- -‬د التعلي ‪َ- -‬ل‪ ،‬فم‪-- -‬ا من مص‪-- -‬يبة إال بس‪-- -‬بب‪ ،‬وهلا عن‪-- -‬د اهلل ه‪-- -‬دٌف‬
‫معلوٌم‪ ،‬وأجل مسَّم ى‪ ،‬وحكمة بالغة‪ ،‬تظهر للمتبصرين‪ ،‬وخَت فى على الغافلني‪.‬‬
‫ويف سورة النساء [‪:]78‬‬
‫‪َ‬أْيَنَم ا َتُك وُن وا ُي ْد ِر ْكُك ُم اْلَم ْو ُت َو َل ْو ُكْنُتْم ِفي ُب ُروٍج ُم َش َّيَد ٍة َو ِإْن ُتِص ْبُهْم‬
‫َح َس َنٌة َيُقوُلوا َهِذِه ِم ْن ِع ْنِد ِهَّللا َو ِإْن ُتِص ْبُهْم َس ِّيَئٌة َيُقوُل وا َه ِذِه ِم ْن ِع ْن ِد َك ُق ل‬
‫ُك ٌّل ِم ْن ِع ْنِد ِهَّللا َفَم اِل َهُؤ الِء اْلَقْو ِم ال َيَك اُد وَن َيْفَقُهوَن َح ِد يثًا‪‬‬
‫لق‪--‬د ج‪--‬رْت ع‪--‬ادُة الن‪--‬اس ق‪--‬دميًا وح‪--‬ديثًا أهنم إن ن‪--‬الوا خ‪--‬ريًا‪ ،‬أو ف‪--‬ازوا ب‪--‬ه‪ ،‬ق‪--‬الوا‪ :‬ه‪--‬ذا‬
‫كله من عند اهلل‪ ،‬وإن نزل هبم شر‪ ،‬أو أصاهبم س‪--‬وء عقاب‪ً-‬ا هلم على ض‪--‬الهلم واحنرافهم‪،‬‬
‫نس ‪--‬بوا ذل ‪--‬ك ملن يكره ‪--‬ون أو حيس ‪--‬دون‪ ،‬وق ‪--‬الوا ل ‪--‬ه‪ :‬ه ‪--‬ذه من عن ‪--‬دك‪ .‬وه ‪--‬ذا بعُض م ‪--‬ا قال ‪--‬ه‬
‫الكف ‪-- -‬ار لرس ‪-- -‬ول اهلل ‪ ‬كم ‪-- -‬ا يف اآلي ‪-- -‬ة الكرمية‪ ،‬ف‪- - -‬رَّد اُهلل تع ‪-- -‬اىل عليهم‪ُ ،‬مَبِّين‪ً- - -‬ا أهنم ق ‪-- -‬وٌم‬
‫ج ‪-- -‬اهلون‪ ،‬ال يفقه ‪-- -‬ون‪ ،‬وال ي ‪-- -‬دركون احلق ‪-- -‬ائَق لع ‪-- -‬دم إمياهنم اليقي ‪-- -‬ين‪ ،‬إذ ل ‪-- -‬و كم ‪-- -‬ل إمياهُن م‬
‫لعلم‪-- -‬وا‪ ،‬وأيقن‪-- -‬وا َأَّن كًّال من احلس‪-- -‬نة والس‪-- -‬يئة من عن‪-- -‬د اهلل وح‪-- -‬ده‪َ ،‬فُه و س‪-- -‬بحانه جيزي‬
‫احملس‪--‬نني خ‪--‬ريًا مما عمل‪--‬وا‪ ،‬وجيازي املس‪--‬يئني مبث‪--‬ل م ‪--‬ا أس‪--‬اؤوا‪ ،‬زج‪--‬رًا وردع ‪ً-‬ا هلم يف ال‪--‬دنيا‪،‬‬
‫وجزاًء وفاقًا يف اآلخرة‪ .‬فأنت تقرأ يف سورة النجم [‪:]3‬‬
‫‪ِ‬لَيْج ِز َي اَّلِذ يَن َأَس اُء وا ِبَم ا َع ِم ُلوا َو َيْج ِز َي اَّلِذ يَن َأْح َس ُنوا ِباْلُحْسَنى‪‬‬
‫ويف سورة التحرمي [‪:]7‬‬
‫‪َ‬يا َأُّيَها اَّلِذ يَن َكَفُروا ال َتْعَتِذ ُروا اْلَيْو َم ِإَّنَم ا ُتْج َز ْو َن َم ا ُكْنُتْم َتْع َم ُلوَن ‪‬‬
‫ويف س ‪-- -‬ورة س ‪-- -‬بأ قَّص ة ق ‪-- -‬وٍم عاش ‪-- -‬وا يف نعيم كب ‪-- -‬ري‪ ،‬فكف ‪-- -‬روا ب ‪-- -‬أنعم اهلل‪ ،‬وحتاس ‪-- -‬دوا‬
‫وتباغض‪--‬وا‪ ،‬وأعرض‪--‬وا عن اهلل وش‪--‬ريعته‪ ،‬فه‪--‬دم اهلل عليهم س‪َّ--‬د م‪--‬أرب‪ ،‬وأرس‪--‬ل عليهم س‪--‬يَل‬
‫الع‪--‬رم‪ ،‬فتفرق‪--‬وا أي‪--‬ادي س‪--‬بأ‪ ،‬وتش ‪َّ-‬تتوا يف البالد‪ ،‬وُمّز ق‪--‬وا ك ‪َّ-‬ل َمُمَّز ق‪َ .‬مِل ك‪--‬ان ذل‪--‬ك الع‪--‬ذاب؟‬
‫كان بسبب ُك فرهم‪:‬‬
‫‪َ‬ذ ِلَك َج َزْيَناُهْم ِبَم ا َكَفُروا َو َهْل ُنَج اِز ي ِإاَّل اْلَك ُفوَر ‪[ ‬سبأ‪]17 :‬‬
‫ويف س ‪--‬ورة يس ي ‪--‬ذكر لن ‪--‬ا اُهلل تع ‪--‬اىل أَّن أص ‪--‬حاب قري ‪--‬ة – واألغلب أهنا إنطاكي ‪--‬ة –‬
‫جاءها املرسلون‪ ،‬فكفروا هبم‪ ،‬وقالوا هلم‪:‬‬
‫‪ِ‬إَّنا َتَطَّيْر َنا ِبُك ْم ‪[ ‬يس‪]18 :‬‬
‫أي‪ :‬تش‪-- -‬اءمنا منكم؛ النقط‪-- -‬اع املط‪-- -‬ر عن‪-- -‬ا‪ ،‬ون‪-- -‬زول القح‪-- -‬ط والبالء بن‪-- -‬ا‪ .‬فك‪-- -‬ان ج‪-- -‬واُب‬
‫املرسلني هلم‪:‬‬
‫‪َ‬قاُلوا َطاِئُر ُك ْم َم َع ُك ْم َأِإْن ُذ ِّك ْر ُتْم َبْل َأْنُتْم َقْو ٌم ُم ْس ِر ُفوَن ‪[ ‬يس‪]19 :‬‬
‫أي‪ :‬إَّن ُكْف ركم وإعراض‪-‬كم عن اهلل واحلق ه‪-‬و س‪-‬بُب م‪-‬ا ح‪َّ-‬ل بكم من س‪-‬وء‪ ،‬وبالء‪،‬‬
‫فأنتم ال هتتدون – وإن ذكرمت – ألنكم ضاُّلون‪ ،‬مسرفون‪ ،‬مصُّر ون على ذلك‪.‬‬
‫وآية سورة النساء [‪ ]78‬اليت شرحناها‪ ،‬لو تابعنا التالوة لقرأنا بعدها اآلية [‪:]79‬‬
‫‪َ‬م ا َأَص اَبَك ِم ْن َح َس َنٍة َفِم َن ِهَّللا َو َم ا َأَص اَبَك ِم ْن َس ِّيَئٍة َفِم ْن َنْفِس َك ‪‬‬
‫فاحلسنُة من اهلل تعاىل وبفضل منه‪:‬‬
‫‪ِ‬لَيْج ِز َي اَّلِذ يَن آَم ُن وا َو َع ِم ُل وا الَّص اِلَح اِت ُأوَلِئ َك َلُهْم َم ْغ ِف َر ٌة َو ِر ْز ٌق َك ِر يٌم‬
‫‪[ ‬سبأ‪]4 :‬‬
‫والسيئة ذات شطرين‪:‬‬
‫‪ -1‬سبب‪.‬‬
‫‪ -2‬وعقوبة‪.‬‬
‫فأما الَّس بُب فهو من العبد؛ لكفره‪ ،‬وظلمه‪ ،‬وإعراضه‪:‬‬
‫‪َ‬و َم ا َأَص اَبُك ْم ِم ْن ُمِص يَبٍة َفِبَم ا َك َس َبْت َأْي ِد يُك ْم َو َيْع ُف و َع ْن َك ِث يٍر ‪‬‬
‫[الشورى‪]30 :‬‬
‫وأما العقوبُة فهي من اهلل تعاىل‪:‬‬
‫‪ِ‬إَّن َجَهَّنَم َك اَنْت ِم ْر َص ادًا * ِللَّط اِغ يَن َم آبًا * الِبِثيَن ِفيَه ا َأْح َقابًا * ال‬
‫َيُذ وُقوَن ِفيَه ا َب ْر دًا َو ال َش َر ابًا * ِإاَّل َحِم يمًا َو َغَّس اقًا * ِإاَّل َحِم يمًا َو َغَّس اقًا *‬
‫َج َزاًء ِو َفاقًا‪[ ‬النبأ‪]26-21 :‬‬
‫فالعقوب‪ُ- -‬ة إذًا ج ‪--‬زاٌء ع ‪--‬ادل‪ ،‬وف ‪--‬اق ملا اق ‪--‬رتفت أي ‪--‬دي الكف ‪--‬ار واجملرمني‪ ،‬وملا فّر ط ‪--‬وا يف‬
‫جنب اهلل‪:‬‬
‫‪ِ‬إَّنُهْم َك اُنوا ال َيْر ُجوَن ِح َس ابًا * َو َك َّذ ُبوا ِبآياِتَنا ِكَّذ ابًا * َو ُك َّل َش ْي ٍء َأْح َص ْيَناُه‬
‫ِكَتابًا * َفُذ وُقوا َفَلْن َنِز يَد ُك ْم ِإاَّل َع َذ ابًا‪[ ‬النبأ‪]30-27 :‬‬
‫وهكذا يظهُر لنا العدُل اإلهلي احلُّق جلًّيا يف الثواب والعقاب‪:‬‬
‫‪ِ‬إْن َأْح َس ْنُتْم َأْح َس ْنُتْم َأَلْنُفِس ُك ْم َو ِإْن َأَس ْأُتْم َفَلَها‪[ ‬اإلسراء‪]7 :‬‬
‫‪َ‬م ْن َع ِم َل َص اِلحًا َفِلَنْفِس ِه َو َم ْن َأَس اَء َفَع َلْيَه ا َو َم ا َر ُّب َك ِبَظاَّل ٍم ِلْلَع ِبيِد ‪‬‬
‫[فصلت‪]46 :‬‬
‫وهاتان اآليتان تفِّس ران بوضوٍح آييت النساء السابقتني [‪ ]79-78‬فتأمل‪.‬‬
‫ويف سورة اجلن [‪:]10‬‬
‫‪َ‬و َأَّنا ال َنْد ِر ي َأَش ٌّر ُأِر يَد ِبَم ْن ِفي اَأْلْر ِض َأْم َأَر اَد ِبِهْم َر ُّبُهْم َر َش دًا‪‬‬
‫ففع‪--‬ل ‪َ‬أَر اَد ‪ُ ‬بين للمجه‪--‬ول حيث ذك‪--‬ر الش‪--‬ر ‪ُ‬أِر يَد ‪ .‬وُبين للمعل‪--‬وم حيث ذك‪--‬ر‬
‫الرش‪--‬د واخلري‪ .‬وذك‪--‬ر الفاع‪--‬ل‪َ :‬ر ُّبُهْم ‪ ‬إش‪--‬ارة إىل أن احلس‪--‬نة واخلري من اهلل‪ ،‬أم‪--‬ا الس‪--‬يئة‬
‫‪‬الش‪--‬ر‪ ‬فس‪--‬ببها جه‪--‬ل اإلنس‪--‬ان وفس‪--‬قه‪ ،‬والعقوب‪--‬ة من اهلل تع‪--‬اىل بع‪--‬د ذل‪--‬ك ع‪--‬دل‪ ،‬وردع‪،‬‬
‫وزجر‪.‬‬
‫أَّم ا حني ُيص‪--‬اب األنبي‪--‬اُء والص‪--‬احلون‪ ،‬ف‪--‬إَّن يف ذل‪--‬ك رفع‪ً-‬ا ل‪--‬درجاهتم‪ ،‬وزي‪--‬ادة يف ث‪--‬واهبم‬
‫وحسناهتم‪ ،‬وتنبيهًا للَّناس كي يقتدوا هبم يف صربهم‪ ،‬ورضاهم بقضاء اهلل وقدره‪ ،‬وُحْس ن‬
‫تص‪ُّ- - -‬ر فهم يف امللّم ات مبا يرض ‪-- -‬ي اهلل تع ‪-- -‬اىل‪ ،‬فال يقف ‪-- -‬وا عن العم ‪-- -‬ل‪ ،‬وال يفق ‪-- -‬دوا األم‪-- -‬ل‪،‬‬
‫يصربون يف الضّر اء‪ ،‬ويشكرون يف الَّسَّر اء‪.‬‬
‫ويف احلديث الشريف‪« :‬م‪--‬ا ُيص‪--‬اب املس‪-‬لُم من نص‪--‬ب‪ ،‬وال وص‪--‬ب‪ ،‬وال هّم‪ ،‬وال غّم‪،‬‬
‫وال أذى‪ ،‬حىت الشوكة يشاكها‪ ،‬إال كَّفر اُهلل بذلك من خطاياه»(‪.)1‬‬
‫و‪« :‬عجب ‪ً-‬ا ألم‪--‬ر املؤمن‪ ،‬إن أم‪--‬ره كّل ه ل‪--‬ه خ‪--‬ري‪ ،‬وليس ذل‪--‬ك إال للم‪--‬ؤمن‪ ،‬إن أص‪--‬ابته‬
‫ضّر اء صرب‪ ،‬فكان خريًا له‪ ،‬وإن أصابته سّر اء شكر‪ ،‬فكان خريًا له»(‪.)2‬‬
‫واإلنس ‪--‬اُن مط ‪--‬الٌب أن يأخ‪َ- -‬ذ ح ‪--‬ذره‪ ،‬وحيمي نفس ‪--‬ه من ك‪ِّ- -‬ل ش ‪--‬ر وض ‪--‬رر‪ ،‬ويس ‪--‬تدرك‬
‫أمره؛ فيصحح خطأه‪ ،‬ويصلح ما أفسد‪ ،‬ويتعاطى لك‪ّ-‬ل ش‪-‬يء أس‪-‬باَبه‪ ،‬ويس‪-‬لك إلي‪-‬ه الَّس بيَل‬

‫(?) رواه البخاري ومسلم‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫(?) رواه أمحد ومسلم‪.‬‬ ‫‪2‬‬


‫املشروع مستفيدًا من العلوم‪ ،‬سائرًا يف دروب الَّس المة واألمن‪.‬‬
‫أما الذين ُيهملون األسباَب ‪ ،‬ويفّر طون بالواجبات‪ ،‬وُيَعِّر ض‪-‬ون أنفَس هم للض‪-‬رر والض‪-‬رار‪،‬‬
‫حىت إذا انزلقوا إىل خطٍر ‪ ،‬أو صاروا إىل ما ال حُت مد ُعقباه‪ ،‬تعَّللوا بالقضاء والق‪--‬در‪ ،‬فهم‬
‫جيهل‪--‬ون‪ ،‬أو يتج‪--‬اهلون‪ ،‬أَّن م‪--‬ا فعل‪--‬وه انتح‪--‬اٌر ‪ ،‬أو س‪--‬عٌي الهني‪--‬ار‪ ،‬أو ان‪--‬دثار‪ ،‬يس‪--‬ألون عن‪--‬ه‪،‬‬
‫ويعاقبون‪.‬‬
‫وم‪--‬ا أمجل أن ن‪--‬ذّك ر هن‪--‬ا حبديث رس‪--‬ول اهلل ‪« :‬اعقله‪--‬ا وتوَّك ل»(‪ )1‬فال ُع ْذ َر ملهم ‪ٍ-‬ل ‪،‬‬
‫أو مفرط‪ ،‬أو مسيء‪ ،‬أو مفسد‪ ،‬أو جاهل‪:‬‬
‫‪َ‬و ال ُيْؤ َذ ُن َلُهْم َفَيْعَتِذ ُروَن ‪[ ‬املرسالت‪]36 :‬‬
‫إذ ال ُعْذ َر هلم‪.‬‬
‫أم ‪-- -‬ا مص ‪-- -‬يبُة املوت فال جمال للح ‪-- -‬ذر منه ‪-- -‬ا‪ ،‬وال حميص عنه ‪-- -‬ا‪ ،‬فهي مرتبط‪ٌ- - -‬ة بانقض ‪-- -‬اء‬
‫األج ‪--‬ل‪ .‬وخالص ‪--‬ة م ‪--‬ا ُيط ‪--‬الب ب ‪--‬ه املؤمُن املس‪--‬لم أن َيس ‪--‬تقيم دائم ‪ً-‬ا‪ ،‬ف ‪--‬إذا جاءت ‪--‬ه املني ‪ُ-‬ة فج ‪--‬أة‬
‫ذهَب إىل اهلل راضيًا مرضيًا‪:‬‬
‫‪َ‬و ال َتُم وُتَّن ِإاَّل َو َأْنُتْم ُم ْس ِلُم وَن ‪[ ‬آل عمران‪]102 :‬‬
‫واهلل تعاىل خياطبه فيقول له‪:‬‬
‫‪َ‬يا َأَّيُتَها الَّنْفُس اْلُم ْطَم ِئَّنُة * اْر ِج ِع ي ِإَلى َر ِّب ِك َر اِض َيًة َم ْر ِض َّيًة * َف اْد ُخ ِلي‬
‫ِفي ِعَباِد ي * َو اْد ُخ ِلي َج َّنِتي‪[ ‬الفجر‪]30-27 :‬‬
‫وهلل دُّر مضن قال‪:‬‬
‫ولو أنه يف بروٍج ُتَش َّيد‬ ‫هو املوُت مل يْنج منه امرؤ‬
‫ميوُت الكبري فهل من خملد؟!‬ ‫ميوُت الَّصغُري كما أنه‬
‫فسبحاَن الذي بالبقاء تفَّر د‬ ‫وما املرُء إال رهُني الردى‬
‫ففّك ر مبوِت النِّيب حُم َّم د‬ ‫مصاُبَك إن شئَت ختفيَف ُه‬
‫ومن قال‪:‬‬

‫مادام يف أجِل اإلنسان تأخُري‬ ‫إَّن الطبيَب له يف الطِّب معرفٌة‬


‫ِق‬
‫حاَر الطبيُب وخاَنْتُه الَعَق ا ُري‬ ‫حىت إذا ما انقضْت أياُم ُمَّدته‬
‫وقد أمرنا رسول اهلل ‪ ‬أن نطلَب السالمة‪ ،‬وأن ال ن‪-‬دعَو بش‪-‬ر أو س‪-‬وء‪ ،‬خش‪-‬ية أن‬
‫ُتصيب ساعة إجابة‪ ،‬فيستجاب لن‪-‬ا‪ ،‬فنخيب‪ ،‬ونن‪-‬دم‪ ،‬فخ‪ُ-‬ري الن‪-‬اس َم ن ط‪-‬ال عم‪-‬ره‪ ،‬وَح ُس ن‬
‫عمله‪.‬‬

‫(?) رواه الرتمذي وابن حبان‪.‬‬ ‫‪1‬‬


‫واحلياُة فرصٌة لعمٍل صاحل‪ ،‬فلنغتنم كَّل حلظة فيها بالعمل الصاحل‪ ،‬يرضي اهلل تعاىل‪ ،‬فنسعد يف دنيانا وأخرانا‪ ،‬والليل والنه‪-‬ار فرص‪ٌ-‬ة‬
‫ملن أراد أن يذَّك ر أو أراد شكورًا‪:‬‬
‫مقالًة من مرشٍد ناصح‬ ‫يا نفُس إين قائٌل فاستمعي‬
‫غُري التقى والعمل الصاحل‬ ‫ما صاحَب اإلنسان يف قربه‬
‫ويف الق ‪--‬رآن الك‪--‬رمي أدَّل ٌة كث‪--‬رية على حري‪--‬ة التص ‪--‬رف‪ ،‬ونس‪--‬بة العم‪--‬ل من خ‪--‬ري أو ش‪--‬ر‬
‫إىل العبد نفسه‪ ،‬خمتارًا دون إكراه‪:‬‬
‫‪َ‬و َيْهِد ي ِإَلْيِه َم ْن َأَناَب ‪[ ‬الرعد‪]27 :‬‬
‫قال تعاىل‪:‬‬
‫‪َ‬فَم ْن َش اَء اَّتَخ َذ ِإَلى َر ِّبِه َس ِبيًال‪[ ‬املزمل‪]19 :‬‬
‫‪َ‬فَم ْن َش اَء اَّتَخ َذ ِإَلى َر ِّبِه َم آبًا‪[ ‬النبأ‪]39 :‬‬
‫‪ِ‬لَم ْن َش اَء ِم ْنُك ْم َأْن َيْسَتِقيَم ‪[ ‬التكوير‪]28 :‬‬
‫‪ِ‬لَم ْن َش اَء ِم ْنُك ْم َأْن َيَتَقَّد َم َأْو َيَتَأَّخ َر ‪[ ‬املدثر‪]37 :‬‬
‫‪َ ‬ك اَّل ِإَّنُه َتْذ ِكَر ٌة * َفَم ْن َش اَء َذ َك َر ُه‪[ ‬املدثر‪]55-54 :‬‬
‫‪ِ‬إْن َأْح َس ْنُتْم َأْح َس ْنُتْم َأَلْنُفِس ُك ْم َو ِإْن َأَس ْأُتْم َفَلَها‪[ ‬اإلسراء‪]7 :‬‬
‫‪ِ‬لَّلِذ يَن َأْح َس ُنوا ِفي َهِذِه الُّد ْنَيا َح َس َنٌة َو َلَداُر اآْل ِخَرِة َخْيٌر ‪[ ‬النحل‪]30 :‬‬
‫ويف الفاحتة‪:‬‬
‫‪ِ‬ص َر اَط اَّلِذ يَن َأْنَعْم َت َع َلْيِهْم َغْيِر اْلَم ْغ ُضوِب َع َلْيِهْم َو ال الَّض اِّليَن ‪[ ‬الفاحتة‪:‬‬
‫‪]7‬‬
‫ومل يق‪-‬ل‪ - :‬وال املض‪َّ-‬للني – فهم ق‪-‬د ض‪ُّ-‬لوا خمت‪-‬ارين‪ ،‬ول‪-‬ذا ج‪-‬اءْت بص‪-‬يغة اس‪-‬م الفاع‪-‬ل‬
‫ال املفعول‪.‬‬
‫ويظه‪ُ-‬ر ل‪-‬ك ذل‪-‬ك جلًّي ا يف موق‪-‬ف املش‪-‬ركني واعت‪-‬ذارهم ي‪-‬وم ال‪ِّ-‬دين‪ ،‬حني ُيظه‪--‬ر احلق‪،‬‬
‫ويعلن‪ ،‬وتل‪-- -‬زمهم احلج‪-- -‬ة فين‪-- -‬دمون حيث ال ينف‪-- -‬ع الن‪-- -‬دم‪ ،‬ويتمن‪-- -‬ون الع‪-- -‬ودة إىل ال‪-- -‬دنيا من‬
‫جدي ‪--‬د ليص ‪--‬لحوا ح ‪--‬اهلم‪ ،‬ويس ‪--‬تدركوا أم ‪--‬رهم‪ ،‬ولكنهم ال جُي ابون؛ ألهنم ك ‪--‬اذبون‪ ،‬مص ‪ُّ-‬ر ون‬
‫على الض‪-- -‬الل والكف‪-- -‬ر باختي‪-- -‬ارهم‪ ،‬ول‪-- -‬و رّدوا إىل ال‪-- -‬دنيا لع‪-- -‬ادوا ملا ُنُه وا عن‪-- -‬ه من كف‪-- -‬ر‬
‫وضالل‪ ،‬ففي سورة األنعام [‪ 27‬و ‪:]28‬‬
‫‪َ‬و َلْو َتَر ى ِإْذ ُو ِقُفوا َع َلى الَّناِر َفَقاُلوا َيا َلْيَتَنا ُنَر ُّد َو ال ُنَك ِّذ َب ِبآَي اِت َر ِّبَن ا‬
‫َو َنُك وَن ِم َن اْلُم ْؤ ِمِنيَن * َبْل َبَدا َلُهْم َم ا َك اُنوا ُيْخ ُفوَن ِم ْن َقْبُل َو َلْو ُر ُّد وا َلَع اُد وا‬
‫ِلَم ا ُنُهوا َع ْنُه َو ِإَّنُهْم َلَك اِذ ُبوَن ‪‬‬
‫ويف سورة املؤمنون [‪:]100-99‬‬
‫‪َ‬ح َّتى ِإَذ ا َج اَء َأَح َد ُهُم اْلَم ْو ُت َق اَل َر ِّب اْر ِج ُع وِن * َلَع ِّلي َأْع َم ُل َص اِلحًا‬
‫ِفيَم ا َتَر ْك ُت َك اَّل ِإَّنَها َك ِلَم ٌة ُهَو َقاِئُلَها َو ِم ْن َو َر اِئِهْم َبْر َز ٌخ ِإَلى َيْو ِم ُيْبَع ُثوَن ‪‬‬
‫ويستعتبون بعد أن ينفخ يف الصور ويدخلوا جهنم‪:‬‬
‫‪َ‬أَلْم َتُك ْن آَياِتي ُتْتَلى َع َلْيُك ْم َفُكْنُتْم ِبَها ُتَك ِّذ ُبوَن ]‪ [105‬‬
‫فيعرتفون بضالهلم‪ ،‬وأهنم ضّلوا باختيارهم‪:‬‬
‫‪َ‬قاُلوا َر َّبَنا َغ َلَبْت َع َلْيَنا ِش ْقَو ُتَنا َو ُكَّنا َقْو مًا َض اِّليَن ]‪ [106‬‬
‫ويطلبون الرمحة‪ ،‬وأن يعطوا فرصة أخرى لعلهم يهتدون‪:‬‬
‫‪َ‬ر َّبَنا َأْخ ِر ْج َنا ِم ْنَها َفِإْن ُعْد َنا َفِإَّنا َظاِلُم وَن ]‪ [107‬‬
‫فيقّر عون‪ ،‬ويذّك رون باستهزائهم بأهل احلق يف ال‪-‬دنيا‪ ،‬والض‪--‬حك منهم‪ ،‬واإلس‪-‬اءة إليهم‬
‫بإصرار وعناد‪:‬‬
‫‪َ‬قاَل اْخ َس ُأوا ِفيَها َو ال ُتَك ِّلُم وِن * ِإَّنُه َك اَن َفِر يٌق ِم ْن ِع َب اِد ي َيُقوُل وَن َر َّبَن ا‬
‫آَم َّن ا َف اْغ ِفْر َلَن ا َو اْر َحْم َن ا َو َأْنَت َخ ْي ُر الَّراِحِم يَن * َفاَّتَخ ْذ ُتُم وُهْم ِس ْخ ِر ّيًا َح َّتى‬
‫َأْنَس ْو ُك ْم ِذ ْك ِر ي َو ُكْنُتْم ِم ْنُهْم َتْض َح ُك وَن ‪[ ‬املؤمنون‪]110-108 :‬‬
‫فالعقاُب عادٌل ‪ ،‬جاء جزاًء وفاقًا ملا جنْت أيديهم‪ ،‬واقرتفوا من إمث‪.‬‬
‫ولع ‪--‬ل ه ‪--‬ذه العدال ‪--‬ة اإلهلي ‪--‬ة الكامل ‪--‬ة تتض ‪ُ-‬ح لن ‪--‬ا يف س ‪--‬ورة العنكب ‪--‬وت اآلي ‪--‬ة [‪ ]40‬حيث‬
‫ذك ‪َ- -‬ر اُهلل تع‪-- -‬اىل أن‪-- -‬واَع العق‪-- -‬اب يف ال‪-- -‬دنيا قب‪-- -‬ل اآلخ‪-- -‬رة ملن ظلم وكف‪-- -‬ر‪ ،‬مبِّين ‪ً- -‬ا أَّن ذل‪-- -‬ك‬
‫العقاَب إمنا نزَل هبم لظلمهم‪:‬‬
‫‪َ‬فُكًاّل َأَخ ْذ َنا ِبَذْنِبِه َفِم ْنُهْم َم ْن َأْر َس ْلَنا َع َلْيِه َح اِص بًا‪‬‬
‫‪ -‬أي‪ :‬كقوم لوط ‪:-‬‬
‫‪َ‬و ِم ْنُهْم َم ْن َأَخ َذْتُه الَّصْيَح ُة‪‬‬
‫‪ -‬أي‪ :‬كأهل مدين ‪:-‬‬
‫‪َ‬و ِم ْنُهْم َم ْن َخ َس ْفَنا ِبِه اَأْلْر َض ‪‬‬
‫‪ -‬أي‪ :‬كقارون وأمثاله ‪:-‬‬
‫‪َ‬و ِم ْنُهْم َم ْن َأْغ َر ْقَنا‪‬‬
‫‪ -‬أي‪ :‬كقوم نوح الكافرين وفرعون وأعوانه ‪:-‬‬
‫‪َ‬و َم ا َك اَن ُهَّللا ِلَيْظِلَم ُهْم َو َلِكْن َك اُنوا َأْنُفَس ُهْم َيْظِلُم وَن ‪‬‬
‫وآيات سورة سبأ [‪ ]17-15‬تدعم هذا املعىن بوضوح‪:‬‬
‫‪َ‬لَقْد َك اَن ِلَسَبٍأ ِفي َم ْس َك ِنِهْم آَي ٌة َج َّنَت اِن َع ْن َيِم يٍن َو ِش َم اٍل ُك ُل وا ِم ْن ِر ْز ِق‬
‫َر ِّبُك ْم َو اْشُك ُروا َلُه َبْل َد ٌة َطِّيَب ٌة َو َر ٌّب َغ ُف وٌر * َفَأْع َر ُض وا َفَأْر َس ْلَنا َع َلْيِهْم َس ْيَل‬
‫اْلَع ِر ِم َو َبَّد ْلَناُهْم ِبَج َّنَتْيِهْم َج َّنَتْيِن َذ َو اَتْي ُأُك ٍل َخ ْمٍط َو َأْثٍل َو َش ْي ٍء ِم ْن ِس ْد ٍر َقِليٍل *‬
‫َذ ِلَك َج َزْيَناُهْم ِبَم ا َكَفُروا َو َهْل ُنَج اِز ي ِإاَّل اْلَك ُفوَر ‪‬‬
‫فالعق‪--‬اُب ال‪--‬ذي ن‪--‬زل هبم ه‪--‬و عق‪--‬اٌب ع‪--‬ادٌل بس‪--‬بب كف‪--‬رهم ب‪--‬أهنم اهلل‪ ،‬وإعراض‪--‬هم عن‬
‫أوامره‪.‬‬
‫ويف سورة النبأ اآليات [‪:]30-21‬‬
‫‪ِ‬إَّن َجَهَّنَم َك اَنْت ِم ْر َص ادًا * ِللَّط اِغ يَن َم آبًا * الِبِثيَن ِفيَه ا َأْح َقابًا * ال‬
‫َيُذ وُقوَن ِفيَه ا َب ْر دًا َو ال َش َر ابًا * ِإاَّل َحِم يمًا َو َغَّس اقًا * ِإاَّل َحِم يمًا َو َغَّس اقًا *‬
‫َج َزاًء ِو َفاقًا * ِإَّنُهْم َك اُنوا ال َيْر ُج وَن ِح َس ابًا * َو َك َّذ ُبوا ِبآياِتَن ا ِك َّذ ابًا * َو ُك َّل‬
‫َش ْي ٍء َأْح َص ْيَناُه ِكَتابًا * َفُذ وُقوا َفَلْن َنِز يَد ُك ْم ِإاَّل َع َذ ابًا‪‬‬
‫ومجلتا‪:‬‬
‫‪ِ‬إَّنُهْم َك اُنوا ال َيْر ُجوَن ِح َس ابًا * َو َك َّذ ُبوا ِبآياِتَنا ِكَّذ ابا‪‬‬
‫مجلت ‪--‬ان تعليليت ‪--‬ان‪ ،‬تبين ‪--‬ان س ‪--‬بَب م ‪--‬ا ن ‪--‬زَل بأه ‪--‬ل جهنم من عق ‪--‬اب‪ ،‬وم ‪--‬ا ُق ِّدم هلم من‬
‫شراب‪.‬‬
‫َأَّم ا حديث‪ِ« :‬إَّن أحدكم ليجم‪ُ-‬ع َخ ْلُق ُه يف بطن أم‪-‬ه أربعني ليل‪-‬ة‪ ،‬مث يك‪-‬ون علق‪ً-‬ة مث‪-‬ل‬
‫ذل‪--‬ك‪ ،‬مث يك‪--‬ون مض‪--‬غة مث‪--‬ل ذل‪--‬ك‪ ،‬مث يرس ‪ُ-‬ل إلي‪--‬ه املل‪--‬ك فينفخ في‪--‬ه ال‪--‬روح‪ ،‬وُيؤمر ب‪--‬أربع‬
‫كلمات‪ :‬أجله‪ ،‬وعمله‪ ،‬ورزقه‪ ،‬وشقي أو سعيد»(‪.)1‬‬
‫فال‪--‬ذي يتض‪ُ-‬ح لي أن الرواي‪--‬ة الَّر اجح‪--‬ة ق‪--‬الت‪« :‬وُيؤمر ب‪--‬أربع كلم‪--‬ات» ولم تق‪ْ-‬ل ‪ :‬ويكتب‪،‬‬
‫مما يدُّل على أَّن الملك ينفُخ الروح‪ ،‬ويراف‪-‬ق اإلنس‪-‬اَن ليكتب تل‪-‬ك األرب‪-‬ع بع‪-‬د وقوعه‪-‬ا ال‬
‫قبله‪ ،‬كما يظن الكثيرون‪.‬‬
‫ذل ‪--‬ك أَّن األوام ‪َ-‬ر والَّن واهي يف الق ‪--‬رآن الك ‪--‬رمي‪ ،‬والُّس ـَّنة الش ‪--‬ريفة‪ ،‬لن يك ‪--‬ون منه ‪--‬ا أَّي ة‬
‫فائ‪--‬دة إذا ك‪--‬انت تل‪--‬ك األرب‪--‬ع مفروض ‪--‬ة قس‪--‬رًا وج‪--‬ربًا على اإلنس‪--‬ان – باس‪--‬تثناء األج‪--‬ل –‬
‫ول‪-- -‬و ك‪-- -‬ان األم ‪ُ- -‬ر ك‪-- -‬ذلك الحتَّج الكس‪-- -‬وُل لكس‪-- -‬له‪ ،‬واملتخ‪-- -‬اذل لتخاذل‪-- -‬ه‪ ،‬والظ‪-- -‬امل لظلم‪-- -‬ه‪،‬‬
‫واملفس ‪-- - -‬د لفس ‪-- - -‬اده؛ بالقض ‪-- - -‬اء والق ‪-- - -‬در‪ .‬وُألمهلت الف ‪-- - -‬روض والواجب ‪-- - -‬ات‪ ،‬وانتش ‪-- - -‬رت املفاس‪ُ- - -‬د‬
‫واملوبق ‪--‬ات حبّج ة َأن اإلنس ‪--‬ان ريش‪ٌ- -‬ة يف مهِّب الري ‪--‬اح‪ ،‬ق ‪--‬د ُف ِر ض علي ‪--‬ه قوُل ه وعمُل ه من‬
‫األزل‪ ،‬وال ميلك له تغيريًا‪.‬‬
‫واألدل ‪--‬ة القرآني ‪--‬ة‪ ،‬واألح ‪--‬اديث الص ‪--‬حيحة‪ ،‬ت ‪--‬دعُم وتؤي ‪--‬د َأَّن ذل ‪--‬ك ُيكتب على اِإل نس ‪--‬ان‬
‫بعد أن يفعله ال قبله‪ ،‬ولعل أّمهها مايلي‪.‬‬
‫آية آل عمران [‪:]181‬‬
‫‪َ‬لَقْد َسِمَع ُهَّللا َقْو َل اَّلِذ يَن َقاُلوا ِإَّن َهَّللا َفِقيٌر َو َنْح ُن َأْغ ِنَياُء َس َنْك ُتُب َم ا َق اُلوا‬
‫َو َقْتَلُهُم اَأْلْنِبَياَء ِبَغْيِر َح ٍّق َو َنُقوُل ُذ وُقوا َع َذ اَب اْلَح ِر يِق ‪‬‬
‫ومل يقل‪( :‬كتبنا) – يف املاضي – بل قال ‪َ‬س َنْك ُتُب ‪ – ‬يف املستقبل –‪.‬‬

‫(?) رواه البخاري ومسلم‪.‬‬ ‫‪1‬‬


‫ويف سورة التوبة [‪:]120‬‬
‫‪َ‬و ال َيَناُلوَن ِم ْن َع ُد ٍّو َنْيًال ِإاَّل ُك ِتَب َلُهْم ِبِه َع َم ٌل َص اِلٌح ‪‬‬
‫أي‪ :‬كتب ذلك بعد ما فعلوه‪ ،‬وهذا ما تقتضيه قواعُد اللغة العربية‪.‬‬
‫ويف سورة يونس [‪:]21‬‬
‫‪ِ‬إَّن ُرُس َلَنا َيْك ُتُبوَن َم ا َتْم ُك ُروَن ‪‬‬
‫بصيغة املضارع‪.‬‬
‫ويف سورة األنبياء [‪:]94‬‬
‫‪َ‬فَم ْن َيْع َم ْل ِم َن الَّصاِلَح اِت َو ُهَو ُم ْؤ ِم ٌن َفال ُك ْفَر اَن ِلَس ْع ِيِه َو ِإَّن ا َل ُه َك اِتُبوَن‬
‫‪‬‬
‫أي‪ :‬باستمرار إىل أن ميوت‪.‬‬
‫ويف سورة يس [‪:]12‬‬
‫‪ِ‬إَّنا َنْح ُن ُنْح ِي اْلَم ْو َتى َو َنْك ُتُب َم ا َقَّد ُم وا َو آَثاَر ُهْم ‪‬‬
‫ويف سورة الزخرف [‪:]19‬‬
‫‪َ‬س ُتْك َتُب َش َهاَد ُتُهْم َو ُيْس َألوَن ‪‬‬
‫ويف سورة الزخرف [‪:]80‬‬
‫‪َ‬أْم َيْح َس ُبوَن َأَّنا ال َنْس َم ُع ِس َّرُهْم َو َنْج َو اُهْم َبَلى َو ُرُس ُلَنا َلَد ْيِهْم َيْك ُتُبوَن ‪‬‬
‫بصيغة املضارع املفيد للحاضر واملستقبل‪.‬‬
‫ويف سورة ق [‪:]18‬‬
‫‪َ‬م ا َيْلِفُظ ِم ْن َقْو ٍل ِإاَّل َلَد ْيِه َر ِقيٌب َع ِتيٌد ‪‬‬
‫أي‪ :‬يرافقه ملك يكتُب عنه كَّل شيء‪.‬‬
‫ويف سورة االنفطار [‪:]12-10‬‬
‫‪َ‬و ِإَّن َع َلْيُك ْم َلَح اِفِظ يَن * ِكَر امًا َك اِتِبيَن * َيْع َلُم وَن َم ا َتْفَع ُلوَن ‪‬‬
‫فهذه اآلياُت الكرميُة واضحُة الدالل‪-‬ة على أَّن املالئك‪-‬ة تكتب أق‪-‬وال وأفع‪-‬ال العب‪-‬اد بع‪-‬د‬
‫وقوعها ال قبله‪ ،‬مما يوافق ويؤِّك د عدل اهلل تعاىل املطلق الكامل‪:‬‬
‫‪َ‬وَو َج ُد وا َم ا َع ِم ُلوا َح اِض رًا َو ال َيْظِلُم َر ُّبَك َأَح دًا‪[ ‬الكهف‪]49 :‬‬
‫‪‬‬
‫ِع ْلُم هللا كاشٌف ال ُم ْك ِره‬
‫مما ال ريَب فيه َأَّن اَهلل يعلُم الغيب كل‪-‬ه‪ ،‬ماض‪-‬يه‪ ،‬وحاض‪-‬ره‪ ،‬ومس‪-‬تقبله‪ ،‬م‪-‬ا ك‪-‬ان وم‪-‬ا‬
‫يكون وما سيكون‪ ،‬ولكن علمه ه‪-‬ذا ألفع‪-‬ال‪ ،‬وأق‪-‬وال‪ ،‬وأعم‪-‬ال العب‪-‬اد كاش‪-‬ف‪ ،‬ال ض‪-‬اغٌط‬
‫وال مكره‪ ،‬كاملرآة تكشُف ما تلبس أو تعمل‪ ،‬وليست هي اليت أكرهتك على ذلك‪.‬‬
‫ول ‪--‬و ك ‪--‬ان ِعْلُم اهلل ض ‪--‬اِغطًا أو مكره ‪ً-‬ا للعب ‪--‬اد على ق ‪--‬ول أو فع ‪--‬ل‪ ،‬لك ‪--‬ان ذل ‪--‬ك ظلم ‪ً-‬ا‬
‫وح‪--‬اش هلل أن يظلم‪ ،‬وه ‪--‬و أحكُم احلاكمني‪ ،‬أق‪--‬ام الك‪--‬ون على احلق والع ‪--‬دل‪ ،‬وأم ‪--‬ر عب‪--‬اَده‬
‫هبما‪ .‬وقد رأيت ذلك جليًا يف أول هذا البحث‪.‬‬
‫ولق‪-- - -‬د ض ‪ّ- - -‬لت فئ ‪ٌ- - -‬ة ق‪-- - -‬دميًا وح‪-- - -‬ديثًا زعمْت أَّن اَهلل ال يعلُم مس‪-- - -‬تقبَل الغيب إال بع‪-- - -‬د‬
‫حص‪--‬وله‪ ،‬وال يعلم أفع‪--‬اَل العب‪--‬اد وال أق‪--‬واهلم إال بع‪--‬د وقوعه‪--‬ا‪ .‬يري‪--‬دون ب‪--‬ذلك – على ح‪ِّ--‬د‬
‫زعمهم – أن يَنّز هوا اهلل عن الظلم‪ ،‬فنسبوا إليه اجلهَل بالغيب – والعي‪-‬اذ باهلل – فض‪--‬لوا‬
‫وأضّلوا‪.‬‬
‫والنص ‪--‬وُص القرآني ‪--‬ة ال ‪--‬يت تبط ‪--‬ل زعمهم واف ‪--‬رتاءهم كث ‪--‬رية‪ ،‬قطعي ‪--‬ة الّد الل ‪--‬ة على علم اهلل‬
‫الش ‪-- -‬امل لك ‪-- -‬ل غيب‪ ،‬ومن ‪-- -‬ه غيُب املس ‪-- -‬تقبل بكليات ‪-- -‬ه وجزيئات ‪-- -‬ه‪ ،‬خنت ‪-- -‬ار لكم منه ‪-- -‬ا يف آي ‪-- -‬ة‬
‫الكرسي‪:‬‬
‫‪َ ‬يْع َلُم َم ا َبْيَن َأْيِد يِهْم َو َم ا َخ ْلَفُهْم ‪[ ‬البقرة‪]255 :‬‬
‫أي‪ :‬ما فعلوا قدميًا وما سيفعلون يف املستقبل‪.‬‬
‫وقد تكررت هذه األلفاظ يف عدة سور‪ .‬ويف أول سورة الروم‪:‬‬
‫‪ُ‬غ ِلَبِت الُّر وُم * ِفي َأْد َنى اَأْلْر ِض َو ُهْم ِم ْن َبْع ِد َغ َلِبِهْم َس َيْغ ِلُبوَن * ِفي‬
‫ِبْض ِع ِسِنيَن ‪‬‬
‫فاُهلل خيُرب عن ح‪-- -‬رب س‪-- -‬تقُع يف املس ‪--‬تقبل‪ ،‬ح ‪ّ- -‬د د هلا بض ‪َ- -‬ع س‪-- -‬نني‪ ،‬أي‪ :‬من ثالث إىل‬
‫تس‪--‬ع س‪--‬نني‪ ،‬وبنَّي أن ال‪--‬روم س‪--‬يغلبون فيه‪--‬ا الف‪--‬رس‪ ،‬وق‪--‬د حص‪--‬ل األم‪ُ-‬ر كم‪--‬ا ذك‪--‬ر س‪--‬بحانه‪،‬‬
‫وهذا دليٌل قاطٌع على علمه مبا سيقع يف املستقبل‪.‬‬
‫ويف سورة املسد‪:‬‬
‫‪َ‬تَّبْت َيَدا َأِبي َلَهٍب َو َتَّب * َم ا َأْغ َنى َع ْنُه َم اُلُه َو َم ا َك َسَب * َسَيْص َلى َن ارًا‬
‫َذ اَت َلَهٍب * َو اْمَر َأُتُه َحَّم اَلَة اْلَح َطِب * ِفي ِج يِد َها َح ْبٌل ِم ْن َم َسٍد ‪‬‬
‫خيُرب اهلل تع‪--‬اىل يف ه‪--‬ذه الس‪--‬ورة أَّن أب‪--‬ا هلب وامرأت‪--‬ه س‪--‬يموتان على الكف‪--‬ر‪ ،‬وق‪--‬د مات‪--‬ا‬
‫عليه؛ مما يدُّل على علمه مبا سيقع يف املستقبل‪.‬‬
‫وقد أخرب جربيُل علي‪-‬ه الس‪-‬الم رس‪-‬وَل اهلل ‪ ‬أَّن ُأيَّب بن خل‪-‬ف س‪-‬يموت ك‪-‬افرًا‪ ،‬وه‪-‬و‬
‫ال‪--‬ذي ج‪--‬اء بعظم ب‪--‬اٍل من الق‪--‬رب‪ ،‬وض‪--‬رب ب‪--‬ه مثًال وق‪--‬ال للرس‪--‬ول ‪ :‬من حييي ه‪--‬ذه وهي‬
‫رميم؟ أأنت تزعم أهنا تعود إنس‪--‬انًا س‪--‬ويًا؟ ق‪--‬ال ل‪--‬ه ‪« :‬نعم س‪--‬يعيدك وي‪--‬دخلك جهنم»(‪.)1‬‬
‫وق‪--‬د م‪--‬اَت ك‪--‬افرًا يف ُأُح د على ي‪--‬د الن‪--‬يب ‪ ‬حني أص ‪َّ-‬ر وأقس‪--‬م أن يقت‪--‬ل حمم‪--‬دًا ‪ ‬فق‪--‬ال‬
‫هلم ‪« :‬خّلوا سبيله إّيل»‪ .‬وبارزه فقتله‪ .‬وفيه نزلت آية يس [‪:]78‬‬
‫‪َ‬و َض َر َب َلَنا َم َثًال َو َنِس َي َخ ْلَقُه َقاَل َم ْن ُيْح ِيي اْلِع َظاَم َو ِهَي َرِم يٌم ‪‬‬
‫وإخب ‪--‬ار جربي ‪--‬ل علي ‪--‬ه الس ‪--‬الم أن أيَّب بن خل ‪--‬ف س ‪--‬يموُت ك ‪--‬افرًا ه ‪--‬و وحي ب ‪--‬أمر اهلل‬
‫تعاىل ومنه‪ ،‬وهذا يدُّل على ِعْلم اهلل مبا سيقع يف املستقبل‪.‬‬
‫ويف سورة الفتح [‪:]11‬‬
‫‪َ‬سَيُقوُل َلَك اْلُم َخ َّلُفوَن ِم َن اَأْلْع َر اِب َش َغ َلْتَنا َأْم َو اُلَن ا َو َأْهُلوَن ا َفاْس َتْغ ِفْر َلَن ا‪‬‬
‫[الفتح‪]11 :‬‬
‫وه ‪--‬ذا إخب ‪--‬اٌر من ‪--‬ه س ‪--‬بحانه وتع ‪--‬اىل مبا س ‪--‬يقوله املخَّلف ‪--‬ون من األع ‪--‬راب‪ ،‬املتقاعس ‪--‬ون عن‬
‫اجله‪--‬اد‪ ،‬وق‪--‬د ق‪--‬الوه بع‪--‬د ذل‪--‬ك‪ ،‬مما ي‪--‬دُّل على علم اهلل تع‪--‬اىل بك‪--‬ل م‪--‬ا س‪--‬يقع يف املس‪--‬تقبل‪،‬‬
‫ولذا انتهت اآلية بقوله تعاىل‪:‬‬
‫‪َ‬بْل َك اَن ُهَّللا ِبَم ا َتْع َم ُلوَن َخ ِبيرًا‪‬‬
‫ويف سورة احلج [‪:]68‬‬
‫‪َ‬و ِإْن َج اَد ُلوَك َفُقِل ُهَّللا َأْع َلُم ِبَم ا َتْع َم ُلوَن ‪‬‬
‫ويف اآلي‪--‬ة إخب‪--‬اٌر ب‪--‬أَّن اهلل على علم مبا يعم‪--‬ل وس‪--‬يعمل الن‪--‬اس مجيع ‪ً-‬ا‪ ،‬فص‪--‬يغة املض‪--‬ارع‬
‫‪‬تعملون‪ ‬تفيُد احلاضر واملستقبل‪.‬‬
‫ويف آخر سورة لقمان [‪:]34‬‬
‫‪ِ ‬إَّن َهَّللا ِع ْن َد ُه ِع ْلُم الَّس اَع ِة َو ُيَن ِّز ُل اْلَغْيَث َو َيْع َلُم َم ا ِفي اَأْلْر َح اِم َو َم ا‬
‫َتْد ِر ي َنْفٌس َم اَذ ا َتْك ِس ُب َغدًا َو َم ا َت ْد ِر ي َنْفٌس ِب َأِّي َأْر ٍض َتُم وُت ِإَّن َهَّللا َع ِليٌم‬
‫َخ ِبيٌر ‪‬‬
‫يف ه ‪-- -‬ذا اآلي‪-- -‬ات إخب‪-- -‬اٌر من اهلل تع ‪-- -‬اىل أن مف ‪-- -‬اتَح الغيب يف املس‪-- -‬تقبل بي‪-- -‬ده‪ ،‬جيهله‪-- -‬ا‬
‫اخللق‪ ،‬وهو تعاىل هبا عليم خبري‪.‬‬
‫ويف األنعام [‪:]59‬‬
‫‪َ ‬و ِع ْنَد ُه َم َفاِتُح اْلَغْيِب ‪‬‬
‫ويف سورة البقرة [‪:]235‬‬
‫‪َ ‬ع ِلَم ُهَّللا َأَّنُك ْم َس َتْذ ُك ُر وَنُهَّن ‪‬‬

‫(?) رواه ابن مردويه‪.‬‬ ‫‪1‬‬


‫وفيها إخبار أن اهلل يعلُم ما سيقُع يف املستقبل‪.‬‬
‫ويف سورة املزمل [‪:]20‬‬
‫‪َ ‬ع ِلَم َأْن َلْن ُتْح ُصوُه ‪‬‬
‫‪َ ‬ع ِلَم َأْن َسَيُك وُن ِم ْنُك ْم َم ْر َض ى ‪‬‬
‫وفيهم‪--‬ا إخب‪--‬ار ب‪--‬أن اهلل َعِلم ويعَلُم م‪--‬ا س‪--‬يقُع يف املس‪--‬تقبل‪ .‬ذل‪--‬ك ألن الزم‪--‬اَن ِم ن َخ ْل ق‬
‫اهلل‪ ،‬خيضع له املخلوق‪ ،‬وهو اإلنساُن وغريه من املخلوقات‪ ،‬وال خيض‪ُ-‬ع ل‪--‬ه اخلالُق س‪--‬بحانه‬
‫وتع ‪--‬اىل‪ ،‬ف ‪--‬إن قدرت ‪--‬ه وعلم ‪--‬ه يتج ‪--‬اوزان الزم ‪--‬ان ال ‪--‬ذي ه ‪--‬و من خلق ‪--‬ه‪ ،‬واخلالق ال خيض ‪ُ-‬ع ملا‬
‫َخ َلق‪.‬‬
‫وق‪--‬د رأيَت ‪ ،‬وق‪--‬رأَت ‪ ،‬ومسعَت األدل‪َ-‬ة ال‪--‬يت ذكرهُت ا ل‪--‬ك من الق‪--‬رآن الك‪--‬رمي‪ ،‬وكله‪--‬ا أدل‪ٌ-‬ة‬
‫منطقي‪ٌ-‬ة‪ ،‬وق‪--‬رائن لفظي‪--‬ة‪ ،‬ووق‪--‬ائع تارخيي‪--‬ة ص‪--‬ادقة‪ ،‬ت‪--‬دُّل على ِعْلم اهلل املس‪--‬تقبلي بك‪ِّ-‬ل ش‪--‬يء‪،‬‬
‫كما يعلُم املاضي واحلاضر‪:‬‬
‫‪َ ‬و ُهَّللا ِبُك ِّل َش ْي ٍء َع ِليٌم ‪[ ‬البقرة‪]282 :‬‬
‫َفِعْلُم ه تع ‪--‬اىل يش‪--‬مُل ك ‪َّ-‬ل ش‪--‬يء يف ك ‪ِّ-‬ل زم ‪--‬ان ومك‪--‬ان‪ .‬وص ‪--‬يغة ‪‬عليم‪ ‬ص ‪--‬فة مش‪--‬بهة‬
‫تدُّل على الثبوت‪ ،‬والدوام‪ ،‬واالستقرار يف كل زمان ومكان‪.‬‬
‫ويف سورة يس [‪:]76‬‬
‫‪َ‬فال َيْح ُزْنَك َقْو ُلُهْم ِإَّنا َنْع َلُم َم ا ُيِس ُّر وَن َو َم ا ُيْع ِلُنوَن ‪‬‬
‫بصيغة املضارع‪ ،‬فاهلل يعلُم ما نسُّر وما نعلن يف املاضي واحلاضر‪ ،‬واملستقبل‪.‬‬
‫ويف سورة التوبة [‪:]78‬‬
‫‪َ ‬أَلْم َيْع َلُم وا َأَّن َهَّللا َيْع َلُم ِس َّرُهْم َو َنْج َو اُهْم َو َأَّن َهَّللا َع اَّل ُم اْلُغ ُيوِب ‪‬‬
‫بص ‪--‬يغة اجلم ‪--‬ع؛ ليش ‪--‬مل غيب احلاض ‪--‬ر‪ ،‬واملاض ‪--‬ي‪ ،‬واملس ‪--‬تقبل‪ ،‬ف ‪--‬إذا دخلت ‪‬ق ‪--‬د‪ ‬على‬
‫املضارع‪ ،‬وكان اإلخبار عن اهلل تعاىل‪ ،‬فهي حرف حتقيق كما يف سورة احلجر [‪:]97‬‬
‫‪َ ‬و َلَقْد َنْع َلُم َأَّنَك َيِض يُق َص ْد ُرَك ِبَم ا َيُقوُلوَن ‪‬‬
‫ويف سور النحل [‪:]103‬‬
‫‪َ ‬و َلَقْد َنْع َلُم َأَّنُهْم َيُقوُلوَن ِإَّنَم ا ُيَع ِّلُم ُه َبَش ٌر ‪‬‬
‫والالم الداخلة على ‪‬قد‪ ‬موطئة للقسم تؤكد التحقيق‪.‬‬
‫ويف سورة األنعام [‪:]33‬‬
‫‪َ ‬قْد َنْع َلُم ِإَّنُه َلَيْح ُزُنَك اَّلِذ ي َيُقوُلوَن ‪‬‬
‫وما أكثر اآليات القرآنية الَّدالة على ما ذكرُت ‪ ،‬ويف هذا القدر كفاية‪.‬‬
‫أَّم ا قوله تعاىل يف سورة العنكبوت [‪ 1‬و‪:]3‬‬
‫‪ ‬الم * َأَح ِسَب الَّناُس َأْن ُيْتَر ُك وا َأْن َيُقوُل وا آَم َّن ا َو ُهْم ال ُيْفَتُن وَن * َو َلَق ْد‬
‫َفَتَّنا اَّلِذ يَن ِم ْن َقْبِلِهْم َفَلَيْع َلَم َّن ُهَّللا اَّلِذ يَن َص َد ُقوا َو َلَيْع َلَم َّن اْلَك اِذ ِبيَن ‪‬‬
‫فقول‪--‬ه تع‪--‬اىل‪ :‬فليعلمن‪ ‬أي‪ :‬فليكش‪--‬فن حقيق ‪َ-‬ة وواق ‪َ-‬ع الص‪--‬ادقني واملك‪--‬ذبني‪ ،‬ليهل‪--‬ك من‬
‫هلك عن بينة‪ ،‬وحييا من حّي عن بّينة‪ ،‬ولئّال ْخُيَد َع أحٌد مباكر‪ ،‬أو منافق‪ ،‬أو كافر‪.‬‬
‫والعلُم سبيٌل إىل الكشف والبيان‪ ،‬فأطلق السبَب وأراد اهلدف منه‪ ،‬وهو كشُف واق‪--‬ع‬
‫املن‪-- -‬افقني‪ ،‬وم‪-- -‬ا ينط‪-- -‬وون علي‪-- -‬ه من ك‪-- -‬ذب‪ ،‬ومك‪-- -‬ر‪ ،‬وخ‪-- -‬داع‪ .‬والكش‪-- -‬ف حيص ‪ُ- -‬ل بتعريض‪-- -‬هم‬
‫المتحان ‪--‬اٍت كث ‪--‬رية يف أم ‪--‬ور ال ‪--‬دين وال ‪--‬دنيا‪ ،‬منه ‪--‬ا‪ :‬اجله ‪--‬اد‪ ،‬والزك ‪--‬اة‪ ،‬والص ‪--‬رب على املص ‪--‬ائب‪،‬‬
‫وت‪--‬رك املعاص‪--‬ي‪ ،‬واملث‪--‬ابرة على الطاع‪--‬ات‪ ،‬فيص‪--‬عُب على املن‪--‬افقني إخف‪--‬اُء م‪--‬ا يف نفوس‪--‬هم من‬
‫كفر‪ ،‬وهوًى ‪ ،‬وخُب ل‪ ،‬وجنب‪ ،‬وجزع‪ ،‬وكسل‪ ،‬وختاذل‪ ،‬فتنكشف حقيقُتهم للن‪-‬اس‪ .‬ول‪َ-‬ك أن‬
‫ُتَفِّس َر ‪‬فليعلمن‪ ‬ب‪--‬اجلزاء والعق‪--‬اب أيض ‪ً-‬ا؛ ألَّن العلَم ب‪--‬ذنب املذنب س‪--‬بيٌل إىل عقاب‪--‬ه على‬
‫ما اقرتف‪ ،‬ولعل الكشَف أوىل وأوضح فهو من التنبيه بالسبب على املسّبب‪.‬‬
‫ولو تابع القارئ سورة العنكبوت‪ ،‬فوصل إىل اآليات [‪:]12-10‬‬
‫‪َ ‬و ِم َن الَّناِس َم ْن َيُق وُل آَم َّن ا ِباِهَّلل َف ِإَذ ا ُأوِذَي ِفي ِهَّللا َجَع َل ِفْتَن َة الَّن اِس‬
‫َك َع َذ اِب ِهَّللا َو َلِئْن َج اَء َنْص ٌر ِم ْن َر ِّبَك َلَيُق وُلَّن ِإَّن ا ُكَّن ا َم َع ُك ْم َأَو َلْيَس ُهَّللا ِب َأْع َلَم‬
‫ِبَم ا ِفي ُص ُد وِر اْلَع اَلِم يَن * َو َلَيْع َلَم َّن ُهَّللا اَّلِذ يَن آَم ُنوا َو َلَيْع َلَم َّن اْلُم َناِفِقيَن *‪‬‬
‫أي‪ :‬أو ليس اُهلل عاملًا مبا تنط ‪-- -‬وي علي ‪-- -‬ه نف ‪-- -‬وُس الن ‪-- -‬اس – ومنهم املن ‪-- -‬افقون – وه ‪-- -‬و‬
‫استفهاٌم تقريري جوابه‪( :‬بلى)‪.‬‬
‫مث أقسم أن يكشَف واقَع املنافقني واملؤمنني فقال‪:‬‬
‫‪َ ‬و َلَيْع َلَم َّن ُهَّللا اَّلِذ يَن آَم ُنوا َو َلَيْع َلَم َّن اْلُم َناِفِقيَن ‪‬‬
‫ف‪--‬إذا ك‪--‬ان مع‪--‬ىن ‪‬وليعلمن‪ ‬ال يتن‪--‬اول الكش ‪َ-‬ف ‪ ،‬وإظه‪--‬ار واق‪--‬ع األم‪--‬ر‪ ،‬مل يكن ل‪--‬ذكر‬
‫‪‬وليعلمن‪ ‬أَّيُة فائدة؛ ألهنا بتقرير أَّن اَهلل عليم مبا يف ُصدور املؤمنني واملنافقني‪:‬‬
‫‪َ ‬أَو َلْيَس ُهَّللا ِبَأْع َلَم ِبَم ا ِفي ُص ُد وِر اْلَع اَلِم يَن ‪‬‬
‫فال ُبَّد أن تفّس ر‪ :‬وليعلمن‪ ‬بـ(وليكشفَّن – وليظهرَّن ) واقَع اجلمي‪--‬ع من‪ِ :‬ص ْد ق املؤمن‪،‬‬
‫وكذب املنافق؛ ليستقيم معىن اآلية‪ ،‬فتأمل‪.‬‬
‫وتتم‪ُ- - - -‬ة اآلي ‪-- - -‬ات ُتْظِه ُر نوع‪ً- - - -‬ا من ه ‪-- - -‬ذا الكش ‪-- - -‬ف ألس ‪-- - -‬اليبهم يف الك ‪-- - -‬ذب‪ ،‬واخلداع‪،‬‬
‫واالس‪--‬تحالة‪ ،‬واإلغ‪--‬راء؛ ليوقع‪--‬وا املؤم‪--‬نني يف حب‪--‬ائلهم فيض ‪ّ-‬لوهم؛ ليك‪--‬ون املؤم‪--‬نني على ح‪--‬ذر‪،‬‬
‫ويقظة‪ ،‬فال َيْنَز لقوا إىل ضالل‪:‬‬
‫‪َ‬و َقاَل اَّلِذ يَن َكَفُروا ِلَّلِذ يَن آَم ُن وا اَّتِبُع وا َس ِبيَلَنا َو ْلَنْح ِم ْل َخ َطاَي اُك ْم َو َم ا ُهْم‬
‫ِبَح اِمِليَن ِم ْن َخ َطاَياُهْم ِم ْن َش ْي ٍء ِإَّنُهْم َلَك اِذ ُبوَن * َو َلَيْح ِم ُلَّن َأْثَق اَلُهْم َو َأْثَق اًال َم َع‬
‫َأْثَقاِلِهْم َو َلُيْس َأُلَّن َيْو َم اْلِقَياَم ِة َع َّم ا َك اُنوا َيْفَتُروَن *‪13‬‬
‫َفِعْلُم اهلل قدمي كاشٌف ال ُم ْك ِر ه‪.‬‬
‫وقوله تعاىل يف سورة احلاقة [‪:]49‬‬
‫‪َ‬و ِإَّنا َلَنْع َلُم َأَّن ِم ْنُك ْم ُم َك ِّذ ِبيَن *‪‬‬
‫ويف سورة ق [‪:]16‬‬
‫‪َ‬و َلَقْد َخ َلْقَن ا اِإْل ْنَس اَن َو َنْع َلُم َم ا ُتَو ْس ِو ُس ِب ِه َنْفُس ُه َو َنْح ُن َأْق َر ُب ِإَلْي ِه ِم ْن‬
‫َح ْبِل اْلَو ِر يِد *‪‬‬
‫دليٌل قاطٌع على ما ذكرنا من ِعْلم اهلل القدمي السابق‪.‬‬
‫وِقْس على ه ‪-- -‬ذه اآلي ‪-- -‬ات مثيالهتا من كت ‪-- -‬اب اهلل الك ‪-- -‬رمي‪ ،‬كم ‪-- -‬ا يف س ‪-- -‬ورة البق ‪-- -‬رة [‬
‫‪:]143‬‬
‫‪َ ‬و َم ا َجَع ْلَنا اْلِقْبَلَة اَّلِتي ُكْنَت َع َلْيَها ِإاَّل ِلَنْع َلَم َم ْن َيَّتِبُع الَّرُسوَل ‪‬‬
‫وسورة الكهف [‪:]12‬‬
‫‪ُ‬ثَّم َبَع ْثَناُهْم ِلَنْع َلَم َأُّي اْلِح ْز َبْيِن َأْح َص ى ِلَم ا َلِبُثوا َأَم دًا*‪‬‬
‫وسورة حممد [‪:]31‬‬
‫‪َ ‬و َلَنْبُلَو َّنُك ْم َح َّتى َنْع َلَم اْلُمَج اِهِد يَن ِم ْنُك ْم َو الَّصاِبِر يَن ‪‬‬
‫ِل‬
‫ففع ‪--‬ل ‪‬نعلم‪ ‬يف ه ‪--‬ذه اآلي ‪--‬ات ومثيالهتا معن ‪--‬اه‪( :‬نكش ‪--‬ف ونظه ‪--‬ر) فتأم ‪ْ-‬ل ُتْف ْح ‪ ،‬وتكْن‬
‫من املهتدين‪.‬‬
‫ولعَّل احلديث الصحيح‪ِ« :‬إَّن الرجَل ليعمُل بعمل أه‪-‬ل اجلن‪-‬ة فيم‪-‬ا يب‪-‬دو للن‪-‬اس ح‪-‬ىت م‪-‬ا‬
‫يكون بينه وبينها إَّال ذراع‪ ،‬فيسبق عليه الكتاُب فيعمل بعمل أه‪--‬ل الن‪--‬ار في‪--‬دخلها»(‪ُ )1‬يؤِّيد‬
‫ما ذهبنا إليه من معىن الكشف واإلظهار ملا يف نفوس املنافقني‪ .‬فقوله‪« :‬فيما يب‪--‬دو للن‪--‬اس»‬
‫واض‪ُ- -‬ح الّد الل ‪--‬ة على أَّن الرج‪َ- -‬ل املذكور يف ه ‪--‬ذا احلديث من ‪--‬افق‪ ،‬يتص‪َّ- -‬نع خالف حقيقت ‪--‬ه‪،‬‬
‫ويتظ‪--‬اَه ُر ب‪--‬التقوى‪ ،‬وه‪--‬و من أه‪--‬ل الفج‪--‬ور يف الِّس ر‪ ،‬فيب‪--‬دو للن‪--‬اس أن‪--‬ه من الَّص احلني‪ ،‬وه‪--‬و‬
‫غُري صاحل‪ ،‬فال ُبَّد أن يكشَف اُهلل أمره‪ ،‬وُيْظِه َر كذبه ونفاقه للناس‪ ،‬فقد كتب‪ ،‬وفرض‪،‬‬
‫وأم‪--‬ر أن يَّتض‪--‬ح نف‪--‬اق املن‪--‬افقني‪ ،‬وينكش‪--‬ف؛ لئال خُي دع هبم أه ‪ُ-‬ل اإلميان والتق‪--‬وى‪ .‬فيتص ‪َّ-‬ر ف‬
‫املنافقون مبا يكشف ما يف نفوس‪-‬هم من نف‪-‬اق‪ ،‬وكف‪-‬ر‪ ،‬وك‪-‬ذب‪ ،‬ويف ذل‪-‬ك إرغ‪-‬اٌم للباط‪-‬ل‪،‬‬
‫وَنْص ٌر للحِّق ‪.‬‬
‫وللعبد فرٌص لدفع البالء والعقاب عنه‪:‬‬
‫أ‪ -‬فإذا استحَّق عقابًا يف الدنيا قبل اآلخرة فتاب‪ ،‬وأن‪-‬اب‪ ،‬وعم‪-‬ل ص‪--‬احلًا‪ ،‬ودع‪--‬ا‪ ،‬وأَّحل‬
‫يف ال ‪-- -‬دعاء‪ ،‬كش ‪-- -‬ف عن ‪-- -‬ه البالء‪ ،‬ورف ‪-- -‬ع العق ‪-- -‬اب؛ ملا ورد يف احلديث الش ‪-- -‬ريف‪« :‬ال ي‪- - -‬رُّد‬
‫القضاَء إال الُّدعاء»(‪.)2‬‬
‫«ص‪-- -‬نائُع املع‪-- -‬روف تقي مص‪-- -‬ارَع الس‪-- -‬وء‪ ،‬وص‪-- -‬دقُة الِّس ِّر تطفُئ غض ‪َ- -‬ب ال‪-- -‬رب‪ ،‬وص‪-- -‬لُة‬

‫(?) رواه مسلم‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫(?) رواه الرتمذي واحلاكم‪.‬‬ ‫‪2‬‬


‫الَّر حم تزيُد يف العمر»(‪.)1‬‬
‫ب‪ -‬وإذا اس ‪--‬تحَّق العب ‪ُ-‬د خ ‪--‬ريًا ورزق ‪ً-‬ا‪ ،‬فعص ‪--‬ى وغ ‪--‬وى‪ ،‬قب ‪--‬ل وص ‪--‬ول ال ‪--‬رزق إلي ‪--‬ه‪ ،‬فق ‪--‬د‬
‫حُي رم ذلك الرزق‪ ،‬ومُي نع عنه‪.‬‬
‫ويف احلديث الشريف‪ِ« :‬إَّن العبَد ليحرُم الرزق بالذنب يصيبه»(‪.)2‬‬
‫وإذا محلنا قوَله تعاىل‪:‬‬
‫‪َ ‬يْم ُحوا ُهَّللا َم ا َيَش اُء َو ُيْثِبُت ‪[ ‬الرعد‪]39 :‬‬
‫على العم ‪-- - -‬وم‪ ،‬كم ‪-- - -‬ا رأى عم ‪-- - -‬ر بن اخلط ‪-- - -‬اب – رض ‪-- - -‬ي اهلل عن ‪-- - -‬ه – ومل خنَّص ص ‪-- - -‬ها‬
‫ب‪-‬املعجزات‪ ،‬علمن‪-‬ا أَّن الث‪-‬واَب والعق‪--‬اَب ليس‪-‬ا مقطوع‪ً-‬ا هبم‪--‬ا ال يتغريان‪ ،‬ب‪-‬ل تابع‪--‬ان لتص‪ُّ-‬ر ف‬
‫العبد يف قوله وعمله‪ ،‬وهو حُّر الَّتصرف فيهما كما رأيت‪ ،‬فإن أحسَن ُأحس‪--‬ن إلي‪--‬ه‪ ،‬وإن‬
‫أساء ُعوقب‪ .‬قال تعاىل‪:‬‬
‫‪َ‬م ْن َع ِم َل َص اِلحًا َفِلَنْفِس ِه َو َم ْن َأَس اَء َفَع َلْيَه ا ُثَّم ِإَلى َر ِّبُك ْم ُتْر َج ُع وَن ‪‬‬
‫[اجلاثية‪]15 :‬‬
‫كما قال‪:‬‬
‫‪ِ ‬إَّن َهَّللا ال ُيَغ ِّيُر َم ا ِبَقْو ٍم َح َّتى ُيَغِّيُروا َم ا ِبَأْنُفِس ِهْم ‪[ ‬الرعد‪]11 :‬‬
‫وإذا عرفنا أَّن (ما) من ألفاظ العموم‪ ،‬أدركنا ِص ْدَق املعىن الذي ذكرناه من قبل‪.‬‬
‫ﺟ‪ -‬وإذا ضَّل العبُد ‪ ،‬فإَّن اَهلل تعاىل ال يرضى له الضالل‪ ،‬وقد يريده‪ ،‬وق‪--‬د م‪َّ-‬ر مع‪--‬ك‬
‫الف‪--‬رُق بني اإلرادة والرض‪--‬ا‪ ،‬ول‪--‬ذا ف‪--‬إَّن اهلل تع‪--‬اىل يض‪--‬ايُق الض‪--‬اَّل رمحًة ب‪--‬ه؛ ليع‪--‬ود إىل اُهلدى‬
‫الذي ُفطر عليه‪.‬‬
‫ففي سورة طه [‪:]127-124‬‬
‫‪َ‬و َم ْن َأْع َر َض َع ْن ِذ ْك ِر ي َف ِإَّن َل ُه َم ِع يَش ًة َض ْنكًا َو َنْح ُش ُر ُه َي ْو َم اْلِقَياَم ِة‬
‫َأْع َم ى * َق اَل َر ِّب ِلَم َح َش ْر َتِني َأْع َم ى َو َق ْد ُكْنُت َبِص يرًا * َق اَل َك َذ ِلَك َأَتْت َك‬
‫آَياُتَنا َفَنِس يَتَها َو َك َذ ِلَك اْلَيْو َم ُتْنَس ى * َو َك َذ ِلَك َنْج ِز ي َم ْن َأْس َر َف َو َلْم ُيْؤ ِم ْن ِبآياِت‬
‫َر ِّبِه َو َلَع َذ اُب اآْل ِخَرِة َأَشُّد َو َأْبَقى *‪‬‬
‫ويف سورة األنعام [‪:]125‬‬
‫‪َ‬فَم ْن ُيِر ِد ُهَّللا َأْن َيْهِدَيُه َيْش َر ْح َص ْد َرُه ِلِإل ْسالِم َو َم ْن ُيِر ْد َأْن ُيِض َّلُه َيْج َع ْل‬
‫َص ْد َرُه َض ِّيقًا َحَر جًا َك َأَّنَم ا َيَّص َّعُد ِفي الَّس َم اِء َك َذ ِلَك َيْج َع ُل ُهَّللا الِّر ْج َس َع َلى‬
‫اَّلِذ يَن ال ُيْؤ ِم ُنوَن ‪‬‬
‫ويف احلديث الش‪-- -‬ريف‪« :‬اس‪-- -‬تقيموا ولن حتُص وا»(‪ )3‬أي‪ :‬إذا اس‪-- -‬تقمتم فلن تس‪-- -‬تطيعوا أن‬

‫(?) رواه الطرباين يف األوسط‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫(?) رواه أمحد والنسائي وابن ماجه‪.‬‬ ‫‪2‬‬

‫(?) رواه أمحد ومالك وابن ماجه‪.‬‬ ‫‪3‬‬


‫حتصوا اخلَري الذي سيأتيكم‪ ،‬الستقامتكم‪.‬‬
‫َفُقْل للذين ضّلوا‪ ،‬وضاقت هبم سبل احلياة والرزق‪ ،‬كما ضاقت هبم صدورهم‪:‬‬
‫‪َ‬يا َأُّيَها اَّلِذ يَن آَم ُنوا اَّتُق وا َهَّللا َو ُقوُل وا َق ْو ًال َس ِد يدًا * ُيْص ِلْح َلُك ْم َأْع َم اَلُك ْم‬
‫َو َيْغ ِفْر َلُك ْم ُذ ُنوَبُك ْم َو َم ْن ُيِط ِع َهَّللا َو َر ُس وَلُه َفَق ْد َف اَز َف ْو زًا َع ِظ يمًا‪[ ‬األح‪-- -‬زاب‪:‬‬
‫‪]71-70‬‬
‫‪‬‬
‫ليس للشيطان سلطان على المتقين‬
‫أذكر أَّن أحَد الُّطالب سألين عن تفسري قوله تعاىل يف سورة هود [‪:]119‬‬
‫‪َ ‬و َتَّم ْت َك ِلَم ُة َر ِّبَك َأَلْم َأَلَّن َجَهَّنَم ِم َن اْلِج َّنِة َو الَّناِس َأْج َم ِع يَن ‪‬‬
‫فقلت ل ‪--‬ه‪ :‬ال ُب َّد من تالوة مجي ‪--‬ع اآلي ‪--‬ات ال ‪--‬يت تتح ‪َّ--‬د ُث يف ه ‪--‬ذا الش ‪--‬أن؛ لنص‪َ- -‬ل إىل‬
‫الفيص ‪--‬ل يف القض ‪--‬ية‪ ،‬فم ‪--‬ا ُأِمْج َل يف مك ‪--‬اٍن ُفِّص ل يف غ ‪--‬ريه‪ .‬وخ ‪ُ-‬ري تفس ‪--‬ري للق ‪--‬رآن الك ‪--‬رمي أن‬
‫نرج ‪َ-‬ع إلي‪--‬ه نفس‪--‬ه – واهلل أعلم مبراده – وال جيوز ملس‪--‬لم أن يك‪--‬وَن ج‪--‬اهًال بكت‪--‬اب اهلل‪،‬‬
‫والس ‪--‬يما إن ك ‪--‬ان من طَّالب العل ‪--‬وم الش ‪--‬رعية‪ .‬والرب ‪ُ-‬ط بني اآلي ‪--‬ات القرآني ‪--‬ة ذات املوض ‪--‬وع‬
‫الواِح د ن‪ٌ-‬ع من الت‪-‬دُّبر والتفك‪-‬ر‪ .‬ول‪-‬و فعلَت ي‪-‬ا ُبَّين لوص‪-‬لَت إىل ال‪-‬رأي الَّس ديد ال‪-‬ذي ي‪ُّ-‬دلك‬
‫على عدال‪--‬ة اهلل الش‪--‬املة‪ ،‬الكامل‪--‬ة‪ ،‬وأَّن دخ‪--‬وَل جهنم مص ‪ُ-‬ري الك‪--‬افرين واملش‪--‬ركني والض‪--‬الني‬
‫واملن‪--‬افقني والفاس‪--‬قني؛ ال‪--‬ذين فَعل‪--‬وا ذل‪--‬ك مبحض إرادهتم دون قس‪--‬ر وال إك‪--‬راه‪ ،‬واهلل تع‪--‬اىل‬
‫يقول يف سورة النساء [‪:]147‬‬
‫‪َ ‬م ا َيْفَع ُل ُهَّللا ِبَع َذ اِبُك ْم ِإْن َشَك ْر ُتْم َو آَم ْنُتْم ‪‬‬
‫فتعاَل معي نتدَّبر آيات اهلل فيما سألت عنه‪:‬‬
‫يقول اُهلل تعاىل يف سورة األعراف [‪:]158-156‬‬
‫‪َ ‬قاَل َع َذ اِبي ُأِص يُب ِبِه َم ْن َأَش اُء َو َر ْح َم ِتي َو ِس َع ْت ُك َّل َش ْي ٍء َفَس َأْك ُتُبَها‬
‫ِلَّلِذ يَن َيَّتُقوَن َو ُيْؤ ُتوَن الَّز َكاَة َو اَّلِذ يَن ُهْم ِبآياِتَنا ُيْؤ ِم ُنوَن * اَّلِذ يَن َيَّتِبُعوَن الَّرُسوَل‬
‫الَّنِبَّي اُأْلِّمَّي اَّل ِذ ي َيِج ُدوَن ُه َم ْك ُتوبًا ِع ْن َد ُهْم ِفي الَّت ْو َر اِة َو اِإْل ْنِج يِل َي ْأُم ُر ُهْم‬
‫ِب اْلَم ْعُروِف َو َيْنَه اُهْم َع ِن اْلُم ْنَك ِر َو ُيِح ُّل َلُهُم الَّطِّيَب اِت َو ُيَح ِّر ُم َع َلْيِهُم اْلَخ َب اِئَث‬
‫َو َيَض ُع َع ْنُهْم ِإْص َر ُهْم َو اَأْلْغ الَل اَّلِتي َك اَنْت َع َلْيِهْم َفاَّل ِذ يَن آَم ُن وا ِب ِه َو َع َّز ُروُه‬
‫َو َنَص ُروُه َو اَّتَبُعوا الُّنوَر اَّلِذ ي ُأْن ِز َل َم َع ُه ُأوَلِئ َك ُهُم اْلُم ْفِلُح وَن * ُق ْل َي ا َأُّيَه ا‬
‫الَّناُس ِإِّني َر ُسوُل ِهَّللا ِإَلْيُك ْم َجِم يعًا ‪‬‬
‫فمحم ‪--‬د ‪ ‬رس ‪--‬وٌل للبش ‪--‬رية مجع ‪--‬اء‪ ،‬ولك ‪--‬ل إنس ‪--‬ان‪ ،‬فال جناَة أله ‪--‬ل الكتب الس ‪--‬ماوية‬
‫األخ‪-- -‬رى إال باإلميان ب‪-- -‬ه‪ ،‬والتص‪-- -‬ديق مبا ج‪-- -‬اء ب‪-- -‬ه‪ .‬ولق‪-- -‬د جاءن‪-- -‬ا باحلس‪-- -‬نيني‪ :‬خ‪-- -‬ريي ال‪-- -‬دنيا‬
‫واآلخرة‪:‬‬
‫‪َ‬و َم ا َيْنِط ُق َع ِن اْلَهَو ى * ِإْن ُهَو ِإاَّل َو ْح ٌي ُيوَح ى‪[ ‬النجم‪.]4-3 :‬‬
‫فمن آمَن فقد اهتدى‪ ،‬وَم ن كفر أصابه العذاب‪.‬‬
‫وسورة األعراف نفُس ها جُت يب عن سؤالك يا بين‪ ،‬وُتبنِّي الذين سيناهلم ذلك الع‪--‬ذاب‪،‬‬
‫ففي اآلية [‪ ]179‬يقول تعاىل‪:‬‬
‫‪َ‬و َلَقْد َذ َر ْأَنا ِلَجَهَّنَم َك ِثيرًا ِم َن اْلِج ِّن َو اِإْل ْنِس َلُهْم ُقُلوٌب ال َيْفَقُهوَن ِبَها َو َلُهْم‬
‫َأْع ُيٌن ال ُيْبِص ُروَن ِبَها َو َلُهْم آَذ اٌن ال َيْس َم ُعوَن ِبَها ُأوَلِئَك َك اَأْلْنَع اِم َبْل ُهْم َأَض ُّل‬
‫ُأوَلِئَك ُهُم اْلَغاِفُلوَن ‪ 179‬‬
‫فق ‪--‬د اس ‪--‬تحّق وا دخ ‪--‬وَل جهنم إلمهاهلم طاق ‪--‬اهتم‪ ،‬وعق ‪--‬وهلم‪ ،‬وحواس ‪--‬هم‪ ،‬إذ ل ‪--‬و أحس ‪--‬نوا‬
‫استخدامها لوصلْت هبم إىل أَّن اَهلل حٌّق ‪ ،‬وأَّن ما َأْو َح ى به إىل رسله حٌّق ‪.‬‬
‫وتقرأ يف سورة ق [‪:]37-24‬‬
‫‪َ‬أْلِقَيا ِفي َجَهَّنَم ُك َّل َك َّفاٍر َع ِنيٍد * َم َّناٍع ِلْلَخْي ِر ُم ْعَت ٍد ُم ِر يٍب * اَّل ِذ ي َج َع َل‬
‫َم َع ِهَّللا ِإَلهًا آَخ َر َفَأْلِقَياُه ِفي اْلَع َذ اِب الَّش ِد يِد * َقاَل َقِر يُنُه َر َّبَنا َم ا َأْطَغْيُت ُه َو َلِكْن‬
‫َك اَن ِفي َض الٍل َبِع يٍد * َقاَل ال َتْخ َتِص ُم وا َلَد َّي َو َقْد َق َّد ْم ُت ِإَلْيُك ْم ِباْلَو ِع يِد * َم ا‬
‫ُيَبَّد ُل اْلَقْو ُل َلَد َّي َو َم ا َأَنا ِبَظاَّل ٍم ِلْلَع ِبيِد * َيْو َم َنُق وُل ِلَجَهَّنَم َه ِل اْم َتْألِت َو َتُق وُل‬
‫َه ْل ِم ْن َم ِز يٍد * َو ُأْز ِلَفِت اْلَج َّن ُة ِلْلُم َّتِقيَن َغْي َر َبِع يٍد * َه َذ ا َم ا ُتوَع ُد وَن ِلُك ِّل‬
‫َأَّو اٍب َح ِفيٍظ * َم ْن َخ ِش َي الَّرْح َم َن ِباْلَغْيِب َو َج اَء ِبَقْلٍب ُمِنيٍب * اْد ُخ ُلوَه ا ِبَس الٍم‬
‫َذ ِلَك َيْو ُم اْلُخ ُلوِد * َلُهْم َم ا َيَش اُءوَن ِفيَه ا َو َل َدْيَنا َم ِز يٌد * َو َك ْم َأْهَلْك َن ا َقْبَلُهْم ِم ْن‬
‫َق ْر ٍن ُهْم َأَش ُّد ِم ْنُهْم َبْطشًا َفَنَّقُب وا ِفي اْلِبالِد َه ْل ِم ْن َم ِح يٍص * ِإَّن ِفي َذ ِل َك‬
‫َلِذ ْك َر ى ِلَم ْن َك اَن َلُه َقْلٌب َأْو َأْلَقى الَّس ْمَع َو ُهَو َش ِهيٌد ‪‬‬
‫فالَّن اُر ملن ض‪َّ- -‬ل‪ ،‬وغ ‪--‬وى‪ ،‬وأش ‪--‬رَك ‪ ،‬وكف ‪--‬ر‪ ،‬وَم َن ع اخلري‪ ،‬واعت ‪--‬دى‪ .‬واجلن ‪--‬ة للمتقني‪ :‬ملن‬
‫وعى‪ ،‬واهت ‪--‬دى وخش ‪--‬ي ال ‪--‬رمحن ب ‪--‬الغيب‪ ،‬وك ‪--‬ان ذا قلب َس ليم م ‪--‬نيب‪ ،‬والعاق ‪--‬ل من مسع‬
‫احلَّق فاَّتعظ‪ ،‬واَّدكر‪ ،‬ووعظته الِعَبُر ‪.‬‬
‫ويف سورة السجدة [‪:]13‬‬
‫‪َ‬و َلْو ِش ْئَنا آَل َتْيَنا ُك َّل َنْفٍس ُهَداَها َو َلِكْن َح َّق اْلَق ْو ُل ِم ِّني َأَلْم َأَلَّن َجَهَّنَم ِم َن‬
‫اْلِج َّنِة َو الَّناِس َأْج َم ِع يَن ‪‬‬
‫أي‪ :‬لو شاء اُهلل إكراَه عباده على شيء ألكرههم على اإلميان واهلدى‪ ،‬ولكنه َفَطرهم‬
‫على اخلري‪ ،‬وأعط‪-- -‬اهم حرَّي ة التص ‪ُّ- -‬ر ف‪ ،‬وكتب اجلن‪-- -‬ة ملن آمن‪ ،‬واهت‪-- -‬دى واس‪-- -‬تقام‪ ،‬وعم ‪--‬ل‬
‫ص‪--‬احلًا‪ .‬وكتب الن‪--‬اَر ملن ع‪--‬رَف احلَّق فتجاهل‪--‬ه‪ ،‬ونس‪--‬يه أو تناس‪--‬اه‪َ ،‬فُيْه َم ل ي‪--‬وَم ال‪ِّ--‬دين‪ ،‬وال‬
‫ُيْر َح م بسبب كفره وضالله‪.‬‬
‫ويف سورة التحرمي [‪:]7‬‬
‫‪َ‬يا َأُّيَها اَّلِذ يَن َكَفُروا ال َتْعَتِذ ُروا اْلَيْو َم ِإَّنَم ا ُتْج َز ْو َن َم ا ُكْنُتْم َتْع َم ُلوَن ‪‬‬
‫ويف س‪-- -‬ورة األع‪-- -‬راف نفس‪-- -‬ها – موض‪-- -‬وع تس‪-- -‬اؤل الط‪-- -‬الب – تقري ‪ٌ- -‬ع من اهلل تع‪-- -‬اىل‬
‫للشيطان‪ ،‬ورٌّد عليه جبواب مفحم‪ ،‬واضح‪ُ ،‬م سكت‪ ،‬ففي اآلية [‪:]18‬‬
‫‪َ‬ق اَل اْخ ُرْج ِم ْنَه ا َم ْذ ُء ومًا َم ْد ُحورًا َلَم ْن َتِبَع َك ِم ْنُهْم َأَلْم َأَلَّن َجَهَّنَم ِم ْنُك ْم‬
‫َأْج َم ِع يَن *‪‬‬
‫فأهُل النار الذين سُتمأل هبم جهَّنم هم أتباُع الشيطان‪ ،‬وطواغيت اجلّن واإلنس‪.‬‬
‫ويف سورة اإلسراء [‪:]63‬‬
‫‪َ‬قاَل اْذ َهْب َفَم ْن َتِبَع َك ِم ْنُهْم َفِإَّن َجَهَّنَم َج َزاُؤ ُك ْم َج َزاًء َم ْو ُفورًا*‪‬‬
‫ويف سورة ص [‪:]85-82‬‬
‫‪َ‬قاَل َفِبِع َّز ِتَك ُأَلْغ ِو َيَّنُهْم َأْج َم ِع يَن * ِإاَّل ِعَباَدَك ِم ْنُهُم اْلُم ْخ َلِص يَن * َقاَل َفاْلَح ُّق‬
‫َو اْلَح َّق َأُقوُل * َأَلْم َأَلَّن َجَهَّنَم ِم ْنَك َو ِمَّم ْن َتِبَع َك ِم ْنُهْم َأْج َم ِع يَن *‪‬‬
‫ويف سورة احلجر [‪:]43-39‬‬
‫‪َ‬و ُأَلْغ ِو َيَّنُهْم َأْج َم ِع يَن * ِإاَّل ِعَباَدَك ِم ْنُهُم اْلُم ْخ َلِص يَن * َقاَل َهَذ ا ِص َر اٌط َع َلَّي‬
‫ُم ْسَتِقيٌم * ِإَّن ِعَباِد ي َلْيَس َلَك َع َلْيِهْم ُس ْلَطاٌن ِإاَّل َمِن اَّتَبَع َك ِم َن اْلَغاِو يَن * َو ِإَّن‬
‫َجَهَّنَم َلَم ْو ِع ُدُهْم َأْج َم ِع يَن *‪‬‬
‫فالش ‪--‬يطاُن يق ‪ُّ-‬ر إذًا بأن ‪--‬ه ع ‪--‬اجٌز عن الت ‪--‬أثري بعب ‪--‬اد اهلل املخَلص ‪--‬ني‪ ،‬وعلى رأس ‪--‬هم الرس ‪--‬ل‬
‫واألنبي ‪--‬اء الك ‪--‬رام‪ ،‬ومنهم يوس ‪--‬ف علي ‪--‬ه الس ‪--‬الم حيث وص ‪--‬فه اهلل تع ‪--‬اىل يف س ‪--‬ورة يوس ‪--‬ف‬
‫نفسها بأنه من املخلصني‪ ،‬فقال سبحانه‪:‬‬
‫‪َ‬و َلَقْد َهَّم ْت ِبِه َو َهَّم ِبَها َل ْو ال َأْن َر أى ُبْر َه اَن َر ِّب ِه َك َذ ِلَك ِلَنْص ِر َف َع ْن ُه‬
‫الُّسوَء َو اْلَفْح َش اَء ِإَّنُه ِم ْن ِعَباِد َنا اْلُم ْخ َلِص يَن ‪[ ‬يوسف‪.]24 :‬‬
‫فالرس‪--‬ل واألنبي‪--‬اء ق‪--‬دوٌة َح َس نٌة‪ ،‬وأس‪--‬وٌة ص‪--‬احلٌة للن‪--‬اس‪ ،‬اص‪--‬طفاهم اُهلل من خ‪--‬ريِة َخ ْلق‪--‬ه‪،‬‬
‫وهم معص‪-‬ومون من ُك ِّل معص‪-‬ية‪ ،‬أو س‪-‬وء‪ ،‬فح‪-‬ذاِر ح‪-‬ذاِر من اإلس‪-‬رائيليات‪ ،‬ومن ك‪-‬ل م‪-‬ا‬
‫ُدّس على يوسف وغريه‪ ،‬مما ال يليق بعامة الناس فضًال عن األنبياء والرسل الكرام‪.‬‬
‫ولق ‪--‬د ذك‪--‬رُت ل‪--‬ك من قب‪--‬ل أن س‪--‬يدنا علّي ًا – ك‪--‬رم اهلل وجه ‪--‬ه – ق‪--‬ال‪« :‬من ق‪--‬ذف‬
‫غ‪--‬ريه» أي‪ :‬اهتم‪--‬ه بالزن‪--‬ا «ومل ي‪--‬أت بالبين‪--‬ة جلدت‪--‬ه مثانني جل‪--‬دة‪ ،‬ومن ق‪--‬ذف أو اهّت م رس‪--‬وًال‬
‫أو نبيًا جلدته مئة وستني جلدة» ألنه كاذٌب وُمْف ٍرَت ‪ ،‬وقد اهتم القدوة املعصومني‪ ،‬فاس‪--‬تحق‬
‫مضاعفة العقاب‪.‬‬
‫وال يص‪--‬لُح ح‪--‬اُل أم‪ٍ-‬ة‪ ،‬وال يص‪--‬لح ح‪--‬اُل ش‪--‬باهبا‪ ،‬وش‪--‬اباهتا‪ ،‬ورجاهلا‪ ،‬ونس‪--‬ائها‪ ،‬إَّال حني‬
‫يتخذون هؤالء الُّر سل واألنبياء املعصومني أسوًة وقدوًة‪ ،‬وأن ي‪-‬روا فيهم الكم‪-‬ال‪ ،‬واجلم‪-‬ال‪،‬‬
‫ف ‪--‬إذا أس ‪--‬اؤوا هبم الَّظَّن انزلق ‪--‬وا إىل مه ‪--‬اوي املعص ‪--‬ية والض ‪--‬اللة‪ ،‬فض‪ّ- -‬لوا‪ ،‬واس ‪--‬تحقوا ش ‪--‬ديد‬
‫العقاب‪.‬‬
‫وأذكُر أَّن أحَد الُّطالب سألين أيضًا يقول‪ :‬يف سورة فاطر [‪:]8‬‬
‫‪َ‬أَفَم ْن ُز ِّيَن َلُه ُسوُء َع َم ِلِه َفَر آُه َح َس نًا َفِإَّن َهَّللا ُيِض ُّل َم ْن َيَش اُء َو َيْه ِد ي َم ْن‬
‫َيَش اُء َفال َتْذ َهْب َنْفُسَك َع َلْيِهْم َح َسَر اٍت ِإَّن َهَّللا َع ِليٌم ِبَم ا َيْص َنُعوَن ‪‬‬
‫فإذا ك‪-‬ان اهلل تع‪-‬اىل ق‪-‬د زَّين هلم املنك‪-‬رات ليفعلوه‪-‬ا‪ ،‬وأخ‪-‬رب أَّنه يض‪-‬ل من يش‪-‬اء‪ ،‬فم‪-‬ا‬
‫ذنبهم إن فسدوا أو ضّلوا؟‬
‫فقلت ل‪--‬ه‪ :‬على رس‪--‬لك ي‪--‬ا ب‪--‬ين! فاآلي‪--‬ة حتت‪--‬اُج إىل تفس‪--‬ري دقي‪--‬ق وعمي‪--‬ق‪ ،‬نرج‪--‬ع يف ذل‪--‬ك‬
‫إىل الق‪--‬رآن الك‪--‬رمي نفس‪--‬ه‪ ،‬مس‪--‬تخدمني اللغة العربي‪--‬ة لتوض‪--‬يح م‪--‬ا التبَس فهُم ه علي‪--‬ك‪ ،‬وذل‪--‬ك‬
‫يتطَّلُب منا البحَث يف ثالثة أمور نتساءل فيها‪:‬‬
‫‪ -1‬أين اخلُرب يف اآلية؟‬
‫واجلواب تدُّلنا عليه سورة حممد [‪:]14‬‬
‫‪َ‬أَفَم ْن َك اَن َع َلى َبِّيَنٍة ِم ْن َر ِّبِه َك َم ْن ُز ِّيَن َلُه ُسوُء َع َم ِل ِه َو اَّتَبُع وا َأْه َو اَء ُهْم‬
‫‪‬‬
‫واخلرب هن‪-- -‬ا (الك‪-- -‬اف) يف (كمن) أي‪ :‬ه‪-- -‬ل املهت‪-- -‬دي مث‪-- -‬ل الض‪-- -‬ال؟! واخلُرب يف آي ‪--‬ة ف ‪--‬اطر‬
‫حمذوف تق ‪--‬ديره‪( :‬كمن ك ‪--‬ان على بين ‪--‬ة من رب ‪--‬ه) أي‪ :‬ه ‪--‬ل الض ‪--‬ال مث ‪--‬ل املهت ‪--‬دي؟‪ .‬والك ‪--‬اف‬
‫اسم مبعىن مثل‪.‬‬
‫ويف سورة امللك [‪ُ ]22‬ذكر اخلرب صرحيًا واضحًا‪:‬‬
‫‪َ‬أَفَم ْن َيْمِش ي ُمِكّب ًا َع َلى َو ْج ِه ِه َأْه َدى َأَّم ْن َيْمِش ي َس ِو ّيًا َع َلى ِص َر اٍط‬
‫ُم ْسَتِقيٍم ‪‬‬
‫فكلمة (أهدى) يف اآلية هي اخلرب‪.‬‬
‫ويساعدنا على َفْه م احملذوف يف سورة فاطر آية سورة القلم [‪:]36-35‬‬
‫‪َ‬أَفَنْج َع ُل اْلُم ْس ِلِم يَن َك اْلُم ْج ِر ِم يَن * َم ا َلُك ْم َك ْيَف َتْح ُك ُم وَن *‪‬‬
‫إال أَّن الك ‪--‬اف – هن ‪--‬ا – هي املفع ‪--‬ول الث ‪--‬اين لفع ‪--‬ل جنع ‪--‬ل‪ ،‬أي‪ :‬أنس‪ِّ- -‬و ي بني الطيب‬
‫واخلبيث؟ بني احملق واملبطل؟ فنجعل املسلَم مثل اجملرم‪ ،‬ما لكم كيف تقبلون هبذه التسوية‬
‫اجلائرة الباطلة؟! واُهلل يقوُل احلَّق ‪ ،‬وحيكُم بالعدل‪.‬‬
‫‪ -2‬من املزِّين يف اآلية؟‬
‫جتيبنا عن ذلك آية سورة النحل [‪:]63‬‬
‫‪َ‬فَزَّيَن َلُهُم الَّش ْيَطاُن َأْع َم اَلُهْم ‪‬‬
‫وآية سورة النمل [‪:]24‬‬
‫‪َ ‬و َز َّيَن َلُهُم الَّش ْيَطاُن َأْع َم اَلُهْم ‪‬‬
‫فالش‪-‬يطاُن ه‪--‬و ال‪-‬ذي ُيزِّين الُّس وَء ألتباع‪--‬ه‪ ،‬ف‪-‬يزينوَن الس‪-‬وَء للن‪-‬اس‪ .‬ففي س‪-‬ورة األنع‪--‬ام [‬
‫‪:]137‬‬
‫‪َ ‬و َك َذ ِلَك َزَّيَن ِلَك ِثيٍر ِم َن اْلُم ْش ِر ِكيَن َقْتَل َأْو الِدِهْم ُش َر َك اُؤُهْم ‪.‬‬
‫و‪‬ش‪--‬ركاؤهم‪ ‬هي فاع‪--‬ل ‪َ‬ز ّين‪ ‬وهم أع‪--‬واُن الش‪--‬يطان‪ .‬ذل‪--‬ك أن اهلل ُيَز ِّين للخ‪--‬ري ال‬
‫للشر‪ ،‬ففي سورة احلجرات [‪:]7‬‬
‫‪َ‬و َلِكَّن َهَّللا َح َّبَب ِإَلْيُك ُم اِإْل يَم اَن َو َز َّيَن ُه ِفي ُقُل وِبُك ْم َو َك َّر َه ِإَلْيُك ُم اْلُك ْف َر‬
‫َو اْلُفُسوَق َو اْلِع ْص َياَن ُأوَلِئَك ُهُم الَّراِش ُد وَن ‪‬‬
‫وأما آية سورة آل عمران [‪:]14‬‬
‫‪ُ‬ز ِّيَن ِللَّن اِس ُحُّب الَّش َهَو اِت ِم َن الِّنَس اِء َو اْلَبِنيَن َو اْلَقَن اِط يِر اْلُم َقْنَط َر ِة ِم َن‬
‫الَّذ َهِب َو اْلِفَّض ِة َو اْلَخْيِل اْلُمَس َّو َم ِة َو اَأْلْنَع اِم َو اْلَح ْر ِث َذ ِلَك َم َتاُع اْلَحَياِة الُّد ْنَيا َو ُهَّللا‬
‫ِع ْنَد ُه ُح ْسُن اْلَم آِب ‪‬‬
‫فه ‪--‬و ت ‪--‬زيٌني للخ ‪--‬ري وإلعم ‪--‬ار الك ‪--‬ون بأن ‪--‬اٍس ُيوِّح دون اهلل تع ‪--‬اىل‪ ،‬ويفعل ‪--‬ون الواجب ‪--‬ات‪،‬‬
‫وي‪-‬ؤُّدون احلق‪--‬وَق ‪ ،‬وينش‪--‬رون الفض‪--‬ائَل‪ ،‬وُيَتِّم م‪--‬ون مك‪--‬ارم األخالق‪ ،‬هلم ذري‪--‬ة ص‪--‬احلة‪ ،‬وبن‪--‬ون‬
‫أب‪--‬رار‪ ،‬يت‪--‬ابعون الس ‪َ-‬ري على طري‪--‬ق اإلميان‪ ،‬واحلق‪ ،‬والفض‪--‬يلة‪ ،‬مس‪--‬تخدمني وس‪--‬ائل العيش من‬
‫ٍت‬
‫ذهب‪ ،‬أو فض‪--‬ة‪ ،‬وخي‪--‬ل‪ ،‬وأنع‪--‬ام‪ ،‬وم‪--‬ا تنبت األرُض من نب‪--‬ا ‪ ،‬وش‪--‬جر‪ ،‬ومثر‪ ،‬فه‪--‬و مت‪--‬اُع‬
‫ه‪--‬ذه احلي‪--‬اة ال‪--‬دنيا‪ ،‬فمن ت ‪-‬زَّو ج كم‪--‬ا أم‪--‬ر اهلل‪ ،‬واس‪--‬تخدم ِنَعَم ُه يف الوج‪--‬وه املش‪--‬روعة‪ ،‬فق‪--‬د‬
‫فاز مبا عند اهلل من ُحْس ن املآب‪.‬‬
‫وإذا تل ‪--‬وَت من س ‪--‬ورة آل عم ‪--‬ران اآلي ‪--‬ات ال ‪--‬يت َبْع د ه ‪--‬ذه اآلي ‪--‬ة‪ ،‬رأيَت دليًال واض ‪--‬حًا‬
‫على هذا‪.‬‬
‫ويف احلديث الش ‪--‬ريف‪« :‬ويف ُبْض ع أح ‪--‬دكم ص ‪--‬دقٌة» ق ‪--‬الوا‪ :‬ي ‪--‬ا رس ‪--‬ول اهلل! أي ‪--‬أيت أح ‪ُ-‬د نا‬
‫ش ‪--‬هوته ويكتب ل ‪--‬ه ب ‪--‬ذلك أج ‪--‬ر؟ ق ‪--‬ال‪« :‬أرأيتم ل ‪--‬و وض ‪--‬عها يف ح ‪--‬رام أليس علي ‪--‬ه يف ذل ‪--‬ك‬
‫وزر؟» قالوا‪ :‬بلى‪ .‬قال‪« :‬كذلك إذا وضعها يف حالل‪ ،‬فإَّن له بذلك أجرًا»(‪.)1‬‬
‫وأما قوُله تعاىل يف سورة النمل [‪:]4‬‬
‫‪ِ‬إَّن اَّلِذ يَن ال ُيْؤ ِم ُنوَن ِباآْل ِخَر ِة َز َّيَّنا َلُهْم َأْع َم اَلُهْم َفُهْم َيْع َم ُهوَن ‪‬‬
‫فهو جماٌز على حِّد قول اهلل تعاىل‪:‬‬
‫‪َ‬فَلَّم ا َزاُغ وا َأَز اَغ ُهَّللا ُقُلوَبُهْم ‪[ ‬الصف‪]5 :‬‬
‫أي‪ :‬عن‪-- -‬دما أص ‪ّ- -‬ر وا على الَّز ي‪-- -‬غ والض‪-- -‬الل‪ ،‬وق‪-- -‬د عرف‪-- -‬وا احلَّق واهلدى‪ ،‬وعن‪-- -‬دما اَّتَبع‪-- -‬وا‬
‫خط ‪--‬وات الَّش يطان‪ ،‬ال ‪--‬ذي زَّين هلم أعم ‪--‬اهلم الفاس ‪--‬دة‪ ،‬وأعرُض وا عن ص ‪--‬وت احلق وض ‪--‬يائه‪،‬‬
‫مسحنا ب ‪--‬زيغهم وت ‪--‬أثري الش ‪--‬يطان عليهم؛ ألهنم اَّتبع ‪--‬وه راض ‪--‬ني‪ ،‬فهم الغاوون‪ ،‬فأردن ‪--‬ا هلم م ‪--‬ا‬
‫أصّر وا عليه من الزيغ‪ ،‬والفساد؛ لئال يقَع شيٌء إال بإرادتنا‪:‬‬
‫‪َ‬و َم ا َتَش اُءوَن ِإاَّل َأْن َيَش اَء ُهَّللا َر ُّب اْلَع اَلِم يَن ‪[ ‬التكوير‪]29 :‬‬
‫وآية الصف [‪:]5‬‬
‫‪َ‬فَلَّم ا َزاُغ وا َأَز اَغ ُهَّللا ُقُلوَبُهْم َو ُهَّللا ال َيْهِد ي اْلَقْو َم اْلَفاِسِقيَن ‪‬‬
‫تدُّل على هذا بوضوٍح ‪ ،‬ويدعمها قوُله تعاىل يف سورة آل عمران [‪:]178‬‬
‫‪َ‬و ال َيْح َس َبَّن اَّل ِذ يَن َكَف ُروا َأَّنَم ا ُنْمِلي َلُهْم َخْي ٌر َأِلْنُفِس ِهْم ِإَّنَم ا ُنْمِلي َلُهْم‬
‫ِلَيْز َداُد وا ِإْثمًا َو َلُهْم َع َذ اٌب ُم ِهيٌن ‪‬‬
‫ويف سورة مرمي [‪:]76-75‬‬
‫‪ُ‬ق ْل َم ْن َك اَن ِفي الَّض الَلِة َفْلَيْم ُدْد َل ُه الَّرْح َم ُن َم ّد ًا َح َّتى ِإَذ ا َر َأْو ا َم ا‬
‫ُيوَع ُد وَن ِإَّم ا اْلَع َذ اَب َو ِإَّم ا الَّس اَع َة َفَسَيْع َلُم وَن َم ْن ُهَو َش ٌّر َم َك انًا َو َأْض َع ُف ُج ْن دًا‬
‫* َو َيِز يُد ُهَّللا اَّلِذ يَن اْهَت َدْو ا ُه دًى َو اْلَباِقَي اُت الَّص اِلَح اُت َخ ْي ٌر ِع ْن َد َر ِّب َك َثَو ابًا‬
‫َو َخْيٌر َم َر ّد ًا‪‬‬
‫(?) رواه أمحد ومسلم وأبو داود‪.‬‬ ‫‪1‬‬
‫‪ -3‬ما معىن قوله تعاىل‪:‬‬
‫‪ُ‬يِض ُّل َم ْن َيَش اُء َو َيْهِد ي َم ْن َيَش اُء ‪[ ‬فاطر‪]8 :‬‬
‫اجلواُب يقوُدن ‪--‬ا إىل البحث يف الض ‪--‬مري‪ ،‬وإىل أين يع ‪--‬ود والقاع ‪--‬دُة النحوي ‪--‬ة تق ‪--‬وُل ‪ :‬يع ‪--‬وُد‬
‫الضمري إىل أقرب مذكور قبله‪ ،‬ما مل يصرفه صارٌف إىل غريه بقرينة‪.‬‬
‫فقوُله تعاىل يف سورة يوسف [‪:]23‬‬
‫‪َ‬و َق اَلْت َهْيَت َل َك َق اَل َم َع اَذ ِهَّللا ِإَّن ُه َر ِّبي َأْح َس َن َم ْث َو اَي ِإَّن ُه ال ُيْفِلُح‬
‫الَّظاِلُم وَن ‪.)1(‬‬
‫يعود الضمُري يف ‪‬إن‪-‬ه ريب‪ ‬على اهلل تع‪-‬اىل‪ ،‬وه‪-‬و أق‪-‬رُب م‪-‬ذكور يف اآلي‪-‬ة‪ ،‬وال يع‪-‬ود‬
‫على زوجه‪--‬ا إذ ال قرين‪--‬ة تص‪--‬رفه إىل زوجه‪--‬ا‪ .‬مث إَّن س ‪ِّ-‬يَد نا يوس‪--‬ف ع ‪َّ-‬ف عنه‪--‬ا َخ وف ‪ً-‬ا من‬
‫اهلل تعاىل‪ ،‬ال مراعاًة لشأن زوجها الذي أحسن إليه‪ ،‬فهو عفيٌف ‪ ،‬شريف‪ ،‬معصوٌم‪ ،‬تقي‪،‬‬
‫نقي‪ ،‬ال ميكن بل يستحيُل أن يعصَي اهلل‪ ،‬أو يفع‪-‬ل منك‪-‬رًا‪ ،‬وه‪-‬و س‪-‬يعُّف عنه‪-‬ا ول‪-‬و أس‪-‬اء‬
‫إلي ‪--‬ه زوجه ‪--‬ا‪ .‬ول ‪--‬و أع ‪--‬دنا الض ‪--‬مري على زوجه ‪--‬ا لظَّن الَّس امُع‪ ،‬أو الق ‪--‬ارئ أن يوس ‪َ-‬ف ع ‪َّ-‬ف‬
‫عنها ألَّن زوَج ها أحسَن إليه‪ ،‬ولو مل حيسْن إليه ألساء إليها‪ ،‬وهذا ما ال جيوُز أن خيطر‬
‫يف ب‪-‬ال أح‪-‬د‪ .‬واليه‪--‬ود هم ال‪-‬ذين يس‪-‬يئون لس‪-‬معة األنبي‪-‬اء والرس‪-‬ل‪ ،‬والت‪-‬وراُة حمش‪َّ-‬و ٌة ب‪-‬االفرتاء‬
‫والتزييف على األنبياء والرسل‪ ،‬واهِّت امهم مبا ال يليُق ‪ .‬فتنبه‪.‬‬
‫والن‪--‬يب حيث يق‪--‬ول‪ :‬إن‪--‬ه ريب‪ ‬فه‪--‬و ال يق ‪ُّ-‬ر بالربوبي‪--‬ة إال هلل تع‪--‬اىل وح‪--‬ده قب‪--‬ل البعث‪--‬ة‬
‫وبعدها‪ ،‬فإذا أدركنا هذا توَّص لنا إىل أن الضمَري يف قول‪-‬ه تع‪-‬اىل‪ :‬يض‪-‬ل‪ ‬و‪‬يه‪-‬دي‪ ‬يع‪-‬ود‬
‫إىل ‪‬من‪ ‬وه ‪--‬و أق ‪--‬رُب املذكور‪ ،‬فيص ‪--‬ري املع ‪--‬ىن‪ :‬يض ‪--‬ل اهلل من يش ‪--‬اء الض ‪--‬اللة ويه ‪--‬دي من‬
‫يشاء اهلداية‪.‬‬
‫أي‪ :‬يض ‪ُّ-‬ل اُهلل فالن ‪ً-‬ا إن ش‪--‬اء الَّض اللة‪ ،‬ويه ‪--‬دي فالن ‪ً-‬ا إن ش‪--‬اء اهلداي‪--‬ة‪ ،‬وليس‪--‬ت هن‪--‬اك‬
‫قرين‪--‬ة تص‪--‬رُف الض‪--‬مري إىل البعي‪--‬د‪ .‬والعدال ‪ُ-‬ة اإلهلي‪--‬ة تقتض‪--‬ي ع‪--‬وَد الض‪--‬مري هن‪--‬ا على الق‪--‬ريب‪،‬‬
‫وهو ‪‬من‪.‬‬
‫وإذا أردت أن تع ‪--‬رَف مثًال على ع ‪--‬ود الض ‪--‬مري على البعي ‪--‬د لقرين ‪--‬ة‪ ،‬فإلي ‪--‬ك آي ‪--‬ة س ‪--‬ورة‬
‫التوبة [‪:]24‬‬
‫‪ُ‬ق ْل ِإْن َك اَن آَب اُؤ ُك ْم َو َأْبَن اُؤ ُك ْم َو ِإْخ َو اُنُك ْم َو َأْز َو اُج ُك ْم َو َع ِش يَر ُتُك ْم َو َأْم َو اٌل‬
‫اْقَتَر ْفُتُم وَه ا َو ِتَج اَر ٌة َتْخ َش ْو َن َك َس اَدَها َو َم َس اِكُن َتْر َض ْو َنَها َأَح َّب ِإَلْيُك ْم ِم َن ِهَّللا‬
‫َو َر ُسوِلِه َو ِج َهاٍد ِفي َس ِبيِلِه َفَتَر َّبُصوا َح َّتى َيْأِتَي ُهَّللا ِبَأْم ِر ِه َو ُهَّللا ال َيْه ِد ي اْلَق ْو َم‬
‫اْلَفاِسِقيَن ‪‬‬

‫(?) ارجع إىل كتايب‪« :‬نظ‪-‬رات يف كت‪-‬اب اهلل تع‪-‬اىل» جتْد في‪-‬ه حبث‪ً-‬ا مقنع‪ً-‬ا مرض‪-‬يًا عن س‪-‬يدنا يوس‪-‬ف‬ ‫‪1‬‬

‫عليه السالم وعَّفته‪.‬‬


‫فالضمُري يف قوله تعاىل‪ :‬يف سبيله‪ ‬يعوُد حتمًا إىل اهلل تع‪-‬اىل ال إىل رس‪-‬وله‪ ،‬أي إىل‬
‫املذكور البعي ‪--‬د ال الق ‪--‬ريب لقرين ‪--‬ة عفلي ‪--‬ة‪ ،‬وهي‪ :‬أن اهلل تع ‪--‬اىل نَّص يف قرآن ‪--‬ه الك ‪--‬رمي كم ‪--‬ا‬
‫ذكر رسوله ‪ ‬يف أحاديثه الش‪-‬ريفة الص‪--‬حيحة أن اجله‪--‬اَد ال يك‪-‬وُن ‪ ،‬وال ُيقب‪-‬ل‪ ،‬وال جيوُز ‪،‬‬
‫وال ُيثاُب عليه صاحُبه‪ ،‬إال إذا كان يف سبيل اهلل وحده ال شريك له‪.‬‬
‫ويف الق ‪--‬رآن الك ‪--‬رمي آي ‪--‬اٌت كث ‪--‬ريٌة ُتعي ‪--‬د الض ‪--‬مَري يف الض ‪--‬الل واِإل ض ‪--‬الل على اإلنس ‪--‬ان‬
‫نفسه‪ ،‬أو يرد يف اآلية هو الفاعل للضالل بإرادته‪ ،‬أو تبني أن ما نزل‪ ،‬وسينزل به‪ ،‬من‬
‫عق‪-- - -‬اب فمرجع‪-- - -‬ه ض‪-- - -‬الله واختي‪-- - -‬اره الش‪-- - -‬ر دون اخلرب والباط‪-- - -‬ل دون احلق‪ ،‬والض‪-- - -‬اللة دون‬
‫اهلدى‪ ،‬أو ت‪--‬بني أَّن الش‪--‬يطاَن ه‪--‬و ال‪--‬ذي ق‪--‬اد أه‪َ-‬ل الَّض اللة إىل ُك ِّل ش‪--‬ر وفس‪--‬اد حني رأى‬
‫عن‪--‬دهم رغب‪--‬ة يف ذل‪--‬ك‪ ،‬وُبْع دًا عن اهلدى وس‪--‬بيله‪ ،‬أو ت‪--‬رد ذل‪--‬ك إىل أع‪--‬وان الش‪--‬يطان‪ .‬من‬
‫ذلك قوله تعاىل يف سورة النساء [‪:]60‬‬
‫‪َ‬و ُيِر يُد الَّش ْيَطاُن َأْن ُيِض َّلُهْم َض الًال َبِع يدًا‪‬‬
‫‪َ‬و َم ْن ُيْش ِر ْك ِباِهَّلل َفَقْد َض َّل َض الًال َبِع يدًا]‪ [116‬‬
‫‪ُ‬يَبِّيُن ُهَّللا َلُك ْم َأْن َتِض ُّلوا َو ُهَّللا ِبُك ِّل َش ْي ٍء َع ِليٌم ]‪ [176‬‬
‫أي‪ :‬لئال تضلوا‪.‬‬
‫ويف سورة األعراف [‪:]38‬‬
‫‪َ‬ر َّبَنا َهُؤ الِء َأَض ُّلوَنا َفآِتِهْم َع َذ ابًا ِض ْعفًا ِم َن الَّن اِر َق اَل ِلُك ٍّل ِض ْع ٌف َو َلِكْن‬
‫ال َتْع َلُم وَن ‪[ ‬األعراف‪]38 :‬‬
‫ولو تابعَت القراءَة لرأيَت يف أواخر اآليات بعد هذه اآلية‪:‬‬
‫‪َ‬فُذ وُقوا اْلَع َذ اَب ِبَم ا ُكْنُتْم َتْك ِس ُبوَن ‪[ ‬األعراف‪]39 :‬‬
‫‪َ‬و َك َذ ِلَك َنْج ِز ي اْلُم ْج ِر ِم يَن ‪[ ‬األعراف‪]40 :‬‬
‫‪َ‬و َك َذ ِلَك َنْج ِز ي الَّظاِلِم يَن ‪[ ‬األعراف‪]41 :‬‬
‫ويف سورة اإلسراء [‪:]15‬‬
‫‪َ‬مِن اْهَتَدى َفِإَّنَم ا َيْهَتِد ي ِلَنْفِسِه َو َم ْن َض َّل َفِإَّنَم ا َيِض ُّل َع َلْيَها‪‬‬
‫ويف سورة الكهف [‪:]106-103‬‬
‫‪ُ‬قْل َهْل ُنَنِّبُئُك ْم ِباَأْلْخ َس ِر يَن َأْع َم اًال * اَّل ِذ يَن َض َّل َس ْعُيُهْم ِفي اْلَحَي اِة الُّد ْنَيا‬
‫َو ُهْم َيْح َس ُبوَن َأَّنُهْم ُيْح ِس ُنوَن ُص ْنعًا * ُأوَلِئ َك اَّل ِذ يَن َكَف ُروا ِبآياِت َر ِّبِهْم َو ِلَقاِئ ِه‬
‫َفَح ِبَطْت َأْع َم اُلُهْم َفال ُنِقيُم َلُهْم َي ْو َم اْلِقَياَم ِة َو ْز ن ًا * َذ ِل َك َج َزاُؤُهْم َجَهَّنُم ِبَم ا‬
‫َكَفُروا َو اَّتَخ ُذ وا آَياِتي َو ُرُس ِلي ُهُز وًا‪‬‬
‫ويف سورة احلج [‪:]4-3‬‬
‫‪َ‬و ِم َن الَّناِس َم ْن ُيَج اِد ُل ِفي ِهَّللا ِبَغْيِر ِع ْلٍم َو َيَّتِبُع ُك َّل َشْيَطاٍن َم ِر يٍد * ُك ِتَب‬
‫َع َلْيِه َأَّنُه َم ْن َتَو اَّل ُه َفَأَّنُه ُيِض ُّلُه َو َيْهِد يِه ِإَلى َع َذ اِب الَّس ِع يِر ‪‬‬
‫ويف سورة الشعراء [‪ ]99‬على لسان الكفار يوم الدين‪:‬‬
‫‪َ‬و َم ا َأَض َّلَنا ِإاَّل اْلُم ْج ِر ُم وَن ‪‬‬
‫ويف سورة األحزاب [‪ ]68-66‬يف احلديث عن أهل جهنم الكافرين‪:‬‬
‫‪َ‬يْو َم ُتَقَّلُب ُو ُجوُهُهْم ِفي الَّناِر َيُقوُلوَن َيا َلْيَتَن ا َأَطْعَن ا َهَّللا َو َأَطْعَن ا الَّرُس وال‬
‫* َو َقاُلوا َر َّبَنا ِإَّنا َأَطْعَنا َس اَدَتَنا َو ُك َبَر اَء َنا َفَأَض ُّلوَنا الَّس ِبيال * َر َّبَن ا آِتِهْم ِض ْع َفْيِن‬
‫ِم َن اْلَع َذ اِب َو اْلَع ْنُهْم َلْعنًا َك ِبيرًا‪‬‬
‫ويف سورة ق [‪:]29-27‬‬
‫‪َ‬ق اَل َقِر يُن ُه َر َّبَن ا َم ا َأْطَغْيُت ُه َو َلِكْن َك اَن ِفي َض الٍل َبِع يٍد * َق اَل ال‬
‫َتْخ َتِص ُم وا َلَد َّي َو َقْد َقَّد ْم ُت ِإَلْيُك ْم ِباْلَو ِع يِد * َم ا ُيَبَّد ُل اْلَقْو ُل َلَد َّي َو َم ا َأَن ا ِبَظاَّل ٍم‬
‫ِلْلَع ِبيِد ‪‬‬
‫على أَّن هن ‪--‬اك آي ‪--‬ات يع ‪--‬وُد الض ‪--‬مُري فيه ‪--‬ا على اهلل تع ‪--‬اىل يف يض ‪--‬ل‪ ،‬أو ي ‪--‬ذكر لف ‪--‬ظ‬
‫اجلاللة فاعًال يف اآلية‪ .‬كما يف سورة إبراهيم [‪:]27‬‬
‫‪َ‬و ُيِض ُّل ُهَّللا الَّظاِلِم يَن ‪[ ‬إبراهيم‪]27 :‬‬
‫ويف سورة البقرة [‪:]27-26‬‬
‫‪َ‬و َم ا ُيِض ُّل ِب ِه ِإاَّل اْلَفاِس ِقيَن * اَّل ِذ يَن َيْنُقُض وَن َع ْه َد ِهَّللا ِم ْن َبْع ِد ِم يَثاِق ِه‬
‫َو َيْقَطُع وَن َم ا َأَم َر ُهَّللا ِب ِه َأْن ُيوَص َل َو ُيْفِس ُد وَن ِفي اَأْلْر ِض ُأوَلِئ َك ُهُم‬
‫اْلَخاِس ُروَن ‪‬‬
‫ويف سورة حممد [‪:]1‬‬
‫‪‬اَّلِذ يَن َكَفُروا َو َص ُّد وا َع ْن َس ِبيِل ِهَّللا َأَض َّل َأْع َم اَلُهْم ‪‬‬
‫ويف سورة مرمي [‪:]76-75‬‬
‫‪ُ‬قْل َم ْن َك اَن ِفي الَّضالَلِة َفْلَيْم ُدْد َلُه الَّرْح َم ُن َم ّد ًا‪‬‬
‫‪َ‬و َيِز يُد ُهَّللا اَّلِذ يَن اْهَتَدْو ا ُهدًى ‪‬‬
‫ويف سورة غافر [‪:]34‬‬
‫‪َ ‬ك َذ ِلَك ُيِض ُّل ُهَّللا َم ْن ُهَو ُم ْس ِر ٌف ُم ْر َتاٌب ‪‬‬
‫فواض ‪ٌ-‬ح أَّن اهلل ُيِض ُّل َمْن َأَص َّر على الض‪--‬اللة‪ ،‬وس‪--‬عى هلا س‪--‬عيها‪ ،‬وأع‪--‬رض عن اهلدى‬
‫وق‪--‬د ظه‪--‬ر ل‪--‬ه‪ ،‬واتض‪--‬ح‪ ،‬ف‪--‬أذن اهلل بض‪--‬الله إلص‪--‬رار الض‪--‬ال على ذل‪--‬ك‪ .‬وق‪--‬د رأيت يف آخ‪--‬ر‬
‫سورة الفاحتة ‪‬وال الضالني‪ ‬ومل يقل‪ :‬وال ال‪-‬ذين أض‪--‬للتهم‪ ،‬فهم ض‪ّ-‬لوا وأض‪ّ-‬لوا‪ ،‬ف‪-‬أراد اهلل‬
‫ذل‪--‬ك‪ ،‬إذ ال يق‪--‬ع ش‪--‬يء إال بإذن‪--‬ه وإرادت‪--‬ه‪ ،‬وه‪--‬و ُس بحانه حني ُيري‪--‬د ذل‪--‬ك ال يرض‪--‬ى عن‬
‫الكفر وأهله‪ ،‬وال حيُّب هلم ذلك‪ ،‬وإمنا يرضى عن اإلميان وأهله‪ ،‬وقد فطر الناَس عليه‪:‬‬
‫‪َ‬رِض َي ُهَّللا َع ْنُهْم َو َر ُضوا َع ْنُه َذ ِلَك ِلَم ْن َخ ِش َي َر َّبُه‪[ ‬البينة‪]8 :‬‬
‫وقد مَّر معك من قبل أن ذلك كّله تفِّس ره آية سورة الصف [‪:]5‬‬
‫‪َ‬فَلَّم ا َزاُغ وا َأَز اَغ ُهَّللا ُقُلوَبُهْم ‪‬‬
‫(زاغ ‪--‬وا) ه ‪--‬و فع ‪--‬ل الش ‪--‬رط‪( :‬ملا) و(أزاغ) ج ‪--‬واب الش ‪--‬رط؛ وه ‪--‬و ش ‪--‬رط غ ‪--‬ري ج ‪--‬ازم‪ ،‬فهم‬
‫بدؤوا الزيغ مصِّر ين عليه‪ ،‬ساعني إليه‪ ،‬راغبني فيه‪ ،‬فسمح هلم به‪:‬‬
‫‪َ‬و ُهَّللا ال َيْهِد ي اْلَقْو َم اْلَفاِسِقيَن ‪‬‬
‫ويف سورة النساء [‪:]115‬‬
‫‪َ‬و َم ْن ُيَش اِقِق الَّرُس وَل ِم ْن َبْع ِد َم ا َتَبَّيَن َل ُه اْلُه َدى َو َيَّتِب ْع َغْي َر َس ِبيِل‬
‫اْلُم ْؤ ِمِنيَن ُنَو ِّلِه َم ا َتَو َّلى َو ُنْص ِلِه َجَهَّنَم َو َس اَء ْت َم ِص يرًا‪‬‬
‫وأنت ت ‪--‬رى يف اآلي ‪--‬ة إش ‪--‬ارًة واض ‪--‬حة إىل حِّر ي ‪--‬ة الف ‪--‬رد يف التص ‪ُّ-‬ر ف ول ‪--‬و من بع ‪--‬د م ‪--‬ا‬
‫تبنَّي له اهلدى‪.‬‬
‫ويف سورة الرعد [‪:]27‬‬
‫‪ُ‬قْل ِإَّن َهَّللا ُيِض ُّل َم ْن َيَش اُء َو َيْهِد ي ِإَلْيِه َم ْن َأَناَب ‪‬‬
‫فب ‪--‬اُب اهلداي ‪--‬ة مفت ‪--‬وح ملن أراَد فت ‪--‬اب‪ ،‬وأن ‪--‬اب‪ ،‬واهت ‪--‬دى‪ ،‬واهلل تع ‪--‬اىل يق‪ُّ- -‬ر العب ‪--‬د على‬
‫م ‪--‬راده‪ ،‬والس ‪--‬يما إن أص‪َّ- -‬ر العب‪ُ- -‬د على ذل ‪--‬ك‪ ،‬فيض‪ُّ- -‬ل من يش ‪--‬اُء الض ‪--‬اللَة‪ ،‬وال يرض ‪--‬ى عن‬
‫ضالله‪ ،‬وال يعينه عليه‪ ،‬بل يضايقه ليعود إىل جادة الصواب‪:‬‬
‫‪َ‬و َلُن ِذ يَقَّنُهْم ِم َن اْلَع َذ اِب اَأْلْد َنى ُد وَن اْلَع َذ اِب اَأْلْك َب ِر َلَع َّلُهْم َيْر ِج ُع وَن ‪‬‬
‫[السجدة‪]21 :‬‬
‫ويهدي من يشاء اهلداية ويرضى عن هدايته ويعينه يف ذلك‪.‬‬
‫وإليك آيات كثرية تدُّل بوضوح على هذا‪:‬‬
‫ففي سورة حممد [‪:]17‬‬
‫‪َ ‬و اَّلِذ يَن اْهَتَدْو ا َز اَد ُهْم ُهدًى َو آَتاُهْم َتْقَو اُهْم ‪‬‬
‫ويف سورة مرمي [‪:]7‬‬
‫‪َ‬و َيِز يُد ُهَّللا اَّلِذ يَن اْهَتَدْو ا ُهدًى ‪‬‬
‫ويف سورة البقرة [‪:]213‬‬
‫‪َ ‬و ُهَّللا َيْهِد ي َم ْن َيَش اُء ِإَلى ِص َر اٍط ُم ْسَتِقيٍم ‪‬‬
‫ويف سورة الرعد [‪:]27‬‬
‫‪َ‬و َيْهِد ي ِإَلْيِه َم ْن َأَناَب ‪‬‬
‫ويف سورة الشورى [‪:]13‬‬
‫‪َ‬و َيْهِد ي ِإَلْيِه َم ْن ُيِنيُب ‪‬‬
‫وآخر آية من سورة العنكبوت تقول‪:‬‬
‫‪َ‬و اَّلِذ يَن َج اَهُد وا ِفيَنا َلَنْهِدَيَّنُهْم ُس ُبَلَنا َو ِإَّن َهَّللا َلَم َع اْلُم ْح ِسِنيَن ‪‬‬
‫ويف سورة القصص [‪:]56‬‬
‫‪َ‬و َلِكَّن َهَّللا َيْهِد ي َم ْن َيَش اُء َو ُهَو َأْع َلُم ِباْلُم ْهَتِد يَن ‪‬‬
‫ويف سورة التغابن [‪:]11‬‬
‫‪َ‬و َم ْن ُيْؤ ِم ْن ِباِهَّلل َيْهِد َقْلَبُه ‪‬‬
‫ويف سورة املائدة [‪:]51‬‬
‫‪ِ ‬إَّن َهَّللا ال َيْهِد ي اْلَقْو َم الَّظاِلِم يَن ‪‬‬
‫[‪:]67‬‬
‫‪ِ ‬إَّن َهَّللا ال َيْهِد ي اْلَقْو َم اْلَك اِفِر يَن ‪‬‬
‫[‪:]108‬‬
‫‪َ‬و ُهَّللا ال َيْهِد ي اْلَقْو َم اْلَفاِسِقيَن ‪‬‬
‫ويف سورة غافر [‪:]28‬‬
‫‪ِ‬إَّن َهَّللا ال َيْهِد ي َم ْن ُهَو ُم ْس ِر ٌف َك َّذ اٌب ‪‬‬
‫ويف سورة الزمر [‪:]3‬‬
‫‪ِ‬إَّن َهَّللا ال َيْهِد ي َم ْن ُهَو َك اِذ ٌب َك َّفاٌر ‪‬‬
‫وَم ن َر َفَض ُه دى اهلل فلن يهت ‪--‬دي‪ ،‬ولن جتد ل ‪--‬ه ولي‪ً- -‬ا مرش ‪--‬دًا؛ ألَّن اهلدى احلق ه ‪--‬و‬
‫ُه دى اهلل تعاىل‪:‬‬
‫‪ُ ‬قْل ِإَّن ُهَدى ِهَّللا ُهَو اْلُهَدى ‪[ ‬البقرة‪]120 :‬‬
‫ويف سورة اإلسراء [‪:]15‬‬
‫‪َ‬مِن اْهَتَدى َفِإَّنَم ا َيْهَتِد ي ِلَنْفِسِه ‪‬‬
‫ويف سورة آل عمران [‪:]73‬‬
‫‪ُ ‬قْل ِإَّن اْلُهَدى ُهَدى ِهَّللا ‪‬‬
‫ويف سورة الليل [‪:]12‬‬
‫‪ِ‬إَّن َع َلْيَنا َلْلُهَدى‪‬‬
‫وأما قوله تعاىل‪:‬‬
‫‪‬ال ِإْك َر اَه ِفي الِّديِن ‪[ ‬البقرة‪]256 :‬‬
‫فال يعين تعطيَل اجلهاد يف سبيل اهلل كم‪-‬ا حِس ب بعُض الدارس‪-‬ني لكت‪-‬اب اهلل الك‪-‬رمي‪،‬‬
‫وإمنا يع ‪--‬ين أن إدخ ‪--‬اَل اإلميان يف القل ‪--‬وب ومتكين ‪--‬ه فيه ‪--‬ا ه ‪--‬و من عم ‪--‬ل اهلل تع ‪--‬اىل وفض ‪--‬له‪،‬‬
‫حني ي‪-- -‬رى ص‪-- -‬دق العب‪-- -‬د‪ ،‬وإخالص‪-- -‬ه‪ ،‬وس‪-- -‬المة نيت‪-- -‬ه يف اإلقب‪-- -‬ال على اهلدى واإلميان‪ .‬ق‪-- -‬ال‬
‫تعاىل‪:‬‬
‫‪َ‬و َم ا َأْنَت ِبَهاِد ي اْلُع ْم ِي َع ْن َض الَلِتِهْم ‪[ ‬النمل‪]81 :‬‬
‫ويف سورة القصص [‪:]56‬‬
‫‪ِ ‬إَّنَك ال َتْهِد ي َم ْن َأْح َبْبَت َو َلِكَّن َهَّللا َيْهِد ي َم ْن َيَش اُء ‪‬‬
‫كما تعين أَّن اإلكراَه يف العقيدة ال ُيفيد الت‪-‬ابَع وال املتب‪-‬وع ش‪-‬يئًا‪ .‬وأم‪-‬ا قوُله تع‪-‬اىل يف‬
‫سورة الشورى [‪:]52‬‬
‫‪َ ‬و ِإَّنَك َلَتْهِد ي ِإَلى ِص َر اٍط ُم ْسَتِقيٍم ‪‬‬
‫أي‪ :‬إنك لتدُّل عليه‪ ،‬وتقود إليه‪ ،‬فأنت مبِّلغ ُمذِّك ر‪ ،‬ال ُم سيطٌر ‪ ،‬واهلل أعلم بالَّس رائر‪:‬‬
‫‪َ‬فَذِّك ْر ِإَّنَم ا َأْنَت ُم َذِّك ٌر * َلْسَت َع َلْيِهْم ِبُمَص ْيِط ٍر ‪[ ‬الغاشية‪]22-21 :‬‬
‫وقد ذكرُت يف كتايب‪( :‬نظرات يف كتاب اهلل تعاىل) حبثًا ملّخ صًا عن مع‪-‬اين اهلداي‪-‬ة يف‬
‫القرآِن الكرمي‪ ،‬فارجْع إليه إن شئت‪.‬‬
‫فإذا استغىن اإلنساُن وأع‪--‬رَض عن ُه دى اهلل فق‪--‬د طغى‪ ،‬وغ‪--‬وى‪ ،‬وخ‪-‬اب‪ ،‬وخس‪-‬ر‪ .‬ففي‬
‫سورة العلق [‪:]7-6‬‬
‫‪ِ‬إَّن اِإْل ْنَس اَن َلَيْطَغى * َأْن َر آُه اْسَتْغ َنى‪‬‬
‫ويف سورة طه [‪:]127-123‬‬
‫‪َ‬فَمِن اَّتَبَع ُهَداَي َفال َيِض ُّل َو ال َيْش َقى * َو َم ْن َأْع َر َض َع ْن ِذ ْك ِر ي َفِإَّن َل ُه‬
‫َم ِع يَش ًة َض ْنكًا َو َنْح ُش ُر ُه َيْو َم اْلِقَياَم ِة َأْع َم ى * َق اَل َر ِّب ِلَم َح َش ْر َتِني َأْع َم ى َو َق ْد‬
‫ُكْنُت َبِص يرًا * َقاَل َك َذ ِلَك َأَتْت َك آَياُتَن ا َفَنِس يَتَها َو َك َذ ِلَك اْلَي ْو َم ُتْنَس ى * َو َك َذ ِلَك‬
‫َنْج ِز ي َم ْن َأْس َر َف َو َلْم ُيْؤ ِم ْن ِبآياِت َر ِّبِه َو َلَع َذ اُب اآْل ِخَرِة َأَشُّد َو َأْبَقى‪‬‬
‫والعمى يف اآلية هو عمى البصرية‪ ،‬ال عمى البصر‪:‬‬
‫‪َ‬فِإَّنَه ا ال َتْع َم ى اَأْلْبَص اُر َو َلِكْن َتْع َم ى اْلُقُل وُب اَّلِتي ِفي الُّص ُد وِر ‪[ ‬احلج‪:‬‬
‫‪]46‬‬
‫فتأَّم ل‪.‬‬

‫‪‬‬
‫إزالُة الّلبس في فهم َبْعض‬
‫اآليات القرآنية الكريمة‬
‫واألحاديث النبوية الشريفة‬

‫أوًال‪ :‬قوله تعاىل‪:‬‬


‫َفَح َّق َع َلْيَه ا اْلَق ْو ُل‬ ‫‪َ‬و ِإَذ ا َأَر ْد َنا َأْن ُنْهِلَك َقْر َيًة َأَم ْر َنا ُم ْتَر ِفيَها َفَفَس ُقوا ِفيَه ا‬
‫َفَد َّم ْر َناَها َتْد ِم يرًا‪[ ‬اإلسراء‪]16 :‬‬
‫ي‪-‬أيت غ‪-‬ري ص‪-‬ريح‪ ،‬أي‪:‬‬ ‫فهذه اآليُة‪ :‬الُبَّد لفهمه‪-‬ا من معرف‪-‬ة املفع‪-‬ول الث‪-‬اين ألمرن‪-‬ا ال‪-‬ذي‬
‫يأيت بصيغة اجلار واجملرور‪.‬‬
‫املفعول الث‪--‬اين احملذوف‬ ‫تقول‪ :‬أمرت ولدي بالدراسة‪ ،‬أمرته بالتقوى‪ ،‬ولقد فسرت هذا‬
‫عدة آيات أخرى منها‪:‬‬
‫‪ِ‬إَّن َهَّللا َيْأُم ُر ِباْلَع ْد ِل َو اِإْل ْح َس اِن َو ِإيَتاِء ِذ ي اْلُقْر َبى‪[ ‬النحل‪]90 :‬‬
‫فيص ‪--‬ري مع ‪--‬ىن اآلي ‪--‬ة‪ :‬إذا أردن ‪--‬ا أن هنل ‪--‬ك أم‪ً- -‬ة طغت‪ ،‬وبغت‪ ،‬أمرن ‪--‬ا الك ‪--‬رباء‪ ،‬واملرتفني‪،‬‬
‫وذوي الت ‪--‬أثري على غ ‪--‬ريهم ب ‪--‬التقوى واالس ‪--‬تقامة‪ ،‬بالع ‪--‬دل‪ ،‬واإلحس ‪--‬ان‪ ،‬وإيت ‪--‬اء ذي الق ‪--‬رىب‪،‬‬
‫ب‪--‬الرجوع إىل احلق‪ ،‬ف‪--‬إن فعل‪--‬وا جنوا‪ ،‬وإال فق‪--‬د ح ‪َّ-‬ق عليهم الق‪--‬وُل ‪ ،‬والعق‪--‬اب الع‪--‬ادل‪ ،‬بع‪--‬د‬
‫صرب عليهم طويل‪ ،‬فدمرناهم تدمريًا‪.‬‬
‫واحلذُف يف الق ‪--‬رآن الك ‪--‬رمي كث ‪ٌ-‬ري‪ ،‬وه ‪--‬و من اإلعج ‪--‬از‪ ،‬ف ‪--‬ارجع إىل كت ‪--‬ايب (نظ ‪--‬رات يف‬
‫كتاب اهلل تعاىل) جتْد يف ذلك بيانًا‪.‬‬
‫ثانيًا‪ :‬قوله تعاىل‪:‬‬
‫‪َ‬و َم ا َأْر َس ْلَنا ِم ْن َقْبِلَك ِم ْن َر ُسوٍل َو ال َنِبٍّي ِإاَّل ِإَذ ا َتَم َّنى َأْلَقى الَّش ْيَطاُن ِفي‬
‫ُأْم ِنَّيِت ِه َفَيْنَس ُخ ُهَّللا َم ا ُيْلِقي الَّش ْيَطاُن ُثَّم ُيْح ِكُم ُهَّللا آَياِت ِه َو ُهَّللا َع ِليٌم َحِكيٌم ‪‬‬
‫[احلج‪]52 :‬‬
‫وَفْه م ه‪--‬ذه اآلي‪--‬ة يتوَّق ُف أيض ‪ً-‬ا على ح‪--‬ذف املفع‪--‬ول ب‪--‬ه‪ ،‬ومعناه‪--‬ا‪ :‬م‪--‬ا من رس‪--‬ول وال‬
‫ن‪-- -‬يب قبل‪-- -‬ك إال القى من قوم‪-- -‬ه املعان‪-- -‬دين اخلص‪-- -‬ومة‪ ،‬والع‪-- -‬داوة‪ ،‬واملك‪-- -‬ر‪ ،‬والكي‪-- -‬د‪ .‬ف‪-- -‬إذا متىن‬
‫لقومه‪ :‬اخلري‪ ،‬واإلميان‪ ،‬واإلسالم‪ ،‬واهلداي‪--‬ة‪ ،‬والس‪--‬ري يف طري‪--‬ق احلق‪ ،‬ألقى الش‪--‬يطاُن يف طري‪--‬ق‬
‫تل‪--‬ك األم‪--‬اين حتقيقه‪--‬ا‪ :‬العقب‪--‬ات‪ ،‬والس‪--‬دود‪ ،‬واملعوق‪--‬ات‪ ،‬والش‪--‬بهات‪ ،‬واالف‪--‬رتاء‪ ،‬فينس‪ُ-‬خ اُهلل م‪--‬ا‬
‫ألقى الشيطاُن ‪ ،‬وحيكم اهلل آياته‪ ،‬وينصر احلق على يد أنبيائه ورسله‪ ،‬واهلل عليم حكيم‪.‬‬
‫ثالثًا‪ :‬قوله تعاىل‪:‬‬
‫‪َ‬و ُق ِل اْلَح ُّق ِم ْن َر ِّبُك ْم َفَم ْن َش اَء َفْلُي ْؤ ِم ْن َو َم ْن َش اَء َفْلَيْكُف ْر ِإَّن ا َأْعَت ْد َنا‬
‫ِللَّظاِلِم يَن َنارًا َأَح اَط ِبِهْم ُس َر اِد ُقَها َو ِإْن َيْس َتِغ يُثوا ُيَغ اُثوا ِبَم اٍء َك اْلُم ْه ِل َيْش ِو ي‬
‫اْلُو ُجوَه ِبْئَس الَّش َر اُب َو َس اَء ْت ُم ْر َتَفقًا‪[ ‬الكهف‪]29 :‬‬
‫وَفْه ُم ه ‪-- -‬ذه اآلي ‪-- -‬ة يتوَّق ُف على معرف ‪-- -‬ة علم البالغ ‪-- -‬ة والبي ‪-- -‬ان‪ .‬ف ‪-- -‬الالم يف قول ‪-- -‬ه تع ‪-- -‬اىل‬
‫‪‬فليؤمن‪ ‬هي الم األمر‪ ،‬واُهلل يأمُر باإلميان‪ ،‬ويرضى عن أهله‪.‬‬
‫والالم في قوله تعالى‪ :‬فليكفر‪ ‬هي الم األمر‪ ،‬والل‪-‬ه ال ي‪-‬أمُر ب‪-‬الكفر‪ ،‬وال يرض‪-‬ى عن‬
‫أهله‪ ،‬ولكن هذا األمَر خرج عن معناه األصلي إلى التهديد‪ ،‬كما يخرج إلى معان أخرى‪.‬‬
‫ودليل التهديد هنا تتمة اآلية‪:‬‬
‫‪ِ‬إَّنا َأْعَتْد َنا ِللَّظاِلِم يَن َنارًا‪‬‬
‫وليس يف اآلية ختيٌري كما ظَّن بعُض َم ن كتب فيها؛ ألن أداة التخيري يف األصل هي‬
‫(أو) ال الواو‪ ،‬مث إَّن التخيَري يكوُن بني أمرين كالمها حسن‪ ،‬فإن مل يتيس‪--‬ر أح‪ُ-‬د مها فعلت‬
‫الث ‪--‬اين‪ ،‬وال يعق ‪--‬ل أن خيرّي ن ‪--‬ا اهلل بني اإلميان والكف ‪--‬ر‪ ،‬فاإلميان ح ‪ُّ-‬ق ‪ ،‬وخ ‪--‬ري‪ ،‬والكف ‪--‬ر باط ‪--‬ل‪،‬‬
‫وشّر ‪.‬‬
‫وإمنا دعا للمساواة‪ ،‬والعدل‪ ،‬والفضائل‪ ،‬وقال‪ :‬هذا هو احلق ال‪--‬ذي ارتض‪--‬اه اُهلل لعب‪--‬اده‪.‬‬
‫فمن آمَن باهلل‪ ،‬وسار على الَّنهج الذي ارتض‪-‬اه‪ ،‬فق‪-‬د جنا‪ ،‬ومن رفض ذل‪-‬ك‪ ،‬وكف‪-‬ر‪ ،‬فق‪-‬د‬
‫هل‪--‬ك‪ ،‬والن‪--‬ار مث‪--‬واه‪ ،‬وامله‪--‬ل ال‪--‬ذي يش‪--‬وي الوج‪--‬وه ش‪--‬رابه‪ ،‬فاهلل ق‪--‬د أم‪--‬ر يف اآلي‪--‬ة باإلميان‪،‬‬
‫وهَّدد من يكفر بشديد العذاب‪ ،‬وأليم العقاب‪.‬‬
‫ول ‪--‬ذا فال جيوُز ألح‪ٍ- -‬د أن يفِّس ر كت ‪--‬اَب اهلل تع ‪--‬اىل وأح ‪--‬اديث رس ‪--‬وله ‪ ‬إال بع ‪--‬د أن‬
‫يَّطل‪--‬ع على مجي‪--‬ع العل‪--‬وم الش‪--‬رعية ويتقنه‪--‬ا ومنه‪--‬ا؛ اللغة العربي‪--‬ة‪ :‬حنوه‪--‬ا‪ ،‬وص‪--‬رفها‪ ،‬وبالغته‪--‬ا‪،‬‬
‫وفقهه‪-- -‬ا‪ ،‬وأس‪-- -‬اليب الع‪-- -‬رب يف كالمهم‪ ،‬ف‪-- -‬إن جه‪-- -‬ل ذل‪-- -‬ك أو جتاهل‪-- -‬ه جاءن‪-- -‬ا بالطاّم ات‪،‬‬
‫واملضحكات‪ ،‬والضالالت‪ ،‬كما فعل الكثري ممن ال باَع هلم يف َفْه م اللغة العربية‪ ،‬والعل‪-‬وم‬
‫الش‪--‬رعية ‪ -‬ه‪--‬داهم اهلل‪ ،‬ورّدهم إىل ج‪--‬ادة الص‪--‬واب قب‪--‬ل أن ميوت‪--‬وا؛ فيص‪--‬بحوا من اخلاس‪--‬رين‬
‫النادمني ‪.-‬‬
‫(‪)1‬‬ ‫ِل‬
‫رابع ‪ً- -‬ا‪ :‬واحلديث الش‪-- -‬ريف‪« :‬اعمُل و فُك ٌّل ُمَيَّس ر ملا ُخ َق ل‪-- -‬ه» ‪ .‬يع‪-- -‬ين أن العب ‪َ- -‬د جيُد‬
‫التيس‪َ- -‬ري حني يس‪ُ- -‬ري يف طري‪ٍ- -‬ق م ‪--‬ا فط ‪--‬ر علي ‪--‬ه من حّب اإلميان‪ ،‬وُك ْر ه الكف ‪--‬ر‪ ،‬والفس ‪--‬وق‪،‬‬
‫والعص‪-- - -‬يان‪ .‬جيد التيس ‪َ- - -‬ري إذا آمن‪ ،‬واتقى‪ ،‬وأعطى من مال‪-- - -‬ه‪ ،‬وجه‪-- - -‬ده‪ ،‬وخربت‪-- - -‬ه‪ ،‬وجاه‪-- - -‬ه‪،‬‬
‫وعلمه كَّل من حيتاُج إىل ذلك‪ ،‬وصَّدق باحلق ومتثله يف حياته‪.‬‬
‫ففي سورة الليل [‪:]7-5‬‬
‫‪َ‬فَأَّم ا َم ْن َأْع َطى َو اَّتَقى * َو َص َّد َق ِباْلُحْسَنى * َفَس ُنَيِّسُر ُه ِلْلُيْس َر ى‪‬‬
‫فإن َفَعَل عكَس ذلك‪ ،‬فإنه واجد ضيقًا وعسرًا‪ ،‬ويف سورة الليل [‪:]10-8‬‬
‫‪َ‬و َأَّم ا َم ْن َبِخ َل َو اْسَتْغ َنى * َو َك َّذ َب ِباْلُحْسَنى * َفَس ُنَيِّسُر ُه ِلْلُعْس َر ى‪‬‬
‫وال شك أن أعمال‪ ،‬وأفعال‪ ،‬وأقوال العبد حمصّية عليه‪ ،‬جيُد َأثَر ها يف الدنيا من خري‬
‫أو شر‪ ،‬وثواهبا أو عقاهبا يف اآلخرة‪:‬‬
‫‪َ‬فَم ْن َيْع َم ْل ِم ْثَقاَل َذ َّر ٍة َخ ْي رًا َي َر ُه * َو َم ْن َيْع َم ْل ِم ْثَق اَل َذ َّر ٍة َش ّر ًا َي َر ُه‪‬‬
‫[الزلزلة‪]8 :‬‬
‫ويف احلديث القدس‪-- - -‬ي الش‪-- - -‬ريف‪« :‬ي‪-- - -‬ا عب‪-- - -‬ادي! إمنا هي أعم‪-- - -‬اُلكم أحص‪-- - -‬يها عليكم‪ ،‬مث‬
‫أوفيكم إياه ‪-- -‬ا‪ ،‬فمن وج ‪-- -‬د خ ‪-- -‬ريًا فليحم‪ِ- - -‬د اهلل‪ ،‬ومن َو َج َد غ ‪-- -‬ري ذل ‪-- -‬ك فال يل ‪-- -‬وَم َّن إال‬
‫نفسه»(‪.)2‬‬
‫ولذا فقد كان بعُض الصاحلني يقول‪« :‬إين ألعصي اهلل فأجد عقوبيت يف مجوح داب‪--‬يت‪،‬‬
‫وُخ ُلق زوجيت وولدي»‪.‬‬

‫(?) رواه الطرباين‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫(?) رواه أمحد ومسلم وأبو داود والرتمذي وابن ماجه‪.‬‬ ‫‪2‬‬
‫ومن استقام كما أمر اهلل تعاىل‪ ،‬فإَّن اخلَري ال‪-‬ذي س‪-‬يجده لن يس‪-‬تطيَع إحص‪-‬اءه لكثرت‪-‬ه‬
‫يف الدنيا واآلخرة‪ ،‬ولعّل هذا معىن احلديث الشريف‪« :‬استقيموا ولن حتصوا»(‪.)3‬‬
‫وإمنا دعاين ِلَش ْر ح املراد من ح‪-‬ديث‪« :‬اعمل‪-‬وا فك‪ٌّ-‬ل ُمَيَّس ٌر ِلم‪-‬ا ُخ ِل ق ل‪-‬ه» م‪-‬ا أمسعه من‬
‫عاَّم ة الناِس اجلاهلني حقيقة القضاء والقدر‪ ،‬حيث ي‪-‬ذكرون احلديث‪ ،‬ويستش‪-‬هدون ب‪-‬ه حني‬
‫ي ‪--‬رون عاص ‪--‬يًا يكتس ‪--‬ب من فع ‪--‬ل ح ‪--‬رام‪ ،‬أو يفع ‪--‬ل املعاص ‪--‬ي واملوبق ‪--‬ات‪ ،‬فاُهلل خَل َق اَخلْل َق‬
‫ليعبدوه ال ليعصوه‪ ،‬وأمرهم بالطاعة‪ ،‬وهناهم عن املعصية‪ ،‬وصدق اهلل العظيم‪:‬‬
‫‪َ‬و َم ا َخ َلْقُت اْلِج َّن َو اِإْل ْنَس ِإاَّل ِلَيْعُبُد وِن ‪[ ‬الذاريات‪]56 :‬‬
‫وم‪-‬ا أس‪-‬وأ ال‪-‬ذين يلتمس‪-‬ون للعاص‪-‬ي أو ألنفس‪-‬هم – إن عص‪-‬وا – الع‪-‬ذر‪ ،‬ويستش‪-‬هدون‬
‫ل‪-- -‬ذلك بآي‪-- -‬ة‪ ،‬أو ح‪-- -‬ديث‪ ،‬ال يعرف‪-- -‬ون معنامها‪ ،‬فيغرون الن‪-- -‬اس باملعاص‪-- -‬ي‪ ،‬ويظلم‪-- -‬ون احلَّق ‪،‬‬
‫ويفسدون اجملتمع‪ ،‬فليتقوا اهلل‪ ،‬وليقولوا قوًال سديدًا‪.‬‬
‫فلنعلم أَّن املرأة إذا عملت يف س ‪--‬احة م ‪--‬ا ُخ لقت ل ‪--‬ه؛ ك ‪--‬أم ص ‪--‬احلة‪ ،‬أو زوج ‪--‬ة خملص ‪--‬ة‬
‫كرمية‪ ،‬أو طبيب ‪--‬ة‪ ،‬أو ممرض ‪--‬ة‪ ،‬أو خياط ‪--‬ة‪ ،‬أو معلم ‪--‬ة للنس ‪--‬اء‪ ،‬أو مربي ‪--‬ة لألطف ‪--‬ال‪ ،‬وج ‪--‬دت‬
‫هي وقومه ‪--‬ا التيس ‪--‬ري واهلن ‪--‬اء والتوفي ‪--‬ق‪ ،‬ف ‪--‬إذا انطلقت من ح ‪--‬دود الش ‪--‬رع والفض ‪--‬يلة‪ ،‬وآث ‪--‬رت‬
‫اهلوى على اهلدى‪ ،‬وج‪--‬دت هي وقومه‪--‬ا الراض‪--‬ون عن ذل‪--‬ك ك ‪َّ-‬ل تعس‪--‬ري وش‪--‬قاء‪ ،‬ف‪--‬اعتربوا‬
‫يا أويل األبصار‪.‬‬

‫‪‬‬
‫الُّس َنن الكونية والُّس َنن االجتماعية‬

‫قال تعاىل يف سورة فاطر [‪:]43‬‬


‫‪َ‬و ال َيِح يُق اْلَم ْك ُر الَّس ِّيُئ ِإاَّل ِبَأْهِل ِه َفَه ْل َيْنُظ ُروَن ِإاَّل ُس َّنَت اَأْلَّو ِليَن َفَلْن‬
‫َتِج َد ِلُس َّنِت ِهَّللا َتْبِد يًال َو َلْن َتِج َد ِلُس َّنِت ِهَّللا َتْح ِو يًال‪‬‬
‫والُّس َّنُة – هن ‪--‬ا – تع ‪--‬ين الق ‪--‬انون اإلهلي املط ‪--‬رد‪ ،‬الث ‪--‬ابت‪ ،‬ال ‪--‬ذي ال يتخل ‪--‬ف إال حلكم ‪--‬ة‬
‫إهلية بالغة كاملعجزة‪ ،‬فق‪-‬د يتخل‪-‬ف ق‪-‬انون م‪-‬ادي تأيي‪-‬دًا لرس‪-‬ول أو ن‪-‬يب‪ ،‬أو محاي‪-‬ة ل‪-‬ه‪ ،‬كم‪-‬ا‬
‫محى اهلل إبراهيم عليه السالم من كيد وأذى املشركني‪ ،‬فقال للنار اليت أضرموها‪:‬‬
‫‪َ‬يا َناُر ُك وِني َبْر دًا َو َس المًا َع َلى ِإْبَر اِهيَم ‪[ ‬األنبياء‪]69 :‬‬
‫ف ‪--‬أذنت لرهبا وحَّقت‪ ،‬فك ‪--‬انت كَم ا أمره ‪--‬ا ب ‪--‬ردًا وس ‪--‬المًا‪ ،‬فلم ُيَص ب إب ‪--‬راهيُم ب ‪--‬أذى‪،‬‬
‫وخرج منها ساملًا‪.‬‬

‫(?) رواه أمحد ومالك وابن ماجه‪.‬‬ ‫‪3‬‬


‫والس‪--‬نُن االجتماعي‪--‬ة ال تتخل‪--‬ف أب‪--‬دًا‪ ،‬وحاج ‪ُ-‬ة املس‪--‬لمني إىل َفْه م ه‪--‬ذه الس‪--‬نن بنوعيه‪--‬ا‪:‬‬
‫الك‪--‬وين واالجتم‪--‬اعي – وهي الن‪--‬واميس املادي‪--‬ة واملعنوي‪--‬ة – حاج‪--‬ة ماس‪--‬ة‪ ،‬والس‪--‬يما يف ه‪--‬ذا‬
‫القرن‪ ،‬قرن العلم‪ ،‬واملعارف املادية واالجتماعية اجلديدة‪.‬‬
‫قوله تعاىل يف سورة يس [‪:]40-37‬‬
‫‪َ‬و آَيٌة َلُهُم الَّلْي ُل َنْس َلُخ ِم ْن ُه الَّنَه اَر َف ِإَذ ا ُهْم ُم ْظِلُم وَن * َو الَّش ْم ُس َتْج ِر ي‬
‫ِلُم ْس َتَقٍّر َلَه ا َذ ِل َك َتْق ِد يُر اْلَع ِز يِز اْلَعِليِم * َو اْلَقَم َر َق َّد ْر َناُه َم َن اِز َل َح َّتى َع اَد‬
‫َك اْلُعْر ُجوِن اْلَق ِد يِم * ال الَّش ْم ُس َيْنَبِغ ي َلَه ا َأْن ُت ْد ِر َك اْلَقَم َر َو ال الَّلْي ُل َس اِبُق‬
‫الَّنَهاِر َو ُك ٌّل ِفي َفَلٍك َيْس َبُحوَن ‪‬‬
‫وأمثلة السنن االجتماعية يف القرآن الكرمي كثرية لعل أبرزها قوله تعاىل‪:‬‬
‫‪ -1‬يف سورة البقرة [‪:]229‬‬
‫‪َ‬و َم ْن َيَتَع َّد ُح ُد وَد ِهَّللا َفُأوَلِئَك ُهُم الَّظاِلُم وَن ‪‬‬
‫‪ -2‬ويف سورة النساء [‪:]123‬‬
‫‪َ‬لْيَس ِبَأَم اِنِّيُك ْم َو ال َأَم اِنِّي َأْهِل اْلِكَتاِب َم ْن َيْع َم ْل ُس وءًا ُيْج َز ِب ِه َو ال َيِج ْد‬
‫َلُه ِم ْن ُد وِن ِهَّللا َو ِلّيًا َو ال َنِص يرًا‪‬‬
‫‪ -3‬ويف سورة يونس [‪:]82-81‬‬
‫‪ِ‬إَّن َهَّللا ال ُيْص ِلُح َع َم َل اْلُم ْفِس ِد يَن * َو ُيِح ُّق ُهَّللا اْلَح َّق ِبَك ِلَم اِت ِه َو َل ْو َك ِر َه‬
‫اْلُم ْج ِر ُم وَن ‪‬‬
‫‪ -4‬ويف سورة يوسف [‪:]90‬‬
‫‪ِ‬إَّنُه َم ْن َيَّتِق َو َيْص ِبْر َفِإَّن َهَّللا ال ُيِض يُع َأْج َر اْلُم ْح ِسِنيَن ‪‬‬
‫‪ -5‬ويف سورة احلجر [‪:]21‬‬
‫‪َ‬و ِإْن ِم ْن َش ْي ٍء ِإاَّل ِع ْنَدَنا َخَزاِئُنُه َو َم ا ُنَنِّز ُلُه ِإاَّل ِبَقَد ٍر َم ْع ُلوٍم ‪‬‬
‫وإذا كان النكرة يف سياق النفي تعم‪ ،‬فهذه اآلي‪--‬ة َتش‪--‬مُل الُّس َنَن الكوني‪--‬ة واالجتماعي‪--‬ة‪.‬‬
‫و(إن) فيها مبعىن (ما) النافية‪.‬‬
‫‪ -6‬ويف سورة مرمي [‪:]59‬‬
‫‪َ‬فَخ َلَف ِم ْن َبْع ِدِهْم َخ ْلٌف َأَض اُع وا الَّصالَة َو اَّتَبُعوا الَّش َهَو اِت َفَس ْو َف َيْلَق ْو َن‬
‫َغّيًا‪‬‬
‫‪ -7‬ويف سورة النور [‪:]19‬‬
‫‪ِ‬إَّن اَّلِذ يَن ُيِح ُّبوَن َأْن َتِش يَع اْلَفاِح َش ُة ِفي اَّل ِذ يَن آَم ُن وا َلُهْم َع َذ اٌب َأِليٌم ِفي‬
‫الُّد ْنَيا َو اآْل ِخَر ِة َو ُهَّللا َيْع َلُم َو َأْنُتْم ال َتْع َلُم وَن ‪‬‬
‫‪ -8‬ويف سورة فاطر [‪:]43‬‬
‫‪َ‬و ال َيِح يُق اْلَم ْك ُر الَّسِّيُئ ِإاَّل ِبَأْهِلِه ‪‬‬
‫‪ -9‬ويف سورة حممد ]‪: [1‬‬
‫‪‬اَّلِذ يَن َكَفُروا َو َص ُّد وا َع ْن َس ِبيِل ِهَّللا َأَض َّل َأْع َم اَلُهْم ‪‬‬
‫‪ -10‬يف سورة الطالق [‪:]1‬‬
‫‪َ‬و َم ْن َيَتَع َّد ُح ُد وَد ِهَّللا َفَقْد َظَلَم َنْفَس ُه‪‬‬
‫‪ -11‬ويف سورة الشمس [‪:]10-9‬‬
‫‪َ‬قْد َأْفَلَح َم ْن َز َّك اَها * َو َقْد َخ اَب َم ْن َدَّساَها‪‬‬
‫‪ -12‬ويف سورة الليل [‪:]10-5‬‬
‫‪َ‬فَأَّم ا َم ْن َأْع َطى َو اَّتَقى * َو َص َّد َق ِباْلُحْسَنى * َفَس ُنَيِّسُر ُه ِلْلُيْس َر ى * َو َأَّم ا َم ْن‬
‫َبِخ َل َو اْسَتْغ َنى * َو َك َّذ َب ِباْلُحْسَنى * َفَس ُنَيِّسُر ُه ِلْلُعْس َر ى‪‬‬
‫وعلى كل مسلم أن يوقَن أن ليس هناك فوضى يف تلك السنن‪ ،‬ب‪--‬ل هي س‪--‬نٌن ثابت‪--‬ة‬
‫قائمة‪ ،‬تأخذ جمراه‪-‬ا يف حي‪-‬اة الن‪-‬اس مجيع‪ً-‬ا‪ ،‬فم‪-‬ا أص‪-‬اب األمم الس‪-‬ابقة اهلالك‪-‬ة فسيص‪-‬يبنا إن‬
‫س ‪--‬لكنا س ‪--‬بيلها نفس ‪--‬ه‪ .‬ففي غ ‪--‬زوة أح ‪--‬د ملا خ ‪--‬الف الرم ‪--‬اة أم ‪--‬ر الن ‪--‬يب ‪ ‬حتَّو ل النص‪ُ- -‬ر إىل‬
‫خسارة‪ .‬وملا تساءلوا‪ :‬مل خسرنا؟ جاء اجلواب اإلهلي يف آل عمران‪:‬‬
‫‪:]128[ -1‬‬
‫‪َ‬لْيَس َلَك ِم َن اَأْلْم ِر َش ْي ٌء ‪‬‬
‫‪:]152[ -2‬‬
‫‪ِ‬م ْنُك ْم َم ْن ُيِر يُد الُّد ْنَيا َو ِم ْنُك ْم َم ْن ُيِر يُد اآْل ِخ َر َة ُثَّم َص َر َفُك ْم َع ْنُهْم ِلَيْبَتِلَيُك ْم‬
‫َو َلَقْد َع َفا َع ْنُك ْم َو ُهَّللا ُذ و َفْض ٍل َع َلى اْلُم ْؤ ِمِنيَن ‪‬‬
‫‪:]165[ -3‬‬
‫‪َ‬أَو َلَّم ا َأَص اَبْتُك ْم ُمِص يَبٌة َقْد َأَص ْبُتْم ِم ْثَلْيَه ا ُقْلُتْم َأَّنى َه َذ ا ُق ْل ُه َو ِم ْن ِع ْن ِد‬
‫َأْنُفِس ُك ْم ِإَّن َهَّللا َع َلى ُك ِّل َش ْي ٍء َقِد يٌر ‪‬‬
‫وأنت تقرأ يف سورة األنفال [‪:]53‬‬
‫‪َ‬ذ ِل َك ِب َأَّن َهَّللا َلْم َي ُك ُم َغ ِّي رًا ِنْع َم ًة َأْنَع َم َه ا َع َلى َق ْو ٍم َح َّتى ُيَغ ِّي ُروا َم ا‬
‫ِبَأْنُفِس ِهْم َو َأَّن َهَّللا َسِم يٌع َع ِليٌم ‪‬‬
‫ولكن مش ‪--‬كلتنا الي ‪--‬وم يف الَّتج ‪--‬اوب م ‪--‬ع كت ‪--‬اب اهلل الك ‪--‬رمي‪ ،‬والتعام ‪--‬ل مع ‪--‬ه‪ ،‬كالعاص ‪--‬ي‬
‫يستمُع إىل آيات جهنم‪ ،‬وما سيلقى فيه‪-‬ا الك‪-‬افرون والعص‪-‬اة من ش‪-‬ديد العق‪-‬اب والع‪-‬ذاب‪،‬‬
‫فيطرب لصوت القارئ‪ ،‬ويضرب صفحًا‪ ،‬أو يتعامى‪ ،‬أو يتجاهل وعيد اهلل لدفعها‪.‬‬
‫وم ‪--‬ا رأيت أم‪ً- -‬ة أهلكه ‪--‬ا ش ‪--‬يء كجهله ‪--‬ا للحق ‪--‬ائق‪ ،‬وال عل ‪--‬ة قَض ت على األمم على م ‪--‬دى ال ‪--‬دهور والعص ‪--‬ور كإمهاهلم العم ‪--‬ل مبا‬
‫يعلم‪--‬ون‪ .‬فم‪--‬ىت ن‪--‬درُك أن اإلس‪--‬الم حرك ‪ُ-‬ة إنع‪--‬اٍش وإص‪--‬الح للحي‪--‬اة إذا ش‪--‬ردت فنص‪--‬لح أنفس‪--‬نا‪ ،‬لتص‪--‬لح أقوالن‪--‬ا وأعمالن‪--‬ا‪ ،‬ونس‪--‬عد يف ال‪--‬دنيا‬
‫واآلخرة؟‬
‫هبا كبدًا ليسْت بذاِت ُقروح؟!‬ ‫فلي كبٌد مقروحٌة من يبيعين‬
‫‪‬‬
‫تصحيح َفْهٍم خاطئ‬

‫ُيْق ِب ُل كث ‪ٌ-‬ري من الش‪--‬باب على أم‪--‬وٍر كث‪--‬رية دون وعٍي وال بص‪--‬رية‪ ،‬فه‪--‬ذا يق‪--‬وُد س‪--‬يارته‬
‫برعونة وسرعة جنونية‪ ،‬فيعِّر ض نفَس ه وغ‪-‬ريه للخط‪-‬ر املاحق‪ ،‬وكم من ش‪-‬اب بعم‪-‬ر ال‪-‬ورود‬
‫ثكلته أمه إثر حادث أليم! والناس يقولون‪« :‬هذا نصيبه – قضاء وق‪--‬در‪ »...‬وك‪--‬أهنم جلهلهم‬
‫حبقيق ‪--‬ة ال ‪--‬دين يلتمس ‪--‬ون لرعونت ‪--‬ه وانتح ‪--‬اره ُع ْذ رًا‪ ،‬وه ‪--‬ذا انتح ‪--‬اٌر بال ريب‪ ،‬وإذا قت ‪--‬ل غ ‪--‬ريه‬
‫ف‪--‬أرى أن ُيعت‪--‬رب القت‪--‬ل عم‪--‬دًا‪ ،‬ألن‪--‬ه َس َلَك طريق ‪ً-‬ا ي ‪-‬ؤِّدي إىل قت‪--‬ل نفس‪--‬ه‪ ،‬أو قت‪--‬ل غ‪--‬ريه‪ ،‬أو‬
‫قتلهم‪--‬ا مع‪ً-‬ا‪ ،‬ول‪--‬و ُع وقب أمث‪--‬ال ه‪--‬ذا الش‪--‬اب األرعن عقوب‪َ-‬ة َم ن َقَت َل عم‪--‬دًا – إذا قت‪--‬ل –‬
‫المتن ‪َ-‬ع الش ‪--‬باُب الط ‪--‬ائش‪ ،‬التائ ‪--‬ه‪ ،‬الش ‪--‬ارد‪ ،‬الع ‪--‬ابث عن الرعون ‪--‬ة‪ ،‬واحلم ‪--‬ق‪ ،‬ولس ‪--‬لمْت أرواُح‬
‫الناس‪ ،‬ودماؤهم‪ ،‬وأمواهلم‪ ،‬من اخلطر‪ ،‬أو التلف‪ ،‬والضياع‪:‬‬
‫‪َ‬و َلُك ْم ِفي اْلِقَص اِص َحَياٌة َيا ُأوِلي اَأْلْلَباِب َلَع َّلُك ْم َتَّتُقوَن ‪[ ‬البقرة‪]179 :‬‬
‫ف ‪-- - - -‬اجملتمُع العاق‪ُ- - - - -‬ل‪ ،‬الس ‪-- - - -‬ليُم‪ ،‬يقيُم القص ‪-- - - -‬اَص ‪ ،‬ويع ‪-- - - -‬اقب اجملرم واملس ‪-- - - -‬يء ليتقي اجلرمية‬
‫واألخطار‪ ،‬وحيمي اجلميَع من مفاسد األشرار‪.‬‬
‫ف‪--‬ذاك ش‪--‬اٌب يق‪--‬دُم على خطب‪--‬ة فت‪--‬اة اس‪--‬تهواه ح‪--‬ديُثها املزَّيف‪ ،‬أو ش‪--‬كلها الف‪--‬اتن؛ ال‪--‬ذي‬
‫أعطته املساحيُق والزينُة غري حقيقته‪ ،‬دون أن يدرَس ُخ ُلقها وُخ ُلق أهلها‪ ،‬ودون أن يرعى‬
‫التناس‪-- - -‬ب املطل‪-- - -‬وب بينهم‪-- - -‬ا يف الس‪-- - -‬ن‪ ،‬والثقاف‪-- - -‬ة‪ ،‬واجلم‪-- - -‬ال‪ ،‬والط‪-- - -‬ول‪ ،‬واحلال االجتماعي ‪-- -‬ة‪،‬‬
‫والعادات‪ ،‬والتقاليد‪ ،‬و‪...‬‬
‫ينصحه أبواه بالخير‪ ،‬ويبّصرانه باألمر‪ ،‬فيعرض عنهما‪ ،‬ويتبع ه‪--‬واه‪ ،‬ف‪-‬إذا لم يفلح ذل‪-‬ك‬
‫ال‪--‬زواج ‪ -‬وه‪--‬و الغالُب ‪ -‬عّض على يدي‪--‬ه نادم ‪ً-‬ا‪ .‬والت س‪--‬اعة من‪--‬دم‪ ،‬فق‪--‬ال أو ق‪--‬ال الن‪--‬اُس ‪:‬‬
‫«نصيب‪ ،‬ال تلوموه‪.»...‬‬
‫والنص‪-- -‬يُب ه‪-- -‬و ال‪-- -‬ذي ينال‪-- -‬ه اإلنس‪-- -‬اُن بع‪-- -‬د أن يس ‪ّ- -‬د د إىل ه‪-- -‬دٍف م‪-- -‬ا بعناي‪-- -‬ة‪ ،‬وبص‪-- -‬ر‪،‬‬
‫وبص‪--‬رية‪ ،‬ومتحيص‪ ،‬وت‪--‬دقيق‪ ،‬ف‪--‬إن أحس ‪َ-‬ن التس‪--‬ديَد أص‪--‬اب م‪--‬ا يري‪--‬د‪ ،‬وك‪--‬ان النص‪--‬يُب خ‪--‬ريًا‪،‬‬
‫وإن تع‪-- - - -‬امى‪ ،‬أو جتاه‪-- - - -‬ل‪ ،‬أو أع‪-- - - -‬رض عن الوجه‪-- - - -‬ة الس‪-- - - -‬ليمة‪ ،‬ورمى الس‪-- - - -‬هَم عن طيش‪،‬‬
‫ورعونة‪ ،‬وهوى‪ ،‬مل يصب خريًا‪ ،‬وكان الندم واخلسارُة عاقبة أمره‪:‬‬
‫‪ِ‬إَّن َهَّللا ال ُيْص ِلُح َع َم َل اْلُم ْفِس ِد يَن ‪[ ‬يونس‪]81 :‬‬
‫واهلل تع ‪--‬اىل ورس ‪--‬وله ‪ ‬أَم َر ا باحلذر‪ ،‬وَأْخ ذ احليط ‪--‬ة‪ ،‬ومحاي ‪--‬ة النفس‪ ،‬وُحْس ن االختي ‪--‬ار‪،‬‬
‫والتسديد‪ ،‬ليظفر اإلنسان خبري ما يريد‪.‬‬
‫ففي القرآن الكرمي‪:‬‬
‫‪ُ‬خ ُذ وا ِح ْذ َر ُك ْم ‪[ ‬النساء‪]71 :‬‬
‫‪َ‬و ال ُتْلُقوا ِبَأْيِد يُك ْم ِإَلى الَّتْهُلَك ِة ‪[ ‬البقرة‪]195 :‬‬
‫‪َ‬و ال َتْقُتُلوا َأْنُفَس ُك ْم ِإَّن َهَّللا َك اَن ِبُك ْم َر ِح يمًا‪[ ‬النساء‪]29 :‬‬
‫ويف احلديث الشريف‪:‬‬
‫«خترَّي وا لنطفكم‪ ،‬وأنكحوا اَألْك َف اء»(‪.)1‬‬
‫«إذا أتاكم َم ن ترضون دين‪-‬ه وُخ ُلق‪-‬ه فزِّو ج‪-‬وه‪ ،‬إَّال تفعل‪-‬وا تكن فتن‪ٌ-‬ة يف األرض وفس‪-‬اٌد‬
‫عريض»(‪.)2‬‬
‫«ُتنكح املرأُة ألرب‪-- - -‬ع‪ :‬ملاهلا‪ ،‬ومجاهلا‪ ،‬وحس‪-- - -‬بها‪ ،‬ودينه‪-- - -‬ا‪ ،‬ف‪-- - -‬اظفْر ب‪-- - -‬ذات ال‪ِّ-- - -‬دين ت‪-- - -‬ربْت‬
‫يداك»(‪.)3‬‬
‫أي‪ :‬افتقرت إن مل تظفر بذات الدين‪ .‬والظفُر ي‪--‬أيت بع‪--‬د ُحْس ن االختي‪--‬ار‪ ،‬وه‪--‬ذا يتطَّلُب‬
‫وعي ‪ً-‬ا‪ ،‬ودراس‪--‬ة‪ ،‬وفهم ‪ً-‬ا‪ ،‬واستش‪--‬ارة أله‪--‬ل ال‪--‬وعي‪ ،‬واخلربة‪ ،‬وأن‪--‬اًة‪ ،‬وحلم ‪ً-‬ا‪ ،‬وُحْس ن تس‪--‬ديد‪،‬‬
‫ليتحقق الظفر خبري النساء‪.‬‬
‫«َه َّال بكرًا تالعبها وتالعبك»(‪.)4‬‬
‫أي‪ :‬هال ت ‪--‬زوجت بك ‪--‬رًا‪ ...‬ويف احلديث حّث على اختي ‪--‬ار األفض ‪--‬ل‪ ،‬وُحْس ن االنتق ‪--‬اء؛‬
‫فإن «األبكار أعذب أفواهًا‪ ،‬وَأْنَتق أرحامًا‪ ،‬وأرضى باليسري»‪ ،‬كما ورد يف األثر(‪.)5‬‬
‫وقد نصح صاٌحل حكيٌم ولَد ه فقال‪:‬‬
‫«يا بين! إياك واجلماَل البارَع‪ ،‬فإنه ما فاق اجلمال إال حلقه يف العرض مقال‪.‬‬
‫وأنشد‪:‬‬
‫إال وجدَت به آثاَر منتجع‬ ‫ولن متَّر بزرٍع مونٍق أبدًا‬
‫ف‪--‬إذا ظف‪--‬رَت ب‪--‬ه فاس‪--‬رته‪ ،‬وحاف‪--‬ظ علي‪--‬ه‪ ،‬وامحه من النظ‪--‬رة الطائش‪--‬ة‪ ،‬والكلم‪--‬ة الفاحش‪--‬ة‪،‬‬
‫ومن أنظار الناظرين‪ ،‬وطمع الفاسدين»‪.‬‬
‫أال ترى إىل اجلوهرة‪ ،‬أو اللؤلؤة‪ ،‬أو قطعة املاس‪ ،‬تظهرها فيطمع هبا الطامعون؟‬
‫ونصح آخُر ولده فقال‪:‬‬

‫ابن ماجه واحلاكم والبيهقي‪.‬‬ ‫(?) رواه‬ ‫‪1‬‬

‫الرتمذي وابن ماجه واحلاكم‪.‬‬ ‫(?) رواه‬ ‫‪2‬‬

‫البخاري ومسلم‪.‬‬ ‫(?) رواه‬ ‫‪3‬‬

‫البخاري ومسلم‪.‬‬ ‫(?) رواه‬ ‫‪4‬‬

‫الطرباين‪« .‬أنتق أرحامًا»‪ :‬أكثر أوالدًا‪.‬‬ ‫(?) رواه‬ ‫‪5‬‬


‫«عليك بالبكر فهي لك‪ ،‬أما الثيب فهي لك وعليك إن مل يكن هلا ولد‪ ،‬فإن ك‪--‬اَن‬
‫من غريك فهي عليك ال لك»‪.‬‬
‫أي‪ :‬تشغل به‪ ،‬وال هتتم بشؤونك‪.‬‬
‫وك‪ُّ-‬ل ه‪--‬ذه النص‪--‬وص والنص‪--‬ائح دلي‪ٌ-‬ل على وج‪--‬وب ُحْس ن االختي‪--‬ار‪ ،‬وأَّن اإلنس‪--‬اَن بي‪--‬ده‬
‫– وهو خمتار‪ ،‬حُّر التصرف – أن يفوَز ‪ ،‬وأن يظف‪َ-‬ر باألفض‪--‬ل ل‪--‬و أراد وس‪--‬عى‪ ،‬ف‪--‬إن أمهل‬
‫ضَّل وغوى‪ ،‬فخاب وخسر‪.‬‬
‫ومبا أَّن اخلاطَب واملخطوب‪َ-‬ة ال يع‪-‬رُف ك‪ٌّ-‬ل منهم‪-‬ا األم‪-‬ور الغيبي‪-‬ة‪ ،‬ك‪-‬العمر‪ ،‬ونّي ة القلب‬
‫عن‪--‬د اآلخ‪--‬ر‪ ،‬ومس‪--‬تقبل األي‪--‬ام مع‪--‬ه؛ ذل‪--‬ك ألن مع‪--‬دن ك ‪ٍّ-‬ل منهم‪--‬ا ال يظه ‪ُ-‬ر على واقع‪--‬ه إال‬
‫بع ‪--‬د ال ‪--‬زواج‪ ،‬ف ‪--‬األكثرون يتص‪َّ- -‬نعون ويتكَّلف ‪--‬ون قب ‪--‬ل ال ‪--‬زواج م ‪--‬ا ليس فيهم؛ ليقن ‪--‬ع الّط رف‬
‫اآلخ‪--‬ر فيواف‪--‬ق‪ ،‬ح‪--‬ىت إذا َّمت ال‪--‬زواُج ع‪--‬اد ك‪ٌّ-‬ل إىل طبيعت‪--‬ه وعادات‪--‬ه‪ ،‬وق‪--‬د ال ت‪--‬روق للج‪--‬انب‬
‫اآلخر فيقع اخلصام‪ ،‬وقد يطول فيؤِّدي إىل الَّطالق‪.‬‬
‫ومن أج‪--‬ل س‪--‬المة ك ‪ٍّ-‬ل منهم‪--‬ا من الوق‪--‬وع يف س‪--‬احة الن‪--‬دم‪ ،‬فق‪--‬د ُش ِر َعِت االس‪--‬تخارُة‪،‬‬
‫حيث يس‪--‬تخُري ك‪ٌّ-‬ل من ال‪--‬زوجني رَّبه ع‪--‬اَمل الغيب والش‪--‬هادة‪ ،‬داعي‪ً-‬ا‪ ،‬وُم تض‪ِّ-‬ر عًا‪ ،‬وراجي‪ً-‬ا أن‬
‫يرش‪َ-‬د ُه اُهلل تع‪--‬اىل إىل اخلري والس‪--‬المة‪ ،‬ف‪--‬إن ك‪--‬ان يف ذل‪--‬ك ال‪--‬زواج خ‪ٌ-‬ري ل‪--‬ه يف دين‪--‬ه ودني‪--‬اه‬
‫وآخرت‪--‬ه ّمتم‪--‬ه اهلل‪ ،‬وب‪--‬ارك في‪--‬ه‪ ،‬وإن ك‪--‬ان غ‪--‬ري ذل‪--‬ك َص َر فه عن‪--‬ه‪ ،‬وق‪ّ-‬د ر ل‪--‬ه اخلَري يف غ‪--‬ريه‪.‬‬
‫يدعو ذلك بعد ركعتني مها ُس َّنُة االستخارة‪ ،‬واهلل يرشُد عبده ملا فيه خريه‪.‬‬
‫واملؤمُن الَّص ادُق الص‪-- -‬اُحل ي‪-- -‬رى يف ك ‪ِّ- -‬ل م‪-- -‬ا يق‪ِّ-- -‬دره اُهلل ل‪-- -‬ه خ‪-- -‬ريًا‪ ،‬ف‪-- -‬إْن ُأعِط َي رض ‪--‬ي‬
‫وشكر‪ ،‬وإن ُم ِنع رضي وص‪-‬رب‪ .‬فه‪-‬و راٍض ‪ .‬يف كلت‪-‬ا احلالني‪ ،‬يف الس‪-‬راء والض‪-‬راء‪ .‬ومن ك‪-‬ان‬
‫م ‪--‬ع اهلل ك ‪--‬ان اُهلل مع ‪--‬ه‪ ،‬فيَّس ر أم ‪--‬وره‪ ،‬وش ‪--‬رح ص ‪--‬دَر ه‪ ،‬وفتح أمام ‪--‬ه أب ‪--‬واَب اخلري‪ ،‬وأغل ‪--‬ق‬
‫أبواَب الشر‪:‬‬
‫‪ِ‬إَّن اَّلِذ يَن آَم ُنوا َو َع ِم ُلوا الَّصاِلَح اِت ِإَّنا ال ُنِض يُع َأْج َر َم ْن َأْح َس َن َع َم ًال‪‬‬
‫[الكهف‪]30 :‬‬
‫‪‬‬
‫هل اإلنسان ُمَس َّير أم ُم خَّير؟‬
‫وبع‪--‬د ه‪--‬ذه الرحل‪--‬ة امللَّخ ص‪--‬ة املمتع‪--‬ة م‪--‬ع القض‪--‬اء والق‪--‬در يف طري‪--‬ق ش ‪ِّ-‬يق ش‪--‬ائك‪ ،‬متتعن‪--‬ا‬
‫بوض‪-‬وحه‪ ،‬وأزلن‪-‬ا ش‪-‬وكه‪ ،‬ووّض حنا م‪-‬ا خفي على العام‪-‬ة‪ ،‬وم‪-‬ا يبحث عن‪-‬ه اخلاص‪-‬ة‪ ،‬قطعن‪-‬اه‬
‫على بصرية وبصر‪ ،‬وفكر‪ ،‬وتعّق ل‪ ،‬ونظر؛ فرَّب سائل يقول‪:‬‬
‫أال تلّخ ص لنا فتخربنا‪ :‬هل اإلنساُن ُم َس رَّي أم َخُمرَّي ؟ أم ماذا؟‬
‫واجلواب أَّن من اخلط ‪-- -‬أ أن نق ‪-- -‬ول‪ :‬إن ‪-- -‬ه خمرَّي يف ك ‪-- -‬ل ش ‪-- -‬يء كم ‪-- -‬ا أن من اخلط ‪-- -‬أ أن‬
‫نقوَل ‪ :‬إنه ُم سرَّي يف كل شيء‪ ،‬ولعَّل الوسطيَة يف اجلواب هي الصواب‪.‬‬
‫إنه مسَّيٌر يف أمور‪َ ،‬خُمرَّي يف أمور أخرى‪.‬‬
‫واآلية القرآنية يف سورة الرعد [‪:]15‬‬
‫‪َ‬و ِهَّلِل َيْسُج ُد َم ْن ِفي الَّس َم اَو اِت َو اَأْلْر ِض َطْو عًا َو َك ْر هًا‪[ ‬الرعد‪]15 :‬‬
‫تفتح أمامنا آفاقًا هلذا اجلواب‪ ،‬بإشارة النص‪ ،‬فاإلنساُن ُم َس َّيٌر فيما‪:‬‬
‫‪ -1‬ك‪--‬ان في‪--‬ه‪ ،‬كل‪--‬ون بش‪--‬رته‪ ،‬ودّق ات قلب‪--‬ه‪ ،‬وط‪--‬ول قامت‪--‬ه‪ ،‬وعم‪--‬ل أجهزت‪--‬ه يف جس‪--‬مه‬
‫كاهلضم و‪ ...‬ولو كان نائمًا رمحًة به‪ ،‬ولطفًا‪.‬‬
‫‪ -2‬أو علي ‪--‬ه ككون ‪--‬ه َو َل د فالن وفالن ‪--‬ة‪ ،‬ول ‪--‬د يف بل ‪--‬دة (ك ‪--‬ذا)‪ ،‬وس ‪--‬يموت يف بل ‪--‬دة‬
‫(ك‪--‬ذا) ي‪--‬وم (ك‪--‬ذا) بع ‪--‬د عم‪--‬ر مق ‪--‬داره (ك‪--‬ذا)‪ ،‬ال ميل‪--‬ك اإلنس‪--‬اُن أن يغرّي ‪ ،‬أو يب ‪ّ-‬د ل‪ ،‬وليس‬
‫وراء ه ‪--‬ذا التس ‪--‬يري مس ‪--‬ؤولية؛ ألهنا أم ‪--‬وٌر ُفرَض ْت علي ‪--‬ه حلكم ‪ٍ-‬ة‪ ،‬ورمحٍة‪ ،‬وليس لإلنس ‪--‬ان يف‬
‫ه ‪--‬ذا ث ‪--‬واٌب ‪ ،‬وال علي ‪--‬ه عق ‪--‬اب‪ ،‬إمنا ُيث ‪--‬اُب إذا ش ‪--‬كر اهلل ومحده على نعم ‪--‬ه‪ ،‬وُيع ‪--‬اقب إذا‬
‫أنكر فضل اهلل عليه‪.‬‬
‫واإلنسان خُم رَّي فيما َص َد ر منه‪ ،‬وعنه‪ ،‬من قول‪ ،‬أو عم‪-‬ل‪ ،‬عن إرادة واختي‪-‬ار – وه‪-‬و‬
‫راٍض ب ‪--‬ذلك – وق ‪--‬د رَّتب اُهلل تع ‪--‬اىل على ذل ‪--‬ك مس ‪--‬ؤولية‪ ،‬فيث ‪--‬اب ص ‪--‬احُبها إن أحس ‪--‬ن‪،‬‬
‫وُيعاقب إن أساء؛ ألن مفتاَح ها بيد اإلنسان‪ ،‬فإن نازعْتُه عيُنه للنظر إىل حرام‪ ،‬فهو ق‪--‬ادر‬
‫أن يغَّض َطْر َفُه وينصرف‪.‬‬
‫وإن نازع‪-- - -‬ه لس‪-- - -‬اُنه للتكلم فيم‪-- - -‬ا حيرم‪ ،‬فه‪-- - -‬و ق‪-- - -‬ادر أن يض ‪َّ- - -‬م ش‪-- - -‬فتيه‪ ،‬ويغل‪-- - -‬ق فم‪-- - -‬ه‪،‬‬
‫وينصرف‪.‬‬
‫وقْس على ذل ‪--‬ك الي ‪--‬د‪ ،‬والرج ‪--‬ل‪ ،‬وبقي ‪--‬ة األعض ‪--‬اء واحلواس‪ ،‬فه ‪--‬و ق ‪--‬ادٌر أن يكّف ه ‪--‬ا عن‬
‫ك ‪ِّ-‬ل معص ‪--‬ية وح ‪--‬رام‪ ،‬وأن ُيْل ِز َم نفَس ه الطاع ‪َ-‬ة واحلالل‪ ،‬م ‪--‬ا دام ح ‪َّ-‬رًا‪ ،‬خمت ‪--‬ارًا‪ ،‬راض ‪--‬يًا‪َ ،‬غرَي‬
‫ُم ْك َر ه‪.‬‬
‫قال سيدنا علي كرم اهلل وجهه‪ ،‬ورضي عنه‪:‬‬
‫«إَّن الل ‪--‬ه أم ‪--‬ر تخي ‪--‬يرًا‪ ،‬ونهى تح ‪--‬ذيرًا‪ ،‬وكَّل ف تيس ‪--‬يرًا‪ ،‬ولم ُيْعَص مغلوب‪ً- -‬ا‪ ،‬ولم ُيْر ِس ل‬
‫الرس ‪َ-‬ل إلى خلق‪--‬ه َعَبث ‪ً-‬ا‪ ،‬ولم يخل‪--‬ق الس‪--‬موات واألرَض وم‪--‬ا بينهم‪--‬ا ب‪--‬اطًال‪ ،‬ذل‪--‬ك ظُّن ال‪--‬ذين‬
‫كفروا‪ ،‬فويل للذين كفروا من النار»‪.‬‬
‫فإن أكره اإلنسان على ما ال جيوُز إكراه‪ً-‬ا ملجئ‪ً-‬ا رّخ ص ل‪-‬ه – ليحمي نفس‪-‬ه – أن‬
‫يفع ‪َ-‬ل م ‪--‬ا ُأْك ِر َه علي ‪--‬ه‪ ،‬دون أن يوق ‪--‬ع ض ‪--‬ررًا بأح ‪--‬د‪ ،‬وعلي ‪--‬ه أن خيتص ‪َ-‬ر ذل ‪--‬ك إىل أق ‪ِّ-‬ل م ‪--‬ا‬
‫يستطيُع‪ ،‬فالضرورُة حني تبيُح احملظور تقّد ر بقدرها زمانًا ومكانًا‪.‬‬
‫فمن نفد زاُده في صحراء قاحلة‪ ،‬وأشرف على الموت‪ ،‬ولم يج‪-‬د إال لحم ميت‪-‬ة‪ ،‬أو‬
‫خْنزي‪--‬ر‪ ،‬فل‪--‬ه أن يأك‪--‬ل لقيم‪--‬ات ي‪--‬ذهبن عن‪--‬ه خط‪--‬ر الم‪--‬وت‪ ،‬ويس‪--‬أل الل‪--‬ه أن يج‪َ-‬د ل‪--‬ه فرج‪ً-‬ا‪،‬‬
‫قال تعالى في سورة البقرة [‪:]173‬‬
‫‪َ‬فَمِن اْض ُطَّر َغْيَر َباٍغ َو ال َعاٍد َفال ِإْثَم َع َلْيِه ِإَّن َهَّللا َغ ُفوٌر َر ِح يٌم ‪‬‬
‫وقال يف سورة الطالق [‪:]3-2‬‬
‫‪َ‬و َم ْن َيَّتِق َهَّللا َيْج َع ْل َلُه َم ْخ َر جًا * َو َيْر ُز ْقُه ِم ْن َح ْيُث ال َيْح َتِس ُب ‪‬‬
‫فإن ُأكره على الشرك‪ ،‬والقتل‪ ،‬أو الزنا‪ ،‬فالراجُح واألوىل أن يرفَض ‪ ،‬ويع‪َّ-‬ف ‪ ،‬وميتن‪--‬ع‪،‬‬
‫فإن ُقِتل مات شهيدًا‪ ،‬وذلك َح فاظًا على العقيدة الصحيحة‪ ،‬واألرواح‪ ،‬واألعراض‪.‬‬
‫ويف سورة الفرقان [‪ ]68‬وصٌف لعباد الرمحن‪ ،‬منه‪:‬‬
‫‪َ‬و اَّلِذ يَن ال َيْدُع وَن َم َع ِهَّللا ِإَلهًا آَخ َر َو ال َيْقُتُل وَن الَّنْفَس اَّلِتي َح َّر َم ُهَّللا ِإاَّل‬
‫ِباْلَح ِّق َو ال َيْز ُنوَن ‪‬‬
‫وياسر وزوجته َمُسَّيه ُأْك ِر ها على الكفر‪ ،‬فامتنع‪-‬ا‪َ ،‬فُق ِتال تع‪-‬ذيبًا‪ ،‬فكان‪-‬ا أول ش‪-‬هيدين يف‬
‫اإلس ‪--‬الم – رض ‪--‬ي اهلل عنهم ‪--‬ا – وك ‪--‬ان ‪ ‬ميُّر هبم ‪--‬ا‪ ،‬ومها يع ‪--‬ذبان يف مك ‪--‬ة قب ‪--‬ل اهلج ‪--‬رة‪،‬‬
‫وال ميلك إنقاذمها‪ ،‬فتدمع عيناه‪ ،‬ويقول‪« :‬صربًا آل ياسر فإن موعَد كم اجلنة»(‪.)1‬‬
‫ولقد صعب الصُرب على ولديهما «عمار» فنطق بكلمٍة من كلم‪-‬ات الكف‪-‬ر لينق‪-‬ذ نفس‪-‬ه‬
‫من العذاب واملوت‪ ،‬وجاء إىل النيب ص يبكي ويشتكي‪ ،‬فأنزل اهلل تعاىل‪:‬‬
‫‪ِ‬إاَّل َم ْن ُأْك ِر َه َو َقْلُبُه ُم ْطَم ِئٌّن ِباِإْل يَم اِن ‪[ ‬النحل‪]106 :‬‬
‫وك ‪--‬ان عم ‪--‬ار مطمئن القلب باإلميان‪ ،‬فع ‪--‬رف أن اهلل تع ‪--‬اىل أن ‪--‬زل يف ع ‪--‬ذره قرآن ‪ً-‬ا في ‪--‬ه‬
‫رخصة‪ ،‬فقّر بذلك عينًا‪.‬‬
‫ويف ذل ‪-- - -‬ك رمحٌة من اهلل‪ ،‬ويس ‪-- - -‬ر‪ ،‬وع ‪-- - -‬دل‪ ،‬واُهلل عليٌم حكيم‪ ،‬وحتقيق‪ً- - - -‬ا هلذا الع ‪-- - -‬دل‪،‬‬
‫واليس‪-- - - - -‬ر‪ ،‬واللط‪-- - - - -‬ف اإلهلي‪ ،‬ورد احلديث الش‪-- - - - -‬ريف‪« :‬ال طالَق يف إغالق»(‪ .)2‬ولع ‪َّ- - - - -‬ل من‬
‫(?) رواه الطرباين‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫(?) رواه أمحد وأبو داود وابن ماجه واحلاكم‪.‬‬ ‫‪2‬‬


‫الراجح أن ْحُيَم َل على الشمول يف معناه‪ ،‬فال يق‪-‬ع طالُق من ُأْغ ِل َق علي‪-‬ه يف إرادت‪-‬ه‪ ،‬ك‪-‬أن‬
‫ُأْك ِر ه على الَّطالق إكراهًا ُم ْلجئًا‪ ،‬كما ال يقع طالق َم ن أغلق عليه يف عقله؛ كأن ك‪--‬ان‬
‫جمنون ‪ً-‬ا‪ ،‬أو يف ح‪--‬ال اإلغم‪--‬اء‪ ،‬أو نائم ‪ً-‬ا‪ ،‬أو غض‪--‬بان غض‪--‬بًا ش‪--‬ديدًا‪ ،‬ال يعي مع‪--‬ه م‪--‬ا ق‪--‬ال‪،‬‬
‫أو فعل‪.‬‬
‫وُيؤِّي د ذل‪--‬ك أيض ‪ً-‬ا ح‪--‬ديث‪ُ :‬ر ف‪--‬ع عن أم‪--‬يت اخلط‪--‬أ‪ ،‬والِّنس‪--‬يان‪ ،‬وم‪--‬ا اس‪--‬تكرهوا علي‪--‬ه»(‪.)1‬‬
‫والعدال ‪ُ- -‬ة تتُّم إذا رف‪-- -‬ع اإلمث واحلكم مع ‪ً- -‬ا‪ ،‬إال م‪-- -‬ا ك‪-- -‬ان من حق‪-- -‬وق الن‪-- -‬اس‪ ،‬فال ُب َّد من‬
‫أدائه‪--‬ا‪ ،‬ك‪--‬أن أخط‪--‬أ ف‪--‬أتلف م‪--‬اًال لغريه‪ ،‬فال ُب َّد أن يض‪--‬مَن مثن أو مث‪--‬ل م‪--‬ا أتل‪--‬ف‪ ،‬ولكن‬
‫دون عقاب‪:‬‬
‫‪َ‬ر َّبَنا ال ُتَؤ اِخ ْذ َنا ِإْن َنِس يَنا َأْو َأْخ َطْأَنا‪[‬البقرة‪]286 :‬‬
‫واختلفوا يف طالق السكران؛ ولع‪َّ-‬ل األرجَح أن‪-‬ه يق‪ُ-‬ع طالُقه إن تع‪َّ-‬دى بس‪-‬كره‪ ،‬وك‪-‬ان‬
‫َّممن أدمن على السكر‪ ،‬واعتاد عليه‪.‬‬
‫وحياُة املرأة مع زوج سكري جحيٌم ال ُيطاق‪.‬‬
‫وأس ‪--‬رٌة س ‪ِّ-‬يدها س ‪ِّ-‬ك ير أس ‪--‬رٌة ُمَش َّتَتٌة‪ ،‬بائس ‪--‬ة‪ ،‬يائس ‪--‬ة‪ ،‬ال س ‪--‬رور فيه ‪--‬ا وال اس ‪--‬تقرار‪ ،‬وال‬
‫أمن وال سعادة‪.‬‬
‫وال يق ‪--‬ع إن مل يكن متع ‪ِّ--‬ديًا بس ‪--‬كره‪ ،‬ك ‪--‬أن ك ‪--‬ان ُم كره ‪ً-‬ا علي ‪--‬ه إكراه ‪ً-‬ا ملجئ ‪ً-‬ا‪ ،‬فطَّل ق‬
‫مس‪-- - - - -‬تفيدًا من الرخص‪-- - - - -‬ة ليحمي نفس‪-- - - - -‬ه من اهلالك‪ ،‬فيلغى الطالق‪ ،‬وْحُتَف ُظ األس‪-- - - - -‬رُة من‬
‫التشتت‪ ،‬والضياع‪.‬‬
‫ومما يتفق مع هذه العدالة اإلهلية أيضًا وجوُب العدل بني الزوجات يف األمور املادي‪-‬ة؛‬
‫اليت هي مبقدور الزوج‪ ،‬ويف دائرة طاقاته‪ ،‬كالعدل يف املبيت‪ ،‬والنفقة من كساء‪ ،‬وغ‪--‬ذاء‪،‬‬
‫ودواء‪ ،‬ومسكن و‪..‬‬
‫وع‪-- -‬دم وج ‪--‬وب الع‪-- -‬دل يف القلب‪( :‬احملب ‪--‬ة واملي ‪--‬ل القل ‪--‬يب)؛ ألن ال ‪--‬زوَج ال ميلك ‪--‬ه‪ ،‬وق ‪--‬د‬
‫ُفِط َر ت النف‪--‬وُس على حّب وتفض‪--‬يل األكم‪--‬ل‪ ،‬واألمجل‪ ،‬واألنظ‪--‬ف‪ ،‬واألّبر‪ ،‬واألفض‪--‬ل‪ ،‬طاع‪--‬ة‬
‫وأنس ‪ً-‬ا وخدم ‪ً-‬ة وإخالص ‪ً-‬ا‪ ،‬ويف يق ‪--‬ول ‪« :‬اللهم ه ‪--‬ذا قْس مي – بس ‪--‬كون الس ‪--‬ني – فيم ‪--‬ا‬
‫أملك‪ ،‬فال تؤاخذين فيما متلك وال أملك»(‪.)2‬‬
‫واآليات يف س‪-‬ورة النس‪-‬اء ذك‪-‬رْت ذل‪-‬ك بوض‪-‬وح‪ ،‬فق‪-‬د منعت التع‪ُّ-‬دد إن خ‪-‬اف ال‪-‬زوُج‬
‫أن ال يعدل بني زوجاته يف األمور املادية‪ ،‬وهي اليت ميلُك العدَل فيها‪:‬‬
‫‪َ‬فِإْن ِخ ْفُتْم َأاَّل َتْع ِد ُلوا َفَو اِح َد ًة‪[ ‬النساء‪]3 :‬‬

‫(?) رواه الطرباين‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫(?) رواه أبو داود والنسائي والرتمذي وابن ماجه‪.‬‬ ‫‪2‬‬


‫أي‪ :‬ف‪--‬تزَّو جوا واح‪--‬دًة ال أك‪--‬ثر‪ .‬وعَّل ل ذل‪--‬ك يف آخ‪--‬ر اآلي‪--‬ة ب‪--‬أن ه‪--‬ذا النهي عن التع‪ُّ--‬دد‬
‫ملنع الظلم‪:‬‬
‫‪َ‬ذ ِلَك َأْد َنى َأاَّل َتُعوُلوا‪[ ‬النساء‪]3 :‬‬
‫أي‪ :‬لئال جتوُر وا وتظلموا‪.‬‬
‫ه‪-‬ذا إن خ‪-‬اف أن ال يع‪-‬دل‪ ،‬فكي‪-‬ف إذا ع‪-‬زم على َع َد م الع‪-‬دِل بينهن‪ ،‬فتح‪-‬رمي التع‪ُّ-‬دد‬
‫من باب أوىل‪.‬‬
‫ِس‬
‫أما العدُل القليب‪ ،‬ف‪-‬الزوج ال يس‪-‬تطيُعه كم‪-‬ا رأيت‪ ،‬فج‪-‬از ل‪-‬ه التع‪ُّ-‬د َد ش‪-‬ريطَة أن حُي َن‬
‫التص‪ُّ- -‬رَف ‪ ،‬وال ينص ‪--‬رف إىل من حيُّب انص ‪--‬رافًا كلي‪ً- -‬ا‪ ،‬فيظلم ض‪َّ- -‬ر هتا أو ض‪َّ- -‬ر اهتا‪ ،‬وي ‪--‬رتكهن‬
‫كاملعلق‪--‬ات‪ ،‬ال ُمتزِّو ج‪-‬ات وال ُمطَّلق‪--‬ات‪ ،‬ذل‪َ-‬ك أَّن املي‪َ-‬ل القل‪-‬يب الكام‪--‬ل إلح‪-‬داهن ق‪-‬د ُيؤِّدي‬
‫إىل ظلم األخرى أو األخريات‪ ،‬ظلمًا قلبي‪ً-‬ا ومادي‪ً-‬ا‪ ،‬فيهج‪-‬رهن‪ ،‬وال ي‪-‬بيت عن‪-‬دهم‪ ،‬وينقص‬
‫حّق هن يف النفقة‪ ...‬وقد تدعوه هي لذلك ليطِّلق األخريات‪ ،‬وينفرد هبا وهلا‪.‬‬
‫ولذا قال تعاىل‪:‬‬
‫‪َ‬و َلْن َتْسَتِط يُعوا َأْن َتْع ِد ُلوا َبْيَن الِّنَس اِء ‪‬‬
‫أي‪ :‬يف القلب‪.‬‬
‫‪َ‬و َلْو َحَر ْص ُتْم َفال َتِم يُلوا ُك َّل اْلَم ْيِل َفَتَذ ُروَها َك اْلُمَع َّلَقِة َو ِإْن ُتْص ِلُحوا َو َتَّتُق وا‬
‫َفِإَّن َهَّللا َك اَن َغ ُفورًا َر ِح يمًا‪[ ‬النساء‪]129 :‬‬
‫ف ‪-- -‬إذا أحس ‪-- -‬ن ال ‪-- -‬زوُج التص ‪-- -‬رَف ‪ ،‬وه ‪-- -‬و ميي ‪-- -‬ل َقلبي ‪ً- -‬ا إلح ‪-- -‬داهن‪ ،‬ومل يظلم األخ ‪-- -‬رى أو‬
‫األخري ‪--‬ات يف ش ‪--‬يء‪ ،‬وأخفى ش ‪--‬عوره أم ‪--‬امهَّن حنو من ُيفّض لها قلبي ‪ً-‬ا‪ ،‬ج ‪--‬از التع ‪--‬دد‪ ،‬وس ‪--‬ار‬
‫املركب سليمًا آمنًا‪.‬‬
‫وُقْل مثل ذلك يف معاملة الوالدين ألوالدمها‪.‬‬
‫فآيت ‪--‬ا النس ‪--‬اء يف التع ‪ّ-‬د د واألح ‪--‬اديث ال ‪--‬يت وردت قبلهم ‪--‬ا‪« :‬ال طالق يف إغالق»‪ُ« .‬ر ف ‪--‬ع‬
‫عن أم ‪--‬يت اخلط ‪--‬أ‪ ،‬والنس ‪--‬يان‪ ،‬وم ‪--‬ا اْس ُتْك ِر ُه وا علي ‪--‬ه»‪« .‬اللهم ه ‪--‬ذا قْس مي فيم ‪--‬ا أمل ‪--‬ك‪ ،‬فال‬
‫تؤاخذين فيما متلك وال أملك»‪.‬‬
‫ك‪ُّ- -‬ل ذل ‪--‬ك يفِّس ر‪ ،‬وُيؤِّك د حقيق‪َ- -‬ة‪ ،‬وعدال‪َ- -‬ة‪ ،‬ورمحَة‪ ،‬وُيْس َر الش ‪--‬رع اإلهلي‪ ،‬وه ‪--‬و م ‪--‬ا‬
‫وَّضحناه من قبل‪ ،‬حيث بّينا‪:‬‬
‫‪ -1‬مىت يكون اإلنساُن ُم َس رَّي ًا‪.‬‬
‫‪ -2‬ومىت يكون اإلنساُن َخُمرَّي ًا‪.‬‬
‫َّممل ُيَؤ ِّك ُد أَّن الق‪-‬رآَن الك‪-‬رَمي والُّس َّنَة الَّص حيحة يس‪-‬ريان مع‪ً-‬ا على خ‪-‬ط مس‪-‬تقيم واح‪-‬د؛‬
‫ليؤِّك دا ويوِّض حا عدال ‪َ-‬ة اهلل تع ‪--‬اىل يف َخ ْلق ‪--‬ه‪ ،‬وم ‪--‬ع عب ‪--‬اده‪ ،‬ومس ‪--‬ؤولية اإلنس ‪--‬ان عن قول ‪--‬ه‪،‬‬
‫وعمله‪ ،‬يف ساحة الرمحة‪ ،‬واإلنصاف‪ ،‬والُيْس ر‪.‬‬
‫وق‪--‬د ظه‪--‬ر ل‪--‬ك – أخي الق‪--‬ارئ – أَّن ال‪ِّ--‬ديَن اإلس‪--‬المَّي ُك ّل ه ع‪--‬دل‪ ،‬ورمحة‪ ،‬وتيس‪--‬ري‪،‬‬
‫وحتقيق ملصاحل العباد‪ ،‬ودرء للمفاسد عنهم‪ .‬فمن فهم عن‪-‬ه غ‪-‬ري ذل‪-‬ك‪ ،‬أو جنح عن ذل‪-‬ك‪،‬‬
‫فقد ضَّل سواَء الَّس بيل‪:‬‬
‫‪َ‬و َأَّم ا َم ْن آَم َن َو َع ِمَل َص اِلحًا َفَل ُه َج َزاًء اْلُحْس َنى َو َس َنُقوُل َل ُه ِم ْن َأْم ِر َن ا‬
‫ُيْسرًا‪[ ‬الكهف‪]88 :‬‬
‫واحلمُد هلل الذي بنعمته تتُّم الَّص احلات‪.‬‬

You might also like