You are on page 1of 620

‫رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن‬

‫الكريم من كلمات الشيخ األكبر‬


‫محيي الدين محمد ابن العربي الطائي الحاتمي‬

‫الجزء الثاني‬

‫جمع وتأليف‬
‫أ‪ .‬محمود محمود الغراب‬

‫وعلى هامشه إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن‬


‫للشيخ األكبر‬
‫محيي الدين محمد ابن العربي الطائي الحاتمي‬

‫ص‪1:‬‬
‫‪.‬‬

‫ص‪2:‬‬
‫الجزء الثاني‬
‫( ‪ ) 5‬سورة المائدة مدنيّة‬
‫الرحيم‬
‫الرحمن ه‬ ‫ّللا ه‬
‫بسم ه‬

‫سورة المائدة ( ‪ : ) 5‬آية ‪1‬‬


‫يم‬
‫الر ِح ِ‬ ‫من ه‬ ‫الرحْ ِ‬ ‫َّللا ه‬
‫س ِم ه ِ‬ ‫بِ ْ‬
‫علَ ْي ُك ْم َ‬
‫غ ْي َر‬ ‫عام إِاله ما يُتْلى َ‬ ‫ِين آ َمنُوا أ َ ْوفُوا بِا ْلعُقُو ِد أ ُ ِحلهتْ لَ ُك ْم بَ ِهي َمةُ ْاأل َ ْن ِ‬ ‫يا أَيُّ َها الهذ َ‬
‫َّللا يَحْ ُك ُم ما يُ ِري ُد ) ‪( 1‬‬ ‫ص ْي ِد َوأ َ ْنت ُ ْم ُح ُر ٌم ِإ هن ه َ‬
‫ُم ِح ِلّي ال ه‬
‫ّللا فيما يعقده المؤمن معه مما له الخيار في حله ‪ ،‬فمذهبنا‬ ‫اعلم أن الوفاء بالعقد مع ه‬
‫الوفاء به وال بد ‪ ،‬إال أن يقترن به أمر من شيخ معتبر لتلميذ ‪ ،‬أو ألحد ممن له فيه‬
‫ّللا المخير فيه وال بد ‪ ،‬وإن لم يفعل فويل‬ ‫اعتقاد التقدم ‪ ،‬فإن له أن يح هل ذلك العقد مع ه‬
‫‪ ،‬فإن لم يقترن به مثل هذا فالوفاء به مذهبنا ‪ .‬ولما كان التأيه قد يكون بما هو موجود‬
‫في الحال أن يكون باقيا في المستقبل ‪ ،‬قال تعالى ‪ «:‬يا أَيُّ َها الَّذِينَ آ َمنُوا أ َ ْوفُوا بِ ْالعُقُو ِد‬
‫»وهم في حال الوفاء بعقد اإليمان ‪ ،‬فإنه نعتهم في تأيهه بهم باإليمان ‪ ،‬فكان البعد في‬
‫ت لَ ُك ْم بَ ِهي َمةُ ْاأل َ ْن ِ‬
‫عام‬ ‫العقود إذا قبلوها متى قبلوها ‪ ،‬فإن التأيه مؤذن بالبعد ‪ «.‬أ ُ ِحلَّ ْ‬
‫»البهائم ما اختصت بهذا االسم المشتق من اإلبهام ‪ ،‬والمبهم إال لكون األمر أبهم علينا‬
‫باّلل وبالموجودات ‪ ،‬وإنما‬ ‫‪ .‬فقد جاءت اآليات واألخبار تبين ما هي عليه من المعرفة ه‬
‫سميت بذلك لما انبهم علينا أمرها ‪ ،‬فإبهام أمرها إنما هو من حيث جهلنا ذلك أو‬
‫حيرتنا فيه ‪ ،‬فلم نعرف صورة األمر كما يعرفه أهل الكشف ‪ ،‬فهي عند غير أهل‬
‫الكشف واإليمان بهائم لما انبهم عليهم من أمرها لما يرون من بعض الحيوان من‬
‫األعمال الصادرة عنها التي ال تصدر إال عن فكر وروية صحيحة ونظر دقيق ؛‬
‫ّللا على بعض الناس أمرهم ‪،‬‬ ‫يصدر منهم ذلك بالفطرة ال عن فكر وال روية ‪ ،‬فأبهم ه‬
‫وال يقدرون على إنكار ما يرونه مما يصدر عنهم من الصنائع المحكمة ‪ ،‬فذلك جعلهم‬
‫يتأولون ما جاء في الكتاب والسنة من نطقهم ونسبة القول إليهم ‪ ،‬ليت شعري ما‬
‫يفعلون فيما يرونه مشاهدة في الذي يصدر عنهم من األفعال المحكمة ! ! كالعناكب في‬
‫ّللا أرزاقهم فيه ‪ ،‬وما يدخره بعض الحيوان‬ ‫ترتيب الحباالت لصيد الذباب الذي جعل ه‬
‫من أقواتهم ‪ ،‬فيأكلون نصف ما‬

‫ص‪3‬‬

‫ص‪3:‬‬
‫يدخرونه خوف الجدب فال يجدون ما يتقوتون به كالنمل ‪ ،‬فإن كان ذلك عن نظر فهم‬
‫يشبهون أهل النظر ‪ ،‬فأين عدم العقل الذي ينسب إليهم ؟ وإن كان ذلك علما ضروريا‬
‫ّللا عن أعيننا‬ ‫فقد أشبهونا فيما ال ندركه إال بالضرورة ‪ ،‬فال فرق بيننا وبينهم لو رفع ه‬
‫ّللا عن أبصار أهل الشهود وبصائر أهل اإليمان ‪ ،‬فإن‬ ‫غطاء العمى ‪ ،‬كما رفعه ه‬
‫البهائم تعلم من اإلنسان ‪ ،‬ومن أمر الدار اآلخرة ‪ ،‬ومن الحقائق التي الوجود عليها ‪،‬‬
‫ما يجهله بعض الناس وال يعلمه ‪ .‬وجميع ما سوى الثقلين وبعض الناس والجان على‬
‫علَ ْي ُك ْم‬‫بينة من ربهم في أمرهم ‪ ،‬من حيوان ونبات وجماد وملك وروح« ِإ َّال ما يُتْلى َ‬
‫غي َْر ُم ِح ِلهي ال َّ‬
‫ص ْي ِد َوأ َ ْنت ُ ْم ُح ُر ٌم »أي ما دمتم حرما في المكان الحالل والحرام وسكانا‬ ‫َ‬
‫ّللا يَ ْح ُك ُم‬ ‫في الحرم وإن كنتم حالال أو حراما فحيث ما كانت الحرمة امتنع الصيد « ِإ َّن َّ َ‬
‫ما يُ ِري ُد »‪.‬‬

‫سورة المائدة ( ‪ : ) 5‬آية ‪2‬‬


‫ْي َوال ا ْلقَالئِ َد َوال‬ ‫شه َْر ا ْل َحرا َم َوال ا ْل َهد َ‬‫َّللا َوال ال ه‬ ‫ِين آ َمنُوا ال ت ُ ِحلُّوا شَعائِ َر ه ِ‬ ‫يا أَيُّ َها الهذ َ‬
‫ضوانا ً َو ِإذا َحلَ ْلت ُ ْم فَاصْطادُوا َوال‬ ‫ضالً ِم ْن َر ِبّ ِه ْم َو ِر ْ‬ ‫ون فَ ْ‬ ‫ين ا ْلبَ ْيتَ ا ْل َحرا َم يَ ْبتَغُ َ‬‫آ ِ ّم َ‬
‫علَى ا ْل ِب ِ ّر‬ ‫رام أ َ ْن ت َ ْعتَدُوا َوت َ َ‬
‫عاونُوا َ‬ ‫س ِج ِد ا ْل َح ِ‬ ‫آن قَ ْو ٍم أ َ ْن َ‬
‫صدُّو ُك ْم ع َِن ا ْل َم ْ‬ ‫شنَ ُ‬ ‫يَجْ ِر َمنه ُك ْم َ‬
‫ب(‪)2‬‬ ‫شدِي ُد ا ْل ِعقا ِ‬ ‫ْوان َواتهقُوا ه َ‬
‫َّللا ِإ هن ه َ‬
‫َّللا َ‬ ‫اْلثْ ِم َوا ْلعُد ِ‬ ‫علَى ْ ِ‬
‫عاونُوا َ‬ ‫َوالت ه ْقوى َوال ت َ َ‬
‫علَى ْالبِ ِ هر ‪»:‬وهو‬ ‫عاونُوا َ‬ ‫رام »أي قاصدين البيت الحرام« َوت َ َ‬ ‫ْت ْال َح َ‬ ‫« َو َال آ ِ همينَ ْالبَي َ‬
‫اإلحسان باإلنعام« َوالت َّ ْقوى »‪ :‬أي اجعلوا ذلك وقاية ‪ ،‬فإنه من أعان شخصا على‬
‫عمل كان مشاركا له فيما يؤدي إليه ذلك العمل من الخير ‪ ،‬ال مشاركة توجب نقصا بل‬
‫هو على التمام لكل واحد من الشريكين ‪ ،‬كما جاء في الحديث من سن سنة حسنة «‬
‫ّللا تعالى بحكم التعاون فقال‬ ‫الحديث » ولما كان التعاون في فطرة اإلنسان خاطبهم ه‬
‫علَى ْال ِب ِ هر َوالت َّ ْقوى »فيكون ما فطروا عليه عبادة ‪ ،‬فإنهم قد يتعاونون بتلك‬ ‫عاونُوا َ‬ ‫‪َ «:‬وت َ َ‬
‫ّللا إِ َّن‬ ‫اإلثْ ِم َو ْالعُ ْد ِ‬
‫وان ‪َ ،‬واتَّقُوا َّ َ‬ ‫علَى ْ ِ‬ ‫عاونُوا َ‬‫الحقيقة على اإلثم والعدوان فقال ‪َ «:‬وال ت َ َ‬
‫ب‪».‬‬ ‫شدِي ُد ْال ِعقا ِ‬ ‫ّللا َ‬
‫َّ َ‬

‫ص‪4‬‬

‫ص‪4:‬‬
‫سورة المائدة ( ‪ : ) 5‬آية ‪3‬‬
‫َّللا ِب ِه َوا ْل ُم ْن َخنِقَةُ َوا ْل َم ْوقُوذَةُ‬
‫ير َوما أ ُ ِه هل ِلغَ ْي ِر ه ِ‬‫علَ ْي ُك ُم ا ْل َم ْيتَةُ َوال هد ُم َولَحْ ُم ا ْل ِخ ْن ِز ِ‬
‫ُح ِ ّر َمتْ َ‬
‫ست َ ْق ِ‬
‫س ُموا‬ ‫ب َوأ َ ْن ت َ ْ‬ ‫علَى النُّ ُ‬
‫ص ِ‬ ‫سبُ ُع ِإاله ما ذَ هك ْيت ُ ْم َوما ذُ ِب َح َ‬ ‫َوا ْل ُمت َ َر ِ ّديَةُ َوالنه ِطي َحةُ َوما أ َ َك َل ال ه‬
‫اخش َْو ِن ا ْليَ ْو َم‬‫ِين َكفَ ُروا ِم ْن دِينِ ُك ْم فَال ت َ ْخش َْو ُه ْم َو ْ‬ ‫س الهذ َ‬ ‫ق ا ْليَ ْو َم يَئِ َ‬
‫س ٌ‬ ‫الم ذ ِل ُك ْم فِ ْ‬‫ِب ْاأل َ ْز ِ‬
‫ط هر ِفي‬ ‫ض ُ‬ ‫سال َم دِينا ً فَ َم ِن ا ْ‬ ‫علَ ْي ُك ْم ِن ْع َم ِتي َو َر ِضيتُ لَ ُك ُم ْ ِ‬
‫اْل ْ‬ ‫أ َ ْك َم ْلتُ لَ ُك ْم دِينَ ُك ْم َوأَتْ َم ْمتُ َ‬
‫ور َر ِحي ٌم ( ‪) 3‬‬ ‫غفُ ٌ‬ ‫ف ِ ِْلثْ ٍم فَ ِإ هن ه َ‬
‫َّللا َ‬ ‫غ ْي َر ُمتَجانِ ٍ‬ ‫ص ٍة َ‬ ‫َم ْخ َم َ‬

‫« ِإ َّال ما ذَ َّك ْيت ُ ْم »الذكاة طهارة بعض الحيوان ‪ ،‬والميتة حرام ألنها ما ذكيت« َوما ذُبِ َح‬
‫ب »على هنا بمعنى الالم فإن حروف الجر تبدل بعضها من بعض ‪،‬‬ ‫ص ِ‬ ‫علَى النُّ ُ‬ ‫َ‬
‫ويعرف ذلك بالمعنى ‪ ،‬وهذا من أعجب ما في القرآن أي وما ذبح للنصب ‪ ،‬وهي‬
‫األصنام ‪ ،‬التي نصبوها للعبادة ‪ ،‬فكانوا يقربون لها« ْاليَ ْو َم أ َ ْك َم ْلتُ لَ ُك ْم دِينَ ُك ْم »بعد‬
‫ثبوت الكمال ال يقبل الزيادة ‪ ،‬فإن الزيادة في الدين نقص من الدين ‪ ،‬وذلك هو الشرع‬
‫ّللا ‪ ،‬وهذا يدل على أن االجتهاد ما هو أن تحدث حكما ‪ ،‬هذا غلط ‪،‬‬ ‫الذي لم يأذن به ه‬
‫وإنما[ االجتهاد المشروع ]‬
‫االجتهاد المشروع في طلب الدليل من كتاب أو سنة أو إجماع وفهم عربي على إثبات‬
‫حكم في تلك المسألة بذلك الدليل ‪ ،‬الذي اجتهدت في تحصيله والعلم به في زعمك ‪،‬‬
‫نص عليه ولم يتركه‬ ‫ّللا تعالى ورسوله ما ترك شيئا إال وقد ه‬ ‫هذا هو االجتهاد ‪ .‬فإن ه‬
‫غي َْر ُمتَجانِفٍ ِ ِإلثْ ٍم »الجنف ‪ :‬ميل إلى الشيطان« فَإِ َّن‬ ‫ض ُ‬
‫ط َّر فِي َم ْخ َم َ‬
‫ص ٍة َ‬ ‫مهمال« فَ َم ِن ا ْ‬
‫ور َر ِحي ٌم »فالشخص الواحد الذي لم يكن حاله االضطرار ‪ ،‬أكل الميتة عليه‬ ‫غف ُ ٌ‬
‫ّللا َ‬
‫َّ َ‬
‫حرام ‪ ،‬فإذا اضطر ذلك الشخص عينه ‪ ،‬فأكل الميتة له حالل ‪ ،‬فاختلف الحكم‬
‫الختالف الحال والعين واحدة ‪ ،‬والمحرم المضطر يأكل الميتة أو الخنزير دون الصيد‬
‫ّللا مضطرا من‬ ‫خص ه‬ ‫ه‬ ‫‪ ،‬فإن اضطر إلى الصيد ‪ ،‬صاد وعليه الجزاء ألنه متعمد ‪ ،‬فما‬
‫غير مضطر‪.‬‬

‫ص ‪5‬‬

‫ص‪5:‬‬
‫سورة المائدة ( ‪ : ) 5‬اآليات ‪ 4‬إلى ‪5‬‬
‫وارحِ ُم َك ِلّ ِب َ‬
‫ين‬ ‫عله ْمت ُ ْم ِم َن ا ْل َج ِ‬
‫ط ِيّباتُ َوما َ‬ ‫سئَلُونَكَ ما ذا أ ُ ِح هل لَ ُه ْم قُ ْل أ ُ ِح هل لَ ُك ُم ال ه‬ ‫يَ ْ‬
‫علَ ْي ِه َواتهقُوا ه َ‬
‫َّللا‬ ‫َّللا َ‬
‫س َم ه ِ‬
‫اذك ُُروا ا ْ‬ ‫علَ ْي ُك ْم َو ْ‬
‫س ْك َن َ‬ ‫َّللاُ فَ ُكلُوا ِم هما أ َ ْم َ‬
‫عله َم ُك ُم ه‬‫تُعَ ِلّ ُمونَ ُه هن ِم هما َ‬
‫تاب ِح ٌّل لَ ُك ْم‬ ‫ِين أُوتُوا ا ْل ِك َ‬ ‫ط ِيّباتُ َو َطعا ُم الهذ َ‬ ‫ب ( ‪ ) 4‬ا ْليَ ْو َم أ ُ ِح هل لَ ُك ُم ال ه‬ ‫س ِري ُع ا ْل ِحسا ِ‬ ‫ِإ هن ه َ‬
‫َّللا َ‬
‫تاب ِم ْن‬‫ِين أُوتُوا ا ْل ِك َ‬ ‫ت َوا ْل ُمحْ صَناتُ ِم َن الهذ َ‬ ‫َو َطعا ُم ُك ْم ِح ٌّل لَ ُه ْم َوا ْل ُمحْ صَناتُ ِم َن ا ْل ُم ْؤ ِمنا ِ‬
‫دان َو َم ْن يَ ْكفُ ْر‬ ‫ين َوال ُمت ه ِخذِي أ َ ْخ ٍ‬ ‫غ ْي َر ُمسافِ ِح َ‬ ‫ين َ‬ ‫ور ُه هن ُمحْ ِصنِ َ‬ ‫قَ ْب ِل ُك ْم إِذا آت َ ْيت ُ ُمو ُه هن أ ُ ُج َ‬
‫ين ( ‪) 5‬‬ ‫س ِر َ‬ ‫ع َملُهُ َو ُه َو فِي ْاآل ِخ َر ِة ِم َن ا ْلخا ِ‬ ‫يمان فَقَ ْد َحبِ َط َ‬‫اْل ِ‬ ‫بِ ْ ِ‬

‫صناتُ ِمنَ الَّذِينَ أُوتُوا ْال ِك َ‬


‫تاب»‬ ‫« َو ْال ُم ْح َ‬
‫نكاح المحصنات من أهل الكتاب‬
‫ّللا سواء‬ ‫أهل الكتاب قد يقصد بها القائمين بكتابهم ‪ ،‬أو هم الذين أنزل عليهم كتاب من ه‬
‫عملوا به أو لم يعملوا ‪ ،‬فإذا كان أهل الكتاب هم الذين أنزل إليهم الكتاب ‪ ،‬وجاءهم‬
‫ّللا بقتالهم حتى يعطوا الجزية فيجوز‬ ‫الرسول بذلك ‪ ،‬وكانوا كافرين بكتابهم ‪ ،‬وأمرنا ه‬
‫تاب »ونمنع من ذلك بقوله ‪«:‬‬ ‫صناتُ ِمنَ الَّذِينَ أُوتُوا ْال ِك َ‬ ‫لنا نكاح بناتهم بقوله ‪َ «:‬و ْال ُم ْح َ‬
‫ص ِم ْال َكوافِ ِر »على من يحمل النهي هنا على التحريم وقوله ‪َ «:‬و َم ْن‬ ‫َوال ت ُ ْم ِس ُكوا ِب ِع َ‬
‫النص عزيز في ذلك فيؤيد‬ ‫ه‬ ‫ع َملُهُ »على أظهر الوجهين فإن‬ ‫ط َ‬‫يمان فَقَ ْد َح ِب َ‬
‫اإل ِ‬ ‫يَ ْكفُ ْر ِب ْ ِ‬
‫ّللا قد‬ ‫تحريم نكاح المشركات ‪ ،‬فيلحق بالنكاح الفاسد الذي ال ينعقد معه النكاح فإن ه‬
‫أحبط عمله في الدنيا بقوله ‪َ «:‬و ُه َو فِي ْاآل ِخ َرةِ ِمنَ ْالخا ِس ِرينَ » ُم ْح ِ‬
‫صنِينَ َ‬
‫غي َْر‬
‫ّللا بعقد ‪ ،‬أو بملك يمين ‪ ،‬أو‬ ‫دان »كل نكاح خارج عما شرع ه‬ ‫ُمسافِ ِحينَ َوال ُمت َّ ِخذِي أ َ ْخ ٍ‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ ،‬فهو سفاح ال نكاح ‪ ،‬أي هو‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫بهبة ‪ ،‬وهو خاص برسول ه‬
‫بمنزلة الشيء السائل الذي ال ثبات له ‪ ،‬ألنه ال عقد فيه وال رباط وال وثاق« َو َم ْن‬
‫ع َملُهُ »في الدنيا لقوله تعالى« َو ُه َو ِفي ْاآل ِخ َر ِة ِمنَ ْالخا ِس ِرينَ‬ ‫ط َ‬‫يمان فَقَ ْد َح ِب َ‬
‫اإل ِ‬ ‫يَ ْكفُ ْر ِب ْ ِ‬
‫»فإن العمل لم يكن مشروعا لعدم المصحح ‪ ،‬وهو اإليمان والنكاح من جملة العبادات‬
‫‪.‬‬
‫ص‪6‬‬

‫ص‪6:‬‬
‫سورة المائدة ( ‪ : ) 5‬آية ‪6‬‬
‫ق‬‫سلُوا ُو ُجو َه ُك ْم َوأ َ ْي ِديَ ُك ْم إِلَى ا ْل َمرافِ ِ‬ ‫صال ِة فَا ْغ ِ‬ ‫ِين آ َمنُوا إِذا قُ ْمت ُ ْم إِلَى ال ه‬ ‫يا أَيُّ َها الهذ َ‬
‫ط هه ُروا َو ِإ ْن ُك ْنت ُ ْم َم ْرضى أ َ ْو‬ ‫س ُك ْم َوأ َ ْر ُجلَ ُك ْم ِإلَى ا ْل َك ْعبَ ْي ِن َو ِإ ْن ُك ْنت ُ ْم ُجنُبا ً فَا ه‬ ‫س ُحوا ِب ُر ُؤ ِ‬ ‫ام َ‬‫َو ْ‬
‫ست ُ ُم ال ِنّسا َء فَلَ ْم ت َ ِجدُوا ما ًء فَتَيَ هم ُموا‬ ‫سفَ ٍر أ َ ْو جا َء أ َ َح ٌد ِم ْن ُك ْم ِم َن ا ْلغائِ ِط أ َ ْو ال َم ْ‬ ‫عَلى َ‬
‫علَ ْي ُك ْم ِم ْن َح َرجٍ َول ِك ْن‬ ‫َّللاُ ِليَجْ عَ َل َ‬ ‫س ُحوا ِب ُو ُجو ِه ُك ْم َوأ َ ْيدِي ُك ْم ِم ْنهُ ما يُ ِري ُد ه‬ ‫ام َ‬ ‫ص ِعيدا ً َط ِيّبا ً فَ ْ‬ ‫َ‬
‫ون‪( 6 ).‬‬ ‫شك ُُر َ‬ ‫يُ ِري ُد ِليُ َط ِ ّه َر ُك ْم َو ِليُتِ هم نِ ْع َمتَهُ َ‬
‫علَ ْي ُك ْم لَعَله ُك ْم ت َ ْ‬

‫اجتمع المسلمون قاطبة من غير مخالف على وجوب الطهارة على كل من لزمته‬
‫الصالة ‪ ،‬إذا دخل وقتها ‪ ،‬والوضوء مخصص بعض األعضاء باالغتسال والمسح ‪،‬‬
‫ّللا صلهى ه‬
‫ّللا‬ ‫وعليك بالوضوء على الوضوء فإنه نور على نور ‪ ،‬ولوال أن رسول ه‬
‫عليه وسلم شرع في الوضوء ما شرع من صالة فريضتين فصاعدا بوضوء واحد ‪،‬‬
‫لكان حكم القرآن يقتضي أن يتوضأ لكل صالة ‪.‬‬
‫وبالجملة فهو أحسن بال خالف ‪ ،‬فإن الوضوء عبادة مستقلة وإن كان شرطا في صحة‬
‫عبادة أخرى ‪ ،‬فال يخرجه ذلك عن أن يكون عبادة مستقلة في نفسه مرادا لعينه ‪ ،‬وأما‬
‫أفعال هذه الطهارة فقد ورد بها الكتاب والسنة ‪ ،‬وبين فرضها من سننها ‪ ،‬ومن‬
‫استحباب أفعال فيها ‪.‬‬
‫ولهذه الطهارة شروط وأركان وصفات وعدد وحدود معينة في محالها " يا أَيُّ َها الَّذِينَ‬
‫صالةِ فَا ْغ ِسلُوا ُو ُجو َه ُك ْم "‬
‫آ َمنُوا إِذا قُ ْمت ُ ْم إِلَى ال َّ‬

‫الوضوء والمسح واالغتسال من الجنابة‬


‫ال خالف في أن غسل الوجه فرض ‪ ،‬واختلف في تحديد غسل الوجه في الوضوء في‬
‫ثالثة مواضع ‪ :‬منها البياض الذي بين العذار واألذن ‪ ،‬والثاني ما سدل من اللحية‬
‫والثالث غسل اللحية ‪ ،‬واللحية شيء يعرض في الوجه ما هي من الوجه ‪ ،‬وال تؤخذ‬
‫ق »أجمع العلماء بالشريعة على غسل اليدين والذراعين‬ ‫في حده« َوأ َ ْي ِديَ ُك ْم إِلَى ْال َمرافِ ِ‬
‫في الوضوء بالماء ‪ ،‬واختلف في إدخال المرافق في الغسل قال تعالى ‪َ «:‬وأ َ ْي ِديَ ُك ْم ِإلَى‬
‫ق »فيها خروج الحد من المحدود ‪ ،‬ومذهبنا الخروج إلى محل اإلجماع في‬ ‫ْال َمرافِ ِ‬
‫الفعل فإن اإلجماع في الحكم ال يتصور ‪ ،‬فغسل اليدين والذراعين وهما المعصمان‬
‫ّللا عليه وسلم إذا غسل ذراعيه في الوضوء يجوز‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫واجب ‪ ،‬وكان رسول ه‬
‫المرفقين حتى يشرع في العضد ‪،‬‬

‫ص‪7‬‬

‫ص‪7:‬‬
‫والخالف في ح هد اليدين أكثره إلى اآلباط ‪ ،‬وأقله إلى المفصل الذي يسمى منه الذراع‬
‫فبقي إدخال المرافق ‪ ،‬وال خالف عند القائلين بترك الوجوب على استحباب إدخالهما‬
‫س ُحوا ِب ُر ُؤ ِس ُك ْم »اتفق علماء الشريعة على أن مسح الرأس من‬ ‫في الغسل ‪َ «.‬و ْام َ‬
‫فرائض الوضوء ‪ ،‬واختلفوا في القدر الواجب منه ‪ ،‬وأصل هذا الخالف وجود الباء‬
‫في قوله تعالى ‪ِ «:‬ب ُر ُؤ ِس ُك ْم »فمن جعلها للتبعيض ‪ ،‬بعهض المسح ‪ ،‬ومن جعلها زائدة‬
‫للتوكيد في المسح ‪ ،‬عم المسح جميع الرأس ‪ ،‬وال يتمكن لنا إظهار الحق في هذه‬
‫المسألة ألن ذلك ال يرفع الخالف من العالم فيه ‪ ،‬والمسألة معقولة ‪ ،‬وكل مسئلة‬
‫معقولة ال بد من الخالف فيها الختالف الفطر في النظر« َوأ َ ْر ُجلَ ُك ْم »اتفق العلماء على‬
‫أن الرجلين من أعضاء الوضوء ‪ ،‬واختلف في طهارة األرجل ‪ ،‬هل ذلك بالغسل ‪ ،‬أو‬
‫بالمسح ‪ ،‬أو بالتخيير بينهما ؟ فأي شيء فعل منهما فقد سقط عنه اآلخر وأدى الواجب‬
‫‪ ،‬هذا إذا لم يكن عليهما خف ‪ ،‬فمذهبنا التخيير ‪ ،‬والجمع أولى ‪ ،‬فالمسح بظاهر الكتاب‬
‫‪ ،‬والغسل بالسنة ‪ ،‬ومحتمل اآلية بالعدول عن الظاهر منها ‪ ،‬وسبب الخالف هو‬
‫القراءة في قوله ‪َ «:‬وأ َ ْر ُجلَ ُك ْم »بفتح الالم وكسرها من أجل حرف الواو على أن يكون‬
‫عطفا على الممسوح بالخفض ‪ ،‬وعلى المغسول بالفتح ‪ ،‬فمذهبنا أن الفتح في الالم ال‬
‫يخرجه عن الممسوح ‪ ،‬فإن هذه الواو قد تكون واو المعية تنصب ‪ .‬وكذلك من قرأ«‬
‫س ُحوا ِب ُر ُؤ ِس ُك ْم َوأ َ ْر ُجلَ ُك ْم »بفتح الالم فحجة من يقول بالمسح في هذه اآلية أقوى‬
‫َو ْام َ‬
‫ألنه يشارك القائل بالغسل في الداللة التي اعتبرها وهي فتح الالم ولم يشاركه من‬
‫يقول بالغسل في خفض الالم ‪ ،‬وينقل عن العرب أن المسح لغة في الغسل ‪ ،‬فأمة‬
‫ّللا عليه وسلم المتطهرون ‪ ،‬وهم الغر المحجلون ‪ ،‬تحجيلهم دليلهم ‪ ،‬لو‬ ‫محمد صلهى ه‬
‫كان لغيرهم هذا النعت المخصوص من الطهور ‪ ،‬ما اختصت هذه األمة المحمدية بهذا‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ :‬ما تعرف هذه األمة المحمدية من سائر األمم‬ ‫النور ‪ .‬فإنه قال صلهى ه‬
‫إال به ‪ ،‬فانتبه ‪ ،‬فوردت األخبار المنصوصة بطهارة هذه األعضاء المخصوصة ‪،‬‬
‫فأسبغناها طهورا ‪ ،‬فجعل لنا بذلك غررا ‪ ،‬وألبسها نورا ‪ ،‬فكان لهم بذلك التمييز‬
‫ّللا له نوره ‪ ،‬ومن‬ ‫والتعريف ‪ ،‬المقام الشريف والتشريف ‪ ،‬فمن أسبغ طهوره ‪ ،‬تمم ه‬
‫ثنى وثلث فرح بذلك أكثر من صاحب الواحدة إذا تحنث «‪َ .‬و ِإ ْن ُك ْنت ُ ْم ُجنُبا ً فَ َّ‬
‫اط َّه ُروا‬
‫»خروج المني على وجه اللذة موجب لالغتسال ‪ ،‬وعليه وضوء واحد في اغتساله ‪،‬‬
‫ولما كان الغسل يتضمن الوضوء ‪ ،‬كان حكم المضمضة واالستنشاق من حيث أنه‬
‫ّللا عليه‬ ‫متوضئ في اغتساله ال من حيث أنه مغتسل ‪ ،‬فإنه ما ورد أن النبي صلهى ه‬
‫وسلم تمضمض وال استنشق في‬

‫ص‪8‬‬

‫غسله إال في الوضوء فيه ‪ ،‬فالحكم فيهما عندي راجع إلى حكم الوضوء ‪ ،‬والوضوء‬
‫سفَ ٍر أ َ ْو جا َء أ َ َح ٌد‬ ‫عندنا ال بد منه في االغتسال من الجنابة« َوإِ ْن ُك ْنت ُ ْم َم ْرضى أ َ ْو َ‬
‫على َ‬

‫ص‪8:‬‬
‫س ُحوا‬ ‫ط ِيهبا ً فَ ْ‬
‫ام َ‬ ‫ِم ْن ُك ْم ِمنَ ْالغائِ ِط أ َ ْو ال َم ْست ُ ُم ال ِنهسا َء فَلَ ْم ت َ ِجدُوا ما ًء فَتَيَ َّم ُموا َ‬
‫ص ِعيدا ً َ‬
‫بِ ُو ُجو ِه ُك ْم َوأ َ ْيدِي ُك ْم ِم ْنهُ »التيمم ‪ -‬انظر النساء آية ( ‪) 43‬‬
‫صالةِ » ]‬ ‫[ ‪ -‬تحقيق ونصيحة ‪ِ « -‬إذا قُ ْمت ُ ْم ِإلَى ال َّ‬
‫صال ِة »‬‫‪-‬تحقيق ونصيحة ‪ِ «-‬إذا قُ ْمت ُ ْم ِإلَى ال َّ‬

‫الحس والعقل‬
‫ه‬ ‫ّللا في‬
‫ولما أتينا بالطهارة كلها ‪ ....‬على وفق شرع ه‬
‫أتينا نناجيه بقدس كالمه ‪ ....‬على نحو ما قد صح عندي من النقل‬
‫فلم يستطع إحداث لفظي لكونه ‪ ....‬قديما فناجيت المهيمن بالفعل‬
‫ولم يستطع معناي أيضا كالمه ‪ ....‬فقد ص هح عندي أنني لست بالمثل‬
‫ّللا من عرش ذاته ‪ ....‬بما طابق اللفظ الذي جاء من ظلي‬ ‫فر هد علي ه‬
‫على نحو ما أتلوه في النور والهدى ‪ ....‬بإيجاد وصف العدل منه أو الفضل‬
‫وما سمع الرحمن غير كالمه ‪ ....‬على مقولي في الفرض كنت أو النفل‬
‫فص هح لي التعبير عنه ألنه ‪ ....‬تعالى عن األصوات والحرف والشكل‬
‫فإن قلت ‪ :‬إني قد تلوت كالمه ‪ ....‬فقد قلت ‪ :‬إني ما تلوت سوى مثل‬
‫فإن تك خالفت الذي قد نصصته ‪ ....‬فقد غصت يا مسكين في أبحر الجهل‬
‫فيا عقل انصرف إلى مصالك ‪ ،‬ليتلو سبحانه كالمه عليك ‪ ،‬فاستمع وانصت ‪ ،‬وتحقق‬
‫ذلك المقام ‪ ،‬وأثبت فإنه مقام الدهش والطيش ‪ ،‬ومحل الحياة والعيش ‪ ،‬فاشحذ فؤادك ‪،‬‬
‫واترك اعتقادك ‪ ،‬وال تدبر في حين الخطاب ‪ ،‬وال تفكر فيما تر هد عليه من الجواب ‪،‬‬
‫فإنه مقام التأييد والقوة ‪ ،‬ومشربه الرسالة والنبوة ‪ ،‬فإن إجابة الحق إذا خاطب عبده ال‬
‫ينتجها فكر ‪ ،‬وال يقوم لها ذكر ‪ ،‬حسب العقل قبول الخطاب ‪ ،‬وقبول ما يخلق فيه من‬
‫حس أتل على‬‫الجواب ‪ ،‬من غير تقدم قصد وال نية ‪ ،‬وال فكر وال روية ‪ ( ،‬وأنت ) يا ه‬
‫ربك كالمه ‪ ،‬وال تلتفت ‪ ،‬وحقق معنى ما تناجيه به وتثبهت ‪ ،‬وش همر أذيالك ‪ ،‬واجعل‬
‫خلفك أعمالك وآمالك ‪ ،‬وضع اليدين مكتوفتين فوق السرة وتحت الصدر ‪ ،‬واطلب منه‬
‫في ذلك المقام فضل ليلة القدر ‪ ،‬في كونها خيرا من ألف شهر ‪ ،‬واجعل كل صالة‬
‫تدخل فيها آخر صالتك ‪ ،‬وذلك النفس منته حياتك ‪ ،‬فال تزال مقنعا ‪ ،‬ولربك مستمعا ‪،‬‬
‫متوشحا بالحياء ‪ ،‬غير ملتفت إلى السماء ‪ ،‬طرفك حيث سجودك ‪ ،‬وقلبك حيث‬
‫معبودك ‪ ،‬وخشية تخشع‬

‫ص‪9‬‬

‫ص‪9:‬‬
‫الجوارح ‪ ،‬وهيبة تقصف الجوانح ‪ ،‬وعبرة تسفح ‪ ،‬وزفرة تلفح ‪ ،‬وأنين وزمزمة ‪،‬‬
‫وحنين وهمهمة ‪ ،‬وتالطف في تعاطف ‪ ،‬وتوسل في ترسل ‪ ،‬ومشاهدة في مجاهدة ‪،‬‬
‫وتغيهر في تحيهر ‪ ،‬واختالف صفات ‪ ،‬وتنوع حاالت ‪ ،‬وآداب وسكينة ‪ ،‬واعتدال‬
‫وطمأنينة ‪ ،‬إلى أن تفرغ من صالتك ‪ ،‬فتنظر عند ذلك فيما زكا من صفاتك ‪ ،‬وما‬
‫ّللا‬
‫تقدس من ذاتك ‪ ،‬فعند ذلك تكون المصلي السابق وغيرك المصلي الالحق ‪ ،‬جعلنا ه‬
‫وإياكم ممن حضر في صالته ‪ ،‬فأجزل له في صالته ‪ ،‬فكان جزاؤه النور ‪ ،‬ودار‬
‫السرور ‪.‬‬
‫[ ‪ -‬إشارة ‪َ « -‬و ِإ ْن ُك ْنت ُ ْم ُجنُبا ً فَ َّ‬
‫اط َّه ُروا » ]‬
‫اط َّه ُروا »ال يتطهر من الحدث إال الحدث ‪ ،‬وال من الجنابة‬ ‫إشارة ‪َ « :‬و ِإ ْن ُك ْنت ُ ْم ُجنُبا ً فَ َّ‬
‫إال من هو عن الحضرة اإللهية في جنابة ‪ ،‬إن العقل إذا نظر في كونه ‪ ،‬فهو في جنابة‬
‫عن عينه ‪ ،‬فجنابته جنايته ‪ ،‬فإذا نظر إلى نفسه ‪ ،‬فهو في الحدث األصغر الذي في‬
‫عكسه ‪ ،‬فحدثه حدثه ‪ ،‬والماء ماءان‪:‬‬
‫ألن المتطهر به عالمان ‪ ،‬ماء سماوي ‪ ،‬فتطهر بهذا الماء أيها العقل األقدس ‪.‬‬
‫والماء اآلخر ماء أرضي من عالم األمشاج ‪ ،‬فمنه عذب فرات ‪ ،‬ومنه ملح أجاج ‪،‬‬
‫الحس األنفس ‪ ،‬فيا أيها العقل إن كنت ذا جنابة أو متعمال ‪ ،‬فعم‬ ‫ه‬ ‫فتطهر بهذا الماء أيها‬
‫فسر‬
‫الطهر بذاتك المنصوصة ‪ ،‬وإن كنت ذا حدث فاغسل األعضاء المخصوصة ‪ ،‬ه‬
‫التعميم في طهر الجنابتين ‪ ،‬لغيبتك الكلية عن علم نكاح الصورتين ‪ ،‬الصورة المثلية‬
‫وسر الطهر المخصوص لبعض األعضاء ‪،‬‬ ‫ه‬ ‫العقلية ‪ ،‬والصورة المثلية الشرعية ‪،‬‬
‫للغفالت التي تتخللك في حضورك عند االقتضاء ‪ ،‬وإن عدمت الماءين ‪ ،‬فاعمد إلى ما‬
‫خلقت منه ‪ ،‬وال تعدل عنه ‪ ،‬فإنك تبيح العبادة وال ترفع الحدث ‪ ،‬لما قام بك من الخبث‬
‫ّللا ‪.‬‬
‫‪ .‬واعلم أن الطهارة الباطنة واجبة عند أهل ه‬

‫سورة المائدة ( ‪ : ) 5‬اآليات ‪ 7‬إلى ‪12‬‬


‫س ِم ْعنا َوأ َ َط ْعنا َواتهقُوا ه َ‬
‫َّللا ِإ هن‬ ‫علَ ْي ُك ْم َو ِميثاقَهُ الهذِي واثَقَ ُك ْم ِب ِه ِإ ْذ قُ ْلت ُ ْم َ‬ ‫اذك ُُروا نِ ْع َمةَ ه ِ‬
‫َّللا َ‬ ‫َو ْ‬
‫س ِط َوال‬ ‫ش َهدا َء ِبا ْل ِق ْ‬‫ّلِل ُ‬ ‫ين ِ ه ِ‬ ‫ِين آ َمنُوا كُونُوا قَ هو ِ‬
‫ام َ‬ ‫ُور ( ‪ ) 7‬يا أَيُّ َها الهذ َ‬ ‫صد ِ‬ ‫ت ال ُّ‬ ‫ع ِلي ٌم ِبذا ِ‬ ‫َّللا َ‬
‫هَ‬
‫َّللا َخ ِب ٌ‬
‫ير‬ ‫ب ِللت ه ْقوى َواتهقُوا ه َ‬
‫َّللا ِإ هن ه َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫آن ق ْو ٍم عَلى أاله ت َ ْع ِدلُوا ا ْع ِدلُوا ُه َو أق َر ُ‬ ‫َ‬ ‫شنَ ُ‬‫يَجْ ِر َمنه ُك ْم َ‬
‫ت لَ ُه ْم َم ْغ ِف َرةٌ َوأَجْ ٌر ع َِظي ٌم (‬ ‫صا ِلحا ِ‬ ‫ِين آ َمنُوا َوع َِملُوا ال ه‬ ‫َّللاُ الهذ َ‬‫ع َد ه‬ ‫ون ( ‪َ ) 8‬و َ‬ ‫ِبما ت َ ْع َملُ َ‬
‫ِين آ َمنُوا‬ ‫يم ( ‪ ) 10‬يا أَيُّ َها الهذ َ‬ ‫ْحاب ا ْل َج ِح ِ‬ ‫ِين َكفَ ُروا َو َكذهبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَص ُ‬ ‫‪َ ) 9‬والهذ َ‬
‫ع ْن ُك ْم َواتهقُوا‬ ‫َف أ َ ْي ِديَ ُه ْم َ‬
‫طوا إِلَ ْي ُك ْم أ َ ْي ِديَ ُه ْم فَك ه‬
‫س ُ‬‫علَ ْي ُك ْم إِ ْذ َه هم قَ ْو ٌم أ َ ْن يَ ْب ُ‬
‫َّللا َ‬ ‫اذك ُُروا نِ ْع َمتَ ه ِ‬ ‫ْ‬
‫ون ) ‪( 11‬‬ ‫َّللا فَ ْليَت َ َو هك ِل ا ْل ُم ْؤ ِمنُ َ‬
‫علَى ه ِ‬ ‫َّللا َو َ‬
‫هَ‬
‫ص ‪10‬‬

‫ص ‪10 :‬‬
‫َّللاُ إِ ِنّي َمعَ ُك ْم لَئِ ْن‬‫عش ََر نَ ِقيبا ً َوقا َل ه‬ ‫سرائِي َل َوبَعَثْنا ِم ْن ُه ُم اثْنَ ْي َ‬ ‫يثاق بَنِي إِ ْ‬‫َّللاُ ِم َ‬ ‫َولَقَ ْد أ َ َخذَ ه‬
‫سنا ً‬ ‫َّللا قَ ْرضا ً َح َ‬ ‫ضت ُ ُم ه َ‬‫س ِلي َوع هَز ْرت ُ ُمو ُه ْم َوأ َ ْق َر ْ‬‫الزكاةَ َوآ َم ْنت ُ ْم ِب ُر ُ‬‫صالةَ َوآت َ ْيت ُ ُم ه‬ ‫أَقَ ْمت ُ ُم ال ه‬
‫هار فَ َم ْن َكفَ َر بَ ْع َد ذ ِلكَ‬
‫ت تَجْ ِري ِم ْن تَحْ تِ َها ْاأل َ ْن ُ‬ ‫س ِيّئاتِ ُك ْم َو َألُد ِْخلَنه ُك ْم َجنها ٍ‬
‫ع ْن ُك ْم َ‬‫َأل ُ َك ِفّ َر هن َ‬
‫س ِبي ِل) ‪( 12‬‬ ‫سوا َء ال ه‬ ‫ض هل َ‬‫ِم ْن ُك ْم فَقَ ْد َ‬

‫إشارة في األجور‬
‫‪-‬إشارة ‪ -‬فالذين أقاموا صالتهم ضاعف صالتهم ‪ ،‬والذين أدوا زكاتهم قدهس ذواتهم ‪،‬‬
‫والذين آمنوا بالرسل ‪ ،‬أوضح لهم السبل ‪ ،‬والذين عزروهم عززوا ‪ ،‬والذين أقرضوا‬
‫ّللا قرضا حسنا ‪ ،‬وفهاهم سرا وعلنا من كونه محسنا ‪.‬‬
‫ه‬

‫سورة المائدة ( ‪ : ) 5‬آية ‪13‬‬


‫واض ِع ِه َونَ ُ‬
‫سوا‬ ‫سيَةً يُ َح ِ ّرفُ َ‬
‫ون ا ْل َك ِل َم ع َْن َم ِ‬ ‫فَبِما نَ ْق ِض ِه ْم ِميثاقَ ُه ْم لَعَنها ُه ْم َو َجعَ ْلنا قُلُوبَ ُه ْم قا ِ‬
‫ع ْن ُه ْم‬
‫ْف َ‬‫ط ِل ُع عَلى خائِنَ ٍة ِم ْن ُه ْم إِاله قَ ِليالً ِم ْن ُه ْم فَاع ُ‬ ‫ظا ِم هما ذُ ِ ّك ُروا بِ ِه َوال تَزا ُل ت َ ه‬ ‫َح ًّ‬
‫ين ) ‪( 13‬‬ ‫سنِ َ‬ ‫ب ا ْل ُمحْ ِ‬ ‫صفَحْ ِإ هن ه َ‬
‫َّللا يُ ِح ُّ‬ ‫َوا ْ‬
‫يحرفون الكلم عن مواضعه ‪ -‬إذا سمعت األحاديث واآليات الواردة باأللفاظ التي تطلق‬
‫على المخلوقات باستصحاب معانيها إياها ‪ ،‬ولوال استصحاب معانيها إياها المفهومة‬
‫ّللا شرح ما‬ ‫من االصطالح ما وقعت الفائدة بذلك عن المخاطب بها ‪ ،‬إذ لم يرد عن ه‬
‫أراد بها مما يخالف ذلك اللسان الذي نزل به هذا التعريف اإللهي قال تعالى ‪َ «:‬وما‬
‫سان قَ ْو ِم ِه ِليُبَ ِيهنَ لَ ُه ْم »يعني بلغتهم ليعلموا ما هو األمر عليه ‪،‬‬ ‫سو ٍل ِإ َّال بِ ِل ِ‬ ‫س ْلنا ِم ْن َر ُ‬‫أ َ ْر َ‬
‫ولم يشرح الرسول المبعوث بهذه األلفاظ بشرح يخالف ما وقع عليه االصطالح ‪،‬‬
‫فننسب تلك المعاني المفهومة من تلك‬

‫ص ‪11‬‬

‫ص ‪11 :‬‬
‫ّللا تعالى كما نسبها لنفسه ‪ ،‬وال يتحكم في شرحها بمعان ال يفهمها‬
‫األلفاظ الواردة إلى ه‬
‫أهل ذلك اللسان الذي نزلت به هذه األلفاظ بلغتهم ‪ ،‬فنكون ممن يحرفون الكلم عن‬
‫ونقر بالجهل‬
‫ه‬ ‫مواضعه ‪ ،‬ومن الذين يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون بمخالفتهم ‪،‬‬
‫بكيفية هذه النسب ‪ ،‬وهذا هو اعتقاد السلف قاطبة من غير مخالف في ذلك ‪.‬‬

‫سورة المائدة ( ‪ : ) 5‬اآليات ‪ 14‬إلى ‪15‬‬


‫ظا ِم هما ذُ ِ ّك ُروا بِ ِه فَأ َ ْغ َر ْينا بَ ْينَ ُه ُم‬‫سوا َح ًّ‬ ‫ِين قالُوا إِنها نَصارى أ َ َخ ْذنا ِميثاقَ ُه ْم فَنَ ُ‬ ‫َو ِم َن الهذ َ‬
‫ون ( ‪ ) 14‬يا‬ ‫صنَعُ َ‬ ‫َّللاُ ِبما كانُوا يَ ْ‬ ‫ف يُنَ ِبّئ ُ ُه ُم ه‬
‫س ْو َ‬‫داوةَ َوا ْلبَ ْغضا َء ِإلى يَ ْو ِم ا ْل ِقيا َم ِة َو َ‬ ‫ا ْلعَ َ‬
‫ب َويَ ْعفُوا ع َْن‬ ‫ون ِم َن ا ْل ِكتا ِ‬ ‫سولُنا يُبَ ِيّ ُن لَ ُك ْم َكثِيرا ً ِم هما ُك ْنت ُ ْم ت ُ ْخفُ َ‬‫ب قَ ْد جا َء ُك ْم َر ُ‬ ‫أ َ ْه َل ا ْل ِكتا ِ‬
‫ين ( ‪.) 15‬‬ ‫تاب ُم ِب ٌ‬
‫ور َو ِك ٌ‬ ‫ير قَ ْد جا َء ُك ْم ِم َن ه ِ‬
‫َّللا نُ ٌ‬ ‫َك ِث ٍ‬
‫ير " لما كان العفو يجمع بالداللة بين الضدين القليل والكثير ‪ ،‬فإنه في‬ ‫ع ْن َك ِث ٍ‬‫" َويَ ْعفُوا َ‬
‫المؤاخذة على الذنوب في قوله ويعفو عن كثير يأخذ على القليل ‪ ،‬فيدل هذا العفو على‬
‫أنه ال بد من المؤاخذة ولكن في قلهة ‪ ،‬والقلة قد تكون بالزمان الصغير المدهة ‪ ،‬ثم يغفر‬
‫ّللا ويجود باإلنعام ‪ ،‬ورفع األلم عن المذنب المسلم ‪ ،‬وقد يكون بالحال ‪ ،‬فيق هل عليه‬ ‫ه‬
‫اآلالم ‪ ،‬بالنظر إلى آالم هي أش هد منها ‪ ،‬فث هم ألم قليل وألم كثير ‪ ،‬فأهل االستحقاق وهم‬
‫المجرمون المأمورون بأن يمتازوا ‪ ،‬وليس إال أهل النار الذين هم أهلها ‪ ،‬وهم‬
‫المشركون ال عن نظر ‪ ،‬فيكون أخذهم بالعفو في الزمان ألن زمان العقاب محصور ‪،‬‬
‫فإذا ارتفع بقي عليهم حكم الزمان الذي ال نهاية ألبده ‪ ،‬فزمان عذابهم قليل باإلضافة‬
‫عز وجل بما يعطي من قليل‬ ‫إلى حكم الزمان الذي يؤول إليه أمرهم ‪ ،‬فهو عفو ه‬
‫عز وجل قد أمر‬ ‫العذاب ‪ ،‬وهو عفو بما يعطي من كثير المغفرة والتجاوز ‪ ،‬فإنه ه‬
‫بالعفو والتجاوز والصفح عمن أساء إلينا ‪ ،‬وهو أولى بهذه الصفة منا ‪ ،‬ولذلك كان‬
‫ور »وهو القرآن فهو نور‬ ‫ّللا نُ ٌ‬‫ّللا لكونه عفوا غفورا« قَ ْد جا َء ُك ْم ِمنَ َّ ِ‬ ‫أجر العافين على ه‬
‫من حيث ذاته ألنه ال يدرك لعزته ‪ ،‬وهو ضياء لما يدرك به ولما يدرك منه ‪ ،‬فبالقرآن‬
‫يكشف جميع ما في الكتب المنزلة من العلوم ‪ ،‬وفيه ما ليس فيها ‪ ،‬فمن أوتي القرآن ‪،‬‬
‫فقد أوتي الضياء الكامل الذي يتضمن كل علم ‪،‬‬

‫ص ‪12‬‬

‫ص ‪12 :‬‬
‫ين »الكتاب ‪ :‬ضم معنى إلى‬‫تاب ُمبِ ٌ‬
‫ومن أعطي القرآن فقد أعطي العلم الكامل ‪َ «.‬و ِك ٌ‬
‫معنى ‪ ،‬والمعاني ال تقبل الضم إلى المعاني حتى تودع في الحروف والكلمات ‪ ،‬فإذا‬
‫حوتها الكلمات والحروف قبلت ضم بعضها إلى بعض ‪ ،‬فانضمت بحكم التبع ‪،‬‬
‫النضمام الحروف ‪ ،‬وانضمام الحروف تسمى كتابة ‪.‬‬

‫سورة المائدة ‪ ( 5 ) :‬اآليات ‪ 16‬إلى ‪17‬‬


‫ور بِ ِإ ْذنِ ِه‬
‫ت إِلَى النُّ ِ‬ ‫ظلُما ِ‬‫الم َويُ ْخ ِر ُج ُه ْم ِم َن ال ُّ‬
‫س ِ‬ ‫سبُ َل ال ه‬ ‫ضوانَهُ ُ‬ ‫َّللاُ َم ِن اتهبَ َع ِر ْ‬
‫يَ ْهدِي بِ ِه ه‬
‫سي ُح ا ْب ُن َم ْريَ َم‬ ‫َّللا ُه َو ا ْل َم ِ‬
‫ِين قالُوا ِإ هن ه َ‬ ‫يم ( ‪ ) 16‬لَقَ ْد َكفَ َر الهذ َ‬ ‫ست َ ِق ٍ‬
‫راط ُم ْ‬ ‫ِيه ْم ِإلى ِص ٍ‬ ‫َويَ ْهد ِ‬
‫ض‬ ‫سي َح ا ْب َن َم ْريَ َم َوأ ُ همهُ َو َم ْن فِي ْاأل َ ْر ِ‬ ‫ش ْيئا ً ِإ ْن أ َرا َد أ َ ْن يُ ْه ِلكَ ا ْل َم ِ‬ ‫قُ ْل فَ َم ْن يَ ْم ِلكُ ِم َن ه ِ‬
‫َّللا َ‬
‫ش ْي ٍء‬ ‫َّللاُ عَلى ُك ِ ّل َ‬ ‫ق ما يَشا ُء َو ه‬ ‫ض َوما بَ ْينَ ُهما يَ ْخلُ ُ‬ ‫ت َو ْاأل َ ْر ِ‬ ‫سماوا ِ‬ ‫ّلِل ُم ْلكُ ال ه‬
‫َج ِميعا ً َو ِ ه ِ‬
‫ِير ) ‪( 17‬‬ ‫قَد ٌ‬
‫ما أجهل من قال بهذا القول من أمة عيسى عليه السالم ‪ ،‬فقد فاتهم علم كثير حيث قالوا‬
‫ّللا تعالى في إقامة الحجة على من هذه صفته ‪«:‬‬ ‫‪ :‬ابن مريم وما شعروا ‪ ،‬ولهذا قال ه‬
‫س ُّمو ُه ْم »فما يسمونهم إال بما يعرفون به من األسماء حتى يعقل عنهم ما يريدون ‪،‬‬ ‫قُ ْل َ‬
‫فإذا سموهم تبيهن في نفس االسم أنه ليس الذي طلب منهم الرسول المبعوث إليهم أن‬
‫يعبدوه ‪ ،‬فمن دان بالصليب لحق بأهل القليب ‪ ،‬وادعي في عيسى عليه السالم األلوهية‬
‫ألنه كان ظاهرا في العالم باسم الدهر في نهاره ‪ ،‬وباسم القيوم الذي ال تأخذه سنة وال‬
‫نوم في ليله ‪ ،‬فكان يصوم الدهر وال يفطر ‪ ،‬ويقوم الليل فال ينام ‪ ،‬وما قيل ذلك في‬
‫نبي قبله فإنه غاية ما قيل في العزيز ‪:‬‬
‫ّللا ‪ ،‬فأثرت هذه الصفة من خلف حجاب الغيب في قلوب‬ ‫ّللا ‪ ،‬ما قيل هو ه‬ ‫إنه ابن ه‬
‫ّللا ُه َو ْال َم ِسي ُح اب ُْن َم ْريَ َم »فنسبهم إلى الكفر في ذلك إقامة‬ ‫المحجوبين حتى قالوا ‪ِ «:‬إ َّن َّ َ‬
‫ّللا إلها آخر ‪ ،‬فهذا‬ ‫ّللا والمشرك يجعل مع ه‬ ‫عذر لهم ‪ ،‬فإنهم ما أشركوا بل قالوا هو ه‬
‫كافر ال مشرك ‪ ،‬فوصفهم بالستر فإنهم اتخذوا ناسوت عيسى مجلى ‪ ،‬فتقع الحيرة في‬
‫العاقل عند النظر الفكري إذا رأى شخصا بشريا من البشر يحيي الموتى ‪ ،‬وهو من‬
‫الخصائص اإللهية ‪ ،‬إذ يرى الصورة بشرا‬

‫ص ‪13‬‬

‫ص ‪13 :‬‬
‫ّللا بما أحيا به من‬
‫باألثر اإللهي ‪ ،‬فأدى بعضهم فيه إلى القول بالحلول ‪ ،‬وأنه هو ه‬
‫ّللا الذي أحيا الموتى‬
‫الموتى ‪ ،‬ولذلك نسبوا إلى الكفر وهو الستر ‪ ،‬ألنهم ستروا ه‬
‫بصورة بشرية عيسى ‪.‬‬

‫سورة المائدة ( ‪ : ) 5‬آية ‪18‬‬


‫َّللا َوأ َ ِحبها ُؤهُ قُ ْل فَ ِل َم يُعَ ِذّبُ ُك ْم بِذُنُوبِ ُك ْم بَ ْل أ َ ْنت ُ ْم بَش ٌَر‬
‫ت ا ْليَ ُهو ُد َوالنهصارى نَحْ ُن أ َ ْبنا ُء ه ِ‬ ‫َوقالَ ِ‬
‫ض َوما بَ ْينَ ُهما‬ ‫ت َو ْاأل َ ْر ِ‬‫سماوا ِ‬ ‫ّلِل ُم ْلكُ ال ه‬ ‫ق يَ ْغ ِف ُر ِل َم ْن يَشا ُء َويُعَذّ ُ‬
‫ِب َم ْن يَشا ُء َو ِ ه ِ‬ ‫ِم هم ْن َخلَ َ‬
‫ير ) ‪( 18‬‬ ‫َو ِإلَ ْي ِه ا ْل َم ِص ُ‬

‫ّللا‬
‫ّللا إال القتصاره ‪ ،‬وكذلك كفر من قال ‪ :‬نحن أبناء ه‬ ‫ما كفر من قال إن المسيح ابن ه‬
‫ّللا إن كانت صحيحة ‪ ،‬فإن‬ ‫وأحباؤه القتصارهم ‪ ،‬ألنهم ذكروا نسبة تعم كل ما سوى ه‬
‫لم تكن في نفس األمر صحيحة فهم والعالم فيها على السواء ‪ ،‬وقالت اليهود‬
‫والنصارى ‪:‬‬
‫ّللا تعالى له مطلق‬ ‫ّللا ‪ ،‬وأرادوا التبني ‪ ،‬فإنهم عالمون بآبائهم ‪ ،‬فإنه لما كان ه‬ ‫إنهم أبناء ه‬
‫الوجود ‪ ،‬ولم يكن له تقييد مانع من تقييد ‪ ،‬بل له التقييدات كلها ‪ ،‬فهو مطلق التقييد ‪،‬‬
‫ال يحكم عليه تقييد ‪ ،‬فله إطالق النسب ‪ ،‬فليست نسبة به أولى من نسبة ‪ ،‬فقد كفر من‬
‫كفر بتخصيص النسب ‪ ،‬مثل قول اليهود والنصارى عن أنفسهم دون غيرهم من أهل‬
‫ّللا َوأ َ ِحبَّا ُؤهُ »فإذا وقد انتسبوا إليه كانوا يعمون النسبة وإن‬ ‫الملل والنحل« ن َْح ُن أَبْنا ُء َّ ِ‬
‫ّللا ‪ «:‬فَ ِل َم يُعَ ِذهبُ ُك ْم بِذُنُوبِ ُك ْم ؟ بَ ْل أ َ ْنت ُ ْم بَش ٌَر ِم َّم ْن‬
‫كانت خطأ في نفس األمر ‪ ،‬فقال لهم ه‬
‫َخلَقَ »يقول تعالى النسبة واحدة فلم خصصتم نفوسكم بها دون هؤالء ؟ وإن أخطأتم‬
‫في نفس األمر فخطؤكم في عموم النسبة ‪ ،‬أقل من خطئكم في خصوصها ‪ ،‬فإن ذلك‬
‫ّللا من غير برهان ‪.‬‬ ‫تحكم على ه‬

‫سورة المائدة ( ‪ : ) 5‬آية ‪19‬‬


‫س ِل أ َ ْن تَقُولُوا ما جا َءنا‬ ‫سولُنا يُبَ ِيّ ُن لَ ُك ْم عَلى فَتْ َر ٍة ِم َن ُّ‬
‫الر ُ‬ ‫يا أ َ ْه َل ا ْل ِكتا ِ‬
‫ب قَ ْد جا َء ُك ْم َر ُ‬
‫ِير ) ‪( 19‬‬ ‫ش ْي ٍء قَد ٌ‬ ‫َّللاُ عَلى ُك ِ ّل َ‬ ‫ير َونَذ ٌ‬
‫ِير َو ه‬ ‫ش ٌ‬ ‫ِير فَقَ ْد جا َء ُك ْم بَ ِ‬
‫ير َوال نَذ ٍ‬ ‫ش ٍ‬‫ِم ْن بَ ِ‬
‫قل يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فتره من الرسل ودرس من السبل‬

‫ص ‪14‬‬

‫ص ‪14 :‬‬
‫على ُك ِهل َ‬
‫ش ْيءٍ‬ ‫ّللاُ َ‬
‫ِير َو َّ‬ ‫ِير فَقَ ْد جا َء ُك ْم بَ ِش ٌ‬
‫ير َونَذ ٌ‬ ‫" أ َ ْن تَقُولُوا ما جا َءنا ِم ْن بَ ِش ٍ‬
‫ير َوال نَذ ٍ‬
‫ِير »‪.‬‬ ‫قَد ٌ‬

‫سورة المائدة ( ‪ : ) 5‬آية ‪20‬‬


‫علَ ْي ُك ْم ِإ ْذ َجعَ َل ِفي ُك ْم أ َ ْن ِبيا َء َو َجعَلَ ُك ْم‬
‫َّللا َ‬ ‫َو ِإ ْذ قا َل ُموسى ِلقَ ْو ِم ِه يا قَ ْو ِم ْ‬
‫اذك ُُروا ِن ْع َمتَ ه ِ‬
‫ين ( ‪) 20‬‬ ‫ت أ َ َحدا ً ِم َن ا ْلعالَ ِم َ‬
‫ُملُوكا ً َوآتا ُك ْم ما لَ ْم يُ ْؤ ِ‬

‫»فاّلل تعالى ملك بالحقيقة ‪ ،‬والمخلوق ملك بالجعل ‪ ،‬فأثبت الملوك‬ ‫ه‬ ‫« َو َجعَلَ ُك ْم ُملُوكا ً‬
‫في األرض في قوله ‪َ «:‬و َجعَلَ ُك ْم ُملُوكا ً »فإن من أسمائه تعالى الملك ‪ ،‬وما أثبته ه‬
‫ّللا ال‬
‫ّللا ‪،‬‬
‫يلحقه االنتفاء ‪ ،‬كما أنه إذا نفى شيئا ال يمكن إثباته أصال ‪ ،‬وإن كان ال ملك إال ه‬
‫ّللا قد أثبت الملوك ‪.‬‬ ‫ولكن ه‬

‫سورة المائدة ( ‪ : ) 5‬اآليات ‪ 21‬إلى ‪23‬‬


‫َّللاُ لَ ُك ْم َوال ت َ ْرتَدُّوا عَلى أَد ِ‬
‫ْبار ُك ْم فَت َ ْنقَ ِلبُوا‬ ‫ب ه‬ ‫سةَ الهتِي َكت َ َ‬ ‫يا قَ ْو ِم ا ْد ُخلُوا ْاأل َ ْر َ‬
‫ض ا ْل ُمقَ هد َ‬
‫ين َو ِإنها لَ ْن نَ ْد ُخلَها َحتهى يَ ْخ ُر ُجوا‬ ‫ين (‪ )21‬قالُوا يا ُموسى ِإ هن فِيها قَ ْوما ً َجبه ِار َ‬ ‫س ِر َ‬ ‫خا ِ‬
‫ون أ َ ْنعَ َم ه‬
‫َّللاُ‬ ‫ِين يَخافُ َ‬ ‫الن ِم َن الهذ َ‬ ‫ون ( ‪ ) 22‬قا َل َر ُج ِ‬ ‫ِم ْنها فَ ِإ ْن يَ ْخ ُر ُجوا ِم ْنها فَ ِإنها ِ‬
‫داخلُ َ‬
‫َّللا فَت َ َو هكلُوا إِ ْن ُك ْنت ُ ْم‬
‫علَى ه ِ‬ ‫ون َو َ‬ ‫باب فَ ِإذا َد َخ ْلت ُ ُموهُ فَ ِإنه ُك ْم غا ِلبُ َ‬
‫علَ ْي ِه ُم ا ْل َ‬
‫علَ ْي ِه َما ا ْد ُخلُوا َ‬‫َ‬
‫ين ) ‪( 23‬‬ ‫ُم ْؤ ِمنِ َ‬
‫فجعل التوكل عالمة عالمة على وجود اإليمان في قلب العبد ‪ ،‬ولم يتخذه وكيال إال‬
‫ّللا في ذلك في قوله ‪«:‬‬ ‫طائفة مخصوصة من المتوكلين المؤمنين الذين امتثلوا أمر ه‬
‫يال »فاتخذوه وكيال فيما خلق لهم ليتفرغوا إلى ما خلقوا له ‪ ،‬فال يتوكل عليه‬ ‫فَات َّ ِخ ْذهُ َو ِك ً‬
‫ّللا األسباب وظهر العالم مربوطا بعضه‬ ‫في أمره كلهه إال مؤمن ‪ ،‬واعلم أنه لما وضع ه‬
‫ببعضه ‪ ،‬فلم تنبت سنبلة إال عن زارع وأرض ومطر ‪ ،‬وأمر سبحانه باالستسقاء إذا‬
‫عدم المطر تثبيتا منه في قلوب عباده لوجود األسباب ‪ ،‬لهذا لم يكلف عباده قط‬
‫الخروج عن السبب ‪ ،‬فإنه ال تقتضيه حقيقته ‪ ،‬وإنما عين له سببا دون سبب ‪ ،‬فقال له‬
‫ّللا فَت َ َو َّكلُوا ِإ ْن ُك ْنت ُ ْم ُمؤْ ِمنِينَ »‬
‫علَى َّ ِ‬ ‫‪ :‬أنا سببك فعلي فاعتمد وتوكل كما ورد« َو َ‬
‫[ الرجل من أثبت األسباب ]‬
‫ّللا وال عرف نفسه ‪،‬‬ ‫فالرجل من أثبت األسباب ‪ ،‬فإنه لو نفاها ما عرف ه‬

‫ص ‪15‬‬

‫ص ‪15 :‬‬
‫فإثبات األسباب أدل دليل على معرفة المثبت لها بربه ‪ ،‬ومن رفعها رفع ما ال يصح‬
‫رفعه ‪ ،‬وإنما ينبغي له أن يقف مع السبب األول ‪ ،‬وهو الذي خلق هذه األسباب‬
‫ّللا فقد أساء األدب‬
‫ّللا ‪ ،‬ومن عزل من واله ه‬ ‫ونصبها ‪ ،‬ورافع األسباب سيئ األدب مع ه‬
‫‪ ،‬وكذهب في عزل ذلك الوالي ‪ ،‬فانظر ما أجهل من كفر باألسباب وقال بتركها ‪ ،‬ومن‬
‫ترك ما قرره الحق فهو منازع ال عبد ‪ ،‬وجاهل ال عالم ‪ ،‬فاألديب العالم من أثبت ما‬
‫ّللا ‪ ،‬ومن نفى ما نفاه‬
‫ّللا ‪ ،‬وعلى الوجه الذي أثبته ه‬
‫ّللا ‪ ،‬في الموضع الذي أثبته ه‬
‫أثبته ه‬
‫ّللا ‪ ،‬وما من أحد من رسول‬ ‫ّللا ‪ ،‬وعلى الوجه الذي نفاه ه‬
‫ّللا ‪ ،‬في الموضع الذي نفاه ه‬
‫ه‬
‫قط عن رق األسباب‬ ‫وال نبي وال ولي وال مؤمن وال كافر وال شقي وال سعيد خرج ه‬
‫مطلقا ‪ ،‬أدناه التنفس ‪ ،‬فإن التنفس سبب الحياة ‪ ،‬واعلم أن ترك السبب الجالب للرزق‬
‫عن طريق التوكل سبب جالب للرزق ؛ وأن المتصف به ما خرج عن رق األسباب ‪.‬‬

‫سورة المائدة ( ‪ : ) 5‬آية ‪24‬‬


‫قالُوا يا ُموسى إِنها لَ ْن نَ ْد ُخلَها أَبَدا ً ما دا ُموا فِيها فَ ْ‬
‫اذ َه ْب أ َ ْنتَ َو َربُّكَ فَقاتِال إِنها ها ُهنا‬
‫قا ِعد َ‬
‫ُون ) ‪( 24‬‬
‫ّللا موسى ‪.‬‬ ‫فأبوا نصرة نبي ه‬

‫سورة المائدة ( ‪ : ) 5‬اآليات ‪ 25‬إلى ‪26‬‬


‫ين ( ‪ ) 25‬قا َل‬ ‫س ِق َ‬ ‫سي َوأ َ ِخي فَ ْ‬
‫اف ُرقْ بَ ْينَنا َوبَ ْي َن ا ْلقَ ْو ِم ا ْلفا ِ‬ ‫ب إِ ِنّي ال أ َ ْم ِلكُ إِاله نَ ْف ِ‬ ‫قا َل َر ّ ِ‬
‫ين (‬ ‫علَى ا ْلقَ ْو ِم ا ْلفا ِ‬
‫س ِق َ‬ ‫س َ‬ ‫ض فَال تَأ ْ َ‬ ‫ون فِي ْاأل َ ْر ِ‬‫سنَةً يَتِي ُه َ‬‫ين َ‬ ‫فَ ِإنهها ُم َح هر َمةٌ َ‬
‫علَ ْي ِه ْم أ َ ْربَ ِع َ‬
‫) ‪26‬‬
‫ّللا إال بظاهر قولهم ‪ ( :‬إنا هاهنا قاعدون ) فقال لهم تعالى ‪ :‬إني تارككم‬ ‫وما أخذهم ه‬
‫تائهين في هذه القعدة أربعين سنة ‪ ،‬ال تستطيعون دخول بيت المقدس ‪ ،‬وما بقي معهم‬
‫موسى عليه السالم في التيه إال لكونه رسوال إليهم فبقوا حيارى ‪.‬‬

‫سورة المائدة ( ‪ : ) 5‬آية ‪27‬‬


‫ق ِإ ْذ قَ هربا قُ ْربانا ً فَتُقُ ِبّ َل ِم ْن أ َ َح ِد ِهما َولَ ْم يُتَقَبه ْل ِم َن ْاآل َخ ِر‬ ‫علَ ْي ِه ْم نَبَأ َ ا ْبنَ ْي آ َد َم ِبا ْل َح ّ ِ‬
‫َواتْ ُل َ‬
‫ين ) ‪( 27‬‬ ‫قا َل َأل َ ْقتُلَنهكَ قا َل ِإنهما يَتَقَبه ُل ه‬
‫َّللاُ ِم َن ا ْل ُمت ه ِق َ‬

‫ص ‪16‬‬

‫ص ‪16 :‬‬
‫القرابين ‪ :‬هو إتالف أرواح عن تدبير أجسام حيوانية ‪ ،‬ليتغذى بها أجسام إنسانية ‪،‬‬
‫فتنظر أرواحها إليها في حال تفريقها فتدبرها إنسانية بعد ما كانت تدبرها إبال أو بقرا‬
‫أو غنما ‪.‬‬
‫فاألرواح المدبرة لها في كل حال ال تتبدل تبدل الصور ‪ ،‬ألنها ال تقبل التبديل ألحديتها‬
‫‪ ،‬وإنما يقبل التبديل المركب من أجسام وأجساد حسا وبرزخا‪.‬‬

‫[إشارة ‪ -‬وقبول قربان هابيل]‬


‫ّللا جعلهما أصال لبنيه ‪- ،‬الضمير‬
‫إشارة ‪ -‬وإنما قبل قربان الواحد دون أخيه ‪ ،‬ألن ه‬
‫يعود على آدم ‪ -‬وهما قبضتان ‪ ،‬فال بد أن يختص أحدهما بالرضى واآلخر بالخسران‬
‫‪.‬‬

‫سورة المائدة ( ‪ : ) 5‬اآليات ‪ 28‬إلى ‪30‬‬


‫ب‬‫َّللا َر ه‬
‫خاف ه َ‬ ‫ِي إِلَ ْيكَ ِأل َ ْقتُلَكَ إِ ِنّي أ َ ُ‬
‫س ٍط يَد َ‬ ‫ي يَدَكَ ِلت َ ْقتُلَنِي ما أَنَا بِبا ِ‬
‫س ْطتَ إِلَ ه‬‫لَئِ ْن بَ َ‬
‫ب النه ِار َوذ ِلكَ َجزا ُء‬‫ُون ِم ْن أَصْحا ِ‬ ‫ين ) ‪ِ ( 28‬إ ِنّي أ ُ ِري ُد أ َ ْن تَبُو َء ِب ِإثْ ِمي َو ِإثْ ِمكَ فَتَك َ‬ ‫ا ْلعالَ ِم َ‬
‫ين ) ‪( 30‬‬ ‫س ِر َ‬‫صبَ َح ِم َن ا ْلخا ِ‬‫سهُ قَتْ َل أ َ ِخي ِه فَقَتَلَهُ فَأ َ ْ‬
‫ين ( ‪ ) 29‬فَ َط هوعَتْ لَهُ نَ ْف ُ‬ ‫ال ه‬
‫ظا ِل ِم َ‬
‫قتل قابيل هابيل ظلما فما زال القتل ظلما في بني آدم إلى يوم القيامة ‪ ،‬وعلى األول‬
‫كفل من ذلك‪.‬‬

‫سورة المائدة ( ‪ : ) 5‬آية ‪31‬‬


‫س ْوأَةَ أ َ ِخي ِه قا َل يا َو ْيلَتى أ َ‬
‫واري َ‬ ‫ف يُ ِ‬ ‫ض ِليُ ِريَهُ َك ْي َ‬‫ث فِي ْاأل َ ْر ِ‬ ‫َّللاُ ُ‬
‫غرابا ً يَ ْب َح ُ‬ ‫ث ه‬ ‫فَبَعَ َ‬
‫ين ) ‪( 31‬‬ ‫صبَ َح ِم َن النهاد ِِم َ‬ ‫س ْوأَةَ أ َ ِخي فَأ َ ْ‬‫ي َ‬ ‫ب فَأ ُ ِ‬
‫وار َ‬ ‫ُون ِمثْ َل هذَا ا ْلغُرا ِ‬‫ع َج ْزتُ أ َ ْن أَك َ‬
‫َ‬
‫الندم على ما فات ‪ ،‬وميم الندم منقلبة عن باء مثل الزم والزب ‪ ،‬وهو أثر حزنه على‬
‫ما فات يسمى ندما ‪ ،‬والندب ‪ :‬األثر فقلبت ميما وجعلت ألثر الحزن خاصة‪.‬‬

‫إشارة ‪ -‬لم كان الغراب معلما ؟‬


‫إشارة ‪ -‬لم كان الغراب معلما ؟ ألن الحق ألبسه ثوبا من الليل مظلما ‪ ،‬إشارة إلى أن‬
‫الغيب يعلم الشهادة ‪ ،‬ولذلك كان الليل غيبا والسواد غيبا ‪ ،‬فأعطاه العلم فعال وحاال ‪،‬‬
‫وكساه من‬

‫ص ‪17‬‬

‫ص ‪17 :‬‬
‫ظالم القبر سرباال ‪ ،‬فأعطاه العلم فعال ببحثه في األرض ‪ ،‬وحاال بما تقدم من إشارة‬
‫السواد ‪ ،‬وهو صفة الغيب المفيد لعالم الشهادة فهذا معنى ‪ :‬وكساه من ظالم القبر‬
‫سرباال ‪ ،‬أي لمناسبة الظالم إلى السواد ‪.‬‬

‫سورة المائدة ( ‪ : ) 5‬آية ‪32‬‬


‫ض‬ ‫سرائِي َل أَنههُ َم ْن قَت َ َل نَ ْفسا ً بِغَ ْي ِر نَ ْف ٍس أ َ ْو فَسا ٍد فِي ْاأل َ ْر ِ‬‫ِم ْن أَجْ ِل ذ ِلكَ َكت َ ْبنا عَلى بَنِي إِ ْ‬
‫سلُنا‬‫اس َج ِميعا ً َولَقَ ْد جا َءتْ ُه ْم ُر ُ‬ ‫اس َج ِميعا ً َو َم ْن أَحْ ياها فَكَأَنهما أَحْ يَا النه َ‬ ‫فَكَأَنهما قَت َ َل النه َ‬
‫ون ) ‪( 32‬‬ ‫س ِرفُ َ‬ ‫ض لَ ُم ْ‬ ‫ت ث ُ هم ِإ هن َكثِيرا ً ِم ْن ُه ْم بَ ْع َد ذ ِلكَ فِي ْاأل َ ْر ِ‬
‫ِبا ْلبَ ِيّنا ِ‬
‫ّللا تعالى أنه أيد الرسل بالبينات ليعذر اإلنسان من نفسه ‪ ،‬لذلك قال تعالى ‪«:‬‬ ‫أخبر ه‬
‫وال »يعني نبعثه باآليات البينات على صدق دعواه ‪-‬‬ ‫س ً‬‫ث َر ُ‬ ‫َوما ُكنَّا ُمعَ ِذه ِبينَ َحتَّى نَ ْبعَ َ‬
‫ّللا عليه وسلم بعد موته ‪ ،‬حياة سنته ‪ ،‬ومن أحياه فكأنما‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫إشارة ‪ -‬حياة رسول ه‬
‫أحيا الناس جميعا ‪ ،‬فإنه المجموع األتم ‪ ،‬والبرنامج األكمل ‪.‬‬

‫سورة المائدة ( ‪ : ) 5‬آية ‪33‬‬


‫ض فَسادا ً أ َ ْن يُقَتهلُوا أ َ ْو‬ ‫سعَ ْو َن فِي ْاأل َ ْر ِ‬ ‫سولَهُ َويَ ْ‬
‫َّللا َو َر ُ‬
‫ون ه َ‬ ‫حاربُ َ‬‫ِين يُ ِ‬ ‫ِإنهما َجزا ُء الهذ َ‬
‫ي ِفي‬ ‫ض ذ ِلكَ لَ ُه ْم ِخ ْز ٌ‬ ‫الف أ َ ْو يُ ْنفَ ْوا ِم َن ْاأل َ ْر ِ‬
‫ِيه ْم َوأ َ ْر ُجلُ ُه ْم ِم ْن ِخ ٍ‬
‫ط َع أ َ ْيد ِ‬
‫صلهبُوا أ َ ْو تُقَ ه‬
‫يُ َ‬
‫َذاب ع َِظي ٌم ) ‪( 33‬‬ ‫ال ُّد ْنيا َولَ ُه ْم فِي ْاآل ِخ َر ِة ع ٌ‬
‫ّللا لما عاقبهم في الدنيا لم يجعل عقوبتهم‬ ‫على تلك المحاربة والفساد جزاء لهم فإن ه‬
‫كفارة مثل ما هي الحدود في حق المؤمنين ‪ ،‬وهذا ال يكون إال للكفار ‪ ،‬ولذلك قال ‪«:‬‬
‫ع ِظي ٌم »يعم الظاهر والباطن ‪ ،‬بخالف عذاب أهل الكبائر من‬ ‫ذاب َ‬‫ع ٌ‬ ‫َولَ ُه ْم فِي ْاآل ِخ َرةِ َ‬
‫ّللا يميتهم في النار إماتة حتى يعودوا حمما شبه الفحم ‪ ،‬فهؤالء ما‬ ‫المؤمنين ‪ ،‬فإن ه‬
‫أحسوا بالعذاب لموتهم ‪ ،‬فليس لهم حظ في العذاب العظيم ‪ ،‬فالمصاب في الدنيا ‪ ،‬تكفر‬
‫ّللا ‪ ،‬ومصيبة اآلخرة ال تكفر ‪ ،‬وقد يكون هذا الحكم‬ ‫عنه مصيبته من الخطايا ما يعلم ه‬
‫في الدنيا فيشبه اآلخرة مثل ما جاء‬

‫ص ‪18‬‬

‫ص ‪18 :‬‬
‫في حق هؤالء فما كفر عنهم ما أصابهم في الدنيا من البالء ‪.‬‬

‫سورة المائدة ( ‪ : ) 5‬اآليات ‪ 34‬إلى ‪35‬‬


‫ور َر ِحي ٌم ( ‪ ) 34‬يا أَيُّ َها‬ ‫غفُ ٌ‬ ‫علَ ْي ِه ْم فَا ْعلَ ُموا أ َ هن ه َ‬
‫َّللا َ‬ ‫ِين تابُوا ِم ْن قَ ْب ِل أ َ ْن ت َ ْقد ُِروا َ‬
‫ِإاله الهذ َ‬
‫ون ( ‪.) 35‬‬ ‫سيلَةَ َوجا ِهدُوا ِفي َ‬
‫س ِبي ِل ِه لَعَله ُك ْم ت ُ ْف ِل ُح َ‬ ‫َّللا َوا ْبتَغُوا ِإلَ ْي ِه ا ْل َو ِ‬
‫ِين آ َمنُوا اتهقُوا ه َ‬
‫الهذ َ‬

‫ّللا »لما كان اإليمان الذي هو نور إلهي واردا على باطن‬ ‫« يا أَيُّ َها الَّذِينَ آ َمنُوا اتَّقُوا َّ َ‬
‫هذه الهيئة االجتماعية النفسية ‪ ،‬الذي هو القلب الحقيقي المعنوي ال الصوري ‪ ،‬وعلى‬
‫ظاهرها الذي هو النفس الملهمة ‪ ،‬متمكنا في القلب والنفس ‪ ،‬وصارا قابلين فيهما‬
‫لإليمان واإلسالم أوال ‪ ،‬وألحكام الحق وشرعه وأمره ونهيه ثانيا ‪ ،‬ومقبالن على‬
‫قبولهما والعمل بموجباتهما التي هي أداء الواجبات والمندوبات ‪ ،‬والترك واالحتراز‬
‫عن المحرمات والشبهات واالنحرافات ‪ ،‬لكن النشأة الدنيوية الحسية تقتضي أحيانا‬
‫بالنسبة إلى بعض وغالبا بالنسبة إلى بعض آخر ميل النفس وانحرافها عن هيئتها‬
‫االجتماعية إلى جانب الروح الحيوانية الطبيعية العنصرية ‪ ،‬وغفلتها وغيبتها عن ذلك‬
‫اإلقبال والقبول ‪ ،‬فتظهر آثار األسماء اإللهية فيها بوصف االنحرافات ويقتضي ظهور‬
‫ّللا‬
‫نتائجها فيها بذلك الوصف االنحرافي الموجب لأللم والبعد ‪ ،‬فاقتضى أثر عناية ه‬
‫عز من قائل «‪:‬يا‬ ‫تعالى لعباده المؤمنين أن يوقظهم من نومة الغفلة ‪ ،‬ويخاطبهم بقوله ه‬
‫باّلل ورسوله‬
‫وّللا أعلم بعد أن اهتديتم إلى اإليمان ه‬ ‫أَيُّ َها الَّذِينَ آ َمنُوا اتَّقُوا َّ َ‬
‫ّللا »يعني ه‬
‫ومالئكته وكتبه واليوم اآلخر ‪ ،‬والقدر خيره وشره ‪ ،‬احترزوا بتقواكم بواسطة متابعة‬
‫ّللا تعالى ونهيه ‪ ،‬والحضور معهما ومع موجباتهما التي هي أداء الواجبات‬ ‫أمر ه‬
‫والمندوبات ‪ ،‬وترك المحرمات والشبهات واالنحرافات ‪ ،‬عن ميلها وانحرافها عن‬
‫وحدتها وجمعيتها إلى جانب كثرة روحها الحيوانية الطبيعية العنصرية ‪ ،‬فتغلبكم‬
‫االنحرافات ‪.‬‬
‫ّللا ‪ ،‬وحكم نهيه والحضور مع‬ ‫فاجعلوا نفوسكم بذلك االحتراز في وقاية وحدة أمر ه‬
‫موجباتها المذكورة ‪ ،‬ووقاية وحدة أثرها الروحاني وعدالة جمعيتها ‪ ،‬فتنصبغ آثار‬
‫ّللا تعالى وقربه ‪،‬‬ ‫ّللا تعالى فيها بصبغة الوحدة واالعتدال الموجبين لرضاء ه‬ ‫أسماء ه‬
‫ّللا‬
‫فيقيكم ذلك الحكم والوحدة والعدالة والقرب والرضا عن أن تظهر فيكم آثار سخط ه‬
‫ّللا تعالى ‪ ،‬المنصبغة بأحكام انحراف‬
‫تعالى ‪ ،‬التي هي من نتائج أسماء ه‬

‫ص ‪19‬‬

‫نفوسكم ‪ ،‬وميلها عن وحدة األثر الروحاني ‪ ،‬وعدالة الجمعية عن الحضور مع األمر‬


‫والنهي ‪ ،‬والعمل بموجباتها إلى كثرة الروح الحيوانية الطبيعية العنصرية ‪ ،‬وغلبة‬
‫الغفلة عن األمر والنهي وموجباتهما عليها ‪ ،‬فإنكم متى ما دخلتم في هذه الوقاية ولذتم‬
‫بها ‪ ،‬وصل إليكم تمام أثر االسم « المؤمن » وآمنكم من غلبة شرور أنفسكم ‪ ،‬التي‬
‫ص ‪19 :‬‬
‫ّللا عليه وسلم في قوله ‪ « :‬نعوذ باهلل من شرور أنفسنا »‬ ‫استعاذ منها النبي صلهى ه‬
‫وحصل لكم استعداد السير والسلوك والترقي في مرتبة اإليمان إلى مرتبة اإلحسان ‪،‬‬
‫وتخاطبون حالتئذ بابتغاء الوسيلة بواسطة أداء الحقوق الباطنية المتعلقة بالمباحات‬
‫الفعلية منها والتركية ‪ ،‬طلبا للوصول إلى مقام اإلحسان والتحقق به بعد أداء حقوق‬
‫الواجبات والمندوبات ‪ ،‬وترك المحرمات والشبهات واالنحرافات والدخول في وقاية‬
‫ّللا تعالى ونهيه ‪ ،‬طلبا للتحقق بحقيقة مقام اإليمان ‪ ،‬فابتغاء الوسيلة يكون عين‬‫أمر ه‬
‫ّللا تعالى ‪ ،‬فيكون سمعه وبصره ولسانه ويده‬ ‫ّللا تعالى بالنوافل حتى يحبه ه‬
‫التقرب إلى ه‬
‫ورجله ‪ ،‬وذلك هو الدخول في دائرة مقام اإلحسان ‪.‬‬
‫فابتغاء الوسيلة إليه يعم حكمه أداء الواجبات والمندوبات ‪ ،‬وترك المحرمات والشبهات‬
‫واالنحرافات ‪ ،‬قوال وفعال وخلقا وحاال ‪ ،‬وإتيان المباحات أو تركها مقرونا بالنية‬
‫المخلصة عن شوائب حظوظ النفس في الدنيا واآلخرة ‪ ،‬وإليه في هذه اآلية إشارة إلى‬
‫أخص لكونه غير متعين‬ ‫ه‬ ‫هذا اإلخالص ‪ ،‬إال أن حكم ابتغاء الوسيلة بإتيان المباحات‬
‫عز وجل ‪.‬‬‫ّللا ه‬
‫مفهومه في األمر بالتقوى التي هي السلوك في سبيل التقرب إلى ه‬
‫بإتيان األوامر وأداء الواجبات والمندوبات التي هي مقتضاها ‪ ،‬واالنتهاء عن النواهي‬
‫وترك المحرمات والشبهات واالنحرافات التي هي مقتضياتها ‪ ،‬والدخول بواسطة ذلك‬
‫ّللا تعالى وهدايته ولطفه تقي المؤمن المسلم تلك‬ ‫اإلتيان واالنتهاء في وقاية رضى ه‬
‫ّللا تعالى وإضالله وقهره وضره فيه ‪ ،‬ثم اعلم أن ابتغاء‬ ‫الوقاية من ظهور آثار سخط ه‬
‫الوسيلة هو أن يأكل المؤمن ويشرب هّلل تعالى ‪ ،‬أو يتركهما هّلل ال إلرادة النفس‬
‫وشهواتها ‪ ،‬وال لمتابعة خاطر النفس عمل ذلك المباح أو تركه ‪ ،‬وكذا ال يتناول جميع‬
‫ّللا تعالى ‪ ،‬فإن كل شيء مباح هو نعمة من‬ ‫المباحات وال يتركها إال بنية التقرب إلى ه‬
‫ّللا تعالى ‪ ،‬وكذا القدرة‬
‫ّللا تعالى ‪ ،‬واآللة التي بها يتناول تلك النعمة أيضا نعمة من ه‬
‫ه‬
‫على تركها هي نعمة في حقه ‪ ،‬فال يتناول وال يترك شيئا من المباحات ‪ ،‬وال يقول وال‬
‫ّللا تعالى ‪ ،‬ال ألجل‬
‫يعمل شيئا منها وال يترك إمضاء خاطرهما إال بنية أداء شكر نعم ه‬
‫ّللا تعالى ‪ ،‬وعن نية أداء‬‫شهوة النفس ومتابعة خاطرها وإرادتها ‪ ،‬وال بغفلة عن ذكر ه‬

‫ص ‪20‬‬

‫ص ‪20 :‬‬
‫شكر نعمه ‪ -‬الوجه الثاني ‪ -‬يمكن أن يكون قوله ‪َ «:‬وا ْبتَغُوا إِلَ ْي ِه ْال َو ِسيلَةَ »‬

‫[ التوسل برسول هللا ]‬


‫ّللا‬
‫من التوسل فإنه لم يقل منه أي ابتغوا منه الوسيلة ‪ ،‬والتوسل هو طلب ‪ -‬القرب من ه‬
‫‪:‬‬
‫إذا الصادق الداعي أتاك مبيهنا ‪ ....‬فألق إليه السمع إن كنت مؤمنا‬
‫ّللا أنت وسيلتي ‪ ....‬إلى مسعدي سرا أقول ومعلنا‬ ‫وقلت رسول ه‬
‫ولست بإيماني به مترددا ‪ ....‬فإني علمت األمر علما مبينا‬
‫الوجه الثالث ‪ -‬قال تعالى «‪َ :‬وا ْبتَغُوا ِإلَ ْي ِه ْال َو ِسيلَةَ »والوسيلة ‪ :‬درجة في الجنة ال‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ :‬وأرجو أن أكون أنا ‪،‬‬ ‫ينالها أو ال تنبغي إال لرجل واحد ‪ ،‬قال صلهى ه‬
‫فمن سأل لي الوسيلة حلهت له الشفاعة ‪ .‬فلو سأل واحد منا ربه الوسيلة في حق نفسه‬
‫لما سأل ما ال يستحقه ‪ ،‬فإنها لم تحجر ‪ ،‬ولم ينص على وحدانية الشخص ‪ ،‬هل هو‬
‫ّللا في‬ ‫واحد لعينه أو لصفة تطلبها ‪ ،‬ولكن يمنعنا من ذلك اإليثار وحسن األدب مع ه‬
‫ّللا له‬ ‫ّللا عليه وسلم الذي اهتدينا بهديه ‪ ،‬وقد طلب منا أن نسأل ه‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫حق رسول ه‬
‫الوسيلة ‪ ،‬فتعين علينا أدبا وإيثارا ومروءة ومكارم خلق أن لو كانت لنا لوهبناها له ‪،‬‬
‫ّللا‬
‫إذ كان هو األولى باألفضل من كل شيء لعلو منصبه ‪ ،‬وما عرفناه من منزلته عند ه‬
‫‪ ،‬ونرجو بهذا أن يكون لنا في الجنة ما يماثل تلك الدرجة ‪ ،‬فقد ثبت في الشرع أن‬
‫اإلنسان إذا دعا ألخيه بظهر الغيب ‪ ،‬قال الملك له ولك بمثله ‪ ،‬ولك بمثليه ‪.‬‬
‫ّللا عليه وسلم بالوسيلة وهو غائب ‪ ،‬قال الملك ‪ :‬ولك بمثله فهي له‬ ‫فإذا دعونا له صلهى ه‬
‫والمثل للداعي فينال من درجات مجموعة ما يناله صاحب الوسيلة من الوسيلة ‪ ،‬ألن‬
‫الوسيلة ال مثل لها ‪ ،‬أي ما ثم درجة واحدة تجمع ما جمعت الوسيلة ‪ ،‬وإن كان ما‬
‫س ِبي ِل ِه‬
‫جمعت متفرقا في درجات متعددة ولكن للوسيلة خاصية الجمع« َوجا ِهدُوا ِفي َ‬
‫ّللا الوسيلة ‪ ،‬في التعمل وإن لم يعمل تحصيل‬ ‫»اعلم أن الفضيلة ‪ ،‬عند من ابتغى إلى ه‬
‫ما لديه ‪ ،‬مع كونه ما وصل إليه ‪ ،‬ما تحصل نتيجة العمل لمن لم يعمل ‪ ،‬إال لمن اجتهد‬
‫ولم يكسل ‪ ،‬وأما مع الكسل فما وصل وال توصل ‪ ،‬ابذل المجهود ‪ ،‬وما عليك أن ال‬
‫تتصف بالوجود ‪.‬‬
‫ّللا من‬ ‫ّللا أن اإلسالم واإليمان والتقوى وابتغاء الوسيلة كلها من آثار اسم ه‬ ‫واعلم أيدك ه‬
‫حيث أنه هاد ‪ ،‬والكفر والطغيان والعصيان واالنهماك في استيفاء اللذات والشهوات‬
‫ّللا وعن التفكر في آالئه‬ ‫وارتكاب المحرمات والشبهات ‪ ،‬والنسيان والغفلة عن ذكر ه‬
‫ّللا تعالى ‪ ،‬لكن من حيث صفة إضالله واسمه المضل ‪،‬‬ ‫ونعمائه ‪ ،‬كلها من آثار اسم ه‬
‫وأئمة الكفر وشياطين اإلنس والجن والكفار والعصاة والطغاة‬
‫ص ‪21‬‬

‫ص ‪21 :‬‬
‫كلهم مظاهر االسم المضل ‪ ،‬ومظهرو أحكامه وآثاره ‪.‬‬
‫باّلل وبهم ‪ ،‬وجبريل من حيث أنه‬ ‫كما أن األنبياء والرسل وأولو العزم منهم والمؤمنون ه‬
‫مبلغ الوحي وإظهار الشرع مظاهر االسم الهادي ‪ ،‬ومظهرو أحكامه وآثاره ‪.‬‬
‫لذلك كان بين هذين االسمين أعني الهادي والمضل مجازات ومغالبات ومقالبات في‬
‫إظهار أحكامهما وآثارهما ‪.‬‬
‫فكل واحد منهما يريد إظهار مقتضياته لتعلق الكمال المختص بكل واحد منهما بظهور‬
‫تلك المقتضيات واألحكام واآلثار المختصة به ‪ ،‬فال جرم حيث ظهر أحكام اسم الهادي‬
‫‪ ،‬وغلب بظهور آثاره ومقتضياته من اإليمان واإلسالم والتقوى وابتغاء الوسيلة من‬
‫حيث مظاهره ‪ ،‬ومظهرو أحكامه وآثاره من المؤمنين والصالحين واألنبياء والرسل‬
‫ومالكي سبيل الحق ‪ ،‬ال بد وأن يقوم اسم المضل من حيث مظاهره ومظهرو أحكامه‬
‫وآثاره من شياطين اإلنس والجن والكفار وأئمتهم ورؤسائهم في الدفع والمنع عن‬
‫ظهور اسم الهادي ومقتضياته ‪ ،‬وعن ظهور غلبة سلطنته ‪ ،‬فتعين الجهاد الصغير‬
‫والكبير ‪ ،‬مع الشيطان وأعوانه وأنصاره وحزبه من الكفار وأئمتهم ‪ ،‬ورفع شرهم‬
‫وكسر شهوتهم ‪ ،‬وقمع النفس والهوى ‪ ،‬وأنصارهما من الشهوة والغضب ‪ ،‬وما‬
‫يتبعهما من القوى في العالمين الكبير التفصيلي ‪ ،‬والصغير اإلنساني ‪ ،‬فلهذا رتب‬
‫تعالى ذكر األمر بالجهاد على ذكر األثر بالتقوى وابتغاء الوسيلة فقال تعالى ‪ «:‬يا أَيُّ َها‬
‫ّللا َوا ْبتَغُوا إِلَ ْي ِه ْال َو ِسيلَةَ َوجا ِهدُوا فِي َ‬
‫سبِي ِل ِه »‪.‬‬ ‫الَّذِينَ آ َمنُوا اتَّقُوا َّ َ‬
‫وأما سر كون الجهاد مع النفس والشيطان وأعوانهما في العالم الصغير اإلنساني جهادا‬
‫ّللا عليه وسلم « ‪ :‬رجعنا من الجهاد األصغر إلى الجهاد األكبر‬ ‫أكبر ‪ ،‬كما قال صلهى ه‬
‫‪ ،‬عند اشتغاله بالصالة عند مرجعه من جهاد الكفار ‪.‬‬
‫فألن المطلب الغائي من إيجاد الخلق إنما هو معرفة الحق بجامع كماالته ‪ ،‬كما قال ‪:‬‬
‫« فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق ألعرف » وهذا المطلب ال يتحقق تماما إال بالجهاد‬
‫في العالم الصغير اإلنساني ‪ ،‬وغلبة الروح والقلب بالحضور والذكر والفكر والشهود‬
‫والتوجه الصحيح الوحداني إلى الحق تعالى ‪ ،‬على النفس األمارة والشيطان وأعوانهما‬
‫وأنصارهما ‪.‬‬
‫وأن الجهاد في العالم الكبير التفصيلي وسيلة وواسطة إلى ذلك المطلوب ‪ ،‬فإن ذلك‬
‫عز وجل ‪ ،‬وال يتمكن من‬ ‫المطلوب ال يوصل إليه إال بالعبادة الخالصة المخلصة هّلل ه‬
‫أداء العبادة إال بدفع الموانع الظاهرية ‪ ،‬وتلك الموانع هي قصد أعداء الدين ‪،‬‬
‫ومخالفتهم وممانعتهم من إظهار شعائر الشرائع واإليمان واإلسالم ومخاصمتهم‬
‫ومقاتلتهم على ذلك ‪ .‬فكان جهاد النفس في العالم اإلنساني مقصودا ومطلوبا‬
‫ص ‪22‬‬

‫ص ‪22 :‬‬
‫لذاته ‪ ،‬والجهاد في العالم التفصيلي وسيلة وآلة ومطلوب لغيره ‪ ،‬والشيء الذي يكون‬
‫مقصودا ومطلوبا لذاته ‪ ،‬أكبر وأعلى من شيء تكون هي في رتبة الوسيلة واآللة‬
‫والمطلوبية لغيره ‪.‬‬
‫ّللا حق جهاده‬
‫ّللا يع هم الجهادين األصغر واألكبر ‪ ،‬والجهاد في ه‬ ‫فالجهاد في سبيل ه‬
‫يختص بالجهاد األكبر ‪ ،‬وهو الجهاد مع النفس في منعها عن حظوظها بجميع المراتب‬
‫والمقامات واألحوال واألخالق والعلوم ‪ ،‬وفي صرفها عن استيفاء جميع حظوظها‬
‫ولذاتها ومراداتها ‪ ،‬وفي قطع آمالها وأمانيها وقطع نظرها عن التطلع إلى شيء من‬
‫األجر في األعمال القلبية والقالبية ‪ ،‬وفي س هد باب رؤيتها شيئا منها مضافة إليها ‪ ،‬وقلع‬
‫والسر من مواهب التجليات‬ ‫ه‬ ‫شاماتها باستراق الحظوظ الخفية مما منح القلب والروح‬
‫سر استعمال صيغة الترجي عند‬ ‫والعلوم والمكاشفات والمشاهدات وغير ذلك ‪ .‬وأما ه‬
‫حصول أسباب الفوز والنجاح بحصول المطلوب وهي التجلي تجلية القرب ‪ ،‬واستقبال‬
‫حقيقة الحب ‪ ،‬في قوله تعالى ‪ «:‬لَعَلَّ ُك ْم ت ُ ْف ِل ُحونَ »فهو اإلشارة إلى أن األسباب كلها‬
‫معدات ال مؤثرات ‪ ،‬والمؤثر إنما هو الحق تعالى بقدرته عند األسباب ‪ ،‬فإن الفاعل ال‬
‫يظهر فعله إال بعد حصول تمام القابلية واالستعداد لقبول ظهور الفعل ‪ ،‬وحصول تمام‬
‫القابلية واالستعداد لقبول ظهور فعل الحق من حيث قدرته أمر مخفي على العبد ‪،‬‬
‫الحتمال بقية شرط خفي من شرائط تمام السببية ‪ ،‬ويحصل تمام االستعداد بصيغة‬
‫الترجي عائدة إلى حصول تمام القابلية واالستعداد لقبول فعلي الفالح واإلنجاح‬
‫وإعطاء المطلوب والمقصود ‪ ،‬فكأنه تعالى يقول ‪ :‬تسببوا وحصلوا استعداد قبول فعل‬
‫تقريبي فيكم ‪ ،‬بالتقوى وابتغاء الوسيلة والجهاد في سبيلي ‪ ،‬لعلكم تصلون إلى تمام‬
‫حصول االستعداد والقابلية وتمام شرائطها ‪ ،‬ويترتب على ذلك فال حكم وفوزكم‬
‫بالقرب بظهور فعل تقريبي فيكم ‪ ،‬فكلما جاء في الكتاب العزيز من صيغ الترجي‬
‫فراجع إلى هذا المعنى فاعلم ذلك ‪.‬‬

‫سورة المائدة ( ‪ : ) 5‬اآليات ‪ 36‬إلى ‪37‬‬


‫ب يَ ْو ِم‬‫ض َج ِميعا ً َو ِمثْلَهُ َمعَهُ ِليَ ْفتَدُوا ِب ِه ِم ْن عَذا ِ‬‫ِين َكفَ ُروا لَ ْو أ َ هن لَ ُه ْم ما فِي ْاأل َ ْر ِ‬
‫ِإ هن الهذ َ‬
‫ُون أ َ ْن يَ ْخ ُر ُجوا ِم َن النه ِار َوما ُه ْم‬
‫َذاب أ َ ِلي ٌم ( ‪ ) 36‬يُ ِريد َ‬ ‫ا ْل ِقيا َم ِة ما تُقُ ِبّ َل ِم ْن ُه ْم َولَ ُه ْم ع ٌ‬
‫ين ِم ْنها َولَ ُه ْم ع ٌ‬
‫َذاب ُم ِقي ٌم ) ‪( 37‬‬ ‫خار ِج َ‬‫ِب ِ‬
‫النار دار انتقال من حال إلى حال ‪ ،‬والحكم في عاقبتها للرحمة ‪ ،‬والنعمة ‪ ،‬وإزالة‬
‫الكرب‬

‫ص ‪23‬‬

‫ص ‪23 :‬‬
‫والغمة ‪ ،‬فلذلك لم توصف بدار مقامة لعدم هذه العالمة ‪ ،‬فسوقها نفاق ‪ ،‬وعذابها نفاق‬
‫‪ ،‬فالصورة عذاب مقيم ‪ ،‬والحس في غاية النعيم ‪ ،‬فإن نعيم األمشاج فيما يالئم المزاج‬
‫‪.‬‬

‫سورة المائدة ( ‪ : ) 5‬آية ‪38‬‬


‫َّللاُ ع َِز ٌ‬
‫يز َح ِكي ٌم (‬ ‫سبا نَكاالً ِم َن ه ِ‬
‫َّللا َو ه‬ ‫س ِارقَةُ فَ ْ‬
‫اق َطعُوا أ َ ْي ِديَ ُهما َجزا ًء بِما َك َ‬ ‫ق َوال ه‬
‫س ِار ُ‬
‫َوال ه‬
‫) ‪38‬‬
‫النكل القيد فإقامة الحد نكال في حق السارق ‪ ،‬وإن كان الح هد نكاال فال ب هد فيه من‬
‫معقول الطهارة ألنه يسقط عنه في اآلخرة بقدر ما أخذ به في الدنيا ‪ ،‬فالنكال وهو القيد‬
‫ما سقط عن السارق ‪ ،‬فإن السارق قطعت يده وبقي مقيدا بما سرق ألنه مال الغير ‪،‬‬
‫فقطع يده زجر وردع لما يستقبل ‪ ،‬وبقي حق الغير عليه فلذلك جعله نكاال ‪ ،‬والنكل‬
‫القيد فما زال من القيد مع قطع يده ‪.‬‬

‫سورة المائدة ( ‪ : ) 5‬اآليات ‪ 39‬إلى ‪44‬‬


‫ور َر ِحي ٌم ( ‪ ) 39‬أ َ لَ ْم‬ ‫غفُ ٌ‬ ‫َّللا َ‬
‫علَ ْي ِه ِإ هن ه َ‬ ‫وب َ‬ ‫صلَ َح فَ ِإ هن ه َ‬
‫َّللا يَت ُ ُ‬ ‫ظ ْل ِم ِه َوأ َ ْ‬
‫تاب ِم ْن بَ ْع ِد ُ‬ ‫فَ َم ْن َ‬
‫َّللاُ عَلى‬ ‫ِب َم ْن يَشا ُء َويَ ْغ ِف ُر ِل َم ْن يَشا ُء َو ه‬ ‫ض يُعَذّ ُ‬ ‫ت َو ْاأل َ ْر ِ‬ ‫سماوا ِ‬ ‫َّللا لَهُ ُم ْلكُ ال ه‬‫ت َ ْعلَ ْم أ َ هن ه َ‬
‫ُون فِي ا ْل ُك ْف ِر ِم َن الهذ َ‬
‫ِين‬ ‫سارع َ‬ ‫ِين يُ ِ‬‫سو ُل ال يَحْ ُز ْنكَ الهذ َ‬ ‫ِير ( ‪ ) 40‬يا أَيُّ َها ه‬
‫الر ُ‬ ‫ش ْي ٍء قَد ٌ‬ ‫ُك ِ ّل َ‬
‫س هماع َ‬
‫ُون‬ ‫ب َ‬ ‫ُون ِل ْل َك ِذ ِ‬‫س هماع َ‬ ‫ِين هادُوا َ‬ ‫قالُوا آ َمنها بِأ َ ْفوا ِه ِه ْم َولَ ْم ت ُ ْؤ ِم ْن قُلُوبُ ُه ْم َو ِم َن الهذ َ‬
‫ون إِ ْن أُوتِيت ُ ْم هذا فَ ُخذُوهُ‬ ‫واض ِع ِه يَقُولُ َ‬ ‫ون ا ْل َك ِل َم ِم ْن بَ ْع ِد َم ِ‬ ‫ين لَ ْم يَأْت ُوكَ يُ َح ِ ّرفُ َ‬‫ِلقَ ْو ٍم آ َخ ِر َ‬
‫ين لَ ْم‬ ‫ش ْيئا ً أُولئِكَ اله ِذ َ‬ ‫َّللا َ‬‫َّللاُ فِتْنَتَهُ فَلَ ْن ت َ ْم ِلكَ لَهُ ِم َن ه ِ‬ ‫َو ِإ ْن لَ ْم ت ُ ْؤت َ ْوهُ فَاحْ ذَ ُروا َو َم ْن يُ ِر ِد ه‬
‫َذاب ع َِظي ٌم ( ‪) 41‬‬ ‫ي َولَ ُه ْم فِي ْاآل ِخ َر ِة ع ٌ‬ ‫َّللاُ أ َ ْن يُ َط ِ ّه َر قُلُوبَ ُه ْم لَ ُه ْم فِي ال ُّد ْنيا ِخ ْز ٌ‬
‫يُ ِر ِد ه‬
‫ض‬‫ع ْن ُه ْم َو ِإ ْن ت ُ ْع ِر ْ‬‫ض َ‬ ‫ت فَ ِإ ْن جاؤُكَ فَاحْ ُك ْم بَ ْينَ ُه ْم أ َ ْو أَع ِْر ْ‬ ‫سحْ ِ‬ ‫ون ِلل ُّ‬ ‫ب أَكهالُ َ‬‫ُون ِل ْل َك ِذ ِ‬
‫س هماع َ‬ ‫َ‬
‫ين (‬ ‫س ِط َ‬ ‫ب ا ْل ُم ْق ِ‬ ‫س ِط إِ هن ه َ‬
‫َّللا يُ ِح ُّ‬ ‫ش ْيئا ً َوإِ ْن َحك َْمتَ فَاحْ ُك ْم بَ ْينَ ُه ْم بِا ْل ِق ْ‬ ‫ع ْن ُه ْم فَلَ ْن يَض ُُّروكَ َ‬ ‫َ‬
‫‪) 42‬‬

‫ص ‪24‬‬

‫ص ‪24 :‬‬
‫َّللا ث ُ هم يَت َ َوله ْو َن ِم ْن بَ ْع ِد ذ ِلكَ َوما أُولئِكَ‬‫ف يُ َح ِ ّك ُمونَكَ َو ِع ْن َد ُه ُم الت ه ْوراةُ فِيها ُح ْك ُم ه ِ‬‫َو َك ْي َ‬
‫سلَ ُموا‬ ‫ِين أ َ ْ‬
‫ون الهذ َ‬ ‫ور يَحْ ُك ُم ِب َها النه ِبيُّ َ‬‫دى َونُ ٌ‬ ‫ين (‪ )43‬إِنها أ َ ْن َز ْلنَا الت ه ْوراةَ فِيها ُه ً‬ ‫ِبا ْل ُم ْؤ ِمنِ َ‬
‫ش َهدا َء فَال‬ ‫علَ ْي ِه ُ‬‫َّللا َوكانُوا َ‬ ‫ب هِ‬ ‫ظوا ِم ْن ِكتا ِ‬ ‫ستُحْ ِف ُ‬ ‫ون َو ْاألَحْ ُ‬
‫بار ِب َما ا ْ‬ ‫الربهانِيُّ َ‬
‫ِين هادُوا َو ه‬ ‫ِللهذ َ‬
‫شت َ ُروا ِبآياتِي ث َ َمنا ً قَ ِليالً َو َم ْن لَ ْم يَحْ ُك ْم ِبما أ َ ْن َز َل ه‬
‫َّللاُ‬ ‫اخش َْو ِن َوال ت َ ْ‬ ‫اس َو ْ‬ ‫ت َ ْخش َُوا النه َ‬
‫ون) ‪( 44‬‬ ‫فَأُول ِئكَ ُه ُم ا ْلكا ِف ُر َ‬

‫التوراة من ورى الزند ‪ ،‬فهو راجع إلى النور ‪.‬‬

‫سورة المائدة ( ‪ : ) 5‬آية ‪45‬‬


‫ف ِب ْاأل َ ْن ِ‬
‫ف َو ْاألُذُ َن ِب ْاألُذُ ِن‬ ‫علَ ْي ِه ْم ِفيها أ َ هن النه ْف َ‬
‫س ِبالنه ْف ِس َوا ْلعَ ْي َن ِبا ْلعَ ْي ِن َو ْاأل َ ْن َ‬ ‫َو َكت َ ْبنا َ‬
‫ارةٌ لَهُ َو َم ْن لَ ْم يَحْ ُك ْم ِبما أ َ ْن َز َل‬ ‫هق ِب ِه فَ ُه َو َكفه َ‬ ‫صد َ‬ ‫صاص فَ َم ْن ت َ َ‬
‫ٌ‬ ‫ح ِق‬ ‫س ِّن َوا ْل ُج ُرو َ‬
‫س هن ِبال ِ ّ‬
‫َوال ِ ّ‬
‫ون ( ‪) 45‬‬ ‫َّللاُ فَأُولئِكَ ُه ُم ال ه‬
‫ظا ِل ُم َ‬ ‫ه‬

‫[ جرح العجماء جبار ]‬


‫اعلم أن الشرع قد جعل جرح العجماء جبار ‪ ،‬وجرح اإلنسان مأخوذ به على جهة‬
‫القصاص ‪ ،‬مع كون العجماء لها اختيار في الجرح وإرادة ‪ ،‬ولكن العجماء ما قصدت‬
‫أذى المجروح ‪ ،‬وإنما قصدت دفع األذى عن نفسها ‪ ،‬فوقع الجرح واألذى تبعا ‪،‬‬
‫بخالف اإلنسان فإنه قد يقصد األذى ‪ ،‬فمن حيوانيته يدفع األذى ‪ ،‬ومن إنسانيته يقصد‬
‫األذى ‪ ،‬فلو ال شرف النفس ما دفع الحيوان األذى عن نفسه ‪ ،‬وما قصد أذى الغير مع‬
‫جهله بأنه يلزمه من غيره ما يلزمه نفسه ‪ ،‬وكذلك اإلنسان إذا دفع األذى عن نفسه لم‬
‫يقع عليه مطالبة من الحق ‪ ،‬فإن تعدى وزاد على القصاص ‪ ،‬أو تعدى ابتداء أخذ به‬
‫ولكن ما يتعدى إال من كونه إنسانا فقد تجاوز حيوانيته إلى إنسانيته« فَ َم ْن ت َ َ‬
‫ص َّدقَ ِب ِه‬
‫ارة ٌ لَهُ »الكفارة تعطي الستر وهو أن يستره عن االنتقام أن ينزل به لما تلبس به‬ ‫فَ ُه َو َكفَّ َ‬
‫من المخالفات ‪ ،‬وتكون الكفارة في حق‬

‫ص ‪25‬‬

‫ص ‪25 :‬‬
‫البعض سترا من المخالفات أن تصيبه إذا توجهت عليه لتح هل به لطلب النفس الشهوانية‬
‫إياها فيكون معصوما بهذا الستر ‪ ،‬فال يكون للمخالفة عليه حكم ‪.‬‬

‫سورة المائدة ( ‪ : ) 5‬اآليات ‪ 46‬إلى ‪48‬‬


‫اْل ْن ِجي َل‬ ‫ص ّدِقا ً ِلما بَ ْي َن يَ َد ْي ِه ِم َن الت ه ْورا ِة َوآت َ ْينا ُه ْ ِ‬ ‫سى ا ْب ِن َم ْريَ َم ُم َ‬ ‫َوقَفه ْينا عَلى ِ‬
‫آثار ِه ْم ِب ِعي َ‬
‫ين ( ‪) 46‬‬ ‫دى َو َم ْو ِع َظةً ِل ْل ُمت ه ِق َ‬ ‫ص ّدِقا ً ِلما بَ ْي َن يَ َد ْي ِه ِم َن الت ه ْورا ِة َو ُه ً‬ ‫ور َو ُم َ‬ ‫دى َونُ ٌ‬ ‫فِي ِه ُه ً‬
‫سقُ َ‬
‫ون‬ ‫َّللاُ فَأُولئِكَ ُه ُم ا ْلفا ِ‬ ‫َّللاُ فِي ِه َو َم ْن لَ ْم يَحْ ُك ْم بِما أ َ ْن َز َل ه‬ ‫اْل ْن ِجي ِل بِما أ َ ْن َز َل ه‬ ‫َو ْليَحْ ُك ْم أ َ ْه ُل ْ ِ‬
‫علَ ْي ِه‬ ‫ب َو ُم َه ْي ِمنا ً َ‬ ‫ص ّدِقا ً ِلما بَ ْي َن يَ َد ْي ِه ِم َن ا ْل ِكتا ِ‬ ‫ق ُم َ‬ ‫( ‪َ ) 47‬وأ َ ْن َز ْلنا ِإلَ ْيكَ ا ْل ِك َ‬
‫تاب ِبا ْل َح ّ ِ‬
‫ق ِل ُك ٍ ّل َجعَ ْلنا ِم ْن ُك ْم‬ ‫ع هما جا َءكَ ِم َن ا ْل َح ّ ِ‬ ‫َّللاُ َوال تَت ه ِب ْع أ َ ْهوا َء ُه ْم َ‬ ‫فَاحْ ُك ْم بَ ْينَ ُه ْم ِبما أ َ ْن َز َل ه‬
‫ست َ ِبقُوا‬ ‫واح َدةً َول ِك ْن ِليَ ْبلُ َو ُك ْم ِفي ما آتا ُك ْم فَا ْ‬ ‫َّللاُ لَ َجعَلَ ُك ْم أ ُ همةً ِ‬ ‫ش ْرعَةً َو ِم ْنهاجا ً َولَ ْو شا َء ه‬ ‫ِ‬
‫ون ( ‪َ «) 48‬و ُم َه ْي ِمنا ً‬ ‫َّللا َم ْر ِجعُ ُك ْم َج ِميعا ً فَيُنَ ِبّئ ُ ُك ْم ِبما ُك ْنت ُ ْم ِفي ِه ت َ ْخت َ ِلفُ َ‬
‫ت ِإلَى ه ِ‬ ‫ا ْل َخ ْيرا ِ‬
‫علَ ْي ِه »‬ ‫َ‬

‫ّللا من حيث ما هو كالمه ]‬ ‫[ ال مفاضلة في كالم ه‬


‫ّللا من حيث ما هو كالمه ‪ ،‬فالكتب كلها من إل واحد ‪ ،‬والقرآن‬ ‫ال مفاضلة في كالم ه‬
‫جامع ‪ ،‬فقد أغنى ‪ ،‬وأنت منه على يقين ‪ ،‬ولست من غيره على يقين ‪ ،‬لما دخله من‬
‫التبديل والتحريف ‪ ،‬والمهيمن هو الشاهد على الشيء بما له وعليه وكل أمر يتوقف‬
‫وجوده على وجود أمر آخر فاألمر المتوقف عليه مهيمن على من توقف وجوده عليه‬
‫‪ِ «،‬ل ُك ٍهل َجعَ ْلنا ِم ْن ُك ْم ِش ْر َ‬
‫عةً َو ِم ْنهاجا ً »‬

‫[ سبب إنزال الشرائع ]‬


‫ّللا الشرائع لما تتضمنه من المصالح ‪ ،‬فهي الخير المحض بما فيها من األمور‬ ‫أنزل ه‬
‫ّللا بالرحمة ‪.‬‬
‫المؤلمة المنازعة لما تتعلق به األغراض النفسية التي خلقها ه‬
‫خلق األدوية الكريهة ‪ ،‬للعلل البغيضة ‪ ،‬للمزاج الخاص ‪ ،‬والمنهاج هو ما اجتمع عليه‬
‫ّللا لكل واحد من‬
‫في األديان ‪ ،‬وما اختلفوا فيه من األحكام فهو الشرعة التي جعل ه‬
‫الرسل ‪ ،‬وذلك تعيين األعمال التي ينتهي فيها مدة الحكم المعبر عنه بالنسخ في كالم‬
‫علماء الشريعة ‪ ،‬فهي أحكام الطريقة وكلها مجعولة‬

‫ص ‪26‬‬

‫ص ‪26 :‬‬
‫ّللا له المشي عليها ‪ ،‬فقد حاد عن‬ ‫ّللا ‪ ،‬فمن مشى في غير طريقه التي عين ه‬ ‫بجعل ه‬
‫ّللا له المشي عليها ‪ ،‬كما أن ذلك اآلخر لو ترك سبيله التي‬ ‫سواء السبيل التي عين ه‬
‫ّللا ‪ ،‬والكل بالنسبة‬ ‫ّللا له المشي عليها ‪ ،‬وسلك سبيل هذا سميناه حائدا عن سبيل ه‬ ‫شرع ه‬
‫ّللا صلهى ه‬
‫ّللا‬ ‫إلى واحد واحد على صراط مستقيم فيما شرع له ‪ .‬ولهذا خط رسول ه‬
‫عليه وسلم خطأ ‪ ،‬وخط عن جنبتي ذلك الخط خطوطا ‪ ،‬فكان ذلك الخط شرعه‬
‫ومنهاجه الذي بعث به ‪ ،‬وقيل له ‪ :‬قل ألمتك تسلك عليه وال تعدل عنه ‪ .‬وكانت تلك‬
‫الخطوط شرائع األنبياء التي تقدمته ‪ ،‬والنواميس الحكمية الموضوعة ‪ ،‬ثم وضع يده‬
‫ع ْن‬ ‫راطي ُم ْست َ ِقيما ً فَاتَّبِعُوهُ َوال تَتَّبِعُوا ال ُّ‬
‫سبُ َل فَتَفَ َّرقَ بِ ُك ْم َ‬ ‫ص ِ‬ ‫على الخط وتال« َوأ َ َّن هذا ِ‬
‫س ِبي ِل ِه »فأصل وضع الشريعة في العالم وسببها طلب صالح العالم ‪ ،‬ومعرفة ما جهل‬ ‫َ‬
‫ّللا مما ال يقبله العقل ‪ ،‬أي ال يستقل به العقل من حيث نظره ‪ ،‬فنزلت بهذه‬ ‫من ه‬
‫المعرفة الكتب المنزلة ‪ ،‬ونطقت بها ألسنة الرسل واألنبياء عليهم السالم بما هو وراء‬
‫ّللا من‬ ‫ّللا ‪ ،‬وأعلمت بما خلق ه‬ ‫طور العقل ‪ ،‬فعينت الرسل األفعال المقربة إلى ه‬
‫الممكنات فيما غاب عن الناس ‪ ،‬وما يكون منه سبحانه فيهم في المستقبل ‪ ،‬وجاءوا‬
‫بالبعث والنشور ‪ ،‬والحشر والجنة والنار ‪ ،‬وتتابعت الرسل على اختالف األزمان‬
‫واختالف األحوال ‪ ،‬وكل واحد منهم يصدق صاحبه ‪ ،‬ما اختلفوا قط في األصول التي‬
‫استندوا إليها وعبروا عنها ‪ ،‬وإن اختلفت األحكام ‪ ،‬فتنزلت الشرائع ‪ ،‬ونزلت األحكام‬
‫‪ ،‬وكان الحكم بحسب الزمان والحال ‪ ،‬واتفقت أصولهم من غير خالف في شيء من‬
‫ذلك ‪ .‬فالشرائع كلها بالجعل ‪ ،‬ولهذا تجري إلى أمد ‪ ،‬وغايتها حكم الحق بها في القيامة‬
‫في الفريقين ‪ ،‬وأما اختالف الشرائع فالختالف النسب اإللهية ‪ ،‬ألنه لو كانت النسبة‬
‫اإللهية لتحليل أمر ما في الشرع ‪ ،‬كالنسبة لتحريم ذلك األمر عينه في الشرع ‪ ،‬لما‬
‫صح تغيير الحكم ‪ ،‬وقد ثبت تغيير الحكم ‪ ،‬ولما صح أيضا قوله تعالى ‪ِ «:‬ل ُك ٍهل َجعَ ْلنا‬
‫عةً َو ِم ْنهاجا ً »وقد صح أن لكل أمة شرعة ومنهاجا ‪ ،‬جاءها بذلك نبيها‬ ‫ِم ْن ُك ْم ِش ْر َ‬
‫ورسولها ‪ ،‬فنسخ وأثبت ‪ ،‬فعلمنا بالقطع أن نسبته تعالى فيما شرعه إلى محمد صلهى‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ ،‬خالف نسبته إلى نبي آخر ‪ ،‬وإال لو كانت النسبة واحدة من كل وجه ‪،‬‬ ‫ه‬
‫وهي الموجبة للتشريع الخاص لكان الشرع واحدا من كل وجه بقوله تعالى ‪ِ «:‬ل ُك ٍهل‬
‫عةً َو ِم ْنهاجا ً »وأما اختالف النسب اإللهية ‪ ،‬فالختالف األحوال ‪ ،‬وهو‬ ‫َجعَ ْلنا ِم ْن ُك ْم ِش ْر َ‬
‫قوله تعالى ‪ُ «:‬ك َّل يَ ْو ٍم ُه َو فِي شَأ ْ ٍن »الختالف الزمان فإن اختالف أحوال الخلق سببها‬
‫اختالف األزمان عليها ‪،‬‬

‫ص ‪27‬‬

‫ص ‪27 :‬‬
‫واختالف األزمان الختالف الحركات الفلكية ‪ ،‬فإنه باختالف الحركات الفلكية حدث‬
‫زمان الليل والنهار ‪ ،‬وتعينت السنون والشهور والفصول ‪ ،‬واختالف الحركات‬
‫الختالف التوجهات ‪ ،‬وهو توجه الحق عليها باإليجاد ‪ ،‬وهو تعلق خاص من كونه‬
‫مريدا ‪ .‬وإنما اختلفت التوجهات الختالف المقاصد ‪ ،‬فقصد الرضى غير قصد الغضب‬
‫‪ ،‬وقصد التنعيم غير قصد التعذيب ‪ ،‬واختلفت المقاصد ‪ ،‬الختالف التجليات ‪ ،‬فلكل‬
‫قصد تجل خاص ما هو عين التجلي اآلخر ‪ ،‬فإن االتساع اإللهي يعطي أن ال يتكرر‬
‫شيء في الوجود ‪ ،‬واختلفت التجليات الختالف الشرائع ‪ ،‬فإن كل شريعة تعطي طريقا‬
‫موصلة إليه سبحانه ‪ ،‬وهي مختلفة فال بد أن تختلف التجليات ‪ -‬نظم في الشريعة ‪.‬‬
‫طلب الجليل من الجليل جالال ‪ ....‬فأبى الجليل يشاهد اإلجالال‬
‫لما رأى عز اإلله وجوده ‪ ....‬عبد اإلله يصاحب اإلدالال‬
‫وقد اطمأن بنفسه متعززا ‪ ....‬متجبرا متكبرا مختاال‬
‫أنهى إليه شريعة معصومة ‪ ....‬فأذلة سلطانها إذالال‬
‫نادى العبيد بفاقة وبذلة ‪ ....‬يا من تبارك جده وتعالى‬
‫واح َدة ً »فلم تختلف شرائعكم ‪ ،‬كما لم يختلف منها ما أمرتم‬ ‫ّللاُ لَ َجعَلَ ُك ْم أ ُ َّمةً ِ‬
‫« َولَ ْو شا َء َّ‬
‫باالجتماع فيه وإقامته ‪ .‬والمراد هنا بضمير منكم في قوله ‪ِ «:‬ل ُك ٍهل َجعَ ْلنا ِم ْن ُك ْم ِش ْر َ‬
‫عة ً‬
‫َو ِم ْنهاجا ً »ليس إال األنبياء عليهم السالم ال األمم ‪ ،‬ألنه لو كان لألمم ‪ ،‬لم يبعث رسول‬
‫في أمة قد بعث فيها رسول إال أن يكون مؤبدا ال يزيد وال ينقص ‪ ،‬وما وقع األمر‬
‫كذلك فإن جعلنا الضمير في قوله ‪ « :‬منكم » لألمم والرسل جميعا ‪ ،‬تكلفنا في التأويل‬
‫شططا ال نحتاج إليه ‪ ،‬فكون الضمير كناية عن الرسل أقرب إلى الفهم وأوصل إلى‬
‫العلم‬

‫[ ‪ -‬إشارة ‪ -‬إلى الشريعة والحقيقة ]‬


‫عةً َو ِم ْنهاجا ً‬ ‫‪-‬إشارة ‪ -‬الشريعة هي الطرق كما قال تعالى ‪ِ «:‬ل ُك ٍهل َجعَ ْلنا ِم ْن ُك ْم ِش ْر َ‬
‫»والحقيقة ‪ :‬عين واحدة هي غاية لهذه الطرق وهو قوله «‪َ :‬وإِلَ ْي ِه يُ ْر َج ُع ْاأل َ ْم ُر ُكلُّهُ »‪.‬‬

‫ص ‪28‬‬

‫ص ‪28 :‬‬
‫سورة المائدة ( ‪ : ) 5‬اآليات ‪49‬إلى ‪51‬‬
‫ض ما‬ ‫َّللاُ َوال تَت ه ِب ْع أ َ ْهوا َء ُه ْم َواحْ ذَ ْر ُه ْم أ َ ْن يَ ْفتِنُوكَ ع َْن بَ ْع ِ‬‫َوأ َ ِن احْ ُك ْم بَ ْينَ ُه ْم ِبما أ َ ْن َز َل ه‬
‫ض ذُنُو ِب ِه ْم َو ِإ هن َكثِيرا ً ِم َن‬ ‫َّللاُ أ َ ْن يُ ِصيبَ ُه ْم ِببَ ْع ِ‬
‫َّللاُ ِإلَ ْيكَ فَ ِإ ْن ت َ َوله ْوا فَا ْعلَ ْم أَنهما يُ ِري ُد ه‬ ‫أ َ ْن َز َل ه‬
‫َّللا ُح ْكما ً ِلقَ ْو ٍم‬
‫س ُن ِم َن ه ِ‬ ‫ون َو َم ْن أَحْ َ‬ ‫ون ( ‪ ) 49‬أ َ فَ ُح ْك َم ا ْلجا ِه ِليه ِة يَ ْبغُ َ‬ ‫سقُ َ‬ ‫اس لَفا ِ‬ ‫النه ِ‬
‫ض ُه ْم أ َ ْو ِليا ُء‬‫ِين آ َمنُوا ال تَت ه ِخذُوا ا ْليَ ُهو َد َوالنهصارى أ َ ْو ِليا َء بَ ْع ُ‬ ‫ون ( ‪ ) 50‬يا أَيُّ َها الهذ َ‬ ‫يُو ِقنُ َ‬
‫ين) ‪( 51‬‬ ‫َّللا ال يَ ْهدِي ا ْلقَ ْو َم ال ه‬
‫ظا ِل ِم َ‬ ‫ض َو َم ْن يَت َ َوله ُه ْم ِم ْن ُك ْم فَ ِإنههُ ِم ْن ُه ْم إِ هن ه َ‬ ‫بَ ْع ٍ‬

‫بعضهم أولياء بعض أي ينصر بعضهم بعضا ‪.‬‬

‫سورة المائدة ( ‪ : ) 5‬آية ‪52‬‬


‫ون نَ ْخشى أ َ ْن ت ُ ِصيبَنا دا ِئ َرةٌ فَعَ َ‬
‫سى‬ ‫يه ْم يَقُولُ َ‬ ‫سارع َ‬
‫ُون ِف ِ‬ ‫ض يُ ِ‬ ‫ِين ِفي قُلُو ِب ِه ْم َم َر ٌ‬ ‫فَت َ َرى الهذ َ‬
‫ين (‬ ‫س ُّروا فِي أ َ ْنفُ ِ‬
‫س ِه ْم ناد ِِم َ‬ ‫صبِ ُحوا عَلى ما أ َ َ‬ ‫َّللاُ أ َ ْن يَأْتِ َ‬
‫ي بِا ْلفَتْحِ أ َ ْو أ َ ْم ٍر ِم ْن ِع ْن ِد ِه فَيُ ْ‬ ‫ه‬
‫‪) 52‬‬

‫ض »هو المرض القادح في اإليمان وهي الشبه المضلة ‪،‬‬ ‫« فَت َ َرى الَّذِينَ فِي قُلُو ِب ِه ْم َم َر ٌ‬
‫إما في وجود الحق ‪ ،‬أو في توحيده ‪.‬‬

‫سورة المائدة ( ‪ : ) 5‬اآليات ‪ 53‬إلى ‪54‬‬


‫اّلِل َج ْه َد أ َ ْيمانِ ِه ْم إِنه ُه ْم لَ َمعَ ُك ْم َح ِب َطتْ‬
‫س ُموا ِب ه ِ‬ ‫ِين أ َ ْق َ‬
‫ُالء الهذ َ‬ ‫ِين آ َمنُوا أ َ هؤ ِ‬ ‫َويَقُو ُل الهذ َ‬
‫ِين آ َمنُوا َم ْن يَ ْرت َ هد ِم ْن ُك ْم ع َْن دِينِ ِه‬ ‫ين ( ‪ ) 53‬يا أَيُّ َها الهذ َ‬ ‫س ِر َ‬ ‫صبَ ُحوا خا ِ‬ ‫أَعْمالُ ُه ْم فَأ َ ْ‬
‫علَى ا ْلكافِ ِر َ‬
‫ين‬ ‫ين أ َ ِع هز ٍة َ‬ ‫علَى ا ْل ُم ْؤ ِمنِ َ‬ ‫ف يَأْتِي ه‬
‫َّللاُ ِبقَ ْو ٍم يُ ِحبُّ ُه ْم َويُ ِحبُّونَهُ أ َ ِذله ٍة َ‬ ‫س ْو َ‬‫فَ َ‬
‫َّللا يُ ْؤ ِتي ِه َم ْن يَشا ُء َو ه‬
‫َّللاُ‬ ‫ض ُل ه ِ‬ ‫ون لَ ْو َمةَ ال ِئ ٍم ذ ِلكَ فَ ْ‬ ‫َّللا َوال يَخافُ َ‬ ‫س ِبي ِل ه ِ‬ ‫ُون ِفي َ‬ ‫يُجا ِهد َ‬
‫ع ِلي ٌم ) ‪( 54‬‬ ‫س ٌع َ‬ ‫وا ِ‬
‫اعلم أن حب العبد لوال ما أحبه أوال ما رزقه محبته وال وفهقه إليها وال استعمله فيها ‪،‬‬
‫عز وجل ‪ ،‬قال صلهى ه‬
‫ّللا‬ ‫ّللا ه‬ ‫وهكذا جميع ما يكون فيه العبد من األمور المقربة إلى ه‬
‫ّللا‪:‬‬
‫عليه وسلم عن ه‬

‫ص ‪29‬‬

‫ص ‪29 :‬‬
‫ّللا تعالى يقول ‪ ( :‬ما تقرب المتقربون بأحب إلي من أداء ما افترضته عليهم )‬ ‫إن ه‬
‫ّللا للعبد يوفقه بهذه المحبة التباع رسوله فيما جاء به من الواجبات عليه ‪ ،‬وهي‬ ‫فبحب ه‬
‫الفرائض ‪ ،‬والترغيب في أن يوجبوا على أنفسهم صورة ما أوجبه عليهم ويسمى نافلة‬
‫ّللا تعالى ‪ ( :‬وال يزال العبد يتقرب إلي‬ ‫ّللا عليه وسلم عن ه‬ ‫ّللا إذ يقول صلهى ه‬ ‫‪ ،‬فيحبهم ه‬
‫بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت له سمعا وبصرا ويدا ومؤيدا ) وقد أعلمنا الرسول‬
‫ّللا ‪ ،‬فقال تعالى ‪ «:‬إِ ْن ُك ْنت ُ ْم‬ ‫ّللا عليه وسلم أننا إذا اتبعناه فيما جاء به أحبنا ه‬ ‫صلهى ه‬
‫ّللاُ »فالحب الثاني هو عين الحب األول ‪ ،‬فاألول حب‬ ‫ّللا فَاتَّبِعُونِي يُ ْحبِ ْب ُك ُم َّ‬
‫ت ُ ِحبُّونَ َّ َ‬
‫عناية والثاني حب جزاء وكرامة بوافد محبوب بالحب األول ‪ ،‬فصار حب العبد ربه‬
‫محفوظا بين حبين إلهيين ‪ ،‬كلما أراد أو ه هم أن يخرج عن هذا الوصف بالسلو وجد‬
‫نفسه محصورا بين حبين إلهيين ‪ ،‬فلم يجد منفذا ‪ ،‬فيبقى محفوظ العين بين حب عناية‬
‫ّللا أحب أولياءه ‪،‬‬ ‫ما فيها من فطور ‪ ،‬وبين حب كرامة ما فيها استدراج ‪ -‬مسئلة ‪ -‬إن ه‬
‫ّللا ‪،‬‬ ‫والمحب ال يؤلم محبوبه ‪ ،‬وليس أحد بأشد ألما في الدنيا وال بالء من أولياء ه‬
‫رسلهم وأنبيائهم وأتباعهم المحفوظين المعانين على اتباعهم ‪ ،‬فمن أي حقيقة استحقوا‬
‫ّللا قال ‪ «:‬يُ ِحبُّ ُه ْم َويُ ِحبُّونَهُ »‬
‫هذا البالء مع كونهم محبين ؟ فنقول ‪ :‬إن ه‬

‫ّللا تعالى ]‬
‫[ من أي حقيقة ابتلي أولياء ه‬
‫فمن كونهم محبين ابتالهم ‪ ،‬ومن كونهم محبوبين اجتباهم واصطفاهم ‪ ،‬في هذه الدار‬
‫وفي القيامة ‪ ،‬وأما في الجنة فليس يعاملهم الحق إال من كونهم محبوبين خاصة ‪،‬‬
‫والبالء ال يكون أبدا إال مع الدعوى ‪ ،‬فمن لم يدع أمرا ما ال يبتلى بإقامة الدليل على‬
‫صدق دعواه فلو ال الدعوى ما وقع البالء ‪.‬‬
‫ّللا من أحب من عباده رزقهم محبته من حيث ال يعلمون ‪ ،‬فوجدوا في‬ ‫ولما أحب ه‬
‫ّللا من كونهم محبين ‪.‬‬ ‫ّللا فابتالهم ه‬
‫نفوسهم حبا هّلل ‪ ،‬فادعوا أنهم من محبي ه‬
‫وّلل الحجة البالغة ‪،‬‬ ‫وأنعم عليهم من كونهم محبوبين ‪ ،‬فإنعامه دليل على محبته فيهم ه‬
‫ّللا أحبابه من المخلوقين ‪ ،‬والحق‬ ‫وابتالؤه إياهم لما ادعوه من حبهم إياه ‪ ،‬فلهذا ابتلى ه‬
‫تعالى محب محبوب فمن حيث هو محب ينفعل لتأثير الكون ‪ ،‬ومن حيث هو محبوب‬
‫يبتلي ‪ .‬والعبد أيضا محب هّلل محبوب هّلل ‪ ،‬فمن حيث هو محب هّلل يبتلى ألجل الدعوى‬
‫فيفتضح صاحب الدعوى الكاذبة ‪ ،‬ويظهر صاحب الدعوى الصادقة ‪ ،‬ومن حيث أنه‬
‫محبوب يتحكم على محبه ‪ ،‬فيدعوه فيستجيب له ‪ ،‬ويرضيه فيرضى ويسخطه فيعفو‬
‫علَى ْال ُمؤْ ِمنِينَ‬
‫ويصفح مع نفوذ قدرته وقوة سلطانه ‪ ،‬إال أن سلطان الحب أقوى« أ َذِلَّ ٍة َ‬
‫علَى ْالكافِ ِرينَ »‪.‬‬
‫أ َ ِع َّزةٍ َ‬
‫ّللا ‪ ،‬وجعل ذلك من العمل المختص‬ ‫ّللا والبغض في ه‬ ‫وقد شرع لنا الود في ه‬

‫ص ‪30‬‬

‫ص ‪30 :‬‬
‫ّللا من عادى‬ ‫ّللا من الجزاء عليه ‪ ،‬وهو أن يعادي ه‬ ‫له ليس للعبد فيه حظ إال ما يعطيه ه‬
‫ّللا ال يقوم‬ ‫أولياءه ويوالي من واالهم ‪ ،‬ولكن بالحق المشروع له هّلل ال لنفسه ‪ ،‬فإن ه‬
‫ّللا َوال يَخافُونَ لَ ْو َمةَ‬
‫س ِبي ِل َّ ِ‬
‫ألحد من عباده إال لمن قام له ‪ .‬ولهذا قال ‪ «:‬يُجا ِهدُونَ فِي َ‬
‫ّللا أحق بالقضاء من حق المخلوق إذا اجتمعا ‪ ،‬فإنه ليس لمخلوق حق‬ ‫الئِ ٍم »فإن حق ه‬
‫ّللا الذي هو‬ ‫ّللا فإذا تعين الحقان في وقت ما ‪ ،‬بدأ العبد الموفق بقضاء حق ه‬ ‫إال بجعل ه‬
‫ّللا ‪.‬‬
‫له ثم أخذ في أداء حق المخلوق الذي أوجبه ه‬

‫سورة المائدة ( ‪ : ) 5‬اآليات ‪ 55‬إلى ‪60‬‬


‫الزكاةَ َو ُه ْم‬ ‫ون ه‬ ‫صالةَ َويُ ْؤت ُ َ‬ ‫ون ال ه‬ ‫ِين يُ ِقي ُم َ‬ ‫ِين آ َمنُوا الهذ َ‬ ‫سولُهُ َوالهذ َ‬ ‫َّللاُ َو َر ُ‬ ‫ِإنهما َو ِليُّ ُك ُم ه‬
‫ون (‬‫َّللا ُه ُم ا ْلغا ِلبُ َ‬ ‫ب هِ‬ ‫ِين آ َمنُوا فَ ِإ هن ِح ْز َ‬ ‫سولَهُ َوالهذ َ‬ ‫َّللا َو َر ُ‬‫ون ) ‪َ ( 55‬و َم ْن يَت َ َو هل ه َ‬ ‫را ِكعُ َ‬
‫ِين أُوتُوا‬ ‫ِين ات ه َخذُوا دِينَ ُك ْم ُه ُزوا ً َولَ ِعبا ً ِم َن الهذ َ‬ ‫ِين آ َمنُوا ال تَت ه ِخذُوا الهذ َ‬ ‫‪ ) 56‬يا أَيُّ َها الهذ َ‬
‫ين ( ‪َ ) 57‬وإِذا نا َد ْيت ُ ْم إِلَى‬ ‫ار أ َ ْو ِليا َء َواتهقُوا ه َ‬
‫َّللا إِ ْن ُك ْنت ُ ْم ُم ْؤ ِمنِ َ‬ ‫تاب ِم ْن قَ ْب ِل ُك ْم َوا ْل ُكفه َ‬ ‫ا ْل ِك َ‬
‫ب َه ْل‬ ‫ون ( ‪ ) 58‬قُ ْل يا أ َ ْه َل ا ْل ِكتا ِ‬ ‫صال ِة ات ه َخذُوها ُه ُزوا ً َولَ ِعبا ً ذ ِلكَ بِأَنه ُه ْم قَ ْو ٌم ال يَ ْع ِقلُ َ‬ ‫ال ه‬
‫ون (‬ ‫سقُ َ‬ ‫اّلِل َوما أ ُ ْن ِز َل ِإلَ ْينا َوما أ ُ ْن ِز َل ِم ْن قَ ْب ُل َوأ َ هن أ َ ْكث َ َر ُك ْم فا ِ‬
‫ون ِمنها ِإاله أ َ ْن آ َمنها ِب ه ِ‬ ‫ت َ ْن ِق ُم َ‬
‫علَ ْي ِه َو َجعَ َل‬‫ب َ‬ ‫غ ِض َ‬ ‫َّللاُ َو َ‬ ‫) ‪ 59‬قُ ْل َه ْل أُنَ ِبّئ ُ ُك ْم ِبش ٍ َّر ِم ْن ذ ِلكَ َمثُوبَةً ِع ْن َد ه ِ‬
‫َّللا َم ْن لَعَنَهُ ه‬
‫س ِبي ِل (‬ ‫واء ال ه‬
‫س ِ‬ ‫ض ُّل ع َْن َ‬ ‫غوتَ أُول ِئكَ ش ٌَّر َمكانا ً َوأ َ َ‬ ‫طا ُ‬ ‫عبَ َد ال ه‬ ‫ير َو َ‬
‫ناز َ‬ ‫ِم ْن ُه ُم ا ْل ِق َر َدةَ َوا ْل َخ ِ‬
‫) ‪60‬‬
‫ّللا قردة وخنازير ‪.‬‬ ‫كان المسخ في بني إسرائيل ظاهرا بالصورة فمسخهم ه‬

‫ص ‪31‬‬

‫ص ‪31 :‬‬
‫سورة المائدة ( ‪ : ) 5‬اآليات ‪ 61‬إلى ‪64‬‬
‫َّللاُ أ َ ْعلَ ُم ِبما كانُوا‬ ‫َوإِذا جا ُؤ ُك ْم قالُوا آ َمنها َوقَ ْد َد َخلُوا ِبا ْل ُك ْف ِر َو ُه ْم قَ ْد َخ َر ُجوا ِب ِه َو ه‬
‫سحْ تَ لَ ِبئْ َ‬
‫س‬ ‫ْوان َوأ َ ْك ِل ِه ُم ال ُّ‬
‫اْلثْ ِم َوا ْلعُد ِ‬
‫ُون فِي ْ ِ‬ ‫سارع َ‬ ‫ون ( ‪َ ) 61‬وتَرى َكثِيرا ً ِم ْن ُه ْم يُ ِ‬ ‫يَ ْكت ُ ُم َ‬
‫اْلثْ َم َوأ َ ْك ِل ِه ُم‬ ‫ون َو ْاألَحْ ُ‬
‫بار ع َْن قَ ْو ِل ِه ُم ْ ِ‬ ‫ون ( ‪ ) 62‬لَ ْو ال يَ ْنها ُه ُم ه‬
‫الربهانِيُّ َ‬ ‫ما كانُوا يَ ْع َملُ َ‬
‫غلهتْ أ َ ْيد ِ‬
‫ِيه ْم‬ ‫َّللا َم ْغلُولَةٌ ُ‬ ‫ت ا ْليَ ُهو ُد يَ ُد ه ِ‬
‫ون ( ‪َ ) 63‬وقالَ ِ‬ ‫صنَعُ َ‬ ‫س ما كانُوا يَ ْ‬ ‫سحْ تَ لَ ِبئْ َ‬
‫ال ُّ‬
‫ف يَشا ُء َولَيَ ِزيد هَن َكثِيرا ً ِم ْن ُه ْم ما أ ُ ْن ِز َل‬ ‫ق َك ْي َ‬ ‫سو َط ِ‬
‫تان يُ ْن ِف ُ‬ ‫َولُ ِعنُوا بِما قالُوا بَ ْل يَداهُ َم ْب ُ‬
‫داوةَ َوا ْلبَ ْغضا َء إِلى يَ ْو ِم ا ْل ِقيا َم ِة ُكلهما‬ ‫ط ْغيانا ً َو ُك ْفرا ً َوأ َ ْلقَ ْينا بَ ْينَ ُه ُم ا ْلعَ َ‬‫إِلَ ْيكَ ِم ْن َر ِبّكَ ُ‬
‫ِين (‬ ‫سد َ‬ ‫ب ا ْل ُم ْف ِ‬ ‫ض فَسادا ً َو ه‬
‫َّللاُ ال يُ ِح ُّ‬ ‫سعَ ْو َن فِي ْاأل َ ْر ِ‬ ‫َّللاُ َويَ ْ‬ ‫ب أ َ ْطفَأ َ َها ه‬‫أ َ ْوقَدُوا نارا ً ِل ْل َح ْر ِ‬
‫) ‪64‬‬

‫ت‬‫غلَّ ْ‬
‫ّللا بقوله ‪ُ «:‬‬ ‫ّللا َم ْغلُولَةٌ " كنهت بذلك عن البخل فأكذبهم ه‬ ‫ت ْاليَ ُهو ُد ‪ :‬يَ ُد َّ ِ‬‫" َوقالَ ِ‬
‫أ َ ْيدِي ِه ْم َولُ ِعنُوا بِما قالُوا »أي أبعدوا عن صفة الكرم اإللهي ‪ ،‬فإن أقوالهم أعمالهم فغلت‬
‫ْف يَشا ُء »أي‬ ‫تان يُ ْن ِف ُق َكي َ‬
‫ط ِ‬ ‫سو َ‬
‫ّللا بهم« بَ ْل يَداهُ َم ْب ُ‬
‫أيديهم فوقع البخل الذي نسبوه إلى ه‬
‫يداه مباركتان فيهما الرحمة فلم يقرن بهما شيئا من العذاب ‪.‬‬
‫ّللا فالحكم‬ ‫وهذه عندنا من أرجى آية تقرأ علينا ‪ ،‬فعم الكرم يديه فال تيأسوا من روح ه‬
‫للمشيئة ‪ ،‬وليست مشيئته غير ذاته فأسماؤه عينه ‪ ،‬وأحكامها حكمه ‪ ،‬فاليدان‬
‫مبسوطتان ‪ ،‬واليدان مقبوضتان ‪ ،‬قبضت ما أعطاها الخلق وانبسطت بما يجود به‬
‫الحق ‪ ،‬فمنه بدأ الجود وإليه يعود ‪.‬‬
‫[ توحيد ]‬
‫ّللا تعالى بدليل العقل والشرع أحدي الكثرة بأسمائه الحسنى أو صفاته‬ ‫توحيد ‪ :‬اعلم أن ه‬
‫أو نسبه ‪ ،‬وهو بالشرع خاصة أحدي الكثرة في ذاته بما أخبر به عن نفسه« بَ ْل يَداهُ‬
‫تان »« ولما خلقت بيدي » « وتجري بأعيننا » « والقلب بين إصبعين من‬ ‫ط ِ‬ ‫سو َ‬ ‫َم ْب ُ‬
‫َّات بِيَ ِمينِ ِه »« وكلتا يدي ربي يمين مباركة »‬ ‫سماواتُ َم ْ‬
‫ط ِوي ٌ‬ ‫أصابع الرحمن »« َوال َّ‬
‫ّللا بها عن نفسه واألدلة العقلية تحيل ذلك ‪،‬‬ ‫وهذه كلها وأمثالها أخبار عن الذات أخبر ه‬
‫فإن كان السامع صاحب النظر العقلي مؤمنا ‪ ،‬تكلهف التأويل في ذلك لوقوفه مع عقله ‪،‬‬
‫وإن كان السامع منور الباطن باإليمان آمن بذلك‬

‫ص ‪32‬‬

‫ص ‪32 :‬‬
‫ّللا فيه مع معقول المعنى الوارد المتلفظ به من يد وإصبع وعين وغير ذلك ‪،‬‬ ‫على علم ه‬
‫ّللا له عن بصيرته فيدرك المراد من تلك العبارة‬ ‫ولكن يجهل النسبة إلى أن يكشف ه‬
‫ّللا ما أرسل رسوال إال بلسان قومه ‪ ،‬أي بما تواطئوا عليه من التعبير عن‬
‫كشفا ‪ .‬فإن ه‬
‫المعاني التي يريد المتكلم أن يوصل مراده فيما يريد منها إلى السامع ‪ ،‬فالمعنى ال‬
‫يتغير البتة عن داللة ذلك اللفظ عليه ‪ ،‬وإن جهل كيف ينسب فال يقدح ذلك في المعقول‬
‫من معنى تلك العبارة ‪.‬‬

‫سورة المائدة ( ‪ : ) 5‬اآليات ‪ 65‬إلى ‪66‬‬


‫يم ( ‪65‬‬ ‫ت النه ِع ِ‬ ‫س ِيّئاتِ ِه ْم َو َأل َ ْد َخ ْلنا ُه ْم َجنها ِ‬
‫ع ْن ُه ْم َ‬ ‫ب آ َمنُوا َواتهقَ ْوا لَ َكفه ْرنا َ‬ ‫َولَ ْو أ َ هن أ َ ْه َل ا ْل ِكتا ِ‬
‫اْل ْن ِجي َل َوما أ ُ ْن ِز َل ِإلَ ْي ِه ْم ِم ْن َر ِبّ ِه ْم َأل َ َكلُوا ِم ْن فَ ْو ِق ِه ْم َو ِم ْن‬‫) َولَ ْو أَنه ُه ْم أَقا ُموا الت ه ْوراةَ َو ْ ِ‬
‫ون ) ‪( 66‬‬ ‫ير ِم ْن ُه ْم سا َء ما يَ ْع َملُ َ‬ ‫ت أ َ ْر ُج ِل ِه ْم ِم ْن ُه ْم أ ُ همةٌ ُم ْقت َ ِص َدةٌ َو َك ِث ٌ‬
‫تَحْ ِ‬

‫" َولَ ْو أَنَّ ُه ْم أَقا ُموا " وهو معالجة األعمال واالكتساب «الت َّ ْوراة َ »وهم أمة موسى«‬
‫اإل ْن ِجي َل »وهم أمة عيسى« َوما أ ُ ْن ِز َل ِإلَ ْي ِه ْم ِم ْن َر ِبه ِه ْم »وهم أهل القرآن وجميع كل‬ ‫َو ْ ِ‬
‫ّللا وما أنزل إليهم من ربهم ‪ ،‬فهم المسارعون‬ ‫من أنزلت عليه صحيفة ‪ ،‬فأقاموا كتاب ه‬
‫ت أ َ ْر ُج ِل ِه ْم »يوم القيامة في‬
‫في الخيرات ‪ ،‬وهم لها سابقون« َأل َ َكلُوا ِم ْن فَ ْو ِق ِه ْم َو ِم ْن ت َ ْح ِ‬
‫الحشر يوضع الصراط من األرض المبدلة علوا على استقامة إلى سطح الفلك‬
‫المكوكب الذي يرجع في ذلك اليوم ما تحت مقعره جهنم ‪ ،‬فيكون منته الصراط إلى‬
‫المرج الذي خارج سور الجنة ‪ ،‬وفي ذلك المرج المأدبة ‪ ،‬وهي در مكة بيضاء نقية‬
‫منها يأكل أهل المأدبة ‪ ،‬وهو قوله تعالى في المؤمنين من بني إسرائيل إذا أقاموا‬
‫ّللا عليه وسلم نقيم كل ما أنزل إلينا من ربنا‬ ‫التوراة واإلنجيل ‪ ،‬ونحن أمة محمد صلهى ه‬
‫باإليمان به ‪ ،‬ونعمل من ذلك بما أمرنا من العمل به ‪ ،‬وغيرنا من األمم منهم من آمن‬
‫كما آمنا ‪ ،‬ومنهم من آمن ببعض وكفر ببعض ‪ ،‬فمن نجا منهم قيل فيه« َأل َ َكلُوا ِم ْن‬
‫فَ ْوقِ ِه ْم »وهو ما خرج من فروع أشجار الجنان على السور فظلل على هذا المرج‬
‫ت أ َ ْر ُج ِل ِه ْم »هو ما أكلوه من الدرمكة البيضاء التي هم عليها‪.‬‬ ‫فقطفه السعداء« َو ِم ْن ت َ ْح ِ‬

‫تفسير[ من باب اإلشارة ‪ :‬الوجه األول ‪ -‬يشير الحق تعالى إلى أنهم لو أقاموا الكتاب‬
‫]‬
‫من باب اإلشارة ‪ :‬الوجه األول ‪ -‬يشير الحق تعالى إلى أنهم لو أقاموا الكتاب من‬
‫ّللا فأقامه‬
‫رقدته ‪ ،‬فإن التأويل من العلماء أضجعه بعد ما كان قائما ‪ ،‬فجاء من وفقه ه‬
‫من رقدته أي نزهه عن تأويله والتعمل فيه بفكره ‪ ،‬فقام بعبادة ربه وسأله أن يوقفه‬
‫على مراده‬
‫ص ‪33‬‬

‫ص ‪33 :‬‬
‫من تلك األلفاظ التي حواها الكتاب ‪ ،‬والتعريف من المعاني المخلصة عن المواد ‪،‬‬
‫الرا ِس ُخونَ فِي‬ ‫ّللا العلم غير مشوب قال تعالى ‪َ «:‬وما يَ ْعلَ ُم تَأ ْ ِويلَهُ ِإ َّال َّ‬
‫ّللاُ َو َّ‬ ‫فأعطاهم ه‬
‫ْال ِع ْل ِم »يعلمهم الحق ما يؤول إليه هذا اللفظ المنزل المرقوم وما أودع فيه من المعاني‬
‫من غير فكر فيه إذ الفكر في نفسه غير معصوم من الغلط في حق كل واحد ‪ -‬الوجه‬
‫الثاني ‪َ «-‬أل َ َكلُوا ِم ْن فَ ْو ِق ِه ْم »ألعطاهم من العلوم الخارجة عن الكسب ‪ ،‬وهي علم‬
‫ت أ َ ْر ُج ِل ِه ْم »من العلوم الداخلة تحت الكسب الذي يناله أهل‬ ‫الوهب اللدني« َو ِم ْن ت َ ْح ِ‬
‫التقوى من هذه األمة ‪ ،‬فهي معارف مكتسبة ال موهوبة ‪ ،‬من كسبهم واجتهادهم ‪-‬‬
‫الوجه الثالث ‪َ «-‬أل َ َكلُوا ِم ْن فَ ْوقِ ِه ْم »الضمير يعود على الذين أكلوا من فوقهم ‪ ،‬وهم‬
‫ّللا لو أنهم أقاموا التوراة واإلنجيل وما أنزل إليهم من ربهم فأكلوا من فوقهم‬ ‫الذين ذكر ه‬
‫‪ ،‬وهو علم الوهب ال من جهة الكسب ‪ ،‬وهو العلم المذكور في الوجه الثاني بقسميه ثم‬
‫ص َدة ٌ »فمن تحت أرجل هؤالء أمم منهم أمة‬ ‫ت أ َ ْر ُج ِل ِه ْم ِم ْن ُه ْم أ ُ َّمةٌ ُم ْقت َ ِ‬
‫قال« َو ِم ْن ت َ ْح ِ‬
‫ّللا وال يقيمونه بالعمل الذي‬ ‫مقتصدة ‪ ،‬وهم أهل الكسب ‪ ،‬وهم الذين يتأولون كتاب ه‬
‫نزل إليه ‪ ،‬وال يتأدبون في أخذه ‪ ،‬وهم على قسمين ‪ :‬القليل منهم المقتصد في ذلك‬
‫وهو الذي قارب الحق ‪ ،‬وقد يصيب الحق فيما تأوله بحكم الموافقة ‪ ،‬ال بحكم القطع ‪،‬‬
‫ّللا فيما أنزله على التعيين إال بطريق الوهب ‪ ،‬وهو اإلخبار اإللهي‬ ‫فإنه ما يعلم مراد ه‬
‫الذي يخاطب به الحق قلب العبد في سره بينه وبينه ‪ .‬ومن لم يقتصد في ذلك وتعمق‬
‫في التأويل بحيث أنه لم يترك مناسبة بين اللفظ المنزل والمعنى ‪ ،‬أو قرر اللفظ على‬
‫ّللا فيهم في اآلية‬ ‫ّللا فيه ‪ ،‬وهم الذين قال ه‬ ‫طريق التشبيه ‪ ،‬ولم يرد علم ذلك إلى ه‬
‫ير ِم ْن ُه ْم سا َء ما يَ ْع َملُونَ »وأي سوء أعظم من هذا ‪ ،‬وهؤالء هم القسم‬ ‫عينها« َو َكثِ ٌ‬
‫ص َدة ٌ‬‫ت أ َ ْر ُج ِل ِه ْم »أمم« ِم ْن ُه ْم أ ُ َّمةٌ ُم ْقت َ ِ‬ ‫الثاني ‪ .‬فالتقدير في اآلية على التفسير« َو ِم ْن ت َ ْح ِ‬
‫ض‬ ‫ير ِم ْن ُه ْم سا َء ما يَ ْع َملُونَ »ولهذا قال لنبيه ‪َ «:‬و ِإ ْن ت ُ ِط ْع أ َ ْكث َ َر َم ْن فِي ْاأل َ ْر ِ‬ ‫َو َكثِ ٌ‬
‫ّللا »وقال ‪ «:‬ما يَ ْعلَ ُم ُه ْم ِإ َّال قَ ِلي ٌل »فأشرف العلوم ما ناله العبد من‬ ‫ع ْن َ‬
‫س ِبي ِل َّ ِ‬ ‫وك َ‬ ‫ضلُّ َ‬ ‫يُ ِ‬
‫طريق الوهب ‪ -‬الوجه الرابع «‪َ -‬أل َ َكلُوا ِم ْن فَ ْوقِ ِه ْم »يريد استواءه على العرش‬
‫ّللا من قوله صلهى‬ ‫ت أ َ ْر ُج ِل ِه ْم »يريد نسبة التحت إلى ه‬ ‫والسماء بل كل ما عال« َو ِم ْن ت َ ْح ِ‬
‫ّللا عليه وسلم « لو دليتم بحبل لهبط على هللا » مع أنه ليس كمثله شيء فالنسب إليه‬ ‫ه‬
‫ّللف الفوق والتحت‪.‬‬ ‫على السواء ه‬

‫ص ‪34‬‬

‫ص ‪34 :‬‬
‫سورة المائدة ( ‪ : ) 5‬آية ‪67‬‬
‫سو ُل بَ ِلّ ْغ ما أ ُ ْن ِز َل إِلَ ْيكَ ِم ْن َر ِبّكَ َوإِ ْن لَ ْم ت َ ْفعَ ْل فَما بَله ْغتَ ِرسالَتَهُ َو ه‬
‫َّللاُ يَ ْع ِص ُمكَ‬ ‫يا أَيُّ َها ه‬
‫الر ُ‬
‫ين ) ‪( 67‬‬ ‫َّللا ال يَ ْهدِي ا ْلقَ ْو َم ا ْلكافِ ِر َ‬ ‫ِم َن النه ِ‬
‫اس ِإ هن ه َ‬

‫ّللا عليه وسلم المنزل عليه القرآن مأمورا‬ ‫ّللا صلهى ه‬‫الوجه األول ‪ :‬لما كان رسول ه‬
‫بتبليغه إلى المكلفين وتبيينه للناس ما نزل إليهم ‪ ،‬ومن األشياء ما هي مشهودة لهم‬
‫ّللا‬
‫ّللا كما حكى ه‬
‫وغائبة عنهم ‪ ،‬ولم يؤمر أن يحرف الكلم عن مواضعه بل يحكي عن ه‬
‫له قول القائلين ‪ ،‬وقولهم يتضمن الغيبة والحضور ‪ ،‬فما زاد على ما قالوه في حكايته‬
‫سو ُل بَ ِله ْغ ما أ ُ ْن ِز َل ِإلَي َْك »‬ ‫عنهم وقيل له صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ «:‬يا أَيُّ َها َّ‬
‫الر ُ‬

‫[ كيفية تبليغ الرسول صلهى ه‬


‫ّللا عليه وسلم للقرآن الكريم ]‬
‫فلم يعدل عن صورة ما أنزل إليه فقال ما قيل له ‪ ،‬فإنه ما نزلت المعاني على قلبه من‬
‫غير تركيب هذه الحروف وترتيب هذه الكلمات ونظم هذه اآليات وإنشاء هذه السور‬
‫ّللا نشأة القرآن صورة في نفسها ‪ ،‬أظهرها صلهى ه‬
‫ّللا‬ ‫المسمى هذا كله قرآنا ‪ ،‬فلما أقام ه‬
‫عليه وسلم كما شاهدها ‪ ،‬فأبصرتها األبصار في المصاحف ‪ ،‬وسمعتها اآلذان من‬
‫حرفه بعد ما‬
‫ّللا هذا المسموع والمبصر ‪ ،‬وألحق الذم بمن ه‬ ‫التالين ‪ ،‬وليس غير كالم ه‬
‫ّللا ‪ ،‬فأبقى صورته كما أنزلت عليه ‪ ،‬فلو بدل من ذلك شيئا‬ ‫عقله وهو يعلم أنه كالم ه‬
‫وغير النشأة لبلغ إلينا صورة فهم ال صورة ما أنزل عليه ‪ ،‬فإنه لكل عين من الناس‬
‫المنزل إليهم هذا القرآن نظر فيه ‪ ،‬فلو نقله إلينا على معنى ما فهم ‪ ،‬لما كان قرآنا‬
‫أعني القرآن الذي أنزل عليه ‪ ،‬فإن فرضنا أنه قد علم جميع معانيه بحيث أنه لم يشذ‬
‫عنه شيء من معانيه قلنا ‪ :‬فإن علم ذلك وهذه الكلمات تدل على جميع تلك المعاني‬
‫فألي شيء يعدل ؟‬
‫وإن عدل إلى كلمات تساويها في جميع تلك المعاني فال بد لتلك الكلمات التي يعدل‬
‫إليها من حيث ما هي أعيان وجودية ‪ ،‬أعيان غير هذه األعيان التي عدل عنها التي‬
‫أنزلت عليه ‪ ،‬فال بد أن تخالفها بما تعطيه من الزيادة من حيث أعيانها على ما جمعته‬
‫من المعاني التي جمعتها الكلمات المنزلة ‪ ،‬فيزيد للناظر في القرآن معاني أعيان تلك‬
‫ّللا أعيان تلك الكلمات التي عدل‬
‫الكلمات المعدول إليها ‪ ،‬كما أيضا ينقص مما أنزل ه‬
‫عنها ‪ ،‬فكأن الرسول قد نقص في تبليغ ما أنزل إليه أعيان تلك الكلمات وحاشاه من‬
‫ذلك ‪ ،‬فلم يكن ينبغي له إال أن يبلغ إلى الناس ما نزل إليهم صورة مكملة من حيث‬
‫الظاهر حروفها اللفظية والرقمية ‪ ،‬ومن حيث الباطن معانيها ‪ ،‬فالرسول مبلغ ما قيل‬
‫له قل ‪ ،‬ولو كان مبلغا ما عنده ‪ ،‬أو ما يجده من العلم في نفسه ‪ ،‬لم يكن رسوال ‪،‬‬
‫ولكان‬
‫ص ‪35‬‬

‫ص ‪35 :‬‬
‫معلما ‪ .‬فكل رسول معلم وما كل معلم رسول ‪.‬‬
‫ّللا عليه وسلم بعث رحمة ‪ ،‬ورأى الكثير لم‬ ‫الوجه الثاني ‪ :‬لما كان الرسول صلهى ه‬
‫تصبه هذه الرحمة ‪ ،‬وأن علة ذلك إنما كان تأويلهم بالوجهين من التشبيه ‪ ،‬أو البعد عن‬
‫مدلول اللفظ بالكلية ‪ ،‬تحيهر في التبليغ ‪ ،‬وتوقف حتى يرى هل يوجب ذلك عليه ربه أم‬
‫سو ُل بَ ِله ْغ ما أ ُ ْن ِز َل ِإلَي َْك ِم ْن َر ِبه َك »فعلم الرسول أن‬ ‫ّللا تعالى« يا أَيُّ َها َّ‬
‫الر ُ‬ ‫ال ! فأنزل ه‬
‫ّللا عليه وسلم وما أخفى مما أمر بتبليغه شيئا‬ ‫المراد منه التبليغ ال غير ‪ ،‬فبلهغ صلهى ه‬
‫خص به‬ ‫ه‬ ‫أصال ‪ ،‬فإنه معصوم محفوظ قطعا في التبليغ عن ربه ما أمر بتبليغه ‪ ،‬وما‬
‫فهو على ما يقتضيه نظره ‪ .‬فوظيفة الرسل والورثة من العلماء إنما هو التبليغ بالبيان‬
‫واإلفصاح ال غير ‪ ،‬وجزاؤهم جزاء من أعطى ووهب ‪ ،‬وذلك بالنصيحة والتبليغ ‪،‬‬
‫علَي َْك‬ ‫ْس َ‬‫ليس بيده من األمر غير هذا فلما بلهغ قيل له ‪ « :‬ما عليك إال البالغ «» لَي َ‬
‫ّللا يَ ْهدِي َم ْن يَشا ُء »فإن ذلك خاص ه‬
‫باّلل‬ ‫ُهدا ُه ْم »« ِإنَّ َك ال ت َ ْهدِي َم ْن أ َ ْحبَب َ‬
‫ْت َول ِك َّن َّ َ‬
‫ت ِرسالَتَهُ »‪ .‬فإن حقيقة الرسالة إبالغ كالم من متكلم إلى‬ ‫تعالى« َوإِ ْن لَ ْم ت َ ْفعَ ْل فَما بَلَّ ْغ َ‬
‫ص ُم َك ِمنَ‬ ‫ّللاُ يَ ْع ِ‬
‫سامع ‪ ،‬وهو علم يوصله إلى المرسل إليه ‪ .‬فأوجب عليه البالغ « َو َّ‬
‫ّللا عليه وسلم قبل أن يعرف بعصمته من الناس إذا نزل‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫اس »كان رسول ه‬ ‫النَّ ِ‬
‫ّللا على كل شيء حفيظ ‪ ،‬وال يعلم‬ ‫منزال يقول من يحرسنا الليلة ؟ مع كونه يعلم أن ه‬
‫حافظا سواه ‪ ،‬ويعلم بأن المقدور كائن ‪ ،‬والحارس ليس بمانع ما قدر وال صائن ‪ ،‬لكن‬
‫ّللا مع‬
‫طلب المعبود بذل المجهود وهو يفعل ما يشاء وهذا من األمور التي شاء ‪ ،‬فإن ه‬
‫األنبياء بتأييد الدعوى ‪ ،‬ال بالحفظ والعصمة ‪ ،‬إال إن أخبر بذلك في حق نبي معين فإن‬
‫ّللاُ‬
‫ّللا قد عرفنا أن األنبياء قتلتهم أممهم وما عصموا وال حفظوا ‪ ،‬فلما نزلت« َو َّ‬ ‫ه‬
‫اس »أقام العصمة مقام الحرس ‪ ،‬ولم يجنح إلى العسس ‪.‬‬ ‫ص ُم َك ِمنَ النَّ ِ‬ ‫يَ ْع ِ‬

‫[ سورة المائدة ( ‪ : ) 5‬اآليات ‪ 68‬إلى ‪] 69‬‬


‫اْل ْن ِجي َل َوما أ ُ ْن ِز َل إِلَ ْي ُك ْم ِم ْن‬‫ش ْي ٍء َحتهى ت ُ ِقي ُموا الت ه ْوراةَ َو ْ ِ‬ ‫ست ُ ْم عَلى َ‬ ‫قُ ْل يا أ َ ْه َل ا ْل ِكتا ِ‬
‫ب لَ ْ‬
‫علَى ا ْلقَ ْو ِم‬ ‫س َ‬ ‫ط ْغيانا ً َو ُك ْفرا ً فَال تَأ ْ َ‬
‫َر ِبّ ُك ْم َولَيَ ِزيد هَن َكثِيرا ً ِم ْن ُه ْم ما أ ُ ْن ِز َل إِلَ ْيكَ ِم ْن َر ِبّكَ ُ‬
‫ُون َوالنهصارى َم ْن آ َم َن ِب ه ِ‬
‫اّلِل‬ ‫صا ِبئ َ‬‫ِين هادُوا َوال ه‬ ‫ِين آ َمنُوا َوالهذ َ‬ ‫ين ) ‪ِ ( 68‬إ هن الهذ َ‬ ‫ا ْلكافِ ِر َ‬
‫ون) ‪( 69‬‬ ‫علَ ْي ِه ْم َوال ُه ْم يَحْ َزنُ َ‬ ‫ف َ‬ ‫َوا ْليَ ْو ِم ْاآل ِخ ِر َوع َِم َل صا ِلحا ً فَال َخ ْو ٌ‬

‫ص ‪36‬‬

‫ص ‪36 :‬‬
‫الصابئون من صبا أي مال يقال ‪ :‬صبا فالن إلى دين فالن ‪ ،‬إذا مال إليه ‪.‬‬

‫سورة المائدة ( ‪ : ) 5‬اآليات ‪ 70‬إلى ‪71‬‬


‫سو ٌل ِبما ال تَهْوى‬ ‫سالً ُكلهما جا َء ُه ْم َر ُ‬ ‫سرائِي َل َوأ َ ْر َ‬
‫س ْلنا ِإلَ ْي ِه ْم ُر ُ‬ ‫ق بَنِي ِإ ْ‬ ‫لَقَ ْد أ َ َخ ْذنا ِميثا َ‬
‫ُون ِفتْنَةٌ فَعَ ُموا َو َ‬
‫ص ُّموا ث ُ هم‬ ‫سبُوا أَاله تَك َ‬
‫ون ( ‪َ ) 70‬و َح ِ‬ ‫س ُه ْم فَ ِريقا ً َكذهبُوا َوفَ ِريقا ً يَ ْقتُلُ َ‬ ‫أ َ ْنفُ ُ‬
‫ون ) ‪( 71‬‬ ‫ير بِما يَ ْع َملُ َ‬ ‫ير ِم ْن ُه ْم َو ه‬
‫َّللاُ بَ ِص ٌ‬ ‫ص ُّموا َكثِ ٌ‬ ‫ع ُموا َو َ‬ ‫علَ ْي ِه ْم ث ُ هم َ‬
‫َّللاُ َ‬
‫تاب ه‬ ‫َ‬

‫" َو َح ِسبُوا " أي وظنوا "أ َ َّال ت َ ُكونَ فِتْنَةٌ »فكانت الفتنة وما كان ما حسبوا« فَعَ ُموا‬
‫ص ُّموا »‪ . . .‬اآلية ‪.‬‬
‫َو َ‬

‫سورة المائدة ( ‪ : ) 5‬آية ‪72‬‬


‫سرائِي َل ا ْعبُدُوا‬
‫سي ُح يا بَنِي إِ ْ‬ ‫سي ُح ا ْب ُن َم ْريَ َم َوقا َل ا ْل َم ِ‬ ‫َّللا ُه َو ا ْل َم ِ‬
‫ِين قالُوا إِ هن ه َ‬ ‫لَقَ ْد َكفَ َر الهذ َ‬
‫ظا ِل ِم َ‬
‫ين‬ ‫علَ ْي ِه ا ْل َجنهةَ َو َمأْواهُ النه ُ‬
‫ار َوما ِلل ه‬ ‫اّلِل فَقَ ْد َح هر َم ه‬
‫َّللاُ َ‬ ‫َّللا َر ِبّي َو َربه ُك ْم إِنههُ َم ْن يُش ِْر ْك بِ ه ِ‬
‫هَ‬
‫صار ) ‪( 72‬‬ ‫ِم ْن أ َ ْن ٍ‬

‫ّللا في المسيح حيث ظهر باالسم الدهر واالسم القيوم فاتخذوا‬ ‫لما عبدت بنو إسرائيل ه‬
‫علَ ْي ِه ْال َجنَّةَ »أي حرم‬ ‫ناسوت عيسى مجلى قال لهم ‪ «:‬إِنَّهُ َم ْن يُ ْش ِر ْك بِ َّ ِ‬
‫اّلل فَقَ ْد َح َّر َم َّ‬
‫ّللاُ َ‬
‫وّللا قد وصفهم بالستر حيث وصفهم بالكفر ‪ ،‬فهي آية يعطي‬ ‫ّللا عليه كنفه الذي يستره ه‬
‫ه‬
‫ظاهرها نفس ما يعطي ما هو عليه األمر في ذلك ‪.‬‬

‫سورة المائدة ( ‪ : ) 5‬آية ‪73‬‬


‫ع هما‬ ‫ث ثَالث َ ٍة َوما ِم ْن ِإل ٍه ِإاله ِإلهٌ ِ‬
‫واح ٌد َو ِإ ْن لَ ْم يَ ْنت َ ُهوا َ‬ ‫َّللا ثا ِل ُ‬ ‫لَقَ ْد َكفَ َر الهذ َ‬
‫ِين قالُوا ِإ هن ه َ‬
‫َذاب أ َ ِلي ٌم ) ‪( 73‬‬
‫ِين َكفَ ُروا ِم ْن ُه ْم ع ٌ‬‫س هن الهذ َ‬ ‫يَقُولُ َ‬
‫ون لَيَ َم ه‬

‫ث ثَالث َ ٍة »فلو قال ‪ :‬ثالث اثنين ‪،‬‬


‫ّللا ثا ِل ُ‬
‫ما كفر القائل بالثالثة وإنما كفر بقوله ‪ِ «:‬إ َّن َّ َ‬
‫ألصاب الحق وأزال المين ‪ ،‬ولما كان كافرا ‪ ،‬فإنه سبحانه وتعالى ليس من جنس‬
‫الممكنات ‪،‬‬

‫ص ‪37‬‬

‫ص ‪37 :‬‬
‫ّللا ثالث ثالثة ‪ ،‬ولم يكفر من قال إنه رابع ثالثة وخامس‬ ‫فلذلك كفر الذين قالوا إن ه‬
‫أربعة ‪ ،‬بالغا ما بلغ ولما كان االسم األحد ال يكون عنه شيء البتة ‪ ،‬وعن االسم الفرد‬
‫ظهر ما ظهر من أعيان الممكنات ‪ ،‬فما وجد ممكن من واحد ‪ ،‬وإنما وجد من جمع ‪،‬‬
‫وأقل الجمع ثالثة ‪ ،‬وهو أول األفراد ‪ ،‬فافتقر كل ممكن إلى االسم الفرد يدل على ذلك‬
‫أن التكوين اإللهي عن قول كن ‪ ،‬وهو ثالثة أحرف كاف وواو ونون الواو بين الكاف‬
‫والنون ال ظهور لها ألمر عارض ‪ ،‬أعطاه سكون النون وسكون الواو ‪ ،‬إال أنه للنون‬
‫سكون أمر ‪ ،‬فسرت هذه الحقيقة الفردية ‪ .‬والثالثة أول األفراد ‪ ،‬وكان غاية المشرك‬
‫ث ثَالث َ ٍة »ولم يزد على ذلك وما حكى عن مشرك ه‬
‫باّلل أنه قال‬ ‫ّللا ثا ِل ُ‬
‫أن يقول ‪ِ «.‬إ َّن َّ َ‬
‫فيه غير ثالث ثالثة وجاء رابع أربعة وال ثامن ثمانية ‪ ،‬فلسريان حقيقة التثليث‬
‫الموجودة في األصل قال تعالى فيمن قال بالتثليث ‪ :‬إنه كافر وما سماه مشركا ‪ ،‬فإنه‬
‫ستر ما كان ينبغي له مما بيناه فلما ستر هذا البيان سماه كافرا ‪ ،‬ألنه ما من إله إال إله‬
‫واحد ‪ ،‬وإن كانت له أحكام مختلفة فلو لم يستر هذا الكافر وأبان لقال ما هو األمر عليه‬
‫‪ .‬وأما من يدعي أن اآللهة ثالثة ‪ ،‬فذلك مشرك جاهل وهو من الضالل فإنه ما ثم على‬
‫األحدية زائد ‪.‬‬

‫سورة المائدة ( ‪ : ) 5‬اآليات ‪ 74‬إلى ‪80‬‬


‫سي ُح ا ْب ُن َم ْريَ َم إِاله‬ ‫ور َر ِحي ٌم ( ‪َ ) 74‬ما ا ْل َم ِ‬ ‫غفُ ٌ‬ ‫َّللاُ َ‬
‫ست َ ْغ ِف ُرونَهُ َو ه‬ ‫ون إِلَى ه ِ‬
‫َّللا َويَ ْ‬ ‫أ َ فَال يَتُوبُ َ‬
‫ف نُبَ ِيّ ُن لَ ُه ُم‬ ‫ظ ْر َك ْي َ‬‫طعا َم ا ْن ُ‬ ‫س ُل َوأ ُ ُّمهُ ِص ّدِيقَةٌ كانا يَأْك ِ‬
‫ُالن ال ه‬ ‫الر ُ‬‫سو ٌل قَ ْد َخلَتْ ِم ْن قَ ْب ِل ِه ُّ‬ ‫َر ُ‬
‫َّللا ما ال يَ ْم ِلكُ لَ ُك ْم َ‬
‫ض ًّرا‬ ‫ُون ِم ْن د ِ‬
‫ُون ه ِ‬ ‫ُون ( ‪ ) 75‬قُ ْل أ َ ت َ ْعبُد َ‬ ‫ظ ْر أَنهى يُ ْؤفَك َ‬ ‫ت ث ُ هم ا ْن ُ‬
‫ْاآليا ِ‬
‫ب ال ت َ ْغلُوا فِي دِينِ ُك ْم َ‬
‫غ ْي َر‬ ‫س ِمي ُع ا ْلعَ ِلي ُم ) ‪ ( 76‬قُ ْل يا أ َ ْه َل ا ْل ِكتا ِ‬ ‫َوال نَ ْفعا ً َو ه‬
‫َّللاُ ُه َو ال ه‬
‫س ِبي ِل‬ ‫واء ال ه‬ ‫س ِ‬ ‫ضلُّوا ع َْن َ‬ ‫ضلُّوا َكثِيرا ً َو َ‬ ‫ضلُّوا ِم ْن قَ ْب ُل َوأ َ َ‬ ‫ق َوال تَت ه ِبعُوا أ َ ْهوا َء قَ ْو ٍم قَ ْد َ‬ ‫ا ْل َح ّ ِ‬
‫سى ا ْب ِن َم ْريَ َم ذ ِلكَ ِبما‬ ‫داو َد َو ِعي َ‬
‫سان ُ‬ ‫سرا ِئي َل عَلى ِل ِ‬ ‫ِين َكفَ ُروا ِم ْن بَ ِني ِإ ْ‬ ‫( ‪ ) 77‬لُ ِع َن الهذ َ‬
‫س ما كانُوا‬ ‫ُون ) ‪ ( 78‬كانُوا ال يَتَنا َه ْو َن ع َْن ُمنك ٍَر فَعَلُوهُ لَبِئْ َ‬ ‫ص ْوا َوكانُوا يَ ْعتَد َ‬ ‫ع َ‬ ‫َ‬
‫س ُه ْم أ َ ْن‬ ‫س ما قَ هد َمتْ لَ ُه ْم أ َ ْنفُ ُ‬ ‫ِين َكفَ ُروا لَبِئْ َ‬ ‫ون ( ‪ ) 79‬تَرى َكثِيرا ً ِم ْن ُه ْم يَت َ َوله ْو َن الهذ َ‬ ‫يَ ْفعَلُ َ‬
‫ُون) ‪( 80‬‬ ‫ب ُه ْم خا ِلد َ‬ ‫علَ ْي ِه ْم َوفِي ا ْلعَذا ِ‬ ‫س ِخ َط ه‬
‫َّللاُ َ‬ ‫َ‬

‫ص ‪38‬‬

‫ص ‪38 :‬‬
‫ّللا دار من سخط عليه ‪.‬‬
‫لكون النار جعلها ه‬

‫سورة المائدة ( ‪ : ) 5‬اآليات ‪ 81‬إلى ‪82‬‬


‫ي ِ َوما أ ُ ْن ِز َل ِإلَ ْي ِه َما ات ه َخذُو ُه ْم أ َ ْو ِليا َء َول ِك هن َكثِيرا ً ِم ْن ُه ْم‬‫اّلِل َوالنه ِب ّ‬
‫ون ِب ه ِ‬ ‫َولَ ْو كانُوا يُ ْؤ ِمنُ َ‬
‫ِين أَش َْركُوا َولَت َ ِجد هَن‬ ‫ِين آ َمنُوا ا ْليَ ُهو َد َوالهذ َ‬ ‫َداوةً ِللهذ َ‬ ‫اس ع َ‬ ‫ش هد النه ِ‬ ‫ون ) ‪ ( 81‬لَت َ ِجد هَن أ َ َ‬ ‫سقُ َ‬ ‫فا ِ‬
‫ين َو ُر ْهبانا ً‬ ‫س َ‬ ‫سي ِ‬‫ِين قالُوا إِنها نَصارى ذ ِلكَ بِأ َ هن ِم ْن ُه ْم قِ ِ ّ‬ ‫ِين آ َمنُوا الهذ َ‬ ‫أ َ ْق َربَ ُه ْم َم َو هدةً ِللهذ َ‬
‫ون ) ‪( 82‬‬ ‫َوأَنه ُه ْم ال يَ ْ‬
‫ست َ ْكبِ ُر َ‬
‫المكلف إذا خاف وقامت به الرهبة ‪ ،‬فأدته إلى مراعاة الحدود سمي راهبا ‪ ،‬وسميت‬
‫ّللا الرهبان بذلك في كتابه ‪.‬‬ ‫الشريعة رهبانية ‪ ،‬ومدح ه‬

‫سورة المائدة ‪( 5 ) :‬آية ‪83‬‬


‫يض ِم َن الد ْهم ِع ِم هما ع ََرفُوا ِم َن ا ْل َح ّ ِ‬
‫ق‬ ‫سو ِل تَرى أ َ ْعيُنَ ُه ْم ت َ ِف ُ‬ ‫س ِمعُوا ما أ ُ ْن ِز َل إِلَى ه‬
‫الر ُ‬ ‫َوإِذا َ‬
‫ِين ) ‪( 83‬‬ ‫ون َربهنا آ َمنها فَا ْكت ُ ْبنا َم َع الشها ِهد َ‬‫يَقُولُ َ‬
‫سو ِل‬ ‫س ِمعُوا ما أ ُ ْن ِز َل ِإلَى َّ‬
‫الر ُ‬ ‫يقول تعالى في حق من سمع من النصارى« َو ِإذا َ‬
‫»فوصفهم بأنهم يسمعون ‪ ،‬ثم ذكر ما كان منهم حين سمعوا فقال «‪ :‬تَرى أ َ ْعيُنَ ُه ْم‬
‫ق »وما أثر فيهم إال من أثر علمهم القائم بهم لما‬ ‫ع َرفُوا ِمنَ ْال َح ه ِ‬
‫يض ِمنَ الد َّْم ِع ِم َّما َ‬‫ت َ ِف ُ‬
‫تدل عليه تلك اآلية ‪ ،‬وشهودهم ما تضمنه األمر الذي أبكاهم ‪ ،‬فلم يكن األثر لصورة‬
‫لفظ اآلية ‪ ،‬وإنما األثر لما قام بنفس العالم بها المشاهد ما نزلت له تلك اآلية ‪ ،‬لذلك‬
‫شا ِهدِينَ »وأخبر تعالى أنهم آمنوا ‪،‬‬ ‫قال تعالى عنهم ‪ «:‬يَقُولُونَ َربَّنا آ َمنَّا فَا ْكتُبْنا َم َع ال َّ‬
‫وأخبر أنه تعالى أثابهم على إيمانهم بما ذكر في اآليات ‪ ،‬فالراهب يترك بحكم الحق‬
‫وما انقطع إليه ‪ ،‬ولم يكفره بل سلم له ما هو عليه ‪ ،‬ما ذاك إال‬

‫ص ‪39‬‬

‫ص ‪39 :‬‬
‫النفراده وانتزاحه عن عباده ‪ ،‬فلو دخل مع الجماعة في العمل ‪ ،‬أللحقه في الحكم بمن‬
‫أسر وقتل ‪ ،‬فال تتعرضوا ألصحاب الصوامع ‪ ،‬فإن نفوسهم سوامع ‪ ،‬ترى أعينهم عند‬
‫السمع تفيض من الدمع ‪ ،‬ما لهم علم بما هم عليه الناس من االلتباس ‪ ،‬تجنبوا الحيف ‪،‬‬
‫وتدرعوا الخوف ‪.‬‬
‫‪ -‬تفسير من باب اإلشارة –‬
‫يا عين بالنظر الذي ‪ ....‬قد نلت منه تشفعي‬
‫واهمي الدموع ببابه ‪ ....‬وتملقي وتصنعي‬

‫باّلل ]‬
‫[ في صفة العارفين ه‬
‫سو ِل تَرى‬ ‫س ِمعُوا ما أ ُ ْن ِز َل ِإلَى َّ‬
‫الر ُ‬ ‫باّلل ‪َ «:‬و ِإذا َ‬‫عز وجل في صفة العارفين ه‬ ‫ّللا ه‬ ‫يقول ه‬
‫ق »ولم يقل علموا فوصفهم بالمعرفة«‬ ‫ع َرفُوا ِمنَ ْال َح ه ِ‬ ‫يض ِمنَ الد َّْم ِع ِم َّما َ‬ ‫أ َ ْعيُنَ ُه ْم ت َ ِف ُ‬
‫شا ِهدِينَ »ولم يقولوا علمنا ‪.‬‬ ‫يَقُولُونَ َربَّنا آ َمنَّا فَا ْكتُبْنا َم َع ال َّ‬

‫سورة المائدة ( ‪ : ) 5‬آية ‪84‬‬


‫ق َونَ ْط َم ُع أ َ ْن يُد ِْخلَنا َربُّنا َم َع ا ْلقَ ْو ِم ال ه‬
‫صا ِل ِح َ‬
‫ين‬ ‫اّلِل َوما جا َءنا ِم َن ا ْل َح ّ ِ‬
‫َوما لَنا ال نُ ْؤ ِم ُن ِب ه ِ‬
‫( ‪) 84‬‬

‫َط َم ُع »وما قالوا‬ ‫ق َون ْ‬


‫اّلل »ولم يقل نعلم« َوما جا َءنا ِمنَ ْال َح ه ِ‬ ‫« َوما لَنا ال نُؤْ ِم ُن بِ َّ ِ‬
‫صا ِل ِحينَ »وهي الدرجة الرابعة« فَأَثابَ ُه ُم َّ‬
‫ّللاُ بِما‬ ‫نتحقق« أ َ ْن يُ ْد ِخلَنا َربُّنا َم َع ْالقَ ْو ِم ال َّ‬
‫قالُوا »ولم يقل بما علموا‪.‬‬

‫سورة المائدة ( ‪ : ) 5‬آية ‪85‬‬


‫ت تَجْ ِري ِم ْن تَحْ تِ َها ْاأل َ ْن ُ‬
‫هار خا ِلد َ‬
‫ِين فِيها َوذ ِلكَ َجزا ُء‬ ‫فَأَثابَ ُه ُم ه‬
‫َّللاُ بِما قالُوا َجنها ٍ‬
‫ين ) ‪( 85‬‬ ‫ا ْل ُمحْ ِ‬
‫سنِ َ‬

‫فالعارف دون العالم الصديق ‪ ،‬وال يسمى عارفا إال من كان حظه من األحوال البكاء ‪،‬‬
‫ومن المقامات اإليمان بالسماع ال باألعيان ‪ ،‬ومن األعمال الرغبة إليه سبحانه ‪،‬‬
‫والطمع في اللحوق بالصالحين ‪ ،‬وأن يكتب مع الشاهدين ‪« ،‬فَأَثابَ ُه ُم َّ‬
‫ّللاُ ِبما قالُوا َجنَّا ٍ‬
‫ت‬
‫هار »فأخبر تعالى أن سماعهم من الكتاب الكبير ال من أنفسهم ‪،‬‬ ‫ت َ ْج ِري ِم ْن ت َ ْحتِ َها ْاأل َ ْن ُ‬
‫ثم قال ‪ «:‬فَأَثابَ ُه ُم »وال نشك أن الصدهيقية درجة فوق هاتين الصفتين اللتين طلب‬
‫العارف أن يلحق بهما فهو‬

‫ص ‪40‬‬

‫ص ‪40 :‬‬
‫دونهما ‪ ،‬وقد سمي عارفا وقال تعالى ‪ « :‬أولئك الذين أنعم هللا عليهم من النبيين‬
‫والصديقين والشهداء والصالحين » فانظر إلى هذه الدرجات ‪ ،‬ثم لتعلم أن الشهداء‬
‫ّللا‬
‫الذين رغب العارف أن يلحق بهم هم العاملون على األجرة وتحصيل الثواب ‪ ،‬وأن ه‬
‫عز وجل قد برأ الصديقين من األعواض وطلب الثواب ‪ ،‬إذ لم يقم بنفوسهم ذلك ‪،‬‬ ‫ه‬
‫لعلمهم أن أفعالهم ليست لهم أن يطلبوا عوضا ‪ ،‬بل هم العبيد على الحقيقة ‪ ،‬واألجراء‬
‫س ِل ِه أُولئِ َك ُه ُم ال ِ ه‬
‫ص هدِيقُونَ »ولم يذكر لهم‬ ‫عز وجل ‪َ «:‬والَّذِينَ آ َمنُوا بِ َّ ِ‬
‫اّلل َو ُر ُ‬ ‫مجازا قال ه‬
‫عوضا على عملهم ‪ ،‬إذ لم يقم لهم به خاطر أصال ‪ ،‬لتبريهم من الدعوة ‪ .‬ثم قال «‪:‬‬
‫ور ُه ْم »وهم الرجال الذين رغب العارف أن يلحق‬ ‫ش َهدا ُء ِع ْن َد َر ِبه ِه ْم لَ ُه ْم أ َ ْج ُر ُه ْم َونُ ُ‬
‫َوال ُّ‬
‫بهم ‪ ،‬ويرسم في ديوانهم ‪ ،‬وقد جعلهم تعالى في حضرة الربوبية ‪ ،‬ولم يشترط في‬
‫إيمان الصديقين السماع ‪ ،‬كما فعل بالعارفين حكمة منه سبحانه ‪.‬‬
‫ّللا عليه وسلم أين جعل العارف حيث جعله الحق فقال ‪:‬‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫وانظر أدب رسول ه‬
‫« من عرف نفسه عرف ربه » ولم يقل علم فلم ينزله عن حضرة الربوبية وال عن‬
‫حضرة نفسه التي هي صاحبة الجنة كما قال ‪ « :‬وفيها ما تشتهي األنفس » فالعارف‬
‫صاحب الشهوة المحمودة تربيه بين يدي العالم الصديق ‪.‬‬

‫سورة المائدة ( ‪ : ) 5‬اآليات ‪ 86‬إلى ‪88‬‬


‫يم ) ‪ ( 86‬يا أَيُّ َها الهذ َ‬
‫ِين آ َمنُوا ال‬ ‫ِين َكفَ ُروا َو َكذهبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَص ُ‬
‫ْحاب ا ْل َج ِح ِ‬ ‫َوالهذ َ‬
‫ِين ) ‪َ ( 87‬و ُكلُوا ِم هما‬ ‫ب ا ْل ُم ْعتَد َ‬ ‫ت ما أ َ َح هل ه‬
‫َّللاُ لَ ُك ْم َوال ت َ ْعت َدُوا إِ هن ه َ‬
‫َّللا ال يُ ِح ُّ‬ ‫ت ُ َح ِ ّر ُموا َط ِيّبا ِ‬
‫ون ) ‪( 88‬‬ ‫َّللا الهذِي أ َ ْنت ُ ْم ِب ِه ُم ْؤ ِمنُ َ‬ ‫َر َزقَ ُك ُم ه‬
‫َّللاُ َحالالً َط ِيّبا ً َواتهقُوا ه َ‬

‫ظاهر الشرع يعطي أن العامل في الحال رزقكم ‪ ،‬فإن من هنا في قوله ‪ِ «:‬م َّما َرزَ قَ ُك ُم‬
‫ّللاُ »للتبيين ال للتبعيض ‪ ،‬فإنه ال فائدة للتبعيض ‪ ،‬فإن التبعيض محقق مدرك ببديهة‬ ‫َّ‬
‫العقل ألنه ليس في الوسع العادي أكل الرزق كله ‪ ،‬وإن كانت للتبيين وهي متعلقة‬
‫ّللا ‪،‬‬‫ّللا هو الحالل الطيب ‪ ،‬فإن أكل ما حرم عليه فما أكل رزق ه‬ ‫بكلوا فبين أن رزق ه‬
‫ّللا عند بعض العلماء جميع ما يقع به التغذي من حالل وحرام ‪ ،‬فنهانا عن‬ ‫فإن رزق ه‬
‫ّللا في الحرام ما نهانا عنه ‪ ،‬فإذا ما هو الحرام رزق‬ ‫التغذي بالحرام ‪ ،‬فلو كان رزق ه‬
‫ّللا هو الحالل‪.‬‬
‫ّللا وإنما هو رزق ‪ ،‬ورزق ه‬
‫ه‬

‫ص ‪41‬‬

‫ص ‪41 :‬‬
‫سورة المائدة ( ‪ : ) 5‬آية ‪89‬‬
‫ارتُهُ إِ ْطعا ُم‬ ‫مان فَ َكفه َ‬ ‫عقه ْدت ُ ُم ْاأل َ ْي َ‬
‫ؤاخذُ ُك ْم ِبما َ‬ ‫َّللاُ ِبالله ْغ ِو فِي أ َ ْيمانِ ُك ْم َول ِك ْن يُ ِ‬
‫ؤاخذُ ُك ُم ه‬ ‫ال يُ ِ‬
‫ير َرقَبَ ٍة فَ َم ْن لَ ْم يَ ِج ْد‬ ‫س َوت ُ ُه ْم أ َ ْو تَحْ ِر ُ‬‫ون أ َ ْه ِلي ُك ْم أ َ ْو ِك ْ‬ ‫ين ِم ْن أ َ ْو َ‬
‫س ِط ما ت ُ ْط ِع ُم َ‬ ‫عش ََر ِة َمسا ِك َ‬ ‫َ‬
‫ظوا أ َ ْيمانَ ُك ْم كَذ ِلكَ يُبَ ِيّ ُن ه‬
‫َّللاُ لَ ُك ْم‬ ‫ارةُ أ َ ْيمانِ ُك ْم ِإذا َحلَ ْفت ُ ْم َواحْ فَ ُ‬
‫فَ ِصيا ُم ثَالث َ ِة أَيه ٍام ذ ِلكَ َكفه َ‬
‫ون ) ‪( 89‬‬ ‫شك ُُر َ‬ ‫آيا ِت ِه لَعَله ُك ْم ت َ ْ‬
‫باّلل ‪ ،‬وما عدا ذلك من األقسام فهو ساقط ما ينعقد به يمين في المقسوم عليه‬ ‫ال قسم إال ه‬
‫ّللاُ بِاللَّ ْغ ِو فِي أَيْمانِ ُك ْم »واللغو ‪ :‬الساقط فمعناه ال‬ ‫ؤاخذُ ُك ُم َّ‬
‫‪ ،‬ولهذا قال تعالى ‪ «:‬ال يُ ِ‬
‫ؤاخذُ ُك ْم بِما َ‬
‫عقَّ ْدت ُ ُم‬ ‫ّللا باأليمان التي أسقط الكفارة فيها إذا حنثتم ‪َ «،‬ول ِك ْن يُ ِ‬ ‫يؤاخذكم ه‬
‫ْاألَيْمانَ »فلما سقط العقد بالقلب عند اليمين ‪ ،‬سقطت الكفارة إذا وقع الحنث ‪ ،‬وال‬
‫باّلل ال‬ ‫خالف بين العلماء أن الكفارة في األيمان المذكورة في القرآن أنها في اليمين ه‬
‫بغيره ‪ .‬وجاء باأليمان معرفة باإلضافة واأللف والالم ‪ ،‬وقد صح عن النبي صلهى ه‬
‫ّللا‬
‫ّللا ‪.‬‬
‫عليه وسلم النهي عن اليمين بغير ه‬

‫[أنواع األقسام]‬
‫أنواع األقسام ‪ :‬راجع سورة الحاقة آية ‪ «38‬فَال أ ُ ْق ِس ُم ِبما تُب ِ‬
‫ْص ُرونَ َوما ال تُب ِ‬
‫ْص ُرونَ‬
‫»فكفارته إطعام عشرة مساكين ‪.‬‬
‫إنما عوقب بالكفارة ألنه أمر بمكارم األخالق ‪ ،‬واليمين على ترك فعل الخير من مذام‬
‫ّللا بين‬
‫األخالق ‪ ،‬فعوقب بالكفارة ‪ .‬ومن وجه آخر ‪ ،‬إن المسئ في حقنا الذي خيرنا ه‬
‫جزائه بما أساء وبين العفو عنه ‪ ،‬أنه لما أساء إلينا أعطانا من خير اآلخرة ما نحن‬
‫ّللا الغطاء بيننا وبين ما لنا من الخير في اآلخرة في‬ ‫محتاجون إليه ‪ ،‬حتى لو كشف ه‬
‫تلك المساءة حتى نراه عيانا لقلنا ‪ :‬إنه ما أحسن أحد في حقنا ما أحسن هذا الذي قلنا‬
‫عنه ‪ :‬إنه أساء في حقنا ‪ ،‬فال يكون جزاؤه عندنا الحرمان ‪ ،‬فنعفو عنه فال نجازيه‬
‫ونحسن إليه مما عندنا من الفضل على قدر ما تسمح به نفوسنا ‪ ،‬فإنه ليس في وسعنا‬
‫وال يملك مخلوق في الدنيا ما يجازي به من الخير من أساء إليه ‪ ،‬وال يجد ذلك الخير‬
‫ممن أحسن إليه في الدنيا ‪ ،‬ومن كان هذا عقده ونظره كيف يجازي المسئ بالسيئة إذا‬
‫كان مخيهرا فيها ؟ فلما آلى وحلف من أسيء إليه فما وفي المسئ حقه وإن لم يقصد‬
‫المسئ إيصال ذلك الخير إليه ‪ ،‬ولكن اإليمان قصده ‪ ،‬فينبغي له أن يدعو له إن كان‬
‫مشركا باإلسالم ‪ ،‬وإن كان مؤمنا بالتوبة والصالح ‪ .‬ولو لم يكن ثم إخبار من‬

‫ص ‪42‬‬

‫ص ‪42 :‬‬
‫ّللا بالخير األخروي لمن أسيء إليه إذا صبر ولم يجاز ‪ ،‬لكان المقرر في العرف بين‬ ‫ه‬
‫الناس كافيا فيما في التجاوز والعفو والصفح عن المسئ ‪ ،‬فإن ذلك من مكارم األخالق‬
‫ي ما اتصفت أنا وال ظهرت مني هذه المكارم من األخالق‬ ‫‪ ،‬ولوال إساءة هذا المسئ إل ه‬
‫‪ ،‬كما أني لو عاقبته انتفت عني هذه الصفات في حقه ‪ ،‬وكنت إلى الذ هم أقرب مني إلى‬
‫أن أحمد على العقاب ‪ ،‬فكيف والشرع قد جاء في ذلك ! بأن أجر من يعفو ويتجاوز‬
‫ّللا في كل نفس مع ما‬‫ّللا فال تدخل ابتداء في اليمين ‪ ،‬فأهل ه‬
‫وال يجازي أنه على ه‬
‫يكشف لهم ‪ ،‬فال يدرون حكم النفس الثاني ‪ ،‬فال يحسن بهم التقيد باليمين على أمر في‬
‫المستقبل ‪.‬‬

‫سورة المائدة ( ‪ : ) 5‬آية ‪90‬‬


‫طان‬
‫ش ْي ِ‬ ‫صاب َو ْاأل َ ْزال ُم ِرجْ ٌ‬
‫س ِم ْن َ‬
‫ع َم ِل ال ه‬ ‫ُ‬ ‫س ُر َو ْاأل َ ْن‬
‫ِين آ َمنُوا ِإنه َما ا ْل َخ ْم ُر َوا ْل َم ْي ِ‬ ‫يا أَيُّ َها الهذ َ‬
‫ون ( ‪) 90‬‬ ‫فَاجْ تَنِبُوهُ لَعَله ُك ْم ت ُ ْف ِل ُح َ‬

‫[ كل مسكر حرام ]‬
‫قال صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ :‬كل مسكر حرام ‪ ،‬فالحكم التحريم ‪ ،‬والعلة اإلسكار ‪ ،‬فالحكم‬
‫أع هم من العلة الموجبة للتحريم ‪ ،‬فإن التحريم قد يكون له سبب آخر غير السكر في أمر‬
‫آخر ‪ .‬وال يطرب الشارب إال إذا شرب خمرا وإذا شرب خمرا فقد جاء شيئا إمرا ‪،‬‬
‫ألنه يخامر العقول فيحول بينها وبين األفكار ‪ ،‬فيجعل العواقب في األخبار فيبدي‬
‫األسرار برفع األستار فحرمت في الدنيا لعظيم شأنها ‪ ،‬وقوة سلطانها ‪ .‬األزالم ‪:‬‬
‫قداحة الميسر ‪ ،‬واحده زلمة وقد أمرنا باجتناب عمل الشيطان في قوله ‪ « :‬فإنه رجس‬
‫ّللا « فاجتنبوه » أي كونوا مع االسم‬
‫من عمل الشيطان » وهو البعيد من رحمة ه‬
‫القريب من الرحمة‪.‬‬

‫سورة المائدة ( ‪ : ) 5‬اآليات ‪ 91‬إلى ‪94‬‬


‫ص هد ُك ْم ع َْن‬ ‫س ِر َويَ ُ‬ ‫داوةَ َوا ْلبَ ْغضا َء فِي ا ْل َخ ْم ِر َوا ْل َم ْي ِ‬ ‫طان أ َ ْن يُوقِ َع بَ ْينَ ُك ُم ا ْلعَ َ‬ ‫ش ْي ُ‬‫ِإنهما يُ ِري ُد ال ه‬
‫سو َل‬‫الر ُ‬‫َّللا َوأ َ ِطيعُوا ه‬ ‫ون ( ‪َ ) 91‬وأ َ ِطيعُوا ه َ‬ ‫صال ِة فَ َه ْل أ َ ْنت ُ ْم ُم ْنت َ ُه َ‬ ‫ِذ ْك ِر ه ِ‬
‫َّللا َوع َِن ال ه‬
‫علَى الهذ َ‬
‫ِين‬ ‫س َ‬ ‫ين ( ‪ ) 92‬لَ ْي َ‬ ‫َواحْ ذَ ُروا فَ ِإ ْن ت َ َوله ْيت ُ ْم فَا ْعلَ ُموا أَنهما عَلى َر ُ‬
‫سو ِلنَا ا ْلبَال ُ‬
‫غ ا ْل ُم ِب ُ‬
‫ح ِفيما َط ِع ُموا ِإذا َما اتهقَ ْوا َوآ َمنُوا‬ ‫ت ُجنا ٌ‬ ‫صا ِلحا ِ‬ ‫آ َمنُوا َوع َِملُوا ال ه‬

‫ص ‪43‬‬

‫ص ‪43 :‬‬
‫ين ( ‪ ) 93‬يا‬ ‫سنِ َ‬ ‫ب ا ْل ُمحْ ِ‬ ‫سنُوا َو ه‬
‫َّللاُ يُ ِح ُّ‬ ‫ت ث ُ هم اتهقَ ْوا َوآ َمنُوا ث ُ هم اتهقَ ْوا َوأَحْ َ‬ ‫صا ِلحا ِ‬ ‫َوع َِملُوا ال ه‬
‫ص ْي ِد تَنالُهُ أ َ ْيدِي ُك ْم َو ِرما ُح ُك ْم ِليَ ْعلَ َم ه‬
‫َّللاُ َم ْن‬ ‫ش ْي ٍء ِم َن ال ه‬‫َّللاُ ِب َ‬ ‫أَيُّ َها الهذ َ‬
‫ِين آ َمنُوا لَيَ ْبلُ َونه ُك ُم ه‬
‫َذاب أ َ ِلي ٌم ) ‪( 94‬‬ ‫ب فَ َم ِن ا ْعتَدى بَ ْع َد ذ ِلكَ فَلَهُ ع ٌ‬ ‫يَخافُهُ ِبا ْلغَ ْي ِ‬
‫ّللا هو الخوف األعظم ‪ ،‬فإنه المسلهط وبيده ملكوت كل شيء فأين‬ ‫اعلم أن الخوف من ه‬
‫األمان ؟ فاإلنسان إذا كان في أمان في دنياه وفي ماله وعلى نفسه مما يؤذيه ‪ ،‬فعليه‬
‫ّللا مما في غيبه ‪ ،‬مما ال يعلمه وال يعلم أوانه ‪ ،‬ولو كان الخائف يخاف‬ ‫أن يخاف من ه‬
‫ّللا مطلقا لتعلق خوفه على دينه ‪ ،‬فإن سبيل الشيطان إلى قلبه ليست آمنة ‪ ،‬كما أمنت‬ ‫ه‬
‫ّللا شغله خوفه عن ماله‬ ‫السبل الظاهرة التي تمر فيها السفار من الناس ‪ .‬وإذا خاف ه‬
‫ونفسه ‪ ،‬فإنه يخاف على دينه أن يسلبه منه الشيطان ‪ ،‬فالعاقل يجب أن يكون في حال‬
‫ّللا تعالى ‪،‬‬ ‫أمنه خائفا من ه‬

‫ّللا في األشياء سابق ال يحدث له علم ]‬ ‫[ علم ه‬


‫ّللا في األشياء سابق ال يحدث له علم ‪ ،‬بل‬ ‫وأما قوله تعالى ‪ِ «:‬ليَ ْعلَ َم َّ‬
‫ّللاُ »فاعلم أن علم ه‬
‫يحدث التعلق ال العلم ‪ ،‬ولو حدث العلم لم تقع الثقة بوعده ألنا ال ندري ما يحدث له ‪.‬‬
‫فإن قلت فهذا أيضا يلزم في الوعيد ‪ ،‬قلنا ‪ :‬كذا كنا نقول ‪ ،‬ولكن علمنا أنه ما أرسل‬
‫رسوال إال بلسان قومه ‪ ،‬وبما تواطئوا عليه في كل ما هو محمود ‪ ،‬فيعاملهم بذلك في‬
‫شرعهم كذا سبق علمه ‪ ،‬وهذا لسان عربي مبين ومما يتمدح به أهل هذا اللسان ‪ ،‬بل‬
‫هو مدح في كل أمة ‪ ،‬التجاوز عن إنفاذ الوعيد في حق المسئ ‪ ،‬والعفو عنه ‪ ،‬والوفاء‬
‫بالوعد الذي هو في الخير ‪ .‬وهو الذي يقول فيه شاعر العرب ‪:‬‬
‫وإني إذا أوعدته أو وعدته ‪ ....‬لمخلف إيعادي ومنجز موعدي‬

‫ّللا‬
‫ّللا الذي سبق بإنزاله ‪ ،‬ولم يكن في حق قوم إنفاذه في علم ه‬ ‫فكان إنزال الوعيد بعلم ه‬
‫ّللا لنفذ فيهم كما ينفذ الوعد الذي هو في الخير ‪ ،‬ألن اإليعاد ال‬ ‫‪ ،‬ولو كان في علم ه‬
‫يكون إال في الشر ‪ ،‬والوعد يكون في الخير وفي الشر معا ‪ .‬يقال ‪ :‬أوعدته في الشر ‪،‬‬
‫ووعدته في الشر والخير ‪.‬‬
‫س ْلنا ِم ْن َر ُ‬
‫سو ٍل ِإ َّال ِب ِل ِ‬
‫سان قَ ْو ِم ِه ِليُبَ ِيهنَ لَ ُه ْم »فمما بين لهم تعالى ‪،‬‬ ‫وقال تعالى ‪َ «:‬وما أ َ ْر َ‬
‫التجاوز عن السيئات في حق من أساء من عباده ‪ ،‬واألخذ بالسيئة من شاء من عباده ‪،‬‬

‫ص ‪44‬‬

‫ص ‪44 :‬‬
‫ولم يفعل ذلك في الوعد بالخير فأعلمنا ما في علمه ‪.‬‬

‫سورة المائدة ( ‪ : ) 5‬آية ‪95‬‬


‫ص ْي َد َوأ َ ْنت ُ ْم ُح ُر ٌم َو َم ْن قَتَلَهُ ِم ْن ُك ْم ُمتَعَ ِ ّمدا ً فَ َجزا ٌء ِمثْ ُل ما‬‫ِين آ َمنُوا ال ت َ ْقتُلُوا ال ه‬ ‫يا أَيُّ َها الهذ َ‬
‫ع ْد ُل‬‫ين أ َ ْو َ‬
‫ارةٌ َطعا ُم َمسا ِك َ‬ ‫ع ْد ٍل ِم ْن ُك ْم َهدْيا ً با ِل َغ ا ْل َك ْعبَ ِة أ َ ْو َكفه َ‬
‫قَت َ َل ِم َن النهعَ ِم يَحْ ُك ُم ِب ِه ذَوا َ‬
‫َّللاُ ع َِز ٌ‬
‫يز‬ ‫ف َو َم ْن عا َد فَيَ ْنت َ ِق ُم ه‬
‫َّللاُ ِم ْنهُ َو ه‬ ‫سلَ َ‬ ‫ع هما َ‬ ‫عفَا ه‬
‫َّللاُ َ‬ ‫وق َوبا َل أ َ ْم ِر ِه َ‬
‫ذ ِلكَ ِصياما ً ِليَذُ َ‬
‫قام ) ‪( 95‬‬ ‫ذُو ا ْنتِ ٍ‬
‫هذه اآلية محكمة ‪ ،‬فحرم قتل الصيد في الحرم ‪ ،‬وإن كان اإلنسان خارج الحرم حرم‬
‫عليه قتل الصيد ما دام محرما ‪.‬‬
‫فاآلية هنا في قتله ال في صيده في الحرم كان أو في الحل ‪ ،‬فالصيد قتل تعديا بغير‬
‫حق ‪ ،‬والحرم صفة المحرم والبقعة ‪ ،‬فمن تع همد قتله محرما أو في الحرم فقد تعدهى‬
‫ع ْد ٍل ِم ْن ُك ْم »فيه‬‫عليه ‪ ،‬فكلهف المعتدي بجزاء مثل ما قتل من النعم« يَ ْح ُك ُم بِ ِه ذَوا َ‬
‫رائحة أن الجائر في الحكم يسمى حكما شرعا ‪ ،‬إال أن الحاكم لما شرع له أن يحكم‬
‫بغلبة ظنه وليس علما فقد يصادف الحق في الحكم ‪ ،‬وقد ال يصادف وليس بمذموم‬
‫ّللا وفي المحكوم عليه‬ ‫شرعا ويسمى حكما ‪ ،‬وإن لم يصادف الحق ويمضي حكمه عند ه‬
‫وله ‪ ،‬فإنه حكم بما شرع له من إقامة الشهود أو اإلقرار ‪ .‬وقد تكون الشهادة زورا ‪،‬‬
‫ويكون اإلقرار ليس بحق ‪.‬‬
‫ارة ٌ »إنما شرعت الكفارات لتكون حجبا بين العبد وبين ما عرض إليه نفسه‬ ‫« أ َ ْو َكفَّ َ‬
‫من حلول الباليا بالمخالفات التي عملها ‪ ،‬مأمورا كان بذلك أو منهيا عنه ‪ ،‬فإذا جاء‬
‫المنتقم بالبالء المنزل الذي تطلبه هذه المخالفة ‪ ،‬وجدت هذه األعمال قد سترته في ظل‬
‫جناحها واكتنفته ‪ ،‬وصارت عليه جنة ووقاية ‪ ،‬فلم يجد البالء منفذا ‪ ،‬فلم ينفذ فيه‬
‫الوعيد لغلبة سلطان هذا العمل المس همى كفارة ‪ ،‬والكفر ‪ :‬الستر ‪ ،‬ومنه سمى الزارع‬
‫طعا ُم َمسا ِكينَ أ َ ْو َ‬
‫ع ْد ُل ذ ِل َك‬ ‫كافرا ألنه يستر البذر في األرض ويغطيه بالتراب ‪َ «.‬‬
‫صياما ً »والكفارة هنا يخير الحكمان الذي عليه الجزاء ‪ ،‬فإن كلمة ‪ -‬أو ‪ -‬تقتضي‬ ‫ِ‬
‫التخيير ‪ ،‬ولو أراد الحق الترتيب في الكفارة لقال وأبان ‪ ،‬كما فعل في كفارات الترتيب‬
‫فمن لم يجد ‪،‬‬
‫[ المثل في كفارة قتل المحرم الصيد ]‬
‫ومذهبنا في المثل المذكور هنا هو أن في كل شيء مثله ‪ ،‬فإن كان نعامة اشترى نعامة‬
‫صادها حالل في ح هل ‪ ،‬وكذلك‬

‫ص ‪45‬‬

‫ص ‪45 :‬‬
‫كل مسمى صيد مما يحل صيده وأكله من الطير وذوات األربع ‪ .‬أو كفارة بإطعام ‪،‬‬
‫وح هد ذلك أن ينظر قيمة ما يساوي ذلك المثل ‪ ،‬فيشتري بقيمته طعاما فيطعمه للمساكين‬
‫صياما ً »يعني أو مثل ذلك صياما ‪ ،‬إذ العدل ‪ :‬المثل فننظر إلى أقرب‬ ‫ع ْد ُل ذ ِل َك ِ‬ ‫‪ «.‬أ َ ْو َ‬
‫الكفارات شبها بهذه الكفارة الجامعة لهدي أو إطعام أو صيام ‪ ،‬فال نجد إال من حلق‬
‫رأسه وهو محرم ألذى نزل به ‪ ،‬ففدية من صيام أو صدقة أو نسك ‪ ،‬فذكر الثالثة‬
‫المذكورة في كفارة قتل الصيد ‪ ،‬فجعل الشارع هنالك في اإلطعام ستة مساكين ‪ ،‬لكل‬
‫مسكين نصف صاع ‪ ،‬وجعل الصيام ثالثة أيام ‪ ،‬فجعل لكل صاع يوما ‪ ،‬فننظر القيمة‬
‫فإن بلغت صاعا أو أقل فيوم ‪ ،‬فإن الصوم ال يتبعض وإن بلغت القيمة أن نشتري بها‬
‫صاعين ‪ ،‬أو دون الصاعين أو أكثر من الصاع ‪ ،‬فيومان وهكذا ما بلغت القيمة وأعني‬
‫بالقيمة قيمة المثل ‪ ،‬يشتري بها طعاما فيطعم ‪ ،‬والصيام محمول على ما حصل من‬
‫الطعام بالشراء على ما قررناه ‪ ،‬فهو مخيهر بين المثل واإلطعام بقيمة المثل والصيام‬
‫بحسب ما حصل من الطعام من قيمة المثل ‪ ،‬والحكمة في ذلك أن المثل على مذهبنا‬
‫صيد صاده حالل في حالل ‪ ،‬فيطلقه القاتل عند الكعبة فهو إحياء للمثل من القتل‬
‫الجائز عليه من الحالل في الح هل ‪ ،‬والحكمة في المثل على المذاهب األخرى وهو ما‬
‫يقدم من النعم األنسي ‪ ،‬وكذا في الطعام فإن تناوله سبب في بقاء حياة المتغذي به ألنه‬
‫أتلف نفسا ‪ ،‬وأزال حياة فجبرها وكفر ذلك بما يكون سببا إلبقاء حياة ‪ ،‬فكأنه أحياها‬
‫زمان بقائها بحصول ذلك الغذاء من المثل أو الطعام ‪ ،‬وأما الصيام فإنه صفة ربانية ‪،‬‬
‫فكلهف أن يأتي بها هذا القاتل إن لم يكفر بالمثل أو اإلطعام ‪ ،‬أن يكفر بالصوم ‪ ،‬حتى‬
‫يكون القاتل غير محجور عليه ‪ ،‬فيتلبس بصفة الحق وهو الصوم ‪ ،‬من قوله تعالى ‪« :‬‬
‫الصوم لي » فال يتصف الحق بالحجر عليه ‪ ،‬فيتلبس القاتل بصفة هي للحق ‪ ،‬فيحصل‬
‫في الحمى عن الحجر عليه ‪ ،‬فإذا صام كان الصوم للحق والجوع للقاتل ‪ ،‬فبما في‬
‫الصوم من الجوع في حقه الذي ليس للحق يكون كفارة ‪ ،‬ألن الجوع من األسباب‬
‫المزيلة للحياة من الحي ‪ ،‬فأشبه القتل الذي هو سبب مزيل للحياة من الحي ‪ ،‬ولم تزل‬
‫حياة القاتل ألنه جوع صوم ‪ ،‬والصوم من صفات الحق وهو غير مؤثر في الحياة‬
‫سلَ َ‬
‫ف‬ ‫ع َّما َ‬
‫ّللاُ َ‬ ‫األزلية ‪ ،‬فلهذا لم يجع جوع إتالف فقال تعالى ‪ِ «:‬ليَذُوقَ َوبا َل أ َ ْم ِر ِه َ‬
‫عفَا َّ‬
‫ّللا منه إما بإعادة الجزاء فإنه‬ ‫ّللاُ ِم ْنهُ »ومن عاد لمثل ذلك الفعل فينتقم ه‬
‫َو َم ْن عا َد فَيَ ْنت َ ِق ُم َّ‬
‫وبال ‪ ،‬والوبال ‪ :‬االنتقام وإما أن يسقط عنه في الدنيا‬

‫ص ‪46‬‬

‫ص ‪46 :‬‬
‫ّللا منه بمصيبة يبتليه بها ‪ ،‬إما في الدنيا وإما في اآلخرة‬ ‫هذا الوبال المعين ‪ ،‬وينتقم ه‬
‫قام »أما من قتل صيدا خطأ فال شيء عليه ‪ ،‬وإذا‬ ‫يز ذُو ا ْنتِ ٍ‬
‫ع ِز ٌ‬
‫ّللاُ َ‬
‫فإنه لم يعيهن ‪َ «.‬و َّ‬
‫اشترك جماعة من المحرمين في قتل الصيد ‪ ،‬فإن عرف كل واحد من الشركاء أنه‬
‫ضربه في مقتل ‪ ،‬كان على كل من ضربه في مقتل جزاء ‪ ،‬ومن جرحه في غير مقتل‬
‫فال جزاء عليه ‪ ،‬وهو آثم حيث تعرض باألذى لما حرم عليه ‪ ،‬وال يجوز للقاتل أن‬
‫ّللا ما عيهن ‪ ،‬وأما‬
‫يكون أحد الحكمين ‪ ،‬وأما عن اإلطعام فحيثما أطعم أجزأه ألن ه‬
‫الحا هل يقتل الصيد في الحرم فال شيء عليه وهو آثم ‪ ،‬والمحرم إذا قتل الصيد وأكله‬
‫فعليه كفارة واحدة ‪.‬‬

‫سورة المائدة ( ‪ : ) 5‬آية ‪96‬‬


‫ص ْي ُد ا ْلبَ ِ ّر ما د ُْمت ُ ْم‬
‫علَ ْي ُك ْم َ‬
‫ار ِة َو ُح ِ ّر َم َ‬
‫سيه َ‬ ‫أ ُ ِح هل لَ ُك ْم َ‬
‫ص ْي ُد ا ْلبَحْ ِر َو َطعا ُمهُ َمتاعا ً لَ ُك ْم َو ِلل ه‬
‫ون ) ‪( 96‬‬ ‫ُح ُرما ً َواتهقُوا ه َ‬
‫َّللا الهذِي إِلَ ْي ِه تُحْ ش َُر َ‬
‫اتفقوا على تحريم الصيد برا ‪ ،‬ويغلب على الظن الخبر الصحيح الوارد ‪ :‬أنه إذا لم‬
‫يكن للمحرم في صيده تعمل وصاده حالل فله أكله ‪ ،‬فإن كلمة « صيد » في اآلية‬
‫تحتمل الفعل وقد يراد به المصيد ‪ ،‬فصيد البر حرام ما داموا حرما في المكان الحالل‬
‫والحرام ‪ ،‬وسكانا في الحرام وإن كانوا حالال أو حراما ‪.‬‬

‫[اإلشارة واالعتبار في اإلحرام]‬


‫ّللا تعالى اإلنسان أن يدخل في اإلحرام‬
‫اإلشارة واالعتبار في اإلحرام ‪ -‬لما أمر ه‬
‫فيصير حراما بعد ما كان حالال ‪ ،‬وصفه بصفة العزة أن يصل إليه شيء من األشياء‬
‫التي كانت تصل إليه قبل أن يتصف بهذه المنعة ‪ ،‬إذ األشياء تطلب اإلنسان ألنها‬
‫ّللا عليه ‪ ،‬واإلنسان مخلوق على‬
‫خلقت من أجله ‪ ،‬فهي تطلبه بالتسخير الذي خلقها ه‬
‫الصورة ‪ ،‬ومن حقيقة الصورة التي خلق عليها العزة أن تدرك أو تنال بأكثر الوجوه ‪،‬‬
‫فجعل لمن حصل الصورة بخلقه عزة وتحجيرا في عبادات من صوم وحج وصالة ‪،‬‬
‫أن يصل إليه بعض ما خلق من أجله ‪ ،‬فاعتز وامتنع عن بعض األشياء ‪ ،‬ولم يمتنع‬
‫حرمت عليه األشياء على الحقيقة ‪ ،‬وإنما هو الحرام على‬ ‫عن أن يناله بعضها ‪ ،‬فما ه‬
‫األشياء ‪ ،‬ألنه ما خلق إال لربه ‪ ،‬واألشياء خلقت له ‪ ،‬فهي تطلبه ‪ ،‬كما أنه يطلب ربه‬
‫‪ ،‬فامتناع في وقت كامتناع ‪ ،‬ووصول في وقت كوصول ‪ ،‬فأبان سبحانه لك عن‬
‫مرتبتك لتعرف موطن ذلتك من موطن عزتك ‪ ،‬وأنت ما اعتززت وال صرت حراما‬
‫على األشياء منك ‪ ،‬بل هو جعلك حراما على األشياء‬

‫ص ‪47‬‬

‫ص ‪47 :‬‬
‫أن تنالك ‪ ،‬فأمرك أن تحرم ‪ ،‬فدخلت في اإلحرام ‪ ،‬فصرت حراما ‪ ،‬وما جعل ذلك لك‬
‫عن أمره سبحانه إال ليكون ذلك قربة إليه ‪ ،‬ومزيد مكانة عنده تعالى ‪ ،‬وحتى ال تنسى‬
‫عبوديتك التي خلقت عليها بكونه تعالى جعلك مأمورا في هذه المنعة ‪ ،‬دواء لك نافعا ‪،‬‬
‫يمنع من علة تطرأ عليك لعظيم مكانتك ‪ ،‬فال بد أن يؤثر فيك خلقك على صورته عزة‬
‫في نفسك ‪ ،‬فشرعها لك في طاعته بأمر أمرك فيه أن تكون حراما ‪ ،‬ال احتجارا عليك‬
‫بل احتجارا لك ‪ ،‬فاإلنسان عبد عينا ورتبة ‪ ،‬كما هو سيد عينا ال رتبة ‪ ،‬ولهذا إذا‬
‫ادهعى الرتبة قصم وحرم ‪ ،‬وإذا ادهعى العين عصم ورحم ‪ ،‬واإلنسان واحد في الحقيقة‬
‫‪ ،‬غير أنه ما بين معتنى به وغير معتنى به ‪.‬‬

‫سورة المائدة ( ‪ : ) 5‬آية ‪97‬‬


‫ْي َوا ْلقَال ِئ َد ذ ِلكَ‬‫شه َْر ا ْل َحرا َم َوا ْل َهد َ‬‫اس َوال ه‬‫َّللاُ ا ْل َك ْعبَةَ ا ْلبَ ْيتَ ا ْل َحرا َم ِقياما ً ِللنه ِ‬
‫َجعَ َل ه‬
‫ع ِلي ٌم ( ‪) 97‬‬
‫ش ْي ٍء َ‬ ‫ض َوأ َ هن ه َ‬
‫َّللا بِ ُك ِ ّل َ‬ ‫ت َوما فِي ْاأل َ ْر ِ‬
‫سماوا ِ‬ ‫َّللا يَ ْعلَ ُم ما فِي ال ه‬‫ِلت َ ْعلَ ُموا أ َ هن ه َ‬

‫[ لم سميت الكعبة كعبة ؟ ]‬


‫ّللا تعالى لبيته أربعة أركان لسر إلهي وهي في الحقيقة ثالثة أركان ‪ ،‬ألنه شكل‬‫جعل ه‬
‫مكعب ‪ ،‬الركن الواحد الذي يلي الحجر مكعب الشكل وألجل ذلك سمي كعبة تشبيها‬
‫بالكعب ‪ ،‬خرج مسلم عن أبي هريرة أن خزاعة قتلوا رجال من بني ليث عام فتح مكة‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ ،‬فركب راحلته فخطب‬ ‫ّللا صلهى ه‬
‫بقتيل منهم قتلوه ‪ ،‬فأخبر بذلك رسول ه‬
‫ّللا حبس عن مكة الفيل ‪ ،‬وسلط عليها رسوله والمؤمنين ‪ ،‬أال وإنها ال‬‫فقال ‪ « :‬إن ه‬
‫تحل ألحد قبلي ‪ ،‬ولن تح هل ألحد بعدي ‪ ،‬أال وإنها أحلهت لي ساعة من نهار ‪ ،‬أال وإنها‬
‫ساعتي هذه ‪ ،‬وهي حرام ال يخبط شوكها ‪ ،‬وال يعضد شجرها ‪ ،‬وال يلقط ساقطتها إال‬
‫لمنشد ‪ ،‬ومن قتل له قتيل فهو بخير النظرين ‪ ،‬إما أن يعطى ‪ -‬يعني الدية ‪ -‬وإما أن‬
‫ّللا ‪،‬‬
‫ّللا وحرمه ‪ ،‬وال موجود أعظم من ه‬ ‫يقاد أهل القتيل ‪ -‬الحديث ‪ ، -‬فهذا هو حمى ه‬
‫ّللا ولم‬
‫حرمها ه‬
‫ّللا وال حماه في األماكن ‪ ،‬فإن مكة ه‬
‫فال حمى وال حرم أعظم من حرم ه‬
‫يحرمها الناس ‪.‬‬

‫سورة المائدة ( ‪ : ) 5‬اآليات ‪ 98‬إلى ‪99‬‬


‫سو ِل ِإاله ا ْلبَال ُ‬
‫غ‬ ‫علَى ه‬
‫الر ُ‬ ‫غف ُ ٌ‬
‫ور َر ِحي ٌم ( ‪ ) 98‬ما َ‬ ‫ب َوأ َ هن ه َ‬
‫َّللا َ‬ ‫شدِي ُد ا ْل ِعقا ِ‬ ‫ا ْعلَ ُموا أ َ هن ه َ‬
‫َّللا َ‬
‫ون) ‪( 99‬‬ ‫َّللاُ يَ ْعلَ ُم ما ت ُ ْبد َ‬
‫ُون َوما ت َ ْكت ُ ُم َ‬ ‫َو ه‬

‫ص ‪48‬‬

‫ص ‪48 :‬‬
‫ّللا ما يجب عليه إال البالغ ‪ ،‬وما يلزمه خلق القبول والهداية في نفس‬
‫الداعي إلى ه‬
‫السامع ‪.‬‬

‫[ الفرق بين الرسول والخليفة ]‬


‫فدرجة الرسالة إنما هي التبليغ خاصة ‪ ،‬فليس للرسول التحكم في المخالف ‪ ،‬إنما له‬
‫ّللا التحكم فيمن أرسل إليهم فذلك هو‬
‫ّللا ‪ ،‬فإذا أعطاه ه‬
‫ّللا أو بما أراه ه‬
‫تشريع الحكم عن ه‬
‫االستخالف والخالفة ‪ ،‬والرسول الخليفة ‪ .‬فما كل من أرسل حكم ‪ ،‬فإذا أعطي السيف‬
‫وأمضى الفعل حينئذ يكون له الكمال ‪ ،‬وإن ظهر إنسان بالتحكم من غير نبوة ‪ ،‬فهو‬
‫ملك وليس بخليفة ‪ ،‬فال يكون خليفة إال من استخلفه الحق على عباده ‪ ،‬ال من أقامه‬
‫الناس وبايعوه وقدموه ألنفسهم وعلى أنفسهم ‪.‬‬

‫سورة المائدة ( ‪ : ) 5‬اآليات ‪ 100‬إلى ‪101‬‬


‫َّللا يا أُو ِلي ا ْأل َ ْلبا ِ‬
‫ب‬ ‫ث فَاتهقُوا ه َ‬‫ب َولَ ْو أ َ ْع َجبَكَ َكثْ َرةُ ا ْل َخبِي ِ‬ ‫يث َوال ه‬
‫ط ِيّ ُ‬ ‫قُ ْل ال يَ ْ‬
‫ست َ ِوي ا ْل َخبِ ُ‬
‫سئَلُوا ع َْن أَشْيا َء ِإ ْن ت ُ ْب َد لَ ُك ْم ت َ ُ‬
‫س ْؤ ُك ْم‬ ‫ِين آ َمنُوا ال ت َ ْ‬ ‫ون ( ‪ ) 100‬يا أَيُّ َها الهذ َ‬ ‫لَعَله ُك ْم ت ُ ْف ِل ُح َ‬
‫ور َح ِلي ٌم ) ‪( 101‬‬ ‫غفُ ٌ‬ ‫َّللاُ َ‬
‫ع ْنها َو ه‬ ‫عفَا ه‬
‫َّللاُ َ‬ ‫ين يُنَ هز ُل ا ْلقُ ْر ُ‬
‫آن ت ُ ْب َد لَ ُك ْم َ‬ ‫ع ْنها ِح َ‬ ‫سئَلُوا َ‬ ‫َو ِإ ْن ت َ ْ‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ ،‬فإنهم كانوا يسألونه عن‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫قال الصحابة نهينا أن نسأل رسول ه‬
‫ّللا عليه وسلم يقول ‪:‬‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫األشياء حتى نهوا عن ذلك رحمة بهم وقد كان رسول ه‬
‫اتركوني ما تركتكم ‪ ،‬وقال لو قلت ‪ :‬نعم ‪ -‬للسائل عن الحج في كل عام ‪ -‬لوجبت ‪.‬‬
‫ّللا عليه‬ ‫وكانت األحكام تحدث بحدوث السؤال عن النوازل ‪ ،‬فكان غرض النبي صلهى ه‬
‫وسلم حين علم ذلك أن يمتنع الناس عن السؤال ‪ ،‬ويجرون مع طبعهم حتى يكون الحق‬
‫هو الذي يتولى من تنزيل األحكام ما شاء ‪ ،‬فكانت الواجبات والمحظورات تقل ‪،‬‬
‫وتبقى الكثرة من قبيل المباحات التي ال يتعلق بها أجر وال وزر ‪ ،‬وما كان ربك نسيا ‪.‬‬

‫سورة المائدة ( ‪ : ) 5‬اآليات ‪102‬إلى ‪105‬‬


‫ير ٍة َوال‬ ‫َّللاُ ِم ْن بَ ِح َ‬‫ين ) ‪ ( 102‬ما َجعَ َل ه‬ ‫صبَ ُحوا ِبها كافِ ِر َ‬ ‫سأَلَها قَ ْو ٌم ِم ْن قَ ْب ِل ُك ْم ث ُ هم أ َ ْ‬
‫قَ ْد َ‬
‫ِب َوأ َ ْكث َ ُر ُه ْم ال‬
‫َّللا ا ْل َكذ َ‬
‫علَى ه ِ‬ ‫ون َ‬ ‫ِين َكفَ ُروا يَ ْفت َ ُر َ‬
‫حام َول ِك هن الهذ َ‬ ‫سائِبَ ٍة َوال َو ِصيلَ ٍة َوال ٍ‬
‫سبُنا ما‬ ‫سو ِل قالُوا َح ْ‬ ‫الر ُ‬ ‫َّللاُ َو ِإلَى ه‬ ‫ون ( ‪َ ) 103‬و ِإذا قِي َل لَ ُه ْم تَعالَ ْوا ِإلى ما أ َ ْن َز َل ه‬ ‫يَ ْع ِقلُ َ‬
‫ُون ( ‪ ) 104‬يا أَيُّ َها‬ ‫ش ْيئا ً َوال يَ ْهتَد َ‬ ‫ون َ‬ ‫علَ ْي ِه آبا َءنا أ َ َولَ ْو َ‬
‫كان آبا ُؤ ُه ْم ال يَ ْعلَ ُم َ‬ ‫َو َجدْنا َ‬
‫َّللا َم ْر ِجعُ ُك ْم َج ِميعا ً‬‫ض هل إِذَا ا ْهت َ َد ْيت ُ ْم إِلَى ه ِ‬
‫س ُك ْم ال يَض ُُّر ُك ْم َم ْن َ‬ ‫علَ ْي ُك ْم أ َ ْنفُ َ‬
‫ِين آ َمنُوا َ‬ ‫الهذ َ‬
‫ون) ‪( 105‬‬ ‫فَيُنَ ِبّئ ُ ُك ْم بِما ُك ْنت ُ ْم ت َ ْع َملُ َ‬

‫ص ‪49‬‬

‫ص ‪49 :‬‬
‫ض ُّر ُك ْم َم ْن َ‬
‫ض َّل إِذَا ا ْهت َ َد ْيت ُ ْم »بما عرفتكم به مني في كتابي ‪ ،‬وعلى لسان‬ ‫«ال يَ ُ‬
‫رسولي ‪ ،‬فعرفتموني بما وصفت لكم به نفسي فلم تضلوا ‪ ،‬فكانت لكم هدايتي نورا‬
‫تمشون به على صراطنا المستقيم ‪.‬‬

‫[سورة المائدة ( ‪ : ) 5‬آية ‪] 106‬‬


‫نان ذَوا َ‬
‫ع ْد ٍل‬ ‫ين ا ْل َو ِصيه ِة اثْ ِ‬ ‫ض َر أ َ َح َد ُك ُم ا ْل َم ْوتُ ِح َ‬
‫ِين آ َمنُوا شَها َدةُ بَ ْينِ ُك ْم إِذا َح َ‬ ‫يا أَيُّ َها الهذ َ‬
‫ض فَأَصابَتْ ُك ْم ُم ِصيبَةُ ا ْل َم ْو ِ‬
‫ت‬ ‫ض َر ْبت ُ ْم فِي ْاأل َ ْر ِ‬‫غ ْي ِر ُك ْم إِ ْن أ َ ْنت ُ ْم َ‬
‫ران ِم ْن َ‬‫ِم ْن ُك ْم أ َ ْو آ َخ ِ‬
‫شت َ ِري ِب ِه ث َ َمنا ً َولَ ْو َ‬
‫كان ذا‬ ‫ارت َ ْبت ُ ْم ال نَ ْ‬
‫اّلِل ِإ ِن ْ‬
‫مان ِب ه ِ‬
‫س ِ‬ ‫صال ِة فَيُ ْق ِ‬ ‫سونَ ُهما ِم ْن بَ ْع ِد ال ه‬ ‫تَحْ ِب ُ‬
‫ين ) ‪( 106‬‬ ‫قُ ْربى َوال نَ ْكت ُ ُم شَها َدةَ ه ِ‬
‫َّللا ِإنها ِإذا ً لَ ِم َن ْاآلثِ ِم َ‬
‫غي ِْر ُك ْم »يعني من غير‬ ‫َران ِم ْن َ‬‫ع ْد ٍل ِم ْن ُك ْم »يعني ‪ :‬مؤمنين« أ َ ْو آخ ِ‬ ‫قوله تعالى ‪ «:‬ذَوا َ‬
‫المؤمنين ‪ ،‬وذلك فيمن حضره الموت في السفر ‪.‬‬

‫[سورة المائدة ( ‪ : ) 5‬اآليات ‪ 107‬إلى ‪] 109‬‬


‫علَ ْي ِه ُم‬ ‫ق َ‬ ‫ست َ َح ه‬
‫ِين ا ْ‬‫ومان َمقا َم ُهما ِم َن الهذ َ‬ ‫ِ‬ ‫ران يَقُ‬ ‫عثِ َر عَلى أَنه ُه َما ا ْ‬
‫ست َ َحقها ِإثْما ً فَآ َخ ِ‬ ‫فَ ِإ ْن ُ‬
‫ظا ِل ِم َ‬
‫ين‬ ‫ق ِم ْن شَها َدتِ ِهما َو َما ا ْعت َ َد ْينا ِإنها ِإذا ً لَ ِم َن ال ه‬ ‫اّلِل لَشَها َدتُنا أ َ َح ُّ‬
‫مان ِب ه ِ‬
‫س ِ‬ ‫يان فَيُ ْق ِ‬
‫ْاأل َ ْولَ ِ‬
‫( ‪ ) 107‬ذ ِلكَ أَدْنى أ َ ْن يَأْتُوا ِبالشهها َد ِة عَلى َوجْ ِهها أ َ ْو يَخافُوا أ َ ْن ت ُ َر هد أ َ ْي ٌ‬
‫مان بَ ْع َد‬
‫َّللاُ‬
‫ين ( ‪ ) 108‬يَ ْو َم يَجْ َم ُع ه‬ ‫س ِق َ‬ ‫َّللاُ ال يَ ْهدِي ا ْلقَ ْو َم ا ْلفا ِ‬
‫س َمعُوا َو ه‬ ‫أ َ ْيمانِ ِه ْم َواتهقُوا ه َ‬
‫َّللا َوا ْ‬
‫ب) ‪( 109‬‬ ‫عاله ُم ا ْلغُيُو ِ‬‫س َل فَيَقُو ُل ما ذا أ ُ ِج ْبت ُ ْم قالُوا ال ِع ْل َم لَنا إِنهكَ أ َ ْنتَ َ‬‫الر ُ‬
‫ُّ‬

‫ص ‪50‬‬

‫ص ‪50 :‬‬
‫[قول الرسل عليهم السالم يوم القيامة "ال علم لنا "]‬
‫الوجه األول ‪ :‬من ال ينطق عن الهوى ال يسأل عما يقول سؤال مناقشة وحساب ‪،‬‬
‫ولكن قد يسأل سؤال استفهام إلظهار علم يستفيده السامعون ‪ ،‬كسؤال الحق رسله وهم‬
‫ال ينطقون عن الهوى يوم يجمعهم فيقول ‪ «:‬ما ذا أ ُ ِج ْبت ُ ْم »فيقولون «‪ :‬ال ِع ْل َم لَنا ِإنَّ َك‬
‫أن الرسل هم أتم العالم كشفا‬ ‫ب »‪ ،‬فيعلم أهل الموقف أصحاب الكشف ه‬ ‫ع َّال ُم ْالغُيُو ِ‬ ‫ت َ‬‫أ َ ْن َ‬
‫ّللا على إجابة القلوب من أممهم ‪ ،‬وال إجابة من وصلت إليهم‬ ‫‪ ،‬ومع هذا فما أطلعهم ه‬
‫دعوتهم ولم يكونوا حاضرين ‪ ،‬وال من كان حاضرا وأجابه بلسانه ‪ ،‬هل أجابه بقلبه‬
‫كما أجابه بلسانه ؟‬
‫فإن قلت ‪ :‬فقد سمع إجابة من أجابه بلسانه وما أجابه به ‪ ،‬قلنا ‪ :‬لقرائن األحوال حكم ال‬
‫يعرفه إال من شاهدها ‪ ،‬وقد عرفنا من عين جواب الرسل عليهم السالم أنهم فهموا عن‬
‫ع َّال ُم‬‫ت َ‬ ‫ّللا عند هذا السؤال أنه أراد إجابة القلوب ‪ ،‬فإنهم قالوا ‪ «:‬ال ِع ْل َم لَنا ِإنَّ َك أ َ ْن َ‬ ‫ه‬
‫صلوا بين من سمعوا إجابته‬ ‫ب »فلو فهموا من سؤاله تعالى إجابة األلسنة لف ه‬ ‫ْالغُيُو ِ‬
‫ب‬‫بإقراره بلسانه ‪ ،‬وبين من لم يسمعوا ذلك منه ‪ ،‬فلما ذكروا في الجواب« ْالغُيُو ِ‬
‫أن الذي يكشف له ما‬ ‫»علمنا أن السؤال كان عن جواب القلوب ‪ ،‬واستفدنا من هذا ه‬
‫يلزم أن يعم كشفه كل شيء ‪ ،‬لكن عنده استعداد الكشف ال غير ‪ ،‬فما جلى له الحق من‬
‫أسرار العالم في مرآة قلبه إن كان معنى ‪ ،‬أو في مرآة بصره إن كان صورة كشفه‬
‫ورآه ال غير ‪ .‬وأما عن سؤال الحق الرسل وطلبه منهم العلم فإنهم أصحاب الكشف‬
‫األتم ‪ ،‬ولكنهم ال يعرفون ما آل إليه أمر المبصرات في زمان رفع الكشف هل بقوا‬
‫على ما كانوا عليه ؟‬
‫أو هل انتقلوا عن ذلك فقالوا ‪ «:‬ال ِع ْل َم لَنا »والجواب بالظنون ال يليق ‪ ،‬ثم تمموا‬
‫ب »فقيدوه بالغيوب فإنه في يوم تبلى فيه السرائر ‪،‬‬ ‫ع َّال ُم ْالغُيُو ِ‬
‫ت َ‬ ‫فقالوا ‪ِ «:‬إنَّ َك أ َ ْن َ‬
‫والسرائر غيوب العالم بعضهم عن بعض ‪ ،‬فعلمنا الحق بهذه اآلية التأدب مع أصحاب‬
‫الكشف ‪ ،‬وأن نعلم مراتب الكشف لئال ننزل صاحب‬
‫ص ‪51‬‬

‫ص ‪51 :‬‬
‫الكشف فوق منزلته ‪ ،‬ونطلب منه ما ال يستحقه حاله ‪ ،‬فنتعبه وال نعذره ونصفه‬
‫بالجهل في ذلك وال علم لنا بأنا جهلنا ‪ ،‬فتكون جهالتان‪.‬‬
‫الوجه الثاني ‪ :‬لما يعلم الرسل عليهم السالم بقرينة الحال أن السؤال سؤال استفهام‬
‫ع َّال ُم‬
‫ت َ‬‫عن إجابتهم بالقلوب فيقولون« ال ِع ْل َم لَنا »أي لم نطلع على القلوب « ِإنَّ َك أ َ ْن َ‬
‫ب »تأكيد وتأييد بأن الحكم في اآلخرة للعلم ال للقول ‪ ،‬وعلمنا نحن من هذه اآلية‬ ‫ْالغُيُو ِ‬
‫من قول الرسل عليهم الصالة والسالم أن العلم باإلجابة من علوم الغيوب ‪ ،‬فال يعلم‬
‫ّللا ‪.‬‬
‫من أجاب إال من هويته غيب ‪ ،‬وليس إال ه‬
‫ّللا تعالى أممهم ظاهرا‬ ‫الوجه الثالث ‪ :‬من هنا علمنا أن الرسل لما وجهوا دعوا إلى ه‬
‫وباطنا بدعوة واحدة ‪ ،‬فلو كلفوا الظواهر لم يكن قولهم« ال ِع ْل َم لَنا »جوابا ‪ ،‬ومن هنا‬
‫لم يصح جميع فروع أحكام الشريعة من المنافق ‪ ،‬ألنه ما أجاب بباطنه لدعوته ‪ ،‬مثل‬
‫ما أجاب بظاهره ‪ ،‬وصحت فروع أحكام الشريعة من العاصي المؤمن بباطنه ‪ ،‬فعلمنا‬
‫أن المقصود للشرع الباطن ‪ ،‬ولكن بشرط مخصوص ‪ ،‬وهو أن يعم اإليمان جميع‬
‫فروع األحكام وأصولها‪.‬‬

‫الوجه الرابع ‪ :‬أن الرسل ما تسأل يوم القيامة إال ألجل إنكار األمم التبليغ الذين لم‬
‫يجيبوا في الدنيا إذا رأوا العذاب نازال بهم ‪ ،‬أو اعترافهم باإلجابة ولم تقع منهم ‪ ،‬لذلك‬
‫ّللا صلهى ه‬
‫ّللا‬ ‫س َل فَيَقُو ُل ما ذا أ ُ ِج ْبت ُ ْم »وقد أخبر رسول ه‬ ‫الر ُ‬
‫ّللاُ ُّ‬
‫قال تعالى ‪ «:‬يَ ْو َم يَ ْج َم ُع َّ‬
‫ب ْال َج ِح ِيم‬
‫صحا ِ‬ ‫ع ْن أ َ ْ‬
‫عليه وسلم أنه غير داخل في هذا الجمع بقوله تعالى ‪َ «:‬وال ت ُ ْسئ َ ُل َ‬
‫»أي ما عليك سؤال ‪ ،‬هل أجابوك أم ال ؟ فيكون مزيد درجة راحة للنبي عليه السالم‬
‫يوم القيامة على سائر الرسل ‪.‬‬
‫ع َّال ُم ْالغُيُو ِ‬
‫ب‬ ‫تحقيق ‪ :‬صدق الرسل عليهم السالم حيث قالوا ‪ «:‬ال ِع ْل َم لَنا ِإنَّ َك أ َ ْن َ‬
‫ت َ‬
‫ّللا ‪ ،‬وما عدا الطريقة اإللهية في التعليم‬ ‫»فإنه كذا هو األمر فال علم ألحد إال أن يعلمه ه‬
‫ّللا يَ ْجعَ ْل لَ ُك ْم فُ ْرقانا ً »فإنما هو غلبة ظن ‪ ،‬أو مصادفة علم ‪ ،‬أو‬ ‫وهي قوله ‪ «:‬إِ ْن تَتَّقُوا َّ َ‬
‫جزم على وهم ‪ ،‬وأما علم فال ‪ ،‬فإن جميع الطرق الموصلة إلى العلم فيها شبه ‪ ،‬ال‬
‫ّللا على هذه الشبه أن تقطع بحصول علم منها إال‬ ‫تثق النفس الطاهرة التي أوقفها ه‬
‫بالطريقة اإللهية المذكورة ‪.‬‬

‫[ سورة المائدة ( ‪ : ) 5‬آية ‪] 110‬‬


‫علَ ْيكَ َوعَلى وا ِل َدتِكَ إِ ْذ أَيه ْدت ُكَ بِ ُروحِ ا ْلقُد ِ‬
‫ُس‬ ‫اذك ُْر نِ ْع َمتِي َ‬ ‫سى ا ْب َن َم ْريَ َم ْ‬ ‫َّللاُ يا ِعي َ‬ ‫إِ ْذ قا َل ه‬
‫ق‬ ‫تاب َوا ْل ِح ْك َمةَ َوالت ه ْوراةَ َو ْ ِ‬
‫اْل ْن ِجي َل َوإِ ْذ ت َ ْخلُ ُ‬ ‫اس فِي ا ْل َم ْه ِد َو َك ْهالً َوإِ ْذ َ‬
‫عله ْمت ُكَ ا ْل ِك َ‬ ‫ت ُ َك ِلّ ُم النه َ‬
‫ئ ْاأل َ ْك َمهَ َو ْاأل َ ْب َر َ‬
‫ص‬ ‫ُون َط ْيرا ً ِب ِإ ْذنِي َوت ُ ْب ِر ُ‬
‫ط ْي ِر ِب ِإ ْذنِي فَت َ ْنفُ ُخ فِيها فَتَك ُ‬‫ين َك َه ْيئ َ ِة ال ه‬ ‫ط ِ‬ ‫ِم َن ال ِ ّ‬
‫ت فَقا َل‬ ‫ع ْنكَ ِإ ْذ ِجئْت َ ُه ْم ِبا ْلبَ ِيّنا ِ‬
‫سرائِي َل َ‬ ‫ج ا ْل َم ْوتى ِب ِإ ْذنِي َو ِإ ْذ َكفَ ْفتُ بَنِي ِإ ْ‬ ‫ِب ِإ ْذنِي َو ِإ ْذ ت ُ ْخ ِر ُ‬
‫ين) ‪( 110‬‬ ‫ِين َكفَ ُروا ِم ْن ُه ْم ِإ ْن هذا ِإاله سِحْ ٌر ُم ِب ٌ‬ ‫الهذ َ‬
‫ص ‪52‬‬

‫ص ‪52 :‬‬
‫الطي ِْر ِبإِ ْذنِي " فخلق عيسى عليه السالم للطير كان بإذن‬ ‫ين َك َه ْيئ َ ِة َّ‬ ‫" َو ِإ ْذ ت َ ْخلُ ُق ِمنَ ِ ه‬
‫الط ِ‬
‫ّللا ‪ ،‬ألنه مأذون في ذلك ‪ ،‬فال يكون من‬ ‫ّللا ‪ ،‬فكان خلقه له عبادة يتقرب بها إلى ه‬ ‫ه‬
‫المصورين الذين يعذبون يوم القيامة بأن يقال لهم ‪ :‬أحيوا ما خلقتم وال قدرة لهم على‬
‫ذلك ‪.‬‬
‫ّللا ‪ ،‬والمأمور عبد ‪ ،‬والعبد ال‬ ‫فما أضاف خلق عيسى عليه السالم للطائر إال إلذن ه‬
‫يكون إلها ‪ ،‬ولما كان يستحيل أن يكون لألسباب أثر في المسببات ‪،‬‬
‫طيْرا ً ِبإِ ْذنِي‬
‫ون َ‬
‫فإن ذلك لسان الظاهر كما قال في عيسى عليه السالم ‪ «:‬فَت َ ْنفُ ُخ فِيها فَت َ ُك ُ‬
‫»ال بنفخك ‪ ،‬والنفخ سبب التكوين الظاهر ‪ ،‬وليس في الحقيقة إال عن اإلذن اإللهي ‪،‬‬
‫وهذا وجه ال يطلع عليه من العبيد نبي مرسل وال ملك مقرب ‪.‬‬
‫وقوله تعالى ‪ «:‬بِإِ ْذنِي »متعلق بقوله ‪ «:‬فَت َ ْنفُ ُخ »فكان عيسى عليه السالم ينفخ في‬
‫الطائر الذي خلقه روحا فيكون طائرا بالصورة والمعنى وقيل ليس إال صورة طائر ال‬
‫طائر ‪،‬‬

‫الطي ِْر »وما قال طيرا حتى حصل فيه الروح ‪ ،‬وأضاف‬ ‫عز وجل ‪َ «:‬ك َه ْيئ َ ِة َّ‬
‫ولذلك قال ه‬
‫الحق النفخ إلى عيسى عليه السالم فيما خلقه من الطين ولم يضف نفخا في إعطاء‬
‫الحياة لغير عيسى بل لنفسه تعالى ‪ ،‬إما بالنون أو بالتاء التي هي ضمير المتكلم عن‬
‫نفسه ‪ ،‬فالنفخ من عيسى لوجود الروح الحيواني ‪ ،‬إذ كان النفخ أعني الهواء الخارج‬
‫من عيسى هو عين الروح الحيواني ‪ ،‬فدخل في جسم هذا الطائر وسرى فيه ‪ ،‬إذ كان‬
‫هذا الطائر على استعداد يقبل الحياة بذلك النفس ‪ ،‬كما قبل العجل الحياة مما رمى فيه‬
‫ّللا ‪ ،‬فكل من أنشأ‬
‫ّللا ‪ ،‬كما خار عجل السامري بإذن ه‬‫السامري ‪ ،‬فطار الطائر بإذن ه‬
‫صورة بغير روح فذلك هو المصور الذي يعذب بما صوره يوم القيامة ‪ ،‬بأن يقال له‬
‫هنالك ‪ :‬أحي ما خلقت ‪ ،‬وليس بمحيي ‪،‬‬
‫ويقال له ‪ :‬انفخ فيها روحا ‪ ،‬وليس بنافخ ‪ .‬هذا من حكم الموطن ألن ذلك‬

‫ص ‪53‬‬

‫ص ‪53 :‬‬
‫الموطن أعني موطن الحشر يعطي ظهور عجز العالم عما كان ينسب إليه في موطن‬
‫الدنيا من االقتدار عليه ‪ « .‬وتبرئ األكمه واألبرص وإذ تخرج الموتى بإذني » أي‬
‫بأمري لما كنت لسانك وبصرك تكونت عنك األشياء التي ليست بمقدوره لمن ال أقول‬
‫على لسانه ‪ ،‬فالتكوين في الحالين لي« فَقا َل الَّذِينَ َكفَ ُروا ِم ْن ُه ْم ِإ ْن هذا ِإ َّال ِس ْح ٌر ُم ِب ٌ‬
‫ين »‬
‫السحر ‪ :‬مشتق من السحر ‪ ،‬وهو اختالط الضوء والظلمة ‪ ،‬فال يتخلص ألحد الجانبين‬
‫‪ ،‬فالسحر له وجه إلى الحق فيشبه الحق ‪ ،‬وله وجه إلى غير الحق فيشبه الباطل ‪،‬‬
‫والسحر هو الرئة وهي التي تعطي الهواء الحار الخارج والهواء البارد الداخل وبها‬
‫ينفث الساحر في العقد ‪.‬‬

‫[ سورة المائدة ( ‪ : ) 5‬اآليات ‪ 111‬إلى ‪] 114‬‬


‫ون (‬ ‫س ِل ُم َ‬ ‫ش َه ْد ِبأَنهنا ُم ْ‬ ‫سو ِلي قالُوا آ َمنها َوا ْ‬ ‫آمنُوا ِبي َو ِب َر ُ‬ ‫ين أ َ ْن ِ‬ ‫َو ِإ ْذ أ َ ْو َحيْتُ ِإلَى ا ْل َح ِ‬
‫وار ِيّ َ‬
‫علَ ْينا مائِ َدةً‬ ‫ست َ ِطي ُع َربُّكَ أ َ ْن يُنَ ِ ّز َل َ‬
‫سى ا ْب َن َم ْريَ َم َه ْل يَ ْ‬ ‫ون يا ِعي َ‬ ‫واريُّ َ‬‫‪ ) 111‬إِ ْذ قا َل ا ْل َح ِ‬
‫ين ( ‪ ) 112‬قالُوا نُ ِري ُد أ َ ْن نَأ ْ ُك َل ِم ْنها َوت َ ْط َمئِ هن‬ ‫َّللا إِ ْن ُك ْنت ُ ْم ُم ْؤ ِمنِ َ‬
‫ماء قا َل اتهقُوا ه َ‬ ‫س ِ‬ ‫ِم َن ال ه‬
‫سى ا ْب ُن‬ ‫ِين ( ‪ ) 113‬قا َل ِعي َ‬ ‫علَ ْيها ِم َن الشها ِهد َ‬ ‫ُون َ‬‫صد َْقتَنا َونَك َ‬ ‫قُلُوبُنا َونَ ْعلَ َم أ َ ْن قَ ْد َ‬
‫آخ ِرنا َوآيَةً ِم ْنكَ‬ ‫ُون لَنا ِعيدا ً ِأل َ هو ِلنا َو ِ‬ ‫ماء تَك ُ‬ ‫س ِ‬ ‫علَ ْينا مائِ َدةً ِم َن ال ه‬ ‫َم ْريَ َم الله ُه هم َربهنا أ َ ْن ِز ْل َ‬
‫ين ) ‪( 114‬‬ ‫ار ُز ْقنا َوأ َ ْنتَ َخ ْي ُر ه‬
‫الر ِاز ِق َ‬ ‫َو ْ‬
‫ّللا أقصد فحذفت الهمزة واكتفي بالهاء لقربها من المخرج والمجاورة‬ ‫اللهم ‪ :‬يا ه‬
‫ّللا أمنا بالخير أي اقصدنا ‪ ،‬والعيد يوم فرح وزينة وسرور‬ ‫ومعنى« اللَّ ُه َّم »أي يا ه‬
‫وشغل بأحوال النفوس وحظوظها من أكل وشرب وبعال ‪.‬‬

‫[ سورة المائدة ( ‪ : ) 5‬آية ‪] 115‬‬


‫ع ِذّبُهُ أ َ َحدا ً ِم َن‬
‫ع ِذّبُهُ عَذابا ً ال أ ُ َ‬
‫علَ ْي ُك ْم فَ َم ْن يَ ْكفُ ْر بَ ْع ُد ِم ْن ُك ْم فَ ِإ ِنّي أ ُ َ‬
‫َّللاُ ِإ ِنّي ُمنَ ِ ّزلُها َ‬
‫قا َل ه‬
‫ين ) ‪) 115‬‬ ‫ا ْلعالَ ِم َ‬

‫[ ‪ -‬إشارة ‪ -‬المائدة ]‬
‫‪-‬إشارة ‪ -‬المائدة إشارة إلى أي حاجة طلبت ‪ ،‬فال تطلبها حتى تعلم ما الذي يترتب‬

‫ص ‪54‬‬

‫ص ‪54 :‬‬
‫ّللا تعالى ‪ ،‬فإن علمت أنك تقوم به فحينئذ ‪ ،‬وإال فدعه‬
‫عليك من الحقوق من جانب ه‬
‫سبحانه يختار لك ما يعلم فيه صالحك ‪ ،‬وانظر في قوله تعالى في شرط المائدة ‪« :‬‬
‫فمن كفر بعد منكم فإني أعذبه عذابا ال أعذبه أحدا من العالمين »وذلك بمنزلة من‬
‫ّللا إليه ملكا يسدده ‪ ،‬وإلى‬
‫يطلب اإلمارة فيوكل إليها ‪ ،‬وإن جاءته من غير طلب بعث ه‬
‫ذلك أشرنا بقولنا ‪ :‬ال تطلب مائدة حتى تعرف شرطها ‪ ،‬وال تقصد رفعها وحطها ‪،‬‬
‫حتى تعرف معناها ‪ ،‬وما أراد بها موالها‪.‬‬

‫[ سورة المائدة ( ‪ : ) 5‬آية ‪] 116‬‬


‫َّللا‬
‫ُون ه ِ‬ ‫اس ات ه ِخذُونِي َوأ ُ ِ ّمي ِإل َه ْي ِن ِم ْن د ِ‬ ‫سى ا ْب َن َم ْريَ َم أ َ أ َ ْنتَ قُ ْلتَ ِللنه ِ‬ ‫َو ِإ ْذ قا َل ه‬
‫َّللاُ يا ِعي َ‬
‫ق ِإ ْن ُك ْنتُ قُ ْلتُهُ فَقَ ْد َ‬
‫ع ِل ْمتَهُ ت َ ْعلَ ُم ما‬ ‫س ِلي ِب َح ّ ٍ‬ ‫ُون ِلي أ َ ْن أَقُو َل ما لَ ْي َ‬ ‫س ْبحانَكَ ما يَك ُ‬ ‫قا َل ُ‬
‫ب ) ‪( 116‬‬ ‫عاله ُم ا ْلغُيُو ِ‬ ‫سكَ ِإنهكَ أ َ ْنتَ َ‬ ‫سي َوال أ َ ْعلَ ُم ما ِفي نَ ْف ِ‬ ‫ِفي نَ ْف ِ‬
‫هذا القول ال يكون إال يوم القيامة ‪ ،‬فما وقع ‪ ،‬فعبر بالماضي عن المستقبل لتحقق‬
‫وقوعه وال بد ‪ ،‬وزوال حكم اإلمكان فيه إلى حكم الوجوب ‪ ،‬وكل ما كان بهذه المثابة‬
‫فحكم الماضي والمستقبل فيه على السواء ‪ ،‬وسياقه بالماضي آكد في الوقوع وتحققه‬
‫اس ات َّ ِخذُونِي‬ ‫ت ِللنَّ ِ‬‫ت قُ ْل َ‬‫سى ابْنَ َم ْريَ َم أ َ أ َ ْن َ‬ ‫ّللاُ يا ِعي َ‬ ‫من بقائه على االستقبال« َو ِإ ْذ قا َل َّ‬
‫ّللا ؟ »‬ ‫َوأ ُ ِ همي ِإل َهي ِْن ِم ْن د ِ‬
‫ُون َّ ِ‬
‫هذا سؤال تقرير واستفهام ‪ ،‬فإن االستفهام ال يكون إال مع عدم العلم في نفس األمر ‪،‬‬
‫أو مع إظهار عدم العلم لتقرير المستفهم من استفهمه على ما استفهمه مع علم المستفهم‬
‫بذلك ‪ ،‬فعلة االستفهام عدم العلم ‪ ،‬والباعث على االستفهام يختلف باختالف المستفهم ‪،‬‬
‫فإن كان عالما بما استفهم عنه فالمقصود به إعالم الغير ‪ ،‬حيث ظنوا وقالوا خالف ما‬
‫هو األمر عليه ‪.‬‬
‫وأداة االستفهام هذه ال ينبغي أن تكون إال من األعلى في حق األدنى ‪ ،‬فقوله تعالى‬
‫اس ؟ »‬ ‫ت قُ ْل َ‬
‫ت ِللنَّ ِ‬ ‫لعيسى عليه السالم ‪ «:‬أ َ أ َ ْن َ‬
‫قد يكون تقريرا للحجة على من عبد عيسى عليه السالم وأمه وقالوا إنهما إلهان ‪ ،‬فإن‬
‫من االستفهام ما يكون إيهاما ‪ ،‬وهو استفهام العالم عما هو به عالم ‪ ،‬وبه يقع من العالم‬
‫اس ات َّ ِخذُونِي َوأ ُ ِ همي ِإل َهي ِْن ِم ْن‬ ‫ت ِللنَّ ِ‬ ‫ت قُ ْل َ‬
‫إلقامة الحجة في الجواب فقال تعالى ‪ «:‬أ َ أ َ ْن َ‬
‫ّللا ؟ »بحضور من نسب إليه ذلك من العابدين له من النصارى ‪ ،‬فتبرأ عيسى‬ ‫ُون َّ ِ‬‫د ِ‬
‫بحضورهم من هذه النسبة ‪ ،‬فيقول ‪ « :‬سبحانك » ‪ ،‬فقدهم التنزيه وحدد بالكاف التي‬

‫ص ‪55‬‬

‫ص ‪55 :‬‬
‫ق »والمدعي يسمع‬ ‫ون ِلي أ َ ْن أَقُو َل ما لَي َ‬
‫ْس ِلي بِ َح ه ٍ‬ ‫تقتضي المواجهة والخطاب« ما يَ ُك ُ‬
‫ذلك ‪ ،‬وقد علم بقرينة الحال والموطن ذلك المدعي أن عيسى عليه السالم ليس من‬
‫أهل الكذب ‪ ،‬وأن إنكاره لما ادعوه صحيح ‪ ،‬علمنا عند ذلك أنه تعالى أراد توبيخهم‬
‫وتقريرهم ‪.‬‬

‫فاالستفهام لعيسى عليه السالم ‪ ،‬والتقرير والتوبيخ لمن عبده من أمته وجعله إلها ‪ ،‬وقد‬
‫وقع في الصورة ‪ ،‬صورة االستفهام ‪ ،‬وهو في الحقيقة توبيخ فإن االستفهام ال يصح‬
‫ّللا جملة واحدة ‪ ،‬ويصح منه تعالى التقرير إلقامة الحجة والتوبيخ ‪ ،‬فإن االستفهام‬ ‫من ه‬
‫على الحقيقة ال يكون إال ممن ال يعلم ما استفهم عنه ‪ .‬ومثل هذا في صناعة العربية إذا‬
‫أعربوه في االصطالح يعربونه همزة تقرير وإنكار ال استفهام ‪ ،‬وإن قالوا فيه همزة‬
‫استفهام والمراد به اإلنكار ‪ ،‬فلهم في إعراب مثل هذا طريقتان« ِإ ْن ُك ْنتُ قُ ْلتُهُ فَقَ ْد‬
‫ع ِل ْمتَهُ »ألنك أنت القائل ‪ ،‬ومن قال أمرا فقد علم ما قال ‪ ،‬وأنت اللسان الذي أتكلم به ‪،‬‬ ‫َ‬
‫ّللا عليه وسلم عن ربه في الخبر اإللهي ‪ ،‬فقال ‪ ( :‬كنت‬ ‫ّللا صلهى ه‬
‫كما أخبرنا رسول ه‬
‫لسانه الذي يتكلم به ) فجعل هويته عين لسان المتكلم ‪ ،‬ونسب الكالم إلى عبده ‪ ،‬ثم تمم‬
‫العبد الصالح الجواب بقوله «‪ :‬ت َ ْعلَ ُم ما فِي نَ ْف ِسي َوال أ َ ْعلَ ُم ما فِي نَ ْف ِس َك »‬
‫[ قول عيسى عليه السالم ‪ « :‬تعلم ما في نفسي وال أعلم ما في نفسك » ]‬

‫الوجه األول ‪ -‬اعلم أن علم الحق بنا قد يكون معلوما لنا ‪ ،‬وأما علمه بنفسه فال يعلم‬
‫ّللا عليه وسلم« َوال أ َ ْعلَ ُم ما فِي نَ ْف ِس َك »أي نفس الحق ‪-‬‬ ‫لعلو قدسه ‪ ،‬وهو قوله صلهى ه‬
‫الوجه الثاني ‪َ «-‬وال أ َ ْعلَ ُم ما فِي نَ ْف ِس َك »من القضاء والقدر فإنه ال يعلم ما في نفس ه‬
‫ّللا‬
‫‪ -‬الوجه الثالث ‪ -‬أن تكون النفس هنا نفس عيسى عينه ‪ ،‬فإذا جهل العبد ما هي عليه‬
‫نفسه من حكم االستعداد ‪ ،‬فهو بما هو عليه في المستأنف أجهل ‪ ،‬فأضاف عيسى عليه‬
‫ّللا من وجه ما هي هّلل ‪ ،‬فقال ‪":‬‬ ‫السالم نفسه إليه من وجه ما هي له ‪ ،‬وأضافها إلى ه‬
‫ت َ ْعلَ ُم ما فِي نَ ْف ِسي َوال أ َ ْعلَ ُم ما فِي نَ ْف ِس َك »أي نفسي هي نفسك وملكك ‪ ،‬فإنك اشتريتها‬
‫وما هي ملكي ‪ ،‬فأنت أعلم بما جعلت فيها ‪ ،‬فأضاف نفسه إليه من حيث عينها هي له‬
‫‪ ،‬ومن حيث وجودها هي هّلل ال له ‪،‬‬
‫فقال‪ " :‬ت َ ْعلَ ُم ما فِي نَ ْف ِسي "من حيث عينها« َوال أ َ ْعلَ ُم ما فِي نَ ْف ِس َك »من حيث وجودها‬
‫‪ ،‬وهو من حيث ما هي لك ‪.‬‬
‫ّللا والتبري مما‬ ‫فهذه إضافة تشريف ‪ ،‬كمثل عبد الملك وخديمه وهو أتم في الثناء على ه‬
‫ب »أي ما غاب عنا من ذلك تعلمه أنت وال‬ ‫ع َّال ُم ْالغُيُو ِ‬
‫ت َ‬‫نسب إليه ثم قال «‪ِ :‬إنَّ َك أ َ ْن َ‬
‫أعلمه أنا ‪ ،‬فإنه ما يكون فيها إال ما تجعله أنت ‪ ،‬فكيف يستفهم من له الخلق واألمر ؟‬
‫ّللا غيب ‪ ،‬علمنا أن الغيب أمر‬ ‫ولما لم يتصور في حق ه‬

‫ص ‪56‬‬

‫ص ‪56 :‬‬
‫إضافي لما غاب عنا ‪ - ،‬الوجه الرابع ‪ «-‬ت َ ْعلَ ُم ما فِي نَ ْف ِسي »‬
‫[ قول عيسى عليه السالم ‪ « :‬ما قلت لهم إال ما أمرتني به » ]‬
‫والمتكلم الحق ‪ ،‬وال أعلم ما فيها فنفى العلم عن هوية عيسى من حيث هويته ال من‬
‫ت »فجاء بالفصل والعماد تأكيدا للبيان واعتمادا عليه إذ‬ ‫حيث أنه قائل وذو أثر« ِإنَّ َك أ َ ْن َ‬
‫ّللا ‪.‬‬
‫ال يعلم الغيب إال ه‬
‫‪ -‬الوجه الخامس ‪ -‬من المتشابه صفة النفس في قوله تعالى ‪ «:‬ت َ ْعلَ ُم ما فِي نَ ْف ِسي َوال‬
‫أ َ ْعلَ ُم ما فِي نَ ْف ِس َك »ألن النفس في اللغة تستعمل لمعان كلها تتعذر في الظاهر هاهنا ‪،‬‬
‫وقد هأولها العلماء بتأويالت منها أن النفس عبر بها عن الذات والهوية ‪ ،‬وهذا وإن كان‬
‫سائغا في اللغة ولكن تعدى الفعل إليها بواسطة « في » المقيدة للظرفية محال ‪ ،‬ألن‬
‫الظرفية يلزمها التركيب ‪ ،‬والتركيب في ذاته محال ‪ .‬وقد أولها بعضهم بالغيب أي وال‬
‫ب»‬ ‫ع َّال ُم ْالغُيُو ِ‬
‫ت َ‬ ‫أعلم ما في غيبك وسرك وهذا حسن لقوله« ِإنَّ َك أ َ ْن َ‬
‫وإذا كنا قد فسرنا ظلل غمامه وظلة غمام آياته بالصورة التي يأتي فيها ربنا يوم‬
‫القيامة ‪ ،‬فنفسه هي أم كتابه وهي اآليات المحكمات ‪ ،‬قال تعالى ‪ُ «:‬ه َو الَّذِي أ َ ْنزَ َل‬
‫ب »واآليات المحكمات هي اآليات الدالة‬ ‫مات ُه َّن أ ُ ُّم ْال ِكتا ِ‬
‫آيات ُم ْح َك ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫علَي َْك ْال ِك َ‬
‫تاب ِم ْنهُ‬ ‫َ‬
‫على وحدانيته كما سبق أن أوضحناه ‪ ،‬فقوله تعالى ‪ «:‬ت َ ْعلَ ُم ما فِي نَ ْف ِسي َوال أ َ ْعلَ ُم ما‬
‫ِفي نَ ْف ِس َك »إذا أخرجته على هذا تطلع على أسرار بديعة ‪ ،‬وذلك أن السياق اشتمل‬
‫على سؤال عيسى عليه السالم عما بلغه لبني إسرائيل ‪ ،‬هل أمرهم بتوحيد ربهم ؟ أو‬
‫بأن يعبدوا له وألمه ؟ ومن المعلوم أنه ‪ :‬لم يكن أمرهم إال بالتوحيد ‪ ،‬فلما أراد أن‬
‫يخبر بذلك تلطف في اإلخبار به إجماال وتفصيال ‪ ،‬أما تفصيال فبقوله ‪ «:‬ما قُ ْلتُ لَ ُه ْم‬
‫ِإ َّال ما أ َ َم ْرتَنِي ِب ِه »‪ -‬اآلية ‪ -‬وأما إجماال فبقوله ‪ «:‬ت َ ْعلَ ُم ما فِي نَ ْف ِسي َوال أ َ ْعلَ ُم ما فِي‬
‫نَ ْف ِس َك »فقوله ‪َ «:‬وال أ َ ْعلَ ُم ما فِي نَ ْف ِس َك »أي أم كتابك المشتمل على سر قدرك ‪ ،‬وأن‬
‫القلم جرى فيه بكفرهم ‪ .‬وقوله ‪ «:‬ت َ ْعلَ ُم ما ِفي نَ ْف ِسي »أي ما في أم كتابي ‪ ،‬وهو ما‬
‫ّللا له من بينات التوحيد ‪ ،‬وأيده به من روح القدس ‪ ،‬ومن شأن المحجوبين عن‬ ‫كتبه ه‬
‫ّللا تعالى من أرباب الرئاسة موادعة من عبدهم ‪ ،‬وعبد أقاربهم ألجلهم ‪ ،‬وأهل القلوب‬ ‫ه‬
‫اّلل َو ْاليَ ْو ِم‬
‫المؤمنة يبرءون من ذلك بمقتضى قوله تعالى ‪ «:‬ال ت َ ِج ُد قَ ْوما ً يُؤْ ِمنُونَ بِ َّ ِ‬
‫اإليمانَ َوأَيَّ َد ُه ْم‬ ‫ب فِي قُلُو ِب ِه ُم ْ ِ‬ ‫سولَهُ‪ -‬إلى قوله ‪-‬أُولئِ َك َكت َ َ‬ ‫ّللا َو َر ُ‬‫ْاآل ِخ ِر يُوا ُّدونَ َم ْن َحا َّد َّ َ‬
‫وح ِم ْنهُ »ومن المعلوم أن عيسى عليه السالم كتب في قلبه اإليمان وأيد بالروح ‪،‬‬ ‫ِب ُر ٍ‬
‫فلهذا قال ‪ «:‬ت َ ْعلَ ُم ما ِفي نَ ْف ِسي »أي ما كتبته من اإليمان في قلبي ‪ ،‬وأيدتني به من‬
‫الروح ‪ ،‬وأن ذلك ثمرة كوني لم أوادد هؤالء الذين عبدوني وعبدوا أمي من دونك‪.‬‬

‫ص ‪57‬‬

‫ص ‪57 :‬‬
‫[سورة المائدة ( ‪ : ) 5‬آية ‪] 117‬‬
‫علَ ْي ِه ْم ش َِهيدا ً ما د ُْمتُ‬ ‫ما قُ ْلتُ لَ ُه ْم إِاله ما أ َ َم ْرتَنِي ِب ِه أ َ ِن ا ْعبُدُوا ه َ‬
‫َّللا َر ِبّي َو َربه ُك ْم َو ُك ْنتُ َ‬
‫ش ْي ٍء ش َِهي ٌد) ‪( 117‬‬ ‫علَ ْي ِه ْم َوأ َ ْنتَ عَلى ُك ِ ّل َ‬ ‫يب َ‬ ‫الرقِ َ‬‫يه ْم فَلَ هما ت َ َوفه ْيتَنِي ُك ْنتَ أ َ ْنتَ ه‬
‫فِ ِ‬
‫‪-‬الوجه األول ‪ «-‬ما قُ ْلتُ لَ ُه ْم ِإ َّال ما أ َ َم ْرتَنِي ِب ِه »ما زدت على ذلك شيئا ‪ ،‬وإذا قال‬
‫القائل ما أمر به أن يقوله فقد خرج من العهدة بما بلغ ‪ .‬وقول عيسى عليه السالم« ما‬
‫أ َ َم ْرتَنِي بِ ِه »ولم يقل به أمرت مع أن األمر بالتوحيد لم يختص به بل أمر به جميع‬
‫األنبياء ‪ ،‬في ذلك تنبيه لنا على سر القدر وأن األمر أمران ‪ :‬أمر حقيقة ‪ ،‬وأمر شريعة‬
‫‪ ،‬فأمر الحقيقة‪:‬‬
‫ون »وهو‬ ‫ش ْيءٍ ِإذا أ َ َر ْدناهُ أ َ ْن نَقُو َل لَهُ ُك ْن فَيَ ُك ُ‬‫هو المشار إليه بقوله ‪ِ «:‬إنَّما قَ ْولُنا ِل َ‬
‫متوجه إلى جميع الكائنات ‪ ،‬فما من كفر وال إيمان إال وهو مأمور به بهذا االعتبار‬
‫ألنه ال يكون إال بأمره ‪ ،‬وأما أمر الشريعة فهو الذي ربط به الثواب والعقاب وقامت‬
‫ع َّما يَ ْفعَ ُل َو ُه ْم يُ ْسئَلُونَ »فمن هذا يفهم السر في قول عيسى عليه‬ ‫به الحجة« ال يُ ْسئ َ ُل َ‬
‫السالم ‪ «:‬أ َ َم ْرتَنِي بِ ِه »خصصه باإلضافة إليه تنبيها على أمر الشريعة ‪ ،‬ولم يقل‬
‫أمرت تنبيها على أمر الحقيقة‬
‫– الوجه الثاني ‪ -‬تفسير من مقام المحبوبية ‪ «:‬ما قُ ْلتُ لَ ُه ْم »فنفى أوال مشيرا إلى أنه‬
‫ما هو ‪ ،‬ثم أوجب القول أدبا مع المستفهم فقال ‪ِ «:‬إ َّال ما أ َ َم ْرت َ ِني ِب ِه »وأنت المتكلم‬
‫على لساني ‪ ،‬وأنت لساني ‪ ،‬وأثبت نفسه مأمورا ‪ ،‬وليس سوى عبوديته ‪ ،‬إذ ال يؤمر‬
‫إال من يتصور منه االمتثال وإن لم يفعل ‪ ،‬فانظر إلى هذه التنبئة الروحية اإللهية ما‬
‫ّللا »فجاء باالسم « هللا » الختالف العباد في العبادات‬ ‫ألطفها وأدقها ‪ «،‬أ َ ِن ا ْعبُدُوا َّ َ‬
‫واختالف الشرائع ‪ ،‬لم يخص اسما خاصا دون اسم ‪ ،‬بل جاء باالسم الجامع للكل «‬
‫ربي وربكم » ومعلوم أن نسبته إلى موجود ما بالربوبية ليست عين نسبته إلى موجود‬
‫آخر ‪ ،‬فلذلك فصل بقوله ‪ « :‬ربي وربكم » ‪ ،‬كناية المتكلم ‪ ،‬وكناية المخاطب ‪.‬‬
‫ش ِهيدا ً »أي رقيبا ‪ ،‬ولم يقل على نفسي معهم ‪ ،‬كما قال ‪ ( :‬ربي وربكم‬ ‫علَ ْي ِه ْم َ‬
‫« َو ُك ْنتُ َ‬
‫)« ما د ُْمتُ فِي ِه ْم »ألن األنبياء شهداء على أممهم ما داموا فيهم« فَلَ َّما ت َ َوفَّ ْيتَنِي »أي‬
‫علَ ْي ِه ْم »في غير مادتي‬ ‫يب َ‬
‫الرقِ َ‬‫ت َّ‬ ‫ت أ َ ْن َ‬‫رفعتني إليك وحجبتهم عني وحجبتني عنهم« ُك ْن َ‬
‫بل في موادهم ‪ ،‬إذ كنت بصرهم الذي يقتضي المراقبة ‪ ،‬فشهود اإلنسان نفسه شهود‬
‫الحق إياه ‪ ،‬وجعله باالسم الرقيب ألنه جعل الشهود له ‪ ،‬فأراد أن يفصل بينه وبين‬

‫ص ‪58‬‬

‫ص ‪58 :‬‬
‫ربه ‪ ،‬حتى يعلم أنه هو لكونه عبدا ‪ ،‬وأن الحق هو الحق لكونه ربا له ‪ ،‬فجاء لنفسه‬
‫ش ِهيدا ً ما د ُْمتُ‬ ‫علَ ْي ِه ْم َ‬
‫بأنه شهيد ‪ ،‬وفي الحق بأنه رقيب ‪ ،‬وقدمهم في حق نفسه فقال‪َ " :‬‬
‫فِي ِه ْم "إيثارا لهم في التقدم وأدبا ‪ ،‬وأ هخرهم في جانب الحق عن الحق في قوله ‪«:‬‬
‫علَ ْي ِه ْم »لما يستحقه الرب من التقديم بالرتبة ‪.‬‬ ‫يب َ‬
‫الرقِ َ‬ ‫َّ‬
‫علَ ْي ِه ْم‬ ‫ثم اعلم أن للحق الرقيب االسم الذي جعله عيسى لنفسه وهو الشهيد في قوله ‪َ «:‬‬
‫ش ِهيدا ً »‬ ‫َ‬
‫ش ِهي ٌد »فجاء بكل " للعموم وبشيء " لكونه أنكر النكرات‬ ‫ش ْيءٍ َ‬ ‫على ُك ِهل َ‬ ‫ت َ‬ ‫فقال ‪َ «:‬وأ َ ْن َ‬
‫‪ ،‬وجاء باالسم الشهيد ‪ ،‬فهو الشهيد على كل مشهود ‪ ،‬بحسب ما تقتضيه حقيقة ذلك‬
‫المشهود ‪،‬‬
‫ش ِهيدا ً ما‬ ‫علَ ْي ِه ْم َ‬‫فنبه على أنه تعالى هو الشهيد على قوم عيسى حين قال ‪َ «:‬و ُك ْنتُ َ‬
‫د ُْمتُ ِفي ِه ْم »فهي شهادة الحق في مادة عيسوية ‪ ،‬كما ثبت أنه لسانه وسمعه وبصره ‪،‬‬
‫ّللا عنه في‬ ‫ثم قال كلمة عيسوية ومحمدية ‪ ،‬أما كونها عيسوية فإنها قول عيسى بإخبار ه‬
‫ّللا عليه وسلم بالمكان الذي وقعت‬ ‫كتابه ‪ ،‬وأما كونها محمدية فلوقعها من محمد صلهى ه‬
‫منه ‪ ،‬فقام بها ليلة كاملة يرددها لم يعدل إلى غيرها حتى مطلع الفجر« ِإ ْن تُعَ ِذه ْب ُه ْم‬
‫يز ْال َح ِكي ُم »و « هم » ضمير الغائب كما أن‬ ‫ت ْالعَ ِز ُ‬ ‫فَإِنَّ ُه ْم ِعباد َُك َو ِإ ْن ت َ ْغ ِف ْر لَ ُه ْم فَإِنَّ َك أ َ ْن َ‬
‫« هو » ضمير الغائب ‪،‬‬
‫فقال‪ " :‬إِ ْن تُعَ ِذه ْب ُه ْم "بضمير الغائب وهو عين الحجاب الذي هم فيه من الحق ‪ ،‬فذكرهم‬
‫ّللا قبل حضورهم حتى إذا حضروا تكون الخميرة قد تحكمت في العجين فصيرته‬ ‫ه‬
‫مثلها ‪ «،‬فَإِنَّ ُه ْم ِعباد َُك »فأفرد الخطاب للتوحيد الذي كانوا عليه ‪ ،‬وال ذلهة أعظم من‬
‫ذلة العبيد ألنهم ال تصرف لهم في أنفسهم ‪ ،‬فهم بحكم ما يريده بهم سيدهم ‪ ،‬وال شريك‬
‫له فيهم ‪ ،‬فإنه قال ‪ِ «:‬عباد َُك »‬
‫فأفرد ‪ ،‬والمراد بالعذاب إذاللهم وال أذل مما هم فيه من كونهم عبيدا« َو ِإ ْن ت َ ْغ ِف ْر لَ ُه ْم‬
‫»أي تسترهم عن إيقاع العذاب الذي يستحقونه بمخالفتهم أي تجعل لهم غفرا يسترهم‬
‫يز »أي المنيع الحمى ‪ ،‬وجاء بالفصل والعماد‬ ‫ت ْالعَ ِز ُ‬ ‫عن ذلك ويمنعهم منه ‪ «،‬فَإِنَّ َك أ َ ْن َ‬
‫أيضا تأكيدا للبيان ‪،‬‬
‫ت‬‫ت أ َ ْن َ‬ ‫ب »وقوله « ُك ْن َ‬ ‫ع َّال ُم ْالغُيُو ِ‬
‫ت َ‬ ‫ولتكون اآلية على مساق واحد في قوله ‪ِ «:‬إنَّ َك أ َ ْن َ‬
‫يز ْال َح ِكي ُم »فكان سؤال من النبي عليه‬ ‫ت ْالعَ ِز ُ‬ ‫علَ ْي ِه ْم »فجاء أيضا« فَإِنَّ َك أ َ ْن َ‬ ‫يب َ‬
‫الرقِ َ‬ ‫َّ‬
‫السالم ‪ ،‬وإلحاحا منه على ربه في المسألة ليلته الكاملة إلى طلوع الفجر ‪ ،‬يرددها طلبا‬
‫لإلجابة ‪ ،‬فلو سمع اإلجابة في أول سؤال ما كرر ‪ ،‬فكان الحق يعرض عليه فصول ما‬
‫استوجبوا به العذاب عرضا مفصال ‪ ،‬فيقول له في عرض عرض ‪ ،‬وعين عين« ِإ ْن‬
‫ت ْالعَ ِز ُ‬
‫يز‬ ‫تُعَ ِذه ْب ُه ْم فَإِنَّ ُه ْم ِعباد َُك َو ِإ ْن ت َ ْغ ِف ْر لَ ُه ْم فَإِنَّ َك أ َ ْن َ‬

‫ص ‪59‬‬

‫ص ‪59 :‬‬
‫ْال َح ِكي ُم »فلو رأى في ذلك العرض ما يوجب تقديم الحق وإيثار جنابه لدعا عليهم ال‬
‫لهم ‪ ،‬فما عرض عليه إال ما استحقوا به ما تعطيه هذه اآلية من التسليم هّلل ‪،‬‬
‫والتعريض لعفوه ‪ ،‬وقد ورد أن الحق إذا أحب صوت عبده في دعائه إياه أ هخر اإلجابة‬
‫عنه حتى يتكرر ذلك منه ‪ ،‬حبا فيه ال إعراضا عنه ‪ ،‬ولذلك جاء باالسم الحكيم ‪،‬‬
‫والحكيم هو الذي يضع األشياء مواضعها ‪ ،‬وال يعدل بها عما تقتضيه وتطلبه حقائقها‬
‫ّللا تعالى ‪،‬‬
‫ّللا عليه وسلم بترداد هذه اآلية على علم عظيم من ه‬ ‫بصفاتها ‪ ،‬فكان صلهى ه‬
‫فمن تال فهكذا يتلو وإال فالسكوت أولى به ‪.‬‬

‫[ سورة المائدة ( ‪ : ) 5‬آية ‪] 118‬‬


‫يز ا ْل َح ِكي ُم ) ‪( 118‬‬ ‫ِإ ْن تُعَ ِذّ ْب ُه ْم فَ ِإنه ُه ْم ِعبا ُدكَ َو ِإ ْن ت َ ْغ ِف ْر لَ ُه ْم فَ ِإنهكَ أ َ ْنتَ ا ْلعَ ِز ُ‬
‫ّللا ولم يتوبوا بقوله هذا ‪ ،‬وذلك‬ ‫عرض عيسى عليه السالم بالمغفرة لقومه لما عصوا ه‬
‫ّللا عليه وسلم بهذه‬ ‫لما علم أن رحمته تعالى سبقت غضبه ‪ ،‬وقد قام النبي محمد صلهى ه‬
‫اآلية ليلة كاملة ما زال يرددها حتى طلع الفجر ‪ ،‬إذ كانت كلمة غيره فكان يكررها‬
‫حكاية وقصده معلوم في ذلك ‪،‬‬
‫كما قيل في المثل ‪ :‬إياك أعني فاسمعي يا جارة ‪ ،‬ولما كان في هذا اشتباه على‬
‫المحجوبين من المعتزلة وغيرهم الذين يقولون ‪ :‬إن كفر العبد منسوب إلى اختراعه ‪،‬‬
‫ّللا‬
‫غير مستند إلى إرادة ربه سبحانه ‪ ،‬وإال لما جاز أن يعاقبه عليه ‪ ،‬ال جرم بين ه‬
‫تعالى جوابهم على لسان نبيه عيسى عليه السالم في قوله ‪ «:‬إِ ْن تُعَ ِذه ْب ُه ْم فَإِنَّ ُه ْم ِعباد َُك‬
‫»علل جواز تعذيبه لهم بأنهم عباده ‪ ،‬تنبيها على أن التعذيب ال يحتاج في جوازه عقال‬
‫إلى معصية وال كفر ‪،‬‬
‫ولهذا لم يقل ‪ :‬فإنهم عصوك ‪ ،‬وإنما مجرد كونهم عبادا يجوز للمالك أن يفعل بهم ما‬
‫يشاء ‪ ،‬حتى وليس عليه حق ‪،‬‬
‫يز ْال َح ِكي ُم »‬ ‫ت ْالعَ ِز ُ‬‫ومهما قال فالحسن الجميل« َوإِ ْن ت َ ْغ ِف ْر لَ ُه ْم فَإِنَّ َك أ َ ْن َ‬
‫ولم يقل ‪ « :‬إنك أنت الغفور الرحيم » أدبا مع الجناب اإللهي ‪ ،‬فتأدب العبد الصالح‬
‫ّللا وبين‬ ‫ّللا ولم يتوبوا ‪ -‬نصيحة ‪ -‬ال تدخل بين ه‬ ‫ّللا في هذا القول لما عصى قومه ه‬ ‫مع ه‬
‫عباده ‪ ،‬وال تسع عنده في خراب بالده ‪ ،‬هم على كل حال عباده ‪ ،‬قل كما قال العبد‬
‫الصالح ‪ ،‬صاحب العقل الراجح ‪،‬‬
‫يز ْال َح ِكي ُم »انظر في هذا األدب‬ ‫ت ْالعَ ِز ُ‬ ‫« ِإ ْن تُعَ ِذه ْب ُه ْم فَإِنَّ ُه ْم ِعباد َُك َو ِإ ْن ت َ ْغ ِف ْر لَ ُه ْم فَإِنَّ َك أ َ ْن َ‬
‫ّللا وكلمته ‪ ،‬ونفخ‬ ‫النبوي أين هو مما نسب إليه من النعت البنوي ! هو عين روح ه‬
‫روحه وابن أمته ‪ ،‬ما بينه وبين ربه سوى النسب العام ‪ ،‬الموجود ألهل الخصوص‬
‫من األنام ‪ ،‬وهو التقوى ال أمر زائد ‪ ،‬في غير واحد ‪ -‬مناجاة ‪ -‬إلهي جلهت عظمتك أن‬
‫يعصيك عاص أو ينساك‬

‫ص ‪60‬‬

‫ص ‪60 :‬‬
‫ناس ‪ ،‬ولكن أوجبت روح أوامرك في أسرار الكائنات ‪ ،‬فذكرك الناسي بنسيانه ‪،‬‬
‫وأطاعك العاصي بعصيانه ‪ ،‬وإن من شيء إال يسبح بحمده ‪ ،‬إن عصى داعي إيمانه ‪،‬‬
‫ّللف الحجة البالغة ‪ ،‬ال يسأل عما‬
‫فقد أطاع داعي سلطانك ولكن قامت عليه حجتك ‪ ،‬ه‬
‫يفعل وهم يسألون ‪.‬‬

‫[ سورة المائدة ( ‪ : ) 5‬آية ‪] 119‬‬


‫هار خا ِلد َ‬
‫ِين‬ ‫ين ِص ْدقُ ُه ْم لَ ُه ْم َجنهاتٌ تَجْ ِري ِم ْن تَحْ تِ َها ْاأل َ ْن ُ‬ ‫َّللاُ هذا يَ ْو ُم يَ ْنفَ ُع ال ه‬
‫صا ِدقِ َ‬ ‫قا َل ه‬
‫ع ْنهُ ذ ِلكَ ا ْلفَ ْو ُز ا ْلعَ ِظي ُم ( ‪« ( 119‬‬ ‫ع ْن ُه ْم َو َرضُوا َ‬ ‫َّللاُ َ‬
‫ي ه‬ ‫فِيها أَبَدا ً َر ِض َ‬
‫ص ْدقُ ُه ْم »فال يؤثر فيهم عوارض يوم القيامة ‪ ،‬بل‬ ‫صا ِدقِينَ ِ‬‫ّللاُ هذا يَ ْو ُم يَ ْنفَ ُع ال َّ‬
‫قا َل َّ‬
‫تخاف الناس وال يخافون ‪ ،‬وتحزن الناس وال يحزنون ‪. . .‬‬
‫ع ْنهُ »فالرضى منا‬ ‫ضوا َ‬ ‫ع ْن ُه ْم َو َر ُ‬
‫ّللاُ َ‬
‫ي َّ‬ ‫ض َ‬ ‫ع ْنهُ » ]« َر ِ‬ ‫ضوا َ‬ ‫ع ْن ُه ْم َو َر ُ‬
‫ّللاُ َ‬
‫ي َّ‬ ‫ض َ‬ ‫[ « َر ِ‬
‫ّللا عنهم ‪ :‬بما أعطوه من بذل المجهود ‪ ،‬وغير بذل‬ ‫ومنه ‪ -‬الوجه األول ‪ -‬رضي ه‬
‫ع ْنهُ »بما أعطاهم مما يقتضي الوجود الجود أكثر من ذلك ‪ ،‬لكن‬ ‫ضوا َ‬ ‫المجهود« َو َر ُ‬
‫ع ْن ُه ْم »‪ :‬بما أعطاه العبد من نفسه‬ ‫ّللاُ َ‬
‫ي َّ‬ ‫ض َ‬ ‫العلم والحكمة غالبة ‪ -‬الوجه الثاني ‪َ «-‬ر ِ‬
‫ّللا منك إذا أعطيت‬ ‫ّللا به ‪ ،‬ورضي عنه فيه وإن لم يبذل استطاعته ‪ ،‬فرضي ه‬ ‫رضي ه‬
‫ع ْنهُ »رضي العبد من ه‬
‫ّللا‬ ‫ضوا َ‬ ‫ما كلفك حد االستطاعة التي ال حرج عليك فيها« َو َر ُ‬
‫ّللا في ذلك ‪ ،‬فإن متعلق الرضى القليل ‪ ،‬فإن‬ ‫بالذي أعطاه من حال الدنيا ورضي عن ه‬
‫اإلنعام ال يتناهى بالبرهان الواضح والدليل ‪ ،‬فال بد من الرضى ‪ ،‬بذا حكم الدليل‬
‫وقضى ‪ ،‬وبهذا المعنى رضاه سبحانه عنك ‪ ،‬بما أعطيته منك ‪ ،‬وهو يعلم أن‬
‫ع ْن ُه ْم »في يسير العمل«‬ ‫ّللاُ َ‬
‫ي َّ‬ ‫ض َ‬ ‫االستطاعة فوق ما أعطيته ‪ -‬الوجه الثالث ‪َ «-‬ر ِ‬
‫ع ْنهُ »في يسير الثواب ‪ ،‬ألنه ال يتمكن تحصيل ما ال يتناهى في الوجود ‪،‬‬ ‫ضوا َ‬ ‫َو َر ُ‬
‫ألنه ال يتناهى ‪ ،‬فإن كل ما أعطاك الحق في الدنيا واآلخرة من الخير والنعم فهو قليل‬
‫بالنسبة إلى ما عنده ‪ ،‬فإن الذي عنده ال نهاية له ‪ ،‬وكل ما حصل لك من ذلك فهو قليل‬
‫بالنسبة إلى ما عنده ‪ ،‬فإن الذي عنده ال نهاية له ‪ ،‬وكل ما حصل لك من ذلك فهو متناه‬
‫ّللا رضاه عن عبيده ‪ ،‬بما قبله من اليسير من أعمالهم التي كلفهم‬ ‫بحصوله ‪ ،‬وما قدم ه‬
‫إال ليرضوا عنه في يسير الثواب ‪ ،‬لما علموا أن عنده ما هو أكثر من الذي وصل‬
‫إليهم ‪ - .‬الوجه الرابع ‪ -‬أخبرهم في التوقيع أنه عنهم راض تعالى وتقدس جالله ‪ ،‬ثم‬
‫ع ْن ُه ْم‬
‫ّللاُ َ‬
‫ي َّ‬ ‫ض َ‬ ‫أنه ناب عنهم في الخطاب بأنهم عنه راضون ‪ ،‬فقال تعالى ‪َ «:‬ر ِ‬
‫ع ْنهُ ‪».‬‬ ‫ضوا َ‬ ‫َو َر ُ‬
‫وهنا نكتة لمن فهم ما تدل عليه ألفاظ القرآن من الرضى فقطع عليهم بذلك لعلمه بأنه‬
‫واقع‬

‫ص ‪61‬‬

‫ص ‪61 :‬‬
‫منهم[ تحقيق الرضا ]‬
‫ّللا تعالى قد أمرنا بالرضا قبل القضاء مطلقا ‪ ،‬فعلمنا أنه‬ ‫‪-‬تحقيق الرضا ‪ -‬اعلم أن ه‬
‫صله حال المقضي عليه بالمقضى به انقسم إلى ما يجوز‬ ‫يريد اإلجمال ‪ ،‬فإنه إذا ف ه‬
‫الرضا به وإلى ما ال يجوز ‪ ،‬فلما أطلق الرضا علمنا أنه أراد اإلجمال ‪ ،‬والقدر توقيت‬
‫الحكم ‪ ،‬فكل شيء بقضاء وقدر ‪ ،‬أي بحكم مؤقت ‪ ،‬فمن حيث التوقيت المطلق يجب‬
‫اإليمان بالقدر خيره وشره ‪ ،‬حلوه ومره ‪ ،‬ومن حيث التعيين يجب اإليمان به ال‬
‫الرضا ببعضه ‪ ،‬وإنما قلنا ‪ :‬يجب اإليمان به أنه شر كما يجب اإليمان بالخير أنه خير‬
‫ّللا من كونه شرا ‪ ،‬ال‬ ‫‪ ،‬فنقول ‪ :‬إنه يجب علي اإليمان بالشر أنه شر ‪ ،‬وأنه ليس إلى ه‬
‫من كونه عين وجود إن كان الشر أمرا وجوديا ‪ ،‬فمن حيث وجوده أي وجود عينه هو‬
‫ّللا عليه وسلم في دعائه ‪ :‬والشر‬ ‫ّللا ‪ ،‬قال صلهى ه‬ ‫ّللا ‪ ،‬ومن كونه شرا ليس إلى ه‬ ‫إلى ه‬
‫ليس إليك ‪ ،‬فالمؤمن ينفي عن الحق ما نفاه عن نفسه ‪.‬‬
‫[ سورة المائدة ( ‪ : ) 5‬آية ‪]120‬‬
‫ّلل ُم ْلكُ‬ ‫على ُك ِهل َ‬
‫ش ْيءٍ قَد ٌ‬
‫ِير ( ‪ِ َّ ِ «) 120‬‬ ‫ض َوما فِي ِه َّن َو ُه َو َ‬ ‫ت َو ْاأل َ ْر ِ‬ ‫سماوا ِ‬ ‫ّلل ُم ْلكُ ال َّ‬
‫ِ َّ ِ‬
‫ض َوما فِي ِه َّن »هما الدار الدنيا ‪.‬‬ ‫ت َو ْاأل َ ْر ِ‬ ‫سماوا ِ‬ ‫ال َّ‬

‫( ‪ ) 6‬سورة األنعام مكيّة‬


‫الرحيم‬
‫الرحمن ه‬ ‫ّللا ه‬
‫بسم ه‬

‫[ سورة األنعام ( ‪ : ) 6‬آية ‪] 1‬‬


‫يم‬
‫الر ِح ِ‬
‫من ه‬ ‫الرحْ ِ‬
‫َّللا ه‬‫س ِم ه ِ‬ ‫ِب ْ‬
‫ور ث ُ هم الهذ َ‬
‫ِين َكفَ ُروا ِب َر ِبّ ِه ْم‬ ‫ت َوالنُّ َ‬
‫ظلُما ِ‬ ‫ت َو ْاأل َ ْر َ‬
‫ض َو َجعَ َل ال ُّ‬ ‫سماوا ِ‬
‫ق ال ه‬ ‫ا ْل َح ْم ُد ِ ه ِ‬
‫ّلِل الهذِي َخلَ َ‬
‫ون ) ‪( 1‬‬ ‫يَ ْع ِدلُ َ‬
‫العدل هنا على وجوه منها عدولهم إلى القول بأن له أمثاال وليس كمثله شيء ‪ ،‬فإن‬
‫باّلل ‪ ،‬ومنها أن الباء‬ ‫العدل المثل ‪ ،‬ومنها أنهم بربهم عدلوا ألنه ال حول وال قوة إال ه‬
‫في « بربهم » بمعنى الالم ‪ ،‬فلربهم عدلوا لكون من عدلوا إليه إنما عدلوا إليه لكونه‬
‫ّللا الذين جعلوا له أمثاال ‪ ،‬مثل المانية الذين‬ ‫عندهم إلها ‪ ،‬وفي هذه اآلية يخاطب ه‬
‫يقولون ‪ :‬إن اإلله الذي خلق‬

‫ص ‪62‬‬

‫ص ‪62 :‬‬
‫الظلمة ‪ ،‬ما هو اإلله الذي خلق النور ‪ ،‬فعدلوا بالواحد اآلخر ‪ ،‬وكذلك الذين يقولون‬
‫بخلق السماوات واألرض ‪ ،‬إنها معلولة لعلة ليست علته اإلله ‪ ،‬أي ليست العلة األولى‬
‫‪ ،‬ألن العلة عندهم إنما صدر عنها أمر واحد لحقيقة أحديتها وليس إال العقل األول ‪،‬‬
‫فهؤالء أيضا مما قيل فيهم إنهم بربهم يعدلون ‪ ،‬وسماهم كفارا ألنهم إما ستروا ‪ ،‬أو‬
‫منهم من ستر عقله عن التصرف فيما ينبغي له بالنظر الصحيح في إثبات الحق ‪،‬‬
‫واألمر في نفسه على ما هو عليه ‪ ،‬فاقتصر على ما بدا له ‪ ،‬ولم يوف األمر حقه في‬
‫النظر ‪ .‬وإما إن علم وجحد فستر عن الغير ما هو األمر عليه في نفسه ‪ ،‬لمنفعة‬
‫تحصل له من رئاسة أو مال ‪ ،‬فلهذا قيل فيهم ‪ :‬إنهم كفروا أي ستروا ‪.‬‬

‫[ سورة األنعام ( ‪ : ) 6‬آية ‪] 2‬‬


‫ون ) ‪( 2‬‬ ‫س ًّمى ِع ْن َد ُه ث ُ هم أ َ ْنت ُ ْم ت َ ْمت َ ُر َ‬‫ين ث ُ هم قَضى أ َ َجالً َوأ َ َج ٌل ُم َ‬
‫ُه َو الهذِي َخلَقَ ُك ْم ِم ْن ِط ٍ‬
‫‪-‬الوجه األول ‪ -‬األجل المقضي هو الموت االختياري ‪ ،‬وهو موت في حياة دنياوية ‪،‬‬
‫ّللا مسمى عنده ‪ ،‬كان حكمه حكم‬ ‫ولما كان هذا األجل المقضي معلوم الوقت عند ه‬
‫األجل المسمى ‪ ،‬وهو الموت االضطراري في العموم والعرف فمن قتل نفسه في‬
‫ّللا حكم الشهادة ‪ ،‬فموته معنوي في حياته‬ ‫الجهاد األكبر الذي هو جهاد النفس ‪ ،‬رزقه ه‬
‫الدنيا ‪ ،‬وقتله مخالفة نفسه ‪ -‬الوجه الثاني « [‪ -‬ث ُ َّم قَضى أ َ َج ًال » ]« ث ُ َّم قَضى أ َ َج ًال‬
‫س ًّمى ِع ْن َدهُ »وهو ميقات حياة كل من‬ ‫»وهو نهاية عمر كل حي يقبل الموت« َوأ َ َج ٌل ُم َ‬
‫كان قبل الموت في حياته األولى ‪ ،‬وهو المعبر عنه بالبعث ‪ ،‬ولذلك قال تعالى ‪ «:‬ث ُ َّم‬
‫فإن الموت ال يمترون فيه ‪ ،‬فإنه مشهود لهم في كل حيوان مع‬ ‫أ َ ْنت ُ ْم ت َ ْمت َ ُرونَ »يعني فيه ه‬
‫األنفاس ‪ ،‬وإنما وقعت المرية في البعث وهو األجل المسمى المذكور ‪.‬‬

‫[ سورة األنعام ( ‪ : ) 6‬آية ‪] 3‬‬


‫ون ( ‪«) 3‬‬ ‫سبُ َ‬ ‫س هر ُك ْم َو َجه َْر ُك ْم َويَ ْعلَ ُم ما ت َ ْك ِ‬ ‫ت َوفِي ْاأل َ ْر ِ‬
‫ض يَ ْعلَ ُم ِ‬ ‫سماوا ِ‬
‫َّللاُ فِي ال ه‬ ‫َو ُه َو ه‬
‫ض »بيده ميزان الرفع والخفض« يَ ْعلَ ُم ِس َّر ُك ْم »من‬ ‫ت َوفِي ْاأل َ ْر ِ‬‫سماوا ِ‬
‫ّللاُ فِي ال َّ‬ ‫َو ُه َو َّ‬
‫حيث اسمه الباطن ‪ ،‬ويعلم« َج ْه َر ُك ْم »من حيث اسمه الظاهر ‪ ،‬فهو معكم بكل‬
‫أسمائه« يَ ْعلَ ُم‬

‫ص ‪63‬‬

‫ص ‪63 :‬‬
‫ِس َّر ُك ْم »من كونه في األرض« َو َج ْه َر ُك ْم »من كونه في السماء ‪« ،‬يَ ْعلَ ُم ِس َّر ُك ْم »من‬
‫كونه في السماء وهو معناكم الذي خفي عن األبصار عينه ويعلم« َج ْه َر ُك ْم »من كونه‬
‫في األرض وهو ظاهركم الذي ظهر لألبصار عينه من أمراض األفعال أن يكون‬
‫أداؤك لذلك الفعل الذي هو عبادة ‪ ،‬كالصالة مثال ‪ ،‬في المأل أحسن من أدائك في السر‬
‫ّللا عليه وسلم في مثل هذه الفعلة ‪ [ :‬تلك استهانة استهان بها ربه ] في‬ ‫‪ ،‬يقول صلهى ه‬
‫سن صالته في المأل ‪ ،‬وأساءها في الخلوة ‪ ،‬وهذا من أصعب األمراض‬ ‫رجل ح ه‬
‫النفسية ‪ ،‬ودواؤه( أ َ لَ ْم يَ ْعلَ ْم بِأ َ َّن َّ َ‬
‫ّللا يَرى )" يَ ْعلَ ُم ِس َّر ُك ْم َو َج ْه َر ُك ْم"‬

‫وّللا أحق أن يستحى منه ] وأمثال هذه اآليات واألخبار ‪َ «.‬ويَ ْعلَ ُم ما ت َ ْك ِسبُونَ‬
‫[ ه‬
‫»ولكن أكثر الناس ال يعلمون ‪ ،‬وكذلك أكثرهم ال يؤمنون ‪.‬‬

‫[ سورة األنعام ( ‪ : ) 6‬اآليات ‪ 4‬إلى ‪] 6‬‬


‫ق لَ هما‬ ‫ين ( ‪ ) 4‬فَقَ ْد َكذهبُوا بِا ْل َح ّ ِ‬ ‫ع ْنها ُم ْع ِر ِض َ‬ ‫ت َر ِبّ ِه ْم إِاله كانُوا َ‬ ‫يه ْم ِم ْن آيَ ٍة ِم ْن آيا ِ‬ ‫َوما تَأْتِ ِ‬
‫ُن ( ‪ ) 5‬أ َ لَ ْم يَ َر ْوا َك ْم أ َ ْهلَ ْكنا ِم ْن قَ ْب ِل ِه ْم‬ ‫ستَه ِْزؤ َ‬ ‫يه ْم أ َ ْنبا ُء ما كانُوا ِب ِه يَ ْ‬ ‫ف يَأْتِ ِ‬
‫س ْو َ‬‫جا َء ُه ْم فَ َ‬
‫علَ ْي ِه ْم ِمدْرارا ً َو َجعَ ْلنَا‬‫سما َء َ‬ ‫ض ما لَ ْم نُ َم ِ ّك ْن لَ ُك ْم َوأ َ ْر َ‬
‫س ْلنَا ال ه‬ ‫ِم ْن قَ ْر ٍن َم هكنها ُه ْم فِي ْاأل َ ْر ِ‬
‫ين ) ‪( 6‬‬ ‫هار تَجْ ِري ِم ْن تَحْ ِت ِه ْم فَأ َ ْهلَ ْكنا ُه ْم ِبذُنُو ِب ِه ْم َوأ َ ْنشَأْنا ِم ْن بَ ْع ِد ِه ْم قَ ْرنا ً آ َخ ِر َ‬ ‫ْاأل َ ْن َ‬
‫اختلفوا في القرن ما قدره من الزمان ؟ ومن جملة أقوالهم ‪ :‬إن القرن ثالثون سنة ‪.‬‬

‫[ سورة األنعام ( ‪ : ) 6‬اآليات ‪ 7‬إلى ‪] 9‬‬


‫ِين َكفَ ُروا ِإ ْن هذا ِإاله سِحْ ٌر‬ ‫ِيه ْم لَقا َل الهذ َ‬‫سوهُ ِبأ َ ْيد ِ‬ ‫طاس فَلَ َم ُ‬ ‫علَ ْيكَ ِكتابا ً فِي قِ ْر ٍ‬ ‫َولَ ْو نَ هز ْلنا َ‬
‫ون (‬ ‫علَ ْي ِه َملَكٌ َولَ ْو أ َ ْن َز ْلنا َملَكا ً لَقُ ِض َ‬
‫ي ْاأل َ ْم ُر ث ُ هم ال يُ ْن َظ ُر َ‬ ‫ين ( ‪َ ) 7‬وقالُوا لَ ْو ال أ ُ ْن ِز َل َ‬ ‫ُم ِب ٌ‬
‫ون ) ‪( 9‬‬ ‫س َ‬ ‫علَ ْي ِه ْم ما يَ ْل ِب ُ‬ ‫سنا َ‬ ‫‪َ ) 8‬ولَ ْو َجعَ ْلنا ُه َملَكا ً لَ َجعَ ْلنا ُه َر ُجالً َولَلَبَ ْ‬
‫أي لو كان الرسول للبشر ملكا لنزل في صورة رجل ‪ ،‬حتى ال يعرفوا أنه ملك ‪ ،‬فإن‬

‫ص ‪63‬‬

‫ص ‪64 :‬‬
‫ّللا به خلقه بعث الرسل إليهم منهم ال من غيرهم ‪ ،‬وإنما جعل‬
‫أول ابتالء ابتلى ه‬
‫الرسول من الجنس الستخراج عيب النفس ‪ ،‬وأنزل بلسان قومه لرفع اللبس ‪،‬‬
‫فالرسول من جنس المرسل إليه ‪ ،‬فإن دعا أمر أن يكون من غير الجنس في الحقيقة‬
‫فال بد وأن يظهر لهم في صورة الجنس في عالم تمثيل الرقيقة ‪ ،‬مثل تمثل الروح‬
‫لمريم بشرا سويا ‪.‬‬

‫خليفة القوم من أبناء جنسهم *** ألن ذلك أنكى في نفوسهم‬


‫لو لم يكن منهم لصدقوه ولم *** يقم بهم حسد لغير جنسهم‬
‫فتنكر األشخاص للجنسية ‪ ،‬وهي الفتنة اإللهية‬
‫وال "‬ ‫س ً‬ ‫ماء َملَكا ً َر ُ‬
‫س ِ‬ ‫وقال تعالى ‪ ":‬لَن ََّز ْلنا َ‬
‫علَ ْي ِه ْم ِمنَ ال َّ‬
‫َراك ِإ َّال بَشَرا ً ِمثْلَنا "‬
‫وقالوا ‪ ":‬ما ن َ‬
‫ب ِم َّما ت َ ْش َربُونَ "‬‫وقال تعالى ‪ ":‬يَأ ْ ُك ُل ِم َّما تَأ ْ ُكلُونَ ِم ْنهُ َويَ ْش َر ُ‬
‫فهم ينظرون ظاهره وينكرونه إنكارا يؤدي إلى الموت ‪.‬‬

‫[ سورة األنعام ( ‪ : ) 6‬اآليات ‪ 10‬إلى ‪] 12‬‬


‫ُن ( ‪10‬‬ ‫ستَه ِْزؤ َ‬‫س ِخ ُروا ِم ْن ُه ْم ما كانُوا ِب ِه يَ ْ‬ ‫حاق ِبالهذ َ‬
‫ِين َ‬ ‫س ٍل ِم ْن قَ ْب ِلكَ فَ َ‬ ‫ئ ِب ُر ُ‬ ‫ستُه ِْز َ‬ ‫َولَقَ ِد ا ْ‬
‫ين ( ‪ ) 11‬قُ ْل ِل َم ْن ما فِي‬ ‫كان عاقِبَةُ ا ْل ُم َك ِذّبِ َ‬
‫ف َ‬ ‫ض ث ُ هم ا ْن ُ‬
‫ظ ُروا َك ْي َ‬ ‫يروا فِي ْاأل َ ْر ِ‬ ‫س ُ‬ ‫) قُ ْل ِ‬
‫ب‬‫الرحْ َمةَ لَيَجْ َمعَنه ُك ْم إِلى يَ ْو ِم ا ْل ِقيا َم ِة ال َر ْي َ‬‫س ِه ه‬‫ب عَلى نَ ْف ِ‬ ‫ض قُ ْل ِ ه ِ‬
‫ّلِل َكت َ َ‬ ‫ت َو ْاأل َ ْر ِ‬‫سماوا ِ‬ ‫ال ه‬
‫ون ( ‪) 12‬‬ ‫س ُه ْم فَ ُه ْم ال يُ ْؤ ِمنُ َ‬ ‫س ُروا أ َ ْنفُ َ‬ ‫ِين َخ ِ‬ ‫فِي ِه الهذ َ‬
‫[ الرحمة ثالث رحمات ]‬
‫الرحمة ثالث رحمات ‪:‬‬
‫الرحمة الذاتية ‪ ،‬ومنها الرحمة المخلوقة في عباده ليتراحموا بها ‪،‬‬
‫والرحمة الثانية ‪ :‬هي الرحمة المكتوبة ‪ ،‬وهي منفصلة عن الرحمة الذاتية ‪،‬‬
‫والرحمة الثالثة ‪ :‬هي الرحمة االمتنانية التي وسعت كل شيء ‪ ،‬فمن كرمه تعالى كتب‬
‫على نفسه الرحمة ‪ ،‬أي أوجب وفرض على نفسه الرحمة ‪ ،‬لم يوجب ذلك عليه‬
‫موجب ‪ ،‬بل هو سبحانه الموجب على نفسه منة منه وفضال علينا ‪ ،‬فإنه ال يجب على‬
‫ّللا شيء بإيجاب موجب غير نفسه ‪ ،‬فإن أوجب هو على نفسه أمرا ما ‪ ،‬فهو الموجب‬ ‫ه‬
‫والوجوب والموجب عليه ال غير ‪ ،‬ومع أن الحق أوجب على نفسه ‪،‬‬
‫فإن الحقيقة تعطي أن العبد ال يستحق شيئا على سيده فمن منته سبحانه على عبده أن‬
‫أوجب له على نفسه ليأنس العبد بما أوجبه الحق عليه من طاعته ليسارع‬

‫ص ‪64‬‬

‫ص ‪65 :‬‬
‫بأداء ما وجب عليه‬
‫الر ْح َمةَ »ومن رحمة ه‬
‫ّللا أنه قال ‪ «:‬لَيَ ْج َمعَنَّ ُك ْم »فما‬ ‫على نَ ْف ِس ِه َّ‬
‫ب َ‬ ‫فقال تعالى ‪َ «:‬كت َ َ‬
‫نجتمع إال فيما نفترق فيه وهو اإلقرار بربوبيته سبحانه ‪ ،‬وإذا جمعنا من حيث إقرارنا‬
‫له بالربوبية ‪ ،‬فهي آية بشرى وذكر خير في حقنا بسعادة الجميع ‪ ،‬وإن دخلنا النار ‪،‬‬
‫فإن الجمعية تمنع من تسرمد االنتقام ‪ ،‬ال إلى نهاية ‪ ،‬لكن يتسرمد العذاب ‪ ،‬وتختلف‬
‫الحاالت فيه ‪ ،‬فإذا انتهت حالة االنتقام ووجدان اآلالم ‪ ،‬أعطي من النعيم واالستعذاب‬
‫بالعذاب ما يليق بمن أقر بربوبيته ‪ ،‬ثم أشرك ثم و هحد في غير موطن التكليف ‪،‬‬
‫والتكليف أمر عرض في الوسط بين الشهادتين لم يثبت ‪ ،‬فبقي الحكم لألصلين األول‬
‫واآلخر ‪.‬‬
‫[ سورة األنعام ( ‪ : ) 6‬آية ‪] 13‬‬
‫س ِمي ُع ا ْلعَ ِلي ُم) ‪( 13‬‬ ‫َولَهُ ما َ‬
‫سك ََن ِفي الله ْي ِل َوالنه ِ‬
‫هار َو ُه َو ال ه‬

‫س َكنَ »‬ ‫س َكنَ » ]« َولَهُ ما َ‬ ‫[ « َولَهُ ما َ‬


‫‪ -‬الوجه األول ‪ -‬أي ما ثبت ‪ ،‬واالعتماد ال نشك أنه سكون إلى من يعتمد عليه ال بد‬
‫من ذلك ‪ ،‬وال يعتمد إال على من له ثبوت الوجود ‪ ،‬وال يقبل التغيير وال االنتقال من‬
‫حال الثبوت ‪ ،‬ومن علم أنه يقبل االنتقال من الثبوت ال يعتمد عليه ‪ ،‬ألنه يخون‬
‫المعتمد عليه ذلك االعتماد الرتباطه بمن ال ثبوت له ‪ ،‬فال يعتمد على محدث إال عن‬
‫إعالم إلهي ‪ ،‬فيكون اعتمادنا على من له نعت الثبوت ‪ ،‬كاعتمادنا على الشرائع فيما‬
‫ّللا أنه معه السعادة فيعتمد عليه‬
‫يجب اإليمان به ‪ ،‬وكاإليمان الذي ثبت بإعالم ه‬
‫‪ -‬الوجه الثاني ‪ -‬اعلم أنه ل هما لم يكن في العالم سكون البتة ‪ ،‬وإنما هو متقلب دائما أبدا‬
‫‪ ،‬من حال إلى حال ‪ ،‬دنيا وآخرة ‪ ،‬ظاهرا وباطنا ‪ ،‬فإن قوله تعالى ‪َ «:‬ولَهُ ما َ‬
‫س َكنَ فِي‬
‫هار »أي كل شيء كان وال زال في علمه لم يخرج منه عدما ووجودا ‪ ،‬فهو‬ ‫اللَّ ْي ِل َوالنَّ ِ‬
‫ّللا ليل نهار ‪ ،‬فدخل في ذلك السكون والحركة‬ ‫ساكن في علم ه‬
‫هار »والسكون ضد الحركة ‪ ،‬والحركة‬ ‫س َكنَ فِي اللَّ ْي ِل َوالنَّ ِ‬
‫‪ -‬الوجه الثالث ‪َ «-‬ولَهُ ما َ‬
‫هي الدعوى في األعمال ‪ ،‬والسكون هو التبري من الحركة إذا أقيم اإلنسان فيها بال‬
‫فعرى الحق خلقه في هذه اآلية عن إضافة ما ادعوه ألنفسهم ‪،‬‬ ‫باّلل ‪ ،‬ه‬‫حول وال قوة إال ه‬
‫فمن فهم تنبيه الحق بأنه أخلص السكون له ‪ ،‬علم أن الحركة فيها الدعوى ‪ ،‬وأن‬
‫السكون ال تشوبه دعوى ‪،‬‬
‫فإنه نفي الحركة ‪ ،‬اختار السكون على الحركة ‪ ،‬وهو اإلقامة على األصل بال حول‬
‫باّلل ‪ ،‬فالسكون أولى من الحركة ‪ ،‬فإن العبد مأمور بالسكون تحت مجاري‬ ‫وال قوة إال ه‬
‫ّللا إليه في الليل والنهار ‪ ،‬والسكون مع المشاهدة ‪،‬‬ ‫األقدار ‪ ،‬وما يأتي ه‬

‫ص ‪66‬‬

‫ص ‪66 :‬‬
‫ّللا أولى لراحة الوقت‬ ‫باّلل مع ه‬
‫والحركة مع الفقد ‪ ،‬إال الحركة المأمور بها ‪ ،‬فالسكون ه‬
‫‪ ،‬لو لم يكن من شرف السكون إال ورود األسماء اإللهية عليك ‪ ،‬ونزول الحق إليك ‪،‬‬
‫ألنك إن تحركت إليه حددته ‪ ،‬وإن سكنت معه عبدته ‪ ،‬فالحركة إليه عن الجهل به ‪،‬‬
‫والسكون معه عين العلم به ‪ ،‬إذا كان الحق جليس الذاكر فإلى أين يرحل ؟« َو ُه َو‬
‫س ِمي ُع »يسمع دعواكم في نسبة ما هو له ‪ ،‬وقد نسبتموه إليكم« ْالعَ ِلي ُم »بأن األمر‬
‫ال َّ‬
‫على خالف ما ادعيتموه ‪.‬‬

‫س َكنَ فِي اللَّ ْي ِل َوالنَّ ِ‬


‫هار »ما أحسنه في االعتبار ! ألن ما تحرك فيه‬ ‫‪-‬إشارة ‪َ «-‬ولَهُ ما َ‬
‫ّللف ما‬
‫مشاركة األغيار وما ثم سكون ‪ ،‬ولكن حركة ‪ ،‬وفي الحركة الزيادة والبركة ‪ ،‬ه‬
‫سكن في الليل والنهار ‪ ،‬وما ثم ساكن في األغيار ‪ ،‬ال في البصائر وال في األبصار ‪،‬‬
‫ّللف ما سكن ‪ ،‬وهو له نعم السكن ‪ ،‬ولنا ما تحرك ‪ ،‬وبه نتملك ‪ ،‬فكما يكون مع‬ ‫ه‬
‫الحركة البركة الكونية ‪ ،‬فكذلك مع السكون البركة اإللهية ‪ ،‬السكون ثبوت عند الحق ‪،‬‬
‫والحركة خروج ‪.‬‬

‫[ سورة األنعام ( ‪ : ) 6‬آية ‪] 14‬‬


‫ض َو ُه َو يُ ْط ِع ُم َوال يُ ْطعَ ُم قُ ْل إِ ِنّي أ ُ ِم ْرتُ‬ ‫ت َو ْاأل َ ْر ِ‬
‫سماوا ِ‬ ‫َّللا أَت ه ِخذُ َو ِليًّا ِ‬
‫فاط ِر ال ه‬ ‫غ ْي َر ه ِ‬ ‫قُ ْل أ َ َ‬
‫ين ( ‪) 14‬‬ ‫سلَ َم َوال تَكُونَ هن ِم َن ا ْل ُمش ِْر ِك َ‬ ‫ُون أ َ هو َل َم ْن أ َ ْ‬‫أ َ ْن أَك َ‬
‫ض‬ ‫ت َو ْاأل َ ْر ِ‬
‫سماوا ِ‬ ‫فاط ِر ال َّ‬
‫ض »الفطر الشق ‪ ،‬فقوله تعالى ‪ِ «:‬‬ ‫ت َو ْاأل َ ْر ِ‬ ‫سماوا ِ‬ ‫فاط ِر ال َّ‬
‫« ِ‬
‫»هو قوله تعالى ‪ «:‬كانَتا َرتْقا ً فَفَت َ ْقنا ُهما »أي فاتق السماوات واألرض لتمييزها ‪ ،‬ففتق‬
‫طعَ ُم »ال أحقر ممن يسأل أن‬ ‫ط ِع ُم َوال يُ ْ‬ ‫السماوات واألرض بعد رتقهما ليتميزا « َو ُه َو يُ ْ‬
‫يطعم إلقامة نشأته ‪ ،‬وإبقاء الحياة الحيوانية عليه ‪ ،‬وعلى قدر االحتقار يكون االفتقار ‪،‬‬
‫وأي افتقار أعظم ممن ال يكون له ما يريد إال بغيره ال بنفسه ؟ فقوله تعالى «‪َ :‬و ُه َو‬
‫طعَ ُم »تنزيه الحق عن حاجته لذلك وإشارة إلى نقصك وعجزك وافتقارك ‪،‬‬ ‫ط ِع ُم َوال يُ ْ‬ ‫يُ ْ‬
‫فإن الممكن إذا وجد ال بد من حافظ يحفظ عليه وجوده ‪ ،‬وبذلك الحافظ بقاؤه في‬
‫الوجود كان ذلك الحافظ ما كان من األكوان ‪ ،‬فالحفظ خلق هّلل ‪ ،‬فلذلك نسب الحفظ إليه‬
‫‪ ،‬والحق سبحانه غير محفوظ للعبد ‪ ،‬فإنه ال يقبل أن يكون محفوظا ‪ .‬فإنه الصمد الذي‬
‫ّللا ‪ ،‬ينبههم أن كل ما‬ ‫ال مثل له ‪ ،‬فقال لنبيه عليه السالم ‪ ،‬ما يقوله لمن عبد غير ه‬
‫ّللا من معبود ‪ ،‬يطلب بذاته من يحفظ عليه بقاء وجوده ‪ ،‬فقال له ‪ :‬يا محمد« قُ ْل‬ ‫سوى ه‬
‫ت‬
‫سماوا ِ‬ ‫ّللا أَت َّ ِخذُ َو ِليًّا ‪ِ ،‬‬
‫فاط ِر ال َّ‬ ‫غي َْر َّ ِ‬‫أَ َ‬

‫ص ‪67‬‬

‫ص ‪67 :‬‬
‫ط ِع ُم َوال يُ ْ‬
‫طعَ ُم »‬ ‫ض ‪َ ،‬و ُه َو يُ ْ‬
‫َو ْاأل َ ْر ِ‬

‫[ فاطر السماوات واألرض ]‬


‫وقد قرئ الثاني في الشاذ بفتح الياء ‪ ،‬فكل موجود له بقاء في وجوده ‪ ،‬فال بد من حافظ‬
‫ّللا ‪ ،‬وهو غذاء هذا المحفوظ عليه‬‫كياني يحفظ عليه وجوده ‪ ،‬وذلك الحافظ خلق ه‬
‫ّللا يغذيه بما به بقاؤه من لطيف‬
‫الوجود ‪ ،‬فال تزال عينه وإن تغيرت صورته ما دام ه‬
‫وكثيف ‪ ،‬ومما يدرك ومما ال يدرك ‪ -‬إشارة ‪ -‬قل لسمائك ال تحجب بلطافتها ‪،‬‬
‫وألرضك ال تحجب بكثافتها ‪ ،‬فإنه ال بد عند تجليه لسمائك من تخلخلها ‪ ،‬وألرضك‬
‫من تزلزلها ‪ ،‬فإياك أن تقع في شرك اإلشراك ‪ ،‬لعظيم آفات االشتراك ‪ ،‬والزم الوحدة‬
‫‪ ،‬فيها تحصل رفده ومجده ‪.‬‬

‫[ سورة األنعام ( ‪ : ) 6‬اآليات ‪ 15‬إلى ‪] 18‬‬


‫ع ْنهُ يَ ْو َمئِ ٍذ فَقَ ْد‬
‫ف َ‬ ‫يم ) ‪َ ( 15‬م ْن يُص َْر ْ‬ ‫َذاب يَ ْو ٍم ع َِظ ٍ‬
‫صيْتُ َر ِبّي ع َ‬ ‫ع َ‬ ‫خاف إِ ْن َ‬ ‫قُ ْل إِ ِنّي أ َ ُ‬
‫ف لَهُ ِإاله ُه َو َو ِإ ْن‬ ‫َّللاُ ِبض ٍ ُّر فَال كا ِ‬
‫ش َ‬ ‫سكَ ه‬‫س ْ‬ ‫ين ( ‪َ ) 16‬و ِإ ْن يَ ْم َ‬ ‫َر ِح َمهُ َوذ ِلكَ ا ْلفَ ْو ُز ا ْل ُم ِب ُ‬
‫ق ِعبا ِد ِه َو ُه َو ا ْل َح ِكي ُم‬ ‫ِير ) ‪َ ( 17‬و ُه َو ا ْلقا ِه ُر فَ ْو َ‬ ‫سكَ ِب َخ ْي ٍر فَ ُه َو عَلى ُك ِ ّل َ‬
‫ش ْي ٍء قَد ٌ‬ ‫س ْ‬‫يَ ْم َ‬
‫ير ( ‪) 18‬‬ ‫ا ْل َخ ِب ُ‬
‫‪-‬الوجه األول ‪ -‬أي قهر عباده لما صدر منهم من النزاع ‪ ،‬وأظهر النزاع مخالفة أمر‬
‫ّللا ‪ ،‬وأدق ما يكون من الخالف النزاع اإللهي بإنابة العبد ‪ ،‬فإذا زال العبد عن إنايته‬ ‫ه‬
‫لم يجد القهار من يقف له فيقهره ‪ ،‬واعلم أن الدعاء ال يقتضي المنازعة حيث أراد ما‬
‫ّللا ‪ ،‬فإن الدعاء ذلة وافتقار ‪ ،‬والنزاع رئاسة وسلطنة ومن النزاع الخفي الصبر‬ ‫أراد ه‬
‫ّللا ‪ ،‬فمن حبس نفسه عند الضر النازل به عن‬ ‫على البالء ‪ ،‬إذا لم يرفع إزالته إلى ه‬
‫ّللا في رفع ما نزل به ‪ ،‬وصبر مثل هذا الصبر ‪ ،‬فقد قاوم القهر اإللهي ‪،‬‬ ‫الشكوى إلى ه‬
‫ّللا أعلى منه‬ ‫ّللا قاهر هذا العبد ‪ ،‬وإن كان محمودا في الطريق ولكن الشكوى إلى ه‬ ‫فإن ه‬
‫وأت هم والقهر اإللهي يخفى بخفاء النزاع ‪ ،‬ويظهر بظهور النزاع ‪ ،‬ومن غفل عن ربه‬
‫نازع بباطنه ما يجده من األثر فيه مما يخالف غرضه ‪ ،‬فيجيء القهر اإللهي فيقهره ‪،‬‬
‫فلوال النزاع القائم بنفوس الرعية الذي لو مكنوا من إرساله لوقع منهم ‪ ،‬ما أضيف إلى‬
‫الرعية أنهم مقهورون تحت سلطان مليكهم ‪ ،‬ومن لم يخطر له شيء من ذلك ‪ ،‬ولم‬
‫ينازع فما هو مقهور ‪ ،‬وال الملك له بقاهر ‪ ،‬بل هو به رؤوف رحيم‬

‫ص ‪68‬‬

‫ص ‪68 :‬‬
‫ير »حيث يظهر‬ ‫– الوجه الثاني ‪ -‬هو القاهر بالحجة فوق عباده« َو ُه َو ْال َح ِكي ُم ْال َخبِ ُ‬
‫ّللا‬
‫على كل صنف بما تقوم به الحجة هّلل عليهم ‪ .‬واعلم أن صفة الفوقية ونسبتها إلى ه‬
‫تعالى قد جاء بها الكتاب والسنة ‪ ،‬كقوله تعالى «‪ :‬يَخافُونَ َربَّ ُه ْم ِم ْن فَ ْوقِ ِه ْم »وقوله‬
‫تعالى ‪َ «:‬و ُه َو ْالقا ِه ُر فَ ْوقَ ِعبا ِد ِه »وآيات كثيرة وأحاديث ‪ ،‬وهو معدود من المتشابه ‪،‬‬
‫وّللا تعالى منزه عن الجهات ‪،‬‬ ‫وذلك ألن «فَ ْوقَ »كلمة موضوعة إلفادة جهة العلو ‪ ،‬ه‬
‫وإنما المراد منهما حيث أطلقت في حق ربنا سبحانه إفادة العلو الحقيقي ‪ ،‬ومما يدل‬
‫ض‬‫ت َوفِي ْاأل َ ْر ِ‬‫سماوا ِ‬ ‫ّللاُ فِي ال َّ‬ ‫على عدم اختصاصه بجهة فوق قوله تعالى ‪َ «:‬و ُه َو َّ‬
‫ض ِإلهٌ »وآيات كثيرة يطول‬ ‫ماء ِإلهٌ َوفِي ْاأل َ ْر ِ‬
‫س ِ‬ ‫»وقوله تعالى ‪َ «:‬و ُه َو الَّذِي فِي ال َّ‬
‫ذكرها ولو كان في جهة العلو ‪ ،‬تعارضت هذه اآليات واختلفت ‪ ،‬وهو مناف لقوله‬
‫اخ ِتالفا ً َك ِثيرا ً »‬ ‫ّللا لَ َو َجدُوا ِفي ِه ْ‬ ‫تعالى ‪َ «:‬ولَ ْو كانَ ِم ْن ِع ْن ِد َ‬
‫غي ِْر َّ ِ‬

‫ّللا عليه وسلم قال ‪:‬‬ ‫ّللا عنه أنه صلهى ه‬ ‫وفي مسلم عن أبي هريرة رضي ه‬
‫[ أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد ] فنفى تقيده بجهة فوق ‪ ،‬وهو ال ينطق عن‬
‫الهوى إن هو إال وحي يوحى ‪ ،‬والذي يجمع بين اآليات واألحاديث أن تعلم أن العلو له‬
‫اعتباران ‪ :‬اعتبار إضافي ‪ ،‬واعتبار حقيقي ‪ ،‬فعلو المخلوقات بعضها على بعض إنما‬
‫هو علو إضافي ‪ ،‬ألن ما من مخلوق له جهة علو إال وهو مستقل بالنسبة إلى مخلوق‬
‫ّللا ‪ ،‬وهذا العلو اإلضافي قسمان ‪ :‬قسم حسي وهو المفهوم‬ ‫آخر هو فوقه هإال ما يشاء ه‬
‫بالنسبة إلى الجهات المكانية المخصوص بالجواهر المفتقرة إلى الحيز ‪ ،‬وقسم معنوي‬
‫وهو المفهوم بالنسبة إلى درجات الكمال العرفاني ألرباب القلوب أو الكمال الوهمي‬
‫ألرباب النفوس ‪،‬‬
‫ْف فَض َّْلنا‬
‫ظ ْر َكي َ‬‫ت »وقال تعالى ‪ «:‬ا ْن ُ‬ ‫ض َد َرجا ٍ‬ ‫ض ُه ْم فَ ْوقَ بَ ْع ٍ‬ ‫قال تعالى‪َ " :‬و َرفَ ْعنا بَ ْع َ‬
‫يال »هذا كله في العلو اإلضافي‬ ‫ض ً‬ ‫ت َوأ َ ْكبَ ُر ت َ ْف ِ‬
‫ض َولَ ْْل ِخ َرة ُ أ َ ْكبَ ُر َد َرجا ٍ‬ ‫على بَ ْع ٍ‬ ‫ض ُه ْم َ‬
‫بَ ْع َ‬
‫ض َوال يَ ُؤ ُدهُ‬ ‫ت َو ْاأل َ ْر َ‬
‫سماوا ِ‬‫‪ ،‬وأما العلو الحقيقي ‪ ،‬فإنما هو هّلل تعالى« َو ِس َع ُك ْر ِسيُّهُ ال َّ‬
‫ي ْالعَ ِظي ُم »وعلوه هذا محقق قبل الجهات واألماكن ‪ ،‬مفهوم بدون‬ ‫ظ ُهما َو ُه َو ْالعَ ِل ُّ‬ ‫ِح ْف ُ‬
‫النسب واإلضافات ‪ ،‬عام في جميع تجلياته على مخلوقاته ‪ ،‬بأسمائه وصفاته ‪ ،‬وإنما‬
‫يعرفه ويشهده أرباب البصائر والقلوب ‪ ،‬لتجلي نور توحيده بعلو فوقيته ‪ ،‬فإذا أردت‬
‫أن تحقق أن فوقيته ليست فوقية مكان ‪ ،‬وإنما هي الفوقية الحقيقية بقهر الربوبية‬
‫للعبودية ‪ ،‬فتفكر في أنه تعالى كان وال شيء معه ‪ ،‬ولم يتجدد له بخلقه السماوات علو‬
‫‪ ،‬وال بخلقه األرض نزول ‪ ،‬وال بخلقه العرش استواء ‪ ،‬وإنما عن تجلي أسمائه‬
‫وصفاته نشأت أعداد مخلوقاته ‪ ،‬غير مماسة له ‪ ،‬وال منتسبة إليه‬

‫ص ‪69‬‬

‫ص ‪69 :‬‬
‫ح اس َْم َر ِبه َك ْاأل َ ْعلَى الَّذِي‬
‫س ِبه ِ‬
‫بفوق وال تحت ‪ ،‬وال شيء من الجهات ‪ ،‬قال تعالى ‪َ «:‬‬
‫َخلَقَ فَ َ‬
‫س َّوى »‬

‫[ لفظة الشيئية ال تطلق على الحق ]‬


‫فوصفه باألعلى حال اتصافه بالخلق فدل على أن علوه محقق قبل الخلق ‪ ،‬وكذا قال‬
‫ّللا َح َّق قَ ْد ِر ِه »اآلية ‪.‬‬
‫‪َ «:‬وما قَ َد ُروا َّ َ‬
‫ووصف نفسه آخر اآلية بالعلو والتنزه بعد ذكره قبض األرض وطيه للسماء ‪ ،‬فدل أن‬
‫علوه حقيقي ال مكاني ‪ ،‬وتأمل قوله تعالى ‪َ «:‬و ُه َو ْالقا ِه ُر فَ ْوقَ ِعبا ِد ِه »‬

‫سنُقَ ِت ه ُل أَبْنا َء ُه ْم َونَ ْست َ ْح ِيي ِنسا َء ُه ْم َو ِإنَّا فَ ْوقَ ُه ْم‬


‫مع قول فرعون عن بني إسرائيل ‪َ «:‬‬
‫قا ِه ُرونَ »فهل يفهم أحد أن فرعون ادعى أنه فوق بني إسرائيل بالمكان أو بالجهة‬
‫وإنما لما ادعى الربوبية بقوله‪ " :‬أَنَا َربُّ ُك ُم ْاألَعْلى »كان من الزم دعواه ادعاء الفوقية‬
‫الالئقة بالربوبية ‪ ،‬وهي الفوقية الحقيقية بالقهر‬
‫فلذلك قال ‪َ «:‬و ِإنَّا فَ ْوقَ ُه ْم قا ِه ُرونَ »‪ .‬وبالجملة فاألحاديث الدالة على عموم إحاطة ربنا‬
‫سبحانه بجميع الجهات وعدم اختصاصه كثيرة ‪ ،‬والقصد حصل بما ذكرنا ‪ ،‬وال يلزم‬
‫من اإليمان القول بالجهة ‪ ،‬فال يلزم الشبه ‪ ،‬الجهة ما وردت ‪ ،‬والفوقية اإللهية قد ثبتت‬
‫‪.‬‬

‫[سورة األنعام ( ‪ : ) 6‬آية ‪] 19‬‬


‫ي هذَا ا ْلقُ ْر ُ‬
‫آن ِأل ُ ْنذ َِر ُك ْم ِب ِه‬ ‫ي ِإلَ ه‬
‫وح َ‬ ‫ش ْي ٍء أ َ ْكبَ ُر شَها َدةً قُ ِل ه‬
‫َّللاُ ش َِهي ٌد بَ ْينِي َوبَ ْينَ ُك ْم َوأ ُ ِ‬ ‫ي َ‬ ‫قُ ْل أ َ ُّ‬
‫ش َه ُد قُ ْل ِإنهما ُه َو ِإلهٌ ِ‬
‫واح ٌد‬ ‫َّللا آ ِل َهةً أ ُ ْخرى قُ ْل ال أ َ ْ‬‫ُون أ َ هن َم َع ه ِ‬
‫ش َهد َ‬‫َو َم ْن بَلَ َغ أ َ ِإنه ُك ْم لَت َ ْ‬
‫ُون ) ‪( 19‬‬ ‫َو ِإنه ِني بَ ِري ٌء ِم هما تُش ِْرك َ‬
‫لفظة الشيئية ال تنطلق على الحق ‪ ،‬قال عليه السالم « كان هللا وال شيء معه » فهذا‬
‫وصف ذاتي للحق سلب الشيئية عنه ‪ ،‬وسلب معية الشيئية له تعالى ولو تسمى بالشيء‬
‫لسميناه الشيء فإنه دليل على ذات غير مركبة لكنه لم يرد في األسماء اإللهية يا شيء‬
‫ْس‬‫‪ ،‬ولو كان الحق شيئا لجمعته الشيئية مع األشياء فيقع التماثل فيها ‪ ،‬وهو يقول ‪ «:‬لَي َ‬
‫ش ْي ٌء »إذا فال شيئية له فليس هو [ شيئا ] ‪ ،‬وال هو ال شيء ‪ ،‬فإن [ ال شيء ]‬ ‫َك ِمثْ ِل ِه َ‬
‫صفة المعدوم فيماثله المعدوم في أنه ال شيء وهو ال يماثل فليس مثله شيء وليس‬
‫مثله ال شيء ‪ ،‬ونحن ال نثبت إطالق لفظة الشيئية على ذات الحق ألنها ما وردت وال‬
‫خوطبنا بها واألدب أولى‪.‬‬

‫ص ‪70‬‬

‫ص ‪70 :‬‬
‫[سورة األنعام ( ‪ : ) 6‬آية ‪] 20‬‬
‫س ُه ْم فَ ُه ْم ال‬‫س ُروا أ َ ْنفُ َ‬ ‫ون أ َ ْبنا َء ُه ُم الهذ َ‬
‫ِين َخ ِ‬ ‫تاب يَ ْع ِرفُونَهُ كَما يَ ْع ِرفُ َ‬
‫ِين آت َ ْينا ُه ُم ا ْل ِك َ‬
‫الهذ َ‬
‫ون ) ‪( 20‬‬ ‫يُ ْؤ ِمنُ َ‬
‫باط ِل َوت َ ْكت ُ ُموا ْال َح َّق‬
‫سوا ْال َح َّق ِب ْال ِ‬‫وهم الذين قال تعالى عنهم في سورة البقرة ‪َ (:‬وال ت َ ْل ِب ُ‬
‫َوأ َ ْنت ُ ْم ت َ ْعلَ ُمونَ )وقوله (‪ :‬لَيَ ْكت ُ ُمونَ ْال َح َّق َو ُه ْم يَ ْعلَ ُمونَ )يقول ‪ :‬إن الحق أبلج ال لبس فيه‬
‫ْب فِي ِه )أي ال شك وال لبس فهم‬ ‫تاب ال َري َ‬ ‫لقوة الداللة عليه ‪ ،‬ولذلك قال ‪ (:‬ذ ِل َك ْال ِك ُ‬
‫يسترون الحق مع معرفتهم بأنه الحق ‪ ،‬فال يتمكن أن يستروه عن نفوسهم ‪ ،‬بل‬
‫يسترونه عن الغير بما يوردونه من الشبه المضلة والتشكيكات الصارفة عن ظهوره ‪،‬‬
‫فهؤالء جاحدون معاندون ‪.‬‬

‫[ سورة األنعام ( ‪ : ) 6‬اآليات ‪ 21‬إلى ‪] 22‬‬


‫ون ( ‪) 21‬‬ ‫ظا ِل ُم َ‬ ‫َّللا َكذِبا ً أ َ ْو َكذه َ‬
‫ب بِآياتِ ِه إِنههُ ال يُ ْف ِل ُح ال ه‬ ‫علَى ه ِ‬ ‫افتَرى َ‬ ‫َو َم ْن أ َ ْظلَ ُم ِم هم ِن ْ‬
‫ِين أَش َْركُوا أ َ ْي َن ش َُركا ُؤ ُك ُم الهذ َ‬
‫ِين ُك ْنت ُ ْم ت َ ْز ُ‬
‫ع ُم َ‬
‫ون (‬ ‫َويَ ْو َم نَحْ ش ُُر ُه ْم َج ِميعا ً ث ُ هم نَقُو ُل ِللهذ َ‬
‫) ‪22‬‬
‫فإن موطن يوم الحشر يعطي عجز العالم عما كان ينسب إليه في موطن الدنيا من‬
‫االقتدار عليه ‪.‬‬

‫[ سورة األنعام ( ‪ : ) 6‬اآليات ‪ 23‬إلى ‪] 27‬‬


‫ف َكذَبُوا عَلى‬ ‫ين ( ‪ ) 23‬ا ْن ُ‬
‫ظ ْر َك ْي َ‬ ‫ث ُ هم لَ ْم تَك ُْن فِتْنَت ُ ُه ْم إِاله أ َ ْن قالُوا َو ه ِ‬
‫َّللا َر ِبّنا ما ُكنها ُمش ِْر ِك َ‬
‫ست َ ِم ُع ِإلَ ْيكَ َو َجعَ ْلنا عَلى‬ ‫ون ( ‪َ ) 24‬و ِم ْن ُه ْم َم ْن يَ ْ‬ ‫ع ْن ُه ْم ما كانُوا يَ ْفت َ ُر َ‬ ‫ض هل َ‬ ‫س ِه ْم َو َ‬ ‫أ َ ْنفُ ِ‬
‫قُلُو ِب ِه ْم أ َ ِكنهةً أ َ ْن يَ ْفقَ ُهوهُ َوفِي آذانِ ِه ْم َو ْقرا ً َو ِإ ْن يَ َر ْوا ُك هل آيَ ٍة ال يُ ْؤ ِمنُوا ِبها َحتهى ِإذا‬
‫ين ( ‪َ ) 25‬و ُه ْم يَ ْن َه ْو َن‬ ‫ير ْاأل َ هو ِل َ‬ ‫ِين َكفَ ُروا ِإ ْن هذا ِإاله أ َ ِ‬
‫ساط ُ‬ ‫جاؤُكَ يُجا ِدلُونَكَ يَقُو ُل الهذ َ‬
‫ون ) ‪َ ( 26‬ولَ ْو تَرى إِ ْذ ُوقِفُوا‬ ‫شعُ ُر َ‬ ‫ُون إِاله أ َ ْنفُ َ‬
‫س ُه ْم َوما يَ ْ‬ ‫ع ْنهُ َوإِ ْن يُ ْه ِلك َ‬‫ع ْنهُ َويَ ْنأ َ ْو َن َ‬ ‫َ‬
‫ين) ‪( 27‬‬ ‫ُون ِم َن ا ْل ُم ْؤ ِمنِ َ‬‫ت َر ِبّنا َونَك َ‬ ‫ِب بِآيا ِ‬‫علَى النه ِار فَقالُوا يا لَ ْيتَنا نُ َر ُّد َوال نُ َكذّ َ‬ ‫َ‬

‫ص ‪27‬‬

‫ص ‪71 :‬‬
‫يزيد العالم الشقي من أهل الدنيا حسرة إلى حسرته يوم القيامة ‪ ،‬عندما يرى خلعة‬
‫علمه على المؤمن المقلد ‪،‬‬
‫ت َر ِبهنا َونَ ُكونَ ِمنَ ْال ُمؤْ ِمنِينَ‬ ‫وأنه قد أعطي جهله فيقول ‪ «:‬يا لَ ْيتَنا نُ َر ُّد َوال نُ َكذه َ‬
‫ِب ِبآيا ِ‬
‫»لعلمهم إذا كانوا مؤمنين ‪ -‬وإن كانوا جاهلين ‪ -‬أنهم إذا انتقلوا إلى دار السعادة ‪،‬‬
‫خلعت عنهم ثياب الجهل ‪ ،‬وخلع عليهم خلع العلم ‪ ،‬فال يبالون بما كانوا عليه من‬
‫الجهل في الدنيا لحسن العاقبة ‪.‬‬
‫وما علموا أنهم لو ردوا إلى الدنيا في النشأة التي كانوا عليها لعادوا إلى حكمها ‪ ،‬فإن‬
‫الفعل بالخاصية ال يتبدل ‪ ،‬فما تكلموا بما تكلموا به من هذا التمني إال بلسان النشأة‬
‫ّللا في هذه النشأة الدنيا‬ ‫التي هم فيها ‪ ،‬وتخيلوا أن ذلك العلم يبقى عليهم ‪ ،‬وما جعل ه‬
‫النسيان للعلماء بالشيء فيما قد علموه ‪ ،‬ويعلمون أنهم قد كانوا علموا أمرا ‪ ،‬فيطلبون‬
‫استحضاره ‪ ،‬فال يجدونه بعد ما كانوا عالمين به ‪ ،‬إال إعالما وتنبيها على أنه على كل‬
‫شيء قدير ‪ ،‬بأن يسلب عنهم العلم بما كانوا به عالمين إذا دخلوا النار ‪.‬‬

‫[ سورة األنعام ( ‪ : ) 6‬آية ‪] 28‬‬


‫ون (‬ ‫ون ِم ْن قَ ْب ُل َولَ ْو ُردُّوا لَعادُوا ِلما نُ ُهوا َ‬
‫ع ْنهُ َو ِإنه ُه ْم لَكا ِذبُ َ‬ ‫بَ ْل بَدا لَ ُه ْم ما كانُوا يُ ْخفُ َ‬
‫‪) 28‬‬

‫« بَ ْل بَدا لَ ُه ْم ما كانُوا يُ ْخفُونَ ِم ْن قَ ْب ُل »البدا هو أن يظهر لهم ما لم يكن ظهر ‪ ،‬ولما‬


‫ّللا دار يعمرونها سوى النار ‪،‬‬‫ّللا أن يكونوا أهال للنار ‪ ،‬وأنه ليس لهم في علم ه‬ ‫قدر ه‬
‫قال تعالى ‪َ «:‬ولَ ْو ُردُّوا لَعادُوا ِلما نُ ُهوا َ‬
‫ع ْنهُ »حتى يدخلوا النار باستحقاق المخالفة ‪،‬‬
‫إلى أن يظهر سبق الرحمة الغضب ‪ ،‬فيمكثون في النار مخلدين ال يخرجون منها أبدا‬
‫ّللا أن يقيمهم عليها ‪ ،‬ومع هذا العلم الذوقي الذي حصل لهم‬ ‫على الحالة التي قد شاءها ه‬
‫قيل فيهم ‪َ «:‬ولَ ْو ُردُّوا لَعادُوا ِلما نُ ُهوا َ‬
‫ع ْنهُ »ألن ه‬
‫ّللا يعلم أن هذه الدار الدنيا جعلها‬
‫على طبيعة مخصوصة ‪ ،‬وجعل نشأة اإلنسان على مزاج يقبل النسيان والغفلة وحب‬
‫العاجلة ‪ ،‬ويقبل ضد هذا على حسب ما يقام فيه ‪ ،‬فعلم سبحانه أن نشأة هؤالء الذين‬
‫عينهم أنهم لو ردوا إلى الدنيا في نشأتهم التي كانوا عليها في الدنيا ‪ ،‬لعادوا إلى نسيان‬
‫ما كانوا قد علموا ‪ ،‬وجعل على أعينهم غطاء على ما لو شهدوه ‪ ،‬لعلموا األمر فعملوا‬
‫ع ْنهُ »ألن النشأة ليست إال تلك فلو بقي لهم هذا العلم‬‫له ‪ ،‬فهذا معنى« لَعادُوا ِلما نُ ُهوا َ‬
‫ّللا عليه وسلم يقول في الصحيح أنه يؤتى‬ ‫لما عادوا ‪ ،‬أال ترى النبي صلهى ه‬

‫ص ‪72‬‬

‫ص ‪72 :‬‬
‫في القيامة بأنعم أهل الدنيا فيغمس في النار غمسة فيقال له ‪ « :‬هل رأيت نعيما قط ؟‬
‫فيقول ‪:‬‬
‫وّللا ‪ ،‬ومعلوم أنه رأى نعيما ولكن حجبه شاهد الحال عن ذلك النعيم فينسيه ‪،‬‬ ‫ال ه‬
‫وكذلك صاحب البؤس إذا غمس في الجنة غمسة يقال له ‪ :‬هل رأيت بؤسا قط ؟ فيقول‬
‫وّللا ما رأيت بؤسا قط ‪ ،‬فكذلك لو ردوا لكانوا بحسب النشأة والحال التي يردون‬ ‫‪ :‬ال ه‬
‫فيها[ ‪ -‬تحقيق ‪َ « -‬ولَ ْو ُردُّوا لَعادُوا » ]‬
‫ّللا شقيا ال يسعد ‪ ،‬ومن‬ ‫‪-‬تحقيق ‪َ «-‬ولَ ْو ُردُّوا لَعادُوا »أعمى ه‬
‫ّللا أبصارهم ‪ ،‬فمن كتبه ه‬
‫كتبه سعيدا ال يشقى وال يبعد ‪.‬‬

‫[ سورة األنعام ( ‪ ) : 6‬آية ‪] 29‬‬


‫ي ِإاله َحياتُنَا ال ُّد ْنيا َوما نَحْ ُن ِب َم ْبعُو ِث َ‬
‫ين ) ‪( 29‬‬ ‫َوقالُوا ِإ ْن ِه َ‬
‫لوال حشر األجسام في اآلخرة ‪ ،‬لقامت بنفوس الزهاد والعارفين في اآلخرة حسرة‬
‫ّللا في‬
‫الفوت ‪ ،‬ولتعذبوا لو كان االقتصار على الجنات المعنوية ال الحسية ‪ ،‬فخلق ه‬
‫اآلخرة جنة حسية ‪ ،‬وجنة معنوية وأباح لهم في الجنة الحسية ما تشتهي أنفسهم ‪،‬‬
‫ورفع عنهم ألم الحاجات ‪ ،‬فشهواتهم كاإلرادة من الحق ‪ ،‬إذا تعلقت بالمراد تكون ‪ ،‬فما‬
‫أكل أهل السعادة لدفع ألم الجوع ‪ ،‬وال شربوا لدفع ألم العطش ‪ ،‬فلهم الجنة الحسية‬
‫ألجسامهم الطبيعية ‪ ،‬وهم وغير العارفين في هذه الصورة الحسية على السواء ويفوز‬
‫العارفون بما يزيدون عليهم بجنات المعاني ‪.‬‬

‫[ سورة األنعام ( ‪ : ) 6‬اآليات ‪ 30‬إلى ‪] 31‬‬


‫ق قالُوا بَلى َو َر ِبّنا قا َل فَذُوقُوا‬ ‫س هذا ِبا ْل َح ّ ِ‬ ‫َولَ ْو تَرى ِإ ْذ ُوقِفُوا عَلى َر ِبّ ِه ْم قا َل أ َ لَ ْي َ‬
‫َّللا َحتهى ِإذا جا َءتْ ُه ُم‬ ‫ِين َكذهبُوا ِب ِل ِ‬
‫قاء ه ِ‬ ‫ون ) ‪( 30‬قَ ْد َخ ِ‬
‫س َر الهذ َ‬ ‫ذاب ِبما ُك ْنت ُ ْم ت َ ْكفُ ُر َ‬
‫ا ْلعَ َ‬
‫ون أ َ ْو َ‬
‫زار ُه ْم عَلى‬ ‫س َرتَنا عَلى ما فَ هر ْطنا فِيها َو ُه ْم يَحْ ِملُ َ‬ ‫ساعَةُ بَ ْغتَةً قالُوا يا َح ْ‬ ‫ال ه‬
‫ون ( ‪) 31‬‬ ‫ور ِه ْم أَال سا َء ما يَ ِز ُر َ‬ ‫ُ‬
‫ظ ُه ِ‬

‫[ ‪ -‬نصيحة ‪ -‬ما أثقل الظهر ‪ ،‬سوى الوزر ]‬


‫‪-‬نصيحة ‪ -‬ما أثقل الظهر ‪ ،‬سوى الوزر ‪ ،‬فال تضف إلى أثقالك أثقاال ‪ ،‬وكن لرحى‬
‫ما يراد منك ثقاال ‪ ،‬احذر من االبتداع بسبب االتباع ‪ ،‬وال تفرح باألتباع ‪ ،‬وكن مثل‬

‫ص ‪73‬‬

‫ص ‪73 :‬‬
‫صاحب الصواع ‪ ،‬فإنك ال ينفعك توبتك وال يزول عنك حوبتك ‪ ،‬واقتصر على ما‬
‫ّللا في كل حال ‪ ،‬تحمد العاقبة والمآل ‪.‬‬
‫شرع ‪ ،‬واتبع وال تبتدع ‪ ،‬وكن مع ه‬

‫[ سورة األنعام ( ‪ : ) 6‬آية ‪] 32‬‬


‫ون أ َ فَال ت َ ْع ِقلُ َ‬
‫ون ) ‪( 32‬‬ ‫هار ْاآل ِخ َرةُ َخ ْي ٌر ِللهذ َ‬
‫ِين يَتهقُ َ‬ ‫ب َولَه ٌْو َولَلد ُ‬ ‫َو َما ا ْل َحياةُ ال ُّد ْنيا ِإاله لَ ِع ٌ‬
‫«وما الحياة الدنيا إال لهو ولعب » ما أمحن باطن الدنيا ‪ ،‬مساكنها خراب ‪ ،‬ومالبسها‬
‫خرق ‪ ،‬ومناكحها ومراكبها جيف ‪ ،‬ومطاعمها ومشاربها عذرتان ‪ ،‬وليت لو وقف‬
‫الحال هنا ‪ ،‬وال يبقى على اإلنسان تبعات ذلك في الدار اآلخرة ‪ ،‬حين يسأل ‪ ،‬ممن‬
‫كسبت ؟‬
‫وفيم أنفقت ؟ يسأل عن الفتيل والقطمير ‪ ،‬بل في مثقال ذرة ‪ ،‬الحجة علينا في هذا بينة‬
‫‪ ،‬ألنه لو كان خبرا كان بعض عذر ‪ ،‬وإنما هو معاين منا لتغير هذه األحوال مشاهدة‬
‫‪ ،‬والداء العضال والطامة الكبرى والداهية العظمى ‪ ،‬أن النفس في أشر ما تكون فيه‬
‫ّللا مرادها كما شاءت ‪ ،‬تسلب عنه وعن‬ ‫من هذه األحوال ‪ ،‬إن قضى لها به ويعطيها ه‬
‫هذه الدار بالموت ‪ ،‬وينقل إلى منزل ال يجد فيه شيئا إال ما قدمته في دنياها بعمل‬
‫َّار ْاآل ِخ َرة ُ َخي ٌْر ِللَّذِينَ يَتَّقُونَ أ َ فَال ت َ ْع ِقلُونَ »‪.‬‬
‫صالح عملته« َولَلد ُ‬

‫[ سورة األنعام ( ‪ ( : 6‬اآليات ‪ 33‬إلى ‪] 35‬‬


‫َّللا‬
‫ت هِ‬ ‫ين بِآيا ِ‬ ‫ون فَ ِإنه ُه ْم ال يُ َك ِذّبُونَكَ َول ِك هن ال ه‬
‫ظا ِل ِم َ‬ ‫قَ ْد نَ ْعلَ ُم إِنههُ لَيَحْ ُزنُكَ الهذِي يَقُولُ َ‬
‫صبَ ُروا عَلى ما ُك ِذّبُوا َوأُوذُوا َحتهى أَتا ُه ْم‬ ‫س ٌل ِم ْن قَ ْب ِلكَ فَ َ‬ ‫ُون ) ‪َ ( 33‬ولَقَ ْد ُك ِذّبَتْ ُر ُ‬ ‫يَجْ َحد َ‬
‫علَ ْيكَ‬‫كان َكبُ َر َ‬ ‫ين ( ‪َ ) 34‬و ِإ ْن َ‬ ‫س ِل َ‬‫َّللا َولَقَ ْد جا َءكَ ِم ْن نَبَ ِإ ا ْل ُم ْر َ‬ ‫ت هِ‬ ‫نَص ُْرنا َوال ُمبَ ِ ّد َل ِل َك ِلما ِ‬
‫ماء فَتَأْتِيَ ُه ْم ِبآيَ ٍة‬
‫س ِ‬ ‫سلهما ً فِي ال ه‬ ‫ض أ َ ْو ُ‬ ‫ي نَفَقا ً فِي ْاأل َ ْر ِ‬ ‫ست َ َط ْعتَ أ َ ْن ت َ ْبت َ ِغ َ‬ ‫ض ُه ْم فَ ِإ ِن ا ْ‬
‫ِإعْرا ُ‬
‫ين ) ‪( 35‬‬ ‫علَى ا ْل ُهدى فَال تَكُونَ هن ِم َن ا ْلجا ِه ِل َ‬ ‫َّللاُ لَ َج َمعَ ُه ْم َ‬ ‫َولَ ْو شا َء ه‬
‫النفق والنفقاء هو الجحر الذي له بابان ‪.‬‬
‫ض»‬ ‫ي نَفَقا ً فِي ْاأل َ ْر ِ‬ ‫ت أ َ ْن ت َ ْبت َ ِغ َ‬
‫ط ْع َ‬‫« فَإِ ِن ا ْست َ َ‬
‫يقول ‪ :‬إن طلبك األعداء من جانب خرجت من الجانب اآلخر طلبا للسالمة« َولَ ْو شا َء‬
‫علَى ْال ُهدى »فجاء بحرف لو وهو حرف امتناع المتناع فنكون من أهل‬ ‫ّللاُ لَ َج َمعَ ُه ْم َ‬
‫َّ‬
‫باب واحد ‪،‬‬

‫ص ‪74‬‬

‫ص ‪74 :‬‬
‫ّللا ال‬
‫ّللا تعلقت بأن ه‬ ‫ولكن وقع األمر اإللهي في العالم بخالف هذا ‪ ،‬ألن مشيئة ه‬
‫يجمعهم على الهدى ‪ ،‬للعلم السابق والمشيئة اإللهية ‪ ،‬ليكون الخالف في الدنيا« فَال‬
‫ت َ ُكون ََّن ِمنَ ْالجا ِه ِلينَ »ما ثم صفة وال عقوبة أقبح من الجهل ‪ ،‬فإن الجهل مفتاح كل‬
‫شر ‪،‬‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ «:‬فَال ت َ ُكون ََّن ِمنَ ْالجا ِه ِلينَ »وال ينتهي إال‬ ‫ولهذا قال تعالى لمحمد صلهى ه‬
‫عن معلوم محقق ‪ ،‬فإنه إن لم يعلم الجهل فال يدري ما نهى عنه ‪ ،‬وخاطبه بمثل هذا‬
‫الخطاب لحداثة سنه وقوة شبابه ‪ ،‬فقابله بخطاب قوي في النهي عن ذلك ‪ ،‬وقال تعالى‬
‫لنوح عليه السالم لما لم يكن له قوة الشباب ‪ ،‬وكان قد شاخ وحصل في العمر الذي ال‬
‫ظ َك أ َ ْن ت َ ُكونَ ِمنَ ْالجا ِه ِلينَ )‬
‫يزال فيه محترما مرفوقا به في العرف والعادة ‪ ( :‬فإنيأ َ ِع ُ‬
‫فرفق في الخطاب حين وعظه ‪ ،‬فإنه ال بد من الفرق بين خطاب الشباب وخطاب‬
‫الشيوخ –‬

‫[ إشارة ‪ -‬اعلم أن العلم أشرف حلهة ]‬


‫إشارة ‪ -‬اعلم أن العلم أشرف حلهة ‪ ،‬وأن الجهل أقبح حلية ‪ ،‬وأن جهنم ليست بدار‬
‫لشيء من الخير ‪ ،‬كما أن الجنة ليست بدار لشيء من الشر ‪ ،‬وأن اإليمان قد يقوم‬
‫ّللا وما ينبغي له قد يقوم‬ ‫ّللا ‪ ،‬وأن العلم بجالل ه‬ ‫بقلب من ال علم له بما ينبغي لجالل ه‬
‫بمن ليس عنده شيء من اإليمان ‪ ،‬فهذا العالم بعدم اإليمان استحق دار الشقاء ‪،‬‬
‫ّللا‬
‫والجاهل المؤمن استحق دار السعادة ‪ ،‬والدرجات في مقابلة الدركات ‪ ،‬فاعلم أن ه‬
‫تعالى يسلب العالم المستحق دار الشقاء علمه يوم القيامة كأنه ما علمه ‪ ،‬أو لم يعلم‬
‫سه ‪ ،‬وهو أشده عليه ويخلع علمه على هذا‬ ‫شيئا ‪ ،‬فيتعذب بجهله أشد منه من عذابه بح ه‬
‫الجاهل المؤمن الذي دخل الجنة بإيمانه ‪ ،‬فنال المؤمن بذلك العلم الذي خلع عن هذا‬
‫الذي استحق اإلقامة بدار الشقاء درجة ما يطلبه ذلك العلم ‪ ،‬فيتنعم به نفسا وجسما وفي‬
‫الكثيب عند الرؤية ‪ ،‬ويعطى ذلك الكافر جهل هذا المؤمن الجاهل ‪ ،‬فينال بذلك الجهل‬
‫دركات ذلك من النار ‪ ،‬وتلك أشد حسرة تمر عليه ‪ ،‬فإنه يتذكر ما كان عليه من العلم‬
‫ّللا عن بصره حتى يرى مرتبة العلم‬ ‫وال يعلم ذلك اآلن ‪ ،‬ويعلم أنهه سلبه ‪ ،‬ويكشف ه‬
‫الذي كان عليه في الجنان ‪ ،‬ويرى حلهة علمه على غيره ممن لم يتعب في تحصيله ‪،‬‬
‫ويطلب شيئا منه في نفسه فال يقدر عليه ‪ ،‬وينظر هذا المؤمن ويطلع على سواء‬
‫الجحيم فيرى شر جهله على ذلك العالم الذي ليس بمؤمن فيزيد نعيما وفرحا فتحقق‬
‫قوله تعالى ‪ «:‬فَال ت َ ُكون ََّن ِمنَ ْالجا ِه ِلينَ »وقوله تعالى ‪ «:‬إِ ِنهي أ َ ِع ُ‬
‫ظ َك أ َ ْن ت َ ُكونَ ِمنَ‬
‫ْالجا ِه ِلينَ »‬
‫[ إشارة ‪:‬حسرة العالم الشقي يوم القيامة ]‬
‫ّللا بالعلم وجعلنا من أهله وال يجعلنا ممن يسعى بخيره في حق غيره ويشقى‬ ‫نفعنا ه‬
‫آمين بعزته‪.‬‬

‫ص ‪75‬‬

‫ص ‪75 :‬‬
‫[سورة األنعام ( ‪ : ) 6‬آية ‪] 36‬‬
‫َّللاُ ث ُ هم إِلَ ْي ِه يُ ْر َجعُ َ‬
‫ون ( ‪) 36‬‬ ‫ون َوا ْل َم ْوتى يَ ْبعَث ُ ُه ُم ه‬
‫س َمعُ َ‬ ‫يب الهذ َ‬
‫ِين يَ ْ‬ ‫إِنهما يَ ْ‬
‫ست َ ِج ُ‬

‫يب الَّذِينَ يَ ْس َمعُونَ » ]‬


‫[ نكتة وسر دقيق في قوله تعالى « ‪ِ :‬إنَّما يَ ْست َ ِج ُ‬
‫فأثنى عليهم لما سمعوا داعيه باإلجابة التي أمرهم بها سبحانه في قوله ( ‪ :‬يا قومنا‬
‫ّللا ) وكرامة عنده سبحانه وتعالى إجابته لهم إذا دعوه ‪ ،‬الرتباط الحكمة‬ ‫أجيبوا داعي ه‬
‫في المناسبة ‪ ،‬فال يجاب إال من يجيب ‪ ،‬أال تراه سبحانه وتعالى كيف قال ‪ ( :‬أجيب‬
‫دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي )‬
‫فإذا صحت لهؤالء اإلجابة لما دعاهم إليه ‪ ،‬وهو حقيقة السماع ‪ ،‬ص هح لهم إجابته إذا‬
‫وّللا ذو الفضل العظيم ‪.‬‬ ‫دعوه ‪ ،‬ه‬
‫وجعل تعالى علة اإلجابة السماع ‪ ،‬ال من قال إنه سمع وهو لم يسمع ‪ ،‬كما قال تعالى‬
‫ينهانا أن نكون مثل هؤالء فقال «‪َ :‬وال ت َ ُكونُوا َكالَّذِينَ قالُوا َ‬
‫س ِم ْعنا َو ُه ْم ال يَ ْس َمعُونَ‬
‫ّللا‬
‫»فالسمع هنا هو عين العقل لما أدركته األذن بسمعها من الذي جاء به المترجم عن ه‬
‫ّللا عليه وسلم الذي ال ينطق عن الهوى ‪ ،‬فإذا علم ما سمع‬ ‫تعالى ‪ ،‬وهو الرسول صلهى ه‬
‫‪ ،‬كان بحسب ما علم ‪ ،‬فإن العلم حاكم قاهر في حكمه ال بد من ذلك ‪ ،‬وإن لم يكن‬
‫ّللا لما خلقنا له من عبادته فسمعنا ولما سمعنا استجبنا ‪،‬‬ ‫كذلك فليس بعلم ‪ ،‬وقد دعانا ه‬
‫ّللا عنا بسرعة اإلجابة لما ذكرها ببنية االستفعال ‪ ،‬وهنا نكتة وسر دقيق ‪ ،‬فهذه‬ ‫فأخبر ه‬
‫ّللا بخلقه فأخبر أنه ما استجاب إال من سمع فوجد العذر‬ ‫اآلية تشير إلى شمول رحمة ه‬
‫ّللا‬
‫من لم يسمع ‪ ،‬كما وجد العذر من لم تبلغه الدعوة اإللهية ‪ ،‬فحكمه حكم من لم يبعث ه‬
‫إليه رسوال ‪،‬‬
‫وال »وما هو رسول لمن أرسل‬ ‫س ً‬ ‫ث َر ُ‬ ‫وهو تعالى يقول ‪َ «:‬وما ُكنَّا ُمعَ ِذه ِبينَ َحتَّى نَ ْبعَ َ‬
‫ّللا تعالى عنه‬ ‫إليه حتى يؤدي رسالته ‪ ،‬فإذا سمع المرسل إليه أجاب وال بد ‪ ،‬كما أخبر ه‬
‫ّللا أنه ما‬ ‫لما جاء به هذا الرسول في رسالته ‪ ،‬فإذا رأينا من لم يجب علمنا بإخبار ه‬
‫ّللا العذر عن عباده‬ ‫ّللا الرسل ‪ ،‬وما أقام ه‬ ‫ّللا له حجة يحتج بها يوم يجمع ه‬ ‫سمع ‪ ،‬فأقام ه‬
‫إال وفي نفسه أن يرحمهم ‪ ،‬فرحم بعض الناس بما أسمعهم فاستجابوا لربهم وأقاموا‬
‫ّللا عنه بأنه لم يسمع ‪ ،‬وهذا من حكم الغيرة اإللهية‬ ‫الصالة ‪ ،‬ومن لم يستجب اعتذر ه‬
‫على األلوهة أن يقاومها أحد من عباده بخالف ما دعت إليه ‪ ،‬إذ لو علم أنهم سمعوا‬
‫لعظمهم في أعين الناس ‪ ،‬وجعلهم في مقام المقاومة له ‪ ،‬فال تقل فيمن لم‬ ‫وما استجابوا ه‬
‫ّللا تعالى عنهم أن بهم صمما‬ ‫ّللا فيما أخبر عنهم ‪ ،‬وقد أخبر ه‬ ‫يجب إنه سمع فتخالف ه‬
‫ّللا أنهم صم‬ ‫وأخبر عنهم أنهم قالوا ‪ :‬في آذاننا وقر ‪ ،‬فطابق قولهم في آذاننا وقر قول ه‬
‫‪ ،‬فلم يسمعوا‪.‬‬

‫ص ‪76‬‬

‫ص ‪76 :‬‬
‫[سورة األنعام ( ‪ : ) 6‬اآليات ‪ 37‬إلى ‪]38‬‬
‫علَ ْي ِه آيَةٌ ِم ْن َر ِبّ ِه قُ ْل إِ هن ه َ‬
‫َّللا قاد ٌِر عَلى أ َ ْن يُنَ ِ ّز َل آيَةً َول ِك هن أ َ ْكث َ َر ُه ْم ال‬ ‫َوقالُوا لَ ْو ال نُ ِ ّز َل َ‬
‫ير ِب َجنا َح ْي ِه ِإاله أ ُ َم ٌم أ َ ْمثالُ ُك ْم ما‬ ‫ض َوال طائِ ٍر يَ ِط ُ‬ ‫ون ) ‪َ ( 37‬وما ِم ْن دَابه ٍة فِي ْاأل َ ْر ِ‬ ‫يَ ْعلَ ُم َ‬
‫ون ( ‪) 38‬‬ ‫ش ْي ٍء ث ُ هم ِإلى َر ِبّ ِه ْم يُحْ ش َُر َ‬
‫ب ِم ْن َ‬ ‫فَ هر ْطنا فِي ا ْل ِكتا ِ‬
‫ير ِب َجنا َح ْي ِه ِإ َّال أ ُ َم ٌم أ َ ْمثالُ ُك ْم »في كل شيء ‪،‬‬ ‫ض َوال طا ِئ ٍر يَ ِط ُ‬ ‫« َوما ِم ْن َدابَّ ٍة ِفي ْاأل َ ْر ِ‬
‫أي كما انطلق عليكم اسم األمة ‪ ،‬كذلك ينطلق اسم األمة على كل دابة وطائر يطير‬
‫بجناحيه ‪ ،‬فما من شيء في الوجود إال وهو أمة من األمم ‪ ،‬واألمثال هم الذين‬
‫يشتركون في صفات النفس ‪ ،‬فكلهم حيوان ناطق ‪.‬‬
‫واعلم أن األمثال معقولة ال موجودة ‪ ،‬فتطلق المثلية من حيث الحقيقة الجامعة المعقولة‬
‫‪ ،‬ال الموجودة ‪ ،‬فإن التوسع اإللهي يقتضي أن ال مثل في األعيان الموجودة ‪ ،‬وأن‬
‫المثلية أمر معقول متوهم ‪ ،‬فإنه لو كانت المثلية صحيحة ما امتاز شيء عن شيء مما‬
‫ّللا تعالى ‪ ،‬ليس كمثله‬ ‫يقال هو مثله ‪ ،‬فإن األصل الذي نرجع إليه في وجودنا وهو ه‬
‫شيء ‪ ،‬فال يكون ما يوجد عنه إال على حقيقة أنه ال مثل له ‪ ،‬فكل جوهر فرد في العالم‬
‫ال يقبل المثل ‪ ،‬فما في الوجود شيء له مثل ‪ ،‬بل كل موجود متميز عن غيره بحقيقة‬
‫هو عليها في ذاته ‪ ،‬فإن أطلقت المثلية على األشياء أطلقت عرفا ‪ ،‬ولم تبق المثلية‬
‫ّللا موجد أعيان األشياء ‪ ،‬ثم قال تعالى‬ ‫الواردة في القرآن وغيره إال في االفتقار إلى ه‬
‫في هذه األمم ‪ «:‬ث ُ َّم إِلى َر ِبه ِه ْم يُ ْحش َُرونَ »يعني كما تحشرون أنتم ‪،‬‬
‫ت »فإنها أمم أمثالنا ‪،‬‬ ‫وش ُح ِش َر ْ‬‫قال تعالى ‪َ «:‬وإِذَا ْال ُو ُح ُ‬
‫ش ْيءٍ »فهو الجامع لكل شيء ‪ ،‬وهو القرآن‬ ‫ب ِم ْن َ‬ ‫طنا فِي ْال ِكتا ِ‬ ‫وقال تعالى ‪ «:‬ما فَ َّر ْ‬
‫العزيز الذي ال يأتيه الباطل من بين يديه وال من خلفه ‪ ،‬فبالقرآن يكشف جميع ما في‬
‫الكتب المنزلة من العلوم ‪ ،‬وفيه ما ليس فيها ‪ ،‬فمن أوتي القرآن فقد أوتي الضياء‬
‫ّللا عليه وسلم جوامع الكلم ‪،‬‬ ‫الكامل الذي يتضمن كل علم ‪ ،‬وبه ص هح لمحمد صلهى ه‬
‫فعلوم األنبياء والمالئكة وكل لسان علم ‪ ،‬فإن القرآن يتضمنه ويوضحه ألهل القرآن ‪،‬‬
‫فمن أعطي القرآن فقد أعطي العلم الكامل وهذا يعني أنه قد حوى جميع المعارف‬
‫وأحاط بما في العلم اإللهي من المواقف وإن لم تتناه ‪ ،‬فقد أحاط علما بها ‪ ،‬وأنها ال‬
‫تتناهى ‪ ،‬فالمريد من يجد في القرآن كل ما يريد ‪ ،‬وهذا ال يكون إال إذا كان ممن ينزل‬
‫القرآن على قلبه عند تالوته ‪ ،‬فإن القرآن هو الجامع ‪ .‬واعلم أن الولي‬

‫ص ‪77‬‬

‫ص ‪77 :‬‬
‫ال يتعدى كشفه في العلوم اإللهية فوق ما يعطيه كتاب نبيه ووحيه ‪ ،‬قال الجنيد في هذا‬
‫المقام ‪:‬‬
‫علمنا هذا مقيد بالكتاب والسنة ‪ ،‬وقال اآلخر ‪ :‬كل فتح ال يشهد له الكتاب والسنة فليس‬
‫بشيء ‪ .‬فال يفتح لولي قط إال في الفهم في الكتاب العزيز ‪ ،‬لهذا قال تعالى ‪ «:‬ما‬
‫ب ِم ْن َ‬
‫ش ْيءٍ »‬ ‫فَ َّر ْ‬
‫طنا ِفي ْال ِكتا ِ‬

‫[ الولي ال يأمر أبدا بعلم فيه تشريع ناسخ لشرعه ]‬


‫فال يخرج علم الولي جملة واحدة عن الكتاب والسنة ‪ ،‬فإن خرج أحد عن ذلك فليس‬
‫بعلم ‪ ،‬وال علم والية معا ‪ ،‬بل إذا حققته وجدته جهال ‪ ،‬والجهل عدم ‪ ،‬والعلم وجود‬
‫محقق ‪ ،‬فالولي ال يأمر أبدا بعلم فيه تشريع ناسخ لشرعه ‪ ،‬ولكن قد يلهم لترتيب‬
‫صورة ال عين لها في الشرع من حيث مجموعها ‪ ،‬ولكن من حيث تفصيل كل جزء‬
‫منها وجدته أمرا مشروعا ‪ ،‬فهو تركيب أمور مشروعة ‪ ،‬أضاف بعضها إلى بعض‬
‫هذا الولي ‪ ،‬أو أضيفت إليه بطريق اإللقاء فظهر بصورة لم تظهر في الشرع بجمعيتها‬
‫‪ .‬فهذا القدر له من التشريع ‪ ،‬وما خرج بهذا الفعل من الشرع المكلف به ‪ ،‬فإن الشارع‬
‫قد شرع له أن يشرع مثل هذا ‪ ،‬فما شرع إال عن أمر الشارع ‪ ،‬فما خرج عن أمره ‪،‬‬
‫ّللا للولي العالم‬
‫فمثل هذا قد يؤمر به الولي ‪ ،‬وأما خالف هذا فال ‪.‬فإن قلت وأين جعل ه‬
‫ذلك بلسان الشرع ؟ قلنا ‪:‬‬
‫سن سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى‬ ‫ّللا عليه وسلم ‪ « :‬من ه‬ ‫قال صلهى ه‬
‫يوم القيامة ‪ ،‬ال ينقص ذلك من أجورهم شيئا » ‪ .‬فقد سن له أن يسن ‪ ،‬ولكن مما ال‬
‫يخالف فيه شرعا مشروعا ‪ ،‬ليح هل به ما حرم أو يحرم به ما حلل‪.‬‬

‫[ سورة األنعام ( ‪ : ) 6‬اآليات ‪ 39‬إلى ‪] 40‬‬


‫ض ِل ْلهُ َو َم ْن يَشَأ ْ يَجْ عَ ْلهُ عَلى‬
‫َّللاُ يُ ْ‬
‫ش ِأ ه‬ ‫ظلُما ِ‬
‫ت َم ْن يَ َ‬ ‫ص ٌّم َوبُ ْك ٌم فِي ال ُّ‬ ‫ِين َكذهبُوا بِآياتِنا ُ‬ ‫َوالهذ َ‬
‫َّللا‬ ‫ساعَةُ أ َ َ‬
‫غ ْي َر ه ِ‬ ‫َّللا أ َ ْو أَتَتْ ُك ُم ال ه‬ ‫يم ( ‪ ) 39‬قُ ْل أ َ َرأ َ ْيت َ ُك ْم إِ ْن أَتا ُك ْم ع ُ‬
‫َذاب ه ِ‬ ‫ست َ ِق ٍ‬
‫راط ُم ْ‬
‫ِص ٍ‬
‫ين ) ‪( 40‬‬ ‫ُون ِإ ْن ُك ْنت ُ ْم صا ِدقِ َ‬
‫ت َ ْدع َ‬
‫أي إن صدقتم وال تكتمون ما تجدونه في نفوسكم من قولي إنكم ما تدعون في الشدائد‬
‫ّللا ‪ ،‬الذي ما زالت قلوبكم منطوية عليه ‪ ،‬فهم بال شك مصدقون لعلمهم فهل‬ ‫إال ه‬
‫يصدقون إذا سئلوا أم ال‪.‬‬

‫ص ‪78‬‬

‫ص ‪78 :‬‬
‫[سورة األنعام ( ‪ : ) 6‬آية ‪] 41‬‬
‫ُون ) ‪( 41‬‬ ‫س ْو َن ما تُش ِْرك َ‬ ‫ُون إِلَ ْي ِه إِ ْن شا َء َوت َ ْن َ‬
‫ف ما ت َ ْدع َ‬ ‫ش ُ‬ ‫ُون فَيَ ْك ِ‬
‫بَ ْل إِيهاهُ ت َ ْدع َ‬
‫ّللا تعالى‬ ‫‪-‬الوجه األول ‪ -‬وتنسون ما تشركون أي تتركون الشرك ‪ .‬وهذه شهادة من ه‬
‫س ُك ُم‬
‫على نفسه لنا في دار التكليف بتوحيده في المهمات ‪ ،‬وهو قوله تعالى «‪َ :‬و ِإذا َم َّ‬
‫ط َّر ِإذا َدعاهُ »؟‬ ‫يب ْال ُم ْ‬
‫ض َ‬ ‫عونَ ِإ َّال ِإيَّاهُ »وقوله ‪ «:‬أ َ َّم ْن يُ ِج ُ‬ ‫ض َّل َم ْن ت َ ْد ُ‬‫الض ُُّّر ِفي ْالبَ ْح ِر َ‬
‫ّللا ‪ ،‬ولو لم يكن في علمه في حال الرخاء أن‬ ‫فما دعا أحد من الخلق في حال شدته إال ه‬
‫ّللا خاصة ‪ -‬وهذا هو التوحيد ‪ -‬ما أظهر ذلك االعتقاد عند الشدائد ‪،‬‬ ‫ح هل الشدائد بيد ه‬
‫ّللا في حال الرخاء والشدة ‪ ،‬غير أن المشرك في حال‬ ‫فلم يزل المشرك موحدا بشهادة ه‬
‫الرخاء ال يظهر عليه علم من أعالم التوحيد الذي هو معتقده ‪ ،‬فإذا اضطر رجع إلى‬
‫علمه بتوحيد خالقه ‪ ،‬ولم يظهر عليه علم من أعالم الشرك ‪ ،‬وكل ذلك في دار التكليف‬
‫‪ ،‬وأكثر العلماء غائبون عن هذا الفضل اإللهي‬
‫‪ -‬الوجه الثاني ‪ «-‬بَ ْل إِيَّاهُ ت َ ْدعُونَ »هل تدعون الشريك لعينه ؟‬
‫فاّلل دعوتم ال تلك الصورة ‪ ،‬ولهذا أجيب دعاؤكم‬ ‫وّللا إال لكونه في اعتقادكم إلها ‪ ،‬ه‬ ‫ال ه‬
‫س ُّمو ُه ْم »فإن سموهم بهم فهم عينهم‬ ‫‪ ،‬والصورة ال تضر وال تنفع ‪ ،‬انظر في قوله ‪َ «:‬‬
‫‪ ،‬فال يقولون في معبودهم حجر وال شجر وال كوكب ‪ ،‬ينحته بيده ثم يعبده ‪ ،‬فما عبده‬
‫ّللا ‪ ،‬وقد أشار إلى ذلك‬ ‫وجوهره والصورة من عمله وإنما سموهم باإلله فما عبدوا إال ه‬
‫اآلية الواردة في القرآن بقوله تعالى ‪َ «:‬وقَضى َرب َُّك أ َ َّال ت َ ْعبُدُوا إِ َّال إِيَّاهُ »وهو عندنا‬
‫بمعنى حكم ‪ ،‬وعند من ال علم له بالحقائق بمعنى أمر ‪ ،‬فأين يذهب العبد إن أتاه عذاب‬
‫ّللا فإن أمره تعالى مسموع ‪.‬‬ ‫ه‬

‫[ سورة األنعام ( ‪ : ) 6‬اآليات ‪42‬إلى ‪] 43‬‬


‫اء لَعَله ُه ْم يَت َ َ‬
‫ض هرع َ‬
‫ُون ( ‪) 42‬‬ ‫ض هر ِ‬‫ساء َوال ه‬ ‫س ْلنا ِإلى أ ُ َم ٍم ِم ْن قَ ْب ِلكَ فَأ َ َخ ْذنا ُه ْم ِبا ْلبَأ ْ ِ‬
‫َولَقَ ْد أ َ ْر َ‬
‫طان ما كانُوا‬
‫ش ْي ُ‬ ‫ستْ قُلُوبُ ُه ْم َو َزيه َن لَ ُه ُم ال ه‬ ‫ض هرعُوا َول ِك ْن قَ َ‬ ‫سنا ت َ َ‬‫فَلَ ْو ال إِ ْذ جا َء ُه ْم بَأ ْ ُ‬
‫ون ( ‪) 43‬‬ ‫يَ ْع َملُ َ‬
‫«وزين لهم الشيطان أعمالهم » تنبيه على األدب ‪ ،‬ويضاف إلى الشيطان إذ جرى‬
‫س ِبي ِل "‪.‬‬ ‫ع ِن ال َّ‬ ‫ّللا تعالى تنزيها لجنابه " فَ َ‬
‫ص َّد ُه ْم َ‬ ‫عليه لسان الذم من ه‬
‫ض )‪*.‬‬ ‫ّللا تعالى ‪ (:‬ال ت ُ ْف ِسدُوا فِي ْاأل َ ْر ِ‬ ‫وهو قول ه‬

‫ص ‪79‬‬

‫ص ‪79 :‬‬
‫[سورة األنعام ( ‪ : ) 6‬اآليات ‪ 44‬إلى ‪] 54‬‬
‫ش ْي ٍء َحتهى ِإذا فَ ِر ُحوا ِبما أُوتُوا‬ ‫واب ُك ِ ّل َ‬ ‫علَ ْي ِه ْم أ َ ْب َ‬‫سوا ما ذُ ِ ّك ُروا ِب ِه فَتَحْ نا َ‬ ‫فَلَ هما نَ ُ‬
‫ب‬
‫ّلِل َر ّ ِ‬ ‫ِين َظلَ ُموا َوا ْل َح ْم ُد ِ ه ِ‬ ‫ون ( ‪ ) 44‬فَقُ ِط َع دا ِب ُر ا ْلقَ ْو ِم الهذ َ‬ ‫س َ‬ ‫أ َ َخ ْذنا ُه ْم بَ ْغتَةً فَ ِإذا ُه ْم ُم ْب ِل ُ‬
‫ين ( ‪) 45‬‬ ‫ا ْلعالَ ِم َ‬
‫َّللا يَأْتِي ُك ْم بِ ِه‬ ‫غ ْي ُر ه ِ‬ ‫صار ُك ْم َو َخت َ َم عَلى قُلُوبِ ُك ْم َم ْن إِلهٌ َ‬ ‫س ْمعَ ُك ْم َوأ َ ْب َ‬ ‫قُ ْل أ َ َرأ َ ْيت ُ ْم إِ ْن أ َ َخذَ ه‬
‫َّللاُ َ‬
‫ون ( ‪) 46‬‬ ‫ص ِدفُ َ‬ ‫ت ث ُ هم ُه ْم يَ ْ‬ ‫ف ْاآليا ِ‬ ‫ص ِ ّر ُ‬‫ف نُ َ‬ ‫ظ ْر َك ْي َ‬ ‫ا ْن ُ‬
‫ون ( ‪) 47‬‬ ‫ظا ِل ُم َ‬ ‫َّللا بَ ْغتَةً أ َ ْو َجه َْرةً َه ْل يُ ْهلَكُ ِإاله ا ْلقَ ْو ُم ال ه‬ ‫َذاب ه ِ‬ ‫قُ ْل أ َ َرأ َ ْيت َ ُك ْم ِإ ْن أَتا ُك ْم ع ُ‬
‫علَ ْي ِه ْم َوال ُه ْم‬ ‫ف َ‬ ‫صلَ َح فَال َخ ْو ٌ‬ ‫ين فَ َم ْن آ َم َن َوأ َ ْ‬ ‫ين َو ُم ْنذ ِِر َ‬ ‫ش ِر َ‬ ‫ين ِإاله ُمبَ ِ ّ‬ ‫س ُل ا ْل ُم ْر َ‬
‫س ِل َ‬ ‫َوما نُ ْر ِ‬
‫ون ( ‪) 49‬‬ ‫سقُ َ‬ ‫ذاب ِبما كانُوا يَ ْف ُ‬ ‫س ُه ُم ا ْلعَ ُ‬ ‫ِين َكذهبُوا ِبآيا ِتنا يَ َم ُّ‬ ‫ون ( ‪َ ) 48‬والهذ َ‬ ‫يَحْ َزنُ َ‬
‫ب َوال أَقُو ُل لَ ُك ْم ِإ ِنّي َملَكٌ ِإ ْن أَت ه ِب ُع ِإاله ما‬ ‫َّللا َوال أ َ ْعلَ ُم ا ْلغَ ْي َ‬ ‫قُ ْل ال أَقُو ُل لَ ُك ْم ِع ْندِي َخزا ِئ ُن ه ِ‬
‫ون ( ‪) 50‬‬ ‫ير أ َ فَال تَتَفَك ُهر َ‬ ‫ست َ ِوي ْاألَعْمى َوا ْلبَ ِص ُ‬ ‫ي قُ ْل َه ْل يَ ْ‬ ‫يُوحى إِلَ ه‬
‫ش ِفي ٌع‬ ‫ي َوال َ‬ ‫س لَ ُه ْم ِم ْن دُونِ ِه َو ِل ٌّ‬ ‫ون أ َ ْن يُحْ ش َُروا إِلى َر ِبّ ِه ْم لَ ْي َ‬ ‫ِين يَخافُ َ‬ ‫َوأ َ ْنذ ِْر بِ ِه الهذ َ‬
‫ون ( ‪) 51‬‬ ‫لَعَله ُه ْم يَتهقُ َ‬
‫علَ ْيكَ ِم ْن ِحسا ِب ِه ْم ِم ْن‬ ‫ُون َوجْ َههُ ما َ‬ ‫ي ِ يُ ِريد َ‬ ‫ش ّ‬ ‫ُون َربه ُه ْم ِبا ْلغَدا ِة َوا ْلعَ ِ‬ ‫ِين يَ ْدع َ‬ ‫َوال ت َ ْط ُر ِد الهذ َ‬
‫ين ( ‪) 52‬‬ ‫ُون ِم َن ال ه‬
‫ظا ِل ِم َ‬ ‫ش ْي ٍء فَت َ ْط ُر َد ُه ْم فَتَك َ‬ ‫علَ ْي ِه ْم ِم ْن َ‬ ‫ش ْي ٍء َوما ِم ْن ِحسا ِبكَ َ‬ ‫َ‬
‫َّللاُ بِأ َ ْعلَ َم‬
‫س ه‬ ‫علَ ْي ِه ْم ِم ْن بَ ْينِنا أ َ لَ ْي َ‬‫َّللاُ َ‬‫ُالء َم هن ه‬ ‫ض ِليَقُولُوا أ َ هؤ ِ‬ ‫ض ُه ْم بِبَ ْع ٍ‬ ‫َوكَذ ِلكَ فَتَنها بَ ْع َ‬
‫بِالشها ِك ِري َن ( ‪) 53‬‬
‫الرحْ َمةَ أَنههُ‬ ‫س ِه ه‬ ‫ب َربُّ ُك ْم عَلى نَ ْف ِ‬ ‫علَ ْي ُك ْم َكت َ َ‬
‫سال ٌم َ‬ ‫ون ِبآياتِنا فَقُ ْل َ‬ ‫ِين يُ ْؤ ِمنُ َ‬ ‫َوإِذا جا َءكَ الهذ َ‬
‫ور َر ِحي ٌم) ‪( 54‬‬ ‫غفُ ٌ‬ ‫صلَ َح فَأَنههُ َ‬ ‫تاب ِم ْن بَ ْع ِد ِه َوأ َ ْ‬ ‫سوءا ً ِب َجهالَ ٍة ث ُ هم َ‬ ‫َم ْن ع َِم َل ِم ْن ُك ْم ُ‬

‫ص ‪80‬‬

‫ص ‪80 :‬‬
‫الر ْح َمةَ »اعلم أن من‬ ‫على نَ ْف ِس ِه َّ‬ ‫الر ْح َمةَ » ]« َكت َ َ‬
‫ب َربُّ ُك ْم َ‬ ‫على نَ ْف ِس ِه َّ‬ ‫ب َربُّ ُك ْم َ‬ ‫[ « َكت َ َ‬
‫حقيقته أن يكون مقيدا ‪ ،‬ال يصح أن يكون مطلقا بوجه من الوجوه ما دامت عينه ‪ ،‬فإن‬
‫التقييد صفة نفسية له ‪ ،‬ومن كان حقيقته أن يكون مطلقا فال يقبل التقييد جملة واحدة ‪،‬‬
‫فإنه صفته النفسية أن يكون مطلقا ‪ ،‬لكن ليس في قوة المقيد أن يقبل اإلطالق ألن‬
‫صفته العجز ‪ ،‬وأن يستصحبه الحفظ اإللهي لبقاء عينه ‪ ،‬فاالفتقار يلزمه ‪ .‬وللمطلق أن‬
‫يقيد نفسه إن شاء ‪ ،‬وأن ال يقيدها إن شاء ‪ ،‬فإن ذلك من صفة كونه مطلقا إطالق‬
‫مشيئة ‪ ،‬ومن هنا أوجب الحق على نفسه ‪ ،‬ودخل تحت العهد لعبده فقال في الوجوب‬
‫ّللا إال ما أوجبه على نفسه ‪ ،‬وعلى‬ ‫الر ْح َمةَ »فال توجب على ه‬ ‫على نَ ْف ِس ِه َّ‬ ‫ب َربُّ ُك ْم َ‬ ‫‪َ «:‬كت َ َ‬
‫الحقيقة إنما وجب ذلك على النسبة ال على نفسه ‪ ،‬فإنه يتعالى أن يجب عليه من أجل‬
‫ح هد الواجب الشرعي ‪ ،‬والنسب هي األسماء اإللهية فإن لكل اسم داللتين ‪:‬‬
‫داللة على المس همى به ‪ ،‬وداللة على حقيقته التي بها يتميز عن اسم آخر ‪ .‬فال إله إال‬
‫هو ‪ ،‬وال فاعل سواه ‪ ،‬فيوجب من كونه كذا ‪ ،‬ويجب عليه من كونه كذا ‪ ،‬فالرحمة‬
‫الواجبة أوجبها تعالى للعالم على نفسه ‪ ،‬وصارت حقا عليه ولكن ال كل العالم بل لعالم‬
‫سوءا ً ِب َجهالَ ٍة ث ُ َّم َ‬
‫تاب ِم ْن‬ ‫مخصوص ‪ ،‬وهو المنعوت في قوله ‪ «:‬أَنَّهُ َم ْن َ‬
‫ع ِم َل ِم ْن ُك ْم ُ‬
‫خواص نعتهم بعمل خاص فقيدها بالجهالة ‪ ،‬فإن لم يجهل لم‬ ‫ه‬ ‫صلَ َح »فهم قوم‬ ‫بَ ْع ِد ِه َوأ َ ْ‬
‫يدخل في هذا التقييد ‪ ،‬وبقيت الرحمة مطلقة من عين المنة ال الوجوب فهؤالء‬
‫يأخذونها من طريق الوجوب لقيام األسباب التي جعلها الحق موجبة لها بهم ‪ ،‬وما عدا‬
‫سأ َ ْكتُبُها ِللَّذِينَ يَتَّقُونَ‬ ‫هؤالء فينتظرونها من باب المنة ‪ ،‬وقال في آية أخرى ‪ «:‬فَ َ‬
‫ي »وما عدا‬ ‫ي ْاأل ُ ِ هم َّ‬
‫سو َل النَّبِ َّ‬ ‫الزكاة َ َوالَّذِينَ ُه ْم بِآياتِنا يُؤْ ِمنُونَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ َّ‬
‫الر ُ‬ ‫َويُؤْ تُونَ َّ‬
‫ّللا مطلقا ‪ ،‬فمهما‬ ‫ّللا يرحمهم برحمة االمتنان ‪ ،‬فال وجوب على ه‬ ‫هؤالء المنعوتين فإن ه‬
‫ّللا على نفسه ما كتبه إال لمن قام‬ ‫رأيت الوجوب فاعلم أن التقييد يصحبه ‪ ،‬وما كتب ه‬
‫بحق النيابة عنه فيما استنابه وليس إال المتقين ‪ ،‬وما عدا هؤالء فهم أهل المنن ‪ ،‬فنالوا‬
‫ّللا امتن عليهم بعد ذلك بالمغفرة والرحمة التي عم‬ ‫أغراضهم على االستيفاء ‪ ،‬ثم إن ه‬
‫حكمها ‪ ،‬وهنا أوجب الحق الرحمة على نفسه لمن تاب وأصلح من العاملين السوء‬
‫بجهالة‪.‬‬

‫ص ‪81‬‬

‫ص ‪81 :‬‬
‫[سورة األنعام ( ‪ : ) 6‬اآليات ‪ 55‬إلى ‪] 57‬‬
‫ين ( ‪) 55‬قُ ْل إِ ِنّي نُ ِهيتُ أ َ ْن أ َ ْعبُ َد الهذ َ‬
‫ِين‬ ‫س ِبي ُل ا ْل ُمجْ ِر ِم َ‬
‫ين َ‬‫ست َ ِب َ‬ ‫ص ُل ْاآليا ِ‬
‫ت َو ِلت َ ْ‬ ‫َوكَذ ِلكَ نُفَ ِ ّ‬
‫ِين ( ‪) 56‬‬ ‫ضلَ ْلتُ ِإذا ً َوما أَنَا ِم َن ا ْل ُم ْهتَد َ‬‫َّللا قُ ْل ال أَت ه ِب ُع أ َ ْهوا َء ُك ْم قَ ْد َ‬ ‫ُون ِم ْن د ِ‬
‫ُون ه ِ‬ ‫ت َ ْدع َ‬
‫ون ِب ِه ِإ ِن ا ْل ُح ْك ُم ِإاله ِ ه ِ‬
‫ّلِل يَقُ ُّ‬
‫ص‬ ‫قُ ْل ِإ ِنّي عَلى بَ ِيّنَ ٍة ِم ْن َر ِبّي َو َكذه ْبت ُ ْم ِب ِه ما ِع ْندِي ما ت َ ْ‬
‫ست َ ْع ِجلُ َ‬
‫ين ) ‪( 57‬‬ ‫فاص ِل َ‬‫ق َو ُه َو َخ ْي ُر ا ْل ِ‬ ‫ا ْل َح ه‬
‫وهو خير الفاصلين بأحكام حكمته فتزول المغالبة والمنازعة ‪.‬‬

‫[ سورة األنعام ( ‪ : ) 6‬اآليات ‪ 58‬إلى ‪] 59‬‬


‫َّللاُ أ َ ْعلَ ُم ِبال ه‬
‫ظا ِل ِم َ‬
‫ين‬ ‫ي ْاأل َ ْم ُر بَ ْينِي َوبَ ْينَ ُك ْم َو ه‬
‫ون ِب ِه لَقُ ِض َ‬ ‫قُ ْل لَ ْو أ َ هن ِع ْندِي ما ت َ ْ‬
‫ست َ ْع ِجلُ َ‬
‫(‪(58‬‬
‫ط ِم ْن َو َرقَ ٍة ِإاله‬ ‫سقُ ُ‬
‫ب ال يَ ْعلَ ُمها ِإاله ُه َو َويَ ْعلَ ُم ما ِفي ا ْلبَ ِ ّر َوا ْلبَحْ ِر َوما ت َ ْ‬ ‫َو ِع ْن َد ُه َمفا ِت ُح ا ْلغَ ْي ِ‬
‫ين ( ‪) 59‬‬ ‫ب ُمبِ ٍ‬ ‫ب َوال يابِ ٍس إِاله فِي ِكتا ٍ‬ ‫ض َوال َر ْط ٍ‬ ‫ت ْاأل َ ْر ِ‬
‫ظلُما ِ‬ ‫يَ ْعلَ ُمها َوال َحبه ٍة فِي ُ‬

‫[ « َو ِع ْن َدهُ َمفاتِ ُح ْالغَ ْي ِ‬


‫ب ال يَ ْعلَ ُمها ِإ َّال ُه َو » ]‬
‫ب ال يَ ْعلَ ُمها ِإ َّال ُه َو »كل معدوم العين ظاهر الحكم واألثر ‪ ،‬فهو‬ ‫« َو ِع ْن َدهُ َمفاتِ ُح ْالغَ ْي ِ‬
‫على الحقيقة المعبر عنه بالغيب ‪ ،‬فإنه من غاب في عينه فهو الغيب ‪ ،‬والطبيعة غائبة‬
‫العين في الوجود فليس لها عين فيه ‪ ،‬وعن الثبوت وليس لها عين فيه ‪،‬‬
‫فهي عالم الغيب المحقق ‪ ،‬وهي معلومة ‪ ،‬كما أن المحال معلوم ‪ ،‬غير أن الطبيعة وإن‬
‫كانت مثل المحال في رفع الثبوت عنها والوجود فلها أثر ويظهر عنها صور ‪،‬‬
‫والمحال ليس كذلك ‪،‬‬
‫ّللا العالم بكل شيء ‪،‬‬
‫ومفاتيح هذا الغيب هي األسماء اإللهية التي ال يعلمها إال ه‬
‫واألسماء نسب غيبية إذ الغيب ال يكون مفتاحه إال غيبا ‪.‬‬
‫وهذه األسماء تعقل منها حقائق مختلفة معلومة االختالف كثيرة ‪،‬‬
‫وال تضاف إال إلى الحق فإنه مسماها وال يتكثر بها ‪ ،‬فلو كانت أمورا وجودية قائمة به‬
‫لتكثر بها ‪ ،‬فعلمها سبحانه من حيث كونه عالما بكل معلوم ‪،‬‬
‫وعلمناها نحن باختالف اآلثار منها فينا ‪ ،‬فسميناه كذا من أثر ما وجد فينا ‪ ،‬فتكثرت‬
‫اآلثار فينا ‪ ،‬فكثرت األسماء والحق مسماها فنسبت إليه‬

‫ص ‪82‬‬

‫ص ‪82 :‬‬
‫ّللا بها عالم األجسام‬ ‫ولم يتكثر في نفسه بها ‪ ،‬فعلمنا أنها غائبة العين ‪ .‬ولما فتح ه‬
‫الطبيعية باجتماعها بعد ما كانت متفرقة في الغيب ‪ ،‬معلومة االفتراق في العلم ‪ ،‬إذ لو‬
‫كانت مجتمعة لذاتها لكان وجود عالم األجسام أزال لنفسه ال هّلل ‪ ،‬وما ثم موجود ‪ -‬ليس‬
‫ّللا ‪ ،‬وما سواه فموجود به ال‬ ‫ّللا ‪ .‬وما ثم واجب الوجود لذاته إال ه‬ ‫ّللا ‪ -‬إال عن ه‬ ‫هو ه‬
‫لذاته ‪ ،‬وبالمشيئة ظهر أثر الطبيعة وهي غيب فالمشيئة مفتاح ذلك الغيب ‪ ،‬والمشيئة‬
‫نسبة إلهية ال عين لها فالمفتاح غيب ‪ ،‬فالغيب هو النور الساطع العام الذي به ظهر‬
‫الوجود كله ‪ ،‬وما له في عينه ظهور ‪ ،‬فهو الخزانة العامة التي خازنها منها ‪ ،‬وقد‬
‫تكون مفاتح الغيب هي استعدادات القوابل ‪ ،‬وهي غير مكتسبة بل منحة إلهية ‪ ،‬فلهذا‬
‫ّللا ‪ ،‬وعالم الغيب قد يظهر على غيبه من يرتضيه‬ ‫ّللا وال تعلم إال بإعالم ه‬ ‫ال يعلمها إال ه‬
‫من رسله ‪ ،‬وهو غيب الوجود أي ما هو في الوجود ‪ ،‬ومغيب عن بعض األبصار‬
‫ّللا ‪ ،‬فال‬
‫والبصائر ‪ ،‬وهذا الغيب هنا ما ليس بموجود ‪ ،‬فمفتاح ذلك الغيب ال يعلمه إال ه‬
‫يعلم ما هو مفتاح غيب خاص في مفرد مفرد من الغيوب ‪ ،‬فإذا حصل االستعداد من‬
‫ّللا تعالى حصل المفتاح وبقي الفتح حتى يقع التعليم ‪ ،‬فإنه هو الفتاح العليم فانفرد‬ ‫ه‬
‫سبحانه بعلم مفاتح هذا الغيب ‪ ،‬ونفى العلم عن كل ما سواه بها ‪ ،‬فالممكنات كلها‬
‫وأعني بكلها ميزها عن المحال والواجب ‪ ،‬ال أن أعيانها يحصرها الكل ‪ ،‬ذلك محال‬
‫هي في ظلمة الغيب ‪ ،‬فال يعرف لها حالة وجود ‪ ،‬ولكل ممكن منها مفتاح ‪ ،‬ال يعلمه‬
‫ّللا إال وله‬‫ّللا ‪ ،‬فال موجد إال هو ‪ ،‬خالق كل شيء وموجده ‪ ،‬وما من ممكن يظهره ه‬ ‫إال ه‬
‫ظل ممدود في الغيب ‪ ،‬ال يمكن خروجه ‪ .‬فظاهر اإلنسان ما امتد من اإلنسان فظهر ‪،‬‬
‫وباطنه ما لم يفارق الغيب فال يعلم باطن اإلنسان أبدا «‪َ .‬ويَ ْعلَ ُم ما فِي ْالبَ ِ هر َو ْالبَ ْح ِر َوما‬
‫ّللا كما قال ( وإن منها لما‬ ‫ط ِم ْن َو َرقَ ٍة ِإ َّال يَ ْعلَ ُمها »وهي ما تسقط إال من خشية ه‬‫ت َ ْسقُ ُ‬
‫ب َوال يا ِب ٍس »[ الطبيعة ]‬
‫ط ٍ‬‫ّللا )« َوال َر ْ‬
‫يهبط من خشية ه‬
‫ّللا اثنين‬ ‫أمهات الطبيعة أربعة ‪ :‬الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة ‪ ،‬وقد جعل ه‬
‫منها أصال في وجود االثنين اآلخرين ‪ ،‬فانفعلت اليبوسة عن الحرارة ‪ ،‬والرطوبة عن‬
‫البرودة ‪ ،‬فالرطوبة واليبوسة موجودتان عن سببين هما الحرارة والبرودة ‪ ،‬ولهذا ذكر‬
‫ب َوال يابِ ٍس »ألن المسبب يلزم من كونه مسببا وجود‬ ‫ط ٍ‬ ‫ّللا في قوله تعالى ‪َ «:‬وال َر ْ‬ ‫ه‬
‫السبب ‪ ،‬أو منفعال وجود الفاعل كيف شئت فقل ‪ ،‬وال يلزم من وجود السبب وجود‬
‫المسبب فإن المنفعل يطلب الفاعل بذاته ‪ ،‬فإنه منفعل لذاته ولو لم يكن منفعال لذاته ما‬
‫قبل االنفعال واألثر‬

‫ص ‪83‬‬

‫ص ‪83 :‬‬
‫وكان مؤثرا فيه ‪ ،‬بخالف الفاعل فإنه يفعل باالختيار إن شاء فعل فيسمى فاعال ‪ ،‬وإن‬
‫ب َوال يابِ ٍس‬
‫ط ٍ‬‫شاء ترك ‪ ،‬وليس ذلك للمنفعل ‪ .‬ولهذه الحقيقة ذكر تعالى« َوال َر ْ‬
‫»فذكر المنفعل ولم يذكر وال حار وال بارد لما كانت الرطوبة واليبوسة عند العلماء‬
‫بالطبيعة تطلب الحرارة والبرودة اللتين هما منفعلتان عنهما ‪ ،‬كما تطلب الصنعة‬
‫ين »فهذه اآلية من‬ ‫ب ُم ِب ٍ‬
‫الصانع ‪ ،‬لذلك ذكرهما دون األصل ‪ ،‬وإن كان الكل في« ِكتا ٍ‬
‫ّللا عليه وسلم ‪-‬‬‫فصاحة القرآن وإعجازه حيث علم أن الذي أتى به ‪ -‬وهو محمد صلهى ه‬
‫لم يكن ممن اشتغل بالعلوم الطبيعية فيعرف هذا القدر ‪ ،‬فعلم قطعا أن ذلك ليس من‬
‫ّللا تعالى ‪ .‬فعلم النبي‬ ‫جهته ‪ ،‬وأنه تنزيل من حكيم حميد ‪ ،‬وأن القائل بهذا عالم ‪ ،‬وهو ه‬
‫ّللا إياه وإعالمه ‪ ،‬ال بفكره ونظره وبحثه ‪.‬‬ ‫صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم كل شيء بتعليم ه‬

‫[ سورة األنعام ( ‪ : ) 6‬اآليات ‪ 60‬إلى ‪] 61‬‬


‫س ًّمى‬‫هار ث ُ هم يَ ْبعَث ُ ُك ْم فِي ِه ِليُ ْقضى أ َ َج ٌل ُم َ‬
‫َو ُه َو الهذِي يَت َ َوفها ُك ْم بِالله ْي ِل َويَ ْعلَ ُم ما َج َرحْ ت ُ ْم بِالنه ِ‬
‫س ُل‬
‫ق ِعبا ِد ِه َويُ ْر ِ‬‫ون ( ‪َ ) 60‬و ُه َو ا ْلقا ِه ُر فَ ْو َ‬ ‫ث ُ هم إِلَ ْي ِه َم ْر ِجعُ ُك ْم ث ُ هم يُنَ ِبّئ ُ ُك ْم بِما ُك ْنت ُ ْم ت َ ْع َملُ َ‬
‫ون ( ‪) 61‬‬ ‫ط َ‬‫سلُنا َو ُه ْم ال يُفَ ِ ّر ُ‬ ‫علَ ْي ُك ْم َحفَ َظةً َحتهى ِإذا جا َء أ َ َح َد ُك ُم ا ْل َم ْوتُ ت َ َوفهتْهُ ُر ُ‬ ‫َ‬
‫« َو ُه َو ْالقا ِه ُر فَ ْوقَ ِعبا ِد ِه »لما صدر منهم من النزاع ‪ ،‬فمن أراد أن يزول عنه حكم‬
‫ّللا بال غرض وال تشوف ‪ ،‬بل ينظر كل ما وقع في العالم وفي نفسه‬ ‫القهر فليصحب ه‬
‫يجعله كالمراد له ‪ ،‬فيلتذ به ويتلقاه بالقبول والبشر والرضى ‪،‬‬
‫فال يزال من هذه حاله مقيما في النعيم الدائم ‪ ،‬ال يتصف بالذلة ‪ ،‬وال بأنه مقهور ‪،‬‬
‫فتدركه اآلالم لذلك ‪ ،‬وعزيز صاحب هذا المقام ‪ ،‬وما رأيت له ذائقا ‪ ،‬ألنه يجهل‬
‫الطريق إليه فإن اإلنسان ال يخلو نفسا واحدا عن طلب يقوم به ألمر ما ‪.‬‬
‫ظةً »وهو التوكيل أعني هذا اإلرسال في حق قوم وحفظا وعصمة‬ ‫علَ ْي ُك ْم َحفَ َ‬ ‫« َويُ ْر ِس ُل َ‬
‫في حق آخرين ‪،‬‬
‫ظةً »فنكر ‪ ،‬فدخل حفظة الوجود وحفظة‬ ‫علَ ْي ُك ْم َحفَ َ‬
‫فدخل تحت قوله تعالى ‪َ «:‬ويُ ْر ِس ُل َ‬
‫األفعال ‪ ،‬ففي حفظ الوجود اجتماع الموحدين والمشركين في الحفظ اإللهي ‪ ،‬وذلك من‬
‫باب االعتناء بالخلق وإن جهلوا‪.‬‬

‫ص ‪84‬‬

‫ص ‪84 :‬‬
‫[سورة األنعام ( ‪ : ) 6‬اآليات ‪ 62‬إلى ‪] 68‬‬
‫ين ( ‪ ) 62‬قُ ْل َم ْن‬ ‫س ِب َ‬‫ع ا ْلحا ِ‬ ‫ق أَال لَهُ ا ْل ُح ْك ُم َو ُه َو أ َ ْ‬
‫س َر ُ‬ ‫ث ُ هم ُردُّوا إِلَى ه ِ‬
‫َّللا َم ْوال ُه ُم ا ْل َح ّ ِ‬
‫ض ُّرعا ً َو ُخ ْفيَةً لَئِ ْن أ َ ْنجانا ِم ْن ه ِذ ِه لَنَكُونَ هن ِم َن‬ ‫ت ا ْلبَ ِ ّر َوا ْلبَحْ ِر ت َ ْدعُونَهُ ت َ َ‬ ‫ظلُما ِ‬ ‫يُنَ ِ ّجي ُك ْم ِم ْن ُ‬
‫ُون ) ‪( 64‬‬ ‫ب ث ُ هم أ َ ْنت ُ ْم تُش ِْرك َ‬
‫َّللاُ يُنَ ِ ّجي ُك ْم ِم ْنها َو ِم ْن ُك ِ ّل ك َْر ٍ‬ ‫ين ( ‪ ) 63‬قُ ِل ه‬ ‫الشها ِك ِر َ‬
‫ت أ َ ْر ُج ِل ُك ْم أ َ ْو يَ ْل ِب َ‬
‫س ُك ْم‬ ‫علَ ْي ُك ْم عَذابا ً ِم ْن فَ ْو ِق ُك ْم أ َ ْو ِم ْن تَحْ ِ‬ ‫ث َ‬ ‫قُ ْل ُه َو ا ْلقاد ُِر عَلى أ َ ْن يَ ْبعَ َ‬
‫ون ( ‪) 65‬‬ ‫ت لَعَله ُه ْم يَ ْفقَ ُه َ‬ ‫ف ْاآليا ِ‬ ‫ف نُ َ‬
‫ص ِ ّر ُ‬ ‫ظ ْر َك ْي َ‬‫ض ا ْن ُ‬ ‫س بَ ْع ٍ‬ ‫ض ُك ْم بَأ ْ َ‬ ‫شيَعا ً َويُذ َ‬
‫ِيق بَ ْع َ‬ ‫ِ‬
‫علَ ْي ُك ْم بِ َو ِكي ٍل ) ‪( 66‬‬ ‫ستُ َ‬ ‫ق قُ ْل لَ ْ‬ ‫ب بِ ِه قَ ْو ُمكَ َو ُه َو ا ْل َح ُّ‬ ‫َو َكذه َ‬
‫ض‬ ‫ُون فِي آياتِنا فَأَع ِْر ْ‬ ‫ِين يَ ُخوض َ‬ ‫ون ( ‪َ ) 67‬و ِإذا َرأ َ ْيتَ الهذ َ‬ ‫ف ت َ ْعلَ ُم َ‬ ‫س ْو َ‬‫ستَقَ ٌّر َو َ‬
‫ِل ُك ِ ّل نَبَ ٍإ ُم ْ‬
‫طان فَال ت َ ْقعُ ْد بَ ْع َد ال ِذّ ْكرى َم َع‬ ‫ش ْي ُ‬ ‫سيَنهكَ ال ه‬ ‫غ ْي ِر ِه َو ِإ هما يُ ْن ِ‬‫ث َ‬ ‫ع ْن ُه ْم َحتهى يَ ُخوضُوا فِي َحدِي ٍ‬ ‫َ‬
‫ين ) ‪( 68‬‬ ‫ا ْلقَ ْو ِم ال ه‬
‫ظا ِل ِم َ‬
‫كل ما في العالم آياته تعالى ‪ ،‬فإنها دالئل عليه ‪ ،‬ويدخل في ذلك الخوض في القرآن‬
‫وهو المراء والجدل فيه بأنه محدث أو قديم ‪ ،‬أو هل هذا المكتوب في المصاحف ‪،‬‬
‫ّللا ؟‬
‫ّللا ‪ ،‬أو ما هو عين كالم ه‬ ‫والمتلو المتلفظ به ‪ ،‬عين كالم ه‬
‫ّللا حديثا‬ ‫ّللا ‪ .‬وقد سماه ه‬ ‫فالكالم في مثل هذا ‪ ،‬والخوض فيه ‪ ،‬هو الخوض في آيات ه‬
‫غي ِْر ِه »‬‫ث َ‬ ‫ضوا فِي َحدِي ٍ‬ ‫ع ْن ُه ْم َحتَّى يَ ُخو ُ‬ ‫ض َ‬ ‫وليس إال القرآن« فَأَع ِْر ْ‬
‫فلو أراد غير القرآن لقال فيها بضمير اآلية أو اآليات فليس للذكورية هنا دخول إال إذا‬
‫ّللا ‪،‬‬
‫أراد آيات القرآن ‪ ،‬والقرآن خبر ه‬
‫والخبر عين الحديث ‪ ،‬وقد وصانا تعالى وحذرنا في آية أخرى بقوله‪ " :‬إِنَّ ُك ْم إِذا ً ِمثْلُ ُه ْم‬
‫»إذا أقمتم معهم وهم بهذه المثابة وإن لم نخض معهم ‪.‬‬

‫[ سورة األنعام ( ‪ : ) 6‬اآليات ‪ 69‬إلى ‪] 70‬‬


‫ون ( ‪َ ) 69‬وذَ ِر‬ ‫ش ْي ٍء َول ِك ْن ِذ ْكرى لَعَله ُه ْم يَتهقُ َ‬ ‫ون ِم ْن ِحسا ِب ِه ْم ِم ْن َ‬ ‫ِين يَتهقُ َ‬ ‫علَى الهذ َ‬ ‫َوما َ‬
‫س بِما‬‫س َل نَ ْف ٌ‬‫غ هرتْ ُه ُم ا ْل َحياةُ ال ُّد ْنيا َوذَ ِ ّك ْر بِ ِه أ َ ْن ت ُ ْب َ‬‫ِين ات ه َخذُوا دِينَ ُه ْم لَ ِعبا ً َولَهْوا ً َو َ‬
‫الهذ َ‬
‫ع ْد ٍل ال يُ ْؤ َخ ْذ ِم ْنها أُولئِكَ‬ ‫ش ِفي ٌع َوإِ ْن ت َ ْع ِد ْل ُك هل َ‬ ‫ي َوال َ‬ ‫َّللا َو ِل ٌّ‬ ‫س لَها ِم ْن د ِ‬
‫ُون ه ِ‬ ‫سبَتْ لَ ْي َ‬ ‫َك َ‬
‫ون) ‪( 70‬‬ ‫َذاب أ َ ِلي ٌم ِبما كانُوا يَ ْكفُ ُر َ‬ ‫يم َوع ٌ‬ ‫َراب ِم ْن َح ِم ٍ‬ ‫سبُوا لَ ُه ْم ش ٌ‬ ‫سلُوا ِبما َك َ‬ ‫ِين أ ُ ْب ِ‬
‫الهذ َ‬

‫ص ‪85‬‬

‫ص ‪85 :‬‬
‫ّللا قوما اتخذوا دينهم لهوا ولعبا ‪ ،‬وهم في هذا الزمان أصحاب السماع ‪ ،‬أهل الدف‬
‫ذ هم ه‬
‫والمزمار ‪،‬‬
‫باّلل من الخذالن ‪:‬‬
‫نعوذ ه‬
‫ما الدين بالدف والمزمار واللعب *** لكنما الدين بالقرآن واألدب‬

‫[ سورة األنعام ( ‪ : ) 6‬آية ‪]71‬‬


‫َّللا ما ال يَ ْنفَعُنا َوال يَض ُُّرنا َونُ َر ُّد عَلى أَعْقابِنا بَ ْع َد إِ ْذ َهدانَا ه‬
‫َّللاُ‬ ‫قُ ْل أ َ نَ ْدعُوا ِم ْن د ِ‬
‫ُون ه ِ‬
‫ران لَهُ أَص ٌ‬
‫ْحاب يَ ْدعُونَهُ ِإلَى ا ْل ُهدَى ائْتِنا قُ ْل‬ ‫ض َح ْي َ‬ ‫ين فِي ْاأل َ ْر ِ‬ ‫هياط ُ‬‫ستَه َْوتْهُ الش ِ‬‫كَالهذِي ا ْ‬
‫ين ) ‪( 71‬‬ ‫ب ا ْلعالَ ِم َ‬ ‫َّللا ُه َو ا ْل ُهدى َوأ ُ ِم ْرنا ِلنُ ْ‬
‫س ِل َم ِل َر ّ ِ‬ ‫ِإ هن ُهدَى ه ِ‬
‫ّللا هو البيان ‪ ،‬وما هّلل لسان بيان فينا إال ما جاءت به‬ ‫ّللا هو الهدى ‪ ،‬أي بيان ه‬ ‫إن هدى ه‬
‫ّللا هو البيان ‪ ،‬ال ما بينه العقل ببرهانه في زعمه ‪ ،‬وليس‬ ‫ّللا فبيان ه‬ ‫الرسل من عند ه‬
‫البيان إال ما ال يتطرق إليه االحتمال‪.‬‬
‫فمن حكم عقله ونظره وبرهانه على شرعه فما نصح نفسه ‪ ،‬وما أعظم ما تكون‬
‫حسرته يوم القيامة إذا انكشف الغطاء ‪.‬‬

‫[ سورة األنعام ( ‪ : ) 6‬اآليات ‪ 72‬إلى ‪]73‬‬


‫ون ( ‪َ ) 72‬و ُه َو الهذِي َخلَ َ‬
‫ق‬ ‫صالةَ َواتهقُوهُ َو ُه َو الهذِي إِلَ ْي ِه تُحْ ش َُر َ‬ ‫َوأ َ ْن أَقِي ُموا ال ه‬
‫ق َولَهُ ا ْل ُم ْلكُ يَ ْو َم يُ ْنفَ ُخ فِي‬ ‫ق َويَ ْو َم يَقُو ُل ك ُْن فَيَك ُ‬
‫ُون قَ ْولُهُ ا ْل َح ُّ‬ ‫ت َو ْاأل َ ْر َ‬
‫ض بِا ْل َح ّ ِ‬ ‫سماوا ِ‬ ‫ال ه‬
‫ير) ‪( 73‬‬ ‫ب َوالشهها َد ِة َو ُه َو ا ْل َح ِكي ُم ا ْل َخ ِب ُ‬ ‫ور عا ِل ُم ا ْلغَ ْي ِ‬‫ص ِ‬
‫ال ُّ‬

‫ص ‪86‬‬

‫ص ‪86 :‬‬
‫ق»‬‫ض بِ ْال َح ه ِ‬
‫ت َو ْاأل َ ْر َ‬ ‫سماوا ِ‬ ‫" َو ُه َو الَّذِي َخلَقَ ال َّ‬
‫ض َوما بَ ْينَ ُهما ِإ َّال بِ ْال َح ه ِ‬
‫ق»‬ ‫ت َو ْاأل َ ْر َ‬ ‫سماوا ِ‬ ‫وقال تعالى ‪َ «:‬وما َخلَ ْقنَا ال َّ‬

‫[ ‪ -‬بحث في الحق المخلوق به ‪ -‬هو العقل األول وهو القلم ]‬


‫ّللا‬
‫‪-‬بحث في الحق المخلوق به ‪ -‬هو العقل األول وهو القلم األعلى ‪ ،‬فأول ما أوجد ه‬
‫من العالم العقول المدبرة جوهرا بسيطا ليس بمادة وال في مادة ‪ ،‬عالم بذاته في ذاته ‪،‬‬
‫علمه ذاته ال صفة له مقامه الفقر والذلة واالحتياج إلى باريه وموجده ومبدعة ‪ ،‬له‬
‫نسب وإضافات ووجوه كثيرة ‪ ،‬ال يتكثهر في ذاته بتعددها ‪.‬‬
‫فياض بوجهين من الفيض ‪ :‬فيض ذاتي ‪ ،‬وفيض إرادي ‪.‬‬
‫فما هو بالذات مطلقا ال يتصف بالمنع في ذلك ‪ ،‬وما هو باإلرادة فإنه يوصف فيه‬
‫بالمنع والعطاء وله افتقار ذاتي لموجده سبحانه الذي استفاد منه وجوده ‪ ،‬وسماه الحق‬
‫سبحانه وتعالى في القرآن ‪ :‬حقا ‪ ،‬وقلما ‪ ،‬وروحا ‪ ،‬وفي السنة ‪ :‬عقال وغير ذلك من‬
‫األسماء ‪.‬‬
‫وهو أول عالم التدوين والتسطير ‪ ،‬وهو الخازن الحفيظ العليم األمين على اللطائف‬
‫باّلل ‪ ،‬وهو القلم‬
‫اإلنسانية التي من أجلها وجد ‪ ،‬ولها قصد ‪ ،‬فهو العقل من حيث العلم ه‬
‫من حيث التدوين والتسطير ‪ ،‬وهو الروح من حيث التصرف ‪ ،‬وهو العرش من حيث‬
‫االستواء ‪ ،‬وهو اإلمام المبين من حيث اإلحصاء ‪ ،‬وال يزال هذا العقل مترددا بين‬
‫اإلقبال واإلدبار ‪ ،‬يقبل على باريه ‪ ،‬مستفيدا فيتجلى له ‪ ،‬فيكشف في ذاته من بعض ما‬
‫هو عليه ‪ ،‬فيعلم من باريه قدر ما علم من نفسه ‪ ،‬فعلمه بذاته ال يتناهى وطريقة علمه‬
‫به التجليات ‪ ،‬وطريقة علمه بربه علمه به ‪ ،‬ويقبل على من دونه مفيدا هكذا أبد اآلباد‬
‫في المزيد فهو الفقير الغني ‪ ،‬العزيز الذليل ‪ ،‬العبد السيد ‪ ،‬وال يزال الحق يلهمه طلب‬
‫التجليات لتحصيل المعارف ‪ ،‬واختلفت االعتبارات فاختلفت األسماء ‪ .‬فنقول في العقل‬
‫األول عقال لمعنى يخالف المعنى الذي ألجله نسميه قلما ‪ ،‬يخالف المعنى الذي ألجله‬
‫نسميه روحا ‪ ،‬يخالف المعنى الذي ألجله نسميه قلبا ‪ ،‬فهذه ألقاب كثيرة اختلفت على‬
‫شيء واحد لظهوره في مراتب متعددة ‪ ،‬قابل بذاته كل مرتبة صالح لها ‪ - .‬وجه آخر‬
‫ون قَ ْولُهُ ْال َح ُّق َولَهُ ْال ُم ْلكُ »الملك هو الذي‬
‫‪ -‬راجع النحل آية ‪َ «3‬ويَ ْو َم يَقُو ُل ُك ْن فَيَ ُك ُ‬
‫يقضي فيه مالكه ومليكه بما شاء ‪ ،‬وال يمتنع عنه جبرا فيسمى كرها ‪ ،‬أو اختيارا‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ [ :‬أوتيت‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫ور »قال رسول ه‬ ‫ص ِ‬ ‫فيسمى طوعا« يَ ْو َم يُ ْنفَ ُخ ِفي ال ُّ‬
‫جوامع الكالم ] وقال تعالى ‪َ (:‬و َك ِل َمتُهُ أ َ ْلقاها إِلى َم ْريَ َم )وقال‪:‬‬

‫ص ‪87‬‬

‫ص ‪87 :‬‬
‫( وصدقت بكلمات ربها وكتابه ) ويقال ‪ :‬قطع األمير يد السارق وضرب األمير اللص‬
‫ّللا‬
‫‪ ،‬فمن ألقي عن أمره شيء فهو ألقاه فكأن الملقي محمد عليه السالم ‪ ،‬ألقى عن ه‬
‫كلمات العالم بأسره من غير استثناء شيء منه البتة ‪ ،‬فمنه ما ألقاه بنفسه كأرواح‬
‫المالئكة وأكثر العالم العلوي ‪ ،‬ومنه أيضا ما ألقاه عن أمره فيحدث الشيء عن وسائط‬
‫فرجع الكل في ذلك إلى من أوتي جوامع الكلم ‪ ،‬فنفخ الحقيقة اإلسرافيلية من المحمدية‬
‫ور »قرئ ننفخ بالنون‬ ‫ص ِ‬‫المضافة إلى الحق نفخها كما قال تعالى ‪َ «:‬ويَ ْو َم يُ ْنفَ ُخ فِي ال ُّ‬
‫وقرئ بالياء وضمها وفتح الفاء والنافخ إنما هو إسرافيل والقبول من الصور وسر‬
‫الحق بينهما هو المعنى بين النافخ والقابل ‪ ،‬كالرابط من الحرف بين الكلمتين ‪ ،‬وذلك‬
‫هو سر الفعل األقدس األنزه الذي ال يطلع عليه النافخ وال القابل ‪ ،‬والصور قرن من‬
‫نور ألنه نفهر ظالم األجسام باألجساد وزال عنها بسرعة التقليب في الصور البقاء‬
‫على األمر المعتاد ‪ ،‬والصور هنا جمع صورة بالصاد ‪ ،‬وهو الحضرة البرزخية التي‬
‫ننتقل إليها بعد الموت ‪ ،‬ونشهد نفسنا فيها ‪ ،‬وسميت بالصور والناقور ‪ ،‬فينفخ في‬
‫الصور وينقر في الناقور وهو هو بعينه واختلفت عليه األسماء الختالف األحوال‬
‫والصفات ‪ «.‬عا ِل ُم ْالغَ ْي ِ‬
‫ب َوال َّ‬
‫شها َدةِ »‬

‫[ العالم مظهر الحق على الكمال ]‬


‫ّللا تعالى ‪ ،‬مما‬
‫اعلم أن الغيب ظرف لعالم الشهادة ‪ ،‬وعالم الشهادة كل موجود سوى ه‬
‫وجد ولم يوجد أو وجد ثم ر هد إلى الغيب ‪ ،‬كالصور واألعراض وهو مشهود هّلل تعالى‬
‫‪ ،‬ولهذا قلنا ‪ :‬إنه عالم الشهادة ‪ .‬ولم يزل الحق يخرج العالم من الغيب شيئا بعد شيء‬
‫إلى ما ال يتناهى عددا من أشخاص األجناس واألنواع ‪ ،‬ومنها ما يرده إلى غيبه ومنها‬
‫ما ال يرده أبدا ‪ ،‬فالذي ال يرده أبدا إلى الغيب كل ذات قائمة بنفسها وليس إال الجواهر‬
‫خاصة ‪ ،‬وكل ما عدا الجواهر من األجسام واألعراض الكونية واللونية ترد إلى الغيب‬
‫وّللا يخرجها من الغيب إلى شهادتها أنفسها ‪ .‬فهو عالم الغيب والشهادة‬
‫‪ ،‬ويبرز أمثالها ه‬
‫واألشياء في الغيب ال كمية لها ‪ ،‬إذ الكمية تقتضي الحصر وهي غير متناهية ‪ ،‬فإذا‬
‫ظهرت أعين الجواهر تبعتها النسب بكم وكيف وأين ‪ ،‬فليس في الوجود المحدث إال‬
‫الجوهر والنسب التي تتبعه ‪ ،‬فكان الغيب بما فيه كأنه يحوي على صورة مطابقة‬
‫لعالمه إذ كان علمه بنفسه علمه بالعالم ‪ ،‬فبرز العالم على صورة العالم من كونه عالما‬
‫به ‪ ،‬فالعالم مظهر الحق على الكمال فليس في اإلمكان أبدع من هذا العالم ‪ ،‬إذ ليس‬
‫أكمل من الحق تعالى ‪ ،‬فلو كان في اإلمكان أكمل من هذا العالم لكان ثم من هو أكمل‬
‫ّللا ‪ ،‬فليس‬
‫من موجده ‪ ،‬وما ثم إال ه‬

‫ص ‪88‬‬

‫ص ‪88 :‬‬
‫في اإلمكان إال مثل ما ظهر ال أكمل منه ‪ ،‬ومن ذلك نعلم أن الغيب غيبان ‪:‬غيب ال‬
‫يوجد منه شيء فيكون شهادة وال ينتقل إليه بعد الشهادة ‪ ،‬وما هو محال فيكون عدما‬
‫محضا ‪ ،‬وال هو واجب الوجود فيكون وجودا محضا ‪ ،‬وال هو ممكن يستوي طرفاه‬
‫بين الوجود والعدم ‪ ،‬وما هو غير معلوم ‪ ،‬بل هو معقول معلوم ‪ ،‬فال يعرف له حد ‪.‬‬
‫ب »وما قرنه بالشهادة ‪،‬‬ ‫وهو الغيب الذي انفرد الحق به سبحانه حيث قال ‪ «:‬عا ِل ُم ْالغَ ْي ِ‬
‫والغيب اآلخر الغيب الذي قرنه بالشهادة وهو الذي يوجد منه الكائنات ‪ ،‬والغيب الذي‬
‫ينتقل إليه بعض الكائنات بعد اتصافها بالشهادة ‪ ،‬لذلك قال متمما ‪َ «:‬و ُه َو ْال َح ِكي ُم‬
‫ير »فإن الحق ما هو فعله مع األغراض التي أوجدها في عباده ‪ ،‬وإنما هو مع ما‬ ‫ْال َخبِ ُ‬
‫تطلبه الحكمة ‪ ،‬والذي اقتضته الحكمة هو الواقع في العالم ‪ ،‬فعين ظهوره هو عين‬
‫ّللا ال يعلل بالحكمة ‪ ،‬بل هو عين الحكمة ‪.‬‬ ‫الحكمة ‪ ،‬فإن فعل ه‬

‫[ سورة األنعام ( ‪ : ) 6‬آية ‪] 74‬‬


‫ين (‬ ‫آز َر أ َ تَت ه ِخذُ أَصْناما ً آ ِل َهةً إِ ِنّي أَراكَ َوقَ ْو َمكَ فِي َ‬
‫ضال ٍل ُمبِ ٍ‬ ‫َوإِ ْذ قا َل إِ ْبرا ِهي ُم ِألَبِي ِه َ‬
‫‪)74‬‬
‫ألنهم أوقعوا أنفسهم في الحيرة لكونهم عبدوا ما نحتوا بأيديهم ‪ ،‬وعلموا أنه ال يسمع‬
‫ّللا بقصور نظرهم وعقولهم ‪.‬‬ ‫ّللا شيئا ‪ ،‬فهي شهادة من ه‬ ‫وال يبصر وال يغني عنهم من ه‬

‫[ سورة األنعام ( ‪ : ) 6‬آية ‪] 75‬‬


‫ين ) ‪( 75‬‬‫ُون ِم َن ا ْل ُموقِنِ َ‬ ‫ت َو ْاأل َ ْر ِ‬
‫ض َو ِليَك َ‬ ‫َوكَذ ِلكَ نُ ِري إِ ْبرا ِهي َم َملَكُوتَ ال ه‬
‫سماوا ِ‬
‫اعلم أن عالم الملكوت هو المحرك لعالم الشهادة ‪ ،‬وهو تحت قهره وتسخيره ‪ ،‬حكمة‬
‫ّللا تعالى ال لنفسه استحق ذلك ‪ ،‬فعالم الشهادة ال تصدر منه حركة وال سكون ‪،‬‬ ‫من ه‬
‫وال أكل وال شرب ‪ ،‬وال كالم وال صمت ‪ ،‬إال عن عالم الغيب ‪.‬‬
‫وذلك أن الحيوان ال يتحرك إال عن قصد وإرادة وهما من عمل القلب ‪،‬‬
‫وهو من عالم الغيب ‪ ،‬والحركة وما شاكلها من عالم الشهادة ‪ ،‬وعالم الشهادة ما‬
‫أدركناه بالحس عادة ‪ ،‬وعالم الغيب ما أدركناه بالخبر الشرعي ‪،‬‬
‫أو النظر الفكري فيما ال يظهر للحس عادة فنقول ‪ :‬إن عالم الغيب يدرك بعين‬

‫ص ‪89‬‬

‫ص ‪89 :‬‬
‫البصيرة ‪ ،‬كما أن عالم الشهادة يدرك بعين البصر ‪ ،‬وكما أن البصر ال يدرك عالم‬
‫الشهادة ما لم يرتفع عنه حجاب الظلم أو ما أشبه من الموانع ‪ ،‬فإذا ارتفعت الموانع‬
‫وانبسطت األنوار على المحسوسات أدرك البصر المبصرات ‪ ،‬فإدراكها مقرون بنور‬
‫البصر ونور السراج وأشباهها من األنوار ‪ ،‬كذلك عين البصيرة حجابها الريون ‪،‬‬
‫والشهوات ‪ ،‬ومالحظة األغيار ‪،‬‬

‫[ حجاب عين البصيرة ]‬


‫إلى مثل هذه من الحجب ‪ ،‬فتحول بينها وبين إدراك الملكوت أعني عالم الغيب ‪ ،‬فإذا‬
‫عمد اإلنسان إلى مرآة قلبه وجالها بأنواع الرياضات والمجاهدات حتى زال عنها كل‬
‫حجاب ‪ ،‬واجتمع نورها مع النور الذي ينبسط على عالم الغيب ‪ ،‬وهو النور الذي‬
‫يتراءى به أهل الملكوت ‪ ،‬وهو بمنزلة الشمس في المحسوس ‪ ،‬اجتمع عند ذلك نور‬
‫عين البصيرة ‪ ،‬مع نور التمييز ‪ ،‬فكشف المغيبات على ما هي عليه ‪ ،‬غير أن بينهما‬
‫لطيفة معنى ‪ ،‬وذلك أن الحس يحجبه الجدار ‪ ،‬والبعد المفرط ‪ ،‬والقرب المفرط ‪،‬‬
‫واألجسام الكثيفة الحائلة بينه وبين من يريد إدراكه ‪ ،‬وهذا لقصوره عادة ‪ ،‬وقد تنخرق‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ :‬إني أراكم من وراء ظهري ‪ ،‬وفي‬ ‫لنبي أو ولي كقول النبي صلهى ه‬
‫األولياء ابتداء المكاشفات لهم في أول سلوكهم ‪ ،‬فإن المريد أول ما يكشف له عن‬
‫المحسوسات فيرى رجال مقبال أو على حالة ما وبينهما البعد المفرط واألجسام الكثيفة‬
‫‪ ،‬بحيث أن يراه بمكة أو يرى الكعبة وهو بأقصى المغرب ‪ ،‬وهذا كثير عند المريدين‬
‫في أول أحوالهم ‪ ،‬وأما عالم البصيرة فال إذ عالم الغيب ليس بينه وبين عين البصيرة‬
‫مسافة وال بعد وال قرب مفرط ‪ ،‬وحجابه إنما هو الران والقفل والكن وقد ارتفعت‬
‫بالمجاهدات ‪ ،‬فالحت أعالم الغيوب ‪ ،‬لكن ثم أمر تدركه وهو إن انجلت عين البصيرة‬
‫كما ذكرناه فإن ثم حجابا آخر إلهيا ‪ ،‬وهو أن النور الذي ينبسط من حضرة الجود على‬
‫ّللا تعالى أن يكشف‬ ‫المغيبات في الحضرات الوجودية ليس يعمها إال على قدر ما يريد ه‬
‫لك منها ‪ ،‬مع أنك في غاية الصفاء والجالء ‪ ،‬وذلك هو مقام الوحي دليلنا على ذلك‬
‫ي »مع غاية‬ ‫قوله تعالى ‪ « :‬قلما أ َ ْد ِري ما يُ ْفعَ ُل بِي َوال بِ ُك ْم ِإ ْن أَتَّبِ ُع ِإ َّال ما يُوحى ِإلَ َّ‬
‫الصفاء النبوي ‪ ،‬فكيف بالولي الذي ما فتح له من الطريق خرت إبرة ؟ فهذا هو قدر‬
‫ما يكشف له من عالم الغيب ‪ ،‬فيرى تأثيره في عالم الشهادة فيتكلم به على ذلك الحد ‪،‬‬
‫فيقول ‪ :‬يكون كذا وال يكون كذا وعاقبة أمر ما إلى كذا على قدر الكشف ‪ .‬وهذا‬
‫الحجاب اإللهي ال يمكن رفعه عقال ولو بلغ المرء أعلى الغايات ‪ ،‬بدليل أن هذا‬
‫الحجاب إنما هو العلم األزلي المتعلق بمعلومات غير‬

‫ص ‪90‬‬

‫ص ‪90 :‬‬
‫متناهية ‪ ،‬وكل ما حصره الوجود فهو متناه ‪ ،‬وال تكشف عين البصيرة إال ما دخل في‬
‫الوجود بوجه ما من أوجه مراتب الوجود ‪ ،‬ومهما ظهر ممن حصل في هذا المقام‬
‫شيء من ذلك على ظاهره في حق شخص ما ‪ ،‬فتلك الفراسة ‪ ،‬وهي أعلى درجات‬
‫المكاشفة ‪ ،‬لذلك قال تعالى ‪َ «:‬و ِليَ ُكونَ ِمنَ ْال ُموقِنِينَ »وذلك عين اليقين ألنه عن رؤية‬
‫وشهود ‪.‬‬

‫[ سورة األنعام ( ‪ : ) 6‬آية ‪] 76‬‬


‫علَ ْي ِه الله ْي ُل َرأى ك َْوكَبا ً قا َل هذا َر ِبّي فَلَ هما أَفَ َل قا َل ال أ ُ ِح ُّ‬
‫ب ْاآلفِ ِل َ‬
‫ين ) ‪( 76‬‬ ‫فَلَ هما َج هن َ‬
‫فاّلل ليس بآفل ‪ ،‬فإن‬
‫ّللا بال شك ‪ ،‬ه‬ ‫فإن اإلله ال يكون من اآلفلين وإبراهيم الخليل يحب ه‬
‫تجليه دائم ‪ ،‬وتدليه الزم ‪ ،‬لذلك لم يجب الخليل اآلفل ‪ ،‬ألنه رآه يطلب السفل ‪ ،‬وهمته‬
‫في العلو لطلب الدنو ‪.‬‬

‫[ سورة األنعام ( ‪ ) : 6‬اآليات ‪ 77‬إلى ‪] 78‬‬


‫بازغا ً قا َل هذا َر ِبّي فَلَ هما أَفَ َل قا َل لَئِ ْن لَ ْم يَ ْه ِدنِي َر ِبّي َألَكُونَ هن ِم َن ا ْلقَ ْو ِم‬
‫فَلَ هما َرأَى ا ْلقَ َم َر ِ‬
‫غةً قا َل هذا َر ِبّي هذا أ َ ْكبَ ُر فَلَ هما أ َفَلَتْ قا َل يا قَ ْو ِم‬ ‫باز َ‬
‫س ِ‬ ‫ين ) ‪ ( 77‬فَلَ هما َرأَى الش ْهم َ‬ ‫ضا ِلّ َ‬
‫ال ه‬
‫ُون ) ‪( 78‬‬ ‫ِإ ِنّي بَ ِري ٌء ِم هما تُش ِْرك َ‬
‫ّللا إياها عناية منه به ولم يقلها‬ ‫كانت هذه الثالثة أنوار حجة إبراهيم على قومه آتاه ه‬
‫إشراكا ‪ ،‬لكن جعلها حبالة صائد يصيد بها ما شرد من عقول قومه ‪ ،‬فلم يكن قوله في‬
‫األنوار الثالثة عن اعتقاد بل عن تعريف إلقامة الحجة على القوم ‪ ،‬أال ترى إلى ما‬
‫قال الحق في ذلك ‪.‬‬
‫وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه ‪ - .‬إشارة ‪ -‬غ همض عن الكوكب والقمر ‪ ،‬وإذا‬
‫ّللا تعالى بالدليل ‪ ،‬بل سله يعرفك‬ ‫رأيت الشمس فال تقل هذا أكبر ‪ ،‬أي ال تطلب ه‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ ( :‬من عرف نفسه عرف ربه )‬ ‫بنفسك ‪ ،‬قال صلهى ه‬

‫[ ‪ -‬إشارة ‪ -‬الكوكب والقمر والشمس أنوارها إشارة إلى الروح والعقل والنفس ]‬
‫‪-‬إشارة ‪ -‬الكوكب والقمر والشمس أنوارها إشارة إلى الروح والعقل والنفس ‪ ،‬وأثبت‬
‫لهم الربوبية لما لحظ لهم القهر على النشأة الترابية ‪.‬‬

‫[ سورة األنعام ‪( 6 ) :‬آية ‪] 79‬‬


‫ض َحنِيفا ً َوما أَنَا ِم َن ا ْل ُمش ِْر ِك َ‬
‫ين ‪( 79‬‬ ‫ت َو ْاأل َ ْر َ‬ ‫ي ِللهذِي فَ َط َر ال ه‬
‫سماوا ِ‬ ‫إِ ِنّي َو هجهْتُ َوجْ ِه َ‬
‫)‬

‫ص ‪92‬‬

‫ص ‪91 :‬‬
‫ض »لما رأى بعضهم يفضل على‬ ‫ت َو ْاأل َ ْر َ‬
‫سماوا ِ‬ ‫ي ِللَّذِي فَ َ‬
‫ط َر ال َّ‬ ‫قال ‪َ «:‬و َّج ْهتُ َو ْج ِه َ‬
‫بعض وفطر السماوات واألرض هو قوله ففتقناهما ‪ ،‬فصل السماوات بعضها عن‬
‫بعض ‪ ،‬وهو بحر واسع ما يسعه كتاب ‪ ،‬ففتقهما بعد رتقهما ليتميزا ‪ ،‬فيظهر المؤثر‬
‫والمؤثر فيه لوجود التكوين ‪َ «.‬حنِيفا ً »الحنف ‪ :‬الميل أي مائال إلى جناب الحق« َوما‬
‫أَنَا »في هذا الميل« ِمنَ ْال ُم ْش ِر ِكينَ »فنفى عن نفسه الشرك ‪.‬‬

‫[ التوجه في الصالة ]‬
‫ي ِللَّذِي فَ َ‬
‫ط َر‬ ‫‪-‬التوجه في الصالة ‪ -‬جاء في الحديث بعد التكبير« َو َّج ْهتُ َو ْج ِه َ‬
‫ياي َو َمماتِي‬‫س ِكي َو َم ْح َ‬ ‫صالتِي َونُ ُ‬ ‫ض َحنِيفا ً َوما أَنَا ِمنَ ْال ُم ْش ِر ِكينَ ‪ِ ،‬إ َّن َ‬ ‫ت َو ْاأل َ ْر َ‬
‫سماوا ِ‬ ‫ال َّ‬
‫يك لَهُ َو ِبذ ِل َك أ ُ ِم ْرتُ َوأَنَا أ َ َّو ُل ْال ُم ْس ِل ِمينَ »‬
‫ّلل َربه ِ ْالعالَ ِمينَ ‪ ،‬ال ش َِر َ‬‫ِ َّ ِ‬

‫[ إشارة ‪ :‬من دعاء التوجه في الصالة ]‬


‫واألكمل في التوجه أن يعقب التوجه بقوله ‪ « :‬اللهم أنت الملك ال إله إال أنت ‪ ،‬أنت‬
‫ربي وأنا عبدك ‪ ،‬ظلمت نفسي ‪ ،‬واعترفت بذنبي ‪ ،‬فاغفر لي ذنوبي جميعا إنه ال يغفر‬
‫الذنوب إال أنت ‪ ،‬واهدني ألحسن األخالق ال يهدي ألحسنها إال أنت ‪ ،‬واصرف عني‬
‫سيئها ال يصرف عني سيئها إال أنت ‪ ،‬لبيك وسعديك ‪ ،‬والخير كله بيديك والشر ليس‬
‫إليك ‪ ،‬أنا بك وإليك ‪ ،‬تباركت وتعاليت ‪ ،‬أستغفرك وأتوب إليك » ‪ -‬إشارة ‪ -‬أيها‬
‫الحباب المتقاطر ‪ ،‬والسحاب الماطر ‪ ،‬هذا قد تجلى لكليتك اإلله الفاطر ‪ ،‬فقل لسمائك‬
‫ال تحجب بلطافتها ‪ ،‬وألرضك ال تحجب بكثافتها ‪ ،‬فإنه ال بد عند تجليه لسمائك من‬
‫تخلخلها ‪ ،‬وألرضك من تزلزلها ‪ ،‬فإياك أن تقع في أشراك اإلشراك ‪ ،‬لعظيم آفات‬
‫االشتراك ‪ ،‬والزم الوحدة فيها تحصل رفده ومجده ‪ ،‬وكن وجها مستديرا ‪ ،‬وال تجعله‬
‫عبوسا قمطريرا ‪ ،‬وال تحجب بالجهة الكعبية ‪ ،‬عن الجهة القلبية ‪ ،‬وألحق الحياة بقدمها‬
‫‪ ،‬والموت بعدمه في قدمها ‪ ،‬والصالة بحضرة ربك ‪ ،‬واجعل النسك قربان قربك ‪،‬‬
‫وأقر باألمر لْلمر ‪ ،‬واعترف باإلسالم حذرا من الحسام الباتر ‪ ،‬وارغب في‬
‫االنصراف إلى الفضائل وعن الرزائل ‪ ،‬واسند األمور إليه ‪ ،‬فإن مفاتيحها في يديه ‪،‬‬
‫وتدرع بثوب االستغفار ‪ ،‬فإنه يحول بينك وبين‬ ‫ه‬ ‫واستسلم للحكم ‪ ،‬تكن من أهل العلم ‪،‬‬
‫النار ‪.‬‬
‫[ سورة األنعام ( ‪ : ) 6‬اآليات ‪ 80‬إلى ‪] 81‬‬
‫ُون بِ ِه إِاله أ َ ْن يَشا َء‬ ‫خاف ما تُش ِْرك َ‬ ‫دان َوال أ َ ُ‬ ‫َّللا َوقَ ْد َه ِ‬ ‫َوحا هجهُ قَ ْو ُمهُ قا َل أ َ تُحا ُّجو ِنّي فِي ه ِ‬
‫خاف ما أَش َْر ْكت ُ ْم‬ ‫ف أَ ُ‬ ‫ون ( ‪َ ) 80‬و َك ْي َ‬ ‫ش ْي ٍء ِع ْلما ً أ َ فَال تَتَذَك ُهر َ‬ ‫س َع َر ِبّي ُك هل َ‬ ‫ش ْيئا ً َو ِ‬
‫َر ِبّي َ‬
‫ق ِب ْاأل َ ْم ِن‬‫ي ا ْلفَ ِريقَ ْي ِن أ َ َح ُّ‬‫س ْلطانا ً فَأ َ ُّ‬
‫علَ ْي ُك ْم ُ‬ ‫ون أَنه ُك ْم أَش َْر ْكت ُ ْم ِب ه ِ‬
‫اّلِل ما لَ ْم يُنَ ِ ّز ْل ِب ِه َ‬ ‫َوال تَخافُ َ‬
‫ون) ‪( 81‬‬ ‫ِإ ْن ُك ْنت ُ ْم ت َ ْعلَ ُم َ‬

‫ص ‪93‬‬

‫ص ‪92 :‬‬
‫[ المعلومات أربعة ]‬
‫اعلم أن المعلومات أربعة ‪ :‬الحق تعالى وهو الموصوف بالوجود المطلق سبحانه ‪،‬‬
‫ليس معلوال لشيء وال علة بل هو موجودا بذاته ‪ ،‬والعلم به عبارة عن العلم بوجوده ‪،‬‬
‫ووجوده ليس غير ذاته ‪ ،‬مع أنه غير معلوم الذات ‪ ،‬لكن يعلم ما ينسب إليه من‬
‫الصفات أعني صفات المعاني وهي صفات الكمال ‪ ،‬وأما العلم بحقيقة الذات فممنوع ‪،‬‬
‫ال تعلم بدليل وال ببرهان عقلي ‪ ،‬وال يأخذها حد ‪ ،‬فإنه سبحانه ال يشبه شيئا وال يشبهه‬
‫شيء ‪ ،‬فكيف يعرف من يشبه األشياء من ال يشبهه شيء وال يشبه شيئا ؟ وقد ورد‬
‫ّللا « ومعلوم ثان » وهو الحقيقة الكلية التي هي‬‫المنع من الشرع في التفكر في ذات ه‬
‫للحق وللعالم ‪ ،‬وال تتصف بالوجود وال بالعدم ‪ ،‬وال بالحدوث وال بالقدم ‪ ،‬هي في‬
‫القديم إذا وصف بها قديمة ‪ ،‬وفي المحدث إذا وصف بها محدثة ‪ ،‬ال تعلم المعلومات‬
‫قديمها وحديثها حتى تعلم هذه الحقيقة ‪ ،‬وال توجد هذه الحقيقة حتى توجد األشياء‬
‫الموصوفة بها ‪ ،‬فإن وجد شيء عن غير عدم متقدم كوجود الحق وصفاته ‪ ،‬قيل فيها ‪:‬‬
‫ّللا وهو‬
‫موجود قديم التصاف الحق بها وإن وجد شيء عن عدم كوجود ما سوى ه‬
‫المحدث الموجود بغيره قيل فيها محدثه وهي في كل موجود بحقيقتها فإنها ال تقبل‬
‫التجزي ‪ ،‬فما فيها كل وال بعض ‪ ،‬وال يتوصل إلى معرفتها مجردة عن الصورة بدليل‬
‫وال ببرهان ‪ ،‬فمن هذه الحقيقة وجد العالم بوساطة الحق تعالى ‪ ،‬وليست بموجودة‬
‫فيكون الحق قد أوجدنا من موجود قديم فيثبت لنا القدم ‪ ،‬وكذلك لتعلم أيضا أن هذه‬
‫الحقيقة ال تتصف بالتقدم على العالم وال العالم بالتأخر عنها ‪ ،‬ولكنها أصل الموجودات‬
‫عموما ‪ ،‬وهي أصل الجوهر ‪ ،‬وفلك الحياة ‪ ،‬والحق المخلوق به ‪ ،‬وغير ذلك ‪ ،‬وهي‬
‫الفلك المحيط المعقول ‪ ،‬فإن قلت ‪ :‬إنها العالم صدقت ‪ ،‬أو إنها ليست العالم صدقت ‪،‬‬
‫أو إنها الحق أو ليست الحق صدقت ‪ ،‬تقبل هذا كله وتتعدد بتعدد أشخاص العالم وتتنزه‬
‫بتنزيه الحق ‪ ،‬وهذه الحقيقة الكلية هي الجامعة لحقائق العلم والقدرة واإلرادة والسمع‬
‫والبصر وجميع األشياء كلها ‪.‬‬
‫«ومعلوم ثالث » وهو العالم كله األمالك واألفالك وما تحويه من العوالم والهواء‬
‫واألرض « ومعلوم ثالث » وهو العالم كله األمالك واألفالك وما تحويه من العوالم‬
‫والهواء واألرض وما فيهما من العالم وهو الملك األكبر « ‪ .‬ومعلوم رابع » وهو‬
‫اإلنسان الخليفة الذي جعله‬

‫ص ‪94‬‬

‫ص ‪93 :‬‬
‫ّللا في هذا العالم المقهور تحت تسخيره ‪ ،‬فمن علم هذه المعلومات فما بقي له معلوم‬ ‫ه‬
‫أصال يطلبه ‪ ،‬فمنها ما ال نعلم إال وجوده وهو الحق تعالى ‪ ،‬ونعلم أفعاله وصفاته‬
‫بضرب من األمثلة ‪ ،‬ومنها ما ال يعلم إال بالمثال كالعلم بالحقيقة الكلية ‪ ،‬ومنها ما يعلم‬
‫بهذين الوجهين وبالماهية والكيفية وهو العالم واإلنسان ‪.‬‬

‫[ سورة األنعام ( ‪ : ) 6‬آية ‪] 82‬‬


‫ظ ْل ٍم أُولئِكَ لَ ُه ُم ْاأل َ ْم ُن َو ُه ْم ُم ْهتَد َ‬
‫ُون) ‪( 82‬‬ ‫سوا إِيمانَ ُه ْم بِ ُ‬ ‫ِين آ َمنُوا َولَ ْم يَ ْلبِ ُ‬
‫الهذ َ‬
‫ظ ْل ٍم »نكرة فشق على الصحابة فقالوا ‪ « :‬وأينا لم يلبس إيمانه‬ ‫أتى سبحانه بلفظة« بِ ُ‬
‫بظلم » ؟ وهم العرب الذين نزل القرآن بلسانهم ‪ ،‬ما عرفوا مقصود الحق من اآلية ‪،‬‬
‫والذي نظروه سائغ في الكلمة غير منكور ‪ ،‬راجع إلى ما تعطيه األلفاظ من القوة في‬
‫أصل وضعها ‪ ،‬ال ما هو األمر عليه في نفسه ‪ ،‬ألن الظلم هنا ظلم خاص ‪ ،‬مع كونه‬
‫نكرة فهو نكرة عند السامع ال عند المتكلم به ‪ ،‬لهذا فسر لهم النبي صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم‬
‫ّللا بالظلم هنا ما قاله لقمان البنه وهو‬ ‫فقال لهم ‪ :‬ليس األمر كما ظننتم وإنما أراد ه‬
‫ع ِظي ٌم »ففسر صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم الظلم‬ ‫ظ ْل ٌم َ‬
‫ش ْر َك لَ ُ‬ ‫ي ال ت ُ ْش ِر ْك ِب َّ ِ‬
‫اّلل ِإ َّن ال ِ ه‬ ‫يعظه ‪ «:‬يا بُنَ َّ‬
‫ّللا أراد باإليمان هنا أنه اإليمان‬ ‫في هذه اآلية بالشرك خاصة وعلمنا بهذا التفسير أن ه‬
‫ألن الشرك ال يقابله إال التوحيد ‪ ،‬فعلم النبي صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم ما لم‬ ‫ّللا ه‬ ‫بتوحيد ه‬
‫تعلمه الصحابة ‪ ،‬ولهذا ترك التأويل من تركه من العلماء ولم يقل به واعتمد على‬
‫الظاهر وترك ذلك هّلل ‪.‬‬

‫[ سورة األنعام ( ‪ : ) 6‬آية ‪] 83‬‬


‫ت َم ْن نَشا ُء ِإ هن َربهكَ َح ِكي ٌم َ‬
‫ع ِلي ٌم (‬ ‫َوتِ ْلكَ ُح هجتُنا آت َ ْيناها ِإ ْبرا ِهي َم عَلى قَ ْو ِم ِه نَ ْرفَ ُع د ََرجا ٍ‬
‫‪) 83‬‬
‫[ حجج الرسل عليهم السالم ليست عن نظر فكري ]‬
‫الحجة هي إذا كان القول يعجز السامع فهو عين الحجة ‪ ،‬وهذا يدل على أن حجج‬
‫الرسل عليهم السالم ليست عن نظر فكري ‪ ،‬وإنما هي عن تعليم إلهي ‪ .‬فقوله تعالى‬
‫على قَ ْو ِم ِه »أي مثل حجتنا التي نصبناها دليال على‬ ‫‪َ «:‬وتِ ْل َك ُح َّجتُنا آتَيْناها ِإبْرا ِه َ‬
‫يم َ‬
‫س َدتا »فقد استدل إبراهيم الخليل‬ ‫توحيدنا ‪ ،‬وهي قوله ‪ «:‬لَ ْو كانَ فِي ِهما آ ِل َهةٌ ِإ َّال َّ‬
‫ّللاُ لَفَ َ‬
‫عليه السالم في األفول فأعطاه النظر أن األفول يناقض حفظ العالم ‪ ،‬فاإلله ال يتصف‬
‫باألفول ‪ ،‬أو األفول حادث لطروه‬

‫ص ‪94‬‬

‫ص ‪94 :‬‬
‫على اآلفل بعد أن لم يكن آفال ‪ ،‬واإلله ال يكون محال للحوادث ‪،‬‬
‫وهذه األنوار قد قبلت األفول فليس واحد منها بإله ‪ ،‬فذكر إبراهيم عليه السالم الحق‬
‫بالعالم داللة عليه ‪،‬‬
‫ولم يقل ذلك إشراكا لكن جعل األنوار الثالثة حبالة صائد يصيد بها ما شرد من عقول‬
‫قومه‬
‫على قَ ْو ِم ِه »‬ ‫فقال تعالى ‪َ «:‬وتِ ْل َك ُح َّجتُنا آتَيْناها إِبْرا ِه َ‬
‫يم »عناية منا به« َ‬

‫[ تحقيق الحجة ]‬
‫‪-‬تحقيق ‪ -‬من القول ما هو حجة وما ليس بحجة ‪ ،‬فهل الحجة على الخصم عين القول‬
‫خاصة أو ما يدل عليه القول ؟‬
‫أو في موطن يكون القول ‪ ،‬وفي موطن يكون ما يدل عليه القول ؟‬
‫إذا كان القول يعجز السامع فهو عين الحجة‬
‫ت َم ْن نَشا ُء ِإ َّن َرب ََّك َح ِكي ٌم َ‬
‫ع ِلي ٌم »فإن كل ما يجري هو عن وضع إلهي‬ ‫« ن َْرفَ ُع َد َرجا ٍ‬
‫وترتيب عالم حكيم ‪.‬‬

‫[ سورة األنعام ( ‪ : ) 6‬اآليات ‪ 84‬إلى ‪] 88‬‬


‫سلَ ْي َ‬
‫مان‬ ‫داو َد َو ُ‬ ‫وب ُكالًّ َه َد ْينا َونُوحا ً َه َد ْينا ِم ْن قَ ْب ُل َو ِم ْن ذُ ِ ّريهتِ ِه ُ‬ ‫حاق َويَ ْعقُ َ‬‫س َ‬ ‫َو َو َه ْبنا لَهُ إِ ْ‬
‫ين ( ‪َ ) 84‬و َزك َِريها َويَحْ يى‬ ‫ون َوكَذ ِلكَ نَجْ ِزي ا ْل ُمحْ ِ‬
‫سنِ َ‬ ‫هار َ‬ ‫ف َو ُموسى َو ُ‬ ‫س َ‬ ‫وب َويُو ُ‬‫َوأَيُّ َ‬
‫س َولُوطا ً َوكالًّ‬ ‫س َع َويُونُ َ‬ ‫سما ِعي َل َوا ْليَ َ‬ ‫ين ( ‪َ ) 85‬وإِ ْ‬ ‫صا ِل ِح َ‬‫ياس ُك ٌّل ِم َن ال ه‬ ‫َو ِعيسى َوإِ ْل َ‬
‫ين ( ‪َ ) 86‬و ِم ْن آبائِ ِه ْم َوذُ ِ ّريهاتِ ِه ْم َو ِإ ْخوانِ ِه ْم َواجْ تَبَ ْينا ُه ْم َو َه َد ْينا ُه ْم‬ ‫علَى ا ْلعالَ ِم َ‬ ‫ض ْلنا َ‬ ‫فَ ه‬
‫َّللا يَ ْهدِي ِب ِه َم ْن يَشا ُء ِم ْن ِعبا ِد ِه َولَ ْو أَش َْركُوا‬ ‫يم ( ‪ ) 87‬ذ ِلكَ ُهدَى ه ِ‬ ‫ست َ ِق ٍ‬‫راط ُم ْ‬
‫ِإلى ِص ٍ‬
‫ون) ‪( 88‬‬ ‫ع ْن ُه ْم ما كانُوا يَ ْع َملُ َ‬ ‫لَ َح ِب َط َ‬
‫ّللا ‪ .‬ليس له ذلك ‪ ،‬ولكن‬ ‫اعلم أن األسباب محال رفعها ‪ ،‬وكيف يرفع العبد ما أثبته ه‬
‫ّللا الهداية بالروح‬ ‫الجهل ع هم الناس فأعماهم وحيرهم وما هداهم ‪ ،‬فقد أثبت ه‬
‫فقال تعالى ‪َ (:‬و َكذ ِل َك أ َ ْو َحيْنا ِإلَي َْك ُروحا ً ِم ْن أ َ ْم ِرنا )‬
‫وقال فيه ‪ (:‬نَ ْهدِي ِب ِه َم ْن نَشا ُء ِم ْن ِعبادِنا )‬

‫[ األسباب محال رفعها ]‬


‫ّللا ‪،‬‬
‫وهذا وضع السبب في العالم ‪ ،‬فالوقوف عند األسباب ال ينافي االعتماد على ه‬
‫ّللا‬
‫ولهذا جعل سبحانه األسباب مسببات ألسباب غيرها ‪ ،‬من األدنى حتى ينته فيها إلى ه‬
‫سبحانه ‪ ،‬فهو السبب األول ال عن سبب كان به ‪ ،‬فما دام الموجود ناظرا إلى السبب‬
‫الذي صدر عنه ‪ ،‬كان أعمى‬

‫ص ‪95‬‬

‫ص ‪95 :‬‬
‫ّللا أن يجعله بصيرا ‪ ،‬ترك النظر إلى السبب‬ ‫ّللا الذي أوجده ‪ ،‬فإذا أراد ه‬
‫عن شهود ه‬
‫ّللا عنده ‪ ،‬ونظر من الوجه الخاص الذي من ربه إليه في إيجاده ‪ ،‬جعله‬ ‫الذي أوجده ه‬
‫ّللا بصيرا‪.‬‬
‫ه‬
‫فاألسباب كلها ظلمات على عيون المسببات ‪ ،‬وفيها هلك من هلك من الناس ‪،‬‬
‫فالعارفون يثبتونها وال يشهدونها ‪ ،‬ويعطونها حقها وال يعبدونها ‪ ،‬وما سوى العارفين‬
‫يعاملونها بالعكس ‪ ،‬يعبدونها وال يعطونها حقها ‪ ،‬بل يغصبونها فيما تستحقه من‬
‫العبودية التي هي حقها ‪ ،‬ويشهدونها وال يثبتونها ‪.‬‬

‫[ سورة األنعام ( ‪ : ) 6‬آية ‪] 89‬‬


‫ُالء فَقَ ْد َو هك ْلنا ِبها قَ ْوما ً‬ ‫تاب َوا ْل ُح ْك َم َوالنُّبُ هوةَ فَ ِإ ْن يَ ْكفُ ْر ِبها هؤ ِ‬ ‫أُول ِئكَ الهذ َ‬
‫ِين آت َ ْينا ُه ُم ا ْل ِك َ‬
‫ين) ‪( 89‬‬ ‫سوا ِبها ِبكا ِف ِر َ‬ ‫لَ ْي ُ‬
‫فإن الملك أوسع من أن يضيق عن وجود شيء ‪ ،‬كما قال تعالى ‪َ (:‬وإِ ْن تَت َ َولَّ ْوا يَ ْست َ ْبد ِْل‬
‫غي َْر ُك ْم ث ُ َّم ال يَ ُكونُوا أ َ ْمثالَ ُك ْم )‪.‬‬
‫قَ ْوما ً َ‬

‫[ سورة األنعام ( ‪ : ) 6‬آية ‪] 90‬‬


‫علَ ْي ِه أَجْ را ً ِإ ْن ُه َو ِإاله ِذ ْكرى‬ ‫سئَلُ ُك ْم َ‬ ‫َّللاُ فَ ِب ُهدا ُه ُم ْ‬
‫اقت َ ِد ْه قُ ْل ال أ َ ْ‬ ‫أُول ِئكَ الهذ َ‬
‫ِين َه َدى ه‬
‫ين) ‪( 90‬‬‫ِل ْلعالَ ِم َ‬
‫‪-‬الوجه األول ‪ -‬هدى األنبياء عليهم السالم هو ما كانوا عليه من األمور المقربة إلى‬
‫ّللا عليه وسلم هدي األنبياء ‪ ،‬وعيشة السعداء‬ ‫ّللا ‪ ،‬وفي الدعاء المأثور سؤاله صلهى ه‬ ‫ه‬
‫وبالهدى تعطى التوفيق ‪ ،‬وهو األخذ والمشي بهدي األنبياء ‪ ،‬وتعطى البيان وهو شرح‬
‫ما جاء به الحق ‪ ،‬إذ الهدى هديان ‪ :‬هدى تبياني‬
‫ض َّل قَ ْوما ً بَ ْع َد ِإ ْذ هَدا ُه ْم َحتَّى يُبَ ِيهنَ لَ ُه ْم ما يَتَّقُونَ )‬ ‫ّللاُ ِليُ ِ‬
‫وهو قوله تعالى ‪َ (:‬وما كانَ َّ‬
‫وهذا الهدى قد يعطي السعادة وقد ال يعطيها ‪ ،‬إال أنه يعطي العلم ‪،‬‬
‫على ِع ْل ٍم )؛ وهدى توفيقي وهو هدى األنبياء عليهم السالم‬ ‫ضلَّهُ َّ‬
‫ّللاُ َ‬ ‫كقوله تعالى ‪َ (:‬وأ َ َ‬
‫‪ ،‬وهو الذي يعطي سعادة العباد( َوما ت َ ْوفِي ِقي ِإ َّال بِ َّ ِ‬
‫اّلل )‬
‫وإذا كان الرسول سيد البشر يقال له [ « أُولئِ َك الَّذِينَ َه َدى َّ‬
‫ّللاُ فَ ِب ُهدا ُه ُم‬

‫ص ‪96‬‬

‫ص ‪96 :‬‬
‫ا ْقت َ ِد ْه » ]‬
‫ّللاُ فَبِ ُهدا ُه ُم ا ْقت َ ِد ْه »فما ظنك بالتابع‬ ‫‪ «:‬أُولئِ َك الَّذِينَ َه َدى َّ‬
‫ّللا عليه وسلم متبعا اسم مفعول ال اسم‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫‪ -‬الوجه الثاني ‪ -‬لما كان رسول ه‬
‫فاعل لذلك قال له عند ذكر األنبياء« فَ ِب ُهدا ُه ُم‬
‫ّللا الذي شرع لهم ‪،‬‬‫ّللا ‪ ،‬فكان الشارع لنا ه‬ ‫ا ْقت َ ِد ْه »ال بهم ‪ ،‬وهداهم ليس سوى شرع ه‬
‫فلو أخذ عنهم لكان تابعا« فَبِ ُهدا ُه ُم ا ْقت َ ِد ْه »فيما ذكرناه ‪ ،‬ال في فروع األحكام ‪ ،‬وإن‬
‫ظهر في شرعنا من فروع شرع من قبلنا ‪ ،‬فمن حيث هو شرع لنا ‪ ،‬وقد يقع االتفاق‬
‫في بعض األحكام ‪ ،‬كالتوحيد واإليمان باآلخرة وما فيها ‪ ،‬ال ينكر ذلك‬
‫‪ -‬الوجه الثالث ‪ -‬اعلم أن كل شرع بعث به نبي من األنبياء فهو من شرع محمد صلهى‬
‫ّللا عليه وسلم من اسمه الباطن ‪ ،‬إذ كان نبيا وآدم بين الماء والطين ‪ ،‬فقوله تعالى له‬ ‫ه‬
‫ّللاُ فَ ِب ُهدا ُه ُم ا ْقت َ ِد ْه »وما قال بهم ‪ ،‬إذ كان هداهم هداك الذي سرى‬ ‫ُ‬
‫‪ «:‬أول ِئ َك الَّذِينَ َه َدى َّ‬
‫إليهم ‪ ،‬فمعناه من حيث العلم إذا اهتديت بهديهم فهو اهتداؤك بهديك ‪ ،‬ألن األولية لك‬
‫باطنا ‪ ،‬واآلخرية لك ظاهرا ‪ ،‬واألولية لك في اآلخرية ظاهرا وباطنا ‪ ،‬وعلمنا من‬
‫ّللا عليه وسلم مساو لجميع من ذكره من األنبياء ومن لم يذكره ‪،‬‬ ‫ذلك أن محمدا صلهى ه‬
‫فإنه لكل نبي هدى كما ذكر ( ِل ُك ٍهل َجعَ ْلنا ِم ْن ُك ْم ِش ْر َ‬
‫عةً َو ِم ْنهاجا ً )فهو سبحانه نصب‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ ،‬فمن رآه‬‫الشرائع ‪ ،‬وأوضح المناهج ‪ ،‬وجمع ذلك كله في محمد صلهى ه‬
‫فقد رأى جميع المقربين ‪ ،‬ومن اهتدى بهديه فقد اهتدى بهدي جميع النبيين ‪ .‬ومن ذلك‬
‫ّللا عليه وسلم لنا مما كان شرعا لألنبياء عليهم السالم فعلمناه‬ ‫أن ما قرره النبي صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم خص بعلم‬ ‫على القطع فهو شرع لنا ‪ ،‬ومن هذه اآلية علمنا أنه صلهى ه‬
‫ّللا تعالى له عن شرائع المتقدمين ‪ ،‬وأمره أن يهتدي بهداهم ‪،‬‬ ‫الشرائع كلها ‪ ،‬فأبان ه‬
‫وخص بشرع لم يكن لغيره ‪.‬‬

‫[ سورة األنعام ( ‪ : ) 6‬آية ‪] 91‬‬


‫ش ْي ٍء قُ ْل َم ْن أ َ ْن َز َل ا ْل ِك َ‬
‫تاب‬ ‫َّللاُ عَلى بَش ٍَر ِم ْن َ‬ ‫ق قَد ِْر ِه إِ ْذ قالُوا ما أ َ ْن َز َل ه‬ ‫َّللا َح ه‬‫َوما قَد َُروا ه َ‬
‫ون َكثِيرا ً‬ ‫يس ت ُ ْبدُونَها َوت ُ ْخفُ َ‬ ‫اس تَجْ عَلُونَهُ قَ ِ‬
‫راط َ‬ ‫دى ِللنه ِ‬ ‫الهذِي جا َء ِب ِه ُموسى نُورا ً َو ُه ً‬
‫ون ) ‪( 91‬‬ ‫ع ِلّ ْمت ُ ْم ما لَ ْم ت َ ْعلَ ُموا أ َ ْنت ُ ْم َوال آبا ُؤ ُك ْم قُ ِل ه‬
‫َّللاُ ث ُ هم ذَ ْر ُه ْم فِي َخ ْو ِض ِه ْم يَ ْلعَبُ َ‬ ‫َو ُ‬
‫ّللا فرغ من الخلق في يوم العروبة ‪ ،‬واستراح يوم السبت واستلقى‬ ‫قالت اليهود ‪ :‬إن ه‬
‫ّللا‬
‫على ظهره ‪ ،‬ووضع إحدى رجليه على األخرى ‪ ،‬وقال ‪ « :‬أنا الملك ‪ » .‬قال ه‬
‫ّللا َح َّق قَ ْد ِر ِه »وتزعم اليهود أن هذا‬ ‫تعالى في مقابلة هذا الكالم وأمثاله ‪َ «:‬وما قَ َد ُروا َّ َ‬
‫مما نزل في‬

‫ص ‪97‬‬

‫ص ‪97 :‬‬
‫التوراة ‪ ،‬فال نصدقهم في ذلك وال نكذبهم وقال تعالى ذلك في حقهم لكونهم ليسوا مثله‬
‫‪ ،‬فما عرفوه ‪ ،‬ومن جهل أمره ال يقدر قدره ‪ ،‬فهم ليسوا له بمثل وال هو مثل لهم ‪،‬‬
‫فوصفوه بنفوسهم وبما هم عليه ‪ ،‬وال يتمكن لهم ذلك ‪ ،‬ألنهم يريدون الوصف الثبوتي‬
‫وال يكون إال بالتشبيه ‪ ،‬ومن جعل مثال لمن ال يقبل المثل فما قدره حق قدره ‪ ،‬أي ما‬
‫أنزله المنزلة التي يستحقها ‪ ،‬فذمهم بالجهل حيث تعرضوا لما ليس لهم به علم ‪ ،‬فلو‬
‫قالوا فيه بما أنزله إليهم لم يتعلق بهم ذم من قبل الحق ‪ ،‬ألن الحاكي ال ينسب إليه ما‬
‫باّلل ال يدرك بقياس ‪ ،‬وإنما‬ ‫حكاه ‪ ،‬فال يتعلق به ذم في ذلك وال مدح ‪ ،‬فعلم الخلق ه‬
‫يدرك بإلقاء السمع لخطاب الحق ‪ ،‬إما بنفسه وإما بلسان المترجم عنه وهو الرسول ‪،‬‬
‫مع الشهود الذي ال يسعه معه غير ما سمعه من الخطاب ‪،‬‬
‫ب )فأحال على النظر‬ ‫كما قال ‪ِ (:‬إ َّن ِفي ذ ِل َك )إشارة لما تقدم( لَ ِذ ْكرى ِل َم ْن كانَ لَهُ قَ ْل ٌ‬
‫ش ِهي ٌد ) وما عدا هذين الصنفين فال‬ ‫الفكري بتقلب األحوال عليه ( أ َ ْو أ َ ْلقَى ال َّ‬
‫س ْم َع َو ُه َو َ‬
‫طريق لهم إلى العلم بما يستحقه الحق أن يضاف إليه ‪ ،‬وما يستحقه الخلق أن يضاف‬
‫باّلل ال تنقطع دنيا وال آخرة ‪،‬‬‫ّللا ال يقدر مفصال ‪ ،‬ألن الزيادة من العلم ه‬ ‫إليهم ‪ ،‬وقدر ه‬
‫ّللا َح َّق قَ ْد ِر ِه »فيما كيهف به نفسه مما ذكره في‬ ‫فاألمر في ذلك غير متناه« َوما قَ َد ُروا َّ َ‬
‫كتابه وعلى لسان رسوله من صفاته ‪ ،‬وقدر األمر موازنته لمقداره ‪ ،‬وهذا ال يعلم من‬
‫األمر حتى يكون له ما يعادله في ذاته ‪ ،‬فيكون ذلك المعادل مقدارا له ألنه يزنه ‪ ،‬وقد‬
‫ّللا لنفسه قدرا لكنه مجهول عند أصحاب هذا الضمير ‪ ،‬وال يعرف قدر الحق إال‬ ‫جعل ه‬
‫ّللا على صورته ‪ ،‬وهي الخالفة ‪ ،‬ثم وصف‬ ‫من عرف اإلنسان الكامل الذي خلقه ه‬
‫الحق نفسه في الصورة الظاهرة باليدين والرجلين واألعين ‪ ،‬وشبه ذلك مما وردت به‬
‫األخبار مما يقتضيه الدليل العقلي من تنزيه حكم الظاهر من ذلك في المحدثات عن‬
‫ّللا ‪ ،‬فحق قدره إضافة ما أضافه إلى نفسه مما ينكر الدليل إضافته إليه تعالى ‪،‬‬ ‫جناب ه‬
‫إذ لو انفرد دون الشرع لم يضف شيئا من ذلك إليه ‪ ،‬فمن أضاف مثل هذا إليه ‪ ،‬عقال‬
‫ّللا حق قدره ‪ ،‬وما قال أخطأ المضيف ‪ ،‬ومن أضافه شرعا‬ ‫فذلك هو الذي ما قدر ه‬
‫ّللا حق قدره ‪ .‬فاإلنسان الكامل‬ ‫وشهودا ‪ ،‬وكان على بينة من ربه ‪ ،‬فذلك الذي قدر ه‬
‫الذي هو الخليفة قدر الحق ظاهرا وباطنا ‪ ،‬صورة ومنزلة ومعنى ألنه على صورة‬
‫الحق ‪ ،‬والعالم قدر الحق وجودا ‪ ،‬وأما في الثبوت فهو أظهر لحكم األزل الذي هو‬
‫للممكنات في ثبوتها ألن اإلمكان للممكن نعت ذاتي نفسي ‪ ،‬وما ظفر باألمر‬

‫ص ‪98‬‬

‫ص ‪98 :‬‬
‫على ما هو عليه إال من جمع بين التشبيه والتنزيه ‪ ،‬فقال بالتنزيه من وجه عقال‬
‫وشرعا ‪ ،‬وقال بالتشبيه من وجه شرعا ال عقال ‪ ،‬والشهود يقضي بما جاءت به الرسل‬
‫ّللا َح َّق قَ ْد ِر ِه ِإ ْذ قالُوا‬
‫ّللا ‪ ،‬وأما في سياق اآلية فقوله تعالى «‪َ :‬وما قَ َد ُروا َّ َ‬ ‫إلى أممها في ه‬
‫ش ْيءٍ »‬‫على بَش ٍَر ِم ْن َ‬ ‫ّللاُ َ‬‫ما أ َ ْنزَ َل َّ‬
‫ّللا موازن لقدره عندك ]‬ ‫[ حكمة ‪ :‬قدرك عند ه‬
‫ّللا ‪،‬‬‫ّللا ‪ ،‬فكذبوا على ه‬ ‫مع إقرارهم أن التوراة نزلت على موسى عليه السالم من عند ه‬
‫فاسودت وجوههم أي ذواتهم ‪ ،‬فال نور لهم يكشفون به األشياء ‪ ،‬بل هم عمي ال‬
‫تاب الَّذِي جا َء بِ ِه ُموسى نُورا ً َو ُهد ً‬
‫ى‬ ‫يبصرون ‪ ،‬لذلك قال تعالى ‪ «:‬قُ ْل َم ْن أ َ ْنزَ َل ْال ِك َ‬
‫ع ِله ْمت ُ ْم ما لَ ْم ت َ ْعلَ ُموا أ َ ْنت ُ ْم َوال آبا ُؤ ُك ْم‬
‫يس ت ُ ْبدُونَها َوت ُ ْخفُونَ َكثِيرا ً ‪َ ،‬و ُ‬
‫راط َ‬‫اس ‪ ،‬ت َ ْجعَلُونَهُ قَ ِ‬ ‫ِللنَّ ِ‬
‫ّللا إال أن نقول « هللا » ثم أمرنا أن‬ ‫ض ِه ْم يَ ْلعَبُونَ »ما أمرنا ه‬ ‫ّللاُ ث ُ َّم ذَ ْر ُه ْم ِفي خ َْو ِ‬
‫‪ ،‬قُ ِل َّ‬
‫نتركهم في خوضهم يلعبون ‪ ،‬فإنه لما جهل قدره ‪ ،‬عصي نهيه وأمره ‪ -‬حكمة ‪ -‬كل‬
‫ّللا‬
‫من أنزلته منزلته فقد قدرته حق قدره ‪ ،‬وما بعد ذلك مرمى لرام ‪ ،‬وقدرك عند ه‬
‫موازن لقدره عندك ‪ ،‬وأنت أعرف بنفسك مع ربك ‪.‬‬

‫[ سورة األنعام ( ‪ ) : 6‬اآليات ‪ 92‬إلى ‪] 93‬‬


‫ق الهذِي بَ ْي َن يَ َد ْي ِه َو ِلت ُ ْنذ َِر أ ُ هم ا ْلقُرى َو َم ْن َح ْولَها َوالهذ َ‬
‫ِين‬ ‫باركٌ ُم َ‬
‫ص ِ ّد ُ‬ ‫تاب أ َ ْن َز ْلنا ُه ُم َ‬
‫َوهذا ِك ٌ‬
‫ون ) ‪َ ( 92‬و َم ْن أ َ ْظلَ ُم ِم هم ِن‬ ‫ظ َ‬ ‫صالتِ ِه ْم يُحافِ ُ‬ ‫ون بِ ِه َو ُه ْم عَلى َ‬ ‫ون بِ ْاآل ِخ َر ِة يُ ْؤ ِمنُ َ‬ ‫يُ ْؤ ِمنُ َ‬
‫سأ ُ ْن ِز ُل ِمثْ َل ما‬ ‫ش ْي ٌء َو َم ْن قا َل َ‬ ‫ح إِلَ ْي ِه َ‬‫ي َولَ ْم يُو َ‬ ‫ي إِلَ ه‬
‫وح َ‬ ‫َّللا َكذِبا ً أ َ ْو قا َل أ ُ ِ‬
‫علَى ه ِ‬ ‫افتَرى َ‬ ‫ْ‬
‫ِيه ْم أ َ ْخ ِر ُجوا‬
‫طوا أ َ ْيد ِ‬ ‫س ُ‬‫ت َوا ْل َمالئِكَةُ با ِ‬‫ت ا ْل َم ْو ِ‬ ‫غ َمرا ِ‬‫ون فِي َ‬ ‫َّللاُ َولَ ْو تَرى إِ ِذ ال ه‬
‫ظا ِل ُم َ‬ ‫أ َ ْن َز َل ه‬
‫ق َو ُك ْنت ُ ْم ع َْن‬ ‫َّللا َ‬
‫غ ْي َر ا ْل َح ّ ِ‬ ‫علَى ه ِ‬ ‫ون َ‬ ‫ون ِبما ُك ْنت ُ ْم تَقُولُ َ‬ ‫َذاب ا ْل ُه ِ‬ ‫س ُك ُم ا ْليَ ْو َم تُجْ َز ْو َن ع َ‬ ‫أ َ ْنفُ َ‬
‫ون ( ‪) 93‬‬ ‫ست َ ْك ِب ُر َ‬‫آياتِ ِه ت َ ْ‬
‫ّللا َكذِبا ً »‬
‫علَى َّ ِ‬ ‫ظلَ ُم ِم َّم ِن ا ْفتَرى َ‬ ‫« َو َم ْن أ َ ْ‬
‫ّللا تعالى ‪] 99‬‬ ‫ّللا أن ينسب اإلنسان ما سنهه إلى ه‬ ‫[ من االفتراء على ه‬
‫ّللا عليه وسلم ‪:‬‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫ّللا ‪ ،‬وقال رسول ه‬ ‫بالكذب على ه‬
‫[ من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار ] ويدخل في هذه اآلية من يجري إلى‬
‫ّللا ‪ ،‬وأنه‬ ‫ّللا تعالى ‪ ،‬ويتأول أنه ال فاعل إال ه‬ ‫ّللا ‪ ،‬وينسب الذي سنهه إلى ه‬ ‫االفتراء على ه‬
‫تعالى المنطق عباده ‪ ،‬فإذا كان مع الناس يريهم أن ما سنه ولو كان حسنا أن ذلك جاءه‬
‫ّللا ‪،‬‬ ‫من عند ه‬

‫ص ‪99‬‬

‫ص ‪99 :‬‬
‫ّللا ‪ ،‬فإذا أخطر له الملك هذه اآلية يقول ‪ :‬ما أنا مخاطب بها ‪ ،‬وإنما‬ ‫كما يجيء ألولياء ه‬
‫خوطب بها أهل الدعوى الذين ينسبون الفعل إلى أنفسهم ‪،‬‬
‫فإنه قال ‪ :‬افترى ‪ ،‬فنسب االفتراء إلى هذا القائل ‪ ،‬وأنا أقول إن األفعال كلها هّلل تعالى‬
‫ي ‪ ،‬فهو الذي قال على لساني ‪،‬‬ ‫ال إل ه‬
‫ي »فأضاف القول إليه ‪ ،‬وكذلك قوله ‪ « :‬إلي » ومن أنا‬ ‫ي ِإلَ َّ‬
‫وح َ‬‫ثم إنه قال ‪ «:‬أ َ ْو قا َل أ ُ ِ‬
‫ّللا هو المتكلم وهو السميع ‪،‬‬ ‫ي ‪ ،‬إذ ه‬ ‫حتى أقول إل ه‬
‫ّللا ‪ ،‬فإذا‬ ‫سأ ُ ْن ِز ُل ِمثْ َل ما أ َ ْنزَ َل َّ‬
‫ّللاُ »وما أقول أنا ذلك ‪ ،‬بل اإلنزال كله من ه‬ ‫ثم قال ‪َ «:‬‬
‫ّللا كذبا ‪ ،‬وزيهن له سوء عمله فرآه حسنا ‪.‬‬‫تفقه في نفسه في هذا كله افترى على ه‬

‫[ سورة األنعام ( ‪ : ) 6‬آية ‪] 94‬‬


‫ور ُك ْم َوما‬‫ظ ُه ِ‬‫َولَقَ ْد ِجئْت ُ ُمونا فُرادى كَما َخلَ ْقنا ُك ْم أ َ هو َل َم هر ٍة َوت َ َر ْكت ُ ْم ما َخ هو ْلنا ُك ْم َورا َء ُ‬
‫ع ْن ُك ْم ما‬
‫ض هل َ‬ ‫ع ْمت ُ ْم أَنه ُه ْم فِي ُك ْم ش َُركا ُء لَقَ ْد تَقَ ه‬
‫ط َع بَ ْينَ ُك ْم َو َ‬ ‫شفَعا َء ُك ُم الهذ َ‬
‫ِين َز َ‬ ‫نَرى َمعَ ُك ْم ُ‬
‫ون) ‪( 94‬‬ ‫ع ُم َ‬ ‫ُك ْنت ُ ْم ت َ ْز ُ‬
‫ط َع بَ ْينَ ُك ْم "بالرفع يعني الوصل فالبين في اللسان من األضداد ‪.‬‬ ‫" لَقَ ْد تَقَ َّ‬

‫[ سورة األنعام ( ‪ : ) 6‬آية ‪] 95‬‬


‫ت ِم َن ا ْل َح ّ‬
‫ي ِ ذ ِل ُك ُم ه‬
‫َّللاُ‬ ‫ج ا ْل َم ِيّ ِ‬ ‫ي ِم َن ا ْل َم ِيّ ِ‬
‫ت َو ُم ْخ ِر ُ‬ ‫ج ا ْل َح ه‬ ‫ق ا ْل َح ّ ِ‬
‫ب َوالنهوى يُ ْخ ِر ُ‬ ‫إِ هن ه َ‬
‫َّللا فا ِل ُ‬
‫ُون ( ‪) 95‬‬ ‫فَأَنهى ت ُ ْؤفَك َ‬
‫ّللا فا ِل ُق ْال َحبه ِ َوالنَّوى »بما يظهر منهما ‪ ،‬فيعلم من ذلك اختزان البذرة والنواة‬ ‫« ِإ َّن َّ َ‬
‫والحبة ما يظهر منها إذا بذرت في األرض ‪،‬‬
‫وكيف تدل على خروج العالم من الغيب إلى الشهادة ‪ ،‬ألن البذرة ال تعطي ما اختزن‬
‫الحق فيها إال بعد دفنها في األرض ‪ ،‬فتنفلق عما اختزنته من ساق وأوراق وبذور‬
‫أمثالها ‪ ،‬من النواة نوى ‪ ،‬ومن الحبة حبوب ‪ ،‬ومن البذرة بذور ‪ ،‬فتظهر عينها في‬
‫كثير مما خرج عنها ‪.‬‬

‫فتعلم من هذا ما الحبة التي خرج منها العالم ! ففلق الحب عن أمثاله ‪ ،‬فلم يظهر سوى‬
‫أشكاله‪.‬‬

‫ص ‪100‬‬

‫ص ‪100 :‬‬
‫[سورة األنعام ( ‪ : ) 6‬آية ‪] 96‬‬
‫يز ا ْلعَ ِل ِ‬
‫يم (‬ ‫سبانا ً ذ ِلكَ ت َ ْقد ُ‬
‫ِير ا ْلعَ ِز ِ‬ ‫س َوا ْلقَ َم َر ُح ْ‬ ‫اْلصْباحِ َو َجعَ َل الله ْي َل َ‬
‫سكَنا ً َوالش ْهم َ‬ ‫ق ِْ‬ ‫فا ِل ُ‬
‫‪) 96‬‬
‫باح »إن كان الحق فما فلقه إال بشمسه ‪ ،‬وإن كان الشمس فالحق على‬ ‫ص ِ‬ ‫« فا ِل ُق ْ ِ‬
‫اإل ْ‬
‫عزته في قدسه ‪ ،‬ومن قدسه أن يكون فالقا ‪ ،‬كما كان ألرضه وسماواته فاتقا ‪ ،‬فانفالق‬
‫الصباح من فالق اإلصباح في الليل ‪ ،‬ليكون لليل على النور والدة ‪ ،‬فتقع المناسبة بين‬
‫ِير ْالعَ ِز ِ‬
‫يز‬ ‫نور الصباح وبين روح اإلنسان ‪ ،‬فلذلك يأنس به ويستفيد منه« ذ ِل َك ت َ ْقد ُ‬
‫ّللا في الخلق بما قدره العزيز العليم ‪.‬‬ ‫ْالعَ ِل ِيم »فيجري حكم ه‬

‫[ سورة األنعام ( ‪ : ) 6‬آية ‪] 97‬‬


‫ت ا ْلبَ ِ ّر َوا ْلبَحْ ِر قَ ْد فَ ه‬
‫ص ْلنَا ْاآليا ِ‬
‫ت ِلقَ ْو ٍم‬ ‫َو ُه َو الهذِي َجعَ َل لَ ُك ُم النُّ ُجو َم ِلت َ ْهتَدُوا ِبها ِفي ُ‬
‫ظلُما ِ‬
‫ون ) ‪( 97‬‬ ‫يَ ْعلَ ُم َ‬
‫ّللا بالسلوك والسفر إليه ‪ ،‬لذلك كان‬ ‫‪-‬من باب اإلشارة ال التفسير ‪ -‬لما كان القرب إلى ه‬
‫من صفته النور لنهتدي به في الطريق ‪،‬‬
‫ت ْالبَ ِ هر »‬
‫ظلُما ِ‬ ‫وم ِلت َ ْهتَدُوا ِبها فِي ُ‬‫فقال تعالى ‪ُ «:‬ه َو الَّذِي َجعَ َل لَ ُك ُم النُّ ُج َ‬
‫[ إشارة ‪ :‬وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها ]‬
‫وهو السلوك الظاهر باألعمال البدنية« َو ْالبَ ْح ِر »وهو السلوك الباطن المعنوي‬
‫باألعمال النفسية ‪ ،‬والشرع هو النور الذي يهتدى به في ظلمات بر األسباب وبحرها ‪،‬‬
‫فمن عمل كذا فجزاؤه كذا ‪.‬‬

‫[ سورة األنعام ( ‪ : ) 6‬اآليات ‪ 98‬إلى ‪] 99‬‬


‫ت ِلقَ ْو ٍم يَ ْفقَ ُه َ‬
‫ون‬ ‫ص ْلنَا ْاآليا ِ‬‫ع قَ ْد فَ ه‬ ‫ستَقَ ٌّر َو ُم ْ‬
‫ست َ ْو َد ٌ‬ ‫َو ُه َو الهذِي أ َ ْنشَأ َ ُك ْم ِم ْن نَ ْف ٍس ِ‬
‫واح َد ٍة فَ ُم ْ‬
‫ش ْي ٍء فَأ َ ْخ َرجْ نا ِم ْنهُ‬
‫ماء ما ًء فَأ َ ْخ َرجْ نا بِ ِه نَباتَ ُك ِ ّل َ‬ ‫س ِ‬ ‫) ‪َ ( 98‬و ُه َو الهذِي أ َ ْن َز َل ِم َن ال ه‬
‫ت ِم ْن أَعْنا ٍ‬
‫ب‬ ‫وان دانِيَةٌ َو َجنها ٍ‬ ‫ج ِم ْنهُ َحبًّا ُمتَرا ِكبا ً َو ِم َن النه ْخ ِل ِم ْن َط ْل ِعها قِ ْن ٌ‬ ‫َخ ِضرا ً نُ ْخ ِر ُ‬
‫ظ ُروا ِإلى ث َ َم ِر ِه ِإذا أَثْ َم َر َويَ ْن ِع ِه ِإ هن فِي ذ ِل ُك ْم‬ ‫غ ْي َر ُمتَشا ِب ٍه ا ْن ُ‬ ‫شت َ ِبها ً َو َ‬
‫ان ُم ْ‬‫الر هم َ‬
‫ون َو ُّ‬ ‫َو ه‬
‫الز ْيت ُ َ‬
‫ون) ‪( 99‬‬ ‫ت ِلقَ ْو ٍم يُ ْؤ ِمنُ َ‬
‫َآليا ٍ‬

‫ص ‪101‬‬

‫ص ‪101 :‬‬
‫أعطى الرزاق النبات رزقه المعين وهو ما به غذاؤه وحياته ‪ ،‬فأعطاه الماء له ولكل‬
‫حي في العالم ‪ ،‬وجعله رزقا له ‪ ،‬ثم جعل النبات رزقا لغيره من الحيوان ‪ ،‬فهو‬
‫والحيوان رزق ومرزوق ‪ ،‬فالكل رزق ومرزوق ‪.‬‬

‫[ سورة األنعام ( ‪) : 6‬اآليات ‪ 100‬إلى ‪] 101‬‬


‫س ْبحانَهُ َوتَعالى‬ ‫ت بِغَ ْي ِر ِع ْل ٍم ُ‬ ‫ّلِل ش َُركا َء ا ْل ِج هن َو َخلَقَ ُه ْم َو َخ َرقُوا لَهُ بَنِ َ‬
‫ين َوبَنا ٍ‬ ‫َو َجعَلُوا ِ ه ِ‬
‫صاحبَةٌ‬
‫ِ‬ ‫ض أَنهى يَك ُ‬
‫ُون لَهُ َولَ ٌد َولَ ْم تَك ُْن لَهُ‬ ‫ت َو ْاأل َ ْر ِ‬
‫سماوا ِ‬ ‫ون ) ‪ ( 100‬بَدِي ُع ال ه‬ ‫ع هما يَ ِصفُ َ‬ ‫َ‬
‫ع ِلي ٌم ) ‪( 101‬‬ ‫ش ْي ٍء َ‬ ‫ش ْي ٍء َو ُه َو ِب ُك ِ ّل َ‬
‫ق ُك هل َ‬ ‫َو َخلَ َ‬
‫االبتداع إظهار أمر على غير مثال ‪ ،‬هذا أصله ‪ ،‬ولهذا قال الحق تعالى عن نفسه«‬
‫ض »أي موجدها على غير مثال سبق ‪ ،‬فاألول في كل صورة‬ ‫ت َو ْاأل َ ْر ِ‬
‫سماوا ِ‬ ‫بَدِي ُع ال َّ‬
‫مبدع والثاني ليس بمبدع ‪ ،‬فإنه على مثاله ‪ ،‬ولكنه مخلوق ‪ ،‬فهو بالخلق األول بديع ‪،‬‬
‫وبالخلق الثاني المماثل للخلق األول خالق ‪.‬‬

‫[ سورة األنعام ( ‪ : ) 6‬آية ‪] 102‬‬


‫ش ْي ٍء فَا ْعبُدُوهُ َو ُه َو عَلى ُك ِ ّل َ‬
‫ش ْي ٍء َو ِكي ٌل ( ‪102‬‬ ‫َّللاُ َربُّ ُك ْم ال ِإلهَ ِإاله ُه َو خا ِل ُ‬
‫ق ُك ِ ّل َ‬ ‫ذ ِل ُك ُم ه‬
‫)‬
‫[ توحيد الرب باالسم الخالق ‪ ،‬وهو توحيد الهوية ]‬
‫هذا توحيد الرب باالسم الخالق ‪ ،‬وهو توحيد الهوية ‪ ،‬وهذا توحيد الوجود ال توحيد‬
‫التقدير ‪ ،‬فإنه أمر بالعبادة ‪ ،‬وال يأمر بالعبادة إال من هو موصوف بالوجود ‪ ،‬وجعل‬
‫ّللا وبين التهليل ‪ ،‬وجعله مضافا إلينا إضافة‬ ‫الوجود للرب ‪ ،‬فجعل ذلك االسم بين ه‬
‫خاصة إلى الرب ‪ ،‬فهي إضافة خصوص ‪ ،‬لنوحده في سيادته ومجده في وجوب‬
‫وجوده ‪ ،‬فال يقبل العدم كما يقبله الممكن ‪ ،‬فإنه الثابت وجوده لنفسه ‪ ،‬ويوحد أيضا في‬
‫ملكه بإقرارنا بالرق له ‪ ،‬ولنوحده توحيد المنعم لما أنعم به علينا ‪ ،‬من تغذيته إيانا في‬
‫ظلم األرحام وفي الحياة الدنيا ‪ ،‬ونوحده أيضا فيما أوجده من المصالح التي بها قوامنا‬
‫‪ ،‬من إقامة النواميس ووضع الموازين ومبايعة األئمة القائمين بالدين ‪ ،‬وهذه الفصول‬
‫كلها أعطاها االسم الرب ‪ ،‬فوحدناه ونفينا ربوبية من سواه ‪ ،‬قال يوسف عليه السالم‬
‫ّللا الواحد‬‫لصاحبي السجن ‪ ( :‬أأرباب متفرقون خير أم ه‬

‫ص ‪102‬‬

‫ص ‪102 :‬‬
‫ّللاُ َربُّ ُك ْم ال إِلهَ‬
‫القهار ) وفي توحيد الربوبية هنا ع هم إضافة جميعنا إليه ‪ ،‬فقال «‪ :‬ذ ِل ُك ُم َّ‬
‫ّللا تعالى مر هكب ‪ ،‬وهو الموجب‬ ‫ش ْيءٍ »كل موجود سوى ه‬ ‫ِإ َّال ُه َو خا ِل ُق ُك ِهل َ‬
‫الستصحاب االفتقار له ‪ ،‬فإنه وصف ذاتي ‪ ،‬والذي نسمعه من البسائط إنما هي أمور‬
‫ش ْيءٍ فَا ْعبُدُوهُ »لنعلم أن‬ ‫معقولة ال وجود لها في أعيانها ‪ ،‬وقال تعالى ‪ «:‬خا ِل ُق ُك ِهل َ‬
‫ّللا تعالى ‪ ،‬وهو العالم المعبر‬ ‫الوجود مقسم بين عابد ومعبود ‪ ،‬فالعابد كل ما سوى ه‬
‫ّللا عبد هّلل ‪ ،‬ما خلق‬ ‫ّللا ‪ ،‬فكل ما سوى ه‬ ‫عنه والمسمى عبدا ‪ ،‬والمعبود هو المسمى ه‬
‫ويخلق ‪.‬‬

‫[ سورة األنعام ( ‪ : ) 6‬آية ‪] 103‬‬


‫ير ( ‪) 103‬‬ ‫يف ا ْل َخ ِب ُ‬ ‫صار َو ُه َو يُد ِْركُ ْاأل َ ْب َ‬
‫صار َو ُه َو الله ِط ُ‬ ‫ال تُد ِْر ُكهُ ْاأل َ ْب ُ‬
‫ْصار »الضمير يعود على الوجه ‪ ،‬ووجه‬ ‫ْصار » ]« ال ت ُ ْد ِر ُكهُ ْاألَب ُ‬ ‫[ « ال ت ُ ْد ِر ُكهُ ْاألَب ُ‬
‫الشيء ذاته وحقيقته ‪،‬‬
‫التي قال فيها الحق ‪ [ :‬ألحرقت سبحات وجهه ما أدركه بصره ] ‪ ،‬ولكن البصر‬
‫ناض َرة ٌ‬
‫يدركه من حيث التجلي الصوري في األسماء من قوله تعالى ‪ُ (:‬و ُجوهٌ يَ ْو َمئِ ٍذ ِ‬
‫ناظ َرة ٌ )‬
‫ِإلى َر ِبهها ِ‬
‫ّللا عليه وسلم في الحديث الصحيح ‪ [ :‬ترون ربكم ]« ال ت ُ ْد ِر ُكهُ ْاأل َب ُ‬
‫ْصار‬ ‫وقوله صلهى ه‬
‫»ألنه نور ‪ ،‬والنور ال يدرك إال بالنور ‪ ،‬فال يدرك النور إال به« َو ُه َو يُ ْد ِركُ ْاألَب َ‬
‫ْصار‬
‫يف »ألنه يلطف ويخفى في عين ظهوره فال يعرف وال يشهد‬ ‫»ألنه نور« َو ُه َو اللَّ ِط ُ‬
‫ْصار »يعني في‬ ‫ير »علم ذوق ‪ «،‬ال ت ُ ْد ِر ُكهُ ْاألَب ُ‬ ‫كما يعرف نفسه ‪ ،‬ويشهدها ‪ْ «،‬ال َخبِ ُ‬
‫ْصار »ولم يخص دارا من دار ‪ ،‬بل‬ ‫الدنيا مع ثبوت الرؤيا في اآلخرة ‪ «،‬ال ت ُ ْد ِر ُكهُ ْاألَب ُ‬
‫ّللا عليه وسلم ‪:‬‬ ‫أرسلها آية مطلقة ‪ ،‬ومسئلة معينة ‪ ،‬فال يدركه سواه ‪ ،‬قيل للنبي صلهى ه‬
‫أرأيت ربك ؟‬
‫فقال ‪ :‬نور أنهى أراه ‪ ،‬فال يزال حجاب العزة مسدال ‪ ،‬ال يرفع أبدا ‪ ،‬ج هل أن تحكم عليه‬
‫األبصار عند مشاهدتها إياه ‪ ،‬ألنها في الحيرة والعجز ‪ ،‬فرؤيتها ال رؤيتها ‪ ،‬كما قال‬
‫الصديق ‪ :‬العجز عن درك اإلدراك إدراك ‪.‬‬
‫ّللا عليه وسلم يقول ‪ :‬واجعلني‬ ‫والمعنى اآلخر أنه ما رآه مني إال هويته ‪ ،‬فإنه صلهى ه‬
‫نورا ‪ ،‬وظلمتي ال تدركه ‪.‬‬
‫ْصار »فإن البصر جاء ليدرك به ال أنه يدرك ‪ ،‬ولذا جاء في قوله« ال‬ ‫« ال ت ُ ْد ِر ُكهُ ْاألَب ُ‬
‫ت ُ ْد ِر ُكهُ »بضمير الغائب ‪ ،‬والغيب غير مدرك بالبصر والشهود ‪ ،‬وهو الباطن تعالى ‪،‬‬
‫ْصار »فإنه ال يلزم الغيبة من‬ ‫فإنه لو أدرك لم يكن غيبا وال بطن ‪ ،‬ولكن« يُ ْد ِركُ ْاألَب َ‬
‫الطرفين ‪ ،‬ما يلزم من هو غائب عنك أن تكون غائبا عنه ‪ ،‬قد يكون ذلك وقد ال يكون‬
‫ْصار »فكثهر وجمع ‪ ،‬فإنها أبصار الكون ‪،‬‬ ‫‪ ،‬وأنت ظاهر وال بد ‪ «،‬ال ت ُ ْد ِر ُكهُ ْاألَب ُ‬
‫والحقيقة المنفية في هذه‬
‫ص ‪103‬‬

‫ص ‪103 :‬‬
‫اآلية أن األبصار هنا معان يدرك بها المبصرات ‪ ،‬ما هي تدرك المبصرات ‪ ،‬ولم يقل‬
‫‪ :‬ال يدركه البصر ‪ ،‬فإنه إذا كان عين الحق عين بصرك ‪ ،‬فيصح أن يقال مثل هذا‬
‫يدركه البصر ‪ ،‬فينسب اإلدراك إليه مع صحة كونه بصرا للعبد ‪« ،‬ال ت ُ ْد ِر ُكهُ ْاألَب ُ‬
‫ْصار‬
‫»على وجهين ‪:‬‬
‫الوجه الواحد ‪ ،‬أنه نفى أن تدركه األبصار على طريق التنبيه على الحقائق ‪ ،‬وإنما‬
‫يدركه المبصرون باألبصار ال األبصار ‪.‬‬
‫‪ -‬الوجه الثاني ‪ -‬ال تدركه األبصار المقيدة بالجارحة ‪ ،‬فإذا لم تتقيد أدركته ‪ ،‬كأن‬
‫ْصار »يعني في كل عين من أعين الوجوه للقرب‬ ‫يكون الحق بصره ‪« ،‬ال ت ُ ْد ِر ُكهُ ْاألَب ُ‬
‫المفرط ‪ ،‬فإنه أقرب إلينا من حبل الوريد ‪ ،‬ومن أعين القلوب فإن القلوب ما ترى إال‬
‫بالبصر ‪ ،‬وأعين الوجوه ال ترى إال بالبصر ‪ ،‬فالبصر حيث كان ‪ ،‬به يقع االشتراك ‪،‬‬
‫فيسمى البصر في العقل عين البصيرة ‪ ،‬ويسمى في الظاهر بصر العين ‪ ،‬والعين في‬
‫الظاهر محل للبصر ‪ ،‬والبصيرة في الباطن محل للعين الذي هو بصر في عين الوجه‬
‫‪ ،‬فاختلف االسم عليه وما اختلف هو في نفسه ‪ ،‬فكما ال تدركه العيون بأبصارها ‪،‬‬
‫كذلك ال تدركه البصائر بأعينها ‪،‬‬
‫ّللا‬
‫فإن الحق تعالى احتجب عن البصائر كما احتجب عن األبصار ‪ ،‬لذلك قال رسول ه‬
‫ّللا احتجب عن البصائر كما احتجب عن األبصار وإن‬ ‫ّللا عليه وسلم ‪ [ :‬إن ه‬ ‫صلهى ه‬
‫المأل األعلى يطلبونه كما تطلبونه أنتم ]‬
‫فكما ال تدركه األبصار ال تدركه البصائر وهي العقول ‪ ،‬ال تدركه بأفكارها ‪ ،‬فتعجز‬
‫عن الوصول إلى مطلوبها والظفر به ‪ ،‬مع أنه سبحانه لم ينف عن إدراكه قوة من‬
‫القوى التي خلقها إال البصر ‪ ،‬فمنع ذلك شرعا ‪،‬‬
‫وما قال ‪ :‬ال يدركه السمع وال العقل وال غيرهما من القوى الموصوف بها اإلنسان ‪،‬‬
‫كما لم يقل أيضا ‪ :‬إن غير البصر يدركه ‪ ،‬بل ترك األمر مبهما ‪ ،‬فمن زعم أنه يدركه‬
‫عقال وال يدركه بصرا ‪ ،‬فمتالعب ال علم له بالعقل وال بالبصر ‪ ،‬وال بالحقائق على ما‬
‫هي عليه في أنفسها ‪ ،‬كالمعتزلي فإن هذه رتبته ‪ ،‬فلألبصار إدراك وللبصائر إدراك ‪،‬‬
‫وكالهما محدث ‪ ،‬فإن صح أن يدرك بالعقل وهو محدث ‪ ،‬صح أو جاز أن يدرك‬
‫بالبصر ‪ ،‬ألنه ال فضل لمحدث على محدث في الحدوث ‪ ،‬وإن اختلفت االستعدادات‬
‫فجائز على كل قابل لالستعدادات أن يقبل استعداد الذي قيل فيه ‪ :‬إنه أدرك الحق‬
‫بنظره الفكري ‪ ،‬فإما أن ينفوا ذلك جملة واحدة ‪ ،‬وإما أن يجوزه جملة واحدة ‪ ،‬وإما أن‬
‫يقفوا في الحكم فال يحكمون فيه بإحالة وال جواز ‪ ،‬حتى يأتيهم تعريف الحق نصا ال‬
‫يشكون فيه ‪ ،‬أو يشهدونه في نفوسهم ‪،‬‬
‫عز وجل لموسى عليه السالم ‪ ( :‬لن تراني )‬ ‫قال ه‬
‫‪104‬‬

‫ص ‪104 :‬‬
‫وكل مرئي ال يرى الرائي ‪ -‬إذا رآه ‪ -‬منه إال قدر منزلته ورتبته فما رآه ‪ ،‬وما رأى‬
‫إال نفسه ‪ ،‬ولوال ذلك ما تفاضلت الرؤية في الرائين ‪ ،‬إذ لو كان هو المرئي ما اختلفوا‬
‫‪ ،‬لكن لما كان هو مجلى رؤيتهم أنفسهم ‪ ،‬لذلك وصفوه بأن يتجلى ‪ ،‬وأنه يرى ‪ ،‬ولكن‬
‫ّللا ال تدركه‬
‫شغل الرائي برؤية نفسه في مجلى الحق حجبه عن رؤية الحق ‪ ،‬فإن ه‬
‫ّللا عليه وسلم في حديث الدجال ودعواه أنه‬ ‫األبصار وهو يدرك األبصار ‪ ،‬قال صلهى ه‬
‫إله ‪ :‬إن أحدنا ال يرى ربه حتى يموت ‪ ،‬ألن الغطاء ال ينكشف عن البصر إال بالموت‬
‫‪ ،‬والبصر من العبد هوية الحق ‪ ،‬فعينك غطاء على بصر الحق ‪ ،‬فبصر الحق أدرك‬
‫ّللا ال تدركه األبصار ‪ ،‬وهو يدرك األبصار ‪ ،‬ففي مدلول‬ ‫الحق ورآه ال أنت ‪ ،‬فإن ه‬
‫هذه اآلية أنه يدرك تعالى نفسه بنفسه ‪ ،‬ألنه إذا كان بهويته بصر العبد ‪ ،‬وال يقع‬
‫اإلدراك البصري إال بالبصر ‪ ،‬وهو عين البصر المضاف إلى العبد ‪ ،‬وقال ‪ :‬إنه‬
‫يدرك األبصار ‪ ،‬وهو عين األبصار ‪ ،‬فقد أدرك نفسه ‪،‬‬
‫يف »وال ألطف من هوية تكون عين بصر العبد ‪ ،‬وبصر العبد‬ ‫لذلك قال ‪َ «:‬و ُه َو اللَّ ِط ُ‬
‫يف »من حيث أنه ال‬ ‫ّللا ‪ ،‬وليس في القوة أن يفصل بين البصرين ‪ «،‬اللَّ ِط ُ‬ ‫ال يدرك ه‬
‫يف »المعنى من حيث أنه يدرك األبصار ‪ ،‬أي دركه‬ ‫تدركه األبصار ‪ ،‬و «اللَّ ِط ُ‬
‫لألبصار دركه لنفسه ‪ ،‬وهذا غاية اللطف والرقة ‪ ،‬فما لطفه وال أخفاه إال شدة ظهوره‬
‫‪ ،‬فإنه البصر لكل عين تبصر ‪ ،‬فمن نظر بعين اإليمان رأى قوة نفوذه في الكثيف ‪،‬‬
‫حتى سرى إلى اللطيف « الخبير » فيحصل له المعرفة باألمر على ما هو عليه » ‪،‬‬
‫«اللطيف » إذ كانت اللطافة مما ينبو الحس عن إدراكها ‪ ،‬فتعقل وال تشهد ‪ ،‬فتسمى‬
‫في وصفه الذي تنزه أن يدرك فيه باللطيف ‪ ،‬أي تلطف عن إدراك المحدثات ‪ ،‬ومع‬
‫ير »على وزن فعيل ‪،‬‬ ‫هذا فإنه يعلم ويعقل أن ث هم أمرا يستند إليه ‪ ،‬فأتى باالسم « ْال َخ ِب ُ‬
‫وفعيل يرد بمعنى المفعول ‪ ،‬كقتيل بمعنى مقتول ‪ ،‬وجريح بمعنى مجروح ‪ ،‬وهو‬
‫المراد هنا واألوجه ‪ ،‬وقد يرد بمعنى الفاعل كعليم بمعنى عالم ‪ ،‬وقد يكون أيضا هو‬
‫المراد هنا ‪ ،‬ولكنه يبعد ‪ ،‬فإن داللة مساق اآلية ال تعطي ذلك ‪ ،‬فإن مساقها في إدراك‬
‫ّللا قد ندبنا إلى التوصل بالعلم به فقال ‪ ( :‬فاعلم أنه ال‬ ‫األبصار ال إدراك البصائر فإن ه‬
‫ّللا ) وال يعلم حتى ينظر في األدلة ‪ ،‬فيؤدينا النظر فيها إلى العلم به على قدر‬ ‫إله إال ه‬
‫ّللا يعلم‬
‫ما تعطينا القوة في ذلك ‪ ،‬فلهذا رجحنا خبير هنا بمعنى المفعول ‪ ،‬أي أن ه‬
‫ير »يشير إلى علم ذلك ذوقا ‪ ،‬فهو‬ ‫ويعقل ‪ ،‬وال تدركه األبصار ‪ .‬ومن وجه آخر« ْال َخ ِب ُ‬
‫العليم خبرة أنه بصر العبد في بصر العبد ‪ ،‬وكذا‬

‫ص ‪105‬‬

‫ص ‪105 :‬‬
‫هو األمر في نفسه ‪ ،‬وإن كان حيا ‪ ،‬فقد استوى الميت والحي في كون الحق تعالى‬
‫ّللا ال يح هل في شيء وال يحل فيه شيء ‪ ،‬إذ ليس‬ ‫بصرهما ‪ ،‬وما عندهما شيء ‪ ،‬فإن ه‬
‫كمثله شيء وهو السميع البصير ‪،‬‬
‫ّللا عليه وسلم في اإلحسان ‪ [ :‬فإن لم تكن تراه فإنه‬ ‫ويشير إلى هذه اآلية قوله صلهى ه‬
‫يراك ]‬
‫ّللا تعالى للعارفين على قلوبهم ‪ ،‬وهو المرئي في الدنيا بالقلوب واألبصار ‪،‬‬ ‫فيتجلى ه‬
‫ومع أنه سبحانه منبئ عن عجز العباد عن درك كنهه ‪ ،‬فقال ‪ «:‬ال ت ُ ْد ِر ُكهُ ْاألَب ُ‬
‫ْصار‬
‫ير »لطيف بعباده بتجليه لهم على قدر طاقتهم ‪،‬‬ ‫يف ْال َخبِ ُ‬‫ْصار َو ُه َو اللَّ ِط ُ‬
‫َو ُه َو يُ ْد ِركُ ْاألَب َ‬
‫خبير بضعفهم عن حمل تجليه األقدس على ما تعطيه األلوهة ‪ ،‬إذ ال طاقة للمحدث‬
‫على حمل جمال القديم ‪.‬‬

‫[ سورة األنعام ( ‪ : ) 6‬اآليات ‪ 104‬إلى ‪] 106‬‬


‫ي فَعَلَ ْيها َوما أَنَا َ‬
‫علَ ْي ُك ْم بِ َح ِف ٍ‬
‫يظ‬ ‫س ِه َو َم ْن ع َِم َ‬ ‫قَ ْد جا َء ُك ْم بَصائِ ُر ِم ْن َر ِبّ ُك ْم فَ َم ْن أ َ ْب َ‬
‫ص َر فَ ِلنَ ْف ِ‬
‫ون ( ‪ ) 105‬ات ه ِب ْع‬ ‫ستَ َو ِلنُبَ ِيّنَهُ ِلقَ ْو ٍم يَ ْعلَ ُم َ‬
‫ت َو ِليَقُولُوا د ََر ْ‬ ‫ف ْاآليا ِ‬ ‫ص ِ ّر ُ‬‫) ‪َ ( 104‬وكَذ ِلكَ نُ َ‬
‫ين ( ‪) 106‬‬ ‫ض ع َِن ا ْل ُمش ِْر ِك َ‬ ‫ي ِإلَ ْيكَ ِم ْن َر ِبّكَ ال ِإلهَ ِإاله ُه َو َوأَع ِْر ْ‬ ‫وح َ‬ ‫ما أ ُ ِ‬
‫[ التوحيد اإليماني ]‬
‫ّللا عليه وسلم خص به باعتباره الداعي ‪ ،‬لمجيئه‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫هذا خطاب لرسول ه‬
‫بالتوحيد اإليماني ال التوحيد العقلي ‪ ،‬وهو توحيد األنبياء والرسل ‪ ،‬ألنها ما وحدت‬
‫عن نظر ‪ ،‬وإنما وحدت عن ضرورة علم وجدته في نفسها لم تقدر على دفعه ‪ ،‬فترك‬
‫المشركين وآلهتهم وانفرد بغار حراء يتحنث فيه من غير معلم إال ما يجده في نفسه‬
‫حتى فجأه الحق ‪،‬‬
‫ي ِإلَي َْك ِم ْن َر ِبه َك ال ِإلهَ ِإ َّال ُه َو »أي أنه ال يقبل الشريك«‬ ‫وح َ‬ ‫وهو قوله ‪ «:‬ات َّ ِب ْع ما أ ُ ِ‬
‫ع ِن ْال ُم ْش ِر ِكينَ »فأعرض عنهم حتى يستحكم اإليمان ‪ ،‬وأقمه بنفس الرحمن‬ ‫ض َ‬ ‫َوأَع ِْر ْ‬
‫فأجعل له أنصارا ‪ ،‬وآمرك بقتال المشركين ال اإلعراض عنهم ‪ ،‬وهذا هو التوحيد‬
‫الثامن في القرآن ‪ ،‬وهو من توحيد االسم الرب ‪،‬‬
‫ّللا ربكم ال إله إال هو )‬ ‫وقد عمم بإضافة جميعنا إليه في التوحيد السابع فقال ‪ ( :‬ذلكم ه‬
‫وهنا خصص به الداعي ‪ ،‬وهو توحيد االتباع ‪ ،‬وهو من توحيد الهوية ‪ ،‬فهو توحيد‬
‫تقليد في علم ‪،‬‬
‫ألنه نصب األسباب وأزال عنها حكم األرباب لما قالوا ‪ ( :‬ما نعبدهم إال ليقربونا إلى‬
‫ّللا زلفى )‬ ‫ه‬
‫ّللا عليه وسلم أن يعرض عن الشرك ال عن السبب ‪ ،‬فإنه قال في مصالح‬ ‫فأمر صلهى ه‬
‫الدنيا‪:‬‬

‫ص ‪106‬‬

‫ص ‪106 :‬‬
‫( ولكم في القصاص حياة ) فعلل والم العلة في القرآن كثير ‪ ،‬فكأنه توحيد في مجلس‬
‫محاكمة ‪ ،‬فيدخل فيه توحيد القسط إلقامة الوزن في الحكم بين الخصماء ‪ ،‬بيهن ذلك‬
‫ع ِن ْال ُم ْش ِر ِكينَ »وخص به الداعي لمجيئه بالتوحيد اإليماني ‪.‬‬ ‫قوله ‪َ «:‬وأَع ِْر ْ‬
‫ض َ‬

‫[ سورة األنعام ( ‪ : ) 6‬اآليات ‪ 107‬إلى ‪] 112‬‬


‫علَ ْي ِه ْم بِ َو ِكي ٍل ( ‪) 107‬‬ ‫علَ ْي ِه ْم َح ِفيظا ً َوما أ َ ْنتَ َ‬ ‫َّللاُ ما أَش َْركُوا َوما َجعَ ْلناكَ َ‬ ‫َولَ ْو شا َء ه‬
‫عدْوا ً بِغَ ْي ِر ِع ْل ٍم كَذ ِلكَ َزيهنها ِل ُك ِ ّل أ ُ هم ٍة‬ ‫َّللا َ‬
‫سبُّوا ه َ‬ ‫َّللا فَيَ ُ‬ ‫ُون ه ِ‬ ‫ُون ِم ْن د ِ‬ ‫ِين يَ ْدع َ‬ ‫سبُّوا الهذ َ‬ ‫َوال ت َ ُ‬
‫اّلِل َج ْه َد‬ ‫س ُموا ِب ه ِ‬ ‫ون ) ‪َ ( 108‬وأ َ ْق َ‬ ‫ع َملَ ُه ْم ث ُ هم ِإلى َر ِبّ ِه ْم َم ْر ِجعُ ُه ْم فَيُنَ ِبّئ ُ ُه ْم ِبما كانُوا يَ ْع َملُ َ‬ ‫َ‬
‫ش ِع ُر ُك ْم أَنهها ِإذا‬ ‫أ َ ْيمانِ ِه ْم لَئِ ْن جا َءتْ ُه ْم آيَةٌ لَيُ ْؤ ِمنُ هن ِبها قُ ْل ِإنه َما ْاآلياتُ ِع ْن َد ه ِ‬
‫َّللا َوما يُ ْ‬
‫صار ُه ْم كَما لَ ْم يُ ْؤ ِمنُوا ِب ِه أ َ هو َل َم هر ٍة‬ ‫ب أ َ ْف ِئ َدت َ ُه ْم َوأ َ ْب َ‬‫ون ( ‪َ ) 109‬ونُقَ ِلّ ُ‬ ‫جا َءتْ ال يُ ْؤ ِمنُ َ‬
‫ون ( ‪) 110‬‬ ‫ط ْغيا ِن ِه ْم يَ ْع َم ُه َ‬ ‫َونَذَ ُر ُه ْم ِفي ُ‬
‫ش ْي ٍء قُبُالً ما كانُوا‬ ‫َولَ ْو أَنهنا نَ هز ْلنا إِلَ ْي ِه ُم ا ْل َمالئِكَةَ َو َكله َم ُه ُم ا ْل َم ْوتى َو َحش َْرنا َ‬
‫علَ ْي ِه ْم ُك هل َ‬
‫ون ) ‪( 111‬‬ ‫َّللاُ َول ِك هن أ َ ْكث َ َر ُه ْم يَجْ َهلُ َ‬ ‫ِليُ ْؤ ِمنُوا إِاله أ َ ْن يَشا َء ه‬
‫ف‬ ‫ض ُز ْخ ُر َ‬ ‫ض ُه ْم ِإلى بَ ْع ٍ‬ ‫وحي بَ ْع ُ‬ ‫اْل ْن ِس َوا ْل ِج ِّن يُ ِ‬ ‫ين ْ ِ‬ ‫َياط َ‬
‫عد ًُّوا ش ِ‬ ‫يٍ َ‬ ‫َوكَذ ِلكَ َجعَ ْلنا ِل ُك ِ ّل نَ ِب ّ‬
‫ون) ‪( 112‬‬ ‫غ ُرورا ً َولَ ْو شا َء َربُّكَ ما فَعَلُوهُ فَذَ ْر ُه ْم َوما يَ ْفت َ ُر َ‬ ‫ا ْلقَ ْو ِل ُ‬

‫اإل ْن ِس َو ْال ِج ِهن »‬


‫َياطينَ ْ ِ‬
‫عد ًُّوا ش ِ‬ ‫" َو َكذ ِل َك َجعَ ْلنا ِل ُك ِهل نَبِ ه‬
‫يٍ َ‬
‫الشيطان الحسي على قسمين ‪ :‬إنسي وجني ‪،‬‬
‫وشياطين اإلنس لهم سلطان على ظاهر اإلنسان وباطنه ‪،‬‬
‫وشياطين الجن هم نواب شياطين اإلنس في بواطن الناس ‪،‬‬
‫وشياطين الجن هم الذين يدخلون اآلراء على شياطين اإلنس ويدبرون دولتهم ‪،‬‬
‫صلون لهم ما يظهرون فيها من األحكام ‪،‬‬ ‫فيف ه‬
‫ُور النَّ ِ‬
‫اس ِمنَ‬ ‫صد ِ‬ ‫اس الَّذِي يُ َو ْس ِو ُ‬
‫س فِي ُ‬ ‫ْواس ْال َخنَّ ِ‬
‫ولذلك قال تعالى ‪ِ (:‬م ْن ش ِ هَر ْال َوس ِ‬
‫اس )« يُوحى‬ ‫ْال ِجنَّ ِة َوالنَّ ِ‬

‫ص ‪107‬‬

‫ص ‪107 :‬‬
‫ف ْالقَ ْو ِل ُ‬
‫غ ُرورا ً »‬ ‫ض ُز ْخ ُر َ‬ ‫ض ُه ْم إِلى بَ ْع ٍ‬
‫بَ ْع ُ‬
‫هو قدحهم في أهل اإليمان من حيث إيمانهم ‪ ،‬وتزيين ما هم عليه من الباطل ‪،‬‬
‫ومداخل الشيطان إلى نفوس العالم كثيرة ‪ ،‬وهو يستدرج كل طائفة من حيث ما هو‬
‫الغالب عليها ‪،‬‬
‫ّللا في العامة ميزان الشريعة ‪،‬‬ ‫فإنه عالم بمواقع المكر واالستدراج ‪ ،‬وقد أعطاك ه‬
‫وميهز لك بين فرائضه ومندوباته ومباحه ومحظوره ومكروهه ‪ ،‬ونص على ذلك في‬
‫كتابه وعلى لسان رسوله ‪ ،‬فإذا خطر لك خاطر من محظور أو مكروه فتعلم أنه من‬
‫الشيطان بال شك ‪،‬‬
‫فوحي الشيطان هو ما يزينه من األعمال وإن كان لها وجه إلى الحق ‪ ،‬فالمعدن خبيث‬
‫ّللا ‪ ،‬فهذه كلمة‬ ‫‪ ،‬يروى أن إبليس جاء إلى عيسى عليه السالم فقال له ‪ :‬قل ال إله إال ه‬
‫حق من معدن خبيث ‪ ،‬فقال له عيسى عليه السالم ‪ :‬يا ملعون أقولها ال لقولك وأمرك‬
‫‪َ «.‬ولَ ْو شا َء َرب َُّك ما فَعَلُوهُ »اعلم أن المهانة حقيقة العالم التي هو عليها ‪ ،‬ألنه بالذات‬
‫ممكن فقير ‪ ،‬فهو ممنوع من نيل جميع أغراضه وإرادته منعا ذاتيا ‪ ،‬وال يحجبنك‬
‫وقوع بعض مراداته ‪ ،‬ونيل بعض أغراضه ‪ ،‬عما قلناه في حقه ‪ ،‬فإن ذلك ما وقع له‬
‫إال بإرادة الحق ال بإرادته ‪ ،‬فذلك المراد وإرادة العبد معا إنما هما واقعان بإرادة الحق‬
‫‪ ،‬فهو ممتنع بالذات أن يكون شيء في الوجود موجودا عن إرادة العبد ‪ ،‬ولو كان‬
‫إلرادة العبد نفوذ في أمر خاص لعم نفوذها في كل شيء ‪ ،‬لو كان ذلك المراد وقع‬
‫عز وجل ‪ ،‬فالعالم ممنوع‬ ‫ّللا ه‬
‫لعين إرادة الممكن ‪ ،‬فتعين أن ذلك الواقع وقع بإرادة ه‬
‫لذاته كما هو ممكن مهان لذاته ‪ ،‬وإنما كان مهانا لذاته ألن العبودية له ذاتية ‪ ،‬وهي‬
‫الذلة ‪ ،‬وكل ذليل مهان ‪ ،‬وكل مهان محتقر ‪ ،‬وكل محتقر مغلوب« فَذَ ْر ُه ْم َوما يَ ْفت َ ُرونَ‬
‫ّللا ‪.‬‬‫»فجعلهم أهل افتراء على ه‬

‫[ سورة األنعام ( ‪ : ) 6‬آية ‪] 113‬‬


‫ض ْوهُ َو ِليَ ْقت َ ِرفُوا ما ُه ْم ُم ْقت َ ِرفُ َ‬
‫ون (‬ ‫ون بِ ْاآل ِخ َر ِة َو ِليَ ْر َ‬ ‫َو ِلتَصْغى إِلَ ْي ِه أ َ ْفئِ َدةُ الهذ َ‬
‫ِين ال يُ ْؤ ِمنُ َ‬
‫‪)113‬‬
‫فالسامع إذا كان سريع االنفعال لما يسمع فيجب عليه عقال أن ال يصغي لقائل شر ‪.‬‬

‫[ سورة األنعام ( ‪ : ) 6‬اآليات ‪ 114‬إلى ‪] 117‬‬


‫ِين آت َ ْينا ُه ُم ا ْل ِك َ‬
‫تاب‬ ‫صالً َوالهذ َ‬ ‫تاب ُمفَ ه‬ ‫َّللا أ َ ْبت َ ِغي َحكَما ً َو ُه َو الهذِي أ َ ْن َز َل إِلَ ْي ُك ُم ا ْل ِك َ‬
‫أ َ فَغَ ْي َر ه ِ‬
‫ين ( ‪َ ) 114‬وت َ همتْ َك ِل َمةُ َر ِبّكَ‬ ‫ق فَال تَكُونَ هن ِم َن ا ْل ُم ْمت َ ِر َ‬ ‫ون أَنههُ ُمنَ هز ٌل ِم ْن َر ِبّكَ بِا ْل َح ّ ِ‬
‫يَ ْعلَ ُم َ‬
‫س ِمي ُع ا ْلعَ ِلي ُم ( ‪َ ) 115‬و ِإ ْن ت ُ ِط ْع أ َ ْكث َ َر َم ْن فِي‬ ‫ع ْدالً ال ُمبَ ِ ّد َل ِل َك ِلماتِ ِه َو ُه َو ال ه‬ ‫ِصدْقا ً َو َ‬
‫ون ) ‪ِ ( 116‬إ هن‬ ‫ص َ‬ ‫ظ هن َو ِإ ْن ُه ْم ِإاله يَ ْخ ُر ُ‬ ‫ون ِإاله ال ه‬ ‫َّللا ِإ ْن يَت ه ِبعُ َ‬‫س ِبي ِل ه ِ‬ ‫ض يُ ِضلُّوكَ ع َْن َ‬ ‫ْاأل َ ْر ِ‬
‫ِين) ‪( 117‬‬ ‫س ِبي ِل ِه َو ُه َو أ َ ْعلَ ُم ِبا ْل ُم ْهتَد َ‬ ‫َربهكَ ُه َو أ َ ْعلَ ُم َم ْن يَ ِض ُّل ع َْن َ‬

‫ص ‪108‬‬

‫ص ‪108 :‬‬
‫[ تعريف العلم ]‬
‫فإن العلم إنما يتعلق بالمعلوم على ما هو المعلوم عليه ‪ ،‬لذلك كانت وظيفة الرسل‬
‫والورثة من العلماء إنما هي التبليغ بالبيان واإلفصاح ال غير ذلك‪.‬‬

‫[ سورة األنعام ( ‪ : ) 6‬اآليات ‪ 118‬إلى ‪] 119‬‬


‫ين ( ‪َ ) 118‬وما لَ ُك ْم أَاله تَأ ْ ُكلُوا ِم هما‬ ‫علَ ْي ِه إِ ْن ُك ْنت ُ ْم بِآياتِ ِه ُم ْؤ ِمنِ َ‬ ‫َّللا َ‬
‫س ُم ه ِ‬ ‫فَ ُكلُوا ِم هما ذُ ِك َر ا ْ‬
‫ض ُ‬
‫ط ِر ْرت ُ ْم إِلَ ْي ِه َوإِ هن َكثِيرا ً‬ ‫علَ ْي ُك ْم إِاله َما ا ْ‬ ‫ص َل لَ ُك ْم ما َح هر َم َ‬ ‫علَ ْي ِه َوقَ ْد فَ ه‬ ‫َّللا َ‬
‫س ُم ه ِ‬‫ذُ ِك َر ا ْ‬
‫ِين) ‪( 119‬‬ ‫ون ِبأ َ ْهوائِ ِه ْم ِبغَ ْي ِر ِع ْل ٍم ِإ هن َربهكَ ُه َو أ َ ْعلَ ُم ِبا ْل ُم ْعتَد َ‬
‫لَيُ ِضلُّ َ‬

‫[ تغير األحوال يغير األحكام ]‬


‫اعلم أن تغير األحوال يغير األحكام ‪ ،‬فالشخص الواحد الذي لم يكن حاله االضطرار ‪،‬‬
‫أكل الميتة عليه حرام ‪ ،‬فإذا اضطر ذلك الشخص عينه فأكل الميتة له حالل ‪ ،‬فاختلف‬
‫الحكم الختالف الحال ‪ ،‬والعين واحدة ‪.‬‬
‫ومن هذه اآلية علمنا أن الحكم بالمنع وغيره مبناه على حال المكلهف ‪ ،‬فإن المنع في‬
‫حق من منع منه ال في عين الممنوع ‪ ،‬فإن ذلك الممنوع بعينه قد أبيح لغيره ‪ ،‬لكون‬
‫ذلك الغير على صفة ليست فيمن منع منه ‪ ،‬أباحته تلك الصفة بإباحة الشارع ‪،‬‬
‫فلهذا قلنا ‪ :‬ال في عين الممنوع ‪ ،‬فإنه ما حرم شيء لعينه جملة واحدة ‪ ،‬وفي مواضع‬
‫على اسم الممنوع ‪ ،‬فإن تغير االسم لتغير قام بالمحرم تغير الحكم على المكلف في‬
‫تناوله ‪ ،‬إما بجهة اإلباحة أو الوجوب ‪ ،‬وكذلك إن تغير حال المكلف الذي خوطب‬
‫بالمنع من ذلك الشيء واجتنابه ألجل تلك الحال ‪ ،‬فإنه يرتفع عنه هذا الحكم وال بد ‪،‬‬
‫وإن كان األمر على هذا الحد ‪ ،‬فما ث هم عين محرمة لعينها ‪ ،‬وعلق الذم بفعل المكلف ال‬
‫بالعين التي حجر عليه تناولها ‪،‬‬
‫ض ُ‬
‫ط ِر ْرت ُ ْم إِلَ ْي ِه »فإن المضطر ال تحجير‬ ‫علَ ْي ُك ْم إِ َّال َما ا ْ‬
‫ص َل لَ ُك ْم ما َح َّر َم َ‬
‫فقال‪َ " :‬وقَ ْد فَ َّ‬
‫عليه ‪،‬‬
‫ط ِر ْرت ُ ْم ِإلَ ْي ِه »هو الرزق الذي به بقاء الحياة ‪ ،‬وما به حياتك ال‬ ‫ض ُ‬ ‫وقوله ‪ِ «:‬إ َّال َما ا ْ‬
‫يصح فيه تحجير‪.‬‬

‫‪109‬‬

‫ص ‪109 :‬‬
‫[سورة األنعام ( ‪ : ) 6‬اآليات ‪ 120‬إلى ‪] 121‬‬
‫ون (‬ ‫سيُجْ َز ْو َن ِبما كانُوا يَ ْقت َ ِرفُ َ‬ ‫اْلثْ َم َ‬ ‫ون ْ ِ‬ ‫سبُ َ‬ ‫ِين يَ ْك ِ‬ ‫باطنَهُ إِ هن الهذ َ‬ ‫اْلثْ ِم َو ِ‬ ‫َوذَ ُروا ظا ِه َر ْ ِ‬
‫ون ِإلى‬ ‫ين لَيُو ُح َ‬ ‫هياط َ‬‫ق َو ِإ هن الش ِ‬ ‫س ٌ‬‫علَ ْي ِه َو ِإنههُ لَ ِف ْ‬ ‫َّللا َ‬
‫س ُم ه ِ‬ ‫‪َ ) 120‬وال تَأ ْ ُكلُوا ِم هما لَ ْم يُ ْذك َِر ا ْ‬
‫ُون ) ‪( 121‬‬ ‫أ َ ْو ِليائِ ِه ْم ِليُجا ِدلُو ُك ْم َو ِإ ْن أ َ َط ْعت ُ ُمو ُه ْم ِإنه ُك ْم لَ ُمش ِْرك َ‬
‫المجادل الذي هو ولي الشيطان يظن أن ذلك من نفسه ومن نظره وعلمه ‪ ،‬وهو من‬
‫وحي الشيطان إليه‬
‫ّللا ‪ ،‬هم أبعد الخلق عن‬ ‫[ ‪ -‬إشارة ‪ -‬أهل السماع والوجد باألشعار التي أهلت لغير ه‬
‫الحق ]‬
‫ّللا ‪ ،‬هم أبعد الخلق عن الحق‬ ‫‪-‬إشارة ‪ -‬أهل السماع والوجد باألشعار التي أهلت لغير ه‬
‫ّللا عليه ‪ ،‬ولما كان الوجد يستدعي التنزل جاء في‬ ‫‪ ،‬فإنهم أكلوا مما لم يذكر اسم ه‬
‫ياطينَ لَيُو ُحونَ ِإلى أ َ ْو ِليا ِئ ِه ْم »في مقابلة الوحي الحق فتفطن‬ ‫ش ِ‬ ‫ْق َو ِإ َّن ال َّ‬ ‫اآلية« َو ِإنَّهُ لَ ِفس ٌ‬
‫ّللا ‪ ،‬نسيبا‬ ‫ّللا شعرا قصد به قائله في أول وضعه غير ه‬ ‫‪ ،‬فال ينبغي أن ينشد في حق ه‬
‫ّللا ‪ ،‬فإن القول في المحدث‬ ‫كان أو مديحا ‪ ،‬فإنه بمنزلة من يتوضأ بالنجاسة قربة إلى ه‬
‫ّللا في كتابه على هذه المنزلة بقوله ‪َ (:‬وما لَ ُك ْم أ َ َّال تَأ ْ ُكلُوا ِم َّما‬ ‫حدث بال شك ‪ ،‬وقد نبه ه‬
‫علَ ْي ِه )‬ ‫ذُ ِك َر ا ْس ُم َّ ِ‬
‫ّللا َ‬
‫علَ ْي ُك ُم‬
‫ت َ‬‫ْق »وقال ‪ُ (:‬ح ِ هر َم ْ‬ ‫علَ ْي ِه َو ِإنَّهُ لَ ِفس ٌ‬ ‫وقوله «‪َ :‬وال تَأ ْ ُكلُوا ِم َّما لَ ْم يُ ْذ َك ِر ا ْس ُم َّ ِ‬
‫ّللا َ‬
‫ّللا‬
‫ّللا مما أهل لغير ه‬ ‫ّللا بِ ِه )والشعر في غير ه‬ ‫ير َوما أ ُ ِه َّل ِلغَي ِْر َّ ِ‬ ‫ْال َم ْيتَةُ َوال َّد ُم َولَ ْح ُم ْال ِخ ْن ِز ِ‬
‫به ‪ ،‬فإن للنية أثرا في األشياء ‪،‬‬
‫صينَ لَهُ ال هدِينَ )واإلخالص النية ‪ ،‬وهذا‬ ‫ّللا ُم ْخ ِل ِ‬ ‫وّللا يقول ‪َ (:‬وما أ ُ ِم ُروا ِإ َّال ِليَ ْعبُدُوا َّ َ‬ ‫ه‬
‫الشاعر ما نوى في شعره إال التغزل في محبوبه ‪ ،‬والمديح فيمن ليس له بأهل لما شهد‬
‫ّللا عليه وأهل به هّلل ‪ ،‬وإن‬ ‫ّللا شرعا فهو مما ذكر اسم ه‬ ‫به فيه ‪ ،‬وكل ما كان قربة إلى ه‬
‫كان بلفظ التغزل وذكر األماكن والبساتين والجوار ‪ ،‬وكان القصد بهذا كله ما يناسبها‬
‫من االعتبار في المعارف اإللهية والعلوم الربانية فال بأس ‪ ،‬وإن أنكر ذلك المنكر فإن‬
‫ّللا تعالى يتجلى يوم القيامة لعباده في صورة ينكر‬ ‫لنا أصال نرجع إليه فيه ‪ ،‬وهو أن ه‬
‫باّلل منك لست بربنا ‪،‬‬ ‫فيها ‪ ،‬حتى يتعوذ منها ‪ ،‬فيقولون ‪ :‬نعوذ ه‬
‫وهو يقول ‪ :‬أنا ربكم وهو هو تعالى ‪.‬‬

‫[ سورة األنعام ( ‪ : ) 6‬آية ‪] 122‬‬


‫اس َك َم ْن َمثَلُهُ فِي ال ُّ‬
‫ظلُما ِ‬
‫ت‬ ‫شي بِ ِه فِي النه ِ‬ ‫كان َم ْيتا ً فَأَحْ يَ ْيناهُ َو َجعَ ْلنا لَهُ نُورا ً يَ ْم ِ‬
‫أ َ َو َم ْن َ‬
‫ون) ‪( 122‬‬ ‫ين ما كانُوا يَ ْع َملُ َ‬ ‫خارجٍ ِم ْنها كَذ ِلكَ ُز ِيّ َن ِل ْلكافِ ِر َ‬ ‫س بِ ِ‬‫لَ ْي َ‬
‫‪110‬‬

‫ص ‪110 :‬‬
‫هذا ضرب مثل في الكفر واإليمان ‪ ،‬والعلم والجهل ‪ ،‬فالجهل موت والعلم حياة لذلك‬
‫قال تعالى ‪ «:‬أ َ َو َم ْن كانَ َميْتا ً »أراد بالموت الجهل «فَأ َ ْحيَيْناهُ »بالعلم وهي الحياة‬
‫العلمية التي تحيى بها القلوب فحياة العلم يقابلها موت الجهل ‪ ،‬وبالنور يقع حصوله‬
‫ج ِم ْنها‬ ‫خار ٍ‬‫ْس ِب ِ‬ ‫ت »وهي الضالل« لَي َ‬ ‫الظلُما ِ‬‫كما بالظلمة يكون الجهل « َك َم ْن َمثَلُهُ فِي ُّ‬
‫»أي ال يهتدي أبدا ‪.‬‬
‫واعلم أن الموت عبارة عن مفارقة الروح الجسد الذي كانت به حياته الحسية ‪ ،‬وهو‬
‫طارئ عليها بعد ما كانا موصوفين باالجتماع الذي هو علة الحياة ‪ ،‬فكذلك موت‬
‫النفس بعدم العلم ‪ ،‬فان قلت إن العلم باهلل طارئ الذي هو حياة النفوس ‪ ،‬والجهل ثابت‬
‫لها قبل وجود العلم ‪ ،‬فكيف يوصف الجاهل بالموت وما تقدمه علم ؟‬
‫باّلل سبق إلى نفس كل إنسان في األخذ الميثاقي حين أشهدهم على أنفسهم‬ ‫قلنا إن العلم ه‬
‫ّللا ‪ ،‬فبقيت‬ ‫‪ ،‬فلما عمرت األنفس األجسام الطبيعية في الدنيا فارقها العلم بتوحيد ه‬
‫ّللا ‪،‬‬‫ّللا بعض النفوس بالعلم بتوحيد ه‬ ‫ّللا ‪ ،‬ثم بعد ذلك أحيا ه‬ ‫النفوس ميتة بالجهل بتوحيد ه‬
‫ّللا ‪ ،‬فلهذا‬ ‫ّللا ‪ ،‬إذ كان من ضرورة العقل العلم بوجود ه‬ ‫وأحياها كلها ‪ ،‬بالعلم بوجود ه‬
‫سميناه ميتا ‪،‬‬
‫باّلل ‪ ،‬فقال‬ ‫ّللا قد قبض منه روح العلم ه‬ ‫فقال تعالى ‪ «:‬أ َ َو َم ْن كانَ َميْتا ً »يعني بما كان ه‬
‫اس »فرد إليه‬ ‫تعالى في معرض االمتنان «‪ :‬فَأ َ ْحيَيْناهُ َو َجعَ ْلنا لَهُ نُورا ً يَ ْم ِشي ِب ِه ِفي النَّ ِ‬
‫علمه فحيى به ‪ ،‬كما ترد األرواح إلى أجسامها في الدار اآلخرة يوم البعث« َك َم ْن َمثَلُهُ‬
‫ج ِم ْنها »يريد مقابلة النور الذي يمشي به في الناس ‪ ،‬وما هو‬ ‫خار ٍ‬
‫ْس بِ ِ‬ ‫ت لَي َ‬ ‫فِي ُّ‬
‫الظلُما ِ‬
‫ّللا ال بتوحيده ‪ ،‬ما تعرض للتوحيد‬ ‫عين الحياة ‪ ،‬فالحياة اإلقرار بالوجود ‪ ،‬أي بوجود ه‬
‫في اإلشهاد ‪،‬‬
‫ّللا في اآلية حين قال ‪ «:‬فَأ َ ْحيَيْناهُ »فلم يكتف حتى قال «‪َ :‬و َجعَ ْلنا لَهُ نُورا ً‬ ‫ولهذا أردف ه‬
‫ّللا ال غيره ‪ ،‬فإنه العلم الذي يقع به الشرف له‬ ‫اس »يريد العلم بتوحيد ه‬ ‫يَ ْم ِشي ِب ِه ِفي النَّ ِ‬
‫والسعادة ‪ ،‬وما عدا هذا ال يقوم مقامه في هذه المنزلة ‪ ،‬ونور العلم ينفر ظلمة الجهل ‪.‬‬
‫وقد يكون قوله تعالى ‪َ «:‬و َجعَ ْلنا لَهُ نُورا ً »به يشهد ‪ ،‬وهو نور اإليمان ‪ ،‬والكشف‬
‫ت »وإن‬ ‫ّللا به إليه ‪ ،‬أو امتن به عليه ‪ ،‬فليس مثله« َك َم ْن َمثَلُهُ فِي ُّ‬
‫الظلُما ِ‬ ‫الذي أوحى ه‬
‫اس »هو قوله تعالى ‪َ (:‬و َم ْن‬ ‫كان حيا ‪ -‬وجه آخر ‪َ «-‬و َجعَ ْلنا لَهُ نُورا ً يَ ْم ِشي ِب ِه فِي النَّ ِ‬
‫ور )ويعني بالنور المجعول هنا الشرع الموحى به (‬ ‫ّللاُ لَهُ نُورا ً فَما لَهُ ِم ْن نُ ٍ‬
‫لَ ْم يَ ْجعَ ِل َّ‬
‫َول ِك ْن َجعَ ْلناهُ نُورا ً نَ ْهدِي ِب ِه َم ْن نَشا ُء ِم ْن ِعبادِنا )وال حكم إال للنور المجعول وهو‬
‫ور‬‫على نُ ٍ‬ ‫ور َ‬ ‫الظاهر ‪ ،‬وهذا حكم نور الشرع على نور العقل من قوله تعالى ‪ (:‬نُ ٌ‬
‫)شعر‪:‬‬

‫ص ‪111‬‬

‫ص ‪111 :‬‬
‫فليس له سوى التسليم فيه *** وليس له سوى ما يصطفيه‬
‫فإن هأولته لم تحظ منه *** بعلم في القيامة ترتضيه‬
‫فتحشر في ظلمة جهلك ‪ ،‬ما لك نور تمشي به ‪ ،‬وال يسعى بين يديك ‪ .‬فترى أين تضع‬
‫قدمك ‪ ،‬وإذا بلغ العبد مقام المحبة اإللهية كما قال ‪ :‬إذا أحب عبدا كان سمعه الذي‬
‫يسمع به ‪ ،‬إلى أن قال ورجله التي يسعى بها ‪ ،‬فهو يمشي بهذا النور في الناس من‬
‫ض)‬ ‫ت َو ْاأل َ ْر ِ‬
‫سماوا ِ‬ ‫ّللاُ نُ ُ‬
‫ور ال َّ‬ ‫ّللا تسمى باالسم النور( َّ‬
‫حيث كون ه‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ [ :‬واجعلني كلي نورا ] فهو يمشي في‬ ‫فهو نور ذاتي من قوله صلهى ه‬
‫الناس بربه وهم ال يشعرون ‪ ،‬ثم لنعلم أن األنوار وإن اجتمعت في اإلضاءة والتنفير ‪،‬‬
‫فإن لها درجات في الفضيلة ‪ ،‬كما أن لها أعيانا محسوسة ‪ ،‬كنور الشمس والقمر‬
‫والنجوم والسراج والنار والبرق ‪ ،‬وكل نور محسوس أو منور ‪ ،‬وأعيانا معقولة ‪،‬‬
‫كنور العلم ونور الكشف ‪ ،‬وهذه أنوار البصائر واألبصار ‪ ،‬وهذه األنوار المحسوسة‬
‫والمعقولة ‪ ،‬على طبقات يفضل بعضها بعضا ‪ ،‬فنقول عالم وأعلم ‪ ،‬ومدرك وأدرك ‪،‬‬
‫كما تقول في المحسوس نير وأنور ‪ ،‬أين نور الشمس من نور السراج ؟ ‪.‬‬

‫[ سورة األنعام ( ‪ : ) 6‬آية ‪] 123‬‬


‫ون ِإاله ِبأ َ ْنفُ ِ‬
‫س ِه ْم َوما‬ ‫َوكَذ ِلكَ َجعَ ْلنا ِفي ُك ِ ّل قَ ْريَ ٍة أَكا ِب َر ُمجْ ِر ِميها ِليَ ْمك ُُروا ِفيها َوما يَ ْمك ُُر َ‬
‫ون) ‪( 123‬‬ ‫شعُ ُر َ‬
‫يَ ْ‬
‫« َوما ذيَ ْم ُك ُرونَ إِ َّال بِأ َ ْنفُ ِس ِه ْم »أي عين ما اعتقدوه أنه مكرهم هو مكري بهم« َوما‬
‫ّللا بهؤالء هو عين مكرهم الذي اتصفوا به وهم ال يشعرون ‪.‬‬ ‫يَ ْشعُ ُرونَ »فكان مكر ه‬

‫[ سورة األنعام ( ‪ : ) 6‬آية ‪] 124‬‬


‫ث يَجْ عَ ُل‬‫َّللاُ أ َ ْعلَ ُم َح ْي ُ‬
‫َّللا ه‬
‫س ُل ه ِ‬
‫ي ُر ُ‬‫َو ِإذا جا َءتْ ُه ْم آيَةٌ قالُوا لَ ْن نُ ْؤ ِم َن َحتهى نُ ْؤتى ِمثْ َل ما أُو ِت َ‬
‫شدِي ٌد بِما كانُوا يَ ْمك ُُر َ‬
‫ون (‬ ‫َذاب َ‬‫َّللا َوع ٌ‬‫غار ِع ْن َد ه ِ‬
‫ص ٌ‬ ‫ِين أَجْ َر ُموا َ‬ ‫يب الهذ َ‬
‫سيُ ِص ُ‬ ‫ِرسالَتَهُ َ‬
‫‪) 124‬‬
‫ّللا ‪ -‬الوقف على الجاللة الثانية ]‬ ‫ّللا ه‬
‫[ قراءة ‪ :‬رسل ه‬
‫ّللا ‪ ،‬فإن انقطع نفسك على الجاللة الثانية كان ‪ ،‬وإال‬ ‫ّللا ه‬ ‫‪-‬قراءة ‪ -‬إذا قرأت رسل ه‬

‫ص ‪112‬‬

‫ص ‪112 :‬‬
‫ْث يَ ْجعَ ُل ِرسالَتَهُ »قال تعالى في الذين يبايعون‬ ‫ّللاُ أ َ ْعلَ ُم َحي ُ‬
‫فاقصد ذلك ‪ ،‬ثم ابتدئ« َّ‬
‫ّللاُ أ َ ْعلَ ُم »‬
‫ّللا ‪ ،‬فأنزله منزلته ‪ ،‬ف« َّ‬ ‫الرسول إنما يبايعون ه‬
‫ّللا »‪ ،‬وله وجه باالبتداء إلى« أ َ ْعلَ ُم َحي ُ‬
‫ْث يَ ْجعَ ُل‬ ‫س ُل َّ ِ‬
‫موجه ‪ ،‬له وجه بالخبرية إلى« ُر ُ‬
‫ِرسالَتَهُ »‪ ،‬وكال الوجهين حقيقة فيه ‪.‬‬

‫[ سورة األنعام ( ‪ : ) 6‬آية ‪] 125‬‬


‫ض ِيّقا ً‬ ‫الم َو َم ْن يُ ِر ْد أ َ ْن يُ ِضلههُ يَجْ عَ ْل َ‬
‫صد َْرهُ َ‬ ‫س ِ‬‫ْل ْ‬ ‫َّللاُ أ َ ْن يَ ْه ِديَهُ يَش َْرحْ َ‬
‫صد َْرهُ ِل ْ ِ‬ ‫فَ َم ْن يُ ِر ِد ه‬
‫ون ( ‪) 125‬‬ ‫علَى الهذ َ‬
‫ِين ال يُ ْؤ ِمنُ َ‬ ‫س َ‬ ‫الرجْ َ‬ ‫ماء كَذ ِلكَ يَجْ عَ ُل ه‬
‫َّللاُ ِ ّ‬ ‫س ِ‬ ‫صعه ُد فِي ال ه‬ ‫َح َرجا ً كَأَنهما يَ ه‬
‫ماء »كأنما يخرج‬ ‫س ِ‬ ‫ض ِيهقا ً َح َرجا ً َكأَنَّما يَ َّ‬
‫صعَّ ُد فِي ال َّ‬ ‫ص ْد َرهُ َ‬‫ضلَّهُ يَ ْجعَ ْل َ‬ ‫« َو َم ْن يُ ِر ْد أ َ ْن يُ ِ‬
‫عن طبعه ‪ ،‬والشيء ال يخرج عن حقيقته ‪.‬‬

‫[ سورة األنعام ( ‪ ) : 6‬آية ‪] 126‬‬


‫ون ( ‪) 126‬‬ ‫ت ِلقَ ْو ٍم يَذهك ُهر َ‬ ‫ست َ ِقيما ً قَ ْد فَ ه‬
‫ص ْلنَا ْاآليا ِ‬ ‫َوهذا ِصرا ُ‬
‫ط َر ِبّكَ ُم ْ‬
‫صرا ُ‬
‫ط َر ِبه َك ُم ْست َ ِقيما ً »وما ذكر إال إرادته للشرح‬ ‫« َوهذا »إشارة إلى ما تقدم ذكره« ِ‬
‫والضيق ‪ ،‬فال بد منهما في العالم ‪ ،‬ألنه ما يكون إال ما يريد ‪ ،‬وأضاف الصراط إلى‬
‫االسم الرب الستدعائه المربوب ‪ ،‬وجعله مستقيما ‪ ،‬فمن خرج عنه فقد انحرف وخرج‬
‫عن االستقامة ‪ ،‬وصراط الرب ال يكون إال مع التكليف ‪ ،‬فإذا ارتفع التكليف لم يبق‬
‫لهذا الصراط عين وجودية ‪.‬‬

‫[ سورة األنعام ( ‪ : ) 6‬آية ‪] 127‬‬


‫ون ( ‪) 127‬‬ ‫الم ِع ْن َد َر ِبّ ِه ْم َو ُه َو َو ِليُّ ُه ْم ِبما كانُوا يَ ْع َملُ َ‬
‫س ِ‬ ‫لَ ُه ْم ُ‬
‫دار ال ه‬
‫الم »هي دار ال يمسهم فيها نصب ‪ ،‬فهم فيها سالمون ‪.‬‬ ‫س ِ‬ ‫« لَ ُه ْم ُ‬
‫دار ال َّ‬

‫[ سورة األنعام ( ‪ : ) 6‬اآليات ‪ 128‬إلى ‪] 130‬‬


‫اْل ْن ِس َوقا َل أ َ ْو ِليا ُؤ ُه ْم ِم َن‬ ‫َويَ ْو َم يَحْ ش ُُر ُه ْم َج ِميعا ً يا َم ْعش ََر ا ْل ِج ِّن قَ ِد ا ْ‬
‫ست َ ْكث َ ْرت ُ ْم ِم َن ْ ِ‬
‫ض َوبَلَ ْغنا أ َ َجلَنَا الهذِي أ َ هج ْلتَ لَنا قا َل النه ُ‬
‫ار‬ ‫اْل ْن ِس َربهنَا ا ْ‬
‫ست َ ْمت َ َع بَ ْعضُنا ِببَ ْع ٍ‬ ‫ِْ‬

‫ص ‪113‬‬

‫ص ‪113 :‬‬
‫ض‬ ‫ع ِلي ٌم ( ‪َ ) 128‬وكَذ ِلكَ نُ َو ِلّي بَ ْع َ‬ ‫ِين فِيها إِاله ما شا َء ه‬
‫َّللاُ إِ هن َربهكَ َح ِكي ٌم َ‬ ‫َمثْوا ُك ْم خا ِلد َ‬
‫س ٌل‬‫اْل ْن ِس أ َ لَ ْم يَأْتِ ُك ْم ُر ُ‬
‫ون ( ‪ ) 129‬يا َم ْعش ََر ا ْل ِج ِّن َو ْ ِ‬ ‫ين بَ ْعضا ً ِبما كانُوا يَ ْك ِ‬
‫سبُ َ‬ ‫ظا ِل ِم َ‬ ‫ال ه‬
‫سنا‬ ‫علَ ْي ُك ْم آياتِي َويُ ْنذ ُِرونَ ُك ْم ِلقا َء يَ ْو ِم ُك ْم هذا قالُوا ش َِهدْنا عَلى أ َ ْنفُ ِ‬ ‫ون َ‬ ‫ص َ‬ ‫ِم ْن ُك ْم يَقُ ُّ‬
‫ين ) ‪( 130‬‬ ‫س ِه ْم أَنه ُه ْم كانُوا كافِ ِر َ‬‫غ هرتْ ُه ُم ا ْل َحياةُ ال ُّد ْنيا َوش َِهدُوا عَلى أ َ ْنفُ ِ‬
‫َو َ‬
‫ّللا الملك سعيدا ‪ ،‬الحظ له في‬ ‫ّللا الجان شقيا وسعيدا ‪ ،‬وكذلك اإلنس ‪ ،‬وخلق ه‬ ‫خلق ه‬
‫الشقاء ‪ ،‬فسمي شقي اإلنس والجان كافرا ‪ ،‬وسمي السعيد من الجن واإلنس مؤمنا ‪،‬‬
‫وأخسر األخسرين شاهد يشهد على نفسه ‪ ،‬فهم الذين أشقوا أنفسهم بشهادتهم ‪.‬‬

‫[ سورة األنعام ( ‪ : ) 6‬اآليات ‪ 131‬إلى ‪] 133‬‬


‫ون ( ‪َ ) 131‬و ِل ُك ٍ ّل د ََرجاتٌ ِم هما‬ ‫ظ ْل ٍم َوأ َ ْهلُها غا ِفلُ َ‬ ‫ذ ِلكَ أ َ ْن لَ ْم يَك ُْن َربُّكَ ُم ْه ِلكَ ا ْلقُرى ِب ُ‬
‫الرحْ َم ِة ِإ ْن يَشَأ ْ يُ ْذ ِه ْب ُك ْم‬
‫ي ذُو ه‬ ‫ون ( ‪َ ) 132‬و َربُّكَ ا ْلغَ ِن ُّ‬ ‫ع هما يَ ْع َملُ َ‬
‫ع َِملُوا َوما َربُّكَ ِبغا ِف ٍل َ‬
‫ين ) ‪( 133‬‬ ‫ف ِم ْن بَ ْع ِد ُك ْم ما يَشا ُء كَما أ َ ْنشَأ َ ُك ْم ِم ْن ذُ ِ ّريه ِة قَ ْو ٍم آ َخ ِر َ‬‫ست َ ْخ ِل ْ‬
‫َويَ ْ‬
‫‪ -‬رقيقة ‪ -‬قال تعالى ‪ِ «:‬إ ْن يَشَأ ْ »فهل يشاء أم ال ؟ هذا ال يكون ‪ ،‬فمشيئة الحق أحدية‬
‫التعلق ‪ ،‬وهي نسبة تابعة للعلم ‪ ،‬والعلم نسبة تابعة للمعلوم ‪ ،‬والمعلوم أنت وأحوالك ‪،‬‬
‫فليس للعلم أثر في المعلوم ‪ ،‬بل للمعلوم أثر في العلم ‪ ،‬فيعطيه ما هو عليه في عينه ‪،‬‬
‫وإنما ورد الخطاب اإللهي بحسب ما تواطأ عليه المخاطبون ‪ ،‬وما أعطاه النظر العقلي‬
‫‪ ،‬ما ورد الخطاب على ما يعطيه الكشف ‪ ،‬ولذلك كثر المؤمنون ‪ ،‬وقل العارفون‬
‫أصحاب الكشف ‪.‬‬

‫[ سورة األنعام ( ‪ : ) 6‬اآليات ‪ 134‬إلى ‪] 145‬‬


‫ين ( ‪ ) 134‬قُ ْل يا قَ ْو ِم ا ْع َملُوا عَلى َمكانَتِ ُك ْم ِإ ِنّي‬ ‫ت َوما أ َ ْنت ُ ْم ِب ُم ْع ِج ِز َ‬‫ُون َآل ٍ‬ ‫عد َ‬‫ِإ هن ما تُو َ‬
‫ُون لَهُ عا ِقبَةُ الد ِهار ِإنههُ ال يُ ْف ِل ُح‬ ‫ون َم ْن ت َك ُ‬ ‫ف ت َ ْعلَ ُم َ‬ ‫عام ٌل فَ َ‬
‫س ْو َ‬ ‫ِ‬

‫ص ‪114‬‬

‫ص ‪114 :‬‬
‫عام نَ ِصيبا ً فَقالُوا هذا ِ ه ِ‬
‫ّلِل‬ ‫ث َو ْاأل َ ْن ِ‬ ‫ّلِل ِم هما ذَ َرأ َ ِم َن ا ْل َح ْر ِ‬ ‫ون ( ‪َ ) 135‬و َجعَلُوا ِ ه ِ‬ ‫ظا ِل ُم َ‬‫ال ه‬
‫ّلِل فَ ُه َو يَ ِص ُل إِلى‬ ‫َّللا َوما َ‬
‫كان ِ ه ِ‬ ‫كان ِلش َُركائِ ِه ْم فَال يَ ِص ُل إِلَى ه ِ‬ ‫ِب َزع ِْم ِه ْم َوهذا ِلش َُركائِنا فَما َ‬
‫ون ) ‪( 136‬‬ ‫ش َُركائِ ِه ْم سا َء ما يَحْ ُك ُم َ‬
‫علَ ْي ِه ْم‬ ‫سوا َ‬ ‫ين قَتْ َل أ َ ْوال ِد ِه ْم ش َُركا ُؤ ُه ْم ِليُ ْردُو ُه ْم َو ِليَ ْل ِب ُ‬ ‫ير ِم َن ا ْل ُمش ِْر ِك َ‬ ‫َوكَذ ِلكَ َزيه َن ِل َكثِ ٍ‬
‫ون ( ‪) 137‬‬ ‫َّللاُ ما فَعَلُو ُه فَذَ ْر ُه ْم َوما يَ ْفت َ ُر َ‬ ‫دِينَ ُه ْم َولَ ْو شا َء ه‬
‫ورها‬ ‫ظ ُه ُ‬ ‫ث ِحجْ ٌر ال يَ ْطعَ ُمها إِاله َم ْن نَشا ُء بِ َزع ِْم ِه ْم َوأ َ ْنعا ٌم ُح ِ ّر َمتْ ُ‬ ‫َوقالُوا ه ِذ ِه أ َ ْنعا ٌم َو َح ْر ٌ‬
‫ون ( ‪) 138‬‬ ‫يه ْم بِما كانُوا يَ ْفت َ ُر َ‬ ‫سيَجْ ِز ِ‬‫علَ ْي ِه َ‬‫افتِرا ًء َ‬ ‫علَ ْي َها ْ‬ ‫َّللا َ‬
‫س َم ه ِ‬ ‫ون ا ْ‬ ‫َوأ َ ْنعا ٌم ال يَ ْذك ُُر َ‬
‫واجنا َو ِإ ْن يَك ُْن َم ْيتَةً‬ ‫ُورنا َو ُم َح هر ٌم عَلى أ َ ْز ِ‬ ‫صةٌ ِلذُك ِ‬ ‫عام خا ِل َ‬ ‫ون ه ِذ ِه ْاأل َ ْن ِ‬ ‫ط ِ‬ ‫َوقالُوا ما فِي بُ ُ‬
‫ع ِلي ٌم ( ‪) 139‬‬ ‫صفَ ُه ْم ِإنههُ َح ِكي ٌم َ‬ ‫يه ْم َو ْ‬ ‫سيَجْ ِز ِ‬ ‫فَ ُه ْم فِي ِه ش َُركا ُء َ‬
‫َّللا قَ ْد‬
‫علَى ه ِ‬ ‫اف ِترا ًء َ‬ ‫َّللاُ ْ‬‫سفَها ً ِبغَ ْي ِر ِع ْل ٍم َو َح هر ُموا ما َر َزقَ ُه ُم ه‬ ‫ِين قَتَلُوا أ َ ْوال َد ُه ْم َ‬ ‫س َر الهذ َ‬ ‫قَ ْد َخ ِ‬
‫ِين ( ‪ ) 140‬و‬ ‫ضلُّوا َوما كانُوا ُم ْهتَد َ‬ ‫َ‬
‫ع ُم ْخت َ ِلفا ً أ ُ ُكلُهُ‬ ‫ت َوالنه ْخ َل َو ه‬
‫الز ْر َ‬ ‫غ ْي َر َم ْع ُروشا ٍ‬ ‫ت َو َ‬ ‫ت َم ْع ُروشا ٍ‬ ‫ُه َو الهذِي أ َ ْنشَأ َ َجنها ٍ‬
‫غ ْي َر ُمتَشابِ ٍه ُكلُوا ِم ْن ث َ َم ِر ِه إِذا أَثْ َم َر َوآتُوا َحقههُ يَ ْو َم‬ ‫ان ُمتَشابِها ً َو َ‬ ‫الر هم َ‬‫ون َو ُّ‬ ‫َو ه‬
‫الز ْيت ُ َ‬
‫ين ( ‪) 141‬‬ ‫س ِرفِ َ‬ ‫ب ا ْل ُم ْ‬ ‫س ِرفُوا ِإنههُ ال يُ ِح ُّ‬ ‫َحصا ِد ِه َوال ت ُ ْ‬
‫طان ِإنههُ لَ ُك ْم‬ ‫ش ْي ِ‬ ‫ت ال ه‬ ‫طوا ِ‬ ‫َّللاُ َوال تَت ه ِبعُوا ُخ ُ‬ ‫عام َح ُمولَةً َوفَ ْرشا ً ُكلُوا ِم هما َر َزقَ ُك ُم ه‬ ‫َو ِم َن ْاأل َ ْن ِ‬
‫ين ( ‪) 142‬‬ ‫عد ٌُّو ُم ِب ٌ‬ ‫َ‬
‫ضأ ْ ِن اثْنَ ْي ِن َو ِم َن ا ْل َم ْع ِز اثْنَ ْي ِن قُ ْل آلذهك ََر ْي ِن َح هر َم أ َ ِم ْاأل ُ ْنثَيَ ْي ِن أ َ هما‬ ‫ثَمانِيَةَ أ َ ْزواجٍ ِم َن ال ه‬
‫علَ ْي ِه أ َ ْرحا ُم‬
‫شت َ َملَتْ َ‬ ‫ا ْ‬

‫ص ‪115‬‬

‫ص ‪115 :‬‬
‫[ كل محرم نجس ]‬
‫ين ) ‪( 143‬‬ ‫ْاأل ُ ْنثَيَ ْي ِن نَ ِبّئ ُونِي ِب ِع ْل ٍم إِ ْن ُك ْنت ُ ْم صا ِدقِ َ‬
‫علَ ْي ِه أ َ ْرحا ُم‬
‫شت َ َملَتْ َ‬ ‫اْل ِب ِل اثْنَ ْي ِن َو ِم َن ا ْلبَقَ ِر اثْنَ ْي ِن قُ ْل آلذهك ََر ْي ِن َح هر َم أ َ ِم ْاأل ُ ْنثَيَ ْي ِن أ َ هما ا ْ‬‫َو ِم َن ْ ِ‬
‫علَى ه ِ‬
‫َّللا َكذِبا ً ِليُ ِض هل‬ ‫افتَرى َ‬ ‫َّللاُ ِبهذا فَ َم ْن أ َ ْظلَ ُم ِم هم ِن ْ‬ ‫ش َهدا َء ِإ ْذ َو ه‬
‫صا ُك ُم ه‬ ‫ْاأل ُ ْنثَيَ ْي ِن أ َ ْم ُك ْنت ُ ْم ُ‬
‫ين) ‪( 144‬‬ ‫َّللا ال يَ ْهدِي ا ْلقَ ْو َم ال ه‬
‫ظا ِل ِم َ‬ ‫اس ِبغَ ْي ِر ِع ْل ٍم ِإ هن ه َ‬ ‫النه َ‬
‫ُون َم ْيتَةً أ َ ْو دَما ً‬
‫ي ُم َح هرما ً عَلى طا ِع ٍم يَ ْطعَ ُمهُ إِاله أ َ ْن يَك َ‬ ‫ي إِلَ ه‬ ‫وح َ‬ ‫قُ ْل ال أ َ ِج ُد فِي ما أ ُ ِ‬
‫غ ْي َر باغٍ َوال‬ ‫ط هر َ‬ ‫ض ُ‬ ‫َّللا بِ ِه فَ َم ِن ا ْ‬ ‫سقا ً أ ُ ِه هل ِلغَ ْي ِر ه ِ‬ ‫س أ َ ْو فِ ْ‬
‫ير فَ ِإنههُ ِرجْ ٌ‬ ‫سفُوحا ً أ َ ْو لَحْ َم ِخ ِ‬
‫نز ٍ‬ ‫َم ْ‬
‫ور َر ِحي ٌم ( ‪.) 145‬‬ ‫عا ٍد فَ ِإ هن َربهكَ َ‬
‫غف ُ ٌ‬

‫اتفق العلماء على تحريم الدم المسفوح من الحيوان المذكى ‪ ،‬واختلفوا في غير‬
‫المسفوح منه ‪ ،‬والسفح الذي يشترط إنما هو الدم السائل من التزكية في الحيوان‬
‫الحالل األكل ‪ ،‬إذ الدم السائل من الحي فهو حرام بال خالف ‪ ،‬قليله وكثيره ‪،‬‬
‫وكذلك ما سال من دم الحيوان المحرم األكل وإن ذكي فقليله وكثيره حرام بغير خالف‬
‫‪ ،‬وأما اختالفهم في دم الحوت فمن حرمه فبعموم اللفظ ‪ ،‬ومن أحله فليس له دليل ‪،‬‬
‫إال أنه رأى أن الدم تابع في الحرمة والحل لميتة الحيوان ‪ ،‬فمن كان ميتته حرام قدمه‬
‫حرام ‪ ،‬ومن كان ميتته حالال فدمه حالل فالتحريم ينسحب على كل دم مسفوح من أي‬
‫حيوان كان ‪ ،‬ويحرم أكله ‪ ،‬وأما كونه نجاسة ‪،‬‬
‫فال أحكم بنجاسة المحرمات إال أن ينص الشارع على نجاستها على اإلطالق ‪ ،‬أو يقف‬
‫على القدر الذي نص على نجاسته ‪،‬‬
‫النص باالجتناب نصا في كل حال ‪ ،‬فيفتقر إلى قرينة وال بد ‪ ،‬فما كل محرم‬
‫ه‬ ‫وليس‬
‫نجس ‪ ،‬وإن اجتنبناه فما اجتنبناه لنجاسته ‪ ،‬فإن كونه نجس حكم شرعي ‪ ،‬وقد يكون‬
‫غير مستقذر عقال وال مستخبث ‪.‬‬

‫[ سورة األنعام ( ‪ : ) 6‬اآليات ‪ 146‬إلى ‪] 149‬‬


‫ش ُحو َم ُهما ِإاله‬ ‫علَ ْي ِه ْم ُ‬ ‫ِين هادُوا َح هر ْمنا ُك هل ذِي ُ‬
‫ظفُ ٍر َو ِم َن ا ْلبَقَ ِر َوا ْلغَنَ ِم َح هر ْمنا َ‬ ‫علَى الهذ َ‬ ‫َو َ‬
‫ور ُهما أ َ ِو ا ْل َحوايا أ َ ْو َما ْ‬
‫اختَلَ َط ِبعَ ْظ ٍم ذ ِلكَ َج َز ْينا ُه ْم ِببَ ْغ ِي ِه ْم َو ِإنها‬ ‫ظ ُه ُ‬‫ما َح َملَتْ ُ‬

‫ص ‪116‬‬

‫ص ‪116 :‬‬
‫سهُ ع َِن ا ْلقَ ْو ِم‬ ‫سعَ ٍة َوال يُ َر ُّد بَأ ْ ُ‬
‫ون ( ‪ ) 146‬فَ ِإ ْن َكذهبُوكَ فَقُ ْل َربُّ ُك ْم ذُو َرحْ َم ٍة وا ِ‬ ‫لَصا ِدقُ َ‬
‫َّللاُ ما أَش َْر ْكنا َوال آباؤُنا َوال َح هر ْمنا‬ ‫ِين أَش َْركُوا لَ ْو شا َء ه‬ ‫سيَقُو ُل الهذ َ‬ ‫ين ) ‪َ ( 147‬‬ ‫ا ْل ُمجْ ِر ِم َ‬
‫سنا قُ ْل َه ْل ِع ْن َد ُك ْم ِم ْن ِع ْل ٍم‬ ‫ِين ِم ْن قَ ْب ِل ِه ْم َحتهى ذاقُوا بَأ ْ َ‬ ‫ب الهذ َ‬ ‫ش ْي ٍء كَذ ِلكَ َكذه َ‬
‫ِم ْن َ‬
‫لِلَف ا ْل ُح هجةُ‬
‫ون ( ‪ ) 148‬قُ ْل َ ِ ه ِ‬ ‫ص َ‬‫ظ هن َو ِإ ْن أ َ ْنت ُ ْم ِإاله ت َ ْخ ُر ُ‬
‫ون ِإاله ال ه‬‫فَت ُ ْخ ِر ُجو ُه لَنا ِإ ْن تَت ه ِبعُ َ‬
‫ين ) ‪. ( 149‬‬ ‫ا ْلبا ِلغَةُ فَلَ ْو شا َء لَ َهدا ُك ْم أَجْ َم ِع َ‬

‫[العلم تابع للمعلوم في الحادث والقديم ]‬


‫اعلم أن هّلل الحجة البالغة ‪ ،‬ألنه ال يجري عليك من األقدار إال ما كنت عليه ‪ ،‬فإنه‬
‫يقول كذا علمتك ‪ ،‬وما علمتك إال منك ‪ ،‬ولكن أكثر الناس ال يعلمون ‪ ،‬فإن العلم تابع‬
‫للمعلوم ‪ ،‬فإن قال المعلوم شيئا كان هّلل الحجة البالغة عليه بأن يقول ‪ :‬ما علمت هذا‬
‫منك إال بكونك عليه ‪ -‬في حال عدمه ‪ -‬وما أبرزتك في الوجود إال على قدر ما‬
‫أعطيتني من ذاتك بقبولك ‪ ،‬فيعرف العبد أنه الحق فتندحض حجة الخلق ‪ ،‬فيأخذ الناس‬
‫ذلك إيمانا ‪ ،‬وأما أرباب الشهود فيأخذونه عيانا ‪ ،‬فيعلمون موقعها ومن أين جاء بها‬
‫الحق ‪ ،‬فإن من المحال أن يتعلق العلم إال بما هو المعلوم عليه في نفسه ‪ ،‬ولذلك‬
‫ّللا بأن يقول له‬ ‫وصف الحق نفسه بأن له الحجة البالغة لو نوزع ‪ ،‬فلو احتج أحد على ه‬
‫ي بأن أكون على كذا ‪ ،‬فلم تؤاخذني ؟‬ ‫‪ :‬علمك سبق ف ه‬
‫يقول له الحق ‪ :‬هل علمتك إال بما أنت عليه ؟‬
‫فلو كنت غير ذلك لعلمتك على ما تكون عليه ‪ ،‬فارجع إلى نفسك وأنصف في كالمك ‪،‬‬
‫فإذا رجع العبد على نفسه ونظر في األمر كما ذكرنا علم أنه محجوج وأن الحجة هّلل‬
‫تعالى عليه ‪،‬‬
‫أما سمعته تعالى يقول ‪ ( :‬وما ظلمهم هللا ) ( وما ظلمناهم ) وقال ‪َ (:‬ول ِك ْن كانُوا‬
‫س ُه ْم يَ ْ‬
‫ظ ِل ُمونَ ) *‬ ‫أ َ ْنفُ َ‬
‫الظا ِل ِمينَ )يعني أنفسهم ‪ ،‬فإنهم ما ظهروا لنا حتى علمناهم‬ ‫كما قال ‪َ (:‬ول ِك ْن كانُوا ُه ُم َّ‬
‫وهم معدومون إال بما ظهروا به في الوجود من األحوال ‪ ،‬فالعلم تابع للمعلوم ‪ ،‬ما هو‬
‫ّللا في العباد إال بهم ‪،‬‬‫المعلوم تابع للعلم فافهمه ‪ .‬ومن وجه آخر ‪ :‬ما حكم ه‬
‫وهو قوله ‪َ (:‬جزا ًء ِوفاقا ً )( وجزاء بما كنتم تعملون ) ( وجزاء بما كنتم تكسبون )‬
‫ّللف الحجة البالغة وال حجة‬ ‫فأعمالهم عذبتهم وأعمالهم نعمتهم فما حكم فيهم غيرهم ‪ ،‬ه‬
‫ّللا نفسه‬
‫ّللا فمدح ه‬ ‫ألحد على ه‬

‫ص ‪117‬‬

‫ص ‪117 :‬‬
‫بأن له الحجة البالغة وليس إال العلم فإنه أعلى ما يطلب وأفضل ما يكتسب وأعظم ما‬
‫به يفتخر ‪ ،‬وأسد آلة تعد وتدخر« فَلَ ْو شا َء لَ َهدا ُك ْم أ َ ْج َم ِعينَ »ولو حرف امتناع المتناع‬
‫‪ ،‬فما شاء إال ما هو األمر عليه ‪ ،‬ولكن عين الممكن قابل للشيء ونقيضه في حكم دليل‬
‫العقل ‪ ،‬وأي الحكمين المعقولين وقع ‪ ،‬ذلك هو الذي كان عليه الممكن في حال ثبوته ‪،‬‬
‫ّللا عين بصيرته إلدراك‬ ‫ومعنى لهداكم أي ليبين لكم ‪ ،‬وما كل ممكن في العالم فتح ه‬
‫األمر في نفسه على ما هو عليه ‪ ،‬فمنهم العالم والجاهل ‪ ،‬فما هداهم أجمعين وال يشاء‬
‫‪.‬‬
‫[ سورة األنعام ( ‪ : ) 6‬آية ‪] 150‬‬
‫َّللا َح هر َم هذا فَ ِإ ْن ش َِهدُوا فَال ت َ ْ‬
‫ش َه ْد َمعَ ُه ْم َوال تَت ه ِب ْع‬ ‫ُون أ َ هن ه َ‬ ‫ش َهد َ‬ ‫ِين يَ ْ‬ ‫ش َهدا َء ُك ُم الهذ َ‬ ‫قُ ْل َهلُ هم ُ‬
‫ون ( ‪«) 150‬‬ ‫ون ِب ْاآل ِخ َر ِة َو ُه ْم ِب َر ِبّ ِه ْم يَ ْع ِدلُ َ‬‫ِين ال يُ ْؤ ِمنُ َ‬ ‫ِين َكذهبُوا ِبآيا ِتنا َوالهذ َ‬ ‫أ َ ْهوا َء الهذ َ‬
‫ون »أي يجعلون له مشابها ومماثال ‪ [.‬سورة األنعام ( ‪ : ) 6‬اآليات ‪151‬‬ ‫ِب َر ِبّ ِه ْم يَ ْع ِدلُ َ‬
‫إلى ‪] 152‬‬
‫ش ْيئا ً َوبِا ْلوا ِل َد ْي ِن إِحْ سانا ً َوال ت َ ْقتُلُوا‬ ‫علَ ْي ُك ْم أَاله تُش ِْركُوا بِ ِه َ‬ ‫قُ ْل تَعالَ ْوا أَتْ ُل ما َح هر َم َربُّ ُك ْم َ‬
‫ش ما َظ َه َر ِم ْنها َوما بَ َط َن‬ ‫واح َ‬ ‫الق نَحْ ُن نَ ْر ُزقُ ُك ْم َو ِإيها ُه ْم َوال ت َ ْق َربُوا ا ْلفَ ِ‬ ‫أ َ ْوال َد ُك ْم ِم ْن ِإ ْم ٍ‬
‫ون ( ‪) 151‬‬ ‫صا ُك ْم ِب ِه لَعَله ُك ْم ت َ ْع ِقلُ َ‬ ‫َّللاُ ِإاله ِبا ْل َح ّ ِ‬
‫ق ذ ِل ُك ْم َو ه‬ ‫س الهتِي َح هر َم ه‬ ‫َوال ت َ ْقتُلُوا النه ْف َ‬
‫ش هد ُه َوأ َ ْوفُوا ا ْل َك ْي َل َوا ْل ِم َ‬
‫يزان‬ ‫س ُن َحتهى يَ ْبلُ َغ أ َ ُ‬ ‫ي أَحْ َ‬ ‫يم ِإاله ِباله ِتي ِه َ‬ ‫َوال ت َ ْق َربُوا ما َل ا ْليَ ِت ِ‬
‫َّللا أ َ ْوفُوا‬
‫كان ذا قُ ْربى َوبِعَ ْه ِد ه ِ‬ ‫سعَها َوإِذا قُ ْلت ُ ْم فَا ْع ِدلُوا َولَ ْو َ‬ ‫ف نَ ْفسا ً إِاله ُو ْ‬ ‫بِا ْل ِق ْ‬
‫س ِط ال نُ َك ِلّ ُ‬
‫ون ) ‪( 152‬‬ ‫صا ُك ْم بِ ِه لَعَله ُك ْم تَذَك ُهر َ‬ ‫ذ ِل ُك ْم َو ه‬
‫اليتيم من ال أب له بالحياة ‪ ،‬وهو غير بالغ أي لم يبلغ الحلم بالسن أو اإلنبات أو رؤية‬
‫ّللا عليه وسلم بالتجارة في مال اليتيم حتى ال تأكله الصدقة‬ ‫الماء ‪ ،‬وقد أمر النبي صلهى ه‬
‫‪ ،‬فإن الزكاة واجبة‬

‫ص ‪118‬‬

‫ص ‪118 :‬‬
‫في مال اليتيم ‪ ،‬يخرجها وليه ‪َ «.‬وإِذا قُ ْلت ُ ْم فَا ْع ِدلُوا »اعلم أن العدل هو الميل ‪ ،‬يقال‬
‫عدل عن الطريق إذا مال عنه ‪ ،‬وعدل إليه إذا مال إليه ‪ ،‬وسمي الميل إلى الحق عدال‬
‫كما سمي الميل عن الحق جورا ‪.‬‬

‫[ سورة األنعام ( ‪ : ) 6‬آية ‪] 153‬‬


‫سبُ َل فَتَفَ هر َ‬
‫ق بِ ُك ْم ع َْن َ‬
‫سبِي ِل ِه ذ ِل ُك ْم‬ ‫ست َ ِقيما ً فَاتهبِعُوهُ َوال تَتهبِعُوا ال ُّ‬‫راطي ُم ْ‬ ‫َوأ َ هن هذا ِص ِ‬
‫ون ) ‪( 153‬‬ ‫صا ُك ْم بِ ِه لَعَله ُك ْم تَتهقُ َ‬
‫َو ه‬
‫قال تعالى ‪ِ (:‬ل ُك ٍهل َجعَ ْلنا ِم ْن ُك ْم ِش ْر َ‬
‫عةً َو ِم ْنهاجا ً »‬

‫[ الشريعة هي المحجة البيضاء ‪ ،‬محجة السعداء ]‬


‫ّللا عليه وسلم خطا ‪ ،‬وخط عن‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫وهي أحكام الطريقة ‪ ،‬ولهذا خط رسول ه‬
‫جنبتي ذلك الخط خطوطا ‪ ،‬فكان ذلك الخط شرعه ومنهاجه الذي بعث به ‪ ،‬وقيل له‬
‫قل ألمتك تسلك عليه ‪ ،‬وال تعدل عنه ‪ ،‬وكانت تلك الخطوط شرائع األنبياء التي تقدمته‬
‫راطي‬
‫ص ِ‬ ‫‪ ،‬والنواميس الحكمية الموضوعة ‪ ،‬ثم وضع يده على الخط وتال «‪َ :‬وأ َ َّن هذا ِ‬
‫ّللا ‪ ،‬ووصفه باالستقامة ‪ ،‬وما تعرض لنعت‬ ‫ُم ْست َ ِقيما ً »فأضافه إليه ‪ ،‬ولم يقل صراط ه‬
‫تلك الخطوط بل سكت عنها ‪ ،‬فهو شرع خاص ‪،‬‬
‫سبُ َل »يعني شرائع من‬ ‫ثم قال ‪ «:‬فَاتَّبِعُوهُ »الضمير يعود على صراطه« َوال تَتَّبِعُوا ال ُّ‬
‫تقدمه ومناهجهم ‪ ،‬فإنه أشار إلى تلك الخطوط التي خطها على يمين الخط ويساره من‬
‫حيث ما هي شرائع لهم ‪ ،‬إال إن وجد حكم منها في شرعي فاتبعوه من حيث ما هو‬
‫س ِبي ِل ِه »يعني تلك الشرائع عن‬ ‫ع ْن َ‬ ‫شرع لنا ال من حيث ما كان شرعا لهم «فَتَفَ َّرقَ ِب ُك ْم َ‬
‫ّللا عليه وسلم ‪،‬‬ ‫سبيله التي لكم فيها السعادة ‪ ،‬وهي الطريق الذي جاء به محمد صلهى ه‬
‫ّللا منته كل سبيل ‪ ،‬فإليه يرجع األمر كله ‪ ،‬ولكن ما كل‬ ‫وإال فالسبل كلها إليه ‪ ،‬ألن ه‬
‫ّللا ‪ ،‬ألن‬
‫من رجع إليه سعد ‪ ،‬فسبيل السعادة هي المشروعة ‪ ،‬ولذلك لم يقل عن سبيل ه‬
‫صا ُك ْم بِ ِه »فجعل هذا التعريف وصية‬ ‫ّللا غايتها ‪ «.‬ذ ِل ُك ْم َو َّ‬
‫ّللا ‪ ،‬إذ كان ه‬
‫الكل سبيل ه‬
‫ليعمل بها« لَعَلَّ ُك ْم تَتَّقُونَ » *أي تتخذون تلك السبيل وقاية ‪ ،‬تحول بينكم وبين المشي‬
‫على غيره من السبل ‪ ،‬فهذا يدلك أن الشريعة هي المحجة البيضاء ‪ ،‬محجة السعداء ‪،‬‬
‫وطريق السعادة ‪ ،‬من مشى عليها نجا ‪ ،‬ومن تركها هلك ‪ ،‬فإن السبل المشروعة ‪،‬‬
‫الحكم فيها مجموعة ‪ ،‬فمن احترمها وأقامها أعطته ما فيها ‪ ،‬وأتحفته بمعانيها ‪ ،‬فكان‬
‫عالمة الزمان ‪ ،‬مجهوال في األكوان ‪ ،‬معلوما للواحد الرحمن ‪ ،‬على أن الرسل لما‬ ‫ه‬
‫طرقت السبل وسهلت حزنها ‪ ،‬وذللت صعبها ‪ ،‬وأزالت غمها وحزنها ‪ ،‬أخبرت أن‬
‫ّللا في‬
‫دين ه‬

‫ص ‪119‬‬

‫ص ‪119 :‬‬
‫ّللا نفسا إال ما آتاها ‪ ،‬وما شرع لها إال ما‬
‫يسر ‪ ،‬فال تجعلوه في عسر ‪ ،‬فما كلف ه‬
‫واتاها ‪ ،‬فإنه العالم بالمصالح والمنافع ‪ ،‬والدواء الناجع ‪ ،‬فمن استعمل ما شرع ‪ ،‬اندفع‬
‫ّللا بالشرائع كل مذهب ‪ ،‬لمن عرف كيف يذهب ‪.‬‬ ‫عنه الضر وانتفع ‪ ،‬فذهب ه‬
‫فما من قالة إال وللشرع فيها مقالة ‪ ،‬إما بتقرير أو إزالة ‪ ،‬فما فرط في الكتاب من‬
‫عز وجل أرسله ‪.‬‬ ‫شيء حين أنزله ‪ ،‬وال كتم رسول ما به الحق ه‬

‫[ سورة األنعام ( ‪ : ) 6‬آية ‪] 154‬‬


‫دى َو َرحْ َمةً‬ ‫س َن َوت َ ْف ِصيالً ِل ُك ِ ّل َ‬
‫ش ْي ٍء َو ُه ً‬ ‫علَى الهذِي أَحْ َ‬ ‫سى ا ْل ِك َ‬
‫تاب تَماما ً َ‬ ‫ث ُ هم آت َ ْينا ُمو َ‬
‫دى »‬‫ون ( ‪َ «) 154‬و ُه ً‬ ‫لَعَله ُه ْم ِب ِل ِ‬
‫قاء َر ِبّ ِه ْم يُ ْؤ ِمنُ َ‬
‫أي بيانا ورحمة بما يحصل لهم من العلم من ذلك البيان ‪.‬‬

‫[ سورة األنعام ( ‪ : ) 6‬اآليات ‪ 155‬إلى ‪] 158‬‬


‫ون ( ‪ ) 155‬أ َ ْن تَقُولُوا إِنهما‬ ‫باركٌ فَاتهبِعُوهُ َواتهقُوا لَعَله ُك ْم ت ُ ْر َح ُم َ‬ ‫تاب أ َ ْن َز ْلناهُ ُم َ‬
‫َوهذا ِك ٌ‬
‫ين ) ‪ ( 156‬أ َ ْو تَقُولُوا‬ ‫ستِ ِه ْم لَغافِ ِل َ‬ ‫تاب عَلى طائِفَت َ ْي ِن ِم ْن قَ ْب ِلنا َو ِإ ْن ُكنها ع َْن دِرا َ‬ ‫أ ُ ْن ِز َل ا ْل ِك ُ‬
‫دى َو َرحْ َمةٌ فَ َم ْن‬ ‫تاب لَ ُكنها أ َ ْهدى ِم ْن ُه ْم فَقَ ْد جا َء ُك ْم بَ ِيّنَةٌ ِم ْن َر ِبّ ُك ْم َو ُه ً‬ ‫علَ ْينَا ا ْل ِك ُ‬‫لَ ْو أَنها أ ُ ْن ِز َل َ‬
‫سو َء‬ ‫ع ْن آيا ِتنا ُ‬ ‫ون َ‬ ‫ص ِدفُ َ‬ ‫ِين يَ ْ‬ ‫سنَجْ ِزي الهذ َ‬ ‫ع ْنها َ‬ ‫َف َ‬ ‫صد َ‬ ‫َّللا َو َ‬‫ت هِ‬ ‫ب ِبآيا ِ‬ ‫أ َ ْظلَ ُم ِم هم ْن َكذه َ‬
‫ي َربُّكَ‬ ‫ون إِاله أ َ ْن تَأْتِيَ ُه ُم ا ْل َمالئِكَةُ أ َ ْو يَأْتِ َ‬
‫ظ ُر َ‬ ‫ون ( ‪َ ) 157‬ه ْل يَ ْن ُ‬ ‫ص ِدفُ َ‬ ‫ب بِما كانُوا يَ ْ‬ ‫ا ْلعَذا ِ‬
‫ت َر ِبّكَ ال يَ ْنفَ ُع نَ ْفسا ً إِيمانُها لَ ْم تَك ُْن آ َمنَتْ‬ ‫ض آيا ِ‬ ‫ت َر ِبّكَ يَ ْو َم يَأْتِي بَ ْع ُ‬ ‫ض آيا ِ‬ ‫ي بَ ْع ُ‬ ‫أ َ ْو يَأْتِ َ‬
‫ون ( ‪) 158‬‬ ‫سبَتْ فِي إِيمانِها َخ ْيرا ً قُ ِل ا ْنت َ ِظ ُروا إِنها ُم ْنت َ ِظ ُر َ‬ ‫ِم ْن قَ ْب ُل أ َ ْو َك َ‬
‫ت فِي‬ ‫سبَ ْ‬ ‫َت ِم ْن قَ ْب ُل أ َ ْو َك َ‬ ‫ت َر ِبه َك ال يَ ْنفَ ُع نَ ْفسا ً ِإيمانُها لَ ْم ت َ ُك ْن آ َمن ْ‬ ‫ض آيا ِ‬ ‫« يَ ْو َم يَأْتِي بَ ْع ُ‬
‫ِإيمانِها َخيْرا ً »‪ -‬الوجه األول ‪ -‬ذلك عند مفارقة الروح لهذه النشأة ‪ ،‬ألن زمان التكليف‬

‫ص ‪120‬‬

‫ص ‪120 :‬‬
‫ذهب وانقضى في حقها ‪ ،‬ولهذا ينقطع عمل اإلنسان بالموت ‪ -‬الوجه الثاني ‪ -‬هو عند‬
‫خروج الشمس من مغربها فيسد باب التوبة ويغلق ‪ ،‬فال ينفع نفسا إيمانها وال ما‬
‫تكتسبه من خير بذلك اإليمان ‪ ،‬فغلق باب التوبة بخروج الشمس من مغربها رحمة‬
‫بالمؤمن فال يرتد مؤمن بعد ذلك ‪ ،‬فإنه ليس له باب يخرج منه ‪ ،‬ووبال بالكافر لعدم‬
‫قبول توبته وال ينفعه عمل مع كونه في الدنيا ‪ ،‬فإنه ال بد لهذه الشمس أن تطلع من‬
‫مغربها ولها بهتة ‪ ،‬ولهذا تطلع من المغرب بغتة ‪ ،‬مع كونها ما سكنت عن حركتها ‪،‬‬
‫ولكن حيل بينها وبين بركتها ‪ ،‬فلم ينفع بطلوعها إيمان وال عمل ‪ ،‬ولحق أهل االجتهاد‬
‫بأهل الكسل ‪.‬‬

‫[ سورة األنعام ( ‪ : ) 6‬اآليات ‪ 159‬إلى ‪] 160‬‬


‫ش ْي ٍء ِإنهما أ َ ْم ُر ُه ْم ِإلَى ه ِ‬
‫َّللا ث ُ هم يُنَ ِبّئ ُ ُه ْم‬ ‫ستَ ِم ْن ُه ْم ِفي َ‬ ‫ِين فَ هرقُوا دِينَ ُه ْم َوكانُوا ِ‬
‫شيَعا ً لَ ْ‬ ‫ِإ هن الهذ َ‬
‫س ِيّئ َ ِة فَال‬‫عش ُْر أ َ ْمثا ِلها َو َم ْن جا َء بِال ه‬ ‫سنَ ِة فَلَهُ َ‬ ‫ون ( ‪َ ) 159‬م ْن جا َء بِا ْل َح َ‬ ‫بِما كانُوا يَ ْفعَلُ َ‬
‫ون ) ‪( 160‬‬ ‫يُجْ زى إِاله ِمثْلَها َو ُه ْم ال يُ ْظلَ ُم َ‬
‫إذا أدخل الحق صورة العمل الصالح الميزان ووزنه بصورة الجزاء ‪ ،‬رجحت عليه‬
‫ّللا وفضال ‪،‬‬ ‫صورة الجزاء أضعافا مضاعفة ‪ ،‬وخرجت عن الحد والمقدار ‪ ،‬منة من ه‬
‫ع ْش ُر أ َ ْمثا ِلها )وقال ( ‪ :‬ويضاعف هللا لمن يشاء وهللا‬ ‫وهو قوله ‪َ (:‬م ْن جا َء ِب ْال َح َ‬
‫سنَ ِة فَلَهُ َ‬
‫واسع عليم ) وإذا اتفق أن يدخل الحق صورة العمل المنهي عنه في الميزان بالجزاء ‪،‬‬
‫فإنه ال يزيد عليها في المقدار وزن ذرة أصال إذا أقام الوزن عليه بالجزاء ‪ ،‬وكان‬
‫عذابه في النار جزاء على قدر عمله ‪ ،‬ال يزيد وال ينقص ‪ ،‬ال في العمل وال في مقدار‬
‫ظلَ ُمونَ »‪.‬‬ ‫س ِيهئ َ ِة فَال يُ ْجزى ِإ َّال ِمثْلَها َو ُه ْم ال يُ ْ‬
‫الزمان ‪ ،‬وهو قوله تعالى «‪َ :‬و َم ْن جا َء ِبال َّ‬

‫[ سورة األنعام ( ‪ : ) 6‬اآليات ‪ 161‬إلى ‪] 162‬‬


‫يم دِينا ً قِيَما ً ِملهةَ إِ ْبرا ِهي َم َحنِيفا ً َوما َ‬
‫كان ِم َن‬ ‫ست َ ِق ٍ‬ ‫قُ ْل إِنهنِي َهدانِي َر ِبّي إِلى ِص ٍ‬
‫راط ُم ْ‬
‫ب ا ْلعالَ ِمي َن)‪(162‬‬
‫ّلِل َر ّ ِ‬
‫ياي َو َمماتِي ِ ه ِ‬
‫س ِكي َو َمحْ َ‬ ‫صالتِي َونُ ُ‬ ‫ين (‪ )161‬قُ ْل إِ هن َ‬
‫ا ْل ُمش ِْر ِك َ‬
‫س ِكي »‬ ‫صالتِي »الصالة المعهودة« َونُ ُ‬ ‫"قُ ْل ِإ َّن َ‬
‫ياي َو َمماتِي »أي‬‫هنا معناه عبادتي ‪ ،‬أي ‪ :‬إن صالتي وعبادتي ‪ ،‬يقول ذلتي« َو َم ْح َ‬
‫ّلل َربه ِ ْالعالَ ِمينَ "‬‫وحالة حياتي وحالة مماتي« ِ َّ ِ‬

‫ص ‪121‬‬

‫ص ‪121 :‬‬
‫ي في‬‫ّللا ‪ ،‬ال من أجل ما يعود عل ه‬ ‫ي من أجل ه‬ ‫أي هّلل إيجاد ذلك كله ‪ ،‬أي ظهور ذلك ف ه‬
‫س ِإ َّال ِليَ ْعبُد ِ‬
‫ُون )فالعالم من عبد‬ ‫ّللا يقول ‪َ (:‬وما َخلَ ْقتُ ْال ِج َّن َو ْ ِ‬
‫اإل ْن َ‬ ‫ذلك من الخير ‪ ،‬فإن ه‬
‫ّللا ‪ ،‬من حظوظ نفسه في تلك العبادة ‪ ،‬لذلك‬ ‫ّللا هّلل ‪ ،‬وغير العالم يعبده لما يرجوه من ه‬ ‫ه‬
‫ّلل َربه ِ ْالعالَ ِمينَ »أي سيد العالمين ومالكهم ومصلحهم ‪.‬‬ ‫قال «‪ِ َّ ِ :‬‬

‫[ سورة األنعام ( ‪ : ) 6‬آية ‪] 163‬‬


‫ال ش َِريكَ لَهُ َوبِذ ِلكَ أ ُ ِم ْرتُ َوأَنَا أ َ هو ُل ا ْل ُم ْ‬
‫س ِل ِم َ‬
‫ين ) ‪( 163‬‬
‫ّللا ‪ ،‬الذي خلقني من أجلها ‪ ،‬أي ال‬ ‫أي ال إله في هذا الموضع مقصود بالعبادة إال ه‬
‫ّللا لمن هذه صفته« َو ِبذ ِل َك‬ ‫أشرك فيها نفسي ‪ ،‬بما يخطر له من الثواب الذي وعده ه‬
‫أ ُ ِم ْرتُ »يعود على الجملة كلها وعلى كل جزء جزء منها « َوأَنَا أ َ َّو ُل ْال ُم ْس ِل ِمينَ »أي‬
‫من المنقادين ألوامره في قوله «‪َ :‬و ِبذ ِل َك أ ُ ِم ْرتُ »حيث ورد في الحديث [ وأنا من‬
‫المسلمين ] ‪.‬‬

‫[ سورة األنعام ( ‪ : ) 6‬آية ‪] 164‬‬


‫ب ُك ُّل نَ ْف ٍس ِإاله َ‬
‫علَ ْيها َوال ت َ ِز ُر‬ ‫ش ْي ٍء َوال ت َ ْك ِ‬
‫س ُ‬ ‫ب ُك ِ ّل َ‬ ‫َّللا أ َ ْب ِغي َربًّا َو ُه َو َر ُّ‬ ‫قُ ْل أ َ َ‬
‫غ ْي َر ه ِ‬
‫ون ( ‪) 164‬‬ ‫واز َرةٌ ِو ْز َر أ ُ ْخرى ث ُ هم ِإلى َر ِبّ ُك ْم َم ْر ِجعُ ُك ْم فَيُنَ ِبّئ ُ ُك ْم ِبما ُك ْنت ُ ْم ِفي ِه ت َ ْخت َ ِلفُ َ‬
‫ِ‬
‫شيْئا ً ) *‬ ‫ع ْن نَ ْف ٍس َ‬ ‫س َ‬ ‫واز َرة ٌ ِو ْز َر أ ْخرى »قال تعالى‪ ( :‬ال ت َ ْج ِزي نَ ْف ٌ‬ ‫ُ‬ ‫« َوال ت َ ِز ُر ِ‬
‫ت َر ِهينَةٌ )‪.‬‬ ‫وقال ‪ُ (:‬ك ُّل نَ ْف ٍس بِما َك َ‬
‫سبَ ْ‬

‫[ سورة األنعام ( ‪ : ) 6‬آية ‪] 165‬‬


‫ت ِليَ ْبلُ َو ُك ْم فِي ما‬
‫ض د ََرجا ٍ‬ ‫ض ُك ْم فَ ْو َ‬
‫ق بَ ْع ٍ‬ ‫ض َو َرفَ َع بَ ْع َ‬ ‫ف ْاأل َ ْر ِ‬‫َو ُه َو الهذِي َجعَلَ ُك ْم َخالئِ َ‬
‫ور َر ِحي ٌم ( ‪) 165‬‬ ‫ب َو ِإنههُ لَغَفُ ٌ‬ ‫س ِري ُع ا ْل ِعقا ِ‬
‫آتا ُك ْم ِإ هن َربهكَ َ‬
‫ض»‬ ‫ف ْاأل َ ْر ِ‬‫« َو ُه َو الَّذِي َجعَلَ ُك ْم خَالئِ َ‬

‫[ رتبة الخالفة متوارثة ‪ ،‬والخليفة واحد أبدا ]‬


‫هي رتبة الخالفة التي كانت آلدم عليه السالم ‪ ،‬فالخلفاء نواب الحق في عباده ‪ ،‬وقوله‬
‫ف »بالجمع ‪ ،‬والخليفة واحد أبدا ‪ ،‬فإن سر الخالفة واحد ‪ ،‬وهو‬ ‫تعالى ‪ «:‬خَالئِ َ‬
‫متوارث تتوارثه هذه األشباح ‪ ،‬فإن ظهرت في شخص ما ‪ ،‬ما دام ذلك الشخص‬
‫متصفا به ‪ ،‬من المحال شرعا أن يوجد لذلك القبيل في ذلك الزمان بعينه في شخص‬
‫آخر ‪ ،‬وإن ادعاه أحد فهو باطل ‪ ،‬ودعواه مردودة ‪ ،‬وهو دجال ذلك الزمان ‪،‬‬

‫ص ‪122‬‬

‫ص ‪122 :‬‬
‫فإذا فقد ذلك الشخص انتقل ذلك السر إلى شخص آخر ‪ ،‬فانتقل معه اسم الخليفة ‪ ،‬فلهذا‬
‫قيل خالئف األرض ‪ ،‬أي يخلف بعضنا بعضا فيها ‪ ،‬في مرتبة الخالفة ‪،‬‬
‫فإن آدم كانت خالفته في األرض ‪ ،‬وهكذا هو كل خليفة فيها ‪ ،‬مع وجود التفاضل بين‬
‫الخلفاء فيها ‪ ،‬وذلك الختالف األزمان واختالف األحوال ‪ ،‬فيعطي هذا الحال والزمان‬
‫من األمر ما ال يعطيه الزمان والحال الذي كان قبله والذي يكون بعده ‪،‬‬
‫ولهذا اختلفت آيات األنبياء باختالف األعصار ‪ ،‬فآية كل خليفة ورسول من نسبة ما‬
‫هو الظاهر والغالب على ذلك الزمان وأحوال علمائه ‪ ،‬أي شيء كان ‪ ،‬من طب أو‬
‫ت»‬ ‫ض َد َرجا ٍ‬‫ض ُك ْم فَ ْوقَ بَ ْع ٍ‬‫سحر أو فصاحة ‪ ،‬وما شاكل هذا وهو قوله ‪َ «:‬و َرفَ َع بَ ْع َ‬
‫[ وزن األعمال يوم القيامة بالعامل ]‬
‫ففضل بعضهم على بعض بالمراتب والزيادات التي لها شرف في العرف والعقل ‪ ،‬ثم‬
‫ور َر ِحي ٌم »وهاتان‬ ‫س ِري ُع ْال ِعقا ِ‬
‫ب َو ِإنَّهُ لَغَفُ ٌ‬ ‫يقول للخلفاء« ِليَ ْبلُ َو ُك ْم ِفي ما آتا ُك ْم ِإ َّن َرب ََّك َ‬
‫الصفتان ال تكونان إال لمن بيده الحكم واألمر والنهي ‪ ،‬فهذا النسق يقوي أنه أراد‬
‫خالفة السلطنة والملك ‪،‬‬
‫ور َر ِحي ٌم »قال صلهى ه‬
‫ّللا‬ ‫س ِري ُع ْال ِعقا ِ‬
‫ب َو ِإنَّهُ لَغَفُ ٌ‬ ‫ومن حقيقة قوله تعالى ‪ِ «:‬إ َّن َرب ََّك َ‬
‫عليه وسلم ‪:‬‬
‫[ أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك ] ‪.‬‬

‫( ‪ ) 7‬سورة األعراف مكيّة‬


‫الرحيم‬ ‫الرحمن ّ‬ ‫َّللا ّ‬‫بسم ّ‬
‫[ سورة األعراف ( ‪ : ) 7‬اآليات ‪ 1‬إلى ‪] 8‬‬
‫يم‬
‫الر ِح ِ‬ ‫من ه‬ ‫الرحْ ِ‬ ‫َّللا ه‬‫س ِم ه ِ‬ ‫ِب ْ‬
‫ج ِم ْنهُ ِلت ُ ْنذ َِر ِب ِه َو ِذ ْكرى‬ ‫صد ِْركَ َح َر ٌ‬ ‫تاب أ ُ ْن ِز َل ِإلَ ْيكَ فَال يَك ُْن ِفي َ‬ ‫المص ( ‪ِ ) 1‬ك ٌ‬
‫ين ( ‪ ) 2‬اتهبِعُوا ما أ ُ ْن ِز َل إِلَ ْي ُك ْم ِم ْن َر ِبّ ُك ْم َوال ت َتهبِعُوا ِم ْن دُونِ ِه أ َ ْو ِليا َء قَ ِليالً ما‬ ‫ِل ْل ُم ْؤ ِمنِ َ‬
‫ون ) ‪( 4‬‬ ‫سنا بَياتا ً أ َ ْو ُه ْم قائِلُ َ‬ ‫ون ( ‪َ ) 3‬و َك ْم ِم ْن قَ ْريَ ٍة أ َ ْهلَ ْكناها فَجا َءها بَأ ْ ُ‬ ‫تَذَك ُهر َ‬
‫ين ( ‪ ) 5‬فَلَنَ ْ‬
‫سئ َلَ هن الهذ َ‬
‫ِين‬ ‫سنا ِإاله أ َ ْن قالُوا ِإنها ُكنها ظا ِل ِم َ‬ ‫كان َدعْوا ُه ْم ِإ ْذ جا َء ُه ْم بَأ ْ ُ‬ ‫فَما َ‬
‫ين ( ‪) 7‬‬ ‫علَ ْي ِه ْم ِب ِع ْل ٍم َوما ُكنها غائِ ِب َ‬ ‫ص هن َ‬‫ين ( ‪ ) 6‬فَلَنَقُ ه‬ ‫س ِل َ‬ ‫سئَلَ هن ا ْل ُم ْر َ‬
‫س َل ِإلَ ْي ِه ْم َولَنَ ْ‬ ‫أ ُ ْر ِ‬
‫ون) ‪( 8‬‬ ‫وازينُهُ فَأُولئِكَ ُه ُم ا ْل ُم ْف ِل ُح َ‬‫ق فَ َم ْن ثَقُلَتْ َم ِ‬ ‫َوا ْل َو ْز ُن يَ ْو َمئِ ٍذ ا ْل َح ُّ‬

‫ص ‪123‬‬

‫ص ‪123 :‬‬
‫هي موازين األعمال ‪ ،‬فإن رجح عمله به ثقل ميزان عمله به وارتفعت الكفة فيه ‪،‬‬
‫فأخذ إلى عليين ‪ ،‬وإن رجح هو بعمله نزل بكفته في سجين ‪ ،‬لذلك قال تعالى ‪.‬‬

‫[ سورة األعراف ( ‪ : ) 7‬آية ‪] 9‬‬


‫ون ) ‪( 9‬‬ ‫س ُروا أ َ ْنفُ َ‬
‫س ُه ْم ِبما كانُوا ِبآيا ِتنا يَ ْظ ِل ُم َ‬ ‫وازينُهُ فَأُول ِئكَ الهذ َ‬
‫ِين َخ ِ‬ ‫َو َم ْن َخفهتْ َم ِ‬
‫الوزن يوم القيامة وزنان ‪ :‬وزن األعمال بعضها ببعض ‪ ،‬ويعتبر في ذلك كفة‬
‫الحسنات ‪ ،‬ووزن األعمال بعاملها ‪ ،‬ويعتبر فيها كفة العمل ‪ ،‬لما كان الحشر يوم‬
‫القيامة والنشور في األجسام الطبيعية ظهر الميزان بصورة نشأتهم من الثقل ‪ ،‬فإذا‬
‫ّللا ‪ ،‬فأرادوا حسنا وفعلوا في ظاهرهم حسنا‬ ‫ثقلت موازينهم ‪ ،‬وهم الذين أسعدهم ه‬
‫فثقلت موازينهم ‪ ،‬فإن الحسنة بعشر أمثالها إلى مائة ألف مما دون ذلك وما فوقه ‪،‬‬
‫وأما القبيح السيئ ‪ ،‬فواحدة بواحدة ‪ ،‬فيخف ميزانه ‪ ،‬أعني ميزان الشقي بالنسبة إلى‬
‫ثقل السعيد ‪،‬‬
‫واعلم أن الحق تعالى ما اعتبر في الوزن إال كفة الخير ال كفة الشر ‪ ،‬فهي الثقيلة في‬
‫حق السعيد ‪ ،‬الخفيفة في حق الشقي ‪ ،‬مع كون السيئة غير مضاعفة ‪ ،‬ومع هذا فقد‬
‫خفت كفة خيره ‪ ،‬فانظر ما أشقاه ‪ ،‬فالكفة الثقيلة للسعيد هي بعينها الخفيفة للشقي ‪ ،‬لقلة‬
‫ما فيها من الخير ‪ ،‬أو لعدمه بالجملة ‪ ،‬مثل الذي يخرجه سبحانه من النار وما عمل‬
‫خيرا قط ‪ ،‬فميزان مثل هذا ما في كفة اليمين منه شيء أصال ‪ ،‬وليس عنده إال ما في‬
‫ّللا ‪،‬‬
‫قلبه من العلم الضروري بتوحيد ه‬
‫وليس له في ذلك تعمل مثل سائر الضروريات ‪ ،‬فلو اعتبر الحق بالثقل والخفة الكفتين‬
‫‪ ،‬كفة الخير والشر ‪ ،‬لكان يزيد بيانا في ذلك ‪ ،‬فإن إحدى الكفتين إذا ثقلت خفت‬
‫األخرى بال شك ‪ ،‬خيرا كان أو شرا ‪ ،‬وأما إذا وقع الوزن به ‪ ،‬فيكون هو في إحدى‬
‫الكفتين وعمله في األخرى ‪،‬‬
‫فذلك وزن آخر ‪ ،‬فمن ثقل ميزانه نزل عمله إلى أسفل ‪ ،‬فإن األعمال في الدنيا من‬
‫مشاق النفوس ‪ ،‬والمشاق محلها النار ‪ ،‬فتنزل كفة عمله تطلب النار ‪ ،‬وترتفع الكفة‬
‫التي هو فيها لخفتها فيدخل الجنة ألن لها العلو ‪ ،‬والشقي تثقل كفة الميزان الذي هو‬
‫فيها وتخف كفة عمله ‪ ،‬فيهوي في النار ‪،‬‬

‫ص ‪124‬‬

‫ص ‪124 :‬‬
‫وهو قوله ‪ (:‬فَأ ُ ُّمهُ ها ِويَةٌ )فكفة ميزان العمل هي المعتبرة في هذا النوع من الوزن ‪،‬‬
‫الموصوفة بالثقل في السعيد لرفعة صاحبها ‪ ،‬والموصوفة بالخفة في حق الشقي لثقل‬
‫ور ِه ْم )وليس إال ما يعطيهم‬ ‫على ُ‬
‫ظ ُه ِ‬ ‫صاحبها ‪ ،‬وهو قوله تعالى ‪ (:‬يَ ْح ِملُونَ أ َ ْو َ‬
‫زار ُه ْم َ‬
‫من الثقل الذي يهوي به في نار جهنم ‪.‬‬

‫[ سورة األعراف ( ‪ : ) 7‬اآليات ‪ 10‬إلى ‪] 11‬‬


‫ون ( ‪َ ) 10‬ولَقَ ْد‬‫شك ُُر َ‬ ‫ش قَ ِليالً ما ت َ ْ‬‫ض َو َجعَ ْلنا لَ ُك ْم فِيها َمعايِ َ‬ ‫َولَقَ ْد َم هكنها ُك ْم فِي ْاأل َ ْر ِ‬
‫يس لَ ْم يَك ُْن ِم َن‬ ‫س ُجدُوا ِآل َد َم فَ َ‬
‫س َجدُوا ِإاله ِإ ْب ِل َ‬ ‫ص هو ْرنا ُك ْم ث ُ هم قُ ْلنا ِل ْل َمالئِ َك ِة ا ْ‬
‫َخلَ ْقنا ُك ْم ث ُ هم َ‬
‫ِين ( ‪) 11‬‬ ‫اجد َ‬ ‫س ِ‬ ‫ال ه‬
‫قيل إلبليس ‪ :‬اسجد آلدم ‪ ،‬فغاب عن الم الخفض التي هي إشارة إلى الم اإلضافة ‪،‬‬
‫واحتجب العلم عنه بذكر آدم ‪ ،‬فلو رأى الالم من قوله آلدم لرأى نور محيا الذات‬
‫المطلوبة لقلوب الرجال ‪ ،‬فما كانت تتصور منه اإلباية عما دعاه إليه ‪ ،‬فاحتجب إبليس‬
‫واستكبر بنظره إلى عنصره األعلى عن عنصر آدم الترابي ‪ ،‬فلما رأى الشرف له‬
‫ّللا له فيه من سبحات األسماء اإللهية‬ ‫امتنع عن النزول لألخس ‪ ،‬وما عرف ما أبطن ه‬
‫واإلحاطة ‪.‬‬

‫[ سورة األعراف ( ‪ : ) 7‬آية ‪] 12‬‬


‫س ُج َد إِ ْذ أ َ َم ْرت ُكَ قا َل أَنَا َخ ْي ٌر ِم ْنهُ َخلَ ْقتَنِي ِم ْن ٍ‬
‫نار َو َخلَ ْقتَهُ ِم ْن ِط ٍ‬
‫ين (‬ ‫قا َل ما َمنَعَكَ أَاله ت َ ْ‬
‫‪)12‬‬
‫لما اجتمع النار مع النور في اإلحراق وقوة الفعل في بقية العناصر ‪ ،‬نظر إبليس في‬
‫أصل نشأته وعرف أن عنصره األعظم النار ‪ ،‬وهو أرفع األركان مكانا ‪ ،‬وله سلطان‬
‫على إحالة األشياء التي تقتضيها الطبيعة ‪ ،‬فإن النار ال تقبل التبريد بخالف بقية‬
‫األركان ‪ ،‬فالهواء يسخن وكذلك الماء وكذلك التراب ‪ ،‬فللنار في نفس األركان أثر‬
‫ّللا آدم عليه من كمال الصورة‬ ‫وليس لواحد منها في النار أثر ‪ ،‬وجهل إبليس ما فطر ه‬
‫‪ ،‬فتكبر ‪ ،‬وأدهاه تأويله أن يفتخر على آدم ويقول ‪ «:‬أَنَا َخي ٌْر ِم ْنهُ »أي أقرب إليك من‬
‫ين »فالنار‬ ‫نار َو َخلَ ْقتَهُ ِم ْن ِط ٍ‬
‫هذا الذي خلقته من طين ‪ ،‬ثم علل فقال ‪َ «:‬خلَ ْقتَنِي ِم ْن ٍ‬
‫أقرب في اإلضاءة النورية إلى النور ‪ ،‬والنور اسم‬

‫ص ‪125‬‬

‫ص ‪125 :‬‬
‫ّللا ‪ ،‬والطين ظلمة محضة ‪ ،‬فجمع إبليس بين الجهل والكذب ‪ ،‬فإنه ما هو‬ ‫من أسماء ه‬
‫ّللا وال في النشأة ‪ ،‬وفضل بين األركان وال فضل بينها في الحقائق ‪،‬‬ ‫خير منه ال عند ه‬
‫وما علم أن سلطان الماء الذي خلق منه آدم أقوى منه فإنه يذهبه ‪ ،‬وأن التراب أثبت‬
‫ّللا منهما ‪ ،‬وإن‬
‫منه للبرد واليبس ‪ ،‬فْلدم القوة والثبوت لغلبة الركنين اللذين أوجده ه‬
‫كان فيه بقية األركان ولكن ليس لها ذلك السلطان ‪ ،‬وهو الهواء والنار ‪ ،‬وإبليس بحكم‬
‫أصل نشأته بخلقه من لهب النار له عدم الثبوت وعدم البقاء على حالة واحدة ‪ ،‬فهو‬
‫سريع الحركة بحكم أصل خلقه من لهب النار ‪ ،‬واإلنسان له الثبوت فإنه من التراب ‪،‬‬
‫فله البرد واليبس فهو ثابت في شغله ‪.‬‬

‫[ سورة األعراف ( ‪ : ) 7‬آية ‪] 13‬‬


‫ُون لَكَ أ َ ْن تَت َ َكبه َر ِفيها فَ ْ‬
‫اخ ُرجْ ِإنهكَ ِم َن ال ه‬
‫صا ِغ ِر َ‬
‫ين ) ‪( 13‬‬ ‫قا َل فَا ْه ِب ْط ِم ْنها فَما يَك ُ‬
‫ّللا اإلغواء أن يدوم له في ذرية آدم لما‬ ‫أهبط إبليس لألرض عقوبة لما وقع منه فسأل ه‬
‫ّللا بما يكرهه من إنزاله إلى األرض فقال تعالى مخبرا عنه ‪.‬‬ ‫عاقبه ه‬

‫[ سورة األعراف ( ‪ : ) 7‬اآليات ‪ 14‬إلى ‪] 17‬‬


‫ين ( ‪ ) 15‬قا َل فَ ِبما أ َ ْغ َو ْيت َ ِني‬ ‫ون ( ‪ ) 14‬قا َل ِإنهكَ ِم َن ا ْل ُم ْن َظ ِر َ‬ ‫قا َل أ َ ْن ِظ ْر ِني ِإلى يَ ْو ِم يُ ْبعَث ُ َ‬
‫ِيه ْم َو ِم ْن َخ ْل ِف ِه ْم َوع َْن‬ ‫ست َ ِقي َم ( ‪ ) 16‬ث ُ هم َآلتِيَنه ُه ْم ِم ْن بَ ْي ِن أ َ ْيد ِ‬ ‫َأل َ ْقعُد هَن لَ ُه ْم ِصرا َطكَ ا ْل ُم ْ‬
‫ين ) ‪( 17‬‬ ‫أ َ ْيمانِ ِه ْم َوع َْن شَمائِ ِل ِه ْم َوال ت َ ِج ُد أ َ ْكث َ َر ُه ْم شا ِك ِر َ‬
‫ّللا السعادة والشقاء بها ‪،‬‬ ‫إن األعمال هنا في التكليف مقسمة على أربع جهات ‪ ،‬قرن ه‬
‫وهي اليمين والشمال والخلف واألمام ‪ ،‬ألن الفوقية ال يمشي الجسم فيها بطبعه ‪،‬‬
‫والتحتية ال يمشي فيها الروح بطبعه ‪ ،‬فما جعلت سعادة اإلنسان وشقاوته إال فيما يقبله‬
‫طبعه في روحه وجسمه ‪ ،‬وهن الجهات األربع ‪ ،‬وبها خوطب ‪ ،‬ومنها دخل عليه‬
‫إبليس ‪ ،‬فهي جهات األهواء ‪ ،‬ولم يقل من فوقهم وال من تحتهم ألنه لم يقترن بها عمل‬
‫‪ ،‬فإنها للتنزل اإللهي والوهب الرباني الرحماني الذي له العزة والمنع والسلطان ‪ ،‬فلما‬
‫علم إبليس بهذه الجهات قال «‪:‬ث ُ َّم َآلتِيَنَّ ُه ْم ِم ْن بَي ِْن أ َ ْيدِي ِه ْم َو ِم ْن خ َْل ِف ِه ْم َو َ‬
‫ع ْن أَيْمانِ ِه ْم‬
‫ع ْن شَمائِ ِل ِه ْم »فما جاء إبليس إال من الجهات التي تؤثر في سعادة اإلنسان إن سمع‬ ‫َو َ‬
‫منه وقبل ما يدعوه إليه ‪ ،‬وفي شقاوته إن لم يسمع منه ولم يقبل ما دعاه‬

‫ص ‪126‬‬

‫ص ‪126 :‬‬
‫ّللا ( َوا ْست َ ْف ِز ْز‬
‫إليه ‪ ،‬فإن هذه الطرق األربع هي طرق الشيطان ‪ ،‬قال ذلك لما سمع أمر ه‬
‫)قال ‪َ «:‬آلتِيَنَّ ُه ْم ِم ْن بَي ِْن أ َ ْيدِي ِه ْم »ولما قال له ‪َ (:‬وأ َ ْج ِلبْ َ‬
‫علَ ْي ِه ْم )‬
‫شار ْك ُه ْم )‬
‫ّللا ‪َ (:‬و ِ‬ ‫قال ‪َ «:‬و ِم ْن خ َْل ِف ِه ْم »ولما قال له ه‬
‫ع ْن أَيْمانِ ِه ْم »ولما قال له‪َ ( :‬و ِع ْد ُه ْم )‬ ‫قال الشيطان ‪َ «:‬و َ‬
‫ع ْن شَما ِئ ِل ِه ْم »‬‫قال الشيطان ‪َ «:‬و َ‬
‫ّللا من نشأة‬ ‫فهي صورة حرب لما كان القلب هو موضع اإلمام ‪ ،‬وهو الذي اصطفاه ه‬
‫ّللا غرض إال هذا القلب ‪،‬‬ ‫عبده حين قال ‪ [ :‬وسعني قلب عبدي المؤمن ] وليس لعدو ه‬
‫ّللا إال أن يأتي من بين أيدينا ومن خلفنا وعن أيماننا وعن‬ ‫فلم يبق للعدو الذي نصبه ه‬
‫ّللا وبين جند الشيطان‬ ‫شمائلنا يبتغي االستيالء على القلب ‪ ،‬فهي حرب سجال بين جند ه‬
‫‪ ،‬والذي أراد الشيطان هنا ليس هو يمين الجارحة ‪ ،‬فإنه ال يلقي على الجوارح ‪،‬‬
‫وكذلك ما هو شمال الجوارح وال أمام اإلنسان وال خلفه ‪ ،‬فإن محل إلقائه إنما هو‬
‫القلب ما يقدح في أفعال ما يتعلق بيمينه أو شماله أو من خلفه أو من بين يديه ‪،‬‬
‫ويستعين على اإلنسان بالطبع ‪ ،‬فإنه المساعد له فيما يدعوه إليه من اتباع الشهوات ‪،‬‬
‫فقال ‪ «:‬ث ُ َّم َآلتِيَنَّ ُه ْم ِم ْن بَي ِْن أ َ ْيدِي ِه ْم »بظاهر القول الذي يؤدي إلى التجسيم والتشبيه‬
‫والتشكيك في الحواس ‪ ،‬ويدفعه المؤمن بالعلم فيمنعه أن يصل إليه فبنور علم البرهان‬
‫يرد به الشبه المضلة القادحة في وجود الحق وتوحيده وأسمائه وأفعاله ‪ ،‬فبالبرهان يرد‬
‫على المعطلة ويدل على إثبات وجود اإلله ‪ ،‬وبه يرد على أهل الشرك الذين يجعلون‬
‫ّللا إلها آخر ‪ ،‬ويدل على توحيد اإلله من كونه إلها ‪ ،‬وبه يرد على من ينفي أحكام‬ ‫مع ه‬
‫األسماء اإللهية وصحة آثارها في الكون ‪ ،‬ويدل على إثباتها بالبرهان السمعي من‬
‫طريق اإلطالق ‪ ،‬وبالبرهان العقلي من طريق المعاني ‪ ،‬وبه يرد على نفاة األفعال من‬
‫الفالسفة ‪ ،‬ويدل على أنه سبحانه فاعل وأن المفعوالت مرادة للحق سمعا وعقال ‪«،‬‬
‫َو ِم ْن خ َْل ِف ِه ْم »بشبه وأمور من الخياالت الفاسدة ‪ ،‬وهو ما يدعوك إليه أن تقول على ه‬
‫ّللا‬
‫ّللا قد أوحى إليك ‪ ،‬فيقوم التفكر فيدفعه ‪ ،‬فإنك‬ ‫ما ال تعلم ‪ ،‬وتدعي النبوة والرسالة وأن ه‬
‫إن لم تتفكر وتبحث حتى تعثر على أن تلك األشياء شبهات هلكت ‪ ،‬وإن طردته من‬
‫خلفك الحت لك علوم الصدق ومنازله وأين ينتهي بصاحبه ‪،‬‬
‫ق ِع ْن َد َملِيكٍ ُم ْقتَد ٍِر )‬
‫ص ْد ٍ‬ ‫كما قال تعالى ‪ (:‬فِي َم ْقعَ ِد ِ‬
‫فإن القوة لما كانت صفة الصادق حيث قوي على نفسه ‪ ،‬فلم يتزين بما ليس له ‪،‬‬
‫والتزم الحق في أقواله وأحواله وأفعاله ‪ ،‬وصدق فيها ‪ ،‬أقعده الحق عند مليك مقتدر «‬
‫ع ْن أَيْمانِ ِه ْم »وهذه الجهة هي الموصوفة بالقوة فإنه يأتي منها ليضعف إيمانك ويقينك‬ ‫َو َ‬
‫‪ ،‬ويلقي عليك شبها في أدلتك‬

‫ص ‪127‬‬

‫ص ‪127 :‬‬
‫ومكاشفاتك ‪ ،‬أو يأتيك بالجنة العاجلة وهي الشهوات واللذات ‪ ،‬فيزينها ويحببها للعبد ‪،‬‬
‫ولكن الخوف يعرض له فيدرأه عنها ‪ ،‬ولواله لوقع فيها ‪ ،‬وبوقوعه يكون الهالك«‬
‫ع ْن شَمائِ ِل ِه ْم »‬
‫َو َ‬
‫بشبهات التعطيل أو وجود الشريك هّلل تعالى في ألوهيته ‪ ،‬فتطرده بدالئل التوحيد وعلم‬
‫النظر الذي يعلم به وجود الباري ‪ ،‬أو يأتي الشيطان عن الشمال بالقنوط واليأس وسوء‬
‫عز وجل يدفعه ويقمعه ‪،‬‬ ‫باّلل ه‬
‫باّلل وغلبة المقت ‪ ،‬ولكن الرجاء وحسن الظن ه‬ ‫الظن ه‬
‫فلتجعل الخوف عن يمينك والرجاء عن شمالك ‪ ،‬والعلم بين يديك والتفكر من خلفك ‪،‬‬
‫فهذه الجهات األربع التي يدخل عليك الخلل منها ‪ ،‬ومن جهة أخرى فإن الخلف‬
‫للتعطيل ‪ ،‬والشمال للشرك ‪ ،‬واليمين للضعف ‪ ،‬ومن بين أيديهم التشكيك في الحواس‬
‫‪ -‬الوجه الثاني ‪ -‬الشيطان يأتي للمشرك من بين يديه ‪ ،‬فإنه رأى إذ كان بين يديه جهة‬
‫ّللا في ألوهيته‬
‫ّللا ولم يقدر على إنكاره ‪ ،‬فجعله إبليس يشرك مع ه‬ ‫عينيه ‪ ،‬فأثبت وجود ه‬
‫‪ ،‬ويأتي للمعطل من خلفه ‪ ،‬فإن الخلف ما هو محل النظر ‪،‬‬
‫فقال له ‪ :‬ما ث هم شيء ‪ ،‬أي ما في الوجود إله ‪ ،‬ويأتي إلى المتكبر عن يمينه ‪ ،‬ألن‬
‫اليمين محل القوة ‪ ،‬فتكبر بقوته التي أحسها من نفسه ‪ ،‬فادعى الربوبية لنفسه ونفاها‬
‫ّللا ‪ ،‬ويأتي المنافق عن شماله ‪ ،‬فإنه أضعف الطوائف ‪ ،‬كما أن الشمال أضعف‬ ‫عن ه‬
‫من اليمين‬
‫‪ -‬الوجه الثالث ‪ -‬لما سكت إبليس في إتيانه العبد لإلغواء عن الفوقية سكت عن التحت‬
‫ّللا رأى نزول األنوار على العبد من‬‫‪ ،‬ألنه على خط استواء مع الفوق ‪ ،‬ألنه لعنه ه‬
‫فوقه ‪ ،‬فخاف من االحتراق ‪ ،‬فلم يتعرض في إتيانه من الفوق ‪ ،‬ورأى التحت على خط‬
‫استواء من فوق ‪ ،‬فإن ذلك النور يتصل بالتحت لالستواء لم يأت من التحت‬
‫[ ‪ -‬إشارة ‪ -‬فإن قلت ‪ :‬لم أتى إبليس ابن آدم من جميع جهاته إال من أعاله ؟ ]‬
‫‪-‬إشارة ‪ -‬فإن قلت ‪ :‬لم أتى إبليس ابن آدم من جميع جهاته إال من أعاله ؟‬
‫قلنا ‪ :‬لئال يحترق بنور تنزل األمر من مواله ‪ ،‬فإن قلت ‪ :‬فهال أتاه من أسفله فيغويه ؟‬
‫قلنا ‪ :‬إليه يدعوه فال فائدة فيه ‪ ،‬أي السفل مقام الذل والعبودية ‪.‬‬

‫اعلم أن لك ست جهات ‪ ،‬أربعة منها للشيطان ‪ ،‬وواحدة لك وواحدة هّلل ‪ ،‬فأنت فيما‬
‫منها هّلل معصوم فمن ث هم خذ التلقي ‪ ،‬واحذر من الباقي وهو الخمسة ‪ ،‬ولذا جاء الشرع‬
‫بخمسة أحكام ‪ ،‬منها جهتك وجهات الشيطان منك ‪ ،‬وأما جهته منك فال حكم فيها‬
‫للشرع ‪ ،‬وهي جهة معصومة ال يتنزل على القلب منها إال العلوم اإللهية المحفوظة من‬
‫الشوب‪.‬‬

‫ص ‪128‬‬

‫ص ‪128 :‬‬
‫[ سورة األعراف ( ‪ : ) 7‬آية ‪] 18‬‬
‫ين ) ‪( 18‬‬‫اخ ُرجْ ِم ْنها َم ْذؤُما ً َم ْد ُحورا ً لَ َم ْن ت َ ِبعَكَ ِم ْن ُه ْم َأل َ ْم ََل َ هن َج َهنه َم ِم ْن ُك ْم أَجْ َم ِع َ‬
‫قا َل ْ‬
‫ال سبيل لخروج إبليس من جهنم ألنه وأتباعه من المشركين الذين هم أهل النار يمأل‬
‫ّللا بهم جهنم وال نقص فيها بعد ملئها فال خروج ‪.‬‬ ‫ه‬

‫[ سورة األعراف ( ‪ : ) 7‬آية ‪] 19‬‬


‫ش َج َرةَ فَتَكُونا‬
‫شئْتُما َوال ت َ ْق َربا ه ِذ ِه ال ه‬‫ث ِ‬ ‫سك ُْن أ َ ْنتَ َو َز ْو ُجكَ ا ْل َجنهةَ فَكُال ِم ْن َح ْي ُ‬‫َويا آ َد ُم ا ْ‬
‫ين) ‪( 19‬‬ ‫ِم َن ال ه‬
‫ظا ِل ِم َ‬
‫ْث ِشئْتُما »‪ ،‬أول نهي‬ ‫ْث ِشئْتُما »كال هو العامل في قوله ‪ِ «:‬م ْن َحي ُ‬ ‫« فَ ُكال ِم ْن َحي ُ‬
‫ش َج َرة َ »وكذلك أول أمر‬ ‫ظهر في الوجود قوله تعالى آلدم وحواء ‪ «:‬ال ت َ ْق َربا ه ِذ ِه ال َّ‬
‫قوله تعالى للمالئكة وإلبليس( ا ْس ُجدُوا ِآل َد َم )فكان أول أمر ظهر في الوجود ‪ ،‬ولما‬
‫كان هذا أول أمر ونهي لذلك وقعت العقوبة عند المخالفة ‪ ،‬والنهي ليس بتكليف عملي‬
‫‪ ،‬فإنه يتضمن أمرا عدميا ‪ ،‬وهو ال تفعل ‪ ،‬ومن حقيقة الممكن أنه ال يفعل ‪ ،‬فكأنه قيل‬
‫له ‪ :‬ال تفارق أصلك ‪ ،‬واألمر ليس كذلك ‪ ،‬فإنه يتضمن أمرا وجوديا ‪ ،‬وهو أن يفعل ‪،‬‬
‫فكأنه قيل له ‪:‬‬
‫اخرج عن أصلك ‪ ،‬فاألمر أشق على النفس من النهي ‪ ،‬إذ كلف الخروج عن أصله ‪،‬‬
‫فلو أن إبليس ل هما عصى ولم يسجد لم يقل ما قال « * » من التكبر والفضلية التي‬
‫ّللا ‪،‬‬‫نسبها إلى نفسه على غيره ‪ ،‬فخرج عن عبوديته بقدر ذلك ‪ ،‬فحلت به عقوبة ه‬
‫وكانت العقوبة آلدم وحواء لما تكلفا الخروج عن أصلهما وهو الترك ‪ ،‬ومن هذه‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ [ :‬إذا أمرتكم بأمر فافعلوا منه ما استطعتم‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫الحقيقة قال رسول ه‬
‫وإذا نهيتكم فانتهوا ]‬
‫‪ -‬إشارة ‪ -‬ما وقع التحجير على آدم إال في الشجرة ‪ ،‬أي ال تقرب التشاجر ‪ ،‬والزم‬
‫طريق إنسانيتك وما تستحقه ‪ ،‬وال تزاحم أحدا في حقيقته ‪ ،‬فإن المزاحمة تشاجر‬
‫وخالف ‪ ،‬ولهذا لما قرب من الشجرة خالف نهي ربه ‪ ،‬فكان مشاجرا فذهب عنه في‬
‫تلك الحال السعادة العاجلة في الوقت‪.‬‬

‫) * (جواب لو إما أن يكون محذوفا يفهم من السياق ‪ ،‬أو ساقطا من األصل ‪،‬‬
‫والمعنى ‪ :‬لو أن إبليس لما عصى ولم يسجد لم يقل ما قال ‪ ،‬ما عوقب ‪ ،‬ألنه لم يخرج‬
‫عن أصله ‪ ،‬ولكنه لما قال ما قال من التكبر والفضلية ‪ . . .‬إلخ‪.‬‬

‫ص ‪*129‬‬

‫ص ‪129 :‬‬
‫[ سورة األعراف ( ‪ : ) 7‬اآليات ‪ 20‬إلى ‪] 22‬‬
‫س ْوآتِ ِهما َوقا َل ما نَهاكُما‬ ‫ع ْن ُهما ِم ْن َ‬ ‫ي َ‬ ‫ور َ‬‫ِي لَ ُهما ما ُو ِ‬ ‫ش ْي ُ‬
‫طان ِليُ ْبد َ‬ ‫س لَ ُه َما ال ه‬
‫س َو َ‬ ‫فَ َو ْ‬
‫س َم ُهما‬‫ِين ) ‪َ ( 20‬وقا َ‬ ‫ش َج َر ِة ِإاله أ َ ْن تَكُونا َملَ َك ْي ِن أ َ ْو تَكُونا ِم َن ا ْلخا ِلد َ‬ ‫َربُّكُما ع َْن ه ِذ ِه ال ه‬
‫ش َج َرةَ بَدَتْ لَ ُهما َ‬
‫س ْوآت ُ ُهما‬ ‫ور فَلَ هما ذاقَا ال ه‬ ‫ين ( ‪ ) 21‬فَ َداله ُهما ِبغُ ُر ٍ‬ ‫اص ِح َ‬‫ِإ ِنّي لَكُما لَ ِم َن النه ِ‬
‫ش َج َر ِة‬‫ق ا ْل َجنه ِة َونادا ُهما َربُّ ُهما أ َ لَ ْم أ َ ْن َهكُما ع َْن ِت ْل ُك َما ال ه‬
‫علَ ْي ِهما ِم ْن َو َر ِ‬ ‫َو َط ِفقا يَ ْخ ِص ِ‬
‫فان َ‬
‫ين ( ‪) 22‬‬ ‫عد ٌُّو ُمبِ ٌ‬‫طان لَكُما َ‬ ‫ش ْي َ‬ ‫َوأَقُ ْل لَكُما إِ هن ال ه‬

‫[ إشارة ‪ :‬سر ظهور سوأة آدم وحواء ]‬


‫تقدم األمر آلدم عليه السالم بسكن الجنة واألكل منها حيث شاء ‪ ،‬ثم نهاه عن قرب‬
‫ْث ِشئْتُما »ال في‬
‫شجرة مشار إليها أن يقربها ‪ ،‬فوقع التحجير والنهي في قوله ‪َ «:‬حي ُ‬
‫األكل فما حجر عليه األكل وإنما حجر عليه القرب منها الذي كان قد أطلقه في( َحي ُ‬
‫ْث‬
‫ِشئْتُما )فما أكال منها حتى قربا ؛ فتناوال منها ‪ ،‬فأخذا بالقرب ال باألكل ‪ -‬إشارة ‪ -‬سر‬
‫ظهور سوءاتهما ‪ ،‬معاينة مكمنات غاياتهما ‪ ،‬ونظيرهما في الوجود ‪ ،‬القلم واللوح‬
‫المشهود ‪ ،‬وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة ‪ ،‬ليكون لهما عن مالحظة األغيار‬
‫جنة ‪.‬‬

‫[ سورة األعراف ‪ ( 7 ) :‬آية ‪] 23‬‬


‫ين ( ‪) 23‬‬ ‫س ِر َ‬ ‫سنا َوإِ ْن لَ ْم ت َ ْغ ِف ْر لَنا َوت َ ْر َح ْمنا لَنَكُونَ هن ِم َن ا ْلخا ِ‬ ‫قاال َربهنا َظلَ ْمنا أ َ ْنفُ َ‬
‫سنا »حيث لم نتفطن إلشارتك بالتحجير والمنع في موطن‬ ‫ظلَ ْمنا أ َ ْنفُ َ‬
‫« قاال َربَّنا َ‬
‫التسريح واإلباحة ‪ ،‬فظلمنا أنفسنا بما اكتسبت من الخطايا ‪ ،‬حيث عرضوها إلى التلف‬
‫‪ ،‬وكان حقا عليهم أن يسعوا في نجاتها بامتثال نهي سيدهم« َو ِإ ْن لَ ْم ت َ ْغ ِف ْر لَنا »أي وإن‬
‫لم تسترنا عن وارد المخالفة حتى ال يحكم بسلطانه علينا ‪ ،‬فإنه ال يقدر على سترها إال‬
‫أنت« َوت َ ْر َح ْمنا »بذلك الستر« لَنَ ُكون ََّن ِمنَ ْالخا ِس ِرينَ »ما ربحت تجارتنا ‪ ،‬وهذه هي‬
‫الكلمات التي تلقاها آدم من ربه أعطاه إياها لما اجتباه من قوله ‪ (:‬فَتَلَقَّى آ َد ُم ِم ْن َر ِبه ِه‬
‫علَ ْي ِه )وما زاد آدم عليه السالم على االعتراف والدعاء ‪ ،‬فلم ير أكمل من‬ ‫تاب َ‬‫ت فَ َ‬ ‫َك ِلما ٍ‬
‫ّللا توبة عزم فيها أنه ال يعود‪.‬‬ ‫آدم معرفة ‪ ،‬حيث اعترف ودعا ‪ ،‬وما عهد مع ه‬

‫ص ‪130‬‬

‫ص ‪130 :‬‬
‫[سورة األعراف ( ‪ : ) 7‬آية ‪] 24‬‬
‫ين ) ‪( 24‬‬ ‫ستَقَ ٌّر َو َمتا ٌ‬
‫ع إِلى ِح ٍ‬ ‫عد ٌُّو َولَ ُك ْم فِي ْاأل َ ْر ِ‬
‫ض ُم ْ‬ ‫ض َ‬ ‫ض ُك ْم ِلبَ ْع ٍ‬ ‫قا َل ا ْه ِب ُ‬
‫طوا بَ ْع ُ‬
‫طوا »‬ ‫قيل إلبليس وحواء وآدم« ا ْه ِب ُ‬
‫[ إشارة ‪ :‬اهبطوا بعضكم لبعض عدو ]‬
‫بضمير الجماعة في ضمير واحد ‪ ،‬وهو كان أشد عقوبة على آدم ‪ ،‬ولم يكن الهبوط‬
‫عقوبة آلدم وحواء ‪ ،‬وإنما كان عقوبة إلبليس ‪ ،‬فإن آدم أهبط لصدق الوعد بأن يجعل‬
‫في األرض خليفة ‪ ،‬بعد ما تاب عليه واجتباه ‪ ،‬وتلقى الكلمات من ربه باالعتراف ‪،‬‬
‫فاعترافه عليه السالم في مقابلة كالم إبليس( أَنَا َخي ٌْر ِم ْنهُ )فعرفنا الحق بمقام االعتراف‬
‫ّللا وما ينتجه من السعادة ‪ ،‬لنتخذه طريقا في مخالفاتنا ‪ ،‬وعرفنا بدعوى إبليس‬ ‫عند ه‬
‫ومقالته لنحذر من مثلها عند مخالفتنا ‪ ،‬وأهبطت حواء للتناسل ‪ ،‬وأهبط إبليس لإلغواء‬
‫‪ ،‬فكان هبوط آدم وحواء هبوط كرامة ‪ ،‬وهبوط إبليس هبوط خذالن وعقوبة واكتساب‬
‫ّللا ‪ ،‬فيصح‬
‫أوزار ‪ -‬إشارة ‪ -‬جعل بعضهم لبعض عدوا في هذه الدار ‪ ،‬ليستعينا بتأييد ه‬
‫منهما االفتقار ‪ ،‬وينفرد جالله بالعزيز الغفار ‪.‬‬

‫[ سورة األعراف ( ‪ : ) 7‬اآليات ‪ 25‬إلى ‪] 26‬‬


‫ون ( ‪ ) 25‬يا بَ ِني آ َد َم قَ ْد أ َ ْن َز ْلنا َ‬
‫علَ ْي ُك ْم‬ ‫ون َو ِم ْنها ت ُ ْخ َر ُج َ‬
‫قا َل ِفيها تَحْ يَ ْو َن َو ِفيها ت َ ُموت ُ َ‬
‫َّللا لَعَله ُه ْم يَذهك ُهر َ‬
‫ون‬ ‫ت هِ‬ ‫باس الت ه ْقوى ذ ِلكَ َخ ْي ٌر ذ ِلكَ ِم ْن آيا ِ‬‫س ْوآتِ ُك ْم َو ِريشا ً َو ِل ُ‬ ‫واري َ‬ ‫ِلباسا ً يُ ِ‬
‫( ‪) 26‬‬
‫« يا بَنِي آ َد َم »‬
‫[ ‪ -‬إشارة ‪ -‬رحم آدم عليه السالم رحم مقطوعة عند أكثر الناس ]‬
‫ّللا ‪ ،‬فكيف‬ ‫‪-‬إشارة ‪ -‬رحم آدم عليه السالم رحم مقطوعة عند أكثر الناس من أهل ه‬
‫حال العامة في ذلك ؟‬
‫ّللا تعالى في غير موضع « يا بني آدم يا بني آدم » يذ هكر ‪ ،‬وال‬ ‫فما تفطن الناس لقول ه‬
‫ّللا وإياكم ممن بر‬ ‫أحد ينتبه لهذه األبوة والبنوة ‪ ،‬وال يتذكر إال أولو األلباب ‪ ،‬جعلنا ه‬
‫س ْوآتِ ُك ْم »وليس إال ما يسوءكم ما ينظر إليه منكم ‪،‬‬ ‫واري َ‬ ‫أباه« قَ ْد أ َ ْنزَ ْلنا َ‬
‫علَ ْي ُك ْم ِلباسا ً يُ ِ‬
‫لما نسب إليها من المذام ‪،‬‬

‫[ ‪ -‬إشارة ‪ -‬فقد سميت السوءة عورة لميلها ]‬


‫‪-‬إشارة ‪ -‬فقد سميت السوءة عورة لميلها ‪ ،‬فإن لها درجة السر في اإليجاد اإللهي ‪،‬‬
‫وأنزلها الحق منزلة القلم اإللهي كما أنزل المرأة منزلة اللوح لرقم هذا القلم ‪ ،‬فلما‬
‫مالت عن هذه المرتبة العظمى والمكانة الزلفى إلى أن تكون محال لوجود الروائح‬
‫الكريهة الخارجة منهما ‪ ،‬عن أذى الغائط والبول ‪ ،‬وجعلت نفسها طريقا لما تخرجه‬
‫القوة الدافعة من البدن ‪ ،‬سميت عورة ‪ ،‬وأمر بستر هذه الحقيقة ‪ ،‬واللباس هو ما‬

‫ص ‪131‬‬

‫ص ‪131 :‬‬
‫س ْوآتِ ُك ْم‬
‫واري َ‬
‫يواري ويستر ويمنع من الضرر ‪ ،‬وهو ما زاد على الريش« يُ ِ‬
‫باس الت َّ ْقوى "‬
‫»فيسترها غيرة« َو ِريشا ً »هو لباس الظاهر" َو ِل ُ‬
‫هو لباس الباطن« ذ ِل َك َخي ٌْر »‬
‫باس الت َّ ْقوى ذ ِل َك َخي ٌْر » اآلية ]‬
‫[ « َو ِل ُ‬
‫أي هو خير لباس ‪ ،‬فالتقوى لباس ‪ ،‬ألن الوقاية ستر يتقى به ما ينبغي أن يتقى منه ‪،‬‬
‫فجعل التقوى لباسا ‪ ،‬والبدن هنا هو القلب ‪ ،‬ولذلك قال ‪ «:‬ذ ِل َك َخي ٌْر »أي هو خير‬
‫لباس ‪ ،‬والتقوى في اللباس هنا ما يقي به اإلنسان كشف عورته ‪ ،‬ويكون سترا لعورته‬
‫التي هي مذام األخالق ‪ ،‬وما يقى به اإلنسان برد الهواء وحره ‪ ،‬فهو خير لباس من‬
‫الريش ‪ .‬اعلم أن لباس الباطن الغذا ولباس الظاهر ما يدفع به األذى ‪ ،‬فالجوع ألم‬
‫يدفعه بالطعام ‪ ،‬والعطش ألم يدفعه بالشراب ‪ ،‬والحر والبرد ألم يدفعهما باللباس ‪،‬‬
‫ّللا لدفع اآلالم ‪ ،‬وما عدا الدفع إما زينة أو‬ ‫وسائر اآلالم يدفعها باألدوية التي جعلها ه‬
‫اتباع شهوة ‪.‬‬

‫[ سورة األعراف ( ‪ : ) 7‬آية ‪] 27‬‬


‫ع ْن ُهما ِلبا َ‬
‫س ُهما‬ ‫ع َ‬‫ج أَبَ َو ْي ُك ْم ِم َن ا ْل َجنه ِة يَ ْن ِز ُ‬
‫طان كَما أ َ ْخ َر َ‬
‫ش ْي ُ‬ ‫يا بَنِي آ َد َم ال يَ ْفتِنَنه ُك ُم ال ه‬
‫ين أ َ ْو ِليا َء‬ ‫ث ال ت َ َر ْونَ ُه ْم ِإنها َجعَ ْلنَا الش ِ‬
‫هياط َ‬ ‫س ْوآ ِت ِهما ِإنههُ يَرا ُك ْم ُه َو َوقَ ِبيلُهُ ِم ْن َح ْي ُ‬ ‫ِليُ ِريَ ُهما َ‬
‫ون ( ‪) 27‬‬ ‫ِللهذ َ‬
‫ِين ال يُ ْؤ ِمنُ َ‬
‫ْطان َكما أ َ ْخ َر َج أَبَ َو ْي ُك ْم »فالتحق النساء بالرجال في األبوة«‬ ‫شي ُ‬ ‫« يا بَنِي آ َد َم ال يَ ْفتِنَنَّ ُك ُم ال َّ‬
‫ْث ال ت َ َر ْونَ ُه ْم »فوصفهم باللطافة ‪ ،‬ويرانا هو وقبيله‬ ‫ِإنَّهُ يَرا ُك ْم ُه َو َوقَبِيلُهُ » ِم ْن َحي ُ‬
‫شهودا عينا ‪ ،‬فإن االسم اللطيف أورث الجان االستتار عن أعين الناس ‪ ،‬فال تدركهم‬
‫األبصار إال إذا تجسدوا ‪.‬‬

‫[ سورة األعراف ( ‪ : ) 7‬آية ‪] 28‬‬


‫َّللا ال يَأ ْ ُم ُر‬
‫َّللاُ أ َ َم َرنا بِها قُ ْل إِ هن ه َ‬
‫علَ ْيها آبا َءنا َو ه‬‫فاحشَةً قالُوا َو َجدْنا َ‬
‫َوإِذا فَعَلُوا ِ‬
‫ون ) ‪( 28‬‬ ‫َّللا ما ال ت َ ْعلَ ُم َ‬
‫علَى ه ِ‬‫ون َ‬ ‫شاء أ َ تَقُولُ َ‬
‫ِبا ْلفَحْ ِ‬
‫ّللا بالذنوب وإنما أمر بالمسابقة واإلسراع إلى الخير‬ ‫األمر من أقسام الكالم ‪ ،‬فما أمر ه‬
‫وفيه وإلى المغفرة ‪،‬‬
‫[ أنه تعالى لم يأمر بالفحشاء ‪ ،‬كذلك ال يريدها ]‬
‫وكما أنه تعالى لم يأمر بالفحشاء ‪ ،‬كذلك ال يريدها ‪ ،‬لكن قضاها وقدرها ‪،‬‬

‫ص ‪132‬‬

‫ص ‪132 :‬‬
‫ّللا‬
‫ّللا فيها ‪ ،‬وحكم ه‬
‫وبيان كونه ال يريدها ‪ ،‬ألن كونها فاحشة ليس عينها ‪ ،‬بل هو حكم ه‬
‫في األشياء غير مخلوق ‪ ،‬ألنه عين علمه بها في هذه الحالة ‪ ،‬فال يكون مرادا فال‬
‫يكون الحكم مأمورا به ‪ ،‬وما لم يجر عليه الخلق ال يكون مرادا ‪ ،‬فإن ألزمناه في‬
‫الطاعة التزمناه ‪ ،‬وقلنا اإلرادة للطاعة ثبتت سمعا ال عقال ‪ ،‬فاثبتوها في الفحشاء ‪،‬‬
‫ونحن قبلناها إيمانا كما قبلنا وزن األعمال وصورها مع كونها أعراضا ‪ ،‬فال يقدح‬
‫ذلك فيما ذهبنا إليه لما اقتضاه الدليل ‪.‬‬

‫[ سورة األعراف ( ‪ : ) 7‬آية ‪] 29‬‬


‫ين لَهُ ال ّد َ‬
‫ِين كَما‬ ‫س ِط َوأَقِي ُموا ُو ُجو َه ُك ْم ِع ْن َد ُك ِ ّل َم ْ‬
‫س ِج ٍد َوا ْدعُوهُ ُم ْخ ِل ِص َ‬ ‫قُ ْل أ َ َم َر َر ِبّي ِبا ْل ِق ْ‬
‫ُون ) ‪( 29‬‬ ‫بَدَأ َ ُك ْم تَعُود َ‬
‫اختلف في اإلعادة ‪ ،‬هل تكون على صورة ما أوجدنا في الدنيا من التناسل شخصا عن‬
‫شخص بجماع وحمل ووالدة في آن واحد للجميع ؟ وهو مذهب أبي القاسم بن قسي ‪،‬‬
‫فإن إحياء الموتى يوم القيامة يكون في الزمان القليل على صورة ما جاءوا عليها في‬
‫الزمان الكثير ‪ ،‬فإن اإلعادة إن لم تكن على صورة االبتداء وإال ليست بإعادة ‪ ،‬أو‬
‫يعودون روحا إلى جسم ؟ وهو مذهب الجماعة ‪ ،‬فقوله تعالى «‪َ :‬كما بَ َدأ َ ُك ْم تَعُودُونَ‬
‫ّللا أنشأنا على‬ ‫»يعني في النشأة اآلخرة أنها تشبه النشأة الدنياوية في عدم المثال ‪ ،‬فإن ه‬
‫غير مثال سبق ‪ ،‬وكذلك ينشئنا على غير مثال سبق ‪ ،‬فقوله ‪َ «:‬كما بَ َدأ َ ُك ْم تَعُودُونَ‬
‫ّللا أنشأنا على‬ ‫»يعني في النشأة اآلخرة أنها تشبه النشأة الدنياوية في عدم المثال ‪ ،‬فإن ه‬
‫غير مثال سبق ‪ ،‬وكذلك ينشئنا على غير مثال سبق ‪ ،‬فقوله ‪َ «:‬كما بَ َدأ َ ُك ْم »يعني على‬
‫غير مثال« تَعُودُونَ »على غير مثال ‪ ،‬يعني في النشأة اآلخرة ‪ ،‬فإن الصورة ال تشبه‬
‫الصورة ‪ ،‬وال المزاج المزاج ‪ ،‬وقد وردت األخبار اإللهية بذلك على ألسنة األنبياء‬
‫عليهم السالم وهم الرسل ‪ ،‬فالنشأة اآلخرة ليست من مولدات العناصر بل هي من‬
‫مولدات الطبيعة ‪ ،‬فلذلك ال تنام وال تقبل النوم ‪ ،‬فال ينام أهل الجنة في الجنة ‪ ،‬وال‬
‫يعيب عنهم شيء من العالم ‪ ،‬بل كل عالم من حس ومعنى وبرزخ مشهود لهم ‪ ،‬مع‬
‫كونهم غير متصفين بالنوم ‪ ،‬فإن قيل ‪ :‬فما فائدة قوله ‪ «:‬تَعُودُونَ »؟ قلنا ‪ :‬يخاطب‬
‫األرواح اإلنسانية أنها تعود إلى تدبير األجسام في اآلخرة كما كانت في الدنيا ‪ ،‬على‬
‫المزاج الذي خلق تلك النشأة عليه ‪ ،‬ويخرجها من قبرها فيها ‪ ،‬ومن النار حين ينبتون‬
‫كما تنبت الحبة تكون في حميل السيل ‪ ،‬مع القدرة منه على إعادة ذلك المزاج ‪ ،‬لكن‬
‫ما شاء ‪ ،‬ولهذا علق المشيئة به فقال تعالى ‪ «:‬إِذا شا َء أ َ ْنش ََرهُ »يعني المزاج الذي كان‬

‫ص ‪133‬‬

‫ص ‪133 :‬‬
‫عليه ‪ ،‬فلو كان هو بعينه لقال ( ثم ينشره ) فكان قوله تعالى ‪َ «:‬كما بَ َدأ َ ُك ْم تَعُودُونَ »‬
‫[ « َكما بَ َدأ َ ُك ْم تَعُودُونَ » ]‬
‫ع ِل ْمت ُ ُم النَّ ْشأَة َ ْاألُولى فَلَ ْو ال تَذَ َّك ُرونَ »وقوله ‪َ «:‬كما بَ َدأْنا أ َ َّو َل‬
‫هو قوله تعالى ‪َ «:‬ولَقَ ْد َ‬
‫علَيْنا »‬ ‫خ َْل ٍ‬
‫ق نُ ِعي ُدهُ َوعْدا ً َ‬
‫ّللا على غير مثال سبق ‪ ،‬فهكذا النشأة اآلخرة‬ ‫وقد علمنا أن النشأة األولى أوجدها ه‬
‫ّللا تعالى على غير مثال سبق ‪ ،‬مع كونها محسوسة بال شك ‪ ،‬وقد ذكر صلهى‬ ‫يوجدها ه‬
‫ّللا عليه وسلم في صفة نشأة أهل الجنة والنار ما يخالف ما هي عليه هذه النشأة الدنيا‬ ‫ه‬
‫‪ ،‬فعلمنا أن ذلك راجع إلى عدم مثال سابق ينشئها عليه ‪ ،‬وهو أعظم في القدرة ‪،‬‬
‫ّللا النشأة األخرى على عجب الذنب الذي يبقى من هذه النشأة الدنيا ‪ ،‬وهو‬ ‫فينشئ ه‬
‫ّللا النشأة‬ ‫أصلها ‪ ،‬فعليه تركيب النشأة اآلخرة ‪ ،‬وهو ال يبلى وال يقبل البلى ‪ ،‬فإذا أنشأ ه‬
‫اآلخرة وسواها وعدلها ‪ ،‬ينفخ إسرافيل نفخة واحدة ‪ ،‬فتمر تلك النفخة على الصور‬
‫البرزخية فتطفئها ‪ ،‬وتمر النفخة التالية وهي األخرى إلى الصور المستعدة لالشتعال‬
‫وهي النشأة األخرى فتشتعل بأرواحها ‪ ،‬فإذا هم قيام ينظرون ‪ ،‬فتقوم الصور أحياء‬
‫ّللا به ‪ ،‬فمن ناطق بالحمد هّلل ‪،‬‬ ‫ناطقة بما ينطقها ه‬
‫ومن ناطق يقول ‪ :‬من بعثنا من مرقدنا ؟‬
‫ومن ناطق يقول ‪ :‬سبحان من أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور ‪ ،‬وكل ناطق ينطق‬
‫بحسب علمه وما كان عليه ‪ ،‬ونسي حاله في البرزخ ‪ ،‬ويتخيل أن ذلك الذي كان فيه‬
‫منام ‪ ،‬كما تخيله المستيقظ ‪ ،‬وقد كان حين مات وانتقل إلى البرزخ كأن المستيقظ هناك‬
‫وأن الحياة الدنيا كانت له كالمنام ‪ ،‬وفي اآلخرة يعتقد في أمر الدنيا والبرزخ أنه منام‬
‫في منام ‪ ،‬وأن اليقظة الصحيحة هي التي هو عليها في الدار اآلخرة ‪ ،‬وهي يقظة ال‬
‫نوم فيها ‪ ،‬وال نوم بعدها ألهل السعادة ‪،‬‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ [ :‬الناس نيام فإذا‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫لكن ألهل النار وفيها راحتهم قال رسول ه‬
‫ماتوا انتبهوا ]‬
‫فالدنيا بالنسبة إلى البرزخ نوم ومنام ‪ ،‬فإن البرزخ أقرب إلى األمر الحق ‪ ،‬فهو أولى‬
‫باليقظة ‪ ،‬والبرزخ بالنظر إلى النشأة األخرى يوم القيامة منام ‪ ،‬واعلم أن اإلنسان‬
‫مقلوب النشأة ‪ ،‬فآخرته في باطنه ودنياه في ظاهره ‪ ،‬ففي نشأة اآلخرة باطنه في الدنيا‬
‫صورة ظاهره في النشأة اآلخرة وظاهره في الدنيا باطنه في النشأة اآلخرة ‪ ،‬لهذا‬
‫جاء« َكما بَ َدأ َ ُك ْم تَعُودُونَ »فاآلخرة مقلوب نشأة الدنيا ‪ ،‬والدنيا مقلوب نشأة اآلخرة ‪،‬‬
‫واإلنسان هو اإلنسان عينه ‪ ،‬فاجهد أن تكون خواطرك هنا محمودة شرعا ‪ ،‬فتجمل‬
‫صورتك في اآلخرة وبالعكس ‪ ،‬فال يعلم« َكما بَ َدأ َ ُك ْم تَعُودُونَ »‬
‫إال من علم( َونُ ْن ِشئ َ ُك ْم فِي ما ال ت َ ْعلَ ُمونَ )وهو عودة الحق إلى الخلق وإن اختلفت‬
‫الصور ‪ ،‬ففيه إثبات الغير ‪ ،‬فإثبات اإلعادة‬
‫ص ‪134‬‬

‫ص ‪134 :‬‬
‫اإليمان بها يعطي السعادة ‪ ،‬فال تكرار في الوجود وإن خفي في الشهود ‪ ،‬فذلك لوجود‬
‫األمثال ‪ ،‬وال يعرفه إال الرجال ‪ ،‬لو تكرر لضاق النطاق ‪ ،‬ولم يصح االسم الواسع‬
‫باالتفاق ‪ ،‬وبطل كون الممكنات ال تتناهى ‪ ،‬ولم يثبت ما كان به يتباهى ‪ -‬وجه آخر ‪-‬‬
‫« َكما بَ َدأ َ ُك ْم تَعُودُونَ »اعلم أن اإلنسان خلق من ضعف ‪ ،‬صورة ومعنى ‪ ،‬وإلى‬
‫الضعف يعود ‪ ،‬وإنما يترقى إلى ظهوره في الصور بالعوارض ‪ ،‬فقوته في التوسط‬
‫ض ْعفٍ قُ َّوة ً ث ُ َّم‬
‫ض ْعفٍ ث ُ َّم َجعَ َل ِم ْن بَ ْع ِد َ‬
‫ّللا تعالى ‪ ،‬كما قال سبحانه (‪َ :‬خلَقَ ُك ْم ِم ْن َ‬ ‫بجعل ه‬
‫ش ْيبَةً )فجاء بالجعل ألجل الشيبة ‪ ،‬فأما الضعف فهو أصله‬ ‫ض ْعفا ً َو َ‬
‫َجعَ َل ِم ْن بَ ْع ِد قُ َّوةٍ َ‬
‫عاد إليه ‪ ،‬لذلك قال تعالى ‪َ «:‬كما بَ َدأ َ ُك ْم تَعُودُونَ »وقال ‪َ (:‬م ْن نُعَ ِ هم ْرهُ نُنَ ِ هك ْسهُ فِي ْالخ َْل ِ‬
‫ق‬
‫)وقال ( ‪ :‬ثم يرد إلى أرذل العمر لكي ال يعلم من بعد علم شيئا ) وذلك أوان رجوعه‬
‫إلى المهد ‪ ،‬قال سبحانه وتعالى ‪ ( :‬وجعلنا األرض مهادا ) ‪.‬‬

‫[ سورة األعراف ( ‪ ) : 7‬اآليات ‪ 30‬إلى ‪] 31‬‬


‫َّللا‬
‫ُون ه ِ‬ ‫ين أ َ ْو ِليا َء ِم ْن د ِ‬ ‫ضاللَةُ إِنه ُه ُم ات ه َخذُوا الش ِ‬
‫هياط َ‬ ‫علَ ْي ِه ُم ال ه‬ ‫ق َ‬ ‫فَ ِريقا ً َهدى َوفَ ِريقا ً َح ه‬
‫ُون ( ‪) 30‬‬ ‫ون أَنه ُه ْم ُم ْهتَد َ‬
‫سبُ َ‬ ‫َويَحْ َ‬
‫ب‬ ‫س ِرفُوا ِإنههُ ال يُ ِح ُّ‬ ‫يا بَنِي آ َد َم ُخذُوا ِزينَت َ ُك ْم ِع ْن َد ُك ِ ّل َم ْ‬
‫س ِج ٍد َو ُكلُوا َواش َْربُوا َوال ت ُ ْ‬
‫ين ( ‪) 31‬‬ ‫ا ْل ُم ْ‬
‫س ِر ِف َ‬
‫« يا بَنِي آ َد َم ُخذُوا ِزينَت َ ُك ْم ِع ْن َد ُك ِهل َمس ِْج ٍد »هذا أمر من الحق بالتجمل هّلل ‪ ،‬وهو عبادة‬
‫مستقلة ‪ ،‬وال سيما في عبادة الصالة ‪ ،‬فالزينة مأمور بها ‪ ،‬والزينة هو اللباس الحسن ‪،‬‬
‫ّللا بالزينة عند كل مسجد يريد مناجاته ‪،‬‬ ‫ومنها لباس التقوى فإنه خير لباس ‪ ،‬فأمرنا ه‬
‫ّللا‬
‫ّللا عليه وسلم وكل مؤمن ‪ ،‬لما فيها من الشهود ‪ ،‬فإن ه‬ ‫وهي قرة عين محمد صلهى ه‬
‫في قبلة المصلي ‪،‬‬
‫ّللا كأنك تراه ] وال شك أن الجمال محبوب لذاته ‪ ،‬وفي الحديث أن‬ ‫وقد قال ‪ [ :‬اعبد ه‬
‫رجال قال للنبي عليه السالم ‪ :‬أحب أن يكون نعلي حسنا وثوبي حسنا ‪ ،‬فقال عليه‬
‫ّللا جميل‬ ‫ّللا عليه وسلم ‪ [ :‬إن ه‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫ّللا أولى من تج همل له ‪ .‬وقال رسول ه‬ ‫السالم ‪ :‬ه‬
‫يحب الجمال ] قال الصاحب لما نزلت هذه اآلية ‪ [:‬إشارة إلى النعلين ]‬
‫أمرنا فيها بالصالة في النعلين ‪ -‬إشارة ال تفسير ‪ -‬إن النعلين إشارة في االستعانة‬
‫ّللا والسفر إليه بالكتاب والسنة ‪ ،‬وهي زينة كل مسجد ‪ ،‬فتزين وتجمل تارة‬ ‫بالسير إلى ه‬
‫بنعتك من‬

‫ص ‪135‬‬

‫ص ‪135 :‬‬
‫عز وجل من كرم ولطف‬ ‫ذلة وافتقار وخشوع وخضوع وسجود وركوع ‪ ،‬وتارة بنعته ه‬
‫ّللا التي ما‬
‫ورأفة وتجاوز وعفو وصفح ومغفرة وغير ذلك مما هو هّلل ‪ ،‬ومن زينة ه‬
‫ّللا لما جملك به من هذه النعوت ‪،‬‬ ‫ّللا على عباده ‪ ،‬فإذا كنت بهذه المثابة أحبك ه‬ ‫حرمها ه‬
‫ّللا غير محرمة علينا ‪ ،‬والذي وقع عليه الذم زينة الحياة الدنيا ‪ ،‬أي الزينة‬ ‫فزينة ه‬
‫القريبة الزوال ‪ ،‬أي ال تلبسوا من المالبس إال ما يكون دائما ‪ ،‬كمالبس العلوم‬
‫والمعارف ‪ ،‬فإنها ال تخلق‬
‫باس الت َّ ْقوى ذ ِل َك َخي ٌْر )يعني العلم الذي ألبسك التقوى‬ ‫ولهذا قال ‪َ (:‬و ِل ُ‬
‫ّللا َويُعَ ِله ُم ُك ُم َّ‬
‫ّللاُ ) « َو ُكلُوا َوا ْش َربُوا َوال تُس ِْرفُوا ِإنَّهُ ال يُ ِحبُّ‬ ‫من قوله ‪َ (:‬واتَّقُوا َّ َ‬
‫ْال ُمس ِْرفِينَ »‬
‫ّللا‬
‫قال علماء الطبيعة ‪ :‬ما قال أحد في أصل هذا العلم أجمع وال أبدع من قول رسول ه‬
‫ّللا عليه وسلم إذ قال ‪:‬‬ ‫صلهى ه‬
‫[ المعدة بيت الداء ‪ ،‬والحمية رأس الدواء ‪ ،‬وأصل كل داء البردة ]‬
‫وأمر في األكل إن كثر وال بد فثلث للطعام وثلث للشراب وثلث للنفس ‪،‬‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ [ :‬بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه ] هذا في تدبير هذا‬ ‫وقال صلهى ه‬
‫البيت الذي هو هذه األجسام الطبيعية التي خلقها وسواها وعدلها بالبناء لسكنى النفوس‬
‫ّللا أن النفس العدوة الكافرة األمارة بالسوء ‪ ،‬لها‬ ‫اإلنسانية المدبرة لها ‪ .‬واعلم وفقك ه‬
‫على اإلنسان قوة كبيرة وسلطان عظيم بسيفين ماضيين ‪ ،‬تقطع بهما رقاب صناديد‬
‫الرجال وعظمائهم ‪ ،‬وهما شهوة البطن والفرج ‪ ،‬اللتان قد تعبدتا جميع الخالئق‬
‫ّللا تعالى على هذا العبد الضعيف المسكين المسمى باإلنسان ‪،‬‬ ‫وأسرتاهم ‪ ،‬فقد سلط ه‬
‫شهوتين عظيمتين وآفتين كبيرتين ‪ ،‬هلك بهما أكثر الناس ‪ ،‬وهما شهوة البطن والفرج‬
‫‪ ،‬غير أن شهوة الفرج وإن كانت عظيمة قوية السلطان ‪ ،‬فهي دون شهوة البطن ‪،‬‬
‫فإنها ليس لها تأييد إال من شهوة البطن ‪ ،‬فإن غلب هذا العدو البطني يقل التعب مع‬
‫الفرج ‪ ،‬بل ربما تذهب ذهابا كليا ‪ ،‬فهذه الشهوة البطنية تجعل صاحبها أوال يمتلئ من‬
‫الطعام ‪ ،‬مع علمها أن أصل كل داء البردة ‪ ،‬دينيا كان أو طبيعيا ‪ ،‬فالداء الطبيعي‬
‫الذي تنتجه هذه البردة ‪ ،‬هو فساد األعضاء من أبخرة فاسدة ‪ ،‬تتولد عنه آالم وأمراض‬
‫مؤدية إلى الهالك ‪ ،‬وأما الداء الديني فإنه يؤدي إلى هالك األبد ‪ ،‬فكونه يؤديك إلى‬
‫فضول النظر والكالم والمشي والجماع وغير ذلك من أنواع الحركات المردية ‪ ،‬وإن‬
‫كان األمر على هذا الحد ‪ ،‬فواجب على كل عاقل أن ال يمأل بطنه من طعام وال شراب‬
‫أصال ‪ ،‬فإن كان صاحب شريعة طالبا سبيل النجاة ‪ ،‬فيتوجه عليه وجوبا تجنب الحرام‬
‫‪ ،‬والورع في الشبهات المظنونة ‪ ،‬وأما المحققة فواجب عليه تجنبها‬

‫ص ‪136‬‬

‫ص ‪136 :‬‬
‫كالحرام ‪ ،‬على كل حال من األحوال ‪ ،‬فإنه ما أتي على أحد إال من بطنه ‪ ،‬منه تقع‬
‫ّللا يا بني ‪ ،‬التقليل في‬
‫ّللا تعالى ‪ ،‬فا هّلل ه‬
‫الرغبة وقلة الورع في الكسب والتعدي لحدود ه‬
‫الغذاء الطيب في اللباس والطعام ‪ ،‬فإن اللباس أيضا غذاء الجسم كالطعام ‪ ،‬به ينعم ‪،‬‬
‫حيث يحفظه من الهواء البارد والحار ‪ ،‬الذي هو بمنزلة الجوع واالمتالء والظمأ‬
‫والري المتفاوت ‪ ،‬فكل واشرب والبس لبقاء جسمك في عبادتك ال لنفسك ‪ ،‬فإن الجسم‬
‫ال يطلب منك إال سد جوعة بما كان ‪ ،‬ووقاية من الهواء الحار والبارد بما كان ‪ ،‬وأما‬
‫النفس فال تطلب منك إال الطيب من الطعام الحسن الطعم والمنظر ‪،‬‬
‫وكذلك المشرب والمركب والمسكن والملبس ‪ ،‬إنما تريد من كل شيء أحسنه وأعاله‬
‫منزلة وأغاله ثمنا ‪ ،‬ولو استطاعت أن تنفرد باألحسن من هذا كله دون النفوس كلها لم‬
‫تقصر في ذلك ‪ ،‬والذي يؤديها إلى ذلك طلب التقدم والترأس ‪،‬‬
‫وأن ينظر إليها ويشار ‪ ،‬وأن ال يلتفت إلى غيرها ‪ ،‬وال تبالي حراما كان ذلك أو حالال‬
‫‪ ،‬والجسم ليس كذلك ‪ ،‬إنما مراده الوقاية مما ذكرناه ‪ ،‬فصار الجسم من هذه طالبا لما‬
‫يصونه خاصة ‪،‬‬
‫من أكل وشرب وملبس ومسكن وأشباه ذلك مما يصلح به ‪ ،‬وصارت النفس أو العقل‬
‫الشرعي الكاسبة والمطعمة له ‪ ،‬فإن كانت النفس المغذية له والناظرة في صونه خاض‬
‫في الشبهات وتورط في المحرمات ‪،‬‬
‫ألنها أمارة بالسوء ومطمئنة بالهوى ‪ ،‬فهلكت وأهلكته في الدارين ‪ ،‬ألنها ربما ال تبلغ‬
‫هنا مناها وطلبتها ‪ ،‬ألن األمر اإللهي رزق مقسوم ‪ ،‬وأجل مسمى محدود ‪ ،‬وإن كان‬
‫العقل الشرعي المغذي له ‪ ،‬تقيهد وأخذ الشيء من حله ووضعه في حقه ‪،‬‬
‫وترك الشهي من الطعام وإن كان حالال ‪ ،‬فغذاؤه ما تيسر ‪ ،‬وهمته فيما عند مواله من‬
‫رؤيته إلى ما دون ذلك مما يبقى بخالف النفس ‪ ،‬فإن همتها وإن تعلقت بما هو حسن‬
‫ّللا العافية ‪ ،‬والحجة علينا في هذا بيهنة ‪ ،‬ألنه لو‬ ‫في الحال ‪ ،‬فمآله عذر نتن ‪ ،‬نسأل ه‬
‫كان هذا خبرا لكان بعض عذر وإنما هذا كله معاينة منها ‪،‬‬
‫وليت لو وقفت الحال هنا ‪ ،‬وال تبقى عليه تبعات ذلك في الدار اآلخرة ‪ ،‬حين يسأل مم‬
‫كسبت ؟ وفيما أنفقت ؟‬
‫ويسأل عن الفتيل والقطمير ‪ ،‬بل في مثقال ذرة ‪ ،‬فالحجة قائمة للعاقل على نفسه إن‬
‫طلبت منه هذا ‪ ،‬فما يجب عليك في الطعام من اجتناب المحظور فيه والمتشابه ‪،‬‬
‫يتوجه عليك في اللباس ‪،‬‬
‫والتقليل من هذا كالتقليل من هذا ‪ ،‬وما ملئ وعاء شر من بطن ملئ بالحالل ‪ ،‬وينبغي‬
‫أن ال تأكل إال مما تعرف إذا كنت موكال لنفسك ‪ ،‬فإن رأس الدين الورع ‪ ،‬والزهد قائد‬
‫الفوائد ‪ ،‬وكل عمل ال يصحبه‬

‫ص ‪137‬‬

‫ص ‪137 :‬‬
‫ورع فصاحبه مخدوع ‪ ،‬فاسع جهدك في أن تأكل من عمل يدك إن كنت صانعا ‪ ،‬وإال‬
‫فاحفظ البساتين والفدادين ‪ ،‬والزم االستقامة فيما تحاوله على الطريقة المشروعة ‪،‬‬
‫والورع الشافي الذي ال يبقي في القلب أثر تهمة ‪ ،‬إن أردت أن تكون من المفلحين ‪،‬‬
‫وهذا ال يحصل إال بعد تحصيل العلم المشروع بالمكاسب والحالل والحرام ‪ ،‬ال بد لك‬
‫منه هذا إذا كنت موكال لنفسك ‪ ،‬واعلم آن الحالل عزيز المنال على جهة الورع ‪ ،‬قليل‬
‫جدا ‪ ،‬ال يحتمل اإلسراف والتبذير ‪ ،‬بل إذا تورعت على ما لزمه أهل الورع في‬
‫الورع ‪ ،‬فبالحري أن يسلم لك قوتك على التقتير ‪ ،‬كيف أن تصل به إلى نيل شهوة من‬
‫شهوات النفس ؟‬
‫ّللا يا بني ‪ ،‬حافظ على نفسك أن ال تصاحبها في شهوتها لهذه المطاعم الغالية‬ ‫فاّلل ه‬
‫ه‬
‫األثمان ‪ ،‬فإنك إن صاحبتها عليها وتقوى في خاطرك أن لو نلتها لعذوبتها وأن تأخذها‬
‫على وجه االعتبار ‪ ،‬أعمت بصيرتك ودلتك بغرور ‪ ،‬وأدخلت عليك ضربا من‬
‫التأويالت في مكسبك ‪ ،‬ليكثر درهمك بما تلحق تلك الشهوة ‪ ،‬حتى تؤديك إلى التوريط‬
‫في الشبهات ‪ ،‬وهي تريد الحرام ‪ ،‬فإن الراتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه ‪ ،‬فسد‬
‫عليها هذا الباب ‪ ،‬وال تطعمها إال ما تقوى به على أداء ما كلهفته وتكلفته ‪ ،‬على الشرط‬
‫الذي ذكرت لك من التقليل ‪ ،‬وهكذا في اللباس ‪ ،‬وإياك واإلسراف في النفقة وإن كانت‬
‫حالال صافيا ‪ ،‬فإنه مذموم وصاحبه مبذر ملوم ‪،‬‬
‫ين )‬‫ياط ِ‬
‫ش ِ‬ ‫قال تعالى ‪ (:‬إِ َّن ْال ُمبَذه ِِرينَ كانُوا إِ ْخوانَ ال َّ‬
‫وقال تعالى ‪ «:‬يا بَنِي آ َد َم ُخذُوا ِزينَت َ ُك ْم ِع ْن َد ُك ِهل َمس ِْج ٍد َو ُكلُوا َوا ْش َربُوا َوال تُس ِْرفُوا إِنَّهُ‬
‫ال يُ ِحبُّ ْال ُمس ِْرفِينَ »فهذا قد عم اللباس والطعام والشراب ‪ ،‬فالبطن يا بني أكبر األعداء‬
‫ّللا من الشهوات ‪ ،‬وحال بيننا وبين اآلفات ‪.‬‬ ‫بعد الهوى ‪ ،‬والفرج بعدهما ‪ ،‬عصمنا ه‬

‫[ سورة األعراف ( ‪ : ) 7‬آية ‪] 32‬‬


‫ق قُ ْل ِه َ‬
‫ي ِللهذ َ‬
‫ِين آ َمنُوا فِي‬ ‫الر ْز ِ‬
‫ت ِم َن ِ ّ‬ ‫ج ِل ِعبا ِد ِه َوال ه‬
‫ط ِيّبا ِ‬ ‫قُ ْل َم ْن َح هر َم ِزينَةَ ه ِ‬
‫َّللا الهتِي أ َ ْخ َر َ‬
‫ون ( ‪) 32‬‬ ‫ت ِلقَ ْو ٍم يَ ْعلَ ُم َ‬
‫ص ُل ْاآليا ِ‬‫صةً يَ ْو َم ا ْل ِقيا َم ِة كَذ ِلكَ نُفَ ِ ّ‬‫ا ْل َحيا ِة ال ُّد ْنيا خا ِل َ‬

‫ّللا أضاف الزينة إليه ‪،‬‬ ‫ّللا » ] «قُ ْل َم ْن َح َّر َم ِزينَةَ َّ ِ‬


‫ّللا »فإن ه‬ ‫[ « قُ ْل َم ْن َح َّر َم ِزينَةَ َّ ِ‬
‫وما أضافها إلى الدنيا وال إلى الشيطان ‪ ،‬وأكثر من هذا البيان في مثل هذا القرآن فال‬
‫يكون ‪ ،‬فعليك بتحرير النية في‬

‫ص ‪138‬‬

‫ص ‪138 :‬‬
‫ّللا وزينة الحياة الدنيا إال بالقصد‬ ‫ّللا للتجمل هّلل ‪ ،‬ألنه ال فرق بين زينة ه‬ ‫استخدام زينة ه‬
‫والنية ‪ ،‬وإنما عين الزينة هي هي ‪ ،‬ما هي أمر آخر ‪ ،‬فالنية روح األمور ‪ ،‬وإنما‬
‫ّللا عليه وسلم ‪:‬‬ ‫ّللا صلهى ه‬
‫المرئ ما نوى ‪ ،‬ورد في صحيح مسلم أن رجال قال لرسول ه‬
‫ّللا صلهى‬ ‫ّللا ‪ ،‬إني أحب أن يكون نعلي حسنا وثوبي حسنا ‪ ،‬فقال له رسول ه‬ ‫يا رسول ه‬
‫ّللا جميل يحب الجمال ‪،‬‬ ‫ّللا عليه وسلم ‪ :‬إن ه‬ ‫ه‬
‫ّللا أولى من تجمل له ‪ ،‬هذا المقصود بالتجمل هّلل ‪ ،‬ال للزينة والفخر بعرض‬ ‫وقال ‪ :‬إن ه‬
‫الدنيا ‪ ،‬والزهو والعجب والبطر على غيره ‪ ،‬واجهد نفسك يا ولي أن تتحلى بحلية قوم‬
‫ّللا عليه وسلم شوقا إليهم ‪ ،‬ال يؤثر فيك كالم المغرورين من‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫بكى رسول ه‬
‫الفقهاء علماء السوء ‪ ،‬الذين لبسوا رقاق الثياب ‪ ،‬وتناولوا لذيذ المطاعم ‪ ،‬فإن قلت لهم‬
‫في ذلك تلوا عليك‬
‫ق »فقد أخبر النبي صلهى‬ ‫الر ْز ِ‬
‫ت ِمنَ ِ ه‬ ‫ّللا الَّ ِتي أ َ ْخ َر َج ِل ِعبا ِد ِه َو َّ‬
‫الط ِيهبا ِ‬ ‫« قُ ْل َم ْن َح َّر َم ِزينَةَ َّ ِ‬
‫ّللا عليه وسلم أنهم سيقولون هذا إذا قلت لهم في ذلك ‪ ،‬فمن حديث سعيد بن زيد بن‬ ‫ه‬
‫نفيل ‪،‬‬
‫ّللا عليه وسلم وأقبل على أسامة بن زيد ‪ ،‬فقال ‪ :‬يا أسامة‬ ‫قال ‪ :‬سمعت النبي صلهى ه‬
‫عليك بطريق الجنة ‪ ،‬وإياك أن تختلج دونها ‪،‬‬
‫ّللا ‪ ،‬وما شيء أسرع ما يقطع به ذلك الطريق ‪ ،‬قال ‪ :‬الظمأ في‬ ‫فقال ‪ :‬يا رسول ه‬
‫الهواجر وكسر النفس عن لذة الدنيا ‪ ،‬يا أسامة وعليك عند ذلك بالصوم ‪ ،‬فإنه يقرب‬
‫عز وجل من ريح فم الصائم ‪ ،‬ترك‬ ‫ّللا ه‬
‫عز وجل ‪ ،‬إنه ليس من شيء أحب إلى ه‬ ‫ّللا ه‬‫إلى ه‬
‫عز وجل ‪ ،‬وإن استطعت أن يأتيك الموت وبطنك جائع وكبدك‬ ‫الطعام والشراب هّلل ه‬
‫ّللا‬
‫ظمآن فافعل ‪ ،‬فإنك تدرك شرف المنازل في اآلخرة ‪ ،‬وتحمل مع النبيين صلوات ه‬
‫عليهم أجمعين ‪ ،‬تفرح بقدوم روحك عليهم ‪ ،‬ويصلي عليك الجبار تبارك وتعالى ‪،‬‬
‫عز وجل يوم القيامة ‪ ،‬وإياك يا أسامة‬ ‫ّللا ه‬ ‫وإياك يا أسامة وكل كبد جائع يخاصمك إلى ه‬
‫ودعاء عباد قد أذابوا اللحوم ‪ ،‬وأحرقوا الجلود بالريح والسمائم ‪ ،‬وأظمئوا األكباد ‪،‬‬
‫عز وجل قد نظر إليهم وباهى بهم المالئكة عليهم‬ ‫ّللا ه‬ ‫حتى غشيت أبصارهم ‪ ،‬فإن ه‬
‫ّللا عليه وسلم حتى اشتد‬ ‫السالم ‪ ،‬بهم تصرف الزالزل والفتن ‪ ،‬ثم بكى النبي صلهى ه‬
‫نحيبه ‪ ،‬وهاب الناس أن يكلموه ‪ ،‬حتى ظنوا أن أمرا قد حدث بهم من السماء ‪ ،‬ثم تكلم‬
‫عز وجل فيهم ! !‬ ‫ّللا ربه ه‬
‫فقال ‪ :‬ويح هذه األمة ‪ ،‬ما يلقى منهم من أطاع ه‬
‫ّللا‬
‫ّللا تعالى ؟ فقال عمر بن الخطاب رضي ه‬ ‫كيف يقتلونه ويكذبونه من أجل أنه أطاع ه‬
‫عنه ‪:‬‬
‫ّللا ‪ ،‬والناس يومئذ على اإلسالم ؟ قال ‪ :‬نعم ‪ ،‬قال ‪ :‬ففيم إذن يقتلون من‬ ‫يا رسول ه‬
‫ّللا ؟ فقال ‪ :‬يا عمر ترك الناس الطريق ‪ ،‬وركبوا الدواب ‪،‬‬ ‫ّللا وأمرهم بطاعة ه‬ ‫أطاع ه‬
‫ولبسوا ليهن‬

‫ص ‪139‬‬

‫ص ‪139 :‬‬
‫الثياب ‪ ،‬وخدمتهم أبناء فارس ‪ ،‬يتزين الرجل منهم تزين المرأة لزوجها ‪ ،‬ويتبرج‬
‫النساء ‪ ،‬زيهم زي الملوك الجبابرة ‪ ،‬ودينهم دين كسرى وهرمز ‪ ،‬يتسمون بالجشاء ‪،‬‬
‫عز وجل ‪ ،‬عليهم العباءة ‪ ،‬منحنية أصالبهم ‪ ،‬قد ذبحوا أنفسهم من‬ ‫ّللا ه‬
‫فإذا تكلم أولياء ه‬
‫العطش ‪ ،‬فإذا تكلم منهم متكلم ‪ ،‬كذهب وقيل له ‪:‬أنت قرين الشيطان ورأس الضاللة ‪،‬‬
‫عز وجل على غير علم ‪،‬‬ ‫ّللا ه‬
‫ّللا والطيبات من الرزق ‪ ،‬ويتلون كتاب ه‬ ‫تحرم زينة ه‬
‫عز وجل يوم‬ ‫ّللا ه‬
‫عز وجل ‪ ،‬اعلم يا أسامة ‪ ،‬أن أقرب الناس إلى ه‬ ‫ّللا ه‬
‫استذلوا أولياء ه‬
‫القيامة من أطال حزنه وعطشه وجوعه في الدنيا ‪ ،‬األخفياء األبرياء الذين إذا شهدوا‬
‫لم يقربوا ‪ ،‬وإذا غابوا لم يفتقدوا ‪ ،‬تعرفهم بقاع األرض يعرفون في أهل السماء‬
‫ويخفون على أهل األرض ‪ ،‬وتحف بهم المالئكة ‪ ،‬تنعم الناس بالشهوات ‪ ،‬وتنعموا هم‬
‫بالجوع والعطش ‪ ،‬لبس الناس ليهن الثياب ‪ ،‬ولبسوا هم خشن الثياب ‪ ،‬وافترش الناس‬
‫ّللا ه‬
‫عز‬ ‫الفراش ‪ ،‬وافترشوا الجباه والركب ‪ ،‬ضحك الناس وبكوا ‪ ،‬يا أسامة ال يجمع ه‬
‫وجل عليهم الشدة في الدنيا واآلخرة ‪،‬‬
‫لهم الجنة ‪ ،‬فيا ليتني قد رأيتهم ‪ ،‬يا أسامة ‪ ،‬لهم الشرف في اآلخرة ‪ ،‬ويا ليتني قد‬
‫رأيتهم ‪ ،‬األرض بهم رحبة ‪ ،‬والجبار عنهم راض ‪ ،‬ضيهع الناس فعل النبيين وأخالقهم‬
‫ّللا مثل رغبتهم ‪ ،‬والخاسر من خالفهم ‪ ،‬تبكي‬ ‫‪ ،‬وحفظوا ‪ ،‬الراغب من رغب إلى ه‬
‫ّللا على كل بلدة ليس فيها مثلهم ‪ ،‬يا أسامة إذا رأيتهم في‬‫األرض إذا فقدتهم ‪ ،‬ويسخط ه‬
‫عز وجل قوما هم فيهم ‪ ،‬اتخذهم‬ ‫ّللا ه‬
‫قرية فاعلم أنهم أمان ألهل تلك القرية ‪ ،‬ال يعذب ه‬
‫لنفسك عسى أن تنجو بهم ‪ ،‬وإياك أن تدع ما هم عليه ‪ ،‬فتزل قدمك ‪ ،‬فتهوي في النار‬
‫‪ ،‬طلبوا الفضل في اآلخرة ‪ ،‬تركوا الطعام والشراب على قدرة ‪ ،‬لم يتكالبوا على الدنيا‬
‫عز وجل ‪،‬‬ ‫ّللا ه‬
‫تكالب الكالب على الجيفة ‪ ،‬شغل الناس بالدنيا وشغلوا أنفسهم بطاعة ه‬
‫لبسوا الخلق ‪ ،‬وأكلوا الفلق ‪ ،‬تراهم شعثا غبرا ‪ ،‬يظن الناس أن بهم داء وما ذاك بهم ‪،‬‬
‫ويظن الناس أنهم خولطوا وما خولطوا ‪ ،‬ولكن خالط القوم حزن ‪ ،‬وتظن أنهم ذهبت‬
‫عقولهم وما ذهبت عقولهم ‪ ،‬ولكن نظروا بقلوبهم إلى أمر ذهب بعقولهم عن الدنيا ‪،‬‬
‫فهم عند أهل الدنيا يمشون بال عقول ‪ ،‬يا أسامة عقلوا حين ذهبت عقول الناس ‪ ،‬لهم‬
‫ّللا ورسوله ألولياء‬‫الشرف في اآلخرة ‪ -‬انته الحديث ‪ -‬فانظر يا ولي وصف حبيب ه‬
‫ّللا هي الحالل التي ما فيها حرام ‪ ،‬فما حكم‬
‫ّللا ‪ ،‬وكيف نعتهم ‪ ،‬فإن قلت إن زينة ه‬ ‫ه‬
‫المتنعم في الدنيا المباح له التنعم في الحالل ؟‬
‫قلنا ‪ :‬ال نمنع ذلك في حق غير العارف ‪ ،‬ولكن العارف تحت سلطان‬

‫ص ‪140‬‬

‫ص ‪140 :‬‬
‫ّللا‬
‫ّللا بها عليه باطنة كانت أو ظاهرة ‪ ،‬إال والتكليف من ه‬ ‫التكليف ‪ ،‬فما من نعمة ينعم ه‬
‫بالشكر عليها يصحبها ‪ ،‬فذلك التكليف ينغص على العارف التنعم بتلك النعمة ‪،‬‬
‫ّللا عليه‬
‫الشتغاله بموازنة الشكر عليها ‪ ،‬وإذا وفي الشكر عليها ‪ ،‬فالوفاء به نعمة من ه‬
‫يجب عليه الشكر عليها ‪ ،‬فال يزال متعوب الخاطر في إقامة الوزن بالقسط ‪ ،‬أن ال‬
‫يخسر الميزان ‪ ،‬ومن هذه حالته كيف ينعم ؟‬
‫ّللا ظاهرا وباطنا ‪ ،‬وال‬ ‫فظاهرها نعمة وباطنها غصص ‪ ،‬وهو ال يبرح يتقلب في نعم ه‬
‫تؤثر عنده إال ألما وتنغيصا ‪ ،‬والعامة تفرح بتلك النعم وتتصرف فيها أشرا وبطرا ‪،‬‬
‫والعارف مسدود عليه في الدنيا باب الراحة في قلبه ‪ ،‬وإن استراح في ظاهره ‪ ،‬فهو‬
‫يموت في كل نفس ألف موتة وال يشعر به ‪،‬‬
‫ي فيها ثالث نعم ‪،‬‬ ‫ّللا بمصيبة إال رأيت هّلل عل ه‬ ‫يقول عمر بن الخطاب ‪ :‬ما ابتالني ه‬
‫إحداها أن لم تكن في ديني ‪ ،‬الثانية حيث لم تكن أكبر منها ‪،‬‬
‫ّللا عليها من الثواب ‪ ،‬ومن كان في مصيبة واحدة يرى ثالث نعم ‪ ،‬فقد‬ ‫الثالثة ما وعد ه‬
‫انتقل إلى مصيبة أعظم من تلك المصيبة ‪ ،‬فإنه يتعين عليه إقامة ميزان الشكر على‬
‫ّللا بمصيبة واحدة ليصبر عليها ‪ ،‬وابتلته معرفته في تلك المصيبة‬ ‫ثالث نعم ‪ ،‬فابتاله ه‬
‫ّللا الشكر عليها ‪ ،‬حيث أعلمه بتلك النعم في تلك المصيبة الواحدة‬ ‫بثالث مصائب كلفه ه‬
‫ّللا عنه ‪ ،‬كيف أوجب على نفسه مثل هذا‬ ‫‪ ،‬فانظر إلى معرفة عمر بن الخطاب رضي ه‬
‫‪ ،‬وانظر إلى ما فيها من األدب ‪ ،‬حيث عدل عن النظر من كونها مصيبة إلى رؤية‬
‫النعم ‪ ،‬فتلقاها بالقبول ‪ ،‬ألن النعمة محبوبة لذاتها ‪ ،‬فرضي فكان له مقام الرضا‬
‫ّللا ‪ ،‬وأين الناس من هذا الذوق‬ ‫واالستسالم والتفويض والصبر واالعتماد على ه‬
‫صةً يَ ْو َم ْال ِقيا َم ِة »‬
‫ي ِللَّذِينَ آ َمنُوا فِي ْال َحياةِ ال ُّد ْنيا خا ِل َ‬‫الشريف« قُ ْل ِه َ‬
‫ّللا ]‬‫[ تحقيق ‪ :‬زينة ه‬
‫الطيب من الرزق ليس في أكله تنغيص بل لذة ونعيم في الدنيا واآلخرة ‪ ،‬ولذلك قال‬
‫صةً يَ ْو َم ْال ِقيا َم ِة »فلو كان مناقشة حساب لم تكن خالصة ‪ ،‬وال وقعت‬ ‫تعالى ‪ «:‬خا ِل َ‬
‫ط ِيهبا ً )‬
‫الال َ‬
‫ض َح ً‬ ‫اس ُكلُوا ِم َّما فِي ْاأل َ ْر ِ‬ ‫للمؤمن بها لذة ‪ ،‬قال تعالى ‪ (:‬يا أَيُّ َها النَّ ُ‬
‫فاعلم أن ذلك في مجرد األكل الحالل ‪ ،‬والحساب إنما يقع والسؤال في كسبه‬
‫والوصول إليه ‪ ،‬ال في أكله إذا كان حالال ‪ ،‬فإنه يغمض هذا المعنى على أكثر الناس ‪-‬‬
‫ّللا وصفاته على الحد المشروع ‪ ،‬فقد‬ ‫ّللا أسماؤه ‪ ،‬فمن تخلق بأسماء ه‬ ‫تحقيق ‪ -‬زينة ه‬
‫ّللا التي أخرج لعباده في كتابه وعلى ألسنة رسله ‪ ،‬جاء في الحديث‬ ‫تحلى بزينة ه‬
‫[ وال يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به‬
‫وبصره الذي يبصر به ] فمن كان الحق سمعه وبصره وجمع قواه‬

‫ص ‪141‬‬

‫ص ‪141 :‬‬
‫سمعها وبصرها ‪ ،‬وهذه القوى قد أخبر الحق أنه لما أحبك كان سمعك وبصرك ‪ ،‬فهو‬
‫قواك ‪ ،‬فبه سلكت في طاعته التي أمرك أن تعمل نفسك فيها ‪ ،‬وتحلي ذاتك بها ‪ ،‬وهي‬
‫ّللا ‪ ،‬وهو سبحانه الجميل والزينة جمال ‪ ،‬فهو جمال هذا السالك ‪ ،‬فزينته ربه ‪،‬‬ ‫زينة ه‬
‫فبه يسمع ‪ ،‬وبه يبصر ‪ ،‬وبه يسلك ‪ ،‬وال مانع من ذلك ‪ ،‬ولهذا قال ‪َ «:‬م ْن َح َّر َم ِزينَةَ‬
‫ّللا الَّ ِتي أ َ ْخ َر َج ِل ِعبا ِد ِه »لما أحبهم حين تقربوا إليه بنوافل الخيرات ‪ ،‬زينهم به ‪ ،‬فكان‬
‫َّ ِ‬
‫قواهم التي سلكوا بها ما كلفهم من األعمال ‪.‬‬

‫[ سورة األعراف ( ‪ : ) 7‬آية ‪] 33‬‬


‫ق َوأ َ ْن‬ ‫اْلثْ َم َوا ْلبَ ْغ َ‬
‫ي ِبغَ ْي ِر ا ْل َح ّ ِ‬ ‫ش ما َظ َه َر ِم ْنها َوما بَ َط َن َو ْ ِ‬ ‫واح َ‬‫ي ا ْلفَ ِ‬ ‫قُ ْل ِإنهما َح هر َم َر ِبّ َ‬
‫ون ) ‪( 33‬‬ ‫َّللا ما ال ت َ ْعلَ ُم َ‬‫علَى ه ِ‬ ‫س ْلطانا ً َوأ َ ْن تَقُولُوا َ‬ ‫اّلِل ما لَ ْم يُنَ ِ ّز ْل ِب ِه ُ‬ ‫تُش ِْركُوا ِب ه ِ‬
‫اإلثْ َم »قد يكون هنا اإلثم اسم الخمر ‪ ،‬فإن العرب تسمي الخمر اإلثم ‪،‬‬ ‫قوله تعالى ‪َ «:‬و ْ ِ‬
‫قال الشاعر ‪:‬شربت اإلثم حتى ضل عقلي * كذلك اإلثم يذهب بالعقولوثبت بهذه اآلية‬
‫ّللا ‪ ،‬فقيل لمحمد عليه السالم ‪ «:‬قُ ْل ِإنَّما‬ ‫أن الفاحشة هي فاحشة لعينها ‪ ،‬ولهذا حرمها ه‬
‫طنَ »أي ما علم وما لم يعلم إال بالتوقيف ‪،‬‬ ‫ظ َه َر ِم ْنها َوما بَ َ‬
‫ش ما َ‬ ‫واح َ‬ ‫ي ْالفَ ِ‬ ‫َح َّر َم َر ِبه َ‬
‫ّللا على عباده فهو فحش ‪ ،‬وما هو عين ما‬ ‫لغموض إدراك الفحش ‪ ،‬فكل محرم حرمه ه‬
‫أحله في زمان آخر وال في شرع آخر ‪ ،‬فهذا هو الذي بطن علمه ‪،‬‬
‫ّللا عليه وسلم ‪:‬‬ ‫قال النبي صلهى ه‬
‫وّللا أغير مني ‪ ،‬ومن غيرته حرم الفواحش ]‬ ‫[إن سعدا لغيور ‪ ،‬وأنا أغير من سعد ‪ ،‬ه‬
‫فجعل الفواحش حراما محرما ‪ ،‬كما حرم مكة وغيرها ‪ ،‬فتخيل من ال علم له أن ذلك‬
‫ّللا وحرماته ‪،‬‬ ‫إهانة ‪ ،‬وهو تعظيم ‪ ،‬إذ هو من شعائر ه‬
‫ّللا فَ ُه َو َخي ٌْر لَهُ ِع ْن َد َر ِبه ِه )‬
‫ت َّ ِ‬‫ظ ْم ُح ُرما ِ‬ ‫وّللا يقول ‪َ (:‬م ْن يُعَ ِ ه‬ ‫ه‬
‫ّللا عظيم ‪،‬‬ ‫ّللا إال بما هو خير لك وهو عند ه‬ ‫فالتحريم دليل على التعظيم ‪ ،‬فما أمرك ه‬
‫وما نهاك إال عما هو تركه خير لك لعظيم حرمته عنده ‪ ،‬فمن غيرته حرم الفواحش‬
‫ليفتضح المحبون في دعواهم محبته ‪ ،‬فغار أن يدعي الكاذب دعوى الصادق ‪ ،‬وال‬
‫يكون ثم ميزان يفصل بين الدعوتين ‪ ،‬فحرم الفواحش ‪ ،‬فمن ادعى محبته وقف عند‬
‫حدوده ‪ ،‬فتبين الصادق من‬

‫ص ‪142‬‬

‫ص ‪142 :‬‬
‫الكاذب ‪ ،‬وليس الفحش إال ما ظهر ‪ ،‬وأما فحش ما بطن فهو لمن ظهر له ‪ .‬واعلم أن‬
‫ّللا ذلك ‪ ،‬ختم على كل‬
‫حرم ه‬
‫أعظم فاحشة باطنة هو اعتقاد العبد الربوبية لنفسه ‪ ،‬ولما ه‬
‫قلب أن تدخله ربوبية الحق فتكون نعتا له ‪ ،‬فما من أحد يجد في قلبه أنه رب إله ‪ ،‬بل‬
‫يعلم كل أحد من نفسه أنه فقير محتاج ذليل ‪ ،‬فجعل البواطن كلها في كل فرد فرد‬
‫مختوما عليه أن ال يدخلها تأله ‪ ،‬ولم يعصم األلسنة أن تتلفظ بالدعوى باأللوهية ‪ ،‬وال‬
‫عصم النفوس أن تعتقد األلوهية في غيرها ‪ ،‬بل هي معصومة أن تعتقدها في نفسها ال‬
‫في أمثالها ‪ ،‬ألنه ما كل أحد عالم باألمور على ما هي عليه ‪ ،‬وال يعلم كل أحد أن‬
‫األمثال حكمها في الماهية واحد ‪.‬‬

‫[ سورة األعراف ( ‪ : ) 7‬آية ‪] 34‬‬


‫ون ساعَةً َوال يَ ْ‬
‫ست َ ْق ِد ُم َ‬
‫ون ( ‪) 34‬‬ ‫ستَأ ْ ِخ ُر َ‬
‫َو ِل ُك ِ ّل أ ُ هم ٍة أ َ َج ٌل فَ ِإذا جا َء أ َ َجلُ ُه ْم ال يَ ْ‬
‫« َو ِل ُك ِهل أ ُ َّم ٍة أ َ َج ٌل فَإِذا جا َء أ َ َجلُ ُه ْم »وهو الموت االضطراري في العموم والعرف« ال‬
‫عةً َوال يَ ْست َ ْق ِد ُمونَ »على تلك الساعة فهي اآلجال في األشياء‪.‬‬ ‫يَ ْستَأ ْ ِخ ُرونَ سا َ‬

‫[ سورة األعراف ( ‪ : ) 7‬اآليات ‪ 35‬إلى ‪] 37‬‬


‫ف‬ ‫صلَ َح فَال َخ ْو ٌ‬ ‫علَ ْي ُك ْم آيا ِتي فَ َم ِن اتهقى َوأ َ ْ‬ ‫ون َ‬‫ص َ‬ ‫يا بَ ِني آ َد َم ِإ هما يَأ ْ ِتيَنه ُك ْم ُر ُ‬
‫س ٌل ِم ْن ُك ْم يَقُ ُّ‬
‫ع ْنها أُولئِكَ أَص ُ‬
‫ْحاب‬ ‫ست َ ْكبَ ُروا َ‬ ‫ِين َكذهبُوا بِآياتِنا َوا ْ‬ ‫ون ( ‪َ ) 35‬والهذ َ‬ ‫علَ ْي ِه ْم َوال ُه ْم يَحْ َزنُ َ‬ ‫َ‬
‫َّللا َكذِبا ً أ َ ْو َكذه َ‬
‫ب بِآياتِ ِه‬ ‫علَى ه ِ‬ ‫افتَرى َ‬ ‫ُون ( ‪ ) 36‬فَ َم ْن أ َ ْظلَ ُم ِم هم ِن ْ‬ ‫النه ِار ُه ْم فِيها خا ِلد َ‬
‫سلُنا يَت َ َوفه ْونَ ُه ْم قالُوا أ َ ْي َن ما ُك ْنت ُ ْم‬
‫ب َحتهى إِذا جا َءتْ ُه ْم ُر ُ‬ ‫أُولئِكَ يَنالُ ُه ْم نَ ِصيبُ ُه ْم ِم َن ا ْل ِكتا ِ‬
‫ين) ‪( 37‬‬ ‫س ِه ْم أَنه ُه ْم كانُوا كافِ ِر َ‬ ‫عنها َوش َِهدُوا عَلى أ َ ْنفُ ِ‬ ‫ضلُّوا َ‬ ‫َّللا قالُوا َ‬‫ُون ه ِ‬ ‫ُون ِم ْن د ِ‬ ‫ت َ ْدع َ‬

‫ص ‪143‬‬

‫ص ‪143 :‬‬
‫[سورة األعراف ( ‪ : ) 7‬اآليات ‪ 38‬إلى ‪] 39‬‬
‫اْل ْن ِس فِي النه ِار ُكلهما َد َخلَتْ أ ُ همةٌ لَعَنَتْ‬ ‫قا َل ا ْد ُخلُوا فِي أ ُ َم ٍم قَ ْد َخلَتْ ِم ْن قَ ْب ِل ُك ْم ِم َن ا ْل ِج ِّن َو ْ ِ‬
‫ضلُّونا فَآتِ ِه ْم‬ ‫ُالء أ َ َ‬
‫هاركُوا فِيها َج ِميعا ً قالَتْ أ ُ ْخرا ُه ْم ِألُوال ُه ْم َربهنا هؤ ِ‬ ‫أ ُ ْختَها َحتهى ِإذَا اد َ‬
‫ون ( ‪َ ) 38‬وقالَتْ أُوال ُه ْم ِأل ُ ْخرا ُه ْم‬ ‫ف َول ِك ْن ال ت َ ْعلَ ُم َ‬ ‫عَذابا ً ِض ْعفا ً ِم َن النه ِار قا َل ِل ُك ٍ ّل ِض ْع ٌ‬
‫ون ( ‪) 39‬‬ ‫سبُ َ‬ ‫ذاب ِبما ُك ْنت ُ ْم ت َ ْك ِ‬‫ض ٍل فَذُوقُوا ا ْلعَ َ‬ ‫علَ ْينا ِم ْن فَ ْ‬ ‫فَما َ‬
‫كان لَ ُك ْم َ‬
‫باّلل ‪ ،‬وهو قوله‬ ‫ت أُوال ُه ْم »وهم رؤساؤهم الذين أضلوهم وجعلوهم يشركون ه‬ ‫« َوقالَ ْ‬
‫تعالى ‪ِ (:‬إ ْذ تَبَ َّرأ َ الَّذِينَ اتُّبِعُوا ِمنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا )‬
‫ض ٍل »حتى‬ ‫علَيْنا ِم ْن فَ ْ‬ ‫أي من الذين اتبعوهم وهو قوله ‪ِ «:‬أل ُ ْخرا ُه ْم » « فَما كانَ لَ ُك ْم َ‬
‫تنظروا وتبحثوا عن وجه الحق بل كنتم مجرمين« فَذُوقُوا ْالعَ َ‬
‫ذاب ِبما ُك ْنت ُ ْم ت َ ْك ِسبُونَ‬
‫»فما حكم فيهم إال بهم فأعمالهم عذبتهم ‪ ،‬وما حكم فيهم غيرهم ‪.‬‬

‫[ سورة األعراف ( ‪ : ) 7‬آية ‪] 40‬‬


‫ون ا ْل َجنهةَ‬
‫ماء َوال يَ ْد ُخلُ َ‬
‫س ِ‬ ‫ع ْنها ال تُفَت ه ُح لَ ُه ْم أ َ ْب ُ‬
‫واب ال ه‬ ‫ِين َكذهبُوا بِآياتِنا َوا ْ‬
‫ست َ ْكبَ ُروا َ‬ ‫إِ هن الهذ َ‬
‫ين ) ‪( 40‬‬ ‫ياط َوكَذ ِلكَ نَجْ ِزي ا ْل ُمجْ ِر ِم َ‬‫س ِ ّم ا ْل ِخ ِ‬
‫َحتهى يَ ِل َج ا ْل َج َم ُل فِي َ‬
‫ّللا في حق أهل الشقاء ‪ ،‬في إسبال النعيم عليهم وشمول‬ ‫هذه أرجى آية في كتاب ه‬
‫الرحمة ‪ ،‬وهذا جزاء المجرمين على التعيين ‪ ،‬فليس في القدرة عجز ‪ ،‬فإن دخول‬
‫الجمل في سم الخياط ليس من قبيل المحال ‪ ،‬ألن الصغر والكبر العارضين في‬
‫الشخص ال يبطالن حقيقته ‪ ،‬وال يخرجانه عنها ‪ ،‬والقدرة صالحة أن تخلق جمال يكون‬
‫من الصغر بحيث ال يضيق عنه سم الخياط ‪ ،‬فكان في ذلك رجاء لهم أن يدخلوا جنة‬
‫النعيم ‪.‬‬

‫[ سورة األعراف ( ‪ : ) 7‬اآليات ‪ 41‬إلى ‪] 42‬‬


‫ين ( ‪َ ) 41‬والهذ َ‬
‫ِين آ َمنُوا‬ ‫واش َوكَذ ِلكَ نَجْ ِزي ال ه‬
‫ظا ِل ِم َ‬ ‫غ ٍ‬ ‫لَ ُه ْم ِم ْن َج َهنه َم ِمها ٌد َو ِم ْن فَ ْوقِ ِه ْم َ‬
‫ُون (‬ ‫سعَها أُولئِكَ أَص ُ‬
‫ْحاب ا ْل َجنه ِة ُه ْم فِيها خا ِلد َ‬ ‫ف نَ ْفسا ً إِاله ُو ْ‬‫ت ال نُ َك ِلّ ُ‬
‫صا ِلحا ِ‬‫َوع َِملُوا ال ه‬
‫‪) 42‬‬
‫ّللا نفسا إال وسعها ]‬ ‫[ ‪ -‬إشارة ‪ -‬ال يكلف ه‬
‫ّللا نفسا إال وسعها ‪ ،‬تقسمت العوالم فتقسمت التكاليف وطمست‬ ‫‪-‬إشارة ‪ -‬ال يكلف ه‬
‫المعالم فجهلت التصاريف ‪ ،‬فعالم كلفتهم في أداء العبادة ‪ ،‬وعالم كلفتهم في حيرتهم‬

‫ص ‪144‬‬

‫ص ‪144 :‬‬
‫في موافقة األمر واإلرادة ‪ ،‬وعالم كلفتهم في توجيه الخطاب اإللهي ‪ ،‬على هذا العالم‬
‫الكياني ‪ ،‬مع رد األفعال إليه ‪ ،‬واستحالة التكليف إليه ‪ ،‬فتاهت األلباب في هذا الباب ‪،‬‬
‫واستوى فيه البصير واألعمى ‪ ،‬وزادهم في ذلك حيرة وعمى ‪،‬‬
‫ْت َول ِك َّن َّ َ‬
‫ّللا َرمى ) لكن ثم رقيقة ‪ ،‬وهي لعمر‬ ‫ْت ِإ ْذ َر َمي َ‬
‫قوله تعالى ‪َ (:‬وما َر َمي َ‬
‫التصوف دقيقة ‪ ،‬أنه ما وجد شيء إال وفيه منه حقيقة ‪ ،‬اسمع يا مربوب ربه القدم ‪،‬‬
‫امتنع المحدث أن تقوم به حقائق القدم ‪ ،‬وامتنع القديم أن تقوم به حقائق الحدوث لئال‬
‫يتقدم على وجوده العدم ‪ ،‬لكن تبلى جميع الصفات ‪ ،‬وإال فمن أين ظهرت المتضادات‬
‫والمتماثالت والمختلفات ‪ ،‬وليس القدم بصفة إثبات عين ‪ ،‬وال الحدوث بوصف إثبات‬
‫كون ‪ ،‬لكن لما تعذرت األسباب في الوجودين ‪ ،‬ولم يكن للمعلوم الواحد تحصيل‬
‫المعرفتين ‪ ،‬وأراد تمام الوجود ليعلم من الطريقين ‪ ،‬فظهر في اإليجاد تكليف محقق ‪،‬‬
‫وعناء ال يتحقق ‪ ،‬فظهرت بينهما ‪ ،‬برازخ التكليف ‪ ،‬في مشهد التخيير والتوقيف ‪،‬‬
‫ولهذا جاء الخبر بالعماء ‪ ،‬ما فوقه هواء وما تحته هواء ‪،‬‬
‫س ِإ َّال ِليَ ْعبُد ِ‬
‫ُون )‬ ‫فقال ‪َ (:‬وما َخلَ ْقتُ ْال ِج َّن َو ْ ِ‬
‫اإل ْن َ‬
‫قال ابن عباس ‪ ( :‬ليعرفون ) فلو عرف نفسه بمعرفتهم دونهم ‪ ،‬ما أوجد عيونهم ‪،‬‬
‫فصح التكليف في القدم ‪ ،‬والخلق في حال العدم ‪ ،‬ومن هذه الحقيقة تكليف العباد ‪ ،‬وإن‬
‫ّللا وإياكم من العناد ‪ ،‬وأمننا وإياكم من الفزع‬‫لم يكن لهم مدخل في اإليجاد ‪ ،‬عصمنا ه‬
‫يوم التناد ‪ ،‬بكرمه ‪.‬‬

‫[ سورة األعراف ( ‪ : ) 7‬آية ‪] 43‬‬


‫ّلِل الهذِي َهدانا‬ ‫هار َوقالُوا ا ْل َح ْم ُد ِ ه ِ‬ ‫ُور ِه ْم ِم ْن ِغ ٍ ّل تَجْ ِري ِم ْن تَحْ تِ ِه ُم ْاأل َ ْن ُ‬ ‫صد ِ‬ ‫َونَ َزعْنا ما فِي ُ‬
‫ق َونُودُوا أ َ ْن تِ ْل ُك ُم‬ ‫س ُل َر ِبّنا ِبا ْل َح ّ ِ‬
‫َّللاُ لَقَ ْد جا َءتْ ُر ُ‬ ‫ِي لَ ْو ال أ َ ْن َهدانَا ه‬ ‫ِلهذا َوما ُكنها ِلنَ ْهتَد َ‬
‫ون ( ‪) 43‬‬ ‫ورثْت ُ ُموها ِبما ُك ْنت ُ ْم ت َ ْع َملُ َ‬ ‫ا ْل َجنهةُ أ ُ ِ‬
‫ُور ِه ْم ِم ْن ِغ ٍهل »فإن أهل الدنيا كانوا أهل بغي وحسد وتدابر‬ ‫صد ِ‬ ‫« َونَزَ عْنا ما فِي ُ‬
‫ّللا بأهل اآلخرة التي ينقلب المؤمنون إليها بمن‬ ‫وتقاطع وغل وشحناء ‪ ،‬فأبدلهم ه‬
‫ُور ِه ْم ِم ْن ِغ ٍهل "‬ ‫ّللا تعالى ‪َ "،‬ونَزَ عْنا ما فِي ُ‬
‫صد ِ‬ ‫وصفهم ه‬
‫إخوانا على سرر متقابلين ‪ ،‬فإن الجنة ليست بمحل تعن وال تعد ‪.‬‬
‫ّللا وإياك أن الجنة‬ ‫" وتودوا أن تكلم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون " اعلم أيدنا ه‬
‫جنتان جنة محسوسة ‪ ،‬وجنة معنوية ‪ ،‬والعقل يعقلهما معا ‪ ،‬فالنفس الناطقة المخاطبة‬
‫المكلفة‬

‫ص ‪145‬‬

‫ص ‪145 :‬‬
‫لها نعيم بما تحمله من العلوم والمعارف ‪ ،‬من طريق نظرها وفكرها وما وصلت إليه‬
‫من ذلك باألدلة العقلية ‪ ،‬ونعيم بما تحمله من اللذات والشهوات مما يناله بالنفس‬
‫الحيوانية من طريق قواها الحسية ‪ ،‬من أكل وشرب ونكاح ولباس وروائح ونغمات‬
‫طيبة تتعلق بها األسماع ‪ ،‬وجمال حسي في صورة حسنة معشوقة يعطيها البصر ‪ ،‬في‬
‫نساء كاعبات ووجوه حسان وألوان متنوعة وأشجار وأنهار ‪ ،‬كل ذلك تنقله الحواس‬
‫إلى النفس الناطقة ‪ ،‬فتلتذ به من جهة طبيعتها ‪ ،‬وهذه الجنات ثالث جنان ‪ :‬جنة‬
‫اختصاص إلهي وهي التي يدخلها األطفال الذين لم يبلغوا حد العمل ‪ ،‬وحدهم من أول‬
‫ّللا من شاء من عباده‬ ‫ما يولد إلى أن يستهل صارخا إلى انقضاء ست أعوام ‪ ،‬ويعطي ه‬
‫من جنات االختصاص ما شاء ‪ ،‬ومن أهلها المجانين الذين ما عقلوا ‪ ،‬ومن أهلها أهل‬
‫التوحيد العملي ‪ ،‬ومن أهلها أهل الفترات ومن لم تصل إليهم دعوة رسول ‪ ،‬والجنة‬
‫الثانية جنة ميراث ‪ ،‬ينالها كل من دخل الجنة ممن ذكرنا ومن المؤمنين ‪ ،‬وهي‬
‫األماكن التي كانت معينة ألهل النار لو دخلوها ‪ ،‬والجنة الثالثة جنة األعمال ‪ ،‬وهي‬
‫التي ينزل الناس فيها بأعمالهم ‪ ،‬فمن كان أفضل من غيره في وجوه التفاضل كان له‬
‫من الجنة أكثر ‪ ،‬وسواء كان الفاضل دون المفضول أو لم يكن ‪ ،‬غير أنه فضله في‬
‫هذا المقام بهذه الحالة ‪ ،‬فما من عمل من األعمال إال وله جنة ‪ ،‬ويقع التفاضل فيها بين‬
‫أصحابها بحسب ما يقتضي أحوالهم ‪،‬‬
‫ورد في الحديث الصحيح عن النبي صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم أنه قال لبالل ‪ [ :‬يا بالل بم‬
‫سبقتني إلى الجنة ‪ ،‬فما وطئت منها موضعا إال سمعت خشخشتك أمامي ؟‬
‫ّللا ما أحدثت قط إال توضأت ‪ ،‬وال توضأت إال صليت ركعتين ‪،‬‬ ‫فقال ‪ :‬يا رسول ه‬
‫ّللا صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ :‬بهما ]‬ ‫فقال رسول ه‬
‫فعلمنا أنها كانت جنة مخصوصة بهذا العمل ‪،‬‬
‫مطرقا بين يدي‬
‫ه‬ ‫ّللا صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم يقول لبالل ‪ :‬بم نلت أن تكون‬ ‫فكأن رسول ه‬
‫تحجبني ؟‬
‫من أين لك هذه المسابقة إلى هذه المرتبة ؟‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ :‬بهما ‪ ،‬فما من فريضة وال نافلة وال فعل‬ ‫فلما ذكر له ذلك ‪ ،‬قال صلهى ه‬
‫خير وال ترك محرم ومكروه إال وله جنة مخصوصة ونعيم خاص يناله من دخلها ‪،‬‬
‫والتفاضل على مراتب ‪ ،‬فمنها بالسن ولكن في الطاعة واإلسالم ‪ ،‬فيفضل الكبير السن‬
‫على الصغير السن إذا كانا على مرتبة واحدة من العمل بالسن فإنه أقدم منه فيه ‪،‬‬
‫ويفضل أيضا بالزمان فإن العمل في رمضان وفي يوم الجمعة وفي ليلة القدر وفي‬
‫عشر ذي الحجة وفي عاشوراء أعظم من سائر األزمان ‪ ،‬وكل زمان عيهنه الشارع ‪،‬‬
‫وتقع المفاضلة بالمكان ‪ ،‬كالمصلي في المسجد الحرام أفضل من صالة‬

‫ص ‪146‬‬

‫ص ‪146 :‬‬
‫المصلي في مسجد المدينة ‪ ،‬وكذلك الصالة في مسجد المدينة أفضل من الصالة في‬
‫المسجد األقصى ‪ ،‬وهكذا فضل الصالة في المسجد األقصى على سائر المساجد ‪،‬‬
‫ويتفاضلون أيضا باألحوال ‪ ،‬فإن الصالة في الجماعة في الفريضة أفضل من صالة‬
‫الشخص وحده ‪ ،‬وأشباه هذا ‪ ،‬ويتفاضلون باألعمال ‪ ،‬فإن الصالة أفضل من إماطة‬
‫ّللا األعمال بعضها على بعض ‪ ،‬ويتفاضلون أيضا في نفس العمل‬ ‫األذى ‪ ،‬وقد فضل ه‬
‫الواحد ‪ ،‬كالمتصدق على رحمه ‪ ،‬فيكون صاحب صلة رحم وصدقة ‪ ،‬والمتصدق على‬
‫غير رحمه دونه في األجر ‪ ،‬وكذلك من أهدى هدية لشريف من أهل البيت أفضل ممن‬
‫أهدى لغير شريف أو بره أو أحسن إليه ‪ ،‬ووجوه المفاضلة كثيرة في الشرع ‪ ،‬والرسل‬
‫عليهم السالم إنما ظهر فضلها في الجنة على غيرها بجنة االختصاص ‪ ،‬وأما بالعمل‬
‫فهم في جنات األعمال بحسب األحوال كما ذكرنا ‪ ،‬وكل من فضل غيره ممن ليس في‬
‫مقامه فمن جنات االختصاص ال من جنات األعمال ‪ ،‬ومن الناس من يجمع في الزمن‬
‫الواحد أعماال كثيرة ‪ ،‬فيصرف سمعه فيما ينبغي في زمان تصريفه بصره ‪ ،‬في زمان‬
‫تصريفه يده ‪ ،‬في زمان صومه ‪ ،‬في زمان صدقته ‪ ،‬في زمان صالته ‪ ،‬في زمان‬
‫ذكره ‪ ،‬في زمان نيهته من فعل وترك ‪ ،‬فيؤجر في الزمن الواحد من وجوه كثيرة ‪،‬‬
‫ّللا صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم‬ ‫فيفضل غيره ممن ليس له ذلك ‪ ،‬ولذلك لما ذكر رسول ه‬
‫ّللا وما‬
‫الثمانية األبواب من الجنة أن يدخل من أيها شاء ‪ ،‬قال أبو بكر ‪ :‬يا رسول ه‬
‫على اإلنسان أن يدخل من األبواب كلها ؟‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ :‬أرجو أن تكون منهم يا أبا بكر ‪ .‬فأراد أبو بكر‬ ‫ّللا صلهى ه‬
‫قال رسول ه‬
‫بذلك القول ما ذكرنا ‪ ،‬أن يكون اإلنسان في زمان واحد في أعمال كثيرة تعم أبواب‬
‫الجنة ‪ ،‬واعلم أن جنة األعمال مائة درجة ال غير ‪ ،‬كما أن النار مائة درك ‪ ،‬غير أن‬
‫كل درجة تنقسم إلى منازل ‪.‬‬
‫‪-‬إشارة ‪ -‬من تسلل لواذا ‪ ،‬واعتصم عياذا ‪ ،‬واتخذ ال مقام مالذا ‪ ،‬وصير األصنام‬
‫جذاذا ‪ ،‬وأمطر وابال ورذاذا ‪ ،‬وجب أن يقول ‪ْ «:‬ال َح ْم ُد ِ َّ ِ‬
‫ّلل الَّذِي هَدانا ِلهذا »‪ -‬شرح‬
‫هذه اإلشارة ‪ -‬قوله ‪ « :‬من تسلل لواذا » أي من انتزع عن نفسه انتزاعا خفيا ال‬
‫باّلل تعالى ‪ ،‬كالمتصدق بيمينه ال تعرف بها‬ ‫يشعر به في العامة وال في الخاصة ‪ ،‬والذ ه‬
‫شماله ‪ ،‬قوله ‪:‬‬
‫ّللا من حيث جمعية هذا االسم أمرا يتعوذ به ‪ ،‬كما قال ‪:‬‬ ‫«واعتصم عياذا » أي اتخذ ه‬
‫« وأعوذ بك منك » ألنه لم ير في مقابلة الحق إال الحق « واتخذ ال مقام مالذا » أراد‬
‫ميراثا محمديا « ‪، » 1‬‬

‫) ‪( 1‬راجع معنى « ال مقام » في كتابنا شرح كلمات الصوفية ص ‪ 160‬عند شرح‬


‫كلمة أبي يزيد البسطامي « ال صباح لي وال مساء‪» .‬‬

‫‪147‬‬

‫ص ‪147 :‬‬
‫باّلل ‪ ،‬قوله ‪« :‬‬
‫ّللا ‪ ،‬قال له ‪ :‬أنت ه‬
‫«وصير األصنام جذاذا » أي كل من قال له ‪ :‬أنا ه‬
‫وأمطر وابال ورذاذا » يريد أصناف العلوم ‪ ،‬يلقيها على قلوب المتعلمين على قدر‬
‫قواهم ‪ ،‬فالرذاذ منه هو الرش ‪ ،‬وهو الخفيف من المطر ‪،‬‬
‫والوابل هو كل علم يرد على قلب مريض ذي علة فيبريه من تلك العلة ‪ ،‬فكأنه علم‬
‫مختص بإزالة الشبهات ‪،‬‬
‫يقال ‪ :‬بل المريض وأب هل واستب هل ‪ ،‬إذا صح من مرضه ‪.‬‬

‫[ سورة األعراف ( ‪ : ) 7‬اآليات ‪ 44‬إلى ‪] 46‬‬


‫عدَنا َربُّنا َحقًّا فَ َه ْل َو َج ْدت ُ ْم ما‬ ‫ْحاب النه ِار أ َ ْن قَ ْد َو َجدْنا ما َو َ‬ ‫ْحاب ا ْل َجنه ِة أَص َ‬ ‫َونادى أَص ُ‬
‫ين ( ‪ ) 44‬الهذ َ‬
‫ِين‬ ‫علَى ال ه‬
‫ظا ِل ِم َ‬ ‫ِن بَ ْينَ ُه ْم أ َ ْن لَ ْعنَةُ ه ِ‬
‫َّللا َ‬ ‫ع َد َربُّ ُك ْم َحقًّا قالُوا نَعَ ْم فَأَذه َن ُم َؤذّ ٌ‬‫َو َ‬
‫ون ( ‪َ ) 45‬وبَ ْينَ ُهما ِح ٌ‬
‫جاب‬ ‫َّللا َويَ ْبغُونَها ِع َوجا ً َو ُه ْم ِب ْاآل ِخ َر ِة كا ِف ُر َ‬ ‫ُّون ع َْن َ‬
‫س ِبي ِل ه ِ‬ ‫صد َ‬ ‫يَ ُ‬
‫علَ ْي ُك ْم لَ ْم‬ ‫ْحاب ا ْل َجنه ِة أ َ ْن َ‬
‫سال ٌم َ‬ ‫سيما ُه ْم َوناد َْوا أَص َ‬ ‫ْراف ِرجا ٌل يَ ْع ِرفُ َ‬
‫ون ُكالًّ بِ ِ‬ ‫علَى ْاألَع ِ‬ ‫َو َ‬
‫ون ) ‪( 46‬‬ ‫يَ ْد ُخلُوها َو ُه ْم يَ ْط َمعُ َ‬
‫األعراف سور بين الجنة والنار ‪ ،‬باطنه فيه الرحمة وهو ما يلي الجنة منه ‪ ،‬وظاهره‬
‫من قبله العذاب وهو ما يلي النار منه ‪ ،‬فجعل النار من قبله أي يقابله ‪ ،‬والمقابل ضد ‪،‬‬
‫فلم يجعل السور محال للعذاب ‪،‬‬
‫ّللا ‪،‬‬
‫وجعله محال للرحمة بقوله باطنه فيه الرحمة ‪ ،‬فأهل األعراف في محل رحمة ه‬
‫وذلك هو الذي أطمعهم في الجنة وإن كانوا بعد ما دخلوها ‪ ،‬واألعراف يكون عليه‬
‫رجال تساوت كفتا ميزانهم ‪ ،‬فهم ينظرون إلى النار وينظرون إلى الجنة ‪ ،‬وما لهم‬
‫رجحان بما يدخلهم أحد الدارين ‪،‬‬
‫ألنه لم ترجح في الوزن كفة حسناتهم على كفة سيئاتهم ‪ ،‬فلم تثقل موازينهم وال خفت‬
‫ّللا ‪ ،‬فإنه ما ث هم سيئة تعادلها‬ ‫ّللا ألحد منهم في ميزانه تلفظه بال إله إال ه‬ ‫‪ ،‬فإنه ما وضع ه‬
‫إال الشرك ‪ ،‬ولما لم يجتمع الشرك والتوحيد في قلب شخص واحد ‪،‬‬
‫كذلك ال يدخل في الميزان إال لصاحب السجالت ‪ ،‬ويرى أصحاب األعراف أن موطن‬

‫ص ‪148‬‬

‫ص ‪148 :‬‬
‫ّللا عليه وسلم عندما طلب من ربه فتح باب‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫القيامة قد سجد فيه رسول ه‬
‫الشفاعة تعظيما هّلل وهيبة وإجالال ‪ ،‬فعلموا أنه موطن سجود ‪ ،‬فلما دعوا إلى السجود‬
‫ّللا‬
‫هناك وهو الذي يبقى يوم القيامة من التكليف سجد أصحاب األعراف امتثاال ألمر ه‬
‫‪ ،‬فرجحت كفة حسناتهم بهذه السجدة وثقلت ‪ ،‬فسعدوا ‪ ،‬ألنها سجدة تكليف مشروعة‬
‫ّللا ‪ ،‬فيدخلون الجنة ‪ ،‬وكانوا ينظرون إلى النار بما لهم من‬ ‫في ذلك الموطن عن أمر ه‬
‫السيئات وينظرون إلى الجنة بما لهم من الحسنات ‪ ،‬ولذلك أشار الحق تعالى بأن ختم‬
‫سورة األعراف بسجدة للتالي عند ذكر سجود المأل األعلى ‪ ،‬وهي سجدة اقتداء بهدي‬
‫المالئكة« يَ ْع ِرفُونَ ُك ًّال بِ ِسيما ُه ْم »فذكر الحق عن أصحاب األعراف أن لهم المعرفة‬
‫بمقام الخلق ‪ ،‬فقال ‪ «:‬يَ ْع ِرفُونَ ُك ًّال ِب ِسيما ُه ْم »أي بما جعلنا فيهم من العالمة ‪ ،‬فإن‬
‫اآلخرة دار تمييز ‪ ،‬فأهل الجنة مميزون وأهل النار مميزون ‪ ،‬فبالسمات يفرق بين‬
‫حاب ْال َجنَّ ِة »فإنهم في مقام‬
‫ص َ‬ ‫األشخاص يوم التنادي ‪ ،‬والت حين مناص« َونا َد ْوا أ َ ْ‬
‫الكشف لألشياء ‪ ،‬فلو دخلوا الجنة استتر عنهم بدخولهم فيها وسترتهم ‪ ،‬ألنها جنهة ‪،‬‬
‫علَ ْي ُك ْم »‬ ‫عن كشف ما هم له كاشفون« أ َ ْن َ‬
‫سال ٌم َ‬
‫تحية إقبال عليهم لمعرفتهم بهم ‪ ،‬وتحية النصرافهم عنهم إلى جناتهم« لَ ْم يَ ْد ُخلُوها َو ُه ْم‬
‫يَ ْ‬
‫ط َمعُونَ »‬
‫ّللا ‪،‬‬
‫ّللا ‪ ،‬فيطمعون ‪ ،‬وسبب طمعهم أيضا أنهم من أهل ال إله إال ه‬ ‫فإنهم يرون رحمة ه‬
‫ّللا ال يظلم مثقال ذرة ‪ ،‬ولو جاءت ذرة إلحدى‬ ‫وال يرونها في ميزانهم ‪ ،‬ويعلمون أن ه‬
‫ّللا وعدله ‪ ،‬وأنه‬ ‫الكفتين لرجحت بها ‪ ،‬ألنهما في غاية االعتدال ‪ ،‬فيطعمون في كرم ه‬
‫ّللا عناية بصاحبها ‪ ،‬يظهر لها أثر عليهم كما نادوا‬ ‫ال بد أن يكون لكلمة ال إله إال ه‬
‫أيضا ‪.‬‬

‫[ سورة األعراف ( ‪ : ) 7‬آية ‪] 47‬‬


‫ظا ِل ِم َ‬
‫ين (‬ ‫صار ُه ْم تِ ْلقا َء أَصْحا ِ‬
‫ب النه ِار قالُوا َربهنا ال تَجْ عَ ْلنا َم َع ا ْلقَ ْو ِم ال ه‬ ‫ص ِرفَتْ أ َ ْب ُ‬
‫َوإِذا ُ‬
‫‪)47‬‬
‫والظلم هنا الشرك ال غير ‪.‬‬

‫[ سورة األعراف ( ‪ : ) 7‬اآليات ‪ 48‬إلى ‪] 51‬‬


‫سيما ُه ْم قالُوا ما أ َ ْغنى َ‬
‫ع ْن ُك ْم َج ْمعُ ُك ْم َوما‬ ‫ْراف ِرجاالً يَ ْع ِرفُونَ ُه ْم ِب ِ‬ ‫ْحاب ْاألَع ِ‬ ‫َونادى أَص ُ‬
‫َّللاُ بِ َرحْ َم ٍة ا ْد ُخلُوا ا ْل َجنهةَ ال‬
‫س ْمت ُ ْم ال يَنالُ ُه ُم ه‬ ‫ِين أ َ ْق َ‬
‫ُالء الهذ َ‬‫ون ( ‪ ) 48‬أ َ هؤ ِ‬ ‫ست َ ْكبِ ُر َ‬ ‫ُك ْنت ُ ْم ت َ ْ‬
‫ْحاب ا ْل َجنه ِة أ َ ْن أَفِيضُوا‬ ‫ْحاب النه ِار أَص َ‬ ‫ون ( ‪َ ) 49‬ونادى أَص ُ‬ ‫علَ ْي ُك ْم َوال أ َ ْنت ُ ْم تَحْ َزنُ َ‬
‫ف َ‬ ‫َخ ْو ٌ‬
‫ين ( ‪ ) 50‬الهذ َ‬
‫ِين‬ ‫علَى ا ْلكافِ ِر َ‬ ‫َّللاُ قالُوا ِإ هن ه َ‬
‫َّللا َح هر َم ُهما َ‬ ‫ماء أ َ ْو ِم هما َر َزقَ ُك ُم ه‬ ‫علَ ْينا ِم َن ا ْل ِ‬ ‫َ‬
‫سوا ِلقا َء يَ ْو ِم ِه ْم‬ ‫غ هرتْ ُه ُم ا ْل َحياةُ ال ُّد ْنيا فَا ْليَ ْو َم نَ ْنسا ُه ْم كَما نَ ُ‬
‫ات ه َخذُوا دِينَ ُه ْم لَهْوا ً َولَ ِعبا ً َو َ‬
‫ُون) ‪( 51‬‬ ‫هذا َوما كانُوا ِبآيا ِتنا يَجْ َحد َ‬

‫ص ‪149‬‬

‫ص ‪149 :‬‬
‫ّللا قوما اتخذوا دينهم لهوا ولعبا ‪ ،‬وهم في هذا الزمان أصحاب السماع ‪ ،‬أهل الدف‬
‫ذم ه‬
‫باّلل من الخذالن ‪.‬‬
‫والمزمار ‪ ،‬نعوذ ه‬
‫[ ما الدين بالدف والمزمار واللعب ]‬
‫ما الدين بالدف والمزمار واللعب * لكنما الدين بالقرآن واألدب‬

‫[ سورة األعراف ( ‪ : ) 7‬آية ‪] 52‬‬


‫دى َو َرحْ َمةً ِلقَ ْو ٍم يُ ْؤ ِمنُ َ‬
‫ون ) ‪( 52‬‬ ‫ب فَ ه‬
‫ص ْلناهُ عَلى ِع ْل ٍم ُه ً‬ ‫َولَقَ ْد ِجئْنا ُه ْم بِ ِكتا ٍ‬
‫ّللا إجمال ‪ ،‬واإلجمال في المعاني محال ‪،‬‬ ‫ليس من نعوت الكمال أن يكون في علم ه‬
‫ومحل اإلجمال األلفاظ واألقوال ‪ ،‬فإذا جعل قول عبده قوله اتصف عند ذلك باإلجمال‬
‫‪ ،‬وكان من نعوت الكمال ‪ ،‬فالعلوم في اللوح مفصلة ‪ ،‬وقد كانت في العلم مجملة ‪ ،‬وما‬
‫فصلها القلم وال كان ممن علم ‪ ،‬وإنما اليمين حركته لتفصيل المجمل ‪ ،‬وفتح الباب‬
‫المقفل ‪ ،‬فكمال العارف ‪ ،‬علمه بتفصيل المعارف ‪.‬‬

‫[ سورة األعراف ( ‪ : ) 7‬اآليات ‪ 53‬إلى ‪] 54‬‬


‫سوهُ ِم ْن قَ ْب ُل قَ ْد جا َءتْ ُر ُ‬
‫س ُل َر ِبّنا‬ ‫ِين نَ ُ‬ ‫ون ِإاله تَأ ْ ِويلَهُ يَ ْو َم يَأْتِي تَأ ْ ِويلُهُ يَقُو ُل الهذ َ‬ ‫ظ ُر َ‬‫َه ْل يَ ْن ُ‬
‫س ُروا‬ ‫غ ْي َر الهذِي ُكنها نَ ْع َم ُل قَ ْد َخ ِ‬ ‫شفَعُوا لَنا أ َ ْو نُ َر ُّد فَنَ ْع َم َل َ‬ ‫شفَعا َء فَيَ ْ‬ ‫ق فَ َه ْل لَنا ِم ْن ُ‬ ‫ِبا ْل َح ّ ِ‬
‫ت‬ ‫سماوا ِ‬ ‫ق ال ه‬ ‫َّللاُ الهذِي َخلَ َ‬ ‫ون ( ‪ ) 53‬إِ هن َربه ُك ُم ه‬ ‫ع ْن ُه ْم ما كانُوا يَ ْفت َ ُر َ‬ ‫س ُه ْم َو َ‬
‫ض هل َ‬ ‫أ َ ْنفُ َ‬
‫هار يَ ْطلُبُهُ َحثِيثا ً‬
‫شي الله ْي َل النه َ‬ ‫علَى ا ْلعَ ْر ِش يُ ْغ ِ‬ ‫ستَوى َ‬ ‫ست ه ِة أَيه ٍام ث ُ هم ا ْ‬‫ض فِي ِ‬ ‫َو ْاأل َ ْر َ‬
‫ب‬ ‫باركَ ه‬
‫َّللاُ َر ُّ‬ ‫ق َو ْاأل َ ْم ُر ت َ َ‬‫ت ِبأ َ ْم ِر ِه أَال لَهُ ا ْل َخ ْل ُ‬‫س هخرا ٍ‬ ‫س َوا ْلقَ َم َر َوالنُّ ُجو َم ُم َ‬‫َوالش ْهم َ‬
‫ين) ‪( 54‬‬ ‫ا ْلعالَ ِم َ‬

‫ص ‪150‬‬

‫ص ‪150 :‬‬
‫ّللا في ستة أيام مقدرة‬ ‫قال بعض المفسرين إن السماوات واألرض وما بينهما خلقهما ه‬
‫ال موجودة ‪ ،‬على تقدير لو كانت ث هم أيام كان هذا المقدار ‪ ،‬وهذا خطأ ‪ ،‬فإن السماوات‬
‫ّللا في هذه الستة األيام الموجودة المعلومة عندنا ‪،‬‬ ‫واألرض وما بينهما إنما خلقهم ه‬
‫وإنها كانت موجودة قبل خلق السماء واألرض ‪ ،‬فإن السماوات السبع واألرضين‬
‫ليست األيام لها ‪ ،‬وإنما لفلك النجوم الثوابت ‪ ،‬وقد كان قبل السماوات دائرا ‪ ،‬فاليوم‬
‫دورته ‪ ،‬غير أن النهار والليل أمر آخر معلوم في اليوم ‪ ،‬ال نفس اليوم ‪ ،‬فحدث النهار‬
‫وّللا ما قال في ستة أنهار وال في ست‬ ‫والليل بحدوث السماوات واألرض ال األيام ‪ ،‬ه‬
‫ليال ‪ ،‬وإنما ذكر األيام ‪ ،‬ووقع ابتداء الخلق في يوم األحد ‪ ،‬وانته الخلق في يوم‬
‫الجمعة ‪،‬‬
‫وقال في يوم السبت وقد وضع إحدى الرجلين على األخرى ‪ :‬أنا الملك« ث ُ َّم ا ْستَوى‬
‫علَى ْالعَ ْر ِش »راجع البقرة آية رقم ( ‪ ) 29‬وطه آية رقم ) ‪( 5‬‬ ‫َ‬
‫ّللا أوجد العرش إظهارا لقدرته ‪ ،‬ال محال لذاته ‪ ،‬وأوجد الوجود ال حاجة‬ ‫واعلم أن ه‬
‫إليه ‪ ،‬إنما هو إظهار ألسمائه وصفاته ‪ ،‬فهو تعالى مقدس في وجوده عن مالمسة ما‬
‫أوجده ‪ ،‬ومجانبته ومواصلته ومفاصلته ‪ ،‬ألنه كان وال كون ‪ ،‬وهو اآلن كما كان ال‬
‫يتصل بكون ‪ ،‬وال ينفصل عن كون ‪ ،‬ألن الوصل والفصل من صفات الحدوث ال من‬
‫صفات القدم ‪ ،‬ألن االتصال واالنفصال يلزم منه االنتقال واالرتحال ‪ ،‬ويلزم من‬
‫االنتقال واالرتحال التحول والزوال والتغيير واالستبدال ‪،‬‬
‫هذا كله من صفات النقص ال من صفات الكمال ‪ ،‬فسبحانه سبحانه ‪ ،‬وتعالى عما يقول‬
‫الظالمون والجاحدون علوا كبيرا ‪،‬‬
‫ولكن اقتضت مرتبة من ال يقبل المكان أن يخلق سماء جعله عرشا ‪ ،‬ثم ذكر أنه‬
‫استوى عليه حتى يقصد بالدعاء وطلب الحوائج ‪ ،‬فال يبقى العبد حائرا ال يدري أين‬
‫ّللا ذا جهة« يُ ْغ ِشي اللَّ ْي َل النَّ َ‬
‫هار »‬ ‫يتوجه ‪ ،‬ألن العبد خلقه ه‬
‫ّللا في الليل‬ ‫أي يغطيه وهو النكاح واإليالج ‪ ،‬لظهور أعيان المولدات وما يحدث ه‬
‫والنهار من المخلوقات عن هذا اإليالج والغشيان ‪ ،‬إليجاد ما سبق في علمه أن يظهر‬
‫فيه ‪ ،‬من األحكام واألعيان في العالم العنصري ‪،‬‬
‫فنحن أوالد الليل والنهار ‪ ،‬فما حدث في النهار ‪ ،‬فالنهار أمه والليل أبوه ‪ ،‬ألن لهما‬
‫عليه والدة ‪ ،‬وما ولد في الليل فالليل أمه والنهار أبوه ‪ ،‬فإن لهما عليه والدة ‪ ،‬فال‬
‫يزال الحال في الدنيا ما دام الليل والنهار يغشي أحدهما اآلخر ‪،‬‬
‫فنحن أبناء أم وأب لمن ولد معنا في يومنا أو في ليلتنا خاصة ‪ ،‬وما ولد في الليلة‬
‫الثانية والنهار الثاني فأمثالنا ‪ ،‬ما هم إخواننا ‪ ،‬ألن الليل والنهار جديدان «يَ ْ‬
‫طلُبُهُ‬

‫ص ‪151‬‬

‫ص ‪151 :‬‬
‫ت‬‫س َّخرا ٍ‬ ‫س َو ْالقَ َم َر َوالنُّ ُج َ‬
‫وم ُم َ‬ ‫ش ْم َ‬‫َحثِيثا ً »هذا الطلب منهما إلبراز أعيان الحوادث« َوال َّ‬
‫ّللا فيها ‪ .‬واعلم أن الفلك‬ ‫بِأ َ ْم ِر ِه »فكانت منافع الحيوانات بها وعن أحكامها بما أودع ه‬
‫عندنا متحرك تحرك اإلنسان في الجهات ‪ ،‬ألنه يعقل ويكلهف ويؤمر ‪ ،‬كما قال عليه‬
‫السالم في ناقته إنها مأمورة ‪ ،‬وقال عليه السالم في الشمس إنها تستأذن في الطلوع ‪،‬‬
‫ي الذي يحدث األشياء في‬ ‫فالفلك متحرك باإلرادة ليعطي ما في سمائه من األمر اإلله ه‬
‫ّللا فيها من العقل والروح والعلم ‪ ،‬فتعطي أشخاص كل‬ ‫األركان والمولدات بما أودع ه‬
‫نوع من المولدات على التعيين من معدن ونبات وحيوان وجن وملك مخلوق من عمل‬
‫ّللا لديها ‪ ،‬وهو قوله‬ ‫أو نفس بقول من تسبيح وذكر أو تالوة ‪ ،‬وذلك لعلمها بما أودع ه‬
‫سماءٍ أ َ ْم َرها )فمن ال كشف له يرى أن ذلك كله الكائن من‬ ‫تعالى ‪َ (:‬وأ َ ْوحى فِي ُك ِهل َ‬
‫سريانها أنها مسخرات في حركاتها إليجاد هذه األمور ‪ ،‬كتحريك الصانع لْلالت‬
‫إليجاد صورة ما يريد إيجادها ‪ ،‬كالصورة في الخشب وغيره ‪ ،‬وال تعرف اآلالت شيئا‬
‫من ذلك وال ما صدر عنها ‪ ،‬وعندنا كل جزء من الكون عالم بما يراد منه ‪ ،‬فهو على‬
‫بصيرة ‪ ،‬حتى أجزاء بدن اإلنسان ‪ ،‬فما يجهل منه إال لطيفته المكلفة الموكلة إلى‬
‫استعمال فكرها ‪ ،‬أو تنظر بنور اإليمان حتى يظهر ذلك النور على بصرها ‪ ،‬فيكشف‬
‫ما كان خبرا عندها ‪ ،‬فما من متحرك في العالم إال وهو عالم بما إليه يتحرك إال الثقلين‬
‫ت ِبأ َ ْم ِر ِه »بما في‬‫س َّخرا ٍ‬ ‫‪ ،‬فقد يجهلون ما يتحركون إليه ‪ ،‬بل يجهلون« َوالنُّ ُج َ‬
‫وم ُم َ‬
‫حركة كل كوكب ‪ ،‬وما له من اقترانات مع الكواكب بما يحدث عنها من األمور‬
‫المختلفة ‪ ،‬بحسب األقاليم وأمزجة القوابل ومساقط نطفه في أشخاص الحيوان ‪ ،‬فيكون‬
‫القران واحدا ويكون أثره في العالم العنصري مختلفا بحسب األقاليم وما يعطيه طبيعته‬
‫ّللا عليها هذه الكواكب المسخرة‬ ‫‪ ،‬فهي حوادث أ همن ه‬
‫[ « أَال لَهُ ْالخ َْل ُق َو ْاأل َ ْم ُر » ]‬
‫« أَال لَهُ ْالخ َْل ُق َو ْاأل َ ْم ُر »‬
‫الخلق خلقان ‪:‬‬
‫خلق تقدير ‪ ،‬وهو الذي يتقدم األمر اْللهي ‪ ،‬كما قدمه الحق ‪ ،‬وأ هخر عنه األمر ‪،‬‬
‫فقال تعالى ‪ «:‬أَال لَهُ ْالخ َْل ُق َو ْاأل َ ْم ُر »‬
‫والخلق اآلخر بمعنى اْليجاد ‪ ،‬وهو الذي يساوق األمر اْللهي ‪ ،‬وإن تقدمه األمر‬
‫اإللهي بالرتبة ‪ ،‬فاألمر اإللهي بالتكوين بين خلقين ‪ ،‬خلق تقدير وخلق إيجاد ‪،‬‬
‫فمتعلق األمر خلق اإليجاد ‪ ،‬ومتعلق خلق التقدير تعيين الوقت إلظهار عين الممكن ‪،‬‬
‫فيتوقف األمر عليه ‪،‬‬
‫فاألمر اإللهي يساوق الخلق اإليجادي في الوجود ‪ ،‬فعين قول كن ‪ ،‬عين قبول الكائن‬
‫للتكوين فيكون ‪ ،‬فالفاء في قوله فيكون جواب أمره كن ‪ ،‬وهي فاء التعقيب ‪ ،‬وليس‬
‫الجواب‬

‫ص ‪152‬‬

‫ص ‪152 :‬‬
‫والتعقيب إال في الرتبة ‪ ،‬وما من ممكن من عالم الخلق إال وله وجهان ‪ :‬وجه إلى سببه‬
‫ّللا تعالى ‪ ،‬فكل حجاب وظلمة تطرأ عليه فمن سببه ‪ ،‬وكل نور وكشف‬ ‫‪ ،‬ووجه إلى ه‬
‫فمن جانب حقه ‪ ،‬وكل ممكن من األمر فال يتصور فيه حجاب ‪ ،‬ألنه ليس له إال وجه‬
‫واحد ‪ ،‬فهو النور المحض ‪ ،‬فعالم الخلق طبيعي ‪ ،‬وعالم األمر أنوار ‪ ،‬والوجه‬
‫الخاص اإللهي الخارج عن الخلق هو األمر اإللهي ‪ ،‬فما كان من الوجه الخاص الذي‬
‫هّلل تعالى في كل موجود يلقي إليه منه ما يشاء ‪ ،‬مما ال يكون لغيره من الوجوه ‪ ،‬فذلك‬
‫ّللا سبحانه يعطي بسبب وهو‬ ‫األمر ‪ ،‬وما كان من غير ذلك الوجه فهو الخلق ‪ ،‬فإن ه‬
‫ّللا في خلقه ‪ ،‬ويعطي بغير سبب ‪ ،‬وهو ما يعطيه من الوجه‬ ‫الذي كتبه القلم من علم ه‬
‫الخاص ‪ ،‬فال تعرف به األسباب وال الخلق ‪ ،‬فعالم األمر هو الوجه الخاص الذي في‬
‫ّللا هو عالم‬
‫عالم الخلق ‪ -‬وجه آخر ‪ -‬كل موجود عند سبب حادث مخلوق مما سوى ه‬
‫الخلق ‪ ،‬فالغيب فيه مستور ‪ ،‬وكل ما لم يوجد عند سبب حادث مخلوق فهو عالم األمر‬
‫ّللا قد‬‫‪ ،‬والكل على الحقيقة عالم األمر ‪ ،‬إال أنا ال يمكننا رفع األسباب من العالم ‪ ،‬فإن ه‬
‫ّللا ‪ ،‬فقوله تعالى ‪ «:‬أَال لَهُ ْالخ َْل ُق »هو كل ما‬
‫وضعها وال سبيل إلى رفع ما وضعه ه‬
‫يوجده عند سبب ‪ ،‬أو بسبب ‪ ،‬كيف شئت قل ‪ ،‬من غير مشافهة األمر التي هي الكلمة‬
‫ّللا بال واسطة إال‬‫‪ ،‬وقوله« َو ْاأل َ ْم ُر »ما ال يوجده بسبب ‪ ،‬أي كل من صدر عن ه‬
‫فاّلل قادر من حيث األمر ‪ ،‬مقتدر من حيث الخلق‬ ‫بمشافهة األمر العزيز مثل الروح ‪ ،‬ه‬
‫‪ ،‬وعالم الخلق وعالم األمر ‪ ،‬خص باالسم الرب دون غيره من قوله تعالى ‪ «:‬ت َ َ‬
‫بار َك‬
‫ّللاُ َربُّ ْالعالَ ِمينَ »إشارة إلى أنه سيد العالم وخالقه ومربيه ‪ .‬واعلم أن األمور التي‬
‫َّ‬
‫يكرهها اإلنسان طبعا وشرعا هي أمور مخصوصة بعالم الخلق والتركيب الطبيعي ال‬
‫بعالم األمر ‪ ،‬فكان عالم الخلق والتركيب يقتضي الشر لذاته لتركيبه من طبائع متنافرة‬
‫‪ ،‬والتنافر هو عين التنازع ‪ ،‬والنزاع أمر مؤد إلى الفساد ‪ ،‬وعالم األمر هو الخير‬
‫الذي ال شر فيه ‪ ،‬فما ظهر من عالم التركيب من الشرور فمن طبيعته ‪ ،‬وما ظهر منه‬
‫من خير فمن روحه اإللهي ‪ ،‬فالشرور كلها مضافة إلى عالم الخلق ‪ ،‬والخير كله‬
‫مضاف إلى عالم األمر ‪ ،‬ولما كان عالم الخلق الموجود من الطبيعة موجودا فيه الفساد‬
‫ّللا‬
‫والتغيير ‪ ،‬ولوال هذا النور الذي من عالم األمر هلك عالم الخلق جملة واحدة ‪ ،‬أمر ه‬
‫ّللا الروح بما يعطيه من‬ ‫سبحانه أن يلجأ إليه بالدعاء في دفع هذه المكاره ‪ ،‬فيؤيد ه‬
‫النور من االسم الرب ليدفع به ما تقع به المضرة من جانب ظلمة الطبع‬
‫‪ -‬إشارة ‪ -‬قال‬

‫ص ‪153‬‬

‫ص ‪153 :‬‬
‫س إِ َّال ِليَ ْعبُد ِ‬
‫ُون )‬ ‫تعالى ‪َ (:‬وما َخلَ ْقتُ ْال ِج َّن َو ْ ِ‬
‫اإل ْن َ‬
‫فجعل العبادة المقصود منه بخلقهم‬
‫ّللاُ ال ِإلهَ ِإ َّال أَنَا فَا ْعبُ ْدنِي )‬
‫وقال تعالى ‪ِ (:‬إنَّنِي أَنَا َّ‬
‫هذا أمر بالعبادة ‪ ،‬فإن كان العبد مطيعا طائعا فقد فاز بوقوع ما قصد له في الخلق‬
‫ّللا رب العالمين ‪ ،‬وأما العاصي فهو مخالف‬ ‫واألمر ‪ ،‬فإن هّلل الخلق واألمر تبارك ه‬
‫ّللا ‪ ،‬فلم يقم بما قصد له من الخلق واألمر ‪.‬‬ ‫ألمر ه‬

‫[ سورة األعراف ( ‪ : ) 7‬آية ‪] 55‬‬


‫ِين ) ‪( 55‬‬ ‫ض ُّرعا ً َو ُخ ْفيَةً ِإنههُ ال يُ ِح ُّ‬
‫ب ا ْل ُم ْعتَد َ‬ ‫ا ْدعُوا َربه ُك ْم ت َ َ‬
‫تضرعا ذلة وفقرا وانكسارا ‪.‬‬

‫[ سورة األعراف ( ‪ : ) 7‬آية ‪] 56‬‬


‫َّللا قَ ِر ٌ‬
‫يب ِم َن‬ ‫ْالحها َوا ْدعُوهُ َخ ْوفا ً َو َط َمعا ً إِ هن َرحْ َمتَ ه ِ‬ ‫سدُوا فِي ْاأل َ ْر ِ‬
‫ض بَ ْع َد إِص ِ‬ ‫َوال ت ُ ْف ِ‬
‫ين ) ‪( 56‬‬ ‫ا ْل ُمحْ ِ‬
‫سنِ َ‬
‫اعلم أن المؤمن من استوى خوفه ورجاؤه ‪ ،‬فهو يدعو ربه خوفا من زوال النعمة ‪،‬‬
‫وطمعا في بقائها ‪ ،‬فال يزال بين شكر وفقر ‪ ،‬فإنه بين نعمة وبالء ‪ ،‬وشدة ورخاء ‪.‬‬

‫[ سورة األعراف ( ‪ : ) 7‬آية ‪] 57‬‬


‫س ْقناهُ ِلبَلَ ٍد‬
‫سحابا ً ثِقاالً ُ‬ ‫َي َرحْ َمتِ ِه َحتهى إِذا أ َقَلهتْ َ‬ ‫ح بُشْرا ً بَ ْي َن يَد ْ‬ ‫الريا َ‬ ‫َو ُه َو الهذِي يُ ْر ِ‬
‫س ُل ِ ّ‬
‫ون (‬ ‫ج ا ْل َم ْوتى لَعَله ُك ْم تَذَك ُهر َ‬ ‫ت كَذ ِلكَ نُ ْخ ِر ُ‬ ‫ت فَأ َ ْن َز ْلنا ِب ِه ا ْلما َء فَأ َ ْخ َرجْ نا ِب ِه ِم ْن ُك ِ ّل الث ه َمرا ِ‬
‫َم ِيّ ٍ‬
‫‪) 57‬‬
‫الريا َح بُ ْشرا ً " ]‬ ‫[ ‪ -‬من باب اإلشارة ال التفسير ‪ُ « -‬ه َو الَّذِي يُ ْر ِس ُل ِ ه‬
‫الريا َح بُ ْشرا ً "وهو بشائر التوفيق«‬ ‫‪-‬من باب اْلشارة ال التفسير –" ُه َو الَّذِي يُ ْر ِس ُل ِ ه‬
‫قاال »‬ ‫سحابا ً ثِ ً‬ ‫ت َ‬ ‫ي َر ْح َمتِ ِه »وهي العناية بعبده« َحتَّى إِذا أَقَلَّ ْ‬ ‫بَيْنَ يَ َد ْ‬
‫ض بَ ْع َد‬ ‫ت »وهو العبد المعتنى به« فَأ َ ْحيَيْنا بِ ِه ْاأل َ ْر َ‬ ‫س ْقناهُ ِلبَلَ ٍد َم ِيه ٍ‬
‫وهو ترادف التوفيق« ُ‬
‫َم ْوتِها »وهو ما يظهر عليه من أنوار القبول والعمل الصالح والتعشق به ‪،‬‬
‫ثم مثهل فقال ‪َ «:‬كذ ِل َك نُ ْخ ِر ُج ْال َم ْوتى لَعَلَّ ُك ْم تَذَ َّك ُرونَ »‬
‫ّللا عليه وسلم في البعث ‪ ،‬أعني حشر‬ ‫يشير بذلك إلى خبر ورد من النبي صلهى ه‬
‫ّللا يجعل السماء تمطر مثل منهي الرجال ‪ -‬الحديث‪- .‬‬ ‫األجسام ‪ ،‬من أن ه‬

‫ص ‪154‬‬

‫ص ‪154 :‬‬
‫[ سورة األعراف ( ‪ : ) 7‬آية ‪]58‬‬
‫ف ْاآليا ِ‬
‫ت‬ ‫ج إِاله نَ ِكدا ً كَذ ِلكَ نُ َ‬
‫ص ِ ّر ُ‬ ‫ج نَباتُهُ ِب ِإ ْذ ِن َر ِبّ ِه َوالهذِي َخبُ َ‬
‫ث ال يَ ْخ ُر ُ‬ ‫ب يَ ْخ ُر ُ‬ ‫َوا ْلبَلَ ُد ال ه‬
‫ط ِيّ ُ‬
‫ون ( ‪) 58‬‬ ‫شك ُُر َ‬ ‫ِلقَ ْو ٍم يَ ْ‬
‫ب يَ ْخ ُر ُج نَباتُهُ ِبإِ ْذ ِن َر ِبه ِه »وليس سوى الموافقة والسمع والطاعة ‪،‬‬ ‫« َو ْالبَلَ ُد َّ‬
‫الط ِيه ُ‬
‫ث »وهو الذي غلبت عليه نفسه والطبع ‪ ،‬وهو معتنى به في‬ ‫لطهارة المحل« َوالَّذِي َخبُ َ‬
‫نفس األمر« ال يَ ْخ ُر ُج إِ َّال نَ ِكدا ً »مثل قوله ‪ :‬إن هّلل عبادا يقادون إلى الجنة بالسالسل ‪،‬‬
‫ط ْوعا ً َو َك ْرها ً »فالبلد الطيب الذي‬ ‫ض َ‬ ‫ت َو ْاأل َ ْر ِ‬ ‫ّلل يَ ْس ُج ُد َم ْن فِي ال َّ‬
‫سماوا ِ‬ ‫‪:‬و ِ َّ ِ‬
‫وقوله تعالى َ‬
‫يخرج نباته بإذن ربه ‪ ،‬هو النفس التي تسارع إلى إجابة الداعي ‪ ،‬وهي من النفوس‬
‫الذين يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون ‪ ،‬وأما الذي خبث فال يخرج إال نكدا ‪،‬‬
‫س ُك ُم الض ُُّّر ِفي ْالبَ ْح ِر‬‫فهي النفس التي تجيب مضطرة مثل من قال فيه تعالى ‪َ (:‬و ِإذا َم َّ‬
‫ض َّل َم ْن ت َ ْدعُونَ ِإ َّال ِإيَّاهُ )‪.‬‬ ‫َ‬

‫[ سورة األعراف ( ‪ : ) 7‬اآليات ‪ 59‬إلى ‪] 62‬‬


‫غ ْي ُرهُ ِإ ِنّي أ َ ُ‬
‫خاف‬ ‫س ْلنا نُوحا ً ِإلى قَ ْو ِم ِه فَقا َل يا قَ ْو ِم ا ْعبُدُوا ه َ‬
‫َّللا ما لَ ُك ْم ِم ْن ِإل ٍه َ‬ ‫لَقَ ْد أ َ ْر َ‬
‫ين ( ‪) 60‬‬‫ضال ٍل ُم ِب ٍ‬ ‫يم ( ‪ ) 59‬قا َل ا ْل َم ََل ُ ِم ْن قَ ْو ِم ِه ِإنها لَنَراكَ فِي َ‬ ‫َذاب يَ ْو ٍم ع َِظ ٍ‬ ‫علَ ْي ُك ْم ع َ‬ ‫َ‬
‫ين ( ‪ ) 61‬أُبَ ِلّغُ ُك ْم ِرساال ِ‬
‫ت‬ ‫ب ا ْلعالَ ِم َ‬‫سو ٌل ِم ْن َر ّ ِ‬ ‫ضاللَةٌ َول ِك ِنّي َر ُ‬‫س ِبي َ‬ ‫قا َل يا قَ ْو ِم لَ ْي َ‬
‫ون ) ‪( 62‬‬ ‫ص ُح لَ ُك ْم َوأ َ ْعلَ ُم ِم َن ه ِ‬
‫َّللا ما ال ت َ ْعلَ ُم َ‬ ‫َر ِبّي َوأ َ ْن َ‬
‫الرسالة موهوبة غير مكسوبة ‪ ،‬وطالبة غير مطلوبة ‪ ،‬وليس لها بدايات ‪ ،‬فتوجد عند‬
‫الغايات ‪.‬‬

‫[ سورة األعراف ( ‪ : ) 7‬اآليات ‪ 63‬إلى ‪] 64‬‬


‫أ َ َوع َِج ْبت ُ ْم أ َ ْن جا َء ُك ْم ِذ ْك ٌر ِم ْن َر ِبّ ُك ْم عَلى َر ُج ٍل ِم ْن ُك ْم ِليُ ْنذ َِر ُك ْم َو ِلتَتهقُوا َولَعَله ُك ْم ت ُ ْر َح ُم َ‬
‫ون (‬
‫ِين َكذهبُوا بِآياتِنا إِنه ُه ْم كانُوا‬ ‫ِين َمعَهُ فِي ا ْلفُ ْل ِك َوأ َ ْغ َر ْقنَا الهذ َ‬ ‫) ‪63‬فَ َكذهبُوهُ فَأ َ ْن َج ْيناهُ َوالهذ َ‬
‫ين) ‪( 64‬‬ ‫قَ ْوما ً ع َِم َ‬

‫ص ‪155‬‬

‫ص ‪155 :‬‬
‫[ ‪ -‬إشارة ‪ -‬الرجل من جعل نفسه سفينة نوح ]‬
‫‪-‬إشارة ‪ -‬الرجل من جعل نفسه سفينة نوح ‪.‬‬

‫[ سورة األعراف ( ‪ : ) 7‬اآليات ‪ 65‬إلى ‪] 72‬‬


‫ون ( ‪) 65‬‬ ‫غ ْي ُر ُه أ َ فَال تَتهقُ َ‬ ‫َو ِإلى عا ٍد أَخا ُه ْم ُهودا ً قا َل يا قَ ْو ِم ا ْعبُدُوا ه َ‬
‫َّللا ما لَ ُك ْم ِم ْن ِإل ٍه َ‬
‫ين ( ‪) 66‬‬ ‫ظنُّكَ ِم َن ا ْلكا ِذبِ َ‬ ‫سفا َه ٍة َوإِنها لَنَ ُ‬ ‫ِين َكفَ ُروا ِم ْن قَ ْو ِم ِه إِنها لَنَراكَ فِي َ‬ ‫قا َل ا ْل َم ََل ُ الهذ َ‬
‫ين ( ‪) 67‬‬ ‫ب ا ْلعالَ ِم َ‬‫سو ٌل ِم ْن َر ّ ِ‬ ‫سفا َهةٌ َول ِك ِنّي َر ُ‬ ‫س بِي َ‬ ‫قا َل يا قَ ْو ِم لَ ْي َ‬
‫ين ( ‪ ) 68‬أ َ َوع َِج ْبت ُ ْم أ َ ْن جا َء ُك ْم ِذ ْك ٌر ِم ْن َر ِبّ ُك ْم‬ ‫ناص ٌح أ َ ِم ٌ‬
‫ت َر ِبّي َوأَنَا لَ ُك ْم ِ‬ ‫أُبَ ِلّغُ ُك ْم ِرساال ِ‬
‫اذك ُُروا ِإ ْذ َجعَلَ ُك ْم ُخلَفا َء ِم ْن بَ ْع ِد قَ ْو ِم نُوحٍ َوزا َد ُك ْم فِي ا ْل َخ ْل ِ‬
‫ق‬ ‫عَلى َر ُج ٍل ِم ْن ُك ْم ِليُ ْنذ َِر ُك ْم َو ْ‬
‫ون ) ‪( 69‬‬ ‫َّللا لَعَله ُك ْم ت ُ ْف ِل ُح َ‬
‫اذك ُُروا آال َء ه ِ‬ ‫ص َطةً فَ ْ‬ ‫بَ ْ‬
‫كان يَ ْعبُ ُد آباؤُنا فَأ ْ ِتنا ِبما ت َ ِعدُنا ِإ ْن ُك ْنتَ ِم َن‬ ‫َّللا َوحْ َد ُه َونَذَ َر ما َ‬ ‫قالُوا أ َ ِجئْتَنا ِلنَ ْعبُ َد ه َ‬
‫ين ) ‪( 70‬‬ ‫صا ِدقِ َ‬‫ال ه‬
‫س هم ْيت ُ ُموها أ َ ْنت ُ ْم‬‫ماء َ‬
‫س ٍ‬ ‫ب أ َ تُجا ِدلُونَنِي فِي أ َ ْ‬ ‫ض ٌ‬‫غ َ‬ ‫س َو َ‬ ‫علَ ْي ُك ْم ِم ْن َر ِبّ ُك ْم ِرجْ ٌ‬ ‫قا َل قَ ْد َوقَ َع َ‬
‫ين ( ‪) 71‬‬ ‫طان فَا ْنت َ ِظ ُروا ِإ ِنّي َمعَ ُك ْم ِم َن ا ْل ُم ْنت َ ِظ ِر َ‬
‫س ْل ٍ‬ ‫َّللاُ ِبها ِم ْن ُ‬ ‫َوآبا ُؤ ُك ْم ما نَ هز َل ه‬
‫ين (‬ ‫ِين َكذهبُوا ِبآياتِنا َوما كانُوا ُم ْؤ ِمنِ َ‬ ‫ِين َمعَهُ ِب َرحْ َم ٍة ِمنها َوقَ َط ْعنا دا ِب َر الهذ َ‬ ‫فَأ َ ْن َج ْيناهُ َوالهذ َ‬
‫‪)72‬‬
‫وها قد حلت بكم المثالت ‪ ،‬وما توعدناكم به عند مخالفتكم آت ‪.‬‬

‫[ سورة األعراف ( ‪ : ) 7‬آية ‪] 73‬‬


‫غ ْي ُرهُ قَ ْد جا َءتْ ُك ْم بَ ِيّنَةٌ‬ ‫َو ِإلى ث َ ُمو َد أَخا ُه ْم صا ِلحا ً قا َل يا قَ ْو ِم ا ْعبُدُوا ه َ‬
‫َّللا ما لَ ُك ْم ِم ْن ِإل ٍه َ‬
‫وء فَيَأ ْ ُخذَ ُك ْم‬ ‫س ٍ‬ ‫سوها ِب ُ‬ ‫َّللا َوال ت َ َم ُّ‬
‫ض هِ‬ ‫ِم ْن َر ِبّ ُك ْم ه ِذ ِه ناقَةُ ه ِ‬
‫َّللا لَ ُك ْم آيَةً فَذَ ُروها تَأ ْ ُك ْل فِي أ َ ْر ِ‬
‫َذاب أ َ ِلي ٌم) ‪( 73‬‬ ‫ع ٌ‬

‫ص ‪156‬‬

‫ص ‪156 :‬‬
‫فال تتعرضوا بالمخالفة لسطوتنا ‪ ،‬وال تستبطئوا عند اعتدائكم نقمتنا ‪.‬‬

‫[ سورة األعراف ( ‪ : ) 7‬اآليات ‪ 74‬إلى ‪] 87‬‬


‫صورا ً‬ ‫س ُهو ِلها قُ ُ‬ ‫ون ِم ْن ُ‬ ‫ض تَت ه ِخذُ َ‬ ‫اذك ُُروا ِإ ْذ َجعَلَ ُك ْم ُخلَفا َء ِم ْن بَ ْع ِد عا ٍد َوبَ هوأ َ ُك ْم فِي ْاأل َ ْر ِ‬ ‫َو ْ‬
‫ِين ( ‪ ) 74‬قا َل‬ ‫سد َ‬ ‫ض ُم ْف ِ‬ ‫َّللا َوال ت َ ْعث َ ْوا ِفي ْاأل َ ْر ِ‬ ‫اذك ُُروا آال َء ه ِ‬ ‫ون ا ْل ِجبا َل بُيُوتا ً فَ ْ‬ ‫َوت َ ْن ِحت ُ َ‬
‫ون أ َ هن صا ِلحا ً‬ ‫ض ِعفُوا ِل َم ْن آ َم َن ِم ْن ُه ْم أ َ ت َ ْعلَ ُم َ‬ ‫ست ُ ْ‬ ‫ِين ا ْ‬ ‫ست َ ْكبَ ُروا ِم ْن قَ ْو ِم ِه ِللهذ َ‬ ‫ِين ا ْ‬ ‫ا ْل َم ََل ُ الهذ َ‬
‫ست َ ْكبَ ُروا إِنها بِالهذِي‬ ‫ِين ا ْ‬ ‫ون ( ‪ ) 75‬قا َل الهذ َ‬ ‫س َل بِ ِه ُم ْؤ ِمنُ َ‬ ‫س ٌل ِم ْن َر ِبّ ِه قالُوا إِنها بِما أ ُ ْر ِ‬ ‫ُم ْر َ‬
‫عت َ ْوا ع َْن أ َ ْم ِر َر ِبّ ِه ْم َوقالُوا يا صا ِل ُح ائْتِنا ِبما‬ ‫ون ( ‪ ) 76‬فَعَقَ ُروا النهاقَةَ َو َ‬ ‫آ َم ْنت ُ ْم ِب ِه كافِ ُر َ‬
‫ين ( ‪) 77‬‬ ‫س ِل َ‬‫ت َ ِعدُنا ِإ ْن ُك ْنتَ ِم َن ا ْل ُم ْر َ‬
‫ين ) ‪( 78‬‬ ‫دار ِه ْم جا ِث ِم َ‬ ‫صبَ ُحوا ِفي ِ‬ ‫الرجْ فَةُ فَأ َ ْ‬ ‫فَأ َ َخذَتْ ُه ُم ه‬
‫ع ْن ُه ْم َوقا َل يا قَ ْو ِم لَقَ ْد أ َ ْبلَ ْغت ُ ُك ْم ِرسالَةَ َر ِبّي َونَصَحْ تُ لَ ُك ْم َول ِك ْن ال ت ُ ِحبُّ َ‬
‫ون‬ ‫فَت َ َولهى َ‬
‫ين) ‪( 79‬‬ ‫اص ِح َ‬ ‫النه ِ‬
‫ين ( ‪) 80‬‬ ‫سبَقَ ُك ْم بِها ِم ْن أ َ َح ٍد ِم َن ا ْلعالَ ِم َ‬ ‫فاحشَةَ ما َ‬ ‫ون ا ْل ِ‬ ‫َولُوطا ً إِ ْذ قا َل ِلقَ ْو ِم ِه أ َ تَأْت ُ َ‬
‫ون ( ‪) 81‬‬ ‫س ِرفُ َ‬ ‫ساء بَ ْل أ َ ْنت ُ ْم قَ ْو ٌم ُم ْ‬ ‫ُون ال ِنّ ِ‬ ‫شه َْوةً ِم ْن د ِ‬ ‫الرجا َل َ‬ ‫ون ِ ّ‬ ‫ِإنه ُك ْم لَتَأْت ُ َ‬
‫ون ( ‪) 82‬‬ ‫ناس يَت َ َط هه ُر َ‬‫واب قَ ْو ِم ِه ِإاله أ َ ْن قالُوا أ َ ْخ ِر ُجو ُه ْم ِم ْن قَ ْريَتِ ُك ْم ِإنه ُه ْم أ ُ ٌ‬ ‫كان َج َ‬ ‫َوما َ‬
‫ين ) ‪( 83‬‬ ‫ام َرأَتَهُ كانَتْ ِم َن ا ْلغا ِب ِر َ‬ ‫فَأ َ ْن َج ْينا ُه َوأ َ ْهلَهُ ِإاله ْ‬
‫ين ( ‪) 84‬‬ ‫كان عاقِبَةُ ا ْل ُمجْ ِر ِم َ‬ ‫ف َ‬ ‫ظ ْر َك ْي َ‬ ‫علَ ْي ِه ْم َم َطرا ً فَا ْن ُ‬ ‫َوأ َ ْم َط ْرنا َ‬
‫غ ْي ُرهُ قَ ْد جا َءتْ ُك ْم بَ ِيّنَةٌ‬ ‫َّللا ما لَ ُك ْم ِم ْن إِل ٍه َ‬ ‫شعَ ْيبا ً قا َل يا قَ ْو ِم ا ْعبُدُوا ه َ‬ ‫َوإِلى َم ْديَ َن أَخا ُه ْم ُ‬
‫ض‬ ‫سدُوا فِي ْاأل َ ْر ِ‬ ‫اس أَشْيا َء ُه ْم َوال ت ُ ْف ِ‬ ‫سوا النه َ‬ ‫يزان َوال ت َ ْب َخ ُ‬ ‫ِم ْن َر ِبّ ُك ْم فَأ َ ْوفُوا ا ْل َك ْي َل َوا ْل ِم َ‬
‫ين ( ‪) 85‬‬ ‫ْالحها ذ ِل ُك ْم َخ ْي ٌر لَ ُك ْم ِإ ْن ُك ْنت ُ ْم ُم ْؤ ِمنِ َ‬ ‫بَ ْع َد ِإص ِ‬
‫َّللا َم ْن آ َم َن ِب ِه َوت َ ْبغُونَها ِع َوجا ً‬ ‫س ِبي ِل ه ِ‬ ‫ُّون ع َْن َ‬ ‫صد َ‬ ‫ُون َوت َ ُ‬ ‫راط تُو ِعد َ‬ ‫َوال ت َ ْقعُدُوا ِب ُك ِ ّل ِص ٍ‬
‫ِين ) ‪َ ( 86‬و ِإ ْن َ‬
‫كان‬ ‫سد َ‬ ‫كان عا ِقبَةُ ا ْل ُم ْف ِ‬ ‫ف َ‬ ‫ظ ُروا َك ْي َ‬ ‫اذك ُُروا ِإ ْذ ُك ْنت ُ ْم قَ ِليالً فَ َكث ه َر ُك ْم َوا ْن ُ‬ ‫َو ْ‬
‫َّللاُ بَ ْينَنا‬
‫صبِ ُروا َحتهى يَحْ ُك َم ه‬ ‫س ْلتُ بِ ِه َوطائِفَةٌ لَ ْم يُ ْؤ ِمنُوا فَا ْ‬ ‫طائِفَةٌ ِم ْن ُك ْم آ َمنُوا بِالهذِي أ ُ ْر ِ‬
‫ين) ‪( 87‬‬ ‫َو ُه َو َخ ْي ُر ا ْلحا ِك ِم َ‬

‫ض ‪157‬‬

‫ص ‪157 :‬‬
‫" َو ُه َو َخي ُْر ْالحا ِك ِمينَ »فإن له الحكم األعم ‪ ،‬يحكم على كل حكم وعلى كل حاكم بكل‬
‫حكم ‪.‬‬

‫[ سورة األعراف ( ‪ : ) 7‬اآليات ‪ 88‬إلى ‪] 89‬‬


‫ِين آ َمنُوا َمعَكَ ِم ْن قَ ْريَ ِتنا‬ ‫ب َوالهذ َ‬ ‫ست َ ْكبَ ُروا ِم ْن قَ ْو ِم ِه لَنُ ْخ ِر َجنهكَ يا ُ‬
‫شعَ ْي ُ‬ ‫قا َل ا ْل َم ََل ُ الهذ َ‬
‫ِين ا ْ‬
‫عدْنا‬ ‫علَى ه ِ‬
‫َّللا َكذِبا ً إِ ْن ُ‬ ‫ين ( ‪ ) 88‬قَ ِد ْ‬
‫افت َ َر ْينا َ‬ ‫أ َ ْو لَتَعُود هُن فِي ِملهتِنا قا َل أ َ َولَ ْو ُكنها ِ‬
‫كار ِه َ‬
‫س َع‬
‫َّللاُ َربُّنا َو ِ‬‫ُون لَنا أ َ ْن نَعُو َد فِيها إِاله أ َ ْن يَشا َء ه‬ ‫َّللاُ ِم ْنها َوما يَك ُ‬ ‫فِي ِملهتِ ُك ْم بَ ْع َد إِ ْذ نَ هجانَا ه‬
‫ق َوأ َ ْنتَ َخ ْي ُر‬ ‫َّللا ت َ َو هك ْلنا َربهنَا ْ‬
‫افتَحْ بَ ْينَنا َوبَ ْي َن قَ ْو ِمنا ِبا ْل َح ّ ِ‬ ‫علَى ه ِ‬‫ش ْي ٍء ِع ْلما ً َ‬ ‫َربُّنا ُك هل َ‬
‫ين ( ‪) 89‬‬ ‫ا ْلفاتِ ِح َ‬
‫ت َخي ُْر ْالفا ِت ِحينَ " لمغاليق غيوبه ‪.‬‬ ‫" َوأ َ ْن َ‬

‫[ سورة األعراف ( ‪ : ) 7‬اآليات ‪ 90‬إلى ‪] 96‬‬


‫ون ( ‪) 90‬‬ ‫س ُر َ‬ ‫ِين َكفَ ُروا ِم ْن قَ ْو ِم ِه لَئِ ِن اتهبَ ْعت ُ ْم ُ‬
‫شعَ ْيبا ً إِنه ُك ْم إِذا ً لَخا ِ‬ ‫َوقا َل ا ْل َم ََل ُ الهذ َ‬
‫شعَ ْيبا ً كَأ َ ْن لَ ْم يَ ْغنَ ْوا‬‫ِين َكذهبُوا ُ‬ ‫ين ( ‪ ) 91‬الهذ َ‬ ‫دار ِه ْم جاثِ ِم َ‬ ‫صبَ ُحوا فِي ِ‬ ‫الرجْ فَةُ فَأ َ ْ‬
‫فَأ َ َخذَتْ ُه ُم ه‬
‫ع ْن ُه ْم َوقا َل يا قَ ْو ِم لَقَ ْد‬‫ين ( ‪ ) 92‬فَت َ َولهى َ‬ ‫س ِر َ‬ ‫شعَ ْيبا ً كانُوا ُه ُم ا ْلخا ِ‬ ‫ِين َكذهبُوا ُ‬ ‫فِي َها الهذ َ‬
‫ين ( ‪) 93‬‬ ‫ف آسى عَلى قَ ْو ٍم كا ِف ِر َ‬ ‫ت َر ِبّي َونَصَحْ تُ لَ ُك ْم فَ َك ْي َ‬ ‫أ َ ْبلَ ْغت ُ ُك ْم ِرساال ِ‬
‫ُون (‬ ‫ض هرع َ‬ ‫اء لَعَله ُه ْم يَ ه‬ ‫ساء َوال ه‬
‫ض هر ِ‬ ‫ي ٍ إِاله أ َ َخ ْذنا أ َ ْهلَها بِا ْلبَأ ْ ِ‬ ‫س ْلنا فِي قَ ْريَ ٍة ِم ْن نَبِ ّ‬ ‫َوما أ َ ْر َ‬
‫‪)94‬‬
‫س هرا ُء‬
‫ض هرا ُء َوال ه‬ ‫س آبا َءنَا ال ه‬ ‫عفَ ْوا َوقالُوا قَ ْد َم ه‬ ‫سنَةَ َحتهى َ‬ ‫س ِيّئ َ ِة ا ْل َح َ‬ ‫ث ُ هم بَ هد ْلنا َم َ‬
‫كان ال ه‬
‫ون ( ‪) 95‬‬ ‫شعُ ُر َ‬ ‫فَأ َ َخ ْذنا ُه ْم بَ ْغتَةً َو ُه ْم ال يَ ْ‬
‫ض َول ِك ْن‬ ‫ماء َو ْاأل َ ْر ِ‬
‫س ِ‬ ‫ت ِم َن ال ه‬ ‫علَ ْي ِه ْم بَ َركا ٍ‬ ‫َولَ ْو أ َ هن أ َ ْه َل ا ْلقُرى آ َمنُوا َواتهقَ ْوا لَفَتَحْ نا َ‬
‫ون) ‪( 96‬‬ ‫سبُ َ‬ ‫َكذهبُوا فَأ َ َخ ْذنا ُه ْم ِبما كانُوا يَ ْك ِ‬

‫ص ‪158‬‬

‫ص ‪158 :‬‬
‫‪ -‬فائدة ‪ -‬لما كان الرسول من الجنس ‪ ،‬ومن عادة الجنس الحسد إذا ظهر التفوق ‪،‬‬
‫وقد ارتفع عن المتشرعين المنكسرة قلوبهم الحسد ‪ ،‬وهم ناظرون إلى الرسول دائما‬
‫ّللا لهم البركات من السماء واألرض‪.‬‬
‫بعين حق مع شهود بشريته ‪ ،‬فتح ه‬

‫[ سورة األعراف ( ‪ : ) 7‬اآليات ‪ 97‬إلى ‪] 99‬‬


‫ون ( ‪ ) 97‬أ َ َوأ َ ِم َن أ َ ْه ُل ا ْلقُرى أ َ ْن‬ ‫أ َ فَأ َ ِم َن أ َ ْه ُل ا ْلقُرى أ َ ْن يَأْتِيَ ُه ْم بَأ ْ ُ‬
‫سنا بَياتا ً َو ُه ْم نائِ ُم َ‬
‫َّللا فَال يَأ ْ َم ُن َم ْك َر ه ِ‬
‫َّللا إِاله ا ْلقَ ْو ُم‬ ‫ون ( ‪ ) 98‬أ َ فَأ َ ِمنُوا َم ْك َر ه ِ‬ ‫ض ًحى َو ُه ْم يَ ْلعَبُ َ‬ ‫سنا ُ‬ ‫يَأْتِيَ ُه ْم بَأ ْ ُ‬
‫ون ( ‪) 99‬‬ ‫س ُر َ‬ ‫ا ْلخا ِ‬

‫[ الطريق إلى العصمة من المكر اإللهي ]‬


‫من أراد الطريق إلى العصمة من المكر اإللهي فليلزم عبوديته في كل حال ولوازمها ‪،‬‬
‫ّللا ‪،‬‬
‫فتلك عالمة على عصمته من مكر ه‬
‫وذلك بأن ال يضع ميزان الشرع من يده وشهود حاله ‪ ،‬وهذه حالة المعصوم ‪ ،‬ويبقى‬
‫كونه ال يأمنه في المستقبل بمعنى أنه ما هو على أمن أن تبقى له هذه الحالة في‬
‫المستقبل إال بالتعريف اإللهي الذي ال يدخله تأويل ‪،‬‬
‫وال يحكم عليه إجمال« فَال يَأ ْ َم ُن َم ْك َر َّ ِ‬
‫ّللا ِإ َّال ْالقَ ْو ُم ْالخا ِس ُرونَ »فال يأمن أحد مكر ه‬
‫ّللا‬
‫حتى الخاصة وخاصة الخاصة ‪،‬‬
‫ّللا في إنعامه ‪ ،‬فإن المكر فيه أخفى منه‬ ‫فينبغي للعاقل أن ال يأمن مكر ه‬

‫ص ‪159‬‬

‫ص ‪159 :‬‬
‫في البالء ‪ ،‬وأدنى المكر فيه أن يرى نفسه مستحقا لتلك النعمة ‪،‬‬
‫ّللا ليس بمحتاج إليها ‪ ،‬فهي له بحكم االستحقاق ‪ ،‬ويغيب‬ ‫وأنها من أجله خلقت ‪ ،‬فإن ه‬
‫عن أن األشياء إنما خلقت له تعالى ‪ ،‬لتسبح بحمده ‪ ،‬وكان انتفاعنا بها بحكم التبعية ال‬
‫بالقصد األول ‪ ،‬فمكر العموم اإللهي هو إرداف النعم على إثر المخالفات ‪ ،‬وزوالها‬
‫عند الموافقات ‪ ،‬وقد يكون المكر اإللهي في حق بعض الناس من الممكور بهم يعطي‬
‫الشقاء وهو في العامة ‪ ،‬وقد يكون يعطي نقصان الحظ وهو المكر بالخاصة وخاصة‬
‫الخاصة ‪ ،‬فالمؤمن ما هو في أمان إال في دار الحيوان ‪ ،‬وأما في هذه الدار فهو في‬
‫محل االختبار ‪ ،‬فإما إلى دار القرار وإما إلى دار البوار ‪ ،‬مما روينا أن جبريل‬
‫ّللا إليهما ما شأنكما تبكيان ؟ فقاال ‪ :‬ال نأمن‬
‫وميكائيل عليهما السالم بكيا ‪ ،‬فأوحى ه‬
‫مكرك ‪ ،‬قال ‪ :‬كذلك فكونا ال تأمنا مكري ‪.‬‬

‫[ سورة األعراف ( ‪ : ) 7‬اآليات ‪ 100‬إلى ‪] 102‬‬


‫ص ْبنا ُه ْم بِذُنُوبِ ِه ْم َونَ ْطبَ ُع‬ ‫ض ِم ْن بَ ْع ِد أ َ ْه ِلها أ َ ْن لَ ْو نَشا ُء أ َ َ‬ ‫ون ْاأل َ ْر َ‬ ‫ِين يَ ِرث ُ َ‬‫أ َ َولَ ْم يَ ْه ِد ِللهذ َ‬
‫علَ ْيكَ ِم ْن أ َ ْنبائِها َولَقَ ْد‬ ‫ص َ‬ ‫ون ( ‪ ) 100‬تِ ْلكَ ا ْلقُرى نَقُ ُّ‬ ‫س َمعُ َ‬ ‫عَلى قُلُو ِب ِه ْم فَ ُه ْم ال يَ ْ‬
‫َّللاُ عَلى‬ ‫ت فَما كانُوا ِليُ ْؤ ِمنُوا ِبما َكذهبُوا ِم ْن قَ ْب ُل كَذ ِلكَ يَ ْطبَ ُع ه‬ ‫سلُ ُه ْم ِبا ْلبَ ِيّنا ِ‬
‫جا َءتْ ُه ْم ُر ُ‬
‫ين (‬‫س ِق َ‬ ‫ع ْه ٍد َو ِإ ْن َو َجدْنا أ َ ْكث َ َر ُه ْم لَفا ِ‬‫ين ( ‪َ ) 101‬وما َو َجدْنا ِأل َ ْكث َ ِر ِه ْم ِم ْن َ‬ ‫ب ا ْلكا ِف ِر َ‬‫قُلُو ِ‬
‫‪) 102‬‬
‫« َوإِ ْن َو َج ْدنا أ َ ْكث َ َر ُه ْم لَفا ِس ِقينَ »أي عن الوفاء بالعهد ‪ ،‬قال تعالى ‪ «:‬أ َ ْوفُوا بِعَ ْهدِي‬
‫ّللا »‪.‬‬ ‫»وقال تعالى ‪َ «:‬ولَقَ ْد كانُوا عا َهدُوا َّ َ‬

‫[ سورة األعراف ( ‪ : ) 7‬اآليات ‪ 103‬إلى ‪] 105‬‬


‫ف َ‬
‫كان‬ ‫ظ ْر َك ْي َ‬ ‫ث ُ هم بَعَثْنا ِم ْن بَ ْع ِد ِه ْم ُموسى ِبآيا ِتنا ِإلى ِف ْرع َْو َن َو َمال ِئ ِه فَ َظلَ ُموا ِبها فَا ْن ُ‬
‫ين (‬‫ب ا ْلعالَ ِم َ‬ ‫سو ٌل ِم ْن َر ّ ِ‬ ‫ِين ) ‪َ ( 103‬وقا َل ُموسى يا فِ ْرع َْو ُن إِ ِنّي َر ُ‬ ‫سد َ‬‫عاقِبَةُ ا ْل ُم ْف ِ‬
‫ي‬ ‫ق قَ ْد ِجئْت ُ ُك ْم بِبَ ِيّنَ ٍة ِم ْن َر ِبّ ُك ْم فَأ َ ْر ِ‬
‫س ْل َم ِع َ‬ ‫َّللا إِاله ا ْل َح ه‬ ‫ق عَلى أ َ ْن ال أَقُو َل َ‬
‫علَى ه ِ‬ ‫‪َ ) 104‬ح ِقي ٌ‬
‫سرائِي َل) ‪( 105‬‬ ‫بَنِي ِإ ْ‬

‫ص ‪160‬‬

‫ص ‪160 :‬‬
‫ّللا إِ َّال ْال َح َّق " فإنه ه‬
‫باّلل يسمع ويبصر وينطق ‪.‬‬ ‫على أ َ ْن ال أَقُو َل َ‬
‫علَى َّ ِ‬ ‫" َح ِق ٌ‬
‫يق َ‬

‫[ سورة األعراف ( ‪ : ) 7‬اآليات ‪ 106‬إلى ‪] 122‬‬


‫ي‬‫ين ( ‪ ) 106‬فَأ َ ْلقى عَصا ُه فَ ِإذا ِه َ‬ ‫صا ِدقِ َ‬‫ت ِبها ِإ ْن ُك ْنتَ ِم َن ال ه‬ ‫قا َل ِإ ْن ُك ْنتَ ِجئْتَ ِبآيَ ٍة فَأ ْ ِ‬
‫ين ( ‪ ) 108‬قا َل ا ْل َم ََل ُ ِم ْن قَ ْو ِم‬ ‫اظ ِر َ‬ ‫ي بَ ْيضا ُء ِللنه ِ‬ ‫ع يَ َد ُه فَ ِإذا ِه َ‬
‫ين ( ‪َ ) 107‬ونَ َز َ‬ ‫بان ُم ِب ٌ‬ ‫ث ُ ْع ٌ‬
‫ون (‬ ‫ع ِلي ٌم ) ‪ ( 109‬يُ ِري ُد أ َ ْن يُ ْخ ِر َج ُك ْم ِم ْن أ َ ْر ِض ُك ْم فَما ذا تَأ ْ ُم ُر َ‬ ‫ساح ٌر َ‬ ‫فِ ْرع َْو َن إِ هن هذا لَ ِ‬
‫‪)110‬‬
‫يم (‬‫ع ِل ٍ‬ ‫ين ) ‪ ( 111‬يَأْت ُوكَ ِب ُك ِ ّل ِ‬
‫ساح ٍر َ‬ ‫ش ِر َ‬ ‫س ْل فِي ا ْل َمدائِ ِن حا ِ‬ ‫قالُوا أ َ ْر ِج ْه َوأَخاهُ َوأ َ ْر ِ‬
‫ين ( ‪ ) 113‬قا َل‬ ‫س َح َرةُ فِ ْرع َْو َن قالُوا ِإ هن لَنا َألَجْ را ً ِإ ْن ُكنها نَحْ ُن ا ْلغا ِل ِب َ‬ ‫‪َ ) 112‬وجا َء ال ه‬
‫ُون نَحْ ُن‬‫ي َو ِإ هما أ َ ْن نَك َ‬ ‫ين ( ‪ ) 114‬قالُوا يا ُموسى ِإ هما أ َ ْن ت ُ ْل ِق َ‬ ‫نَعَ ْم َو ِإنه ُك ْم لَ ِم َن ا ْل ُمقَ هر ِب َ‬
‫ين ) ‪( 115‬‬ ‫ا ْل ُم ْل ِق َ‬
‫يم ( ‪) 116‬‬ ‫ست َ ْر َهبُو ُه ْم َوجا ُؤ بِسِحْ ٍر ع َِظ ٍ‬ ‫اس َوا ْ‬ ‫س َح ُروا أ َ ْعيُ َن النه ِ‬ ‫قا َل أ َ ْلقُوا فَلَ هما أ َ ْلقَ ْوا َ‬
‫ق‬‫ُون ) ‪ ( 117‬فَ َوقَ َع ا ْل َح ُّ‬ ‫ف ما يَأْفِك َ‬ ‫ق عَصاكَ فَ ِإذا ِه َ‬
‫ي ت َ ْلقَ ُ‬ ‫َوأ َ ْو َح ْينا إِلى ُموسى أ َ ْن أ َ ْل ِ‬
‫ين ( ‪) 119‬‬ ‫ون ( ‪ ) 118‬فَغُ ِلبُوا ُهنا ِلكَ َوا ْنقَلَبُوا صا ِغ ِر َ‬ ‫َوبَ َط َل ما كانُوا يَ ْع َملُ َ‬
‫ِين ) ‪( 120‬‬ ‫ساجد َ‬ ‫س َح َرةُ ِ‬ ‫ي ال ه‬ ‫َوأ ُ ْل ِق َ‬
‫ون ) ‪( 122‬‬ ‫هار َ‬‫ب ُموسى َو ُ‬ ‫ين ( ‪َ ) 121‬ر ّ ِ‬ ‫ب ا ْلعالَ ِم َ‬ ‫قالُوا آ َمنها ِب َر ّ ِ‬
‫قالت السحرة ذلك ‪ ،‬أي الذي يدعوان إليه رب موسى وهارون ‪ ،‬فجاءت بذلك لرفع‬
‫االرتياب‪.‬‬

‫‪161‬‬

‫ص ‪161 :‬‬
‫[سورة األعراف ( ‪ : ) 7‬اآليات ‪ 123‬إلى ‪ٍ]127‬‬
‫قا َل فِ ْرع َْو ُن آ َم ْنت ُ ْم ِب ِه قَ ْب َل أ َ ْن آذَ َن لَ ُك ْم إِ هن هذا لَ َم ْك ٌر َمك َْرت ُ ُموهُ فِي ا ْل َمدِينَ ِة ِلت ُ ْخ ِر ُجوا ِم ْنها‬
‫الف ث ُ هم َأل ُ َ‬
‫ص ِلّبَنه ُك ْم‬ ‫طعَ هن أ َ ْي ِديَ ُك ْم َوأ َ ْر ُجلَ ُك ْم ِم ْن ِخ ٍ‬ ‫ون ( ‪َ ) 123‬ألُقَ ِ ّ‬ ‫ف ت َ ْعلَ ُم َ‬ ‫س ْو َ‬‫أ َ ْهلَها فَ َ‬
‫ون ( ‪َ ) 125‬وما ت َ ْن ِق ُم ِمنها ِإاله أ َ ْن آ َمنها ِبآيا ِ‬
‫ت‬ ‫ين ( ‪ ) 124‬قالُوا ِإنها ِإلى َر ِبّنا ُم ْنقَ ِلبُ َ‬ ‫أَجْ َم ِع َ‬
‫ين ( ‪َ ) 126‬وقا َل ا ْل َم ََل ُ ِم ْن قَ ْو ِم‬ ‫س ِل ِم َ‬‫ص ْبرا ً َوت َ َوفهنا ُم ْ‬ ‫علَ ْينا َ‬ ‫َر ِبّنا لَ هما جا َءتْنا َربهنا أ َ ْف ِر ْغ َ‬
‫سنُقَ ِت ّ ُل أ َ ْبنا َء ُه ْم‬ ‫ض َويَذَ َركَ َوآ ِل َهت َكَ قا َل َ‬ ‫سدُوا فِي ْاأل َ ْر ِ‬ ‫فِ ْرع َْو َن أ َ تَذَ ُر ُموسى َوقَ ْو َمهُ ِليُ ْف ِ‬
‫ون ) ‪( 127‬‬ ‫ستَحْ يِي نِسا َء ُه ْم َوإِنها فَ ْوقَ ُه ْم قا ِه ُر َ‬ ‫َونَ ْ‬
‫«‪َ . . .‬ويَذَ َر َك َوآ ِل َهت َ َك »والمعبودين الذين نعبدهم ‪ ،‬وقد قرئ « ويذرك وألهتك »‬
‫سنُقَ ِت ه ُل أَبْنا َء ُه ْم َونَ ْست َ ْح ِيي نِسا َء ُه ْم َو ِإنَّا فَ ْوقَ ُه ْم‬
‫واأللهة العبادة ‪ ،‬أي وعبادتك« قا َل َ‬
‫قا ِه ُرونَ »هذه الصفة في المخلوقين ال تكون قط عن حقيقة ‪ ،‬بل يعلمون عجزهم‬
‫وقصورهم ‪ ،‬وإنما ذلك صورة ظاهرة كبرق الخلب ‪ ،‬وعلى قدر ما يظهر من هذه‬
‫الصفة يتوجه القهر اإللهي والبطش الشديد ‪ [.‬سورة األعراف ( ‪ : ) 7‬آية ‪] 128‬‬
‫ورثُها َم ْن يَشا ُء ِم ْن ِعبا ِد ِه‬ ‫ّلل يُ ِ‬ ‫صبِ ُروا ِإ َّن ْاأل َ ْر َ‬
‫ض ِ َّ ِ‬ ‫اّلل َوا ْ‬ ‫قا َل ُموسى ِلقَ ْو ِم ِه ا ْست َ ِعينُوا بِ َّ ِ‬
‫َو ْالعاقِبَةُ ِل ْل ُمت َّ ِقينَ ) ‪( 128‬‬
‫»فشرك الحق نفسه مع العبد في الفعل ‪ ،‬وأمر الحق‬ ‫ه‬ ‫قال موسى لقومه ‪ «:‬ا ْست َ ِعينُوا ِب َّ ِ‬
‫اّلل‬
‫َّاك نَ ْعبُ ُد‬ ‫باّلل تقريرا للدعوى ‪ ،‬حتى يكون ذلك عن أمره ‪ ،‬وأمثالنا نقول ‪ِ (:‬إي َ‬ ‫باالستعانة ه‬
‫ين )ومثل هذا كله ‪ ،‬تعبدا ‪ ،‬ونثابر عليه بخالف من ال يعلم ‪ ،‬وما قرر‬ ‫َّاك نَ ْست َ ِع ُ‬
‫َوإِي َ‬
‫الحق لعباده هذا إال غيرة ‪ ،‬فيتخذون ذلك عبادة ‪ ،‬ويقولون إذا رجعوا إليه وكان الملك‬
‫هّلل الواحد القهار في موطن الجمع ‪ ،‬وسئلوا عن مثل هذا الشرك الخفي ‪ ،‬يقولون ‪ :‬أنت‬
‫أمرتنا باالستعانة بك ‪ ،‬فأنت قررت لنا أن لنا قوة ننفرد بها ‪ ،‬وإن كان أصلها منك ‪،‬‬
‫ولكن ما لها النفوذ إال بمعونتك ‪،‬‬

‫ص ‪162‬‬

‫ص ‪162 :‬‬
‫ّللا في كونهم جعلوا القوة منه التي‬‫فطلبنا القوة منك ‪ ،‬فإنك ذو القوة المتين ‪ ،‬فيصدقهم ه‬
‫فيهم ‪ ،‬وأنهم رأوا فيها القصور لخاصية المحل ‪ ،‬فما لها نفوذ االقتدار اإللهي إال‬
‫باّلل ] رحمة‬ ‫بمساعدة االقتدار اإللهي ‪ ،‬فشرع لهم سبحانه قول [ ال حول وال قوة إال ه‬
‫باّلل« ِإ َّن‬
‫ص ِب ُروا »على حمل المشاقات والتكاليف بال حول وال قوة إال ه‬ ‫بهم« َوا ْ‬
‫ورثُها َم ْن يَشا ُء ِم ْن ِعبا ِد ِه »فأنت وارث والحق موروث منه ‪ ،‬فإن الحق‬ ‫ْاأل َ ْر َ‬
‫ض ِ َّ ِ‬
‫ّلل يُ ِ‬
‫ما خلق األشياء لنفسه ‪ ،‬وإنما خلقها بعضها لبعض من هذا الوجه ‪ ،‬فخلق الخلق للخلق‬
‫وّللا هو النافع الموجد للمنافع ‪.‬‬
‫ال لنفسه ‪ ،‬فإن المنافع تعود من الخلق على الخلق ‪ ،‬ه‬

‫[ سورة األعراف ( ‪ : ) 7‬اآليات ‪ 129‬إلى ‪] 135‬‬


‫قالُوا أُوذِينا ِم ْن قَ ْب ِل أ َ ْن تَأ ْ ِتيَنا َو ِم ْن بَ ْع ِد ما ِجئْتَنا قا َل عَسى َربُّ ُك ْم أ َ ْن يُ ْه ِلكَ َ‬
‫عد هُو ُك ْم‬
‫س ِن َ‬
‫ين‬ ‫ون ( ‪َ ) 129‬ولَقَ ْد أ َ َخ ْذنا آ َل ِف ْرع َْو َن ِبال ِ ّ‬ ‫ف ت َ ْع َملُ َ‬ ‫ض فَيَ ْن ُ‬
‫ظ َر َك ْي َ‬ ‫ست َ ْخ ِلفَ ُك ْم ِفي ْاأل َ ْر ِ‬‫َويَ ْ‬
‫سنَةُ قالُوا لَنا ه ِذ ِه َوإِ ْن‬ ‫ون ( ‪ ) 130‬فَ ِإذا جا َءتْ ُه ُم ا ْل َح َ‬ ‫ت لَعَله ُه ْم يَذهك ُهر َ‬ ‫ص ِم َن الث ه َمرا ِ‬ ‫َونَ ْق ٍ‬
‫َّللا َول ِك هن أ َ ْكث َ َر ُه ْم ال‬
‫طيه ُروا بِ ُموسى َو َم ْن َمعَهُ أَال إِنهما طائِ ُر ُه ْم ِع ْن َد ه ِ‬ ‫س ِيّئَةٌ يَ ه‬
‫ت ُ ِص ْب ُه ْم َ‬
‫ين (‬‫س َح َرنا ِبها فَما نَحْ ُن لَكَ ِب ُم ْؤ ِمنِ َ‬ ‫ون ) ‪َ ( 131‬وقالُوا َمهْما تَأْتِنا ِب ِه ِم ْن آيَ ٍة ِلت َ ْ‬ ‫يَ ْعلَ ُم َ‬
‫ت‬
‫صال ٍ‬ ‫ت ُمفَ ه‬ ‫ع َوال هد َم آيا ٍ‬ ‫ضفا ِد َ‬ ‫وفان َوا ْل َجرا َد َوا ْلقُ هم َل َوال ه‬ ‫ط َ‬ ‫علَ ْي ِه ُم ال ُّ‬ ‫س ْلنا َ‬‫‪ ) 132‬فَأ َ ْر َ‬
‫ين ) ‪( 133‬‬ ‫ست َ ْكبَ ُروا َوكانُوا قَ ْوما ً ُمجْ ِر ِم َ‬ ‫فَا ْ‬
‫عنها‬ ‫ش ْفتَ َ‬ ‫ع لَنا َربهكَ بِما ع َِه َد ِع ْندَكَ لَئِ ْن َك َ‬ ‫سى ا ْد ُ‬ ‫الرجْ ُز قالُوا يا ُمو َ‬ ‫َولَ هما َوقَ َع َ‬
‫علَ ْي ِه ُم ِ ّ‬
‫الرجْ َز إِلى‬ ‫ع ْن ُه ُم ِ ّ‬ ‫ش ْفنا َ‬ ‫سرائِي َل ( ‪ ) 134‬فَلَ هما َك َ‬ ‫سلَ هن َمعَكَ بَنِي إِ ْ‬ ‫الرجْ َز لَنُ ْؤ ِمنَ هن لَكَ َولَنُ ْر ِ‬ ‫ِّ‬
‫ون) ‪( 135‬‬ ‫أ َ َج ٍل ُه ْم با ِلغُوهُ إِذا ُه ْم يَ ْن ُكث ُ َ‬

‫ص ‪163‬‬

‫ص ‪163 :‬‬
‫كشف ما نزل بالخلق بيد الحق ‪.‬‬

‫[ سورة األعراف ( ‪ : ) 7‬آية ‪] 136‬‬


‫ين ( ‪) 136‬‬ ‫فَا ْنتَقَ ْمنا ِم ْن ُه ْم فَأ َ ْغ َر ْقنا ُه ْم فِي ا ْليَ ِ ّم ِبأَنه ُه ْم َكذهبُوا ِبآياتِنا َوكانُوا َ‬
‫ع ْنها غافِ ِل َ‬
‫[ انتقام إلهي يقع بالعالم ال يكون إال بعد إغضاب ‪] ،‬‬
‫ّللا خلق العالم بالرحمة‬ ‫كل انتقام إلهي يقع بالعالم ال يكون إال بعد إغضاب ‪ ،‬ألن ه‬
‫وليس من شأنها االنتقام ‪ ،‬كما أن الغضب من شأنه االنتقام ‪ ،‬ويظهر االنتقام على‬
‫ميزانه من غير زيادة وال نقصان ‪ ،‬وال يقع االنتقام أبدا إال تطهيرا لمن كان منه‬
‫اإلغضاب ‪ ،‬فلذلك ال يكون االنتقام إلى غير نهاية بل ينتهي الحكم به إلى أجل مسمى‬
‫ألن لها الحكم األبدي الذي ال يتناهى ‪.‬‬ ‫ّللا ‪ ،‬وتعقبه الرحمة به ‪ ،‬ه‬ ‫عند ه‬

‫[ سورة األعراف ( ‪ : ) 7‬اآليات ‪ 137‬إلى ‪] 142‬‬


‫غاربَ َها الهتِي َ‬
‫بار ْكنا فِيها‬ ‫ض َو َم ِ‬ ‫ق ْاأل َ ْر ِ‬ ‫شار َ‬
‫ون َم ِ‬ ‫ضعَفُ َ‬ ‫ِين كانُوا يُ ْ‬
‫ست َ ْ‬ ‫َوأ َ ْو َرثْنَا ا ْلقَ ْو َم الهذ َ‬
‫صنَ ُع‬ ‫صبَ ُروا َو َد هم ْرنا ما َ‬
‫كان يَ ْ‬ ‫سرائِي َل ِبما َ‬ ‫سنى عَلى بَنِي ِإ ْ‬ ‫َوت َ همتْ َك ِل َمتُ َر ِبّكَ ا ْل ُح ْ‬
‫سرائِي َل ا ْلبَحْ َر فَأَت َ ْوا عَلى‬ ‫جاو ْزنا ِببَنِي ِإ ْ‬ ‫ُون ) ‪َ ( 137‬و َ‬ ‫فِ ْرع َْو ُن َوقَ ْو ُمهُ َوما كانُوا يَ ْع ِرش َ‬
‫سى اجْ عَ ْل لَنا ِإلها ً كَما لَ ُه ْم آ ِل َهةٌ قا َل ِإنه ُك ْم قَ ْو ٌم‬ ‫ْنام لَ ُه ْم قالُوا يا ُمو َ‬ ‫ون عَلى أَص ٍ‬ ‫قَ ْو ٍم يَ ْع ُكفُ َ‬
‫ون ) ‪ ( 139‬قا َل أ َ‬ ‫باط ٌل ما كانُوا يَ ْع َملُ َ‬ ‫ُالء ُمتَبه ٌر ما ُه ْم فِي ِه َو ِ‬ ‫ون ( ‪ ) 138‬إِ هن هؤ ِ‬ ‫تَجْ َهلُ َ‬
‫ين ( ‪َ ) 140‬وإِ ْذ أ َ ْن َج ْينا ُك ْم ِم ْن آ ِل فِ ْرع َْو َن‬ ‫علَى ا ْلعالَ ِم َ‬ ‫ضلَ ُك ْم َ‬‫َّللا أ َ ْب ِغي ُك ْم إِلها ً َو ُه َو فَ ه‬ ‫َ‬
‫غ ْي َر ه ِ‬
‫ون نِسا َء ُك ْم َوفِي ذ ِل ُك ْم بَال ٌء ِم ْن َر ِبّ ُك ْم‬ ‫ستَحْ يُ َ‬ ‫ون أ َ ْبنا َء ُك ْم َويَ ْ‬
‫ب يُقَ ِت ّلُ َ‬‫سو َء ا ْلعَذا ِ‬ ‫سو ُمونَ ُك ْم ُ‬ ‫يَ ُ‬
‫ع َِظي ٌم ( ‪)141‬‬
‫ين لَ ْيلَةً َوقا َل ُموسى‬ ‫ين لَ ْيلَةً َوأَتْ َم ْمناها ِبعَش ٍْر فَت َ هم ِميقاتُ َر ِبّ ِه أ َ ْربَ ِع َ‬ ‫عدْنا ُموسى ثَالثِ َ‬ ‫َووا َ‬
‫ِين) ‪( 142‬‬ ‫سد َ‬ ‫س ِبي َل ا ْل ُم ْف ِ‬‫ص ِلحْ َوال تَت ه ِب ْع َ‬ ‫اخلُ ْف ِني ِفي قَ ْو ِمي َوأ َ ْ‬ ‫ون ْ‬ ‫ِأل َ ِخي ِه ُ‬
‫هار َ‬

‫ص ‪164‬‬

‫ص ‪164 :‬‬
‫ع ْدنا ُموسى ثَالثِينَ لَ ْيلَةً »وهو الميقات الموسوي األول ‪ ،‬إال أنه طرأ أمر أخل به‬ ‫" َووا َ‬
‫‪ ،‬فزاد عشرا جبرا لذلك الخلل ‪ ،‬فقال تعالى «‪َ :‬وأَتْ َم ْمناها بِعَ ْش ٍر فَت َ َّم ِميقاتُ َر ِبه ِه أ َ ْربَ ِعينَ‬
‫لَ ْيلَةً‬
‫" [ ‪ -‬إشارة ‪ -‬ضرب الحق لموسى الميقات ليعلم أنه تحت رق األوقات ]‬
‫‪-‬إشارة ‪ -‬ضرب الحق لموسى الميقات ليعلم أنه تحت رق األوقات ‪ ،‬وجاء العدد‬
‫بالليل ولم يجئ بالنهار الحتجاب الحق عن األبصار ‪ ،‬ومقامات الخلفاء ‪ ،‬ومصابيح‬
‫الظلماء ثمانية وعشرون ‪ ،‬وحضراتهم اثنتا عشرة لتتميم األربعين ‪ ،‬وهي منازل‬
‫السالكين فجعله يسلك أربعين مقاما من مغيبات األسرار ‪ ،‬فصح له االتصال عند‬
‫األسحار ‪ ،‬وانتظم بها في شمل أمة محمد الداعي من مقام األرواح ‪ ،‬في تخلقهم‬
‫باألربعين صباح ‪ ،‬وهو ميقات الوارثين ‪ ،‬فشرف بذلك كليم رب العالمين ‪،‬‬
‫ولذلك كان منه مع محمد عليهما السالم في أمر الصالة ما شهر ‪ ،‬ألنه في أمته يطلب‬
‫الرفق بإخوته كما ذكر ‪،‬‬
‫وذلك لما وقع هنالك في حدسه ‪ ،‬أن محمدا عليه السالم سيقول ‪ :‬ال يكمل عبد اإليمان‬
‫ّللا عليه وسلم قال في موسى ‪ :‬لو كان‬ ‫حتى يحب ألخيه ما يحبه لنفسه ‪ ،‬أال تراه صلهى ه‬
‫حيا ما وسعه إال أن يتبعني ‪،‬‬
‫فأوضح لنا المعنى ‪ ،‬وبيهن لنا حقيقة أنه منا‬
‫[ إشارة ‪ -‬اترك الحق خليفتك على أهلك كما قال عليه السالم ‪ :‬اللهم أنت الخليفة في‬
‫األهل ]‬
‫‪-‬إشارة ‪ -‬اترك الحق خليفتك على أهلك كما قال عليه السالم ‪ :‬اللهم أنت الخليفة في‬
‫األهل ‪ ،‬فاستخلف الحق في الحقيقة ‪ ،‬وال تبال حينئذ بمن يختاره من عالم الحس ‪،‬‬
‫فإنك إذا توكلت على الحق واستخلفته ‪ ،‬وفق خليفتك الذي هو في عالم التكليف ‪ ،‬وهي‬
‫ّللا تعالى ‪.‬‬
‫سنة ه‬

‫[ سورة األعراف ( ‪ : ) 7‬آية ‪] 143‬‬


‫ظ ْر ِإلَ ْيكَ قا َل لَ ْن تَرانِي َول ِك ِن‬ ‫ب أ َ ِرنِي أ َ ْن ُ‬
‫َولَ هما جا َء ُموسى ِل ِميقاتِنا َو َكله َمهُ َربُّهُ قا َل َر ّ ِ‬
‫ف تَرانِي فَلَ هما ت َ َجلهى َربُّهُ ِل ْل َجبَ ِل َجعَلَهُ َدكًّا َو َخ هر‬ ‫ست َقَ هر َمكانَهُ فَ َ‬
‫س ْو َ‬ ‫ظ ْر ِإلَى ا ْل َجبَ ِل فَ ِإ ِن ا ْ‬ ‫ا ْن ُ‬
‫ين ) ‪( 143‬‬ ‫س ْبحانَكَ تُبْتُ ِإلَ ْيكَ َوأَنَا أ َ هو ُل ا ْل ُم ْؤ ِمنِ َ‬ ‫فاق قا َل ُ‬ ‫ص ِعقا ً فَلَ هما أ َ َ‬ ‫ُموسى َ‬
‫ّللا يقول ‪َ (:‬وما‬ ‫اعلم أن المناجاة كالم ال مشاهدة فيها ‪ ،‬فإن الحجاب يصحبها ‪ ،‬فإن ه‬
‫ب)‬ ‫راء ِحجا ٍ‬ ‫كانَ ِلبَش ٍَر أ َ ْن يُ َك ِله َمهُ َّ‬
‫ّللاُ إِ َّال َو ْحيا ً أ َ ْو ِم ْن َو ِ‬
‫باّلل ‪،‬‬
‫ّللا موسى ‪ ،‬ولذلك طلب الرؤية ‪ ،‬وموسى عليه السالم من العلماء ه‬ ‫وكذلك كلم ه‬
‫ّللا الرؤية ‪ ،‬فما سألها عليه‬ ‫وقد سأل ه‬

‫ص ‪165‬‬

‫ص ‪165 :‬‬
‫السالم إال من كونها واجبة وجوبا عقليا ‪ ،‬والمعلوم إذا شوهد تعطي مشاهدته أمرا ال‬
‫يمكن أن يحصل من غير مشاهدة ‪ ،‬كما قيل ‪.‬ولكن للعيان لطيف معنى * لذا سأل‬
‫المعاينة الكليمفإنه ليس حكم من شاهد األمور حكم من لم يشاهدها إال باإلعالم ‪،‬‬
‫فللعيان حال ال يمكن أن يعرفه إال صاحب العيان ‪ ،‬كما أن للعلم حاال ال يعرفه إال أولو‬
‫العلم ‪ ،‬ليس لغيرهم فيه ذوق ‪ ،‬وما أسمع الرحمن كالمه بارتفاع الوسائط إال ليتمكن‬
‫االشتياق في السامع إلى رؤية المتكلم ‪ ،‬لما سمعه من حسن الكالم ‪ ،‬فتكون رؤية‬
‫ّللا جميل يحب‬ ‫ّللا عليه وسلم يقول ‪ :‬إن ه‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫المتكلم أشد ‪ ،‬وال سيما ورسول ه‬
‫الجمال ‪ ،‬والجمال محبوب لذاته ‪ ،‬وقد وصف الحق نفسه به ‪ ،‬فشوق النفوس إلى‬
‫ّللا عباده إلى رؤيته بكالمه سدى ‪ ،‬ولوال أن موسى عليه السالم‬ ‫رؤيته ‪ ،‬وما شوق ه‬
‫ّللا بارتفاع الوسائط ما جرأه على طلب الرؤية ما فعل ‪ ،‬فإن‬ ‫فهم من األمر إذ كلمه ه‬
‫ّللا تعالى بارتفاع الوسائط عين الفهم عنه ‪ ،‬فال يفتقر إلى تأويل وفكر في‬ ‫سماع كالم ه‬
‫ّللا بالوسائط من رسول أو كتاب ‪ ،‬فلما كان عين السمع في‬ ‫ذلك ‪ ،‬وإنما يفتقر من كلمة ه‬
‫ّللا ‪،‬‬
‫هذا المقام عين الفهم ‪ ،‬سأل الرؤية ‪ ،‬ليعلم التابع ومن ليست له هذه المنزلة عند ه‬
‫ّللا لموسى أنه اصطفاه على الناس برساالته‬ ‫ّللا ليست بمحال ‪ ،‬وقد شهد ه‬ ‫أن رؤية ه‬
‫وبكالمه ‪ ،‬فهل رآه في وقت سؤاله بالشرط الذي أقامه له كما ورد في نص القرآن(‬
‫ف تَرا ِني )أو لم يره ؟ واآلية محتملة المأخذ ‪،‬‬ ‫ظ ْر ِإلَى ْال َجبَ ِل فَإِ ِن ا ْستَقَ َّر َمكانَهُ فَ َ‬
‫س ْو َ‬ ‫ا ْن ُ‬
‫فإنه ما نفى زمان الحال عن تعلق الرؤية ‪ ،‬وإنما نفى االستقبال بأداة سوف ‪ ،‬وال شك‬
‫ّللا تجلى للجبل وهو محدث ‪ ،‬وتدكدك الجبل لتجليه ‪ ،‬فحصل لنا من هذا رؤية‬ ‫أن ه‬
‫الجبل ربه التي أوجبت له التدكدك ‪ ،‬فقد رآه محدث ‪ ،‬فما المانع أن رآه موسى عليه‬
‫السالم في حال التدكدك ووقع النفي على االستقبال ؟ ما لذلك مانع لمن عقل ‪ ،‬وال‬
‫سيما وقد قام الصعق لموسى عليه السالم مقام التدكدك للجبل ‪ ،‬قال تعالى ‪َ «:‬ولَ َّما جا َء‬
‫ُموسى ِل ِميقا ِتنا َو َكلَّ َمهُ َربُّهُ »لما كلم موسى عليه السالم ربه أدركه الطمع فقال ‪َ «:‬ربه ِ‬
‫ظ ْر إِلَي َْك »فسأله ما يجوز له السؤال فيه ‪ ،‬إذ كانت الرسل أعلم الناس ه‬
‫باّلل ‪،‬‬ ‫أ َ ِرنِي أ َ ْن ُ‬
‫وأنه ذو إدراك يدركه به ‪ ،‬وأنه المدرك باإلدراك ال اإلدراك ‪ ،‬فإنه عالم بأن األبصار‬
‫ال تدركه ‪ ،‬وإنما هي آلة يدرك بها ‪ ،‬فقال ‪َ «:‬ربه ِ أ َ ِرنِي أ َ ْن ُ‬
‫ظ ْر ِإلَي َْك »بعيني ‪ ،‬فإن‬
‫الرؤية بأداة إلى رؤية العين ‪ ،‬فقال له الحق ‪ «:‬لَ ْن تَرانِي »بعينك ‪،‬‬

‫ص ‪166‬‬

‫ص ‪166 :‬‬
‫الن المقصود من الرؤية حصول العلم بالمرئي ‪ ،‬ولم يكن ذاك موطنه ومقامه ‪ ،‬وال‬
‫تزال ترى في كل رؤية خالف ما تراه في الرؤية التي تقدمت ‪ ،‬فال يحصل لك علم‬
‫برؤية أصال في المرئي ‪ ،‬فقال ‪ «:‬لَ ْن تَرانِي »فإني ال أقبل من حيث أنا التنوع ‪ ،‬فإن‬
‫رؤية المرئي تعطي العلم به ‪ ،‬ويعلم الرائي أنه راء أمرا ما ‪ ،‬وقد أحاط علما بما رآه ‪،‬‬
‫والحق ال تنضبط رؤيته ‪ ،‬وما ال ينضبط ال يقال فيه إن الذي رآه عرف أنه رآه ‪ ،‬وال‬
‫تتعجب من طلب موسى عليه السالم رؤية ربه ‪ ،‬فإنه ث هم مقام يقتضي طلب الرؤية ‪،‬‬
‫واإلنسان بحكم الوقت ‪ ،‬ويحتمل أن موسى عليه السالم منع من الرؤية بقوله تعالى ‪«:‬‬
‫لَ ْن تَرانِي »لكونه سألها عن غير أمر إلهي ‪ ،‬فقيل له ‪ «:‬لَ ْن تَرانِي »ثم استدرك‬
‫استدراك لطيف بعبده ‪ ،‬لما انته فيه حد عقوبة فوت األدب بالسؤال ابتداء ‪ ،‬الذي حمله‬
‫عليه شوقه ‪ ،‬فلما علم أن اليأس قد قام به فيما طلبه ‪ ،‬استدرك باإلحالة على الجبل في‬
‫ف تَرا ِني‬ ‫ظ ْر ِإلَى ْال َجبَ ِل فَإِ ِن ا ْستَقَ َّر َمكانَهُ فَ َ‬
‫س ْو َ‬ ‫استقراره ‪ ،‬عند التجلي ‪ ،‬فقال ‪َ «:‬ول ِك ِن ا ْن ُ‬
‫»والجبل من الممكنات« فَلَ َّما ت َ َجلَّى َربُّهُ ِل ْل َجبَ ِل َجعَلَهُ َد ًّكا »اعلم أنه ال يثبت لتجلي‬
‫الحق ‪ ،‬فال بد من تغير الحال ‪ ،‬فإن التجلي اإللهي يورث الخشوع ‪،‬‬
‫ّللا إذا تجلى لشيء خشع له ] فلما تجلى‬ ‫ّللا عليه وسلم ‪ [ :‬إن ه‬ ‫ّللا صلهى ه‬
‫قال رسول ه‬
‫الحق للجبل نقله من حال الشموخ إلى حال الخشوع واالندكاك ‪ ،‬فإن للتجلي النقيضين‬
‫‪ ،‬يمحو ويثبت ‪ ،‬ويوجد ويعدم ‪ ،‬فقال تعالى ‪ «:‬فَلَ َّما ت َ َجلَّى َربُّهُ ِل ْل َجبَ ِل َجعَلَهُ »ذلك‬
‫التجلي« َد ًّكا »فما أعدمه ‪ ،‬ولكنه أزال حاله ونعته ‪ ،‬ولم يزل عينه ‪ ،‬ولكن أزال‬
‫ّللا عن قهره وجبروته ‪ ،‬فإن الجبال ظهرت‬ ‫شموخه وعلوه ‪ ،‬فكان أول جبل أنزله ه‬
‫بصورة القهر حيث س هكنت ميد األرض ‪ ،‬فال تعرف التواضع ‪ ،‬فإنها ما كانت أرضا ثم‬
‫صارت جباال ‪ ،‬فصار جبل موسى بالتدكدك أرضا بعد ما كان جبال ‪ ،‬ولوال العظمة‬
‫التي في نفس الجبل من ربه لما تدكدك لتجلي الرب له ‪ ،‬فإن الذوات ال تؤثر في‬
‫أمثالها ‪ ،‬وإنما يؤثر في األشياء قدرها ومنزلتها في نفس المؤثر فيه ‪ ،‬فعلمه بقدر ذلك‬
‫المتجلي أثر فيه ‪ ،‬ما أثر فيه ما ظهر له ‪ ،‬فإنا نرى الملك إذ دخل في صورة العامة‬
‫ومشى في السوق بين الناس وهم ال يعرفون أنه الملك لم يقم له وزن في نفوسهم ‪ ،‬فإذا‬
‫لقيه في تلك الحالة من يعرفه قامت بنفسه عظمته وقدره ‪ ،‬فأثر فيه علمه به ‪ ،‬وكان‬
‫نظر موسى عليه السالم للجبل في حال شموخه ‪ ،‬وكان التجلي له من الجانب الذي ال‬
‫يلي موسى ‪ ،‬فلما صار دكا ظهر لموسى ما صير الجبل دكا ‪ ،‬فخر موسى صعقا ‪،‬‬
‫فإنه لما كان الجبل حجابا‬

‫ص ‪167‬‬

‫ص ‪167 :‬‬
‫للتجلي ‪ ،‬لم يثبت التجلي ما دام الجبل باقيا ‪ ،‬الذي هو الحجاب ‪ ،‬فلما تدكدك الجبل‬
‫الذي هو الحجاب بقي التجلي بال حجاب ‪ ،‬فرآه موسى فصعق كما صعق الجبل ‪،‬‬
‫وقامت فيه عالمة الرؤية التي قامت في الجبل ‪ ،‬وذلك قوله تعالى ‪َ «:‬وخ ََّر ُموسى‬
‫ص ِعقا ً »فكان الدك للجبل كالصعق لموسى ‪،‬‬ ‫َ‬
‫والذي دك الجبل أصعق موسى ‪ ،‬وما أصعقه إال ما عنده ‪ ،‬أي ما شاهده ‪ ،‬فعلم عند‬
‫ذلك ما لم يكن يعلم من صورة الحق مع العالم ‪ ،‬وال أدري اندك الجبل عن رؤية أو‬
‫عن مقدمة رؤية ‪ ،‬ال بل عن مقدمة رؤية ‪ ،‬وصعق موسى عن تلك المقدمة ‪ ،‬وكان‬
‫ّللا ‪ ،‬فالح له عند تدكدكه األمر الذي‬ ‫موسى عليه السالم ناظرا إلى الجبل طاعة ألمر ه‬
‫جعل الجبل دكا ‪ ،‬فخر موسى صعقا ‪ ،‬وكان هذا من ضروب الوحي لموسى عليه‬
‫السالم ‪،‬‬
‫ّللا إذا تكلم بالوحي كأنه سلسلة على صفوان صعقت المالئكة‬ ‫فإنه ورد في الخبر ‪ :‬أن ه‬
‫ص ِعقا ً »أي ميتا ‪،‬‬‫‪ ،‬ويحتمل أن يكون قوله تعالى ‪َ «:‬وخ ََّر ُموسى َ‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ [ :‬إن أحدكم ال يرى ربه حتى يموت ]‬ ‫ّللا صلهى ه‬
‫قال رسول ه‬
‫فلذلك لما سأله موسى الرؤية أجابه فخر صعقا ‪ ،‬فرآه تعالى في صعقته ‪ ،‬وقد شك‬
‫ّللا عليه وسلم في أمر موسى إذا وجده يوم البعث ‪ ،‬فال يدري‬ ‫ّللا صلهى ه‬
‫رسول ه‬
‫أجوزي بصعقة الطور فلم يصعق في نفخة الصعق ؟ فإن نفخة الصعق ما تعم ‪ ،‬وقد‬
‫صعق بالطور ‪،‬‬
‫فما رآه تعالى حتى مات ‪ ،‬ثم أفاق فعلم من رأى ‪ .‬واعلم أن الحق إذا تجلى في صفة‬
‫ّللا ‪ ،‬كجبل‬ ‫الجبروت لمن تجلى من عباده ‪ ،‬فإن كان المتجلهى له ليس له مدبر غير ه‬
‫ّللا له‬
‫موسى ‪ ،‬تدكدك لتجليه ‪ ،‬فإنه ما فيه غير نفسه ‪ ،‬وإن كان له مدبر قد جعله ه‬
‫كتدبير النفوس الناطقة أبدانها ‪ ،‬لم تتدكدك أجسامها ‪،‬‬
‫لكن أرواحها حكم فيها ذلك التجلي حكمه في الجبل ‪ ،‬فبعد أن كان قائما بتدبير الجسد ‪،‬‬
‫زال عن قيامه ‪ ،‬فظهر حكم الصعق ‪ ،‬في جسد موسى ‪ ،‬وما هو إال إزالة قيام المدبر‬
‫خاصة ‪ ،‬كما زال الجبل عن وتديته ‪ ،‬فزال حكمه إذ زالت جبليته ‪ ،‬كما زال تدبير‬
‫الروح لجسد صاحب الصعق ‪،‬‬
‫إذ زال قيامه به ‪ ،‬ألن موسى ذو روح له حكم في مسك الصورة على ما هي عليه ‪،‬‬
‫وما عدا الحيوان فروحه عين حياته ‪ ،‬ال أمر آخر ‪ ،‬فكان الصعق لموسى مثل الدك‬
‫للجبل الختالف االستعداد ‪ ،‬إذ ليس للجبل روح يمسك عليه صورته ‪ ،‬فزال عن الجبل‬
‫اسم الجبل ‪ ،‬ولم يزل عن موسى بالصعق اسم موسى وال اسم اإلنسان ‪ ،‬فأفاق موسى‬
‫ولم يرجع الجبل جبال بعد دكه ‪ ،‬ألنه ليس له روح يقيمه ‪ ،‬فإن حكم األرواح في‬
‫األشياء ما هو مثل حكم الحياة لها ‪ ،‬فالحياة دائمة في كل شيء ‪ ،‬واألرواح‬

‫ص ‪168‬‬

‫ص ‪168 :‬‬
‫كالوالة ‪ ،‬وقتا يتصفون بالعزل ‪ ،‬ووقتا يتصفون بالوالية ‪ ،‬ووقتا بالغيبة عنها ‪ ،‬مع‬
‫بقاء الوالية ‪ ،‬فالوالية ما دام مدبرا لهذا الجسد الحيواني ‪ ،‬والموت عزله ‪ ،‬والنوم‬
‫غيبته عنه مع بقاء الوالية عليه ‪ ،‬وأفاق موسى بعد صعقته ولم يرجع الجبل إلى وتديته‬
‫لوجود العوض ‪ ،‬وهو غيره من الجبال ‪ ،‬وهذا الجسد الخاص ما له مدبر مخلوق‬
‫ّللا إليه ‪ ،‬فهذا سبب علة‬‫ّللا بالحال مدبره ‪ ،‬فرده ه‬ ‫سوى هذا الروح ‪ ،‬فطلب الجسم من ه‬
‫إفاقة موسى وعدم رجوع الوتدية للجبل ‪ ،‬ألن األرض استغنت عنه بأمثاله ‪ ،‬وفي‬
‫تدكدك الجبل وصعق موسى عليه السالم إشارة لقول العارف ‪ :‬إن المحدث إذا ظهر له‬
‫القديم يمحو أثره ‪ ،‬إذ ال طاقة للمحدث على رؤية القديم ‪ ،‬ولهذا جاء الخبر الصحيح‬
‫اإللهي بأن الحق قد يكون بصر العبد وسمعه ‪ ،‬حتى يثبت لظهور الحق في التجلي أو‬
‫ّللا فكلمه ‪،‬‬ ‫في الكالم ‪ ،‬أال ترى إلى موسى عليه السالم لما كان الحق سمعه ثبت لكالم ه‬
‫فلما وقع التجلي ولم يكن الحق عند ذلك بصر موسى كما كان سمعه صعق ولم يثبت ‪،‬‬
‫ّللا‬
‫فلو كان بصره لثبت ‪ ،‬وكان اندكاك الجبل عن تجلي الحق لكون روحه ما أوجده ه‬
‫لحفظ الصورة على الجبل مثل األرواح المدبرة ‪ ،‬وإنما أوجده ليكون مسبحا له ‪ ،‬فلذلك‬
‫لم تحفظ عليه صورة الجبلية ‪ ،‬وأثر فيه التجلي جعله دكا ‪ ،‬وحفظ روح موسى عليه‬
‫السالم على موسى في صعقته عند رؤية ما رآه الجبل الذي كان حجابا عليه صورة‬
‫نشأته« فَلَ َّما أَفاقَ »‬
‫رجع موسى موسى وما رجع الجبل جبال ‪ ،‬فعلم موسى أنه قد وقع منه ما كان ينبغي‬
‫سبْحان ََك تُبْتُ إِلَي َْك »لما علم أن ه‬
‫ّللا يحب التوابين ‪،‬‬ ‫له أن ال يقع إال بأمر إلهي« قا َل ُ‬
‫قال ‪ :‬رجعت إليك ‪ ،‬أو رجعت إلى الحالة التي لم أكن سألتك فيها الرؤية ‪ ،‬فال أطلب‬
‫رؤيتك على الوجه الذي كنت طلبتها به أوال ‪ ،‬فإني قد عرفت ما لم أكن أعلمه منك «‬
‫َوأَنَا أ َ َّو ُل ْال ُمؤْ ِمنِينَ »على وجهين ‪:‬‬
‫‪ -‬الوجه األول ‪ -‬أول المؤمنين بوقوع هذا الجائز ‪ ،‬إذ ما تقدم ألحد من هذا النوع‬
‫اإلنساني أنه سأل ربه رؤيته ‪ ،‬وال أنه رآه ‪ ،‬فلذلك ادعى موسى أنه أول المؤمنين ‪،‬‬
‫ّللا صلهى‬ ‫فما انحجب موسى عن ربه ‪ ،‬واستصحبته رؤيته إلى أبد األبد ‪ ،‬ثم إن رسول ه‬
‫ّللا عليه وسلم أعلمنا أنه ما من أحد إال سيرى ربه ويكلمه كفاحا ‪ ،‬وأبان صلهى ه‬
‫ّللا‬ ‫ه‬
‫عليه وسلم ألمته عن صورة تجلي الحق لعباده ‪ ،‬ونحن نعلم قطعا أن ذوق الرسل فوق‬
‫ذوق األتباع بما ال يتقارب ‪ ،‬فال تظن أن سؤال موسى رؤية ربه أنه فاقد للرؤية التي‬
‫ّللا قبله‬‫ّللا عنه في قوله ‪ :‬ما رأيت شيئا إال رأيت ه‬ ‫كانت حالة أبي بكر الصديق رضي ه‬
‫‪ ،‬هذه الرؤية ما هي الرؤية التي طلبها موسى من ربه ‪ ،‬فإنها رؤية‬

‫ص ‪169‬‬

‫ص ‪169 :‬‬
‫حاصلة له لعلو مرتبته ‪ ،‬فإن ذوق الصادق ما هو ذوق الصديق ‪ ،‬فالرؤية ثابتة بال‬
‫ّللا تعالى من محارات العقول ‪ ،‬ومما يوقف عندها‬ ‫شك ذوقا ونقال ال عقال ‪ ،‬فإن رؤية ه‬
‫باّلل يكون‬ ‫وال يقطع عليها بحكم من أحكامها الثالثة ‪ ،‬إذ ليس لألنبياء وال لألولياء علم ه‬
‫ّللا عن ذلك ‪ -‬الوجه الثاني «‪َ -‬وأَنَا أ َ َّو ُل ْال ُمؤْ ِمنِينَ »أي‬ ‫عن فكر ‪ ،‬قد طهرهم ه‬
‫ي ‪ ،‬فأنا أول‬ ‫المصدقين بقولك« لَ ْن تَرا ِني »فإنه ما نزل هذا القول ابتداء إال عل ه‬
‫المؤمنين به ‪ ،‬ثم يتبعني في اإليمان به من سمعه إلى يوم القيامة ‪ ،‬فإنك ما قلت ذلك إال‬
‫لي ‪ ،‬وهو خبر ‪ ،‬فلذلك ألحقه باإليمان ال بالعلم ‪ ،‬ولوال ما أراد اإليمان بقوله« لَ ْن‬
‫تَرانِي »ما صحت األولية ‪ ،‬فإن المؤمنين كانوا قبله ‪ ،‬ولكن بهذه الكلمة لم يكن ‪ ،‬فما‬
‫ظهر الحق لطالب الرؤية وال للجبل ‪ ،‬ألنه لو رآه الجبل أو موسى لثبت ‪ ،‬ولم يندك‬
‫وال صعق ‪ ،‬فإنه تعالى الوجود ‪ ،‬فال يعطي إال الوجود ‪ ،‬ألن الخير كله بيديه ‪،‬‬
‫والوجود هو الخير كله ‪ ،‬فلما لم يكن مرئيا أثر الصعق واالندكاك ‪ ،‬ولذلك قلنا إن‬
‫الصعق واالندكاك كانا عن مقدمة الرؤية ‪ ،‬ومن هذه اآلية نفرق بين الرؤية والمشاهدة‬
‫‪ ،‬فالمشاهدة في حضرة التمثل كالتجلي اإللهي في الدار اآلخرة الذي ينكرونه ‪ ،‬فإذا‬
‫تحول لهم في عالمة يعرفونه بها أقروا به وعرفوه ‪ ،‬وهو عين األول المنكور ‪ ،‬وهو‬
‫هذا اآلخر المعروف ‪ ،‬فما أقروا إال بالعالمة ال به ‪ ،‬فالمشاهدة شهود الشاهد الذي في‬
‫القلب من الحق ‪ ،‬وهو الذي قيد بالعالمة ‪ ،‬والرؤية ليست كذلك ‪ ،‬ولهذا قال موسى ‪«:‬‬
‫ظ ْر إِلَي َْك »وما قال أشهدني ‪ ،‬فإنه مشهود له ما غاب عنه ‪ ،‬وكيف يغيب‬ ‫َربه ِ أ َ ِرنِي أ َ ْن ُ‬
‫عن األنبياء وليس يغيب عن األولياء العارفين به ؟ فقال له «‪ :‬لَ ْن تَرانِي »ولم يكن‬
‫ّللا تعالى من موسى ‪ ،‬وإنما أحاله على الجبل لما قد ذكر سبحانه في‬ ‫الجبل بأكرم على ه‬
‫اس َول ِك َّن أ َ ْكث َ َر النَّ ِ‬
‫اس ال يَ ْعلَ ُمونَ‬ ‫ض أ َ ْكبَ ُر ِم ْن خ َْل ِ‬
‫ق النَّ ِ‬ ‫ت َو ْاأل َ ْر ِ‬ ‫قوله ‪ (:‬لَخ َْل ُق ال َّ‬
‫سماوا ِ‬
‫)والجبل من األرض وموسى من الناس فخلق الجبل أكبر من خلق موسى من طريق‬
‫المعنى ‪ ،‬أي نسبة األرض والسماء إلى جانب الحق أكبر من خلق الناس من حيث ما‬
‫فيهم من سماء وأرض ‪ ،‬فإنها في السماء واألرض معنى وصورة ‪ ،‬وهما في الناس‬
‫معنى ال صورة ‪ ،‬والجامع بين المعنى والصورة أكبر في الداللة ممن انفرد بأحدهما ‪،‬‬
‫فجمع الجبل بين الصورة والمعنى ‪ ،‬فهو أكبر من جبل موسى المعنوي ‪ ،‬فإذا كان‬
‫الجامع بين األمرين وهو األقوى واألحق باسم الجبل صار دكا عند التجلي ‪ ،‬فكيف‬
‫يكون موسى حيث جبليته التي هي فيه معنى ال صورة ؟ ولما كانت الرؤية ال تصح‬
‫إال لمن يثبت‬

‫ص ‪170‬‬

‫ص ‪170 :‬‬
‫لها إذا وقعت ‪ ،‬والجبل موصوف بالثبوت في نفسه وباإلثبات لغيره ‪ ،‬إذ كان الجبل هو‬
‫الذي يس هكن ميد األرض ‪ ،‬ويقال فالن جبل من الجبال إذا كان يثبت عند الشدائد‬
‫واألمور العظام ‪ ،‬فلهذا أحاله على الجبل الذي من صفاته الثبوت ‪ ،‬فإن ثبت الجبل إذا‬
‫ّللا ال تطاق * فإنها‬‫تجليت له ‪ ،‬فإنك ستراني من حيث ما فيك من ثبوت الجبل ‪.‬فرؤية ه‬
‫ّللا صلهى ه‬
‫ّللا‬ ‫كلها محاقفلو أطاق الشهود خلق * أطاقه األرض والطباقلهذا قيل لرسول ه‬
‫عليه وسلم ‪ :‬أرأيت ربك ؟ قال نور أنهي أراه ‪ -‬تحقيق ‪ -‬فإن قلت ‪:‬‬
‫ّللا الذين هم أهله لم يزالوا وال يزالون دنيا وآخرة في مشاهدة عينية‬ ‫إنك تزعم أن أهل ه‬
‫وإن اختلفت الصور ‪ ،‬فال يقدح ذلك عندهم ‪ ،‬فموسى أحق بهذه الصفة من الولي ‪ ،‬وقد‬
‫سأل الرؤية ‪ ،‬قلنا ‪ :‬قد ثبت عندك إن كنت مؤمنا ‪ -‬وإن لم تكن من أهل الكشف ‪ -‬أن‬
‫ّللا يتجلى في صورة ويتحول إلى صورة ‪ ،‬وأنه‬ ‫ّللا عليه وسلم قد أخبر أن ه‬ ‫النبي صلهى ه‬
‫يعرف وينكر ‪ ،‬إن كنت مؤمنا ال تشك في هذا ‪ ،‬وأنه قد بيهن أن التجلي في الصور‬
‫بحسب قدر المتجلى له ‪ ،‬فإذا علمت هذا ‪ ،‬تعلم أن موسى قد رأى الحق بما هو متجل‬
‫لألولياء ‪ ،‬إذ علم أنه يتجلى لألولياء في صور مختلفة ‪ ،‬ألن موسى ولي هّلل ‪ ،‬وقد علم‬
‫ذلك ‪ ،‬ومثل هذا فال يخفى ‪ ،‬وإنما سأل التجلي في الصورة التي ال يدركها إال األنبياء‬
‫ّللا بمقام لم ينله غيره ‪ ،‬كالكالم بارتفاع الوسائط لموسى‬
‫‪ ،‬ومن األنبياء من خصه ه‬
‫عليه السالم ‪ ،‬فطلب موسى عليه السالم من ربه أن يراه في تلك الصورة التي يطلبها‬
‫مقامه ‪ ،‬وأما رؤيته إياه في الصورة التي يراها األولياء فذلك خبره وديدنه ‪ ،‬فإن قلت ‪:‬‬
‫قال تعالى ‪ «:‬لَ ْن تَرانِي »ولن تنفي األفعال المستقبلة ‪ ،‬قلنا ‪ :‬إن الحق ما يتجلى‬
‫لمخلوق إال في صورة المخلوق ‪ ،‬إما التي هو عليها في الحال فيعرفه ‪ ،‬أو ما يكون‬
‫ّللا‬
‫عليها بعد ذلك فينكره ‪ ،‬حتى يرى تلك الصورة قد دخل فيها فحينئذ يعرفه ‪ ،‬فإن ه‬
‫علمه وعلم ما يؤول إليه ‪ ،‬والمخلوق ال يعلم من أحواله إال ما هو عليه في الوقت ‪،‬‬
‫فالصورة صورتك ‪ ،‬فصدق« لَ ْن تَرا ِني »واعلم أنه ليس هناك منع بل فيض دائم‬
‫وعطاء غير محظور ‪ ،‬ولو لم يكن المتجلى له على استعداد أظهر له ذلك االستعداد‬
‫هذا المسمى تجليا ‪ ،‬ما صح أن يكون له هذا التجلي ‪ ،‬فالحق متجل دائما ‪ ،‬والقابل‬
‫إلدراك هذا التجلي ال يكون إال باستعداد خاص ‪ ،‬وقد صح له ذلك االستعداد فوقع‬
‫التجلي في حقه ‪ ،‬وال يخلو أن يكون له أيضا‬

‫ص ‪171‬‬

‫ص ‪171 :‬‬
‫استعداد البقاء عند التجلي أو ال يكون له ذلك ‪ ،‬فإن كان له ذلك فال بد أن يبقى ‪ ،‬وإن‬
‫لم يكن له ‪ ،‬فكان له استعداد قبول التجلي ولم يكن له استعداد البقاء ‪ ،‬وال يصح أن‬
‫يكون له ‪ ،‬فإنه ال بد من اندكاك أو صعق أو فناء أو غيبة أو غشية ‪ ،‬فإنه ال يبقى له‬
‫مع الشهود غير ما شهد ‪ ،‬فال تطمع في غير مطمع ‪ ،‬قال بعضهم ‪ :‬شهود الحق فناء‬
‫ما فيه لذة ال في الدنيا وال في اآلخرة ‪ ،‬فليس التفاضل وال الفضل في التجلي ‪ ،‬وإنما‬
‫ّللا لهذا المتجلى له من االستعداد ‪ ،‬وعين حصول التجلي‬‫التفاضل والفضل فيما يعطي ه‬
‫عين حصول العلم ‪ ،‬ال يعقل بينهما بون ‪ ،‬وأما التجلي الذي يكون معه البقاء والعقل‬
‫وااللتذاذ والخطاب والقبول فذلك التجلي الصوري ‪ ،‬ومن لم ير غيره ربما حكم على‬
‫التجلي بذلك مطلقا من غير تقييد‬
‫[ ‪ -‬إشارة ‪ -‬لم سأل موسى عليه السالم الرؤية وهو يعجز عن النظر ؟ ]‬
‫‪-‬إشارة ‪ -‬لم سأل موسى عليه السالم الرؤية وهو يعجز عن النظر ؟ حتى ال يبقى له‬
‫من الميراث أثر ‪ ،‬فإن الرؤية للنبي محمد صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ ،‬وانظر إلى كثرة‬
‫سواد موسى عليه السالم في اآلخرة لقرب نسبته من الرسول عليهما السالم ‪.‬‬

‫[ سورة األعراف ( ‪ : ) 7‬آية ‪] 144‬‬


‫َالمي فَ ُخ ْذ ما آت َ ْيت ُكَ َوك ُْن ِم َن‬ ‫اس ِب ِرساال ِتي َو ِبك ِ‬ ‫علَى النه ِ‬ ‫ص َطفَ ْيت ُكَ َ‬
‫قا َل يا ُموسى ِإ ِنّي ا ْ‬
‫ين ) ‪( 144‬‬ ‫الشها ِك ِر َ‬
‫ّللا لموسى أنه اصطفاه على الناس برساالته وبكالمه ثم قال له «‪ :‬فَ ُخ ْذ ما آت َ ْيت ُ َك‬ ‫فشهد ه‬
‫ّللا على نعمة االصطفاء ونعمة الكالم‬ ‫شا ِك ِرينَ »وال شك أن موسى قد شكر ه‬ ‫َو ُك ْن ِمنَ ال َّ‬
‫ّللا لشكره نعمة رؤيته إياه ‪ -‬إشارة ‪ -‬أمره أن يكون‬ ‫شكرا واجبا مأمورا به ‪ ،‬فيزيده ه‬
‫من الشاكرين ليزيد في القرب والتمكين ‪.‬‬
‫[ سورة األعراف ( ‪ : ) 7‬آية ‪] 145‬‬
‫ش ْي ٍء َم ْو ِع َظةً َوت َ ْف ِصيالً ِل ُك ِ ّل َ‬
‫ش ْي ٍء فَ ُخ ْذها بِقُ هو ٍة َوأْ ُم ْر‬ ‫َو َكت َ ْبنا لَهُ فِي ْاأل َ ْلواحِ ِم ْن ُك ِ ّل َ‬
‫ين «) ‪( 145‬‬ ‫س ِق َ‬ ‫سأ ُ ِري ُك ْم َ‬
‫دار ا ْلفا ِ‬ ‫سنِها َ‬ ‫قَ ْو َمكَ يَأ ْ ُخذُوا بِأَحْ َ‬
‫ظة ً‬‫ش ْيءٍ »وهو اللوح المحفوظ« َم ْو ِع َ‬ ‫واح »ألواح موسى« ِم ْن ُك ِهل َ‬ ‫َو َكتَبْنا لَهُ فِي ْاأل َ ْل ِ‬
‫ش ْيءٍ »ففصلت الكتب المنزلة مجمل اللوح المحفوظ ‪ ،‬وأبانت عن‬ ‫يال ِل ُك ِهل َ‬‫ص ً‬ ‫َوت َ ْف ِ‬
‫موعظته‬

‫ص ‪172‬‬

‫ص ‪172 :‬‬
‫فاللوح المحفوظ هو المعبر عنه بكل شيء في الكتاب العزيز من باب اإلشارة والتنبيه‬
‫ّللا كتبه وصحفه المنزلة على رسله ‪ -‬إشارة ‪ -‬كان في‬ ‫‪ ،‬تسمية إلهية ‪ ،‬ومنه كتب ه‬
‫ّللا عليه وسلم جوامع‬ ‫ألواح موسى عليه السالم تفصيل كل شيء علم ‪ ،‬ولمحمد صلهى ه‬
‫الكلم ‪.‬‬
‫[ سورة األعراف ( ‪ : ) 7‬آية ‪] 146‬‬
‫ق َوإِ ْن يَ َر ْوا ُك هل آيَ ٍة ال يُ ْؤ ِمنُوا‬ ‫ض بِغَ ْي ِر ا ْل َح ّ ِ‬‫ون فِي ْاأل َ ْر ِ‬ ‫ي الهذ َ‬
‫ِين يَت َ َكبه ُر َ‬ ‫ف ع َْن آياتِ َ‬ ‫سأَص ِْر ُ‬‫َ‬
‫ي ِ يَت ه ِخذُوهُ َ‬
‫سبِيالً ذ ِلكَ‬ ‫سبِي َل الغَ ّ‬ ‫سبِيالً َوإِ ْن يَ َر ْوا َ‬ ‫ش ِد ال يَت ه ِخذُوهُ َ‬ ‫الر ْ‬ ‫بِها َوإِ ْن يَ َر ْوا َ‬
‫سبِي َل ُّ‬
‫ين ) ‪( 146‬‬ ‫ع ْنها غافِ ِل َ‬ ‫ِبأَنه ُه ْم َكذهبُوا ِبآياتِنا َوكانُوا َ‬
‫ّللا ما صرف أحدا عن اآليات إال وقد صرفه عن العلم باألمر على ما هو‬ ‫اعلم أن ه‬
‫عليه األمر والشأن ‪ ،‬واآليات التي صرف العبد عنها هي اآليات التي أراها لمن أراها‬
‫في اآلفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق ‪ ،‬فال تكن من الذين صرفوا عن اآليات‬
‫‪ ،‬فإن الذين صرفوا عنها حجبوا بنفوسهم ‪ ،‬فنسبوا إليها ما ليس لها ‪ ،‬فعموا عن اآليات‬
‫‪ ،‬فحلهت بهم اآلفات‬
‫‪ -‬الوجه الثاني ‪ -‬اآلية هنا من حيث كونها معجزة ال من حيث كونها آية فقط ‪ ،‬فإن‬
‫المعجزة إذا كانت مقدورة للبشر ادعي الصرف عنها مطلقا ‪ ،‬فال تظهر إال على يدي‬
‫من هو رسول إلى يوم القيامة ‪ ،‬فإن المعجزات نصبت للخصم األلد الفاقد نور اإليمان‬
‫ق »فمن تكبر من الخلق بغير‬ ‫ض بِغَي ِْر ْال َح ه ِ‬ ‫‪ ،‬لذلك قال تعالى ‪ «:‬الَّذِينَ يَت َ َكب َُّرونَ فِي ْاأل َ ْر ِ‬
‫الحق فما هو كبير في نفس األمر ‪ ،‬وإنما هي دعوى حال ال وجود له في عين المدعي‬
‫‪ ،‬والحق هو الذي له الكبرياء ‪ ،‬فما سمي متكبرا إال لكون الدعوى ما ظهرت إال في‬
‫محل ما له الكبرياء ‪ ،‬فالمتكبر في األرض بغير الحق أجهل الجاهلين ‪ ،‬ألنه وضع‬
‫الكبرياء في غير موضعه ‪،‬‬
‫إذ من شرطه أمران‪:‬‬
‫الواحد ‪ :‬الحق الذي يقبله المخلوق ‪،‬‬
‫والثاني ‪ :‬العلو ‪ ،‬ومن تكبر في األرض بالحق ‪ ،‬فالحق له العلو بالذات والسمو ‪ ،‬لم‬
‫ّللا عنه اآليات ‪ ،‬فيريه إياها تشريفا ‪ ،‬فإذا رآها تبيهن له عين الحق ‪ ،‬فإنه ما‬ ‫يصرف ه‬
‫رآها إال بالحق ‪ ،‬والموفقون هم الذين إذا رأوا سبيل الرشد اتخذوه سبيال ‪ ،‬فيمشي بهم‬
‫إلى السعادة األبدية ‪ ،‬فإنهم نسبوا تكوين اآليات إلى الحق ‪،‬‬
‫وأن قوى سلطان الطبيعة إنما هو في قبولها لما يكونه الحق فيها ‪،‬‬
‫وأما الذين نسبوا التكوين إلى الطبيعة وأضافوه إليها ونسوا الحق بها فأنساهم أنفسهم إذ‬
‫ع ْنها»‬‫صرفهم عن آيات أنفسهم« َوكانُوا َ‬

‫ص ‪173‬‬

‫ص ‪173 :‬‬
‫" غافِ ِلينَ " فللطبيعة القبول ‪ ،‬وللحق الوهب والتأثير ‪.‬‬
‫[ سورة األعراف ( ‪ : ) 7‬اآليات ‪ 147‬إلى ‪] 148‬‬
‫ون (‬‫قاء ْاآل ِخ َر ِة َح ِب َطتْ أَعْمالُ ُه ْم َه ْل يُجْ َز ْو َن ِإاله ما كانُوا يَ ْع َملُ َ‬ ‫ِين َكذهبُوا ِبآياتِنا َو ِل ِ‬‫َوالهذ َ‬
‫وار أ َ لَ ْم يَ َر ْوا أَنههُ ال‬ ‫‪َ )147‬وات ه َخذَ قَ ْو ُم ُموسى ِم ْن بَ ْع ِد ِه ِم ْن ُح ِل ِيّ ِه ْم عِجْ الً َج َ‬
‫سدا ً لَهُ ُخ ٌ‬
‫ين ) ‪( 148‬‬ ‫س ِبيالً ات ه َخذُو ُه َوكانُوا ظا ِل ِم َ‬ ‫يُ َك ِلّ ُم ُه ْم َوال يَ ْهد ِ‬
‫ِيه ْم َ‬
‫أن حب المال يلصق بالقلوب صاغ لهم العجل بمرأى منهم من حليهم‬ ‫لما علم السامري ه‬
‫‪ ،‬لعلمه أن قلوبهم تابعة ألموالهم ‪ ،‬فسارعوا إلى عبادته حين دعاهم إلى ذلك ‪،‬‬
‫وإنما كان عجال ‪ ،‬ألن السامري لما مشى مع موسى عليه السالم في السبعين الذين‬
‫ّللا عنه غطاء بصره ‪،‬‬ ‫مشوا معه ‪ ،‬كشف ه‬
‫فما وقعت عيناه إال على الملك الذي على صورة الثور ‪ ،‬وهو من حملة العرش ‪،‬‬
‫ألنهم أربعة ‪،‬‬
‫واحد على صورة أسد ‪،‬‬
‫وآخر على صورة نسر ‪،‬‬
‫وآخر على صورة ثور ‪،‬‬
‫ورابع على صورة إنسان ‪،‬‬
‫فلما أبصر السامري الثور تخيل أنه إله موسى الذي يكلمه ‪ ،‬فصور لهم العجل وقال‬
‫‪ «:‬هذا إِل ُه ُك ْم َوإِلهُ ُموسى »وصاغه من حليهم ليتبع قلوبهم أموالهم ‪ ،‬لعلمه أن المال‬
‫حبه منوط بالقلب ‪ ،‬وعلم أن حب المال يحجبهم أن ينظروا فيه ‪ ،‬هل يضر أو ينفع أو‬
‫يرد عليهم قوال إذا سألوه ؟‬
‫وقال لهم هارون ‪ (:‬يا قوم إنما فتنتم به ) أي اختبرتم به لتقوم الحجة هّلل عليكم إذا‬
‫سئلتم ( وإن ربكم الرحمن ) ومن رحمته بكم أن أمهلكم ورزقكم مع كونكم اتخذتم إلها‬
‫تعبدونه غيره سبحانه ‪،‬‬
‫ثم قال لهم ‪ (:‬فَاتَّبِعُونِي ) *لما علم أن في اتباعهم إياه الخير( َوأ َ ِطيعُوا أ َ ْم ِري )لكون‬
‫موسى عليه السالم أقامه فيهم نائبا عنه ‪،‬‬
‫علَ ْي ِه )يريدون عبادة العجل ( عاكفين ) أي مالزمين( َحتَّى يَ ْر ِج َع‬ ‫فقالوا ‪ (:‬لَ ْن نَب َْر َح َ‬
‫ِإلَيْنا ُموسى ) الذي بعث إلينا وأمرنا باإليمان به ‪ ،‬فحجبهم هذا النظر أن ينظروا فيما‬
‫أمرهم به هارون عليه السالم ‪،‬‬
‫وأما الخوار فإنه من األثر المقبوض من وطء الروح ‪ ،‬فقبض السامري من أثر جبريل‬
‫لما علم أن الروح تصحبه الحياة حيث ح هل ‪ ،‬فرمى ما قبضه في العجل فخار العجل‬
‫بذلك األثر المقبوض ‪ ،‬ولو رماه في شكل فرس لصهل ‪ ،‬أو شكل إنسان نطق ‪ ،‬فإن‬
‫االستعداد لما ظهر بالحياة إنما كان للقابل‪.‬‬

‫ص ‪174‬‬

‫ص ‪174 :‬‬
‫[سورة األعراف ( ‪ : ) 7‬اآليات ‪ 149‬إلى ‪] 150‬‬
‫ضلُّوا قالُوا لَئِ ْن لَ ْم يَ ْر َح ْمنا َربُّنا َويَ ْغ ِف ْر لَنا لَنَكُونَ هن‬ ‫ِيه ْم َو َرأ َ ْوا أَنه ُه ْم قَ ْد َ‬ ‫س ِق َط فِي أ َ ْيد ِ‬ ‫َولَ هما ُ‬
‫سما‬ ‫سفا ً قا َل ِبئْ َ‬ ‫بان أ َ ِ‬
‫ض َ‬ ‫غ ْ‬ ‫ين ( ‪َ ) 149‬ولَ هما َر َج َع ُموسى ِإلى قَ ْو ِم ِه َ‬ ‫س ِر َ‬ ‫ِم َن ا ْلخا ِ‬
‫ح َوأ َ َخذَ ِب َرأْ ِس أ َ ِخي ِه يَ ُج ُّر ُه ِإلَ ْي ِه قا َل‬‫َخلَ ْفت ُ ُمونِي ِم ْن بَ ْعدِي أ َ ع َِج ْلت ُ ْم أ َ ْم َر َر ِبّ ُك ْم َوأ َ ْلقَى ْاأل َ ْلوا َ‬
‫ي ْاألَعْدا َء َوال تَجْ عَ ْل ِني َم َع‬ ‫ضعَفُو ِني َوكادُوا يَ ْقتُلُونَ ِني فَال تُش ِْمتْ ِب َ‬ ‫ست َ ْ‬‫ا ْب َن أ ُ هم ِإ هن ا ْلقَ ْو َم ا ْ‬
‫ين ( ‪) 150‬‬ ‫ظا ِل ِم َ‬ ‫ا ْلقَ ْو ِم ال ه‬
‫غضْبانَ »على قومه« أ َ ِسفا ً‬ ‫« َولَ َّما َر َج َع ُموسى ِإلى قَ ْو ِم ِه »وجدهم قد فعلوا ما فعلوا« َ‬
‫سما َخلَ ْفت ُ ُمونِي ِم ْن بَ ْعدِي »لما ترك‬ ‫»عليهم لما فعلوه من اتخاذهم العجل إلها« قا َل بِئْ َ‬
‫موسى قومه خلفه وسار إلى ربه سماهم خلفاء ‪ ،‬وما استخلفهم ولكنه تركهم خلفه « أ َ‬
‫ع ِج ْلت ُ ْم أ َ ْم َر َر ِبه ُك ْم َوأ َ ْلقَى ْاأل َ ْلوا َح " من يده" َوأ َ َخذَ ِب َرأْ ِس أ َ ِخي ِه يَ ُج ُّرهُ ِإلَ ْي ِه "عقوبة له بتأنيه‬ ‫َ‬
‫في قومه ‪ ،‬ولو لم يلق موسى األلواح ما أخذ برأس أخيه ‪ ،‬فإن في نسختها الهدى‬
‫والرحمة تذكرة لموسى ‪ ،‬فكان يرحم أخاه بالرحمة ‪ ،‬وتتبين مسألته مع قومه بالهدى ‪،‬‬
‫فناداه هارون عليه السالم بأمه ‪ ،‬فإنها محل الشفقة والحنان« قا َل ا ْبنَ أ ُ َّم »ال تأخذ‬
‫ضعَفُونِي َوكادُوا يَ ْقتُلُونَنِي »‬ ‫بلحيتي وال برأسي« ِإ َّن ْالقَ ْو َم ا ْست َ ْ‬
‫كما قال له أيضا ( ِإ ِنهي َخ ِشيتُ ) لما وقع ما وقع من قومك ‪ ،‬أن تلومني على ذلك ‪،‬‬
‫ت بَيْنَ بَ ِني ِإسْرا ِئي َل َولَ ْم ت َ ْرقُبْ ) أي تلزم ( قَ ْو ِلي ) الذي أوصيتك به‬ ‫وتقول ‪ (:‬فَ َّر ْق َ‬
‫الظا ِل ِمينَ "فهذا هارون الخليفة العلي ‪،‬‬ ‫ي ْاألَعْدا َء َوال ت َ ْجعَ ْلنِي َم َع ْالقَ ْو ِم َّ‬ ‫ت بِ َ‬ ‫" فَال ت ُ ْش ِم ْ‬
‫المنيع السني ‪ ،‬سقاه كأس الذل ‪ ،‬من أوى إلى الظل ‪ ،‬فناداه بذات الرحم ‪ ،‬وقد علم أنه‬
‫ّللا إال من رحم ‪ ،‬فسوى بينهما في النور والضياء ‪ ،‬وتبرزا‬ ‫ال عاصم اليوم من أمر ه‬
‫في صدر الخلفاء‬
‫[ ‪ -‬إشارة ‪ -‬أتعرف ما جزاء من استخلف في مقام اإلحسان ؟ ]‬
‫‪-‬إشارة ‪ -‬أتعرف ما جزاء من استخلف في مقام اإلحسان ؟‬
‫أن يأخذ بلحيته كليم الرحمن ‪ ،‬أي أن العبد ما دام في عبوديته ‪ ،‬كانت السالمة له‬
‫مصاحبة ‪ ،‬فإذا قبل النيابة في الخالفة فقد تلبسها وظهر بأوصافها ‪ ،‬وأبطن عبوديته ‪،‬‬
‫فحينئذ يبتلى بمن يأخذ بلحيته لالختبار‬
‫‪ -‬إشارة ‪ -‬ال شك أن هارون عليه السالم أعلى رتبة ممن قال من العارفين ‪ :‬إن‬

‫ص ‪175‬‬

‫ص ‪175 :‬‬
‫[في ان الوجود ينعدم في حقهم ]‬
‫ّللا وال يبقى للعالم عندهم ما يلتفتون به إليه في‬ ‫الوجود ينعدم في حقهم ‪ ،‬فال يرون إال ه‬
‫ّللا ‪ ،‬ومع ذلك فقد أخبرنا الحق عنه أنه قال ألخيه موسى في وقت غضبه« فَال‬ ‫جنب ه‬
‫ي ْاألَعْدا َء »فجعل لهم قدرا ‪ ،‬وهذا هو الواقع ‪ ،‬ألن العالم ما زال عند من زال‬ ‫ت ِب َ‬ ‫ت ُ ْش ِم ْ‬
‫عندهم في نفس األمر ‪ ،‬فنقصهم من العلم بما هو األمر عليه على قدر ما فاتهم ‪،‬‬
‫فعندهم عدم العالم ‪ ،‬فنقصهم من الحق على قدر ما انحجب عنهم من العالم ‪ ،‬فإن العالم‬
‫كله هو عين تجلي الحق لمن عرف الحق ‪ ،‬ثم رد موسى عليه السالم وجهه إلى‬
‫ي )فقال له السامري ما رآه‬ ‫سام ِر ُّ‬
‫َطبُ َك )أي ما حديثك( يا ِ‬ ‫السامري فقال له ‪ (:‬فَما خ ْ‬
‫من صورة الثور الذي هو أحد حملة العرش ‪ ،‬فظن أنه إله موسى الذي يكلمه ‪ ،‬فلذلك‬
‫صنعت لهم العجل ‪ ،‬وعلمت أن جبريل ما يمر بموضع إال حيي به ‪ ،‬ألنه روح ‪،‬‬
‫فلذلك قبضت من أثره ‪ ،‬لعلمه بتلك القبضة ‪ ،‬فنبذتها في العجل فخار ‪ ،‬فما فعله‬
‫السامري إال عن تأويل فض هل وأض هل ‪ ،‬وقبل موسى عليه السالم عذر أخيه ‪ ،‬وأما‬
‫الذين عبدوا العجل فما أعطوا النظر الفكري حقه لالحتمال الداخل في القصة ‪ ،‬فما‬
‫عذرهم الحق ‪ ،‬وال وفهى عابدوه النظر في ذلك ‪.‬‬
‫[ سورة األعراف ( ‪ ) : 7‬آية ‪] 151‬‬
‫ين ( ‪) 151‬‬ ‫اح ِم َ‬ ‫ب ا ْغ ِف ْر ِلي َو ِأل َ ِخي َوأَد ِْخ ْلنا ِفي َرحْ َم ِتكَ َوأ َ ْنتَ أ َ ْر َح ُم ه‬
‫الر ِ‬ ‫قا َل َر ّ ِ‬
‫اح ِمينَ »بعباده ‪.‬‬ ‫ت أ َ ْر َح ُم َّ‬
‫الر ِ‬ ‫« َوأ َ ْن َ‬

‫[ سورة األعراف ( ‪ : ) 7‬اآليات ‪ 152‬إلى ‪] 154‬‬


‫ب ِم ْن َر ِبّ ِه ْم َو ِذلهةٌ فِي ا ْل َحيا ِة ال ُّد ْنيا َوكَذ ِلكَ نَجْ ِزي‬ ‫ض ٌ‬ ‫سيَنالُ ُه ْم َ‬
‫غ َ‬ ‫ِين ات ه َخذُوا ا ْلعِجْ َل َ‬
‫ِإ هن الهذ َ‬
‫ت ث ُ هم تابُوا ِم ْن بَ ْعدِها َوآ َمنُوا ِإ هن َربهكَ ِم ْن‬ ‫ِين ع َِملُوا ال ه‬
‫س ِيّئا ِ‬ ‫ين ( ‪َ ) 152‬والهذ َ‬ ‫ا ْل ُم ْفت َ ِر َ‬
‫س َخ ِتها‬
‫ح َو ِفي نُ ْ‬ ‫ب أ َ َخذَ ْاأل َ ْلوا َ‬ ‫سى ا ْلغَ َ‬
‫ض ُ‬ ‫سكَتَ ع َْن ُمو َ‬ ‫ور َر ِحي ٌم ( ‪َ ) 153‬ولَ هما َ‬ ‫بَ ْعدِها لَغَفُ ٌ‬
‫ون ) ‪( 154‬‬ ‫دى َو َرحْ َمةٌ ِللهذ َ‬
‫ِين ُه ْم ِل َر ِبّ ِه ْم يَ ْر َهبُ َ‬ ‫ُه ً‬
‫لما سكن عن موسى الغضب أخذ األلواح ‪ ،‬فما وقعت عيناه مما كتب فيها إال على‬
‫الهدى والرحمة ‪ ،‬فإنه بالض هد يزول الضد ‪،‬‬
‫ت‬‫فقال ‪َ «:‬ربه ِ ا ْغ ِف ْر ِلي َو ِأل َ ِخي َوأ َ ْد ِخ ْلنا فِي َر ْح َمتِ َك َوأ َ ْن َ‬

‫ص ‪176‬‬

‫ص ‪176 :‬‬
‫اح ِمينَ »ومن لم يلزم األدب الشرعي لم يغضب هّلل ‪ ،‬والغضب هّلل أسلم‬ ‫أ َ ْر َح ُم َّ‬
‫الر ِ‬
‫وأنجى وأحسن باإلنسان ‪ ،‬فإن فيه لزوم األدب المشروع ‪ ،‬ولما كان الغضب في أصل‬
‫جبلة اإلنسان ‪ ،‬كالجبن والحرص والشره ‪ ،‬بيهن الحق له مصارف إذا وقع من العبد‬
‫واتصف به ‪ ،‬وللتسليم محال ومواضع قد شرعت ‪ ،‬التزم بها األدباء ‪ ،‬حاال وغاب‬
‫عنها أصحاب األحوال ‪ ،‬ولعدم التسليم محال ومواضع قد شرعت ‪ ،‬فاألديب هو‬
‫الواقف من غير حكم حتى يحكم الشارع الحق ‪ ،‬وهو خير الحاكمين ‪ ،‬فإذا وقف‬
‫األديب حيث حكم ال يزيد وال ينقص ‪ ،‬والغضب صفة باطنة في اإلنسان قد يكون لها‬
‫أثر في الظاهر وقد ال يكون ‪ ،‬فإن الحال أغلب ‪ ،‬واألحوال يعلو بعضها على بعض‬
‫ّللا ‪ ،‬فالطبع البشري يقتضي‬‫في القهر والغلبة على من قامت بهم ‪ ،‬وأما الغضب لغير ه‬
‫الغضب والرضى ‪،‬‬
‫ّللا صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ [ :‬إنما أنا بشر أغضب كما يغضب البشر‬ ‫يقول رسول ه‬
‫وأرضى كما يرضى البشر ]‬
‫– الحديث‬

‫[ سورة األعراف ( ‪ : ) 7‬آية ‪] 155‬‬


‫شئْتَ‬‫ب لَ ْو ِ‬ ‫الرجْ فَةُ قا َل َر ّ ِ‬ ‫ين َر ُجالً ِل ِميقا ِتنا فَلَ هما أ َ َخذَتْ ُه ُم ه‬
‫س ْب ِع َ‬ ‫تار ُموسى قَ ْو َمهُ َ‬ ‫اخ َ‬ ‫َو ْ‬
‫ي إِاله فِتْنَت ُكَ ت ُ ِض ُّل بِها َم ْن‬ ‫سفَها ُء ِمنها إِ ْن ِه َ‬ ‫اي أ َ ت ُ ْه ِلكُنا بِما فَعَ َل ال ُّ‬
‫أ َ ْهلَ ْكت َ ُه ْم ِم ْن قَ ْب ُل َوإِيه َ‬
‫ين ( ‪) 155‬‬ ‫ار َح ْمنا َوأ َ ْنتَ َخ ْي ُر ا ْلغافِ ِر َ‬ ‫تَشا ُء َوت َ ْه ِدي َم ْن تَشا ُء أ َ ْنتَ َو ِليُّنا فَا ْغ ِف ْر لَنا َو ْ‬
‫ي ِإ َّال فِتْنَت ُ َك »أي‬ ‫ّللا عنا موسى عليه السالم خيرا ‪ ،‬إذ ترجم عنا بقوله ‪ِ «:‬إ ْن ِه َ‬ ‫جزى ه‬
‫ض ُّل ِبها َم ْن تَشا ُء »أي تحيره« َوت َ ْهدِي َم ْن تَشا ُء‬ ‫اختبارك ‪ ،‬اختبرت بها عبادك« ت ُ ِ‬
‫ت َخي ُْر ْالغافِ ِرينَ‬ ‫ار َح ْمنا َوأ َ ْن َ‬
‫ت َو ِليُّنا فَا ْغ ِف ْر لَنا َو ْ‬ ‫»أي تبين له طريق نجاته فيها «أ َ ْن َ‬
‫»بستر جالله ‪ ،‬وأي غفر أشد من حيرة العقول ‪ ،‬وما خاطب الحق إال العقول ‪،‬‬
‫ونصب أدلتها متقابلة ‪ ،‬فما أثبته دليل نفاه اآلخر ‪ ،‬فاختبرت عبادك باألدلة ‪ ،‬وما ثم‬
‫دليل يوصل إليك ‪.‬‬

‫[ سورة األعراف ( ‪ : ) 7‬آية ‪] 156‬‬


‫سنَةً َوفِي ْاآل ِخ َر ِة ِإنها ُهدْنا ِإلَ ْيكَ قا َل عَذا ِبي أ ُ ِص ُ‬
‫يب ِب ِه َم ْن‬ ‫َوا ْكت ُ ْب لَنا فِي ه ِذ ِه ال ُّد ْنيا َح َ‬
‫الزكاةَ َوالهذ َ‬
‫ِين ُه ْم‬ ‫ون ه‬ ‫سأ َ ْكتُبُها ِللهذ َ‬
‫ِين يَتهقُو َن َويُ ْؤت ُ َ‬ ‫ش ْي ٍء فَ َ‬‫سعَتْ ُك هل َ‬ ‫أَشا ُء َو َرحْ َم ِتي َو ِ‬
‫ون) ‪( 156‬‬ ‫بِآياتِنا يُ ْؤ ِمنُ َ‬

‫ص ‪177‬‬

‫ص ‪177 :‬‬
‫سنَةً َوفِي ْاآل ِخ َرةِ إِنَّا ُه ْدنا إِلَي َْك »رجعنا عما كنا عليه من‬
‫" َوا ْكتُبْ لَنا فِي ه ِذ ِه ال ُّد ْنيا َح َ‬
‫مخالفتك ‪ ،‬من حال البطر واألشر وكفران النعم ‪ ،‬إلى حال التوبة واالفتقار"‬

‫يب ِب ِه َم ْن أَشا ُء »ثم قال تعالى مبالغة في الرحمة الواجبة واالمتنانية‬ ‫ص ُ‬ ‫عذا ِبي أ ُ ِ‬‫قا َل َ‬
‫ش ْيءٍ » ]‬‫ت ُك َّل َ‬ ‫[ « َو َر ْح َم ِتي َو ِسعَ ْ‬
‫ش ْيءٍ »وهي رحمة االمتنان ‪ ،‬وهي الرحمة العامة التي يرحم‬ ‫ت ُك َّل َ‬ ‫«‪َ :‬و َر ْح َمتِي َو ِسعَ ْ‬
‫ّللا‬
‫ّللا بها العالم من عين المنة ‪ ،‬ال الرحمة الواجبة المخصوصة ‪ ،‬فإن الرحمة جعلها ه‬ ‫ه‬
‫لخلقه ‪ ،‬فمنا من تفيض عليه الرحمة من خزائن الوجوب ‪ ،‬ومنا من تفيض عليه‬
‫الرحمة من خزائن المنن ‪ ،‬فالكل طامع ‪ ،‬والمطموع فيه واسع( ِإ َّن َرب ََّك وا ِس ُع ْال َم ْغ ِف َرةِ‬
‫)أترى هذه السعة الربانية تضيق عن شيء وهي لم تضق عن الممكنات إذ كانت في‬
‫الشر المحض وهو العدم ؟ فكيف تضيق عن الممكنات إذ هي في الشر المشوب ؟‬
‫ّللا يحيا‬ ‫ش ْيءٍ »وجد ويوجد إلى غير نهاية ‪ ،‬فبرحمة ه‬ ‫ت ُك َّل َ‬ ‫فقوله تعالى «‪َ :‬و ِسعَ ْ‬
‫ّللا ‪ ،‬فالرحمة شاملة ‪ ،‬وهي في كل موطن بحسب ذلك‬ ‫ويرزق كل موجود سوى ه‬
‫الموطن ‪ ،‬فأثرها في النار بخالف أثرها في الجنة ‪ ،‬فوسعت كل شيء من مكروه‬
‫ّللا تشمله‬ ‫وغيره ‪ ،‬وغضب وغيره ‪ ،‬فما في العالم عين قائمة وال حال إال ورحمة ه‬
‫وتحيط به ‪ ،‬وهي محل له ‪ ،‬وال ظهور له إال فيها ‪ ،‬والرحمة حكم ال عين ‪ ،‬فإنها لو‬
‫كانت عينا وجودية النتهت وضاقت عن حصول ما ال يتناهى فيها وإنما هي حكم‬
‫يحدث في الموجودات بحدوث أعيان الموجودات ‪ ،‬وغضبه تعالى شيء ‪ ،‬فقد وسعته‬
‫الرحمة وحصرته وحكمت عليه ‪ ،‬فال يتصرف إال بحكمها ‪ ،‬فترسله إذا شاءت ‪،‬‬
‫وتمسكه إذا شاءت ‪ ،‬ومن ذلك أن مالئكة العذاب قد وسعتهم الرحمة كسائر األشياء ‪،‬‬
‫فيمنعهم ما وسعهم منها عن مقاومة الرحمة ‪ ،‬فيجدون في نفوسهم رحمة بأهل النار ‪،‬‬
‫ّللا قد تجلى في غير صورة الغضب الذي كان قد حرضهم على االنتقام‬ ‫ألنهم يرون ه‬
‫ّللا في حق أهل النار الذين ال يخرجون منها ‪ ،‬فيكونون‬ ‫من األعداء ‪ ،‬فيشفعون عند ه‬
‫ّللا شفاعتهم فيهم ‪ ،‬وقد حقت الكلمة اإللهية أنهم عمار‬ ‫لهم بعد ما كانوا عليهم ‪ ،‬فيقبل ه‬
‫تلك الدار ‪ ،‬فيجعل الحكم فيهم للرحمة التي وسعت كل شيء ‪ ،‬فأعطاهم في جهنم نعيم‬
‫المقرور والمحرور ‪ ،‬ألن نعيم المقرور بوجود النار ‪ ،‬ونعيم المحرور بوجود‬
‫الزمهرير ‪ ،‬فتبقى جهنم على صورتها ذات حر وزمهرير ‪ ،‬ويبقى أهلها متنعمين فيها‬
‫بحرها وزمهريرها ‪ ،‬فمآل‬

‫ص ‪178‬‬

‫ص ‪178 :‬‬
‫الكل إلى الرحمة وإن تخلل األمر آالم وعذاب وعلل وأمراض مع حكم االسم الرحمن‬
‫‪ ،‬فإنما هي أعراض عرضت في األكوان دنيا وآخرة ‪ ،‬فانقسمت رحمته تعالى بعباده‬
‫إلى واجبة وامتنان ‪ ،‬فبرحمة االمتنان ظهر العالم ‪ ،‬وبها كان مآل أهل الشقاء إلى‬
‫النعيم في الدار التي يعمرونها ‪ ،‬وابتداء األعمال الموجبة لتحصيل الرحمة الواجبة ‪،‬‬
‫ّللا عليه وسلم على طريق االمتنان‬ ‫ّللا فيها ‪ ،‬لنبيه صلهى ه‬ ‫وهي الرحمة التي قال ه‬
‫ت لَ ُه ْم )‬‫ّللا ِل ْن َ‬
‫( فَبِما َر ْح َم ٍة ِمنَ َّ ِ‬
‫ناك ِإ َّال َر ْح َمةً ِل ْلعالَ ِمينَ )‬
‫س ْل َ‬ ‫( َوما أ َ ْر َ‬
‫رحمة امتنان ‪ ،‬وبها رزق العالم كله فعمت ‪،‬‬
‫ّللا في كتابه‬‫والرحمة الواجبة لها متعلق خاص بالنعت والصفات التي ذكرها ه‬
‫سأ َ ْكتُبُها »يعني الرحمة الواسعة ‪ ،‬فأدخلها تحت التقييد بعد اإلطالق من أجل‬ ‫فقال ‪ «:‬فَ َ‬
‫الزكاة َ َوالَّذِينَ ُه ْم‬
‫الوجوب ‪ ،‬فهي الرحمة التي أوجبها على نفسه« ِللَّذِينَ يَتَّقُونَ َويُؤْ تُونَ َّ‬
‫بِآياتِنا يُؤْ ِمنُونَ »‬
‫وهذه كلها واجبات ‪ ،‬فأوجب الرحمة لهم بال شك ‪ ،‬واستوجب هؤالء هذه الرحمة على‬
‫ربهم في موطن ‪ ،‬بكونهم يتقون ويؤتون الزكاة على مفهوم الزكاة لغة وشرعا«‬
‫ّللا على نفسه ما كتب إال لمن قام بحق النيابة عنه‬ ‫َوالَّذِينَ ُه ْم ِبآياتِنا يُؤْ ِمنُونَ »فما كتب ه‬
‫ّللا وقاية لهم منه ‪ ،‬ومن كل شيء‬ ‫فيما استنابه ‪ ،‬وليس إال المتقين ‪ ،‬وهم الذين جعلوا ه‬
‫ّللا وقاية بينه وبين ما ذ همه من األمور مما هو خلق هّلل ‪ ،‬فينسب‬ ‫يكون منه ‪ ،‬كما جعلهم ه‬
‫ذلك إلى اآللة التي وقع بها الفعل ‪ ،‬فلما وفهاه وقاه ‪ ،‬وصح له ما كتب على نفسه ‪ ،‬وما‬
‫ّللا امتن عليهم بعد‬ ‫عدا هؤالء فهم أهل المنن ‪ ،‬فنالوا أغراضهم على االستيفاء ‪ ،‬ثم إن ه‬
‫ذلك بالمغفرة والرحمة التي عم حكمها ‪ ،‬ومنهم من لم يتق فيخصه بالحرمة المطلقة ‪،‬‬
‫وهي رحمة االمتنان وال تتقيد بحصر‬
‫ش ْيءٍ »فيها علم دقيق خفي ال يشعر به‬ ‫ت ُك َّل َ‬‫‪ -‬تحقيق ‪ -‬قوله تعالى ‪َ «:‬و َر ْح َم ِتي َو ِسعَ ْ‬
‫باّلل قد علموا شمول الرحمة ‪ ،‬والمؤمنون قد علموا‬ ‫لخفائه مع ظهوره ‪ ،‬فإن العلماء ه‬
‫اتساعها ‪ ،‬ثم يرونها مع الشمول واالتساع ‪ ،‬ما لها صورة في بعض المواطن ‪ ،‬ومع‬
‫كونها ما لها صورة ظاهرة في بعض المواطن فإن الحكم لها في ذلك الموطن الذي ما‬
‫لها فيه صورة ‪ ،‬وال يكون لها حكم إال بوجودها ‪ ،‬ولكن هو خفي لبطونها ‪ ،‬جلي‬
‫فاّلل يقول في‬ ‫لظهور حكمها ‪ ،‬وأكثر ما يظهر ذلك في صنعة الطب وإقامة الحدود ‪ ،‬ه‬
‫إقامة الحدود في حد الزاني والزانية‬
‫( َوال تَأ ْ ُخ ْذ ُك ْم بِ ِهما َرأْفَةٌ فِي د ِ‬
‫ِين َّ ِ‬
‫ّللا )‬
‫فهذا عين انتزاع الرحمة بهم ‪ ،‬وإقامة الحدود من حكم الرحمة وما لها عين ظاهرة ‪،‬‬
‫وكالطب إذا قطع الطبيب رجل صاحب األكلة ‪ ،‬فإن رحمه في هذا الموطن ولم يقطع‬
‫رجله هلك ‪ ،‬فحكم الرحمة حكم‬
‫‪179‬‬

‫ص ‪179 :‬‬
‫بقطع رجله وال عين لها ‪ ،‬فللرحمة موطن تظهر فيه بصورتها ‪ ،‬ولها موطن تظهر‬
‫فيه بحكمها ‪ ،‬فيتخيل أنها قد انتزعت من ذلك المحل ‪ ،‬وليس كذلك ‪ ،‬وفي األحكام‬
‫ّللا‬
‫ّللا بصيرته ‪ ،‬فإن القاتل ظلما قد نزع ه‬ ‫الشرعية في هذه المسألة خفاء إال لمن نور ه‬
‫الرحمة من قلبه في حق المقتول ‪ ،‬وهو تحت حكم الرحمة في قتله ظلما ‪،‬‬
‫وبقي حكمها في القاتل ‪ ،‬فإما أن يقاد منه ‪ ،‬وإما أن يموت فيكون في المشيئة ‪ ،‬وإن‬
‫كان القاتل كافرا فإما أن يسلم فتظهر فيه الرحمة بصورتها ‪ ،‬وحيثما كانت الرحمة‬
‫بالصورة كانت بالحكم ‪ ،‬وقد تكون بالحكم وال تكون بالصورة ‪.‬‬
‫ّللا في عباده ليتراحموا بها مخلوقة من الرحمة‬ ‫واعلم أن الرحمة اإللهية التي أوجدها ه‬
‫ّللا بها العالم حين أحب أن يعرف ‪ ،‬وبها كتب على نفسه الرحمة ‪،‬‬ ‫الذاتية التي أوجد ه‬
‫وهذه الرحمة المكتوبة منفعلة عن الرحمة الذاتية ‪،‬‬
‫والرحمة االمتنانية هي التي وسعت كل شيء ‪ ،‬فرحمة الشيء لنفسه تمدها الرحمة‬
‫الذاتية وتنظر إليها ‪ ،‬وفيها يقع الشهود من كل رحيم بنفسه ‪،‬‬
‫وأما رحمة الراحم بمن أساء إليه وما يقتضيه شمول اإلنعام اإللهي واالتساع الجودي ‪،‬‬
‫فال مشهد لها إال رحمة االمتنان ‪ ،‬وهي الرحمة التي يترجاها إبليس فمن دونه ‪ ،‬ال‬
‫مشهد لهؤالء في الرحمة المكتوبة وال في الرحمة الذاتية ‪،‬‬
‫ّللا والرحمن دون غير الرحمن من األسماء له األسماء الحسنى ‪ ،‬فجميع‬ ‫وبهذا كان ه‬
‫ّللا ‪،‬‬
‫األسماء دالئل على االسم الرحمن وعلى االسم ه‬
‫ولكن أكثر الناس ال يشعرون ‪ ،‬فإن الرحمة اإللهية وسعت كل شيء ‪ ،‬فما ثم شيء ال‬
‫يكون في هذه الرحمة ‪ ،‬إن ربك واسع المغفرة ‪ ،‬فال تحجروا واسعا ‪ ،‬فإنه ال يقبل‬
‫التحجير ‪ ،‬قال بعض األعراب ‪ :‬يا رب ارحمني ومحمدا وال ترحم معنا أحدا ‪.‬‬
‫ّللا عليه وسلم يسمعه ‪.‬‬ ‫والنبي صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ :‬يا هذا لقد ح هجرت واسعا ‪ ،‬يعني ح هجرته قوال وطلبة‪،‬‬ ‫فقال النبي صلهى ه‬
‫ّللا ‪ :‬لقيت إبليس فعرفته وعرف مني أني عرفته ‪ ،‬فوقعت بيننا‬ ‫قال سهل بن عبد ه‬
‫مناظرة ‪ ،‬فقال لي وقلت له ‪ ،‬وعال بيننا الكالم وطال النزاع ‪ ،‬بحيث أن وقفت ووقف‬
‫‪ ،‬وحرت وحار ‪،‬‬
‫عز وجل‬ ‫ّللا ه‬ ‫فكان من آخر ما قال لي ‪ :‬يا سهل ه‬
‫ش ْيءٍ » فع هم ‪ ،‬وال يخفى عليك أني شيء بال شك ‪ ،‬ألن‬ ‫ت ُك َّل َ‬
‫يقول ‪َ «:‬و َر ْح َمتِي َو ِسعَ ْ‬
‫لفظة كل تقتضي اإلحاطة والعموم ‪ ،‬وشيء أنكر النكرات ‪ ،‬فقد وسعتني رحمته ‪،‬‬
‫ّللا لقد أخرسني وحيهرني بلطافة سياقه ‪ ،‬وظفره بمثل هذه اآلية ‪ ،‬وفهم‬ ‫قال سهل ‪ :‬فو ه‬
‫منها ما لم نفهم ‪ ،‬وعلم منها ما لم نعلم ‪ ،‬فبقيت حائرا متفكرا وأخذت أتلو اآلية في‬
‫سأ َ ْكتُبُها »اآلية ‪،‬‬
‫نفسي ‪ ،‬فلما جئت إلى قوله تعالى ‪ «:‬فَ َ‬
‫سررت وتخيلت أني قد ظفرت بحجة وظهرت عليه بما يقصم‬

‫ص ‪180‬‬

‫ص ‪180 :‬‬
‫ّللا قد قيدها بنعوت مخصوصة يخرجها من ذلك‬ ‫ظهره ‪ ،‬وقلت له ‪ :‬يا ملعون إن ه‬
‫سأ َ ْكتُبُها »فتبسم إبليس‬ ‫العموم ‪ ،‬فقال ‪ «:‬فَ َ‬
‫وقال ‪ :‬يا سهل ما كنت أظن أن يبلغ بك الجهل هذا المبلغ ‪ ،‬وال ظننت أنك هاهنا ‪،‬‬
‫ألست تعلم يا سهل أن التقييد صفتك ال صفته ؟‬
‫ّللا ما‬
‫قال سهل ‪ :‬فرجعت إلى نفسي وغصصت بريقي ‪ ،‬وأقام الماء في حلقي ‪ ،‬وو ه‬
‫وجدت جوابا ‪ ،‬وال سددت في وجهه بابا ‪ ،‬وعلمت أنه طمع في مطمع ‪ ،‬وانصرف‬
‫ّللا سبحانه ما نص بما يرفع هذا‬ ‫ّللا ما أدري بعد هذا ما يكون ‪ ،‬فإن ه‬ ‫وانصرفت ‪ ،‬وو ه‬
‫اإلشكال ‪ ،‬فبقي األمر عندي على المشيئة منه في خلقه ‪ ،‬ال أحكم عليه في ذلك بأمد‬
‫ّللا أن تناله من عين المنة والجود‬ ‫ينتهي أو بأمد ال ينتهي ‪ ،‬فهذا إبليس ينتظر رحمة ه‬
‫المطلق ‪ ،‬الذي به أوجب على نفسه سبحانه ما أوجب ‪ ،‬وبه تاب على من تاب وأصلح‬
‫ّللا إال ما أوجبه على‬ ‫‪ ،‬فالحكم هّلل العلي الكبير عن التقييد في التقييد ‪ ،‬فال يجب على ه‬
‫نفسه ‪ ،‬وبقيت الرحمة مطلقة ينتظرها من ينتظرها من عين المنة التي كان منها‬
‫ّللا تعالى رحمن بعموم‬ ‫وجوده ‪ ،‬فمهما رأيت الوجوب فاعلم أن التقييد يصحبه ‪ ،‬فإن ه‬
‫رحمته التي وسعت كل شيء ‪ ،‬رحيم بما أوجب على نفسه لعباده ‪ ،‬فهو رحمن في‬
‫العموم ‪ ،‬رحيم في الخصوص ‪ ،‬وهو رحمن برحمة االمتنان ‪ ،‬رحيم بالرحمة الخاصة‬
‫على‬ ‫سأ َ ْكتُبُها ِللَّذِينَ يَتَّقُونَ »اآليات ‪ ،‬وقوله ‪َ (:‬كت َ َ‬
‫ب َربُّ ُك ْم َ‬ ‫‪ ،‬وهي الواجبة في قوله «‪ :‬فَ َ‬
‫الر ْح َمةَ )وأما رحمة االمتنان فهي التي تنال من غير استحقاق بعمل ‪ ،‬وبرحمة‬ ‫نَ ْف ِس ِه َّ‬
‫ّللا من وفقه للعمل الصالح الذي أوجب له الرحمة الواجبة ‪ ،‬وبها نال‬ ‫االمتنان رحم ه‬
‫العاصي وأهل النار إزالة العذاب وإن كان مسكنهم ودارهم جهنم ‪ .‬ومن صفة من‬
‫وجبت لهم الرحمة ‪- :‬‬

‫[ سورة األعراف ( ‪ ( : 7‬آية ‪] 157‬‬


‫اْل ْن ِجي ِل‬
‫ي الهذِي يَ ِجدُونَهُ َم ْكتُوبا ً ِع ْن َد ُه ْم فِي الت ه ْورا ِة َو ْ ِ‬ ‫ي ْاأل ُ ِ ّم ه‬
‫سو َل النهبِ ه‬
‫الر ُ‬
‫ون ه‬ ‫ِين يَتهبِعُ َ‬ ‫الهذ َ‬
‫ث‬‫علَ ْي ِه ُم ا ْل َخبائِ َ‬
‫ت َويُ َح ِ ّر ُم َ‬ ‫وف َويَ ْنها ُه ْم ع َِن ا ْل ُم ْنك َِر َويُ ِح ُّل لَ ُه ُم ال ه‬
‫ط ِيّبا ِ‬ ‫يَأ ْ ُم ُر ُه ْم بِا ْل َم ْع ُر ِ‬
‫ص ُروهُ‬‫ِين آ َمنُوا ِب ِه َوع هَز ُروهُ َونَ َ‬ ‫علَ ْي ِه ْم فَالهذ َ‬ ‫ع ْن ُه ْم ِإص َْر ُه ْم َو ْاأل َ ْغال َل الهتِي كانَتْ َ‬ ‫ض ُع َ‬ ‫َويَ َ‬
‫ون ) ‪( 157‬‬ ‫ور الهذِي أ ُ ْن ِز َل َمعَهُ أُولئِكَ ُه ُم ا ْل ُم ْف ِل ُح َ‬ ‫َواتهبَعُوا النُّ َ‬
‫الضمير في« يَ ِجدُونَهُ »و« يَأ ْ ُم ُر ُه ْم »يعود على أهل الكتاب ‪ ،‬بأنه نبي مبعوث إليهم‬

‫ص ‪181‬‬

‫ص ‪181 :‬‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ ،‬فما آمن أهل‬ ‫أيضا في كتبهم ‪ ،‬فمن إيمانهم بكتبهم إيمانهم به صلهى ه‬
‫الكتاب بكل ما أتى به موسى وعيسى عليهما السالم ‪ ،‬ولو آمنوا بكل ما أتى به موسى‬
‫ع ْن ُه ْم‬
‫ض ُع َ‬ ‫وعيسى عليهما السالم آلمنوا بمحمد صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم وبكتابه« َويَ َ‬
‫علَ ْي ِه ْم »وهي األعباء الثقال ‪ ،‬وهؤالء المذكورون طائفة‬ ‫ص َر ُه ْم َو ْاأل َ ْغال َل الَّتِي كانَ ْ‬
‫ت َ‬ ‫ِإ ْ‬
‫مخصوصة من أهل الكتاب ‪ ،‬فخرج من ليس بأهل الكتاب من هذا التقييد الوجوبي ‪،‬‬
‫ّللا على عباده‬ ‫ّللا من يبسط رحمة ه‬‫وبقي الحق رحمانا على اإلطالق ‪ ،‬فمن عباد ه‬
‫ّللا عن بعض عباده ‪ ،‬وهو‬ ‫ّللا من يريد إزالة رحمة ه‬
‫طائعهم وعاصيهم ‪ ،‬ومن عباد ه‬
‫ّللا التي وسعت كل شيء ‪ ،‬وال يحجرها على نفسه ‪ ،‬وصاحب هذه‬ ‫الذي يح هجر رحمة ه‬
‫ّللا‬
‫ّللا سبقت رحمته غضبه ‪ ،‬لكان هذا الشخص ممن ال يناله رحمة ه‬ ‫الصفة لوال أن ه‬
‫ّللا من عين‬ ‫ّللا قد سرت في العالم ‪ ،‬طمع في رحمة ه‬ ‫أبدا ‪ ،‬فإن إبليس لما رأى منة ه‬
‫المنة ال من عين الوجوب اإللهي ‪ ،‬فع هم كل األشياء اتساع رحمته تعالى ‪ ،‬فمن ح هجر‬
‫ّللا فما حجرها إال على نفسه ‪ ،‬ولوال أن األمر على خالف ذلك ‪ ،‬لم ينل رحمة‬ ‫رحمة ه‬
‫ّللا فيمن حجرها بمن لم‬ ‫وّللا ما يستوى حكم رحمة ه‬
‫ّللا من حجرها وقصرها ‪ ،‬ولكن ه‬ ‫ه‬
‫ّللا ‪ ،‬فمنهم‬ ‫يحجرها وأطلقها من عين المنة ‪ ،‬فما من شيء إال وهو طامع في رحمة ه‬
‫من تناله بالوجوب ‪ ،‬ومنهم من تناله بحكم المنة ‪.‬‬

‫[ سورة األعراف ( ‪ : ) 7‬آية ‪] 158‬‬


‫ض ال إِلهَ‬ ‫ت َو ْاأل َ ْر ِ‬ ‫سماوا ِ‬ ‫َّللا إِلَ ْي ُك ْم َج ِميعا ً الهذِي لَهُ ُم ْلكُ ال ه‬ ‫سو ُل ه ِ‬ ‫قُ ْل يا أَيُّ َها النه ُ‬
‫اس إِ ِنّي َر ُ‬
‫اّلِل َو َك ِلماتِ ِه‬ ‫ي ِ ْاأل ُ ِ ّم ّ‬
‫ي ِ الهذِي يُ ْؤ ِم ُن ِب ه ِ‬ ‫سو ِل ِه النه ِب ّ‬ ‫آمنُوا ِب ه ِ‬
‫اّلِل َو َر ُ‬ ‫إِاله ُه َو يُحيِي َويُ ِميتُ فَ ِ‬
‫ُون ) ‪( 158‬‬ ‫َوات ه ِبعُوهُ لَعَله ُك ْم ت َ ْهتَد َ‬
‫ّللا‬
‫ّللا عليه وسلم إلى الناس كافة بشيرا ونذيرا وداعيا إلى ه‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫أرسل رسول ه‬
‫عز وجل على بصيرة ‪،‬‬ ‫ّللا ه‬ ‫بإذنه وسراجا منيرا ‪ ،‬فبلغ الرسالة وأدى األمانة ودعا إلى ه‬
‫ت‬
‫سماوا ِ‬ ‫ّللا إِلَ ْي ُك ْم َج ِميعا ً الَّذِي لَهُ ُم ْلكُ ال َّ‬ ‫سو ُل َّ ِ‬ ‫اس إِ ِنهي َر ُ‬ ‫وقال له تعالى ‪ «:‬قُ ْل يا أَيُّ َها النَّ ُ‬
‫ض ال إِلهَ إِ َّال ُه َو يُحيِي َويُ ِميتُ »‬ ‫َو ْاأل َ ْر ِ‬
‫[ هو توحيد الملك ]‬
‫وهذا هو التوحيد التاسع ‪ ،‬توحيد الهوية في االسم المرسل ‪ ،‬وهو توحيد الملك ‪ ،‬ولهذا‬
‫نعته بأنه يحيي ويميت ‪ ،‬فمن أعطى أحيا ونفع ‪ ،‬ومن منع أضر وأمات ‪ ،‬ومن منع ال‬
‫عن بخل‬

‫ص ‪182‬‬

‫ص ‪182 :‬‬
‫كان منعه حماية وعناية وجودا من حيث ال يشعر الممنوع ‪ ،‬وكان الضرر في حقه‬
‫حيث لم يبلع إلى نيل غرضه لجهله بالمصلحة فيما حماه عنه النافع ‪ ،‬ومات هذا‬
‫ّللا وضرره وإماتته ‪،‬‬ ‫الممنوع لكونه لم تنفذ إرادته كما ال تنفذ إرادة الميت ‪ ،‬فهذا منع ه‬
‫فإنه المنعم المحسان ‪ ،‬فأرسل الرسل بالتوحيد تنبيها إلقرارهم في الميثاق األول« ال‬
‫ِإلهَ ِإ َّال ُه َو يُح ِيي َويُ ِميتُ »فهو سبحانه المحيي الذي يعطي الحياة لكل شيء ‪ ،‬فما ث هم إال‬
‫ّللا بحمده ‪ ،‬وال يسبحه إال حي ‪ ،‬سواء كان ميتا أو غير‬ ‫حي ‪ ،‬ألنه ما ث هم إال من يسبح ه‬
‫ميت ‪ ،‬فإنه حي ‪ ،‬ألن الحياة لألشياء فيض من حياة الحق عليها ‪ ،‬فهي حية في حال‬
‫ثبوتها ‪ ،‬ولوال حياتها ما سمعت قوله ( كن ) بالكالم الذي يليق بجالله فكانت ‪ ،‬وإنما‬
‫كان محييا لكون حياة األشياء من فيض اسم الحي كنور الشمس من الشمس المنبسط‬
‫على األماكن ‪ ،‬ولم تغب األشياء عنه ال في حال ثبوتها وال في حال وجودها ‪ ،‬فالحياة‬
‫لها في الحالتين مستصحبة ‪ ،‬فهو يحيي ويميت ‪ ،‬وليس الموت بإزالة الحياة في نفس‬
‫األمر وعند أهل الكشف ‪ ،‬ولكن الموت عزل الوالي وتولية وال ‪ ،‬ألنه ال يمكن أن‬
‫يبقى العالم بال وال يحفظ عليه مصالحه لئال يفسد ‪ ،‬أال ترى إلى الميت يسأل ويجيب‬
‫إيمانا وكشفا ‪ ،‬وأنت تحكم في هذه الحالة أنه ميت ‪ ،‬وما أزال عنه اسم الموت السؤال‬
‫‪ ،‬فإن االنتقال موجود ‪ ،‬فلو ال أنه حي في حال موته ما سئل ‪ ،‬فليس الموت بضد‬
‫الحياة إن عقلت ‪ ،‬فالموت عبارة عن انتقال من منزل الدنيا إلى منزل اآلخرة ‪ ،‬ما هو‬
‫ّللا أخذ بأبصارنا ‪ ،‬فال ندرك حياته‬‫عبارة عن إزالة الحياة منه في نفس األمر ‪ ،‬وإنما ه‬
‫‪ ،‬فالميت عندنا ينتقل وحياته باقية عليه ال تزول ‪ ،‬وإنما يزول الوالي ‪ ،‬وهو الروح‬
‫ّللا بتدبيره أيام واليته عليه ‪ ،‬والميت عندنا يعلم من نفسه‬ ‫عن هذا الملك ‪ ،‬الذي وكله ه‬
‫أنه حي ‪ ،‬وإنما تحكم عليه بأنه ليس بحي لوقوفك مع بصرك ‪ ،‬ومع حكمك في حاله‬
‫قبل اتصافه بالموت من حركة ونطق وتصرف ‪ ،‬وقد أصبح متصرفا فيه ال متصرفا ‪،‬‬
‫ّللا لنا أن األمر كذا هو ‪ ،‬التصرف فيه للحق ال لك ‪ ،‬في حال دعواك‬ ‫وهو تنبيه من ه‬
‫التصرف ‪ ،‬فالموت انتقال خاص على وجه مخصوص ‪،‬‬
‫سو ِل ِه »فمن و هحده بلسان رسوله ال من لسانه‬
‫اّلل َو َر ُ‬ ‫لذلك قال تعالى متمما« فَ ِ‬
‫آمنُوا بِ َّ ِ‬
‫ّللا على توحيده جزاء رسوله ‪ ،‬فإن وحده ال بلسان رسوله بل بلسان رسالته‬ ‫جازاه ه‬
‫جازاه مجازاة إلهية ال تعرف ‪ ،‬تدخل تحت قوله ‪ :‬ما ال عين رأت وال أذن سمعت وال‬
‫خطر على قلب بشر‪.‬‬

‫ص ‪183‬‬

‫ص ‪183 :‬‬
‫[سورة األعراف ( ‪ : ) 7‬اآليات ‪ 159‬إلى ‪] 160‬‬
‫عش َْرةَ‬ ‫ط ْعنا ُه ُم اثْنَت َ ْي َ‬
‫ون ) ‪َ ( 159‬وقَ ه‬ ‫ق َو ِب ِه يَ ْع ِدلُ َ‬ ‫َو ِم ْن قَ ْو ِم ُموسى أ ُ همةٌ يَ ْهد َ‬
‫ُون ِبا ْل َح ّ ِ‬
‫ض ِر ْب ِبعَصاكَ ا ْل َح َج َر‬ ‫سقاهُ قَ ْو ُمهُ أ َ ِن ا ْ‬ ‫ست َ ْ‬‫سباطا ً أ ُ َمما ً َوأ َ ْو َح ْينا ِإلى ُموسى ِإ ِذ ا ْ‬ ‫أَ ْ‬
‫علَ ْي ِه ُم ا ْلغَما َم َوأ َ ْن َز ْلنا‬ ‫ع ِل َم ُك ُّل أ ُ ٍ‬
‫ناس َمش َْربَ ُه ْم َو َظله ْلنا َ‬ ‫ع ْينا ً قَ ْد َ‬ ‫ستْ ِم ْنهُ اثْنَتا َ‬
‫عش َْرةَ َ‬ ‫فَا ْنبَ َج َ‬
‫ت ما َر َز ْقنا ُك ْم َوما َظلَ ُمونا َول ِك ْن كانُوا أ َ ْنفُ َ‬
‫س ُه ْم‬ ‫س ْلوى ُكلُوا ِم ْن َط ِيّبا ِ‬ ‫علَ ْي ِه ُم ا ْل َم هن َوال ه‬
‫َ‬
‫ون ( ‪) 160‬‬ ‫يَ ْظ ِل ُم َ‬
‫[ عصا موسى ]‬
‫‪-‬إشارة ‪ -‬ضرب موسى عليه السالم بعصاه الحجر فانفجر ‪ ،‬والبحر المغلق فانفلق ‪،‬‬
‫ألن سر الحياة في العصا ‪ ،‬فلذلك انفجر الحجر ماء ‪ ،‬وسر القيومية فيها فلذلك أظهرت‬
‫في البحر يبسا ‪ ،‬فسر الحياة في النبات ‪ ،‬والقيومية تعطي التفرقة فانفرق البحر ‪.‬‬

‫[ سورة األعراف ( ‪ : ) 7‬اآليات ‪ 161‬إلى ‪] 163‬‬


‫طةٌ َوا ْد ُخلُوا ا ْل َ‬
‫باب‬ ‫شئْت ُ ْم َوقُولُوا ِح ه‬‫ث ِ‬ ‫س ُكنُوا ه ِذ ِه ا ْلقَ ْريَةَ َو ُكلُوا ِم ْنها َح ْي ُ‬ ‫َوإِ ْذ قِي َل لَ ُه ُم ا ْ‬
‫ِين َظلَ ُموا ِم ْن ُه ْم قَ ْوالً‬ ‫ين ( ‪ ) 161‬فَبَ هد َل الهذ َ‬ ‫سنِ َ‬ ‫سنَ ِزي ُد ا ْل ُمحْ ِ‬
‫س هجدا ً نَ ْغ ِف ْر لَ ُك ْم َخ ِطيئاتِ ُك ْم َ‬‫ُ‬
‫ون ) ‪( 162‬‬ ‫ماء ِبما كانُوا يَ ْظ ِل ُم َ‬ ‫س ِ‬ ‫علَ ْي ِه ْم ِرجْ زا ً ِم َن ال ه‬ ‫غ ْي َر الهذِي قِي َل لَ ُه ْم فَأ َ ْر َ‬
‫س ْلنا َ‬ ‫َ‬
‫يه ْم ِحيتانُ ُه ْم‬ ‫ت ِإ ْذ تَأ ْ ِت ِ‬ ‫س ْب ِ‬
‫ُون ِفي ال ه‬ ‫حاض َرةَ ا ْلبَحْ ِر ِإ ْذ يَ ْعد َ‬
‫ِ‬ ‫سئ َ ْل ُه ْم ع َِن ا ْلقَ ْريَ ِة اله ِتي كانَتْ‬ ‫َو ْ‬
‫ون ( ‪163‬‬ ‫سقُ َ‬ ‫يه ْم كَذ ِلكَ نَ ْبلُو ُه ْم بِما كانُوا يَ ْف ُ‬ ‫ون ال تَأْتِ ِ‬ ‫سبِت ُ َ‬ ‫س ْبتِ ِه ْم ش هُرعا ً َويَ ْو َم ال يَ ْ‬ ‫يَ ْو َم َ‬
‫)‬
‫السبت الراحة والسبت السير السريع في اللسان ‪ ،‬وللراحة تسمى يوم السبت سبتا ‪،‬‬
‫فيوم السبت يوم الراحة ‪ ،‬فإنه سبحانه نظر إلى ما خلق في يوم السبت ‪ ،‬فاستلقى‬
‫ووضع إحدى رجليه على األخرى ‪ ،‬وقال أنا الملك ‪ ،‬لظهور الملك ‪ ،‬ولهذا سمي يوم‬
‫السبت ‪ ،‬والسبت‬

‫ص ‪184‬‬

‫ص ‪184 :‬‬
‫الراحة ‪ ،‬ولهذا أخبر تعالى أنه ما مسه من لغوب فيما خلقه ‪ ،‬واللغوب اإلعياء ‪ ،‬فهي‬
‫راحة ال عن إعياء كما هي في حقنا ‪ -‬من باب اإلشارة ال التفسير ‪ِ «-‬إ ْذ يَ ْعدُونَ فِي‬
‫ت »يتجاوزون بالراحة حدهها ‪.‬‬
‫س ْب ِ‬
‫ال َّ‬

‫[ سورة األعراف ( ‪ ( : 7‬اآليات ‪ 164‬إلى ‪] 167‬‬


‫شدِيدا ً قالُوا َم ْعذ َِرةً‬ ‫َّللاُ ُم ْه ِل ُك ُه ْم أ َ ْو ُمعَ ِذّبُ ُه ْم عَذابا ً َ‬
‫ون قَ ْوما ً ه‬ ‫ظ َ‬‫َوإِ ْذ قالَتْ أ ُ همةٌ ِم ْن ُه ْم ِل َم ت َ ِع ُ‬
‫ِين يَ ْن َه ْو َن ع َِن‬ ‫سوا ما ذُ ِ ّك ُروا بِ ِه أ َ ْن َج ْينَا الهذ َ‬ ‫ون ( ‪ ) 164‬فَلَ هما نَ ُ‬ ‫إِلى َر ِبّ ُك ْم َولَعَله ُه ْم يَتهقُ َ‬
‫عت َ ْوا ع َْن‬ ‫ون ) ‪ ( 165‬فَلَ هما َ‬ ‫سقُ َ‬ ‫يس ِبما كانُوا يَ ْف ُ‬ ‫ب بَئِ ٍ‬ ‫ِين َظلَ ُموا ِبعَذا ٍ‬ ‫وء َوأ َ َخ ْذنَا الهذ َ‬ ‫س ِ‬ ‫ال ُّ‬
‫علَ ْي ِه ْم ِإلى‬‫ين ( ‪َ ) 166‬و ِإ ْذ تَأَذه َن َربُّكَ لَيَ ْبعَث َ هن َ‬ ‫سئِ َ‬ ‫ع ْنهُ قُ ْلنا لَ ُه ْم كُونُوا قِ َر َدةً خا ِ‬ ‫ما نُ ُهوا َ‬
‫ور َر ِحي ٌم (‬ ‫ب َو ِإنههُ لَغَفُ ٌ‬ ‫س ِري ُع ا ْل ِعقا ِ‬ ‫ب ِإ هن َربهكَ لَ َ‬ ‫سو َء ا ْلعَذا ِ‬‫سو ُم ُه ْم ُ‬ ‫يَ ْو ِم ا ْل ِقيا َم ِة َم ْن يَ ُ‬
‫) ‪167‬‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ :‬أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من‬ ‫ومن هذه الحقيقة قال صلهى ه‬
‫عقوبتك ‪.‬‬

‫[ سورة األعراف ( ‪ : ) 7‬آية ‪] 168‬‬


‫ت‬ ‫ُون ذ ِلكَ َوبَلَ ْونا ُه ْم ِبا ْل َح َ‬
‫سنا ِ‬ ‫ون َو ِم ْن ُه ْم د َ‬ ‫ض أ ُ َمما ً ِم ْن ُه ُم ال ه‬
‫صا ِل ُح َ‬ ‫ط ْعنا ُه ْم ِفي ْاأل َ ْر ِ‬‫َوقَ ه‬
‫ون ( ‪) 168‬‬ ‫ت لَعَله ُه ْم يَ ْر ِجعُ َ‬
‫س ِيّئا ِ‬
‫َوال ه‬
‫ّللا إنما يرجع من المخالفة إلى الموافقة ‪،‬‬ ‫ّللا ‪ ،‬فالراجع إلى ه‬ ‫« لَعَلَّ ُه ْم يَ ْر ِجعُونَ »إلى ه‬
‫ومن المعصية إلى الطاعة‪.‬‬

‫[ سورة األعراف ( ‪ : ) 7‬اآليات ‪ 169‬إلى ‪] 172‬‬


‫سيُ ْغفَ ُر لَنا‬
‫ون َ‬ ‫ض هذَا ْاألَدْنى َويَقُولُ َ‬ ‫ون ع ََر َ‬ ‫تاب يَأ ْ ُخذُ َ‬
‫ف َو ِرثُوا ا ْل ِك َ‬ ‫ف ِم ْن بَ ْع ِد ِه ْم َخ ْل ٌ‬ ‫فَ َخلَ َ‬
‫علَى ه ِ‬
‫َّللا‬ ‫ب أ َ ْن ال يَقُولُوا َ‬ ‫ق ا ْل ِكتا ِ‬ ‫ض ِمثْلُهُ يَأ ْ ُخذُوهُ أ َ لَ ْم يُ ْؤ َخ ْذ َ‬
‫علَ ْي ِه ْم ِميثا ُ‬ ‫َوإِ ْن يَأْتِ ِه ْم ع ََر ٌ‬
‫ون ) ‪( 169‬‬ ‫ون أ َ فَال ت َ ْع ِقلُ َ‬ ‫هار ْاآل ِخ َرةُ َخ ْي ٌر ِللهذ َ‬
‫ِين يَتهقُ َ‬ ‫سوا ما فِي ِه َوالد ُ‬ ‫ق َود ََر ُ‬ ‫إِاله ا ْل َح ه‬
‫ين ( ‪َ ) 170‬و ِإ ْذ‬ ‫ص ِل ِح َ‬ ‫صالةَ ِإنها ال نُ ِضي ُع أَجْ َر ا ْل ُم ْ‬ ‫ب َوأَقا ُموا ال ه‬ ‫ُون ِبا ْل ِكتا ِ‬
‫سك َ‬ ‫َوالهذ َ‬
‫ِين يُ َم ِ ّ‬
‫اذك ُُروا ما فِي ِه‬ ‫ظلهةٌ َو َظنُّوا أَنههُ واقِ ٌع ِب ِه ْم ُخذُوا ما آت َ ْينا ُك ْم ِبقُ هو ٍة َو ْ‬ ‫نَت َ ْقنَا ا ْل َجبَ َل فَ ْوقَ ُه ْم َكأَنههُ ُ‬
‫ش َه َد ُه ْم عَلى‬ ‫ون ) ‪َ ( 171‬و ِإ ْذ أ َ َخذَ َربُّكَ ِم ْن بَنِي آ َد َم ِم ْن ُ‬
‫ظ ُهو ِر ِه ْم ذُ ِ ّريهت َ ُه ْم َوأ َ ْ‬ ‫لَعَله ُك ْم تَتهقُ َ‬
‫ين‬‫ستُ ِب َر ِبّ ُك ْم قالُوا بَلى ش َِهدْنا أ َ ْن تَقُولُوا يَ ْو َم ا ْل ِقيا َم ِة ِإنها ُكنها ع َْن هذا غا ِف ِل َ‬ ‫س ِه ْم أ َ لَ ْ‬‫أ َ ْنفُ ِ‬
‫) ‪( 172‬‬

‫ص ‪185‬‬

‫ص ‪185 :‬‬
‫هذا هو الميثاق الثاني بعد وجود آدم ‪ ،‬قبض الحق على ظهره واستخرج منه بنيه ‪،‬‬
‫وأشهدهم على أنفسهم ‪ ،‬وهو العهد الخالص ‪ ،‬أي الدين الخالص ‪،‬‬
‫والميثاق األول كان قبل وجود جسد آدم ‪ ،‬وهو ميثاق النبيين ‪،‬‬
‫سماءٍ أ َ ْم َرها )‬
‫وكما ذكرنا في تفسير قوله تعالى ‪َ (:‬وأ َ ْوحى فِي ُك ِهل َ‬
‫وأن لهذه النشأة اإلنسانية صورا مبثوثة في العناصر واألفالك والسماوات والكرسي‬
‫والعرش واللوح والقلم ‪ ،‬حتى في العدم ‪،‬‬
‫كذلك لوال ما كان لنا وجود في صورة آدم العنصرية ‪ ،‬معينين مرئيين متميزين عند‬
‫ّللا في علمه ورؤيته وعندنا ما قلنا « بلى » أنت ربنا ‪ ،‬ف‬ ‫ه‬
‫ّللا وسواه كما سوى األفالك جعل لنا في صورته صورا‬ ‫إن آدم عليه السالم لما أوجده ه‬
‫‪ ،‬مثل ما فعل فيما تقدم من المخلوقات ‪،‬‬
‫ثم قبض على تلك الصور المعينة في ظهر آدم ‪ ،‬وآدم ال يعرف ما يحوي عليه ‪ ،‬كما‬
‫أن كل صورة لنا في كل فلك ومقام ال يعرف بها ذلك الفلك وال ذلك المقام ‪ ،‬وأنه للحق‬ ‫ه‬
‫في كل صورة لنا وجه خاص إليه ‪ ،‬من ذلك الوجه يخاطبنا ‪،‬‬
‫ومن ذلك الوجه نرد عليه ‪ ،‬ومن ذلك الوجه نقر بربوبيته ‪ ،‬فلو أخذنا من بين يدي آدم‬
‫لعلمنا ‪ ،‬فكان األخذ من ظهره غيبا له ‪ ،‬وأخذه أيضا معنا في هذا الميثاق من ظهره ‪،‬‬
‫فإن له معنا صورة في صورته ‪،‬‬
‫فشهد كما شهدنا ‪ ،‬وال يعلم أنه أخذ منه ‪ ،‬أو ربما علم ‪ ،‬فإنه ما نحن على يقين من‬
‫أنه لم يعلم بأنه أخذ منه وال بأنا أخذنا منه ‪ ،‬فقد ورد في الخبر المشهور الحسن‬
‫الغريب‬
‫ّللا تجلى آلدم عليه السالم ويداه مقبوضتان‬ ‫[ أن ه‬
‫فقال له ‪ :‬يا آدم اختر أيتهما شئت ‪،‬‬
‫فقال ‪ :‬اخترت يمين ربي وكلتا يدي ربي يمين مباركة ‪،‬‬
‫قال ‪ :‬فبسطها ‪ ،‬فإذا آدم‬

‫ص ‪186‬‬

‫ص ‪186 :‬‬
‫وذريته ‪ ،‬فنظر إلى شخص من أضوئهم أو أضوئهم ‪ ،‬فقال ‪ :‬من هذا يا رب ؟‬
‫ّللا له ‪ :‬هذا ابنك داود ‪ ،‬فقال يا رب كم كتبت له ؟‬ ‫فقال ه‬
‫فقال أربعين سنة ‪ ،‬فقال ‪ :‬يا رب وكم كتبت لي ؟‬
‫ّللا ‪ :‬ألف سنة ‪ ،‬فقال ‪ :‬يا رب فقد أعطيته من عمري ستين سنة ‪:‬‬ ‫فقال ه‬
‫ّللا له ‪ :‬أنت وذاك ‪ ،‬فما زال يعد لنفسه حتى بلغ تسعمائة وأربعين سنة ‪ ،‬فجاء‬ ‫فقال ه‬
‫ملك الموت ليقبض روحه ‪،‬‬
‫ّللا إلى آدم ‪ :‬أي آدم إنك وهبتها البنك‬ ‫فقال له آدم ‪ :‬إنه بقي لي ستون سنة ‪ ،‬فأوحى ه‬
‫داود ‪ ،‬فجحد آدم فجحدت ذريته ‪ ،‬ونسي آدم فنسيت ذريته ‪،‬‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ :‬فمن ذلك اليوم أمر بالكتاب والشهود [ فهذا آدم‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫فقال رسول ه‬
‫وذريته صورا قائمة في يمين الحق ‪ ،‬وهذا آدم خارج عن تلك اليد ‪ ،‬وهو يبصر‬
‫ّللا الصور من ظهر آدم وآدم فيهم ‪،‬‬ ‫صورته وصور ذريته ‪ ،‬في يد الحق ‪ ،‬فأخذ ه‬
‫وأشهدهم على أنفسهم بمحضر من المأل األعلى والصور التي لهم في كل مجلى‬
‫« أ َ لَ ْستُ بِ َر ِبه ُك ْم قالُوا بَلى »فشهد على نطقهم من حضر ممن ذكرنا باإلقرار بربوبيته‬
‫عليهم وعبوديتهم له ‪،‬‬
‫ش ِه ْدنا أ َ ْن تَقُولُوا يَ ْو َم ْال ِقيا َم ِة ِإنَّا ُكنَّا َ‬
‫ع ْن هذا غافِ ِلينَ »‬ ‫وهو قوله تعالى ‪َ «:‬‬
‫فلو كان له شريك فيهم لما أقروا بالملك له مطلقا ‪ ،‬فإن ذلك موضع حق من أجل‬
‫الشهادة ‪ ،‬فنفس إقرارهم بالملك له بأنه ربهم هو عين نفي الشريك ‪،‬‬
‫وإنما قلنا ذلك ألنه لم يجر للتوحيد هنا لفظ أصال ‪ ،‬ولكن المعنى يعطيه ‪ ،‬قال رسول‬
‫ّللا لما خلق آدم قبض على ظهره فاستخرج‬ ‫ّللا عليه وسلم في هذه اآلية ‪ :‬إن ه‬ ‫ّللا صلهى ه‬
‫ه‬
‫ّللا بخلقه في أخذ العهد على الناس‬ ‫منه كأمثال الذر فأشهدهم على أنفسهم ‪ ،‬ومن رحمة ه‬
‫ّللا من ظهور آبائهم ‪ ،‬وأشهدهم على أنفسهم بربوبيته‬ ‫لما أخذهم ه‬
‫قالوا ‪ ":‬بلى " أنت ربنا ‪ ،‬ولم يشهدهم بتوحيده ‪ ،‬إبقاء عليهم ‪ ،‬لعلمه أن فيهم من‬
‫يشرك به إذا خرج إلى الدنيا ‪ ،‬وتبريه من الشريك في العقبى يوم العرض األكبر ‪،‬‬
‫ّللا ال بتوحيده‬
‫ّللا في هذه اآلية عنا في األخذ الميثاقي إال اإلقرار بوجود ه‬ ‫فإنه لم يذكر ه‬
‫‪ ،‬ما تعرض للتوحيد فيها ‪ ،‬فقال ‪ «:‬أ َ لَ ْستُ بِ َر ِبه ُك ْم »ولم يقل لهم ( ألست بواحد ؟ )‬
‫لعلمه تعالى بأنه إذا أوجدهم أشرك بعضهم ووحد بعضهم« قالُوا بَلى »‬
‫فاجتمعوا في اإلقرار له بالربوبية ‪ ،‬أي أنه سيدهم ‪ ،‬وزاد المشرك الشريك ‪،‬‬
‫وقد يكون العبد مملوكا الثنين بحكم الشركة ‪ ،‬فأي سيد قال له ( ألست بربك ؟ )‬
‫ّللا ربا له ‪،‬‬
‫فال بد أن يقول العبد بلى ‪ ،‬ويصدق ‪ ،‬فلهذا قلنا إن اإلقرار إنما كان بوجود ه‬
‫أي مالكا وسيدا ‪ ،‬فما كان التصديق إال بالوجود والملك ‪ ،‬ال بالتوحيد ‪ ،‬وإن كان فيه‬
‫توحيد فغايته توحيد الملك ‪،‬‬

‫ص ‪187‬‬

‫ص ‪187 :‬‬
‫فكانت الفطرة إنما هي بوجود الحق والملك ال بالتوحيد ‪ ،‬وبعد هذا الميثاق يولد كل‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ [ :‬كل مولود يولد على الفطرة ]‬ ‫بني آدم على الفطرة وهو قوله صلهى ه‬
‫وهو الميثاق الخالص لنفسه ‪ ،‬فقولهم « بلى » هي الفطرة التي ولد الناس عليها ‪،‬‬
‫وإليها ينتهون ‪ ،‬ومن هنا نعلم أن اإليمان في حق الرضيع أثبت ‪ ،‬فإنه ولد على الفطرة‬
‫‪ ،‬فطرة اإليمان ‪ ،‬وهو إقراره بالربوبية هّلل تعالى على خلقه ‪ ،‬حين األخذ من الظهر‬
‫واإلشهاد ‪ ،‬وما نقل إلينا أنه طرأ أمر أخرج الذرية عن هذا اإلقرار وصحته قبل أن‬
‫ّللا خلقه‬
‫يولد ‪ ،‬فلما ولد ولد على تلك الفطرة األولى ‪ ،‬فإن الروح اإلنساني لما خلقه ه‬
‫ّللا‬
‫ّللا ‪ ،‬مقرا بربوبيته ‪ ،‬وهو الفطرة التي فطر ه‬ ‫كامال بالغا عاقال عارفا مؤمنا بتوحيد ه‬
‫الناس عليها ‪ ،‬ولوال ما هو عاقل بذاته ‪ ،‬وهو عقل لنفسه ‪ ،‬ما أقر بربوبية خالقه عند‬
‫أخذ الميثاق منه بذلك ‪ ،‬إذ ال يخاطب الحق إال من يعقل عنه خطابه ‪ ،‬ومن هذا الجمع‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ :‬األرواح أجناد مجندة ‪ ،‬فإنه لما جمعهم جمعهم‬ ‫ّللا صلهى ه‬
‫قال رسول ه‬
‫في حضرة التمثيل ‪ ،‬فما كان وجها لوجه هناك تعارفوا هنا ‪ ،‬وما وقع ظهرا لظهر‬
‫هناك تناكر هنا ‪ ،‬وما بينهما من وجه إلى ظهر وجانب وغير ذلك ‪ ،‬وبهذا اإلقرار كل‬
‫أحد يقر بهذه الشهادة في اآلخرة ‪ ،‬وال ينكر وال يدعي لنفسه ربوبية ‪ ،‬وثبت بهذا‬
‫اإلقرار االسترقاق هّلل على بني آدم ‪ ،‬فطولبوا بالوفاء بحق العبودية لهذا اإلقرار ‪،‬‬
‫ولذلك فإن العبد إذا اشتراه اإلنسان من غيره فمن شرطه أن يقر العبد لبائعه بالملك ‪،‬‬
‫وال يسمع مجرد دعواه في أنه مالك له ‪ ،‬وال يقوم على العبد حجة بقول سيده ما لم‬
‫يعترف هو بالملك له ‪ ،‬ويغفل عن هذا القدر كثير من الناس ‪ ،‬فإن األصل الحرية ‪،‬‬
‫واستصحاب األصل مرعي ‪ ،‬وبعد االعتراف بالملك صار االسترقاق في هذه الرقبة‬
‫ّللا تعالى‬‫أصال يستصحب ‪ ،‬حتى تثبت الحرية إن ادعاها ‪ ،‬هكذا هو األمر ‪ ،‬ولما أخذ ه‬
‫الميثاق والعهد في قوله تعالى ‪ «:‬أ َ لَ ْستُ ِب َر ِبه ُك ْم »ألقمه الحجر األسود ‪ ،‬وأمر بتقبيله‬
‫ّللا عليه وسلم أن الحجر يمينه ‪ ،‬وال تصح‬ ‫تذكرة ‪ ،‬وأخبر بلسان الرسول صلهى ه‬
‫المعصية إال بعد العقد ‪ ،‬ولذلك كان االبتالء أصله الدعوى ‪ ،‬فمن ال دعوى له ال ابتالء‬
‫ّللا حتى قال لنا ‪ «:‬أ َ لَ ْستُ بِ َر ِبه ُك ْم »فقلنا ‪ «:‬بَلى »فإقرارنا‬
‫يتوجه عليه ‪ ،‬ولهذا ما كلفنا ه‬
‫بربوبيته علينا عين إقرارنا بعبوديتنا له ‪ ،‬والعبودية بذاتها تطلب طاعة السيد ‪ ،‬فلما‬
‫ادعينا ذلك ‪ ،‬حينئذ كلفنا ليبتلي صدقنا فيما ادعيناه ‪ ،‬وأوجدنا في هذه الدنيا على تلك‬
‫ّللا وأحديته وأنه ال إله إال هو‬ ‫الفطرة ‪ ،‬فادعى المؤمن اإليمان وهو التصديق بوجود ه‬
‫إلى غير ذلك ‪ ،‬فلما ادعى بلسانه أن هذا مما انطوى‬

‫ص ‪188‬‬

‫ص ‪188 :‬‬
‫عليه جنانه ‪ ،‬وربط عليه قلبه ‪ ،‬احتمل أن يكون صادقا فيما ادعاه أنه صفة له ‪،‬‬
‫ّللا إلقامة الحجة له أو عليه ‪،‬‬‫ويحتمل أن يكون كاذبا في أن ذلك صفة له ‪ ،‬فاختبره ه‬
‫بما كلفه من عبادته على االختصاص ‪ ،‬ال العبادة السارية بسريان األلوهية ‪ ،‬ونصب‬
‫تمس حاجة هذا المدعي على هذه األسباب ‪ ،‬فلم‬ ‫ه‬ ‫له وبين عينيه األسباب ‪ ،‬وأوقف ما‬
‫يقض له بشيء إال منها وعلى يديها ‪،‬‬
‫ّللا نورا يكشف به ويخترق سدف هذه األسباب ‪ ،‬فيرى الحق تعالى من‬ ‫فإن رزقه ه‬
‫ورائها مسببا اسم فاعل ‪ ،‬أو يراه فيها خالقا وموجدا لحوائجه التي اضطره إليها ‪،‬‬
‫فذلك المؤمن الذي هو على نور من ربه وبينة من أمره ‪ ،‬الصادق في دعواه ‪ ،‬الموفي‬
‫ّللا له نورا فما له‬ ‫حق المقام الذي ادعاه ‪ ،‬بالعناية اإللهية التي أعطاه ‪ ،‬ومن لم يجعل ه‬
‫من نور ‪،‬‬
‫ّللا ‪ ،‬فأضاف األلوهة‬ ‫ّللا منها وجعلها حجبا بينه وبين ه‬ ‫قال بألوهية األسباب التي رزقه ه‬
‫إلى غير مستحقها ‪ ،‬فكذب في دعواه لكثرة األسباب ‪ ،‬وإقراره في شركه بأن ذلك قربة‬
‫ّللا خالق األسباب ‪ ،‬فلم يصدق ‪،‬‬ ‫منه إلى ه‬
‫والذي لم يقل بنسبة األلوهة لألسباب ‪ ،‬لكنه لم ير إال األسباب وما حصل له من‬
‫الكشف ما يخرجه عنها ‪ ،‬مع توحيد األلوهة ‪،‬‬
‫كان ذلك شركا خفيا ال يشعر به صاحبه أنه شرك يحجبه عن األمر العالي الذي طلب‬
‫ّللا وتوحيده في أفعاله ‪ -‬مع االضطراب‬ ‫به ‪ ،‬فلم يوجد صاحب هذه الدعوى في توحيد ه‬
‫عند فقد السبب وسكونه عند وجوده ‪ -‬صادقا ‪ ،‬فنقصه على قدر ما فاته من ذلك ‪،‬‬
‫ّللا العباد بما شرع لهم بإرسال الرسل ‪،‬‬
‫هذا ولم يجعل األسباب آلهة ‪ ،‬فاختبر ه‬
‫ّللا‬
‫ّللا المؤمنين باألسباب ‪ ،‬فكل صنف اختبره بحسب دعواه ‪ ،‬ولما وضع ه‬ ‫واختبر ه‬
‫األسباب لم يرفعها في حق أحد ‪،‬‬
‫وإنما أعطى بعض عباده من النور ما اهتدى به في المشي في ظلمات األسباب ‪ ،‬غير‬
‫ذلك ما فعل ‪ ،‬فعاينوا من ذلك على قدر أنوارهم ‪ ،‬فحجب األسباب مسدلة ال ترفع أبدا‬
‫‪ ،‬فال تطمع ‪ ،‬وإن نقلك الحق من سبب ‪ ،‬فإنما ينقلك بسبب آخر ‪،‬‬
‫ّللا الذي أمرك باالعتصام به ‪ ،‬وهو الشرع‬ ‫فال يفقدك السبب جملة واحدة ‪ ،‬فإنه حبل ه‬
‫المنزل ‪ ،‬وهو أقوى األسباب وأصدقها ‪ ،‬وبيده النور الذي يهتدى به في ظلمات بر هذه‬
‫األسباب وبحرها ‪ ،‬فمن عمل كذا وهو السبب ‪ ،‬فجزاؤه كذا ‪،‬‬
‫ش ِه ْدنا أ َ ْن‬
‫ّللا رشة من ذلك النور على ذاتك« َ‬ ‫فال تطمع فيما ال مطمع فيه ‪ ،‬ولكن سل ه‬
‫تَقُولُوا يَ ْو َم ْال ِقيا َم ِة إِنَّا ُكنَّا َ‬
‫ع ْن هذا غافِ ِلينَ »‬
‫‪ -‬نصيحة ‪ -‬اعلم أن اإلنسان يغفل ويسهو وينسى ‪ ،‬ويرى لنفسه مرتبة سيادة في وقت‬
‫غفلته على غيره من العباد ‪ ،‬فإذ وال بد من هذا فليجتهد‬

‫ص ‪189‬‬

‫ص ‪189 :‬‬
‫أن يكون عند الموت عبدا محضا ‪ ،‬ليس فيه شيء من السيادة على أحد من المخلوقين‬
‫‪ ،‬ويرى نفسه فقيرة إلى ك هل شيء من العالم من حيث فقره إلى ه‬
‫ّللا[ قولهم « ‪ :‬بَلى » ]‬

‫‪-‬تحقيق ‪ -‬اعلم أنه إذا انقطعت األعمال من العبيد التي كانت عن تكليف مشروع لم‬
‫تنقطع العبادة ‪ ،‬فإذا تناهى حد العمل الحسن والقبيح في أهل الجنة وأهل النار ‪ ،‬بقي‬
‫جزاؤهم جزاء العبادة في السعداء ‪ ،‬وجزاء العبودية في أهل النار ‪ ،‬وهو جزاء ال‬
‫ينقطع أبدا ‪ ،‬فهذا أعطاهم اتساع الرحمة وشمولها ‪ ،‬فإن المجرمين لم يزل عنهم شهود‬
‫عبوديتهم وإن ادعوا ربانية ‪ ،‬فيعلمون من نفوسهم أنهم كاذبون ‪ ،‬بما يجدونه ‪ ،‬فتزول‬
‫الدعوى بزوال أوانها ‪ ،‬وتبقى عليهم نسبة العبودية التي كانوا عليها في حال الدعوى‬
‫وقبل الدعوى ‪ ،‬ويجنون ثمرة قولهم ‪ ":‬بَلى "‬
‫فكانوا بمنزلة من أسلم بعد ارتداده ‪ ،‬فحكم على الكل سلطان« بَلى »فأعقبهم سعادة بعد‬
‫ما مسهم من الشقاء بقدر ما كانوا عليه في زمان الدعوى ‪ ،‬فما زال حكم« بَلى‬
‫»يصحبهم من وقته إلى ما ال يتناهى دنيا وبرزخا وآخره ‪ ،‬وعرضت عوارض لبعض‬
‫الناس أخرجتهم في الظاهر عن حكم توحيدهم ‪ ،‬بما ادعوه من األلوهة في الشركاء ‪،‬‬
‫فأثبتوه وزادوا ‪ ،‬وكل عارض زائل ‪ ،‬وحكمه يزول بزواله ‪ ،‬ويرجع الحكم إلى‬
‫ّللا إليها مع عمارة الدارين ‪،‬‬
‫األصل ‪ ،‬واألصل يقتضي السعادة ‪ ،‬فمآل الكل إن شاء ه‬
‫ولكل واحدة ملؤها ‪ ،‬والرحمة تصحبها كما صحبت هنا العبودية لكل أحد ممن بقي‬
‫عليها أو ادعى الربوبية ‪ ،‬فإنه ادعى أمرا يعلم من نفسه خالفه ‪ ،‬فيرجع األمر في‬
‫اآلخرة إلى حكم أخذ الميثاق بالرحمة التي وسعت كل شيء ‪ -‬إشارة ‪ -‬إنما كان األخذ‬
‫من ورائك ‪ ،‬ولو كان من أمامك ما ضل أحد ‪ ،‬التفسير حمل الظهور على الظهر ‪،‬‬
‫واإلشارة حمله على الظهور الذي هو ضد الخفا ‪ ،‬فكأنه يقول ‪ :‬أخذهم من ظهورهم‬
‫لهم إلى ظهورهم له ‪ ،‬فأقروا ‪ ،‬أما قوله ‪ ( :‬لو كان من أمامك ما ضل أحد ) أي لو‬
‫شهدتني من كوني قادرا وال سبيل إلى ذلك ‪ ،‬ولما وقع حينئذ إنكار قط ‪ ،‬واألخذ إشارة‬
‫إلى القهر ‪.‬‬

‫[ سورة األعراف ( ‪ : ) 7‬اآليات ‪ 173‬إلى ‪] 175‬‬


‫أ َ ْو تَقُولُوا ِإنهما أَش َْركَ آباؤُنا ِم ْن قَ ْب ُل َو ُكنها ذُ ِ ّريهةً ِم ْن بَ ْع ِد ِه ْم أ َ فَت ُ ْه ِلكُنا ِبما فَعَ َل ا ْل ُم ْب ِطلُ َ‬
‫ون‬
‫علَ ْي ِه ْم نَبَأ َ الهذِي آت َ ْينا ُه‬
‫ون ( ‪َ ) 174‬واتْ ُل َ‬ ‫ت َولَعَله ُه ْم يَ ْر ِجعُ َ‬ ‫ص ُل ْاآليا ِ‬‫) ‪َ ( 173‬وكَذ ِلكَ نُفَ ِ ّ‬
‫ين) ‪( 175‬‬ ‫كان ِم َن ا ْلغا ِو َ‬ ‫طان فَ َ‬ ‫ش ْي ُ‬ ‫سلَ َخ ِم ْنها فَأَتْبَعَهُ ال ه‬‫آياتِنا فَا ْن َ‬

‫ص ‪190‬‬

‫ص ‪190 :‬‬
‫ّللا العلم بخاصية آية من آياته ‪ ،‬فدعا بها على موسى‬ ‫وهو ابن باعورا ‪ ،‬وكان قد آتاه ه‬
‫ّللا عنه علم‬ ‫ّللا فيما دعا فيه ‪ ،‬وشقي هو في نفسه وسلب ه‬ ‫عليه السالم وقومه ‪ ،‬فأجابه ه‬
‫ذلك ‪ ،‬وجعل مثله كمثل الكلب ‪ ،‬وهنا نكتة أحب بيانها وإن قليال ما يقع التنبيه عليها ‪،‬‬
‫وربما غلط فيها قوم من حيث الجواز اإلمكاني ‪ ،‬والوجود قد ثبت على أحد طرفي‬
‫الممكن ‪ ،‬فال سبيل إلى انقالبه ‪ ،‬وهو أن الحق سبحانه ما تجلى لشيء قط واحتجب‬
‫عنه ‪ ،‬وال كتب في قلبه إيمانا فمحاه ‪ ،‬وكل من قال استتر عني بعد التجلي ‪ ،‬فما تجلى‬
‫له قط ‪ ،‬ولكن جلهي له فقال ‪ :‬هو هو ‪ ،‬وال ثبات للكون على حال ‪ ،‬فتغير عليه ‪ ،‬فكذلك‬
‫كتبه اإليمان وإتيان اآليات والبينات ‪ ،‬إذا أعطيت في القلوب وقامت شواهدها منها فال‬
‫تزال أبدا ‪ ،‬فإذا أزيل عن شخص مثل هذا ‪ ،‬فاعلم أنه ما كتب قط في لوح قلبه ‪ ،‬وال‬
‫كان رداء عليها ‪ ،‬لكن كانت رداء عليه ‪ ،‬وأعطي عبارتها ولسانها ‪ ،‬ال أعيانها‬
‫علَ ْي ِه ْم نَبَأ َ الَّذِي آتَيْناهُ‬
‫ووجودها ‪ ،‬فمثل هذا العطاء يسترد ويزال ‪ ،‬ولذلك قال ‪َ «:‬واتْ ُل َ‬
‫سلَ َخ ِم ْنها »كما يسلخ الرجل من ثوبه ‪ ،‬والحية من‬ ‫سلَ َخ ِم ْنها »فقوله «‪ :‬فَا ْن َ‬
‫آياتِنا فَا ْن َ‬
‫جلدها ‪ ،‬فكانت عليه رداء كما ذكرنا ‪ ،‬لم يكن عنده سوى النطق ‪ ،‬فإذا نطق ظهر‬
‫مكنون االسم وأثره بالخاصية ‪ ،‬وال يشترط في الخواص المفردة تطهير وال تقديس‬
‫وال حضور وال جمعية وال كفر وال إيمان ‪ ،‬إال بمجرد ما يكون النطق بتلك الحروف‬
‫المعينة ظهر األثر ‪ ،‬ولو كان القائل غافال عن نطقه ‪ ،‬فدل على أن اآليات كانت على‬
‫بلعام ابن باعورا في الظاهر كالثوب ‪ ،‬فإنه أعطي الحروف ‪ ،‬فكان يفعل بالخاصية ال‬
‫ّللا ‪ ،‬ولو كان في باطنه لمنعه الحياء‬ ‫ّللا فأشقاه ه‬
‫بالصدق ‪ ،‬فعمل بها في غير طاعة ه‬
‫والمقام من الدعاء على نبي من األنبياء ‪ ،‬وأجيب لخاص االسم ‪ ،‬وعوقب وجعل مثل‬
‫الكلب ‪ ،‬ونسي حروف ذلك االسم ‪.‬‬

‫[ سورة األعراف ‪ ( 7 ) :‬اآليات ‪ 176‬إلى ‪]179‬‬


‫ب إِ ْن تَحْ ِم ْل‬ ‫ض َواتهبَ َع َهواهُ فَ َمثَلُهُ َك َمث َ ِل ا ْل َك ْل ِ‬ ‫شئْنا لَ َرفَ ْعناهُ بِها َول ِكنههُ أ َ ْخلَ َد إِلَى ْاأل َ ْر ِ‬ ‫َولَ ْو ِ‬
‫ص لَعَله ُه ْم‬‫ص َ‬ ‫ص ا ْلقَ َ‬ ‫ص ِ‬ ‫اق ُ‬ ‫ِين َكذهبُوا بِآياتِنا فَ ْ‬ ‫علَ ْي ِه يَ ْل َه ْث أ َ ْو تَتْ ُر ْكهُ يَ ْل َه ْث ذ ِلكَ َمث َ ُل ا ْلقَ ْو ِم الهذ َ‬
‫َ‬
‫ون (‬‫س ُه ْم كانُوا يَ ْظ ِل ُم َ‬ ‫ِين َكذهبُوا ِبآياتِنا َوأ َ ْنفُ َ‬ ‫ون ( ‪) 176‬سا َء َمثَالً ا ْلقَ ْو ُم الهذ َ‬ ‫يَتَفَك ُهر َ‬
‫ون ( ‪) 178‬‬ ‫س ُر َ‬ ‫ض ِل ْل فَأُولئِكَ ُه ُم ا ْلخا ِ‬ ‫َّللاُ فَ ُه َو ا ْل ُم ْهتَدِي َو َم ْن يُ ْ‬ ‫‪َ ) 177‬م ْن يَ ْه ِد ه‬
‫ون ِبها َولَ ُه ْم أ َ ْعيُ ٌن ال‬ ‫وب ال يَ ْفقَ ُه َ‬ ‫اْل ْن ِس لَ ُه ْم قُلُ ٌ‬ ‫َولَقَ ْد ذَ َرأْنا ِل َج َهنه َم َكثِيرا ً ِم َن ا ْل ِج ِّن َو ْ ِ‬
‫ض ُّل أُول ِئكَ ُه ُم‬ ‫عام بَ ْل ُه ْم أ َ َ‬‫ون ِبها أُول ِئكَ ك َْاأل َ ْن ِ‬ ‫س َمعُ َ‬ ‫آذان ال يَ ْ‬‫ٌ‬ ‫ون ِبها َولَ ُه ْم‬ ‫يُ ْب ِص ُر َ‬
‫ون ( ‪) 179‬‬ ‫ا ْلغافِلُ َ‬

‫ص ‪191‬‬

‫ص ‪191 :‬‬
‫ْص ُرونَ بِها َولَ ُه ْم ٌ‬
‫آذان ال يَ ْس َمعُونَ بِها »فهم‬ ‫وب ال يَ ْفقَ ُهونَ بِها َولَ ُه ْم أ َ ْعيُ ٌن ال يُب ِ‬
‫«لَ ُه ْم قُلُ ٌ‬
‫المحجوبون ال يعلمون وال يشهدون ‪ ،‬فالعين طريق ‪ ،‬والعلم تحقيق ‪ ،‬فما تنظر إال‬
‫لتعلم ‪ ،‬وال تخاطب إال لتفهم ‪ ،‬والتلبيس يدخل على البصر ‪ ،‬ومن استعمله العلم كان‬
‫بحكم الفهم ‪ ،‬فالشهادة على الخبر أقوى في الحكم من شهادة البصر ‪ ،‬فإذا أنصف‬
‫اإلنسان ‪ ،‬فرق بين اإليمان والعيان ‪ ،‬فالتصديق بالخبر فوق الحكم بما يشهده البصر ‪،‬‬
‫فإذا أنصف اإلنسان ‪ ،‬فرق بين اإليمان والعيان ‪ ،‬فالتصديق بالخبر فوق الحكم بما‬
‫ض ُّل »اإلنسان الحيوان‬ ‫يشهده البصر ‪ ،‬إال إذا نظر واعتبر« أُولئِ َك َك ْاأل َ ْن ِ‬
‫عام بَ ْل ُه ْم أ َ َ‬
‫حكمه حكم سائر الحيوان ‪ ،‬إال أنه يتميز عن غيره من الحيوان بالفصل المقوم له ‪،‬‬
‫كما يتميز الحيوان بعضه عن بعض الفصول المقومة لكل واحد من الحيوان ‪،‬‬
‫فاإلنسان الحيواني من جملة الحشرات ‪ ،‬فقال تعالى في أهل الضالل ‪ «:‬أُول ِئ َك‬
‫عام »فإن لهم قلوبا يعقلون بها ‪ ،‬وإن لهم أعينا يبصرون بها ‪ ،‬وإن لهم آذانا‬ ‫َك ْاأل َ ْن ِ‬
‫ض ُّل »ألن األنعام ما جعل ه‬
‫ّللا لهم‬ ‫يسمعون بها ‪ ،‬فأنزلوا أنفسهم منزلة األنعام« بَ ْل ُه ْم أ َ َ‬
‫هذه القوى التي توجب لصاحب البصر أن يعتبر ‪ ،‬ولصاحب األذن أن يعي ما يسمع ‪،‬‬
‫ولصاحب القلب أن يعقل ‪ ،‬فرتبة خلق اإلنسان الحيواني من اإلنسان الكامل رتبة خلق‬
‫النسناس من اإلنسان الحيواني ‪.‬‬

‫[ سورة األعراف ( ‪ : ) 7‬آية ‪] 180‬‬


‫سيُجْ َز ْو َن ما كانُوا‬ ‫ُون فِي أ َ ْ‬
‫سمائِ ِه َ‬ ‫سنى فَا ْدعُوهُ بِها َوذَ ُروا الهذ َ‬
‫ِين يُ ْل ِحد َ‬ ‫ّلِل ْاأل َ ْ‬
‫سما ُء ا ْل ُح ْ‬ ‫َو ِ ه ِ‬
‫ون ) ‪( 180‬‬ ‫يَ ْع َملُ َ‬
‫[ مراتب األسماء اإللهية ]‬
‫مراتب األسماء اإللهية ‪ :‬األسماء اإللهية على ثالث مراتب ‪ ،‬أسماء تدل على الذات ال‬
‫تدل‬

‫ص ‪192‬‬

‫ص ‪192 :‬‬
‫على أمر آخر ‪ ،‬وأسماء تدل على صفات تنزيه ‪ ،‬وأسماء تدل على صفات أفعال ‪ ،‬وما‬
‫ثم مرتبة رابعة ‪ ،‬وكل هذه األسماء قد ظهرت في العالم ‪ ،‬فأسماء الذات يتعلق بها وال‬
‫يتخلق وأسماء صفات التنزيه يقدس بها جناب الحق تعالى ويتخلق بها العبد بحسب ما‬
‫ّللا أن تقوم به صفات الحدوث ‪ ،‬كذلك‬ ‫تعطيه مما يليق به ‪ ،‬فكما أن العبد يقدس جالل ه‬
‫يقدهس العبد بهذه األسماء في التخلق بها أن تقوم به صفات القدم والغنى المطلق ‪،‬‬
‫وأسماء صفات األفعال يوحد العبد بها ربه فال يشرك في فعله تعالى أحدا من خلقه ‪.‬‬
‫شرح األسماء الحسنى وتعلقها ‪ :‬نسب الحق تعالى إلى نفسه األسماء الحسنى دون‬
‫عراها عن النعت‬‫غيرها من األسماء ‪ ،‬وإن كانت أسماء له في الحقيقة ‪ ،‬إال أنه ه‬
‫عز وجل « هللا » من حيث هويته وذاته ‪ « .‬الرحمن » بعموم رحمته‬ ‫بالحسنى فهو ه‬
‫التي وسعت كل شيء ‪ « .‬الرحيم » بما أوجب على نفسه للتائبين من عباده « ‪.‬الرب‬
‫» بما أوجده من المصالح لخلقه ‪ « .‬الملك » بنسبة ملك السماوات واألرض إليه ‪،‬‬
‫ّللا حق قدره ‪ ،‬وتنزيهه عن‬ ‫فإنه رب كل شيء ومليكه ‪ « .‬القدوس » بقوله وما قدروا ه‬
‫كل ما وصف به ‪ « .‬السالم » بسالمته من كل ما نسب إليه مما كره من عباده أن‬
‫ينسبوه إليه ‪ « .‬المؤمن » بما صدق عباده ‪ ،‬وبما أعطاهم من األمان إذا وفوا بعهده ‪.‬‬
‫« المهيمن » على عباده بما هم فيه من جميع أحوالهم مما لهم وعليهم ‪.‬‬
‫«العزيز » لغلبه من غالبه إذ هو الذي ال يغالب ‪ ،‬وامتناعه في علو قدسه أن يقاوم ‪.‬‬
‫«الجبار » بما جبر عليه عباده في اضطرارهم واختيارهم ‪ ،‬فهم في قبضته « ‪.‬‬
‫المتكبر » لما حصل في النفوس الضعيفة من نزوله إليهم في خفي ألطافه لمن تقرب‬
‫بالحد والمقدار ‪ ،‬من شبر وذراع وباع وهرولة وتبشيش وفرح وتعجب وضحك‬
‫وأمثال ذلك ‪ « .‬الخالق » بالتقدير واإليجاد ‪.‬‬
‫« الباري » بما أوجده من مولدات األركان ‪.‬‬
‫« المصور » بما فتح في الهباء من الصور ‪ ،‬وفي أعين المتجلى لهم من صور‬
‫التجلي المنسوبة إليه ما نكر منها وما عرف وما أحيط بها وما لم يدخل تحت إحاطة‪.‬‬
‫« الغفار » بمن ستر من عباده المؤمنين ‪.‬‬
‫" الغافر " بنسبة اليسير إليه ‪.‬‬
‫« الغفور » بما أسدل من الستور من أكوان وغير أكوان ‪.‬‬
‫"القهار " من نازعه من عباده بجهالة ولم يتب ‪.‬‬
‫« الوهاب » بما أنعم به من العطاء لينعم ‪ ،‬ال جزاء وال ليشكر به ويذكر ‪.‬‬
‫« الكريم » المعطي عباده ما سألوه منه ‪.‬‬
‫« الجواد » المعطي قبل السؤال ليشكروه فيزيدهم ويذكروه فيثيبهم ‪.‬‬
‫" السخي " بإعطاء كل شيء خلقه ‪،‬‬

‫ص ‪193‬‬

‫ص ‪193 :‬‬
‫وتوفيته حقه ‪.‬‬
‫« الرزاق » بما أعطى من األرزاق لكل متغذ من معدن ونبات وحيوان وإنسان من‬
‫غير اشتراط كفر وال إيمان ‪.‬‬
‫« الفتاح » بما فتح من أبواب النعم والعقاب والعذاب ‪.‬‬
‫"العليم " بكثرة معلوماته ‪ « .‬العالم » بأحدية نفسه ‪.‬‬
‫« العالم » بالغيب فهو تعلق خاص ‪ ،‬والغيب ال يتناهى ‪ ،‬والشهادة متناهية إذا كان‬
‫الوجود سبب الشهود والرؤية كما يراه بعض النظار ‪ ،‬وعلى كل حال فالشهادة‬
‫خصوص ‪.‬‬
‫" القابض " بكون األشياء في قبضته ‪ ،‬واألرض جميعا قبضته ‪ ،‬وكون الصدقة تقع‬
‫بيد الرحمن فيقبضها ‪.‬‬
‫« الباسط » بما بسطه من الرزق الذي ال يعطي البغي بسطه ‪ ،‬وهو القدر المعلوم ‪،‬‬
‫وأنه تعالى يقبض ما شاء من ذلك لما فيه من االبتالء والمصلحة ‪ ،‬ويبسط ما شاء من‬
‫ذلك لما فيه من االبتالء والمصلحة ‪.‬‬
‫" الرافع " من كونه تعالى بيده الميزان ‪ ،‬يخفض القسط ويرفعه ‪ ،‬فيرفع ليؤتي الملك‬
‫من يشاء ‪ ،‬ويعز من يشاء ويغني من يشاء ‪.‬‬
‫« الخافض » لينزع الملك ممن يشاء ‪ ،‬ويذل من يشاء ‪ ،‬ويفقر من يشاء ‪ ،‬بيده الخير‬
‫وهو الميزان فيوفي الحقوق من يستحقها ‪ ،‬وفي هذه الحال ال يكون معاملة االمتنان‬
‫فإن استيفاء الحقوق من بعض االمتنان أعم في التعلق ‪.‬‬
‫« المعز » « المذل » فأعز بطاعته ‪ ،‬وأذل بمخالفته ‪ ،‬وفي الدنيا أعز بما آتى من‬
‫المال من أتاه ‪ ،‬وبما أعطى من اليقين ألهله ‪ ،‬وبما أنعم به من الرئاسة والوالية‬
‫والتحكم في العالم بإمضاء الكلمة والقهر ‪ ،‬وبما أذل به الجبارين والمتكبرين ‪ ،‬وبما‬
‫أذل به في الدنيا بعض المؤمنين ‪ ،‬ليعزهم في اآلخرة ‪ ،‬ويذل من أورثهم الذلة في‬
‫الدنيا إليمانهم وطاعتهم ‪.‬‬
‫« السميع » دعاء عباده إذا دعوه في مهماتهم فأجابهم من اسمه السميع ‪ ،‬فإنه تعالى‬
‫ذكر في حد السمع فقال ‪ :‬وال تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم ال يسمعون ‪ ،‬ومعلوم‬
‫أنهم سمعوا دعوة الحق بآذانهم ‪ ،‬ولكن ما أجابوا ما دعوا إليه وهكذا يعامل الحق عباده‬
‫من كونه سميعا ‪ « .‬البصير » بأمور عباده كما قال لموسى وهارون إنني معكما‬
‫أسمع وأرى ‪ ،‬فقال لهما ‪ :‬ال تخافا فإذا أعطى بصره األمان ‪ ،‬فذلك معنى البصير ‪ ،‬ال‬
‫أنه يشهده ويراه فقط ‪ ،‬فإنه يراه حقيقة سواء نصره أو خذله أو اعتنى به أو أهمله ‪« .‬‬
‫الحكم » بما يفصل به من الحكم يوم القيامة بين عباده ‪ ،‬وبما أنزل في الدنيا من‬
‫األحكام المشروعة ‪ ،‬والنواميس الوضعية الحكمية ‪ ،‬كل ذلك من االسم الحكم ‪« .‬‬
‫العدل » بحكمه بالحق ‪ ،‬وإقامة الملة الحنيفية ‪ ،‬قل رب احكم بالحق ‪ ،‬فهو ميل إليه إذ‬
‫ّللا ‪ « .‬اللطيف » بعباده فإنه يوصل‬ ‫قد جعل للهوى حكما من اتبعه ضل عن سبيل ه‬

‫ص ‪194‬‬

‫ص ‪194 :‬‬
‫إليهم العافية مندرجة في األدوية الكريهة ‪ ،‬فأخفى من ضرب المثل في األدوية المؤلمة‬
‫المتضمنة الشفاء والراحة ال يكون ‪ ،‬فإنه ال أثر لها في وقت االستعمال مع علمنا بأنها‬
‫نحس بها للطافتها ‪ .‬ومن باب لطفه سريانه في‬ ‫ه‬ ‫في نفس استعمال ذلك الدواء ‪ ،‬وال‬
‫ّللاُ َخلَقَ ُك ْم َوما ت َ ْع َملُونَ »وال نرى األعمال إال من‬ ‫أفعال الموجودات وهو قوله ‪َ «:‬و َّ‬
‫ّللا ‪ ،‬فلو ال لطفه لشوهد ‪.‬‬ ‫المخلوقين ‪ ،‬ونعلم أن العامل لتلك األعمال إنما هو ه‬
‫« الخبير » بما اختبر به عباده ومن اختباره قوله ‪:‬‬
‫«حتى نعلم » فيرى هل ننسب إليه حدوث العلم أم ال ‪ ،‬فانظر أيضا هذا اللطف ‪،‬‬
‫ولذلك قرن الخبير باللطيف فقال اللطيف الخبير ‪ « .‬الحليم » هو الذي أمهل وما أهمل‬
‫‪ ،‬ولم يسارع بالمؤاخذة لمن عمل سوءا بجهالة ‪ ،‬مع تمكنه أن ال يجهل وأن يسأل‬
‫وينظر حتى يعلم ‪.‬‬
‫«العظيم » في قلوب العارفين به ‪ « .‬الشكور » لطلب الزيادة من عباده مما شكرهم‬
‫عليه ‪ ،‬وذكرهم به من عملهم بطاعته ‪ ،‬والوقوف عند حدوده ورسومه وأوامره‬
‫ونواهيه ‪،‬‬
‫ش َك ْرت ُ ْم َأل َ ِزي َدنَّ ُك ْم »فبذلك يعامل عباده ‪ ،‬فطلب منهم بكونه شكورا أن‬ ‫وهو يقول ‪ «:‬لَئِ ْن َ‬
‫يبالغوا فيما شكرهم عليه ‪ « .‬العلي »في شأنه وذاته عما يليق بسمات الحدوث ‪،‬‬
‫وصفات المحدثات ‪.‬‬
‫« الكبير » بما نصبه المشركون من اآللهة ‪ ،‬ولهذا قال إبراهيم عليه السالم ‪ «:‬بَ ْل‬
‫ير ُه ْم »وهنا الوقف ويبتدئ« هذا فَ ْسئَلُو ُه ْم إِ ْن كانُوا يَ ْن ِطقُونَ »فلو نطقوا‬ ‫فَعَلَهُ َكبِ ُ‬
‫ّللا هو الكبير العلي العظيم ‪ « .‬الحفيظ » بكونه بكل شيء‬ ‫العترفوا بأنهم عبيد ‪ ،‬وأن ه‬
‫محيط ‪ ،‬فاحتاط باألشياء ليحفظ عليها وجودها ‪ ،‬فإنها قابلة للعدم كما هي قابلة للوجود‬
‫‪ ،‬فمن شاء سبحانه أن يوجده فأوجده حفظ عليه وجوده ‪ ،‬ومن لم يشأ أن يوجد وشاء‬
‫أن يبقيه في العدم حفظ عليه العدم ‪ ،‬فال يوجد ما دام يحفظ عليه العدم ‪ ،‬فإما أن يحفظه‬
‫دائما أو إلى أجل مسمى ‪.‬‬
‫«المقيت » بما قدر في األرض من األقوات وبما أوحى في السماء من األمور فهو‬
‫سبحانه يعطى قوت كل متقوت على مقدار معلوم ‪ « .‬الحسيب » إذا عدد عليك نعمه ‪،‬‬
‫ليريك منته عليك ‪ ،‬ل هما كفرت بها فلم يؤاخذك لحلمه وكرمه وبما هو كافيك عن كل‬
‫شيء ‪ ،‬ال إله إال هو العليم الحكيم ‪.‬‬
‫« الجليل » لكونه عز فلم تدركه األبصار وال البصائر ‪ ،‬فعال ونزل بحيث أنه مع‬
‫عباده أينما كانوا كما يليق بجالله ‪ ،‬إلى أن بلغ في نزوله أن قال لعبده مرضت فلم‬
‫تعدني ‪ ،‬وجعت فلم تطعمني ‪ ،‬وظمئت فلم تسقني ‪ ،‬فأنزل نفسه من عباده منزلة عباده‬
‫من عباده ‪ ،‬فهذا من حكم هذا االسم اإللهي ‪.‬‬
‫« الرقيب » لما هو عليه من لزوم الحفظ لخلقه ‪ ،‬فإن‬

‫ص ‪195‬‬

‫ص ‪195 :‬‬
‫ذلك ال يثقله وليعلم عباده أنه إذا راقبهم يستحون منه ‪ ،‬فال يراهم حيث نهاهم ‪ ،‬وال‬
‫يفقدهم حيث أمرهم ‪ « .‬المجيب » من دعاه لقربه وسماعه دعاء عباده كما أخبر عن‬
‫عان »فوصف نفسه‬ ‫يب أ ُ ِج ُ‬
‫يب َدع َْوة َ الدَّاعِ ِإذا َد ِ‬ ‫سأَلَ َك ِعبادِي َ‬
‫ع ِنهي فَإِ ِنهي قَ ِر ٌ‬ ‫نفسه« َو ِإذا َ‬
‫بأنه متكلم إذ المجيب من كان ذا إجابة وهي التلبية ‪ « .‬الواسع » العطاء بما بسط من‬
‫الرحمة التي وسعت كل شيء ‪ ،‬وهي مخلوقة فرحم بها كل شيء ‪ ،‬وبها أزال غضبه‬
‫عن عباده ‪ « .‬الحكيم » بإنزال كل شيء منزلته ‪ ،‬وجعله في مرتبته ‪ ،‬ومن أوتي‬
‫ّللا عليه‬ ‫الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا ‪ ،‬وقد قال عن نفسه ‪ :‬إن بيده الخير وقال صلهى ه‬
‫وسلم ‪ :‬والخير كله بيديك فلم يبق منه شيئا والشر ليس إليك ‪.‬‬
‫« الودود » الثابت حبه في عباده ‪ ،‬فال يؤثر فيما سبق لهم من المحبة معاصيهم ‪،‬‬
‫فإنها ما نزلت بهم إال بحكم القضاء والقدر السابق ‪ ،‬ال للطرد والبعد« ِليَ ْغ ِف َر لَ َك َّ‬
‫ّللاُ ما‬
‫تَقَد ََّم ِم ْن ذَ ْن ِب َك َوما تَأ َ َّخ َر »فسبقت المغفرة للمحبين اسم مفعول ‪ « .‬المجيد » لما له من‬
‫ّللا أنه خلقه‬ ‫الشرف على كل موصوف بالشرف فإن شرف العالم بما هو منسوب إلى ه‬
‫ّللا ‪« .‬‬ ‫وفعله فما هو شرفه بنفسه فالشريف على الحقيقة من شرفه بذاته وليس إال ه‬
‫الباعث » عموما وخصوصا ‪ ،‬فالعموم بما بعث من الممكنات إلى الوجود من العدم ‪،‬‬
‫وهو بعث لم يشعر به كل أحد إال من قال بأن للممكنات أعيانا ثبوتية ‪ ،‬وإن لم يعثر‬
‫ّللا بهذا‬
‫على ما أشرنا إليه القائل بهذا ‪ ،‬ولما كان الوجود عين الحق فما بعثهم إال ه‬
‫االسم خاصة ‪ ،‬ثم خصوص البعث في األحوال كبعث الرسل ‪ ،‬والبعث من الدنيا إلى‬
‫البرزخ نوما وموتا ‪ ،‬ومن البرزخ إلى القيامة ‪ ،‬وكل بعث في العالم في حال وعين ‪،‬‬
‫فمن االسم الباعث فهو من أعجب اسم تسمى الحق به تعريفا لعباده ‪.‬‬
‫" الشهيد " لنفسه بأنه ال إله إال هو ‪ ،‬ولعباده بما فيه الخير والسعادة لهم بما جاءوا به‬
‫ّللا وطاعة رسوله ‪ ،‬وبما كانوا عليه من مكارم األخالق ‪ ،‬وشهيد عليهم بما‬ ‫من طاعة ه‬
‫ّللا وكرمه بهم‬ ‫كانوا فيه من المخالفات والمعاصي وسفساف األخالق ‪ ،‬ليريهم منة ه‬
‫حيث غفر لهم وعفا عنهم ‪ ،‬وكان مآلهم عنده إلى شمول الرحمة ‪ ،‬ودخولهم في سعتها‬
‫ّللا من العدم إلى‬ ‫وأن تلك األشياء المسماة مخالفة لم يبرزها ه‬ ‫إذ كانوا من جملة األشياء ه‬
‫الوجود إال برحمته ‪ ،‬فهي مخلوقة من الرحمة ‪ ،‬وكان المحل الذي قامت به سببا‬
‫لوجودها ‪ ،‬ألنها ال تقوم بنفسها وإنما تقوم بنفس المخالف ‪ ،‬وقد علمت أنها مخلوقة من‬
‫الرحمة ‪ ،‬ومسبحة بحمد خالقها ‪ ،‬فهي تستغفر للمحل الذي قامت به حتى ظهر وجود‬
‫عينها لعلمها بأنها ال تقوم بنفسها ‪ « .‬الحق » الوجود الذي ال يأتيه‬

‫ص ‪196‬‬

‫ص ‪196 :‬‬
‫الباطل ‪ ،‬وهو العدم من بين يديه وال من خلفه ‪ ،‬فمن بين يديه من قوله لما خلقت بيدي‬
‫ّللا مرمى ‪ ،‬فنسب إليه‬ ‫ّللا عليه وسلم ‪ :‬ليس وراء ه‬‫ّللا صلهى ه‬
‫‪ ،‬ومن خلفه لقول رسول ه‬
‫الوراء وهو الخلف ‪ ،‬فهو وجود حق ال عن عدم ‪ ،‬وال يعقبه عدم ‪ ،‬بخالف الخلق فإنه‬
‫عن عدم ويعقبه العدم من حيث ال يشعر به ‪ ،‬فإن الوجود واإليجاد ال ينقطع ‪ ،‬فما ثم‬
‫في العالم من العالم إال وجود وشهود ‪ ،‬دنيا وآخرة من غير انتهاء وال انقطاع ‪ ،‬فأعيان‬
‫تظهر فتبصر ‪ « .‬الوكيل » الذي وكله عباده على النظر في مصالحهم ‪ ،‬فكان من‬
‫النظر في مصالحهم أن أمرهم باإلنفاق على حد معين ‪ ،‬فاستخلفهم فيه بعد ما اتخذوه‬
‫وكيال ‪ ،‬فاألموال له بوجه ‪ ،‬فاستخلفهم فيها ‪.‬‬
‫واألموال لهم بوجه فوكلوه في النظر فيها ‪ ،‬فهي لهم بما لهم فيها من المنفعة ‪ ،‬وهي له‬
‫ّللا ما خلق العالم إال‬
‫بما هي عليه من تسبيحها بحمده ‪ ،‬فمن اعتبر التسبيح قال ‪ :‬إن ه‬
‫ّللا ما خلق العالم إال لينفع بعضه بعضا ‪.‬‬
‫لعبادته ‪ ،‬ومن راعى المنفعة قال ‪ :‬إن ه‬
‫« القوي المتين » هو ذو القوة لما في بعض الممكنات أو فيها مطلقا من العزة ‪ ،‬وهي‬
‫عدم القبول لألضداد ‪ ،‬فكان من القوة خلق عالم الخيال ‪ ،‬ليظهر فيه الجمع بين‬
‫األضداد ‪ ،‬ألن الحس والعقل يمتنع عندهما الجمع بين الضدين ‪ ،‬والخيال ال يمتنع عنده‬
‫ذلك ‪ ،‬فما ظهر سلطان القوي ‪ ،‬وال قوته إال في خلق القوة المتخيلة وعالم الخيال ‪،‬‬
‫فإنه أقرب في الداللة على الحق ‪ ،‬فإن الحق هو األول واآلخر والظاهر والباطن ‪ ،‬فما‬
‫حاز الصورة على الحقيقة إال الخيال ‪ ،‬وهذا ما ال يسع أحدا إنكاره ‪ ،‬فإنه يجده في‬
‫ّللا هو‬
‫نفسه ويبصره في منامه ‪ ،‬فيرى ما هو محال الوجود موجودا ‪ ،‬فتنبه لقوله ‪ :‬إن ه‬
‫الرزاق ذو القوة المتين ‪ « .‬الولي » هو الناصر من نصره ‪ ،‬فنصرته مجازاة ‪ ،‬ومن‬
‫ّللا من طريق الوجوب ‪ ،‬فإنه قال ‪ « :‬وكان‬ ‫آمن به فقد نصره ‪ ،‬فالمؤمن يأخذ نصر ه‬
‫حقا علينا نصر المؤمنين » مثل وجوب الرحمة عليه سواء ‪ .‬قال تعالى ‪ « :‬كتب‬
‫ربكم على نفسه الرحمة أنه من عمل منكم سوءا بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح »‬
‫ّللا تشبه رحمة الوجوب ‪ ،‬وتفارق رحمة االمتنان‬ ‫وأين هذا من اتساعها ؟ فنصرة ه‬
‫الواسعة ‪ ،‬فإنه ما رأينا فيما أخبرنا به تعالى نصرة مطلقة ‪ ،‬وإنما رأيناها مقيدة إما‬
‫باإليمان وإما بقوله ‪ « :‬إن تنصروا هللا ينصركم ‪» .‬‬
‫«الحميد » بما هو حامد بلسان كل حامد وبنفسه ‪ ،‬وبما هو محمود بكل ما هو مثنى‬
‫عليه وعلى نفسه ‪ ،‬فإن عواقب الثناء عليه تعود ‪ « .‬المحصي » كل شيء عددا ‪ ،‬من‬
‫حروف وأعيان وجودية ‪ ،‬إذ كان التناهي ال يدخل إال في الموجودات ‪ ،‬فيأخذه‬
‫اإلحصاء فهذه الشيئية شيئية‬

‫ص ‪197‬‬

‫ص ‪197 :‬‬
‫الوجود وفي قوله وأحصى كل شيء عددا ‪ « .‬المبدى » هو الذي ابتدأ الخلق باإليجاد‬
‫في الرتبة الثانية ‪ ،‬وكل ما ظهر من العالم ويظهر فهو فيها ‪ ،‬وما ثم مرتبة ثالثة فهي‬
‫اآلخر واألولى للحق ‪ ،‬فهو األول ‪ ،‬فالخلق من حيث وجوده ال يكون في األول أبدا ‪،‬‬
‫وإنما له اآلخر ‪ ،‬والحق معه في اآلخر ‪ ،‬فإنه مع العالم أينما كانوا ‪ ،‬وقد تسمى باآلخر‬
‫فاعلم ‪.‬‬
‫« المعيد » عين الفعل من حيث ما هو خالق وفاعل وجاعل وعامل ‪ ،‬فهو إذا خلق‬
‫شيئا وفرغ خلقه ‪ ،‬عاد إلى خلق آخر ‪ ،‬ألنه ليس في العالم شيء يتكرر ‪ ،‬وإنما هي‬
‫أمثال تحدث ‪ ،‬وهي الخلق الجديد ‪ ،‬وأعيان توجد ‪.‬‬
‫« المحيي » بالوجود كل عين ثابتة لها حكم قبول اإليجاد ‪ ،‬فأوجدها الحق في وجوده‪.‬‬
‫« المميت » في الزمان الثاني فما زاد من زمان وجودها فمفارقتها وانتقالها لحال‬
‫الوجود الذي كان لها موت ‪ ،‬وقد يرجع إلى حكمها من الثبوت الذي كان لها فمن‬
‫المحال وجودها بعد ذلك حتى تفرغ ‪ ،‬وهي ال تفرغ لعدم التناهي فيها فافهم ‪ « .‬الحي‬
‫» لنفسه لتحقيق ما نسب إليه مما ال يتصف به إال من من شرطه أن يكون حيا ‪.‬‬
‫« القيوم » لقيامه على ك هل نفس بما كسبت ‪.‬‬
‫« الواجد » بالجيم لما طلب فلحق ‪ ،‬فال يفوته هارب ‪ ،‬كما ال يلحقه في الحقيقة طالب‬
‫معرفته ‪.‬‬
‫« الواحد » من حيث ألوهته فال إله إال هو ‪.‬‬
‫" الصمد " الذي يلجأ إليه في األمور ولهذا اتخذناه وكيال ‪.‬‬
‫« القادر » هو النافذ االقتدار في القوابل الذي يريد فيها ظهور االقتدار ال غير ‪.‬‬
‫" المقتدر " بما عملت أيدينا فاالقتدار له ‪ ،‬والعمل يظهر من أيدينا ‪ ،‬فكل يد في العالم‬
‫ّللا ‪ ،‬فإن االقتدار هّلل فهو تعالى قادر بنفسه ‪ ،‬مقتدر بنا ‪.‬‬
‫لها عمل فهي يد ه‬
‫« المقدم » « المؤخر » من شاء لما شاء ومن شاء عما شاء ‪.‬‬
‫« األول « » اآلخر » بالوجوب وبرجوع األمر كله إليه ‪.‬‬
‫« الظاهر » « الباطن » لنفسه ظهر فما زال ظاهرا وعن خلقه بطن ‪ ،‬فما يزال باطنا‬
‫فال يعرف أبدا ‪.‬‬
‫" البر " بإحسانه ونعمه وآالئه التي أنعم بها على عباده ‪.‬‬
‫« التواب » لرجوعه على عباده ليتوبوا ‪ ،‬ورجوعه بالجزاء على توبتهم ‪.‬‬
‫« المنتقم » ممن عصاه تطهيرا له من ذلك في الدنيا بإقامة الحدود ‪ ،‬وما يقوم بالعالم‬
‫من اآلالم ‪ ،‬فإنها كلها انتقام وجزاء خفي ال يشعر به كل أحد ‪ ،‬حتى إيالم الرضيع‬
‫جزاء ‪.‬‬
‫" العفو " لما في العطاء من التفاضل في القلة والكثرة وأنواع األعطيات على اختالفها‬
‫ال بد أن يدخلها القلة والكثرة ‪ ،‬فال بد أن يعمها العفو ‪ ،‬فإنه ال بد من األضداد كالجليل‪.‬‬
‫"الرؤوف " بما ظهر في العباد من الصالح واألصلح ‪ ،‬ألنه من المقلوب وهو ضرب‬
‫من‬

‫ص ‪198‬‬
‫ص ‪198 :‬‬
‫الشفقة « ‪.‬الوالي » لنفسه على كل من ولي عليه ‪ ،‬فولي على األعيان الثابتة فأثر‬
‫فيها اإليجاد ‪ ،‬وولي على الموجودات فقدم من شاء ‪ ،‬وأخر من شاء ‪ ،‬وحكم فعدل ‪،‬‬
‫وأعطى فأفضل ‪.‬‬
‫«المتعالي » على من أراد علوا في األرض ‪ ،‬وادعى له ما ليس له بحق « ‪ .‬المقسط‬
‫» هو ما أعطى بحكم التقسيط ‪ ،‬وهو قوله « وما ننزله إال بقدر معلوم » وهو التقسيط‬
‫‪ « .‬الجامع » بوجوده لكل موجود فيه ‪ « .‬الغني » عن العالمين بهم ‪.‬‬
‫« المغني » من أعطاه صفة الغنى بأن أوقفه على أن علمه بالعالم تابع للمعلوم ‪ ،‬فما‬
‫أعطاه من نفسه شيئا فاستغنى عن األثر منه فيه لعلمه بأنه ال يوجد فيه إال ما كان عليه‬
‫‪ « .‬البديع » الذي لم يزل في خلقه على الدوام بديعا ألنه يخلق األمثال وغير األمثال‬
‫‪ ،‬وال بد من وجه به يتميز المثل عن مثله ‪ ،‬فهو البديع من ذلك الوجه ‪.‬‬
‫« الضار » « النافع » بما ال يوافق الغرض وبما يوافقه ‪.‬‬
‫« النور » لما ظهر من أعيان العالم ‪ ،‬وإزالة ظلمة نسبة األفعال إلى العالم ‪.‬‬
‫« الهادي » بما أبانه للعلماء به مما هو األمر عليه في نفسه ‪.‬‬
‫« المانع » إلمكان إرسال ما مسكه ‪ ،‬وما وقع اإلمساك إال لحكمة اقتضاها علمه في‬
‫خلقه ‪.‬‬
‫« الباقي » حيث ال يقبل الزوال ‪ ،‬كما قبلته أعيان الموجودات بعد وجودها ‪ ،‬فله دوام‬
‫الوجود ‪ ،‬ودوام اإليجاد ‪.‬‬
‫« الوارث » لما خلفناه عند انتقالنا إلى البرزخ خاصة ‪.‬‬
‫« الرشيد » بما أرشد إليه عباده في تعريفه إياهم بأنه تعالى على صراط مستقيم في‬
‫أخذه بناصية كل دابة ‪ ،‬فما ثم إال من هو على ذلك الصراط ‪ ،‬واالستقامة مآلها إلى‬
‫ّللا على عباده بنعمة أعظم من كونه آخذا بناصية كل دابة ‪ ،‬فما ثم‬ ‫الرحمة ‪ ،‬فما أنعم ه‬
‫إال من مشي به على الصراط المستقيم ‪ « .‬الصبور » على ما أوذى به في قوله ‪« :‬‬
‫إن الذين يؤذون هللا ورسوله » فما عجل لهم في العقوبة مع اقتداره على ذلك ‪ ،‬وإنما‬
‫أخر ذلك ليكون منه ما يكون على أيدينا من رفع ذلك عنه باالنتقام منهم ‪ ،‬فيحمدنا‬
‫على ذلك ‪ ،‬فإنه ما عرفنا به مع اتصافه بالصبور إال لندفع ذلك عنه ونكشفه ‪ ،‬هذا فيما‬
‫ّللا تعالى أو في كتاب‬ ‫ورد عن األسماء أما الكنايات فإذا جاءت في كالم الرسول عن ه‬
‫ّللا فلننظر القصة والضمير ونحكم على تلك الكناية بما يعطيه الحال في القصة‬ ‫ه‬
‫المذكورة ال يزاد في ذلك وال ينقص منه ‪.‬‬
‫واعلم أنه لما كانت األسماء اإللهية نسبا تطلبها اآلثار لذلك ال يلزم ما تعطل حكمه‬
‫فاّلل إله سواء وجد‬‫منها ما لم يتعطل وإنما يقدح ذلك لو اتفق أن تكون أمرا وجوديا ‪ ،‬ه‬
‫العالم أو لم يوجد ‪ ،‬فإن بعض المتوهمين تخيل أن األسماء تدل على أعيان وجودية‬
‫قائمة بذات الحق‬

‫ص ‪199‬‬

‫ص ‪199 :‬‬
‫ّللا العالم رأيناه ذا‬
‫فإن لم يكن حكمها يعم وإال بقي منها ما ال أثر له معطال ‪ .‬فلما خلق ه‬
‫مراتب وحقائق مختلفة ‪ ،‬تطلب كل حقيقة منه من الحق نسبة خاصة ‪ ،‬فلما أرسل‬
‫تعالى رسله كان مما أرسلهم به ألجل تلك النسب أسماء تسمى بها لخلقه ‪ ،‬يفهم منها‬
‫داللتها على ذاته تعالى ‪ ،‬وعلى أمر معقول ال عين له في الوجود ‪ ،‬له حكم هذا األثر‬
‫والحقيقة الظاهرة في العالم من خلق ورزق ‪ ،‬ونفع وضر ‪ ،‬وإيجاد واختصاص ‪،‬‬
‫وأحكام وغلبة وقهر ولطف ‪ ،‬وتنزل واستجالب ومحبة ‪ ،‬وبغض وقرب ‪ ،‬وبعد‬
‫وتعظيم وتحقير ‪ ،‬وكل صفة ظاهرة في العالم تستدعي نسبة خاصة لها اسم معلوم‬
‫عندنا من الشرع ‪ ،‬فمنها مشتركة وإن كان لكل واحد من المشتركة معنى إذا تبين‬
‫ظهر أنها متباينة فاألصل في األسماء التباين واالشتراك فيه لفظي ‪ ،‬ومنها متباينة‬
‫ومنها مترادفة ‪ ،‬ومع ترادفها فال بد أن يفهم من كل واحد معنى ال يكون في اآلخر ‪،‬‬
‫فعلمنا ما سمى به نفسه واقتصرنا عليها ‪.‬‬
‫[ « بحث في األسماء اإللهية » ]‬
‫«بحث في األسماء اإللهية » تنقسم األسماء اإللهية إلى أسماء إلهية تطلب العالم ‪،‬‬
‫ويطلبها العالم ‪ ،‬كاالسم الرب والقادر والخالق والنافع والضار والمحيي والمميت‬
‫والقاهر والمعز والمذل إلى أمثال هذه األسماء ‪.‬‬
‫وثم أسماء إلهية ال تطلب العالم ‪ ،‬ولكن يستروح منها نفس من أنفاس العالم من غير‬
‫تفصيل ‪ ،‬كما يفصل بين هذه األسماء التي ذكرناها آنفا فأسماء االسترواح كالغني‬
‫والعزيز والقدوس وأمثال هذه األسماء ‪ ،‬وما وجدنا هّلل أسماء تدل على ذاته خاصة من‬
‫غير تعقل معنى زائد على الذات فإنه ما ثم اسم إال على أحد أمرين‪:‬‬
‫إما ما يدل على فعل وهو الذي يستدعي العالم وال بد ‪ ،‬فإنه من المحال أن يكون في‬
‫العالم شيء ليس له مستند إلى أمر إلهي يكون نعتا للحق كان ما كان ‪،‬‬
‫وإما ما يدل على تنزيه وهو الذي يستروح منه صفات نقص كوني تنزه الحق عنها ‪،‬‬
‫ّللا ‪.‬‬
‫غير ذلك ما أعطانا ه‬
‫ّللا‬
‫فما ثم اسم علم ما فيه سوى العلمية هّلل أصال إال إن كان ذلك في علمه أو ما استأثر ه‬
‫به في غيبه مما لم يبده لنا ‪ ،‬وسبب ذلك ألنه تعالى ما أظهر أسماءه لنا إال للثناء بها‬
‫عليه ‪ ،‬فمن المحال أن يكون فيها اسم علمي أصال ‪ ،‬ألن األسماء األعالم ال يقع بها‬
‫ثناء على المسمى ‪ ،‬لكنها أسماء أعالم للمعاني التي تدل عليها ‪،‬‬
‫وتلك المعاني هي التي يثنى بها على من ظهر عندنا حكمه بها فينا ‪ ،‬وهو المسمى‬
‫بمعانيها ‪ ،‬والمعاني هي المسماة بهذه األسماء اللفظية ‪ ،‬كالعالم والقادر وباقي األسماء‬
‫ّللف األسماء الحسنى وليست إال المعاني ‪ ،‬ال هذه األلفاظ ‪ ،‬فإن األلفاظ ال تتصف‬ ‫‪ .‬ه‬
‫بالحسن والقبح إال‬

‫ص ‪200‬‬

‫ص ‪200 :‬‬
‫بحكم التبعية لمعانيها الدالة عليها ‪ ،‬فال اعتبار لها من حيث ذاتها ‪ ،‬فإنها ليست بزائدة‬
‫ّللا منها معارف‬ ‫على حروف مركبة ونظم خاص يسمى اصطالحا ‪ .‬واعلم أن أسماء ه‬
‫كاألسماء المعروفة وهي الظواهر ‪ ،‬ومنها مضمرات مثل كاف الخطاب ‪ ،‬وتائه ‪،‬‬
‫وتاء المتكلم ‪ ،‬ويائه ‪ ،‬وضمير الغائب ‪ ،‬وضمير التثنية من ذلك ‪ ،‬وضمير الجمع مثل‬
‫نحن نزلنا ‪ ،‬ونون الضمير في الجمع مثل إنا نحن ‪ ،‬وكلمة أنا ‪ ،‬وأنت ‪ ،‬وهو ‪ ،‬ومنها‬
‫ّللا يستهزئ‬ ‫ّللا منهم ‪ ،‬ومثل ه‬ ‫أسماء تدل عليها األفعال ولم يبن منها أسماء مثل سخر ه‬
‫ّللا منابه ‪ ،‬مثل قوله ‪ « :‬سرابيل‬ ‫بهم ‪ ،‬ومنها أسماء النيابة هي هّلل ‪ ،‬ولكن نابوا عن ه‬
‫تقيكم الحر » وكل فعل منسوب إلى كون ما من الممكنات إنما ذلك المسمى نائب فيه‬
‫ّللا ‪ ،‬ألن األفعال كلها هّلل ‪ ،‬سواء تعلق بذلك الفعل ذم أو حمد ‪ ،‬فال حكم لذلك‬ ‫عن ه‬
‫التعلق بالتأثير فيما يعطيه العلم الصحيح ‪ ،‬فكل ما ينسب إلى المخلوق من األفعال فهو‬
‫ّللا يحب أن يمدح‬ ‫ّللا ألجل المدح ‪ ،‬فإن ه‬ ‫ّللا ‪ ،‬فإن وقع محمودا نسب إلى ه‬ ‫فيه نائب عن ه‬
‫ّللا عليه وسلم ‪.‬وإن تعلق به ذم لم ننسبه‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫‪ ،‬كذا ورد في الصحيح عن رسول ه‬
‫ّللا ‪ ،‬أو لحق به عيب ‪ .‬مثل المحمود قول الخليل عليه السالم ‪ :‬فهو يشفين ‪ ،‬وقال‬ ‫إلى ه‬
‫ّللا فمرض ‪ ،‬كما‬ ‫في المرض ‪ :‬إذا مرضت ‪ ،‬ولم يقل ‪ :‬أمرضني ‪ ،‬وما أمرضه إال ه‬
‫أنه شفاه ‪ ،‬فإذا كنى الحق عن نفسه بضمير الجمع فألسمائه لما في ذلك المذكور من‬
‫حكم أسماء متعددة ‪ ،‬وإذا ثنهى فلذاته ونسبة اسم خاص ‪ ،‬وإذا أفرد فالسم خاص أو‬
‫ذات وهي المسمى ‪ ،‬وإذا كنى بتنزيه فليس إال الذات ‪ ،‬وإذا كنى بفعل فليس إال االسم‬
‫ّللا ال بطريق التعيين ‪ ،‬فإنه فيها ما‬ ‫على ما قررناه ‪ .‬وانحصر فيما ذكرناه جميع أسماء ه‬
‫ينبغي أن يعين ‪ ،‬وما ينبغي أن ال يعين ‪ ،‬وقد جاء من المعين مثل الفالق والجاعل ‪،‬‬
‫ولم يجئ المستهزئ والساخر ‪ ،‬وهو الذي يستهزئ بمن شاء من عباده ‪ ،‬ويكيد ويسخر‬
‫ممن شاء من عباده حيث ذكره ‪ ،‬وال يسمى بشيء من ذلك ‪ ،‬وال بأسماء النواب ‪،‬‬
‫ّللف األسماء ما له الصفات ‪ ،‬فهو المعروف باالسم ال‬ ‫ونوابه ال يأخذهم حصر ‪ ،‬ه‬
‫بالصفة ‪ ،‬ولذلك ما ورد بالصفة كتاب وال سنة ‪،‬‬
‫سبْحانَ َر ِبه َك َربه ِ ْال ِع َّزةِ َ‬
‫ع َّما‬ ‫عوهُ بِها »وورد« ُ‬ ‫ّلل ْاألَسْما ُء ْال ُحسْنى فَا ْد ُ‬
‫وورد قرآنا« َو ِ َّ ِ‬
‫ّللا في كونه لم يجعل له صفة‬ ‫صفُونَ »فتنزه عن الصفة ال عن االسم ‪ ،‬فانظر حكمة ه‬ ‫يَ ِ‬
‫في كتبه ‪،‬‬
‫ّلل ْاألَسْما ُء ْال ُحسْنى »‬
‫بل نزه نفسه عن الوصف فقال ‪َ «:‬و ِ َّ ِ‬
‫فجعلها أسماء وما جعلها نعوتا وال صفات ‪،‬‬
‫وقال ‪ « :‬فادعوه بها » وبها كان الثناء ‪،‬‬
‫واالسم ما يعطي الثناء ‪ ،‬وإنما يعطيه النعت والصفة ‪ ،‬وما شعر أكثر‬

‫ص ‪201‬‬

‫ص ‪201 :‬‬
‫الناس لكون الحق ما ذكر له نعتا في خلقه ‪ ،‬وإنما جعل ذلك أسماء كأسماء االعالم‬
‫التي ما جاءت للثناء ‪ ،‬وإنما جاءت للداللة ‪ ،‬وتلك األسماء اإللهية الحسنى هي لنا‬
‫ّللا على نفسه بها ‪ ،‬ألن نزول الشرائع‬ ‫نعوت يثنى علينا بها ‪ ،‬وأثنينا علينا بها ‪ ،‬وأثنى ه‬
‫ّللا إنما تنزل بحكم ما تواطأ عليه أهل ذلك اللسان ‪ ،‬سواء صادف أهل‬ ‫في العالم من ه‬
‫ذلك اللسان الحق في ذلك أو ال ‪ ،‬وقد تواطأ الناس على أن هذه األسماء التي سمى‬
‫الحق بها نفسه مما يثنى بها في المحدثات إذا قامت بمن تقوم به نعتا أو صفة ‪ ،‬فأثنى‬
‫ّللا على نفسه بها ‪ ،‬ونبه على أنها أسماء ال نعوت ‪ ،‬ليفهم السامع الفهم الفطن أن ذلك‬ ‫ه‬
‫من حكم التواطؤ ‪ ،‬ال حكم األمر في نفسه كما دل دليل الشرع بليس كمثله شيء من‬
‫ّللا بصفات اإلثبات التي جعلها أسماء ‪،‬‬ ‫جميع الوجوه ‪ ،‬فال يقبل األينية ‪ .‬فالثناء على ه‬
‫وجعلها الخلق نعوتا ‪ ،‬كما هي لهم نعوت إذا وقع هذا الثناء من العبد صورة ال يكون‬
‫روح تلك الصورة تسبيحا بليس كمثله شيء كان جهال بما يستحقه المثنى عليه ‪ ،‬فإنه‬
‫أدخله تحت الحد والحصر ‪ ،‬بخالف كون ذلك أسماء ال نعوتا ‪ ،‬فيا ولي ال يفارق‬
‫ّللا جملة واحدة ‪ ،‬فإنك إن كنت بهذه المثابة نفخت روحا في‬ ‫التسبيح ثناؤك على ه‬
‫ّلل ْاألَسْما ُء ْال ُحسْنى »‬ ‫صورة ثنائك التي أنشأتها« َو ِ َّ ِ‬
‫ّللا ‪ ،‬ومع‬ ‫وإن كان له جميع األسماء التي يفتقر كل فقير إلى مسماها ‪ ،‬وال فقر إال إلى ه‬
‫هذا فال يطلق عليه من األسماء إال ما يعطي الحسن عرفا وشرعا ‪ ،‬وكذلك نعت‬
‫أسماءه بالحسنى والحق هو الذي نصبه الشرع للعباد ‪ ،‬وبما سمى به نفسه نسميه ‪،‬‬
‫وبما وصف به ذاته نصفه ‪ ،‬ال نزيد على ما أوصل إلينا وال نخترع له اسما من عندنا‬
‫‪،‬‬
‫عوهُ ِبها »فإذا دعوته باسم منها تجلى مجيبا لك في عين ذلك االسم ‪،‬‬ ‫وقال لنا ‪ «:‬فَا ْد ُ‬
‫ّللا وإن كان جامعا للنقيضين ‪ ،‬فهو وإن ظهر في اللفظ فليس المقصود إال‬ ‫فإن االسم ه‬
‫اسما خاصا منه ‪ ،‬تطلبه قرينة الحال ‪،‬‬
‫وّللا هو المانع أيضا ‪ ،‬فما يطلب‬ ‫ّللا ارزقني ‪ ،‬ه‬ ‫فإذا قال طالب الرزق المحتاج إليه ‪ :‬يا ه‬
‫بحاله إال االسم الرزاق ‪ ،‬فما قال بالمعنى إال يا رزاق ارزقني ‪ ،‬فمن أراد اإلجابة من‬
‫ّللا فال يسأله إال باالسم الخاص بذلك األمر ‪ ،‬وال يسأل باسم يتضمن ما يريده وغيره ‪،‬‬ ‫ه‬
‫وال يسأل باالسم من حيث داللته على ذات المسمى ‪،‬‬
‫ولكن يسأل من حيث المعنى الذي هو عليه ‪ ،‬الذي ألجله جاء ‪ ،‬وتميز به عن غيره من‬
‫األسماء تميز معنى ال تميز لفظ« َوذَ ُروا الَّذِينَ يُ ْل ِحدُونَ ِفي أَسْما ِئ ِه »أي يميلون في‬
‫أسمائه إلى ما ليس بحسن ‪ ،‬وإن كان في المعنى من أسمائه ‪ ،‬لكن منع أن يطلق عليه‬
‫لما ناط به عرفا أو شرعا‬

‫ص ‪202‬‬

‫ص ‪202 :‬‬
‫بأنه ليس بحسن ‪ -‬الوجه الثاني –‬
‫ّللا تعالى في تعدد أسمائه ]‬ ‫[ إشارة ‪ :‬حكمة ه‬
‫هم يميلون عن أسمائه ‪ ،‬ال بل يميلون في أسمائه إلى غير الوجه الذي قصد بها ‪ ،‬ثم‬
‫سيُ ْجزَ ْونَ ما كانُوا يَ ْع َملُونَ »من ذلك ‪ ،‬فكل يجزى بما مال إليه ‪ -‬إشارة ‪ -‬من‬
‫قال ‪َ «:‬‬
‫ّللا في وحدانيته سبحانه أن جعل له أسماء كثيرة ندعوه بها في عموم أحوالنا ‪،‬‬ ‫حكمة ه‬
‫فننتقل من اسم إلى اسم ‪ ،‬لتتنوع علينا األدعية واألذكار ‪ ،‬مع أحدية المدعو والمذكور‬
‫‪ ،‬كل ذلك للملل الذي في جبلتنا ‪ ،‬فسبحان اللطيف بعباده ‪ ،‬وهذا من خفايا ألطافه التي‬
‫ال يعرفها إال القليل من عباده ‪.‬‬

‫[ سورة األعراف ( ‪ : ) 7‬اآليات ‪ 181‬إلى ‪] 182‬‬


‫ِين َكذهبُوا ِبآيا ِتنا‬
‫ون ( ‪َ ) 181‬والهذ َ‬‫ق َو ِب ِه يَ ْع ِدلُ َ‬ ‫َو ِم هم ْن َخلَ ْقنا أ ُ همةٌ يَ ْهد َ‬
‫ُون ِبا ْل َح ّ ِ‬
‫ون ) ‪( 182‬‬ ‫ث ال يَ ْعلَ ُم َ‬ ‫سنَ ْ‬
‫ستَد ِْر ُج ُه ْم ِم ْن َح ْي ُ‬ ‫َ‬
‫ّللا المكر استدراجا إال لتنقله في المراتب من درج إلى درج ‪ ،‬فإنه بانتقاله يع هم‬ ‫ما سمى ه‬
‫ّللا نفسه بالمكر‬ ‫المقامات والمراتب ‪ ،‬وهو بين محمود ومذموم ‪ ،‬ولوال ذلك ما وصف ه‬
‫ّللا ‪ ،‬فهم كما قال تعالى فيهم ‪َ (:‬و ُه ْم‬ ‫ّللا االستدراج فيمن أشقاه ه‬ ‫واالستدراج ‪ ،‬وأخفى ه‬
‫ص ْنعا ً )‪.‬‬ ‫سبُونَ أَنَّ ُه ْم يُ ْح ِسنُونَ ُ‬ ‫يَ ْح َ‬

‫[ سورة األعراف ( ‪ : ) 7‬آية ‪]183‬‬


‫َوأ ُ ْم ِلي لَ ُه ْم إِ هن َك ْيدِي َمتِ ٌ‬
‫ين ) ‪( 183‬‬
‫ّللا مع المخالفات ‪ ،‬فهو مكر واستدراج من حيث ال يعلم ‪.‬‬ ‫وهي تحف ه‬

‫[ سورة األعراف ( ‪ : ) 7‬آية ‪] 184‬‬


‫ين ( ‪) 184‬‬ ‫ِير ُمبِ ٌ‬ ‫أ َ َولَ ْم يَتَفَك ُهروا ما بِ ِ‬
‫صاحبِ ِه ْم ِم ْن ِجنه ٍة إِ ْن ُه َو إِاله نَذ ٌ‬
‫صاحبِ ِه ْم ِم ْن ِجنَّ ٍة »أي أنه يوصل إلى معرفة الرسول بالدليل ‪،‬‬ ‫« أ َ َولَ ْم يَتَفَ َّك ُروا ما بِ ِ‬
‫ّللا تعالى على يد هذا الرسول دليال‬ ‫وبهذه اآلية يستدل على أنه ال بد من أن ينصب ه‬
‫يصدقه في دعواه ‪ ،‬ولو لم يكن كذلك ما صدق قوله ‪ «:‬أ َ َولَ ْم يَتَفَ َّك ُروا »وال تكون‬
‫ّللا‪.‬‬
‫الفكرة إال في دليل على صدقه أنه رسول من عند ه‬

‫ص ‪203‬‬

‫ص ‪203 :‬‬
‫[ سورة األعراف ( ‪ : ) 7‬آية ‪] 185‬‬
‫ش ْي ٍء َوأ َ ْن عَسى أ َ ْن‬
‫َّللاُ ِم ْن َ‬
‫ق ه‬ ‫ض َوما َخلَ َ‬ ‫ت َو ْاأل َ ْر ِ‬ ‫سماوا ِ‬ ‫ت ال ه‬ ‫ظ ُروا فِي َملَكُو ِ‬ ‫أ َ َولَ ْم يَ ْن ُ‬
‫ون ( ‪) 185‬‬ ‫ث بَ ْع َدهُ يُ ْؤ ِمنُ َ‬ ‫ب أ َ َجلُ ُه ْم فَ ِبأ َ ّ‬
‫ي ِ َحدِي ٍ‬ ‫ُون قَ ِد ْ‬
‫اقت َ َر َ‬ ‫يَك َ‬
‫ظ ُروا »يعني يتفكروا ‪ ،‬فإنه سبحانه لما أراد النظر الذي هو الفكر ‪ ،‬قرنه‬ ‫« أ َ َولَ ْم يَ ْن ُ‬
‫ت‬ ‫سماوا ِ‬ ‫بحرف في ‪ ،‬ولم يصحبه لفظ كيف ‪ ،‬فهو أمر بالنظر العقلي« ِفي َملَ ُكو ِ‬
‫ت ال َّ‬
‫ض »فيعلموا أنها لم تقم بأنفسها ‪ ،‬وإنما أقامها غيرها ‪،‬‬ ‫َو ْاأل َ ْر ِ‬
‫وهذا النظر ال يلزم منه وجود األعيان مثل النظر في الكيفية ‪ ،‬وإنما اإلنسان كلف أن‬
‫ينظر بفكره في ذلك ال بعينه ‪ ،‬ومن الملكوت ما هو غيب وما هو شهادة ‪ ،‬فما أمرنا‬
‫ّللا ‪ ،‬لنستدل بذلك عليه وأنه ال يشبهها ‪،‬‬ ‫قط بحرف في إال في المخلوقات ال في ه‬
‫ّللا وتوحيده ‪ ،‬وما يجب له من‬ ‫فاعتبر الشرع حكم النظر العقلي في إثبات وجود ه‬
‫األحكام ‪ ،‬وبالنظر العقلي في صدق آيات رسوله التي نصبها دليال على صدقه ‪ ،‬وفي‬
‫ّللا‬
‫القرآن مثل هذا كثير ‪ ،‬وهذه اآليات وأمثالها ألهل النظر واالستدالل الذين نصب ه‬
‫لهم األدلة واآليات ‪.‬‬

‫[ سورة األعراف ( ‪ ) : 7‬آية ‪] 186‬‬


‫ون ( ‪) 186‬‬ ‫َّللاُ فَال هاد َ‬
‫ِي لَهُ َويَذَ ُر ُه ْم ِفي ُ‬
‫ط ْغيا ِن ِه ْم يَ ْع َم ُه َ‬ ‫َم ْن يُ ْ‬
‫ض ِل ِل ه‬
‫ِي لَهُ »معناه ال موفق ‪.‬‬ ‫« فَال هاد َ‬

‫[ سورة األعراف ( ‪ : ) 7‬آية ‪] 187‬‬


‫ان ُم ْرساها قُ ْل ِإنهما ِع ْل ُمها ِع ْن َد َر ِبّي ال يُ َج ِلّيها ِل َو ْقتِها ِإاله ُه َو‬ ‫ع ِة أَيه َ‬ ‫سا َ‬ ‫سئَلُونَكَ ع َِن ال ه‬ ‫يَ ْ‬
‫ع ْنها قُ ْل ِإنهما‬‫ي َ‬‫سئَلُونَكَ كَأَنهكَ َح ِف ٌّ‬ ‫ض ال تَأْتِي ُك ْم ِإاله بَ ْغتَةً يَ ْ‬ ‫ت َو ْاأل َ ْر ِ‬ ‫سماوا ِ‬ ‫ثَقُلَتْ فِي ال ه‬
‫ون ( ‪) 187‬‬ ‫اس ال يَ ْعلَ ُم َ‬ ‫َّللا َول ِك هن أ َ ْكث َ َر النه ِ‬
‫ِع ْل ُمها ِع ْن َد ه ِ‬
‫ع ِة أَيَّانَ ُم ْرساها قُ ْل إِنَّما ِع ْل ُمها ِع ْن َد َر ِبهي ال يُ َج ِلهيها ِل َو ْقتِها »يعني‬ ‫سا َ‬‫ع ِن ال َّ‬ ‫« يَ ْسئَلُون ََك َ‬
‫ّللا خلقها ‪ ،‬هو الذي أعطى كل شيء خلقه ‪ ،‬لذلك‬ ‫يوم القيامة ‪ ،‬إذا جاء الوقت يعطيها ه‬
‫ض »فإن الغيب إذا ثقل عليه األمر‬ ‫ت َو ْاأل َ ْر ِ‬ ‫سماوا ِ‬ ‫ت فِي ال َّ‬ ‫قال ‪ِ «:‬إ َّال ُه َو » « ثَقُلَ ْ‬
‫وضاق‬

‫ص ‪204‬‬

‫ص ‪204 :‬‬
‫عنه ولم يتسع له استراح على عالم الشهادة ‪ ،‬فتنفس الغيب تنفس الحامل المثقل ‪،‬‬
‫فأبرز في عالم الشهادة ما كان ثقل عليه ‪ ،‬ومن وجه آخر ‪ :‬ثقلت من كونها أمانة مكلفة‬
‫بحفظها وأدائها في وقتها ‪ ،‬فهو ثقل معنوي ‪ ،‬فإنه في طبع كل شيء القلق مما يثقل‬
‫ع ْنها قُ ْل ِإنَّما ِع ْل ُمها ِع ْن َد‬ ‫عليه حتى يخرجه عنه« ال تَأْتِي ُك ْم ِإ َّال بَ ْغتَةً يَ ْسئَلُون ََك َكأَنَّ َك َح ِف ٌّ‬
‫ي َ‬
‫اس ال يَ ْعلَ ُمونَ »لجهلهم ‪.‬‬ ‫ّللا َول ِك َّن أ َ ْكث َ َر النَّ ِ‬
‫َّ ِ‬

‫[ سورة األعراف ( ‪ : ) 7‬اآليات ‪ 188‬إلى ‪]189‬‬


‫ست َ ْكث َ ْرتُ ِم َن‬ ‫َّللاُ َولَ ْو ُك ْنتُ أ َ ْعلَ ُم ا ْلغَ ْي َ‬
‫ب ال ْ‬ ‫ض ًّرا ِإاله ما شا َء ه‬ ‫سي نَ ْفعا ً َوال َ‬ ‫قُ ْل ال أ َ ْم ِلكُ ِلنَ ْف ِ‬
‫ون ( ‪ُ ) 188‬ه َو الهذِي‬ ‫ير ِلقَ ْو ٍم يُ ْؤ ِمنُ َ‬‫ش ٌ‬ ‫سو ُء ِإ ْن أَنَا ِإاله نَذ ٌ‬
‫ِير َوبَ ِ‬ ‫ي ال ُّ‬ ‫ا ْل َخ ْي ِر َوما َم ه‬
‫سنِ َ‬
‫سك َُن ِإلَ ْيها فَلَ هما تَغَشهاها َح َملَتْ َح ْمالً‬ ‫َخلَقَ ُك ْم ِم ْن نَ ْف ٍس ِ‬
‫واح َد ٍة َو َجعَ َل ِم ْنها َز ْو َجها ِليَ ْ‬
‫ين (‬‫َّللا َربه ُهما لَ ِئ ْن آت َ ْيتَنا صا ِلحا ً لَنَكُونَ هن ِم َن الشها ِك ِر َ‬ ‫َخ ِفيفا ً فَ َم هرتْ ِب ِه فَلَ هما أَثْقَلَتْ َدع ََوا ه َ‬
‫‪) 189‬‬
‫واح َدةٍ »هذا يدل‬ ‫واح َدةٍ «] » ُه َو الَّذِي َخلَقَ ُك ْم ِم ْن نَ ْف ٍس ِ‬ ‫[ « ُه َو الَّذِي َخلَقَ ُك ْم ِم ْن نَ ْف ٍس ِ‬
‫على أن النفوس خلقت من معدن واحد« َو َجعَ َل ِم ْنها زَ ْو َجها ِليَ ْس ُكنَ ِإلَيْها »حنين الرجل‬
‫حنين الكل إلى جزئه ‪ ،‬كاستيحاش المنازل لساكنيها ‪ ،‬وألن المكان الذي في الرجل‬
‫ّللا بالميل إليها ‪ ،‬فحنينه إلى المرأة حنين الكبير ‪،‬‬ ‫الذي استخرجت منه المرأة عمره ه‬
‫وسرهن لم يزهد في حبهن ‪ ،‬بل من‬ ‫ه‬ ‫وحنوه على الصغير ‪ ،‬فمن عرف قدر النساء‬
‫ّللا عليه وسلم قال ‪:‬‬ ‫كمال العارف حبهن ‪ ،‬فإنه ميراث نبوي وحب إلهي ‪ ،‬فإنه صلهى ه‬
‫شاها »الغشيان نكاح وهو‬ ‫ّللا تعالى« فَلَ َّما تَغَ َّ‬ ‫[ حبب إلي ] فلم ينسب حبه فيهن إال إلى ه‬
‫ستر ‪ ،‬فهو سر ‪ ،‬أي غطاها بذاته وسترته بنفسها ‪ ،‬فكان لها لباسا وكانت له لباسا ‪.‬‬

‫[ سورة األعراف ( ‪ : ) 7‬اآليات ‪ 190‬إلى ‪] 196‬‬


‫ُون ( ‪ ) 190‬أ َ‬ ‫ع هما يُش ِْرك َ‬ ‫فَلَ هما آتا ُهما صا ِلحا ً َجعَال لَهُ ش َُركا َء فِيما آتا ُهما فَتَعالَى ه‬
‫َّللاُ َ‬
‫ون لَ ُه ْم نَصْرا ً َوال‬ ‫ست َ ِطيعُ َ‬ ‫ون ( ‪َ ) 191‬وال يَ ْ‬ ‫ش ْيئا ً َو ُه ْم يُ ْخلَقُ َ‬ ‫ق َ‬‫ُون ما ال يَ ْخلُ ُ‬ ‫يُش ِْرك َ‬
‫علَ ْي ُك ْم أ َ‬
‫سوا ٌء َ‬‫ون ( ‪َ ) 192‬و ِإ ْن ت َ ْدعُو ُه ْم ِإلَى ا ْل ُهدى ال يَت ه ِبعُو ُك ْم َ‬ ‫ص ُر َ‬ ‫س ُه ْم يَ ْن ُ‬‫أ َ ْنفُ َ‬
‫َّللا ِعبا ٌد أ َ ْمثالُ ُك ْم‬ ‫ُون ِم ْن د ِ‬
‫ُون ه ِ‬ ‫ِين ت َ ْدع َ‬ ‫ون ( ‪ِ ) 193‬إ هن الهذ َ‬ ‫صامت ُ َ‬‫ِ‬ ‫َدع َْوت ُ ُمو ُه ْم أ َ ْم أ َ ْنت ُ ْم‬
‫ين ) ‪( 194‬‬ ‫ست َ ِجيبُوا لَ ُك ْم ِإ ْن ُك ْنت ُ ْم صا ِدقِ َ‬ ‫فَا ْدعُو ُه ْم فَ ْليَ ْ‬
‫ون ِبها أ َ ْم لَ ُه ْم‬ ‫ُون ِبها أ َ ْم لَ ُه ْم أ َ ْعيُ ٌن يُ ْب ِص ُر َ‬
‫ُون ِبها أ َ ْم لَ ُه ْم أ َ ْي ٍد يَ ْب ِطش َ‬
‫أ َ لَ ُه ْم أ َ ْر ُج ٌل يَ ْمش َ‬
‫َّللاُ‬
‫ي ه‬ ‫ون ( ‪ ) 195‬إِ هن َو ِل ِيّ َ‬ ‫ُون فَال ت ُ ْن ِظ ُر ِ‬ ‫ون بِها قُ ِل ا ْدعُوا ش َُركا َء ُك ْم ث ُ هم ِكيد ِ‬ ‫س َمعُ َ‬ ‫ٌ‬
‫آذان يَ ْ‬
‫ين) ‪( 196‬‬ ‫صا ِل ِح َ‬ ‫تاب َو ُه َو يَت َ َولهى ال ه‬ ‫الهذِي نَ هز َل ا ْل ِك َ‬

‫ص ‪205‬‬

‫ص ‪205 :‬‬
‫ّللاُ " الوالية نصر الولي ‪ ،‬أي نصر الناصر ‪،‬‬ ‫ي َّ‬ ‫" إِ َّن َو ِل ِيه َ‬
‫ّللا لنفسه إال بتعلق خاص للمؤمنين خاصة والصالحين من‬ ‫ونعت الوالية ال ينسبها ه‬
‫عباده ‪ ،‬ولما كان نعتا إلهيا هذا النصر المعبر عنه بالوالية تسمى سبحانه به وهو اسمه‬
‫ّللا عليه وسلم هذه اآلية ليعرف‬ ‫ّللا تعالى على عبده محمد صلهى ه‬ ‫الولي ‪ ،‬ولما أنزل ه‬
‫ّللا عليه وسلم ما ال بد له أن يقوله ويتلفظ به‬ ‫ّللا حكى عن نبيه صلهى ه‬ ‫الناس بها ‪ ،‬فكأن ه‬
‫‪ ،‬فجعله قرآنا يتلى ‪ ،‬إذ كان الصالح من خصائص العبيد في نفس األمر ‪ ،‬فقال تعالى‬
‫صا ِل ِحينَ »فشهد له بالصالح إذا كان‬ ‫ّللاُ الَّذِي ن ََّز َل ْال ِك َ‬
‫تاب َو ُه َو يَت َ َولَّى ال َّ‬ ‫ي َّ‬ ‫‪ِ «:‬إ َّن َو ِل ِيه َ‬
‫ّللا عليه وسلم أخبر بذلك‬ ‫الحق حاكيا في هذه اآلية ‪ ،‬وإن كان آمرا فيكون النبي صلهى ه‬
‫ي الَّذِينَ آ َمنُوا )وهو من المؤمنين« َو ُه َو يَت َ َولَّى ال َّ‬
‫صا ِل ِحينَ »فيكون‬ ‫ّللاُ َو ِل ُّ‬
‫لقوله تعالى ‪َّ (:‬‬
‫ّللا يتولى الصالحين ‪،‬‬ ‫ّللا تواله ‪ ،‬وأخبرنا أن ه‬ ‫من المشهود لهم بالصالح ‪ ،‬فعرفنا أن ه‬
‫فشهد لنفسه بالصالح بالوجه الذي ذكرناه ‪ ،‬ولم ينقل ذلك عن غيره من األنبياء‬
‫ّللا يتولى الصالحين كان الصالح مطلوبا‬ ‫ّللا وسالمه عليهم ‪ ،‬ولهذا القطع بأن ه‬ ‫صلوات ه‬
‫ّللا به لمن شاء من عباده على التعيين تشريفا له بذلك ‪،‬‬ ‫لكل نبي مكمل ‪ ،‬وشهد ه‬
‫كعيسى ويحيى عليهما السالم ‪ ،‬فإن االسم الصالح من خصائص العبودية ‪ ،‬ونعت‬
‫ّللا‬
‫عز وجل بشرى من ه‬ ‫عبودي ال يكون إال للعبيد الكمل ‪ ،‬فمنهم من شهد له بها الحق ه‬
‫‪ ،‬مثل يحيى وعيسى وإبراهيم ومحمد عليهم السالم ‪ ،‬ومنهم من سألها لنفسه كسليمان‬
‫عليه السالم‪.‬‬

‫ص ‪206‬‬

‫ص ‪206 :‬‬
‫[ سورة األعراف ( ‪ : ) 7‬اآليات ‪ 197‬إلى ‪] 199‬‬
‫ون ( ‪َ ) 197‬وإِ ْن‬
‫ص ُر َ‬‫س ُه ْم يَ ْن ُ‬‫ون نَص َْر ُك ْم َوال أ َ ْنفُ َ‬ ‫ست َ ِطيعُ َ‬ ‫ُون ِم ْن دُونِ ِه ال يَ ْ‬‫ِين ت َ ْدع َ‬ ‫َوالهذ َ‬
‫ون ِإلَ ْيكَ َو ُه ْم ال يُ ْب ِص ُر َ‬
‫ون ) ‪ُ ( 198‬خ ِذ‬ ‫ظ ُر َ‬ ‫س َمعُوا َوتَرا ُه ْم يَ ْن ُ‬
‫ت َ ْدعُو ُه ْم ِإلَى ا ْل ُهدى ال يَ ْ‬
‫ين ( ‪) 199‬‬ ‫ض ع َِن ا ْلجا ِه ِل َ‬ ‫ف َوأَع ِْر ْ‬ ‫ا ْلعَ ْف َو َوأْ ُم ْر ِبا ْلعُ ْر ِ‬
‫" ُخ ِذ ْالعَ ْف َو "أي القليل ‪.‬‬

‫[ سورة األعراف ( ‪ : ) 7‬اآليات ‪ 200‬إلى ‪] 201‬‬


‫ِين اتهقَ ْوا‬‫ع ِلي ٌم ( ‪ِ ) 200‬إ هن الهذ َ‬ ‫س ِمي ٌع َ‬ ‫ست َ ِع ْذ ِب ه ِ‬
‫اّلِل ِإنههُ َ‬ ‫غ فَا ْ‬‫طان نَ ْز ٌ‬
‫ش ْي ِ‬‫غنهكَ ِم َن ال ه‬ ‫َو ِإ هما يَ ْن َز َ‬
‫ون ) ‪( 201‬‬ ‫طان تَذَك ُهروا فَ ِإذا ُه ْم ُم ْب ِص ُر َ‬ ‫ش ْي ِ‬ ‫ف ِم َن ال ه‬ ‫س ُه ْم طائِ ٌ‬ ‫ِإذا َم ه‬
‫ْطان تَذَ َّك ُروا‬
‫شي ِ‬ ‫ف ِمنَ ال َّ‬ ‫ْطان تَذَ َّك ُروا » ]« ِإذا َم َّ‬
‫س ُه ْم طا ِئ ٌ‬ ‫شي ِ‬ ‫ف ِمنَ ال َّ‬‫س ُه ْم طا ِئ ٌ‬
‫[" ِإذا َم َّ‬
‫ّللا‬‫ْص ُرونَ »وهؤالء هم الذين توالهم ه‬ ‫»فهم أصحاب اللمات الملكية« فَإِذا ُه ْم ُمب ِ‬
‫باإلبصار ‪ ،‬وهو من صفات خصائص المتقين ‪ ،‬فهم علماء أهل تقوى ‪ ،‬طرأ عليهم‬
‫خاطر حسن أصله شيطاني ‪ .‬فوجدوا له ذوقا خاصا ال يجدونه إال إذا كان من الشيطان‬
‫ْص ُرونَ »أي‬ ‫‪ ،‬فيذكرهم ذلك الذوق بأن ذلك الخاطر من الشيطان« فَإِذا ُه ْم ُمب ِ‬
‫مشاهدون له بالذوق ‪ ،‬فإن اقتضى العلم أخذه وقلب عينه ليحزن بذلك الشيطان أخذه ‪،‬‬
‫ولم يلتفت منه وكان من المبصرين ‪ ،‬فعلم كيف يأخذ ما يجب أخذه من ذلك ‪ ،‬ففرق‬
‫بينه وبين ما يجب تركه ‪ ،‬كما قال عيسى عليه السالم لما قال له إبليس حين تصور له‬
‫ّللا ‪ ،‬رجاء منه أن يقول ذلك ‪،‬‬ ‫ّللا قل ال إله إال ه‬ ‫على أنه ال يعرفه ‪ ،‬فقال له ‪ :‬يا روح ه‬
‫فيكون قد أطاعه بوجه ما ‪ ،‬وذلك هو اإليمان ‪ ،‬فقال له عيسى عليه السالم ‪ :‬أقولها ال‬
‫ّللا ‪ ،‬فجمع بين القول ومخالفة غرض الشيطان ‪ ،‬ال امتثاال ألمر‬ ‫لقولك ال إله إال ه‬
‫الشيطان ‪ ،‬وإن اقتضى العلم رد ذلك في وجهه رده ‪ ،‬فهذا معنى قوله« تَذَ َّك ُروا »وال‬
‫ْص ُرونَ »أي رجع إليهم نظرهم الذي غاب‬ ‫يكون التذكر إال لمعلوم قد نسي« فَإِذا ُه ْم ُمب ِ‬
‫ّللا تعالى أن يحيط به بصر أو عقل ‪ ،‬ولكن الوهم‬ ‫عنهم ‪ ،‬رجع بالتذكر ‪ ،‬واعلم أن ه‬
‫السخيف يقدره ويحده ‪ ،‬والخيال الضعيف يمثله ويصوره ‪ ،‬هذا في حق بعض العقالء‬
‫الذين قد نزهوه عما‬

‫ص ‪207‬‬

‫ص ‪207 :‬‬
‫تخيلوه وتوهموه ‪ ،‬ثم بعد التنزيه يتسلط عليهم سلطان الوهم والخيال فيحكم عليه‬
‫ْطان تَذَ َّك ُروا فَإِذا ُه ْم ُمب ِ‬
‫ْص ُرونَ‬ ‫شي ِ‬ ‫ف ِمنَ ال َّ‬
‫س ُه ْم طائِ ٌ‬
‫بالتقدير ‪ ،‬وهو قوله تعالى ‪ِ «:‬إذا َم َّ‬
‫»وهو رجوعهم إلى ما أعطاهم العقل بالبرهان الصحيح من التنزيه عن ذلك ‪ ،‬فالقوة‬
‫المذكرة من خاصيتها أن تعمي إبليس عن مالحظة كيده في الحال وتدهشه ‪ ،‬فال يلحق‬
‫يرجع إليه بصره إال والمؤمن على إحدى حالتين إما في غفلة فيمسه مرة أخرى ‪ ،‬وإما‬
‫في حضور فيحترق إن دنا منه ‪ ،‬واعلم أن األنبياء والرسل ما لهم إال ثالثة خواطر ‪،‬‬
‫وهي الخاطر اإللهي والخاطر الملكي والخاطر النفسي ‪ ،‬فهم معصومون من الشيطان‬
‫ّللا رسله وأنبياءه من سائر المؤمنين بالعصمة التي أعطاهم وألبسهم‬ ‫وخواطره ‪ ،‬ليميز ه‬
‫إياها ‪ ،‬والمؤمنون لهم الخواطر األربعة ‪ ،‬فمنهم من ظهر عليه حكم الخاطر الشيطاني‬
‫في الظاهر ‪ ،‬وهم عامة الخلق ‪ ،‬ومنهم من يخطر له وال يؤثر في ظاهره ‪ ،‬وهم‬
‫ّللا تعالى ‪ ،‬فالشيطان يلقي في قلوب األولياء وليس له على‬ ‫المحفوظون من أولياء ه‬
‫األنبياء سبيل ‪.‬‬

‫[ سورة األعراف ( ‪ : ) 7‬اآليات ‪ 202‬إلى ‪] 204‬‬


‫ون ) ‪َ ( 202‬و ِإذا لَ ْم تَأْتِ ِه ْم ِبآيَ ٍة قالُوا لَ ْو ال‬ ‫ي ِ ث ُ هم ال يُ ْق ِص ُر َ‬‫َو ِإ ْخوانُ ُه ْم يَ ُمدُّونَ ُه ْم فِي الغَ ّ‬
‫دى َو َرحْ َمةٌ ِلقَ ْو ٍم‬
‫ي ِم ْن َر ِبّي هذا بَصا ِئ ُر ِم ْن َر ِبّ ُك ْم َو ُه ً‬ ‫اجْ تَبَ ْيتَها قُ ْل ِإنهما أَت ه ِب ُع ما يُوحى ِإلَ ه‬
‫ون ) ‪( 204‬‬ ‫ست َ ِمعُوا لَهُ َوأ َ ْن ِصتُوا لَعَله ُك ْم ت ُ ْر َح ُم َ‬
‫آن فَا ْ‬
‫ئ ا ْلقُ ْر ُ‬ ‫ون ( ‪َ ) 203‬وإِذا قُ ِر َ‬ ‫يُ ْؤ ِمنُ َ‬
‫روينا أن هذه اآلية نزلت في القراءة في الصالة ‪ ،‬ففي الصالة يقرأ المأموم أم الكتاب‬
‫وغيرها مع اإلمام فيما أسر ‪ ،‬وفيما جهر أم الكتاب فقط ‪ ،‬والذي أذهب إليه بعد وجوب‬
‫قراءة الفاتحة على كل مصل من إمام وغير إمام ‪ ،‬أنه إن قرأ في نفسه كان أفضل ‪،‬‬
‫ّللا‬
‫إال أن يكون بحيث يسمع اإلمام ‪ ،‬فاإلنصات واالستماع لقراءة اإلمام واجب ألمر ه‬
‫الوارد في هذه اآلية ‪ ،‬وما خص حال صالة من غيرها ‪ ،‬والقرآن مقطوع به عند‬
‫الجميع ‪ ،‬وليس للمأموم أن يشرع في قراءة الفاتحة إذا جهر بها اإلمام حتى يفرغ منها‬
‫‪ ،‬أو يتبع سكتات اإلمام فيها فيقرأ ما فرغ اإلمام منها في سكتة اإلمام ‪ ،‬وفي صالة‬
‫السر يقرؤها بحسب ما يغلب على ظنه ‪،‬‬

‫ص ‪208‬‬

‫ص ‪208 :‬‬
‫ّللا من استمع القرآن‬ ‫إال في الصالة بعد الجلسة الوسطى فإنه يقرؤها ابتداء ‪ ،‬وقد وعد ه‬
‫ّللا‬
‫ّللا حكمها حكم الواجب ‪ ،‬ومع هذا فإن ه‬ ‫وأنصت بالرحمة ‪ ،‬فإن أفعال الترجي من ه‬
‫أوقع الترجي مع صفة االستماع واإلنصات ‪ ،‬وما قطع بالرحمة ‪ ،‬فكيف حال من‬
‫خاصم ورفع صوته وداخل التالي ؟‬
‫وأرجو أن يكون الترجي اإللهي واجبا كما يراه العلماء ‪ ،‬فاألجر العظيم باإلصغاء إلى‬
‫القارئ إذا قرأ القرآن ‪ ،‬أو بإصغاء اإلنسان إلى نفسه إذا تاله ‪ ،‬فإذا قرئ القرآن المبين‬
‫فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون ‪ ،‬فإنه ما جاء بالكالم إال لإلفهام ‪ ،‬فإذا خالج‬
‫ّللا‬
‫السامع القارئ في قراءته ‪ ،‬فقد شهد من الفهم ببراءته ‪ ،‬وأساء األدب ‪ ،‬فأسخط ه‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ [ :‬أيكم خالجنيها وما لي أنازع القرآن ] وأي‬‫فغضب ‪ ،‬يقول صلهى ه‬
‫برهان أعظم من هذا البرهان ‪ ،‬الرسول حاز اآلداب ‪ ،‬وجاء بالكتاب وخاطب أولي‬
‫األلباب ‪ ،‬وما خص أعداء من أحباب ‪ ،‬بل عم الخطاب ‪ ،‬فمنا من أصاب ‪ ،‬ومنا‬
‫المصاب ‪ «،‬لَعَلَّ ُك ْم ت ُ ْر َح ُمونَ »بالفهم ‪ ،‬فإنك إن خالجته فيها ‪ ،‬حرمت معانيها ‪ ،‬وإذا كنا‬
‫ّللا عليه وسلم إذا تكلم‬‫ّللا صلهى ه‬
‫نهينا وتحبط أعمالنا برفع أصواتنا على صوت رسول ه‬
‫فغض أصواتنا عندما نسمع تالوة القرآن آكد ‪.‬‬ ‫ه‬ ‫ّللا ‪،‬‬
‫‪ ،‬وهو المبلغ عن ه‬

‫[ سورة األعراف ( ‪ : ) 7‬اآليات ‪205‬إلى ‪] 206‬‬


‫ُون ا ْل َجه ِْر ِم َن ا ْلقَ ْو ِل بِا ْلغُد ّ ُِو َو ْاآلصا ِل َوال تَك ُْن‬‫ض ُّرعا ً َو ِخيفَةً َود َ‬ ‫سكَ ت َ َ‬‫اذك ُْر َربهكَ فِي نَ ْف ِ‬ ‫َو ْ‬
‫س ِبّ ُحونَهُ َولَهُ‬‫ون ع َْن ِعبا َدتِ ِه َويُ َ‬ ‫ِين ِع ْن َد َر ِبّكَ ال يَ ْ‬
‫ست َ ْكبِ ُر َ‬ ‫ين ) ‪ ( 205‬إِ هن الهذ َ‬ ‫ِم َن ا ْلغافِ ِل َ‬
‫ُون ( ‪) 206‬‬ ‫س ُجد َ‬ ‫يَ ْ‬
‫ع ْن ِعبا َدتِ ِه »يقول ‪:‬‬ ‫« ِإ َّن الَّذِينَ ِع ْن َد َر ِبه َك »وهم المالئكة المقربون« ال يَ ْست َ ْك ِب ُرونَ َ‬
‫س ِبه ُحونَهُ »أي ينزهونه عن الصفات التي ال تليق به وهي‬ ‫يذلون ويخضعون له« َويُ َ‬
‫ّللا في هذه اآلية في قولهم ‪َ (:‬ون َْح ُن‬ ‫التي تقربوا بها إليه من الذل والخضوع وصدقهم ه‬
‫ّللا عنهم بما أخبروه عن نفوسهم« َولَهُ يَ ْس ُجدُونَ‬ ‫ِس لَ َك )فأخبر ه‬ ‫ِك َونُقَ هد ُ‬
‫س ِبه ُح بِ َح ْمد َ‬‫نُ َ‬
‫عز وجل مع هذه األحوال المذكورة ‪ ،‬وهنا يسجد التالي للقرآن‬ ‫»وصفهم بالسجود له ه‬
‫ّللا تعالى لما ذكر النبيين‬ ‫في هذه السجدة اقتداء بسجود المأل األعلى وبهديهم ‪ ،‬قال ه‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ ،‬وذكر أنه تعالى آتاهم الكتاب والحكمة‬ ‫عليهم السالم لمحمد صلهى ه‬
‫ّللاُ فَ ِب ُهدا ُه ُم ا ْقت َ ِد ْه )وهم بشر مثله ‪ ،‬فما ظنك‬ ‫والنبوة قال له ‪ (:‬أُولئِ َك الَّذِينَ َه َدى َّ‬
‫ّللا ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ‪ ،‬وأي هدي‬ ‫بالمالئكة الذين ال يعصون ه‬

‫ص ‪209‬‬

‫ص ‪209 :‬‬
‫ّللا تعالى به المالئكة ‪ ،‬فمن سجد فيها ولم يحصل له نفحة مما حصل‬
‫أعظم مما هدى ه‬
‫للمالئكة في سجودها من حيث ملكيته الخاصة به فما سجدها ‪ ،‬وهكذا في كل سجدة‬
‫ترد ‪.‬‬
‫( ‪ ) 8‬سورة األنفال مدنيّة‬
‫الرحيم‬
‫الرحمن ّ‬
‫َّللا ّ‬
‫بسم ّ‬

‫[ سورة األنفال ( ‪ : ) 8‬آية ‪] 1‬‬


‫يم‬‫الر ِح ِ‬
‫من ه‬ ‫الرحْ ِ‬ ‫َّللا ه‬
‫س ِم ه ِ‬‫ِب ْ‬
‫ص ِل ُحوا ذاتَ بَ ْينِ ُك ْم َوأ َ ِطيعُوا‬
‫َّللا َوأ َ ْ‬
‫سو ِل فَاتهقُوا ه َ‬
‫الر ُ‬ ‫سئَلُونَكَ ع َِن ْاأل َ ْنفا ِل قُ ِل ْاأل َ ْنفا ُل ِ ه ِ‬
‫ّلِل َو ه‬ ‫يَ ْ‬
‫ين ( ‪) 1‬‬ ‫سولَهُ ِإ ْن ُك ْنت ُ ْم ُم ْؤ ِم ِن َ‬ ‫َّللا َو َر ُ‬
‫هَ‬
‫[ لم سميت المغانم أنفاال ؟ ]‬
‫األنفال هي المغانم ‪ ،‬أما لم سميت المغانم أنفاال ؟ فإنه ال شك وال خفاء عند كل مؤمن‬
‫ّللا هي العليا وكلمة الذين‬ ‫ّللا ما جعل القتال للمؤمن إال لتكون كلمة ه‬ ‫عالم بالشرع ‪ ،‬أن ه‬
‫ّللا‬
‫ّللا ‪ ،‬أن ه‬ ‫ّللا وهم رسل ه‬ ‫وعرفنا التراجمة عن ه‬ ‫ه‬ ‫كفروا السفلى ‪ ،‬لتتميز الكلمتان ‪،‬‬
‫تعالى من وقت شرع الجهاد والقتال والسبي ‪ ،‬أعطى المغانم للنار طعمة أطعمها إياها‬
‫ّللا لها تناوله ‪ ،‬وكان‬ ‫وأوجبها لها ‪ ،‬وكان من طاعتها لربها أنها ال تتناول إال ما أحل ه‬
‫ّللا عليها أكل المغنم ‪ ،‬إذا وقع فيه غلول من المجاهدين ‪ ،‬فكانت ال تأكل المغنم‬ ‫قد حرم ه‬
‫إذا غ هل فيه حتى يرد إليه ما كان أخذ منه ‪ ،‬ليخلص العمل للمجاهد ‪ ،‬فإذا جاء الشرع‬
‫ّللا عليه وسلم طعمة على ما أطعمهم من‬ ‫ّللا المغانم ألمة محمد صلهى ه‬ ‫المحمدي زاد ه‬
‫غير ذلك ‪ ،‬فكانت تلك الطعمة التي أخذناها من النار نافلة لهذه األمة ‪ ،‬وما أعطاها‬
‫إياهم لكونهم جاهدوا ‪ ،‬إذ لو كان حقا لهم على الجهاد ما وقعت ألحد لم يجاهد معهم‬
‫ّللا من ذكر ‪،‬‬ ‫فيها الشركة ‪ ،‬فما هي فريضة للمجاهدين ‪ ،‬وإنما هي طعمة أطعمها ه‬
‫ّللا لهذه األمة‬ ‫وجعل لنفسه نصيبا لكونه نصرهم ‪ ،‬ولما كانت هذه الطعمة للنار ونفلها ه‬
‫ّللا يصلح بين عباده يوم‬ ‫ذات بَ ْينِ ُك ْم »جاء في الخبر أن ه‬ ‫ص ِل ُحوا َ‬ ‫ّللا َوأ َ ْ‬
‫قال «‪ :‬فَاتَّقُوا َّ َ‬
‫القيامة ‪ ،‬هكذا جاء في الخبر النبوي في الرجلين ‪ ،‬يكون ألحدهما حق على اآلخر ‪،‬‬
‫ّللا تعالى للحكومة واإلنصاف ‪ ،‬فيقول ‪ :‬ربه خذ لي‬ ‫فيوقف الظالم والمظلوم بين يدي ه‬

‫ص ‪210‬‬

‫ص ‪210 :‬‬
‫مظلمتي من هذا ‪ ،‬فيقول له ‪ :‬ارفع رأسك ‪ ،‬فيرى خيرا كثيرا ‪ ،‬فيقول المظلوم ‪ :‬لمن‬
‫هذا يا رب ؟ فيقول ‪ :‬لمن أعطاني الثمن ‪ ،‬فيقول ‪ :‬يا رب ومن يقدر على ثمن هذا ؟‬
‫فيقول له ‪:‬‬
‫ّللا له ‪ :‬خذ‬ ‫أنت بعفوك عن أخيك هذا ‪ ،‬فيقول المظلوم ‪ :‬يا رب قد عفوت عنه ‪ ،‬فيقول ه‬
‫ّللا عليه‬‫ّللا صلهى ه‬ ‫بيد أخيك فادخال الجنة ‪ ،‬فيأخذ بيده فيدخالن الجنة ‪ ،‬فقال رسول ه‬
‫ّللا يصلح بين عباده‬ ‫ذات بَ ْينِ ُك ْم »فإن ه‬ ‫ص ِل ُحوا َ‬ ‫ّللا َوأ َ ْ‬
‫وسلم عند إيراده هذا الخبر« فَاتَّقُوا َّ َ‬
‫يوم القيامة ‪ ،‬فالكريم إذا كان من شأنه أن يصلح بين عباده بمثل هذا الصلح حتى يسقط‬
‫فاّلل أولى بهذه الصفة من العبد في ترك المؤاخذة‬ ‫المظلوم حقه ويعفو عن أخيه ‪ ،‬ه‬
‫بحقوقه من عباده ‪ ،‬فيعاقب من شاء بظلم الغير ال بحقه المختص به ‪ ،‬ولهذا األخذ‬
‫ّللا ما ينتصر لنفسه ‪ ،‬وإنما ينتصر لغيره ‪ ،‬والذي شاء‬ ‫بالشرك من ظلم الغير ‪ ،‬فإن ه‬
‫سبحانه ينتصر له ‪.‬‬
‫[ سورة األنفال ( ‪ : ) 8‬اآليات ‪ 2‬إلى ‪] 3‬‬
‫علَ ْي ِه ْم آياتُهُ زا َدتْ ُه ْم إِيمانا ً‬ ‫َّللاُ َو ِجلَتْ قُلُوبُ ُه ْم َوإِذا ت ُ ِليَتْ َ‬
‫ِين إِذا ذُ ِك َر ه‬
‫ون الهذ َ‬ ‫إِنه َما ا ْل ُم ْؤ ِمنُ َ‬
‫ون ( ‪) 3‬‬ ‫صالةَ َو ِم هما َر َز ْقنا ُه ْم يُ ْن ِفقُ َ‬
‫ون ال ه‬ ‫ون ( ‪ ) 2‬الهذ َ‬
‫ِين يُ ِقي ُم َ‬ ‫َوعَلى َر ِبّ ِه ْم يَت َ َو هكلُ َ‬
‫« يُ ْن ِفقُونَ »مما استخلفهم فيه أداء أمانة لمن شاء من عبيده ‪.‬‬

‫[ سورة األنفال ( ‪ : ) 8‬آية ‪] 4‬‬


‫أُولئِكَ ُه ُم ا ْل ُم ْؤ ِمنُ َ‬
‫ون َحقًّا لَ ُه ْم د ََرجاتٌ ِع ْن َد َر ِبّ ِه ْم َو َم ْغ ِف َرةٌ َو ِر ْز ٌ‬
‫ق ك َِري ٌم ) ‪( 4‬‬
‫اعلم أن اإليمان نور شعشعاني ‪ ،‬ظهر عن صفة مطلقة ال تقبل التقييد ‪ ،‬فإذا خالط هذا‬
‫النور بشاشة القلوب صدق المخبر بكل أمر لم يعلمه إال من الذي أخبره به عند إخباره‬
‫‪ ،‬ولم يتوقف في تصديقه عند سماعه الخبر منه ‪ ،‬وال يتردد فيما صدقه فيه إن قدح فيه‬
‫نظره عند التفكر فيما كان أخبره به المخبر ‪،‬‬
‫[ من المؤمن ؟ ]‬
‫والمؤمنون في اإليمان على قسمين ‪:‬‬
‫مؤمن عن نظر واستدالل وبرهان ‪ ،‬فهذا ال يوثق بإيمانه ‪ ،‬وال يخالط نوره بشاشة‬
‫القلوب ‪ ،‬فإن صاحبه ال ينظر إال من خلف حجاب دليله ‪ ،‬وما من دليل ألصحاب‬
‫النظر إال وهو معرض للدخل فيه والقدح ولو بعد حين ‪ ،‬فال يمكن لصاحب البرهان‬
‫أن يخالط اإليمان بشاشة قلبه وهذا‬

‫ص ‪211‬‬

‫ص ‪211 :‬‬
‫الحجاب بينه وبينه ‪ ،‬والمؤمن اآلخر الذي كان برهانه عين حصول اإليمان في قلبه ‪،‬‬
‫ال ألمر آخر ‪ ،‬وهذا هو اإليمان الذي يخالط بشاشة القلوب ‪ ،‬فال يتصور في صاحبه‬
‫شك ‪ ،‬ألن الشك ال يجد محال يعمره ‪ ،‬فإن محله الدليل وال دليل ‪ ،‬فما ث هم على ما يرد‬
‫الدخل وال الشك ‪ ،‬بل هو في مزيد ‪ ،‬ثم إن المؤمن على نوعين‪:‬‬
‫مؤمن له عين فيه نور ‪ ،‬بذلك العين إذا اجتمع بنور اإليمان أدرك المغيبات التي‬
‫متعلقها اإليمان ‪،‬‬
‫ومؤمن ما لعينه نور سوى نور اإليمان ‪ ،‬فنظر إليه به ونظر إلى غيره به ‪ ،‬فاألول‬
‫يمكن أن يقوم بعينه أمر يزيل عنه النور الذي إذا اجتمع بنور اإليمان أدرك األمور‬
‫التي ألزمه اإليمان القول بها ‪،‬‬
‫وهو المؤمن الذي ال دليل له وينظر األشياء بذاته فيدخله الشك ممن يشككه ‪ ،‬فإن‬
‫فطرته تعطي النظر في األدلة ‪ ،‬إال أنه لم ينظر ‪ ،‬فإذا نبهه تنبه ‪ ،‬فمثل هذا إن لم يسرع‬
‫إليه الذوق وإال خيف عليه ‪،‬‬
‫والمؤمن اآلخر هو بمنزلة الجسد الذي قد تسوت بنيته ‪ ،‬واستوت آالت قواه وتركبت‬
‫طبقات عينه ‪ ،‬غير أنه ما نفخ فيه الروح ‪ ،‬فال نور لعينه ‪ ،‬فإذا كان اإلنسان بهذه‬
‫المثابة من الطمس ‪ ،‬فنفخ فيه روح اإليمان فأبصرت عينه بنور اإليمان ‪ ،‬فال يتمكن له‬
‫إدخال الشكوك عليه جملة ورأسا ‪ ،‬فإنه ما لعينه سوى نور اإليمان ‪ ،‬والضد ال يقبل‬
‫الضد ‪ ،‬فما له نور في عينه يقبل به الشك والقدح فيما يراه ‪ ،‬ومتى لم يكن اإليمان‬
‫بهذه المثابة وإال فقليل أن يجيء منه ما جاء من األنبياء واألولياء من الصدق‬
‫باإللهيات ‪ ،‬فالفطر الذكية التي تقبل النظر في المعقوالت من أكبر الموانع لحصول ما‬
‫ينبغي أن يحصل من العلم اإللهي ‪ ،‬والفطر المطموسة هي القابلة التي ال نور لعينها‬
‫من ذاتها إال من نور اإليمان ‪ ،‬فال تعطي فطرته النظر في األمور على اختالفها ‪،‬‬
‫ومنزلة األنبياء فيما يأخذونه من الغيب بطريق اإليمان من المالئكة منزلة المؤمنين مع‬
‫ما يأخذونه من األنبياء ‪ ،‬فاألنبياء مؤمنون بما يلقي إليهم الروح ‪ ،‬والروح مؤمن بمن‬
‫ّللا صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ :‬أنا‬ ‫يلقي إليه من يلقي إليه ‪ ،‬قال بعض الصحابة لرسول ه‬
‫مؤمن حقا ‪ ،‬فادعى حق اإليمان ‪ ،‬وهو من نعوت الباطن ‪ ،‬فإنه تصديق ‪ ،‬والتصديق‬
‫ّللا صلهى ه‬
‫ّللا‬ ‫محله القلب ‪ ،‬وآثاره في الجوارح إذا كان تصديقا له أثر ‪ ،‬فقال له رسول ه‬
‫عليه وسلم ‪ :‬فما حقيقة إيمانك ؟ فقال ‪ :‬كأني انظر إلى عرش ربي بارزا ‪ ،‬وقد كان‬
‫ّللا في قوله ‪ :‬إن عرش ربه يبرز يوم القيامة ‪ ،‬فجعله هذا السامع مشهود‬ ‫صدهق رسول ه‬
‫الوقوع في خياله ‪ ،‬فقال ‪ :‬كأني انظر إليه ‪ ،‬أي هو عندي بمنزلة من أشاهده ببصري ‪،‬‬
‫فالمؤمن ينبغي أن يعامل الموطن بما يعامله صاحب العيان وإال فليس بمؤمن حقا فإن‬
‫لكل حق حقيقة وليست‬

‫ص ‪212‬‬

‫ص ‪212 :‬‬
‫الحقيقة التي لكل حق إال إنزاله منزلة الشهود المدرك للبصر ‪،‬‬
‫ّللا صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم للصحابي ‪ :‬عرفت فالزم ‪ ،‬ففسر الحقيقة‬ ‫لذلك قال رسول ه‬
‫بالنظر والرؤية ‪ ،‬وجعلها بكأن ألن يوم القيامة ما وقع حسا ‪ ،‬ولكن وقع في حقه ممثال‬
‫فأدركه في التمثيل كالواقع في الحس ‪.‬‬

‫[ سورة األنفال ( ‪ : ) 8‬اآليات ‪ 5‬إلى ‪] 11‬‬


‫ون ( ‪ ) 5‬يُجا ِدلُونَكَ‬ ‫كار ُه َ‬ ‫ين لَ ِ‬ ‫ق َوإِ هن فَ ِريقا ً ِم َن ا ْل ُم ْؤ ِمنِ َ‬ ‫كَما أ َ ْخ َر َجكَ َربُّكَ ِم ْن بَ ْيتِكَ بِا ْل َح ّ ِ‬
‫ون ) ‪َ ( 6‬و ِإ ْذ يَ ِع ُد ُك ُم ه‬
‫َّللاُ‬ ‫ظ ُر َ‬ ‫ت َو ُه ْم يَ ْن ُ‬ ‫ون ِإلَى ا ْل َم ْو ِ‬ ‫ق بَ ْع َد ما تَبَيه َن كَأَنهما يُساقُ َ‬ ‫فِي ا ْل َح ّ ِ‬
‫ق‬ ‫َّللاُ أ َ ْن يُ ِح ه‬ ‫ُون لَ ُك ْم َويُ ِري ُد ه‬ ‫ت الش ْهو َك ِة تَك ُ‬ ‫غ ْي َر ذا ِ‬ ‫ُّون أ َ هن َ‬
‫طائِفَت َ ْي ِن أَنهها لَ ُك ْم َوت َ َود َ‬ ‫ِإحْ دَى ال ه‬
‫ق َويُ ْب ِط َل ا ْل ِ‬
‫باط َل َولَ ْو ك َِر َه‬ ‫ق ا ْل َح ه‬‫ين ( ‪ِ ) 7‬ليُ ِح ه‬ ‫ق ِب َك ِلما ِت ِه َويَ ْق َط َع دا ِب َر ا ْلكا ِف ِر َ‬ ‫ا ْل َح ه‬
‫ف ِم َن ا ْل َمال ِئ َك ِة‬ ‫جاب لَ ُك ْم أ َ ِنّي ُم ِم ُّد ُك ْم ِبأ َ ْل ٍ‬
‫ست َ َ‬ ‫ون َربه ُك ْم فَا ْ‬ ‫ست َ ِغيث ُ َ‬ ‫ون ( ‪ِ ) 8‬إ ْذ ت َ ْ‬ ‫ا ْل ُمجْ ِر ُم َ‬
‫َّللاُ إِاله بُشْرى َو ِلت َ ْط َمئِ هن بِ ِه قُلُوبُ ُك ْم َو َما النهص ُْر إِاله ِم ْن ِع ْن ِد‬ ‫ين ) ‪َ ( 9‬وما َجعَلَهُ ه‬ ‫ُم ْر ِدفِ َ‬
‫ماء‬
‫س ِ‬ ‫علَ ْي ُك ْم ِم َن ال ه‬ ‫عاس أ َ َمنَةً ِم ْنهُ َويُنَ ِ ّز ُل َ‬ ‫شي ُك ُم النُّ َ‬ ‫يز َح ِكي ٌم ) ‪( 10‬إِ ْذ يُغَ ِ ّ‬ ‫َّللا ع َِز ٌ‬‫َّللا إِ هن ه َ‬ ‫هِ‬
‫طان َو ِليَ ْر ِب َط عَلى قُلُو ِب ُك ْم َويُث َ ِبّتَ ِب ِه ْاأل َ ْقدا َم (‬ ‫ش ْي ِ‬ ‫ع ْن ُك ْم ِرجْ َز ال ه‬ ‫ب َ‬ ‫ما ًء ِليُ َط ِ ّه َر ُك ْم ِب ِه َويُ ْذ ِه َ‬
‫‪) 11‬‬
‫عاس أ َ َمنَةً ِم ْنهُ »األمنة هي السكينة ال غيرها ‪ ،‬وقد تورث األسباب‬ ‫شي ُك ُم النُّ َ‬ ‫« ِإ ْذ يُغَ ِ ه‬
‫الحسية المطهرة طهارة معنوية ‪،‬‬
‫ع ْن ُك ْم ِر ْجزَ‬ ‫ب َ‬ ‫ط ِ هه َر ُك ْم بِ ِه َويُ ْذ ِه َ‬ ‫ماء ما ًء ِليُ َ‬ ‫س ِ‬ ‫علَ ْي ُك ْم ِمنَ ال َّ‬ ‫ومنها قوله تعالى ‪َ «:‬ويُن ِ هَز ُل َ‬
‫دام »‬‫ت بِ ِه ْاأل َ ْق َ‬ ‫على قُلُوبِ ُك ْم َويُث َ ِبه َ‬ ‫ط َ‬ ‫ْطان َو ِليَ ْربِ َ‬ ‫شي ِ‬ ‫ال َّ‬
‫وسبب هذه الطهارة المعنوية كلها إنما هو نزول هذا الماء من السماء ‪ ،‬وأعاد الضمير‬
‫دام »على المطر ‪ ،‬والرجز بالسين القذر عند القراء ‪ ،‬وهو هنا القذر‬ ‫من« ِب ِه ْاأل َ ْق َ‬
‫المعنوي ‪ ،‬ألنه مضاف إلى الشيطان ‪ ،‬فال يدل إال على ما يلقيه من الشبه والجهاالت‬
‫واألمور التشكيكية ‪ ،‬ليقذر بها محل‬

‫ص ‪213‬‬

‫ص ‪213 :‬‬
‫ّللا ذلك بما في الماء المنزل من الحياة العلمية بالبراهين والكشف ‪،‬‬‫هذا القلب ‪ ،‬فيذهب ه‬
‫ّللا ‪ ،‬زال الوسخ الجهلي وارتفع‬ ‫فإذا زال ذلك القذر الشبهي بهذا المنزل من عند ه‬
‫الغطاء عن القلب ‪ ،‬فنظر بعينه في ملكوت السماوات واألرض ‪،‬‬
‫وذلك بما أعطاه العلم المنزل الذي طهره به في ذلك الماء ‪ ،‬الذي جعل نزوله في‬
‫الظاهر عالمة على فعله في الباطن ‪ ،‬فكان من مواطنه مقابلة األعداء ‪،‬‬
‫فأداه ما عاينه وربط قلبه به أن تثبت قدمه يوم الزحف عند لقاء األعداء ‪ ،‬فما ولوا‬
‫ّللا في الماء من القوة ‪،‬‬
‫ّللا نصره وهو تثبيت األقدام ‪ ،‬فهذا ما أعطاه ه‬ ‫مدبرين ‪ ،‬وأنزل ه‬
‫ّللا جعل الماء‬
‫حيث أنزله منزلة المالئكة بل أتم من المالئكة ‪ ،‬وإنما قلنا بل أتم ‪ ،‬فإن ه‬
‫سبب تثبيت األقدام فأنزله منزلة المعين على ما يريد ‪.‬‬

‫[ سورة األنفال ( ‪ : ) 8‬آية ‪] 12‬‬


‫ِين َكفَ ُروا‬ ‫سأ ُ ْل ِقي فِي قُلُو ِ‬
‫ب الهذ َ‬ ‫ِين آ َمنُوا َ‬ ‫وحي َربُّكَ إِلَى ا ْل َمالئِ َك ِة أ َ ِنّي َمعَ ُك ْم فَث َ ِبّتُوا الهذ َ‬‫إِ ْذ يُ ِ‬
‫نان ) ‪( 12‬‬ ‫ض ِربُوا ِم ْن ُه ْم ُك هل بَ ٍ‬ ‫ق ْاألَع ِ‬
‫ْناق َوا ْ‬ ‫ض ِربُوا فَ ْو َ‬ ‫ْب فَا ْ‬
‫الرع َ‬
‫ُّ‬
‫ّللا معهم من حيث إنيته ‪،‬‬ ‫قال تعالى ذلك للمالئكة لما علم من ضعفهم ‪ ،‬أعلمهم أن ه‬
‫ليتقوى جأشهم فيما يلقونه في قلوب المؤمنين المجاهدين ‪ ،‬أن يثبتوا ويصابروا العدو‬
‫وال ينهزموا ‪ ،‬وهذه من لمات المالئكة ‪ ،‬فقال لهم «‪ :‬فَث َ ِبهتُوا الَّذِينَ آ َمنُوا »أي اجعلوا‬
‫ْب‬
‫الرع َ‬ ‫ب الَّذِينَ َكفَ ُروا ُّ‬‫سأ ُ ْل ِقي فِي قُلُو ِ‬ ‫في قلوبهم أن يثبتوا ‪ ،‬ثم أعانهم فقال ‪َ «:‬‬
‫»أخبرهم بذلك ليلقوا في نفوس المجاهدين هذا الكالم ‪ ،‬فإنه من الوحي ‪ ،‬فيجد المجاهد‬
‫في نفسه ذلك اإللقاء ‪ ،‬وهو وحي الملك في لمته ‪ ،‬وهذه المالئكة التي تقوي قلوب‬
‫ْب »هم‬ ‫الرع َ‬‫ب الَّذِينَ َكفَ ُروا ُّ‬ ‫سنُ ْل ِقي فِي قُلُو ِ‬ ‫المجاهدين وتثبتهم وتوحي إليهم قوله ‪َ «:‬‬
‫المالئكة الذي يدخلون البيت المعمور الذي في السماء السابعة المخلوقون من قطرات‬
‫ماء نهر الحياة ‪ ،‬في انتفاض الروح األمين من انغماسه ‪ ،‬ولهذا قرن المالئكة‬
‫دام »فانظر كم بين مرتبة الماء‬ ‫ت بِ ِه ْاأل َ ْق َ‬‫بالمجاهدين في التثبيت مع الماء المنزل « َويُث َ ِبه َ‬
‫ّللا في هذه عن مرتبة الماء من مراتب المالئكة ‪،‬‬ ‫ومرتبة هؤالء المالئكة ‪ ،‬وقد أبان ه‬
‫ّللا من الماء كل شيء حي ‪.‬‬ ‫ّللا ‪ ،‬فجعل ه‬ ‫ليعقلها العالمون من عباد ه‬

‫[ سورة األنفال ( ‪ : ) 8‬آية ‪] 13‬‬


‫شدِي ُد ا ْل ِعقا ِ‬
‫ب) ‪( 13‬‬ ‫سولَهُ فَ ِإ هن ه َ‬
‫َّللا َ‬ ‫َّللا َو َر ُ‬
‫ق هَ‬ ‫سولَهُ َو َم ْن يُشا ِق ِ‬ ‫ذ ِلكَ ِبأَنه ُه ْم شَاقُّوا ه َ‬
‫َّللا َو َر ُ‬

‫ص ‪214‬‬

‫ص ‪214 :‬‬
‫ّللا في عباده ‪ ،‬ألي شيء كان كذا ؟ ولو‬
‫ّللا االعتراض والتعليل ألفعال ه‬
‫ومن مشاققة ه‬
‫كان كذا كان أحسن وأليق ‪ ،‬فهي منازعة للربوبية ‪ ،‬فاألشقياء ليس لهم عذاب إال منهم‪.‬‬

‫[ سورة األنفال ( ‪ : ) 8‬آية ‪] 14‬‬


‫َذاب النه ِار ) ‪( 14‬‬
‫ين ع َ‬‫ذ ِل ُك ْم فَذُوقُو ُه َوأ َ هن ِل ْلكا ِف ِر َ‬
‫المؤمن ال يولي الدبر ويتقدم ويثبت حتى يظفر أو يقتل ‪ ،‬ولهذا ما انهزم نبي قط لقوة‬
‫ّللا المؤمن إذا ولى دبره في القتال لغير قتال أو انحياز إلى‬
‫إيمانه بالحق ‪ ،‬وقد توعد ه‬
‫فئة تعضده فقال تعالى ‪:‬‬

‫[ سورة األنفال ( ‪ : ) 8‬آية ‪] 15‬‬


‫ِين َكفَ ُروا َزحْ فا ً فَال ت ُ َولُّو ُه ُم ْاألَد َ‬
‫ْبار ) ‪( 15‬‬ ‫يا أَيُّ َها الهذ َ‬
‫ِين آ َمنُوا ِإذا لَ ِقيت ُ ُم الهذ َ‬
‫فخاطب أهل اإليمان ‪ ،‬وبقرائن األحوال علمنا أنه تعالى أراد المؤمنين بالحق ‪ ،‬وما‬
‫ّللا مطلقة إال ليقيم الحجة على الذين آمنوا بالباطل إذا هزمهم الكافرون‬ ‫أرسلها ه‬
‫بالطاغوت ‪ ،‬لما دخلهم من الخلل في إيمانهم بالباطل ‪ ،‬وما عدا حال المسايفة استعداد‬
‫للجهاد والقتال ‪ ،‬ما هو عين الجهاد وال عين القتال ‪ ،‬فإذا وقعت المسايفة ذلك هو عين‬
‫ّللا عباده بالثبات فيه واالستعانة بالصبر والصالة ‪ ،‬ثم توعد‬ ‫الجهاد والقتال الذي أمر ه‬
‫من لم يثبت فقال‪:‬‬

‫[ سورة األنفال ( ‪ : ) 8‬آية ‪] 16‬‬


‫ب ِم َن ه ِ‬
‫َّللا‬ ‫ض ٍ‬ ‫َو َم ْن يُ َو ِلّ ِه ْم يَ ْو َمئِ ٍذ ُدبُ َرهُ ِإاله ُمت َ َح ِ ّرفا ً ِل ِقتا ٍل أ َ ْو ُمت َ َح ِيّزا ً ِإلى فِئ َ ٍة فَقَ ْد با َء ِبغَ َ‬
‫ير ) ‪( 16‬‬ ‫س ا ْل َم ِص ُ‬‫َو َمأْواهُ َج َهنه ُم َو ِبئْ َ‬
‫من انحاز إلى فئة أو كان متحرفا لقتال ‪ ،‬فإنه من أبطال الرجال ‪ ،‬ومن أهل المكر‬
‫المشروع واالحتيال ‪ ،‬والحرب خدعة ‪ ،‬وإن أساء في الحال السمعة ‪ ،‬فإن العاقبة تسفر‬
‫عن مراده ‪ ،‬بما قصده من جهاده« َو َم ْن يُ َو ِله ِه ْم يَ ْو َمئِ ٍذ ُدبُ َرهُ إِ َّال ُمت َ َح ِ هرفا ً ِل ِقتا ٍل أ َ ْو ُمت َ َح ِيهزا ً‬
‫ّللا َو َمأْواهُ َج َهنَّ ُم »‬ ‫ب ِمنَ َّ ِ‬ ‫ض ٍ‬ ‫ِإلى فِئ َ ٍة فَقَ ْد با َء بِغَ َ‬
‫ير »‬ ‫ص ُ‬ ‫س ْال َم ِ‬‫يعني إن قتل في تلك الحال« َو ِبئْ َ‬
‫صب ِْر )‬ ‫وقال تعالى في تلك الحالة‪َ ( :‬وا ْست َ ِعينُوا ِبال َّ‬
‫وهو حبس النفس عن الفرار في تلك الحال والصالة ‪.‬‬
‫[ جواز صالة الفرض عند المسايفة ولو على غير طهارة ]‬
‫فأمر بالصالة وأنها من األمور المعينة له على خذالن العدو ‪ ،‬فجعلها من أفعال الجهاد‬
‫ّللا بالصبر وهو الثبات‬ ‫‪ ،‬فوجبت الصالة ‪ ،‬والفرار في تلك الحال من الكبائر ‪ ،‬فأمره ه‬

‫ص ‪215‬‬

‫ص ‪215 :‬‬
‫في تلك الحال والصالة ‪ ،‬فوجبت عليه كما وجب الصبر ‪ ،‬فيصليها على قدر اإلمكان ‪،‬‬
‫ط ْعت ُ ْم )‬‫ّللا َما ا ْست َ َ‬
‫فاّلل يقول ‪ (:‬فَاتَّقُوا َّ َ‬
‫أي على قدر ما يمكنه أن يفعله منها ‪ ،‬ه‬
‫ّللا عليه وسلم يوتر‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫ّللاُ نَ ْفسا ً ِإ َّال ُو ْسعَها ) وقد كان رسول ه‬ ‫ف َّ‬ ‫وقال ‪ (:‬ال يُ َك ِله ُ‬
‫على الراحلة يومي إيماء مع األمان ‪ ،‬فأحرى إيقاع الفرض مع الخوف ووجود‬
‫البشرى أنها من أسباب النصر ‪ ،‬فيصلي على قدر استطاعته في ذلك الوقت وعلى تلك‬
‫الحال بحيث أن ال يترك القتال وال يتوانى فيه ‪ ،‬فذلك استطاعة الوقت ‪ ،‬فإن المكلهف‬
‫بحكم وقته ‪ ،‬وسواء كان على طهارة أو على غير طهارة ‪ ،‬والمخالف لهذا ما حقق‬
‫ّللا في قوله‬ ‫ّللا برفع الحرج عن المكلف في دين ه‬ ‫ّللا ‪ ،‬وال ما أراده ه‬ ‫النظر في أمر ه‬
‫ج )فالمجتهد ال كالم معه ‪ ،‬فإنه يعمل‬ ‫علَ ْي ُك ْم فِي ال هد ِ‬
‫ِين ِم ْن َح َر ٍ‬ ‫تعالى ‪َ (:‬وما َجعَ َل َ‬
‫بحسب ما يقتضيه دليله ويحرم عليه مخالفة دليله ‪ ،‬وأما المقلد فاألولى به عندنا تقليد‬
‫من يقول بجواز الصالة في حال المسايفة وعلى غير طهارة فيها ‪ ،‬فإن القرآن يعضده‬
‫‪ ،‬وال حجة للمقلد في التخلف عن تقليد من يقول بالصالة ‪ ،‬فإنه أبرأ لذمته وأولى في‬
‫ّللا عليه وسلم ‪.‬‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫ّللا على كل أحيانه اقتداء برسول ه‬ ‫حقه ‪ ،‬ويكون ممن ذكر ه‬

‫[ سورة األنفال ( ‪ ) : 8‬آية ‪] 17‬‬


‫ين ِم ْنهُ‬
‫ي ا ْل ُم ْؤ ِم ِن َ‬ ‫َّللا قَتَلَ ُه ْم َوما َر َم ْيتَ ِإ ْذ َر َم ْيتَ َول ِك هن ه َ‬
‫َّللا َرمى َو ِليُ ْب ِل َ‬ ‫فَلَ ْم ت َ ْقتُلُو ُه ْم َول ِك هن ه َ‬
‫ع ِلي ٌم ( ‪) 17‬‬ ‫س ِمي ٌع َ‬ ‫سنا ً إِ هن ه َ‬
‫َّللا َ‬ ‫بَال ًء َح َ‬
‫ّللا َرمى » اآلية]‬ ‫ْت َول ِك َّن َّ َ‬ ‫ْت إِ ْذ َر َمي َ‬
‫[ « َوما َر َمي َ‬
‫جاء المدد الملكي فأقدم حيزوم « ‪ » 1‬لنصرة دين الحي القيوم ‪ ،‬ولتقوية القلوب عند‬
‫أهل اإليمان بالغيوب ‪ ،‬وما كان عند أهل الغيب إيمانا كان ألهل الشرك عيانا ‪ ،‬وذلك‬
‫ّللا قَتَلَ ُه ْم »قتلهم بالملك ‪ ،‬لألمر الذي أوحاه‬ ‫الشهود خذلهم فقال ‪ «:‬فَلَ ْم ت َ ْقتُلُو ُه ْم َول ِك َّن َّ َ‬
‫في السماء وأودعه حركة الفلك ‪ ،‬فما انحجب عن المؤمن إلهانته ‪ ،‬كما أنه ما كشفه‬
‫ّللا‬
‫المشرك لمكانته ‪ ،‬لكن ليثبت ارتياعه ‪ ،‬ويتحقق انصداعه واندفاعه ‪ ،‬فخذله ه‬
‫بالكشف ‪ ،‬وهو من النصر اإللهي الصرف ‪ ،‬نصر به عباده المؤمنين على التعيين ‪،‬‬
‫فإنه أوجب سبحانه على نفسه نصرتهم ‪ ،‬فرد عليهم لهم كرتهم ‪ ،‬فانهزموا أجمعين ‪(،‬‬
‫ص ُر ْال ُمؤْ ِمنِينَ )‬ ‫َوكانَ َحقًّا َ‬
‫علَيْنا نَ ْ‬

‫) ‪( 1‬حيزوم اسم الفرس الذي كان يركبه جبريل عليه السالم‪.‬‬

‫ص ‪216‬‬

‫ص ‪216 :‬‬
‫والمؤمن اإلله الحق ‪ ،‬وقد نصره الخلق ‪ ،‬وهو القائل( َوا ْقتُلُو ُه ْم َحي ُ‬
‫ْث َو َج ْدت ُ ُمو ُه ْم )‬
‫فأظهر آمرا وأمرا ومأمورا في هذا الخطاب التكليفي ‪ ،‬فلما وقع االمتثال هّلل ‪ ،‬وظهر‬
‫القتل بالفعل من أعيان المحدثات ‪،‬‬
‫قال ‪ :‬ما هم أنتم الذين قتلتموهم ‪ ،‬بل أنا قاتلهم ‪ ،‬فأنتم لنا بمنزلة السيف لكم ‪ ،‬أو أي آلة‬
‫كانت للقتل ‪ ،‬فالقتل وقع في المقتول باآللة ولم يقل فيه إنه القاتل ‪ ،‬وقيل في الضارب‬
‫به القاتل ‪ ،‬كذلك الضارب به بالنسبة إلينا مثل السيف له عنده ‪ ،‬فال يقال في المكلهف‬
‫ّللا هو القاتل بالمكلهف وبالسيف ‪ ،‬فقام له المكلهف مقام اليد الضاربة‬ ‫إنه القاتل بل ه‬
‫بالسيف ‪ ،‬وفي حضرة األفعال ينسب الفعل بالعوائد إلى المخلوق والحق مبطون فيه ‪،‬‬
‫ّللا ال إلى المخلوق ‪ ،‬ألنه خارج عن قدرة المخلوق ‪،‬‬ ‫وينسب الفعل بخرق العادة إلى ه‬
‫فيظهر الحق وإن كان ال يظهر إال في الخلق ‪ ،‬ومن هنا يتبين أن ما قام فيه اإلنسان‬
‫عين ما قام فيه الحق ‪ ،‬بين ظاهر وباطن ‪،‬‬
‫ّللا عليه وسلم في رميه‬ ‫فإذا ظهر من ظهر بطن اآلخر ‪ ،‬وذلك قوله تعالى لنبيه صلهى ه‬
‫ْت »‬‫ْت ِإ ْذ َر َمي َ‬‫التراب في أعين المشركين« َوما َر َمي َ‬
‫ّللا ‪ ،‬وإيصال الرمي إلى أعين الكفار حتى‬ ‫ّللا عليه وسلم بقول ه‬ ‫فالرمي وقع منه صلهى ه‬
‫ما بقيت عين لمشرك خاص إال وقع من التراب في عينه فهذا ليس لمخلوق ‪،‬‬
‫ّللا‬
‫ّللا محا رسول ه‬ ‫ّللا َرمى »إثباتا للنفي في أول اآلية ‪ ،‬فإن ه‬ ‫فقال تعالى ‪َ «:‬ول ِك َّن َّ َ‬
‫ْت‬
‫ّللا عليه وسلم في حكم رميه مع وجود الرمي عنه ‪ ،‬فقال ‪َ «:‬وما َر َمي َ‬ ‫صلهى ه‬
‫ّللا‬
‫ّللا َرمى »وما رمى إال بيد رسول ه‬ ‫ْت »فأثبت السبب« َول ِك َّن َّ َ‬ ‫»فمحاه« إِ ْذ َر َمي َ‬
‫ّللا عليه وسلم ‪،‬‬ ‫صلهى ه‬
‫ّللا َرمى‬ ‫ْت »إثبات عين ما نفى« َول ِك َّن َّ َ‬ ‫ْت »نفي« ِإ ْذ َر َمي َ‬‫فقوله تعالى ‪َ «:‬وما َر َمي َ‬
‫»نفى عين ما أثبته ‪ ،‬فصار إثبات الرمي وسطا بين طرفي نفي ‪ ،‬فالنفي األول عين‬
‫النفي اآلخر ‪،‬‬
‫فمن المحال أن يثبت عين الوسط بين النفيين ‪ ،‬ألنه محصور ‪ ،‬فيحكم عليه الحصر ‪،‬‬
‫وال سيما أن النفي اآلخر زاد على النفي األول بإثبات الرمي له ال للوسط ‪ ،‬فثبت‬
‫ّللا عليه‬ ‫ّللا عليه وسلم بثبوت محمد صلهى ه‬ ‫الرمي في الشهود الحسي لمحمد صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم رام ال رام ‪ ،‬وهذا ال يدرك إال بعين البصيرة ‪،‬‬ ‫وسلم ‪ ،‬فمحمد صلهى ه‬
‫فالبصيرة بها تدرك األمر على ما هو عليه ‪ ،‬ألنه علم محقق ‪ ،‬وإذا أدرك به عين نسبة‬
‫ما ظهر في الحس سمي بصرا ‪ ،‬فاختلفت األلقاب باختالف المواطن ‪ ،‬كما اختلف حكم‬
‫عين األداة ‪ ،‬وإن كانت بصورة واحدة حيث كانت ‪ ،‬تختلف باختالف المواطن ‪ ،‬مثل‬
‫أداة ما ‪ ،‬ال شك أنها عين واحدة ‪،‬‬
‫ففي موطن تكون نافية ‪ ،‬وفي موطن تكون تعجبا ‪ ،‬وفي موطن تكون مهيئة ‪ ،‬وفي‬
‫موطن تكون اسما ‪ ،‬وقد تكون مصدرية ‪ ،‬وتأتي لالستفهام ‪ ،‬وتأتي زائدة ‪ ،‬وغير ذلك‬
‫من‬
‫ص ‪217‬‬

‫ص ‪217 :‬‬
‫مواطنها ‪ ،‬فهذه عين واحدة حكمت عليها المواطن بأحكام مختلفة ‪ ،‬كذلك صور التجلي‬
‫ّللا لنا فيما ذكره في هذه اآلية الذي كنا نظنه‬ ‫بمنزلة األحكام لمن يعقل ما يرى ‪ ،‬فأبان ه‬
‫حقيقة محسوسة ‪ ،‬انما هي متخيلة ‪ ،‬يراها رأي العين ‪ ،‬واألمر في نفسه على خالف‬
‫ما تشهده العين ‪ ،‬وهذا سار في جميع القوى الجسمانية والروحانية ‪ ،‬ولوال االسم‬
‫ّللا في صورة محمدية ‪ ،‬فإنه ما رمى إال محمد صلهى‬ ‫الباطن ما عرفنا أن الرامي هو ه‬
‫ّللا ‪ ،‬فأين محمد صلهى‬ ‫ّللا عليه وسلم ‪ ،‬وما وقع الحس إال على رميه ‪ ،‬وما رمى إال ه‬ ‫ه‬
‫ّللا عليه وسلم وسلم ؟ محاه وأثبته ‪ ،‬ثم محاه ‪ ،‬فهو مثبت بين محوين ‪ ،‬كما ورد في‬ ‫ه‬
‫الخبر [ كنت سمعه وبصره ] فأين اإلنسانية هنا ؟ فإنه نفى عين ما أثبته لك وأثبته‬
‫ّللا َرمى »وما رمى إال العبد ‪ ،‬فأعطاه اسمه وسماه به ‪ ،‬وبقي‬ ‫لنفسه ‪ ،‬فقال ‪َ «:‬ول ِك َّن َّ َ‬
‫حاله به كما سماه به أم ال ؟ فإنا ال نشك أن العبد رمى ‪ ،‬وال نشك أن‬ ‫الكالم في أنه هل ه‬
‫ّللا َرمى »وقد نفى الرمي عنه أوال ‪ ،‬فنفى عنه اسم العبودة‬ ‫ّللا تعالى قال ‪َ «:‬ول ِك َّن َّ َ‬ ‫ه‬
‫وسماه باسمه ‪ ،‬إذ ال بد من مسمى ‪ ،‬وليس إال وجود عين العبد ‪ ،‬ال من حيث هو عبد‬
‫‪ ،‬لكن من حيث هو عين ‪ ،‬فإن العبد ال يقبل اسم السيادة ‪ ،‬والعين كما تقبل العبودة تقبل‬
‫السيادة ‪ ،‬فانتقل عنها االسم الذي خلقت له وخلع عليها االسم الذي يكون عنه التكوين ‪،‬‬
‫ّللا َرمى »والحق ال يباهت خلقه ‪ ،‬فما يقول إال ما هو األمر‬ ‫وهو قوله تعالى ‪َ «:‬ول ِك َّن َّ َ‬
‫ْت »أثبت لك ما رأيت ‪ ،‬ودل قوله ‪«:‬‬ ‫ْت ِإ ْذ َر َمي َ‬
‫عليه في نفسه ‪ ،‬فقوله ‪َ «:‬وما َر َمي َ‬
‫ّللا يد األكوان ‪ ،‬وإن‬‫ّللا َرمى »على أمر يستوي فيه البصير واألعمى ‪ ،‬فيد ه‬ ‫َول ِك َّن َّ َ‬
‫ّللا تعالى إلينا أن الفعل الذي يشهد به الحس أنه للعبد‬ ‫اختلفت األعيان ‪ ،‬وهذا عهد من ه‬
‫ّللا ال بإضافتي ‪ ،‬فأنا‬
‫هو هّلل تعالى ال للعبد ‪ ،‬فإن أضفته لنفسي فإنما أضيفه بإضافة ه‬
‫ّللاُ َخلَقَ ُك ْم َوما ت َ ْع َملُونَ )‬
‫ّللا به وهو قوله ‪َ (:‬و َّ‬ ‫أحكي وأترجم عن ه‬
‫فرد الفعل الذي أضافه إلى نفسه وهو حقه الذي له قبلي بهذه اإلضافة ‪ ،‬ولكن ال بد من‬
‫ميزان إلهي نرده به إليه ‪،‬‬
‫ّللا كأنك تراه ‪ ،‬فإن الوزن نعت إلهي ال ينبغي‬ ‫ّللا عليه وسلم ‪ :‬اعبد ه‬ ‫وهو قوله صلهى ه‬
‫ّللا أن يغفل عنه في كل فعل ظاهر في الكون من موجود ما من‬ ‫لعبد من عباد ه‬
‫الموجودات ‪ ،‬فال يزال مراقبا له في غيره ‪ ،‬فيحكم عليه بالميزان الموضوع عنده ‪،‬‬
‫ّللا‬
‫وليس إال الشرع ‪ ،‬وهذه اآلية تشير إلى نفي الركون إلى األسباب ال األسباب ‪ ،‬فإن ه‬
‫ال يعطل حكم الحكمة في األشياء ‪ ،‬واألسباب حجب إلهية موضوعة ال ترفع ‪ ،‬فمن‬
‫الحكمة إبقاء األسباب ‪ ،‬مع محو العبد من الركون إليها على حكم نفي أثرها في‬
‫المسببات ‪ ،‬فاألسباب ستور‬

‫ص ‪218‬‬

‫ص ‪218 :‬‬
‫ّللا أو إلى العبد أو إلى‬
‫وحجب ‪ ،‬وفي هذه اآلية علم إضافة األفعال ‪ ،‬هل تضاف إلى ه‬
‫ّللا وإلى العبد ؟ فإن وجودها محقق ‪ ،‬ونسبتها غير محققة ‪ ،‬وهذا موضوع اختلف‬ ‫ه‬
‫الناس فيه ‪ ،‬والخالف ال يرتفع من العالم بقولي ‪ ،‬فمن الناس من نسب األفعال إلى‬
‫ّللا بوجه وإلى‬‫ّللا ‪ ،‬ومنهم من نسب الفعل إلى ه‬ ‫الخلق ‪ ،‬ومنهم من نسب األفعال إلى ه‬
‫العباد بوجه ‪ ،‬فعلق المحامد والحسن بما ينسب من األفعال للحق ‪ ،‬وعلق المذام والقبح‬
‫بما ينسب من األفعال للعباد لحكم االشتراك العقلي ‪ ،‬وكمال الوجود توقف على‬
‫وجودهما ‪،‬‬
‫ّللا َرمى »فنفى الرمي عمن أثبته له ‪ ،‬فأثبت‬ ‫ْت َول ِك َّن َّ َ‬ ‫ْت ِإ ْذ َر َمي َ‬
‫قال تعالى ‪َ «:‬وما َر َمي َ‬
‫بهذه اآلية أعيان العالم ‪ ،‬والفعل كله إنما يظهر صدوره من الصورة ‪ ،‬وهو القائل«‬
‫ّللا َرمى »فكان الحق عين الصورة التي تشاهد األعمال منها ‪ ،‬وهذا مقام الحيرة‬ ‫َول ِك َّن َّ َ‬
‫ّللا الخواص في حيرتهم بقوله هذا ألخص خلقه علما ومعرفة ‪ ،‬فنفى عين ما‬ ‫‪ ،‬فصدهق ه‬
‫أثبت فما أثبت ؟ وما نفى ؟‬
‫باّلل حيرة ‪ ،‬والعلم بالخلق حيرة ‪ ،‬وقد حجر‬ ‫فأين العامة من هذا الخطاب ‪ ،‬فالعلم ه‬
‫النظر في ذاته وأطلقه في خلقه ‪ ،‬فالهداة في النظر في خلقه ألنه الهادي وقد هدى ‪،‬‬
‫والعمى في النظر في الحق فإنه قد حجر وجعله سبيل الردى ‪ ،‬وهذا خطاب خاطب به‬
‫العقالء ‪ ،‬فما زادهم إال إيمانا بالحيرة وتسليما لحكمها ‪،‬‬
‫ي ْال ُمؤْ ِمنِينَ ِم ْنهُ بَال ًء َح َ‬
‫س نا ً »‬ ‫ولذلك قال تعالى في هذه اآلية ‪َ «:‬و ِليُ ْب ِل َ‬
‫ي »أي قلنا هذا اختبارا للمؤمنين في إيمانهم لنا في‬ ‫فجاء بالخبرة بقوله تعالى ‪َ «:‬و ِليُ ْب ِل َ‬
‫ذلك من تناقض األمور ‪ ،‬الذي يزلزل إيمان من في إيمانه نقص عما يستحقه اإليمان‬
‫ّللا حيهر المؤمنين ‪ ،‬وهو ابتالؤه بما ذكر من نفي الرمي‬ ‫من مرتبة الكمال ‪ ،‬فإن ه‬
‫وإثباته ‪ ،‬وجعله بالء حسنا ‪ ،‬أي إن نفاه العبد عنه أصاب ‪ ،‬وإن أثبته له أصاب ‪ ،‬وما‬
‫بقي إال أي اإلصابتين أولى بالعبد وإن كان كله حسنا ؟‬
‫وهذا موضع الحيرة ‪ ،‬ولذلك سماه بالء أي موضع اختبار ‪ ،‬فمن أصاب الحق وهو‬
‫ّللا أي اإلصابتين أو أي الحكمين أراد ‪ ،‬حكم النفي أو حكم اإلثبات كان أعظم‬ ‫مراد ه‬
‫ع ِلي ٌم »‪.‬‬
‫س ِمي ٌع َ‬ ‫ّللا من الذي ال يصيب ‪ ،‬لذلك قال «‪ِ :‬إ َّن َّ َ‬
‫ّللا َ‬ ‫عند ه‬

‫[ سورة األنفال ( ‪ : ) 8‬اآليات ‪ 18‬إلى ‪]19‬‬


‫ست َ ْف ِت ُحوا فَقَ ْد جا َء ُك ُم ا ْلفَتْ ُح َو ِإ ْن ت َ ْنت َ ُهوا‬
‫ين ( ‪ِ ) 18‬إ ْن ت َ ْ‬ ‫ذ ِل ُك ْم َوأ َ هن ه َ‬
‫َّللا ُمو ِه ُن َك ْي ِد ا ْلكا ِف ِر َ‬
‫ش ْيئا ً َولَ ْو َكث ُ َرتْ َوأ َ هن ه َ‬
‫َّللا َم َع‬ ‫ع ْن ُك ْم فِئَت ُ ُك ْم َ‬ ‫فَ ُه َو َخ ْي ٌر لَ ُك ْم َوإِ ْن تَعُودُوا نَعُ ْد َولَ ْن ت ُ ْغنِ َ‬
‫ي َ‬
‫ين) ‪( 19‬‬ ‫ا ْل ُم ْؤ ِمنِ َ‬

‫ص ‪219‬‬

‫ص ‪219 :‬‬
‫" إِ ْن ت َ ْست َ ْفتِ ُحوا فَقَ ْد جا َء ُك ُم ْالفَتْ ُح "إن تستنصروا فقد جاءكم النصر ‪.‬‬

‫[ سورة األنفال ( ‪ : ) 8‬اآليات ‪ 20‬إلى ‪] 21‬‬


‫ون ( ‪َ ) 20‬وال‬ ‫ع ْنهُ َوأ َ ْنت ُ ْم ت َ ْ‬
‫س َمعُ َ‬ ‫سولَهُ َوال ت َ َوله ْوا َ‬ ‫ِين آ َمنُوا أ َ ِطيعُوا ه َ‬
‫َّللا َو َر ُ‬ ‫يا أَيُّ َها الهذ َ‬
‫ون ) ‪( 21‬‬ ‫س َمعُ َ‬‫س ِم ْعنا َو ُه ْم ال يَ ْ‬ ‫ِين قالُوا َ‬ ‫تَكُونُوا كَالهذ َ‬
‫ّللا في قولهم‬ ‫س ِم ْعنا »أي فهمنا ‪ ،‬فأكذبهم ه‬ ‫ّللا تعالى ناهيا« َوال ت َ ُكونُوا َكالَّذِينَ قالُوا َ‬ ‫قال ه‬
‫ّللا أعز وأجل‬ ‫يب الَّذِينَ يَ ْس َمعُونَ )فلو سمعوا استجابوا ‪ ،‬فإن ه‬ ‫سمعنا ‪ ،‬فقال ‪ِ (:‬إنَّما يَ ْست َ ِج ُ‬
‫ّللا‬
‫ّللا عنهم الفهم عن ه‬ ‫من أن يقاومه مخلوق« َو ُه ْم ال يَ ْس َمعُونَ »أي ال يفهمون ‪ ،‬فنفى ه‬
‫ّللا عليهم بعدم السماع مع سماعهم ‪ ،‬فمع كونهم سمعوا‬ ‫‪ ،‬فهو ذم ‪ -‬وجه آخر ‪ -‬حكم ه‬
‫نفى عنهم السمع ‪ ،‬فإنهم سمعوا حقيقة وفهموا ‪ ،‬فإنه خاطبهم بلسانهم ‪ ،‬ثم قال تعالى‬
‫‪َ «:‬و ُه ْم ال يَ ْس َمعُونَ »أي حكمهم حكم من لم يسمع عندنا ‪ ،‬مع كونهم سمعوا ‪ ،‬وما قال‬
‫تعالى بما ذا يحكم فيهم ؟ وإن كان غالب األمر من قرائن األحوال العقوبة ‪ ،‬ولكن‬
‫ّللا وتجاوزه عن سيئات أمثال‬ ‫اإلمكان ال يرتفع في نفس األمر ‪ ،‬لما يعرف من فضل ه‬
‫ّللا قد تفضل عليه ‪ ،‬وإن كان حكمه‬ ‫هؤالء ‪ ،‬فإن كان حكمه حكم من لم يسمع ‪ ،‬فيكون ه‬
‫ّللا قد عدل فيه ‪ ،‬واعلم أنه قد دل الكتاب‬ ‫ّللا ‪ ،‬فيكون ه‬ ‫حكم من علم فلم يعمل فعاقبه ه‬
‫والسنة على أن السمع والبصر قسمان ‪ :‬عادي وحقيقي ‪ ،‬فالعادي سمع القلب باألذن‬
‫وإبصاره بالعين ‪ ،‬وهو عام في المؤمن والكافر ‪ ،‬والحقيقي بصر العين بالقلب وسمع‬
‫ّللا تعالى عن الكافر في غير ما آية ‪ ،‬منها قوله تعالى ‪َ «:‬وال‬ ‫األذن به ‪ ،‬وقد نفاه ه‬
‫س ِم ْعنا َو ُه ْم ال يَ ْس َمعُونَ »وفي قوله تعالى ‪َ (:‬وتَرا ُه ْم يَ ْن ُ‬
‫ظ ُرونَ ِإلَي َْك‬ ‫ت َ ُكونُوا َكالَّذِينَ قالُوا َ‬
‫ْص ُرونَ )‬ ‫َو ُه ْم ال يُب ِ‬
‫فأثبت لهم السمع والبصر العاديين ونفى عنهم الحقيقي ‪.‬‬

‫[ سورة األنفال ( ‪ : ) 8‬اآليات ‪ 22‬إلى ‪] 23‬‬


‫يه ْم َخ ْيرا ً‬
‫َّللاُ فِ ِ‬ ‫ون ( ‪َ ) 22‬ولَ ْو َ‬
‫ع ِل َم ه‬ ‫ص ُّم ا ْلبُ ْك ُم الهذ َ‬
‫ِين ال يَ ْع ِقلُ َ‬ ‫اب ِع ْن َد ه ِ‬
‫َّللا ال ُّ‬ ‫إِ هن ش هَر الد َهو ّ ِ‬
‫ُون) ‪( 23‬‬ ‫س َمعَ ُه ْم َولَ ْو أ َ ْ‬
‫س َمعَ ُه ْم لَت َ َوله ْوا َو ُه ْم ُم ْع ِرض َ‬ ‫َأل َ ْ‬

‫ص ‪220‬‬

‫ص ‪220 :‬‬
‫ّللاُ »‬ ‫اعلم أن قوله تعالى« َولَ ْو َ‬
‫ع ِل َم َّ‬
‫ّللاُ ) *يقتضي نفي العلم بكذا ‪ ،‬ونفي المشيئة عن الحق ‪ ،‬وما ورد الكالم إال‬ ‫( َولَ ْو شا َء َّ‬
‫بنفي العلم بأمر ما واإلرادة ‪ ،‬وما انتفى إال التعلق الخاص بأمر يحدث ‪ ،‬فال يتوجه‬
‫النفي واإلثبات إال على حادث ‪ ،‬أي على ممكن ‪،‬‬
‫سواء كان ذلك الحكم موصوفا بالوجود أو العدم ‪ ،‬فناب العلم هنا مناب التعلق حين‬
‫ّللاُ فِي ِه ْم َخيْرا ً َأل َ ْس َمعَ ُه ْم »والوجود هو الخير ‪ ،‬فيتصفون‬ ‫نفيته بأداة لو« َولَ ْو َ‬
‫ع ِل َم َّ‬
‫بالوجود« َولَ ْو أ َ ْس َمعَ ُه ْم »إذ أوجدهم« لَت َ َولَّ ْوا »إلى ذواتهم« َو ُه ْم ُم ْع ِرضُونَ »ألن‬
‫استعدادهم ال يعطي القبول ‪،‬‬
‫ّللا تعالى‬
‫ّللا فيما أخبر به عنهم ‪ ،‬وقد أخبر ه‬ ‫فال تقل فيمن لم يجب إنه سمع ‪ ،‬فتخالف ه‬
‫أن بهم صمما ‪.‬‬

‫[ سورة األنفال ( ‪ : ) 8‬آية ‪] 24‬‬


‫سو ِل إِذا دَعا ُك ْم ِلما يُحْ يِي ُك ْم َوا ْعلَ ُموا أ َ هن ه َ‬
‫َّللا يَ ُحو ُل‬ ‫لر ُ‬ ‫ست َ ِجيبُوا ِ ه ِ‬
‫ّلِل َو ِل ه‬ ‫ِين آ َمنُوا ا ْ‬ ‫يا أَيُّ َها الهذ َ‬
‫ون ( ‪) 24‬‬‫بَ ْي َن ا ْل َم ْر ِء َوقَ ْل ِب ِه َوأَنههُ ِإلَ ْي ِه تُحْ ش َُر َ‬
‫سو ِل ِإذا َدعا ُك ْم »فوحد‬ ‫لر ُ‬ ‫« يا أَيُّ َها الَّذِينَ آ َمنُوا »أي صدقوا بما قلنا« ا ْست َ ِجيبُوا ِ َّ ِ‬
‫ّلل َو ِل َّ‬
‫ّللا ‪ ،‬فإن الرسول داع بأمر‬ ‫الداعي بعد ذكر االثنين ‪ ،‬فإن من يطع الرسول فقد أطاع ه‬
‫فاّلل هو المجاب ‪ ،‬وما في القرآن دليل أدل على أن اإلنسان الكامل مخلوق على‬ ‫ّللا ‪ ،‬ه‬ ‫ه‬
‫الصورة اإللهية من هذه اآلية ‪،‬‬
‫سو ِل »وفي أمره تعالى لمن أيهه به من المؤمنين باإلجابة‬ ‫لر ُ‬
‫لدخول الالم في قوله« َو ِل َّ‬
‫ّللا تعالى ولدعوة الرسول ‪ ،‬فعلمنا أن األمر واحد ‪ ،‬وما سمعنا متكلما إال‬ ‫لدعوة ه‬
‫فاّلل والرسول اسمان‬ ‫الرسول بالسماع الحسي ‪ ،‬وسمعنا كالم الحق بالسمع المعنوي ‪ ،‬ه‬
‫ّللا ‪،‬‬
‫للمتكلم ‪ ،‬فإن الكالم هّلل كما قال ه‬
‫ّللا عليه وسلم« ِلما يُ ْحيِي ُك ْم »فإن ه‬
‫ّللا‬ ‫والمتكلم المشهود عين لسان محمد صلهى ه‬
‫ّللا صلهى‬ ‫ورسوله ما يدعونا إال لما يحيينا به ‪ ،‬والداعي في الحالتين إيانا هو رسول ه‬
‫ّللا عليه وسلم ‪،‬‬ ‫ه‬
‫ّللا ‪ ،‬فلتكن إجابتنا هّلل‬ ‫فإذا دعانا بالقرآن كان مبلغا وترجمانا ‪ ،‬وكان الدعاء دعاء ه‬
‫ّللا عليه‬ ‫واالستماع للرسول ‪ ،‬وإذا دعانا بغير القرآن كان الدعاء دعاء الرسول صلهى ه‬
‫وسلم ‪،‬‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ ،‬وال فرق بين الدعاءين في إجابتنا وإن‬ ‫فلتكن إجابتنا للرسول صلهى ه‬
‫تميز كل دعاء عن اآلخر بتميز الداعي ‪،‬‬
‫ّللا عليه وسلم يقول في الحديث ‪ [ :‬ال ألفين أحدكم متكئا على‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫فإن رسول ه‬
‫وّللا لمثل القرآن أو أكثر ]‬ ‫ي به قرآنا ‪ ،‬إنه ه‬ ‫أريكته يأتيه الخبر عني فيقول ‪ :‬أتل عل ه‬
‫وقوله في الحديث ‪ ( :‬أو أكثر )‬
‫ص ‪221‬‬

‫ص ‪221 :‬‬
‫ّللا على لسان‬ ‫ّللا ‪ ،‬فإذا قال ه‬
‫ّللا أو من الرسول هو كالم ه‬ ‫ّللا سواء سمعناه من ه‬ ‫فإن كالم ه‬
‫عبده ما يبلغه الرسول ‪ -‬فإنه ال ينطق عن الهوى ‪ -‬فإنه أكثر بال شك ‪ ،‬ألنا ما سمعناه‬
‫إال من الرسول ‪ ،‬ولينظر المدعو فيما دعي به ‪ ،‬فإن وجد حياة علمية زائدة على ما‬
‫ّللا أو دعاه الرسول ‪ ،‬فإنه ما‬ ‫عنده يحيا بها في نفس الدعاء ‪ ،‬وجبت اإلجابة لمن دعاه ه‬
‫ّللا ورسوله لشيء إال لما يحييه ‪ ،‬فلو‬ ‫أمر باإلجابة إال إذا دعاه لما يحييه ‪ ،‬وما يدعوه ه‬
‫لم يدر طعم الحياة الغريبة الزائدة لم يدر من دعاه ‪ ،‬وليس المطلوب لنا إال حصول ما‬
‫يحيا به ‪ ،‬ولهذا سمعنا وأطعنا ‪ ،‬فال بد من اإلحساس لهذا المدعو بهذا األثر الذي تتعين‬
‫اإلجابة له به ‪ ،‬فإذا أجاب من هذه صفته حصلت له فيما يسمعه حياة أخرى يحيا بها‬
‫قلب هذا السامع ‪ ،‬فإن اقتضى ما سمعه منه عمال وعمل به ‪ ،‬كانت له حياة ثالثة ‪،‬‬
‫ّللا‬
‫ّللا وال دعاء الرسول ‪ ،‬ففي الفرائض إجابة ه‬ ‫فانظر ما يحرم العبد إذا لم يسمع دعاء ه‬
‫ّللا صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم ‪.‬‬ ‫‪ ،‬وفي السنن إجابة رسول ه‬
‫[ تفسير من باب اإلشارة ‪ :‬استجيبوا هّلل وللرسول ]‬
‫ّللا المعين المسمى فرقانا‬ ‫‪-‬تفسير من باب اإلشارة ‪ -‬اقتصر علماء الرسوم على كالم ه‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ ،‬والعارفون عمموا‬ ‫وقرآنا وعلى الرسول المعين المسمى محمدا صلهى ه‬
‫السمع في كل كالم ‪ ،‬فسمعوا القرآن قرآنا ال فرقانا ‪ ،‬وعمموا الرسالة ‪ ،‬فاأللف والالم‬
‫سو ِل »عندهم للجنس والشمول ‪ ،‬ال للعهد ‪ ،‬فكل داع في العالم‬ ‫لر ُ‬
‫التي في قوله ‪َ «:‬و ِل َّ‬
‫ّللا باطنا ‪ ،‬ويفترقون في الظاهر ‪ ،‬فيسعد العارف بتلقي رسالة‬ ‫فهو رسول من ه‬
‫الشيطان ويعرف كيف يتلقاها ‪ ،‬ويشقى بها آخرون ‪ ،‬وهم القوم الذين ما لهم هذه‬
‫ّللا‬
‫المعرفة ‪ ،‬ويسعد المؤمنون كلهم والعارفون معهم بتلقي رسالة الرسل صلوات ه‬
‫وسالمه عليهم ‪ ،‬ويكون العامل بما جاء في تلك الرسالة أسعد من المؤمن الذي يؤمن‬
‫بها عقدا وقوال ويعصي فعال وقوال ‪ ،‬فكل متحرك في العالم منتقل فهو رسول إلهي ‪،‬‬
‫كان المتحرك ما كان ‪ ،‬فإنه ال تتحرك ذرة إال بإذنه سبحانه ‪ ،‬فالعارف ينظر إلى ما‬
‫جاءت به في تحركها ‪ ،‬فيستفيد بذلك علما لم يكن عنده ‪ ،‬ولكن يختلف األخذ من‬
‫العارفين من هؤالء الرسل الختالف الرسل ‪ ،‬فليس أخذهم من الرسل أصحاب‬
‫ّللا عليهم كأخذهم من الرسل الذين هم عن اإلذن من حيث ال يشعرون‬ ‫الدالالت سالم ه‬
‫‪ ،‬ومن شعر منهم وعلم ما يدعو إليه كإبليس إذ قال لصاحبه ‪ ( :‬اكفر ) فيتلقاه منه‬
‫العارف تلقيا إلهيا ‪ ،‬فينظر إلى ما أمره الحق به من الستر فيستره ‪ ،‬ويكون هذا‬
‫ّللا ‪ ،‬فيسعد هذا العارف بما يستره وهو‬ ‫ّللا منبها عن ه‬
‫الرسول الشيطان المطرود عن ه‬
‫غير مقصود الشيطان الذي أوحى إليه ‪،‬‬

‫ص ‪222‬‬

‫ص ‪222 :‬‬
‫ّللا إليه ‪ ،‬وهو ورسالته ‪ -‬أعني العالم ‪ -‬في حق هذا‬
‫فالعالم كله عند العارف رسول من ه‬
‫العارف رحمة ‪ ،‬ألن الرسل ما بعثوا إال رحمة ‪ ،‬ولو بعثوا بالبالء لكان في طيه رحمة‬
‫إلهية ‪ ،‬ألن الرحمة اإللهية وسعت كل شيء ‪ ،‬فما ثم شيء ال يكون في هذه الرحمة ‪.‬‬

‫[ سورة األنفال ( ‪ : ) 8‬آية ‪] 25‬‬


‫ب ( ‪) 25‬‬ ‫شدِي ُد ا ْل ِعقا ِ‬ ‫صةً َوا ْعلَ ُموا أ َ هن ه َ‬
‫َّللا َ‬ ‫َواتهقُوا فِتْنَةً ال ت ُ ِصيبَ هن الهذ َ‬
‫ِين َظلَ ُموا ِم ْن ُك ْم َخا ه‬
‫صة ً " ]‬ ‫صيبَ َّن الَّذِينَ َ‬
‫ظلَ ُموا ِم ْن ُك ْم خَا َّ‬ ‫[ " َواتَّقُوا فِتْنَةً ال ت ُ ِ‬
‫صةً »بل تعم المحق والظالم ‪ ،‬وتختلف‬ ‫صيبَ َّن الَّذِينَ َ‬
‫ظلَ ُموا ِم ْن ُك ْم خَا َّ‬ ‫" َواتَّقُوا فِتْنَةً ال ت ُ ِ‬
‫أحوالهم في القيامة ‪ ،‬فيحشر المحق سعيدا والظالم شقيا ‪ ،‬كالجيش الذي يخسف به بين‬
‫مكة والمدينة ‪ ،‬وفيه من غصب على نفسه في المجيء ‪ ،‬فقالت عائشة في ذلك لرسول‬
‫ّللا عليه وسلم فقال يحشرون على نياتهم وإن عمهم الخسف ‪.‬‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫ه‬
‫انظر إلى األرض وخيراتها *** وما بها الرحمن قد أظهر‬
‫اال بد أن يصبح عمرانها *** كمثل ما أصبح وادي القرى‬
‫عروشها خاوية حين لم *** يغير الناس بها المنكرا‬
‫ّللا سكانها *** فأهلك المقبل والمدبرا‬ ‫عم بالء ه‬
‫بذا أتانا النص من عنده *** في محكم الذكر كذا‬
‫سطرافقال فيه واتقوا فتنة *** وتمم القول به منظرا‬
‫سبحان من أخبرنا أنه *** كان على األخذ بنا أقدرا‬
‫هذا الذي جئت به واضح *** في سورة األنفال قد حررا‬
‫وهذه الفتنة العامة والعقوبة الشاملة والحدود المتداخلة من صفة قوله ‪ (:‬فَعَّا ٌل ِلما يُ ِري ُد‬
‫) *فإن ظاهرها ال يقتضي العدل ‪ ،‬وباطنها يقتضي الفضل اإللهي ‪،‬‬
‫ففي اآلخرة ال تزر وازرة وزر أخرى ‪ ،‬وهنا ليس كذلك في عموم صورة العقوبة«‬
‫ب »وأي عقوبة أشد من عقوبة تعم المستحق وغير المستحق‬ ‫شدِي ُد ْال ِعقا ِ‬ ‫َوا ْعلَ ُموا أ َ َّن َّ َ‬
‫ّللا َ‬
‫‪ ،‬والظالم وغير الظالم ‪ ،‬والبريء والفاعل ‪،‬‬
‫وهذا من شأن الحدود الدنيوية ‪ ،‬ألنها دار امتزاج ‪ ،‬وحدود اآلخرة ليست‬

‫ص ‪223‬‬

‫ص ‪223 :‬‬
‫كذلك ‪ ،‬فإنها دار تمييز ‪ ،‬فال تصيب العقوبة إال أهلها ‪ ،‬وأما في الدنيا فما هي في‬
‫البريء عقوبة ‪ ،‬وإنما هي فتنة ‪ ،‬وفي الظالم عقوبة ألنها جاءت عقيب ظلمه ‪ ،‬فكن في‬
‫ّللا منك ‪ ،‬وعلى عمل صالح ‪ ،‬وال سيما إذا كثر‬ ‫ّللا يرضاها ه‬
‫كل حال ذاتية حميدة مع ه‬
‫ّللا يرسل عليهم عذابا فيعم الصالح والطالح ‪ ،‬فتكون‬‫الفساد في العامة ‪ ،‬فما تدري لعل ه‬
‫ممن يحشر على عمل خير كما قبضت عليه ‪ ،‬فإن األنبياء مع طاعتهم هّلل والحضور‬
‫ّللا عامة عباده بشيء فيعم الصالح والطالح ‪ ،‬ولذلك كان‬‫معه ال يأمنون أن يصيب ه‬
‫باّلل من أن أغتال من‬ ‫ّللا صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم كثيرا ما يقول في دعائه ‪ :‬أعوذ ه‬ ‫رسول ه‬
‫تحتي ‪.‬‬

‫[ سورة األنفال ‪( 8 ) :‬اآليات ‪ 26‬إلى ‪] 27‬‬


‫اس فَآوا ُك ْم‬
‫طفَ ُك ُم النه ُ‬ ‫ون أ َ ْن يَت َ َخ ه‬
‫ض تَخافُ َ‬ ‫ون ِفي ْاأل َ ْر ِ‬ ‫ضعَفُ َ‬ ‫ست َ ْ‬ ‫اذك ُُروا ِإ ْذ أ َ ْنت ُ ْم قَ ِلي ٌل ُم ْ‬
‫َو ْ‬
‫ِين آ َمنُوا ال‬‫ون ) ‪ ( 26‬يا أَيُّ َها الهذ َ‬ ‫شك ُُر َ‬ ‫ت لَعَله ُك ْم ت َ ْ‬ ‫ط ِيّبا ِ‬‫َوأَيه َد ُك ْم بِنَص ِْر ِه َو َر َزقَ ُك ْم ِم َن ال ه‬
‫ون ( ‪) 27‬‬ ‫سو َل َوت َ ُخونُوا أَماناتِ ُك ْم َوأ َ ْنت ُ ْم ت َ ْعلَ ُم َ‬ ‫الر ُ‬‫َّللا َو ه‬ ‫ت َ ُخونُوا ه َ‬
‫[ " يا أَيُّ َها الَّذِينَ آ َمنُوا ال ت َ ُخونُوا َّ َ‬
‫ّللا " ]‬
‫ّللا في هذه الخيانات إال بالمؤمنين ‪ ،‬فإن كنت مؤمنا فأنت المخاطب« يا أَيُّ َها‬ ‫ما أيهه ه‬
‫ّللا قد أعطاك أمانة لتردها إليه ‪،‬‬ ‫ّللا ‪ ،‬فاعلم أن ه‬ ‫ّللا »وأما خيانة ه‬ ‫الَّذِينَ آ َمنُوا ال ت َ ُخونُوا َّ َ‬
‫ّللا يقول ‪ (:‬يا‬ ‫كما أعطاك أمانة لتوصلها إلى غيرك ال تردها إليه ‪ ،‬كالرسالة ‪ ،‬فإن ه‬
‫علَى‬
‫ت ِرسالَتَهُ )وقال ‪ (:‬ما َ‬ ‫سو ُل بَ ِله ْغ ما أ ُ ْن ِز َل إِلَي َْك ِم ْن َر ِبه َك َوإِ ْن لَ ْم ت َ ْفعَ ْل فَما بَلَّ ْغ َ‬ ‫أَيُّ َها َّ‬
‫الر ُ‬
‫عز وجل من األمانات ‪ ،‬فهو كل علم آمنك عليه‬ ‫غ )وأما ما يرد إليه ه‬ ‫سو ِل ِإ َّال ْالبَال ُ‬ ‫الر ُ‬
‫َّ‬
‫من العلوم التي إذا ظهرت بها في العموم ض هل به من ال يسمعه منك بسمع الحق ‪ ،‬فإذا‬
‫حصل لك مثل هذا العلم ورأيت من كان الحق سمعه وبصره وجميع قواه ‪ ،‬وليس له‬
‫هذا العلم ‪ ،‬فأده إليه ‪ ،‬فإنه ما يسمعه منك إال بسمع الحق ‪ ،‬فالحق على الحقيقة هو‬
‫الذي سمع ‪ ،‬فرددت األمانة إليه تعالى ‪ ،‬وهو الذي أعطاكها ‪ ،‬وحصلت لهذا الشخص‬
‫الذي الحق سمعه فائدة لم يكن يعلمها ‪ ،‬ولكن حامل هذه األمانة إن لم يكن عالما بأن‬
‫ّللا أن‬‫ّللا ‪ ،‬وقد نهاه ه‬ ‫هذا ممن يكون صفته أن يكون الحق سمعه ‪ ،‬وإال فهو ممن خان ه‬
‫ّللا ‪ ،‬مع العلم بأنه متعد فيه‬ ‫ّللا التعدي في حد من حدود ه‬ ‫ّللا ‪ ،‬وكذلك من خيانة ه‬ ‫يخون ه‬
‫ّللا في تصرفه باعتقاده التعدي( َو َم ْن يَتَعَ َّد‬ ‫‪ ،‬فقد خان ه‬

‫ص ‪224‬‬

‫ص ‪224 :‬‬
‫ظلَ َم نَ ْف َ‬
‫سه ُ )‬ ‫ّللا فَقَ ْد َ‬‫ُحدُو َد َّ ِ‬
‫ّللا فيه أن ترده‬ ‫ّللا ‪ ،‬وكل أمر بيدك أمرك ه‬ ‫ّللا ‪ ،‬فقد خان ه‬ ‫ّللا في أهل ه‬ ‫وكذلك من خان ه‬
‫ّللا ‪،‬‬
‫إليه فلم تفعل فذلك من خيانة ه‬
‫وّللا يقول ‪َ (:‬و ِإلَ ْي ِه يُ ْر َج ُع ْاأل َ ْم ُر ُكلُّهُ )" والرسول " وأما خيانة من خان رسول ه‬
‫ّللا‬ ‫ه‬
‫ّللا صلهى ه‬
‫ّللا‬ ‫ّللا من اآلداب أن تعامل به رسول ه‬ ‫ّللا عليه وسلم فهي فيما أعطاك ه‬ ‫صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ ،‬فإذا لم تتأدب‬ ‫عليه وسلم ‪ ،‬وهذه المعاملة هي عين أدائها إليه صلهى ه‬
‫معه فما أديت أمانته إليه ‪،‬‬
‫ّللا عليه من ذلك ‪ ،‬ومن خيانتك‬ ‫ّللا عليه وسلم فيما أمنك ه‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫فقد خنت رسول ه‬
‫ّللا عليه وسلم ما سألك فيه من المودة في قرابته وأهل بيته ‪ ،‬فإنه‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫رسول ه‬
‫وأهل بيته على السواء في مودتنا فيهم ‪ ،‬فمن كره أهل بيته فقد كرهه ‪ ،‬فإنه صلهى ه‬
‫ّللا‬
‫عليه وسلم واحد من أهل البيت ‪ ،‬وال يتبعض حب أهل البيت ‪،‬‬
‫فإن الحب ما تعلق إال باألهل ال بواحد بعينه ‪ ،‬فاجعل بالك واعرف قدر أهل البيت ‪،‬‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ ،‬ومن خان ما سنه‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫فمن خان أهل البيت فقد خان رسول ه‬
‫ّللا عليه وسلم في سنته ‪ ،‬ومن خيانتك‬ ‫ّللا عليه وسلم فقد خانه صلهى ه‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫رسول ه‬
‫ّللا عليهم ‪ ،‬مع‬ ‫ّللا عليه وسلم المفاضلة بين األنبياء والرسل سالم ه‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫رسول ه‬
‫ّللا فضل بعضهم على بعض ‪،‬‬ ‫علمنا بأن ه‬
‫س ُل فَض َّْلنا‬ ‫ض )وقال ‪ (:‬تِ ْل َك ُّ‬
‫الر ُ‬ ‫كما قال تعالى ‪َ (:‬ولَقَ ْد فَض َّْلنا بَ ْع َ‬
‫ض النَّبِ ِيهينَ َ‬
‫على بَ ْع ٍ‬
‫ض )فله سبحانه أن يفضل بين عباده بما شاء وليس لنا ذلك ‪ ،‬فإنا ال‬ ‫على بَ ْع ٍ‬ ‫ض ُه ْم َ‬ ‫بَ ْع َ‬
‫نعلم ذلك إال بإعالمه ‪ ،‬فإن ذلك راجع إلى ما في نفس الحق سبحانه منهم ‪ ،‬وال يعلم‬
‫ّللا‬
‫أحد ما في نفس الحق ‪ ،‬وال دخول هنا للمراتب الظاهرة والتحكم ‪ ،‬وقد نهى رسول ه‬
‫ّللا عليه وسلم عليهم إال‬ ‫ّللا عليه وسلم أن نفضل بين األنبياء وأن نفضله صلهى ه‬ ‫صلهى ه‬
‫ّللا فقد خان‬ ‫بإعالمه أيضا ‪ ،‬وعيهن يونس عليه السالم ‪ ،‬فمن فضل من غير إعالم ه‬
‫ّللا عليه وسلم«‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫ّللا عليه وسلم وتعدى ما حده له رسول ه‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫رسول ه‬
‫َوت َ ُخونُوا أَماناتِ ُك ْم »وأما خيانة األمانات فهي كل أمانة مشروعة ‪ ،‬قال تعالى (‪ :‬إِ َّن َّ َ‬
‫ّللا‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ [ :‬ال تعطوا‬ ‫ت ِإلى أ َ ْه ِلها )ومنها قوله صلهى ه‬ ‫يَأ ْ ُم ُر ُك ْم أ َ ْن ت ُ َؤدُّوا ْاألَمانا ِ‬
‫الحكمة غير أهلها فتظلموها ‪ ،‬وال تمنعوها أهلها فتظلموهم ]‬
‫والخيانة ظلم ‪ ،‬فالحكمة أمانة وخيانتها أن تعطيها غير أهلها وأنت تعلم أنه غير أهلها«‬
‫ّللا الحرج عمن ال يعلم » إال أنه أمره بأن يتعرض لتحصيل‬ ‫َوأ َ ْنت ُ ْم ت َ ْعلَ ُمونَ »فرفع ه‬
‫العلم باألمور ‪ ،‬فال عذر له في التخلف عن ذلك ‪.‬‬

‫[ سورة األنفال ( ‪ : ) 8‬آية ‪] 28‬‬


‫َوا ْعلَ ُموا أَنهما أ َ ْموالُ ُك ْم َوأ َ ْوال ُد ُك ْم فِتْنَةٌ َوأ َ هن ه َ‬
‫َّللا ِع ْن َدهُ أَجْ ٌر ع َِظي ٌم ) ‪( 28‬‬
‫الفتنة االختبار ‪ ،‬يقال ‪ :‬فتنت الفضة بالنار إذا اختبرتها ‪ ،‬فيقول تعالى ‪َ «:‬وا ْعلَ ُموا أَنَّما‬
‫ص ‪225‬‬

‫ص ‪225 :‬‬
‫أ َ ْموالُ ُك ْم َوأ َ ْوال ُد ُك ْم فِتْنَةٌ »أي اختبرناكم بهما ‪ ،‬هل تحجبكم عنا وعما حددنا لكم أن تقفوا‬
‫عنده ؟ فهما اختبار إلقامة الحجة في صدق الدعوى أو كذبها ‪ ،‬يتمنى الشخص أن لو‬
‫ّللا له أجر من عمل ‪ ،‬فإن نيته خير من عمله ‪،‬‬ ‫كان له مال لعمل به برا ‪ ،‬فيكتب ه‬
‫ويكتب له على أوفى حظ ‪ ،‬وهو في ذمة الغير ليس بيده منه شيء ‪ ،‬فإذا حصل له ما‬
‫تمناه من المال أو مما تمناه مما يتمكن له به الوصول إلى عمل ذلك البر ‪ ،‬وجب عليه‬
‫أن يعمل ذلك البر الذي نواه ‪ ،‬فإن لم يفعل لم يكتب له أجر ما نواه ‪ ،‬وهنا الفتنة‬
‫واالختبار ‪ ،‬ويتخيل من ال علم له بأن إضافة األموال في قوله تعالى ‪ «:‬أ َ ْموالُ ُك ْم »‬
‫إضافة ملك ‪ ،‬وما علم أن تلك اإلضافة إضافة استحقاق ‪ ،‬كسرج الدابة وباب الدار ‪ ،‬ال‬
‫إضافة ملك ‪،‬‬
‫ّللا تعالى قال ‪َ (:‬وأ َ ْن ِفقُوا ِم َّما َجعَلَ ُك ْم ُم ْست َ ْخلَ ِفينَ ِفي ِه )‬
‫فإن ه‬
‫ّللا المال والولد فتنة يختبر بهما عباده ألن لهما بالقلب لصوقا ‪،‬‬ ‫فما هو لنا ‪ ،‬وجعل ه‬
‫وهما محبوبان طبعا ‪ ،‬ويتوصل بهما وال سيما بالمال إلى ما ال يتوصل بغير المال من‬
‫أمور الخير والشر ‪ ،‬فإن غلب على العبد الطبع لم يقف في التصرف بماله عند حد ‪،‬‬
‫بل ينال به جميع أغراضه ‪ ،‬وما سمي المال ماال إال لكون القلب مال إليه ‪ ،‬لما فيه من‬
‫بلوغ العبد إذا كان صالحا إلى جميع الخيرات التي يجدها عند ربه في المنقلب ‪،‬‬
‫وإذا لم يكن تام الصالح فلما فيه من بلوغ أغراضه به ‪ ،‬وأما الولد فلما كان ألبويه‬
‫عليه والدة أحباه ‪ ،‬وماال إليه ميل الفاعل إلى ما انفعل عنه ‪ ،‬وميل الصانع إلى‬
‫مصنوعه ‪ ،‬فميله لحب الولد ميل ذاتي ‪،‬‬
‫فإن كرهه فبأمر عارض ألخالق ذميمة وصفات شريرة تقوم بالولد ‪ ،‬فبغضه عرضي‬
‫وقدم المال على الولد في الذكر ألن المال محبوب لإلنسان حب الولد« َوأ َ َّن َّ َ‬
‫ّللا ِع ْن َدهُ‬
‫ع ِظي ٌم »إذا رزأكم في شيء منهما ‪.‬‬ ‫أ َ ْج ٌر َ‬

‫[ سورة األنفال ( ‪ : ) 8‬آية ‪] 29‬‬


‫س ِيّئاتِ ُك ْم َويَ ْغ ِف ْر لَ ُك ْم َو ه‬
‫َّللاُ‬ ‫َّللا يَجْ عَ ْل لَ ُك ْم فُ ْرقانا ً َويُ َك ِفّ ْر َ‬
‫ع ْن ُك ْم َ‬ ‫ِين آ َمنُوا إِ ْن تَتهقُوا ه َ‬ ‫يا أَيُّ َها الهذ َ‬
‫يم ( ‪) 29‬‬ ‫ض ِل ا ْلعَ ِظ ِ‬ ‫ذُو ا ْلفَ ْ‬
‫ّللا يَ ْجعَ ْل لَ ُك ْم فُ ْرقانا ً » اآلية ]« يا أَيُّ َها الَّذِينَ آ َمنُوا »ما‬ ‫[ « يا أَيُّ َها الَّذِينَ آ َمنُوا ِإ ْن تَتَّقُوا َّ َ‬
‫ّللا »وهو‬ ‫أيهه الحق إال بالمؤمن والناس والمؤتين ‪ ،‬ما أيهه بأصحاب العين« ِإ ْن تَتَّقُوا َّ َ‬
‫باّلل ‪ ،‬فيفرق بين الحق‬ ‫العمل على تقليد ما جاء به اإليمان فينتج ذلك العمل العلم ه‬
‫ّللا تعليمه ‪ ،‬فال يدخل‬ ‫والباطل عن بصيرة صحيحة ال تقليد فيها ‪ ،‬فالمتقي يتولى ه‬

‫ص ‪226‬‬

‫ص ‪226 :‬‬
‫ّللا معاني‬ ‫علمه شك وال شبهة« يَ ْجعَ ْل لَ ُك ْم فُ ْرقانا ً »يخاطب مؤمنا وإيمانا أي يفهمكم ه‬
‫القرآن ‪ ،‬فتعلموا مقاصد المتكلم به ‪ ،‬ألن فهم كالم المتكلم ما هو ‪ ،‬بأن يعلم وجوه ما‬
‫تتضمنه تلك الكلمة بطريق الحصر مما تحوي عليه مما تواطأ عليه أهل اللسان ‪ ،‬وإنما‬
‫الفهم أن يفهم ما قصده المتكلم بذلك الكالم ‪ ،‬هل قصد جميع الوجوه التي يتضمنها ذلك‬
‫الكالم أو بعضها ؟ فينبغي لك أن تفرق بين الفهم للكالم أو الفهم عن المتكلم وهو‬
‫المطلوب ‪ ،‬فكل من فهم عن المتكلم فقد فهم الكالم ‪ ،‬وما كل من فهم الكالم فهم عن‬
‫المتكلم ما أراد به على التعيين ‪ ،‬إما كل الوجوه أو بعضها ‪ ،‬وقوله تعالى ‪ «:‬يَ ْجعَ ْل لَ ُك ْم‬
‫ّللا َويُعَ ِله ُم ُك ُم َّ‬
‫ّللاُ )‬ ‫فُ ْرقانا ً »هو علم الكشف ‪ ،‬وهو قوله تعالى ‪َ (:‬واتَّقُوا َّ َ‬
‫ّللا علم ما لم يكن يعلم ] وهو‬ ‫ّللا عليه وسلم ‪ [ :‬من عمل بما علم أورثه ه‬ ‫وقال صلهى ه‬
‫ّللا طريقا إلى حصول هذا العلم‬ ‫علم مكتسب بالتقوى ال علم وهبي ‪ ،‬فإن التقوى جعلها ه‬
‫ّللا له فرقانا من‬‫‪ ،‬والعلم الوهبي ال يحصل عن سبب بل من لدنه سبحانه ‪ ،‬فيجعل ه‬
‫ّللا وبين اآللهة التي‬ ‫العلوم اإللهية المغيبة عن أكثر الخلق ‪ ،‬فرقانا تفرقون به بين ه‬
‫ّللا بالعلم الخبري وبالعلم‬ ‫عبدها المشركون ‪ ،‬فرقانا تفرقون به بين ما أدركتموه من ه‬
‫النظري وبالعلم الحاصل عن التقوى » فرقانا تميزون به ‪ ،‬ومن ذلك تفرقون بين ما‬
‫باّلل عن التقوى أعلى‬ ‫ينبغي له وما ينبغي لكم ‪ ،‬فيعطى كل ذي حق حقه ‪ ،‬فالعلم ه‬
‫المراتب في األخذ ‪ ،‬فإن له الحكم األعم على كل حكم وعلى كل حاكم بكل حكم ‪ ،‬ومن‬
‫ّللا بروح‬ ‫ادعى التقوى ولم يحصل له هذا الفرقان فما صدق في دعواه ‪ .‬واعلم أيدك ه‬
‫القدس أن المتقي بمجرد تقواه قد حصل في الفرقان ‪ ،‬إذ لو لم يفرق ما اتقى ‪ ،‬وهذا‬
‫ّللا ليس للنظر الفكري فيه طريق غيره‬ ‫الفرقان الذي أنتجته التقوى ال يكون إال بتعليم ه‬
‫باّلل ‪ ،‬وال ينبغي له ذلك ‪ ،‬وكذلك‬ ‫‪ ،‬فإنه ما تقدم لنبي قط قبل نبوته نظر عقلي في العلم ه‬
‫باّلل ‪ ،‬وكل من تقدمه من األولياء‬ ‫كل ولي مصطفى ال يتقدم له نظر عقلي في العلم ه‬
‫باّلل من جهة نظر فكري فهو وإن كان وليا فما هو مصطفى وال هو ممن أورثه‬ ‫علم ه‬
‫ّللا بأمر ما يميزه به عن سائر‬ ‫ّللا الكتاب اإللهي ‪ ،‬وسبب ذلك أن النظر يقيده في ه‬ ‫ه‬
‫األمور ‪ ،‬وال يقدر على نسبة عموم الوجود هّلل ‪ ،‬فما عنده سوى تنزيه مجرد ‪ ،‬فإذا عقد‬
‫عليه فكل ما أتاه من ربه مخالف عقده ‪ ،‬فإنه يرده ويقدح في األدلة التي تعضد ما‬
‫ّللا به عصمه قبل اصطفائه من علوم النظر ‪،‬‬ ‫جاءه من عند ربه ‪ ،‬فمن اعتنى ه‬
‫باّلل‬
‫واصطنعه لنفسه وحال بينه وبين طلب العلوم النظرية ‪ ،‬ورزقه اإليمان ه‬

‫ص ‪227‬‬

‫ص ‪227 :‬‬
‫ّللا ‪ ،‬هذا في هذه األمة التي عمت دعوة‬ ‫ّللا على لسان رسول ه‬ ‫وبما جاء من عند ه‬
‫رسولها ‪ ،‬وأما في النبوة األولى ممن كان في فترة من الرسل ‪ ،‬فإنه يرزق ويحبب إليه‬
‫الشغل بطلب الرزق أو بالصنائع العملية أو االشتغال بالعلوم الرياضية من حساب‬
‫وهندسة وهيئة وطب وشبه ذلك ‪ ،‬من كل علم ال يتعلق باإلله ‪ ،‬فإن كان مصطفى‬
‫ّللا ‪ ،‬فيأتيه الوحي وهو طاهر القلب من التقييد بإله‬ ‫ويكون نبيا في زمان النبوة في علم ه‬
‫محصور في إحاطة عقله ‪ ،‬وإن لم يكن نبيا وجاء رسول إلى أمة هو منها قبل ما جاءه‬
‫ّللا عند ذلك فرقانا‬ ‫به نبيه ‪ ،‬ذلك لسذاجة محله ‪ ،‬ثم عمل على إيمانه واتقى ربه رزقه ه‬
‫ّللا عادته في خلقه ‪ ،‬وإن سعد صاحب النظر‬ ‫في قلبه وليس لغيره ذلك ‪ ،‬هكذا أجرى ه‬
‫باّلل إال من حيث‬ ‫العقلي فإنه ال يكون أبدا في مرتبة الساذج الذي لم يكن عنده علم ه‬
‫إيمانه وتقواه ‪ ،‬وهذا هو وارث األنبياء في هذه الصفة ‪ ،‬فهو معهم وفي درجتهم هذه ‪،‬‬
‫وهذا الفرقان الذي تعطيه التقوى ‪ ،‬ال بد أن يكون فرقانا خاصا ‪ ،‬وليس سوى الفرقان‬
‫الذي يكون في عين القرآن ‪ ،‬فإن القرآن يتضمن الفرقان بذاته ‪ ،‬وهذا الفرقان نتيجة‬
‫العامل بالقرآن العظيم ‪ ،‬وتختلف نتائج القرآن باختالف نعوته ‪ ،‬فالقرآن المطلق يعطي‬
‫ّللا قرآنه بالعظمة والمجد والكريم ‪ ،‬وإنما نسب‬ ‫ما ال يعطيه القرآن المقيد ‪ ،‬وقد قيد ه‬
‫الجعل إلى هذا الفرقان« يَ ْجعَ ْل لَ ُك ْم فُ ْرقانا ً »ألن التقوى أنتجته ‪ ،‬فإما أن يكون جعله‬
‫ظهوره لمن اتقاه مع كونه لم يزل موجود العين قبل ظهوره ‪ ،‬أو يكون جعله خلقه فيه‬
‫بعد أن لم يكن ‪ ،‬وما هو إال الظهور دون الخلق ‪،‬‬
‫ع ْن ُك ْم » أي يستر ‪ ،‬والستر ضد الظهور ‪ ،‬فال يخلو العبد‬ ‫فإنه أعقبه بقوله ‪َ «:‬ويُ َك ِفه ْر َ‬
‫في تقواه ربه ‪ ،‬أن يجعل نفسه وقاية له عن كل مذموم ‪ ،‬وينسب إليه ‪ ،‬أو يجعل ربه‬
‫باّلل ‪،‬‬
‫وقاية عن كل شدة ال يطيق حملها إال به ‪ ،‬وهو ال حول وال قوة إال ه‬
‫َّاك نَ ْست َ ِع ُ‬
‫ين )‬ ‫وهو قوله ‪َ ( :‬و ِإي َ‬
‫س ِيهئا ِت ُك ْم »أي يستر عنكم ما‬ ‫فيتلقى به شدائد األمور ‪ ،‬ومن وجه آخر « َويُ َك ِفه ْر َ‬
‫ع ْن ُك ْم َ‬
‫يسوءكم فال ينالكم ألم من مشاهدته ‪ ،‬فإن رؤية السوء إذا رآه من يمكن أن يكون محال‬
‫له ‪ -‬وإن لم يحل به ‪ -‬فإنه تسوءه رؤيته ‪ ،‬وذلك لحكم الوهم الذي عنده واإلمكان‬
‫العقلي « َويَ ْغ ِف ْر لَ ُك ْم »أي ويستر من أجلكم ممن لكم به عناية في دعاء عام أو خاص‬
‫معين ‪ ،‬فالدعاء الخاص ما تعين به شخصا بعينه أو نوعا بعينه ‪ ،‬والعام ما ترسله‬
‫ض ِل ْالعَ ِظ ِيم »‬
‫ّللاُ ذُو ْالفَ ْ‬
‫ّللا ممن يمكن أن يحل بهم سوء« َو َّ‬ ‫مطلقا على عباد ه‬
‫بما أوجب على نفسه من الرحمة وبما امتن به منها على من استحق العذاب كالعصاة‬

‫ص ‪228‬‬

‫ص ‪228 :‬‬
‫في األصول والفروع ‪.‬‬

‫[ سورة األنفال ( ‪ : ) 8‬اآليات ‪ 30‬إلى ‪] 32‬‬


‫َّللاُ‬
‫َّللاُ َو ه‬‫ون َويَ ْمك ُُر ه‬‫ِين َكفَ ُروا ِليُثْ ِبت ُوكَ أ َ ْو يَ ْقتُلُوكَ أ َ ْو يُ ْخ ِر ُجوكَ َويَ ْمك ُُر َ‬ ‫َو ِإ ْذ يَ ْمك ُُر ِبكَ الهذ َ‬
‫س ِم ْعنا لَ ْو نَشا ُء لَقُ ْلنا ِمثْ َل هذا‬ ‫علَ ْي ِه ْم آياتُنا قالُوا قَ ْد َ‬ ‫ين ( ‪َ ) 30‬و ِإذا تُتْلى َ‬ ‫َخ ْي ُر ا ْلما ِك ِر َ‬
‫ق ِم ْن ِع ْن ِدكَ‬‫كان هذا ُه َو ا ْل َح ه‬ ‫ين ( ‪َ ) 31‬وإِ ْذ قالُوا الله ُه هم إِ ْن َ‬ ‫ير ْاأل َ هو ِل َ‬ ‫إِ ْن هذا إِاله أ َ ِ‬
‫ساط ُ‬
‫يم ( ‪) 32‬‬ ‫ب أ َ ِل ٍ‬
‫ماء أ َ ِو ائْتِنا بِعَذا ٍ‬
‫س ِ‬ ‫جارةً ِم َن ال ه‬ ‫علَ ْينا ِح َ‬ ‫فَأ َ ْم ِط ْر َ‬
‫باّلل أ همنا أي اقصدنا« ِإ ْن كانَ هذا ُه َو ْال َح َّق‬ ‫ّللا نقصد ‪ ،‬وأصلها ه‬ ‫« َو ِإ ْذ قالُوا اللَّ ُه َّم »أي ه‬
‫ب أ َ ِل ٍيم »فما قالوا هذا القول إال‬ ‫ماء أ َ ِو ائْتِنا ِبعَذا ٍ‬
‫س ِ‬ ‫جارة ً ِمنَ ال َّ‬ ‫علَيْنا ِح َ‬ ‫ِك فَأ َ ْم ِط ْر َ‬
‫ِم ْن ِع ْند َ‬
‫ّللا أن يقولوا ‪ :‬تب علينا‬ ‫لعمى قلوبهم ‪ ،‬فإنهم يعلمون بأن ذلك ممكن ‪ ،‬ولكن لم يوفقهم ه‬
‫‪ ،‬أو أسعدنا ‪ ،‬وما قالوه إال مبالغة في التكذيب ‪ ،‬إذ لو احتمل عندهم صدق الرسول ما‬
‫قالوا مثل هذا القول ‪ ،‬فإن النفوس جبلت على جلب المنافع لها ودفع المضار عنها ‪.‬‬

‫[ سورة األنفال ( ‪ : ) 8‬اآليات ‪ 33‬إلى ‪] 34‬‬


‫ون ( ‪َ ) 33‬وما لَ ُه ْم‬ ‫ست َ ْغ ِف ُر َ‬‫َّللاُ ُمعَ ِذّبَ ُه ْم َو ُه ْم يَ ْ‬
‫كان ه‬‫يه ْم َوما َ‬ ‫َّللاُ ِليُعَ ِذّبَ ُه ْم َوأ َ ْنتَ فِ ِ‬
‫كان ه‬‫َوما َ‬
‫رام َوما كانُوا أ َ ْو ِليا َء ُه ِإ ْن أ َ ْو ِليا ُؤ ُه ِإاله‬ ‫س ِج ِد ا ْل َح ِ‬
‫ُّون ع َِن ا ْل َم ْ‬
‫صد َ‬ ‫َّللاُ َو ُه ْم يَ ُ‬ ‫أَاله يُعَ ِذّبَ ُه ُم ه‬
‫ون ) ‪( 34‬‬ ‫ون َول ِك هن أ َ ْكث َ َر ُه ْم ال يَ ْعلَ ُم َ‬ ‫ا ْل ُمتهقُ َ‬
‫ّللا وليا جاهال ‪ ،‬والوالية من شرطها العلم وليس من شرطها اإليمان ‪ ،‬فإن‬ ‫ما اتخذ ه‬
‫ّللا تعالى ‪ ،‬فإنهم حازوا‬ ‫اإليمان مستنده الخبر ‪ ،‬فالموحدون بأي وجه كان أولياء ه‬
‫أشرف المراتب ‪ ،‬فإنه يدخل تحت فلك الوالية كل موحد هّلل بأي طريق كان ‪ ،‬ومن‬
‫كان حاله التقوى واالتقاء كيف يفرح أو يلتذ ؟‬
‫من يتقي فإن تقواه وحذره وخوفه أن ال يوفي مقام التكليف حقه ‪ ،‬وعلمه بأنه مسؤول‬
‫عنه ‪ ،‬ال يتركه يفرح وال يسر بعزة المقام ‪،‬‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ [ :‬أنا أتقاكم هّلل وأعلمكم بما أتقي ] حين قالت له الصحابة في‬ ‫قال صلهى ه‬
‫ّللا لك ما تقدم من ذنبك‬ ‫اجتهاده ‪ :‬قد غفر ه‬

‫ص ‪229‬‬

‫ص ‪229 :‬‬
‫وما تأخر ‪ ،‬فكانت أحوال األنبياء والرسل في الدنيا البكاء والنوح ‪ ،‬فإنه موضع تتقى‬
‫فتنته ‪.‬‬

‫[ سورة األنفال ( ‪ : ) 8‬اآليات ‪ 35‬إلى ‪] 37‬‬


‫ون ( ‪35‬‬ ‫ذاب ِبما ُك ْنت ُ ْم ت َ ْكفُ ُر َ‬ ‫ص ِديَةً فَذُوقُوا ا ْلعَ َ‬
‫ت ِإاله ُمكا ًء َوت َ ْ‬ ‫صالت ُ ُه ْم ِع ْن َد ا ْلبَ ْي ِ‬
‫كان َ‬ ‫َوما َ‬
‫علَ ْي ِه ْم‬
‫ُون َ‬‫سيُ ْن ِفقُونَها ث ُ هم تَك ُ‬ ‫َّللا فَ َ‬ ‫صدُّوا ع َْن َ‬
‫سبِي ِل ه ِ‬ ‫ون أ َ ْموالَ ُه ْم ِليَ ُ‬
‫ِين َكفَ ُروا يُ ْن ِفقُ َ‬ ‫) إِ هن الهذ َ‬
‫َّللاُ ا ْل َخبِ َ‬
‫يث ِم َن‬ ‫يز ه‬ ‫ون ( ‪ِ ) 36‬ليَ ِم َ‬ ‫ِين َكفَ ُروا إِلى َج َهنه َم يُحْ ش َُر َ‬ ‫ون َوالهذ َ‬ ‫س َرةً ث ُ هم يُ ْغلَبُ َ‬ ‫َح ْ‬
‫ض فَيَ ْر ُك َمهُ َج ِميعا ً فَيَجْ عَلَهُ فِي َج َهنه َم أُولئِكَ ُه ُم‬ ‫ضهُ عَلى بَ ْع ٍ‬ ‫يث بَ ْع َ‬ ‫ب َويَجْ عَ َل ا ْل َخ ِب َ‬ ‫ط ِيّ ِ‬‫ال ه‬
‫ون ( ‪) 37‬‬ ‫س ُر َ‬ ‫ا ْلخا ِ‬

‫ّللا العالم‬
‫ّللا طيب ال يقبل إال طيبا ‪ ،‬وقد جعل ه‬
‫ب »فإن ه‬ ‫يث ِمنَ َّ‬
‫الط ِيه ِ‬ ‫ّللاُ ْال َخ ِب َ‬
‫« ِليَ ِميزَ َّ‬
‫في الدنيا ممتزجا ‪ ،‬مزج القبضتين في العجنة ‪ ،‬ثم فصل األشخاص منها ‪ ،‬فدخل من‬
‫هذه في هذه ‪ ،‬من كل قبضة في أختها ‪ ،‬فجهلت األحوال ‪ ،‬وغاية التخليص من هذه‬
‫المزجة وتمييز القبضتين ‪ ،‬حتى تنفرد هذه بعالمها وهذه بعالمها كما قال تعالى ‪«:‬‬
‫ب »فمن بقي فيه شيء من المزجة حتى مات عليها لم يحشر‬ ‫الط ِيه ِ‬ ‫ّللاُ ْال َخ ِب َ‬
‫يث ِمنَ َّ‬ ‫ِليَ ِميزَ َّ‬
‫يوم القيامة من اآلمنين ‪ ،‬ولكنه منهم من يخلص من المزجة في الحساب ‪ ،‬ومنهم من‬
‫ال يتخلص منها إال في جهنم ‪ ،‬فإذا تخلص أخرج ‪ ،‬فهؤالء هم أهل الشفاعة ‪ ،‬وأما من‬
‫تميز هنا في إحدى القبضتين انقلب إلى الدار اآلخرة بحقيقته من قبره إلى نعيم أو إلى‬
‫عذاب وجحيم ‪ ،‬فإنه قد تخلص ‪.‬‬

‫[ سورة األنفال ( ‪ : ) 8‬آية ‪] 38‬‬


‫سنهتُ ْاأل َ هو ِل َ‬
‫ين‬ ‫ف َو ِإ ْن يَعُودُوا فَقَ ْد َمضَتْ ُ‬ ‫ِين َكفَ ُروا ِإ ْن يَ ْنت َ ُهوا يُ ْغفَ ْر لَ ُه ْم ما قَ ْد َ‬
‫سلَ َ‬ ‫قُ ْل ِللهذ َ‬
‫( ‪) 38‬‬
‫الكافر هنا المشرك ليس الموحد‪.‬‬

‫‪230‬‬

‫ص ‪230 :‬‬
‫[سورة األنفال ( ‪ : ) 8‬اآليات ‪ 39‬إلى ‪] 41‬‬
‫ّلِل فَ ِإ ِن ا ْنت َ َه ْوا فَ ِإ هن ه َ‬
‫َّللا ِبما يَ ْع َملُ َ‬
‫ون‬ ‫ِين ُكلُّهُ ِ ه ِ‬‫ُون ال ّد ُ‬ ‫ُون فِتْنَةٌ َويَك َ‬ ‫َوقاتِلُو ُه ْم َحتهى ال تَك َ‬
‫ير ( ‪) 40‬‬ ‫َّللا َم ْوال ُك ْم نِ ْع َم ا ْل َم ْولى َونِ ْع َم النه ِص ُ‬‫ير ) ‪َ ( 39‬و ِإ ْن ت َ َوله ْوا فَا ْعلَ ُموا أ َ هن ه َ‬ ‫بَ ِص ٌ‬
‫سو ِل َو ِلذِي ا ْلقُ ْربى َوا ْليَتامى‬ ‫لر ُ‬ ‫سهُ َو ِل ه‬ ‫ش ْي ٍء فَأ َ هن ِ ه ِ‬
‫ّلِل ُخ ُم َ‬ ‫َوا ْعلَ ُموا أَنهما َ‬
‫غنِ ْمت ُ ْم ِم ْن َ‬
‫ع ْبدِنا يَ ْو َم ا ْلفُ ْر ِ‬
‫قان يَ ْو َم‬ ‫اّلِل َوما أ َ ْن َز ْلنا عَلى َ‬ ‫س ِبي ِل ِإ ْن ُك ْنت ُ ْم آ َم ْنت ُ ْم ِب ه ِ‬ ‫َوا ْل َمسا ِك ِ‬
‫ين َوا ْب ِن ال ه‬
‫ِير ( ‪) 41‬‬ ‫ش ْي ٍء قَد ٌ‬ ‫َّللاُ عَلى ُك ِ ّل َ‬ ‫عان َو ه‬ ‫ا ْلتَقَى ا ْل َج ْم ِ‬

‫ش ْيءٍ فَأ َ َّن ِ َّ ِ‬


‫ّلل ُخ ُم َ‬
‫سه ُ »‬ ‫« َوا ْعلَ ُموا أَنَّما َ‬
‫غنِ ْمت ُ ْم ِم ْن َ‬
‫[ تقسيم الغنائم ]‬
‫ّللا‬
‫هّلل الخمس من المغنم ‪ ،‬وما بقي وهو أربعة أخماس تقسم على خمسة ‪ ،‬وجعل ه‬
‫لنفسه نصيبا لكونه نصر المجاهدين ‪ ،‬فله نصيب في الجهاد ‪ ،‬ولما كان السبب لكون‬
‫ّللا كل من نصر‬ ‫ّللا اندرج في نصيب ه‬ ‫ّللا جعل لنفسه في المغانم نصيبا لنصرته دين ه‬ ‫ه‬
‫ّللا وهم الغزاة ‪ ،‬فليس لهم إذا اعتبرت اآلية إال الخمس من المغنم ‪ ،‬ثم تبقى أربعة‬ ‫دين ه‬
‫أخماس ‪ ،‬فتقسم مخمسة أيضا ‪:‬‬
‫سو ِل "وبعد‬ ‫لر ُ‬ ‫ّللا عليه وسلم ‪ ،‬وهو قوله تعالى‪َ " :‬و ِل َّ‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫واحد الخمسة لرسول ه‬
‫الرسول إذا فقد لخليفة الزمان ‪ ،‬والخمس الثاني ألهل البيت قرابة الرسول صلهى ه‬
‫ّللا‬
‫عليه وسلم ‪،‬‬
‫وهو قوله تعالى ‪َ «:‬و ِلذِي ْالقُ ْربى »وليسوا إال المؤمنين من القرابة ‪ ،‬فجاء بلفظ القربى‬
‫دون لفظ القرابة ‪ ،‬فإن القرابة إذا لم يكن لهم قربى اإليمان الحظ لهم في ذلك ‪،‬‬
‫والخمس الثالث لليتامى‬
‫ّللا ‪ ،‬ألنه ولي المؤمنين‬ ‫وهو قوله تعالى ‪َ «:‬و ْاليَتامى » اليتيم في تدبير وليه ‪ ،‬والولي ه‬
‫‪ ،‬وغير اليتيم في تدبير أبيه ‪ ،‬فال ينظر إليه مع وجود أبيه ‪ ،‬واليتيم قد علم أن أباه قد‬
‫باّلل أنه ليس له إال‬ ‫اندرج فانكسر قلبه ‪ ،‬ولم يكن له أصل يدل عليه ‪ ،‬فعرفه العلماء ه‬
‫ّللا في نفسه‬ ‫ّللا في أموره ‪ ،‬فلما كان اليتيم مع ه‬ ‫ّللا ‪ ،‬فيرجع إلى ه‬ ‫من كان ألبيه وهو ه‬
‫ّللا له حظا في المغنم ‪ ،‬وفي الحديث‬ ‫بهذه المثابة ‪ ،‬جعل ه‬
‫[ أن من يمسح على رأس اليتيم كان له بكل شعرة حسنة ]‬
‫وليس ذلك لغير اليتيم ‪ ،‬والخمس الرابع للمساكين وهو قوله تعالى ‪َ «:‬و ْال َمسا ِك ِ‬
‫ين‬
‫»حكم المسكين حكم اليتيم من عدم الناصر ‪ ،‬والمسكين صاحب ضعفين ‪:‬‬
‫ضعف األصل ‪ ،‬وضعف الفقر ‪،‬‬
‫فال يقدر يرفع رأسه لهذا الضعف ‪ ،‬بخالف رب المال ‪،‬‬

‫ص ‪231‬‬

‫ص ‪231 :‬‬
‫ّللا في الليل‬
‫فالمسكين من سكن تحت مجاري األقدار ‪ ،‬ونظر إلى ما يأتي به حكم ه‬
‫ّللا إال إليه ‪ ،‬وأنه‬
‫ّللا به وعليه ‪ ،‬وعلم أن ال ملجأ من ه‬ ‫والنهار ‪ ،‬واطمأن بما أجرى ه‬
‫ّللا له حظا‬
‫ّللا ما هو عليه في الحال ‪ ،‬فجعل ه‬ ‫الفعال لما يريد ‪ ،‬وتحقق بأن قسمه من ه‬
‫ّللا إليه‬
‫في المغنم وإن لم يكن له فيه تعمل ‪ ،‬فخدمه غيره ‪ ،‬ونال هو الراحة بما أوصل ه‬
‫من ذلك مما جهد فيه الغير وتعب ‪ ،‬والخمس الخامس البن السبيل ‪ ،‬وهو قوله تعالى‬
‫ّللا له نصيبا من‬ ‫سبِي ِل »فهو المسافر ‪ ،‬والمسافر ال بد له من زاد ‪ ،‬فجعل ه‬ ‫‪َ «:‬واب ِْن ال َّ‬
‫المغنم ‪ ،‬فالحق يغذيه بما ليس له فيه تعمل ‪ ،‬وقد يكون ابن السبيل في هذه اآلية عين‬
‫ّللا ‪ ،‬التي‬ ‫المجاهد ‪ ،‬ويكون السبيل من أجل األلف والالم اللتين للعهد والتعريف سبيل ه‬
‫سبَ َّن الَّذِينَ قُتِلُوا فِي َ‬
‫س ِبي ِل َّ ِ‬
‫ّللا )يعنى الشهداء الذين قتلوا في‬ ‫ّللا فيها ‪َ (:‬وال ت َ ْح َ‬ ‫قال ه‬
‫ّللا البن السبيل ‪ ،‬وهو‬ ‫الجهاد ‪ ،‬فيكون أيضا حظ المجاهد من المغنم القدر الذي عيهن ه‬
‫معروف سوى ما له في الصدقات ‪ ،‬فإن غلب على ظن اإلمام أن المذكورين في قوله‬
‫غنِ ْمت ُ ْم »اآلية ‪ ،‬والتي في سورة الحشر التي فيها ذكر األصناف‬ ‫تعالى «‪َ :‬وا ْعلَ ُموا أَنَّما َ‬
‫‪ ،‬حظهم من المغنم الخمس خاصة ‪ ،‬يقسم فيهم هكذا ‪ ،‬وما بقي فلبيت مال المسلمين‬
‫يتصرف فيه اإلمام بما يراه ‪ ،‬فإن شاء أعطاه المجاهدين على ما يريده من العدل‬
‫والسواء في القسمة ‪ ،‬أو بالمفاضلة ‪ ،‬وإن غلب على ظن اإلمام أن الخمس األصلي هّلل‬
‫ّللا نصيبا في‬ ‫ّللا للمجاهدين في سبيل ه‬ ‫ّللا تعالى ‪ ،‬وقد جعل ه‬ ‫وحده وما بقي فلمن سمى ه‬
‫الصدقات وما جعل لهم في المغنم إال ما نفله به اإلمام قبل القسمة أو ما أعطاه بقوله ‪:‬‬
‫من قتل قتيال فله سلبه ‪ ،‬وقد ورد عن بعض العلماء وأظنه ابن أبي ليلى أن الحظ الذي‬
‫ّللا عليه وسلم يقبضه ويخرجه للكعبة‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫هو الخمس في األصل كان رسول ه‬
‫ويقول ‪ :‬هذا هّلل ‪ ،‬ثم يقسم ما بقي ‪.‬‬

‫[ سورة األنفال ( ‪ : ) 8‬آية ‪] 42‬‬


‫الختَلَ ْفت ُ ْم‬ ‫ب أَ ْ‬
‫سفَ َل ِم ْن ُك ْم َولَ ْو تَوا َ‬
‫ع ْدت ُ ْم ْ‬ ‫إِ ْذ أ َ ْنت ُ ْم بِا ْلعُد َْو ِة ال ُّد ْنيا َو ُه ْم بِا ْلعُد َْو ِة ا ْلقُصْوى َو ه‬
‫الر ْك ُ‬
‫كان َم ْفعُوالً ِليَ ْه ِلكَ َم ْن َهلَكَ ع َْن بَ ِيّنَ ٍة َويَحْ يى َم ْن َح ه‬
‫ي‬ ‫َّللاُ أ َ ْمرا ً َ‬ ‫ي ه‬‫فِي ا ْل ِميعا ِد َول ِك ْن ِليَ ْق ِض َ‬
‫ع ِلي ٌم ( ‪) 42‬‬ ‫َّللا لَ َ‬
‫س ِمي ٌع َ‬ ‫ع َْن بَ ِيّنَ ٍة َو ِإ هن ه َ‬
‫صوى »يعني البعيدة ‪ -‬من باب‬ ‫« ِإ ْذ أ َ ْنت ُ ْم ِب ْالعُ ْد َوةِ ال ُّد ْنيا »يريد القريبة« َو ُه ْم ِب ْالعُ ْد َوةِ ْالقُ ْ‬
‫قان »أي ما‬ ‫ع ْبدِنا يَ ْو َم ْالفُ ْر ِ‬
‫على َ‬ ‫اّلل َوما أ َ ْنزَ ْلنا َ‬ ‫اإلشارة ال التفسير ‪ِ «-‬إ ْن ُك ْنت ُ ْم آ َم ْنت ُ ْم ِب َّ ِ‬

‫ص ‪232‬‬

‫ص ‪232 :‬‬
‫ّللا بين القبضتين ‪ ،‬وهم أبناء اآلخرة‬ ‫ّللا على عبده يوم الفرقان ‪ ،‬ففرق بما أعلمه ه‬ ‫أنزل ه‬
‫ّللا ‪ ،‬أي أبناء اآلخرة بمحصل القربة والمكانة‬ ‫وأبناء الدنيا« ِإ ْذ أ َ ْنت ُ ْم بِ ْالعُ ْد َوةِ ال ُّد ْنيا »إلى ه‬
‫ب أ َ ْسفَ َل ِم ْن ُك ْم‬
‫الر ْك ُ‬
‫ّللا أي أبناء الدنيا« َو َّ‬‫صوى »عن ه‬ ‫ّللا« َو ُه ْم ِب ْالعُ ْد َوةِ ْالقُ ْ‬ ‫الزلفى إلى ه‬
‫»فجعل السفل لهم إذ كانت كلمة الذين كفروا السفلى ‪ ،‬ومن كان أسفل منك فأنت أعلى‬
‫ّللا هي العليا ‪.‬‬
‫ّللا الذين لهم السعادة ‪ ،‬إذ كانت كلمة ه‬ ‫منه ‪ ،‬ألنكم أهل ه‬
‫ّللا بالعدوة الدنيا *** كما أن أهل الشرك بالعدوة القصوى‬ ‫أال إن أهل ه‬
‫فإن الذي أقصاه يمتاز بالسفلى *** وإن الذي أدناه قد فاز بالعليا‬
‫أال تلحظن الركب أسفل منهم *** فكل فريق من مكانته أدنى‬

‫[ سورة األنفال ‪( 8 ) :‬اآليات ‪ 43‬إلى ‪] 44‬‬


‫ناز ْعت ُ ْم ِفي ْاأل َ ْم ِر َول ِك هن ه َ‬
‫َّللا‬ ‫ش ْلت ُ ْم َولَت َ َ‬ ‫نامكَ قَ ِليالً َولَ ْو أَرا َك ُه ْم َك ِثيرا ً لَفَ ِ‬ ‫َّللاُ ِفي َم ِ‬ ‫ِإ ْذ يُ ِري َك ُه ُم ه‬
‫ُور ( ‪َ ) 43‬وإِ ْذ يُ ِري ُك ُمو ُه ْم إِ ِذ ا ْلتَقَ ْيت ُ ْم فِي أ َ ْعيُنِ ُك ْم قَ ِليالً َويُقَ ِلّلُ ُك ْم‬ ‫صد ِ‬ ‫ت ال ُّ‬ ‫ع ِلي ٌم بِذا ِ‬ ‫سله َم إِنههُ َ‬ ‫َ‬
‫ور ( ‪) 44‬‬ ‫َّللا ت ُ ْر َج ُع ْاأل ُ ُم ُ‬ ‫كان َم ْفعُوالً َوإِلَى ه ِ‬ ‫َّللاُ أ َ ْمرا ً َ‬ ‫ي ه‬ ‫فِي أ َ ْعيُنِ ِه ْم ِليَ ْق ِض َ‬
‫الحس وعين الخيال ]‬ ‫ه‬ ‫[ عين‬
‫ّللا إذا قلل الكثير وهو كثير في نفس األمر ‪ ،‬أو كثر القليل وهو قليل في نفس األمر‬ ‫إن ه‬
‫‪ ،‬فما تراه إال بعين الخيال ال بعين الحس ‪ ،‬وهو البصر نفسه في الحالين ‪ ،‬كما قال‬
‫يال َويُقَ ِلهلُ ُك ْم فِي أ َ ْعيُنِ ِه ْم »وقال (‪ :‬يَ َر ْونَ ُه ْم‬ ‫تعالى ‪َ «:‬وإِ ْذ يُ ِري ُك ُمو ُه ْم إِ ِذ ْالت َقَ ْيت ُ ْم فِي أ َ ْعيُنِ ُك ْم قَ ِل ً‬
‫ي ْالعَي ِْن )وما كانوا مثليهم في الحس ‪ ،‬فلو لم ترهم بعين الخيال لكان ما‬ ‫ْ‬
‫ِمثْلَ ْي ِه ْم َرأ َ‬
‫رأيت من العدد كذبا ‪ ،‬ولكان الذي يريه غير صادق فيما أراه إياك ‪ ،‬وإذا كان الذي‬
‫أراك ذلك أراكه بعين الخيال كانت الكثرة في القليل حقا والقلة في الكثرة حقا ‪ ،‬ألنه‬
‫حق في الخيال وليس بحق في الحس ‪ ،‬كما أراك اللبن في الخيال فشربته ولم يكن ذلك‬
‫اللبن سوى عين العلم ‪ ،‬فما رأيته بعين الخيال في حال يقظتك وإن كنت ال تشعر بذلك‬
‫ّللا صادق فيما يعلمه ‪ ،‬وهو في الخيال صدق كما‬ ‫‪ ،‬فكذلك هو في نفس األمر ‪ ،‬ألن ه‬
‫رأيته ‪.‬‬

‫[ سورة األنفال ( ‪ : ) 8‬اآليات ‪ 45‬إلى ‪] 49‬‬


‫ون ( ‪) 45‬‬ ‫َّللا َكثِيرا ً لَعَله ُك ْم ت ُ ْف ِل ُح َ‬
‫اذك ُُروا ه َ‬ ‫ِين آ َمنُوا ِإذا لَ ِقيت ُ ْم فِئَةً فَاثْبُتُوا َو ْ‬‫يا أَيُّ َها الهذ َ‬
‫ص ِب ُروا ِإ هن ه َ‬
‫َّللا َم َع‬ ‫ب ِري ُح ُك ْم َوا ْ‬ ‫شلُوا َوت َ ْذ َه َ‬ ‫نازعُوا فَت َ ْف َ‬
‫سولَهُ َوال ت َ َ‬ ‫َوأ َ ِطيعُوا ه َ‬
‫َّللا َو َر ُ‬
‫صد َ‬
‫ُّون‬ ‫اس َويَ ُ‬ ‫ِيار ِه ْم بَ َطرا ً َو ِرئا َء النه ِ‬ ‫ِين َخ َر ُجوا ِم ْن د ِ‬ ‫ين ( ‪َ ) 46‬وال تَكُونُوا كَالهذ َ‬ ‫صابِ ِر َ‬‫ال ه‬
‫طان أَعْمالَ ُه ْم َوقا َل ال‬ ‫ش ْي ُ‬ ‫ط ) ‪َ ( 47‬وإِ ْذ َزيه َن لَ ُه ُم ال ه‬ ‫ون ُم ِحي ٌ‬
‫َّللاُ بِما يَ ْع َملُ َ‬
‫َّللا َو ه‬
‫سبِي ِل ه ِ‬ ‫ع َْن َ‬
‫ع ِقبَ ْي ِه َوقا َل‬ ‫َص عَلى َ‬ ‫تان نَك َ‬ ‫ت ا ْل ِفئ َ ِ‬‫جار لَ ُك ْم فَلَ هما تَرا َء ِ‬ ‫اس َو ِإ ِنّي ٌ‬ ‫ب لَ ُك ُم ا ْليَ ْو َم ِم َن النه ِ‬
‫غا ِل َ‬
‫ب ) ‪ِ ( 48‬إ ْذ‬ ‫شدِي ُد ا ْل ِعقا ِ‬ ‫َّللاُ َ‬
‫َّللا َو ه‬
‫خاف ه َ‬ ‫ِإ ِنّي بَ ِري ٌء ِم ْن ُك ْم ِإ ِنّي أَرى ما ال ت َ َر ْو َن ِإ ِنّي أ َ ُ‬
‫َّللا فَ ِإ هن‬
‫علَى ه ِ‬ ‫ُالء دِينُ ُه ْم َو َم ْن يَت َ َو هك ْل َ‬
‫غ هر هؤ ِ‬ ‫ض َ‬ ‫ِين ِفي قُلُو ِب ِه ْم َم َر ٌ‬ ‫ون َوالهذ َ‬ ‫يَقُو ُل ا ْل ُمنا ِفقُ َ‬
‫يز َح ِكي ٌم) ‪( 49‬‬ ‫َّللا ع َِز ٌ‬
‫هَ‬
‫ص ‪233‬‬

‫ص ‪233 :‬‬
‫المنافق هو الذي أسلم تقية حتى يعصم ظاهره في الدنيا ‪.‬‬

‫[ سورة األنفال ( ‪ : ) 8‬اآليات ‪ 50‬إلى ‪] 60‬‬


‫ْبار ُه ْم َوذُوقُوا ع َ‬
‫َذاب‬ ‫ون ُو ُجو َه ُه ْم َوأَد َ‬ ‫ض ِربُ َ‬ ‫ِين َكفَ ُروا ا ْل َمالئِكَةُ يَ ْ‬ ‫َولَ ْو تَرى ِإ ْذ يَت َ َوفهى الهذ َ‬
‫س ِب َظاله ٍم ِل ْلعَ ِبي ِد ) ‪( 51‬‬ ‫يق ( ‪ ) 50‬ذ ِلكَ ِبما قَ هد َمتْ أ َ ْيدِي ُك ْم َوأ َ هن ه َ‬
‫َّللا لَ ْي َ‬ ‫ا ْل َح ِر ِ‬
‫ي‬ ‫َّللا قَ ِو ٌّ‬
‫َّللاُ بِذُنُوبِ ِه ْم إِ هن ه َ‬ ‫َّللا فَأ َ َخذَ ُه ُم ه‬
‫ت هِ‬ ‫ِين ِم ْن قَ ْب ِل ِه ْم َكفَ ُروا بِآيا ِ‬ ‫ب آ ِل فِ ْرع َْو َن َوالهذ َ‬ ‫َكدَأْ ِ‬
‫ب ( ‪) 52‬‬ ‫شدِي ُد ا ْل ِعقا ِ‬ ‫َ‬
‫س ِه ْم َوأ َ هن ه َ‬
‫َّللا‬ ‫َّللا لَ ْم يَكُ ُمغَ ِيّرا ً نِ ْع َمةً أ َ ْنعَ َمها عَلى قَ ْو ٍم َحتهى يُغَ ِيّ ُروا ما ِبأ َ ْنفُ ِ‬ ‫ذ ِلكَ ِبأ َ هن ه َ‬
‫ع ِلي ٌم ( ‪) 53‬‬ ‫س ِمي ٌع َ‬ ‫َ‬
‫ت َر ِبّ ِه ْم فَأ َ ْهلَ ْكنا ُه ْم ِبذُنُو ِب ِه ْم َوأ َ ْغ َر ْقنا آ َل‬ ‫ِين ِم ْن قَ ْب ِل ِه ْم َكذهبُوا ِبآيا ِ‬ ‫ب آ ِل ِف ْرع َْو َن َوالهذ َ‬ ‫َكدَأْ ِ‬
‫ين ( ‪) 54‬‬ ‫ِف ْرع َْو َن َو ُك ٌّل كانُوا ظا ِل ِم َ‬
‫ون ( ‪) 55‬‬ ‫ِين َكفَ ُروا فَ ُه ْم ال يُ ْؤ ِمنُ َ‬ ‫َّللا الهذ َ‬‫اب ِع ْن َد ه ِ‬ ‫إِ هن ش هَر الد َهو ّ ِ‬
‫ون ( ‪) 56‬‬ ‫ع ْه َد ُه ْم فِي ُك ِ ّل َم هر ٍة َو ُه ْم ال يَتهقُ َ‬ ‫ُون َ‬ ‫ِين عا َهدْتَ ِم ْن ُه ْم ث ُ هم يَ ْنقُض َ‬ ‫الهذ َ‬
‫ون ( ‪) 57‬‬ ‫ب فَش ِ َّر ْد ِب ِه ْم َم ْن َخ ْلفَ ُه ْم لَعَله ُه ْم يَذهك ُهر َ‬ ‫فَ ِإ هما تَثْقَفَنه ُه ْم فِي ا ْل َح ْر ِ‬
‫ين) ‪( 58‬‬ ‫ب ا ْلخائِنِ َ‬ ‫واء ِإ هن ه َ‬
‫َّللا ال يُ ِح ُّ‬ ‫س ٍ‬ ‫َو ِإ هما تَخافَ هن ِم ْن قَ ْو ٍم ِخيانَةً فَا ْن ِب ْذ ِإلَ ْي ِه ْم عَلى َ‬
‫ون ) ‪( 59‬‬ ‫سبَقُوا ِإنه ُه ْم ال يُ ْع ِج ُز َ‬ ‫ِين َكفَ ُروا َ‬ ‫سبَ هن الهذ َ‬ ‫َوال يَحْ َ‬
‫عد هُو ُك ْم‬
‫َّللا َو َ‬
‫عد هُو ه ِ‬ ‫ون بِ ِه َ‬ ‫ست َ َط ْعت ُ ْم ِم ْن قُ هو ٍة َو ِم ْن ِر ِ‬
‫باط ا ْل َخ ْي ِل ت ُ ْر ِهبُ َ‬ ‫َوأ َ ِعدُّوا لَ ُه ْم َما ا ْ‬
‫ف‬ ‫َّللا يُ َو ه‬
‫سبِي ِل ه ِ‬ ‫ش ْي ٍء فِي َ‬ ‫َّللاُ يَ ْعلَ ُم ُه ْم َوما ت ُ ْن ِفقُوا ِم ْن َ‬‫ين ِم ْن دُونِ ِه ْم ال ت َ ْعلَ ُمونَ ُه ُم ه‬ ‫َوآ َخ ِر َ‬
‫ون) ‪( 60‬‬ ‫إِلَ ْي ُك ْم َوأ َ ْنت ُ ْم ال ت ُ ْظلَ ُم َ‬

‫ص ‪234‬‬

‫ص ‪234 :‬‬
‫[الفرق بين العلم والمعرفة ]‬
‫ّللا بشيء من آلة الحرب ما اعتنى بعلم الرمي بالقوس ‪ ،‬قال تعالى «‪:‬‬ ‫ما اعتنى ه‬
‫َوأ َ ِعدُّوا لَ ُه ْم َما ا ْست َ َ‬
‫ط ْعت ُ ْم ِم ْن قُ َّوةٍ »‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ [ :‬أال إن القوة الرمي ‪ ،‬أال إن القوة الرمي ‪ ،‬أال‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫فقال رسول ه‬
‫إن القوة الرمي ]‬
‫ّللاُ يَ ْعلَ ُم ُه ْم »ال تعرفونهم ‪ ،‬فالعلم هنا بمعنى المعرفة‬
‫وهو الرمي بالقوس« ال ت َ ْعلَ ُمونَ ُه ُم َّ‬
‫‪ ،‬وإنما جاءت هنا بلفظة العلم حتى ال يكون إلطالق المعرفة على الحق تعالى حكم في‬
‫الظاهر ‪ ،‬فالعلم صفته والمعرفة ليست صفته ‪ ،‬وإن كان العلم والمعرفة والفقه كله‬
‫بمعنى واحد ‪ ،‬لكن يعقل بينهما تميز في الداللة كما تميزوا في اللفظ ‪ ،‬فيقال في الحق‬
‫إنه عالم ‪ ،‬وال يقال فيه عارف وال فقيه ‪ ،‬وتقال هذه الثالثة األلقاب في اإلنسان ‪ ،‬وذكر‬
‫النحاة أن العلم ينوب عن المعرفة في اللسان بالعمل ‪ ،‬فعدوا العلم إلى مفعول واحد‬
‫للنيابة ‪ ،‬وذهلوا عما نعلمه نحن من أن المعرفة قد تكون من أسماء العلم ‪ ،‬ألن العلم‬
‫هو األصل ‪ ،‬فإنه صفة الحق ليست المعرفة صفته ‪ ،‬وال له منها اسم عندنا في الشرع‬
‫‪ ،‬وإن جمعها والعلم حد واحد ‪ ،‬لكن المعرفة من أسماء العلم ‪ ،‬ومعنى أن العلم إنما هو‬
‫موضوع لألحدية مثل المعرفة ‪ ،‬ولهذا سمينا العلم معرفة ‪ ،‬ألنا إذا قلنا علمت زيدا‬
‫قائما ‪ ،‬فلم يكن مطلوبنا زيدا لنفسه ‪ ،‬وال مطلوبنا القيام لعينه ‪ ،‬وإنما مطلوبنا نسبة قيام‬
‫زيد ‪ ،‬وهو مطلوب واحد ‪ ،‬فإنها نسبة واحدة معينة ‪ ،‬وعلمنا زيدا وحده بالمعرفة ‪،‬‬
‫والقيام وحده بالمعرفة ‪ ،‬فنقول ‪ :‬عرفت زيدا ‪ ،‬وعرفت‬

‫ص ‪235‬‬

‫ص ‪235 :‬‬
‫القيام ‪ ،‬وهذا القدر غاب عن النحاة ‪ ،‬وتخيلوا أن تعلق العلم بنسبة القيام إلى زيد هو‬
‫عين تعلقه بزيد والقيام ‪ ،‬وهذا غلط ‪ ،‬فإنه لو لم يكن زيد معلوما له والقيام أيضا‬
‫معلوما له قبل ذلك ‪ ،‬لما صح أن ينسب ما ال يعلمه إلى ما ال يعلمه ‪ ،‬ألنه ال يدري هل‬
‫تصح تلك النسبة أم ال ؟ ‪.‬‬

‫[ سورة األنفال ( ‪ ) : 8‬آية ‪] 61‬‬


‫س ِمي ُع ا ْلعَ ِلي ُم ( ‪) 61‬‬ ‫علَى ه ِ‬
‫َّللا إِنههُ ُه َو ال ه‬ ‫س ْل ِم فَاجْ نَحْ لَها َوت َ َو هك ْل َ‬
‫َوإِ ْن َجنَ ُحوا ِلل ه‬
‫ّللا »ولهذا يتعين على‬ ‫علَى َّ ِ‬ ‫س ْل ِم »وهو الصلح« فَ ْ‬
‫اجن َْح لَها َوت َ َو َّك ْل َ‬ ‫« َو ِإ ْن َجنَ ُحوا ِلل َّ‬
‫السلطان أن يدعو عدوه الكافر إلى اإلسالم قبل قتاله ‪ ،‬فإن أجاب وإال دعاه إلى الجزية‬
‫ّللا«‬
‫إن كان من أهل الكتاب ‪ ،‬فإن أجاب إلى الصلح بما شرط عليه قبل منه ‪ ،‬يقول ه‬
‫ّللا »فيبقي على المسلمين إن كانت المنفعة‬ ‫علَى َّ ِ‬ ‫س ْل ِم فَ ْ‬
‫اجن َْح لَها َوت َ َو َّك ْل َ‬ ‫َو ِإ ْن َجنَ ُحوا ِلل َّ‬
‫للمسلمين في ذلك ‪ ،‬فإن أبوا إال القتال قاتلهم وأمر المسلمين بقتالهم على أن تكون كلمة‬
‫ّللا هي العليا وكلمة الذين كفروا السفلى ‪.‬‬ ‫ه‬

‫[ سورة األنفال ( ‪ : ) 8‬اآليات ‪ 62‬إلى ‪] 63‬‬


‫ين ( ‪) 62‬‬ ‫َّللاُ ُه َو الهذِي أَيه َدكَ ِبنَص ِْر ِه َو ِبا ْل ُم ْؤ ِم ِن َ‬
‫سبَكَ ه‬ ‫عوكَ فَ ِإ هن َح ْ‬ ‫َو ِإ ْن يُ ِريدُوا أ َ ْن يَ ْخ َد ُ‬
‫ف‬‫َّللا أَله َ‬
‫ض َج ِميعا ً ما أَله ْفتَ بَ ْي َن قُلُوبِ ِه ْم َول ِك هن ه َ‬ ‫ف بَ ْي َن قُلُوبِ ِه ْم لَ ْو أ َ ْنفَ ْقتَ ما فِي ْاأل َ ْر ِ‬ ‫َوأَله َ‬
‫يز َح ِكي ٌم ( ‪) 63‬‬ ‫بَ ْينَ ُه ْم إِنههُ ع َِز ٌ‬
‫ت بَيْنَ قُلُوبِ ِه ْم »يريد عليك«‬ ‫ض َج ِميعا ً ما أَلَّ ْف َ‬ ‫ت ما فِي ْاأل َ ْر ِ‬ ‫ف بَيْنَ قُلُوبِ ِه ْم لَ ْو أ َ ْنفَ ْق َ‬ ‫" َوأَلَّ َ‬
‫ف بَ ْينَ ُه ْم »يريد على مودتك وإجابتك وتصديقك ‪ ،‬فإنه تعالى لم يقل بين‬ ‫ّللا أَلَّ َ‬
‫َول ِك َّن َّ َ‬
‫قلوبهم وال بينها ‪ ،‬فالمراد أنه سبحانه ألف بين قلوب المؤمنين وبينه تعالى ‪ ،‬ألنهم ما‬
‫وّلل ‪ ،‬فبه تألفوا لتألف محمد صلهى ه‬
‫ّللا‬ ‫باّلل ه‬‫ّللا عليه وسلم إال ه‬ ‫اجتمعوا على محمد صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم ‪.‬‬ ‫ّللا به على نبيه محمد صلهى ه‬ ‫عليه وسلم به ‪ ،‬فكان هذا مما امتن ه‬

‫[ سورة األنفال ( ‪ ) : 8‬آية ‪] 64‬‬


‫َّللاُ َو َم ِن اتهبَعَكَ ِم َن ا ْل ُم ْؤ ِمنِ َ‬
‫ين) ‪( 64‬‬ ‫سبُكَ ه‬ ‫يا أَيُّ َها النه ِب ُّ‬
‫ي َح ْ‬

‫ص ‪236‬‬

‫ص ‪236 :‬‬
‫اعلم أن النبوة في حق ذات النبي أعم وأشرف من الرسالة ‪ ،‬فإنه يدخل فيها ما اختص‬
‫به في نفسه وما أمر بتبليغه ألمته الذي هو منه رسول ‪.‬‬

‫[ سورة األنفال ( ‪ : ) 8‬اآليات ‪ 65‬إلى ‪] 66‬‬


‫ون يَ ْغ ِلبُوا‬
‫ون صا ِب ُر َ‬ ‫علَى ا ْل ِقتا ِل ِإ ْن يَك ُْن ِم ْن ُك ْم ِعش ُْر َ‬ ‫ين َ‬ ‫ض ا ْل ُم ْؤ ِم ِن َ‬ ‫ي َح ِ ّر ِ‬ ‫يا أَيُّ َها النه ِب ُّ‬
‫ون ( ‪) 65‬‬ ‫ِمائَت َ ْي ِن َوإِ ْن يَك ُْن ِم ْن ُك ْم ِمائَةٌ يَ ْغ ِلبُوا أ َ ْلفا ً ِم َن الهذ َ‬
‫ِين َكفَ ُروا بِأَنه ُه ْم قَ ْو ٌم ال يَ ْفقَ ُه َ‬
‫ض ْعفا ً فَ ِإ ْن يَك ُْن ِم ْن ُك ْم ِمائَةٌ صابِ َرةٌ يَ ْغ ِلبُوا ِمائَت َ ْي ِن‬
‫ع ِل َم أ َ هن فِي ُك ْم َ‬ ‫ع ْن ُك ْم َو َ‬‫َّللاُ َ‬ ‫ف ه‬ ‫ْاآل َن َخفه َ‬
‫ين ) ‪( 66‬‬ ‫صا ِب ِر َ‬ ‫َّللاُ َم َع ال ه‬
‫َّللا َو ه‬‫ف يَ ْغ ِلبُوا أ َ ْلفَ ْي ِن ِب ِإ ْذ ِن ه ِ‬ ‫َو ِإ ْن يَك ُْن ِم ْن ُك ْم أ َ ْل ٌ‬
‫قوة المؤمن تعدل من قوى الكفار كثيرين ‪ ،‬ولهذا شرع لهم أن ال يفروا في قتال‬
‫ّللا لبعض المؤمنين قوة واحد لعشرة ‪ ،‬ثم خفف عنهم مع إبقاء القوة‬ ‫عدوهم ‪ ،‬وشرع ه‬
‫عليهم ‪ ،‬فشرع لهم لكل قوة مؤمن رجلين من الكفار ‪.‬‬

‫[ سورة األنفال ( ‪ ) : 8‬آية ‪] 67‬‬


‫ض ال ُّد ْنيا َو ه‬
‫َّللاُ‬ ‫ض ت ُ ِريد َ‬
‫ُون ع ََر َ‬ ‫سرى َحتهى يُثْ ِخ َن فِي ْاأل َ ْر ِ‬‫ُون لَهُ أ َ ْ‬
‫ي ٍ أ َ ْن يَك َ‬ ‫كان ِلنَ ِب ّ‬
‫ما َ‬
‫يز َح ِكي ٌم ( ‪) 67‬‬ ‫يُ ِري ُد ْاآل ِخ َرةَ َو ه‬
‫َّللاُ ع َِز ٌ‬
‫[ النبوة في حق ذات النبي أعم وأشرف من الرسالة ]‬
‫ض ال ُّد ْنيا »يعني‬ ‫ع َر َ‬ ‫ي ٍ أ َ ْن يَ ُكونَ لَهُ أَسْرى َحتَّى يُثْ ِخنَ فِي ْاأل َ ْر ِ‬
‫ض ت ُ ِريدُونَ َ‬ ‫" ما كانَ ِلنَبِ ه‬
‫ّللاُ يُ ِري ُد ْاآل ِخ َرة َ‬
‫فداء أسارى بدر ‪ ،‬وأرسل تعالى الخطاب عاما في عرض الدنيا« َو َّ‬
‫يز َح ِكي ٌم »‪.‬‬ ‫ع ِز ٌ‬
‫ّللاُ َ‬
‫َو َّ‬

‫[ سورة األنفال ( ‪ : ) 8‬آية ‪] 68‬‬


‫س ُك ْم ِفيما أ َ َخ ْذت ُ ْم ع ٌ‬
‫َذاب ع َِظي ٌم ) ‪( 68‬‬ ‫ق لَ َم ه‬
‫سب َ َ‬ ‫لَ ْو ال ِك ٌ‬
‫تاب ِم َن ه ِ‬
‫َّللا َ‬
‫فإسباغ النعم عليهم فضال منه منة لحكم كتاب سبق ‪ ،‬وهذه اآلية وأمثالها مثل قوله‬
‫ّللاُ )رد على من يقول إن اإلله لذاته أوجد الممكن ال لنسبة إرادة وال‬ ‫تعالى ‪ (:‬لَ ْو أَرا َد َّ‬
‫سبق‬

‫ص ‪237‬‬

‫ص ‪237 :‬‬
‫علم ‪ ،‬والصحيح ما قاله الشارع ‪ ،‬وإن لم تكن تلك النسبة أمرا وجوديا زائدا ‪ ،‬والسابقة‬
‫عين الخاتمة ‪ ،‬وذلك في الحكم على المحكوم عليه ‪ ،‬وبالمحكوم عليه تبينت الخاتمة من‬
‫السابقة ‪ ،‬فإن بينهما تميزا معقوال به يقال عن الواحدة سابقة وعن األخرى خاتمة ‪.‬‬

‫‪ -‬إشارة لغوية ‪ -‬أداة لو امتناع المتناع ‪ ،‬فهي دليل عدم لعدم ‪ ،‬فإذا أدخلت عليها ال ‪،‬‬
‫وهي أداة نفي ‪ ،‬عاد األمر امتناعا لوجود ‪ ،‬وهذا من أعجب ما يسمع ‪ ،‬فإن األولى أن‬
‫يكون الحكم في االمتناع ‪ ،‬والعدم أبلغ ‪ ،‬لكون الداخل أداة نفي ‪ ،‬والنفي عدم ‪ ،‬فأعطى‬
‫الوجود ‪ ،‬وأزال عن أداة لو وجها واحدا من أحكامها ‪ ،‬وهو قولهم المتناع ‪ ،‬وما‬
‫ّللا‬
‫العجب في دخول هذه األدوات على المحدثات ‪ ،‬وإنما العجب في دخولها في كالم ه‬
‫ّللا ‪ ،‬هذا هو العجب العجاب ‪ ،‬وقد ثبتت نسبة الكالم إلى‬ ‫‪ ،‬ونفوذ حكمها وداللتها في ه‬
‫ّللا ‪ ،‬وقد ثبت أن الذي سمعناه في تركيب هذه الحروف هذا التركيب الخاص والنسبة‬ ‫ه‬
‫ّللا ‪ ،‬فقد حصل فيه هذه األدوات ‪ ،‬فجرى عليه حكمها ‪ ،‬فهل ذلك من‬ ‫الخاصة أنه كالم ه‬
‫جهتنا أو ما هو األمر إال كذلك ؟‬
‫سبَقَ » ]‬ ‫تاب ِمنَ َّ ِ‬
‫ّللا َ‬ ‫[ ‪ -‬تحقيق ‪ « -‬لَ ْو ال ِك ٌ‬
‫سبَقَ »الكتاب الذي سبق هو أنت ‪ ،‬فإن لألعيان‬ ‫ّللا َ‬ ‫‪ -‬تحقيق ‪ «-‬لَ ْو ال ِك ٌ‬
‫تاب ِمنَ َّ ِ‬
‫الثابتة في حال عدمها أحكاما ثابتة ‪ ،‬مهما ظهر عين تلك العين في الوجود تبعه الحكم‬
‫في الظهور ‪ ،‬وعلى هذا تعلق علم الحق به ‪ ،‬فالشيء حكم على نفسه ‪ ،‬أعني المعلوم‬
‫ما حكم غيره عليه ‪ ،‬وإنما يظهر لك ما بطن فيك عنك ‪.‬‬

‫[ سورة األنفال ( ‪ : ) 8‬آية ‪] 69‬‬


‫َّللا َ‬
‫غف ُ ٌ‬
‫ور َر ِحي ٌم ( ‪) 69‬‬ ‫َّللا ِإ هن ه َ‬ ‫فَ ُكلُوا ِم هما َ‬
‫غنِ ْمت ُ ْم َحالالً َط ِيّبا ً َواتهقُوا ه َ‬
‫ّللا عليه وسلم أنه أحلت له الغنائم ]‬ ‫[ مما اختص به النبي صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم أنه أحلت له الغنائم ولم تحل ألحد قبله ‪،‬‬ ‫مما اختص به النبي صلهى ه‬
‫فأعطي ما يوافق شهوة أمته ‪ ،‬والشهوة نار في باطن اإلنسان تطلب مشتهاها ‪ ،‬وال‬
‫سيما في الغنائم ‪ ،‬ألن النفوس لها التذاذ بها ‪ ،‬لكونها حصلت لهم عن قهر منهم وغلبة‬
‫وتعمل ‪ ،‬فال يريدون أن يفوتهم التنعم بها في مقابلة ما قاسوا من الشدة والتعب في‬
‫تحصيلها ‪ ،‬فهي أعظم مشته لهم ‪ ،‬وقد كانت الغنائم في حق غيره من األنبياء إذا‬
‫انصرف من قتال العدو جمع المغانم كلها ‪ ،‬فإذا لم يبق منها شيء نزلت نار من الجو‬
‫فأحرقتها كلها ‪ ،‬فإن وقع فيها غلول لم تنزل تلك النار حتى يرد ويلقى فيها ذلك الذي‬
‫أخذ منها ‪ ،‬فكان نزول النار عالمة على القبول اإللهي لفعلهم ‪،‬‬

‫ص ‪238‬‬

‫ص ‪238 :‬‬
‫ّللا لمحمد صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم فقسمها في أصحابه ‪ ،‬فتناولتها نار شهواتهم‬ ‫فأحلها ه‬
‫ّللا بهم لكرامة هذا الرسول عليه ‪ ،‬فأكرمه بأمر لم يكرم به غيره من الرسل‬ ‫عناية من ه‬
‫‪ ،‬وأكرم من آمن به بما لم يكرم به مؤمنا قبله بغيره‪.‬‬

‫[ سورة األنفال ( ‪ : ) 8‬اآليات ‪ 70‬إلى ‪] 71‬‬


‫َّللاُ فِي قُلُوبِ ُك ْم َخ ْيرا ً يُ ْؤتِ ُك ْم َخ ْيرا ً‬
‫سرى إِ ْن يَ ْعلَ ِم ه‬‫ي قُ ْل ِل َم ْن فِي أ َ ْيدِي ُك ْم ِم َن ْاأل َ ْ‬ ‫يا أَيُّ َها النهبِ ُّ‬
‫ور َر ِحي ٌم ) ‪َ ( 70‬وإِ ْن يُ ِريدُوا ِخيانَت َكَ فَقَ ْد خانُوا ه َ‬
‫َّللا‬ ‫غف ُ ٌ‬ ‫ِم هما أ ُ ِخذَ ِم ْن ُك ْم َويَ ْغ ِف ْر لَ ُك ْم َو ه‬
‫َّللاُ َ‬
‫ع ِلي ٌم َح ِكي ٌم ) ‪( 71‬‬ ‫َّللاُ َ‬ ‫ِم ْن قَ ْب ُل فَأ َ ْمك ََن ِم ْن ُه ْم َو ه‬
‫االسم الحكيم له وجه إلى العالم ووجه إلى المدبر ‪ ،‬فإن لالسم الحكيم حكمين ‪ :‬حكما‬
‫على مواضع األمور ‪ ،‬وحكم وضعها في مواضعها بالفعل ‪ ،‬فكم من عالم ال يضع‬
‫الشيء في موضعه ‪ ،‬وكم واضع لألشياء في مواضعها بحكم االتفاق ال عن علم ‪،‬‬
‫فالحكيم هو العالم بمواضع األمور ووضعها في أماكنها ‪.‬‬

‫[ سورة األنفال ( ‪ ) : 8‬آية ‪] 72‬‬


‫آو ْوا‬ ‫َّللا َوالهذ َ‬
‫ِين َ‬ ‫س ِبي ِل ه ِ‬
‫س ِه ْم فِي َ‬ ‫ِين آ َمنُوا َوها َج ُروا َوجا َهدُوا ِبأ َ ْموا ِل ِه ْم َوأ َ ْنفُ ِ‬ ‫ِإ هن الهذ َ‬
‫هاج ُروا ما لَ ُك ْم ِم ْن َواليَ ِت ِه ْم‬ ‫ِين آ َمنُوا َولَ ْم يُ ِ‬ ‫ض َوالهذ َ‬ ‫ض ُه ْم أ َ ْو ِليا ُء بَ ْع ٍ‬
‫ص ُروا أُول ِئكَ بَ ْع ُ‬‫َونَ َ‬
‫ِين فَعَلَ ْي ُك ُم النهص ُْر إِاله عَلى قَ ْو ٍم بَ ْينَ ُك ْم‬
‫ص ُرو ُك ْم فِي ال ّد ِ‬ ‫ست َ ْن َ‬‫هاج ُروا َوإِ ِن ا ْ‬ ‫ش ْي ٍء َحتهى يُ ِ‬ ‫ِم ْن َ‬
‫ير ) ‪( 72‬‬ ‫ون بَ ِص ٌ‬ ‫َّللاُ بِما ت َ ْع َملُ َ‬ ‫ق َو ه‬‫َوبَ ْينَ ُه ْم ِميثا ٌ‬
‫المجاهدون هم أهل الجهد والمشقة والمكابدة ‪ ،‬والمجاهدة مشقة وتعب ‪ ،‬وبها سمي‬
‫الجهاد جهادا ‪ ،‬ألن إتالف المهج أعظم المشاق على النفوس ‪ ،‬وهو الجهاد في سبيل‬
‫ّللا قتاله بأنهم أحياء يرزقون ‪.‬‬ ‫ّللا الذي وصف ه‬ ‫ه‬

‫[ سورة األنفال ( ‪) : 8‬آية ‪] 73‬‬


‫ير (‬ ‫ض إِاله ت َ ْفعَلُوهُ تَك ُْن فِتْنَةٌ فِي ْاأل َ ْر ِ‬
‫ض َوفَسا ٌد َكبِ ٌ‬ ‫ض ُه ْم أ َ ْو ِليا ُء بَ ْع ٍ‬
‫ِين َكفَ ُروا بَ ْع ُ‬
‫َوالهذ َ‬
‫) ‪73‬‬

‫ص ‪239‬‬

‫ص ‪239 :‬‬
‫ض »قال تعالى في اليهود والنصارى ‪َ (:‬والَّذِينَ َكفَ ُروا‬ ‫" َوالَّذِينَ َكفَ ُروا بَ ْع ُ‬
‫ض ُه ْم أ َ ْو ِليا ُء بَ ْع ٍ‬
‫ّللا‬
‫ض )أي ينصر بعضهم بعضا ‪ ،‬وذلك من أثر الرحمة التي خلقها ه‬ ‫ض ُه ْم أ َ ْو ِليا ُء بَ ْع ٍ‬
‫بَ ْع ُ‬
‫‪ ،‬فجعل منها في الدنيا رحمة واحدة بها رزق عباده ‪ ،‬كافرهم ومؤمنهم ‪ ،‬وعاصيهم‬
‫ومطيعهم ‪ ،‬وبها يعطف جميع الحيوان على أوالده ‪ ،‬وبها يرحم الناس بعضهم بعضا ‪.‬‬
‫ّللا ‪ :‬إن المؤمنين بعضهم أولياء بعض ‪ ،‬والظالمين بعضهم‬ ‫ويتعاطفون ‪ ،‬كما قال ه‬
‫أولياء بعض ‪ ،‬والمنافقين بعضهم أولياء بعض ‪ ،‬كل هذا ثمرة هذه الرحمة ‪.‬‬

‫[ سورة األنفال ( ‪ : ) 8‬اآليات ‪ 74‬إلى ‪] 75‬‬


‫ص ُروا أُولئِكَ ُه ُم‬‫آو ْوا َونَ َ‬‫ِين َ‬‫َّللا َوالهذ َ‬ ‫ِين آ َمنُوا َوها َج ُروا َوجا َهدُوا فِي َ‬
‫س ِبي ِل ه ِ‬ ‫َوالهذ َ‬
‫ق ك َِري ٌم ( ‪َ ) 74‬والهذ َ‬
‫ِين آ َمنُوا ِم ْن بَ ْع ُد َوها َج ُروا‬ ‫ون َحقًّا لَ ُه ْم َم ْغ ِف َرةٌ َو ِر ْز ٌ‬‫ا ْل ُم ْؤ ِمنُ َ‬
‫َّللا ِإ هن ه َ‬
‫َّللا‬ ‫ب هِ‬‫ض ِفي ِكتا ِ‬ ‫ض ُه ْم أ َ ْولى ِببَ ْع ٍ‬ ‫َوجا َهدُوا َمعَ ُك ْم فَأُول ِئكَ ِم ْن ُك ْم َوأ ُولُوا ْاأل َ ْر ِ‬
‫حام بَ ْع ُ‬
‫ع ِلي ٌم ( ‪) 75‬‬ ‫ش ْي ٍء َ‬‫بِ ُك ِ ّل َ‬
‫ّللا »فأمر بصلة األرحام ‪ -‬من باب‬ ‫ب َّ ِ‬ ‫ض فِي ِكتا ِ‬ ‫ض ُه ْم أ َ ْولى بِبَ ْع ٍ‬‫حام بَ ْع ُ‬ ‫« َوأُولُوا ْاأل َ ْر ِ‬
‫اإلشارة ‪ -‬أمر سبحانه بصلة األرحام ‪ ،‬وهو تعالى أولى بهذه الصفة منا ‪ ،‬فال بد أن‬
‫ّللا بال شك من حيث أنه‬ ‫يكون للرحم وصوال ‪ ،‬فإنها شجنة من الرحمن ‪ ،‬وقد وصلنا ه‬
‫رحم لنا ‪ ،‬فهو الرزاق ذو القوة المتين ‪ ،‬المنعم على أي حالة كنا ‪ ،‬من طاعة أمره أو‬
‫معصيته ‪ ،‬وموافقة أو مخالفة ‪ ،‬فإنه ال يقطع صلة الرحم من جانبه وإن انقطعت عنه‬
‫من جانبنا لجهلنا ‪ ،‬فأينما كان الخلق فالحق يصحبه من حيث اسمه الرحمن ‪ ،‬ألن‬
‫الرحم شجنة من الرحمن ‪ ،‬وجميع الناس رحم ‪،‬‬
‫والقرابة قرابتان ‪:‬‬
‫قرابة الدين وقرابة الطين ‪،‬‬
‫فمن جمع بين القرابتين فهو أولى بالصلة ‪ ،‬وإن انفرد أحدهما بالدين واآلخر بالطين‬
‫فتقدم قرابة الدين على قرابة الطين ‪ ،‬وأفضل الصالت في األرحام صلة األقرب‬
‫فاألقرب ‪ ،‬وتنقطع األرحام بالموت وال ينقطع الرحم المنسوبة إلى الحق ‪ ،‬فإنه معنا‬
‫حيثما كنا‪.‬‬

‫ص ‪240‬‬

‫ص ‪240 :‬‬
‫) ‪ ( 9‬سورة التوبة مدنيّة‬
‫اختلف الناس في سورة التوبة ‪ ،‬هل هي سورة مستقلة كسائر سور القرآن ؟‬
‫أو هل هي وسورة األنفال سورة واحدة ؟‬
‫فإنهم كانوا ال يعرفون كمال السورة إال بالفصل بالبسملة ‪ ،‬ولم يجئ هنا ‪ ،‬فدل أنها من‬
‫سورة األنفال وهو األوجه‬
‫‪ .‬وإن كان لترك البسملة وجه ‪ ،‬وهو عدم المناسبة بين الرحمة والتبري ‪ ،‬فإن بسملة‬
‫سورة براءة هي التي في النمل ‪ ،‬والحق تعالى إذا وهب شيئا لم يرجع فيه وال يرده‬
‫إلى العدم ‪ ،‬فلما خرجت رحمة براءة وهي البسملة ‪ ،‬حكم التبري من أهلها برفع‬
‫الرحمة عنهم ‪ ،‬وأعطيت هذه البسملة للبهائم التي آمنت بسليمان عليه السالم ‪ ،‬وهي ال‬
‫يلزمها إيمان إال برسولها ‪ ،‬فلما عرفت قدر سليمان وآمنت به أعطيت من الرحمة‬
‫ّللا الرحمن الرحيم الذي سلب عن المشركين ‪ .‬ولكن ما‬ ‫اإلنسانية حظا ‪ ،‬وهي بسم ه‬
‫ّللا المنعوت‬
‫لهذا الوجه تلك القوة بل هو وجه ضعيف ‪ ،‬وسبب ضعفه أنه في االسم ه‬
‫بجميع األسماء ما هو اسم خاص يقتضي المؤاخذة ‪ ،‬والبراءة إنما هي من الشريك ‪،‬‬
‫وإذا تبرأ من المشرك فلكونه مشركا ‪ ،‬ألن متعلقه العدم ‪ ،‬فإن الخالق ال يتبرأ من‬
‫المخلوق ‪ ،‬ولو تبرأ منه من كان يحفظ عليه وجوده ‪ ،‬وال وجود للشريك ‪ ،‬فالشريك‬
‫معدوم ‪ ،‬فال شركة في نفس األمر ‪ ،‬فإذا صحت البراءة من الشريك فهي صفة تنزيه‬
‫وتبرئة هّلل من الشريك ‪ ،‬وللرسول من اعتقاد الجهل ‪.‬‬
‫ووجه آخر في ضعف هذا التأويل الذي ذكرناه وهو عدم المناسبة بين الرحمة والتبري‬
‫‪ ،‬وهو أن البسملة موجودة في كل سورة أولها( َو ْي ٌل ) *وأين الرحمة من الويل ؟‬
‫ولهذا كان للقراء في مثل هذه السورة مذهب مستحسن فيمن يثبت البسملة من القراء ‪،‬‬
‫وفيمن يتركها كقراءة حمزة ‪ ،‬وفيمن يخير فيها كقراءة ورش ‪ ،‬والبسملة إثباتها عنده‬
‫أرجح ‪ ،‬فأثبتناها عند قراءتنا بحرف حمزة في هذين الموضعين لما فيهما من قبيح‬
‫الوصل بالقراءة ‪،‬‬
‫وهو أن يقول( َو ْاأل َ ْم ُر يَ ْو َمئِ ٍذ ِللَّ ِهويل ) فبسملوا هنا ‪ ،‬وأما مذهبنا فيه فهو أن يقف على‬
‫آخر السورة ويقف على آخر البسملة ‪ ،‬ويبتدئ بالسورة من غير وصل ‪.‬‬
‫والخالف في سورة التوبة أنها واألنفال سورة واحدة حيث لم يفصل بينهما بالبسملة‬
‫ّللا ما يجري من الخالف‬ ‫خالف منقول بين علماء هذا الشأن من الصحابة ‪ ،‬ولما علم ه‬
‫في هذه األمة في حذف البسملة في سورة براءة ‪ ،‬فمن ذهب إلى أنها سورة مستقلة‬
‫وكان القرآن عنده مائة وثالث‬

‫ص ‪241‬‬

‫ص ‪241 :‬‬
‫عشرة سورة فيحتاج إلى مائة وثالث عشرة بسملة ‪ ،‬أظهر لهم في سورة النمل بسملة‬
‫ليكمل العدد ‪ ،‬وجاء بها كما جاء بها في أوائل السور بعينها ‪ ،‬فإن لغة سليمان عليه‬
‫السالم لم تكن عربية ‪،‬‬
‫وإنما كانت أخرى في كتب لغة هذا اللفظ في كتابه ‪ ،‬وإنما كتب لفظة بلغته يقتضي‬
‫ّللا الرحمن الرحيم ‪ ،‬وأتى بها محذوفة األلف‬ ‫معناها باللسان العربي إذا عبر عنها بسم ه‬
‫كما جاءت في أوائل السور ‪ ،‬ليعلم أن المقصود بها هو المقصود بها في أوائل السور‬
‫ّللا َم ْجراها )و( ا ْق َرأْ بِاس ِْم َر ِبه َك ) فأثبت األلف هناك ليفرق‬
‫‪ ،‬ولم يعمل ذلك في( بِس ِْم َّ ِ‬
‫بين اسم البسملة وغيرها ‪ ،‬ولهذا تتضمن سورة التوبة من صفات الرحمة والتنزل‬
‫ّللا نفوس المؤمنين منهم بأن لهم الجنة وأي تنزل أعظم‬ ‫اإللهي كثيرا ‪ ،‬فإن فيها شراء ه‬
‫من أن يشتري السيد ملكه من عبده ؟‬
‫وهل يكون في الرحمة أبلغ من هذا ؟ فال بد أن تكون التوبة واألنفال سورة واحدة ‪ ،‬أو‬
‫تكون بسملة النمل السليمانية لسورة التوبة ‪ ،‬ثم انظر في اسمها ‪ ،‬فإن من يجعلها سورة‬
‫على حدة منفصلة عن سورة األنفال سماها سورة التوبة ‪،‬‬
‫وهو الرجعة اإللهية على العباد بالرحمة والعطف ‪ ،‬فإن الرجعة اإللهية ال تكون إال‬
‫بالرحمة ‪ ،‬ال يرجع على عباده بغيرها ‪ ،‬فإن كانت الرجعة في الدنيا ردههم بها إليه ‪،‬‬
‫وإن كانت في اآلخرة فتكون رجعتهم مقدمة على رجعته ‪،‬‬
‫ألن الموطن يقتضي ذلك ‪ ،‬فإن كل من حضر من الخلق في ذلك المشهد سقط ورجع‬
‫ّللا عليه بالرحمة في‬ ‫ّللا إليهم وعليهم ‪ ،‬فمنهم من يرجع ه‬ ‫بالضرورة إلى ربه ‪ ،‬فيرجع ه‬
‫القيامة ومنازلها ‪ ،‬ومنهم من يرجع عليه بالرحمة بعد دخول النار ‪،‬‬
‫وذلك بحسب ما تعطيه األحوال ‪ ،‬فالتوبة تطلب الرحمة ما تطلب التبري ‪ ،‬وإن ابتدأ‬
‫ّللا شهادته‬
‫عز وجل بالتبري فقد ختم بآية لم يأت بها وال وجدت إال عند من جعل ه‬ ‫ه‬
‫شهادة رجلين ‪،‬‬
‫فإن كنت تعقل علمت ما في هذه السورة من الرحمة المدرجة ‪ ،‬وال سيما في قوله‬
‫تعالى ‪ ( :‬ومنهم ) ومنهم ‪ ،‬وذلك كله رحمة بنا لنحذر الوقوع فيه ‪ ،‬واالتصاف بتلك‬
‫الصفات ‪ ،‬فإن القرآن علينا نزل ‪ ،‬فلم تتضمن سورة من القرآن في حقنا رحمة أعظم‬
‫من هذه السورة ‪ ،‬ألنه كثر من األمور التي ينبغي أن يتقيها المؤمن ويجتنبها ‪ ،‬فلو لم‬
‫يعرفنا الحق تعالى بها ‪ ،‬وقعنا فيها وال نشعر ‪ ،‬فهي سورة رحمة للمؤمنين ‪.‬‬
‫ّللا عنه نائب محمد صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم في تالوة‬ ‫كان علي بن أبي طالب رضي ه‬
‫سورة براءة على أهل مكة ‪ ،‬وقد كان بعث بها أبا بكر ثم رجع عن ذلك فقال ‪ :‬ال يبلغ‬
‫عني القرآن إال رجل‬

‫ص ‪242‬‬

‫ص ‪242 :‬‬
‫من أهل بيتي ‪ ،‬فدعا بعلي فأمره فلحق أبا بكر ‪ ،‬فلما وصل إلى مكة حج أبو بكر‬
‫ّللا صلهى ه‬
‫ّللا‬ ‫ي إلى الناس سورة براءة ‪ ،‬وتالها عليهم نيابة عن رسول ه‬ ‫بالناس وبلغ عل ه‬
‫ّللا عنهما‬
‫عليه وسلم ‪ ،‬وهذا مما يدلك على صحة خالفة أبي بكر ومنزلة علي رضي ه‬
‫‪.‬‬
‫[ سورة التوبة ( ‪ : ) 9‬آية ‪] 1‬‬
‫ِين عا َه ْدت ُ ْم ِم َن ا ْل ُمش ِْر ِك َ‬
‫ين ) ‪( 1‬‬ ‫سو ِل ِه إِلَى الهذ َ‬ ‫بَرا َءةٌ ِم َن ه ِ‬
‫َّللا َو َر ُ‬
‫فهو يتبرأ من الشريك ألن الشريك ليس ثم فهو عدم ‪.‬‬

‫[ سورة التوبة ( ‪ : ) 9‬اآليات ‪ 2‬إلى ‪] 3‬‬


‫َّللا َوأ َ هن ه َ‬
‫َّللا ُم ْخ ِزي‬ ‫غ ْي ُر ُم ْع ِج ِزي ه ِ‬ ‫ش ُه ٍر َوا ْعلَ ُموا أَنه ُك ْم َ‬ ‫ض أ َ ْربَعَةَ أ َ ْ‬ ‫سي ُحوا ِفي ْاأل َ ْر ِ‬ ‫فَ ِ‬
‫اس يَ ْو َم ا ْل َح ّجِ ْاأل َ ْكبَ ِر أ َ هن ه َ‬
‫َّللا بَ ِري ٌء ِم َن‬ ‫سو ِل ِه ِإلَى النه ِ‬ ‫ذان ِم َن ه ِ‬
‫َّللا َو َر ُ‬ ‫ين ( ‪َ ) 2‬وأ َ ٌ‬ ‫ا ْلكا ِف ِر َ‬
‫َّللا‬
‫غ ْي ُر ُم ْع ِج ِزي ه ِ‬ ‫سولُهُ فَ ِإ ْن ت ُ ْبت ُ ْم فَ ُه َو َخ ْي ٌر لَ ُك ْم َوإِ ْن ت َ َوله ْيت ُ ْم فَا ْعلَ ُموا أَنه ُك ْم َ‬
‫ين َو َر ُ‬ ‫ا ْل ُمش ِْر ِك َ‬
‫يم ) ‪( 3‬‬ ‫ب أ َ ِل ٍ‬ ‫ِين َكفَ ُروا بِعَذا ٍ‬ ‫ش ِر الهذ َ‬‫َوبَ ِ ّ‬
‫ّللا عليه وسلم في تالوة‬ ‫ّللا عنه نائب محمد صلهى ه‬ ‫كان علي بن أبي طالب رضي ه‬
‫ج ْاأل َ ْكبَ ِر »هو‬ ‫اس يَ ْو َم ْال َح ه ِ‬
‫سو ِل ِه ِإلَى النَّ ِ‬ ‫ذان ِمنَ َّ ِ‬
‫ّللا َو َر ُ‬ ‫سورة براءة على أهل مكة« َوأ َ ٌ‬
‫يوم النحر بمنى ‪ ،‬وإنما سمي يوم الحج األكبر ألنه كان مجمع الحاج بجملته ‪ ،‬إذ كان‬
‫من الناس من يقف بعرفة ‪ ،‬وكانت الحمس تقف بالمزدلفة ‪ ،‬فكانوا متفرقين فلما كان‬
‫يوم منى اجتمعوا فيه ‪ ،‬أهل الموقف بالمزدلفة وبعرفة ‪ ،‬فكان يوم الحج األكبر‬
‫وسن طواف اإلفاضة في هذا اليوم ‪ ،‬فأحل الحاج في هذا اليوم من‬ ‫ه‬ ‫الجتماع الكل فيه ‪،‬‬
‫إحرامه مع كونه متلبسا بالحج حتى يفرغ من أيام منى ‪ ،‬فلما أحل من إحرامه في هذا‬
‫حرم‬
‫اليوم ‪ ،‬زال عن التحجير الذي كان تلبس به في هذه العبادة ‪ ،‬وأبيح له ما كان ه‬
‫عليه ‪ ،‬وأح هل الحل كله في هذا اليوم ‪ ،‬وكان إحالله عبادة ‪ ،‬كما كان إحرامه عبادة ‪،‬‬
‫وما زال عنه اسم الحج لما بقي عليه من الرمي ‪ ،‬فكان يوم الحج األكبر لهذا السراح‬
‫واإلحالل ‪ ،‬فكانت أيام منى أيام أكل وشرب وبعال ‪ ،‬فمن أراد فضل هذا اليوم فليطف‬
‫سولُهُ )ال‬ ‫ّللا بَ ِري ٌء ِمنَ ْال ُم ْش ِر ِكينَ َو َر ُ‬ ‫فيه طواف اإلفاضة ‪ ،‬ويحل الحل كله ‪ (.‬أ َ َّن َّ َ‬

‫ص ‪243‬‬

‫ص ‪243 :‬‬
‫تصح البراءة من األعداء إال هّلل ولرسله عليهم السالم ومن كوشف على الخواتم ‪ ،‬ومن‬
‫سواهم فما لهم التبري ‪ ،‬وإنما لهم أن ال يتخذوهم أولياء يلقون إليهم بالمودة ال غير ‪(،‬‬
‫ش ِر الَّذِينَ َكفَ ُروا‬
‫ّللا َوبَ ِ ه‬ ‫فَإِ ْن ت ُ ْبت ُ ْم فَ ُه َو َخي ٌْر لَ ُك ْم َو ِإ ْن ت َ َولَّ ْيت ُ ْم فَا ْعلَ ُموا أَنَّ ُك ْم َ‬
‫غي ُْر ُم ْع ِج ِزي َّ ِ‬
‫ب أ َ ِل ٍيم )‪.‬‬‫ِبعَذا ٍ‬

‫[ سورة التوبة ( ‪ : ) 9‬اآليات ‪ 4‬إلى ‪]6‬‬


‫علَ ْي ُك ْم أ َ َحدا ً فَأَتِ ُّموا‬
‫ش ْيئا ً َولَ ْم يُظا ِه ُروا َ‬ ‫صو ُك ْم َ‬ ‫ين ث ُ هم لَ ْم يَ ْنقُ ُ‬
‫ِين عا َه ْدت ُ ْم ِم َن ا ْل ُمش ِْر ِك َ‬ ‫إِاله الهذ َ‬
‫اقتُلُوا‬‫ش ُه ُر ا ْل ُح ُر ُم فَ ْ‬ ‫سلَ َخ ْاأل َ ْ‬
‫ين ) ‪ ( 4‬فَ ِإذَا ا ْن َ‬ ‫ب ا ْل ُمت ه ِق َ‬ ‫ع ْه َد ُه ْم ِإلى ُم هدتِ ِه ْم ِإ هن ه َ‬
‫َّللا يُ ِح ُّ‬ ‫ِإلَ ْي ِه ْم َ‬
‫ص ٍد فَ ِإ ْن تابُوا‬ ‫اقعُدُوا لَ ُه ْم ُك هل َم ْر َ‬ ‫ص ُرو ُه ْم َو ْ‬ ‫ث َو َج ْدت ُ ُمو ُه ْم َو ُخذُو ُه ْم َواحْ ُ‬ ‫ين َح ْي ُ‬ ‫ا ْل ُمش ِْر ِك َ‬
‫ور َر ِحي ٌم ( ‪َ ) 5‬و ِإ ْن أ َ َح ٌد ِم َن‬ ‫غفُ ٌ‬ ‫َّللا َ‬‫س ِبيلَ ُه ْم ِإ هن ه َ‬ ‫الزكاةَ فَ َخلُّوا َ‬ ‫صالةَ َوآت َ ُوا ه‬ ‫َوأَقا ُموا ال ه‬
‫َّللا ث ُ هم أ َ ْب ِل ْغهُ َمأ ْ َمنَهُ ذ ِلكَ ِبأَنه ُه ْم قَ ْو ٌم ال‬
‫س َم َع كَال َم ه ِ‬ ‫جاركَ فَأ َ ِج ْر ُه َحتهى يَ ْ‬ ‫ست َ َ‬ ‫ين ا ْ‬‫ا ْل ُمش ِْر ِك َ‬
‫ون ) ‪( 6‬‬ ‫يَ ْعلَ ُم َ‬
‫ّللا‬
‫ّللا عليه وسلم أحدي العين ‪ ،‬فتاله رسول ه‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫نزل القرآن على قلب رسول ه‬
‫ّللا عليه وسلم بلسانه أصواتا وحروفا سمعها األعرابي بسمع أذنه في حال‬ ‫صلهى ه‬
‫ترجمته ‪ ،‬فالكالم هّلل بال شك والترجمة للمتكلم به ‪،‬‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ ،‬وجعله مسموعا‬ ‫ّللا تعالى ال إلى نبيه صلهى ه‬ ‫وأضاف الكالم إلى ه‬
‫للعربي المخاطب بحاسة سمعه ‪ ،‬فما أدركه إال متقطعا متقدما متأخرا ومن لم ينسب‬
‫ّللا في هذه اآلية هو‬ ‫ّللا ‪ ،‬فإن كالم ه‬ ‫ّللا فقد جحد ما أنزل ه‬ ‫ذلك الكالم المسمى قرآنا إلى ه‬
‫ما أنزله خاصة ‪،‬‬
‫وإنما سمي الكالم كالما لما له من األثر في النفس ‪ ،‬من الكلم الذي هو الجرح في‬
‫الحس ‪،‬‬

‫ي‬
‫وح َ‬ ‫س ً‬
‫وال فَيُ ِ‬ ‫ّللا للبشر في قوله ‪ (:‬أ َ ْو يُ ْر ِس َل َر ُ‬
‫وهذا الكالم هو النوع الثالث من كالم ه‬
‫ّللا ‪ ،‬وما سمعته الصحابة‬ ‫بِإِ ْذنِ ِه ما يَشا ُء )فقد يكون الرسول بشرا ‪ ،‬فأضاف الكالم إلى ه‬
‫ّللا صلهى‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ ،‬فإن رسول ه‬ ‫ّللا صلهى ه‬
‫وال هذا األعرابي إال من لسان رسول ه‬
‫ّللا عليه وسلم هو الذي تال عليه القرآن ‪،‬‬
‫ه‬
‫ّللا عليه وسلم مناب الحق هنا من االسم‬ ‫ّللا صلهى ه‬‫ّللا تعالى فناب رسول ه‬
‫والقرآن كالم ه‬
‫الظاهر ‪ ،‬فكأن الحق ظهر في عالم الشهادة بصورة التالي كالمه ‪ ،‬فإن األعرابي ما‬
‫سمع إال األصوات والحروف من فم‬

‫ص ‪244‬‬

‫ص ‪244 :‬‬
‫النبي صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم ‪،‬‬
‫ّللا ‪ :‬إن ذلك كالمي وأضافه إلى نفسه ‪ ،‬ومن وجه آخر كان الحجاب لألعرابي‬ ‫وقال ه‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ .‬واعلم أن من المتشابه صفة الكالم ‪ ،‬ومنه‬ ‫ّللا محمدا صلهى ه‬ ‫على كالم ه‬
‫ّللا سبحانه ‪ ،‬وقد وردت آيات وأحاديث توهم ذلك ‪،‬‬ ‫نسبة الصوت والحرف إلى كالم ه‬
‫وهي مسألة مهمة بعيدة الغور تزلزلت فيها أقدام المتكلمين ‪ ،‬ومذهب أهل الحق أن هّلل‬
‫تعالى كالما قديما قائما بذاته واحدا في حقيقته ‪ ،‬مخالفا لصفة علمه وإرادته ‪ ،‬منزها‬
‫عن الظروف المرتبة واألصوات المحدثة ‪ ،‬منزال على نبيه مقروءا باأللسنة مكتوبا‬
‫ّللا تعالى‬ ‫ّللا عليه وسلم حقيقة ‪ ،‬ولمن يريد ه‬‫في المصاحف ‪ ،‬مسموعا لموسى صلهى ه‬
‫ّللا سبحانه صفته ‪،‬‬ ‫إسماعه ‪ ،‬غير مخلوق في الشجرة ‪ ،‬وال قائم بالحوادث ‪ .‬وكالم ه‬
‫وصفة القديم قديمة تتقدس عن الحدوث ‪ ،‬والحروف في إفادة الكالم يلزمها الترتيب‬
‫وتقدم بعضها على بعض ‪،‬‬
‫وذلك مستحيل على القديم ‪ ،‬ولما كان الحق تعالى لصفاته مظهران علم أن لكالمه‬
‫مظهرين ‪ ،‬مظهر علوي روحاني ‪ ،‬وهو روح القدس ‪ ،‬وكلمة العلي ‪ ،‬والحروف‬
‫واألصوات من لوازم المظهرين ‪ ،‬وكالمه منزه عنها كتنزه القلب في كالمه عن‬
‫الحروف اللسانية واألصوات الهوائية وإن كانت مظاهر له ‪ ،‬فقوله تعالى ‪ (:‬فَأ َ ِج ْرهُ‬
‫َحتَّى يَ ْس َم َع َك َ‬
‫الم َّ ِ‬
‫ّللا )‬
‫أي بواسطة مظاهره الجسمانية ‪ ،‬وهي أصوات العباد وحروفهم ‪ ،‬وإطالق كونه سامعا‬
‫ّللا تعالى لغة‬ ‫ّللا بذلك مجاز لما قدمناه أن المظاهر الجسمانية ليست منسوبة إلى ه‬ ‫لكالم ه‬
‫ّللا عنها في صحيح البخاري ومسلم وغيرهما‬ ‫‪ ،‬وال شرعا ‪ ،‬وروي عن عائشة رضي ه‬
‫ّللا عليه وسلم كيف يأتيك الوحي ؟‬ ‫ّللا صلهى ه‬
‫‪ ،‬أن الحارث بن هشام سأل رسول ه‬
‫قال ‪ :‬أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس وهو أشده علي ‪ ،‬فيفصم عني وقد وعيت عنه‬
‫‪ ،‬قال ‪ :‬وأحيانا يتمثل لي الملك رجال فيكلمني فأعي ما يقول ‪.‬‬
‫ّللا تعالى في الروحانيات مظهرين ‪ ،‬مظهر جلي يتشكل‬ ‫وهذا يحقق لك أن لكالم ه‬
‫بالمظاهر الجسمانية وأصواتها وحروفها ‪ ،‬ومظهر آخر له حروف وأصوات خفي‬
‫روحاني ‪ ،‬ألن الجرس في أصله هو الصوت الخفي ‪ ،‬والصلصلة صوت اليابس‬
‫ّللا تعالى بالتأويل الذي ذكرته لك‬ ‫الصلب إذا حرك ‪ ،‬ويصح نسبة المسموع حينئذ إلى ه‬
‫ّللا تعالى إلى موسى عليه السالم ‪ ،‬كإفادة ألسنة القراء ‪،‬‬ ‫‪ ،‬وإفادة الشجرة إلسماع كالم ه‬
‫وكالهما في ذلك بمثابة القلم في إفادة المكتوب ‪ ،‬وكما أن المكتوب ال يحل بالقلم ‪ ،‬وال‬
‫يكون صفة له ‪ ،‬وال ينتقل به عمن هو صفته ‪ ،‬كذلك الكالم المسموع ال يحل باأللسنة‬
‫وال بالمصاحف وال باألقالم ‪ ،‬وال يكون صفة للقارئ وال ينتقل بالقراءة‬

‫ص ‪245‬‬

‫ص ‪245 :‬‬
‫ّللا‬
‫والكتابة عن موصوفه تبارك وتعالى ‪ .‬واعلم أن من مقام هذه اآلية قال رسول ه‬
‫صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم ‪:‬‬
‫ّللا قال على لسان‬
‫ّللا لمن حمده ‪ ،‬فقولوا ‪ :‬ربنا ولك الحمد ‪ ،‬فإن ه‬
‫إذا قال اإلمام سمع ه‬
‫ّللا استفاد ‪ ،‬ومن سمعه من‬
‫ّللا من ه‬
‫ّللا لمن حمده ‪ .‬واعلم أن من سمع كالم ه‬‫عبده سمع ه‬
‫المحدث ربما عاند وربما قبل بحسب ما يوفق له ‪.‬‬
‫ّللا ‪ ،‬أنت الترجمان ‪،‬‬
‫‪ -‬إشارة ‪ -‬ال تقل نحن إياه ‪ ،‬لقوله فأجره حتى يسمع كالم ه‬
‫ّللا باألمكنة ‪ ،‬بكونه في المصاحف واأللسنة ‪ .‬الحروف‬ ‫والمتكلم الرحمن ‪ ،‬تقيد كالم ه‬
‫ظروف ‪ ،‬والصفة عين الموصوف ‪ ،‬فإذا نطقت فاعلم بمن تنطق ‪ ،‬فعليك بالصدق ‪.‬‬
‫ّللا صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم هو المتكلم بالقرآن ‪ ،‬فليس أحد من‬ ‫‪ -‬تحقيق ‪ -‬لما كان رسول ه‬
‫ّللا ‪ ،‬فإنه‬
‫ّللا يجوز أن يخبر عن نفسه وال عن غيره ‪ ،‬وإنما إخبار الجميع عن ه‬ ‫خلق ه‬
‫سبحانه هو الذي يخلق فيهم بكن ما يخبرون به ‪ ،‬فالعارف يقبل كل كالم ‪ ،‬وينزله في‬
‫ّللا على لسان الشرع ‪.‬‬
‫المنزلة التي عينها ه‬

‫[ سورة التوبة ( ‪ : ) 9‬اآليات ‪ 7‬إلى ‪] 8‬‬


‫ِين عا َه ْدت ُ ْم ِع ْن َد ا ْل َم ْ‬
‫س ِج ِد‬ ‫سو ِل ِه ِإاله الهذ َ‬ ‫َّللا َو ِع ْن َد َر ُ‬
‫ع ْه ٌد ِع ْن َد ه ِ‬
‫ين َ‬ ‫ُون ِل ْل ُمش ِْر ِك َ‬
‫ف يَك ُ‬‫َك ْي َ‬
‫ف َو ِإ ْن يَ ْظ َه ُروا‬ ‫ين ( ‪َ ) 7‬ك ْي َ‬ ‫ب ا ْل ُمت ه ِق َ‬ ‫ست َ ِقي ُموا لَ ُه ْم ِإ هن ه َ‬
‫َّللا يُ ِح ُّ‬ ‫ستَقا ُموا لَ ُك ْم فَا ْ‬ ‫رام فَ َما ا ْ‬
‫ا ْل َح ِ‬
‫سقُو َن‬ ‫علَ ْي ُك ْم ال يَ ْرقُبُوا فِي ُك ْم إِالًّ َوال ِذ همةً يُ ْرضُونَ ُك ْم بِأ َ ْفوا ِه ِه ْم َوتَأْبى قُلُوبُ ُه ْم َوأ َ ْكث َ ُر ُه ْم فا ِ‬
‫َ‬
‫(‪)8‬‬
‫ّللا تعالى ‪ ،‬واإلل أيضا العهد‬ ‫« ال يَ ْرقُبُوا فِي ُك ْم ِإ ًّال َوال ِذ َّمةً »اإلل بكسر الهمزة هو ه‬
‫ّللا ‪َ «،‬وال ِذ َّمةً »الذمة العهد والعقد‪.‬‬ ‫بكسر الهمزة ‪ ،‬فاإلل اسم من أسماء ه‬

‫[ سورة التوبة ( ‪ : ) 9‬اآليات ‪ 9‬إلى ‪] 14‬‬


‫ون ( ‪ ) 9‬ال‬ ‫سبِي ِل ِه إِنه ُه ْم سا َء ما كانُوا يَ ْع َملُ َ‬ ‫صدُّوا ع َْن َ‬ ‫َّللا ث َ َمنا ً قَ ِليالً فَ َ‬
‫ت هِ‬ ‫شت َ َر ْوا بِآيا ِ‬ ‫ا ْ‬
‫صالةَ‬ ‫ُون ( ‪ ) 10‬فَ ِإ ْن تابُوا َوأَقا ُموا ال ه‬ ‫ون فِي ُم ْؤ ِم ٍن إِالًّ َوال ِذ همةً َوأُولئِكَ ُه ُم ا ْل ُم ْعتَد َ‬ ‫يَ ْرقُبُ َ‬
‫ون ( ‪َ ) 11‬و ِإ ْن نَ َكثُوا‬ ‫ت ِلقَ ْو ٍم يَ ْعلَ ُم َ‬ ‫ص ُل ْاآليا ِ‬ ‫ِين َونُفَ ِ ّ‬‫الزكاةَ فَ ِإ ْخوانُ ُك ْم فِي ال ّد ِ‬ ‫َوآت َ ُوا ه‬
‫مان لَ ُه ْم لَعَله ُه ْم‬‫ع ْه ِد ِه ْم َو َطعَنُوا فِي دِينِ ُك ْم فَقاتِلُوا أَئِ همةَ ا ْل ُك ْف ِر ِإنه ُه ْم ال أ َ ْي َ‬ ‫أ َ ْيمانَ ُه ْم ِم ْن بَ ْع ِد َ‬
‫سو ِل َو ُه ْم بَ َد ُؤ ُك ْم‬ ‫الر ُ‬‫ون ) ‪( 12‬أ َ ال تُقاتِلُو َن قَ ْوما ً نَ َكثُوا أ َ ْيمانَ ُه ْم َو َه ُّموا ِب ِإ ْخراجِ ه‬ ‫يَ ْنت َ ُه َ‬
‫ين ) ‪( 13‬‬ ‫ق أ َ ْن ت َ ْخش َْو ُه ِإ ْن ُك ْنت ُ ْم ُم ْؤ ِم ِن َ‬‫اّلِلُ أ َ َح ُّ‬
‫أ َ هو َل َم هر ٍة أ َ ت َ ْخش َْونَ ُه ْم فَ ه‬
‫ين (‬ ‫ُور قَ ْو ٍم ُم ْؤ ِمنِ َ‬
‫صد َ‬ ‫ْف ُ‬ ‫علَ ْي ِه ْم َويَش ِ‬ ‫ص ْر ُك ْم َ‬‫َّللاُ بِأ َ ْيدِي ُك ْم َويُ ْخ ِز ِه ْم َويَ ْن ُ‬
‫قاتِلُو ُه ْم يُعَ ِذّ ْب ُه ُم ه‬
‫‪)14‬‬

‫ص ‪246‬‬

‫ص ‪246 :‬‬
‫ّللا تعالى ‪ ،‬وأفعال العباد بجملتها عند أهل السنة‬ ‫اعلم أنه ليس في الوجود فاعل إال ه‬
‫ّللا تعالى ‪ ،‬بال شريك وال معين ‪ ،‬فهي على‬ ‫والجماعة منسوبة الوجود واالختراع إلى ه‬
‫الحقيقة فعله وله بها عليهم الحجة ‪ ،‬ال يسأل عما يفعل ‪ ،‬وهم يسألون ‪.‬‬
‫ومن المعلوم أن أفعال العباد ال بد فيها من توسط اآلالت والجوارح ‪ ،‬مع أنها منسوبة‬
‫إليه ‪،‬‬
‫وبذلك يعلم أن لصفاته تعالى في تجلياته لعباده مظهرين ‪:‬‬
‫مظهر عبادي سفلي منسوب لعباده ‪ ،‬وهو الصور والجوارح الجسمانية ‪،‬‬
‫ومظهر حقيقي علوي منسوب إليه ‪ ،‬وقد أجرى عليه أسماء المظاهر المنسوبة لعباده‬
‫على سبيل التقريب ألفهامهم ‪ ،‬والتأنيس لقلوبهم ‪ ،‬ونبه تعالى في كتابه العزيز على‬
‫التنبيهين ‪ ،‬وأنه منزه عن الجوارح في الحالين ‪،‬‬
‫ّللاُ ِبأ َ ْيدِي ُك ْم »‬
‫ونبه على األول بقوله ‪ «:‬قا ِتلُو ُه ْم يُعَ ِذه ْب ُه ُم َّ‬
‫وذلك يفهم أن كل ما يظهر على أيدي العباد فهو منسوب إليه وفعل له ‪ ،‬وأن جوارحنا‬
‫مظهر له وواسطة فيه ‪ ،‬فهو على الحقيقة الفاعل بجوارحنا ‪ ،‬مع القطع الضروري‬
‫لكل عاقل أن جوارح العبد ليست بجوارح لربنا تعالى وال صفات له ‪ ،‬ونبه على الثاني‬
‫ّللا عليه وسلم في صحيح مسلم وغيره « وال‬ ‫بقوله تعالى فيما أخبر عنه نبيه صلهى ه‬
‫يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ‪،‬‬
‫وبصره الذي يبصر به ‪ ،‬ويده التي يبطش بها ‪ ،‬ورجله التي يمشي بها » ‪ -‬الحديث –‬
‫ّللا عليه وسلم ذلك بقوله تعالى ‪ (:‬أ َ لَ ْم يَ ْعلَ ُموا أ َ َّن َّ َ‬
‫ّللا ُه َو‬ ‫ّللا تعالى لنبينا صلهى ه‬ ‫وقد حقق ه‬
‫ت)‬ ‫ص َدقا ِ‬ ‫ع ْن ِعبا ِد ِه َويَأ ْ ُخذُ ال َّ‬‫يَ ْقبَ ُل الت َّ ْوبَةَ َ‬
‫ط ِ هه ُر ُه ْم َوتُزَ ِ هكي ِه ْم ِبها )‬ ‫بعد قوله ‪ُ (:‬خ ْذ ِم ْن أ َ ْموا ِل ِه ْم َ‬
‫ص َدقَةً ت ُ َ‬
‫ّللا فَ ْوقَ أ َ ْيدِي ِه ْم )‬
‫ّللا يَ ُد َّ ِ‬‫وبقوله تعالى‪ِ ( :‬إ َّن الَّذِينَ يُبا ِيعُون ََك ِإنَّما يُبا ِيعُونَ َّ َ‬
‫فنزل يد نبيه منزلة يده في المبايعة ‪ ،‬وأخذ الصدقات ‪،‬‬
‫ّللا َرمى )‪ ،‬ذلك كله يفهم أن‬ ‫ْت َول ِك َّن َّ َ‬ ‫ْت إِ ْذ َر َمي َ‬ ‫والرمي في قوله تعالى ‪َ (:‬وما َر َمي َ‬
‫العبد إذا صار‬

‫ص ‪247‬‬

‫ص ‪247 :‬‬
‫محمودا صارت أفعاله ناشئة عن أنوار علوية روحانية من عند ربه سبحانه ‪ ،‬تكون له‬
‫بمثابة الجوارح ‪،‬‬
‫ّللا سبحانه يكون له بواسطتها سمعا وبصرا ويدا ورجال ‪ ،‬مع القطع الضروري‬ ‫وأن ه‬
‫ّللا تعالى ال يكون جارحة لعبده ‪،‬‬
‫أن ه‬
‫فإن ذاته المتقدسة متعالية عن االتصاف بها ‪ ،‬ألن الجوارح يلزمها الحدوث ‪ ،‬وذاته‬
‫واجبة القدم ‪ ،‬وكل ما كان واجب القدم استحال عليه القدم ‪.‬‬

‫[ سورة التوبة ( ‪ : ) 9‬آية ‪] 15‬‬


‫ع ِلي ٌم َح ِكي ٌم ) ‪( 15‬‬ ‫َّللاُ عَلى َم ْن يَشا ُء َو ه‬
‫َّللاُ َ‬ ‫وب ه‬ ‫َويُ ْذ ِه ْب َ‬
‫غ ْي َظ قُلُو ِب ِه ْم َويَت ُ ُ‬
‫لما كان العذاب فيه ضرب من اللذة ومنه في صفة الماء عذب فرات ‪ ،‬وكان في إيالم‬
‫ظ‬ ‫ُور قَ ْو ٍم ُمؤْ ِم ِنينَ ‪َ ،‬ويُ ْذهِبْ َ‬
‫غ ْي َ‬ ‫صد َ‬‫ف ُ‬ ‫باّلل ورسوله سرور المؤمنين قال ‪َ «:‬ويَ ْش ِ‬ ‫الكفار ه‬
‫قُلُوبِ ِه ْم »‬
‫باالنتقام من الكفار في مقابلة ما ضيقوا به صدور المؤمنين ‪ ،‬وسمي العذاب عذابا‬
‫للعذوبة التي تحصل منه للمؤمن ‪.‬‬

‫[ سورة التوبة ( ‪ : ) 9‬اآليات ‪ 16‬إلى ‪] 21‬‬


‫َّللا َوال‬
‫ُون ه ِ‬‫ِين جا َهدُوا ِم ْن ُك ْم َولَ ْم يَت ه ِخذُوا ِم ْن د ِ‬ ‫َّللاُ الهذ َ‬‫س ْبت ُ ْم أ َ ْن تُتْ َركُوا َولَ هما يَ ْعلَ ِم ه‬
‫أ َ ْم َح ِ‬
‫ين أ َ ْن‬‫كان ِل ْل ُمش ِْر ِك َ‬
‫ون ) ‪ ( 16‬ما َ‬ ‫ير بِما ت َ ْع َملُ َ‬ ‫َّللاُ َخبِ ٌ‬ ‫ين َو ِلي َجةً َو ه‬ ‫سو ِل ِه َوال ا ْل ُم ْؤ ِمنِ َ‬ ‫َر ُ‬
‫س ِه ْم ِبا ْل ُك ْف ِر أُولئِكَ َح ِب َطتْ أَعْمالُ ُه ْم َوفِي النه ِار ُه ْم‬ ‫ِين عَلى أ َ ْنفُ ِ‬ ‫َّللا شا ِهد َ‬ ‫ساج َد ه ِ‬ ‫يَ ْع ُم ُروا َم ِ‬
‫صالةَ َوآتَى‬ ‫اّلِل َوا ْليَ ْو ِم ْاآل ِخ ِر َوأَقا َم ال ه‬ ‫َّللا َم ْن آ َم َن ِب ه ِ‬ ‫ساج َد ه ِ‬ ‫ُون ( ‪ِ ) 17‬إنهما يَ ْع ُم ُر َم ِ‬ ‫خا ِلد َ‬
‫ِين ( ‪) 18‬‬ ‫َّللا فَعَسى أُولئِكَ أ َ ْن يَكُونُوا ِم َن ا ْل ُم ْهتَد َ‬ ‫ش ِإاله ه َ‬ ‫الزكاةَ َولَ ْم يَ ْخ َ‬ ‫ه‬
‫اّلِل َوا ْليَ ْو ِم ْاآل ِخ ِر َوجا َه َد ِفي‬‫رام َك َم ْن آ َم َن ِب ه ِ‬ ‫س ِج ِد ا ْل َح ِ‬ ‫مارةَ ا ْل َم ْ‬‫جِ َو ِع َ‬ ‫سقايَةَ ا ْلحا ّ‬ ‫أ َ َجعَ ْلت ُ ْم ِ‬
‫ين ( ‪) 19‬‬ ‫ظا ِل ِم َ‬ ‫َّللاُ ال يَ ْه ِدي ا ْلقَ ْو َم ال ه‬ ‫ون ِع ْن َد ه ِ‬
‫َّللا َو ه‬ ‫ست َ ُو َ‬‫َّللا ال يَ ْ‬
‫سبِي ِل ه ِ‬ ‫َ‬
‫س ِه ْم أ َ ْع َظ ُم د ََر َجةً ِع ْن َد ه ِ‬
‫َّللا‬ ‫َّللا بِأ َ ْموا ِل ِه ْم َوأ َ ْنفُ ِ‬
‫سبِي ِل ه ِ‬ ‫ِين آ َمنُوا َوها َج ُروا َوجا َهدُوا فِي َ‬ ‫الهذ َ‬
‫ون ( ‪) 20‬‬ ‫َوأُولئِكَ ُه ُم ا ْلفائِ ُز َ‬
‫ت لَ ُه ْم فِيها نَ ِعي ٌم ُم ِقي ٌم) ‪( 21‬‬ ‫وان َو َجنها ٍ‬
‫ض ٍ‬ ‫ش ُر ُه ْم َربُّ ُه ْم ِب َرحْ َم ٍة ِم ْنهُ َو ِر ْ‬ ‫يُبَ ِ ّ‬

‫ص ‪248‬‬

‫ص ‪248 :‬‬
‫ش ُر ُه ْم َربُّ ُه ْم بِ َر ْح َم ٍة ِم ْنهُ َو ِرض ٍ‬
‫ْوان »‬ ‫" يُبَ ِ ه‬
‫[ سبب دوام التنعم في الجنة وانتفاء الملل ]‬
‫البشرى مختصة بالمؤمن ‪ ،‬والكافر الحظ له في البشرى اإللهية برفع الوسائط ‪،‬‬
‫وكانت البشرى من الحق في مقابلة إجابتهم داعي الحق بالعبادات ‪ ،‬وكذلك في قوله‬
‫تعالى ‪ «:‬لَ ُه ُم ْالبُ ْشرى ِفي ْال َحيا ِة ال ُّد ْنيا َو ِفي ْاآل ِخ َر ِة »‬
‫ت لَ ُه ْم فِيها نَ ِعي ٌم ُم ِقي ٌم " النعيم والتنعم له أسباب ظاهرة وهي نيل األغراض كانت‬ ‫" َو َجنَّا ٍ‬
‫ما كانت ‪ ،‬فإن صاحبها يتنعم بوجودها فهو صاحب تنعم في مقام تنعيم ‪ ،‬وتسمى‬
‫أسباب وجود اللذة في الملتذ نعيما ‪ ،‬وليس النعيم في الحقيقة إال اللذة الموجودة في‬
‫النفس ‪ ،‬وهي لذات حسية ونفسية‪.‬‬
‫وفي الجنان في كل حين خلق جديد ‪ ،‬ونعيم جديد ‪ ،‬حتى ال يقع الملل ‪ ،‬فإن كل شيء‬
‫طبيعي إذا توالى عليه أمر ما من غير تبدل ال بد أن يصحب اإلنسان فيه ملل ‪ ،‬فإن‬
‫ّللا بالتجديد في كل وقت ليدوم له النعيم بذلك ‪ ،‬وإال‬ ‫الملل نعت ذاتي له ‪ ،‬فإن لم يغذه ه‬
‫كان يدركهم الملل ‪.‬‬

‫فأهل الجنان يدركون في كل نظرة ينظرونها إلى ملكهم أمرا وصورة لم يكونوا رأوها‬
‫قبل ذلك ‪ ،‬فينعمون بحدوثها ‪ ،‬وكذلك في كل أكلة وشربة يجدون طعما جديدا لذيذا لم‬
‫يكونوا يجدونه في األكلة األولى ‪ ،‬فينعمون بذلك وتعظم شهواتهم ‪.‬‬

‫[ سورة التوبة ( ‪ : ) 9‬اآليات ‪22‬إلى ‪] 23‬‬


‫ِين آ َمنُوا ال تَت ه ِخذُوا آبا َء ُك ْم‬ ‫َّللا ِع ْن َدهُ أَجْ ٌر ع َِظي ٌم ( ‪ ) 22‬يا أَيُّ َها الهذ َ‬ ‫ِين فِيها أَبَدا ً ِإ هن ه َ‬ ‫خا ِلد َ‬
‫يمان َو َم ْن يَت َ َوله ُه ْم ِم ْن ُك ْم فَأُولئِكَ ُه ُم‬
‫اْل ِ‬ ‫ست َ َحبُّوا ا ْل ُك ْف َر َ‬
‫علَى ْ ِ‬ ‫َو ِإ ْخوانَ ُك ْم أ َ ْو ِليا َء ِإ ِن ا ْ‬
‫ون ) ‪( 23‬‬ ‫ظا ِل ُم َ‬‫ال ه‬
‫ثم قال تعالى فيمن تربص في أهله ولم يفر إليه‪.‬‬

‫ص ‪249‬‬

‫ص ‪249 :‬‬
‫[سورة التوبة ( ‪ : ) 9‬آية ‪] 24‬‬
‫اقت َ َر ْفت ُ ُموها‬
‫يرت ُ ُك ْم َوأ َ ْموا ٌل ْ‬
‫ش َ‬ ‫ع ِ‬ ‫كان آبا ُؤ ُك ْم َوأ َ ْبنا ُؤ ُك ْم َوإِ ْخوانُ ُك ْم َوأ َ ْزوا ُج ُك ْم َو َ‬
‫قُ ْل إِ ْن َ‬
‫سو ِل ِه َو ِجها ٍد فِي‬ ‫ب ِإلَ ْي ُك ْم ِم َن ه ِ‬
‫َّللا َو َر ُ‬ ‫ض ْونَها أ َ َح ه‬ ‫جارةٌ ت َ ْخش َْو َن كَسادَها َو َمسا ِك ُن ت َ ْر َ‬ ‫َوتِ َ‬
‫ين ( ‪) 24‬‬ ‫س ِق َ‬ ‫َّللاُ ِبأ َ ْم ِر ِه َو ه‬
‫َّللاُ ال يَ ْهدِي ا ْلقَ ْو َم ا ْلفا ِ‬ ‫ي ه‬ ‫صوا َحتهى يَأْتِ َ‬ ‫س ِبي ِل ِه فَت َ َربه ُ‬
‫َ‬
‫« قُ ْل ِإ ْن كانَ آبا ُؤ ُك ْم »وهو كل من له عليك والدة« َوأَبْنا ُؤ ُك ْم »‬
‫كل من لك عليه والدة« َوإِ ْخوانُ ُك ْم » كل ما قابلك من األمثال ‪ ،‬وداخلك من األشباه ‪،‬‬
‫ومازجك أو قارب من األنداد« َوأ َ ْزوا ُج ُك ْم » وهو كل ثنهاك وجوده ‪ ،‬وانفعل لك فيما‬
‫تريده ‪ ،‬وكنت فيه خالقا ‪ ،‬وإليه إذا غاب عنك مشتاقا ‪ ،‬وجمعتكما الرحمة والمودة‬
‫الثابتة ‪ ،‬وسكنت إليه ‪ ،‬وسكن إليك ‪ ،‬وأعطاك من نفسه التحكم فيه ‪ ،‬وظهر فيه‬
‫يرت ُ ُك ْم »‪.‬‬
‫ع ِش َ‬
‫اقتدارك ‪ ،‬فهو زوجك ‪ ،‬تحبه طبعا وتتحد به ‪ ،‬ويكون ملكا لك شرعا« َو َ‬

‫العشائر ‪ :‬األصحاب ‪ ،‬وكل ما تعتضد به في أمورك" َوأ َ ْموا ٌل ا ْقت َ َر ْفت ُ ُموها "‬
‫وهو كل ما تميل إليه فيميل إليك ‪ ،‬ويحضره ديوان نيلك ‪ ،‬ويقف عند فعلك فيه وقولك‬
‫‪ ،‬ويتحكم فيه سلطان طولك ‪ ،‬وتصل في اقتنائه نهارك بليلك ‪ ،‬من ثابت كالعقار ‪،‬‬
‫ومن غير ثابت كالعروض والدرهم والدينار ‪ ،‬وكل منقول ال يقر به قرار ‪ ،‬وكله مال‬
‫‪ ،‬ألنه مال ‪ ،‬وإليه المآل بعد الرحلة عنه واالنتقال ‪،‬‬
‫جارة ٌ ت َ ْخش َْونَ َكسا َدها » وهو كل أمر تطلب الخروج عنه ‪ ،‬ليكون ذلك الخروج‬ ‫« َوتِ َ‬
‫سببا لتحصيل ما يكون عندك أنفس منه ‪ ،‬فتطلب به النفاق في األسواق ‪ ،‬تخشى‬
‫ض ْونَها »وهو كل ما اتخذته محال ‪ ،‬وكنت به‬ ‫كسادها وتخاف فسادها« َو َمسا ِك ُن ت َ ْر َ‬
‫محلى ‪ ،‬وجعلته لك حرما وحال ‪ ،‬فذلك مسكنك الذي ترضاه ‪ ،‬ومنزلك الذي تقصده‬
‫وتتوخاه ‪،‬‬
‫كل ذلك قاله لك الحق فيما أنزله إليك ‪ ،‬ووفد به رسوله األمين عليك ‪ ،‬إذا لم تر وجه‬
‫الحق في كل ما ذكرته وتعشقت به لعينه ‪ ،‬وتعرف أنه من عنده ما هو عينه ‪ ،‬وآثرته‬
‫مع هذا الحجاب على ما دعاك الحق إليه من الزهد فيه إذا فقدت فيه وجه الحق فتعلم‬
‫ّللا ما أراد منك إال أن تعرفه فيما أمرك بالزهد فيه ‪ ،‬والرغبة عنه ‪ ،‬وأحببته حب‬ ‫أن ه‬
‫ّللا‬
‫عين ‪ ،‬وصورة كون ‪ ،‬وكان أحب إليك من ه‬

‫ص ‪250‬‬

‫ص ‪250 :‬‬
‫الجامع للرغبة فيه ‪ ،‬والرغبة عنه ‪ ،‬فإنه المعطي المانع ‪ ،‬والضار النافع ‪ ،‬وأحب إليك‬
‫من رسوله الوافد عليك المعرف بما هو حجاب عن المقصود ‪ ،‬وستر بين العابد‬
‫والمعبود ‪ ،‬مع علمك بما أعلمك أنه ما خلقك إال لتعبده ‪ ،‬وتؤثره على ما تراه وتقصده‬
‫ّللا الذي يجمع لك بين الحياتين فال تعرف للموت‬ ‫‪ ،‬وأحب إليك من جهادك في سبيل ه‬
‫صوا »‬ ‫طعما ‪ ،‬وال للحصر حكما« فَت َ َربَّ ُ‬
‫كلمة تهديد ووعيد ‪ ،‬والتربص ‪:‬‬
‫ّللاُ بِأ َ ْم ِر ِه‬ ‫ْ‬ ‫نقيض الفرار المأمور به وهو قوله تعالى ‪ «:‬فَ ِف ُّروا ِإلَى َّ ِ‬
‫ي َّ‬‫ّللا »« َحتَّى يَأتِ َ‬
‫»فتعرف عند ذلك خيره من شره ‪ ،‬وحلوه من مره ‪ ،‬وتذوق شهده من صبره‬
‫‪ -‬تفسير من باب اْلشارة –‬
‫صوا »عقيب ما تعدد من األعيان إذن وأمر بالتربص إن‬ ‫اعلم أن قوله تعالى ‪ «:‬فَت َ َربَّ ُ‬
‫ّللا‬
‫ّللا مشهودا لكم في كل ما ذكرناه ‪ ،‬فإن ذلك الشهود هو المطلوب بالفرار إلى ه‬ ‫كان ه‬
‫ّللا ‪،‬‬ ‫ّللا أمرنا بالفرار إلى ه‬ ‫‪ ،‬ألن ه‬
‫ّللا في هذه األعيان أحب‬ ‫ّللا أي شهودكم ه‬ ‫ّللا " أي من أجل ه‬ ‫وقوله‪ " :‬أ َ َحبَّ ِإلَ ْي ُك ْم ِمنَ َّ ِ‬
‫إليكم من شهودكم إياه في أعيان غيرها ‪ ،‬للمناسبة القريبة بينكم وبين هذه األشياء‬
‫المذكورة ‪ ،‬وإن كان الكامل يشهده في كل عين ‪ ،‬ولكن بعض األعيان قد يكون لبعض‬
‫سو ِل ِه "‬‫األشخاص أحب من أعيان أخر ‪ ،‬وقوله ‪َ ":‬و َر ُ‬
‫ّللا »أي ومن أجل رسوله حيث أمركم ببر هؤالء ‪ ،‬وجعل لهم حقوقا‬ ‫مثل قوله ‪ِ «:‬منَ َّ ِ‬
‫عليكم فحقوق اآلباء واألبناء واإلخوان واألزواج والعشائر معلومة ‪ ،‬منصوص عليها‬
‫ال تخفى على من وقف على العلم المشروع ‪،‬‬
‫وكذلك حقوق األموال ‪ ،‬نعم المال الصالح للرجل الصالح ‪ ،‬وحقوق التجارة معلومة ‪،‬‬
‫فإن صدق التجارة ال يكون لغيرها ‪ ،‬والتاجر الصدوق يحشر يوم القيامة مع النبيين‬
‫ّللا عليه وسلم وقوله ‪ «:‬ت َ ْخش َْونَ َكسا َدها »يقول تخافون أن‬ ‫والشهداء كذا قال صلهى ه‬
‫تتركوها ألجل الكساد طلبا لألرباح ‪ ،‬وأي ربح أعظم من ربح صدق التاجر وقوله «‪:‬‬
‫سبِي ِل ِه »أي ومن أجل أيضا شهودكم إياه تعالى في الجهاد في سبيله ألنه‬ ‫َو ِجها ٍد فِي َ‬
‫أمركم بهذا ‪ ،‬وعلمتم أن مشهودكم في كل ما ذكرناه ولما ذكرناه منزلة شريفة عندكم«‬
‫صوا »أي ال تفروا فإنه ما أمرنا بالفرار هإال لكوننا ليست لنا هذه المشاهدة ‪ .‬وقوله‬ ‫فَت َ َربَّ ُ‬
‫ّللاُ ِبأ َ ْم ِر ِه » وهو قيام الساعة ‪ ،‬أو الموت الذي يخرجكم عن مشاهدة‬ ‫ْ‬
‫ي َّ‬ ‫‪َ «:‬حتَّى يَأتِ َ‬
‫ّللاُ ال يَ ْهدِي ْالقَ ْو َم ْالفا ِس ِقينَ "‬ ‫هؤالء وقوله ‪َ ":‬و َّ‬
‫يقول الخارجين عن حكم هذه المشاهدة التي أنتم فيها ‪ ،‬والتي دعيتم إليها ‪ ،‬فما هي في‬
‫حق أصحاب هذا النظر آية وعيد ‪ ،‬وإنما هي آية وعد وبشرى ‪ ،‬وتقرير حال وسكون‬
‫أي تربصوا إذا كان هذا‬

‫ص ‪251‬‬

‫ص ‪251 :‬‬
‫مشهدكم ‪ ،‬فقد حصل المطلوب ‪ ،‬فإن انتقلتم بعد هذا فهو انتقال من خير إلى خير ‪ ،‬أو‬
‫من خير أدنى إلى خير أعلى ‪.‬‬

‫[ سورة التوبة ( ‪ : ) 9‬آية ‪] 25‬‬


‫ش ْيئا ً‬ ‫ير ٍة َويَ ْو َم ُحنَ ْي ٍن ِإ ْذ أ َ ْع َجبَتْ ُك ْم َكثْ َرت ُ ُك ْم فَلَ ْم ت ُ ْغ ِن َ‬
‫ع ْن ُك ْم َ‬ ‫واط َن َك ِث َ‬
‫َّللاُ ِفي َم ِ‬ ‫ص َر ُك ُم ه‬‫لَقَ ْد نَ َ‬
‫ين ) ‪. ( 25‬‬ ‫ض بِما َر ُحبَتْ ث ُ هم َوله ْيت ُ ْم ُم ْدبِ ِر َ‬‫علَ ْي ُك ُم ْاأل َ ْر ُ‬
‫َوضاقَتْ َ‬
‫المؤمن الكامل منصور أبدا ‪ ،‬ولهذا ما انهزم نبي قط ‪ ،‬وال ولي ‪ ،‬أال ترى يوم حنين‬
‫ّللا ‪ ،‬ثم رأوا كثرتهم فأعجبتهم كثرتهم‬ ‫ّللا عنهم توحيد ه‬ ‫لما ادعت الصحابة رضي ه‬
‫ّللا عند ذلك ‪ ،‬فلم تغن عنهم كثرتهم شيئا ‪ ،‬مع كون الصحابة مؤمنين بال شك ‪،‬‬ ‫فنسوا ه‬
‫ت‬‫غلَبَ ْ‬
‫ّللا ‪َ «:‬ك ْم ِم ْن ِفئ َ ٍة قَ ِليلَ ٍة َ‬ ‫ولكن دخلهم الخلل باعتمادهم على الكثرة ‪ ،‬ونسوا قول ه‬
‫يرة ً ِبإِ ْذ ِن َّ ِ‬
‫ّللا »‪.‬‬ ‫ِفئَةً َك ِث َ‬

‫[ سورة التوبة ( ‪ : ) 9‬آية ‪] 26‬‬


‫ب الهذ َ‬
‫ِين‬ ‫ين َوأ َ ْن َز َل ُجنُودا ً لَ ْم ت َ َر ْوها َو َ‬
‫عذه َ‬ ‫علَى ا ْل ُم ْؤ ِمنِ َ‬ ‫س ِكينَتَهُ عَلى َر ُ‬
‫سو ِل ِه َو َ‬ ‫ث ُ هم أ َ ْن َز َل ه‬
‫َّللاُ َ‬
‫ين ) ‪( 26‬‬ ‫َكفَ ُروا َوذ ِلكَ َجزا ُء ا ْلكافِ ِر َ‬
‫السكينة هي مطالعة األمر بطريق اإلحاطة من كل وجه ‪ ،‬وما لم يكن ذلك فالسكينة ال‬
‫تصح ‪ ،‬فالسكينة هي األمر الذي تسكن له النفس لما وعدت به ‪ ،‬أو لما حصل في نفسه‬
‫من طلب أمر ما ‪ ،‬وسميت سكينة ألنها إذا حصلت قطعت عنه وجود الهبوب إلى غير‬
‫ما سكنت إليه النفس ‪ ،‬ومنه سمي السكين سكينا ‪.‬‬

‫[ سورة التوبة ( ‪ : ) 9‬اآليات ‪ 27‬إلى ‪] 28‬‬


‫ور َر ِحي ٌم ( ‪ ) 27‬يا أَيُّ َها الهذ َ‬
‫ِين آ َمنُوا‬ ‫غف ُ ٌ‬ ‫َّللاُ َ‬
‫َّللاُ ِم ْن بَ ْع ِد ذ ِلكَ عَلى َم ْن يَشا ُء َو ه‬ ‫وب ه‬ ‫ث ُ هم يَت ُ ُ‬
‫ع ْيلَةً‬
‫عام ِه ْم هذا َوإِ ْن ِخ ْفت ُ ْم َ‬ ‫س فَال يَ ْق َربُوا ا ْل َم ْ‬
‫س ِج َد ا ْل َحرا َم بَ ْع َد ِ‬ ‫ُون نَ َج ٌ‬‫إِنه َما ا ْل ُمش ِْرك َ‬
‫ع ِلي ٌم َح ِكي ٌم) ‪( 28‬‬ ‫ض ِل ِه إِ ْن شا َء إِ هن ه َ‬
‫َّللا َ‬ ‫َّللاُ ِم ْن فَ ْ‬
‫ف يُ ْغنِي ُك ُم ه‬ ‫فَ َ‬
‫س ْو َ‬

‫ص ‪252‬‬

‫ص ‪252 :‬‬
‫العالم كله طاهر ‪ ،‬فإن عرض له عارض إلهي يقال له نجاسة حكمنا بنجاسة ذلك‬
‫المحل على الحد المقدر شرعا خاصة في عين تلك النسبة الخاصة ‪ ،‬فالنجاسة في‬
‫باّلل ‪ ،‬فالمشرك نجس العين ‪ ،‬فإذا‬
‫األشياء عوارض نسب وأعظم النجاسات الشرك ه‬
‫آمن فهو طاهر العين ‪،‬‬
‫أي عين الشرك وعين اإليمان ‪ ،‬وهذا يدل على أن النجاسة عوارض ونسب ‪ ،‬وهذه‬
‫اآلية نص في المسجد الحرام الذي بمكة بأن ال يقربه مشرك ‪ ،‬وأنه نجس ‪ ،‬فمن علل‬
‫المنع بالنجاسة وجعل النجاسة لكفره ‪ ،‬وعلل المسجد لكونه مسجدا ‪ .‬منع الكفار كيفما‬
‫كانوا من جميع المساجد ‪،‬‬
‫ومن رأى أن ذلك خاص بالمسجد الحرام ولهذا خص بالذكر وأن ما عدا المشرك وإن‬
‫كان كافرا ‪ ،‬ال يتنزل منزلته منع دخول المشرك المسجد الحرام وكل مسجد ‪،‬‬
‫ّللاُ أ َ ْن ت ُ ْرفَ َع »‬
‫ت أَذِنَ َّ‬
‫لقوله تعالى ‪ِ «:‬في بُيُو ٍ‬
‫وجوز الدخول فيه لمن ليس بمشرك ‪ ،‬ومن أخذ بالظاهر ولم يعلل منع المشرك خاصة‬
‫من المسجد الحرام خاصة ‪ ،‬فإن النبي صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم حبس في المسجد في‬
‫المدينة ثمامة بن أثال حين أسر وهو مشرك وهو األوجه ‪ ،‬ولم يمنع غير المشرك من‬
‫المسجد الحرام ومن المساجد ‪ ،‬ومنع المشرك من سائر المساجد أولى إال أن يقترن‬
‫بذلك أمر أو حالة فال بأس ‪.‬‬

‫[ سورة التوبة ( ‪ : ) 9‬آية ‪] 29‬‬


‫سولُهُ َوال‬
‫َّللاُ َو َر ُ‬
‫ون ما َح هر َم ه‬‫اّلِل َوال ِبا ْليَ ْو ِم ْاآل ِخ ِر َوال يُ َح ِ ّر ُم َ‬ ‫ِين ال يُ ْؤ ِمنُ َ‬
‫ون ِب ه ِ‬ ‫قاتِلُوا الهذ َ‬
‫طوا ا ْل ِج ْزيَةَ ع َْن يَ ٍد َو ُه ْم صا ِغ ُر َ‬
‫ون‬ ‫ِين أُوتُوا ا ْل ِك َ‬
‫تاب َحتهى يُ ْع ُ‬ ‫ِين ا ْل َح ّ ِ‬
‫ق ِم َن الهذ َ‬ ‫يَدِينُ َ‬
‫ون د َ‬
‫( ‪) 29‬‬
‫لم تضرب الجزية على المشرك ‪ ،‬وفرق بينه وبين الكفار من أهل الكتب المنزلة ‪ ،‬فإن‬
‫المشرك قادح في الحق وفي الكون بشركه ‪ ،‬فلم يكن له مستند يعصمه من القتل ‪ ،‬ألنه‬
‫قدح في التوحيد وفي الرسل ‪ ،‬والكفار من أهل الكتاب لم يقدحوا في التوحيد وال في‬
‫الكون ‪ ،‬أعني الرسل ‪ ،‬لكن قدحوا في رسول معين لهوى ‪ ،‬أو شبهة قائمة بنفوسهم ‪،‬‬
‫أداهم ما قام بهم إلى جحود الحق ظلما وعلوا مع اليقين به ‪ ،‬وإما لشبهة قامت بهم لم‬
‫يثبت صدق صاحب الدعوى عندهم ‪ ،‬فلهذا كان لهم في الجملة مستند صحيح عندهم ال‬
‫في نفس األمر ‪،‬‬

‫ص ‪243‬‬

‫ص ‪253 :‬‬
‫ّللا ‪ ،‬إبقاء عليهم وتركوا‬ ‫يعصمهم من القتل ‪ ،‬فضربت عليهم الجزية ‪ ،‬وهذا من رحمة ه‬
‫على دينهم ليقيموه أو يقيموا بعضه على قدر ما يوفقون إليه ‪.‬‬
‫وهنا نكتة لمن فهم أن دينهم مشروع لهم بشرعنا حيث قررهم عليه ‪،‬‬
‫ّللا عليه وسلم إذا سمع أن الروم قد ظهرت على فارس‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫ولهذا كان رسول ه‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ ،‬ولكن‬‫يظهر السرور في وجهه ‪ ،‬مع كون الروم كافرين به صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم كان منصفا ‪،‬‬ ‫الرسول لعلمه صلهى ه‬
‫ألنه علم أن مستند الروم لمن استند إليه أهل الحق ‪ ،‬ألنهم أهل كتاب ‪ ،‬مؤمنون به‬
‫لكنهم طرأت عليهم شبهة ‪ ،‬من تحريف أئمتهم ‪ ،‬ما أنزل عليهم ‪ ،‬حالت بينهم وبين‬
‫اإليمان واإلقرار بنبوة محمد صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم أو بعمومها ‪،‬‬
‫فعذرهم الشرع لهذا القدر الذي علمه منهم ‪،‬‬
‫وراعى فيه جناب الحق تعالى حيث وحدوده ‪ ،‬وما أشركوا به حين أشرك به فارس‬
‫وعبدة األوثان ‪ ،‬وقدحت في توحيد اإلله وما يستحقه من األحدية ‪ .‬واعلم أن كل‬
‫مشرك كافر ‪ ،‬فإن المشرك باتباع هواه فيمن أشرك واتخذه إلها ‪ ،‬وعدوله عن أحدية‬
‫اإلله ‪ ،‬يستر نفسه عن النظر في األدلة ‪ ،‬واآليات المؤدية إلى التوحيد ‪ ،‬فسمي كافرا‬
‫ّللا ‪،‬‬
‫ّللا مع ه‬‫لذلك الستر ظاهرا وباطنا ‪ ،‬وسمي مشركا لكونه نسب األلوهية إلى غير ه‬
‫فجعل لها نسبتين ‪ ،‬فأشرك فهذا الفرق بين المشرك والكافر ‪،‬‬
‫وأما الكافر الذي ليس بمشرك فهو موحد غير أنه كافر بالرسول ‪ ،‬وببعض كتابه ‪،‬‬
‫وكفره على وجهين ‪:‬‬
‫ّللا ‪،‬‬
‫َّللا ‪ ،‬مثل كفر المشرك في توحيد ه‬ ‫الوجه الواحد أن يكون كفره بما جاء من عند ّ‬
‫ّللا ‪،‬‬
‫ّللا أنه من عند ه‬
‫َّللا ‪ ،‬وبما جاء من عند ه‬‫والوجه اآلخر ‪ :‬أن يكون عالما برسول ّ‬
‫ويستر ذلك عن العامة والمقلدة من أتباعه ‪ ،‬رغبة في الرئاسة ‪،‬‬
‫وهو الذي أراد عليه السالم بقوله في كتابه إلى قيصر ‪ « :‬فإن توليت فعليك إثم‬
‫اليريسيين » يعني األتباع «‪.‬‬
‫طوا ْال ِج ْزيَةَ َ‬
‫ع ْن يَ ٍد َو ُه ْم صا ِغ ُرونَ »فيتعذبون عذابين عذابا بإخراج المال من‬ ‫َحتَّى يُ ْع ُ‬
‫أيديهم ‪ ،‬وعذاب الصغار والقهر الذي هو عذاب نفوسهم مما يجدون في ذلك من‬
‫الحرج ‪ ،‬ومما جاء في الشروط التي اشترطها أمير المؤمنين ‪،‬‬
‫ّللا عنه على أهل الذمة ‪ ،‬أن ال يحدثوا في‬ ‫وإمام المتقين عمر ابن الخطاب رضي ه‬
‫مدينتهم ‪ ،‬وال ما حولها كنيسة ‪ ،‬وال ديرا وال قلة وال صومعة راهب ‪،‬‬
‫وال يجددوا ما خرب منها ‪ ،‬وال يمنعوا كنائسهم أن ينزل بها أحد من المسلمين ثالث‬
‫ليال ‪ ،‬يطعموهم ‪ ،‬وال يؤووا جاسوسا ‪،‬‬
‫وال يكتموا غشا للمسلمين ‪ ،‬وال يعلموا أوالدهم القرآن ‪ ،‬وال يظهروا شركا ‪ ،‬وال‬
‫يمنعوا ذوي قرابتهم من اإلسالم إن أرادوه ‪ ،‬وأن يوقروا المسلمين وأن يقوموا لهم من‬
‫مجالسهم إذا أرادوا الجلوس ‪،‬‬
‫ص ‪254‬‬

‫ص ‪254 :‬‬
‫وال يتشبهوا بالمسلمين في شيء من لباسهم ‪ ،‬في قلنسوة وال عمامة وال نعلين ‪،‬‬
‫وال فرق شعر ‪ ،‬وال يتسموا بأسماء المسلمين ‪ ،‬وال يتكنوا بكناهم ‪ ،‬وال يركبوا سرجا ‪،‬‬
‫وال يتقلدوا سيفا ‪ ،‬وال يتخذوا شيئا من السالح ‪،‬‬
‫وال ينقشوا خواتيمهم بالعربية ‪ ،‬وال يبيعوا الخمور ‪ ،‬وأن يجزوا مقادم رؤوسهم ‪ ،‬وأن‬
‫يلزموا زيهم حيث ما كانوا ‪ ،‬وأن يشدوا الزنانير على أوساطهم ‪ ،‬وال يظهروا صليبا ‪،‬‬
‫وال شيئا من كتبهم في طرق المسلمين ‪،‬‬
‫وال يجاوروا موتى المسلمين بموتاهم ‪ ،‬وال يضربوا بالناقوس إال ضربا خفيفا ‪ ،‬وال‬
‫يرفعوا أصواتهم بالقراءة في كنائسهم في شيء من حضرة المسلمين ‪،‬‬
‫وال يخرجوا شعانين ‪ ،‬وال يرفعوا مع موتاهم أصواتهم ‪ ،‬وال يظهروا النيران معهم ‪،‬‬
‫وال يشتروا من الرقيق ما جرت عليهم سهام المسلمين ‪،‬‬
‫فإن خالفوا في شيء مما شورطوا عليه ‪ ،‬فال ذمة لهم ‪ ،‬وقد حل للمسلمين منهم ما يحل‬
‫من أهل المعاندة والشقاق‪.‬‬

‫[ سورة التوبة ( ‪ : ) 9‬آية ‪] 30‬‬


‫َّللا ذ ِلكَ قَ ْولُ ُه ْم ِبأ َ ْفوا ِه ِه ْم‬
‫سي ُح ا ْب ُن ه ِ‬‫ت النهصارى ا ْل َم ِ‬ ‫ت ا ْليَ ُهو ُد ع َُز ْي ٌر ا ْب ُن ه ِ‬
‫َّللا َوقالَ ِ‬ ‫َوقالَ ِ‬
‫ُون) ‪( 30‬‬ ‫َّللاُ أَنهى يُ ْؤفَك َ‬
‫ِين َكفَ ُروا ِم ْن قَ ْب ُل قاتَلَ ُه ُم ه‬ ‫ُن قَ ْو َل الهذ َ‬‫يُضا ِهؤ َ‬
‫ّللا "أي بالتبني"‬ ‫عزَ ي ٌْر اب ُْن َّ ِ‬‫ت ْاليَ ُهو ُد ‪ُ :‬‬ ‫" َوقالَ ِ‬
‫بنوة الصلب ‪ ،‬إذ لم يعرفوا له أبا وال تكون‬ ‫ّللا »يعنون ه‬ ‫ت النَّصارى ‪ْ :‬ال َم ِسي ُح اب ُْن َّ ِ‬ ‫َوقالَ ِ‬
‫ّللا ‪ ،‬من تمثل الملك لمريم بشرا سويا ‪ ،‬وجعله الحق روحا إذ‬ ‫عن أب لجهلهم بما قال ه‬
‫كان جبريل روحا ‪ ،‬فما تكون عيسى إال عن اثنين ‪ ،‬فجبريل وهب لها عيسى في النفخ‬
‫‪ ،‬فلم يشعروا بذلك كما ينفخ الروح في الصورة عند تسويتها ‪ ،‬فما عرفوا روح عيسى‬
‫وأن صورة عيسى مثل تجسد الروح ‪ ،‬ألنه عن تمثل ‪ ،‬فلو تفطنت لخلق‬ ‫وال صورته ‪ ،‬ه‬
‫عيسى لرأيت علما عظيما ‪ ،‬تقصر عنه أفهام العقالء ‪.‬‬

‫[ سورة التوبة ( ‪ : ) 9‬آية ‪] 31‬‬


‫سي َح ا ْب َن َم ْريَ َم َوما أ ُ ِم ُروا ِإاله‬‫َّللا َوا ْل َم ِ‬
‫ُون ه ِ‬‫بار ُه ْم َو ُر ْهبانَ ُه ْم أ َ ْربابا ً ِم ْن د ِ‬
‫ات ه َخذُوا أَحْ َ‬
‫ُون) ‪( 31‬‬ ‫ع هما يُش ِْرك َ‬ ‫س ْبحانَهُ َ‬
‫واحدا ً ال ِإلهَ ِإاله ُه َو ُ‬ ‫ِليَ ْعبُدُوا ِإلها ً ِ‬

‫ص ‪255‬‬

‫ص ‪255 :‬‬
‫إن من حمل العبادة هنا على األعمال ‪ ،‬ال معرفة له باللسان ‪ ،‬فالعمل صورة ‪ ،‬والعبادة‬
‫روح تلك الصورة العملية التي أنشأها المكلف ‪ ،‬فحظ المؤمن المخاطب بهذه اآلية‬
‫توحيد األمر بالعبادة من حيث أحدية العين مع كثرة األسماء اإللهية ‪ ،‬فإن حقيقة‬
‫الطالب للرزق إنما تعبد الرزاق ‪ ،‬وحقيقة الطالب للعافية إنما تعبد الشافي ‪،‬‬
‫فقيل لهم ‪ :‬ال تعبدوا إال إلها واحدا ‪ ،‬وهو أن كل اسم إلهي وإن كان يدل على معنى‬
‫يخالف اآلخر فهو أيضا يدل على عين واحدة تطلبها هذه النسب المختلفة ‪ ،‬وأما غير‬
‫المؤمنين وهم المشركون فهم الذين نسبوا األلوهة إلى غير من يستحقها ‪ ،‬ووضعوا‬
‫اسمها على غير مسماها ‪ ،‬وادعوا الكثرة فيها ‪،‬‬
‫ولذلك تعجبوا من توحيدها فقالوا ‪ «:‬أ َ َجعَ َل ْاآل ِل َهةَ ِإلها ً ِ‬
‫واحدا ً ؟‬
‫ّللا أن ال يعبدوا إال إلها واحدا ال إله إال هو » في نفس‬ ‫جاب »فأمرهم ه‬ ‫ع ٌ‬ ‫ِإ َّن هذا لَ َ‬
‫ش ْي ٌء ُ‬
‫ع َّما يُ ْش ِر ُكونَ »‬
‫سبْحانَهُ َ‬‫األمر« ُ‬

‫[ توحيد األمر بالعبادة ]‬


‫أي هو بعيد أن يشرك في ألوهته ‪ ،‬وهذا هو التوحيد العاشر في القرآن وهو توحيد‬
‫األمر بالعبادة وهو من أعجب األمر كيف يكون األمر فيما هو ذاتي للمأمور ؟ فإن‬
‫العبادة ذاتية للمخلوقين ‪ ،‬فكانت في حق المؤمنين والمشركين ما أوضحناه ‪.‬‬

‫[ سورة التوبة ( ‪ : ) 9‬اآليات ‪ 32‬إلى ‪] 34‬‬


‫ورهُ َولَ ْو ك َِر َه ا ْلكافِ ُرو َن (‬ ‫َّللا ِبأ َ ْفوا ِه ِه ْم َويَأْبَى ه‬
‫َّللاُ إِاله أ َ ْن يُتِ هم نُ َ‬ ‫ور ه ِ‬‫ُون أ َ ْن يُ ْط ِفؤُا نُ َ‬‫يُ ِريد َ‬
‫ِين ُك ِلّ ِه َولَ ْو ك َِر َه‬
‫علَى ال ّد ِ‬ ‫ق ِليُ ْظ ِه َرهُ َ‬‫ِين ا ْل َح ّ ِ‬
‫سولَهُ ِبا ْل ُهدى َود ِ‬ ‫س َل َر ُ‬ ‫‪ُ ) 32‬ه َو الهذِي أ َ ْر َ‬
‫بان لَيَأ ْ ُكلُ َ‬
‫ون أ َ ْموا َل‬ ‫الر ْه ِ‬ ‫بار َو ُّ‬‫ِين آ َمنُوا ِإ هن َكثِيرا ً ِم َن ْاألَحْ ِ‬ ‫ُون ( ‪ ) 33‬يا أَيُّ َها الهذ َ‬ ‫ا ْل ُمش ِْرك َ‬
‫ضةَ َوال يُ ْن ِفقُونَها‬ ‫ب َوا ْل ِف ه‬‫ون الذه َه َ‬‫ِين يَ ْك ِن ُز َ‬ ‫َّللا َوالهذ َ‬
‫س ِبي ِل ه ِ‬ ‫ُّون ع َْن َ‬ ‫صد َ‬ ‫باط ِل َويَ ُ‬‫اس ِبا ْل ِ‬‫النه ِ‬
‫يم ) ‪( 34‬‬ ‫ب أ َ ِل ٍ‬ ‫َّللا فَبَ ِ ّ‬
‫ش ْر ُه ْم بِعَذا ٍ‬ ‫سبِي ِل ه ِ‬‫فِي َ‬
‫ّللا على عباده في أموالهم ‪ ،‬فلما فرض‬ ‫اعلم أن ذلك كان قبل فرض الزكاة التي فرض ه‬
‫ّللا بها أموالهم ‪ ،‬وزال بأدائها اسم البخل من‬ ‫ّللا الزكاة على عباده المؤمنين ‪ ،‬طهر ه‬ ‫ه‬
‫ّللا عليه في ماله ‪ ،‬ثم فسر العذاب األليم بما هو الحال‬ ‫مؤديها ‪ ،‬فإنه قد أدى ما أوجب ه‬
‫عليه فقال تعالى‪:‬‬

‫ص ‪256‬‬

‫ص ‪256 :‬‬
‫[ سورة التوبة ( ‪ : ) 9‬آية ‪] 35‬‬
‫ور ُه ْم هذا ما َكنَ ْزت ُ ْم‬ ‫نار َج َهنه َم فَت ُ ْكوى ِبها ِجبا ُه ُه ْم َو ُجنُوبُ ُه ْم َو ُ‬
‫ظ ُه ُ‬ ‫علَ ْيها فِي ِ‬ ‫يَ ْو َم يُحْ مى َ‬
‫ون ( ‪) 35‬‬ ‫س ُك ْم فَذُوقُوا ما ُك ْنت ُ ْم ت َ ْكنِ ُز َ‬
‫ِأل َ ْنفُ ِ‬
‫[ عقوبة مانع الزكاة ]‬
‫ّللا منه الذي‬ ‫ّللا لإلنفاق فمن اكتنزه ولم يعط حق ه‬ ‫ما يراد المال لالكتناز ‪ ،‬وإنما خلقه ه‬
‫عينه له حمي عليه في نار جهنم ‪ ،‬فيكوى به جبينه ‪ ،‬فإنه أول ما يقابل به السائل‬
‫فيتغير منه إذا رآه مقبال إليه ‪ ،‬فإن السائل إذا رآه صاحب المال مقبال إليه انقبضت‬
‫أسارير جبينه ‪ ،‬لعلمه أنه يسأله من ماله ‪ ،‬فتكوى جبهته ‪ ،‬فإن السائل يعرف ذلك في‬
‫وجهه ثم إن المسؤول يتغافل عن السائل ‪ ،‬ويعطيه جانبه إعراضا عنه ‪ ،‬كأنه ما رآه ‪،‬‬
‫وكأنه ما عنده خبر منه ‪ ،‬فيكوى بها جنبه ‪ ،‬فإذا علم من السائل أنه يقصده وال بد‬
‫أعطاه ظهره ‪ ،‬وانصرف حتى ال يقابله بالسؤال ‪.‬‬
‫ّللا أنه تكوى بها ظهورهم ‪ ،‬فهذا حكم مانعي الزكاة ‪ ،‬أعني زكاة الذهب‬ ‫فأخبر ه‬
‫والفضة ‪ ،‬فصار بالكي عين المكان الذي اختزنه فيه فهو خزانته ‪ ،‬وأما زكاة الغنم‬
‫والبقر واإلبل فأمر آخر ‪ ،‬كما ورد في النص أنه يبطح لها بقاع قرقر ‪ ،‬فتنطحه‬
‫بقرونها ‪ ،‬وتطؤه بأظالفها ‪ ،‬وتعضه بأفواهها ‪ ،‬فلهذا خص الجباه والجنوب والظهور‬
‫ّللا الزكاة طهارة لألموال ‪.‬‬ ‫في الكي وأنزل ه‬

‫[ سورة التوبة ( ‪ : ) 9‬اآليات ‪ 36‬إلى ‪] 37‬‬


‫ض‬ ‫ت َو ْاأل َ ْر َ‬ ‫سماوا ِ‬ ‫ق ال ه‬ ‫َّللا يَ ْو َم َخلَ َ‬
‫ب هِ‬ ‫شهْرا ً فِي ِكتا ِ‬ ‫عش ََر َ‬ ‫َّللا اثْنا َ‬
‫ور ِع ْن َد ه ِ‬
‫ش ُه ِ‬‫إِ هن ِع هدةَ ال ُّ‬
‫ين كَافهةً َكما‬ ‫يه هن أ َ ْنفُ َ‬
‫س ُك ْم َوقاتِلُوا ا ْل ُمش ِْر ِك َ‬ ‫ِم ْنها أ َ ْربَعَةٌ ُح ُر ٌم ذ ِلكَ ال ّد ُ‬
‫ِين ا ْلقَ ِيّ ُم فَال ت َ ْظ ِل ُموا فِ ِ‬
‫ض ُّل‬‫سي ُء ِزيا َدةٌ فِي ا ْل ُك ْف ِر يُ َ‬ ‫ين ( ‪ِ ) 36‬إنه َما النه ِ‬ ‫يُقاتِلُونَ ُك ْم كَافهةً َوا ْعلَ ُموا أ َ هن ه َ‬
‫َّللا َم َع ا ْل ُمت ه ِق َ‬
‫َّللاُ فَيُ ِحلُّوا ما َح هر َم‬ ‫واطؤُا ِع هدةَ ما َح هر َم ه‬ ‫ِين َكفَ ُروا يُ ِحلُّونَهُ عاما ً َويُ َح ِ ّر ُمونَهُ عاما ً ِليُ ِ‬ ‫ِب ِه الهذ َ‬
‫ين) ‪( 37‬‬ ‫َّللاُ ال يَ ْهدِي ا ْلقَ ْو َم ا ْلكافِ ِر َ‬ ‫سو ُء أَعْما ِل ِه ْم َو ه‬‫َّللاُ ُز ِيّ َن لَ ُه ْم ُ‬
‫ه‬

‫ص ‪257‬‬

‫ص ‪257 :‬‬
‫كانت العرب تنسأ في الشهور ‪ ،‬فترد المحرم منها ‪ -‬وهي ذو القعدة وذو الحجة‬
‫والمحرم ورجب مضر ‪ -‬حالال ‪ ،‬والحالل منها حراما ‪ ،‬فجاء محمد صلهى ه‬
‫ّللا عليه‬
‫ّللا به عند خلقه ‪ ،‬فعين المحرم من الشهور‬
‫وسلم فرد الزمان إلى أصله الذي حكم ه‬
‫ّللا عليه ‪ ،‬ولهذا قال ‪:‬‬
‫على حد ما خلقها ه‬
‫ّللا ‪.‬‬
‫إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلقه ه‬

‫[ سورة التوبة ( ‪ : ) 9‬آية ‪] 38‬‬


‫ض أ َ َر ِضيت ُ ْم‬
‫َّللا اثهاقَ ْلت ُ ْم ِإلَى ْاأل َ ْر ِ‬ ‫يا أَيُّ َها الهذ َ‬
‫ِين آ َمنُوا ما لَ ُك ْم ِإذا قِي َل لَ ُك ُم ا ْن ِف ُروا فِي َ‬
‫س ِبي ِل ه ِ‬
‫ع ا ْل َحيا ِة ال ُّد ْنيا فِي ْاآل ِخ َر ِة ِإاله قَ ِلي ٌل ) ‪( 38‬‬ ‫ِبا ْل َحيا ِة ال ُّد ْنيا ِم َن ْاآل ِخ َر ِة فَما َمتا ُ‬
‫متاع الدنيا قليل ‪ ،‬فما من قبيل وال جيل ‪ ،‬إال وهو مملوك للقطمير والنقير والفتيل ‪،‬‬
‫فالكل تائه ‪ ،‬ولهذا قنعوا بالتافه ‪ ،‬فال يرضى بالحقير إال من ال يعرف قبيال من دبير ‪.‬‬

‫[ سورة التوبة ( ‪ : ) 9‬اآليات ‪ 39‬إلى ‪] 40‬‬


‫َّللاُ عَلى ُك ِ ّل‬ ‫ش ْيئا ً َو ه‬
‫غ ْي َر ُك ْم َوال تَض ُُّروهُ َ‬ ‫ست َ ْب ِد ْل قَ ْوما ً َ‬‫ِإاله ت َ ْن ِف ُروا يُعَ ِذّ ْب ُك ْم عَذابا ً أ َ ِليما ً َويَ ْ‬
‫ي اثْنَ ْي ِن ِإ ْذ‬ ‫ِين َكفَ ُروا ثانِ َ‬ ‫َّللاُ ِإ ْذ أ َ ْخ َر َجهُ الهذ َ‬ ‫ص ُروهُ فَقَ ْد نَ َ‬
‫ص َرهُ ه‬ ‫ِير ) ‪ِ ( 39‬إاله ت َ ْن ُ‬ ‫ش ْي ٍء قَد ٌ‬ ‫َ‬
‫علَ ْي ِه َوأَيه َد ُه‬‫س ِكينَتَهُ َ‬ ‫َّللا َمعَنا فَأ َ ْن َز َل ه‬
‫َّللاُ َ‬ ‫صاح ِب ِه ال تَحْ َز ْن ِإ هن ه َ‬ ‫غار ِإ ْذ يَقُو ُل ِل ِ‬ ‫ُهما ِفي ا ْل ِ‬
‫َّللاُ ع َِز ٌ‬
‫يز‬ ‫ي ا ْلعُ ْليا َو ه‬ ‫س ْفلى َو َك ِل َمةُ ه ِ‬
‫َّللا ِه َ‬ ‫ِين َكفَ ُروا ال ُّ‬ ‫بِ ُجنُو ٍد لَ ْم ت َ َر ْوها َو َجعَ َل َك ِل َمةَ الهذ َ‬
‫َح ِكي ٌم ( ‪) 40‬‬

‫« ِإ ْذ يَقُو ُل ِل ِ‬
‫صاح ِب ِه ال ت َ ْحزَ ْن ِإ َّن َّ َ‬
‫ّللا َمعَنا »حكاية اللفظ بعينه ‪ ،‬والمعية هنا معية‬
‫اختصاص ‪ ،‬ال معية عامة ‪ ،‬مثل قوله تعالى للعموم ‪ :‬وهو معكم أينما كنتم ‪ ،‬ومن هنا‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ ،‬وعلوها على رتبة غيره من الرسل ‪ ،‬فإن‬ ‫تعرف مرتبة محمد صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم في حال خوف الصديق عليه وعلى نفسه فقال‬ ‫ّللا أخبر عن محمد صلهى ه‬ ‫ه‬
‫لصاحبه يؤمنه ويفرحه ‪ ،‬إذ هما في الغار ‪ ،‬وهو كنف الحق عليهما« ال ت َ ْحزَ ْن إِ َّن َّ َ‬
‫ّللا‬
‫ّللا عليه وسلم في هذا اإلخبار مقام الحق في معيته لموسى‬ ‫َمعَنا »فقام النبي صلهى ه‬

‫ص ‪258‬‬

‫ص ‪258 :‬‬
‫وهارون ‪ ،‬وناب منابه في قوله تعالى لهما ‪ «:‬إِنَّنِي َمعَ ُكما أ َ ْس َم ُع َوأَرى »‬
‫ّللا عليه وسلم لصاحبه ‪:‬‬ ‫وقال صلهى ه‬
‫عز وجل حافظهما ‪ ،‬يعني في الغار ‪،‬‬ ‫ّللا ه‬ ‫ّللا ثالثهما » يريد أن ه‬ ‫«ما ظنك باثنين ه‬
‫زمان هجرة الدار ‪.‬‬
‫ّللا عنه ‪ ،‬ويؤيدنا قول النبي‬ ‫‪ -‬وجه آخر ‪ -‬المقالة عندنا إنما كانت ألبي بكر رضي ه‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ :‬لو كنت متخذا خليال التخذت أبا بكر خليال ‪ ،‬فالنبي صلهى ه‬
‫ّللا‬ ‫صلهى ه‬
‫عليه وسلم ليس بمصاحب ‪ ،‬وبعضهم أصحاب بعض ‪ ،‬وهم له أنصار وأعوان ‪ ،‬فإن‬
‫النبي ال يصحب إال نبوته ‪ ،‬فإنه ال يتمكن للنبي أن يكون من صاحبه بحيث ما يريد‬
‫صاحبه منه ‪ ،‬وإنما هو مع ما يوحى إليه به ‪ ،‬ال يفعل إال بحسبه ‪ ،‬فالصاحب من يترك‬
‫إرادته إلرادة صاحبه ‪ ،‬فالنبي يصحب وال يصحب ‪ ،‬فإن الناس مع الرسول بحكم ما‬
‫يشرع لهم ‪ ،‬ما هم بحكم إرادتهم ‪،‬‬
‫ش َج َر بَ ْينَ ُه ْم ‪ ،‬ث ُ َّم ال‬
‫وك فِيما َ‬ ‫برهانه قوله تعالى ‪ «:‬فَال َو َر ِبه َك ال يُؤْ ِمنُونَ َحتَّى يُ َح ِ هك ُم َ‬
‫س ِله ُموا ت َ ْس ِليما ً »‪.‬‬
‫ْت َويُ َ‬‫ضي َ‬‫يَ ِجدُوا فِي أ َ ْنفُ ِس ِه ْم َح َرجا ً ِم َّما قَ َ‬
‫فلذلك صحبوه وما صحبهم ‪ ،‬فالصحبة ال تصح إال من الطرف الواحد ‪ ،‬وهو األدنى ‪،‬‬
‫ولهذا ليست الصحبة فعل فاعلين ‪.‬‬
‫ّللا عنه واقفا مع صدقه ‪ ،‬ومحمد عليه السالم واقفا مع الحق في‬ ‫فكان أبو بكر رضي ه‬
‫الحال الذي هو عليه في ذلك الوقت ‪ ،‬فهو الحكيم ‪ ،‬كفعله يوم بدر في الدعاء واإللحاح‬
‫ّللا عليه‬ ‫‪ ،‬وأبو بكر عن ذلك صاح ‪ ،‬فإن الحكيم يوفي المواطن حقها ‪ ،‬فهو صلهى ه‬
‫وسلم صادق ذلك الوقت وحكيمه ‪ ،‬وما سواه تحت حكمه ‪ ،‬ولما لم يصح اجتماع‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ ،‬وثبت مع‬ ‫صادقين معا ‪ ،‬لذلك لم يقم أبو بكر في حال النبي صلهى ه‬
‫ّللا‬
‫ّللا عنه إلى الطالبين ‪ ،‬أسف على رسول ه‬ ‫صدقه به ‪ ،‬فلما نظر أبو بكر رضي ه‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ ،‬فأظهر الشدة ‪ ،‬وغلهب الصدق‬ ‫صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم على أبي بكر« إِ َّن‬ ‫وقال ‪ «:‬ال ت َ ْحزَ ْن »ألثر ذلك األسف الذي رآه صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم القائل لم‬ ‫ّللا َمعَنا »كما أخبرتنا ‪ .‬وإن جعل المنازع أن محمدا صلهى ه‬ ‫َّ َ‬
‫ّللا عليه وسلم الجمع والتفرقة ‪ ،‬وعلم من أبي بكر األسف‬ ‫نبال ‪ ،‬لما كان مقامه صلهى ه‬
‫‪ ،‬وعلم أن أمره مستمر ‪.‬‬
‫[ ‪ -‬تحقيق ‪ -‬أشرف مقام ينته إليه ]‬
‫ّللا عليك يقول الصديق ‪ « :‬ما رأيت شيئا إال‬ ‫‪-‬تحقيق ‪ -‬أشرف مقام ينته إليه تقدم ه‬
‫س ِكينَتَهُ‬‫ّللاُ َ‬‫ّللا َمعَنا ‪ ،‬فَأ َ ْنزَ َل َّ‬
‫رأيت هللا قبله » شهود بكري وراثة محمدية« ال ت َ ْحزَ ْن إِ َّن َّ َ‬
‫س ْفلى »الكافر هنا ‪ :‬هو‬ ‫علَ ْي ِه ‪َ ،‬وأَيَّ َدهُ بِ ُجنُو ٍد لَ ْم ت َ َر ْوها ‪َ ،‬و َجعَ َل َك ِل َمةَ الَّذِينَ َكفَ ُروا ال ُّ‬ ‫َ‬
‫ي ْالعُ ْليا »راجع سورة ‪ 8‬آية رقم ‪«61‬‬ ‫المشرك من جهة الشريك خاصة« َو َك ِل َمةُ َّ ِ‬
‫ّللا ِه َ‬
‫يز َح ِكي ٌم‪».‬‬ ‫ع ِز ٌ‬‫ّللاُ َ‬
‫َو َّ‬

‫ص ‪259‬‬

‫ص ‪259 :‬‬
‫[سورة التوبة ( ‪ : ) 9‬آية ‪] 41‬‬
‫َّللا ذ ِل ُك ْم َخ ْي ٌر لَ ُك ْم إِ ْن ُك ْنت ُ ْم‬ ‫ا ْن ِف ُروا ِخفافا ً َوثِقاالً َوجا ِهدُوا ِبأ َ ْموا ِل ُك ْم َوأ َ ْنفُ ِ‬
‫س ُك ْم فِي َ‬
‫س ِبي ِل ه ِ‬
‫ون ) ‪( 41‬‬ ‫ت َ ْعلَ ُم َ‬
‫اعلم أن الشيطان إذا رأى عزم العبد في الجهاد أخطر له أنه يقاتل ليقال ‪ ،‬رغبة منه‬
‫وحرصا أن يحبط عمل هذا العبد ‪ ،‬وكان قد أخلص النية أوال عند شروعه في القتال‬
‫ّللا ‪ ،‬فال يبالي العبد بهذا الخاطر ‪ ،‬فإن األصل الذي بني عليه‬ ‫أنه يقاتل ذابا عن دين ه‬
‫صحيح ‪ ،‬واألساس قوي ‪ ،‬وهو النية في أول الشروع‪.‬‬

‫[ سورة التوبة ( ‪ : ) 9‬آية ‪] 42‬‬


‫اّلِل‬
‫ون ِب ه ِ‬ ‫شقهةُ َو َ‬
‫سيَحْ ِلفُ َ‬ ‫علَ ْي ِه ُم ال ُّ‬
‫قاصدا ً التهبَعُوكَ َول ِك ْن بَعُدَتْ َ‬ ‫سفَرا ً ِ‬ ‫كان ع ََرضا ً قَ ِريبا ً َو َ‬ ‫لَ ْو َ‬
‫ون ) ‪( 42‬‬ ‫َّللاُ يَ ْعلَ ُم ِإنه ُه ْم لَكا ِذبُ َ‬ ‫ُون أ َ ْنفُ َ‬
‫س ُه ْم َو ه‬ ‫ست َ َط ْعنا لَ َخ َرجْ نا َمعَ ُك ْم يُ ْه ِلك َ‬
‫لَ ِو ا ْ‬
‫العرض المال وسمي السفر سفرا ألنه يسفر عن أخالق الرجال لما فيه من المشقة‬
‫والجهد ألهل الثروة واليسار ‪ ،‬فكيف حال الضعفاء ؟ ! ‪.‬‬

‫[ سورة التوبة ( ‪ : ) 9‬آية ‪] 43‬‬


‫ص َدقُوا َوت َ ْعلَ َم ا ْلكا ِذ ِب َ‬
‫ين ( ‪) 43‬‬ ‫ع ْنكَ ِل َم أ َ ِذ ْنتَ لَ ُه ْم َحتهى يَتَبَيه َن لَكَ الهذ َ‬
‫ِين َ‬ ‫عفَا ه‬
‫َّللاُ َ‬ ‫َ‬

‫ع ْن َك ِل َم أ َ ِذ ْن َ‬
‫ت لَ ُه ْم ‪ -‬اآلية ]‬ ‫عفَا َّ‬
‫ّللاُ َ‬ ‫[ َ‬
‫ّللا عليه وسلم قبل العتاب ‪ ،‬وهذه اآلية عندنا خاصة ما‬ ‫ّللا البشرى لمحمد صلهى ه‬ ‫قدم ه‬
‫فيها عتاب ‪ ،‬بل هو استفهام لمن أنصف ‪ ،‬وأعطى أهل العلم حقهم ‪ ،‬فإن مقام رسول‬
‫ّللا عليه وسلم يعطي أن ذلك استفهام ال إنكار ‪ ،‬فإنما استفهم العالم ليتميز به‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫ه‬
‫من في قلبه ريب ممن ليس في قلبه ريب ‪ ،‬فيعلم العالم من غير العالم إلقامة الحجة ‪،‬‬
‫فالسؤال هنا عن العلة ‪ ،‬ال سؤال عن توبيخ ‪ ،‬ألن العفو تقدمه ‪ ،‬فإن العفو ال سيما إذا‬
‫تقدم والتوبيخ ال يجتمعان ‪ ،‬ألنه من وبهخ فما عفا مطلقا ‪ ،‬فإن التوبيخ مؤاخذة وهو قد‬
‫عفا ‪ ،‬ولما كان هذا اللفظ قد يفهم منه في اللسان التوبيخ ‪،‬‬

‫ص ‪260‬‬

‫ص ‪260 :‬‬
‫باّلل أنه ما أراد التوبيخ الذي يظنه من ال علم له ‪،‬‬ ‫لهذا جاء بالعفو ابتداء ‪ ،‬ليتنبه العالم ه‬
‫ولذلك قال ‪َ «:‬حتَّى يَتَبَيَّنَ لَ َك »فهو استفهام كأنه يقول ‪ :‬أفعلت ذلك حتى يتبين لك«‬
‫ص َدقُوا َوت َ ْعلَ َم ْالكا ِذ ِبينَ »؟ فهو عند ذلك إما أن يقول ‪ :‬نعم أو ال ‪ ،‬فهو استفهام‬ ‫الَّذِينَ َ‬
‫اس »إلقامة الحجة ‪ ،‬فهنا قدم الحق‬ ‫ت قُ ْل َ‬
‫ت ِللنَّ ِ‬ ‫كقوله تعالى لعيسى عليه السالم ‪ «:‬أ َ أ َ ْن َ‬
‫العفو عن السؤال عندنا ‪ ،‬وعلى العتاب عند غيرنا ‪ ،‬لتعرف العناية اإللهية بأحبابه‬
‫ّللاُ ما تَقَد ََّم ِم ْن ذَ ْنبِ َك َوما تَأ َ َّخ َر »فال ذنب لمحبوب وال حسنة‬
‫قال تعالى ‪ِ «:‬ليَ ْغ ِف َر لَ َك َّ‬
‫لمحبه عند نفسه ‪.‬‬

‫[ سورة التوبة ( ‪ : ) 9‬اآليات ‪ 44‬إلى ‪] 46‬‬


‫ع ِلي ٌم‬
‫َّللاُ َ‬ ‫س ِه ْم َو ه‬‫اّلِل َوا ْليَ ْو ِم ْاآل ِخ ِر أ َ ْن يُجا ِهدُوا ِبأ َ ْموا ِل ِه ْم َوأ َ ْنفُ ِ‬
‫ون ِب ه ِ‬ ‫ستَأ ْ ِذنُكَ الهذ َ‬
‫ِين يُ ْؤ ِمنُ َ‬ ‫ال يَ ْ‬
‫ارتابَتْ قُلُوبُ ُه ْم‬ ‫اّلِل َوا ْليَ ْو ِم ْاآل ِخ ِر َو ْ‬ ‫ون ِب ه ِ‬ ‫ستَأ ْ ِذنُكَ الهذ َ‬
‫ِين ال يُ ْؤ ِمنُ َ‬ ‫ين ( ‪ِ ) 44‬إنهما يَ ْ‬ ‫ِبا ْل ُمت ه ِق َ‬
‫ع هدةً َول ِك ْن ك َِر َه ه‬
‫َّللاُ‬ ‫عدُّوا لَهُ ُ‬ ‫ج َأل َ َ‬‫ُون ( ‪َ ) 45‬ولَ ْو أَرادُوا ا ْل ُخ ُرو َ‬ ‫فَ ُه ْم فِي َر ْيبِ ِه ْم يَت َ َر هدد َ‬
‫ِين ( ‪) 46‬‬ ‫اقعُدُوا َم َع ا ْلقا ِعد َ‬ ‫ا ْنبِعاث َ ُه ْم فَثَبه َط ُه ْم َوقِي َل ْ‬
‫ّللاُ ا ْن ِبعاث َ ُه ْم »ألنهم األشقياء أبصروا سوء الغاية بعين المخالفة والغواية ‪.‬‬ ‫« َول ِك ْن َك ِرهَ َّ‬

‫[ سورة التوبة ‪( 9 ) :‬اآليات ‪ 47‬إلى ‪] 60‬‬


‫س هماع َ‬
‫ُون‬ ‫ضعُوا ِخاللَ ُك ْم يَ ْبغُونَ ُك ُم ا ْل ِفتْنَةَ َوفِي ُك ْم َ‬ ‫لَ ْو َخ َر ُجوا فِي ُك ْم ما زادُو ُك ْم إِاله َخباالً َو َأل َ ْو َ‬
‫ور َحتهى جا َء‬ ‫ين ( ‪ ) 47‬لَقَ ِد ا ْبتَغَ ُوا ا ْل ِفتْنَةَ ِم ْن قَ ْب ُل َوقَلهبُوا لَكَ ْاأل ُ ُم َ‬ ‫ظا ِل ِم َ‬ ‫ع ِلي ٌم بِال ه‬ ‫لَ ُه ْم َو ه‬
‫َّللاُ َ‬
‫ون ( ‪َ ) 48‬و ِم ْن ُه ْم َم ْن يَقُو ُل ائْذَ ْن ِلي َوال ت َ ْفتِ ِنّي أَال فِي‬ ‫كار ُه َ‬ ‫َّللا َو ُه ْم ِ‬ ‫ق َو َظ َه َر أ َ ْم ُر ه ِ‬ ‫ا ْل َح ُّ‬
‫س ْؤ ُه ْم َو ِإ ْن‬ ‫سنَةٌ ت َ ُ‬
‫ين ( ‪ِ ) 49‬إ ْن ت ُ ِص ْبكَ َح َ‬ ‫طوا َو ِإ هن َج َهنه َم لَ ُم ِحي َطةٌ ِبا ْلكافِ ِر َ‬ ‫سقَ ُ‬ ‫ا ْل ِفتْنَ ِة َ‬
‫ون ( ‪ ) 50‬قُ ْل لَ ْن‬ ‫ت ُ ِص ْبكَ ُم ِصيبَةٌ يَقُولُوا قَ ْد أ َ َخ ْذنا أ َ ْم َرنا ِم ْن قَ ْب ُل َويَت َ َوله ْوا َو ُه ْم فَ ِر ُح َ‬
‫ون ) ‪( 51‬‬ ‫َّللا فَ ْليَت َ َو هك ِل ا ْل ُم ْؤ ِمنُ َ‬
‫علَى ه ِ‬ ‫َّللاُ لَنا ُه َو َم ْوالنا َو َ‬ ‫ب ه‬ ‫يُ ِصيبَنا ِإاله ما َكت َ َ‬
‫ب ِم ْن‬ ‫َّللاُ بِعَذا ٍ‬ ‫ص بِ ُك ْم أ َ ْن يُ ِصيبَ ُك ُم ه‬‫سنَيَ ْي ِن َونَحْ ُن نَت َ َربه ُ‬ ‫ون بِنا إِاله إِحْ دَى ا ْل ُح ْ‬ ‫ص َ‬ ‫قُ ْل َه ْل ت َ َربه ُ‬
‫ون ( ‪ ) 52‬قُ ْل أ َ ْن ِفقُوا َط ْوعا ً أ َ ْو ك َْرها ً لَ ْن‬ ‫ص َ‬ ‫صوا إِنها َمعَ ُك ْم ُمت َ َر ِبّ ُ‬ ‫ِع ْن ِد ِه أ َ ْو بِأ َ ْيدِينا فَت َ َربه ُ‬
‫ين ( ‪َ ) 53‬وما َمنَعَ ُه ْم أ َ ْن ت ُ ْقبَ َل ِم ْن ُه ْم نَفَقات ُ ُه ْم ِإاله أَنه ُه ْم‬ ‫س ِق َ‬ ‫يُتَقَبه َل ِم ْن ُك ْم ِإنه ُك ْم ُك ْنت ُ ْم قَ ْوما ً فا ِ‬
‫ون (‬ ‫كار ُه َ‬ ‫ون ِإاله َو ُه ْم ِ‬ ‫صالةَ ِإاله َو ُه ْم كُسالى َوال يُ ْن ِفقُ َ‬ ‫ون ال ه‬ ‫سو ِل ِه َوال يَأْت ُ َ‬ ‫اّلِل َو ِب َر ُ‬‫َكفَ ُروا ِب ه ِ‬
‫َّللاُ ِليُعَ ِذّبَ ُه ْم ِبها فِي ا ْل َحيا ِة ال ُّد ْنيا‬‫‪ ) 54‬فَال ت ُ ْع ِج ْبكَ أ َ ْموالُ ُه ْم َوال أ َ ْوال ُد ُه ْم ِإنهما يُ ِري ُد ه‬
‫اّلِل ِإنه ُه ْم لَ ِم ْن ُك ْم َوما ُه ْم ِم ْن ُك ْم َول ِكنه ُه ْم‬ ‫ون ِب ه ِ‬ ‫ون ( ‪َ ) 55‬ويَحْ ِلفُ َ‬ ‫س ُه ْم َو ُه ْم كا ِف ُر َ‬ ‫ق أ َ ْنفُ ُ‬‫َوت َ ْز َه َ‬
‫ون ) ‪( 56‬‬ ‫قَ ْو ٌم يَ ْف َرقُ َ‬
‫ون ( ‪َ ) 57‬و ِم ْن ُه ْم َم ْن‬ ‫ت أ َ ْو ُم هد َخالً لَ َوله ْوا إِلَ ْي ِه َو ُه ْم يَجْ َم ُح َ‬ ‫ُون َم ْل َجأ ً أ َ ْو َمغارا ٍ‬ ‫لَ ْو يَ ِجد َ‬
‫ون (‬ ‫ط َ‬ ‫س َخ ُ‬‫طوا ِم ْنها َرضُوا َو ِإ ْن لَ ْم يُ ْع َط ْوا ِم ْنها ِإذا ُه ْم يَ ْ‬ ‫ت فَ ِإ ْن أ ُ ْع ُ‬ ‫صدَقا ِ‬ ‫يَ ْل ِم ُزكَ فِي ال ه‬
‫ض ِل ِه‬ ‫َّللاُ ِم ْن فَ ْ‬ ‫سيُ ْؤتِينَا ه‬ ‫سبُنَا ه‬
‫َّللاُ َ‬ ‫سولُهُ َوقالُوا َح ْ‬ ‫َّللاُ َو َر ُ‬ ‫‪َ ) 58‬ولَ ْو أَنه ُه ْم َرضُوا ما آتا ُه ُم ه‬
‫عام ِل َ‬
‫ين‬ ‫ين َوا ْل ِ‬ ‫راء َوا ْل َمسا ِك ِ‬‫صدَقاتُ ِل ْلفُقَ ِ‬ ‫ون ( ‪ِ ) 59‬إنه َما ال ه‬ ‫َّللا را ِغبُ َ‬ ‫سولُهُ ِإنها ِإلَى ه ِ‬ ‫َو َر ُ‬
‫ضة ً‬ ‫س ِبي ِل فَ ِري َ‬ ‫َّللا َوا ْب ِن ال ه‬
‫س ِبي ِل ه ِ‬ ‫ين َو ِفي َ‬ ‫غار ِم َ‬ ‫ب َوا ْل ِ‬ ‫الرقا ِ‬ ‫علَ ْيها َوا ْل ُم َؤلهفَ ِة قُلُوبُ ُه ْم َو ِفي ِ ّ‬ ‫َ‬
‫ع ِلي ٌم َح ِكي ٌم) ‪( 60‬‬ ‫َّللاُ َ‬ ‫ِم َن ه ِ‬
‫َّللا َو ه‬
‫ص ‪261‬‬
‫ص ‪261 :‬‬
‫ّللا في مال اإلنسان الزكاة حقا ألصناف مذكورين ‪ ،‬فأوجب على أصحاب‬
‫جعل ه‬
‫األموال على وجه مخصوص إخراجها ‪ ،‬وأوجب على اإلمام أخذها ‪ ،‬ولم يوجب على‬
‫األصناف أخذها ‪ ،‬فهم مخيرون في أخذ حقهم وفي تركه كسائر الحقوق فمن أخذها‬
‫منهم‬

‫ص ‪262‬‬

‫ص ‪262 :‬‬
‫أخذ حقه ‪ ،‬ومن ترك أخذها ترك حقه وله ذلك ‪ .‬والذي أذهب إليه أنه من وجد من‬
‫هؤالء األصناف قسمت عليهم الصدقة بحسب ما يوجد منهم ‪ ،‬لكن على األصناف ‪ ،‬ال‬
‫على األشخاص ولو لم يوجد من صنف منهم إال شخص واحد دفع إليه قسم ذلك‬
‫الصنف ‪ ،‬وإن وجد من الصنف أكثر من شخص واحد قسم على الموجودين منه ما‬
‫سمه في ذلك البلد‬ ‫تعين لذلك الصنف ‪ ،‬قل األشخاص أو كثروا ‪ ،‬وكذلك العامل عليها ق ه‬
‫بحسب ما يوجد من األصناف ‪ ،‬فإن وجد الكل ‪ ،‬فلكل صنف ثمن الصدقة ‪ ،‬إلى سبع‬
‫ّللا بالذكر في العطاء ‪،‬‬ ‫وسدس وخمس وربع وثلث ونصف والكل ثم إنا نقدم من قدم ه‬
‫ّللا في هذه األموال ‪ ،‬فواجب على من‬ ‫والزكاة وإن كانت لهؤالء األصناف ‪ ،‬فإنها حق ه‬
‫أعطيها أن يأخذها ‪ ،‬فإن للعبد أن يأكل من مال سيده ‪ ،‬فإنه حقه ‪ ،‬وإنما حرمت على‬
‫أهل البيت تخصيصا إلضافة األموال إلى الخلق في قوله ‪ُ «:‬خ ْذ ِم ْن أ َ ْموا ِل ِه ْم »أي‬
‫ّللا ‪ ،‬وما قدم الحق الفقراء بالذكر وفوقهم من هو أشد‬ ‫إضافة الزكاة إلى الخلق ال إلى ه‬
‫حاجة منهم ‪ ،‬ال مسكين وال غيره ‪ ،‬فإن الفقير هو الذي انكسر فقار ظهره ‪ ،‬فال يقدر‬
‫على أن يقيم ظهره وصلبه ‪ ،‬فال يزال منكسرا ‪ ،‬وهو الذي يجب إعطاء الصدقة له ‪،‬‬
‫وواجب عليه أخذها إذا أعطيها ‪ ،‬وال يسألها أصال ‪ ،‬فإن الفقير هو الذي يفتقر إلى كل‬
‫شيء ‪ ،‬وال يفتقر إليه شيء ‪ ،‬والمسكين هو من يدبره غيره ‪ ،‬فهو من السكون ‪ ،‬وهو‬
‫ّللا ‪ .‬والعاملين عليها ‪ ،‬وهم الجامعون لها‬ ‫ضد الحركة ‪ ،‬فهو المسلم المفوض أمره إلى ه‬
‫ممن تجب عليهم ‪ ،‬والمؤلفة قلوبهم ‪ :‬هم الذين يتألفهم اإلحسان على حب المحسن ‪،‬‬
‫وفي الرقاب ‪ :‬وهم الذين يطلبون الحرية من الرق ‪ ،‬والغارمين ‪ :‬وهم الذين أقرضوا‬
‫ّللا ‪ :‬يمكن أن يريد المجاهدين ‪،‬‬ ‫ّللا قرضا حسنا ومنهم أصحاب الديون ‪ ،‬وفي سبيل ه‬ ‫ه‬
‫ّللا عند الشرع هو الجهاد واألظهر ‪،‬‬ ‫واإلنفاق منها في الجهاد ‪ ،‬فإن العرف في سبيل ه‬
‫ّللا ‪ ،‬وهو‬‫ّللا سبل الخير كلها ‪ ،‬المقربة إلى ه‬ ‫وفي هذه اآلية مع أنه يمنك أن يريد بسبيل ه‬
‫ما تقتضيه المصلحة العامة لكل إنسان ‪ ،‬بل لكل حيوان ونبات ‪ ،‬حتى الشجرة يراها‬
‫تموت عطشا فيكون عنده بما يشتري لها ما يسقيها به من مال الزكاة فيسقيها بذلك ‪،‬‬
‫ّللا وال قائل بهذا ‪ ،‬ويدخل في المجاهدين المجاهدون أنفسهم أيضا في‬ ‫فإنه من سبيل ه‬
‫ّللا عليه وسلم ‪:‬‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫ّللا ‪ ،‬فيعاونون بذلك على جهاد أنفسهم ‪ ،‬قال رسول ه‬ ‫سبيل ه‬
‫رجعتم من الجهاد األصغر ‪ ،‬إلى الجهاد األكبر يريد جهاد النفوس ومخالفتها في‬
‫ّللا تعالى ‪ ،‬وابن السبيل ‪ :‬وهم‬
‫أغراضها الصارفة عن طريق ه‬

‫‪263‬‬

‫ص ‪263 :‬‬
‫ّللا لهؤالء المذكورين فال يجوز أن تعطى‬
‫ّللا » *أي فرضها ه‬ ‫ضةً ِمنَ َّ ِ‬ ‫معلومون «فَ ِري َ‬
‫ع ِلي ٌم َح ِكي ٌم » *‬
‫ّللاُ َ‬
‫إلى سواهم« َو َّ‬
‫‪ -‬إشارة واعتبار ‪ -‬إذا قابلنا األصناف التي تجب لهم الزكاة ‪ ،‬باألعضاء المكلفة من‬
‫اإلنسان ‪ ،‬نجد أن الفقراء يوازنهم من األعضاء ‪ :‬الفرج ‪ ،‬والمساكين يوازنهم ‪ :‬البطن‬
‫‪ ،‬ويوازن العاملين ‪ :‬القلب ‪ ،‬ويوازن المؤلفة قلوبهم ‪ :‬السمع ‪ ،‬ويوازن الرقاب ‪:‬‬
‫بالبصر ‪ ،‬ويوازن الغارمين ‪ :‬باليد ‪ ،‬ويوازن المجاهدين ‪ :‬باللسان ‪ ،‬ويوازن ابن‬
‫السبيل ‪ :‬الرجل ‪ ،‬فالفقر في الفرج واضح ‪ ،‬وكذلك المسكنة في الباطن ظاهر ‪،‬‬
‫والعامل بالقلب صريح ‪ ،‬والمؤلفة قلوبهم بالسمع بيهن ‪ ،‬والرقاب بالبصر واقع ‪،‬‬
‫والغارم باليد إفصاح ‪ ،‬والمجاهد باللسان صحيح ‪ ،‬وابن السبيل بالرجل أوضح من‬
‫الكل ‪.‬‬

‫[ سورة التوبة ( ‪ : ) 9‬اآليات ‪ 61‬إلى ‪] 67‬‬


‫ون ُه َو أُذُ ٌن قُ ْل أُذُ ُن َخ ْي ٍر لَ ُك ْم يُ ْؤ ِم ُن بِ ه ِ‬
‫اّلِل َويُ ْؤ ِم ُن‬ ‫ي َويَقُولُ َ‬ ‫ون النهبِ ه‬ ‫ِين يُ ْؤذُ َ‬ ‫َو ِم ْن ُه ُم الهذ َ‬
‫َذاب أ َ ِلي ٌم ( ‪) 61‬‬ ‫َّللا لَ ُه ْم ع ٌ‬ ‫سو َل ه ِ‬ ‫ون َر ُ‬ ‫ِين يُ ْؤذُ َ‬ ‫ِين آ َمنُوا ِم ْن ُك ْم َوالهذ َ‬ ‫ين َو َرحْ َمةٌ ِللهذ َ‬ ‫ِل ْل ُم ْؤ ِمنِ َ‬
‫ين ( ‪ ) 62‬أ َ‬ ‫ق أ َ ْن يُ ْرضُوهُ ِإ ْن كانُوا ُم ْؤ ِمنِ َ‬ ‫سولُهُ أ َ َح ُّ‬ ‫اّلِل لَ ُك ْم ِليُ ْرضُو ُك ْم َو ه‬
‫َّللاُ َو َر ُ‬ ‫ون ِب ه ِ‬‫يَحْ ِلفُ َ‬
‫ي ا ْلعَ ِظي ُم (‬ ‫نار َج َهنه َم خا ِلدا ً ِفيها ذ ِلكَ ا ْل ِخ ْز ُ‬ ‫سولَهُ فَأ َ هن لَهُ َ‬ ‫لَ ْم يَ ْعلَ ُموا أَنههُ َم ْن يُحا ِد ِد ه َ‬
‫َّللا َو َر ُ‬
‫ستَه ِْزؤُا إِ هن‬ ‫ورةٌ تُنَ ِبّئ ُ ُه ْم بِما فِي قُلُوبِ ِه ْم قُ ِل ا ْ‬ ‫س َ‬ ‫ون أ َ ْن تُنَ هز َل َ‬
‫علَ ْي ِه ْم ُ‬ ‫‪ ) 63‬يَحْ ذَ ُر ا ْل ُمنافِقُ َ‬
‫ب قُ ْل أ َ بِ ه ِ‬
‫اّلِل‬ ‫وض َونَ ْلعَ ُ‬ ‫سأ َ ْلت َ ُه ْم لَيَقُولُ هن إِنهما ُكنها نَ ُخ ُ‬ ‫ون ( ‪َ ) 64‬ولَئِ ْن َ‬ ‫ج ما تَحْ ذَ ُر َ‬ ‫َّللا ُم ْخ ِر ٌ‬
‫هَ‬
‫ُن ) ‪( 65‬‬ ‫ستَه ِْزؤ َ‬ ‫سو ِل ِه ُك ْنت ُ ْم ت َ ْ‬ ‫َوآياتِ ِه َو َر ُ‬
‫ِب طائِفَةً ِبأَنه ُه ْم كانُوا‬ ‫ف ع َْن طائِفَ ٍة ِم ْن ُك ْم نُعَذّ ْ‬ ‫ال ت َ ْعتَذ ُِروا قَ ْد َكفَ ْرت ُ ْم بَ ْع َد ِإيمانِ ُك ْم ِإ ْن نَ ْع ُ‬
‫ض يَأ ْ ُم ُر َ‬
‫ون ِبا ْل ُم ْنك َِر َويَ ْن َه ْو َن‬ ‫ض ُه ْم ِم ْن بَ ْع ٍ‬ ‫ون َوا ْل ُمنافِقاتُ بَ ْع ُ‬ ‫ين ( ‪) 66‬ا ْل ُمنافِقُ َ‬ ‫ُمجْ ِر ِم َ‬
‫ون) ‪( 67‬‬ ‫سقُ َ‬ ‫ين ُه ُم ا ْلفا ِ‬ ‫سيَ ُه ْم ِإ هن ا ْل ُمنا ِف ِق َ‬ ‫َّللا فَنَ ِ‬
‫سوا ه َ‬ ‫ُون أ َ ْي ِديَ ُه ْم نَ ُ‬
‫وف َويَ ْق ِبض َ‬ ‫ع َِن ا ْل َم ْع ُر ِ‬

‫ص ‪264‬‬

‫ص ‪264 :‬‬
‫ّللا فَنَ ِسيَ ُه ْم » ]‬
‫سوا َّ َ‬ ‫[ « نَ ُ‬
‫ّللا فَنَ ِسيَ ُه ْم »‪ -‬الوجه األول ‪ -‬النسيان ‪ :‬نعت إلهي فنسيهم كما يليق بجالله ‪.‬‬ ‫سوا َّ َ‬ ‫« نَ ُ‬
‫ّللا فلم يعملوا به «فَنَ ِسيَ ُه ْم »فأخرهم ه‬
‫ّللا‬ ‫ّللا »‪ :‬أي أخروا أمر ه‬ ‫سوا َّ َ‬‫‪-‬الوجه الثاني ‪ «-‬نَ ُ‬
‫في النار حين أخرج منها من أدخله فيها من غيرهم ‪-‬الوجه الثالث ‪ «-‬فَنَ ِسيَ ُه ْم »أي‬
‫أنه تعالى لما عذبهم عذاب األبد ‪ ،‬ولم تنلهم رحمته تعالى صاروا كأنهم منسيون ‪،‬‬
‫عنده ‪ ،‬وهو كأنه ناس لهم ‪ ،‬أي هذا فعل الناسي ‪ ،‬ومن ال يتذكر ما هم فيه من أليم‬
‫ّللا ‪ ،‬فجازاهم بفعلهم ففعلهم أعاده عليهم‬ ‫العذاب ‪ ،‬وذلك ألنهم في حياتهم الدنيا نسوا ه‬
‫ّللا فَنَ ِسيَ ُه ْم »أي‬
‫سوا َّ َ‬
‫للمناسبة ‪ . -‬الوجه الرابع ‪ -‬من باب اإلشارة ال التفسير ‪ «-‬نَ ُ‬
‫ّللا الحق الذي يستحقونه ‪ ،‬فلم يؤاخذهم وال آخذهم أخذ األبد ‪،‬‬ ‫ّللا ‪ ،‬فترك ه‬ ‫تركوا حق ه‬
‫فغفر لهم ورحمهم ‪ ،‬وهذا يخالف ما فهمه علماء الرسوم ‪ ،‬ألن الناسي هنا إذا لم ينس‬
‫ّللا فترك حق‬ ‫ّللا ‪ ،‬فإنه ما شرعه إال ه‬ ‫ّللا بإتيانه شرعا فقد نسي ه‬ ‫ّللا الذي أمره ه‬ ‫إال حق ه‬
‫ّللا كرمه فيه ‪ ،‬فترك حقه ولم يكن حق مثل هذا إال ما يستحقه وهو‬ ‫ّللا ‪ ،‬فأظهر ه‬ ‫ه‬
‫ّللا عليهم منة منه ابتداء ‪،‬‬ ‫العقاب ‪ ،‬فعفا عنه تركا بترك ‪ ،‬مقوال بلفظ النسيان ‪ ،‬فأفضل ه‬
‫ّللا يقول في تمام هذه اآلية ‪ِ «:‬إ َّن ْال ُمنافِ ِقينَ ُه ُم ْالفا ِسقُونَ »ولم يقل إنهم هم‬ ‫أال ترى ه‬
‫الفاسقون فقوله تعالى ‪ِ «:‬إ َّن ْال ُمنافِ ِقينَ ُه ُم ْالفا ِسقُونَ »ابتداء كالم آخر ما فيه ضمير‬
‫يعود على هؤالء المذكورين ‪ ،‬وكل منافق فاسق ‪ ،‬ألنه خارج من كل باب ‪ ،‬فيخرج‬
‫للمؤمنين بصورة ما هم عليه ‪ ،‬ويخرج للكافرين بصورة ما هم عليه ‪.‬‬

‫[ سورة التوبة ( ‪ : ) 9‬اآليات ‪ 68‬إلى ‪] 69‬‬


‫سبُ ُه ْم َولَعَنَ ُه ُم ه‬
‫َّللاُ‬ ‫ي َح ْ‬ ‫ِين فِيها ِه َ‬ ‫نار َج َهنه َم خا ِلد َ‬‫ار َ‬ ‫ت َوا ْل ُكفه َ‬
‫ين َوا ْل ُمنافِقا ِ‬ ‫َّللاُ ا ْل ُمنافِ ِق َ‬
‫ع َد ه‬‫َو َ‬
‫ش هد ِم ْن ُك ْم قُ هوةً َوأ َ ْكث َ َر أ َ ْمواالً َوأ َ ْوالدا ً‬
‫ِين ِم ْن قَ ْب ِل ُك ْم كانُوا أ َ َ‬ ‫َذاب ُم ِقي ٌم ( ‪ ) 68‬كَالهذ َ‬ ‫َولَ ُه ْم ع ٌ‬
‫ِين ِم ْن قَ ْب ِل ُك ْم ِب َخال ِق ِه ْم َو ُخ ْ‬
‫ضت ُ ْم‬ ‫ست َ ْمت َ َع الهذ َ‬ ‫ست َ ْمتَعُوا ِب َخال ِق ِه ْم فَا ْ‬
‫ست َ ْمت َ ْعت ُ ْم ِب َخال ِق ُك ْم َك َما ا ْ‬ ‫فَا ْ‬
‫ون ( ‪69‬‬ ‫كَالهذِي خاضُوا أُولئِكَ َحبِ َطتْ أَعْمالُ ُه ْم فِي ال ُّد ْنيا َو ْاآل ِخ َر ِة َوأُولئِكَ ُه ُم ا ْلخا ِ‬
‫س ُر َ‬
‫)‬
‫ت أَعْمالُ ُه ْم فِي ال ُّد ْنيا َو ْاآل ِخ َرةِ "‪.‬‬ ‫ط ْ‬ ‫قال تعالى فيمن يموت وهو كافر" َحبِ َ‬

‫ص ‪265‬‬

‫ص ‪265 :‬‬
‫[سورة التوبة ( ‪ : ) 9‬اآليات ‪ 70‬إلى ‪] 72‬‬
‫ب َم ْديَ َن‬ ‫ِين ِم ْن قَ ْب ِل ِه ْم قَ ْو ِم نُوحٍ َوعا ٍد َوث َ ُمو َد َوقَ ْو ِم إِ ْبرا ِهي َم َوأَصْحا ِ‬ ‫أ َ لَ ْم يَأْتِ ِه ْم نَبَأ ُ الهذ َ‬
‫س ُه ْم يَ ْظ ِل ُمو َن (‬ ‫َّللاُ ِليَ ْظ ِل َم ُه ْم َول ِك ْن كانُوا أ َ ْنفُ َ‬
‫كان ه‬‫ت فَما َ‬ ‫ت أَتَتْ ُه ْم ُر ُ‬
‫سلُ ُه ْم ِبا ْلبَ ِيّنا ِ‬ ‫َوا ْل ُم ْؤت َ ِفكا ِ‬
‫وف َويَ ْن َه ْو َن ع َِن‬ ‫ون ِبا ْل َم ْع ُر ِ‬‫ض يَأ ْ ُم ُر َ‬ ‫ض ُه ْم أ َ ْو ِليا ُء بَ ْع ٍ‬ ‫ون َوا ْل ُم ْؤ ِمناتُ بَ ْع ُ‬ ‫‪َ ) 70‬وا ْل ُم ْؤ ِمنُ َ‬
‫َّللاُ‬
‫سيَ ْر َح ُم ُه ُم ه‬ ‫سولَهُ أُول ِئكَ َ‬ ‫َّللا َو َر ُ‬
‫ون ه َ‬ ‫الزكاةَ َويُ ِطيعُ َ‬ ‫ون ه‬ ‫صالةَ َويُ ْؤت ُ َ‬ ‫ون ال ه‬ ‫ا ْل ُم ْنك َِر َويُ ِقي ُم َ‬
‫ت تَجْ ِري ِم ْن تَحْ تِ َها‬ ‫ت َجنها ٍ‬ ‫ين َوا ْل ُم ْؤ ِمنا ِ‬ ‫َّللاُ ا ْل ُم ْؤ ِمنِ َ‬
‫ع َد ه‬ ‫يز َح ِكي ٌم ( ‪َ ) 71‬و َ‬ ‫َّللا ع َِز ٌ‬
‫إِ هن ه َ‬
‫َّللا أ َ ْكبَ ُر ذ ِلكَ ُه َو‬
‫وان ِم َن ه ِ‬
‫ض ٌ‬ ‫عد ٍْن َو ِر ْ‬ ‫ت َ‬ ‫ِين فِيها َو َمسا ِك َن َط ِيّبَةً فِي َجنها ِ‬ ‫هار خا ِلد َ‬ ‫ْاأل َ ْن ُ‬
‫ا ْلفَ ْو ُز ا ْلعَ ِظي ُم ) ‪( 72‬‬
‫جنة عدن أشرف الجنان ألنها قصب الجنة ‪ ،‬والقصبة حيث تكون دار الملك ‪ ،‬وهي‬
‫دار تورث من قصدها اإلمداد والفتح في العلم اإللهي ‪ ،‬الذي يعطي المشاهدة ‪ ،‬فإن بها‬
‫كثيب المسك األبيض ‪ ،‬وهو موطن الزور األعظم ‪ ،‬والرؤية العامة ‪ ،‬والكثيب أشرف‬
‫ّللا تعالى بيده ‪ ،‬دون سائر الجنات ‪ ،‬وجعلها له كالقلعة‬ ‫مكان في جنة عدن التي خلقها ه‬
‫للملك ‪ ،‬وجعل فيها الكثيب األبيض من المسك ‪ ،‬التي يتجلى فيها الرب لعباده عند‬
‫الرؤية ‪ ،‬كالمسك بفتح الميم من الحيوان وهو الجلد وهو الغشاء الظاهر لألبصار من‬
‫الحيوان ‪ ،‬وأدار الحق تعالى بجنة عدن سائر الجنات ‪ ،‬وبين كل جنة وجنة سور‬
‫يميزها عن صاحبتها ‪ ،‬وسمى كل جنة باسم معناه سار في كل جنة ‪ ،‬وإن اختصت‬
‫هي بذلك االسم فإن ذلك االسم الذي اختصت به أمكن ما هي عليه من معناه وأفضله ‪،‬‬
‫والجنات هي جنة عدن ‪ ،‬وجنة الفردوس ‪ ،‬وجنة النعيم ‪ ،‬وجنة المأوى ‪ ،‬وجنة الخلد ‪،‬‬
‫وجنة السالم ‪ ،‬وجنة المقامة والوسيلة ‪ ،‬وهي أعلى جنة في الجنات ‪ ،‬فإنها في كل جنة‬
‫ّللا‬
‫من جنة عدن ‪ ،‬إلى آخر جنة فلها في كل جنة صورة ‪ ،‬وهي مخصوصة برسول ه‬
‫ّللا ‪ ،‬حيث نال الناس السعادة‬ ‫ّللا عليه وسلم وحده ‪ ،‬نالها بدعاء أمته حكمة من ه‬ ‫صلهى ه‬
‫ّللا إلى الناس من أحكامه جزاء‬ ‫نزل ه‬ ‫ّللا ‪ ،‬وتبيينه ما ه‬ ‫ببركة بعثته ودعائه إياهم إلى ه‬
‫وفاقا ‪ ،‬وجعل‬

‫ص ‪266‬‬

‫ص ‪266 :‬‬
‫في كل جنة مائة درجة بعدد األسماء الحسنى ‪ ،‬واالسم األعظم المسكوت عنه لوترية‬
‫األسماء ‪ ،‬وهو االسم الذي يتميز به الحق عن العالم هو الناظر إلى درجة الوسيلة‬
‫خاصة ‪ ،‬وله في كل جنة حكم ‪ ،‬كما له حكم اسم إلهي ‪ .‬ومنازل الجنة على عدد آي‬
‫القرآن ‪ ،‬ما بلغ إلينا منه نلنا تلك المنزلة بالقراءة ‪ ،‬وما لم يبلغ إلينا نلناه باالختصاص‬
‫في جنات االختصاص ‪ ،‬كما نلنا بالميراث جنات أهل النار الذين هم أهلها ‪ ،‬وأبواب‬
‫الجنة ثمانية على عدد أعضاء التكليف ‪ ،‬وهي العين واألذن واللسان واليد والبطن‬
‫والفرج والرجل والقلب ‪ ،‬وقد يقوم اإلنسان في زمن واحد بأعمال هذه األعضاء كلها ‪،‬‬
‫فيدخل من أبواب الجنة الثمانية ‪ ،‬في حال دخوله من كل باب منها ‪ ،‬فإن نشأة اآلخرة‬
‫تشبه البرزخ ‪ ،‬وباطن اإلنسان من حيث ما هو ذو خيال ‪ ،‬وأ هما خوخات الجنة فتسع‬
‫وسبعون خوخة ‪ ،‬وهي شعب اإليمان بضع وسبعون شعبة ‪ ،‬ولكل شعبة من اإليمان ‪،‬‬
‫ّللا أ َ ْكبَ ُر ذ ِل َك ُه َو ْالفَ ْو ُز ْالعَ ِظي ُم ‪».‬راجع سورة ‪75‬‬ ‫طريق إلى الجنة« َو ِرض ٌ‬
‫ْوان ِمنَ َّ ِ‬
‫آية ‪ 23‬حديث أبي بكر النقاش ‪.‬‬

‫[ سورة التوبة ( ‪ : ) 9‬آية ‪] 73‬‬


‫علَ ْي ِه ْم َو َمأْوا ُه ْم َج َهنه ُم َو ِبئْ َ‬
‫س ا ْل َم ِص ُ‬
‫ير‬ ‫ين َوا ْغلُ ْظ َ‬
‫ار َوا ْل ُمنافِ ِق َ‬
‫ي جا ِه ِد ا ْل ُكفه َ‬ ‫يا أَيُّ َها النه ِب ُّ‬
‫(‪(73‬‬
‫ّللا عليه وسلم قال‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫وذلك إلظهار عزة اإليمان بعز المؤمن ‪ ،‬ثبت أن رسول ه‬
‫في غزوة وقد تراءى الجمعان ‪ :‬من يأخذ هذا السيف بحقه ؟‬
‫فأخذه أبو دجانة ‪ ،‬فمشى به بين الصفين خيالء ‪ ،‬مظهرا اإلعجاب والتبختر ‪ ،‬فقال‬
‫ّللا ورسوله ‪ ،‬إال في هذا الموطن‬ ‫ّللا عليه وسلم ‪ :‬هذه مشية يبغضها ه‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫رسول ه‬
‫ّللا عليه وسلم غلظة على أحد إال عن أمر إلهي حين قيل له ‪«:‬‬ ‫‪ ،‬وما أظهر صلهى ه‬
‫علَ ْي ِه ْم » فأمر به لما لم يقتض طبعه ذلك ‪ ،‬وإن كان‬ ‫ظ َ‬ ‫ار َو ْال ُمنا ِف ِقينَ َوا ْغلُ ْ‬ ‫جا ِه ِد ْال ُكفَّ َ‬
‫بشرا يغضب كما يغضب البشر ‪ ،‬ويرضى لنفسه ‪ ،‬فقد قدم ذلك دواء نافعا يكون في‬
‫ذلك الغضب رحمة من حيث ال يشعر بها في حال الغضب ‪ ،‬فكان يدل بغضبه مثل‬
‫دالته برضاه ‪.‬‬

‫[ سورة التوبة ( ‪ ) : 9‬اآليات ‪ 74‬إلى ‪] 75‬‬


‫الم ِه ْم َو َه ُّموا ِبما لَ ْم يَنالُوا‬ ‫س ِ‬‫اّلِل ما قالُوا َولَقَ ْد قالُوا َك ِل َمةَ ا ْل ُك ْف ِر َو َكفَ ُروا بَ ْع َد ِإ ْ‬ ‫يَحْ ِلفُ َ‬
‫ون ِب ه ِ‬
‫ض ِل ِه فَ ِإ ْن يَتُوبُوا يَكُ َخ ْيرا ً لَ ُه ْم َوإِ ْن يَت َ َوله ْوا‬‫سولُهُ ِم ْن فَ ْ‬ ‫َوما نَقَ ُموا إِاله أ َ ْن أ َ ْغنا ُه ُم ه‬
‫َّللاُ َو َر ُ‬
‫ير (‬ ‫ي ٍ َوال نَ ِص ٍ‬ ‫ض ِم ْن َو ِل ّ‬ ‫َّللاُ عَذابا ً أ َ ِليما ً فِي ال ُّد ْنيا َو ْاآل ِخ َر ِة َوما لَ ُه ْم فِي ْاأل َ ْر ِ‬ ‫يُعَ ِذّ ْب ُه ُم ه‬
‫ين (‬ ‫صا ِل ِح َ‬‫ص هدقَ هن َولَنَكُونَ هن ِم َن ال ه‬ ‫َّللا لَئِ ْن آتانا ِم ْن فَ ْ‬
‫ض ِل ِه لَنَ ه‬ ‫‪َ ) 74‬و ِم ْن ُه ْم َم ْن عا َه َد ه َ‬
‫‪)75‬‬

‫ص ‪267‬‬

‫ص ‪267 :‬‬
‫ّللا تعالى عنه‬ ‫ّللا صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ ،‬وما أخبر ه‬ ‫وهو قول ثعلبة بن حاطب لرسول ه‬
‫ّللا لفعل ‪ ،‬ثم ‪ ،‬قال تعالى في حقه ‪:‬‬
‫ّللا ‪ ،‬فلو قال ‪ :‬إن شاء ه‬
‫أنه قال إن شاء ه‬

‫[ سورة التوبة ( ‪ : ) 9‬آية ‪] 76‬‬


‫فَلَ هما آتا ُه ْم ِم ْن فَ ْ‬
‫ض ِل ِه بَ ِخلُوا ِب ِه َوت َ َوله ْوا َو ُه ْم ُم ْع ِرض َ‬
‫ُون ) ‪( 76‬‬
‫ّللا صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم‬ ‫ّللا الزكاة جاءه مصدق رسول ه‬ ‫نزلت في حق ثعلبة لما فرض ه‬
‫ّللا ‪ ،‬في قوله‬
‫ّللا كما أخبر ه‬
‫يطلب منه زكاة غنمه ‪ ،‬فاشتد عليه ذلك بعد ما كان عاهد ه‬
‫ّللا الصدقة عليه قال ما‬
‫ّللا ماال ‪ ،‬وفرض ه‬ ‫ّللا »اآلية فلما رزقه ه‬ ‫‪َ «:‬و ِم ْن ُه ْم َم ْن عا َه َد َّ َ‬
‫ّللا به عنه ‪ ،‬وقوله تعالى ‪ «:‬بَ ِخلُوا ِب ِه »هي صفة النفس التي جبلت عليه ‪ ،‬فقال‬ ‫أخبر ه‬
‫ّللا ‪ ،‬فأطلق عليهم صفة البخل لمنعهم ما‬ ‫‪ :‬هذه أخية الجزية وامتنع ولم يقبل حكم ه‬
‫ّللا فيه بما قال ‪.‬‬ ‫ّللا عليهم في أموالهم ‪ ،‬وأخبر ه‬ ‫أوجب ه‬

‫[ سورة التوبة ( ‪ : ) 9‬آية ‪] 77‬‬


‫عدُوهُ َو ِبما كانُوا‬ ‫فَأ َ ْعقَبَ ُه ْم نِفاقا ً فِي قُلُو ِب ِه ْم ِإلى يَ ْو ِم يَ ْلقَ ْونَهُ ِبما أ َ ْخلَفُوا ه َ‬
‫َّللا ما َو َ‬
‫ون ( ‪) 77‬‬ ‫يَ ْك ِذبُ َ‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ ،‬فامتنع‬ ‫ّللا صلهى ه‬
‫ّللا فيه جاء بزكاته إلى رسول ه‬ ‫فلما بلغه ما أنزل ه‬
‫ّللا عليه وسلم أن يأخذها منه ولم يقبل صدقته إلى أن مات صلهى ه‬
‫ّللا‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫رسول ه‬
‫ّللا أخبر عنه أنه‬‫ّللا عليه وسلم من قبول صدقته أن ه‬ ‫عليه وسلم ‪ ،‬وسبب امتناعه صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم طهره بها وزكاه ‪ ،‬وصلى‬ ‫يلقاه منافقا ‪ ،‬والصدقة إذا أخذها النبي صلهى ه‬
‫عليه‬

‫ص ‪268‬‬

‫ص ‪268 :‬‬
‫ّللا أن صالته سكن للمتصدق ‪ ،‬يسكن إليها ‪ ،‬وهذه صفات تناقض‬ ‫ّللا وأخبر ه‬
‫كما أمره ه‬
‫ّللا‬
‫ّللا ‪ ،‬فلم يتمكن لهذه الشروط أن يأخذ منه رسول ه‬
‫النفاق وما يجده المنافق عند ه‬
‫ّللا‬
‫ّللا عليه وسلم الصدقة لما جاءه بها بعد قوله ‪ ،‬وامتنع أيضا بعد موت رسول ه‬ ‫صلهى ه‬
‫صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم عن أخذها منه أبو بكر وعمر ‪ ،‬لما جاء بها إليهما في زمان‬
‫خالفتهما ‪،‬‬

‫[ اخذ عثمان الزكاة من ثعلبة ]‬


‫فلما ولي عثمان بن عفان الخالفة جاء بها فأخذها منه ‪ ،‬متأوال أنها حق األصناف‬
‫ّللا لهم هذا القدر في عين هذا المال ‪ ،‬وهذا الفعل من عثمان من جملة ما‬ ‫الذين أوجب ه‬
‫انتقد عليه ‪ ،‬وينبغي أن ال ينتقد على المجتهد حكم ما أداه إليه اجتهاده ‪ ،‬فإن الشرع قد‬
‫ّللا عليه وسلم ما نهى أحدا من أمرائه أن يأخذ‬ ‫ّللا صلهى ه‬
‫قرر حكم المجتهد ‪ ،‬ورسول ه‬
‫ّللا‬
‫من هذا الشخص صدقته ‪ ،‬وقد ورد األمر اإللهي بإيتاء الزكاة ‪ ،‬وحكم رسول ه‬
‫ّللا‬
‫ّللا عليه وسلم في مثل هذا قد يفارق حكم غيره ‪ ،‬فإنه قد يختص رسول ه‬ ‫صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم بأمور ال تكون لغيره لخصوص وصف ‪ ،‬إما تقتضيه النبوة مطلقا‬ ‫صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم في أخذ الصدقة«‬ ‫ّللا قال لنبيه صلهى ه‬ ‫أو نبوته صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ ،‬فإن ه‬
‫تُ َ‬
‫ط ِ هه ُر ُه ْم َوتُزَ ِ هكي ِه ْم ِبها »وما قال ‪ « :‬يتطهرون » وال « يتزكون بها » فقد يكون هذا‬
‫من خصوص وصفه ‪ ،‬وهو رؤوف رحيم بأمته ‪ ،‬فلو ال ما علم أن أخذه يطهره‬
‫ّللا ‪ ،‬فمن‬
‫ّللا أن ثعلبة بن حاطب يلقاه منافقا ‪ ،‬فامتنع أدبا مع ه‬
‫ويزكيه بها وقد أخبره ه‬
‫ّللا عليه وسلم كأبي بكر وعمر ‪ ،‬ومن شاء لم يقف كعثمان‬ ‫شاء وقف لوقوفه صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم أن يطهر ويزكي مؤدي‬ ‫ّللا بها العام ‪ ،‬وما يلزم غير النبي صلهى ه‬ ‫ألمر ه‬
‫الزكاة بها ‪ ،‬والخليفة فيها إنما هو وكيل من عينت له هذه الزكاة أعني األصناف الذين‬
‫ّللا عليه وسلم ما نهى أحدا وال أمره فيما توقف‬ ‫ّللا صلهى ه‬
‫يستحقونها ‪ ،‬إذ كان رسول ه‬
‫فيه واجتنبه ‪ ،‬فساغ االجتهاد وراعى كل مجتهد الدليل الذي أداه إليه اجتهاده ‪ ،‬فمن‬
‫خطأ مجتهدا فما وفاه حقه ‪ ،‬وإن المخطئ والمصيب منهم واحد ال بعينه ‪.‬‬

‫[ سورة التوبة ( ‪ : ) 9‬آية ‪] 78‬‬


‫ب ) ‪( 78‬‬‫عاله ُم ا ْلغُيُو ِ‬ ‫س هر ُه ْم َونَجْ وا ُه ْم َوأ َ هن ه َ‬
‫َّللا َ‬ ‫أ َ لَ ْم يَ ْعلَ ُموا أ َ هن ه َ‬
‫َّللا يَ ْعلَ ُم ِ‬
‫اعلم أن العلم باألمر ال يتضمن شهوده فدل أن نسبة رؤيتك األشياء غير نسبة علمك‬
‫بها ‪ ،‬فالنسبة العلمية تتعلق بالشهادة والغيب ‪ ،‬فكل مشهود معلوم ما شهد منه ‪ ،‬وما كل‬
‫ّللا يشهد الغيوب ‪ ،‬وإنما ورد يعلم الغيوب‬ ‫معلوم مشهود ‪ ،‬وما ورد في الشرع قط أن ه‬
‫ّللا يَرى )ووصف نفسه بالبصر‬ ‫‪ ،‬ولهذا وصف نفسه بالرؤية فقال ‪ (:‬أ َ لَ ْم يَ ْعلَ ْم ِبأ َ َّن َّ َ‬
‫وبالعلم ‪،‬‬

‫ص ‪269‬‬

‫ص ‪269 :‬‬
‫ففرق بين النسب وميز بعضها عن بعض ليعلم ما بينها ‪ ،‬فالغيب أمر إضافي لما غاب‬
‫عنا ‪ ،‬وما يلزم من شهود الشيء العلم بحده وحقيقته ‪ ،‬ويلزم من العلم بالشيء العلم‬
‫بحده وحقيقته ‪ ،‬عدما كان أو وجودا ‪ ،‬واألشياء كلها مشهودة للحق في حال عدمها ‪،‬‬
‫ولو لم تكن كذلك لما خصص بعضها باإليجاد عن بعض ‪ ،‬فما هي معدومة هّلل الحق‬
‫من حيث علمه بها ‪.‬‬

‫[ سورة التوبة ( ‪ : ) 9‬اآليات ‪ 79‬إلى ‪] 80‬‬


‫ون ِإاله ُج ْه َد ُه ْم‬ ‫ِين ال يَ ِج ُد َ‬ ‫ت َوالهذ َ‬
‫صدَقا ِ‬
‫ين فِي ال ه‬ ‫ين ِم َن ا ْل ُم ْؤ ِمنِ َ‬ ‫ط ّ ِو ِع َ‬‫ون ا ْل ُم ه‬
‫ِين يَ ْل ِم ُز َ‬‫الهذ َ‬
‫ست َ ْغ ِف ْر لَ ُه ْم أ َ ْو ال ت َ ْ‬
‫ست َ ْغ ِف ْر‬ ‫َذاب أ َ ِلي ٌم ) ‪ ( 79‬ا ْ‬
‫َّللاُ ِم ْن ُه ْم َولَ ُه ْم ع ٌ‬ ‫س ِخ َر ه‬ ‫ون ِم ْن ُه ْم َ‬ ‫س َخ ُر َ‬ ‫فَيَ ْ‬
‫َّللاُ‬
‫سو ِل ِه َو ه‬ ‫َّللاُ لَ ُه ْم ذ ِلكَ ِبأَنه ُه ْم َكفَ ُروا ِب ه ِ‬
‫اّلِل َو َر ُ‬ ‫ين َم هرةً فَلَ ْن يَ ْغ ِف َر ه‬ ‫ست َ ْغ ِف ْر لَ ُه ْم َ‬
‫س ْب ِع َ‬ ‫لَ ُه ْم ِإ ْن ت َ ْ‬
‫ين ) ‪( 80‬‬ ‫س ِق َ‬ ‫ال يَ ْهدِي ا ْلقَ ْو َم ا ْلفا ِ‬
‫ّللا عليه وسلم التي أرسل بها أنه قال عند نزول هذه اآلية ‪:‬‬ ‫من رحمة محمد صلهى ه‬
‫ّللا يغفر لهم لزدت على السبعين ‪.‬‬ ‫ألزيدن على السبعين أو قال لو علمت أن ه‬ ‫ه‬

‫[ سورة التوبة ( ‪ : ) 9‬اآليات ‪ 81‬إلى ‪] 86‬‬


‫س ِه ْم ِفي‬ ‫َّللا َوك َِر ُهوا أ َ ْن يُجا ِهدُوا ِبأ َ ْموا ِل ِه ْم َوأ َ ْنفُ ِ‬ ‫سو ِل ه ِ‬ ‫الف َر ُ‬‫ون ِب َم ْقعَ ِد ِه ْم ِخ َ‬ ‫ح ا ْل ُم َخلهفُ َ‬ ‫فَ ِر َ‬
‫ون ( ‪) 81‬‬ ‫ش ُّد َح ًّرا لَ ْو كانُوا يَ ْفقَ ُه َ‬ ‫نار َج َهنه َم أ َ َ‬ ‫َّللا َوقالُوا ال ت َ ْن ِف ُروا فِي ا ْل َح ِ ّر قُ ْل ُ‬ ‫سبِي ِل ه ِ‬ ‫َ‬
‫َّللاُ إِلى‬ ‫ون ( ‪ ) 82‬فَ ِإ ْن َر َجعَكَ ه‬ ‫سبُ َ‬ ‫ض َحكُوا قَ ِليالً َو ْليَ ْبكُوا َكثِيرا ً َجزا ًء بِما كانُوا يَ ْك ِ‬ ‫فَ ْليَ ْ‬
‫عد ًُّوا إِنه ُك ْم‬ ‫ي َ‬ ‫ي أَبَدا ً َولَ ْن تُقاتِلُوا َم ِع َ‬ ‫ستَأْذَنُوكَ ِل ْل ُخ ُروجِ فَقُ ْل لَ ْن ت َ ْخ ُر ُجوا َم ِع َ‬ ‫طائِفَ ٍة ِم ْن ُه ْم فَا ْ‬
‫ص ِ ّل عَلى أ َ َح ٍد ِم ْن ُه ْم ماتَ‬ ‫ين ) ‪َ ( 83‬وال ت ُ َ‬ ‫اقعُدُوا َم َع ا ْلخا ِل ِف َ‬ ‫َر ِضيت ُ ْم ِبا ْلقُعُو ِد أ َ هو َل َم هر ٍة فَ ْ‬
‫ون ( ‪) 84‬‬ ‫سقُ َ‬ ‫سو ِل ِه َوماتُوا َو ُه ْم فا ِ‬ ‫أَبَدا ً َوال تَقُ ْم عَلى قَ ْب ِر ِه ِإنه ُه ْم َكفَ ُروا ِب ه ِ‬
‫اّلِل َو َر ُ‬
‫س ُه ْم‬ ‫ق أ َ ْنفُ ُ‬ ‫َّللاُ أ َ ْن يُعَ ِذّبَ ُه ْم ِبها ِفي ال ُّد ْنيا َوت َ ْز َه َ‬
‫َوال ت ُ ْع ِج ْبكَ أ َ ْموالُ ُه ْم َوأ َ ْوال ُد ُه ْم ِإنهما يُ ِري ُد ه‬
‫ون ( ‪) 85‬‬ ‫َو ُه ْم كافِ ُر َ‬
‫ط ْو ِل ِم ْن ُه ْم‬ ‫ستَأْذَنَكَ أُولُوا ال ه‬ ‫سو ِل ِه ا ْ‬‫اّلِل َوجا ِهدُوا َم َع َر ُ‬ ‫آمنُوا بِ ه ِ‬ ‫ورةٌ أ َ ْن ِ‬ ‫س َ‬ ‫َوإِذا أ ُ ْن ِزلَتْ ُ‬
‫ِين) ‪( 86‬‬ ‫َوقالُوا ذَ ْرنا نَك ُْن َم َع ا ْلقا ِعد َ‬

‫ص ‪270‬‬

‫ص ‪270 :‬‬
‫السورة بالسين هي المنزلة ‪ ،‬وسور القرآن منازله ‪ ،‬وكما أن لكل سورة آيات كذلك‬
‫لكل منزلة ‪.‬‬

‫[ سورة التوبة ( ‪ : ) 9‬اآليات ‪ 87‬إلى ‪] 88‬‬


‫ون ( ‪ ) 87‬ل ِك ِن‬ ‫ط ِب َع عَلى قُلُو ِب ِه ْم فَ ُه ْم ال يَ ْفقَ ُه َ‬ ‫ف َو ُ‬ ‫َرضُوا ِبأ َ ْن يَكُونُوا َم َع ا ْل َخوا ِل ِ‬
‫ِين آ َمنُوا َمعَهُ جا َهدُوا بِأ َ ْموا ِل ِه ْم َوأ َ ْنفُ ِ‬
‫س ِه ْم َوأُولئِكَ لَ ُه ُم ا ْل َخيْراتُ َوأُولئِكَ ُه ُم‬ ‫سو ُل َوالهذ َ‬ ‫الر ُ‬ ‫ه‬
‫ون ) ‪( 88‬‬ ‫ا ْل ُم ْف ِل ُح َ‬
‫الخيرات ‪ :‬جمع خيرة وهي الفاضلة من كل شيء ‪ ،‬والفضل يقتضي الزيادة ‪.‬‬

‫[ سورة التوبة ( ‪ : ) 9‬اآليات ‪ 89‬إلى ‪] 91‬‬


‫ِين ِفيها ذ ِلكَ ا ْلفَ ْو ُز ا ْلعَ ِظي ُم ( ‪) 89‬‬‫هار خا ِلد َ‬ ‫ت تَجْ ِري ِم ْن تَحْ ِت َها ْاأل َ ْن ُ‬ ‫َّللاُ لَ ُه ْم َجنها ٍ‬
‫ع هد ه‬‫أَ َ‬
‫يب‬ ‫سولَهُ َ‬
‫سيُ ِص ُ‬ ‫ِين َكذَبُوا ه َ‬
‫َّللا َو َر ُ‬ ‫ون ِم َن ْاألَعْرا ِ‬
‫ب ِليُ ْؤذَ َن لَ ُه ْم َوقَعَ َد الهذ َ‬ ‫َوجا َء ا ْل ُمعَذّ ُِر َ‬
‫علَى‬ ‫علَى ا ْل َم ْرضى َوال َ‬ ‫فاء َوال َ‬ ‫ضعَ ِ‬ ‫علَى ال ُّ‬ ‫س َ‬ ‫َذاب أ َ ِلي ٌم ) ‪ ( 90‬لَ ْي َ‬‫ِين َكفَ ُروا ِم ْن ُه ْم ع ٌ‬ ‫الهذ َ‬
‫ين ِم ْن َ‬
‫س ِبي ٍل‬ ‫علَى ا ْل ُمحْ ِ‬
‫سنِ َ‬ ‫سو ِل ِه ما َ‬‫ّلِل َو َر ُ‬
‫ص ُحوا ِ ه ِ‬ ‫ج ِإذا نَ َ‬ ‫ُون ما يُ ْن ِفقُ َ‬
‫ون َح َر ٌ‬ ‫ِين ال يَ ِجد َ‬ ‫الهذ َ‬
‫ور َر ِحي ٌم) ‪( 91‬‬ ‫غف ُ ٌ‬ ‫َّللاُ َ‬
‫َو ه‬

‫ص ‪271‬‬

‫ص ‪271 :‬‬
‫هذه اآلية نص على أن القتال فرض على األصحاء الذي يجدون ما ينفقون ‪ ،‬فالصحة‬
‫شرط من شروط الجهاد ‪ - .‬إشارة ‪ -‬من وقف مع إلحاق المتمني بالمتصدق الغني ‪،‬‬
‫عرف األمر ‪ ،‬فلم يطلب الكثر ‪ ،‬فاالستكثار من المال هو الداء العضال ‪ ،‬ويبلغ‬
‫المتمني بتمنيه مبلغ صاحب المال فيما يفعل فيه من الخير من غير كد وال نصب وال‬
‫سؤال وال حساب ‪ ،‬وهم في األجر على السواء مع ما يزيد عليه من أجر الفقر‬
‫ّللا ال يضيع أجر من أحسن عمال ‪ ،‬وتمنيه من عمله‪.‬‬ ‫والحسرة ‪ ،‬ه‬
‫وأن ه‬

‫[ سورة التوبة ( ‪ : ) 9‬اآليات ‪ 92‬إلى ‪] 93‬‬


‫علَ ْي ِه ت َ َوله ْوا َوأ َ ْعيُنُ ُه ْم ت َ ِف ُ‬
‫يض‬ ‫ِين ِإذا ما أَت َ ْوكَ ِلتَحْ ِملَ ُه ْم قُ ْلتَ ال أ َ ِج ُد ما أَحْ ِملُ ُك ْم َ‬
‫علَى الهذ َ‬ ‫َوال َ‬
‫ستَأ ْ ِذنُونَكَ َو ُه ْم‬ ‫علَى الهذ َ‬
‫ِين يَ ْ‬ ‫س ِبي ُل َ‬ ‫ون ( ‪ِ ) 92‬إنه َما ال ه‬ ‫ِم َن الد ْهم ِع َح َزنا ً أَاله يَ ِجدُوا ما يُ ْن ِفقُ َ‬
‫ون ) ‪( 93‬‬ ‫َّللاُ عَلى قُلُو ِب ِه ْم فَ ُه ْم ال يَ ْعلَ ُم َ‬ ‫ف َو َطبَ َع ه‬ ‫أ َ ْغ ِنيا ُء َرضُوا ِبأ َ ْن يَكُونُوا َم َع ا ْل َخوا ِل ِ‬
‫الطبع النقش الذي يكون في الختم ‪ ،‬والختم هو القفل ‪.‬‬

‫[ سورة التوبة ( ‪ : ) 9‬اآليات ‪ 94‬إلى ‪] 100‬‬


‫بار ُك ْم‬ ‫َّللاُ ِم ْن أ َ ْخ ِ‬ ‫ون ِإلَ ْي ُك ْم ِإذا َر َج ْعت ُ ْم ِإلَ ْي ِه ْم قُ ْل ال ت َ ْعتَذ ُِروا لَ ْن نُ ْؤ ِم َن لَ ُك ْم قَ ْد نَبهأَنَا ه‬ ‫يَ ْعتَذ ُِر َ‬
‫ب َوالشهها َد ِة فَيُنَ ِبّئ ُ ُك ْم ِبما ُك ْنت ُ ْم‬ ‫ُّون ِإلى عا ِل ِم ا ْلغَ ْي ِ‬ ‫سولُهُ ث ُ هم ت ُ َرد َ‬‫ع َملَ ُك ْم َو َر ُ‬ ‫َّللاُ َ‬
‫سيَ َرى ه‬ ‫َو َ‬
‫ع ْن ُه ْم‬ ‫ع ْن ُه ْم فَأَع ِْرضُوا َ‬ ‫اّلِل لَ ُك ْم إِذَا ا ْنقَلَ ْبت ُ ْم إِلَ ْي ِه ْم ِلت ُ ْع ِرضُوا َ‬
‫ون بِ ه ِ‬ ‫سيَحْ ِلفُ َ‬ ‫ون ) ‪َ ( 94‬‬ ‫ت َ ْع َملُ َ‬
‫ض ْوا‬ ‫ون لَ ُك ْم ِلت َ ْر َ‬ ‫ون ( ‪ ) 95‬يَحْ ِلفُ َ‬ ‫سبُ َ‬ ‫س َو َمأْوا ُه ْم َج َهنه ُم َجزا ًء بِما كانُوا يَ ْك ِ‬ ‫إِنه ُه ْم ِرجْ ٌ‬
‫ش ُّد‬ ‫ْراب أ َ َ‬ ‫ين ( ‪ْ ) 96‬األَع ُ‬ ‫س ِق َ‬‫َّللا ال يَ ْرضى ع َِن ا ْلقَ ْو ِم ا ْلفا ِ‬ ‫ع ْن ُه ْم فَ ِإ هن ه َ‬ ‫ض ْوا َ‬ ‫ع ْن ُه ْم فَ ِإ ْن ت َ ْر َ‬ ‫َ‬
‫ع ِلي ٌم َح ِكي ٌم ( ‪) 97‬‬ ‫َّللاُ َ‬
‫سو ِل ِه َو ه‬ ‫َّللاُ عَلى َر ُ‬ ‫ُك ْفرا ً َونِفاقا ً َوأَجْ د َُر أَاله يَ ْعلَ ُموا ُحدُو َد ما أ َ ْن َز َل ه‬
‫َّللاُ‬
‫س ْو ِء َو ه‬ ‫علَ ْي ِه ْم دائِ َرةُ ال ه‬ ‫ص ِب ُك ُم الدهوائِ َر َ‬ ‫ق َم ْغ َرما ً َويَت َ َربه ُ‬ ‫ب َم ْن يَت ه ِخذُ ما يُ ْن ِف ُ‬ ‫َو ِم َن ْاألَعْرا ِ‬
‫ع ِلي ٌم ) ‪( 98‬‬ ‫س ِمي ٌع َ‬ ‫َ‬
‫صلَوا ِ‬
‫ت‬ ‫ت ِع ْن َد ه ِ‬
‫َّللا َو َ‬ ‫ق قُ ُربا ٍ‬ ‫اّلِل َوا ْليَ ْو ِم ْاآل ِخ ِر َويَت ه ِخذُ ما يُ ْن ِف ُ‬ ‫ب َم ْن يُ ْؤ ِم ُن بِ ه ِ‬ ‫َو ِم َن ْاألَعْرا ِ‬
‫ور َر ِحي ٌم ( ‪) 99‬‬ ‫َّللا َ‬
‫غف ُ ٌ‬ ‫َّللاُ فِي َرحْ َمتِ ِه إِ هن ه َ‬ ‫سيُد ِْخلُ ُه ُم ه‬ ‫سو ِل أَال إِنهها قُ ْربَةٌ لَ ُه ْم َ‬ ‫الر ُ‬‫ه‬
‫َّللاُ‬
‫ي ه‬ ‫سان َر ِض َ‬ ‫ِين اتهبَعُو ُه ْم ِب ِإحْ ٍ‬ ‫صار َوالهذ َ‬ ‫ين َو ْاأل َ ْن ِ‬ ‫هاج ِر َ‬‫ون ِم َن ا ْل ُم ِ‬ ‫ون ْاأل َ هولُ َ‬‫سا ِبقُ َ‬ ‫َوال ه‬
‫ِين فِيها أَبَدا ً ذ ِلكَ ا ْلفَ ْو ُز‬ ‫هار خا ِلد َ‬ ‫ت تَجْ ِري تَحْ ت َ َها ْاأل َ ْن ُ‬ ‫ع هد لَ ُه ْم َجنها ٍ‬ ‫ع ْنهُ َوأ َ َ‬
‫ع ْن ُه ْم َو َرضُوا َ‬ ‫َ‬
‫ا ْلعَ ِظي ُم ) ‪( 100‬‬

‫‪272‬‬

‫ص ‪272 :‬‬
‫[الرضا ]‬
‫اختار الحق من األحوال الرضى فإنه آخر ما يكون من الحق ألهل السعادة من‬
‫البشرى ‪ ،‬فال بشرى بعدها ‪ ،‬فإنها بشرى تصحب األبد ‪ ،‬كما ورد في الخبر ‪ ،‬وهي‬
‫ّللا لهم في الكثيب عند الرؤية في‬
‫بشرى بعد رجوع الناس من الرؤية ‪ ،‬بل هي من ه‬
‫ّللا أوسع من أن أرضى منه باليسير ‪ ،‬فإن متعلق الرضى‬ ‫الزور األعظم ‪ ،‬وجناب ه‬
‫ّللا ال‬
‫اليسير ولكن أرضى عنه ال منه ‪ ،‬ألن الرضى منه يقطع همم الرجال ‪ ،‬فإن ه‬
‫يعظم عليه شيء طلب منه ‪ ،‬فإن المطلوب منه ال يتناهى ‪ ،‬فليس له طرف نقف عنده ‪،‬‬
‫باّلل ‪ ،‬وإذا كان اتساع الممكنات ال يقبل‬
‫سع في طلب المزيد إن كنت من العلماء ه‬ ‫فو ه‬
‫التناهي ‪ ،‬فما ظنك باالتساع اإللهي فيما يجب له ؟‬
‫ّللا‬
‫فالرضى عنه ال منه ‪ ،‬ألن الرضى منه جهل به ‪ ،‬ونقص ‪ ،‬ويكون الرضى بقضاء ه‬
‫‪ ،‬ال بكل مقضي ‪ ،‬فإنه ال ينبغي الرضى بكل مقضي ‪.‬‬

‫[ سورة التوبة ( ‪ ) : 9‬اآليات ‪ 101‬إلى ‪] 102‬‬


‫فاق ال ت َ ْعلَ ُم ُه ْم‬
‫علَى ال ِنّ ِ‬ ‫ون َو ِم ْن أ َ ْه ِل ا ْل َمدِينَ ِة َم َردُوا َ‬
‫ب ُمنافِقُ َ‬ ‫َو ِم هم ْن َح ْولَ ُك ْم ِم َن ْاألَعْرا ِ‬
‫ون ا ْعت َ َرفُوا‬ ‫يم ( ‪َ ) 101‬وآ َخ ُر َ‬ ‫ب ع َِظ ٍ‬ ‫ُّون ِإلى عَذا ٍ‬ ‫سنُعَ ِذّبُ ُه ْم َم هرت َ ْي ِن ث ُ هم يُ َرد َ‬
‫نَحْ ُن نَ ْعلَ ُم ُه ْم َ‬
‫ور‬‫غفُ ٌ‬ ‫َّللا َ‬
‫علَ ْي ِه ْم ِإ هن ه َ‬ ‫َّللاُ أ َ ْن يَت ُ َ‬
‫وب َ‬ ‫سى ه‬ ‫ع َ‬ ‫ع َمالً صا ِلحا ً َوآ َخ َر َ‬
‫س ِيّئا ً َ‬ ‫طوا َ‬ ‫ِبذُنُو ِب ِه ْم َخلَ ُ‬
‫َر ِحي ٌم) ‪( 102‬‬

‫ص ‪273‬‬

‫ص ‪273 :‬‬
‫اعلم أن الشرط المصحح لقبول جميع الفرائض فرض اإليمان ‪ ،‬فما من مؤمن يرتكب‬
‫ّللا ‪ ،‬من حيث إيمانه بها بأنها معصية ‪،‬‬ ‫معصية ظاهرة أو باطنة إال وله فيها قربة إلى ه‬
‫فال يخلص لمؤمن عمل سيئ دون أن يخالطه عمل صالح ‪ ،‬وال تخلص له معصية‬
‫غير مشوبة بطاعة أصال ‪ ،‬وهي طاعة اإليمان بكونها معصية ‪ ،‬فيؤجر على اإليمان‬
‫بها أنها معصية ‪ ،‬فهو في مخالفته طائع عاص ‪،‬‬
‫س ِيهئا ً » ]‬
‫ع َم ًال صا ِلحا ً َوآخ ََر َ‬ ‫طوا َ‬ ‫[ « َوآخ َُرونَ ا ْعت َ َرفُوا بِذُنُوبِ ِه ْم َخلَ ُ‬
‫س ِيهئا ً »فهذا معنى‬
‫ع َم ًال صا ِلحا ً َوآخ ََر َ‬ ‫طوا َ‬ ‫قال تعالى ‪َ «:‬وآخ َُرونَ ا ْعت َ َرفُوا بِذُنُوبِ ِه ْم َخلَ ُ‬
‫المخالطة فالعمل الصالح هنا اإليمان بالعمل اآلخر السيهئ أنه سيهئ ‪ .‬واعلم أنه من‬
‫ّللا عليها فيفزع منها ‪ ،‬إال ويجد في نفسه الندم‬ ‫المحال أن يأتي مؤمن بمعصية توعد ه‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ ،‬الندم توبة ‪ ،‬وقد قام به الندم فهو‬ ‫على ما وقع منه ‪ ،‬وقد قال صلهى ه‬
‫تائب فسقط حكم الوعيد ‪ ،‬على عكس قول المعتزلي القائل بإنفاذ الوعيد فيمن مات عن‬
‫غير توبة ‪ ،‬لحصول الندم فإنه ال بد للمؤمن أن يكره المخالفة وال يرضى بها ‪ ،‬وهو‬
‫في حال عمله إياها ‪ ،‬فهو من كونه كارها لها مؤمن بأنها معصية ذو عمل صالح ‪،‬‬
‫وهو من كونه فاعال لها ذو عمل سيهئ ‪ ،‬فغايته أن يكون من الذين خلطوا عمال صالحا‬
‫علَ ْي ِه ْم »وهو سبحانه‬‫وب َ‬ ‫ّللاُ أ َ ْن يَت ُ َ‬ ‫سى َّ‬ ‫ع َ‬
‫وآخر سيئا فقال تعالى عقيب هذا القول ‪َ «:‬‬
‫يعلم ما يجريه في عباده ومع هذا جاء بلفظ الترجي ‪ ،‬وقال العلماء ‪:‬‬
‫ّللا واجبة فإنه ال مانع له والتوبة الرجوع فمعناه أن يرجع عليهم بالرحمة‬ ‫إن عسى من ه‬
‫وبالمغفرة ‪ ،‬وتبديل السيئات والقبول ‪ ،‬فيغفر لهم تلك المعصية باإليمان الذي خلطها به‬
‫ّللا في القبول ‪ ،‬ويرزقهم الندم عليها ‪ ،‬والندم توبة ‪ ،‬فإذا‬ ‫‪ ،‬فإنه وقع الترجي للعبد من ه‬
‫ّللا عليهم ‪ ،‬فالمؤمن هنا ذو عمل صالح من ثالثة أوجه ‪ ،‬اإليمان‬ ‫ندموا حصلت توبة ه‬
‫بكونها معصية ‪ ،‬وكراهته لوقوعها منه ‪ ،‬والندم عليها ‪ ،‬وهو ذو عمل سيهئ من وجه‬
‫واحد ‪ ،‬وهو ارتكابه إياها ‪ ،‬ومع هذا الندم فإن الرهبة تحكم عليه ‪ ،‬سواء كان عالما‬
‫بما قلناه أو غير عالم ‪ ،‬فإنه يخاف وقوع مكروه آخر منه ‪ ،‬ولو مات على تلك الرهبة‬
‫فإن الرهبة ال تفارقه ‪ ،‬وينتقل تعلقها من نفوذ الوعيد إلى العتاب اإللهي والتقرير عند‬
‫السؤال على ما وقع منه ‪ .‬واعلم أن متعلق عسى هنا رجوعه عليهم بالرحمة ‪ ،‬ال‬
‫رجوعهم إليه ‪ ،‬فإنه ما ذكر لهم توبة ‪ ،‬وما ذكر لهم قربة ‪ ،‬فما تاب هنا في هذه اآلية‬
‫علَ ْي ِه ْم‬
‫تاب َ‬ ‫عليهم ليتوبوا كما قال في موضع آخر ‪ «:‬ث ُ َّم َ‬

‫ص ‪274‬‬

‫ص ‪274 :‬‬
‫ِليَتُوبُوا »وإنما هو رجوع بالعفو والتجاوز ‪ ،‬فجاء هنا بحكم آخر ما فيه ذكر توبتهم ‪،‬‬
‫ّللا تعالى عليهم فإنه تعالى تمم اآلية بقوله ‪ « :‬إن هللا غفور رحيم » ‪.‬‬
‫بل فيه توبة ه‬
‫فمن هذه اآلية نعلم أن اإليمان أصل ‪ ،‬والعمل فرع لهذا األصل بال شك ‪ ،‬ولهذا ال‬
‫يخلص للمؤمن معصية أصال من غير أن يخالطها طاعة ‪ ،‬فالمخلط هو المؤمن‬
‫العاصي ‪ ،‬فإن المؤمن إذا عصى في أمر ما ‪ ،‬فهو مؤمن بأن ذلك معصية ‪ ،‬واإليمان‬
‫واجب فقد أدى واجبا ‪ ،‬فالمؤمن مأجور في عين عصيانه واإليمان أقوى ‪.‬‬

‫[ سورة التوبة ( ‪ : ) 9‬آية ‪] 103‬‬


‫سك ٌَن لَ ُه ْم َو ه‬
‫َّللاُ‬ ‫صالت َكَ َ‬ ‫علَ ْي ِه ْم ِإ هن َ‬
‫ص ِ ّل َ‬‫يه ْم ِبها َو َ‬ ‫ص َدقَةً ت ُ َط ِ ّه ُر ُه ْم َوت ُ َز ِ ّك ِ‬
‫ُخ ْذ ِم ْن أ َ ْموا ِل ِه ْم َ‬
‫ع ِلي ٌم ) ‪( 103‬‬ ‫س ِمي ٌع َ‬ ‫َ‬
‫ّللا عنده من‬ ‫سمي المال ماال ألنه يميل بالنفوس إليه ‪ ،‬وإنما مالت النفوس إليه لما جعل ه‬
‫قضاء الحاجات به ‪ ،‬وجبل اإلنسان على الحاجة ‪ ،‬ألنه فقير بالذات ‪ ،‬فمال إليه بالطبع‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ُ «:‬خ ْذ ِم ْن أ َ ْموا ِل ِه ْم »أي ‪:‬‬ ‫الذي ال ينفك عنه ‪ ،‬فقال تعالى لنبيه صلهى ه‬
‫ص َدقَةً »مني على من ذكرتهم في‬ ‫المال الذي في أموالهم مما ليس لهم ‪ ،‬بل هو« َ‬
‫ّللا تعالى رسوله ونوابه أن يأخذوا من هذه األموال مقدارا معلوما ‪،‬‬ ‫كتابي ‪ ،‬فأمر ه‬
‫سماه زكاة ‪ ،‬يعود خيرها علينا ‪ ،‬وسميت صدقة أي ما يشتد عليهم في نفوسهم‬
‫إعطاؤها ‪ ،‬ألن البخل والشح صفة النفوس التي جبلت عليه ‪.‬‬
‫ولما كان معنى الزكاة التطهير ‪ ،‬أي طهارة األموال ‪ ،‬فإنها طهرت أربابها ‪ ،‬قال‬
‫ص ِهل‬‫ط ِ هه ُر ُه ْم »من صفة البخل« َوتُزَ ِ هكي ِه ْم بِها »أي تكثر الخير لهم بها« َو َ‬ ‫تعالى ‪ «:‬ت ُ َ‬
‫علَ ْي ِه ْم »أمر الحق نبيه بالصالة علينا جزاء ‪ ،‬كما أمرنا به تعالى من الصالة على‬ ‫َ‬
‫صالت َ َك‬ ‫س ِل ُموا ت َ ْس ِليما ً »ثم قال ‪ِ «:‬إ َّن َ‬ ‫ه‬ ‫علَ ْي ِه َو َ‬ ‫ُّ‬
‫صلوا َ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬
‫النبي في قوله ‪ «:‬يا أيُّ َها الذِينَ آ َمنُوا َ‬
‫ّللا عليه وسلم‬ ‫س َك ٌن لَ ُه ْم »فما أعجب القرآن لمن تدبر آياته وتذكر ! فصالته صلهى ه‬ ‫َ‬
‫سكن للمتصدق يسكن إليها ‪.‬‬

‫[ ‪ -‬إشارة ‪ -‬من كلمة " ما لك " ]‬


‫‪-‬إشارة ‪ «-‬ما لَ َك » *نفي من باب اإلشارة واسم من باب الداللة ‪ ،‬وأصليته من اسم‬
‫المالية ‪ -‬تحقيق ‪ -‬راجع سورة األحزاب آية ‪. 56‬‬

‫[ سورة التوبة ( ‪ ( : 9‬آية ‪]104‬‬


‫ت َوأ َ هن ه َ‬
‫َّللا ُه َو الت ه هو ُ‬
‫اب‬ ‫َّللا ُه َو يَ ْقبَ ُل الت ه ْوبَةَ ع َْن ِعبا ِد ِه َويَأ ْ ُخذُ ال ه‬
‫صدَقا ِ‬ ‫أ َ لَ ْم يَ ْعلَ ُموا أ َ هن ه َ‬
‫الر ِحي ُم) ‪( 104‬‬ ‫ه‬

‫ص ‪275‬‬

‫ص ‪275 :‬‬
‫العبد إذا رجع إلى الحق بالتوبة ‪ ،‬رجع الحق إليه بالقبول ‪ «،‬أ َ لَ ْم يَ ْعلَ ُموا أ َ َّن َّ َ‬
‫ّللا ُه َو‬
‫ّللا ال يقبل المعاصي‬ ‫ع ْن ِعبا ِد ِه »وهو رجوعه على عباده بالقبول ‪ ،‬فإن ه‬ ‫يَ ْقبَ ُل الت َّ ْوبَةَ َ‬
‫ويقبل التوبة والطاعات ‪ ،‬وهذا من رحمته بعباده ‪ ،‬فإنه لو قبل المعاصي لكانت عنده‬
‫في حضرة المشاهدة ‪ ،‬كما هي الطاعات ‪ ،‬فال يشهد الحق من عباده إال ما قبله ‪ ،‬وال‬
‫يقبل إال الطاعات ‪ ،‬فال يرى من عباده إال ما هو حسن محبوب عنده ‪ ،‬ويعرض عن‬
‫ت »يأخذ الحق الصدقات بحكم الوكالة ‪ ،‬فيربيها‬ ‫ص َدقا ِ‬ ‫السيئات فال يقبلها« َويَأ ْ ُخذُ ال َّ‬
‫ويثمرها ‪ ،‬فهو وكيل في حق قوم تبرعا من نفسه رحمة بهم ‪ ،‬وهو قوله صلهى ه‬
‫ّللا‬
‫عليه وسلم ‪ :‬إن الصدقة تقع بيد الرحمن قبل أن تقع بيد السائل ‪ -‬الحديث ‪،‬‬
‫الر ِحي ُم »بعدم‬ ‫اب »بقبوله التوبة والطاعة« َّ‬ ‫لذلك قال تعالى ‪َ «:‬وأ َ َّن َّ َ‬
‫ّللا ُه َو الت َّ َّو ُ‬
‫مؤاخذته على الذنب ‪.‬‬

‫[ سورة التوبة ( ‪ : ) 9‬آية ‪] 105‬‬


‫ُّون إِلى عا ِل ِم ا ْلغَ ْي ِ‬
‫ب‬ ‫ست ُ َرد َ‬ ‫ون َو َ‬ ‫سولُهُ َوا ْل ُم ْؤ ِمنُ َ‬‫ع َملَ ُك ْم َو َر ُ‬‫َّللاُ َ‬ ‫سيَ َرى ه‬ ‫َوقُ ِل ا ْع َملُوا فَ َ‬
‫ون ( ‪) 105‬‬ ‫َوالشهها َد ِة فَيُنَ ِبّئ ُ ُك ْم ِبما ُك ْنت ُ ْم ت َ ْع َملُ َ‬
‫[ فسيرى هللا اعمالهم ]‬
‫لكل راء عين تليق به ‪ ،‬فيدرك من المرئي بحسب ما تعطيه قوة ذلك العين ‪ ،‬فثم عين‬
‫ّللا وأما ما يراه الرسول والمؤمنون فليس إال‬ ‫تعطي اإلحاطة بالمرئي ‪ ،‬وليس ذلك إال ه‬
‫رؤية خاصة ‪ ،‬ليس فيها إحاطة ‪ .‬فيراه الرسول بحسب ما أرسل به ‪ ،‬وكذلك المؤمن‬
‫يراه بقدر ما علم من هذا الرسول ‪ ،‬فليست عين المؤمن تبلغ في الرتبة إدراك عين‬
‫الرسول ‪ ،‬فإن المجتهد مخطئ ومصيب ‪ ،‬والرسول حق كله ‪ ،‬فإن له التشريع ‪ ،‬وهو‬
‫العين المطلوبة لطالب الداللة ‪ ،‬فإذا قامت صورة العمل نشأة كاملة ‪ -‬كان العمل ما‬
‫ّللا من حيث أراها الرسول والمؤمنين ‪ ،‬ومن حيث ال يرونها‬ ‫كان من المكلف ‪ -‬يراها ه‬
‫‪ ،‬ويرى المؤمنون ذلك العمل من حيث يرونها ‪ ،‬ال من حيث يراها الرسول ‪ ،‬ولكل‬
‫شها َدةِ »العالم عالمان‬ ‫ست ُ َر ُّدونَ إِلى عا ِل ِم ْالغَ ْي ِ‬
‫ب َوال َّ‬ ‫ّللا فيه« َو َ‬ ‫موطن في القيامة يحكم به ه‬
‫ما ثم ثالث ‪ :‬عالم يدركه الحس ‪ ،‬وهو المعبر عنه‬

‫ص ‪276‬‬

‫ص ‪276 :‬‬
‫بالشهادة ‪ ،‬وعالم ال يدركه الحس ‪ ،‬وهو المعبر عنه بعالم الغيب ‪ ،‬فإن كان مغيبا في‬
‫وقت وظهر في وقت للحس فال يسمى ذلك غيبا ‪ ،‬وإنما الغيب ما ال يمكن أن يدركه‬
‫الحس ‪ ،‬لكن يعلم بالعقل ‪ ،‬إما بالدليل القاطع ‪ ،‬وإما بالخبر الصادق وهو إدراك‬
‫اإليمان ‪ ،‬فالشهادة مدركها الحس ‪ ،‬وهو طريق إلى العلم ما هو عين العلم ‪ ،‬وذلك‬
‫ّللا ممن له إدراك حسي ‪ ،‬والعلم مدركه العلم عينه ‪.‬‬
‫يختص بكل ما سوى ه‬

‫[ سورة التوبة ( ‪ : ) 9‬اآليات ‪ 106‬إلى ‪] 108‬‬


‫ع ِلي ٌم َح ِكي ٌم ( ‪) 106‬‬ ‫َّللاُ َ‬‫علَ ْي ِه ْم َو ه‬ ‫وب َ‬ ‫ون ُم ْر َج ْو َن ِأل َ ْم ِر ه ِ‬
‫َّللا ِإ هما يُعَ ِذّبُ ُه ْم َو ِإ هما يَت ُ ُ‬ ‫َوآ َخ ُر َ‬
‫َّللا‬
‫ب هَ‬ ‫ين َو ِإ ْرصادا ً ِل َم ْن َ‬
‫حار َ‬ ‫س ِجدا ً ِضرارا ً َو ُك ْفرا ً َوت َ ْف ِريقا ً بَ ْي َن ا ْل ُم ْؤ ِمنِ َ‬ ‫ِين ات ه َخذُوا َم ْ‬ ‫َوالهذ َ‬
‫ون ( ‪ ) 107‬ال‬ ‫ش َه ُد ِإنه ُه ْم لَكا ِذبُ َ‬ ‫َّللاُ يَ ْ‬
‫سنى َو ه‬ ‫سولَهُ ِم ْن قَ ْب ُل َولَيَحْ ِلفُ هن ِإ ْن أ َ َردْنا ِإاله ا ْل ُح ْ‬ ‫َو َر ُ‬
‫ق أ َ ْن تَقُو َم ِفي ِه ِفي ِه ِرجا ٌل‬ ‫علَى الت ه ْقوى ِم ْن أ َ هو ِل يَ ْو ٍم أ َ َح ُّ‬ ‫س َ‬ ‫س َ‬ ‫تَقُ ْم ِفي ِه أَبَدا ً لَ َم ْ‬
‫س ِج ٌد أ ُ ِ ّ‬
‫ط ِ ّه ِري َن) ‪( 108‬‬ ‫ب ا ْل ُم ه‬ ‫ون أ َ ْن يَت َ َط هه ُروا َو ه‬
‫َّللاُ يُ ِح ُّ‬ ‫يُ ِحبُّ َ‬
‫[المطهرون ]‬
‫المطهرون هم الذين طهروا غيرهم كما طهروا نفوسهم ‪ ،‬فتعدت طهارتهم إلى غيرهم‬
‫ّللا فقد عصمها‬ ‫‪ ،‬فمن منع ذاته وذات غيره أن يقوم بها ما هو مذموم في حقها عند ه‬
‫وحفظها ووقاها وسترها عن قيام الصفات المذمومة شرعا بها ‪ ،‬فهو مطهر لها بما‬
‫علمها من علم ما ينبغي ‪ ،‬لينفر عنه بنور العلم وحياته ظلمة الجهالة وموتها ‪ ،‬فهو‬
‫ّللا مخصوص بعناية والية إلهية واستخالف ‪ ،‬وكل إنسان وال على‬ ‫محبوب عند ه‬
‫ّللا بما هي الطهارة التي يطهر بها رعاياه ‪.‬‬ ‫جوارحه فما فوق ذلك ‪ ،‬وقد أعلمه ه‬

‫[ سورة التوبة ( ‪ : ) 9‬آية ‪] 109‬‬


‫س بُ ْنيانَهُ عَلى شَفا‬
‫س َ‬‫وان َخ ْي ٌر أ َ ْم َم ْن أ َ ه‬
‫ض ٍ‬ ‫س بُ ْنيانَهُ عَلى ت َ ْقوى ِم َن ه ِ‬
‫َّللا َو ِر ْ‬ ‫س َ‬‫أ َ فَ َم ْن أ َ ه‬
‫ين) ‪( 109‬‬ ‫ظا ِل ِم َ‬‫َّللاُ ال يَ ْهدِي ا ْلقَ ْو َم ال ه‬
‫نار َج َهنه َم َو ه‬ ‫هار فَا ْن َ‬
‫هار بِ ِه فِي ِ‬ ‫ف ٍ‬ ‫ُج ُر ٍ‬

‫ص ‪277‬‬

‫ص ‪277 :‬‬
‫أفمن أسس بنيانه فقوى أركانه ‪ ،‬وأوثق قواعد بنيانه ‪ ،‬أمن من الهدم والسقوط ‪،‬‬
‫والبيت بيت اإليمان وقد قام على خمسة ‪ ،‬سقف وأربعة جدر ‪ ،‬وهو قوله صلهى ه‬
‫ّللا‬
‫ّللا وإقام الصالة وإيتاء‬
‫عليه وسلم ‪ :‬بني اإلسالم على خمس ‪ :‬شهادة أن ال إله إال ه‬
‫الزكاة وصوم رمضان وحج البيت من استطاع إليه سبيال ‪ .‬والساكن المؤمن ‪ ،‬وحشمه‬
‫وخوله مكارم األخالق ونوافل الخيرات ‪.‬‬

‫[ سورة التوبة ( ‪ : ) 9‬اآليات ‪ 110‬إلى ‪] 111‬‬


‫ع ِلي ٌم َح ِكي ٌم (‬ ‫ط َع قُلُوبُ ُه ْم َو ه‬
‫َّللاُ َ‬ ‫ال يَزا ُل بُ ْنيانُ ُه ُم الهذِي بَنَ ْوا ِريبَةً فِي قُلُو ِب ِه ْم ِإاله أ َ ْن تَقَ ه‬
‫ون فِي‬ ‫س ُه ْم َوأ َ ْموالَ ُه ْم ِبأ َ هن لَ ُه ُم ا ْل َجنهةَ يُقاتِلُ َ‬ ‫ين أ َ ْنفُ َ‬
‫شتَرى ِم َن ا ْل ُم ْؤ ِمنِ َ‬ ‫‪ِ ) 110‬إ هن ه َ‬
‫َّللا ا ْ‬
‫آن َو َم ْن أ َ ْوفى‬
‫اْل ْن ِجي ِل َوا ْلقُ ْر ِ‬
‫علَ ْي ِه َحقًّا ِفي الت ه ْورا ِة َو ْ ِ‬ ‫ون َوعْدا ً َ‬ ‫ون َويُ ْقتَلُ َ‬ ‫َّللا فَيَ ْقتُلُ َ‬
‫س ِبي ِل ه ِ‬
‫َ‬
‫ش ُروا ِببَ ْي ِع ُك ُم الهذِي بايَ ْعت ُ ْم ِب ِه َوذ ِلكَ ُه َو ا ْلفَ ْو ُز ا ْلعَ ِظي ُم ) ‪( 111‬‬ ‫َّللا فَا ْ‬
‫ست َ ْب ِ‬ ‫ِبعَ ْه ِد ِه ِم َن ه ِ‬
‫ّللا من العباد أنه يكبر عليهم الجهاد بأموالهم وأنفسهم ‪ ،‬لدعواهم أن أنفسهم‬ ‫لما علم ه‬
‫وّللا ال يقول إال حقا ‪ ،‬فقدم شراء األموال‬ ‫وأموالهم لهم ‪ ،‬كما أثبتها الحق لهم ‪ ،‬ه‬
‫واألنفس منهم ‪ ،‬حتى يرفع يدهم عنها ‪ ،‬فبقي المشتري يتصرف في سلعته كيف شاء ‪،‬‬
‫والبائع وإن أحب سلعته فالعوض الذي أعطاه فيها وهو الثمن أحب إليه مما باعه ‪،‬‬
‫س ُه ْم َوأ َ ْموالَ ُه ْم » ]‬ ‫ّللا ا ْشتَرى ِمنَ ْال ُمؤْ ِم ِنينَ أ َ ْنفُ َ‬ ‫[ « ِإ َّن َّ َ‬
‫س ُه ْم َوأ َ ْموالَ ُه ْم »وبعد هذا الشراء أمر أن‬ ‫ّللا ا ْشتَرى ِمنَ ْال ُمؤْ ِمنِينَ أ َ ْنفُ َ‬ ‫فقال تعالى ‪ «:‬إِ َّن َّ َ‬
‫ّللا ‪ ،‬ليهون ذلك عليهم ‪ ،‬فهم يجاهدون بنفوس مستعارة أعني‬ ‫يجاهدوا بها في سبيل ه‬
‫النفوس الحيوانية القائمة باألجسام ‪ ،‬واألموال المستعارة ‪ .‬فهم كمن سافر على دابة‬
‫معارة ‪ ،‬ومال غيره ‪ ،‬وقد رفع عنه الحرج مالكها عندما أعاره ‪ ،‬إن نفقت الدابة ‪،‬‬
‫وهلك المال ‪ ،‬فهو مستريح القلب ‪ ،‬فما بقي عليه مشقة نفسية إن كان مؤمنا ‪ ،‬إال ما‬
‫يقاسي هذا المركب الحيواني من المشقة ‪ ،‬من طول الشقة ‪ ،‬وتعب الطريق ‪ .‬وإن كان‬
‫في قتال العدو فما ينال من الكر والفر والطعن باألرماح والرشق بالسهام والضرب‬
‫بالسيوف ‪ ،‬واإلنسان مجبول على الشفقة الطبيعية ‪ ،‬فهو يشفق على مركوبه‬

‫ص ‪278‬‬

‫ص ‪278 :‬‬
‫من حيث أنه حيوان ‪ ،‬ال من جهة مالكه ‪ ،‬فإن مالكه قد علم منه هذا المعار إليه ‪« 1‬‬
‫»أنه يريد إتالفه ‪ ،‬فذلك محبوب له فلم يبق له عليه شفقة إال الشفقة الطبيعية ‪،‬‬
‫فالنفوس التي اشتراها الحق في هذه اآلية إنما هي النفوس الحيوانية ‪ ،‬اشتراها من‬
‫النفوس الناطقة المؤمنة المكلفة باإليمان ‪ ،‬فنفوس المؤمنين الناطقة هي البائعة المالكة‬
‫لهذه النفوس الحيوانية التي اشتراها الحق منها ‪ ،‬ألنها التي يحل بها القتل ‪ ،‬وليست‬
‫هذه النفوس بمحل لإليمان ‪ ،‬وإنما الموصوف باإليمان النفوس الناطقة ‪،‬‬
‫ومنها اشترى الحق نفوس األجسام فقال ‪ «:‬ا ْشتَرى ِمنَ ْال ُمؤْ ِمنِينَ »وهي النفوس‬
‫س ُه ْم »التي هي مراكبهم الحسية ‪ ،‬وهي الخارجة‬ ‫الناطقة الموصوفة باإليمان« أ َ ْنفُ َ‬
‫للقتال بهم والجهاد ‪ ،‬وهي التي تدعي الملك ‪ ،‬فبقي المؤمن ال نفس له كسائر الحيوان ‪،‬‬
‫فلم يبق من يدعي ملكا ‪ ،‬فصار الملك هّلل الواحد القهار ‪ ،‬وزال االشتراك ‪ ،‬فالمؤمن ال‬
‫نفس له ‪ ،‬فال دعوى له في الملك ‪ ،‬فكل مؤمن ادعى ملكا حقيقة فليس بمؤمن ‪ ،‬فإن‬
‫المؤمن باع نفسه ‪ ،‬فما بقي له من يدعي ‪ ،‬ألن نفسه كانت صاحبة الدعوى ‪ ،‬لكونها‬
‫ّللا تعالى ‪ ،‬فاحفظ نفسك يا أخي من‬ ‫على صورة من له الدعوى بالملك حقيقة ‪ ،‬وهو ه‬
‫دعوى تسلب عنك اإليمان ‪.‬‬
‫فالمؤمن ال نفس له ‪ ،‬فليس له في الشفقة عليها إال الشفقة الذاتية التي في النفس الناطقة‬
‫على كل حيوان ‪.‬‬
‫« َوأ َ ْموالَ ُه ْم »فأفلسهم ألنه حال بينهم وبينها ‪ ،‬فلم يبق لهم ما يصلون به إلى المنعة ‪،‬‬
‫ببقاء الحياة لبقاء الغذاء الحاصل بالمال ‪.‬‬
‫« بِأ َ َّن لَ ُه ُم ْال َجنَّةَ »وهو الثمن فإن المؤمن ممدوح في القرآن بالتجارة‬
‫ب أ َ ِل ٍيم »والبيع فيما ملك بيعه‬ ‫عذا ٍ‬ ‫جارةٍ ت ُ ْن ِجي ُك ْم ِم ْن َ‬ ‫على تِ َ‬ ‫وهو قوله تعالى ‪ «:‬ه َْل أَدُلُّ ُك ْم َ‬
‫س ُه ْم َوأ َ ْموالَ ُه ْم ِبأ َ َّن لَ ُه ُم ْال َجنَّةَ "‬
‫ّللا ا ْشتَرى ِمنَ ْال ُمؤْ ِمنِينَ أ َ ْنفُ َ‬‫‪ ،‬وهو قوله تعالى ‪ِ ":‬إ َّن َّ َ‬
‫ّللا بين‬ ‫وجعلها الثمن للحديث الوارد في الخصمين من الظالم والمظلوم ‪ ،‬إذا أصلح ه‬
‫ّللا المظلوم أن يرفع رأسه ‪ ،‬فينظر إلى عليين فيرى ما يبهره‬ ‫خلقه يوم القيامة ‪ ،‬فيأمر ه‬
‫حسنه ‪ ،‬فيقول ‪ :‬يا رب ألي نبي هذا ألي شهيد هذا ؟‬
‫ّللا تعالى لمن أعطاني الثمن ‪ ،‬قال ‪ :‬ومن يملك ثمن هذا ؟‬ ‫فيقول ه‬
‫قال ‪ :‬أنت بعفوك عن أخيك هذا فيقول ‪ :‬يا رب قد عفوت عنه ‪ ،‬فيقول ‪ :‬خذ بيد أخيك‬
‫فادخل الجنة ‪.‬‬
‫ذات‬
‫ص ِل ُحوا َ‬ ‫ّللا َوأ َ ْ‬‫ّللا عليه وسلم هذا الحديث تال« فَاتَّقُوا َّ َ‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫ولما أورد رسول ه‬
‫ّللا فَيَ ْقتُلُونَ َويُ ْقتَلُونَ‬
‫سبِي ِل َّ ِ‬ ‫ّللا يصلح بين عباده يوم القيامة ‪ «.‬يُقاتِلُونَ فِي َ‬ ‫بَ ْينِ ُك ْم »فإن ه‬
‫ّللا وبين المؤمن‬ ‫»وجه آخر في هذه المبايعة ‪ :‬وقع البيع بين ه‬

‫ص ‪279‬‬

‫ص ‪279 :‬‬
‫من كونه ذا نفس حيوانية ‪ ،‬فهي التي تدعي الملك ‪ ،‬وهي البائعة ‪ ،‬فباعت النفس‬
‫ّللا وما كان لها مما لها به نعيم من مالها بعوض وهو الجنة ‪ ،‬فالبيع‬ ‫الناطقة من ه‬
‫والشراء معاوضة ‪ ،‬والسوق المعترك ‪ ،‬فاستشهدت فأخذها المشتري إلى منزله وأبقى‬
‫عليها حياتها حتى يقبض ثمنها الذي هو الجنة ‪،‬‬
‫فلهذا قال في الشهداء ‪ :‬إنهم أحياء عند ربهم يرزقون ‪ ،‬فرحين ببيعهم لما رأوا فيه من‬
‫الربح ‪ ،‬حيث انتقلوا إلى اآلخرة من غير موت ‪ ،‬فاإلنسان المؤمن يتنعم من حيث نفسه‬
‫الحيوانية ‪ ،‬بما تعطي الجنة من النعيم ‪ ،‬ويتنعم بما يرى مما صارت إليه من النعيم‬
‫نفسه الناطقة ‪ ،‬التي باعها بمشاهدة سيدها ‪ ،‬فحصل للمؤمن النعيمان ‪.‬‬
‫فإن الذي باع كان محبوبا له ‪ ،‬وما باعه إال ليصل إلى هذا الخير الذي وصل إليه ‪،‬‬
‫ّللا حيث باعه هذه النفس الناطقة العاقلة ‪ .‬وسبب شراء الحق‬ ‫وكانت له الحظوة عند ه‬
‫وحي " *‬‫إياها أنها كانت له بحكم األصل بقوله‪َ " :‬ونَفَ ْختُ ِفي ِه ِم ْن ُر ِ‬
‫فطرأت الفتن والباليا ‪ ،‬وادعى المؤمن فيها ‪ ،‬فتكرم الحق وتقدس ‪ ،‬ولم يجعل نفسه‬
‫خصما لهذا المؤمن ‪ ،‬فتلطف له في أن يبيعها منه ‪ ،‬وأراه العوض ‪ ،‬وال علم له بلذة‬
‫ّللا منه ‪ ،‬فلما حصلت بيد‬ ‫المشاهدة ‪ ،‬ألنها ليست له ‪ ،‬فأجاب إلى البيع فاشتراها ه‬
‫المشتري ‪ ،‬وحصل الثمن تصدق الحق بها عليه امتنانا ‪ ،‬لكونه حصل في منزل ال‬
‫يقتضي له الدعوى فيما ال يملك وهو اآلخرة ‪.‬‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ ،‬حين اشترى من جابر بن عبد‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫وقد مثل هذا الذي قلناه رسول ه‬
‫ّللا ظهره إلى‬
‫ّللا بعيره في السفر بثمن معلوم ‪ ،‬واشترط عليه البائع جابر بن عبد ه‬ ‫ه‬
‫المدينة ‪ ،‬فقبل الشرط المشتري ‪ ،‬فلما وصل المدينة ‪ ،‬وزن له الثمن ‪ ،‬فلما قبضه‬
‫وحصل عنده وأراد االنصراف أعطاه بعيره والثمن جميعا ‪ ،‬فهذا بيع وشرط ‪ ،‬وهكذا‬
‫ّللا سواء ‪ ،‬اشترى من المؤمن نفسه بثمن معلوم وهو الجنة ‪ ،‬واشترط عليه ظهره‬ ‫فعل ه‬
‫إلى المدينة ‪ ،‬وهو خروجه إلى الجهاد ‪ ،‬فلما حصل هناك واستشهد ‪ ،‬قبضه الثمن ‪،‬‬
‫ورد عليه نفسه ‪ ،‬ليكون المؤمن بجميعه متنعما ‪ ،‬بما تقبله النفس الناطقة من نعيم‬
‫العلوم والمعارف ‪ ،‬وبما تعمله الحيوانية من المأكل والمشرب والملبس والمنكح‬
‫والمركب وكل نعيم محسوس ‪ ،‬ففرحت بالمكانة والمكان والمنزلة والمنزل ‪ . -‬إشارة‬
‫‪ -‬إن من الرحمة التي تتضمنها سورة التوبة ومن التنزل اإللهي أن فيها شراء نفوس‬
‫المؤمنين منهم ‪ ،‬بأن لهم الجنة ‪ ،‬وأي تنزل أعظم من أن يشتري السيد ملكه من عبده ؟‬
‫وهل يكون في الرحمة أبلغ من هذا ؟‬
‫آن »من الناس عبيد ‪،‬‬ ‫اإل ْن ِجي ِل َو ْالقُ ْر ِ‬
‫علَ ْي ِه َحقًّا »يعني الجنة« فِي الت َّ ْوراةِ َو ْ ِ‬
‫« َوعْدا ً َ‬
‫ومنهم أجراء ‪ ،‬وألجل اإلجارة نزلت الكتب‬

‫ص ‪280‬‬

‫ص ‪280 :‬‬
‫اإللهية بها بين األجير والمستأجر ‪ ،‬فلو كانوا عبيدا ما كتب الحق كتابا لهم على نفسه‬
‫‪ ،‬فإن العبد ال يوقت على سيده ‪ ،‬إنما هو عامل في ملكه ‪ ،‬ومتناول ما يحتاج إليه ‪،‬‬
‫فاألجراء هم الذين اشترى الحق منهم أنفسهم وأموالهم بالجنة ‪ ،‬وعدا عليه حقا في‬
‫ّللا »قال صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم في‬ ‫التوراة واإلنجيل والقرآن« َو َم ْن أ َ ْوفى ِبعَ ْه ِد ِه ِمنَ َّ ِ‬
‫ّللا عهد أن‬
‫الصلوات الخمس ‪ :‬فمن أتى بهن لم يضيع من حقهن شيئا كان له عند ه‬
‫يدخله الجنة فاستبشروا بيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم ‪.‬‬

‫[ سورة التوبة ( ‪ : ) 9‬آية ‪] 112‬‬


‫ون ِبا ْل َم ْع ُر ِ‬
‫وف‬ ‫ُون ْاآل ِم ُر َ‬‫اجد َ‬ ‫س ِ‬ ‫ون ال ه‬ ‫الرا ِكعُ َ‬
‫ون ه‬‫سائِ ُح َ‬ ‫حامد َ‬
‫ُون ال ه‬ ‫ُون ا ْل ِ‬ ‫ون ا ْلعا ِبد َ‬
‫التهائِبُ َ‬
‫ين) ‪( 112‬‬ ‫ش ِر ا ْل ُم ْؤ ِم ِن َ‬
‫َّللا َوبَ ِ ّ‬ ‫ظ َ‬
‫ون ِل ُحدُو ِد ه ِ‬ ‫ون ع َِن ا ْل ُم ْنك َِر َوا ْلحا ِف ُ‬
‫َوالنها ُه َ‬
‫[ « التَّا ِئبُونَ » اآلية ]‬
‫ّللا من عين المخالفة ‪،‬‬ ‫« التَّائِبُونَ »جمع تائب من رجال ونساء ‪ ،‬وهو الراجع إلى ه‬
‫وّللا قابل التوب خاصة‬ ‫ولو رجع ألف مرة في كل يوم ‪ ،‬فما يرجع إال من المخالفة ‪ .‬ه‬
‫‪ْ «.‬العا ِبدُونَ »هم أهل الفرائض خاصة ‪ ،‬منهم صاحب سبب ‪ ،‬ومنهم تارك سبب ‪،‬‬
‫وهم صلحاء الظاهر والباطن ‪ ،‬قد عصموا من الغل والحسد والحرص والشره المذموم‬
‫‪ ،‬وصرفوا كل هذه األوصاف إلى الجهات المحمودة ‪ .‬الثواب لهم مشهود ‪ ،‬والقيامة‬
‫وأهوالها والجنة والنار مشهودتان ‪ ،‬دموعهم في محاريبهم ‪ ،‬شغلهم هول المعاد عن‬
‫حامدُونَ »من الرجال‬ ‫الرقاد ‪ ،‬ضمروا بطونهم بالصيام ‪ ،‬للسباق في حلبة النجاة ‪ْ «.‬ال ِ‬
‫ّللا بعواقب ما تعطيه صفات الحمد ‪ ،‬فهم أهل عاقبة األمور ‪ ،‬فالحمد‬ ‫والنساء ‪ ،‬توالهم ه‬
‫ّللا عليهم في القرآن ‪ ،‬هم‬ ‫إنما هو هّلل خاصة ‪ ،‬بأي وجه كان ‪ ،‬فالحامدون الذين أثنى ه‬
‫الذين طالعوا نهايات األمور في ابتدائها ‪ ،‬وهم أهل السوابق ‪ ،‬فشرعوا في حمده ابتداء‬
‫بما يرجع إليه سبحانه وتعالى جل جالله من حمد المحجوبين انتهاء ‪ ،‬فهم الحامدون‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ :‬ال‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫على الشهود بلسان الحق ‪ ،‬ثبت في الصحيح عن رسول ه‬
‫وّللا تعالى قد وصف عباده المؤمنين‬ ‫ّللا تعالى من أن يمدح ‪ ،‬ه‬ ‫شيء أحب إلى ه‬
‫سائِ ُحونَ »وهم‬ ‫ّللا ‪ ،‬ونسب إليه ما ال يليق به« ال َّ‬ ‫بالحامدين ‪ ،‬وذم ولعن من ذم جناب ه‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ :‬سياحة أمتي‬ ‫ّللا ‪ ،‬من رجال ونساء ‪ ،‬قال صلهى ه‬ ‫المجاهدون في سبيل ه‬
‫ّللا ‪ ،‬فالسياحة في هذه األمة الجهاد ‪ ،‬والسياحة المشي في األرض‬ ‫الجهاد في سبيل ه‬
‫لالعتبار برؤية آثار القرون‬

‫ص ‪281‬‬

‫ص ‪281 :‬‬
‫ّللا‬
‫الماضية ‪ ،‬ومن هلك من األمم السالفة ‪ ،‬ولما كان المقصود من الجهاد إعالء كلمة ه‬
‫ّللا ‪ ،‬جعل النبي صلهى‬ ‫ّللا ‪ ،‬ممن يعبد من دون ه‬ ‫‪ ،‬في األماكن التي يعلو فيها ذكر غير ه‬
‫ّللا‬
‫ّللا عليه وسلم سياحة هذه األمة الجهاد ‪ ،‬فإن األرض وإن لم يكفر عليها وال ذكر ه‬ ‫ه‬
‫ّللا فيها وكفر‬ ‫فيها أحد من البشر ‪ ،‬فهي أقل حزنا وهما من األرض التي عبد غير ه‬
‫عليها ‪ ،‬وهي أرض المشركين والكفار ‪ ،‬فكانت السياحة بالجهاد أفضل من السياحة‬
‫ّللا في الجهاد أفضل‬ ‫ّللا عليها وال بد ‪ ،‬فإن ذكر ه‬ ‫بغير الجهاد ‪ ،‬ولكن بشرط أن يذكر ه‬
‫من لقاء العدو ‪ ،‬فيضرب المؤمنون رقابهم ‪ ،‬ويضرب الكفار رقاب المؤمنين ‪ .‬وأما‬
‫ّللا ‪ ،‬لما في األنس‬ ‫السياحة بالجوالن في األرض على طريق االعتبار والقربة إلى ه‬
‫ّللا ‪ ،‬ومن خرق‬ ‫ّللا يشاهدون من آيات ه‬ ‫بالخلق من الوحشة ‪ ،‬فالسائحون من عباد ه‬
‫باّلل ‪ ،‬وأنسا به ورحمة بخلقه ‪،‬‬ ‫العوائد ما يزيدهم قوة في إيمانهم ونفسهم ومعرفتهم ه‬
‫وشفقة عليهم ‪ ،‬فيفتح لهم في بواطنهم في علوم إلهية ال ينالونها إال في هذه المشاهدة ‪،‬‬
‫وما يحصل لهم من خرق العوائد واالعتبار ‪ ،‬فهم يرون في األرض من اآليات‬
‫ّللا‬
‫والعجائب واالعتبارات ما دعاهم إلى النظر فيما ينبغي لمالك األرض ‪ ،‬فأنار ه‬
‫قلوبهم بأنوار العلوم ‪ ،‬وفتح لهم في النظر في اآليات ‪ ،‬وهي العالمات الدالة على‬
‫الرا ِكعُونَ »من رجال ونساء ‪ ،‬هم الذين‬ ‫ّللا تعالى «‪َّ .‬‬
‫عظمة من انقطعوا إليه وهو ه‬
‫ّللا بالركوع ‪ ،‬وهو الخضوع والتواضع هّلل تعالى من حيث هويته سبحانه ‪،‬‬ ‫وصفهم ه‬
‫ولعزته وكبريائه حيث ظهر من العالم ‪ ،‬لعلمهم بأنها صفة الحق ‪ ،‬ال صفة من تلبس‬
‫بها ‪ ،‬فركعوا للصفة ال للعين ‪ ،‬ومن هنا تواضع العارفون للجبارين والمتكبرين من‬
‫اجدُونَ »من‬ ‫س ِ‬ ‫العالم للصفة ال لعينهم إذ كان الحق هو مشهودهم في كل شيء ‪ «.‬ال َّ‬
‫ّللا بسجود القلوب ‪ ،‬فهم ال يرفعون رؤوسهم ‪ ،‬ال في الدنيا‬ ‫الرجال والنساء ‪ ،‬توالهم ه‬
‫وال في اآلخرة ‪ ،‬وهو حال القربة وصفة المقربين قال تعالى «‪َ :‬وا ْس ُج ْد َوا ْقت َ ِربْ‬
‫اجدِينَ »يريد‬ ‫س ِ‬‫س ِبه ْح ِب َح ْم ِد َر ِبه َك َو ُك ْن ِمنَ ال َّ‬ ‫»وقال تعالى لنبيه صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم «‪ :‬فَ َ‬
‫الذين ال يرفعون رؤوسهم ‪ ،‬وال يكون ذلك إال في سجود القلب ‪ْ «.‬اآل ِم ُرونَ بِ ْال َم ْع ُر ِ‬
‫وف‬
‫باّلل ‪ ،‬إذ كان هو المعروف ‪ ،‬فال فرق‬ ‫ّللا باألمر ه‬ ‫»من رجال ونساء ‪ ،‬هم الذين توالهم ه‬
‫باّلل أو اآلمرون بالمعروف ‪ ،‬فهو المعروف الذي ال ينكر بال خالف‬ ‫أن تقول اآلمرون ه‬
‫باّلل‬
‫في جميع الملل والنحل والعقول ‪ ،‬فاآلمرون بالمعروف هم اآلمرون على الحقيقة ه‬
‫‪ ،‬فإنه سبحانه إذا أحب عبده كان لسانه الذي يتكلم به ‪ ،‬واألمر من أقسام الكالم ‪ ،‬فهم‬
‫اآلمرون به ألنه لسانهم ‪،‬‬

‫ص ‪282‬‬

‫ص ‪282 :‬‬
‫فهؤالء هم الطبقة العليا في األمر بالمعروف ‪ ،‬وكل آمر بمعروف فهو تحت حيطة هذا‬
‫ع ِن ْال ُم ْن َك ِر »وأعالهم طبقة الناهون عن المنكر بالمعروف ‪،‬‬ ‫األمر« َوالنَّا ُهونَ َ‬
‫والمنكر الشريك الذي أثبته المشركون بجعلهم ‪ ،‬فلم يقبله التوحيد ‪ ،‬وأنكره فصار‬
‫ّللا »اعلم أن قوله تعالى ‪ْ «:‬الحافِ ُ‬
‫ظونَ‬ ‫منكرا من القول وزورا ‪َ «.‬و ْالحافِ ُ‬
‫ظونَ ِل ُحدُو ِد َّ ِ‬
‫ّللا »إطالق في حقهم وهم على طبقتين ‪ :‬فمنهم من عرف الحدود الذاتية فوقف‬ ‫ِل ُحدُو ِد َّ ِ‬
‫عندها ‪ ،‬وذلك العالم الحكيم المشاهد صاحب العين السليمة ‪ ،‬ومنهم من عرف الحدود‬
‫الرسمية ‪ ،‬ولم يعلم الحدود الذاتية ‪ ،‬وهم أرباب اإليمان ‪ ،‬ومنهم من عرف الحدود‬
‫ّللا على بصيرة من أتباع الرسول‬ ‫الرسمية والذاتية وهم األنبياء والرسل ومن دعا إلى ه‬
‫ّللا الذاتية‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ ،‬فهؤالء هم األولى بأن يطلق عليهم الحافظون لحدود ه‬ ‫صلهى ه‬
‫ش ِر ْال ُمؤْ ِم ِنينَ »الصابرين على ذلك ‪ ،‬وهم الذين حبسوا نفوسهم‬ ‫والرسمية معا ‪َ «.‬وبَ ِ ه‬
‫عند الحدود ولم يتعدوها مطلقا ‪.‬‬

‫[ سورة التوبة ( ‪ : ( 9‬آية ‪] 113‬‬


‫ين َولَ ْو كانُوا أُو ِلي قُ ْربى ِم ْن بَ ْع ِد ما‬ ‫ِين آ َمنُوا أ َ ْن يَ ْ‬
‫ست َ ْغ ِف ُروا ِل ْل ُمش ِْر ِك َ‬ ‫ي ِ َوالهذ َ‬
‫كان ِللنه ِب ّ‬
‫ما َ‬
‫يم ) ‪( 113‬‬ ‫تَبَيه َن لَ ُه ْم أَنه ُه ْم أَص ُ‬
‫ْحاب ا ْل َج ِح ِ‬
‫ّللا تعالى الذين‬ ‫ألنه قبل التبيين يعذر في استغفاره ‪ ،‬وليس بأصحاب الجحيم إال أعداء ه‬
‫هم أهل الجحيم ‪.‬‬

‫[ سورة التوبة ( ‪ : ) 9‬آية ‪] 114‬‬


‫ّلِل‬ ‫عدَها ِإيهاهُ فَلَ هما تَبَيه َن لَهُ أَنههُ َ‬
‫عد ٌُّو ِ ه ِ‬ ‫فار ِإ ْبرا ِهي َم ِأل َ ِبي ِه ِإاله ع َْن َم ْو ِع َد ٍة َو َ‬
‫ستِ ْغ ُ‬ ‫َوما َ‬
‫كان ا ْ‬
‫تَبَ هرأ َ ِم ْنهُ ِإ هن ِإ ْبرا ِهي َم َأل َ هواهٌ َح ِلي ٌم ) ‪( 114‬‬
‫إن الرسول إذا تبين له أن شخصا ما عدو هّلل تبرأ منه ‪ ،‬قال تعالى في حق إبراهيم‬
‫عليه السالم وأبيه آزر ‪ ،‬بعد ما وعظه وأظهر الشفقة عليه لكونه كان عنده في حد‬
‫ّللا له في وحيه ‪ ،‬وكشف له‬ ‫ّللا وتوحيده من شركه ‪ ،‬فلما بين ه‬ ‫اإلمكان أن يرجع إلى ه‬
‫عن أمر أبيه ‪ ،‬وتبين إبراهيم عليه السالم أن أباه آزر عدو هّلل ‪ ،‬تبرأ منه مع كونه أباه‬
‫ّللا عليه فقال‪:‬‬ ‫‪ ،‬فأثنى ه‬

‫ص ‪283‬‬

‫ص ‪283 :‬‬
‫ّلل تَبَ َّرأ َ ِم ْنهُ »وقد كان إبراهيم في حق أبيه أواها حليما ‪ ،‬ال‬ ‫" فَلَ َّما تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ َ‬
‫عد ٌُّو ِ َّ ِ‬
‫اآلن ‪ ،‬وقد ورد في الخبر أن إبراهيم يجد أباه بين رجليه في صورة ذيخ ‪ ،‬فيأخذه بيده‬
‫فيرمي به في النار ‪ ،‬فانظر ما أثر عند الخليل إيثاره لجناب الحق من عداوة أبيه في‬
‫فاّلل يجعلنا ممن آثر الحق على هواه ‪ ،‬وأن يجعل ذلك مناه ‪ ،‬فإن هذا هو‬ ‫ّللا تعالى ‪ ،‬ه‬ ‫ه‬
‫ما فعله إبراهيم الخليل عليه السالم في حق أبيه آزر ‪ ،‬عندما تحقق أنه عدو هّلل« ِإ َّن‬
‫ّللا ‪ ،‬وكونه ما‬ ‫يم َأل َ َّواهٌ َح ِلي ٌم »األواه هو الذي يكثر التأوه لما يشاهده من جالل ه‬ ‫إِبْرا ِه َ‬
‫في قوته مما ينبغي أن يعامل به ذلك الجالل اإللهي ‪ ،‬والتأوه من نعت المحبين ‪ ،‬فيتأوه‬
‫ّللا الشهود ‪ ،‬ويتأوه‬ ‫ّللا ‪ ،‬وشفقة على المحجوبين ‪ ،‬فيتأسف على من حرمه ه‬ ‫غيرة على ه‬
‫لحبه في محبوبه من أجل ما يراه من عمى الخلق عنه ‪ ،‬فإن من شأن المحبة الشفقة‬
‫على المحبوب «‪َ .‬ح ِلي ٌم »ببنية المبالغة ‪ ،‬وهي فعيل ‪ ،‬والحلم ال يكون إال مع القدرة‬
‫على من يحلم عنه ‪ ،‬فالحلم هو اإلمهال من القادر على األخذ ‪ ،‬فيؤخر األمر ويمهل‬
‫وال يهمل ‪ ،‬فإن صاحب العجز عن إنفاذ اقتداره ال يكون حليما ‪ ،‬وال يكون ذلك حلما ‪،‬‬
‫فال حليم إال أن يكون ذا اقتدار ‪ ،‬فإن العجلة باألخذ عقيب الجريمة دليل على الضجر ‪،‬‬
‫فالحليم هو الذي ال يعجل مع القدرة وارتفاع المانع ‪ ،‬وحلم العبد من العلم اإللهي‬
‫السابق وال يشعر به العبد ‪ ،‬حتى تقوم به صفة الحلم ‪ ،‬فحينئذ يعلم ما أعطاه حكم علم‬
‫ّللا في حكمه ‪ ،‬ولهذا إن تقدمه العلم بذلك ال يسمى حليما على جهة التشريف ‪ ،‬فالحق‬ ‫ه‬
‫يوصف بالحلم لعدم األخذ ‪ ،‬ال على طريق التشريف ‪ ،‬والعبد ينعت بالحلم لعدم األخذ‬
‫ّللا من ذلك ‪ ،‬قبل اتصافه بعدم‬ ‫أيضا ولكن على طريق التشريف ‪ ،‬لجهله بما في علم ه‬
‫المؤاخذة واإلمهال من غير إهمال ‪ ،‬فشرف الحق بالعلم ال بالحلم ‪ ،‬وشرف العبد‬
‫بالحلم ال بالعلم ‪ ،‬لجهله ذلك ‪ .‬فإن علم قبل قيام صفة الحلم به لم يكن الحلم به تشريفا ‪،‬‬
‫ولما كانت المخالفة تقتضي المؤاخذة أفسد الحلم حكمها في بعض المذاهب ‪ ،‬ولذلك‬
‫يقال ‪ :‬حلم األديم إذا فسد وتشقق ‪ ،‬وكذلك حلم النوم أفسد المعنى عن صورته ‪ ،‬ألنه‬
‫ألحقه بالحس وليس بمحسوس ‪ ،‬حتى يراه من ال علم له بأصله ‪ ،‬فيحكم عليه بما رآه‬
‫من الصورة التي رآها عليها ‪ ،‬ويجيء العارف بذلك فيعبر تلك الصورة إلى المعنى‬
‫الذي جاءت له ‪ ،‬وظهر بها ‪ ،‬فيردها إلى أصلها ‪ ،‬كما أفسد الحلم العلم ‪ ،‬فأظهره في‬
‫ّللا صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم بتأويل رؤياه إلى‬ ‫صورة اللبن ‪ ،‬وليس بلبن ‪ ،‬فرده رسول ه‬
‫أصله وهو العلم فجرد عنه تلك الصورة‪.‬‬

‫ص ‪284‬‬

‫ص ‪284 :‬‬
‫[ سورة التوبة ( ‪ : ) 9‬آية ‪] 115‬‬
‫ع ِلي ٌم‬‫ش ْي ٍء َ‬ ‫ون إِ هن ه َ‬
‫َّللا ِب ُك ِ ّل َ‬ ‫َّللاُ ِليُ ِض هل قَ ْوما ً بَ ْع َد إِ ْذ َهدا ُه ْم َحتهى يُبَ ِيّ َن لَ ُه ْم ما يَتهقُ َ‬ ‫َوما َ‬
‫كان ه‬
‫( ‪) 115‬‬
‫ض َّل »يضل أي‬ ‫ّللاُ ِليُ ِ‬
‫ّللا إنما هو البيان خاصة ‪ ،‬قال تعالى ‪َ «:‬وما كانَ َّ‬ ‫الذي على ه‬
‫ليحير« قَ ْوما ً بَ ْع َد ِإ ْذ هَدا ُه ْم »في أخذ الميثاق والفطرة التي ولدوا عليها ‪َ «،‬حتَّى يُبَ ِيهنَ‬
‫لَ ُه ْم ما يَتَّقُونَ »‬
‫[ الهدى التبياني والهدى التوفيقي ]‬
‫فإذا أبان لهم حيرهم ‪ ،‬فمنهم من حيره بالواسطة فشك في النبوة ‪ ،‬وحار فيها ‪ ،‬وما‬
‫تحقق أن هذا نبي ‪ ،‬فتوقف في األخذ عنه ‪ ،‬ومنهم من حيره في أصل النبوة هل لها‬
‫وجود أم ال ؟‬
‫ومنهم من حيره فيما جاء به هذا النبي ‪ ،‬مما تحيله األدلة النظرية ‪ ،‬فأورثهم البيان‬
‫اإللهي هذه الحيرة ‪ ،‬وذلك لعدم اإليمان ‪ ،‬فلم يكن لهم نور إيمان يكشف لهم عن حقيقة‬
‫ّللا ‪ ،‬وأبان عنه ‪ ،‬فلما أبان الحق ما أبانه لعباده فمنهم من رزقه العلم فعمل به ‪،‬‬ ‫ما قاله ه‬
‫ّللا العلم فضل وحار وشك وارتاب وتوقف ‪ ،‬فال ضالل إال بعد هداية‬ ‫ومنهم من حرمه ه‬
‫‪ ،‬فالهدى في هذه اآلية يحتمل أن يكون الهدى التبياني ‪ ،‬وهو ابتالء ‪ ،‬ال الهدى‬
‫التوفيقي ‪،‬‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ :‬ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إال‬ ‫ومن الهدى التبياني قوله صلهى ه‬
‫على ِع ْل ٍم »والهدى بمعنى البيان ‪ ،‬قد يعطي‬ ‫ضلَّهُ َّ‬
‫ّللاُ َ‬ ‫أوتوا الجدل ‪ ،‬وقوله تعالى ‪َ «:‬وأ َ َ‬
‫السعادة ‪ ،‬وقد ال يعطيها ‪ ،‬إال أنه يعطي العلم وال بد ‪ ،‬أما الهدى التوفيقي فهو الذي‬
‫ْت ‪َ ،‬ول ِك َّن َّ َ‬
‫ّللا‬ ‫يعطي السعادة لمن قام به ‪ ،‬وهو قوله تعالى ‪ِ «:‬إنَّ َك ال ت َ ْهدِي َم ْن أ َ ْحبَب َ‬
‫علَي َْك ُهدا ُه ْم »وهذا هو هدى األنبياء ‪ .‬فالهدى‬ ‫ْس َ‬ ‫يَ ْهدِي َم ْن يَشا ُء »وقوله تعالى ‪ «:‬لَي َ‬
‫التوفيقي هدى األنبياء عليهم السالم« فَ ِب ُهدا ُه ُم ا ْقت َ ِد ْه »وهو الذي يعطي سعادة العباد وما‬
‫باّلل ‪.‬‬
‫توفيقي إال ه‬

‫[ سورة التوبة ( ‪ : ) 9‬اآليات ‪ 116‬إلى ‪] 117‬‬


‫َّللا ِم ْن َو ِل ّ‬
‫ي ٍ َوال‬ ‫ُون ه ِ‬‫ض يُحْ ِيي َويُ ِميتُ َوما لَ ُك ْم ِم ْن د ِ‬ ‫ت َو ْاأل َ ْر ِ‬
‫سماوا ِ‬‫َّللا لَهُ ُم ْلكُ ال ه‬
‫ِإ هن ه َ‬
‫ِين اتهبَعُو ُه فِي سا َ‬
‫ع ِة‬ ‫صار الهذ َ‬ ‫ين َو ْاأل َ ْن ِ‬ ‫ي ِ َوا ْل ُم ِ‬
‫هاج ِر َ‬ ‫علَى النه ِب ّ‬
‫َّللاُ َ‬ ‫ير ( ‪ ) 116‬لَقَ ْد َ‬
‫تاب ه‬ ‫نَ ِص ٍ‬
‫ُف َر ِحي ٌم (‬ ‫علَ ْي ِه ْم ِإنههُ ِب ِه ْم َرؤ ٌ‬
‫تاب َ‬ ‫وب فَ ِر ٍ‬
‫يق ِم ْن ُه ْم ث ُ هم َ‬ ‫س َر ِة ِم ْن بَ ْع ِد ما كا َد يَ ِزي ُغ قُلُ ُ‬‫ا ْلعُ ْ‬
‫‪)117‬‬

‫ص ‪285‬‬

‫ص ‪285 :‬‬
‫ّللا في كل حال‬ ‫ي ِ »قد ال تكون التوبة من ذنب ‪ ،‬بل يرجع إلى ه‬ ‫علَى النَّبِ ه‬
‫ّللاُ َ‬
‫تاب َّ‬‫" لَقَ ْد َ‬
‫في كل طاعة ‪ ،‬فيرجع بالتائب إلى ربه من طاعة إلى طاعة ؛« َو ْال ُم ِ‬
‫هاج ِرينَ‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ :‬إني ألجد نفس الرحمن يأتيني من‬ ‫ّللا صلهى ه‬
‫صار »قال رسول ه‬ ‫َو ْاأل َ ْن ِ‬
‫ّللا بهم دينه‬
‫ّللا ‪ ،‬نصر ه‬ ‫ّللا عنه باألنصار ‪ ،‬فكانت األنصار كلمات ه‬ ‫قبل اليمن ‪ ،‬فنفس ه‬
‫وأظهره ‪.‬‬

‫[ سورة التوبة ‪ ( 9 ) :‬آية ‪] 118‬‬


‫ض ِبما َر ُحبَتْ َوضاقَتْ َ‬
‫علَ ْي ِه ْم‬ ‫علَ ْي ِه ُم ْاأل َ ْر ُ‬‫ِين ُخ ِلّفُوا َحتهى ِإذا ضاقَتْ َ‬ ‫علَى الثهالث َ ِة الهذ َ‬‫َو َ‬
‫اب‬ ‫علَ ْي ِه ْم ِليَتُوبُوا ِإ هن ه َ‬
‫َّللا ُه َو الت ه هو ُ‬ ‫تاب َ‬ ‫س ُه ْم َو َظنُّوا أ َ ْن ال َم ْل َجأ َ ِم َن ه ِ‬
‫َّللا ِإاله ِإلَ ْي ِه ث ُ هم َ‬ ‫أ َ ْنفُ ُ‬
‫الر ِحي ُم ( ‪) 118‬‬ ‫ه‬
‫ظنُّوا »أي علموا وتيقنوا ‪ ،‬قال أهل اللسان في ذلك ‪ ،‬فقلت لهم ظنوا بألفي مدجج ‪،‬‬ ‫« َو َ‬
‫أي تيقنوا واعلموا ‪ ،‬فإن الظن لما كانت مرتبته برزخية ‪ ،‬لها وجه إلى العلم ونقيضه ‪،‬‬
‫ثم دلت قرائن األحوال على وجه العلم فيه ‪ ،‬حكمنا عليه بحكم العلم ‪ ،‬وأنزلناه منزلة‬
‫اليقين ‪ ،‬مع بقاء اسم الظن عليه ال حكمه ‪ ،‬فإن الظن ال يكون إال بنوع من الترجيح‬
‫يتميز به عن الشك ‪ ،‬فإن الشك ال ترجيح فيه ‪ ،‬والظن فيه نوع من الترجيح إلى جانب‬
‫ّللا ابتداء‬ ‫علَ ْي ِه ْم ِليَتُوبُوا »اعلم أن توبة ه‬ ‫تاب َ‬ ‫العلم ‪ «:‬أ َ ْن ال َم ْل َجأ َ ِمنَ َّ ِ‬
‫ّللا ِإ َّال ِإلَ ْي ِه ث ُ َّم َ‬
‫مقرونة بعلى ‪ ،‬وتوبة الخلق مقرونة بإلى ‪ ،‬ألنه المطلوب بالتوبة ‪ ،‬فهو غايتها ‪،‬‬
‫فرجوع الحق عليهم رجوع عناية محبة أزلية ليتوبوا ‪ ،‬فإذا تابوا أحبهم حب من رجع‬
‫إليه ‪ ،‬فهو حب جزاء ‪.‬‬

‫ّللا يُ ِحبُّ الت َّ َّوا ِبينَ »فهذا الحب ما هو األول ‪ ،‬وللعبد حب آخر زائد‬
‫قال تعالى ‪ِ «:‬إ َّن َّ َ‬
‫على قوله ‪َ «:‬ويُ ِحبُّونَهُ »فاألول حب عناية منه ابتداء ‪ ،‬فالتوبة عن محبة منتجة لمحبة‬
‫ّللا ‪ ،‬وتاب عليهم فكان هو التائب على‬‫أخرى منه ‪ ،‬فهي بين محبتين متعلقتين بهم من ه‬
‫الحقيقة ‪ ،‬والعبد محل ظهور الصفة ‪ ،‬فكانت رجعته عليهم في الدنيا ردهم بها إليه ‪،‬‬
‫ولذلك قال «‪ِ :‬ليَتُوبُوا »فما رجع إليهم إال ليرجعوا ‪ ،‬وكل معلل علهه الحق فإنه واقع ‪،‬‬
‫ّللا واقع ‪،‬‬ ‫كما أنه كل ترج من ه‬

‫ص ‪286‬‬

‫ص ‪286 :‬‬
‫ّللا على العبد هي التي يعطيه الحق بها اإلنابة إليه ‪ ،‬فإذا رجع‬ ‫فالرجعة األولى من ه‬
‫العبد إليه بالتوبة رجع الحق إليه غير الرجوع األول ‪ ،‬وهو الرجوع بالقبول ‪ ،‬ثم قال‬
‫اب » وهو لفظ المبالغة إذ كانت له التوبة األولى من قوله ‪ «:‬ث ُ َّم َ‬
‫تاب‬ ‫‪ «:‬أ َ َّن َّ َ‬
‫ّللا ُه َو الت َّ َّو ُ‬
‫علَ ْي ِه ْم »‬ ‫َ‬
‫والثانية من قوله ‪ِ ":‬ليَتُوبُوا " فالتوبتان له من كل عبد ‪ ،‬فهو التواب ال هم ‪ ،‬ووصف‬
‫الر ِحي ُم » الذي يرجع‬
‫ّللا تاب « َّ‬‫ّللا تعالى نفسه بأنه التواب ‪ ،‬فما تاب من تاب ولكن ه‬ ‫ه‬
‫على عبده في كل مخالفة بالرحمة له ‪ ،‬فيرزقه الندم عليها ‪،‬‬
‫ّللا عليه ‪ ،‬فلو ال توبة‬ ‫وقد قال صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ [ :‬الندم توبة ] فيتوب العبد بتوبة ه‬
‫فاّلل أكثر رجوعا إلى العباد من العباد إليه ‪ ،‬ألن‬
‫ّللا عليهم ما تابوا ‪ ،‬والتوبة الرجوع ‪ ،‬ه‬ ‫ه‬
‫برجوعه تعالى إلى العباد يبقي عليهم الوجود بالحفظ اإللهي ‪ ،‬وهو التواب بالرجوع‬
‫عليهم بقبول التوبة ‪ ،‬الرحيم بعدم المؤاخذة على الذنب ‪ -‬راجع البقرة آية ‪– 37‬‬
‫‪ -‬نصيحة ‪ -‬عليك بااللتجاء إلى من تعرف أنه ال يقاوم فإنه يحميك ‪.‬‬

‫[ سورة التوبة ( ‪ : ) 9‬اآليات ‪ 119‬إلى ‪] 120‬‬


‫كان ِأل َ ْه ِل ا ْل َمدِينَ ِة‬
‫ين ( ‪ ) 119‬ما َ‬ ‫صا ِدقِ َ‬‫َّللا َوكُونُوا َم َع ال ه‬ ‫ِين آ َمنُوا اتهقُوا ه َ‬ ‫يا أَيُّ َها الهذ َ‬
‫س ِه ْم ع َْن نَ ْف ِ‬
‫س ِه‬ ‫غبُوا ِبأ َ ْنفُ ِ‬ ‫َّللا َوال يَ ْر َ‬
‫سو ِل ه ِ‬ ‫ب أ َ ْن يَت َ َخلهفُوا ع َْن َر ُ‬ ‫َو َم ْن َح ْولَ ُه ْم ِم َن ْاألَعْرا ِ‬
‫ُن َم ْو ِطئا ً يَ ِغي ُ‬
‫ظ‬ ‫َّللا َوال يَ َطؤ َ‬ ‫سبِي ِل ه ِ‬ ‫صةٌ فِي َ‬ ‫ب َوال َم ْخ َم َ‬ ‫ص ٌ‬‫ذ ِلكَ بِأَنه ُه ْم ال يُ ِصيبُ ُه ْم َظ َمأ ٌ َوال نَ َ‬
‫َّللا ال يُ ِضي ُع أَجْ َر‬ ‫ع َم ٌل صا ِل ٌح إِ هن ه َ‬‫ب لَ ُه ْم بِ ِه َ‬
‫عد ّ ٍُو نَ ْيالً إِاله ُكتِ َ‬‫ون ِم ْن َ‬‫ار َوال يَنالُ َ‬ ‫ا ْل ُكفه َ‬
‫ين ) ‪( 120‬‬ ‫سنِ َ‬ ‫ا ْل ُمحْ ِ‬
‫[ موعظة ‪ -‬نصب األبدان ]‬
‫ب »‪ -‬موعظة ‪ -‬نصب األبدان من همم النفوس في المعقول والمحسوس ‪.‬‬ ‫ص ٌ‬ ‫« َوال نَ َ‬

‫[ سورة التوبة ( ‪ : ) 9‬اآليات ‪ 121‬إلى ‪] 122‬‬


‫َّللاُ أَحْ َ‬
‫س َن‬ ‫ب لَ ُه ْم ِليَجْ ِزيَ ُه ُم ه‬ ‫يرةً َوال يَ ْق َطعُ َ‬
‫ون وادِيا ً إِاله ُكتِ َ‬ ‫يرةً َوال َكبِ َ‬ ‫ون نَفَقَةً َ‬
‫ص ِغ َ‬ ‫َوال يُ ْن ِفقُ َ‬
‫ون ِليَ ْن ِف ُروا كَافهةً فَلَ ْو ال نَفَ َر ِم ْن ُك ِ ّل فِ ْرقَ ٍة‬‫كان ا ْل ُم ْؤ ِمنُ َ‬
‫ون ( ‪َ ) 121‬وما َ‬ ‫ما كانُوا يَ ْع َملُ َ‬
‫ون (‬ ‫ِين َو ِليُ ْنذ ُِروا قَ ْو َم ُه ْم ِإذا َر َجعُوا ِإلَ ْي ِه ْم لَعَله ُه ْم يَحْ ذَ ُر َ‬‫ِم ْن ُه ْم طائِفَةٌ ِليَتَفَقه ُهوا فِي ال ّد ِ‬
‫‪)122‬‬

‫ص ‪287‬‬

‫ص ‪287 :‬‬
‫[الجهاد من فروض الكفاية ]‬
‫الجهاد من فروض الكفاية إذا قام به من يقع به الغناء سقط عن الباقي ‪ ،‬لقوله تعالى ‪«:‬‬
‫ّللا عليه وسلم ما خرج قط إلى‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫َوما كانَ ْال ُمؤْ ِمنُونَ ِليَ ْن ِف ُروا َكافَّةً »وإن رسول ه‬
‫غزو عدو إال وترك بعض الناس في المدينة« فَلَ ْو ال نَفَ َر ِم ْن ُك ِهل فِ ْرقَ ٍة ِم ْن ُه ْم طائِفَةٌ‬
‫ِين »الفقه في الدين هو استخراج الحكم في مسئلة من نص ورد في‬ ‫ِليَتَفَقَّ ُهوا ِفي ال هد ِ‬
‫الكتاب أو السنة ‪ ،‬يدخل الحكم في هذه المسألة في مجمل ذلك الكالم ‪ ،‬وال يحتاج إلى‬
‫قياس في ذلك ‪ ،‬فإن الدين قد كمل وال تجوز الزيادة فيه كما لم يجز النقص ‪ ،‬فالفقه‬
‫ّللا عبده في القرآن ‪ ،‬كما قال علي بن أبي طالب‬ ‫على الحقيقة هو الفهم الذي أعطاه ه‬
‫ّللا من شاء من عباده في هذا القرآن ‪ ،‬لذلك قال‬ ‫ّللا عنه ‪ :‬ما هو إال فهم يؤتيه ه‬ ‫رضي ه‬
‫تعالى ‪َ «:‬و ِليُ ْنذ ُِروا قَ ْو َم ُه ْم ِإذا َر َجعُوا ِإلَ ْي ِه ْم لَعَلَّ ُه ْم يَ ْحذَ ُرونَ »فأقامهم مقام الرسول صلهى‬
‫ّللا على بصيرة كما‬ ‫ّللا عليه وسلم في التفقه في الدين واإلنذار ‪ ،‬وهو الذي يدعو إلى ه‬ ‫ه‬
‫ّللا عليه وسلم على بصيرة ‪ ،‬ال على غلبة ظن ‪ ،‬كما يحكم عالم‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫يدعو رسول ه‬
‫ّللا‬
‫الرسوم ‪ ،‬فشتان بين من هو فيما يفتي به ويقوله على بصيرة منه في دعائه إلى ه‬
‫ّللا بغلبة الظن ‪.‬‬ ‫وعلى بينة من ربه ‪ ،‬وبين من يفتي في دين ه‬

‫[ سورة التوبة ( ‪ : ) 9‬آية ‪] 123‬‬


‫ِين يَلُونَ ُك ْم ِم َن ا ْل ُكفه ِار َو ْليَ ِجدُوا فِي ُك ْم ِغ ْل َظةً َوا ْعلَ ُموا أ َ هن ه َ‬
‫َّللا‬ ‫يا أَيُّ َها الهذ َ‬
‫ِين آ َمنُوا قاتِلُوا الهذ َ‬
‫ين ) ‪( 123‬‬ ‫َم َع ا ْل ُمت ه ِق َ‬
‫ّللا تعالى المعين ويعصي اإلنسان بتركه ال بد من ذلك ‪،‬‬ ‫هذا هو الجهاد الذي فرضه ه‬
‫ويؤخذ من هذه اآلية إشارة إلى الجهاد األكبر وهو جهاد الهوى ‪ ،‬فإنه أكبر األعداء‬
‫ّللا ‪ ،‬فإنها في كل نفس‬ ‫إليك الذين يلونك ‪ ،‬فإنه بين جنبيك ‪ ،‬وال أكفر من النفوس بنعم ه‬
‫ّللا عليها من بعد ما جاءتها ‪ ،‬وال يلي اإلنسان أقرب إليه من نفسه ‪ ،‬وجهاد‬ ‫تكفر نعمة ه‬
‫النفس أعظم من جهاد العدو ‪،‬‬
‫لذلك قال عليه السالم ‪ [ :‬إن جهاد النفس هو الجهاد األكبر ] ألن اإلنسان ال يخرج إلى‬
‫جهاد العدو إال بعد جهاد نفسه ‪ ،‬وجهاد العدو قد يقع من العبد للرياء والسمعة والحمية‬
‫ّللا ‪ ،‬فحظ كل موفق من هذه‬ ‫‪ ،‬وجهاد النفس أمر باطن ال يطلع عليه إال ه‬

‫ص ‪288‬‬

‫ص ‪288 :‬‬
‫اآلية أن ينظر إلى نفسه األمارة بالسوء ‪ ،‬التي تحمله على كل محظور ومكروه وتعدل‬
‫ّللا عليها ‪ ،‬وهي أقرب الكفار‬
‫به عن كل واجب ومندوب ‪ ،‬للمخالفة التي جبلها ه‬
‫واألعداء إليه ‪ ،‬فإذا جاهدها وقتلها أو أسرها حينئذ يصح له أن ينظر في األغيار على‬
‫حسب ما يقتضيه مقامه ‪ ،‬فإنك إذا جاهدت نفسك هذا الجهاد خلص لك الجهاد اآلخر‬
‫في األعداء ‪ ،‬الذي إن قتلت فيه كنت من الشهداء األحياء ‪ ،‬فالهوى هو أقرب الكفار‬
‫إليك ‪ ،‬فاشتغل به وإال اشتغل بك فيهدم دينك ‪.‬‬

‫[ سورة التوبة ( ‪ : ) 9‬آية ‪] 124‬‬


‫ِين آ َمنُوا فَزا َدتْ ُه ْم‬ ‫ورةٌ فَ ِم ْن ُه ْم َم ْن يَقُو ُل أَيُّ ُك ْم زا َدتْهُ ه ِذ ِه ِإيمانا ً فَأ َ هما الهذ َ‬
‫س َ‬ ‫َو ِإذا ما أ ُ ْن ِزلَتْ ُ‬
‫ون ( ‪) 124‬‬ ‫ش ُر َ‬ ‫ِإيمانا ً َو ُه ْم يَ ْ‬
‫ست َ ْب ِ‬
‫ورة ٌ »وهي واحدة ولكن األمزجة مختلفة« فَ ِم ْن ُه ْم َم ْن يَقُو ُل أَيُّ ُك ْم‬ ‫س َ‬ ‫ت ُ‬ ‫« َو ِإذا ما أ ُ ْن ِزلَ ْ‬
‫زا َدتْهُ ه ِذ ِه إِيمانا ً فَأ َ َّما الَّذِينَ آ َمنُوا فَزا َدتْ ُه ْم إِيمانا ً َو ُه ْم يَ ْست َ ْب ِش ُرونَ »بورود العافية عليهم‬
‫‪ ،‬واإليمان عين واحدة وزيادته أو كثرته إنما هي في ظهوره في المواطن المختلفة ‪،‬‬
‫مثل الصالة والزكاة والصوم والحج إلخ ‪ .‬وهو في نفسه ال يتكثر ‪،‬‬
‫ض )أولئك هم الكافرون حقا فنفى‬ ‫ض َونَ ْكفُ ُر ِببَ ْع ٍ‬‫ولهذا قال تعالى فيمن قال ‪ (:‬نُؤْ ِم ُن ِببَ ْع ٍ‬
‫عنهم اإليمان كله ‪.‬‬

‫[ سورة التوبة ( ‪ : ) 9‬آية ‪] 125‬‬


‫ض فَزا َدتْ ُه ْم ِرجْ سا ً إِلَى ِرجْ ِ‬
‫س ِه ْم َوماتُوا َو ُه ْم كافِ ُر َ‬
‫ون (‬ ‫َوأ َ هما الهذ َ‬
‫ِين فِي قُلُو ِب ِه ْم َم َر ٌ‬
‫‪) 125‬‬
‫[ مرض القلوب ]‬
‫ض »وهو الشبه المضلة القادحة في األدلة وفي اإليمان ‪،‬‬ ‫« َوأ َ َّما الَّذِينَ ِفي قُلُو ِب ِه ْم َم َر ٌ‬
‫تحول بين العقل من العاقل وبين صحة اإليمان الذي له تعلق بوجود الحق وتعلق‬
‫بتوحيد الحق ‪ ،‬فالذي حال مرضه العقلي بينه وبين صحة اإليمان بوجود الحق فقد‬
‫حال بينه وبين العلم لضروري ‪ ،‬فإن العلم بوجود الصانع عند ظهور الصنعة للناظر‬
‫ضروري ‪ ،‬وإن لم يعلم حقيقة الصانع وال ماهيته وال ما يجب أن يكون عليه ويجوز‬
‫ويستحيل إال بعد نظر فكري وإخبار إلهي نبوي ‪ ،‬فهذا مرض ال طب فيه ‪ ،‬ومن فقد‬
‫العلم الضروري كان بمنزلة المريض الذي قد استفرغ المرض نفسه بحيث ال يعلم أنه‬
‫مريض وال ما هو فيه ألنه ال عقل له ‪ ،‬وأما‬

‫ص ‪289‬‬

‫ص ‪289 :‬‬
‫الذي معه اإليمان أو العلم الضروري بوجود الحق الخالق فمرضه عدم اعتقاد صحة‬
‫التوحيد وعدم القبول من الشارع ما جاء به من صفات الحق ‪ ،‬فإن توحيد الحق يدرك‬
‫باإليمان ويدرك بالنظر« فَزا َدتْ ُه ْم ِر ْجسا ً ِإلَى ِر ْج ِس ِه ْم َوماتُوا َو ُه ْم كافِ ُرونَ »ألنهم على‬
‫مزاج ال يصلح إال للنار «فَزا َدتْ ُه ْم ِر ْجسا ً ِإلَى ِر ْج ِس ِه ْم »أي الصفقة من قوله تعالى‬
‫واشتروا الضاللة بالهدى ‪ ،‬وهي السورة المنزلة فال بد من الزوائد في الفريقين‪.‬‬

‫[ سورة التوبة ( ‪ : ) 9‬اآليات ‪ 126‬إلى ‪] 128‬‬


‫ون َوال ُه ْم يَذهك ُهر َ‬
‫ون (‬ ‫عام َم هرةً أ َ ْو َم هرت َ ْي ِن ث ُ هم ال يَتُوبُ َ‬‫ون فِي ُك ِ ّل ٍ‬ ‫أ َ َوال يَ َر ْو َن أَنه ُه ْم يُ ْفتَنُ َ‬
‫ص َرفُوا‬‫ض َه ْل يَرا ُك ْم ِم ْن أ َ َح ٍد ث ُ هم ا ْن َ‬ ‫ض ُه ْم ِإلى بَ ْع ٍ‬ ‫ورةٌ نَ َظ َر بَ ْع ُ‬ ‫س َ‬ ‫‪َ ) 126‬و ِإذا ما أ ُ ْن ِزلَتْ ُ‬
‫يز‬ ‫سو ٌل ِم ْن أ َ ْنفُ ِ‬
‫س ُك ْم ع َِز ٌ‬ ‫ون ( ‪ ) 127‬لَقَ ْد جا َء ُك ْم َر ُ‬ ‫َّللاُ قُلُوبَ ُه ْم ِبأَنه ُه ْم قَ ْو ٌم ال يَ ْفقَ ُه َ‬‫ف ه‬ ‫ص َر َ‬
‫َ‬
‫ُف َر ِحي ٌم ( ‪) 128‬‬ ‫ين َرؤ ٌ‬ ‫علَ ْي ُك ْم ِبا ْل ُم ْؤ ِم ِن َ‬ ‫ع ِنت ُّ ْم َح ِر ٌ‬
‫يص َ‬ ‫علَ ْي ِه ما َ‬ ‫َ‬

‫سو ٌل ِم ْن أ َ ْنفُ ِس ُك ْم » ]‬‫[ « لَقَ ْد جا َء ُك ْم َر ُ‬


‫سو ٌل ِم ْن أ َ ْنفُ ِس ُك ْم »إلى آخر السورة بشهادة خزيمة ‪ ،‬فإن‬ ‫ّللا علينا« لَقَ ْد جا َء ُك ْم َر ُ‬ ‫حفظ ه‬
‫ّللا عليه وسلم أقامه في شهادته مقام رجلين ‪ ،‬فحكم بشهادته وحده ‪،‬‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫رسول ه‬
‫إذ لم يقبل الجامع للقرآن آية منه إال بشهادة رجلين فصاعدا إال هذه اآلية ‪،‬‬
‫ّللا تعالى لنبيه صلهى ه‬
‫ّللا عليه‬ ‫ّللا عنه ‪ ،‬وشهد ه‬ ‫فإنها ثبتت بشهادة خزيمة وحده رضي ه‬
‫علَ ْي ِه ما َ‬
‫عنِت ُّ ْم »‬ ‫يز َ‬‫ع ِز ٌ‬
‫وسلم بحرصه على نجاة أمته فقال ‪َ «:‬‬
‫علَ ْي ُك ْم »في أن تسلموا وتنقادوا إلى ما فيه‬ ‫يص َ‬ ‫أي عنادكم يعز عليه للحق المبين« َح ِر ٌ‬
‫ّللا ‪،‬‬ ‫باّلل وما جاء من عند ه‬ ‫سعادتكم وهو اإليمان ه‬
‫ّللا عليه وسلم بالحرص على ما تسعد به أمته ‪،‬‬ ‫ّللا تعالى رسوله صلهى ه‬ ‫فمدح ه‬
‫فاألوصاف الجبلية في اإلنس والجان مثل الحسد والغضب والحرص والجبن والبخل ‪،‬‬
‫وما كان في الجبلة فمن المحال عدمه إال أن تنعدم العين الموصوف بها ‪،‬‬
‫ولما علم الحق أن إزالتها من هذين الصنفين من الخلق ال يصح زوالها عيهن لها‬
‫مصارف يصرفها فيها فتكون محمودة إذا صرفت في الوجه الذي أمر الشارع أن‬
‫تصرف فيه وجوبا أو ندبا ‪ ،‬وتكون مذمومة إذا صرفت في خالف المشروع ‪،‬‬
‫علَ ْي ُك ْم "‪.‬‬ ‫يص َ‬‫فقال تعالى ‪َ ":‬ح ِر ٌ‬
‫ومن ذلك حرصه على إسالم عمه أبي طالب إلى أن قال له ‪ :‬قلها في أذني حتى أشهد‬
‫لك بها ‪،‬‬

‫ص ‪290‬‬

‫ص ‪290 :‬‬
‫ُف َر ِحي ٌم »فوصف النبي‬ ‫لعلمه بأن شهادته مقبولة وكالمه مسموع« بِ ْال ُمؤْ ِمنِينَ َرؤ ٌ‬
‫ّللا عليه وسلم بالرحمة ‪ ،‬وهي رحمة فطر عليها زائدة على الرحمة التي بعث‬ ‫صلهى ه‬
‫ناك ِإ َّال َر ْح َمةً ِل ْلعالَ ِمينَ )‬
‫س ْل َ‬
‫بها ‪ ،‬وهي قوله تعالى ‪َ (:‬وما أ َ ْر َ‬
‫باّلل ‪ ،‬ومن وجه آخر قيده باإليمان ولم يقيد‬ ‫وما من أحد من األمة إال وهو مؤمن ه‬
‫اإليمان فهذا تقييد في إطالق ‪ ،‬فإنه قال في اإليمان إنه مؤمن صاحبه بالحق والباطل ‪،‬‬
‫ّللا عليه وسلم بالمؤمنين رؤوفا رحيما أن أبان ألمته عن صورة‬ ‫ومن كونه صلهى ه‬
‫تجلي الحق لعباده بقول ما قاله نبي ألمته قبله ‪ ،‬كما جاء في حديث الدجال‬
‫‪ -‬مسئلة ‪ -‬االتصاف بأوصاف الحق تعالى التي بها يكون إلها واجب شرعا وعقال‬
‫اجتناب هذه األسماء اإللهية معنى وإن أطلقت لفظا ينبغي أن ال تطلق لفظا على أحد‬
‫إال تالوة ‪،‬‬
‫سو ٌل ِم ْن أ َ ْنفُ ِس ُك ْم َ‬
‫ع ِز ٌ‬
‫يز‬ ‫فيكون الذي يطلقها تاليا حاكيا كما قال تعالى ‪ «:‬لَقَ ْد جا َء ُك ْم َر ُ‬
‫ُف َر ِحي ٌم »فسماه عزيزا رؤوفا رحيما‬ ‫علَ ْي ُك ْم بِ ْال ُمؤْ ِمنِينَ َرؤ ٌ‬
‫يص َ‬ ‫علَ ْي ِه ما َ‬
‫عنِت ُّ ْم َح ِر ٌ‬ ‫َ‬
‫ّللا عليه وسلم في نفسه مع ربه عبد ذليل‬ ‫ّللا إياه ونعتقد أنه صلهى ه‬ ‫فنسميه بتسمية ه‬
‫خاشع أواه منيب ‪ ،‬فإطالق األلفاظ التي تطلق على الحق من الوجه الصحيح الذي يليق‬
‫ّللا إال من حيث أطلقها الحق ال‬ ‫بالجناب اإللهي ال ينبغي أن تطلق على أحد من خلق ه‬
‫غير وإن أباح ذلك ‪،‬‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ ،‬فيكون‬ ‫فإن أطلقها العبد على من أطلقها عليه الحق أو الرسول صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم في ذلك اإلطالق‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫هذا المطلق تاليا أو مترجما ناقال عن رسول ه‬
‫‪ ،‬ومن الورع أن ال يطلق على أحد ممن ليس بنبي وال رسول اللفظ الذي اختصوا به ‪،‬‬
‫ّللا لفظة الورثة والمترجمين ‪ ،‬فيقال من‬ ‫فيطلق على الرسل الذين ليسوا برسل ه‬
‫السلطان الفالني إلى السلطان الفالني ترجمان يقول كذا ‪.‬‬
‫ّللا ‪ ،‬ويطلق‬ ‫وكذا ‪ ،‬فال يطلق على المرسل وال المرسل إليه اسم الملك ورعا وأدبا مع ه‬
‫ّللا ‪ ،‬فيجتنب هذا اللفظ أدبا وحرمة وورعا ‪،‬‬ ‫عليه اسم السلطان ‪ ،‬فإن الملك من أسماء ه‬
‫ّللا ‪ ،‬ويطلق على الرسول الذي‬ ‫ويقال السلطان ‪ ،‬إذ كان هذا اللفظ لم يرد في أسماء ه‬
‫ّللا‬
‫جاء من عنده اسم الترجمان ولم يطلق عليه اسم الرسول ‪ ،‬ألنه أطلق على رسول ه‬
‫ّللا عليهم‬ ‫ّللا عليه وسلم ‪ ،‬فيجعل من خصائص النبوة والرسالة أدبا مع رسل ه‬ ‫صلهى ه‬
‫السالم ‪ ،‬وإن كان هذا اللفظ أبيح ولم ينه عنه فلزوم األدب أولى‬
‫‪ -‬إشارة ‪ -‬التوحيد في اإلله ‪ ،‬من حيث ما هو إله ‪ ،‬ال من حيث األسماء فإنها للعبيد‬
‫واإلماء ‪ ،‬بها يكون التحقق ‪ ،‬وهي المراد بالتخلق ‪ ،‬قد قال في الكتاب الحكيم عن‬
‫رسوله الكريم ‪ ،‬إنه بالمؤمنين رؤوف رحيم ‪ ،‬وقال سبحانه عن نفسه في كالمه القديم‬
‫ّللا بكم لرؤف رحيم ‪ ،‬فقد عرفنا ‪ ،‬بأنه وصف‬ ‫‪ ،‬إن ه‬

‫ص ‪291‬‬

‫ص ‪291 :‬‬
‫نفسه بما وصفنا ‪ ،‬فلو ال صحة القبول منا ‪ ،‬ما أخبر بذلك عنا ‪ ،‬وخبره صدق ‪ ،‬وقوله‬
‫حق ‪ ،‬فالمشاركة في الصفات ‪ ،‬دليل على تباين الذوات ‪ ،‬فالحق تعالى يرى صورته‬
‫في مرآة اإلنسان الكامل ‪ ،‬ومعنى يرى صورة الحق فيه إطالق جميع األسماء اإللهية‬
‫وّللا الرازق ‪،‬‬
‫وّللا الناصر ‪ ،‬وبهم ترزقون ه‬‫عليه ‪ ،‬كما جاء في الخبر فبهم تنصرون ه‬
‫وّللا الراحم ‪ ،‬وقد ورد في القرآن فيمن علمنا كماله واعتقدنا ذلك فيه‬
‫وبهم ترحمون ه‬
‫أنه بالمؤمنين رؤوف رحيم ‪ ،‬فالتخلق باألسماء ‪ ،‬يقول به جميع العلماء ‪.‬‬

‫[ سورة التوبة ( ‪ : ) 9‬آية ‪] 129‬‬


‫ب ا ْلعَ ْر ِش ا ْلعَ ِظ ِ‬
‫يم ( ‪) 129‬‬ ‫علَ ْي ِه ت َ َو هك ْلتُ َو ُه َو َر ُّ‬
‫َّللاُ ال ِإلهَ ِإاله ُه َو َ‬
‫ي ه‬ ‫فَ ِإ ْن ت َ َوله ْوا فَقُ ْل َح ْ‬
‫س ِب َ‬
‫ّللا الكفاية يكفيني أمرهم‬ ‫ّللاُ »أي في ه‬ ‫ي َّ‬ ‫« فَإِ ْن ت َ َولَّ ْوا »عما دعوتموهم إليه« فَقُ ْل َح ْس ِب َ‬

‫[ توحيد االستكفاء ]‬
‫« ال ِإلهَ ِإ َّال ُه َو »وهذا هو التوحيد الحادي عشر ‪ ،‬وهو توحيد االستكفاء ‪ ،‬وهو من‬
‫علَى ْال ِب ِ هر َوالت َّ ْقوى »فأحالنا علينا بأمره‬
‫توحيد الهوية لما قال تعالى «‪َ :‬وتَعا َونُوا َ‬
‫فبادرنا المتثال أمره ‪ ،‬فمنا من قال التعاون على البر والتقوى أن يرد كل واحد‬
‫صاحبه إلى ربه في ذلك ‪ ،‬ويستكفي به فيما كلفه ‪،‬‬
‫وهو قوله ‪ ( :‬واستعينوا باهلل ) خطاب تحقيق « عليه توكلت » التوكل اعتماد القلب‬
‫ّللا تعالى مع عدم االضطراب عند فقد األسباب الموضوعة في العالم ‪ ،‬التي من‬ ‫على ه‬
‫شأن النفوس أن تركن إليها ‪ ،‬فإن اضطرب فليس بمتوكل ‪ ،‬وهو من صفات‬
‫المؤمنين« َو ُه َو َربُّ ْالعَ ْر ِش ْالعَ ِظ ِيم »‬
‫فإذا كان رب العرش والعرش محيط بعالم األجسام وأنت من حيث جسميتك أقل‬
‫ّللا حسبه انقلب‬‫باّلل ‪ ،‬الذي هو رب مثل هذا العرش ‪ ،‬ومن كان ه‬ ‫األجسام فاستكف ه‬
‫وّللا ذو فضل‬
‫ّللا ‪ ،‬ه‬‫ّللا وفضل لم يمسسه سوء ‪ ،‬وجاء في ذلك بما يرضي ه‬ ‫بنعمة من ه‬
‫عظيم على من جعله حسبه‪.‬‬

‫ص ‪292‬‬

‫ص ‪292 :‬‬
‫) ‪ ( 10‬سورة يونس مكيّة‬
‫الرحيم‬
‫الرحمن ّ‬ ‫َّللا ّ‬ ‫بسم ّ‬
‫[ سورة يونس ( ‪ : ) 10‬اآليات ‪ 1‬إلى ‪] 2‬‬
‫يم‬‫الر ِح ِ‬
‫من ه‬ ‫الرحْ ِ‬ ‫َّللا ه‬
‫س ِم ه ِ‬ ‫ِب ْ‬
‫ع َجبا ً أ َ ْن أ َ ْو َح ْينا ِإلى َر ُج ٍل ِم ْن ُه ْم أ َ ْن‬ ‫اس َ‬ ‫يم ( ‪ ) 1‬أ َ َ‬
‫كان ِللنه ِ‬ ‫ب ا ْل َح ِك ِ‬
‫الر ِت ْلكَ آياتُ ا ْل ِكتا ِ‬
‫ون إِ هن هذا‬ ‫ِين آ َمنُوا أ َ هن لَ ُه ْم قَ َد َم ِصد ٍ‬
‫ْق ِع ْن َد َر ِبّ ِه ْم قا َل ا ْلكافِ ُر َ‬ ‫ش ِر الهذ َ‬
‫اس َوبَ ِ ّ‬ ‫أ َ ْنذ ِِر النه َ‬
‫ين ( ‪) 2‬‬ ‫ساح ٌر ُمبِ ٌ‬ ‫لَ ِ‬
‫ق ِع ْن َد َر ِبه ِه ْم‬ ‫ص ْد ٍ‬‫ش ِر الَّذِينَ آ َمنُوا »وهم أهل السعادة[ قدم صدق ]« أ َ َّن لَ ُه ْم قَ َد َم ِ‬ ‫« َوبَ ِ ه‬
‫ّللا ‪ ،‬وصحت لهم هذه القدم قبل كونهم حيث ال‬ ‫»أي سابق عناية عند ربهم في علم ه‬
‫ّللا ‪ ،‬خصوصية منه جل عاله لهم ‪ ،‬وهي الرحمة التي كتبها على نفسه ‪،‬‬ ‫قبل في علم ه‬
‫وقدم الصدق هذه تعطي ثبوت أهل الجنات في جناتهم ‪ ،‬ولهذا قال في أهل الجنان‬
‫ق ِع ْن َد َر ِبه ِه ْم‬ ‫ص ْد ٍ‬ ‫عطاء غير مجذوذ ‪ ،‬فما وصفه باالنقطاع ‪ ،‬فقال تعالى «‪ :‬أ َ َّن لَ ُه ْم قَ َد َم ِ‬
‫»أي سابقة بأمر قد أعلمهم به قبل أن يعطيهم ذلك ‪ ،‬ثم أعطاهم فصدق فيما وعدهم به‬
‫ّللا‬
‫‪ ،‬واعلم أن من المتشابه صفة القدم ‪ ،‬فإنه ثبت في الصحيح من حديث أنس رضي ه‬
‫عنه ‪ ،‬قال ‪:‬‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ [ :‬ال تزال جهنم تقول هل من مزيد حتى يضع‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫قال رسول ه‬
‫فيها رب العزة قدمه ‪ ،‬فتقول قط قط وعزتك ]‬
‫ّللا تعالى هي ظلل غمام الشريعة ‪ ،‬وأن وجهه‬ ‫وقد مهدنا أن الصورة المنسوبة إلى ه‬
‫منها هو بارق نور التوحيد ‪ ،‬ومظهره اإلخالص ‪ ،‬وعلى هذا فالقدم هي نور اإليمان ‪،‬‬
‫ومظهره الصدق ‪ ،‬وهذا هو القدم الذي تستغيث النار من نوره كما جاء في حديث أبي‬
‫سمية ‪،‬‬
‫ّللا عنه عن الورود ‪،‬‬ ‫ّللا رضي ه‬ ‫قال ‪ :‬سألت جابر بن عبد ه‬
‫ّللا عليه وسلم يقول ‪:‬‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫قال ‪ :‬سمعت رسول ه‬
‫[ الورود الدخول ‪ ،‬ال يبقى بر وال فاجر إال دخلها ‪ ،‬فتكون على المؤمنين بردا وسالما‬
‫‪ ،‬كما كانت على إبراهيم ‪ ،‬حتى إن للنار ضجيجا من بردهم ]‬
‫ّللا عليه وسلم‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫ّللا عنه ‪ ،‬قال ‪ :‬قال رسول ه‬ ‫وفي حديث يعلى رضي ه‬
‫[ إن النار لتنادي جز يا مؤمن فقد أطفأ نورك لهبي ] أخرجهما‬

‫ص ‪293‬‬

‫ص ‪293 :‬‬
‫ّللا محمد الترمذي الحكيم ‪ ،‬وذكر القرطبي حديث يعلى عن أبي بكر النخاد ‪،‬‬ ‫أبو عبد ه‬
‫وهذا يحقق أن القدم فيما ذكرناه أمران ‪ :‬أحدهما أن نور اإليمان يكفر جميع أسباب‬
‫الكفر والمعاصي ‪ ،‬وهي أسباب ‪ ،‬فكما يطفئ أسبابها في الدنيا ‪ ،‬فكذلك حقيقته تطفئ‬
‫حقيقتها في اآلخرة ‪ ،‬والثاني نسبته إلى رب العزة ‪ ،‬وهو صاحب العزة ومالكها ‪،‬‬
‫والعزة إن كانت جميعا هّلل تعالى بمقتضى‬
‫ّللف ْال ِع َّزة ُ َج ِميعا ً )لكنه قد نسبها لرسوله وللمؤمنين‬ ‫قوله تعالى ‪ِ َّ ِ َ (:‬‬
‫سو ِل ِه َو ِل ْل ُمؤْ ِمنِينَ ) فما من مؤمن إال وهو صاحب‬
‫ّلل ْال ِع َّزة ُ َو ِل َر ُ‬
‫في قوله تعالى ‪َ (:‬و ِ َّ ِ‬
‫العزة ‪ ،‬فإذا وضع قدمه حق للنار أن تضج منه وتنزوي وتنطفئ نارها بما له من نور‬
‫العزة ‪،‬‬
‫ّللا عنه عند مسلم [ فأما النار فال تمتلئ حتى يضع‬ ‫وجاء في حديث أبي هريرة رضي ه‬
‫ّللا تبارك وتعالى رجله فتقول ‪ :‬قط قط ‪ ،‬فهناك تمتلئ وتنزوي بعضها إلى بعض ‪،‬‬ ‫ه‬
‫ّللا من خلقه أحدا ]‬ ‫فال يظلم ه‬
‫وذكر الحديث ‪ ،‬وهو غير مناف لما ذكرناه ‪ ،‬ومرجعه للحديث الصحيح [ وال يزال‬
‫عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه ‪ ،‬فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ‪ -‬إلى‬
‫قوله ‪ -‬ورجله التي يمشي بها ]‬
‫ّللا تعالى ‪،‬‬ ‫فإنه يقتضي تحقق رجل المؤمن بنور التوحيد ‪ ،‬حتى تكون منسوبة إلى ه‬
‫وحينئذ فهو موافق لما تقدم من القدم ‪ ،‬وانزواؤها بعضها إلى بعض فيه حكمتان ‪:‬‬
‫إحداهما أنها عندما تضج بسبب نور العزة من أقدام المؤمنين ‪ ،‬فيخرجون منها ‪ ،‬لخلو‬
‫مواضعهم ‪ ،‬فلو بقيت كذلك لما كانت مملوءة ‪ ،‬وهو مناف لقوله تعالى (‪َ :‬أل َ ْم َأل َ َّن َج َهنَّ َم‬
‫) *اآلية ‪،‬‬
‫وأيضا ربما كان في ذلك تخفيف على أهلها ‪ ،‬فاقتضت الحكمة أنها حينئذ تنضم‬
‫وتجتمع على أهلها المتكبرين وتمتلئ بهم ‪ ،‬تحقيقا للوعيد وزيادة في العذاب ‪ ،‬والحكمة‬
‫الثانية أنها لو بقيت مواضع المؤمنين خالية من النار ‪ ،‬لم يتم لهم سرورهم باألمن منها‬
‫ّللا وعدها أنه يملؤها ‪ ،‬فربما توقعوا اإلعادة ‪ ،‬فكان في انزوائها‬ ‫‪ ،‬لعلمهم بأن ه‬
‫وانضمامها على أهلها وامتالئها بهم تأمين للمؤمنين ‪ ،‬كما ذبح الموت بين الفريقين‬
‫تحقيقا للخلود ‪ -‬إشارة ‪ -‬اعلم أن نعلي قدم الصدق هما الخوف والرجاء [ راجع قوله‬
‫تعالى لموسى عليه السالم ( اخلع نعليك إنك بالوادي المقدس ) سورة طه آية رقم (‬
‫‪. ] ) 12‬‬

‫[ سورة يونس ( ‪ : ) 10‬آية ‪] 3‬‬


‫علَى ا ْلعَ ْر ِش يُ َد ِبّ ُر‬
‫ستَوى َ‬ ‫ست ه ِة أَيه ٍام ث ُ هم ا ْ‬
‫ض فِي ِ‬ ‫ت َو ْاأل َ ْر َ‬‫سماوا ِ‬ ‫ق ال ه‬ ‫َّللاُ الهذِي َخلَ َ‬
‫ِإ هن َربه ُك ُم ه‬
‫ون) ‪( 3‬‬ ‫يع ِإاله ِم ْن بَ ْع ِد ِإ ْذنِ ِه ذ ِل ُك ُم ه‬
‫َّللاُ َربُّ ُك ْم فَا ْعبُدُوهُ أ َ فَال تَذَك ُهر َ‬ ‫ْاأل َ ْم َر ما ِم ْن َ‬
‫ش ِف ٍ‬

‫ص ‪294‬‬

‫ص ‪294 :‬‬
‫علَى ْالعَ ْر ِش »العرش له اإلحاطة باألجسام ‪ ،‬وله‬ ‫راجع األعراف آية ‪ «54‬ث ُ َّم ا ْستَوى َ‬
‫األولية في األفالك فما تحتها ‪ ،‬فهو األول المحيط ‪ ،‬فاختاره الحق لالستواء لما بين‬
‫ّللا ملكه ‪ ،‬والسماوات‬ ‫الصفتين ‪ ،‬وإن كان العرش هو الملك ‪ ،‬فكل شيء ما سوى ه‬
‫واألرض في جوف الكرسي كحلقة في فالة ‪ ،‬والكرسي في جوف العرش كحلقة في‬
‫فالة« يُ َد ِبه ُر ْاأل َ ْم َر »اعلم أن حكم المدبر في األمور إحكامها في موضع الجمع والشهود‬
‫‪ ،‬وإعطاؤها ما تستحقه ‪ ،‬وهذا كله قبل وجودها في أعيانها ‪ ،‬فالتدبير هو التقدير ‪،‬‬
‫فقوله تعالى« يُ َد ِبه ُر ْاأل َ ْم َر »يعني أن الحق على الحقيقة هو مدبر العالم ‪ ،‬وما وصف‬
‫نفسه بذلك إال ليعرفنا أنه ما عمل شيئا إال ما تقتضيه حكمة الوجود ‪ ،‬وأنه أنزله‬
‫موضعه الذي لو لم ينزله فيه لم يوف الحكمة حقها ‪ ،‬فلم يزل الحق في أزله مدبرا ‪،‬‬
‫وال بد أن يكون تدبيره في مدبهر معيهن له ‪ ،‬وليس إال أعيان الممكنات ‪ ،‬فهي مشهودة‬
‫له في حال عدمها ‪ ،‬فإنها ثابتة ‪ ،‬فيدبر فيها ما يكون من تقدم بعضها على بعض ‪،‬‬
‫وتأخرها في تكوين أعيانها وصور ما توجد فيها ‪ ،‬وهنالك هو سر القدر الذي أخفى‬
‫ّللا تعالى علمه عن خلقه ‪ ،‬حتى يظهر الحكم به في الصور الموجودة في رأي العين«‬ ‫ه‬
‫ش ِفي ٍع ِإ َّال ِم ْن بَ ْع ِد ِإ ْذنِ ِه »األنبياء والمؤمنون يشفعون في أهل اإليمان ‪ ،‬وأهل‬ ‫ما ِم ْن َ‬
‫اإليمان طائفتان ‪ :‬منهم المؤمن عن نظر وتحصيل دليل ‪ ،‬وهم الذين علموا اآليات‬
‫والدالالت والمعجزات ‪ ،‬وهؤالء هم الذين يشفع فيهم النبيون ‪ ،‬ومنهم المؤمن تقليدا بما‬
‫أعطاه أبواه إذ ربياه أو أهل الدار التي نشأ فيها ‪ ،‬فهذا النوع يشفع فيهم المؤمنون كما‬
‫أنهم أعطوهم اإليمان في الدنيا بالتربية ‪ ،‬وأما المالئكة فتشفع فيمن كان على مكارم‬
‫األخالق في الدنيا وإن لم يكن مؤمنا ‪ ،‬وما ثم شافع رابع ‪ ،‬وبقي من يخرجه أرحم‬
‫الراحمين من النار ‪ ،‬وهم الذين ما عملوا خيرا قط ‪ ،‬ال من جهة اإليمان وال بإتيان‬
‫ّللاُ َربُّ ُك ْم‬
‫مكارم األخالق ‪ ،‬غير أن العناية سبقت لهم أن يكونوا من أهل الجنة« ذ ِل ُك ُم َّ‬
‫فَا ْعبُدُوهُ أ َ فَال تَذَ َّك ُرونَ ‪».‬‬

‫ص ‪295‬‬

‫ص ‪295 :‬‬
‫[سورة يونس ( ‪ : ) 10‬آية ‪] 4‬‬
‫ي الهذ َ‬
‫ِين آ َمنُوا َوع َِملُوا‬ ‫ق ث ُ هم يُ ِعي ُدهُ ِليَجْ ِز َ‬
‫َّللا َحقًّا إِنههُ يَ ْب َدؤُا ا ْل َخ ْل َ‬
‫إِلَ ْي ِه َم ْر ِجعُ ُك ْم َج ِميعا ً َو ْع َد ه ِ‬
‫َذاب أ َ ِلي ٌم ِبما كانُوا يَ ْكفُ ُر َ‬
‫ون‬ ‫يم َوع ٌ‬ ‫َراب ِم ْن َح ِم ٍ‬ ‫ِين َكفَ ُروا لَ ُه ْم ش ٌ‬ ‫س ِط َوالهذ َ‬‫ت ِبا ْل ِق ْ‬
‫صا ِلحا ِ‬ ‫ال ه‬
‫(‪)4‬‬
‫[ « ِإنَّهُ يَ ْب َدؤُا ْالخ َْلقَ » ]‬
‫« إِنَّهُ يَ ْب َدؤُا ْالخ َْلقَ »ما سمي الخلق خلقا إال بما يخلق منه ‪ ،‬فالخلق جديد ‪ ،‬وفيه حقيقة‬
‫اختالق ‪ ،‬ألنك تنظر إليه من وجه فتقول ‪:‬هو حق ‪ ،‬وتنظر إليه من وجه فتقول ‪ :‬هو‬
‫خلق ‪ ،‬وهو في نفسه ال حق وال غير حق ‪ ،‬فإطالق الحق عليه والخلق كأنه اختالق ‪،‬‬
‫فغلب عليه هذا الحكم فسمي خلقا ‪ ،‬وانفرد الحق باسم الحق« ث ُ َّم يُ ِعي ُدهُ »اإلعادة تكرار‬
‫األمثال أو العين في الوجود ‪ ،‬وذلك جائز وليس بواقع ‪ ،‬أعني تكرار العين ‪ ،‬لالتساع‬
‫اإللهي ‪ ،‬ولكن اإلنسان في لبس من خلق جديد ‪ ،‬فهي أمثال يعسر الفصل فيها لقوة‬
‫الشبه ‪ ،‬فاإلعادة إنما هي في الحكم ‪ ،‬مثل السلطان يولي واليا ثم يعزله ‪ ،‬ثم يوليه بعد‬
‫عزله ‪ ،‬فاإلعادة في الوالية ‪ ،‬والوالية نسبة ال عين وجودي ‪ ،‬أال ترى اإلعادة يوم‬
‫ّللا عليه وسلم قد ميهز بين نشأة الدنيا‬ ‫القيامة إنما هي في التدبير ‪ ،‬فإن النبي صلهى ه‬
‫والنشأة اآلخرة ‪ ،‬والروح المدبهر لنشأة الدنيا عاد إلى تدبير نشأة اآلخرة ‪ ،‬فهي إعادة‬
‫حكم ونسبة ال إعادة عين فقدت ثم وجدت ‪ ،‬فاألعيان التي هي الجواهر ما فقدت من‬
‫الوجود حتى تعاد إليه ‪ ،‬بل لم تزل موجودة العين ‪ ،‬وال إعادة لموجود في الوجود فإنه‬
‫موجود ‪ ،‬وإنما هي هيئات وامتزاجات نسبية ‪ ،‬فال إعادة في الكون ‪ ،‬وإنما اإلعادة في‬
‫نشء اآلخرة إعادة حكم إلهي في حق أمر مخصوص ‪ ،‬بمنزلة من خرج من دار ثم‬
‫عاد إليها ‪ ،‬فالدار الدار والخارج الداخل ‪ ،‬وما ث هم إال انتقال في أحوال ال ظهور أعيان‬
‫‪ ،‬مع صحة إطالقها أن الخارج من الدار عاد إلى داره ‪.‬‬

‫[ سورة يونس ( ‪ : ) 10‬آية ‪] 5‬‬


‫سنِ َ‬
‫ين‬ ‫ع َد َد ال ِ ّ‬ ‫س ِضيا ًء َوا ْلقَ َم َر نُورا ً َوقَد َهرهُ َم ِ‬
‫ناز َل ِلت َ ْعلَ ُموا َ‬ ‫ُه َو الهذِي َجعَ َل الش ْهم َ‬
‫ون) ‪( 5‬‬ ‫ت ِلقَ ْو ٍم يَ ْعلَ ُم َ‬
‫ص ُل ْاآليا ِ‬ ‫َّللاُ ذ ِلكَ ِإاله ِبا ْل َح ّ ِ‬
‫ق يُفَ ِ ّ‬ ‫ق ه‬ ‫َوا ْل ِح َ‬
‫ساب ما َخلَ َ‬

‫ص ‪296‬‬

‫ص ‪296 :‬‬
‫ضيا ًء »تضيء كل ما أشرقت عليه ‪ ،‬فهي ضياء لوجود روح‬ ‫س ِ‬ ‫" ُه َو الَّذِي َجعَ َل ال َّ‬
‫ش ْم َ‬
‫ّللا ضياء يكشف به كل ما تنبسط عليه لمن كان له بصر‬ ‫الحياة في العالم كله ‪ ،‬وجعلها ه‬
‫‪ ،‬فإن الكشف إنما يكون بضياء النور ال بالنور ‪ ،‬فإن النور ما له سوى تنفير الظلمة ‪،‬‬
‫ّللا تعالى‬
‫وبالضياء يقع الكشف ‪ ،‬فالضوء ال يكون معه حجاب عما يكشفه ‪ ،‬فجعل ه‬
‫الشمس ضياء ‪ ،‬فهي ضياء بالجعل نور بالذات ‪ ،‬كما جعل « ْالقَ َم َر نُورا ً »فهو نور‬
‫بالجعل وهو بالذات محو«‬
‫ساب «» والقمر » ولم يسمه بدرا وال هالال ‪،‬‬ ‫سنِينَ َو ْال ِح َ‬
‫ع َد َد ال ِ ه‬‫ناز َل ِلت َ ْعلَ ُموا َ‬
‫َوقَد ََّرهُ َم ِ‬
‫ناز َل‬
‫فإنه في هاتين الحالتين ما له سوى منزلة واحدة ‪ ،‬بل اثنتين ‪ ،‬فال يصدق قوله« َم ِ‬
‫»إال في القمر ‪ ،‬فللقمر درج التداني والتدلي ‪ ،‬وله األخذ بالزيادة والنقص ‪ ،‬فهو يتغير‬
‫ناز َل »‬ ‫في أحواله نورا« َوقَد ََّرهُ َم ِ‬
‫مقادير التقسيم التي في فلك البروج عيهنها الحق تعالى لنا ‪ ،‬إذ لم يميزه البصر بهذه‬
‫المنازل المعينة في الفلك المكوكب ‪ ،‬واسمه فلك المنازل ‪،‬‬
‫وهو من تقدير العزيز العليم ‪ ،‬وجعلها ثماني وعشرين منزلة ‪ ،‬مقسمة على اثني عشر‬
‫برجا ‪ ،‬فكل برج منزلتان وثلث ‪،‬‬
‫والقمر أحد السبعة ‪ ،‬الجواري السبع التي في السماوات السبع ‪ ،‬والتي تقطع في فلك‬
‫البروج بين سريع وبطيء ‪ ،‬ويوم كل كوكب منها بقدر قطعه فلك البروج ‪،‬‬
‫وأسرعها قطعا القمر ‪ ،‬فإن يومه ثمانية وعشرون يوما من أيام الدورة الكبرى التي‬
‫تقدر بها هذه األيام ‪ ،‬وهي األيام المعهودة عند الناس ‪ ،‬فأقصر أيام الكواكب يوم القمر‬
‫‪،‬‬
‫ومقداره ثمانية وعشرون يوما مما تعدون ‪ ،‬واعلم أن أصغر األيام هي التي نعدها‬
‫حركة الفلك المحيط ‪ ،‬الذي يظهر في يومه الليل والنهار ‪ ،‬فأقصر يوم عند العرب‬
‫وهو هذا ‪ ،‬ألكبر فلك ‪ ،‬وذلك لحكمه على ما في جوفه من األفالك ‪ ،‬إذ كانت حركة ما‬
‫دونه في الليل والنهار حركة قسرية له ‪ ،‬قهر بها سائر األفالك التي يحيط بها ‪،‬‬
‫ولكل فلك حركة طبيعية تكون له مع الحركة القسرية ‪ ،‬فكل فلك دونه ذو حركتين في‬
‫وقت واحد ‪ ،‬حركة طبيعية وحركة قسرية ‪ ،‬ولكل حركة طبيعية في كل فلك يوم‬
‫مخصوص ‪ ،‬يع هد مقداره باأليام الحادثة عن الفلك المحيط ‪ ،‬المعبر عنه‬
‫بقوله تعالى ‪ِ (:‬م َّما تَعُ ُّدونَ ) *وكلها تقطع في الفلك المحيط ‪ ،‬فكلما قطعته على الكمال‬
‫كان يوما لها ‪ ،‬ويدور الدور ‪ ،‬فأصغر األيام منها هو ثمانية وعشرون يوما مما تعدون‬
‫‪ ،‬وهو مقدار قطع حركة القمر في الفلك المحيط ‪،‬‬
‫ّللا هذه الكواكب السبعة في السماوات ليدرك البصر قطع فلكها في الفلك‬ ‫ونصب ه‬
‫المحيط لنعلم عدد السنين والحساب ‪ ،‬فلكل كوكب منها يوم‬

‫ص ‪297‬‬

‫ص ‪297 :‬‬
‫مقدهر ‪ ،‬يفضل بعضها على بعض ‪ ،‬على قدر سرعة حركاتها الطبيعية أو صغر‬
‫ساب »بسير القمر في منازله والشمس فيها ‪ -‬فلك‬ ‫سنِينَ َو ْال ِح َ‬ ‫ع َد َد ال ِ ه‬‫أفالكها « ِلت َ ْعلَ ُموا َ‬
‫المنازل ‪ -‬راجع سورة يس آية ‪– 39 -‬‬
‫ص ُل ْاآليا ِ‬
‫ت ِلقَ ْو ٍم يَ ْعلَ ُمونَ »‪.‬‬ ‫ّللاُ ذ ِل َك ِإ َّال ِب ْال َح ه ِ‬
‫ق يُفَ ِ ه‬ ‫« ما َخلَقَ َّ‬

‫[ سورة يونس ‪ ( 10 ) :‬آية ‪] 6‬‬


‫ت ِلقَ ْو ٍم يَتهقُ َ‬
‫ون‬ ‫ت َو ْاأل َ ْر ِ‬
‫ض َآليا ٍ‬ ‫سماوا ِ‬
‫َّللاُ فِي ال ه‬
‫ق ه‬ ‫هار َوما َخلَ َ‬
‫الف الله ْي ِل َوالنه ِ‬ ‫إِ هن فِي ْ‬
‫اختِ ِ‬
‫(‪)6‬‬
‫ّللا تعليمه فال يدخل علمه شك وال شبهة ‪ ،‬فهو صاحب بصيرة ‪،‬‬ ‫المتقي يتولى ه‬
‫والمتفكر بين البصر والبصيرة ‪ ،‬لم يبق مع البصر وال يخلص للبصيرة ‪ ،‬فهو ناظر‬
‫إلى قوة مخلوقة ‪ ،‬فيصيب ويخطئ ‪ ،‬وإذا أصاب يقبل دخول الشبهة عليه بالقوة التي‬
‫أفادته اإلصابة ‪.‬‬

‫[ سورة يونس ( ‪ : ) 10‬اآليات ‪ 7‬إلى ‪] 10‬‬


‫ِين ُه ْم ع َْن آياتِنا‬ ‫ون ِلقا َءنا َو َرضُوا ِبا ْل َحيا ِة ال ُّد ْنيا َوا ْط َمأَنُّوا ِبها َوالهذ َ‬ ‫ِإ هن الهذ َ‬
‫ِين ال يَ ْر ُج َ‬
‫ِين آ َمنُوا َوع َِملُوا‬ ‫ون ( ‪ِ ) 8‬إ هن الهذ َ‬ ‫سبُ َ‬ ‫ار ِبما كانُوا يَ ْك ِ‬ ‫ون ) ‪ ( 7‬أُول ِئكَ َمأْوا ُه ُم النه ُ‬ ‫غا ِفلُ َ‬
‫يم ( ‪) 9‬‬ ‫ت النه ِع ِ‬ ‫هار فِي َجنها ِ‬ ‫ِيه ْم َربُّ ُه ْم بِ ِإيمانِ ِه ْم تَجْ ِري ِم ْن تَحْ تِ ِه ُم ْاأل َ ْن ُ‬
‫ت يَ ْهد ِ‬‫صا ِلحا ِ‬‫ال ه‬
‫ب‬ ‫آخ ُر َدعْوا ُه ْم أ َ ِن ا ْل َح ْم ُد ِ ه ِ‬
‫ّلِل َر ّ ِ‬ ‫سال ٌم َو ِ‬ ‫س ْبحانَكَ الله ُه هم َوت َ ِحيهت ُ ُه ْم فِيها َ‬‫َدعْوا ُه ْم فِيها ُ‬
‫ين ( ‪) 10‬‬ ‫ا ْلعالَ ِم َ‬
‫[ الحمد هّلل هو آخر دعوى السعداء ]‬
‫الحمد هّلل هو آخر دعوى السعداء ‪ ،‬ويرجع األمر على االبتداء ‪ ،‬وهكذا تكون الدرجات‬
‫في الجنان ‪ ،‬واألحوال على ترتيب ما كان عليه اإلنسان ‪ ،‬فالحمد هّلل تمأل الميزان ‪،‬‬
‫ّللا تثبت اإليمان ‪ ،‬وهي أول مسموع ‪ ،‬فالحمد هّلل رب‬ ‫وهي آخر موضوع ‪ ،‬وال إله إال ه‬
‫العالمين ‪ ،‬ونعمت العاقبة للمتقين ‪ ،‬فإن الحمد هّلل هو أول ما تكلم به أول إنسان في‬
‫ّللا ألهل‬ ‫نشئه ‪ ،‬وهو آخر دعواهم ‪ ،‬فبدأ العالم بالثناء وختم بالثناء ‪ ،‬وذلك عند قول ه‬
‫الجنة ‪ :‬رضائي عنكم‬

‫ص ‪298‬‬

‫ص ‪298 :‬‬
‫فال أسخط عليكم أبدا ‪ ،‬فالحمد هّلل له التأخير في األمور ‪ ،‬فهي تمأل الميزان ‪ ،‬فإن آخر‬
‫ّللا وبحمده ‪ ،‬فبها يمتلئ ‪ ،‬فالتحميد يأتي عقيب األمور ‪،‬‬
‫ما يجعل في الميزان سبحان ه‬
‫ففي السراء يقال ‪ ( :‬الحمد هلل المنعم المفضل )‬
‫وفي الضراء يقال ‪ ( :‬الحمد هلل على كل حال ) ‪.‬‬

‫[ سورة يونس ( ‪ : ) 10‬اآليات ‪ 11‬إلى ‪] 12‬‬


‫ِين ال‬ ‫ي إِلَ ْي ِه ْم أ َ َجلُ ُه ْم فَنَذَ ُر الهذ َ‬
‫ستِ ْعجالَ ُه ْم بِا ْل َخ ْي ِر لَقُ ِض َ‬
‫اس الش ههر ا ْ‬ ‫َولَ ْو يُعَ ِ ّج ُل ه‬
‫َّللاُ ِللنه ِ‬
‫ض ُّر دَعانا ِل َج ْن ِب ِه أ َ ْو‬ ‫سان ال ُّ‬ ‫اْل ْن َ‬ ‫س ِْ‬ ‫ون ( ‪َ ) 11‬و ِإذا َم ه‬ ‫ون ِلقا َءنا فِي ُ‬
‫ط ْغيانِ ِه ْم يَ ْع َم ُه َ‬ ‫يَ ْر ُج َ‬
‫سهُ كَذ ِلكَ ُز ِيّ َن‬ ‫ع ْنهُ ض هُرهُ َم هر كَأ َ ْن لَ ْم يَ ْدعُنا ِإلى ض ٍ ُّر َم ه‬ ‫ش ْفنا َ‬ ‫قا ِعدا ً أ َ ْو قائِما ً فَلَ هما َك َ‬
‫ون ) ‪( 12‬‬ ‫ين ما كانُوا يَ ْع َملُ َ‬ ‫س ِر ِف َ‬ ‫ِل ْل ُم ْ‬
‫فإن اإلنسان لو نشأ على الخير والنعم طول عمره لم يعرف قدر ما هو فيه حتى يبتلى‬
‫‪ ،‬فإذا مسه الضر عرف قدر ما هو فيه من النعم والخيرات ‪ ،‬عند ذلك عرف قدر‬
‫المنعم ‪.‬‬

‫[ سورة يونس ( ‪ : ) 10‬آية ‪] 13‬‬


‫سلُ ُه ْم ِبا ْلبَ ِيّنا ِ‬
‫ت َوما كانُوا ِليُ ْؤ ِمنُوا‬ ‫َولَقَ ْد أ َ ْهلَ ْكنَا ا ْلقُ ُر َ‬
‫ون ِم ْن قَ ْب ِل ُك ْم لَ هما َظلَ ُموا َوجا َءتْ ُه ْم ُر ُ‬
‫ين ) ‪( 13‬‬ ‫كَذ ِلكَ نَجْ ِزي ا ْلقَ ْو َم ا ْل ُمجْ ِر ِم َ‬
‫ّللا ما ذكر أخبار القرون الماضية إال لنكون على حذر من األسباب التي‬ ‫اعلم أن ه‬
‫أخذهم بها أخذته الرابية ‪ ،‬وبطش بهم البطش الشديد ‪ ،‬وأما الموت فأنفاس معدودة ‪،‬‬
‫وآجال محدودة ‪ ،‬وليس الخوف إال من أخذه وبطشه ال من لقائه ‪ ،‬فإن لقاءه يسر الولي‬
‫‪ ،‬والموت سبب اللقاء ‪ ،‬فهو أسنا تحفة يتحفها المؤمن ‪ ،‬فكيف به إذا كان عالما ‪ ،‬بخ‬
‫على بخ‬

‫[ سورة يونس ( ‪ : ) 10‬اآليات ‪ 14‬إلى ‪] 16‬‬


‫علَ ْي ِه ْم‬
‫ون ( ‪َ ) 14‬و ِإذا تُتْلى َ‬ ‫ف ت َ ْع َملُ َ‬‫ظ َر َك ْي َ‬ ‫ض ِم ْن بَ ْع ِد ِه ْم ِلنَ ْن ُ‬ ‫ف فِي ْاأل َ ْر ِ‬ ‫ث ُ هم َجعَ ْلنا ُك ْم َخالئِ َ‬
‫غ ْي ِر هذا أ َ ْو بَ ِ ّد ْلهُ قُ ْل ما يَك ُ‬
‫ُون ِلي‬ ‫آن َ‬ ‫ت ِبقُ ْر ٍ‬ ‫ون ِلقا َءنَا ائْ ِ‬ ‫ِين ال يَ ْر ُج َ‬‫ت قا َل الهذ َ‬ ‫آياتُنا بَ ِيّنا ٍ‬
‫َذاب‬
‫صيْتُ َر ِبّي ع َ‬ ‫ع َ‬ ‫خاف ِإ ْن َ‬ ‫ي ِإ ِنّي أ َ ُ‬ ‫سي ِإ ْن أَت ه ِب ُع ِإاله ما يُوحى ِإلَ ه‬ ‫أ َ ْن أُبَ ِ ّدلَهُ ِم ْن تِ ْل ِ‬
‫قاء نَ ْف ِ‬
‫علَ ْي ُك ْم َوال أَدْرا ُك ْم ِب ِه فَقَ ْد لَ ِبثْتُ ِفي ُك ْم ُ‬
‫ع ُمرا ً‬ ‫َّللاُ ما تَلَ ْوتُهُ َ‬ ‫يم ( ‪ ) 15‬قُ ْل لَ ْو شا َء ه‬ ‫يَ ْو ٍم ع َِظ ٍ‬
‫ون) ‪( 16‬‬ ‫ِم ْن قَ ْب ِل ِه أ َ فَال ت َ ْع ِقلُ َ‬

‫ص ‪299‬‬

‫ص ‪299 :‬‬
‫ّللاُ ما تَلَ ْوتُهُ‬ ‫" قُ ْل "أمر من الحق تعالى إلى نبيه صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ ،‬فقال ‪ «،‬لَ ْو شا َء َّ‬
‫علَ ْي ُك ْم َوال أ َ ْدرا ُك ْم بِ ِه »ولكنه شاء فتلوته عليكم وأدراكم به ‪ ،‬يقول ‪ :‬فهمكم إياه فعلمتم‬
‫َ‬
‫أنه الحق ‪.‬‬

‫[ سورة يونس ‪( 10 ) :‬اآليات ‪ 17‬إلى ‪] 18‬‬


‫ون ( ‪) 17‬‬ ‫ب بِآياتِ ِه إِنههُ ال يُ ْف ِل ُح ا ْل ُمجْ ِر ُم َ‬‫َّللا َكذِبا ً أ َ ْو َكذه َ‬
‫علَى ه ِ‬‫افتَرى َ‬ ‫فَ َم ْن أ َ ْظلَ ُم ِم هم ِن ْ‬
‫َّللا قُ ْل أ َ‬
‫شفَعاؤُنا ِع ْن َد ه ِ‬‫ُالء ُ‬ ‫ون هؤ ِ‬ ‫َّللا ما ال يَض ُُّر ُه ْم َوال يَ ْنفَعُ ُه ْم َويَقُولُ َ‬‫ُون ه ِ‬ ‫ُون ِم ْن د ِ‬ ‫َويَ ْعبُد َ‬
‫ُون (‬‫ع هما يُش ِْرك َ‬ ‫س ْبحانَهُ َوتَعالى َ‬ ‫ض ُ‬ ‫ت َوال فِي ْاأل َ ْر ِ‬ ‫سماوا ِ‬ ‫َّللا ِبما ال يَ ْعلَ ُم فِي ال ه‬
‫ُون ه َ‬ ‫تُنَ ِبّئ َ‬
‫‪) 18‬‬
‫[ للمشرك ضرب من التوحيد ]‬
‫إن للمشرك ضربا من التوحيد ‪ ،‬أعني توحيد المرتبة اإللهية العظمى ‪ ،‬فإن المشرك‬
‫ّللا في عظمته ‪ ،‬ليست للشريك عنده‬ ‫ّللا ‪ ،‬فوحد هذا المشرك ه‬ ‫جعل الشريك شفيعا عند ه‬
‫هذه الرتبة ‪ ،‬إذ لو كانت له ما اتخذه شفيعا ‪ ،‬والشفيع ال يكون حاكما ‪ ،‬فلهم رائحة من‬
‫ّللا لهم فيها نوعا من النعيم في‬ ‫التوحيد ‪ ،‬وإن لم يخرجوا من النار ال يبعد أن يجعل ه‬
‫األسباب المقرون بها اآلالم ‪.‬‬

‫[ سورة يونس ( ‪ : ) 10‬اآليات ‪ 19‬إلى ‪] 22‬‬


‫ي بَ ْينَ ُه ْم فِيما‬ ‫سبَقَتْ ِم ْن َر ِبّكَ لَقُ ِض َ‬ ‫اختَلَفُوا َولَ ْو ال َك ِل َمةٌ َ‬ ‫واح َدةً فَ ْ‬‫اس إِاله أ ُ همةً ِ‬ ‫كان النه ُ‬ ‫َوما َ‬
‫ّلِل‬ ‫علَ ْي ِه آيَةٌ ِم ْن َر ِبّ ِه فَقُ ْل إِنه َما ا ْلغَ ْي ُ‬
‫ب ِه ِ‬ ‫ون لَ ْو ال أ ُ ْن ِز َل َ‬
‫ون ( ‪َ ) 19‬ويَقُولُ َ‬ ‫فِي ِه يَ ْخت َ ِلفُ َ‬
‫ض هرا َء‬ ‫اس َرحْ َمةً ِم ْن بَ ْع ِد َ‬ ‫ين ( ‪َ ) 20‬و ِإذا أَذَ ْقنَا النه َ‬ ‫فَا ْنت َ ِظ ُروا ِإ ِنّي َمعَ ُك ْم ِم َن ا ْل ُم ْنت َ ِظ ِر َ‬
‫ون ( ‪21‬‬ ‫ون ما ت َ ْمك ُُر َ‬ ‫سلَنا يَ ْكتُبُ َ‬ ‫ع َم ْكرا ً ِإ هن ُر ُ‬ ‫س َر ُ‬ ‫َّللاُ أ َ ْ‬
‫ستْ ُه ْم ِإذا لَ ُه ْم َم ْك ٌر فِي آياتِنا قُ ِل ه‬ ‫َم ه‬
‫س ِيّ ُر ُك ْم ِفي ا ْلبَ ِ ّر َوا ْلبَحْ ِر َحتهى ِإذا ُك ْنت ُ ْم ِفي ا ْلفُ ْل ِك َو َج َر ْي َن ِب ِه ْم ِب ِريحٍ َط ِيّبَ ٍة‬ ‫) ُه َو الهذِي يُ َ‬
‫كان َو َظنُّوا أَنه ُه ْم أ ُ ِحي َط بِ ِه ْم‬ ‫ج ِم ْن ُك ِ ّل َم ٍ‬ ‫ف َوجا َء ُه ُم ا ْل َم ْو ُ‬ ‫عاص ٌ‬
‫ِ‬ ‫َوفَ ِر ُحوا بِها جا َءتْها ِري ٌح‬
‫ين) ‪( 22‬‬ ‫ِين لَئِ ْن أ َ ْن َج ْيتَنا ِم ْن ه ِذ ِه لَنَكُونَ هن ِم َن الشها ِك ِر َ‬ ‫ين لَهُ ال ّد َ‬ ‫َّللا ُم ْخ ِل ِص َ‬
‫َدع َُوا ه َ‬

‫ص ‪300‬‬

‫ص ‪300 :‬‬
‫ما قدم تعالى البر على البحر وتهمم بتقديمه إال ليعلم أنه من قدر على البر ال يسافر في‬
‫البحر إال من ضرورة ‪ ،‬فلو ال أن هّلل فيه سرا ما قدمه وما أخر البحر ‪ ،‬إال إذا لم يجد‬
‫ّللا رأى خيرا في حركاته ‪ ،‬وكان‬ ‫المسافر سبيال إلى البر ‪ ،‬فإنه من التزم تقديم ما قدم ه‬
‫ّللا عنه يقول ‪ :‬لوال هذه اآلية ثم يتلو« ُه َو الَّذِي يُ َ‬
‫س ِيه ُر ُك ْم فِي‬ ‫عمر بن الخطاب رضي ه‬
‫ْالبَ ِ هر َو ْالبَ ْح ِر »لضربت بالدرة من سافر في البحر ‪.‬‬
‫ت ِل ُك ِهل‬ ‫ولو لم يكن في اإلشارة إلى ترك السفر إال قوله في ذلك ( إِ َّن فِي ذ ِل َك َآليا ٍ‬
‫ور ) *‬ ‫ش ُك ٍ‬ ‫َّار َ‬‫صب ٍ‬ ‫َ‬
‫ط ِيهبَ ٍة َوفَ ِر ُحوا بِها‬ ‫يح َ‬ ‫لكانت هذه اآلية كافية« َحتَّى ِإذا ُك ْنت ُ ْم فِي ْالفُ ْل ِك َو َج َريْنَ بِ ِه ْم بِ ِر ٍ‬
‫ط ِب ِه ْم "باألخذ ‪ ،‬من‬ ‫ظنُّوا أَنَّ ُه ْم أ ُ ِحي َ‬ ‫ف َوجا َء ُه ُم ْال َم ْو ُج ِم ْن ُك ِهل َم ٍ‬
‫كان َو َ‬ ‫عاص ٌ‬
‫ِ‬ ‫جا َءتْها ِري ٌح‬
‫أحاط بهم العدو ‪ ،‬فال يجدون مفلتا وال منفذا"‬
‫ّللا غير المعتادة تنبهوا من غفلتهم ‪،‬‬ ‫صينَ لَهُ ال هدِينَ »عندما رأوا آيات ه‬ ‫ّللا ُم ْخ ِل ِ‬
‫ع ُوا َّ َ‬
‫َد َ‬
‫ّللا مخلصين له الدين« لَئِ ْن أ َ ْن َج ْيتَنا ِم ْن ه ِذ ِه »اآلية ‪ ،‬وهو ما وقع بهم من العذاب‬ ‫فدعوا ه‬
‫شا ِك ِرينَ »‪.‬‬ ‫والهالك «لَنَ ُكون ََّن ِمنَ ال َّ‬

‫[ سورة يونس ( ‪ : ) 10‬آية ‪] 23‬‬


‫ق يا أَيُّ َها النه ُ‬
‫اس ِإنهما بَ ْغيُ ُك ْم عَلى‬ ‫ض ِبغَ ْي ِر ا ْل َح ّ ِ‬ ‫ون ِفي ْاأل َ ْر ِ‬ ‫فَلَ هما أ َ ْنجا ُه ْم ِإذا ُه ْم يَ ْبغُ َ‬
‫ون ( ‪) 23‬‬ ‫ع ا ْل َحيا ِة ال ُّد ْنيا ث ُ هم إِلَ ْينا َم ْر ِجعُ ُك ْم فَنُنَ ِبّئ ُ ُك ْم بِما ُك ْنت ُ ْم ت َ ْع َملُ َ‬ ‫أ َ ْنفُ ِ‬
‫س ُك ْم َمتا َ‬
‫ق »فعادوا إلى شركهم وبغيهم بعد‬ ‫ض بِغَي ِْر ْال َح ه ِ‬ ‫« فَلَ َّما أ َ ْنجا ُه ْم إِذا ُه ْم يَ ْبغُونَ فِي ْاأل َ ْر ِ‬
‫ع ْال َحياةِ ال ُّد ْنيا »وهكذا يقولون‬ ‫على أ َ ْنفُ ِس ُك ْم َمتا َ‬ ‫اس ِإنَّما بَ ْغيُ ُك ْم َ‬ ‫إخالصهم هّلل «يا أَيُّ َها النَّ ُ‬
‫في‬

‫ص ‪301‬‬

‫ص ‪301 :‬‬
‫النار( يا لَ ْيتَنا نُ َر ُّد ) يقول تعالى( َولَ ْو ُردُّوا لَعادُوا ) كما عاد أصحاب الفلك إلى شركهم‬
‫وبغيهم بعد إخالصهم هّلل« ث ُ َّم ِإلَيْنا َم ْر ِجعُ ُك ْم فَنُنَ ِبهئ ُ ُك ْم بِما ُك ْنت ُ ْم ت َ ْع َملُونَ »‪.‬‬

‫[ سورة يونس ( ‪ : ) 10‬آية ‪] 24‬‬


‫ض ِم هما يَأ ْ ُك ُل‬‫اختَلَ َط ِب ِه نَباتُ ْاأل َ ْر ِ‬ ‫ماء فَ ْ‬
‫س ِ‬ ‫َماء أ َ ْن َز ْلنا ُه ِم َن ال ه‬
‫ِإنهما َمث َ ُل ا ْل َحيا ِة ال ُّد ْنيا ك ٍ‬
‫ون‬ ‫ازيهنَتْ َو َظ هن أ َ ْهلُها أَنه ُه ْم قاد ُِر َ‬ ‫ض ُز ْخ ُرفَها َو ه‬ ‫ت ْاأل َ ْر ُ‬ ‫اس َو ْاأل َ ْنعا ُم َحتهى إِذا أ َ َخذَ ِ‬ ‫النه ُ‬
‫ص ُل‬ ‫علَ ْيها أَتاها أ َ ْم ُرنا لَ ْيالً أ َ ْو نَهارا ً فَ َجعَ ْلناها َح ِصيدا ً كَأ َ ْن لَ ْم ت َ ْغ َن بِ ْاأل َ ْم ِس كَذ ِلكَ نُفَ ِ ّ‬ ‫َ‬
‫ون ( ‪) 24‬‬ ‫ت ِلقَ ْو ٍم يَتَفَك ُهر َ‬ ‫ْاآليا ِ‬
‫ّللا من غامض حكمته في أحكامه ‪،‬‬ ‫ت ِلقَ ْو ٍم يَتَفَ َّك ُرونَ »فيما أخفاه ه‬ ‫ص ُل ْاآليا ِ‬ ‫« َكذ ِل َك نُفَ ِ ه‬
‫ّللا تعالى أعطانا قوة الفكر لننظر بها فيما يعرفنا بأنفسنا وبه ‪ ،‬ولننظر بها‬ ‫واعلم أن ه‬
‫في اآليات في اآلفاق وفي أنفسنا ليتبين لنا بذلك أنه الحق ‪ ،‬واختلفت األمزجة‬
‫ّللا اختالفا كثيرا من قوة واحدة وهي الفكر ‪ ،‬وما‬ ‫واألمشاج ‪ ،‬فاختلفت المقاالت في ه‬
‫ّللا‬
‫باّلل ‪ ،‬ال ليعلم العقل ه‬ ‫ّللا تعالى الفكر إال ليعلم أنه ال يعلم أمر من األمور إال ه‬ ‫جعل ه‬
‫تعالى به ‪ ،‬فيكون طلسما على العقول ‪.‬‬

‫[ سورة يونس ( ‪ : ) 10‬آية ‪] 25‬‬


‫ست َ ِق ٍ‬
‫يم ( ‪) 25‬‬ ‫الم َويَ ْهدِي َم ْن يَشا ُء إِلى ِص ٍ‬
‫راط ُم ْ‬ ‫س ِ‬ ‫َّللاُ يَ ْدعُوا إِلى ِ‬
‫دار ال ه‬ ‫َو ه‬
‫ّللا تعالى الهادي إليها ‪ ،‬والسالم اسمه تعالى ‪،‬‬ ‫الم »فإن ه‬ ‫س ِ‬‫دار ال َّ‬
‫عوا إِلى ِ‬‫ّللاُ يَ ْد ُ‬
‫« َو َّ‬
‫والعارفون ال يزالون يسمعون دعاء الحق في قلوبهم مع أنفاسهم ؛ فهم ينتقلون من‬
‫حال إلى حال بحسب ما يدعوهم إليه الحق ‪ ،‬وهكذا المؤمنون الصادقون في الدنيا ‪،‬‬
‫بما دعاهم الشرع إليه في جميع أفعالهم ‪ ،‬وإجابتهم هي العاصمة لهم من وقوعهم في‬
‫محظور ‪ ،‬فهم ينتقلون من حال إلى حال لدعاء ربهم إياهم ‪ ،‬فهو داع أبدا ‪ ،‬والعارف‬
‫ّللا ممن شق سمعه دعاء ربه ‪ ،‬وشق‬ ‫غير محجوب السمع فهو مجيب أبدا ‪ ،‬جعلنا ه‬
‫بصره لمشاهدة تجليه ‪ ،‬فالتجلي ال ينقطع ‪ ،‬فشهود الحق ما ال يرتفع ‪ ،‬فدوام لدوام ‪،‬‬
‫واهتمام الهتمام‪.‬‬

‫ص ‪302‬‬

‫ص ‪302 :‬‬
‫[سورة يونس ( ‪ : ) 10‬آية ‪] 26‬‬
‫ق ُو ُجو َه ُه ْم قَت َ ٌر َوال ِذلهةٌ أُولئِكَ أَص ُ‬
‫ْحاب ا ْل َجنه ِة‬ ‫سنى َو ِزيا َدةٌ َوال يَ ْر َه ُ‬ ‫ِين أَحْ َ‬
‫سنُوا ا ْل ُح ْ‬ ‫ِللهذ َ‬
‫ُون) ‪( 26‬‬ ‫ُه ْم فِيها خا ِلد َ‬
‫سنُوا »باألعمال« ْال ُحسْنى »بما لهم من األجور ‪ ،‬بل بما لألعمال من‬ ‫" ِللَّذِينَ أ َ ْح َ‬
‫األجور ‪ ،‬فمعيهن لمعيهن ‪ ،‬وهو الحد ‪ ،‬الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف "‬
‫فللذين أحسنوا الحسنى » جزاء ‪ ،‬وزاد غير معيهن فقال‪َ " :‬و ِزيا َدة ٌ "‬
‫سن َِزي ُد ْال ُم ْح ِسنِينَ ) وهو ما جاوز الحد ‪ ،‬فزيادة اإلحسان بعد‬ ‫وهو قوله تعالى ‪َ (:‬و َ‬
‫العدل ‪ ،‬وهو الفضل ما زاد على المثل ‪ ،‬وهو ما لم يخطر بالبال ‪،‬‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ [ :‬إن في الجنة ما ال عين رأت وال أذن سمعت وال خطر‬ ‫قال صلهى ه‬
‫على قلب بشر ] فال بد أن يكون غير معلوم للبشر‪.‬‬

‫[ سورة يونس ( ‪ : ) 10‬اآليات ‪ 27‬إلى ‪] 32‬‬


‫عاص ٍم‬
‫ِ‬ ‫س ِيّئ َ ٍة بِ ِمثْ ِلها َوت َ ْر َهقُ ُه ْم ِذلهةٌ ما لَ ُه ْم ِم َن ه ِ‬
‫َّللا ِم ْن‬ ‫ت َجزا ُء َ‬ ‫س ِيّئا ِ‬‫سبُوا ال ه‬ ‫ِين َك َ‬ ‫َوالهذ َ‬
‫ُون (‬ ‫ْحاب النه ِار ُه ْم فِيها خا ِلد َ‬ ‫شيَتْ ُو ُجو ُه ُه ْم قِ َطعا ً ِم َن الله ْي ِل ُم ْظ ِلما ً أُولئِكَ أَص ُ‬ ‫كَأَنهما أ ُ ْغ ِ‬
‫ِين أَش َْركُوا َمكانَ ُك ْم أ َ ْنت ُ ْم َوش َُركا ُؤ ُك ْم فَ َزيه ْلنا‬ ‫‪َ ) 27‬ويَ ْو َم نَحْ ش ُُر ُه ْم َج ِميعا ً ث ُ هم نَقُو ُل ِللهذ َ‬
‫اّلِل ش َِهيدا ً بَ ْينَنا َوبَ ْينَ ُك ْم ِإ ْن‬ ‫ُون ( ‪ ) 28‬فَكَفى ِب ه ِ‬ ‫بَ ْينَ ُه ْم َوقا َل ش َُركا ُؤ ُه ْم ما ُك ْنت ُ ْم ِإيهانا ت َ ْعبُد َ‬
‫سلَفَتْ َو ُردُّوا إِلَى ه ِ‬
‫َّللا‬ ‫ين ( ‪ُ ) 29‬هنا ِلكَ ت َ ْبلُوا ُك ُّل نَ ْف ٍس ما أ َ ْ‬ ‫ُكنها ع َْن ِعبا َدتِ ُك ْم لَغافِ ِل َ‬
‫ماء‬
‫س ِ‬ ‫ون ( ‪ ) 30‬قُ ْل َم ْن يَ ْر ُزقُ ُك ْم ِم َن ال ه‬ ‫ع ْن ُه ْم ما كانُوا يَ ْفت َ ُر َ‬ ‫ض هل َ‬ ‫ق َو َ‬ ‫َم ْوال ُه ُم ا ْل َح ّ ِ‬
‫ج ا ْل َم ِيّتَ ِم َن‬ ‫ت َويُ ْخ ِر ُ‬ ‫ي ِم َن ا ْل َم ِيّ ِ‬ ‫ج ا ْل َح ه‬
‫صار َو َم ْن يُ ْخ ِر ُ‬ ‫س ْم َع َو ْاأل َ ْب َ‬ ‫ض أ َ هم ْن يَ ْم ِلكُ ال ه‬ ‫َو ْاأل َ ْر ِ‬
‫ون ) ‪( 31‬‬ ‫َّللاُ فَقُ ْل أ َ فَال تَتهقُ َ‬‫ون ه‬ ‫سيَقُولُ َ‬ ‫ي ِ َو َم ْن يُ َد ِبّ ُر ْاأل َ ْم َر فَ َ‬ ‫ا ْل َح ّ‬
‫ون) ‪( 32‬‬ ‫ضال ُل فَأ َنهى تُص َْرفُ َ‬ ‫ق ِإاله ال ه‬ ‫ق فَما ذا بَ ْع َد ا ْل َح ّ ِ‬ ‫َّللاُ َربُّ ُك ُم ا ْل َح ُّ‬‫فَذ ِل ُك ُم ه‬

‫ص ‪303‬‬

‫ص ‪303 :‬‬
‫ّللاُ َربُّ ُك ُم ْال َح ُّق »فهذا توحيد أشار به الحق ‪ ،‬يدل عليه إما العقل السليم أو‬ ‫" فَذ ِل ُك ُم َّ‬
‫الشرع المعصوم ‪ ،‬فإذا لم يكن حقا« فَما ذا بَ ْع َد ْال َح ه ِ‬
‫ق ِإ َّال الضَّال ُل »وليس إال الخلق ‪،‬‬
‫والضالل حيرة ‪ ،‬فالحق الوجود والضالل الحيرة ‪ ،‬وبالخلق ظهر حكم الضالل ‪ ،‬ففي‬
‫ص َرفُونَ »أي كيف تصرفون عن معرفة هذه الحقائق ‪،‬‬ ‫الخلق تاه الخلق ‪« ،‬فَأَنَّى ت ُ ْ‬
‫ومن صرف عن الحق أين يذهب ؟ فما عدا هذين القرينين العقل والشرع ‪ ،‬يقول‬
‫بخالف ذلك ويصرف األلوهية إلى ما يراه ‪.‬‬

‫[ سورة يونس ( ‪ : ) 10‬آية ‪] 33‬‬


‫سقُوا أَنه ُه ْم ال يُ ْؤ ِمنُ َ‬
‫ون ) ‪( 33‬‬ ‫ِين فَ َ‬ ‫كَذ ِلكَ َحقهتْ َك ِل َمةُ َر ِبّكَ َ‬
‫علَى الهذ َ‬
‫ّللا بأمر فإنه يعمل في غير معمل ‪ ،‬ويطمع في غير مطمع ‪.‬‬ ‫فمن حقت عليه كلمة ه‬

‫[ سورة يونس ( ‪ : ) 10‬آية ‪] 34‬‬


‫ق ث ُ هم يُ ِعي ُدهُ فَأَنهى‬ ‫ق ث ُ هم يُ ِعي ُدهُ قُ ِل ه‬
‫َّللاُ يَ ْب َدؤُا ا ْل َخ ْل َ‬ ‫قُ ْل َه ْل ِم ْن ش َُركائِ ُك ْم َم ْن يَ ْب َدؤُا ا ْل َخ ْل َ‬
‫ُون) ‪( 34‬‬ ‫ت ُ ْؤفَك َ‬
‫ّللاُ يَ ْب َدؤُا ْالخ َْلقَ ث ُ َّم يُ ِعي ُدهُ ]‬
‫[ قُ ِل َّ‬
‫البدء افتتاح وجود الممكنات على التتالي والتتابع ‪ ،‬لكون الذات الموجدة له اقتضت‬
‫ذلك من غير تقييد بزمان ‪ ،‬إذ الزمان من جملة الممكنات الجسمانية ‪ ،‬فكان في مقابلة‬
‫ّللا فيه ‪،‬‬
‫وجود الحق أعيان ثابتة موصوفة بالعدم أزال ‪ ،‬وهو الكون الذي ال شيء مع ه‬
‫إال أن وجوده أفاض على هذه األعيان على حسب ما اقتضته استعداداتها ‪ ،‬فتكونت‬
‫ألعيانها ال له من غير بينية تعقل أو تتو ههم ‪ ،‬وسبب عزة ذلك ‪ ،‬الجهل بذات الحق ‪،‬‬
‫وكان البدء عن نسبة أمر فيه رائحة جبر ‪ ،‬إذ الخطاب ال يقع إال على عين ثابتة‬
‫معدومة ‪ ،‬عاقلة سميعة عالمة بما تسمع ‪ ،‬بسمع ما هو سمع وجود وال عقل وجود وال‬
‫علم وجود ‪ ،‬فالبدء حالة مستصحبة قائمة ال تنقطع ‪ ،‬فإن معطي الوجود ال يقيده ترتيب‬
‫الممكنات ‪ ،‬فالنسبة منه واحدة ‪ ،‬فالبدء ما زال وال يزال ‪ ،‬فكل شيء من الممكنات له‬
‫عين األولية في البدء ‪ ،‬ثم إذا نسبت الممكنات بعضها إلى بعض ‪ ،‬تعيهن التقدم والتأخر‬
‫‪ ،‬ال بالنسبة إليه سبحانه‪.‬‬

‫ص ‪304‬‬

‫ص ‪304 :‬‬
‫[ سورة يونس ( ‪ : ) 10‬اآليات ‪ 35‬إلى ‪]36‬‬
‫ق أ َ فَ َم ْن يَ ْهدِي إِلَى ا ْل َح ّ ِ‬
‫ق‬ ‫ق قُ ِل ه‬
‫َّللاُ يَ ْهدِي ِل ْل َح ّ ِ‬ ‫قُ ْل َه ْل ِم ْن ش َُركائِ ُك ْم َم ْن يَ ْهدِي إِلَى ا ْل َح ّ ِ‬
‫ون ( ‪َ ) 35‬وما يَت ه ِب ُع‬ ‫ف تَحْ ُك ُم َ‬ ‫ق أ َ ْن يُتهبَ َع أ َ هم ْن ال يَ ِه ّدِي ِإاله أ َ ْن يُهْدى فَما لَ ُك ْم َك ْي َ‬ ‫أ َ َح ُّ‬
‫ون ) ‪( 36‬‬ ‫ع ِلي ٌم ِبما يَ ْفعَلُ َ‬ ‫ش ْيئا ً ِإ هن ه َ‬
‫َّللا َ‬ ‫ق َ‬‫ظ هن ال يُ ْغنِي ِم َن ا ْل َح ّ ِ‬ ‫أ َ ْكث َ ُر ُه ْم ِإاله َظنًّا ِإ هن ال ه‬
‫اعلم أنه من أقام في نفسه معبودا يعبده على الظن ال على القطع ‪ ،‬خانه ذلك الظن وما‬
‫ّللا شيئا ‪.‬‬ ‫أغنى عنه من ه‬

‫[ سورة يونس ( ‪ : ) 10‬اآليات ‪ 37‬إلى ‪] 42‬‬


‫ِيق الهذِي بَ ْي َن يَ َد ْي ِه َوت َ ْف ِصي َل‬ ‫صد َ‬ ‫َّللا َول ِك ْن ت َ ْ‬
‫ُون ه ِ‬ ‫آن أ َ ْن يُ ْفتَرى ِم ْن د ِ‬ ‫كان هذَا ا ْلقُ ْر ُ‬ ‫َوما َ‬
‫سو َر ٍة ِمثْ ِل ِه‬ ‫افتَرا ُه قُ ْل فَأْتُوا ِب ُ‬ ‫ون ْ‬ ‫ين ( ‪ ) 37‬أ َ ْم يَقُولُ َ‬ ‫ب ا ْلعالَ ِم َ‬ ‫ب ِفي ِه ِم ْن َر ّ ِ‬ ‫ب ال َر ْي َ‬ ‫ا ْل ِكتا ِ‬
‫طوا‬ ‫ين ( ‪ ) 38‬بَ ْل َكذهبُوا ِبما لَ ْم يُ ِحي ُ‬ ‫َّللا ِإ ْن ُك ْنت ُ ْم صا ِد ِق َ‬ ‫ُون ه ِ‬‫ست َ َط ْعت ُ ْم ِم ْن د ِ‬ ‫َوا ْدعُوا َم ِن ا ْ‬
‫ين‬‫ظا ِل ِم َ‬ ‫كان عاقِبَةُ ال ه‬ ‫ف َ‬ ‫ِين ِم ْن قَ ْب ِل ِه ْم فَا ْن ُ‬
‫ظ ْر َك ْي َ‬ ‫ب الهذ َ‬ ‫بِ ِع ْل ِم ِه َولَ هما يَأْتِ ِه ْم تَأ ْ ِويلُهُ كَذ ِلكَ َكذه َ‬
‫ِين ( ‪) 40‬‬ ‫سد َ‬ ‫) ‪َ ( 39‬و ِم ْن ُه ْم َم ْن يُ ْؤ ِم ُن بِ ِه َو ِم ْن ُه ْم َم ْن ال يُ ْؤ ِم ُن بِ ِه َو َربُّكَ أ َ ْعلَ ُم بِا ْل ُم ْف ِ‬
‫ُون ِم هما أ َ ْع َم ُل َوأَنَا بَ ِري ٌء ِم هما‬ ‫ع َملُ ُك ْم أ َ ْنت ُ ْم بَ ِريئ َ‬‫ع َم ِلي َولَ ُك ْم َ‬ ‫َو ِإ ْن َكذهبُوكَ فَقُ ْل ِلي َ‬
‫ون (‬ ‫ص هم َولَ ْو كانُوا ال يَ ْع ِقلُ َ‬ ‫س ِم ُع ال ُّ‬ ‫ون ِإلَ ْيكَ أ َ فَأ َ ْنتَ ت ُ ْ‬‫ست َ ِمعُ َ‬ ‫ون )‪َ ) 41‬و ِم ْن ُه ْم َم ْن يَ ْ‬ ‫ت َ ْع َملُ َ‬
‫‪.)42‬‬
‫ّللا فيما يتلوه عليك سبحانه وتعالى ‪ ،‬لتعقل عنه إن كنت عالما ‪،‬‬ ‫حقيقة السمع الفهم عن ه‬
‫والصمم آفة تمنع من إدراك تالوة الحق عليك من القرآن ومن خارج‪.‬‬

‫ص ‪305‬‬

‫ص ‪305 :‬‬
‫[ سورة يونس ( ‪ : ) 10‬اآليات ‪ 43‬إلى ‪] 44‬‬
‫ي َولَ ْو كانُوا ال يُ ْب ِص ُر َ‬
‫ون ( ‪ ) 43‬إِ هن ه َ‬
‫َّللا ال‬ ‫ظ ُر إِلَ ْيكَ أ َ فَأ َ ْنتَ ت َ ْهدِي ا ْلعُ ْم َ‬
‫َو ِم ْن ُه ْم َم ْن يَ ْن ُ‬
‫ون ( ‪) 44‬‬ ‫اس أ َ ْنفُ َ‬
‫س ُه ْم يَ ْظ ِل ُم َ‬ ‫ش ْيئا ً َول ِك هن النه َ‬ ‫اس َ‬ ‫يَ ْظ ِل ُم النه َ‬

‫شيْئا ً »كلمة تحقيق ‪ ،‬فإن الناس ال يملكون شيئا حتى يكون من‬ ‫اس َ‬ ‫ّللا ال يَ ْ‬
‫ظ ِل ُم النَّ َ‬ ‫« ِإ َّن َّ َ‬
‫ّللا ‪ ،‬ومن‬
‫يأخذ منهم بغير وجه حق غاصبا ‪ ،‬فكل ما يقال فيه إنه ملك لهم فهو ملك ه‬
‫ظ ِل ُمونَ »فكنى سبحانه عن نفسه « بأنفسهم » لما‬‫س ُه ْم يَ ْ‬
‫اس أ َ ْنفُ َ‬
‫ذلك أعمالهم« َول ِك َّن النَّ َ‬
‫ّللا عليهم التصرف فيه‬ ‫وقع الظلم في العالم ‪ ،‬فلو كان ما عند الناس ملكا لهم ما حجر ه‬
‫‪ ،‬وال ح هد لهم فيه حدودا متنوعة ‪ ،‬فهذا يدلك على أن أفعال المكلهف ما هي له إنما هي‬
‫ّللا إال‬
‫هّلل ‪ ،‬فالظلم على الحقيقة في الناس دعواهم فيما ليس لهم أنه لهم ‪ ،‬فما عاقبهم ه‬
‫على دعواهم الكاذبة ‪.‬‬

‫[ سورة يونس ( ‪ : ) 10‬اآليات ‪ 45‬إلى ‪] 47‬‬


‫س َر الهذ َ‬
‫ِين‬ ‫ون بَ ْينَ ُه ْم قَ ْد َخ ِ‬ ‫عارفُ َ‬ ‫َويَ ْو َم يَحْ ش ُُر ُه ْم كَأ َ ْن لَ ْم يَ ْلبَثُوا ِإاله ساعَةً ِم َن النه ِ‬
‫هار يَت َ َ‬
‫ض الهذِي نَ ِع ُد ُه ْم أ َ ْو نَت َ َوفهيَنهكَ‬ ‫ِين ( ‪َ ) 45‬و ِإ هما نُ ِريَنهكَ بَ ْع َ‬ ‫َّللا َوما كانُوا ُم ْهتَد َ‬ ‫قاء ه ِ‬‫َكذهبُوا ِب ِل ِ‬
‫سو ٌل فَ ِإذا جا َء‬ ‫ون ( ‪َ ) 46‬و ِل ُك ِ ّل أ ُ هم ٍة َر ُ‬ ‫َّللاُ ش َِهي ٌد عَلى ما يَ ْفعَلُ َ‬ ‫فَ ِإلَ ْينا َم ْر ِجعُ ُه ْم ث ُ هم ه‬
‫ون ) ‪( 47‬‬ ‫س ِط َو ُه ْم ال يُ ْظلَ ُم َ‬
‫ي بَ ْينَ ُه ْم بِا ْل ِق ْ‬ ‫سولُ ُه ْم قُ ِض َ‬
‫َر ُ‬
‫ّللا عليه وسلم في‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫ِير »وقال رسول ه‬ ‫قال تعالى ‪َ «:‬وإِ ْن ِم ْن أ ُ َّم ٍة إِ َّال خَال فِيها نَذ ٌ‬
‫الكالب ‪ :‬إنها أمة من األمم ‪ ،‬فما من شيء في الوجود إال وهو أمة من األمم ‪ ،‬فالطفل‬
‫الرضيع وجميع الحيوان لهم تكليف إلهي برسول منهم في ذواتهم ‪ ،‬ال يشعر به ‪ ،‬وإن‬
‫الصغير إذا كبر وكلف ال يشعر وال يتذكر تكليفه في حال صغره ‪ ،‬لما يقوم به من‬
‫اآلالم وبالحيوان ‪ ،‬فإنه تعالى ال يعذب ابتداء ‪ ،‬ولكن يعذب جزاء ‪ ،‬فإن الرحمة ال‬
‫تقتضي في العذاب إال الجزاء للتطهير ‪ ،‬ولوال التطهير ما وقع العذاب ‪ ،‬فع همت الرسالة‬
‫اإللهية جميع األمم صغيرهم وكبيرهم ‪ ،‬فما من أمة إال وهي تحت خطاب إلهي على‬
‫لسان نذير بعث إليها منها ‪ ،‬ليعلمها ما هو األمر عليه الذي‬

‫ص ‪306‬‬

‫ص ‪306 :‬‬
‫خلقوا له ‪ ،‬ويعلمهم بما للحق عليهم أن يفعلوه ‪ ،‬وما لهم إذا فعلوا ذلك من الخير عند‬
‫ّللا في الدار الدنيا إذا‬
‫ّللا في الدار اآلخرة ‪ ،‬وما ذا عليهم إذا لم يفعلوا من العقوبة عند ه‬
‫ه‬
‫علم والة أمورهم بذلك وفي اآلخرة ‪.‬‬

‫[ سورة يونس ‪ ( 10 ) :‬اآليات ‪ 48‬إلى ‪] 49‬‬


‫ض ًّرا َوال نَ ْفعا ً‬ ‫سي َ‬ ‫ين ( ‪ ) 48‬قُ ْل ال أ َ ْم ِلكُ ِلنَ ْف ِ‬ ‫ون َمتى هذَا ا ْل َو ْع ُد إِ ْن ُك ْنت ُ ْم صا ِدقِ َ‬ ‫َويَقُولُ َ‬
‫ون ( ‪49‬‬ ‫ست َ ْق ِد ُم َ‬‫ون ساعَةً َوال يَ ْ‬ ‫ستَأ ْ ِخ ُر َ‬
‫َّللاُ ِل ُك ِ ّل أ ُ هم ٍة أ َ َج ٌل إِذا جا َء أ َ َجلُ ُه ْم فَال يَ ْ‬
‫إِاله ما شا َء ه‬
‫)‬

‫[ جميع أنواع المخلوقات ]‬


‫جميع أنواع المخلوقات في الدنيا أمم لها أجل بين بدء وختام « فإذا جاء أجلهم » وهو‬
‫انتهاء مدة األجل« فَال يَ ْستَأ ْ ِخ ُرونَ سا َ‬
‫عةً َوال يَ ْست َ ْق ِد ُمونَ »‪.‬‬

‫[ سورة يونس ( ‪ : ) 10‬اآليات ‪ 50‬إلى ‪] 56‬‬


‫ون ( ‪ ) 50‬أ َ ث ُ هم‬ ‫ست َ ْع ِج ُل ِم ْنهُ ا ْل ُمجْ ِر ُم َ‬ ‫قُ ْل أ َ َرأ َ ْيت ُ ْم ِإ ْن أَتا ُك ْم عَذابُهُ بَياتا ً أ َ ْو نَهارا ً ما ذا يَ ْ‬
‫ِين َظلَ ُموا ذُوقُوا‬ ‫ون ( ‪ ) 51‬ث ُ هم ِقي َل ِللهذ َ‬ ‫ست َ ْع ِجلُ َ‬‫ِإذا ما َوقَ َع آ َم ْنت ُ ْم ِب ِه ْآآل َن َوقَ ْد ُك ْنت ُ ْم ِب ِه ت َ ْ‬
‫ق ُه َو قُ ْل إِي‬ ‫ست َ ْنبِئ ُونَكَ أ َ َح ٌّ‬ ‫ون ( ‪َ ) 52‬ويَ ْ‬ ‫سبُ َ‬ ‫َذاب ا ْل ُخ ْل ِد َه ْل تُجْ َز ْو َن إِاله بِما ُك ْنت ُ ْم ت َ ْك ِ‬ ‫ع َ‬
‫ض‬ ‫ين ) ‪َ ( 53‬ولَ ْو أ َ هن ِل ُك ِ ّل نَ ْف ٍس َظلَ َمتْ ما فِي ْاأل َ ْر ِ‬ ‫ق َوما أ َ ْنت ُ ْم بِ ُم ْع ِج ِز َ‬ ‫َو َر ِبّي إِنههُ لَ َح ٌّ‬
‫ون (‬ ‫س ِط َو ُه ْم ال يُ ْظلَ ُم َ‬ ‫ذاب َوقُ ِض َ‬
‫ي بَ ْينَ ُه ْم ِبا ْل ِق ْ‬ ‫س ُّروا النهدا َمةَ لَ هما َرأ َ ُوا ا ْلعَ َ‬ ‫الفتَدَتْ ِب ِه َوأ َ َ‬‫ْ‬
‫ق َول ِك هن أ َ ْكث َ َر ُه ْم ال‬‫َّللا َح ٌّ‬‫ض أَال ِإ هن َو ْع َد ه ِ‬ ‫ت َو ْاأل َ ْر ِ‬ ‫سماوا ِ‬ ‫ّلِل ما فِي ال ه‬ ‫‪ )54‬أَال ِإ هن ِ ه ِ‬
‫ون ) ‪( 56‬‬ ‫ون ( ‪ُ ) 55‬ه َو يُح ِيي َويُ ِميتُ َو ِإلَ ْي ِه ت ُ ْر َجعُ َ‬ ‫يَ ْعلَ ُم َ‬

‫ص ‪307‬‬

‫ص ‪307 :‬‬
‫[ الموت والحياة ]‬
‫سمي الحق محييا لكون حياة األشياء من فيض اسم الحي كنور الشمس من الشمس‬
‫المنبسط على األماكن ‪ ،‬ولم تغب األشياء عنه ال في حال ثبوتها وال في حال وجودها‬
‫‪ ،‬فالحياة لها في الحالتين مستصحبة ‪ ،‬فهو يحيي ويميت ‪ ،‬وليس الموت بإزالة الحياة‬
‫منه في نفس األمر ‪ ،‬ولكن الموت عزل الوالي وتولية وال ‪ ،‬ألنه ال يمكن أن يبقى‬
‫العالم بال وال يحفظ عليه مصالحه لئال يفسد ‪ ،‬فالموت عبارة عن انتقال وعزل ‪ ،‬أال‬
‫ترى إلى الميت يسأل ويجيب إيمانا وحقيقة ‪ ،‬وأنت تحكم عليه في هذه الحال عينا أنه‬
‫ميت ‪ ،‬وما أزال عنه اسم الموت السؤال ‪ ،‬فلو ال أنه حي في حال موته ما سئل ‪،‬‬
‫فليس الموت بضد للحياة ‪ ،‬فبالحياة يسبح كل شيء ‪ ،‬والميت مسبح حيث أنه شيء ‪،‬‬
‫فالموت عبارة عن االنتقال من منزل الدنيا إلى منزل اآلخرة ‪ ،‬ما هو عبارة عن إزالة‬
‫ّللا أخذ بأبصارنا فال ندرك حياته ‪ ،‬فالميت ينتقل‬
‫الحياة منه في نفس األمر ‪ ،‬وإنما ه‬
‫وحياته باقية عليه ال تزول ‪ ،‬وإنما يزول الوالي وهو الروح عن هذا الملك الذي و هكله‬
‫ّللا بتدبيره أيام واليته عليه ‪ ،‬والميت عندنا يعلم من نفسه أنه حي ‪ ،‬وإنما تحكم عليه‬
‫ه‬
‫بأنه ليس بحي لوقوفك مع بصرك ومع حكمك في حاله قبل اتصافه بالموت ‪ ،‬من‬
‫حركة ونطق وتصرف وقد أصبح متصرفا فيه ‪ ،‬فالموت انتقال خاص على وجه‬
‫مخصوص ‪.‬‬

‫[ سورة يونس ( ‪ : ) 10‬آية ‪] 57‬‬


‫دى َو َرحْ َمةٌ‬
‫ُور َو ُه ً‬
‫صد ِ‬ ‫اس قَ ْد جا َءتْ ُك ْم َم ْو ِع َظةٌ ِم ْن َر ِبّ ُك ْم َو ِ‬
‫شفا ٌء ِلما فِي ال ُّ‬ ‫يا أَيُّ َها النه ُ‬
‫ين ) ‪( 57‬‬ ‫ِل ْل ُم ْؤ ِمنِ َ‬
‫الشفاء زوال العلة ووجود الراحة بانتقالها ‪.‬‬

‫[ سورة يونس ( ‪ : ) 10‬آية ‪] 58‬‬


‫ون ( ‪) 58‬‬‫َّللا َوبِ َرحْ َمتِ ِه فَبِذ ِلكَ فَ ْليَ ْف َر ُحوا ُه َو َخ ْي ٌر ِم هما يَجْ َمعُ َ‬
‫ض ِل ه ِ‬‫قُ ْل بِفَ ْ‬
‫ّللا ال انقطاع له ألنه خارج عن الجزاء الوفاق« َوبِ َر ْح َمتِ ِه‬ ‫ّللا »وفضل ه‬ ‫ض ِل َّ ِ‬ ‫« قُ ْل بِفَ ْ‬
‫ّللا ال تخص محال من محل ‪ ،‬وال دارا من دار ‪ ،‬بل وسعت كل شيء ‪ ،‬فدار‬ ‫»ورحمة ه‬
‫ّللا ورحمته ‪ ،‬ألن المآل‬ ‫الرحمة هي دار الوجود« فَ ِبذ ِل َك فَ ْليَ ْف َر ُحوا »أعني بفضل ه‬
‫رحمة مطلقة عامة ‪ ،‬فإنه خير مما يجمعون فيفرحون به ‪ ،‬وال يفرح عاقل إال بثابت ال‬
‫ّللا عباده أن يفرحوا بفضله وبرحمته ال بما يجمعه من المال ‪ ،‬فإنه‬ ‫بزائل ‪ ،‬فأمر ه‬
‫يتركه بالموت في الدنيا وال يقدمه ‪ ،‬فأمرك بالفرح بالفضل ‪ ،‬والفضل ما زاد ‪ ،‬فاحمد‬
‫ّللا حيث جعلك محال لفضله ورحمته ‪ ،‬فافرح‬ ‫ه‬

‫ص ‪308‬‬

‫ص ‪308 :‬‬
‫ألمره إياك بالفرح تجن ثمرة أداء الواجب في الفرح‬
‫[ ‪ -‬تحقيق حزن القلب ]‬
‫‪ -‬تحقيق ‪ -‬ومن تحقق هذه اآلية تراه أبدا حزين القلب ما دام في الدنيا إلى الموت ‪،‬‬
‫وإن فتح له ما يقع له به الفرح فإنه يرى ما عليه من الشكر هّلل فيما فتح له فيه ‪ ،‬فيعظم‬
‫حزنه أشد مما كان فيه قبل الفتح ‪ ،‬ومن كان في مقام يريد أن يوفيه حقه ال يمكن أن‬
‫يفرح إال بعد أن ال يبقى عليه من حقه شيء ‪ ،‬وال يزال هذا الحق المعيهن على المكلف‬
‫ّللا ورحمته عليه إلى آخر نفس يكون عليه في الدنيا ‪ ،‬فإنه ال يفرح إال‬‫المبشر بفضل ه‬
‫عند خروجه ‪ ،‬فإنه ال يسقط عنه التكليف إال بعد رحلته من دار التكليف ‪ ،‬وهي الدار‬
‫الدنيا ‪.‬‬

‫[ سورة يونس ‪( 10 ) :‬اآليات ‪ 59‬إلى ‪] 61‬‬


‫علَى‬ ‫ِن لَ ُك ْم أ َ ْم َ‬
‫آّلِلُ أَذ َ‬
‫ق فَ َجعَ ْلت ُ ْم ِم ْنهُ َحراما ً َو َحالالً قُ ْل ه‬ ‫قُ ْل أ َ َرأ َ ْيت ُ ْم ما أ َ ْن َز َل ه‬
‫َّللاُ لَ ُك ْم ِم ْن ِر ْز ٍ‬
‫َّللا لَذُو‬
‫ِب يَ ْو َم ا ْل ِقيا َم ِة إِ هن ه َ‬
‫َّللا ا ْل َكذ َ‬
‫علَى ه ِ‬ ‫ون َ‬ ‫ون ( ‪َ ) 59‬وما َظ ُّن الهذ َ‬
‫ِين يَ ْفت َ ُر َ‬ ‫َّللا ت َ ْفت َ ُر َ‬
‫هِ‬
‫ُون فِي شَأ ْ ٍن َوما تَتْلُوا ِم ْنهُ‬ ‫ون ( ‪َ ) 60‬وما تَك ُ‬ ‫شك ُُر َ‬ ‫اس َول ِك هن أ َ ْكث َ َر ُه ْم ال يَ ْ‬ ‫علَى النه ِ‬ ‫ض ٍل َ‬ ‫فَ ْ‬
‫ب ع َْن‬ ‫ون فِي ِه َوما يَ ْع ُز ُ‬ ‫ض َ‬ ‫ش ُهودا ً ِإ ْذ ت ُ ِفي ُ‬
‫علَ ْي ُك ْم ُ‬‫ع َم ٍل ِإاله ُكنها َ‬ ‫ون ِم ْن َ‬ ‫آن َوال ت َ ْع َملُ َ‬ ‫ِم ْن قُ ْر ٍ‬
‫صغَ َر ِم ْن ذ ِلكَ َوال أ َ ْكبَ َر ِإاله ِفي‬ ‫ماء َوال أ َ ْ‬
‫س ِ‬ ‫ض َوال ِفي ال ه‬ ‫َر ِبّكَ ِم ْن ِمثْقا ِل ذَ هر ٍة ِفي ْاأل َ ْر ِ‬
‫ين ( ‪) 61‬‬ ‫ب ُمبِ ٍ‬ ‫ِكتا ٍ‬
‫ون فِي شَأ ٍن »والشأن ليس لي ‪ ،‬فإن الشأن الظاهر في وجودي إنما هو هّلل ‪،‬‬ ‫ْ‬ ‫« َوما ت َ ُك ُ‬
‫ع َم ٍل ِإ َّال‬‫آن َوال ت َ ْع َملُونَ ِم ْن َ‬ ‫وهو قوله ‪ُ (:‬ك َّل يَ ْو ٍم ُه َو فِي شَأ ْ ٍن )« َوما تَتْلُوا ِم ْنهُ ِم ْن قُ ْر ٍ‬
‫ع ْن‬ ‫ب َ‬ ‫»فاّلل شهيد على ما يخلق منا وفينا« َوما يَ ْع ُز ُ‬ ‫ه‬ ‫ش ُهودا ً ِإ ْذ ت ُ ِفيضُونَ فِي ِه‬ ‫علَ ْي ُك ْم ُ‬ ‫ُكنَّا َ‬
‫صغ ََر ِم ْن ذ ِل َك َوال أ َ ْكبَ َر »فإنه‬ ‫ماء َوال أ َ ْ‬‫س ِ‬ ‫ض َوال فِي ال َّ‬ ‫َر ِبه َك ِم ْن ِمثْقا ِل ذَ َّرةٍ فِي ْاأل َ ْر ِ‬
‫ين »فمن تحقق بهذه اآلية كان رقيبا على نفسه وعلى‬ ‫ب ُم ِب ٍ‬ ‫يعلمها ويراها« ِإ َّال ِفي ِكتا ٍ‬
‫ّللا ‪ ،‬فالعالم‬ ‫آثار ربه فيما يورده على قلبه ‪ ،‬وعلى موازنة الحق المشروع في عباد ه‬
‫ّللا في شؤونه ‪ ،‬ويكون مراقبا له تعالى عند شهوده ‪ ،‬فإن العالم‬ ‫الناصح نفسه ال ينسى ه‬
‫بإنزال الشرائع يعرف ما خاطب الحق منه‬

‫ص ‪309‬‬

‫ص ‪309 :‬‬
‫في نظره إليه ‪ ،‬فإن األحوال تطلب األحكام المنزلة في الدنيا ‪ ،‬لهذا نزلت الشرائع على‬
‫األحوال والمخاطبون أصحابها ‪.‬‬

‫[ سورة يونس ( ‪ : ) 10‬آية ‪] 62‬‬


‫علَ ْي ِه ْم َوال ُه ْم يَحْ َزنُ َ‬
‫ون ) ‪( 62‬‬ ‫أَال ِإ هن أ َ ْو ِليا َء ه ِ‬
‫َّللا ال َخ ْو ٌ‬
‫ف َ‬

‫ّللا تعالى لم يقل في اآلخرة ‪ ،‬فالولي‬‫علَ ْي ِه ْم َوال ُه ْم يَ ْحزَ نُونَ » مطلقا ‪ ،‬فإن ه‬
‫ف َ‬‫"ال خ َْو ٌ‬
‫من كان على بينة من ربه في حاله ‪ ،‬فعرف مآله بإخبار الحق إياه على الوجه الذي‬
‫يقع به التصديق عنده ‪ ،‬وبشارته حق وقوله صدق وحكمه ‪ ،‬فالقطع حاصل ‪ ،‬فالمراد‬
‫ّللا كما قال تعالى ‪ ،‬وأي خوف وحزن يبقى مع‬ ‫بالولي من حصلت له البشرى من ه‬
‫البشرى بالخبر الذي ال يدخله تأويل ‪ ،‬فهذا هو الذي أريد بالولي في هذه اآلية ‪ ،‬واعلم‬
‫ّللا يختص بها من يشاء من عباده ‪ ،‬وقد أغلق ذلك الباب‬ ‫أن النبوة اختصاص من ه‬
‫ّللا محمد صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ ،‬والوالية مكتسبة إلى يوم القيامة ‪ ،‬فمن‬ ‫وختم برسول ه‬
‫ّللا ‪ ،‬يختص‬‫تعمل في تحصيلها حصلت له ‪ ،‬والتعمل في تحصيلها اختصاص من ه‬
‫برحمته من يشاء ‪ ،‬فاألولياء هم والة الحق على عباده ‪ ،‬والخواص منهم األكابر يقال‬
‫لهم رسل وأنبياء ‪ ،‬ومن نزل عنهم بقي عليه اسم الوالية ‪ ،‬فالوالية الفلك المحيط‬
‫ّللا صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم وقد قيل له ‪ :‬يا‬ ‫الجامع للكل ‪ ،‬وأما صفتهم فقد قال رسول ه‬
‫ّللا الذين ال خوف عليهم وال هم يحزنون ؟ فقال ‪ :‬الذين نظروا‬ ‫ّللا من أولياء ه‬ ‫رسول ه‬
‫إلى باطن الدنيا حين نظر الناس إلى ظاهرها ‪ ،‬واهتموا بآجل الدنيا حين اهتم الناس‬
‫بعاجلها ‪ ،‬فأماتوا منها ما خشوا أن يميتهم ‪ ،‬وتركوا منها ما علموا أن سيتركهم ‪ ،‬فما‬
‫عرضهم من نائلها عارض إال رفضوه ‪ ،‬وال خادعهم من رفعتها خادع إال وضعوه ‪،‬‬
‫خلقت الدنيا عندهم فما يجددونها ‪ ،‬وخربت بيوتهم فما يعمرونها ‪ ،‬وماتت في‬
‫صدورهم فما يحيونها ‪ ،‬بل يهدمونها فيبنون بها آخرتهم ‪ ،‬ويبيعونها فيشترون بها ما‬
‫بقي لهم ‪ ،‬ونظروا إلى أهلها صرعى قد حلهت بهم المثالت ‪ ،‬فما يرون أمانا دون ما‬
‫يرجون ‪ ،‬وال خوفا دون ما يحذرون ‪ -‬رقيقة ‪ -‬اعلم أنه على قدر ما يخرج به العبد من‬
‫عبوديته ينقصه من تقريبه من سيده ‪ ،‬ألنه يزاحمه في أسمائه ‪ ،‬وأقل المزاحمة‬
‫االسمية ‪ ،‬والولي من أسمائه سبحانه ‪ ،‬فالذي ينبغي للعبد أن ال يزيد على هذا االسم‬
‫ّللا قد أطلق عليه اسما‬
‫ّللا ألسنة الخلق عليه بأنه ولي هّلل ورأى أن ه‬ ‫غيره ‪ ،‬فإن أطلق ه‬
‫أطلقه تعالى على نفسه فال يسمعه ممن يسميه به إال على أنه بمعنى المفعول ال معنى‬
‫الفاعل ‪ ،‬حتى يشم فيه‬

‫ص ‪310‬‬

‫ص ‪310 :‬‬
‫رائحة العبودية ‪ ،‬فإن بنية فعيل قد تكون بمعنى الفاعل ‪ ،‬واالسم الولي الذي قد تسمى‬
‫ّللا بمعنى الفاعل ‪ ،‬فينبغي أن ال ينطلق ذلك االسم على العبد ‪ ،‬وإن أطلقه الحق‬
‫به ه‬
‫عليه فذلك إليه تعالى ‪ ،‬ويلزم اإلنسان عبوديته وما يختص به من األسماء التي ال‬
‫تنطلق قط على الحق لفظا ‪.‬‬

‫[ سورة يونس ( ‪ : ) 10‬آية ‪] 63‬‬


‫ون ) ‪( 63‬‬ ‫ِين آ َمنُوا َوكانُوا يَتهقُ َ‬
‫الهذ َ‬
‫اإليمان ال يكون إال بعد سماع الخبر وعقله ‪ ،‬وقلنا إن الوالية مكتسبة والتعمل في‬
‫تحصيلها اختصاص ‪ ،‬فمنهم من تحصل له الوالية بالصدقة والقرض الحسن وصلة‬
‫ّللا والمبادرة ألوامره التي ندب إليها ال‬
‫الرحم ‪ ،‬ومن الناس من تحصل له بمراقبة ه‬
‫التي افترضها عليه ‪ ،‬وهو قوله ‪:‬‬
‫ي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت له سمعا وبصرا ويدا‬ ‫[وال يزال عبدي يتقرب إل ه‬
‫ومؤيدا ]‬
‫ّللا عليه من الطاعات وافترضها‬ ‫ومن الناس من تحصل له بالمسارعة إلى ما أوجب ه‬
‫عليه ‪ ،‬فأخذ أوامره على الوجوب ولم يتأول عليه كالمه وال أمره ‪.‬‬

‫[ سورة يونس ( ‪ : ) 10‬آية ‪] 64‬‬


‫َّللا ذ ِلكَ ُه َو ا ْلفَ ْو ُز ا ْلعَ ِظي ُم (‬ ‫ت هِ‬ ‫لَ ُه ُم ا ْلبُشْرى فِي ا ْل َحيا ِة ال ُّد ْنيا َوفِي ْاآل ِخ َر ِة ال ت َ ْبدِي َل ِل َك ِلما ِ‬
‫‪) 64‬‬
‫[ البشرى في الحياة الدنيا ]‬
‫ّللا تعالى البشرى للمؤمنين العاملين‬ ‫« الَّذِينَ آ َمنُوا َوكانُوا يَتَّقُونَ لَ ُه ُم ْالبُ ْشرى »جعل ه‬
‫ّللا عليه وسلم سئل عن اإليمان فقال ‪ :‬شهادة أن ال إله‬ ‫بما آمنوا به ‪ ،‬فإن النبي صلهى ه‬
‫ّللا ‪ ،‬وإقام الصالة ‪ ،‬وإيتاء الزكاة ‪ ،‬وصوم رمضان ‪ ،‬وأن‬ ‫ّللا ‪ ،‬وأن محمدا رسول ه‬ ‫إال ه‬
‫يؤدوا الخمس من المغنم ‪ ،‬ونهاهم عن الدهباء والحنتم ‪ ،‬والمزفت والنقير ‪،‬‬
‫وقال ‪ :‬احفظوه وأخبروا به من وراءكم ‪ -‬ففسر اإليمان باألفعال ‪ ،‬وهو الذي أراد‬
‫بالمؤمنين هنا ‪ ،‬زيادة على التصديق ‪ ،‬ألن البشرى الواردة في القرآن للمؤمنين‬
‫مقرونة باألعمال الصالحة ‪،‬‬
‫ّللا ِبأ َ ْموا ِل ِه ْم َوأ َ ْنفُ ِس ِه ْم أ َ ْع َ‬
‫ظ ُم‬ ‫س ِبي ِل َّ ِ‬‫قال تعالى ‪ (:‬الَّذِينَ آ َمنُوا َوها َج ُروا َوجا َهدُوا ِفي َ‬
‫ش ُر ُه ْم َربُّ ُه ْم )فما بشر إال العاملين بما آمنوا به‬ ‫ّللا ‪َ ،‬وأُولئِ َك ُه ُم ْالفائِ ُزونَ ‪ ،‬يُبَ ِ ه‬
‫َد َر َجةً ِع ْن َد َّ ِ‬
‫‪ ،‬فقوله تعالى ‪ (:‬لَ ُه ُم ْالبُ ْشرى فِي ْال َحياةِ ال ُّد ْنيا َوفِي ْاآل ِخ َرةِ ) جزاء ‪ ،‬مؤكدا لبشراهم‬
‫بإجابة داعي الحق بالعبادات ‪ ،‬وقوله تعالى ‪ «:‬لَ ُه ُم ْالبُ ْشرى فِي ْال َحياةِ ال ُّد ْنيا »هذا‬
‫عموم الدنيا ‪ ،‬فما ينقلب أحد من أهل السعادة إلى اآلخرة حتى يبشر في الدنيا‬

‫ص ‪311‬‬

‫ص ‪311 :‬‬
‫ّللا أن الرسل‬ ‫ولو بنفس واحد ‪ ،‬فيحصل المقصود ‪ ،‬وقد علمنا في الدنيا بإعالم ه‬
‫واألنبياء ومن عينته الرسل بالبشرى أنه سعيد ‪ ،‬فبشارة الحق ال يدخلها نسخ ‪ ،‬فيؤمن‬
‫ّللا عليه وسلم جماعة بالجنة‬ ‫شر النبي صلهى ه‬ ‫بوجودها المكر إذا كانت نصا ‪ ،‬وقد ب ه‬
‫وعاشوا بعد ذلك زمانا طويال ‪ ،‬فهذه صورة للبشرى بخالف بشرى المحتضر ‪،‬‬
‫صراطٍ ُم ْست َ ِق ٍيم )‬ ‫على ِ‬ ‫آخذٌ ِب ِ‬
‫ناصيَ ِتها ِإ َّن َر ِبهي َ‬ ‫ومثل قوله تعالى ‪ (:‬ما ِم ْن َدابَّ ٍة ِإ َّال ُه َو ِ‬
‫ّللا لنا في الحياة الدنيا ‪ ،‬وللعارفين‬ ‫فكان تعريف الحق إيهانا بما قاله رسوله بشرى من ه‬
‫مقام اآلخرة في الدنيا فلهم الكشف والمشاهدة ‪ ،‬وهما أمران يعطيهما عين اليقين ‪ ،‬وهو‬
‫أتم مدارك العلم ‪ ،‬فالعلم الحاصل عن العين له أعظم اللذات في المعلومات المستلذة ‪،‬‬
‫فهم في اآلخرة حكما وفي الدنيا حسا ‪ ،‬وهم في اآلخرة مكانة وفي الدنيا مكانا « َوفِي‬
‫ْاآل ِخ َر ِة »من القبر إلى الجنة ‪ ،‬وما بينهما منازل اآلخرة ‪ ،‬فهو نعيم متصل ‪ ،‬ولما‬
‫ّللا »‬ ‫ّللا قال تعالى ‪ «:‬ال ت َ ْبدِي َل ِل َك ِلما ِ‬
‫ت َّ ِ‬ ‫كانت البشرى من كلمات ه‬
‫ي ) أي قولنا واحد ال يقبل التبديل ‪.‬‬ ‫هو قوله تعالى ‪ (:‬ما يُبَ َّد ُل ْالقَ ْو ُل لَ َد َّ‬

‫[ سورة يونس ‪ ( 10 ) :‬آية ‪] 65‬‬


‫س ِمي ُع ا ْلعَ ِلي ُم ) ‪( 65‬‬ ‫َوال يَحْ ُز ْنكَ قَ ْولُ ُه ْم ِإ هن ا ْل ِع هزةَ ِ ه ِ‬
‫ّلِل َج ِميعا ً ُه َو ال ه‬
‫فعزته تعالى مانعة من الوصول إلى علم األمر على ما هو عليه في نفسه ‪.‬‬

‫[ سورة يونس ( ‪ : ) 10‬اآليات ‪ 66‬إلى ‪] 67‬‬


‫َّللا‬
‫ُون ه ِ‬ ‫ُون ِم ْن د ِ‬ ‫ض َوما يَت ه ِب ُع الهذ َ‬
‫ِين يَ ْدع َ‬ ‫ت َو َم ْن فِي ْاأل َ ْر ِ‬ ‫سماوا ِ‬ ‫ّلِل َم ْن فِي ال ه‬ ‫أَال إِ هن ِ ه ِ‬
‫ون ( ‪ُ ) 66‬ه َو الهذِي َجعَ َل لَ ُك ُم الله ْي َل‬ ‫ص َ‬ ‫ون ِإاله ال ه‬
‫ظ هن َو ِإ ْن ُه ْم ِإاله يَ ْخ ُر ُ‬ ‫ش َُركا َء ِإ ْن يَت ه ِبعُ َ‬
‫ون ( ‪) 67‬‬ ‫س َمعُ َ‬‫ت ِلقَ ْو ٍم يَ ْ‬ ‫هار ُم ْب ِصرا ً ِإ هن فِي ذ ِلكَ َآليا ٍ‬ ‫س ُكنُوا فِي ِه َوالنه َ‬ ‫ِلت َ ْ‬
‫ّللا ‪ ،‬وقد حصرت اآليات في‬ ‫ت ِلقَ ْو ٍم يَ ْس َمعُونَ »وهم أهل الفهم عن ه‬ ‫« ِإ َّن ِفي ذ ِل َك َآليا ٍ‬
‫السمع والبصر ‪ ،‬فإما شهود وإما خبر ‪ ،‬وعالمة السامعين المحققين في سماعهم ‪،‬‬
‫ّللا تعالى من جهة سماعه ‪ ،‬أعني من التكليفات‬ ‫انقيادهم إلى كل عمل مقرب إلى ه‬
‫المتوجهة على األذن من أمر ونهي ‪ ،‬كسماعه العلم والذكر والثناء على الحق تعالى‬
‫والموعظة الحسنة والقول‬

‫ص ‪312‬‬

‫ص ‪312 :‬‬
‫الحسن ‪ ،‬ومن عالمته أيضا التصامم عن الغيبة والنميمة والبهتان والسوء من القول‬
‫ّللا تعالى ‪.‬‬
‫كالخوض في آيات ه‬

‫[ سورة يونس ( ‪ : ) 10‬اآليات ‪ 68‬إلى ‪] 72‬‬


‫ض ِإ ْن ِع ْن َد ُك ْم‬ ‫ت َوما ِفي ْاأل َ ْر ِ‬ ‫سماوا ِ‬ ‫ي لَهُ ما ِفي ال ه‬ ‫س ْبحانَهُ ُه َو ا ْلغَ ِن ُّ‬ ‫َّللاُ َولَدا ً ُ‬ ‫قالُوا ات ه َخذَ ه‬
‫علَى‬ ‫ون َ‬ ‫ون ( ‪ ) 68‬قُ ْل إِ هن الهذ َ‬
‫ِين يَ ْفت َ ُر َ‬ ‫َّللا ما ال ت َ ْعلَ ُم َ‬ ‫علَى ه ِ‬ ‫ون َ‬‫طان بِهذا أ َ تَقُولُ َ‬ ‫س ْل ٍ‬ ‫ِم ْن ُ‬
‫ع فِي ال ُّد ْنيا ث ُ هم إِلَ ْينا َم ْر ِجعُ ُه ْم ث ُ هم نُذِيقُ ُه ُم ا ْلعَ َ‬
‫ذاب‬ ‫ون ( ‪َ ) 69‬متا ٌ‬ ‫ِب ال يُ ْف ِل ُح َ‬ ‫َّللا ا ْل َكذ َ‬
‫هِ‬
‫علَ ْي ِه ْم نَبَأ َ نُوحٍ ِإ ْذ قا َل ِلقَ ْو ِم ِه يا قَ ْو ِم ِإ ْن َ‬
‫كان‬ ‫ون ( ‪َ ) 70‬واتْ ُل َ‬ ‫شدِي َد ِبما كانُوا يَ ْكفُ ُر َ‬ ‫ال ه‬
‫َّللا ت َ َو هك ْلتُ فَأَجْ ِمعُوا أ َ ْم َر ُك ْم َوش َُركا َء ُك ْم ث ُ هم ال‬‫َّللا فَعَلَى ه ِ‬‫ت هِ‬ ‫يري ِبآيا ِ‬ ‫قامي َوت َ ْذ ِك ِ‬ ‫علَ ْي ُك ْم َم ِ‬ ‫َكبُ َر َ‬
‫سأ َ ْلت ُ ُك ْم ِم ْن‬
‫ون ( ‪ ) 71‬فَ ِإ ْن ت َ َوله ْيت ُ ْم فَما َ‬ ‫ي َوال ت ُ ْن ِظ ُر ِ‬ ‫اقضُوا ِإلَ ه‬ ‫غ همةً ث ُ هم ْ‬ ‫يَك ُْن أ َ ْم ُر ُك ْم َ‬
‫علَ ْي ُك ْم ُ‬
‫ين ( ‪) 72‬‬ ‫س ِل ِم َ‬ ‫َّللا َوأ ُ ِم ْرتُ أ َ ْن أَك َ‬
‫ُون ِم َن ا ْل ُم ْ‬ ‫علَى ه ِ‬ ‫ي ِإاله َ‬ ‫أَجْ ٍر ِإ ْن أَجْ ِر َ‬

‫ّللا ]‬
‫[ سؤال الرسل األجر من ه‬
‫علَى َّ ِ‬
‫ّللا »فإن المقام‬ ‫الرسل قاطبة وهم الكمل بال خالف ‪ ،‬تقول ‪ِ «:‬إ ْن أ َ ْج ِر َ‬
‫ي ِإ َّال َ‬
‫ّللا يقتضي األجرة ‪ ،‬فما من نبي دعا قومه‬ ‫يعطي األجر وال بد ‪ ،‬فإن مقام الدعوة إلى ه‬
‫إال قيل له ‪ « :‬قل ما أسألكم عليه من أجر إن أجري إال على هللا » فأثبت األجرة على‬
‫ّللا عليه وسلم ما‬‫ّللا صلهى ه‬ ‫ّللا ال من المدعو ‪ ،‬حتى إن رسول ه‬ ‫دعائه ‪ ،‬وسألها من ه‬
‫سأل منا في األجر على تبليغ الدعاء إال المودة في القربى ‪ ،‬وهو حب أهل البيت‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ ،‬وأن يكرموا من أجله ‪ ،‬كانوا ما كانوا ‪،‬‬ ‫وقرابته صلهى ه‬
‫ّللا ]‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ [ :‬إن أحق ما أخذتم عليه أجرا كتاب ه‬ ‫ّللا صلهى ه‬
‫وقال رسول ه‬
‫في حديث الذي رقى اللديغ بفاتحة الكتاب واستراح ‪،‬‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ [ :‬اضربوا لي فيها بسهم ] يعني في الغنم التي‬ ‫ّللا صلهى ه‬
‫فقال رسول ه‬
‫ّللا إن‬
‫أخذوها أجرا على ذلك ‪ ،‬فاإلنسان الداعي بوعظه وتذكيره عباد ه‬

‫ص ‪313‬‬

‫ص ‪313 :‬‬
‫أخذ أجرا فله ذلك ‪ ،‬فإنه في عمل يقتضي األجر بشهادة كل رسول ‪ ،‬وإن ترك أخذه‬
‫ّللا األجر ‪،‬‬
‫ّللا فله ذلك ‪ ،‬وسبب ترك الرسل لذلك وسؤالهم من ه‬ ‫من الناس وسأله من ه‬
‫ّللا هو الذي استعملهم في التبليغ ‪ ،‬فكان األجر عليه تعالى ال على المدعو ‪ ،‬وإنما‬
‫كون ه‬
‫أخذ الراقي األجر من اللديغ ألن اللديغ استعمله في ذلك ‪ ،‬ولذلك قال النبي صلهى ه‬
‫ّللا‬
‫عليه وسلم ‪ [ :‬اضربوا لي بسهم ] ألن الرسول عليه السالم هو الذي أفاد الراقي ما‬
‫رقى به ذلك اللديغ ‪ ،‬واعلم أن هذا األجر أجر تفضل إلهي ‪ ،‬عيهنه السيد لعبده ‪ ،‬فإن‬
‫العبد ال ينبغي له استحقاق األجر على سيده فيما يستعمله فيه ‪ ،‬فإنه ملكه وعين ماله ‪،‬‬
‫ولكن تفضل سيده عليه بأن عيهن له على عمله أجرا ‪ ،‬فأنت العبد في صورة األجير ‪،‬‬
‫وما هو أجر األجير ‪ ،‬فإن األجير من استؤجر ‪ ،‬فهذا أجنبي ‪ ،‬والسيد ال يستأجر عبده‬
‫‪ ،‬لكن العمل يقتضي األجرة وال يأخذها ‪ ،‬وإنما يأخذها العامل ‪ ،‬والعامل العبد ‪ ،‬فهو‬
‫ّللا ‪ ،‬فأشبه األجير في قبض األجرة وفارقه باالستئجار ‪ -‬راجع‬‫قابض األجرة من ه‬
‫سورة هود آية ‪. 29‬‬

‫[ سورة يونس ( ‪ : ) 10‬اآليات ‪ 73‬إلى ‪] 90‬‬


‫ِين َكذهبُوا ِبآياتِنا‬ ‫ف َوأ َ ْغ َر ْقنَا الهذ َ‬ ‫فَ َكذهبُوهُ فَنَ هج ْيناهُ َو َم ْن َمعَهُ فِي ا ْلفُ ْل ِك َو َجعَ ْلنا ُه ْم َخالئِ َ‬
‫سالً ِإلى قَ ْو ِم ِه ْم فَجا ُؤ ُه ْم‬ ‫ين ( ‪ ) 73‬ث ُ هم بَعَثْنا ِم ْن بَ ْع ِد ِه ُر ُ‬ ‫كان عا ِقبَةُ ا ْل ُم ْنذَ ِر َ‬
‫ف َ‬ ‫ظ ْر َك ْي َ‬ ‫فَا ْن ُ‬
‫ِين (‬ ‫ب ا ْل ُم ْعتَد َ‬ ‫ت فَما كانُوا ِليُ ْؤ ِمنُوا بِما َكذهبُوا بِ ِه ِم ْن قَ ْب ُل كَذ ِلكَ نَ ْطبَ ُع عَلى قُلُو ِ‬ ‫بِا ْلبَ ِيّنا ِ‬
‫ست َ ْكبَ ُروا‬‫ون إِلى فِ ْرع َْو َن َو َمالئِ ِه بِآياتِنا فَا ْ‬ ‫هار َ‬‫) ‪74‬ث ُ هم بَعَثْنا ِم ْن بَ ْع ِد ِه ْم ُموسى َو ُ‬
‫ين (‬ ‫ق ِم ْن ِع ْندِنا قالُوا إِ هن هذا لَسِحْ ٌر ُم ِب ٌ‬ ‫ين ) ‪ ( 75‬فَلَ هما جا َء ُه ُم ا ْل َح ُّ‬ ‫َوكانُوا قَ ْوما ً ُمجْ ِر ِم َ‬
‫ون ) ‪( 77‬‬ ‫اح ُر َ‬ ‫س ِ‬ ‫ق لَ هما جا َء ُك ْم أ َ سِحْ ٌر هذا َوال يُ ْف ِل ُح ال ه‬ ‫‪ ) 76‬قا َل ُموسى أ َ تَقُولُ َ‬
‫ون ِل ْل َح ّ ِ‬
‫ض َوما نَحْ ُن‬ ‫ُون لَ ُك َما ا ْل ِك ْب ِريا ُء فِي ْاأل َ ْر ِ‬ ‫علَ ْي ِه آبا َءنا َوتَك َ‬ ‫ع هما َو َجدْنا َ‬ ‫قالُوا أ َ ِجئْتَنا ِلت َ ْل ِفتَنا َ‬
‫يم ) ‪ ( 79‬فَلَ هما جا َء‬ ‫ع ِل ٍ‬
‫ساح ٍر َ‬ ‫ين ( ‪َ ) 78‬وقا َل ِف ْرع َْو ُن ائْتُو ِني ِب ُك ِ ّل ِ‬ ‫لَكُما ِب ُم ْؤ ِم ِن َ‬
‫ون ( ‪ ) 80‬فَلَ هما أ َ ْلقَ ْوا قا َل ُموسى ما ِجئْت ُ ْم بِ ِه‬ ‫س َح َرةُ قا َل لَ ُه ْم ُموسى أ َ ْلقُوا ما أ َ ْنت ُ ْم ُم ْلقُ َ‬ ‫ال ه‬
‫ق‬‫َّللاُ ا ْل َح ه‬
‫ق ه‬ ‫ِين ( ‪َ ) 81‬ويُ ِح ُّ‬ ‫سد َ‬ ‫ع َم َل ا ْل ُم ْف ِ‬ ‫ص ِل ُح َ‬ ‫َّللا ال يُ ْ‬ ‫سيُ ْب ِطلُهُ إِ هن ه َ‬‫َّللا َ‬‫سحْ ُر إِ هن ه َ‬ ‫ال ِ ّ‬
‫ف‬ ‫ون ) ‪ ( 82‬فَما آ َم َن ِل ُموسى ِإاله ذُ ِ ّريهةٌ ِم ْن قَ ْو ِم ِه عَلى َخ ْو ٍ‬ ‫ِب َك ِلماتِ ِه َولَ ْو ك َِر َه ا ْل ُمجْ ِر ُم َ‬
‫ين (‬ ‫س ِرفِ َ‬ ‫ض َو ِإنههُ لَ ِم َن ا ْل ُم ْ‬ ‫ِم ْن فِ ْرع َْو َن َو َمالئِ ِه ْم أ َ ْن يَ ْفتِنَ ُه ْم َو ِإ هن فِ ْرع َْو َن لَعا ٍل فِي ْاأل َ ْر ِ‬
‫ين ( ‪) 84‬‬ ‫س ِل ِم َ‬‫اّلِل فَعَلَ ْي ِه ت َ َو هكلُوا ِإ ْن ُك ْنت ُ ْم ُم ْ‬
‫‪َ ) 83‬وقا َل ُموسى يا قَ ْو ِم ِإ ْن ُك ْنت ُ ْم آ َم ْنت ُ ْم ِب ه ِ‬
‫ين ( ‪َ ) 85‬ونَ ِ ّجنا ِب َرحْ َم ِتكَ ِم َن‬ ‫ظا ِل ِم َ‬ ‫َّللا ت َ َو هك ْلنا َربهنا ال تَجْ عَ ْلنا ِفتْنَةً ِل ْلقَ ْو ِم ال ه‬ ‫علَى ه ِ‬ ‫فَقالُوا َ‬
‫ين ( ‪َ ) 86‬وأ َ ْو َح ْينا إِلى ُموسى َوأ َ ِخي ِه أ َ ْن تَبَ هوءا ِلقَ ْو ِمكُما بِ ِمص َْر بُيُوتا ً‬ ‫ا ْلقَ ْو ِم ا ْلكافِ ِر َ‬
‫ين ( ‪َ ) 87‬وقا َل ُموسى َربهنا إِنهكَ‬ ‫ش ِر ا ْل ُم ْؤ ِمنِ َ‬ ‫صالةَ َوبَ ِ ّ‬ ‫َواجْ عَلُوا بُيُوت َ ُك ْم قِ ْبلَةً َوأَقِي ُموا ال ه‬
‫س‬ ‫س ِبي ِلكَ َربهنَا ا ْط ِم ْ‬ ‫آت َ ْيتَ فِ ْرع َْو َن َو َم ََلَهُ ِزينَةً َوأ َ ْمواالً فِي ا ْل َحيا ِة ال ُّد ْنيا َربهنا ِليُ ِضلُّوا ع َْن َ‬
‫ذاب ْاأل َ ِلي َم ( ‪ ) 88‬قا َل قَ ْد‬ ‫ش ُد ْد عَلى قُلُو ِب ِه ْم فَال يُ ْؤ ِمنُوا َحتهى يَ َر ُوا ا ْلعَ َ‬ ‫عَلى أ َ ْموا ِل ِه ْم َوا ْ‬
‫جاو ْزنا ِببَ ِني‬ ‫ون ( ‪َ ) 89‬و َ‬ ‫ِين ال يَ ْعلَ ُم َ‬ ‫س ِبي َل الهذ َ‬ ‫عان َ‬ ‫ست َ ِقيما َوال تَت ه ِب ِّ‬ ‫أ ُ ِجيبَتْ َدع َْوتُكُما فَا ْ‬
‫ق قا َل آ َم ْنتُ‬ ‫عدْوا ً َحتهى ِإذا أَد َْر َكهُ ا ْلغَ َر ُ‬ ‫سرا ِئي َل ا ْلبَحْ َر فَأَتْبَعَ ُه ْم ِف ْرع َْو ُن َو ُجنُو ُد ُه بَ ْغيا ً َو َ‬ ‫ِإ ْ‬
‫ين) ‪( 90‬‬ ‫سرائِي َل َوأَنَا ِم َن ا ْل ُم ْ‬
‫س ِل ِم َ‬ ‫أَنههُ ال إِلهَ إِاله الهذِي آ َمنَتْ بِ ِه بَنُوا إِ ْ‬
‫ص ‪314‬‬
‫ص ‪314 :‬‬
‫[إيمان فرعون ]‬
‫لما علم فرعون الحق ‪ ،‬وأثبت في كالمه بأن موسى عليه السالم مرسل بقوله (‪ِ :‬إ َّن‬
‫سولَ ُك ُم الَّذِي أ ُ ْر ِس َل ِإلَ ْي ُك ْم لَ َم ْجنُ ٌ‬
‫ون )فإنه ما جاء من نفسه ‪ ،‬ألنه دعا إلى غيره ‪ ،‬فبقيت‬ ‫َر ُ‬

‫‪315‬‬

‫ص ‪315 :‬‬
‫تلك الخميرة عند فرعون تختمر بها عجين طينته ‪ ،‬وما ظهر حكمها وال اختمر عجينه‬
‫إال في الوقت الذي قال فيه ‪ «:‬آ َم ْنتُ »فتلفظ باعتقاده الذي معه« أَنَّهُ ال ِإلهَ ِإ َّال الَّذِي‬
‫ّللا ‪ ،‬ليرفع اللبس والشك ‪ ،‬إذ قد علم الحاضرون أن‬ ‫َت ِب ِه بَنُوا ِإسْرائِي َل »وما سمى ه‬
‫آ َمن ْ‬
‫بني إسرائيل ما آمنت إال باإلله الذي جاء موسى وهارون من عنده إليهم ‪،‬‬
‫فلو قال ‪ « :‬آمنت باهلل » وهو قد قرر أنه ما علم لقومه من إله غيره ‪،‬‬
‫ّللا لنفسه ‪ ،‬فرفع هذا اللبس‬ ‫لقالوا ‪ :‬لنفسه شهد ال للذي أرسل موسى إلينا ‪ ،‬كما شهد ه‬
‫بما قاله ‪ ،‬عند ذلك أخذ جبريل حال البحر فألقمه في فم فرعون حتى ال يتلفظ بالتوحيد‬
‫ّللا ‪ ،‬وغلبه‬ ‫‪ ،‬ويسابقه مسابقة غيره على جناب الحق ‪ ،‬مع علمه بأنه علم أنه ال إله إال ه‬
‫فرعون ‪،‬‬
‫ّللا تعالى عنه في كتابه العزيز ‪ ،‬فجاء فرعون‬ ‫فإنه قال كلمة التوحيد بلسانه كما أخبر ه‬
‫باسم الصلة وهو« الَّذِي »ليرفع اللبس عند السامعين ولرفع اإلشكال عند األشكال ‪،‬‬
‫وهذا هو التوحيد الثاني عشر في القرآن ‪ ،‬وهو توحيد االستغاثة ‪ ،‬وهو توحيد الصلة ‪،‬‬
‫فإنه جاء بالذي في هذا التوحيد ‪ ،‬وهو من األسماء الموصولة ‪ ،‬وقدم الهوية في قوله ‪:‬‬
‫أنه » ليعيد ضمير به » عليه ‪ ،‬ليلحق بتوحيد الهوية ‪،‬‬
‫ثم تمم وقال ‪َ «:‬وأَنَا ِمنَ ْال ُم ْس ِل ِمينَ » خطاب منه للحق ‪ ،‬لعلمه بأنه تعالى يسمعه ويراه‬
‫قال ذلك لما علم أن اإلله هو الذي ينقاد إليه وال ينقاد هو ألحد ‪ ،‬أعلم بذلك فرعون ‪،‬‬
‫ّللا ‪ ،‬فإنه‬ ‫ليعلم قومه برجوعه عما كان ادعاه فيهم من أنه ربهم األعلى ‪ ،‬فأمره إلى ه‬
‫آمن عند رؤية البأس ‪ ،‬وما نفع مثل ذلك اإليمان فرفع عنه عذاب الدنيا ‪ ،‬إال قوم‬
‫ّللا صدهقه في إيمانه بقوله ‪:‬‬
‫يونس ‪ ،‬ولم يتعرض لْلخرة ‪ ،‬ثم إن ه‬

‫[ سورة يونس ( ‪ : ) 10‬آية ‪] 91‬‬


‫ِين ) ‪( 91‬‬ ‫سد َ‬‫ص ْيتَ قَ ْب ُل َو ُك ْنتَ ِم َن ا ْل ُم ْف ِ‬ ‫ع َ‬ ‫ْآآل َن َوقَ ْد َ‬
‫ّللا بقوله ‪ْ «:‬آآلنَ »أنه آمن عن علم‬ ‫قال تعالى لفرعون ‪ْ «:‬آآلنَ »قلت ذلك ‪ ،‬فأثبت ه‬
‫وّللا أعلم وإن كان األمر فيه احتمال ‪ ،‬فدل على إخالصه في إيمانه ‪ ،‬ولو لم‬ ‫محقق ه‬
‫يكن مخلصا لقال فيه تعالى كما قال في األعراب الذين قالوا ‪ (:‬آ َمنَّا ) ( قُ ْل لَ ْم تُؤْ ِمنُوا‬
‫ّللا لفرعون باإليمان ‪ ،‬وما كان‬ ‫يمان فِي قُلُو ِب ُك ْم )فشهد ه‬
‫اإل ُ‬ ‫َول ِك ْن قُولُوا أ َ ْسلَ ْمنا َولَ َّما يَ ْد ُخ ِل ْ ِ‬
‫ّللا‬
‫ّللا ليشهد ألحد بالصدق في توحيده إال ويجازيه به ‪ ،‬وبعد إيمانه فما عصى ‪ ،‬فقبله ه‬ ‫ه‬
‫إن كان قبله طاهرا ‪ ،‬والكافر إذا أسلم وجب عليه أن يغتسل ‪ ،‬فكان غرقه غسال له‬
‫وتطهيرا ‪ ،‬حيث‬

‫ص ‪316‬‬

‫ص ‪316 :‬‬
‫ّللا في تلك الحال نكال اآلخرة واألولى ‪ ،‬وجعل ذلك عبرة لمن يخشى ‪ ،‬وما أشبه‬ ‫أخذه ه‬
‫إيمانه إيمان من غرغر ‪ ،‬فإن المغرغر موقن بأنه مفارق ‪ ،‬قاطع بذلك ‪ ،‬وهذا الغرق‬
‫هنا لم يكن كذلك ‪ ،‬ألنه رأى البحر يبسا في حق المؤمنين ‪ ،‬فعلم أن ذلك لهم بإيمانهم ‪،‬‬
‫فما أيقن بالموت ‪ ،‬بل غلب على ظنه الحياة ‪ ،‬فليس منزلته منزلة من حضره الموت‬
‫فقال ‪ِ (:‬إ ِنهي تُبْتُ ْاآلنَ )وال هو من الذين يموتون وهم كفار فأمره إلى ه‬
‫ّللا تعالى ‪.‬‬

‫[ سورة يونس ( ‪ : ) 10‬آية ‪] 92‬‬


‫اس ع َْن آياتِنا لَغافِلُ َ‬
‫ون (‬ ‫ُون ِل َم ْن َخ ْلفَكَ آيَةً َو ِإ هن َكثِيرا ً ِم َن النه ِ‬ ‫فَا ْليَ ْو َم نُنَ ِ ّجيكَ ِببَ َدنِكَ ِلتَك َ‬
‫‪) 92‬‬
‫[ كان حكم آل فرعون في نفس األمر خالف حكم فرعون في نفسه ]‬
‫كان حكم آل فرعون في نفس األمر خالف حكم فرعون في نفسه ‪ ،‬فإنه علم صدق‬
‫ّللا في باطنه بما‬ ‫ّللا في ظاهره بما صدر منه ‪ ،‬وحكم ه‬ ‫موسى عليه السالم ‪ ،‬وعلم حكم ه‬
‫كان يعتقده من صدق موسى فيما دعاهم إليه ‪ ،‬وكان ظهور إيمانه المقرر في باطنه‬
‫ّللا مخصوصا بزمان مؤقت ‪ ،‬ال يكون إال فيه ‪ ،‬وبحالة خاصة ‪ ،‬فظهر باإليمان‬ ‫عند ه‬
‫لما جاء زمانه وحاله ‪ ،‬فغرق قومه آية ‪ ،‬ونجاة فرعون ببدنه دون قومه عند ظهور‬
‫يك ِببَ َد ِن َك »‬ ‫ّللا بعباده أن قال« فَ ْاليَ ْو َم نُنَ ِ هج َ‬ ‫إيمانه آية ‪ ،‬فمن رحمة ه‬
‫يعني دون قومك" ِلت َ ُكونَ ِل َم ْن خ َْلفَ َك آيَةً "‬
‫ّللا ببدنه أي بظاهره ‪ ،‬فإن باطنه لم يزل محفوظا‬ ‫باّلل أي ينجيه ه‬ ‫أي عالمة لمن آمن ه‬
‫ّللا في الغرق بينهم ‪ ،‬وتفرقا في‬ ‫فسوى ه‬ ‫بالنجاة من الشرك ‪ ،‬ألن العلم أقوى الموانع ‪ ،‬ه‬
‫الحكم ‪ ،‬فجعلهم سلفا ومثال لْلخرين ‪ ،‬يعني األمم الذين يأتون بعدهم ‪ ،‬وخص فرعون‬
‫ّللا بالنجاة ‪ ،‬فإن الحق خاطب فرعون بلسان العتب‬ ‫بأن تكون نجاته آية لمن رجع إلى ه‬
‫وأسمعه‬
‫ت ِمنَ ْال ُم ْف ِسدِينَ )‬ ‫ْت قَ ْب ُل َو ُك ْن َ‬ ‫صي َ‬ ‫ع َ‬ ‫( ْآآلنَ »أظهرت ما قد كنت تعلمه( َوقَ ْد َ‬
‫فهي كلمة بشرى لفرعون عرفنا الحق بها لنرجو رحمته مع إسرافنا وإجرامنا ‪ ،‬ثم‬
‫يك " فبشره قبل قبض روحه « بِبَ َدنِ َك ِلت َ ُكونَ ِل َم ْن خ َْلفَ َك آيَةً »‬ ‫قال‪ " :‬فَ ْاليَ ْو َم نُنَ ِ هج َ‬
‫يعني لتكون النجاة لمن يأتي بعدك« آيَةً » عالمة ‪،‬‬
‫إذا قال ما قلته تكون له النجاة مثل ما كانت لك ‪ ،‬وما في اآلية أن بأس اآلخرة ال‬
‫يرتفع وال أن إيمانه لم يقبل ‪ ،‬وإنما في اآلية أن بأس الدنيا ال يرتفع عمن نزل به إذا‬
‫آمن في حال رؤيته إال قوم يونس ‪،‬‬
‫يك بِبَ َدنِ َك »إذ العذاب ال يتعلق إال بظاهرك ‪ ،‬وقد أريت الخلق‬ ‫فقوله ‪ «:‬فَ ْاليَ ْو َم نُنَ ِ هج َ‬
‫نجاته من العذاب ‪ ،‬فكان‬

‫ص ‪317‬‬

‫ص ‪317 :‬‬
‫ابتداء الغرق عذابا ‪ ،‬فصار الموت فيه شهادة خالصة بريئة لم تتخللها معصية ‪،‬‬
‫فقبضت على أفضل عمل ‪ ،‬وهو التلفظ باإليمان ‪ ،‬كل ذلك حتى ال يقنط أحد من رحمة‬
‫باّلل يجول في باطن فرعون ‪ ،‬وجاء طوعا‬ ‫ّللا ‪ ،‬واألعمال بالخواتيم ‪ ،‬فلم يزل اإليمان ه‬ ‫ه‬
‫في إيمانه ‪ ،‬وما عاش بعد ذلك ‪ ،‬فقبض فرعون ولم يؤخر في أجله في حال إيمانه ‪،‬‬
‫لئال يرجع إلى ما كان عليه من الدعوى ‪ ،‬ثم قوله تعالى في تتميم قصته هذه« َو ِإ َّن‬
‫ع ْن آياتِنا لَغافِلُونَ »وقد أظهرت نجاتك آية أي عالمة على حصول‬ ‫اس َ‬ ‫َكثِيرا ً ِمنَ النَّ ِ‬
‫النجاة ‪ ،‬فغفل أكثر الناس عن هذه اآلية وقضوا على المؤمن بالشقاء ‪ ،‬وأما قوله تعالى‬
‫ار ) فما فيه نص أنه يدخلها معهم ‪،‬‬ ‫‪ (:‬فَأ َ ْو َر َد ُه ُم النَّ َ‬
‫ّللا أوسع‬ ‫ع ْونَ )ولم يقل ( أدخلوا فرعون وآله ) ورحمة ه‬ ‫ّللا ‪ (:‬أ َ ْد ِخلُوا آ َل فِ ْر َ‬‫بل قال ه‬
‫من حيث أن ال يقبل إيمان المضطر ‪ ،‬وأي اضطرار أعظم من اضطرار فرعون في‬
‫سو َء )‬ ‫ط َّر ِإذا َدعاهُ َويَ ْك ِش ُ‬
‫ف ال ُّ‬ ‫يب ْال ُم ْ‬
‫ض َ‬ ‫وّللا يقول ‪ (:‬أ َ َّم ْن يُ ِج ُ‬‫حال الغرق ‪ ،‬ه‬
‫فقرن للمضطر إذا دعاه اإلجابة وكشف السوء عنه ‪ ،‬وهذا آمن هّلل خالصا ‪ ،‬وما دعاه‬
‫في البقاء في الحياة الدنيا خوفا من العوارض ‪ ،‬أو يحال بينه وبين هذا اإلخالص الذي‬
‫ّللا على البقاء بالتلفظ باإليمان ‪ ،‬وجعل ذلك‬ ‫جاءه في هذه الحال ‪ ،‬فرجح جانب لقاء ه‬
‫الغرق( نَكا َل ْاآل ِخ َرةِ َو ْاألُولى )فلم يكن عذابه أكثر من غم الماء األجاج ‪ ،‬وقبضه على‬
‫أحسن صفة هذا ما يعطي ظاهر اللفظ ‪ ،‬وهذا معنى قوله ‪ِ (:‬إ َّن ِفي ذ ِل َك لَ ِعب َْرة ً ِل َم ْن‬
‫يَ ْخشى )يعني في أخذه نكال اآلخرة واألولى ‪ ،‬وقدم ذكر اآلخرة وأخر األولى ليعلم أن‬
‫العذاب ‪ -‬أعني عذاب الغرق ‪ -‬هو نكال اآلخرة ‪ ،‬فلذلك قدمها في الذكر على األولى ‪،‬‬
‫وهذا هو الفضل العظيم ‪.‬‬

‫[ سورة يونس ( ‪ : ) 10‬اآليات ‪ 93‬إلى ‪] 94‬‬


‫اختَلَفُوا َحتهى جا َء ُه ُم‬ ‫ت فَ َما ْ‬ ‫ط ِيّبا ِ‬ ‫ْق َو َر َز ْقنا ُه ْم ِم َن ال ه‬
‫سرا ِئي َل ُمبَ هوأ َ ِصد ٍ‬ ‫َولَقَ ْد بَ هوأْنا بَ ِني ِإ ْ‬
‫ون ( ‪ ) 93‬فَ ِإ ْن ُك ْنتَ فِي‬ ‫ا ْل ِع ْل ُم إِ هن َربهكَ يَ ْق ِضي بَ ْينَ ُه ْم يَ ْو َم ا ْل ِقيا َم ِة فِيما كانُوا فِي ِه يَ ْخت َ ِلفُ َ‬
‫ق ِم ْن َر ِبّكَ فَال‬‫تاب ِم ْن قَ ْب ِلكَ لَقَ ْد جا َءكَ ا ْل َح ُّ‬
‫ُن ا ْل ِك َ‬ ‫ِين يَ ْق َرؤ َ‬
‫سئ َ ِل الهذ َ‬ ‫ش ٍَّك ِم هما أ َ ْن َز ْلنا إِلَ ْيكَ فَ ْ‬
‫ين) ‪( 94‬‬ ‫تَكُونَ هن ِم َن ال ُم ْمت َ ِر َ‬

‫ص ‪318‬‬

‫ص ‪318 :‬‬
‫ّللا عليه وسلم ليس في شك ‪ ،‬فالمقصود من هو في شك من األمة ‪،‬‬ ‫معلوم أنه صلهى ه‬
‫فهو المخاطب والقصد أمته ‪ ،‬مثل قولهم ‪ :‬إياك أعني فاسمعي يا جارة ‪.‬‬

‫[ سورة يونس ( ‪ : ) 10‬اآليات ‪ 95‬إلى ‪] 98‬‬


‫ِين َحقهتْ‬ ‫ين ( ‪ِ ) 95‬إ هن الهذ َ‬ ‫س ِر َ‬ ‫ُون ِم َن ا ْلخا ِ‬ ‫َّللا فَتَك َ‬
‫ت هِ‬ ‫ِين َكذهبُوا ِبآيا ِ‬ ‫َوال تَكُونَ هن ِم َن الهذ َ‬
‫ذاب ْاأل َ ِلي َم (‬
‫ون ( ‪َ ) 96‬ولَ ْو جا َءتْ ُه ْم ُك ُّل آيَ ٍة َحتهى يَ َر ُوا ا ْلعَ َ‬ ‫علَ ْي ِه ْم َك ِل َمتُ َر ِبّكَ ال يُ ْؤ ِمنُ َ‬ ‫َ‬
‫ع ْن ُه ْم‬‫ش ْفنا َ‬ ‫س لَ هما آ َمنُوا َك َ‬ ‫‪ ) 97‬فَلَ ْو ال كانَتْ قَ ْريَةٌ آ َمنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِاله قَ ْو َم يُونُ َ‬
‫ين ) ‪( 98‬‬ ‫َذاب ا ْل ِخ ْزي ِ فِي ا ْل َحيا ِة ال ُّد ْنيا َو َمت ه ْعنا ُه ْم ِإلى ِح ٍ‬
‫ع َ‬
‫إن اإلنسان ولد على الفطرة ‪ ،‬وهي العلم بوجود الرب أنه ربنا ‪ ،‬ونحن عبيد له ‪،‬‬
‫واإلنسان ال يقبض حين يقبض إال بعد كشف الغطاء ‪ ،‬فال يقبض إال مؤمنا وال يحشر‬
‫سنا »فما‬ ‫ّللا تعالى لما قال ‪ «:‬فَلَ ْم يَكُ يَ ْنفَعُ ُه ْم ِإيمانُ ُه ْم لَ َّما َرأ َ ْوا بَأ ْ َ‬ ‫إال مؤمنا ‪ ،‬غير أن ه‬
‫ّللا بذلك البأس ‪ ،‬وما ذكر‬ ‫آمنوا إال ليندفع عنهم ذلك البأس ‪ ،‬فما اندفع عنهم ‪ ،‬وأخذهم ه‬
‫َت فَنَفَعَها ِإيمانُها ِإ َّال‬ ‫َت قَ ْريَةٌ آ َمن ْ‬ ‫أنه ال ينفعهم في اآلخرة ‪ ،‬ويؤيد ذلك قوله ‪ «:‬فَلَ ْو ال كان ْ‬
‫ذاب ْال ِخ ْزي ِ فِي ْال َحياةِ ال ُّد ْنيا‬ ‫ع َ‬ ‫ع ْن ُه ْم َ‬ ‫ش ْفنا َ‬‫س لَ َّما آ َمنُوا »حين رأوا البأس« َك َ‬ ‫قَ ْو َم يُونُ َ‬
‫»فهذا معنى قولنا ‪ «:‬فَلَ ْم يَكُ يَ ْنفَعُ ُه ْم ِإيمانُ ُه ْم »في رفع البأس عنهم في الحياة الدنيا كما‬
‫ّللا يقيم حدوده على عباده حيث‬ ‫نفع قوم يونس ‪ ،‬فما تعرض إلى اآلخرة ومع هذا فإن ه‬
‫شاء ومتى شاء ‪ ،‬فثبت أن انتقال الناس في الدارين في أحوالهم من نعيم إلى نعيم ‪،‬‬
‫ّللا ما‬ ‫ومن عذاب إلى عذاب ‪ ،‬ومن عذاب إلى نعيم ‪ ،‬من غير مدة معلومة لنا ‪ ،‬فإن ه‬
‫سنَ ٍة )أن هذا‬ ‫ف َ‬ ‫دارهُ خ َْم ِسينَ أ َ ْل َ‬‫عرفنا ‪ ،‬إال أنا استروحنا من قوله (‪ :‬فِي يَ ْو ٍم كانَ ِم ْق ُ‬
‫القدر مدة إقامة الحدود ‪ ،‬ودلت هذه اآلية على أن يونس عليه السالم كان محبوبا هّلل ‪،‬‬
‫حيث خص قومه من أجله بما لم يخص به أمة قبلها ‪ ،‬وعرفنا بذلك ‪ ،‬فعامل قوم يونس‬
‫بما عاملهم به من كونه كشف عنهم العذاب بعد ما رأوه نازال بهم ‪ ،‬فآمنوا ‪ ،‬أرضاه‬
‫ّللا في أمته فنفعها إيمانها ‪ ،‬ولم يفعل ذلك مع أمة قبلها ‪ ،‬ومتعهم إلى حين فأم هد لهم في‬ ‫ه‬
‫التمتع في مقابلة ما نالوه من األلم عند رؤية العذاب ‪ ،‬فلما اشتد البالء‬

‫ص ‪319‬‬

‫ص ‪319 :‬‬
‫على قوم يونس وكانت اللحظة الزمانية عندهم في وقت رؤية العذاب كالسنة أو أطول‬
‫‪ ،‬ذكر أنه تعالى في مقابلة هذا الطول الذي وجدوه في نفوسهم أنه متعهم إلى حين ‪،‬‬
‫فبقوا في نعيم الحياة الدنيا زمنا طويال ‪ ،‬لم يكن يحصل لهم ذلك لوال هذا البالء وقد‬
‫وّللا أعلم ‪.‬‬
‫قيل إن الحين الذي جعله غاية تمتعهم أنه القيامة ه‬

‫[ سورة يونس ( ‪ : ) 10‬اآليات ‪ 99‬إلى ‪] 109‬‬


‫اس َحتهى يَكُونُوا‬ ‫ض ُكلُّ ُه ْم َج ِميعا ً أ َ فَأ َ ْنتَ ت ُ ْك ِرهُ النه َ‬ ‫َولَ ْو شا َء َربُّكَ َآل َم َن َم ْن فِي ْاأل َ ْر ِ‬
‫ِين ال‬ ‫علَى الهذ َ‬ ‫س َ‬ ‫الرجْ َ‬ ‫كان ِلنَ ْف ٍس أ َ ْن ت ُ ْؤ ِم َن ِإاله ِب ِإ ْذ ِن ه ِ‬
‫َّللا َويَجْ عَ ُل ِ ّ‬ ‫ين ( ‪َ ) 99‬وما َ‬ ‫ُم ْؤ ِمنِ َ‬
‫ض َوما ت ُ ْغنِي ْاآلياتُ َوالنُّذُ ُر‬ ‫ت َو ْاأل َ ْر ِ‬ ‫سماوا ِ‬ ‫ظ ُروا ما ذا فِي ال ه‬ ‫ون ( ‪ ) 100‬قُ ِل ا ْن ُ‬ ‫يَ ْع ِقلُ َ‬
‫ِين َخلَ ْوا ِم ْن قَ ْب ِل ِه ْم قُ ْل‬ ‫ون ِإاله ِمثْ َل أَيه ِام الهذ َ‬ ‫ون ( ‪ ) 101‬فَ َه ْل يَ ْنت َ ِظ ُر َ‬ ‫ع َْن قَ ْو ٍم ال يُ ْؤ ِمنُ َ‬
‫ِين آ َمنُوا كَذ ِلكَ َحقًّا‬ ‫سلَنا َوالهذ َ‬ ‫ين ( ‪ ) 102‬ث ُ هم نُنَ ِ ّجي ُر ُ‬ ‫فَا ْنت َ ِظ ُروا ِإ ِنّي َمعَ ُك ْم ِم َن ا ْل ُم ْنت َ ِظ ِر َ‬
‫ين ) ‪( 103‬‬ ‫علَ ْينا نُ ْنجِ ا ْل ُم ْؤ ِمنِ َ‬
‫َ‬
‫َّللا َول ِك ْن‬ ‫ُون ه ِ‬ ‫ُون ِم ْن د ِ‬ ‫ِين ت َ ْعبُد َ‬ ‫اس إِ ْن ُك ْنت ُ ْم فِي ش ٍَّك ِم ْن دِينِي فَال أ َ ْعبُ ُد الهذ َ‬ ‫قُ ْل يا أَيُّ َها النه ُ‬
‫ين ( ‪َ ) 104‬وأ َ ْن أَقِ ْم َوجْ َهكَ ِلل ّد ِ‬
‫ِين‬ ‫ُون ِم َن ا ْل ُم ْؤ ِمنِ َ‬ ‫َّللا الهذِي يَت َ َوفها ُك ْم َوأ ُ ِم ْرتُ أ َ ْن أَك َ‬ ‫أ َ ْعبُ ُد ه َ‬
‫َّللا ما ال يَ ْنفَعُكَ َوال يَض ُُّركَ‬ ‫ُون ه ِ‬‫ع ِم ْن د ِ‬ ‫ين ( ‪َ ) 105‬وال ت َ ْد ُ‬ ‫َحنِيفا ً َوال تَكُونَ هن ِم َن ا ْل ُمش ِْر ِك َ‬
‫ف لَهُ ِإاله ُه َو‬ ‫ش َ‬ ‫َّللاُ ِبض ٍ ُّر فَال كا ِ‬‫سكَ ه‬ ‫س ْ‬ ‫ين ( ‪َ ) 106‬و ِإ ْن يَ ْم َ‬ ‫ظا ِل ِم َ‬ ‫فَ ِإ ْن فَعَ ْلتَ فَ ِإنهكَ ِإذا ً ِم َن ال ه‬
‫الر ِحي ُم (‬ ‫ور ه‬ ‫يب بِ ِه َم ْن يَشا ُء ِم ْن ِعبا ِد ِه َو ُه َو ا ْلغَفُ ُ‬ ‫ض ِل ِه يُ ِص ُ‬ ‫َوإِ ْن يُ ِردْكَ بِ َخ ْي ٍر فَال َرا هد ِلفَ ْ‬
‫س ِه‬ ‫ق ِم ْن َر ِبّ ُك ْم فَ َم ِن ا ْهتَدى فَ ِإنهما يَ ْهتَدِي ِلنَ ْف ِ‬ ‫اس قَ ْد جا َء ُك ُم ا ْل َح ُّ‬ ‫‪ ) 107‬قُ ْل يا أَيُّ َها النه ُ‬
‫علَ ْي ُك ْم ِب َو ِكي ٍل ) ‪( 108‬‬ ‫علَ ْيها َوما أَنَا َ‬ ‫ض هل فَ ِإنهما يَ ِض ُّل َ‬ ‫َو َم ْن َ‬
‫ين) ‪( 109‬‬ ‫َّللاُ َو ُه َو َخ ْي ُر ا ْلحا ِك ِم َ‬ ‫ص ِب ْر َحتهى يَحْ ُك َم ه‬ ‫َوات ه ِب ْع ما يُوحى ِإلَ ْيكَ َوا ْ‬

‫ص ‪320‬‬

‫ص ‪320 :‬‬
‫) ‪ ( 11‬سورة هود مكيّة‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ :‬شيبتني هود وأخواتها من كل سورة فيها ذكر‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫قال رسول ه‬
‫االستقامة ‪ ،‬فإنه والمؤمنين مأمور بها والحكم للعلم اإللهي ال لألمر ‪ ،‬ولم يكن شيب‬
‫ّللا عليه وسلم بالكثير ‪ ،‬وإنما كان شعرات معدودة ‪ ،‬لم تبلغ العشرين‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫رسول ه‬
‫متفرقة لعلمه باألمر على ما هو عليه ‪.‬‬
‫الرحيم‬‫الرحمن ّ‬ ‫َّللا ّ‬
‫بسم ّ‬
‫[ سورة هود ( ‪ : ) 11‬آية ‪] 1‬‬
‫يم‬
‫الر ِح ِ‬
‫من ه‬‫الرحْ ِ‬ ‫َّللا ه‬
‫س ِم ه ِ‬
‫ِب ْ‬
‫ير ) ‪( 1‬‬ ‫يم َخ ِب ٍ‬ ‫تاب أُحْ ِك َمتْ آياتُهُ ث ُ هم فُ ِ ّ‬
‫صلَتْ ِم ْن لَد ُْن َح ِك ٍ‬ ‫الر ِك ٌ‬
‫صلَتْ آياتُهُ قرآنا عربيا لقوم يعقلون‬ ‫تاب فُ ِ ّ‬
‫يم ِك ٌ‬ ‫الر ِح ِ‬
‫من ه‬ ‫الرحْ ِ‬‫وقال تعالى ‪ (:‬ت َ ْن ِزي ٌل ِم َن ه‬
‫)‬
‫[ إحكام اآليات ]‬
‫ّللا الحكمة وفصل الخطاب ‪،‬‬ ‫إحكام اآليات فيه وتفصيلها ‪ ،‬ال يعرفه إال من آتاه ه‬
‫وصورة الحكمة التي أعطاها الحكيم الخبير ألهل العناية على مراتب األمور ‪ ،‬وما‬
‫تستحقه الموجودات والمعلومات من الحق الذي هو لها ‪ ،‬وهو إعطاء كل شيء خلقه‬
‫ّللا فنعلم بالقوة ما يستحقه كل‬
‫إعطاء إلهيا ليعطي كل خلق حقه إعطاء كونيا ‪ ،‬بما آتانا ه‬
‫موجود في الحدود ‪ ،‬ونفصله بعد ذلك آيات بالفعل لمن يعقل كما أعطاه الخبير الحكيم‬
‫‪ ،‬فننزل األمور منازلها ‪ ،‬ونعطيها حقها وال نتعدى بها مراتبها ‪ ،‬فتفصيل اآليات‬
‫صل حكيم )‬ ‫صل إذا جعلها في أماكنها بهذا الشرط ( ألنه ما كل مف ه‬ ‫والدالالت من المف ه‬
‫دليل على أنهه قد أوتي الحكمة ‪ ،‬وعلم إحكام اآليات ورحمته باآليات والموجودات التي‬
‫هي الكتاب اإللهي ‪ ،‬وليس إال العالم الذي هو كتاب مسطور في رق منشور ‪ ،‬وهو‬
‫الوجود ‪ ،‬دليل على علمه بمن أنزله ‪ ،‬وليس إال الرحمن الرحيم ‪.‬‬
‫وخاتمة األمر ليست سوى عين سوابقها ‪ ،‬وسوابقها الرحمن الرحيم ‪ ،‬فمن هنا تعلم‬
‫مراتب العالم ومآله ‪ ،‬أنه إلى الرحمة المطلقة وإن تعب في الطريق ‪ ،‬وأدركه العناء‬
‫والمشقة ‪ ،‬فمن‬

‫ص ‪321‬‬

‫ص ‪321 :‬‬
‫الناس من ينال الرحمة والراحة بنفس ما يدخل المنزل الذي وصل إليه ‪ ،‬وهم أهل‬
‫الجنة ومنهم من يبقى معه تعب الطريق ومشقته ونصبه بحسب مزاجه ‪ ،‬وربما مرض‬
‫واعتل زمانا ثم انتقل من دائه ‪ ،‬واستراح وهم أهل النار الذين هم أهلها ‪ ،‬ما هم الذين‬
‫ّللا فيها إماتة‬
‫خرجوا منها إلى الجنة فمستهم النار بقدر خطاياهم ‪ ،‬مع كونهم أماتهم ه‬
‫فإن أولئك ليست النار منزال لهم يعمرونه ‪ ،‬ويقيمون فيه مع أهليهم ‪ ،‬وإنما النار‬
‫لهؤالء منهل من المناهل التي ينزلها المسافر في طريقه حتى يصل منزله الذي فيه‬
‫ّللا الحكمة وفصل‬ ‫أهله ‪ ،‬فهذا معنى الحكمة والتفصيل من لدن حكيم خبير لمن أعطاه ه‬
‫الخطاب ‪ ،‬وليس إال الرسل والورثة خاصة ‪.‬‬

‫[ سورة هود ( ‪ : ) 11‬اآليات ‪ 2‬إلى ‪] 3‬‬


‫ير ( ‪َ ) 2‬وأ َ ِن ا ْ‬
‫ست َ ْغ ِف ُروا َربه ُك ْم ث ُ هم تُوبُوا ِإلَ ْي ِه‬ ‫ش ٌ‬ ‫أَاله ت َ ْعبُدُوا ِإاله ه َ‬
‫َّللا ِإنه ِني لَ ُك ْم ِم ْنهُ نَذ ٌ‬
‫ِير َوبَ ِ‬
‫ضلَهُ َوإِ ْن ت َ َوله ْوا فَ ِإ ِنّي أ َ ُ‬
‫خاف‬ ‫ض ٍل فَ ْ‬ ‫ت ُك هل ذِي فَ ْ‬ ‫سنا ً إِلى أ َ َج ٍل ُم َ‬
‫س ًّمى َويُ ْؤ ِ‬ ‫يُ َم ِت ّ ْع ُك ْم َمتاعا ً َح َ‬
‫ير ) ‪( 3‬‬ ‫علَ ْي ُك ْم ع َ‬
‫َذاب يَ ْو ٍم َكبِ ٍ‬ ‫َ‬
‫خاف‬‫ّللا عليه وسلم ولكل رسول ‪ :‬أن يقول لنا «فَإِ ِنهي أ َ ُ‬ ‫ّللا تعالى لمحمد صلهى ه‬ ‫قال ه‬
‫ير »وال خوف علينا إال منا ‪ ،‬فإن أعمالنا ترد علينا ‪.‬‬ ‫ذاب يَ ْو ٍم َك ِب ٍ‬
‫ع َ‬‫علَ ْي ُك ْم َ‬ ‫َ‬

‫[ سورة هود ( ‪ : ) 11‬آية ‪] 4‬‬


‫ش ْي ٍء قَد ٌ‬
‫ِير ( ‪) 4‬‬ ‫إِلَى ه ِ‬
‫َّللا َم ْر ِجعُ ُك ْم َو ُه َو عَلى ُك ِ ّل َ‬
‫على ُك ِهل َ‬
‫ش ْيءٍ قَد ٌ‬
‫ِير »‪.‬‬ ‫ّللا َم ْر ِجعُ ُك ْم »جميعا يعني مرجع اليوم« َو ُه َو َ‬ ‫« ِإلَى َّ ِ‬

‫[ سورة هود ( ‪ : ) 11‬اآليات ‪ 5‬إلى ‪] 6‬‬


‫س ُّر َ‬
‫ون َوما‬ ‫ست َ ْغش َ‬
‫ُون ِثيابَ ُه ْم يَ ْعلَ ُم ما يُ ِ‬ ‫ين يَ ْ‬ ‫ست َ ْخفُوا ِم ْنهُ أَال ِح َ‬
‫ُور ُه ْم ِليَ ْ‬
‫صد َ‬ ‫ون ُ‬ ‫أَال ِإنه ُه ْم يَثْنُ َ‬
‫َّللا ِر ْزقُها‬
‫علَى ه ِ‬ ‫ض إِاله َ‬ ‫ُور ( ‪َ ) 5‬وما ِم ْن دَابه ٍة فِي ْاأل َ ْر ِ‬ ‫صد ِ‬ ‫ت ال ُّ‬ ‫ون إِنههُ َ‬
‫ع ِلي ٌم بِذا ِ‬ ‫يُ ْع ِلنُ َ‬
‫ين) ‪( 6‬‬ ‫ب ُمبِ ٍ‬‫ست َ ْو َدعَها ُك ٌّل فِي ِكتا ٍ‬ ‫ستَقَ هرها َو ُم ْ‬
‫َويَ ْعلَ ُم ُم ْ‬

‫ص ‪322‬‬

‫ص ‪322 :‬‬
‫فأعلم سبحانه اإلنسان أنه يرزقه وال بد سواء كان كافرا أو مؤمنا لكونه حيوانا ‪ ،‬ولكن‬
‫ما قال له ‪ :‬متى وال من أين ؟ فما عيهن الزمان وال السبب ‪ ،‬بل أعلمه أنه لن تموت‬
‫نفس حتى تستكمل رزقها ‪ ،‬لذلك اضطرب من اضطرب لبشريته وإحساسه بألم الفقد‬
‫وعدم الصبر ‪ ،‬فإنه ما يدري عند فقد السبب المعتاد لحصول الرزق وعند وجوده ‪،‬‬
‫هل فرغ وجاء أجله أم ال ‪ ،‬فيكون فزعه واضطرابه من الموت ‪ ،‬وإن كان لم يفرغ‬
‫ّللا ‪ ،‬فيكون اضطرابه لجهله بوقت حصول الرزق بانقطاع السبب ‪،‬‬ ‫رزقه في علم ه‬
‫ّللا بحكمته ربط المسببات باألسباب ‪ ،‬فيخاف من طول المدة وألم الجوع‬ ‫ألنه علم ه‬
‫أن ه‬
‫المتوقع ‪ ،‬وهذا كله لضعف نفسه واضطراب إيمانه وركونه إلى األسباب واالعتماد‬
‫عليها ‪ ،‬كما يضطرب في صدق وعده تبارك وتعالى في الرزق مع قسمه سبحانه عليه‬
‫ض ِإنَّهُ لَ َح ٌّق ِمثْ َل ما أَنَّ ُك ْم ت َ ْن ِطقُونَ )‪.‬‬
‫ماء َو ْاأل َ ْر ِ‬
‫س ِ‬ ‫لعباده فقال ‪ (:‬فَ َو َربه ِ ال َّ‬

‫[ سورة هود ‪ ( 11 ) :‬آية ‪] 7‬‬


‫ماء ِليَ ْبلُ َو ُك ْم أَيُّ ُك ْم‬
‫علَى ا ْل ِ‬
‫شه ُ َ‬ ‫ست ه ِة أَيه ٍام َو َ‬
‫كان ع َْر ُ‬ ‫ض فِي ِ‬ ‫ت َو ْاأل َ ْر َ‬ ‫سماوا ِ‬ ‫ق ال ه‬ ‫َو ُه َو الهذِي َخلَ َ‬
‫ِين َكفَ ُروا ِإ ْن هذا ِإاله‬ ‫ت لَيَقُولَ هن الهذ َ‬ ‫ع َمالً َولَئِ ْن قُ ْلتَ ِإنه ُك ْم َم ْبعُوث ُ َ‬
‫ون ِم ْن بَ ْع ِد ا ْل َم ْو ِ‬ ‫س ُن َ‬ ‫أَحْ َ‬
‫ين) ‪( 7‬‬ ‫سِحْ ٌر ُم ِب ٌ‬
‫شه ُ » ]‬ ‫ع ْر ُ‬ ‫[ « َوكانَ َ‬
‫شهُ »هذا العرش عرش الهوية ‪ ،‬فإنه تعالى أضافه إلى الهوية‬ ‫ع ْر ُ‬‫قال تعالى ‪َ «:‬وكانَ َ‬
‫وهو عرش الحياة ‪ ،‬فأظهر الحياة فيكم ‪ ،‬ففلك الحياة اسم األسماء ومقدمها وبه كانت«‬
‫ماء »‪ -‬الوجه األول ‪ -‬على هنا بمعنى في ‪ ،‬أي ‪ :‬كان العرش في الماء كما أن‬ ‫علَى ْال ِ‬ ‫َ‬
‫اإلنسان في الماء أي منه تكون ‪ ،‬فإن الماء أصل الموجودات كلها ‪ ،‬وهو عرش الحياة‬
‫ّللا حي ‪ ،‬فإن كل ما سوى‬ ‫ّللا كل شيء حي ‪ ،‬وكل ما سوى ه‬ ‫اإللهية ‪ ،‬ومن الماء خلق ه‬
‫ّللا ‪ ،‬وال يكون التسبيح إال من حي ‪ ،‬فالعرش هنا عبارة عن الملك ‪،‬‬ ‫ّللا مسبح بحمد ه‬ ‫ه‬
‫وكان حرف وجودي فمعناه أن الملك موجود في الماء ‪ ،‬أي الماء أصل ظهور عينه ‪،‬‬
‫ّللا ‪ -‬الوجه الثاني ‪ -‬كان أول‬ ‫فهو للملك كالهيولى ظهر فيه صور العالم الذي هو ملك ه‬
‫اسم كتبه القلم األسمى في اللوح المحفوظ المصون دون غيره من األسماء إني أريد أن‬
‫أخلق من أجلك يا محمد العالم الذي هو ملكك ‪،‬‬

‫ص ‪323‬‬

‫ص ‪323 :‬‬
‫فأخلق جوهرة الماء ‪ ،‬فخلقتها دون حجاب العزة األحمى ‪ ،‬وأنا على ما كنت عليه وال‬
‫شيء معي في عما ‪ ،‬فخلق الماء سبحانه بردة جامدة كالجوهرة في االستدارة والبياض‬
‫‪ ،‬وأودع فيها بالقوة ذوات األجسام وذوات األعراض ‪ ،‬ثم خلق العرش واستوى عليه‬
‫اسمه الرحمن ‪ ،‬ونصب الكرسي وتدلت إليه القدمان ‪ ،‬فنظر بعين الجالل إلى تلك‬
‫الجوهرة فذابت حياء وتحلهلت أجزاؤها فسالت ماء ‪ ،‬وكان عرشه على ذلك الماء ‪ ،‬قبل‬
‫وجود األرض والسماء ‪ ،‬وليس في الوجود إذ ذاك إال حقائق المستوى عليه والمستوي‬
‫وصوت بحمد الحمد‬ ‫ه‬ ‫واالستواء ‪ ،‬فأرسل النفس فتموج الماء من زعزعه وأزبد ‪،‬‬
‫المحمود الحق عندما ضرب بساحل العرش ‪ ،‬فاهتز الساق وقال له ‪ :‬أنا أحمد ‪ ،‬فخجل‬
‫الماء ورجع القهقرى يريد ثبجه ‪ ،‬وترك زبده بالساحل الذي أنتجه ‪ ،‬فهو مخضة ذلك‬
‫الماء ‪ ،‬الحاوي على أكثر األشياء ‪ ،‬فأنشأ سبحانه من ذلك الزبد األرض ‪ ،‬مستديرة‬
‫النشء مدحية الطول والعرض ‪ ،‬ثم أنشأ الدخان من نار احتكاك األرض عند فتقها ‪،‬‬
‫ففتق فيه السماوات العلى ‪ ،‬وجعلها مح هل األنوار ومنازل المأل األعلى ‪ ،‬وقابل‬
‫بنجومها المزينة لها النيرات ‪ ،‬ما زيهن به األرض من أزهار ونبات« ِليَ ْبلُ َو ُك ْم أَيُّ ُك ْم‬
‫ّللا تعالى جعل من الماء‬ ‫ع َم ًال »لما كان العرش على الماء قبل الحياة بذاته فإن ه‬ ‫س ُن َ‬ ‫أ َ ْح َ‬
‫كل شيء حي ‪ ،‬ولما كان الماء أصل الحياة وكل شيء حي ‪ ،‬قرن بين العرش‬
‫علَى‬
‫شه ُ َ‬ ‫ع ْر ُ‬ ‫المجعول على الماء وبين خلقه الموت والحياة في االبتالء ‪ ،‬فقال ‪َ «:‬وكانَ َ‬
‫ت َو ْال َحياة َ ِليَ ْبلُ َو ُك ْم )فالحياة لألعيان ‪،‬‬ ‫ماء ِليَ ْبلُ َو ُك ْم »أي يختبركم ‪ ،‬وقال ‪َ (:‬خلَقَ ْال َم ْو َ‬
‫ْال ِ‬
‫والموت للنسب ‪ ،‬فظهور الروح للجسم حياة ذلك الجسم ‪ ،‬وغيبة الروح عن الجسم‬
‫زوال الحياة من ذلك الجسم ‪ ،‬وهو الموت ‪ ،‬واالبتالء فتنة ‪ .‬فإبليس ما له نظر إال في‬
‫األوضاع اإللهية الحقيقية ‪ ،‬فيقيم في الخيال أمثلتها ليقال ‪ :‬هي عينها فيغتر بها من‬
‫نظر إليها ‪ ،‬وما ث هم شيء كما فعل بابن صياد حيث وضع إبليس عرشه على الماء ‪ ،‬لما‬
‫ّللا ‪،‬‬‫علم أن العرش الرحماني على الماء ‪ ،‬يلبهس بذلك على الناس أنه ه‬
‫ّللا عليه وسلم البن صياد ‪ [ :‬ما ترى ؟ قال ‪ :‬أرى عرشا على‬ ‫ّللا صلهى ه‬
‫فقال رسول ه‬
‫البحر فقال ‪ :‬ذلك عرش إبليس ]‬
‫ّللا قد أعطى إبليس السلطنة على خيال اإلنسان ‪ ،‬فيخيل إليه ما يشاء ‪ ،‬فإذا وضع‬ ‫فإن ه‬
‫عرشه على الماء ‪ ،‬بعث سراياه شرقا وغربا وجنوبا وشماال إلى قلوب بني آدم ‪ ،‬إلى‬
‫الكافر ليثبت على كفره وإلى المؤمن ليرجع عن إيمانه ‪ ،‬وأدناهم من إبليس منزلة‬
‫ع َم ًال "‬ ‫س ُن َ‬ ‫باّلل من الخذالن فقوله تعالى ‪ِ ":‬ليَ ْبلُ َو ُك ْم أَيُّ ُك ْم أ َ ْح َ‬ ‫أعظمهم فتنة ‪ ،‬فنعوذ ه‬

‫ص ‪324‬‬

‫ص ‪324 :‬‬
‫بالتكليف ‪ ،‬وجعل الحق االختبار تمحيص عباده ‪ ،‬فكان ابتالء مدرجا في نعمة ‪ ،‬أو‬
‫نعمة مدرجة في ابتالء ‪ ،‬مثل خلق الحياة والموت ‪ ،‬فأحسن المؤمنون فربحوا ‪ ،‬ولم‬
‫يحسن الكفار فخسروا ‪.‬‬
‫[ ‪ -‬إشارة ‪ -‬بالماء حياة األحياء ]‬
‫ّللا من الماء كل شيء‬ ‫سر اإلحياء ‪ ،‬جعل ه‬ ‫‪-‬إشارة ‪ -‬بالماء حياة األحياء ‪ ،‬لما فيه من ه‬
‫حي فكان عرشه على الماء ‪ ،‬قبل االستواء ‪ ،‬ثم استوى عليه ‪ ،‬وأضاف ما أحاط به‬
‫إليه ‪ ،‬فهو بكل شيء محيط من مركب وبسيط ‪ ،‬وعلم وجيز وبسيط ووسيط ‪ ،‬استوى‬
‫عليه اسم الرحمن ‪ ،‬وع هم حكمه اإلنس والجان« َولَئِ ْن قُ ْل َ‬
‫ت ِإنَّ ُك ْم َم ْبعُوثُونَ ِم ْن بَ ْع ِد‬
‫ين »‪.‬‬ ‫ْال َم ْو ِ‬
‫ت لَيَقُولَ َّن الَّذِينَ َكفَ ُروا ِإ ْن هذا ِإ َّال ِس ْح ٌر ُم ِب ٌ‬

‫[ سورة هود ( ‪ : ) 11‬اآليات ‪ 8‬إلى ‪] 13‬‬


‫س‬ ‫سهُ أَال يَ ْو َم يَأْتِ ِ‬
‫يه ْم لَ ْي َ‬ ‫ذاب إِلى أ ُ هم ٍة َم ْعدُو َد ٍة لَيَقُولُ هن ما يَحْ بِ ُ‬ ‫َولَئِ ْن أ َ هخ ْرنا َ‬
‫ع ْن ُه ُم ا ْلعَ َ‬
‫سان ِمنها َرحْ َمةً‬ ‫اْل ْن َ‬ ‫ُن ( ‪َ ) 8‬ولَئِ ْن أَذَ ْقنَا ْ ِ‬ ‫ستَه ِْزؤ َ‬ ‫حاق بِ ِه ْم ما كانُوا بِ ِه يَ ْ‬ ‫ع ْن ُه ْم َو َ‬ ‫َمص ُْروفا ً َ‬
‫ستْهُ لَيَقُولَ هن‬ ‫ض هرا َء َم ه‬ ‫ور ( ‪َ ) 9‬ولَئِ ْن أَذَ ْقناهُ نَ ْعما َء بَ ْع َد َ‬ ‫ُس َكفُ ٌ‬ ‫ث ُ هم نَ َزعْناها ِم ْنهُ ِإنههُ لَيَؤ ٌ‬
‫ت‬ ‫صا ِلحا ِ‬ ‫صبَ ُروا َوع َِملُوا ال ه‬ ‫ِين َ‬‫ور ( ‪ِ ) 10‬إاله الهذ َ‬ ‫ح فَ ُخ ٌ‬
‫ع ِنّي ِإنههُ لَفَ ِر ٌ‬
‫س ِيّئاتُ َ‬ ‫ب ال ه‬ ‫ذَ َه َ‬
‫ق ِب ِه‬ ‫ض ما يُوحى ِإلَ ْيكَ َوضا ِئ ٌ‬ ‫تاركٌ بَ ْع َ‬ ‫ير ( ‪ ) 11‬فَلَعَلهكَ ِ‬ ‫أُول ِئكَ لَ ُه ْم َم ْغ ِف َرةٌ َوأَجْ ٌر َك ِب ٌ‬
‫َّللاُ عَلى ُك ِ ّل‬ ‫ِير َو ه‬‫علَ ْي ِه َك ْن ٌز أ َ ْو جا َء َمعَهُ َملَكٌ إِنهما أ َ ْنتَ نَذ ٌ‬ ‫صد ُْركَ أ َ ْن يَقُولُوا لَ ْو ال أ ُ ْن ِز َل َ‬ ‫َ‬
‫ش ْي ٍء َو ِكي ٌل ) ‪( 12‬‬ ‫َ‬
‫ست َ َط ْعت ُ ْم ِم ْن د ِ‬
‫ُون‬ ‫ت َوا ْدعُوا َم ِن ا ْ‬ ‫افتَراهُ قُ ْل فَأْتُوا ِبعَش ِْر ُ‬
‫س َو ٍر ِمثْ ِل ِه ُم ْفت َ َريا ٍ‬ ‫ون ْ‬ ‫أ َ ْم يَقُولُ َ‬
‫ين ) ‪( 13‬‬ ‫َّللا ِإ ْن ُك ْنت ُ ْم صا ِدقِ َ‬
‫هِ‬
‫للقرآن سور هي منازله ‪ ،‬وله آيات هي دالئله ‪ ،‬وفيه كلمات هي صوره ‪ ،‬وله حروف‬
‫هي جواهره ودرره ‪ ،‬فالحرف ظرف لمن هي منعوتة بقاصرة الطرف ‪ ،‬والكلمات في‬
‫الكالم كالمقصورات في الخيام ‪ ،‬فال تعجز لمفهوم اإلشارات ‪ ،‬وال تعجز عن مدلول‬
‫العبارات ‪ ،‬فما وقع اإلعجاز ‪ ،‬إال بتقديسه عن المجاز ‪ ،‬فكلهه صدق ‪ ،‬ومدلول كلمه‬
‫حق ‪ ،‬واألمر ما‬

‫ص ‪325‬‬

‫ص ‪325 :‬‬
‫به خفاء ‪ ،‬وإن كان في نسبة المناسبة للطلب باإلتيان بسور مثله جفاء ‪ ،‬فما أرسل‬
‫رسول إال بلسان قومه فتأمل ‪ ،‬فللمنزل األين ‪ ،‬وللمنزلة العين ‪ ،‬فاألمر والشان ‪ ،‬في‬
‫المكانة والمكان ‪ ،‬والنازل من معناه في منزلته ‪ ،‬وفي منزله من حيث صورته ‪.‬‬

‫[ سورة هود ( ‪ : ) 11‬آية ‪] 14‬‬


‫ون (‬‫س ِل ُم َ‬ ‫َّللا َوأ َ ْن ال إِلهَ إِاله ُه َو فَ َه ْل أ َ ْنت ُ ْم ُم ْ‬
‫ست َ ِجيبُوا لَ ُك ْم فَا ْعلَ ُموا أَنهما أ ُ ْن ِز َل بِ ِع ْل ِم ه ِ‬
‫فَ ِإله ْم يَ ْ‬
‫‪)14‬‬
‫" فَإِلَّ ْم يَ ْست َ ِجيبُوا »يعني المدعوين« لَ ُك ْم »يعني الداعين «فَا ْعلَ ُموا أَنَّما أ ُ ْن ِز َل بِ ِع ْل ِم َّ ِ‬
‫ّللا‬
‫ّللا ‪ ،‬ولو‬ ‫»فالضمير في فاعلموا يعود على الداعين ‪ ،‬وهم عالمون بأنه انما أنزل بعلم ه‬
‫أراد المدعين لقال ‪ :‬فليعلموا بالياء كما قال ‪ :‬يستجيبوا بياء الغيبة ‪ ،‬ثم قال ‪َ «:‬وأ َ ْن ال‬
‫ّللا ‪ ،‬ثم قال«‬ ‫ِإلهَ ِإ َّال ُه َو »أي واعلموا أنه ال إله إال هو كما علمتم ‪ ،‬أنه أنهما أنزل بعلم ه‬
‫فَ َه ْل أ َ ْنت ُ ْم ُم ْس ِل ُمونَ »وقد كانوا مسلمين ‪ ،‬وهذا كله خطاب للداعين إن كانت هل على‬
‫ين ِمنَ ال َّد ْه ِر ) اعتمادا‬ ‫سان ِح ٌ‬ ‫اإل ْن ِ‬‫علَى ْ ِ‬‫بابها ‪ ،‬وإن كانت مثل ما هي في قوله ( ه َْل أَتى َ‬
‫على قرينة الحال فأخرجت عن االستفهام ‪ ،‬وإال فما هذا خطاب الداعين ‪ ،‬إال أن يكون‬
‫مثل قولهم ‪ :‬إياك أعني فاسمعي يا جارة ‪.‬‬
‫وحكمة ذلك مقابلة اإلعراض باإلعراض ‪ ،‬ألنهم أعرضوا عن قبول دعوة الداعين ‪،‬‬
‫ّللا عنهم ‪ ،‬بالخطاب ‪ ،‬والمراد به هم فأسمعهم في غيرهم ‪ ،‬وأما فائدة العلم‬ ‫فأعرض ه‬
‫ّللا أن قوما ال يؤمنون ارتفعت الفائدة في خطابهم ‪،‬‬ ‫في ذلك فهي أن تقول لما علم ه‬
‫ّللا تعالى أن نزول الخطاب بالدعوة لمن ليس يقبله في‬ ‫وكان خطابهم عبثا ‪ ،‬فأخبرهم ه‬
‫ّللا إنزاله فال بد من إنزاله ‪ ،‬فكما هو‬ ‫ّللا أي سبق في علم ه‬ ‫ّللا ‪ ،‬أنما نزل بعلم ه‬ ‫علم ه‬
‫ّللا سواء نفذ أو لم ينفذ ‪.‬‬ ‫واحد في ألوهيته ‪ ،‬هو واحد في أمره ‪ ،‬فما أنزل إال بعلم ه‬

‫[ سورة هود ( ‪ : ) 11‬آية ‪] 15‬‬


‫س َ‬
‫ون (‬ ‫ف إِلَ ْي ِه ْم أَعْمالَ ُه ْم فِيها َو ُه ْم فِيها ال يُ ْب َخ ُ‬
‫كان يُ ِري ُد ا ْل َحياةَ ال ُّد ْنيا َو ِزينَتَها نُ َو ّ ِ‬
‫َم ْن َ‬
‫‪)15‬‬
‫اعلم أن الحياة الدنيا ليست غير نعيمها ‪ ،‬فمن فاته من نعيمها شيء فما وفيت له ‪،‬‬
‫ّللا نفسه بأنهه يوفي كل أحد عمله‬ ‫ف ِإلَ ْي ِه ْم أَعْمالَ ُه ْم فِيها »فوصف ه‬ ‫وقوله تعالى ‪ «:‬نُ َو ه ِ‬
‫ّللا إال توفية العمل ‪ ،‬فهو نعيم‬ ‫أي أجرة عمله في الزمان الذي يريدها فيه ‪ ،‬وما ذكر ه‬
‫العمل« َو ُه ْم فِيها ال»‬

‫ص ‪326‬‬

‫ص ‪326 :‬‬
‫سونَ »ال يبخسه من ذلك شيئا ‪ ،‬فقد حبط عمله إن كانت إرادته الحياة الدنيا ‪ ،‬فال‬ ‫يُ ْب َخ ُ‬
‫حظ له في اآلخرة التي هي الجنة ‪ ،‬أو النعيم الذي ينتجه العمل ألنه قد استوفاه في‬ ‫ه‬
‫الدنيا ‪ ،‬فإن كان العبد ممن يريد الحياة الدنيا ‪ ،‬ونقصه من ذلك نفس واحد ‪ ،‬لم ينعم به‬
‫ّللا له فيها عمله ‪ ،‬ألنه ما مكنه من كل ما تعلقت به إرادته في‬ ‫فليس هو ممن وفهى ه‬
‫الحياة الدنيا ‪ ،‬وهل يتصور وجود هذا مع قرصة البرغوث والعثرة المؤلمة في‬
‫الطريق أو ال ؟ فاآلية تتضمن األمرين ‪ ،‬وهي في الواحد المحال وقوعه في الوجود‬
‫أظهر ‪ ،‬فإنه بعيد أن ال يتألم أحد في الدنيا ‪ ،‬فمن أراد الحياة الدنيا فقد أراد المحال ‪،‬‬
‫فلو ص هح أن يقع هذا المراد ‪ ،‬لكان إرادة ما يالئم طبعه ويحصل غرضه ‪ ،‬وهي‬
‫ّللا تعالى وصف نفسه بأنه ال يبخس أحدا في مراده ‪،‬‬ ‫اإلرادة الطبيعية األصلية ‪ ،‬فإن ه‬
‫كان المراد ما كان لكنه ليس بواقع ‪ ،‬وأما األمر اآلخر فإنه إذا تألم مثال بقرصة‬
‫البرغوث إلى ما فوق ذلك من أكبر أو أصغر ‪ ،‬فإن كان مؤمنا ‪ ،‬فله عليه ثواب في‬
‫ّللا ذلك الثواب في الدنيا معجال فينعم‬‫اآلخرة ‪ ،‬فيكون لهذا المريد الحياة الدنيا ‪ ،‬يعطيه ه‬
‫به ‪ ،‬وإن لم يكن مؤمنا بالدار اآلخرة وفهاه ه‬
‫ّللا ما يطلبه ذلك العمل في الحياة الدنيا ‪،‬‬
‫وأما المؤمن فيعطيه نعيم العمل وصبره الذي ذكرناه على العثرة في مح هل التكليف‬
‫ّللا أحدا الحياة الدنيا مخلصة قط ‪ ،‬وال هو واقع ‪ ،‬ولو‬ ‫وقرصة البرغوث ‪ ،‬فما أعطى ه‬
‫ّللا تعالى له‬‫وقع له كل مراد ‪ ،‬لكان أسعد الخلق ‪ ،‬فإنه من إرادته النجاة والبشرى من ه‬
‫بها ‪ ،‬وإن لم يكن مؤمنا فما وقع المشروط وقوع عموم الشرط ‪.‬‬

‫[ سورة هود ( ‪ : ) 11‬اآليات ‪ 16‬إلى ‪] 17‬‬


‫باط ٌل ما كانُوا‬ ‫صنَعُوا فِيها َو ِ‬ ‫ار َو َح ِب َط ما َ‬ ‫س لَ ُه ْم فِي ْاآل ِخ َر ِة ِإاله النه ُ‬ ‫أُولئِكَ الهذ َ‬
‫ِين لَ ْي َ‬
‫كان عَلى بَ ِيّنَ ٍة ِم ْن َر ِبّ ِه َويَتْلُوهُ شا ِه ٌد ِم ْنهُ َو ِم ْن قَ ْب ِل ِه ِك ُ‬
‫تاب‬ ‫ون ( ‪ ) 16‬أ َ فَ َم ْن َ‬ ‫يَ ْع َملُ َ‬
‫ار َم ْو ِع ُد ُه فَال‬
‫ب فَالنه ُ‬ ‫ُموسى ِإماما ً َو َرحْ َمةً أُول ِئكَ يُ ْؤ ِمنُ َ‬
‫ون ِب ِه َو َم ْن يَ ْكفُ ْر ِب ِه ِم َن ْاألَحْ زا ِ‬
‫ون) ‪( 17‬‬ ‫اس ال يُ ْؤ ِمنُ َ‬ ‫ق ِم ْن َر ِبّكَ َول ِك هن أ َ ْكث َ َر النه ِ‬ ‫تَكُ فِي ِم ْريَ ٍة ِم ْنهُ إِنههُ ا ْل َح ُّ‬

‫ص ‪327‬‬

‫ص ‪327 :‬‬
‫ّللا في عباده على قسمين ‪ :‬القسم الواحد هو البينة الحقيقية ‪،‬‬ ‫اعلم أن بينة ه‬
‫[ « أ َ فَ َم ْن كانَ َ‬
‫على بَ ِيهنَ ٍة ِم ْن َر ِبه ِه » ]‬
‫على بَ ِيهنَ ٍة ِم ْن َر ِبه ِه »يعني في نفسه ‪ ،‬والبينة هنا الهدى‬ ‫وهو قوله تعالى ‪ «:‬أ َ فَ َم ْن كانَ َ‬
‫‪ ،‬وأما من تقام له البينة في غيره فقد يمكن أن يقبلها ‪ ،‬ويمكن أن ال يقبلها والذي يقبلها‬
‫إن قبلها تقليدا ‪ ،‬لم تكن في حقهه آية بينة وال تنفعه ‪ ،‬وإنما يكون التقليد فيما يجيء به‬
‫الرسول من األحكام ال من البينات والشواهد على صدقه ‪ ،‬وإن لم يقبلها تقليدا ‪ ،‬فما‬
‫قبلها إال أن يكون هو على بينة من ربه في أن تلك آية بينة على صدق دعوى من‬
‫ظهرت على يديه فيما ادعاه ‪ .‬واعلم أن األمر الذي كنى عنه الحق ‪ ،‬بأنه بينة لك من‬
‫ّللا إلى قلبك من خفي غيوبه مختص بك من حضرة الخطاب‬ ‫عنده هو سفير من ه‬
‫ّللا أنه من عنده ‪ ،‬ومن كان على بينة من ربه فقد سعد وارتفع‬ ‫اإللهي والتعريف من ه‬
‫اإلشكال ‪ ،‬وال بد للبينة التي يكون عليها أن تكون بينة له" َويَتْلُوهُ شا ِه ٌد ِم ْنهُ "‬
‫الشاهد حصول صورة المشهود في النفس عند الشهود ‪ ،‬فيعطي خالف ما تعطيه‬
‫الرؤية فإن الرؤية ال يتقدمها علم بالمرئي ‪ ،‬والشهود يتقدمه علم بالمشهود ‪ ،‬وهو‬
‫المسمى بالعقائد ‪ ،‬ولهذا يقع اإلقرار واإلنكار في الشهود ‪ ،‬وال يكون في الرؤية إال‬
‫اإلقرار وليس فيها إنكار ‪ ،‬وإنما سمي شاهدا ألنه يشهد له ما رآه بصحة ما اعتقده ‪،‬‬
‫فكل مشاهدة رؤية ‪ ،‬وما كل رؤية مشاهدة ‪ ،‬وفي هذه اآلية وجوه كلها مقصودة هّلل ‪،‬‬
‫ّللا لما يريده به أو منه ‪ ،‬وذلك ال يكون إال بإخبار إلهي‬ ‫فيكون العبد على كشف من ه‬
‫وإعالم بالشيء قبل وقوعه ‪،‬‬
‫ّللا لها‬
‫وقد يكون الشاهد الذي يتلوه منه هو ما يوافقه على ذلك من النفوس التي كشف ه‬
‫عن ذلك ‪ ،‬وقد يكون أي شاهد يشهد له بصدق البينة التي هو عليها ‪ ،‬فإنه مهما تخلهق‬
‫العبد باسم ما من األسماء ‪ ،‬فشاهد حاله يشهد بتصحيح أو بفساد شواهد األحوال ‪،‬‬
‫فإن من قام به توفيق في أمر من األمور المطلوبة بالسعادة وغيرها فشاهده يصدهق‬
‫دعواه أو يكذبها ‪ ،‬وشواهد األحوال على ضربين ‪:‬‬
‫ضرب يقوم بذات صاحب الدعوى ‪ ،‬وضرب يقوم بذات غيره مقارنا لدعواه ‪،‬‬
‫ّللا تعالى في أحكامه‬ ‫فالمنوط به كصفرة الوجل وحمرة الخجل وترك االعتراض على ه‬
‫‪ ،‬والصبر إذا نالته المصائب في حق من ادعى أنه في مقام الرضا بالقضا والتسليم‬
‫لمجاري القدرة على اإلطالق ‪،‬‬
‫والضرب الثاني ينبئ عن ذاته القائم بذات غيره ‪ ،‬كتحدثه بانفصال كون ما معيهن عنه‬
‫بهيئته وهو ساكت ‪ ،‬ويكون ذلك على نوعين ‪:‬‬
‫إما بأن يجوز أن يوصل إليه بحيلة ما حتى يقع ذلك ولم تعلم هذه الحيلة من هذا‬
‫المدهعي لقرينة‬

‫ص ‪328‬‬

‫ص ‪328 :‬‬
‫حال صحت عند المشاهدة المتقدمة به ‪ ،‬وإما أن يكون خارجا عن مقدور البشر ‪ ،‬فهذه‬
‫شواهد األحوال محصورة وقد يكون الشاهد منه بصدق اتباعه ‪ ،‬وهو اتباعه سنة‬
‫ّللا عليه وسلم وما شرع لنا ‪ ،‬لم يخل بشيء منها وال ارتكب مخالفة‬ ‫الرسول صلهى ه‬
‫ّللا أو تحريم ما حلهل ‪ ،‬فإن هّلل عبادا عملوا على إيمانهم ‪ ،‬وصدقوا ه‬
‫ّللا‬ ‫بتحليل ما حرم ه‬
‫ّللا أعين بصائرهم ‪ ،‬وتجلهى لهم في سرائرهم فعرفوه على الشهود‬ ‫في أحوالهم ‪ ،‬ففتح ه‬
‫‪ ،‬وكانوا في معرفتهم تلك على بصيرة وبينة وشاهد منهم ‪ ،‬وهو الرسول المبعوث‬
‫ّللا جعل الرسل شهداء على أممهم وألممهم ‪ ،‬فمع كون هذا المؤمن على‬ ‫إليهم ‪ ،‬ه‬
‫فإن ه‬
‫بينة من ربه حين تجلى له ‪ ،‬تاله في تلك الحال شاهد منه وهو الرسول ‪ ،‬فأقامه له في‬
‫الشهود مرآة فقال له ‪ :‬هذا الذي جئتك من عنده ‪ ،‬فلما أبصره ما أنكره بعد ذلك مع‬
‫اختالف صور التجلي‬
‫ّللا من‬ ‫– إشارة – " أ َ فَ َم ْن كانَ َ‬
‫على بَ ِيهنَ ٍة ِم ْن َر ِبه ِه َويَتْلُوهُ شا ِه ٌد ِم ْنهُ »ما يراه أهل ه‬
‫التجلي في األسماء اإللهية ‪ ،‬هل يقف مع رؤيته أو يتوقف حتى يقوم له شاهد من كتاب‬
‫على بَ ِيهنَ ٍة ِم ْن َر ِبه ِه »وهو صاحب الرؤية« َويَتْلُوهُ‬ ‫أو سنة ؟ فقوله تعالى« أ َ فَ َم ْن كانَ َ‬
‫شا ِه ٌد ِم ْنهُ »هو ما ذكرناه من العمل على الخبر إما كتاب أو سنة ‪ ،‬وهو الشاهد‬
‫الواحد ‪ ،‬والشاهدان الكتاب والسنة ‪ ،‬وإنما احتجنا إلى العمل عليهما دون العثور على‬
‫النقل الذي يشهد لصاحب هذا المقام ‪ ،‬ألن ذلك يتعذر إال بخرق العادة ‪ ،‬وهو أن‬
‫يعرف من هناك بآية الدليل أو الخبر ‪.‬‬ ‫ه‬

‫[ سورة هود ( ‪ : ) 11‬اآليات ‪ 18‬إلى ‪]29‬‬


‫ُون عَلى َر ِبّ ِه ْم َويَقُو ُل ْاألَشْها ُد هؤ ِ‬
‫ُالء‬ ‫َّللا َكذِبا ً أُولئِكَ يُ ْع َرض َ‬ ‫علَى ه ِ‬ ‫افتَرى َ‬ ‫َو َم ْن أ َ ْظلَ ُم ِم هم ِن ْ‬
‫َّللا‬
‫س ِبي ِل ه ِ‬ ‫ُّون ع َْن َ‬ ‫صد َ‬ ‫ِين يَ ُ‬ ‫ين ) ‪ ( 18‬الهذ َ‬ ‫ظا ِل ِم َ‬ ‫علَى ال ه‬ ‫ِين َكذَبُوا عَلى َر ِبّ ِه ْم أَال لَ ْعنَةُ ه ِ‬
‫َّللا َ‬ ‫الهذ َ‬
‫ون ( ‪ ) 19‬أُول ِئكَ لَ ْم يَكُونُوا ُم ْع ِج ِز َ‬
‫ين ِفي‬ ‫َويَ ْبغُونَها ِع َوجا ً َو ُه ْم ِب ْاآل ِخ َر ِة ُه ْم كا ِف ُر َ‬
‫ست َ ِطيعُ َ‬
‫ون‬ ‫ذاب ما كانُوا يَ ْ‬ ‫َف لَ ُه ُم ا ْلعَ ُ‬ ‫َّللا ِم ْن أ َ ْو ِليا َء يُضاع ُ‬ ‫ُون ه ِ‬ ‫كان لَ ُه ْم ِم ْن د ِ‬ ‫ض َوما َ‬ ‫ْاأل َ ْر ِ‬
‫ع ْن ُه ْم ما كانُوا‬ ‫ض هل َ‬ ‫س ُه ْم َو َ‬ ‫س ُروا أ َ ْنفُ َ‬ ‫ِين َخ ِ‬ ‫ون ( ‪ ) 20‬أُولئِكَ الهذ َ‬ ‫س ْم َع َوما كانُوا يُ ْب ِص ُر َ‬ ‫ال ه‬
‫ون ) ‪( 22‬‬ ‫س ُر َ‬ ‫ون ( ‪ ) 21‬ال َج َر َم أَنه ُه ْم فِي ْاآل ِخ َر ِة ُه ُم ْاأل َ ْخ َ‬ ‫يَ ْفت َ ُر َ‬
‫ْحاب ا ْل َجنه ِة ُه ْم فِيها‬ ‫ت َوأ َ ْخبَتُوا ِإلى َر ِبّ ِه ْم أُولئِكَ أَص ُ‬ ‫صا ِلحا ِ‬ ‫ِين آ َمنُوا َوع َِملُوا ال ه‬ ‫ِإ هن الهذ َ‬
‫يان َمثَالً‬ ‫ست َ ِو ِ‬ ‫يع َه ْل يَ ْ‬ ‫س ِم ِ‬ ‫ير َوال ه‬ ‫ُون ) ‪َ ( 23‬مث َ ُل ا ْلفَ ِريقَ ْي ِن ك َْاألَعْمى َو ْاأل َ َ‬
‫ص ِ ّم َوا ْلبَ ِص ِ‬ ‫خا ِلد َ‬
‫ين ) ‪ ( 25‬أ َ ْن ال‬ ‫ِير ُم ِب ٌ‬ ‫س ْلنا نُوحا ً ِإلى قَ ْو ِم ِه ِإ ِنّي لَ ُك ْم نَذ ٌ‬ ‫ون ( ‪َ ) 24‬ولَقَ ْد أ َ ْر َ‬ ‫أ َ فَال تَذَك ُهر َ‬
‫ِين َكفَ ُروا ِم ْن‬ ‫يم ( ‪ ) 26‬فَقا َل ا ْل َم ََل ُ الهذ َ‬ ‫َذاب يَ ْو ٍم أ َ ِل ٍ‬
‫علَ ْي ُك ْم ع َ‬ ‫خاف َ‬ ‫َّللا إِ ِنّي أ َ ُ‬
‫ت َ ْعبُدُوا إِاله ه َ‬
‫الرأْي ِ َوما‬ ‫ِي ه‬ ‫ِين ُه ْم أَرا ِذلُنا باد َ‬ ‫قَ ْو ِم ِه ما نَراكَ إِاله بَشَرا ً ِمثْلَنا َوما نَراكَ اتهبَعَكَ إِاله الهذ َ‬
‫ين ) ‪( 27‬‬ ‫ظنُّ ُك ْم كا ِذ ِب َ‬‫ض ٍل بَ ْل نَ ُ‬ ‫علَ ْينا ِم ْن فَ ْ‬
‫نَرى لَ ُك ْم َ‬
‫علَ ْي ُك ْم أ َ‬ ‫قا َل يا قَ ْو ِم أ َ َرأ َ ْيت ُ ْم ِإ ْن ُك ْنتُ عَلى بَ ِيّنَ ٍة ِم ْن َر ِبّي َوآتانِي َرحْ َمةً ِم ْن ِع ْن ِد ِه فَعُ ِ ّميَتْ َ‬
‫علَى‬ ‫ي ِإاله َ‬ ‫جر َ‬ ‫علَ ْي ِه ماالً ِإ ْن أ َ ِ‬ ‫سئَلُ ُك ْم َ‬‫ون ( ‪َ ) 28‬ويا قَ ْو ِم ال أ َ ْ‬ ‫كار ُه َ‬ ‫نُ ْل ِز ُم ُك ُموها َوأ َ ْنت ُ ْم لَها ِ‬
‫ون) ‪( 29‬‬ ‫ِين آ َمنُوا ِإنه ُه ْم ُمالقُوا َر ِبّ ِه ْم َول ِك ِنّي أَرا ُك ْم قَ ْوما ً تَجْ َهلُ َ‬ ‫َّللا َوما أَنَا ِب ِ‬
‫طار ِد الهذ َ‬ ‫هِ‬
‫ص ‪329‬‬

‫ص ‪329 :‬‬
‫العمل يقتضي األجرة لذاته ‪ ،‬وهي العوض في مقابلة ما أعطى من نفسه ‪ ،‬وما بقي إال‬
‫ممن يؤخذ فما من نبي وال رسول إال قد قال إذ قيل له ‪ :‬قل ‪ :‬فأمر فقال « ال أسألكم‬
‫علَى َّ ِ‬
‫ّللا »‬ ‫عليه من أجر » من مال يعني في التبليغ« ِإ ْن أ َ ْج ِر َ‬
‫ي ِإ َّال َ‬
‫ّللا استخدمه في‬
‫ّللا ‪ ،‬وإن ه‬
‫ّللا أفضل القرب إلى ه‬ ‫*فما خرجوا عن األجرة ‪ ،‬والتبليغ عن ه‬
‫التبليغ من كونه عبدا ‪ ،‬فتعينت عليه األجرة سبحانه بتعيينه عوضا مما أعطاه من نفسه‬
‫‪ ،‬فيما استخدمه فيه وترك مباحه الذي هو له وتخييره –‬
‫[ تحقيق ‪ -‬اعلم أن اإلنسان مع الحق على حالين ‪ :‬حالة عبودية ‪ ،‬وحالة إجارة ]‬
‫تحقيق ‪ -‬اعلم أن اإلنسان مع الحق على حالين ‪ :‬حالة عبودية ‪ ،‬وحالة إجارة ‪ ،‬فمن‬
‫كونه عبدا يكون مكلفا بالفرض كالصالة المفروضة ‪ ،‬والزكاة وجميع الفرائض ‪ ،‬ال‬
‫اجر له عليها جملة واحدة في أداء فرضه ‪ ،‬فإن العبد فرض عليه طاعة سيده‬

‫ص ‪230‬‬

‫ص ‪330 :‬‬
‫يمتن به عليه سيده من النعم التي هي أفضل من األجور ال على جهة األجر ‪،‬‬ ‫ه‬ ‫بل له ما‬
‫ّللا تعالى ندبه إلى عبادته في أمور ليست عليه فرضا ‪ ،‬فعلى تلك األعمال‬ ‫ثم ه‬
‫ان ه‬
‫المندوب إليها فرضت األجور ‪ ،‬فإن تقرب العبد بها إلى سيده أعطاه إجارته عليها ‪،‬‬
‫وإن لم يتقرب لم يطلب بها ‪ ،‬وال عوتب عليها فمن هنا كان العبد حكمه حكم األجنبي‬
‫ّللا وعباده ‪،‬‬
‫في اإلجارة ‪ ،‬فالفرض له الجزاء الذي يقابله ‪ ،‬فإنه العهد الذي بين ه‬
‫والنوافل لها األجور ‪ ،‬والعلة في ذلك أن المتنفل عبد اختيار كاألجير ‪ ،‬فإذا اختار‬
‫ّللا على هواه ‪ ،‬وهو في الفرائض عبد‬ ‫اإلنسان أن يكون عبدا هّلل ‪ ،‬ال عبد هواه فقد آثر ه‬
‫اضطرار ‪ ،‬ال عبد اختيار فتلك العبودية أوجبت عليه خدمة سيده ‪ ،‬فيما افترضه عليه‬
‫‪ ،‬فبين اإلنسان في عبوديته االضطرارية ‪ ،‬وبين عبوديته االختيارية ما بين األجير‬
‫والعبد المملوك ‪ ،‬فالعبد األصلي ما له على سيده استحقاق إال ما ال بد منه ‪ ،‬يأكل من‬
‫سيده ‪ ،‬ويلبس من سيده ‪ ،‬ويقوم بواجبات مقامه ‪ ،‬فال يزال في دار سيده ليال ونهارا ال‬
‫ّللا وفي الجنة مع‬
‫ّللا وفي القيامة مع ه‬‫يبرح إال إذا وجهه في شغله ‪ ،‬فهو في الدنيا مع ه‬
‫المالك ‪ ،‬واألجير ما له سوى ما‬ ‫ّللا ‪ ،‬فإنها جميعها ملك سيده ‪ ،‬فيتصرف فيها تصرف ه‬ ‫ه‬
‫عيهن له من األجرة ‪ ،‬منها نفقته وكسوته ‪ ،‬وما له دخول على حرم سيده ومؤجره وال‬
‫االطالع على أسراره ‪ ،‬وال تصرف في ملكه إال بقدر ما استؤجر عليه ‪ ،‬فإذا انقضت‬
‫مدة إجارته ‪ ،‬وأخذ أجرته فارق مؤجره ‪ ،‬واشتغل بأهله وليس له من هذا الوجه حقيقة‬
‫يمن عليه رب المال بأن يبعث خلفه ‪ ،‬ويجالسه‬ ‫أن ه‬ ‫وال نسبة تطلب من استأجره ‪ ،‬إال ه‬
‫ويخلع عليه ‪ ،‬فذلك من باب المنة ‪ ،‬وقد ارتفعت عنه في الدار اآلخرة عبودية االختيار‬
‫‪ ،‬فمن أي مقام قالت األنبياء ‪ -‬مع كونهم عبيدا مخلصين له لم يملكهم هوى أنفسهم وال‬
‫ّللا » *؟ فيعلم أن ذلك راجع إلى‬‫علَى َّ ِ‬ ‫ّللا ومع هذا قالوا ‪ِ «-‬إ ْن أ َ ْج ِر َ‬
‫ي ِإ َّال َ‬ ‫أحد من خلق ه‬
‫دخولهم تحت حكم األسماء اإللهية ‪ ،‬فمن هناك وقعت اإلجارة ‪ ،‬فهم في االضطرار‬
‫والحقيقة عبيد الذات ‪ ،‬وهم لها ملك ‪ ،‬وصارت األسماء اإللهية تطلبهم لظهور آثارها‬
‫فيهم ‪ ،‬فلهم االختيار في الدخول تحت أي اسم إلهي شاءوا ‪ ،‬وقد علمت األسماء اإللهية‬
‫ذلك ‪ ،‬فعينت لهم األسماء اإللهية األجور ‪ ،‬يطلب كل اسم إلهي من هذا العبد الذاتي أن‬
‫يؤثره على غيره من األسماء اإللهية بخدمته ‪ ،‬فيقول له ‪ :‬ادخل تحت أمري ‪ ،‬وأنا‬
‫أعطيك كذا وكذا ‪ ،‬فال يزال في خدمة ذلك االسم حتى يناديه السيد من حيث عبودية‬
‫الذات ‪ ،‬فيترك كل اسم إلهي ‪ ،‬ويقوم لدعوة‬

‫ص ‪331‬‬

‫ص ‪331 :‬‬
‫سيده ‪ ،‬فإذا فعل ما أمره به حينئذ ‪ ،‬رجع إلى أي اسم شاء ‪ ،‬فإذا رأى العبد ملهوفا ‪،‬‬
‫فأغاثه فيعلم أنه تحت تسخير االسم المغيث ‪ ،‬فيكون له من المغيث ما عيهن له في ذلك‬
‫من األجر ‪ ،‬وإذا رأى ضعيفا في نفسه ‪ ،‬فتلطف به كان تحت تسخير االسم اللطيف ‪،‬‬
‫وكذلك ما بقي من األسماء ‪ ،‬فتحقق يا ولي كيف تخدم ربك وسيدك ولكن على علم‬
‫صحيح في نفسك وفي سيدك ‪ ،‬تكن من العلماء الراسخين في العلم الحكماء اإللهيين ‪،‬‬
‫وتفز بالدرجة القصوى والمكانة العليا مع الرسل واألنبياء ‪.‬‬

‫[ سورة هود ( ‪ : ) 11‬اآليات ‪ 30‬إلى ‪] 39‬‬


‫ون ( ‪َ ) 30‬وال أَقُو ُل لَ ُك ْم ِع ْندِي‬ ‫َّللا ِإ ْن َط َر ْدت ُ ُه ْم أ َ فَال تَذَك ُهر َ‬ ‫ص ُرنِي ِم َن ه ِ‬ ‫َويا قَ ْو ِم َم ْن يَ ْن ُ‬
‫ِين ت َ ْزد َِري أ َ ْعيُنُ ُك ْم لَ ْن يُ ْؤ ِتيَ ُه ُم‬ ‫ب َوال أَقُو ُل ِإ ِنّي َملَكٌ َوال أَقُو ُل ِللهذ َ‬ ‫َّللا َوال أ َ ْعلَ ُم ا ْلغَ ْي َ‬
‫َخزا ِئ ُن ه ِ‬
‫ح قَ ْد‬
‫ين ) ‪ ( 31‬قالُوا يا نُو ُ‬ ‫س ِه ْم ِإ ِنّي ِإذا ً لَ ِم َن ال ه‬
‫ظا ِل ِم َ‬ ‫َّللاُ أ َ ْعلَ ُم ِبما ِفي أ َ ْنفُ ِ‬ ‫َّللاُ َخ ْيرا ً ه‬ ‫ه‬
‫ين ( ‪ ) 32‬قا َل إِنهما يَأْتِي ُك ْم بِ ِه‬ ‫صا ِدقِ َ‬ ‫جا َد ْلتَنا فَأ َ ْكث َ ْرتَ ِجدالَنا فَأْتِنا بِما ت َ ِعدُنا إِ ْن ُك ْنتَ ِم َن ال ه‬
‫ص َح لَ ُك ْم إِ ْن‬ ‫ين ( ‪َ ) 33‬وال يَ ْنفَعُ ُك ْم نُص ِْحي إِ ْن أ َ َر ْدتُ أ َ ْن أ َ ْن َ‬ ‫َّللاُ إِ ْن شا َء َوما أ َ ْنت ُ ْم بِ ُم ْع ِج ِز َ‬ ‫ه‬
‫ون ) ‪( 34‬‬ ‫َّللاُ يُ ِري ُد أ َ ْن يُ ْغ ِويَ ُك ْم ُه َو َربُّ ُك ْم َو ِإلَ ْي ِه ت ُ ْر َجعُ َ‬‫كان ه‬‫َ‬
‫ون ( ‪) 35‬‬ ‫رامي َوأَنَا بَ ِري ٌء ِم هما تُجْ ِر ُم َ‬ ‫ي ِإجْ ِ‬ ‫افت َ َر ْيتُهُ فَعَلَ ه‬ ‫افتَراهُ قُ ْل ِإ ِن ْ‬ ‫ون ْ‬ ‫أ َ ْم يَقُولُ َ‬
‫ون (‬ ‫س ِبما كانُوا يَ ْفعَلُ َ‬ ‫ي ِإلى نُوحٍ أَنههُ لَ ْن يُ ْؤ ِم َن ِم ْن قَ ْو ِمكَ ِإاله َم ْن قَ ْد آ َم َن فَال ت َ ْبت َ ِئ ْ‬ ‫وح َ‬‫َوأ ُ ِ‬
‫ون (‬ ‫ِين َظلَ ُموا إِنه ُه ْم ُم ْغ َرقُ َ‬ ‫خاط ْبنِي فِي الهذ َ‬ ‫صنَ ِع ا ْلفُ ْلكَ بِأ َ ْعيُنِنا َو َوحْ يِنا َوال ت ُ ِ‬ ‫‪َ ) 36‬وا ْ‬
‫س َخ ُروا ِمنها‬ ‫س ِخ ُروا ِم ْنهُ قا َل إِ ْن ت َ ْ‬ ‫علَ ْي ِه َم ََل ٌ ِم ْن قَ ْو ِم ِه َ‬ ‫صنَ ُع ا ْلفُ ْلكَ َو ُكلهما َم هر َ‬ ‫) ‪َ 37‬ويَ ْ‬
‫َذاب يُ ْخ ِزي ِه َويَ ِح ُّل‬‫ون َم ْن يَأْتِي ِه ع ٌ‬ ‫ف ت َ ْعلَ ُم َ‬ ‫ون ( ‪ ) 38‬فَ َ‬
‫س ْو َ‬ ‫س َخ ُر َ‬ ‫س َخ ُر ِم ْن ُك ْم كَما ت َ ْ‬ ‫فَ ِإنها نَ ْ‬
‫َذاب ُم ِقي ٌم) ‪( 39‬‬ ‫علَ ْي ِه ع ٌ‬ ‫َ‬

‫ص ‪332‬‬

‫ص ‪332 :‬‬
‫ف ت َ ْعلَ ُمونَ »وهو يوم القيامة‬ ‫فهذا استهزاء جزاء وقد خلهصه باالستقبال بقوله ‪ «:‬فَ َ‬
‫س ْو َ‬

‫[ سورة هود ( ‪ : ) 11‬اآليات ‪ 40‬إلى ‪] 42‬‬


‫ور قُ ْلنَا احْ ِم ْل فِيها ِم ْن ُك ٍ ّل َز ْو َج ْي ِن اثْنَ ْي ِن َوأ َ ْهلَكَ ِإاله َم ْن‬ ‫َحتهى ِإذا جا َء أ َ ْم ُرنا َو َ‬
‫فار التهنُّ ُ‬
‫َّللا‬
‫س ِم ه ِ‬ ‫ار َكبُوا ِفيها ِب ْ‬ ‫علَ ْي ِه ا ْلقَ ْو ُل َو َم ْن آ َم َن َوما آ َم َن َمعَهُ ِإاله قَ ِلي ٌل ( ‪َ ) 40‬وقا َل ْ‬ ‫ق َ‬‫سبَ َ‬
‫َ‬
‫ي تَجْ ِري بِ ِه ْم فِي َم ْوجٍ كَا ْل ِجبا ِل‬ ‫ور َر ِحي ٌم ( ‪َ ) 41‬و ِه َ‬ ‫َمجْ راها َو ُم ْرساها إِ هن َر ِبّي لَغَفُ ٌ‬
‫ين ) ‪( 42‬‬ ‫َب َمعَنا َوال تَك ُْن َم َع ا ْلكافِ ِر َ‬ ‫ارك ْ‬
‫ي ْ‬ ‫كان فِي َم ْع ِز ٍل يا بُنَ ه‬ ‫ح ا ْبنَهُ َو َ‬ ‫َونادى نُو ٌ‬

‫جمع لنوح عليه السالم في الهالك بين الماءين ماء األرض وماء السماء ‪ ،‬ولم تزل‬
‫تجري بهم السفينة في موج كالجبال ‪ ،‬ونوح عليه السالم ينادي ابنه ‪ ،‬وكان في معزل‬
‫يا بني ‪ :‬اركب معنا وال تكن مع الكافرين ‪.‬‬

‫[ سورة هود ( ‪ : ) 11‬آية ‪]43‬‬


‫عاص َم ا ْليَ ْو َم ِم ْن أ َ ْم ِر ه ِ‬
‫َّللا ِإاله َم ْن َر ِح َم‬ ‫ِ‬ ‫سآ ِوي ِإلى َجبَ ٍل يَ ْع ِص ُمنِي ِم َن ا ْل ِ‬
‫ماء قا َل ال‬ ‫قا َل َ‬
‫ين ) ‪( 43‬‬ ‫ج فَ َ‬
‫كان ِم َن ا ْل ُم ْغ َرقِ َ‬ ‫َوحا َل بَ ْينَ ُه َما ا ْل َم ْو ُ‬

‫واالبن ينادي قال سآوي إلى جبل يعصمني من الماء قال نوح عليه السالم ‪ «:‬ال‬
‫علَى‬‫ّللا إِ َّال َم ْن َر ِح َم »وهم أهل السفينة فإن دعاءه « ال تَذَ ْر َ‬ ‫عاص َم ْاليَ ْو َم ِم ْن أ َ ْم ِر َّ ِ‬
‫ِ‬
‫ض ِمنَ ْالكافِ ِرينَ َديَّارا ً » سبقت وأجيبت ‪ ،‬فغرق من آوى إلى الجبل وكل من لم‬ ‫ْاأل َ ْر ِ‬
‫يكن في السفينة وحال بينهما الموج فكان من المغرقين‬
‫ماء‪َ . . .‬وحا َل بَ ْينَ ُه َما ْال َم ْو ُج فَكانَ ِمنَ‬
‫ص ُمنِي ِمنَ ْال ِ‬‫سآ ِوي ِإلى َجبَ ٍل يَ ْع ِ‬ ‫‪ -‬إشارة – " َ‬
‫ْال ُم ْغ َر ِقينَ "‬
‫ماء‪َ . . .‬وحا َل بَ ْينَ ُه َما ْال َم ْو ُج فَكانَ ِمنَ‬
‫ص ُمنِي ِمنَ ْال ِ‬‫سآ ِوي إِلى َجبَ ٍل يَ ْع ِ‬ ‫‪ -‬إشارة ‪َ « -‬‬
‫ّللا مستندا ‪.‬‬‫ْال ُم ْغ َرقِينَ »هذا حال ومآل من اتخذ غير ه‬

‫[ سورة هود ( ‪ : ) 11‬آية ‪] 44‬‬


‫علَى‬ ‫ي ْاأل َ ْم ُر َوا ْ‬
‫ست َ َوتْ َ‬ ‫سما ُء أ َ ْق ِل ِعي َو ِغ َ‬
‫يض ا ْلما ُء َوقُ ِض َ‬ ‫ض ا ْبلَ ِعي ما َء ِك َويا َ‬ ‫َوقِي َل يا أ َ ْر ُ‬
‫ين) ‪( 44‬‬ ‫ِي ِ َو ِقي َل بُ ْعدا ً ِل ْلقَ ْو ِم ال ه‬
‫ظا ِل ِم َ‬ ‫ا ْل ُجود ّ‬

‫ص ‪333‬‬

‫ص ‪333 :‬‬
‫ض ا ْبلَ ِعي ما َء ِك‬ ‫الظا ِل ِمينَ »وهم الذين سخروا ‪ -‬إشارة «‪َ -‬وقِي َل يا أ َ ْر ُ‬ ‫" َوقِي َل بُ ْعدا ً ِل ْلقَ ْو ِم َّ‬
‫ي ْاأل َ ْم ُر »وظهر في النجاة‬ ‫ض َ‬‫يض ْالما ُء »فارتفعت األنواء« َوقُ ِ‬ ‫سما ُء أ َ ْق ِل ِعي َو ِغ َ‬ ‫َويا َ‬
‫علَى ْال ُجو ِد ه‬
‫يِ‬ ‫ت »سفينة نوح عندما أقلعت السماء وأشرقت يوح« َ‬ ‫السر« َوا ْست َ َو ْ‬
‫»على جودي الجود ‪ ،‬لتتم كلمة الوجود بوالد ومولود إلى اليوم الموعود ‪ ،‬فإنه لو‬
‫انقطع األصل ‪ ،‬النقطع النسل « َو ِقي َل بُ ْعدا ً ِل ْلقَ ْو ِم َّ‬
‫الظا ِل ِمينَ ‪-".‬‬
‫[ إشارة ‪ -‬من اعتصم بغير الحق هلك ]‬
‫‪. -‬إشارة ‪ -‬من اعتصم بغير الحق هلك ‪ ،‬ولم تنفعه شفاعة الشافعين ‪ ،‬قال العمل غير‬
‫ماء »فأصبح من المغرقين ‪ ،‬ثم جاء النداء‬ ‫ص ُمنِي ِمنَ ْال ِ‬ ‫سآ ِوي ِإلى َجبَ ٍل يَ ْع ِ‬ ‫الصالح« َ‬
‫من الغيب من الهواء فإنه لم يذكر المنادي نفسه فيه وجاء بالقول دون النداء للقرب«‬
‫سما ُء أ َ ْق ِل ِعي »فبلعت األرض ماءها وأقلعت السماء«‬ ‫ض ا ْبلَ ِعي ما َء ِك َويا َ‬ ‫َو ِقي َل يا أ َ ْر ُ‬
‫يِ‬‫علَى ْال ُجو ِد ه‬ ‫ت »سفينة النجاة« َ‬ ‫ي ْاأل َ ْم ُر َوا ْست َ َو ْ‬ ‫ض َ‬ ‫يض ْالما ُء »وانتقص الماء« َوقُ ِ‬ ‫َو ِغ َ‬
‫»إشارة إلى الجود اإللهي ‪.‬‬

‫[ سورة هود ( ‪ : ) 11‬آية ‪] 45‬‬


‫ق َوأ َ ْنتَ أَحْ َك ُم ا ْلحا ِك ِم َ‬
‫ين (‬ ‫ب ِإ هن ا ْبنِي ِم ْن أ َ ْه ِلي َو ِإ هن َو ْعدَكَ ا ْل َح ُّ‬
‫ح َربههُ فَقا َل َر ّ ِ‬
‫َونادى نُو ٌ‬
‫‪) 45‬‬
‫ت أ َ ْح َك ُم ْالحا ِك ِمينَ »بفصل قضائه ‪.‬‬ ‫« َوأ َ ْن َ‬

‫[ سورة هود ( ‪ : ) 11‬آية ‪] 46‬‬


‫س لَكَ ِب ِه ِع ْل ٌم ِإ ِنّي‬ ‫غ ْي ُر صا ِلحٍ فَال ت َ ْ‬
‫سئ َ ْل ِن ما لَ ْي َ‬ ‫ع َم ٌل َ‬‫س ِم ْن أ َ ْه ِلكَ ِإنههُ َ‬
‫ح ِإنههُ لَ ْي َ‬
‫قا َل يا نُو ُ‬
‫ين ) ‪( 46‬‬ ‫ُون ِم َن ا ْلجا ِه ِل َ‬‫ظكَ أ َ ْن تَك َ‬
‫أ َ ِع ُ‬
‫فعلهمه سبحانه األدب ‪ ،‬وأن من األدب أن ال تسأل عن علم ما ال يعلم ‪ ،‬فإذا علم فإن‬
‫كان من أهل الشفاعة والسؤال فيه ‪ ،‬سأل فيه وإن لم يكن لم يسأل فيه ‪ ،‬ولكن غلبت‬
‫عليه رحمة األبوة ‪ ،‬وهي شفقة طبيعية عنصرية فصرفها في غير موطنها ‪ ،‬فأعلمه‬
‫ّللا أن ذلك من صفات الجاهلين ‪ ،‬وفي هذه اآلية تعليم لنا وأدب إلهي في مخاطبة‬ ‫ه‬
‫الشيوخ ‪،‬‬
‫ظ َك أ َ ْن ت َ ُكونَ ِمنَ ْالجا ِه ِلينَ »وكان قد شاخ‬ ‫قال تعالى لنوح عليه السالم ‪ِ «:‬إ ِنهي أ َ ِع ُ‬
‫وحصل في العمر‬

‫ص ‪334‬‬

‫ص ‪334 :‬‬
‫الذي ال يزال فيه محترما مرفوقا به في العرف والعادة ‪ ،‬فرفق به في قوله «‪ :‬أ َ ِع ُ‬
‫ظ َك‬
‫»لشيخوخته وكبر سنه ‪ ،‬ومخاطبة الشيوخ ‪ ،‬لها حد ووصف معلوم ‪ ،‬ومخاطبات‬
‫الشباب لها حد معلوم ‪،‬‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ (:‬فَال ت َ ُكون ََّن ِمنَ ْالجا ِه ِلينَ ) فأين ذلك‬
‫قال تعالى في حق محمد صلهى ه‬
‫اللطف من هذا القهر ؟‬
‫فذلك لضعف الشيخوخة وذا لقوة الشباب ‪ ،‬وأين مرتبة الخمسين سنة من رتبة‬
‫خمسمائة وأزيد ؟ فوقع الخطاب ‪ ،‬على الحاالت في أول الرسل ‪ ،‬وهو نوح عليه‬
‫السالم وفي آخرهم وهو محمد صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم‬

‫[ ‪ -‬إشارة ‪ -‬الجهل ال يكون معه خير ]‬


‫‪-‬إشارة ‪ -‬الجهل ال يكون معه خير ‪ ،‬كما أن العلم ال يكون معه شر ‪ ،‬وأعظم‬
‫باّلل ‪ ،‬وهو المسمى بالجهل ‪ ،‬ألن‬
‫المعاصي ما يميت القلوب ‪ ،‬وال تموت إال بعدم العلم ه‬
‫ّللا من هذه النشأة اإلنسانية لنفسه ‪ ،‬فغصبه فيه هذا‬
‫القلب هو البيت الذي اصطفاه ه‬
‫الغاصب ‪ ،‬وحال بينه وبين مالكه ‪ ،‬فكان أظلم الناس لنفسه ‪ ،‬ألنه حرمها الخير الذي‬
‫يعود عليها من صاحب هذا البيت لو تركه له ‪ ،‬فهذا حرمان الجهل ‪.‬‬

‫[ سورة هود ( ‪ : ) 11‬اآليات ‪ 47‬إلى ‪] 54‬‬


‫س ِلي بِ ِه ِع ْل ٌم َوإِاله ت َ ْغ ِف ْر ِلي َوت َ ْر َح ْمنِي أَك ُْن ِم َن‬ ‫سئَلَكَ ما لَ ْي َ‬ ‫ب إِ ِنّي أَعُوذُ بِكَ أ َ ْن أ َ ْ‬ ‫قا َل َر ّ ِ‬
‫علَ ْيكَ َوعَلى أ ُ َم ٍم ِم هم ْن َمعَكَ‬ ‫ت َ‬ ‫الم ِمنها َوبَ َركا ٍ‬ ‫س ٍ‬ ‫ح ا ْه ِب ْط ِب َ‬ ‫ين ) ‪ ( 47‬قِي َل يا نُو ُ‬ ‫س ِر َ‬ ‫ا ْلخا ِ‬
‫وحيها ِإلَ ْيكَ ما‬ ‫ب نُ ِ‬ ‫َذاب أ َ ِلي ٌم ( ‪ ) 48‬تِ ْلكَ ِم ْن أ َ ْن ِ‬
‫باء ا ْلغَ ْي ِ‬ ‫س ُه ْم ِمنها ع ٌ‬ ‫سنُ َم ِت ّعُ ُه ْم ث ُ هم يَ َم ُّ‬ ‫َوأ ُ َم ٌم َ‬
‫ين ( ‪َ ) 49‬و ِإلى عا ٍد‬ ‫ص ِب ْر ِإ هن ا ْلعاقِبَةَ ِل ْل ُمت ه ِق َ‬
‫ُك ْنتَ ت َ ْعلَ ُمها أ َ ْنتَ َوال قَ ْو ُمكَ ِم ْن قَ ْب ِل هذا فَا ْ‬
‫ون ( ‪ ) 50‬يا‬ ‫غ ْي ُر ُه ِإ ْن أ َ ْنت ُ ْم ِإاله ُم ْفت َ ُر َ‬
‫َّللا ما لَ ُك ْم ِم ْن ِإل ٍه َ‬ ‫أَخا ُه ْم ُهودا ً قا َل يا قَ ْو ِم ا ْعبُدُوا ه َ‬
‫ون ) ‪( 51‬‬ ‫علَى الهذِي فَ َط َرنِي أ َ فَال ت َ ْع ِقلُ َ‬ ‫ي إِاله َ‬ ‫علَ ْي ِه أَجْ را ً إِ ْن أَجْ ِر َ‬ ‫سئَلُ ُك ْم َ‬ ‫قَ ْو ِم ال أ َ ْ‬
‫علَ ْي ُك ْم ِمدْرارا ً َويَ ِز ْد ُك ْم قُ هوةً إِلى‬ ‫سما َء َ‬ ‫س ِل ال ه‬ ‫ست َ ْغ ِف ُروا َربه ُك ْم ث ُ هم تُوبُوا إِلَ ْي ِه يُ ْر ِ‬ ‫َويا قَ ْو ِم ا ْ‬
‫تار ِكي آ ِل َهتِنا‬‫ين ( ‪ ) 52‬قالُوا يا ُهو ُد ما ِجئْتَنا ِببَ ِيّنَ ٍة َوما نَحْ ُن ِب ِ‬ ‫قُ هوتِ ُك ْم َوال تَت َ َوله ْوا ُمجْ ِر ِم َ‬
‫وء قا َل‬ ‫س ٍ‬ ‫ض آ ِل َهتِنا ِب ُ‬ ‫ين ( ‪ِ ) 53‬إ ْن نَقُو ُل ِإاله ا ْعت َراكَ بَ ْع ُ‬ ‫ع َْن قَ ْو ِلكَ َوما نَحْ ُن لَكَ ِب ُم ْؤ ِمنِ َ‬
‫ُون) ‪( 54‬‬ ‫ش َهدُوا أ َ ِنّي بَ ِري ٌء ِم هما تُش ِْرك َ‬ ‫َّللا َوا ْ‬‫ِإ ِنّي أُش ِْه ُد ه َ‬

‫ص ‪335‬‬

‫ص ‪335 :‬‬
‫قال ذلك هود عليه السالم لقومه المكذبين به وبرسالته ‪ ،‬فأشهد عليه السالم قومه مع‬
‫باّلل واإلقرار بأحديته ‪ ،‬لما علم عليه‬ ‫كونهم مكذبين به على نفسه بالبراءة من الشرك ه‬
‫ّللا سبحانه سيوقف عباده بين يديه ويسألهم عما هو عالم به ‪ ،‬إلقامة الحجة‬ ‫السالم أن ه‬
‫لهم أو عليهم ‪ ،‬حتى يؤدي كل شاهد شهادته ‪ ،‬فقال عليه السالم« َوا ْش َهدُوا أ َ ِنهي بَ ِري ٌء‬
‫ِم َّما ت ُ ْش ِر ُكونَ »فسأل هود عليه السالم قومه الشهادة مع شركهم لعلمه بأنهم ال بد أن‬
‫ّللا عنه ‪.‬‬
‫يسألهم ه‬

‫[ سورة هود ( ‪ : ) 11‬اآليات ‪ 55‬إلى ‪] 56‬‬


‫علَى ه ِ‬
‫َّللا َر ِبّي َو َر ِبّ ُك ْم ما‬ ‫ِم ْن دُونِ ِه فَ ِكيدُونِي َج ِميعا ً ث ُ هم ال ت ُ ْن ِظ ُر ِ‬
‫ون ( ‪ِ ) 55‬إ ِنّي ت َ َو هك ْلتُ َ‬
‫ست َ ِق ٍ‬
‫يم ) ‪( 56‬‬ ‫راط ُم ْ‬ ‫ناصيَ ِتها ِإ هن َر ِبّي عَلى ِص ٍ‬ ‫آخذٌ ِب ِ‬‫ِم ْن دَابه ٍة ِإاله ُه َو ِ‬

‫فأتى بالصراط نكرة ألنه على كل صراط شهيد ‪ ،‬وجاء في فاتحة الكتاب في( ا ْه ِدنَا‬
‫يم )بالتعريف ألنه صراط مخصوص ‪ ،‬وهو المؤدي إلى السعادة ‪،‬‬ ‫ط ْال ُم ْست َ ِق َ‬
‫صرا َ‬
‫ال ِ ه‬
‫ومع هذا فإن هذا القول من الكالم القديم ‪ ،‬والقرآن الحكيم ‪ ،‬جاء به الرؤوف الرحيم ‪،‬‬
‫الخبير بما هناك العليم ‪ ،‬فمع الحق مشى من مشى ‪ ،‬وما تشاءون إال أن يشاء ‪،‬‬
‫فالسعادة كاملة ‪ ،‬والرحمة شاملة ‪ ،‬فإن أهل االستقامة في االستقامة هم أهل السالمة‬
‫في القيامة ‪ ،‬وأما الماشي في االستقامة بغير استقامة ‪ ،‬فهو المنحاز عن دار الكرامة ‪،‬‬
‫وكما أنه سبحانه في قبلة المصلي ‪ ،‬فهو تعالى من ورائه محيط فهو السائق والهادي ‪،‬‬
‫فهو سبحانه الذي نواصي الكل بيده الهادي إلى صراط مستقيم ‪ ،‬والذي يسوق‬
‫المجرمين إلى جهنم وردا ‪ ،‬وإليه يرجع األمر كله ‪ ،‬وإن كان الصراط المستقيم الذي‬
‫عليه الرب الكريم يتضمن الخير والشر ‪ ،‬والنفع والضر ‪ ،‬والفاجر والبر ‪،‬‬
‫على‬ ‫آخذٌ ِب ِ‬
‫ناصيَ ِتها ِإ َّن َر ِبهي َ‬ ‫[ إن ربي على صراط مستقيم ]« ما ِم ْن َدابَّ ٍة ِإ َّال ُه َو ِ‬
‫صراطٍ ُم ْست َ ِقي ٍم »وهو البر الرحيم ‪،‬‬ ‫ِ‬

‫ص ‪336‬‬

‫ص ‪336 :‬‬
‫فال ينفع االحتجاج بما سبق وإن كان حقا ‪ ،‬فهي حجة ال تنفع قائلها وال تعصم حاملها‬
‫لما يؤدي إليه من درس الطريق األمم ‪ ،‬الذي أجمع على صحته األمم« ما ِم ْن َدابَّ ٍة ِإ َّال‬
‫ناصيَتِها »دخل في حكم هذه اآلية جميع ما دبه علوا وسفال دخول ذلة‬ ‫آخذٌ ِب ِ‬
‫ُه َو ِ‬
‫وعبودية ‪ ،‬ألنها أعطته بحقيقتها وقبولها التمكن من األخذ بناصيتها إذالال ‪ ،‬ألنها عبد‬
‫ّللا تعالى ‪ ،‬فالكل أذالء بالذات ‪ ،‬وهو‬ ‫‪ ،‬وكل من أخذ بناصيته فإنه ذليل ‪ ،‬والكل عبيد ه‬
‫العزيز الحكيم ‪ ،‬وإنما جعل يده بناصيتك ابتغاء عافيتك ‪ ،‬فأثبت أمرا هو عليه ‪ ،‬وما‬
‫سواه ‪ ،‬فانظر من يصل إليه ‪ ،‬وهذا من كرمه وسابقة قدمه ‪ ،‬فما ث هم إال مستقيم وعلى‬
‫منهج قويم ‪ ،‬ألنه بيد الكريم ‪ ،‬وتدل هذه اآلية على أنه ما ث هم إال من الحق آخذ بناصيته‬
‫‪ ،‬وال يمكن إزالة ناصيته من يد سيده ‪ ،‬ون هكر لفظ دابة فع هم ‪ ،‬فهو مسلوك به ‪ ،‬سالك‬
‫بحكم الجبر ‪ ،‬هكذا قال هود عليه السالم ‪ ،‬فلهذا كان المآل إلى الرحمة وإذا أدركه في‬
‫الطريق النصب ‪ ،‬فتلك أعراض عرضت له ‪ ،‬فإنه أخبر بأنه تعالى على صراط‬
‫مستقيم ‪ ،‬فما ث هم إال من هو مستقيم على صراط الرب ‪ ،‬فهذه اآلية دليل لمن قال بالجبر‬
‫صراطٍ ُم ْست َ ِق ٍيم »فيما شرع ‪ ،‬مع‬ ‫على ِ‬ ‫‪ ،‬ويحتمل أن يكون قوله عليه السالم« ِإ َّن َر ِبهي َ‬
‫كونه تعالى آخذ بنواصي عباده إلى ما أراد وقوعه منهم وعقوبته إياهم مع هذا الجبر ‪،‬‬
‫فاجعل بالك ‪ ،‬وتأدب واسلك سواء السبيل ‪ ،‬فهذه آية بشرى لنا ‪ ،‬فما في العالم إال‬
‫مستقيم ألن اآلخذ بناصيته هو الماشي به ‪ ،‬وهو على صراط مستقيم ‪ ،‬فكل حركة‬
‫وسكون في الوجود فهي إلهية ‪ ،‬ألنها بيد حق ‪ ،‬وصادرة عن حق موصوف بأنه على‬
‫ّللا إال ما تعلمه منه ‪ ،‬فهم‬ ‫صراط مستقيم بإخبار الصادق ‪ ،‬فإن الرسل ال تقول على ه‬
‫باّلل ‪ ،‬وليس للكون معذرة أقوى من هذه ‪ ،‬فمن رحمة الرسل بالخلق تنبيه‬ ‫أعلم الخلق ه‬
‫ّللا أخبر عن نبيه ورسوله هود عليه السالم قوله هذا ‪ ،‬وما‬ ‫الخلق على مثل هذا ‪ ،‬فإن ه‬
‫خطأ هذا الرسول في هذا القول ‪ ،‬ومعلوم أن تصرف كل دابة قد يتعلق به لسان حمد‬ ‫ه‬
‫أو ذم ألمور عرضية في الطريق ‪ ،‬عينتها األحوال وأحكام األسماء ‪ ،‬واألصل محفوظ‬
‫ّللا ‪ ،‬ومع هذا التحقيق‬ ‫في نفس األمر ‪ ،‬تشهده الرسل عليهم السالم والخاصة من عباد ه‬
‫صراطٍ ُم ْست َ ِق ٍيم »من حيث ما يقود الماشي عليه إلى سعادته ‪،‬‬ ‫على ِ‬‫فإن قوله« إِ َّن َر ِبهي َ‬
‫وعلى هذا الصراط كل دابة عموما ما عدا اإلنس والجن ‪ ،‬فإنه ما دخل من الثقلين إال‬
‫الصالحون منهم خاصة ‪ ،‬ولو دخل جميع الثقلين لكان جميعهم على طريق مستقيم ‪-‬‬
‫نصيحة ‪ -‬ال تجعل زمامك إال بيد ربك ‪ ،‬فإن له كما قال يدين كما‬

‫ص ‪337‬‬

‫ص ‪337 :‬‬
‫أنه قد أخبرك أن يده بناصيتك اضطرارا ‪ ،‬فاجعل زمامك بيده اختيارا فتجن ثمرة‬
‫االختيار واالضطرار بجمعك بين اليدين ‪ ،‬واعلم أن العباد في قبضة الحق ‪ ،‬قال تعالى‬
‫آخذٌ ِب ِ‬
‫ناصيَتِها »لما هي مصرفة فيه ‪ ،‬فالكل في قبضته من‬ ‫‪ «:‬ما ِم ْن َدابَّ ٍة ِإ َّال ُه َو ِ‬
‫قضائه في قضائه ‪ ،‬ومع ذلك عليك بأمر الحق فاتبعه ‪ ،‬وال تغتر بكونك ال ترى شيئا‬
‫إال تحت تصريفه وحكم إرادته ‪ ،‬هذا ال ينجيك واألخذ بأمر الحق ينجيك ‪ ،‬لكن انظر‬
‫وتصرف باألمر ‪.‬‬ ‫ه‬ ‫ذلك عقدا‬

‫[ سورة هود ‪ ( 11 ) :‬آية ‪] 57‬‬


‫غ ْي َر ُك ْم َوال تَض ُُّرونَهُ‬ ‫ف َر ِبّي قَ ْوما ً َ‬‫ست َ ْخ ِل ُ‬‫س ْلتُ ِب ِه ِإلَ ْي ُك ْم َويَ ْ‬‫فَ ِإ ْن ت َ َوله ْوا فَقَ ْد أ َ ْبلَ ْغت ُ ُك ْم ما أ ُ ْر ِ‬
‫ظ ) ‪( 57‬‬ ‫ش ْي ٍء َح ِفي ٌ‬ ‫ش ْيئا ً ِإ هن َر ِبّي عَلى ُك ِ ّل َ‬ ‫َ‬
‫ّللا ال تقتضي البشرية‬ ‫اعلم أن النبي ال بد له من النظر إلى نفسه ‪ ،‬فإن الجلوس مع ه‬
‫دوامه ‪ ،‬وإذا لم يدم فما ثم إال النفس ‪ ،‬وكذا ورد ما من نبي إال وقد قال« فَقَ ْد أ َ ْبلَ ْغت ُ ُك ْم ما‬
‫ّللا إليكم‬ ‫أ ُ ْر ِس ْلتُ بِ ِه ِإلَ ْي ُك ْم »فأضاف التبليغ إلى نفسه ولم يقل في هذه الحال ‪ ،‬قد بلهغ ه‬
‫ّللا األنبياء بمخالفة أممهم ‪ ،‬فاختلفوا عليه ‪ ،‬واختلفوا‬ ‫بلساني ما قد أسمعكم ‪ ،‬لذلك ابتلى ه‬
‫فيما بينهم وإن اجتمعوا عليه ‪ ،‬فإن النبي في تلك الحالة صاحب دعوى ‪ ،‬أنه بلغ رسالة‬
‫ربه ‪ ،‬وفي هذا هّلل حكم خفي ليعلم العبد أنه مح هل للتوفيق ونقيضه ‪ ،‬وأنه ال حول وال‬
‫باّلل على ما أمر به ونهى عنه‬ ‫قوة إال ه‬
‫[ إن ربي على كل شيء حفيظ ]‬
‫يظ »إذا‬ ‫ش ْيءٍ َح ِف ٌ‬ ‫على ُك ِهل َ‬ ‫شيْئا ً ِإ َّن َر ِبهي َ‬‫ض ُّرونَهُ َ‬ ‫غي َْر ُك ْم َوال ت َ ُ‬ ‫ف َر ِبهي قَ ْوما ً َ‬ ‫« َويَ ْست َ ْخ ِل ُ‬
‫ّللا في العالم‬ ‫ّللا ‪ ،‬لم يكن للعالم وجود وفني ‪ ،‬وإذا سرى حفظ ه‬ ‫أخليت العالم عن حفظ ه‬
‫بقي العالم موجودا ‪ ،‬فبظهوره وتجليه يكون العالم باقيا ‪ ،‬وبهذا يصح افتقار العالم إلى‬
‫ّللا في بقائه في كل نفس ‪ ،‬واجتمع الموحدون والمشركون في الحفظ اإللهي عناية من‬ ‫ه‬
‫ّللا بالخلق ‪ ،‬فإن الممكن إذا وجد ال بد من حافظ يحفظ عليه وجوده ‪ ،‬وبذلك الحافظ‬ ‫ه‬
‫ّللا ‪ ،‬فلذلك نسب‬ ‫بقاؤه في الوجود كان ذلك الحافظ ما كان من األكوان ‪ ،‬فالحفظ خلق ه‬
‫الحفظ إليه ‪ ،‬ألن األعيان القائمة بأنفسها قابلة للحفظ بخالف ما ال يقوم بنفسه من‬
‫الممكنات ‪ ،‬فإنه ال يقبل الحفظ ويقبل الوجود وال يقبل البقاء ‪ ،‬فليس له من الوجود غير‬
‫زمان وجوده ‪ ،‬ثم ينعدم ‪ ،‬ومتعلق الحفظ إنما هو الزمان الثاني الذي يلي زمان وجوده‬
‫فاّلل حفيظ رقيب ‪ ،‬فكل موجود له بقاء في وجوده ‪ ،‬فال بد من حافظ كياني‬ ‫فما زاد ‪ ،‬ه‬
‫يحفظ عليه وجوده ‪ ،‬وذلك‬

‫ص ‪338‬‬

‫ص ‪338 :‬‬
‫ظةً ) فن هكر فدخل تحت هذا اللفظ‬
‫علَ ْي ُك ْم َحفَ َ‬
‫الحافظ خلق هّلل مثل قوله تعالى ‪َ (:‬ويُ ْر ِس ُل َ‬
‫حفظة الوجود وحفظة األفعال ‪ ،‬واالسم الحفيظ خزانة سعي األعمال من حيث نسبتها‬
‫إلى العاملين ‪.‬‬

‫[ سورة هود ( ‪ : ) 11‬اآليات ‪ 58‬إلى ‪] 60‬‬


‫يظ (‬
‫غ ِل ٍ‬‫ب َ‬ ‫ِين آ َمنُوا َمعَهُ بِ َرحْ َم ٍة ِمنها َونَ هج ْينا ُه ْم ِم ْن عَذا ٍ‬ ‫َولَ هما جا َء أ َ ْم ُرنا نَ هج ْينا ُهودا ً َوالهذ َ‬
‫عنِي ٍد ( ‪) 59‬‬ ‫سلَهُ َواتهبَعُوا أ َ ْم َر ُك ِ ّل َجبه ٍار َ‬‫ص ْوا ُر ُ‬
‫ع َ‬ ‫ت َر ِبّ ِه ْم َو َ‬ ‫‪َ ) 58‬وتِ ْلكَ عا ٌد َج َحدُوا بِآيا ِ‬
‫َوأُتْ ِبعُوا فِي ه ِذ ِه ال ُّد ْنيا لَ ْعنَةً َويَ ْو َم ا ْل ِقيا َم ِة أَال ِإ هن عادا ً َكفَ ُروا َربه ُه ْم أَال بُ ْعدا ً ِلعا ٍد قَ ْو ِم‬
‫ُهو ٍد ) ‪( 60‬‬
‫ّللا ‪ ،‬بعث عليهم طيرا‬ ‫هم عاد األولى أرسل إليهم هود عليه السالم فكذبوه فأهلكهم ه‬
‫أسود فنقلهم إلى البحر ‪ ،‬فأصبحوا ال ترى إال مساكنهم ‪ ،‬وكانت مساكنهم الشمر بين‬
‫عمان وحضر موت ‪.‬‬

‫[ سورة هود ( ‪ : ) 11‬اآليات ‪ 61‬إلى ‪] 65‬‬


‫غ ْي ُرهُ ُه َو أ َ ْنشَأ َ ُك ْم ِم َن‬ ‫َّللا ما لَ ُك ْم ِم ْن ِإل ٍه َ‬‫َو ِإلى ث َ ُمو َد أَخا ُه ْم صا ِلحا ً قا َل يا قَ ْو ِم ا ْعبُدُوا ه َ‬
‫يب ( ‪ ) 61‬قالُوا‬ ‫يب ُم ِج ٌ‬ ‫ست َ ْع َم َر ُك ْم ِفيها فَا ْ‬
‫ست َ ْغ ِف ُرو ُه ث ُ هم تُوبُوا ِإلَ ْي ِه ِإ هن َر ِبّي قَ ِر ٌ‬ ‫ض َوا ْ‬ ‫ْاأل َ ْر ِ‬
‫يا صا ِل ُح قَ ْد ُك ْنتَ فِينا َم ْر ُج ًّوا قَ ْب َل هذا أ َ ت َ ْنهانا أ َ ْن نَ ْعبُ َد ما يَ ْعبُ ُد آباؤُنا َوإِنهنا لَ ِفي ش ٍَّك‬
‫ب ( ‪ ) 62‬قا َل يا قَ ْو ِم أ َ َرأ َ ْيت ُ ْم إِ ْن ُك ْنتُ عَلى بَ ِيّنَ ٍة ِم ْن َر ِبّي َوآتانِي‬ ‫ِم هما ت َ ْدعُونا إِلَ ْي ِه ُم ِري ٍ‬
‫ير ( ‪َ ) 63‬ويا‬ ‫س ٍ‬‫غ ْي َر ت َ ْخ ِ‬ ‫ص ْيتُهُ فَما ت َ ِزيدُونَنِي َ‬ ‫ع َ‬ ‫َّللا إِ ْن َ‬
‫ص ُرنِي ِم َن ه ِ‬ ‫ِم ْنهُ َرحْ َمةً فَ َم ْن يَ ْن ُ‬
‫وء فَيَأ ْ ُخذَ ُك ْم‬
‫س ٍ‬ ‫سوها ِب ُ‬ ‫َّللا َوال ت َ َم ُّ‬
‫ض هِ‬ ‫قَ ْو ِم ه ِذ ِه ناقَةُ ه ِ‬
‫َّللا لَ ُك ْم آيَةً فَذَ ُروها تَأ ْ ُك ْل فِي أ َ ْر ِ‬
‫غ ْي ُر َم ْكذُو ٍ‬
‫ب‬ ‫دار ُك ْم ث َالثَةَ أَيه ٍام ذ ِلكَ َو ْع ٌد َ‬ ‫يب ( ‪ ) 64‬فَعَقَ ُروها فَقا َل ت َ َمتهعُوا فِي ِ‬ ‫َذاب قَ ِر ٌ‬
‫ع ٌ‬
‫) ‪( 65‬‬

‫ص ‪339‬‬

‫ص ‪339 :‬‬
‫ّللا‬
‫كانت مساكن ثمود الحجر من وادي القرى والشام ‪ ،‬وكانت آية ثمود ناقة أخرجها ه‬
‫من هضبة من األرض ‪ ،‬يتبعها فصيل لها ‪ ،‬فيحلبون منها ريهم ‪ ،‬وتشرب في ذلك‬
‫اليوم جميع مياههم ‪ ،‬ويشربون هم اليوم الثاني الماء وال تأتيهم ‪ ،‬فلما طال ذلك عليهم‬
‫ملهوها ‪ ،‬فاجتمعوا تسعة من شرار قومه على عقرها وخرجوا لها ‪ ،‬فعقرها رجل منهم‬
‫ّللا بالعذاب بعد ثالث ‪ ،‬فأتتهم صيحة من السماء فماتوا كلهم ‪ ،‬ولحق صالح‬ ‫‪ ،‬فوعدهم ه‬
‫ومن معه من قومه بمكة ‪ ،‬وأول يوم اصفرت وجوه القوم ‪ ،‬وفي الثاني احمرت ‪ ،‬وفي‬
‫الثالث اسودت ‪.‬‬

‫[ سورة هود ( ‪ : ) 11‬اآليات ‪ 66‬إلى ‪] 70‬‬


‫ِين آ َمنُوا َمعَهُ ِب َرحْ َم ٍة ِمنها َو ِم ْن ِخ ْزي ِ يَ ْو ِم ِئ ٍذ ِإ هن َربهكَ‬ ‫فَلَ هما جا َء أ َ ْم ُرنا نَ هج ْينا صا ِلحا ً َوالهذ َ‬
‫ين (‬ ‫ِيار ِه ْم جا ِث ِم َ‬ ‫صبَ ُحوا ِفي د ِ‬ ‫ص ْي َحةُ فَأ َ ْ‬ ‫ِين َظلَ ُموا ال ه‬ ‫يز ( ‪َ ) 66‬وأ َ َخذَ الهذ َ‬ ‫ي ا ْلعَ ِز ُ‬ ‫ُه َو ا ْلقَ ِو ُّ‬
‫‪ ) 67‬كَأ َ ْن لَ ْم يَ ْغنَ ْوا فِيها أَال إِ هن ث َ ُمو َد َكفَ ُروا َربه ُه ْم أَال بُ ْعدا ً ِلث َ ُمو َد ( ‪َ ) 68‬ولَقَ ْد جا َءتْ‬
‫ث أ َ ْن جا َء بِعِجْ ٍل َحنِي ٍذ ( ‪) 69‬‬ ‫سال ٌم فَما لَبِ َ‬ ‫سالما ً قا َل َ‬ ‫سلُنا إِ ْبرا ِهي َم بِا ْلبُشْرى قالُوا َ‬ ‫ُر ُ‬
‫س ْلنا ِإلى‬ ‫ف ِإنها أ ُ ْر ِ‬ ‫س ِم ْن ُه ْم ِخيفَةً قالُوا ال ت َ َخ ْ‬ ‫فَلَ هما َرأى أ َ ْي ِديَ ُه ْم ال ت َ ِص ُل ِإلَ ْي ِه نَ ِك َر ُه ْم َوأ َ ْو َج َ‬
‫وط ( ‪) 70‬‬ ‫قَ ْو ِم لُ ٍ‬
‫[ تجسد المالئكة في صورة محسوسة ] " فَلَ َّما َرأى أ َ ْي ِديَ ُه ْم ال ت َ ِ‬
‫ص ُل ِإلَ ْي ِه "‬
‫س ِم ْن ُه ْم ِخيفَةً »‬ ‫يعني إلى العجل الحنيذ ‪ ،‬أي ال يأكلون منه« نَ ِك َر ُه ْم َوأ َ ْو َج َ‬
‫خاف فإن المالئكة ولو تجسدت في صورة محسوسة ‪ ،‬ال يكون غذاؤها الطعام‬
‫الطبيعي ‪ ،‬وهنا مسألة هل األعيان التي من حقيقتها أن ال تكون على صورة طبيعية‬
‫جسمية في نفسها إذا ظهرت لمن ظهرت له في صورة طبيعية جسدية في عالم التمثيل‬
‫‪ ،‬كالملك يتمثل بشرا سويا وكالتجلي اإللهي في الصور ‪ ،‬هل تقبل تلك الصورة‬
‫الظاهرة في عين الرائي حكم ما لتلك الصورة في التي هي له حقيقة كصورة اإلنسان‬
‫والحيوان ؟ فتحكم عليه‬

‫ص ‪340‬‬

‫ص ‪340 :‬‬
‫بالتفكر وقيام اآلالم واللذات به ؟‬
‫فهل تلك الصورة التي ظهرت تشبه الحيوان أو اإلنسان أو ما كان ‪ ،‬تقبل هذا الحكم‬
‫في نفس األمر ؟‬
‫أو الرائي إذا لم يعلم أنها إنسان أو حيوان ما له أن يحكم عليها بما يحكم على من في‬
‫تلك الصورة عينه ‪ ،‬كيف األمر في ذلك ؟‬
‫فاعلم أن الملك على صورة تخالف البشر في نفسه وعينه ‪ ،‬وكما تخالف البشر فقد‬
‫خالفه أيضا البشر ‪ ،‬مثل جبريل ظهر بصورة أعرابي بكالمه وحركته المعتادة من تلك‬
‫الصورة في اإلنسان ‪ ،‬هي في الصورة الممثلة كما هي في اإلنسان ‪ ،‬أو هي من‬
‫الصورة كما هي الصورة متخيلة أيضا ‪ ،‬ويتبع تلك الصورة جميع أحكامها من القوى‬
‫القائمة بها في اإلنسان ‪ ،‬كما قام بها الكالم والحركة والكيفيات الظاهرة ‪ ،‬فهو في‬
‫الحقيقة إنسان خيالي ‪ ،‬أعني الملك في ذلك الزمان ‪ ،‬وله حكم تلك الصورة في نفس‬
‫األمر أيضا ‪ ،‬على ح هد الصورة من كونها إنسانا خياليا ‪ ،‬فإذا ذهبت تلك الصورة ‪،‬‬
‫ذهبت أحكامها لذهابها ‪ ،‬وسبب ذلك أن جوهر العالم في األصل واحد ‪ ،‬ال يتغير عن‬
‫حقيقته ‪ ،‬وأن كل صورة تظهر فيه ‪ ،‬فهي عارضة تستحيل في نفس األمر في كل‬
‫زمان فرد ‪ ،‬والحق يوجد األمثال على الدوام ‪ ،‬ألنه خالق على الدوام والممكنات في‬
‫حال عدمها مهيأة لقبول الوجود ‪ ،‬فمهما ظهرت صورة في ذلك الجوهر ‪ ،‬ظهرت‬
‫بجميع أحكامها سواء كانت تلك الصورة محسوسة أو متخيلة ‪ ،‬فإن أحكامها تتبعها كما‬
‫ّللا عليه وسلم يصف الحق جل جالله‬ ‫ّللا صلهى ه‬
‫قال األعرابي ‪ ،‬لما سمع رسول ه‬
‫بالضحك ‪ ،‬قال ‪ :‬ال نعدم خيرا من رب يضحك ‪ ،‬إذ من شأن من يضحك أن يتوقع منه‬
‫وجود الخير ‪ ،‬فكما أتبع الصورة الضحك ‪ ،‬أتبعها وجود الخير منها ‪ ،‬وهذا في الجناب‬
‫اإللهي فكيف في جوهر العالم ؟ ‪.‬‬

‫[ سورة هود ( ‪ : ) 11‬اآليات ‪ 71‬إلى ‪]73‬‬


‫وب ( ‪ ) 71‬قالَتْ يا‬ ‫حاق يَ ْعقُ َ‬
‫س َ‬ ‫حاق َو ِم ْن َو ِ‬
‫راء إِ ْ‬ ‫س َ‬ ‫ض ِحكَتْ فَبَش ْهرناها بِ ِإ ْ‬ ‫ام َرأَتُهُ قائِ َمةٌ فَ َ‬ ‫َو ْ‬
‫يب ( ‪ ) 72‬قالُوا أ َ ت َ ْع َج ِب َ‬
‫ين‬ ‫ش ْي ٌء ع َِج ٌ‬‫ش ْيخا ً ِإ هن هذا لَ َ‬ ‫وز َوهذا بَ ْع ِلي َ‬ ‫ع ُج ٌ‬ ‫َو ْيلَتى أ َ أ َ ِل ُد َوأَنَا َ‬
‫علَ ْي ُك ْم أ َ ْه َل ا ْلبَ ْي ِ‬
‫ت ِإنههُ َح ِمي ٌد َم ِجي ٌد) ‪( 73‬‬ ‫َّللا َوبَ َركاتُهُ َ‬ ‫ِم ْن أ َ ْم ِر ه ِ‬
‫َّللا َرحْ َمتُ ه ِ‬

‫ص ‪341‬‬

‫ص ‪341 :‬‬
‫ّللا لشمولها االمتنان والوجوب « َوبَ َركاتُهُ‬ ‫ّللا " أضيفت الرحمة إلى ه‬ ‫" َر ْح َمتُ َّ ِ‬
‫ت ِإنَّهُ َح ِمي ٌد َم ِجي ٌد »المجد هو الشرف ‪،‬‬ ‫علَ ْي ُك ْم أ َ ْه َل ْالبَ ْي ِ‬
‫»والبركات هي الزيادة « َ‬
‫وأعظم المجد هو ما اعترف به العبد لربه بأن شهد له بأنه الملك يوم الدين ‪ ،‬فله المجد‬
‫والشرف على العالم في الدنيا واآلخرة ‪ ،‬ألنه يجازي العالم على أعمالهم في الدنيا‬
‫ِين )يقول الحق مجدني عبدي ‪،‬‬ ‫واآلخرة ‪ ،‬فقد ورد أن المصلي إذا قال( ما ِل ِك يَ ْو ِم ال هد ِ‬
‫أي جعل لي الشرف عليه كما هو األمر في نفسه ‪.‬‬

‫[ سورة هود ( ‪ : ) 11‬اآليات ‪ 74‬إلى ‪] 75‬‬


‫ع َوجا َءتْهُ ا ْلبُشْرى يُجا ِدلُنا فِي قَ ْو ِم لُ ٍ‬
‫وط ( ‪ِ ) 74‬إ هن‬ ‫ب ع َْن ِإ ْبرا ِهي َم ا ه‬
‫لر ْو ُ‬ ‫فَلَ هما ذَ َه َ‬
‫يب ) ‪( 75‬‬ ‫ِإ ْبرا ِهي َم لَ َح ِلي ٌم أ َ هوا ٌه ُم ِن ٌ‬
‫الحلم هو ترك األخذ بالجريمة في الحال مع القدرة ‪ ،‬فالحليم ال يعجل مع القدرة‬
‫وارتفاع المانع ‪ ،‬ووصف الحق إبراهيم عليه السالم بالتأوه مما يجده في صدره من‬
‫رده ‪ ،‬فتأوه لما رأى من عبادة قومه ما نحتوه ‪ ،‬وحلم فلم يعجل بأخذهم على ذلك مع‬
‫ّللا من أخذهم ‪،‬‬ ‫قدرته عليهم بالدعاء عليهم ‪ ،‬ولهذا سمي حليما فلو لم يقدر وال م هكنه ه‬
‫ما سماه سبحانه حليما ولكنه عليه السالم علم أنه في دار االمتزاج والتحول من حال‬
‫إلى حال ‪ ،‬فكان يرجو لهم اإليمان فيما بعد ‪ ،‬فهذا سبب حلمه ‪ ،‬ولو علم من قومه ما‬
‫فاجرا ً َكفَّارا ً ) ما حلم عليهم ‪ ،‬فاألواه‬ ‫علم نوح عليه السالم حيث قال ‪َ (:‬وال يَ ِلدُوا إِ َّال ِ‬
‫هو الذي يكثر التأوه لبلواه ‪ ،‬ولما يقاسيه ويعانيه مما يشاهده ويراه ‪ ،‬وهو من باب‬
‫ّللا‬
‫ّللا من كل شيء أمرهم ه‬ ‫يب » المنيبون هم الذين رجعوا إلى ه‬ ‫الغيرة والحيرة« ُمنِ ٌ‬
‫ّللا في رجوعهم ‪ ،‬إذ كانت‬ ‫بالرجوع عنه ‪ ،‬مع شهودهم في حالهم أنهم نواب عن ه‬
‫نواصي الخلق بيده ‪ ،‬يصرفهم كيف يشاء ‪ ،‬فمن شاهد نفسه في إنابته إلى ربه نائبا عن‬
‫ّللا لمن حمده ‪ ،‬وفي تالوته ‪ ،‬كذلك‬ ‫ّللا في قوله ‪ :‬سمع ه‬ ‫ّللا ‪ ،‬كما ينوب المصلي عن ه‬ ‫ه‬
‫ّللا في كل حال ‪ ،‬يسمى منيبا ‪ ،‬فلهم خصوص هذا الوصف ‪.‬‬ ‫رجوعه إلى ه‬

‫[ سورة هود ( ‪ : ) 11‬اآليات ‪ 76‬إلى ‪] 80‬‬


‫غ ْي ُر َم ْردُو ٍد ( ‪76‬‬ ‫َذاب َ‬ ‫يه ْم ع ٌ‬ ‫ض ع َْن هذا ِإنههُ قَ ْد جا َء أ َ ْم ُر َر ِبّكَ َو ِإنه ُه ْم آتِ ِ‬ ‫يا ِإ ْبرا ِهي ُم أَع ِْر ْ‬
‫يب ( ‪) 77‬‬ ‫َص ٌ‬ ‫ضاق ِب ِه ْم ذَ ْرعا ً َوقا َل هذا يَ ْو ٌم ع ِ‬ ‫َ‬ ‫سي َء ِب ِه ْم َو‬ ‫) َولَ هما جا َءتْ ُر ُ‬
‫سلُنا لُوطا ً ِ‬
‫ُالء بَنا ِتي‬ ‫ت قا َل يا قَ ْو ِم هؤ ِ‬ ‫س ِيّئا ِ‬ ‫ون ال ه‬ ‫ُون ِإلَ ْي ِه َو ِم ْن قَ ْب ُل كانُوا يَ ْع َملُ َ‬
‫َوجا َء ُه قَ ْو ُمهُ يُه َْرع َ‬
‫شي ٌد ( ‪ ) 78‬قالُوا‬ ‫س ِم ْن ُك ْم َر ُج ٌل َر ِ‬‫ض ْي ِفي أ َ لَ ْي َ‬‫ون فِي َ‬ ‫ُه هن أ َ ْط َه ُر لَ ُك ْم فَات هقُوا ه َ‬
‫َّللا َوال ت ُ ْخ ُز ِ‬
‫ق َوإِنهكَ لَت َ ْعلَ ُم ما نُ ِري ُد ( ‪ ) 79‬قا َل لَ ْو أ َ هن ِلي بِ ُك ْم قُ هوةً‬ ‫ع ِل ْمتَ ما لَنا فِي بَناتِكَ ِم ْن َح ّ ٍ‬ ‫لَقَ ْد َ‬
‫شدِي ٍد) ‪( 80‬‬ ‫أ َ ْو آ ِوي ِإلى ُر ْك ٍن َ‬

‫ص ‪342‬‬

‫ص ‪342 :‬‬
‫[ لو أن لي بكم قوة ]‬
‫يقول لوط عليه السالم لقومه ‪ «:‬لَ ْو أ َ َّن ِلي بِ ُك ْم قُ َّوة ً »أي همة فعالة ‪ ،‬فمن كان الحق‬
‫قواه فال همة تفعل فعل من هذه صفته ‪ ،‬لكن األمر ال يكون إال ما سبق به الكتاب ‪،‬‬
‫باّلل ‪ ،‬ويعلم أنه ما يكون إال ما سبق به الكتاب ‪ ،‬وال‬ ‫وهو عليه السالم من أعلم الناس ه‬
‫ّللا ‪ ،‬وما‬
‫كتب تعالى إال ما علم ‪ ،‬وما علم إال ما هو المعلوم عليه ‪ ،‬فال تبديل لكلمات ه‬
‫يبدل القول لديه ‪ ،‬وما هو بظالم للعبيد ‪ ،‬فال يقع إال ما هو األمر عليه ‪ ،‬ولو حرف‬
‫امتناع المتناع ‪ ،‬فأراد بالقوة إظهار األثر الذي جاء به ‪ ،‬وهو شريعته فيهم ‪ ،‬ثم قال«‬
‫أ َ ْو »وهي أداة أعطته ما عليه اإلمكان ‪ ،‬فقال« أ َ ْو آ ِوي ِإلى ُر ْك ٍن َ‬
‫شدِي ٍد »فأراد بالركن‬
‫الشديد ‪ -‬إذ لم يتمكن األثر فيهم ‪ -‬أن يحمي نفسه عنهم حتى ال يؤثروا فيه ‪ ،‬فلهذا‬
‫ّللا عليه وسلم ذكر األمرين القوة واإليواء ‪ ،‬وال شك أن الرسل عليهم السالم‬ ‫صلهى ه‬
‫ّللا ‪ ،‬فآوى إلى من يفعل ما يريد وال اختيار في‬ ‫باّلل ‪ ،‬فال يأوون إال إلى ه‬ ‫أعلم الناس ه‬
‫إرادته وال رجوع عن علمه ‪ ،‬فآوى إلى من ال تبديل لديه ‪،‬‬
‫ّللا أخي لوطا لقد كان يأوي إلى ركن شديد ]‬ ‫ّللا عليه وسلم ‪ [ :‬يرحم ه‬ ‫وهو قوله صلهى ه‬
‫ّللا ‪ ،‬واالستناد إلى القوي حمى ال ينتهك ‪ ،‬فيرجع طالب انتهاكه‬ ‫يعني بذلك إيواءه إلى ه‬
‫خاسرا ‪ ،‬لذلك اشتدت العقوبة على قوم لوط ‪ ،‬وإن كان يحتمل من قول لوط عليه‬
‫شدِي ٍد »يريد القبيلة ‪ ،‬ألني ال أستطيع االنتقال من الركن‬ ‫السالم «أ َ ْو آ ِوي ِإلى ُر ْك ٍن َ‬
‫اإللهي إلى الركن الكوني ‪،‬‬
‫ّللا أخي لوطا ‪ ،‬فقد‬
‫ّللا عليه وسلم بذلك فقال ‪ [ :‬يرحم ه‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫وقد شهد له رسول ه‬
‫ّللا عليه وسلم أكذبه ؟ حاشى هّلل ‪ ،‬وإن كان‬ ‫كان يأوي إلى ركن شديد ] ‪ ،‬أتراه صلهى ه‬
‫الركن الشديد الذي أراده لوط ‪ ،‬هو القبيلة ‪،‬‬

‫ص ‪343‬‬

‫ص ‪343 :‬‬
‫ّللا ‪ ،‬فنعم الشاهد‬ ‫ّللا صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم هو ه‬ ‫والركن الشديد الذي ذكره رسول ه‬
‫والمشهود له ‪ ،‬ويحتمل أن قوله صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم يريد ضعف المعرفة ‪ ،‬فالركن‬
‫الشديد هو الحق مدبره ومربيه‪.‬‬

‫‪ -‬إشارة ‪ -‬اعلم أن اسم لوط أعني هذه اللفظة اسم شريف جليل القدر ‪ ،‬ألنه يعطي‬
‫ّللا سمي لوطا ‪ ،‬لم‬
‫اللصوق بالحضرة اإللهية ‪ ،‬فالستناده إليه ولصوقه به في علم ه‬
‫يضف إلى غيره ‪.‬‬

‫[ سورة هود ( ‪ : ) 11‬آية ‪] 81‬‬


‫س ِر ِبأ َ ْه ِلكَ ِب ِق ْط ٍع ِم َن الله ْي ِل َوال يَ ْلت َ ِفتْ ِم ْن ُك ْم‬
‫س ُل َر ِبّكَ لَ ْن يَ ِصلُوا ِإلَ ْيكَ فَأ َ ْ‬ ‫قالُوا يا لُو ُ‬
‫ط ِإنها ُر ُ‬
‫ب(‬ ‫ص ْب ُح ِبقَ ِري ٍ‬ ‫س ال ُّ‬ ‫ص ْب ُح أ َ لَ ْي َ‬
‫ام َرأَت َكَ ِإنههُ ُم ِصيبُها ما أَصابَ ُه ْم ِإ هن َم ْو ِع َد ُه ُم ال ُّ‬ ‫أ َ َح ٌد ِإاله ْ‬
‫‪)81‬‬
‫أول اليوم طلوع الشمس ‪ ،‬والصبح آخر اليوم ‪ ،‬وما بينهما ليل ونهار ‪ ،‬ولذلك ما أخذ‬
‫ّللا من أخذه من األمم إال في آخر اليوم ‪ ،‬وذلك الستيفاء الحركة ‪ ،‬فإذا انتهت دورة‬ ‫ه‬
‫ّللا وقع األخذ اإللهي في آخره ‪.‬‬ ‫اليوم ‪ ،‬ولم يكن لهم رجوع إلى ه‬

‫[ سورة هود ( ‪ : ) 11‬اآليات ‪ 82‬إلى ‪] 86‬‬


‫س ِ ّجي ٍل َم ْنضُو ٍد ( ‪82‬‬ ‫جارةً ِم ْن ِ‬ ‫علَ ْيها ِح َ‬ ‫فَلَ هما جا َء أ َ ْم ُرنا َجعَ ْلنا عا ِليَها سافِلَها َوأ َ ْم َط ْرنا َ‬
‫شعَ ْيبا ً قا َل‬ ‫ين ِببَ ِعي ٍد ( ‪َ ) 83‬وإِلى َم ْديَ َن أَخا ُه ْم ُ‬ ‫ي ِم َن ال ه‬
‫ظا ِل ِم َ‬ ‫س هو َمةً ِع ْن َد َر ِبّكَ َوما ِه َ‬ ‫) ُم َ‬
‫يزان ِإ ِنّي أَرا ُك ْم ِب َخ ْي ٍر‬
‫صوا ا ْل ِم ْكيا َل َوا ْل ِم َ‬ ‫يا قَ ْو ِم ا ْعبُدُوا ه َ‬
‫َّللا ما لَ ُك ْم ِم ْن ِإل ٍه َ‬
‫غ ْي ُرهُ َوال ت َ ْنقُ ُ‬
‫س ِط‬ ‫يط ( ‪َ ) 84‬ويا قَ ْو ِم أ َ ْوفُوا ا ْل ِم ْكيا َل َوا ْل ِم َ‬
‫يزان ِبا ْل ِق ْ‬ ‫علَ ْي ُك ْم ع َ‬
‫َذاب يَ ْو ٍم ُم ِح ٍ‬ ‫خاف َ‬ ‫َو ِإ ِنّي أ َ ُ‬
‫َّللا َخ ْي ٌر لَ ُك ْم‬ ‫ِين ( ‪ ) 85‬بَ ِقيهتُ ه ِ‬ ‫سد َ‬ ‫ض ُم ْف ِ‬ ‫اس أَشْيا َء ُه ْم َوال ت َ ْعث َ ْوا ِفي ْاأل َ ْر ِ‬ ‫سوا النه َ‬ ‫َوال ت َ ْب َخ ُ‬
‫يظ) ‪( 86‬‬ ‫ين َوما أَنَا َ‬
‫علَ ْي ُك ْم بِ َح ِف ٍ‬ ‫إِ ْن ُك ْنت ُ ْم ُم ْؤ ِمنِ َ‬

‫ص ‪344‬‬

‫ص ‪344 :‬‬
‫ّللا‬
‫ّللا خلق لنا ما في األرض جميعا ‪ ،‬ثم ح هجر وأبقى ‪ ،‬فما أبقاه سماه بقية ه‬ ‫األصل أن ه‬
‫‪ ،‬وما حجر سماه حراما ‪ ،‬أي المكلهف ممنوع من التصرف فيه حاال أو زمانا أو مكانا‬
‫ّللا فيه‬ ‫مع التحجير ‪ ،‬فإن األصل التوقف عن إطالق الحكم فيه بشيء ‪ ،‬فإذا جاء حكم ه‬
‫ّللا في حق‬ ‫‪ ،‬كنا بحسب الحكم اإللهي الذي ورد به الشرع إلينا ‪ ،‬وليس مسمى رزق ه‬
‫ّللا ‪ ،‬وما بقي إال أن يفرق بينهما‬ ‫ّللا ‪ ،‬وكل رزق في الكون من بقية ه‬ ‫المؤمنين إال بقية ه‬
‫‪ ،‬وذلك أن جميع ما في العالم من األموال ‪ ،‬ال يخلو إما أن يكون لها مالك معيهن أو ال‬
‫يكون لها مالك ‪ ،‬فإن كان لها مالك معيهن ‪،‬‬
‫ّللا لهذا الشخص ‪ ،‬وإن لم يكن لها مالك معيهن ‪ ،‬فهي لجميع المسلمين ‪،‬‬ ‫فهي من بقية ه‬
‫ّللا عليه التصرف في مال عمرو بغير إذنه ‪ ،‬ومال‬ ‫ّللا لزيد ‪ ،‬لما ح هجر ه‬ ‫فمال زيد بقية ه‬
‫ّللا ‪ ،‬هو‬ ‫ّللا لعمرو لما حجر عليه التصرف في مال زيد بغير إذنه ‪ ،‬فبقية ه‬ ‫عمرو بقية ه‬
‫ما أحل لك تناوله من الشيء الذي يقوم به أودك ‪ ،‬لتقوم به في طاعة ربك ‪ ،‬وإنما‬
‫سماه بقية ألنه باألصالة خلق لك ما في األرض جميعا ‪،‬‬
‫فكنت مطلق التصرف في ذلك تأخذ ما تريد وتترك ما تريد ‪ ،‬ثم في ثاني حال ‪ ،‬ح هجر‬
‫عليك بعض ما كان أطلق فيه تصرفك ‪ ،‬وأبقى لك من ذلك ما شاء أن يبقيه لك ‪ ،‬فذلك‬
‫ّللا" َخي ٌْر لَ ُك ْم "‬
‫بقية ه‬
‫وإنما جعلها خيرا لك ‪ ،‬ألنه علم من بعض عباده أن نفوسهم تعمى عن هذه البقية بما‬
‫يعطيهم األصل ‪ ،‬فيتصرفون بحكم األصل‬
‫ّللا خير لكم« إِ ْن ُك ْنت ُ ْم ُمؤْ ِمنِينَ »أي مصدقين بأني خلقت‬ ‫فقال لهم ‪ :‬البقية التي أبقى ه‬
‫لكم ما في األرض جميعا ‪ ،‬فإن صدقتموني في هذا ‪ ،‬صدقتموني فيما أبقيت لكم من‬
‫ذلكم ‪ ،‬وإن فصلتم بين األمرين فآمنتم ببعض وكفرتم ببعض لم تكونوا مؤمنين ‪ ،‬فمن‬
‫ّللا تعالى ‪ ،‬أوصل إليه من البقية ال من غيرها ‪ ،‬واعلم أن الرزق على‬ ‫اعتنى به ه‬
‫نوعين في الميزان الموضوع في العالم إلقامة العدل وهو الشرع ‪ :‬النوع األول يسمى‬
‫ّللا التي جاء نصها في القرآن« بَ ِقيَّتُ‬ ‫حراما ‪ ،‬والنوع اآلخر يسمى حالال ‪ ،‬وهو بقية ه‬
‫ّللا َخي ٌْر لَ ُك ْم إِ ْن ُك ْنت ُ ْم ُمؤْ ِمنِينَ » فهذه هي التي بقيت للمؤمنين من قوله ‪َ «:‬خلَقَ لَ ُك ْم ما‬ ‫َّ ِ‬
‫ض َج ِميعا ً »واإليمان ال يقع إال بالشرع ‪ ،‬وجاء هذا القول في قصة شعيب‬ ‫فِي ْاأل َ ْر ِ‬
‫ّللا عند بعض العلماء جميع ما يقع به‬ ‫عليه السالم صاحب الميزان والمكيال ‪ ،‬فرزق ه‬
‫التغذي من حالل وحرام ‪،‬‬
‫ّللا ِر ْزقُها ) وهو ظاهر ال نص ‪،‬‬ ‫علَى َّ ِ‬ ‫ض ِإ َّال َ‬ ‫ّللا يقول ‪َ (:‬وما ِم ْن َدابَّ ٍة ِفي ْاأل َ ْر ِ‬ ‫فإن ه‬
‫ب)*‬ ‫ّللاُ يَ ْر ُز ُق َم ْن يَشا ُء بِغَي ِْر ِحسا ٍ‬ ‫ض َّ ِ‬
‫ّللا )( َو َّ‬ ‫وقال‪ ( :‬فَذَ ُروها تَأ ْ ُك ْل فِي أ َ ْر ِ‬
‫ّللا وبين الرزق ]‬ ‫[ الفرق بين رزق ه‬
‫ّللا‬
‫وقد نهانا عن التغذي بالحرام ‪ ،‬فلو كان رزق ه‬

‫ص ‪345‬‬

‫ص ‪345 :‬‬
‫ّللا‬
‫ّللا ؟ وإنما هو رزق ‪ ،‬ورزق ه‬ ‫في الحرام ما نهانا عنه ‪ ،‬فإذا ما هو الحرام رزق ه‬
‫ّللا التي أبقاها لنا بعد وقوع التحجير وتحريم بعض األرزاق‬ ‫هو الحالل ‪ ،‬وهو بقية ه‬
‫علينا ‪ ،‬ولتعلم من جهة الحقيقة أن الخطاب ليس متعلقه إال فعل المكلف ال عين الشيء‬
‫ّللا ‪ ،‬والمتناول هو المحجور عليه ال المتناول‬ ‫الممنوع التصرف فيه ‪ ،‬فالكل رزق ه‬
‫بفتح الواو ‪ ،‬فإن الرزاق ال يعطيك إال رزقك ‪ ،‬وما يعطي الرزاق ال يطعن فيه ‪ ،‬فلهذا‬
‫علهق الذم بفعل المكلف ال بالعين التي ح هجر عليه تناولها ‪ ،‬فإن المالك لها لم يحجر‬
‫عليه تناولها والحرام ال يملك ‪ ،‬وهذه مسألة طال الخبط فيها بين العلماء ‪ ،‬وأما قوله (‬
‫ط ِيهبا ً ) من العامل في الحال ؟ فظاهر الشرع يعطي أن‬ ‫الال َ‬ ‫ّللاُ َح ً‬ ‫فَ ُكلُوا ِم َّما َرزَ قَ ُك ُم َّ‬
‫العامل رزقكم ‪،‬‬
‫ط ِيهبا ً ) للتبيين ال للتبعيض ‪ ،‬فإنه ال‬‫الال َ‬ ‫فإن من هنا في قوله ( فَ ُكلُوا ِم َّما َرزَ قَ ُك ُم َّ‬
‫ّللاُ َح ً‬
‫فائدة للتبعيض ‪ ،‬فإن التبعيض محقق مدرك ببديهة العقل ‪ ،‬ألنه ليس في الوسع العادي‬
‫ّللا هو الحالل‬‫أكل الرزق كله ‪ ،‬وإذا كانت للتبيين وهي متعلقة بكلوا ‪ ،‬فبيهن أن رزق ه‬
‫ّللا ‪ ،‬فتدبر وانظر ما به حياتك ‪ ،‬فذلك‬ ‫حرم عليه فما أكل رزق ه‬ ‫الطيب ‪ ،‬فإن أكل ما ه‬
‫رزقك وال بد ‪ ،‬وال يصح فيه تحجير ‪ ،‬وسواء كان في ملك الغير أو لم يكن ‪ ،‬فإن‬
‫المضطر ال حجر عليه ‪ ،‬وما عدا المضطر فما تناول الرزق لبقاء الحياة عليه ‪ ،‬وإنما‬
‫تناوله للنعيم به ‪ ،‬وليس الرزق إال ما تبقى به حياته عليه ‪ ،‬وهذا ال يمكن ردهه من أحد‬
‫من علماء الشريعة ‪،‬‬
‫غي َْر باغٍ َوال عا ٍد ) *بعد التحجير ‪،‬‬ ‫ط َّر َ‬ ‫ض ُ‬ ‫ّللا يقول ‪ (:‬فَ َم ِن ا ْ‬ ‫فإن ه‬
‫ض ُ‬
‫ط ِر ْرت ُ ْم ِإلَ ْي ِه )‬ ‫وقال ‪ِ (:‬إ َّال َما ا ْ‬
‫وذلك هو الرزق الذي نحن بصدده ‪ ،‬وهو الذي يعطيه الرزاق ‪.‬‬

‫[ سورة هود ( ‪ : ) 11‬اآليات ‪ 87‬إلى ‪] 88‬‬


‫صالت ُكَ تَأ ْ ُم ُركَ أ َ ْن نَتْ ُركَ ما يَ ْعبُ ُد آباؤُنا أ َ ْو أ َ ْن نَ ْفعَ َل فِي أ َ ْموا ِلنا ما نَشؤُا‬ ‫ب أَ َ‬ ‫شعَ ْي ُ‬‫قالُوا يا ُ‬
‫شي ُد ( ‪ ) 87‬قا َل يا قَ ْو ِم أ َ َرأ َ ْيت ُ ْم إِ ْن ُك ْنتُ عَلى بَ ِيّنَ ٍة ِم ْن َر ِبّي‬ ‫إِنهكَ َأل َ ْنتَ ا ْل َح ِلي ُم ه‬
‫الر ِ‬
‫ح‬‫اْلصْال َ‬ ‫سنا ً َوما أ ُ ِري ُد أ َ ْن أُخا ِلفَ ُك ْم ِإلى ما أ َ ْنها ُك ْم َ‬
‫ع ْنهُ ِإ ْن أ ُ ِري ُد ِإاله ْ ِ‬ ‫َو َر َزقَنِي ِم ْنهُ ِر ْزقا ً َح َ‬
‫يب) ‪( 88‬‬ ‫علَ ْي ِه ت َ َو هك ْلتُ َو ِإلَ ْي ِه أُنِ ُ‬ ‫ست َ َط ْعتُ َوما ت َ ْوفِي ِقي ِإاله ِب ه ِ‬
‫اّلِل َ‬ ‫َما ا ْ‬

‫ص ‪346‬‬

‫ص ‪346 :‬‬
‫ّللا كله فضل ‪ ،‬ألن التوفيق منه فالحاصل عن العمل بالموازنة ‪،‬‬ ‫من هنا نعلم أن عطاء ه‬
‫وإن كان جزاء فهو فضل باألصالة قال من ج هل ثناؤه وتقدست أسماؤه‬
‫[ التوفيق ‪ -‬كماله وعمومه وخصوصه ]‬
‫« َوما ت َ ْوفِي ِقي ِإ َّال ِب َّ ِ‬
‫اّلل »فأسنده سبحانه إلى االسم الجامع الذي هو للتعلق ال للتخلق ‪،‬‬
‫وفي إسناده إليه سر شريف ‪ ،‬فإن التوفيق مفتاح السعادة األبدية ‪ ،‬والهادي بالعبد إلى‬
‫سلوك اآلثار النبوية ‪ ،‬والقائد له إلى التخلق باألخالق اإللهية ‪ ،‬من قام به غنم ومن‬
‫ّللا في قلب من‬
‫فقده حرم ‪ ،‬وهو خارج عن كسب العبد ‪ ،‬وإنما هو نور يضعه ه‬
‫اصطنعه لنفسه ‪ ،‬واختصه لحضرته ‪ ،‬به تحصل النجاة ‪ ،‬وبه تنال الدرجات ‪ ،‬ومع أنه‬
‫سر موهوب ‪ ،‬ونور في قلب العبد موضوع ‪ ،‬فإن إرادة العبد من جهة العلم‬
‫ّللا سبحانه وتعالى في تحصيله منة ‪ ،‬واالتصاف به ‪،‬‬ ‫بخصائصه وحقائقه متعلقة بجود ه‬
‫ّللا فيه وإرادته إياه سبب‬
‫فقد يحصل للعبد بتلك اإلرادة ‪ ،‬فيتخيل أنه كسبي وأن دعاءه ه‬
‫في حصوله ‪ ،‬وما علم أن تلك اإلرادة التي حركته لطلب التوفيق من التوفيق ‪ ،‬فإنها‬
‫من آثاره ولواله لم يكن ذلك فإن إرادة التوفيق من التوفيق ‪ ،‬ولكن ال يشعر لذلك أكثر‬
‫الناس ‪ ،‬فإذا تقرر هذا فيكون اإلنسان إنما يطلب على الحقيقة كمال التوفيق من الموفق‬
‫الواهب الحكيم ‪ ،‬ومعنى كمال التوفيق استصحابه للعبد في جميع أحواله من اعتقاداته‬
‫وخواطره وأسراره ومطالع أنواره ومكاشفاته ومشاهداته ومسامراته وأفعاله كلها ‪ ،‬ال‬
‫أنه يتجزى ويتبعض فإنه معنى من المعاني القائمة بالنفس ‪ ،‬فنقصه الذي يطلق عليه‬
‫إنما هو أن يقوم بالعبد في فعل ما من األفعال ‪ ،‬ويحرمه في فعل آخر وكذلك زيادته‬
‫ّللا سبحانه وتعالى‬‫استصحابه لجميع أفعال العبد ‪ ،‬وقد بان علة سؤاله في التوفيق من ه‬
‫‪ ،‬وتبين أن التوفيق لم يكن عنده معدوما عند سؤاله هّلل سبحانه فيه ‪ ،‬والتوفيق تفعيل من‬
‫طرو فعل من أفعاله الصادرة عنه على‬‫ه‬ ‫الموافقة ‪ ،‬وهو معنى يقوم بالنفس عند‬
‫اختالفها ‪ ،‬يمنعه من المخالفة للح هد المشروع له في ذلك الفعل ال غير ‪ ،‬فكل معنى كان‬
‫حكمه هذا يسمى التوفيق وقد يقوم بالعبد التوفيق في فعل ما ‪ ،‬والمخالفة في فعل آخر‬
‫في زمن واحد كالمصلي في الدار المغصوبة ‪ ،‬أو كمن يتصدق وهو يغتاب ‪ ،‬أو‬
‫يضرب أحدا في حال واحد وأشباهه ‪ ،‬فلهذا ما سأل العبد من مواله إال كمال التوفيق ‪،‬‬
‫يريد استصحابه له في جميع أحواله كلها حتى ال تكون منه مخالفة أصال ‪ ،‬فإذا كمل‬
‫ّللا علينا‬
‫التوفيق للعبد على ما ذكرناه فهو المعبر عنه بالعصمة والحفظ اإللهي ‪ ،‬حفظ ه‬
‫األوقات ‪ ،‬وعصمنا من نتائج الغفالت ‪ ،‬إنه جواد بالخيرات ‪ ،‬فالتوفيق هو العناية التي‬
‫ّللا‬
‫للعبد عند ه‬

‫ص ‪347‬‬

‫ص ‪347 :‬‬
‫قبل كونه المتفضل به عليه عند إيجاده إياه وتعلق خطابه به ‪ ،‬فالموفقون لما أوجدهم‬
‫الحق تعالى في أعيانهم بصفة الجود وأبرزهم في الوجود ‪ ،‬توالهم بلطفه فحققهم‬
‫بحقائق التوفيق ‪ ،‬وبيهن لهم الطريق الموصل إليه كما بيهنه ألنبيائه بواسطة مالئكته‬
‫وألوليائه بواسطة أنبيائه ولمالئكته بالجبلة التي أوجدهم عليها ‪ ،‬فاهتدوا على أوضح‬
‫منهاج ‪ ،‬وعرجوا على أنجح معراج ‪ ،‬فما زال التوفيق يصحبهم في كل حال ‪،‬‬
‫ّللا تعالى من أعمال القلوب والنفوس والمعامالت‬ ‫ويقودهم إلى كل عمل مقرب إلى ه‬
‫المتوجهة على الحواس ‪ ،‬حتى انته بهم فوق الهمم وأنزلهم في حضرة الجود والكرم ‪،‬‬
‫فغرقوا في بحار المنن واآلالء ‪ ،‬من نعيم جنان ومضاهاة استواء ‪ ،‬على قدر ما أراد‬
‫تعالى أن يمنحهم من نعماه ‪ ،‬وأن يهبهم من رحماه ‪ ،‬فعاينوا عند ذلك تولي الحق لهم‬
‫في ذلك ‪ ،‬ولم يكونوا شيئا مذكورا ‪ ،‬ثم استصحاب التولي لهم في محال الدعاوى‬
‫بتقديسهم عنها ‪ ،‬فالتوفيق قائد إلى كل فضيلة وهاد إلى كل صفة منجية وجالب كل‬
‫خلق رضي ‪ ،‬يجلو البصائر ويصلح السرائر ويخلص الضمائر ‪ ،‬ويفتح أقفال القلوب‬
‫ويزيل ريونها ‪ ،‬ويخرجها عن أكنتها ويهبها أسرار وجودها ويعرفها بما تجهله من‬
‫جالل معبودها ‪ ،‬هو الباعث المحرك لطلب االستقامة والهادي إلى طريق السالمة ‪ ،‬ما‬
‫باّلل من‬
‫اتصف به عبد إال اهتدى وهدى ‪ ،‬وال فقده شخص إال تردى وأردى ‪ ،‬فنعوذ ه‬
‫الخالف ‪ ،‬والتوفيق له مبدأ وموسط وغاية ‪ ،‬فمبدؤه يعطيك اإلسالم وموسطه يعطيك‬
‫اإليمان وغايته تعطيك اإلحسان ‪ ،‬فاإلسالم يحفظ الدماء واألموال ‪ ،‬واإليمان يحفظ‬
‫النفوس من ظلم الضالل واإلضالل ‪ ،‬واإلحسان يحفظ األرواح من رؤية األغيار ‪،‬‬
‫ويهبها المراقبة والحياء على الكمال ‪ ،‬فمن دعا لك بالتوفيق في جميع األحوال فما‬
‫ترك شيئا من الخير إال أعطاك إياه ‪ ،‬والتوفيق مبدؤه يعطيك العلم والعمل ‪ ،‬ووسطه‬
‫يطهر ذاتك من دنس األغراض والعلل ‪ ،‬وغايته تمنحك أسرار الوجود واألزل ‪،‬‬
‫ّللا مؤمل يؤمل ‪.‬‬
‫وليس وراء ه‬
‫والتوفيق على قسمين في أصله ‪ :‬عام وخاص ‪،‬‬
‫فالعام هو الذي يشترك فيه جميع الناس كافة من المسلمين وغيرهم‬
‫وهو على ضربين ‪:‬‬
‫منه ما يوافق الحكمة بما هي حكمة ‪،‬‬
‫ومنه ما يوافق األغراض ‪،‬‬
‫والخاص هو الذي يخرجك من الظلمات إلى النور ‪ ،‬وينتهي بك إلى السعادة األبدية‬
‫على مراتبها ‪ ،‬وإن دخل النار ‪،‬‬
‫وهذا أيضا عام وخاص ‪:‬‬
‫باّلل ورسوله وما جاء به ‪ ،‬والخاص كالعمل بالعلم المشروع ‪،‬‬ ‫فالعام كاإليمان ه‬
‫وهو أيضا عام وخاص ‪ :‬فالعام كأداء الفرائض ‪ ،‬والخاص هو الذي يؤديك‬

‫ص ‪348‬‬

‫ص ‪348 :‬‬
‫إلى تصفية القلب وتفريغه والرياضات والمجاهدات ‪ ،‬وهذا الضرب أيضا من التوفيق‬
‫فيه عام وخاص ‪ :‬فالعام هو الذي يثمر لك جميع األخالق العلوية واألوصاف الربانية‬
‫القدسية ‪ ،‬والخاص هو الذي يثمر لك أسرار الخلق ومعاني التحقيق ‪،‬‬
‫وكالهما على ضربين ‪ :‬عام وخاص ‪،‬‬
‫فالعام ما أعطاك جميع ما تتخلق به وأسراره ‪ ،‬والخاص ما أعطاك الفناء عن مالحظة‬
‫الفناء ‪ ،‬فكل توفيق يستصحب العبد في حركاته وسكناته الظاهرة والباطنة هو توفيق‬
‫العارفين الوارثين العالمين ‪ ،‬وكل توفيق يصحب العبد في بعضها فهو منسوب لذلك‬
‫البعض ‪ ،‬ومضاف لما يعطيه المقام في مراتب الوجود ‪،‬‬
‫فيقال ‪ :‬هذا توفيق العارفين والزاهدين والعابدين وغيرهم من أصحاب المقامات‬
‫وأرباب السلوك ‪،‬‬
‫والتوفيق عند المحققين على نوعين ‪:‬‬
‫توفيق أوجده الحق سبحانه فيك منك ‪ ،‬وتوفيق أوجده فيك على يد غيرك ‪ ،‬فالتوفيق‬
‫الذي فيك من غيرك كاإلسالم الذي أبقاه عليك أبواك وربياك عليه ‪ ،‬فكل مولود يولد‬
‫على الفطرة وأبواه هما اللذان يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كما جاء في الحديث ‪،‬‬
‫ّللا لك على مدرجتك من غير قصد منك إليه فوعظك بموعظة‬ ‫أو كشخص قيهضه ه‬
‫ّللا سبحانه لك عند انتباهك نور التوفيق في‬
‫زجرك بها فانتبهت من سنة الغفلة ‪ ،‬فقذف ه‬
‫قلبك فقبلتها ونظرت في تخليص نفسك فقادك إلى االنتظام في شمل السعداء ‪،‬‬
‫والتوفيق الذي فيك منك هو أن ترزق النظر ابتداء في عيوبك وذم ما أنت عليه من‬
‫األفعال القبيحة وتمقيتك نفسك وتبغيض حالك لك ‪ ،‬فإذا تقوى عليك هذا الخاطر وتأيد‬
‫‪ ،‬نهض بك في طريق النجاة وسارع بك إلى الخيرات على قدر ما قدر لك أزال وقسم‬
‫لك في شربك ‪،‬‬
‫وأول مقامات التوفيق االختصاصي اشتغالك بالعلم المشروع الذي ندبك الشارع صلهى‬
‫ّللا عليه وسلم إلى االشتغال بتحصيله ‪ ،‬وآخرها حيث يقف بك فإن تممت لك المقامات‬ ‫ه‬
‫حصلت في التوحيد الموحد نفسه بنفسه الذي ال يصح معه معقول فال حياة مع الجهل‬
‫وال مقام ‪ ،‬فالتوفيق إذا صح ‪ ،‬وتصحيحه بتحصيل العلم ‪،‬‬
‫فإذا حصل له وصح توفيقه أنتج اإلنابة واإلنابة منتجة للتوبة ‪ ،‬والتوبة تنتج الحزن‬
‫والحزن ينتج الخوف ‪ ،‬والخوف ينتج االستيحاش من الخلق ‪ ،‬واالستيحاش ينتج الخلوة‬
‫‪ ،‬والخلوة تنتج الفكرة ‪ ،‬والفكرة تنتج الحضور ‪ ،‬والحضور ينتج المراقبة ‪ ،‬والمراقبة‬
‫تنتج الحياء ‪ ،‬والحياء ينتج األدب ‪ ،‬واألدب ينتج مراعاة الحدود ‪ ،‬ومراعاة الحدود‬
‫تنتج القرب ‪ ،‬والقرب ينتج الوصال ‪ ،‬والوصال ينتج األنس ‪ ،‬واألنس ينتج اإلدالل ‪،‬‬
‫واإلدالل ينتج السؤال ‪ ،‬والسؤال ينتج اإلجابة ‪ ،‬وال يصح‬

‫ص ‪349‬‬

‫ص ‪349 :‬‬
‫شيء من هذه المقامات إال بعد تحصيل العلم الرسمي والذوقي ‪ ،‬فالرسمي كعلوم النظر‬
‫وهو ما يتعلق بإصالح العقائد ‪ ،‬وكعلوم الخبر وهو ما يتعلق بك من األحكام الشرعية‬
‫‪ ،‬وال يؤخذ منها إال قدر الحاجة ‪ ،‬والذوقي علم نتائج المعامالت واألسرار ‪ ،‬وهو نور‬
‫ّللا تعالى في قلبك ‪ ،‬تقف به على حقائق المعاني الوجودية ‪ ،‬وأسرار الحق في‬ ‫يقذفه ه‬
‫عباده ‪ ،‬والحكم المودعة في األشياء ‪.‬‬
‫واعلم أن المشي في الظلمة بغير سراج وضوء في طريق كثيرة المهالك والحفر‬
‫واألوحال والمهاوي والحشرات المؤذية التي ال يتقى شيء من هذا كله إال أن يكون‬
‫الماشي فيها بضوء يرى به حيث يجعل قدمه ‪ ،‬ويجتنب به ما ينبغي أن يجتنب مما‬
‫يضره ‪ ،‬من مهواة يهوي فيها أو مهلك يحصل فيه أو حية تلدغه ‪ ،‬وليس له ضوء‬
‫سوى نور الشرع الذي قال فيه تعالى( نُورا ً نَ ْهدِي ِب ِه َم ْن نَشا ُء ِم ْن ِعبادِنا )( َو َم ْن لَ ْم‬
‫ور )فإذا اجتمع نور الشرع مع‬ ‫على نُ ٍ‬ ‫ور َ‬ ‫ّللاُ لَهُ نُورا ً فَما لَهُ ِم ْن نُ ٍ‬
‫ور )وقال ‪ (:‬نُ ٌ‬ ‫يَ ْجعَ ِل َّ‬
‫نور بصر التوفيق والهداية بان الطريق بالنورين ‪ ،‬فلو كان نورا واحدا لما ظهر له‬
‫ضوء ‪ ،‬وال شك أن نور الشرع قد ظهر كظهور نور الشمس ‪ ،‬ولكن األعمى ال‬
‫ّللا بصيرته لم يدركه فلم يؤمن به ‪ ،‬ولو كان نور عين‬ ‫يبصره ‪ ،‬كذلك من أعمى ه‬
‫البصيرة موجودا ‪ ،‬ولم يظهر للشرع نور بحيث أن يجتمع النوران فيحدث الضوء في‬
‫الطريق لما رأى صاحب نور البصيرة كيف يسلك ؛ ألنه في طريق مجهولة ال يعرف‬
‫ما فيها وال أين ينتهي به من غير دليل وموقهف ؟‬
‫فهذا الشخص الماشي في هذه الطريق إن لم يحفظ سراجه من األهواء ‪ ،‬أن تطفئه‬
‫بهبوبها ‪ ،‬وإال هبت عليه رياح زعازع ‪ ،‬فأطفأت سراجه ‪ ،‬وذهب نوره ‪ ،‬وهو كل‬
‫ريح يؤثر في نور توحيده وإيمانه ‪ ،‬فإن هبت ريح لينة تميل لسان سراجه وتحيره ‪،‬‬
‫حتى يتحير عليه الضوء في مشاهدة الطريق ‪،‬‬
‫فتلك الريح كمتابعة الهوى في فروع الشريعة ‪ ،‬وهي المعاصي التي ال يكفر بها‬
‫اإلنسان وال تقدح في توحيده وإيمانه ‪ ،‬فلقد خلقنا ألمر عظيم ‪ ،‬ولكن إذا اقتحمنا هذه‬
‫الشدائد ‪ ،‬وقاسينا هذه المكاره ‪ ،‬حصلنا على أمر عظيم ‪ ،‬وهو سعادة األبد التي ال‬
‫شقاء فيها ‪،‬‬
‫س ِبي َل ِإ َّما شا ِكرا ً َو ِإ َّما‬
‫فإنه لما تبينت طرق السعادة بالرسل قال تعالى ( ِإنَّا َه َديْناهُ ال َّ‬
‫ّللا عباده للعمل بما أمرهم به من اتباع رسوله‬ ‫َكفُورا ً ) وما بقي بعد هذا إال أن يوفق ه‬
‫ّللا عليه وسلم فيما أمر ونهى ‪ ،‬والوقوف عند حدوده ومراسمه ؛ فإن الحق‬ ‫صلهى ه‬
‫خص بعض عباده بالتوفيق ‪ ،‬ولم يع هم كما ع هم في الرزق ‪ ،‬فيا ربنا خاطبتنا‬ ‫ه‬

‫ص ‪350‬‬

‫ص ‪350 :‬‬
‫فسمعنا وفهمتنا ففهمنا ‪ ،‬فيا ربنا وفقنا واستعملنا فيما طلبته منا من عبادتك وتقواك ‪ ،‬إذ‬
‫فاّلل هو الموفق وبيده الهداية ‪ ،‬وليس لنا من األمر شيء ‪،‬‬‫ال حول لنا وال قوة إال بك ‪ ،‬ه‬
‫ّللا صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ ،‬حين اجتمع به فقال له‬ ‫ولقد صدق الكذوب إبليس رسول ه‬
‫ّللا‬
‫ّللا أن ه‬ ‫ّللا صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ :‬ما عندك ؟ فقال إبليس ‪ :‬لتعلم يا رسول ه‬ ‫رسول ه‬
‫ّللا خلقني للغواية ‪ ،‬وما بيدي من‬
‫خلقك للهداية ‪ ،‬وما بيدك من الهداية شيء ‪ ،‬وأن ه‬
‫ّللا‬
‫الغواية شيء ‪ ،‬لم يزده على ذلك وانصرف ‪ ،‬وحالت المالئكة بينه وبين رسول ه‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ ،‬فإن التوفيق من رحمة االمتنان للعمل الصالح الموجب لرحمة‬ ‫صلهى ه‬
‫االختصاص ‪ -‬مناجاة ‪ -‬يا حنان يا منان ‪ ،‬يا رؤوف يا قديم اإلحسان ‪ ،‬يا من جعل‬
‫معدن النبوة أشرف المعادن ‪ ،‬وموطن األحكام أرفع المواطن ‪ ،‬أنت الذي سويت‬
‫فعدلت ‪ ،‬وفي أي صورة ما شئت ركبت ما سويت ‪ ،‬يا واهب إذ ال واهب ‪ ،‬ويا مانح‬
‫المثوبات أهل المكاسب ‪ ،‬أنت الذي وهبت التوفيق ‪ ،‬وأخذت بناصية عبدك ومشيت به‬
‫على الطريق ‪ ،‬وخلقت فيه األعمال الرضية ‪ ،‬واألقوال الزكية ‪ ،‬وأنطقته بالتوحيد‬
‫والشهادة ‪ ،‬ويسرت له أسباب السعادة ‪ ،‬ثم أدخلته دارك ‪ ،‬ومنحته جوارك ‪ ،‬وقلت له ‪:‬‬
‫هذا لعملك بعلمك ‪ ،‬ولك ما انته إليه خاطر أملك‪.‬‬

‫[ سورة هود ( ‪ : ) 11‬اآليات ‪ 89‬إلى ‪] 90‬‬


‫صاب قَ ْو َم نُوحٍ أ َ ْو قَ ْو َم ُهو ٍد أ َ ْو قَ ْو َم‬
‫شقاقِي أ َ ْن يُ ِصيبَ ُك ْم ِمثْ ُل ما أ َ َ‬ ‫َويا قَ ْو ِم ال يَجْ ِر َمنه ُك ْم ِ‬
‫ست َ ْغ ِف ُروا َربه ُك ْم ث ُ هم تُوبُوا إِلَ ْي ِه إِ هن َر ِبّي َر ِحي ٌم‬ ‫صا ِلحٍ َوما قَ ْو ُم لُ ٍ‬
‫وط ِم ْن ُك ْم بِبَ ِعي ٍد ( ‪َ ) 89‬وا ْ‬
‫َودُو ٌد ) ‪( 90‬‬
‫من البشرى ورود اسم الودود هّلل تعالى ‪ ،‬فإن المودة هي الثبوت على المحبة ‪ ،‬وال‬
‫معنى لثبوتها ‪ ،‬إال حصول أثرها بالفعل في الدار اآلخرة ‪ ،‬وفي النار لكل طائفة بما‬
‫ّللا فيهم ‪.‬‬ ‫تقتضيه حكمة ه‬

‫[ سورة هود ( ‪ : ) 11‬اآليات ‪ 91‬إلى ‪]98‬‬


‫طكَ لَ َر َج ْمناكَ‬ ‫ض ِعيفا ً َولَ ْو ال َر ْه ُ‬ ‫ب ما نَ ْفقَهُ َكثِيرا ً ِم هما تَقُو ُل َو ِإنها لَنَراكَ فِينا َ‬ ‫شعَ ْي ُ‬‫قالُوا يا ُ‬
‫َّللا َوات ه َخ ْذت ُ ُموهُ‬
‫علَ ْي ُك ْم ِم َن ه ِ‬ ‫يز ( ‪ ) 91‬قا َل يا قَ ْو ِم أ َ َر ْه ِطي أَع َُّز َ‬ ‫علَ ْينا ِبعَ ِز ٍ‬ ‫َوما أ َ ْنتَ َ‬
‫ط ( ‪َ ) 92‬ويا قَ ْو ِم ا ْع َملُوا عَلى َمكانَتِ ُك ْم ِإ ِنّي‬ ‫ون ُم ِحي ٌ‬ ‫َورا َء ُك ْم ِظه ِْريًّا ِإ هن َر ِبّي ِبما ت َ ْع َملُ َ‬
‫يب‬‫ارت َ ِقبُوا ِإ ِنّي َمعَ ُك ْم َر ِق ٌ‬ ‫ِب َو ْ‬ ‫َذاب يُ ْخ ِزي ِه َو َم ْن ُه َو كاذ ٌ‬ ‫ون َم ْن يَأ ْ ِتي ِه ع ٌ‬ ‫ف ت َ ْعلَ ُم َ‬ ‫س ْو َ‬‫عام ٌل َ‬ ‫ِ‬
‫ِين‬‫ت الهذ َ‬ ‫ِين آ َمنُوا َمعَهُ بِ َرحْ َم ٍة ِمنها َوأ َ َخذَ ِ‬ ‫شعَ ْيبا ً َوالهذ َ‬ ‫( ‪َ ) 93‬ولَ هما جا َء أ َ ْم ُرنا نَ هج ْينا ُ‬
‫ين ( ‪ ) 94‬كَأ َ ْن لَ ْم يَ ْغنَ ْوا فِيها أَال بُ ْعدا ً ِل َم ْديَ َن‬ ‫ِيار ِه ْم جاثِ ِم َ‬ ‫صبَ ُحوا فِي د ِ‬ ‫ص ْي َحةُ فَأ َ ْ‬ ‫َظلَ ُموا ال ه‬
‫كَما بَ ِعدَتْ ث َ ُمو ُد ) ‪( 95‬‬
‫ين ( ‪ِ ) 96‬إلى فِ ْرع َْو َن َو َمالئِ ِه فَاتهبَعُوا أ َ ْم َر‬ ‫س ْل ٍ‬
‫طان ُم ِب ٍ‬ ‫س ْلنا ُموسى ِبآياتِنا َو ُ‬ ‫َولَقَ ْد أ َ ْر َ‬
‫س‬ ‫ار َو ِبئْ َ‬ ‫شي ٍد ( ‪ ) 97‬يَ ْق ُد ُم قَ ْو َمهُ يَ ْو َم ا ْل ِقيا َم ِة فَأ َ ْو َر َد ُه ُم النه َ‬ ‫ِف ْرع َْو َن َوما أ َ ْم ُر ِف ْرع َْو َن ِب َر ِ‬
‫ا ْل ِو ْر ُد ا ْل َم ْو ُرو ُد) ‪( 98‬‬
‫ص ‪351‬‬

‫ص ‪351 :‬‬
‫ّللا في‬‫كان حكم آل فرعون في نفس األمر خالف حكم فرعون في نفسه ‪ ،‬فسوى ه‬
‫الغرق بينهم ‪ ،‬وتفرقا في الحكم ‪ ،‬فجعلهم سلفا ومثال لْلخرين ‪ ،‬وأما قوله تعالى «‪:‬‬
‫ع ْونَ )ولم‬‫ّللا (‪ :‬أ َ ْد ِخلُوا آ َل فِ ْر َ‬ ‫فَأ َ ْو َر َد ُه ُم النَّ َ‬
‫ار »فما فيه نص أنه يدخلها معهم ‪ ،‬بل قال ه‬
‫ّللا‬
‫يقل ‪ :‬أدخلوا فرعون وآله ‪ ،‬فخص فرعون بأن تكون نجاته آية لمن رجع إلى ه‬
‫بالنجاة ‪ ،‬هذا ما يعطي ظاهر اللفظ ‪ -‬راجع سورة يونس آية ‪. 92‬‬

‫[ سورة هود ( ‪ : ) 11‬اآليات ‪ 99‬إلى ‪] 101‬‬


‫باء ا ْلقُرى‬‫الر ْف ُد ا ْل َم ْرفُو ُد ( ‪ ) 99‬ذ ِلكَ ِم ْن أ َ ْن ِ‬ ‫س ِّ‬ ‫َوأُتْ ِبعُوا فِي ه ِذ ِه لَ ْعنَةً َويَ ْو َم ا ْل ِقيا َم ِة ِبئْ َ‬
‫س ُه ْم فَما أ َ ْغنَتْ‬ ‫علَ ْيكَ ِم ْنها قائِ ٌم َو َح ِصي ٌد ( ‪َ ) 100‬وما َظلَ ْمنا ُه ْم َول ِك ْن َظلَ ُموا أ َ ْنفُ َ‬ ‫صه ُ َ‬ ‫نَقُ ُّ‬
‫ش ْي ٍء لَ هما جا َء أ َ ْم ُر َر ِبّكَ َوما زادُو ُه ْم َ‬
‫غ ْي َر‬ ‫َّللا ِم ْن َ‬ ‫ُون ِم ْن د ِ‬
‫ُون ه ِ‬ ‫ع ْن ُه ْم آ ِل َهت ُ ُه ُم اله ِتي يَ ْدع َ‬
‫َ‬
‫ب) ‪( 101‬‬ ‫تَتْ ِبي ٍ‬

‫ص ‪352‬‬

‫ص ‪352 :‬‬
‫يدخل المشركون النار مع بعض آلهتهم ليتحققوا مشاهدة أن تلك اآللهة ال تغني عنهم‬
‫ّللا شيئا ‪.‬‬
‫من ه‬

‫[ سورة هود ( ‪ : ) 11‬آية ‪] 102‬‬


‫ي ظا ِل َمةٌ ِإ هن أ َ ْخذَ ُه أ َ ِلي ٌم َ‬
‫شدِي ٌد ) ‪( 102‬‬ ‫َوكَذ ِلكَ أ َ ْخذُ َر ِبّكَ ِإذا أ َ َخذَ ا ْلقُرى َو ِه َ‬
‫ّللا ‪.‬‬
‫ويكون األخذ اإللهي باألسباب الكونية ‪ ،‬وكل مأخوذ به جند من جنود ه‬

‫[ سورة هود ( ‪ : ) 11‬آية ‪] 103‬‬


‫ش ُهو ٌد‬ ‫ع لَهُ النه ُ‬
‫اس َوذ ِلكَ يَ ْو ٌم َم ْ‬ ‫َذاب ْاآل ِخ َر ِة ذ ِلكَ يَ ْو ٌم َمجْ ُمو ٌ‬ ‫خاف ع َ‬
‫َ‬ ‫ِإ هن فِي ذ ِلكَ َآليَةً ِل َم ْن‬
‫( ‪) 103‬‬
‫ع لَهُ النَّ ُ‬
‫اس‬ ‫ذاب ْاآل ِخ َر ِة ذ ِل َك يَ ْو ٌم َم ْج ُمو ٌ‬
‫ع َ‬ ‫خاف َ‬ ‫َ‬ ‫« ِإ َّن ِفي ذ ِل َك َآليَةً »أي عالمة« ِل َم ْن‬
‫»فإنهم مطلوبون للفصل والقضاء« َوذ ِل َك يَ ْو ٌم َم ْش ُهو ٌد »‪.‬‬

‫[ سورة هود ( ‪ : ) 11‬آية ‪] 104‬‬


‫َوما نُ َؤ ِ ّخ ُرهُ ِإاله ِأل َ َج ٍل َم ْعدُو ٍد ( ‪) 104‬‬
‫« َوما نُ َؤ ِ هخ ُرهُ ِإ َّال ِأل َ َج ٍل َم ْعدُو ٍد »فإنه ما انقضى أجله المحدود ‪.‬‬

‫[ سورة هود ( ‪ ) : 11‬آية ‪] 105‬‬


‫س ِعي ٌد ) ‪( 105‬‬
‫ي َو َ‬ ‫س إِاله ِب ِإ ْذنِ ِه فَ ِم ْن ُه ْم َ‬
‫ش ِق ٌّ‬ ‫يَ ْو َم يَأ ْ ِ‬
‫ت ال ت َ َكله ُم نَ ْف ٌ‬
‫لما كان لإلنسان المباح من األحكام المشروعة ‪ ،‬وفعل الواجب والمندوب والمحظور‬
‫والمكروه من الملمات الغريبة في وجوده ‪ ،‬وذلك مما قرن به من األرواح الطاهرة‬
‫الملكية وغير الطاهرة الشيطانية ‪ ،‬فهو يتردد بين ثالثة أحكام ‪ :‬حكم ذاتي له منه عليه‬
‫‪ ،‬وحكمين قرنا‬

‫ص ‪353‬‬

‫ص ‪353 :‬‬
‫به ‪ ،‬وله القبول والر هد بحسب ما سبق به الكتاب ‪ ،‬وقضى به الخطاب ‪ ،‬فمنهم شقي‬
‫ّللا تبيان الخطأ‬ ‫مقرب وطريد ‪ ،‬فهو لمن أجاب وعلى ه‬ ‫وسعيد ‪ ،‬كما كان من القرناء ه‬
‫من الصواب ‪ ،‬والحق وصف نفسه بالرضى والغضب فقال ‪ «:‬يَ ْو َم يَأ ْ ِ‬
‫ت ال ت َ َكلَّ ُم نَ ْف ٌ‬
‫س‬
‫س ِعي ٌد »بالرضى ‪ ،‬والرضى دائم‪.‬‬ ‫ي »بالغضب ‪ ،‬والغضب زائل« َو َ‬ ‫ِإ َّال ِبإِ ْذنِ ِه فَ ِم ْن ُه ْم َ‬
‫ش ِق ٌّ‬

‫[ سورة هود ( ‪ : ) 11‬آية ‪] 106‬‬


‫ق ) ‪( 106‬‬ ‫شقُوا فَ ِفي النه ِار لَ ُه ْم فِيها َزفِ ٌ‬
‫ير َوش َِهي ٌ‬ ‫فَأ َ هما الهذ َ‬
‫ِين َ‬
‫جعلت دار جهنم دار كل شقي ‪ ،‬وسمي هؤالء أشقياء ألنهم أقيموا فيما يشق عليهم ‪،‬‬
‫يق »فرط التولع علة في وجود الزفرة ‪ ،‬ولهذا جاء‬ ‫ش ِه ٌ‬
‫ير َو َ‬ ‫وهو المخالفة« لَ ُه ْم فِيها زَ فِ ٌ‬
‫في وصف جهنم ‪ ،‬أن لها زفيرا وشهيقا لفرط تولهعها بمن يحصل فيها من الكفار ‪،‬‬
‫ألنها عاشقة في االنتقام من أعادي محبوبها ‪ ،‬وهو الحق سبحانه وتعالى ‪.‬‬

‫[ سورة هود ( ‪ : ) 11‬آية ‪] 107‬‬


‫ض ِإاله ما شا َء َربُّكَ ِإ هن َربهكَ فَعها ٌل ِلما يُ ِري ُد (‬‫سماواتُ َو ْاأل َ ْر ُ‬ ‫ت ال ه‬ ‫خا ِلد َ‬
‫ِين فِيها ما دا َم ِ‬
‫‪) 107‬‬
‫[ خالدين فيها ما دامت السماوات واألرض ]‬
‫ض »يريد المدة التي كانت األرض عليها من‬ ‫سماواتُ َو ْاأل َ ْر ُ‬‫ت ال َّ‬
‫« خا ِلدِينَ فِيها ما دا َم ِ‬
‫ّللا إلى يوم التبديل ‪ ،‬وكانت العرب التي نزل القرآن بلسانها ‪ ،‬تطلق هذه‬ ‫يوم خلقها ه‬
‫ّللا عليه‬‫اللفظة وتريد بها التأبيد ‪ ،‬وهي منقطعة بالخبر اإللهي ‪ ،‬وتعريف النبي صلهى ه‬
‫وسلم« ِإ َّال ما شا َء َرب َُّك »بما يرزقون في النار من اللذة والنعيم« ِإ َّن َرب ََّك فَعَّا ٌل ِلما‬
‫يُ ِري ُد »فيقع االستثناء في قوله« ِإ َّال ما شا َء َرب َُّك »من زوال صورتهما ‪ ،‬إذ كانت‬
‫السماء سماء واألرض أرضا ‪ ،‬فإنا نعلم أن جوهر السماء ‪ ،‬هو جوهر الدخان وتبدلت‬
‫عليه الصور ‪ ،‬فالجوهر الذي قبل صورة الدخان هو الذي قبل صورة السماء ‪ ،‬كما‬
‫قبل جوهر الطين والحجر صورة البيت ‪ ،‬فإذا انهدم البيت ويبس الطين ‪ ،‬ذهبت‬
‫صورة البيت والطين ‪ ،‬وبقي عين الجوهر وكذلك العالم كله بالجوهر واحد ‪،‬‬
‫وبالصور يختلف ‪ ،‬فاعلم ذلك ‪ ،‬فيكون االستثناء في حق أهل النار لمدة عذابهم ‪،‬‬
‫واعلم أنه من سبق رحمته تعالى غضبه أن النار ينزل فيها أهلها بالعدل من غير زيادة‬
‫‪ ،‬والجنة ينزل فيها أهلها بالفضل فيرون ما ال تقتضيه أعمالهم من النعيم ‪ ،‬وال يرى‬
‫ّللا بهم‬
‫أهل النار من العذاب إال قدر أعمالهم من غير زيادة وال رجحان إلى أن يفعل ه‬
‫ما يريد بعد ذلك ‪ ،‬ولذلك‬

‫ص ‪354‬‬

‫ص ‪354 :‬‬
‫ّللا في‬ ‫ّللا حكم إرادة ه‬ ‫قال في عذابهم« إِ َّن َرب ََّك فَعَّا ٌل ِلما يُ ِري ُد »وما يعلم أحد من خلق ه‬
‫غي َْر َم ْجذُو ٍذ »والصورة‬ ‫عطا ًء َ‬ ‫خلقه إال بتعريفه ‪ ،‬أال تراه في حق السعداء يقول ؟« َ‬
‫واحدة والمدة واحدة ولم يقل في العذاب ‪ ،‬إنه غير مجذوذ ‪ ،‬لكن يقطع بأنهم غير‬
‫ّللا فيهم ‪ ،‬فال‬‫خارجين من النار ‪ ،‬وال نعرف حالتهم فيها في حال االستثناء ما يفعل ه‬
‫ّللا يجزي كل‬ ‫يقضى في ذلك بشيء مع علمنا بأن رحمته سبقت غضبه ‪ ،‬وعلمنا بأن ه‬
‫نفس بما عملت ‪ ،‬ولكن يستروح من العبارة أنه إذا استوفيت الحدود ‪ ،‬عمت الرحمة‬
‫من خزانة الجود ‪،‬‬
‫ش ِه ٌ‬
‫يق خا ِلدِينَ فِيها ما‬ ‫ار لَ ُه ْم فِيها زَ فِ ٌ‬
‫ير َو َ‬ ‫وهو قوله تعالى ‪ ":‬فَأ َ َّما الَّذِينَ َ‬
‫شقُوا فَ ِفي النَّ ِ‬
‫ض"‬ ‫سماواتُ َو ْاأل َ ْر ُ‬ ‫ت ال َّ‬‫دا َم ِ‬
‫وهذا هو الحد الزمني ‪ ،‬ألن التبديل ال بد أن يقع بالسماوات واألرض ‪ ،‬فتنتهي المدة‬
‫عند ذلك ‪ ،‬وهو في حق كل إنسان من وقت تكليفه إلى يوم التبديل ‪ ،‬ألنه غير مخاطب‬
‫ببقاء السماوات واألرض قبل التكليف ‪ ،‬وهذا في حق السعيد والشقي ‪ ،‬فهما في نتائج‬
‫أعمالهما هذه المدة المعينة ‪ ،‬فإذا انتهت انته نعيم الجزاء الوفاق وعذاب الجزاء ‪،‬‬
‫صها بقوم دون‬ ‫ّللا باألعمال وال خ ه‬ ‫وانتقل هؤالء إلى نعيم المنن اإللهية التي لم يربطها ه‬
‫قوم ‪،‬‬
‫غي َْر َم ْجذُو ٍذ »ما له مدة ينتهي بانتهائها ‪ ،‬كما انته الكفر واإليمان‬ ‫عطا ًء َ‬ ‫وهو قوله ‪َ «:‬‬
‫هنا بانتهاء عمر المكلف ‪ ،‬وانتهت إقامة الحدود في األشقياء والنعيم الجزائي في‬
‫السعداء بانتهاء مدة السماوات واألرض ؛« إِ َّال ما شا َء َرب َُّك » في حق األشقياء « إِ َّن‬
‫َرب ََّك فَعَّا ٌل ِلما يُ ِري ُد »‬
‫وكذا وقع األمر بحسب ما تعلقت به المشيئة اإللهية ‪ ،‬وما قال إن الحال التي هم فيها ال‬
‫تنقطع ‪ ،‬كما قال في السعداء ‪ ،‬فعلمنا بذكر مدة السماء واألرض وحكم اإلرادة في‬
‫األشقياء واإلعراض عن ذكر العذاب ‪ ،‬أن للشقاء مدة ينتهي إليها حكمه وينقطع عن‬
‫األشقياء بانقطاعها والذي منع أن يقول تعالى في األشقياء عذابا غير مجذوذ قوله«‬
‫ش ْيءٍ »‬ ‫ت ُك َّل َ‬ ‫َو َر ْح َمتِي َو ِسعَ ْ‬
‫وقوله [ إن رحمتي سبقت غضبي ] في هذه النشأة ‪ ،‬وعلمنا أن جزاء السعيد على مثل‬
‫ذلك ثم تعم المنن والرضى اإللهي على الجميع في أي منزل كانوا ‪ ،‬فإن النعيم ليس‬
‫سوى ما يقبله المزاج وغرض النفوس ال أثر لألمكنة في ذلك ‪ ،‬فحيثما وجد مالءمة‬
‫الطبع ونيل الغرض كان ذلك نعيما لصاحبه فإن الوجود رحمة في حق كل موجود‬
‫وإن تعذهب بعضهم ببعض ‪ ،‬فتخليدهم في حال النعيم غير منقطع وتخليدهم في حال‬
‫االنتقام موقوف على إرادة ‪ ،‬فقد يعود االنتقام منهم عذابا عليهم ال غير ويزول االنتقام‬
‫‪ ،‬ولهذا فسره في مواضع باأللم المؤلم ‪ ،‬وقال ‪ :‬عذاب أليم ‪ ،‬والعذاب األليم‪.‬‬

‫ص ‪355‬‬

‫ص ‪355 :‬‬
‫ذاب ) *يعني وإن‬ ‫ع ْن ُه ُم ْالعَ ُ‬ ‫وفي مواضع لم يقيد العذاب باألليم وأطلقه فقال ‪ (:‬ال يُ َخفَّ ُ‬
‫ف َ‬
‫زال األلم فإن السكنى ألهل النار في النار ال يخرجون منها كما قال تعالى« خا ِلدِينَ‬
‫فِيها » *يعني في النار ‪،‬‬
‫وقال في أهل السعادة« خا ِلدِينَ فِيها » *يعني في الجنة ‪ ،‬ولم يقل فيه فيريد العذاب ‪،‬‬
‫فلو قال عند ذكر العذاب خالدين فيه ‪ ،‬أشكل األمر ‪ ،‬ولما أعاد الضمير على الدار ‪ ،‬لم‬
‫يلزم العذاب ‪،‬‬
‫فإن قال قائل ‪ :‬فكذلك ال يلزم النعيم كما لم يلزم العذاب ‪ ،‬قلنا ‪ :‬وكذلك كنا نقول ‪:‬‬
‫ّللا تعالى ‪ :‬في نعيم الجنة إنه عطاء غير مجذوذ ‪ ،‬أي عطاء غير‬ ‫ولكن لما قال ه‬
‫مقطوع ‪،‬‬
‫وقال ‪ :‬ال مقطوعة وال ممنوعة ‪ ،‬لهذا قلنا بالخلود في النعيم والدار ‪ ،‬ولم يرد مثل هذا‬
‫قط في عذاب النار ‪ ،‬فلهذا لم نقل به وما ورد في العذاب شيء يدل على الخلود فيه ‪،‬‬
‫كما ورد في الخلود في النار ‪ ،‬ولكن العذاب ال بد منه في النار وقد غيب عنا األجل‬
‫في ذلك ‪ ،‬وما نحن من جهة النصوص على يقين ‪ ،‬إال أن الظواهر تعطي األجل في‬
‫ذلك ‪ ،‬ولكن كميهته مجهولة ‪ ،‬لم يرد بها نص ‪ ،‬وال نص يعارض ونبقى نحن مع قوله‬
‫تعالى ‪ِ «:‬إ َّن َرب ََّك فَعَّا ٌل ِلما يُ ِري ُد »‬
‫وأي شيء أراد ‪ ،‬فهو ذلك ‪ ،‬وال يلزم أهل اإليمان أكثر من ذلك ‪ ،‬إال أن يأتي نص‬
‫بالتعيين متواتر يفيد العلم ‪ ،‬فحينئذ يقطع المؤمن وإال فال ‪،‬‬
‫ّللا عليه وسلم عندما رأى جنازة يهودي فقيل له ‪ :‬إنها جنازة‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫قام رسول ه‬
‫يهودي فقال ‪ :‬أليست نفسا ؟‬
‫ّللا في شرف النفس الناطقة ‪ ،‬وأن صاحبها وإن شقي‬ ‫وهذا أرجى ما يتمسك به أهل ه‬
‫بدخول النار فهو كمن يشقى هنا بأمراض النفس ‪ ،‬من هالك ما له وخراب منزله وفقد‬
‫ما يعز عليه ألما روحانيا ال حسيا ؛ فإن ذلك حظ الروح الحيواني ‪ ،‬وهذا كله غير‬
‫ّللا بطريق التشريف ‪ ،‬فاألصل‬ ‫مؤثر في شرفها فإنها منفوخة من الروح المضاف إلى ه‬
‫ّللا عليه وسلم لعينها‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫شريف ‪ ،‬ولما كانت من العالم األشرف ‪ ،‬قام لها رسول ه‬
‫‪ ،‬وهذا إعالم بتساوي النفوس في أصلها ‪ ،‬وهذه من أعظم المسائل تؤذن بشمول‬
‫الرحمة وعمومها لكل نفس ‪ ،‬وإن عمرت النفوس الدارين ‪ ،‬وال بد من عمارة الدارين‬
‫ّللا ‪ ،‬فإنه‬ ‫ّللا سيعامل النفوس بما يقتضيه شرفها بسر ال يعلمه إال أهل ه‬ ‫كما ورد ‪ ،‬وأن ه‬
‫من األسرار المخصوصة بهم ‪ ،‬فكما أن الحد يجمعهم كذلك المقام يجمعهم لذاتهم إن‬
‫ّللا تعالى كما قال في الذين شقوا« إِ َّن َرب ََّك فَعَّا ٌل ِلما يُ ِري ُد »ولم يقل عذابا غير‬ ‫شاء ه‬
‫ّللا سبقت غضبه ‪ ،‬ورحمته تعالى وسعت كل‬ ‫مجذوذ كما قال في السعداء ‪ ،‬فإن رحمة ه‬
‫شيء منهة واستحقاقا ‪ ،‬وباألصل فكل ذلك منة منه سبحانه ‪ ،‬فإنه الذي كتب على نفسه‬
‫الرحمة للمتقي ‪ ،‬والمتقي بمنته سبحانه اتقاه ‪ ،‬وجعله محال للعمل الصالح‪.‬‬
‫ص ‪356‬‬

‫ص ‪356 :‬‬
‫[ سورة هود ( ‪ : ) 11‬آية ‪] 108‬‬
‫ض إِاله ما شا َء‬‫سماواتُ َو ْاأل َ ْر ُ‬
‫ت ال ه‬ ‫س ِعدُوا فَ ِفي ا ْل َجنه ِة خا ِلد َ‬
‫ِين فِيها ما دا َم ِ‬ ‫َوأ َ هما الهذ َ‬
‫ِين ُ‬
‫غ ْي َر َمجْ ذُو ٍذ) ‪( 108‬‬ ‫َربُّكَ عَطا ًء َ‬
‫[ أقسام الجنة ومراتب التفاضل ]‬
‫س ِعدُوا فَ ِفي ْال َجنَّ ِة خا ِلدِينَ ِفيها »جعلت الجنة دار السعداء ‪ ،‬فهي دار كل‬ ‫« َوأ َ َّما الَّذِينَ ُ‬
‫سعيد ‪ ،‬وس همي هؤالء سعداء ألنهم أقيموا فيما يسهل عليهم ‪ ،‬وهو المساعدة‬
‫ض »من حيث جوهرهما ال من حيث‬ ‫سماواتُ َو ْاأل َ ْر ُ‬ ‫ت ال َّ‬
‫والموافقة «ما دا َم ِ‬
‫صورتهما « ِإ َّال ما شا َء َرب َُّك »واالستثناء هنا في حق أهل الجنة على معنى إال أن‬
‫ّللا ما شاء ذلك بقوله«‬ ‫يشاء ربك ‪ ،‬وقد شاء أن ال يخرجهم ‪ ،‬فهم ال يخرجون فإن ه‬
‫غي َْر َم ْجذُو ٍذ »أي غير منقطع ألن اللذة بالجديد الطارئ أعظم في النفس من‬ ‫عطا ًء َ‬ ‫َ‬
‫مالزمة الصحبة ‪.‬‬
‫واعلم أن الجنة جنتان محسوسة ومعنوية ‪ ،‬والجنات ثالث جنات ‪:‬‬
‫جنة اختصاص إلهي وهي التي يدخلها األطفال الذين لم يبلغوا حد العمل ‪ ،‬وحدهم من‬
‫ّللا من شاء من‬ ‫أول ما يولد إلى أن يستهل صارخا إلى انقضاء ستة أعوام ؛ ويعطي ه‬
‫عباده من جنات االختصاص ما شاء ‪ ،‬ومن أهلها المجانين الذي ما عقلوا ‪ ،‬ومن أهلها‬
‫أهل التوحيد العلمي ‪ ،‬ومن أهلها أهل الفترات ومن لم تصل إليهم دعوة رسول ‪،‬‬
‫والجنة الثانية جنة ميراث ينالها كل من دخل الجنة ممن ذكرنا ومن المؤمنين ‪ ،‬وهي‬
‫األماكن التي كانت معينة ألهل النار لو دخلوها ‪،‬‬
‫والجنة الثالثة جنة األعمال وهي التي ينزل الناس فيها بأعمالهم ‪ ،‬فمن كان أفضل‬
‫من غيره في وجود التفاضل ‪ ،‬كان له في الجنة أكثر ‪ ،‬وسواء كان الفاضل دون‬
‫المفضول أو لم يكن ‪ ،‬غير أنه فضله في هذا المقام بهذه الحالة ‪ ،‬فما من عمل من‬
‫األعمال إال وله جنة ويقع التفاضل فيها بين أصحابها بحسب ما تقتضي أحوالهم ‪ ،‬فما‬
‫من فريضة وال نافلة وال فعل خير وال ترك محرم ومكروه إال وله جنة مخصوصة‬
‫ونعيم خاص يناله من دخلها ‪،‬‬
‫والتفاضل على مراتب ‪:‬‬
‫فمنها بالسن ولكن في الطاعة واإلسالم ‪ ،‬فيفضل كبير السن على الصغير السن إذا كانا‬
‫على مرتبة واحدة من العمل بالسن ‪ ،‬فإنه أقدم منه فيه ‪،‬‬
‫ويفضل أيضا بالزمان فإن العمل في رمضان وفي يوم الجمعة وفي ليلة القدر وفي‬
‫عشر ذي الحجة وفي عاشوراء أعظم من سائر األزمان وكل زمان عينه الشارع ؛‬
‫وتقع المفاضلة بالمكان كالمصلي في المسجد الحرام أفضل من صالة المصلي في‬
‫مسجد المدينة ‪،‬‬

‫ص ‪357‬‬

‫ص ‪357 :‬‬
‫وكذلك الصالة في مسجد المدينة أفضل من الصالة في المسجد األقصى ‪ ،‬وهكذا فضل‬
‫الصالة في المسجد األقصى على سائر المساجد ‪ ،‬ويتفاضلون أيضا باألحوال فإن‬
‫الصالة في الجماعة في الفريضة أفضل من صالة الشخص وحده ‪ ،‬وأشباه هذا ‪،‬‬
‫ّللا األعمال‬
‫ويتفاضلون باألعمال فإن الصالة أفضل من إماطة األذى ‪ ،‬وقد فضل ه‬
‫بعضها على بعض ‪ ،‬ويتفاضلون أيضا في نفس العمل الواحد ‪ ،‬كالمتصدق على رحمه‬
‫‪ ،‬فيكون صاحب صلة رحم وصدقة ‪،‬‬
‫والمتصدق على غير رحمه دونه في األجر ‪ ،‬وكذلك من أهدى لشريف من أهل البيت‬
‫أفضل ممن أهدى لغير شريف أو بره أو أحسن إليه ‪،‬‬
‫ووجوه المفاضلة كثيرة في الشرع والرسل عليهم السالم إنما ظهر فضلها في الجنة‬
‫على غيرها بجنة االختصاص ‪ ،‬وأما بالعمل فهم في جنات األعمال بحسب األحوال ‪،‬‬
‫ونشأة اإلنسان في اآلخرة ال تشبه نشأة الدنيا وإن اجتمعتا في األسماء والصورة‬
‫الشخصية ‪،‬‬
‫فإن الروحانية على نشأة اآلخرة أغلب من الحسية فيكون اإلنسان بعينه في أماكن‬
‫كثيرة واعلم أن جنة األعمال مائة درجة ال غير ‪،‬‬
‫كما أن النار مائة درك ‪ ،‬غير أن كل درجة تنقسم إلى منازل ‪،‬‬
‫وهذه المائة درجة في كل جنة من الثماني جنات ‪ ،‬وصورتها جنة في جنة وأعالها‬
‫جنة عدن ‪،‬‬
‫وهي قصبة الجنة فيها الكثيب الذي يكون اجتماع الناس فيه لرؤية الحق تعالى ‪،‬‬
‫وهي أعلى جنة في الجنات والتي تلي جنة عدن ‪ ،‬إنما هي جنة الفردوس وهي أوسط‬
‫الجنات التي دون جنة عدن وأفضلها ‪ ،‬ثم جند الخلد ثم جنة النعيم ثم جنة المأوى ثم‬
‫دار السالم ثم دار المقامة ‪،‬‬
‫ّللا صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم‬ ‫وأما الوسيلة فهي أعلى درجة في جنة عدن وهي لرسول ه‬
‫حصلت له بدعاء أمته ‪ ،‬فعل ذلك الحق سبحانه حكمة أخفاها ‪ ،‬فإنا بسببه نلنا السعادة‬
‫ّللا بنا األمم كما ختم به النبيين ‪،‬‬
‫ّللا ‪ ،‬وبه كنا خير أمة أخرجت للناس ‪ ،‬وبه ختم ه‬ ‫من ه‬
‫ّللا أن ندعو له‬
‫ّللا عليه وسلم بشر كما أمر أن يقول ‪ ،‬فأمرنا عن أمر ه‬ ‫وهو صلهى ه‬
‫بالوسيلة حتى ينزل فيها وينالها بدعاء أمته ‪ ،‬وهذا من باب الغيرة اإللهية ‪ ،‬وأهل‬
‫الجنة أربعة أصناف الرسل وهم األنبياء ‪ ،‬واألولياء وهم أتباع الرسل على بصيرة‬
‫ّللا أنه‬
‫وبينة من ربهم ‪ ،‬والمؤمنون وهم المصدقون بهم عليهم السالم والعلماء بتوحيد ه‬
‫ّللا من حيث األدلة العقلية ‪،‬‬
‫ال إله إال ه‬
‫وهؤالء األربع طوائف يتميزون في جنات عدن عند رؤية الحق في الكثيب األبيض ‪،‬‬
‫وهم فيه على أربع مقامات ‪:‬‬
‫طائفة منهم أصحاب المنابر وهي الطبقة العليا الرسل واألنبياء ‪ ،‬والطائفة الثانية هم‬
‫األولياء ورثة األنبياء قوال وعمال وحاال وهم على بينة من ربهم ‪ ،‬وهم أصحاب‬
‫األسرة‬
‫ص ‪358‬‬

‫ص ‪358 :‬‬
‫باّلل من طريق النظر والبرهان العقلي ‪ ،‬وهم‬ ‫والعرش ‪ ،‬والطبقة الثالثة العلماء ه‬
‫أصحاب الكراسي ‪ ،‬والطبقة الرابعة وهم المؤمنون المقلدون في توحيدهم ‪ ،‬ولهم‬
‫المراتب وهم في الحشر مقدمون على أصحاب النظر العقلي ‪ ،‬وهم في الكتيب عند‬
‫ّللا أن يتجلى لعباده في الزور العام نادى‬
‫النظر يتقدمون على المقلدين ‪ ،‬فإذا أراد ه‬
‫منادي الحق في الجنات كلها يا أهل الجنان ‪:‬‬
‫ي على المنة العظمى والمكانة الزلفى والمنظر األعلى ‪ ،‬هلموا إلى زيارة ربكم في‬ ‫ح ه‬
‫جنة عدن ‪ ،‬فيبادرون إلى جنة عدن فيدخلونها ‪ ،‬وكل طائفة قد عرفت مرتبتها‬
‫ومنزلتها فيجلسون ‪ ،‬ثم يؤمر بالموائد فتنصب بين أيديهم ‪ ،‬موائد اختصاص ‪ ،‬ما رأوا‬
‫مثلها وال تخيلوه في حياتهم وال في جناتهم ‪ ،‬جنات األعمال ‪ ،‬وكذلك الطعام ما ذاقوا‬
‫مثله في منازلهم ‪ ،‬وكذلك ما تناولوه من الشراب ‪ ،‬فإذا فرغوا من ذلك خلعت عليهم‬
‫من الخلع ما لم يلبسوا مثلها فيما تقدم ‪ ،‬ومصداق ذلك قوله صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم في‬
‫الجنة ‪ :‬فيها ما ال عين رأت وال أذن سمعت وال خطر على قلب بشر ‪ ،‬فإذا فرغوا‬
‫باّلل ال على قدر‬‫قاموا إلى كثيب المسك األبيض ‪ ،‬فأخذوا منازلهم فيه على قدر علمهم ه‬
‫عملهم ‪ ،‬فإن العمل مخصوص بنعيم الجنان ال بمشاهدة الرحمن فبيناهم على ذلك إذا‬
‫بنور قد بهرهم فيخرون سجدا فيسري ذلك النور في أبصارهم ظاهرا وفي بصائرهم‬
‫باطنا وفي أجزاء أبدانهم كلها وفي لطائف نفوسهم ‪ ،‬فيرجع كل شخص منهم عينا كله‬
‫وسمعا كله ‪ ،‬فيرى بذاته ال تقيده الجهات ويسمع بذاته كلها ‪ ،‬فهذا يعطيهم ذلك النور‬
‫فبه يطيقون المشاهدة والرؤية ‪ ،‬وهي أتم من المشاهدة ‪،‬‬
‫ّللا يقول لهم ‪:‬‬
‫فيأتيهم رسول من ه‬
‫تأهبوا لرؤية ربكم ج هل جالله ‪ ،‬فها هو يتجلى لكم فيتأهبون ‪ ،‬فيتجلى الحق جل جالله‬
‫وبينه وبين خلقه ثالث حجب ‪ :‬حجاب العزة ‪ ،‬وحجاب الكبرياء ‪ ،‬وحجاب العظمة فال‬
‫ّللا جل جالله ألعظم الحجبة عنده ‪ :‬ارفعوا‬ ‫يستطيعون النظر إلى تلك الحجب ‪ ،‬فيقول ه‬
‫الحجب بيني وبين عبادي حتى يروني ‪ ،‬فترفع الحجب فيتجلى لهم الحق جل جالله‬
‫خلف حجاب واحد في اسمه الجميل اللطيف إلى أبصارهم ‪ ،‬وكلهم بصر واحد فينفهق‬
‫عليهم نور يسري في ذواتهم ‪ ،‬فيكونون به سمعا كلهم ‪ ،‬وقد أبهتهم جمال الرب‬
‫وأشرقت ذواتهم بنور ذلك الجمال األقدس ‪،‬‬
‫ّللا عليه وسلم كما جاء في حديث النقاش في مواقف القيامة وهذا‬ ‫ّللا صلهى ه‬
‫قال رسول ه‬
‫تمامه ‪ -‬راجع البقرة آية ‪– 210‬‬
‫ّللا ‪ ،‬سالم عليكم من‬
‫ّللا جل جالله ‪ :‬سالم عليكم عبادي ومرحبا بكم ‪ ،‬حياكم ه‬ ‫فيقول ه‬
‫الرحمن الرحيم ‪ ،‬الحي القيوم ‪ ،‬طبتم فادخلوها خالدين ‪،‬‬
‫ص ‪359‬‬

‫ص ‪359 :‬‬
‫طابت لكم الجنة ‪ ،‬فطيبوا أنفسكم بالنعيم المقيم والثواب من الكريم ‪ ،‬والخلود الدائم ‪،‬‬
‫ّللا المؤمن المهيمن ‪ ،‬شققت لكم اسما من أسمائي ‪ ،‬ال‬ ‫أنتم المؤمنون اآلمنون وأنا ه‬
‫خوف عليكم وال أنتم تحزنون ‪ ،‬أنتم أوليائي وجيراني وأصفيائي وخاصتي وأهل‬
‫محبتي وفي داري ‪ ،‬سالم عليكم يا معشر عبادي المسلمين ‪ ،‬أنتم المسلمون وأنا السالم‬
‫وداري دار السالم ‪ ،‬سأريكم وجهي كما سمعتم كالمي ‪ ،‬فإذا تجليت لكم وكشفت عن‬
‫وجهي الحجب ‪ ،‬فاحمدوني وادخلوا إلى داري غير محجوبين عني بسالم آمنين ‪،‬‬
‫ي وتروني من قريب ‪ ،‬فأتحفكم بتحفي ‪،‬‬ ‫ي ‪ ،‬واجلسوا حولي حتى تنظروا إل ه‬ ‫فردوا عل ه‬
‫وأجيزكم بجوائزي وأخصكم بنوري وأغشيكم بجمالي ‪ ،‬وأهب لكم من ملكي ‪،‬‬
‫وأفاكهكم بضحكي وأعلفكم بيدي ‪ ،‬وأشمكم روحي ‪ ،‬أنا ربكم الذي كنتم تعبدوني ولم‬
‫تروني ‪ ،‬وتحبوني وتخافوني ‪ ،‬وعزتي وجاللي وعلوي وكبريائي وبهائي وسنائي إني‬
‫عنكم راض ‪ ،‬وأحبكم وأحب ما تحبون ‪ ،‬ولكم عندي ما تشتهي أنفسكم وتلذه أعينكم ‪،‬‬
‫ولكم عندي ما تدعون وما شئتم ‪ ،‬وكل ما شئتم أشاء ‪ ،‬فاسألوني وال تحتشموا وال‬
‫ّللا الجواد الغني الملي الوفي الصادق ‪ ،‬وهذه داري‬ ‫تستحيوا وال تستوحشوا ‪ ،‬وإني أنا ه‬
‫قد اسكنتكموها وجنتي قد أبحتكموها ‪ ،‬ونفسي قد أريتكموها ‪ ،‬وهذه يدي ذات الندى‬
‫والطل مبسوطة ممتدة عليكم ال أقبضها عنكم ‪ ،‬وأنا انظر إليكم ال أصرف بصري‬
‫عنكم ‪ ،‬فاسألوني ما شئتم واشتهيتم ‪ ،‬فقد آنستكم بنفسي وأنا لكم جليس وأنيس ‪ ،‬فال‬
‫حاجة وال فاقة بعد هذا ‪ ،‬وال بؤس وال مسكنة وال ضعف وال هرم وال سخط وال حرج‬
‫وال تحويل أبدا سرمدا ‪ ،‬نعيمكم نعيم األبد ‪ ،‬وأنتم اآلمنون المقيمون الماكثون‬
‫المكرمون المنعمون ‪ ،‬وأنتم السادة األشراف الذين أطعتموني واجتنبتم محارمي‬
‫فارفعوا إلي حوائجكم أقضها لكم وكرامة ونعمة ‪ ،‬قال ‪ :‬فيقولون ‪ :‬ربنا ما كان هذا‬
‫أملنا وال أمنيتنا ‪ ،‬ولكن حاجتنا إليك النظر إلى وجهك الكريم أبدا أبدا ‪ ،‬ورضى نفسك‬
‫عنا ‪ ،‬فيقول لهم العلي األعلى مالك الملك السخي الكريم تبارك وتعالى ‪ :‬فهذا وجهي‬
‫بارز لكم أبدا سرمدا فانظروا إليه وأبشروا ‪ ،‬فإن نفسي عنكم راضية فتمتعوا ‪ ،‬وقوموا‬
‫إلى أزواجكم فعانقوا وانكحوا ‪ ،‬وإلى والئدكم ففاكهوا ‪ ،‬وإلى غرفكم فأدخلوا ‪ ،‬وإلى‬
‫بساتينكم فتنزهوا ‪ ،‬وإلى دوابكم فاركبوا ‪ ،‬وإلى فرشكم فاتكئوا ‪ ،‬وإلى جواريكم‬
‫وسراريكم في الجنان فاستأنسوا ‪ ،‬وإلى هداياكم من ربكم فاقبلوا ‪ ،‬وإلى كسوتكم‬
‫فالبسوا ‪ ،‬وإلى مجالسكم فتحدثوا ‪ ،‬ثم قيلوا قائلة‬

‫ص ‪360‬‬

‫ص ‪360 :‬‬
‫ال نوم فيها وال غائلة ‪ ،‬في ظل ظليل وأمن مقيل ومجاورة الجليل ‪ ،‬ثم روحوا إلى نهر‬
‫الكوثر والكافور والماء المطهر والتسنيم والسلسبيل والزنجبيل ‪ ،‬فاغتسلوا وتنعموا ‪،‬‬
‫طوبى لكم وحسن مآب ‪ ،‬ثم روحوا فاتكئوا على الرفارف الخضر والعبقري الحسان‬
‫والفرش المرفوعة ‪ ،‬في الظل المدود والماء المسكوب والفاكهة الكثيرة ال مقطوعة وال‬
‫ممنوعة ‪،‬‬
‫شغُ ٍل فا ِك ُهونَ ُه ْم‬‫حاب ْال َجنَّ ِة ْاليَ ْو َم فِي ُ‬‫ص َ‬ ‫ّللا عليه وسلم ( إِ َّن أ َ ْ‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫ثم تال رسول ه‬
‫سال ٌم قَ ْو ًال ِم ْن‬ ‫علَى ْاألَرائِ ِك ُمت َّ ِكؤُنَ لَ ُه ْم فِيها فا ِك َهةٌ َولَ ُه ْم ما يَ َّدعُونَ َ‬‫َوأ َ ْزوا ُج ُه ْم فِي ِظال ٍل َ‬
‫حاب ْال َجنَّ ِة يَ ْو َمئِ ٍذ َخي ٌْر ُم ْستَقَ ًّرا َوأ َ ْح َ‬
‫س ُن َم ِق ً‬
‫يال )‬ ‫ص ُ‬ ‫َربه ٍ َر ِح ٍيم ) ثم تال هذه اآلية ( أ َ ْ‬
‫‪ -‬إلى هنا انته حديث أبي بكر النقاش ‪ -‬ثم إن الحق تعالى بعد هذا الخطاب يرفع‬
‫الحجاب ويتجلى لعباده ‪ ،‬فيخرون س هجدا فيقول لهم ‪ :‬ارفعوا رءوسكم فليس هذا موطن‬
‫ّللا ‪،‬‬
‫سجود ‪ ،‬يا عبادي ما دعوتكم إال لتنعموا بمشاهدتي ‪ ،‬فيمسكهم في ذلك ما شاء ه‬
‫فيقول لهم ‪ :‬هل بقي لكم شيء بعد هذا ؟‬
‫فيقولون ‪ :‬يا ربنا وأي شيء بقي ‪ ،‬وقد نجيتنا من النار وأدخلتنا دار رضوانك وأنزلتنا‬
‫بجوارك وخلعت علينا مالبس كرمك وأريتنا وجهك ؟‬
‫فيقول الحق جل جالله ‪ :‬بقي لكم ‪ ،‬فيقولون ‪ :‬يا ربنا وما ذاك الذي بقي ؟‬
‫فيقول ‪ :‬دوام رضاي عنكم فال أسخط عليكم أبدا ‪ ،‬فما أحالها من كلمة وما ألذها من‬
‫بشرى ‪ ،‬وتتفاضل الناس في رؤيته سبحانه ويتفاوتون تفاوتا عظيما على قدر علمهم ‪،‬‬
‫فمنهم ومنهم ‪ ،‬ثم يقول سبحانه لمالئكته ‪ :‬ردوهم إلى قصورهم فال يهتدون ‪،‬‬
‫ألمرين ‪ :‬لما طرأ عليهم من سكر الرؤية ‪ ،‬ولما زادهم من الخير في طريقهم فلم‬
‫يعرفوها ‪ ،‬فلو ال أن المالئكة تدل بهم ما عرفوا منازلهم فإذا وصلوا إلى منازلهم‬
‫تلقاهم أهلهم من الحور والولدان ‪ ،‬فيرون جميع ملكهم قد كسي بهاء وجماال ونورا من‬
‫وجوههم أفاضوه إفاضة ذاتية على ملكهم ‪ ،‬فيقولون لهم لقد زدتم نورا وبهاء وجماال‬
‫ما تركناكم عليه ‪ ،‬فيقول لهم أهلها ‪:‬‬
‫وكذاكم أنتم قد زدتم من البهاء والجمال ‪ ،‬ما لم يكن فيكم عند مفارقتكم إيانا ‪ ،‬فينعم‬
‫بعضهم ببعض ‪.‬‬

‫[ سورة هود ( ‪ : ) 11‬اآليات ‪ 109‬إلى ‪] 112‬‬


‫ُون ِإاله كَما يَ ْعبُ ُد آبا ُؤ ُه ْم ِم ْن قَ ْب ُل َو ِإنها لَ ُم َوفُّو ُه ْم‬
‫ُالء ما يَ ْعبُد َ‬‫فَال تَكُ ِفي ِم ْريَ ٍة ِم هما يَ ْعبُ ُد هؤ ِ‬
‫ف فِي ِه َولَ ْو ال َك ِل َمةٌ‬ ‫تاب فَ ْ‬
‫اخت ُ ِل َ‬ ‫سى ا ْل ِك َ‬ ‫وص ( ‪َ ) 109‬ولَقَ ْد آت َ ْينا ُمو َ‬ ‫غ ْي َر َم ْنقُ ٍ‬‫نَ ِصيبَ ُه ْم َ‬
‫ب ( ‪َ ) 110‬وإِ هن ُكالًّ لَ هما‬ ‫ي بَ ْينَ ُه ْم َوإِنه ُه ْم لَ ِفي ش ٍَّك ِم ْنهُ ُم ِري ٍ‬
‫سبَقَتْ ِم ْن َر ِبّكَ لَقُ ِض َ‬ ‫َ‬
‫ست َ ِق ْم كَما أ ُ ِم ْرتَ َو َم ْن َ‬
‫تاب‬ ‫ير ) ‪( 111‬فَا ْ‬ ‫لَيُ َو ِفّيَنه ُه ْم َربُّكَ أَعْمالَ ُه ْم ِإنههُ ِبما يَ ْع َملُ َ‬
‫ون َخ ِب ٌ‬
‫ير) ‪( 112‬‬ ‫ون بَ ِص ٌ‬ ‫َمعَكَ َوال ت َ ْطغَ ْوا ِإنههُ ِبما ت َ ْع َملُ َ‬

‫ص ‪361‬‬

‫ص ‪361 :‬‬
‫أمر اإلله من اإلله تعلق *** ما أمره في العالمين محقق‬
‫سره يتحقق‬ ‫إال بواسطة الرسول فإنهه *** أمر مطاع ه‬
‫إن خالفت أمر اإلله إرادة *** منه تكاد النفس منه تزهق‬
‫ولذاك شيبت النبي مقالة *** هي فاستقم فيما أمرت توفق‬
‫فإذا أراد نقيض ما أمرت به *** نفس المكلهف فالوقوع محقق‬
‫ت ‪ -‬اآلية ]‬ ‫[ فَا ْست َ ِق ْم َكما أ ُ ِم ْر َ‬
‫ّللا‬
‫ّللا نبيه باالستقامة المطلقة ‪ ،‬إذ ما ثم طريق إال وهو مستقيم موصل إلى ه‬ ‫ما خاطب ه‬
‫صراطٍ ُم ْست َ ِق ٍيم »ولكن قيد خطابه بقوله تعالى ‪َ «:‬كما‬ ‫على ِ‬ ‫من قوله تعالى« ِإ َّن َر ِبهي َ‬
‫ت »فمعنى االستقامة هنا الحركات والسكنات على الطريقة المشروعة ‪ ،‬والصراط‬ ‫أ ُ ِم ْر َ‬
‫باّلل رأس هذا الطريق ‪ ،‬وشعب اإليمان منازل‬ ‫المستقيم هو الشرع اإللهي ‪ ،‬واإليمان ه‬
‫هذا الطريق التي بين أوله وغايته وما بين المنزلين أحواله وأحكامه ‪.‬‬
‫ّللا إرادته فيه أنهه يمتثل أمره أو يخالفه ؟‬ ‫ولما كان أحد ال يعرف هل وافق أمر ه‬
‫ّللا واشت هد ‪ ،‬فقال شيبتني هود ‪،‬‬ ‫ّللا عليه وسلم أمر ه‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫لهذا صعب على رسول ه‬
‫ت » وأخواتها مما فيه هذه اآلية أو‬ ‫فإنها السورة التي نزل فيها« فَا ْست َ ِق ْم َكما أ ُ ِم ْر َ‬
‫طغ َْوا » أي ال ترتفعوا عن‬ ‫تاب َمعَ َك َوال ت َ ْ‬
‫معناها ‪ ،‬فالناس من ذلك على خطر« َو َم ْن َ‬
‫أمره بما تجدونه في نفوسكم من خلقكم على الصورة اإللهية ‪ ،‬فتقولوا مثلنا ال يكون‬
‫مأمورا ‪ ،‬فانظر فيما أمرت به أو نهيت عنه من حيث أنك مح هل لوجود عين ما أمرت‬
‫به أو نهيت عنه ‪ ،‬فمتعلق األمر عند صاحب هذا النظر أن يهيهئ محله باالنتظار ‪ ،‬فإذا‬
‫جاء األمر اإللهي الذي يأتي بالتكوين بال واسطة ‪ ،‬فينظر أثره في قلبه أوال ‪ ،‬فإن وجد‬
‫اإلباية قد تكونت في قلبه فيعلم‬

‫ص ‪362‬‬

‫ص ‪362 :‬‬
‫أنه مخذول وأن خذالنه منه ‪ ،‬ألنه على هذه الصورة في حضرة الثبوت عينه التي‬
‫أعطت العلم هّلل به ‪ ،‬وإن وجد غير ذلك وهو القبول فكذلك أيضا فينظر في العضو‬
‫الذي تعلق به ذلك األمر المشروع أن يتكون فيه من أذن أو عين أو يد أو رجل أو‬
‫لسان أو بطن أو فرج ‪ ،‬فإنا قد فرغنا من القلب بوجود اإلباية أو القبول ‪ ،‬فال نزال‬
‫نراقب حكم العلم فينا من الحق حتى نعلم ما كنا فيه فإنه ال يحكم فينا إال بنا ‪.‬‬
‫ّللا منها *** يرانا والوجود لنا شهيد‬
‫ألم تعلم بأن ه‬
‫فيلزمنا الحياء فال يرانا *** بحيث نهى ونحن له شهود‬
‫وذا من أعجب األشياء عندي *** فيأمرنا ويفعل ما يريد‬
‫يقول لي استقم ويريد مني *** مخالفة يؤيدها الوجود‬
‫فيا قوم اسمعوا ما قلت فيمن *** هو المولى ونحن له عبيد‬
‫يريد األمر ال المأمور فانظر *** إلى حكم يشيب له الوليد‬

‫[ سورة هود ( ‪ : ) 11‬آية ‪] 113‬‬


‫َّللا ِم ْن أ َ ْو ِليا َء ث ُ هم ال‬ ‫ار َوما لَ ُك ْم ِم ْن د ِ‬
‫ُون ه ِ‬ ‫ِين َظلَ ُموا فَت َ َم ه‬
‫س ُك ُم النه ُ‬ ‫َوال ت َ ْر َكنُوا ِإلَى الهذ َ‬
‫ون) ‪( 113‬‬ ‫ص ُر َ‬ ‫ت ُ ْن َ‬
‫ّللا صلهى ه‬
‫ّللا‬ ‫ار " وذلك من أثر حكم الدار والموطن ‪ ،‬فقد جعل رسول ه‬ ‫س ُك ُم النَّ ُ‬
‫"فَت َ َم َّ‬
‫عليه وسلم مولى القوم منهم في الحكم ‪ ،‬فمن جاور مواضع التهم ال يلومن من نسبه‬
‫إليها ‪ ،‬وكما يحكم على أهل دار الكفر الدار ‪ ،‬وإن كان فيها من ال يستحق ما يستحقه‬
‫الكفار ‪،‬‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ [ :‬أنا بريء من مسلم يقيم بين أظهر المشركين ]‬ ‫قال صلهى ه‬
‫ّللا ‪ ،‬فإن من‬ ‫باّلل في سؤالك ‪ ،‬تسعد إن شاء ه‬ ‫ّللا ‪ ،‬واكتف ه‬ ‫‪ -‬إشارة ‪ -‬ال تركن إلى غير ه‬
‫ّللا يقول في اإلنسان ‪ :‬إنه كان ظلوما لحمله‬ ‫ركن إلى جنسه فقد ركن إلى ظالم ‪ ،‬فإن ه‬
‫األمانة ‪ ،‬وما من أحد من الناس إال حملها ‪.‬‬

‫[ سورة هود ( ‪ : ) 11‬آية ‪] 114‬‬


‫ت ذ ِلكَ ِذ ْكرى‬ ‫ت يُ ْذ ِه ْب َن ال ه‬
‫س ِيّئا ِ‬ ‫هار َو ُزلَفا ً ِم َن الله ْي ِل ِإ هن ا ْل َح َ‬
‫سنا ِ‬ ‫َوأَقِ ِم ال ه‬
‫صالةَ َط َرفَي ِ النه ِ‬
‫ين) ‪( 114‬‬ ‫ِللذها ِك ِر َ‬

‫ص ‪363‬‬

‫ص ‪363 :‬‬
‫هار َو ُزلَفا ً ِمنَ اللَّ ْي ِل »أعطى الحق تعالى الصالة الليل والنهار‬ ‫" َوأَقِ ِم ال َّ‬
‫صالة َ َ‬
‫ط َرفَي ِ النَّ ِ‬
‫ّللا صلهى ه‬
‫ّللا عليه‬ ‫ت »يقول رسول ه‬ ‫ت يُ ْذ ِهبْنَ ال َّ‬
‫س ِيهئا ِ‬ ‫حتى يعم الزمان بركتها« ِإ َّن ْال َح َ‬
‫سنا ِ‬
‫وسلم ‪ [ :‬أتبع السيئة الحسنة تمحها ] فكلما ذكرت خطيئة أتيتها فتب عنها عقيب ذكرك‬
‫ّللا عندها بحسب ما كانت تلك المعصية ‪ ،‬وإذا عصيت‬ ‫ّللا منها واذكر ه‬ ‫إياها ‪ ،‬واستغفر ه‬
‫ّللا بموضع ‪ ،‬فال تبرح من ذلك الموضع ‪ ،‬حتى تعمل فيه طاعة وتقيم فيه عبادة ‪ ،‬فكما‬ ‫ه‬
‫ّللا فيه‬
‫يشهد عليك إن استشهد يشهد لك وحينئذ تنتزح عنه ‪ ،‬وكذلك ثوبك إن عصيت ه‬
‫ّللا فيه قبل أن تفارقه« ذ ِل َك ِذ ْكرى ِللذَّا ِك ِرينَ »‪.‬‬ ‫فاعبد ه‬

‫[ سورة هود ( ‪ : ) 11‬آية ‪] 115‬‬


‫ين ) ‪( 115‬‬ ‫َّللا ال يُ ِضي ُع أَجْ َر ا ْل ُمحْ ِ‬
‫س ِن َ‬ ‫ص ِب ْر فَ ِإ هن ه َ‬
‫َوا ْ‬
‫‪-‬إشارة ‪ -‬لتعلم أن الصالة انبعثت من الحضرة الصمدانية المقدسة ‪ ،‬فاغتنمها فهي‬
‫كالخطرة المختلسة ‪ ،‬نظرت إليها الحضرة النورية فوهبتها أسرارها ‪ ،‬وأفاضت عليها‬
‫الحضرة القيومية أنوارها ‪ ،‬ولما كانت هذه الصلوات تختص بالمناجاة الربانية وترد‬
‫عليها إذا خاطبت بالمناجاة اإللهية ‪ ،‬وتع هم جميع المقامات المخصوصة بروحانية أهل‬
‫السماوات ‪ ،‬وجيئت بجميع الحركات المستقيمة في اإلنسانيات عند القراءات ‪،‬‬
‫واألفقيات في الحيوانات عند الركوع لألذكار المعظمات ‪ ،‬والمنكوسة في النباتات عند‬
‫السجود البتغاء القربات ‪ ،‬وكانت الصلوات خمسا لمطابقتها أصول تركيب اإلنس (‬
‫الماء ‪ ،‬التراب ‪ ،‬النار ‪ ،‬الهواء ‪ ،‬الروح )‬
‫ألن الخمسة وحدها من بين سائر األعداد تحفظ نفسها وغيرها ‪ ،‬فاعرف قدرها واشكر‬
‫خيرها ‪ ،‬واعلم أنه تعالى قسم هذه الصلوات قسمين ‪ ،‬وجعل لها حكمين ‪ ،‬لتحصيل‬
‫علمين ‪ ،‬في عالمين راجعين إلى حاكمين ‪ ،‬فقسم واحد خصه بالعقل ‪ ،‬وهو الحضور‬
‫والتدبر لما يتلوه بعد عقد النية ‪ ،‬وقسم آخر خصه بالحس وهو التالوة وجميع حركات‬
‫الصالة ‪ ،‬لما كانت ال توجد إال في هذه البنية ‪ ،‬وأما الحكمان ‪ ،‬فحكم العقل التوجه إلى‬
‫القربة ‪ ،‬وحكم الحس التوجه إلى الكعبة ‪ ،‬وإنما قيدنا بجهة واحدة عن الجهات ‪ ،‬إلزالة‬
‫الحيرة وااللتفات ‪ ،‬وإشارة إلى فضل الجمع على الشتات ‪ ،‬وأما العلمان ‪ :‬فالعلم الواحد‬
‫يختص بالعقل وهو علم التنزالت والعلم اآلخر يختص بالحس وهو علم التجليات ‪،‬‬
‫وأما العالمان ‪ ،‬فالعالم الواحد عالم الغيب ‪ ،‬والعالم اآلخر عالم الشهادة المقدس عن‬
‫الريب ‪ ،‬وأما الحاكمان ‪ ،‬فالحاكم الواحد االسم الظاهر ‪،‬‬

‫ص ‪364‬‬

‫ص ‪364 :‬‬
‫ّللا تعالى لهذه الصالة أسماء من‬
‫والحاكم اآلخر االسم الباطن بال مؤازر ‪ ،‬ولما اشتق ه‬
‫لسر أبداه ‪ ،‬وخير إلينا أسداه ‪ ،‬فصالة الظهر في‬ ‫أوقاتها ال من ساعاتها ‪ ،‬علمنا أن ذلك ه‬
‫العقل لظهوره بالعلم ‪ ،‬وفي الحس لظهوره بالفعل في خلق الظهيرة والحكم ‪ ،‬وصالة‬
‫الحس لضمه إياه في‬‫ه‬ ‫العصر في العقل لضمه إياه في عقل معرفته عن النقل ‪ ،‬وفي‬
‫فروع األحكام إلى النقل عن العقل ‪ ،‬بضم الشمس إلى الغيب لوجود الفصل والفضل ‪،‬‬
‫وصالة المغرب في العقل الستتاره باألدلة الفكرية ‪ ،‬وفي الحس الستتاره عن الكيفية ‪،‬‬
‫وصالة العشاء في العقل الستسالمه إلى سلطان السمع ‪ ،‬فالحت له بارقة من بوارق‬
‫الجمع ‪ ،‬فغشيت عين بصيرته لشدة ظالم الطبع ‪ ،‬وفي الحس الستتار المبصرات‬
‫بجالبيب الظلمات ‪ ،‬فكأن العين غشيت عن إدراكها في أصل الوضع ‪ ،‬وصالة الفجر‬
‫الحس النفجار بحار األبصار ‪.‬‬
‫ه‬ ‫في العقل النفجار بحار األسرار ‪ ،‬وفي‬
‫واعلم أن الصلوات المفروضة كلها نهارية ‪ ،‬إما بالشمس وإما بآثارها ‪ ،‬إال العشاء‬
‫لسر غريب ‪ ،‬ومعنى‬ ‫األخيرة فإنهها مشتركة بين الليل وبين النهار أنوارها ‪ ،‬وذلك ه‬
‫عجيب ‪ ،‬وهو أن الصالة تكليف ‪ ،‬ففيها مشقة وتعنيف ‪ ،‬هما صفتان للنهار دون الليل‬
‫عقال وإحساسا ‪ ،‬فجعل النهار معاشا وجعل النوم سباتا ‪ ،‬حين جعل الليل لباسا ‪،‬‬
‫وانظر ما أوزن هذا التعريف بحكمة التكليف ‪ ،‬ثم اعلم أن الصالة البرزخية ‪ ،‬وهي‬
‫وسر في وتر ‪ ،‬وذلك في العقل ألن‬‫ه‬ ‫المغرب فرضها سبحانه بين جهر في شفع ‪،‬‬
‫البرزخ في الصالة أمر معقول بين عبد ورب علي قدر ‪ ،‬ألن العبد بالليل منوط ‪،‬‬
‫الحس بين كشف وستر ‪ ،‬وأن الصالة النهارية‬ ‫ه‬ ‫ّللا مربوط ‪ ،‬وفي‬
‫والرب بضوء شمس ه‬
‫وسر ‪ ،‬فالشفع للخلق ‪ ،‬والسر للوتر ‪ ،‬فإن الخلق إذا ظهر احتجب‬ ‫ه‬ ‫مفروضة بين شفع‬
‫الحق واستتر ‪ ،‬فلهذا شفع الظهر والعصر ‪ ،‬وبالقراءة أسر ‪ ،‬وجهر في كل صالة‬
‫الفجر لقرب طلوع الشمس ‪.‬‬

‫[ سورة هود ( ‪ : ) 11‬اآليات ‪116‬إلى ‪] 118‬‬


‫ون ِم ْن قَ ْب ِل ُك ْم أُولُوا بَ ِقيه ٍة يَ ْن َه ْو َن ع َِن ا ْلفَسا ِد فِي ْاأل َ ْر ِ‬
‫ض إِاله قَ ِليالً‬ ‫فَلَ ْو ال َ‬
‫كان ِم َن ا ْلقُ ُر ِ‬
‫ين ( ‪َ ) 116‬وما َ‬
‫كان‬ ‫ِين َظلَ ُموا ما أُتْ ِرفُوا فِي ِه َوكانُوا ُمجْ ِر ِم َ‬ ‫ِم هم ْن أ َ ْن َج ْينا ِم ْن ُه ْم َواتهبَ َع الهذ َ‬
‫اس أ ُ همةً‬
‫ون ( ‪َ ) 117‬ولَ ْو شا َء َربُّكَ لَ َجعَ َل النه َ‬ ‫ظ ْل ٍم َوأ َ ْهلُها ُم ْ‬
‫ص ِل ُح َ‬ ‫َربُّكَ ِليُ ْه ِلكَ ا ْلقُرى ِب ُ‬
‫ين) ‪( 118‬‬ ‫واح َدةً َوال يَزالُ َ‬
‫ون ُم ْخت َ ِل ِف َ‬ ‫ِ‬

‫ص ‪365‬‬

‫ص ‪365 :‬‬
‫[المشيئة اإللهية ]‬
‫اعلم أن المشيئة اإللهية ‪ ،‬لما كان لها أثر في الفعل لهذا نفى تعلقها بما ال يقبل االنفعال‬
‫ّللا تعالى بأنه لو شاء‬ ‫من حيث مرجحه ال من حيث نفسه ‪ ،‬فإن قلت فما فائدة إخبار ه‬
‫لفعل كذا مع كون كذا يستحيل وقوعه عقال لكون المشيئة اإللهية لم تتعلق به ؟ قلنا ‪:‬‬
‫إن ذلك إعالم لنا أن ذلك األمر الذي نفى تعلق المشيئة اإللهية ‪ ،‬بكونه ‪ ،‬ليس يستحيل‬
‫كونه بالنظر إلى نفسه إلمكانه ‪ ،‬فإنه يجب له أن يكون في نفسه قابال ألحد األمرين ‪،‬‬
‫فيفتقر إلى المرجح بخالف المحال لنفسه ‪ ،‬فإنه يستحيل نفي تعلق المشيئة بكونه ‪ ،‬فإنه‬
‫ّللا تعالى بقوله« لَ ْو شا َء » *فيما ال يقع إعالما أنه‬ ‫ال يكون لنفسه ‪ ،‬فكانت فائدة إخبار ه‬
‫بالنظر إلى ذاته ممكن الوقوع ‪ ،‬ليفرق لنا سبحانه بين ما هو في اإلمكان وبين ما ليس‬
‫اس أ ُ َّمةً‬
‫بممكن ‪ ،‬فنفى تعلق المشيئة واإلرادة به قال تعالى «‪َ :‬ولَ ْو شا َء َرب َُّك لَ َجعَ َل النَّ َ‬
‫واح َدة ً َوال يَزالُونَ ُم ْخت َ ِل ِفينَ »الختالف معتقداتهم ‪ ،‬فهم يخالفون المرحومين مخالفيهم ‪.‬‬ ‫ِ‬

‫[ سورة هود ( ‪ : ) 11‬آية ‪] 119‬‬


‫اس‬‫ِإاله َم ْن َر ِح َم َربُّكَ َو ِلذ ِلكَ َخلَقَ ُه ْم َوت َ همتْ َك ِل َمةُ َر ِبّكَ َأل َ ْم ََل َ هن َج َهنه َم ِم َن ا ْل ِجنه ِة َوالنه ِ‬
‫ين ) ‪( 119‬‬ ‫أَجْ َم ِع َ‬
‫‪-‬الوجه األول ‪ِ «-‬إ َّال َم ْن َر ِح َم َرب َُّك »وهم أهل الجمع الذين عرفوه في االختالف في‬
‫التجلي فلم ينكروه ‪ -‬الوجه الثاني ‪ «-‬إِ َّال َم ْن َر ِح َم َرب َُّك »فما زالوا من الخالف ألنهم‬
‫قد خالفوا المختلفين« َو ِلذ ِل َك َخلَقَ ُه ْم »أي من أجل الخالف خلقهم لتظهر أسماؤه في‬
‫الوجود ‪ ،‬فما تعدى كل خلق ما خلق له ‪ ،‬فالكل طائع وإن كان فيهم من ليس بمطيع مع‬
‫كونه طائعا ‪ ،‬فما ثم إال اختالف ‪ ،‬وال يكون إال هكذا ‪ ،‬فإذا سمعت أن ث هم أهل جمع‬
‫فليس إال من جمع مع الحق على ما في العالم من الخالف ‪ ،‬ألن األسماء اإللهية‬
‫مختلفة وما ظهر العالم إال بصورتها ‪ ،‬فأصل اختالف المعتقدات في العالم الكثرة في‬
‫ّللا من حيث نفسه له أحدية األحد ‪ ،‬ومن حيث أسماؤه له أحدية‬ ‫العين الواحدة ‪ ،‬فإن ه‬
‫الكثرة ‪ ،‬فهذا هو السبب الموجب‬

‫ص ‪366‬‬

‫ص ‪366 :‬‬
‫لتجليه تعالى في الصور المختلفة ‪ ،‬وتحوله فيها الختالف المعتقدات في العالم إلى هذه‬
‫الكثرة ‪ ،‬فكان الحق سبحانه أول مسئلة خالف ظهر في العالم ‪ ،‬ألن كل موجود في‬
‫العالم أول ما ينظر في سبب وجوده ‪ ،‬ألنه يعلم في نفسه أنه لم يكن ثم كان بحدوثه‬
‫لنفسه ‪ ،‬واختلفت فطرهم في ذلك ‪ ،‬فاختلفوا في السبب الموجب لظهورهم ما هو ؟‬
‫فلذلك كان الحق أول مسئلة خالف في العالم ‪ ،‬ولما كان أصل الخالف في العالم في‬
‫المعتقدات ‪ ،‬وكان السبب أيضا وجود كل شيء من العالم على مزاج ال يكون للشيء‬
‫اآلخر ‪ ،‬لهذا كان مآل الجميع إلى الرحمة ألنه خلقهم وأظهرهم في العماء وهو نفس‬
‫الرحمن ‪.‬‬

‫[ سورة هود ( ‪ : ) 11‬آية ‪] 120‬‬


‫ق َو َم ْو ِع َظةٌ‬
‫س ِل ما نُث َ ِبّتُ ِب ِه فُؤادَكَ َوجا َءكَ ِفي ه ِذ ِه ا ْل َح ُّ‬
‫الر ُ‬ ‫علَ ْيكَ ِم ْن أ َ ْن ِ‬
‫باء ُّ‬ ‫ص َ‬ ‫َو ُكالًّ نَقُ ُّ‬
‫ين ( ‪) 120‬‬ ‫َو ِذ ْكرى ِل ْل ُم ْؤ ِمنِ َ‬

‫ّللا عليه وسلم بعلم إحياء األموات معنى وحسا ]‬ ‫خص صلهى ه‬ ‫ه‬ ‫[‬
‫ّللا عليه وسلم بعلم إحياء األموات معنى وحسا ‪ ،‬فحصل العلم بالحياة‬ ‫خص صلهى ه‬ ‫ه‬
‫المعنوية وهي حياة العلوم والحياة الحسية ‪ ،‬وهو ما أتى في قصة إبراهيم عليه السالم‬
‫علَي َْك‬
‫ص َ‬ ‫ّللا عليه وسلم ‪ ،‬وهو قوله تعالى ‪َ «:‬و ُك ًّال نَقُ ُّ‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫تعليما وإعالما لرسول ه‬
‫ّللا لما يجده رسوله صلهى‬ ‫س ِل ما نُث َ ِبهتُ بِ ِه فُؤا َد َك »وذلك تسكين ورفق من ه‬ ‫الر ُ‬ ‫ِم ْن أ َ ْن ِ‬
‫باء ُّ‬
‫ّللا عليه وسلم من ر هد أمره ‪ ،‬فيجد لذلك عزاء في نفسه ‪ ،‬لما يرى من منازعة أمته إياه‬ ‫ه‬
‫ّللا عليه وسلم ما قاست األنبياء من أممهم‬ ‫ّللا ‪ ،‬وليري نبيه صلهى ه‬ ‫فيما جاء به عن ه‬
‫ّللا ما وقع‬ ‫ّللا عليه وسلم ‪ ،‬إن وقع منا في أمر ه‬ ‫فيعزي نفسه بذلك وتثبيتا لفؤاده صلهى ه‬
‫ظةٌ َو ِذ ْكرى »لنا نحن« ِل ْل ُمؤْ ِم ِنينَ‬ ‫من هؤالء« َوجا َء َك ِفي ه ِذ ِه ْال َح ُّق » « َو َم ْو ِع َ‬
‫ّللا على ما أوالنا من نعمه ‪ ،‬حيث آمنا واستسلمنا ولم نكلف نبينا أن يسأل ربه‬ ‫»لنشكر ه‬
‫شيئا مثل ما كلهفت األمم رسلها ‪ ،‬فنشكره سبحانه على هذه النعمة إذ لو شاء أللقى في‬
‫قلوبنا ‪ ،‬ما ألقاه في قلوب األمم قبلنا ‪ .‬واعلم أن جميع هذا القصص ‪ ،‬إنما هو قناطر‬
‫وجسور موضوعة نعبر عليها إلى ذواتنا وأحوالنا المختصة بنا ‪ ،‬فإن فيها منفعتنا ‪ ،‬إذ‬
‫ظةٌ َو ِذ ْكرى‬ ‫ّللا نصبها معبرا ‪ ،‬فما أبلغ قوله تعالى« َوجا َء َك فِي ه ِذ ِه ْال َح ُّق َو َم ْو ِع َ‬ ‫كان ه‬
‫»لما فيك وما عندك بما نسيته ‪ ،‬فيكون هذا الذي قصصته عليك يذكرك بما فيك وما‬
‫نبهتك عليه‪.‬‬

‫ص ‪367‬‬

‫ص ‪367 :‬‬
‫[ سورة هود ( ‪ : ) 11‬اآليات ‪ 121‬إلى ‪] 123‬‬
‫ون ( ‪َ ) 121‬وا ْنت َ ِظ ُروا إِنها‬ ‫عاملُ َ‬ ‫ون ا ْع َملُوا عَلى َمكانَتِ ُك ْم إِنها ِ‬ ‫َوقُ ْل ِللهذ َ‬
‫ِين ال يُ ْؤ ِمنُ َ‬
‫ض َو ِإلَ ْي ِه يُ ْر َج ُع ْاأل َ ْم ُر ُكلُّهُ فَا ْعبُ ْدهُ‬ ‫ت َو ْاأل َ ْر ِ‬
‫سماوا ِ‬ ‫ب ال ه‬ ‫ّلِل َ‬
‫غ ْي ُ‬ ‫ون ( ‪َ ) 122‬و ِ ه ِ‬ ‫ُم ْنت َ ِظ ُر َ‬
‫ون ) ‪( 123‬‬ ‫علَ ْي ِه َوما َربُّكَ ِبغافِ ٍل َ‬
‫ع هما ت َ ْع َملُ َ‬ ‫َوت َ َو هك ْل َ‬
‫تغرب األمر عند المحجوبين عن موطنه بما ادعوه فيه ألنفسهم قيل لهم‪َ " [ :‬و ِإلَ ْي ِه‬ ‫لما ه‬
‫يُ ْر َج ُع ْاأل َ ْم ُر ُكلُّهُ » ]‬
‫ّللا ال أنتم‬ ‫« َو ِإلَ ْي ِه يُ ْر َج ُع ْاأل َ ْم ُر ُكلُّهُ »لو نظرتم من نسبتم إليه هذا الفعل منكم ‪ ،‬إنما هو ه‬
‫‪ ،‬فأضاف الحق األفعال إليه ليحصل للعبد الطمأنينة ‪ ،‬بأن الدعوى ال تصح فيها مع‬
‫عز وجل وما ال يستحقه ‪ ،‬فإذا بلغ العبد هذا الح هد ر هد‬ ‫التمييز بين ما يستحقه الحق ه‬
‫األمور كلها هّلل ‪ ،‬ولما رجع األمر كله هّلل مما وقعت فيه الدعاوى الكاذبة ‪ ،‬لم يدل‬
‫ّللا ‪ ،‬بل هويته هي هي في حال الدعاوى‬ ‫ّللا تعالى على أمر لم يكن عليه ه‬ ‫رجوعها إلى ه‬
‫في المشاركة وفي حال رجوع األمر إليه ‪ ،‬والمقام ليس إال للتمييز والحقيقة ‪ ،‬ما‬
‫ّللا أحد وال أطاعه بل األمر كله هّلل ‪ ،‬فأفعال العبد خلق هّلل والعبد مح هل لذلك‬ ‫عصى ه‬
‫الخلق ‪ ،‬فاألصل في العالم قبول األمر اإللهي في التكوين ‪ ،‬والعصيان أمر عارض له‬
‫نسبي ‪ ،‬فإليه يرجع األمر كله ‪ ،‬يعني الذي عليه العالم بأسره ‪ ،‬ما صح منه وما اعتل ‪،‬‬
‫فال تنظر إلى المناصب وانظر إلى الناصب الذي يعمل بحكم الموطن ال بما يقتضيه‬
‫النظر العقلي ‪ ،‬فمن موطن الدنيا أن يعامل فيها الجليل باإلجالل في وقت ‪ ،‬وفي وقت‬
‫يعامل الجليل بالصغار ‪ ،‬وفي وقت يعامل الصغير بالصغار ‪ ،‬وفي وقت يعامل‬
‫الصغير بالجالل بخالف موطن اآلخرة ‪،‬‬
‫فإن العظيم بها يعامل بالعظمة ‪ ،‬والحقير بها يعامل بالحقارة ‪ ،‬ولو نظر الناظر لرأى‬
‫ّللا ما ال يليق به تعالى ومن يقول فيه ما يليق به من التنزيه‬ ‫في الدنيا من يقول في ه‬
‫والثناء ‪ ،‬فالناظر إذا كان عاقال علم بعقله أن موطن الدنيا كذا يعطي ويترك عنه‬
‫الجواز العقلي الذي يمكن في كل فرد فرد من أفراد العالم ‪،‬‬
‫فإن هذا الجواز في عين الشهود ليس بعلم وال صحيح ‪ ،‬وليكن العاقل مع الواقع في‬
‫الحال ‪ ،‬فإن ذلك صورة األمر على ما‬

‫ص ‪368‬‬

‫ص ‪368 :‬‬
‫ّللا تعالى ذكرنا بنفسه لنعلم أن المرجع إليه ‪ ،‬فال نقوم في‬ ‫فإن ه‬ ‫هو عليه في نفسه ‪ ،‬ه‬
‫شيء نحتاج فيه إلى االعتذار عنه أو نستحي منه عند المرجع إليه ‪ ،‬فهو تعالى على‬
‫صراط مستقيم ‪ ،‬ومنه بدأ األمر كله ولذلك جاء بالرجوع ‪ ،‬ألنه ال يمكن أن يكون‬
‫الرجوع إال من خروج متقدم ‪ ،‬والموجودات كلها والمحدثات ما خرجت إلى الوجود‬
‫ّللا ‪ ،‬فلهذا ترجع أحكامها إليه ولم تزل عنده ‪ ،‬وإنما سميت راجعة لما طرأ‬ ‫إال عن ه‬
‫للخلق من رؤية األسباب التي هي حجب على أعين الناظرين ‪ ،‬فال يزالون ينظرون‬
‫ويخترقون األسباب من سبب إلى سبب حتى يبلغوا إلى السبب األول ‪ ،‬وهو الحق فهذا‬
‫معنى الرجوع ‪ ،‬ومن جهة أخرى لما كانت األسماء والصفات كلها هّلل تعالى حتى ما‬
‫يزعم العبد أنها له ‪،‬‬
‫قال تعالى‪َ " :‬و ِإلَ ْي ِه يُ ْر َج ُع ْاأل َ ْم ُر ُكلُّهُ " فأخذ منه جميع ما كان يزعم أنه له إال العبادة ‪،‬‬
‫فإنه ال يأخذها إذ كانت ليست بصفة له ‪،‬‬
‫فقال له تعالى‪َ " :‬وإِلَ ْي ِه يُ ْر َج ُع ْاأل َ ْم ُر ُكلُّهُ فَا ْعبُ ْدهُ »وهو أصله الذي خلق له ( َوما َخلَ ْقتُ‬
‫ُون ) فالعبادة اسم حقيقي للعبد ‪ ،‬فهي ذاته وموطنه وحاله وعينه‬ ‫س ِإ َّال ِليَ ْعبُد ِ‬ ‫اإل ْن َ‬‫ْال ِج َّن َو ْ ِ‬
‫ونفسه وحقيقته ووجهه ‪ ،‬وأتى باسمه المضمر في « فَا ْعبُ ْدهُ »ألنه إن عبدته من حيث‬
‫عرفته فنفسك عبدت ‪ ،‬وإن عبدته من حيث لم تعرفه فنسبته إلى المرتبة اإللهية‬
‫فالمرتبة عبدت ‪ ،‬وإن عبدته عينا من غير مظهر وال ظاهر وال ظهور ‪ ،‬بل هو هو ال‬
‫أنت ‪ ،‬وأنت أنت ال هو ‪،‬‬
‫فهو قوله ‪ «:‬فَا ْعبُ ْدهُ »فقد عبدته ‪ ،‬وتلك المعرفة التي ما فوقها معرفة ‪ ،‬فإنها معرفة ال‬
‫يشهد معروفها ‪ «،‬فَا ْعبُ ْدهُ » أي تذلهل له في كل صراط يقيمك فيه ‪ ،‬ال تتذلل لغيره ‪،‬‬
‫فإن غيره عدم ‪ ،‬ومن قصد العدم لم تظفر يداه بشيء ‪ ،‬وال تقل أنت المدرك ‪ ،‬فإن‬
‫األبصار ال تدركه ‪ ،‬إذ لو أدرك الغيب ‪ ،‬ما كان غيبا ‪ ،‬لذلك جاء بضمير الغائب في‬
‫قوله« فَا ْعبُ ْدهُ »فاعبد ذاتا منزهة مجهولة ال تعرف منها سوى نسبتك إليها باالفتقار ‪،‬‬
‫ع َّما ت َ ْع َملُونَ »من‬
‫علَ ْي ِه »أي اعتمد عليه« َوما َرب َُّك بِغافِ ٍل َ‬‫ولهذا تمم فقال «‪َ :‬وت َ َو َّك ْل َ‬
‫دعواكم أن األمر إليكم ‪ ،‬وهو هّلل ‪ ،‬وقطع بهذا ظهر المدهعين باالستقامة على العبودية‬
‫والتوكل ‪ ،‬إذا لم يكن صفتهم وال حالهم ‪ ،‬فقوله تعالى« َو ِإلَ ْي ِه يُ ْر َج ُع ْاأل َ ْم ُر ُكلُّهُ »يشير‬
‫ّللا ‪ ،‬فالحق سبحانه غاية الطرق ‪،‬‬ ‫به لإلنسان للبراءة من نفسه ‪ ،‬ورد األمر كله إلى ه‬
‫قصدت الطرق أو لم تقصد ‪ ،‬فما هو غاية قصد السالك ‪ ،‬فإن السالك مقيد القصد (ما‬
‫ناصيَ ِتها ) وفيه إشارة إلى أنه ما في الوجود بحكم الحقيقة إال‬ ‫آخذٌ ِب ِ‬ ‫ِم ْن َدابَّ ٍة ِإ َّال ُه َو ِ‬
‫طاهر ‪ ،‬فإن االسم القدوس يصحب الموجودات ‪ ،‬وبه يثبت‬

‫ص ‪369‬‬

‫ص ‪369 :‬‬
‫ع َّما ت َ ْع َملُونَ » من‬ ‫قوله ‪َ ":‬وإِلَ ْي ِه يُ ْر َج ُع ْاأل َ ْم ُر ُكلُّهُ فَا ْعبُ ْدهُ َوت َ َو َّك ْل َ‬
‫علَ ْي ِه َوما َرب َُّك بِغافِ ٍل َ‬
‫ّللا وبين عباده ‪ ،‬وال ينبغي أن يحال بين العبد وسيده ‪ ،‬وال يدخل بين العبد‬ ‫تفريقكم بين ه‬
‫والسيد إال بخير ولهذا شرع الشفاعة وقبل العذر ‪ ،‬وأما النجاسة فهي أمر عرضي ‪،‬‬
‫عيهنه حكم شرعي ‪ ،‬والطهارة أمر ذاتي ‪ ،‬ولما كان الوجود منه قال تعالى «‪َ :‬و ِإلَ ْي ِه‬
‫علَ ْي ِه »فيهما ‪ ،‬فهل‬ ‫يُ ْر َج ُع ْاأل َ ْم ُر ُكلُّهُ فَا ْعبُ ْدهُ » بين البدء والختم وهو الرجوع« َوت َ َو َّك ْل َ‬
‫طلب منك ما ليس لك فيه تعمل ؟‬
‫ع َّما ت َ ْع َملُونَ " فال بد من حقيقة هنا تعطي إضافة العمل إليك مع‬ ‫" َوما َرب َُّك بِغافِ ٍل َ‬
‫كونه خلقا هّلل تعالى ‪ ،‬حيث أنتم مظاهر أسمائه الحسنى ‪ ،‬وبها تسعدون وتشقون ‪،‬‬
‫ّللاُ َمعَ ُك ْم َولَ ْن يَتِ َر ُك ْم أَعْمالَ ُك ْم ) فأضاف العمل لك ‪ ،‬وجعل نفسه رقيبا عليه وشهيدا‬ ‫( َو َّ‬
‫‪ ،‬ال يغفل وال ينسى ‪ ،‬ذلك لتقتدي أنت به فيما كلفك من األعمال ‪ ،‬فال تغفل وال تنسى‬
‫ألنك أولى بهذه الصفة الفتقارك إليه وغناه عنك ‪ ،‬فسلهم األمر إليه واستسلم ‪ ،‬تكن‬
‫موافقا لما هو األمر عليه في نفسه ‪ ،‬فتستريح من تعب الدعوى بين االفتتاح والختم ‪،‬‬
‫وإذا علمت هذا فارجع إليه مختارا وال ترجع مضطرا ‪ ،‬فإنه ال بد من رجوعك إليه ‪،‬‬
‫وال بد أن تلقاه كارها كنت أو محبا ‪ ،‬فإنه يلقاك بصفتك ال يزيد عليها ‪ ،‬فانظر لنفسك‬
‫يا ولي ‪،‬‬
‫ّللا ‪،‬‬ ‫ّللا لقاءه ‪ ،‬ومن كره لقاء ه‬ ‫ّللا ‪ ،‬أحب ه‬ ‫ّللا عليه وسلم ‪ [ :‬من أحب لقاء ه‬ ‫قال صلهى ه‬
‫ّللا لقاءه ]‬ ‫كره ه‬
‫ّللا ال يكون إال بالموت ‪ ،‬فمن علم الموت استعجله في الحياة الدنيا ‪،‬‬ ‫ولما كان لقاء ه‬
‫ّللا بحكم من يلقاه‬ ‫فيموت في عين حياته عن جميع تصرفاته وحركاته وإراداته فيلقى ه‬
‫محبا للقائه ‪ ،‬فإذا جاء الموت المعلوم في العامة وانكشف غطاء هذا الجسم ‪ ،‬لم يتغير‬
‫عليه حال وال زاد يقينا ‪ ،‬فما يذوق إال الموتة األولى ‪ ،‬وهي التي ماتها في حياته ‪،‬‬
‫ّللا هذا‬ ‫ّللا عنه ‪ :‬لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا ‪ ،‬فمن رجع إلى ه‬ ‫ي رضي ه‬ ‫قال عل ه‬
‫الرجوع سعد وما أحس بالرجوع المحتوم االضطراري ‪ ،‬فإنه ما جاءه إال وهو هناك‬
‫ّللا يحال بينها‬ ‫ّللا ‪ ،‬فغاية ما يكون الموت المعلوم في حقه أن نفسه التي هي عند ه‬ ‫عند ه‬
‫وبين تدبير هذا الجسم الذي كانت تدبره ‪،‬‬
‫فتبقى مع الحق على حالها ؛ وينقلب هذا الجسد إلى أصله ‪ ،‬وهو التراب الذي منه‬
‫نشأت ذاته ‪،‬‬
‫فكأن دارا رحل عنها ساكنها ‪ ،‬فأنزله الملك في مقعد صدق عنده إلى يوم يبعثون ‪،‬‬
‫ويكون حاله في بعثه كذلك ال يتغير عليه حال مع كونه مع الحق ال من حيث ما يعطيه‬
‫الحق مع األنفاس ‪ ،‬وهكذا في الحشر العام وفي الجنان التي هي مقره ومسكنه ‪ ،‬وفي‬
‫النشأة‬

‫ص ‪370‬‬

‫ص ‪370 :‬‬
‫التي ينزل فيها ‪ ،‬وهذا الرجوع ما هو رجوع التوبة فإنهه لذلك الرجوع ح هد خاص ‪،‬‬
‫وهذا رجوع عام في كل األحوال التي يكون عليها اإلنسان ‪.‬‬

‫‪ -‬تحقيق ‪ -‬المسافر ترك الحق في أهله خليفة ‪ ،‬شفقة عليهم وحذرا وخيفة ‪ ،‬وما خاف‬
‫عليهم إال منه ‪ ،‬ألنه ما يصدر شيء إال عنه ‪ ،‬إذا كان السيد راعي الغنم ‪ ،‬فما جار وما‬
‫ظلم ‪ ،‬وما ينال منها إال ما يقوته ‪ ،‬وقوته ما يفوته ‪ ،‬قوته آثار أسمائه في عباده ‪ ،‬وبها‬
‫عمارة بالده ‪ ،‬فحراثة وزراعة ‪ ،‬وتجارة وبضاعة ‪ ،‬لذلك وصف باليدين ‪ ،‬وأظهر في‬
‫الكون النجدين ‪ ،‬فالواحدة بائعة واألخرى مبتاعة ‪ ،‬إلى قيام الساعة ‪ ،‬ولكل يد طريق ‪،‬‬
‫هذا هو التحقيق ‪ ،‬فإن حكم المشتري ما هو حكم البائع ‪ ،‬وهذا ما ال شك فيه من غير‬
‫مانع وال منازع ‪ ،‬آئبون تائبون وهو التواب وإليه المآب ‪.‬‬

‫‪ -‬تحقيق ‪ -‬قال تعالى ‪َ «:‬وإِلَ ْي ِه يُ ْر َج ُع ْاأل َ ْم ُر ُكلُّهُ »س همي رجوعا لكونه منه خرج ‪،‬‬
‫وإليه يعود وفيما بين الخروج والعود ‪ ،‬وضعت الموازين ‪ ،‬ومد الصراط ووقعت‬
‫الدعاوى ‪ ،‬وظهرت اآلفات ‪ ،‬وكانت الرسل وجاءت األدواء ‪ ،‬فمنهم المستعمل لها ‪،‬‬
‫واآلخذ بها والتارك لها ‪.‬‬

‫( ‪ ) 12‬سورة يوسف مكيّة‬


‫الرحيم‬ ‫الرحمن ّ‬ ‫َّللا ّ‬ ‫بسم ّ‬
‫[ سورة يوسف ( ‪ : ) 12‬اآليات ‪ 1‬إلى ‪] 3‬‬
‫يم‬‫الر ِح ِ‬
‫من ه‬‫الرحْ ِ‬ ‫َّللا ه‬‫س ِم ه ِ‬ ‫ِب ْ‬
‫ون ( ‪ ) 2‬نَحْ ُن‬ ‫ين ( ‪ِ ) 1‬إنها أ َ ْن َز ْلناهُ قُ ْرآنا ً ع ََر ِبيًّا لَعَله ُك ْم ت َ ْع ِقلُ َ‬
‫ب ا ْل ُم ِب ِ‬
‫الر تِ ْلكَ آياتُ ا ْل ِكتا ِ‬
‫آن َو ِإ ْن ُك ْنتَ ِم ْن قَ ْب ِل ِه لَ ِم َن‬ ‫ص ِبما أ َ ْو َح ْينا ِإلَ ْيكَ هذَا ا ْلقُ ْر َ‬ ‫ص ِ‬ ‫علَ ْيكَ أَحْ َ‬
‫س َن ا ْلقَ َ‬ ‫ص َ‬ ‫نَقُ ُّ‬
‫ين ( ‪) 3‬‬ ‫ا ْلغافِ ِل َ‬
‫ت ِم ْن قَ ْب ِل ِه لَ ِمنَ ْالغافِ ِلينَ »فانتبه قلبك من سنة الغفلة ‪ ،‬والغفلة ال تكون إال‬ ‫« َوإِ ْن ُك ْن َ‬
‫عن سلطنة األمر الطبيعي والمزاج‪.‬‬

‫ص ‪371‬‬

‫ص ‪371 :‬‬
‫[ سورة يوسف ( ‪ : ) 12‬اآليات ‪ 4‬إلى ‪] 5‬‬
‫س َوا ْلقَ َم َر َرأ َ ْيت ُ ُه ْم ِلي‬ ‫ت إِ ِنّي َرأَيْتُ أ َ َح َد َ‬
‫عش ََر ك َْوكَبا ً َوالش ْهم َ‬ ‫ف ِأل َ ِبي ِه يا أَبَ ِ‬
‫س ُ‬‫إِ ْذ قا َل يُو ُ‬
‫ش ْي َ‬
‫طان‬ ‫ص ُر ْؤياكَ عَلى ِإ ْخ َوتِكَ فَيَ ِكيدُوا لَكَ َك ْيدا ً ِإ هن ال ه‬ ‫ص ْ‬ ‫ي ال ت َ ْق ُ‬ ‫ِين ( ‪ ) 4‬قا َل يا بُنَ ه‬ ‫ساجد َ‬ ‫ِ‬
‫ين ) ‪( 5‬‬ ‫عد ٌُّو ُم ِب ٌ‬ ‫ْل ْن ِ‬
‫سان َ‬ ‫ِل ْ ِ‬
‫وذلك لما علم يعقوب عليه السالم من علم أبنائه بتأويل ما مثهل الحق ليوسف عليه‬
‫السالم في رؤياه ‪ ،‬إذ ما كان ما رآه ومثل له إال عين إخوته وأبويه ‪ ،‬فأنشأ الخيال‬
‫صورة اإلخوة كواكب ‪ ،‬وصورة األبوين شمسا وقمرا ‪ ،‬وكلهم لحم ودم وعروق‬
‫وأعصاب ‪ ،‬فانظر هذه النقلة من عالم السفل إلى عالم األفالك ‪ ،‬ومن ظلمة هذا الهيكل‬
‫إلى نور الكوكب ‪ ،‬فقد لطف الكثيف ‪ ،‬ثم عمد إلى مرتبة التقدم وعلو المنزلة والمعاني‬
‫المجردة فكساها صورة السجود المحسوس فكثف لطيفها ‪ ،‬والرؤيا واحدة ‪ ،‬ولوال قوة‬
‫الخيال وجمعيته ما جرى ما جرى ثم برأ يعقوب عليه السالم أبناءه عن ذلك الكيد‬
‫ين »أي‬ ‫عد ٌُّو ُمبِ ٌ‬ ‫إل ْن ِ‬
‫سان َ‬ ‫شيْطانَ ِل ْ ِ‬‫وألحقه بالشيطان ‪ ،‬وليس إال عين الكيد ‪ ،‬فقال ‪ «:‬إِ َّن ال َّ‬
‫ظاهر العداوة‬
‫[ ‪ -‬الرؤيا ‪] -‬‬
‫ّللا أن لإلنسان حالتين حالة تسمى النوم وحالة تسمى اليقظة ‪،‬‬ ‫‪-‬الرؤيا ‪ -‬اعلم أيدك ه‬
‫ّللا له إدراكا يدرك به األشياء ‪ ،‬تسمى تلك اإلدراكات في‬ ‫وفي كلتا الحالتين جعل ه‬
‫اليقظة حسا ‪ ،‬وتسمى في النوم حسا مشتركا ‪ ،‬فكل شيء تبصره في اليقظة يسمى‬
‫رؤية ‪ ،‬وكل ما تبصره في النوم يسمى رؤيا مقصورا ‪ ،‬وجميع ما يدركه اإلنسان في‬
‫النوم هو مما ضبطه الخيال في حال اليقظة من الحواس ‪ ،‬وهو على نوعين ‪:‬‬
‫إما ما أدرك صورته في الحس ‪،‬‬
‫وإما ما أدرك أجزاء صورته التي أدركها في النوم بالحس ال بد من ذلك ‪،‬‬
‫فإن نقصه شيء من إدراك الحواس في أصل خلقه ‪ ،‬فلم يدرك في اليقظة ذلك األمر‬
‫فقد المعنى الحسي الذي يدركه به في أصل خلقته ‪ ،‬فال يدركه في النوم أبدا ‪ ،‬فاألصل‬
‫الحس ‪ ،‬واإلدراك به في اليقظة والخيال تبع في ذلك ‪ ،‬وقد يتقوى األمر على بعض‬ ‫ه‬
‫الناس فيدركون في اليقظة ما كانوا يدركونه في النوم ‪ ،‬وذلك نادر وهو للنبي والولي ‪،‬‬
‫واعلم أن مبدأ الوحي الرؤيا الصادقة ‪ ،‬وهي ال تكون إال في حال النوم ‪ ،‬قالت عائشة‬
‫في الحديث الصحيح‬
‫ّللا عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة ‪ ،‬فكان ال‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫[ أول ما بدئ به رسول ه‬
‫يرى رؤيا إال جاءت مثل فلق الصبح ]‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ ،‬فإنه‬ ‫وسبب ذلك صدقه صلهى ه‬

‫ص ‪372‬‬

‫ص ‪372 :‬‬
‫ثبت عنه أنه قال أصدقكم رؤيا أصدقكم حديثا ‪ ،‬فكان ال يحدث أحدا صلهى ه‬
‫ّللا عليه‬
‫وسلم بحديث عن تزوير يزوره في نفسه ‪ ،‬بل يتحدث بما يدركه بإحدى قواه الحسية أو‬
‫بكلها ‪ ،‬ما كان يحدث بالغرض وال يقول ما لم يكن ‪ ،‬وال ينطق في اليقظة عن شيء‬
‫يصوره في خياله مما لم ير لتلك الصورة بجملتها عينا في الحس ‪ ،‬فهذا سبب صدق‬
‫رؤياه ‪ ،‬وإنما بدئ الوحي بالرؤيا دون الحس ألن المعاني المعقولة أقرب إلى الخيال‬
‫منها إلى الحس ‪ ،‬ألن الحس طرف أدنى ‪ ،‬والمعنى طرف أعلى وألطف ‪ ،‬والخيال‬
‫بينهما والوحي معنى ‪ ،‬فإذا أراد المعنى أن ينزل إلى الحس فال بد أن يعبر على‬
‫حضرة الخيال قبل وصوله إلى الحس ‪ ،‬والخيال من حقيقته أن يصور كل ما حصل‬
‫عنده في صورة المحسوس ‪ ،‬ال بد من ذلك ‪ ،‬فإن كان ورود ذلك الوحي اإللهي في‬
‫حال النوم سمي رؤيا ‪ ،‬وإن كان في حال اليقظة سمي تخيال أي خيل إليه ‪ ،‬فلهذا بدئ‬
‫الوحي بالخيال ‪ ،‬ثم بعد ذلك انتقل الخيال إلى الملك من خارج ‪ ،‬فكان يتمثل له الملك‬
‫رجال أو شخصا من األشخاص المدركة بالحس ‪ ،‬وقد ينفرد هذا الشخص المراد بذلك‬
‫الوحي بإدراك هذا الملك ‪ ،‬وقد يدركه الحاضرون معه ‪ ،‬فيلقي على سمعه حديث ربه‬
‫وهو الوحي ‪ ،‬وتارة ينزل على قلبه صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم فتأخذه البرحاء وهو المعبر‬
‫عنه بالحال ‪ ،‬فإن الطبع ال يناسبه ‪ ،‬وانفرد األنبياء في ذلك بالتشريع ‪ ،‬فقد يكون الولي‬
‫بشيرا ونذيرا ولكن ال يكون مشرعا ‪ ،‬فإن الرسالة والنبوة بالتشريع قد انقطعت فال‬
‫رسول بعده وال نبي ‪ ،‬أي ال مشرع وال شريعة ‪،‬‬
‫ّللا صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم أنه قال ‪ [ :‬إن الرسالة والنبوة قد انقطعت فال‬ ‫ثبت عن رسول ه‬
‫رسول بعدي وال نبي ]‬
‫فشق ذلك على الناس فقال ‪ [ :‬لكن المبشرات ]‬
‫ّللا ‪ ،‬وما المبشرات ؟‬
‫فقالوا ‪ :‬يا رسول ه‬
‫فقال ‪ [ :‬رؤيا المسلم ‪ ،‬وهي جزء من أجزاء النبوة ] هذا حديث حسن صحيح من‬
‫حديث أنس بن مالك ‪،‬‬
‫وعن أبي هريرة وحذيفة وابن عباس وأم كرز ‪ ،‬أنه صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم أخبر أن‬
‫الرؤيا جزء من أجزاء النبوة ‪ ،‬فقد بقي للناس من النبوة هذا وغيره ‪ ،‬ومع هذا ال يطلق‬
‫اسم النبوة وال النبي إال على المشرع خاصة ‪ ،‬فحجر هذا االسم لخصوص وصف‬
‫معيهن في النبوة ‪ ،‬وما حجر النبوة التي ليس فيها هذا الوصف الخاص ‪ ،‬وإن كان حجر‬
‫االسم ‪ ،‬فنتأدب ونقف حيث وقف صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم بعد علمنا بما قال وما أطلق وما‬
‫حجر ‪ ،‬فنكون على بينة من أمرنا ‪ ،‬وإذا علمت هذا فلنقل إن الرؤيا ثالث ‪ ،‬منها‬
‫بشرى ورؤيا مما يحدث المرء به نفسه في اليقظة ‪ ،‬فيرتقم في خياله ‪ ،‬فإذا نام أدرك‬
‫ذلك بالحس المشترك ألنه تصوره في يقظته ‪ ،‬فبقي مرتسما‬

‫ص ‪373‬‬

‫ص ‪373 :‬‬
‫في خياله ‪ ،‬فإذا نام وانصرفت الحواس إلى خزانة الخيال أبصرت ذلك ‪ ،‬والرؤيا‬
‫ّللا صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ [ :‬إذا‬ ‫الثالثة من الشيطان ‪ ،‬عن أبي هريرة قال قال رسول ه‬
‫اقترب الزمان لم تكد رؤيا المؤمن تكذب ‪ ،‬وأصدقهم رؤيا أصدقهم حديثا ‪ ،‬ورؤيا‬
‫المسلم جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة ‪،‬‬
‫ّللا تعالى ‪ ،‬ورؤيا من تحزين الشيطان ‪،‬‬ ‫والرؤيا ثالث ‪ :‬فالرؤيا الصالحة بشرى من ه‬
‫ورؤيا مما يحدث الرجل به نفسه ‪ ،‬وإذا رأى أحدكم ما يكره فليقم وليتفل وال يحدث به‬
‫ّللا صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم [إذا‬ ‫الناس ] ‪ -‬الحديث ‪ -‬وفي حديث أبي قتادة عن رسول ه‬
‫باّلل من شرها فإنها‬
‫رأى أحدكم شيئا يكرهه فلينفث عن يساره ثالث مرات ‪ ،‬وليستعذ ه‬
‫تضره ] وهو حديث حسن صحيح ‪،‬‬ ‫ه‬ ‫ال‬
‫ّللا عليه وسلم [ إن رؤيا المسلم على رجل‬ ‫وفي الحديث الصحيح عن النبي صلهى ه‬
‫طائر ما لم يحدث بها فإذا حدث بها وقعت ]‬
‫واعلم أن هّلل ملكا موكال بالرؤيا يسمى الروح ‪ ،‬وهو دون السماء الدنيا ‪ ،‬وبيده صور‬
‫األجساد التي يدرك النائم فيها نفسه وغيره ‪ ،‬وصور ما يحدث من تلك الصور من‬
‫األكوان ‪ ،‬فإذا نام اإلنسان ‪ ،‬أو كان صاحب غيبة أو فناء أو قوة إدراك ال يحجبه‬
‫المحسوسات في يقظته عن إدراك ما بيد هذا الملك من الصور ‪ ،‬فيدرك هذا الشخص‬
‫بقوته في يقظته ما يدركه النائم في نومه ‪ ،‬وذلك أن اللطيفة اإلنسانية تنتقل بقواها من‬
‫حضرة المحسوسات إلى حضرة الخيال المتصل بها ‪ ،‬الذي محله مقدم الدماغ ‪،‬‬
‫فيفيض عليها ذلك الروح الموكل بالصور من الخيال المنفصل عن اإلذن اإللهي ما‬
‫يشاء الحق أن يريه هذا النائم أو الغائب أو الفاني أو القوي ‪ ،‬من المعاني متجسدة في‬
‫باّلل وما يوصف به من األسماء ‪ ،‬فيدرك‬ ‫الصور التي بيد هذا الملك ‪ ،‬فمنها ما يتعلق ه‬
‫الحق في صورة ‪ ،‬أو القرآن أو العلم أو الرسول الذي هو على شرعه ‪ ،‬فهنا يحدث‬
‫للرائي ثالث مراتب أو إحداهن ‪،‬‬
‫المرتبة الواحدة أن تكون الصورة المدركة راجعة للمرئي بالنظر إلى منزلة ما من‬
‫منازله وصفاته التي ترجع إليه ‪ ،‬فتلك رؤيا األمر على ما هو عليه بما يرجع إليه ‪،‬‬
‫والمرتبة الثانية أن تكون الصورة المرئية راجعة إلى حال الرائي في نفسه ‪،‬‬
‫والمرتبة الثالثة أن تكون الصورة المرئية راجعة إلى الحق المشروع والناموس‬
‫الموضوع ‪ ،‬أي ناموس كان في تلك البقعة التي ترى تلك الصورة فيها ‪ ،‬في والة أمر‬
‫ذلك اإلقليم القائمين بناموسه ‪ ،‬وما ثم مرتبة رابعة سوى ما ذكرناه ‪،‬‬
‫فاألولى وهي رجوع الصورة إلى عين المرئي فهي حسنة كاملة وال بد ‪ ،‬ال تتصف‬
‫بشيء من القبح والنقص ‪ ،‬والمرتبتان الباقيتان قد تظهر الصورة فيها بحسب األحوال‬
‫من الحسن والقبح‬

‫ص ‪374‬‬

‫ص ‪374 :‬‬
‫والنقص والكمال ‪ ،‬فلينظر إن كان من تلك الصورة خطاب فبحسب ما يكون الخطاب‬
‫يكون حاله ‪ ،‬وبقدر ما يفهم منه في رؤياه ‪ ،‬وال يعول على التعبير في ذلك بعد‬
‫الرجوع إلى عالم الحس ‪ ،‬إال إن كان عالما بالتعبير أو يسأل عالما بذلك ‪ ،‬ولينظر‬
‫أيضا حركته أعني حركة الرائي مع تلك الصورة ‪ ،‬من األدب واالحترام أو غير ذلك‬
‫‪ ،‬فإن حاله بحسب ما يصدر منه في معاملته لتلك الصورة ‪ ،‬فإنها صورة حق بكل‬
‫وجه ‪ ،‬وقد يشاهد الروح الذي بيده هذه الحضرة وقد ال يشاهده ‪ ،‬وما عدا هذه الصورة‬
‫فليست إال من الشيطان إن كان فيه تحزين ‪ ،‬أو مما يحدث المرء به نفسه في حال‬
‫يقظته ‪ ،‬فال يعول على ما يرى من ذلك ‪ ،‬ومع هذا وكونها ال يعول عليها إذا عبهرت‬
‫كان لها حكم وال بد ‪ ،‬يحدث لها ذلك من قوة التعبير ال من نفسها ‪ ،‬وهو أن الذي‬
‫يعبرها ال يعبرها حتى يصورها في خياله من المتكلم ‪ ،‬فقد انتقلت تلك الصورة من‬
‫المحل الذي كانت حديث نفس أو تحزين شيطان إلى خيال العابر لها ‪ ،‬وما هي له‬
‫حديث نفس ‪ ،‬فيحكم على صورة محققة ارتسمت في ذاته ‪ ،‬فيظهر لها حكم أحدثه‬
‫حصول تلك الصورة في نفس العابر ‪ ،‬كما جاء في قصة يوسف مع الرجلين ‪ ،‬وكانا‬
‫ّللا تعالى إذا رأى أحد رؤيا فإن صاحبها له فيما رآه حظ‬‫قد كذبا فيما صوراه ‪ ،‬ثم إن ه‬
‫من الخير والشر بحسب ما تقتضي رؤياه ‪ ،‬أو يكون الحظ في ناموس الوقت في ذلك‬
‫ّللا ذلك الحظ طائرا وهو ملك في‬‫الموضع ‪ ،‬وأما في الصورة المرئية فال ‪ ،‬فيصور ه‬
‫صورة طائر ‪ ،‬كما يخلق من األعمال صورا ملكية روحانية جسدية برزخية ‪ ،‬وإنما‬
‫جعلها في صورة طائر ألنه يقال طار له سهمه بكذا ‪ ،‬والطائر الحظ ‪ ،‬ويجعل الرؤيا‬
‫معلقة في رجل هذا الطائر ‪ ،‬وهي عين الطائر ‪ ،‬ولما كان الطائر إذا اقتنص شيئا من‬
‫الصيد من األرض إنما يأخذه برجله ألنه ال يد له ‪ ،‬وجناحه ال يتمكن له األخذ به ‪،‬‬
‫فلذلك علق الرؤيا برجله ‪ ،‬فهي المعلقة وهي عين الطائر ‪ ،‬فإذا عبرت سقطت لما‬
‫قيلت له ‪ ،‬وعندما تسقط ينعدم بسقوطها ‪ ،‬ويتصور في عالم الحس بحسب الحال التي‬
‫تخرج عليه تلك الرؤيا ‪ ،‬فترجع صورة الرؤيا عين الحال ال غير ‪ ،‬ثم إن تسمية النبي‬
‫ّللا عليه وسلم لها بشرى ومبشرة لتأثيرها في بشرة اإلنسان ‪ ،‬فإن الصورة‬ ‫صلهى ه‬
‫البشرية تتغير بما يرد عليها في باطنها مما تتخيله ‪ ،‬من صورة تبصرها أو كلمة‬
‫تسمعها إما بحزن أو فرح ‪ ،‬فيظهر لذلك أثر في البشرة ال بد من ذلك ‪ ،‬فإنه حكم‬
‫ّللا في الطبيعة ‪ ،‬فال يكون إال هكذا ‪ .‬واعلم أن للرؤيا مكان ومحل‬
‫طبيعي أودعه ه‬
‫وحال ‪ ،‬فحالها النوم ‪ ،‬وهو الغيبة عن‬

‫ص ‪375‬‬

‫ص ‪375 :‬‬
‫المحسوسات الظاهرة الموجبة للراحة ‪ ،‬ألجل التعب الذي كانت عليه في هذه النشأة‬
‫في حال اليقظة من الحركة ‪ ،‬وإن كان في هواها ‪ ،‬فتعب اآلالت والجوارح واألعضاء‬
‫البدنية في حال اليقظة ‪ ،‬وجعل زمانه الليل وإن وقع بالنهار ‪ ،‬كما جعل النهار للمعاش‬
‫وإن وقع بالليل ‪ ،‬ولكن الحكم للغالب ‪ ،‬فتنتقل هذه اآلالت من ظاهر الحس إلى باطنه‬
‫في النوم الذي يكون معه الرؤيا ‪ ،‬ليرى ما تقرر في خزانة الخيال الذي رفعت إليه‬
‫الحواس ما أخذته من المحسوسات ‪ ،‬وما صورته القوة المصورة التي هي من بعض‬
‫ّللا هذه المدينة ما استقر في‬ ‫خدم هذه الخزانة ‪ ،‬لترى هذه النفس الناطقة التي ملهكها ه‬
‫خزانتها ‪ ،‬وعلى قدر ما كمل لهذه النشأة من اآلالت التي هي الجوارح والخدام الذين‬
‫هم القوى الحسية يكون االختزان ‪ ،‬فث هم خزانة كاملة لكمال الحياة ‪ ،‬وث هم خزانة ناقصة‬
‫كاألكمه ‪ ،‬فإنه ال ينتقل إلى خزانة خياله صور األلوان ‪ ،‬والخرس ال ينتقل إلى خزانة‬
‫خياله صور األصوات وال الحروف اللفظية ‪ ،‬هذا كله إذا عدمها في أصل نشأته ‪،‬‬
‫وأما إذا طرأت عليه هذه اآلفات فال ‪ ،‬فإنه إذا انتقل بالنوم إلى باطن النشأة ودخل‬
‫الخزانة وجد صور األلوان التي اختزنها فيها قبل طرق اآلفة ‪ ،‬وكذلك كل ما أعطته‬
‫قوة من قوى الحس الذين هم جباة هذه المملكة ‪ ،‬فإذا ارتقى اإلنسان في درج المعرفة‬
‫علم أنه نائم في حال اليقظة المعهودة ‪ ،‬وأن األمر الذي هو فيه رؤيا ‪ ،‬إيمانا وكشفا ‪،‬‬
‫ّللا أمورا واقعة في ظاهر الحس وقال( فَا ْعت َ ِب ُروا )وقال ‪ِ (:‬إ َّن ِفي ذ ِل َك لَ ِعب َْرة ً‬
‫ولهذا ذكر ه‬
‫) *أي جوزوا واعبروا مما ظهر لكم من ذلك إلى علم ما بطن به وما جاء له ‪ ،‬قال‬
‫عليه السالم ‪ ( :‬الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا ) ولكن ال يشعرون ‪ ،‬فمن اعتبر الرؤيا‬
‫ّللا‬
‫يرى أمرا هائال ويتبين له ما ال يدركه من غير هذا الوجه ‪ ،‬ولهذا كان رسول ه‬
‫ّللا عليه وسلم إذا أصبح في أصحابه سألهم ‪ :‬هل رأى أحد منكم رؤيا ؟ ألنها‬ ‫صلهى ه‬
‫نبوة ‪ ،‬فكان يحب أن يشهدها في أمته ‪ ،‬والناس اليوم في غاية الجهل بهذه المرتبة التي‬
‫ّللا عليه وسلم يعتني بها ويسأل كل يوم عنها ‪ ،‬والجهالء في هذا‬ ‫ّللا صلهى ه‬
‫كان رسول ه‬
‫الزمان إذا سمعوا بأمر وقع في النوم لم يرفعوا به رأسا وقالوا ‪ :‬بالمنامات يريد أن‬
‫يحكم ‪ ،‬هذا خيال ‪ ،‬وما هي إال رؤيا ‪ ،‬فيستهونوا بالرائي إذا اعتمد عليها وهذا كله‬
‫لجهله بمقامها ‪ ،‬وجهله بأنه في يقظته وتصرفه في رؤيا ‪ ،‬وفي منامه في رؤيا في‬
‫رؤيا ‪ ،‬فهو كمن يرى أنه استيقظ في نومه وهو في منامه ‪ ،‬وهو قوله عليه السالم ‪[ :‬‬
‫الناس نيام ] وأما المكان والمحل ‪ ،‬فأما المحل فهو هذه النشأة العنصرية ‪ ،‬ال يكون‬
‫للرؤيا محل غيرها ‪ ،‬فليس للملك رؤيا ‪ ،‬وإنما ذلك للنشأة‬

‫ص ‪376‬‬

‫ص ‪376 :‬‬
‫العنصرية الحيوانية خاصة ‪ ،‬وأما المكان فهو ما تحت مقعر فلك القمر خاصة ‪ ،‬وفي‬
‫اآلخرة ما تحت مقعر فلك الكواكب الثابتة ‪ ،‬وذلك ألن النوم قد يكون في جهنم في‬
‫أوقات ‪ ،‬وال سيما في المؤمنين من أهل الكبائر ‪ ،‬وما فوق فلك الكواكب فال نوم ‪،‬‬
‫وأعني به النوم الكائن المعروف في العرف ‪ .‬واعلم أن اإلنسان إذا زهد في غرضه‬
‫ورغب عن نفسه وآثر ربه ‪ ،‬أقام له الحق عوضا من صورة نفسه صورة هداية إلهية‬
‫حقا من عند حق ‪ ،‬حتى يرفل في غالئل النور ‪ ،‬وهي شريعة نبيه ورسالة رسوله ‪،‬‬
‫فيلقى إليه من ربه ما يكون فيه سعادته ‪ ،‬فمن الناس من يراها على صورة نبيه ‪،‬‬
‫ومنهم من يراها على صورة حاله ‪ ،‬فإذا تجلت له في صورة نبيه فليكن عين فهمه فيما‬
‫تلقي إليه تلك الصورة ال غير ‪ ،‬فإن الشيطان ال يتمثل على صورة نبي أصال ‪ ،‬فتلك‬
‫ّللا بشريعته ‪ ،‬فما قال فهو‬
‫حقيقة ذلك النبي وروحه ‪ ،‬أو صورة ملك مثله عالم من ه‬
‫ّللا عليه وسلم فإن‬ ‫ّللا له على لسان رسوله صلهى ه‬ ‫ذاك ‪ ،‬فمن صبر نفسه على ما شرع ه‬
‫ّللا عليه وسلم في مبشرة يراها أو كشف بما‬ ‫ّللا ال بد أن يخرج إليه رسوله صلهى ه‬‫ه‬
‫ّللا إليه رسوله صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم ألن‬ ‫ّللا من الخير ‪ ،‬وإنما يخرج ه‬‫يكون له عند ه‬
‫ّللا عليه وسلم ال يتصور على صورته غيره ‪ ،‬فمن رآه رآه ال شك‬ ‫ّللا صلهى ه‬
‫رسول ه‬
‫ّللا إلى العبد ‪ ،‬أو من‬
‫فيه ‪ ،‬فالمبشرات وهي جزء من أجزاء النبوة إما أن تكون من ه‬
‫ّللا على يد بعض عباده إليه ‪ ،‬وهي الرؤيا يراها الرجل المسلم أو ترى له ‪ ،‬فإن جاءته‬ ‫ه‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ ،‬فإن كان حكما تعبد نفسه به‬ ‫ّللا في رؤياه على يد رسوله صلهى ه‬ ‫من ه‬
‫ّللا عليه وسلم على الصورة الجسدية التي كان‬ ‫وال بد ‪ ،‬بشرط أن يرى الرسول صلهى ه‬
‫ّللا‬
‫عليها في الدنيا ‪ ،‬كما نقل إليه من الوجه الذي صح عنده ‪ ،‬حتى إنه إن رأى رسول ه‬
‫صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم يراه مكسور الثنية العليا ‪ ،‬فإن لم يره بهذا األثر فما هو ذاك ‪،‬‬
‫ّللا عليه وسلم ورآه شيخا أو شابا مغايرا للصورة التي‬ ‫ّللا صلهى ه‬
‫وإن تحقق أنه رسول ه‬
‫كان عليها في الدنيا ومات عليها ‪ ،‬ورآه في حسن أزيد مما وصف له ‪ ،‬أو قبح صورة‬
‫ّللا‬
‫أو يرى الرائي إساءة أدب في نفسه معه ‪ ،‬فذلك كله الحق الذي جاء به رسول ه‬
‫ّللا ‪ ،‬فيكون ما رآه هذا الرائي عين الشرع ‪ ،‬إما‬ ‫صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ ،‬ما هو رسول ه‬
‫في البقعة التي يراه فيها عند والة األمور من الناس ‪ ،‬وإما أن يرجع ما يراه إلى حال‬
‫الرائي أو إلى المجموع ‪ ،‬غير ذلك ال يكون ‪ ،‬فيكون تغير صورته صلهى ه‬
‫ّللا عليه‬
‫وسلم عين إعالمه وخطابه إياه بما هو األمر عليه ‪ ،‬في حقه أو حق والة العصر‬
‫بالموضع الذي يراه فيه ‪ ،‬فإن جاءه بحكم في هذه الصورة فال يأخذ به إن اقتضى ذلك‬
‫نسخ حكم ثابت بالخبر المنقول الصحيح المعمول به ‪ ،‬وكل ما أتى به‬

‫ص ‪377‬‬

‫ص ‪377 :‬‬
‫من العلوم واألسرار مما عدا التحليل والتحريم فال تحجير عليه فيما يأخذه منه ‪ ،‬ال في‬
‫ّللا عليه وسلم على صورته‬ ‫العقائد وال في غيرها ‪ ،‬وذلك بخالف حكمه لو رآه صلهى ه‬
‫ّللا يقول (‪ْ :‬اليَ ْو َم أ َ ْك َم ْلتُ لَ ُك ْم دِينَ ُك ْم )هذا هو‬ ‫‪ ،‬فيلزمه األخذ به وال يلزم غير ذلك ‪ ،‬فإن ه‬
‫ّللا عليه وسلم في الرؤيا أو في‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫الفرقان بين األمرين ‪ ،‬فقد يرى رسول ه‬
‫الكشف ‪ ،‬فيصحح من األخبار ما ضعف بالنقل ‪ ،‬وقد ينفي من األخبار ما ثبت عندنا‬
‫ّللا عليه‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫بالنقل ‪ ،‬كما ذكر مسلم في صدر كتابه عن شخص أنه رأى رسول ه‬
‫ّللا عليه وسلم‬ ‫وسلم في المنام ‪ ،‬فعرض عليه ألف حديث كان في حفظه ‪ ،‬فأثبت صلهى ه‬
‫ّللا عليه‬ ‫ّللا عليه وسلم ما بقي ‪ ،‬فمن رآه صلهى ه‬ ‫من األلف ستة أحاديث وأنكر صلهى ه‬
‫وسلم في المنام فقد رآه في اليقظة ما لم تتغير عليه الصورة ‪ ،‬فإن الشيطان ال يتمثل‬
‫ي‬
‫على صورته أصال ‪ ،‬فهو معصوم الصورة حيا وميتا ‪ ،‬فمن رآه فقد رآه في أ ه‬
‫صورة رآه ‪.‬‬
‫[ سورة يوسف ( ‪ : ) 12‬آية ‪] 6‬‬
‫وب‬‫علَ ْيكَ َوعَلى آ ِل يَ ْعقُ َ‬ ‫ث َويُتِ ُّم نِ ْع َمتَهُ َ‬ ‫َوكَذ ِلكَ يَجْ تَبِيكَ َربُّكَ َويُعَ ِلّ ُمكَ ِم ْن تَأ ْ ِوي ِل ْاألَحادِي ِ‬
‫ع ِلي ٌم َح ِكي ٌم ) ‪( 6‬‬ ‫ق ِإ هن َربهكَ َ‬ ‫سحا َ‬ ‫كَما أَت َ همها عَلى أَبَ َو ْيكَ ِم ْن قَ ْب ُل ِإ ْبرا ِهي َم َو ِإ ْ‬
‫اعلم أنه كل ما يتخيل يعبر كالرؤيا ‪ ،‬كذلك يعبر كل كالم ويتأول ‪ ،‬فما في الكون كالم‬
‫ال يتأول‬
‫ث )وكل كالم فإنه حادث عند السامع ‪،‬‬ ‫ولذلك قال تعالى ‪َ (:‬و ِلنُعَ ِله َمهُ ِم ْن تَأ ْ ِوي ِل ْاألَحادِي ِ‬
‫فمن التأويل ما يكون إصابة لما أراده المتكلم بحديثه ‪ ،‬ومن التأويل ما يكون خطأ عن‬
‫مراد المتكلم ‪ ،‬فقول يعقوب عليه السالم البنه يوسف عليه السالم ‪َ «:‬ويُعَ ِله ُم َك ِم ْن‬
‫ث »يعني اإلصابة في التأويل بما يريد المتكلم ‪.‬‬ ‫تَأ ْ ِوي ِل ْاألَحادِي ِ‬
‫[ سورة يوسف ( ‪ : ) 12‬اآليات ‪ 7‬إلى ‪] 20‬‬
‫ب ِإلى‬ ‫ف َوأ َ ُخو ُه أ َ َح ُّ‬ ‫س ُ‬‫سا ِئ ِلي َن ( ‪ِ ) 7‬إ ْذ قالُوا لَيُو ُ‬ ‫ف َو ِإ ْخ َو ِت ِه آياتٌ ِلل ه‬ ‫س َ‬‫كان ِفي يُو ُ‬ ‫لَقَ ْد َ‬
‫ف أ َ ِو ا ْط َر ُحوهُ أ َ ْرضا ً‬ ‫س َ‬ ‫اقتُلُوا يُو ُ‬ ‫ين ( ‪ْ ) 8‬‬ ‫ضال ٍل ُمبِ ٍ‬ ‫صبَةٌ إِ هن أَبانا لَ ِفي َ‬ ‫ع ْ‬ ‫أَبِينا ِمنها َونَحْ ُن ُ‬
‫ين ( ‪ ) 9‬قا َل قائِ ٌل ِم ْن ُه ْم ال ت َ ْقتُلُوا‬ ‫يَ ْخ ُل لَ ُك ْم َوجْ هُ أَبِي ُك ْم َوتَكُونُوا ِم ْن بَ ْع ِد ِه قَ ْوما ً صا ِل ِح َ‬
‫ين ( ‪ ) 10‬قالُوا‬ ‫ار ِة ِإ ْن ُك ْنت ُ ْم فا ِع ِل َ‬ ‫سيه َ‬‫ض ال ه‬ ‫ب يَ ْلت َ ِق ْطهُ بَ ْع ُ‬‫ت ا ْل ُج ّ ِ‬ ‫غيابَ ِ‬ ‫ف َوأ َ ْلقُوهُ فِي َ‬ ‫س َ‬
‫يُو ُ‬
‫ون ) ‪( 11‬‬ ‫ناص ُح َ‬ ‫ف َو ِإنها لَهُ لَ ِ‬ ‫س َ‬ ‫يا أَبانا ما لَكَ ال تَأ ْ َمنها عَلى يُو ُ‬
‫ون ) ‪ ( 12‬قا َل ِإ ِنّي لَيَحْ ُزنُنِي أ َ ْن ت َ ْذ َهبُوا ِب ِه‬ ‫ظ َ‬ ‫غدا ً يَ ْرت َ ْع َويَ ْلعَ ْب َو ِإنها لَهُ لَحافِ ُ‬ ‫س ْلهُ َمعَنا َ‬ ‫أ َ ْر ِ‬
‫صبَةٌ‬ ‫ع ْ‬ ‫ب َونَحْ ُن ُ‬ ‫ون ( ‪ ) 13‬قالُوا لَ ِئ ْن أ َ َكلَهُ ال ِذّئْ ُ‬ ‫ع ْنهُ غا ِفلُ َ‬ ‫ب َوأ َ ْنت ُ ْم َ‬ ‫خاف أ َ ْن يَأ ْ ُكلَهُ ال ِذّئْ ُ‬
‫َوأ َ ُ‬
‫ب َوأ َ ْو َح ْينا‬ ‫ت ا ْل ُج ّ ِ‬‫غيابَ ِ‬ ‫ون ) ‪ ( 14‬فَلَ هما ذَ َهبُوا بِ ِه َوأَجْ َمعُوا أ َ ْن يَجْ عَلُوهُ فِي َ‬ ‫س ُر َ‬ ‫إِنها إِذا ً لَخا ِ‬
‫ُون ) ‪( 16‬‬ ‫ون ( ‪َ ) 15‬وجا ُؤ أَبا ُه ْم ِعشا ًء يَ ْبك َ‬ ‫شعُ ُر َ‬ ‫إِلَ ْي ِه لَتُنَ ِبّئَنه ُه ْم بِأ َ ْم ِر ِه ْم هذا َو ُه ْم ال يَ ْ‬
‫ب َوما أ َ ْنتَ ِب ُم ْؤ ِم ٍن‬ ‫ف ِع ْن َد َمتا ِعنا فَأ َ َكلَهُ ال ِذّئْ ُ‬ ‫س َ‬ ‫ق َوت َ َر ْكنا يُو ُ‬ ‫ست َ ِب ُ‬ ‫قالُوا يا أَبانا ِإنها ذَ َه ْبنا نَ ْ‬
‫س ُك ْم‬‫س هولَتْ لَ ُك ْم أ َ ْنفُ ُ‬ ‫ب قا َل بَ ْل َ‬ ‫يص ِه ِبد ٍَم َك ِذ ٍ‬ ‫ين ( ‪َ ) 17‬وجا ُؤ عَلى قَ ِم ِ‬ ‫لَنا َولَ ْو ُكنها صا ِدقِ َ‬
‫سلُوا‬ ‫ارةٌ فَأ َ ْر َ‬ ‫سيه َ‬‫ون ( ‪َ ) 18‬وجا َءتْ َ‬ ‫عان عَلى ما ت َ ِصفُ َ‬ ‫ست َ ُ‬ ‫َّللاُ ا ْل ُم ْ‬‫ص ْب ٌر َج ِمي ٌل َو ه‬ ‫أ َ ْمرا ً فَ َ‬
‫ون (‬ ‫ع ِلي ٌم ِبما يَ ْع َملُ َ‬ ‫س ُّرو ُه ِبضاعَةً َو ه‬
‫َّللاُ َ‬ ‫غال ٌم َوأ َ َ‬ ‫وار َد ُه ْم فَأَدْلى َد ْل َو ُه قا َل يا بُشْرى هذا ُ‬ ‫ِ‬
‫ِين) ‪( 20‬‬ ‫الزا ِهد َ‬‫‪َ ) 19‬وش ََر ْوهُ بِث َ َم ٍن بَ ْخ ٍس دَرا ِه َم َم ْعدُو َد ٍة َوكانُوا فِي ِه ِم َن ه‬
‫ص ‪378‬‬
‫ص ‪378 :‬‬
‫تعرض صاحبه للبالء ‪ ،‬ثم إن من شأن هذا الموطن‬ ‫اعلم أن الذي تحقق مقام العبودة ه‬
‫ّللا عز الحسن يوسف عليه السالم‬ ‫أن ال يكمل فيه عز ألحد وال راحة ‪ ،‬فإنه لما وهب ه‬
‫ابتلي بذل الرق ‪ ،‬ومع ذلك الحسن العالي الذي ال يقاومه شيء بيع بثمن بخس دراهم‬
‫معدودة ‪ ،‬من ثالثة دراهم إلى عشرة ال غير ‪ ،‬وذلك مبالغة في الذلة تقاوم مبالغته عزة‬
‫الحسن ‪ ،‬ثم سلب الرحمة من قلوب اإلخوة ‪ ،‬والحسن مرحوم أبدا بكل وجه ‪ ،‬فظهر‬
‫أن األمر اإللهي لم يكن بيد الخلق منه شيء سوى التصريف تحت القهر ‪ ،‬فزال بهذا‬
‫الذل العظيم عن ذلك الحسن‬

‫‪379‬‬

‫ص ‪379 :‬‬
‫ّللا ) طيب النفس عزيزا بالعزة‬
‫العرضي ‪ ،‬فبقي يوسف عليه السالم في سفره ( إلى ه‬
‫اإللهية ال غير‬

‫[ ‪ -‬إشارة ‪ -‬وبيع بثمن بخس ]‬


‫‪-‬إشارة ‪ -‬وبيع بثمن بخس ‪ ،‬ليعلم أن اإلنسان من حيث هو صاحب نقص ‪ ،‬فإن غال‬
‫ثمنه وعال ‪ ،‬فلصفة زائدة على ذاته حضرتها المأل األعلى ‪.‬‬

‫[ سورة يوسف ( ‪ ) : 12‬آية ‪] 21‬‬


‫الم َرأَتِ ِه أ َ ْك ِر ِمي َمثْواهُ عَسى أ َ ْن يَ ْنفَعَنا أ َ ْو نَت ه ِخذَهُ َولَدا ً‬ ‫شتَراهُ ِم ْن ِمص َْر ْ‬ ‫َوقا َل الهذِي ا ْ‬
‫ب عَلى أ َ ْم ِر ِه‬ ‫َّللاُ غا ِل ٌ‬‫ث َو ه‬ ‫ض َو ِلنُعَ ِلّ َمهُ ِم ْن تَأ ْ ِوي ِل ْاألَحادِي ِ‬‫ف ِفي ْاأل َ ْر ِ‬ ‫َوكَذ ِلكَ َم هكنها ِليُو ُ‬
‫س َ‬
‫ون ) ‪( 21‬‬ ‫اس ال يَ ْعلَ ُم َ‬‫َول ِك هن أ َ ْكث َ َر النه ِ‬
‫ب‬
‫ّللاُ غا ِل ٌ‬ ‫ث »يعني اإلصابة في التأويل بما يريد المتكلم« َو َّ‬ ‫" َو ِلنُعَ ِله َمهُ ِم ْن تَأ ْ ِوي ِل ْاألَحادِي ِ‬
‫ب‬‫ّللاُ غا ِل ٌ‬ ‫على أ َ ْم ِر ِه »الصورة قد تكون في اللسان األمر والشأن ‪ ،‬فقوله تعالى ‪َ «:‬و َّ‬ ‫َ‬
‫على أ َ ْم ِر ِه »أي على من أظهره بصورته أي بأمره ‪ ،‬فإن له حكم العزل فيه مع بقاء‬ ‫َ‬
‫ّللا آدم على صورته‬ ‫ّللا عليه وسلم ‪ [ :‬خلق ه‬ ‫نشأته ‪ ،‬فتدل هذه اآلية على أن قوله صلهى ه‬
‫اس ال يَ ْعلَ ُمونَ‬ ‫] أنه ما أراد بالصورة النشأة وإنما أراد األمر والحكم« َول ِك َّن أ َ ْكث َ َر النَّ ِ‬
‫ّللا في‬ ‫»ألنهم ال يسمعون وال يشهدون ‪ ،‬فالعالم ال يعدل عن سنن العلم ‪ ،‬ومراد ه‬
‫األشياء ‪.‬‬

‫[ سورة يوسف ( ‪ : ) 12‬اآليات ‪ 22‬إلى ‪] 23‬‬


‫راو َدتْهُ الهتِي ُه َو‬
‫ين ( ‪َ ) 22‬و َ‬ ‫سنِ َ‬ ‫َولَ هما بَلَ َغ أ َ ُ‬
‫ش هدهُ آت َ ْيناهُ ُح ْكما ً َو ِع ْلما ً َوكَذ ِلكَ نَجْ ِزي ا ْل ُمحْ ِ‬
‫َّللا ِإنههُ َر ِبّي أَحْ َ‬
‫س َن‬ ‫واب َوقالَتْ َه ْيتَ لَكَ قا َل َمعاذَ ه ِ‬ ‫ت ْاأل َ ْب َ‬ ‫غلهقَ ِ‬‫س ِه َو َ‬‫ِفي بَ ْي ِتها ع َْن نَ ْف ِ‬
‫ون ( ‪) 23‬‬ ‫ظا ِل ُم َ‬‫واي إِنههُ ال يُ ْف ِل ُح ال ه‬‫َمثْ َ‬
‫ْت لَ َك »أي حسنت هيئتي لك ‪.‬‬ ‫« َهي َ‬

‫[ سورة يوسف ( ‪ ) : 12‬آية ‪] 24‬‬


‫سو َء َوا ْلفَحْ شا َء‬
‫ع ْنهُ ال ُّ‬ ‫َولَقَ ْد َه همتْ ِب ِه َو َه هم ِبها لَ ْو ال أ َ ْن َرأى بُ ْر َ‬
‫هان َر ِبّ ِه كَذ ِلكَ ِلنَص ِْر َ‬
‫ف َ‬
‫ين) ‪( 24‬‬ ‫ِإنههُ ِم ْن ِعبا ِدنَا ا ْل ُم ْخلَ ِص َ‬

‫ص ‪380‬‬

‫ص ‪380 :‬‬
‫ت بِ ِه َو َه َّم بِها » ]‬‫[" َولَقَ ْد َه َّم ْ‬
‫ّللا في اآلية فيما ذا ‪ ،‬فإنه قد يتبادر أنه في اللسان‬ ‫ت بِ ِه َو َه َّم بِها »ولم يعيهن ه‬ ‫« َولَقَ ْد َه َّم ْ‬
‫يدل على أحدية المعنى ‪ ،‬ولكن إذا نظرنا إلى قول يوسف للملك على لسان رسوله أن‬
‫يسأل عن النسوة وشأن األمر ‪ ،‬فما ذكرت المرأة إال أنها راودته عن نفسه ‪ ،‬وما‬
‫ذكرت أنه راودها ‪،‬‬
‫فزال ما كان يتوهم من ذلك فإن قلت ‪ :‬ال زال االشتراك في اللسان وال بد منه ‪ ،‬ففي‬
‫ما ذا يقع االشتراك ؟‬
‫قلنا ‪ :‬إنها همت به لتقهره على ما تريد منه ‪ ،‬وه هم هو بها ليقهرها في الدفع عن ذلك ‪،‬‬
‫فاالشتراك وقع في طلب القهر منه ومنها ‪،‬‬
‫ت ِب ِه »يعني في عين ما ه هم بها ‪ ،‬وليس إال القهر فيما يريد‬ ‫فلهذا قال تعالى ‪َ «:‬ولَقَ ْد َه َّم ْ‬
‫كل واحد من صاحبه ‪،‬‬
‫ع ْن نَ ْف ِس ِه ) وما جاء في السورة قط‬ ‫ص ْال َح ُّق أَنَا َ‬
‫راو ْدتُهُ َ‬ ‫ص َح َ‬ ‫دليل ذلك قولها( ْاآلنَ َح ْ‬
‫أنه راودها عن نفسها ‪،‬‬
‫ّللا البرهان عند إرادته القهر في دفعها عنه فيما تريد منه« لَ ْو ال أ َ ْن َرأى بُ ْرهانَ‬ ‫فأراه ه‬
‫َر ِبه ِه »فكان البرهان الذي رآه أن يدفع عن نفسه بالقول اللين ‪ ،‬فإن القول اللين قد يأتي‬
‫في مواطن بما ال يأتي به القهر ‪ ،‬كما قال تعالى لموسى وهارون( فَقُوال لَهُ قَ ْو ًال لَ ِيهنا ً‬
‫)فكان البرهان ال تعنف عليها وال تسبها ‪ ،‬فإنها امرأة موصوفة بالضعف على كل حال‬
‫سو َء َو ْالفَ ْحشا َء »والهم بالسوء من السوء وهو مصروف عنه‬ ‫ع ْنهُ ال ُّ‬‫ف َ‬ ‫‪َ «،‬كذ ِل َك ِلنَ ْ‬
‫ص ِر َ‬
‫صينَ »بفتح الالم ‪ ،‬إذا ولد‬ ‫أعني السوء ‪ ،‬فلم يكن يهم بسوء« ِإنَّهُ ِم ْن ِعبا ِدنَا ْال ُم ْخلَ ِ‬
‫ّللا من بني آدم من‬ ‫المولود ونشأ محفوظا قبل التكليف ولم يرزأ في عهده الذي أخذ ه‬
‫ظهورهم وأشهدهم على أنفسهم ‪ ،‬وهو الفطرة التي يولد عليها كل مولود ‪ ،‬فبقي عهده‬
‫على أصله خالصا ‪ ،‬وهو الدين الخالص ‪ ،‬ال المخلص من غير شوب خالطه ‪ ،‬فهو‬
‫صاحب العهد الخالص فال يشقى ‪.‬‬

‫[ سورة يوسف ‪ ( 12 ) :‬اآليات ‪ 25‬إلى ‪] 27‬‬


‫ب قالَتْ ما َجزا ُء َم ْن أَرا َد‬ ‫س ِيّدَها لَدَى ا ْلبا ِ‬‫صهُ ِم ْن ُدبُ ٍر َوأ َ ْلفَيا َ‬
‫باب َوقَدهتْ قَ ِمي َ‬ ‫ستَبَقَا ا ْل َ‬
‫َوا ْ‬
‫سي َوش َِه َد‬ ‫راو َدتْنِي ع َْن نَ ْف ِ‬ ‫ي َ‬ ‫َذاب أ َ ِلي ٌم ( ‪ ) 25‬قا َل ِه َ‬ ‫س َج َن أ َ ْو ع ٌ‬ ‫سوءا ً ِإاله أ َ ْن يُ ْ‬‫ِبأ َ ْه ِلكَ ُ‬
‫ين ( ‪َ ) 26‬و ِإ ْن‬ ‫صهُ قُ هد ِم ْن قُبُ ٍل فَ َ‬
‫ص َدقَتْ َو ُه َو ِم َن ا ْلكا ِذ ِب َ‬ ‫شا ِه ٌد ِم ْن أ َ ْه ِلها ِإ ْن َ‬
‫كان قَ ِمي ُ‬
‫ين) ‪( 27‬‬ ‫صهُ قُ هد ِم ْن ُدبُ ٍر فَ َكذَبَتْ َو ُه َو ِم َن ال ه‬
‫صا ِدقِ َ‬ ‫كان قَ ِمي ُ‬
‫َ‬

‫ص ‪381‬‬

‫ص ‪381 :‬‬
‫هذا الشاهد هو صبي كان في المهد ‪.‬‬

‫[ سورة يوسف ( ‪ : ) 12‬اآليات ‪ 28‬إلى ‪] 30‬‬


‫صهُ قُ هد ِم ْن ُدبُ ٍر قا َل ِإنههُ ِم ْن َك ْي ِدك هُن ِإ هن َك ْي َدك هُن ع َِظي ٌم ( ‪) 28‬‬ ‫فَلَ هما َرأى قَ ِمي َ‬
‫ين ( ‪) 29‬‬ ‫ت ِم َن ا ْل ِ‬
‫خاط ِئ َ‬ ‫ست َ ْغ ِف ِري ِلذَ ْن ِب ِك ِإنه ِك ُك ْن ِ‬
‫ض ع َْن هذا َوا ْ‬ ‫ف أَع ِْر ْ‬ ‫س ُ‬‫يُو ُ‬
‫شغَفَها ُحبًّا إِنها لَنَراها‬ ‫يز تُرا ِو ُد فَتاها ع َْن نَ ْف ِ‬
‫س ِه قَ ْد َ‬ ‫ام َرأَتُ ا ْلعَ ِز ِ‬
‫س َوةٌ فِي ا ْل َمدِينَ ِة ْ‬ ‫َوقا َل نِ ْ‬
‫ين (‪)30‬‬ ‫ضال ٍل ُمبِ ٍ‬ ‫فِي َ‬
‫شغَفَها ُحبًّا " أي صار حبها يوسف على قلبها كالشغاف ‪ ،‬وهو الجلدة الرقيقة التي‬ ‫" َ‬
‫تحتوي على القلب ‪ ،‬فهي ظرف له محيطة ‪ ،‬وهو العشق ‪ ،‬فإنه إفراط المحبة ‪.‬‬

‫[ سورة يوسف ( ‪ : ) 12‬آية ‪] 31‬‬


‫سلَتْ إِلَ ْي ِه هن َوأ َ ْعتَدَتْ لَ ُه هن ُمت ه َكأ ً َوآتَتْ ُك هل ِ‬
‫واح َد ٍة ِم ْن ُه هن ِ‬
‫س ِ ّكينا ً‬ ‫س ِمعَتْ بِ َم ْك ِر ِه هن أ َ ْر َ‬
‫فَلَ هما َ‬
‫ّلِل ما هذا بَشَرا ً إِ ْن‬ ‫حاش ِ ه ِ‬
‫َ‬ ‫ط ْع َن أ َ ْي ِديَ ُه هن َوقُ ْل َن‬
‫علَ ْي ِه هن فَلَ هما َرأ َ ْينَهُ أ َ ْكبَ ْرنَهُ َوقَ ه‬
‫اخ ُرجْ َ‬ ‫ت ْ‬ ‫َوقالَ ِ‬
‫هذا ِإاله َملَكٌ ك َِري ٌم ) ‪( 31‬‬
‫لما رأينه في تقديسه نفسه عن الشهوات الطبيعية ‪ ،‬وهذا ما يدل على عصمته من أن‬
‫يهم بسوء ‪ ،‬فإن الملك ليس من السوء في شيء قالت النسوة ‪ِ «:‬إ ْن هذا ِإ َّال َملَ ٌك َك ِري ٌم‬
‫»الختصاصه عموما بأحسن تقويم ‪.‬‬

‫[ سورة يوسف ( ‪ : ) 12‬اآليات ‪ 32‬إلى ‪] 33‬‬


‫ص َم َولَئِ ْن لَ ْم يَ ْفعَ ْل ما آ ُم ُرهُ‬ ‫ست َ ْع َ‬‫س ِه فَا ْ‬ ‫قالَتْ فَذ ِلك هُن الهذِي لُ ْمتُنهنِي فِي ِه َولَقَ ْد َ‬
‫راو ْدت ُهُ ع َْن نَ ْف ِ‬
‫ي ِم هما يَ ْدعُونَنِي ِإلَ ْي ِه‬ ‫ب ِإلَ ه‬‫سِجْ ُن أ َ َح ُّ‬‫ب ال ّ‬ ‫ين ( ‪ ) 32‬قا َل َر ّ ِ‬ ‫س َجنَ هن َولَيَكُونا ً ِم َن ال ه‬
‫صا ِغ ِر َ‬ ‫لَيُ ْ‬
‫ين) ‪. ( 33‬‬ ‫ْب ِإلَ ْي ِه هن َوأَك ُْن ِم َن ا ْلجا ِه ِل َ‬
‫ع ِنّي َك ْي َد ُه هن أَص ُ‬ ‫َو ِإاله تَص ِْر ْ‬
‫ف َ‬

‫ص ‪382‬‬

‫ص ‪382 :‬‬
‫عونَنِي إِلَ ْي ِه »محبة إضافة ال محبة‬ ‫س ْج ُن أ َ َحبُّ إِلَ َّ‬
‫ي ِم َّما يَ ْد ُ‬ ‫قول يوسف عليه السالم« ال ِ ه‬
‫حقيقية ‪.‬‬

‫[ سورة يوسف ( ‪ : ) 12‬اآليات ‪ 34‬إلى ‪]36‬‬


‫س ِمي ُع ا ْلعَ ِلي ُم ( ‪ ) 34‬ث ُ هم بَدا لَ ُه ْم ِم ْن‬ ‫ع ْنهُ َك ْي َد ُه هن ِإنههُ ُه َو ال ه‬
‫ف َ‬ ‫ص َر َ‬‫جاب لَهُ َربُّهُ فَ َ‬
‫ست َ َ‬ ‫فَا ْ‬
‫يان قا َل أ َ َح ُد ُهما‬ ‫سِجْ َن فَت َ ِ‬
‫ين ( ‪َ ) 35‬و َد َخ َل َمعَهُ ال ّ‬ ‫س ُجنُنههُ َحتهى ِح ٍ‬ ‫بَ ْع ِد ما َرأ َ ُوا ْاآليا ِ‬
‫ت لَيَ ْ‬
‫سي ُخ ْبزا ً تَأ ْ ُك ُل ال ه‬
‫ط ْي ُر ِم ْنهُ‬ ‫ق َرأْ ِ‬
‫ْص ُر َخ ْمرا ً َوقا َل ْاآل َخ ُر إِ ِنّي أَرانِي أَحْ ِم ُل فَ ْو َ‬ ‫إِ ِنّي أَرانِي أَع ِ‬
‫ين ) ‪( 36‬‬ ‫سنِ َ‬ ‫نَ ِبّئْنا ِبتَأ ْ ِوي ِل ِه ِإنها نَراكَ ِم َن ا ْل ُمحْ ِ‬
‫العصر ضم شيء إلى شيء الستخراج مطلوب ‪.‬‬

‫[ سورة يوسف ( ‪ : ) 12‬اآليات ‪ 37‬إلى ‪] 39‬‬


‫عله َمنِي َر ِبّي‬‫قا َل ال يَأْتِيكُما َطعا ٌم ت ُ ْر َزقانِ ِه إِاله نَبهأْتُكُما بِتَأ ْ ِوي ِل ِه قَ ْب َل أ َ ْن يَأْتِيَكُما ذ ِلكُما ِم هما َ‬
‫ون ( ‪َ ) 37‬واتهبَ ْعتُ ِملهةَ‬ ‫اّلِل َو ُه ْم بِ ْاآل ِخ َر ِة ُه ْم كافِ ُر َ‬
‫ون بِ ه ِ‬ ‫إِ ِنّي ت َ َر ْكتُ ِملهةَ قَ ْو ٍم ال يُ ْؤ ِمنُ َ‬
‫َّللا‬
‫ض ِل ه ِ‬ ‫ش ْي ٍء ذ ِلكَ ِم ْن فَ ْ‬ ‫كان لَنا أ َ ْن نُش ِْركَ ِب ه ِ‬
‫اّلِل ِم ْن َ‬ ‫وب ما َ‬ ‫حاق َويَ ْعقُ َ‬ ‫س َ‬ ‫آبائِي ِإ ْبرا ِهي َم َو ِإ ْ‬
‫سِجْ ِن أ َ أ َ ْر ٌ‬
‫باب‬ ‫صاحبَي ِ ال ّ‬‫ِ‬ ‫ون ( ‪ ) 38‬يا‬ ‫شك ُُر َ‬ ‫اس ال يَ ْ‬ ‫اس َول ِك هن أ َ ْكث َ َر النه ِ‬ ‫علَى النه ِ‬ ‫علَ ْينا َو َ‬ ‫َ‬
‫ار ( ‪) 39‬‬ ‫واح ُد ا ْلقَ هه ُ‬
‫َّللاُ ا ْل ِ‬ ‫ون َخ ْي ٌر أ َ ِم ه‬‫ُمتَفَ ِ ّرقُ َ‬
‫ار »فهو توحيد اإلله ونفي ربوبية ما سواه ‪،‬‬ ‫واح ُد ْالقَ َّه ُ‬
‫ّللاُ ْال ِ‬ ‫باب ُمتَفَ ِ هرقُونَ َخي ٌْر أ َ ِم َّ‬‫" أ َ أ َ ْر ٌ‬
‫ار » فعن الفردية‬ ‫واح ُد ْالقَ َّه ُ‬
‫ّللاُ َربُّ ُك ْم ال إِلهَ إِ َّال ُه َو ) وأما قوله ‪ْ «:‬ال ِ‬ ‫قال تعالى ‪ (:‬ذ ِل ُك ُم َّ‬
‫ظهرت األفراد ‪ ،‬وعن االثنين ظهرت األشفاع ‪ ،‬وال يخلو كل عدد أن يكون شفعا أو‬
‫وترا‬

‫ص ‪383‬‬

‫ص ‪383 :‬‬
‫إلى ما ال يتناهى التضعيف فيه ‪ ،‬والواحد يضعفه أبدا ‪ ،‬فبقوة الواحد ظهر ما ظهر من‬
‫حكم العدد ‪ ،‬والحكم هّلل الواحد القهار ‪ ،‬ولوال أنه سمي بالمتقابلين ما تسمى بالقهار ‪،‬‬
‫ألنه محال أن يقاومه مخلوق أصال ‪ ،‬فإذا ما هو قهار إال من حيث أنه تسمى‬
‫بالمتقابلين ‪ ،‬فال يقاومه غيره ‪ ،‬فهو المعز المذل ‪ ،‬فيقع بين االسمين حكم القهر‬
‫والمقهور بظهور أحد الحكمين في المحل ‪ ،‬فلذلك هو الواحد من حيث أنه يسمى ‪،‬‬
‫القهار من حيث أنه يسمى بالمتقابلين ‪ ،‬وال بد من نفوذ حكم أحد االسمين ‪ ،‬فالنافذ‬
‫الحكم هو القاهر والقهار ‪ ،‬من حيث أن أسماء التقابل له كثيرة ‪ ،‬فهو القهار في مقابلة‬
‫المنازعين ‪.‬‬

‫[ سورة يوسف ( ‪ : (12‬اآليات ‪ 40‬إلى ‪] 41‬‬


‫س ْل ٍ‬
‫طان ِإ ِن‬ ‫َّللاُ ِبها ِم ْن ُ‬ ‫س هم ْيت ُ ُموها أ َ ْنت ُ ْم َوآبا ُؤ ُك ْم ما أ َ ْن َز َل ه‬ ‫سما ًء َ‬ ‫ُون ِم ْن دُو ِن ِه ِإاله أ َ ْ‬ ‫ما ت َ ْعبُد َ‬
‫ون ( ‪40‬‬ ‫اس ال يَ ْعلَ ُم َ‬ ‫ِين ا ْلقَ ِيّ ُم َول ِك هن أ َ ْكث َ َر النه ِ‬
‫ّلِل أ َ َم َر أَاله ت َ ْعبُدُوا إِاله إِيهاهُ ذ ِلكَ ال ّد ُ‬‫ا ْل ُح ْك ُم إِاله ِ ه ِ‬
‫ب فَتَأ ْ ُك ُل ال ه‬
‫ط ْي ُر ِم ْن‬ ‫صلَ ُ‬‫س ِقي َربههُ َخ ْمرا ً َوأ َ هما ْاآل َخ ُر فَيُ ْ‬ ‫سِجْ ِن أ َ هما أ َ َح ُدكُما فَيَ ْ‬
‫صاحبَي ِ ال ّ‬ ‫ِ‬ ‫) يا‬
‫يان ) ‪( 41‬‬ ‫ست َ ْفتِ ِ‬‫ي ْاأل َ ْم ُر الهذِي فِي ِه ت َ ْ‬ ‫س ِه قُ ِض َ‬ ‫َرأْ ِ‬
‫كان الرجالن قد كذبا فيما صوراه فكان مما حدهثا به أنفسهما ‪ ،‬فتخياله من غير رؤيا ‪،‬‬
‫فلما قصاه على يوسف حصل في خيال يوسف عليه السالم صورة من ذلك لم يكن‬
‫يوسف حدث بذلك نفسه ‪ ،‬فصارت حقا في حق يوسف وكأنه هو الرائي الذي رأى تلك‬
‫الرؤيا لذلك الرجل ‪ ،‬فلما عبر لهما رؤياهما قاال له ‪ :‬أردنا اختبارك وما رأينا شيئا ‪،‬‬
‫الحس كما عبهر ‪.‬‬ ‫ه‬ ‫يان »فخرج األمر في‬ ‫ي ْاأل َ ْم ُر الَّذِي فِي ِه ت َ ْست َ ْفتِ ِ‬ ‫ض َ‬ ‫فقال يوسف ‪ «:‬قُ ِ‬

‫[ سورة يوسف ( ‪ : ) 12‬آية ‪]42‬‬


‫ث ِفي‬ ‫طان ِذ ْك َر َر ِبّ ِه فَلَ ِب َ‬
‫ش ْي ُ‬ ‫َوقا َل ِللهذِي َظ هن أَنههُ ناجٍ ِم ْن ُه َما ْ‬
‫اذك ُْر ِني ِع ْن َد َر ِبّكَ فَأ َ ْنسا ُه ال ه‬
‫ين ) ‪( 42‬‬ ‫سنِ َ‬ ‫ض َع ِ‬ ‫سِجْ ِن بِ ْ‬
‫ال ّ‬
‫راجع الهامش ‪.‬‬
‫ظ َّن أَنَّهُ ٍ‬
‫ناج ِم ْن ُه َما‬ ‫) ‪( -‬قال سيدي أحمد بن إدريس في كتابه العقد النفيس« َوقا َل ِللَّذِي َ‬
‫ا ْذ ُك ْرنِي ِع ْن َد َر ِبه َك »الظان هو الرجل ال يوسف ‪ ،‬ألنه ال يجوز الظن على يوسف عليه‬
‫السالم ‪ ،‬ألنه أوحى الحق سبحانه وتعالى بتأويل الرؤيا ‪ ،‬والظن ال يغني من الحق‬
‫شيئا ‪ ،‬وإياكم والظن فإنه أكذب الحديث ‪ ،‬فكيف يظن يوسف فيما أوحى إليه ربه‬
‫سبحانه وتعالى ؟‪! .‬‬

‫ص ‪384‬‬

‫ص ‪384 :‬‬
‫[سورة يوسف ( ‪ : ) 12‬آية ‪] 43‬‬
‫ت ُخ ْ‬
‫ض ٍر‬ ‫س ْنبُال ٍ‬
‫س ْب َع ُ‬
‫جاف َو َ‬ ‫س ْب ٌع ِع ٌ‬ ‫مان يَأ ْ ُكلُ ُه هن َ‬
‫س ٍ‬ ‫ت ِ‬ ‫َوقا َل ا ْل َم ِلكُ إِ ِنّي أَرى َ‬
‫س ْب َع بَقَرا ٍ‬
‫ون) ‪( 43‬‬ ‫ت يا أَيُّ َها ا ْل َم ََل ُ أ َ ْفتُونِي فِي ُر ْء َ‬
‫ياي ِإ ْن ُك ْنت ُ ْم ِل ُّ‬
‫لر ْءيا ت َ ْعبُ ُر َ‬ ‫َوأ ُ َخ َر يا ِبسا ٍ‬
‫[ لم سمى الرؤيا عبارة ؟ ]‬
‫حضرة الخيال في النوم ‪ ،‬وهو الرؤيا كالجسر بين الشطين للعبور عليه من هذا الشط‬
‫إلى هذا الشط ‪ ،‬فجعل النوم معبرا ‪ ،‬وجعل المشي عليه عبورا ‪ ،‬وما سمي اإلخبار‬
‫عن األمور عبارة وال التعبير عن الرؤيا تعبيرا إال لكون المخبر يعبر بما يتكلم به ‪،‬‬
‫أي يجوز بما يتكلم به من حضرة نفسه إلى نفس السامع ‪ ،‬فهو ينقله من خيال إلى‬
‫خيال ‪ ،‬ألن السامع يتخيله على قدر فهمه ‪ ،‬فقد يطابق الخيال الخيال ‪ ،‬خيال السامع مع‬
‫خيال المتكلم وقد ال يطابق ‪ ،‬فإذا طابق سمي فهما ‪ ،‬وإن لم يطابقه كان لفظا ال عبارة‬
‫‪ ،‬ألنه ما عبر به عن محله إلى محل السامع ‪ ،‬غير أن التعبير عن غير الرؤيا رباعي‬
‫‪ ،‬والتعبير عن الرؤيا ثالثي ‪ ،‬ففي األول عبهر بالتشديد ‪ ،‬وفي الثاني عبر بالتخفيف ‪،‬‬
‫ولما كان عالم الخيال ليس مطلوبا لنفسه ‪ ،‬وإنما هو مطلوب لما نصب له لهذا سمي‬
‫تأويل الرؤيا عبارة ‪ ،‬ألن المفسر يعبر منها إلى ما جاءت له ‪ ،‬كما عبر النبي صلهى‬
‫ّللا عليه وسلم من القيد إلى الثبات في الدين ‪ ،‬ومن اللبن إلى العلم‪.‬‬ ‫ه‬

‫[ سورة يوسف ( ‪ : ) 12‬آية ‪] 44‬‬


‫ين ) ‪( 44‬‬ ‫الم بِعا ِل ِم َ‬ ‫الم َوما نَحْ ُن بِتَأ ْ ِوي ِل ْاألَحْ ِ‬ ‫غاث أَحْ ٍ‬ ‫ض ُ‬ ‫قالُوا أ َ ْ‬
‫الرؤيا الصادقة ما هي بأضغاث أحالم ‪ ،‬وهي جزء من أجزاء النبوة ‪ ،‬أما قولهم «‬
‫الم »أي ال حقيقة لها ‪ [.‬سورة يوسف ( ‪ : ) 12‬اآليات ‪ 45‬إلى ] ‪48‬‬ ‫غاث أَحْ ٍ‬ ‫ض ُ‬ ‫أَ ْ‬
‫ف أَيُّ َها‬ ‫س ُ‬‫ون ( ‪ ) 45‬يُو ُ‬ ‫سلُ ِ‬ ‫َوقا َل الهذِي نَجا ِم ْن ُهما َوا هدك ََر بَ ْع َد أ ُ هم ٍة أَنَا أُنَ ِبّئ ُ ُك ْم ِبتَأ ْ ِوي ِل ِه فَأ َ ْر ِ‬
‫ض ٍر َوأ ُ َخ َر‬ ‫ت ُخ ْ‬ ‫س ْنبُال ٍ‬‫س ْب ِع ُ‬
‫جاف َو َ‬ ‫س ْب ٌع ِع ٌ‬ ‫مان يَأ ْ ُكلُ ُه هن َ‬ ‫س ٍ‬ ‫ت ِ‬ ‫ق أ َ ْف ِتنا ِفي َ‬
‫س ْب ِع بَقَرا ٍ‬ ‫ص ّدِي ُ‬
‫ال ِ ّ‬
‫ين دَأَبا ً‬
‫سنِ َ‬‫س ْب َع ِ‬‫ُون َ‬ ‫ون ( ‪ ) 46‬قا َل ت َ ْز َرع َ‬ ‫اس لَعَله ُه ْم يَ ْعلَ ُم َ‬ ‫ت لَعَ ِلّي أ َ ْر ِج ُع إِلَى النه ِ‬ ‫يابِسا ٍ‬
‫س ْب ٌع‬‫ون ( ‪ ) 47‬ث ُ هم يَأْتِي ِم ْن بَ ْع ِد ذ ِلكَ َ‬ ‫س ْنبُ ِل ِه إِاله قَ ِليالً ِم هما تَأ ْ ُكلُ َ‬ ‫ص ْدت ُ ْم فَذَ ُروهُ فِي ُ‬ ‫فَما َح َ‬
‫ون) ‪( 48‬‬ ‫شدا ٌد يَأ ْ ُك ْل َن ما قَد ْهمت ُ ْم لَ ُه هن ِإاله قَ ِليالً ِم هما تُحْ ِصنُ َ‬ ‫ِ‬

‫ص ‪385‬‬

‫ص ‪385 :‬‬
‫لما كان يوسف عليه السالم من أئمة علم التعبير بصور التمثيل والخيال ‪ ،‬علم أن‬
‫صور البقر هي السنوات ‪ ،‬وأن سمنها يعني الخصب ‪ ،‬وأن عجافها هو جدبها ‪ ،‬وذلك‬
‫كله من تجسد المعاني ‪.‬‬

‫[ سورة يوسف ( ‪ : ) 12‬اآليات ‪ 49‬إلى ‪] 50‬‬


‫ون ( ‪َ ) 49‬وقا َل ا ْل َم ِلكُ ائْتُونِي‬ ‫اس َوفِي ِه يَ ْع ِص ُر َ‬ ‫ث ُ هم يَأْتِي ِم ْن بَ ْع ِد ذ ِلكَ عا ٌم فِي ِه يُ ُ‬
‫غاث النه ُ‬
‫ط ْع َن أ َ ْي ِديَ ُه هن‬
‫س َو ِة الالهتِي قَ ه‬ ‫ار ِج ْع إِلى َر ِبّكَ فَ ْ‬
‫سئ َ ْلهُ ما با ُل ال ِنّ ْ‬ ‫سو ُل قا َل ْ‬ ‫بِ ِه فَلَ هما جا َءهُ ه‬
‫الر ُ‬
‫ع ِلي ٌم ) ‪( 50‬‬‫ِإ هن َر ِبّي ِب َك ْي ِد ِه هن َ‬
‫لما دعا الملك يوسف عليه السالم إلى الخروج من السجن فلم يخرج ‪ ،‬وقال لرسول‬
‫ط ْعنَ‬‫الال ِتي قَ َّ‬ ‫ار ِج ْع ِإلى َر ِبه َك »يعني العزيز الذي حبسه« فَ ْسئ َ ْلهُ ما با ُل ال ِنهس َْو ِة َّ‬ ‫الملك« ْ‬
‫أ َ ْي ِديَ ُه َّن »ليثبت عنده براءته فال تصح له المنة عليه في إخراجه من السجن ‪ ،‬بل ه‬
‫ّللا‬
‫ّللا ‪ ،‬فال بد من‬ ‫يمن عليكم ‪ ،‬إذ لو بقي احتمال لقدح في عدالته ‪ ،‬وهو رسول من ه‬
‫ّللا عليه وسلم في معرض الثناء على يوسف‬ ‫عدالته أن تثبت في قلوبهم ‪ ،‬وقال صلهى ه‬
‫عليه السالم وتعظيما لحقه [ لو كنت أنا بدل أو محل يوسف ألجبت الداعي ] وهذه‬
‫ّللا عليه وسلم إلى فتوة يوسف عليه السالم ‪ ،‬فإنه قد اجتمع‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫إشارة من رسول ه‬
‫في يوسف حاالن ‪ ،‬حال السجن وحال كونه مفترى عليه ‪ ،‬وهو رسول ‪ ،‬والرسول‬
‫يطلب أن يقرر في نفس المرسل إليه ما يقبل به دعاء ربه فيما يدعوه به إليه ‪ ،‬والذي‬
‫نسب إليه معلوم عند كل أحد أنه ال يقع من مثل من جاء بدعوته إليهم ‪ ،‬فال بد أن‬
‫يطلب البراءة في ذلك عندهم ليؤمنوا بما جاء به من عند ربه ‪ ،‬فلم يحضر بنفسه ذلك‬
‫المجلس حتى ال تدخل الشبهة في نفوس الحاضرين بحضوره ‪ ،‬وفرق كبير بين من‬
‫يحصر في مثل هذا الموطن وبين من ال يحضره ‪ ،‬فإن صحة البراءة في غيبته أدل‬
‫على براءته من حضوره ‪ [،‬فتوة يوسف ( ع ) ]‬
‫فمن فتوة يوسف عليه السالم إقامته في السجن بعد أن دعاه الملك إليه ‪ ،‬وما علم قدر‬
‫ّللا عليه وسلم حيث قال عن نفسه [ ألجبت الداعي ] ثناء‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫ذلك إال رسول ه‬
‫على يوسف ‪ ،‬فإنه اختار اإلقامة في السجن ولم يخرج حتى يرجع إليه الرسول‬
‫بالجواب‪.‬‬

‫ص ‪386‬‬

‫ص ‪386 :‬‬
‫[سورة يوسف ( ‪ : ) 12‬آية ‪] 51‬‬
‫وء‬
‫س ٍ‬‫علَ ْي ِه ِم ْن ُ‬ ‫ع ِل ْمنا َ‬
‫ّلِل ما َ‬
‫حاش ِ ه ِ‬
‫َ‬ ‫س ِه قُ ْل َن‬
‫ف ع َْن نَ ْف ِ‬ ‫س َ‬ ‫قا َل ما َخ ْطبُك هُن إِ ْذ َ‬
‫راو ْدت ُ هن يُو ُ‬
‫ين (‬ ‫س ِه َو ِإنههُ لَ ِم َن ال ه‬
‫صا ِدقِ َ‬ ‫ق أَنَا َ‬
‫راو ْدتُهُ ع َْن نَ ْف ِ‬ ‫ص ا ْل َح ُّ‬ ‫يز ْاآل َن َح ْ‬
‫ص َح َ‬ ‫ام َرأَةُ ا ْلعَ ِز ِ‬
‫ت ْ‬‫قالَ ِ‬
‫‪)51‬‬
‫فما ذكرت المرأة إال أنها راودته عن نفسه ‪ ،‬وما ذكرت أنه راودها« َو ِإنَّهُ لَ ِمنَ‬
‫صا ِدقِينَ »‪.‬‬ ‫ال َّ‬

‫[ سورة يوسف ( ‪ : ) 12‬آية ‪] 52‬‬


‫ب َوأ َ هن ه َ‬
‫َّللا ال يَ ْهدِي َك ْي َد ا ْلخائِنِ َ‬
‫ين ) ‪( 52‬‬ ‫ذ ِلكَ ِليَ ْعلَ َم أ َ ِنّي لَ ْم أ َ ُخ ْنهُ ِبا ْلغَ ْي ِ‬
‫لم تخن المرأة يوسف في غيبته لما برأته وأضافت المراودة إلى نفسها ‪ ،‬لتعلم أن‬
‫يوسف لم يخن العزيز في أهله ‪ ،‬وعلمت أنه أحق بهذا الوصف منها في حقه ‪ ،‬فما‬
‫برأت نفسها ‪ ،‬بل قالت ‪.‬‬

‫[ سورة يوسف ( ‪ : ) 12‬آية ‪] 53‬‬


‫وء ِإاله ما َر ِح َم َر ِبّي ِإ هن َر ِبّي َ‬
‫غفُ ٌ‬
‫ور َر ِحي ٌم ( ‪53‬‬ ‫س ِ‬ ‫ارةٌ ِبال ُّ‬ ‫س َأل َ هم َ‬ ‫سي ِإ هن النه ْف َ‬ ‫َوما أُبَ ِ ّر ُ‬
‫ئ نَ ْف ِ‬
‫)‬
‫[ النفس ليست أمارة بالسوء من حيث ذاتها ]‬
‫النفس ليست أمارة بالسوء من حيث ذاتها ‪ ،‬وإنما ينسب إليها ذلك من حيث أنها قابلة‬
‫إللهام الشيطان بالفجور ‪ ،‬ولجهلها بالحكم المشروع في ذلك ‪،‬‬
‫ّللا عليها بذلك ‪ ،‬وإنما‬‫وء » ما هو حكم ه‬ ‫س ِ‬‫ارة ٌ ِبال ُّ‬‫س َأل َ َّم َ‬
‫ّللا تعالى ‪ِ «:‬إ َّن النَّ ْف َ‬ ‫ثم إن قول ه‬
‫ّللا حكى ما قالته امرأة العزيز في مجلس العزيز ‪ ،‬وهل أصابت في هذه اإلضافة أو لم‬ ‫ه‬
‫تصب هذا حكم آخر مسكوت عنه ‪ ،‬فهذا اإلخبار عن النفس أنها أمارة بالسوء ما هو‬
‫ّللا عليها ‪ ،‬وال من قول يوسف عليه السالم ‪ ،‬فبطل التمسك بهذه اآلية لما دل‬ ‫حكم ه‬
‫عليه الظاهر ‪ ،‬والدليل إذا دخله االحتمال سقط االحتجاج به ‪،‬‬
‫والذي هو للنفس أنها لوامة نفسها إذا قبلت من الشيطان ما يأمرها به ‪ ،‬والنفس ما‬
‫ينسب إليها ذم إال بعد تصريفها آالتها في المذموم ‪ ،‬وما لم يظهر الفعل على‬

‫ص ‪387‬‬

‫ص ‪387 :‬‬
‫اآلالت لم يتعلق بها ذم ‪ ،‬والذي أجرأ النفوس على ارتكاب المحارم والدخول في المآثم‬
‫ّللا أدخلها في حكم المشيئة« ِإ َّال ما‬
‫هو كونها ليست على بصيرة من المؤاخذة ‪ ،‬فإن ه‬
‫ّللا به‬
‫ّللا ‪ ،‬بخوف أو رجاء أو حياء ‪ ،‬أو عصمة في علم ه‬ ‫َر ِح َم َر ِبهي »إال من عصم ه‬
‫خارجة عن هذه الثالثة ‪ ،‬وال خامس لهذه األربعة المانعة من وقوع المخالفة والتعرض‬
‫للعقوبة ‪ .‬واعلم أن النفس أشد األعداء شكيمة وأقواهم عزيمة ‪ ،‬فجهادها هو الجهاد‬
‫األكبر ‪ ،‬فمن ثبت قدمه في هذا الزحف ‪ ،‬وتحقق بمعنى ذلك الحرف انتهض بأعضائه‬
‫في الملكوت مليكا ‪ ،‬وكان له الملك جليسا ‪ ،‬غير أن هذه النفس العدوة الكافرة األمارة‬
‫بالسوء لها على اإلنسان قوة كبيرة وسلطان عظيم ‪ ،‬بسيفين عظيمين ماضيين ‪ ،‬تقطع‬
‫بهما رقاب صناديد الرجال وعظمائهم ‪ ،‬وهما شهوتا البطن والفرج ‪ ،‬اللتان قد تعبدتا‬
‫جميع الخالئق وأسرتهم ‪ ،‬ومن عظمهما وكبير فعلهما حتى أفرد اإلمام حجة اإلسالم‬
‫ّللا عنه كتابا س هماه ( كسر الشهوتين ) في إحياء علوم الدين‬‫أبو حامد الغزالي رضي ه‬
‫ّللا عنهم ‪ ،‬والذي يتوجه عليك في هذا‬ ‫له ‪ ،‬وكذلك اعتنى بهما كبار العلماء رضي ه‬
‫الباب أن تبدأ بالحسام الواحد الذي هو البطن ‪ ،‬ثم يليه الفرج ‪.‬‬

‫‪-‬استدراك وموعظة ‪ -‬ال ينبغي لواعظ أن يخرج في وعظه عن الكتاب والسنة ‪ ،‬وال‬
‫يدخل في هذه الطوام ‪ ،‬فينقل عن اليهود والنصارى والمفسرين الذين ينقلون في كتب‬
‫ّللا عليهم السالم ‪ ،‬فإن هّلل مالئكة في‬
‫ّللا وال بمنزلة رسل ه‬
‫تفاسيرهم ما ال يليق بجناب ه‬
‫األرض سياحين فيها يتبعون مجالس الذكر ‪ ،‬فإذا وجدوا مجلس ذكر نادى بعضهم‬
‫ّللا من أنفاس بني آدم ‪ ،‬فينبغي‬
‫بعضا هلموا إلى بغيتكم ‪ ،‬وهم المالئكة الذين خلقهم ه‬
‫ّللا‬
‫ّللا ويستحي منه ‪ ،‬ويكون عالما بما يورده ‪ ،‬وما ينبغي لجالل ه‬ ‫للمذكر أن يراقب ه‬
‫ويجتنب الطامات في وعظه ‪ ،‬فإن المالئكة يتأذون إذا سمعوا في الحق وفي‬
‫المصطفين من عباده ما ال يليق ‪ ،‬وهم عالمون بالقصص ‪ ،‬وقد أخبر صلهى ه‬
‫ّللا عليه‬
‫وسلم أن العبد إذا كذب الكذبة تباعد منه الملك ثالثين ميال من نتن ما جاء به ‪ ،‬فتمقته‬
‫المالئكة ‪ ،‬فإذا علم المذكر أن مثل هؤالء يحضرون مجلسه فينبغي له أن يتحرى‬
‫ّللا عليهم‬
‫الصدق ‪ ،‬وال يتعرض لما ذكره المؤرخون عن اليهود من زالت من أثنى ه‬
‫ّللا ‪ ،‬ويقول ‪ :‬قال المفسرون ‪ ،‬وما ينبغي أن‬‫واجتباهم ‪ ،‬ويجعل ذلك تفسيرا لكتاب ه‬
‫ّللا بمثل هذه الطوام ‪ ،‬كقصة يوسف وداود وأمثالهم عليهم‬ ‫يقدم على تفسير كالم ه‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ ،‬بتأويالت فاسدة وأسانيد واهية ‪ ،‬عن قوم قالوا في‬‫السالم ومحمد صلهى ه‬
‫ّللا عنهم ‪ ،‬فإذا أورد‬
‫ّللا ما ذكر ه‬
‫ه‬

‫‪388‬‬

‫ص ‪388 :‬‬
‫ّللا ‪ ،‬ووجد الذي في‬
‫المذكر مثل هذا في مجلسه مقتته المالئكة ونفروا عنه ‪ ،‬ومقته ه‬
‫دينه نقص رخصة يلجأ إليها في معصيته ‪ ،‬ويقول ‪ :‬إذا كانت األنبياء قد وقعت في‬
‫ّللا ‪،‬‬
‫وّللا األنبياء مما نسبت إليهم اليهود لعنهم ه‬
‫مثل هذا ‪ ،‬فمن أكون أنا ؟ وحاشا ه‬
‫ّللا بما ينبغي لجالله ‪ ،‬ويرغب‬ ‫فينبغي للمذكر أن يحترم جلساءه وال يتعدى ذكر تعظيم ه‬
‫ّللا ‪ ،‬من أجل من عنده‬‫في الجنة ويحذر من النار وأهوال الموقف ‪ ،‬والوقوف بين يدي ه‬
‫من البطالين المفرطين من البشر ‪ ،‬فهؤالء المذكرون الذين يرددون افتراءات اليهود‬
‫ّللا لما غلب عليهم من الجهل ‪ ،‬فواجب على المذكر إقامة‬ ‫نقلة عن اليهود ال عن كالم ه‬
‫ّللا أن ال يقلد اليهود فيما قالوا في حق األنبياء‬
‫حرمة األنبياء عليهم السالم والحياء من ه‬
‫ّللا ‪ ،‬ومنها مراعاة من‬
‫عليهم الصالة والسالم من المثالب ونقلة المفسرين خذلهم ه‬
‫يحضر مجلسه من المالئكة السياحين ‪ ،‬فمن يراعي هذه األمور ينبغي أن يذكر الناس‬
‫‪ ،‬ويكون مجلسه رحمة بالحاضرين ومنفعة ‪.‬‬

‫[ سورة يوسف ( ‪ ) : 12‬آية ‪] 54‬‬


‫ين أ َ ِم ٌ‬
‫ين (‬ ‫سي فَلَ هما َكله َمهُ قا َل ِإنهكَ ا ْليَ ْو َم لَ َد ْينا َم ِك ٌ‬
‫صهُ ِلنَ ْف ِ‬ ‫َوقا َل ا ْل َم ِلكُ ائْتُونِي ِب ِه أ َ ْ‬
‫ست َ ْخ ِل ْ‬
‫‪)54‬‬
‫فأعطته المملكة مقاليدها ‪ ،‬وملكته الخالفة أزمتها ‪ ،‬ووهبته مطاريفها ومتاليدها ‪ ،‬فلم‬
‫يخفر عهدها وذمتها ‪ ،‬ولم يزل يسوس مملكته بحسن النظر ‪ ،‬ويقيمها بسديد الفكر ‪،‬‬
‫حتى قامت الدولة على ساقها ‪ ،‬وعمتها خيراته على بعد أقطارها وآفاقها ‪ ،‬وتجلى‬
‫شمسا باهرة بين أزرتها وطوقها ‪ ،‬وحيد دهره ‪ ،‬وفريد عصره ‪ ،‬فقال ‪:‬‬

‫[ سورة يوسف ( ‪ : ) 12‬آية ‪] 55‬‬


‫ع ِلي ٌم ) ‪( 55‬‬
‫ظ َ‬ ‫قا َل اجْ عَ ْل ِني عَلى َخزا ِئ ِن ْاأل َ ْر ِ‬
‫ض ِإ ِنّي َح ِفي ٌ‬
‫يظ »والحفظ أمانة ‪ ،‬ولو ه هم بسوء لم يكن أمينا ‪ ،‬ولو فعل لم‬ ‫قوله عليه السالم« إِ ِنهي َح ِف ٌ‬
‫يكن حفيظا ‪ ،‬وطلب يوسف عليه السالم من الملك صاحب مصر أن يجعله على‬
‫خزائن األرض ألنه حفيظ عليم ‪ ،‬ليفتقر الكل إليه فتصح سيادته عليهم ‪ ،‬ولهذا أخبر‬
‫ع ِلي ٌم »حفيظ عليها فال‬ ‫بالصفة التي يستحق من قامت به هذا المقام فقال «‪ِ :‬إ ِنهي َح ِفي ٌ‬
‫ظ َ‬
‫نخرج منها إال‬

‫ص ‪389‬‬

‫ص ‪389 :‬‬
‫ش ْيءٍ إِ َّال ِع ْن َدنا خَزائِنُهُ َوما نُن ِ هَزلُهُ إِ َّال‬
‫ّللا سبحانه يقول ‪َ (:‬وإِ ْن ِم ْن َ‬
‫بقدر معلوم ‪ ،‬كما أن ه‬
‫بِقَ َد ٍر َم ْعلُ ٍ‬
‫وم )‬
‫فإذا كانت هذه الصفة فيمن كانت ملك مقاليدها ‪،‬‬
‫ع ِلي ٌم »أخبرنا أنه عالم بحاجة المحتاجين لما في هذه‬ ‫يظ » « َ‬‫ثم قال بعد قوله« َح ِف ٌ‬
‫الخزائن التي خزن فيها ما به قوامهم ‪ ،‬عليم بقدر الحاجة ‪.‬‬
‫واعلم أن الغفلة ما تع هم قط ‪ ،‬ال في العموم وال في الخصوص ‪ ،‬والعبد ال بد له أن يغفل‬
‫عن شيء دون شيء ‪ ،‬وحفظه لألشياء ما هو حفظ الحق لها ‪ ،‬فحفظ العبد بالتضمين ‪،‬‬
‫وحفظ الحق ما خلق ليس كذلك ‪ ،‬بل حفظ لكل صورة على التعيين ‪.‬‬

‫[ سورة يوسف ( ‪ : ) 12‬اآليات ‪ 56‬إلى ‪] 64‬‬


‫يب ِب َرحْ َم ِتنا َم ْن نَشا ُء َوال‬ ‫ث يَشا ُء نُ ِص ُ‬ ‫ض يَتَبَ هوأ ُ ِم ْنها َح ْي ُ‬ ‫ف ِفي ْاأل َ ْر ِ‬ ‫س َ‬‫َوكَذ ِلكَ َم هكنها ِليُو ُ‬
‫ون ( ‪) 57‬‬ ‫ِين آ َمنُوا َوكانُوا يَتهقُ َ‬ ‫ين ( ‪َ ) 56‬و َألَجْ ُر ْاآل ِخ َر ِة َخ ْي ٌر ِللهذ َ‬ ‫سنِ َ‬‫نُ ِضي ُع أَجْ َر ا ْل ُمحْ ِ‬
‫ون ( ‪َ ) 58‬ولَ هما َج هه َز ُه ْم‬ ‫علَ ْي ِه فَعَ َرفَ ُه ْم َو ُه ْم لَهُ ُم ْن ِك ُر َ‬ ‫ف فَ َد َخلُوا َ‬ ‫س َ‬‫َوجا َء إِ ْخ َوةُ يُو ُ‬
‫ين (‬‫هاز ِه ْم قا َل ائْتُونِي ِبأَخٍ لَ ُك ْم ِم ْن أ َ ِبي ُك ْم أ َ ال ت َ َر ْو َن أ َ ِنّي أُوفِي ا ْل َك ْي َل َوأَنَا َخ ْي ُر ا ْل ُم ْن ِز ِل َ‬ ‫ِب َج ِ‬
‫ون ) ‪( 60‬‬ ‫‪ ) 59‬فَ ِإ ْن لَ ْم تَأْتُونِي ِب ِه فَال َك ْي َل لَ ُك ْم ِع ْندِي َوال ت َ ْق َربُ ِ‬
‫عت َ ُه ْم ِفي‬ ‫ون ( ‪َ ) 61‬وقا َل ِل ِفتْيا ِن ِه اجْ عَلُوا ِبضا َ‬ ‫ع ْنهُ أَبا ُه َو ِإنها لَفا ِعلُ َ‬ ‫سنُرا ِو ُد َ‬ ‫قالُوا َ‬
‫ون ) ‪ ( 62‬فَلَ هما َر َجعُوا إِلى‬ ‫ِرحا ِل ِه ْم لَعَله ُه ْم يَ ْع ِرفُونَها إِذَا ا ْنقَلَبُوا إِلى أ َ ْه ِل ِه ْم لَعَله ُه ْم يَ ْر ِجعُ َ‬
‫ون ) ‪ ( 63‬قا َل‬ ‫ظ َ‬ ‫س ْل َمعَنا أَخانا نَ ْكت َ ْل َوإِنها لَهُ لَحافِ ُ‬ ‫يه ْم قالُوا يا أَبانا ُمنِ َع ِمنها ا ْل َك ْي ُل فَأ َ ْر ِ‬ ‫أَبِ ِ‬
‫اّلِلُ َخ ْي ٌر حافِظا ً َو ُه َو أ َ ْر َح ُم‬
‫علَ ْي ِه إِاله كَما أ َ ِم ْنت ُ ُك ْم عَلى أ َ ِخي ِه ِم ْن قَ ْب ُل فَ ه‬ ‫َه ْل آ َمنُ ُك ْم َ‬
‫ين ) ‪( 64‬‬ ‫اح ِم َ‬‫الر ِ‬
‫ه‬

‫ّللا ‪ [ :‬شفعت المالئكة وشفع النبيون وشفع المؤمنون وبقي أرحم الراحمين ]‬
‫يقول ه‬
‫ّللا يشفع من حيث أسماؤه ‪ ،‬فيشفع اسمه أرحم الراحمين عند اسمه القهار‬
‫فاعلم أن ه‬
‫والشديد‬

‫ص ‪390‬‬

‫ص ‪390 :‬‬
‫العقاب ليرفع عقوبته عن بعض الطوائف ‪ ،‬فيخرج من النار من لم يعمل خيرا قط ‪.‬‬

‫[ سورة يوسف ( ‪ : ) 12‬اآليات ‪ 65‬إلى ‪] 67‬‬


‫عتُنا‬ ‫عت َ ُه ْم ُردهتْ ِإلَ ْي ِه ْم قالُوا يا أَبانا ما نَ ْب ِغي ه ِذ ِه ِبضا َ‬ ‫ع ُه ْم َو َجدُوا ِبضا َ‬ ‫َولَ هما فَت َ ُحوا َمتا َ‬
‫ير ( ‪ ) 65‬قا َل لَ ْن‬ ‫س ٌ‬ ‫ير ذ ِلكَ َك ْي ٌل يَ ِ‬ ‫ظ أَخانا َونَ ْزدا ُد َك ْي َل بَ ِع ٍ‬ ‫ير أ َ ْهلَنا َونَحْ فَ ُ‬
‫ُردهتْ ِإلَ ْينا َونَ ِم ُ‬
‫َّللا لَتَأْتُنهنِي بِ ِه إِاله أ َ ْن يُحا َط بِ ُك ْم فَلَ هما آت َ ْوهُ َم ْوثِقَ ُه ْم‬ ‫ون َم ْوثِقا ً ِم َن ه ِ‬‫سلَهُ َمعَ ُك ْم َحتهى ت ُ ْؤت ُ ِ‬ ‫أ ُ ْر ِ‬
‫واح ٍد َوا ْد ُخلُوا ِم ْن‬ ‫ب ِ‬ ‫ي ال ت َ ْد ُخلُوا ِم ْن با ٍ‬ ‫َّللاُ عَلى ما نَقُو ُل َو ِكي ٌل ( ‪َ ) 66‬وقا َل يا بَنِ ه‬ ‫قا َل ه‬
‫علَ ْي ِه‬‫علَ ْي ِه ت َ َو هك ْلتُ َو َ‬ ‫ش ْي ٍء ِإ ِن ا ْل ُح ْك ُم ِإاله ِ ه ِ‬
‫ّلِل َ‬ ‫ب ُمتَفَ ِ ّرقَ ٍة َوما أ ُ ْغنِي َ‬
‫ع ْن ُك ْم ِم َن ه ِ‬
‫َّللا ِم ْن َ‬ ‫أ َ ْبوا ٍ‬
‫ون ( ‪) 67‬‬ ‫فَ ْليَت َ َو هك ِل ا ْل ُمت َ َو ِ ّكلُ َ‬

‫[ وعليه فليتوكل المتوكلون ]‬


‫اعلم أن الوكالة ال تصح إال في موكل فيه ‪ ،‬وذلك الموكل فيه أمر يكون للموكل ليس‬
‫لغيره ‪ ،‬فيقيم فيه وكيال ويتصرف فيما للموكل أن يتصرف فيه مطلقا ‪ ،‬فمن نظر ه‬
‫أن‬
‫األشياء ما عدا اإلنسان خلقت من أجل اإلنسان كان كل شيء له فيه مصلحة يطلبها‬
‫بذاته ملكا له ‪ ،‬ولما جهل مصالح نفسه ‪ ،‬ومصالحه ما فيها سعادته ‪ ،‬خاف من سوء‬
‫ّللا األشياء من أجلي فما خلق إال ما يصلح لي‬ ‫التصرف في ذلك ‪ ،‬فقال ‪ :‬إذ وقد خلق ه‬
‫‪ ،‬وأنا جاهل بالمصلحة التي في استعمالها نجاتي وسعادتي ‪ ،‬فلنوكله في أموري فهو‬
‫أعلم بما يصلح لي ‪ ،‬فكما أنه خلقها هو أولى بالتصرف فيها ‪ ،‬هذا يقتضيه النظر‬
‫والعقل ‪ ،‬فكيف وقد ورد به األمر اإللهي ‪ ،‬فالمؤمن يتخذ الحق وكيال يسلم إليه أموره‬
‫‪ ،‬ويجعل زمامها بيده كما هو في نفس األمر ‪ ،‬فما زاد شيئا مما هو األمر عليه في‬
‫ّللا بذلك ‪ ،‬وما أثر في الملك شيئا ‪ ،‬وهذا غاية الكرم الثناء باألثر‬
‫الوجود ‪ ،‬ومدحه ه‬
‫على غير المؤثر ‪ ،‬بل الكل منه وإليه ‪ ،‬فنتخذ الحق وكيال في المصلحة لنا ال في‬
‫األشياء ‪ ،‬فنوكله ليسخر لنا من هذه األشياء ما يرى فيه المصلحة لنا ‪ ،‬امتنانا منه‬
‫وامتثاال ألمره ‪ ،‬فنكون في توكلنا عليه عبيدا مأمورين ممتثلين أمره نرجو بذلك خيره‬
‫‪ ،‬فوقع التوكل في المصالح ال في عين األشياء‪.‬‬

‫ص ‪391‬‬

‫ص ‪391 :‬‬
‫[سورة يوسف ( ‪ : ) 12‬اآليات ‪ 68‬إلى ‪] 72‬‬
‫ش ْي ٍء ِإاله حا َجةً فِي‬ ‫َّللا ِم ْن َ‬ ‫ع ْن ُه ْم ِم َن ه ِ‬ ‫كان يُ ْغنِي َ‬ ‫ث أ َ َم َر ُه ْم أَبُو ُه ْم ما َ‬ ‫َولَ هما َد َخلُوا ِم ْن َح ْي ُ‬
‫ون ( ‪) 68‬‬ ‫اس ال يَ ْعلَ ُم َ‬ ‫عله ْمنا ُه َول ِك هن أ َ ْكث َ َر النه ِ‬
‫وب قَضاها َو ِإنههُ لَذُو ِع ْل ٍم ِلما َ‬ ‫نَ ْف ِس يَ ْعقُ َ‬
‫س ِبما كانُوا يَ ْع َملُ َ‬
‫ون‬ ‫ف آوى ِإلَ ْي ِه أَخا ُه قا َل ِإ ِنّي أ َنَا أ َ ُخوكَ فَال ت َ ْبت َ ِئ ْ‬ ‫س َ‬ ‫َولَ هما َد َخلُوا عَلى يُو ُ‬
‫ير‬ ‫سقايَةَ فِي َرحْ ِل أ َ ِخي ِه ث ُ هم أَذه َن ُم َؤذّ ٌ‬
‫ِن أَيهت ُ َها ا ْل ِع ُ‬ ‫هاز ِه ْم َجعَ َل ال ِ ّ‬ ‫( ‪ ) 69‬فَلَ هما َج هه َز ُه ْم بِ َج ِ‬
‫ع‬
‫صوا َ‬ ‫ُون ) ‪ ( 71‬قالُوا نَ ْف ِق ُد ُ‬ ‫علَ ْي ِه ْم ما ذا ت َ ْف ِقد َ‬ ‫ون ( ‪ ) 70‬قالُوا َوأ َ ْقبَلُوا َ‬ ‫سارقُ َ‬
‫إِنه ُك ْم لَ ِ‬
‫ير َوأَنَا ِب ِه َز ِعي ٌم ) ‪( 72‬‬ ‫ا ْل َم ِل ِك َو ِل َم ْن جا َء ِب ِه ِح ْم ُل بَ ِع ٍ‬
‫‪-‬إشارة ‪ -‬جعل يوسف عليه السالم الصواع حجابا يقرع بذلك لالتصال باألحبة بابا‪.‬‬

‫[ سورة يوسف ( ‪ : ) 12‬اآليات ‪ 73‬إلى ‪] 83‬‬


‫ين ( ‪ ) 73‬قالُوا فَما‬ ‫سارقِ َ‬ ‫ض َوما ُكنها ِ‬ ‫س َد فِي ْاأل َ ْر ِ‬ ‫ع ِل ْمت ُ ْم ما ِجئْنا ِلنُ ْف ِ‬ ‫اّلِل لَقَ ْد َ‬
‫قالُوا ت َ ه ِ‬
‫ين ( ‪ ) 74‬قالُوا َجزا ُؤهُ َم ْن ُو ِج َد فِي َرحْ ِل ِه فَ ُه َو َجزا ُؤهُ كَذ ِلكَ‬ ‫َجزا ُؤهُ إِ ْن ُك ْنت ُ ْم كا ِذبِ َ‬
‫عاء أ َ ِخي ِه‬ ‫ست َ ْخ َر َجها ِم ْن ِو ِ‬ ‫عاء أ َ ِخي ِه ث ُ هم ا ْ‬
‫ين ( ‪ ) 75‬فَبَدَأ َ ِبأ َ ْو ِعيَتِ ِه ْم قَ ْب َل ِو ِ‬ ‫نَجْ ِزي ال ه‬
‫ظا ِل ِم َ‬
‫ت َم ْن‬ ‫َّللاُ نَ ْرفَ ُع د ََرجا ٍ‬ ‫ِين ا ْل َم ِل ِك ِإاله أ َ ْن يَشا َء ه‬ ‫كان ِليَأ ْ ُخذَ أَخاهُ فِي د ِ‬ ‫ف ما َ‬ ‫س َ‬‫كَذ ِلكَ ِكدْنا ِليُو ُ‬
‫خ لَهُ ِم ْن قَ ْب ُل‬ ‫ق أَ ٌ‬ ‫س َر َ‬ ‫س ِرقْ فَقَ ْد َ‬ ‫ع ِلي ٌم ( ‪ ) 76‬قالُوا ِإ ْن يَ ْ‬ ‫ق ُك ِ ّل ذِي ِع ْل ٍم َ‬ ‫نَشا ُء َوفَ ْو َ‬
‫ون (‬ ‫َّللاُ أ َ ْعلَ ُم بِما ت َ ِصفُ َ‬ ‫س ِه َولَ ْم يُ ْبدِها لَ ُه ْم قا َل أ َ ْنت ُ ْم ش ٌَّر َمكانا ً َو ه‬ ‫ف فِي نَ ْف ِ‬ ‫س ُ‬‫س هرها يُو ُ‬ ‫فَأ َ َ‬
‫‪)77‬‬
‫ين (‬ ‫سنِ َ‬ ‫ش ْيخا ً َك ِبيرا ً فَ ُخ ْذ أ َ َحدَنا َمكانَهُ إِنها نَراكَ ِم َن ا ْل ُمحْ ِ‬ ‫يز إِ هن لَهُ أَبا ً َ‬ ‫قالُوا يا أَيُّ َها ا ْلعَ ِز ُ‬
‫ون ( ‪) 79‬‬ ‫َّللا أ َ ْن نَأ ْ ُخذَ ِإاله َم ْن َو َجدْنا َمتاعَنا ِع ْن َدهُ ِإنها ِإذا ً لَظا ِل ُم َ‬ ‫‪ ) 78‬قا َل َمعاذَ ه ِ‬
‫علَ ْي ُك ْم َم ْوثِقا ً‬ ‫ير ُه ْم أ َ لَ ْم ت َ ْعلَ ُموا أ َ هن أَبا ُك ْم قَ ْد أ َ َخذَ َ‬
‫صوا نَ ِجيًّا قا َل َك ِب ُ‬ ‫سوا ِم ْنهُ َخلَ ُ‬ ‫ست َ ْيأ َ ُ‬
‫فَلَ هما ا ْ‬
‫ض َحتهى يَأْذَ َن ِلي أ َ ِبي أ َ ْو يَحْ ُك َم‬ ‫ح ْاأل َ ْر َ‬ ‫ف فَلَ ْن أ َ ْب َر َ‬ ‫س َ‬‫َّللا َو ِم ْن قَ ْب ُل ما فَ هر ْطت ُ ْم ِفي يُو ُ‬ ‫ِم َن ه ِ‬
‫ق‬
‫س َر َ‬ ‫ار ِجعُوا إِلى أَبِي ُك ْم فَقُولُوا يا أَبانا إِ هن ا ْبنَكَ َ‬ ‫ين ( ‪ْ ) 80‬‬ ‫َّللاُ ِلي َو ُه َو َخ ْي ُر ا ْلحا ِك ِم َ‬ ‫ه‬
‫سئ َ ِل ا ْلقَ ْريَةَ الهتِي ُكنها فِيها‬ ‫ين ( ‪َ ) 81‬و ْ‬ ‫ب حافِ ِظ َ‬ ‫ع ِل ْمنا َوما ُكنها ِل ْلغَ ْي ِ‬ ‫َوما ش َِهدْنا إِاله بِما َ‬
‫ون ) ‪( 82‬‬ ‫ير الهتِي أ َ ْقبَ ْلنا فِيها َو ِإنها لَصا ِدقُ َ‬ ‫َوا ْل ِع َ‬
‫َّللاُ أ َ ْن يَأْتِيَنِي ِب ِه ْم َج ِميعا ً ِإنههُ ُه َو‬ ‫سى ه‬ ‫ع َ‬ ‫ص ْب ٌر َج ِمي ٌل َ‬ ‫س ُك ْم أ َ ْمرا ً فَ َ‬‫س هولَتْ لَ ُك ْم أ َ ْنفُ ُ‬ ‫قا َل بَ ْل َ‬
‫ا ْلعَ ِلي ُم ا ْل َح ِكي ُم) ‪( 83‬‬

‫ص ‪392‬‬

‫ص ‪392 :‬‬
‫فهو سبحانه العليم وال عالم ‪ ،‬وهو الحكيم في ترتيب العالم ‪ ،‬فالعالم والعليم أعم ‪،‬‬
‫والحكيم تعلق خاص للعلم ‪.‬‬

‫[ سورة يوسف ( ‪ : ) 12‬اآليات ‪ 84‬إلى ‪] 86‬‬


‫ع ْينا ُه ِم َن ا ْل ُح ْز ِن فَ ُه َو ك َِظي ٌم ( ‪) 84‬‬‫ف َوا ْبيَضهتْ َ‬ ‫س َ‬
‫سفى عَلى يُو ُ‬ ‫ع ْن ُه ْم َوقا َل يا أ َ َ‬ ‫َوت َ َولهى َ‬
‫ين ) ‪ ( 85‬قا َل‬ ‫ُون َح َرضا ً أ َ ْو تَك َ‬
‫ُون ِم َن ا ْلها ِل ِك َ‬ ‫ف َحتهى تَك َ‬ ‫اّلِل ت َ ْفتَؤُا ت َ ْذك ُُر يُو ُ‬
‫س َ‬ ‫قالُوا ت َ ه ِ‬
‫ون ) ‪( 86‬‬ ‫َّللا َوأ َ ْعلَ ُم ِم َن ه ِ‬
‫َّللا ما ال ت َ ْعلَ ُم َ‬ ‫شكُوا بَ ِث ّي َو ُح ْزنِي إِلَى ه ِ‬ ‫إِنهما أ َ ْ‬
‫البث هو تفرق هموم المحبوب في وجوه كثيرة ‪ ،‬فإن المحبة تورث الحيرة ‪ ،‬والحيرة‬
‫تفرق وال تجمع ‪ ،‬ولهذا وصفت المحبة بالبث ‪.‬‬

‫[ سورة يوسف ( ‪ ) : 12‬اآليات ‪ 87‬إلى ‪] 88‬‬


‫س ِم ْن‬ ‫َّللا إِنههُ ال يَ ْيأ َ ُ‬
‫سوا ِم ْن َر ْوحِ ه ِ‬ ‫ف َوأ َ ِخي ِه َوال ت َ ْيأ َ ُ‬ ‫س َ‬‫سوا ِم ْن يُو ُ‬ ‫س ُ‬‫اذ َهبُوا فَت َ َح ه‬ ‫ي ْ‬ ‫يا بَنِ ه‬
‫سنا َوأ َ ْهلَنَا‬ ‫يز َم ه‬ ‫علَ ْي ِه قالُوا يا أَيُّ َها ا ْلعَ ِز ُ‬
‫ون ( ‪ ) 87‬فَلَ هما َد َخلُوا َ‬ ‫َّللا إِاله ا ْلقَ ْو ُم ا ْلكافِ ُر َ‬
‫َر ْوحِ ه ِ‬
‫ص ِ ّدقِ َ‬
‫ين‬ ‫َّللا يَجْ ِزي ا ْل ُمت َ َ‬
‫علَ ْينا ِإ هن ه َ‬
‫ص هدقْ َ‬ ‫ف لَنَا ا ْل َك ْي َل َوت َ َ‬‫ع ٍة ُم ْزجا ٍة فَأ َ ْو ِ‬‫ض ُّر َو ِجئْنا ِب ِبضا َ‬ ‫ال ُّ‬
‫( ‪) 88‬‬

‫ص ‪393‬‬

‫ص ‪393 :‬‬
‫لكل متصدق عليه صدقة تليق به من المخلوقين ‪ ،‬فيبدأ بنفسه ثم بجوارحه ‪ ،‬ثم األقرب‬
‫إليه بعد ذلك وهو األهل والولد ‪ ،‬ثم الخادم ثم الرحم والجار ‪ ،‬كما يتصدق على تلميذه‬
‫وطالب الفائدة منه ‪.‬‬

‫[ سورة يوسف ( ‪ : ) 12‬اآليات ‪ 89‬إلى ‪]92‬‬


‫ون ( ‪ ) 89‬قالُوا أ َ إِنهكَ َأل َ ْنتَ‬ ‫ف َوأ َ ِخي ِه إِ ْذ أ َ ْنت ُ ْم جا ِهلُ َ‬
‫س َ‬ ‫ع ِل ْمت ُ ْم ما فَعَ ْلت ُ ْم بِيُو ُ‬ ‫قا َل َه ْل َ‬
‫صبِ ْر فَ ِإ هن ه َ‬
‫َّللا ال‬ ‫علَ ْينا إِنههُ َم ْن يَت ه ِ‬
‫ق َويَ ْ‬ ‫ف َوهذا أ َ ِخي قَ ْد َم هن ه‬
‫َّللاُ َ‬ ‫س ُ‬‫ف قا َل أَنَا يُو ُ‬ ‫س ُ‬‫يُو ُ‬
‫ين ( ‪) 91‬‬ ‫خاطئِ َ‬‫علَ ْينا َو ِإ ْن ُكنها لَ ِ‬ ‫اّلِل لَقَ ْد آث َ َركَ ه‬
‫َّللاُ َ‬ ‫ين ( ‪ ) 90‬قالُوا ت َ ه ِ‬ ‫سنِ َ‬ ‫يُ ِضي ُع أَجْ َر ا ْل ُمحْ ِ‬
‫ين ) ‪. ( 92‬‬ ‫اح ِم َ‬ ‫َّللاُ لَ ُك ْم َو ُه َو أ َ ْر َح ُم ه‬
‫الر ِ‬ ‫علَ ْي ُك ُم ا ْليَ ْو َم يَ ْغ ِف ُر ه‬
‫يب َ‬ ‫قا َل ال تَثْ ِر َ‬

‫علَ ْي ُك ُم ْاليَ ْو َم »فالحق‬ ‫قال يوسف عليه السالم لمن أساء في حقه فقطع رحمه« ال تَثْ ِر َ‬
‫يب َ‬
‫اح ِمينَ‬ ‫ّللاُ لَ ُك ْم َو ُه َو أ َ ْر َح ُم َّ‬
‫الر ِ‬ ‫أولى بهذه الصفة لمن أساء في حقه بقطع رحمه« يَ ْغ ِف ُر َّ‬
‫»بعباده ‪.‬‬

‫[ سورة يوسف ( ‪ : ) 12‬اآليات ‪ 93‬إلى ‪] 95‬‬


‫ين ( ‪) 93‬‬ ‫ت بَ ِصيرا ً َوأْتُو ِني ِبأ َ ْه ِل ُك ْم أَجْ َم ِع َ‬‫يصي هذا فَأ َ ْلقُو ُه عَلى َوجْ ِه أ َ ِبي يَأ ْ ِ‬ ‫ْ‬
‫اذ َهبُوا ِبقَ ِم ِ‬
‫ُون ) ‪ ( 94‬قالُوا ت َ ه ِ‬
‫اّلِل‬ ‫ف لَ ْو ال أ َ ْن تُفَ ِنّد ِ‬ ‫س َ‬‫ير قا َل أَبُو ُه ْم إِ ِنّي َأل َ ِج ُد ِري َح يُو ُ‬‫ت ا ْل ِع ُ‬
‫صلَ ِ‬‫َولَ هما فَ َ‬
‫ِيم ( ‪. ) 95‬‬ ‫ضال ِلكَ ا ْلقَد ِ‬ ‫إِنهكَ لَ ِفي َ‬

‫قال ذلك إخوة يوسف ليعقوب عليه السالم يريدون حيرته في حب يوسف ‪ ،‬ألن الحب‬
‫من أوصافه الضالل والحيرة ‪ ،‬والحيرة تنافي العقل‪.‬‬

‫‪394‬‬

‫ص ‪394 :‬‬
‫[ سورة يوسف ( ‪ : ) 12‬اآليات ‪ 96‬إلى ‪]100‬‬
‫ارت َ هد بَ ِصيرا ً قا َل أ َ لَ ْم أَقُ ْل لَ ُك ْم إِ ِنّي أ َ ْعلَ ُم ِم َن ه ِ‬
‫َّللا‬ ‫ير أ َ ْلقاهُ عَلى َوجْ ِه ِه فَ ْ‬ ‫ش ُ‬ ‫فَلَ هما أ َ ْن جا َء ا ْلبَ ِ‬
‫ين ( ‪ ) 97‬قا َل‬ ‫خاطئِ َ‬ ‫ست َ ْغ ِف ْر لَنا ذُنُوبَنا ِإنها ُكنها ِ‬ ‫ون ( ‪ ) 96‬قالُوا يا أَبانَا ا ْ‬ ‫ما ال ت َ ْعلَ ُم َ‬
‫ف آوى‬ ‫الر ِحي ُم ( ‪ ) 98‬فَلَ هما َد َخلُوا عَلى يُو ُ‬
‫س َ‬ ‫ور ه‬ ‫ف أَ ْ‬
‫ست َ ْغ ِف ُر لَ ُك ْم َر ِبّي ِإنههُ ُه َو ا ْلغَفُ ُ‬ ‫س ْو َ‬
‫َ‬
‫ين ) ‪َ ( 99‬و َرفَ َع أَبَ َو ْي ِه َ‬
‫علَى ا ْلعَ ْر ِش‬ ‫آم ِن َ‬‫َّللاُ ِ‬‫ِإلَ ْي ِه أَبَ َو ْي ِه َوقا َل ا ْد ُخلُوا ِمص َْر ِإ ْن شا َء ه‬
‫س َن‬‫ياي ِم ْن قَ ْب ُل قَ ْد َجعَلَها َر ِبّي َحقًّا َوقَ ْد أَحْ َ‬ ‫ت هذا تَأ ْ ِوي ُل ُر ْء َ‬ ‫س هجدا ً َوقا َل يا أَبَ ِ‬ ‫َو َخ ُّروا لَهُ ُ‬
‫طان بَ ْينِي َوبَ ْي َن‬
‫ش ْي ُ‬ ‫غ ال ه‬ ‫سِجْ ِن َوجا َء بِ ُك ْم ِم َن ا ْلبَ ْد ِو ِم ْن بَ ْع ِد أ َ ْن نَ َز َ‬‫بِي إِ ْذ أ َ ْخ َر َجنِي ِم َن ال ّ‬
‫يف ِلما يَشا ُء ِإنههُ ُه َو ا ْلعَ ِلي ُم ا ْل َح ِكي ُم ( ‪) 100‬‬ ‫ِإ ْخ َوتِي ِإ هن َر ِبّي لَ ِط ٌ‬

‫ياي ِم ْن قَ ْب ُل قَ ْد َجعَلَها َر ِبهي َحقًّا »أي حقا‬ ‫ْ‬ ‫« َوقا َل يا أَبَ ِ‬


‫ت هذا تَأ ِوي ُل »‪ ،‬أي مآل ‪ُ «:‬ر ْء َ‬
‫في الحس وقد كانت حقا في الخيال في موطن الرؤيا ‪ ،‬فكان الشمس والقمر واألحد‬
‫سا‬‫خروا له س هجدا ‪ ،‬فوقع ح ه‬ ‫عشر كوكبا هم أبا يوسف وخالته وإخوته ‪ ،‬لما دخلوا عليه ه‬
‫ما كان أدركه خياال في صورة كوكبية ‪ ،‬فإن قلت ‪ :‬ما هو الرأي في هذا السجود ؟‬
‫ّللا فقد أدى قربة]‬
‫ّللا عن أمر ه‬
‫قلنا ‪ [:‬من سجد لغير ه‬
‫ّللا‬
‫ّللا فقد أدى قربة ‪ ،‬ومن سجد لغير ه‬ ‫ّللا عن أمر ه‬
‫سجود قربة هّلل ‪ ،‬فإن من سجد لغير ه‬
‫ّللا فقد شقي ‪ ،‬فإن رؤيا يوسف عليه السالم كانت حقا من‬ ‫ّللا قربة إلى ه‬ ‫عن غير أمر ه‬
‫حق ‪ ،‬فهي مأمور بها ‪ ،‬كالسجود آلدم وللكعبة ولصخرة بيت المقدس« إِ َّن َر ِبهي لَ ِط ٌ‬
‫يف‬
‫ِلما يَشا ُء إِنَّهُ ُه َو ْالعَ ِلي ُم ْال َح ِكي ُم »الفرق بين العلم والحكمة أن الحكمة لها الجعل ‪ ،‬والعلم‬
‫ليس كذلك ‪ ،‬ألن العلم يتبع المعلوم ‪ ،‬والحكمة تحكم في األمر أن يكون هكذا ‪ ،‬فيثبت‬
‫الترتيب في أعيان الممكنات في حال ثبوتها بحكمة الحكيم في الزمان والحال قبل‬
‫وجودها ‪ ،‬فتعلق بها العلم اإللهي بحسب ما رتبها الحكيم عليه ‪ ،‬فالحكمة أفادت الممكن‬
‫ما هو عليه من الترتيب الذي يجوز خالفه ‪،‬‬

‫ص ‪395‬‬

‫ص ‪395 :‬‬
‫والترتيب أعطى العالم العلم بأن األمر كذا هو ‪ ،‬فال يوجد إال بحسب ما هو عليه في‬
‫الثبوت ‪ ،‬فالعارف يعلم بالجملة أن الظاهر في الوجود والواقع إنما هو في قبضة‬
‫ّللا‬
‫الحكمة اإللهية ‪ ،‬فيزول عنه التسخط والضجر ‪ ،‬ويقوم به التسليم والتفويض إلى ه‬
‫ّللا ما رجح إال الواقع ‪ ،‬فأوقع ما أوقع حكمة منه ‪ ،‬وأمسك ما‬ ‫في جميع األمور ‪ ،‬فإن ه‬
‫أمسك حكمة منه ‪ ،‬وهو الحكيم العليم ‪ ،‬فالعارف عنده الحكيم يتقدم العليم ‪ ،‬والعامي‬
‫يقدم العليم ثم الحكيم ‪ ،‬وقد ورد األمران معا ‪ ،‬فالحكيم خصوص والعليم عموم ‪،‬‬
‫ولذلك ما كل عليم حكيم ‪ ،‬وكل حكيم عليم ‪ ،‬فالحكمة الخير الكثير ‪.‬‬

‫[ سورة يوسف ( ‪ : ) 12‬آية ‪] 101‬‬


‫ض أ َ ْنتَ‬‫ت َو ْاأل َ ْر ِ‬
‫سماوا ِ‬
‫فاط َر ال ه‬
‫ث ِ‬ ‫عله ْمت َ ِني ِم ْن تَأ ْ ِوي ِل ْاألَحادِي ِ‬
‫ب قَ ْد آت َ ْيت َ ِني ِم َن ا ْل ُم ْل ِك َو َ‬
‫َر ّ ِ‬
‫ين ) ‪( 101‬‬ ‫س ِلما ً َوأ َ ْل ِح ْق ِني ِبال ه‬
‫صا ِل ِح َ‬ ‫َو ِل ِيّي ِفي ال ُّد ْنيا َو ْاآل ِخ َر ِة ت َ َوفه ِني ُم ْ‬
‫باّلل ‪.‬‬
‫ّللا ‪ ،‬وهم أعلم الخلق ه‬ ‫ّللا من ه‬ ‫ليس فوق الصالح مرتبة ‪ ،‬وهي مطلب رسل ه‬

‫[ سورة يوسف ( ‪ : ) 12‬اآليات ‪ 102‬إلى ‪] 104‬‬


‫ون (‬‫وحي ِه ِإلَ ْيكَ َوما ُك ْنتَ لَ َد ْي ِه ْم ِإ ْذ أَجْ َمعُوا أ َ ْم َر ُه ْم َو ُه ْم يَ ْمك ُُر َ‬
‫ب نُ ِ‬ ‫باء ا ْلغَ ْي ِ‬‫ذ ِلكَ ِم ْن أ َ ْن ِ‬
‫علَ ْي ِه ِم ْن أَجْ ٍر‬
‫سئَلُ ُه ْم َ‬
‫ين ( ‪َ ) 103‬وما ت َ ْ‬ ‫اس َولَ ْو َح َرصْتَ ِب ُم ْؤ ِم ِن َ‬ ‫‪َ ) 102‬وما أ َ ْكث َ ُر النه ِ‬
‫ين ) ‪( 104‬‬ ‫إِ ْن ُه َو إِاله ِذ ْك ٌر ِل ْلعالَ ِم َ‬
‫العالمون أصحاب العالمات والدالئل ‪.‬‬

‫[ سورة يوسف ( ‪ : ) 12‬آية ‪] 105‬‬


‫ُون ) ‪( 105‬‬ ‫ع ْنها ُم ْع ِرض َ‬
‫علَ ْيها َو ُه ْم َ‬ ‫ض يَ ُم ُّر َ‬
‫ون َ‬ ‫ت َو ْاأل َ ْر ِ‬ ‫َوكَأ َ ِيّ ْن ِم ْن آيَ ٍة فِي ال ه‬
‫سماوا ِ‬
‫اآلية العالمة ‪ ،‬غير أن اآليات على قسمين معتادة وغير معتادة ‪ ،‬فأرباب الفكر‬
‫والمستبصرون الموفقون هي عندهم سواء ‪ ،‬يتخذونها أدلة ‪ ،‬وما عدا هؤالء فال‬
‫ينظرون إال في اآليات غير المعتادة ‪ ،‬فيحصل لهم استشعار الخوف فيردهم ذلك القدر‬
‫ّللا ‪،‬‬
‫ّللا ‪ ،‬ثم إن الذين يتخذون غير المعتادة آية منهم من يخلصها دليال على ه‬ ‫إلى ه‬
‫ومنهم من يشرك ‪ ،‬لذلك قال تعالى‪:‬‬

‫ص ‪396‬‬

‫ص ‪396 :‬‬
‫[سورة يوسف ( ‪ : ) 12‬آية ‪] 106‬‬
‫ُون ) ‪( 106‬‬ ‫اّلِل إِاله َو ُه ْم ُمش ِْرك َ‬ ‫َوما يُ ْؤ ِم ُن أ َ ْكث َ ُر ُه ْم ِب ه ِ‬
‫لمعرفتهم باألسباب المولدة لتلك اآليات ‪ ،‬كالزالزل والكسوفات وما يحدث من اآلثار‬
‫العلوية‬
‫اّلل » ]‬ ‫[ « َوما يُؤْ ِم ُن أ َ ْكث َ ُر ُه ْم ِب َّ ِ‬
‫ّللا ال‬
‫ّللا ‪ ،‬فالمشرك مؤمن بوجود ه‬ ‫اّلل »ولم يقل بتوحيد ه‬ ‫« َوما يُؤْ ِم ُن أ َ ْكث َ ُر ُه ْم بِ َّ ِ‬
‫ّللا مؤمن‬‫بتوحيده« ِإ َّال َو ُه ْم ُم ْش ِر ُكونَ »والشرك منه جلي وخفي ‪ ،‬فالمؤمن بتوحيد ه‬
‫ّللا ‪ ،‬فينقص عن درجته في‬ ‫ّللا يكون مؤمنا بتوحيد ه‬ ‫ّللا ‪ ،‬وما كل مؤمن بوجود ه‬ ‫بوجود ه‬
‫ّللا من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم«‬ ‫قوة اإليمان ‪ ،‬فإنهه لما أخذ ه‬
‫أ َ لَ ْستُ ِب َر ِبه ُك ْم ‪ ،‬قالُوا بَلى »وما كان إال التصديق بالوجود والملك ال بالتوحيد ‪ ،‬وإن‬
‫كان فيه توحيد فغايته توحيد الملك ‪،‬‬
‫فجاء قوله تعالى« َوما يُؤْ ِم ُن أ َ ْكث َ ُر ُه ْم بِ َّ ِ‬
‫اّلل إِ َّال َو ُه ْم ُم ْش ِر ُكونَ »لما خرجوا إلى الدنيا ‪،‬‬
‫ألن الفطرة إنما كانت إيمانهم بوجود الحق والملك ال بالتوحيد ‪ ،‬فلما عدم التوحيد من‬
‫الفطرة ظهر الشرك في األكثر ممن يزعم أنه موحد ‪ ،‬وما أدهى من أدهاه إلى ذلك إال‬
‫ّللا ما كلفهم إال وقد علم أن لهم اقتدارا نفسيا‬ ‫التكليف ‪ ،‬فإنه لما كلفهم تحقق أكثرهم أن ه‬
‫ّللا‬
‫على إيجاد ما كلفهم به من األفعال ‪ ،‬فلم يخلص لهم توحيد ‪ ،‬فلو علموا من ذلك أن ه‬
‫ما كلفهم إال لما فيهم من الدعوى في نسبة األفعال إليهم ‪ ،‬التي نسبوها إلى أنفسهم‬
‫باّلل ال بنفوسهم ‪ ،‬كما فعل أهل الشهود ‪ ،‬فمن علم ذلك أقام العذر عند‬ ‫لتجردوا عنها ه‬
‫باّلل وهو خير‬ ‫ّللا أثبت لهم اإليمان ه‬
‫ّللا فيما أشركوا فيه عند إيمانهم ‪ ،‬فإن ه‬ ‫ّللا لعباد ه‬ ‫ه‬
‫ّللا آمن به على ما‬
‫كثير وعناية عظمى ‪ ،‬فإذا سمع السامع الخبر النبوي بوجود ه‬
‫وّللا موجود عند كل تصور كما هو موجود في‬ ‫يتصوره ‪ ،‬فما آمن إال بما تصوره ‪ ،‬ه‬
‫خالف ذلك التصور بعينه ‪،‬‬
‫باّلل إال وهم مشركون ‪ ،‬لما يطرأ عليهم في نفوسهم من مزيد العلم‬ ‫فما آمن أكثرهم ه‬
‫ّللا في ذلك كله ‪ ،‬فما‬‫باّلل ‪ ،‬ولو في كل مزيد تصور فيه ليس عين األول ‪ ،‬وليس إال ه‬ ‫ه‬
‫ّللا بهذه اآلية إال إلقامة عذرهم ‪ ،‬ولم يتعرض سبحانه للتوحيد ‪ ،‬ولو تعرض‬ ‫جاء ه‬
‫للتوحيد لم يصح قوله« ِإ َّال َو ُه ْم ُم ْش ِر ُكونَ »مع ثبوت اإليمان ‪،‬‬
‫فدل أنه ما أراد اإليمان بالتوحيد ‪ ،‬وإنما أراد اإليمان بالوجود ‪ ،‬ثم ظهر التوحيد لمن‬
‫ظهر في ثاني حال‬
‫‪ -‬وجه آخر ‪ -‬الشرك الخفي هو االعتماد على األسباب الموضوعة ‪ ،‬والركون إليها‬
‫بالقلب ‪ ،‬فإن ذلك من أعظم رزيهة دينية في المؤمن ‪ ،‬وهو المراد بقوله تعالى« َوما‬
‫اّلل ِإ َّال َو ُه ْم ُم ْش ِر ُكونَ »‬ ‫يُؤْ ِم ُن أ َ ْكث َ ُر ُه ْم ِب َّ ِ‬

‫ص ‪397‬‬

‫ص ‪397 :‬‬
‫ّللا على العباد ‪ ،‬أن يعبدوه ال يشركوا به شيئا ]‬ ‫قال عليه السالم [ أتدرون ما حق ه‬
‫فدخل فيه الشرك الخفي والجلي الذي هو قطع اإلسالم ‪،‬‬
‫ّللا إذا فعلوا ذلك ‪ ،‬أن ال يعذبهم ]‬ ‫ثم قال [ أتدرون ما حقهم على ه‬
‫ّللا ‪ ،‬عذبهم باالعتماد على األسباب ‪ ،‬ألنها معرضة للفقر ‪،‬‬ ‫وذلك بأن ال تتوجه إال إلى ه‬
‫ففي حال وجودها يعذبهم بتوهم فقدها ‪ ،‬وبعد فقدها بفقدها ‪ ،‬فهم معذبون دائما ‪ ،‬والذين‬
‫لم يشركوا استراحوا ولم ينالوا بفقدها ألما‬
‫ّللا بالعالم أن أحالهم على األسباب وما جعل لهم رزقا إال‬ ‫‪ -‬الوجه الثالث ‪ -‬من رحمة ه‬
‫فيها ليجدوا العذر في إثباتها ‪ ،‬فمن أثبتها جعال فهو صاحب عبادة ‪ ،‬ومن أثبتها عقال‬
‫ّللا‬
‫فهو مشرك ‪ ،‬وإن كان مؤمنا ‪ ،‬فما كل مؤمن موحد عن بصيرة شهودية أعطاه ه‬
‫إياها‬
‫ّللا إلها آخر ‪ ،‬ذلك هو الجهل المحض‬ ‫‪ -‬لطيفة ‪ -‬ليس المراد بالشرك هنا أن تجعل مع ه‬
‫‪ ،‬فإنه ما ث هم إله آخر ‪ ،‬بل هو إله واحد عند المشرك وغير المشرك ‪ ،‬فكل شرك‬
‫باّلل‬
‫يقتضيه العلم ويطلبه الحق فهو حق ‪ ،‬فليس المقصود إال العلم ‪ ،‬فما يؤمن أكثرهم ه‬
‫باّلل ‪ ،‬وأبقى طائفة من المؤمنين هم في الشرك ‪ ،‬وال‬ ‫إال وهم مشركون ‪ ،‬فكثر العلماء ه‬
‫يعلمون أنهم فيه ‪ ،‬فلذلك لم ينسبهم إلى الشرك لعدم علمهم بما هم فيه من الشرك ‪،‬‬
‫ّللا هو الذي وقع عليه الشرك فيما يتضمنه ‪ ،‬فشاركه االسم‬ ‫وهم ال يشعرون ‪ ،‬فاالسم ه‬
‫عوا فَلَهُ ْاألَسْما ُء ْال ُحسْنى‬‫الر ْحمنَ أَيًّا ما ت َ ْد ُ‬
‫عوا َّ‬‫ّللا أ َ ِو ا ْد ُ‬
‫عوا َّ َ‬‫الرحمن قال تعالى« قُ ِل ا ْد ُ‬
‫ّللا شريكا في المعنى ‪ ،‬وهو االسم الرحمن ‪،‬‬ ‫»فجعل لالسم ه‬
‫فالمشركون هم الذين وقعوا على الشركة في األسماء اإللهية ‪ ،‬ألنها اشتركت في‬
‫الداللة على الذات ‪ ،‬وتميزت بأعيانها بما تدل عليه من رحمة ومغفرة وانتقام وحياة‬
‫وعلم وغير ذلك ‪ ،‬فإن من شأن الشركة اتحاد العين المشترك فيه ‪ ،‬فيكون لكل واحد‬
‫الحكم فيه على السواء ‪ ،‬وإال فليس بشريك مطلق ‪ ،‬فإن الشريك الذي أثبته الشقي لم‬
‫ّللا على أمر يقع فيه االشتراك ‪ ،‬فليس بمشرك على الحقيقة ‪ ،‬بخالف‬ ‫يتوارد مع ه‬
‫ّللا ‪ ،‬وباألسماء كلها في الداللة على الذات ‪،‬‬ ‫السعيد فإنه أشرك االسم الرحمن باالسم ه‬
‫فهو أقوى في الشرك من هذا ‪ ،‬فإن األول شريك دعوى كاذبة ‪ ،‬وهذا أثبت شريكا‬
‫بدعوى صادقة[ ال شقاء مع التوحيد ]‬
‫ّللا سعدوا سعادة األبد ولو شقوا يوما ما ‪ ،‬وال شقاء مع‬ ‫‪-‬تحقيق ‪ -‬أهل ال إله إال ه‬
‫التوحيد ‪ ،‬وال سعادة مع الشرك المعتقد ‪ ،‬وشرك الغفلة معفو عنه‪.‬‬

‫ص ‪398‬‬

‫ص ‪398 :‬‬
‫[ سورة يوسف ( ‪ : ) 12‬اآليات ‪ 107‬إلى ‪] 108‬‬
‫ون (‬ ‫شعُ ُر َ‬‫ساعَةُ بَ ْغتَةً َو ُه ْم ال يَ ْ‬‫َّللا أ َ ْو تَأْتِيَ ُه ُم ال ه‬
‫ب هِ‬ ‫شيَةٌ ِم ْن عَذا ِ‬ ‫أ َ فَأ َ ِمنُوا أ َ ْن تَأْتِيَ ُه ْم غا ِ‬
‫َّللا َوما‬ ‫س ْب َ‬
‫حان ه ِ‬ ‫ير ٍة أَنَا َو َم ِن اتهبَعَنِي َو ُ‬ ‫َّللا عَلى بَ ِص َ‬ ‫س ِبي ِلي أ َ ْدعُوا ِإلَى ه ِ‬
‫‪ ) 107‬قُ ْل ه ِذ ِه َ‬
‫ين) ‪( 108‬‬ ‫أَنَا ِم َن ا ْل ُمش ِْر ِك َ‬
‫ّللا على بصيرة ]‬ ‫[ الدعوة إلى ه‬
‫ّللا »ولم يقل أدعو إلى نفسي ‪ ،‬وإلى حرف‬ ‫عوا إِلَى َّ ِ‬ ‫قال عليه السالم عن ربه« أ َ ْد ُ‬
‫موضوع للغاية ‪ ،‬فهو النبي األمي الذي يدعو على بصيرة مع أميته ‪ ،‬وبهذا يزيد العالم‬
‫ّللا على بصيرة ‪ ،‬فهم التابعون له‬ ‫اإللهي على غيره ‪ ،‬واألميون الذين يدعون معه إلى ه‬
‫في الحكم ‪ ،‬إذ كان رأس الجماعة ‪ ،‬فالبصيرة هي الفتح اإللهي والعلم اللدني ‪،‬‬
‫والمجتهد وصاحب الفكر ال يكون أبدا على بصيرة فيما يحكم به ‪ ،‬فأما المجتهد فقد‬
‫يحكم اليوم في نازلة شرعية بحكم فإذا كان في غد الح له أمر آخر أبان له خطأ ما‬
‫حكم به باألمس في النازلة ‪ ،‬فرجع عنه وحكم اليوم بما ظهر له ‪ ،‬ويمضي الشرع‬
‫حكمه في األول واآلخر ‪،‬‬
‫ويحرم عليه الخروج عما أعطاه دليله في اجتهاده في ذلك الوقت ‪ ،‬فلو كان على‬
‫بصيرة لما حكم بالخطإ في النظر األول ‪ ،‬فالخطأ ال يكون مع البصيرة ‪ ،‬وكذلك‬
‫صاحب العقل ‪ ،‬يزن المتكلم بميزان عقله ما هو خارج عن العقل لكونه وراء طوره ‪،‬‬
‫وهو النسب اإللهية ‪ ،‬لم يقبله ميزانه ويرمي به ‪،‬‬
‫وكفر به وتخيل أنه ما ث هم حق إال ما دخل ميزانه ‪ ،‬والمجتهد الفقيه وزن حكم الشرع‬
‫بميزان نظره كالشافعي المذهب مثال ‪ ،‬أراد أن يزن بميزانه تحيل النبيذ الذي قبله‬
‫ميزان أبي حنيفة فرمى به ميزان الشافعي فحرمه ‪،‬‬
‫وقال أخطأ أبو حنيفة ‪ ،‬ولم يكن ينبغي للشافعي المذهب مثال أن يقول مثل هذا دون‬
‫تقييد ‪ ،‬وقد علم أن الشرع قد تعبد كل مجتهد بما أداه إليه اجتهاده ‪ ،‬وحرم عليه العدول‬
‫عن دليله ‪ ،‬فما وفهى الصنعة حقها ‪ ،‬وأخطأ الميزان العام الذي يشمل حكم الشريعة‬
‫ّللا‬
‫على اإلطالق ‪ ،‬فالبصيرة في الحكم مثل الضروريات للعقول عند من يدعو إلى ه‬
‫على بصيرة ‪،‬‬
‫ّللا على بصيرة إال من كان على بينة من ربه« أَنَا َو َم ِن اتَّبَعَنِي »من‬ ‫فما يدعو إلى ه‬
‫ّللا عليه وسلم هم ورثة األنبياء الشتراكهم في الخبر ‪ ،‬فهو يدعو بمثل‬ ‫اتبعه صلهى ه‬
‫ّللا والعمل بطاعته ‪ ،‬بشرعه المنزل‬ ‫ّللا إلى توحيد ه‬ ‫دعوة النبي عليه السالم عباد ه‬
‫ّللا عليه وسلم وعلى ما جاء به‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫المنطوق به حاليا ‪ ،‬ال يزيد على دعاء رسول ه‬
‫من اإلخبار باألمور‬

‫ص ‪399‬‬

‫ص ‪399 :‬‬
‫ّللا ‪ ،‬فله أن يدعو به مما ال‬ ‫ّللا على شيء من الغيب مما علهمه ه‬ ‫المغيبة ‪ ،‬إال إن أطلعه ه‬
‫يكون مزيال لما قرره الشرع بالتواتر عندنا ‪ ،‬أي على طريق يفيد العلم ‪ ،‬وذلك أن‬
‫ّللا من األولياء ‪ ،‬والذي اختص به النبي من هذا دون‬ ‫الوحي كله موجود في رجال ه‬
‫الولي الوحي بالتشريع ‪ ،‬فال يشرع إال النبي ‪ ،‬وال يشرع إال رسول خاصة ‪ ،‬فيحلل‬
‫ويحرم ويبيح ويأتي بجميع ضروب الوحي ‪ ،‬واألولياء ليس لهم من هذا األمر إال‬
‫اإلخبار بصحة ما جاء به هذا الرسول وتعيينه ‪ ،‬حتى يكون هذا التابع على بصيرة‬
‫فيما تعبده به ربه على لسان هذا الرسول ‪ ،‬إذا كان هذا الولي لم يدرك زمانه حتى‬
‫يسمع منه كما سمع أصحابه ‪ ،‬فصار هذا الولي بهذا النوع من الخطاب بمنزلة‬
‫ّللا عليه وسلم ما شرع‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫الصاحب الذي سمع من لفظ رسول ه‬
‫على َم ْن يَشا ُء ِم ْن ِعبا ِد ِه )‬ ‫الرو َح ِم ْن أ َ ْم ِر ِه َ‬ ‫قال تعالى( يُ ْل ِقي ُّ‬
‫على َم ْن يَشا ُء ِم ْن ِعبا ِد ِه )فما جاء إال‬ ‫وح ِم ْن أ َ ْم ِر ِه َ‬ ‫الر ِ‬‫وقال تعالى( يُن ِ هَز ُل ْال َمال ِئ َكةَ ِب ُّ‬
‫باإلعالم ‪ ،‬فما أغلق باب التنزل بالعلم بالشريعة على قلوب أوليائه ‪ ،‬وأبقى لهم التنزل‬
‫ّللا بها ‪ ،‬كما كان من اتبعوه‬ ‫الروحاني بالعلم بها ليكونوا على بصيرة في دعائهم إلى ه‬
‫وهو الرسول ‪ ،‬فهو أخذ ال يتطرق إليه تهمة الحتمال التأويل وما يتطرق إلى الناظر‬
‫ّللا على بصيرة فإن‬ ‫صاحب الدليل إلى دليله من الدخل عليه فيه ‪ ،‬فإن من يدعو إلى ه‬
‫علمه من حق اليقين ‪ ،‬أي حق استقراره في القلب ‪ ،‬ال يزلزله شيء عن مقره ‪ ،‬فهو‬
‫إدراك األمر على ما هو ‪ ،‬ألنه علم محقق ‪،‬‬
‫يرةٍ أَنَا َو َم ِن اتَّبَعَنِي » وهم هؤالء الذين‬ ‫ص َ‬ ‫على بَ ِ‬ ‫عوا إِلَى َّ ِ‬
‫ّللا َ‬ ‫لذلك جاء في القرآن« أ َ ْد ُ‬
‫ذكرناهم ‪ ،‬فرب حديث صحيح من طريق رواية الثقات عندنا ليس بصحيح في نفس‬
‫األمر ‪ ،‬فنأخذه على طريق غلبة الظن ال على العلم ‪ ،‬وهذه الطائفة التي ذكرناها تأخذه‬
‫من هذا الطريق فتكون من عدم صحة ذلك الخبر الصحيح عندنا على بصيرة أنه ليس‬
‫بصحيح في نفس األمر ‪ ،‬وبالعكس ‪،‬‬
‫وهو أن يكون الحديث ضعيفا من أجل ضعف الطريق ‪ ،‬من وضهاع فيه أو مدلس ‪،‬‬
‫وهو في نفس األمر صحيح ‪ ،‬فتدرك هذه الطائفة صحته ‪ ،‬فتكون فيه على بصيرة ‪،‬‬
‫فهؤالء هم ورثة األنبياء الشتراكهم في الخبر ‪،‬‬
‫ّللا على بصيرة‬ ‫وانفراد األنبياء بالتشريع ‪ ،‬واشترك الرسول ومن اتبعه في الدعوة إلى ه‬
‫ّللا مباشرة دون واسطة ‪،‬‬ ‫‪ ،‬ومنها األخذ عن ه‬
‫ومن هذا المقام قال أبو يزيد البسطامي ‪ :‬حدثني قلبي عن ربي ‪ ،‬فأنكر عليه من أنكر‬
‫وغاب عنه نص الكتاب وهو هذه اآلية ‪ ،‬فكل علم ال يكون حصوله عن كشف بعد فتح‬
‫الباب يعطيه الجود اإللهي ويبديه ويوضحه فهو شعور ال علم ‪،‬‬

‫‪400‬‬

‫ص ‪400 :‬‬
‫وليس ينبغي لعاقل أن يدعو إلى أمر حتى يكون من ذلك األمر على بصيرة ‪ ،‬وهو أن‬
‫ّللا ‪ ،‬بل هو لهم‬ ‫يعلمه رؤية وكشفا بحيث ال يشك فيه ‪ ،‬وما اختصت بهذا المقام رسل ه‬
‫وألتباعهم الورثة ‪ ،‬وال وارث إال من كمل له االتباع في القول والعمل والحال الباطن‬
‫خاصة ‪ ،‬فإن الوارث يجب عليه ستر الحال الظاهر ‪ ،‬فإن إظهاره موقوف على األمر‬
‫ّللا في العموم‬ ‫اإللهي الواجب ‪ ،‬فإنه في الدنيا فرع واألصل البطون ‪ ،‬ولهذا احتجب ه‬
‫في الدنيا ‪ ،‬وفي اآلخرة يتجلى عامة لعباده ‪ ،‬فإذا تجلى لمن تجلى له على خصوصه‬
‫كتجليه للجبل ‪ ،‬كذلك ما ظهر من الحال على الرسل من جهة الداللة على صدقه‬
‫ليشرع لهم ‪ ،‬والوارث داع لما قرره هذا الرسول ‪ ،‬وليس بمشرع ‪ ،‬فال يحتاج إلى‬ ‫ه‬
‫ظهور الحال كما احتاج إليه المشرع ‪ ،‬فالوارث يحفظ بقاء الدعوة في األمة عليها ‪،‬‬
‫وما حظه إال ذلك ‪ ،‬حتى إن الوارث لو أتى بشرع ‪ -‬وال يأتي به ‪ -‬ولكن لو فرضناه ما‬
‫قبلته منه األمة ‪ ،‬فال فائدة لظهور الحال إذا لم يكن القبول كما كان للرسول ‪ ،‬فما أظهر‬
‫ّللا ال عن تعمد وال قصد من العبد ‪ ،‬وهو المسمى‬ ‫ّللا عليهم من األحوال فذلك إلى ه‬
‫ه‬
‫ّللا في‬
‫ّللا إنما هو فتح ذلك الباب ليكون من ه‬‫كرامة في األمة ‪ ،‬فالذي يجهد فيه ولي ه‬
‫أحواله عند نفسه على بصيرة ‪ ،‬ال أنه يظهر بذلك عند خلقه ‪ ،‬فكرامة مثل هذا النوع‬
‫باّلل وما يتعلق به من التفضيل في أسمائه الحسنى وكلماته العليا ‪ ،‬فأخبر رسول‬ ‫علمه ه‬
‫ّللا التابع هنا‬
‫ّللا على بصيرة ‪ ،‬فجعل ه‬ ‫ّللا صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم أن من اتبعه يدعو إلى ه‬ ‫ه‬
‫ّللا عليه وسلم في نوره وإمداده ‪ ،‬فإن المؤمن إذا أجاب ومشى‬ ‫على صورة نبيه صلهى ه‬
‫ّللا ‪ ،‬فيتلقاه الحق تلقي‬
‫إلى ربه على الطريقة التي شرع له هذا الرسول فإنه يصل إلى ه‬
‫ّللا على بصيرة كما دعا ذلك الرسول ‪،‬‬ ‫إكرام وهبات ومنح وعطايا ‪ ،‬فصار يدعو إلى ه‬
‫ّللا على بصيرة فذلك الدعاء والنور الذي يدعو‬ ‫فكل من أخذ عن النبوة النور ودعا إلى ه‬
‫ّللا في‬
‫به هو نور اإلمداد اإللهي ‪ ،‬ال النور الذي اقتبسه من سراج النبوة ‪ ،‬فينسب إلى ه‬
‫ّللا بوساطة رسول‬ ‫ّللا عن أمر ه‬
‫ّللا ‪ ،‬وهو الداعي إلى ه‬
‫ذلك ال إلى الرسول ‪ ،‬فيقال عبد ه‬
‫ّللا به عليه في قلبه من العلوم اإللهية التي هي فتح‬
‫ّللا ‪ ،‬بحكم األصل ال بحكم ما فتح ه‬ ‫ه‬
‫عين فهمه لما جاء به الرسول صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم من القرآن واألخبار ‪ ،‬ال أن هذا‬
‫الداعي يأتي بشرع جديد ‪ ،‬وإنما يأتي بفهم جديد في الكتاب العزيز لم يكن غيره يعرف‬
‫ّللا عليهم وسالمه‬ ‫أن ذلك المعنى في ذلك الحرف المتلو أو المنقول ‪ ،‬فللرسل صلوات ه‬
‫العلم ولنا الفهم وهو علم أيضا ‪ ،‬فالبصيرة هي الدرجة التي تقع فيها المشاركة مع‬
‫األنبياء‬

‫‪401‬‬

‫ص ‪401 :‬‬
‫عليهم السالم ‪ ،‬وهي هنا الكشف ‪ ،‬فالمتبع على كشف مثل كشف الرسل ‪ ،‬فإن العلم‬
‫ّللا‬
‫الصحيح ال يعطيه الفكر وال ما قررته العقالء من حيث أفكارهم ‪ ،‬إنما هو ما يقذفه ه‬
‫في قلب العالم ‪ ،‬وهو نور إلهي يختص به من يشاء من عباده من ملك ورسول ونبي‬
‫وولي ومؤمن ‪ ،‬ومن ال كشف له ال علم له ‪ ،‬ولهذا جاءت الرسل والتعريف اإللهي بما‬
‫تحيله العقول فتضطر إلى التأويل في بعضها لتقبله ‪ ،‬وتضطر إلى التسليم والعجز في‬
‫ّللا ال تبلغه عقولنا ‪،‬‬‫أمور ال تقبل التأويل أصال ‪ ،‬وغايته أن يقول له وجه ال يعلمه إال ه‬
‫وهذا كله تأنيس للنفس ال علم حتى ال ترد شيئا مما جاءت به النبوة ‪ ،‬هذا حال المؤمن‬
‫العاقل ‪ ،‬وأما غير المؤمن فال يقبل شيئا من ذلك ‪ ،‬وقد وردت أخبار كثيرة مما تحيلها‬
‫العقول في الجناب العالي مما وصف الحق به نفسه في كتابه وعلى لسان رسله مما‬
‫يجب اإليمان به ‪ ،‬وال يقبله العقل بدليله على ظاهره إال إن تأوله بتأويل بعيد ‪ ،‬فإيمانه‬
‫إنما هو بتأويله ال بالخبر ‪ ،‬ولم يكن له كشف إلهي كما كان للنبي فيعرف مراد الحق‬
‫في ذلك الخبر ‪ ،‬فوصف نفسه سبحانه بالظرفية الزمانية والمكانية ‪ ،‬ووصفه بذلك‬
‫ّللا عليه وسلم وجميع الرسل ‪ ،‬وكلهم على لسان واحد في ذلك ‪ ،‬ألنهم‬ ‫رسوله صلهى ه‬
‫ّللا تعالى على‬‫يتكلمون عن إ هل واحد ‪ ،‬والعقالء أصحاب األفكار اختلفت مقاالتهم في ه‬
‫قدر نظرهم ‪ ،‬فاإلله الذي يعبد بالعقل مجردا عن اإليمان كأنه بل هو إله موضوع‬
‫بحسب ما أعطاه نظر ذلك العقل فاختلفوا ‪ ،‬والرسل عليهم السالم ما نقل عنهم اختالف‬
‫ّللا من النعوت ‪ ،‬بل كلهم على لسان واحد في ذلك ‪ ،‬والكتب التي‬ ‫فيما ينسبونه إلى ه‬
‫ّللا بلسان واحد ما اختلف منهم اثنان ‪ ،‬يصدق بعضهم‬ ‫جاءوا بها كلها تنطق في حق ه‬
‫بعضا مع طول األزمان وعدم االجتماع ‪ ،‬وما بينهم من الفرق المنازعين لهم ‪ ،‬ما‬
‫اختل نظامهم ‪ ،‬وكذلك المؤمنون بهم على بصيرة المسلمون المسلهمون الذين لم يدخلوا‬
‫نفوسهم في تأويل ‪ ،‬فهم أحد رجلين ‪ ،‬إما رجل آمن وسلم وجعل علم ذلك إليه إلى أن‬
‫مات وهو المقلد ‪ ،‬وإما رجل عمل بما علم من فروع األحكام ‪ ،‬واعتقد اإليمان بما‬
‫ّللا عن بصيرته وصيره ذا بصيرة في شأنه كما‬ ‫جاءت به الرسل والكتب ‪ ،‬فكشف ه‬
‫ّللا‬
‫ّللا عليه وسلم وأهل عنايته ‪ ،‬فكاشف وأبصر ودعا إلى ه‬ ‫فعل بنبيه ورسوله صلهى ه‬
‫ّللا تعالى في حق نبيه صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم مخبرا‬ ‫عز وجل على بصيرة ‪ ،‬كما قال ه‬ ‫ه‬
‫يرةٍ أَنَا َو َم ِن اتَّبَعَنِي »وهؤالء هم العلماء ه‬
‫باّلل العارفون ‪،‬‬ ‫ص َ‬ ‫على بَ ِ‬
‫ّللا َ‬ ‫له« أ َ ْد ُ‬
‫عوا ِإلَى َّ ِ‬
‫وإن لم يكونوا رسال وال أنبياء ‪ ،‬فهم على بينة من ربهم في علمهم به وبما جاء من‬
‫عنده ‪ ،‬وكذلك وصف نفسه‬

‫‪402‬‬

‫ص ‪402 :‬‬
‫بكثير من صفات المخلوقين في كل خبر صحيح ورد في كتاب أو سنة ‪ ،‬واألخبار‬
‫أكثر من أن تحصى ‪ ،‬مما ال يقبلها إال مؤمن بها من غير تأويل ‪ ،‬أو بعض أرباب‬
‫النظر من المؤمنين بتأويل اضطره إليه إيمانه ‪ ،‬فانظر مرتبة المؤمن ما أعزها ‪،‬‬
‫ومرتبة أهل الكشف ما أعظمها ‪ ،‬حيث ألحقت أصحابها بالرسل واألنبياء عليهم السالم‬
‫فيما خصوا به من العلم اإللهي ‪ ،‬ألن العلماء ورثة األنبياء ‪ ،‬وما ورثوا دينارا وال‬
‫ّللا عليه وسلم [ إنها معاشر األنبياء ال نورث ‪ ،‬ما‬ ‫درهما بل ورثوا العلم بقوله صلهى ه‬
‫تركناه صدقة ]‬
‫وهذا العلم المأخوذ من الكشف إنما هو على صورة اإليمان سواء ‪ ،‬فكل ما يقبله‬
‫ّللا ‪ ،‬فإنه حق كله ‪،‬‬ ‫اإليمان عليه يكون كشف أهل ه‬
‫ّللا عليه وسلم [ العلماء ورثة األنبياء ‪ ،‬وإن األنبياء ما ورثوا‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫قال رسول ه‬
‫دينارا وال درهما ‪ ،‬ورثوا العلم ]‬
‫ّللا عليه وسلم إلى أن فتح‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫ّللا بشريعة رسول ه‬ ‫فالوارث الكامل من انقطع إلى ه‬
‫ّللا عليه‬‫عز وجل على نبيه ورسوله محمد صلهى ه‬ ‫ّللا ه‬ ‫ّللا له في قلبه في فهم ما أنزل ه‬ ‫ه‬
‫وسلم بتجل إلهي ‪،‬‬
‫عز وجل وجعله من المحدثين في هذه األمة ‪ ،‬فقام له هذا مقام‬ ‫فرزق الفهم في كتابه ه‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ ،‬ثم رده إلى الخلق يرشدهم إلى‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫الملك الذي جاء إلى رسول ه‬
‫ّللا ‪ ،‬ويفرق لهم بين الخواطر المحمودة والمذمومة ‪ ،‬ويبين لهم‬ ‫صالح قلوبهم مع ه‬
‫ّللا عليه وسلم وما لم يثبت ‪،‬‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫مقاصد الشرع وما ثبت من األحكام عن رسول ه‬
‫ّللا ‪ ،‬آتاه رحمة من عنده وعلمه من لدنه علما ‪ ،‬فيرقي هممهم إلى طلب‬ ‫بإعالم من ه‬
‫ّللا عليه وسلم‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫ّللا كما فعل رسول ه‬ ‫األنفس بالمقام األقدس ‪ ،‬ويرغبهم فيما عند ه‬
‫في تبليغ رسالته ‪ ،‬غير أن الوارث ال يحدث شريعة وال ينسخ حكما مقررا ‪ ،‬لكن يبين‬
‫‪ ،‬فإنه على بينة من ربه وبصيرة في علمه ويتلوه شاهد منه بصدق اتباعه ‪ ،‬وهو الذي‬
‫ّللا ‪،‬‬
‫ّللا عليه وسلم في الصفة التي يدعو بها إلى ه‬ ‫ّللا تعالى مع رسوله صلهى ه‬ ‫شركه ه‬
‫يرةٍ أَنَا َو َم ِن اتَّبَعَنِي »وهم الورثة ‪ ،‬يدعون إلى‬ ‫ص َ‬ ‫على بَ ِ‬ ‫عوا إِلَى َّ ِ‬
‫ّللا َ‬ ‫فأخبر وقال «أ َ ْد ُ‬
‫ّللا على بصيرة ‪ ،‬وكذلك شركهم مع األنبياء عليهم السالم في المحنة وما ابتلوا به‬ ‫ه‬
‫ق َويَ ْقتُلُونَ الَّذِينَ يَأ ْ ُم ُرونَ‬
‫ّللا َويَ ْقتُلُونَ النَّ ِب ِيهينَ ِبغَي ِْر َح ه ٍ‬
‫ت َّ ِ‬ ‫فقال( ِإ َّن الَّذِينَ يَ ْكفُ ُرونَ ِبآيا ِ‬
‫اس )‬ ‫ْط ِمنَ النَّ ِ‬ ‫ِب ْال ِقس ِ‬
‫ّللا ‪ ،‬فمتبع‬ ‫وهم الورثة ‪ ،‬فشرك بينهم في البالء كما شرك بينهم في الدعوة إلى ه‬
‫ّللا عليه وسلم ال يخطئ ‪ ،‬فإنهه يقفو أثره ‪ ،‬وما أفرد نفسه صلهى ه‬
‫ّللا عليه‬ ‫الرسول صلهى ه‬
‫وسلم ‪ ،‬بل ذكر أتباعه معه ‪ ،‬فإنهم ال يكونون أتباعه إال حتى يكونوا على قدمه ‪،‬‬
‫فيشهدون ما يشهد ويرون ما يرى ‪ ،‬فقوله« َو َم ِن اتَّبَعَنِي »هم أهل المجاهدات الذين‬
‫اتبعوه في أفعاله أسوة واقتداء ‪ ،‬فأوصلهم ذلك االتهباع إلى البصيرة ‪ ،‬وهو الكشف ‪،‬‬
‫فكان ما أتوا به علما لهم ‪ ،‬فدعوا‬

‫ص ‪403‬‬

‫ص ‪403 :‬‬
‫ّللا في أحكامه على بصيرة ‪ ،‬وغاية المجتهدين من علماء الرسوم ‪ ،‬الذين لم يتبعوا‬ ‫إلى ه‬
‫الرسول صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم في أفعاله وال اقتدوا به ‪ ،‬الحكم بغلبة الظن ‪ ،‬فكان ما أتوا‬
‫ّللا على غير بصيرة ‪ ،‬والبصيرة التي يكون‬ ‫به علما في نفسه ظنا لهم ‪ ،‬فدعوا إلى ه‬
‫عليها الداعي والبينة إنما ذلك فيما يدعو إليه ‪ ،‬وليس إال الطريق إلى السعادة ‪ ،‬ال إلى‬
‫باّلل ‪ ،‬فإنه إذا دعا إلى العلم أيضا إنما يدعو إلى الحيرة على بصيرة أنه ما ثم إال‬ ‫العلم ه‬
‫ّللا ‪ ،‬ألن األمر عظيم والمدعو إليه ال يقبل الحصر وال ينضبط ‪ ،‬فليس في‬ ‫الحيرة في ه‬
‫اليد منه شيء ‪ ،‬فما هو إال ما تراه في كل تجل ‪ ،‬والحق ال يتجلى في صورة مرتين ‪،‬‬
‫ّللا الذين أقامهم الحق مقام الرسل في الدعوة‬ ‫باّلل من أهل ه‬
‫فهؤالء األتباع هم العلماء ه‬
‫ّللا بلسان حق عن نبوة مطلقة ‪ ،‬اعتنى بهم في أن وصفهم بها ال نبوة الشرائع ‪،‬‬ ‫إلى ه‬
‫سبْحانَ َّ ِ‬
‫ّللا َوما‬ ‫بل نبوة حفظ ألمر مشروع على بصيرة من الحافظ ال عن تقليد ‪َ «،‬و ُ‬
‫أَنَا ِمنَ ْال ُم ْش ِر ِكينَ »‪.‬‬

‫[ سورة يوسف ‪( 12 ) :‬اآليات ‪ 109‬إلى ‪] 111‬‬


‫ض‬ ‫يروا فِي ْاأل َ ْر ِ‬ ‫س ُ‬ ‫وحي ِإلَ ْي ِه ْم ِم ْن أ َ ْه ِل ا ْلقُرى أ َ فَلَ ْم يَ ِ‬ ‫س ْلنا ِم ْن قَ ْب ِلكَ ِإاله ِرجاالً نُ ِ‬ ‫َوما أ َ ْر َ‬
‫ِين اتهقَ ْوا أ َ فَال ت َ ْع ِقلُو َن‬ ‫دار ْاآل ِخ َر ِة َخ ْي ٌر ِللهذ َ‬‫ِين ِم ْن قَ ْب ِل ِه ْم َولَ ُ‬ ‫كان عاقِبَةُ الهذ َ‬ ‫ف َ‬ ‫ظ ُروا َك ْي َ‬ ‫فَيَ ْن ُ‬
‫ي َم ْن‬ ‫س ُل َو َظنُّوا أَنه ُه ْم قَ ْد ُك ِذبُوا جا َء ُه ْم نَص ُْرنا فَنُ ِ ّج َ‬ ‫الر ُ‬‫س ُّ‬ ‫ست َ ْيأ َ َ‬
‫( ‪َ ) 109‬حتهى ِإذَا ا ْ‬
‫ص ِص ِه ْم ِع ْب َرةٌ ِألُو ِلي‬ ‫كان فِي قَ َ‬ ‫ين ( ‪ ) 110‬لَقَ ْد َ‬ ‫سنا ع َِن ا ْلقَ ْو ِم ا ْل ُمجْ ِر ِم َ‬ ‫نَشا ُء َوال يُ َر ُّد بَأ ْ ُ‬
‫دى‬‫ش ْي ٍء َو ُه ً‬ ‫ِيق الهذِي بَ ْي َن يَ َد ْي ِه َوت َ ْف ِصي َل ُك ِ ّل َ‬ ‫صد َ‬ ‫كان َحدِيثا ً يُ ْفتَرى َول ِك ْن ت َ ْ‬ ‫ب ما َ‬ ‫ْاأل َ ْلبا ِ‬
‫ون ) ‪( 111‬‬ ‫َو َرحْ َمةً ِلقَ ْو ٍم يُ ْؤ ِمنُ َ‬
‫اعلم أن جميع هذا القصص إنما هو قناطر وجسور موضوعة نعبر عليها إلى ذواتنا‬
‫ّللا نصبها لنا معبرا ‪ ،‬لذلك قال‬ ‫وأحوالنا المختصة بنا ‪ ،‬فإن فيها منفعتنا ‪ ،‬إذ كان ه‬
‫ب »فإن اللب يحجب بصورة القشر ‪،‬‬ ‫ص ِه ْم ِعب َْرة ٌ ِألُو ِلي ْاأل َ ْلبا ِ‬ ‫ص ِ‬ ‫تعالى« لَقَ ْد كانَ ِفي قَ َ‬
‫فال يعلم اللب إال من علم أن ثم لبا ‪ ،‬ولوال ذلك ما كسر القشر ‪ ،‬فيكون هذا القصص‬
‫ش ْيءٍ‬‫صي َل ُك ِهل َ‬ ‫صدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَ َد ْي ِه َوت َ ْف ِ‬ ‫يذكرك بما فيك« ما كانَ َحدِيثا ً يُ ْفتَرى َول ِك ْن ت َ ْ‬
‫ى َو َر ْح َمةً ِلقَ ْو ٍم يُؤْ ِمنُونَ ‪».‬‬ ‫َو ُهد ً‬

‫ص ‪404‬‬

‫ص ‪404 :‬‬
‫الرعد مدنيّة‬ ‫) ‪ ( 13‬سورة ّ‬
‫الرحيم‬ ‫الرحمن ّ‬ ‫َّللا ّ‬‫بسم ّ‬
‫[ سورة الرعد ( ‪ : ) 13‬آية ‪] 1‬‬
‫يم‬
‫الر ِح ِ‬
‫من ه‬ ‫الرحْ ِ‬
‫َّللا ه‬
‫س ِم ه ِ‬
‫ِب ْ‬
‫ق َول ِك هن أ َ ْكث َ َر النه ِ‬
‫اس ال يُ ْؤ ِمنُ َ‬
‫ون (‬ ‫ب َوالهذِي أ ُ ْن ِز َل ِإلَ ْيكَ ِم ْن َر ِبّكَ ا ْل َح ُّ‬‫المر ِت ْلكَ آياتُ ا ْل ِكتا ِ‬
‫‪)1‬‬
‫أشار تعالى بقولهذ ِل َك ْال ِكتابُفي أول البقرة أوال لوجود الجمع أصال قبل الفرق ثم أوجد‬
‫الفرق فإن الكتاب للجمع واآليات للتفرقة ‪.‬‬

‫[ سورة الرعد ( ‪ : ) 13‬آية ‪]2‬‬


‫س هخ َر الش ْهم َ‬
‫س‬ ‫علَى ا ْلعَ ْر ِش َو َ‬ ‫ستَوى َ‬ ‫ع َم ٍد ت َ َر ْونَها ث ُ هم ا ْ‬ ‫ت ِبغَ ْي ِر َ‬
‫سماوا ِ‬ ‫َّللاُ الهذِي َرفَ َع ال ه‬ ‫ه‬
‫ت لَعَله ُك ْم بِ ِل ِ‬
‫قاء َر ِبّ ُك ْم تُوقِنُ َ‬
‫ون (‪)2‬‬ ‫س ًّمى يُ َد ِبّ ُر ْاأل َ ْم َر يُفَ ِ ّ‬
‫ص ُل ْاآليا ِ‬ ‫َوا ْلقَ َم َر ُك ٌّل يَجْ ِري ِأل َ َج ٍل ُم َ‬
‫ع َم ٍد ت َ َر ْونَها " ]‬ ‫ت بِغَي ِْر َ‬ ‫سماوا ِ‬ ‫ّللاُ الَّذِي َرفَ َع ال َّ‬
‫[ " َّ‬
‫ع َم ٍد ت َ َر ْونَها »يدل ذلك على أن هناك‬ ‫ت ِبغَي ِْر َ‬ ‫سماوا ِ‬ ‫ّللاُ الَّذِي َرفَ َع ال َّ‬‫الوجه األول –" َّ‬
‫عمدا قائما عليه اعتماد السبع الشدائد لكنه عن البصر محجوب فهو ملحق بالغيوب ‪،‬‬
‫فقال من أوجد عينها ‪ ،‬فأقامها بغير عمد ترونها ‪ ،‬فما نفى العمد ‪ ،‬لكن ما يراه كل أحد‬
‫‪ ،‬فال بد لها من ماسك ‪ ،‬وما هو إال المالك ‪ ،‬فمن أزالها بذهابه ‪ ،‬فهو عمدها المستور‬
‫ّللا ‪ ،‬ناب‬
‫في إهابه ‪ ،‬وليس إال اإلنسان الكامل ‪ ،‬وهو األمر الشامل ‪ ،‬الذي إذا قال ‪ :‬ه‬
‫بذلك القول عن جميع األفواه ‪ ،‬فهو المنظور إليه ‪ ،‬والمعول عليه ‪ ،‬فأقام سبحانه‬
‫الصورة اإلنسانية بالحركة المستقيمة صورة العمد الذي للخيمة ‪ ،‬فجعله لقبة هذه‬
‫السماوات ‪ ،‬فهو سبحانه يمسكها أن تزول بسببه ‪ ،‬فعبرنا عنه بالعمد ‪ ،‬فإذا فنيت هذه‬
‫الصورة ولم يبق منها على وجه األرض أحد يتنفس انشقت السماء فهي يومئذ واهية‬
‫ألن العمد زال وهو اإلنسان ‪ ،‬ولما انتقلت العمارة إلى الدار‬

‫ص ‪405‬‬

‫ص ‪405 :‬‬
‫اآلخرة بانتقال اإلنسان إليها وخربت الدنيا بانتقاله عنها ‪ ،‬علمنا قطعا أن اإلنسان هو‬
‫العين المقصودة هّلل من العالم ‪ ،‬وأنه الخليفة حقا ‪ ،‬وأنه محل ظهور األسماء اإللهية ‪،‬‬
‫ّللا بوجوده السماء أن تقع على األرض ‪ ،‬فإذا‬ ‫فاإلنسان الكامل عمد السماء الذي يمسك ه‬
‫زال اإلنسان وانتقل إلى برزخ دار الحيوان مارت قبة السماء وانشقت وهوت ‪ ،‬فكانت‬
‫شعلة نار سيال كالدهان ‪ ،‬فالعمد لقبة السماء المعنى الماسك ‪ ،‬فإن لم ترد أن يكون‬
‫اإلنسان فاجعله قدرة المالك‪«.‬‬
‫س ًّمى » فهو يثبت‬ ‫س َو ْالقَ َم َر ُك ٌّل يَ ْج ِري ِأل َ َج ٍل ُم َ‬ ‫س َّخ َر ال َّ‬
‫ش ْم َ‬ ‫علَى ْالعَ ْر ِش َو َ‬ ‫ث ُ َّم ا ْستَوى َ‬
‫إلى وقت معين ثم يزول حكمه ال عينه ‪ ،‬فإذا بلغ جريانه األجل زال جريانه وإن بقي‬
‫عينه ‪ ،‬ولما كان االسم الرب من خصائصه اإلصالح ‪ -‬فقد حد االسم الرب الحدود‬
‫ووضع المراسم إلصالح المملكة وفعل ما تقتضيه المصلحة في بقاء أعيان الممكنات ‪-‬‬
‫اتخذ وزيرين يعينانه على ما أمر به ‪ ،‬الوزير الواحد االسم المدبر ‪ ،‬والوزير اآلخر‬
‫المفصل ‪ ،‬فكان أصل وضع الشريعة في العالم وسببها طلب صالح العالم ومعرفة ما‬
‫ّللا مما ال يقبله العقل ‪ ،‬أي ال يستقل بإدراكه العقل من حيث نظره ‪ ،‬فنزلت‬ ‫جهل من ه‬
‫بهذه المعرفة الكتب المنزلة ونطقت بها ألسنة الرسل واألنبياء عليهم السالم ‪،‬‬
‫ت "بالكالم" لَعَلَّ ُك ْم ِب ِل ِ‬
‫قاء َر ِبه ُك ْم تُوقِنُونَ‬ ‫ص ُل ْاآليا ِ‬ ‫لذلك قال تعالى« يُ َد ِبه ُر ْاأل َ ْم َر »عامة« يُفَ ِ ه‬
‫»‬
‫ت »اعلم أن حكم المدبر في األمور إحكامها‬ ‫ص ُل ْاآليا ِ‬ ‫‪ -‬الوجه الثاني ‪ «-‬يُ َد ِبه ُر ْاأل َ ْم َر يُفَ ِ ه‬
‫في موضع الجمع والشهود وإعطاؤها ما تستحقه ‪ ،‬وهذا كله قبل وجودها في أعيانها‬
‫وهي موجودة له ‪ ،‬فإذا أحكمها كما ذكرناه أخذها المفصل وهذا االسم مخصوص‬
‫بالمراتب ‪ ،‬فأنزل كل كون وأمر في مرتبته ومنزلته ‪ ،‬فالمعنى المراد من قوله تعالى«‬
‫ت »هو التقدير واإليجاد فالتدبير للتقدير ‪ ،‬والتفصيل لإليجاد من‬ ‫ص ُل ْاآليا ِ‬ ‫يُ َد ِبه ُر ْاأل َ ْم َر يُفَ ِ ه‬
‫فصلت الشيء عن الشيء إذا قطعته منه وفصلت بينه وبينه حتى تميز ‪ ،‬فإن كان‬
‫الفصل عن تقدير فهو على صورته وشكله ‪ ،‬وإن كان عن غير تقدير فقد ال يكون‬
‫على صورته وإن أشبهه في أمر ما‬
‫‪ -‬الوجه الثالث ‪ -‬قوله تعالى« يُ َد ِبه ُر ْاأل َ ْم َر »يعني أن الحق على الحقيقة هو مدبر العالم‬
‫‪ ،‬وما وصف الحق نفسه بأنه يدبر األمر إال أن يعرفنا أنه ما عمل شيئا إال ما تقتضيه‬
‫حكمة الوجود وأنه أنزله موضعه الذي لو لم ينزله فيه لم يوف الحكمة حقها ‪ ،‬وهو‬
‫ت »يعني الدالالت على توحيده ‪ ،‬فيعطي كل‬ ‫ص ُل ْاآليا ِ‬ ‫الذي أعطى كل شيء خلقه« يُفَ ِ ه‬
‫صه على توحيد موجده ‪ ،‬ويفصل اآليات أي يقسمها على خلقه‬ ‫خلق داللة تخ ه‬

‫ص ‪406‬‬

‫ص ‪406 :‬‬
‫ّللا تعالى عليه ‪ ،‬فإن اآليات معتادة وغير معتادة ‪ ،‬فالخواص العالم‬ ‫بحسب ما فطرهم ه‬
‫كله عندهم آيات بينات ‪ ،‬والعامة ليست اآليات عندهم إال التي هي عندهم غير معتادة ‪،‬‬
‫وّللا قد جعل اآليات المعتادة ألصناف مختلفين من عباده‬ ‫ّللا ‪ ،‬ه‬
‫فتلك تنبههم إلى تعظيم ه‬
‫فمنها للعقالء وآيات للموقنين وآيات ألولي األلباب ‪ ،‬وآيات ألولي النهي وآيات‬
‫للسامعين ‪ ،‬وآيات للعالمين وآيات للعالمين وآيات للمؤمنين ‪ ،‬وآيات للمتفكرين وآيات‬
‫ّللا بنعوت مختلفة وآيات مختلفة ذكرها لنا‬ ‫ألهل الذكر ‪ ،‬فهؤالء كلهم أصناف نعتهم ه‬
‫في القرآن إذا بحثت عليها وتدبرتها علمت أنها آيات ودالالت على أمور مختلفة ترجع‬
‫إلى عين واحدة ‪ ،‬غفل عن ذلك أكثر الناس ‪ ،‬ولهذا عدد األصناف ‪ ،‬فيتلوها جميع‬
‫الناس وال يتنبه لها إال األصناف الذين ذكرهم في كل آية خاصة ‪ ،‬فكأن تلك اآليات في‬
‫حق أولئك أنزلت ‪ ،‬وفي حق غيرهم لمجرد التالوة ليؤجروا عليها «لَعَلَّ ُك ْم ِب ِل ِ‬
‫قاء َر ِبه ُك ْم‬
‫تُو ِقنُونَ »أي انتقالكم من وجود الدنيا إلى وجود اآلخرة أقرب في العلم إن كنتم توقنون‬
‫من انتقالكم من حال العدم إلى حال الوجود ‪ ،‬وتوقنون أي تثبتون على موازين الحكم ‪.‬‬

‫[ سورة الرعد ( ‪ : ) 13‬آية ‪] 3‬‬


‫ت َجعَ َل فِيها َز ْو َج ْي ِن‬ ‫ي َوأ َ ْنهارا ً َو ِم ْن ُك ِ ّل الث ه َمرا ِ‬ ‫س َ‬‫ض َو َجعَ َل فِيها َروا ِ‬ ‫َو ُه َو الهذِي َم هد ْاأل َ ْر َ‬
‫ون ( ‪) 3‬‬ ‫ت ِلقَ ْو ٍم يَتَفَك ُهر َ‬‫هار ِإ هن ِفي ذ ِلكَ َآليا ٍ‬ ‫شي الله ْي َل النه َ‬ ‫اثْنَ ْي ِن يُ ْغ ِ‬
‫ت ِلقَ ْو ٍم يَتَفَ َّك ُرونَ ]‬
‫[إِ َّن فِي ذ ِل َك َآليا ٍ‬
‫ت ِلقَ ْو ٍم يَتَفَ َّك ُرونَ »فيما أخفاه‬ ‫وهو االعتبار والنظر المأمور به شرعا« إِ َّن فِي ذ ِل َك َآليا ٍ‬
‫ّللا األدلة ما شرع للعقالء التفكر وال‬ ‫من غامض حكمته في أحكامه ‪ ،‬فلو ال ما نصب ه‬
‫طالبهم ‪ ،‬وكذلك في معرفتهم به سبحانه ‪ ،‬فإذا تعدى بالفكر حدهه وفكر اإلنسان فيما ال‬
‫إن اإلنسان يشغله الفكر فيما لم‬ ‫ينبغي له أن يفكر فيه عذب يوم القيامة بنار فكره ‪ ،‬ثم ه‬
‫ّللا عليه بها ‪ ،‬فيكون صاحب‬ ‫يشرع له التفكر فيه عن شكر المنعم على النعم التي أنعم ه‬
‫ّللا‬
‫عذاب ‪ ،‬عذاب الفكر فيما ال ينبغي وعذاب عدم الشكر على ما أنعم به عليه ‪ ،‬فإن ه‬
‫سبحانه قد شاء أن يبرز العالم في الشفعية لينفرد سبحانه بالوترية ‪ ،‬فيصح اسم الواحد‬
‫ت َجعَ َل فِيها زَ ْو َجي ِْن اثْنَي ِْن‬ ‫الفرد ‪ ،‬ويتميز السيد من العبد ‪ ،‬فقال« َو ِم ْن ُك ِهل الث َّ َمرا ِ‬
‫ت ِلقَ ْو ٍم يَتَفَ َّك ُرونَ »فإذا أخذت في الفكر واالعتبار في‬ ‫هار ِإ َّن فِي ذ ِل َك َآليا ٍ‬ ‫يُ ْغ ِشي اللَّ ْي َل النَّ َ‬
‫هذه اآلية رأيت أن اإلنسان من جملة الثمرات ‪ ،‬ينمو كنمائها ويتغذى كغذائها ‪ ،‬ثم‬
‫ينتهي كنهايتها ‪ ،‬ويؤخذ منه‬

‫ص ‪407‬‬

‫ص ‪407 :‬‬
‫الفوائد كاألخذ منها ‪ ،‬ثم يأخذ في النقص كنقصانها ‪ ،‬ثم يهرم كهرمها ‪ ،‬ثم يموت‬
‫كموتها ‪ ،‬ثم تراه يولد كتوليدها ‪ ،‬فيؤخذ بذر منها فيزرع فيحدث فيه الشباب كذلك حتى‬
‫يصير إلى مثل حالها ‪ ،‬فقد يؤخذ منه كما أخذ منها وقد يترك فينقطع النسل من تلك‬
‫الثمرة المعينة ‪ ،‬وكذلك اإلنسان في التوالد والتناسل على ذلك المهيع ‪ ،‬فإن قلت ‪ :‬هذه‬
‫شجرة ‪ ،‬فأين أختها التي تصح بها شفعيتها وإطالق هذه اآلية عليهما فكرا واعتبارا ؟‬
‫فإذا تتبعت وجود الحكمة في اإلنسان وتفضيله على سائر الحيوان وتقصيت أسراره‬
‫وحكمه ولطائفه ‪ ،‬رأيتها بأعيانها في العالم المحيط األكبر قدما بقدم ‪ ،‬حتى تجده كأنه‬
‫هو ‪ ،‬فتعلم أن الثمرة الواحدة العالم الكبير المحيط ‪ ،‬والثمرة األخرى اإلنسان الذي هو‬
‫ْص ُرونَ )‬‫العالم الصغير ‪ ،‬وعلى ذلك نبه الكتاب العزيز بقوله ‪َ ( :‬وفِي أ َ ْنفُ ِس ُك ْم أ َ فَال تُب ِ‬
‫ق َو ِفي أ َ ْنفُ ِس ِه ْم )‬
‫سنُ ِري ِه ْم آيا ِتنا ِفي ْاآلفا ِ‬
‫وبقوله( َ‬
‫ّللا بصيرتك إلى ما تفرق في العالم األكبر تجده في هذا العالم اإلنساني ‪،‬‬ ‫نور ه‬ ‫فانظر ه‬
‫ّللا تعالى ابتلى اإلنسان‬ ‫ت ِلقَ ْو ٍم يَتَفَ َّك ُرونَ »اعلم أن ه‬ ‫من ملك وملكوت« إِ َّن فِي ذ ِل َك َآليا ٍ‬
‫الذي جعله خليفة في األرض ببالء ما ابتلى به أحدا من خلقه ‪ ،‬إما ألن يسعده أو يشقيه‬
‫على حسب ما يوفقه إلى استعماله ‪ ،‬فكان البالء الذي ابتاله به أن خلق فيه قوة تسمى‬
‫الفكر ‪ ،‬وكلف العقل معرفته سبحانه ليرجع إليه في اقتناء العلوم ال إلى غيره ‪ ،‬ففهم‬
‫العقل نقيض ما أراد به الحق بقوله تعالى( أ َ َولَ ْم يَتَفَ َّك ُروا ) *" ِلقَ ْو ٍم يَتَفَ َّك ُرونَ "‬
‫*فاستند إلى الفكر وجعله إماما يقتدى به ‪ ،‬وغفل عن الحق في مراده بالتفكر أنه‬
‫ّللا ‪ ،‬فيكشف له عن‬ ‫باّلل ال سبيل إليه إال بتعريف ه‬ ‫خاطبه أن يتفكر فيرى أن علمه ه‬
‫ّللا من أنبيائه‬‫األمر على ما هو عليه ‪ ،‬فلم يفهم كل عقل هذا الفهم إال عقول خاصة ه‬
‫وأوليائه ‪ ،‬يا ليت شعري هل بأفكارهم قالوا بلى حين أشهدهم على أنفسهم في قبضة‬
‫الذرية من ظهر آدم ؟‬
‫وّللا ‪ ،‬بل عناية إشهادهم إياه ذلك عند أخذه إياهم عنهم من ظهورهم ‪ ،‬ولما رجعوا‬ ‫ال ه‬
‫ّللا لم يجتمعوا قط على حكم واحد في معرفة‬ ‫إلى األخذ عن قواهم المفكرة في معرفة ه‬
‫ّللا ‪ ،‬وذهبت كل طائفة إلى مذهب ‪ ،‬وكثرت القالة في الجناب اإللهي األحمى ‪،‬‬ ‫ه‬
‫ّللا ‪ ،‬وهذا كله من االبتالء الذي ذكرناه من خلقه الفكر في‬ ‫واجترءوا غاية الجرأة على ه‬
‫اإلنسان ‪ ،‬فالخاصة افتقروا إليه فيما كلفهم من اإليمان به في معرفته ‪ ،‬وعلموا أن‬
‫المراد منهم رجوعهم إليه في ذلك وفي كل حال ‪ ،‬فمنهم القائل ‪ ،‬سبحان من لم يجعل‬
‫سبيال إلى معرفته هإال العجز عن معرفته ‪،‬‬
‫ومنهم من قال ‪ :‬العجز عن درك اإلدراك‬

‫ص ‪408‬‬

‫ص ‪408 :‬‬
‫طونَ‬ ‫إدراك ‪ ،‬وقال صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم [ ال أحصي ثناء عليك ] وقال تعالى( َوال يُ ِحي ُ‬
‫بِ ِه ِع ْلما ً )فرجعوا إلى ه‬
‫ّللا في المعرفة به وتركوا الفكر في مرتبته ووفوه حقه ‪ ،‬لم‬
‫ّللا ‪ ،‬فوهبهم‬ ‫ينقلوه إلى ما ال ينبغي له التفكر فيه ‪ ،‬وقد ورد النهي عن التفكر في ذات ه‬
‫ّللا من معرفته ما وهبهم ‪ ،‬وأشهدهم من مخلوقاته ومظاهره ما أشهدهم ‪ ،‬فعلموا أنه ما‬ ‫ه‬
‫يستحيل عقال من طريق الفكر ال يستحيل نسبة إلهية ‪ ،‬فالفكر ال يتعدى النظر في اإلله‬
‫من كونه إلها ‪ ،‬وفيما ينبغي أن يستحقه من له صفة األلوهية من التعظيم واإلجالل‬
‫واالفتقار إليه بالذات ‪ ،‬وهذا كله يوجد حكمه قبل وجود الشرائع ‪ ،‬ثم جاء الشرع به‬
‫مخبرا وآمرا ‪ ،‬فأمر به وإن أعطته فطرة البشر ‪ ،‬ليكون عبادة يؤجر عليها ‪ ،‬وليس‬
‫للفكر حكم وال مجال في ذات الحق ال عقال وال شرعا ‪ ،‬فإن الشرع قد منع من التفكر‬
‫ّللا ‪ ،‬فالفكر يصيب العاقل به ويخطئ ‪ ،‬ولكن خطأه أكثر من إصابته ‪ ،‬ألن له‬ ‫في ذات ه‬
‫حدا يقف عنده ‪ ،‬فمتى وقف عنده أصاب وال بد ‪ ،‬ومتى جاوز حدهه إلى ما هو لحكم‬
‫ّللا وإياكم من غلطات‬ ‫قوة أخرى يعطاها بعض العبيد قد يخطئ ويصيب ‪ ،‬عصمنا ه‬
‫األفكار ‪.‬‬

‫[ سورة الرعد ( ‪ : ) 13‬آية ‪] 4‬‬


‫غ ْي ُر ِص ْن ٍ‬
‫وان‬ ‫وان َو َ‬
‫ع َونَ ِخي ٌل ِص ْن ٌ‬ ‫ب َو َز ْر ٌ‬ ‫ض ِق َط ٌع ُمتَجا ِوراتٌ َو َجنهاتٌ ِم ْن أَعْنا ٍ‬ ‫َو ِفي ْاأل َ ْر ِ‬
‫ون‬‫ت ِلقَ ْو ٍم يَ ْع ِقلُ َ‬‫ض فِي ْاأل ُ ُك ِل إِ هن فِي ذ ِلكَ َآليا ٍ‬ ‫ضها عَلى بَ ْع ٍ‬ ‫ض ُل بَ ْع َ‬‫واح ٍد َونُفَ ِ ّ‬
‫ماء ِ‬ ‫سقى بِ ٍ‬ ‫يُ ْ‬
‫(‪)4‬‬
‫ان َو َ‬
‫غي ُْر‬ ‫ص ْن َو ٌ‬
‫ع َون َِخي ٌل ِ‬
‫ب َوزَ ْر ٌ‬ ‫ات ِم ْن أَعْنا ٍ‬ ‫رات َو َجنَّ ٌ‬
‫ط ٌع ُمتَجا ِو ٌ‬ ‫ض قِ َ‬ ‫« َوفِي ْاأل َ ْر ِ‬
‫واح ٍد »واألرض تقلب ما يزرع فيها إلى طبيعتها ‪ ،‬وتختلف‬ ‫ان يُسْقى ِبماءٍ ِ‬ ‫ص ْن َو ٍ‬‫ِ‬
‫الطعوم والروائح ‪ ،‬فإن الثمرة الطيهبة والخبيثة من خبث مزاج البقعة أو طيبها ‪ ،‬أو من‬
‫ض ِفي ْاأل ُ ُك ِل »مع كونها تسقى بماء‬ ‫على بَ ْع ٍ‬
‫ضها َ‬ ‫ض ُل بَ ْع َ‬‫خبث البذرة أو طيبها« َونُفَ ِ ه‬
‫واحد ‪ ،‬وما ث هم آية أحق بما هو الوجود عليه من التفاضل من هذه اآلية حيث قال«‬
‫واح ٍد »فظهر االختالف عن الواحد في الطعم بطريق المفاضلة ‪ ،‬والواقع‬ ‫يُسْقى بِماءٍ ِ‬
‫من هذا كثير في القرآن من تفضيل كل جنس بعضه على بعض ‪ ،‬ولما كان الماء‬
‫واحدا ‪ ،‬والماء سبب في ظهور الروائح المختلفة والطعوم المختلفة ‪ ،‬قال« ِإ َّن فِي ذ ِل َك‬
‫ت ِلقَ ْو ٍم يَ ْع ِقلُونَ »من العقل ‪ ،‬والعقل القيد ‪ ،‬فقيدهم من‬ ‫َآليا ٍ‬

‫ص ‪409‬‬

‫ص ‪409 :‬‬
‫العقال وهو التقييد ‪ ،‬وما سميت العقول عقوال إال لقصورها على من عقلته من العقال ‪،‬‬
‫والعاقل يهوله المعتاد وغير المعتاد من اآليات ‪ ،‬ولذلك قال في المعتاد « ِإ َّن فِي ذ ِل َك‬
‫ت ِلقَ ْو ٍم يَ ْع ِقلُونَ »والسعيد من عقله الشرع ال من عقله غير الشرع ‪.‬‬
‫َآليا ٍ‬
‫إشارة ‪ -‬اللذات في المطاعم ‪ ،‬والمطاعم في الثمر ‪ ،‬والثمر في األغصان ‪ ،‬واألغصان‬
‫تتفرع من األصل ‪ ،‬واألصل واحد ‪ ،‬ولوال األرض ما ثبت األصل ‪ ،‬ولوال األصل ما‬
‫ثبت الفرع ‪ ،‬ولوال الفرع ما كان الثمر ‪ ،‬ولوال الثمر ما وجد األكل ‪ ،‬ولوال األكل ما‬
‫وجدت اللذة ‪ ،‬فالكل متعلق باألرض ‪ ،‬واألرض مفتقرة إلى الماء ‪ ،‬والماء مفتقر إلى‬
‫السحاب ‪ ،‬والسحاب مفتقر إلى الريح ‪ ،‬والريح يسخرها األمر ‪ ،‬واألمر من الحضرة‬
‫الربانية يصدر ‪ ،‬ومن هنا ارق وانظر وتنزه وال تنطق ‪ -‬إشارة ‪ -‬يسقى بماء واحد‬
‫وفضل بعضها على بعض في الشاهد ! ! ألن للمزاج أثرا والغذاء واحد ‪ ،‬وتستمد منه‬
‫القوى على اختالفها فيظهر في كل موطن بما تقتضيه حقيقة ذلك الموطن ‪ ،‬وكل إناء‬
‫بما فيه ينضح ‪ ،‬انظر إلى بني آدم ! !‬

‫[ سورة الرعد ( ‪ : ) 13‬اآليات ‪ 5‬إلى ‪] 7‬‬


‫ق َجدِي ٍد أُولئِكَ الهذ َ‬
‫ِين َكفَ ُروا ِب َر ِبّ ِه ْم‬ ‫ب قَ ْولُ ُه ْم أ َ ِإذا ُكنها تُرابا ً أ َ ِإنها لَ ِفي َخ ْل ٍ‬ ‫َو ِإ ْن ت َ ْع َج ْب فَعَ َج ٌ‬
‫ُون ( ‪) 5‬‬ ‫ْحاب النه ِار ُه ْم ِفيها خا ِلد َ‬ ‫َوأُول ِئكَ ْاأل َ ْغال ُل ِفي أ َعْنا ِق ِه ْم َوأُول ِئكَ أَص ُ‬
‫سنَ ِة َوقَ ْد َخلَتْ ِم ْن قَ ْب ِل ِه ُم ا ْل َمثُالتُ َوإِ هن َربهكَ لَذُو َم ْغ ِف َر ٍة‬‫س ِيّئ َ ِة قَ ْب َل ا ْل َح َ‬
‫ست َ ْع ِجلُونَكَ بِال ه‬ ‫َويَ ْ‬
‫علَ ْي ِه‬ ‫ِين َكفَ ُروا لَ ْو ال أ ُ ْن ِز َل َ‬
‫ب ) ‪َ ( 6‬ويَقُو ُل الهذ َ‬ ‫شدِي ُد ا ْل ِعقا ِ‬
‫ظ ْل ِم ِه ْم َوإِ هن َربهكَ لَ َ‬ ‫اس عَلى ُ‬ ‫ِللنه ِ‬
‫آيَةٌ ِم ْن َر ِبّ ِه إِنهما أ َ ْنتَ ُم ْنذ ٌِر َو ِل ُك ِ ّل قَ ْو ٍم ها ٍد ( ‪) 7‬‬
‫ّللا ‪ ،‬ال هاد بمعنى موفهق ‪ ،‬فهو‬ ‫ّللا مبلغ عن ه‬ ‫" َو ِل ُك ِهل قَ ْو ٍم ها ٍد " أي رسول من عند ه‬
‫مبيهن فله اإلبانة خاصة ‪.‬‬

‫[ سورة الرعد ( ‪ : ) 13‬آية ‪] 8‬‬


‫يض ْاأل َ ْرحا ُم َوما ت َ ْزدا ُد َو ُك ُّل َ‬
‫ش ْي ٍء ِع ْن َدهُ بِ ِم ْق ٍ‬
‫دار ‪( 8‬‬ ‫َّللاُ يَ ْعلَ ُم ما تَحْ ِم ُل ُك ُّل أ ُ ْنثى َوما ت َ ِغ ُ‬
‫ه‬
‫)‬

‫‪410‬‬

‫ص ‪410 :‬‬
‫ّللا تعالى و هكل مالئكة باألرحام عند مساقط النطف ‪ ،‬فيقلبون النطف من حال إلى‬ ‫إن ه‬
‫يض‬ ‫ّللا ‪ ،‬وقدر ذلك التنقل باألشهر ‪ ،‬وهو قوله تعالى« َوما ت َ ِغ ُ‬ ‫حال كما قد شرع لهم ه‬
‫ش ْيءٍ‬ ‫ْاأل َ ْرحا ُم »أي ما تنقص عن العدد المعتاد« َوما ت َ ْزدا ُد »عن العدد المعتاد« َو ُك ُّل َ‬
‫دار »فهو سبحانه يعلم شخصية كل شخص ‪ ،‬وشخصية فعله وحركاته‬ ‫ِع ْن َدهُ ِب ِم ْق ٍ‬
‫وسكونه ‪ ،‬وربط ذلك بالحركات الكوكبية العلوية ‪ ،‬فنسب من نسب اآلثار لها ‪ ،‬وجعلها‬
‫ّللا عندها ال لها ‪ ،‬فال يعلم ما في األرحام وال ما تخلهق مما لم يتخلهق من النطف على‬ ‫ه‬
‫ّللا تعالى من المالئكة الموكلة باألرحام« َو ُك ُّل‬ ‫ّللا تعالى ‪ ،‬ومن أعلمه ه‬
‫قدر معلوم إال ه‬
‫دار »فاألمور كلها بيديه ‪ ،‬ومع هذا لو ارتفعت الحاجات ‪ ،‬وزالت‬ ‫ش ْيءٍ ِع ْن َدهُ بِ ِم ْق ٍ‬ ‫َ‬
‫الفاقات وانعدمت الشهوات ‪ ،‬وذهبت األغراض واإلرادات ‪ ،‬لبطلت الحكمة ‪،‬‬
‫وتراكمت الظلمة ‪ ،‬وطمست األنوار وتهتكت األستار ‪ ،‬والحت األسرار ‪ ،‬وزال كل‬
‫شيء عنده بمقدار ‪ ،‬فذهب االعتبار وهذا ال يرتفع وال يندفع وبقي الحكم لألقدار ‪ ،‬فكل‬
‫شيء عنده بمقدار ‪.‬‬

‫[ سورة الرعد ( ‪ : ) 13‬آية ‪] 9‬‬


‫ير ا ْل ُمتَعا ِل ( ‪) 9‬‬
‫ب َوالشهها َد ِة ا ْل َك ِب ُ‬
‫عا ِل ُم ا ْلغَ ْي ِ‬
‫ير ْال ُمتَعا ِل »الذي ال يحدهه الحد ‪ ،‬وال يعرفه السيد والعبد ‪ ،‬تقدست األلوهة أن‬ ‫« ْال َك ِب ُ‬
‫تدرك ‪ ،‬وفي منزلها أن تشرك ‪ ،‬فهو الكبير عن االتصاف بمثل ما هو عليه الخلق ‪،‬‬
‫وهو تعالى كبير لنفسه« ْال ُمتَعا ِل »على من أراد علوا في األرض وادعى ما ليس له‬
‫بحق ‪.‬‬

‫[ سورة الرعد ( ‪ : ) 13‬اآليات ‪ 10‬إلى ‪] 11‬‬


‫ب ِبالنه ِ‬
‫هار (‬ ‫ف ِبالله ْي ِل َو ِ‬
‫سار ٌ‬ ‫ست َ ْخ ٍ‬‫س هر ا ْلقَ ْو َل َو َم ْن َج َه َر ِب ِه َو َم ْن ُه َو ُم ْ‬ ‫سوا ٌء ِم ْن ُك ْم َم ْن أ َ َ‬
‫َ‬
‫َّللا ال يُغَ ِيّ ُر ما‬ ‫ظونَهُ ِم ْن أ َ ْم ِر ه ِ‬
‫َّللا إِ هن ه َ‬ ‫‪ ) 10‬لَهُ ُمعَ ِقّباتٌ ِم ْن بَ ْي ِن يَ َد ْي ِه َو ِم ْن َخ ْل ِف ِه يَحْ فَ ُ‬
‫س ْوءا ً فَال َم َر هد لَهُ َوما لَ ُه ْم ِم ْن دُونِ ِه‬ ‫س ِه ْم َوإِذا أَرا َد ه‬
‫َّللاُ بِقَ ْو ٍم ُ‬ ‫بِقَ ْو ٍم َحتهى يُغَ ِيّ ُروا ما بِأ َ ْنفُ ِ‬
‫ِم ْن وا ٍل ( ‪) 11‬‬
‫[ المعقبات ]‬
‫هؤالء المعقبات مالئكة تسخير تكون مع العبد بحسب ما يكون العبد عليه ‪ ،‬فهم تبع له‬
‫ّللا أمرهم بحفظه ‪ ،‬أي من أجل أن أمرهم‬ ‫ّللا ‪ ،‬أي من حيث أن ه‬ ‫‪ ،‬ويحفظونه من أمر ه‬

‫ص ‪411‬‬

‫ص ‪411 :‬‬
‫ّللا ‪ ،‬فهو معصوم محفوظ ‪ ،‬وقد يحفظونه من األمر النازل به فيدفعونه ‪ ،‬كما فعل‬ ‫ه‬
‫بالزاني في حين زناه ‪ ،‬أخرج عنه اإليمان حتى صار عليه كالظلهة ‪ ،‬يحفظه من أمر‬
‫ّللا النازل به حيث تعرض بالمخالفة لنزول البالء ‪ ،‬فهؤالء المعقبات يتبعون العبد‬ ‫ه‬
‫حيث تصرف ‪ ،‬فهو مطلق التصريف في إرادته ‪ ،‬وإن حجر عليه بعض التصرف ‪،‬‬
‫فإنه يتصرف فيما حجر عليه ‪ ،‬وال يستطيع الملك منعه من ذلك ألمرين ‪ :‬الواحد لكون‬
‫الحق قد ذهب بسمع هذا العبد عن قوله وببصره عن شهوده ‪ ،‬واألمر اآلخر لكون‬
‫الملك الحافظ الموكل به ال يمنعه لشهوده الحق معه في تصرفه الذي أمره بحفظه ‪،‬‬
‫ّللا ال يُغَ ِيه ُر ما بِقَ ْو ٍم َحتَّى يُغَ ِيه ُروا ما‬
‫فهؤالء المعقبات يحفظون العبد في تصرفه« ِإ َّن َّ َ‬
‫ِبأ َ ْنفُ ِس ِه ْم »وهذا لمناسبة التحويل ‪ ،‬فيطلب العباد التحويل بالتحويل ‪ ،‬ولسان األفعال‬
‫أفصح من لسان األقوال ‪ ،‬وإلى هذه اآلية يشار بتحويل الرداء في صالة االستسقاء ‪،‬‬
‫إشارة إلى تحويل الحال الذي أخرج العباد من الجدب إلى الخصب ‪ ،‬ومن حال شظف‬
‫فإن تحول أهل المصر في خروجهم إلى االستسقاء إنما هو تحول‬ ‫العيش إلى رغده ‪ ،‬ه‬
‫من حال البطر واألشر وكفران النعم إلى حال التوبة واالفتقار وإظهار الفاقة والمسكنة‬
‫‪ ،‬فطلبوا التحويل بالتحويل ‪ ،‬فإنهم القائلون بهذا الفعل ‪ ،‬أي ربنا إنا هدنا إليك ورجعنا‬
‫عما كنا عليه من مخالفتك ‪ ،‬فإن التنعم بالنعم وما كنا فيه من الخصب على جهة البطر‬
‫أوجب لنا الجدب والقحط ‪ ،‬ونرجو بكرمك أن توجب لنا باالفتقار والذلة والمسكنة‬
‫س ْوءا ً فَال َم َر َّد لَهُ َوما لَ ُه ْم ِم ْن دُونِ ِه ِم ْن وا ٍل‬ ‫والخشوع الخصب« َوإِذا أَرا َد َّ‬
‫ّللاُ بِقَ ْو ٍم ُ‬
‫»الوالي هو الذي يلي األمور بنفسه ‪ ،‬فإن وليها غيره بأمره فليس بوال وال إمام ‪،‬‬
‫وإنهما الوالي واإلمام هو المنصوب للوالية ‪ ،‬وإنما سمي واليا ألنه يوالي األمر من غير‬
‫إهمال ألمر ما مما له عليه والية ‪ ،‬وإن لم يفعل فليس بوال ‪ ،‬والوالي ال يكون أبدا إال‬
‫في الخير ‪ ،‬ال بد من ذلك ‪ ،‬فإنه موجد على الدوام ‪ ،‬فال تراه أبدا إال في فضل وإنعام‬
‫ّللا ‪.‬‬
‫وإقامة حد لتطهير ‪ ،‬والتطهير خير ‪ ،‬فإن الوالي على الحقيقة هو ه‬

‫[ سورة الرعد ( ‪: ) 13‬اآليات ‪ 12‬إلى ‪] 13‬‬


‫الر ْع ُد‬
‫س ِبّ ُح ه‬‫حاب ال ِث ّقا َل ( ‪َ ) 12‬ويُ َ‬
‫س َ‬ ‫ئ ال ه‬ ‫ق َخ ْوفا ً َو َط َمعا ً َويُ ْن ِ‬
‫ش ُ‬ ‫ُه َو الهذِي يُ ِري ُك ُم ا ْلبَ ْر َ‬
‫ون‬ ‫ق فَيُ ِص ُ‬
‫يب ِبها َم ْن يَشا ُء َو ُه ْم يُجا ِدلُ َ‬ ‫صوا ِع َ‬‫س ُل ال ه‬ ‫ِب َح ْم ِد ِه َوا ْل َمالئِكَةُ ِم ْن ِخيفَتِ ِه َويُ ْر ِ‬
‫شدِي ُد ا ْل ِمحا ِل) ‪( 13‬‬ ‫َّللا َو ُه َو َ‬
‫فِي ه ِ‬

‫ص ‪412‬‬

‫ص ‪412 :‬‬
‫الملك المسمى بالرعد مخلوق من الهواء ‪ ،‬كما خلقنا نحن من الماء ‪ ،‬وذلك الصوت‬
‫ّللا ‪ ،‬فعينه نفس‬ ‫المسمى عندنا بالرعد تسبيح ذلك الملك ‪ ،‬وفي ذلك الوقت يوجده ه‬
‫صوته ‪ ،‬ويذهب كما يذهب البرق وذوات األذناب« َو ُه ْم يُجا ِدلُونَ فِي َّ ِ‬
‫ّللا َو ُه َو َ‬
‫شدِي ُد‬
‫ْال ِمحا ِل »المحال الشدة والقوة ‪.‬‬

‫[ سورة الرعد ‪( 13 ) :‬اآليات ‪ 14‬إلى ‪] 15‬‬


‫س ِط َكفه ْي ِه إِلَى‬ ‫ش ْي ٍء إِاله كَبا ِ‬ ‫ون لَ ُه ْم بِ َ‬ ‫ُون ِم ْن دُونِ ِه ال يَ ْ‬
‫ست َ ِجيبُ َ‬ ‫ِين يَ ْدع َ‬ ‫ق َوالهذ َ‬ ‫لَهُ َدع َْوةُ ا ْل َح ّ ِ‬
‫س ُج ُد‬
‫ّلِل يَ ْ‬
‫ضال ٍل ( ‪َ ) 14‬و ِ ه ِ‬ ‫ين ِإاله فِي َ‬ ‫ماء ِليَ ْبلُ َغ فاهُ َوما ُه َو ِببا ِل ِغ ِه َوما دُعا ُء ا ْلكافِ ِر َ‬ ‫ا ْل ِ‬
‫ض َط ْوعا ً َوك َْرها ً َو ِظاللُ ُه ْم ِبا ْلغُد ّ ُِو َو ْاآلصا ِل ( ‪) 15‬‬ ‫ت َو ْاأل َ ْر ِ‬
‫سماوا ِ‬ ‫َم ْن فِي ال ه‬
‫[ سجود الظالل ]‬
‫السجود من كل ساجد مشاهدة أصله الذي غاب عنه حين كان فرعا عنه ‪ ،‬فلما اشتغل‬
‫بفرعيته عن أصليته قيل له ‪ :‬اطلب ما غاب عنك ‪ ،‬وهو أصلك الذي عنه صدرت ‪،‬‬
‫فسجد الجسم إلى التربة التي هي أصله ‪ ،‬وسجد الروح إلى الروح الكل ‪ ،‬وسجد السر‬
‫إلى ربه الذي به نال المرتبة ‪ ،‬واألصول كلها غيب ‪ ،‬أال تراها قد ظهرت في الشجر ‪،‬‬
‫أصولها غيب ‪ ،‬كذلك الحق أصل وجود األشياء ‪ ،‬وهو غيب لها ‪ ،‬والسجود تحية‬
‫الملوك لما كان السوقة دون الملك ‪ ،‬فالملك له العلو والعظمة ‪ ،‬فإذا دخل عليه من دونه‬
‫سجد له ‪ ،‬أي منزلتنا منك منزلة السفل من العلو ‪ ،‬فإنهم نظروا إليه من حيث مكانته‬
‫ورتبته ‪ ،‬ومن سجد فقد تطأطأ ‪ ،‬والتطأطؤ ال يكون إال عن رفعة ‪ ،‬والرفعة في حق‬
‫ّللا خروج عن أصله ‪ ،‬فقيل له ‪ :‬اسجد ‪ ،‬أي تطأطأ عن رفعتك المتوهمة‬ ‫كل ما سوى ه‬
‫‪ ،‬واخضع من شموخك ‪ ،‬بأن تنظر إلى أصلك فتعرف حقيقتك ‪ ،‬فإنك ما تعاليت حتى‬
‫غاب عنك أصلك ‪ ،‬ومن عرف أصله عرف عينه أي نفسه ‪ ،‬ومن عرف نفسه عرف‬
‫ربه ‪ ،‬ومن عرف نفسه لم يرفع رأسه ‪ ،‬فالسجود قربة تعريف وتنزيه بما يستحقه اإلله‬
‫ّلل يَ ْس ُج ُد َم ْن فِي‬ ‫من العلو والرفعة عن صفات المحدثات ‪ ،‬فأخبر تعالى بقوله« َو ِ َّ ِ‬
‫ت »وهم األعلون ‪،‬‬ ‫سماوا ِ‬ ‫ال َّ‬
‫تئط ‪ ،‬ما فيها موضع شبر إال‬ ‫ّللا عليه وسلم [ أطت السماء وحق لها أن ه‬ ‫قال صلهى ه‬
‫وفيه ملك ساجد هّلل ]‬
‫ض »أي ومن في األرض ‪،‬‬ ‫« َو ْاأل َ ْر ِ‬

‫ص ‪413‬‬

‫ص ‪413 :‬‬
‫ط ْوعا ً َو َك ْرها ً »ويدخل‬
‫وهم األسفلون عالم األجساد ‪ ،‬الذين قاموا بالنشأة العنصرية« َ‬
‫في قوله تعالى« َك ْرها ً »المنافقون فإنهم سجدوا كرها ‪ ،‬وآمنوا كرها ‪ ،‬لظهور أهل‬
‫اإليمان بالسيف عليهم« َو ِظاللُ ُه ْم »‬
‫‪ -‬الوجه األول في الظالل ‪ -‬الموجودات الممكنات التي أوجدها الحق تعالى هي‬
‫لألعيان التي يتضمنها برزخ الممكن ‪ ،‬أي حضرة اإلمكان بمنزلة الظالالت لألجسام ‪،‬‬
‫بل هي الظالالت الحقيقية ‪ ،‬وهي التي وصفها الحق سبحانه بالسجود له مع سجود‬
‫أعيانها ‪ ،‬فما زالت تلك األعيان ساجدة له قبل وجودها ‪ ،‬فلما وجدت ظاللها وجدت‬
‫ساجدة هّلل تعالى لسجود أعيانها التي وجدت عنها ‪ ،‬وظل األشخاص أشكالها ‪ ،‬فهي‬
‫أمثالها ‪ ،‬وهي ساجدة بسجود أشخاصها والسجود ال يكون هإال مع الشهود والمعرفة ‪،‬‬
‫ال غير ذلك‬
‫‪ -‬الوجه الثاني ‪ -‬من أسرار العالم أنه ما من شيء يحدث إال وله ظل يسجد هّلل ليقوم‬
‫بعبادة ربه على كل حال ‪ ،‬سواء كان ذلك األمر الحادث مطيعا أو عاصيا ‪ ،‬فإن كان‬
‫من أهل الموافقة كان هو وظله على السواء ‪ ،‬وإن كان مخالفا ناب ظله منابه في‬
‫الطاعة هّلل ‪ ،‬والظالالت أبدا تابعة للصورة المنبعثة عنها حسا ومعنى ‪ ،‬فالحس قاصر‬
‫‪ ،‬ال يقوى قوة الظل المعنوي للصورة المعنوية ‪ ،‬ألنه يستدعي نورا مقيدا ‪ ،‬لما في‬
‫الحس من التقييد والضيق وعدم االتساع‬
‫‪ -‬الوجه الثالث ‪ -‬ظالل األرواح أجسادها ‪ ،‬فاألجساد ظالل األرواح ‪ ،‬فإنها ال تتحرك‬
‫ّللا الظالل عن أشخاصها باألنوار‬ ‫إال بتحريك األرواح إياها تحريكا ذاتيا ‪ ،‬وأظهر ه‬
‫المحصورة ‪ ،‬ضرب مثال ألنوار العقائد المحصورة ‪ ،‬فإله كل معتقد محصور في‬
‫دليله ‪ ،‬فأراد الحق منك أن تكون معه كظلك معك من عدم االعتراض عليه فيما يجريه‬
‫عليك ‪ ،‬والتسليم والتفويض إليه فيما تصرف فيك به ‪ ،‬وينبهك بذلك أن حركتك عين‬
‫تحريكه ‪ ،‬وأن سكونك كذلك ‪ ،‬ما الظل يحرك الشخص ‪،‬‬
‫ّللا ‪ ،‬فإن األمر كما شاهدته ‪ ،‬فهو المؤثر فيك ‪ ،‬لذلك سجدت الظالل‬ ‫كذلك فلتكن مع ه‬
‫لمشاهدتها من خرجت عنه ‪ ،‬وهي األشخاص ‪ ،‬يتستر ظل الشخص عن النور بأصله‬
‫الذي انبعث عنه لئال يفنيه النور ‪ ،‬فلم يكن له بقاء إال بوجود األصل ‪،‬‬
‫ط ْوعا ً » لألرواح من‬ ‫باّلل ‪ ،‬فأخبر تعالى ع همن ذكر أنهم يسجدون « َ‬ ‫فال بقاء للعالم إال ه‬
‫حيث علمهم ومقامهم ‪ ،‬فسجدت المالئكة لمرتبة العلم فكان سجودها( ال ِع ْل َم لَنا )‬
‫*ولألجسام من حيث ذواتهم وأعيانهم« َو َك ْرها ً »‬
‫في األرواح من حيث ذواتهم ‪ ،‬وفي األجسام من حيث رياستهم وتقدمهم على أبناء‬
‫جنسهم ‪ ،‬ولما كان هذا السجود سجود إخبار ‪ ،‬تعيهن على العبد أن يصدهق‬

‫ص ‪414‬‬

‫ص ‪414 :‬‬
‫ّللا في خبره عمن ذكر ‪ ،‬فإنه من أهل األرض بجسده ومن أهل السماوات بعقله ‪،‬‬ ‫ه‬
‫فيسجد لربه طوعا وكرها ‪ ،‬من تقييده بجهة خاصة ال يقتضيها علمه ‪ ،‬وإن كان ساجدا‬
‫في نفس األمر سجودا ذاتيا وإن لم يشعر بذلك ‪ ،‬فيوقعها عبادة ‪ ،‬فإن ذلك أنجى له ‪.‬‬
‫وذكر« ِب ْالغُد ه ُِو َو ْاآلصا ِل »المتداد الظالل في هذه األوقات ‪ ،‬فجعل امتدادها سجودا ‪،‬‬
‫فهي في الغدو تتقلص رجوعا إلى أصلها الذي منه انبعثت ‪ ،‬وفي اآلصال تمتد وتطول‬
‫بالزيادات ‪ ،‬والغدو واآلصال من األوقات المنهي عن الصالة فيها ‪ ،‬فأخرج حكم‬
‫السجود في هذه األوقات عن حكم النافلة ‪ ،‬وجعل حكمه حكم الفرائض ‪ ،‬أو المقضي‬
‫من النوافل ‪ ،‬فتعيهن على التالي في هذه اآلية السجود ‪ ،‬فيجازى من باب من صدهق ربه‬
‫تعالى في خبره ‪ ،‬فهي سجدة تصديق بتحقيق‬
‫‪ -‬نكتة ‪ -‬أنفت الظالل من السجود للشمس لما هي عليه من شرف النفس ‪ ،‬فاستدبرتها‬
‫في هذه األوقات ‪ ،‬وامتدت ساجدة لمن بيده ملكوت األرض والسماوات ‪ ،‬حين سجد‬
‫لها من يزعم أنه من أهل التمكين ‪ ،‬وتعبدت من يدعي العقل الرصين ‪ ،‬أال ترى تبعية‬
‫ظالل األشخاص لها ‪ ،‬ما أحسنها وما أكملها ‪ ،‬ولقد أخبر سبحانه عن الظالل أنها‬
‫تسجد له بالغدو واآلصال ‪ ،‬فمن أولى بهذه الصفة في علمك ؟‬
‫أنت أم الظالل التي هي جماد في زعمك ؟!‬
‫هيهات ‪ ،‬لشغلك بالترهات ‪.‬‬

‫[ سورة الرعد ( ‪ : ) 13‬آية ‪] 16‬‬


‫َّللاُ قُ ْل أ َ فَات ه َخ ْذت ُ ْم ِم ْن دُونِ ِه أ َ ْو ِليا َء ال يَ ْم ِلك َ‬
‫ُون‬ ‫ض قُ ِل ه‬ ‫ت َو ْاأل َ ْر ِ‬
‫سماوا ِ‬ ‫ب ال ه‬ ‫قُ ْل َم ْن َر ُّ‬
‫ظلُماتُ‬‫ست َ ِوي ال ُّ‬‫ير أ َ ْم َه ْل ت َ ْ‬
‫ست َ ِوي ْاألَعْمى َوا ْلبَ ِص ُ‬ ‫ض ًّرا قُ ْل َه ْل يَ ْ‬ ‫س ِه ْم نَ ْفعا ً َوال َ‬ ‫ِأل َ ْنفُ ِ‬
‫ش ْي ٍء‬‫ق ُك ِ ّل َ‬ ‫علَ ْي ِه ْم قُ ِل ه‬
‫َّللاُ خا ِل ُ‬ ‫ق َ‬ ‫ّلِل ش َُركا َء َخلَقُوا َك َخ ْل ِق ِه فَتَشابَهَ ا ْل َخ ْل ُ‬ ‫ور أ َ ْم َجعَلُوا ِ ه ِ‬‫َوالنُّ ُ‬
‫ار ) ‪( 16‬‬ ‫واح ُد ا ْلقَ هه ُ‬
‫َو ُه َو ا ْل ِ‬
‫كما ال تستوي الظلمات وال النور ‪ ،‬كذلك ال يستوي األعمى وهو الذي ال يفهم فيعلم‬
‫ش َركا َء َخلَقُوا َكخ َْل ِق ِه فَتَشابَهَ ْالخ َْل ُق َ‬
‫علَ ْي ِه ْم ‪،‬‬ ‫ّلل ُ‬ ‫وال البصير الذي يفهم فيعلم« أ َ ْم َجعَلُوا ِ َّ ِ‬
‫ّللا ونحن ‪ ،‬وإن كنا موجودين فإنما كان‬ ‫ش ْيءٍ »فما في الوجود إال ه‬ ‫ّللاُ خا ِل ُق ُك ِهل َ‬ ‫قُ ِل َّ‬
‫وجودنا به ‪ ،‬ومن كان وجوده بغيره فهو في حكم العدم ‪ ،‬ألن العالم من حيث ذاته عدم‬
‫‪،‬‬
‫ص ‪415‬‬

‫ص ‪415 :‬‬
‫وال يكتسب الوجود إال من كونه قابال ‪ ،‬وذلك إلمكانه واقتدار الحق المخصص‬
‫المر هجح وجوده على عدمه ‪ ،‬فلو زال القبول من الممكن لكان كالمحال ال يقبل اإليجاد‬
‫‪ ،‬وقد اشترك المحال والممكن قبل الترجيح بالوجود في العدم ‪ ،‬كما أنه مع قبوله لو لم‬
‫يكن اقتدار الحق ما وجد عين هذا المعدوم الذي هو الممكن ‪ ،‬فلم تظهر األعيان‬
‫المعدومة للوجود إال بكونها قابلة ‪ ،‬فإذا اطلعت على حقيقتك وجدت نفسك عبدا محضا‬
‫عاجزا ميتا ضعيفا عدما ال وجود لك ‪ ،‬وأول اسم تلبسه الوجود ‪ ،‬فتظهر موجودا‬
‫لنفسك حتى تقبل جميع ما يمكن أن يقبله الموجود من حيث ما هو موجود ‪ ،‬فتقبل‬
‫جميع ما يخلع عليك الحق من األسماء اإللهية ‪ ،‬فتتصف عند ذلك بالحي والقادر‬
‫والعليم والمريد والسميع والبصير والمتكلم والشكور والرحيم والخالق والمصور‬
‫وجميع األسماء ‪ ،‬ومع وجود هذه الصفات ال يزول عن اإلنسان حقيقة كونه عبدا‬
‫ار »الواحد من حيث ألوهته‬ ‫واح ُد ْالقَ َّه ُ‬
‫إنسانا مع وجود هذه األسماء اإللهية فيه« َو ُه َو ْال ِ‬
‫ار »من نازعه من عباده بجهالة ولم يتب ‪.‬‬ ‫‪ ،‬فال إله إال هو« ْالقَ َّه ُ‬

‫[ سورة الرعد ‪ ( 13 ) :‬آية ‪] 17‬‬


‫س ْي ُل َزبَدا ً را ِبيا ً َو ِم هما يُوقِد َ‬
‫ُون‬ ‫ماء ما ًء فَسالَتْ أ َ ْو ِديَةٌ ِبقَد َِرها فَاحْ ت َ َم َل ال ه‬ ‫س ِ‬ ‫أ َ ْن َز َل ِم َن ال ه‬
‫باط َل فَأ َ هما‬
‫ق َوا ْل ِ‬ ‫َّللاُ ا ْل َح ه‬
‫ب ه‬ ‫ض ِر ُ‬‫علَ ْي ِه ِفي النه ِار ا ْب ِتغا َء ِح ْليَ ٍة أ َ ْو َمتاعٍ َزبَ ٌد ِمثْلُهُ كَذ ِلكَ يَ ْ‬ ‫َ‬
‫َّللاُ ْاأل َ ْمثا َل (‬
‫ب ه‬ ‫ض كَذ ِلكَ يَ ْ‬
‫ض ِر ُ‬ ‫ُث فِي ْاأل َ ْر ِ‬ ‫اس فَيَ ْمك ُ‬ ‫ب ُجفا ًء َوأ َ هما ما يَ ْنفَ ُع النه َ‬ ‫الزبَ ُد فَيَ ْذ َه ُ‬
‫ه‬
‫‪) 17‬‬
‫َب ُجفا ًء »فجعله كالباطل‬ ‫« فَأ َ َّما َّ‬
‫الزبَ ُد فَيَ ْذه ُ‬
‫ض»‬ ‫ث "أي يثبت « فِي ْاأل َ ْر ِ‬ ‫اس فَيَ ْم ُك ُ‬ ‫كما قال( َوزَ هَقَ ْال ِ‬
‫باط ُل )" َوأ َ َّما ما يَ ْنفَ ُع النَّ َ‬
‫ّللاُ ْاأل َ ْمثا َل »‬
‫ب َّ‬‫ضربه مثال للحق« َكذ ِل َك يَض ِْر ُ‬
‫فاألمثال كلها لالعتبار ليست مرادة ألنفسها ‪ ،‬وإنما هي مرادات لما رمزت له ‪ ،‬ليعلم‬
‫منها ما ضربت له وما نصبت من أجله ‪ ،‬وهذا المثل ضربه الحق للقلوب ‪ ،‬مثلها‬
‫باألودية تسيل بقدرها في نزول الماء ‪ ،‬ليقرب تصورها على من ال يتصور المعاني‬
‫من غير ضرب مثل ‪ ،‬فالعالم كله بما فيه ضرب مثل ليعلم أنه هو ‪ ،‬فجعله دليال عليه‬
‫وأمرنا بالنظر فيه‬
‫‪ -‬إشارة ‪ -‬الوادي محل التكليم والمناجاة حيث وقع لموسى عليه السالم ما وقع ‪ ،‬وما‬
‫سالت به األودية‬

‫ص ‪416‬‬

‫ص ‪416 :‬‬
‫إشارة إلى المعارف اإللهية القدسية الموسوية ‪ ،‬فالوادي مسيل المعارف في قلوب‬
‫العباد من حيث هم عباد ‪.‬‬

‫[ سورة الرعد ( ‪ : ) 13‬اآليات ‪ 18‬إلى ‪] 20‬‬


‫ض‬ ‫ست َ ِجيبُوا لَهُ لَ ْو أ َ هن لَ ُه ْم ما ِفي ْاأل َ ْر ِ‬‫ِين لَ ْم يَ ْ‬ ‫سنى َوالهذ َ‬ ‫ستَجابُوا ِل َر ِبّ ِه ُم ا ْل ُح ْ‬ ‫ِين ا ْ‬‫ِللهذ َ‬
‫ب َو َمأْوا ُه ْم َج َهنه ُم َوبِئْ َ‬
‫س ا ْل ِمها ُد (‬ ‫سو ُء ا ْل ِحسا ِ‬ ‫الفتَد َْوا بِ ِه أُولئِكَ لَ ُه ْم ُ‬ ‫َج ِميعا ً َو ِمثْلَهُ َمعَهُ ْ‬
‫ق َك َم ْن ُه َو أَعْمى إِنهما يَتَذَك ُهر أُولُوا‬ ‫‪ ) 18‬أ َ فَ َم ْن يَ ْعلَ ُم أَنهما أ ُ ْن ِز َل إِلَ ْيكَ ِم ْن َر ِبّكَ ا ْل َح ُّ‬
‫يثاق ) ‪( 20‬‬ ‫ُون ا ْل ِم َ‬‫َّللا َوال يَ ْنقُض َ‬ ‫ب ( ‪ ) 19‬الهذِي َن يُوفُ َ‬
‫ون ِبعَ ْه ِد ه ِ‬ ‫ْاأل َ ْلبا ِ‬
‫ّللا كان ما كان ‪ ،‬من قليل‬ ‫وهم الذين ال يغدرون إذا عهدوا ‪ ،‬فال ينقضون عهدا مع ه‬
‫الخير وكثيره ‪ ،‬وال لرخصة تظهر تسقط اإلثم ‪ ،‬فيوفي العهد وال ينقضه تماما للمقام‬
‫األعلى وكماال ‪ ،‬فإن النفس إذا تعودت نقض العهد واستحلته ال يجيء منها شيء أبدا ‪،‬‬
‫ومن جملة ما سأل قيصر ملك الروم عنه أبا سفيان بن حرب حين سأله عن صفة‬
‫ّللا عليه وسلم هل يغدر ؟‬ ‫النبي صلهى ه‬
‫ّللا أن يأتي بها على التمام ‪،‬‬ ‫ّللا ‪ ،‬فمن أتى في أموره التي كلفه ه‬ ‫فالوفاء من شيم خاصة ه‬
‫ي ‪ ،‬وقد وفهى ‪ ،‬يقال ‪ :‬وفى الشيء وفيها ‪ ،‬على‬ ‫وكثر ذلك في حاالته كلها ‪ ،‬فهو وف ه‬
‫فعول بضم فاء الفعل ‪ ،‬إذا تم وكثر ‪ ،‬وأوفى على الشيء إذا أشرف ‪.‬‬

‫[ سورة الرعد ( ‪ : ) 13‬آية ‪] 21‬‬


‫ب(‬‫سو َء ا ْل ِحسا ِ‬‫ون ُ‬ ‫َّللاُ ِب ِه أ َ ْن يُو َ‬
‫ص َل َويَ ْخش َْو َن َربه ُه ْم َويَخافُ َ‬ ‫ون ما أ َ َم َر ه‬ ‫َوالهذ َ‬
‫ِين يَ ِصلُ َ‬
‫‪) 21‬‬
‫ص َل »يعني من صلة األرحام ‪ ،‬وأن يصلوا من‬ ‫ّللاُ ِب ِه أ َ ْن يُو َ‬ ‫« َوالَّذِينَ يَ ِ‬
‫صلُونَ ما أ َ َم َر َّ‬
‫قطعهم من المؤمنين بما أمكنهم من السالم عليهم فما فوقه من اإلحسان ‪ ،‬وال يؤاخذ‬
‫ّللا إال من أمرهم‬ ‫بالجريمة التي له الصفح عنها والتغافل ‪ ،‬وال يقطعون أحدا من خلق ه‬
‫ّللا عليه وسلم [ الرحم شجنة من الرحمن ] أي هذه‬ ‫الحق بقطعه فيقطعونه ‪ ،‬قال صلهى ه‬
‫ّللا ‪،‬‬
‫ّللا ‪ ،‬ومن قطعها قطعه ه‬ ‫اللفظة أخذت من االسم الرحمن ‪ ،‬فمن وصلها وصله ه‬
‫ّللا ‪ ،‬وقد‬ ‫وقطعه إياها هو قطع ه‬

‫ص ‪417‬‬

‫ص ‪417 :‬‬
‫ّللا إخوانا ] فنهوا‬
‫ورد في الخبر [ ال تحاسدوا وال تدابروا وال تقاطعوا وكونوا عباد ه‬
‫باّلل تعالى ‪،‬‬
‫ّللا به أن يوصل ذلك عين وصلتهم ه‬ ‫عن التقاطع ‪ ،‬فالواصلون ما أمر ه‬
‫فأثنى عليهم ‪.‬‬

‫[ سورة الرعد ( ‪ : ) 13‬آية ‪] 22‬‬


‫س ًّرا َوعَالنِيَةً‬
‫صالةَ َوأ َ ْنفَقُوا ِم هما َر َز ْقنا ُه ْم ِ‬
‫صبَ ُروا ا ْبتِغا َء َوجْ ِه َر ِبّ ِه ْم َوأَقا ُموا ال ه‬ ‫ِين َ‬‫َوالهذ َ‬
‫ع ْقبَى الد ِهار ) ‪( 22‬‬ ‫س ِيّئَةَ أُولئِكَ لَ ُه ْم ُ‬‫سنَ ِة ال ه‬ ‫ُن بِا ْل َح َ‬
‫َويَد َْرؤ َ‬
‫ولنا في الصبر والرضا ‪:‬‬
‫إن التحرك عن ضجر *** سخط على حكم القدر‬
‫الساكنون لحكمنا *** قوم أعزاء صبر‬
‫فهمو لنا وأنا لهم *** وهم المراد من البشر‬
‫ال تركنن لغيرنا *** واصبر تعش مع من صبر‬
‫إني لكل مسلهم *** عرف الحقيقة فاعتبر‬
‫في كل ما يجري عليه *** من المكاره والضرر‬
‫قل للذين تحركوا *** من حكمنا أين المفر ؟‬
‫ما ث هم إال حكمنا *** عند اإلقامة والسفر‬
‫فاربح قعودك تسترح *** فتكون من أهل الظفر‬
‫فاّلل ليس بغائب *** وهو الكفيل لمن نظر‬ ‫ه‬

‫[ سورة الرعد ( ‪ : ) 13‬آية ‪] 23‬‬


‫واج ِه ْم َوذُ ِ ّريهاتِ ِه ْم َوا ْل َمالئِكَةُ يَ ْد ُخلُ َ‬
‫ون‬ ‫صلَ َح ِم ْن آبائِ ِه ْم َوأ َ ْز ِ‬
‫عد ٍْن يَ ْد ُخلُونَها َو َم ْن َ‬
‫َجنهاتُ َ‬
‫ب ) ‪( 23‬‬ ‫علَ ْي ِه ْم ِم ْن ُك ِ ّل با ٍ‬
‫َ‬
‫الجنات الثمانية أعالها جنة عدن ‪ ،‬وهي قصبة الجنة وقلعتها ‪ ،‬وحضرة الملك‬
‫وخواصه ‪ ،‬ال تدخلها العامة إال بحكم الزيارة ‪ ،‬فيها الكثيب الذي يكون اجتماع الناس‬
‫فيه لرؤية الحق تعالى ‪ ،‬وهي أعلى الجنة في الجنات ‪ ،‬وهي في الجنات بمنزلة دار‬
‫الملك ‪ ،‬يدور عليها ثمانية أسوار ‪ ،‬بين كل سورين جنة ‪ ،‬فالتي تلي جنة عدن إنما هي‬
‫جنة الفردوس ‪ ،‬وهي أوسط‬

‫ص ‪418‬‬

‫ص ‪418 :‬‬
‫الجنة التي دون جنة عدن وأفضلها ‪ ،‬ثم جنة الخلد ‪ ،‬ثم جنة النعيم ‪ ،‬ثم جنة المأوى ‪،‬‬
‫ثم دار السالم ‪ ،‬ثم دار المقامة ‪ ،‬وأما الوسيلة فهي أعلى درجة في جنة عدن لرسول‬
‫ّللا صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم ‪.‬‬ ‫ه‬

‫[ سورة الرعد ( ‪ : ) 13‬آية ‪]24‬‬


‫ع ْقبَى الد ِهار ) ‪( 24‬‬‫صبَ ْرت ُ ْم فَنِ ْع َم ُ‬
‫علَ ْي ُك ْم بِما َ‬
‫سال ٌم َ‬
‫َ‬
‫هذا الصنف المذكور هنا هم الصابرون أهل البالء من البشر ‪ ،‬وأما المالئكة التي‬
‫تدخل على أصحاب النعيم الشاكرين فلم يجر لهم ذكر ‪ ،‬مع أنه ال بد من دخول‬
‫ّللا بها على عباده في الدنيا‬
‫المالئكة عليهم من كل باب ‪ ،‬ومن رأى أن النعم التي أنعم ه‬
‫ليست بخالصة من البالء لما وجه عليهم من التكليف بالشكر عليها ‪ ،‬وهو أعظم البالء‬
‫ّللا من الرزايا ‪ ،‬فدخل أهل النعيم على هذا في‬ ‫‪ ،‬إذ كانت النعم أشد في الحجاب عن ه‬
‫َّار »أي حصلتم في دار نعيمها غير مشوب‬ ‫ع ْقبَى الد ِ‬
‫صبَ ْرت ُ ْم فَنِ ْع َم ُ‬
‫قول المالئكة« بِما َ‬
‫بتكليف وال طلب حق ‪ ،‬فلذلك لم يجر ذكر ألحوال المالئكة مع الشاكرين ‪ ،‬واقتصروا‬
‫على ما جاء به الحق من التعريف وهو الصحيح ‪ ،‬فإن الدار تعطي هذا ‪ ،‬وجميع من‬
‫في الدار الدنيا من مبتلى ومنعم عليه له حال الصبر ‪ ،‬فالصبر أعم من الشكر ‪ ،‬والبالء‬
‫أعم من النعم في هذه الدار ‪.‬‬

‫[ سورة الرعد ( ‪ : ) 13‬اآليات ‪ 25‬إلى ‪] 26‬‬


‫سد َ‬
‫ُون‬ ‫ص َل َويُ ْف ِ‬ ‫َّللاُ ِب ِه أ َ ْن يُو َ‬
‫ون ما أ َ َم َر ه‬ ‫َّللا ِم ْن بَ ْع ِد ِميثاقِ ِه َويَ ْق َطعُ َ‬ ‫ع ْه َد ه ِ‬‫ُون َ‬‫ِين يَ ْنقُض َ‬
‫َوالهذ َ‬
‫ق ِل َم ْن يَشا ُء‬ ‫الر ْز َ‬
‫ط ِّ‬ ‫س ُ‬
‫َّللاُ يَ ْب ُ‬
‫سو ُء الد ِهار ) ‪ ( 25‬ه‬ ‫ض أُولئِكَ لَ ُه ُم الله ْعنَةُ َولَ ُه ْم ُ‬‫فِي ْاأل َ ْر ِ‬
‫ع ) ‪( 26‬‬ ‫َويَ ْقد ُِر َوفَ ِر ُحوا ِبا ْل َحيا ِة ال ُّد ْنيا َو َما ا ْل َحياةُ ال ُّد ْنيا فِي ْاآل ِخ َر ِة ِإاله َمتا ٌ‬
‫ّللا الرزق‬ ‫يختلف البسط الختالف المحا هل واألحوال ‪ ،‬فأما في محل الدنيا فلو بسط ه‬
‫لعباده لبغوا في األرض ‪ ،‬فأنزل بقدر ما يشاء ‪ ،‬وأطلق في الجنة البسط ‪ ،‬لكونها‬
‫ّللا قد نزع الغل من صدور أهلها‬ ‫تعن وال تع هد ‪ ،‬فإن ه‬ ‫ليست بمحل ه‬
‫‪.‬‬
‫[ سورة الرعد ( ‪ : ) 13‬اآليات ‪ 27‬إلى ‪] 28‬‬
‫َّللا يُ ِض ُّل َم ْن يَشا ُء َويَ ْهدِي‬ ‫علَ ْي ِه آيَةٌ ِم ْن َر ِبّ ِه قُ ْل ِإ هن ه َ‬ ‫ِين َكفَ ُروا لَ ْو ال أ ُ ْن ِز َل َ‬
‫َويَقُو ُل الهذ َ‬
‫َّللا أَال ِب ِذ ْك ِر ه ِ‬
‫َّللا ت َ ْط َم ِئ ُّن‬ ‫ِين آ َمنُوا َوت َ ْط َم ِئ ُّن قُلُوبُ ُه ْم ِب ِذ ْك ِر ه ِ‬
‫ناب ( ‪ ) 27‬الهذ َ‬ ‫ِإلَ ْي ِه َم ْن أ َ َ‬
‫وب ( ‪) 28‬‬ ‫ا ْلقُلُ ُ‬

‫‪419‬‬

‫ص ‪419 :‬‬
‫ّللا تطمئن القلوب ]‬ ‫[أال بذكر ه‬
‫ّللا »الذي ذكرها به« أَال بِ ِذ ْك ِر َّ ِ‬
‫ّللا‬ ‫ط َمئِ ُّن قُلُوبُ ُه ْم بِ ِذ ْك ِر َّ ِ‬ ‫‪-‬الوجه األول ‪ «-‬الَّذِينَ آ َمنُوا َوت َ ْ‬
‫وب »في تقلبها فتسكن إلى التقليب مع‬ ‫ط َمئِ ُّن ْالقُلُ ُ‬ ‫»الذي ذكرها به ‪ ،‬إذا كانت مؤمنة« ت َ ْ‬
‫األنفاس ‪ ،‬وتعلم أن الثبات على حال واحدة ال يصح ‪ ،‬فهو كل يوم في شأن حيث كان‬
‫‪ ،‬فما زال األمر مذ كان من حال إلى حال ‪ ،‬والقلب له عين تبصر ‪ ،‬ومن أبصر أمرا‬
‫فقد علمه ‪ ،‬وإذا علمه سكن إليه ‪ ،‬فأبصر التقليب دائما ‪ ،‬فعلمه دائما ‪ ،‬فاطمأن به‬
‫وسكن إليه ‪ ،‬فهو في كل نفس ينظر إلى آثار ربه في قلبه ‪ -‬فيما يقيمه وفيما يخرج‬
‫عنه ‪ -‬ما يعطيه فيه وينبهه به عليه ‪ ،‬فال يزال صاحب هذا المقام في كل نفس في علم‬
‫جديد‬
‫ّللا ‪ ،‬والطمأنينة سكينة أنزلها القرآن في قلوب المؤمنين‬ ‫‪ -‬الوجه الثاني ‪ -‬القرآن ذكر ه‬
‫ّللا تعالى في بني‬ ‫‪ ،‬فكانت آيات بني إسرائيل ظاهرة ‪ ،‬وآياتنا في قلوبنا ‪ ،‬إذ قال ه‬
‫إسرائيل في آية طالوت ( َوقا َل لَ ُه ْم نَبِيُّ ُه ْم إِ َّن آيَةَ ُم ْل ِك ِه أ َ ْن يَأْتِيَ ُك ُم التَّابُوتُ فِي ِه َ‬
‫س ِكينَةٌ ِم ْن‬
‫َر ِبه ُك ْم ) فكانت السكينة شهادة في غير هذه األمة ‪ ،‬غيبا في هذه األمة ‪ ،‬وبها وبأمثالها‬
‫كانت األمة المحمدية خير أمة أخرجت للناس ‪ ،‬فعالمة هذه األمة في قلوبهم ‪ .‬ومقام‬
‫عز وجل ‪ ،‬هو سكونه لما يتلوه من كشفه‬ ‫الوارث المحمدي في تالوته كالم ربه ه‬
‫واطالعه على معانيه ‪ ،‬فهو في حال تالوته يستذكر ما عنده ‪ ،‬فيطلع على نفسه ‪،‬‬
‫ّللا نثر كالمه بتأييد الروح القدسي ‪ ،‬فكل من تال وسكن لما تال بصدق ‪،‬‬ ‫ويسمعه ه‬
‫بصورة ظاهر وحكمة باطن ‪ ،‬فذلك تال وصاحب سكينة ‪ ،‬فإن هو تال وسكن ظاهرا‬
‫ولم يسكن باطنا ‪-‬والسكون الباطن فهم المعنى الساري في الوجود من تلك اآلية‬
‫المتلوة ‪ ،‬ال يقتصر على ما تدل عليه في الظاهر خاصة ‪ -‬فمن تال هكذا فليس بصاحب‬
‫ّللا عليه وسلم ‪،‬‬ ‫سكينة أصال وال هو وارث محمدي ‪ ،‬وإن كان من أمة محمد صلهى ه‬
‫فإن تال وسكن باطنا ولم يسكن ظاهرا وتعدى الظاهر المشروع ‪ ،‬فذلك ليس بوارث‬
‫ّللا ‪ ،‬فإن الروح القدسي أول من يرميه‬ ‫وال مح همدي وال بمؤمن ‪ ،‬وهو أبعد الناس من ه‬
‫ّللا عليه وسلم يقول لربه فيه يوم القيامة ‪ :‬سحقا سحقا‬ ‫ويرمي به ‪ ،‬والنبي محمد صلهى ه‬
‫وّللا عند ذلك ال يسعده وال يساعده‪.‬‬ ‫‪ .‬ه‬

‫ص ‪420‬‬

‫ص ‪420 :‬‬
‫[ سورة الرعد ( ‪ : ) 13‬آية ‪] 29‬‬
‫ب ( ‪) 29‬‬ ‫س ُن َمآ ٍ‬ ‫ت ُ‬
‫طوبى لَ ُه ْم َو ُح ْ‬ ‫الهذ َ‬
‫ِين آ َمنُوا َوع َِملُوا ال ه‬
‫صا ِلحا ِ‬
‫[ شجرة طوبى ]‬
‫شجرة طوبى غرسها الحق تعالى بيده في جنة عدن ‪ ،‬وأطالها حتى علت فروعها سور‬
‫جنة عدن ‪ ،‬وتدلت مطلة على سائر الجنات كلها ‪ ،‬وليس في أكمامها ثمر إال الحلي ‪،‬‬
‫والحلل لباس أهل الجنة وزينتهم زائدا في الحسن والبهاء على ما تحمل أكمام شجر‬
‫ّللا خلقها بيده ‪ ،‬فإن لباس‬
‫الجنات من ذلك ‪ ،‬ألن لشجرة طوبى اختصاص فضل بكون ه‬
‫أهل الجنة ما هو نسج ينسج ‪ ،‬وإنما تشقق عن لباسهم ثمر الجنة كما تشقق األكمام هنا‬
‫عن الورد وعن شقائق النعمان وما شاكلهما من األزهار كلها ‪ ،‬كما ورد في الخبر‬
‫ّللا عليه وسلم كان يخطب بالناس‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫الصحيح كشفا والحسن نقال ‪ ،‬أن رسول ه‬
‫ّللا ‪ ،‬أو قام رجل من الحاضرين ‪ -‬الشك مني ‪ -‬فقال ‪ :‬يا‬ ‫فدخل رجل فقال ‪ :‬يا رسول ه‬
‫ّللا ‪ ،‬ثياب أهل الجنة أخلق تخلق أم نسج تنسج ؟‬ ‫رسول ه‬
‫ّللا صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم منهم‬ ‫فضحك الحاضرون من كالمه ‪ ،‬فكره ذلك رسول ه‬
‫وقال ‪ [ :‬أتضحكون إن سأل جاهل عالما ؟ يا هذا ‪ ،‬وأشار إلى السائل بل تشقق عنها‬
‫ثمر الجنة ]‬
‫وشجرة طوبى زينها بثمر الحلي والحلل اللذين فيهما زينة لالبسهما ‪ ،‬وأعطت في ثمر‬
‫الجنة كله من حقيقتها عين ما هي عليه ‪ ،‬كما أعطت النواة النخلة وما تحمله من النوى‬
‫الذي في ثمرها ‪ ،‬وكل من تواله الحق بنفسه من وجهه الخاص بأمر ما من األمور فإن‬
‫له شفوفا وميزة على من ليس له هذا االختصاص وال هذا التوجه ‪.‬‬

‫[ سورة الرعد ( ‪ : ) 13‬آية ‪] 30‬‬


‫علَ ْي ِه ُم الهذِي أ َ ْو َح ْينا ِإلَ ْيكَ َو ُه ْم‬ ‫كَذ ِلكَ أ َ ْر َ‬
‫س ْلناكَ ِفي أ ُ هم ٍة قَ ْد َخلَتْ ِم ْن قَ ْب ِلها أ ُ َم ٌم ِلتَتْلُ َوا َ‬
‫ب ( ‪) 30‬‬ ‫من قُ ْل ُه َو َر ِبّي ال إِلهَ إِاله ُه َو َ‬
‫علَ ْي ِه ت َ َو هك ْلتُ َوإِلَ ْي ِه َمتا ِ‬ ‫الرحْ ِ‬
‫ون بِ ه‬ ‫يَ ْكفُ ُر َ‬

‫من »ألنه لم يكن عندهم هذا االسم وال سمعوا به قبل هذا ‪ ،‬فلما‬ ‫« َو ُه ْم يَ ْكفُ ُرونَ بِ َّ‬
‫الر ْح ِ‬
‫قيل لهم‬
‫من ) فزادهم هذا االسم نفورا ‪ ،‬فإنهم ال يعرفون إال‬ ‫من قالُوا َو َما َّ‬
‫الر ْح ُ‬ ‫لر ْح ِ‬
‫( ا ْس ُجدُوا ِل َّ‬
‫ّللا ) *لم‬
‫ّللا زلفى ‪ ،‬ولما قيل لهم( ا ْعبُدُوا َّ َ‬
‫ّللا ‪ ،‬الذين يعبدون الشركاء ليقربوهم إلى ه‬ ‫ه‬
‫ّللا ؟ وإنما أنكروا توحيده ‪ ،‬وقد نقل أنهم كانوا يعرفونه مركبا ( الرحمن‬ ‫يقولوا ‪ :‬وما ه‬
‫الرحيم ) اسم واحد كبعلبك ورام هرمز ‪ ،‬فلما أفرده بغير نسب أنكروه ‪ ،‬فقال لهم‬
‫الداعي‪:‬‬
‫ص ‪421‬‬

‫ص ‪421 :‬‬
‫ّللا ‪ ،‬وهم ال ينكرون الرب ‪ ،‬وفسره بالرب ألنه‬ ‫الرحمن« ُه َو َر ِبهي »ولم يقل هو ه‬
‫ّللا ‪ ،‬ولهذا عبدوا‬ ‫المغذي ‪ ،‬وبالغذاء حياتهم ‪ ،‬فال يفرقون من الرب ويفرقون من ه‬
‫ّللا ‪ ،‬إذ بيده االقتدار اإللهي واألخذ الشديد ‪ ،‬وهو الكبير‬ ‫الشركاء ليشفعوا لهم عند ه‬
‫عندهم المتعالي ‪ ،‬فهم معترفون مقرون به ‪ ،‬فتلطف لهم بالعبارة باالسم الرب ليرجعوا‬
‫‪ ،‬فهو أقرب مناسبة بالرحمن ‪ ،‬فأمر نبيه أن يقول بحيث يسمعون« قُ ْل ُه َو َر ِبهي ال ِإلهَ‬
‫ب »أي مرجعي في أمركم ‪ ،‬عسى يهديكم‬ ‫علَ ْي ِه ت َ َو َّك ْلتُ »في أمركم« َوإِلَ ْي ِه َمآ ِ‬
‫إِ َّال ُه َو َ‬
‫إلى اإليمان ‪ ،‬فما أغلظ لهم ‪ ،‬لتتوفر دواعي المخاطبين للنظر فيما خاطبهم به ‪ ،‬إذ لو‬
‫خاطبهم بصفة القهر ‪ ،‬وهو غيب ال عين له في الوقت إال مجرد إغالظ القول ‪ ،‬لنفرت‬
‫طباعهم وأخذتهم حمية الجاهلية لما نصبوهم آلهة ‪ ،‬فأبقى عليهم ‪ ،‬وهذا هو التوحيد‬
‫الرابع عشر في القرآن وهو توحيد الرجعة وهو توحيد الهوية ‪.‬‬

‫[ سورة الرعد ( ‪ : ) 13‬آية ‪] 31‬‬


‫ض أ َ ْو ُك ِلّ َم بِ ِه ا ْل َم ْوتى بَ ْل ِ ه ِ‬
‫ّلِل ْاأل َ ْم ُر‬ ‫س ِيّ َرتْ بِ ِه ا ْل ِجبا ُل أ َ ْو قُ ِ ّ‬
‫طعَتْ بِ ِه ْاأل َ ْر ُ‬ ‫َولَ ْو أ َ هن قُ ْرآنا ً ُ‬
‫اس َج ِميعا ً َوال يَزا ُل الهذ َ‬
‫ِين‬ ‫َّللاُ لَ َهدَى النه َ‬ ‫ِين آ َمنُوا أ َ ْن لَ ْو يَشا ُء ه‬ ‫َج ِميعا ً أ َ فَلَ ْم يَ ْيأ َ ِس الهذ َ‬
‫َّللا ِإ هن ه َ‬
‫َّللا‬ ‫ي َو ْع ُد ه ِ‬ ‫دار ِه ْم َحتهى يَأْتِ َ‬ ‫قارعَةٌ أ َ ْو ت َ ُح ُّل قَ ِريبا ً ِم ْن ِ‬ ‫صنَعُوا ِ‬ ‫َكفَ ُروا ت ُ ِصيبُ ُه ْم ِبما َ‬
‫ف ا ْل ِميعا َد ) ‪( 31‬‬ ‫ال يُ ْخ ِل ُ‬
‫قال تعالى ‪َ «:‬ولَ ْو أ َ َّن قُ ْرآنا ً »فقال قرآنا بالتنكير دليل على أحد أمرين إما على آيات‬
‫منه مخصوصة كما ضرط الجبار عندما سمع( صا ِعقَةً ِمثْ َل صا ِعقَ ِة عا ٍد )وإما أن‬
‫يكون ثم أمر آخر ينطلق عليه اسم قرآن غير هذا لغة ‪ ،‬ولو حرف امتناع المتناع فهل‬
‫هو داخل تحت اإلمكان فيوجد أو ما هو ثم إال بحكم الفرض ‪ ،‬وعندنا كل كالم إلهي‬
‫من كلمة مركبة من حرفين إلى ما فوق ذلك من تركيبات الحروف والكلمات المنسوبة‬
‫س ِيه َر ْ‬
‫ت‬ ‫ّللا بحكم الكالم فإنه قرآن لغة وله أثر في النزول في المحل المنزل عليه ( ُ‬ ‫إلى ه‬
‫ض أ َ ْو ُك ِله َم بِ ِه ْال َم ْوتى ) والتقدير لكان هذا القرآن الذي أنزل‬ ‫ت بِ ِه ْاأل َ ْر ُ‬‫طعَ ْ‬ ‫بِ ِه ْال ِجبا ُل أ َ ْو قُ ِ ه‬
‫عليك يا محمد فحذف الجواب لداللة الكالم عليه ومعنى ذلك لو أنزلناه على من ذكرناه‬
‫لسارت الجبال وتقطعت األرض وأجاب الميت ‪،‬‬

‫ص ‪422‬‬

‫ص ‪422 :‬‬
‫وما ظهر شيء من ذلك فينا وقد كلمنا به ‪ ،‬وهو يحيي الموتى بما فيه من العلم إن كان‬
‫المقصود بالموت الجهل فإن من أصناف الموت الجهل‬
‫يقول تعالى‪ ( :‬أ َ َو َم ْن كانَ َميْتا ً فَأ َ ْحيَيْناهُ ) وتقطع به األرض وتسير الجبال بما فيه من‬
‫الزجر والوعيد ولذلك كان نزول القرآن شديدا على هذا الهيكل اإلنساني ‪ ،‬فكان الوحي‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ ،‬عند نزوله بالقرآن ‪،‬‬ ‫ّللا صلهى ه‬
‫والغط على رسول ه‬ ‫ه‬ ‫يؤثر الغت‬
‫وهذه اآلية أيضا تدل على شرف الجماد على اإلنسان وشرف اإلنسان إذا مات وصار‬
‫ّلل ْاأل َ ْم ُر َج ِميعا ً ) كل ما‬ ‫مثل األرض في الجمادية على حاله حيا في اإلنسانية ( بَ ْل ِ َّ ِ‬
‫سوى الواجب الوجود لنفسه فهو هّلل ‪ ،‬حتى ما توصف أنت به ويوصف الحق به هو هّلل‬
‫ّللا« أ َ فَلَ ْم يَيْأ َ ِس الَّذِينَ‬
‫باّلل فال موجود وال موجد إال ه‬ ‫ّللا إنما هو ه‬ ‫كله ووجود ما سوى ه‬
‫اس َج ِميعا ً »فكان حكم هذه المشيئة في الدنيا بالتكليف‬ ‫آ َمنُوا أ َ ْن لَ ْو يَشا ُء َّ‬
‫ّللاُ لَ َه َدى النَّ َ‬
‫وأما في اآلخرة فالحكم لقوله تعالى «‪ :‬يَ ْفعَ ُل ما يُ ِري ُد » *فله اإلطالق سبحانه ‪.‬‬

‫[ سورة الرعد ( ‪ : ) 13‬آية ‪] 32‬‬


‫ب ( ‪32‬‬ ‫ف َ‬
‫كان ِعقا ِ‬ ‫ِين َكفَ ُروا ث ُ هم أ َ َخ ْذت ُ ُه ْم فَ َك ْي َ‬
‫س ٍل ِم ْن قَ ْب ِلكَ فَأ َ ْملَيْتُ ِللهذ َ‬
‫ئ ِب ُر ُ‬ ‫َولَقَ ِد ا ْ‬
‫ستُه ِْز َ‬
‫)‬
‫العقاب هو ما يعقب الشر ‪ ،‬وبذلك سمي العقاب عقوبة وعقابا ‪ ،‬وهو سائغ في الخير‬
‫والشر من حيث أنه ما يعقب كل حال من األحوال ‪ ،‬غير أن العرف سماه في الخير‬
‫ثوابا وفي الشر عقابا ‪.‬‬

‫[ سورة الرعد ( ‪ : ) 13‬آية ‪] 33‬‬


‫س ُّمو ُه ْم أ َ ْم تُنَ ِبّئ ُونَهُ ِبما‬
‫ّلِل ش َُركا َء قُ ْل َ‬
‫سبَتْ َو َجعَلُوا ِ ه ِ‬ ‫أ َ فَ َم ْن ُه َو قائِ ٌم عَلى ُك ِ ّل نَ ْف ٍس ِبما َك َ‬
‫صدُّوا ع َِن‬ ‫ض أ َ ْم ِبظا ِه ٍر ِم َن ا ْلقَ ْو ِل بَ ْل ُز ِيّ َن ِللهذ َ‬
‫ِين َكفَ ُروا َم ْك ُر ُه ْم َو ُ‬ ‫ال يَ ْعلَ ُم ِفي ْاأل َ ْر ِ‬
‫َّللاُ فَما لَهُ ِم ْن ها ٍد ( ‪) 33‬‬ ‫ض ِل ِل ه‬ ‫سبِي ِل َو َم ْن يُ ْ‬ ‫ال ه‬
‫ت »فهو قيامه بمصالح عباده ونظره لهم في‬ ‫سبَ ْ‬‫على ُك ِهل نَ ْف ٍس بِما َك َ‬ ‫« أ َ فَ َم ْن ُه َو قائِ ٌم َ‬
‫قيامه بهم بعين الرحمة فيرزقهم ويحسن إليهم وهم به مشركون وكافرون وقل عن‬
‫األدباء ما شئت ‪ ،‬ويدعوهم وهم عنه معرضون وعلى هواهم الذي اتخذوه إلها مقبلون‬
‫‪ ،‬وفي هذه اآلية إشارة‬

‫ص ‪423‬‬

‫ص ‪423 :‬‬
‫إلى أن الفعل هّلل من خلف حجاب األكوان التي هي محل ظهور األفعال فيها« َو َجعَلُوا‬
‫س ُّمو ُه ْم »يريد أسماء االعالم وذلك في معرض الداللة فإذا سموهم قالوا‬ ‫ش َركا َء قُ ْل َ‬ ‫ّلل ُ‬
‫ِ َّ ِ‬
‫هذا حجر ‪ ،‬هذا شجر ‪ ،‬هذا كوكب والكل اسم عبد فيذكرونهم بأسمائهم المخالفة أسماء‬
‫س ُّمو ُه ْم )فتعرفوا عند ذلك الحق بيد من‬ ‫ّللا فقال تعالى لنبيه صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم ( قُ ْل َ‬ ‫ه‬
‫هو ؟ هل هو بأيديكم أو بيدي ؟‬
‫س َّم ْيت ُ ُموها أ َ ْنت ُ ْم‬
‫ي إِ َّال أَسْما ٌء َ‬
‫وقد قال الحق تعالى وأبان ذلك كله ليعقل عنه( إِ ْن ِه َ‬
‫طان )فلما عرفوا قوله وتحققوه علموا أنهم في فضيحة‬ ‫س ْل ٍ‬ ‫َوآبا ُؤ ُك ْم ما أ َ ْنزَ َل َّ‬
‫ّللاُ بِها ِم ْن ُ‬
‫باّلل بل آباؤكم نصبوهم آلهة ‪ ،‬وهذا اإلله الذي أدعوكم‬ ‫ألنهم إذا سموهم لم يسموهم ه‬
‫ّللا‬
‫ّللا ال تنكرونه ‪ ،‬وأنتم القائلون ما نعبدهم إال ليقربونا إلى ه‬ ‫إليه تعرفونه وأن اسمه ه‬
‫ّللاُ‬
‫ض ِل ِل َّ‬ ‫ّللا بأنهم في شركهم قد ضلوا ضالال مبينا فقال ‪َ «:‬و َم ْن يُ ْ‬ ‫زلفى ثم وصفهم ه‬
‫فَما لَهُ ِم ْن ها ٍد »فما له من هاد معناه موفق ‪ ،‬ألنهم أوقعوا أنفسهم في الحيرة لكونهم‬
‫ّللا شيئا ‪،‬‬ ‫عبدوا ما نحتوا بأيديهم وعلموا أنه ال يسمع وال يبصر وال يغني عنهم من ه‬
‫ّللا بقصور نظرهم وعقولهم ‪.‬‬ ‫فهي شهادة من ه‬

‫[ سورة الرعد ( ‪ : ) 13‬اآليات ‪ 34‬إلى ‪]35‬‬


‫واق ( ‪َ ) 34‬مث َ ُل‬ ‫ٍ‬ ‫ق َوما لَ ُه ْم ِم َن ه ِ‬
‫َّللا ِم ْن‬ ‫ش ُّ‬‫ذاب ْاآل ِخ َر ِة أ َ َ‬
‫َذاب ِفي ا ْل َحيا ِة ال ُّد ْنيا َولَعَ ُ‬
‫لَ ُه ْم ع ٌ‬
‫ع ْقبَى الهذ َ‬
‫ِين‬ ‫هار أ ُ ُكلُها دائِ ٌم َو ِظلُّها تِ ْلكَ ُ‬‫ون تَجْ ِري ِم ْن تَحْ تِ َها ْاأل َ ْن ُ‬‫ا ْل َجنه ِة الهتِي ُو ِع َد ا ْل ُمتهقُ َ‬
‫ار ( ‪) 35‬‬ ‫ين النه ُ‬ ‫ع ْقبَى ا ْلكافِ ِر َ‬‫اتهقَ ْوا َو ُ‬
‫هار أ ُ ُكلُها دائِ ٌم‬ ‫« َمث َ ُل ْال َجنَّ ِة »أي صفة الجنة التي وعد المتقون «ت َ ْج ِري ِم ْن ت َ ْحتِ َها ْاأل َ ْن ُ‬
‫َو ِظلُّها »فإن اآلخرة دار بقاء ‪ ،‬فاإلنسان في بقائه آكل ال صائم ‪ ،‬فهو متغذ بالذات‬
‫صائم بالعرض فالغذاء باق فأكلها دائم ال ينقطع والدوام في األكل إنما هو عين النعيم‬
‫بما يكون به الغذاء للجسم فأهل الجنة يأكلون ويشربون عن شهوة اللتذاذ ال عن جوع‬
‫فإنهم ما يتناولون الشيء المسمى غذاء إال عن علم بأن الزمان قد حان ( َولَ ُه ْم ِر ْزقُ ُه ْم‬
‫ع ِشيًّا )فال يزال في لذة ونعيم ال يحوج الطبيعة إلى طلب وحاجة للكشف‬ ‫فِيها بُ ْك َرة ً َو َ‬
‫الذي هم عليه بخالف أهل النار فإنهم يجوعون ويظمئون ألن المقصود منهم أن‬
‫يتألموا ‪.‬‬

‫[ سورة الرعد ( ‪ : ) 13‬اآليات ‪36‬إلى ‪] 39‬‬


‫ضهُ قُ ْل إِنهما‬ ‫ب َم ْن يُ ْن ِك ُر بَ ْع َ‬‫ون بِما أ ُ ْن ِز َل إِلَ ْيكَ َو ِم َن ْاألَحْ زا ِ‬‫تاب يَ ْف َر ُح َ‬
‫ِين آت َ ْينا ُه ُم ا ْل ِك َ‬ ‫َوالهذ َ‬
‫ب ) ‪َ ( 36‬وكَذ ِلكَ أ َ ْن َز ْلناهُ ُح ْكما ً‬ ‫َّللا َوال أُش ِْركَ بِ ِه إِلَ ْي ِه أ َ ْدعُوا َوإِلَ ْي ِه َمآ ِ‬‫أ ُ ِم ْرتُ أ َ ْن أ َ ْعبُ َد ه َ‬
‫واق (‬ ‫ٍ‬ ‫ي ٍ َوال‬ ‫ع ََر ِبيًّا َولَئِ ِن اتهبَ ْعتَ أ َ ْهوا َء ُه ْم بَ ْع َد ما جا َءكَ ِم َن ا ْل ِع ْل ِم ما لَكَ ِم َن ه ِ‬
‫َّللا ِم ْن َو ِل ّ‬
‫سو ٍل أ َ ْن يَأْتِ َ‬
‫ي‬ ‫سالً ِم ْن قَ ْب ِلكَ َو َجعَ ْلنا لَ ُه ْم أ َ ْزواجا ً َوذُ ِ ّريهةً َوما كا َن ِل َر ُ‬ ‫س ْلنا ُر ُ‬ ‫‪َ ) 37‬ولَقَ ْد أ َ ْر َ‬
‫ب(‬ ‫َّللاُ ما يَشا ُء َويُثْ ِبتُ َو ِع ْن َد ُه أ ُ ُّم ا ْل ِكتا ِ‬
‫تاب ) ‪ ( 38‬يَ ْم ُحوا ه‬ ‫ِبآيَ ٍة ِإاله ِب ِإ ْذ ِن ه ِ‬
‫َّللا ِل ُك ِ ّل أ َ َج ٍل ِك ٌ‬
‫‪)39‬‬
‫‪424‬‬

‫ص ‪424 :‬‬
‫ّللاُ ما يَشا ُء » ]‬ ‫[ « يَ ْم ُحوا َّ‬
‫ّللاُ ما يَشا ُء »فذكر المحو بعد الكتابة ‪ ،‬فثبت المحو وهو المعبر عنه بالنسخ‬ ‫« يَ ْم ُحوا َّ‬
‫ّللا ومحاه بعد ما كان له حكم في الثبوت والوجود‬ ‫عند الفقهاء ‪ ،‬فهو نسخ إلهي رفعه ه‬
‫وهو في األحكام انتهاء مدة الحكم ‪ ،‬وفي األشياء انتهاء المدة فإنه تعالى قال (‪ُ :‬ك ٌّل‬
‫س ًّمى )فهو يثبت إلى وقت معين ثم يزول حكمه ال عينه( َويُثْ ِبتُ )ما‬ ‫يَ ْج ِري ِإلى أ َ َج ٍل ُم َ‬
‫ّللا عليه وسلم في إسرائه إنه أسري به حتى ظهر لمستوى‬ ‫شاء مما كتبه ‪ ،‬قال صلهى ه‬
‫يسمع فيه صريف األقالم ‪ ،‬فوصل إلى سماع أصوات األقالم وهي تجري بما يحدث‬
‫ّللا في العالم من األحكام وهذه األقالم رتبتها دون القلم األعلى ودون اللوح المحفوظ‬ ‫ه‬
‫فإن الذي كتبه القلم األعلى ال يتبدل وسمي اللوح بالمحفوظ من المحو فال يمحى ما‬
‫كتب فيه وهذه األقالم تكتب في ألواح المحو واإلثبات على قدر ما تأتي به إليهم رسل‬
‫ّللا من رأس الديوان وهو القلم األعلى من إثبات ما شاء ومحو ما شاء‬ ‫ّللا من عند ه‬ ‫ه‬
‫ّللاُ ما يَشا ُء َويُثْبِتُ ) ومن هذه األلواح تنزل الشرائع‬
‫وهو قوله تعالى ‪ (:‬يَ ْم ُحوا َّ‬
‫ّللا عليهم وسالمه ولهذا يدخل في الشرائع‬ ‫والصحف والكتب على الرسل صلوات ه‬
‫ّللا عليه‬ ‫النسخ ويدخل في الشرع الواحد النسخ في الحكم وإلى هنا كان يتردد صلهى ه‬
‫وسلم في شأن الصلوات الخمسين بين موسى وبين ربه إلى هذا الحد كان منتهاه فيمحو‬
‫ّللا عليه وسلم ما شاء من تلك الصلوات التي كتبها في هذه‬ ‫ّللا عن أمة محمد صلهى ه‬ ‫ه‬
‫األلواح إلى أن أثبت منها هذه الخمسة وأثبت لمصليها أجر الخمسين وأوحى أنه ال‬
‫يبدل القول لديه ‪ ،‬فما رجع بعد ذلك من موسى في شأن هذا األمر ‪ ،‬ومن هذه الكتابة«‬
‫س ًّمى ِع ْن َدهُ »ومن هذه الحقيقة التردد الكوني في األمور والحيرة‬ ‫ث ُ َّم قَضى أ َ َج ًال َوأ َ َج ٌل ُم َ‬
‫فيها ‪،‬‬

‫‪425‬‬

‫ص ‪425 :‬‬
‫أن نفسه تتردد في فعل أمر ما ‪ ،‬هل يفعله أو ال يفعله ؟ وما‬ ‫وهو إذا وجد اإلنسان ه‬
‫تزال على تلك الحال حتى يكون أحد األمور التي ترددت فيها فيكون ويقع ذلك األمر‬
‫الواحد ويزول التردد فذلك األمر الواقع هو الذي ثبت في اللوح من تلك األمور‬
‫المتردد فيها وذلك أن القلم الكاتب في لوح المحو يكتب أمرا ما وهو زمان الخاطر‬
‫ّللا فيزول ذلك‬
‫الذي يخطر للعبد فيه فعل ذلك األمر ثم تمحى تلك الكتابة يمحوها ه‬
‫الخاطر من ذلك الشخص ألنه ما ثم رقيقة في هذا اللوح تمتد إلى نفس هذا الشخص‬
‫في عالم الغيب فإن الرقائق إلى النفوس من هذه األلواح تحدث بحدوث الكتابة وتنقطع‬
‫بمحوها فإذا أبصر القلم موضعها في اللوح ممحوا كتب غيرها مما يتعلق بذلك األمر‬
‫من الفعل أو الترك فيمتد من تلك الكتابة رقيقة إلى نفس ذلك الشخص الذي كتب هذا‬
‫من أجله فيخطر لهذا الشخص ذلك الخاطر الذي هو نقيض األول ‪ ،‬فإذا أراد الحق‬
‫إثباته لم يمحه ‪ ،‬فإذا ثبت بقيت رقيقة متعلقة بقلب هذا الشخص وثبتت ‪ ،‬فيفعل ذلك‬
‫الشخص ذلك األمر أو يتركه بحسب ما ثبت في اللوح فإذا فعله أو ثبت على تركه‬
‫وانقضى فعله محاه الحق من كونه محكوما بفعله وأثبته صورة عمل حسن أو قبيح‬
‫على قدر ما يكون ‪ ،‬ثم إن القلم يكتب أمرا آخر هكذا األمر دائما ‪ ،‬وهذه األقالم هذه‬
‫ّللا تعالى هو الذي يمحو على حسب ما يأمر‬ ‫مرتبتها والموكل بالمحو ملك كريم على ه‬
‫به الحق تعالى واإلمالء على ذلك الملك ومن أحكام هذه األقالم تكون جميع التأثيرات‬
‫في العالم دائما وال بد لها أن تكتب وتثبت انتثار الكواكب وانحالل هذه األجرام الفلكية‬
‫وخراب هذه الدار الدنياوية وانتقال العمارة في حق السعداء إلى الجنان العلية وفي حق‬
‫األشقياء إلى جهنم وهي أسفل سافلين ‪ -‬وجه آخر ‪ -‬للقلب وجهان ظاهر وباطن فباطنه‬
‫ال يقبل المحو بل هو إثبات مجرد محقق وظاهره يقبل المحو [ وهو لوح المحو ]‬
‫ّللاُ ما يَشا ُء َويُثْ ِبتُ »فقلب العبد هو محل اإللقاء‬
‫واإلثبات فيه وقتا أمرا ما «يَ ْم ُحوا َّ‬
‫اإللهي من خير وشر شرعا ‪ ،‬وهو لوح المحو واإلثبات ‪ ،‬فيخطر للعبد خاطر أن يفعل‬
‫أمرا ما من األمور ‪ ،‬ثم ينسخه خاطر آخر ‪ ،‬فيمحو األول ويثبت الثاني ‪ ،‬وهذا ما دام‬
‫العبد مهتما لخواطره ‪ ،‬محجوبا عن كشف اإللقاء اإللهي ‪ ،‬فإذا أيهد بالعصمة إن كان‬
‫نبيا ‪ ،‬أو بالحفظ إن كان وليا ‪ ،‬عاد قلبه لوحا محفوظا عن المحو ‪ ،‬فإن ظهر ممن هذا‬
‫مقامه محو في ظاهر الكون بعد إثبات ‪ ،‬وهو عن أمر يقوم بالقلب من الحق ‪ ،‬فال يقال‬
‫فيه إنه لوح محو وإثبات ألنه صاحب كشف ‪ ،‬وإنما وقع المحو في ظاهر الكون‬
‫وبقيت حكمته‬

‫‪426‬‬

‫ص ‪426 :‬‬
‫ب »فلو كان صاحب الكتاب مؤمنا بكل كتابه ما ضل أبدا ‪-‬‬ ‫في القلب« َو ِع ْن َدهُ أ ُ ُّم ْال ِكتا ِ‬
‫ّللاُ ما يَشا ُء َويُثْبِتُ »يمحو األسباب من قلوب الموحدين ويثبت نفسه‬ ‫إشارة ‪ «-‬يَ ْم ُحوا َّ‬
‫ب »وهي‬ ‫‪ ،‬ويمحو الوحدانية من قلوب الناظرين ويثبت األسباب« َو ِع ْن َدهُ أ ُ ُّم ْال ِكتا ِ‬
‫السابقة التي ال تتبدل وال تمحى ‪ ،‬فأم الكتاب هو الكتاب الذي فيه ما كان قبل إيجاده‬
‫وما يكون ‪ ،‬كتاب ذو قدر معلوم فيه بعض أعيان الممكنات وما يتكون عنها وفيه‬
‫ّللا في األشياء ال يحصره‬ ‫ّللا وحكمه وهو كتاب محصور ألنه موجود وعلم ه‬ ‫قضاء ه‬
‫ي ‪ ،‬ومن هذا‬ ‫كتاب مرقوم وال يسعه رق منشور وال لوح محفوظ وال يسطره قلم عل ه‬
‫الكتاب سمي الحق عليما وله القضاء الذي يحكم على القدر ‪ -‬الوجه الثاني ‪َ «-‬و ِع ْن َدهُ‬
‫ب »اعلم أن تحقيق عندية كل شيء نفسه والعندية في اللسان ظرف مكان أو‬ ‫أ ُ ُّم ْال ِكتا ِ‬
‫ظرف محلي كالجسم للعرض اللوني الذي يدركه البصر فهو أجلى فيما ترومه من‬
‫الداللة فهو بحيث محله وصاحب المكان ما هو بحيث المكان والعندية جامعة‬
‫ب »وهو القرآن فإنه صفة الحق فالقرآن أم‬ ‫لألمرين« َو ِع ْن َدهُ »أي الحق فهو« أ ُ ُّم ْال ِكتا ِ‬
‫الكتاب الذي عنه خرجت الكتب المنزلة واختلفت األلسنة به لقبولها إياه بحقيقته فقيل‬
‫فيه ‪ :‬إنه عربي وإنه عبراني وإنه سرياني بحسب اللسان الذي أنزل به والقرآن من‬
‫جملة الكتب إال أن له الجمعية دون سائر الكتب ‪.‬‬

‫[ سورة الرعد ( ‪ : ) 13‬آية ‪] 40‬‬


‫علَ ْينَا ا ْل ِح ُ‬
‫ساب ( ‪40‬‬ ‫غ َو َ‬ ‫ض الهذِي نَ ِع ُد ُه ْم أ َ ْو نَت َ َوفهيَنهكَ فَ ِإنهما َ‬
‫علَ ْيكَ ا ْلبَال ُ‬ ‫َوإِ ْن ما نُ ِريَنهكَ بَ ْع َ‬
‫)‬
‫ساب »‪.‬‬ ‫علَ ْينَا ْال ِح ُ‬‫ّللا عليه وسلم وأبان« َو َ‬ ‫فإنما عليك البالغ وقد فعل صلهى ه‬

‫[ سورة الرعد ( ‪ : ) 13‬آية ‪] 41‬‬


‫صها ِم ْن أ َ ْطرافِها َو ه‬
‫َّللاُ يَحْ ُك ُم ال ُمعَ ِقّ َ‬
‫ب ِل ُح ْك ِم ِه َو ُه َو‬ ‫أ َ َولَ ْم يَ َر ْوا أَنها نَأْتِي ْاأل َ ْر َ‬
‫ض نَ ْنقُ ُ‬
‫ب ( ‪) 41‬‬ ‫س ِري ُع ا ْل ِحسا ِ‬ ‫َ‬
‫ب ِل ُح ْك ِم ِه »فإنه المقيت فقد ترتبت األمور ترتيب الحكمة فال معقب‬ ‫ّللاُ يَ ْح ُك ُم ال ُمعَ ِقه َ‬
‫" َو َّ‬
‫لحكمه فهو في كل حال يفعل ما ينبغي كما ينبغي لما ينبغي فعل حكيم عالم بالمراتب ‪.‬‬

‫[ سورة الرعد ( ‪ : ) 13‬آية ‪] 42‬‬


‫ب ُك ُّل نَ ْف ٍس َو َ‬
‫سيَ ْعلَ ُم ا ْل ُكفه ُ‬
‫ار ِل َم ْن‬ ‫ِين ِم ْن قَ ْب ِل ِه ْم َ ِ ه ِ‬
‫لِلَف ا ْل َم ْك ُر َج ِميعا ً يَ ْعلَ ُم ما ت َ ْك ِ‬
‫س ُ‬ ‫َوقَ ْد َمك ََر الهذ َ‬
‫ع ْقبَى الد ِهار) ‪( 42‬‬ ‫ُ‬

‫ص ‪427‬‬

‫ص ‪427 :‬‬
‫ّللف ْال َم ْك ُر َج ِميعا ً »يعني المكر المضاف إلى عباده والمكر المضاف إليه سبحانه‬ ‫" َ ِ َّ ِ‬
‫ب ُك ُّل نَ ْف ٍس »فأتى بلفظ كل وهي حرف شمول فشملت‬ ‫فنفى المكر عنهم« يَ ْعلَ ُم ما ت َ ْك ِس ُ‬
‫ار »الكافر الذي ستر عنه هذا‬ ‫سيَ ْعلَ ُم ْال ُكفَّ ُ‬
‫كل نفس فما تركت شيئا في هذا الموضع « َو َ‬
‫َّار »في الدار اآلخرة حيث ينكشف الغطاء عن‬ ‫ع ْقبَى الد ِ‬ ‫العلم في الحياة الدنيا« ِل َم ْن ُ‬
‫األعين فيعلم من كان يجهل ‪.‬‬
‫[ سورة الرعد ( ‪ : ) 13‬آية ‪] 43‬‬
‫اّلِل ش َِهيدا ً بَ ْينِي َوبَ ْينَ ُك ْم َو َم ْن ِع ْن َدهُ ِع ْل ُم‬‫سالً قُ ْل كَفى بِ ه ِ‬‫ستَ ُم ْر َ‬ ‫ِين َكفَ ُروا لَ ْ‬
‫َويَقُو ُل الهذ َ‬
‫ب) ‪( 43‬‬ ‫ا ْل ِكتا ِ‬

‫) ‪ ( 14‬سورة إبراهيم مكيّة‬


‫الرحيم‬
‫الرحمن ه‬ ‫ّللا ه‬‫بسم ه‬
‫[ سورة إبراهيم ( ‪ : ) 14‬آية ‪] 1‬‬
‫يم‬
‫الر ِح ِ‬
‫من ه‬ ‫الرحْ ِ‬ ‫َّللا ه‬
‫س ِم ه ِ‬‫بِ ْ‬
‫ور ِب ِإ ْذ ِن َر ِبّ ِه ْم ِإلى ِص ِ‬
‫راط‬ ‫ت ِإلَى النُّ ِ‬ ‫اس ِم َن ال ُّ‬
‫ظلُما ِ‬ ‫تاب أ َ ْن َز ْلناهُ ِإلَ ْيكَ ِلت ُ ْخ ِر َ‬
‫ج النه َ‬ ‫الر ِك ٌ‬
‫يز ا ْل َح ِمي ِد (‪. )1‬‬ ‫ا ْلعَ ِز ِ‬

‫تاب أ َ ْنزَ ْلناهُ إِلَي َْك »اعلم أن القرآن قرآن في الصدور ‪ ،‬وفي اللسان كالم ‪ ،‬وفي‬ ‫الر ِك ٌ‬
‫ور »من ظلمة العدم إلى نور‬ ‫ت إِلَى النُّ ِ‬ ‫اس ِمنَ ُّ‬
‫الظلُما ِ‬ ‫المصاحف كتاب ‪ِ «،‬لت ُ ْخ ِر َج النَّ َ‬
‫يز » فهو صراط العزة ‪،‬‬ ‫راط ْالعَ ِز ِ‬
‫ص ِ‬ ‫الوجود« بِإِ ْذ ِن َر ِبه ِه ْم » فكنا نورا بإذن ربنا« ِإلى ِ‬
‫ّللا الذي عليه‬
‫صراط التنزيه الذي ليس لمخلوق فيه قدم في العلم به ‪ ،‬فإنه صراط ه‬
‫ينزل لخلقنا ‪ ،‬وعليه يكون معنا أينما كنا ‪ ،‬وعليه نزل من العرش إلى السماء الدنيا‬
‫وإلى األرض ‪ ،‬وهو قوله ‪َ (:‬و ُه َو )‬

‫ص ‪428‬‬

‫ص ‪428 :‬‬
‫ض )وعليه يقرب من العبد أضعاف ما يتقرب إليه عبده‬ ‫ت َوفِي ْاأل َ ْر ِ‬
‫سماوا ِ‬
‫ّللاُ فِي ال َّ‬
‫( َّ‬
‫إذا سعى إليه بالطريق التي شرع له ‪ ،‬فهو يهرول إليه إذا رآه مقبال تهمما بعبده‬
‫وإكراما له ‪ ،‬ولكن على صراط العزة ‪ ،‬وهو صراط نزول ال عروج لمخلوق فيه ‪،‬‬
‫ولو كان لمخلوق فيه سلوك ما كان عزيزا ‪ ،‬فهو صراط ممنوع لنفسه ‪ ،‬فالحق سبحانه‬
‫يختص بالنزول فيه« ْال َح ِمي ِد »أي الحامد والمحمود ‪ ،‬ألن فعيل إذا ورد يطلب اسم‬
‫الفاعل والمفعول ‪ ،‬فإما أن يعطي األمرين معا مثل هذا ‪ ،‬وإما أن يعطي األمر الواحد‬
‫لقرينة الحال ‪ ،‬وقد أثنى على نفسه ‪ ،‬فهو الحامد والمحمود ‪.‬‬

‫[ سورة إبراهيم ( ‪ : ) 14‬اآليات ‪ 2‬إلى ‪] 4‬‬


‫شدِي ٍد ( ‪) 2‬‬ ‫ب َ‬ ‫ين ِم ْن عَذا ٍ‬ ‫ض َو َو ْي ٌل ِل ْلكا ِف ِر َ‬ ‫ت َوما ِفي ْاأل َ ْر ِ‬ ‫سماوا ِ‬ ‫َّللا الهذِي لَهُ ما ِفي ال ه‬‫هِ‬
‫َّللا َويَ ْبغُونَها ِع َوجا ً‬ ‫س ِبي ِل ه ِ‬‫ُّون ع َْن َ‬ ‫صد َ‬ ‫علَى ْاآل ِخ َر ِة َويَ ُ‬ ‫ون ا ْل َحياةَ ال ُّد ْنيا َ‬
‫ست َ ِحبُّ َ‬ ‫الهذ َ‬
‫ِين يَ ْ‬
‫سان قَ ْو ِم ِه ِليُبَ ِيّ َن لَ ُه ْم فَيُ ِض ُّل‬
‫سو ٍل إِاله بِ ِل ِ‬ ‫س ْلنا ِم ْن َر ُ‬ ‫ضال ٍل بَ ِعي ٍد ( ‪َ ) 3‬وما أ َ ْر َ‬ ‫أُولئِكَ فِي َ‬
‫يز ا ْل َح ِكي ُم) ‪( 4‬‬ ‫َّللاُ َم ْن يَشا ُء َويَ ْهدِي َم ْن يَشا ُء َو ُه َو ا ْلعَ ِز ُ‬ ‫ه‬
‫سان قَ ْو ِم ِه‬‫سو ٍل ِإ َّال ِب ِل ِ‬ ‫س ْلنا ِم ْن َر ُ‬‫سان قَ ْو ِم ِه » ]« َوما أ َ ْر َ‬ ‫س ْلنا ِم ْن َر ُ‬
‫سو ٍل ِإ َّال ِب ِل ِ‬ ‫[ « َوما أ َ ْر َ‬
‫»يعني بلغتهم ولحنهم ‪ ،‬ليعلموا ما هو األمر عليه ‪ ،‬فإذا خاطبهم ما يخاطبهم إال بما‬
‫تواطئوا عليه من التعبير عن المعاني التي يريد المتكلم أن يوصل مراده فيما يريد منها‬
‫إلى السامع ‪ ،‬فالمعنى ال يتغير البتة عن داللة ذلك اللفظ عليه ‪ ،‬وإن جهل كيف ينسب‬
‫فال يقدح ذلك في المعقول من تلك العبارة ‪ ،‬وإذا ظهر لهم في فعل من األفعال فال‬
‫يظهر لهم إال بما ألفوه في عاداتهم ‪ ،‬ألنه يريد إفهامهم ‪ ،‬فمن المحال أن يخرج في‬
‫خطابه إياهم عما تواطئوا عليه في لسانهم ‪ ،‬فالشرائع تنزلت بحسب ما وقع عليه‬
‫التواطؤ في ألسنة العالم ‪ ،‬فال يرسل رسول إال بما تواطأ قومه عليه ‪ ،‬وقد يكون‬
‫التواطؤ على صورة ما هي الحقائق عليه وقد ال يكون ‪ ،‬والحق سبحانه تابع لهم في‬
‫ذلك كله ‪ ،‬ليفهم عنه ما أنزله من أحكامه ‪ ،‬وما وعد به وأوعد عليه ‪ ،‬كما قد دل دليل‬
‫العقل على استحالة حصر الحق‬

‫ص ‪429‬‬

‫ص ‪429 :‬‬
‫في أينية ‪ ،‬ومع هذا جاء لسان الشرع باألينية في حق الحق من أجل التواطؤ الذي‬
‫ّللا ؟ فلو قالها غير‬ ‫ّللا عليه وسلم للسوداء ‪ :‬أين ه‬ ‫عليه لسان المرسل إليهم ‪ ،‬فقال صلهى ه‬
‫الرسول لشهد الدليل العقلي بجهل القائل ‪ ،‬فإنهه ال أينية له ‪ ،‬فلما قالها الرسول وبانت‬
‫حكمته وعلمه ‪ ،‬علمنا أنه ليس في قوة فهم هذا المخاطب أن يعقل موجده إال بما‬
‫تصوره في نفسه ‪ ،‬فلو خاطبه بغير ما تواطأ عليه وتصوره في نفسه الرتفعت الفائدة‬
‫المطلوبة ولم يحصل القبول ‪ ،‬فمن حكمته أن سأل مثل هذه بمثل هذا السؤال وبهذه‬
‫ّللا‬
‫العبارة ‪ ،‬ولذلك لما أشارت إلى السماء ‪ ،‬قال فيها ‪ :‬إنها مؤمنة ‪ ،‬أي مصدقة بوجود ه‬
‫ولم يقل عالمة ‪ ،‬واعلم أن إخالف ما أوعدت به من الشر يس همى تجاوزا ‪ ،‬وهذه شبهة‬
‫س ْلنا ِم ْن َر ُ‬
‫سو ٍل ِإ َّال ِب ِل ِ‬
‫سان قَ ْو ِم ِه »وما‬ ‫المعتزلة ‪ ،‬وغاب عنها قوله تعالى ‪َ «:‬وما أ َ ْر َ‬
‫تواطئوا عليه أعني األعراب ‪ ،‬إذا أوعدت أو وعدت بالشر التجاوز عنه ‪ ،‬وجعلت‬
‫ذلك من مكارم األخالق ‪ ،‬فعاملهم الحق بما تواطئوا عليه ‪ ،‬فزلت هنا المعتزلة زلة‬
‫ّللا تعالى في خبره ‪ ،‬وما علمت أن مثل‬ ‫عظيمة ‪ ،‬أوقعها في ذلك استحالة الكذب على ه‬
‫هذا ال يس همى كذبا في العرف الذي نزل به الشرع ‪ ،‬فحجبهم دليل عقلي عن علم وضع‬
‫حكمي ‪ ،‬وهذا من قصور بعض العقول ووقوفها في كل موطن مع أدلتها ‪ ،‬وال ينبغي‬
‫لها ذلك ‪ ،‬ولتنظر إلى المقاصد الشرعية في الخطاب ‪ ،‬ومن خاطب ‪ ،‬وبأي لسان‬
‫خاطب ‪ ،‬وبأي عرف أوقع المعاملة في تلك األمة المخصوصة ‪ ،‬فنقول للمعتزلي الذي‬
‫أن وعيده ينفذ فيمن شاء‬ ‫ّللا عرفنا ه‬ ‫يقول بإنفاذ الوعيد فيمن مات على غير توبة ‪ .‬إن ه‬
‫ويغفر لمن شاء ‪ ،‬والخبر اإللهي الصدق ال يدخله الكذب ‪ ،‬فإنه محال على الجناب‬
‫أن خطاب الحق لعباده إنما يكون بحسب ما تواطئوا عليه‬ ‫اإللهي ‪ ،‬وإن نظر العالم إلى ه‬
‫‪ ،‬وهذا خطاب عربي لسائر العرب ‪ ،‬بلسان ما اصطلحوا عليه من األمور التي‬
‫يتمدحون بها في عرفهم ‪ ،‬ومن األمور التي يذمونها في عرفهم ‪ ،‬فعند العرب من‬
‫مكارم األخالق ‪ ،‬أن الكريم إذا وعد وفي وإذا أوعد تجاوز وعفا ‪ ،‬وهي من مكارم‬
‫أخالقهم ومما يمدحون بها الكريم ‪ ،‬ونزول الوعيد عليهم بما هو في عرفهم ‪ ،‬لم‬
‫يتعرض في ذلك لما تعطيه األدلة العقلية من عدم النسخ لبعض األخبار والستحالة‬
‫الكذب ‪ ،‬بل المقصود إتيان مكارم األخالق يقول بعض األعراب في كرم خلقه ‪:‬وإني‬
‫إذا أوعدته أو وعدته * لمخلف إيعادي ومنجز موعديمدح نفسه بالعفو والتجاوز عمن‬
‫جنى عليه بما أوعد على ذلك من العقوبة بالعفو‬

‫ص ‪430‬‬

‫ص ‪430 :‬‬
‫والصفح ‪ ،‬ومدح نفسه بإنجاز ما وعد به من الخير ‪ ،‬يقال في اللسان ‪ :‬وعدته في‬
‫الخير والشر ‪ ،‬وال يقال أوعدته بالهمز إال في الشر خاصة ‪ ،‬والتجاوز والعفو عند‬
‫فاّلل أولى بهذه الصفة ‪ ،‬وقد‬ ‫العرب مما تواطئوا على الثناء به على من ظهر منه ‪ ،‬ه‬
‫عرفنا أن وعيده ينفذ فيمن شاء ويغفر لمن شاء ‪ ،‬وال ينبغي أن يقال مخلف ‪ ،‬بل ينبغي‬
‫أن يقال إنه عفو متجاوز عن عبده ‪ ،‬ومع هذه الوجوه فال يتمكن زوال الرهبة من قلب‬
‫العبد من نفوذ الوعيد ‪ ،‬ألنه ال يدري هل هو ممن يؤاخذ أو ممن يعفى عنه ؟« ِليُبَ ِيهنَ‬
‫لَ ُه ْم »لتقوم عليهم الحجة إذا خالفوا ‪ ،‬أو يعملوا بما فهموا فيسعدوا ‪ ،‬فوقع البيان ‪ ،‬فما‬
‫ّللاُ َم ْن يَشا ُء »مطلق الضاللة الحيرة‬ ‫رمز نبي شيئا قط ‪ ،‬ألنه بعث للبيان« فَيُ ِ‬
‫ض ُّل َّ‬
‫ّللاُ َم ْن يَشا ُء »أي من‬ ‫والجهل باألمر وبطريق الحق المستقيم ‪ ،‬فقوله تعالى «‪ :‬فَيُ ِ‬
‫ض ُّل َّ‬
‫عرفه بطريق الهداية‬ ‫عرفه بطريق الضاللة فإنه يضل فيها « َويَ ْهدِي َم ْن يَشا ُء »ومن ه‬ ‫ه‬
‫فإنه يهتدي فيها ‪ ،‬ولما كان العقل السليم يحار في األخبار الموهمة للتشبيه ويتيه ‪ ،‬فهذا‬
‫ّللا على ألسنة‬
‫معنى يضل ‪ ،‬أي يحير العقول بمثل هذه الخطابات ‪ -‬الصادرة من ه‬
‫الرسل الصادقة ‪ -‬المجهولة الكيفية ‪ ،‬وال يتمكن للعقل أن يهتدي إلى ما قصده الحق‬
‫بذلك مما ال يليق بالمفهوم ‪ ،‬ثم يرى العقل أنه سبحانه ما خاطبنا إال لنفهم عنه ‪،‬‬
‫والمفهوم من هذه األمور يستحيل عليه سبحانه من كل وجه يفهمه العبد بضرب من‬
‫التشبيه المحدث ‪ ،‬إما من طريق المعنى أو طريق الحس ‪ ،‬وال يتمكن للعقل أن ال يقبل‬
‫هذا الخطاب فيحار ‪ ،‬فث هم حيرة يخرج عنها العبد ويتمكن له الخروج منها بالعناية‬
‫ّللا العقل من أقسام‬ ‫اإللهية ‪ ،‬وث هم حيرة ال يتمكن له الخروج عنها بمجرد ما أعطى ه‬
‫ّللا بها ‪ ،‬فيحار الدال في المدلول لعزة الدليل ‪ ،‬لذلك قال تعالى ‪َ «:‬و ُه َو‬ ‫القوة التي أيده ه‬
‫يز »ثم يجيء الشرع بعد هذا في أمور حكم العقل بدليله على إحالتها ‪ ،‬فيثبت‬ ‫ْالعَ ِز ُ‬
‫الشرع ألفاظا تدل على وجوب ما أحاله ‪ ،‬فيقبل ذلك إيمانا وال يدري ما هو ‪ ،‬فإنه«‬
‫ْال َح ِكي ُم "‪.‬‬

‫[ سورة إبراهيم ( ‪ : ) 14‬آية ‪] 5‬‬


‫ور َوذَ ِ ّك ْر ُه ْم ِبأَيه ِام ه ِ‬
‫َّللا‬ ‫ت ِإلَى النُّ ِ‬ ‫س ْلنا ُموسى ِبآياتِنا أ َ ْن أ َ ْخ ِرجْ قَ ْو َمكَ ِم َن ال ُّ‬
‫ظلُما ِ‬ ‫َولَقَ ْد أ َ ْر َ‬
‫ُور ( ‪) 5‬‬ ‫شك ٍ‬ ‫صبه ٍار َ‬ ‫ت ِل ُك ِ ّل َ‬ ‫ِإ هن فِي ذ ِلكَ َآليا ٍ‬
‫ّللا " ]‬ ‫[ " َوذَ ِ هك ْر ُه ْم ِبأَي َِّام َّ ِ‬
‫ّللا وآالئه ‪ ،‬فإنما نابت‬ ‫ّللا »أي ذكرهم بنعم ه‬ ‫‪-‬الوجه األول ‪َ «-‬وذَ ِ هك ْر ُه ْم ِبأَي َِّام َّ ِ‬

‫‪431‬‬

‫ص ‪431 :‬‬
‫ّللا تعالى إلى موسى عليه السالم ‪:‬‬ ‫األيام مناب النعم ألنها اآلتية بأنواع الكرم ‪ ،‬أوحى ه‬
‫يا بن عمران حببني إلى عبادي ‪ ،‬قال ‪ :‬يا رب كيف أصل إلى ذلك ؟‬
‫ّللا تعالى إليه ‪:‬‬ ‫فأوحى ه‬
‫يا بن عمران ذكرهم إحساني إليهم ‪ ،‬وعظيم تفضلي عليهم ‪ ،‬فإنهم ال يعرفون مني إال‬
‫الحسن الجميل ‪.‬‬
‫ّللا هي أيام األنفاس على الحقيقة ‪ ،‬فإنها أقل ما ينطلق عليه اسم يوم ‪،‬‬ ‫وأيام ه‬
‫ّللا وأنت في غفلة عنها‬ ‫ْ‬
‫فهو أن يذكرهم بقوله تعالى ‪ُ (:‬ك َّل يَ ْو ٍم ُه َو فِي شَأ ٍن )فتلك أيام ه‬
‫ّللا‬
‫‪ ،‬وهذه األيام التي ينبغي أن يذكر العبد بها ‪ ،‬مثل أيام النعم وأيام االنتقام التي أخذ ه‬
‫فيها القرون الماضية ‪.‬‬
‫ّللا على عباده تكون‬ ‫واعلم أن الباليا أكثر من النعم في الدنيا ‪ ،‬فإنه ما من نعمة ينعمها ه‬
‫ّللا يطالبه بحقها من الشكر عليها ‪ ،‬وإضافتها إلى من يستحقها‬ ‫خالصة من البالء ‪ ،‬فإن ه‬
‫باإليجاد ‪ ،‬وأن يصرفها في الموطن الذي أمره الحق أن يصرفها فيه ‪ ،‬فمن كان‬
‫شهوده في النعم هذا الشهود متى يتفرغ لاللتذاذ بها ؟‬
‫وكذلك الرزايا هي في نفسها مصائب وباليا ‪ ،‬ويتضمنها من التكليف ما يتضمنه من‬
‫النعم من طلب الصبر عليها ‪ ،‬ورجوعه إلى الحق في رفعها عنه ‪ ،‬وتلقيها بالرضى أو‬
‫ّللا أن‬
‫ّللا ‪ ،‬فقد علمت من أيام ه‬‫باّلل إلى غير ه‬‫الصبر الذي هو حبس النفس عن الشكوى ه‬
‫الدار دار بالء ‪ ،‬ال يخلص فيها النعيم من البالء وقتا واحدا ‪ ،‬وأقله طلب الشكر من‬
‫المنعم بها عليه ‪ ،‬وأي تكليف أشق منه على النفس ‪ ،‬ولذلك تمم تعالى بقوله ‪ «:‬إِ َّن فِي‬
‫ور »‬ ‫ش ُك ٍ‬ ‫َّار َ‬ ‫ت ِل ُك ِهل َ‬
‫صب ٍ‬ ‫ذ ِل َك َآليا ٍ‬
‫ّللا وال‬
‫ّللا إذا مدح الصابرين فهم الذين حبسوا نفوسهم عن الشكوى لغير ه‬ ‫واعلم أن ه‬
‫ّللا‬
‫يحبسونها عن الشكوى إلى ه‬
‫ّللا لما أعلمنا أنه هو الدهر ‪ ،‬ذكر لنا‬ ‫ّللا »اعلم أن ه‬ ‫‪ -‬الوجه الثاني ‪َ «-‬وذَ ِ هك ْر ُه ْم ِبأَي َِّام َّ ِ‬
‫ّللا ‪ ،‬فعيهن هذه األيام أحكام أسمائه تعالى‬ ‫سبحانه أن له أياما من كونه دهرا ‪ ،‬وهي أيام ه‬
‫ّللا ‪ ،‬وتفاصيل‬‫في العالم ‪ ،‬فلكل اسم أيام ‪ ،‬وهي زمان حكم ذلك االسم ‪ ،‬والكل أيام ه‬
‫الدهر بالحكم في العالم ‪ ،‬وهذه األيام تتوالج ويدخل بعضها في بعض ‪ ،‬ويغشي بعضها‬
‫بعضا ‪ ،‬وهو ما نراه من اختالف األحكام في الزمان الواحد ‪،‬‬
‫فذلك لتوالجها وغشيانها وتقليبها وتكرارها ‪ ،‬ولهذه األيام اإللهية ليل ونهار ‪ ،‬فليلها‬
‫غيب ‪ ،‬وهو ما غاب عنها منها ‪ ،‬وهو عين حكمها في األرواح العلوية الكائنة فوق‬
‫الطبيعة واألرواح المهيهمة ‪ ،‬ونهارها شهادة ‪ ،‬وهو عين حكمها في األجسام الطبيعية‬
‫إلى آخر جسم عنصري ‪ ،‬وهي ما تحت الطبيعة ‪ ،‬واالسم اإللهي النور هو الذي أظهر‬
‫ّللا ‪ ،‬والدهر من حيث عينه يوم واحد ال يتعدد ‪ ،‬وال ليل له وال‬ ‫الليل والنهار في أيام ه‬
‫نهار ‪ ،‬فإذا أخذته‬

‫ص ‪432‬‬

‫ص ‪432 :‬‬
‫األسماء اإللهية عينت بأحكامها في هذا اليوم األزلي ‪ -‬الذي هو عين الدهر ‪ -‬األيام‬
‫اإللهية التي أمر المذ هكر أن يذكرنا بها ‪ ،‬لنعرفها من أيام الزمان ‪ ،‬ثم جعل ه‬
‫ّللا هذه‬
‫األيام المعلومة عندنا ليقدر بها أحكام األيام اإللهية التي لألسماء ‪ ،‬فهي كالموازين لها‬
‫‪ ،‬يعرف بها مقادير تلك األيام ‪،‬‬
‫سنَ ٍة ِم َّما تَعُ ُّدونَ ) فإذا ضربت ثالثمائة يوم وستين‬
‫ف َ‬ ‫فقال ‪َ (:‬و ِإ َّن يَ ْوما ً ِع ْن َد َر ِبه َك َكأ َ ْل ِ‬
‫يوما في ألف سنة ‪ ،‬فما خرج لك بعد ذلك الضرب من العدد فهو أيام التقدير التي ليوم‬
‫الرب ‪ ،‬فينقضي ‪ ،‬ثم ينشئ في الدهر يوما آخر السم آخر غير اسم الرب ‪،‬‬
‫وكذلك يضرب ثالثمائة يوم وستين يوما في خمسين ألف سنة ‪ ،‬فما خرج لك بعد‬
‫الضرب من األيام فهو أيام التقدير التي ليوم ذي المعارج من األسماء اإللهية ‪ ،‬فإذا‬
‫انقضى ذلك اليوم أنشأ في الدهر يوما آخر السم آخر غير الذي لذي المعارج ‪ ،‬هكذا‬
‫األمر دائما ‪ ،‬فلكل اسم إلهي يوم ‪ ،‬وإنما ذكرنا هذين اليومين يوم الرب ويوم ذي‬
‫ّللا ‪ ،‬فال يقدر المؤمنون بذلك على إنكارهما ‪ ،‬فما من‬ ‫المعارج لكونهما جاءا في كتاب ه‬
‫ّللا ‪ ،‬والكل على الحقيقة‬ ‫اسم إلهي مما يعلم ويجهل إال وله يوم في الدهر ‪ ،‬وتلك أيام ه‬
‫ّللا ولكن أكثر الناس ال يعلمون‬ ‫أيام ه‬
‫‪ -‬إشارة ‪ -‬التذكر للعلماء الغافلين ‪ ،‬والوعظ ال يكون للناس أجمعين ‪ ،‬فالواعظ إنما‬
‫ّللا‬
‫باّلل ‪ ،‬وكذلك من يخوف الناس إنما يخوفهم بما يكون من ه‬ ‫ّللا ال ه‬ ‫يعظ بما يكون من ه‬
‫ّللا ‪،‬‬
‫ّللا ‪ ،‬فالترغيب ال يجري مجرى الترهيب ‪ ،‬فإن الترغيب قد يكون في ه‬ ‫ال من ه‬
‫ّللا ‪.‬‬
‫ّللا ال من ه‬ ‫والترهيب ال يكون إال مما يكون من ه‬

‫[ سورة إبراهيم ( ‪ : ) 14‬اآليات ‪ 6‬إلى ‪] 7‬‬


‫سو ُمونَ ُك ْم‬‫علَ ْي ُك ْم ِإ ْذ أ َ ْنجا ُك ْم ِم ْن آ ِل فِ ْرع َْو َن يَ ُ‬ ‫اذك ُُروا نِ ْع َمةَ ه ِ‬
‫َّللا َ‬ ‫َو ِإ ْذ قا َل ُموسى ِلقَ ْو ِم ِه ْ‬
‫ون ِنسا َء ُك ْم َو ِفي ذ ِل ُك ْم بَال ٌء ِم ْن َر ِبّ ُك ْم ع َِظي ٌم (‬ ‫ستَحْ يُ َ‬‫ون أ َ ْبنا َء ُك ْم َويَ ْ‬
‫ب َويُذَ ِبّ ُح َ‬ ‫سو َء ا ْلعَذا ِ‬
‫ُ‬
‫شدِي ٌد ) ‪( 7‬‬ ‫‪َ ) 6‬وإِ ْذ تَأَذه َن َربُّ ُك ْم لَئِ ْن َ‬
‫شك َْرت ُ ْم َأل َ ِزي َدنه ُك ْم َولَئِ ْن َكفَ ْرت ُ ْم إِ هن عَذابِي لَ َ‬
‫ش َك ْرت ُ ْم َأل َ ِزي َدنَّ ُك ْم » ]‬‫[ « لَئِ ْن َ‬
‫الشكر صفة تقتضي الزيادة من المشكور للشاكر ‪ ،‬فيزيدنا نعمة إذا شكرناه على نعمه‬
‫ّللا على ما أنعم به عليك زادك‬ ‫وآالئه ‪ ،‬وال يصح الشكر إال على النعم ‪ ،‬فإذا شكرت ه‬
‫من‬

‫ص ‪433‬‬

‫ص ‪433 :‬‬
‫نعمه ‪ ،‬فإن الشاكر في حال شكره هو عين فقره إلى ما ليس عنده وهو الزيادة التي‬
‫تزاد له على النعمة التي يكون فيها ‪.‬‬
‫ي لهذا يطلب الشكرا‬‫شكر لنعمة ربي نعمة أخرى *** منه عل ه‬
‫فقري إليه وما عندي سوى نعم *** من اإلله بها أرساله تترى‬
‫ي فنلت الزهو والفخرا‬‫هو الغني وفقري منة ظهرت *** منه عل ه‬
‫بالفقر فخري وبالفاقات سلطنتي *** على الوجود فال أدري‬

‫وال أدرىفكلما زاد العبد في العبادة شكرا هّلل ‪ ،‬زاده الحق في الهداية والتوفيق في‬
‫موطن األعمال حتى اآلخرة ‪ ،‬حيث ال عمل وال ألم على السعداء ‪ ،‬ولما كان الشكر‬
‫ّللا ‪ ،‬ولهذا‬
‫فعال يطلب الماضي والواقع ‪ ،‬كانت الزيادة من النعم للشاكر فضال من ه‬
‫سماها زيادة يطلبها الشكر ال الشاكر ‪،‬‬
‫ّللا هذه النعم على عبده وهداه السبيل إليها قال ‪ :‬إما شاكرا فيزيده منها ‪،‬‬
‫ولما قرر ه‬
‫وإما كفورا بنعمه فيسلبها عنه ويعذبه على ذلك فليحترز اإلنسان لنفسه في أي طريق‬
‫ّللا بيان‪.‬‬
‫يمشي ‪ ،‬فما بعد بيان ه‬

‫[ سورة إبراهيم ( ‪ : ) 14‬آية ‪] 8‬‬


‫ي َح ِمي ٌد ( ‪) 8‬‬ ‫ض َج ِميعا ً فَ ِإ هن ه َ‬
‫َّللا لَغَنِ ٌّ‬ ‫َوقا َل ُموسى إِ ْن ت َ ْكفُ ُروا أ َ ْنت ُ ْم َو َم ْن فِي ْاأل َ ْر ِ‬
‫ض َج ِميعا ً فَإِ َّن َّ َ‬
‫ّللا لَغَنِ ٌّ‬
‫ي‬ ‫« َوقا َل ُموسى »لبني إسرائيل «إِ ْن ت َ ْكفُ ُروا أ َ ْنت ُ ْم َو َم ْن فِي ْاأل َ ْر ِ‬
‫ّللا تعالى ما أوجد العالم إال للعالم ‪ ،‬وما تعبهده بما تعبهده به إال ليعرفه‬ ‫َح ِمي ٌد »ينبه أن ه‬
‫بنفسه ‪ ،‬فإنه إذا عرف نفسه عرف ربه ‪ ،‬فيكون جزاؤه على علمه بربه أعظم الجزاء‬
‫ُون )وال يعبدونه حتى يعرفوه ‪ ،‬فإذا عرفوه عبدوه عبادة ذاتية‬ ‫‪ ،‬ولذلك قال ‪ِ (:‬إ َّال ِليَ ْعبُد ِ‬
‫‪ ،‬فإذا أمرهم عبدوه عبادة خاصة مع بقاء العبادة العامة الذاتية ‪ ،‬فجازاهم على ذلك ‪،‬‬
‫فما خلقهم إال لهم ‪ ،‬وما ذكر موسى األرض إال لكمالها بوجود كل شيء فيها ‪ ،‬وهو‬
‫ض »ألنها الذلول ‪ ،‬فهي الحافظة مقام‬ ‫اإلنسان الجامع حقائق العالم ‪ ،‬فقوله ‪ «:‬فِي ْاأل َ ْر ِ‬
‫ي َح ِمي ٌد »‪.‬‬ ‫ّللا لَغَنِ ٌّ‬ ‫العبودية ‪ ،‬فكأنه قال ‪ِ «:‬إ ْن ت َ ْكفُ ُروا »أنتم وكل عبد ه‬
‫ّللا« فَإِ َّن َّ َ‬

‫[ سورة إبراهيم ( ‪ : ) 14‬اآليات ‪ 9‬إلى ‪] 11‬‬


‫ِين ِم ْن قَ ْب ِل ُك ْم قَ ْو ِم نُوحٍ َوعا ٍد َوث َ ُمو َد َوالهذ َ‬
‫ِين ِم ْن بَ ْع ِد ِه ْم ال يَ ْعلَ ُم ُه ْم ِإاله‬ ‫أ َ لَ ْم يَأ ْ ِت ُك ْم نَبَؤُا الهذ َ‬
‫س ْلت ُ ْم بِ ِه‬ ‫ت فَ َردُّوا أ َ ْي ِديَ ُه ْم فِي أ َ ْفوا ِه ِه ْم َوقالُوا إِنها َكفَ ْرنا بِما أ ُ ْر ِ‬ ‫سلُ ُه ْم بِا ْلبَ ِيّنا ِ‬‫َّللاُ جا َءتْ ُه ْم ُر ُ‬‫ه‬
‫َّللا شَكٌّ ِ‬
‫فاط ِر‬ ‫سلُ ُه ْم أ َ فِي ه ِ‬ ‫ب ( ‪ ) 9‬قالَتْ ُر ُ‬ ‫َوإِنها لَ ِفي ش ٍَّك ِم هما ت َ ْدعُونَنا إِلَ ْي ِه ُم ِري ٍ‬
‫س ًّمى قالُوا ِإ ْن‬ ‫ض يَ ْدعُو ُك ْم ِليَ ْغ ِف َر لَ ُك ْم ِم ْن ذُنُو ِب ُك ْم َويُ َؤ ِ ّخ َر ُك ْم ِإلى أ َ َج ٍل ُم َ‬ ‫ت َو ْاأل َ ْر ِ‬ ‫سماوا ِ‬ ‫ال ه‬
‫ين ( ‪10‬‬ ‫طان ُم ِب ٍ‬‫س ْل ٍ‬ ‫كان يَ ْعبُ ُد آباؤُنا فَأْتُونا ِب ُ‬ ‫ع هما َ‬ ‫صدُّونا َ‬ ‫ُون أ َ ْن ت َ ُ‬ ‫أ َ ْنت ُ ْم ِإاله بَش ٌَر ِمثْلُنا ت ُ ِريد َ‬
‫َّللا يَ ُم ُّن عَلى َم ْن يَشا ُء ِم ْن ِعبا ِد ِه‬ ‫سلُ ُه ْم ِإ ْن نَحْ ُن ِإاله بَش ٌَر ِمثْلُ ُك ْم َول ِك هن ه َ‬ ‫) قالَتْ لَ ُه ْم ُر ُ‬
‫ون) ‪( 11‬‬ ‫َّللا فَ ْليَت َ َو هك ِل ا ْل ُم ْؤ ِمنُ َ‬
‫علَى ه ِ‬ ‫طان ِإاله ِب ِإ ْذ ِن ه ِ‬
‫َّللا َو َ‬ ‫س ْل ٍ‬ ‫كان لَنا أ َ ْن نَأ ْ ِتيَ ُك ْم ِب ُ‬
‫َوما َ‬

‫‪434‬‬
‫ص ‪434 :‬‬
‫لما كانت الخالفة ربوبية في الظاهر ‪ ،‬ألن الخليفة يظهر بحكم الملك فيتصرف في‬
‫الملك بصفات سيده ظاهرا ‪ ،‬وإن كانت عبوديته له مشهودة في باطنه ‪ ،‬فلم تعم‬
‫عبوديته جميعه عند رعيته الذين هم أتباعه ‪ ،‬وظهر ملكه بهم وباتباعهم واألخذ عنه ‪،‬‬
‫فكان في مجاورتهم بالظاهر أقرب ‪،‬‬
‫وبذلك المقدار يستتر عنه من عبوديته ‪ ،‬فإن الحقائق تعطي ذلك ‪،‬‬
‫ي » *وهذه‬‫لذلك كثيرا ما ينزل الوحي على األنبياء « قُ ْل ِإنَّما أَنَا بَش ٌَر ِمثْلُ ُك ْم يُوحى ِإلَ َّ‬
‫آية دواء لهذه العلة ‪.‬‬

‫[ سورة إبراهيم ( ‪ : ) 14‬آية ‪] 12‬‬


‫ص ِب َر هن عَلى ما آذَ ْيت ُ ُمونا َو َ‬
‫علَى ه ِ‬
‫َّللا‬ ‫َّللا َوقَ ْد َهدانا ُ‬
‫سبُلَنا َولَنَ ْ‬ ‫َوما لَنا أَاله نَت َ َو هك َل َ‬
‫علَى ه ِ‬
‫ون ) ‪( 12‬‬ ‫فَ ْليَت َ َو هك ِل ا ْل ُمت َ َو ِ ّكلُ َ‬
‫ّللا‬
‫باّلل ‪ ،‬وهم المتوكلون على ه‬ ‫المتوكلون هم أرباب مقام العبودية وأهل االستكفاء ه‬
‫توكل العبد على سيده ‪ ،‬ال توكل االبن على أبيه ‪ ،‬وال الميت على غاسله ‪ ،‬وال األجير‬
‫على آجره ‪ ،‬وال توكل المو هكل على وكيله ‪ ،‬فإن القائلين باألسباب أهل االكتساب مع‬
‫ّللا‬
‫االعتماد على ه‬

‫ص ‪435‬‬

‫‪-‬‬

‫ص ‪435 :‬‬
‫باّلل ‪ ،‬وهكذا كل ذي سبب وإن كان‬
‫ّللا ‪ -‬فما في ظاهرهم االكتفاء ه‬
‫وإن اعتمدوا على ه‬
‫من المتوكلين ‪ ،‬فما كل متوكل يظهر منه االكتفاء على ظاهره ‪.‬‬

‫[ سورة إبراهيم ( ‪ : ) 14‬اآليات ‪ 13‬إلى ‪]15‬‬


‫س ِل ِه ْم لَنُ ْخ ِر َجنه ُك ْم ِم ْن أ َ ْر ِضنا أ َ ْو لَتَعُود هُن ِفي ِمله ِتنا فَأ َ ْوحى ِإلَ ْي ِه ْم‬
‫ِين َكفَ ُروا ِل ُر ُ‬
‫َوقا َل الهذ َ‬
‫قامي‬
‫خاف َم ِ‬ ‫َ‬ ‫ض ِم ْن بَ ْع ِد ِه ْم ذ ِلكَ ِل َم ْن‬‫س ِكنَنه ُك ُم ْاأل َ ْر َ‬
‫ين ( ‪َ ) 13‬ولَنُ ْ‬ ‫َربُّ ُه ْم لَنُ ْه ِلك هَن ال ه‬
‫ظا ِل ِم َ‬
‫عنِي ٍد ) ‪( 15‬‬ ‫خاب ُك ُّل َجبه ٍار َ‬‫ست َ ْفت َ ُحوا َو َ‬‫خاف َو ِعي ِد ) ‪َ ( 14‬وا ْ‬ ‫َو َ‬
‫ال تكن في األرض جبارا فيخدعك الطريق ‪ ،‬حتى يصيرك ضجيع الغريق ‪ ،‬فال‬
‫تتصف بالتكبر والجبروت من غير أن يعطيك الحق ذلك ‪ ،‬فتضل عن الطريق ‪ ،‬كما‬
‫ّللا تعالى ‪.‬‬ ‫فعل بفرعون لما تكبر بغير الحق ‪ ،‬فأغرقه ه‬

‫[ سورة إبراهيم ( ‪ ) : 14‬اآليات ‪ 16‬إلى ‪] 17‬‬


‫سيغُهُ َويَأْتِي ِه‬
‫عهُ َوال يَكا ُد يُ ِ‬ ‫صدِي ٍد ( ‪ ) 16‬يَت َ َج هر ُ‬
‫ماء َ‬ ‫سقى ِم ْن ٍ‬ ‫ِم ْن َورائِ ِه َج َهنه ُم َويُ ْ‬
‫ظ ) ‪( 17‬‬ ‫غ ِلي ٌ‬
‫َذاب َ‬
‫ت َو ِم ْن َورائِ ِه ع ٌ‬ ‫ا ْل َم ْوتُ ِم ْن ُك ِ ّل َم ٍ‬
‫كان َوما ُه َو ِب َم ِيّ ٍ‬
‫التجرع عن كراهة ومرارة ‪.‬‬

‫[ سورة إبراهيم ( ‪ : ) 14‬اآليات ‪ 18‬إلى ‪] 19‬‬


‫ف ال يَ ْقد ُِر َ‬
‫ون‬ ‫عاص ٍ‬‫ِ‬ ‫الري ُح فِي يَ ْو ٍم‬ ‫شتَدهتْ بِ ِه ِ ّ‬ ‫ِين َكفَ ُروا بِ َر ِبّ ِه ْم أَعْمالُ ُه ْم ك ََرما ٍد ا ْ‬ ‫َمث َ ُل الهذ َ‬
‫ت‬
‫سماوا ِ‬ ‫ق ال ه‬ ‫ضال ُل ا ْلبَ ِعي ُد ( ‪ ) 18‬أ َ لَ ْم ت َ َر أ َ هن ه َ‬
‫َّللا َخلَ َ‬ ‫ش ْي ٍء ذ ِلكَ ُه َو ال ه‬ ‫سبُوا عَلى َ‬ ‫ِم هما َك َ‬
‫ق َجدِي ٍد ( ‪) 19‬‬ ‫ق ِإ ْن يَشَأ ْ يُ ْذ ِه ْب ُك ْم َويَأ ْ ِ‬
‫ت ِب َخ ْل ٍ‬ ‫ض ِبا ْل َح ّ ِ‬ ‫َو ْاأل َ ْر َ‬
‫ّللا تعالى وصف نفسه بأن‬ ‫ق »اعلم أن ه‬ ‫ض ِب ْال َح ه ِ‬ ‫ت َو ْاأل َ ْر َ‬‫سماوا ِ‬ ‫« أ َ لَ ْم ت َ َر أ َ َّن َّ َ‬
‫ّللا َخلَقَ ال َّ‬
‫له نفسا بفتح الفاء ‪ ،‬وأضافه إلى االسم الرحمن ‪ ،‬فهو أول غيب ظهر لنفسه ‪ ،‬فكان فيه‬
‫ّللا‬
‫الحق من اسمه الرب ‪ ،‬فكان العماء الذي كان فيه الرب قبل خلق الخلق ‪ ،‬ثم أوجد ه‬
‫في‬

‫ص ‪436‬‬

‫ص ‪436 :‬‬
‫هذا العماء جميع صور العالم الذي قال فيه إنه هالك ‪ ،‬يعني من حيث صوره ‪ ،‬وفي‬
‫هذا العماء ظهرت المالئكة المهيمة والعقل والنفس والطبيعة ‪ ،‬والطبيعة هي أحق نسبة‬
‫بالحق مما سواها ‪ ،‬فإن كل ما سواها ما ظهر إال فيما ظهر منها ‪ ،‬والنفس بفتح الفاء‬
‫هو الساري في العالم ‪ ،‬أعني في صور العالم ‪ ،‬فالعماء أصل األشياء والصور كلها ‪،‬‬
‫وهو أول فرع ظهر من أصل« ِإ ْن يَشَأ ْ يُ ْذ ِه ْب ُك ْم »ولكن ما فعل مع جواز إعدام األشياء‬
‫بمسكه اإلمداد بما به بقاء أعيانها ‪ ،‬ولكن قضى القضية أن ال يكون األمر إال هكذا ‪،‬‬
‫ولذلك علق اإلذهاب بالمشيئة ‪ ،‬يريد مسك الشرط المصحح لبقاء الوجود عليكم ‪،‬‬
‫فتنعدمون إذ لم يوجده سبحانه ‪ ،‬فإن له التخيير في إيجاد كل ممكن أو تركه على حاله‬
‫ّللا ال يرد ما أوجده إلى عدم ‪ ،‬بل هو يوجد على الدوام‬ ‫من اتصافه بالعدم ‪ .‬واعلم أن ه‬
‫وال يعدم ‪ ،‬فالقدرة فعالة دائما ‪ ،‬فإنه ما شاء إال اإليجاد ‪ِ [ « ،‬إ ْن يَشَأ ْ يُ ْذ ِه ْب ُك ْم ] »‬
‫ولهذا قال ‪ِ «:‬إ ْن يَشَأ ْ يُ ْذ ِه ْب ُك ْم »‪ -‬الوجه األول ‪ -‬الذهاب انتقالكم من الحال التي أنتم فيها‬
‫إلى حال تكونون فيها ‪ ،‬ويكسو الخلق الجديد عين هذه األحوال التي كانت لكم لو شاء‬
‫‪ ،‬لكنه ما شاء ‪ ،‬فليس األمر إال كما هو ‪ ،‬فإنه ال يشاء إال ما هي عليه ‪ ،‬ألن اإلرادة ال‬
‫تخالف العلم ‪ ،‬والعلم ال يخالف المعلوم ‪ ،‬والمعلوم ما ظهر ووقع ‪ ،‬فال تبديل لكلمات‬
‫ّللا ‪ ،‬فإنها على ما هي عليه ‪ -‬الوجه الثاني ‪ِ «-‬إ ْن يَشَأ ْ يُ ْذ ِه ْب ُك ْم »أي يلحقكم بالعدم أي‬ ‫ه‬
‫ق َجدِي ٍد »إيجاد المعدوم وفي ذلك وصف العدم بالكينونة‬ ‫ْ‬
‫ت ِبخَل ٍ‬ ‫ْ‬
‫إعدام الموجود« َويَأ ِ‬
‫فانظر كيف أضاف اإللحاق بالعدم إلى المشيئة ولم يضفه إلى القدرة التي يقع الخلق‬
‫والجعل بها ‪ ،‬والصحيح في ذلك أن الموجودات إذا كانت كما ذكرنا لها أعيان ثابتة‬
‫حال اتصافها بالعدم الذي هو للممكن ال للمحال فكما أبرزها للوجود وألبسها حاله‬
‫وعراها عن حال العدم فيسمى بذلك موجدا وتسمى هذه العين موجودة ‪ ،‬ال يبعد أن‬
‫يردها إلى ما منه أخرجها وهي حالة العدم فيتصف الحق بأنه معدم لها وتتصف هي‬
‫ق َجدِي ٍد »معناه إن يشأ‬ ‫بأنها معدومة ‪ -‬الوجه الثالث «‪ِ -‬إ ْن يَشَأ ْ يُ ْذ ِه ْب ُك ْم َويَأ ْ ِ‬
‫ت ِبخ َْل ٍ‬
‫ّللا بأبصاركم عنه ‪ ،‬فإن األمر هكذا‬ ‫يشهدكم في كل زمان فرد الخلق الجديد الذي أخذ ه‬
‫هو في نفسه والناس منه في لبس ‪ ،‬فبقاء الجوهر ليس لعينه وإنما بقاؤه للصور التي‬
‫ّللا للبقاء ‪،‬‬ ‫ّللا دائما ‪ ،‬فالجوهر فقره إلى ه‬ ‫تحدث فيه ‪ ،‬فال يزال االفتقار منه إلى ه‬
‫ّللا‪.‬‬‫ّللا لوجودها ‪ ،‬فالكل في عين الفقر إلى ه‬ ‫والصور فقرها إلى ه‬

‫ص ‪437‬‬

‫ص ‪437 :‬‬
‫[ سورة إبراهيم ( ‪ : ) 14‬آية ‪] 20‬‬
‫يز ) ‪( 20‬‬ ‫علَى ه ِ‬
‫َّللا ِبعَ ِز ٍ‬ ‫َوما ذ ِلكَ َ‬
‫أي بممتنع ‪ .‬عزة الشيء ال تكون إال على أمثاله ‪ ،‬فالشيء على عزته حقير بالنسبة‬
‫ّللا حقير ‪،‬‬
‫ّللا التي ال تقبل التأثير ‪ ،‬فإن كل شيء في العالم بالنظر إلى عظمة ه‬ ‫لعزة ه‬
‫ّللا ال بعظمته عظيم ‪.‬‬ ‫ولكنه بتعظيم ه‬

‫[ سورة إبراهيم ‪ ( 14 ) :‬اآليات ‪ 21‬إلى ‪] 22‬‬


‫عنها‬ ‫ون َ‬ ‫ست َ ْكبَ ُروا ِإنها ُكنها لَ ُك ْم تَبَعا ً فَ َه ْل أ َ ْنت ُ ْم ُم ْغنُ َ‬ ‫ِين ا ْ‬ ‫ضعَفا ُء ِللهذ َ‬ ‫ّلِل َج ِميعا ً فَقا َل ال ُّ‬ ‫َوبَ َر ُزوا ِ ه ِ‬
‫صبَ ْرنا ما‬ ‫علَ ْينا أ َ َج ِزعْنا أ َ ْم َ‬ ‫سوا ٌء َ‬ ‫َّللاُ لَ َه َد ْينا ُك ْم َ‬
‫ش ْي ٍء قالُوا لَ ْو َهدانَا ه‬ ‫َّللا ِم ْن َ‬
‫ب هِ‬ ‫ِم ْن عَذا ِ‬
‫ع َد ُك ْم َو ْع َد ا ْل َح ّ ِ‬
‫ق‬ ‫ي ْاأل َ ْم ُر ِإ هن ه َ‬
‫َّللا َو َ‬ ‫طان لَ هما قُ ِض َ‬ ‫ش ْي ُ‬ ‫يص ) ‪َ ( 21‬وقا َل ال ه‬ ‫لَنا ِم ْن َم ِح ٍ‬
‫ست َ َج ْبت ُ ْم ِلي فَال‬ ‫طان ِإاله أ َ ْن َدع َْوت ُ ُك ْم فَا ْ‬ ‫س ْل ٍ‬ ‫علَ ْي ُك ْم ِم ْن ُ‬‫كان ِلي َ‬ ‫ع ْدت ُ ُك ْم فَأ َ ْخلَ ْفت ُ ُك ْم َوما َ‬‫َو َو َ‬
‫ي إِ ِنّي َكفَ ْرتُ بِما‬ ‫س ُك ْم ما أَنَا بِ ُمص ِْر ِخ ُك ْم َوما أ َ ْنت ُ ْم بِ ُمص ِْر ِخ ه‬ ‫تَلُو ُمونِي َولُو ُموا أ َ ْنفُ َ‬
‫َذاب أ َ ِلي ٌم ) ‪( 22‬‬ ‫ين لَ ُه ْم ع ٌ‬ ‫ظا ِل ِم َ‬ ‫ون ِم ْن قَ ْب ُل إِ هن ال ه‬ ‫أَش َْر ْكت ُ ُم ِ‬
‫ّللا لنا‬ ‫ّللا ‪ ،‬حكى ه‬ ‫لما كانت المعجزات تشهد بصدق الدعوة من الرسل أنها دعوة من ه‬
‫ع ْدت ُ ُك ْم فَأ َ ْخلَ ْفت ُ ُك ْم َوما‬
‫ق َو َو َ‬ ‫ع َد ُك ْم َو ْع َد ْال َح ه ِ‬ ‫ي ْاأل َ ْم ُر ِإ َّن َّ َ‬
‫ّللا َو َ‬ ‫ض َ‬ ‫من قول الشيطان« لَ َّما قُ ِ‬
‫ع ْوت ُ ُك ْم فَا ْست َ َج ْبت ُ ْم‬ ‫طان »أي من قوة وال حجة وال برهان« ِإ َّال أ َ ْن َد َ‬ ‫س ْل ٍ‬ ‫علَ ْي ُك ْم ِم ْن ُ‬‫كانَ ِلي َ‬
‫ِلي »وليس كل من دعا تلزم إجابته ‪ ،‬فإن الشيطان ما أقام برهانا لهم لما دعاهم ‪ ،‬فيا‬
‫عجبا إن الناس جحدوا دعوة الحق مع ظهور البرهان وكفروا بها ‪ ،‬وأجابوا دعوة‬
‫س ُك ْم »وحكى ه‬
‫ّللا‬ ‫الشيطان العرية عن البرهان ‪ ،‬فقال لهم ‪ «:‬فَال تَلُو ُمونِي َولُو ُموا أ َ ْنفُ َ‬
‫عن إبليس قوله ‪ ،‬فأقره عليه ولم ينكره ‪ ،‬فاحذر أن تقوم عليك حجة الشيطان ‪ ،‬فإنه‬
‫ليس له عليك سلطان ‪ ،‬فال تقل زيهن لي ودعاني فأوقعني في الخسران ‪ ،‬أنت الذي‬
‫أجبت ووقعت منه ‪ ،‬ولعنه ليس إال التنحي عنه ‪ ،‬فما دعاك إال بلسان الحال ‪ ،‬فإن‬
‫أجبته بلسان الحال لم ينفع لعنه بالمقال‪.‬‬

‫ص ‪438‬‬

‫ص ‪438 :‬‬
‫[سورة إبراهيم ( ‪ : ) 14‬اآليات ‪ 23‬إلى ‪] 24‬‬
‫هار خا ِلد َ‬
‫ِين فِيها‬ ‫ت تَجْ ِري ِم ْن تَحْ تِ َها ْاأل َ ْن ُ‬ ‫ت َجنها ٍ‬ ‫ِين آ َمنُوا َوع َِملُوا ال ه‬
‫صا ِلحا ِ‬ ‫َوأُد ِْخ َل الهذ َ‬
‫َّللاُ َمثَالً َك ِل َمةً َط ِيّبَةً َك َ‬
‫ش َج َر ٍة‬ ‫ب ه‬ ‫ف َ‬
‫ض َر َ‬ ‫سال ٌم ( ‪ ) 23‬أ َ لَ ْم ت َ َر َك ْي َ‬ ‫ِب ِإ ْذ ِن َر ِبّ ِه ْم ت َ ِحيهت ُ ُه ْم فِيها َ‬
‫ماء ( ‪) 24‬‬ ‫س ِ‬‫صلُها ثا ِبتٌ َوفَ ْرعُها فِي ال ه‬ ‫َط ِيّبَ ٍة أ َ ْ‬
‫ْف » ]‬ ‫[ « أ َ لَ ْم ت َ َر َكي َ‬
‫ْف »أطلق النظر على الكيفيات والمراد بذلك بالضرورة‬ ‫قوله تعالى ‪ «:‬أ َ لَ ْم ت َ َر َكي َ‬
‫المكيفات ال التكييف ‪ ،‬فإن التكييف راجع إلى حالة معقولة لها نسبة إلى المكيهف وهو‬
‫ّللا تعالى ‪ ،‬وما أحد شاهد تعلق القدرة اإللهية باألشياء عند إيجادها ‪ ،‬فالكيفيات‬ ‫ه‬
‫المذكورة التي أمرنا بالنظر إليها ال فيها ‪ ،‬إنما ذلك لنتخذها عبرة وداللة على أن لها‬
‫من كيهفها ‪ ،‬أي صيهرها ذات كيفيات ‪ ،‬وهي الهيئات التي تكون عليها المخلوقات‬
‫المكيهفات ‪.‬‬

‫[ سورة إبراهيم ( ‪ ) : 14‬آية ‪] 25‬‬


‫ون ) ‪( 25‬‬ ‫َّللاُ ْاأل َ ْمثا َل ِللنه ِ‬
‫اس لَعَله ُه ْم يَتَذَك ُهر َ‬ ‫ب ه‬ ‫ين ِب ِإ ْذ ِن َر ِبّها َويَ ْ‬
‫ض ِر ُ‬ ‫ت ُ ْؤتِي أ ُ ُكلَها ُك هل ِح ٍ‬
‫اعلم أن الحق وإن أوجد العالم ووصف نفسه بما وصف ‪ ،‬ما زال في منزلة تنزيهه‬
‫وتمييزه عن خلقه بذاته ‪ ،‬مع معيته بكل خلق من خلقه ‪.‬‬

‫[ سورة إبراهيم ( ‪ ) : 14‬اآليات ‪ 26‬إلى ‪] 32‬‬


‫رار ( ‪) 26‬‬ ‫ض ما لَها ِم ْن قَ ٍ‬ ‫ق ْاأل َ ْر ِ‬‫ش َج َر ٍة َخ ِبيث َ ٍة اجْ تُثهتْ ِم ْن فَ ْو ِ‬ ‫َو َمث َ ُل َك ِل َم ٍة َخ ِبيث َ ٍة َك َ‬
‫ظا ِل ِم َ‬
‫ين‬ ‫َّللاُ ال ه‬
‫ت فِي ا ْل َحيا ِة ال ُّد ْنيا َوفِي ْاآل ِخ َر ِة َويُ ِض ُّل ه‬ ‫ِين آ َمنُوا ِبا ْلقَ ْو ِل الثها ِب ِ‬ ‫َّللاُ الهذ َ‬‫يُث َ ِبّتُ ه‬
‫َّللا ُك ْفرا ً َوأ َ َحلُّوا قَ ْو َم ُه ْم َ‬
‫دار‬ ‫ِين بَ هدلُوا نِ ْع َمتَ ه ِ‬ ‫َّللاُ ما يَشا ُء ( ‪ ) 27‬أ َ لَ ْم ت َ َر ِإلَى الهذ َ‬ ‫َويَ ْفعَ ُل ه‬
‫ّلِل أ َ ْندادا ً ِليُ ِضلُّوا ع َْن‬
‫رار ( ‪َ ) 29‬و َجعَلُوا ِ ه ِ‬ ‫س ا ْلقَ ُ‬ ‫صلَ ْونَها َو ِبئْ َ‬ ‫وار ( ‪َ ) 28‬ج َهنه َم يَ ْ‬ ‫ا ْلبَ ِ‬
‫ير ُك ْم إِلَى النه ِار ) ‪( 30‬‬ ‫سبِي ِل ِه قُ ْل ت َ َمتهعُوا فَ ِإ هن َم ِص َ‬ ‫َ‬
‫س ًّرا َوعَالنِيَةً ِم ْن قَ ْب ِل أ َ ْن‬ ‫صالةَ َويُ ْن ِفقُوا ِم هما َر َز ْقنا ُه ْم ِ‬ ‫ِين آ َمنُوا يُ ِقي ُموا ال ه‬ ‫ِي الهذ َ‬ ‫قُ ْل ِل ِعباد َ‬
‫ض َوأ َ ْن َز َل ِم َن‬ ‫ت َو ْاأل َ ْر َ‬ ‫سماوا ِ‬ ‫ق ال ه‬ ‫َّللاُ الهذِي َخلَ َ‬ ‫ي يَ ْو ٌم ال بَ ْي ٌع فِي ِه َوال ِخال ٌل ( ‪ ) 31‬ه‬ ‫يَأْتِ َ‬
‫ي فِي ا ْلبَحْ ِر ِبأ َ ْم ِر ِه‬ ‫س هخ َر لَ ُك ُم ا ْلفُ ْلكَ ِلتَجْ ِر َ‬
‫ت ِر ْزقا ً لَ ُك ْم َو َ‬‫ج ِب ِه ِم َن الث ه َمرا ِ‬ ‫ماء ما ًء فَأ َ ْخ َر َ‬ ‫س ِ‬ ‫ال ه‬
‫هار) ‪( 32‬‬ ‫س هخ َر لَ ُك ُم ْاأل َ ْن َ‬ ‫َو َ‬

‫ص ‪439‬‬

‫ص ‪439 :‬‬
‫ماء ما ًء فَأ َ ْخ َر َج بِ ِه ِمنَ الث َّ َمرا ِ‬
‫ت ِر ْزقا ً لَ ُك ْم »باطن المعتقد كون ه‬
‫ّللا هو‬ ‫س ِ‬ ‫" َوأ َ ْنزَ َل ِمنَ ال َّ‬
‫لفاعل لألشياء ‪ ،‬ال أثر لمخلوق وال لسبب ظاهر وال باطن فيها ‪ ،‬فإن األسباب جعلها‬
‫ّللا ابتالء ليتميز من يقف عندها ممن ال يرى وقوع الفعل إال بها ممن ال يرى ذلك‬ ‫ه‬
‫ويرى الفعل هّلل من ورائها ‪ ،‬عندها ‪ ،‬ال بها ‪.‬‬

‫[ سورة إبراهيم ( ‪ : ) 14‬اآليات ‪ 33‬إلى ‪] 34‬‬


‫هار ( ‪َ ) 33‬وآتا ُك ْم ِم ْن ُك ِ ّل ما‬ ‫س َوا ْلقَ َم َر دائِبَ ْي ِن َو َ‬
‫س هخ َر لَ ُك ُم الله ْي َل َوالنه َ‬ ‫س هخ َر لَ ُك ُم الش ْهم َ‬ ‫َو َ‬
‫ار ( ‪) 34‬‬ ‫سان لَ َظلُو ٌم َكفه ٌ‬
‫اْل ْن َ‬‫صوها ِإ هن ْ ِ‬ ‫سأ َ ْلت ُ ُموهُ َو ِإ ْن تَعُدُّوا نِ ْع َمتَ ه ِ‬
‫َّللا ال تُحْ ُ‬ ‫َ‬

‫[ وآتاكم من كل ما سألتموه ]‬
‫سأ َ ْلت ُ ُموهُ »‪ -‬إشارة ‪ -‬أوحى ه‬
‫ّللا إلى بعض أنبيائه ‪ :‬يا ابن آدم خلقت‬ ‫« َوآتا ُك ْم ِم ْن ُك ِهل ما َ‬
‫األشياء من أجلك وخلقتك من أجلي ‪ ،‬فال تهتك ما خلقت من أجلي فيما خلقت من أجلك‬
‫‪ ،‬يا ابن آدم إني وحقي لك محب ‪ ،‬فبحقي عليك كن لي محبا ‪ ،‬كيف ال يحب الصانع‬
‫صنعته ؟ ! ونحن مصنوعاته بال شك ‪ ،‬فإنه خالقنا وخالق أرزاقنا ومصالحنا ‪،‬‬
‫والصنعة مظهرة علم الصانع لها بالذات واقتداره وجماله وعظمته وكبريائه ‪ ،‬فإن لم‬
‫يكن فعلى من وفيمن وبمن ‪ ،‬فال بد منا وال بد من حبه فينا ‪ ،‬فهو بنا ونحن به ‪ ،‬كما‬
‫ّللا عليه وسلم في ثنائه على ربه ‪ [ :‬فإنما نحن به وله ] فلم يزل يحب ‪ ،‬فلم‬ ‫قال صلهى ه‬
‫يزل ودودا ‪ ،‬فهو يوجد دائما في حقنا ‪ ،‬فهو كل يوم في شأن ‪ ،‬وال معنى للوداد إال هذا‬
‫‪ ،‬فنحن بلسان الحال والمقال ال نزال نقول له ‪ :‬افعل كذا ‪ ،‬افعل كذا ‪ ،‬وال يزال هو‬
‫تعالى يفعل ‪ ،‬ومن فعله فينا نقول له ‪ :‬افعل ‪ ،‬أترى هذا فعل مكره وال مكره له ؟‬
‫ّللا عن ذلك علوا كبيرا ‪ ،‬بل هذا حكم االسم الودود منه‪.‬‬ ‫تعالى ه‬

‫ص ‪440‬‬

‫ص ‪440 :‬‬
‫ّللا صوت سائله *** بالذي قد أراده منا‬ ‫سمع ه‬
‫فلهذا نكونه أبدا *** ولهذا عنا فما زلنا‬
‫فأعطانا الحق تعالى الوجود أوال ‪ ،‬وهو الخير الخالص ‪ ،‬وهو صفته تعالى ‪ ،‬ولو كان‬
‫عنده أكمل من ذلك ما بخل به علينا ‪ ،‬ثم لم يزل يعطي ما يستحقه الموجود مما به‬
‫ّللا ال تحصى من‬ ‫ّللا ال ت ُ ْح ُ‬
‫صوها »نعم ه‬ ‫ت َّ ِ‬‫قوامه وصالحه ‪ ،‬فقال ‪َ «:‬و ِإ ْن تَعُدُّوا ِن ْع َم َ‬
‫حيث أسبابها الموجبة لها ‪ ،‬أي للذة والتنعم ‪ ،‬فاألسباب ال تحصى كثرة ‪ ،‬واللذة واحدة‬
‫‪ ،‬وهي النعمة المحققة ‪ ،‬فسمى الشيء باسم الشيء إذا كان مجاورا له أو كان منه‬
‫ار »للبقاء على المخالفة مع إرداف النعم ‪ ،‬فالصبر على‬ ‫ظلُو ٌم َكفَّ ٌ‬ ‫بسبب« ِإ َّن ْ ِ‬
‫اإل ْنسانَ لَ َ‬
‫إرداف النعم لما في طيها من المكر اإللهي أعظم من الصبر على الرزايا ‪ ،‬فإن النعم‬
‫ّللا ‪.‬‬
‫ّللا إال من وفقه ه‬ ‫أعظم حجاب عن ه‬

‫[ سورة إبراهيم ‪( 14 ) :‬اآليات ‪ 35‬إلى ‪] 43‬‬


‫ي أ َ ْن نَ ْعبُ َد ْاألَصْنا َم ( ‪َ ) 35‬ر ّ ِ‬
‫ب‬ ‫آمنا ً َواجْ نُ ْبنِي َوبَنِ ه‬ ‫ب اجْ عَ ْل َهذَا ا ْلبَلَ َد ِ‬ ‫َوإِ ْذ قا َل إِ ْبرا ِهي ُم َر ّ ِ‬
‫ور َر ِحي ٌم (‬ ‫غف ُ ٌ‬ ‫اس فَ َم ْن ت َ ِبعَنِي فَ ِإنههُ ِم ِنّي َو َم ْن عَصانِي فَ ِإنهكَ َ‬ ‫ضلَ ْل َن َكثِيرا ً ِم َن النه ِ‬ ‫ِإنه ُه هن أ َ ْ‬
‫غ ْي ِر ذِي َز ْرعٍ ِع ْن َد بَ ْيتِكَ ا ْل ُم َح هر ِم َربهنا ِليُ ِقي ُموا‬ ‫س َك ْنتُ ِم ْن ذُ ِ ّريهتِي ِبوا ٍد َ‬ ‫‪َ ) 36‬ربهنا ِإ ِنّي أ َ ْ‬
‫ون (‬ ‫شك ُُر َ‬ ‫ت لَعَله ُه ْم يَ ْ‬ ‫ار ُز ْق ُه ْم ِم َن الث ه َمرا ِ‬‫اس ت َ ْه ِوي ِإلَ ْي ِه ْم َو ْ‬ ‫صالةَ فَاجْ عَ ْل أ َ ْف ِئ َدةً ِم َن النه ِ‬ ‫ال ه‬
‫ض َوال‬ ‫ش ْي ٍء فِي ْاأل َ ْر ِ‬ ‫َّللا ِم ْن َ‬‫علَى ه ِ‬ ‫‪َ ) 37‬ربهنا إِنهكَ ت َ ْعلَ ُم ما نُ ْخ ِفي َوما نُ ْع ِل ُن َوما يَ ْخفى َ‬
‫ق إِ هن َر ِبّي‬ ‫سحا َ‬ ‫سما ِعي َل َوإِ ْ‬ ‫علَى ا ْل ِكبَ ِر إِ ْ‬ ‫ب ِلي َ‬ ‫ّلِل الهذِي َو َه َ‬ ‫ماء ) ‪ ( 38‬ا ْل َح ْم ُد ِ ه ِ‬ ‫س ِ‬ ‫فِي ال ه‬
‫ُّعاء ) ‪( 39‬‬ ‫س ِمي ُع الد ِ‬ ‫لَ َ‬
‫ُعاء ( ‪َ ) 40‬ربهنَا ا ْغ ِف ْر ِلي َو ِلوا ِلد ه‬
‫َي‬ ‫صال ِة َو ِم ْن ذُ ِ ّريهتِي َربهنا َوتَقَبه ْل د ِ‬ ‫ب اجْ عَ ْلنِي ُم ِقي َم ال ه‬ ‫َر ّ ِ‬
‫ون ِإنهما‬ ‫ظا ِل ُم َ‬ ‫ع هما يَ ْع َم ُل ال ه‬
‫َّللا غافِالً َ‬ ‫سبَ هن ه َ‬ ‫ساب ( ‪َ ) 41‬وال تَحْ َ‬ ‫ين يَ ْو َم يَقُو ُم ا ْل ِح ُ‬ ‫َو ِل ْل ُم ْؤ ِمنِ َ‬
‫س ِه ْم ال يَ ْرت َ ُّد ِإلَ ْي ِه ْم‬‫ين ُم ْق ِن ِعي ُر ُؤ ِ‬ ‫صار ( ‪ُ ) 42‬مه ِْط ِع َ‬ ‫ص ِفي ِه ْاأل َ ْب ُ‬ ‫ش َخ ُ‬ ‫يُ َؤ ِ ّخ ُر ُه ْم ِليَ ْو ٍم ت َ ْ‬
‫َط ْرفُ ُه ْم َوأ َ ْفئِ َدت ُ ُه ْم َهوا ٌء) ‪( 43‬‬

‫ص ‪441‬‬

‫ص ‪441 :‬‬
‫ّللا‬
‫ّللا تعالى الظالمين يوم القيامة بكونهم مقنعي رؤوسهم ‪ ،‬أي رافعين إلى ه‬ ‫وصف ه‬
‫يسألونه المغفرة عن جرائمهم ‪ ،‬فإن اإلقناع ارتفاع‬
‫ط ْرفُ ُه ْم » بهتا لتعظيم ما يروا « َوأ َ ْفئِ َدت ُ ُه ْم هَوا ٌء »‪.‬‬
‫« ال يَ ْرت َ ُّد ِإلَ ْي ِه ْم َ‬

‫[ سورة إبراهيم ( ‪ : ) 14‬اآليات ‪ 44‬إلى ‪] 47‬‬


‫ب نُ ِج ْب‬ ‫ِين َظلَ ُموا َربهنا أ َ ِ ّخ ْرنا إِلى أ َ َج ٍل قَ ِري ٍ‬ ‫ذاب فَيَقُو ُل الهذ َ‬ ‫يه ُم ا ْلعَ ُ‬ ‫اس يَ ْو َم يَأْتِ ِ‬ ‫َوأ َ ْنذ ِِر النه َ‬
‫س ْمت ُ ْم ِم ْن قَ ْب ُل ما لَ ُك ْم ِم ْن َزوا ٍل ( ‪َ ) 44‬و َ‬
‫س َك ْنت ُ ْم‬ ‫س َل أ َ َولَ ْم تَكُونُوا أ َ ْق َ‬ ‫َدع َْوت َكَ َونَتهبِ ِع ُّ‬
‫الر ُ‬
‫ض َر ْبنا لَ ُك ُم ْاأل َ ْمثا َل ( ‪45‬‬ ‫ف فَعَ ْلنا ِب ِه ْم َو َ‬ ‫س ُه ْم َوتَبَيه َن لَ ُك ْم َك ْي َ‬ ‫ِين َظلَ ُموا أ َ ْنفُ َ‬ ‫فِي َمسا ِك ِن الهذ َ‬
‫كان َم ْك ُر ُه ْم ِلت َ ُزو َل ِم ْنهُ ا ْل ِجبا ُل ( ‪ ) 46‬فَال‬ ‫َّللا َم ْك ُر ُه ْم َو ِإ ْن َ‬ ‫) َوقَ ْد َمك َُروا َم ْك َر ُه ْم َو ِع ْن َد ه ِ‬
‫قام ) ‪( 47‬‬ ‫يز ذُو ان ِت ٍ‬ ‫سلَهُ ِإ هن ه َ‬
‫َّللا ع َِز ٌ‬ ‫ف َو ْع ِد ِه ُر ُ‬ ‫َّللا ُم ْخ ِل َ‬ ‫تَحْ َ‬
‫سبَ هن ه َ‬
‫يستدل بهذه اآلية على عموم الرحمة ‪ ،‬فإن الخبر الصدق إذا لم يكن حكما ال يدخله‬
‫النسخ ‪ ،‬وقد ورد بطريق الخبر الوعد والوعيد ‪،‬‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ ،‬فخاطبهم بحسب‬ ‫ولما كانت الشريعة نزلت بلسان قوم الرسول صلهى ه‬
‫ما تواطئوا عليه فم هما تواطئوا عليه في حق المنعوت بالكرم والكمال إنفاذ الوعد وإزالة‬
‫حكم الوعيد ‪،‬‬
‫والوعد يكون في الخير والشر معا ‪ ،‬واإليعاد في الشر خاصة ‪ ،‬وما ورد في الشرع‬
‫نص في نفاذ اإليعاد وورد في الوعد ‪،‬‬
‫وّللا أكرم من أن ينسب إليه إنفاذ الوعيد ‪ ،‬بل ينسب إليه المشيئة وترجيح الكرم ‪،‬‬ ‫ه‬
‫وصف بعض األعراب مع كونه من أهل األغراض نفسه على طريق التمدح ‪:‬‬
‫وإني إذا أوعدته أو وعدته *** لمخلف إيعادي ومنجز موعدي‬

‫ص ‪442‬‬

‫ص ‪442 :‬‬
‫ّللا من أن يمدح ‪ ،‬والمدح بالتجاوز عن‬ ‫وقد ورد في الصحيح ليس شيء أحب إلى ه‬
‫فاّلل أولى به تعالى ‪ ،‬والصدق في الوعد مما يتمدح به ‪ ،‬فقال‬ ‫المسئ غاية المدح ‪ ،‬ه‬
‫سلَهُ »فذكر الوعد ‪ ،‬فالثناء بصدق الوعد ال‬ ‫ف َو ْع ِد ِه ُر ُ‬ ‫ّللا ُم ْخ ِل َ‬ ‫تعالى« فَال ت َ ْح َ‬
‫سبَ َّن َّ َ‬
‫بصدق الوعيد ‪ ،‬والحضرة اإللهية تطلب الثناء المحمود بالذات ‪ ،‬فيثنى عليها بصدق‬
‫الوعد ال بصدق الوعيد ‪ ،‬بل بالتجاوز ‪،‬‬
‫س ِيهئاتِ ِه ْم )مع أنه توعد على ذلك ‪،‬‬ ‫ع ْن َ‬ ‫جاو ُز َ‬ ‫قال تعالى ‪َ (:‬ونَت َ َ‬
‫قام »وقال في الوعيد‬‫يز ذُو انتِ ٍ‬
‫ع ِز ٌ‬ ‫وأخبر عن اإليعاد في تمام اآلية بقوله ‪ِ «:‬إ َّن َّ َ‬
‫ّللا َ‬
‫حق المحسن ‪ ،‬لكن في ه‬
‫حق‬ ‫بالمشيئة وفي الوعد بنفوذه وال ب هد ‪ ،‬ولم يعلهقه بالمشيئة في ه‬
‫وّللا عند ظن عبده به ‪ ،‬فليظن به خيرا ‪،‬‬ ‫المسئ علهق المشيئة بالمغفرة والعذاب ‪ ،‬ه‬
‫والظن هنا ينبغي أن يخرج مخرج العلم‬
‫قام »لما كان االنتقام من رحمة المنتقم بنفسه في الخلق ‪،‬‬ ‫يز ذُو ان ِت ٍ‬ ‫ع ِز ٌ‬ ‫« ِإ َّن َّ َ‬
‫ّللا َ‬
‫يز »عن مثل هذا« ذُو انتِ ٍ‬
‫قام »‪.‬‬ ‫ع ِز ٌ‬ ‫ّللا َ‬ ‫ّللا تعالى ‪ «:‬إِ َّن َّ َ‬ ‫قال ه‬

‫[ سورة إبراهيم ( ‪ : ) 14‬آية ‪]48‬‬


‫واح ِد ا ْلقَ هه ِار ) ‪( 48‬‬
‫ّلِل ا ْل ِ‬
‫سماواتُ َوبَ َر ُزوا ِ ه ِ‬ ‫غ ْي َر ْاأل َ ْر ِ‬
‫ض َوال ه‬ ‫ض َ‬‫يَ ْو َم تُبَ هد ُل ْاأل َ ْر ُ‬
‫‪-‬الوجه األول ‪ -‬كما كان في أول الخلق أن األرض خلقت قبل السماء في ترتيب‬
‫وجود خلق العالم ‪ ،‬كذلك لما وقع التبديل ابتدأ باألرض قبل السماوات ‪ ،‬فوقف الخلق‬
‫على الجسر دون الظلمة ‪ ،‬وبدل األرض غير األرض ‪ ،‬ال في الصفة ‪ ،‬فلو كان في‬
‫الصفة ما ذكر العين ‪ ،‬فبدل األرض والسماء في العين‬
‫‪ -‬الوجه الثاني ‪ -‬تبدل األرض كيف شاء سبحانه إما بالصورة وإما بأرض أخرى ما‬
‫نيم عليها تسمى بالساهرة ‪ -‬الوجه الثالث ‪ -‬إذا بدلت السماء واألرض فإنما يقع التبديل‬
‫ض »التبديل‬ ‫غي َْر ْاأل َ ْر ِ‬ ‫في الصور ال في األعيان ‪ ،‬فقوله تعالى ‪ «:‬يَ ْو َم تُبَ َّد ُل ْاأل َ ْر ُ‬
‫ض َ‬
‫في الصفة ال في العين ‪ ،‬فتكون أرض صالح ال أرض فساد ‪ ،‬وتمد مد األديم فال ترى‬
‫سماواتُ »هنا هي السماوات المعروفة ‪ ،‬وهي السبع‬ ‫فيها عوجا وال أمتا« َوال َّ‬
‫السماوات خاصة ‪ ،‬ال السماء ذات البروج ‪ ،‬وال فلك المنازل الذي هو سقف النار ‪،‬‬
‫فإن ما دون فلك المنازل يخرب نظامه وتبدل صورته ويزول ضوء كوكبه« َوبَ َر ُزوا‬
‫واح ِد ْالقَ َّه ِ‬
‫ار‪».‬‬ ‫ّلل ْال ِ‬ ‫ِ َّ ِ‬

‫[ سورة إبراهيم ( ‪ : ) 14‬آية ‪] 49‬‬


‫ين فِي ْاألَصْفا ِد) ‪( 49‬‬ ‫َوت َ َرى ا ْل ُمجْ ِر ِم َ‬
‫ين يَ ْو َمئِ ٍذ ُمقَ هرنِ َ‬

‫ص ‪443‬‬

‫ص ‪443 :‬‬
‫ّللا تعالى مكانا ضيقا لما في الغضب من الضيق ‪ ،‬فكان المشرك‬
‫أورثهم ذلك غضب ه‬
‫مع أمثاله من المشركين ‪ ،‬كونهم مقرنين في األصفاد ‪.‬‬

‫[ سورة إبراهيم ‪ ( 14 ) :‬اآليات ‪ 50‬إلى ‪] 52‬‬


‫سبَتْ ِإ هن‬ ‫َّللاُ ُك هل نَ ْف ٍس ما َك َ‬ ‫ي ه‬ ‫ار ) ‪ِ ( 50‬ليَجْ ِز َ‬ ‫ران َوت َ ْغشى ُو ُجو َه ُه ُم النه ُ‬ ‫سرا ِبيلُ ُه ْم ِم ْن قَ ِط ٍ‬ ‫َ‬
‫اس َو ِليُ ْنذَ ُروا بِ ِه َو ِليَ ْعلَ ُموا أَنهما ُه َو إِلهٌ ِ‬
‫واح ٌد‬ ‫غ ِللنه ِ‬ ‫ب ( ‪ ) 51‬هذا بَال ٌ‬ ‫س ِري ُع ا ْل ِحسا ِ‬ ‫َّللا َ‬
‫هَ‬
‫ب) ‪( 52‬‬ ‫َو ِليَذهك َهر أُولُوا ْاأل َ ْلبا ِ‬
‫اس ] »‬ ‫غ ِللنَّ ِ‬ ‫[ « هذا بَال ٌ‬
‫اس »فهو بالغ لإلنسان من كونه من الناس« َو ِليُ ْنذَ ُروا‬ ‫غ ِللنَّ ِ‬‫‪-‬الوجه األول ‪ «-‬هذا بَال ٌ‬
‫واح ٌد »‬‫ِب ِه »من كونه على قدم غرور وخطر فيحذروا « َو ِليَ ْعلَ ُموا أَنَّما ُه َو ِإلهٌ ِ‬
‫ب»‬ ‫أي بفعل ما يريد ما ث هم آخر يرده عن إرادته فيك ويصده« َو ِليَذَّ َّك َر أُولُوا ْاأل َ ْلبا ِ‬
‫بما أشهدهم على نفسه أنه ربه ‪ ،‬ليقوم بما يجب على المملوك في حق سيده الذي أقر‬
‫له بالملك ‪ ،‬فإن التذكر ال يكون إال عن علم متقدم منسي ‪ ،‬فيذكره من يعلم ذلك ‪،‬‬
‫فالقرآن بالغ من وجه وإنذار من وجه وإعالم من وجه وتذكرة لما نسيه من وجه ‪،‬‬
‫والمخاطب بهذا كله واحد العين وهو اإلنسان‬
‫ّللا قد رفع بعضهم فوق بعض‬ ‫ّللا بين طبقات العالم ليعلموا أن ه‬ ‫‪ -‬الوجه الثاني ‪ -‬ميز ه‬
‫اس »يريد طائفة مخصوصة ال يعقلون منه سوى أنه‬ ‫غ ِللنَّ ِ‬‫درجات فقال ‪ «:‬هذا بَال ٌ‬
‫ّللا ال يعرفون غير ذلك« َو ِليُ ْنذَ ُروا بِ ِه‬ ‫بالغ ‪ ،‬يسمعون حروفه إيمانا بها أنها من عند ه‬
‫واح ٌد »في حق‬ ‫»في حق طائفة أخرى عينها بهذا الخطاب« َو ِليَ ْعلَ ُموا أَنَّما ُه َو ِإلهٌ ِ‬
‫طائفة أخرى عينها بهذا الخطاب ‪ ،‬وأراد بالعلم هنا اإليمان ‪ ،‬وهو الذي يعول عليه في‬
‫ّللا به أمر ‪،‬‬ ‫السعادة ‪ ،‬فإن ه‬
‫ّللاُ )وقال تعالى ‪«:‬‬ ‫ّللا فقال ‪ (:‬فَا ْعلَ ْم أَنَّهُ ال ِإلهَ ِإ َّال َّ‬ ‫وسميناه علما لكون المخبر هو ه‬
‫ب » في حق طائفة أخرى وهم‬ ‫واح ٌد « » َو ِليَذَّ َّك َر أُولُوا ْاأل َ ْلبا ِ‬ ‫َو ِليَ ْعلَ ُموا أَنَّما ُه َو إِلهٌ ِ‬
‫باّلل وباألمر على ما هو عليه ‪ ،‬فيتذكر أرباب العقول ما كانوا قد علموه قبل ‪،‬‬ ‫العلماء ه‬
‫أي ما جاءوا بما تحيله األدلة الغامض إدراكها ‪،‬‬
‫فإنها لب الدالالت ‪ ،‬والقرآن واحد في نفسه ‪ ،‬تكون اآلية منه تذكرة لذي اللب ‪،‬‬
‫وتوحيدا لطالب العلم بتوحيده ‪ ،‬وإنذارا للمترقب الحذر ‪ ،‬وبالغا للسامع ليحصل له‬
‫أجر السماع ‪ ،‬كاألعجمي الذي ال يفهم اللسان ‪ ،‬فيسمع‬

‫ص ‪444‬‬

‫ص ‪444 :‬‬
‫ّللا ‪ ،‬وال يعرف معنى ذلك اللفظ حتى يشرح له‬
‫ّللا من حيث نسبته إلى ه‬
‫فيعظم كالم ه‬
‫بلسانه ويترجم له عنه ‪.‬‬

‫( ‪ ) 15‬سورة الحجر مكيّة‬


‫الرحيم‬‫الرحمن ّ‬ ‫َّللا ّ‬‫بسم ّ‬
‫[ سورة الحجر ( ‪ : ) 15‬اآليات ‪ 1‬إلى ‪] 3‬‬
‫يم‬
‫الر ِح ِ‬
‫من ه‬ ‫الرحْ ِ‬
‫َّللا ه‬ ‫س ِم ه ِ‬ ‫بِ ْ‬
‫ِين َكفَ ُروا لَ ْو كانُوا ُم ْ‬
‫س ِل ِم َ‬
‫ين ( ‪2‬‬ ‫ين ( ‪ُ ) 1‬ربَما يَ َو ُّد الهذ َ‬ ‫آن ُم ِب ٍ‬ ‫ب َوقُ ْر ٍ‬
‫الر تِ ْلكَ آياتُ ا ْل ِكتا ِ‬
‫ون) ‪( 3‬‬ ‫ف يَ ْعلَ ُم َ‬ ‫س ْو َ‬‫) ذَ ْر ُه ْم يَأ ْ ُكلُوا َويَت َ َمتهعُوا َويُ ْل ِه ِه ُم ْاأل َ َم ُل فَ َ‬
‫[ « َويُ ْل ِه ِه ُم ْاأل َ َم ُل » اآلية ]‬
‫من مال إلى اآلمال اخترمته اآلجال ‪ ،‬هّلل رجال أعطاهم التعريف طرح التسويف فأزال‬
‫عنهم الحذر والخوف السين والسوف ‪ ،‬تعبدهم الحال في زمان الحال ‪ ،‬ليس بالمؤاتي‬
‫من اشتغل بالماضي واآلتي ‪ ،‬إذا علم صاحب األمل أن كل شيء يجري إلى أجل‬
‫اجتهد في العمل ‪ ،‬فإذا انقضى العدد ‪ ،‬وانتهت المدد وطال األمد ‪ ،‬وجاء الرحيل ‪،‬‬
‫ووقف الداعي على رأس السبيل ‪ ،‬لم يحز قصب السبق ‪ ،‬إال المضمر المهزول في‬
‫الحق ‪.‬‬

‫[ سورة الحجر ( ‪ : ) 15‬اآليات ‪ 4‬إلى ‪] 6‬‬


‫ق ِم ْن أ ُ هم ٍة أ َ َجلَها َوما‬ ‫تاب َم ْعلُو ٌم ( ‪ ) 4‬ما ت َ ْ‬
‫س ِب ُ‬ ‫َوما أ َ ْهلَ ْكنا ِم ْن قَ ْريَ ٍة إِاله َولَها ِك ٌ‬
‫ون) ‪( 6‬‬ ‫ون ( ‪َ ) 5‬وقالُوا يا أَيُّ َها الهذِي نُ ِ ّز َل َ‬
‫علَ ْي ِه ال ِذّ ْك ُر ِإنهكَ لَ َمجْ نُ ٌ‬ ‫ستَأ ْ ِخ ُر َ‬ ‫يَ ْ‬
‫ّللا عليه وسلم لعلو منزلته ]‬ ‫ّللا تعالى في الدنيا ما يجب من تعظيم محمد صلهى ه‬ ‫[أخفى ه‬
‫ّللا عليه وسلم لعلو منزلته ‪،‬‬ ‫ّللا تعالى في الدنيا ما يجب من تعظيم محمد صلهى ه‬ ‫أخفى ه‬
‫كما أخفى ما يستحقه جل جالله من تعظيم عباده إياه وأطلق األلسنة عليه بأن له‬
‫صاحبة وولدا وما وقع به التعريف مما ال يليق به ‪ ،‬كذلك قيل فيه صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم‬
‫إنه ساحر مجنون كذاب وغير ذلك ‪ ،‬فإذا كان يوم القيامة ‪ ،‬وظهر الحق سبحانه في‬
‫عزته وكبريائه ‪ ،‬فذل كل موجود تحت عزته على الكشف ‪ ،‬وذهبت الدعاوى وتبرأ‬
‫الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ‪ ،‬ظهر أيضا في ذلك اليوم مقام محمد‬

‫ص ‪445‬‬

‫ص ‪445 :‬‬
‫صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم وسيادته على الناس ‪ ،‬وافتقار الخلق إليه من سائر األمم في فتح‬
‫باب الشفاعة ‪ ،‬وبان فضله على سائر األنبياء والرسل ‪ ،‬فعلم هنالك عظم منزلته عند‬
‫ربه ‪ ،‬كما تظهر عزة كل مقرب عند سلطان عند ظهور سلطانه ودولته ‪.‬‬

‫[ سورة الحجر ( ‪ : ) 15‬اآليات ‪ 7‬إلى ‪] 9‬‬


‫ق َوما‬‫ين ) ‪ ( 7‬ما نُنَ ِ ّز ُل ا ْل َمالئِكَةَ إِاله بِا ْل َح ّ ِ‬ ‫لَ ْو ما تَأْتِينا بِا ْل َمالئِ َك ِة إِ ْن ُك ْنتَ ِم َن ال ه‬
‫صا ِدقِ َ‬
‫ون ( ‪) 9‬‬ ‫ظ َ‬ ‫ين ( ‪ ) 8‬إِنها نَحْ ُن نَ هز ْلنَا ال ِذّ ْك َر َوإِنها لَهُ لَحافِ ُ‬ ‫كانُوا إِذا ً ُم ْن َظ ِر َ‬
‫[ ( ِإنَّا ن َْح ُن ن ََّز ْلنَا ) نون العظمة في الواحد ]‬
‫( ِإنَّا ن َْح ُن ن ََّز ْلنَا )نون العظمة في الواحد قول من ال علم له بالحقائق وال بلسان العرب‬
‫وّللا كثير باألحكام ‪ ،‬فإن له األسماء الحسنى ‪ ،‬وكل اسم عالمة على حقيقة معقولة‬ ‫‪ ،‬ه‬
‫ليست هي األخرى ‪ ،‬فمعقول نحن ما هو معقول إني ‪ ،‬فالجمع على حقيقته من حيث‬
‫األسماء اإللهية ‪،‬‬
‫فالنون على بابها في الجمع ‪ ،‬وغاية من قدر على معناها وقرب أن قال إذا قال بقوله‬
‫جماعة لمكانته وشرفه وال يرد له قول ‪ ،‬فبذلك االعتبار يكنى بالنون عن الواحد ‪،‬‬
‫وليس كذلك ولكنه أقرب الوجوه ‪،‬‬
‫بل الوجه الصحيح أن الكناية هنا عن األسماء التي عنها تقع اآلثار على اختالفها ‪،‬‬
‫وإن جمعتها ذات واحدة ‪ ،‬فهو العالم من حيث كذا ‪ ،‬والقادر من حيث كذا ‪ ،‬والمريد‬
‫من حيث كذا ‪ ،‬والرازق من حيث كذا ‪ ،‬فكثرت الوجوه والنسب فطلبت النون‬
‫ظونَ ) من التغيير والتبديل‬ ‫( ال ِذه ْك َر )يريد القرآن ‪ ،‬فالذكر هو القرآن( َو ِإنَّا لَهُ لَحافِ ُ‬
‫والتحريف ‪ ،‬فهو محفوظ أن يزاد فيه أو ينقص منه بطريق التغيير لكونه معجزة ‪ ،‬ولم‬
‫يكن ذلك لغيره من الكتب ‪ ،‬ألن سائر الكتب لم تنزل على طريق اإلعجاز ‪ ،‬فلذلك‬
‫حرف فيها من حرف وبدل من بدل ‪ ،‬ولما كان الحق في هذه األمة سمع العبد وبصره‬
‫ّللا فينا حفظ ذكره ‪ ،‬واستحفظ كتابه غير هذه األمة فحرفوه ‪.‬‬ ‫ولسانه ويده تولى ه‬

‫[ سورة الحجر ( ‪ : ) 15‬اآليات ‪ 10‬إلى ‪] 21‬‬


‫سو ٍل ِإاله كانُوا ِب ِه‬ ‫يه ْم ِم ْن َر ُ‬‫ين ( ‪َ ) 10‬وما يَأْتِ ِ‬ ‫شيَ ِع ْاأل َ هو ِل َ‬ ‫س ْلنا ِم ْن قَ ْب ِلكَ فِي ِ‬ ‫َولَقَ ْد أ َ ْر َ‬
‫ون ِب ِه َوقَ ْد َخلَتْ‬ ‫ين ( ‪ ) 12‬ال يُ ْؤ ِمنُ َ‬ ‫ب ا ْل ُمجْ ِر ِم َ‬‫سلُ ُكهُ فِي قُلُو ِ‬ ‫ُن ) ‪ ( 11‬كَذ ِلكَ نَ ْ‬ ‫ستَه ِْزؤ َ‬ ‫يَ ْ‬
‫ون ) ‪( 14‬‬ ‫ماء فَ َظلُّوا ِفي ِه يَ ْع ُر ُج َ‬
‫س ِ‬ ‫ين ( ‪َ ) 13‬ولَ ْو فَتَحْ نا َ‬
‫علَ ْي ِه ْم بابا ً ِم َن ال ه‬ ‫سنهةُ ْاأل َ هو ِل َ‬ ‫ُ‬
‫ماء‬
‫س ِ‬ ‫ون ) ‪َ ( 15‬ولَقَ ْد َجعَ ْلنا فِي ال ه‬ ‫ور َ‬‫س ُح ُ‬ ‫صارنا بَ ْل نَحْ ُن قَ ْو ٌم َم ْ‬ ‫س ِ ّك َرتْ أ َ ْب ُ‬ ‫لَقالُوا إِنهما ُ‬
‫يم ) ‪ ( 17‬إِاله َم ِن‬ ‫طان َر ِج ٍ‬
‫ش ْي ٍ‬ ‫ين ( ‪َ ) 16‬و َح ِف ْظناها ِم ْن ُك ِ ّل َ‬ ‫اظ ِر َ‬‫بُ ُروجا ً َو َزيهنهاها ِللنه ِ‬
‫ي‬
‫س َ‬ ‫ض َم َددْناها َوأ َ ْلقَ ْينا فِيها َروا ِ‬ ‫ين ) ‪َ ( 18‬و ْاأل َ ْر َ‬ ‫هاب ُم ِب ٌ‬ ‫ش ٌ‬ ‫س ْم َع فَأَتْبَعَهُ ِ‬ ‫ق ال ه‬ ‫ست َ َر َ‬‫ا ْ‬
‫ون ) ‪( 19‬‬ ‫ش ْي ٍء َم ْو ُز ٍ‬ ‫َوأ َ ْنبَتْنا فِيها ِم ْن ُك ِ ّل َ‬
‫ش ْي ٍء ِإاله ِع ْندَنا‬
‫ين ) ‪َ ( 20‬و ِإ ْن ِم ْن َ‬ ‫راز ِق َ‬‫ست ُ ْم لَهُ ِب ِ‬ ‫ش َو َم ْن لَ ْ‬ ‫َو َجعَ ْلنا لَ ُك ْم ِفيها َمعا ِي َ‬
‫وم) ‪( 21‬‬ ‫َخزا ِئنُهُ َوما نُنَ ِ ّزلُهُ ِإاله ِبقَد ٍَر َم ْعلُ ٍ‬
‫ص ‪446‬‬

‫ص ‪446 :‬‬
‫ش ْيءٍ ِإ َّال ِع ْن َدنا خَزائِنُهُ " اآلية ]‬
‫[ " َو ِإ ْن ِم ْن َ‬
‫إن هنا بمعنى ما ‪ ،‬فعم بها وبشيء ‪ ،‬وجعله مخزونا في خزائن غيبه ‪ ،‬ولهذا قلنا إن‬
‫الكون صادر من وجود ‪ ،‬وهو ما تحويه هذه الخزائن إلى وجود ‪ ،‬وهو ظهورها من‬
‫هذه الخزائن ألنفسها بالنور الذي تكشف به نفسها ‪ ،‬فإنها في ظلمة الخزائن محجوبة‬
‫عن رؤية ذاتها ‪ ،‬فهي في حال عدمها ‪ ،‬والحقيقة أنها عن الحق صدرنا من كوننا عنده‬
‫في الخزائن كما أعلمنا فعلمنا ‪ ،‬فهو صدور لم يتقدمه ورود كما هو في بعض األمور‬
‫فمن قال إن الصدور بعد الورود فما عنده علم بحقائق الوجود ‪ ،‬فلو ال نحن ثابتين في‬
‫العدم ما صح أن تحوي علينا خزائن الكرم ‪،‬‬
‫شيْئا ً َم ْذ ُكورا ً ) فذلك إذ لم يكن‬‫فلنا في العدم شيئية غير مرئية ‪ ،‬أما قوله ‪ (:‬لَ ْم يَ ُك ْن َ‬
‫مأمورا ‪ ،‬فقيده بالذكر في محكم الذكر( ِإ َّال ِع ْن َدنا خَزا ِئنُهُ )‬
‫ّللا على قسمين ‪ ،‬أعني ما هو عنده ‪ ،‬القسم الواحد ما هو عليه من األمر الذي‬ ‫عندية ه‬
‫يعقل زائدا على هويته ‪،‬‬
‫وإن لم نقل فيه إنه غير وال عينه أيضا ‪ ،‬كالصفات المنسوبة إليه ‪،‬‬
‫ّللا ‪ ،‬فما ثم‬
‫ال هي هو وال هي غيره ‪ ،‬وقد يكون عنده ما يحدث فينا ولنا ‪ ،‬والكل عند ه‬
‫معقول وال موجود يحدث عنده ‪ ،‬بل الكل مشهود العين له بعين ثبوت ووجود ‪،‬‬
‫فالثبوت خزائنه ‪،‬‬
‫والوجود ما يحدثه عندنا من تلك الخزائن ‪ ،‬والعندية أضيفت إلى الحق ‪،‬‬
‫فاختلفت إضافات العندية باختالف ما أضيفت إليه من اسم وضمير وكناية ‪ ،‬وهي‬
‫ظرف ثالث ليس بظرف زمان وال ظرف مكان مخلص ‪ ،‬بل ما هو ظرف مكانة جملة‬
‫واحدة على اإلطالق‬
‫‪ -‬الوجه األول ‪ -‬الخزائن‪:‬‬

‫ص ‪447‬‬

‫ص ‪447 :‬‬
‫ّللا جعل عنديته ظرفا لخزائن األشياء ‪ ،‬ومن هذه الخزائن تخرج األشياء إلى‬ ‫ثم إن ه‬
‫وجود أعيانها ‪ ،‬فهي في الخزائن محفوظة موجودة هّلل ‪ ،‬ثابتة ألعيانها غير موجودة‬
‫ألنفسها ‪ ،‬فاألشياء الموجودة بالنظر إلى أعيانها موجودة عن عدم ‪ ،‬وبالنظر إلى كونها‬
‫ّللا في هذه الخزائن هي موجودة عن وجود ‪ ،‬فأعيان العالم محفوظون في خزائنه‬ ‫عند ه‬
‫عنده ‪ ،‬وخزائنه علمه ‪ ،‬ومختزنه نحن ‪ ،‬فنحن أثبتنا له حكم االختزان ‪ ،‬ألنه ما علمنا‬
‫ّللا يخلق األشياء ويخرجها من العدم إلى الوجود ‪ ،‬وهذه اإلضافة‬ ‫إال منا ‪ ،‬ومعلوم أن ه‬
‫تقتضي بأنه يخرجه من الخزائن التي عنده ‪ ،‬فهو يخرجها من وجود لم تدركه إلى‬
‫وجود تدركه ‪ ،‬فما خلصت األشياء إلى العدم الصرف ‪ ،‬بل ظاهر األمر أن عدمها من‬
‫العدم اإلضافي ‪ ،‬فإن األشياء في حال عدمها مشهودة له يميزها بأعيانها ‪،‬‬
‫مفصلة بعضها عن بعض ‪ ،‬ما عنده فيها إجمال ‪ ،‬فخزائنها أعني خزائن األشياء التي‬
‫هي أوعيتها المخزونة فيها إنما هي إمكانات األشياء ليس غير ذلك ‪ ،‬ألن األشياء ال‬
‫وجود لها في أعيانها ‪ ،‬بل لها الثبوت ‪،‬‬
‫والذي استفادته من الحق الوجود العيني ‪ ،‬فتفصلت للناظرين وألنفسها بوجود أعيانها ‪،‬‬
‫ّللا تفصيال ثبوتيا ‪ ،‬ثم لما ظهرت في أعيانها وأنزلها الحق من‬ ‫ولم تزل مفصلة عند ه‬
‫فإن اإلمكان ما فارقها حكمه ‪ ،‬فلو ال ما هي في خزائنها ما‬ ‫عنده أنزلها في خزائنها ‪ ،‬ه‬
‫حكمت عليها الخزائن ‪ ،‬فما لها خروج من خزائن إمكانها ‪ ،‬والخزائن ال تكون خزائن‬
‫إال بما يختزن بها ‪،‬‬
‫ّللا مختزنة في حال ثبوتها ‪ ،‬فإذا أراد تكوينها لها أنزلها من تلك‬‫فاألشياء عند ه‬
‫الخزائن وأمرها أن تكون ‪ ،‬فتكتسي حلة الوجود فيظهر عينها لعينها ‪ ،‬ولم تزل ظاهرة‬
‫هّلل في علمه أو لعلمه بها ‪ ،‬فليست الخزائن إال المعلومات الثابتة ‪ ،‬فإنها عنده ثابتة‬
‫يعلمها ويراها ويرى ما فيها ‪ ،‬فيخرج منها ما شاء ‪ ،‬وهي مع كونها في خزائن ‪،‬‬
‫فيتخيل فيها الحصر والتناهي ‪ ،‬وإنما هي غير متناهية ‪،‬‬

‫‪ -‬الوجه الثاني ‪ -‬اعلم أن الخزائن التي عند الحق على نوعين ‪ ،‬نوع منها خزائن‬
‫الثبوت للممكنات ‪ ،‬والنوع الثاني منها خزائن وجودية لمختزنات موجودة ‪ ،‬كشيء‬
‫يكون عند زيد ‪ ،‬من جارية أو غالم أو فرس أو ثوب أو دار أو أي شيء كان ‪ ،‬فزيد‬
‫خزانته ‪،‬‬
‫ّللا ‪ ،‬فيفتقر عمرو‬
‫ّللا ‪ ،‬فإن األشياء كلها بيد ه‬
‫وذلك الشيء هو المختزن ‪ ،‬وهما عند ه‬
‫ّللا تعالى في ذلك الذي عند زيد أن يكون عنده ‪ ،‬كان ما كان ‪،‬‬
‫إلى ه‬
‫ّللا في قلب زيد أن يهب ذلك الشيء أو يبيعه أو يزهد فيه ويكرهه فيعطيه‬
‫فيلقي ه‬
‫عمروا ‪ ،‬فمثل هذا من خزائن الحق التي عنده ‪ ،‬والعالم على هذا كله خزائن بعضه‬
‫لبعض ‪ ،‬وهو عين‬

‫ص ‪448‬‬

‫ص ‪448 :‬‬
‫المختزن ‪ ،‬والعالم خزانة مخزون ‪ ،‬وانتقال مختزن من خزانة إلى خزانة فما أنزل منه‬
‫شيء إلى غير خزانة ‪ ،‬فكله مخزون عنده ‪ ،‬فهو خزانته على الحقيقة التي ال يخرج‬
‫شيء عنها ‪ ،‬وما عدا الحق فإن المختزن يخرج عنها إلى خزانة أخرى ‪ ،‬فاالفتقار‬
‫ّللا وعنده ‪ ،‬فهو الصمد الذي يلجأ إليه‬ ‫للخزائن من الخزائن إلى الخزائن ‪ ،‬والكل بيد ه‬
‫في األمور ويعول عليه ‪ ،‬ومن هنا يتعلق المتوكلون في حال توكلهم على ما توكلوا‬
‫ّللا ‪ ،‬ومنهم المتوكل على األسباب ‪ ،‬غير أن األسباب قد‬ ‫عليه ‪ ،‬فمنهم المتوكل على ه‬
‫تخون من اعتمد عليها ولجأ إليها في أوقات ‪ ،‬والحق تعالى ال يسلم من توكل عليه‬
‫وفوض أمره إليه ‪.‬‬
‫– الوجه الثالث ‪ -‬في هذه الخزائن ‪ :‬هي الخزائن الموجودة في الفلك األطلس فلك‬
‫البروج ‪ ،‬فإن لكل ملك من األمالك االثني عشر في كل برج ملكه إياه ثالثين خزانة ‪،‬‬
‫تحتوي كل خزانة منها على علوم شتى يهبون منها لمن ينزل بهم على قدر ما تعطيه‬
‫وم ) فله موازين ‪ ،‬فما يتميز عنده إال ما هو‬ ‫رتبة هذا النازل ( َوما نُن ِ هَزلُهُ إِ َّال بِقَ َد ٍر َم ْعلُ ٍ‬
‫موجود له ‪ ،‬وال يجري القدر إال في عين مميزة عن غيرها ‪ ،‬وليس هذا صفة المعدوم‬
‫من كل وجه ‪ ،‬فدل ذلك كله على وجود األعيان هّلل تعالى في حال اتصافها بالعدم لذاتها‬
‫‪ ،‬وهذا هو الوجود األصلي ال اإلضافي والعدم اإلضافي ‪،‬‬
‫وم ) على أن ترتيب اإليجاد يؤذن بالتوقيت‬ ‫كما يدل قوله تعالى( َوما نُن ِ هَزلُهُ ِإ َّال ِبقَ َد ٍر َم ْعلُ ٍ‬
‫على مقتضى الحكمة من اسمه الحكيم ‪ ،‬فينزل األرزاق بقدر معلوم في الدنيا ‪ ،‬فإذا‬
‫ّللا إلى العبد العارف‬ ‫كان في اآلخرة عاد الحكم فيما تحوي عليه هذه الخزائن التي عند ه‬
‫ّللا سعادته ‪ ،‬فيدخل فيها متحكما فيخرج منها ما يشاء بغير حساب ‪ ،‬وال‬ ‫الذي كمل ه‬
‫قدر معلوم ‪ ،‬بل بحكم ما يختاره في الوقت ‪ ،‬فإن المسعود في اآلخرة يعطى التكوين ‪،‬‬
‫ّللا ‪ ،‬فكل ما خطر له‬ ‫ّللا ‪ ،‬فإنه عند ه‬
‫ويكشف له عن نفسه أنه عين الخزانة التي عند ه‬
‫تكوينه كونه ‪ ،‬فال يزال في اآلخرة خالقا دائما ‪ ،‬فارتفع التقدير فهو يتبوأ من الجنة‬
‫حيث يشاء ‪.‬‬

‫[ سورة الحجر ( ‪ : ) 15‬اآليات ‪ 22‬إلى ‪] 26‬‬


‫ين (‬‫خازنِ َ‬‫سقَ ْينا ُك ُموهُ َوما أ َ ْنت ُ ْم لَهُ ِب ِ‬ ‫ماء ما ًء فَأ َ ْ‬
‫س ِ‬ ‫ح لَواقِ َح فَأ َ ْن َز ْلنا ِم َن ال ه‬ ‫الريا َ‬‫س ْلنَا ِ ّ‬ ‫َوأ َ ْر َ‬
‫ين ِم ْن ُك ْم‬‫ست َ ْقد ِِم َ‬
‫ع ِل ْمنَا ا ْل ُم ْ‬
‫ون ( ‪َ ) 23‬ولَقَ ْد َ‬ ‫وارث ُ َ‬
‫‪َ ) 22‬و ِإنها لَنَحْ ُن نُحْ ِيي َونُ ِميتُ َونَحْ ُن ا ْل ِ‬
‫ع ِلي ٌم ( ‪َ ) 25‬ولَقَ ْد‬ ‫ين ( ‪َ ) 24‬و ِإ هن َربهكَ ُه َو يَحْ ش ُُر ُه ْم ِإنههُ َح ِكي ٌم َ‬ ‫ستَأ ْ ِخ ِر َ‬
‫ع ِل ْمنَا ا ْل ُم ْ‬
‫َولَقَ ْد َ‬
‫ون) ‪( 26‬‬ ‫ص ْلصا ٍل ِم ْن َح َم ٍإ َم ْ‬
‫سنُ ٍ‬ ‫سان ِم ْن َ‬ ‫اْل ْن َ‬ ‫َخلَ ْقنَا ْ ِ‬

‫ص ‪449‬‬

‫ص ‪449 :‬‬
‫[خلق اإلنسان األول ]‬
‫ّللا اإلنسان من طين تركه مدة يختمر بما يمر عليه من الهواء الحار الذي‬
‫لما خلق ه‬
‫يتخلل أجزاء طينته ‪ ،‬فتخمر وتغيرت رائحته فكان حمأ مسنونا متغير الريح ‪ ،‬ثم‬
‫طبخت هذه الطينة بركن النار فظهرت فخارة اإلنسان والتأمت أجزاؤه وقويت‬
‫وصلبت ‪ ،‬فكان صلصاال كالفخار ‪.‬‬

‫[ سورة الحجر ( ‪ : ) 15‬آية ‪] 27‬‬


‫وم ) ‪( 27‬‬‫س ُم ِ‬ ‫ان َخلَ ْقناهُ ِم ْن قَ ْب ُل ِم ْن ِ‬
‫نار ال ه‬ ‫َوا ْل َج ه‬
‫ّللا قبل خلق آدم ‪ ،‬والجان مخلوق من األركان ‪ ،‬وجعل أغلب جزء فيه‬ ‫الجان خلقه ه‬
‫النار ‪ ،‬كما جعل أعظم جزء في آدم التراب ‪ ،‬لذا عال إبليس عند نفسه ألن أصله من‬
‫اللهب ‪ ،‬ولهب النار يطلب العلو ‪ ،‬فلهذا تكبر ‪ ،‬ولما كان لهبا كان إذا جاءه الهواء من‬
‫أعاله عكس رأس اللهب إلى السفل قسرا وقهرا ‪ ،‬كذلك إبليس لما جاءه هواه من تكبره‬
‫على آدم لنشأته عكسه إلى األرض فأهبط ‪ ،‬ال بل أهبط إلى أسفل سافلين ‪.‬‬

‫[ سورة الحجر ( ‪ : ) 15‬آية ‪] 28‬‬


‫ون ) ‪( 28‬‬ ‫ص ْلصا ٍل ِم ْن َح َم ٍإ َم ْ‬
‫سنُ ٍ‬ ‫ق بَشَرا ً ِم ْن َ‬ ‫َو ِإ ْذ قا َل َربُّكَ ِل ْل َمال ِئ َك ِة ِإ ِنّي خا ِل ٌ‬
‫لما غلب على آدم في نشأته التراب ‪ ،‬وله السكون بخالف لهب النار ‪ ،‬ثبت على‬
‫ون )لهذا يتغير كل ما يحل فيه من‬ ‫عبوديته وتواضعه فسعد ‪ ،‬وكونه( ِم ْن َح َمإٍ َم ْسنُ ٍ‬
‫األطعمة واألشربة ويستحيل إلى الروائح القبيحة ‪ ،‬ويندرج في هذا الكالم النشأة‬
‫األخروية واستحالة ما يحل فيها من الطعام والشراب إلى الروائح الطيبة ‪.‬‬

‫[ سورة الحجر ( ‪ : ) 15‬آية ‪] 29‬‬


‫ِين ) ‪( 29‬‬ ‫وحي فَقَعُوا لَهُ ِ‬
‫ساجد َ‬ ‫فَ ِإذا َ‬
‫س هو ْيتُهُ َونَفَ ْختُ فِي ِه ِم ْن ُر ِ‬
‫ّللا العالم من أفالك وسماوات وجان ومعدن ونبات‬ ‫خلق اإلنسان األول ‪ -‬لما خلق ه‬
‫وحيوان أخذ التراب اللزج وخلطه بالماء ‪ ،‬فصيره طينا بيديه تعالى كما يليق بجالله ‪،‬‬
‫إذ ليس كمثله شيء ‪ ،‬وتركه مدة يختمر بما يمر عليه من الهواء الحار الذي يتخلل‬
‫أجزاء طينته ‪ ،‬فتخمر‬
‫‪450‬‬

‫ص ‪450 :‬‬
‫وتغيرت رائحته فكان حمأ مسنونا متغير الريح ‪ ،‬ثم طبخت هذه الطينة بركن النار ‪،‬‬
‫فظهرت فخارة اإلنسان والتأمت أجزاؤه وقويت وصلبت ‪ ،‬فقصرها بالماء الذي هو‬
‫عنصر الحياة ‪ ،‬فأعطاها الماء من رطوبته وأالن بذلك من صالبة الفخار ما أالن ‪،‬‬
‫فسرت فيه الحياة وأمده الركن الهوائي بما فيه من الرطوبة والحرارة ليقابل بحرارته‬
‫برد الماء ‪ ،‬فامتنعا فتوفرت الرطوبة عليه فأحال جوهرة طينته إلى لحم ودم‬
‫وعضالت وعروق وأعصاب وعظام ‪ ،‬وهذه كلها أمزجة مختلفة الختالف آثار طبيعة‬
‫العناصر األربعة ‪ ،‬وهي الماء والتراب والهواء والنار واستعدادات أجزاء هذه النشأة ‪،‬‬
‫فلذلك اختلفت أعيان هذه النشأة الحيوانية فاختلفت أسماؤها لتتميز كل عين عن غيرها‬
‫‪ ،‬فلما أكمل النشأة الجسمية النباتية الحيوانية وظهر فيها جميع قوى الحيوان أعطاه‬
‫الفكر من االسم اإللهي المدبر ‪،‬‬
‫فإن الحيوان جميع ما يعمله من الصنائع وما يعلمه ليس عن تدبير وال روية ‪ ،‬بل هو‬
‫مفطور على العلم بما يصدر عنه ‪ ،‬ال يعرف من أين حصل له ذلك اإلتقان واإلحكام ‪،‬‬
‫كالعناكب والنحل بخالف اإلنسان ‪،‬‬
‫فإنه يعلم أنه ما استنبط أمرا من األمور إال عن فكر وروية وتدبير ‪ ،‬فيعرف من أين‬
‫صدر ‪ ،‬وبهذا القدر سمي إنسانا ال غير ‪ ،‬وهي حالة يشترك فيها جميع الناس إال‬
‫اإلنسان الكامل ‪ ،‬فإنه زاد على اإلنسان الحيواني بتصريفه األسماء اإللهية التي أخذ‬
‫قواها من خلقه على الصورة ‪ ،‬فجعل اإلنسان الكامل خليفة ‪،‬‬
‫وأما اإلنسان الحيواني فحكمه حكم سائر الحيوان ‪ ،‬إال أنه يتميز عن غيره من الحيوان‬
‫بالفصل المقوم له ‪ ،‬كما يتميز الحيوان بعضه عن بعض بالفصول المقومة لكل واحد‬
‫من الحيوان ‪،‬‬
‫فاإلنسان الحيوان من جملة الحشرات ‪ ،‬فإذا كمل فهو الخليفة فاجتمعا لمعان وافترقا‬
‫لمعان ‪ ،‬وبعد استعداد خلق الجسد نفخ فيه الحق من روحه فصار لإلنسان نفس أصلها‬
‫الطهارة من حيث أبوها ‪ ،‬ولم يظهر لها عين إال بوجود الجسد الطبيعي ‪ ،‬فكانت‬
‫الطبيعة األب الثاني ‪ ،‬فخرجت النفوس ممتزجة فلم يظهر فيها إشراق النور الخالص‬
‫المجرد عن المواد وال الظلمة الغائية التي هي حكم الطبيعة ‪،‬‬
‫واعلم أن النفس التي هي لطيفة العبد المدبرة هذا الجسم لم يظهر لها عين إال عند‬
‫تسوية هذا الجسد وتعديله ‪ ،‬فحينئذ نفخ فيه الحق من روحه ‪ ،‬فظهرت النفس بين النفخ‬
‫اإللهي والجسد المسوى ‪ ،‬ولهذا كان المزاج يؤثر فيها ‪ ،‬فالنفوس اإلنسانية نتيجة عن‬
‫هذه األجسام العنصرية ومتولدة عنها ‪ ،‬فإنها ما ظهرت إال بعد تسوية هذه األجسام‬
‫واعتدال أخالطها ‪ ،‬فهي للنفوس المنفوخة فيها من الروح‬

‫ص ‪451‬‬

‫ص ‪451 :‬‬
‫المضاف إليه تعالى كاألماكن ‪ ،‬تطرح الشمس شعاعاتها عليها فتختلف آثارها باختالف‬
‫القوابل ‪ ،‬أين ضوء الشمس في األجسام الكثيفة منه في األجسام الصقيلة ؟‬
‫فلهذا تفاضلت النفوس لتفاضل األمزجة ‪ ،‬فترى نفسا سريعة القبول للفضائل والعلوم ‪،‬‬
‫ونفسا أخرى من الضد منها ‪ ،‬وبينهما متوسطات ‪ ،‬فكانت النفوس عن الطبيعة فهي‬
‫ّللا بروح قدسي ينظر إليها ‪،‬‬ ‫أمها وأبوها الروح ‪ ،‬وال تتقوى النفس بأبيها إال إذا أيدها ه‬
‫فحينئذ تقوى على حكم الطبيعة ‪ ،‬فال تؤثر فيها التأثير الكلي وإن بقي فيها أثر ‪ ،‬فإنه ال‬
‫ففرق الحق بين روح األمر وبين روح ياء اإلضافة ‪ ،‬فجعل‬ ‫يمكن زواله بالكلية ‪ ،‬ه‬
‫روح األمر لما يكون به التأييد ‪ ،‬وجعل روح الياء لوجود عين الروح الذي هو كلمة‬
‫الحق المنفوخ في الطبيعة ‪ ،‬فمن حيث النفخ اإللهي ال تفاضل ‪ ،‬وإنما التفاضل في‬
‫القوابل ‪ ،‬فالنفس لها وجه إلى الطبيعة ووجه إلى الروح اإللهي ‪ ،‬وأضاف الروح إلى‬
‫نفسه بياء اإلضافة ينبه على مقام التشريف ‪ ،‬أي أنك شريف األصل فال تغفل إال‬
‫بحسب أصلك ‪ ،‬ال تفعل فعل األراذل ‪ ،‬وسميت حقيقة اإلنسان لطيفة ألنها ظهرت‬
‫س َّو ْيتُهُ‬‫ّللا ‪ ،‬من قوله (‪ :‬فَإِذا َ‬
‫بالنفخ عند تسوية البدن للتدبير من الروح المضاف إلى ه‬
‫ّللا على‬ ‫وحي )وهو النفس اإللهي ‪ ،‬فهي سر إلهي لطيف ينسب إلى ه‬ ‫َونَفَ ْختُ فِي ِه ِم ْن ُر ِ‬
‫اإلجمال من غير تكييف ‪ ،‬وأعطيت هذه الحقيقة في هذا المركب اآلالت الروحانية‬
‫والحسية إلدراك علوم ال يعرفها إال بوساطة هذه اآلالت ‪ ،‬وهذا من كونه لطيفا أيضا ‪،‬‬
‫فإنه من اإلمكان العقلي فيما يظهر لبعض العقالء من المتكلمين أن يعرف ذلك األمر‬
‫من غير وساطة هذه اآلالت ‪ ،‬وهذا ضعيف في النظر ‪ ،‬فإنا ما نعني باآلالت إال‬
‫المعاني القائمة بالمحل ‪ ،‬فنحن نريد السمع والبصر والشم ‪ ،‬ال األذن والعين واألنف ‪،‬‬
‫وهو ال يدرك المسموع إال من كونه صاحب سمع ال صاحب أذن ‪ ،‬وكذلك ال يدرك‬
‫المبصر إال من كونه صاحب بصر ال صاحب حدقة وأجفان ‪ ،‬فإذا إضافات هذه‬
‫اآلالت ال يصح ارتفاعها ‪ ،‬ولما ظهر عين هذه اللطيفة التي هي حقيقة اإلنسان كان‬
‫هذا أيضا عين تدبيرها لهذا البدن من باب اللطائف ‪ ،‬ألنه ال يعرف كيف ارتباط الحياة‬
‫لهذا البدن بوجود هذا الروح اللطيف ‪ ،‬لمشاركة ما تقتضيه الطبيعة فيه من وجود‬
‫الحياة التي هي الروح الحيواني ‪ ،‬فظهر نوع اشتراك ‪ ،‬فال يدري على الحقيقة هذه‬
‫الحياة البدنية الحيوانية هل هي لهذه اللطيفة الظاهرة عن النفخ اإللهي المخاطبة المكلفة‬
‫أو الطبيعة أو للمجموع إال من علم ذوقا أنه ما في العالم‬

‫ص ‪452‬‬

‫ص ‪452 :‬‬
‫إال حي ناطق بتسبيح ربه تعالى بلسان فصيح ينسب إليه بحسب ما تقتضيه حقيقته ‪،‬‬
‫ّللا تعالى اإلنسان من جملة خلقه ‪ ،‬خلقه إماما وأعطاه األسماء ‪،‬‬ ‫واعلم أنه لما خلق ه‬
‫وأسجد له المالئكة وجعل له تعليم المالئكة ما جهلوه ‪ ،‬ولم يزل في شهود خالقه ‪ ،‬فلم‬
‫تقم به عزة بل بقي على أصله من الذلة واالفتقار ‪ ،‬ولما حمل األمانة عرضا وجرى‬
‫ظلَ ْمنا أ َ ْنفُ َ‬
‫سنا ) بما حماله من‬ ‫ما جرى قال هو وزوجته إذ كانت جزءا منه ( َربَّنا َ‬
‫األمانة ‪،‬‬
‫ّللا لما اجتباه ربه وهدى به من هدى ‪ ،‬ورجع عليه‬ ‫ثم إن بنيه اعتزوا لمكانة أبيهم من ه‬
‫بالصفة التي كان يعامله بها ‪ ،‬ابتداء من التقريب واالعتناء الذي جعله خليفة عنه في‬
‫صل الصورتين ‪ ،‬صورة خلقه على صورة‬ ‫خلقه وكمل به وفيه وجود العالم ‪ ،‬وح ه‬
‫الحق وصورة خلقه مجموعا لصورة العالم ‪،‬‬
‫ففاز بالسورتين أعني المنزلتين ‪ ،‬منزلة العزة بالسجود له ومنزلة الذلة بعلمه بنفسه ‪،‬‬
‫وجهل من جهل من بنيه ما كان عليه أبوه من تحصيل المنزلتين والظهور بالصفتين ‪،‬‬
‫فراضهم االسم المذل من حضرة اإلذالل ‪،‬‬
‫ّللا به من بنيه فأشهدهم‬ ‫فأخرجهم عن اإلدالل بالدال اليابسة ‪ ،‬وذلك لما اعتنى ه‬
‫ّللا إال بها ‪ ،‬وكان سبب ذلك ما‬ ‫عبوديتهم فتقربوا إليه بها ‪ ،‬وال يصح أن يتقرب إلى ه‬
‫حصل في نفوس البنين من العزة التي حصلت له من رتبة أبيه من خلقه على الصورة‬
‫اإللهية ‪،‬‬
‫ّللا خلق آدم على صورته ‪ ،‬واختلف في‬ ‫ّللا صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم أن ه‬ ‫كما أخبر رسول ه‬
‫ضمير الهاء من صورته على من يعود ‪ ،‬فهو على الصورة اإللهية وفي رواية وإن‬
‫ضعفت على صورة الرحمن ‪ ،‬ولو علم من يجهل هذا أنه ما من شيء في العالم إال‬
‫وله حظ من الصورة اإللهية ‪ ،‬والعالم كله على الصورة اإللهية ‪ ،‬وما فاز اإلنسان‬
‫الكامل إال بالمجموع ‪ ،‬وما كملت الصورة من العالم إال بوجود اإلنسان ‪،‬‬
‫فامتاز اإلنسان الكامل عن العالم ‪ ،‬مع كونه من كمال الصورة للعالم الكبير بكونه على‬
‫الصورة بانفراده من غير حاجة إلى العالم ‪،‬‬
‫ّللا بما شرع لهم ‪ ،‬فقال‬‫فلما امتاز سرى العز في أبنائه ‪ ،‬أي في بعض بنيه ‪ ،‬فراضهم ه‬
‫لهم إن كنتم اعتززتم بسجود المالئكة ألبيكم فقد أمرتكم بالسجود للكعبة ‪ ،‬فالكعبة أعز‬
‫منكم إن كان عزكم للسجود ‪ ،‬فإنكم في أنفسكم أشرف من المالئكة التي سجدت لكم أي‬
‫ألبيكم ‪ ،‬وأنتم مع دعواكم في هذا الشرف تسجدون للكعبة الجمادية ‪،‬‬
‫ومن عصى منكم عن السجود لها التحق بإبليس الذي عصى بترك سجوده ألبيكم ‪ ،‬فلم‬
‫ّللا‬
‫يثبت لكم العز بالسجود مع سجودكم للكعبة وتقبيلكم الحجر األسود على أنه يمين ه‬
‫محل البيعة اإللهية كما أخبرتكم ‪ ،‬وإن كنتم اعتززتم بالعلم لكون أبيكم علم المالئكة‬
‫األسماء كلها‬

‫ص ‪453‬‬

‫ص ‪453 :‬‬
‫[سر في السجود ]‬
‫ّللا‬
‫فإن جبريل عليه السالم من المالئكة وهو معلم أكابركم ‪ ،‬وهم الرسل صلوات ه‬
‫عليهم وسالمه ‪ ،‬والنبي محمد صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم يقول حين تدلى إليه ليلة إسرائه‬
‫رفرف الدر والياقوت فسجد جبريل عليه السالم ولم يسجد النبي صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم ‪،‬‬
‫وقال ‪ :‬فعلمت فضل جبريل علي في العلم عند ذلك ‪ ،‬ثم إنكم عن لمة الملك تتصرفون‬
‫ّللا ‪ ،‬فهم الذين يدلونكم على طرق سعادتكم والتقرب ‪ ،‬فبأي شيء تعتزون‬‫في مرضاة ه‬
‫على المالئكة ‪ ،‬فكونوا مثل أبيكم تسعدوا ‪ ،‬وما ثم فضل إال بالسجود والعلم وقد خرج‬
‫من أيديكم ‪ ،‬والذين لهم العزة من النبيين ليس إال الرسل والمؤمنون ‪ ،‬فمن ارتاض‬
‫ّللا فقد أفلح وسعد ‪.‬‬
‫برياضة ه‬

‫– سر في السجود ‪ -‬قال تعالى في المأل األعلى إذ يختصمون ‪ ،‬ولهذا أمروا بالسجود‬


‫آلدم عليه السالم ‪ ،‬فإن االعتراض خصام في المعنى والخصم قوي ‪ ،‬فلما أعطي‬
‫اإلمامة والخالفة وأسجدت له المالئكة ‪ ،‬وعوقب من أساء األدب عليه وتكبر عليه‬
‫بنشأته ‪ ،‬وأبان عن رتبة نفسه بأنها عين نشأته ‪ ،‬فجهل هأوال فكان بغيره أجهل ‪ ،‬وال‬
‫شك أن هذا المقام يعطي الزهو واالفتخار لعلو المرتبة ‪ ،‬والزهو والفخر داء معضل‬
‫ّللا لهذا الداء دواء شافيا ‪،‬‬
‫باّلل تعالى ‪ ،‬فأنزل ه‬
‫وإن كان ه‬
‫ّللا‬
‫فأمر اإلمام بالسجود للكعبة ‪ ،‬فلما شرب هذا الدواء برئ من علة الزهو وعلم أن ه‬
‫ّللا لعلو‬
‫يفعل ما يريد وما تقدم على من تقدم عليه من المالئكة بالصفة التي أعطاه ه‬
‫ّللا لمالئكته في اعتراضهم ‪ ،‬وهو على‬ ‫رتبته على المالئكة ‪ ،‬وإنما كان ذلك تأديبا من ه‬
‫ما هو عليه من البشرية ‪ ،‬كما أنه قد علم أنه ما سجد للكعبة لكون هذا البيت أشرف‬
‫ّللا حفظ على آدم صحته قبل قيام العلة به‬ ‫منه ‪ ،‬وإنما كان دواء لعلة هذه الرتبة ‪ ،‬فكأن ه‬
‫‪ ،‬فإنه من الطب حفظ الصحة ‪ ،‬وهو أن يحفظ المحل أن يقوم به مرض ألنه في‬
‫منصب االستعداد لقبول المرض ‪ ،‬وقد علم أنه وإن سجد للبيت فإنه أتم من البيت في‬
‫ّللا ‪ ،‬وما‬
‫رتبته ‪ ،‬فعلم أن المالئكة ما سجدت له لفضله عليهم ‪ ،‬وإنما سجدت ألمر ه‬
‫ّللا إال عناية بها لما وقع منهم مما يوجب وهنهم ‪ ،‬ولكنهم لما لم يقصدوا بذلك‬ ‫أمرها ه‬
‫ّللا بهم في سرعة تركيب الدواء لهم بما علمهم آدم من األسماء ‪ ،‬وبما‬ ‫إال الخير اعتنى ه‬
‫أمروا به من السجود له ‪ ،‬وكل له مقام معلوم ‪ ،‬فابتليت المالئكة بالسجود جبرا لما‬
‫أخذت من طهارتها الدعوى ( وهي قولها أتجعل فيها ‪، ) . . .‬‬
‫فكان ذلك للمالئكة كالسهو في الصالة للمصلي ‪ ،‬فأمر أن يسجد لسهوه ‪ ،‬كذلك أمرت‬
‫المالئكة أن تسجد لدعواها ‪ ،‬فإن الدعوى سهو في حقها ‪ ،‬فكان ذلك ترغيما للدعوى ال‬
‫لهم‬

‫ص ‪454‬‬

‫ص ‪454 :‬‬
‫ّللا العقل ]‬
‫[وجه ‪ :‬أول ما خلق ه‬
‫ّللا العقل ‪ ،‬وهو الذي ظهرت منه هذه العقول بوساطة‬ ‫‪-‬وجه ‪ -‬اعلم أن أول ما خلق ه‬
‫ّللا في كتابه العزيز الروح ‪ ،‬وأضافه إليه فقال في حق‬ ‫هذه النفوس الطبيعية ‪ ،‬وسماه ه‬
‫النفوس الطبيعية وحق هذا الروح وحق هذه األرواح الجزئية التي لكل نفس طبيعية(‬
‫وحي )وهو هذا العقل األكبر« فَقَعُوا لَهُ ِ‬
‫ساجدِينَ »‪.‬‬ ‫س َّو ْيتُهُ َونَفَ ْختُ فِي ِه ِم ْن ُر ِ‬
‫فَإِذا َ‬

‫[ سورة الحجر ( ‪ ) : 15‬آية ‪] 30‬‬


‫س َج َد ا ْل َمالئِكَةُ ُكلُّ ُه ْم أَجْ َمعُ َ‬
‫ون ) ‪( 30‬‬ ‫فَ َ‬
‫ّللا لهم اسجدوا آلدم ‪ ،‬والمالئكة هي الرسل من‬ ‫فما بقي ملك إال سجد ألنهم الذين قال ه‬
‫األرواح خاصة ‪ ،‬فإن األلوكة هي الرسالة في لسان العرب ‪ ،‬والسجود هو التطأطؤ في‬
‫ّللا تعالى المالئكة بالسجود لمعلمهم سجود أمر ‪ -‬كسجود الناس إلى الكعبة‬ ‫اللسان فأمر ه‬
‫باّلل ‪ ،‬وهو التواضع والخضوع واإلقرار بالسبق‬ ‫‪ -‬وتشريف ‪ ،‬ال سجود عبادة نعوذ ه‬
‫والفخر والشرف والتقدم له ‪ ،‬كتواضع التلميذ لمعلمه ‪ ،‬وإذا حصل موجود في مقام‬
‫ّللا سبحانه ‪ ،‬ودليل قاطع‬
‫تتعلم منه المالئكة ‪ ،‬فأحرى من دونهم ‪ ،‬وذلك تشريف من ه‬
‫على ثبوت إرادته ( يختص برحمته من عباده من يشاء )‬
‫ّللا صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم في اآلخرة ‪ ،‬وكان‬ ‫‪ -‬إشارة ‪ -‬إن المقام المحمود يكون لرسول ه‬
‫في الدنيا آلدم أبي البشر ‪ ،‬وقام فيه حين سجدت له المالئكة ‪ ،‬وظهر آدم في ذلك المقام‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ ،‬وآدم هو األب األعظم‬ ‫لكونه كان يتضمن جسده بشرية محمد صلهى ه‬
‫ّللا ‪ ،‬وأول هذه النشأة الترابية اإلنسانية ‪ ،‬فظهرت فيه‬
‫في الجسمية والمقرب عند ه‬
‫المقامات كلها حتى المخالفة ‪ ،‬إذ كان جامعا للقبضتين قبضة الوفاق وقبضة الخالف‬

‫[ سورة الحجر ( ‪ : ) 15‬آية ‪] 31‬‬


‫ِين ) ‪( 31‬‬ ‫اجد َ‬‫س ِ‬ ‫يس أَبى أ َ ْن يَك َ‬
‫ُون َم َع ال ه‬ ‫إِاله إِ ْب ِل َ‬
‫ّللا إبليس باإلباية ما‬ ‫ونصب إبليس على االستثناء المنقطع ال المتصل ‪ ،‬ولوال ما ذكر ه‬
‫عرفنا أنه أمر بالسجود ‪.‬‬
‫[ سورة الحجر ( ‪ : ) 15‬اآليات ‪ 32‬إلى ‪]35‬‬
‫ِين ( ‪ ) 32‬قا َل لَ ْم أَك ُْن ِأل َ ْ‬
‫س ُج َد ِلبَش ٍَر َخلَ ْقتَهُ‬ ‫اجد َ‬ ‫س ِ‬ ‫يس ما لَكَ أَاله تَك َ‬
‫ُون َم َع ال ه‬ ‫قا َل يا ِإ ْب ِل ُ‬
‫اخ ُرجْ ِم ْنها فَ ِإنهكَ َر ِجي ٌم ( ‪َ ) 34‬وإِ هن َ‬
‫علَ ْيكَ‬ ‫ون ( ‪ ) 33‬قا َل فَ ْ‬ ‫سنُ ٍ‬ ‫ص ْلصا ٍل ِم ْن َح َم ٍإ َم ْ‬ ‫ِم ْن َ‬
‫ِين) ‪( 35‬‬ ‫الله ْعنَةَ إِلى يَ ْو ِم ال ّد ِ‬

‫ص ‪455‬‬

‫ص ‪455 :‬‬
‫ّللا اللعنة إلى يوم الدين ‪ ،‬فإنه تعالى أخبر عنه حاكيا وأقره عليه ولم ينكره( إِ َّن‬ ‫فأقهت ه‬
‫ع ْوت ُ ُك ْم‬ ‫س ْل ٍ‬
‫طان ِإ َّال أ َ ْن َد َ‬ ‫ع ْدت ُ ُك ْم فَأ َ ْخلَ ْفت ُ ُك ْم َوما كانَ ِلي َ‬
‫علَ ْي ُك ْم ِم ْن ُ‬ ‫ع َد ُك ْم َو ْع َد ْال َح ه ِ‬
‫ق َو َو َ‬ ‫ّللا َو َ‬
‫َّ َ‬
‫س ُك ْم ) ‪. . .‬اآلية وأخبر عنه بقوله ‪ِ (:‬إ ِنهي َكفَ ْرتُ‬ ‫فَا ْست َ َج ْبت ُ ْم ِلي فَال تَلُو ُمونِي َولُو ُموا أ َ ْنفُ َ‬
‫ون )اآلية ‪ ،‬فالشيطان جرم النار لو فهمت ‪.‬‬ ‫ِبما أ َ ْش َر ْكت ُ ُم ِ‬

‫[ سورة الحجر ( ‪ : ) 15‬اآليات ‪ 36‬إلى ‪]39‬‬


‫ين ( ‪ ) 37‬إِلى يَ ْو ِم‬ ‫ون ( ‪ ) 36‬قا َل فَ ِإنهكَ ِم َن ا ْل ُم ْن َظ ِر َ‬ ‫ب فَأ َ ْن ِظ ْرنِي إِلى يَ ْو ِم يُ ْبعَث ُ َ‬
‫قا َل َر ّ ِ‬
‫ب ِبما أ َ ْغ َو ْيتَنِي َأل ُ َز ِيّنَ هن لَ ُه ْم فِي ْاأل َ ْر ِ‬
‫ض َو َأل ُ ْغ ِويَنه ُه ْم‬ ‫وم ) ‪ ( 38‬قا َل َر ّ ِ‬ ‫ت ا ْل َم ْعلُ ِ‬ ‫ا ْل َو ْق ِ‬
‫ين ( ‪) 39‬‬ ‫أَجْ َم ِع َ‬

‫ض »فالتزيين الذي جاء به من قوله‬ ‫« قا َل َربه ِ ِبما أ َ ْغ َو ْيت َ ِني َألُزَ ِيهن ََّن لَ ُه ْم ِفي ْاأل َ ْر ِ‬
‫تعالى( َو ِع ْد ُه ْم ) فإنه يتضمنه وقوله ( َأل ُ ْغ ِويَنَّ ُه ْم أ َ ْج َم ِعينَ ) هو عن تخلق من قوله (‬
‫فَبِما أ َ ْغ َو ْيتَنِي ) ولوال التكليف ما قرب شيطان إنسانا بإغواء أبدا ‪ ،‬واعلم أن إبليس‬
‫يستدرج كل طائفة من حيث ما هو الغالب عليها ‪ ،‬فإنه عالم بمواقع المكر واالستدراج‬
‫‪ ،‬فيرسل خواطره الشيطانية على العامة بالمحظور فعال كان أو تركا ‪ ،‬وبالمكروه‬
‫فعال كان أو تركا في حق العبهاد من العامة ‪ ،‬ويأتي بالمباح في حق المبتدئ من أهل‬
‫ّللا أصحاب السماع ‪ ،‬ويأتي‬ ‫ّللا ‪ ،‬ويأتي بالمندوب في حق المتوسطين من أهل ه‬ ‫طريق ه‬
‫ّللا فعل أمر ما من الطاعات ‪ ،‬وهو‬ ‫العارفين بالواجبات ‪ ،‬فال يزال بهم حتى نووا مع ه‬
‫ّللا ‪ ،‬فإذا استوثق منه في ذلك وعزم وما بقي إال الفعل‬ ‫في نفس األمر عهد يعهده مع ه‬
‫أقام له عبادة أخرى أفضل منها شرعا ‪ ،‬فيرى العارف أن يقطع زمانه باألولى ويشرع‬
‫ّللا بعد ميثاقه والعارف ال خبر له‬
‫في الثاني ‪ ،‬فيفرح إبليس حيث جعله ينقض عهد ه‬
‫ّللا من ورثة األنبياء يراها مع كونها حسنة هي خواطر‬ ‫بذلك ‪ ،‬وكل متمكن من أهل ه‬
‫شيطانية ‪.‬‬
‫[ سورة الحجر ( ‪ : ) 15‬آية ‪] 40‬‬
‫ين ) ‪( 40‬‬ ‫ِإاله ِعبادَكَ ِم ْن ُه ُم ا ْل ُم ْخلَ ِص َ‬
‫ّللا إليه مما ألقى إليهم العدو وفيهم من نور الحفظ والعصمة‪.‬‬ ‫وهم الذين أخلصهم ه‬

‫ص ‪456‬‬

‫ص ‪456 :‬‬
‫[سورة الحجر ( ‪ : ) 15‬اآليات ‪ 41‬إلى ‪] 42‬‬
‫طان إِاله َم ِن اتهبَعَكَ‬‫س ْل ٌ‬ ‫علَ ْي ِه ْم ُ‬‫س لَكَ َ‬ ‫ست َ ِقي ٌم ( ‪ ) 41‬إِ هن ِعبادِي لَ ْي َ‬ ‫ي ُم ْ‬ ‫علَ ه‬‫ط َ‬ ‫قا َل هذا ِصرا ٌ‬
‫ين ( ‪) 42‬‬ ‫ِم َن ا ْلغا ِو َ‬
‫ّللا عبدان ‪ :‬عبد ليس للشيطان عليه سلطان ‪،‬‬ ‫« ِإ َّن ِعبادِي »فأضافهم إليه ‪ ،‬وعبيد ه‬
‫باّلل ‪ ،‬فالحجة هّلل ال‬ ‫باّلل ‪ ،‬وال يسمع إال ه‬ ‫وهو عبد االختصاص ‪ ،‬وهو الذي ال ينطق إال ه‬
‫ّللا‬
‫ّللا ومن عبيد االختصاص من ينطق عن ه‬ ‫ّللف ْال ُح َّجةُ ْالبا ِلغَةُ )فإنها حجة ه‬ ‫له ‪ (،‬قُ ْل َ ِ َّ ِ‬
‫ّللا ‪ ،‬فهذا أيضا من أهل الحجة البالغة ‪ ،‬ألنه ال ينطق عن الهوى‬ ‫ويسمع من ه‬
‫ي يُوحى )‬ ‫( ِإ ْن ُه َو ِإ َّال َو ْح ٌ‬
‫ّللا عليه وسلم(‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫والعبد الثاني ‪ ،‬عبد العموم ‪ ،‬وهو الذي قال عنهم لرسول ه‬
‫ْس‬‫عان )فأضافهم إليه« لَي َ‬ ‫يب َدع َْوة َ الدَّاعِ ِإذا َد ِ‬ ‫يب أ ُ ِج ُ‬
‫ع ِنهي فَإِ ِنهي قَ ِر ٌ‬‫سأَلَ َك ِعبادِي َ‬ ‫َو ِإذا َ‬
‫ّللا تولى حفظهم وتعليمهم بما جعل‬ ‫طان » أي قوة وقهر وحجة ‪ ،‬ألن ه‬ ‫س ْل ٌ‬ ‫علَ ْي ِه ْم ُ‬
‫لَ َك َ‬
‫فيهم من التقوى ‪ ،‬وما تجد في القرآن عبادا مضافين إليه سبحانه إال السعداء خاصة ‪،‬‬
‫وجاء اللفظ في غيرهم بالعباد ‪ ،‬فكل عبد توجه ألحد عليه حق من المخلوقين فقد نقص‬
‫من عبوديته هّلل بقدر ذلك الحق ‪ ،‬فإن ذلك المخلوق يطلبه بحقه وله عليه سلطان به ‪،‬‬
‫فال يكون عبدا محضا خالصا هّلل ‪ ،‬فالمضاف إليه سبحانه من عباده الذين هم عباده ‪،‬‬
‫وهم الذين ال سلطان لمخلوق عليهم في اآلخرة ‪ ،‬وهم المعصومون المحفوظون‬
‫ّللا بهذه اآلية يأس إبليس من‬ ‫القائمون بحدود سيدهم الواقفون عند مراسمه ‪ ،‬وقطع ه‬
‫ّللا المخلصين أن يكون له عليهم سلطان وحكم فيهم ‪ ،‬فهم المعصومون‬ ‫عباد ه‬
‫ّللا ‪،‬‬
‫والمحفوظون في الباطن وفي الظاهر من الوقوع عن قصد انتهاك حرمة ه‬
‫فخواطر المعصومين والمحفوظين كلها ما بين ربانية أو ملكية أو نفسية ‪ ،‬وعالمة ذلك‬
‫عند المعصوم أنه ال يجد ترددا في أداء الواجب بين فعله وتركه ‪ ،‬ويجد التردد بين‬
‫المندوب والمكروه ‪ ،‬وال في ترك واجب تركه ‪ ،‬ال يجد فيه التردد ‪ ،‬ألن التردد في‬
‫مثل هذين هو من خواطر الشيطان ‪ ،‬فمن وجد في نفسه هذه العالمة علم أنه معصوم ‪.‬‬
‫[ سورة الحجر ( ‪ ) : 15‬اآليات ‪ 43‬إلى ‪] 44‬‬
‫سو ٌم (‬ ‫ب ِم ْن ُه ْم ُج ْز ٌء َم ْق ُ‬ ‫س ْبعَةُ أ َ ْبوا ٍ‬
‫ب ِل ُك ِ ّل با ٍ‬ ‫ين ( ‪ ) 43‬لَها َ‬ ‫َو ِإ هن َج َهنه َم لَ َم ْو ِع ُد ُه ْم أَجْ َم ِع َ‬
‫‪.)44‬‬

‫ض ‪457‬‬

‫ص ‪457 :‬‬
‫اعلم أن جهنم تحتوي على السماوات واألرض والكواكب كلها فيها طالعة وغاربة‬
‫على أهل النار بالحرور والزمهرير ‪ ،‬وأبوابها سبعة بحسب أعضاء التكليف الظاهرة‬
‫ّللا عليه عندما أقر له بالربوبية‬ ‫‪ ،‬ألن باب القلب مطبوع عليه ال يفتح من حين طبع ه‬
‫وعلى نفسه بالعبودية ‪ ،‬فللنار على األفئدة اطالع ال دخول لغلق هذا الباب ‪،‬‬
‫[ أبواب جهنم السبعة ]‬
‫وأسماء أبواب النار السبعة ‪ :‬باب جهنم ‪ ،‬باب الجحيم ‪ ،‬باب السعير ‪ ،‬باب سقر ‪ ،‬باب‬
‫لظى ‪ ،‬باب الحطمة ‪ ،‬باب سجين ‪ ،‬وقيل باب الحامية والهاوية بدال من جهنم وسجين‬
‫ّللا تعالى ‪،‬‬
‫‪ ،‬والباب المغلق وهو الثامن الذي ال يفتح ‪ ،‬فهو الحجاب عن رؤية ه‬
‫واألبواب السبعة مفتحة ‪ ،‬لكل باب جزء من العالم ومن العذاب مقسوم ‪ ،‬وعلى كل‬
‫باب ملك من المالئكة مالئكة السماوات السبع ‪ ،‬وسميت األبواب بصفات ما وراءها‬
‫ّللا تعالى في مثل قوله في لظى (‬ ‫مما أعدت له ‪ ،‬ووصف الداخلون فيها بما ذكر ه‬
‫عوا َم ْن أ َ ْدبَ َر َوت َ َولَّى َو َج َم َع فَأ َ ْوعى )وقال ما يقول أهل سقر إذا قيل لهم( ما‬ ‫إنهات َ ْد ُ‬
‫وض َم َع‬ ‫ص ِلهينَ َولَ ْم نَكُ نُ ْ‬
‫ط ِع ُم ْال ِم ْس ِكينَ َو ُكنَّا نَ ُخ ُ‬ ‫سقَ َر قالُوا لَ ْم نَكُ ِمنَ ْال ُم َ‬
‫سلَ َك ُك ْم فِي َ‬
‫َ‬
‫ضينَ )وقال في أهل الجحيم ( إنه يكذب بيوم الدين ) ووصفه باإلثم واالعتداء ثم‬ ‫ْالخائِ ِ‬
‫قال فيهم( ِإنَّ ُه ْم لَصالُوا ْال َج ِح ِيم )وهكذا في الحطمة والسعير ‪.‬‬

‫[ سورة الحجر ( ‪ : ) 15‬اآليات ‪ 45‬إلى ‪] 47‬‬


‫ين ( ‪َ ) 46‬ونَ َزعْنا ما فِي‬
‫آمنِ َ‬
‫الم ِ‬
‫س ٍ‬‫ون ( ‪ ) 45‬ا ْد ُخلُوها بِ َ‬ ‫عيُ ٍ‬
‫ت َو ُ‬‫ين فِي َجنها ٍ‬ ‫إِ هن ا ْل ُمت ه ِق َ‬
‫ين ( ‪) 47‬‬ ‫ُور ِه ْم ِم ْن ِغ ٍ ّل إِ ْخوانا ً عَلى ُ‬
‫س ُر ٍر ُمتَقا ِب ِل َ‬ ‫صد ِ‬ ‫ُ‬
‫س ُر ٍر ُمتَقا ِب ِلينَ »أي يقابل بعضهم بعضا ‪.‬‬ ‫على ُ‬ ‫« َ‬

‫[ سورة الحجر ( ‪ : ) 15‬آية ‪] 48‬‬


‫ب َوما ُه ْم ِم ْنها بِ ُم ْخ َر ِج َ‬
‫ين ) ‪( 48‬‬ ‫س ُه ْم فِيها نَ َ‬
‫ص ٌ‬ ‫ال يَ َم ُّ‬
‫النشأة التي تقوم من العناصر كلما نزل فيها من معدن إلى نبات إلى حيوان إلى إنسان‬
‫كان التعب أقوى في آخر الدرجات وهو اإلنسان ‪ ،‬والنصب أعم من التعب ‪ ،‬فإنه‬
‫سريع التغير فإن له الوهم ‪ ،‬وال شك أن األوهام تلعب بالعقول« َوما ُه ْم ِم ْنها‬
‫ِب ُم ْخ َر ِجينَ »أي باقون في دار الكرامة ال يخرجون منها‪.‬‬

‫ص ‪458‬‬

‫ص ‪458 :‬‬
‫[ سورة الحجر ( ‪ : ) 15‬آية ‪] 49‬‬
‫الر ِحي ُم ( ‪) 49‬‬ ‫ور ه‬ ‫نَ ِبّ ْئ ِعبادِي أ َ ِنّي أَنَا ا ْلغَفُ ُ‬
‫[ ‪ -‬إشارة ‪ -‬ال يمتحن بالدليل إال صاحب الدعوى ]‬
‫‪-‬إشارة ‪ -‬ال يمتحن بالدليل إال صاحب الدعوى ‪ ،‬فمن ادعى فقد عرض نفسه للبلوى«‬
‫الر ِحي ُم »فقلنا بالجرأة على الخطايا ‪.‬‬ ‫ور َّ‬ ‫نَ ِبه ْئ ِعبادِي أ َ ِنهي أَنَا ْالغَفُ ُ‬
‫[ سورة الحجر ( ‪ : ) 15‬آية ‪] 50‬‬
‫ذاب ْاأل َ ِلي ُم ) ‪( 50‬‬ ‫َوأ َ هن عَذابِي ُه َو ا ْلعَ ُ‬
‫فحلت الرزايا بحلول الباليا ‪.‬‬
‫[ سورة الحجر ( ‪ : ) 15‬آية ‪] 51‬‬
‫ف ِإ ْبرا ِهي َم ( ‪) 51‬‬ ‫ض ْي ِ‬ ‫َونَ ِبّئْ ُه ْم ع َْن َ‬
‫ّللا ]‬
‫[ ‪ -‬إشارة ‪ -‬الصوفية أضياف ه‬
‫ّللا ‪ ،‬فإنهم سافروا من حظوظ أنفسهم وجميع األكوان‬ ‫‪-‬إشارة ‪ -‬الصوفية أضياف ه‬
‫ّللا‬
‫إيثارا للجناب اإللهي ‪ ،‬فنزلوا به ‪ ،‬فال يعملون عمال إال بإذن من نزلوا عليه ‪ ،‬وهو ه‬
‫‪ ،‬فال يتصرفون وال يسكنون وال يتحركون إال عن أمر إلهي ‪ ،‬ومن ليست هذه صفته‬
‫فهو في الطريق يمشي يقطع مناهل نفسه حتى يصل إلى ربه ‪ ،‬فحينئذ يصح أن يكون‬
‫ضيفا ‪ ،‬وإذا أقام عنده ولم يرجع كان أهال ‪،‬‬
‫ّللا وخاصته ‪.‬‬ ‫ألن أهل القرآن ‪ -‬وهو الجمع به تعالى ‪ -‬هم أهل ه‬
‫[ سورة الحجر ( ‪ : ) 15‬اآليات ‪ 52‬إلى ‪] 56‬‬
‫ش ُركَ‬ ‫ون ) ‪ ( 52‬قالُوا ال ت َ ْو َج ْل إِنها نُبَ ِ ّ‬ ‫سالما ً قا َل إِنها ِم ْن ُك ْم َو ِجلُ َ‬ ‫علَ ْي ِه فَقالُوا َ‬ ‫إِ ْذ َد َخلُوا َ‬
‫ون ) ‪ ( 54‬قالُوا‬ ‫ش ُر َ‬ ‫ي ا ْل ِكبَ ُر فَ ِب َم تُبَ ِ ّ‬ ‫سنِ َ‬‫يم ( ‪ ) 53‬قا َل أ َ بَش ْهرت ُ ُمونِي عَلى أ َ ْن َم ه‬ ‫ع ِل ٍ‬‫الم َ‬ ‫ِبغُ ٍ‬
‫ط ِم ْن َرحْ َم ِة َر ِبّ ِه ِإاله‬ ‫ين ( ‪ ) 55‬قا َل َو َم ْن يَ ْقنَ ُ‬ ‫ق فَال تَك ُْن ِم َن ا ْلقانِ ِط َ‬ ‫بَش ْهرناكَ ِبا ْل َح ّ ِ‬
‫ون ( ‪) 56‬‬ ‫ضالُّ َ‬ ‫ال ه‬
‫ّللا ‪ ،‬إال من ضل عن الطريق وتاه ‪.‬‬ ‫ال يقنط من رحمة ه‬
‫[ سورة الحجر ( ‪ : ) 15‬اآليات ‪ 57‬إلى ‪] 75‬‬
‫ين ( ‪ِ ) 58‬إاله‬ ‫س ْلنا ِإلى قَ ْو ٍم ُمجْ ِر ِم َ‬ ‫ون ( ‪ ) 57‬قالُوا ِإنها أ ُ ْر ِ‬ ‫سلُ َ‬ ‫قا َل فَما َخ ْطبُ ُك ْم أَيُّ َها ا ْل ُم ْر َ‬
‫ين ( ‪ ) 60‬فَلَ هما‬ ‫ام َرأَتَهُ قَد ْهرنا ِإنهها لَ ِم َن ا ْلغا ِب ِر َ‬ ‫ين ( ‪ِ ) 59‬إاله ْ‬ ‫آ َل لُو ٍط ِإنها لَ ُمنَ ُّجو ُه ْم أَجْ َم ِع َ‬
‫ون ( ‪ ) 62‬قالُوا بَ ْل ِجئْناكَ ِبما‬ ‫ون ) ‪ ( 61‬قا َل ِإنه ُك ْم قَ ْو ٌم ُم ْنك َُر َ‬ ‫سلُ َ‬ ‫وط ا ْل ُم ْر َ‬ ‫جا َء آ َل لُ ٍ‬
‫س ِر ِبأ َ ْه ِلكَ ِب ِق ْط ٍع‬ ‫ون ( ‪ ) 64‬فَأ َ ْ‬ ‫ق َو ِإنها لَصا ِدقُ َ‬ ‫ون ( ‪َ ) 63‬وأ َت َ ْيناكَ ِبا ْل َح ّ ِ‬ ‫كانُوا ِفي ِه يَ ْمت َ ُر َ‬
‫ض ْينا‬ ‫ون ( ‪َ ) 65‬وقَ َ‬ ‫ث ت ُ ْؤ َم ُر َ‬ ‫امضُوا َح ْي ُ‬ ‫ْبار ُه ْم َوال يَ ْلت َ ِفتْ ِم ْن ُك ْم أ َ َح ٌد َو ْ‬ ‫ِم َن الله ْي ِل َواتهبِ ْع أَد َ‬
‫ين ) ‪َ ( 66‬وجا َء أ َ ْه ُل ا ْل َمدِينَ ِة‬ ‫صبِ ِح َ‬ ‫ع ُم ْ‬ ‫طو ٌ‬ ‫إِلَ ْي ِه ذ ِلكَ ْاأل َ ْم َر أ َ هن دابِ َر هؤ ِ‬
‫ُالء َم ْق ُ‬
‫ون ( ‪َ ) 68‬واتهقُوا ه َ‬
‫َّللا َوال‬ ‫ض ُح ِ‬ ‫ض ْي ِفي فَال ت َ ْف َ‬ ‫ُالء َ‬ ‫ون ( ‪ ) 67‬قا َل ِإ هن هؤ ِ‬ ‫ش ُر َ‬ ‫ست َ ْب ِ‬
‫يَ ْ‬
‫ُالء بَناتِي ِإ ْن ُك ْنت ُ ْم‬ ‫ين ( ‪ ) 70‬قا َل هؤ ِ‬ ‫ون ) ‪ ( 69‬قالُوا أ َ َولَ ْم نَ ْن َهكَ ع َِن ا ْلعالَ ِم َ‬ ‫ت ُ ْخ ُز ِ‬
‫ص ْي َحةُ ُمش ِْر ِق َ‬
‫ين‬ ‫ون ) ‪ ( 72‬فَأ َ َخذَتْ ُه ُم ال ه‬ ‫س ْك َر ِت ِه ْم يَ ْع َم ُه َ‬ ‫ين ) ‪ ( 71‬لَعَ ْم ُركَ ِإنه ُه ْم لَ ِفي َ‬ ‫فا ِع ِل َ‬
‫س ِ ّجي ٍل ( ‪ِ ) 74‬إ هن ِفي ذ ِلكَ‬ ‫جارةً ِم ْن ِ‬ ‫علَ ْي ِه ْم ِح َ‬ ‫( ‪ ) 73‬فَ َجعَ ْلنا عا ِليَها سا ِفلَها َوأ َ ْم َط ْرنا َ‬
‫ين) ‪( 75‬‬ ‫س ِم َ‬ ‫ت ِل ْل ُمت َ َو ِ ّ‬ ‫َآليا ٍ‬
‫ص ‪459‬‬
‫ص ‪459 :‬‬
‫ت ِل ْل ُمت َ َو ِ ه‬
‫س ِمينَ ]‬ ‫[إِ َّن فِي ذ ِل َك َآليا ٍ‬
‫س ِمينَ »‬‫ت ِل ْل ُمت َ َو ِ ه‬
‫السمة هي العالمة وقوله تعالى ‪ِ «:‬إ َّن فِي ذ ِل َك َآليا ٍ‬
‫ّللا عليه وسلم ( اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور هللا ) فالفراسة نور من‬ ‫قوله صلهى ه‬
‫عز وجل يهدي له عباده ‪ ،‬ولها دالئل ‪ ،‬والفراسة الشرعية ال تشذ ألنها عن‬ ‫ّللا ه‬ ‫أنوار ه‬
‫أمر إلهي ‪ ،‬فهي مستمرة عند أهلها ألن دالئلها ‪ ،‬في نفس من قامت به ‪ ،‬بخالف‬
‫الفراسة الحكمية فإن أدلتها في نفس المتفرس فيه فقد تشذ ‪ ،‬فالفراسة الشرعية هي‬
‫أعلى درجات المكاشفة وذلك أن لها عالمات في الحس ‪ ،‬بينها وبين عالم الغيب‬
‫ارتباط ‪ ،‬وهذا علم موقوف على الذوق خالف الفراسة الحكمية فإنها موقوفة على‬
‫ّللا تعالى فهي ال‬
‫التجربة والعادة وقد ال تصدق ‪ ،‬ولما كانت الفراسة الشرعية نور ه‬
‫ّللا لعالم علمها‬
‫تعطي إال الحقائق ‪ ،‬وسبب حصولها جالء عين البصيرة ‪ ،‬وقد جعل ه‬
‫ّللا‬
‫عالمات في ظاهر الموجودات ‪ ،‬كما جاء في األثر عن عثمان بن عفان رضي ه‬
‫عنه حين أخذ على الرجل في نظره إلى ما ال يحل له فقال له الرجل أوحي بعد رسول‬
‫ّللا عليه وسلم « اتقوا‬‫ّللا صلهى ه‬ ‫ّللا عليه وسلم قال ال ولكن قال رسول ه‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫ه‬
‫فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور هللا » رأيت ذلك في عينيك ‪ ،‬فما جار وما ظلم ‪ ،‬من‬
‫تفرس وحكم ‪ ،‬يستخرج خفايا األسرار ‪ ،‬بما عنده من األنوار ‪ ،‬يعرف الماء في‬

‫ص ‪460‬‬

‫ص ‪460 :‬‬
‫الماء ‪ ،‬وال يخفى عليه شيء في األرض وال في السماء ‪ ،‬ليس بقائف ‪ ،‬بل هو العارف‬
‫يعرف األول من كل شيء فيكشف بها كل خبء ‪ ،‬يفور من بصره النور ‪ ،‬وال يبور ‪،‬‬
‫هو باإليمان مشروط ‪ ،‬وبحكمه مربوط ‪ ،‬يمده المؤمن بما شاء من أسمائه ‪ ،‬عند إنبائه‬
‫‪ ،‬فال يبطئ ‪ ،‬وال يخطي ‪ ،‬له النفوذ والمضاء ‪ ،‬وله الحكم والقضاء ‪ ،‬وال إمساك إن‬
‫شاء وال مضاء ‪ ،‬فإن شاء لم يقض وإن شاء قضى ‪ ،‬بما يكون وهو كائن وما قد‬
‫مضى ‪ ،‬نوره ال يحتاج إلى مدد ‪ ،‬وال انقضاء مدد ‪ ،‬وال استبصار بأحد ‪.‬‬

‫[ سورة الحجر ( ‪ : ) 15‬اآليات ‪ 76‬إلى ‪] 79‬‬


‫كان أَص ُ‬
‫ْحاب‬ ‫ين ( ‪َ ) 77‬و ِإ ْن َ‬ ‫يم ( ‪ِ ) 76‬إ هن فِي ذ ِلكَ َآليَةً ِل ْل ُم ْؤ ِمنِ َ‬ ‫َو ِإنهها لَ ِب َ‬
‫س ِبي ٍل ُم ِق ٍ‬
‫ين ( ‪) 79‬‬ ‫ين ( ‪) 78‬فَا ْنتَقَ ْمنا ِم ْن ُه ْم َو ِإنه ُهما لَ ِب ِإ ٍ‬
‫مام ُم ِب ٍ‬ ‫ْاأل َ ْي َك ِة لَظا ِل ِم َ‬
‫اإلمام المبين وهو الدفتر األعظم الذي مع الحق على عرشه ‪ ،‬ونقل منه في اللوح‬
‫المحفوظ قدر ما يقع به التصريف في الدنيا إلى يوم القيامة ‪ ،‬يتضمن ما في العالم من‬
‫حركة وسكون ‪ ،‬واجتماع وافتراق ‪ ،‬ورزق وأجل وعمل ‪.‬‬

‫[ سورة الحجر ( ‪ : ) 15‬اآليات ‪ 80‬إلى ‪] 85‬‬


‫ين ( ‪َ ) 80‬وآت َ ْينا ُه ْم آيا ِتنا فَكانُوا َ‬
‫ع ْنها ُم ْع ِر ِض َ‬
‫ين (‬ ‫س ِل َ‬ ‫ب أَص ُ‬
‫ْحاب ا ْل ِحجْ ِر ا ْل ُم ْر َ‬ ‫َولَقَ ْد َكذه َ‬
‫ص ْي َحةُ ُم ْ‬
‫صبِ ِح َ‬
‫ين (‬ ‫ين ( ‪ ) 82‬فَأ َ َخذَتْ ُه ُم ال ه‬ ‫آمنِ َ‬ ‫ون ِم َن ا ْل ِجبا ِل بُيُوتا ً ِ‬ ‫‪َ ) 81‬وكانُوا يَ ْن ِحت ُ َ‬
‫ون ) ‪( 84‬‬ ‫سبُ َ‬ ‫ع ْن ُه ْم ما كانُوا يَ ْك ِ‬ ‫‪ ) 83‬فَما أ َ ْغنى َ‬
‫ص ْف َح‬
‫صفَحِ ال ه‬ ‫ساعَةَ َآلتِيَةٌ فَا ْ‬‫ق َوإِ هن ال ه‬ ‫ض َوما بَ ْينَ ُهما إِاله ِبا ْل َح ّ ِ‬ ‫ت َو ْاأل َ ْر َ‬ ‫سماوا ِ‬ ‫َوما َخلَ ْقنَا ال ه‬
‫ا ْل َج ِمي َل ) ‪( 85‬‬
‫ض »كل عالم سفلي ‪ ،‬فالسماء‬ ‫ت »وهو كل عالم علوي« َو ْاأل َ ْر َ‬ ‫سماوا ِ‬ ‫« َوما َخلَ ْقنَا ال َّ‬
‫من عالم الصالح ‪ ،‬واألرض من عالم الفساد ‪ ،‬ومنه اشتقت اسم األرضة لما تفسده من‬
‫ق »وهو الحق المخلوق به العالم ‪ ،‬وفي‬ ‫الثياب والورق والخشب« َوما بَ ْينَ ُهما إِ َّال بِ ْال َح ه ِ‬
‫تفسيره وجوه‬

‫‪461‬‬

‫ص ‪461 :‬‬
‫‪-‬الوجه األول ‪ -‬هو الوجود الصرف ‪ ،‬ألنه قد قام الدليل على أنه ما ث هم وجود أزال إال‬
‫وجود الحق ‪ ،‬فهو واجب الوجود لنفسه‬
‫‪ -‬الوجه الثاني ‪ -‬الحق المخلوق به هو العماء ‪ ،‬وهو نفس الرحمن الذي هو علة‬
‫اإليجاد من جانب الرحمة بالخلق ‪ ،‬ليخرجهم من شر العدم إلى خير الوجود‬
‫ّللا العقل ‪ ،‬وهو الحق الذي‬
‫ّللا عليه وسلم أول ما خلق ه‬ ‫‪ -‬الوجه الثالث ‪ -‬قال صلهى ه‬
‫خلق به السماوات واألرض‬
‫ّللا به يوم القيامة بين عباده وفي عباده وبه‬
‫‪ -‬الوجه الرابع ‪ -‬الحق هنا هو ما يحكم ه‬
‫أنزل الشرائع –‬

‫[ كنت كنزا لم أعرف فأحببت أن أعرف ]‬


‫تحقيق ‪ -‬قال تعالى كما ورد ( كنت كنزا لم أعرف فأحببت أن أعرف ) ولما كان‬
‫المحب من شأنه إذا قام بالصورة أن يتنفس ‪ ،‬لما في ذلك التنفس من لذة المطلوب ‪،‬‬
‫فخرج ذلك النفس من شأنه إذا قام بالصورة أن يتنفس ‪ ،‬لما في ذلك التنفس من لذة‬
‫المطلوب ‪ ،‬فخرج ذلك النفس عن أصل محبة في الخلق الذي يريد التعرف إليهم‬
‫ليعرفوه ‪ ،‬فكان العماء المسمى بالحق المخلوق به ‪ ،‬فكان ذلك العماء ماء جوهر العالم‬
‫‪ ،‬فقبل صور العالم وأرواحه وطبائعه كلها ‪ ،‬وهو قابل إلى ما ال يتناهى ‪ ،‬فجميع‬
‫الموجودات ظهرت في العماء بكن ‪ ،‬أو باليد اإللهية ‪ ،‬أو باليدين ‪ ،‬إال العماء فظهوره‬
‫بالنفس خاصة ‪ ،‬ولوال ما ورد في الشرع النفس ما أطلقناه ‪ ،‬مع علمنا به ‪ ،‬وأصل ذلك‬
‫حكم الحب ‪ ،‬فبهذا الحب وقع التنفس فظهر النفس ‪ ،‬فكان العماء ‪ ،‬فهذا العماء هو‬
‫الحق المخلوق به كل شيء ‪ ،‬وسمي الحق ألنه عين النفس والنفس مبطون في المتنفس‬
‫‪ ،‬فالعماء من تنفسه تعالى ‪ ،‬والصور المعبر عنها بالعالم من كلمة كن ‪ ،‬فلما سمعنا‬
‫كالمه تعالى ونحن ثابتون في جوهر العماء لم نتمكن أن نتوقف عن الوجود ‪ ،‬فكنا‬
‫صورا في جوهر العماء ‪ ،‬فأعطينا بظهورنا في العماء الوجود للعماء بعد ما كان‬
‫معقولي الوجود ‪ ،‬حصل له الوجود العيني ‪ ،‬فاألصل على هذا كان وهو العماء من‬
‫النفس ‪ ،‬وهو وجود وهو عين الحق المخلوق به وأجناس العالم مخلوقون من العماء ‪،‬‬
‫وأشخاص العالم مخلوقون من العماء أيضا ومن أنواع أجناسه ‪ ،‬فما خلق شيء من‬
‫عدم ال يمكن وجوده ‪ ،‬بل ظهر في أعيان ثابتة ‪.‬‬
‫[ سورة الحجر ( ‪ : ) 15‬آية ‪]86‬‬
‫ق ا ْلعَ ِلي ُم ) ‪( 86‬‬
‫إِ هن َربهكَ ُه َو ا ْل َخاله ُ‬
‫ّللا تعالى بالجملة لم يزل خالقا وال‬
‫وال يعلم أحد للعالم مدة يقف عندها بجملتها ‪ ،‬إال أن ه‬
‫يزال دنيا وآخرة ‪ ،‬واآلجال في المخلوق بانتهاء المدد ال في الخلق ‪ ،‬فالخلق مع‬
‫األنفاس يتجدد ‪ ،‬فما أعلم به خلقه علمه‪.‬‬

‫ص ‪462‬‬

‫ص ‪462 :‬‬
‫[ سورة الحجر ( ‪ : ) 15‬آية ‪] 87‬‬
‫آن ا ْلعَ ِظي َم ( ‪) 87‬‬
‫س ْبعا ً ِم َن ا ْل َمثانِي َوا ْلقُ ْر َ‬ ‫َولَقَ ْد آت َ ْيناكَ َ‬
‫[ السبع المثاني ]‬
‫يراجع تفسير فاتحة الكتاب في السبع المثاني ‪ -‬الفاتحة هي السبع المثاني ‪ ،‬فهي سبع‬
‫آيات تحتوي على جميع اآليات ‪ ،‬فظهرت في الوجود حضرة تفرد وحضرة تجمع ‪،‬‬
‫فمن البسملة إلى الدين إفراد إلهي ‪ ،‬ومن اهدنا إلى الضالين إفراد العبد المألوه ‪،‬‬
‫ين ) تشمل ‪ ،‬وما هي العطاء ‪ ،‬وإنما العطاء ما بعدها ‪،‬‬ ‫َّاك نَ ْست َ ِع ُ‬
‫َّاك نَ ْعبُ ُد َو ِإي َ‬
‫وقوله( ِإي َ‬
‫وإياك في الموضعين ملحق باإلفراد اإللهي ‪ ،‬فصحت السبع المثاني ‪ ،‬يقول العبد‬
‫يم »‬ ‫ّللا« َو ْالقُ ْرآنَ ْالعَ ِظ َ‬ ‫فيقول ه‬
‫‪ -‬الوجه األول ‪ -‬العظيم الصفات ‪ ،‬والقرآن الجمع ‪ ،‬وليس سوى إياك نعبد وإياك‬
‫نستعين‬
‫يم »قيد وصف القرآن في هذه اآلية بالعظمة ‪ ،‬فإن‬ ‫‪ -‬الوجه الثاني ‪َ «-‬و ْالقُ ْرآنَ ْالعَ ِظ َ‬
‫نزوله إذا كان بصفة العظمة أثر في القلب هيبة وجالال وحياء ومراقبة وحضورا‬
‫ّللا ‪،‬‬
‫وإخباتا وانكسارا وذلة وافتقارا وانقباضا وحفظا ومراعاة وتعظيما لشعائر ه‬
‫ّللا ‪ ،‬ولم‬
‫ّللا وعند أهل ه‬
‫وانصبغ القرآن كله عنده بهذه الصفة ‪ ،‬فأورثه عظمة عند ه‬
‫يجهل أحد من المخلوقات عظمة هذا الشخص ‪ ،‬إال بعض الثقلين ألنهم ما سمعوا نداء‬
‫الحق عليه بالتعريف ‪،‬‬
‫ّللا عبدا قال لجبريل‬
‫ّللا عليه وسلم أنه قال ‪ [ :‬إذا أحب ه‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫وقد ورد عن رسول ه‬
‫‪ :‬إني أحب فالنا ‪ ،‬فيحبه جبريل ‪ ،‬ثم يأمره أن يعلم بذلك أهل السماء ‪ ،‬فيقول أال إن‬
‫ّللا تعالى قد أحب فالنا فأحبوه ‪ ،‬فيحبه أهل السماء كلهم ‪ ،‬ثم يوضع له القبول في‬ ‫ه‬
‫األرض ] ‪.‬‬

‫[ سورة الحجر ( ‪ ) : 15‬اآليات ‪ 88‬إلى ‪] 91‬‬


‫ض َجنا َحكَ‬ ‫علَ ْي ِه ْم َو ْ‬
‫اخ ِف ْ‬ ‫ع ْينَ ْيكَ إِلى ما َمت ه ْعنا بِ ِه أ َ ْزواجا ً ِم ْن ُه ْم َوال تَحْ َز ْن َ‬‫ال ت َ ُمد ههن َ‬
‫س ِم َ‬
‫ين ( ‪90‬‬ ‫ين ( ‪ ) 89‬كَما أ َ ْن َز ْلنا َ‬
‫علَى ا ْل ُم ْقت َ ِ‬ ‫ين ( ‪َ ) 88‬وقُ ْل ِإ ِنّي أَنَا النهذ ُ‬
‫ِير ا ْل ُم ِب ُ‬ ‫ِل ْل ُم ْؤ ِمنِ َ‬
‫ين ) ‪( 91‬‬ ‫آن ِع ِض َ‬ ‫ِين َجعَلُوا ا ْلقُ ْر َ‬
‫) الهذ َ‬
‫ّللا جل ثناؤه بالربوبية على إنفاذ سؤال التقرير على المشركين يوم القيامة ‪،‬‬ ‫في قسم ه‬
‫أقسم سبحانه على نفسه باسم الرب المضاف إلى نبيه محمد عليه السالم ‪ ،‬فقال ه‬
‫عز من‬
‫قائل ‪.‬‬

‫[ سورة الحجر ( ‪ : ) 15‬اآليات ‪ 92‬إلى ‪] 94‬‬


‫ون ( ‪ ) 93‬فَا ْ‬
‫ص َد ْع ِبما ت ُ ْؤ َم ُر‬ ‫ع هما كانُوا يَ ْع َملُ َ‬ ‫سئَلَنه ُه ْم أَجْ َم ِع َ‬
‫ين ( ‪َ ) 92‬‬ ‫فَ َو َر ِبّكَ لَنَ ْ‬
‫ض ع َِن ا ْل ُمش ِْر ِك َ‬
‫ين) ‪( 94‬‬ ‫َوأَع ِْر ْ‬

‫ص ‪463‬‬

‫ص ‪463 :‬‬
‫ّللا فيه‬
‫ّللا ‪ ،‬ألنه ما قال له اصدع إال وال بد أن يكون قابال لنفوذ أمر ه‬ ‫فانصدع بأمر ه‬
‫حتى يسمى مصدوعا ‪ ،‬فلو كان ال يقبل النفوذ لكان هذا األمر عبثا ‪ ،‬أال ترى إلى قوله‬
‫ع ِن ْال ُم ْش ِر ِكينَ »فإنه ال ينفذ في المشرك ‪ ،‬إذ لو نفذ لو هحد ‪ ،‬فقال له‬ ‫تعالى« َوأَع ِْر ْ‬
‫ض َ‬
‫‪:‬‬
‫وأعرض ‪ ،‬ألنهم ليسوا بمحل ‪ ،‬فيأمر الرسول المشرك من غير صدع ‪ ،‬والذي علم‬
‫منه أنه يجيب ويقبل األمر ولو كان على كره هو الذي يصدع باألمر ‪.‬‬

‫[ سورة الحجر ( ‪ : ) 15‬اآليات ‪ 95‬إلى ‪] 96‬‬


‫ون (‪)96‬‬ ‫ف يَ ْعلَ ُم َ‬ ‫س ْو َ‬ ‫َّللا ِإلها ً آ َخ َر فَ َ‬
‫ون َم َع ه ِ‬ ‫ين ( ‪ ) 95‬الهذ َ‬
‫ِين يَجْ عَلُ َ‬ ‫ستَه ِْزئِ َ‬‫ِإنها َكفَ ْيناكَ ا ْل ُم ْ‬
‫ّللا ُز ْلفى )وقالوا( أ َ َجعَ َل ْاآل ِل َهةَ ِإلها ً ِ‬
‫واحدا ً‬ ‫وهم الذين قالوا( ما نَ ْعبُ ُد ُه ْم ِإ َّال ِليُقَ ِ هربُونا ِإلَى َّ ِ‬
‫جاب )أقسم سبحانه باسمه لنبيه وأضافه إليه إضافة الحضور‬ ‫ع ٌ‬ ‫ش ْي ٌء ُ‬ ‫ِإ َّن هذا لَ َ‬
‫والمشاهدة ‪ ،‬تفريجا لغمه وطردا لهمه ‪ ،‬وثلجا لفؤاده ‪ ،‬وشرحا لما ناله من الضيق‬
‫والحرج مما سمع في سيده ومرسله وحبيبه من رد أمره وخطابه وتكذيبه ‪ ،‬وهذا هو‬
‫المقام العالي الذي ال أعلى منه وال أسنى ‪ ،‬ويقع فيه التفاضل بين الرسل وبين األنبياء‬
‫ّللا عليه وسلم سؤال الحق عباده عن‬ ‫وبين األولياء ‪ ،‬ولما كان عند النبي صلهى ه‬
‫أعمالهم بالتقرير واإلنكار والتوبيخ والتقريع من المشقات الكبيرة واآلالم العظام ‪ ،‬أقسم‬
‫له سبحانه بنفسه ليشتفي من أعدائه في ذلك الموطن ‪ ،‬فقدهم له إخباره هذا ‪ ،‬وأقسم عليه‬
‫تأكيدا ‪ ،‬لينقص عنه من ذلك الضيق الذي يجده بعض الشيء ‪.‬‬

‫[ سورة الحجر ( ‪ : ) 15‬آية ‪] 97‬‬


‫صد ُْركَ ِبما يَقُولُ َ‬
‫ون ) ‪( 97‬‬ ‫ق َ‬ ‫َولَقَ ْد نَ ْعلَ ُم أَنهكَ يَ ِضي ُ‬
‫ّللا وتكذيبه ‪ ،‬فهو لذلك يضيق صدره ‪ ،‬فلما علم أن نبيه صلهى ه‬
‫ّللا عليه‬ ‫يعني في حق ه‬
‫وسلم في المقام الذي أوصله إليه سبحانه بعنايته التي تقتضي له أن يعامل الوقت كما‬
‫ينبغي بما ينبغي لما ينبغي ‪ ،‬أمره بالتسبيح الرباني ليشغله به عن ضيقه وألمه وجرحه‬
‫‪ ،‬وزواله بالكلية محال من أجل الموطن ‪ ،‬ولهذا قال له في هذا الموطن في آية أخرى(‬
‫ص ِب ْر ِل ُح ْك ِم َر ِبه َك فَإِنَّ َك ِبأ َ ْعيُنِنا ) فأمره‬
‫َوا ْ‬

‫ص ‪464‬‬

‫ص ‪464 :‬‬
‫سبحانه باالشتغال بالرب من مقام التذلل فقال ‪.‬‬
‫[ سورة الحجر ( ‪ : ) 15‬آية ‪] 98‬‬
‫ِين ) ‪( 98‬‬ ‫اجد َ‬ ‫س ِبّحْ ِب َح ْم ِد َر ِبّكَ َوك ُْن ِم َن ال ه‬
‫س ِ‬ ‫فَ َ‬
‫فالرب هنا بمعنى السيد ‪ ،‬وفي التسبيح بمعنى الثابت ‪ ،‬فأراد سبحانه بما أمره به من‬
‫التسبيح الرباني والعبادة الربانية أن يغنيه عنهم إلى يوم يلقاه ‪ ،‬والتسبيح التنزيه ‪ ،‬وهو‬
‫قسم من أقسام الحمد ‪ ،‬فهو ثناء بعدم ‪ ،‬وهو التنزه عن كل صفة تدل على الحدوث‬
‫التصافه بالقدم ‪ ،‬واحذر أن تسبح الحق بعقلك ‪ ،‬واجعل تسبيحه منك بالقرآن الذي هو‬
‫كالمه ‪ ،‬فتكون حاكيا ال مخترعا وال مبتدعا ‪ ،‬فهو أعلم بنفسه منك ‪ ،‬وهو يحمد ذاته‬
‫بأتم المحامد وهو قوله « ِب َح ْم ِد َر ِبه َك »فال تسبحه تسبيحة واحدة بعقلك جملة واحدة ‪،‬‬
‫فإن األدلة العقلية كثيرة التنافر لألدلة الشرعية في اإللهيات ‪ ،‬فسبح ربك بكالم ربك‬
‫وبتسبيحه ‪ ،‬ال بعقلك الذي استفاده من فكره ونظره ‪ ،‬فإنه ما استفاد أكثر ما استفاد إال‬
‫اجدِينَ »يريد الذين ال يرفعون رؤوسهم‬ ‫س ِ‬‫الجهل ‪ ،‬فال تتعد بالفكر محله« َو ُك ْن ِمنَ ال َّ‬
‫أبدا ‪ ،‬وال يكون ذلك إال في سجود القلب ‪ ،‬ولهذا قال له عقيب قوله« َو ُك ْن ِمنَ‬
‫اجدِينَ »تمم فقال ‪.‬‬ ‫س ِ‬ ‫ال َّ‬

‫[ سورة الحجر (‪ : )15‬آية ‪] 99‬‬


‫ين ( ‪) 99‬‬ ‫َوا ْعبُ ْد َربهكَ َحتهى يَأْتِيَكَ ا ْليَ ِق ُ‬
‫ين » ]‬ ‫[ « َحتَّى يَأْتِيَ َك ْاليَ ِق ُ‬
‫ولما كان القسم بالرب ‪ ،‬جعل الحكم بالتسبيح لهذا االسم والعبادة له ‪ ،‬حتى ال يكون‬
‫السم آخر سلطان عليه في هذه النازلة على هذا المقام ‪ ،‬فقال له تعالى ‪ (:‬فَ َ‬
‫س ِبه ْح ِب َح ْم ِد‬
‫َر ِبه َك )وقال ‪َ «:‬وا ْعبُ ْد َرب ََّك »المنعوت في الشرع« َحتَّى يَأْتِيَ َك ْاليَ ِق ُ‬
‫ين »‬
‫‪ -‬الوجه األول ‪ -‬فتعرف باليقين من سجد منك ‪ ،‬ولمن سجدت ‪ ،‬فتعلم أنك آلة مسخرة‬
‫بيد حق قادر ‪ ،‬اصطفاك وطهرك وحالك بصفاته‬
‫ّللا ‪،‬‬‫‪ -‬الوجه الثاني ‪ -‬اعلم أن األسماء اإللهية نسب ‪ ،‬فمن عرف النسب فقد عرف ه‬
‫ّللا ‪ ،‬ومن عرف أن النسب تطلبها الممكنات فقد عرف‬ ‫ومن جهل النسب فقد جهل ه‬
‫العالم ‪ ،‬ومن عرف ارتفاع النسب فقد عرف ذات الحق من طريق السلب ‪ ،‬فال يقبل‬
‫النسب وال تقبله ‪ ،‬وإذا لم يقبل النسب لم يقبل العالم ‪ ،‬فقوله تعالى ‪َ «:‬وا ْعبُ ْد َرب ََّك‬
‫ين »فتعلم من عبده ومن‬ ‫»نسبة خاصة من االسم الرب المضاف« َحتَّى يَأ ْ ِتيَ َك ْاليَ ِق ُ‬
‫العابد والمعبود‬
‫ين »فينكشف الغطاء ويحتد البصر ‪،‬‬ ‫ْ‬
‫– الوجه الثالث ‪َ «-‬وا ْعبُ ْد َرب ََّك َحتَّى يَأتِيَ َك ْاليَ ِق ُ‬
‫فترى ما رأى‬

‫ص ‪465‬‬

‫ص ‪465 :‬‬
‫ّللا عليه وسلم وتسمع ما سمع ‪ ،‬فتلحق به في درجته من غير نبوة‬ ‫الرسول صلهى ه‬
‫تشريع ‪ ،‬بل وراثة محققة لنفس مصدقة متبعة ‪ -‬لذلك قرأ بعضهم من باب اإلشارة«‬
‫َوا ْعبُ ْد َرب ََّك َحتَّى يَأْتِيَ َك »‬
‫ين »يعني الموت ‪ ،‬ألنه أمر متيقن ال اختالف في‬ ‫‪ -‬الوجه الرابع ‪َ «-‬حتَّى يَأْتِيَ َك ْاليَ ِق ُ‬
‫وقوعه في كل حيوان‬
‫‪ -‬الوجه الخامس ‪ « -‬اليقين »‬
‫[ « اليقين » ]‬
‫حكم اليقين سكون النفس بالمتيقن ‪ ،‬أو حركتها إلى المتيقن وهو ما يكون اإلنسان فيه‬
‫على بصيرة ‪ ،‬أي شيء كان ‪ ،‬فإذا كان حكم المبتغى حكم الحاصل فذلك اليقين ‪ ،‬سواء‬
‫حصل المتيقن أو لم يحصل في الوقت ‪ ،‬وهو قول القائل لو كشف الغطاء ما ازددت‬
‫ّللا لنبيه ولكل عبد يكون‬‫يقينا ‪ ،‬مع أن المتيقن ما حصل في الوجود العيني ‪ ،‬فقال ه‬
‫ين »ولما كان شرف اليقين بشرف المتيقن ‪ ،‬لهذا‬ ‫بمثابته« َوا ْعبُ ْد َرب ََّك َحتَّى يَأْتِيَ َك ْاليَ ِق ُ‬
‫ين »يريد متيقنا خاصا ‪ ،‬ما هو يقين يقع‬ ‫جاء باأللف والالم في قوله« َحتَّى يَأْتِيَ َك ْاليَ ِق ُ‬
‫المدح به ‪ ،‬بل هو يقين معيهن ‪ ،‬واليقين هو الذي يأتي طالبا المحل الذي ينزل فيه ‪ ،‬فإذا‬
‫تيقنت علمت بمن آمنت ‪ -‬الوجه السادس ‪ -‬إذا أضاف الحق نفسه إلى شيء من خلقه ‪،‬‬
‫فانظر إلى عبادة ما أضاف نفسه إليه فقم بها أنت ‪ ،‬فإنك النسخة الجامعة ‪ ،‬وما عرفك‬
‫الحق بهذه اإلضافة الخاصة إال لهذا ‪ ،‬مثال اإلله المضاف ‪ :‬وإلهكم ‪ ،‬ربنا الذي أعطى‬
‫‪ ،‬رب المشرق والمغرب ‪ ،‬رب السماوات ‪ ،‬ورب آبائكم ‪ ،‬رب المشرقين ورب‬
‫المغربين فعطف ‪ ،‬وما أظهر اإلضافة كما فعل في غير ذلك ‪ ،‬ما فعله سدى ‪ ،‬فاعبد‬
‫ربك على ما قلته لك في كل إضافة حتى يأتيك اليقين ‪ ،‬وإذا أتاك اليقين انجلى لك‬
‫األمر وعرفت شرف اإلضافة ‪ ،‬فإنه ما عبد أحد اإلله المطلق عن اإلضافة فإنه اإلله‬
‫المجهول ‪.‬‬
‫بحث في اليقين ‪ -‬اليقين مقام شريف بين العلم والطمأنينة ‪ ،‬وربما اشتق اليقين من يقن‬
‫ّللا‬
‫الماء إذا استقر ‪ ،‬فاليقين استقرار اإليمان في القلب ‪ ،‬واعلم أن اليقين لما اعتنى به ه‬
‫دون غيره من المقامات ‪ ،‬أكمل نشأته فسوى ذاته أوال حين أرسله مطلقا ‪ ،‬مثل قوله‬
‫ين »ثم جعل له عينا وعلما وحقا وأخفى حقيقته ‪ ،‬فإن رسول‬ ‫تعالى ‪َ «:‬حتَّى يَأْتِيَ َك ْاليَ ِق ُ‬
‫ّللا عليه وسلم يقول ‪ [ :‬لكل شيء حقيقة ] وقد ثبت حق اليقين ‪ ،‬فال بد لهذا‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫ه‬
‫الحق من حقيقة ‪ ،‬وهو حقيقة اليقين ‪ ،‬فصار اليقين على هذا نشأة قائمة على أربعة‬
‫أركان ‪ :‬علم وعين وحق وحقيقة ‪ ،‬فالحقيقة سنهية ‪ ،‬والثالثة األركان الباقية كتابية ‪،‬‬
‫فاليقين اسم يكون منه فعل فيظهر في حضرة األفعال على مراتبها ‪ ،‬وال يتمكن أن‬
‫يوصف بوجه ‪ ،‬بخالف العلم ‪ ،‬فال يوصف بالقدم‬

‫ص ‪466‬‬

‫ص ‪466 :‬‬
‫ويوصف بالعلم والعين والحق وغير ذلك ‪ ،‬ولما كان فلك اليقين واسعا ‪ ،‬كان في‬
‫حركته بطء التساع فلكه ولعلوه وارتفاعه ‪ ،‬فال يظهر له في عالم التركيب ذلك األثر‬
‫الظاهر إال عند القليل من المتروحنين من البشر ‪ ،‬وذلك لعلو هممهم ‪ ،‬فإنها جازت‬
‫عليه من فلكه وقربت منه فحصل آثاره فيها ‪ ،‬ولذلك قال تعالى (‪ِ :‬لقَ ْو ٍم يُوقِنُونَ )‬
‫*فجعلهم قوما ‪ ،‬فإن الشكوك هي الغالبة والقطع على جهالة ال على يقين ‪ ،‬فسمي‬
‫القطع يقينا ‪ ،‬واليقين من جهة الحقيقة غير حاصل عند أكثر الناس ‪ ،‬وإن القطع عندهم‬
‫حاصل عندهم ويسمونه يقينا ‪ ،‬وليس كذلك ‪ ،‬فلو كانت دائرة فلك اليقين قريبة منا‬
‫سريعة الدور ضيقة الفلك لكانت سريعة األثر ‪ ،‬وكان الخلق أكثرهم على اليقين ‪،‬‬
‫فكانوا على سبيل الحق ‪ ،‬لكن األمر كما ترى بالعكس ‪ ،‬وانظر في إشارة الشارع بقوله‬
‫ع ْن َ‬
‫س ِبي ِل َّ ِ‬
‫ّللا‬ ‫وك َ‬ ‫ضلُّ َ‬ ‫ض يُ ِ‬ ‫ّللا عليه وسلم( َو ِإ ْن ت ُ ِط ْع أ َ ْكث َ َر َم ْن ِفي ْاأل َ ْر ِ‬ ‫تعالى لنبيه صلهى ه‬
‫ت َوقَ ِلي ٌل ما ُه ْم )فأين أنت من‬ ‫صا ِلحا ِ‬ ‫ع ِملُوا ال َّ‬ ‫)وقلهل الصالحين فقال ‪ِ (:‬إ َّال الَّذِينَ آ َمنُوا َو َ‬
‫أصحاب اليقين الذين هم أقل من ع همال الصالحات ‪ ،‬بل نبهه عليهم( بِقَ ْو ٍم ) *فهم أقل من‬
‫القليل ‪ ،‬واليقين فوق اإليمان بال شك ‪ ،‬فأين الطمأنينة أبعد وأبعد ‪ ،‬وأخبر صلهى ه‬
‫ّللا‬
‫ين »وسر ذلك أنه‬ ‫عليه وسلم أنه يتعلم اليقين ‪ ،‬وقيل له« َوا ْعبُ ْد َرب ََّك َحتَّى يَأْتِيَ َك ْاليَ ِق ُ‬
‫قيل له( َوقُ ْل َربه ِ ِز ْدنِي ِع ْلما ً )والعلم ال بد بأن يستند إلى اليقين ‪ ،‬ألن اليقين روح العلم‬
‫والطمأنينة حياته ‪ ،‬فال يزال يطلب الزيادة من العلم ‪ ،‬فال يزال يتعلم اليقين الرتباطه به‬
‫‪ ،‬وهكذا في كل دقيقة من دقائق التفاصيل ‪ ،‬ولما كان العلم بهذه المثابة انبغى لكل‬
‫عاقل أن ال يسأل سواه في كل شيء ‪ ،‬ولما كان لليقين نشأة كاملة كانت له عين مميزة‬
‫‪ ،‬فقيل عين اليقين ‪ ،‬لئال يتخيل السامع أنا نريد عين الشمس وغير ذلك ‪ ،‬ونقول علم‬
‫حق اليقين ‪ ،‬لئال يتخيل‬ ‫اليقين في العلم ‪ ،‬لئال يتخيل علم النحو أو علم األدب ‪ ،‬وكذلك ه‬
‫حق قدره وحق تقاته إذا قلنا حق وال نضيفه إلى اليقين ‪ ،‬كذلك نقول حقيقة اليقين ‪ ،‬لئال‬
‫يتخيل أنا نريد حقيقة اإليمان وحقيقة الوجود ‪ ،‬فجاءت اإلضافة قطعا ‪ ،‬ألن اليقين هو‬
‫مجموع هذه األشياء فجازت ‪ ،‬واليقين ما بأيدي الناس منه إال مجرد ذاته الجسمانية ‪،‬‬
‫أي حروفه اللفظية والرقمية ‪ ،‬ولذلك ما تجد أحدا إال وهو يشك في المقدور ‪ ،‬إما بعقده‬
‫ّللا عليها‬
‫وإما بحاله ضرورة ‪ ،‬وأدناها مرتبة هذه الكسيرة التي وقع القسم من ه‬
‫بضمانها ‪ ،‬وال بد أن يعطيها ولم يشترط فيها إيمانا وال كفرا ‪ ،‬ومع هذا كله لم يثلج‬
‫صدره وال حصل في النفس من اليقين‬

‫‪467‬‬

‫ص ‪467 :‬‬
‫ّللا له عن بصيرته‬ ‫علم وال عين وال حق وال حقيقة ‪ ،‬فأين أنت يا مسكين ؟ فمن كشف ه‬
‫وانحل قفله من أهل الكمال قليلون جدا ‪ ،‬فانظر ما أعلى درجة اليقين ‪ ،‬فإن عين اليقين‬
‫بها ينظر إلى الهمم عند تسابقها إليه وتجاريها على براقات األعمال الصالحات ‪،‬‬
‫فيشهدها خارجة من النفوس المسجونة في الهياكل الظلمانية ‪ ،‬واختراقها عالم الوهم‬
‫والمثال الذي هو البحر الخضم الذي تهلك فيه أكثر الهمم ‪ ،‬وتعاين هذا اليقين بالعين‬
‫المضافة ‪ ،‬فالصاحب يقول ‪:‬‬
‫ّللا عليه وسلم كان يكلم دحية ‪ ،‬وإنما كان جبريل عليه السالم ‪،‬‬ ‫ّللا صلهى ه‬
‫إن رسول ه‬
‫فإذا قال ‪ :‬إنه دحية فال علم عنده وال يقين ‪ ،‬لكنه عنده القطع الذي يسميه يقينا ‪،‬‬
‫ّللا عليه‬
‫واليقين إذا نظر بعينه إلى مثل ما ذكرناه ورأى رجوع الهمم يتعجب مما خلق ه‬
‫العقول من القصور ‪ ،‬فما أشأم من وثق بعقله ‪ ،‬أو قال إنه يعرف ربه بعقله ‪ ،‬وإذا‬
‫وصلت الهمم بالمسابقة إلى اليقين وهو ينظر إليها بعينه ‪ ،‬أنزلها في حضرته وحصل‬
‫من صور الهمم التي يمتاز بعضها من بعض صورة معقولة ‪ ،‬ال يمكن للبصر أن‬
‫يدركها ‪ ،‬ألنها غيب ‪ ،‬فيسلط علمه عليها ‪ ،‬وهذا هو علم اليقين المضاف إليه ‪ ،‬فعينك‬
‫إذا لم تغلط من عين اليقين ‪ ،‬وإذا غلطت من عين القطع ‪ ،‬وعلمك إذا لم يغلط من علم‬
‫اليقين وإذا غلط فمن علم القطع ‪ ،‬وهو قوله تعالى ‪ [ :‬كنت سمعه وبصره ] فال يرى‬
‫إال اليقين وال يعلم إال اليقين ‪ ،‬وأما حق اليقين فهو أن ينظر عندما تميزت له صفات‬
‫الفصل بين الهمم في األمر الذي انبعثت عنه وحكم مزاج صاحب تلك الهمة وأين‬
‫محله من عالمه وعلى ما ذا قامت بنيته حين يبدو له ما يعطي امتزاج أخالطه من‬
‫القوة ‪ ،‬فيكون اإلمداد بحسب ذلك ‪ ،‬وأما حقيقة اليقين فهو أن ينظر في المقام المعلوم‬
‫الذي منه نزل إلى أسفل سافلين ‪ ،‬فإنه إلى ذلك ينتهي بعد التكليف وااللتحاق‬
‫ّللا تعالى أوجد كل لطيفة إنسانية في مقامها الذي تؤول إليه‬ ‫بالروحانيات العلى ‪ ،‬فإن ه‬
‫كالمالئكة سواء ‪ ،‬ثم نزلت إلى تدبير األبدان فهكذا اإلنسان ال يزال يترقى إلى آخر‬
‫نفسه الذي يموت عليه ‪ ،‬وهو مقامه الذي نزل منه ‪ ،‬ولذلك قال( َوإِلَ ْي ِه ت ُ ْر َجعُونَ ) *وال‬
‫يرجع إلى شيء إال من خرج منه ‪ ،‬فبذلك المقام تتعلق حقيقة اليقين‪.‬‬

‫ص ‪468‬‬

‫ص ‪468 :‬‬
‫) ‪ ( 16‬سورة النّحل مكيّة‬
‫الرحيم‬
‫الرحمن ّ‬ ‫َّللا ّ‬
‫بسم ّ‬
‫[ سورة النحل ( ‪ : ) 16‬آية ‪] 1‬‬
‫يم‬‫الر ِح ِ‬‫من ه‬ ‫الرحْ ِ‬‫َّللا ه‬
‫س ِم ه ِ‬‫ِب ْ‬
‫س ْبحانَهُ َوتَعالى َ‬
‫ع هما يُش ِْرك َ‬
‫ُون ( ‪) 1‬‬ ‫ست َ ْع ِجلُو ُه ُ‬ ‫أَتى أ َ ْم ُر ه ِ‬
‫َّللا فَال ت َ ْ‬
‫ّللا »يوم القيامة وإن كان لم يأت بعد ولكن تقطع النفس‬ ‫« أَتى »بالماضي« أ َ ْم ُر َّ ِ‬
‫المؤمنة بإتيانه فال فرق عندها بين حصوله وعدم حصوله وعبر بالماضي عن‬
‫المستقبل لتحقق وقوعه وال بد وزوال حكم اإلمكان فيه إلى حكم الوجوب وكل ما كان‬
‫بهذه المثابة فحكم الماضي فيه والمستقبل على السواء وسياقه بالماضي آكد في الوقوع‬
‫وتحققه من بقائه على االستقبال‪.‬‬

‫[ سورة النحل ( ‪ : ) 16‬آية ‪] 2‬‬


‫الروحِ ِم ْن أ َ ْم ِر ِه عَلى َم ْن يَشا ُء ِم ْن ِعبا ِد ِه أ َ ْن أ َ ْنذ ُِروا أَنههُ ال إِلهَ إِاله أَنَا‬ ‫يُنَ ِ ّز ُل ا ْل َمالئِكَةَ بِ ُّ‬
‫ون ( ‪( 2‬‬ ‫فَاتهقُ ِ‬
‫وح »لما كان العلم تحيا به القلوب كما تحيا باألرواح أعيان‬ ‫«يُن ِ هَز ُل ْال َمالئِ َكةَ ِب ُّ‬
‫الر ِ‬
‫األجسام كلها سمي العلم روحا تنزل به المالئكة على قلوب عباده فهم المعلمون‬
‫واألستاذون في الغيب ‪ ،‬يشهدهم من نزلوا عليه ‪ ،‬فإذا نزل هذا الروح في قلب العبد‬
‫ّللا ووحيه ‪ ،‬حيي به قلب المنزل عليه ‪ ،‬فكان صاحب شهود‬ ‫بتنزيل الملك أو بإلقاء ه‬
‫ووجود ‪ ،‬ال صاحب فكر وتردد وال علم يقبل عليه دخال فينتقل صاحبه من درجة‬
‫على َم ْن يَشا ُء ِم ْن ِعبا ِد ِه »وهي النبوة العامة ألن من‬ ‫القطع إلى حال النظر« ِم ْن أ َ ْم ِر ِه َ‬
‫نكرة« أ َ ْن أ َ ْنذ ُِروا »فما جاء إال باإلعالم ‪ ،‬وفيه ضرب من الزجر حيث ساق اإلعالم‬
‫بلفظة اإلنذار ‪ ،‬فهو إعالم بزجر فإنه البشير والنذير ‪ ،‬والبشارة ال تكون إال عن إعالم‬
‫‪ ،‬فغلب في اإلنزال الروحاني باب الزجر والخوف ‪ ،‬لما قام بالنفوس من الطمأنينة‬
‫ّللا من‬ ‫الموجبة إرسال الرسل ليعلموهم أنهم عن الدنيا إلى اآلخرة منقلبون ‪ ،‬وإلى ه‬
‫نفوسهم راجعون« أَنَّهُ ال ِإلهَ ِإ َّال أَنَا »هذا هو التوحيد الخامس عشر في القرآن‬

‫ص ‪469‬‬

‫ص ‪469 :‬‬
‫ون »وهي نبوة خاصة بنبوة‬ ‫وهو توحيد اإلنذار ‪ ،‬وهو توحيد اإلناية ( أَنَا ) « فَاتَّقُ ِ‬
‫التشريع ‪ ،‬ألن اإلنذار مقرون أبدا بنبوة التشريع ‪ ،‬ويكون الروح صورة قوله« ال ِإلهَ‬
‫ون »فإنه لم يقل هو ‪ ،‬فكان الروح هو الملقى‬ ‫ِإ َّال أَنَا فَاتَّقُ ِ‬
‫ّللا لهم بذلك ‪ ،‬فاستوى‬ ‫‪ -‬وجه آخر ‪ -‬المالئكة هنا هي التي نزلت باإلنذار من أجل أمر ه‬
‫في هذا التنزل في التوحيد رسل البشر والمرسلون إليهم ‪ ،‬والروح هنا ما نزلوا به من‬
‫اإلنذار ‪ ،‬ليحيى بقبوله من قبله من عباده كما تحيى األجسام باألرواح ‪ ،‬فحييت بهذا‬
‫الروح المنزل رسل البشر ‪ ،‬فأنذروا بهذا التوحيد العظيم الذي نزل من جبار عظيم‬
‫ون »أي فاجعلوني وقاية تدفعون بي ما‬ ‫بتخويف وتهديد مع لطف خفي في قوله« فَاتَّقُ ِ‬
‫أنذرتكم به ‪ ،‬هذا لطفه ‪ ،‬ليس معناه فخافوني ‪ ،‬ألنه ليس هّلل وعيد وبطش مطلق شديد‬
‫ليس فيه شيء من الرحمة واللطف ‪ ،‬ومثل هذه اآلية قوله تعالى ( يُ ْل ِقي ُّ‬
‫الرو َح ِم ْن‬
‫بار ُزونَ ) نبوة‬ ‫ق يَ ْو َم ُه ْم ِ‬ ‫على َم ْن يَشا ُء ِم ْن ِعبا ِد ِه (نبوة عامة ( ِليُ ْنذ َِر يَ ْو َم التَّال ِ‬ ‫أ َ ْم ِر ِه َ‬
‫تشريع ال نبوة عموم‬
‫‪ -‬بحث في نزول المالئكة على البشر –‬
‫قال بعض أصحابنا كاإلمام أبي حامد الغزالي وغيره بأن الفرق بين الولي والنبي‬
‫نزول الملك ‪ ،‬فإن الولي ملهم ‪ ،‬والنبي ينزل عليه الملك مع كونه يكون ملهما ‪ ،‬فإنه‬
‫جامع بين الوالية والنبوة ‪ ،‬وهذا غلط عندنا من القائلين به ‪ ،‬ودليل عدم ذوق القائلين‬
‫به ‪ ،‬وإنما الفرقان إنما هو فيما ينزل به الملك ال في نزول الملك ‪ ،‬فالذي ينزل به‬
‫الملك على الرسول والنبي خالف الذي ينزل به الملك على الولي التابع ‪ ،‬فإن الملك قد‬
‫ينزل على الولي التابع باالتباع ‪ ،‬وبإفهام ما جاء به النبي مما لم يتحقق هذا الولي العلم‬
‫به وإن كان متأخرا عنه بالزمان ‪ ،‬أعني متأخرا عن زمان وجوده ‪ ،‬فقد ينزل عليه‬
‫بتعريف صحة ما جاء به النبي وسقمه مما قد وضع عليه ‪ ،‬أوتوهم أنه صحيح عنه ‪،‬‬
‫أو ترك لضعف الراوي وهو صحيح في نفس األمر ‪ ،‬وقد ينزل عليه الملك بالبشرى‬
‫ّللا ه‬
‫عز‬ ‫ّللا بأنه من أهل السعادة والفوز وباألمان ‪ ،‬كل ذلك في الحياة الدنيا ‪ ،‬فإن ه‬ ‫من ه‬
‫وجل يقول ‪ (:‬لَ ُه ُم ْالبُ ْشرى فِي ْال َحياةِ ال ُّد ْنيا )وقال في أهل السعادة القائلين بربوبية ه‬
‫ّللا‬
‫أن المالئكة تنزل عليهم ‪،‬‬
‫علَ ْي ِه ُم ْال َمالئِ َكةُ أ َ َّال ت َخافُوا َوال‬ ‫قال تعالى ‪ِ (:‬إ َّن الَّذِينَ قالُوا َربُّنَا َّ‬
‫ّللاُ ث ُ َّم ا ْستَقا ُموا تَتَن ََّز ُل َ‬
‫عدُونَ ن َْح ُن أ َ ْو ِليا ُؤ ُك ْم فِي ْال َحيا ِة ال ُّد ْنيا )‬ ‫ت َ ْحزَ نُوا َوأ َ ْب ِش ُروا ِب ْال َجنَّ ِة الَّتِي ُك ْنت ُ ْم تُو َ‬
‫[ بحث في نزول المالئكة على البشر ]‬
‫ّللا من يكون له ذوق اإلنزال في التنزيل ‪ ،‬فما طرأ ما طرأ على القائلين‬ ‫من أولياء ه‬
‫بخالف هذا إال من اعتقادهم في نفوسهم أنهم قد عموا بسلوكهم جميع الطرق‬
‫والمقامات ‪ ،‬وأنه ما بقي مقام إال ولهم فيه‬
‫ص ‪470‬‬

‫ص ‪470 :‬‬
‫ذوق ‪ ،‬وما رأوا أنهم نزل عليهم ملك ‪ ،‬فاعتقدوا أن ذلك مما يختص به النبي ‪ ،‬فذوقهم‬
‫صحيح وحكمهم باطل ‪ ،‬فمن هناك وقع الغلط ‪ ،‬ولو وصل إليهم ممن تقدمهم أو كان‬
‫ّللا القول بنزول الملك على الولي قبلوه وما ردوه ‪.‬‬
‫معهم في زمانهم من أهل ه‬

‫[ سورة النحل ( ‪ : ) 16‬آية ‪] 3‬‬


‫ق تَعالى َ‬
‫ع هما يُش ِْرك َ‬
‫ُون ( ‪( 3‬‬ ‫ض بِا ْل َح ّ ِ‬ ‫ت َو ْاأل َ ْر َ‬
‫سماوا ِ‬ ‫ق ال ه‬ ‫َخلَ َ‬
‫ق»]‬ ‫ض بِ ْال َح ه ِ‬ ‫ت َو ْاأل َ ْر َ‬ ‫سماوا ِ‬ ‫[ « َخلَقَ ال َّ‬
‫ق »الحق هنا ليس عينا موجودة ‪ ،‬بل الباء هنا بمعنى‬ ‫ض بِ ْال َح ه ِ‬ ‫ت َو ْاأل َ ْر َ‬ ‫سماوا ِ‬ ‫« َخلَقَ ال َّ‬
‫ع َّما يُ ْش ِر ُكونَ »من أجل الباء ‪ ،‬واألمر‬
‫الالم ‪ ،‬ولهذا قال تعالى في تمام اآلية« تَعالى َ‬
‫في نفسه في حق السماء واألرض ‪ ،‬وما أنزل ( ما بَ ْينَ ُهما )حتى يعم الوجود كله ‪ ،‬مثل‬
‫ُون ) كذلك ما خلق السماوات واألرض إال‬ ‫س ِإ َّال ِليَ ْعبُد ِ‬ ‫قوله( َوما َخلَ ْقتُ ْال ِج َّن َو ْ ِ‬
‫اإل ْن َ‬
‫ُون‬
‫بالحق ‪ ،‬أي للحق ‪ ،‬فالالم التي نابت الباء هنا منابها عين الالم في قوله« ِليَ ْعبُد ِ‬
‫»فخلق السماوات واألرض للحق ‪ ،‬والحق أن يعبدوه ‪ ،‬ولهذا قال ‪ «:‬تَعالى َ‬
‫ع َّما‬
‫يُ ْش ِر ُكونَ »فالحق تعالى ال يخلق شيئا بشيء ‪ ،‬لكن يخلق شيئا عند شيء ‪ ،‬فكل ما‬
‫ّللا شيئا إال للحق ‪ ،‬والحق أن‬ ‫يقتضي االستعانة والسببية فهي الم الحكمة ‪ ،‬فما خلق ه‬
‫ّللا ال يخلق شيئا بشيء ‪ ،‬وإن خلقه لشيء فتلك الم الحكمة ‪،‬‬ ‫يعبدوه ‪ ،‬فعلى الحقيقة إن ه‬
‫وعين خلقه عين الحكمة ‪ ،‬إذ خلقه تعالى ال يعلل ‪ ،‬فالخلق عبد بالذات أثرت فيه‬
‫العوارض ‪ ،‬وال سيما الشخص اإلنساني ‪ ،‬بل ما أثرت العوارض إال في الشخص‬
‫اإلنساني وحده دون سائر الخلق ‪ ،‬وما سواه فعلى أصله من التنزيه ‪ ،‬تنزيه خالقه عن‬
‫الشريك ‪ ،‬من هذا يتضح خطأ من جعل هذا الحق المخلوق به عين علة الخلق ‪ ،‬والحق‬
‫تعالى ال يعلل خلقه ‪ ،‬هذا هو الصحيح في نفسه ‪ ،‬حتى ال يعقل فيه أمر يوجب عليه ما‬
‫ظهر من خلقه ‪ ،‬بل خلقه الخلق منة منه على الخلق ابتداء فضل وهو الغني عن‬
‫ّللا ما‬
‫العالمين ‪ ،‬وكذلك خطأ من جعل هذا الحق المخلوق به عينا موجودة بها خلق ه‬
‫سواها ‪ ،‬وهو صدور معلول عن علة أوجبت العلة صدوره ‪ ،‬وهذا فيه ما فيه« تَعالى‬
‫ّللا هو اللطيف الخبير العلي القدير الحكيم العليم ‪ ،‬الذي ليس‬ ‫ع َّما يُ ْش ِر ُكونَ »اعلم أن ه‬ ‫َ‬
‫كمثله شيء وهو السميع البصير ‪ ،‬لما خلق األشياء وذكر أن له الخلق واألمر تبارك‬
‫ّللا رب العالمين ‪ ،‬وضع األسباب وجعلها له كالحجاب فهي توصل إليه تعالى كل من‬ ‫ه‬
‫علمها حجابا ‪ ،‬وهي تصد عنه كل من اتخذها أربابا ‪ ،‬فذكرت األسباب في أنبائها أن‬
‫ّللا من ورائها ‪ ،‬وأنها غير متصلة بخالقها ‪ -‬فإن الصنعة‬ ‫ه‬
‫ص ‪471‬‬

‫ص ‪471 :‬‬
‫ال تعلم صانعها ‪ -‬وال منفصلة عن رازقها فإنها تأخذ عنه مضارها ومنافعها ‪ ،‬فخلق‬
‫األرواح واألمالك ورفع السماوات قبة فوق قبة على عمد اإلنسان ‪ ،‬وأدار األفالك ‪،‬‬
‫ودحى األرض ليميز بين الرفع والخفض ‪ ،‬وعيهن الدنيا طريقا لْلخرة ‪ ،‬وأرسل بذلك‬
‫ّللا من‬
‫رسله تترى ‪ ،‬لما خلق في العقول من العجز والقصور عن معرفة ما خلق ه‬
‫أجرام العالم وأرواحه ولطائفه وكثائفه ‪ ،‬فإن الوضع والترتيب ليس العلم به من حظ‬
‫الفكر ‪ ،‬بل هو موقوف على خبر الفاعل لها والمنشئ لصورها ‪ ،‬ومتعلق علم العقل‬
‫ّللا تعالى قدهر في العالم العلوي‬
‫من طريق الفكر إمكان ذلك خاصة ال ترتيبه ‪ ،‬ثم إن ه‬
‫المقادير واألوزان والحركات والسكون في الحال والمحل والمكان والمتمكن ‪ ،‬فخلق‬
‫السماوات وجعلها كالقباب على األرض قبة فوق قبة ‪ ،‬وجعل هذه السماوات ساكنة ‪،‬‬
‫وخلق فيها نجوما ‪ ،‬وجعل في سيرها وسباحتها في هذه السماوات حركات مقدهرة ال‬
‫ّللا تعالى يحدث عند هذه‬
‫تزيد وال تنقص ‪ ،‬وجعلها عاقلة سامعة مطيعة ‪ ،‬ثم إن ه‬
‫الحركات الكوكبية في الطرق السماوية في عالم األركان وفي المولدات أمورا مما‬
‫ّللا ابتلى بها عباده ‪ ،‬فمن‬
‫أوحى في أمر السماء ‪ ،‬وجعل ذلك عادة مستمرة ابتالء من ه‬
‫الناس من جعل ذلك األثر عند هذا السير هّلل تعالى ‪ ،‬ومن الناس من جعل ذلك لحركة‬
‫الكوكب وشعاعه ‪ ،‬لما رأى أن عالم األركان مطارح شعاعات الكواكب ‪ ،‬فأما الذين‬
‫باّلل ‪ ،‬وأما الذين آمنوا بالباطل فزادتهم إيمانا بالباطل وكفروا‬
‫باّلل فزادتهم إيمانا ه‬
‫آمنوا ه‬
‫‪ ،‬وهم الخاسرون الذين ما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين ‪.‬‬

‫[ سورة النحل ( ‪ : ) 16‬اآليات ‪ 4‬إلى ‪] 5‬‬


‫ين ) ‪َ ( 4‬و ْاأل َ ْنعا َم َخلَقَها لَ ُك ْم فِيها د ْ‬
‫ِف ٌء‬ ‫سان ِم ْن نُ ْطفَ ٍة فَ ِإذا ُه َو َخ ِصي ٌم ُم ِب ٌ‬
‫اْل ْن َ‬ ‫ق ِْ‬ ‫َخلَ َ‬
‫ون ) ‪( 5‬‬ ‫َو َمنافِ ُع َو ِم ْنها تَأ ْ ُكلُ َ‬
‫األنعام من اإلنعام ‪ ،‬تحمل األثقال والرحال ‪ ،‬وعليها تمتطي الرجال ‪ ،‬ومن أعجب ما‬
‫يكون أن الوضوء من أكل لحومها مسنون ‪ ،‬لشربها من بئر شطون ‪.‬‬

‫[ سورة النحل ( ‪ : ) 16‬اآليات ‪ 6‬إلى ‪]7‬‬


‫ون ) ‪َ ( 6‬وتَحْ ِم ُل أَثْقالَ ُك ْم ِإلى بَلَ ٍد لَ ْم‬ ‫س َر ُح َ‬‫ين ت َ ْ‬ ‫ين ت ُ ِري ُح َ‬
‫ون َو ِح َ‬ ‫َولَ ُك ْم فِيها َجما ٌل ِح َ‬
‫ق ْاأل َ ْنفُ ِس ِإ هن َربه ُك ْم لَ َرؤ ٌ‬
‫ُف َر ِحي ٌم) ‪( 7‬‬ ‫ش ِّ‬‫تَكُونُوا با ِل ِغي ِه ِإاله ِب ِ‬

‫ص ‪472‬‬

‫ص ‪472 :‬‬
‫ق ْاأل َ ْنفُ ِس »وهو نصف ذاتك ‪ ،‬أي ما كنت تصل إليه إال‬
‫«لَ ْم ت َ ُكونُوا با ِل ِغي ِه إِ َّال بِ ِش ه ِ‬
‫بالوهم والتخيل ال بالحس إال بواسطة هذه المراكب ‪.‬‬

‫[ سورة النحل ( ‪ : ) 16‬آية ‪] 8‬‬


‫ون ) ‪( 8‬‬ ‫ق ما ال ت َ ْعلَ ُم َ‬ ‫ير ِلت َ ْر َكبُوها َو ِزينَةً َويَ ْخلُ ُ‬
‫َوا ْل َخ ْي َل َوا ْل ِبغا َل َوا ْل َح ِم َ‬
‫ّللا الَّتِي أ َ ْخ َر َج ِل ِعبا ِد ِه )‪.‬‬
‫ّللا التي قال فيها( َم ْن َح َّر َم ِزينَةَ َّ ِ‬ ‫فهي من زينة ه‬

‫[ سورة النحل ( ‪ : ) 16‬آية ‪] 9‬‬


‫س ِبي ِل َو ِم ْنها جائِ ٌر َولَ ْو شا َء لَ َهدا ُك ْم أَجْ َم ِع َ‬
‫ين ( ‪) 9‬‬ ‫َّللا قَ ْ‬
‫ص ُد ال ه‬ ‫علَى ه ِ‬
‫َو َ‬

‫س ِبي ِل َو ِم ْنها جا ِئ ٌر " اآلية "]‬ ‫علَى َّ ِ‬


‫ّللا قَ ْ‬
‫ص ُد ال َّ‬ ‫[ « َو َ‬
‫باّلل ‪ ،‬وبما جاء‬ ‫يعرف طريق سعادة العباد ‪ -‬وهو اإليمان ه‬ ‫أوجب الحق على نفسه أن ه‬
‫ّللا من‬ ‫ّللا ‪ ،‬مما ألزمنا فيه اإليمان به ‪ ،‬فإن العالم في حال جهل بما في علم ه‬ ‫من عند ه‬
‫ص ُد ال َّ‬
‫س ِبي ِل‬ ‫علَى َّ ِ‬
‫ّللا قَ ْ‬ ‫تعيين تلك الطريق ‪ -‬عن طريق الرسول ‪ ،‬لذلك قال تعالى ‪َ «:‬و َ‬
‫ّللا يقول ‪ :‬الذي يلزم جانب الحق‬ ‫َو ِم ْنها جائِ ٌر »أي هذا الذي أوجبته على نفسي ‪ ،‬كأن ه‬
‫منكم أن يبيهن لكم السبيل الموصل إلى سعادتكم ‪ ،‬وقد فعلت ‪ ،‬فإنكم ال تعرفونه إال‬
‫بإعالمي لكم به وتبييني ‪ ،‬وجاء باأللف والالم للشمول في السبيل ‪ ،‬فإنها كلها سبل‬
‫ّللا ‪ ،‬فأبان له ذلك الجهاد السبل اإللهية ‪ ،‬فسلك منها األس هد في نفسه‬ ‫يراها من جاهد في ه‬
‫باّلل ‪ ،‬فهو على نور من ربه« َولَ ْو شا َء‬ ‫‪ ،‬وعذر الخلق فيما هم عليه من السبل وانفرد ه‬
‫لَ َهدا ُك ْم أ َ ْج َم ِعينَ »أي أنتم قابلون لذلك ‪ ،‬ولكن حقت الكلمة وسبق العلم ونفذت المشيئة ‪،‬‬
‫فال راد ألمره وال معقهب لحكمه ‪ ،‬إن ه‬
‫ّللا فعال لما يريد ‪.‬‬

‫[ سورة النحل ( ‪ : ) 16‬اآليات ‪ 10‬إلى ‪] 12‬‬


‫ون ( ‪ ) 10‬يُ ْنبِتُ‬ ‫سي ُم َ‬‫ش َج ٌر فِي ِه ت ُ ِ‬ ‫َراب َو ِم ْنهُ َ‬
‫ماء ما ًء لَ ُك ْم ِم ْنهُ ش ٌ‬ ‫س ِ‬ ‫ُه َو الهذِي أ َ ْن َز َل ِم َن ال ه‬
‫ت ِإ هن فِي ذ ِلكَ َآليَةً ِلقَ ْو ٍم‬ ‫ون َوالنه ِخي َل َو ْاألَع َ‬
‫ْناب َو ِم ْن ُك ِ ّل الث ه َمرا ِ‬ ‫ع َو ه‬
‫الز ْيت ُ َ‬ ‫الز ْر َ‬ ‫لَ ُك ْم ِب ِه ه‬
‫س هخراتٌ ِبأ َ ْم ِر ِه‬ ‫س َوا ْلقَ َم َر َوالنُّ ُجو ُم ُم َ‬
‫هار َوالش ْهم َ‬ ‫س هخ َر لَ ُك ُم الله ْي َل َوالنه َ‬
‫ون ( ‪َ ) 11‬و َ‬ ‫يَتَفَك ُهر َ‬
‫ون) ‪( 12‬‬ ‫ت ِلقَ ْو ٍم يَ ْع ِقلُ َ‬
‫ِإ هن فِي ذ ِلكَ َآليا ٍ‬

‫ص ‪473‬‬

‫ص ‪473 :‬‬
‫ّللا تعالى لما رفع السماء ووضع الميزان في سباحة الكواكب في أفالكها التي‬ ‫اعلم أن ه‬
‫هي طرق السماوات ‪ ،‬لتجري بالمقادير الكائنة في العالم على قدر معلوم ال تتعداه ‪،‬‬
‫فهي تعطي وتمنع بذلك الميزان الذي وضع الحق لها ‪ ،‬ألنها تشاهد الميزان الذي بيد‬
‫الحق حين يخفض به ويرفع ‪ ،‬فإذا نظرت إلى من رفعه الحق بميزانه أعطته ما‬
‫يستحقه مقام الرفع ‪ ،‬وإذا رأت الحق يضع بميزانه من شاء أعطته ما يستحقه مقام‬
‫الوضع ‪ ،‬وذلك هو التسخير الذي ورد في القرآن في النجوم أنها مسخرات بأمره ‪،‬‬
‫فيقول العالم والمؤمن ‪:‬‬
‫ّللا ورحمته ‪ ،‬بالوزن الذي جعله في سباحة كوكب من الكواكب وما‬ ‫مطرنا بفضل ه‬
‫ّللا له من المنازل التي ينزل فيها ‪ ،‬والمحجوب والكافر يقول ‪ :‬مطرنا بنوء كذا‬ ‫قدره ه‬
‫وكذا ‪ ،‬فيذكر الكوكب المجبور في ذلك ‪ ،‬ويضيف ما ظهر من المطر الصائب إليه«‬
‫ت ِلقَ ْو ٍم يَ ْع ِقلُونَ » *الذين يعقلون عن ه‬
‫ّللا كل شيء في العادة عندهم فيه‬ ‫ِإ َّن ِفي ذ ِل َك َآليا ٍ‬
‫تعجب ‪ ،‬وأما أصحاب العوائد فإنهم ال تعجب عندهم إال فيما ظهر فيه خرق العادة ‪.‬‬

‫[ سورة النحل ( ‪ : ) 16‬اآليات ‪ 13‬إلى ‪] 15‬‬


‫ون ( ‪َ ) 13‬و ُه َو‬ ‫ض ُم ْخت َ ِلفا ً أ َ ْلوانُهُ ِإ هن فِي ذ ِلكَ َآليَةً ِلقَ ْو ٍم يَذهك ُهر َ‬ ‫َوما ذَ َرأ َ لَ ُك ْم فِي ْاأل َ ْر ِ‬
‫سونَها َوت َ َرى ا ْلفُ ْلكَ‬ ‫ست َ ْخ ِر ُجوا ِم ْنهُ ِح ْليَةً ت َ ْلبَ ُ‬
‫س هخ َر ا ْلبَحْ َر ِلتَأ ْ ُكلُوا ِم ْنهُ لَحْ ما ً َط ِريًّا َوت َ ْ‬
‫الهذِي َ‬
‫ي أ َ ْن‬ ‫س َ‬ ‫ض َروا ِ‬‫ون ( ‪َ ) 14‬وأ َ ْلقى فِي ْاأل َ ْر ِ‬ ‫شك ُُر َ‬ ‫واخ َر فِي ِه َو ِلت َ ْبتَغُوا ِم ْن فَ ْ‬
‫ض ِل ِه َولَعَله ُك ْم ت َ ْ‬ ‫َم ِ‬
‫ُون ) ‪( 15‬‬ ‫سبُالً لَعَله ُك ْم ت َ ْهتَد َ‬‫ت َ ِمي َد بِ ُك ْم َوأ َ ْنهارا ً َو ُ‬
‫ّللا أوتادها ‪ ،‬لما تحركت‬ ‫فاألرض هي الثابتة الراسية ‪ ،‬س هكن ميدها جبالها التي جعلها ه‬
‫ّللا بهذه األوتاد ‪ ،‬فسكنت سكون الموقنين ‪.‬‬ ‫ّللا آمنها ه‬ ‫من خشية ه‬

‫[ سورة النحل ( ‪ : ) 16‬آية ‪] 16‬‬


‫ت َوبِالنهجْ ِم ُه ْم يَ ْهتَد َ‬
‫ُون) ‪( 16‬‬ ‫َوعَالما ٍ‬

‫ص ‪474‬‬

‫ص ‪474 :‬‬
‫العامة ال ترى األنوار التي في كواكب السماء إال زينة خاصة ‪ ،‬ويراها العلماء‬
‫بمنازلها وسيرها وسباحتها في أفالكها موضوعة لالهتداء بها ‪ ،‬فاتخذوها عالمات‬
‫على ما يبغونه في سيرهم في ظلمات البر والبحر ‪.‬‬

‫[ سورة النحل ( ‪ : ) 16‬آية ‪] 17‬‬


‫ون ) ‪( 17‬‬‫ق أ َ فَال تَذَك ُهر َ‬‫ق َك َم ْن ال يَ ْخلُ ُ‬‫أ َ فَ َم ْن يَ ْخلُ ُ‬
‫لما كانت القدرة الحادثة التي للمخلوق الذي اتهخذ إلها ‪ ،‬ال تزيد على قدرة العابد إياه ‪،‬‬
‫فهي قاصرة عن سريانها في جميع األفعال ‪ ،‬فإن القدرة الحادثة ال تخلق المتحيزات‬
‫من أعيان الجواهر واألجسام ‪ ،‬فعبدوا من لم يخلق أعيانهم ‪ ،‬لهذا وبخهم تعالى بقوله‬
‫‪ «:‬أ َ فَ َم ْن يَ ْخلُ ُق َك َم ْن ال يَ ْخلُ ُق أ َ فَال تَذَ َّك ُرونَ »فالخلق هنا بمعنى اإليجاد ‪ ،‬ولذلك تمدح‬
‫به تعالى ‪ ،‬وجعله فرقانا بين من ادعى األلوهية أو ادعيت فيه ‪ ،‬وفيه رد على عبدة‬
‫األوثان ‪ ،‬فنفى الخلق عن الخلق ‪ ،‬فلو لم يرد عموم نفي الخلق عن الخلق لم تقم به‬
‫ّللا ‪ ،‬فإن‬
‫حجة على من عبد فرعون وأمثاله ممن أمر من المخلوقين أن يعبد من دون ه‬
‫الخلق من خصوص وصف اإلله ‪ ،‬فلو وقعت المشاركة في الخلق لما صح أن يتخذها‬
‫تمدحا وال دليال مع االشتراك في الداللة ‪ ،‬هذا ال يصح فيعلم قطعا أن الخالق صفة‬
‫ّللا الخلق دليال عليه من جملة األدلة على‬ ‫ّللا ‪ ،‬وما جعل ه‬ ‫أحدية هّلل ال تصح ألحد غير ه‬
‫توحيده إال النفراده بالخلق ‪ ،‬فيقول تعالى لمن يدعي الخلق أو ينسب الفعل إلى نفسه«‬
‫أ َ فَ َم ْن يَ ْخلُ ُق َك َم ْن ال يَ ْخلُ ُق أ َ فَال تَذَ َّك ُرونَ »فلما تمدح بالخلق دل من مضمون الكالم أن‬
‫ال خالق لألشياء كلها إال هو ‪ ،‬من أفعال العباد وغيرها ‪ ،‬ولو كانت أفعال العباد خلقا‬
‫لهم ‪ ،‬لم يكن ذكره للخلق تمدحا خاصا لوقوع االشتراك ‪ ،‬فتحقق مذهب أهل الحق في‬
‫أن ال موجد وال فاعل إال هو ‪ ،‬فنسبة األفعال إلى نفس اإلنسان ألوهية خفية في نفس‬
‫كل إنسان ‪ ،‬وهو الشرك الخفي المعفو عنه ‪.‬‬

‫[ سورة النحل ‪ ( 16 ) :‬آية ‪] 18‬‬


‫َّللا لَغَفُ ٌ‬
‫ور َر ِحي ٌم ( ‪) 18‬‬ ‫َو ِإ ْن تَعُدُّوا نِ ْع َمةَ ه ِ‬
‫َّللا ال تُحْ ُ‬
‫صوها ِإ هن ه َ‬

‫صوها » ]‬ ‫[ « َو ِإ ْن تَعُدُّوا نِ ْع َمةَ َّ ِ‬


‫ّللا ال ت ُ ْح ُ‬
‫اتبع الحق الخلق الذي هو اإليجاد بقوله تعالى« َو ِإ ْن تَعُدُّوا ِن ْع َمةَ َّ ِ‬
‫ّللا ال ت ُ ْح ُ‬
‫صوها »فإن‬
‫أول نعمة عقلتها من ربك إخراجك من العدم إلى الوجود ‪ ،‬وقد عدد هذا المقام عليك‬
‫من‬
‫ص ‪475‬‬

‫ص ‪475 :‬‬
‫سان أَنَّا َخلَ ْقناهُ ِم ْن قَ ْب ُل َولَ ْم يَكُ َ‬
‫شيْئا ً )فهذه أول نعمة‬ ‫جملة نعمه فقال ‪ (:‬أ َ َوال يَ ْذ ُك ُر ْ ِ‬
‫اإل ْن ُ‬
‫ّللا شكر هذه النعمة وحدها ‪ ،‬وجعل معك أهل السماوات‬ ‫أنعم بها عليك ‪ ،‬لو كلهفك ه‬
‫واألرض بعبادتهم مؤيدين لك عمرك األخروي الذي ال نهاية له ‪ ،‬ما قمت بشكرها ‪،‬‬
‫كيف وقد انضاف إليها نعم كثيرة ؟ ! منها كونه أوجدك متغذيا ناميا ‪ ،‬ولم يجعلك‬
‫جمادا صلدا ‪ ،‬فكانت القدرة ممكنة لما أوجدتك ولم تك شيئا ‪ ،‬أن تنزلك في أمة‬
‫الجمادات ‪ ،‬ولكن مقام النبات أعلى ‪ ،‬وأمته أفضل ‪ ،‬فجعلك متغذيا ولم يجعلك جمادا ‪،‬‬
‫ّللا نعمة على هذه‬‫وهذه نعمة كبيرة وال يؤدى شكرها وال يق هدر قدرها ‪ ،‬ثم زادك ه‬
‫النعمة بأن نقلك من أمة النبات والشجر ‪ ،‬إلى أمة الحيوان ‪ ،‬فجعلك حساسا ‪ ،‬فوجب‬
‫عليك من الشكر والعبادة ما وجب على الجماد والنبات والحيوان ‪ ،‬فإنك قد جمعت‬
‫ّللا تبارك وتعالى ‪ ،‬نعمة أخرى إلى هذه‬ ‫حقائقهم وزدت على كل واحد منهم ‪ ،‬ثم زادك ه‬
‫النعم ‪ ،‬فجعلك ناطقا ‪ ،‬وفضلك على الحيوان الحساس خاصة ‪ ،‬فزدت معرفة بما ال‬
‫يعرفه الحيوان ‪ ،‬فأعطاك بنطقك حقيقة الملك ‪ ،‬وهو االشتراك في العقل اإللهي ‪،‬‬
‫فوجب عليك ما وجب على الملك من جهة روحك ‪ ،‬فأنت مطالب بالحضور الدائم ‪ ،‬ثم‬
‫ّللا عليك بنعمة االختصاص ‪ ،‬فجعلك موحدا ولم يجعلك مشركا ‪ ،‬ال ليد تقدمت‬ ‫أنعم ه‬
‫سم جنسك إلى موحد وإلى مشرك وجعلك من‬ ‫لك عليه ‪ ،‬فهذا اختصاص ‪ ،‬إذ قد ق ه‬
‫حزب الموحدين ‪ ،‬ثم زادك إلى هذه النعمة نعمة أخرى ‪ ،‬وهي إيمانك بالرسول صلهى‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ ،‬ولم يجعلك مكذبا برسوله كما فعل بغيرك من أبناء جنسك حيث كفر‬ ‫ه‬
‫ّللا عليه وسلم حين خذل غيرنا ‪ ،‬ثم نعمة‬ ‫ّللا باإليمان بالنبي صلهى ه‬ ‫برسوله ‪ ،‬فقد حبانا ه‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ ،‬ولم يجعلك من‬ ‫أخرى لما جعلك مؤمنا بنبي جعلك من أمة محمد صلهى ه‬
‫أمة غيره من األنبياء ‪ ،‬وهنا نعم منها أن ألحق هذه األمة بدرجة األنبياء باتباعهم‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ ،‬وعيسى عليه السالم من جملة أمة محمد صلهى ه‬
‫ّللا عليه‬ ‫محمدا صلهى ه‬
‫ّللا وروحه وكلمته ‪ ،‬والنعمة األخرى أن جعلك شهيدا على سائر‬ ‫وسلم ‪ ،‬وهو رسول ه‬
‫األمم ‪ ،‬وهي مرتبة النبوة ‪ ،‬فإنهم الشهداء على أممهم ‪ ،‬فهذه مواطن تحشر فيها غدا‬
‫مع النبيين ‪ ،‬ونعمة أخرى لم يعطها أحدا قبلك من األمم ‪ ،‬فإنك مؤمن بنبيك آخر‬
‫األنبياء وبمن تقدم إلى آدم ‪ ،‬ولكل نعمة شكر يخصها وعمل يطابقها ‪ ،‬ثم أنه حفظك‬
‫من البدعة وميزك في ديوان السنة ‪ ،‬فهذا اختصاص ‪ ،‬ثم أهل السنة قسمهم قسمين ‪:‬‬
‫عالم وجاهل ‪ ،‬فجعلك عالما بما تعبدك به من شريعته ولم يجعلك جاهال بذلك ‪ ،‬فهذه‬
‫نعمة يجب أيضا شكرها ‪،‬‬
‫ص ‪476‬‬

‫ص ‪476 :‬‬
‫ثم جعل العالمين على قسمين ‪ :‬طائع وعاصي ‪ ،‬فجعلك من الطائعين ولم يجعلك من‬
‫العاصين ‪ ،‬فهذه نعمة عظيمة ‪ ،‬فقد غمرتك النعم ‪ ،‬وال يتسع الليل والنهار ألداء شكر‬
‫واجبات هذه النعم ‪ ،‬وأنه إن اشتغلنا بواحدة منها ‪ ،‬فغايتنا أن نقطع ضياءنا وظالمنا‬
‫ّللا وقتا‬
‫ببعض ذرة من واحدة ‪ ،‬فعلى هذا يجب علينا الذي يمكننا أن نفعله أن ال يرانا ه‬
‫واحدا بطالين وال متصرفين في مباح إال حاضرين بقلوبنا على الدوام ‪ ،‬مكفوفي‬
‫الجوارح عن التصرف المحظور علينا ‪ ،‬مطلوقي األلسنة بالذكر ‪ ،‬وبإظهار العلم‬
‫والشكر عليه ‪ ،‬واالعتراف بالتقصير دائما ‪ ،‬وتوبيخ النفوس الذي أراده الحق منا ‪ ،‬ال‬
‫تعديلها وتزكيتها ‪ ،‬وعطايا الحق كلها نعم ‪ ،‬إال أن النعم في العموم موافقة الغرض‬
‫وعوارف الحق مننه ونعمه على عباده ‪ ،‬فما أطلعك منها على شيء إال ليردك ذلك‬
‫الشيء منك إليه ‪ ،‬فهو دعاء الحق في معروفه ‪ ،‬لما رأى عندك من الغفلة عنه ‪،‬‬
‫ّللا لَغَفُ ٌ‬
‫ور َر ِحي ٌم »‪.‬‬ ‫فتحبب إليك بالنعم« ِإ َّن َّ َ‬

‫[ سورة النحل ( ‪ : ) 16‬اآليات ‪ 19‬إلى ‪] 22‬‬


‫ش ْيئا ً‬
‫ون َ‬ ‫َّللا ال يَ ْخلُقُ َ‬
‫ُون ه ِ‬‫ُون ِم ْن د ِ‬ ‫ِين يَ ْدع َ‬‫ون ( ‪َ ) 19‬والهذ َ‬ ‫ون َوما ت ُ ْع ِلنُ َ‬‫س ُّر َ‬ ‫َّللاُ يَ ْعلَ ُم ما ت ُ ِ‬
‫َو ه‬
‫ون ) ‪ِ ( 21‬إل ُه ُك ْم ِإلهٌ‬ ‫ون أَيه َ‬
‫ان يُ ْبعَث ُ َ‬ ‫شعُ ُر َ‬ ‫ياء َوما يَ ْ‬ ‫غ ْي ُر أَحْ ٍ‬ ‫ون ) ‪ ( 20‬أ َ ْمواتٌ َ‬ ‫َو ُه ْم يُ ْخلَقُ َ‬
‫ون ( ‪) 22‬‬ ‫ون ِب ْاآل ِخ َر ِة قُلُوبُ ُه ْم ُم ْن ِك َرةٌ َو ُه ْم ُم ْ‬
‫ست َ ْك ِب ُر َ‬ ‫ِين ال يُ ْؤ ِمنُ َ‬‫واح ٌد فَالهذ َ‬ ‫ِ‬
‫واح ٌد »فنؤمن به من حيث ما جاء به الخبر ‪ ،‬ال من حيث الدليل ‪ ،‬فذلك‬ ‫« َوإِل ُه ُك ْم إِلهٌ ِ‬
‫التصديق هو اإليمان ‪.‬‬

‫[ سورة النحل ( ‪ : ) 16‬اآليات ‪ 23‬إلى ‪] 29‬‬


‫ين ( ‪َ ) 23‬و ِإذا قِي َل‬ ‫ب ا ْل ُم ْ‬
‫ست َ ْك ِب ِر َ‬ ‫ون ِإنههُ ال يُ ِح ُّ‬ ‫ون َوما يُ ْع ِلنُ َ‬ ‫س ُّر َ‬ ‫ال َج َر َم أ َ هن ه َ‬
‫َّللا يَ ْعلَ ُم ما يُ ِ‬
‫كاملَةً يَ ْو َم‬
‫زار ُه ْم ِ‬ ‫ين ( ‪ِ ) 24‬ليَحْ ِملُوا أ َ ْو َ‬ ‫ير ْاأل َ هو ِل َ‬‫ساط ُ‬ ‫لَ ُه ْم ما ذا أ َ ْن َز َل َربُّ ُك ْم قالُوا أ َ ِ‬
‫ون ( ‪ ) 25‬قَ ْد َمك ََر الهذ َ‬
‫ِين‬ ‫ِين يُ ِضلُّونَ ُه ْم بِغَ ْي ِر ِع ْل ٍم أَال سا َء ما يَ ِز ُر َ‬ ‫ا ْل ِقيا َم ِة َو ِم ْن أ َ ْو ِ‬
‫زار الهذ َ‬
‫ف ِم ْن فَ ْوقِ ِه ْم َوأَتا ُه ُم ا ْلعَ ُ‬
‫ذاب‬ ‫س ْق ُ‬
‫علَ ْي ِه ُم ال ه‬ ‫ِم ْن قَ ْب ِل ِه ْم فَأَتَى ه‬
‫َّللاُ بُ ْنيانَ ُه ْم ِم َن ا ْلقَوا ِع ِد فَ َخ هر َ‬
‫ِين ُك ْنت ُ ْم‬
‫ي الهذ َ‬ ‫يه ْم َويَقُو ُل أ َ ْي َن ش َُركائِ َ‬ ‫ون ( ‪ ) 26‬ث ُ هم يَ ْو َم ا ْل ِقيا َم ِة يُ ْخ ِز ِ‬ ‫شعُ ُر َ‬ ‫ث ال يَ ْ‬ ‫ِم ْن َح ْي ُ‬
‫ين ) ‪( 27‬‬ ‫علَى ا ْلكافِ ِر َ‬ ‫سو َء َ‬ ‫ي ا ْليَ ْو َم َوال ُّ‬‫ِين أُوتُوا ا ْل ِع ْل َم ِإ هن ا ْل ِخ ْز َ‬
‫يه ْم قا َل الهذ َ‬ ‫ون فِ ِ‬ ‫تُشَاقُّ َ‬
‫وء بَلى ِإ هن ه َ‬
‫َّللا‬ ‫س ٍ‬ ‫سلَ َم ما ُكنها نَ ْع َم ُل ِم ْن ُ‬ ‫س ِه ْم فَأ َ ْلقَ ُوا ال ه‬ ‫ِين تَت َ َوفها ُه ُم ا ْل َمالئِكَةُ ظا ِل ِمي أ َ ْنفُ ِ‬ ‫الهذ َ‬
‫س َمثْ َوى‬ ‫ِين ِفيها فَلَ ِبئْ َ‬ ‫واب َج َهنه َم خا ِلد َ‬ ‫ون ( ‪ ) 28‬فَا ْد ُخلُوا أ َ ْب َ‬ ‫ع ِلي ٌم ِبما ُك ْنت ُ ْم ت َ ْع َملُ َ‬ ‫َ‬
‫ين ( ‪) 29‬‬ ‫ا ْل ُمت َ َك ِبّ ِر َ‬

‫ص ‪477‬‬

‫ص ‪477 :‬‬
‫[سبب تكبر الثقلين دون سائر الموجودات ]‬
‫ّللا أحد من‬
‫ّللا غير الثقلين ‪ ،‬وال عصى ه‬
‫ّللا على أمر ه‬‫اعلم أنه ما تكبر أحد من خلق ه‬
‫ّللا سوى الثقلين ‪ ،‬واعلم أن السبب الموجب لتكبر الثقلين دون سائر الموجودات‬ ‫خلق ه‬
‫‪ ،‬أن سائر الموجودات توجه على إيجادهم من األسماء اإللهية أسماء الجبروت‬
‫والكبرياء والعظمة والقهر والعزة ‪ ،‬فخرجوا أذالء تحت هذا القهر اإللهي ‪ ،‬وتعرف‬
‫إليهم حين أوجدهم بهذه األسماء ‪ ،‬فلم يتمكن لمن خلق بهذه المثابة أن يرفع رأسه وال‬
‫ّللا ‪،‬‬
‫أن يجد في نفسه طعما للكبرياء على أحد من خلق ه‬
‫فكيف على من خلقه ؟‬
‫وقد أشهده أنه في قبضته وتحت قهره ‪ ،‬وشهدوا كشفا نواصيهم ونواصي كل دابة بيده‬
‫عز وكبرياء على خالقه‬‫‪ ،‬فمن كان حاله في شهوده نظره إلى ربه كيف يتصور منه ه‬
‫مع هذا الكشف ؟‬
‫وأما الثقالن فخلقهم بأسماء اللطف والحنان والرأفة والرحمة والتنزل اإللهي ‪ ،‬فعند ما‬
‫خرجوا لم يروا عظمة وال عزا وال كبرياء ‪ ،‬ورأوا نفوسهم مستندة في وجودها إلى‬
‫ّللا لهم من جالله وال كبريائه وال عظمته في خروجهم‬ ‫رحمة وعطف وتنزل ‪ ،‬ولم يبد ه‬
‫ّللا شهادة عين ‪ ،‬أو‬
‫إلى الدنيا شيئا يشغلهم عن نفوسهم ‪ ،‬فلو أشهدهم أن نواصيهم بيد ه‬
‫إيمان كشهادة عين ‪:‬‬
‫ّللا طرفة عين ‪ ،‬وكانوا مثل سائر المخلوقات‬ ‫‪ -‬كشهادة األخذ من الظهور ‪ -‬ما عصوا ه‬
‫يسبحون الليل والنهار ال يفترون ‪ ،‬فلما ظهروا عن هذه األسماء الرحمانية ‪،‬‬
‫قالوا ‪ :‬يا ربنا لم خلقتنا ؟‬
‫قال ‪:‬‬
‫( لتعبدون ) أي لتكونوا أذالء بين يدي ‪ ،‬فلم يروا صفة قهر وال جناب عزة تذلهم ‪ ،‬بل‬
‫نظروا إلى األسماء التي وجدوا عنها ‪ ،‬فما رأوا اسما إلهيا منها يقتضي أخذهم‬
‫وعقوبتهم إن عصوا أمره ونهيه وتكبروا على أمره ‪ ،‬فلم يطيعوه وعصوه‪.‬‬

‫ص ‪478‬‬

‫ص ‪478 :‬‬
‫[سورة النحل ( ‪ : ) 16‬آية ‪] 30‬‬
‫سنَةٌ َولَ ُ‬
‫دار‬ ‫ِين أَحْ َ‬
‫سنُوا فِي ه ِذ ِه ال ُّد ْنيا َح َ‬ ‫ِين اتهقَ ْوا ما ذا أ َ ْن َز َل َربُّ ُك ْم قالُوا َخ ْيرا ً ِللهذ َ‬‫َوقِي َل ِللهذ َ‬
‫ين ( ‪) 30‬‬ ‫دار ا ْل ُمت ه ِق َ‬
‫ْاآل ِخ َر ِة َخ ْي ٌر َولَنِ ْع َم ُ‬
‫ّللا حسن ساء ذلك‬ ‫« َوقِي َل ِللَّذِينَ اتَّقَ ْوا ما ذا أ َ ْنزَ َل َربُّ ُك ْم قالُوا َخيْرا ً »فكل شيء من ه‬
‫الشيء أم سر ‪.‬‬

‫[ سورة النحل ( ‪ : ) 16‬آية ‪] 31‬‬


‫ُن كَذ ِلكَ يَجْ ِزي ه‬
‫َّللاُ‬ ‫عد ٍْن يَ ْد ُخلُونَها تَجْ ِري ِم ْن ت َحْ تِ َها ْاأل َ ْن ُ‬
‫هار لَ ُه ْم فِيها ما يَشاؤ َ‬ ‫َجنهاتُ َ‬
‫ين ( ‪) 31‬‬ ‫ا ْل ُمت ه ِق َ‬

‫[ ال بد أن اآلخرة تطلب حشر األجساد وظهورها]‬


‫ّللا إلى العبد الذي‬
‫إذا كانت اآلخرة ‪ ،‬عاد الحكم فيما تحوي عليه الخزائن التي عند ه‬
‫ّللا سعادته ‪ ،‬فيدخل فيها متحكما ‪ ،‬فيخرج منها ما يشاء بغير حساب وال قدر‬ ‫ك همل ه‬
‫معلوم ‪ ،‬بل يحكم بما يختاره في الوقت ‪ ،‬فإنه يعطى التكوين ‪ ،‬فكل ما خطر له تكوينه‬
‫خالقا دائما ‪ ،‬فال بد أن اآلخرة تطلب حشر األجساد وظهورها ‪ ،‬وال‬ ‫كونه ‪ ،‬فال يزال ه‬
‫ه‬
‫بد من إمضاء حكم التكوين فيها ‪ ،‬فإن األمر فيها على أتم الوجوه وأكملها ‪ ،‬ففي الدنيا‬
‫في العموم تقول للشيء كن فيكون في التصور والتخيل ‪ ،‬ألن موطن الدنيا ينقص في‬
‫بعض األمزجة عن التكوين في العين في الظاهر ‪ ،‬وفي اآلخرة تقول ذلك بعينه لما‬
‫تريد أن يكون كن فيكون في عينه من خارج ‪ ،‬كوجود األكوان هنا عن كن اإللهية عند‬
‫أسبابها ‪ ،‬فكانت اآلخرة أعظم كماال من هذا الوجه ‪ ،‬لتعميم الكلمة في الحضرتين‬
‫الخيال والحس ‪.‬‬

‫[ سورة النحل ( ‪ : ) 16‬اآليات ‪ 32‬إلى ‪] 33‬‬


‫ون (‬ ‫علَ ْي ُك ْم ا ْد ُخلُوا ا ْل َجنهةَ بِما ُك ْنت ُ ْم ت َ ْع َملُ َ‬
‫سال ٌم َ‬ ‫ون َ‬ ‫ين يَقُولُ َ‬ ‫ِين تَت َ َوفها ُه ُم ا ْل َمالئِكَةُ َط ِيّبِ َ‬
‫الهذ َ‬
‫ِين ِم ْن قَ ْب ِل ِه ْم‬‫ي أ َ ْم ُر َر ِبّكَ كَذ ِلكَ فَعَ َل الهذ َ‬ ‫ون ِإاله أ َ ْن تَأْتِيَ ُه ُم ا ْل َمالئِكَةُ أ َ ْو يَأْتِ َ‬
‫ظ ُر َ‬‫‪َ ) 32‬ه ْل يَ ْن ُ‬
‫ون) ‪( 33‬‬ ‫س ُه ْم يَ ْظ ِل ُم َ‬‫َّللاُ َول ِك ْن كانُوا أ َ ْنفُ َ‬ ‫َوما َظلَ َم ُه ُم ه‬

‫ص ‪479‬‬

‫ص ‪479 :‬‬
‫ّللاُ »فإنهم ال يرجعون عندما يبصرون ‪ ،‬وال يعقلون عندما يسمعون ‪،‬‬ ‫« َوما َ‬
‫ظلَ َم ُه ُم َّ‬
‫س ُه ْم يَ ْ‬
‫ظ ِل ُمونَ »فكانوا هم الظالمين ‪ ،‬فإنهم‬ ‫وال يصيبون عندما يتكلمون« َول ِك ْن كانُوا أ َ ْنفُ َ‬
‫ظلموا الحقوق أهلها ‪ ،‬فإن لهم قلوبا يعقلون ويفقهون بها ‪ ،‬وإن لهم أعينا يبصرون بها‬
‫‪ ،‬وإن لهم آذانا يسمعون بها ‪ ،‬فأنزلوا أنفسهم منزلة األنعام بل أضل سبيال ‪.‬‬

‫[ سورة النحل ( ‪ : ) 16‬اآليات ‪ 34‬إلى ‪] 40‬‬


‫ُن ( ‪َ ) 34‬وقا َل الهذ َ‬
‫ِين‬ ‫ستَه ِْزؤ َ‬ ‫حاق بِ ِه ْم ما كانُوا بِ ِه يَ ْ‬ ‫س ِيّئاتُ ما ع َِملُوا َو َ‬ ‫فَأَصابَ ُه ْم َ‬
‫ش ْي ٍء نَحْ ُن َوال آباؤُنا َوال َح هر ْمنا ِم ْن دُونِ ِه‬ ‫عبَدْنا ِم ْن دُونِ ِه ِم ْن َ‬ ‫َّللاُ ما َ‬ ‫أَش َْركُوا لَ ْو شا َء ه‬
‫ين ( ‪) 35‬‬ ‫غ ا ْل ُم ِب ُ‬‫س ِل ِإاله ا ْلبَال ُ‬ ‫علَى ُّ‬
‫الر ُ‬ ‫ِين ِم ْن قَ ْب ِل ِه ْم فَ َه ْل َ‬
‫ش ْي ٍء كَذ ِلكَ فَعَ َل الهذ َ‬ ‫ِم ْن َ‬
‫غوتَ فَ ِم ْن ُه ْم َم ْن َهدَى ه‬
‫َّللاُ‬ ‫َّللا َواجْ ت َ ِنبُوا ال ه‬
‫طا ُ‬ ‫سوالً أ َ ِن ا ْعبُدُوا ه َ‬ ‫َولَقَ ْد بَعَثْنا ِفي ُك ِ ّل أ ُ هم ٍة َر ُ‬
‫كان عا ِقبَةُ ا ْل ُم َك ِذّ ِب َ‬
‫ين‬ ‫ف َ‬ ‫ظ ُروا َك ْي َ‬ ‫ض فَا ْن ُ‬ ‫يروا ِفي ْاأل َ ْر ِ‬ ‫س ُ‬ ‫ضاللَةُ فَ ِ‬ ‫علَ ْي ِه ال ه‬ ‫َو ِم ْن ُه ْم َم ْن َحقهتْ َ‬
‫( ‪) 36‬‬
‫ين ) ‪( 37‬‬ ‫ناص ِر َ‬‫َّللا ال يَ ْهدِي َم ْن يُ ِض ُّل َوما لَ ُه ْم ِم ْن ِ‬ ‫ص عَلى ُهدا ُه ْم فَ ِإ هن ه َ‬ ‫إِ ْن ت َحْ ِر ْ‬
‫علَ ْي ِه َحقًّا َول ِك هن أ َ ْكث َ َر‬‫َّللاُ َم ْن يَ ُموتُ بَلى َوعْدا ً َ‬ ‫ث ه‬ ‫اّلِل َج ْه َد أ َ ْيمانِ ِه ْم ال يَ ْبعَ ُ‬
‫س ُموا ِب ه ِ‬ ‫َوأ َ ْق َ‬
‫ون ( ‪) 38‬‬ ‫اس ال يَ ْعلَ ُم َ‬ ‫النه ِ‬
‫ين ( ‪) 39‬‬ ‫ِين َكفَ ُروا أَنه ُه ْم كانُوا كا ِذ ِب َ‬ ‫ون ِفي ِه َو ِليَ ْعلَ َم الهذ َ‬ ‫ِليُبَ ِيّ َن لَ ُه ُم الهذِي يَ ْخت َ ِلفُ َ‬
‫ُون ( ‪) 40‬‬ ‫ش ْي ٍء إِذا أ َ َردْناهُ أ َ ْن نَقُو َل لَهُ ك ُْن فَيَك ُ‬ ‫إِنهما قَ ْولُنا ِل َ‬
‫ش ْيءٍ إِذا أ َ َر ْدناهُ »اإلرادة هنا التوجه اإللهي باإليجاد ‪ ،‬فنفى األثر فيه عن‬ ‫« إِنَّما قَ ْولُنا ِل َ‬
‫السبب إن كان أوجده عند سبب مخلوق ‪ ،‬ولما توقف حكم اإلرادة على حكم العلم قال‬
‫‪ِ «:‬إذا أ َ َر ْدناهُ »فجاء بظرف الزمان المستقبل في تعليق اإلرادة ‪ ،‬واإلرادة واحدة العين‬
‫‪ ،‬فانتقل حكمها من ترجيح بقاء الممكن في شيئية ثبوته إلى حكمها بترجيح ظهوره في‬
‫شيئية وجوده ‪،‬‬

‫ص ‪480‬‬

‫ص ‪480 :‬‬
‫[مسألة الوجود العيني واألعيان الثابتة ]‬
‫والشيء هو الممكنات ‪ ،‬وأجناسها محصورة في جوهر متحيز وجوهر غير متحيز ‪،‬‬
‫وأكوان وألوان ‪ ،‬وما ال ينحصر هو وجود األنواع واألشخاص« أ َ ْن نَقُو َل لَهُ ُك ْن‬
‫ون »فجعل سبحانه نسبة التكوين إلى نفس المأمور به ‪ ،‬والقدرة ال تتعلق بإيجاد‬ ‫فَيَ ُك ُ‬
‫الممكن إال بعد تخصيص اإلرادة ‪ ،‬كما ال تتمكن القدرة من الممكن حتى يأتيه أمر‬
‫اآلمر من ربه ‪ ،‬فإذا أمره بالتكوين وقال له« ُك ْن »م هكن القدرة من نفسه ‪ ،‬وتعلقت‬
‫القدرة بإيجاده ‪ ،‬فكونته من حينه ‪ ،‬فاالسم المريد هو المرجح والمخصص جانب‬
‫الوجود على جانب العدم ‪ -‬مسئلة الوجود العيني واألعيان الثابتة ‪ -‬ما ورد في الشرع‬
‫ّللا يشهد الغيوب ‪ ،‬وإنما ورد يعلم الغيوب ‪،‬‬ ‫قط أن ه‬
‫ّللا يَرى )‬ ‫ولهذا وصف نفسه بالرؤية فقال ‪ (:‬أ َ لَ ْم يَ ْعلَ ْم ِبأ َ َّن َّ َ‬
‫ففرق بين النسب وميز بعضها عن بعض ليعلم ما‬ ‫ووصف نفسه بالبصر وبالعلم ‪ ،‬ه‬
‫ّللا غيب ‪ ،‬علمنا أن الغيب أمر إضافي لما‬ ‫بينها ‪ ،‬ولما لم يتصور أن يكون في حق ه‬
‫غاب عنا ‪ ،‬وما يلزم من شهود الشيء العلم بحده وحقيقته ‪ ،‬ويلزم من العلم بالشيء‬
‫العلم بحده وحقيقته ‪ ،‬عدما كان أو وجودا ‪ ،‬وإال فما علمته ‪ ،‬وقد وصف الحق نفسه‬
‫ب)*‬ ‫ع َّال ُم ْالغُيُو ِ‬
‫بأنه( َ‬
‫واألشياء كلها مشهودة للحق في حال عدمها ‪ ،‬ولو لم تكن كذلك لما خصص بعضها‬
‫باإليجاد عن بعض ‪ ،‬إذ العدم المحض الذي ليس فيه أعيان ثابتة ال يقع فيه تمييز‬
‫شهود ‪ ،‬بخالف عدم الممكنات ‪ ،‬فكون العلم ميز األشياء بعضها عن بعض وفصل‬
‫بعضها عن بعض ‪ ،‬هو المعبر عنه بشهوده إياها وتعيينه لها ‪ ،‬أي هي بعينه يراها ‪،‬‬
‫وإن كانت موصوفة بالعدم فما هي معدومة هّلل الحق من حيث علمه بها ‪ ،‬كما أن‬
‫تصور اإلنسان المخترع لألشياء صورة ما يريد اختراعها في نفسه ثم يبرزها ‪،‬‬
‫فيظهر عينها لها ‪ ،‬فاتصفت بالوجود العيني ‪ ،‬وكانت في حال عدمها موصوفة‬
‫ّللا ‪ ،‬فظهور األشياء من وجود‬ ‫بالوجود الذهني في حقنا ‪ ،‬والوجود العلمي في حق ه‬
‫إلى وجود ‪ ،‬من وجود علمي إلى وجود عيني ‪ .‬واعلم أن الطبيعة لألمر اإللهي محل‬
‫ظهور أعيان األجسام ‪ ،‬فيها تكونت وعنها ظهرت ‪ ،‬فأمر بال طبيعة ال يكون ‪،‬‬
‫ّللا قادر على‬ ‫وطبيعة بال أمر ال تكون ‪ ،‬فالكون متوقف على األمرين ‪ ،‬وال تقل إن ه‬
‫إيجاد شيء من غير أن ينفعل أمر آخر ‪،‬‬
‫ش ْيءٍ ِإذا أ َ َر ْدناهُ أ َ ْن نَقُو َل لَهُ ُك ْن فَيَ ُك ُ‬
‫ون‬ ‫ّللا يرد عليك في ذلك بقوله ‪ِ «:‬إنَّما قَ ْولُنا ِل َ‬ ‫فإن ه‬
‫»فتلك الشيئية العامة لكل شيء خاص ‪ -‬وهو الذي وقع فيها االشتراك ‪ -‬هي التي‬
‫أثبتناها ‪ ،‬وإن األمر اإللهي عليها يتوجه لظهور شيء خاص في تلك الشيئية المطلقة ‪،‬‬
‫فإذا ظهرت األجسام أو األجساد‬

‫ص ‪481‬‬

‫ص ‪481 :‬‬
‫ظهرت الصور واألشكال واألعراض وجميع القوى الروحانية والحسية ‪ ،‬وربما قيل‬
‫‪:‬هو المعبر عنها بلسان الشرع العماء الذي هو للحق قبل خلق الخلق ‪ ،‬ما تحته هواء‬
‫وما فوقه هواء ‪ ،‬فذكره وسماه باسم موجود يقبل الصور واألشكال ‪ ،‬وعلى ذلك فثبوت‬
‫عين الممكن في العدم به يكون التهيؤ لقبول اآلثار ‪ ،‬وثبوته في العدم كالبذر لشجرة‬
‫الوجود ‪ ،‬فهو في العدم بذرة وفي الوجود شجرة ‪.‬‬
‫ثبوت العين في اإلمكان بذر *** ولوال البذر لم يك ثم نبت‬
‫ظهوري عن ثبوتي دون أمر *** إلهي محال حين كنت‬
‫فلو ال ثبوت العين ما كان مشهودا *** وال قال كن كونا وال كان مقصودا‬
‫فما زال حكم العين هّلل عابدا *** وما زال كون الحق للعين معبودا‬
‫فلما كساه الحق حلة كونه *** وقد كان قبل الكون في الكون مفقودا‬
‫تكونت األحكام فيه بكونه *** فما زال س هجادا فقيدا وموجودا‬
‫ّللا والخلق خالف حكم الوجود ‪ ،‬فبحكم الوجود يكون الخلق هو‬ ‫وحكم الثبوت بين ه‬
‫الذي ثنى وجود الحق ‪ ،‬وليس لحكم الثبوت هذا المقام ‪ ،‬فإن الخلق والحق معا في‬
‫الثبوت ‪ ،‬وليس معا في الوجود‬
‫ولنشرح لك ذلك المعنى ‪ :‬اعلم أن المعلومات ثالثة ال رابع لها ‪،‬‬
‫ّللا تعالى الواجب الوجود لنفسه ‪،‬‬‫وهي الوجود المطلق الذي ال يتقيد ‪ ،‬وهو وجود ه‬
‫والمعلوم اآلخر العدم المطلق الذي هو عدم لنفسه ‪ ،‬وهو الذي ال يتقيد أصال وهو‬
‫المحال ‪ ،‬وهو في مقابلة الوجود المطلق ‪،‬‬
‫فكانا على السواء حتى لو اتصفا لحكم الوزن عليهما ‪ ،‬وما من نقيضين إال وبينهما‬
‫فاصل ‪ ،‬به يتميز كل واحد من اآلخر ‪ ،‬وهو المانع أن يتصف الواحد بصفة اآلخر ‪،‬‬
‫وهذا الفاصل الذي بين الوجود المطلق والعدم المطلق ‪ ،‬لو حكم الميزان عليه لكان‬
‫على السواء في المقدار من غير زيادة وال نقصان ‪،‬‬
‫وهذا هو البرزخ األعلى ‪ ،‬وهو برزخ البرازخ ‪ ،‬له وجه إلى الوجود ووجه إلى العدم‬
‫‪ ،‬فهو يقابل كل واحد من المعلومين بذاته ‪،‬‬
‫وهو المعلوم الثالث ‪ ،‬وفيه جميع الممكنات ‪ ،‬وهي ال تتناهى ‪،‬‬
‫كما أنه كل واحد من المعلومين ال يتناهى ‪ ،‬وللممكنات في هذا البرزخ أعيان ثابتة من‬
‫الوجه الذي ينظر إليها الوجود المطلق ‪،‬‬
‫ومن هذا الوجه ينطلق عليها اسم الشيء الذي إذا أراد الحق إيجاده قال له ‪ :‬كن فيكون‬
‫‪،‬‬

‫ص ‪482‬‬

‫ص ‪482 :‬‬
‫وليس له أعيان موجودة من الوجه الذي ينظر إليه منه العدم المطلق ‪ ،‬ولهذا يقال له ‪:‬‬
‫كن ‪ ،‬وكن حرف وجودي ‪ ،‬فإنه لو أنه كائن ما قيل له ‪ُ «:‬ك ْن »وهذه الممكنات في‬
‫هذا البرزخ بما هي عليه وما تكون إذا كانت مما تتصف به من األحوال واألعراض‬
‫والصفات واألكوان ‪ ،‬وهذا هو العالم الذي ال يتناهى ‪ ،‬وما له طرف ينته إليه ‪ ،‬ومن‬
‫هذا البرزخ وجود الممكنات ‪ ،‬وبها يتعلق رؤية الحق لألشياء قبل كونها ‪ ،‬وكل إنسان‬
‫ذي خيال وتخيل إذا تخيل أمرا ما ‪ ،‬فإن نظره يمتد إلى هذا البرزخ ‪ ،‬وهو ال يدري‬
‫أنه ناظر ذلك الشيء في هذه الحضرة ‪ ،‬وهذه الموجودات الممكنات التي أوجدها الحق‬
‫تعالى ‪،‬‬
‫هي لألعيان التي يتضمنها هذا البرزخ بمنزلة الظالالت لألجسام ‪ ،‬ولما كان الظل في‬
‫حكم الزوال ال في حكم الثبات ‪،‬‬
‫وكانت الممكنات وإن وجدت في حكم العدم سميت ظالالت ‪ ،‬ليفصل بينها وبين من له‬
‫الثبات المطلق في الوجود ‪ -‬وهو واجب الوجود –‬
‫وبين ما له الثبات المطلق في العدم ‪ -‬وهو المحال ‪ -‬لتتميز المراتب ‪،‬‬
‫فاألعيان الموجودات إذا ظهرت ففي هذا البرزخ هي ‪ ،‬فإنه ما ث هم حضرة تخرج إليها‬
‫ففيها تكتسب حالة الوجود ‪ ،‬والوجود فيها متناه ما حصل منه ‪ ،‬واإليجاد فيها ال يتناهى‬
‫‪ ،‬فما من صورة موجودة إال والعين الثابتة عينها والوجود كالثوب عليها ‪،‬‬
‫والعجب من األشاعرة كيف تنكر على من يقول ‪:‬‬
‫إن المعدوم شيء في حال عدمه وله عين ثابتة يطرأ على تلك العين الوجود ‪ ،‬وهي‬
‫تثبت األحوال ‪ ،‬اللهم منكر األحوال ال يتمكن له هذا ‪،‬‬
‫ثم إن هذا البرزخ الذي هو الممكن بين الوجود والعدم ‪ ،‬سبب نسبة الثبوت إليه مع‬
‫نسبة العدم هو مقابلته لألمرين بذاته ‪،‬‬
‫فالممكن ما هو ‪ -‬من حيث ثبوته ‪ -‬عين الحق وال غيره ‪ ،‬وال هو من حيث عدمه عين‬
‫المحال وال غيره ‪ ،‬فكأنه أمر إضافي ‪،‬‬
‫ولهذا نزعت طائفة إلى نفي الممكن وقالت ‪ :‬ما ث هم إال واجب أو محال ولم يتعقل لها‬
‫اإلمكان ‪ ،‬فالممكنات على ما قررناه أعيان ثابتة من تجلي الحق ‪ ،‬معدومة من تجلي‬
‫العدم ‪ ،‬ومن هذه الحضرة علم الحق نفسه فعلم العالم ‪ ،‬وعلمه له بنفسه أزال ‪،‬‬
‫فإن التجلي أزال ‪ ،‬وتعلق علمه بالعالم أزال على ما يكون العالم عليه أبدا مما ليس حاله‬
‫ّللا عن الزيادة في نفسه‬
‫الوجود ‪ ،‬ال يزيد الحق به علما وال يستفيد رؤية ‪ ،‬تعالى ه‬
‫واالستفادة ‪،‬‬
‫وقوله تعالى« ِإذا أ َ َر ْدناهُ »هنا اإلرادة تعلق المشيئة بالمراد ‪،‬‬
‫ّللا كان وما لم يشأ لم يكن ]‬
‫قال عليه السالم ‪ [ :‬ما شاء ه‬
‫فالممكن ما خرج عن حضرة اإلمكان ال في حال وجوده وال في حال عدمه ‪،‬‬
‫والتجلي له‬
‫ص ‪483‬‬

‫ص ‪483 :‬‬
‫مستصحب واألحوال عليه تتحول وتطرأ ‪ ،‬فهو بين حال عدمي وحال وجودي ‪،‬‬
‫ّللا تعالى وأسماؤه وأفعاله ‪ ،‬فهو األول من‬ ‫والعين هي تلك العين فما في الوجود إال ه‬
‫االسم الظاهر ‪ ،‬وهو اآلخر من االسم الباطن ‪،‬‬
‫فالوجود كله حق فما فيه شيء من الباطل ‪ ،‬إذ كان المفهوم من إطالق لفظ الباطل‬
‫عدما فيما ادعى صاحبه أنه موجود ‪ ،‬ولو لم يكن األمر كذلك النفرد الخلق بالفعل ولم‬
‫يكن االقتدار اإللهي يع هم جميع الكائنات ‪ ،‬بل كانت اإلمكانات تزول عنه ‪،‬‬
‫فسبحان الظاهر الذي ال يخفى ‪ ،‬وسبحان الخفي الذي ال يظهر ‪ ،‬حجب الخلق به عن‬
‫معرفته وأعماهم بشدة ظهوره ‪ ،‬فهم منكرون مقرون ‪ ،‬مترددون حائرون ‪ ،‬مصيبون‬
‫مخطئون ‪،‬‬
‫ومن أراد أن يعرف حقيقة ما أومأت إليه في هذه المسألة فلينظر خيال الستارة‬
‫وصوره ‪ ،‬ومن الناطق من تلك الصور عند الصبيان الصغار ‪ ،‬الذين بعدوا عن‬
‫حجاب الستارة المضروبة بينهم وبين الالعب بتلك األشخاص والناطق فيها ‪،‬‬
‫فاألمر كذلك في صور العالم ‪ ،‬والناس أكثرهم أولئك الصغار الذين فرضناهم ‪،‬‬
‫فالصغار في المجلس يفرحون ويطربون ‪ ،‬والغافلون يتخذونه لهوا ولعبا ‪ ،‬والعلماء‬
‫ّللا ما نصب هذا إال مثال لعباده ليعتبروا ‪ ،‬وليعلموا أن أمر‬ ‫يعتبرون ويعلمون أن ه‬
‫ّللا مثل هذه الصور مع محركها ‪،‬‬ ‫العالم مع ه‬
‫وأن هذه الستارة حجاب سر القدر المح هكم في الخالئق ‪ ،‬ولما كان تقدم العدم للممكنات‬
‫نعتا نفسيا ‪ ،‬ألن الممكن يستحيل عليه الوجود أزال ‪ ،‬فلم يبق إال أن يكون أزلي العدم ‪،‬‬
‫فتقدم العدم له نعت نفسي ‪ ،‬والممكنات متميزة الحقائق والصور في ذاتها ‪ ،‬ألن‬
‫ّللا أن يلبسها حالة الوجود خاطبها من حيث حقائقها ‪،‬‬ ‫الحقائق تعطي ذلك ‪ ،‬فلما أراد ه‬
‫فقال ‪ِ «:‬إنَّما قَ ْولُنا »من كونه تعالى متكلما « ِل َ‬
‫ش ْيءٍ »‬
‫وهو المخاطب من الممكنات في شيئية ثبوتها ‪ ،‬فسماه شيئا في حال لم تكن فيه الشيئية‬
‫المنفية بقوله ولم يكن شيئا ‪ ،‬فهي الشيئية المتوجه عليها أمره بالتكوين إلى شيئية‬
‫أخرى ‪،‬‬
‫فإن الممكنات في حال عدمها بين يدي الحق ينظر إليها ويميز بعضها عن بعض بما‬
‫هي عليه من الحقائق في شيئية ثبوتها ‪ ،‬ينظر إليها بعين أسمائه الحسنى ‪ ،‬وترتيب‬
‫إيجاد الممكنات يقتضي بتقدم بعضها على بعض ‪،‬‬
‫وهذا ما ال يقدر على إنكاره ‪ ،‬فإنه الواقع ‪ ،‬فالدخول في شيئية الوجود إنما وقع مرتبا‬
‫بخالف ما هي عليه في شيئية الثبوت ‪ ،‬فإنها كلها غير مرتبة ‪ ،‬ألن ثبوتها منعوت‬
‫باألزل لها ‪ ،‬واألزل ال ترتيب فيه وال تقدم وال تأخر ‪،‬‬
‫فتوقف حكم اإلرادة على حكم العلم ‪ ،‬ولهذا قال تعالى ‪ِ «:‬إذا أ َ َر ْدناهُ »فجاء بظرف‬
‫الزمان المستقبل في تعليق‬

‫ص ‪484‬‬

‫ص ‪484 :‬‬
‫ّللا تعلق إرادته تحت حكم الزمان ‪ ،‬فجاء بإذا وهي من صيغ الزمان ‪،‬‬ ‫اإلرادة ‪ ،‬فأدخل ه‬
‫والزمان قد يكون مرادا وال يصح فيه إذا ‪ ،‬ألنه لم يكن بعد فيكون له حكم ‪ ،‬واإلرادة‬
‫واحدة العين ‪ ،‬فانتقل حكمها من ترجيح بقاء الممكن في شيئية ثبوته إلى حكمها‬
‫بترجيح ظهوره في شيئية وجوده ‪،‬‬
‫فقوله تعالى ‪ِ «:‬إذا أ َ َر ْدناهُ »‬
‫هو التوجه اإللهي على الشيء في حال عدمه" أ َ ْن نَقُو َل لَهُ "‬
‫وهو قوله لكل شيء يريده وذلك من كون الحق متكلما ‪ ،‬وما يؤمر إال من يسمع بسمع‬
‫ثبوتي أو وجودي ‪ ،‬يسمع األمر اإللهي« ُك ْن »‬
‫بالمعنى الذي يليق بجالله ‪ ،‬وكن حرف وجودي ‪ ،‬أو إن شئت أمر وجودي ‪ ،‬فما ظهر‬
‫عنها إال ما يناسبها ‪ ،‬فال يكون عن هذا الحرف إال الوجود ‪ ،‬ما يكون عنه عدم ‪ ،‬ألن‬
‫العدم ال يكون ‪ ،‬ألن الكون وجود ‪ ،‬وكن كلمة وجودية من التكوين ‪ ،‬فكن عين ما تكلم‬
‫به ‪ ،‬وهو األمر الذي ال يمكن للمأمور به مخالفته ‪ ،‬ال األمر باألفعال والتروك ‪ ،‬فظهر‬
‫المكون‬
‫ه‬ ‫عن هذا األمر الذي قيل له« ُك ْن »فيكون ذلك الشيء في عينه ‪ ،‬فيتصف ذلك‬
‫بالوجود بعد ما كان يوصف بأنه غير موجود ‪،‬‬
‫فإذا ظهر عن قوله« ُك ْن »لبس شيئية الوجود ‪ ،‬وهي على الحقيقة شيئية الظهور ‪،‬‬
‫ظهور لعينه ‪،‬‬
‫وإن كان في شيئية ثبوته ظاهرا متميزا عن غيره بحقيقته ‪ ،‬ولكن لربه ال لنفسه ‪ ،‬فما‬
‫ظهر لنفسه إال بعد تعلق األمر اإللهي من قوله« ُك ْن »بظهوره ‪ ،‬فاكتسب ظهوره‬
‫لنفسه ‪ ،‬فعرف نفسه وشاهد عينه ‪ ،‬فاستحال من شيئية ثبوته إلى شيئية وجوده ‪ ،‬وإن‬
‫شئت قلت استحال في نفسه من كونه لم يكن ظاهرا لنفسه إلى حالة ظهر بها لنفسه ‪،‬‬
‫ّللا التكوين إلى‬
‫ّللا بذلك ‪ .‬وأضاف ه‬ ‫ّللا والتوجه وقبول الممكنات لما أراد ه‬ ‫فما ث هم إال ه‬
‫الذي يكون ال إلى الحق وال إلى القدرة ‪ ،‬بل أمر فامتثل السامع في حال عدم شيئيته‬
‫وثبوته أمر الحق بسمع ثبوتي ‪ ،‬فأمره قدرته ‪ ،‬وقبول المأمور بالتكوين استعداده ‪ ،‬فإن‬
‫ّللا يأمر الممكن‬
‫الممكنات لها اإلدراكات في حال عدمها ‪ ،‬ولذا جاء في الشرع أن ه‬
‫بالتكوين فيتكون ‪ ،‬فلو ال أن له حقيقة السمع ‪ ،‬وأنه مدرك أمر الحق إذا توجه عليه لم‬
‫ّللا بالتكوين ‪ ،‬وال وصف نفسه بالقول لذلك الشيء المنعوت بالعدم‬ ‫يتكون ‪ ،‬وال وصفه ه‬
‫‪ ،‬فتعلق الخطاب باألمر لهذه العين المخصصة بأن تكون ‪ ،‬فامتثلت فكانت ‪ ،‬فلو ال ما‬
‫كان للممكن عين وال وصف لها بالوجود ‪ ،‬يتوجه على تلك العين األمر بالوجود لما‬
‫ّللا أنه خاطب األشياء في‬ ‫وقع الوجود ‪ ،‬فالمأمور به إنما هو الوجود ‪ ،‬ولذلك أعلمنا ه‬
‫حال عدمها ‪ ،‬وأنها امتثلت أمره عند‬

‫ص ‪485‬‬

‫ص ‪485 :‬‬
‫بالنعوت التي لها في حال وجودها ما وصفها الحق بما وصفها به من ذلك ‪ ،‬وهو‬
‫الصادق المخبر بحقائق األشياء على ما هي عليه ‪ ،‬فما ظهرت أعيان الموجودات إال‬
‫بالحال التي كانت عليه في حال العدم ‪ ،‬فما استفادت إال الوجود من حيث أعيانها ومن‬
‫حيث ما به بقاؤها ‪ ،‬فكل ما هي عليه األعيان القائمة بأنفسها ذاتي لها ‪ ،‬وإن تغيرت‬
‫عليها األعراض واألمثال واألضداد ‪ ،‬إال أن حكمها في حال عدمها ليس حكمها في‬
‫حال وجودها من حيث أمر ما ‪ ،‬وذلك ألن حكمها في حال عدمها ذاتي لها ليس للحق‬
‫فيها حكم ‪ ،‬ولو كان لم يكن لها العدم صفة ذاتية ‪ ،‬فال تزال الممكنات في حال عدمها‬
‫ناظرة إلى الحق بما هي عليه من األحوال ال يتبدل عليها حال حتى تتصف بالوجود ‪،‬‬
‫فتتغير عليها األحوال للعدم الذي يسرع إلى ما به بقاء العين ‪ ،‬وليست كذلك في حال‬
‫العدم ‪ ،‬فإنه ال يتغير عليها شيء في حال العدم ‪ ،‬بل األمر الذي هي عليه في نفسها‬
‫ثابت ‪ ،‬إذ لو زال لم تزل إال إلى الوجود ‪ ،‬وال يزول إلى الوجود إال إذا اتصفت العين‬
‫القائم به هذا الممكن الخاص بالوجود ‪ ،‬فاألمر بين وجود وعدم في أعيان ثابتة على‬
‫ون »يعني حكم ما توجه عليه أمر« ُك ْن »كان ما كان ‪ ،‬فيعدم به‬ ‫أحوال خاصة« فَيَ ُك ُ‬
‫ويوجد ‪ ،‬فليس متعلقه إال األثر ‪ ،‬فترى الكائنات ما ظهرت وال تكونت من شيئيتها‬
‫الثابتة إال بالفهم ال بعدم الفهم ‪ ،‬ألنها فهمت معنى« ُك ْن »فتكونت ‪ ،‬ولهذا قال« فَيَ ُك ُ‬
‫ون‬
‫»يعني ذلك الشيء ‪ ،‬ألنه فهم عند السماع ما أراد بقوله« ُك ْن »فبادر لفهمه دون غير‬
‫التكوين من الحاالت ‪ ،‬وكذلك يكون االنتقال من حال إلى حال ‪ ،‬أي من حال يكون‬
‫عليه السامع إلى حال يعطيه سماعه عند كالم المتكلم ‪ ،‬وسمي ذلك بالحركة من العدم‬
‫إلى الوجود ‪ ،‬فكان لألعيان في ظهورها شيئية وجودية ‪ ،‬فسميت هذه الحركة بالوجد‬
‫لحصول الوجود عندها ‪ ،‬أعني وجود الحكم ‪ ،‬سواء كان بعين ‪ ،‬أي في تقلبه أثناء‬
‫وجوده من حال إلى حال ‪ ،‬أو بال عين قبل إبرازه من العدم إلى الوجود ‪ ،‬فإنه عين في‬
‫نفسه هذا الكائن ‪ ،‬أي له عين ثابتة في العلم يتوجه عليها الخطاب ‪ ،‬فتسمع فتمتثل ‪،‬‬
‫ون »ما هو قبول التكوين وإنما قبوله للتكوين ‪ ،‬أن يكون‬ ‫فعندنا قوله تعالى ‪ «:‬فَيَ ُك ُ‬
‫مظهرا للحق ‪ ،‬فهذا معنى قوله« فَيَ ُك ُ‬
‫ون »ال أنه استفاد وجودا ‪ ،‬وإنما استفاد حكم‬
‫المظهرية حيث أنه قبل السماع من حيث عينه الثابتة الموجودة فالحق عين كل شيء‬
‫في الظهور وما هو عين األشياء في ذواتها سبحانه وتعالى ‪ ،‬بل هو هو واألشياء‬

‫ص ‪456‬‬

‫ص ‪486 :‬‬
‫ش ْيءٍ إِذا أ َ َر ْدناهُ » ]‬
‫[مسائل مستفادة من قوله تعالى ‪ « :‬إِنَّما قَ ْولُنا ِل َ‬
‫أشياء ‪ ،‬فلوال الحق ما تميزت الموجودات بعضها عن بعض ولكان األمر عينا واحدا ‪،‬‬
‫فعين تمييز الحق لها وجودها ‪ ،‬وعين تمييز بعضها عن بعض فألنفسها ‪ ،‬ولذلك لم‬
‫تزد كلمة الحضرة في كل كائن عنها على كلمة« ُك ْن »شيئا آخر ‪ ،‬بل انسحب على‬
‫كل كائن عين« ُك ْن »ال غير ‪ ،‬فلو وقفنا مع كن لم نر إال عينا واحدة ‪ ،‬وإنما وقفنا مع‬
‫أثر هذه الكلمة وهي المكونات ‪،‬‬
‫فكثرت وتعددت وتميزت بأشخاصها ‪ ،‬فلما اجتمعت في عين حدها علمنا أن هذه‬
‫الحقيقة وجدت كلمة الحق فيها وهي كلمة كن ‪ ،‬وكن أمر وجودي ال يعلم منه إال‬
‫اإليجاد والوجود ‪،‬‬
‫ولهذا ال يقال للموجود كن عدما ‪ ،‬وال يقال له كن معدوما الستحالة ذلك ‪ ،‬فالعدم نفسي‬
‫لبعض الموجودات ‪ ،‬ولبعضها تابع لعدم شرطه المصحح لوجوده ‪ ،‬وبهذه الحقيقة كان‬
‫ّللا سبحانه يرانا في حال عدمنا في‬ ‫ّللا خالقا دائما وحافظا دائما ‪ ،‬والخالصة هي أن ه‬ ‫ه‬
‫شيئية ثبوتنا كما يرانا في حال وجودنا ‪،‬‬
‫ألنه تعالى ما في حقه غيب ‪ ،‬فكل حال له شهادة ‪ ،‬فيتجلى تعالى لألشياء التي يريد‬
‫إيجادها في حال عدمها من اسمه النور تعالى ‪ ،‬فينفهق على تلك األعيان أنوار هذا‬
‫التجلي فتستعد لقبول اإليجاد ‪ ،‬فيقول له عند هذا االستعداد « كن » فيكون من حينه‬
‫من غير تثبط ‪ -‬مسائل مستفادة من هذه اآلية‬
‫‪ -‬المسألة األولى ‪ -‬اعلم أن القول والكالم نعتان هّلل ‪ ،‬فبالقول يسمع المعدوم ‪ ،‬وهو‬
‫ون »وبالكالم يسمع‬ ‫ش ْيءٍ ِإذا أ َ َر ْدناهُ أ َ ْن نَقُو َل لَهُ ُك ْن فَيَ ُك ُ‬
‫قوله تعالى ‪ِ «:‬إنَّما قَ ْولُنا ِل َ‬
‫الموجود ‪،‬‬
‫ّللاُ ُموسى ت َ ْك ِليما ً )وقد يطلق الكالم على الترجمة في لسان‬ ‫وهو قوله تعالى ‪َ (:‬و َكلَّ َم َّ‬
‫المترجم وينسب الكالم إلى المترجم عنه في ذلك ‪ ،‬فالقول له أثر في المعدوم وهو‬
‫الوجود ‪ ،‬والكالم له أثر في الموجود وهو العلم‬
‫ّللا وال عن رسوله في مخلوق أنه أعطي« ُك ْن‬ ‫‪ -‬المسألة الثانية ‪ -‬لم يرد نص عن ه‬
‫ّللا عليه وسلم في غزوة‬ ‫»سوى اإلنسان خاصة ‪ ،‬فظهر ذلك في وقت في النبي صلهى ه‬
‫تبوك ‪ ،‬فقال ‪ :‬كن أبا ذر ‪ ،‬فكان أبو ذر ‪ ،‬ورد في الخبر في أهل الجنة أن الملك يأتي‬
‫ّللا‬
‫إليهم فيقول لهم بعد أن يستأذن في الدخول عليهم ‪ ،‬فإذا دخل ناولهم كتابا من عند ه‬
‫ّللا ‪ ،‬فإذا في الكتاب لكل إنسان يخاطب به ‪ ،‬من الحي القيوم‬ ‫بعد أن يسلم عليهم من ه‬
‫الذي ال يموت إلى الحي القيوم الذي ال يموت ‪ ،‬أما بعد فإني أقول للشيء كن فيكون ‪،‬‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ :‬فال يقول أحد من أهل‬ ‫وقد جعلتك تقول للشيء كن فيكون ‪ ،‬فقال صلهى ه‬
‫الجنة للشيء كن إال ويكون‬
‫‪ -‬المسألة الثالثة ‪ -‬اعلم أن لألسباب أحكاما في المسببات فهي كاآللة للصانع ‪،‬‬
‫فتضاف‬

‫ص ‪487‬‬

‫ص ‪487 :‬‬
‫الصنعة والمصنوع للصانع ال لْللة ‪ ،‬وسببه أن ال علم لْللة بما في نفس الصانع أن‬
‫يصنع بها على التعيين ‪ ،‬بل لها العلم بأنها آلة للصنع الذي تعطيه حقيقتها ‪ ،‬وال عمل‬
‫للصانع إال بها ‪ ،‬فصنع اآللة ذاتي ‪ ،‬وما لجانب الصانع بها إرادي ‪ ،‬وهو قوله تعالى‬
‫‪ِ «:‬إذا أ َ َر ْدناهُ أ َ ْن نَقُو َل لَهُ ُك ْن »وكن آلة اإليجاد ‪ ،‬فما أوجد إال بها ‪ ،‬وكون تلك الكلمة‬
‫ذاته أو أمرا زائدا علم آخر ‪ ،‬إنما المراد هو فهم هذا المعنى وأنه ما حصل اإليجاد‬
‫بمجرد اإلرادة دون القول ودون المريد والقائل ‪ ،‬فظهر حكم األسباب في المسببات ‪،‬‬
‫فال يزيل حكمها إال جاهل بوضعها وما تعطيه أعيانها ‪ -‬المسألة الرابعة ‪ -‬المعلول لوال‬
‫ّللا ما وجد في عينه ‪ ،‬والعين عند العرب تذكر‬ ‫علته ما ظهرت له عين ‪ ،‬والعالم لوال ه‬
‫وتؤنث وذلك ألجل التناسل الواقع بين الذكر واألنثى ‪ ،‬ولهذه الحقيقة جاء اإليجاد‬
‫اإللهي بالقول وهو مذكر ‪ ،‬واإلرادة وهي مؤنثة ‪ ،‬فأوجد العالم عن قول وإرادة ‪،‬‬
‫فظهر عن اسم مذكر ومؤنث ‪،‬‬
‫ش ْيءٍ »وشيء أنكر النكرات والقول مذكر« إِذا أ َ َر ْدناهُ »واإلرادة‬ ‫فقال ‪ «:‬إِنَّما قَ ْولُنا ِل َ‬
‫ون »فظهر التكوين في اإلرادة عن القول ‪ ،‬والعين واحدة‬ ‫مؤنثة« أ َ ْن نَقُو َل لَهُ ُك ْن فَيَ ُك ُ‬
‫بال شك ‪ ،‬واألمر في نفسه صعب تصوره ‪ ،‬من الوجه الذي يطلبه الفكر ‪ ،‬سهل في‬
‫غاية السهولة من الوجه الذي قرره الشرع ‪ ،‬فالفكر يقول ‪ :‬ما ث هم شيء ثم ظهر شيء‬
‫من ال شيء ‪ ،‬والشرع يقول وهو القول الحق ‪:‬بل ث هم شيء فصار كونا * وكان غيبا‬
‫فصار عينا‬

‫[ سورة النحل ( ‪ ) : 16‬اآليات ‪ 41‬إلى ‪] 43‬‬


‫سنَةً َو َألَجْ ُر ْاآل ِخ َر ِة أ َ ْكبَ ُر‬
‫ظ ِل ُموا لَنُبَ ّ ِوئَنه ُه ْم فِي ال ُّد ْنيا َح َ‬ ‫َّللا ِم ْن بَ ْع ِد ما ُ‬ ‫ِين ها َج ُروا فِي ه ِ‬ ‫َوالهذ َ‬
‫س ْلنا ِم ْن‬ ‫ون ( ‪َ ) 42‬وما أ َ ْر َ‬ ‫صبَ ُروا َوعَلى َر ِبّ ِه ْم يَت َ َو هكلُ َ‬ ‫ِين َ‬ ‫ون ( ‪ ) 41‬الهذ َ‬ ‫لَ ْو كانُوا يَ ْعلَ ُم َ‬
‫ون ( ‪) 43‬‬ ‫سئَلُوا أ َ ْه َل ال ِذّ ْك ِر ِإ ْن ُك ْنت ُ ْم ال ت َ ْعلَ ُم َ‬‫وحي ِإلَ ْي ِه ْم فَ ْ‬
‫قَ ْب ِلكَ ِإاله ِرجاالً نُ ِ‬
‫[ « فَ ْسئَلُوا أ َ ْه َل ال ِذه ْك ِر إِ ْن ُك ْنت ُ ْم ال ت َ ْعلَ ُمونَ » ]‬
‫ّللا أن‬ ‫« فَ ْسئَلُوا أ َ ْه َل ال ِذه ْك ِر إِ ْن ُك ْنت ُ ْم ال ت َ ْعلَ ُمونَ »فألحق أهل الذكر بالعلماء ‪ ،‬وأمرنا ه‬
‫نسأل أهل الذكر وهم أهل القرآن ‪ ،‬ألنهم ما يخبرون إال عنه ‪ ،‬ألنهم جلساء الحق ‪ ،‬فما‬
‫ّللا فيه أنه ذاكر له إال عن جليسه ‪ ،‬فيخبر باألمر على ما هو‬ ‫يخبر الذاكر الذي يشهد ه‬
‫عليه ‪ ،‬وذلك‬

‫ص ‪488‬‬

‫ص ‪488 :‬‬
‫هو العلم ‪ ،‬فإنه على بينة من ربه ‪ ،‬ولو لم يكن عند الذاكرين بهذه المثابة لم يكن بينهم‬
‫وبين غيرهم من البشر فرقان ‪ ،‬فإنه تعالى معهم حيثما كانوا وأينما كانوا ‪ ،‬فال بد أن‬
‫يكون مع الذاكرين له بمعية اختصاص ‪ ،‬وما ث هم إال مزيد علم ‪ ،‬به يظهر الفضل ‪ ،‬فكل‬
‫ذاكر ال يزيد علما في ذكره بمذكوره فليس بذاكر وإن ذكر بلسانه ‪ ،‬ألن الذاكر هو‬
‫الذي يعمه الذكر كله ‪ ،‬فذلك هو جليس الحق ‪ ،‬فال بد من حصول الفائدة ‪ -‬وجه ‪ -‬أهل‬
‫ّللا تعالى يقول ‪ (:‬إِنَّا ن َْح ُن ن ََّز ْلنَا ال ِذه ْك َر )‬‫الذكر هم أهل القرآن فإن ه‬
‫ّللا وخاصته ‪ ،‬وهم أهل االجتهاد ومنهم‬ ‫وهو القرآن الذين يعملون به ‪ ،‬وهم أهل ه‬
‫المصيب والمخطئ ‪ ،‬فيتعين على المقلد إذا لم يعلم ‪،‬‬
‫السؤال عن الحكم في الواقعة لمن يعلم أنه يعلم من أهل الذكر ‪ ،‬فيفتيه ‪ ،‬فإن قال له ‪:‬‬
‫ّللا أو حكم رسوله أخذ به ‪،‬‬ ‫هذا حكم ه‬
‫وإن قال له ‪ :‬هذا رأيي كما يقول أصحاب الرأي في كتبهم فإنه يحرم عليه اتباعه فيه ‪،‬‬
‫ّللا أحدا برأي أحد ‪،‬‬
‫ّللا ما تعبده إال بما شرع له في كتاب أو سنة ‪ ،‬وما تعبد ه‬ ‫فإن ه‬
‫واألشياخ يسألون وال يقتدى بأفعالهم إال إن أمروا بذلك في أفعال معينة ‪ ،‬قال تعالى‬
‫ّللا وخاصته ‪ ،‬وأهل القرآن هم الذين‬ ‫«‪:‬فَ ْسئَلُوا أ َ ْه َل ال ِذه ْك ِر »وهم أهل القرآن أهل ه‬
‫ّللا تعالى ‪ ،‬فال ينبغي أن يقتدى بفعل أحد دون‬ ‫يعملون به ‪ ،‬وهو الميزان المشروع من ه‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ ،‬فإن أحوال الناس تختلف ‪ ،‬فقد يكون عين ما يصلح‬ ‫ّللا صلهى ه‬‫رسول ه‬
‫ّللا عليه وسلم قد اختلف‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫للواحد يفسد به اآلخر إن عمل به ‪ ،‬وإذا كان رسول ه‬
‫ّللا تعالى ‪ (:‬لَقَ ْد‬
‫الناس في أفعاله هل هي على الوجوب أم ال ؟ فكيف بغيره مع قوله ه‬
‫سنَةٌ )وقوله( فَاتَّبِعُونِي يُ ْحبِ ْب ُك ُم َّ‬
‫ّللاُ )؟ وهذا كله ليس‬ ‫ّللا أُس َْوة ٌ َح َ‬ ‫كانَ لَ ُك ْم فِي َر ُ‬
‫سو ِل َّ ِ‬
‫ّللا عليه وسلم قد اختص بأشياء ال‬ ‫بنص منه في وجوب االتباع في أفعاله ‪ ،‬فإنه صلهى ه‬
‫يجوز لنا اتباعه فيها ‪ ،‬ولو اقتدينا به فيها كنا عاصين مأثومين ‪.‬‬

‫[ سورة النحل ( ‪ : ) 16‬آية ‪] 44‬‬


‫ون ( ‪44‬‬ ‫الزبُ ِر َوأ َ ْن َز ْلنا إِلَ ْيكَ ال ِذّ ْك َر ِلتُبَ ِيّ َن ِللنه ِ‬
‫اس ما نُ ِ ّز َل إِلَ ْي ِه ْم َولَعَله ُه ْم يَتَفَك ُهر َ‬ ‫ت َو ُّ‬ ‫بِا ْلبَ ِيّنا ِ‬
‫)‪.‬‬
‫ّللا بنزول الكتب‬ ‫اس ما نُ ِ هز َل ِإلَ ْي ِه ْم »بعد تبليغه ‪ ،‬فما اكتفى ه‬ ‫َوأ َ ْنزَ ْلنا ِإلَي َْك ال ِذه ْك َر ِلتُبَ ِيهنَ ِللنَّ ِ‬
‫ّللا على عباده ‪ ،‬تبيهن ما فيها‬ ‫ّللا تبيهن ما أنزل ه‬ ‫اإللهية حتى جعل الرسل المترجمين عن ه‬
‫لما في العبارة من اإلجمال وما تطلبه من التفصيل ‪ ،‬وال تفصل العبارة إال بالعبارة ‪،‬‬
‫فنابت الرسل مناب الحق في التفصيل فيما لم يفصله وأجمله ‪ ،‬فما أبان عنه الرسول‬
‫صله فهو تفصيل‬ ‫وما ف ه‬

‫ص ‪489‬‬

‫ص ‪489 :‬‬
‫ما نزل ‪ ،‬ال عين ما نزل ‪ ،‬ويقع البيان بعبارة خاصة ويعقل بأي شيء كان ‪ ،‬فلو ال‬
‫البيان ما فصل بين المتشابه والمحكم ‪ ،‬فلو لم ينزل المتشابه لنعلم أنه متشابه لم يعلم‬
‫ّللا ‪ ،‬ما يكون متشابها ‪ ،‬وهذا غاية البيان حيث أبان لنا أن ث هم ما يعلم‬
‫أنه ث هم في علم ه‬
‫ّللا من يشاء من خلقه بأي وجه شاء أن‬ ‫ّللا ‪ ،‬وقد يمكن أن يعلهمه ه‬
‫وث هم ما ال يعلمه إال ه‬
‫يعلمه ‪ ،‬فالرسول ملزم بتبيين ما جاء به حتى يفهم عنه إلقامة الحجة على المبلغ إليه ‪،‬‬
‫وعلمنا أن كل رواية ترفع اإلشكال هي الصحيحة وإن ضعفت عند أهل النقل ‪.‬‬

‫[ سورة النحل ‪ ( 16 ) :‬اآليات ‪ 45‬إلى ‪] 48‬‬


‫ذاب ِم ْن َح ْي ُ‬
‫ث ال‬ ‫ض أ َ ْو يَأْتِيَ ُه ُم ا ْلعَ ُ‬‫َّللاُ ِب ِه ُم ْاأل َ ْر َ‬
‫ف ه‬ ‫س َ‬ ‫ت أ َ ْن يَ ْخ ِ‬‫س ِيّئا ِ‬ ‫ِين َمك َُروا ال ه‬ ‫أ َ فَأ َ ِم َن الهذ َ‬
‫ين ( ‪ ) 46‬أ َ ْو يَأ ْ ُخذَ ُه ْم عَلى‬ ‫ون ) ‪ ( 45‬أ َ ْو يَأ ْ ُخذَ ُه ْم ِفي تَقَلُّ ِب ِه ْم فَما ُه ْم ِب ُم ْع ِج ِز َ‬ ‫شعُ ُر َ‬ ‫يَ ْ‬
‫ش ْي ٍء يَتَفَيهؤُا‬‫َّللاُ ِم ْن َ‬
‫ق ه‬ ‫ُف َر ِحي ٌم ) ‪ ( 47‬أ َ َولَ ْم يَ َر ْوا ِإلى ما َخلَ َ‬ ‫ف فَ ِإ هن َربه ُك ْم لَ َرؤ ٌ‬‫ت َ َخ ُّو ٍ‬
‫ون ) ‪( 48‬‬ ‫داخ ُر َ‬ ‫س هجدا ً ِ ه ِ‬
‫ّلِل َو ُه ْم ِ‬ ‫ين َوالشهمائِ ِل ُ‬ ‫ِظاللُهُ ع َِن ا ْليَ ِم ِ‬

‫" أ َ َولَ ْم يَ َر ْوا »خاطب بذلك أهل الكشف وهم عامة اإلنس وكل عاقل ‪ ،‬فخاطبهم بالنعيم‬
‫ش ْيءٍ يَتَفَيَّؤُا ِظاللُهُ »الضمير في ظالله يعود على‬ ‫البصري« ِإلى ما َخلَقَ َّ‬
‫ّللاُ ِم ْن َ‬
‫الشيء ‪ ،‬وقد قلنا ‪ :‬إن األجساد ظالل األرواح ‪ ،‬وإن الموجودات الممكنات التي‬
‫أوجدها الحق تعالى هي لألعيان التي يتضمنها برزخ الممكنات بمنزلة الظالالت‬
‫لألجساد ‪،‬‬
‫ّلل »وهو ما قلنا في اآلية السابقة ‪ :‬فما زال‬‫س َّجدا ً ِ َّ ِ‬ ‫ين َوال َّ‬
‫شمائِ ِل ُ‬ ‫ع ِن ْاليَ ِم ِ‬
‫فقال تعالى ‪َ «:‬‬
‫سجادا فقيدا وموجودا ‪ ،‬فاألعيان الثابتة ساجدة هّلل ‪ ،‬وظاللها وهي األعيان الموجودة‬
‫ّللا تعالى في هذه اآلية أن ذلك التفيؤ يمينا‬ ‫تخرج على صورتها ساجدة هّلل ‪ ،‬فأخبر ه‬
‫وشماال أنه سجود هّلل وصغار وذلة لجالله ‪ ،‬ولذلك قال ‪َ «:‬و ُه ْم ِ‬
‫داخ ُرونَ »أي أذالء ‪،‬‬
‫فوصفهم بعقليتهم أنفسهم حتى سجدوا هّلل داخرين ‪ ،‬ثم أخبر فقال متمما ‪.‬‬

‫[ سورة النحل ( ‪ : ) 16‬آية ‪] 49‬‬


‫ض ِم ْن دابه ٍة َوا ْل َمالئِكَةُ َو ُه ْم ال يَ ْ‬
‫ست َ ْك ِب ُر َ‬
‫ون (‬ ‫ت َوما فِي ْاأل َ ْر ِ‬
‫سماوا ِ‬
‫س ُج ُد ما فِي ال ه‬
‫ّلِل يَ ْ‬
‫َو ِ ه ِ‬
‫‪)49‬‬

‫ص ‪490‬‬

‫ص ‪490 :‬‬
‫ض ِم ْن دابَّ ٍة »أي ممن يدب عليها ‪ ،‬يقول‬ ‫ت َوما فِي ْاأل َ ْر ِ‬ ‫" َو ِ َّ ِ‬
‫ّلل يَ ْس ُج ُد ما فِي ال َّ‬
‫سماوا ِ‬
‫يمشي« َو ُه ْم »يعني أهل السماوات ‪ ،‬فكل ما في السماوات واألرض موصوف‬
‫بالسجود دائما الفتقاره ‪ ،‬ومن افتقر فقد كسر فقار ظهره ‪ ،‬فال يتمكن له أن يرفع رأسه‬
‫أبدا ‪ ،‬فالعالم الذي هو ما عدا الثقلين ساجد هّلل ‪ ،‬فهو مطيع قائم بما تعين عليه من عبادة‬
‫خالقه ومنشيه « َو ْال َمال ِئ َكةُ »يعني التي ليست في سماء وال أرض« َو ُه ْم ال يَ ْست َ ْك ِب ُرونَ‬
‫»يعني عن عبادة ربهم ‪.‬‬

‫[ سورة النحل ( ‪ : ) 16‬آية ‪] 50‬‬


‫ون ) ‪( 50‬‬ ‫ون ما يُ ْؤ َم ُر َ‬ ‫ون َربه ُه ْم ِم ْن فَ ْوقِ ِه ْم َويَ ْفعَلُ َ‬
‫يَخافُ َ‬
‫ثم وصفهم بالخوف ليعلمنا أنهم عالمون بمن سجدوا له ‪ ،‬فأفعالهم أفعال الخائفين ‪،‬‬
‫وخوفهم خوف نزول عن مرتبة إلى مرتبة أدنى ‪ ،‬وال سيما وقد روي أن إبليس كان‬
‫من أعبد الخلق هّلل تعالى ‪ ،‬وحصل له الطرد والبعد من السعادة التي كان يرجوها في‬
‫عبادته هّلل تعالى لما حقهت عليه كلمة العذاب ‪ ،‬وقوله تعالى« ِم ْن فَ ْوقِ ِه ْم »فوصف نفسه‬
‫تعالى بالفوقية لشرفها ‪ ،‬فهي فوقية مرتبة ‪ ،‬ثم وصف المأمورين منهم أنهم« يَ ْفعَلُونَ‬
‫ّللا ما أ َ َم َر ُه ْم َويَ ْفعَلُونَ ما يُؤْ َم ُرونَ‬
‫صونَ َّ َ‬ ‫ما يُؤْ َم ُرونَ »وهم الذين قال فيهم( ال يَ ْع ُ‬
‫)وتتضمن هذه السجدة سجود العالم األعلى واألدنى في مقام الذلة والخوف ‪ ،‬والسجود‬
‫عند قوله تعالى ‪َ «:‬ويَ ْفعَلُونَ ما يُؤْ َم ُرونَ »ولما كان الحق قد ذكر المالئكة وسجودها‬
‫في سورة األعراف ‪ ،‬والظالل وسجودها في سورة الرعد ‪ ،‬وسجدت المالئكة في‬
‫عز وجل عليهم هنا‬ ‫ّللا ه‬ ‫ّللا ‪ ،‬أثنى ه‬ ‫سورة األعراف سجود اختيار لما يقتضيه جالل ه‬
‫عز وجل عليهم بما وفقهم‬ ‫ّللا ه‬ ‫بأنهم« يَ ْفعَلُونَ ما يُؤْ َم ُرونَ »فسجدوا شكرا هّلل لما أثنى ه‬
‫ّللا‬
‫إليه من امتثال أوامره ‪ ،‬وشرع للعبد هنا أن يسجدها رغبة في أن يكون ممن أثنى ه‬
‫عليه بما أثنى على مالئكته ‪ ،‬فهي للعبد سجود ذلة وخضوع ‪ ،‬فإنه قد ذكر قبل هذه‬
‫ش ْيءٍ يَتَفَيَّؤُا ِظاللُهُ )والضمير في ظالله يعود‬ ‫ّللاُ ِم ْن َ‬‫السجدة( أ َ َولَ ْم يَ َر ْوا إِلى ما َخلَقَ َّ‬
‫داخ ُرونَ )أي أذالء‬ ‫ّلل َو ُه ْم ِ‬‫س َّجدا ً ِ َّ ِ‬
‫شمائِ ِل ُ‬ ‫ع ِن ْاليَ ِم ِ‬
‫ين َوال َّ‬ ‫على الشيء المخلوق ثم قال ( َ‬
‫فهو سجود ذلة وخضوع ‪.‬‬

‫[ سورة النحل ( ‪ : ) 16‬اآليات ‪ 51‬إلى ‪] 53‬‬


‫ون ( ‪َ ) 51‬ولَهُ ما ِفي‬ ‫اي فَ ْ‬
‫ار َهبُ ِ‬ ‫واح ٌد فَ ِإيه َ‬
‫َّللاُ ال تَت ه ِخذُوا ِإل َه ْي ِن اثْنَ ْي ِن ِإنهما ُه َو ِإلهٌ ِ‬ ‫َوقا َل ه‬
‫ون ) ‪َ ( 52‬وما بِ ُك ْم ِم ْن نِ ْع َم ٍة فَ ِم َن‬ ‫واصبا ً أ َ فَغَ ْي َر ه ِ‬
‫َّللا تَتهقُ َ‬ ‫ِين ِ‬ ‫ض َولَهُ ال ّد ُ‬ ‫ت َو ْاأل َ ْر ِ‬
‫سماوا ِ‬ ‫ال ه‬
‫ون) ‪( 53‬‬ ‫ض ُّر فَ ِإلَ ْي ِه تَجْ ئ َ ُر َ‬ ‫َّللا ث ُ هم إِذا َم ه‬
‫س ُك ُم ال ُّ‬ ‫هِ‬

‫ص ‪491‬‬

‫ص ‪491 :‬‬
‫اإلنسان إذا أصابه الضر وانقطعت به األسباب ‪ ،‬وهو أشد العذاب ‪ ،‬ذكر ربه فرجع‬
‫إليه مضطرا ال مختارا ‪.‬‬

‫[ سورة النحل ( ‪ : ) 16‬اآليات ‪ 54‬إلى ‪] 57‬‬


‫ُون ( ‪ِ ) 54‬ليَ ْكفُ ُروا ِبما آت َ ْينا ُه ْم‬ ‫ع ْن ُك ْم ِإذا فَ ِري ٌ‬
‫ق ِم ْن ُك ْم ِب َر ِبّ ِه ْم يُش ِْرك َ‬ ‫ض هر َ‬‫َف ال ُّ‬ ‫ث ُ هم ِإذا َكش َ‬
‫ون نَ ِصيبا ً ِم هما َر َز ْقنا ُه ْم ت َ ه ِ‬
‫اّلِل‬ ‫ون ِلما ال يَ ْعلَ ُم َ‬ ‫ون ( ‪َ ) 55‬ويَجْ عَلُ َ‬ ‫ف ت َ ْعلَ ُم َ‬ ‫س ْو َ‬‫فَت َ َمتهعُوا فَ َ‬
‫شت َ ُه َ‬
‫ون‬ ‫س ْبحانَهُ َولَ ُه ْم ما يَ ْ‬‫ت ُ‬ ‫ّلِل ا ْلبَنا ِ‬ ‫ون ) ‪َ ( 56‬ويَجْ عَلُ َ‬
‫ون ِ ه ِ‬ ‫ع هما ُك ْنت ُ ْم ت َ ْفت َ ُر َ‬ ‫لَت ُ ْ‬
‫سئَلُ هن َ‬
‫(‪(57‬‬

‫ّللا ‪ ،‬فحكموا عليه بأنه اصطفى البنات‬


‫فجعلوا هّلل ما يكرهون فقالوا ‪ :‬المالئكة بنات ه‬
‫على البنين ‪ ،‬فتوجه عليهم الحكم باإلنكار في حكمهم مع كونهم يكرهون ذلك لنفوسهم‪.‬‬

‫[ سورة النحل ( ‪ : ) 16‬اآليات ‪ 58‬إلى ‪] 60‬‬


‫س َودًّا َو ُه َو ك َِظي ٌم ( ‪ ) 58‬يَتَوارى ِم َن ا ْلقَ ْو ِم ِم ْن‬ ‫ش َر أ َ َح ُد ُه ْم ِب ْاأل ُ ْنثى َظ هل َوجْ ُههُ ُم ْ‬ ‫َو ِإذا بُ ِ ّ‬
‫ون ( ‪) 59‬‬ ‫ب أَال سا َء ما يَحْ ُك ُم َ‬ ‫سهُ فِي التُّرا ِ‬ ‫ون أ َ ْم يَ ُد ُّ‬
‫س ُكهُ عَلى ُه ٍ‬ ‫ش َر ِب ِه أ َ يُ ْم ِ‬‫وء ما بُ ِ ّ‬ ‫س ِ‬ ‫ُ‬
‫يز ا ْل َح ِكي ُم «) ‪( 60‬‬ ‫َ‬
‫ّلِل ا ْل َمث َ ُل ْاألعْلى َو ُه َو ا ْلعَ ِز ُ‬ ‫ون ِب ْاآل ِخ َر ِة َمث َ ُل ال ه‬
‫س ْو ِء َو ِ ه ِ‬ ‫ِين ال يُ ْؤ ِمنُ َ‬ ‫ِللهذ َ‬
‫ّلل ْال َمث َ ُل ْاألَعْلى »أي الوصف األعلى عند التجلي في الصور الثابت نقال ال عقال ‪،‬‬ ‫َو ِ َّ ِ‬
‫يز »الذي ال يرى من‬ ‫ّللا من محارات العقول ومما يوقف عندها « َو ُه َو ْالعَ ِز ُ‬ ‫فإن رؤية ه‬
‫حيث‬

‫ص ‪492‬‬

‫ص ‪492 :‬‬
‫هويته« ْال َح ِكي ُم »في تجليه حتى يقال إنه رؤي ‪.‬‬

‫[ سورة النحل ( ‪ : ) 16‬اآليات ‪ 61‬إلى ‪] 62‬‬


‫علَ ْيها ِم ْن دَابه ٍة َول ِك ْن يُ َؤ ِ ّخ ُر ُه ْم ِإلى أ َ َج ٍل ُم َ‬
‫س ًّمى‬ ‫ظ ْل ِم ِه ْم ما ت َ َركَ َ‬ ‫اس ِب ُ‬‫َّللاُ النه َ‬ ‫ؤاخذُ ه‬ ‫َولَ ْو يُ ِ‬
‫ّلِل ما يَ ْك َر ُه َ‬
‫ون‬ ‫ون ِ ه ِ‬‫ون ) ‪َ ( 61‬ويَجْ عَلُ َ‬ ‫ست َ ْق ِد ُم َ‬ ‫ون ساعَةً َوال يَ ْ‬ ‫ستَأ ْ ِخ ُر َ‬
‫فَ ِإذا جا َء أ َ َجلُ ُه ْم ال يَ ْ‬
‫ون ) ‪( 62‬‬ ‫ط َ‬ ‫ار َوأَنه ُه ْم ُم ْف َر ُ‬
‫سنى ال َج َر َم أ َ هن لَ ُه ُم النه َ‬ ‫ِب أ َ هن لَ ُه ُم ا ْل ُح ْ‬ ‫ف أ َ ْل ِ‬
‫سنَت ُ ُه ُم ا ْل َكذ َ‬ ‫َوت َ ِص ُ‬
‫ّللا وأخبرنا‬ ‫كان المشركون يكرهون نسبة البنات إليهم ثم إنهم قالوا ‪ :‬إن المالئكة بنات ه‬
‫ّلل ما يَ ْك َر ُهونَ »فإنهم كانوا يكرهون البنات ‪ ،‬وبهذا‬ ‫ّللا بذلك في قوله ‪َ «:‬ويَ ْجعَلُونَ ِ َّ ِ‬ ‫ه‬
‫ّللا عنهم في قوله تعالى‪:‬‬ ‫أخبرنا ه‬
‫ظ َّل َو ْج ُههُ ُمس َْودًّا َو ُه َو َك ِظي ٌم )‪.‬‬ ‫ش َر أ َ َح ُد ُه ْم ِب ْاأل ُ ْنثى َ‬
‫( َو ِإذا بُ ِ ه‬

‫[ سورة النحل ( ‪ : ) 16‬اآليات ‪ 63‬إلى ‪] 65‬‬


‫طان أَعْمالَ ُه ْم فَ ُه َو َو ِليُّ ُه ُم ا ْليَ ْو َم َولَ ُه ْم‬
‫ش ْي ُ‬ ‫س ْلنا إِلى أ ُ َم ٍم ِم ْن قَ ْب ِلكَ فَ َزيه َن لَ ُه ُم ال ه‬ ‫اّلِل لَقَ ْد أ َ ْر َ‬
‫تَ ه ِ‬
‫اختَلَفُوا فِي ِه َو ُه ً‬
‫دى‬ ‫علَ ْيكَ ا ْل ِك َ‬
‫تاب ِإاله ِلتُبَ ِيّ َن لَ ُه ُم الهذِي ْ‬ ‫َذاب أ َ ِلي ٌم ( ‪َ ) 63‬وما أ َ ْن َز ْلنا َ‬ ‫ع ٌ‬
‫ض بَ ْع َد َم ْوتِها‬ ‫ماء ما ًء فَأَحْ يا ِب ِه ْاأل َ ْر َ‬ ‫س ِ‬ ‫َّللاُ أ َ ْن َز َل ِم َن ال ه‬
‫ون ) ‪َ ( 64‬و ه‬ ‫َو َرحْ َمةً ِلقَ ْو ٍم يُ ْؤ ِمنُ َ‬
‫ون ) ‪( 65‬‬ ‫س َمعُ َ‬ ‫ِإ هن ِفي ذ ِلكَ َآليَةً ِلقَ ْو ٍم يَ ْ‬
‫ّللا تعالى فيما يتلوه عليك ‪.‬‬ ‫حقيقة السمع الفهم عن ه‬

‫[ سورة النحل ( ‪ : ) 16‬اآليات ‪ 66‬إلى ‪] 68‬‬


‫ث َود ٍَم لَبَنا ً خا ِلصا ً سائِغا ً‬ ‫طونِ ِه ِم ْن بَ ْي ِن فَ ْر ٍ‬
‫س ِقي ُك ْم ِم هما فِي بُ ُ‬ ‫َو ِإ هن لَ ُك ْم فِي ْاأل َ ْن ِ‬
‫عام لَ ِع ْب َرةً نُ ْ‬
‫سنا ً ِإ هن‬ ‫ون ِم ْنهُ َ‬
‫سكَرا ً َو ِر ْزقا ً َح َ‬ ‫ب تَت ه ِخذُ َ‬ ‫ت النه ِخي ِل َو ْاألَعْنا ِ‬
‫ين ( ‪َ ) 66‬و ِم ْن ث َ َمرا ِ‬ ‫ِللش ِهار ِب َ‬
‫ون ( ‪َ ) 67‬وأ َ ْوحى َربُّكَ ِإلَى النهحْ ِل أ َ ِن ات ه ِخذِي ِم َن ا ْل ِجبا ِل بُيُوتا ً‬ ‫ِفي ذ ِلكَ َآليَةً ِلقَ ْو ٍم يَ ْع ِقلُ َ‬
‫ُون) ‪( 68‬‬ ‫ش َج ِر َو ِم هما يَ ْع ِرش َ‬ ‫َو ِم َن ال ه‬

‫ص ‪493‬‬

‫ص ‪493 :‬‬
‫ّللا تعالى كل شيء حيا ناطقا ‪ ،‬جمادا كان أو نباتا أو حيوانا ‪ ،‬في العالم‬ ‫لما خلق ه‬
‫األعلى واألسفل ‪ ،‬مصداق ذلك قوله تعالى ‪:‬‬
‫ش ْيءٍ ِإ َّال يُ َ‬
‫س ِبه ُح ِب َح ْم ِد ِه َول ِك ْن ال ت َ ْفقَ ُهونَ ت َ ْس ِبي َح ُه ْم )‬ ‫( َو ِإ ْن ِم ْن َ‬
‫جاز بل وقع وصح أن يخاطب الحق جميع الموجودات ويوحي إليها فقال ‪َ «:‬وأ َ ْوحى‬
‫ش َج ِر َو ِم َّما يَ ْع ِر ُ‬
‫شونَ »‬ ‫َرب َُّك ِإلَى النَّ ْح ِل أ َ ِن ات َّ ِخذِي ِمنَ ْال ِجبا ِل بُيُوتا ً َو ِمنَ ال َّ‬
‫[ الشكل السداسي في بيوت النحل ]‬
‫الستة أكمل األعداد ‪ ،‬وليس في األشكال شكل فيه زوايا إذا انضمت إليها األمثال لم‬
‫ّللا إلى النحل في قوله في هذه اآلية« َوأ َ ْوحى‬ ‫يكن بينها خلو إال الستة ‪ ،‬وبها أوحى ه‬
‫َرب َُّك ِإلَى النَّ ْح ِل »فأوحى إليها بصفة عملها ‪ ،‬فعملت بيوتها مسدسة الشكل ‪ ،‬وهو أكمل‬
‫األشكال ألنه ال يدخله خالء ويقارب االستدارة مع ظهور الزوايا ‪ ،‬فهو ال يقبل الخلل‬
‫مع الكثرة فيظهر الخلو ‪ ،‬والمستدير ليس كذلك ‪ ،‬وإن أشبه غيره في عدم قبول الخلل‬
‫كالمربع ‪ ،‬فإنه يبعد عن المستدير ‪ ،‬ووصف الشكل المستدير بالكمال ألنه يظهر عن‬
‫ّللا وحيه لما‬ ‫نصفه وثلثه وسدسه فيقوم من عين أجزائه ‪ ،‬فلو ال ما فهمت النحل من ه‬
‫صدر منها ما صدر ‪ ،‬وهذا من النبوة سارية في الحيوان والنبات والجماد قال تعالى‬
‫صالتَهُ َوت َ ْس ِبي َحهُ )فالنبوة سارية في كل موجود ‪ ،‬لكنه ال ينطلق من ذلك‬ ‫(‪ُ :‬ك ٌّل قَ ْد َ‬
‫ع ِل َم َ‬
‫اسم نبي وال رسول على واحد منهم إال على المالئكة خاصة والرسل منهم وهم‬
‫ّللا بذلك أنه‬ ‫المسمون المالئكة ‪ ،‬وقد يكون ذلك علما ضروريا في أصل الخلقة ‪ ،‬فيريد ه‬
‫فطرها في أصل نشأتها على ذلك ‪.‬‬

‫[ سورة النحل ‪ ( 16 ) :‬آية ‪] 69‬‬


‫َراب ُم ْخت َ ِل ٌ‬
‫ف‬ ‫طونِها ش ٌ‬ ‫ج ِم ْن بُ ُ‬‫سبُ َل َر ِبّ ِك ذُلُالً يَ ْخ ُر ُ‬ ‫ت فَا ْ‬
‫سلُ ِكي ُ‬ ‫ث ُ هم ُك ِلي ِم ْن ُك ِ ّل الث ه َمرا ِ‬
‫ون) ‪( 69‬‬ ‫اس ِإ هن ِفي ذ ِلكَ َآليَةً ِلقَ ْو ٍم يَتَفَك ُهر َ‬ ‫شفا ٌء ِللنه ِ‬ ‫أ َ ْلوانُهُ ِفي ِه ِ‬
‫ّللا لها من السبل أن تسلكها «ذُلُ ًال »فتدل هذه‬ ‫سبُ َل َر ِبه ِك »وهو ما شرع ه‬ ‫« فَا ْسلُ ِكي ُ‬
‫ّللا‬
‫ّللا ‪ ،‬ويسمعه من فتح ه‬ ‫اآلية على أن لكل شيء من المخلوقات كالما يخصه يعلمه ه‬
‫اس »فع همر النحل‬ ‫ف أ َ ْلوانُهُ فِي ِه ِشفا ٌء ِللنَّ ِ‬
‫َراب ُم ْخت َ ِل ٌ‬
‫طونِها ش ٌ‬ ‫سمعه إلدراكه« يَ ْخ ُر ُج ِم ْن بُ ُ‬
‫ّللا مضرة العسل وأن بعض األمزجة يضره استعماله ‪ ،‬ولكن‬ ‫بيته بالعسل ‪ ،‬وما ذكر ه‬
‫ما تعرض لذلك ‪،‬‬
‫ص ‪494‬‬

‫ص ‪494 :‬‬
‫أي أن المقصود منه الشفاء بالوجود ‪ ،‬كما المقصود بالغيث إيجاد الرزق الذي يكون‬
‫عن نزوله بالقصد وإن هدم الغيث بيت الشيخ الفقير الضعيف ‪ ،‬فما كان رحمة في حقه‬
‫من هذه الجهة الخاصة ‪ ،‬ولكن ما هي بالقصد العام الذي له نزل المطر ‪ ،‬وإنما كان‬
‫من استعداد القابل للتهدم لضعف البنيان ‪ ،‬كما كان الضرر الواقع آلكل العسل من‬
‫ّللا عليه وسلم فقال‬‫ّللا صلهى ه‬
‫استعداد مزاجه لم يكن بالقصد العام ‪ ،‬جاء رجل لرسول ه‬
‫‪ :‬إن أخي استطلق بطنه ‪ ،‬فقال ‪ :‬اسقه عسال ‪ ،‬فسقاه عسال ‪ ،‬فزاد استطالقه ‪ ،‬فرجع‬
‫ّللا‬
‫فأخبره ‪ ،‬فقال ‪ :‬اسقه عسال ‪ ،‬فزاد استطالقه ‪ ،‬وما علم هذا الرجل ما علمه رسول ه‬
‫ّللا عليه وسلم من ذلك ‪ ،‬فإنه كان في المحل فضالت مضرة ال يمكن إخراجها‬ ‫صلهى ه‬
‫إال بشرب العسل ‪ ،‬فإذا زالت عنه أعقبته العافية والشفاء ‪ ،‬فلما رجع إليه قال له ‪ :‬يا‬
‫ّللا وكذب بطن أخيك ‪ ،‬اسقه‬ ‫ّللا سقيته عسال فزاد استطالقه ‪ ،‬فقال ‪ :‬صدق ه‬‫رسول ه‬
‫عسال في الثالثة ‪ ،‬فسقاه فبرأ ‪ ،‬فإنه استوفى خروج الفضالت المضرة‪.‬‬

‫[ سورة النحل ( ‪ : ) 16‬آية ‪] 70‬‬


‫َّللا‬ ‫َّللاُ َخلَقَ ُك ْم ث ُ هم يَت َ َوفها ُك ْم َو ِم ْن ُك ْم َم ْن يُ َر ُّد ِإلى أ َ ْرذَ ِل ا ْلعُ ُم ِر ِل َك ْي ال يَ ْعلَ َم بَ ْع َد ِع ْل ٍم َ‬
‫ش ْيئا ً ِإ هن ه َ‬ ‫َو ه‬
‫ِير ( ‪) 70‬‬ ‫ع ِلي ٌم قَد ٌ‬‫َ‬
‫ّللاُ َخلَقَ ُك ْم ث ُ َّم يَت َ َوفَّا ُك ْم َو ِم ْن ُك ْم َم ْن يُ َر ُّد ِإلى أ َ ْرذَ ِل ْالعُ ُم ِر »وهو الهرم الكائن عن مرور‬ ‫« َو َّ‬
‫ش ْيبَةً )وهو رجوع إلى‬ ‫ض ْعفا ً َو َ‬ ‫الزمان ‪ ،‬وهو قوله تعالى ‪ (:‬ث ُ َّم َجعَ َل ِم ْن بَ ْع ِد قُ َّوةٍ َ‬
‫الضعف األول إلى أرذل العمر ‪ ،‬وأرذل العمر ما ال يحصل لنا فيه علم ‪ ،‬فيفارق‬
‫شيْئا ً »فإما أن يكون منع‬ ‫اإلنسان فيه ما كان يعلمه ‪ ،‬فقال ‪ِ «:‬ل َك ْي ال يَ ْعلَ َم بَ ْع َد ِع ْل ٍم َ‬
‫الزيادة ‪ ،‬وإما أن يكون اتصف بعدم العلم في حال الهرم ‪ ،‬لشغله بما هو عليه من‬
‫الضعف المفرط ‪.‬‬

‫[ سورة النحل ( ‪ : ) 16‬اآليات ‪ 71‬إلى ‪] 74‬‬


‫ضلُوا بِ َرا ّدِي ِر ْزقِ ِه ْم عَلى ما‬ ‫ق فَ َما الهذ َ‬
‫ِين فُ ِ ّ‬ ‫الر ْز ِ‬
‫ض فِي ِ ّ‬ ‫ض ُك ْم عَلى بَ ْع ٍ‬ ‫ض َل بَ ْع َ‬‫َّللاُ فَ ه‬‫َو ه‬
‫س ُك ْم‬ ‫َّللاُ َجعَ َل لَ ُك ْم ِم ْن أ َ ْنفُ ِ‬
‫ُون ( ‪َ ) 71‬و ه‬ ‫َّللا يَجْ َحد َ‬ ‫سوا ٌء أ َ فَ ِبنِ ْع َم ِة ه ِ‬ ‫َملَكَتْ أ َ ْيمانُ ُه ْم فَ ُه ْم فِي ِه َ‬
‫ون‬‫باط ِل يُ ْؤ ِمنُ َ‬ ‫ت أ َ فَ ِبا ْل ِ‬ ‫ين َو َحفَ َدةً َو َر َزقَ ُك ْم ِم َن ال ه‬
‫ط ِيّبا ِ‬ ‫واج ُك ْم بَنِ َ‬ ‫أ َ ْزواجا ً َو َجعَ َل لَ ُك ْم ِم ْن أ َ ْز ِ‬
‫َّللا ما ال يَ ْم ِلكُ لَ ُه ْم ِر ْزقا ً ِم َن‬ ‫ُون ِم ْن د ِ‬
‫ُون ه ِ‬ ‫ون ( ‪َ ) 72‬ويَ ْعبُد َ‬ ‫َّللا ُه ْم يَ ْكفُ ُر َ‬
‫ت هِ‬ ‫َو ِبنِ ْع َم ِ‬
‫ّلِل ْاأل َ ْمثا َل ِإ هن ه َ‬
‫َّللا يَ ْعلَ ُم‬ ‫ون ( ‪ ) 73‬فَال ت َ ْ‬
‫ض ِربُوا ِ ه ِ‬ ‫ست َ ِطيعُ َ‬ ‫ش ْيئا ً َوال يَ ْ‬‫ض َ‬ ‫ت َو ْاأل َ ْر ِ‬ ‫سماوا ِ‬ ‫ال ه‬
‫ون) ‪( 74‬‬ ‫َوأ َ ْنت ُ ْم ال ت َ ْعلَ ُم َ‬

‫ص ‪495‬‬

‫ص ‪495 :‬‬
‫[سورة النحل ( ‪ : ) 16‬اآليات ‪ 72‬إلى ‪] 74‬‬
‫ين َو َحفَ َدةً َو َر َزقَ ُك ْم ِم َن‬ ‫س ُك ْم أ َ ْزواجا ً َو َجعَ َل لَ ُك ْم ِم ْن أ َ ْز ِ‬
‫واج ُك ْم بَنِ َ‬ ‫َّللاُ َجعَ َل لَ ُك ْم ِم ْن أ َ ْنفُ ِ‬
‫َو ه‬
‫َّللا ما‬
‫ُون ه ِ‬ ‫ُون ِم ْن د ِ‬ ‫ون ( ‪َ ) 72‬ويَ ْعبُد َ‬ ‫َّللا ُه ْم يَ ْكفُ ُر َ‬
‫ت هِ‬ ‫ون َو ِبنِ ْع َم ِ‬‫باط ِل يُ ْؤ ِمنُ َ‬ ‫ت أ َ فَ ِبا ْل ِ‬
‫ط ِيّبا ِ‬‫ال ه‬
‫ّلِل‬
‫ض ِربُوا ِ ه ِ‬ ‫ون ) ‪ ( 73‬فَال ت َ ْ‬ ‫ست َ ِطيعُ َ‬ ‫ش ْيئا ً َوال يَ ْ‬
‫ض َ‬ ‫ت َو ْاأل َ ْر ِ‬‫سماوا ِ‬ ‫ال يَ ْم ِلكُ لَ ُه ْم ِر ْزقا ً ِم َن ال ه‬
‫ون ) ‪( 74‬‬ ‫َّللا يَ ْعلَ ُم َوأ َ ْنت ُ ْم ال ت َ ْعلَ ُم َ‬
‫ْاأل َ ْمثا َل إِ هن ه َ‬
‫[فال تضربوا هّلل األمثال ]‬
‫‪-‬الوجه األول ‪ -‬نهينا أن نضرب األمثال هّلل لجهلنا بالنسب التي هي بها أمثال ‪ ،‬فقال‬
‫ّللا هو الذي يضرب األمثال للناس لعلمه‬ ‫ّلل ْاأل َ ْمثا َل » فإن ه‬ ‫تعالى « ‪ :‬فَال تَض ِْربُوا ِ َّ ِ‬
‫عز وجل يضرب لنا األمثال بما له وجود‬ ‫ّللا يعلم ونحن ال نعلم ‪ ،‬فهو ه‬ ‫بمواقعها ‪ ،‬ألن ه‬
‫في عينه ‪ ،‬ونحن لسنا كذلك إال بحكم المصادفة ‪ ،‬فنضرب المثل إذا ضربناه بما له‬
‫فاّلل يضرب األمثال لنفسه وال‬ ‫وجود في عينه وبما ال وجود له إال في تصورنا ‪ ،‬ه‬
‫تضرب له األمثال ‪ ،‬فيشبه األشياء وال تشبهه األشياء ‪،‬‬
‫ّللا في‬ ‫ّللا في خلقه مثل الملك في ملكه ‪ ،‬وال يقال مثل الملك في ملكه مثل ه‬ ‫فيقال ‪ :‬مثل ه‬
‫خلقه ‪ ،‬فإنه عين ما ظهر ‪ ،‬وليس ما ظهر هو عينه ‪،‬‬
‫فإنه الباطن كما هو الظاهر في حال ظهوره ‪،‬‬
‫فلهذا قلنا ‪ :‬هو مثل األشياء وليست األشياء مثله ‪ ،‬إذ كان عينها وليست عينه ‪ ،‬فإن‬
‫الممكن ما استفاد الوجود وإنما استفاد حكم المظهرية ‪،‬‬
‫وهو قوله تعالى للشيء ‪ :‬كن فيكون ‪ ،‬فقبوله للتكوين هو أن يكون مظهرا للحق ‪،‬‬
‫فالحق عين كل شيء في الظهور ما هو عين األشياء في ذواتها ‪ ،‬سبحانه وتعالى ‪ ،‬بل‬
‫هو هو واألشياء أشياء ‪ ،‬ففي نفس األمر ليس إال وجود الحق ‪ ،‬والموصوف باستفادة‬
‫الوجود هو على أصله ما انتقل من إمكانه ‪ ،‬فحكمه باق وعينه ثابتة ‪،‬‬
‫واعلم أن ما يشرك به الشيء من ليس مثله فهو مثله من ذلك الوجه الذي أشركه فيه‬
‫خاصة ‪ ،‬وينفصل عنه بأمور أخر له فيها أمثال ‪ ،‬فما ث هم معلوم ما له مثل جملة واحدة‬
‫ّللا األمثال ونهى عن ضربنا األمثال له ‪،‬‬ ‫‪ ،‬فما ث هم إال أمثال وأشباه ‪ ،‬ولذلك ضرب ه‬
‫ّللا يَ ْعلَ ُم َوأ َ ْنت ُ ْم ال ت َ ْعلَ ُمونَ "‬
‫وعلل فقال ‪ِ " :‬إ َّن َّ َ‬
‫فمن علهمه الحق ضرب األمثال ضربها على علم ‪ ،‬فال يضرب األمثال إال العلماء ه‬
‫باّلل‬
‫ّللا تعليمهم ‪ ،‬وليس إال األنبياء واألولياء ‪ ،‬وهو مقام وراء طور العقل ‪،‬‬ ‫الذين تولى ه‬
‫يريد أنه ال يستقل العقل بإدراكه من حيث ما هو مفكر ‪،‬‬
‫باّلل من حيث فكره علم التنزيه ‪ ،‬وضرب األمثال تشبيه‬ ‫فإن الذي عند العقل من العلم ه‬
‫‪ ،‬وموضع التشبيه من ضرب المثل دقيق ال يعرفه إال من عرف المشبه والمشبهه‬

‫ص ‪496 :‬‬
‫به ‪ ،‬والمشبه به غير معروف ‪ ،‬فاألمر الذي يتحقق منه ضرب المثل له مجهول ‪،‬‬
‫فالنظر فيه من حيث الفكر حرام على كل مؤمن ‪ ،‬وهو في نفس األمر ممنوع الوصول‬
‫إليه عند كل ذي عقل سليم ‪،‬‬
‫ّللا يَ ْعلَ ُم َوأ َ ْنت ُ ْم ال ت َ ْعلَ ُمونَ »فضرب ه‬
‫ّللا تعالى لنفسه األمثال‬ ‫ّللا تعالى ‪ِ «:‬إ َّن َّ َ‬
‫ولذلك قال ه‬
‫ّللا يعلم كيف يضربها وأنتم ال تعلمون ‪ ،‬فناط بهم الجهل‬ ‫ألنه يعلم ونحن ال نعلم ‪ ،‬فإن ه‬
‫ّللا من األمثال فيرى في ذلك الشهود عين الجامع‬ ‫بالمواطن ‪ ،‬فيشهد الولي ما ضرب ه‬
‫الذي بين المثل وبين ما ضرب له ذلك المثل ‪ ،‬فهو عينه من حيث ذلك الجامع ‪ ،‬وما‬
‫هو عينه من حيث ما هو مثل ‪ ،‬فالولي ال يضرب هّلل األمثال بل هو يعرف ما ضرب‬
‫ّللا له األمثال‬
‫ه‬

‫ّللا يَ ْعلَ ُم َوأ َ ْنت ُ ْم ال ت َ ْعلَ ُمونَ »قال ه‬


‫ّللا تعالى(‬ ‫ّلل ْاأل َ ْمثا َل ِإ َّن َّ َ‬ ‫‪ -‬الوجه الثاني – فَال تَض ِْربُوا ِ َّ ِ‬
‫ور ِه )أي صفة نوره ‪ ،‬يعني المضاف إلى السماوات‬ ‫ض َمث َ ُل نُ ِ‬ ‫ت َو ْاأل َ ْر ِ‬
‫سماوا ِ‬ ‫ّللاُ نُ ُ‬
‫ور ال َّ‬ ‫َّ‬
‫ّللاُ ) وما ضرب المثل‬ ‫واألرض ‪َ (،‬ك ِم ْشكاةٍ )إلى أن ذكر المصباح ومادته ‪ ،‬فقال( َّ‬
‫ض )فضرب المثل‬ ‫ت َو ْاأل َ ْر ِ‬ ‫سماوا ِ‬ ‫ور ال َّ‬‫ّللا ‪ ،‬وإنما عيهن سبحانه اسما آخر وهو( نُ ُ‬ ‫لالسم ه‬
‫ّللا اسم جامع لجميع األسماء اإللهية ‪،‬‬ ‫بالمصباح لذلك االسم النور المضاف ‪ ،‬فإن ه‬
‫محيط بمعانيها كلها ‪ ،‬وضرب األمثال يخص اسما واحدا معينا ‪ ،‬فإن ضربنا األمثال‬
‫هّلل وهو اسم جامع شامل فما طبقنا المثال على الممثل ‪،‬‬
‫فإن المثال خاص والممثل به مطلق ‪ ،‬فوقع الجهل بال شك ‪ ،‬فنهينا أن نضرب المثل‬
‫من هذا الوجه إال أن نعين اسما خاصا ينطبق المثل عليه ‪ ،‬فحينئذ يصح ضرب المثل‬
‫ض)‬ ‫ت َو ْاأل َ ْر ِ‬ ‫سماوا ِ‬ ‫ور ال َّ‬ ‫ّللاُ نُ ُ‬
‫ّللا في قوله تعالى ) َّ‬ ‫لذلك االسم الخاص ‪ ،‬كما فعل ه‬
‫ّللا وإياكم مواقع خطابه ‪ ،‬وجعلنا ممن تأدب بما عرفناه من آدابه ‪ ،‬إنه اللطيف‬ ‫فهمنا ه‬
‫ّلل ْاأل َ ْمثا َل »فإني ما ضربتها ‪،‬‬ ‫بأحبابه ‪ ،‬فإنه قال «فَال تَض ِْربُوا ِ َّ ِ‬
‫ّللا يَ ْعلَ ُم َوأ َ ْنت ُ ْم ال ت َ ْعلَ ُمونَ »فعلمنا سبحانه األدب في النظر في أسمائه إذا‬ ‫فافهموا« إِ َّن َّ َ‬
‫أطلقناها عليه باإلضافة كيف نفعل ‪ ،‬وإذا أطلقناها عليه بغير اإلضافة كيف نفعل ‪،‬‬
‫ّللا له من األمثال وال يستنبط مثال من نفسه ‪،‬‬ ‫فالعالم يقطع عمره في نظر ما ضرب ه‬
‫ّللا له من األمثال التي‬ ‫وال سيما هّلل ‪ ،‬وما أظن يفي عمر اإلنسان بتحصيل ما ضرب ه‬
‫ّللاُ يَ ْعلَ ُم َوأ َ ْنت ُ ْم ال ت َ ْعلَ ُمونَ »‪.‬‬
‫هي من عالم الخيال الذي انفرد الحق بعلمه في قوله« َو َّ‬

‫[ سورة النحل ‪ ( 16 ) :‬اآليات ‪ 75‬إلى ‪] 77‬‬


‫ق‬‫سنا ً فَ ُه َو يُ ْن ِف ُ‬ ‫ش ْي ٍء َو َم ْن َر َز ْقناهُ ِمنها ِر ْزقا ً َح َ‬ ‫ع ْبدا ً َم ْملُوكا ً ال يَ ْقد ُِر عَلى َ‬ ‫َّللاُ َمثَالً َ‬‫ب ه‬ ‫ض َر َ‬‫َ‬
‫َّللاُ َمثَالً‬ ‫ب ه‬ ‫ض َر َ‬ ‫ون ( ‪َ ) 75‬و َ‬ ‫ّلِل بَ ْل أ َ ْكث َ ُر ُه ْم ال يَ ْعلَ ُم َ‬
‫ون ا ْل َح ْم ُد ِ ه ِ‬
‫ست َ ُو َ‬ ‫س ًّرا َو َجهْرا ً َه ْل يَ ْ‬ ‫ِم ْنهُ ِ‬
‫ت ِب َخ ْي ٍر‬ ‫ش ْي ٍء َو ُه َو َك ٌّل عَلى َم ْوالهُ أ َ ْينَما يُ َو ِ ّج ْههُ ال يَأ ْ ِ‬ ‫َر ُجلَ ْي ِن أ َ َح ُد ُهما أ َ ْب َك ُم ال يَ ْقد ُِر عَلى َ‬
‫ب‬ ‫ّلِل َ‬
‫غ ْي ُ‬ ‫يم ( ‪َ ) 76‬و ِ ه ِ‬ ‫ست َ ِق ٍ‬ ‫ست َ ِوي ُه َو َو َم ْن يَأ ْ ُم ُر ِبا ْلعَ ْد ِل َو ُه َو عَلى ِص ٍ‬
‫راط ُم ْ‬ ‫َه ْل يَ ْ‬
‫َّللا عَلى ُك ِ ّل‬ ‫ب ِإ هن ه َ‬ ‫ص ِر أ َ ْو ُه َو أ َ ْق َر ُ‬
‫ع ِة ِإاله َكلَ ْمحِ ا ْلبَ َ‬ ‫سا َ‬ ‫ض َوما أ َ ْم ُر ال ه‬ ‫ت َو ْاأل َ ْر ِ‬‫سماوا ِ‬ ‫ال ه‬
‫ِير) ‪( 77‬‬ ‫ش ْي ٍء قَد ٌ‬ ‫َ‬
‫ص ‪497‬‬
‫ص ‪497 :‬‬
‫ص ِر »ما سميت الساعة ساعة إال ألنها تسعى إلينا بقطع‬ ‫ح ْالبَ َ‬
‫ع ِة إِ َّال َكلَ ْم ِ‬ ‫" َوما أ َ ْم ُر ال َّ‬
‫سا َ‬
‫هذه األزمان ال بقطع المسافات وبقطع األنفاس ‪ ،‬فمن مات وصلت إليه ساعته ‪،‬‬
‫وقامت قيامته إلى يوم الساعة الكبرى ‪ ،‬التي هي لساعات األنفاس كالسنة لمجموع‬
‫األيام التي تعينها الفصول باختالف أيامها ‪ ،‬فأمر الساعة وشأنها في العالم أقرب من‬
‫لمح البصر ‪ ،‬فإن عين وصولها عين حكمها ‪ ،‬وعين حكمها عين نفوذ الحكم في‬
‫المحكوم عليهم ‪ ،‬وعين نفاذه عين تمامه ‪ ،‬وعين تمامه عين عمارة الدارين ‪ ،‬ففريق‬
‫ّللا في وجود‬‫في الجنة وفريق في السعير ‪ ،‬وال يعرف هذا القرب إال من عرف قدرة ه‬
‫الخيال في العالم الطبيعي ‪ ،‬وما يجده العالم به من األمور الواسعة في النفس الفرد‬
‫والطرفة ‪ ،‬ثم يرى أثر ذلك في الحس بعين الخيال ‪ ،‬فيعرف هذا القرب وتضاعف‬
‫السنين في الزمن القليل من زمان الحياة الدنيا ‪ ،‬فشبهه تعالى اإلمضاء بلمح البصر أو‬
‫هو أقرب ‪ ،‬وكذلك هو أقرب ‪ ،‬فإن أمره تعالى في الموقف يوم القيامة وهو المقدار‬
‫الزماني ‪ ،‬خمسون ألف سنة من أيام الدنيا ‪ ،‬وعدها اليوم الشمسي ‪ ،‬وهو يوم ذي‬
‫ّللا فيه مثل لمح البصر ‪ ،‬لإلفهام والتوصيل ‪ ،‬وربما هو في القلة‬ ‫المعارج ‪ ،‬فإن أمر ه‬
‫أقل من هذا المقدار ‪ ،‬بل مقدارها الزمان الفرد المتوهم الذي هو يوم الشأن ‪ ،‬فكما‬
‫صارت الخمسون ألف سنة كيوم واحد ‪ ،‬وفي يوم واحد ‪ ،‬كذلك صار أمره كلمح‬
‫بالبصر ‪ ،‬وسبب ذلك أن الذي يصدر منه األمر ال يتقيد ‪ ،‬فهو في كل مأمور بحيث‬
‫أمر ‪ ،‬فينفذ األمر بحكمه دفعة واحدة ‪ ،‬ولمح البصر كالبرق ‪ ،‬يضرب فيظهر ‪،‬‬
‫ويظهر ويزول ‪ ،‬فلو بقي أهلك‪.‬‬

‫ص ‪498‬‬

‫ص ‪498 :‬‬
‫[ سورة النحل ( ‪ : ) 16‬آية ‪] 78‬‬
‫صار َو ْاأل َ ْفئِ َدةَ‬
‫س ْم َع َو ْاأل َ ْب َ‬ ‫ش ْيئا ً َو َجعَ َل لَ ُك ُم ال ه‬
‫ون َ‬ ‫ون أ ُ همهاتِ ُك ْم ال ت َ ْعلَ ُم َ‬
‫ط ِ‬ ‫َّللاُ أ َ ْخ َر َج ُك ْم ِم ْن بُ ُ‬
‫َو ه‬
‫ون ( ‪) 78‬‬ ‫شك ُُر َ‬ ‫لَعَله ُك ْم ت َ ْ‬
‫شيْئا ً »وذلك مثل من ر هد إلى أرذل العمر‬ ‫ون أ ُ َّمهاتِ ُك ْم ال ت َ ْعلَ ُمونَ َ‬‫ط ِ‬ ‫ّللاُ أ َ ْخ َر َج ُك ْم ِم ْن بُ ُ‬
‫« َو َّ‬
‫لكيال يعلم من بعد علم شيئا ‪ ،‬وما يلزم العالم حضوره دائما مع علمه ‪ ،‬فهكذا حال‬
‫ْصار َو ْاأل َ ْفئِ َدة َ لَعَلَّ ُك ْم ت َ ْش ُك ُرونَ‬
‫س ْم َع َو ْاألَب َ‬ ‫الجنين إذا خرج من بطن أمه« َو َجعَ َل لَ ُك ُم ال َّ‬
‫ّللا أعطى كل شيء خلقه ‪ ،‬فأعطى السمع خلقه فال يتعدى إدراكه ‪ ،‬وجعل‬ ‫»اعلم أن ه‬
‫العقل فقيرا إليه ‪ ،‬يستمد منه معرفة األصوات وتقطيع الحروف وتغيير األلفاظ وتنوع‬
‫اللغات ‪ ،‬فيفرق بين صوت الطير وهبوب الرياح وصرير الباب وخرير الماء وما‬
‫أشبه هذه األصوات كلها ‪ ،‬وليس في قوة العقل من حيث ذاته إدراك شيء من هذا ما‬
‫ّللا العقل فقيرا إليها فيما توصله‬ ‫لم يوصله إليه السمع ‪ ،‬وكذلك القوة البصرية جعل ه‬
‫إليه من المبصرات ‪ ،‬فال يعرف الخضرة وال الصفرة وال ما بينهما من األلوان ما لم‬
‫ينعم البصر على العقل بها ‪ ،‬وهكذا جميع القوى المعروفة بالحواس ‪ ،‬فالسمع‬
‫ّللا فيك تدرك بها األشياء ‪ ،‬وقدهم تعالى السمع على‬ ‫واألبصار واألفئدة أنوار جعلها ه‬
‫العلم والبصر فإن أول شيء علمناه من الحق وتعلق به منا القول منه والسمع منا ‪،‬‬
‫ّللا‬
‫فكان عنه الوجود ‪ ،‬وكما لم يصح الوجود ‪ -‬أعني وجود العالم ‪ -‬إال بالقول من ه‬
‫والسماع من العالم ‪ ،‬لم يظهر وجود طرق السعادة وعلم الفرق بينها وبين طرق الشقاء‬
‫إال بالقول اإللهي والسماع الكوني ‪ ،‬فجاءت الرسل بالقول جميعهم من قرآن وتوراة‬
‫وإنجيل وزبور وصحف ‪ ،‬فما ث هم إال قول وسماع ‪ ،‬غير هذين لم يكن ‪ ،‬فلو ال القول ما‬
‫علم مراد المريد ‪ ،‬ما يريده منا ‪ ،‬ولوال السمع ما وصلنا إلى تحصيل ما قيل لنا ‪،‬‬
‫فبالقول نتصرف ‪ ،‬وعن القول نتصرف مع السماع ‪ ،‬فهما مرتبطان ال يصح استقالل‬
‫واحد منهما دون اآلخر ‪ ،‬وهما نسبتان ‪ ،‬فبالقول والسماع نعلم ما في نفس الحق ‪ ،‬إذ‬
‫ال علم لنا إال بإعالمه بقوله ‪ ،‬ومن وجه آخر ‪ :‬حقيقة السمع أن ال يتقيد المسموع بجهة‬
‫معينة ‪ ،‬بخالف البصر الحسي فإنه يتقيد إما بجهة خاصة معينة وإما بالجهات كلها ‪،‬‬
‫والسمع ليس كذلك ‪ ،‬فإن متعلقه الكالم ‪ ،‬فإن كان المتكلم ذا جهة أو في جهة فذلك‬
‫راجع إليه ‪ ،‬وإن كان ال في جهة وال ذا جهة فذلك راجع إليه ال للسامع ‪ ،‬فالسمع أدل‬
‫في التنزيه من البصر ‪ ،‬وأخرج من التقييد‬

‫ص ‪499‬‬

‫ص ‪499 :‬‬
‫وّللا أخرجكم من بطون أمهاتكم‬ ‫وأوسع وأوضح في اإلطالق ‪ -‬إشارة ‪ -‬قرأ بعضهم ‪ :‬ه‬
‫ال تعلمون شيئا ‪.‬‬
‫[ سورة النحل ( ‪ : ) 16‬آية ‪] 79‬‬
‫َّللاُ ِإ هن فِي ذ ِلكَ َآليا ٍ‬
‫ت‬ ‫س ُك ُه هن ِإاله ه‬
‫ماء ما يُ ْم ِ‬
‫س ِ‬ ‫س هخرا ٍ‬
‫ت فِي َج ّ ِو ال ه‬ ‫أ َ لَ ْم يَ َر ْوا ِإلَى ال ه‬
‫ط ْي ِر ُم َ‬
‫ون ( ‪) 79‬‬ ‫ِلقَ ْو ٍم يُ ْؤ ِمنُ َ‬
‫ّللا باق ]‬ ‫[ وما عند ه‬
‫باّلل والطاعة له والقيام بحقه ‪،‬‬ ‫ّللا ورسوله لنا ما هي المخلوقات عليه من العلم ه‬ ‫كم بيهن ه‬
‫وال نؤمن وال نسمع ! !‬
‫ونتناول ما ليس األمر عليه لنكون من المؤمنين ‪ ،‬ونحن على الحقيقة من المكذبين ‪،‬‬
‫سنا على اإليمان بما عرفنا به ربنا ل هما لم نشاهد ذلك مشاهدة عين ‪،‬‬ ‫ورجحنا ح ه‬
‫فالموجودات كلها ما منها إال من هو حي ناطق أو حيوان ناطق ‪ ،‬المسمى جمادا أو‬
‫نباتا أو ميتا ‪ ،‬ألنه ما من شيء من قائم بنفسه وغير قائم بنفسه إال وهو مسبح بحمد‬
‫ّللا تعالى ‪ ،‬فهل‬ ‫ربه ‪ ،‬وهذا نعت ال يكون إال لمن هو موصوف بأنه حي يوحي إليه ه‬
‫ّللا‬
‫سمعتم في النبوة األولى والثانية قط أن حيوانا أو شيئا من غير الحيوان عصى أمر ه‬
‫ّللا ‪ ،‬فمن كان مشهده هذا من الموجودات استحى كل الحياء في خلوته‬ ‫أو لم يقبل وحي ه‬
‫التي تسمى خلوة في العامة كما يستحي في جلوته ‪ ،‬فإنه في جلوة أبدا ‪ ،‬ألنه ال يخلو‬
‫عن مكان يقله وسماء تظله ‪ ،‬ولو لم يكن في مكان الستحى من أعضائه ورعية بدنه ‪.‬‬

‫[ سورة النحل ( ‪ : ) 16‬اآليات ‪ 80‬إلى ‪] 81‬‬


‫ست َ ِخفُّونَها يَ ْو َم‬ ‫سكَنا ً َو َجعَ َل لَ ُك ْم ِم ْن ُجلُو ِد ْاأل َ ْن ِ‬
‫عام بُيُوتا ً ت َ ْ‬ ‫َّللاُ َجعَ َل لَ ُك ْم ِم ْن بُيُوتِ ُك ْم َ‬‫َو ه‬
‫ين ( ‪) 80‬‬ ‫ْعارها أَثاثا ً َو َمتاعا ً ِإلى ِح ٍ‬ ‫بارها َوأَش ِ‬ ‫َظ ْعنِ ُك ْم َويَ ْو َم ِإقا َمتِ ُك ْم َو ِم ْن أَصْوافِها َوأ َ ْو ِ‬
‫ق ِظالالً َو َجعَ َل لَ ُك ْم ِم َن ا ْل ِجبا ِل أ َ ْكنانا ً َو َجعَ َل لَ ُك ْم َ‬
‫سرا ِبي َل ت َ ِقي ُك ُم‬ ‫َّللاُ َجعَ َل لَ ُك ْم ِم هما َخلَ َ‬
‫َو ه‬
‫ون) ‪( 81‬‬ ‫س ِل ُم َ‬‫علَ ْي ُك ْم لَعَله ُك ْم ت ُ ْ‬ ‫سرابِي َل ت َ ِقي ُك ْم بَأ ْ َ‬
‫س ُك ْم كَذ ِلكَ يُتِ ُّم نِ ْع َمتَهُ َ‬ ‫ا ْل َح هر َو َ‬

‫ص ‪500‬‬

‫ص ‪500 :‬‬
‫سرابِي َل ت َ ِقي ُك ْم بَأ ْ َ‬
‫س ُك ْم »وهذه حجب وقايات وجنن تقي‬ ‫سرابِي َل ت َ ِقي ُك ُم ْال َح َّر َو َ‬
‫" َو َجعَ َل لَ ُك ْم َ‬
‫األجسام الحيوانية من البرد القوي والحر الشديد ‪ ،‬فيدفع بذلك األلم عن نفسه ‪ ،‬وكذلك‬
‫الطوارق يدفع بها في الحرب المقاتل عن نفسه سهام األعداء ورماحهم وسيوفهم ‪،‬‬
‫فيتقي هذا وأمثاله بمجنه الحائل بينه وبين عدوه ‪ ،‬ويدفع بذلك عن نفسه األذى من‬
‫خوذة وترس ودرع ‪.‬‬

‫[ سورة النحل ( ‪ : ) 16‬اآليات ‪ 82‬إلى ‪] 88‬‬


‫َّللا ث ُ هم يُ ْن ِك ُرونَها َوأ َ ْكث َ ُر ُه ُم‬
‫ون نِ ْع َمتَ ه ِ‬‫ين ) ‪ ( 82‬يَ ْع ِرفُ َ‬ ‫علَ ْيكَ ا ْلبَال ُ‬
‫غ ا ْل ُم ِب ُ‬ ‫فَ ِإ ْن ت َ َوله ْوا فَ ِإنهما َ‬
‫ِين َكفَ ُروا َوال ُه ْم‬ ‫ث ِم ْن ُك ِ ّل أ ُ هم ٍة ش َِهيدا ً ث ُ هم ال يُ ْؤذَ ُن ِللهذ َ‬ ‫ون ( ‪َ ) 83‬ويَ ْو َم نَ ْبعَ ُ‬ ‫ا ْلكافِ ُر َ‬
‫ون (‬‫ع ْن ُه ْم َوال ُه ْم يُ ْن َظ ُر َ‬ ‫ف َ‬ ‫ذاب فَال يُ َخفه ُ‬‫ِين َظلَ ُموا ا ْلعَ َ‬ ‫ون ( ‪َ ) 84‬و ِإذا َرأَى الهذ َ‬ ‫ست َ ْعتَبُ َ‬‫يُ ْ‬
‫ِين ُكنها نَ ْدعُوا‬ ‫ُالء ش َُركا ُؤنَا الهذ َ‬ ‫ِين أَش َْركُوا ش َُركا َء ُه ْم قالُوا َربهنا هؤ ِ‬ ‫‪َ ) 85‬و ِإذا َرأَى الهذ َ‬
‫ون ) ‪( 86‬‬ ‫ِم ْن دُونِكَ فَأ َ ْلقَ ْوا إِلَ ْي ِه ُم ا ْلقَ ْو َل إِنه ُك ْم لَكا ِذبُ َ‬
‫صدُّوا‬ ‫ِين َكفَ ُروا َو َ‬ ‫ون ( ‪ ) 87‬الهذ َ‬ ‫ع ْن ُه ْم ما كانُوا يَ ْفت َ ُر َ‬ ‫ض هل َ‬ ‫سلَ َم َو َ‬ ‫َوأ َ ْلقَ ْوا إِلَى ه ِ‬
‫َّللا يَ ْو َمئِ ٍذ ال ه‬
‫ُون ( ‪.) 88‬‬ ‫سد َ‬ ‫ب ِبما كانُوا يُ ْف ِ‬ ‫ق ا ْلعَذا ِ‬ ‫َّللا ِزدْنا ُه ْم عَذابا ً فَ ْو َ‬ ‫ع َْن َ‬
‫س ِبي ِل ه ِ‬

‫ب »الزيادة في العذاب لما زادوا هنا من المرض في قلوبهم‬ ‫عذابا ً فَ ْوقَ ْالعَذا ِ‬‫" ِز ْدنا ُه ْم َ‬
‫عند ورود اآليات اإللهية إلثبات الشرائع ‪ ،‬كما أن ذلك لطائفة مخصوصة وهم األئمة‬
‫قاال َم َع أَثْقا ِل ِه ْم )وهم الذين أضلوا العباد‬
‫المضلون ‪ ،‬يقول تعالى ( َولَيَ ْح ِملُ َّن أَثْقالَ ُه ْم َوأَثْ ً‬
‫وأدخلوا عليهم الشبه المضلة ‪ ،‬فحادوا بها عن سواء السبيل ‪ ،‬فضلوا وأضلوا ‪ ،‬وقالوا‬
‫لهم ‪:‬‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ [ :‬من سن سنة سيئة فعليه‬ ‫اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم ‪ ،‬قال صلهى ه‬
‫وزرها ووزر من عمل بها دون أن ينقص ذلك من أوزارهم شيئا ] فهؤالء قيل فيهم«‬
‫ب »وما أنزلوا من النار إال منازل استحقاق‪.‬‬ ‫عذابا ً فَ ْوقَ ْالعَذا ِ‬
‫ِز ْدنا ُه ْم َ‬

‫‪501‬‬

‫ص ‪501 :‬‬
‫[سورة النحل ( ‪ : ) 16‬آية ‪] 89‬‬
‫ُالء َونَ هز ْلنا‬ ‫علَ ْي ِه ْم ِم ْن أ َ ْنفُ ِ‬
‫س ِه ْم َو ِجئْنا ِبكَ ش َِهيدا ً عَلى هؤ ِ‬ ‫ث فِي ُك ِ ّل أ ُ هم ٍة ش َِهيدا ً َ‬ ‫َويَ ْو َم نَ ْبعَ ُ‬
‫ين ( ‪) 89‬‬ ‫دى َو َرحْ َمةً َوبُشْرى ِل ْل ُم ْ‬
‫س ِل ِم َ‬ ‫ش ْي ٍء َو ُه ً‬ ‫علَ ْيكَ ا ْل ِك َ‬
‫تاب تِ ْبيانا ً ِل ُك ِ ّل َ‬ ‫َ‬
‫علَ ْي ِه ْم ِم ْن أ َ ْنفُ ِس ِه ْم »وهم الرسل ‪ ،‬وألحقنا ه‬
‫ّللا تعالى‬ ‫ث فِي ُك ِهل أ ُ َّم ٍة َ‬
‫ش ِهيدا ً َ‬ ‫" َويَ ْو َم نَ ْبعَ ُ‬
‫بأنبيائه بأن جعلنا شهداء على أممهم معهم حين يبعثهم ‪،‬‬
‫اس )‪.‬‬ ‫علَى النَّ ِ‬ ‫ش َهدا َء َ‬ ‫فقال تعالى( ِلت َ ُكونُوا ُ‬

‫[ سورة النحل ( ‪ : ) 16‬آية ‪] 90‬‬


‫شاء َوا ْل ُم ْن َك ِر َوا ْلبَ ْغي ِ‬
‫يتاء ذِي ا ْلقُ ْربى َويَ ْنهى ع َِن ا ْلفَحْ ِ‬ ‫سان َو ِإ ِ‬ ‫اْلحْ ِ‬ ‫َّللا يَأ ْ ُم ُر ِبا ْلعَ ْد ِل َو ْ ِ‬
‫ِإ هن ه َ‬
‫ون ( ‪) 90‬‬ ‫ظ ُك ْم لَعَله ُك ْم تَذَك ُهر َ‬ ‫يَ ِع ُ‬
‫ّللا يَأ ْ ُم ُر ِب ْالعَ ْد ِل »لما فيه من الفضل لمن أخذ له بالحق ‪ ،‬واعلم أن العدل ما ولي‬ ‫« ِإ َّن َّ َ‬
‫مدينة قط وال مملكة إال ظهرت فيها البركة ونمت األرزاق وعمت الخيرات جميعها ‪،‬‬
‫وهو موجود محبوب على ممر الدهور واألعصار ‪ ،‬وهو الميزان الموضوع في‬
‫األرض ‪ ،‬وبه يكون الفصل في العرض األكبر بين العباد ‪ ،‬وهو الحاكم في ذلك اليوم‬
‫‪ ،‬وهو المأمور به شرعا ‪ ،‬وإن الملك جسد روحه العدل ‪ ،‬ومتى لم يكن العدل خرب‬
‫الملك ‪ ،‬وكانت الحكماء تقول ‪:‬‬
‫ّللا تبارك وتعالى عباده فقال‬ ‫عدل السلطان أنفع للرعية من خصب الزمان ‪ ،‬وقد أمر ه‬
‫سان »وذم من لم يتصف به وال جعله حاكما عليه فقال(‬ ‫اإل ْح ِ‬ ‫ّللا يَأ ْ ُم ُر بِ ْالعَ ْد ِل َو ْ ِ‬
‫‪ «:‬إِ َّن َّ َ‬
‫اس يَ ْست َ ْوفُونَ َو ِإذا كالُو ُه ْم أ َ ْو َوزَ نُو ُه ْم يُ ْخ ِس ُرونَ أ َ‬ ‫ط ِفه ِفينَ الَّذِينَ ِإذَا ا ْكتالُوا َ‬
‫علَى النَّ ِ‬ ‫َو ْي ٌل ِل ْل ُم َ‬
‫ّللا عليه وسلم وقد انقطعت‬ ‫ع ِظ ٍيم )ومن فعله صلهى ه‬ ‫ظ ُّن أُولئِ َك أَنَّ ُه ْم َم ْبعُوثُونَ ِليَ ْو ٍم َ‬ ‫ال يَ ُ‬
‫إحدى نعليه أن نزع األخرى ومشى حافيا حتى يعدل في أقدامه ‪ ،‬فاجعل العدل حاكما‬
‫على نفسك وأهلك ورجلك وخولك وعبيدك وأصحابك وجميع من توجه عليه حكمك ‪،‬‬
‫سان »معطوف على العدل في األمر به ‪،‬‬ ‫اإل ْح ِ‬‫وفي كالمك وفعلك ظاهرا وباطنا« َو ْ ِ‬
‫فيكون من ظهر فيه سلطان العدل وأخذ بجريمته أن يعطف عليه باإلحسان ‪ ،‬فينقضي‬
‫أمد المؤاخذة وال ينقضي أمد اإلنعام واإلحسان ‪ ،‬وقد يكون اإلحسان ابتداء وجزاء‬
‫لإلحسان ‪ ،‬كما جاء في قوله تعالى( ه َْل َجزا ُء‬
‫ص ‪502‬‬

‫ص ‪502 :‬‬
‫س ِيهئَةٌ ِمثْلُها فَ َم ْن َ‬
‫عفا‬ ‫س ِيهئ َ ٍة َ‬
‫سان )واإلحسان قبل المؤاخذة( َو َجزا ُء َ‬ ‫سان إِ َّال ْ ِ‬
‫اإل ْح ُ‬ ‫ِْ‬
‫اإل ْح ِ‬
‫ّللا )فإقامة العدل إنما هو‬ ‫علَى َّ ِ‬ ‫صلَ َح ) ولم يجاز السيئة على السيئة فهو أولى( فَأ َ ْج ُرهُ َ‬ ‫َوأ َ ْ‬
‫ّللا ليأمر بمكارم األخالق وال‬ ‫في حق الغير ال فيما يختص بالجناب اإللهي ‪ ،‬فما كان ه‬
‫يكون الجناب اإللهي موصوفا به ‪ ،‬فعدل فيما حكم به من الجزاء بالسوء ‪ ،‬وأحسن بعد‬
‫الحكم ونفوذه بما آل إليه عباده من الرحمة ورفع األمور الشاقة عليهم وهي اآلالم ‪،‬‬
‫فعمت رحمته كل شيء ‪.‬‬

‫[ سورة النحل ( ‪ : ) 16‬اآليات ‪ 91‬إلى ‪] 93‬‬


‫علَ ْي ُك ْم‬ ‫مان بَ ْع َد ت َ ْو ِكيدِها َوقَ ْد َجعَ ْلت ُ ُم ه َ‬
‫َّللا َ‬ ‫َّللا ِإذا عا َه ْدت ُ ْم َوال ت َ ْنقُضُوا ْاأل َ ْي َ‬ ‫َوأ َ ْوفُوا ِبعَ ْه ِد ه ِ‬
‫غ ْزلَها ِم ْن بَ ْع ِد قُ هو ٍة‬ ‫ون ( ‪َ ) 91‬وال تَكُونُوا كَاله ِتي نَقَضَتْ َ‬ ‫َّللا يَ ْعلَ ُم ما ت َ ْفعَلُ َ‬
‫َك ِفيالً ِإ هن ه َ‬
‫ي أ َ ْربى ِم ْن أ ُ هم ٍة ِإنهما يَ ْبلُو ُك ُم ه‬
‫َّللاُ ِب ِه‬ ‫ُون أ ُ همةٌ ِه َ‬
‫ون أ َ ْيمانَ ُك ْم َد َخالً بَ ْينَ ُك ْم أ َ ْن تَك َ‬‫أ َ ْنكاثا ً تَت ه ِخذُ َ‬
‫َّللاُ لَ َجعَلَ ُك ْم أ ُ همةً ِ‬
‫واح َدةً‬ ‫ون ( ‪َ ) 92‬ولَ ْو شا َء ه‬ ‫َولَيُبَ ِيّنَ هن لَ ُك ْم يَ ْو َم ا ْل ِقيا َم ِة ما ُك ْنت ُ ْم فِي ِه ت َ ْخت َ ِلفُ َ‬
‫ون ) ‪( 93‬‬ ‫ع هما ُك ْنت ُ ْم ت َ ْع َملُ َ‬‫سئَلُ هن َ‬‫َول ِك ْن يُ ِض ُّل َم ْن يَشا ُء َويَ ْهدِي َم ْن يَشا ُء َولَت ُ ْ‬
‫فهو تعالى الذي يرزق اإلصابة في النظر والذي يرزق الخطأ ‪.‬‬

‫[ سورة النحل ( ‪ : ) 16‬اآليات ‪ 94‬إلى ‪] 96‬‬


‫ص َد ْدت ُ ْم ع َْن‬
‫سو َء بِما َ‬ ‫َوال تَت ه ِخذُوا أ َ ْيمانَ ُك ْم َد َخالً بَ ْينَ ُك ْم فَت َ ِز هل قَ َد ٌم بَ ْع َد ثُبُوتِها َوتَذُوقُوا ال ُّ‬
‫َّللا ث َ َمنا ً قَ ِليالً إِنهما ِع ْن َد ه ِ‬
‫َّللا ُه َو‬ ‫شت َ ُروا بِعَ ْه ِد ه ِ‬
‫َذاب ع َِظي ٌم ( ‪َ ) 94‬وال ت َ ْ‬ ‫َّللا َولَ ُك ْم ع ٌ‬ ‫سبِي ِل ه ِ‬ ‫َ‬
‫باق َولَنَجْ ِزيَ هن الهذ َ‬
‫ِين‬ ‫َّللا ٍ‬ ‫ون ( ‪ ) 95‬ما ِع ْن َد ُك ْم يَ ْنفَ ُد َوما ِع ْن َد ه ِ‬ ‫َخ ْي ٌر لَ ُك ْم إِ ْن ُك ْنت ُ ْم ت َ ْعلَ ُم َ‬
‫ون ) ‪( 96‬‬ ‫س ِن ما كانُوا يَ ْع َملُ َ‬ ‫صبَ ُروا أَجْ َر ُه ْم ِبأَحْ َ‬ ‫َ‬
‫‪-‬الوجه األول ‪ -‬ما ينسب إلى العبد مآله إلى الفناء ‪ ،‬وما ينسب إلى الحق فمآله إلى‬

‫ص ‪503‬‬

‫ص ‪503 :‬‬
‫ق »فوصف‬ ‫البقاء والوجود ‪ ،‬وهو معنى قوله تعالى ‪ «:‬ما ِع ْن َد ُك ْم يَ ْنفَ ُد َوما ِع ْن َد َّ ِ‬
‫ّللا با ٍ‬
‫بالنفاد ما نسبه إلينا ‪ ،‬وما لفظة تدل على كل شيء ‪ ،‬كذا قاله سيبويه ‪ ،‬فكل ما نسب‬
‫إلى المخلوق فإنه ينفد بالموت أو الشهادة ‪ ،‬وكل ما ينفد فقد فارق من كان عنده ‪ ،‬وهذا‬
‫ال يوجد في الحق ‪ ،‬فإنه ال يفارقه شيء ‪ ،‬ألنه معنا وإليه تصير األمور« ما ِع ْن َد ُك ْم‬
‫ّللا في بقائه ‪ ،‬والخطاب هنا‬ ‫ق »فتعتمد على ه‬ ‫يَ ْنفَ ُد »فال تعتمد عليه« َوما ِع ْن َد َّ ِ‬
‫ّللا با ٍ‬
‫ّللا في محله من‬ ‫لعين الجوهر ‪ ،‬والذي عند الجوهر من كل موجود إنما هو ما يوجده ه‬
‫الصفات واألعراض واألكوان ‪ ،‬وهي في الزمان الثاني أو في الحال الثاني ‪ -‬كيف‬
‫وّللا يجدد للجوهر‬ ‫شئت قل ‪ -‬من زمان وجودها أو حال وجودها ‪ ،‬تنعدم من عندنا ‪ ،‬ه‬
‫األمثال أو األضداد دائما من خزائنه ‪ ،‬وهذا معنى قول المتكلمين إن العرض ال يبقى‬
‫زمانين ‪ ،‬وهو قول صحيح ‪ ،‬خبر ال شهبة فيه ‪ ،‬ألنه األمر المحقق الذي عليه نعت‬
‫ّللا ‪ ،‬وقد شاء أنه ال‬ ‫الممكنات ‪ ،‬ويتجدد ذلك على الجوهر ويبقى عينه دائما ما شاء ه‬
‫ّللا التوجه وهو قوله تعالى ‪ (:‬إِذا أ َ َر ْدناهُ‬ ‫ق »فعند ه‬ ‫يفنى فال بد من بقائه « َوما ِع ْن َد َّ ِ‬
‫ّللا با ٍ‬
‫ون ) فال يكون عنه إال الوجود وما يكون عنه عدم ‪ ،‬واعلم أن‬ ‫أ َ ْن نَقُو َل لَهُ ُك ْن فَيَ ُك ُ‬
‫تحقيق عندية كل شيء راجعة إلى نفسه ‪ ،‬ولهذا قال تعالى ‪ «:‬ما ِع ْن َد ُك ْم يَ ْنفَ ُد »فإن‬
‫ق »فإن له البقاء ‪ ،‬فلو كانت عندية الشيء غير نفس‬ ‫حكمكم النفاد« َوما ِع ْن َد َّ ِ‬
‫ّللا با ٍ‬
‫ّللا باق ‪ ،‬فنحن وما عندنا‬ ‫ّللا ‪ ،‬وما عند ه‬ ‫الشيء ما نفد ما عندنا ‪ ،‬ألنا وما عندنا عند ه‬
‫باق ‪ ،‬فتبين لك أن عندية كل شيء نفسه‬
‫ّللا فله البقاء في العدم كان أو الوجود ‪ ،‬وما نفد ما عندك‬ ‫‪ -‬الوجه الثاني ‪ -‬الكل عند ه‬
‫إال بأخذه منك ‪ ،‬وأنت عنده فما عندك عنده ‪ ،‬وما خرج شيء من عنده ‪ ،‬فالكل عنده‬
‫باّلل ‪ ،‬فما عندنا منه في موطن ينفد في‬ ‫‪ -‬الوجه الثالث ‪ « -‬ما عندك ينفد » من العلم ه‬
‫موطن آخر ‪ ،‬فإن الحكم للمواطن ‪ ،‬فإنها تحكم بنفسها في كل من ظهر فيها« َوما ِع ْن َد‬
‫ق »من علمه بنفسه ال يتغير وال يتبدل وال يتنوع في نفسه بتنوع المواطن ‪.‬‬ ‫َّ ِ‬
‫ّللا با ٍ‬
‫فنحن وما عندنا عنده *** وليس الذي عنده عندنا‬

‫[ سورة النحل ( ‪ : ) 16‬آية ‪] 97‬‬


‫َم ْن ع َِم َل صا ِلحا ً ِم ْن ذَك ٍَر أ َ ْو أ ُ ْنثى َو ُه َو ُم ْؤ ِم ٌن فَلَنُحْ ِييَنههُ َحياةً َط ِيّبَةً َولَنَجْ ِزيَنه ُه ْم أَجْ َر ُه ْم‬
‫ون) ‪( 97‬‬ ‫س ِن ما كانُوا يَ ْع َملُ َ‬ ‫ِبأَحْ َ‬

‫ص ‪504‬‬

‫ص ‪504 :‬‬
‫العمل الصالح له الحياة الطيبة ‪ ،‬وهي تعجيل البشرى في الحياة الدنيا ‪ ،‬كما قال تعالى(‬
‫لَ ُه ُم ْالبُ ْشرى فِي ْال َحياةِ ال ُّد ْنيا )فيحيى في باقي عمره حياة طيبة لما حصل له من العلم‬
‫فتهون عليه هذه البشرى‬‫ّللا مما يؤول إليه في أبده ‪ ،‬ه‬
‫بما سبق له من سعادته في علم ه‬
‫ّللا حق وكالمه صدق ‪ ،‬وقد‬ ‫ما يلقاه من المشقات والعوارض المؤلمة ‪ ،‬فإن وعد ه‬
‫خوطب بالقول الذي ال يبدل لديه ‪ ،‬وال تكون الحياة طيبة إال أن تكون مستصحبة ‪ ،‬وما‬
‫ّللا ‪ ،‬وإن ظهر منهم ما توجبه األمور المؤلمة في العادة‬ ‫ينالها إال الصالحون من عباد ه‬
‫وظهر عليهم آثار اآلالم ‪ ،‬فالنفوس منهم في الحياة الطيبة ‪ ،‬ألن النفوس محلها العقل‬
‫ليس الحس محلها ‪ ،‬فآالمهم حسية ال نفسية ‪ ،‬فالذي يراهم يحملهم في ذلك على حاله‬
‫الذي يجده في نفسه لو قام به ذلك البالء ‪ ،‬وهو في نفسه غير ذلك ‪ ،‬فالصورة صورة‬
‫ّللا سيئاته‬
‫بالء ‪ ،‬والمعنى معنى عافية وإنعام ‪ ،‬وكذلك للعمل الصالح التبديل ‪ ،‬فيبدل ه‬
‫حسنات ‪ ،‬حتى يود لو أنه أتى جميع الكبائر الواقعة في العالم ‪ ،‬وكذلك للعمل الصالح‬
‫شكر الحق ألنه الغفور الشكور ‪ ،‬فسعيه مقبول وكالمه مسموع ‪ ،‬ولو لم يكن في العمل‬
‫الصالح إال إلحاق عامله بالصالحين وإطالقه هذا االسم عليه لكان كافيا ‪ ،‬فإنه مطلب‬
‫ّللا ‪.‬‬
‫األنبياء عليهم السالم وهم أرفع طوائف عباد ه‬

‫[ سورة النحل ( ‪ : ) 16‬آية ‪] 98‬‬


‫يم ( ‪) 98‬‬
‫الر ِج ِ‬
‫طان ه‬
‫ش ْي ِ‬ ‫ست َ ِع ْذ بِ ه ِ‬
‫اّلِل ِم َن ال ه‬ ‫فَ ِإذا قَ َرأْتَ ا ْلقُ ْر َ‬
‫آن فَا ْ‬

‫الر ِج ِيم » اآلية ]‬ ‫ْطان َّ‬


‫شي ِ‬ ‫ت ْالقُ ْرآنَ فَا ْست َ ِع ْذ بِ َّ ِ‬
‫اّلل ِمنَ ال َّ‬ ‫[ « فَإِذا قَ َرأْ َ‬
‫إذا قرأت القرآن فاجتمع عليه فإنه قرآن ‪ ،‬وإذا قرأته من كونه فرقانا فكن بحسب اآلية‬
‫الر ِج ِيم‬
‫ْطان َّ‬
‫شي ِ‬ ‫التي أنت فيها في جميع قراءتك« فَإِذا قَ َرأْ َ‬
‫ت ْالقُ ْرآنَ فَا ْست َ ِع ْذ ِب َّ ِ‬
‫اّلل ِمنَ ال َّ‬
‫»فإن القرآن جمع ‪ ،‬والجمعية تدعوه للحضور فهي معينة له ‪ ،‬بخالف الفرقان ‪،‬‬
‫فالقرآن يحضره والفرقان يطرده ‪ ،‬يقال يوم القيامة لصاحب القرآن ‪ :‬اقرأ وارق ‪ ،‬فإن‬
‫باّلل‬
‫منزلك عند آخر آية تقرأ ‪ .‬فدرجات الجنة على هذا على عدد آي القرآن ‪ ،‬والتعوذ ه‬
‫من الشيطان الرجيم عند افتتاح قراءة القرآن في الصالة وفي غيرها فرض لألمر‬
‫ّللا القارئ للقرآن أن يتعوذ ‪ ،‬وعلمه المكلهف وهو‬ ‫اإللهي الوارد في هذه اآلية ‪ ،‬فأمر ه‬
‫ّللا تعالى عند قراءة القرآن كيف يستعيذ وبمن يستعيذ وممن يستعيذ ‪ ،‬فقال له« فَإِذا‬ ‫ه‬
‫الر ِج ِيم »فأعطاه االسم الجامع ‪ ،‬وذكر له القرآن‬ ‫ْطان َّ‬
‫شي ِ‬ ‫اّلل ِمنَ ال َّ‬ ‫ْ‬
‫ت القُ ْرآنَ فَا ْست َ ِع ْذ ِب َّ ِ‬ ‫ْ‬
‫قَ َرأ َ‬
‫ّللا ‪ ،‬فالقارئ‬ ‫‪ ،‬وما خص آية من آية ‪ ،‬لذلك لم يخص اسما من اسم ‪ ،‬بل أتى باالسم ه‬
‫ينظر في حقيقة ما يقرأ ‪ ،‬وينظر فيما ينبغي أن يستعاذ‬

‫ص ‪505‬‬

‫ص ‪505 :‬‬
‫ّللا‬
‫منه في تلك اآلية ‪ ،‬فيذكره في استعاذته وينظر فيما ينبغي أن يستعاذ به من أسماء ه‬
‫‪ ،‬أي اسم كان ‪ ،‬فيعيهنه بالذكر في استعاذته ‪ ،‬وللمصلي في صالته بعد أن يفرغ من‬
‫التوجه وقبل أن يشرع في القراءة أن يتعوذ‬
‫باّلل من الشيطان الرجيم ‪ ،‬وهذا نص القرآن ‪،‬‬ ‫وليقل ‪ :‬أعوذ ه‬
‫باّلل السميع العليم من الشيطان الرجيم ]‬
‫وقد ورد في السنة الصحيحة [ أعوذ ه‬
‫ّللا ‪ ،‬ثم زاد‬
‫ّللا من كون القرآن ذكرا ‪ ،‬والذاكر جليس ه‬ ‫ولما كان قارئ القرآن جليس ه‬
‫ّللا ‪ ،‬فهو أيضا في حال قرب على قرب ‪ ،‬كنور على‬ ‫أنه في الصالة في حال مناجاة ه‬
‫باّلل ‪ ،‬وتكون استعاذته من الشيطان ألنه البعيد ‪ ،‬يقال‬ ‫نور ‪ ،‬كان األولى أن يستعيذ هنا ه‬
‫‪ :‬بئر شطون إذا كانت بعيدة القعر ‪ ،‬والبعد يقابل القرب ‪ ،‬فتكون استعاذته في حال‬
‫قربه مما يبعده عن تلك الحالة ‪ ،‬فلم يكن أولى من اسم الشيطان ‪ ،‬ثم نعته بالرجيم ‪،‬‬
‫وهو فعيل ‪ ،‬فأما بمعنى المفعول فيكون معناه من الشيطان المرجوم ‪ ،‬يعني بالشهب ‪،‬‬
‫ّللا باألنوار ‪ ،‬فكانت الصالة مما‬
‫وهي األنوار المحرقة ‪ ،‬والصالة نور ‪ ،‬ورجمه ه‬
‫تعطي بعد الشيطان من العبد ‪ ،‬وإن كان بمعنى الفاعل فهو لما يرجم به قلب العبد من‬
‫ّللا صلهى ه‬
‫ّللا عليه‬ ‫الخواطر المذمومة واللمات السيئة والوسوسة ‪ ،‬ولهذا كان رسول ه‬
‫وسلم إذا قام يصلي من الليل وكبر تكبيرة اإلحرام ‪،‬‬
‫ّللا أكبر كبيرا ‪ ،‬والحمد هّلل كثيرا والحمد هّلل كثيرا‬
‫ّللا أكبر كبيرا ه‬
‫ّللا أكبر كبيرا ه‬
‫قال ‪ [ :‬ه‬
‫ّللا‬
‫ّللا بكرة وأصيال وسبحان ه‬ ‫ّللا بكرة وأصيال وسبحان ه‬ ‫والحمد هّلل كثيرا ‪ ،‬وسبحان ه‬
‫باّلل من الشيطان الرجيم من نفخه ونفثه وهمزه ] قال ابن عباس‬ ‫بكرة وأصيال ‪ ،‬أعوذ ه‬
‫‪ :‬همزه ما يوسوسه في الصالة ‪ ،‬ونفثه الشعر ‪ ،‬ونفخه الذي يلقيه من الشبه في الصالة‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ :‬إن سجود السهو ترغيم للشيطان‬ ‫‪ ،‬يعني السهو ‪ .‬ولهذا قال النبي صلهى ه‬
‫باّلل من الشيطان الرجيم بخالص من قلبه ‪ ،‬يطلب‬ ‫‪ ،‬فوجب على المصلي أن يستعيذ ه‬
‫بذلك عصمة ربه ‪ ،‬ولما لم يعرف المصلي بما يأتيه الشيطان من الخواطر السيئة في‬
‫ّللا الجامع لمعاني‬
‫صالته والوسوسة لم يتمكن أن يعين له ما يدفعها به ‪ ،‬فجاء باالسم ه‬
‫األسماء ‪ ،‬إذ كان في قوة هذا االسم حقيقة كل اسم دافع في مقابلة كل خاطر ينبغي أن‬
‫يدفع ‪.‬‬

‫[ سورة النحل ‪ ( 16 ) :‬اآليات ‪ 99‬إلى ‪] 102‬‬


‫علَى‬ ‫س ْلطانُهُ َ‬ ‫ون ( ‪ِ ) 99‬إنهما ُ‬ ‫ِين آ َمنُوا َوعَلى َر ِبّ ِه ْم يَت َ َو هكلُ َ‬ ‫علَى الهذ َ‬ ‫طان َ‬ ‫س ْل ٌ‬ ‫س ل َه ُ ُ‬ ‫ِإنههُ لَ ْي َ‬
‫َّللاُ أ َ ْعلَ ُم‬ ‫ُون ( ‪َ ) 100‬وإِذا بَ هد ْلنا آيَةً َم َ‬
‫كان آيَ ٍة َو ه‬ ‫ِين ُه ْم بِ ِه ُمش ِْرك َ‬ ‫ِين يَت َ َوله ْونَهُ َوالهذ َ‬ ‫الهذ َ‬
‫ُس‬‫ح ا ْلقُد ِ‬ ‫ون ( ‪ ) 101‬قُ ْل نَ هزلَهُ ُرو ُ‬ ‫بِما يُنَ ِ ّز ُل قالُوا إِنهما أ َ ْنتَ ُم ْفت َ ٍر بَ ْل أ َ ْكث َ ُر ُه ْم ال يَ ْعلَ ُم َ‬
‫ين) ‪( 102‬‬ ‫دى َوبُشْرى ِل ْل ُم ْ‬
‫س ِل ِم َ‬ ‫ِين آ َمنُوا َو ُه ً‬ ‫ق ِليُث َ ِبّتَ الهذ َ‬‫ِم ْن َر ِبّكَ ِبا ْل َح ّ ِ‬

‫ص ‪506‬‬

‫ص ‪506 :‬‬
‫روح القدس أي الطاهر عن تقييد البشر ‪.‬‬

‫[ سورة النحل ( ‪ : ) 16‬اآليات ‪ 103‬إلى ‪] 106‬‬


‫ي َوهذا ِل ٌ‬
‫سان‬ ‫ُون ِإلَ ْي ِه أ َ ْع َج ِم ٌّ‬‫سان الهذِي يُ ْل ِحد َ‬ ‫ون ِإنهما يُعَ ِلّ ُمهُ بَش ٌَر ِل ُ‬ ‫َولَقَ ْد نَ ْعلَ ُم أَنه ُه ْم يَقُولُ َ‬
‫َذاب أ َ ِلي ٌم (‬
‫َّللاُ َولَ ُه ْم ع ٌ‬ ‫ِيه ُم ه‬ ‫َّللا ال يَ ْهد ِ‬ ‫ت هِ‬ ‫ون ِبآيا ِ‬ ‫ِين ال يُ ْؤ ِمنُ َ‬ ‫ين ) ‪ِ ( 103‬إ هن الهذ َ‬ ‫ي ُم ِب ٌ‬ ‫ع ََر ِب ٌّ‬
‫ون ‪( 105‬‬ ‫َّللا َوأُولئِكَ ُه ُم ا ْلكا ِذبُ َ‬ ‫ت هِ‬ ‫ون بِآيا ِ‬ ‫ِين ال يُ ْؤ ِمنُ َ‬ ‫ِب الهذ َ‬ ‫‪ ) 104‬إِنهما يَ ْفت َ ِري ا ْل َكذ َ‬
‫ح‬‫يمان َول ِك ْن َم ْن ش ََر َ‬ ‫اْل ِ‬ ‫اّلِل ِم ْن بَ ْع ِد إِيمانِ ِه إِاله َم ْن أ ُ ْك ِر َه َوقَ ْلبُهُ ُم ْط َمئِ ٌّن بِ ْ ِ‬
‫) َم ْن َكفَ َر بِ ه ِ‬
‫َذاب ع َِظي ٌم ( ‪.) 106‬‬ ‫َّللا َولَ ُه ْم ع ٌ‬ ‫ب ِم َن ه ِ‬ ‫ض ٌ‬‫غ َ‬ ‫صدْرا ً فَعَلَ ْي ِه ْم َ‬
‫ِبا ْل ُك ْف ِر َ‬

‫" ِإ َّال َم ْن أ ُ ْك ِرهَ »أكره من اإلكراه ‪ ،‬ومن حصول الكراهة في نفس العامل لذلك العمل‬
‫يمان »وطمأنينته في هذه‬
‫اإل ِ‬ ‫الخارج عن ميزان األدب المشروع« َوقَ ْلبُهُ ُم ْ‬
‫ط َم ِئ ٌّن ِب ْ ِ‬
‫ّللا حبب اإليمان للمؤمن وكره إليه الفسوق‬ ‫النازلة إنما هو بما له من الكراهة ‪ ،‬فإن ه‬
‫والعصيان مع وقوعه منه ‪ ،‬فغير المكره إذا كفر أخذ بكفره ‪ ،‬وأي شيء فعل جوزي‬
‫ّللا أجل وأعظم وأعدل من أن يعذب مكرها مقهورا ‪،‬‬ ‫بفعله ‪ ،‬بخالف المجبور ‪ ،‬فإن ه‬
‫فإن شئت سترت دينك ونفسك ‪ ،‬وتظهر لهم فيما هم بسبيله بظاهرك إن جبروك على‬
‫ذلك فاضطررت إليه ‪ ،‬واعتزل عنهم ما استطعت في بيتك إلقامة دينك من حيث ال‬
‫يعلمون ‪ ،‬فقد كان بدء اإلسالم على هذه الصورة من التكتم ‪ ،‬وقد ثبت حكم المكره في‬
‫الشرع ‪ ،‬وعلم ح هد المكره الذي اتفق عليه والمكره الذي اختلف فيه ‪ ،‬وما بقي النظر‬
‫إال في معرفة المجبور المكره وما صفته ‪ ،‬فإن بعض العلماء لم يصح عنده الجبر‬
‫واإلكراه على الزنا فيؤاخذ به ‪ ،‬فإن اآللة ال تقوم إال بسريان‬

‫ص ‪507‬‬

‫ص ‪507 :‬‬
‫الشهوة وحكمها فيه ‪ ،‬وعندنا أنه مجبور في مثل هذا ‪ ،‬مكره على أن يريد الوقاع ‪،‬‬
‫وال يظهر حكم إرادته إال بالوقوع ‪ ،‬وال يكون الوقاع إال بعد االنتشار ووجود الشهوة ‪،‬‬
‫وحينئذ يعصم نفسه من المكره له على ذلك المتوعد له بالقتل إن لم يفعل ‪ ،‬فصح‬
‫اإلكراه في مثل هذا بالباطن ‪ ،‬بخالف الكفر فإنه يقنع فيه بالظاهر وإن خالفه الباطن ‪،‬‬
‫فالزاني يشتهي ويكره تلك الشهوة ‪ ،‬فإنه مؤمن ‪ ،‬ولوال أن الشهوة إرادة بالتذاذ لقلنا إنه‬
‫غير مريد لما اشتهاه ‪.‬‬
‫[ سورة النحل ( ‪ : ) 16‬اآليات ‪ 107‬إلى ‪] 111‬‬
‫ين ( ‪107‬‬ ‫علَى ْاآل ِخ َر ِة َوأ َ هن ه َ‬
‫َّللا ال يَ ْهدِي ا ْلقَ ْو َم ا ْلكافِ ِر َ‬ ‫ست َ َحبُّوا ا ْل َحياةَ ال ُّد ْنيا َ‬‫ذ ِلكَ ِبأَنه ُه ُم ا ْ‬
‫ون ( ‪108‬‬ ‫صار ِه ْم َوأُولئِكَ ُه ُم ا ْلغافِلُ َ‬ ‫س ْم ِع ِه ْم َوأ َ ْب ِ‬‫َّللاُ عَلى قُلُو ِب ِه ْم َو َ‬
‫ِين َطبَ َع ه‬ ‫) أُولئِكَ الهذ َ‬
‫ِين ها َج ُروا ِم ْن بَ ْع ِد‬ ‫ون ( ‪ ) 109‬ث ُ هم ِإ هن َربهكَ ِللهذ َ‬ ‫س ُر َ‬‫) ال َج َر َم أَنه ُه ْم ِفي ْاآل ِخ َر ِة ُه ُم ا ْلخا ِ‬
‫ور َر ِحي ٌم ( ‪ ) 110‬يَ ْو َم تَأ ْ ِتي ُك ُّل‬ ‫صبَ ُروا ِإ هن َربهكَ ِم ْن بَ ْعدِها لَغَفُ ٌ‬ ‫ما فُ ِتنُوا ث ُ هم جا َهدُوا َو َ‬
‫ون ( ‪.) 111‬‬ ‫سها َوت ُ َوفهى ُك ُّل نَ ْف ٍس ما ع َِملَتْ َو ُه ْم ال يُ ْظلَ ُم َ‬ ‫نَ ْف ٍس تُجا ِد ُل ع َْن نَ ْف ِ‬
‫ّللا ما كلف‬ ‫فكل نفس مطلوبة من الحق في نفسها ‪ ،‬ال تجزى نفس عن نفس شيئا ‪ ،‬فإن ه‬
‫أحدا إال بحاله ووسعه ‪ ،‬ما كلف أحدا بحال أحد ‪ ،‬وأقيم الكسب مقام العمل والعمل مقام‬
‫ت »أي ما كسبت ‪ ،‬وفي آية( ما‬ ‫الكسب ‪ ،‬فجاء في اآلية« َوت ُ َوفَّى ُك ُّل نَ ْف ٍس ما َ‬
‫ع ِملَ ْ‬
‫ت )فسمي العمل كسبا ‪.‬‬ ‫سبَ ْ‬
‫َك َ‬

‫[ سورة النحل ( ‪ : ) 16‬آية ‪] 112‬‬


‫كان فَ َكفَ َرتْ‬ ‫آمنَةً ُم ْط َمئِنهةً يَأْتِيها ِر ْزقُها َر َ‬
‫غدا ً ِم ْن ُك ِ ّل َم ٍ‬ ‫َّللاُ َمثَالً قَ ْريَةً كانَتْ ِ‬
‫ب ه‬ ‫َو َ‬
‫ض َر َ‬
‫ون) ‪( 112‬‬ ‫صنَعُ َ‬‫ف ِبما كانُوا يَ ْ‬ ‫باس ا ْل ُجوعِ َوا ْل َخ ْو ِ‬
‫َّللاُ ِل َ‬ ‫َّللا فَأَذاقَ َها ه‬
‫ِبأ َ ْنعُ ِم ه ِ‬
‫ت »يعني‬ ‫كان »وهذا غاية النعم من النعم« فَ َكفَ َر ْ‬ ‫« يَأْتِيها ِر ْزقُها َرغَدا ً ِم ْن ُك ِهل َم ٍ‬

‫ص ‪508‬‬

‫ص ‪508 :‬‬
‫باس ْال ُجوعِ »بإزالة‬ ‫ّللا فَأَذاقَ َها َّ‬
‫ّللاُ ِل َ‬ ‫الجماعة التي أنعم عليها المنعم بهذه النعم« بِأ َ ْنعُ ِم َّ ِ‬
‫صنَعُونَ »من ستر النعم وجحدها واألشر‬ ‫ف »بإزالة األمن« بِما كانُوا يَ ْ‬ ‫الرزق« َو ْالخ َْو ِ‬
‫والبطر بها‪.‬‬

‫[ سورة النحل ( ‪ : ) 16‬اآليات ‪ 113‬إلى ‪] 114‬‬


‫ون ( ‪ ) 113‬فَ ُكلُوا ِم هما‬
‫ذاب َو ُه ْم ظا ِل ُم َ‬ ‫سو ٌل ِم ْن ُه ْم فَ َكذهبُوهُ فَأ َ َخذَ ُه ُم ا ْلعَ ُ‬ ‫َولَقَ ْد جا َء ُه ْم َر ُ‬
‫َّللا إِ ْن ُك ْنت ُ ْم إِيهاهُ ت َ ْعبُد َ‬
‫ُون ) ‪( 114‬‬ ‫شك ُُروا نِ ْع َمتَ ه ِ‬‫َّللاُ َحالالً َط ِيّبا ً َوا ْ‬ ‫َر َزقَ ُك ُم ه‬
‫ط ِيهبا ً »طالب سبيل النجاة يتوجه عليه وجوبا تجنب‬ ‫الال َ‬
‫ّللاُ َح ً‬ ‫« فَ ُكلُوا ِم َّما َرزَ قَ ُك ُم َّ‬
‫الحرام ‪ ،‬والورع في الشبهات المظنونة ‪ ،‬وأما المحققة فواجب عليه تجنبها كالحرام‬
‫على كل حال من األحوال ‪ ،‬فإنه ما أتي أحد إال من بطنه ‪ ،‬منه تقع الرغبة وقلة الورع‬
‫ّللا يا بني التقليل من الغذاء الطيب ‪ ،‬فإن‬ ‫فاّلل ه‬‫ّللا تعالى ‪ ،‬ه‬ ‫في المكسب وتعدي حدود ه‬
‫الجسم ال يطلب منك إال سد جوعته بما كان ‪ ،‬والنفس ال تطلب منك إال الطعام الطيب‬
‫الحسن الطعم والمنظر ‪ ،‬وال تبالي حراما كان ذلك أو حالال ‪ ،‬فإن كانت النفس المغذية‬
‫للجسم والناظرة في صونه خاض في الشبهات وتورط في المحرمات ‪ ،‬ألنها أمارة‬
‫بالسوء مطمئنة بالهوى ‪ ،‬فهلكت وأهلكته في الدارين ‪ ،‬وإن كان العقل الشرعي المغذي‬
‫له تقيد وأخذ الشيء من حلهه ووضعه في حقه ‪ ،‬وترك الشهوة في الطعام وإن كان‬
‫ّللا »إذا كان وقتك النعمة ودخل وقتها‬ ‫ت َّ ِ‬ ‫حالال رغبة فيما هو خير منه« َوا ْش ُك ُروا نِ ْع َم َ‬
‫بوجودها عندك دعيت إلى شكر المنعم ‪.‬‬

‫[ سورة النحل ( ‪ : ) 16‬آية ‪] 115‬‬


‫غ ْي َر باغٍ‬ ‫َّللا ِب ِه فَ َم ِن ا ْ‬
‫ض ُ‬
‫ط هر َ‬ ‫علَ ْي ُك ُم ا ْل َم ْيتَةَ َوال هد َم َولَحْ َم ا ْل ِخ ْن ِز ِ‬
‫ير َوما أ ُ ِه هل ِلغَ ْي ِر ه ِ‬ ‫ِإنهما َح هر َم َ‬
‫ور َر ِحي ٌم ) ‪( 115‬‬ ‫غفُ ٌ‬ ‫َوال عا ٍد فَ ِإ هن ه َ‬
‫َّللا َ‬
‫تغير األحوال يغير األحكام ‪ ،‬فالشخص الواحد الذي لم يكن حاله االضطرار أكل‬
‫الميتة عليه حرام ‪ ،‬فإذا اضطر ذلك الشخص عينه فأكل الميتة له حالل ‪ ،‬فاختلف‬
‫ّللا ما لم يقل ‪.‬‬ ‫الحكم الختالف الحال والعين واحدة ‪ ،‬ثم قال تعالى في ذم من قال عن ه‬

‫[ سورة النحل ( ‪ : ) 16‬آية ‪] 116‬‬


‫َّللا ا ْل َكذ َ‬
‫ِب ِإ هن‬ ‫ِب هذا َحال ٌل َوهذا َحرا ٌم ِلت َ ْفت َ ُروا َ‬
‫علَى ه ِ‬ ‫ف أ َ ْل ِ‬
‫سنَت ُ ُك ُم ا ْل َكذ َ‬ ‫َوال تَقُولُوا ِلما ت َ ِص ُ‬
‫ون) ‪( 116‬‬ ‫ِب ال يُ ْف ِل ُح َ‬
‫َّللا ا ْل َكذ َ‬‫علَى ه ِ‬‫ون َ‬ ‫ِين يَ ْفت َ ُر َ‬
‫الهذ َ‬

‫ص ‪509‬‬

‫ص ‪509 :‬‬
‫[الذي يحرم بالعموم في الخطاب المشروع على واحد يعم جميع المكلفين]‬
‫الذي يحرم بالعموم في الخطاب المشروع على واحد يعم جميع المكلفين من غير‬
‫اختصاص ‪ ،‬حتى لو قال بتحليل ذلك في حق شخص يتوجه عليه به لسان الذم في‬
‫الظاهر كان كافرا عند الجميع ‪ ،‬وكان كاذبا في دعواه ‪ ،‬وال تصح المنكرات إال بما ال‬
‫يتطرق إليه االحتمال ‪ ،‬والحرام النص مأمور باجتنابه ‪ ،‬ألنه ممنوع تناوله في حق من‬
‫منع منه ال في عين الممنوع ‪ ،‬فإن ذلك الممنوع بعينه قد أبيح لغيره لكون ذلك الغير‬
‫على صفة ليست فيمن منع منه ‪ ،‬أباحته له تلك الصفة بإباحة الشارع ‪ ،‬فلهذا قلنا ‪ :‬ال‬
‫حرم شيء لعينه جملة واحدة ‪ ،‬ولهذا قال تعالى( ِإ َّال َما‬ ‫في عين الممنوع ‪ ،‬فإنه ما ه‬
‫ط ِر ْرت ُ ْم ِإلَ ْي ِه )فعلمنا أن الحكم بالمنع وغيره مبناه على حال المكلهف ‪ ،‬وفي مواضع‬
‫ض ُ‬
‫ا ْ‬
‫على اسم الممنوع ‪ ،‬فإن تغير االسم لتغير قام بالمحرم تغير الحكم على المكلهف في‬
‫تناوله ‪ ،‬إما بجهة اإلباحة أو الوجوب ‪ ،‬وكذلك إن تغير حال المكلهف الذي خوطب‬
‫بالمنع من ذلك الشيء واجتنابه ألجل تلك الحال فإنه يرتفع عنه هذا الحكم وال بد ‪،‬‬
‫وإن كان األمر على هذا الحد فما ث هم عين محرمة لعينها‪.‬‬

‫[ سورة النحل ( ‪ : ) 16‬اآليات ‪ 117‬إلى ‪] 120‬‬


‫علَ ْيكَ ِم ْن‬
‫صصْنا َ‬ ‫ِين هادُوا َح هر ْمنا ما قَ َ‬ ‫علَى الهذ َ‬ ‫َذاب أ َ ِلي ٌم ( ‪َ ) 117‬و َ‬ ‫ع قَ ِلي ٌل َولَ ُه ْم ع ٌ‬‫َمتا ٌ‬
‫ون ( ‪ ) 118‬ث ُ هم إِ هن َربهكَ ِللهذ َ‬
‫ِين ع َِملُوا‬ ‫قَ ْب ُل َوما َظلَ ْمنا ُه ْم َول ِك ْن كانُوا أ َ ْنفُ َ‬
‫س ُه ْم يَ ْظ ِل ُم َ‬
‫ور َر ِحي ٌم ( ‪119‬‬ ‫صلَ ُحوا إِ هن َربهكَ ِم ْن بَ ْعدِها لَغَفُ ٌ‬ ‫سو َء بِ َجهالَ ٍة ث ُ هم تابُوا ِم ْن بَ ْع ِد ذ ِلكَ َوأ َ ْ‬ ‫ال ُّ‬
‫ين ) ‪( 120‬‬ ‫ّلِل َحنِيفا ً َولَ ْم يَكُ ِم َن ا ْل ُمش ِْر ِك َ‬ ‫كان أ ُ همةً قانِتا ً ِ ه ِ‬
‫) إِ هن إِ ْبرا ِهي َم َ‬

‫ّللا‬
‫ّللا عليه وسلم أن العابد هّلل بما يعطيه نظره إذا لم يكن على شرع من ه‬ ‫أخبر صلهى ه‬
‫معيهن أنه يحشر أمة وحده بغير إمام يتبعه ‪ ،‬فجعله خيرا وألحقه باألخيار ‪ ،‬كما قال‬
‫يم كانَ أ ُ َّمةً »وذلك قبل أن يوحي إليه ‪،‬‬
‫تعالى في إبراهيم عليه السالم« إِ َّن إِبْرا ِه َ‬
‫ّلل »أي مطيعا هّلل في السر والعالنية ‪ ،‬وال تكون الطاعة إال‬ ‫واألمة معلم الخير« قانِتا ً ِ َّ ِ‬
‫عند المراسم اإللهية واألوامر الموقوفة على الخطاب« َحنِيفا ً »مائال في جميع أحواله‬
‫ّللا عن‬‫ّللا عن مشاهدة وعيان ‪ ،‬ومن نفسه إلى ه‬ ‫ّللا إلى ه‬
‫من ه‬
‫ص ‪510‬‬

‫ص ‪510 :‬‬
‫ّللا« َولَ ْم يَكُ ِمنَ‬
‫ّللا ومن كل ما ينبغي أن يمال عنه عن أمر ه‬
‫ّللا وإيثارا لجناب ه‬
‫أمر ه‬
‫ْال ُم ْش ِر ِكينَ »مطلق الشرك المعفو عنه والمذموم فيما نسب إليه من قوله في الكوكب‬
‫ّللا ‪.‬‬
‫هذا ربي ‪ ،‬فإن من مقام إبراهيم عليه السالم أنه أوتي الحجة على قومه بتوحيد ه‬

‫[ سورة النحل ( ‪ : ) 16‬آية ‪]121‬‬


‫يم) ‪( 121‬‬‫ست َ ِق ٍ‬ ‫شا ِكرا ً ِأل َ ْنعُ ِم ِه اجْ تَباهُ َو َهداهُ إِلى ِص ٍ‬
‫راط ُم ْ‬
‫صراطٍ ُم ْست َ ِق ٍيم »وهو‬‫اجتَباهُ »فهو مجتبى« َوهَداهُ »أي وفقه بما أبان له« ِإلى ِ‬ ‫« ْ‬
‫صراطٍ ُم ْست َ ِق ٍيم )والشكر هو الثناء‬ ‫صراط الرب الذي ورد في قول هود( ِإ َّن َر ِبهي َ‬
‫على ِ‬
‫ّللا بما يكون منه خاصة ‪ ،‬لصفة هو عليها من حيث ما هو مشكور ‪ ،‬وال يصح‬ ‫على ه‬
‫ّللا على مسمى النعمة‬ ‫الشكر إال على النعم ‪ ،‬فالشاكرون من العباد هم الذين يشكرون ه‬
‫خاصة ‪.‬‬

‫[ سورة النحل ( ‪ ) : 16‬آية ‪] 122‬‬


‫ين ) ‪( 122‬‬‫صا ِل ِح َ‬‫سنَةً َو ِإنههُ فِي ْاآل ِخ َر ِة لَ ِم َن ال ه‬
‫َوآت َ ْيناهُ فِي ال ُّد ْنيا َح َ‬
‫لما كان الصالح من خصائص العبودية ‪ ،‬وذكر تعالى عن أنبيائه أنهم من الصالحين ‪،‬‬
‫ذكر عن إبراهيم الخليل« َو ِإنَّهُ ِفي ْاآل ِخ َر ِة لَ ِمنَ ال َّ‬
‫صا ِل ِحينَ »من أجل الثالثة األمور‬
‫التي صدرت منه في الدنيا ‪ ،‬وهي قوله عن زوجته سارة ‪ :‬إنها أخته ‪ ،‬بتأويل ‪ ،‬وقوله‬
‫‪ :‬إني سقيم ‪ ،‬اعتذارا ‪ ،‬وقوله ‪ :‬بل فعله كبيرهم ‪ ،‬إقامة حجة ‪ ،‬فبهذه الثالثة يعتذر يوم‬
‫القيامة للناس إذا سألوه أن يسأل ربه فتح باب الشفاعة ‪ ،‬فلهذا ذكر صالحه في اآلخرة‬
‫إذ لم يؤاخذه بذلك ‪.‬‬

‫[ سورة النحل ( ‪ : ) 16‬اآليات ‪ 123‬إلى ‪] 125‬‬


‫ين ( ‪ ) 123‬إِنهما ُج ِع َل‬ ‫كان ِم َن ا ْل ُمش ِْر ِك َ‬ ‫ث ُ هم أ َ ْو َح ْينا إِلَ ْيكَ أ َ ِن اتهبِ ْع ِملهةَ إِ ْبرا ِهي َم َحنِيفا ً َوما َ‬
‫اختَلَفُوا فِي ِه َوإِ هن َربهكَ لَيَحْ ُك ُم بَ ْينَ ُه ْم يَ ْو َم ا ْل ِقيا َم ِة فِيما كانُوا فِي ِه‬ ‫ِين ْ‬
‫علَى الهذ َ‬ ‫سبْتُ َ‬ ‫ال ه‬
‫سنَ ِة َوجا ِد ْل ُه ْم ِبالهتِي‬‫س ِبي ِل َر ِبّكَ ِبا ْل ِح ْك َم ِة َوا ْل َم ْو ِع َظ ِة ا ْل َح َ‬
‫ع ِإلى َ‬ ‫ون ( ‪ ) 124‬ا ْد ُ‬ ‫يَ ْخت َ ِلفُ َ‬
‫ِين) ‪( 125‬‬ ‫س ِبي ِل ِه َو ُه َو أ َ ْعلَ ُم ِبا ْل ُم ْهتَد َ‬
‫ض هل ع َْن َ‬ ‫س ُن ِإ هن َربهكَ ُه َو أ َ ْعلَ ُم ِب َم ْن َ‬‫ي أَحْ َ‬ ‫ِه َ‬

‫ص ‪511‬‬

‫ص ‪511 :‬‬
‫سنَ ِة » اآلية ]‬ ‫ظ ِة ْال َح َ‬ ‫سبِي ِل َر ِبه َك بِ ْال ِح ْك َم ِة َو ْال َم ْو ِع َ‬
‫ع إِلى َ‬‫[ « ا ْد ُ‬
‫الحكمة إنزال األمر منزلته وال يتعدى به مرتبته ‪ ،‬وهي كلها أخالق ‪ ،‬وال تكون إال‬
‫لمن جعل القرآن إمامه ‪ ،‬فينظر إلى ما وصف الحق به نفسه ‪ ،‬وفي أي حالة وصف‬
‫نفسه بذلك الذي وصف نفسه ‪ ،‬ومع من صرف ذلك الوصف الذي وصف به نفسه ‪،‬‬
‫ّللا الميزان ‪ ،‬وبيهن‬ ‫فليقم الداعي بهذا الوصف بتلك الحال مع ذلك الصنف ‪ ،‬فأنزل ه‬
‫ظ ِة ْال َح َ‬
‫سنَ ِة‬ ‫المواطن واألحوال ‪ ،‬فال تخرج شيئا عن مقتضى ما تطلبه الحكمة « َو ْال َم ْو ِع َ‬
‫ّللا كأنك‬ ‫»فهي الموعظة التي تكون عند المذ هكر بها عن شهود ‪ ،‬فإن اإلحسان أن تعبد ه‬
‫تراه ‪ ،‬فكيف بمن حقق أنه يراه ؟ فإنه أعظم وأحسن ‪ ،‬وال تكون الموعظة بصفة قهر‬
‫وال منفرة ‪،‬‬
‫ّللا عليه‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫س ُن »أمر رسول ه‬ ‫ي أ َ ْح َ‬‫فإن جادلوك قال تعالى ‪َ «:‬وجاد ِْل ُه ْم ِبالَّ ِتي ِه َ‬
‫س ُن »كما ورد في‬ ‫ي أ َ ْح َ‬‫وسلم بالجدال الذي تطلبه األسماء اإللهية ‪ ،‬وهو قوله« ِبالَّ ِتي ِه َ‬
‫ّللا كأنك تراه ‪ ،‬فإذا جادل باإلحسان جادل كأنه يرى ربه ‪،‬‬ ‫اإلحسان أن تعبد ه‬
‫ّللا عليه وسلم ألبي هريرة ‪ [ :‬إذا خلوت بيهودي أو نصراني أو‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫قال رسول ه‬
‫مجوسي فال يحل لك أن تفارقه حتى تدعوه إلى اإلسالم ‪ ،‬يا أبا هريرة ال تجادل أحدا‬
‫منهم فعسى ‪ ،‬أن يأتيك بشيء من التنزيل فتكذبه ‪ ،‬أو تجيء بشيء فيكذبك ‪ ،‬ال يكون‬
‫من حديثك إال أن تدعوه إلى اإلسالم ]‬
‫س ُن »الدعاء إلى اإلسالم ‪ ،‬هذه هي الصفة‬ ‫ي أ َ ْح َ‬‫ّللا تعالى« َوجاد ِْل ُه ْم بِالَّتِي ِه َ‬ ‫وهو قول ه‬
‫ّللا عليها ‪ ،‬وال ينبغي لمسلم ممن ينتمي إلى‬ ‫الالزمة التي ينبغي أن يكون الداعي إلى ه‬
‫ّللا أن يجادل إال فيما هو فيه محق عن كشف ال عن فكر ونظر ‪ ،‬فإذا كان مشهودا له‬ ‫ه‬
‫ما يجادل عنه ‪ ،‬حينئذ يتعيهن عليه الجدال فيه بالتي هي أحسن إذا كان مأمورا بأمر‬
‫إلهي ‪ ،‬فإن لم يكن مأمورا فهو بالخيار ‪ ،‬فإن تعين له نفع الغير بذلك كان مندوبا إليه ‪،‬‬
‫وإن يئس من قبول السامعين له فليسكت وال يجادل ‪ ،‬فإن جادل فإنه ساع في هالك‬
‫سبِي ِل ِه َو ُه َو أ َ ْعلَ ُم بِ ْال ُم ْهتَدِينَ »أي‬
‫ع ْن َ‬‫ض َّل َ‬ ‫ّللا« إِ َّن َرب ََّك ُه َو أ َ ْعلَ ُم بِ َم ْن َ‬ ‫السامعين عند ه‬
‫بالقابلين التوفيق ‪ ،‬فإنهم على مزاج خاص أوجدهم عليه ‪ ،‬فمن ال علم له بالحقائق‬
‫ّللا في بيانه أثر ذلك في نفوس السامعين ‪،‬‬ ‫يقول ‪ :‬إن العبد إذا صدق فيما يبلغه عن ه‬
‫ّللا وال‬‫ّللا وال أصدق في التبليغ عن ه‬ ‫ّللا ومن ه‬ ‫وليس كما زعموا ‪ ،‬فإنه ال أقرب إلى ه‬
‫ّللا عليهم وسالمه ‪ ،‬ومع‬ ‫ّللا من الرسل صلوات ه‬ ‫أحب في القبول فيما جاء به من عند ه‬
‫هذا فما ع هم القبول من السامعين ‪ ،‬بل قال الرسول الصادق في التبليغ [ فلم يزدهم‬
‫دعائي إال فرارا ] فلما لم يعم مع تحققنا هذه الهمة ‪ ،‬علمنا أن الهمة ما لها أثر جملة‬
‫واحدة في المدعو ‪ ،‬والذي قبل من السامعين ما قبل من أثر‬

‫ص ‪512‬‬

‫ص ‪512 :‬‬
‫ّللا في خلقه من مزاج‬ ‫همة الداعي ‪ -‬الذي هو المبلغ ‪ -‬وإنما قبل من حيث ما وهبه ه‬
‫ّللا الذي خلقهم عليه ‪،‬‬ ‫يقتضي له قبول هذا وأمثاله ‪ ،‬وهذا المزاج الخاص ال يعلمه إال ه‬
‫وهو قوله تعالى ‪َ «:‬و ُه َو أ َ ْعلَ ُم ِب ْال ُم ْهتَدِينَ »‬
‫ّللا فلم تجد أثرا لكالمه فيك أن هذا‬‫فال تقل بعد هذا إذا حضرت مجلس مذكر داع إلى ه‬
‫ّللا في ذلك‬ ‫من عدم صدق المذكر ‪ ،‬ال بل هو العيب منك من ذاتك ‪ ،‬حيث ما فطرك ه‬
‫الوقت على القبول ‪ ،‬فإن المنصف ينظر فيما جاء به هذا الداعي المذكر ‪،‬‬
‫فإن كان حقا ولم يقبله فيعلم على القطع أن العيب من السامع ال من المذكر ‪ ،‬فإذا‬
‫حضر في مجلس مذكر آخر وجاء بذلك الذكر عينه وأثر فيه ‪،‬‬
‫فيقول السامع بجهله ‪ :‬صدق هذا المذكر ‪ ،‬فإن كالمه أثر في قلبي ‪ ،‬والعيب منك وأنت‬
‫ال تدري ‪ ،‬فلتعلم أن ذلك التأثير لم يكن لقبولك الحق ‪ ،‬فإنه حق في المذكرين في نفس‬
‫األمر ‪ ،‬وإنما وقع التأثير فيك في هذا المجلس دون ذلك لنسبة بينك وبين هذا المذكر ‪،‬‬
‫أو بينك وبين الزمان ‪ ،‬فأثر فيك هذا الذكر ‪،‬‬
‫واألثر لم يكن للمذكر إذ قد كان الذكر وال أثر له فيك ‪ ،‬وإنما أثرت المناسبة التي‬
‫بيهنتها لك ‪ ،‬الزمانية أو النسبة التي بينك وبين المذكر ‪ ،‬وربما أثر العتقادك فيه ولم‬
‫يكن لك اعتقاد في ذلك اآلخر ‪ ،‬فما أثر فيك سواك أو ما أشبه ذلك ‪ ،‬وأقل فائدة في هذه‬
‫المسألة سالمة المذكر من تهمتك إياه بعدم الصدق في تذكيره ورده وردك الحق ‪ ،‬فإن‬
‫باّلل ‪،‬‬
‫السليم العقل يؤثر فيه الحق جاء على يد من جاء ‪ ،‬ولو جاء على لسان مشرك ه‬
‫ّللا ‪ ،‬لكن الذي جاء هو به حق ‪ ،‬فيقبله العاقل من‬‫ّللا ممقوت عند ه‬ ‫عدو هّلل كاذب على ه‬
‫حيث ما هو حق ال من حيث المحل الذي ظهر به ‪ ،‬وبهذا يتميز طالب الحق من غيره‪.‬‬

‫[ سورة النحل ( ‪ : ) 16‬اآليات ‪ 126‬إلى ‪] 127‬‬


‫صا ِب ِر َ‬
‫ين ( ‪) 126‬‬ ‫َو ِإ ْن عاقَ ْبت ُ ْم فَعا ِقبُوا ِب ِمثْ ِل ما عُو ِق ْبت ُ ْم ِب ِه َولَ ِئ ْن َ‬
‫صبَ ْرت ُ ْم لَ ُه َو َخ ْي ٌر ِلل ه‬
‫ق ِم هما يَ ْمك ُُر َ‬
‫ون ( ‪) 127‬‬ ‫ض ْي ٍ‬ ‫علَ ْي ِه ْم َوال تَكُ فِي َ‬ ‫اّلِل َوال تَحْ َز ْن َ‬ ‫ص ْب ُركَ إِاله بِ ه ِ‬
‫صبِ ْر َوما َ‬ ‫َوا ْ‬
‫باّلل ‪ ،‬ما كان من ذاتك‬ ‫اّلل »أي اعلم أن صبرك ما كان إال ه‬ ‫صب ُْر َك إِ َّال بِ َّ ِ‬
‫صبِ ْر َوما َ‬ ‫« َوا ْ‬
‫وال من حولك وقوتك ‪.‬‬

‫[ سورة النحل ( ‪ : ) 16‬آية ‪] 128‬‬


‫سنُ َ‬
‫ون) ‪( 128‬‬ ‫ِين اتهقَ ْوا َوالهذ َ‬
‫ِين ُه ْم ُمحْ ِ‬ ‫َّللا َم َع الهذ َ‬
‫ِإ هن ه َ‬

‫ص ‪513‬‬

‫ص ‪513 :‬‬
‫[ الفرق بين الوارث المحمدي وباقي ورثة األنبياء عليهم السالم ]‬
‫ّللا معه ‪ ،‬ومن أحسن إلى نفسه بأداء‬‫‪-‬الوجه األول ‪ -‬من جمع اإلحسان والتقوى كان ه‬
‫ّللا كأنه يراه‬
‫الزكاة كان متقيا أذى شح نفسه فهو من المتقين ‪ ،‬ومن المحسنين من يعبد ه‬
‫ويشهده ‪ ،‬ومن شهوده للحق علمه بأنه ما كلفه التصرف إال فيما هو للحق وتعود‬
‫ّللا‬
‫منفعته على العبد ‪ ،‬منة وفضال ‪ ،‬مع الثناء الحسن له على ذلك ‪ ،‬فإن عمل ما كلفه ه‬
‫ّللا من ذلك نفع ‪ ،‬وإن لم يعمل ال يتضرر بذلك ‪ ،‬والكل يعود على‬
‫به ال يعود على ه‬
‫العبد ‪ ،‬فالزم األحسن إليك تكن محسنا إلى نفسك‬
‫ّللا مع المحسنين كما هو مع المتقين ‪ ،‬واإلحسان عيان وفي منزل‬ ‫‪ -‬الوجه الثاني ‪ -‬إن ه‬
‫كأنه عيان ‪.‬‬

‫( ‪ ) 17‬سورة اْلسراء مكيّة‬


‫الرحيم‬ ‫الرحمن ّ‬ ‫َّللا ّ‬ ‫بسم ّ‬
‫[ سورة اْلسراء ( ‪ : ) 17‬آية ‪] 1‬‬
‫يم‬‫الر ِح ِ‬
‫من ه‬ ‫الرحْ ِ‬
‫َّللا ه‬
‫س ِم ه ِ‬
‫ِب ْ‬
‫صى الهذِي َ‬
‫بار ْكنا‬ ‫س ِج ِد ْاأل َ ْق َ‬
‫رام ِإلَى ا ْل َم ْ‬
‫س ِج ِد ا ْل َح ِ‬
‫سرى ِبعَ ْب ِد ِه لَ ْيالً ِم َن ا ْل َم ْ‬ ‫حان الهذِي أ َ ْ‬
‫س ْب َ‬‫ُ‬
‫ير ( ‪) 1‬‬ ‫س ِمي ُع ا ْلبَ ِص ُ‬ ‫َح ْولَهُ ِلنُ ِريَهُ ِم ْن آيا ِتنا ِإنههُ ُه َو ال ه‬
‫ّللا تعالى رسوال ما ظهرت عليه‬ ‫ّللا عليه وسلم لوال بعثه ه‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫[ اعلم أن رسول ه‬
‫آية ظاهرة في العموم ]‬
‫ّللا تعالى رسوال ما ظهرت عليه آية‬ ‫ّللا عليه وسلم لوال بعثه ه‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫اعلم أن رسول ه‬
‫ّللا عليه وسلم من‬ ‫ظاهرة في العموم كما ظهرت على من تقدم ‪ ،‬فما ظهر عنه صلهى ه‬
‫ّللا تعالى بهذه‬
‫اآليات المنقولة في العموم إنما كان ذلك من كونه رسوال ‪ ،‬رفقا من ه‬
‫ّللا صلهى ه‬
‫ّللا‬ ‫األمة وإقامة حجة على من كذبه وكذب ما جاء به ‪ ،‬أال ترى إلى رسول ه‬
‫عليه وسلم كيف أسري به إلى المقام الذي قد عرف وجاء به القرآن والخبر الصحيح ‪،‬‬
‫فلما خرج إلى الناس بكرة تلك الليلة وذكر لألصحاب ما ذكر مما جرى له في إسرائه‬
‫بينه وبين ربه تعالى ‪ ،‬أنكر عليه بعض أصحابه ‪ ،‬لكونهم ما رأوا لذلك أثرا في‬
‫الظاهر ‪ ،‬بل زادهم حكما في التكليف ‪ ،‬وموسى عليه السالم لما جاء من عند ربه‬
‫ّللا نورا على وجهه يعرف به صدق ما ادعاه ‪ ،‬فما رآه أحد إال عمي من شدة‬ ‫كساه ه‬
‫نوره ‪ ،‬فكان يتبرقع حتى ال يتأذى الناظر إلى وجهه عند رؤيته ‪ ،‬من ذلك نعلم الفرق‬
‫بين الورثة المحمديين وورثة سائر األنبياء ‪ ،‬فورثة األنبياء يعرفون في العموم بما‬
‫يظهر عليهم من خرق العوائد ‪ ،‬ووارث محمد‬

‫ص ‪514‬‬

‫ص ‪514 :‬‬
‫ّللا عليه وسلم مجهول في العموم معلوم في الخصوص ‪ ،‬ألن خرق عادته إنما‬ ‫صلهى ه‬
‫هو حال وعلم في قلبه ‪ ،‬فهو في كل نفس يزداد علما بربه ‪ ،‬علم حال وذوق ‪ ،‬ال يزال‬
‫ّللا عليه وسلم بالمعراج ما رحل ‪ ،‬وال صعد إلى‬ ‫كذلك ‪ ،‬ولوال ما طلب الرسول صلهى ه‬
‫السماء وال نزل ‪ ،‬وكان يأتيه شأن المأل األعلى وآيات ربه في موضعه ‪ ،‬كما زويت له‬
‫األرض وهو في مضجعه ‪ ،‬ولكنه سر إلهي لينكره من شاء ‪ -‬ألنه ال يعطيه اإلنشاء ‪-‬‬
‫سبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَ ْب ِد ِه »‬
‫ويؤمن به من شاء ‪ ،‬فقال تعالى« ُ‬

‫[ العبودية المحضة أشرف الحاالت ]‬


‫سبْحانَ‬
‫فسبهح الحق نفسه ‪ ،‬وقرن سبحانه التسبيح بهذا السفر الذي هو اإلسراء فقال « ُ‬
‫الَّذِي أَسْرى ِبعَ ْب ِد ِه »وهو خبر ‪ ،‬ينفي بذلك عن قلب صاحب الوهم ومن تحكم عليه‬
‫خياله من أهل الشبه والتجسيم ‪ ،‬ما يتخيله في حق الحق من الجهة والحد والمكان ‪،‬‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ ،‬يعلم أن األمر من‬ ‫فلهذا قال« ِلنُ ِريَهُ ِم ْن آياتِنا »فجعله مسافرا به صلهى ه‬
‫عز وجل هبة إلهية وعناية سبقت له مما لم يخطر بسره وال اختلج في ضميره ‪،‬‬ ‫عنده ه‬
‫وقوله« ِبعَ ْب ِد ِه »يعني عبدا لم يكن فيه شيء من الربوبية التي يدعيها الخلق ‪ ،‬فوصفه‬
‫بأشرف الحاالت وهي العبودية المحضة ‪ ،‬فجعله عبدا محضا ‪ ،‬وجرده عن كل شيء‬
‫حتى عن اإلسراء ‪ ،‬فجعله يسرى به وما أضاف السرى إليه ‪ ،‬فإنه لو قال ‪ :‬سبحان‬
‫الذي دعا عبده ألن يسري إليه أو إلى رؤية آياته فسرى ؛ لكان له أن يقول ‪ ،‬ولكن‬
‫المقام منع من ذلك ‪ ،‬فجعله مجبورا الحظ له من الربوبية في فعل من األفعال ‪ ،‬فإن‬
‫العبودية في غاية البعد من صفات الربوبية ‪،‬‬
‫فاختار سبحانه لنبيه الشرف الكامل بأعلى ما يكون من صفات الخلق ‪ ،‬وليس إال‬
‫ّللا إذا أكرم عبدا سافر به في عبوديته ‪ ،‬فما سماه إال بأشرف أسمائه‬ ‫العبودية ‪ ،‬فإن ه‬
‫سن عبد بحسن أحسن وال زينة أزين من حسن عبوديته ‪ ،‬وألن‬ ‫عنده ‪ ،‬ألنه ما تح ه‬
‫الربوبية ال تخلع زينتها إال على المتحققين بمقام العبودية« لَي ًْال »وجعل اإلسراء ليال ‪،‬‬
‫تمكينا الختصاصه بمقام المحبة ‪ ،‬ألنه اتخذه خليال حبيبا ‪ ،‬وأكده بقوله" لَي ًْال "‬
‫مع أن اإلسراء ال يكون في اللسان إال ليال ال نهارا ‪ ،‬لرفع اإلشكال حتى ال يتخيهل أنه‬
‫أسرى بروحه ‪ ،‬ويزيل بذلك من خاطر من يعتقد من الناس أن اإلسراء ربما يكون‬
‫نهارا ‪ ،‬فإن القرآن وإن كان نزل بلسان العرب ‪ ،‬فإنه خاطب به الناس أجمعين ‪،‬‬
‫أصحاب اللسان وغيرهم ‪،‬‬
‫والليل أحب زمان المحبين لجمعهما فيه ‪ ،‬والخلوة بالحبيب متحققة بالليل ‪ ،‬ولتكون‬
‫رؤية اآليات باألنوار اإللهية خارجة عن العادة عند العرب بما لم تكن تعرفها ‪ ،‬فإن‬
‫البصر ال يدرك شيئا من المرئيات بنوره خاصة إال الظلمة ‪ ،‬والنور الذي به يكشف‬
‫األشياء إذا‬
‫ص ‪515‬‬

‫ص ‪515 :‬‬
‫كان حيث ال تغلب قوة نور البصر ‪ ،‬فإذا غلب حكمه مع نور البصر حكم الظلمة ال‬
‫يراه سواه ‪ ،‬إذ كان البصر ال يدرك في الظلمة الشديدة سوى الظلمة ‪ ،‬فالبصر يرى‬
‫بالنور المعتدل النور وما يظهر له النور من األشياء المدركة ‪،‬‬
‫وال فائدة عند السامع لو كان العروج به نهارا من رؤية اآليات فإنه معلوم له ‪،‬‬
‫فلهذا كان ليال ‪ ،‬وأتى أيضا بقوله« لَي ًْال »‬
‫ّللا عليه وسلم فإن قوله« أَسْرى »‬ ‫ليحقق أن اإلسراء كان بجسده الشريف صلهى ه‬
‫[ سر اإلسراء ليال ]‬
‫يغني عن ذكر الليل ‪ ،‬قليال في موضع الحال من عبده ‪ ،‬فاإلسراء ال يكون إال بالليل ‪،‬‬
‫وكذا معارج األنبياء لم تكن قط إال بالليل ‪ ،‬ألنه محل األسرار والكتم وعدم الكشف«‬
‫صى الَّذِي َ‬
‫بار ْكنا َح ْولَهُ »سمي المسجد األقصى‬ ‫رام ِإلَى ْال َمس ِْج ِد ْاأل َ ْق َ‬
‫ِمنَ ْال َمس ِْج ِد ْال َح ِ‬
‫ألنه أقصي من األولية ‪ ،‬ألن البيت الذي هو الكعبة قد حاز األولية ‪ ،‬وبين األقصى‬
‫وبينه أربعون سنة ‪ ،‬ولم يكن ظهوره للعبادة بعد المسجد الحرام ‪ ،‬إال بعد أربعين‬
‫سنة« ِلنُ ِريَهُ ِم ْن آياتِنا »‬
‫ّللا عبدا من مكان إلى مكان ليراه ‪ ،‬بل ليريه من آياته التي غابت عنه‬ ‫اعلم أنه ما نقل ه‬
‫ّللا تعالى قال ‪َ ( :‬و ُه َو َمعَ ُك ْم أَيْنَ ما ُك ْنت ُ ْم ) فهو تعالى معنا أينما كنا ‪ ،‬في حال‬ ‫‪ ،‬فإن ه‬
‫نزوله إلى السماء الدنيا في الثلث الباقي من الليل في حال كونه استوى على العرش ‪،‬‬
‫في حال كونه في العماء ‪ ،‬في حال كونه في األرض وفي السماء ‪ ،‬وفي حال كونه‬
‫أقرب إلى اإلنسان من حبل الوريد منه ‪ ،‬وهذه نعوت ال يمكن أن يوصف بها إال هو ‪،‬‬
‫ّللا به ذلك المكان من اآليات الدالة عليه‬ ‫فنقله عبده من مكان إلى مكان ليريه ما خص ه‬
‫ّللا تعالى إال بتلك اآلية ‪،‬‬
‫تعالى ‪ ،‬من حيث وصف خاص ال يعلم من ه‬
‫ي ‪ ،‬فإنه ال يحويني‬ ‫فكأنما سبحانه وتعالى يقول ما أسريت به إال لرؤية اآليات ال إل ه‬
‫ي نسبة واحدة ‪ ،‬فأنا الذي وسعني قلب عبدي المؤمن ‪ ،‬فكيف‬ ‫مكان ‪ ،‬ونسبة األمكنة إل ه‬
‫ي وأنا عنده ومعه أينما كان ؟‪.‬‬ ‫أسري به إل ه‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ :‬أخبر العباد بما رأيته ‪،‬‬ ‫ير " يقول له صلهى ه‬ ‫ص ُ‬‫س ِمي ُع ْالبَ ِ‬‫" إِنَّهُ ُه َو ال َّ‬
‫ّللا تعالى أن يري النبي‬‫ي ‪ ،‬وتكون رحمة لهم ‪ .‬فلما أراد ه‬ ‫ي وترغبهم ف ه‬ ‫تشوقهم إل ه‬
‫ّللا عليه وسلم من آياته ما شاء ‪ ،‬أنزل إليه جبريل عليه السالم وهو‬ ‫محمدا صلهى ه‬
‫الروح األمين بدابة يقال لها البراق ‪ ،‬إثباتا لألسباب وتقوية له ‪ ،‬ليريه العلم باألسباب‬
‫ذوقا ‪ ،‬ليعلمنا بثبوت األسباب التي وضعها في العالم ‪ ،‬والبراق دابة برزخية فإنه دون‬
‫البغل الذي تولد من جنسين مختلفين وفوق الحمار الذي تولد من جنس واحد ‪ ،‬وهو‬
‫مركب المعارج فإنه يجمع بين ذوات األربع وذوات الجناح فهو علوي سفلي ‪ ،‬فركبه‬
‫ّللا عليه وسلم وأخذه جبريل عليه السالم ‪ ،‬والبراق للرسل مثل فرس النوبة الذي‬ ‫صلهى ه‬
‫يخرجه المرسل‬
‫ص ‪516‬‬

‫ص ‪516 :‬‬
‫إلى المرسل إليه بالرسول ليركبه تهمما به في الظاهر ‪ ،‬وفي الباطن أن ال يصل إليه‬
‫إال على ما يكون منه « ‪ » 1‬ال على ما يكون من غيره ليتنبه بذلك ‪ ،‬فهو تشريف‬
‫ّللا عليه‬ ‫وتنبيه لمن ال يدري مواقع األمور ‪ ،‬فهو تعريف في نفس األمر ‪ ،‬فجاء صلهى ه‬
‫وسلم إلى البيت المقدس ونزل عن البراق وربطه بالحلقة التي تربطه بها األنبياء ‪ ،‬كل‬
‫ذلك إثبات لألسباب ‪ ،‬فإنه ما من رسول إال وقد أسري به راكبا على ذلك البراق ‪،‬‬
‫وإنما ربطه مع علمه بأنه مأمور ولو أوقفه دون ربط بحلقة لوقف ‪ ،‬ولكن حكم العادة‬
‫ّللا في مسمى الدابة ‪ ،‬وقد قلب البراق في‬ ‫منعه من ذلك إبقاء لحكم العادة التي أجراها ه‬
‫الطريق بحافره القدح الذي كان يتوضأ به صاحبه في القافلة اآلتية إلى مكة ‪ ،‬فلما‬
‫صلى جاءه جبريل عليه السالم بالبراق فركب عليه ومعه جبريل ‪ ،‬فطار البراق به في‬
‫الهواء فاخترق به الجو ‪ ،‬فعطش واحتاج إلى الشرب ‪ ،‬فأتاه جبريل عليه السالم‬
‫بإناءين ‪:‬‬
‫إناء لبن وإناء خمر ‪ -‬وذلك قبل تحريم الخمر ‪ -‬فعرضهما عليه ‪ ،‬فتناول اللبن ‪ ،‬فقال‬
‫ّللا بك أمتك ‪ ،‬فلما وصل إلى السماء الدنيا‬ ‫جبريل عليه السالم ‪ :‬أصبت الفطرة أصاب ه‬
‫استفتح جبريل فقال له الحاجب ‪ :‬من هذا ؟ فقال ‪ :‬جبريل ‪ ،‬قال ‪ :‬ومن معك ؟ قال ‪:‬‬
‫محمد صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ ،‬قال وقد بعث إليه ؟‬
‫ّللا صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ [ :‬فدخلنا فإذا بآدم‬ ‫قال ‪ :‬قد بعث إليه ‪ ،‬ففتح ‪ :‬قال رسول ه‬
‫ّللا عليه وسلم وعن يمينه أشخاص بنيه السعداء أهل الجنة ‪ ،‬وعن يساره نسم‬ ‫صلهى ه‬
‫بنيه األشقياء عمرة النار ]‬
‫ّللا‬
‫ّللا عليه وسلم نفسه في أشخاص السعداء الذين عن يمين آدم فشكر ه‬ ‫ورأى صلهى ه‬
‫تعالى ‪ ،‬وعلم عند ذلك كيف يكون اإلنسان في مكانين وهو عينه ال غيره ‪ ،‬فقال ‪:‬‬
‫مرحبا باالبن الصالح والنبي الصالح ‪ ،‬ثم عرج به البراق وهو محمول عليه في‬
‫الفضاء الذي بين السماء األولى والسماء الثانية أو سمك السماوات ‪ ،‬فاستفتح جبريل‬
‫السماء الثانية كما فعل في األولى ‪ ،‬وقال وقيل له ‪ ،‬فلما دخل إذا بعيسى عليه السالم‬
‫ّللا إلى هذه السماء وأسكنه بها ‪ ،‬فرحب‬ ‫بجسده عينه ‪ ،‬فإنه لم يمت إلى اآلن بل رفعه ه‬
‫به وسهل ‪ ،‬ثم جاء السماء الثالثة فاستفتح وقال وقيل له ففتحت ‪ ،‬وإذا بيوسف عليه‬
‫السالم فسلم عليه ورحب وسهل ‪ ،‬وجبريل في هذا كله يسمي له من يراه من هؤالء‬
‫األشخاص ‪ ،‬ثم عرج به إلى السماء الرابعة ‪ ،‬فاستفتح وقال وقيل له ففتحت ‪ ،‬فإذا‬
‫ّللا مكانا عليا ‪ ،‬وهو هذه‬ ‫بإدريس عليه السالم بجسمه فإنه ما مات إلى اآلن بل رفعه ه‬
‫السماء قلب السماوات وقطبها ‪ ،‬فسلم عليه ورحب وسهل ‪ ،‬ثم عرج به إلى السماء‬

‫) ‪( 1‬الوجه األول ‪ :‬أن براقه عمله ‪ ،‬والوجه الثاني ‪ :‬على ما يكون منه أي أن هذا‬
‫ّللا ونعمته ال من غيره‪.‬‬
‫االنتقال من فضل ه‬

‫ص ‪517‬‬

‫ص ‪517 :‬‬
‫الخامسة ‪ ،‬فاستفتح وقال وقيل له ‪ ،‬فإذا بهارون ويحيى عليهما السالم ‪ ،‬فسلما عليه‬
‫ورحبا به وسهال ‪ ،‬ثم عرج به إلى السماء السادسة ‪ ،‬فاستفتح وقال وقيل له ففتحت ‪،‬‬
‫وإذا بموسى عليه السالم فسلم عليه ورحب وسهل ‪ ،‬ثم عرج به إلى السماء السابعة ‪،‬‬
‫فاستفتح وقال وقيل له ففتحت ‪ ،‬فإذا بإبراهيم الخليل عليه السالم مسندا ظهره إلى‬
‫البيت المعمور ‪ ،‬فسلم عليه ورحب وسهل وسمى له البيت المعمور الضراح ‪ ،‬فنظر‬
‫إليه وركع فيه ركعتين ‪ ،‬وأعلمنا أنه يدخله كل يوم سبعون ألف ملك من الباب الواحد‬
‫ّللا كل يوم من قطرات‬ ‫ويخرجون من الباب اآلخر ‪ ،‬وأخبره أن أولئك المالئكة يخلقهم ه‬
‫ماء الحياة التي تسقط من جبريل حين ينتفض كما ينتفض الطائر عندما يخرج من‬
‫انغماسه في نهر الحياة ‪ ،‬فإن له كل يوم غمسة فيه ‪،‬‬
‫ثم عرج به إلى سدرة المنتهى ‪ ،‬فإذا نبقها كالقالل وورقها كآذان الفيلة ‪ ،‬فرآها وقد‬
‫ّللا من النور ما غشى ‪ ،‬فال يستطيع أحد أن ينعتها ألن البصر ال يدركها‬ ‫غشاها ه‬
‫لنورها ‪،‬‬
‫ورأى يخرج من أصلها أربعة أنهار ‪ :‬نهران ظاهران ونهران باطنان ‪ ،‬فأخبره جبريل‬
‫أن النهرين الظاهرين النيل والفرات ‪ ،‬والنهرين الباطنين نهران يمشيان إلى الجنة ‪،‬‬
‫وأن هذين النهرين النيل والفرات يرجعان يوم القيامة إلى الجنة ‪ ،‬وهما نهرا العسل‬
‫واللبن ‪- ،‬‬
‫وفي الجنة أربعة أنهار نهر من ماء غير آسن ‪ ،‬ونهر من لبن لم يتغير طعمه ‪،‬‬
‫ونهر من خمر لذة للشاربين ‪ ،‬ونهر من عسل مصفى ‪ -‬وأخبره أن أعمال بني آدم‬
‫تنتهي إلى تلك السدرة ‪ ،‬وأنها مقر األرواح ‪ ،‬فهي نهاية لما ينزل مما هو فوقها ونهاية‬
‫لما يعرج إليها مما هو دونها ‪ ،‬وبها مقام جبريل عليه السالم وهناك منصته ‪،‬‬
‫ّللا عليه وسلم عن البراق بها وجيء إليه بالرفرف ‪ -‬وهو نظير المحفة‬ ‫فنزل صلهى ه‬
‫عندنا ‪ -‬فقعد عليه وسلمه جبريل إلى الملك النازل بالرفرف ‪ ،‬فسأله الصحبة ليأنس به‬
‫‪،‬‬
‫ّللا‬
‫فقال ‪ :‬ال أقدر لو خطوت خطوة احترقت ‪ ،‬فما منا إال له مقام معلوم ‪ ،‬وما أسرى ه‬
‫بك يا محمد إال ليريك من آياته ‪ ،‬فال تغفل ‪.‬‬
‫فودعه وانصرف على الرفرف مع ذلك الملك يمشي به ‪ ،‬إلى أن ظهر لمستوى سمع‬
‫ّللا بها مما يجريه في خلقه وما‬ ‫منه صريف القلم ‪ ،‬واألقالم في األلواح بما يكتب ه‬
‫تنسخه المالئكة من أعمال عباده ‪ ،‬وكل قلم ملك ‪ ،‬قال تعالى‪ِ ( :‬إنَّا ُكنَّا نَ ْست َ ْن ِس ُخ ما ُك ْنت ُ ْم‬
‫ت َ ْع َملُونَ )‬
‫ثم زج في النور زجة فأفرده الملك الذي كان معه وتأخر عنه ‪ ،‬فاستوحش لما لم يره ‪،‬‬
‫وبقي ال يدري ما يصنع ‪ ،‬وأخذه هيمان في ذلك النور ‪ ،‬وأصابه الوجد فأخذ يميل ذات‬
‫اليمين وذات الشمال ‪ ،‬واستفزعه الحال وكان سببه سماع إيقاع تلك‬

‫ص ‪518‬‬

‫ص ‪518 :‬‬
‫األقالم وصريفها في األلواح ‪ ،‬فأعطت من النغمات المستلذة ما أداه إلى ما ذكرناه من‬
‫ّللا في نفسه علما علم به‬ ‫سريان الحال فيه وحكمه عليه ‪ ،‬فتقوى بذلك الحال ‪ ،‬وأعطاه ه‬
‫ما لم يكن يعلمه قبل ذلك ‪ ،‬عن وحي من حيث ال يدري وجهته ‪ ،‬فطلب اإلذن في‬
‫الرؤية بالدخول على الحق ‪ ،‬فسمع صوتا يشبه صوت أبي بكر وهو يقول له ‪ « :‬يا‬
‫محمد قف إن ربك يصلي » فراعه ذلك الخطاب وقال في نفسه ‪ :‬أربي يصلي ؟ ! !‬
‫فلما وقع في نفسه هذا التعجب من هذا الخطاب ‪ ،‬وأنس بصوت أبي بكر الصديق ‪،‬‬
‫ص ِلهي َ‬
‫علَ ْي ُك ْم َو َمالئِ َكتُهُ )فعلم عند ذلك ما هو المراد بصالة الحق ‪،‬‬ ‫تلي عليه( ُه َو الَّذِي يُ َ‬
‫ّللا إليه في تلك الوقفة ما أوحى ‪ ،‬أمره بالدخول فدخل ‪،‬‬ ‫فلما فرغ من الصالة وأوحى ه‬
‫فرأى عين ما علم ال غير وما تغيرت عليه صورة اعتقاده ‪ ،‬ثم فرض عليه في جملة‬
‫ما أوحى به إليه خمسين صالة في كل يوم وليلة ‪ ،‬فنزل حتى وصل إلى موسى عليه‬
‫ّللا فرض على‬ ‫السالم ‪ ،‬فسأله موسى عما قيل له وما فرض عليه ‪ ،‬فأجابه وقال إن ه‬
‫أمتي خمسين صالة في كل يوم وليلة ‪،‬‬
‫فقال له ‪ :‬يا محمد قد تقدمت إلى هذا األمر قبلك وعرفته ذوقا وتعبت مع أمتي فيه ‪،‬‬
‫وإني أنصحك فإن أمتك ال تطيق ذلك ‪ ،‬فراجع ربك وسله التخفيف ‪ ،‬فراجع ربه فترك‬
‫له عشرا ‪ ،‬فأخبر موسى بما ترك له ربه ‪ ،‬فقال له موسى ‪ :‬راجع ربك ‪ ،‬فراجعه‬
‫فترك له عشرا ‪ ،‬فأخبر موسى ‪ ،‬فقال له ‪ :‬راجع ربك ‪ ،‬فراجعه فترك له عشرا ‪،‬‬
‫فأخبر موسى ‪ ،‬فقال له ‪ :‬راجع ربك ‪ ،‬فراجعه فترك له عشرا ‪ ،‬فأخبر موسى ‪ ،‬فقال‬
‫له ‪ :‬راجع ربك ‪ ،‬فراجعه ‪،‬‬
‫فقال له ربه ‪ :‬هي خمس وهي خمسون ‪ ،‬ما يبدل القول لدي ‪ .‬فأخبر موسى ‪ ،‬فقال ‪:‬‬
‫راجع ربك‬
‫‪ .‬فقال ‪ :‬إني أستحي من ربي وقد قال لي كذا وكذا ‪ ،‬ثم ودعه وانصرف ونزل إلى‬
‫األرض قبل طلوع الفجر ‪ ،‬فنزل بالحجر فطاف ومشى إلى بيته ‪ ،‬فلما أصبح ذكر ذلك‬
‫والشاك ارتاب فيه ‪ ،‬ثم أخبرهم‬‫ه‬ ‫للناس ‪ ،‬فالمؤمن به صدقه وغير المؤمن به كذبه‬
‫بحديث القافلة وبالشخص الذي كان يتوضأ ‪ ،‬وإذا بالقافلة قد وصلت كما قال ‪ ،‬فسألوا‬
‫ّللا صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم ‪،‬‬ ‫الشخص فأخبرهم بقلب القدح كما أخبرهم رسول ه‬
‫وسأله من حضره من المكذبين ممن رأى بيت المقدس أن يصفه لهم ‪ -‬ولم يكن رأى‬
‫ّللا له حتى نظر‬ ‫ّللا عليه وسلم ‪ ،‬إال قدر ما مشى فيه وحيث صلى ‪ -‬فرفعه ه‬ ‫منه صلهى ه‬
‫إليه ‪ ،‬فأخذ ينعته الحاضرين ‪ ،‬فما أنكروا من نعته شيئا ‪ ،‬فكان قوله تعالى« ِلنُ ِريَهُ ِم ْن‬
‫ّللا من‬ ‫آياتِنا »أي ليريه ما أودع من اآليات والحقائق فيما أبدع من الخالئق ‪ ،‬فأراه ه‬
‫باّلل‬
‫اآليات ما زاده علما ه‬

‫ص ‪519‬‬

‫ص ‪519 :‬‬
‫ّللا عليه وسلم كان بجسمه ]‬ ‫[إسراء الرسول صلهى ه‬
‫س ِمي ُع »لما خوطب به ولما يخبر به الحق من‬ ‫إلى علمه ‪ ،‬لذا قرن به« ِإنَّهُ ُه َو ال َّ‬
‫ير »‬ ‫ص ُ‬ ‫التعريفات« ْالبَ ِ‬
‫لما شاهده من اآليات وتقلبات األحوال في العالم كله آيات من أحكام األسماء اإللهية ‪،‬‬
‫فلو كان اإلسراء بروحه وتكون رؤيا رآها كما يراه النائم في نومه ما أنكره أحد وال‬
‫نازعه ‪ ،‬وإنما أنكروا عليه كونه أعلمهم أن اإلسراء كان بجسمه في هذه المواطن كلها‬
‫ّللا عليه وسلم أربعة وثالثون مرة ‪ ،‬الذي أسري به منها اإلسراء واحد‬ ‫‪ ،‬وله صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم على‬ ‫ّللا صلهى ه‬‫بجسمه ‪ ،‬والباقي بروحه رؤيا رآها ‪ ،‬وبهذا زاد رسول ه‬
‫الجماعة بإسراء الجسم واختراق السماوات واألفالك حسا ‪ ،‬وقطع مسافات حقيقية‬
‫محسوسة ‪.‬‬
‫ّللا سبحانه في كتابه العزيز أنه تعالى استوى على العرش ‪ ،‬على‬ ‫واعلم أنه لما ذكر ه‬
‫طريق التمدح والثناء على نفسه ‪ ،‬إذ كان العرش أعظم األجسام ‪ ،‬فجعل لنبيه صلهى ه‬
‫ّللا‬
‫عليه وسلم من هذا االستواء نسبة على طريق التمدح والثناء عليه به ‪ ،‬حيث كان أعلى‬
‫ّللا عليه وسلم‬‫مقام ينتهي إليه من أسري به من الرسل ‪ ،‬وذلك يدل أنه أسري به صلهى ه‬
‫بجسمه ‪،‬‬
‫ولو كان اإلسراء به رؤيا لما كان اإلسراء وال الوصول إلى هذا المقام تمدحا ‪ ،‬وال‬
‫وقع من األعراب في حقه إنكار على ذلك ‪ ،‬ألن الرؤيا يصل اإلنسان فيها إلى مرتبة‬
‫ّللا تعالى ‪ ،‬وهي أشرف الحاالت ‪،‬‬ ‫رؤية ه‬
‫وفي الرؤيا ما لها ذلك الموقع من النفوس ‪ ،‬إذ كل إنسان بل الحيوان له قوة الرؤيا ‪،‬‬
‫ّللا عليه وسلم عن نفسه على طريق التمدح لكونه جاء بحرف الغاية وهو (‬ ‫فقال صلهى ه‬
‫حتى ) فذكر أنه أسري به حتى ظهر لمستوى يسمع فيه صريف األقالم ‪ ،‬وهو قوله‬
‫ير »فالضمير في « ِإنَّهُ ُه َو »يعود على‬ ‫س ِمي ُع ْالبَ ِ‬
‫ص ُ‬ ‫تعالى «‪ِ :‬لنُ ِريَهُ ِم ْن آيا ِتنا ِإنَّهُ ُه َو ال َّ‬
‫ّللا عليه وسلم ‪،‬‬ ‫محمد صلهى ه‬
‫فإنه أسري به فرأى اآليات وسمع صريف األقالم ‪ ،‬فكان يرى اآليات ويسمع منها ما‬
‫حظه السماع وهو الصوت ‪ ،‬فإنه عبهر عنه بالصريف ‪ ،‬والصريف الصوت ‪ ،‬فدل أنه‬ ‫ه‬
‫بقي له من الملكوت قوة ما لم يصل إليه بجسمه من حيث هو راء ولكن من حيث هو‬
‫ّللا في العالم من‬
‫سميع ‪ ،‬فوصل إلى سماع أصوات األقالم وهي تجري بما يحدث ه‬
‫األحكام ‪.‬‬
‫واعلم أن قصة اإلسراء وإن كانت مشتملة على الترقي بالنبي صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم ‪،‬‬
‫فليست منافية إلى عموم إحاطة ربنا سبحانه بجميع الجهات وعدم اختصاصه ‪ ،‬وال‬
‫مستلزمة إلثبات الجهة ‪ ،‬ويدل عليه أمور ‪ :‬منها افتتاح السورة " بسبحان الذي "‬
‫المقتضي للتنزيه تنبيها على تعاليه عن التحيز بالجهات وعلى عدم اختصاصه بجهة ‪.‬‬
‫الثاني ‪ :‬قوله« أَسْرى ِبعَ ْب ِد ِه »فأتى بهاء اإلضافة المفيدة للمصاحبة في تعدية الفعل ‪،‬‬
‫تنبيها على مصاحبته له في حالة إسرائه ‪ ،‬وأنه ليس نائيا وال بعيدا عنه ‪ ،‬فيحتاج في‬
‫ص ‪520‬‬

‫ص ‪520 :‬‬
‫ّللا عليه وسلم ( اللهم أنت الصاحب‬ ‫قربه إلى قطع مسافة مكانية ‪ ،‬وتحقيقا لقوله صلهى ه‬
‫في السفر ) ‪.‬‬
‫الثالث ‪ :‬قوله« ِبعَ ْب ِد ِه »تنبيها على أنه على حسب التحقق لخضوع العبودية يكون‬
‫الترقي إلى حضرة الربوبية ‪.‬‬
‫الرابع ‪ :‬قوله« لَي ًْال »وإن كان لفظ اإلسراء مفيدا لذلك تنبيها على أن كل ما تضمنه‬
‫اإلسراء كان خارجا عن العادة في مثله ‪ ،‬فإنه جعل العلة فيه أن يريه من آياته ‪،‬‬
‫واإلرادة العادية سلطانها النهار ‪،‬‬
‫فقال« لَي ًْال »ليعلم أن الرؤية المقصودة ليست عادية ‪ ،‬بل هي رؤية ربه بنور رباني‬
‫سلطانه الليل دون النهار ‪.‬‬
‫صى »نبه على أن اإلسراء لو‬ ‫رام ِإلَى ْال َمس ِْج ِد ْاأل َ ْق َ‬
‫الخامس ‪ :‬قوله« ِمنَ ْال َمس ِْج ِد ْال َح ِ‬
‫كان لضرورة رؤية ربه لكونه مخصوصا بجهة العلو لم تكن حاجة بالذهاب إلى‬
‫المسجد األقصى ‪ ،‬وألمكن الترقي من مكة إلى السماء ‪ ،‬فدل على أن اإلسراء والترقي‬
‫من مكان لمكان لحكمة وراء ما زعم مثبت الجهة ‪ ،‬والسر فيه وفي كونه ذكره تعالى‬
‫ّللا تعالى إال فردا تحقيقا ‪ ،‬لقوله( َو ُكلُّ ُه ْم آتِي ِه يَ ْو َم‬ ‫في كتابه على أن العبد ال يصل إلى ه‬
‫ْال ِقيا َم ِة فَ ْردا ً )وال تتحقق له الفردية هإال بعد مفارقة الحوادث وتجرده عنها ‪ ،‬فهناك‬
‫يصل إلى حضرة عنديته ‪ ،‬وقد جاء الكتاب العزيز بالتنبيه على أن حضرة عنديته‬
‫ض َو َم ْن‬ ‫ت َو ْاأل َ ْر ِ‬ ‫سماوا ِ‬‫وراء دوائر السماوات واألرض ‪ ،‬فقال تعالى( َولَهُ َم ْن فِي ال َّ‬
‫ع ْن ِعبا َدتِ ِه َوال يَ ْست َ ْح ِس ُرونَ )فعطف من عنده على من في‬ ‫ِع ْن َدهُ ال يَ ْست َ ْكبِ ُرونَ َ‬
‫السماوات واألرض ‪ ،‬وهي مع ذلك محيطة بالسماوات واألرض كإحاطة ربنا بذلك‬
‫كله ‪ ،‬مباينة لها كمباينته ‪ ،‬فمن أرادها فعليه بتفرقة الحوادث ومباينته لها ‪ ،‬فعلم أن‬
‫ّللا تعالى بقلبه ‪،‬‬ ‫الفرقة فرقة قلبية غيبية ‪ ،‬وفرقة حسية ‪ ،‬فإن فارقها بقلبه وصل إلى ه‬
‫ّللا تعالى بحسه وقلبه ‪ ،‬ولذلك كان اإلسراء‬ ‫وإن فارقها بحسه تبعا لقلبه وصل إلى ه‬
‫ّللا عليه وسلم شرع ألمته‬ ‫مرتين مرة بالروح ومرة بالجسد ‪ ،‬تنبيها على أنه صلهى ه‬
‫فراق الحوادث مرتين ‪ ،‬مرة بالروح وهو اإلسراء األول ‪ ،‬ومرة بالجسد حسا وهو‬
‫اإلسراء الثاني ‪ ،‬ومن المعلوم أنه ال تحقق لفرقة الحوادث حسا إال بمجاوزة دوائر‬
‫ّللا عليه وسلم وترقيه في‬ ‫األفالك كلها كما ثبت ليلة اإلسراء ‪ ،‬وأما ترتيب نقلته صلهى ه‬
‫توجهه ففيه أسرار بديعة ‪ ،‬أظهرها وأجالها أن فرض الصالة كان ليلة اإلسراء ‪،‬‬
‫والصالة حضرة القرب والمناجاة والمراقبة المثمرة لنعيم الرؤية ‪ ،‬ومن المعلوم أن‬
‫ّللا تعالى وال‬ ‫التوجه توجهان ‪ :‬روحاني وحسي ‪ ،‬فقبلة التوجه الروحاني وجه ه‬
‫اختصاص له بمكان ‪ ،‬وأما التوجه الحسي فله قبلتان بيت المقدس والكعبة ‪ ،‬فبيت‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ ،‬فجاء‬ ‫المقدس هو قبلة األنبياء ‪ ،‬والكعبة هي قبلة إبراهيم صلهى ه‬
‫اإلسراء الروحاني أوال‬
‫ص ‪521‬‬

‫ص ‪521 :‬‬
‫ّللا )وجاء‬ ‫ب فَأ َ ْينَما ت ُ َولُّوا فَث َ َّم َو ْجهُ َّ ِ‬ ‫ّلل ْال َم ْش ِر ُق َو ْال َم ْغ ِر ُ‬
‫تأسيسا للشريعة في قوله تعالى( َو ِ َّ ِ‬
‫اإلسراء الحسي مبدوءا بالتوجه لبيت المقدس ثم إلى السماء ثم بالرجوع إلى الكعبة ‪،‬‬
‫تأسيسا للشريعة في التوجه الحسي في الصالة أوال لبيت المقدس ثم للسماء في قوله‬
‫ماء )ثم بالرجوع إلى قبلة مكة في قوله (فَ َو ِهل‬ ‫س ِ‬ ‫ب َو ْج ِه َك فِي ال َّ‬ ‫تعالى( قَ ْد نَرى تَقَلُّ َ‬
‫َو ْج َه َك ش ْ‬
‫َط َر ْال َمس ِْج ِد ْال َح ِ‬
‫رام )‬
‫سي ِْن أ َ ْو أ َ ْدنى )إياك أن تفهم أن ذلك يشعر‬ ‫كذلك قوله تعالى( ث ُ َّم َدنا فَت َ َدلَّى فَكانَ َ‬
‫قاب قَ ْو َ‬
‫بتحديد في القرب أو تخصيص في جهة ‪ ،‬وإنما هو دنو تجل وكشف ‪ ،‬ألنه ذكره في‬
‫ب ْالفُؤا ُد ما َرأى )ثم ذكر بعده‬ ‫قصة اإلسراء بالروح ‪ ،‬أال ترى قوله تعالى بعد( ما َكذَ َ‬
‫ت َر ِبه ِه‬ ‫اإلسراء الحسي فقال تعالى( َولَقَ ْد َرآهُ ن َْزلَةً أ ُ ْخرى )إلى قوله( لَقَ ْد َرأى ِم ْن آيا ِ‬
‫ْال ُكبْرى ) فإذا علمت أنه دنو تجل روحاني وكشف عرفاني ‪،‬‬
‫ق ْاألَعْلى )ثم دنا عن األفق األعلى في نعيم الرؤية‬ ‫فهمت سر قوله تعالى( َو ُه َو ِب ْاألُفُ ِ‬
‫سي ِْن أ َ ْو أ َ ْدنى )أي قدر قوسين ‪ ،‬والقوس في اللغة‬ ‫قاب قَ ْو َ‬ ‫وفي بيان الحق( فَكانَ َ‬
‫يستعمل في الذراع وما يقدر ويقاس به ‪ ،‬وهو المراد هنا وهو من قوله تعالى في‬
‫الصحيح [ أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه حين يذكرني ] الحديث وفيه‬
‫ي ذراعا تقربت منه باعا ]‬ ‫ي شبرا تقربت منه ذراعا ‪ ،‬وإن تقرب إل ه‬ ‫[ فإن تقرب إل ه‬
‫وليس فيهما ذراع حسي محدود ‪ ،‬وإنما المراد تمثيل التقريب لدنو الذاكر من المذكور‬
‫في مجالس النجوى والذكرى وتجلي سر المعية للقلب ‪ ،‬وأدنى الرتب في ذلك تحقق‬
‫ّللا عليه وسلم ليلة اإلسراء ‪،‬‬ ‫ّللا وسر الحمد هّلل ‪ ،‬وكذلك كان صلهى ه‬ ‫القلب بسر سبحان ه‬
‫وإذا أردت التحقيق فخذه من افتتاح سورة اإلسراء بسبحان واختتامها بقوله( َوقُ ِل‬
‫ّلل ) *ثم نبه على انتفاء التقدير في دنوه بقوله تعالى( أ َ ْو أ َ ْدنى )وهو التحقيق‬ ‫ْال َح ْم ُد ِ َّ ِ‬
‫ّللاُ )‬ ‫بالتوحيد في نعيم الرؤية باآلية الكبرى وهي( ال ِإلهَ ِإ َّال َّ‬
‫*ولذلك وصفه بقوله آخر سورة اإلسراء( الَّذِي لَ ْم يَت َّ ِخ ْذ َولَدا ً )إلى قوله( َو َك ِبه ْرهُ ت َ ْك ِبيرا ً )‬

‫تحقيقا لقوله [ وما بينهم وبين النظر إلى ربهم إال رداء الكبرياء على وجهه في جنة‬
‫عدن ]‬
‫وإذا أردت أن تفهم سر التدلي في قوله تعالى( فَت َ َدلَّى )‬
‫فتأمل ما رواه أبو عيسى الترمذي من حديث العنان ‪ ،‬وفيه ذكر األرضين السبع وأن‬
‫بين كل أرض وأرض كما بين السماء واألرض ‪ ،‬ثم قال صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم‬
‫ّللا ]‬
‫[ والذي نفسي بيده لو دلى أحدكم حبال لوقع على ه‬
‫ّللا عليه وسلم على عدم تحيزه في السماء وأنه ليس مختصا بجهة ‪ ،‬كما نبه‬ ‫فنبه صلهى ه‬
‫على ذلك قوله تعالى( ث ُ َّم َدنا فَت َ َدلَّى )‬
‫فإن اإلسراء كان للعلو ‪ ،‬فربما يوهم المحجوب أن الدنو في قوله( َدنا ) زيادة‬

‫ص ‪522‬‬

‫ص ‪522 :‬‬
‫العلو ‪ ،‬فنبه بقوله( فَت َ َدلَّى )على أن قربه قاب قوسين كان ثمرة التدلي المشعر بالتنزيل‬
‫‪ ،‬وأنه تعالى ال يختص قربه بجهة العلو ‪ ،‬بل التدلي إليه بالخضوع أقرب تحقيقا لقوله(‬
‫َوا ْس ُج ْد َوا ْقت َ ِربْ )‬
‫وفي الصحيح [ أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد ] وإذا أردت زيادة التبصر‬
‫ّللا عليهم وسلم إلى السماء‬ ‫بأن اإلسراء وعروج المالئكة ورفع عيسى وإدريس صلى ه‬
‫ّللا تعالى مخصوص بجهة السماء ‪ ،‬فاعتبر فرض الحج على العباد‬ ‫ال يدل على أن ه‬
‫ّللا تعالى الناس بالتوجه إليه من جميع الجهات ‪ ،‬وجعل‬ ‫إلى البيت الحرام ‪ ،‬وأمر ه‬
‫ّللا ‪ ،‬وحجاجه وفده وضيفانه ‪ ،‬والحجر األسود يمينه ‪ ،‬مع أن نسبة‬ ‫سكانه جيران ه‬
‫ّللا تعالى سبحانه كاعتبار المسافة بسفر أحد ‪ ،‬فعلم أن القصد بالسير‬ ‫البيت وغيره إلى ه‬
‫إلى البيت ال أن السير يقتضي القرب والوصول إليه بالمكان ‪ ،‬وإنما هّلل سبحانه تعبدات‬
‫وأسرار في ضمن مشروعات يقتضيها من عباده بحكم ظاهر وحقيقة ‪ ،‬أال تراه كيف‬
‫ّللا عليه وسلم بالواد المقدس وأسمعه كالمه من الشجرة ‪ ،‬ووصفه‬ ‫ناجى موسى صلهى ه‬
‫بالقرب إلى مجلس حضرته ونجواه ‪ ،‬مع االتفاق على أنه تعالى ال يختص بجهة الواد‬
‫المقدس ‪،‬‬
‫ّللا عليه وسلم قرب إليه‬ ‫وال يحل كالمه ‪ -‬وهو صفته ‪ -‬بالشجرة ‪ ،‬وأن موسى صلهى ه‬
‫مع كونه باألرض ‪ ،‬وسمع نداء ربه من جانب الطور ‪ ،‬ولم يكن ربه بجانب الطور ‪،‬‬
‫ّللا رتق قلبه‬ ‫وإنما لتجلياته مظاهر وحجب روحانية وجسمانية ‪ ،‬ال يشهدها إال من فتق ه‬
‫ّللاُ لَهُ‬
‫ونور مصباح مشكاته بزيت شجرة توحيده( َو َم ْن لَ ْم يَ ْجعَ ِل َّ‬ ‫‪ ،‬وفلق أصباح ليله ‪ ،‬ه‬
‫سبْحانَ الَّذِي أَسْرى ِبعَ ْب ِد ِه »إلى‬ ‫ّللا تعالى نبه بقوله« ُ‬‫ور )واعلم أن ه‬ ‫نُورا ً فَما لَهُ ِم ْن نُ ٍ‬
‫ّللا عليه وسلم لما تحقق (‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫قوله« َوقُ ِل ْال َح ْم ُد ِ َّ ِ‬
‫ّلل الَّذِي لَ ْم يَت َّ ِخ ْذ َولَدا ً »أن رسول ه‬
‫سبحان هللا ) أوال ( وبحمد هللا ) آخرا تجلى له وجه ربه بكماله الجامع للجالل‬
‫ّللا والحمد هّلل ‪ ،‬آية ربه الكبرى ‪،‬‬ ‫ّللا الجامع لسبحان ه‬ ‫واإلكرام ‪ ،‬في شرف ال إله إال ه‬
‫ولهذا قال آخر السورة( َو َك ِبه ْرهُ ت َ ْكبِيرا ً )‬
‫[ ‪ -‬مشهد روحاني ]‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ ،‬وهو‬ ‫ّللا صلهى ه‬
‫خص به رسول ه‬
‫ه‬ ‫‪-‬مشهد روحاني ‪ -‬كان اإلسراء مقاما‬
‫مقام رؤية المعبود جل وعال ‪ ،‬وهو مقام قاب قوسين أو أدنى ‪ ،‬وذلك أنه لما كان‬
‫ّللا عليه وسلم ثمرة شجرة الكون « ‪، » 1‬‬ ‫صلهى ه‬
‫ودرة صدفة الوجود وسره ‪ ،‬ومعنى كلمة كن ‪ ،‬ولم تكن الشجرة مرادة لذاتها ‪ ،‬وإنما‬
‫كانت مرادة لثمرتها ‪ ،‬فهي محمية محروسة الجتناء ثمرتها واستجالء زهرتها ‪ ،‬ولما‬
‫كان المراد عرض هذه الثمرة بين يدي مثمرها ‪ ،‬وزفها إلى حضرة قربه ‪ ،‬والطواف‬
‫بها على ندمان حضرته ‪،‬‬
‫‪..........................................................................................‬‬
‫) ‪( 1‬ثمرة شجرة الكون يعني بالكون كل ما خلق من الكلمة اإللهية وهي " ُك ْن " ‪.‬‬
‫‪523‬‬

‫ص ‪523 :‬‬
‫قيل له ‪ :‬يا يتيم أبي طالب ‪ ،‬قم فإن لك طالب ‪ ،‬قد ادخر لك مطالب ‪ ،‬فأرسل إليه‬
‫أخص خدام الملك ‪ ،‬فلما ورد عليه قادما ‪ ،‬وافاه على فراشه نائما ‪ ،‬فقال له ‪ :‬يا جبريل‬
‫إلى أين ؟‬
‫فقال ‪ :‬يا محمد ارتفع األين من البين « ‪ ، » 1‬فإني ال أعرف في هذه النوبة أين ‪،‬‬
‫لكني رسول القدم ‪ ،‬أرسلت إليك من جملة الخدم ‪ ،‬وما نتنزل إال بأمر ربك ‪ ،‬قال ‪ :‬يا‬
‫جبريل فما الذي مراد مني ؟ قال ‪ :‬أنت مراد اإلرادة ‪ ،‬مقصود المشيئة ‪ ،‬فالكل مراد‬
‫ألجلك ‪ ،‬وأنت مراد ألجله ‪ ،‬وأنت مختار الكون ‪ ،‬أنت صفوة كأس الحب ‪ ،‬أنت درة‬
‫هذه الصدفة ‪ ،‬أنت ثمرة هذه الشجرة ‪ ،‬أنت شمس المعارف ‪ ،‬أنت بدر اللطائف ‪ ،‬ما‬
‫روق كأس المحبة‬ ‫م ههدت الدار إال لرفعة محلك ‪ ،‬ما هيئ هذا الجمال إال لوصلك ‪ ،‬ما ه‬
‫إال لشربك ‪ ،‬فقم فإن الموائد لكرامتك ممدودة ‪ ،‬والمأل األعلى يتباشرون بقدومك عليهم‬
‫‪ ،‬والكروبيون « ‪ » 2‬يتهللون بورودك إليهم ‪ ،‬وقد نالهم شرف روحانيتك ‪ ،‬فال بد لهم‬
‫وشرف بوطء‬ ‫ه‬ ‫فشرف عالم الملكوت كما شرفت عالم الملك ‪،‬‬ ‫من نصيب جسمانيتك ‪ ،‬ه‬
‫قدميك قمة السماء ‪ ،‬كما شرفت بهما أديم البطحاء ‪،‬‬
‫قال ‪ :‬يا جبريل الكريم يدعوني ‪ ،‬فما ذا يفعل بي ؟‬
‫قال ‪ :‬ليغفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ‪ ،‬قال ‪ :‬هذا لي فما لعيالي وأطفالي ؟ فإن‬
‫شر الناس من أكل وحده ‪ ،‬قال ‪ :‬ولسوف يعطيك ربك فترضى ‪ ،‬قال ‪ :‬يا جبريل اآلن‬
‫طاب قلبي ‪ ،‬ها أنا ذاهب إلى ربي ‪.‬‬
‫فقرب له البراق ‪ ،‬فقال ‪ :‬ما لي بهذا ؟ قال ‪ :‬مركب العشاق ‪ ،‬قال ‪ :‬أنا مركبي شوقي‬
‫وزادي توقي ودليلي ليلي ‪ ،‬أنا ال أصل إليه إال به ‪ ،‬وال يدلني عليه إال هو ‪ ،‬وكيف‬
‫يطيق حيوان ضعيف أن يحمل من يحمل أثقال محبته ‪ ،‬ورواسي معرفته ‪ ،‬وأسرار‬
‫أمانته التي عجزت عن حملها السماوات واألرض والجبال ؟ وكيف تطيق أن تدل بي‬
‫وأنت الحائر عند سدرة المنتهى ‪ ،‬وقد أنتهي إلى حضرة ليس لها منته ؟‬
‫يا جبريل أين أنت مني ولي وقت ال يسعني فيه غير ربي ‪ ،‬يا جبريل إذا كان محبوبي‬
‫ليس كمثله شيء فأنا لست كأحدكم ‪ ،‬المركوب يقطع به المسافات ‪ ،‬والدليل يستدل به‬
‫إلى الجهات ‪ ،‬وإنما ذلك محل الحدثات ‪ ،‬وأنا حبيبي مقدس عن الجهات ‪ ،‬منزه عن‬
‫الحدثات ‪ ،‬ال يوصل إليه بالحركات ‪ ،‬وال يستدل عليه باإلشارات ‪ ،‬فمن عرف المعاني‬
‫عرف ما أعاني ‪ ،‬هلم إن قربي منه مثل قاب قوسين أو أدنى ‪ .‬فوقعت هيئة الوقت‬
‫‪..........................................................................................‬‬
‫) ‪( 1‬أي ستذهب إلى حضرة ال توصف بأين ‪ ،‬وهي ظرف مكان ‪.‬‬
‫) ‪( 2‬الكروبيون أعلى صنف من المالئكة ‪.‬‬

‫ص ‪524‬‬

‫ص ‪524 :‬‬
‫على جبريل ‪ ،‬فقال ‪ :‬يا محمد ‪ ،‬إنما جيء بي إليك ألكون خادم دولتك وصاحب‬
‫حاشيتك ‪ ،‬وجيء بالمركب إليك إلظهار كرامتك ‪ ،‬ألن الملوك من عاداتهم إذا‬
‫استزاروا حبيبا ‪ ،‬أو استدعوا قريبا ‪ ،‬وأرادوا ظهور كرامتهم واحترامهم ‪ ،‬أرسلوا‬
‫أخص خدامهم وأعز دوابهم لنقل أقدامهم ‪ ،‬فجئناك على رسم عادة الملوك وآداب‬
‫السلوك ‪ ،‬ومن اعتقد أنه سبحانه وتعالى يوصل إليه بالخطإ وقع في الخطا ‪ ،‬ومن ظن‬
‫أنه محجوب بالغطاء فقد حرم العطاء ‪ ،‬يا محمد ‪ ،‬إن المأل األعلى في انتظارك ‪،‬‬
‫والجنان قد فتحت أبوابها وزخرفت رحابها وتزينت أترابها وروق شرابها ‪ ،‬كل ذلك‬
‫فرحا بقدومك وسرورا بورودك ‪ ،‬والليلة ليلتك والدولة دولتك ‪ ،‬وأنا منذ خلقت منتظر‬
‫هذه الليلة ‪ ،‬وقد جعلتك الوسيلة في حاجة قلهت فيها حيلتي ‪ ،‬وانقطعت وسيلتي ‪ ،‬فأنا‬
‫فيها حائر العقل ‪ ،‬ذاهل الفكر داهش السر ‪ ،‬مشغول البال زائد البلبال ‪ ،‬يا محمد ‪،‬‬
‫حيرتي أوقفتني في ميادين أزله وأبده ‪ ،‬فجلت في الميدان األول فما وجدت له أول ‪،‬‬
‫وملت إلى الميدان اآلخر فإذا هو في اآلخر أول ‪ ،‬فطلبت رفيقا إلى ذلك الرفيق فتلقاني‬
‫ميكائيل في الطريق ‪ ،‬فقال لي ‪ :‬إلى أين ؟ الطريق مسدودة واألبواب دونه مردودة ‪،‬‬
‫ال يوصل إليه باألزمان المعدودة ‪ ،‬وال يوجد في األماكن المحدودة ‪ ،‬قلت ‪ :‬فما وقوفك‬
‫في هذا المقام ؟‬
‫قال ‪ :‬شغلني بمكائيل البحار وإنزال األمطار ‪ ،‬وإرسالها في سائر األقطار ‪ ،‬فأعرف‬
‫كما أجاجها مددا ‪ ،‬وكم تقذف أمواجها زبدا ‪ ،‬وال أعرف لألحدية أمدا ‪ ،‬وال للفردية‬
‫عددا ‪ ،‬قلت ‪:‬‬
‫فأين إسرافيل ؟ قال ‪ :‬ذلك أدخل في مكتب التعليم ‪ ،‬يصافح بصفحة وجهه اللوح‬
‫المحفوظ ‪ ،‬ويستنسخ منه ما هو مبروم ومنقوض ‪ ،‬ثم يقرأ على صبيان التعليم ‪ -‬في‬
‫مثال ‪ -‬ذلك تقدير العزيز العليم ‪ ،‬ثم هو في زمن تعلمه ال يرفع رأسه حياء من معلمه‬
‫‪ ،‬فطرفه عن النظر مقصور ‪ ،‬وقلبه عن الفكر محصور ‪ ،‬فهو كذلك إلى يوم ينفخ في‬
‫الصور ‪ ،‬قلت ‪ :‬فهلم نسأل العرش ونستهديه ‪ ،‬ونستنسخ منه ما علمه ونستمليه ‪ ،‬فلما‬
‫سمع العرش ما نحن فيه اهتز طربا ‪ ،‬وقال ‪ :‬ال تحرك به لسانك وال تحدث به جنانك‬
‫‪ ،‬فهذا سر ال يكشفه حجاب ‪ ،‬وستر ال يفتح دونه باب ‪ ،‬وسؤال ليس له جواب ‪ ،‬ومن‬
‫أنا في البين حتى أعرف له أين ؟ وما أنا إال مخلوق من حرفين ‪ ،‬وباألمس كنت ال‬
‫أثر وال عين ‪ ،‬من كان باألمس عدما مفقودا ‪ ،‬كيف يعرف رؤية من لم يزل موجودا ‪،‬‬
‫وال والدا وال مولودا ‪ ،‬وهو سبقني باالستواء ‪ ،‬وقهرني باالستيالء ‪ ،‬فلو ال استواؤه لما‬
‫استويت ‪ ،‬ولوال استيالؤه لما اهتديت ‪ ،‬استوى إلى‬

‫ص ‪525‬‬

‫ص ‪525 :‬‬
‫السماء وهي دخان ‪ ،‬واستوى على العرش لقيام البرهان ‪ ،‬فو عزته لقد استوى وال‬
‫علم لي بما استوى ‪ ،‬وأنا والثرى بالقرب منه على حد سوى ‪ ،‬فال أحيط بما حوى وال‬
‫أعرف ما زوى ‪ ،‬ولكني عبد له ولكل عبد ما نوى ‪ ،‬ثم إني أخبرك بقصتي ‪ ،‬وأبث‬
‫إليك شكوة غصتي ‪ ،‬أقسم بعلي عزته وقوي قدرته ‪ ،‬لقد خلقني وفي بحار أحديته‬
‫غرقني ‪ ،‬وفي بيداء أبديته حيرني ‪ ،‬تارة يطلع من مطالع أبديته فينعشني ‪ ،‬وتارة‬
‫يدنيني من مواقف قربه فيؤنسني ‪ ،‬وتارة يحتجب بحجاب عزته فيوحشني ‪ ،‬وتارة‬
‫يناجيني بمناجاة لطفه فيطربني ‪ ،‬وتارة يواصلني بكاسات حبه فيسكرني ‪ ،‬وكلما‬
‫استعذبت من عربدة سكري ‪ ،‬قال لسان أحديته ‪ :‬لن تراني ‪ ،‬فذبت من هيبته فرقا ‪،‬‬
‫وتمزقت من محبته قلقا ‪ ،‬وصعقت عن تجلي عظمته كما خر موسى صعقا ‪ ،‬فلما أفقت‬
‫من سكرة وجدي به ‪ ،‬قيل لي ‪ :‬أيها العاشق ‪ ،‬هذا جمال قد صناه ‪ ،‬وحسن قد حجبناه ‪،‬‬
‫فال ينظره إال حبيب قد اصطفيناه ‪ ،‬ويتيم قد ربيناه ‪ ،‬فإذا سمعت سبحان الذي أسرى‬
‫بعبده ‪ ،‬فقف على طريق عروجه إلينا ‪ ،‬وقدومه علينا ‪ ،‬لعلك ترى من يرانا ‪ ،‬وتفوز‬
‫بمشاهدة من لم ينظر إلى سوانا ‪ ،‬يا محمد إذا كان العرش مشوقا إليك فكيف ال أكون‬
‫خادم يديك ؟ ‪.‬‬
‫قدم إليه مركبه األول وهو البراق إلى بيت المقدس ‪ ،‬ثم المركب الثاني وهو المعراج‬
‫إلى سماء الدنيا ‪ ،‬ثم المركب الثالث وهو أجنحة المالئكة من سماء إلى سماء ‪ ،‬وهكذا‬
‫إلى السماء السابعة ‪ ،‬ثم المركب الرابع وهو جناح جبريل عليه السالم إلى سدرة‬
‫المنتهى ‪ ،‬فتخلف جبريل عليه السالم عندها ‪ ،‬فقال ‪ :‬يا جبريل نحن الليلة أضيافك ‪،‬‬
‫فكيف يتخلف المضيف عن ضيفه ؟‬
‫أهاهنا يترك الخليل خليله ؟ قال ‪ :‬يا محمد أنت ضيف الكريم ‪ ،‬ومدعو القديم ‪ ،‬لو‬
‫تقدمت اآلن بقدر أنملة الحترقت ‪ ،‬وما منا إال له مقام معلوم ‪،‬‬
‫قال ‪ :‬يا جبريل إذا كان كذلك ألك حاجة ؟‬
‫قال ‪ :‬نعم ‪ ،‬إذا انتهى بك إلى الحبيب حيث ال منته ‪ ،‬وقيل لك ‪ :‬ها أنت وها أنا ‪،‬‬
‫فاذكرني عند ربك ‪ .‬ثم زج به جبريل عليه السالم زجة فخرق سبعين ألف حجاب من‬
‫نور ‪ ،‬ثم تلقاه المركب الخامس وهو الرفرف من نور أخضر قد سد ما بين الخافقين ‪،‬‬
‫فركبه حتى انته به إلى العرش ‪ ،‬فتمسك العرش بأذياله ‪ ،‬وناداه بلسان حاله ‪ ،‬وقال ‪ :‬يا‬
‫محمد إلى متى تشرب من صفاء وقتك آمنا من معتكره ‪ ،‬تارة يتشوق إليك حبيبك‬
‫وينزل إلى سماء الدنيا ‪ ،‬وتارة يطوف بك على ندمان حضرته ويحملك على رفرف‬
‫سبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَ ْب ِد ِه )وتارة يشهدك جمال أحديته( ما‬
‫رأفته( ُ‬

‫ص ‪526‬‬

‫ص ‪526 :‬‬
‫طغى )وتارة‬ ‫ص ُر َوما َ‬ ‫غ ْالبَ َ‬ ‫ب ْالفُؤا ُد ما َرأى )وتارة يشهدك جمال صمدانيته( ما زا َ‬ ‫َكذَ َ‬
‫ع ْب ِد ِه ما أ َ ْوحى )وتارة يدنيك من حضرة‬ ‫يطلعك على سرائر ملكوتيته( فَأ َ ْوحى ِإلى َ‬
‫سي ِْن أ َ ْو أ َ ْدنى )يا محمد هذا أوان الظمآن إليه واللهفان عليه ‪،‬‬ ‫قاب قَ ْو َ‬
‫قربه( فَكانَ َ‬
‫والمتحير فيه ال أدري من أي جهة آتية ‪ ،‬جعلني أعظم خلقه فكنت أعظمهم وأشدهم‬
‫خوفا منه ‪ ،‬يا محمد خلقني يوم خلقني فكنت أرعد من هيبة جالله ‪ ،‬فكتب على قائمتي‬
‫ي ( محمد رسول‬ ‫ّللا ) فازددت لهيبة اسمه ارتعادا وارتعاشا ‪ ،‬فلما كتب عل ه‬ ‫( ال إله إال ه‬
‫ّللا ) سكن لذلك قلقي وهدأ روعي ‪ ،‬فكان اسمك أمانا لقلبي وطمأنينة لسري ورقية‬ ‫ه‬
‫ي ؟ يا محمد أنت‬ ‫ي ‪ ،‬فكيف إذا وقع جميل نظرك إل ه‬ ‫لقلقي ‪ ،‬فهذه بركة وضع اسمك عل ه‬
‫المرسل رحمة للعالمين وال بد لي من نصيب في هذه الليلة ‪ ،‬ونصيبي من ذلك أن‬
‫ي أهل الغرور ‪ ،‬فإنه‬ ‫وتقوله عل ه‬ ‫ي أهل الزور ه‬ ‫تشهد لي بالبراءة من النار مما نسبه إل ه‬
‫ي قوم فضلهوا وظنوا أني أسع من ال حد له ‪ ،‬وأحمل من ال هيئة له ‪ ،‬وأحيط‬ ‫أخطأ ف ه‬
‫ي أو‬‫بمن ال كيفية له ‪ ،‬يا محمد من ال حد لذاته وال عد لصفاته ‪ ،‬فكيف يكون مفتقرا إل ه‬
‫ي ؟ فإذا كان الرحمن اسمه ‪ ،‬واالستواء صفته ونعته ‪ ،‬وصفته ونعته‬ ‫محموال عل ه‬
‫متصل بذاته ‪ ،‬فكيف يتصل بي أو ينفصل عني ‪ ،‬وال أنا منه وال هو مني ؟‬
‫يا محمد وعزته لست بالقرب منه وصال وال بالبعد عنه فصال ‪ ،‬وال بالمطيق له حمال‬
‫وال بالجامع له شمال ‪ ،‬وال بالواجد له مثال ‪ ،‬بل أوجدني من رحمته منة وفضال ‪ ،‬ولو‬
‫محقني لكان فضال منه وعدال ‪ ،‬يا محمد أنا محمول قدرته ومعمول حكمته ‪ ،‬فكيف‬
‫س ْم َع َو ْالبَ َ‬
‫ص َر‬ ‫ْس لَ َك بِ ِه ِع ْل ٌم إِ َّن ال َّ‬
‫ف ما لَي َ‬ ‫يصح أن يكون الحامل محموال ؟( ال ت َ ْق ُ‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ :‬أيها العرش‬ ‫ع ْنهُ َم ْسؤ ًُالفأجابه لسان حاله صلهى ه‬ ‫َو ْالفُؤا َد ُك ُّل أُولئِ َك كانَ َ‬
‫ي صفوتي وال تشوش علي خلوتي ‪ ،‬فما في‬ ‫إليك عني فأنا مشغول عنك فال تكدر عل ه‬
‫ّللا عليه وسلم طرفا وال قرأ‬ ‫الوقت سعة لعتابك وال محل لخطابك ‪ ،‬فما أعاره صلهى ه‬
‫ص ُر )ثم قدم المركب السادس وهو التأييد ‪،‬‬ ‫غ ْالبَ َ‬ ‫من مسطور ما أوحى إليه حرفا( ما زا َ‬
‫فنودي من فوقه ولم ير ‪ :‬حافظك قدامك ‪ ،‬ها أنت وربك ‪ .‬قال ‪ :‬فبقيت متحيرا ال‬
‫أعرف ما أقول وال أدري ما أفعل ‪ ،‬إذ وقعت على شفتي قطرة أحلى من العسل ‪،‬‬
‫وأبرد من الثلج ‪ ،‬وألين من الزبد ‪ ،‬وأطيب ريحا من المسك ‪ ،‬فصرت بذلك أعلم من‬
‫جميع األنبياء والرسل ‪ ،‬فجرى على لساني ‪ :‬التحيات المباركات هّلل الصلوات الطيبات‬
‫هّلل ‪.‬‬
‫ّللا وبركاته ‪ .‬فأشركت إخواني األنبياء فيما‬ ‫فأجبت ‪ :‬السالم عليك أيها النبي ورحمة ه‬

‫ص ‪527‬‬

‫ص ‪527 :‬‬
‫ّللا الصالحين ‪.‬‬ ‫خصصت به ‪ ،‬فقلت ‪ :‬السالم علينا وعلى عباد ه‬
‫ّللا عنه ليلة‬
‫أراد بهم األنبياء عليهم الصالة والسالم ‪ ،‬ولهذا قيل ألبي بكر رضي ه‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ :‬إنه رأى ربه ‪ ،‬قال ‪ :‬صدق وكنت معه‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫أسري برسول ه‬
‫متمسكا بأذياله ‪ ،‬مشاركه في مقاله ‪ ،‬قيل ‪ :‬كيف ؟ قال ‪ :‬في قوله ‪ :‬السالم علينا‪.‬‬
‫ّللا وأن محمدا رسوله قال ‪ :‬ثم نوديت ادن يا‬ ‫فأجابه المالئكة ‪ :‬أشهد أن ال إله إال ه‬
‫عز وجل( ث ُ َّم َدنا فَت َ َدلَّى ) وقيل ‪:‬‬ ‫محمد ‪ ،‬فدنوت ‪ ،‬ثم وقفت ‪ ،‬وهو معنى قوله ه‬
‫عز وجل ‪ ،‬وقيل ‪ :‬دنا بالشفاعة وتقرب إلى‬ ‫دنا محمد في السؤال فتدلى فتقدم للرب ه‬
‫الرب باإلجابة ‪ ،‬وقيل ‪ :‬دنا بالخدمة وتقرب للرب بالرحمة ‪ .‬ثم دنا فتدلى معناه ‪ ،‬دنا‬
‫محمد من ربه فتدلى عليه الوحي من ربه ‪ ،‬دنا لطافة فتدلى عليه رأفة ورحمة ‪ .‬ال‬
‫يوصف بقطع مفازة وال مسافة ‪ ،‬قد ذهب األين من البين ‪ ،‬وتالشى الكيف واضمحل‬
‫سي ِْن )الحتمل أن يكون للرب مكان‬ ‫قاب قَ ْو َ‬
‫سي ِْن )فلو اقتصر على( َ‬ ‫قاب قَ ْو َ‬
‫األين( فَكانَ َ‬
‫‪ ،‬وإنما قوله( أ َ ْو أ َ ْدنى )لنفي المكان ‪ .‬وكان معه حيث المكان وال زمان ‪ ،‬وال أوان وال‬
‫أكوان ‪ ،‬فنودي ‪:‬‬
‫يا محمد تقدم ‪ ،‬فقال ‪ :‬يا رب إذا انتفى األين فأين أضع القدم ؟‬
‫قال ضع القدم على القدم « ‪ » 1‬حتى يعلم الكل أني منزه عن الزمان والمكان‬
‫واألكوان ‪ ،‬وعن الليل وعن النهار ‪ ،‬وعن الحدود واألقطار ‪ ،‬وعن الحد والمقدار ‪ ،‬يا‬
‫محمد انظر ‪ ،‬فنظر فرأى نورا ساطعا ‪ ،‬فقال ‪ :‬ما هذا النور ؟‬
‫قيل ‪ :‬ليس هذا نورا ‪ ،‬بل هو جنات الفردوس ‪ ،‬لما ارتقيت صارت في مقابلة قدميك ‪،‬‬
‫وما تحت قدميك فداء لقدميك ‪ ،‬يا محمد مبدأ قدمك منقطع أوهام الخالئق ‪ ،‬يا محمد ما‬
‫دمت في سير األين جبريل دليلك والبراق مركبك ‪ ،‬فإذا ذهب المكان وغبت عن‬
‫األكوان ‪ ،‬وانتفى األين وارتفع البين من البين ‪ ،‬ولم يبق إال قاب قوسين ‪ ،‬فأنا اآلن‬
‫دليلك يا محمد ‪ ،‬أفتح لك الباب ‪ ،‬وأرفع لك الحجاب ‪ ،‬وأسمعك طيب الخطاب ‪ ،‬في‬
‫عالم الغيب وحدتني تحقيقا وإيمانا ‪ ،‬فوحدني اآلن في عالم الشهود مشاهدة وعيانا ‪،‬‬
‫فقال ‪:‬‬
‫أعوذ بعفوك من عقوبتك ‪ ،‬فقيل ‪ :‬هذا لعصاة أمتك ‪ ،‬ليس هذا حقيقة مدهعي و هحدني ‪،‬‬
‫فقال ‪ :‬ال أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك ‪ ،‬فقال ‪ :‬يا محمد ‪ ،‬إذا ك هل‬
‫ع ِن ْال َهوى )فإذا ض هل عيانك عن‬ ‫لسانك عن العبارة فألكسونه لسان الصدق( َوما يَ ْن ِط ُق َ‬
‫طغى )ثم ألعيرنك نورا‬ ‫ص ُر َوما َ‬ ‫غ ْالبَ َ‬‫اإلشارة فألجعلن عليك خلعة الهداية( ما زا َ‬
‫تنظر به جمالي ‪،‬‬
‫‪..........................................................................................‬‬
‫) ‪( 1‬ضع القدم على القدم ‪ :‬أي ضع قدمك في حضرة القدم حيث المكان وال زمان‪.‬‬

‫ص ‪528 :‬‬
‫ي ‪ ،‬وحكمة نظرك‬ ‫وسمعا تسمع به كالمي ‪ ،‬ثم أعرفك بلسان الحال معنى عروجك عل ه‬
‫ي ‪ ،‬فكأنه يقول مشيرا ‪ :‬يا محمد إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا ‪ -‬والشاهد‬ ‫إل ه‬
‫مطالب بحقيقة ما شهد به ‪ ،‬وال يجوز له الشهادة على غائب ‪ -‬فأريك جنتي لتشاهد ما‬
‫أعددته ألوليائي ‪ ،‬وأريك ناري لتشاهد ما أعددته ألعدائي ‪ ،‬ثم أشهدك جاللي وأكشف‬
‫لك عن جمالي ‪ ،‬لتعلم أني منزه في كمالي عن المثيل والشبيه والبديل والنظير‬
‫والمشير ‪ ،‬وعن الحد والقد وعن الحصر والعد وعن الجوز والفرد ‪ ،‬وعن المواصلة‬
‫والمفاصلة والمماثلة والمشاكلة والمجالسة والمالمسة والمباينة والممازجة ‪ ،‬يا محمد‬
‫ي ‪ ،‬فقوم جعلوا العزيز ابني وأن يدي‬ ‫ي فاختلفوا عل ه‬
‫إني خلقت خلقي ودعوتهم إل ه‬
‫مغلولة وهم اليهود ‪ ،‬وقوم زعموا أن المسيح ابني وأن لي زوجة وولدا وهم النصارى‬
‫‪ ،‬وقوم جعلوا لي شركاء وهم الوثنية ‪ ،‬وقوم جعلوني صورة وهم المجسمة ‪ ،‬وقوم‬
‫جعلوني محدودا وهم المشبهة ‪ ،‬وقوم جعلوني معدوما وهم المعطلة ‪ ،‬وقوم زعموا أني‬
‫ال أرى في اآلخرة وهم المعتزلة ‪ ،‬وها أنا قد فتحت لك بابي ورفعت لك حجابي ‪،‬‬
‫ّللا عليه وسلم‬‫ي شيئا مما نسبوني إليه ؟ فرآه صلهى ه‬ ‫فانظر يا حبيبي يا محمد هل تجد ف ه‬
‫بالنور الذي قواه به وأيده به من غير إدراك وال إحاطة ‪ ،‬فردا صمدا ‪ ،‬ال في شيء‬
‫وال على شيء ‪ ،‬وال قائما بشيء وال مفتقرا إلى شيء ‪ ،‬وال هيكال وال شبها وال‬
‫صورة وال جسما وال محيزا وال مكيهفا وال مركبا ‪ ،‬ليس كمثله شيء وهو السميع‬
‫البصير ‪ ،‬فلما كلمه شفاها وشاهده كفاحا ‪ ،‬فقال ‪:‬‬
‫يا حبيبي يا محمد ‪ ،‬ال بد لهذا الخلق من سر ال يذاع ‪ ،‬وزمن ال يشاع (فَأ َ ْوحى إِلى‬
‫ع ْب ِد ِه ما أ َ ْوحى )فكان سر من سر في سر ‪ ،‬وصل اللهم وسلم وبارك على أشرف‬ ‫َ‬
‫مخلوقاتك ‪ ،‬سيدنا وموالنا محمد بحر أنوارك ومعدن أسرارك ‪ ،‬ولسان حجتك وإمام‬
‫حضرتك ‪ ،‬وعروس مملكتك وطراز ملكك ‪ ،‬وخزائن رحمتك وطريق شريعتك ‪،‬‬
‫وسراج جنتك وعين حقيقتك ‪ ،‬المتلذذ بمشاهدتك ‪ ،‬عين أعيان خلقك ‪ ،‬المقتبس من نور‬
‫ضيائك ‪ ،‬صالة تحل بها عقدتي وتفرج بها كربتي ‪ ،‬وتقضي بها أربي وتبلغني بها‬
‫طلبي ‪ ،‬صالة دائمة بدوامك باقية ببقائك قائمة بذاتك ‪ ،‬صالة ترضيك وترضيه‬
‫باّلل‬
‫ّللا ونعم الوكيل ‪ ،‬وال حول وال قوة إال ه‬ ‫وترضى بها عنا يا رب العالمين ‪ ،‬وحسبنا ه‬
‫ّللا على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم ‪ ،‬والحمد هّلل رب‬ ‫العلي العظيم ‪ ،‬وصلى ه‬
‫العالمين‪.‬‬

‫ص ‪529‬‬

‫ص ‪529 :‬‬
‫[سورة اْلسراء ( ‪ : ) 17‬آية ‪] 2‬‬
‫سرائِي َل أَاله تَت ه ِخذُوا ِم ْن دُونِي َو ِكيالً ( ‪) 2‬‬
‫دى ِلبَنِي إِ ْ‬‫تاب َو َجعَ ْلناهُ ُه ً‬
‫سى ا ْل ِك َ‬ ‫َوآت َ ْينا ُمو َ‬
‫يال » اآلية ]‬ ‫[ « ‪ . . .‬أ َ َّال تَت َّ ِخذُوا ِم ْن دُونِي َو ِك ً‬
‫فنهى تعالى أن نتخذ وكيال غيره ‪ ،‬وهي نيابة الحق عن العبد ‪ ،‬فالوكالة نيابة عن‬
‫الموكل فيما وكله فيه أن يقوم مقامه ‪ ،‬كما قال تعالى ( ال إله إال هللا فاتخذه وكيال )‬
‫فأثبت لك الشيء وسألك أن تستنيبه فيه بحكم الوكالة ‪ ،‬فمن قال ‪ :‬إن األموال ما خلقت‬
‫إال لنا إذ ال حاجة هّلل إليها ‪ ،‬فهي لنا حقيقة ‪،‬‬
‫ثم وكلنا الحق تعالى أن يتصرف لنا فيها ‪ ،‬لعلمنا أنه أعلم بالمصلحة فتصرف على‬
‫وجه الحكمة التي تقتضي أن تعود على الموكل منه منفعة ‪ ،‬فأتلف ماله هذا الوكيل‬
‫الحق تعالى بغرق أو حرق أو خسف أو ما شاء ‪ ،‬تجارة له ليكسبه بذلك في الدار‬
‫اآلخرة أكثر مما قيل إنه في ظاهر األمر إتالف ‪ ،‬وما هو إتالف بل هو تجارة بيع‬
‫بنسيئة ‪ ،‬يسمى مثل هذا تجارة رزء لكن ربحها عظيم ‪،‬‬
‫وهذا علم يعرفه الوكيل ال الموكل ‪ ،‬وهو يحفظ عليه ماله لمصلحة أخرى يقتضيها‬
‫ّللا فاستخلفه الوكيل في التصرف على ما يرسمه‬ ‫علمه فيها ‪ ،‬ومن الناس من وكل ه‬
‫الوكيل ‪ ،‬لعلم الوكيل بالمصلحة ‪ ،‬فصار الموكل وكيال عن وكيله ‪ ،‬وهو الذي ال‬
‫يتعدى األمر المشروع في تصرفه وإن كان المال له ‪ ،‬فالتصرف فيه بحكم وكيله‬

‫[سورة اْلسراء ( ‪ : ) 17‬اآليات ‪ 3‬إلى ‪] 7‬‬


‫سرائِي َل فِي‬ ‫ض ْينا إِلى بَنِي إِ ْ‬ ‫شكُورا ً ) ‪َ ( 3‬وقَ َ‬ ‫ع ْبدا ً َ‬ ‫ذُ ِ ّريهةَ َم ْن َح َم ْلنا َم َع نُوحٍ إِنههُ َ‬
‫كان َ‬
‫علُ ًّوا َك ِبيرا ً ( ‪ ) 4‬فَ ِإذا جا َء َو ْع ُد أُوال ُهما‬ ‫ض َم هرت َ ْي ِن َولَت َ ْعلُ هن ُ‬ ‫سد هُن فِي ْاأل َ ْر ِ‬ ‫ب لَت ُ ْف ِ‬
‫ا ْل ِكتا ِ‬
‫كان َوعْدا ً َم ْفعُوالً ( ‪) 5‬‬ ‫ِيار َو َ‬ ‫سوا ِخال َل ال ّد ِ‬ ‫شدِي ٍد فَجا ُ‬ ‫علَ ْي ُك ْم ِعبادا ً لَنا أُو ِلي بَأ ْ ٍس َ‬ ‫بَعَثْنا َ‬
‫ين َو َجعَ ْلنا ُك ْم أ َ ْكث َ َر نَ ِفيرا ً ( ‪ِ ) 6‬إ ْن‬
‫علَ ْي ِه ْم َوأ َ ْم َددْنا ُك ْم ِبأ َ ْموا ٍل َوبَ ِن َ‬
‫ث ُ هم َر َددْنا لَ ُك ُم ا ْلك هَرةَ َ‬
‫سوؤُا ُو ُجو َه ُك ْم‬ ‫سأْت ُ ْم فَلَها فَ ِإذا جا َء َو ْع ُد ْاآل ِخ َر ِة ِليَ ُ‬ ‫س ُك ْم َوإِ ْن أ َ َ‬ ‫س ْنت ُ ْم أَحْ َ‬
‫س ْنت ُ ْم ِأل َ ْنفُ ِ‬ ‫أَحْ َ‬
‫علَ ْوا تَتْبِيرا ً) ‪( 7‬‬ ‫س ِج َد كَما َد َخلُوهُ أ َ هو َل َم هر ٍة َو ِليُت َ ِبّ ُروا ما َ‬ ‫َو ِليَ ْد ُخلُوا ا ْل َم ْ‬

‫ص ‪530‬‬

‫ص ‪530 :‬‬
‫سأْت ُ ْم فَلَها »اعلم أن التكاليف إن عملتها ال يعود على‬
‫س ْنت ُ ْم ِأل َ ْنفُ ِس ُك ْم َوإِ ْن أ َ َ‬
‫س ْنت ُ ْم أ َ ْح َ‬
‫"إِ ْن أ َ ْح َ‬
‫ّللا منها نفع ‪ ،‬وإن أنت لم تعملها ال يتضرر بذلك ‪ ،‬وأن الكل يعود عليك ‪ ،‬فالزم‬ ‫ه‬
‫األحسن إليك تكن محسنا إلى نفسك ‪.‬‬

‫[ سورة اْلسراء ( ‪ : ) 17‬آية ‪] 8‬‬


‫عدْنا َو َجعَ ْلنا َج َهنه َم ِل ْلكافِ ِر َ‬
‫ين َح ِصيرا ً ) ‪( 8‬‬ ‫عَسى َربُّ ُك ْم أ َ ْن يَ ْر َح َم ُك ْم َوإِ ْن ُ‬
‫ع ْدت ُ ْم ُ‬
‫ّللا في اآلخرة ‪ ،‬وسميت‬ ‫ّللا أن جهنم من أعظم المخلوقات ‪ ،‬وهي سجن ه‬ ‫اعلم أيدك ه‬
‫جهنم جهنم لبعد قعرها ‪ ،‬يقال ‪ :‬بئر جهنام إذا كانت بعيدة القعر ‪ ،‬وهي تحوي على‬
‫حرور وزمهرير ‪ ،‬ففيها البرد على أقصى درجاته والحرور على أقصى درجاته ‪،‬‬
‫وهي اآلن مخلوقة وتحدث فيها آالت التعذيب بحدوث أعمال الجن واإلنس الذين‬
‫يدخلونها ‪ ،‬وجميع ما يخلق فيها من اآلالم التي يجدها الداخلون فيها من الغضب‬
‫اإللهي ‪ ،‬وال يكون ذلك إال عند دخول الخلق فيها من الجن واإلنس متى دخولها ‪ ،‬وأما‬
‫إذا لم يكن فيها أحد من أهلها فال ألم فيها في نفسها وال في نفس مالئكتها ‪ ،‬بل هي‬
‫ّللا منغمسون ملتذون يسبحون ال يفترون ‪ ،‬وحد جهنم‬ ‫ومن فيها من زبانيتها في رحمة ه‬
‫بعد الفراغ من الحساب ودخول أهل الجنة الجنة من مقعر فلك الكواكب الثابتة إلى‬
‫أسفل سافلين ‪ ،‬فهذا كله يزيد في جهنم مما هو اآلن ليس مخلوقا فيها ‪ ،‬ولكن ذلك معد‬
‫ّللا من األرض ‪ ،‬فإنها ترجع إلى الجنة يوم‬ ‫حتى يظهر ‪ ،‬إال األماكن التي عيهنها ه‬
‫ّللا عليه وسلم وبين قبره صلهى‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫القيامة ‪ ،‬مثل الروضة التي بين منبر رسول ه‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ ،‬وكل مكان عيهنه الشارع وكل نهر فإن كل ذلك يصير إلى الجنة ‪ ،‬وما‬ ‫ه‬
‫بقي فيعود نارا كله وهو من جهنم ‪ ،‬وأشد الخلق عذابا في النار إبليس الذي سن الشرك‬
‫وكل مخالفة ‪ ،‬وعذابه بما فيها من الزمهرير ‪ ،‬فإنه يقابل النار الذي هو أصل نشأة‬
‫صيرا ً »يريد سجنا يحصرهم فيه ‪ ،‬ألن المحصور‬ ‫إبليس« َو َجعَ ْلنا َج َهنَّ َم ِل ْلكا ِف ِرينَ َح ِ‬
‫التبوؤ منها حيث يشاءون‬ ‫مسجون ممنوع من التصرف ‪ ،‬بخالف أهل الجنة فإن لهم ه‬
‫وليس كذلك أهل النار‪.‬‬

‫[ سورة اْلسراء ( ‪ : ) 17‬اآليات ‪ 10‬إلى ‪] 11‬‬


‫اْل ْن ُ‬
‫سان ِبالش ِ ّهر‬ ‫ون ِب ْاآل ِخ َر ِة أ َ ْعت َ ْدنا لَ ُه ْم عَذابا ً أ َ ِليما ً ( ‪َ ) 10‬ويَ ْد ُ‬
‫ع ِْ‬ ‫َوأ َ هن الهذ َ‬
‫ِين ال يُ ْؤ ِمنُ َ‬
‫ع ُجوالً) ‪( 11‬‬ ‫سان َ‬ ‫اْل ْن ُ‬ ‫دُعا َء ُه ِبا ْل َخ ْي ِر َو َ‬
‫كان ْ ِ‬

‫ص ‪531‬‬

‫ص ‪531 :‬‬
‫ع ُج ً‬
‫وال" التلبيس أصله العجلة من اإلنسان ‪ ،‬فلو اتئد وتفكر وتبصر لم‬ ‫" َوكانَ ْ ِ‬
‫اإل ْن ُ‬
‫سان َ‬
‫يلتبس عليه أمر وقليل فاعله ‪.‬‬

‫[ سورة اْلسراء ( ‪ : ) 17‬آية ‪]12‬‬


‫هار ُم ْب ِص َرةً ِلت َ ْبتَغُوا فَ ْ‬
‫ضالً‬ ‫هار آيَت َ ْي ِن فَ َم َح ْونا آيَةَ الله ْي ِل َو َجعَ ْلنا آيَةَ النه ِ‬
‫َو َجعَ ْلنَا الله ْي َل َوالنه َ‬
‫ص ْلناهُ ت َ ْف ِصيالً ( ‪) 12‬‬ ‫ش ْي ٍء فَ ه‬‫ساب َو ُك هل َ‬‫ين َوا ْل ِح َ‬ ‫سنِ َ‬‫ع َد َد ال ِ ّ‬‫ِم ْن َر ِبّ ُك ْم َو ِلت َ ْعلَ ُموا َ‬
‫[ تعريف الزمان ]‬
‫آية الليل هو القمر ‪ ،‬فال يظهر لنوره حكم في البصر إال بالليل ‪ ،‬ونوره معار فإنه‬
‫انعكاس نور الشمس ‪ ،‬فإنه لها كالمرآة ‪ ،‬فالنور الذي يعطيك القمر إنما هو للشمس ‪،‬‬
‫ْص َرة ً »وآية النهار هي الشمس‬ ‫هار ُمب ِ‬ ‫وهو موصل ال غير ألنه محو« َو َجعَ ْلنا آيَةَ النَّ ِ‬
‫ّللا تعالى الليل والنهار آيتين داللة على عالم‬ ‫يعني نورها ظاهرا للبصر ‪ ،‬وجعل ه‬
‫الغيب والشهادة ‪ ،‬فمحا آية الليل لداللتها على الغيب فآية القمر ممحوة عن العالم‬
‫الظاهر ‪ ،‬وجعل آية النهار مبصرة لداللتها على عالم الشهادة ‪ ،‬وجعل ذلك الطلوع‬
‫والغروب لمن يكون حسابه بالشمس ليعلم فصول السنة ‪ ،‬وقد يكون حسابه بالقمر عدد‬
‫ج )فقال تعالى «‪:‬‬ ‫اس َو ْال َح ه ِ‬‫ي َمواقِيتُ ِللنَّ ِ‬ ‫ّللا في األهلة( ِه َ‬ ‫السنين والحساب يقول ه‬
‫ساب » *بسير القمر في منازله والشمس فيها ‪ ،‬فإن الليل‬ ‫س ِنينَ َو ْال ِح َ‬ ‫ع َد َد ال ِ ه‬ ‫ِلت َ ْعلَ ُموا َ‬
‫والنهار واليوم والشهر والسنة هي المعبر عنها باألوقات ‪ ،‬وتدق إلى مسمى الساعات‬
‫ودونها ‪ ،‬والوقت ال وجود له في عينه وانه نسب وإضافات ‪ ،‬وان الموجود إنما هو‬
‫عين الفلك والكوكب ال عين الوقت والزمان ‪ ،‬فإنه عبارة عن األمر المتوهم الذي‬
‫فرضت فيه األوقات ‪ ،‬فالوقت فرض متوهم في عين موجودة وهو الفلك ‪ ،‬والكوكب‬
‫يقطع حركة ذلك الفلك والكواكب بالفرض المفروض فيه ‪ ،‬في أمر متوهم ال وجود له‬
‫ّللا ظرفا للكائنات المحيهزات الداخلة تحت هذا الفلك‬ ‫يسمى الزمان ‪ ،‬الذي جعله ه‬
‫الموقت فيه المفروض‬

‫ص ‪532‬‬

‫ص ‪532 :‬‬
‫في عينه تعيين األوقات ‪ ،‬ليقال ‪ :‬خلق كذا وظهر كذا في وقت كذا ‪ ،‬فبطلوع كوكب‬
‫الشمس سمي المطلع مشرقا والطلوع شروقا ‪ ،‬لكون ذلك الكوكب المنير طلع منه‬
‫وأضاء به الجو ‪ ،‬وبالشمس سميت المقارنة استواء ‪ ،‬وعند بدء نزوله عن االستواء‬
‫سمي زواال ‪ ،‬وغيابها غروبا والموضع الذي غربت فيه مغربا ‪ ،‬وأظلم الجو فسميت‬
‫مدة استنارة الجو من مشرق الشمس إلى مغربها نهارا ‪ ،‬وسميت مدة الظلمة من‬
‫غروب الشمس إلى طلوعها ليال ‪ ،‬وكان اليوم مجموع الليل والنهار ‪ ،‬وسميت‬
‫المواضع التي يطلع منها هذا الكوكب كل يوم درجا ‪ ،‬وانتقال الشمس في الفروض‬
‫المقدرة في الفلك المحيط درجة درجة حتى يقطع ذلك بشروق سميت أياما ‪ ،‬وكلما‬
‫أكمل قطع فرض من تلك الفروض شرع في قطع فرض آخر إلى أن أكملت الشمس‬
‫االثني عشر فرضا بالقطع ‪ ،‬ثم شرعت في كرة أخرى في قطع تلك الفروض ‪ ،‬فسمي‬
‫ابتداء كل فرض إلى انتهاء قطع ذلك الفرض شهرا ‪ ،‬وسمي قطع تلك الفروض كلها‬
‫ص ً‬
‫يال »سبحانه ال إله إال هو‬ ‫ص ْلناهُ ت َ ْف ِ‬ ‫سنِينَ َو ْال ِح َ‬
‫ساب َو ُك َّل َ‬
‫ش ْيءٍ فَ َّ‬ ‫سنة« ِلت َ ْعلَ ُموا َ‬
‫ع َد َد ال ِ ه‬
‫الحكيم القدير ‪.‬‬

‫[ سورة اْلسراء ( ‪ : ) 17‬اآليات ‪ 13‬إلى ‪]14‬‬


‫ج لَهُ يَ ْو َم ا ْل ِقيا َم ِة ِكتابا ً يَ ْلقا ُه َم ْنشُورا ً ( ‪13‬‬ ‫نسان أ َ ْل َز ْمنا ُه طا ِئ َر ُه ِفي ُ‬
‫عنُ ِق ِه َونُ ْخ ِر ُ‬ ‫ٍ‬ ‫َو ُك هل ِإ‬
‫سيبا ً ) ‪( 14‬‬ ‫علَ ْيكَ َح ِ‬ ‫اق َرأْ ِكتابَكَ كَفى بِنَ ْف ِ‬
‫سكَ ا ْليَ ْو َم َ‬ ‫) ْ‬
‫ّللا عليه‬
‫ّللا قراءة الكتب في الدار اآلخرة ليعلم العبد المصطفى قدر ما أنعم ه‬ ‫إنما شرع ه‬
‫وّللا هو‬
‫به ‪ ،‬والهالك ليعذر من نفسه فيعلم أنه جنى على نفسه ‪ ،‬فحاسب نفسك ه‬
‫الحسيب ‪.‬‬

‫[ سورة اْلسراء ( ‪ : ) 17‬آية ‪] 15‬‬


‫واز َرةٌ ِو ْز َر أ ُ ْخرى‬ ‫ض هل فَ ِإنهما يَ ِض ُّل َ‬
‫علَ ْيها َوال ت َ ِز ُر ِ‬ ‫َم ِن ا ْهتَدى فَ ِإنهما يَ ْهتَدِي ِلنَ ْف ِ‬
‫س ِه َو َم ْن َ‬
‫سوالً ) ‪( 15‬‬ ‫ث َر ُ‬ ‫َوما ُكنها ُمعَ ِذّبِ َ‬
‫ين َحتهى نَ ْبعَ َ‬
‫ّللا من تعيين طريق السعادة ‪ ،‬تعيهن اإلعالم به‬ ‫لما كان العالم في حال جهل بما في علم ه‬
‫ّللا ما كلف عباده وال دعاهم‬ ‫بصفة الكالم ‪ ،‬فال بد من الرسول ‪ ،‬ومن وجه آخر فإن ه‬
‫إلى تكليف قط بغير واسطة ‪ ،‬فإنه بالذات ال يدعو إلى ما فيه مشقة ‪ ،‬فلهذا اتخذ الرسل‬
‫عليهم‬

‫ص ‪533‬‬

‫ص ‪533 :‬‬
‫وال » ]‬ ‫س ً‬‫ث َر ُ‬ ‫الصالة والسالم ‪َ « [،‬وما ُكنَّا ُمعَ ِذهبِينَ َحتَّى نَ ْبعَ َ‬
‫وال ‪ »-‬الوجه األول ‪ -‬يعني نبعثه‬ ‫س ً‬‫ث َر ُ‬ ‫وقال جل ثناؤه« َوما ُكنَّا ُمعَ ِذهبِينَ َحتَّى نَ ْبعَ َ‬
‫ّللا تعالى أنه أيهد الرسل بالبينات ليعذر‬ ‫باآليات البينات على صدق دعواه ‪ ،‬وكذا أخبر ه‬
‫اإلنسان من نفسه ‪ ،‬فإنه قبل إرسال الرسل لم يقيد اإلنسان ‪ ،‬بل كان يجري بطبعه من‬
‫غير مؤاخذة أصال ‪ ،‬فوجد العذر لمن لم تبلغه الدعوة اإللهية ‪ ،‬فحكمه حكم من لم‬
‫ّللا إليه رسوال ‪ ،‬والرسول ما هو رسول لمن أرسل إليه حتى يؤدي رسالته لمن‬ ‫يبعث ه‬
‫أرسل إليه ‪ ،‬ففي هذه اآلية رحمة عظيمة لما هو الخلق عليه من اختالف الفطر‬
‫س ً‬
‫وال‬ ‫ث َر ُ‬ ‫ّللا تعالى قال« َوما ُكنَّا ُمعَ ِذهبِينَ َحتَّى نَ ْبعَ َ‬ ‫المؤدي إلى اختالف النظر ‪ ،‬فإن ه‬
‫»لم يقل حتى نبعث شخصا ‪ ،‬فال بد أن تثبت رسالة المبعوث عند من وجه إليه ‪ ،‬فال‬
‫بد من إقامة الداللة البينة الظاهرة عند كل شخص شخص ممن بعث إليهم ‪ ،‬فإن ربه‬
‫آية يكون فيها من الغموض أو االحتمال بحيث أن ال يدرك بعض الناس داللتها ‪ ،‬فال‬
‫بد أن يكون الدليل من الوضوح عند كل من أقيم عليه حتى يثبت عنده أنه رسول ‪،‬‬
‫ّللا ذلك إال رحمة بعباده لمن‬ ‫وحينئذ إن جحد بعد ما تيقن تعينت المؤاخذة ‪ ،‬وما فعل ه‬
‫ّللا تعالى أنها وسعت كل شيء ‪ -‬الوجه الثاني ‪-‬‬ ‫علم شمول الرحمة اإللهية التي أخبر ه‬
‫هذه اآلية تدل على أن الشرائع قد عمت جميع الخلق من آدم إلى نبينا محمد صلهى ه‬
‫ّللا‬
‫ِير )‪ -‬الوجه الثالث ‪ -‬قال رسول‬ ‫عليه وسلم وقد قال تعالى( َو ِإ ْن ِم ْن أ ُ َّم ٍة ِإ َّال خَال ِفيها نَذ ٌ‬
‫ّللا دخل‬ ‫ّللا عليه وسلم في الصحيح ‪ [ :‬من مات وهو يعلم أنه ال إله إال ه‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫ه‬
‫الجنة ] ولم يقل هنا يؤمن ‪ ،‬فإن اإليمان موقوف على الخبر ‪ ،‬وقد قال« َوما ُكنَّا‬
‫وال »وقد علمنا أن هّلل عبادا كانوا في فترات وهم موحدون علما‬ ‫س ً‬ ‫ُمعَ ِذهبِينَ َحتَّى نَ ْبعَ َ‬
‫ث َر ُ‬
‫ّللا عليه وسلم عامة فيلزم أهل كل‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫‪ ،‬وما كانت دعوة الرسل قبل رسول ه‬
‫ّللا المؤمن منهم من حيث ما هو‬ ‫زمان اإليمان ‪ ،‬فعم بهذا الكالم جميع العلماء بتوحيد ه‬
‫عالم به من جهة الخبر الصدق الذي يفيد العلم ال من جهة اإليمان وغير المؤمن ‪،‬‬
‫فاإليمان ال يصح وجوده إال بعد مجيء الرسول ‪ ،‬والرسول ال يثبت حتى يعلم الناظر‬
‫العاقل أن ثم إلها وأن ذاك اإلله واحد ‪ ،‬ال بد من ذلك ‪ ،‬ألن الرسول من جنس من‬
‫أرسل إليهم ‪ ،‬فال يختص واحد من الجنس دون غيره إال لعدم المعارض وهو الشريك‬
‫ّللا تتأهب العقالء أولو األلباب واألحالم والنهى لما‬ ‫‪ ،‬فإذا حصل التصديق بأنه رسول ه‬
‫ّللا دخل الجنة بال‬ ‫يورده في رسالته هذا الرسول ‪ ،‬فمن مات وهو يعلم أنه ال إله إال ه‬
‫ّللا أمة وحده‬ ‫شك وال ريب وهو من السعداء فأما من كان من أهل الفترات فيبعثه ه‬
‫كقس بن‬

‫ص ‪534‬‬

‫ص ‪534 :‬‬
‫ّللا ‪ ،‬بل هو‬
‫ساعدة ‪ ،‬ال تابع ألنه ليس بمؤمن ‪ ،‬وال هو متبوع ألنه ليس برسول عند ه‬
‫باّلل ‪.‬‬
‫عالم ه‬

‫[ سورة اْلسراء ( ‪ : ) 17‬آية ‪] 16‬‬


‫علَ ْي َها ا ْلقَ ْو ُل فَ َد هم ْرناها‬ ‫َو ِإذا أ َ َردْنا أ َ ْن نُ ْه ِلكَ قَ ْريَةً أ َ َم ْرنا ُمتْ َر ِفيها فَفَ َ‬
‫سقُوا ِفيها فَ َح ه‬
‫ق َ‬
‫تَد ِْميرا ً ) ‪( 16‬‬
‫ّللا تعالى فهو القول الواجب ال يبدل ‪ ،‬فإن القول اإللهي منه ما يقبل‬ ‫إذا حق القول من ه‬
‫التبديل ‪ ،‬ومنه ما ال يقبل التبديل وهو إذا حق القول منه ‪ ،‬والقول المعروض يقبل‬
‫التبديل ‪.‬‬

‫[ سورة اْلسراء ( ‪ : ) 17‬اآليات ‪ 17‬إلى ‪] 20‬‬


‫ب ِعبا ِد ِه َخبِيرا ً بَ ِصيرا ً ( ‪) 17‬‬ ‫ون ِم ْن بَ ْع ِد نُوحٍ َوكَفى بِ َر ِبّكَ بِذُنُو ِ‬ ‫َو َك ْم أ َ ْهلَ ْكنا ِم َن ا ْلقُ ُر ِ‬
‫ع هج ْلنا لَهُ فِيها ما نَشا ُء ِل َم ْن نُ ِري ُد ث ُ هم َجعَ ْلنا لَهُ َج َهنه َم يَصْالها‬ ‫عاجلَةَ َ‬
‫كان يُ ِري ُد ا ْل ِ‬
‫َم ْن َ‬
‫س ْعيَها َو ُه َو ُم ْؤ ِم ٌن فَأُولئِكَ َ‬
‫كان‬ ‫سعى لَها َ‬ ‫َم ْذ ُموما ً َم ْد ُحورا ً ( ‪َ ) 18‬و َم ْن أَرا َد ْاآل ِخ َرةَ َو َ‬
‫َطاء َر ِبّكَ َوما َ‬
‫كان عَطا ُء َر ِبّكَ‬ ‫ُالء ِم ْن ع ِ‬ ‫ُالء َو َهؤ ِ‬‫شكُورا ً ( ‪ُ ) 19‬كالًّ نُ ِم ُّد هؤ ِ‬ ‫س ْعيُ ُه ْم َم ْ‬ ‫َ‬
‫ظورا ً ( ‪) 20‬‬ ‫َمحْ ُ‬

‫طاء َر ِبه َك ‪ُ «] » . . .‬ك ًّال نُ ِم ُّد »وذكر المذموم‬


‫ع ِ‬ ‫ُالء ِم ْن َ‬ ‫[ « ُك ًّال نُ ِم ُّد هؤ ِ‬
‫ُالء َو َهؤ ِ‬
‫والمحمود ‪ ،‬وهو من إمداد األسماء اإللهية التي من حقائقها التقابل ‪ ،‬فالنافع ما هو‬
‫ُالء »أصحاب‬ ‫ُالء »أصحاب الجنة« َو َهؤ ِ‬ ‫الضار ‪ ،‬وال المعطي هو المانع ‪ «،‬هؤ ِ‬
‫طاء َر ِبه َك »فعم العطاء الجميع يعني الطائع والعاصي ‪ ،‬وأهل الخير وأهل‬ ‫ع ِ‬ ‫النار« ِم ْن َ‬
‫الشر مع اختالف الذوق ‪ ،‬وقد يكون عطاؤه اإللهام ‪ ،‬وقد يكون خلق العمل« َوما كانَ‬
‫ظورا ً »وهذا إبانة عن حقيقة صحيحة بما هو األمر عليه وفي نفسه ‪،‬‬ ‫عطا ُء َر ِبه َك َم ْح ُ‬
‫َ‬
‫عطا ُء َر ِبه َك َم ْح ُ‬
‫ظورا ً »أي‬ ‫باّلل ‪ ،‬فقوله تعالى« َوما كانَ َ‬‫من أنه ال حول وال قوة إال ه‬
‫ممنوعا ألنه يعطي لذاته ‪ ،‬والمحال القوابل تقبل باستعدادها ‪ ،‬واستعدادها أثر األسماء‬
‫اإللهية فيها ‪ ،‬ومن األسماء اإللهية الموافق والمخالف ‪ ،‬مثل الموافق الرحيم الغفور‬
‫وأشباهه ‪ ،‬ومثل المخالف المعز والمذل ‪ ،‬فال بد أن يكون استعداد هذا المحل في حكم‬
‫اسم من هذه األسماء ‪ ،‬فيكون‬

‫ص ‪535‬‬

‫ص ‪535 :‬‬
‫قبوله للحكم اإللهي بحسب ذلك ‪ ،‬فإما مخالف وإما موافق ‪ ،‬ومن كان هذا حاله كيف‬
‫يتعلق به ذم ذاتي ؟‬
‫واألعراض ال ثبات لها ‪ ،‬فالجود اإللهي مطلق والمنع عدم القبول ‪ ،‬فمن المفيض‬
‫المعطي وجود جود صرف خالص محض ‪ ،‬وما ثم إال عطاء في عين منع ومنع في‬
‫عين عطاء ‪ ،‬فحضرة المنع تعطي المنع بعطاء العين ‪ ،‬فالمنع تبع ‪ ،‬فإن المحل إذا كان‬
‫في اللون األبيض فقد أعطاه البياض ‪ ،‬وعين إعطاء البياض منع ما يضادهه من األلوان‬
‫‪ ،‬لكن ليس متعلق اإلرادة إال إيجاد عين البياض فامتنع ضده بحكم التبع ‪ ،‬وهكذا كل‬
‫فاّلل يعطي على الدوام والمحال تقبل على قدر حقائق استعداداتها ‪،‬‬
‫ضد في العين ‪ ،‬ه‬
‫ّللا واحدة العين على األسماع ‪ ،‬فسامع يفهم منها أمرا واحدا‬ ‫فترد اآلية مثال من كتاب ه‬
‫‪ ،‬وسامع آخر ال يفهم منها ذلك األمر ويفهم منها أمرا آخر ‪ ،‬وآخر يفهم منها أمورا‬
‫كثيرة ‪ ،‬ولهذا يستشهد كل واحد من الناظرين فيها بها الختالف استعداد األفهام ‪ ،‬فإذا‬
‫ّللا ليس بممنوع ‪ ،‬إال أنك تحب أن يعطيك ما ال يقبله‬
‫فهمت هذا علمت أن عطاء ه‬
‫استعدادك ‪ ،‬وتنسب المنع إليه فيما طلبته منه ‪ ،‬ولم تجعل بالك إلى االستعداد الذي هو‬
‫ّللا ‪،‬‬
‫على ترتيب الحكمة اإللهية في العالم وما تعطيه حقائق األشياء ‪ ،‬والكل من عند ه‬
‫فمنعه عطاء وعطاؤه منع ‪ ،‬ولكن بقي لك أن تعلم لكذا ومن كذا ‪ ،‬وفي هذه اآلية إشارة‬
‫إلى عدم سرمدة العذاب على أهل النار ‪ ،‬فعطاؤه تعالى عين الرحمة التي سبقت ‪،‬‬
‫فوسعت كل شيء من مكروه وغيره وغضب وغيره ‪ ،‬فما في العالم عين قائمة وال‬
‫ّللا تشمله وتحيط به ‪ ،‬وهي محل له وال ظهور له إال فيها ‪ ،‬فبالرحمن‬ ‫حال إال ورحمة ه‬
‫استوى على العرش ‪ ،‬وما انقسمت الكلمة إال من دون العرش من الكرسي فما تحته ‪،‬‬
‫فإنه موضع القدمين وليس سوى انقسام الكلمة ‪ ،‬فظهر األمر والخلق ‪ ،‬والنهي واألمر‬
‫‪ ،‬والطاعة والمعصية ‪ ،‬والجنة والنار ‪ ،‬كل ذلك عن أصل واحد وهي الرحمة التي‬
‫هي صفة الرحمن ‪.‬‬

‫[ سورة اْلسراء ( ‪ : ) 17‬آية ‪] 21‬‬


‫ت َوأ َ ْكبَ ُر ت َ ْف ِضيالً ) ‪( 21‬‬
‫ض َولَ ْْل ِخ َرةُ أ َ ْكبَ ُر د ََرجا ٍ‬ ‫ف فَ ه‬
‫ض ْلنا بَ ْع َ‬
‫ض ُه ْم عَلى بَ ْع ٍ‬ ‫ا ْن ُ‬
‫ظ ْر َك ْي َ‬
‫إنما ظهر الفضل في العالم ليعلم أن الحق له عناية ببعض عباده وله خذالن في بعض‬
‫عباده ‪.‬‬

‫[ سورة اْلسراء ( ‪ : ) 17‬اآليات ‪ 22‬إلى ‪] 23‬‬


‫َّللا إِلها ً آ َخ َر فَت َ ْقعُ َد َم ْذ ُموما ً َم ْخذُوالً ) ‪َ ( 22‬وقَضى َربُّكَ أَاله ت َ ْعبُدُوا إِاله إِيها ُه‬ ‫ال تَجْ عَ ْل َم َع ه ِ‬
‫ف َوال‬‫َو ِبا ْلوا ِل َد ْي ِن ِإحْ سانا ً ِإ هما يَ ْبلُغَ هن ِع ْندَكَ ا ْل ِكبَ َر أ َ َح ُد ُهما أ َ ْو ِكال ُهما فَال تَقُ ْل لَ ُهما أ ُ ّ ٍ‬
‫ت َ ْن َه ْر ُهما َوقُ ْل لَ ُهما قَ ْوالً ك َِريما ً) ‪( 23‬‬
‫ص ‪536‬‬

‫ص ‪536 :‬‬
‫علماء الرسوم يحملون لفظ« قَضى »على األمر ‪ ،‬ونحن نحملها على الحكم ‪ ،‬فقوله‬
‫تعالى« َوقَضى َرب َُّك أ َ َّال ت َ ْعبُدُوا ِإ َّال ِإيَّاهُ »أي حكم ‪ ،‬وقضاء الحق ال ير هد ‪ ،‬والعبادة ذلة‬
‫ُون )‬ ‫س ِإ َّال ِليَ ْعبُد ِ‬ ‫اإل ْن َ‬‫في اللسان المنزل به هذا القرآن ‪ ،‬قال تعالى ( َوما َخلَ ْقتُ ْال ِج َّن َو ْ ِ‬
‫ّللا ]‬‫[ على الحقيقة ما عبد المشرك إال ه‬
‫اس أ َ ْنت ُ ُم‬
‫فإن العبادة ذاتية للمخلوق ال يحتاج فيها إلى تكليف ‪ ،‬فكما قال ‪ ( :‬يا أَيُّ َها النَّ ُ‬
‫ّللا ‪ ،‬فمن‬ ‫ّللا ‪ ،‬قضى أن ال يعبد غير ه‬ ‫ّللا ) ولم يذكر افتقار مخلوق لغير ه‬ ‫ْالفُقَرا ُء إِلَى َّ ِ‬
‫ّللا ‪ ،‬فما عبد شيء‬ ‫ّللا عبدت اآللهة ‪ ،‬فلم يكن المقصود بعبادة كل عابد إال ه‬ ‫أجل حكم ه‬
‫ّللا ‪ ،‬وإنما أخطأ المشرك حيث نصب لنفسه عبادة بطريق خاص لم يشرع له‬ ‫لعينه إال ه‬
‫من جانب الحق ‪ ،‬فشقي لذلك ‪،‬‬
‫ّللا ) فاعترفوا به ‪ ،‬وأنزلوهم منزلة‬ ‫فإنهم قالوا في الشركاء( ما نَ ْعبُ ُد ُه ْم ِإ َّال ِليُقَ ِ هربُونا ِإلَى َّ ِ‬
‫النواب الظاهرة بصورة من استنابهم ‪ ،‬وما ثم صورة إال األلوهية فنسبوها إليهم ‪،‬‬
‫ولهذا يقتضي الحق حوائجهم إذا توسلوا بها إليه ‪ ،‬غيرة منه على المقام أن يهتضم ‪،‬‬
‫وإن أخطئوا في النسبة فما أخطئوا في المقام ‪،‬‬
‫س َّم ْيت ُ ُموها )أي أنتم قلتم إنها آلهة ‪ ،‬وإال فسموهم ‪ ،‬فلو‬ ‫ي ِإ َّال أَسْما ٌء َ‬
‫ولهذا قال( ِإ ْن ِه َ‬
‫سموهم لقالوا ‪ :‬هذا حجر وشجر أو ما كان ‪ ،‬فتتميز عندهم باالسمية ‪ ،‬إذ ما ك هل حجر‬
‫عبد وال اتخذ إلها ‪ ،‬وال كل شجر ‪ ،‬وال كل جسم منير ‪ ،‬وال كل حيوان ‪ ،‬هللف الحجة‬
‫س ُّمو ُه ْم )فكانت األصنام واألوثان مظاهر له في زعم الكفار ‪،‬‬ ‫البالغة عليهم بقوله( َ‬
‫فأطلقوا عليها اسم اإلله ‪ ،‬فما عبدوا إال اإلله ‪ ،‬وهو الذي دل عليه ذلك المظهر ‪،‬‬
‫فقضى حوائجهم وسقاهم ‪ ،‬وعاقبهم إذ لم يحترموا ذلك الجناب اإللهي في الصورة‬
‫ّللا ‪ ،‬فكان قوله تعالى ‪َ «:‬وقَضى‬ ‫الجمادية ‪ ،‬فهم األشقياء وإن أصابوا أو لم يعبدوا إال ه‬
‫َرب َُّك أ َ َّال ت َ ْعبُدُوا ِإ َّال ِإيَّاهُ »من الغيرة اإللهية حتى ال يعبد إال من له هذه الصفة ‪ ،‬فكان‬
‫من قضائه أنهم اعتقدوا اإلله ‪ ،‬وحينئذ عبدوا ما عبدوا ‪ ،‬مع أنهم ما عبدوا في األرض‬
‫من الحجارة والنبات والحيوان ‪ ،‬وفي السماء من الكواكب والمالئكة ‪ ،‬إال العتقادهم‬
‫في كل معبود أنه إله ‪ ،‬ال لكونه حجرا وال شجرة وال غير ذلك ‪ ،‬وإن أخطئوا في‬
‫ّللا ‪ ،‬وهي المرتبة‬ ‫النسبة فما أخطئوا في المعبود ‪ ،‬فعلى الحقيقة ما عبد المشرك إال ه‬
‫التي سماها إلها ‪ ،‬ألنه لو لم يعتقد األلوهة في الشريك ما عبده ‪ ،‬فإنه ما عبد ما عبد إال‬
‫بتخيل األلوهة فيه ‪ ،‬ولوالها ما عبد ‪ ،‬ولذلك قال تعالى« َوقَضى َرب َُّك أ َ َّال ت َ ْعبُدُوا ِإ َّال‬
‫ّللا ‪ ،‬حتى المشركون ما عبدوه إال في الهياكل المسماة‬ ‫ِإيَّاهُ »فما عبد أحد سوى ه‬

‫ص ‪537‬‬

‫ص ‪537 :‬‬
‫ّللا ‪ ،‬ألنه ما عبد الحجر‬ ‫شركاء ‪ ،‬فما عبدت إال األلوهية في كل من عبد من دون ه‬
‫لعينه ‪ ،‬وإنما عبد من حيث نسبة األلوهة له ‪ ،‬فإن المشرك ما عبد شيئا إال بعد ما نسب‬
‫ّللا ‪ ،‬فاأللوهية هي المعبودة من كل معبود ‪ ،‬ولكن أخطئوا‬ ‫إليه األلوهة فما عبد إال ه‬
‫النسبة فشقوا شقاوة األبد ‪ ،‬وغار الحق لهذا الوصف فعاقبهم في الدنيا إذ لم يحترموه ‪،‬‬
‫ورزقهم وسمع دعاءهم ‪ ،‬وأجابهم إذا سألوا إلههم في زعمهم ‪ ،‬لعلمه سبحانه أنهم ما‬
‫لجئوا إال لهذه المرتبة وإن أخطئوا في النسبة ‪ ،‬فشقوا في اآلخرة شقاء األبد ‪ ،‬حيث‬
‫نبههم الرسول على توحيد من تجب له هذه النسبة فلم ينظروا وال نصحوا نفوسهم ‪،‬‬
‫ولهذا كانت داللة كل رسول بحسب ما كان الغالب على أهل زمانه ‪ ،‬لتقوم عليهم‬
‫الحجة ‪ ،‬فتكون هّلل الحجة البالغة ‪ -‬تحقيق ‪ -‬قوله تعالى« َوقَضى َرب َُّك أ َ َّال ت َ ْعبُدُوا ِإ َّال ِإيَّاهُ‬
‫واح ٌد )‬ ‫»قضاء صحيحا( َو ِإل ُه ُك ْم ِإلهٌ ِ‬
‫فإن اآلثار ال تكون إال لأللوهة ‪ ،‬وبها ظهرت اآلثار عن األكوان كلها في األكوان ‪،‬‬
‫ولوال هذا السريان الدقيق ‪ ،‬والحجاب العجيب الرقيق ‪ ،‬والستر األخفى ‪ ،‬ما عبدت‬
‫األلوهية في المالئكة والكواكب واألفالك واألركان والحيوانات والنباتات واألحجار‬
‫واألناسي ‪ ،‬إذ األلوهية هي المعبودة من الموجودات ‪ ،‬فأخطئوا في اإلضافة من وجه‬
‫ال غير ‪ ،‬ولكن كان في ذلك الوجه شقاوة األبد ‪ ،‬فالمحقق تحقق ذلك الوجه ورفع‬
‫الخطأ من جهة العقل ال من جهة الحكم ‪ ،‬فإن النظر اإللهي كان تمكنه من هؤالء‬
‫المعبودين أكبر من غيرهم ‪ ،‬فربط اآلثار بهم فظهرت عندهم ‪ ،‬ليضل من يشاء ويهدي‬
‫من يشاء ‪ ،‬وربما ارتفعت طائفة عن مدرج نسبة األلوهية لهم مطلقا ولحظت الوجه‬
‫ّللا ُز ْلفى )فاتخذوهم حجبة ووزراء نعوذ ه‬
‫باّلل‬ ‫الخفي فقالت( ما نَ ْعبُ ُد ُه ْم ِإ َّال ِليُقَ ِ هربُونا ِإلَى َّ ِ‬
‫‪ ،‬ولكن هي أشبه من األولى ‪ ،‬ولو رأت هذه الطائفة هذا الوجه من أنفسها ما عبدت‬
‫األلوهية في كون خارج عنها ‪ ،‬بل كانت تعبد نفسها ‪ ،‬ولكن أيضا لتحققها بها ووقوفها‬
‫مع عجزها وقصورها وإتالفها لم يتمكن لها ذلك ‪ ،‬ولو الح لها ما ذكرناه ما اختصت‬
‫بعبودة األلوهية في كون بعينه ‪ ،‬ومحصول ما قلناه أن األلوهية هي المعبودة على‬
‫اإلطالق ال األكوان ‪ ،‬ولهذا قال( َوإِل ُه ُك ْم إِلهٌ ِ‬
‫واح ٌد )‬
‫وقال« َوقَضى َرب َُّك أ َ َّال ت َ ْعبُدُوا ِإ َّال ِإيَّاهُ »وقضاؤه غير مردود ‪ ،‬فمن وقف على هذه‬
‫الوجوه اإللهية من األكوان فما يصح عنده أن يعبده كون أصال ‪ ،‬ومن لم يعرفها وال‬
‫يشاهدها تعبده وجه الحق في الكون ال الكون ‪ ،‬وبهذا القدر يعاقب ويطلق عليه اسم‬
‫الشرك « َو ِب ْالوا ِل َدي ِْن ِإ ْحسانا ً ِإ َّما يَ ْبلُغ ََّن ِع ْن َد َك‬

‫ص ‪538‬‬

‫ص ‪538 :‬‬
‫ف َوال ت َ ْن َه ْر ُهما َوقُ ْل لَ ُهما قَ ْو ًال َك ِريما ً »لما كانت‬ ‫ْال ِكبَ َر أ َ َح ُد ُهما أ َ ْو ِكال ُهما فَال تَقُ ْل لَ ُهما أ ُ ه ٍ‬
‫األخالق تختلف أحكامها باختالف المحل الذي ينبغي أن يقابل بها ‪ ،‬احتاج صاحب‬
‫الخلق إلى علم يكون عليه حتى يصرف في ذلك المحل الخلق الذي يليق به عن أمر‬
‫ّللا ‪ ،‬فلهذا نزلت الشرائع لتبيهن للناس محال أحكام األخالق التي‬ ‫ّللا ‪ ،‬فيكون قربة إلى ه‬ ‫ه‬
‫ف »لوجود التأفف في خلقه‬ ‫ُ‬
‫ّللا في مثل ذلك« فَال تَقُ ْل لَ ُهما أ ه ٍ‬ ‫جبل اإلنسان عليها ‪ ،‬فقال ه‬
‫‪ ،‬فأبان عن المحل الذي ال ينبغي أن يظهر فيه حكم هذا الخلق ‪ ،‬ثم بيهن المحل الذي‬
‫ّللا )ومن الناحية‬ ‫ُون َّ ِ‬‫ف لَ ُك ْم َو ِلما ت َ ْعبُدُونَ ِم ْن د ِ‬ ‫ينبغي أن يظهر فيه هذا الخلق فقال( أ ُ ه ٍ‬
‫الفقهية اعتبر أهل القياس هذه اآلية دليال على تحريم ضرب الرجل أباه بالعصا أو بما‬
‫كان ‪ ،‬فقال أهل القياس ‪ :‬ال نص عندنا في هذه المسألة ‪ ،‬ولكن لما قال تعالى« فَال تَقُ ْل‬
‫ف َوال ت َ ْن َه ْر ُهما »[ مقارنة بين استخراج الحكم بالقياس وبين استخراجه بالنص‬ ‫لَ ُهما أ ُ ه ٍ‬
‫]‬
‫قلنا ‪ :‬فإذا ورد النهي عن التأفف وهو قليل ‪ ،‬فالضرب بالعصا أشد ‪ ،‬فكان تنبيها من‬
‫الشارع باألدنى على األعلى ‪ ،‬فال بد من القياس عليه ‪ ،‬فإن التأفف والضرب بالعصا‬
‫يجمعهما األذى ‪ ،‬فقسنا الضرب بالعصا المسكوت عنه على التأفف المنطوق به ‪ ،‬وقلنا‬
‫نحن ‪ :‬ليس لنا التحكم على الشارع في شيء مما يجوز أن يكلف به وال التحكم ‪ ،‬وال‬
‫سيما في مثل هذا لو لم يرد في نطق الشرع غير هذا لم يلزمنا هنا القياس وال قلنا به‬
‫وال ألحقناه بالتأفيف ‪ ،‬وإنما حكمنا بما ورد وهو قوله في اآلية« َوبِ ْالوا ِل َدي ِْن إِ ْحسانا ً‬
‫»فأجمل الخطاب ‪ ،‬فاستخرجنا من هذا المجمل الحكم في كل ما ليس بإحسان ‪،‬‬
‫والضرب بالعصا ما هو من اإلحسان المأمور به من الشرع في معاملتنا آلبائنا ‪ ،‬فما‬
‫حكمنا إال بالنص وما احتجنا إلى قياس ‪ ،‬فإن الدين قد كمل وال تجوز الزيادة فيه كما‬
‫لم يجز النقص منه ‪ ،‬فمن ضرب أباه بالعصا فما أحسن إليه ‪ ،‬ومن لم يحسن ألبيه فقد‬
‫ّللا به أن يعامل به أبويه ‪ ،‬ومن رد كالم أبويه وفعل ما ال يرضي‬ ‫عصى ما أمره ه‬
‫أبويه مما هو مباح له تركه فقد عقهما ‪ ،‬وقد ثبت أن عقوق الوالدين من الكبائر ‪.‬‬

‫[ سورة اْلسراء ( ‪ : ) 17‬آية ‪] 24‬‬


‫ص ِغيرا ً ( ‪) 24‬‬
‫ار َح ْم ُهما كَما َربهيانِي َ‬
‫ب ْ‬ ‫ح الذُّ ِ ّل ِم َن ه‬
‫الرحْ َم ِة َوقُ ْل َر ّ ِ‬ ‫ض لَ ُهما َجنا َ‬ ‫َو ْ‬
‫اخ ِف ْ‬
‫الر ْح َم ِة »الجناح عبارة عن اللطف ‪.‬‬ ‫ض لَ ُهما َجنا َح الذُّ ِهل ِمنَ َّ‬ ‫« َو ْ‬
‫اخ ِف ْ‬

‫[ سورة اْلسراء ( ‪ ) : 17‬آية ‪] 25‬‬


‫كان ِل َْل َ هوابِ َ‬
‫ين َ‬
‫غفُورا ً) ‪( 25‬‬ ‫ين فَ ِإنههُ َ‬ ‫َربُّ ُك ْم أ َ ْعلَ ُم بِما فِي نُفُو ِ‬
‫س ُك ْم إِ ْن تَكُونُوا صا ِل ِح َ‬

‫ص ‪539‬‬

‫ص ‪539 :‬‬
‫ّللا باألوبة في أحوالهم يقال آبت الشمس لغة في‬
‫األوابون من رجال ونساء توالهم ه‬
‫ّللا‬
‫ّللا فإن ه‬
‫ّللا أحد من خلق ه‬
‫ّللا فلم يشهد حالهم مع ه‬
‫غابت ‪ ،‬فالرجال الغائبون عند ه‬
‫وصف نفسه بأنه غفور لهم أي ساتر أي يستر مقامهم عن كل أحد سواه ألنهم طلبوا‬
‫الغيبة عنده حتى ال يكون لهم مشهود سواه سبحانه ‪ ،‬واآلئب أيضا الذي يأتي القوم ليال‬
‫ّللا في كل حال من كل ناحية يقال ‪ :‬جاءوا‬ ‫كالطارق والليل ستر ‪ ،‬وهم الراجعون إلى ه‬
‫ّللا من كل ناحية من األربع التي يأتي‬
‫من كل أوبة أي ناحية ‪ ،‬فاألواب الراجع إلى ه‬
‫منها إبليس إلى اإلنسان من ناحية أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم فهم‬
‫ّللا أوال وآخرا ‪.‬‬
‫يرجعون في ذلك كله إلى ه‬

‫[ سورة اْلسراء ( ‪ : ) 17‬آية ‪] 26‬‬


‫س ِبي ِل َوال تُبَذّ ِْر ت َ ْبذِيرا ً ( ‪) 26‬‬ ‫ين َوا ْب َن ال ه‬ ‫ت ذَا ا ْلقُ ْربى َحقههُ َوا ْل ِم ْ‬
‫س ِك َ‬ ‫َوآ ِ‬
‫ّللا وخاصته ]‬ ‫[ أهل القرآن هم أهل ه‬
‫ّللا وخاصته ]‬ ‫ّللا عليه وسلم ‪ [ :‬أهل القرآن هم أهل ه‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫‪-‬إشارة ‪ -‬قال رسول ه‬
‫ّللا هو المتصدق على أهله إذا كان المتصدق بهذه المثابة‬ ‫اعلم أن المتصدق على أهل ه‬
‫‪ ،‬كنت يوما عند شيخنا أبي العباس العريبي بإشبيلية جالسا ‪ ،‬وأردنا أو أراد أحد‬
‫إعطاء معروف ‪ ،‬فقال شخص من الجماعة للذي يريد أن يتصدق ‪ :‬األقربون أولى‬
‫ّللا ‪ .‬فيا بردها على الكبد‬ ‫بالمعروف ‪ ،‬فقال الشيخ من فوره متصال بكالم القائل ‪ :‬إلى ه‬
‫ي أنها كذا نزلت في القرآن ‪،‬‬ ‫ّللا ‪ ،‬حتى خيهل إل ه‬ ‫وّللا ما سمعتها في تلك الحالة إال من ه‬ ‫‪ ،‬ه‬
‫ّللا إال‬‫مما تحققت بها وأشربها قلبي ‪ ،‬وكذا جميع من حضر ‪ ،‬فال ينبغي أن يأكل نعم ه‬
‫ّللا ‪ ،‬ولهم خلقت ‪ ،‬ويأكلها غيرهم بحكم التبعية ‪ ،‬فهم المقصودون بالنعم ومن‬ ‫أهل ه‬
‫ّللا عليه وسلم ‪:‬‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫عداهم إنما يأكلها تبعا ‪ ،‬قال رسول ه‬
‫ّللا ‪ ،‬دينار أنفقته في رقبة ‪ ،‬دينار تصدقت به على مسكين ‪،‬‬ ‫[ دينار أنفقته في سبيل ه‬
‫دينار أنفقته على أهلك ‪ ،‬أعظمها أجرا الذي أنفقته على أهلك ]‬
‫ّللا ‪،‬‬
‫ّللا ‪ ،‬كذلك هو األمر في نفسه ‪ ،‬فال أقرب من ه‬ ‫ّللا عنه ‪ :‬إلى ه‬ ‫فقول الشيخ رضي ه‬
‫فهو القريب سبحانه الذي ال يبعد إال بعد تنزيه ‪ ،‬وتنقطع األرحام بالموت وال ينقطع‬
‫الرحم المنسوبة إلى الحق ‪ ،‬فإنه معنا حيثما كنا ‪ ،‬ونحن ما بيننا نتصل في وقت‬
‫وننقطع في وقت بموت أو فقد وارتحال ‪،‬‬
‫ّللا عليه وسلم قال ‪ [ :‬الصدقة على المسكين صدقة وعلى ذي الرحم‬ ‫وعن النبي صلهى ه‬
‫ثنتان صدقة وصلة ] ‪.‬‬
‫[ سورة اْلسراء ( ‪ : ) 17‬اآليات ‪ 27‬إلى ‪] 29‬‬
‫ض هن‬‫طان ِل َر ِبّ ِه َكفُورا ً ( ‪َ ) 27‬و ِإ هما ت ُ ْع ِر َ‬
‫ش ْي ُ‬ ‫كان ال ه‬ ‫ين َو َ‬ ‫هياط ِ‬
‫وان الش ِ‬ ‫ين كانُوا ِإ ْخ َ‬ ‫ِإ هن ا ْل ُمبَذّ ِِر َ‬
‫سورا ً ) ‪َ ( 28‬وال تَجْ عَ ْل يَدَكَ‬ ‫ع ْن ُه ُم ا ْبتِغا َء َرحْ َم ٍة ِم ْن َر ِبّكَ ت َ ْر ُجوها فَقُ ْل لَ ُه ْم قَ ْوالً َم ْي ُ‬‫َ‬
‫سورا ً) ‪( 29‬‬‫س ِط فَت َ ْقعُ َد َملُوما ً َمحْ ُ‬ ‫س ْطها ُك هل ا ْلبَ ْ‬ ‫َم ْغلُولَةً ِإلى ُ‬
‫عنُ ِقكَ َوال ت َ ْب ُ‬

‫ص ‪540‬‬

‫ص ‪540 :‬‬
‫ْط »كناية‬ ‫س ْ‬
‫طها ُك َّل ْالبَس ِ‬ ‫« َوال ت َ ْجعَ ْل يَ َد َك َم ْغلُولَةً ِإلى ُ‬
‫عنُ ِق َك »كناية عن البخل« َوال ت َ ْب ُ‬
‫سورا ً »‪.‬‬ ‫عن السرف« فَت َ ْقعُ َد َملُوما ً َم ْح ُ‬

‫[ سورة اْلسراء ( ‪ : ) 17‬اآليات ‪ 30‬إلى ‪] 31‬‬


‫كان بِ ِعبا ِد ِه َخبِيرا ً بَ ِصيرا ً ( ‪َ ) 30‬وال ت َ ْقتُلُوا‬
‫ق ِل َم ْن يَشا ُء َويَ ْقد ُِر إِنههُ َ‬ ‫الر ْز َ‬
‫ط ِّ‬ ‫س ُ‬‫إِ هن َربهكَ يَ ْب ُ‬
‫شيَةَ إِ ْم ٍ‬
‫الق نَحْ ُن نَ ْر ُزقُ ُه ْم َوإِيها ُك ْم إِ هن قَتْلَ ُه ْم َ‬
‫كان ِخ ْطأ ً َكبِيرا ً ) ‪( 31‬‬ ‫أ َ ْوال َد ُك ْم َخ ْ‬
‫شكى شخص إلى بعض الصالحين كثرة العائلة فقال له ‪ :‬ادخل إلى بيتك وانظر كل من‬
‫ّللا ‪ .‬فقال له ‪ :‬ما تضرك‬ ‫ّللا فأخرجه ‪ ،‬فقال له ‪ :‬كلهم رزقهم على ه‬ ‫ليس له رزق على ه‬
‫كثرتهم أو قلتهم ‪.‬‬

‫[ سورة اْلسراء ( ‪ : ) 17‬اآليات ‪ 32‬إلى ‪] 34‬‬


‫س الهتِي َح هر َم ه‬
‫َّللاُ‬ ‫سبِيالً ) ‪َ ( 32‬وال ت َ ْقتُلُوا النه ْف َ‬ ‫فاحشَةً َوسا َء َ‬ ‫كان ِ‬ ‫الزنى إِنههُ َ‬ ‫َوال ت َ ْق َربُوا ِ ّ‬
‫ف فِي ا ْلقَتْ ِل ِإنههُ َ‬
‫كان‬ ‫س ْلطانا ً فَال يُ ْ‬
‫س ِر ْ‬ ‫ق َو َم ْن قُتِ َل َم ْظلُوما ً فَقَ ْد َجعَ ْلنا ِل َو ِل ِيّ ِه ُ‬‫ِإاله ِبا ْل َح ّ ِ‬
‫ش هدهُ َوأ َ ْوفُوا‬
‫س ُن َحتهى يَ ْبلُ َغ أ َ ُ‬‫ي أَحْ َ‬
‫يم ِإاله ِبالهتِي ِه َ‬ ‫صورا ً ( ‪َ ) 33‬وال ت َ ْق َربُوا ما َل ا ْليَتِ ِ‬ ‫َم ْن ُ‬
‫س ُؤالً ) ‪( 34‬‬ ‫كان َم ْ‬ ‫ِبا ْلعَ ْه ِد ِإ هن ا ْلعَ ْه َد َ‬
‫ما أعجب قوله تعالى« إِ َّن ْالعَ ْه َد كانَ َم ْسؤ ًُال »أي الصفة المسماة بالعهد هي التي تسأل‬
‫‪ ،‬فيقال لها ‪ :‬هل وفهى بك هذا العبد ؟ تجيب وذلك أنه يتصور من المعاهد والمعاهد أن‬
‫يصدقا أو أن ينكرا ‪ ،‬وال يتصور ذلك في العهد الذي هو الصفة ‪ ،‬فلذلك سئل العهد‬
‫لتحققه بقيامه بالقسط وبما عهد إليه من أمانة وخيانة ‪.‬‬

‫[ سورة اْلسراء ( ‪ : ) 17‬اآليات ‪ 35‬إلى ‪] 36‬‬


‫س ُن تَأ ْ ِويالً ( ‪َ ) 35‬وال‬‫يم ذ ِلكَ َخ ْي ٌر َوأَحْ َ‬ ‫طاس ا ْل ُم ْ‬
‫ست َ ِق ِ‬ ‫س ِ‬ ‫َوأ َ ْوفُوا ا ْل َك ْي َل إِذا ِك ْلت ُ ْم َو ِزنُوا بِا ْل ِق ْ‬
‫ع ْنهُ َم ْ‬
‫س ُؤالً) ‪( 36‬‬ ‫كان َ‬‫ص َر َوا ْلفُؤا َد ُك ُّل أُولئِكَ َ‬ ‫س ْم َع َوا ْلبَ َ‬
‫س لَكَ بِ ِه ِع ْل ٌم إِ هن ال ه‬ ‫ف ما لَ ْي َ‬ ‫ت َ ْق ُ‬

‫ص ‪541‬‬

‫ص ‪541 :‬‬
‫[الحق ال يدرك ال علما وال رؤية ]‬
‫ّللا ‪ ،‬فهي ال تعلم ‪ ،‬فهو تعالى عن اإلدراك فلم‬
‫تعتبر هذه اآلية منعا من النظر في ذات ه‬
‫يدرك بعقل كنه جالله ‪ ،‬ولم يدرك ببصر كنه ذاته عند تجليه حيثما تجلى لعباده ‪ ،‬فهو‬
‫تعالى المتجلي الذي ال يدرك ‪ -‬اإلدراك الذي يدرك فيه هو نفسه ‪ -‬ال علما وال رؤية ‪،‬‬
‫ّللا‬
‫فال ينبغي أن يقفو اإلنسان علم ما قد علم أنه ال يبلغ إليه ‪ ،‬لذلك قال الصديق رضي ه‬
‫عنه ‪ :‬العجز عن درك اإلدراك إدراك ‪.‬‬
‫تعالى عن التحديد بالفكر والخبر *** كما جل عن حكم البصيرة‬
‫والبصرفليس لنا منه سوى ما يرومه *** على كل حال في الدالالت والعبر‬
‫فأعلم أني ما تحققت غيره *** وأعلم أني ما علمت سوى البشر‬
‫ّللا في ذاته النظر‬
‫لذا منع الرحمن في وحيه على *** لسان رسول ه‬
‫فقال وال تقف الذي لست عالما *** به فيكون الناظرون على خطر‬
‫فلم يولد الرحمن علما ولم يلد *** وجودا فحقق من نهاك ومن أمر‬

‫« ُك ُّل أُولئِ َك كانَ َ‬


‫ع ْنهُ َم ْسؤ ًُال »اسم كان هو النفس المدبرة ‪ ،‬تسأل النفس عن سمعه‬
‫وبصره وفؤاده ‪ ،‬وتدل هذه اآلية على أن األعضاء المكلفة طاهرة بحكم األصل ‪ ،‬ال‬
‫تزول عنها تلك الطهارة والعدالة ‪ ،‬وتستشهد يوم القيامة وتقبل شهادتها لزكاتها‬
‫األصلية ‪ ،‬وبدأ الحق في هذه اآلية بالسمع وإن كان من خدم القلب ‪ ،‬ألن السمع إنما‬
‫يكون بالقلب ‪ ،‬وألنه أعم األعضاء فائدة في الشرائع ‪ ،‬إذ ال بد لإلنسان من معلم مرشد‬
‫‪ ،‬داخل فيه أو خارج عنه ‪ ،‬وجميع التكليف الوارد على القلب بذاته أو بواسطة‬
‫األعضاء إنما يوجد من قبل السمع ‪ ،‬ويدخل في ذلك قلب غير المؤيد بالوحي اإللهي‬
‫أو المؤيد إذ قيل ‪ :‬فبهداهم اقتده ‪ ،‬وثنهى بالبصر ‪ ،‬ألنه أعظم شاهد بتصديق المسموع‬
‫منه ‪ ،‬وبه حصول ما به التفكر واالعتبار غالبا ‪ ،‬تنبيها على عظمة ذلك ‪ ،‬وإن كان‬
‫البصر هو القلب ‪ ،‬ثم رجع إلى الفؤاد الذي هو العمدة في ذلك ‪ ،‬فتقديمهما على جهة‬
‫التعظيم له ‪ ،‬كما يقال ‪ :‬الجناب والمجلس ‪ ،‬وهما المبلغان إليه وعنه ‪ ،‬وفي تكليفه‬
‫تكليف جميع خدمه ‪ ،‬وإنما شاركاه بالذكر تنبيها على عظيم مشاركتهما‬

‫ص ‪542‬‬

‫ص ‪542 :‬‬
‫إياه في الوزارة ‪ ،‬ولوالهما ما أمكن أن يبلغ قلب في الغالب ‪ .‬في هذا العالم ما يريد‬
‫إبالغه إليه ‪ ،‬فهما معه في عالم التكليف كالجسد والنفس مع الروح في عالم الخالفة ‪،‬‬
‫وال يتم ألحدهما ذلك إال باآلخرين وإال نقص بقدره ‪ ،‬والمراد في جميع التكليف سالمة‬
‫القلب ‪ ،‬والخطاب إليه من جهة كل عضو على انفراده ‪ ،‬ومن جهة المجموع ‪ ،‬ثم على‬
‫انفراده ( راجع سورة ق آية ‪) 37‬‬
‫[ ‪ -‬نصيحة ‪ -‬قف مع الظاهر في كل األحوال ]‬
‫‪-‬نصيحة ‪ -‬قف مع الظاهر في كل األحوال ‪ ،‬وال تقف ما ليس لك به علم من ظاهر‬
‫األقوال ‪.‬‬
‫[ سورة اْلسراء ( ‪ : ) 17‬آية ‪] 37‬‬
‫طوالً ( ‪) 37‬‬ ‫ق ْاأل َ ْر َ‬
‫ض َولَ ْن ت َ ْبلُ َغ ا ْل ِجبا َل ُ‬ ‫ض َم َرحا ً ِإنهكَ لَ ْن ت َ ْخ ِر َ‬ ‫َوال ت َ ْم ِش ِفي ْاأل َ ْر ِ‬
‫ّللا ما جعلها تقبل الكثافة والظلمة والصالبة إال لستر‬ ‫ض »فإن ه‬ ‫« ِإنَّ َك لَ ْن ت َ ْخ ِرقَ ْاأل َ ْر َ‬
‫ّللا فيها من الكنوز لما جعل فيها من الغيرة ‪ ،‬فحار السعاة في األرض فلم‬ ‫ما أودع ه‬
‫يخرقوها ولم يبلغوا جبالها طوال ‪.‬‬

‫[ سورة اْلسراء ( ‪ : ) 17‬اآليات ‪ 38‬إلى ‪] 44‬‬


‫س ِيّئُهُ ِع ْن َد َر ِبّكَ َم ْك ُروها ً ( ‪ ) 38‬ذ ِلكَ ِم هما أ َ ْوحى ِإلَ ْيكَ َربُّكَ ِم َن ا ْل ِح ْك َم ِة َوال‬ ‫كان َ‬ ‫ُك ُّل ذ ِلكَ َ‬
‫ين‬‫َّللا إِلها ً آ َخ َر فَت ُ ْلقى فِي َج َهنه َم َملُوما ً َم ْد ُحورا ً ( ‪ ) 39‬أ َ فَأَصْفا ُك ْم َربُّ ُك ْم بِا ْلبَنِ َ‬ ‫تَجْ عَ ْل َم َع ه ِ‬
‫ص هر ْفنا فِي هذَا ا ْلقُ ْر ِ‬
‫آن‬ ‫ون قَ ْوالً ع َِظيما ً ( ‪َ ) 40‬ولَقَ ْد َ‬ ‫َوات ه َخذَ ِم َن ا ْل َمالئِ َك ِة إِناثا ً إِنه ُك ْم لَتَقُولُ َ‬
‫ون إِذا ً ال ْبتَغَ ْوا‬ ‫كان َمعَهُ آ ِل َهةٌ كَما يَقُولُ َ‬ ‫ِليَذهك ُهروا َوما يَ ِزي ُد ُه ْم إِاله نُفُورا ً ( ‪ ) 41‬قُ ْل لَ ْو َ‬
‫س ِبيالً ) ‪( 42‬‬ ‫ِإلى ذِي ا ْلعَ ْر ِش َ‬
‫ض‬ ‫س ْب ُع َو ْاأل َ ْر ُ‬
‫سماواتُ ال ه‬ ‫س ِبّ ُح لَهُ ال ه‬
‫علُ ًّوا َك ِبيرا ً ( ‪ ) 43‬ت ُ َ‬ ‫ون ُ‬ ‫ع هما يَقُولُ َ‬ ‫س ْبحانَهُ َوتَعالى َ‬ ‫ُ‬
‫كان َح ِليما ً‬ ‫س ِبي َح ُه ْم ِإنههُ َ‬ ‫س ِبّ ُح ِب َح ْم ِد ِه َول ِك ْن ال ت َ ْفقَ ُه َ‬
‫ون ت َ ْ‬ ‫ش ْي ٍء ِإاله يُ َ‬
‫يه هن َو ِإ ْن ِم ْن َ‬ ‫َو َم ْن ِف ِ‬
‫غفُورا ً ( ‪) 44‬‬ ‫َ‬
‫س ِبه ُح بِ َح ْم ِد ِه ‪ » . . .‬اآلية]‬ ‫ش ْيءٍ إِ َّال يُ َ‬
‫[ « َوإِ ْن ِم ْن َ‬
‫التسبيح تنزيه ‪ ،‬وراعى الحق في هذا الموطن تسبيح السماوات واألرض ‪ ،‬فإن لكل‬
‫عالم ثناء خاصا ال يكون لغيره« َو َم ْن فِي ِه َّن »يعني المالئكة وإن كان البعض من العالم‬
‫‪ ،‬وجمع‬

‫ص ‪543‬‬

‫ص ‪543 :‬‬
‫[ حياة كل الصور ]‬
‫السماوات واألرض جمع من يعقل ‪ ،‬وهذا التسبيح بوحي ذاتي تقتضيه ذواتهم ‪ ،‬وهو‬
‫ّللا ال يحتاجون في ذلك إلى تكليف ‪ ،‬بل هو لهم مثل النفس‬ ‫أنهم يسبحون بحمد ه‬
‫للمتنفس ‪ ،‬وذلك لكل عين على االنفراد ‪ ،‬فذكر سبحانه في كل حال ومن كل عين ‪،‬‬
‫فالوجود كله حي ناطق بتعظيم الحق سبحانه ‪ ،‬لكنه يختلف نطقهم باختالف حقائقهم ‪،‬‬
‫وقوله تعالى« َو َم ْن فِي ِه َّن »ر هد على من يقول بحذف المضاف وإقامة المضاف إليه‬
‫مقامه ‪ ،‬كأنه يقول أهل السماوات السبع وأهل األرض ‪ ،‬فنفى هذا االحتمال بقوله«‬
‫ير )وليس‬ ‫َو َم ْن فِي ِه َّن »إذ قد ورد مثل ذلك في قوله ( َو ْسئ َ ِل ْالقَ ْريَةَ الَّتِي ُكنَّا فِيها َو ْال ِع َ‬
‫هذا كذلك ‪،‬‬
‫وقوله عليه السالم في أحد [ هذا جبل يحبنا ونحبه ] وقوله [ يشهد للمؤذن مدى صوته‬
‫من رطب ويابس ]‬
‫وقوله [ وما من دابة إال وهي مصيخة يوم الجمعة شفقا من الساعة ] وهذه أمور كلها‬
‫تقتضي العلم وهو مشروط بالحياة ‪ ،‬ولكن الحياة منها ما ظهر للحس ومنها ما لم‬
‫ّللا وحمده ‪،‬‬ ‫يظهر ‪ ،‬فما لم يظهر بالعادة ظهر بخرق العادة ‪ ،‬فالكل حي ناطق بتسبيح ه‬
‫ه‬
‫ولكن كالم‬ ‫ومعلوم أن ما هنا صوت معهود وال حرف من الحروف المعلومة عندنا ‪،‬‬
‫كل جنس مما يشاكله ‪ ،‬وعلى حسب ما يليق بنشأته ويعطيه استعداد القبول للروحانية‬
‫اإللهية السارية في كل موجود ‪ ،‬فالكل حي في نفس األمر ذو نفس ناطقة ‪ ،‬وال يمكن‬
‫أن يكون في العالم صورة ال نفس لها وال حياة وال عبادة ذاتية وأمرية ‪ ،‬سواء كانت‬
‫تلك الصورة مما يحدثها اإلنسان من األشكال أو يحدثها الحيوان ‪ ،‬ومن أحدثها من‬
‫الخلق عن قصد وعن غير قصد ‪ ،‬فما هو إال أن تتصور الصورة كيف تصورت‬
‫ّللا تعالى روحا من أمره ‪ ،‬ويتعرف إليها من حينه‬ ‫وعلى يد من ظهرت ‪ ،‬إال ويلبسها ه‬
‫فتعرفه منها وتشهده فيها ‪ ،‬هكذا هو األمر دنيا وآخرة ‪ ،‬فأكد ذلك بقوله« َو ِإ ْن ِم ْن‬
‫س ِبه ُح بِ َح ْم ِد ِه »وزاد في التوكيد بقوله« َول ِك ْن ال ت َ ْفقَ ُهونَ ت َ ْسبِي َح ُه ْم »وأتى‬ ‫ش ْيءٍ إِ َّال يُ َ‬
‫َ‬
‫بلفظة من في قوله« َو َم ْن فِي ِه َّن »ولم يأت بما ‪ ،‬وأتى في الحشر بما ولم يأت بمن ‪،‬‬
‫فإن سيبويه يقول ‪ :‬إن اسم ما يقع على كل شيء إال أنه لم يعم الموجودات ‪ ،‬فوجلت‬
‫ّللا كسرها وأزال وجلها بقوله‬ ‫قلوب من بقي منها ولم يقع له ذكر في التسبيح ‪ ،‬فجبر ه‬
‫س ِبه ُح ِب َح ْم ِد ِه »وزاد في الثناء عليهم بجهل الناس‬ ‫ش ْيءٍ ِإ َّال يُ َ‬
‫عقيب هذا القول « َو ِإ ْن ِم ْن َ‬
‫تسبيحهم بقوله« َول ِك ْن ال ت َ ْفقَ ُهونَ ت َ ْس ِبي َح ُه ْم »فأخبر تعالى أن كل شيء يسبح بحمده كما‬
‫هو األمر عليه في نفسه ‪ ،‬وسد خلل االنكسار بقوله« ال ت َ ْفقَ ُهونَ ت َ ْسبِي َح ُه ْم »بحرف‬
‫االستدراك وهو قوله« َول ِك ْن »طمعا في أن ينفردوا‬

‫‪544‬‬

‫ص ‪544 :‬‬
‫دون من سواهم بهذا التسبيح الخاص ‪ ،‬وهذه اآلية دليل على أنه تعالى ما خلق العالم‬
‫ّللا لما‬ ‫س ِبه ُح بِ َح ْم ِد ِه »فإن ه‬ ‫ش ْيءٍ ِإ َّال يُ َ‬‫لنفس العالم ‪ ،‬وإنما خلقه لنفسه ‪ ،‬فقال فيه« َو ِإ ْن ِم ْن َ‬
‫أوجد العالم ما خلقهم إال ليعبدوه ويسبحوه ‪ ،‬فما من شيء إال يسبح بحمده ولكن ال نفقه‬
‫ّللا وحمده وعبادته بالقصد األول ‪ ،‬وكان‬ ‫تسبيحه ‪ ،‬ففطر العالم كله على تسبيح ه‬
‫انتفاعنا باألشياء بحكم التبعية ‪ ،‬فما من شيء من العالم إال وهو يسبح بحمد خالقه ‪،‬‬
‫فلنفسه أوجده ألنه ما شغله إال به ‪ ،‬وقال فيمن جعل فيه استعدادا يمكن أن يسعى به‬
‫س ِإ َّال‬ ‫ّللا ‪ ،‬فنبه أنه ما خلقهم إال لعبادته فقال( َوما َخلَ ْقتُ ْال ِج َّن َو ْ ِ‬
‫اإل ْن َ‬ ‫لنفسه ولغير ه‬
‫ُون )فكونهم ما فعل بعضهم ما خلق له ‪ ،‬ال يلزم منه بالقصد المذكور أنه خلق لما‬ ‫ِليَ ْعبُد ِ‬
‫تصرف فيه ‪ ،‬ولذلك يسأل ويحاسب ‪ ،‬ومن ذلك نعلم أن كل مخلوق ما سوى اإلنس‬
‫والجان مفطورون على تعظيم الحق والتسبيح بحمده ‪ ،‬وكذلك أعضاء جسد اإلنس‬
‫والجان كلها ولكن ال على جهة التقريب وابتغاء المنزلة العظمى ‪ ،‬بل التسبيح لهم‬
‫كاألنفاس من المتنفسين لما تستحقه الذات ‪ ،‬وهكذا يكون تسبيح اإلنس والجان في‬
‫الجنة والنار ال على طريق القربة وال ينتج لهم قربة ‪ ،‬بل كل واحد منهم على مقام‬
‫معلوم ‪ ،‬فتصير العبادة طبيعية تقتضيها حقائقهم ‪ ،‬ويرتفع التكليف وال يتصور منهم‬
‫ّللا إذا ورد عليهم ‪ ،‬وال يبقى هنالك نهي أصال بعد قوله ألهل النار (‬ ‫مخالفة ألمر ه‬
‫ون )وكالمنا إذا نزل الناس منازلهم في كل دار وغلقت األبواب‬ ‫سؤُا ِفيها َوال ت ُ َك ِله ُم ِ‬ ‫ْ‬
‫اخ َ‬
‫واستقرت الداران بأهلها الذين هم أهلها ‪ ،‬وعلى ذلك فكل جزء من العالم مسبح هّلل‬ ‫ه‬
‫تعالى ‪ ،‬وكل شيء ينزه ربه من كافر وغير كافر ‪ ،‬فإن أعضاء الكافر كلها مسبحة هّلل‬
‫‪ ،‬ولهذا يشهد عليه يوم القيامة جلده وسمعه وبصره ويده ورجله ‪ ،‬غير أن العالم ال‬
‫يفقهون هذا التسبيح وسريان هذه العبادة في الموجودات ‪ ،‬فلم يبق كافر وال مؤمن إال‬
‫وقد شملت تفاصيله هذه اآلية ‪ ،‬ولكن أكثر الناس ال يعلمون ‪ ،‬ألنهم ال يسمعون وال‬
‫يشهدون ‪ ،‬وعلماء الرسوم يخرجون هذا على أنه لسان حال ‪ ،‬وكذلك قوله تعالى( ِإنَّا‬
‫ض َو ْال ِجبا ِل فَأَبَيْنَ أ َ ْن يَ ْح ِم ْلنَها َوأ َ ْشفَ ْقنَ ِم ْنها‬‫ت َو ْاأل َ ْر ِ‬ ‫علَى ال َّ‬
‫سماوا ِ‬ ‫ضنَا ْاألَمانَةَ َ‬‫ع َر ْ‬ ‫َ‬
‫)فجعلوا هذه اإلباية واإلشفاق حاال ال حقيقة ‪ ،‬وكذلك قوله عنهما( أَتَيْنا طائِ ِعينَ )قول‬
‫حال ال قول خطاب ‪ ،‬وهذا كله ليس بصحيح وال مراد في هذه اآليات ‪ ،‬بل األمر على‬
‫ظاهره كما ورد ‪ ،‬ولو كان تسبيح حال كما يزعم بعض علماء النظر لم تكن فائدة في‬
‫ّللا ال للجزاء ‪ ،‬ألنه‬ ‫قوله« َول ِك ْن ال ت َ ْفقَ ُهونَ ت َ ْس ِبي َح ُه ْم »يريد بذلك التسبيح الثناء على ه‬
‫في عبادة ذاتية ال يتصور معها طلب مجازاة ‪ ،‬وقد يعذر علماء‬

‫ص ‪545‬‬

‫ص ‪545 :‬‬
‫الرسوم فإن التسبيح هنا نسب إلى من ال ينسب إليه قول وال نطق ‪ ،‬وهو التسبيح الذي‬
‫ال يفقه ‪ ،‬وما قال ال يسمع ‪ ،‬إذ الكالم أو القول هو الذي من شأنه أن يتعلق به السمع ‪،‬‬
‫والتسبيح لو كان قوال أو كالما لنفى عنه سمعنا ‪ ،‬وإنما نفى عنه فقهنا وهو العلم ‪،‬‬
‫ّللا حي ‪ ،‬فإنه‬ ‫والعلم قد يكون عن كالم وقول وقد ال يكون ‪ ،‬والتحقيق أن كل ما سوى ه‬
‫ما من شيء إال يسبح بحمده ‪ ،‬وال يكون التسبيح إال من حي عاقل عالم بمسبحه ‪ ،‬فإذا‬
‫ّللا بحمده ‪ ،‬وال يسبحه إال حي سواء كان ميتا أو غير ميت فإنه‬ ‫ما ث هم إال من يسبح ه‬
‫حي ‪ ،‬ألن الحياة لألشياء فيض من حياة الحق عليها ‪ ،‬فهي حية في حال ثبوتها ‪ ،‬ولوال‬
‫حياتها ما سمعت قوله ( ُك ْن )بالكالم الذي يليق بجالله فكانت ‪ ،‬وقوله تعالى« َو ِإ ْن ِم ْن‬
‫ّللا قد أخذ بأسماعنا عن تسبيح الجمادات‬ ‫ش ْيءٍ * » والشيء أنكر النكرات ‪ ،‬وإن كان ه‬ ‫َ‬
‫والنبات والحيوان الذي ال يعقل كما أخذ بأبصارنا عن إدراك حياة الجماد والنبات ‪ ،‬إال‬
‫ّللا عليه وسلم ومن حضره من أصحابه حين‬ ‫ّللا صلهى ه‬
‫ّللا له العادة كرسول ه‬
‫لمن خرق ه‬
‫ّللا تسبيح الحصى ‪ ،‬فما كان خرق العادة في تسبيح الحصى وإنما انخرقت‬ ‫أسمعهم ه‬
‫ّللا‬
‫العادة في تعلق أسماعهم به ‪ ،‬روي في الصحيح أن الحصى سبح في كف رسول ه‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ ،‬فجعل الناس خرق العادة في تسبيح الحصى ‪ ،‬وأخطئوا ‪ ،‬وإنما‬ ‫صلهى ه‬
‫ّللا ‪ ،‬فالذي سمع‬ ‫خرق العادة في سمع السامعين ذلك ‪ ،‬فإنه لم يزل مسبحا كما أخبر ه‬
‫س ِبه ُح ِب َح ْم ِد ِه‬
‫السامع كونه سمع نطق ما لم تجر العادة أن يسمعه ‪ ،‬فقوله تعالى« يُ َ‬
‫»تسبيح نطق يليق بذلك الشيء ال تسبيح حال ‪ ،‬ولهذا قال« َول ِك ْن ال ت َ ْفقَ ُهونَ ت َ ْسبِي َح ُه ْم‬
‫»الختالف ما يسبحون به إال لمن سمعه ‪ ،‬فهذا التسبيح ال يفقه بالنظر العقلي من جهة‬
‫ّللا على بعض عباده بعلم ذلك ‪ ،‬فالكل ناطق وتقع العين على‬ ‫الفكر والنظر إال أن ه‬
‫يمن ه‬
‫ناطق وصامت ‪ ،‬فالمؤمن يدرك ذلك إيمانا وصاحب الكشف يدرك الكيفية ‪ ،‬والكشف‬
‫ّللا من شاء من عباده ‪ ،‬فكل نطق في الوجود تسبيح وإن انطلق‬ ‫ّللا يمنحها ه‬
‫منحة من ه‬
‫عليه اسم الذم ‪ ،‬وجاء بضمير الجمع في «ت َ ْفقَ ُهونَ »وما يشير إليه هذا الضمير إنما هم‬
‫ّللا إال بعض الناس ‪ ،‬فالخلق عبد بالذات‬ ‫الناس خاصة ‪ ،‬فجميع المخلوقات عبدوا ه‬
‫أثرت فيه العوارض وال سيما الشخص اإلنساني ‪ ،‬بل ما أثرت العوارض إال في‬
‫الشخص اإلنساني وحده دون سائر الخلق ‪ ،‬وما سواه فعلى أصله من تنزيه خالقه عن‬
‫الشريك« ِإنَّهُ كانَ َح ِليما ً »فلم يعجل عليكم بالعقوبة ‪ ،‬وبإمهالكم حيث لم يؤاخذكم‬
‫ّللا ما خلق شيئا‬
‫سريعا بما رددتم من ذلك وقلتم إنه تسبيح حال ‪ ،‬فإن ه‬

‫ص ‪546‬‬

‫ص ‪546 :‬‬
‫من الكون إال حيا ناطقا جمادا كان أو نباتا أو حيوانا في العالم األعلى واألسفل ‪ ،‬فكل‬
‫شيء من عالم الطبيعة جسم متغذ ‪ ،‬فهو حيوان ناطق بين جلي وخفي ‪ ،‬والكل حيوان‬
‫ّللا تعالى ‪ ،‬ولما كان األمر هكذا ‪ ،‬جاز بل وقع وصح أن يخاطب‬ ‫ناطق مسبح بحمد ه‬
‫الحق جميع الموجودات ويوحي إليها من سماء وأرض وجبال وشجر وغير ذلك من‬
‫الموجودات ‪ ،‬ووصفها بالطاعة لما أمرها به واإلباية لقبول عرضه ‪ ،‬وأسجد له كل‬
‫شيء ‪ ،‬ألنه تجلى لكل شيء وأوحى إلى كل شيء بما خاطب ذلك الشيء به ‪ ،‬تقول‬
‫ش ْيءٍ )‬‫طقَ ُك َّل َ‬ ‫ّللاُ الَّذِي أ َ ْن َ‬ ‫الجلود يوم القيامة( أ َ ْن َ‬
‫طقَنَا َّ‬
‫فع همت فكانت الجلود أعلم باألمر ممن جعل النطق فصال مقوما لإلنسان خاصة ‪،‬‬
‫ّللا تعالى ما قال«‬ ‫وعرى غير اإلنسان عن مجموع حده من الحيوانية والنطق ‪ ،‬فإن ه‬
‫َول ِك ْن ال ت َ ْفقَ ُهونَ ت َ ْس ِبي َح ُه ْم »إال في معرض الرد على من يقول إنه تسبيح حال ‪ ،‬فإن‬
‫ّللا في قوله‬
‫العالم كله قد تساوى في الداللة ‪ ،‬فمن يقول بتسبيح الحال فقد أكذب ه‬
‫غفُورا ً‬‫تعالى« ال ت َ ْفقَ ُهونَ »ولذلك قال تعالى« إِنَّهُ كانَ َح ِليما ً »وأما قوله تعالى« َ‬
‫»حيث ستر عنكم تسبيح هؤالء فلم تفقهوه ‪ ،‬فكان غفورا أي ساترا نطقهم عن أن‬
‫ّللا له العادة ‪ ،‬ومن هذه اآلية نعلم أن سر الحياة‬ ‫تتعلق به األسماع إال لمن خرق ه‬
‫اإللهية سرى في جميع الموجودات فحييت بحياة الحق ‪ ،‬فمنها ما ظهرت حياتها‬
‫ّللا فإنه‬
‫ّللا بأبصارنا عنها في الدنيا ‪ ،‬إال األنبياء وبعض أولياء ه‬ ‫ألبصارنا ومنها ما أخذ ه‬
‫كشف لهم عن حياة كل شيء ‪ ،‬ولسريان هذه الحياة في أعيان الموجودات نطقت كلها‬
‫مسبحة بالثناء على موجدها ‪ ،‬وهذه الحياة وباقي الصفات نسب وإضافات وشهود‬
‫ّللا هو العلي الكبير عن الحلول والمحل ‪ ،‬وعن ذلك نزهته األشياء في‬ ‫حقائق ‪ ،‬فإن ه‬
‫تسبيحها فإن التسبيح تنزيه ‪ ،‬فإن المولدات في عالم العناصر ثالثة عوالم طبيعية ‪،‬‬
‫ويسري في كل عالم مولد من هذه الثالثة أرواح ‪ ،‬هي نفوس هذه المولدات ‪ ،‬بها تعلم‬
‫خالقها ومنشئها ‪ ،‬وبها سرت الحياة فيها كلها ‪ ،‬وبها خاطبها الحق وكلفها ‪ ،‬وهو‬
‫رسول الحق إليها وداع كل شخص منه إلى ربه ‪ ،‬فما بطنت حياته س همي جمادا ونباتا‬
‫‪ ،‬وانفصل هذان المولدان ‪ ،‬وتميزوا بالنمو والغذاء ‪ ،‬فقيل في النامي منه نبات وفي‬
‫غير النامي جماد ‪ ،‬وما ظهرت حياته وحسه سمي حيوانا ‪ ،‬والكل قد عمته الحياة ‪،‬‬
‫ّللا األمور بالفطرة من حيث ال‬ ‫فنطق بالثناء على خالقه من حيث ال نسمع ‪ ،‬وعلهمهم ه‬
‫نعلم ‪ ،‬فلم يبق رطب وال يابس وال حار وال بارد وال جماد وال نبات وال حيوان إال‬
‫وهو مسبح هّلل تعالى بلسان خاص بذلك الجنس ‪ ،‬فكل جسم في‬

‫ص ‪547‬‬

‫ص ‪547 :‬‬
‫[ الفرق بين روح التدبير وروح التسبيح ]‬
‫العالم مقيد بصورة روح إلهي يالزم تلك الصورة ‪ ،‬به تكون مسبحة هّلل ‪ ،‬فمن األرواح‬
‫ما تكون مدبرة لتلك الصورة لكون الصورة تقبل تدبير األرواح ‪ ،‬وهي كل صورة‬
‫تتصف بالحياة الظاهرة والموت ‪ ،‬فإن لم تتصف بالحياة الظاهرة والموت فروحها‬
‫روح تسبيح ال روح تدبير ‪ ،‬فما من صورة في العالم ‪ -‬وما العالم إال صور ‪ -‬إال وهي‬
‫مسبحة خالقها بحمد مخصوص ألهمها إياه ‪ ،‬وما من صورة في العالم تفسد إال وعين‬
‫فسادها ظهور صورة أخرى في تلك الجواهر ‪ ،‬عينها مسبحة هّلل تعالى حتى ال يخلو‬
‫الكون كله عن تسبيح خالقه ‪ ،‬فتسبحه أعيان أجزاء تلك الصورة بما يليق بتلك الصورة‬
‫‪ ،‬واألرواح الجزئية متفاضلة بالعلم باألشياء ‪ ،‬فمنهم من له علم بأشياء كثيرة ‪ ،‬ومنهم‬
‫باّلل من أرواح الصور التي الحظ لها في التدبير ‪،‬‬
‫من ال يعلم إال القليل ‪ ،‬وال أعلم ه‬
‫باّلل أرواح‬
‫لكون الصورة ال تقبل ذلك وهي أرواح الجماد ‪ ،‬ودونهم في رتبة العلم ه‬
‫باّلل أرواح الحيوان ‪ ،‬وكل واحد من هؤالء مفطور على العلم‬ ‫النبات ودونهم في العلم ه‬
‫باّلل والمعرفة به ‪ ،‬ولهذا ما لهم ه هم إال التسبيح بحمده تعالى ‪ ،‬ودون هؤالء في العلم‬
‫ه‬
‫باّلل ال عقول‬ ‫باّلل أرواح اإلنس ‪ ،‬وأما المالئكة فهم والجمادات مفطورون على العلم ه‬‫ه‬
‫باّلل وعلى الشهوة ‪ ،‬واإلنس والجن‬
‫لهم وال شهوة ‪ ،‬والحيوان مفطور على العلم ه‬
‫مفطورون على الشهوة والمعارف من حيث صورهم ال من حيث أرواحهم ‪ ،‬وجعل‬
‫ّللا لهم العقل ليردوا به الشهوة إلى الميزان الشرعي ويدفع عنهم به منازعة الشهوة في‬ ‫ه‬
‫ّللا‬
‫ّللا لهم العقل القتناء العلوم ‪ ،‬والذي أعطاهم ه‬
‫غير المحل المشروع لها ‪ ،‬لم يوجد ه‬
‫القتناء العلوم إنما هي القوة المفكرة ‪ ،‬فلذلك لم تفطر أرواحهم على المعارف كما‬
‫فطرت أرواح المالئكة وما عدا الثقلين ‪ ،‬فإذا علمت هذا علمت أن العالم كله ما عدا‬
‫اإلنس والجان مستوفي الكشف لما غاب عن اإلحساس البشري ‪ ،‬فال يشاهد أحد من‬
‫ّللا بها ‪ ،‬كما أن كل‬‫اإلنس والجن ذلك الغيب إال في وقت خرق العوائد لكرامة يكرمه ه‬
‫جماد ونبات وحيوان في العالم كله ‪ ،‬وفي عالم اإلنسان والجن وأجسام المالئكة‬
‫واألفالك ‪ ،‬وكل صورة يدبرها روح محسوسا كان ذلك التدبير فيمن ظهرت حياته أو‬
‫غير محسوس فيمن بطنت حياته ‪ -‬كأعضاء اإلنسان وجلوده وما أشبه ذلك ‪ -‬كل‬
‫هؤالء في محل كشف الغيوب اإللهية ‪ ،‬المستورة عن األرواح المدبرة لهذه األجسام‬
‫من ملك وإنس وجن ال غير ‪ ،‬فإنها محجوبة عن إدراك هذا الغيب اإللهي ‪ ،‬وهو من‬
‫ّللا به إال من ذكرناهم ‪ ،‬فإنهم‬
‫الغيوب اإللهية فيجهل كل روح مثل هذا إال أن يعرفه ه‬
‫يعرفونه بالفطرة التي فطرهم‬

‫ص ‪548‬‬

‫ص ‪548 :‬‬
‫ّللا عليها ‪ .‬واعلم أن الكشف ال سبيل إلى حصوله إال بعناية أزلية تعطيك استعدادا تاما‬ ‫ه‬
‫لقبوله ‪ ،‬برياضات نفسية ومجاهدات بدنية وتخلق بأسماء إلهية ‪ ،‬وتحقق بأرواح‬
‫طاهرة ملكية وتطهير بطهارة شرعية مشروعة ال معقولة ‪ ،‬وعدم تعلق بأكوان وتفريغ‬
‫نوره باإليمان‬ ‫محل عن جميع األغيار ‪ ،‬ألن الحق ما اصطفى لنفسه منك إال قلبك حين ه‬
‫فوسع جالل الحق ‪ ،‬فعاين من هذه صفته الممكنات بعين الحق ‪ ،‬فكانت له مشهودة‬
‫وإن لم تكن موجودة ‪ ،‬فما هي له مفقودة ‪ ،‬وقد كشف لبصيرته بل لبصره وبصيرته‬
‫نور اإليمان حين انبسط على أعين الممكنات أنها في حال عدمها مرئية رائية مسموعة‬
‫سامعة برؤية ثبوتية وسمع ثبوتي ال وجود له ‪ ،‬فعيهن الحق ما شاء من تلك األعيان ‪،‬‬
‫فوجه عليه دون غيره من أمثاله قوله المعبر عنه باللسان العربي المترجم بكن ‪،‬‬
‫فأسمعه أمره ‪ ،‬فبادر المأمور فتكون عن كلمته ‪ ،‬ال بل كان عين كلمته ‪ ،‬ولم تزل‬
‫الممكنات في حال عدمها األزلي لها تعرف الواجب الوجود لذاته وتسبحه وتمجده‬
‫بتسبيح أزلي وتمجيد قديم ذاتي وال عين لها موجودة وال حكم لها مفقود ‪ ،‬فإذا كان‬
‫حال الممكنات كلها على ما ذكرناه من هذه الصفات التي ال هل معها ‪ ،‬فكيف تكون‬
‫في حال وجودها وظهورها لنفسها ‪ ،‬جمادا ال ينطق ؟ أو نباتا بتعظيم خالقه ال يتحقق ؟‬
‫أو حيوانا بحاله ال يصدق ؟ أو إنسانا بربه ال يتعلق ؟ هذا محال ‪ ،‬فال بد أن يكون كل‬
‫ّللا بحمده بلسان ال يفقه ‪ ،‬ولحن ما إليه كل أحد‬ ‫ما في الوجود من ممكن موجود يسبح ه‬
‫يتنبه ‪ ،‬فيسمعه أهل الكشف شهادة ‪ ،‬ويقبله المؤمن إيمانا وعبادة ‪ ،‬فقال تعالى ‪َ «:‬وإِ ْن‬
‫غفُورا ً »فجاء باسم‬ ‫ش ْيءٍ إِ َّال يُ َ‬
‫س ِبه ُح بِ َح ْم ِد ِه َول ِك ْن ال ت َ ْفقَ ُهونَ ت َ ْسبِي َح ُه ْم إِنَّهُ كانَ َح ِليما ً َ‬ ‫ِم ْن َ‬
‫الحجاب والستر ‪ ،‬وهو قوله غفورا ‪ ،‬وجاء باالسم الذي يقتضي تأخير المؤاخذة إلى‬
‫اآلجل وعدم حكمها في العاجل ‪ ،‬وهو الحليم ‪ ،‬لما علم أن في عباده من حرم الكشف‬
‫واإليمان ‪ ،‬وهم العقالء عبيد األفكار ‪ ،‬والواقفون مع االعتبار ‪ ،‬فجازوا من الظاهر‬
‫إلى الباطن مفارقين الظاهر ‪ ،‬فعبروا عنه إذ لم يكونوا أهل كشف وال إيمان ‪ ،‬لما‬
‫ّللا أعينهم عن مشاهدة ما هي عليه الموجودات في أنفسها ‪ ،‬وال رزقوا إيمانا‬ ‫حجب ه‬
‫في قلوبهم يكون له نور يسعى بين أيديهم ‪.‬‬
‫وأما المؤمنون الصادقون أولو العزم من األولياء ‪ ،‬فعبروا بالظاهر معهم ال من‬
‫الظاهر إلى الباطن ‪ ،‬وبالحرف عينه إلى المعنى ‪ ،‬ما عبروا عنه ‪ ،‬فرأوا األمور‬
‫بالعينين ‪ ،‬وشهدوا بنور إيمانهم النجدين ‪ ،‬فلم يتمكن لهم إنكار ما شهدوا ‪ ،‬وال جحدوا‬
‫ّللا نطق‬ ‫ما تيقنوه ‪ ،‬فأسمعهم ه‬

‫ص ‪549‬‬

‫ص ‪549 :‬‬
‫دراكة بحياة ثبوتية‬ ‫الموجودات ‪ ،‬ال بل نطق الممكنات قبل وجودها ‪ ،‬فإنها حية ناطقة ه‬
‫ونطق ثبوتي ‪ ،‬إذ كانت في أنفسها أشياء ثبوتية ‪ ،‬فلما قبلت الوجود قبلته بجميع نعوتها‬
‫وصفاتها ‪ -‬وليس نعتها سوى عينها ‪ -‬فهي في حال شيئية وجودية حية بحياة وجودية‬
‫ّللا أسرى بسر الحياة في‬ ‫دراكة بإدراك وجودي ‪ ،‬فلو ال أن ه‬ ‫ي ه‬ ‫ناطقة بنطق وجود ه‬
‫ّللا‬
‫الموجودات ما كانت ناطقة ‪ ،‬ولوال سريان العلم فيها ما كانت ناطقة بالثناء على ه‬
‫س ِبه ُح بِ َح ْم ِد ِه »فأتى بلفظ النكرة وما خص شيئا‬ ‫ش ْيءٍ إِ َّال يُ َ‬ ‫موجدها ‪ ،‬ولهذا قال« َوإِ ْن ِم ْن َ‬
‫ثابتا من شيء موجود ‪ ،‬ألنها قبلت شيئية الوجود على الحال التي كانت عليها في‬
‫ّللا أخذ بأبصار بعض عباده عن إدراك هذه الحياة السارية‬ ‫شيئية الثبوت ‪ ،‬إال أن ه‬
‫ّللا ببصائر أهل العقول‬ ‫والنطق واإلدراك الساري في جميع الموجودات ‪ ،‬كما أخذ ه‬
‫واألفكار عن إدراك ما ذكرناه في جميع الموجودات وفي جميع الممكنات ‪ ،‬وأهل‬
‫الكشف واإليمان على علم مما هو األمر عليه في هذه األعيان في حال عدمها‬
‫ووجودها ‪ ،‬فمن ظهرت حياته سمي حيا ومن بطنت حياته فلم تظهر لكل عين سمي‬
‫نباتا وجمادا ‪ ،‬فانقسم عند المحجوبين األمر وعند أهل الكشف واإليمان لم ينقسم ‪ ،‬فأما‬
‫أصحاب الكشف والشهود أهل االختصاص فقد أعطاهم الشهود ‪ ،‬وما أعطى‬
‫المحجوبين شهودهم ‪ ،‬فيقول أهل الشهود ‪ :‬سمعنا ورأينا ‪ .‬ويقول المحجوبون ‪ :‬ما‬
‫سمعنا وال رأينا ‪.‬‬
‫ش ْيءٍ إِ َّال يُ َ‬
‫س ِبه ُح بِ َح ْم ِد ِه‬ ‫ويقول أهل اإليمان ‪ :‬آمنا وصدقنا ‪ ،‬قال تعالى ‪َ «:‬وإِ ْن ِم ْن َ‬
‫ض‬ ‫ت َو َم ْن فِي ْاأل َ ْر ِ‬ ‫سماوا ِ‬ ‫»وشيء نكرة وقال )أ َ لَ ْم ت َ َر أ َ َّن َّ َ‬
‫ّللا يَ ْس ُج ُد لَهُ َم ْن فِي ال َّ‬
‫ش َج ُر َوالد ََّوابُّ )‬ ‫س َو ْالقَ َم ُر َوالنُّ ُجو ُم َو ْال ِجبا ُل َوال َّ‬ ‫َوال َّ‬
‫ش ْم ُ‬
‫فذكر الجماد والنبات والحيوان الذين وقع فيهم الخالف بين المحجوبين من أهل العقول‬
‫واألفكار وبين أهل الشهود واإليمان ‪ ،‬وغير ذلك من اآليات القرآنية ‪،‬‬
‫ّللا عليه وسلم أنه قال ‪ [ :‬يشهد للمؤذن مدى صوته من رطب‬ ‫وقد صح عنه صلهى ه‬
‫ويابس ] وقال في أحد ‪ [ :‬هذا جبل يحبنا ونحبه ]‬
‫ي قبل أن أبعث ]‬ ‫وقال ‪ [ :‬إني ألعرف حجرا بمكة كان يسلم عل ه‬
‫ثم أنه قد صح أن الحصى سبح في كفه ‪ ،‬وصح حنين الجذع إليه ‪ ،‬إلى غير ذلك من‬
‫ّللا وال يسبح إال من يعقل من يسبحه ‪،‬‬ ‫األحاديث الكثيرة ‪ ،‬فكل شيء حي مسبح بحمد ه‬
‫فاّلل تعالى يرزقنا اإليمان إذا لم نكن من أهل العيان والكشف‬ ‫ويثني عليه بما يستحقه ‪ ،‬ه‬
‫ّللا عنها أهل العقول الذين تعبدتهم أفكارهم وغير‬ ‫والشهود لهذه األمور ‪ ،‬التي أعمى ه‬
‫ّللا على قلوبهم ‪ ،‬فمن علم أن كل شيء ناطق ناظر إلى ربه‬ ‫المؤمنين الذين طمس ه‬
‫لزمه الحياء من كل شيء ‪ ،‬حتى من نفسه‬

‫ص ‪550‬‬

‫ص ‪550 :‬‬
‫[ دور العقل في اإلنس والجن ]‬
‫وجوارحه ‪ ،‬فكل شيء في العالم يقال فيه عند أهل النظر وفي العامة إنه ليس بحي وال‬
‫ّللا عندنا قد فطره ل هما خلقه على المعرفة به والعلم ‪ ،‬وهو حي ناطق‬ ‫حيوان ‪ ،‬فإن ه‬
‫بتسبيح ربه ‪ ،‬يدركه المؤمن بإيمانه ويدركه أهل الكشف عينا ‪ ،‬وأما الحيوان ففطره‬
‫ونطقه بتسبيحه ‪ ،‬وجعل له شهوة لم تكن لغيره من المخلوقات ‪،‬‬ ‫ه‬ ‫ّللا على العلم به تعالى‬ ‫ه‬
‫وفطر المالئكة على المعرفة واإلرادة ال الشهوة ‪ ،‬وفطر الجن واإلنس على المعرفة‬
‫والشهوة ‪ -‬وهو تعلق خاص في اإلرادة ‪ -‬ألن الشهوة إرادة طبيعية ‪ ،‬فليس لإلنس‬
‫والجن إرادة إلهية كما للمالئكة بل إرادة طبيعية تسمى شهوة ‪ ،‬وفطرهما على العقل ال‬
‫ّللا آلة لإلنس والجن ليردعوا به الشهوة في هذه الدار‬ ‫الكتساب العلم ‪ ،‬ولكن جعله ه‬
‫خاصة ال في الدار اآلخرة ‪ ،‬فإذا استفاد اإلنسان أو الجان علما من غير كشف فإن ذلك‬
‫ّللا فيه من قوة الفكر ‪ ،‬فكل ما أعطاه الفكر للنفس الناطقة وكان علما في‬ ‫مما جعل ه‬
‫نفس األمر فهو من الفكر بالموافقة ‪ ،‬فالعلوم التي في اإلنسان إنما هي بالفطرة‬
‫ّللا‬
‫والضرورة واإللهام ‪ ،‬والكشف الذي يكون له إنما يكشف له عن العلم الذي فطره ه‬
‫عليه ‪ ،‬فيرى معلومه وأما بالفكر فمحال الوصول به إلى العلم ‪ ،‬وأما اإللهام واإلعالم‬
‫اإللهي فتتلقاه النفس الناطقة من ربها كشفا وذوقا من الوجه الخاص الذي لها ولكل‬
‫ّللا ‪ ،‬فالفكر الصحيح ال يزيد على اإلمكان وما يعطي إال هو ‪ ،‬ومن علم‬ ‫موجود سوى ه‬
‫باّلل ولما خلقت له ‪،‬‬ ‫البهائم ه‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ [ :‬إن بقرة في زمن بني إسرائيل حمل عليها‬ ‫ّللا صلهى ه‬
‫ما قاله رسول ه‬
‫صاحبها ‪ ،‬فقالت ‪ :‬ما خلقت لهذا ‪ ،‬وإنما خلقت للحرث ‪ ،‬فقال الصحابة ‪ :‬أبقرة تكلم ؟‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ :‬آمنت بهذا أنا وأبو بكر وعمر ]‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫فقال رسول ه‬
‫ّللا على رجل راكب على حمار وهو يضرب رأس الحمار حتى‬ ‫ومر بعض أهل ه‬
‫يسرع في المشي ‪ ،‬فقال له الرجل ‪ :‬لم تضرب على رأس الحمار ؟‬
‫فقال له الحمار ‪ :‬دعه فإنه على رأسه يضرب ‪ .‬فهذا حمار قد علم ما تؤول إليه األمور‬
‫ّللا‬
‫بالفطرة ‪ ،‬وكان ابن عطاء راكبا على جمل فغاصت رجل الجمل ‪ ،‬فقال ابن عطاء ه‬
‫باّلل من ابن‬ ‫ّللا يزيد على إجاللك ‪ .‬فكان الجمل أعلم ه‬ ‫ّللا ‪ ،‬فقال الجمل ‪ :‬جل ه‬ ‫‪ :‬جل ه‬
‫عطاء ‪ ،‬فاستحى ابن عطاء ‪ ،‬فهذه البهائم تعرفك وتعرف ما يؤول إليه أمرك ‪،‬‬
‫ّللا تعالى لك( َوما َخلَ ْقتُ ْال ِج َّن‬
‫وتعرف ما خلقت له ‪ ،‬وأنت جهلت هذا كله مع قول ه‬
‫ّللا لنا ما هي‬ ‫ُون )فانظر يا محجوب أين مرتبتك من البهائم ؟ فكم بيهن ه‬ ‫س ِإ َّال ِليَ ْعبُد ِ‬ ‫َو ْ ِ‬
‫اإل ْن َ‬
‫باّلل والطاعة له والقيام بحقه وال نؤمن وال نسمع ‪ ،‬ورجحنا‬ ‫المخلوقات عليه من العلم ه‬
‫عرفنا به‬ ‫سنا على اإليمان بما ه‬ ‫ح ه‬

‫ص ‪551‬‬

‫ص ‪551 :‬‬
‫ّللا ‪ ،‬وقد وردت‬ ‫ّللا مسبح بحمد ه‬
‫ربنا ‪ ،‬لما لم نشاهد ذلك مشاهدة عين ‪ ،‬فكل ما سوى ه‬
‫األخبار بحياة كل رطب ويابس وجماد ونبات وأرض وسماء ‪ ،‬وهنا وقع الخالف بين‬
‫أهل الكشف واإليمان وبين من ال يقول بالشرائع أو من يتأول الشرائع على غير ما‬
‫جاءت له ‪ ،‬فيقولون إنه تسبيح حال ‪ ،‬وأما ما أدرك الحس حياته فال خالف في حياته ‪،‬‬
‫وإنما الخالف في سبب حياته ما هو ؟‬
‫وفي تسبيحه بحمد ربه لما ذا يرجع ؟‬
‫إذ ال يكون التسبيح إال من حي عاقل يعقل ذلك ‪ ،‬وما عدا اإلنسان والجن من الحيوان‬
‫ليس بعاقل عند المخالف ‪ ،‬بخالف ما يعتقده أهل الكشف واإليمان الصحيح ‪ ،‬فيدرك‬
‫المكاشف الحياة الذاتية التي في األجسام ‪ ،‬وهي صفة نفسية لها بها تسبح ربها دائما ‪،‬‬
‫سواء كانت أرواحها المدبرة فيها أو لم تكن ‪ ،‬فالحياة الذاتية لكل جوهر فيه غير زائلة‬
‫ّللا بأبصار بعض الخلق عنها ‪ ،‬بها تشهد الجلود يوم‬ ‫‪ ،‬وبتلك الحياة الذاتية التي أخذ ه‬
‫القيامة على الناس واأللسنة واأليدي واألرجل ‪ ،‬وبها تنطق فخذ الرجل في آخر‬
‫الزمان فتخبر صاحبها بما فعل أهله ‪ ،‬وبها تنطق الشجرة في آخر الزمان إذا اختفى‬
‫اليهود حين يطلبهم المسلمون للقتل ‪ ،‬وإنما كانت هذه الحياة في األشياء ذاتية ألنها عن‬
‫التجلي اإللهي للموجودات كلها ‪ ،‬ألنه خلقها لعبادته ومعرفته ‪ ،‬ودوام التجلي أعطاها‬
‫الحياة الذاتية الدائمة ‪ ،‬وبهذه الحياة يسبح كل شيء ‪ ،‬فالعالم كله ‪ -‬الذي هو عبارة عن‬
‫ّللا ‪ -‬حيوان ناطق ‪ ،‬لكن تختلف أجسامه وأغذيته وحسه ‪ ،‬فهو الظاهر‬ ‫كل ما سوى ه‬
‫بالصورة الحيوانية وهو الباطن بالحياة الذاتية ‪ ،‬فأنطق الحق العالم كله بالتسبيح بحمده‬
‫بلسان فصيح ينسب إليه بحسب ما تقتضيه حقيقته ‪ ،‬وكل موجود من األجسام له لطيفة‬
‫روحانية إلهية تنظر إليه من حيث صورته ال بد من ذلك ‪ ،‬والتسبيح تنزيه ما هو ثناء‬
‫بأمر ثبوتي ‪ ،‬ألنه ال يثنى عليه إال بما هو أهل له ‪ ،‬وما هو له ال يقع فيه المشاركة ‪،‬‬
‫وما أثني عليه إال بأسمائه ‪ ،‬وما من اسم له سبحانه عندنا معلوم إال وللعبد التخلق به‬
‫واالتصاف به على قدر ما ينبغي له ‪ ،‬فلما لم يتمكن في العالم أن يثني عليه بما هو‬
‫س ِبه ُح‬
‫أهله ‪ ،‬جعل الثناء عليه تسبيحا من كل شيء ‪ ،‬ولهذا أضاف الحمد إليه فقال« يُ َ‬
‫بِ َح ْم ِد ِه »أي بالثناء الذي يستحقه وهو أهله ‪ ،‬وليس إال التسبيح ‪ ،‬فإنه سبحانه يقول(‬
‫سبْحانَ َر ِبه َك َربه ِ ْال ِع َّزةِ )والعزة المنع من الوصول إليه بشيء من الثناء عليه الذي ال‬ ‫ُ‬
‫صفُونَ )وكل مثن واصف ‪ ،‬فذكر سبحانه تسبيحه في كل حال ومن‬ ‫ع َّما يَ ِ‬‫يكون إال له( َ‬
‫س ْب ُع َو ْاأل َ ْر ُ‬
‫ض‬ ‫س ِبه ُح لَهُ ال َّ‬
‫سماواتُ ال َّ‬ ‫كل عين ‪ ،‬فقال( ت ُ َ‬

‫ص ‪552‬‬

‫ص ‪552 :‬‬
‫ّللا على ما قررناه لم يتمكن‬ ‫َو َم ْن فِي ِه َّن )وما ثم إال هؤالء ‪ ،‬ولما كان األمر بالثناء على ه‬
‫لنا أن نستنبط له ثناء ‪ ،‬فإن كان التسبيح ثناء ‪ ،‬فقد قيد ثناء كل موجود في العالم بقوله‬
‫تعالى « بحمده » فقيد تسبيح كل شيء بحمده المضاف إليه ‪ ،‬أي الثناء الذي أثنى به‬
‫على نفسه ‪ ،‬وهو الذي أنزله من عنده ‪ ،‬في كتبه وعلى ألسنة رسله ‪ ،‬على حد ما‬
‫ش ْيءٍ ِإ َّال يُ َ‬
‫س ِبه ُح ِب َح ْم ِد ِه‬ ‫يعلمه هو ال على حد ما نفهمه ‪ ،‬فإنه تعالى نبهه بقوله« َو ِإ ْن ِم ْن َ‬
‫»إال هذا اإلنسان فإن بعضه يسبحه بغير حمده ‪ ،‬فنحن نكون في الثناء عليه بما أثنى‬
‫به على نفسه حاكين تالين ‪ ،‬ألن الثناء على المثنى عليه مجهول الذات ‪ ،‬ال يقبل‬
‫الحدود والرسوم ‪ ،‬وال يدخل تحت الكيفية ‪ ،‬وال يعرف كما هو عليه في نفسه ‪ ،‬وهو‬
‫الغني عن العالمين ‪ ،‬فال تدل على المعرفة به الدالالت ‪ ،‬وإنما تدل على استنادنا إليه‬
‫من حيث ال يشبهنا أو ال يقبل وصفنا ‪ ،‬وما من اسم إلهي إال ونتصف به ‪ ،‬فما تلك هي‬
‫المعرفة المقصودة التي يعلم بها نفسه ‪ ،‬فشرع التسبيح وفطر عليه كل شيء ‪ ،‬وهو‬
‫ّللا‬
‫نفي عن كل وصف ال إثبات ‪ ،‬فالتسبيح تنزيه ونفي ال إثبات ‪ ،‬والثناء على ه‬
‫بالتسبيح ال تكل به األلسنة ‪ ،‬وهو تسبيح كل ما سوانا ‪ ،‬أي األنفس الناطقة ‪ ،‬فإنا ال‬
‫نفقه تسبيحهم إال إذا أعلمنا به ‪ ،‬فالمحامد ال تقف عند حد ‪ ،‬والمسبهح ال يسبحه إال‬
‫بحمده ‪ ،‬بخالف الثناء باألسماء ‪ ،‬فإن األلسنة ( أي ألسنة األنفس الناطقة ) تكل وتعيا‬
‫ّللا عليه وسلم خاتما عند اإلعياء والحصر [ ال أحصي‬ ‫وتقف فيها ‪ ،‬ولهذا قال صلهى ه‬
‫ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك ] ‪ ،‬وتتبعنا الكتاب والسنهة في التسبيح إذا سبح به‬
‫المسبح ‪ -‬أعني بلفظه الخاص به الدال عليه ‪ -‬فوجدناه أنه ال بد أن يقيد باسم من‬
‫األسماء اإللهية الظاهرة أو المضمرة والمضافة والمطلقة ‪ ،‬فطلبنا هذه األسماء‬
‫ّللا ‪ ،‬والرب المضاف ‪ ،‬واالسم الناقص ‪ ،‬واالسم المضمر كالهاء‬ ‫فوجدناها تدور على ه‬
‫سبْحانَ َر ِبه َك‬ ‫سونَ )والرب قوله( ُ‬ ‫ّللا ِحينَ ت ُ ْم ُ‬ ‫فاّلل يقول (فَ ُ‬
‫سبْحانَ َّ ِ‬ ‫‪ ،‬والملك والعلي ‪ ،‬ه‬
‫سبْحانَ الَّذِي أَسْرى ِبعَ ْب ِد ِه )‬
‫)واالسم الناقص( ُ‬
‫والمضمر قوله ( سبحانه وتعالى ) والملك مثل الذي ورد في السنة ( سبحان الملك‬
‫القدوس ) والعلي كما ورد في السنة ( سبحان العلي األعلى )‬
‫وقد ورد من غير تقييد في السنة مثل قول ( سبوح ) وهذا ذكر المذكور ‪ ،‬ونتيجته‬
‫أعظم النتائج ‪ ،‬ألنه كناية عن عين المسبهح بالتسبيح ‪ ،‬فاسمه هنا عينه ‪ ،‬وهذا أكمل‬
‫تسبيح العارفين ‪ ،‬ألنه غاب عن االسم فيه بالمس همى ‪ ،‬ولما كان التسبيح بحمده قربة به‪،‬‬
‫ّللا والحمد هّلل أنهما‬ ‫ّللا عليه وسلم ‪ [ :‬سبحان ه‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫فقال في الصحيح عن رسول ه‬
‫يمْلن أو يمْل ما بين‬

‫ص ‪553‬‬

‫ص ‪553 :‬‬
‫ّللا وبحمده ‪ ،‬فإن الحمد هّلل تمأل الميزان ‪ ،‬فإنها‬ ‫السماء واألرض ] وأراد قوله ‪ :‬سبحان ه‬
‫ّللا بما أثنى به على نفسه‬ ‫آخر ما يجعل في الميزان فبها يمتلئ ‪ ،‬فالعارف من سبح ه‬
‫وما استنبط شيئا ‪ ،‬ولهذا قال تعالى ‪َ «:‬ول ِك ْن ال ت َ ْفقَ ُهونَ ت َ ْس ِبي َح ُه ْم »فدل على أن كل‬
‫شيء يسبح إلهه بما تقرر عنده منه مما ليس عند اآلخر ‪ ،‬فلو كان تسبيحهم راجعا إلى‬
‫أمر واحد لم يجهل أحد تسبيح غيره ‪ ،‬وفي ذلك إشارة إلى الذين استنبطوا الثناء عليه‬
‫ّللا‬
‫تعالى بعقولهم فنسوا قوله تعالى « بحمده » فحجبهم عن ذلك أدلة عقولهم ‪ ،‬إذ ستر ه‬
‫عنها ذلك بستر أفكارهم فلم يؤاخذهم على ذلك لقوله ‪ِ «:‬إنَّهُ كانَ َح ِليما ً »فلم يؤاخذ مع‬
‫القدرة على ما تركتم من الثناء عليه بما أثنى به على نفسه ‪ ،‬ولم يعجل عليكم بالعقوبة‬
‫فيمن يزعم أنه على وصف كذا خاصة وما هو على وصف كذا ‪ ،‬فكان حليما مع ما‬
‫غفُورا ً »بما ستره عنكم من علم ذلك ممن هو بهذه‬ ‫في ذلك من سوء األدب منكم« َ‬
‫المثابة ‪ ،‬فوصف نفسه تعالى في آخر هذه اآلية بأنه غفور لما ستر به قلوبهم عن العلم‬
‫به إال من شاء من عباده ‪ ،‬فإنه أعطاه العلم به على اإلجمال ‪ ،‬فإذا أراد العبد نجاة نفسه‬
‫ّللا في ذلك‬ ‫ّللا إال بحمده ‪ ،‬كان ما كان ‪ ،‬على علم ه‬ ‫وتحصيل أسباب سعادته ‪ ،‬فال يحمد ه‬
‫من غير تعيين ‪ ،‬فإذا قام فضول باإلنسان واستنبط له ثناء لم يجئ بذلك اللفظ خطاب‬
‫إلهي فما سبحه بحمده بل بما استنبطه من عنده ‪ ،‬فينقص عن درجة ما ينبغي ‪ ،‬فقل ما‬
‫ّللا خلق العالم‬‫قاله عن نفسه وال تزد في الرقم وإن كان حسنا تكن من أهل الحق ‪ ،‬فإن ه‬
‫للتسبيح بحمده ال ألمر آخر ‪ ،‬فالعالم ال يفتر عن التسبيح طرفة عين ألن تسبيحه ذاتي‬
‫كالنفس للمتنفس ‪ ،‬وهذه اآلية إخبار من الحق عن األشياء أنها تنزه بحمده أي بالثناء‬
‫ّللا أنه أمرهم بتسبيحه ‪ ،‬بل أخبر أنهم يسبحون بحمده‬ ‫عليه ‪ ،‬والتنزيه البعد ‪ ،‬وما ذكر ه‬
‫ّللا في تالوتك لما يقول ربك عن نفسه وما يقوله العالم عنه ‪،‬‬ ‫‪ ،‬فاجعل بالك لقول ه‬
‫وفرق ‪ ،‬وال تحتج فيه إال بما قاله عن نفسه ال بما يحكيه من قول العالم فيه ‪ ،‬تكن من‬ ‫ه‬
‫ّللا وخاصته ‪ -‬نصيحة ‪ -‬لما كان المؤمن ال يشك في أن كل‬ ‫أهل القرآن الذين هم أهل ه‬
‫شيء مسبح ‪ ،‬وكل مسبح حي عقال ‪ ،‬فإن أهل الورع يتورعون عن صيد الحيوان كما‬
‫يفعل الملوك ومن ال حاجة له بذلك ‪ ،‬للفرجة واللهو واللعب ‪ ،‬فقد ورد أن العصفور‬
‫يأتي يوم القيامة فيقول ‪ :‬يا رب سل هذا لم قتلني عبثا ؟ وكذلك من يقطع شجرة لغير‬
‫ّللا‪.‬‬
‫منفعة أو ينقل حجرا لغير فائدة تعود على أحد من خلق ه‬

‫ص ‪554‬‬

‫ص ‪554 :‬‬
‫[ سورة اْلسراء ( ‪ : ) 17‬اآليات ‪ 45‬إلى ‪] 46‬‬
‫ستُورا ً ( ‪) 45‬‬ ‫ون ِب ْاآل ِخ َر ِة ِحجابا ً َم ْ‬ ‫آن َجعَ ْلنا بَ ْينَكَ َوبَ ْي َن الهذ َ‬
‫ِين ال يُ ْؤ ِمنُ َ‬ ‫َوإِذا قَ َرأْتَ ا ْلقُ ْر َ‬
‫َو َجعَ ْلنا عَلى قُلُو ِب ِه ْم أ َ ِكنهةً أ َ ْن يَ ْفقَ ُهوهُ َوفِي آذانِ ِه ْم َو ْقرا ً َو ِإذا ذَك َْرتَ َربهكَ فِي ا ْلقُ ْر ِ‬
‫آن‬
‫ْبار ِه ْم نُفُورا ً ( ‪) 46‬‬ ‫َوحْ َد ُه َوله ْوا عَلى أَد ِ‬
‫[ آيتان أمان من الوسواس ]‬
‫على أ َ ْد ِ‬
‫بار ِه ْم‬ ‫من قرأ هاتين اآليتين كانتا له أمانا من الوسواس ‪ ،‬وقوله تعالى ‪َ «:‬ولَّ ْوا َ‬
‫نُفُورا ً »ألنهم لم يسمعوا بذكر شركائهم واشمأزت قلوبهم ‪ ،‬هذا مع علمهم بأنهم هم‬
‫الذين وضعوها آلهة ‪ ،‬ولهذا قال ‪ :‬سموهم ‪ ،‬فإنهم إن سموهم قامت الحجة عليهم ‪.‬‬

‫[ سورة اْلسراء ( ‪ : ) 17‬اآليات ‪ 47‬إلى ‪] 55‬‬


‫ون ِإ ْن‬ ‫ون ِإلَ ْيكَ َو ِإ ْذ ُه ْم نَجْ وى ِإ ْذ يَقُو ُل ال ه‬
‫ظا ِل ُم َ‬ ‫ست َ ِمعُ َ‬ ‫ون ِب ِه ِإ ْذ يَ ْ‬ ‫نَحْ ُن أ َ ْعلَ ُم ِبما يَ ْ‬
‫ست َ ِمعُ َ‬
‫ست َ ِطيعُ َ‬
‫ون‬ ‫ضلُّوا فَال يَ ْ‬ ‫ض َربُوا لَكَ ْاأل َ ْمثا َل فَ َ‬ ‫ف َ‬ ‫ظ ْر َك ْي َ‬‫س ُحورا ً ( ‪ ) 47‬ا ْن ُ‬ ‫ون إِاله َر ُجالً َم ْ‬ ‫تَت هبِعُ َ‬
‫ون َخ ْلقا ً َجدِيدا ً ( ‪ ) 49‬قُ ْل‬ ‫سبِيالً ( ‪َ ) 48‬وقالُوا أ َ إِذا ُكنها ِعظاما ً َو ُرفاتا ً أ َ إِنها لَ َم ْبعُوث ُ َ‬ ‫َ‬
‫ون َم ْن يُ ِعيدُنا‬ ‫سيَقُولُ َ‬ ‫ُور ُك ْم فَ َ‬ ‫صد ِ‬ ‫جارةً أ َ ْو َحدِيدا ً ( ‪ ) 50‬أ َ ْو َخ ْلقا ً ِم هما يَ ْكبُ ُر فِي ُ‬ ‫كُونُوا ِح َ‬
‫ون َمتى ُه َو قُ ْل عَسى أ َ ْن‬ ‫س ُه ْم َويَقُولُ َ‬ ‫ُون ِإلَ ْيكَ ُر ُؤ َ‬‫سيُ ْن ِغض َ‬ ‫قُ ِل الهذِي فَ َط َر ُك ْم أ َ هو َل َم هر ٍة فَ َ‬
‫ُون قَ ِريبا ً ) ‪( 51‬‬ ‫يَك َ‬
‫ون إِ ْن لَبِثْت ُ ْم إِاله قَ ِليالً ( ‪َ ) 52‬وقُ ْل ِل ِعبادِي يَقُولُوا‬ ‫ظنُّ َ‬ ‫ون بِ َح ْم ِد ِه َوت َ ُ‬ ‫ست َ ِجيبُ َ‬ ‫يَ ْو َم يَ ْدعُو ُك ْم فَت َ ْ‬
‫عد ًُّوا ُمبِينا ً ( ‪53‬‬ ‫سان َ‬ ‫ْل ْن ِ‬ ‫كان ِل ْ ِ‬
‫طان َ‬ ‫ش ْي َ‬ ‫غ بَ ْينَ ُه ْم إِ هن ال ه‬ ‫طان يَ ْن َز ُ‬‫ش ْي َ‬ ‫س ُن إِ هن ال ه‬ ‫ي أَحْ َ‬ ‫الهتِي ِه َ‬
‫علَ ْي ِه ْم َو ِكيالً ( ‪) 54‬‬ ‫س ْلناكَ َ‬ ‫) َربُّ ُك ْم أ َ ْعلَ ُم ِب ُك ْم إِ ْن يَشَأ ْ يَ ْر َح ْم ُك ْم أ َ ْو إِ ْن يَشَأ ْ يُعَ ِذّ ْب ُك ْم َوما أ َ ْر َ‬
‫ض َوآت َ ْينا‬ ‫ين عَلى بَ ْع ٍ‬ ‫ض النه ِب ِيّ َ‬ ‫ض ْلنا بَ ْع َ‬ ‫ض َولَقَ ْد فَ ه‬ ‫ت َو ْاأل َ ْر ِ‬ ‫سماوا ِ‬ ‫َو َربُّكَ أ َ ْعلَ ُم ِب َم ْن فِي ال ه‬
‫داو َد َزبُورا ً) ‪( 55‬‬ ‫ُ‬

‫ص ‪555‬‬

‫ص ‪555 :‬‬
‫ض"]‬ ‫على بَ ْع ٍ‬ ‫ض النَّبِ ِيهينَ َ‬‫[" َولَقَ ْد فَض َّْلنا بَ ْع َ‬
‫ض »مع أن النبوة موجودة ‪ ،‬فما زالوا في النبوة‬ ‫على بَ ْع ٍ‬ ‫ض النَّبِ ِيهينَ َ‬‫« َولَقَ ْد فَض َّْلنا بَ ْع َ‬
‫مع فضل بعضهم على بعض ‪ ،‬فتفضل منازلهم بتفاضلهم وإن اشتركوا في الدار ‪،‬‬
‫ض »بما يقتضيه الشرف مع اجتماعهم‬ ‫على بَ ْع ٍ‬ ‫فقوله تعالى« َولَقَ ْد فَض َّْلنا بَ ْع َ‬
‫ض النَّ ِب ِيهينَ َ‬
‫في درجة النبوة ‪ ،‬أي يزيد كل واحد على صاحبه برتبة تقتضي المجد والشرف ‪ ،‬أي‬
‫جعلنا عند كل واحد من صفات المجد والشرف ما لم نجعل عند اآلخر ‪ ،‬فقد زاد‬
‫بعضهم على بعض في صفات الشرف والمراتب التي فضلوا بها بعضهم على بعض ‪،‬‬
‫أي أعطينا هذا ما لم نعط هذا ‪ ،‬وأعطينا هذا ما لم نعط من فضله ولكن من مراتب‬
‫ّللا ‪ ،‬وآتينا عيسى البينات وأيدناه بروح القدس ‪ ،‬ومنهم من‬ ‫الشرف ‪ ،‬فمنهم من كلم ه‬
‫فضل بأن خلقه بيديه وأسجد له المالئكة ‪ ،‬ومنهم من فضل بالكالم القديم اإللهي‬
‫بارتفاع الوسائط ‪ ،‬ومنهم من فضل بالخلة ‪ ،‬ومنهم من فضل بالصفوة وهو إسرائيل‬
‫يعقوب ‪ ،‬فهذه كلها صفات شرف ومجد ‪ ،‬وال يقال ‪ :‬إن خلهته أشرف من كالمه وال أن‬
‫كالمه أفضل من خلقه بيديه ‪ ،‬بل كل ذلك راجع إلى ذات واحدة ال تقبل الكثرة وال‬
‫المفاضلة ‪ ،‬ومذهب الجماعة أن كل واحد من األنبياء فاضل مفضول ‪ ،‬فخص آدم بعلم‬
‫ّللا عليه وسلم بما‬‫ّللا صلهى ه‬
‫األسماء اإللهية ‪ ،‬وخص موسى بالكالم ‪ ،‬وخص رسول ه‬
‫ّللا فضهل بعضهم على‬ ‫ذكر عن نفسه ‪ ،‬وخص عيسى بكونه روحا ‪ ،‬ومع علمنا بأن ه‬
‫بعض ‪ ،‬فله سبحانه أن يفضل بين عباده بما شاء ‪ ،‬وليس لنا ذلك ‪ ،‬فإنا ال نعلم ذلك إال‬
‫بإعالمه ‪ ،‬فإن ذلك راجع إلى ما في نفس الحق سبحانه منهم ‪ ،‬وال يعلم أحد ما في‬
‫ّللا صلهى ه‬
‫ّللا‬ ‫نفس الحق ‪ ،‬وال دخول هنا للمراتب الظاهرة والتحكم ‪ ،‬وقد نهى رسول ه‬
‫ّللا عليه وسلم عليهم إال بإعالمه‬ ‫عليه وسلم أن نفضل بين األنبياء وأن نفضله صلهى ه‬
‫ّللا فقد خان‬
‫أيضا ‪ ،‬وعيهن يونس عليه السالم وغيره ‪ ،‬فمن فضهل من غير إعالم ه‬
‫ّللا عليه وسلم ‪-‬‬‫ّللا صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم وتعدى ما حده له رسول ه‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫رسول ه‬
‫وجه في هذه المفاضلة ‪ -‬الرسالة ونبوة الشرائع المتعدية إلى األمم ‪ ،‬والخاصة بكل‬
‫نبي ‪ ،‬اختصاص إلهي في األنبياء والرسل ال ينال باالكتساب وال بالتعمل ‪ ،‬وخطاب‬
‫الحق قد ينال بالتعمل ‪ ،‬والذي يخاطب به إن كان شرعا يبلهغه أو يخصه ‪ ،‬ذلك هو‬
‫الذي نقول فيه ‪ :‬ال ينال بالتعمل وال بالكسب ‪ ،‬وهو االختصاص اإللهي المعلوم ‪ ،‬فكل‬
‫شرع ينال به عامله هذه المرتبة فإن نبي ذلك الشرع من أهل هذا المقام ‪ ،‬وهو زيادة‬
‫ّللا ونعمة ‪ ،‬وكل شرع ال ينال العامل به هذا المقام‬ ‫على شريعة نبوته له ‪ ،‬فضال من ه‬
‫فإن نبي ذلك الشرع لم يحصل له هذا المقام الذي‬

‫ص ‪556‬‬

‫ص ‪556 :‬‬
‫حصل لغيره من أنبياء الشرائع ‪ ،‬فهذا وجه من الوجوه التي قال تعالى فيها «‪َ :‬ولَقَ ْد‬
‫ض‬‫على بَ ْع ٍ‬ ‫س ُل فَض َّْلنا بَ ْع َ‬
‫ض ُه ْم َ‬ ‫ض »وقوله تعالى( تِ ْل َك ُّ‬
‫الر ُ‬ ‫على بَ ْع ٍ‬ ‫فَض َّْلنا بَ ْع َ‬
‫ض النَّبِ ِيهينَ َ‬
‫ط ِب ِه ُخبْرا ً )فإن موسى‬ ‫على ما لَ ْم ت ُ ِح ْ‬ ‫ْف ت َ ْ‬
‫ص ِب ُر َ‬ ‫)قال الخضر لموسى في هذا المقام( َو َكي َ‬
‫عليه السالم في ذلك الوقت لم يكن له هذا المقام الذي نفاه عنه العدل بقوله ‪ ،‬وتعديل‬
‫ّللا إياه بما شهد له به من العلم ‪ ،‬وما رد عليه موسى في ذلك وال أنكر عليه بل قال(‬ ‫ه‬
‫ْصي لَ َك أ َ ْمرا ً )‪.‬‬ ‫ّللاُ صابِرا ً َوال أَع ِ‬
‫ست َ ِج ُدنِي إِ ْن شا َء َّ‬ ‫َ‬

‫[ سورة اْلسراء ( ‪ : ) 17‬آية ‪] 56‬‬


‫ع ْن ُك ْم َوال تَحْ ِويالً ( ‪) 56‬‬ ‫ْف ال ُّ‬
‫ض ِ ّر َ‬ ‫ِين َزع َْمت ُ ْم ِم ْن دُونِ ِه فَال يَ ْم ِلك َ‬
‫ُون َكش َ‬ ‫قُ ِل ا ْدعُوا الهذ َ‬
‫[ ‪ -‬تحقيق ‪ -‬تعلم الخصام ]‬
‫‪-‬تحقيق ‪ -‬تعلم الخصام ‪ ،‬فإن الحق سيجعلك بين المشتركين ‪ ،‬فال تتخلص منهم إال‬
‫بالحجة ‪ ،‬فانظر من عبد غير الحق فقل له ‪ :‬ما لك وكذا ؟ اطلب منه كذا ‪ .‬وال يكون‬
‫هذا القول إال غيرة منك في حق الحق ‪ ،‬فإن الذي يطلبه منهم ال يكون ‪ ،‬فتبقى حجتهم‬
‫داحضة ‪ ،‬وإن قلت ذلك ال من أجل الغيرة يكون ما طلبت منهم ‪ ،‬فيزداد الكافر كفرا ‪،‬‬
‫وقد ترتاب أنت ‪ ،‬فال تتعرض للفتن إال بقدم راسخة عند الحق ‪ ،‬ومن ال قدم له عند‬
‫الحق ال صدق له ‪ ،‬ومن ال صدق له سقط حظه من الحق ‪.‬‬

‫[ سورة اْلسراء ( ‪ : ) 17‬آية ‪] 57‬‬


‫ون َرحْ َمتَهُ َويَخافُ َ‬
‫ون‬ ‫سيلَةَ أَيُّ ُه ْم أ َ ْق َر ُ‬
‫ب َويَ ْر ُج َ‬ ‫ون إِلى َر ِبّ ِه ُم ا ْل َو ِ‬
‫ُون يَ ْبتَغُ َ‬ ‫أُولئِكَ الهذ َ‬
‫ِين يَ ْدع َ‬
‫كان َمحْ ذُورا ً ( ‪) 57‬‬ ‫عَذابَهُ ِإ هن ع َ‬
‫َذاب َر ِبّكَ َ‬
‫[ مقام الرجاء ]‬
‫« َويَ ْر ُجونَ َر ْح َمتَهُ »إن الرجاء مقام مخوف ‪ ،‬يحتاج صاحبه إلى أدب حاضر حاصل‬
‫ومعرفة ثابتة ال يدخلها شبهة ‪ ،‬فإنه مقام على جانب الطريق ما هو في نفس الطريق ‪،‬‬
‫تحته مهواة بأدنى زلة يسقط صاحبه من الطريق ‪ ،‬وهو على طريق الحياة الدائمة التي‬
‫بها بقاء العالم في النعيم ‪ ،‬والحال التي ينبغي أن يظهر سلطانه فيها عند االحتضار ‪،‬‬
‫وأما قبل ذلك فيساوى بين حكمه وحكم الخوف إن كان مؤمنا حقيقة ‪،‬‬
‫ّللا تعالى ‪ [ :‬أنا عند ظن عبدي بي فليظن بي خيرا ] وكذلك ينبغي أن يظن بنفسه‬ ‫قال ه‬
‫شرا ال بربه ‪ ،‬إال عند الموت يشتغل بربه في تلك الحال ويظن به خيرا ‪ ،‬ويعرض‬
‫عن ظنه بنفسه جملة واحدة ‪ ،‬بخالف حاله في دنياه‪.‬‬

‫ص ‪557‬‬

‫ص ‪557 :‬‬
‫إن الرجاء كمثل الخوف في الحكم *** فاعزم عليه وكن منه على علم‬
‫إن الرجاء مقام ليس يعلمه *** إال أولو العلم بالرحمن والفهم‬

‫[ سورة اْلسراء ( ‪ : ) 17‬اآليات ‪58‬إلى ‪] 60‬‬


‫كان ذ ِلكَ ِفي‬ ‫شدِيدا ً َ‬ ‫َو ِإ ْن ِم ْن قَ ْريَ ٍة ِإاله نَحْ ُن ُم ْه ِلكُوها قَ ْب َل يَ ْو ِم ا ْل ِقيا َم ِة أ َ ْو ُمعَ ِذّبُوها عَذابا ً َ‬
‫ب بِ َها ْاأل َ هولُ َ‬
‫ون َوآت َ ْينا‬ ‫ت إِاله أ َ ْن َكذه َ‬ ‫طورا ً ) ‪َ ( 58‬وما َمنَعَنا أ َ ْن نُ ْر ِ‬
‫س َل بِ ْاآليا ِ‬ ‫س ُ‬‫ب َم ْ‬‫ا ْل ِكتا ِ‬
‫ت إِاله ت َ ْخ ِويفا ً ( ‪َ ) 59‬وإِ ْذ قُ ْلنا لَكَ إِ هن‬ ‫س ُل بِ ْاآليا ِ‬ ‫ث َ ُمو َد النهاقَةَ ُم ْب ِص َرةً فَ َظلَ ُموا بِها َوما نُ ْر ِ‬
‫ش َج َرةَ ا ْل َم ْلعُونَةَ فِي‬ ‫اس َوال ه‬ ‫الر ْؤيَا الهتِي أ َ َر ْيناكَ ِإاله فِتْنَةً ِللنه ِ‬
‫اس َوما َجعَ ْلنَا ُّ‬ ‫َربهكَ أَحا َط ِبالنه ِ‬
‫ط ْغيانا ً َك ِبيرا ً ) ‪( 60‬‬ ‫آن َونُ َخ ّ ِوفُ ُه ْم فَما يَ ِزي ُد ُه ْم ِإاله ُ‬
‫ا ْلقُ ْر ِ‬
‫الشجرة مشتقة من التشاجر لتداخل أغصانها بعضها على بعض ‪ ،‬كالمتشاجرين يدخل‬
‫ّللا تعالى في القرآن‬ ‫كالم بعضهم في كالم بعض بالمخالفة والمنازعة ‪ ،‬ولذلك ما ذكر ه‬
‫إال ثمرات الجنة ‪ ،‬فإنه جعلها منزل موافقة ‪ ،‬فقد يكون أغصانها تخرج على االعتدال‬
‫آن »‬ ‫ش َج َرة َ ْال َم ْلعُونَةَ فِي ْالقُ ْر ِ‬
‫واالستقامة ‪ ،‬وذكر ذلك في النار فقال ‪َ «:‬وال َّ‬
‫وقال ‪ [ :‬إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم ] فإن جهنم دار نزاع وتشاجر ‪.‬‬

‫[ سورة اْلسراء ( ‪ : ) 17‬آية ‪] 61‬‬


‫س ُج ُد ِل َم ْن َخلَ ْقتَ ِطينا ً (‪)61‬‬‫يس قا َل أ َ أ َ ْ‬ ‫س ُجدُوا ِآل َد َم فَ َ‬
‫س َجدُوا إِاله إِ ْب ِل َ‬ ‫َوإِ ْذ قُ ْلنا ِل ْل َمالئِ َك ِة ا ْ‬
‫اعلم أن كل مخلوق ما عدا بني آدم في مقام الخشوع والتواضع إال اإلنسان ‪ ،‬فإنه‬
‫ّللا تعالى ‪ ،‬وأما الجن فتدعي ذلك على من‬ ‫يدعي الكبرياء والعزة والجبروت على ه‬
‫دونها في زعمها من المخلوقين ‪ ،‬كاستكبار إبليس من حيث نشأته على آدم عليه السالم‬
‫ت ِطينا ً »ألنه رأى عنصر النار أشرف من عنصر‬ ‫‪ ،‬ولذا قال ‪ «:‬أ َ أ َ ْس ُج ُد ِل َم ْن َخلَ ْق َ‬
‫ّللا ه‬
‫عز‬ ‫ين ) *فلم يتكبر على ه‬ ‫نار َو َخلَ ْقتَهُ ِم ْن ِط ٍ‬‫التراب ‪ ،‬وقال( أَنَا َخي ٌْر ِم ْنهُ َخلَ ْقت َ ِني ِم ْن ٍ‬
‫وجل ‪ ،‬فاختص اإلنسان وحده من سائر المخلوقات بهذه الصفة ‪.‬‬
‫واعلم أن سبب سجود المالئكة آلدم إنما كان ألجل الصورة ‪ ،‬ال ألن علهمهم األسماء ‪،‬‬
‫ّللا من األسماء ‪،‬‬ ‫فأمروا بالسجود قبل أن يعرفوا فضله عليهم بما علمه ه‬

‫ص ‪558‬‬

‫ص ‪558 :‬‬
‫ولو كان السجود بعد ظهوره بالعلم ما أبى إبليس وال قال( أَنَا َخي ٌْر ِم ْنهُ ) *وال استكبر‬
‫ين )‬ ‫نار َو َخلَ ْقتَهُ ِم ْن ِط ٍ‬ ‫ت ِطينا ً »وقال ( َخلَ ْقتَنِي ِم ْن ٍ‬ ‫عليه ‪ ،‬ولهذا قال« أ َ أ َ ْس ُج ُد ِل َم ْن َخلَ ْق َ‬
‫ّللا عنهم ‪ ،‬ولهذا قال تعالى في‬ ‫ّللا المالئكة بخالفته فقالوا ما أخبر ه‬ ‫*ثم بعد ذلك أعلم ه‬
‫بعض ما كرره من قصته« َو ِإ ْذ قُ ْلنا ِل ْل َمالئِ َك ِة ا ْس ُجدُوا ِآل َد َم » *فأتى بالماضي من‬
‫األفعال ‪ ،‬وبأداة إذ وهي لما مضى من الزمان ‪ ،‬فاجعل بالك لهذه المسألة ‪ ،‬لتعلم فضل‬
‫آدم بعلمه على فضله بالسجود له لمجرد ذاته ‪ ،‬ولما ذا نهي في الشرع أن يسجد إنسان‬
‫إلنسان ‪ ،‬فإنه سجود الشيء لنفسه ‪ ،‬فإنه مثله من جميع وجوهه ‪ ،‬والشيء ال يخضع‬
‫ّللا عليه وسلم في الرجل إذا لقي الرجل أينحني له ؟ قال‬ ‫لنفسه ‪ ،‬ولهذا لما سئل صلهى ه‬
‫‪ :‬ال ‪ ،‬قيل له ‪ :‬أيصافحه ؟ قال ‪ :‬نعم ‪.‬‬
‫[ سورة اْلسراء ( ‪ : ) 17‬آية ‪] 62‬‬
‫ي لَ ِئ ْن أ َ هخ ْرت َ ِن ِإلى يَ ْو ِم ا ْل ِقيا َم ِة َألَحْ ت َ ِنك هَن ذُ ِ ّريهتَهُ ِإاله قَ ِليالً‬‫علَ ه‬‫قا َل أ َ َرأ َ ْيت َكَ هذَا الهذِي ك هَر ْمتَ َ‬
‫) ‪( 62‬‬
‫فقال تعالى من كرمه إلبليس وعموم رحمته ‪.‬‬

‫[ سورة اْلسراء ( ‪ : ) 17‬آية ‪] 63‬‬


‫قا َل ْ‬
‫اذ َه ْب فَ َم ْن ت َ ِبعَكَ ِم ْن ُه ْم فَ ِإ هن َج َهنه َم َجزا ُؤ ُك ْم َجزا ًء َم ْوفُورا ً ) ‪( 63‬‬
‫ومن األمر اللطيف الذي تجعله قرائن األحوال وعيدا وتهديدا ‪ ،‬والظاهر تعلق بالحكم‬
‫‪ ،‬الستواء الرحمن على العرش ‪ ،‬واتساع الرحمة وعمومها حيث لم تبق شيئا إال‬
‫حكمت عليه ‪ ،‬ومن حكمها كان قوله تعالى ‪.‬‬

‫[ سورة اْلسراء ( ‪ ) : 17‬آية ‪] 64‬‬


‫ص ْو ِتكَ َوأَجْ ِل ْب َ‬
‫علَ ْي ِه ْم ِب َخ ْي ِلكَ َو َر ِج ِلكَ َو ِ‬
‫شار ْك ُه ْم ِفي‬ ‫ست َ َط ْعتَ ِم ْن ُه ْم ِب َ‬‫ست َ ْف ِز ْز َم ِن ا ْ‬ ‫َوا ْ‬
‫غ ُرورا ً ) ‪( 64‬‬ ‫طان إِاله ُ‬‫ش ْي ُ‬ ‫ْاأل َ ْموا ِل َو ْاأل َ ْوال ِد َو ِع ْد ُه ْم َوما يَ ِع ُد ُه ُم ال ه‬
‫ّللا من خلف حجاب‬ ‫لما كان للجن ‪ -‬شياطينهم وغير شياطينهم ‪ -‬اإلغواء ‪ ،‬أمرهم ه‬
‫البعد باالستفزاز والمشاركة في األموال واألوالد ‪ ،‬ابتالء لهم وامتحانا ‪ ،‬فيقول‬
‫ّللا َربَّ‬
‫خاف َّ َ‬‫الشيطان لإلنسان اكفر ‪ ،‬فإذا كفر يقول الشيطان( ِإ ِنهي بَ ِري ٌء ِم ْن َك ِإ ِنهي أ َ ُ‬
‫ْالعالَ ِمينَ )ولو أن هذه اآلية وأمثالها فيما يختص بإبليس أوامر إلهية ‪ ،‬فإنها لم تكن‬
‫ّللا ‪ ،‬فلو كانت ابتداء ما شقي إبليس ‪ ،‬ولكن لما كانت إجابة إلبليس لما قال(‬ ‫ابتداء من ه‬
‫فَبِ ِع َّزتِ َك َأل ُ ْغ ِويَنَّ ُه ْم أ َ ْج َم ِعينَ )‬

‫ص ‪559‬‬

‫ص ‪559 :‬‬
‫( َأل َ ْحتَنِ َك َّن ذُ ِ هريَّتَهُ )شقي بها ‪ ،‬كما تعب المكلف فيما سأله من التكليف ‪ ،‬فإبليس مصدهق‬
‫ّللا بشبهة في أمره في قوله( َو ِع ْد ُه ْم )فأخبر ه‬
‫ّللا تعالى‬ ‫هّلل فيما أخبر به عنه ممتثل أمر ه‬
‫ّللا تعالى ‪ ،‬وهو أمر إلهي يتضمن‬ ‫ْطان يَ ِع ُد ُك ُم ْالفَ ْق َر )فما جاء إبليس إال بأمر ه‬
‫شي ُ‬ ‫عنه( ال َّ‬
‫ّللا بإبليس بأن جعل له متعلقا يتعلق به في موطن خاص ‪،‬‬ ‫وعيدا وتهديدا ‪ ،‬ولكن لطف ه‬
‫فأدرج الرحمة من حيث ال يشعر بها ‪ ،‬ولو شعر إبليس بهذا االستدراج الرحماني ‪ ،‬ما‬
‫طلب الرحمة من عين المنة ‪ ،‬ولكن حجبته قرائن األحوال عن اعتبار صفة األمر‬
‫اإللهي ‪ ،‬وكان ابتالء شديدا في حقنا ‪ ،‬ليريه تعالى أن في ذرية آدم من ليس إلبليس‬
‫عليه سلطان وال قوة فقال تعالى ‪.‬‬

‫[ سورة اْلسراء ( ‪ : ) 17‬آية ‪]65‬‬


‫طان َوكَفى ِب َر ِبّكَ َو ِكيالً ( ‪ [) 65‬الحفظ لَلولياء‬ ‫س ْل ٌ‬
‫علَ ْي ِه ْم ُ‬
‫س لَكَ َ‬ ‫ِإ هن ِعبادِي لَ ْي َ‬
‫والعصمة لَلنبياء ]‬
‫كلهما قربت أحوالك من أحوال األنبياء أي باتباع الرسول والجري على سنته ‪ ،‬كنت في‬
‫العبودة أمكن ‪ ،‬وكانت لك الحجة ‪ ،‬ولم يكن للشيطان عليك سلطان ‪ ،‬كما قال تعالى ‪«:‬‬
‫طان »وقال (يَ ْسلُكُ ِم ْن بَي ِْن يَ َد ْي ِه َو ِم ْن خ َْل ِف ِه َر َ‬
‫صدا ً )فال أثر‬ ‫س ْل ٌ‬
‫علَ ْي ِه ْم ُ‬
‫ْس لَ َك َ‬
‫ِإ َّن ِعبادِي لَي َ‬
‫للشيطان فيهم ‪ ،‬فإن السجدة القلبية إذا حصلت لإلنسان حالة مشاهدة عين فقل كمل‬
‫وكملت معرفته وعصمته فلم يكن للشيطان عليه سبيل ‪ ،‬وتسمى هذه العصمة في حق‬
‫الولي حفظا كما تسمى في حق النبي والرسول عصمة ‪ ،‬ليقع الفرق بين الولي والنبي‬
‫‪ ،‬فاألنبياء محفوظون ظاهرا وباطنا ‪ ،‬والولي محفوظ من األمر الذي يقصد الشيطان‬
‫ّللا أن يلقي إليه ‪ ،‬فيقلب عينه بصرفه إلى الوجه الذي‬ ‫عند إلقائه في قلب الولي ما شاء ه‬
‫ّللا ‪ ،‬ولوال حرص إبليس على‬ ‫ّللا ‪ ،‬فيحصل بذلك على منزلة عظيمة عند ه‬ ‫يرضي ه‬
‫ّللا‬
‫المعصية ما عاد إلى هذا الولي مرة أخرى ‪ ،‬فإنه يرى ما جاءه به ليبعده بذلك من ه‬
‫يزيده قربا وسعادة ‪ ،‬واألنبياء معصومون أن يلقي الشيطان إليهم ‪ ،‬فلهم العصمة من‬
‫ّللا في جميع حركاتهم ‪ ،‬وذلك ألنهم قد‬ ‫الشيطان ظاهرا وباطنا ‪ ،‬وهم المحفوظون من ه‬
‫ّللا للناس ‪ ،‬ولهم المناجاة اإللهية ‪ ،‬فاألنبياء المرسلون معصومون من المباح‬ ‫نصبهم ه‬
‫أن يفعلوه من أجل نفوسهم ‪ ،‬ألنهم يشرعون بأفعالهم وأقوالهم ‪ ،‬فإذا فعلوا مباحا يأتونه‬
‫للتشريع ليقتدى بهم ‪ ،‬ويعرفون األتباع عين الحكم اإللهي فيه ‪ ،‬فهو واجب عليهم‬
‫ليبينوا للناس ما أنزل إليهم ‪ .‬فهذا الفرق بين العصمة والحفظ ‪ ،‬وإنما جعلوا الحفظ‬
‫للولي أيضا أدبا مع النبي ‪ ،‬فإن الشيطان ما له سبيل على قلوب بعض األولياء من‬

‫ص ‪560‬‬

‫ص ‪560 :‬‬
‫أجل العلم الذي أعطاه التجلي اإللهي لقلوبهم ‪ ،‬وهذا ال يكون ألحد من األولياء إال لمن‬
‫سجد قلبه ‪ ،‬فإن الشيطان ال يعتزل عن اإلنسان إال في حال سجوده في الظاهر‬
‫ّللا‬
‫يال »فيحفظ ه‬ ‫والباطن ‪ ،‬فإن لم يسجد قلب الولي فليس بمحفوظ« َو َكفى ِب َر ِبه َك َو ِك ً‬
‫أولياءه من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ‪ ،‬إذ ال دخول للشيطان‬
‫خالق في هذه الدار بالعمل‬ ‫ّللا ه‬
‫على بني آدم إال من هذه الجهات ‪ ،‬واألديب من عباد ه‬
‫ّللا‬
‫ّللا الرحمن الرحيم ‪ ،‬ليسلم عمله من مشاركة الشيطان ‪ ،‬حيث أمره ه‬ ‫ببسم ه‬
‫بالمشاركة في األموال واألوالد ‪ ،‬فهو ممتثل هذا األمر حريص عليه ‪ ،‬ونحن‬
‫مأمورون باتقائه في هذه المشاركة ‪ ،‬فطلبنا ما نتقيه به لكونه غيبا عنا ال نراه ‪،‬‬
‫ّللا على أعمالنا عند الشروع فيها توحدنا بها ‪ ،‬وعصمنا‬ ‫ّللا اسمه ‪ ،‬فلما سمينا ه‬
‫فأعطانا ه‬
‫من مشاركة الشيطان ‪ ،‬فإن االسم اإللهي هو الذي يباشره ويحول بيننا وبينه ‪ ،‬وإن‬
‫بعض أهل الكشف ليشهدون هذه المدافعة التي بين االسم اإللهي من العبد في حال‬
‫الشروع وبين الشيطان ‪ ،‬وإذا كان العبد بهذه الصفة كان على بينة من ربه وفاز ونجا‬
‫من هذه المشاركة ‪ ،‬وكان له البقاء في الحفظ والعصمة في جميع أعماله وأحواله ‪.‬‬

‫[ سورة اْلسراء ( ‪ : ) 17‬اآليات ‪ 66‬إلى ‪] 67‬‬


‫كان ِب ُك ْم َر ِحيما ً ( ‪) 66‬‬ ‫ض ِل ِه ِإنههُ َ‬ ‫َربُّ ُك ُم الهذِي يُ ْز ِجي لَ ُك ُم ا ْلفُ ْلكَ ِفي ا ْلبَحْ ِر ِلت َ ْبتَغُوا ِم ْن فَ ْ‬
‫ُون إِاله إِيهاهُ فَلَ هما نَ هجا ُك ْم إِلَى ا ْلبَ ِ ّر أَع َْر ْ‬
‫ضت ُ ْم‬ ‫ض هل َم ْن ت َ ْدع َ‬‫ض ُّر فِي ا ْلبَحْ ِر َ‬ ‫س ُك ُم ال ُّ‬ ‫َوإِذا َم ه‬
‫سان َكفُورا ً ( ‪) 67‬‬ ‫اْل ْن ُ‬ ‫كان ْ ِ‬
‫َو َ‬
‫ض َّل َم ْن‬ ‫س ُك ُم الض ُُّّر فِي ْالبَ ْح ِر »نبه بذلك على موضع انقطاع األسباب« َ‬ ‫« َو ِإذا َم َّ‬
‫ت َ ْدعُونَ »يعني األسباب ‪ ،‬ضل منكم وتلف ‪ ،‬فلم تجدوه ‪ ،‬وما وجدتم عند فقده إال ه‬
‫ّللا ‪،‬‬
‫ّللا ‪ ،‬فقال« ِإ َّال ِإيَّاهُ » *فتدعونه في دفع الشدائد ‪،‬‬ ‫فحيث تفنى األسباب هناك يوجد ه‬
‫فكان هو السبب الذي ينجي في أوقات الضرورات المهلكة ‪ ،‬التي يقطعون فيها أن‬
‫ّللا في رفعها ‪ ،‬فإن اإلنسان بحكم الطبع‬ ‫آلهتهم ال تغني عنهم فيها شيئا ‪ ،‬فيلجئون إلى ه‬
‫ّللا ‪ ،‬فما من شيء إال ويرجع‬ ‫يجري إذا مسه الضر إلى طلب من يزيله عنه وليس إال ه‬
‫ضت ُ ْم َوكانَ ْ ِ‬
‫اإل ْن ُ‬
‫سان‬ ‫في ضرورته إذا انقطعت به األسباب إليه« فَلَ َّما نَ َّجا ُك ْم ِإلَى ْالبَ ِ هر أَع َْر ْ‬
‫ّللا وأغاثه‬ ‫َكفُورا ً »فلما نجاه ه‬

‫ص ‪561‬‬

‫ص ‪561 :‬‬
‫واستقل ‪ ،‬قال ‪ :‬هذا أيضا من جملة األسباب التي يقوم بعضها عن بعض فيما تريده ‪،‬‬
‫فجعله واحدا من األسباب وهو المشرك ‪.‬‬

‫[ سورة اْلسراء ( ‪ : ) 17‬اآليات ‪ 68‬إلى ‪]72‬‬


‫حاصبا ً ث ُ هم ال ت َ ِجدُوا لَ ُك ْم َو ِكيالً (‬
‫ِ‬ ‫علَ ْي ُك ْم‬‫س َل َ‬ ‫ب ا ْلبَ ِ ّر أ َ ْو يُ ْر ِ‬
‫ف ِب ُك ْم جا ِن َ‬ ‫س َ‬‫أ َ فَأ َ ِم ْنت ُ ْم أ َ ْن يَ ْخ ِ‬
‫الريحِ فَيُ ْغ ِرقَ ُك ْم بِما‬ ‫قاصفا ً ِم َن ِ ّ‬ ‫علَ ْي ُك ْم ِ‬
‫س َل َ‬ ‫تارةً أ ُ ْخرى فَيُ ْر ِ‬ ‫‪ ) 68‬أ َ ْم أ َ ِم ْنت ُ ْم أ َ ْن يُ ِعي َد ُك ْم فِي ِه َ‬
‫علَ ْينا بِ ِه تَبِيعا ً ( ‪َ ) 69‬ولَقَ ْد ك هَر ْمنا بَنِي آ َد َم َو َح َم ْلنا ُه ْم فِي ا ْلبَ ِ ّر‬ ‫َكفَ ْرت ُ ْم ث ُ هم ال ت َ ِجدُوا لَ ُك ْم َ‬
‫ير ِم هم ْن َخلَ ْقنا ت َ ْف ِضيالً ( ‪ ) 70‬يَ ْو َم‬ ‫ض ْلنا ُه ْم عَلى َكثِ ٍ‬ ‫ت َوفَ ه‬ ‫َوا ْلبَحْ ِر َو َر َز ْقنا ُه ْم ِم َن ال ه‬
‫ط ِيّبا ِ‬
‫ون‬‫ُن ِكتابَ ُه ْم َوال يُ ْظلَ ُم َ‬ ‫ي ِكتابَهُ ِبيَ ِمينِ ِه فَأُولئِكَ يَ ْق َرؤ َ‬ ‫مام ِه ْم فَ َم ْن أُوتِ َ‬ ‫ناس ِب ِإ ِ‬ ‫نَ ْدعُوا ُك هل أ ُ ٍ‬
‫س ِبيالً ) ‪( 72‬‬ ‫ض ُّل َ‬‫كان ِفي ه ِذ ِه أَعْمى فَ ُه َو ِفي ْاآل ِخ َر ِة أَعْمى َوأ َ َ‬ ‫فَ ِتيالً ( ‪َ ) 71‬و َم ْن َ‬
‫" َو َم ْن كانَ ِفي ه ِذ ِه »يعني في الدنيا ‪ ،‬وسماها دنيا ألنها أقرب إلينا من اآلخرة« أَعْمى‬
‫باّلل كما هو في نفس األمر «فَ ُه َو فِي ْاآل ِخ َرةِ أَعْمى »كما هو في‬ ‫»وهو حال الجهل ه‬
‫الدنيا ‪ ،‬فإن اإلنسان إنما يموت على ما عاش عليه ‪ ،‬فإذا كان أعمى في الدنيا ‪ -‬والعمى‬
‫باّلل ‪ -‬ويموت على ذلك فيجيء في اآلخرة بذلك الجهل ‪،‬‬ ‫هنا الجهل ه‬
‫ض ُّل‬ ‫فهو ما عاش إال حائرا ‪ ،‬فإذا وقع الكشف هناك زاد حيرة ‪ ،‬وهو قوله تعالى« َوأ َ َ‬
‫يال »أي أشد عمى ‪ ،‬فهو أضل من كونه في الدنيا ‪ ،‬فإنه كان يترجى في الدنيا لو‬ ‫س ِب ً‬
‫َ‬
‫كشف له أن تزول عنه الحيرة ‪ ،‬والسبيل هو الطريق ‪،‬‬
‫وليس إال الفكر فيما منع التفكر فيه« َو َم ْن كانَ فِي ه ِذ ِه »الدنيا« أَعْمى »عن إدراك‬
‫أنوار ما جاءت به الشرائع من الحق« فَ ُه َو فِي ْاآل ِخ َرةِ أَعْمى »كذلك هم في النار عمي‬
‫يال »‬ ‫س ِب ً‬ ‫عن إدراك أنوار السيارة وغيرها من الكواكب« َوأ َ َ‬
‫ض ُّل َ‬
‫وإنما كان أضل سبيال ‪ ،‬فإنه كان في الدنيا يجد من يرشده إلى الطريق ولكن ال يسمع‬
‫‪ ،‬وفي النار ما يجد من يرشده إلى الطريق ‪،‬‬
‫فإنه ما ث هم طريق ‪ ،‬لكن يجد من يندهمه على ما فاته ليزيده حسرة إلى حسرته ‪ ،‬فكما‬
‫تكون‬

‫ص ‪562‬‬

‫ص ‪562 :‬‬
‫اليوم تكون غدا ‪ ،‬فاجهد أن تكون هنا ممن أبصر األمور على ما هي عليه ‪.‬‬
‫[ سورة اْلسراء ( ‪ : ) 17‬آية ‪] 73‬‬
‫غ ْي َرهُ َو ِإذا ً الت ه َخذُوكَ َخ ِليالً (‬
‫علَ ْينا َ‬ ‫َو ِإ ْن كادُوا لَيَ ْفتِنُونَكَ ع َِن الهذِي أ َ ْو َح ْينا ِإلَ ْيكَ ِلت َ ْفت َ ِر َ‬
‫ي َ‬
‫‪)73‬‬
‫وما سامحه سبحانه في طمعه باستدراجهم بذلك ليؤمنوا بقوله تعالى ‪.‬‬

‫[ سورة اْلسراء ( ‪ : ) 17‬آية ‪] 74‬‬


‫ش ْيئا ً قَ ِليالً ( ‪َ «) 74‬ولَ ْو ال أ َ ْن ثَبهتْناكَ »بما‬ ‫َولَ ْو ال أ َ ْن ثَبهتْناكَ لَقَ ْد ِكدْتَ ت َ ْرك َُن ِإلَ ْي ِه ْم َ‬
‫ش ْيئا ً قَ ِل ً‬
‫يال »‪.‬‬ ‫أوحينا إليك في ذلك «لَقَ ْد ِكدْتَ ت َ ْرك َُن ِإلَ ْي ِه ْم َ‬

‫[ سورة اْلسراء ( ‪) : 17‬آية ‪] 75‬‬


‫ت ث ُ هم ال ت َ ِج ُد لَكَ َ‬
‫علَ ْينا نَ ِصيرا ً ) ‪( 75‬‬ ‫ف ا ْل َمما ِ‬ ‫إِذا ً َألَذَ ْقناكَ ِض ْع َ‬
‫ف ا ْل َحيا ِة َو ِض ْع َ‬
‫هذا مع القصد الحسن ‪ ،‬فكيف بغير ذلك ؟ والضعف أشد من العذاب المستحق‬
‫باألصالة وسببه الركون ‪.‬‬

‫[ سورة اْلسراء ( ‪ : ) 17‬اآليات ‪ 76‬إلى ‪] 78‬‬


‫ون ِخالفَكَ إِاله قَ ِليالً (‬
‫ض ِليُ ْخ ِر ُجوكَ ِم ْنها َوإِذا ً ال يَ ْلبَث ُ َ‬ ‫ست َ ِف ُّزونَكَ ِم َن ْاأل َ ْر ِ‬‫َوإِ ْن كادُوا لَيَ ْ‬
‫سنهتِنا تَحْ ِويالً ) ‪ ( 77‬أَقِ ِم ال ه‬
‫صالةَ‬ ‫س ْلنا قَ ْبلَكَ ِم ْن ُر ُ‬
‫س ِلنا َوال ت َ ِج ُد ِل ُ‬ ‫سنهةَ َم ْن قَ ْد أ َ ْر َ‬
‫‪ُ ) 76‬‬
‫ش ُهودا ً ( ‪) 78‬‬ ‫آن ا ْلفَجْ ِر َ‬
‫كان َم ْ‬ ‫آن ا ْلفَجْ ِر إِ هن قُ ْر َ‬‫ق الله ْي ِل َوقُ ْر َ‬‫س ِ‬‫غ َ‬‫وك الش ْهم ِس إِلى َ‬ ‫ِل ُدلُ ِ‬
‫[ في معنى إقامة الصالة ]‬
‫دلوك الشمس هو زوالها عن استوائها ‪ -‬تحقيق وإشارة في معنى إقامة الصالة ‪ -‬يا‬
‫عقل ‪ ،‬ربك قد دعاك إلى الدخول عليه ‪ ،‬والوقوف بين يديه ‪ ،‬فتسوك بعود أراك تفاؤال‬
‫‪ ،‬فإن الفأل مشروع ‪ ،‬فهو خير من سبعين صالة ‪ ،‬وفي رواية من أربعمائة كما جاء‬
‫في الموضوع ‪ ،‬فالزم األدب واحضر مع النسب ‪ ،‬فإن علم النسب يوجب أدبك ‪،‬‬
‫وينهج مذهبك وهذا أنت خلف الباب ‪ ،‬تريد رفع الحجاب ‪ ،‬فقل‪:‬‬

‫ص ‪563‬‬

‫ص ‪563 :‬‬
‫ّللا أكبر ‪ ،‬إثباتا لمن تكبر عليه وإعظاما ‪ ،‬ونزوال عليه وإلماما ‪ ،‬وقهرا له‬ ‫ّللا أكبر ه‬
‫ه‬
‫وإرغاما ‪ ،‬ورحمة به وإكراما ‪.‬‬
‫ّللا ‪ :‬إثباتا لمن ادعى األلوهية في نفسه ‪ ،‬حين أوجدها له في يومه‬ ‫أشهد أن ال إله إال ه‬
‫دون أمسه ‪ ،‬فتنعم بها في حسه ‪ ،‬وظهر بها عند أبناء جنسه ‪ ،‬فحال بينه وبين دوام‬
‫أنسه ‪.‬‬
‫ّللا ‪ :‬تحققا أن الرسالة في الثرى ‪ ،‬وأن كل الصيد في جوف‬ ‫أشهد أن محمدا رسول ه‬
‫الفرا ‪ ،‬فسرت سريان النفس في الورى ‪ ،‬فمنهم من تقدم ومنهم من طلب الوراء ‪،‬‬
‫وعند الصباح يحمد القوم السرى ‪.‬‬
‫حي على الصالة ‪ :‬إثباتا للغفالت ‪ ،‬وتعشق الغافلين بالكائنات ‪ ،‬فاتحدوا بها في عالم‬
‫الكلمات ‪ ،‬وانفصلوا عنها في عالم السماوات ‪ ،‬انفصال الروحانيات الملكوتيات ‪.‬‬
‫حي على الفالح ‪ :‬تعينا للبقاء « ‪ ، » 1‬ونجاة السعداء ‪ ،‬وعدمها من األشقياء ‪،‬‬
‫والفصل بين األرض والسماء ‪ ،‬يوم الفصل والقضاء ‪.‬‬
‫قد قامت الصالة ‪ :‬فقاموا إجالال لقيامها ‪ ،‬وبادروا إليها تعظيما إلمامها ‪ ،‬فوهبتهم‬
‫األسرار القدسية ‪ ،‬بين افتتاحها بتكبيرها ‪ ،‬وتمامها بسالمها ‪ ،‬فمن فارح بقدومها ‪،‬‬
‫جزع من إقدامها ‪ ،‬ومن فارح بقضائها ‪ ،‬إذ كان على بيهنة من تمامها ‪ ،‬ومن محب في‬
‫دوامها للتلذذ بكالمها ‪.‬‬
‫ّللا أكبر ‪ :‬تكبيرا من غير مفاضلة ‪ ،‬وقربا من غير مواصلة ‪ ،‬وبعدا من غير‬ ‫ّللا أكبر ه‬ ‫ه‬
‫مفاصلة ‪ ،‬وإنباء من غير مراسلة ‪ ،‬وإنعاما بمعاملة وغير معاملة ‪ ،‬ورؤية من غير‬
‫مقابلة ‪.‬‬
‫ّللا ‪ :‬إثباتا للشرك والتوحيد في عالم الجمع والوجد ‪ ،‬في عالم الفرق والفقد ‪،‬‬ ‫ال إله إال ه‬
‫سر التعطيل والوجود ‪ ،‬والنسبة والتمجيد ‪ ،‬النفراد الوعد والوعيد ‪ ،‬من القريب والبعيد‬
‫‪ ،‬بمحل التعظيم والتأييد ‪.‬‬
‫وأنت يا حس ‪ ،‬فقل ‪:‬‬
‫ّللا أكبر ‪ :‬تنفي تكبير المتكبرين من غير طريق دعوى المدعين ‪ ،‬وإرغاما‬ ‫ّللا أكبر ه‬
‫ه‬
‫ألنوف الحاسدين ‪ ،‬ودحضا لحجة المبطلين ‪ ،‬وإقامة لبرهان المؤمنين‪.‬‬
‫‪..........................................................................................‬‬
‫) ‪( 1‬الفالح هو البقاء لغة‪.‬‬
‫ص ‪564‬‬

‫ص ‪564 :‬‬
‫ّللا ‪ ،‬فإن الحكيم األواه ‪ ،‬من قال بنفي‬
‫ّللا ‪ :‬ردا على من قال ‪ :‬إنه ه‬
‫أشهد أن ال إله إال ه‬
‫األشباه ‪ ،‬وساوى في الذكر بين القلوب واألفواه ‪ ،‬وفي السجود بين األقدام والجباه ‪.‬‬
‫ّللا ‪ :‬إثباتا لقربه من ربه ‪ ،‬بعالم تربه ‪ ،‬ومن حبهه بعالم قلبه ‪،‬‬
‫أشهد أن محمدا رسول ه‬
‫لصحة حبهه ‪ ،‬فاتهخذ حبيبا وخليال ‪ ،‬وعبدا ورسوال ‪ ،‬فصحت له السيادة على صحبه ‪.‬‬
‫حي على الصالة ‪ :‬إثباتا لإليمان ‪ ،‬وتعشقا في العيان ‪ ،‬بالبصر والجنان ‪ ،‬في اإلساءة‬
‫واإلحسان ‪ ،‬والجحيم والجنان ‪ ،‬فليس العجب من ورد في بستان ‪ ،‬إنما العجب من‬
‫ورد في قعر النبران " ‪. " 1‬‬
‫حي على الفالح ‪ :‬إقباال على اإلحسان باألمان ‪ ،‬فإن البقاء بقاءان ‪ ،‬والنجاة نجاتان ‪،‬‬
‫وكل ذلك قد ظهر في اإلنسان ‪.‬‬
‫قد قامت الصالة ‪ :‬من قعدتها ‪ ،‬وانحلت ( الم ألفها ) « ‪ » 2‬من عقدتها ‪ ،‬فصارت‬
‫سلطانة بوحدتها ‪ ،‬وظهرت في المؤمنين بقوتها ونجدتها ‪ ،‬وفي العارفين بترك عددها‬
‫وعدتها ‪ ،‬وإنها لكبيرة إال على الخاشعين ‪.‬‬
‫ّللا أكبر ‪ :‬مفاضلة روحانية ‪ ،‬ومرتبة ربانية ‪ ،‬ومعادلة رحمانية ‪ ،‬وتكملة‬ ‫ّللا أكبر ه‬ ‫ه‬
‫إنسانية ‪ ،‬ونكتة رهبانية ‪.‬‬
‫ّللا ‪ :‬شرك مقبول « ‪ ، » 3‬في توحيد معلول ‪ ،‬صاحبها مقيد مغلول ‪،‬‬ ‫ال إله إال ه‬
‫وتاركها في روض مطلول ‪ ،‬ال ملول وال مملول ‪.‬‬
‫ّللا وإياكم ممن أقامها دائما ‪ ،‬وكان بأسرارها عالما ‪.‬‬ ‫جعلنا ه‬
‫يا مقيم الصالة ما لك تدعو *** للمناجاة من حماه العيان‬
‫وهي عندي إزاحة لحجاب *** قررته عند الحكيم الكيان‬
‫ودليلي من قال ‪ :‬قم يا بالل *** فأرحنا بها فسر الزمان‬
‫فأقام الصالة فارتاح قلب *** جاءه الخوف تارة واألمان‬
‫قل لمن يقرأ القرآن ‪ :‬تبحر *** في علوم شتى حواها القران‬
‫ــــــــــــــــــــــــ‬
‫) ‪( 1‬راجع كتابنا شرح كلمات الصوفية صفحة ‪.354‬‬
‫) ‪( 2‬راجع اإلشارة في الم ألف ص ‪ 408‬الجزء األول آل عمران آية‪( 1 ) .‬‬
‫( ‪ ) 3‬راجع معنى الشرك هنا في كتابنا شرح كلمات الصوفية ص ‪. 404‬‬

‫ص ‪565‬‬

‫ص ‪565 :‬‬
‫ّللا إذ أتته الحسان‬
‫خلف ستر أدق من وهم سر *** شاهد ه‬
‫هو وهم وليس علما ولكن *** فيه سر لربنا وامتنان‬
‫فإذا ما قرأت قرآن ربي *** أظهر القول ما حواه الجنان‬
‫للفؤاد الكالم من غير حرف *** يا ولي ‪ ،‬وللحروف اللسان‬

‫عجبا أال ترى كل عبادة ال تمنع من قامت به التصرف في بعض أسبابه ‪ ،‬إال الصالة ‪،‬‬
‫فإنها تغلق على من قامت به جميع أبوابه ‪ ،‬فمقامها الغيرة ‪ ،‬ومشهدها الحيرة ‪ ،‬إنية‬
‫المحتد والمولد والمشهد ‪ ،‬وهي أسنى تكليف يقصد ‪ ،‬ولما كانت محل إدراك المنى ‪،‬‬
‫طولب المكلف فيها بالفناء ‪.‬‬

‫[ سورة اْلسراء ( ‪ : ) 17‬آية ‪] 79‬‬


‫َو ِم َن الله ْي ِل فَت َ َه هج ْد بِ ِه نافِلَةً لَكَ عَسى أ َ ْن يَ ْبعَثَكَ َربُّكَ َمقاما ً َمحْ ُمودا ً ( ‪) 79‬‬
‫[ « َو ِمنَ اللَّ ْي ِل فَت َ َه َّج ْد بِ ِه » ] « َو ِمنَ اللَّ ْي ِل فَت َ َه َّج ْد بِ ِه »المتهجد عبارة عمن يقوم وينام‬
‫ويقوم وينام ويقوم ‪ ،‬فمن لم يقطع الليل في مناجاته ربه هكذا فليس بمتهجد ‪ ،‬فنوم‬
‫لحق عينه وقيامه لحق ربه« نافِلَةً لَ َك »ال تصح نوافل الخيرات إال بعد كمال‬ ‫المتهجد ه‬
‫الفرائض ‪ ،‬وال تكمل الفرائض إال باستكمال حقوقها ‪ ،‬ولذلك منعنا أن تصح ألحد على‬
‫التعيين نافلة إال بإخبار أو مشاهدة ‪،‬‬
‫ّللا تعالى‬ ‫وذلك أن الفرائض تستغرقها بالتكميل منها ‪ ،‬فإنه قد ورد في الصحيح عن ه‬
‫أنه يقول يوم القيامة [ انظروا في صالة عبدي أتمها أم نقصها ؟ فإن كانت تامة كتبت‬
‫له تامة ‪ ،‬وإن كان انتقص منها شيئا قال ‪ :‬انظروا هل لعبدي من تطوع ؟‬
‫ّللا‬
‫فإن كان له تطوع وهو النافلة قال ‪ :‬أكملوا لعبدي فريضته من تطوعه ] قال رسول ه‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ [ :‬ثم تؤخذ األعمال على ذاكم ] فالنافلة ال تكون إال بعد تمام‬ ‫صلهى ه‬
‫الفريضة ‪ ،‬فمن كانت فريضته من الصالة ناقصة فإنها تكمل من نوافله ‪ ،‬فإن‬
‫استغرقت الفرائض نوافل العبد المتهجد ‪ ،‬لم يبق له نافلة وليس بمتهجد وال صاحب‬
‫ّللا ما‬ ‫ّللا عليه وسلم ‪ ،‬فإن ه‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫نافلة ‪ ،‬وهذه اآلية نص في إثبات النافلة لرسول ه‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ ،‬فقال له آمرا« َو ِمنَ اللَّ ْي ِل فَت َ َه َّج ْد‬ ‫شهد ألحد بالنوافل إال لرسوله صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم بأن له نافلة ‪ ،‬فال بد أن يكون سمعه‬ ‫ّللا لمحمد صلهى ه‬ ‫ِب ِه نافِلَةً لَ َك »فشهد ه‬
‫الحق ‪ ،‬وبصره الحق ‪ ،‬وكالمه الحق ‪ ،‬ولم يشهد بها ألحد على التعيين ‪ ،‬فعالمة من‬
‫ّللا تعالى هذه المحبة الخاصة ‪،‬‬ ‫لم تستغرق فرائضه نوافله وفضلت له نوافل أن يحبه ه‬
‫وجعل عالمتها أن يكون الحق سمعهم وبصرهم ‪،‬‬
‫ّللا عليه وسلم‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫قال رسول ه‬

‫ص ‪566‬‬

‫ص ‪566 :‬‬
‫عن ربه ‪ [ :‬ال زال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه ‪ ،‬فإذا أحببته كنت سمعه الذي‬
‫عسى أ َ ْن يَ ْبعَث َ َك َرب َُّك َمقاما ً َم ْح ُمودا ً‬ ‫يسمع به وبصره الذي يبصر به ] ‪ -‬الحديث ‪َ «-‬‬
‫ّللا واجبة ‪ ،‬والمقام المحمود هو الذي له عواقب الثناء والمقامات كلها ‪،‬‬ ‫»وعسى من ه‬
‫أي إليه يرجع كل ثناء ‪ ،‬وإليه تنظر جميع األسماء اإللهية المختصة بالمقامات ‪ ،‬وهو‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ ،‬ويظهر ذلك لعموم الخلق يوم القيامة ‪ ،‬وبهذا صحت‬ ‫ّللا صلهى ه‬
‫لرسول ه‬
‫له السيادة على جميع الخلق يوم العرض ‪ ،‬فال يجمع المحامد يوم القيامة كلها إال محمد‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ ،‬وهو الذي عبر عنه بالمقام المحمود ‪ ،‬فإنه لما كان إليه ترجع‬ ‫صلهى ه‬
‫المقامات كلها ‪ -‬وهو الجامع لها ‪ -‬لم يصح أن يكون صاحبه إال من أوتي جوامع الكلم‬
‫ّللا عليه وسلم يحمد‬ ‫‪ ،‬ألن المحامد من صفة الكالم ‪ ،‬فإنه موقف خاص بمحمد صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم بيده‬ ‫ّللا فيها بمحامد ال يعرفها إال إذا دخل ذلك المقام ‪ ،‬فمحمد صلهى ه‬ ‫ه‬
‫ّللا عليه وسلم علم الثناء‬ ‫لواء الحمد ‪ ،‬وآلدم عليه السالم علم األسماء ‪ ،‬ولمحمد صلهى ه‬
‫بالمقام المحمود ‪ ،‬فأعطي في القيامة ألجل المقام المحمود العمل بالعلم ‪ ،‬ولم يعط‬
‫لغيره في ذلك الموطن ‪ ،‬فصحت له السيادة ‪ ،‬فقال ‪:‬‬
‫ّللا‬
‫[ آدم فمن دونه تحت لوائي ] وما له لواء إال الحمد ‪ ،‬وهو رجوع عواقب الثناء إلى ه‬
‫‪ ،‬وهو قوله الحمد هّلل ال لغيره ‪ ،‬وهذا يدلك أن علوم األنبياء أذواق ال عن فكر ونظر ‪،‬‬
‫ّللا بها ‪ ،‬ما يقتضيه موطن الدنيا ‪،‬‬ ‫فإن الموطن يقتضي هنالك بآثاره أسماء إلهية يحمد ه‬
‫ّللا عليه وسلم في هذا المقام [ فأحمده بمحامد ال أعلمها اآلن ]‬ ‫ولهذا قال صلهى ه‬
‫وهذا المقام المحمود هو المقام المثنى عليه ‪ ،‬الذي أثنى الحق عليه ‪ ،‬الذي يقيم الحق‬
‫ّللا فيما‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ ،‬هو الوسيلة ‪ ،‬ألن منه يتوسل إلى ه‬ ‫فيه سبحانه محمدا صلهى ه‬
‫ّللا‬
‫توجه فيه من فتح باب الشفاعة ‪ ،‬وهو شفاعته للجميع ‪ ،‬فهو مقام شفاعة رسول ه‬
‫ّللا عليه وسلم في الشافعين أن يشفعوا يوم القيامة ‪ ،‬فمن المقام المحمود يفتح‬ ‫صلهى ه‬
‫باب الشفاعة للمالئكة فمن دونهم ‪ ،‬وله األولية في الشفاعة ‪،‬‬
‫ّللا تعالى في حق من له أهلية الشفاعة من ملك ورسول ونبي‬ ‫وأول شفاعة يشفعها عند ه‬
‫ّللا عليه وسلم عند ربه‬ ‫ّللا صلهى ه‬ ‫وولي ومؤمن وحيوان ونبات وجماد ‪ ،‬فيشفع رسول ه‬
‫لهؤالء أن يشفعوا ‪ ،‬وأن يخرج الحق من النار أو يدخل الجنة من لم يعمل خيرا قط ‪،‬‬
‫حتى ال يبقى في النار إال أهلها الذين هم أهلها ‪،‬‬
‫ّللا لما سأل فيه ‪ ،‬فكان محمودا بكل لسان وبكل كالم ‪ ،‬فله أول الشفاعة‬ ‫فيجيبه ه‬
‫ووسطها وآخرها ‪ ،‬فإنه إذا قام الناس ‪ ،‬ومدهت األرض ‪ ،‬وانشقت السماء وانكدرت‬
‫النجوم ‪ ،‬وكورت الشمس وخسف القمر ‪ ،‬وحشرت الوحوش وسجرت البحار ‪،‬‬
‫وزوجت النفوس‬

‫ص ‪567‬‬

‫ص ‪567 :‬‬
‫بأبدانها ‪ ،‬ونزلت المالئكة على أرجائها ‪ -‬أعني أرجاء السماوات ‪ -‬وأتى ربنا في ظلل‬
‫من الغمام ‪ ،‬ونادى المنادي ‪ :‬يا أهل السعادة ‪ ،‬فأخذ منهم ثالث طوائف إلى الجنة ‪،‬‬
‫وهم الذين كانت تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا ومما‬
‫ّللا وإقام الصالة‬ ‫رزقناهم ينفقون ‪ ،‬والذين كانوا ال تلهيهم تجارة وال بيع عن ذكر ه‬
‫ّللا أحسن ما عملوا‬ ‫وإيتاء الزكاة يخافون يوما تتقلب فيه القلوب واألبصار ليجزيهم ه‬
‫ّللا عليه ليجزي‬ ‫ويزيدهم من فضله ‪ ،‬والطائفة الثالثة هم الذين صدقوا ما عاهدوا ه‬
‫الصادقين بصدقهم ‪ ،‬ثم يخرج عنق من النار فيقبض ثالث طوائف إلى النار وهم ‪ :‬كل‬
‫ّللا ورسوله ‪ ،‬والطائفة الثالثة أهل التصاوير‬ ‫جبار عنيد ‪ ،‬والطائفة الثانية كل من آذى ه‬
‫الذين يصورون صورا في الكنائس لتعبد تلك الصور والذين يصورون األصنام ‪ ،‬فإذا‬
‫ماج الناس ‪ ،‬واشتد الحر وألجم الناس العرق ‪ ،‬وعظم الخطب وجل األمر ‪ ،‬وكان‬
‫البهت فال تسمع إال همسا ‪ ،‬وجيء بجهنم ‪ ،‬وطال الوقوف بالناس ولم يعلموا ما يريد‬
‫الحق بهم ‪،‬‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ [ :‬فيقول الناس بعضهم لبعض تعالوا ننطلق إلى‬ ‫ّللا صلهى ه‬
‫فقال رسول ه‬
‫ّللا لنا أن يريحنا مما نحن فيه فقد طال وقوفنا ‪ ،‬فيأتون آدم‬ ‫أبينا آدم فنسأله أن يسأل ه‬
‫ّللا قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ‪،‬‬ ‫فيطلبون منه ذلك ‪ ،‬فيقول آدم ‪ :‬إن ه‬
‫ولن يغضب بعده مثله ‪ ،‬وذكر خطيئته فيستحي من ربه أن يسأله ‪ ،‬فيأتون إلى نوح‬
‫بمثل ذلك فيقول لهم مثل ما قال آدم ‪ ،‬ويذكر دعوته على قومه قوله( َوال يَ ِلدُوا إِ َّال‬
‫فاجرا ً َكفَّارا ً )‬
‫ِ‬
‫ثم يأتون إلى إبراهيم عليه السالم بمثل ذلك ‪ ،‬فيقولون له مثل مقالتهم لمن تقدم ‪ ،‬فيقول‬
‫كما قال من تقدم ‪ ،‬ويذكر كذباته الثالث ‪ ،‬ثم يأتون إلى موسى وعيسى ويقولون لكل‬
‫واحد من الرسل مثل ما قالوه آلدم ‪ ،‬فيجيبونهم مثل جواب آدم ‪ ،‬فيأتون إلى محمد‬
‫ّللا عليه وسلم وهو سيد الناس يوم القيامة ‪ ،‬فيقولون له مثل ما قالوا لألنبياء ‪،‬‬ ‫صلهى ه‬
‫ّللا به يوم‬ ‫ّللا عليه وسلم ‪ :‬أنا لها ‪ ،‬وهو المقام المحمود الذي وعد ه‬ ‫فيقول محمد صلهى ه‬
‫ّللا تعالى إياها في ذلك الوقت لم يكن‬ ‫ّللا بمحامد يلهمه ه‬
‫القيامة ‪ ،‬فيأتي ويسجد ويحمد ه‬
‫ّللا ذلك الباب ‪،‬‬ ‫يعلمها قبل ذلك ‪ ،‬ثم يشفع إلى ربه أن يفتح باب الشفاعة للخلق ‪ ،‬فيفتح ه‬
‫فيأذن في الشفاعة للمالئكة والرسل واألنبياء والمؤمنين ‪ ،‬فبهذا يكون سيد الناس يوم‬
‫ّللا أن تشفع المالئكة والرسل ‪،‬‬‫القيامة ‪ ،‬فإنه شفع عند ه‬
‫ّللا عليه وسلم وقال ‪ [ :‬أنا سيد الناس ] ولم يقل سيد الخالئق‬ ‫ومع هذا تأدب صلهى ه‬
‫فتدخل المالئكة في ذلك مع ظهور سلطانه في ذلك اليوم على الجميع ‪ ،‬وذلك أنه صلهى‬
‫ّللا عليه وسلم جمع له بين مقامات األنبياء عليهم السالم كلهم ‪،‬‬ ‫ه‬
‫ص ‪568‬‬

‫ص ‪568 :‬‬
‫ولم يكن ظهر له على المالئكة ما ظهر آلدم عليه السالم من اختصاصه بعلم األسماء‬
‫كلها ‪ ،‬فإذا كان في ذلك اليوم افتقر إليه الجميع من المالئكة والناس من آدم فمن دونه‬
‫ّللا ‪ ،‬إذ كان القهر اإللهي‬
‫في فتح باب الشفاعة ‪ ،‬وإظهار ما له من الجاه عند ه‬
‫والجبروت األعظم قد أخرس الجميع ‪ ،‬وكان هذا المقام مثل مقام آدم عليه السالم‬
‫وأعظم ‪ ،‬في يوم اشتدت الحاجة فيه ‪ ،‬مع ما ذكر من الغضب اإللهي الذي تجلى فيه‬
‫الحق في ذلك اليوم ‪ ،‬ولم تظهر مثل هذه الصفة فيما جرى في قصة آدم ‪ ،‬فدل‬
‫ّللا عليه وسلم حيث أقدم مع هذه الصفة الغضبية‬ ‫بالمجموع على عظيم قدره صلهى ه‬
‫اإللهية على مناجاة الحق فيما سأل فيه ‪ ،‬فأجابه الحق ‪ ،‬كما جاء في حديث عثمان بن‬
‫عفان في الصحيح لمسلم بن الحجاج ‪ ،‬وقد أقيم آدم عليه السالم في هذا المقام لما‬
‫ّللا عليه وسلم في اآلخرة ‪ ،‬وإنما‬ ‫سجدت له المالئكة في الدنيا ‪ ،‬وهو لمحمد صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم ‪،‬‬‫ظهر به أوال أبو البشر لكونه كان يتضمن جسده بشرية محمد صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم في الدار اآلخرة ‪ ،‬فظهر في المقام المحمود‬ ‫فكانت العاقبة لمحمد صلهى ه‬
‫‪ ،‬ومنه يفتح باب الشفاعات ‪ ،‬فكان آلدم السجود ‪ ،‬ولمحمد المقام المحمود ‪ ،‬بمحضر‬
‫الشهود ‪ ،‬وأين المقام المحمود من مقام السجود ؟ سجد المقربون واألبرار ‪ ،‬لبناء قائم‬
‫من التراب واألحجار ‪ ،‬فالمجد الطريف والتليد ‪ ،‬فيمن اختص بالمقام الحميد ‪.‬‬

‫[ سورة اْلسراء ( ‪ : ) 17‬آية ‪] 80‬‬


‫س ْلطانا ً‬
‫ْق َواجْ عَ ْل ِلي ِم ْن لَ ُد ْنكَ ُ‬ ‫ج ِصد ٍ‬ ‫ْق َوأ َ ْخ ِرجْ نِي ُم ْخ َر َ‬
‫ب أَد ِْخ ْلنِي ُم ْد َخ َل ِصد ٍ‬
‫َوقُ ْل َر ّ ِ‬
‫نَ ِصيرا ً ) ‪( 80‬‬
‫ّللا عليه وسلم بأن يدعوه بهذا الدعاء المعيهن ‪ ،‬وهو قوله له« َوقُ ْل‬ ‫أمر الحق نبيه صلهى ه‬
‫ق »يعني المقام المحمود ‪ ،‬فإنه موقف خاص بمحمد صلهى ه‬
‫ّللا‬ ‫ص ْد ٍ‬‫َربه ِ أ َ ْد ِخ ْلنِي ُم ْد َخ َل ِ‬
‫ق »أي إذا انتقل عنه إلى غيره من المقامات‬ ‫ص ْد ٍ‬ ‫عليه وسلم ‪َ «،‬وأ َ ْخ ِر ْج ِني ُم ْخ َر َج ِ‬
‫والمواقف أن تكون العناية به معه في خروجه منه كما كانت معه في دخوله إليه ‪-‬‬
‫نصيحة ‪ -‬الزم الصدق واإلخالص ‪ ،‬فبالصدق تعتصم وال يؤثر فيك شيء ‪،‬‬
‫َصيرا ً »من‬ ‫س ْلطانا ً ن ِ‬‫اجعَ ْل ِلي ِم ْن لَ ُد ْن َك ُ‬
‫وباإلخالص تصح عبوديتك وربوبيته ‪َ «.‬و ْ‬
‫أجل المنازعين فيه ‪ ،‬فإن المقام الشريف ال يزال صاحبه محسودا ‪ ،‬فطلب صاحب هذا‬
‫المقام النصرة بالحجة ‪ -‬التي هي السلطان ‪ -‬على الجاحدين شرف هذه المرتبة ‪ ،‬وهم‬
‫القادحون في هذا المقام تعظيما لحالهم التي هم عليها حتى ال ينسب النقص إليهم ‪ ،‬عن‬
‫هذا‬

‫ص ‪569‬‬

‫ص ‪569 :‬‬
‫المقام الشريف فأمره تعالى ‪.‬‬

‫[ سورة اْلسراء ( ‪ : ) 17‬آية ‪] 81‬‬


‫كان َز ُهوقا ً ) ‪( 81‬‬ ‫باط َل َ‬ ‫باط ُل ِإ هن ا ْل ِ‬
‫ق ا ْل ِ‬‫ق َو َز َه َ‬ ‫َوقُ ْل جا َء ا ْل َح ُّ‬
‫باط َل كانَ زَ ُهوقا ً" أي ال ثبات له ‪ ،‬وما كان القرآن معجزا إال لكونه إخبارا عن‬ ‫" ِإ َّن ْال ِ‬
‫ّللا ‪ ،‬فيقول‬ ‫ّللا وليس من ه‬ ‫حق ‪ ،‬فإن المعارض للقرآن أول ما يكذب فيه أنه يجعله من ه‬
‫ّللا ما ال يعلم ‪ ،‬فال يثمر وال يثبت ‪ ،‬فال بد أن يعجز المعارض عن اإلتيان بمثله‬ ‫على ه‬
‫‪.‬‬
‫[ سورة اْلسراء ( ‪ : ) 17‬آية ‪] 82‬‬
‫ين ِإاله َخسارا ً (‪)82‬‬ ‫ظا ِل ِم َ‬‫ين َوال يَ ِزي ُد ال ه‬‫شفا ٌء َو َرحْ َمةٌ ِل ْل ُم ْؤ ِم ِن َ‬‫آن ما ُه َو ِ‬ ‫َونُنَ ِ ّز ُل ِم َن ا ْلقُ ْر ِ‬
‫آن ما ُه َو ِشفا ٌء َو َر ْح َمةٌ ِل ْل ُمؤْ ِم ِنينَ » ]‬ ‫[ « َونُن ِ هَز ُل ِمنَ ْالقُ ْر ِ‬
‫آن ما ُه َو ِشفا ٌء َو َر ْح َمةٌ ِل ْل ُمؤْ ِمنِينَ »ألن التخلق به والوقوف عنده‬ ‫« َونُن ِ هَز ُل ِمنَ ْالقُ ْر ِ‬
‫يزيل المرض النفسي ‪ ،‬ال بد من ذلك ‪ ،‬ولكن للمؤمنين فهو أمان ‪ ،‬ومنه شفاء كفاتحة‬
‫ّللا على نفسه من الوعد‬ ‫الكتاب وآيات األدعية كلها ‪ ،‬وكونه رحمة لما فيه مما أوجب ه‬
‫على‬‫ب َربُّ ُك ْم َ‬‫ّللا )وقوله( َكت َ َ‬ ‫طوا ِم ْن َر ْح َم ِة َّ ِ‬ ‫لعباده بالخير والبشرى ‪ ،‬مثل قوله ( ال ت َ ْقنَ ُ‬
‫الظا ِل ِمينَ ِإ َّال خَسارا ً »ألنهم يعدلون به عن‬ ‫الر ْح َمةَ )وكل آية رجاء« َوال يَ ِزي ُد َّ‬ ‫نَ ْف ِس ِه َّ‬
‫موطنه ويحرفون الكلم عن مواضعه ‪ ،‬فيعممون الخاص ويخصصون العام ‪ ،‬فسموا‬
‫ظالمين قاسطين ‪.‬‬

‫[ سورة اْلسراء ( ‪ : ) 17‬اآليات ‪ 83‬إلى ‪] 84‬‬


‫كان يَؤُسا ً ( ‪ ) 83‬قُ ْل‬ ‫ض َونَأى ِبجانِ ِب ِه َو ِإذا َم ه‬
‫سهُ الش ُّهر َ‬ ‫سان أَع َْر َ‬ ‫اْل ْن ِ‬ ‫َو ِإذا أ َ ْنعَ ْمنا َ‬
‫علَى ْ ِ‬
‫س ِبيالً ) ‪( 84‬‬‫ُك ٌّل يَ ْع َم ُل عَلى شا ِكلَ ِت ِه فَ َربُّ ُك ْم أ َ ْعلَ ُم ِب َم ْن ُه َو أ َ ْهدى َ‬
‫الشكل القيد وبه سمي ما تقيد به الدابة في رجلها شكاال ‪ ،‬والمتشكل هو المقيد بالشكل‬
‫على شا ِكلَتِ ِه »أي ما يعمل إال ما يشاكله ‪ ،‬يعني‬ ‫ّللا ‪ُ «.‬ك ٌّل يَ ْع َم ُل َ‬ ‫الذي ظهر به ‪ ،‬يقول ه‬
‫ّللا العالم‬
‫الذي ظهر منه يدل على أنه في نفسه عليه ‪ ،‬والعالم عمل الحق ‪ ،‬فخلق ه‬
‫فظهر بصفات الحق ‪ ،‬فكان العالم حيا سميعا بصيرا عالما مريدا قادرا متكلما ‪ ،‬فما في‬
‫العالم إال من يسمع األمر اإللهي في حال عدمه بقوله ( كن ) وما في العالم إال حي ‪،‬‬
‫ّللا وال يسبح إال حي ‪ ،‬وما في العالم جزء إال وهو يشاهد‬ ‫فإن كل شيء مسبح بحمد ه‬
‫خالقه من حيث عينه ال من حيث عين خالقه ‪ ،‬وما في العالم جزء إال وهو يريد‬
‫ويقصد تعظيم موجده ‪ ،‬وما في الوجود جزء‬

‫ص ‪570‬‬

‫ص ‪570 :‬‬
‫إال وهو متمكن قادر على الثناء على موجده ‪ ،‬وما في العالم جزء إال وهو يعلم موجده‬
‫من حيث ذاته ال من حيث ذات موجده ‪ ،‬وما في الوجود جزء إال وهو متكلم يسبح‬
‫بحمد خالقه ‪ ،‬وأعلمنا سبحانه أن من أسمائه تعالى الكريم ‪ ،‬ومن نزوله إلينا في كرمه‬
‫يقول ‪:‬‬
‫ي ‪ ،‬يا عبدي إن عصيتني سترت عليك ‪ ،‬سترتك‬ ‫يا عبدي إن شردت عني دعوتك إل ه‬
‫عن أعين من وليته إقامة حدودي فيك وفي أمثالك فلم أؤاخذك ‪ ،‬وتحببت إليك بالنعم ‪،‬‬
‫ي بالقدوم على‬
‫وجررت على خطيئتك ذيل الكرم ‪ ،‬فمحا آثارها كرمي ‪ ،‬ودعوتك إل ه‬
‫ي قبلتك على ما كان منك ‪ ،‬ومن يفعل معك ذلك مع غناه عنك‬ ‫نعمي فإذا رجعت إل ه‬
‫وفقرك إليه غيري ؟‬
‫فهذا من معاملة الحق لنا على شاكلته من اسمه الكريم ‪.‬‬

‫[ سورة اْلسراء ( ‪ : ) 17‬آية ‪] 85‬‬


‫ح ِم ْن أ َ ْم ِر َر ِبّي َوما أُوتِيت ُ ْم ِم َن ا ْل ِع ْل ِم إِاله قَ ِليالً ( ‪) 85‬‬ ‫الرو ُ‬ ‫الروحِ قُ ِل ُّ‬ ‫سئَلُونَكَ ع َِن ُّ‬ ‫َويَ ْ‬
‫وح ‪ » . . .‬اآلية ]‬ ‫الر ِ‬ ‫ع ِن ُّ‬ ‫[ « َويَ ْسئَلُون ََك َ‬
‫الروح روحان ‪ :‬روح األمر وهو الذي قال فيه تعالى ‪َ (:‬و َكذ ِل َك أ َ ْو َحيْنا ِإلَي َْك ُروحا ً ِم ْن‬
‫على َم ْن يَشا ُء ِم ْن ِعبا ِد ِه )‬ ‫الرو َح ِم ْن أ َ ْم ِر ِه َ‬ ‫أ َ ْم ِرنا )وقال ‪ (:‬يُ ْل ِقي ُّ‬
‫على قَ ْلبِ َك ِلت َ ُكونَ ِمنَ ْال ُم ْنذ ِِرينَ (فذكر اإلنذار ‪ ،‬وهكذا‬ ‫ين َ‬ ‫الرو ُح ْاأل َ ِم ُ‬ ‫وقال ‪ (:‬نَزَ َل بِ ِه ُّ‬
‫على َم ْن يَشا ُء ِم ْن ِعبا ِد ِه ِليُ ْنذ َِر )وكذلك) يُن ِ هَز ُل ْال َمالئِ َكةَ‬ ‫الرو َح ِم ْن أ َ ْم ِر ِه َ‬ ‫قوله (يُ ْل ِقي ُّ‬
‫على َم ْن يَشا ُء ِم ْن ِعبا ِد ِه أ َ ْن أ َ ْنذ ُِروا )‬ ‫وح ِم ْن أ َ ْم ِر ِه َ‬
‫الر ِ‬
‫بِ ُّ‬
‫فما جاء إال باإلعالم وفيه ضرب من الزجر ‪ ،‬حيث ساق اإلعالم بلفظة اإلنذار ‪ ،‬فهو‬
‫إعالم بزجر ‪ ،‬فإنه البشير النذير ‪ ،‬والبشارة ال تكون إال عن إعالم ‪ ،‬فغلب في اإلنزال‬
‫الروحاني باب الزجر والخوف ‪ ،‬وأما الروح الثاني فهو الروح المضاف إلى نفس‬
‫وحي ) * بياء اإلضافة تنبيه على مقام التشريف‬ ‫الحق تعالى بقوله ‪َ (:‬ونَفَ ْختُ فِي ِه ِم ْن ُر ِ‬
‫وح‬
‫الر ِ‬ ‫ع ِن ُّ‬ ‫‪ ،‬فكان السؤال عن الروح األول ‪ ،‬روح األمر ‪ ،‬فإنه قال‪َ " :‬ويَ ْسئَلُون ََك َ‬
‫الرو ُح ِم ْن أ َ ْم ِر َر ِبهي »فما كان سؤاال عن الماهية‬ ‫»أي من أين ظهر ؟ فقيل له« قُ ِل ُّ‬
‫كما زعم بعضهم ‪ ،‬فإنهم ما قالوا ما الروح ؟ وإن كان السؤال بهذه الصيغة محتمال ‪،‬‬
‫قوى الوجه الذي ذهبنا إليه في السؤال ما جاء في الجواب من قول« ِم ْن أ َ ْم ِر‬ ‫ولكن ه‬
‫َر ِبهي »ولم يقل هو كذا ‪ ،‬فعلوم الغيب تنزل بها األرواح على قلوب العباد ‪ ،‬فإن الروح‬
‫هو الملقي إلى القلب علم الغيب ‪،‬‬
‫على َم ْن يَشا ُء ِم ْن ِعبا ِد ِه ِليُ ْنذ َِر )اآلية« َوما أُوتِيت ُ ْم‬ ‫الرو َح ِم ْن أ َ ْم ِر ِه َ‬ ‫قال تعالى ‪ (:‬يُ ْل ِقي ُّ‬
‫يال »فجعله هبة وهو علم الوهب ال علم الكسب ‪ ،‬فإنه لو‬ ‫»أي أعطيتم« ِمنَ ْال ِع ْل ِم ِإ َّال قَ ِل ً‬
‫أراد الكسب لم‬
‫ص ‪571‬‬

‫ص ‪571 :‬‬
‫يقل أوتيتم ‪ ،‬بل كان يقول أوتيتم الطريق إلى تحصيله ‪ ،‬ال هو ‪ ،‬ونحن نعلم أن ث هم علما‬
‫ّللا‬
‫اكتسبناه من أفكارنا ومن حواسنا ‪ ،‬وث هم علما لم نكتسبه بشيء من عندنا بل هبة من ه‬
‫عز وجل ‪ ،‬أنزله في قلوبنا وعلى أسرارنا فوجدناه من غير سبب آخر ظاهر ‪ ،‬مثل‬ ‫ه‬
‫علَّ ْمناهُ ِم ْن لَ ُدنَّا ِع ْلما ً )‬
‫قوله في عبده خضر( َو َ‬
‫وليست اآلية بنص في الوهب ‪ ،‬ولكن له وجهان ‪ :‬وجه يطلبه «أُو ِتيت ُ ْم »ووجه يطلبه«‬
‫يال »من االستقالل ‪ ،‬أي ما أعطيتم من العلم إال ما تستقلون بحمله ‪ ،‬وما ال تطيقونه‬ ‫قَ ِل ً‬
‫ما أعطيناكموه فإنكم ما تستقلون به ‪ ،‬فيدخل في هذا العطاء علوم النظر ‪ ،‬فإنها علوم‬
‫تستقل العقول بإدراكها ‪ .‬وأما إذا كان السؤال عن الماهية فيكون قوله تعالى« قُ ِل‬
‫الرو ُح ِم ْن أ َ ْم ِر َر ِبهي »أي الروح الذي هو من أمر ربي هو الذي لم يوجد عن خلق ‪،‬‬ ‫ُّ‬
‫فإن عالم األمر كل موجود ال يكون عند سبب كوني يتقدمه ‪،‬‬
‫فقد قال البعض ‪:‬‬
‫إن الروح من عالم األمر وليس من عالم الخلق اصطالحا ‪ ،‬ومن هنا للتبيين ‪ ،‬وأرادوا‬
‫ّللا بال واسطة إال بمشافهة األمر العزيز ‪ ،‬وعالم الخلق‬ ‫بعالم األمر كل ما صدر عن ه‬
‫كل موجود صدر عن سبب متقدم من غير مشافهة األمر ‪ ،‬التي هي الكلمة التي ال‬
‫يتصور واسطة في حقه البتة ‪ ،‬وأما من دونه فال بد من واسطة ‪.‬‬
‫ّللا تعالى الكلمة المعبر عنها بالروح الكلي إيجاد إبداع ‪ ،‬أوجدها في مقام‬ ‫ولما أوجد ه‬
‫الجهل ومحل السلب ‪ ،‬أي أعماه عن رؤية نفسه فبقي ال يعرف من أين صدر وال كيف‬
‫ّللا همته‬ ‫صدر ‪ ،‬وكان الغذاء فيه ‪ ،‬الذي هو سبب حياته وبقائه وهو ال يعلم ‪ ،‬فحرك ه‬
‫لطلب ما عنده وهو ال يدري أنه عنده ‪ ،‬فأخذ في الرحلة بهمته ‪ ،‬فأشهده الحق تعالى‬
‫ّللا فيه من‬
‫ذاته فسكن ‪ ،‬وعرف أن الذي طلب لم يزل به موصوفا ‪ ،‬وعلم ما أودع ه‬
‫األسرار والحكم ‪ ،‬وتحقق عنده حدوثه وعرف ذاته معرفة إحاطية ‪ ،‬فكانت تلك‬
‫المعرفة له غذاء معينا يتقوت به وتدوم حياته إلى غير نهاية ‪ ،‬فقال له عند ذلك التجلي‬
‫األقدس ‪ :‬ما اسمي عندك ؟ فقال ‪ :‬أنت ربي ‪ ،‬فلم يعرفه إال في حضرة الربوبية ‪،‬‬
‫وتفرد القديم باأللوهية فإنه ال يعرفه إال هو ‪ ،‬فقال له سبحانه ‪ :‬أنت مربوبي وأنا ربك‬
‫‪ ،‬أعطيتك أسمائي وصفاتي ‪ ،‬فمن رآك رآني ‪ ،‬ومن أطاعك أطاعني ‪ ،‬ومن علمك‬
‫علمني ‪ ،‬ومن جهلك جهلني ‪ ،‬فغاية من دونك أن يتوصلوا إلى معرفة نفوسهم منك ‪،‬‬
‫وغاية معرفتهم بك العلم بوجودك ال بكيفيتك ‪ ،‬كذلك أنت معي ال تتعدى معرفة نفسك‬
‫وال ترى غيرك ‪ ،‬وال يحصل لك العلم بي إال من حيث الوجود ‪ ،‬ولو أحطت علما بي‬
‫لكنت أنت أنا ‪ ،‬ولكنت‬

‫ص ‪572‬‬

‫ص ‪572 :‬‬
‫محاطا لك ‪ ،‬وكانت أنيتي أنيتك ‪ ،‬وليست أنيتك أنيتي ‪ .‬فأمدك باألسرار اإللهية وأربيك‬
‫بها فتجدها مجعولة فيك فتعرفها وقد حجبتك عن معرفة كيفية إمدادي لك بها ‪ ،‬إذ ال‬
‫طاقة لك بحمل مشاهدتها ‪ ،‬إذ لو عرفتها ال تحدث اإلنية ‪ ،‬واتحاد اإلنية محال ‪،‬‬
‫فمشاهدتك لذلك محال ‪ ،‬واعلم أن من دونك في حكم التبعية لك كما أنت في حكم‬
‫ّللا من الروح النفس وهي‬ ‫التبعية لي ‪ ،‬فأنت ثوبي وأنت ردائي وأنت غطائي ‪ .‬ثم خلق ه‬
‫الرو ُح‬‫وح قُ ِل ُّ‬
‫الر ِ‬ ‫أول مفعول عن االنبعاث ‪ -‬بحث ‪ -‬في قوله تعالى « َويَ ْسئَلُون ََك َ‬
‫ع ِن ُّ‬
‫ِم ْن أ َ ْم ِر َر ِبهي »‬
‫[ مراتب األرواح وأقسامها ]‬
‫ّللا خلق األرواح على ثالث مراتب ال رابع لها ‪ :‬أرواح ليس لهم شغل إال‬ ‫اعلم أن ه‬
‫تعظيم جناب الحق ‪ ،‬ليس لهم وجه مصروف إلى العالم وال إلى نفوسهم ‪ ،‬قد هيمهم‬
‫ّللا واختطفهم عنهم ‪ ،‬فهم فيه حيارى سكارى ‪ ،‬وأرواح مدبرة أجساما طبيعية‬ ‫جالل ه‬
‫أرضية ‪ ،‬وهي أرواح األناسي وأرواح الحيوانات وأرواح كل شيء ‪ ،‬فإن كل شيء‬
‫مسبح بحمد ربه وال يسبح إال حي ‪ ،‬وأرواح مسخرات لنا وهم على طبقات كثيرة ‪،‬‬
‫فمنهم الموكل بالوحي واإللقاء ‪ ،‬ومنهم الموكل باألرزاق ‪ ،‬ومنهم الموكل بقبض‬
‫األرواح ‪ ،‬ومنهم الموكل بإحياء الموتى ‪ ،‬ومنهم الموكل باالستغفار للمؤمنين والدعاء‬
‫لهم ‪ ،‬ومنهم الموكلون بالغراسات في الجنة جزاء ألعمال العباد ‪ ،‬واألرواح حياتها‬
‫ذاتية لها ‪ ،‬لذلك لم يصح فيها موت البتة ‪ .‬واعلم أن األرواح المدبرة لألجسام العلوية‬
‫والسفلية لها أحكام فيها ‪ ،‬فحكمها في األجسام النورية هو تشكلها في الصور خاصة ‪،‬‬
‫كما أن حكمها في األجسام الحيوانية اإلنسانية التشكل في القوة الخيالية مع غير هذا‬
‫من األحكام ‪ ،‬فإن األجسام النورية ال خيال لها بل هي عين الخيال ‪ ،‬والصور تقلباتها‬
‫عن أرواحها المدبرة لها ‪ ،‬فكما ال يخلو خيال اإلنسان عن صورة كذلك ذات الملك ال‬
‫تخلو عن صورة ‪ ،‬وبيد هذه األرواح تعيين األمور التي يريدها الحق ‪ ،‬بهذه األجسام‬
‫كلها ‪ .‬واعلم أن الناس قد اختلفوا في أرواح صور العالم ‪ ،‬هل هي موجودة عن‬
‫صورة أو قبلها أو معها ؟ ومنزلة األرواح في صور العالم كمنزلة أرواح صور‬
‫أعضاء اإلنسان الصغير ‪ ،‬كالقدرة روح اليد ‪ ،‬والسمع روح األذن ‪ ،‬والبصر روح‬
‫العين ‪ ،‬والتحقيق عندنا أن األرواح المدبرة للصور كانت موجودة في حضرة اإلجمال‬
‫ّللا في علمه ‪ ،‬فكانت في حضرة اإلجمال‬ ‫غير مفصلة ألعيانها ‪ ،‬مفصلة عند ه‬
‫ّللا‬
‫كالحروف الموجودة بالقوة في المداد ‪ ،‬فلم تتميز ألنفسها وإن كانت متميزة عند ه‬
‫ّللا صور العالم ‪ ،‬أي عالم شاء ‪ ،‬كان الروح‬ ‫مفصلة في حال إجمالها ‪ ،‬فلما سوى ه‬

‫ص ‪573‬‬

‫ص ‪573 :‬‬
‫الكلي كالقلم واليمين الكاتبة ‪ ،‬واألرواح كالمداد في القلم ‪ ،‬والصور كمنازل الحروف‬
‫في اللوح ‪ ،‬فنفخ الروح في صور العالم ‪ ،‬فظهرت األرواح متميزة بصورها ‪ ،‬فقيل‬
‫هذا زيد ‪ ،‬وهذا عمرو ‪ ،‬وهذا فرس ‪ ،‬وهذا فيل ‪ ،‬وهذه حية ‪ ،‬وكل ذي روح ‪ ،‬وما ث هم‬
‫إال ذو روح لكنه مدرك وغير مدرك ‪ ،‬فمن الناس من قال ‪ :‬إن األرواح في أصل‬
‫وجودها متولدة من مزاج الصورة ‪ ،‬ومن الناس من منع من ذلك ‪ ،‬والطريقة الوسطى‬
‫ّللا الصورة الجسمية ‪ ،‬ففي أي صورة شاء من الصور‬ ‫ما ذهبنا إليه ‪ ،‬فإذا سوى ه‬
‫ّللا ‪ ،‬فامتازت األرواح بصورها ‪،‬‬ ‫الروحية ركبها ‪ ،‬فتنسب إليها ‪ ،‬وهي معينة عند ه‬
‫ّللا ل هما سوى جسم العالم ‪ ،‬وهو الجسم الكل الصوري في جوهر الهباء المعقول ‪،‬‬ ‫فإن ه‬
‫قبل فيض الروح اإللهي الذي لم يزل منتشرا غير معيهن ‪ ،‬إذ لم يكن ثم من يعينه ‪،‬‬
‫فحيي جسم العالم به فكما تضمن جسم العالم أجسام شخصياته ‪ ،‬كذلك تضمن روحه‬
‫أرواح شخصياته( ُه َو الَّذِي َخلَقَ ُك ْم ِم ْن نَ ْف ٍس ِ‬
‫واح َد ٍة )ومن هنا قال من قال ‪ :‬إن الروح‬
‫واحد العين في أشخاص نوع اإلنسان ‪ ،‬وإن روح زيد هو روح عمرو وسائر‬
‫أشخاص هذا النوع ‪ ،‬ولكن ما حقق صاحب هذا األمر صورة هذا األمر فيه ‪ ،‬فإنه كما‬
‫لم تكن صورة جسم آدم جسم كل شخص من ذريته ‪ ،‬وإن كان هو األصل الذي منه‬
‫ظهرنا وتولدنا ‪ ،‬كذلك الروح المدبرة لجسم العالم بأسره ‪ ،‬كما أنك لو قدرت األرض‬
‫مستوية ال ترى فيها عوجا وال أمتا ‪ ،‬وانتشرت الشمس عليها أشرقت بنورها ‪ ،‬ولم‬
‫يتميز النور بعضه عن بعضه ‪ ،‬وال حكم عليه بالتجزي وال بالقسمة ‪ ،‬فلما ظهرت‬
‫البالد والديار على األرض ‪ ،‬وبدت ظالالت هذه األشخاص القائمة ‪ ،‬انقسم النور‬
‫الشمسي وتميز بعضه عن بعضه ‪ ،‬لما طرأ من هذه الصور في األرض ‪ ،‬فإذا‬
‫اعتبرت هذا علمت أن النور الذي يخص هذا المنزل ليس النور الذي يخص المنزل‬
‫اآلخر وال المنازل األخر ‪ ،‬وإذا اعتبرت التي ظهر منها هذا النور وهو عينها من‬
‫حيث انفهاقه عنها ‪ ،‬قلت ‪ :‬األرواح روح واحدة ‪ ،‬وإنما اختلفت بالمحال الشمس ‪،‬‬
‫كاألنوار نور عين واحدة غير أن حكم االختالف في القوابل مختلف الختالف أمزجتها‬
‫وصور أشكالها ‪ ،‬ويمكن أن يشبه بالماء في النهر ال يتميز فيه صورة ‪ ،‬بل هو عين‬
‫الماء ال غير ‪ ،‬فإذا حصل ما حصل منه في األواني تعين عند ذلك ماء الجب من ماء‬
‫الجرة من ماء الكوز ‪ ،‬وظهر فيه شكل إنائه ولون إنائه ‪ ،‬فحكمت عليه األواني‬
‫بالتجزي واألشكال ‪ ،‬مع علمك أن عين ما لم يظهر فيه شكل إذا‬

‫ص ‪574‬‬

‫ص ‪574 :‬‬
‫كان في النهر ‪ ،‬عين ما ظهر إذا لم يكن فيه ‪ ،‬غير أن الفرقان بين الصورتين في‬
‫ضرب المثل ‪ ،‬أن ماء األواني وأنوار المنازل إذا فقدت رجعت إلى النور األصلي‬
‫والنهر األصلي ‪ ،‬وكذلك هو في نفس األمر لو لم تبق آنية وال يبقى منزل ‪ ،‬ألنه لما‬
‫ّللا بقاء هذه األنوار على ما قبلته من التمييز ‪ ،‬خلق لها أجسادا برزخية تميزت‬ ‫أراد ه‬
‫فيها هذه األرواح عند انتقالها عن هذه األجسام الدنياوية ‪ ،‬في النوم وبعد الموت ‪،‬‬
‫وخلق لها في اآلخرة أجساما طبيعية كما جعل لها في الدنيا ذلك ‪ ،‬غير أن المزاج‬
‫مختلف ‪ ،‬فنقلها عن جسد البرزخ إلى أجسام نشأة اآلخرة ‪ ،‬فتميزت أيضا بحكم صور‬
‫أجسامها ‪ ،‬ثم ال تزال كذلك أبد اآلبدين ‪ ،‬فال ترجع إلى الحال األول من الوحدة العينية‬
‫أبدا ‪ .‬فإذا فارقت األرواح المواد ‪ ،‬فطائفة تقول ‪ :‬إن األرواح تتجرد عن المواد تجردا‬
‫كليا وتعود إلى أصلها كما تعود شعاعات الشمس المتولدة عن الجسم الصقيل إذا صدئ‬
‫إلى الشمس ‪ ،‬واختلفوا هنا على طريقين ‪ :‬فطائفة قالت ‪ :‬ال تمتاز بعد المفارقة ألنفسها‬
‫كما ال يمتاز ماء األوعية التي على شاطئ النهر إذا تكسرت فرجع ماؤها إلى النهر ‪،‬‬
‫فاألجسام تلك األوعية والماء الذي ملئت به من ذلك النهر كاألرواح من الروح الكل ‪.‬‬
‫وقالت طائفة بل تكتسب بمجاورتها الجسم هيئات رديئة وحسنة ‪ ،‬فتمتاز بتلك الهيئات‬
‫إذا فارقت األجسام ‪ ،‬كما أن ذلك الماء إذا كان في األوعية أمور تغيره عن حالته إما‬
‫في لونه أو رائحته أو طعمه ‪ ،‬فإذا فارق األوعية صحبه في ذاته ما اكتسبه من‬
‫ّللا عليها تلك الهيئات المكتسبة ‪ ،‬ووافقوا في ذلك‬
‫الرائحة أو الطعم أو اللون ‪ ،‬وحفظ ه‬
‫بعض الحكماء ‪ .‬وطائفة قالت ‪:‬‬
‫األرواح المدبرة ال تزال مدبرة في عالم الدنيا ‪ ،‬فإذا انتقلت إلى البرزخ دبرت أجسادا‬
‫برزخية ‪ ،‬وهي الصورة التي يرى اإلنسان نفسه فيها في النوم ‪ ،‬وكذلك هو الموت‬
‫وهو المعبر عنه بالصور ‪ ،‬ثم تبعث يوم القيامة في األجسام الطبيعية كما كانت في‬
‫يال »‪ -‬بحث في العلم ‪ -‬اعلم أن العلم باألشياء واحد ‪،‬‬ ‫الدنيا« َوما أُو ِتيت ُ ْم ِمنَ ْال ِع ْل ِم ِإ َّال قَ ِل ً‬
‫والكثرة في المعلوم ال في ذاته ‪ ،‬فإن األشعري يرى ويزعم أنه متعدد في ذاته وصفاته‬
‫‪ ،‬والحقيقة أبت ما قاله ‪ ،‬فإن العلم لو تعدد أدى أن يدخل في الوجود ما ال يتناهى وهو‬
‫محال ‪ ،‬فإن المعلومات ال نهاية لها فلو كان لكل معلوم علم لزم ما قلناه ‪ ،‬ومعلوم أن‬
‫ّللا يعلم ما ال يتناهى ‪ ،‬وعلمه واحد ‪ ،‬فال بد أن يكون للعلم عين واحدة ‪ ،‬ألنه ال يتعلق‬ ‫ه‬
‫بالمعلوم حتى يكون موجودا ‪ ،‬فإن العلم نسبة ال تتصف بالوجود وال بالعدم كاألحوال‬
‫ّللا العلم بالقلة إال العلم الذي‬ ‫‪ ،‬وما وصف ه‬

‫ص ‪575‬‬

‫ص ‪575 :‬‬
‫ّللا عباده ‪ ،‬وهو قوله« َوما أُوتِيت ُ ْم »أي أعطيتم ‪ ،‬وقال في حق عبده خضر(‬ ‫أعطى ه‬
‫علَّ َم ْالقُ ْرآنَ )فهذا كله يدلك على أنه نسبة ‪ ،‬ألن الواحد‬
‫علَّ ْمناهُ ِم ْن لَ ُدنَّا ِع ْلما ً )وقال( َ‬ ‫َو َ‬
‫في ذاته ال يتصف بالقلة ‪ ،‬وال بالكثرة ألنه ال يتعدد ‪ ،‬فإن كان العلم نسبة فإطالق القلة‬
‫والكثرة عليه إطالق حقيقي ‪ ،‬فإن النسب ال تتناهى ألن المعلومات ال تتناهى ‪ ،‬فيمكن‬
‫على هذا أن يكون لكل معلوم علم ‪ ،‬وإن كان غير ذلك فإطالق القلة والكثرة عليه‬
‫إطالق مجازي ‪ ،‬وكالم العرب مبني على الحقيقة والمجاز عند الناس ‪ ،‬وإن كنا‬
‫خالفناهم في هذه المسألة بالنظر إلى القرآن ‪ ،‬فإنا ننفي أن يكون في القرآن مجاز بل‬
‫في كالم العرب ‪ -‬رقيقة ‪ -‬كان الشيخ أبو مدين يقول إذا سمع من يتلو هذه اآلية« َوما‬
‫يال »القليل أعطيناه ما هو لنا بل هو معار عندنا وهبناه عناية منه‬ ‫أُوتِيت ُ ْم ِمنَ ْال ِع ْل ِم ِإ َّال قَ ِل ً‬
‫والكثير منه لم نصل إليه ‪ ،‬فنحن الجاهلون على الدوام فليس لنا شيء ندعيه ‪.‬‬

‫[ سورة اْلسراء ( ‪ : ) 17‬اآليات ‪ 86‬إلى ‪] 88‬‬


‫علَ ْينا َو ِكيالً ( ‪ ) 86‬إِاله َرحْ َمةً‬ ‫شئْنا لَنَ ْذ َهبَ هن بِالهذِي أ َ ْو َح ْينا إِلَ ْيكَ ث ُ هم ال ت َ ِج ُد لَكَ بِ ِه َ‬‫َولَئِ ْن ِ‬
‫س َوا ْل ِج ُّن عَلى أ َ ْن‬‫اْل ْن ُ‬
‫ت ِْ‬‫علَ ْيكَ َك ِبيرا ً ( ‪ ) 87‬قُ ْل لَئِ ِن اجْ ت َ َمعَ ِ‬ ‫ضلَهُ َ‬
‫كان َ‬ ‫ِم ْن َر ِبّكَ ِإ هن فَ ْ‬
‫ض َظ ِهيرا ً) ‪( 88‬‬ ‫ون ِب ِمثْ ِل ِه َولَ ْو َ‬
‫كان بَ ْع ُ‬
‫ض ُه ْم ِلبَ ْع ٍ‬ ‫آن ال يَأْت ُ َ‬ ‫يَأْتُوا ِب ِمثْ ِل هذَا ا ْلقُ ْر ِ‬
‫[ إعجاز القرآن ]‬
‫ما منع المعارض إال من العربي ال من األعجمي ‪ ،‬فاختص اإلعجاز بالقرآن ‪ ،‬وإن‬
‫كانت الكتب المنزلة كالم الرحمن ‪ ،‬لكن البيان والشرف واالمتنان ‪ ،‬والمجد العظيم‬
‫ّللا‬
‫الشان ‪ ،‬إنما ظهر في اللسان عند البيان ‪ ،‬فهذا القرآن هو معجزة الرسول ‪ ،‬رسول ه‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ ،‬وقد ثبت أنه معجزته بطلب معارضته والعجز عن ذلك ‪ ،‬ثم‬ ‫صلهى ه‬
‫ض ُه ْم‬‫قطع أن المعارضة ال تكون أبدا بهذه اآلية اإلخبارية« ال يَأْتُونَ ِب ِمثْ ِل ِه َولَ ْو كانَ بَ ْع ُ‬
‫ض ُه ْم‬‫ظ ِهيرا ً »فليس في مقدور البشر أن يأتوا بمثل هذا القرآن« َولَ ْو كانَ بَ ْع ُ‬ ‫ض َ‬ ‫ِلبَ ْع ٍ‬
‫ظ ِهيرا ً »أي معينا من الجن واإلنس ‪ ،‬وذلك ألنه القول المعجز وهو قول الحق‬ ‫ض َ‬ ‫ِلبَ ْع ٍ‬
‫والصدق ‪ ،‬وألنه أتى من خزائن الحجة ‪ -‬محمد خير مبعوث من الرسل –‬
‫أتى بإعجاز قول ال خفاء به *** أعجازه انعطفت منه على األول‬
‫حوى على كل لفظ معجز ولذا *** حوى على كل علم جاء من مثل‬

‫ص ‪578‬‬

‫ص ‪576 :‬‬
‫أتى به الناطق المعصوم معجزة *** إلى الذي كان في الدنيا من الملل‬
‫فما يعارضه جن وال بشر *** بسورة مثله في غابر الدول‬
‫ولو يعارضه ما كان معجزة *** فليس إعجازه يجري إلى أجل‬
‫رأيت ربي في نومي فقلت له *** ما صورة الصرف في القرآن حين تلي ؟‬
‫تزور أمورا إن أردت تلي‬ ‫فقال لي أصدق فإن الصدق معجزة *** وال ه‬
‫لكن كالمك إن تفعله معجزة *** فقلت يا رب غفرا ليس ذلك لي‬
‫هذا دليل بأن القول قولكمو *** ال قوله وهو عندي أوضح السبل‬
‫أتى به روحه من فوق أرقعة *** سبع إلى قلبه والقلب في شغل‬
‫أتى على سبعة من أحرف نزلت *** ميسر الذكر يتلوه على عجل‬
‫إذا تكرر فيه قصة ذكرت *** تكون أقوى على اإلعجاز بالبدل‬
‫والكل حق ولكن ليس يعرفه *** إال الذي بدليل العقل فيه بلي‬
‫هذا هو الحق ال تضرب له مثال *** فإنه من صفات الحق في األزل‬
‫ال يحجبنك ما تتلوه من سور *** بأحرف وأصوات على مهل‬
‫فكله قوله إن كنت ذا نظر *** فيه على حد إنصاف بال ملل‬

‫[ سورة اْلسراء ( ‪ : ) 17‬اآليات ‪ 89‬إلى ‪]93‬‬


‫اس إِاله ُكفُورا ً ( ‪) 89‬‬ ‫آن ِم ْن ُك ِ ّل َمث َ ٍل فَأَبى أ َ ْكث َ ُر النه ِ‬‫اس فِي هذَا ا ْلقُ ْر ِ‬ ‫ص هر ْفنا ِللنه ِ‬ ‫َولَقَ ْد َ‬
‫ُون لَكَ َجنهةٌ ِم ْن‬ ‫ض يَ ْنبُوعا ً ( ‪ ) 90‬أ َ ْو تَك َ‬ ‫َوقالُوا لَ ْن نُ ْؤ ِم َن لَكَ َحتهى ت َ ْف ُج َر لَنا ِم َن ْاأل َ ْر ِ‬
‫علَ ْينا‬‫سما َء كَما َزع َْمتَ َ‬ ‫هار ِخاللَها ت َ ْف ِجيرا ً ( ‪ ) 91‬أ َ ْو ت ُ ْ‬
‫س ِق َط ال ه‬ ‫ب فَتُفَ ِ ّج َر ْاأل َ ْن َ‬‫نَ ِخي ٍل َو ِعنَ ٍ‬
‫ف أ َ ْو ت َ ْرقى فِي‬ ‫ُون لَكَ بَيْتٌ ِم ْن ُز ْخ ُر ٍ‬ ‫اّلِل َوا ْل َمالئِ َك ِة قَ ِبيالً ( ‪ ) 92‬أ َ ْو يَك َ‬ ‫ي ِب ه ِ‬ ‫سفا ً أ َ ْو تَأْتِ َ‬‫ِك َ‬
‫حان َر ِبّي َه ْل ُك ْنتُ ِإاله‬
‫س ْب َ‬ ‫علَ ْينا ِكتابا ً نَ ْق َر ُؤهُ قُ ْل ُ‬ ‫ماء َولَ ْن نُ ْؤ ِم َن ِل ُرقِ ِيّكَ َحتهى تُنَ ِ ّز َل َ‬ ‫س ِ‬ ‫ال ه‬
‫سوالً ) ‪( 93‬‬ ‫بَشَرا ً َر ُ‬
‫ّللا عليه وسلم حين قال له الكفار ذلك أن أعطاه المعراج‬ ‫ّللا بمحمد صلهى ه‬ ‫من رحمة ه‬
‫والقرآن‪.‬‬

‫ص ‪577‬‬

‫ص ‪577 :‬‬
‫[سورة اْلسراء ( ‪ : ) 17‬آية ‪] 94‬‬
‫سوالً (‪)94‬‬ ‫َّللاُ بَشَرا ً َر ُ‬
‫ث ه‬ ‫اس أ َ ْن يُ ْؤ ِمنُوا إِ ْذ جا َء ُه ُم ا ْل ُهدى إِاله أ َ ْن قالُوا أ َ بَعَ َ‬
‫َوما َمنَ َع النه َ‬
‫ّللا ما بعث الرسل سدى ‪ ،‬ولو استقلت العقول بأمور سعادتها ما احتاجت إلى‬ ‫اعلم أن ه‬
‫الرسل ‪ ،‬وكان وجود الرسل عبثا ‪ ،‬ولكن لما كان من استندنا إليه ال يشبهنا وال نشبهه‬
‫‪ ،‬ولو أشبهنا عينا ما كان استنادنا إليه بأولى من استناده إلينا ‪ ،‬فعلمنا قطعا علما ال‬
‫يدخله شبهة أنه ليس مثلنا وال تجمعنا حقيقة واحدة ‪ ،‬فبالضرورة يجهل اإلنسان مآله‬
‫وإلى أين ينتقل ‪ ،‬وما سبب سعادته إن سعد أو شقاوته إن شقي عند هذا الذي استند إليه‬
‫ّللا فيه ‪ ،‬وال يعرف ما يريد به ‪ ،‬وال لما ذا خلقه تعالى ‪ ،‬فافتقر‬ ‫‪ ،‬ألنه يجهل علم ه‬
‫عرف كل شخص بأسباب‬ ‫بالضرورة إلى التعريف اإللهي بذلك ‪ ،‬فلو شاء تعالى ه‬
‫سعادته وأبان له عن الطريق التي ينبغي له أن يسلك عليها ‪ ،‬ولكن ما شاء إال أن يبعث‬
‫في كل أمة رسوال من جنسها ال من غيرها ‪ ،‬قدهمه عليها وأمرها باتباعه والدخول في‬
‫طاعته ‪ ،‬ابتالء منه لها إلقامة الحجة عليها لما سبق في علمه فيها ‪ ،‬ثم أيده بالبينة‬
‫واآلية على صدقه في رسالته التي جاء بها ‪ ،‬ليقوم له الحجة عليها ‪ ،‬وإنما قلنا من‬
‫جنسها ألنه كذا وقع األمر ‪ ،‬قال تعالى ‪َ (:‬ولَ ْو َجعَ ْلناهُ َملَكا ً لَ َجعَ ْلناهُ َر ُج ًال )أي لو كان‬
‫الرسول للبشر ملكا لنزل في صورة رجل حتى ال يعرفوا أنه ملك ‪ ،‬فإن الحسد على‬
‫المرتبة إنما يقع بين الجنس ‪ ،‬فقد علم اإلنسان أن البهائم وجميع الحيوانات دونه في‬
‫ّللا إليكم ‪،‬‬
‫المرتبة ‪ ،‬فلو تكلم حيوان ولو كان خنفساء ونطقت وقالت ‪ :‬أنا رسول من ه‬
‫احذروا من كذا وافعلوا كذا ‪ ،‬لتوفرت الدواعي من العامة على اتباعها والتبرك بها‬
‫وتعظيمها ‪ ،‬وانقادت لها الملوك ‪ ،‬ولم يطلبوها بآية على صدقها ‪ ،‬وجعلوا نطقها نفس‬
‫اآلية على صدقها ‪ ،‬وإن كان األمر ليس كذلك ‪ ،‬وإنما لما نال المرتبة غير الجنس لم‬
‫ّللا به خلقه بعث الرسل إليهم منهم ال من‬ ‫يقم بهم حسد لغير الجنس ‪ ،‬فأول ابتالء ابتلى ه‬
‫غيرهم ‪ ،‬ومع الدالالت التي نصبها لهم على صدقهم واستيقنوها حملهم سلطان الحسد‬
‫الغالب عليهم أن يجحدوا ما هم به عالمون موقنون ‪ ،‬ظلما وعلوا ‪.‬‬

‫[ سورة اْلسراء ( ‪ : ) 17‬آية ‪]95‬‬


‫ماء َملَكا ً َر ُ‬
‫سوالً‬ ‫س ِ‬ ‫ين لَنَ هز ْلنا َ‬
‫علَ ْي ِه ْم ِم َن ال ه‬ ‫ض َمالئِكَةٌ يَ ْمش َ‬
‫ُون ُم ْط َمئِ ِنّ َ‬ ‫كان فِي ْاأل َ ْر ِ‬
‫قُ ْل لَ ْو َ‬
‫(‪)95‬‬

‫ص ‪578‬‬

‫ص ‪578 :‬‬
‫يعني من جنسهم ‪ ،‬فإن كل نذير من جنس من بعث إليه ‪ ،‬وإنما جعل الرسول من‬
‫الجنس الستخراج عيب النفس ‪ ،‬وأنزل بلسان قومه لرفع اللبس ‪ ،‬فالرسول من جنس‬
‫المرسل إليه ‪ ،‬لذلك قال ملكا رسوال ‪ ،‬ولم يقل رجال ‪ ،‬ألن المرسل إليهم مالئكة ‪ ،‬فإن‬
‫دعا أمر أن يكون من غير الجنس في الحقيقة ‪ ،‬فال بد وأن يظهر لهم في صورة‬
‫الجنس في عالم تمثيل الرقيقة ‪ ،‬مثل تمثل الروح لمريم بشرا سويا –‬
‫خليفة القوم من أبناء جنسهم *** ألن ذلك أنكى في نفوسهم‬
‫لو لم يكن منهم لصدقوه ولم *** يقم بهم حسد لغير جنسهم‬
‫[ ‪ -‬إشارة ‪ -‬الفرق بين الخالفة والرسالة ‪ ،‬ومعرفة النبوة والوالية ]‬
‫‪-‬إشارة ‪ -‬الفرق بين الخالفة والرسالة ‪ ،‬ومعرفة النبوة والوالية ‪ :‬الرسالة عرش الرب‬
‫وسماء المربوب ‪ ،‬ومقام الرسول بينهما ‪ ،‬ألنه طالب مطلوب ‪ ،‬فلو لم ينادى الرسول‬
‫من مقامه اإللهي ما أجاب ‪ ،‬ولو سقي من غير مشربه ما طاب ‪،‬‬
‫فإن قيل له في ذلك الخطاب ‪:‬‬
‫بلغ ما أنزل إليك من ربك فذلك الرسول ‪ ،‬وإن زيد عليه ‪ :‬وقاتلهم إن أبوا القبول ‪،‬‬
‫فذلك الخليفة الرسول ‪ ،‬فله أن يصول ‪ ،‬فقد مضى زمن النبوة المشهورة ‪ ،‬وأنت في‬
‫زمن النبوة المستورة ‪ ،‬فلو نزلت عليك في عالم الكون والفساد ‪ ،‬لكفرك أهل النظر في‬
‫فإن بغلبة الحال تقول ‪ :‬قلت وقال ‪ ،‬وهنا قد ارتفع اإلنكار ‪ ،‬وزال‬ ‫االعتقاد ‪ ،‬ه‬
‫االضطرار ‪ ،‬فالرسول و هجه إلى قومه ‪ ،‬والنبي تعبد في نفسه إلى يومه ‪ ،‬والولي أيقظه‬
‫الرسول من نومه ‪ ،‬فالرسول هو اإلمام ‪ ،‬والولي هو المأموم ‪ ،‬والنبي إمام مأموم ‪،‬‬
‫محفوظ غير معصوم ‪ ،‬والرسول من هذا النمط هو المطلوب ‪ ،‬ومنه وإليه يكون‬
‫الهرب المرغوب ‪ ،‬فالمؤمن به صدقه وانصرف ‪ ،‬والعالم قام له البرهان فأقر بصدقه‬
‫واعترف ‪ ،‬والجاهل نظر فيه وانحرف ‪ ،‬والشاك تحير فيه فتوقف والظان تخيل وما‬
‫عرف ‪ ،‬والناظر تطلع وتشوف ‪ ،‬والمقلد مع كل صنف تصرف ‪ ،‬إن مشى متبوعه‬
‫مشى ‪ ،‬وإن وقف وقف ‪ ،‬فهو معه حيثما كان إما في النجاة وإما في التلف« َك َمث َ ِل‬
‫ّللا َربَّ‬ ‫سان ا ْكفُ ْر ‪ ،‬فَلَ َّما َكفَ َر قا َل إِ ِنهي بَ ِري ٌء ِم ْن َك إِ ِنهي أ َ ُ‬
‫خاف َّ َ‬ ‫إل ْن ِ‬ ‫ْطان إِ ْذ قا َل ِل ْ ِ‬
‫شي ِ‬ ‫ال َّ‬
‫ار »فأسكنه تقليده دار البوار ‪.‬‬ ‫ْالعالَ ِمينَ ‪ ،‬فَكانَ عاقِبَت َ ُهما أَنَّ ُهما فِي النَّ ِ‬

‫[ سورة اْلسراء ( ‪ : ) 17‬اآليات ‪ 96‬إلى ‪] 97‬‬


‫كان ِب ِعبا ِد ِه َخ ِبيرا ً بَ ِصيرا ً ( ‪َ ) 96‬و َم ْن يَ ْه ِد ه‬
‫َّللاُ‬ ‫اّلِل ش َِهيدا ً بَ ْي ِني َوبَ ْينَ ُك ْم ِإنههُ َ‬ ‫قُ ْل كَفى ِب ه ِ‬
‫ض ِل ْل فَلَ ْن ت َ ِج َد لَ ُه ْم أ َ ْو ِليا َء ِم ْن دُونِ ِه َونَحْ ش ُُر ُه ْم يَ ْو َم ا ْل ِقيا َم ِة عَلى‬
‫فَ ُه َو ا ْل ُم ْهت َ ِد َو َم ْن يُ ْ‬
‫س ِعيرا ً) ‪( 97‬‬ ‫ص ًّما َمأْوا ُه ْم َج َهنه ُم ُكلهما َخبَتْ ِزدْنا ُه ْم َ‬ ‫ُو ُجو ِه ِه ْم ع ُْميا ً َوبُ ْكما ً َو ُ‬

‫ص ‪579‬‬

‫ص ‪579 :‬‬
‫ّللاُ فَ ُه َو ْال ُم ْهت َ ِد َو َم ْن يُ ْ‬
‫ض ِل ْل فَلَ ْن ت َ ِج َد لَ ُه ْم أ َ ْو ِليا َء ِم ْن دُونِ ِه "‬ ‫" َو َم ْن يَ ْه ِد َّ‬
‫ع ْميا ً َوبُ ْكما ً‬
‫على ُو ُجو ِه ِه ْم ُ‬ ‫ش ُر ُه ْم يَ ْو َم ْال ِقيا َم ِة َ‬ ‫ّللا يرجع األمر كله « َون َْح ُ‬ ‫فالكل بيده وإلى ه‬
‫س ِعيرا ً »هذه اآلية تدل على أن النار محسوسة‬ ‫ت ِز ْدنا ُه ْم َ‬ ‫ص ًّما َمأْوا ُه ْم َج َهنَّ ُم ُكلَّما َخبَ ْ‬ ‫َو ُ‬
‫بال شك ‪ ،‬فإن النار ما تتصف بهذا الوصف إال من كون قيامها باألجسام ‪ ،‬ألن حقيقة‬
‫النار ال تقبل هذا الوصف من حيث ذاتها وال الزيادة وال النقص ‪ ،‬وإنما هو الجسم‬
‫المحرق بالنار وهو الذي يس هجر بالنارية ‪ ،‬وإن حملنا هذه اآلية على الوجه اآلخر قلنا ‪:‬‬
‫ت »يعني النار المسلطة على أجسامهم ‪ ،‬أي كلما سكن لهيبها «‬ ‫قوله تعالى « ُكلَّما َخبَ ْ‬
‫س ِعيرا ً » بتبديل الجلود ‪ ،‬فإنه لم يقل زدناها ‪،‬‬ ‫ِز ْدنا ُه ْم »يعني المعذبين« َ‬
‫ومعنى ذلك أن العذاب ينقلب إلى بواطنهم وهو أشد العذاب ‪ ،‬العذاب الحسي يشغلهم‬
‫عن العذاب المعنوي ‪ ،‬فإذا خبت النار في ظواهرهم ووجدوا الراحة من حيث‬
‫ّللا بأهل النار في أيام عذابهم خمود النار عنهم ‪ ،‬سلهط ه‬
‫ّللا‬ ‫أجسامهم ‪ ،‬فإن من رحمة ه‬
‫عليهم في بواطنهم التفكر فيما كانوا فرطوا فيه من األمور التي لو عملوا بها لنالوا‬
‫السعادة ‪ ،‬وتسلط عليهم الوهم بسلطانه ‪ ،‬فيتوهمون عذابا أشد مما كانوا فيه ‪ ،‬فيكون‬
‫عذابهم بذلك التوهم في نفوسهم أشد من حلول العذاب بتسلط النار المحسوسة على‬
‫أجسامهم ‪.‬‬

‫[ سورة اْلسراء ( ‪ : ) 17‬اآليات ‪ 98‬إلى ‪] 105‬‬


‫ون َخ ْلقا ً‬ ‫ذ ِلكَ َجزا ُؤ ُه ْم بِأَنه ُه ْم َكفَ ُروا بِآياتِنا َوقالُوا أ َ إِذا ُكنها ِعظاما ً َو ُرفاتا ً أ َ إِنها لَ َم ْبعُوث ُ َ‬
‫ض قاد ٌِر عَلى أ َ ْن يَ ْخلُ َ‬
‫ق‬ ‫ت َو ْاأل َ ْر َ‬‫سماوا ِ‬ ‫ق ال ه‬ ‫َّللا الهذِي َخلَ َ‬ ‫َجدِيدا ً ( ‪ ) 98‬أ َ َولَ ْم يَ َر ْوا أ َ هن ه َ‬
‫ون ِإاله ُكفُورا ً ( ‪ ) 99‬قُ ْل لَ ْو أ َ ْنت ُ ْم‬ ‫ظا ِل ُم َ‬ ‫ب فِي ِه فَأَبَى ال ه‬ ‫ِمثْلَ ُه ْم َو َجعَ َل لَ ُه ْم أ َ َجالً ال َر ْي َ‬
‫سان قَتُورا ً ( ‪) 100‬‬ ‫اْل ْن ُ‬‫كان ْ ِ‬
‫فاق َو َ‬ ‫شيَةَ ْ ِ‬
‫اْل ْن ِ‬ ‫س ْكت ُ ْم َخ ْ‬‫ُون َخزائِ َن َرحْ َم ِة َر ِبّي ِإذا ً َأل َ ْم َ‬ ‫ت َ ْم ِلك َ‬
‫سرا ِئي َل ِإ ْذ جا َء ُه ْم فَقا َل لَهُ ِف ْرع َْو ُن ِإ ِنّي‬ ‫سئ َ ْل بَ ِني ِإ ْ‬ ‫ت فَ ْ‬ ‫ت بَ ِيّنا ٍ‬ ‫س َع آيا ٍ‬ ‫َولَقَ ْد آت َ ْينا ُموسى ِت ْ‬
‫ت‬
‫سماوا ِ‬ ‫ب ال ه‬ ‫ع ِل ْمتَ ما أ َ ْن َز َل هؤ ِ‬
‫ُالء إِاله َر ُّ‬ ‫س ُحورا ً ( ‪ ) 101‬قا َل لَقَ ْد َ‬ ‫ظنُّكَ يا ُموسى َم ْ‬ ‫َأل َ ُ‬
‫ظنُّكَ يا فِ ْرع َْو ُن َمثْبُورا ً ) ‪( 102‬‬ ‫ض بَصائِ َر َوإِ ِنّي َأل َ ُ‬ ‫َو ْاأل َ ْر ِ‬
‫ض فَأ َ ْغ َر ْقناهُ َو َم ْن َمعَهُ َج ِميعا ً ( ‪َ ) 103‬وقُ ْلنا ِم ْن بَ ْع ِد ِه‬ ‫ست َ ِف هز ُه ْم ِم َن ْاأل َ ْر ِ‬‫فَأَرا َد أ َ ْن يَ ْ‬
‫ض فَ ِإذا جا َء َو ْع ُد ْاآل ِخ َر ِة ِجئْنا ِب ُك ْم لَ ِفيفا ً ) ‪َ ( 104‬و ِبا ْل َح ّ ِ‬
‫ق‬ ‫س ُكنُوا ْاأل َ ْر َ‬ ‫سرائِي َل ا ْ‬ ‫ِلبَنِي ِإ ْ‬
‫شرا ً َونَذِيرا ً) ‪( 105‬‬ ‫س ْلناكَ ِإاله ُمبَ ِ ّ‬ ‫ق نَ َز َل َوما أ َ ْر َ‬ ‫أ َ ْن َز ْلنا ُه َو ِبا ْل َح ّ ِ‬

‫ص ‪580‬‬

‫ص ‪580 :‬‬
‫ق »نزل لذاته ‪ ،‬فالحق‬ ‫ق أ َ ْنزَ ْلناهُ »لتحكم به بين الناس فيما اختلفوا فيه « َوبِ ْال َح ه ِ‬ ‫" َوبِ ْال َح ه ِ‬
‫ناك »خطاب لمن أنزل عليه تبيانا‬ ‫س ْل َ‬
‫المنزل والحق التنزيل والحق المنزل« َوما أ َ ْر َ‬
‫شرا ً »تبشر قوما برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم ‪،‬‬ ‫لكل شيء« ِإ َّال ُمبَ ِ ه‬
‫وتبشر قوما بعذاب أليم « َونَذِيرا ً »معلما بمن تبشره وبما تبشر ‪.‬‬

‫[ سورة اْلسراء ( ‪ : ) 17‬آية ‪] 106‬‬


‫ث َونَ هز ْلناهُ ت َ ْن ِزيالً ( ‪) 106‬‬ ‫علَى النه ِ‬
‫اس عَلى ُم ْك ٍ‬ ‫َوقُ ْرآنا ً فَ َر ْقناهُ ِلت َ ْق َرأَهُ َ‬
‫« َوقُ ْرآنا ً »وكالما جامعا ألمور شتى «فَ َر ْقناهُ »أي فصلناه آيات بينات في سور‬
‫على ُم ْك ٍ‬
‫ث‬ ‫منزالت« ِلت َ ْق َرأَهُ »أي تجمعه وتجمع عليه الناس ‪ ،‬وهو قوله« َ‬
‫علَى النَّ ِ‬
‫اس َ‬
‫يال »عما يجب له من التعظيم إلى مخاطبة من ال يعرف‬ ‫»تؤدهه مرتال « َون ََّز ْلناهُ ت َ ْن ِز ً‬
‫ّللا َح َّق قَ ْد ِر ِه ) *فما نزل القرآن إال للبيان ‪ ،‬فمن تال المحامد ولم يكن‬ ‫قدره( َوما قَ َد ُروا َّ َ‬
‫عين ما يتلوه منها فليس بتال ‪ ،‬وكذلك من تال المذام وكان عين ما يتلوه منها فليس‬
‫بتال ‪.‬‬

‫[ سورة اْلسراء ( ‪ : ) 17‬آية ‪] 107‬‬


‫ون ِل َْل َ ْذ ِ‬
‫قان‬ ‫علَ ْي ِه ْم يَ ِخ ُّر َ‬ ‫آمنُوا ِب ِه أ َ ْو ال ت ُ ْؤ ِمنُوا ِإ هن الهذ َ‬
‫ِين أُوتُوا ا ْل ِع ْل َم ِم ْن قَ ْب ِل ِه ِإذا يُتْلى َ‬ ‫قُ ْل ِ‬
‫س هجدا ً) ‪( 107‬‬ ‫ُ‬
‫" قُ ْل " يا أيها النبي« ِآمنُوا بِ ِه »صدقوا به« أ َ ْو ال تُؤْ ِمنُوا »أو تردونه وال تصدقون‬

‫ص ‪581‬‬

‫ص ‪581 :‬‬
‫به «إِ َّن الَّذِينَ أُوتُوا ْال ِع ْل َم »أعطوا العالمات التي تعطي اليقين والطمأنينة في األشياء«‬
‫علَ ْي ِه ْم »تتبع آياته بعضها بعضا بالمناسبة‬
‫ِم ْن قَ ْب ِل ِه »ممن تقدمه من أمثاله« ِإذا يُتْلى َ‬
‫س َّجدا ً »يقعون على وجوههم مطأطئين أذالء ‪،‬‬ ‫التي بين اآلية واآلية «يَ ِخ ُّرونَ ِل ْأل َ ْذ ِ‬
‫قان ُ‬
‫والسجود التطأطؤ ‪ ،‬يقال ‪ :‬أسجد البعير إذا طأطأه ليركبه ‪.‬‬

‫[ سورة اْلسراء ‪ ( 17 ) :‬آية ‪] 108‬‬


‫كان َو ْع ُد َر ِبّنا لَ َم ْفعُوالً «) ‪( 108‬‬
‫حان َر ِبّنا إِ ْن َ‬
‫س ْب َ‬ ‫َويَقُولُ َ‬
‫ون ُ‬

‫َويَقُولُونَ ُ‬
‫سبْحانَ َر ِبهنا »أي وعده صدق وكالمه حق« ِإ ْن كانَ َو ْع ُد َر ِبهنا لَ َم ْفعُ ً‬
‫وال‬
‫»واقعا كما وعد ‪ ،‬الوعد يستعمل في الخير والشر ‪ ،‬والوعيد في الشر خاصة ‪ ،‬فالوعد‬
‫ّللا ال بد منه ‪ ،‬والوعيد قد يعفو ويتجاوز عنه ‪ ،‬فإنه من صفة الكريم عند‬ ‫في الخير من ه‬
‫العرب ومما تمدح به األعراب ساداتها وكبراءها يقول شاعرهم ‪:‬وإني إذا أوعدته أو‬
‫وعدته * لمخلف إيعادي ومنجز موعدي‬

‫[ سورة اْلسراء ( ‪ : ) 17‬آية ‪] 109‬‬


‫ُون َويَ ِزي ُد ُه ْم ُخشُوعا ً) ‪( 109‬‬ ‫ون ِل َْل َ ْذ ِ‬
‫قان يَ ْبك َ‬ ‫َويَ ِخ ُّر َ‬
‫قان يَ ْب ُكونَ »على ما فرط منهم مما ال يستدركونه ولو عفا« َويَ ِزي ُد ُه ْم‬ ‫« َويَ ِخ ُّرونَ ِل ْأل َ ْذ ِ‬
‫شوعا ً »أي ذلة ‪ ،‬فهذه السجدة سجدة العلماء ‪ ،‬وهي سجود تسليم وبكاء وخشوع‬ ‫ُخ ُ‬
‫وزيادة في الخشوع ‪.‬‬

‫[ سورة اْلسراء ( ‪ : ) 17‬آية ‪]110‬‬


‫صال ِتكَ‬ ‫من أَيًّا ما ت َ ْدعُوا فَلَهُ ْاأل َ ْ‬
‫سما ُء ا ْل ُح ْ‬
‫سنى َوال تَجْ َه ْر ِب َ‬ ‫َّللا أ َ ِو ا ْدعُوا ه‬
‫الرحْ َ‬ ‫قُ ِل ا ْدعُوا ه َ‬
‫سبِيالً ( ‪) 110‬‬ ‫َوال تُخافِتْ بِها َوا ْبت َ ِغ بَ ْي َن ذ ِلكَ َ‬

‫الر ْحمنَ » ‪] . . .‬‬ ‫ّللا أ َ ِو ا ْد ُ‬


‫عوا َّ‬ ‫[ « قُ ِل ا ْد ُ‬
‫عوا َّ َ‬
‫عوا‬‫ّللا أ َ ِو ا ْد ُ‬ ‫من ؟ )قيل لهم« قُ ِل ا ْد ُ‬
‫عوا َّ َ‬ ‫الر ْح ُ‬
‫لما أنكروا االسم الرحمن وقالوا( َو َما َّ‬
‫ّللا وأنكر الرحمن ‪ ،‬فقالوا ‪ :‬وما الرحمن ؟ فكان مشهد األلوهة‬ ‫الر ْحمنَ »فما أنكر أحد ه‬ ‫َّ‬
‫أعم إلقرار الجميع بها ‪ ،‬فإنها تتضمن البالء والعافية ‪ ،‬وهما موجودان في الكون ‪ ،‬فما‬
‫أنكرهما أحد ‪ ،‬ومشهد الرحمانية ال يعرفه إال المرحومون باإليمان ‪ ،‬وما أنكره إال‬
‫المحرومون من حيث‬

‫ص ‪582‬‬

‫ص ‪582 :‬‬
‫ال يشعرون أنهم محرومون ‪ ،‬ألن الرحمانية ال تتضمن سوى العافية والخير المحض ‪،‬‬
‫عوا‬‫ّللا أ َ ِو ا ْد ُ‬ ‫فاّلل معروف بالحال والرحمن منكور بالحال ‪ ،‬فقيل لهم« قُ ِل ا ْد ُ‬
‫عوا َّ َ‬ ‫ه‬
‫عوا »من حيث داللته على عين‬ ‫الر ْحمنَ »من حيث المسمى ‪ ،‬فإنه قال« أَيًّا ما ت َ ْد ُ‬
‫َّ‬
‫ّللا والرحمن منها من حيث‬ ‫المسمى« فَلَهُ »أي لذلك المسمى « ْاألَسْما ُء ْال ُحسْنى »التي ه‬
‫ّللا واالسم الرحمن ‪ ،‬بل جعل‬ ‫ما هي أسماء ‪ ،‬فلم يفرق الحق في دعائه بين االسم ه‬
‫االسمين من األلفاظ المترادفة ‪ ،‬وإن كان في الرحمن رائحة االشتقاق ‪ ،‬ولكن المدلول‬
‫واحد من حيث العين المسماة بهذين االسمين ‪ ،‬والمسمى هو المقصود في هذه اآلية ‪،‬‬
‫ّللا والرحمن ‪ ،‬إلى كل اسم‬ ‫ولذلك قال« فَلَهُ ْاألَسْما ُء ْال ُحسْنى »ومن أسمائه الحسنى ه‬
‫سمى به نفسه مما نعلم ومما ال نعلم ومما ال يصح أن يعلم ‪ ،‬ألنه استأثر بأسماء في‬
‫علم غيبه ‪ ،‬فالحكم للمدعو باألسماء اإللهية ال لألسماء ‪ ،‬فإنها وإن تفرقت معانيها‬
‫وتميزت ‪ ،‬فإن لها داللة على ذات معينة في الجملة وفي نفس األمر ‪ ،‬وإن لم تعلم وال‬
‫يدركها ح هد فإنه ال يقدح ذلك في إدراكنا وعلمنا أن ث هم ذاتا ينطلق عليها هذه األسماء ‪.‬‬
‫الحكم للمدعو باألسماء *** ما الحكم لألسماء في األشياء‬
‫لكن لها التحكيم في تصريفها *** فيه كمثل الحكم لألنواء‬
‫في الزهر واألشجار في أمطارها *** وقتا وفي األشياء كاألنداء‬
‫لعبت بها األرواح في تصريفها *** كتالعب األفعال باألسماء‬

‫وقد و هحد بقوله« فَلَهُ »لما أراد المسمى ولم يراع اختالف الحقائق التي تدل عليها ألفاظ‬
‫هذه األسماء الحسنى ‪ ،‬فإن األسماء لو لم تختلف معانيها لكانت اسما واحدا كما هي‬
‫واحد من حيث مسماها ‪ ،‬فإن قلت الرحمن سميته بجميع األسماء الحسنى ‪ ،‬وإن قلت‬
‫ّللا سميته بجميع األسماء الحسنى ‪ ،‬فجميع األسماء دالئل على االسم الرحمن واالسم‬ ‫ه‬
‫ّللا جامعا لكل شيء ‪ ،‬وكان الرحمن جامعا لحقائق العالم وما يكون‬ ‫ّللا ‪ ،‬فإنه لما كان ه‬ ‫ه‬
‫الر ْحمنَ‬ ‫ّللا أ َ ِو ا ْد ُ‬
‫عوا َّ‬ ‫فيه ‪ ،‬ولهذا قيل ‪ :‬رحمن الدنيا واآلخرة ‪ ،‬لهذا قيل لهم« قُ ِل ا ْد ُ‬
‫عوا َّ َ‬
‫عوا فَلَهُ ْاألَسْما ُء ْال ُحسْنى »فإن دعاءهم إنما هو تعلقهم به لمنافعهم على قدر‬ ‫أَيًّا ما ت َ ْد ُ‬
‫معارفهم وهي عنه ‪ -‬اسمه الرحمن ‪ -‬وهذا االسم الرحمن يتضمن جميع األسماء‬
‫ّللا ‪ ،‬وإذا ناديت‬‫ّللا ‪ ،‬فإن له األسماء الحسنى والرحمن وما يتضمنه االسم ه‬ ‫الحسنى إال ه‬
‫ّللا فإنما تنادي منه الرحمن خاصة ‪ ،‬وتنادي من الرحمن االسم‬ ‫ه‬

‫ص ‪583‬‬

‫ص ‪583 :‬‬
‫الذي تطلبه الحقيقة الداعية إلى الدعاء ‪ ،‬فيقول الغريق ‪ :‬يا غياث ‪ ،‬والجائع ‪ :‬يا رزاق‬
‫‪ ،‬والمذنب ‪ :‬يا غفار ‪ ،‬يا غفور ‪ ،‬وكذلك في جميع األسماء ‪ ،‬فافهم ما أشرنا به إليك ‪،‬‬
‫فإنه باب عظيم نافع ‪ -‬بحث في األسماء اإللهية ‪ -‬األسماء اإللهية وإن دلت على ذات‬
‫واحدة ‪ ،‬فإنها تتميز في أنفسها من طريقين ‪:‬‬
‫الواحد من اختالف ألفاظها ‪،‬‬
‫والثاني من اختالف معانيها وإن تقاربت غاية القرب وتشابهت غاية الشبه ‪ ،‬وأسماء‬
‫المقابلة في غاية البعد ‪ ،‬فال بد من مراعاة حكم ما تدل عليه من المعاني ‪ ،‬وبهذا يتميز‬
‫العالم من الجاهل ‪ ،‬وما أتى الحق بها متعددة إال لمراعاة ما تدل عليه من المعاني ‪،‬‬
‫ّلل ْاألَسْما ُء ْال ُحسْنى »‬
‫قال تعالى« َو ِ َّ ِ‬
‫وليس سوى الحضرات اإللهية التي تطلبها وتعيهنها أحكام الممكنات ‪ ،‬والحضرة اإللهية‬
‫ّللا هي الحضرة الجامعة للحضرات كلها ‪،‬‬ ‫وهي االسم ه‬
‫ّللا بالوضع األول كل اسم إلهي ‪ ،‬بل كل اسم أثر في الكون‬ ‫ألنه لما كان في قوة االسم ه‬
‫يكون عن مسماه ‪ ،‬ناب مناب كل اسم هّلل تعالى ‪،‬‬
‫ّللا ‪ ،‬فانظر في حالة القائل التي بعثته على هذا النداء ‪ ،‬وانظر أي‬ ‫فإذا قال قائل ‪ :‬يا ه‬
‫اسم إلهي يختص بتلك الحال ‪،‬‬
‫ّللا بالوضع‬ ‫ّللا ‪ ،‬ألن االسم ه‬ ‫فذلك االسم الخاص هو الذي يناديه هذا الداعي بقوله ‪:‬يا ه‬
‫األول إنما مسماه ذات الحق عينها ‪ ،‬التي بيدها ملكوت كل شيء ‪،‬‬
‫فلهذا ناب االسم الدال عليها على الخصوص مناب كل اسم إلهي ‪ ،‬ويتضمن هذا االسم‬
‫أسماء التنزيه ‪ -‬وإن كان كل اسم إلهي بهذه المثابة من حيث داللته على ذات الحق جل‬
‫جالله وعز في سلطانه –‬
‫ّللا من األسماء مع داللته على ذات الحق يدل على معنى‬ ‫لكن لما كان ما عدا االسم ه‬
‫آخر من سلب أو إثبات بما فيه من االشتقاق ‪ ،‬لم يقو في أحدية الداللة على الذات قوة‬
‫هذا االسم ‪ ،‬كالرحمن وغيره من األسماء اإللهية الحسنى ‪ ،‬وإن كان قد ورد قوله‬
‫الر ْحمنَ أَيًّا ما ت َ ْد ُ‬
‫عوا فَلَهُ‬ ‫عوا َّ‬ ‫ّللا أ َ ِو ا ْد ُ‬
‫عوا َّ َ‬‫ّللا عليه وسلم« قُ ِل ا ْد ُ‬ ‫تعالى آمرا نبيه صلهى ه‬
‫ْاألَسْما ُء ْال ُحسْنى »فالضمير في « له » يعود على المدعو به تعالى ‪ ،‬فإن المسمى‬
‫ّللا تعالى قد عصم هذا االسم‬ ‫األصلي الزائد على االشتقاق ليس إال عينا واحدة ‪ ،‬ثم إن ه‬
‫عز وجل في معرض‬ ‫ّللا ه‬‫العلم أن يسمى به أحد غير ذات الحق جل جالله ‪ ،‬ولهذا قال ه‬
‫س ُّمو ُه ْم )فبهت الذي قيل له‬ ‫الحجة على من نسب األلوهة إلى غير هذا المسمى( قُ ْل َ‬
‫ّللا ‪ ،‬وأما ما فيه من الجمعية ‪ ،‬فإن مدلوالت‬ ‫ذلك ‪ ،‬فإنه لو سماه سماه بغير االسم ه‬
‫األسماء الزائدة على مفهوم الذات مختلفة كثيرة ‪ ،‬وما بأيدينا اسم مخلص علم للذات‬
‫ّللا يدل على الذات بحكم المطابقة كاألسماء األعالم على‬ ‫ّللا ‪ ،‬فاالسم ه‬ ‫سوى هذا االسم ه‬

‫ص ‪584‬‬

‫ص ‪584 :‬‬
‫مسمياتها ‪ ،‬وث هم أسماء تدل على تنزيه وث هم أسماء تدل على إثبات أعيان صفات ‪ - ،‬وإن‬
‫لم تقبل ذات الحق قيام األعداد ‪ -‬وهي األسماء التي تعطي أعيان الصفات الثبوتية ‪،‬‬
‫كالعالم والقادر والمريد والسميع والبصير والحي والمجيب والشكور ‪ ،‬وأمثال ذلك ‪،‬‬
‫وأسماء تعطي النعوت فال يفهم منهم في اإلطالق إال النسب واإلضافات ‪ ،‬كاألول‬
‫واآلخر والظاهر والباطن ‪ ،‬وأمثال ذلك ‪ ،‬وأسماء تعطي األفعال ‪ ،‬كالخالق والرازق‬
‫والبارئ والمصور ‪ ،‬وأمثال ذلك من األسماء ‪ ،‬وانحصر األمر ‪ ،‬وجميع األسماء‬
‫اإللهية ‪ -‬بلغت ما بلغت ‪ -‬ال بد أن ترجع إلى واحد من هذه األقسام أو إلى أكثر من‬
‫واحد ‪ ،‬مع ثبوت داللة ك هل اسم منها على الذات ال بد من ذلك ‪ ،‬فاجعل ذلك كله نسبا‬
‫أو أسماء أو صفات ‪ ،‬واألولى أن تكون أسماء وال بد ‪ ،‬ألن الشرع اإللهي ما ورد في‬
‫ّلل ْاألَسْما ُء ْال ُحسْنى‬
‫حق الحق بالصفات وال بالنسب ‪ ،‬وإنما ورد باألسماء فقال« َو ِ َّ ِ‬
‫»وليست سوى هذه النسب ‪ ،‬وهل لها أعيان وجودية أم ال ؟‬
‫ففيه خالف بين أهل النظر ‪ ،‬وأما عندنا فما فيها خالف أنها نسب وأسماء على حقائق‬
‫معقولة غير وجودية ‪ ،‬فالذات غير متكثرة بها ‪ ،‬ألن الشيء ال يتكثر إال باألعيان‬
‫ت ِبها »فإنه‬ ‫صالتِ َك َوال تُخافِ ْ‬ ‫الوجودية ال باألحكام واإلضافات والنسب« َوال ت َ ْج َه ْر ِب َ‬
‫س ِب ً‬
‫يال »فإنه‬ ‫يعلم الجهر وما يخفى ‪ ،‬كما أنه يعلم السر وأخفى وأصفى« َوا ْبت َ ِغ بَيْنَ ذ ِل َك َ‬
‫أخفى من السر ‪ ،‬أي أظهر ‪ ،‬فإن الوسط الحائل بين الطرفين المعيهن للطرفين والمميز‬
‫لهما هو أخفى منهما‪.‬‬

‫[ سورة اْلسراء ‪ ( 17 ) :‬آية ‪] 111‬‬


‫ّلِل الهذِي لَ ْم يَت ه ِخ ْذ َولَدا ً َولَ ْم يَك ُْن لَهُ ش َِريكٌ فِي ا ْل ُم ْل ِك َولَ ْم يَك ُْن لَهُ َو ِل ٌّ‬
‫ي ِم َن‬ ‫َوقُ ِل ا ْل َح ْم ُد ِ ه ِ‬
‫الذُّ ِ ّل َو َك ِبّ ْرهُ ت َ ْك ِبيرا ً ) ‪( 111‬‬
‫أمرك الحق في هذه اآلية أن تكبره تكبيرا عن الولد والشريك والولي ‪ ،‬فإذا كبرت ربك‬
‫فقيهده في ذلك بما قيده الحق ‪ ،‬وال تطلق فيفتك خير كثير وعلم كبير ‪ ،‬فتكبيرك للحق‬
‫عن أن يتخذ ولدا ‪ ،‬فإن الولد للوالد ليس بمتخذ ‪ ،‬ألنه ال عمل له فيه على الحقيقة ‪،‬‬
‫وإنما وضع ماء في رحم صاحبته ‪ ،‬وتولى إيجاد عين الولد سبب آخر ‪ ،‬والمتخذ الولد‬
‫إنما هو المتبني ‪،‬‬
‫ّلل الَّذِي لَ ْم يَت َّ ِخ ْذ َولَدا ً » ]‬ ‫[ « َوقُ ِل ْال َح ْم ُد ِ َّ ِ‬
‫ّلل الَّذِي لَ ْم يَت َّ ِخ ْذ َولَدا ً »ألنه لو اتخذ ولدا الصطفى مما‬ ‫فقال تعالى لنا« َوقُ ِل ْال َح ْم ُد ِ َّ ِ‬
‫يخلق ما يشاء ‪ ،‬فكان يتبنى ما شاء ‪ ،‬فما فعل فعل من لم يتخذ ولدا ‪،‬‬
‫وقوله تعالى ( لَ ْم يَ ِل ْد )‬

‫ص ‪585‬‬

‫ص ‪585 :‬‬
‫ذلك ولد الصلب ‪ ،‬فليس له تعالى ولد وال تبنى أحدا ‪ ،‬فنفى عنه الولد من الجهتين ‪ ،‬لما‬
‫ّللا ‪ ،‬وأرادوا التبني ‪ ،‬فإنهم عالمون‬ ‫ادعت طائفة من اليهود والنصارى أنهم أبناء ه‬
‫تكون عن أب« َولَ ْم‬ ‫ّللا ‪ ،‬إذ لم يعرفوا له أبا وال ه‬ ‫بآبائهم ‪ ،‬وقالوا في المسيح ‪ :‬إنه ابن ه‬
‫يك ِفي ْال ُم ْل ِك »وقيد تعالى التكبير عن الشريك في الملك ال في اإليجاد ‪،‬‬ ‫يَ ُك ْن لَهُ ش َِر ٌ‬
‫ّللا تعالى أوجد األشياء على ضربين ‪ :‬ضرب أوجده بوجود أسبابه ‪ ،‬وضرب‬ ‫ألن ه‬
‫أوجده بال سبب ‪ ،‬وهو إيجاد أعيان األسباب األول ‪ ،‬ولما كان السبب من الملك لم‬
‫يثبت الشريك في الملك ‪ ،‬ولهذا قيد التكبير عن الشريك في الملك ‪ ،‬وهو كل ما سوى‬
‫ّللا تعالى أحدي المرتبة ‪ ،‬فال إله إال هو وحده ال شريك‬ ‫ّللا ‪ ،‬وقد ثبت شرعا وعقال أن ه‬ ‫ه‬
‫له في الملك ‪ ،‬فما هو مثل الشريك في الملك ‪ ،‬فإن ذلك منفي على اإلطالق ‪ ،‬ألنه في‬
‫ي ِمنَ الذُّ ِهل »أي ناصر من أجل الذل ‪ ،‬فإن‬ ‫نفس األمر منفي العين« َولَ ْم يَ ُك ْن لَهُ َو ِل ٌّ‬
‫ّللا ابتغاء القربة إليه والتحبب ‪ ،‬عسى يصطفيه‬ ‫الولي موجود العين ‪ ،‬وهو ينصر ه‬
‫ويدنيه ‪ ،‬ال لذل ناله فينصره على من أذله ‪ ،‬أو ينصره لضعفه تعالى ‪ ،‬فأمرنا أن‬
‫نكبره أن يكون له ولي من الذل ‪ ،‬فقيد بقوله تعالى« ِمنَ الذُّ ِهل »‬
‫ص ْر ُك ْم ) فما نصرناه من ذل وهو سبحانه‬ ‫ّللا يَ ْن ُ‬
‫ص ُروا َّ َ‬ ‫ألنه تعالى يقول ‪ِ ( :‬إ ْن ت َ ْن ُ‬
‫الناصر ‪،‬‬
‫ّللا ) والناصر هو الولي ‪ ،‬فلهذا قيده ‪ ،‬فإذا كبرته عن‬ ‫وقد قال تعالى ‪ُ ( :‬كونُوا أ َ ْن َ‬
‫صار َّ ِ‬
‫الولي فاعلم عن أي ولي تكبره « َو َك ِبه ْرهُ ت َ ْكبِيرا ً » عن هذين الوصفين ‪ ،‬فإذا كبرت‬
‫ربك فكبره كما كبر نفسه ‪ ،‬تعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا ‪ ،‬وهم الذين يكبرونه‬
‫عما لم يكبر نفسه ‪ ،‬في قوله ‪ :‬يفرح بتوبة عبده ‪ ،‬ويتبشش إلى من جاء إلى بيته ‪،‬‬
‫ويباهي مالئكته بأهل الموقف ‪،‬‬
‫ويقول ‪ :‬جعت فلم تطعمني ‪ ،‬فأنزل نفسه منزلة عبده ‪ ،‬فإن كبرته بأن تنزهه عن هذه‬
‫المواطن فلم تكبره بتكبيره ‪ ،‬بل أكذبته ‪ ،‬فهؤالء هم الظالمون على الحقيقة ‪ ،‬فليس‬
‫تكبيره إال ما يكبر به نفسه ‪ ،‬فقف عند حدهك وال تحكم على ربك بعقلك ‪ -‬بحث في‬
‫ّللا تعالى آمرا« َوقُ ِل ْال َح ْم ُد ِ َّ ِ‬
‫ّلل »‬ ‫الحمد ‪ -‬قال ه‬
‫اعلم أن الحمد والمحامد هي عواقب الثناء ‪ ،‬ولهذا يكون آخرا في األمور ‪ ،‬كما ورد‬
‫أن آخر دعواهم أن الحمد هّلل رب العالمين ‪،‬‬
‫ّللا عليه وسلم في الحمد ‪ :‬إنها تمأل الميزان ‪ ،‬أي هي آخر ما يجعل في‬ ‫وقوله صلهى ه‬
‫الميزان ‪ ،‬وذلك ألن التحميد يأتي عقيب األمور ‪،‬‬
‫ففي السراء يقول ‪ [ :‬الحمد هّلل المنعم المفضل ]‬
‫ّللا ‪ ،‬وهو على‬ ‫وفي الضراء يقال ‪ [ :‬الحمد هّلل على كل حال ] والحمد هو الثناء على ه‬
‫قسمين ‪ ،‬ثناء عليه بما هو له ‪ ،‬كالثناء بالتسبيح‬
‫ص ‪586‬‬

‫ص ‪586 :‬‬
‫والتكبير والتهليل ‪ ،‬وثناء عليه بما يكون منه ‪ ،‬وهو الشكر على ما أسبغ من اآلالء‬
‫ّللا ‪ ،‬فإنه المثني على العبد‬ ‫والنعم ‪ ،‬وله العواقب فإن مرجع الحمد ليس إال إلى ه‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ [ :‬أنت كما أثنيت على نفسك ] وهو‬ ‫والمثنى عليه ‪ ،‬وهو قوله صلهى ه‬
‫الذي أثنى به العبد عليه ‪ ،‬فرد الثناء له من كونه مثنيا اسم فاعل ومن كونه مثنيا عليه‬
‫اسم مفعول ‪ ،‬فعاقبة الحمد في األمرين له تعالى ‪،‬‬
‫ّللا مطلقا ومقيدا في اللفظ ‪ ،‬وإن كان مقيدا‬ ‫وتقسيم آخر ‪ :‬وهو أن الحمد يرد من ه‬
‫بالحال فإنه ال يصح في الوجود اإلطالق فيه ‪ ،‬ألنه ال بد من باعث على الحمد ‪ ،‬وذلك‬
‫الباعث هو الذي قيده وإن لم يتقيد لفظا ‪ ،‬كأمره في قوله تعالى« َوقُ ِل ْال َح ْم ُد ِ َّ ِ‬
‫ّلل »فلم‬
‫ّلل الَّذِي َخلَقَ‬ ‫يقيد ‪ ،‬وأما المقيد فال بد أن يكون مقيدا بصفة فعل كقوله ( ْال َح ْم ُد ِ َّ ِ‬
‫ض)‬ ‫ت َو ْاأل َ ْر َ‬ ‫سماوا ِ‬
‫ال َّ‬
‫ت ) وقد‬ ‫سماوا ِ‬ ‫فاط ِر ال َّ‬ ‫ّلل ِ‬ ‫تاب ) و( ْال َح ْم ُد ِ َّ ِ‬
‫ع ْب ِد ِه ْال ِك َ‬ ‫على َ‬ ‫وكقوله( ْال َح ْم ُد ِ َّ ِ‬
‫ّلل الَّذِي أ َ ْنزَ َل َ‬
‫ّلل الَّذِي لَ ْم يَت َّ ِخ ْذ َولَدا ً » واعلم أن الحمد لما‬ ‫يكون مقيدا بصفة تنزيه كقوله ‪ْ « :‬ال َح ْم ُد ِ َّ ِ‬
‫ّللا ‪ ،‬وال‬ ‫كان يعطي المزيد للحامد ‪ ،‬علمنا أن الحمد بكل وجه شكر ‪ ،‬ألنه ثناء على ه‬
‫نحمده تعالى إال بما أعلمنا أن نحمده به ‪ ،‬فحمده مبناه على التوقيف ‪ ،‬وقد خالفنا في‬
‫ذلك جماعة من علماء الرسوم ‪ ،‬فإن التلفظ بالحمد على جهة القربة ال يصح إال من‬
‫جهة الشرع‬
‫يك فِي ْال ُم ْل ِك " على هذه المسألة تبتني مسألة ‪:‬‬ ‫‪ -‬مسألة ‪ -‬قوله تعالى" َولَ ْم يَ ُك ْن لَهُ ش َِر ٌ‬
‫العبد هل يملك أم ال يملك ؟‬
‫فمن رأى شركة األسباب التي ال يمكن وجود المسببات إال بها لم يثبت الشريك في‬
‫الملك ‪ ،‬ألن السبب من الملك ‪ ،‬وهو كاآللة ‪ ،‬واآللة يوجد بها ما هو ملك للموجد ‪ ،‬كما‬
‫هي اآللة ملك للموجد ‪ ،‬وما تملك اآللة شيئا ‪ ،‬فنفى الشريك في الملك ال في اإليجاد ‪،‬‬
‫فيضاف التابوت إلى النجار من كونه صنعة لصانعه ‪ -‬ولم يصنع إال باآللة ‪،‬‬
‫ثم ث هم إضافة أخرى ‪ ،‬وهو إن كان النجار صنع في حق نفسه أضيف التابوت إليه ألنه‬
‫ملكه ‪ ،‬وإن كان الخشب لغيره فالتابوت من حيث صنعته يضاف إلى النجار ومن حيث‬
‫الملك يضاف للمالك ال إلى النجار ‪،‬‬
‫وّللا ما نفى إال الشريك في الملك ال الشريك في الصنعة‪.‬‬ ‫فالنجار آلة للمالك ‪ ،‬ه‬

‫ص ‪587 :‬‬
‫المراجع‬
‫‪ - 1‬كتاب الفتوحات المكية ‪ -‬طبعة الميمنية ‪.‬‬
‫‪ - 2‬إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن ‪.‬‬
‫‪ - 3‬كتاب التنزالت الموصلية ‪.‬‬
‫‪ - 5‬كتاب اإلسرار إلى مقام األسرى ‪.‬‬
‫‪ - 6‬كتاب النجاة في رفع حجب االشتباه ‪.‬‬
‫‪ - 6‬كتاب مراتب التقوى ‪.‬‬
‫‪ - 7‬كتاب ترجمان األشواق وذخائر األعالق ‪.‬‬
‫‪ - 8‬كتاب مواقع النجوم ‪.‬‬
‫‪ - 9‬كتاب التدبيرات اإللهية في إصالح المملكة اإلنسانية ‪.‬‬
‫‪ - 10‬كتاب فصوص الحكم ‪.‬‬
‫‪ - 11‬كتاب رد اآليات المتشابهات إلى اآليات المحكمات ‪.‬‬
‫‪ - 12‬كتاب منزل القطب ‪.‬‬
‫‪ - 13‬كتاب اإلعالم بإشارات أهل اإللهام ‪.‬‬
‫‪ - 14‬كتاب الشاهد ‪.‬‬
‫‪ - 15‬كتاب اإلسفار عن نتائج األسفار ‪.‬‬
‫‪ - 16‬كتاب عقلة المستوفز ‪.‬‬
‫‪ - 17‬كتاب مسائل ابن سودكين ‪.‬‬
‫‪ - 18‬كتاب التراجم ‪.‬‬
‫‪ - 19‬كتاب روح القدس في محاسبة النفس ‪.‬‬
‫‪ - 20‬كتاب األزل ‪.‬‬
‫‪ - 21‬كتاب الشأن ‪.‬‬
‫‪ - 22‬كتاب المشاهد القدسية‪.‬‬

‫ص ‪588 :‬‬
‫‪ - 23‬كتاب الفناء ‪.‬‬
‫‪ - 24‬كتاب الجالل والجمال ‪.‬‬
‫‪ - 25‬ديوان الشيخ األكبر ‪.‬‬
‫‪ - 26‬كتاب الوصية ‪.‬‬
‫‪ - 27‬كتاب مسامرة األبرار ومحاضرة األخيار ‪.‬‬
‫‪ - 28‬كتاب تلقيح األذهان ‪.‬‬
‫‪ - 29‬كتاب نقش الفصوص ‪.‬‬
‫‪ - 30‬كتاب العقد النفيس لسيدي أحمد بن إدريس ‪.‬‬
‫‪ - 31‬كتاب المسائل ‪.‬‬
‫‪ - 32‬كتاب التجليات ‪.‬‬
‫‪ - 33‬كتاب القسم اإللهي ‪.‬‬
‫‪ - 34‬رسالة اليقين ‪.‬‬
‫‪ - 35‬كتاب شجرة الكون ( المعراج )‪.‬‬

‫ص ‪589‬‬

‫ص ‪589 :‬‬
‫مراجع جمع آيات ج ‪ 2‬رحمة من الرحمن سورة المائدة‬
‫) ‪( 1‬ف ح ‪ - 140 / 3‬ح ‪ - 592 / 2‬ح ‪ - 261 ، 259 / 3‬ح ‪) 2 ( 686 / 1‬‬
‫ف ح ‪ / 101 - 2‬ح ‪ - 655 / 1‬ح ‪ ) 3 ( 351 / 3‬ف ح ‪ - 438 / 4‬ح ‪752 / 1‬‬
‫‪ -‬إيجاز البيان آية ‪ - 144‬ف ح ‪ - 502 / 3‬ح ‪ - 434 / 4‬ح ‪ - 156 / 3‬ح ‪/ 1‬‬
‫‪ ) 5 ( 687‬ف ح ‪ - 632 / 1‬إيجاز البيان آية ‪ - 221‬ف ح ‪ - 512 / 3‬إيجاز‬
‫البيان آية ‪ ( 6 ) 221‬ف ح ‪ - 335 / 1‬ح ‪ - 331 / 1‬ح ‪ - 486 / 4‬ح ‪335 / 1‬‬
‫‪ - 339 ، 338 ،‬ح ‪ / 301 - 3‬ح ‪ - 341 ، 339 / 1‬ح ‪ - 235 / 4‬ح ‪343 / 1‬‬
‫‪ -‬ح ‪ - 366 / 4‬ح ‪364 - ، 365 / 1‬التنزالت الموصلية ( ‪ ) 12‬التنزالت‬
‫الموصلية ( ‪ ) 13‬ف ح ‪ ( 15 ) 3 / 2‬ف ح ‪ - 303 / 4‬ح ‪ - 107 / 2‬ح ‪/ 4‬‬
‫‪ ) 17 ( 424‬ف ح ‪ - 664 / 1‬ح ‪ - 381 / 4‬ح ‪/ 652 ( 18 ) 1‬ف ح ‪93 / 4‬‬
‫‪ -‬ح ‪ - 405 / 2‬ح ‪ ) 19 ( 162 / 3‬ف ح ‪) 20 ( 400 / 3‬ف ح ‪ - 273 / 3‬ح‬
‫‪ ) 23 ( 419 / 1‬ف ح ‪ ) 24 ( 73 ، 200 / 3‬ف ح ‪ ( 26 ) 745 / 1‬ف ح ‪/ 1‬‬
‫‪ ) 27 ( 745‬ف ح ‪ - 754 / 1‬كتاب اإلسراء ( ‪ ) 30‬ف ح ‪ ( 31 ) 195 / 3‬ف‬
‫ح ‪ - 140 / 2‬كتاب اإلسراء ‪ -‬كتاب النجاة ( ‪ ) 32‬ف ح ‪ - 520 / 1‬ح ‪/ 61 ( 4‬‬
‫) ‪33‬ف ح ‪ - 262 / 4‬ح ‪ - 161 / 2‬ح ‪ ) 35 ( 262 / 4‬كتاب مراتب التقوى ‪-‬‬
‫ف ح ‪ - 97 / 2‬ح ‪ - 177 / 4‬ح ‪ - 488 / 3‬ح ‪ - 378 / 4‬كتاب مراتب التقوى (‬
‫‪) 37‬ف ح ‪ ) 38 ( 338 / 4‬ف ح ‪ ) 44 ( 304 / 3‬كتاب األعالق ( ‪ ) 45‬ف ح‬
‫‪ ( 48 ) 733 ، 725 / 1‬ف ح ‪ - 205 ، 400 / 4‬كتاب األعالق ‪ -‬ف ح ‪/ 4‬‬
‫‪ - 274‬ح ‪- 413 / 3‬ح ‪ - 217 ، 414 / 2‬ح ‪ - 322 / 1‬ح ‪ - 164 / 3‬ح ‪/ 1‬‬
‫‪ - 265‬ح ‪ - 413 / 3‬ح ‪/ 131 - 4‬ح ‪ ) 51 ( 153 / 3‬إيجاز البيان آية ‪( 15‬‬
‫‪ ) 52‬ف ح ‪ ) 54 ( 475 / 1‬ف ح ‪ - 474 / 1‬ح ‪ - 102 / 4‬ح ‪345 ، 20 / 2‬‬
‫‪ -‬ح ‪ ) 60 ( 37 / 4‬ف ح ‪ ( 64 ) 553 / 2‬ف ح ‪ - 530 / 1‬ح ‪، 535 / 3‬‬
‫‪ - 430 ، 317‬ح ‪ - 530 / 1‬ح ‪ ( 66 ) 483 ، 317 / 3‬كتاب األعالق ‪ -‬ف ح‬
‫‪ - 431 / 4‬ح ‪ - 594 / 2‬ح ‪ - 439 / 3‬ح ‪488 - ، 594 / 2‬ح ‪، 631 / 1‬‬
‫‪ - 192‬ح ‪ - 595 / 2‬ح ‪ ) 67 ( 431 / 4‬ف ح ‪ - 158 / 3‬ح ‪595 ، / 2572‬‬
‫‪ - 388 ، 654 ،‬ح ‪ - 393 / 4‬ح ‪ ) 69 ( 118 / 2‬ف ح ‪ - 450 / 1‬كتاب‬
‫النجاة ( ‪ ) 71‬ف ح ‪ ) 72 ( 250 / 4‬ف ح ‪ ) 73 ( 652 / 1‬ف ح‬

‫ض ‪590‬‬

‫ص ‪590 :‬‬
‫‪4 / 370 -‬ح ‪ - 499 / 3‬ح ‪ - 215 / 2‬ح ‪ - 126 / 3‬ح ‪ ) 80 ( 382 / 4‬ف‬
‫ح ‪ / 495 ( 82 ) 3‬ف ح ‪ ) 83 ( 533 / 2‬ف ح ‪ - 193 / 4‬ح ‪ - 554 / 3‬ح‬
‫‪ - 378 / 4‬كتاب اإلسراء ‪ -‬كتاب النجاة ‪ -‬ف ح ‪ ) 84 ( 54 / 4‬ف ح ‪( 54 / 4‬‬
‫‪ ) 85‬كتاب مواقع النجوم ( ‪ ) 88‬ف ح ‪ ) 89 ( 463 / 2‬ف ح ‪ - 299 / 3‬ح ‪/ 4‬‬
‫‪ - 47‬كتاب النجاة ) ‪ ( 90‬ف ح ‪ - 171 / 1‬ح ‪ - 381 / 4‬إيجاز البيان آية ‪- 220‬‬
‫ف ح ‪ - 385 / 1‬ح ‪ / 197 ( 94 ) 2‬ف ح ‪ - 574 / 1‬ح ‪ ) 95 ( 411 / 2‬ف‬
‫ح ‪ - 727 / 1‬ح ‪ - 235 / 4‬ح ‪/ 27 - 3‬ح ‪ - 728 / 1‬ح ‪ - 236 / 4‬ح ‪/ 1‬‬
‫‪ ) 96 ( 727‬ف ح ‪ ( 97 ) 685 ، 686 / 1‬ف ح ‪ ) 99 ( 757 ، 666 / 1‬ف‬
‫ح ‪ - 523 / 1‬ح ‪ ) 101 ( 272 / 2‬كتاب التدبيرات اإللهية ‪ -‬ف ح ‪( 685 / 2‬‬
‫‪ ) 105‬إيجاز البيان آية ‪ ) 106 ( 144‬إيجاز البيان آية ‪ ) 109 ( 144‬ف ح ‪/ 3‬‬
‫‪ - 184‬ح ‪ - 327 / 1‬ح ‪ - 162 / 4‬ح ‪ - 83 / 2‬إيجاز البيان آية ‪ - 120‬ف ح ‪4‬‬
‫‪ ) 110 ( 80 /‬ف ح ‪ - 558 ، 149 / 3‬ح ‪ - 401 / 2‬ح ‪ / 108 - 4‬ح ‪51 / 2‬‬
‫‪ - 143 ،‬ح ‪ - 108 / 4‬ح ‪ - 401 / 2‬ح ‪ ) 114 ( 370 / 3‬ف ح ‪، / 5381‬‬
‫‪ ( 115 ) 517 ، 518‬كتاب اإلسراء ‪ -‬كتاب النجاة ( ‪ ) 116‬ف ح ‪، 354 / 3‬‬
‫‪267 -‬ح ‪ - 631 / 2‬ح ‪ - 278 / 3‬ح ‪ - 410 / 4‬ح ‪ - 631 / 2‬فصوص الحكم‬
‫فص ‪ - 15‬ف ح ‪ - 278 / 3‬ح ‪ - 631 / 2‬فصوص الحكم فص ‪ - 15‬ف ح ‪/ 4‬‬
‫‪ - 332‬ح ‪538 - ، 300 / 2‬ح ‪ - 550 / 1‬ح ‪ - 267 / 3‬ح ‪، 267 ، 538 / 1‬‬
‫‪ - 538‬فصوص الحكم فص ‪ - 15‬كتاب رد اآليات المتشابهات ( ‪ ) 117‬ف ح ‪/ 3‬‬
‫‪ - 267‬كتاب فصوص الحكم فص ‪ - 15‬إيجاز البيان آية ‪ - 144‬كتاب فصوص‬
‫الحكم فص ‪ ) 118 ( 15‬ف ح ‪ - 250 / 2‬ح ‪ / 387 - 4‬كتاب رد اآليات‬
‫المتشابهات ( ‪ ) 119‬ف ح ‪ - 222 / 2‬ح ‪ - 432 ، 351 / 4‬ح ‪ - 212 / 2‬ح ‪4‬‬
‫‪ - 351 /‬ح ‪ - 212 / 2‬ح ‪ - 18 ، 27 / 4‬ح ‪212 / 2‬‬
‫سورة األنعام‬
‫) ‪( 1‬ف ح ‪ ) 2 ( 236 / 4‬ف ح ‪ - 288 / 3‬ح ‪ ) 3 ( 587 / 2‬ف ح ‪346 / 4‬‬
‫‪ - 251 ،‬ح ‪ - 363 / 3‬ح ‪ - 315 / 2‬ح ‪ ) 6 ( 346 / 4‬ف ح ‪) 9 ( 173 / 2‬‬
‫ف ح ‪ - 83 / 3‬كتاب التنزالت الموصلية ‪ -‬كتاب منزل القطب ( ‪ ) 12‬ف ح ‪/ 3‬‬
‫‪ - 496‬ح ‪ - 303 / 4‬ح ‪ - 662 / 2‬ح ‪ - 72 / 3‬ح ‪ - 590 ، 556 / 1‬ح ‪/ 2‬‬
‫‪ ) 13 ( 408 ، 589 ، 45‬ف ح ‪2 / 473 -‬ح ‪ - 304 / 3‬كتاب اإلعالم ‪ -‬ف ح‬
‫‪ - 202 / 1‬ح ‪ - 295 ، 294 / 2‬ح ‪/ 202 - 1‬ح ‪ - 48 ، 374 / 4‬كتاب الشاهد‬
‫( ‪ ) 14‬ف ح ‪ - 69 / 2‬ح ‪434 - ، 418 / 1‬ح ‪ - 251 / 4‬كتاب التدبيرات‬
‫اإللهية ‪ -‬ف ح ‪ - 221 / 3‬كتاب التنزالت الموصلية‬

‫ص ‪591‬‬

‫ص ‪591 :‬‬
‫) ‪( 18‬ف ح ‪ - 72 ، 216 / 4‬كتاب رد اآليات المتشابهات ‪ -‬ف ح ‪( 374 / 4‬‬
‫‪ ) 19‬ف ح ‪ ) 20 ( 99 ، 84 ، 57 ، 56 / 2‬إيجاز البيان آية ‪ ، 43‬آية ‪) 22 ( 7‬‬
‫ف ح ‪/ 108 ( 27 ) 4‬ف ح ‪ ) 28 ( 245 / 3‬ف ح ‪ - 55 / 2‬ح ‪، 24 / 3‬‬
‫‪ - 243‬إيجاز البيان آية ‪ ) 29 ( 167‬ف ح ‪ ) 31 ( 641 / 1‬ف ح ‪( 347 / 4‬‬
‫‪ ) 32‬كتاب مواقع النجوم ( ‪ ) 35‬إيجاز البيان آية ‪ - 4‬كتاب اإلسفار عن نتائج‬
‫األسفار ‪ -‬ح ‪ - 552 ، 565 ، / 3193‬ح ‪ - 728 / 1‬ح ‪ - 552 / 3‬ح ‪284 / 4‬‬
‫( ‪ ) 36‬كتاب مواقع النجوم ‪ -‬ف ح ‪ ) 38 ( 162 / 4‬ف ح ‪ - 352 / 3‬ح ‪/ 1‬‬
‫‪ - 220‬ح ‪ - 491 / 3‬ح ‪- 8 / 4‬ح ‪ - 107 / 2‬ح ‪ - 377 / 4‬ح ‪( 56 ، 94 / 3‬‬
‫‪ ) 40‬ف ح ‪ ) 41 ( 137 / 4‬ف ح ‪/ 137 ( 43 ) 4‬إيجاز البيان آية ‪) 54 ( 12‬‬
‫ف ح ‪ - 72 / 3‬ح ‪ - 556 ، 210 / 1‬ح ‪4 / 274 -‬ح ‪ - 94 / 2‬ح ‪- 274 / 4‬‬
‫ح ‪ - 45 ، 662 / 2‬إيجاز البيان ‪ ،‬الفاتحة آية ‪ - 3‬ف ح ‪ - 274 / 4‬ح ‪- 45 / 2‬‬
‫ح ‪ - - 422 / 4‬ح ‪ ) 57 ( 590 / 1‬ف ح ‪ - 39 / 2‬ح ‪ ) 59 ( 4 / 4‬ف ح ‪/ 3‬‬
‫‪ - 542 ، 397‬ح ‪ - 101 / 2‬ح ‪ - 350 / 3‬ح ‪2 / 584 -‬ح ‪- 228 ، 279 / 3‬‬
‫ح ‪ ) 61 ( 593 ، 142 / 1‬ف ح ‪ - 216 / 4‬ح ‪ / 464 - 3‬ح ‪ - 216 / 4‬ح ‪3‬‬
‫‪ ) 68 ( 221 /‬ف ح ‪ - 473 ، 141 / 4‬ح ‪ ) 70 ( 81 / 2‬ف ح ‪( 270 / 4‬‬
‫‪ ) 71‬ف ح ‪ ) 73 ( 313 / 4‬كتاب عقلة المستوفز ‪ -‬ف ح ‪50 ، 394 ، 95 / 2‬‬
‫‪-‬ح ‪ - 85 / 1‬ح ‪ - 360 / 4‬ح ‪ - 305 / 1‬ح ‪ ( 74 ) 530 ، 79 ، 10 / 3‬ف‬
‫ح ‪ ) 75 ( 106 / 4‬كتاب التدبيرات اإللهية ‪ -‬ف ح ‪ - 240 / 2‬ح ‪( 340 / 3‬‬
‫) ‪76‬ف ح ‪ - 289 / 4‬ح ‪ - 706 / 1‬ح ‪ ) 78 ( 342 / 4‬ف ح ‪ - 278 / 2‬ح‬
‫‪ - 350 / 3‬كتاب اإلسراء ‪ -‬كتاب النجاة ( ‪ ) 79‬كتاب اإلسراء ‪ -‬كتاب النجاة ‪ -‬ف‬
‫ح ‪ - 419 ، 412 ، 434 ، / 4181‬كتاب التنزالت الموصلية ( ‪ ) 81‬ف ح ‪/ 1‬‬
‫‪ ( 82 ) 118‬ف ح ‪ - 135 / 1‬ح ‪ - 136 / 4‬ح ‪ - 135 / 1‬ح ‪ - 136 / 2‬ح ‪3‬‬
‫‪ ) 83 ( 522 /‬ف ح ‪/ 448 - 3‬ح ‪ - 289 / 2‬ح ‪ - 20 / 4‬ح ‪ - 278 / 2‬ح ‪3‬‬
‫‪ - 448 /‬ح ‪ ( 88 ) 498 / 1‬ف ح ‪ ) 89 ( 653 / 2‬ف ح ‪ ) 90 ( 586 / 1‬ف‬
‫ح ‪ - 77 ، 408 ، 313 / 4‬إيجاز البيان الفاتحة آية ‪ - 7‬ف ح ‪ - 125 / 2‬ح ‪/ 4‬‬
‫‪ - 82‬ح ‪ - 635 / 1‬ح ‪ ( 91 ) 45 / 3‬ف ح ‪ - 466 / 1‬ح ‪- 317 ، 535 / 3‬‬
‫ح ‪ - 132 ، 407 / 4‬ح ‪ - 535 / 3‬ح ‪( 93 ) 400 ، 435 ، 350 ، / 1424‬‬
‫ف ح ‪ ) 94 ( 282 ، 367 / 1‬كتاب األعالق ‪ -‬ف ح ) ‪4 / 474 ( 95‬ف ح ‪/ 2‬‬
‫‪ - 575‬ح ‪ - 369 / 3‬ح ‪ ) 96 ( 347 / 4‬ف ح ‪ - 398 / 4‬ح ‪) 97 ( 575 / 2‬‬
‫ف ح ‪ - 192 / 1‬ح ‪ ) 99 ( 249 / 3‬ف ح ‪ ) 101 ( 462 / 2‬ف ح ‪1 / 329‬‬
‫) ‪( 102‬ف ح ‪ - 408 / 2‬ح ‪ - 167 / 1‬ح ‪ ) 103 ( 78 / 3‬كتاب األعالق ‪-‬ف‬
‫ح ‪ - 392 / 3‬ح‬
‫ص ‪592‬‬

‫ص ‪592 :‬‬
‫‪ - 305 ، 1 / 685‬كتاب مسائل ابن سودكين ‪ -‬ف ح ‪ - 38 ، 301 ، 39 / 4‬ح ‪2‬‬
‫‪- 499 /‬ح ‪ - 30 / 4‬ح ‪ - 220 / 2‬ح ‪ - 30 / 4‬ح ‪ - 151 / 3‬ح ‪ - 220 / 1‬ح‬
‫‪ - 395 / 3‬ح ‪ - 238 ، 301 ، 2 ، 301 ، 2 / 4‬ح ‪ - 285 / 1‬ح ‪، 2 / 4‬‬
‫‪ - 301‬ح ‪ ( 106 ) 77 / 1‬ف ح ‪ ) 112 ( 408 / 2‬ف ح ‪ - 281 / 1‬ح ‪/ 3‬‬
‫‪ - 522‬إيجاز البيان آية ‪ - 15‬ف ح ‪ - 281 / 1‬ح ‪ - 400 / 4‬ح ‪ - 530 / 3‬ح ‪1‬‬
‫‪ ) 113 ( 281 /‬ف ح ‪ ( 117 ) 474 / 3‬ف ح ‪ ) 119 ( 654 / 2‬ف ح ‪/ 3‬‬
‫‪ - 156‬ح ‪ ) 121 ( 463 ، 175 / 2‬ف ح ‪ / 491 - 3‬كتاب التراجم ‪ -‬ف ح ‪/ 3‬‬
‫‪ ) 122 ( 562‬ف ح ‪ - 558 ، 350 / 1‬ح ‪ - 369 / 3‬ح ‪ - 342 ، 274 / 2‬ح‬
‫‪ - 100 / 3‬فصوص الحكم فص ‪ - 25‬ف ح ‪ - 618 / 2‬ح ‪ / 312 - 4‬ح ‪/ 2‬‬
‫‪ - 618‬ح ‪ - 312 / 1‬ح ‪ - 100 / 3‬ح ‪ - 342 / 2‬ح ‪ ( 123 ) 312 / 4‬إيجاز‬
‫البيان آية ‪ - 66‬ف ح ‪ ) 124 ( 530 / 2‬ف ح ‪ - 122 ، 405 / 4‬فصوص الحكم‬
‫فص ‪ ) 125 ( 22‬ف ح ‪ ) 126 ( 412 / 3‬ف ح ‪ ) 127 ( 413 / 3‬ف ح ‪/ 4‬‬
‫‪) 130 ( 202‬ف ح ‪ - 367 / 3‬ح ‪ ) 133 ( 436 / 4‬فصوص الحكم فص ‪( 5‬‬
‫‪ ) 145‬إيجاز البيان آية ‪ - 173‬ف ح ‪ ) 149 ( 381 / 1‬ف ح ‪، 72 ، 240 / 4‬‬
‫‪ - 16 ، 240‬ح ‪ - 112 / 3‬ح ‪2 / 507 -‬ح ‪ - 135 / 3‬فصوص الحكم فص ‪( 5‬‬
‫‪ ) 150‬كتاب النجاة ( ‪ ) 152‬ف ح ‪ - 584 ، / 552 1‬ح ‪ ) 153 ( 60 / 2‬ف ح‬
‫‪ - 471 ، 217 / 2‬ح ‪ - 69 / 3‬ح ‪ - 471 ، 217 ، 148 / 2‬ح ‪ - 69 / 3‬ح ‪4‬‬
‫‪ ) 154 ( 391 /‬ف ح ‪ ) 158 ( 275 / 4‬ف ح ‪ : 471 - 217‬ح ‪ - 69 / 3‬ح‬
‫‪ ) 154 ( 391 / 4‬ف ح ‪ ) 158 ( 275 / 4‬ف ح ‪ - 434 / 4‬ح ‪/ 121 - 2‬ح‬
‫‪ ) 160 ( 396 ، 262 / 4‬ف ح ‪ ) 162 ( 9 / 3‬ف ح ‪ - 434 / 4‬ح ‪/ 418 1‬‬
‫) ‪( 163‬ف ح ‪ ) 164 ( 418 / 1‬ف ح ‪ ) 165 ( 471 / 2‬ف ح ‪- 447 / 2‬‬
‫كتاب التدبيرات اإللهية ‪ -‬ف ح ‪. 401 ، 68 ، 60 ، 68 / 2‬‬
‫سورة األعراف‬
‫) ‪( 8‬كتاب عقلة المستوفز ( ‪ ) 9‬ف ح ‪ ) 11 ( 35 / 4‬كتاب األعالق ( ‪ ) 12‬ف‬
‫ح ‪2 / 449 -‬ح ‪ - 131 / 1‬ح ‪ - 449 / 2‬ح ‪ - 74 / 3‬ح ‪ - 467 / 2‬ح ‪/ 1‬‬
‫‪283 ( 13 ) ، 131‬ف ح ‪ ) 17 ( 144 / 3‬ف ح ‪ - 668 ، 550 / 2‬كتاب‬
‫األعالق ‪ -‬ف ح ‪ - 668 ، / 5502‬ح ‪ - 644 / 1‬ح ‪ - 482 / 3‬ح ‪، 749 / 1‬‬
‫‪ - 158‬كتاب التدبيرات اإللهية ‪ -‬ف ح ‪ - 158 / 1‬كتاب التدبيرات اإللهية ‪ -‬ف ح ‪1‬‬
‫‪- 709 ، 302 ، 158 /‬كتاب اإلسراء ‪ -‬كتاب النجاة ‪ -‬ف ح ‪ ) 18 ( 229 / 3‬ف‬
‫ح ‪ ( 19 ) 718 / 1‬إيجاز البيان آية ‪ - 36‬ف ح ‪ - 508 ، 231 / 1‬ح ‪218 / 2‬‬
‫( ‪ ) 22‬ف ح ‪ - 565 / 2‬كتاب اإلسراء ( ‪ ) 23‬كتاب‬
‫ص ‪593‬‬

‫ص ‪593 :‬‬
‫اإلسفار عن نتائج األسفار ‪ -‬ف ح ‪ - 141 / 2‬ح ‪ - 419 / 1‬ح ‪) 24 ( 142 / 2‬‬
‫ف ح ‪ / 231 - 1‬كتاب اإلسراء ( ‪ ) 26‬ف ح ‪ - 163 ، 69 / 4‬ح ‪ - 680 / 1‬ح‬
‫‪ - 163 / 4‬ح ‪/ 30 - 2‬ح ‪ - 383 ، 468 ، 518 / 1‬ح ‪27 ( 423 ، 163 / 4‬‬
‫) ف ح ‪ - 541 ، 89 / 3‬ح ‪ ) 28 ( 467 ، 466 / 2‬ف ح ‪ - 44 ، 735 / 1‬ح‬
‫‪ - 66 / 2‬ح ‪ ) 29 ( 44 / 1‬ف ح ‪ - 41 ، 24 ، 493 ، 514 ، 3 / 24‬ح ‪/ 2‬‬
‫‪ - 469 ، 184‬ح ‪ - 316 / 4‬ح ‪ - 184 / 2‬ح ‪ - 41 / 3‬ح ‪ - 312 / 1‬ح ‪/ 4‬‬
‫‪ ) 31 ( 369 ، 420‬ف ح ‪ - 453 / 4‬ح ‪ - 192 ، 468 ، 560 / 1‬ح ‪/ 4‬‬
‫‪ - 270‬كتاب األعالق ‪ -‬ف ح ‪ - 560 / 3‬كتاب مواقع النجوم ) ‪ ( 32‬ف ح ‪/ 4‬‬
‫‪ - 453‬كتاب روح القدس ‪ -‬ف ح ‪ - 15 / 3‬إيجاز البيان آية ‪ - 168‬ف ح ‪/ 1‬‬
‫‪ - 740‬ح ‪ ) 33 ( 381 ، 483 / 2‬إيجاز البيان آية ‪ - 219‬ف ح ‪ - 10 / 2‬ح ‪4‬‬
‫‪ - 410 /‬ح ‪ - 358 / 2‬فصوص الحكم فص ‪ - 10‬ف ح ‪ ) 34 ( 514 / 3‬ف ح‬
‫‪ ( 39 ) 468 ، / 2883‬إيجاز البيان آية ‪ - 166‬ف ح ‪ ) 40 ( 112 / 3‬ف ح ‪4‬‬
‫‪ - 405 /‬ح ‪ ) 42 ( 124 / 2‬كتاب التنزالت الموصلية ( ‪ ) 43‬ف ح ‪- 530 / 1‬‬
‫ح ‪ - 224 / 4‬ح ‪ - 318 ، 317 / 1‬كتاب اإلسراء ‪ -‬كتاب النجاة ( ‪ ) 46‬ف ح ‪1‬‬
‫‪ - 316 /‬ح ‪ / 10 - 4‬ح ‪ - 509 ، 316 / 1‬ح ‪ - 10 / 4‬ح ‪ - 211 / 2‬ح ‪/ 4‬‬
‫‪ - 10 ، 354‬ح ‪ / 316 ( 47 ) 1‬ف ح ‪ ) 51 ( 316 / 1‬ف ح ‪52 ( 270 / 4‬‬
‫) ف ح ‪ ) 54 ( 388 / 4‬كتاب األزل ‪ -‬ف ح ‪ - 646 / 1‬كتاب الشأن ‪ -‬ف ح ‪/ 3‬‬
‫‪ - 408‬ح ‪ - 395 / 1‬ح ‪ - 170 / 2‬ح ‪ - 548 / 3‬ح ‪، 457 ، 161 ، 170 / 2‬‬
‫‪ - 678‬ح ‪ - 210 / 4‬ح ‪ - 434 ، 46 / 1‬ح ‪2 / 423 -‬ح ‪ - 116 / 4‬ح ‪/ 1‬‬
‫‪ - 382‬ح ‪ - 129 / 2‬ح ‪ - 297 / 4‬كتاب التدبيرات اإللهية ‪ -‬ف ح ‪- 297 / 4‬‬
‫كتاب التدبيرات اإللهية ‪ -‬ف ح ‪ - 575 / 2‬ح ‪ ) 55 ( 123 / 3‬ف ح ‪( 390 / 1‬‬
‫‪ ) 56‬ف ح ‪ ) 57 ( 390 / 1‬ف ح ‪) 58 ( 172 / 4‬ف ح ‪) 62 ( 172 / 4‬‬
‫كتاب التنزالت الموصلية ( ‪ ) 64‬كتاب اإلعالم ( ‪ ) ( 73 ) 72‬كتاب النجاة ( ‪) 87‬‬
‫ف ح ‪ ) 89 ( 401 / 3‬ف ح ‪ ) 96 ( 39 / 2‬ف ح ‪ / 472 ( 99 ) 2‬ف ح ‪/ 3‬‬
‫‪ - 147‬ح ‪ - 530 / 2‬ح ‪ - 147 / 3‬ح ‪ - 530 ، 221 / 2‬ح ‪401 ، / 3954‬‬
‫) ‪( 102‬ف ح ‪ ) 105 ( 35 / 4‬ف ح ‪ ) 122 ( 334 / 4‬ف ح ‪( 276 / 2‬‬
‫) ‪127‬ف ح ‪ - 494 / 3‬ح ‪ ) 128 ( 190 / 4‬ف ح ‪ - 563 / 3‬ح ‪- 278 / 4‬‬
‫ح ‪ / 421 - 2‬ح ‪ ) 135 ( 317 / 4‬ف ح ‪ ) 136 ( 374 / 4‬ف ح ‪( 164 / 3‬‬
‫‪ ) 142‬ف ح ‪ / 460 - 1‬كتاب اإلسراء ‪ -‬كتاب النجاة ( ‪ ) 143‬ف ح ‪- 258 / 1‬‬
‫ح ‪ - 116 ، 395 ، 195 ، 443 ، 349 / 3‬ح ‪ - 55 / 4‬ح ‪- 349 ، 116 / 3‬‬
‫ح ‪ - 540 ، 304 / 2‬ح ‪ - 554 ، / 4863‬ح ‪ - 540 / 2‬كتاب‬
‫ص ‪594‬‬

‫ص ‪594 :‬‬
‫النجاة ‪-‬ف ح ‪ - 349 / 3‬ح ‪ - 300 ، 63 / 4‬ح ‪ - 78 / 2‬ح ‪- 486 ، 349 / 3‬‬
‫ح ‪- 540 / 2‬ح ‪ - 486 / 3‬ح ‪ - 65 / 4‬ح ‪ - 349 ، 116 / 3‬ح ‪، 300 / 4‬‬
‫‪ - 63‬ح ‪ - 116 / 3‬ح ‪ - 300 ، 63 ، 300 / 4‬ح ‪ - 495 / 2‬ح ‪- 541 / 3‬‬
‫كتاب اإلسراء ‪ -‬كتاب النجاة ( ‪ ) 144‬ف ح ‪ - 395 / 3‬كتاب اإلسراء ‪ -‬كتاب‬
‫النجاة ( ‪ ) 145‬ف ح ‪ / 260 - 3‬ح ‪ - 110 / 1‬ح ‪ - 260 / 3‬كتاب اإلسراء ‪-‬‬
‫كتاب النجاة ( ‪ ) 146‬ف ح ‪ - 436 ، / 1494‬ح ‪ - 305 / 2‬ح ‪150 ، 149 / 4‬‬
‫( ‪ ) 148‬ف ح ‪ - 584 / 1‬كتاب اإلسفار ( ‪ ) 150‬كتاب اإلسفار ‪ -‬ف ح ‪269 / 4‬‬
‫‪ -‬ح ‪ - 277 / 2‬كتاب اإلسفار ‪ -‬كتاب اإلسراء ‪ -‬كتاب النجاة ‪ -‬ح ‪ - 349 / 3‬كتاب‬
‫اإلسفار ( ‪ ) 151‬ف ح ‪( 154 ) 39 / 2‬ف ح ‪ - 277 / 2‬كتاب النجاة ‪ -‬ف ح ‪2‬‬
‫‪ - 277 /‬ح ‪ ) 155 ( 350 / 1‬ف ح ‪ - 189 ، 2 / 159‬ح ‪ - 454 / 4‬ح ‪/ 2‬‬
‫‪ ) 156 ( 159 ، 39‬ف ح ‪ - 505 / 1‬ح ‪ / 172 - 3‬ح ‪ - 274 / 4‬ح ‪506 / 3‬‬
‫‪ -‬ح ‪ - 77 / 1‬ح ‪ - 274 / 4‬ح ‪- 171 ، 9 ، 506 / 3‬ح ‪ - 437 / 2‬ح ‪/ 4‬‬
‫‪ - 200‬ح ‪ - 45 / 2‬ح ‪ - 564 / 1‬ح ‪ - 422 / 4‬ح ‪ - 76 / 2‬ح ‪، 472 / 3‬‬
‫‪ - 496‬ح ‪ - 161 / 4‬ح ‪ - 662 / 2‬ح ‪ ) 157 ( 466 / 3‬إيجاز البيان آية ‪- 5‬‬
‫ف ح ‪ - 635 / 1‬ح ‪ - 403 / 3‬ح ‪ - 45 / 2‬ح ‪ ( 158 ) 532 ، 370 / 3‬ف ح‬
‫‪ - 251 / 1‬ح ‪ - 408 / 2‬ح ‪ ) 160 ( 290 ، 289 / 4‬كتاب اإلسراء ‪ -‬كتاب‬
‫النجاة ( ‪ ) 163‬ف ح ‪ - 11 ، 421 / 4‬ح ‪ ) 167 ( 639 / 1‬ف ح ‪( 401 / 2‬‬
‫) ‪168‬ف ح ‪ ) 172 ( 342 / 2‬ف ح ‪ - 58 / 4‬ح ‪ - 23 / 3‬ح ‪ - 381 / 1‬ح‬
‫‪ - 254 / 4‬ح ‪ - 259 / 3‬ح ‪ - 618 ، 247 ، 618 / 2‬ح ‪- 58 ، 133 / 4‬‬
‫كتاب عقلة المستوفز ‪-‬ف ح ‪ - 670 / 1‬ح ‪ - 170 ، 690 / 2‬ح ‪، 268 / 4‬‬
‫‪ - 122‬ح ‪411 - ، 248 ، 284 / 3‬ح ‪ - 213 / 2‬ح ‪ - 566 / 3‬كتاب المشاهد‬
‫القدسية ‪ -‬كتاب النجاة ) ‪ ( 175‬ف ح ‪ - 178 / 4‬كتاب الفناء ‪ -‬ف ح ‪، 121 / 2‬‬
‫‪ ) 176 ( 300‬ف ح ‪) 179 ( 230 / 2‬ف ح ‪ - 547 / 3‬ح ‪ - 338 / 4‬ح ‪/ 3‬‬
‫‪ - 297‬ح ‪ - 149 / 4‬ح ‪ ) 180 ( 296 / 3‬ف ح ‪ - 463 / 1‬ح ‪ - 322 / 4‬ح‬
‫‪ - 499 ، 474 ، 499 ، 441 / 3‬ح ‪ - 412 ، 318 / 4‬ح ‪ - 149 / 3‬ح ‪/ 4‬‬
‫‪ - 199 ، 171‬ح ‪ - 498 / 3‬ح ‪ - 462 / 2‬ح ‪ - 77 ، 171 / 4‬إيجاز البيان آية‬
‫‪ ) 182 ( 62‬ف ح ‪ - 145 / 4‬ح ‪ ) 183 ( 232 / 1‬ف ح ‪( 184 ) 372 / 2‬‬
‫ف ح ‪ ) 185 ( 620 / 2‬ف ح ‪ - 195 / 1‬ح ‪ - 163 / 2‬ح ‪ - 195 / 1‬ح ‪/ 2‬‬
‫‪163 -‬ح ‪ ) 186 ( 401 / 3‬ف ح ‪ ) 187 ( 498 / 3‬ف ح ‪ - 427 / 4‬ح ‪/ 2‬‬
‫‪ - 630‬ح ‪/ 89 - 3‬ح ‪ ) 189 ( 401 / 1‬ف ح ‪ - 190 ، 272 / 2‬ح ‪137 / 4‬‬
‫( ‪ ) 196‬ف ح ‪ - 247 ، / 2462‬ح‬
‫ص ‪595‬‬

‫ص ‪595 :‬‬
‫‪1 / 231 -‬ح ‪ - 283 / 4‬ح ‪ - 231 / 1‬ح ‪ - 283 / 4‬ح ‪ ) 199 ( 230 / 1‬ف‬
‫ح ‪ / 248 ( 201 ) 1‬كتاب األعالق ‪ -‬ف ح ‪ - 36 / 2‬كتاب كتاب الجالل والجمال‬
‫‪ -‬كتاب التدبيرات اإللهية ‪ -‬ف ح ‪ ) 204 ( 666 / 1‬ف ح ‪، 456 ، 509 / 1‬‬
‫‪343 - ، 298 ، 504‬ح ‪ - 397 ، 389 / 4‬ح ‪ ) 206 ( 13 / 2‬ف ح ‪/ 1‬‬
‫‪. 509‬‬
‫سورة األنفال‬
‫) ‪( 1‬ف ح ‪ - 476 / 3‬ح ‪ - 80 / 4‬ح ‪ ) 3 ( 383 / 3‬ف ح ‪ ) 4 ( 39 / 2‬ف‬
‫ح ‪ - 563 ، / 982‬ح ‪ ) 11 ( 541 / 3‬ف ح ‪) 12 ( 452 ، 110 ، 60 / 2‬‬
‫ف ح ‪ ( 13 ) 452 / 2‬ف ح ‪ ) 14 ( 447 / 2‬ف ح ‪ ) 15 ( 283 / 4‬ف ح ‪/ 1‬‬
‫‪ ) 16 ( 474‬ف ح ‪ / 395 - 4‬ح ‪ ) 17 ( 474 / 1‬ف ح ‪ - 362 / 4‬ح ‪/ 3‬‬
‫‪ - 286 ، 549‬ح ‪ - 414 ، 33 / 4‬ح ‪2 / 553 -‬ح ‪ - 525 / 3‬ح ‪ - 69 / 2‬ح‬
‫‪ - 33 ، 335 ، 213 / 4‬ح ‪ - 553 / 2‬ح ‪/ 731 - 1‬ح ‪ - 280 / 4‬ح ‪/ 3‬‬
‫‪ - 411‬ح ‪ ) 19 ( 147 ، 69 / 2‬إيجاز البيان آية ) ‪91 ( 21‬ف ح ‪- 189 / 3‬‬
‫ح ‪ - 208 / 1‬ح ‪ - 25 ، 162 / 4‬ح ‪ - 208 / 1‬ح ‪( 469 ، 189 ، / 5503‬‬
‫) ‪23‬ف ح ‪ - 46 / 4‬ح ‪ - 550 / 3‬ح ‪ - 484 / 2‬ح ‪ ( 24 ) 163 / 4‬ف ح ‪3‬‬
‫‪ - 550 /‬ح ‪ - 160 / 4‬ح ‪ - 699 / 1‬ح ‪ - 160 / 4‬ح ‪ - 699 / 1‬ح ‪/ 161 4‬‬
‫) ‪( 25‬ف ح ‪ - 239 / 4‬الديوان ‪ - 107 /‬ف ح ‪ - 160 / 2‬ح ‪( 27 ) 505 / 4‬‬
‫ف ح ‪ ) 28 ( 138 / 4‬ف ح ‪ - 189 / 2‬ح ‪ - 555 / 1‬ح ‪ - 200 / 3‬ح ‪/ 4‬‬
‫‪ - 126‬ح ‪/ 583 ( 29 ) 1‬ف ح ‪ - 380 / 4‬ح ‪ - 372 / 1‬ح ‪111 ، 128 / 3‬‬
‫‪ -‬ح ‪ - 254 ، 506 ، 372 / 1‬ح ‪ - 401 ، 166 ، 401 ، 434 / 3‬ح ‪/ 4‬‬
‫‪ - 150‬ح ‪ - 402 / 3‬ح ‪ - 150 ، 399 ، / 1504‬ح ‪ ) 32 ( 434 / 3‬ف ح ‪1‬‬
‫‪ - 538 /‬ح ‪ ) 33 ( 252 ، 268 / 3‬ف ح ‪ ) 34 ( 42 / 4‬ف ح ‪ - 52 / 2‬ح ‪3‬‬
‫‪ ) 37 ( 50 /‬ف ح ‪ ) 38 ( 120 ، 721 / 1‬ف ح ‪ ) 410 ( 553 / 1‬ف ح ‪/ 3‬‬
‫‪ ) 42 ( 475 ، 480 ، 168 ، 475‬ف ح ‪ - 641 / 2‬ح ‪/ 481 ( 44 ) 3‬ف ح‬
‫‪ ) 49 ( 507 / 3‬ف ح ‪ ) 60 ( 669 / 1‬ف ح ‪ - 21 ، 22 / 3‬ح ‪/ 636 - 1‬ح‬
‫‪ - 55 / 4‬ح ‪ ) 61 ( 636 / 1‬ف ح ‪ ) 63 ( 470 ، 300 / 4‬ف ح ‪/ 178 - 1‬‬
‫ح ‪ ) 64 ( 123 / 2‬ف ح ‪ ) 66 ( 429 / 1‬ف ح ‪ ) 67 ( 204 / 3‬ف ح ‪/ 2‬‬
‫‪( 68 ) 568‬ف ح ‪ - 317 / 3‬ح ‪ - 349 / 1‬ح ‪ ) 69 ( 422 ، 418 / 4‬ف ح‬
‫‪ ( 71 ) 144 / 3‬ف ح ‪ ) 72 ( 389 / 1‬ف ح ‪ ) 73 ( 146 ، 145 / 2‬ف ح ‪3‬‬
‫‪ ) 75 ( 171 /‬ف ح ‪/ 531 . 3‬‬
‫ص ‪596‬‬

‫ص ‪596 :‬‬
‫سورة التوبة‬
‫ف ح ‪ - 9 / 3‬ح ‪ - 83 / 1‬ح ‪ - 9 / 3‬ح ‪ - 270 / 1‬ح ‪ - 148 / 3‬ح ‪270 / 1‬‬
‫‪ -‬ح ‪/ 78 ( 1 ) 4‬ف ح ‪ ) 3 ( 477 / 3‬ف ح ‪ - 78 / 4‬ح ‪- 754 ، 712 / 1‬‬
‫ح ‪ ( 6 ) 417 / 4‬ف ح ‪ - 108 / 3‬ح ‪ - 666 / 1‬ح ‪ - 301 ، 283 / 3‬ح ‪/ 4‬‬
‫‪ - 431‬ح ‪ - 375 / 2‬ح ‪ - 644 ، 395 / 1‬ح ‪ - 77 / 2‬ح ‪- 346 ، 402 / 4‬‬
‫ح ‪ ) 8 ( 4 / 3‬ف ح ‪ / 544 - 3‬ح ‪ ) 14 ( 553 / 1‬كتاب رد اآليات المتشابهات‬
‫( ‪ ) 15‬إيجاز البيان آية ‪ ( 21 ) 120 ، 11‬ف ح ‪ - 410 / 4‬ح ‪746 ، 698 / 1‬‬
‫‪ -‬ح ‪ ) 23 ( 280 / 2‬ف ح ‪ / 155 ( 24 ) 2‬ف ح ‪ - 505 / 3‬ح ‪، 156 / 4‬‬
‫‪ - 157‬ح ‪ - 155 / 2‬ح ‪ - 157 / 4‬ح ‪ / 156 ( 25 ) 2‬ف ح ‪) 26 ( 328 / 3‬‬
‫ف ح ‪ ) 28 ( 59 / 2‬ف ح ‪ - 382 / 1‬إيجاز البيان آية ‪ ) 29 ( 116‬ف ح ‪/ 2‬‬
‫‪ - 592 ، 363 ، 592‬ح ‪ - 387 / 3‬ح ‪ ( 30 ) 547 / 4‬ف ح ‪31 ( 405 / 2‬‬
‫) ف ح ‪ ) 34 ( 409 / 2‬ف ح ‪ ) 35 ( 548 / 1‬ف ح ‪ / 416 - 4‬ح ‪548 / 1‬‬
‫‪ -‬ح ‪ - 416 / 4‬ح ‪ ) 37 ( 548 / 1‬ف ح ‪ ) 38 ( 144 / 1‬ف ح ‪/ 351 ( 4‬‬
‫) ‪40‬ف ح ‪ - 487 ، 414 / 2‬ح ‪ - 370 / 4‬ح ‪ - 110 / 1‬ح ‪ - 288 / 2‬ح ‪1‬‬
‫‪ ( 41 ) 474 ، / 110‬ف ح ‪ ) 42 ( 474 / 1‬ف ح ‪ ) 43 ( 264 / 2‬ف ح ‪/ 1‬‬
‫‪ - 230‬ح ‪ - 410 ، 234 ، 41 ، / 410 4‬ح ‪ ) 46 ( 359 / 2‬ف ح ‪( 4 / 1‬‬
‫‪ ) 60‬ف ح ‪ - 477 / 3‬ح ‪ ) 67 ( 562 / 1‬ف ح ‪ - 244 / 2‬ح ‪ - 97 / 1‬ح ‪3‬‬
‫‪ ) 69 ( 552 /‬إيجاز البيان آية ‪ ) 72 ( 221‬ف ح ‪ - 756 / 1‬ح ‪73 ( 434 / 3‬‬
‫) ف ح ‪ ) 75 ( 145 ، 438 / 1‬ف ح ‪ ) 76 ( 440 / 4‬ف ح ‪586 ، 548 / 1‬‬
‫‪ ) 77 ( 548 ،‬ف ح ‪ ) 78 ( 548 / 1‬ف ح ‪/ 538 ( 80 ) 1‬ف ح ‪( 48 / 4‬‬
‫‪ ) 86‬ف ح ‪ ) 88 ( 491 / 1‬ف ح ‪ ( 91 ) 36 / 2‬إيجاز البيان آية ‪ - 216‬ف ح‬
‫‪ ) 93 ( 416 ، 394 / 4‬إيجاز البيان آية ‪) 100 ( 8‬ف ح ‪( 213 ، 173 / 2‬‬
‫‪ ) 102‬ف ح ‪ - 559 / 2‬ح ‪ - 208 / 3‬ح ‪ - 336 / 1‬ح ‪ / 476 - 4‬ح ‪533 / 2‬‬
‫‪ -‬ح ‪ - 336 ، 634 / 1‬ح ‪ - 476 / 4‬ح ‪ - 598 / 1‬ح ‪ - 533 / 2‬ح ‪598 / 1‬‬
‫‪ -‬ح ‪ - 476 / 4‬ح ‪ - 559 / 2‬ح ‪ ) 103 ( 553 ، 336 / 1‬ف ح ‪، 584 / 1‬‬
‫‪ - 586 ، 584 ، 549 ، 551‬إيجاز البيان آية ‪ - 130‬ح ‪، 548 ، 481 / 1‬‬
‫‪ ( 104 ) 551‬ف ح ‪ - 302 / 4‬ح ‪ ) 105 ( 478 / 3‬ف ح ‪ - 192 / 4‬ح ‪/ 3‬‬
‫‪ ) 108 ( 78‬ف ح ) ‪2 / 342 ( 109‬ف ح ‪ ) 111 ( 422 / 4‬ف ح ‪147 / 2‬‬
‫‪ -‬ح ‪ - 163 / 4‬ح ‪- 147 / 2‬ح ‪ - 471 / 3‬ح ‪ - 147 / 2‬ح ‪541 ، 675 / 1‬‬
‫‪ -‬ح ‪ - 271 / 4‬ح ‪ - 658 ، 675 ، 270 / 1‬ح ‪ ) 112 ( 478 / 3‬ف ح ‪/ 2‬‬
‫‪ - 33 ، 17 ، 32‬ح ‪ - 530 / 1‬ح ‪، 33 ، 392 ، 33 ، 23 ، 527 ، 33 / 2‬‬
‫‪ ( 113 ) 30 ، 34‬ف ح‬
‫ص ‪597‬‬

‫ص ‪597 :‬‬
‫) ‪3 / 272 ( 114‬ف ح ‪ - 272 / 3‬ح ‪ - 449 / 4‬ح ‪ - 722 / 1‬ح ‪- 352 / 2‬‬
‫ح ‪ / 722 - 1‬ح ‪ - 35 / 2‬ح ‪ ) 115 ( 240 / 4‬ف ح ‪ - 243 / 3‬ح ‪335 / 4‬‬
‫‪ ( 117 ) 314 ،‬ف ح ‪ - 632 / 1‬ح ‪ ) 118 ( 197 / 3‬ف ح ‪139 ، 474 / 2‬‬
‫‪ -‬ح ‪ - 148 / 3‬ح ‪ / 302 - 4‬ح ‪ - 534 ، 144 / 2‬ح ‪120 ( 230 ، 374 / 3‬‬
‫) ف ح ‪ ( 122 ) 337 / 4‬إيجاز البيان آية ‪ - 217‬ف ح ‪123 ( 280 ، 371 / 1‬‬
‫) ف ح ‪ - 462 / 4‬ح ‪- 467 / 1‬ح ‪ - 462 / 4‬ح ‪ - 467 / 1‬كتاب الوصية ‪-‬‬
‫كتاب مواقع النجوم ‪ -‬ف ح ‪- 462 / 4‬كتاب التدبيرات اإللهية ( ‪ ) 124‬ف ح ‪/ 3‬‬
‫‪ - 565‬ح ‪ ) 125 ( 414 / 1‬ف ح ‪ / 475 - 1‬إيجاز البيان آية ‪ - 17‬ح ‪565 / 3‬‬
‫‪ -‬ح ‪ ) 128 ( 520 / 2‬ف ح ‪ - 294 / 3‬ح ‪- 127 ، 126 ، 199 ، 265 / 2‬‬
‫ح ‪ - 304 / 4‬ح ‪ - 116 / 3‬ح ‪ - 245 / 1‬ح ‪ / 373 - 4‬ح ‪ - 398 / 3‬إيجاز‬
‫البيان آية ‪ ) 129 ( 138‬ف ح ‪. 409 ، 199 ، 409 / 2‬‬
‫سورة يونس‬
‫) ‪( 2‬ف ح ‪ - 118 / 3‬ح ‪ - 129 / 2‬كتاب مواقع النجوم ‪ -‬ف ح ‪ - 281 / 2‬ح‬
‫‪ / 76 - 3‬كتاب رد اآليات المتشابهات ( ‪ ) 3‬ف ح ‪ - 174 / 2‬ح ‪296 ، 171 / 3‬‬
‫‪163 - ، 67 ،‬ح ‪ - 62 / 4‬ح ‪ ) 4 ( 462 / 3‬ف ح ‪ - 279 / 4‬ح ‪( 471 / 2‬‬
‫‪ ) 5‬ف ح ‪ / 107 - 2‬ح ‪ - 157 / 1‬ح ‪ - 107 / 2‬ح ‪ - 198 / 4‬ح ‪- 107 / 2‬‬
‫ح ‪ - 111 / 3‬ح ‪ / 440 - 2‬ح ‪ - 436 / 3‬ح ‪ - 440 / 2‬ح ‪ ) 6 ( 121 / 1‬ف‬
‫ح ‪ ) 10 ( 111 / 3‬كتاب التنزالت الموصلية ‪ -‬ف ح ‪ - 524 ، 466 / 3‬ح ‪/ 4‬‬
‫‪ ) 12 ( 95‬كتاب التدبيرات اإللهية ( ‪ ) 13‬ف ح ‪ ) 16 ( 115 / 3‬ف ح ‪/ 3‬‬
‫‪ ) 18 ( 467‬ف ح ‪ ( 22 ) 534 / 1‬كتاب اإلسفار عن نتائج األسفار ‪ -‬ف ح ‪/ 2‬‬
‫‪ - 262‬ح ‪ - 562 / 1‬كتاب اإلسفار ‪ -‬إيجاز البيان آية ‪ - 20‬ف ح ‪23 ( 208 / 1‬‬
‫) ف ح ‪ ) 24 ( 208 / 1‬ف ح ‪ - 198 ، 199 ، 197 / 4‬ح ‪) 25 ( 232 / 3‬‬
‫كتاب األعالق ‪ -‬ف ح ‪ ) 26 ( 699 / 1‬ف ح ‪ / 538 - 3‬ح ‪ - 358 / 2‬ح ‪/ 3‬‬
‫‪ - 407‬ح ‪ - 446 / 4‬ح ‪ ) 32 ( 540 / 3‬ف ح ‪ - 95 ، 576 ، 418 / 2‬ح ‪/ 4‬‬
‫‪ ) 33 ( 279‬ف ح ‪ ) 34 ( 535 / 2‬ف ح ‪ ) 36 ( 55 / 2‬ف ح ‪/ 612 ( 2‬‬
‫) ‪42‬كتاب مواقع النجوم ( ‪ ) 44‬ف ح ‪ ) 47 ( 468 / 3‬ف ح ‪) 49 ( 352 / 3‬‬
‫ف ح ‪ ) 56 ( 50 / 2‬ف ح ‪ ) 57 ( 289 / 4‬ف ح ‪ ) 58 ( 58 / 3‬ف ح ‪4 / 4‬‬
‫‪ -‬ح ‪/ 433 - 3‬ح ‪ ) 61 ( 128 ، 440 ، 127 / 4‬ف ح ‪ - 175 / 4‬ح ‪/ 1‬‬
‫‪ - 433‬ح ‪ ( 62 ) 407 ، / 1754‬ف ح ‪ - 23 / 2‬ح ‪ - 14 / 3‬ح ‪- 543 / 4‬‬
‫ح ‪ ( 63 ) 230 ، 229 / 1‬كتاب مواقع النجوم ‪ -‬ف ح ‪ ) 64 ( 14 / 3‬إيجاز‬
‫البيان ‪ -‬ف ح‬
‫ص ‪598‬‬

‫ص ‪598 :‬‬
‫‪ - 605 ، 2 / 211‬ح ‪ - 190 / 3‬ح ‪ ) 65 ( 69 ، 563 ، 654 ، 563 / 2‬ف‬
‫ح ‪( 67 ) 129 / 2‬ف ح ‪ - 206 / 1‬كتاب مواقع النجوم ( ‪ ) 72‬ف ح ‪588 / 2‬‬
‫‪ -‬ح ‪ - 402 / 1‬ح ‪ ) 90 ( 575 / 1‬ف ح ‪ - 90 ، 533 ، 90 / 3‬ح ‪- 60 / 4‬‬
‫ح ‪410 ( 91 ) ، 276 ، 410 / 2‬ف ح ‪ - 533 / 3‬ح ‪ ) 92 ( 410 / 2‬ف ح‬
‫‪ - 164 / 3‬ح ‪ ( 94 ) 276 / 2‬ف ح ‪ ) 98 ( 138 / 2‬ف ح ‪ - 383 / 3‬ح ‪/ 2‬‬
‫‪. 415‬‬
‫سورة هود‬
‫ف ح ‪ ) 1 ( 182 / 4‬ف ح ‪ ) 3 ( 455 / 3‬ف ح ‪ ) 4 ( 245 / 4‬ف ح ‪/ 4‬‬
‫‪ ) 6 ( 245‬ف ح ‪ ) 7 ( 520 / 1‬كتاب عقلة المستوفز ‪ -‬ف ح ‪ - 65 / 3‬ح ‪4 / 1‬‬
‫‪ -‬ح ‪ - 436 / 2‬ح ‪ - 65 / 3‬ح ‪ - 493 / 4‬كتاب األعالق ‪ -‬إيجاز البيان ‪ -‬ف ح ‪1‬‬
‫‪ - 259 /‬ح ‪ / 356 ( 13 ) 4‬ف ح ‪ ) 14 ( 332 / 4‬ف ح ‪ ) 15 ( 410 / 2‬ف‬
‫ح ‪ ) 17 ( 121 / 4‬ف ح ‪2 / 634 -‬إيجاز البيان ‪ -‬ف ح ‪، 632 ، 634 / 2‬‬
‫‪ - 567‬ح ‪ - 404 / 4‬ح ‪- 54 / 2‬كتاب مواقع النجوم ‪ -‬ف ح ‪- 201 ، 251 / 1‬‬
‫ح ‪ ) 29 ( 311 / 3‬ف ح ‪ - 672 / 1‬إيجاز البيان ‪ -‬ف ح ‪ ) 39 ( 63 / 3‬إيجاز‬
‫البيان آية ‪ ) 42 ( 16‬كتاب اإلسفار عن نتائج األسفار ( ‪ ) 43‬كتاب التراجم ‪ -‬كتاب‬
‫اإلسفار ‪ -‬كتاب اإلسراء ‪ -‬كتاب النجاة ( ‪ ) 44‬ف ح ‪ ) 45 ( 372 / 4‬ف ح ‪/ 2‬‬
‫‪ ) 46 ( 39‬ف ح ‪ / 617 - 2‬ح ‪ - 552 / 3‬ح ‪ - 617 / 2‬ح ‪) 54 ( 179 / 3‬‬
‫ف ح ‪ - 36 / 3‬ح ‪ ( 56 ) 154 / 2‬إيجاز البيان الفاتحة آية ‪ - 6‬ف ح ‪- 384 / 4‬‬
‫ح ‪ - 406 / 1‬ح ‪ - 364 / 4‬ح ‪ - 426 / 1‬ح ‪ - 366 ، 273 / 4‬ح ‪- 217 / 2‬‬
‫ح ‪ - 410 ، 413 / 3‬ح ‪ - 217 / 2‬ح ‪ - 413 / 3‬ح ‪- 478 ، 217 ، 563 / 2‬‬
‫ح ‪ - 426 / 1‬ح ‪ - 400 / 4‬كتاب التراجم ( ‪ ) 57‬ف ح ‪ - 118 / 2‬ح ‪188 / 1‬‬
‫‪ -‬ح ‪ - 221 ، 169 / 3‬ح ‪) 60 ( 75 / 2‬كتاب المسامرات ( ‪ ) 65‬كتاب‬
‫المسامرات ‪ -‬فصوص الحكم فص ‪ ) 70 ( 11‬ف ح ‪ / 133 - 1‬ح ‪73 ( 452 / 3‬‬
‫) ف ح ‪ - 429 / 1‬ح ‪ ) 75 ( 261 ، 262 / 4‬ف ح ‪( 80 36 ، 35 ، 34 / 2‬‬
‫)ف ح ‪ - 53 / 4‬ح ‪ - 230 / 3‬كتاب تلقيح األذهان ‪ -‬كتاب اإلسفار عن نتائج‬
‫األسفار ‪ -‬ف ح ‪ - 347 / 3‬كتاب اإلسفار ‪ -‬كتاب نقش الفصوص ‪ -‬كتاب اإلسفار (‬
‫‪ ) 81‬ف ح ‪ ) 86 ( 461 / 3‬ف ح ‪ - 335 / 3‬ح ‪ - 114 / 4‬ح ‪/ 463 ( 2‬‬
‫) ‪88‬ف ح ‪ - 432 / 4‬كتاب مواقع النجوم ‪ -‬ف ح ‪ - 687 / 2‬ح ‪131 ، 84 / 3‬‬
‫‪-‬ح ‪ - 434 ، 334 ، 238 / 1‬كتاب التنزالت الموصلية ( ‪ ) 90‬ف ح ‪197 / 1‬‬
‫) ‪( 101‬ف ح ‪ ) 102 ( 309 / 3‬ف ح ‪252 / 3‬‬
‫ص ‪599‬‬

‫ص ‪599 :‬‬
‫) ‪( 103‬ف ح ‪ ) 104 ( 715 / 1‬ف ح ‪ ) 105 ( 713 / 1‬ف ح ‪ - 390 / 3‬ح‬
‫‪ ( 106 ) 405 / 4‬ف ح ‪ - 447 / 2‬كتاب اإلسراء ‪ -‬كتاب النجاة ( ‪ ) 107‬ف ح‬
‫‪ - 688 / 2‬ح ‪ - 387 ، / 7 3‬ح ‪ - 281 / 2‬ح ‪ - 387 / 3‬ح ‪ - 381 / 2‬ح ‪/ 3‬‬
‫‪ - 77‬ح ‪ ( 108 ) 527 / 1‬ف ح ‪ - 281 ، 688 ، 447 / 2‬كتاب األعالق ‪ -‬ف‬
‫ح ‪ ) 112 ( 317 / 1‬ديوان ‪-‬ف ح ‪ - 218 / 2‬ح ‪ ) 113 ( 145 ، 182 / 4‬ف‬
‫ح ‪ - 160 / 2‬ح ‪ - 460 / 3‬ح ‪ ( 114 ) 198 ، / 1602‬ف ح ‪( 446 / 4‬‬
‫‪ ) 115‬كتاب التنزالت الموصلية ( ‪ ) 118‬ف ح ‪ ( 119 ) 465 ، 3 / 84‬ف ح ‪2‬‬
‫‪ - 335 /‬كتاب التدبيرات اإللهية ‪ -‬ف ح ‪- 162 / 3‬ح ‪ - 404 / 4‬ح ‪( 465 / 3‬‬
‫‪ ) 120‬ف ح ‪ - 457 ، 268 ، 145 / 3‬إيجاز البيان آية ‪ - 56‬كتاب اإلسفار عن‬
‫نتائج األسفار ( ‪ ) 123‬ف ح ‪ - 144 / 2‬ح ‪552 - ، 418 / 1‬ح ‪ - 28 / 4‬ح ‪3‬‬
‫‪ - 254 /‬ح ‪ - 86 / 4‬ح ‪ - 471 / 3‬ح ‪ - 67 / 4‬ح ‪ / 218 - 2‬ح ‪ - 427 / 4‬ح‬
‫‪ - 218 ، 144 ، 218 ، 74 ، 153 / 2‬ح ‪707 - ، 470 ، 416 / 1‬ح ‪/ 4‬‬
‫‪ - 227‬ح ‪ - 88 / 3‬ح ‪ - 707 / 1‬ح ‪ - 223 / 3‬ح ‪ - 380 / 4‬كتاب ذخائر‬
‫األعالق ‪.‬‬
‫سورة يوسف‬
‫) ‪( 3‬ف ح ‪ - 492 / 2‬ح ‪ ) 5 ( 99 / 4‬ف ح ‪ - 451 / 3‬كتاب فصوص الحكم ‪-‬‬
‫ف ح ‪/ 375 - 2‬ح ‪ - 70 / 3‬ح ‪ ) 6 ( 27 ، 184 / 4‬ف ح ‪) 20 ( 453 / 3‬‬
‫كتاب اإلسفار ‪-‬كتاب اإلسراء ‪ -‬كتاب النجاة ( ‪ ) 21‬ف ح ‪ - 299 ، 453 / 3‬ح ‪1‬‬
‫‪ - 429 /‬ح ‪/ 299 ( 23 ) 3‬ف ح ‪ ) 24 ( 451 / 3‬ف ح ‪ - 348 / 3‬كتاب‬
‫اإلسفار ‪ -‬ف ح ‪( 27 ) 57 / 4‬ف ح ‪ ) 30 ( 17 / 3‬ف ح ‪) 31 ( 323 / 2‬‬
‫كتاب اإلسفار ‪ -‬كتاب اإلسراء ) ‪( 33‬ف ح ‪ ) 36 ( 625 / 1‬ف ح ‪( 615 / 2‬‬
‫‪ ) 39‬ف ح ‪ - 408 / 2‬ح ‪ - 463 / 3‬ح ) ‪2 / 538 ( 41‬ف ح ‪42 ( 377 / 2‬‬
‫) كتاب العقد النفيس لسيدي أحمد بن إدريس ) ‪( 43‬ف ح ‪ - 378 / 2‬ح ‪454 / 3‬‬
‫‪ -‬كتاب اإلسفار ( ‪ ) 44‬كتاب اإلسفار ‪ -‬كتاب األعالق ( ‪ ) 48‬ف ح ‪( 275 / 2‬‬
‫‪ ) 50‬ف ح ‪ - 180 / 4‬ح ‪ - 347 / 3‬ح ‪ / 625 ( 51 ) 1‬ف ح ‪52 ( 348 / 3‬‬
‫) ف ح ‪ ) 53 ( 347 / 3‬ف ح ‪ - 286 / 1‬ح ‪- 195 / 2‬ح ‪ - 418 / 3‬كتاب‬
‫مواقع النجوم ‪ -‬ف ح ‪ - 562 / 3‬ح ‪ ) 54 ( 256 / 2‬كتاب اإلسراء ‪ -‬كتاب النجاة‬
‫( ‪ ) 55‬كتاب اإلسفار ‪ -‬ف ح ‪ - 142 / 3‬كتاب فصوص الحكم ( ‪ ) 64‬ف ح ‪/ 2‬‬
‫‪ ) 67 ( 86‬ف ح ‪ ) 72 ( 200 / 2‬كتاب اإلسراء ( ‪ ) 83‬ف ح ‪2 / 243 ( 86‬‬
‫)ف ح ‪ ) 88 ( 338 / 2‬ف ح ‪ ) 92 ( 574 / 1‬ف ح ‪ - 28 / 4‬ح ‪/ 39 ( 2‬‬
‫) ‪95‬ف ح ‪ ) 100 ( 338 / 2‬ف ح ‪ - 373 / 3‬ح ‪259 ، 258 / 4‬‬

‫ص ‪600‬‬

‫ص ‪600 :‬‬
‫) ‪( 101‬كتاب اإلعالم ( ‪ ) 104‬ف ح ‪ ) 105 ( 95 / 2‬إيجاز البيان آية ‪( 40‬‬
‫‪) 106‬ف ح ‪ - 133 ، 284 / 4‬كتاب المسائل ‪ -‬كتاب الوصية ‪ -‬ف ح ‪- 357 / 3‬‬
‫ح ‪ / 435 - 4‬ح ‪ - 138 / 2‬كتاب الشاهد ( ‪ ) 108‬ف ح ‪ - 51 / 3‬ح ‪- 645 / 2‬‬
‫ح ‪- 404 / 4‬ح ‪ - 403 / 1‬ح ‪ - 569 ، 376 / 2‬ح ‪ - 525 / 3‬ح ‪- 376 / 2‬‬
‫ح ‪ - 412 / 4‬ح ‪ - 311 ، 332 ، 52 ، / 458 3‬ح ‪ - 251 ، 218 / 1‬ح ‪/ 3‬‬
‫‪ - 332‬ح ‪ - 183 / 4‬كتاب التجليات ‪ -‬ف ح ‪ - 186 / 4‬ح ‪) 111 ( 53 / 2‬‬
‫كتاب اإلسفار عن نتائج األسفار ‪-‬ف ح ‪ - 471 / 3‬كتاب اإلسفار ‪.‬‬
‫سورة الرعد‬
‫) ‪( 1‬ف ح ‪ ) 2 ( 64 / 1‬ف ح ‪ - 396 / 4‬ح ‪ - 396 / 4‬ح ‪ - 125 / 1‬كتاب‬
‫التراجم ‪ -‬ف ح ‪ - 418 / 3‬ح ‪ - 4 / 1‬ح ‪ - 552 / 2‬ح ‪325 ، 325 ، 324 / 1‬‬
‫‪ -‬ح ‪/ 128 - 2‬ح ‪ - 67 ، 163 ، 67 ، 296 ، 171 / 3‬ح ‪ - 206 / 1‬ح ‪/ 2‬‬
‫‪ - 62‬ح ‪ / 28 ( 3 ) 3‬ف ح ‪ - 620 ، 39 ، 556 / 2‬كتاب التدبيرات اإللهية ‪-‬‬
‫ف ح ‪ - 126 / 1‬ح ‪ ) 4 ( 595 ، 230 / 2‬ف ح ‪ - 231 / 3‬ح ‪ - 209 / 1‬ح ‪2‬‬
‫‪ - 416 /‬ح ‪ - 186 / 3‬ح ‪ - 411 ، 409 / 4‬كتاب المشاهد القدسية ‪ -‬كتاب‬
‫اإلسراء ‪ -‬كتاب النجاة ( ‪) 7‬ف ح ‪ ) 8 ( 498 / 3‬ف ح ‪ - 417 / 3‬ح ‪350 / 4‬‬
‫‪ ) 9 ( 351 ،‬ف ح ‪748 - ، 51 / 1‬ح ‪ ) 11 ( 322 ، 91 / 4‬ف ح ‪187 / 4‬‬
‫‪ - 187 ، 216 ،‬ح ‪ - 505 / 1‬ح ‪ / 305 ( 13 ) 4‬ف ح ‪ - 452 / 2‬كتاب‬
‫النجاة ( ‪ ) 15‬ف ح ‪ - 101 / 2‬ح ‪509 - ، 515 / 1‬ح ‪ - 152 / 3‬ح ‪509 / 1‬‬
‫‪ -‬إيجاز البيان ‪ -‬ف ح ‪ - 47 / 3‬كتاب األعالق ‪ -‬ف ح ‪ - 509 ، 137 / 1‬ح ‪/ 4‬‬
‫‪ - 435‬ح ‪ - 101 / 2‬ح ‪ - 509 / 1‬ح ‪ - 333 / 4‬كتاب التنزالت الموصلية ( ‪16‬‬
‫) ف ح ‪ - 121 / 3‬ح ‪ - 236 ، 240 ، 279 / 1‬ح ‪ / 322 ( 17 ) 4‬ف ح ‪/ 1‬‬
‫‪ - 189‬ح ‪ - 419 / 3‬ح ‪ - 632 / 1‬ح ‪ - 556 / 2‬ح ‪ - 419 / 2‬كتاب األعالق (‬
‫‪ ) 20‬ف ح ‪ - 37 / 2‬ح ‪ - 723 / 1‬ح ‪ ) 21 ( 37 / 2‬ف ح ‪( 22 ) 38 / 2‬‬
‫الديوان ( ‪ ) 23‬ف ح ‪ - 442 / 3‬ح ‪ ) 24 ( 319 / 1‬ف ح ‪ ( 26 ) 209 / 3‬ف‬
‫ح ‪ ) 28 ( 224 / 4‬ف ح ‪ ) 29 ( 50 ، 21 / 4‬ف ح ‪) 30 ( 436 ، 434 / 3‬‬
‫ف ح ‪/ 411 ( 31 ) 2‬ف ح ‪ - 194 / 2‬ح ‪ - 3 / 3‬ح ‪ - 529 / 1‬ح ‪194 / 2‬‬
‫‪ -‬ح ‪ - 3 / 3‬ح ) ‪1 / 551 ( 32‬كتاب فصوص الحكم ( ‪ ) 33‬ف ح ‪- 481 / 1‬‬
‫ح ‪ - 513 / 2‬ح ‪ / 544 - 3‬ح ‪ - 106 ، 11 / 4‬ح ‪ - 418 / 2‬ح ‪ - 106 / 4‬ح‬
‫‪ - 498 / 3‬ح ‪ ( 35 ) 106 / 4‬إيجاز البيان آية ‪ - 18‬ف ح ‪ - 660 / 1‬ح‬

‫ص ‪601‬‬

‫ص ‪601 :‬‬
‫) ‪3 / 564 ( 39‬ف ح ‪ - 534 ، 552 ، 534 / 2‬ح ‪ - 61 / 3‬ح ‪ - 287 / 4‬ح‬
‫‪ - 61 / 3‬كتاب الفناء ‪ -‬كتاب مواقع النجوم ‪ -‬رسالة ابن سودكين ‪ -‬ف ح ‪112 / 3‬‬
‫‪ ( 40 ) 160 ،‬ف ح ‪ ) 41 ( 394 / 1‬ف ح ‪ ) 42 ( 357 / 2‬ف ح ‪- 698 / 1‬‬
‫ح ‪. 249 / 4‬‬
‫سورة إبراهيم‬
‫) ‪( 1‬ف ح ‪ ) 4 ( 412 ، 411 ، 412 ، 174 / 3‬ف ح ‪ - 632 ، 3 / 2‬ح ‪/ 4‬‬
‫‪ - 43‬ح ‪3 / 483 -‬ح ‪ - 43 / 4‬ح ‪ - 530 / 3‬ح ‪ - 468 / 4‬ح ‪ - 534 / 2‬ح‬
‫‪ - 468 / 4‬ح ‪/ 533 - 2‬ح ‪ - 490 / 3‬ح ‪ - 420 / 1‬كتاب التراجم ( ‪ ) 5‬ف ح‬
‫‪ - 333 / 4‬كتاب المسامرات ‪ -‬ف ح ‪ - 564 / 3‬ح ‪ - 208 / 2‬ح ‪) 7 ( 561 / 3‬‬
‫ف ح ‪ - 202 / 2‬ح ‪ / 457 - 4‬ح ‪ - 505 / 1‬ح ‪ - 343 / 2‬ح ‪410 ، 152 / 3‬‬
‫( ‪ ) 8‬ف ح ‪ ) 11 ( 410 / 3‬ف ح ‪ ) 12 ( 50 / 3‬ف ح ‪ ) 15 ( 424 / 2‬كتاب‬
‫اإلسراء ‪ -‬كتاب النجاة ) ‪ ( 16‬كتاب النجاة ( ‪ ) 19‬ف ح ‪ - 420 / 3‬ح ‪- 539 / 2‬‬
‫ح ‪ - 548 ، 365 / 3‬ح ‪- 240 / 4‬ح ‪ - 607 / 2‬ح ‪ ) 20 ( 460 / 3‬ف ح ‪3‬‬
‫‪ ) 22 ( 528 /‬ف ح ‪ - 112 / 3‬كتاب تلقيح األذهان ( ‪ ) 24‬ف ح ‪( 195 / 1‬‬
‫‪ ) 25‬ف ح ‪ ) 32 ( 451 / 3‬ف ح ‪ ( 34 ) 526 / 2‬ف ح ‪ - 259 / 4‬ح ‪/ 3‬‬
‫‪ - 96‬ح ‪ - 257 ، 260 / 4‬ح ‪ ( 43 ) 531 ، 530 ، 620 / 2‬ف ح ‪198 / 2‬‬
‫‪ -‬ح ‪ - 354 / 4‬ح ‪ ) 47 ( 485 / 3‬ف ح ‪ - 474 / 2‬ح ‪- 535 / 1‬ح ‪/ 2‬‬
‫‪ - 474‬كتاب فصوص الحكم ‪ -‬ف ح ‪ ) 48 ( 474 / 2‬ف ح ‪ - 102 / 3‬ح ‪/ 1‬‬
‫‪308 -‬ح ‪ - 432 ، 421 / 3‬ح ‪ ) 49 ( 439 / 2‬ف ح ‪ ) 51 ( 158 / 4‬ف ح‬
‫‪ - 268 / 4‬ح ‪ - 85 / 3‬ح ‪ - 513 / 1‬ح ‪ - 85 / 3‬ح ‪ - 326 / 1‬ح ‪- 85 / 3‬‬
‫ح ‪ - 513 / 1‬ح ‪/ 544 . 3‬‬
‫سورة الحجر‬
‫) ‪( 3‬ف ح ‪ ) 6 ( 344 / 4‬إيجاز البيان ( ‪ ) 9‬ف ح ‪ - 369 / 3‬إيجاز البيان (‬
‫الفاتحة آية ‪ - ) 5‬ف ح ‪ - 461 / 4‬ح ‪ - 230 / 3‬ح ‪ - 8 / 4‬إيجاز البيان ( المقدمة‬
‫) ‪ -‬ف ح ‪ ) 21 ( 145 / 1‬ف ح ‪ - 587 / 2‬ح ‪ - 129 ، 340 / 4‬ح ‪193 / 3‬‬
‫‪ - 192 ،‬ح ‪ - 281 / 2‬ح ‪ - 108 / 4‬ح ‪ - 193 / 3‬ح ‪ - 295 ، 293 / 4‬ح ‪3‬‬
‫‪- 434 /‬كتاب األعالق ‪ -‬ف ح ‪ - 587 / 2‬ح ‪ - 426 / 4‬ح ‪ - 281 / 2‬ح ‪6 / 3‬‬
‫‪ -‬ح ‪ / 180 ( 26 ) 4‬ف ح ‪ ) 27 ( 296 / 3‬ف ح ‪ - 438 / 3‬إيجاز البيان آية‬
‫‪ ( 28 ) 40‬إيجاز البيان آية ( ‪ - ) 40‬ف ح ‪ ) 29 ( 438 / 3‬ف ح ‪ - 296 / 3‬ح‬
‫‪568 - ، 272 / 2‬ح ‪ - 663 / 1‬ح ‪ - 125 / 3‬ح ‪، 568 / 2‬‬
‫ص ‪602‬‬

‫ص ‪602 :‬‬
‫‪503 -‬ح ‪ - 230 / 4‬ح ‪ - 306 / 4‬ح ‪ ) 30 ( 67 ، 46 / 2‬ف ح ‪- 294 / 3‬‬
‫كتاب التدبيرات اإللهية ‪ -‬ف ح ‪ ) 35 ( 86 / 2‬كتاب تلقيح األذهان ( ‪ ) 39‬ف ح‬
‫‪ / 467 - 2‬ح ‪ - 527 / 3‬ح ‪ ) 40 ( 283 / 1‬ف ح ‪ ) 42 ( 381 / 3‬ف ح ‪/ 1‬‬
‫‪ - 197‬ح ‪ / 4 - 4‬ح ‪ - 381 / 3‬ح ‪ - 197 / 1‬ح ‪ ) 44 ( 467 / 2‬ف ح ‪/ 3‬‬
‫‪ - 441‬ح ‪303 ( 47 ) ، 229 / 1‬ف ح ‪ ) 48 ( 286 / 3‬ف ح ‪- 500 / 1‬‬
‫إيجاز البيان آية ‪) 49 ( 26 ، 6‬ف ح ‪ ) 50 ( 342 / 4‬ف ح ‪) 51 ( 342 / 4‬‬
‫ف ح ‪ ) 56 ( 655 / 1‬ف ح ‪ ( 75 ) 356 / 4‬ف ح ‪ - 241 / 2‬كتاب التدبيرات‬
‫اإللهية ‪ -‬ف ح ‪ ) 79 ( 358 / 4‬ف ح ‪ / 26 ( 85 ) 4‬ف ح ‪، 216 ، 285 / 2‬‬
‫‪ ( 86 ) 310 ، 331 ، 310 ، 331 ، 285 ، 95 ، 391‬ف ح ‪87 ( 348 / 3‬‬
‫) ف ح ‪ - 134 / 2‬ح ‪ ) 91 ( 130 ، 500 / 3‬كتاب القسم اإللهي ( ‪ ) 94‬ف ح‬
‫‪ ) 96 ( 190 / 4‬ف ح ‪ - 302 / 1‬كتاب القسم اإللهي ( ‪ ) 97‬ف ح ‪- 185 / 4‬‬
‫كتاب القسم اإللهي ( ‪ ) 98‬ف ح ‪ - 404 ، 403 / 2‬ح ‪( 99 ) 34 ، 290 / 2‬‬
‫كتاب القسم اإللهي ‪ -‬ف ح ‪ - 311 / 3‬ح ‪ - 74 ، 34 / 2‬ح ‪ - 311 / 3‬كتاب‬
‫اإلعالم ‪ -‬ف ح ‪ - 204 ، 295 / 2‬ح ‪ - 365 / 4‬رسالة اليقين‬
‫سورة النحل‬
‫) ‪( 1‬إيجاز البيان آية ‪ - 111‬ف ح ‪ - 204 ، 95 / 2‬ح ‪ ) 2 ( 354 / 3‬ف ح ‪2‬‬
‫‪/ 356 -‬ح ‪ - 412 ، 638 ، 90 ، 568 / 2‬ح ‪ ) 3 ( 316 / 3‬ف ح ‪354 / 3‬‬
‫‪) 5 ( 416 ،‬ف ح ‪ ) 7 ( 339 / 4‬ف ح ‪ - 490 / 3‬ح ‪ ) 9 ( 560 / 1‬ف ح ‪1‬‬
‫‪ - 209 /‬ح ‪ / 388 - 3‬ح ‪ ) 12 ( 668 ، 302 / 1‬ف ح ‪ - 34 / 4‬ح ‪338 / 3‬‬
‫( ‪ ) 15‬ف ح ‪ ( 16 ) 455 / 2‬ف ح ‪ ) 17 ( 142 / 3‬ف ح ‪ - 612 / 2‬ح ‪/ 1‬‬
‫‪ - 712‬ح ‪ - 511 / 2‬ح ‪ - 400 ، 712 / 1‬إيجاز البيان آية ‪ ) 18 ( 20‬روح‬
‫القدس في محاسبة النفس ‪ -‬ف ح ‪ / 408 ( 22 ) 4‬إيجاز البيان آية ‪ ) 29 ( 4‬ف ح‬
‫‪ ) 30 ( 368 / 1‬ف ح ‪) 31 ( 105 / 4‬ف ح ‪ ) 33 ( 252 ، 180 / 4‬ف ح ‪4‬‬
‫‪ ) 40 ( 149 /‬ف ح ‪ - 260 / 1‬ح ‪ - 495 / 2‬ح ‪ - 280 / 3‬ح ‪، 260 / 1‬‬
‫‪ - 538 ، 323 ، 265‬ح ‪255 - ، 68 ، 46 ، 286 ، 90 / 3‬ح ‪ - 401 / 2‬ح‬
‫‪ - 254 / 3‬ح ‪ - 62 / 2‬ح ‪ - 280 / 3‬ح ‪201 ، 401 ، 62 ، 280 ، 302 / 2‬‬
‫‪ - 280 ،‬ح ‪ - 525 / 3‬ح ‪ - 401 ، 62 ، 280 / 2‬ح ‪525 - ، 217 / 3‬ح ‪/ 2‬‬
‫‪ - 401‬ح ‪ - 255 / 3‬ح ‪ - 46 / 1‬ح ‪ - 263 / 3‬ح ‪ - 70 / 4‬ح ‪ / 484 - 2‬ح‬
‫‪ - 282 / 3‬ح ‪ - 732 / 1‬ح ‪ - 400 / 2‬ح ‪ - 289 ، 134 ، 295 / 3‬ح ‪/ 2‬‬
‫) ‪402 ( 43‬ف ح‬
‫ص ‪603‬‬

‫ص ‪603 :‬‬
‫‪1 / 724 -‬ح ‪ - 8 / 4‬ح ‪ - 309 ، 457 / 3‬ح ‪ - 190 / 2‬ح ‪ - 373 / 1‬ح ‪/ 2‬‬
‫‪ ( 44 ) 190‬ف ح ‪ - 301 / 3‬ح ‪ ) 48 ( 259 ، 672 / 2‬ف ح ‪ - 328 / 2‬ح‬
‫‪ - 510 / 1‬ح ‪/ 46 - 3‬ح ‪ - 328 / 2‬ح ‪ - 510 / 1‬ح ‪ ) 49 ( 328 / 2‬ف ح‬
‫‪ ( 50 ) 328 ، 308 ، 102 ، 328 / 2‬كتاب اإلسفار عن نتائج األسفار ‪ -‬ف ح‬
‫‪ - 340 / 1‬ح ‪ - 328 / 2‬ح ) ‪1 / 510 ( 53‬ف ح ‪ ) 56 ( 207 / 3‬ف ح ‪/ 3‬‬
‫‪ ) 59 ( 162‬ف ح ‪ ( 60 ) 367 / 3‬إيجاز البيان آية ‪ - 18‬ف ح ‪62 ( 116 / 3‬‬
‫) ف ح ‪ ) 65 ( 367 / 3‬كتاب مواقع النجوم ( ‪ ) 68‬ف ح ‪ - 142 ، 393 / 3‬ح‬
‫‪ - 254 ، 78 ، 434 / 2‬ح ‪ ( 69 ) 287 / 1‬ف ح ‪ - 120 ، 488 / 3‬ح ‪/ 4‬‬
‫‪ - 257‬كتاب ذخائر األعالق ‪ -‬ف ح ‪ - 282 / 4‬كتاب ذخائر األعالق ‪ -‬ف ح ‪/ 4‬‬
‫‪ ) 74 ( 282‬ف ح ‪ - 301 / 4‬ح ‪ - 344 / 3‬ح ‪ - 203 / 4‬ح ‪ - 488 / 2‬ح ‪3‬‬
‫‪ - 291 /‬ح ‪ - 379 / 4‬ح ‪ - 345 ، 185 / 3‬ح ‪ - 349 / 1‬ح ‪، / 1853‬‬
‫‪ ( 77 ) 450‬ف ح ‪ - 82 / 2‬ح ‪ - 46 / 4‬ح ‪ - 82 / 2‬ح ‪ ) 78 ( 417 / 4‬ف‬
‫ح ‪4 / 390 -‬ح ‪ - 288 / 1‬ح ‪ - 366 ، 61 / 2‬ح ‪ - 399 / 3‬كتاب اإلعالم (‬
‫‪ ) 79‬ف ح ‪ ) 81 ( 490 / 3‬ف ح ‪ ) 88 ( 211 / 3‬ف ح ‪ - 472 / 2‬ح ‪/ 1‬‬
‫‪ ) 89 ( 303‬ف ح ‪/ 135 ( 90 ) 1‬ف ح ‪ - 407 / 3‬كتاب التدبيرات اإللهية ‪-‬‬
‫ح ‪ ) 93 ( 407 / 3‬ف ح ) ‪3 / 309 ( 96‬ف ح ‪، 280 ، 201 ، 518 / 2‬‬
‫‪ - 281‬ح ‪ - 161 / 3‬ح ‪108 - ، 413 / 4‬كتاب المسائل ‪ -‬ف ح ‪( 107 / 4‬‬
‫‪ ) 97‬ف ح ‪ ) 98 ( 123 / 4‬ف ح ‪ - 409 / 4‬ح ‪ ) 102 ( 421 ، 413 / 1‬ف‬
‫ح ‪ ) 106 ( 71 / 2‬ف ح ‪ - 125 / 4‬ح ‪ - 220 / 3‬كتاب عقلة المستوفز ‪ -‬ف ح‬
‫‪ - 560 / 1‬ح ‪ ) 111 ( 220 / 3‬ف ح ‪ - 627 ، 628 / 1‬ح ‪112 ( 145 / 2‬‬
‫) ف ح ‪ ) 114 ( 406 / 3‬كتاب مواقع النجوم ‪ -‬ف ح ‪ ( 115 ) 401 / 1‬ف ح ‪2‬‬
‫‪ ) 116 ( 175 /‬ف ح ‪ - 563 ، 559 / 3‬ح ‪ ) 120 ( 175 / 2‬ف ح ‪/ 562 2‬‬
‫‪-‬ح ‪ ) 121 ( 722 / 1‬ف ح ‪ - 722 / 1‬ح ‪ ) 122 ( 202 / 2‬ق ح ‪230 / 1‬‬
‫) ‪( 125‬ف ح ‪ - 563 / 3‬ح ‪ - 267 ، 266 / 2‬ح ‪ - 563 / 3‬ح ‪، 265 / 2‬‬
‫‪ - 93‬ح ‪ / 516 - 4‬ح ‪ - 265 / 2‬ح ‪ ) 127 ( 498 ، 339 / 3‬ف ح ‪343 / 2‬‬
‫( ‪ ) 128‬ف ح ‪ / 549 - 1‬ح ‪. 360 / 4‬‬
‫سورة اإلسراء‬
‫) ‪( 1‬ف ح ‪ - 50 / 4‬ح ‪ - 49 / 1‬ح ‪ - 403 ، 419 / 2‬كتاب اإلسفار ‪ -‬ح ‪/ 1‬‬
‫‪- 276‬ح ‪ - 270 / 3‬كتاب اإلسفار ‪ -‬كتاب األعالق ‪ -‬ف ح ‪ - 745 / 1‬ح ‪/ 3‬‬
‫‪ - 340‬كتاب المشاهد القدسية ‪ -‬ف ح ‪ - 340 / 3‬ح ‪ - 172 / 2‬ح ‪ - 340 / 3‬ح‬
‫‪-2/1‬ح‬
‫ص ‪604‬‬

‫ص ‪604 :‬‬
‫‪2 / 294 -‬ح ‪ - 61 ، 345 / 3‬كتاب رد اآليات المتشابهات ‪ -‬كتاب شجرة الكون (‬
‫‪) 2‬ف ح ‪ ) 7 ( 671 / 1‬ف ح ‪ ) 8 ( 549 / 1‬ف ح ‪300 ، 299 ، 297 / 1‬‬
‫‪ -‬ح ‪ / 21 - 4‬ح ‪ ) 11 ( 172 / 3‬ف ح ‪ ) 12 ( 352 / 3‬ف ح ‪ - 514 / 1‬ح‬
‫‪ - 56 / 3‬كتاب عقلة المستوفز ‪ -‬ف ح ‪ ) 14 ( 388 ، 295 ، 514 / 1‬ف ح ‪/ 1‬‬
‫‪ ( 14 ) 388 ، 295 ، 514‬ف ح ‪ - 419 / 4‬كتاب تلقيح األذهان ( ‪ ) 15‬ف ح‬
‫‪ - 209 / 1‬ح ‪ - 468 / 3‬ح ‪1 / 520 -‬ح ‪ - 135 / 3‬ح ‪ - 162 / 4‬ح ‪/ 3‬‬
‫‪ - 469‬ح ‪ ) 16 ( 326 / 1‬ف ح ‪ / 156 ( 20 ) 3‬ف ح ‪ - 286 / 2‬ح ‪/ 3‬‬
‫‪ - 183‬ح ‪ - 274 / 4‬ح ‪ - 211 ، 183 / 3‬ح ‪ / 287 - 1‬ح ‪ - 183 / 3‬ح ‪/ 4‬‬
‫‪ - 310‬ح ‪ - 287 / 1‬ح ‪ ) 23 ( 274 / 4‬ف ح ‪ - 117 / 3‬ح ‪ - 405 / 1‬ح ‪4‬‬
‫‪ - 101 ، 100 /‬ح ‪ - 405 / 1‬ح ‪ - 117 / 3‬ح ‪ - 661 / 2‬ح ‪، / 5891‬‬
‫‪ - 328‬ح ‪ - 591 ، 92 ، 326 / 2‬ح ‪ - 415 / 4‬إيجاز البيان الفاتحة آية ‪5 -‬ف‬
‫ح ‪ - 328 / 1‬كتاب المسائل ‪ -‬ف ح ‪ ) 24 ( 371 ، 146 / 1‬كتاب النجاة ‪( 25‬‬
‫)كتاب النجاة ( ‪ ) 25‬ف ح ‪ ) 26 ( 36 / 2‬ف ح ‪ - 574 / 1‬ح ‪29 ( 532 / 3‬‬
‫)ف ح ‪ ) 31 ( 342 / 1‬ف ح ‪ ) 34 ( 307 / 3‬كتاب تلقيح األذهان ‪ -‬كتاب‬
‫النجاة ‪ -‬كتاب المشاهد القدسية ( ‪ ) 36‬ف ح ‪ - 76 ، 371 / 3‬ح ‪ - 599 / 1‬كتاب‬
‫تلقيح األذهان ‪ -‬كتاب اإلسراء ( ‪ ) 37‬ف ح ‪ ) 44 ( 455 / 2‬ف ح ‪ - 555 / 3‬ح‬
‫‪- 213 / 4‬ح ‪ - 209 / 3‬ح ‪ - 117 / 2‬ح ‪ - 148 / 3‬كتاب المسائل ‪ -‬كتاب‬
‫الشأن ‪ -‬ف ح ‪/ 437 - 3‬ح ‪ - 213 / 4‬ح ‪ - 218 / 2‬ح ‪ - 94 / 4‬ح ‪218 / 2‬‬
‫‪ -‬ح ‪ - 120 / 3‬ح ‪ - 247 ، / 6882‬ح ‪ - 429 / 1‬ح ‪ - 333 / 3‬ح ‪- 59 / 1‬‬
‫ح ‪ - 400 ، 330 / 2‬ح ‪ - 147 ، / 3811‬ح ‪ - 298 / 4‬ح ‪ - 381 / 1‬ح ‪/ 4‬‬
‫‪ - 451‬ح ‪ - 398 / 1‬كتاب عقلة المستوفز ‪ -‬ف ح ‪ - 404 / 4‬ح ‪، 355 / 3‬‬
‫‪ - 393‬ح ‪ - 398 ، 247 / 1‬ح ‪ - 393 / 3‬ح ‪ - 398 ، 247 ، 398 / 1‬كتاب‬
‫المسائل ‪ -‬ف ح ‪ - 99 ، 557 / 3‬ح ‪ - 682 / 2‬ح ‪3 / 99 -‬ح ‪ - 682 / 2‬ح ‪3‬‬
‫‪ - 148 ، 65 ، 489 ، 257 ، 263 ، 257 /‬ح ‪- 504 / 2‬ح ‪ - 148 / 3‬ح ‪2‬‬
‫‪ - 404 /‬ح ‪ - 91 / 4‬ح ‪ - 148 ، 375 ، 148 ، 375 / 3‬ح ‪ / 93 - 4‬ح ‪/ 3‬‬
‫‪ - 148‬ح ‪ - 94 / 4‬ح ‪ - 404 ، 510 ، 404 / 2‬ح ‪ - 375 / 3‬ح ‪، / 5102‬‬
‫‪ - 404‬ح ‪ - 375 / 3‬ح ‪ - 510 / 2‬ح ‪ - 147 ، 385 ، 375 / 3‬ح ‪- 510 / 2‬‬
‫ح ) ‪1 / 247 ( 55‬ف ح ‪ - 522 / 1‬ح ‪ - 442 / 3‬ح ‪ - 522 / 1‬ح ‪، 61 / 2‬‬
‫‪ - 52‬ح ‪/ 139 - 4‬ح ‪ ) 56 ( 19 / 2‬كتاب الشاهد ( ‪ ) 57‬ف ح ‪( 185 / 2‬‬
‫‪ ) 60‬إيجاز البيان آية ‪ ) 61 ( 36‬ف ح ‪ ) 63 - 62 ( 366 ، 683 / 2‬ف ح ‪/ 2‬‬
‫‪ ) 64 ( 467‬ف ح ‪ - 368 ، 3 / 143‬ح ‪ - 4 / 4‬ح ‪ - 467 / 2‬ح ‪( 301 / 1‬‬
‫‪ ) 65‬ف ح‬
‫ص ‪605‬‬

‫ص ‪605 :‬‬
‫‪ - 516 ، 515 ، 1 / 236‬ح ‪ - 7 / 2‬ح ‪ ) 67 ( 240 / 3‬ف ح ‪، 173 / 4‬‬
‫‪ - 148‬ح ‪ / 531 - 3‬ح ‪ - 633 / 2‬ح ‪ - 614 / 1‬ح ‪) 72 ( 173 ، 256 / 4‬‬
‫ف ح ‪ - 641 / 2‬ح ‪ / 489 - 3‬ح ‪ - 185 ، 423 ، 185 / 4‬ح ‪، 489 / 3‬‬
‫‪ - 565‬ح ‪ ) 73 ( 423 / 4‬إيجاز البيان ( ‪ ) 74‬إيجاز البيان آية ‪ ) 75 ( 121‬ف‬
‫ح ‪ ) 78 ( 59 / 3‬ف ح ‪ - 388 / 1‬كتاب التنزالت الموصلية ( ‪ ) 79‬ف ح ‪/ 1‬‬
‫‪ - 164‬ح ‪ - 268 / 2‬ح ‪ - 487 ، 164 ، 487 ، 164 / 1‬ح ‪268 ، 126 / 2‬‬
‫‪ -‬ح ‪ - 164 / 1‬ح ‪ - 87 ، 86 / 2‬ح ‪ - 164 / 1‬ح ‪ - 286 / 4‬ح ‪ - 86 / 2‬ح‬
‫‪ - 29 / 4‬ح ‪ - 29 / 4‬ح ‪ - 141 / 3‬ح ‪ - 86 / 2‬ح ‪/ 29 - 4‬ح ‪ - 86 / 2‬ح ‪1‬‬
‫‪ - 313 /‬ح ‪ - 86 / 2‬ح ‪ ) 80 ( 368 / 4‬ف ح ‪ - 165 / 1‬كتاب الشاهد ( ‪) 81‬‬
‫ف ح ‪ ) 82 ( 223 / 1‬ف ح ‪ - 267 / 2‬ح ‪ - 94 / 3‬ح ‪ / 267 ( 84 ) 2‬ف ح‬
‫‪ - 437 ، 435 / 2‬ح ‪ ) 85 ( 481 / 1‬ف ح ‪ - 560 / 2‬ح ‪ - 254 / 1‬ح ‪/ 2‬‬
‫‪ - 59‬كتاب التدبيرات اإللهية ‪ -‬ف ح ‪ - 38 / 3 - 113 / 1‬ح ‪ - 55 / 1‬ح ‪3 /‬‬
‫‪ - 12 ، 187 ، 12 ، 22‬ح ‪ - 253 / 1‬كتاب مواقع النجوم ( ‪ ) 88‬ف ح ‪/ 4‬‬
‫‪397 -‬ح ‪ - 35 / 3‬إيجاز البيان آية ‪ - 24‬ف ح ‪ - 148 / 2‬الديوان ) ‪ ( 93‬إيجاز‬
‫البيان آية ‪ ) 94 ( / 1‬ف ح ‪ ) 95 ( 83 / 3‬إيجاز البيان الفاتحة آية ‪- 2‬كتاب‬
‫التنزالت الموصلية ( ‪ ) 97‬ف ح ‪ - 252 / 2 0‬ح ‪ - 321 ، 317 / 1‬ح ‪/ 36 2‬‬
‫‪-‬ح ‪ ) 105 ( 321 ، 316 / 1‬ف ح ‪ - 510 / 1‬ح ‪ ) 106 ( 95 / 2‬ف ح ‪/ 1‬‬
‫‪- 510‬ح ‪ ) 107 ( 402 / 4‬ف ح ‪ ) 108 ( 510 / 1‬ف ح ‪) 109 ( 510 / 1‬‬
‫ف ح ‪( 110 ) 510 / 1‬ف ح ‪ - 667 / 1‬ح ‪ - 108 / 4‬ح ‪ - 126 / 3‬ح ‪/ 4‬‬
‫‪ - 118‬ح ‪ - 611 / 1‬ح ‪4 / 108 -‬ح ‪ - 544 / 3‬كتاب الجالل والجمال ‪ -‬ف ح‬
‫‪ - 611 / 1‬ح ‪294 - ، 196 / 4‬ح ‪ ) 111 ( 667 / 1‬ف ح ‪405 ، 404 / 2‬‬
‫‪ -‬ح ‪ - 483 / 3‬ح ‪ - 405 / 2‬ح ‪/ 96 .4‬‬
‫ص ‪606‬‬

‫ص ‪606 :‬‬
‫فهرس الجزء الثاني‬
‫الصفحة‬ ‫الموضوع‬
‫سورة المائدة‬
‫االجتهاد المشروع ‪5‬‬
‫نكاح المحصنات من أهل الكتاب ‪6‬‬
‫الوضوء والمسح واالغتسال من الجنابة ‪7‬‬
‫تحقيق ونصيحة ‪ :‬إذا قمتم إلى الصالة ‪9‬‬
‫إشارة ‪ :‬وإن كنتم جنبا فاطهروا ‪10‬‬
‫إشارة في األجور ‪11‬‬
‫الرجل من أثبت األسباب ‪15‬‬
‫إشارة ‪ :‬قبول قربان هابيل دون أخيه ‪17‬‬
‫إشارة ‪ :‬لم كان الغراب معلما ؟ ‪17‬‬
‫ّللا عليه وسلم ‪21‬‬ ‫ّللا صلهى ه‬
‫التوسل برسول ه‬
‫جرح العجماء جبار ‪25‬‬
‫ّللا من حيث هو كالمه ‪26‬‬ ‫ال مفاضلة في كالم ه‬
‫سبب إنزال الشرائع ‪26‬‬
‫إشارة ‪ :‬الشريعة والحقيقة ‪28‬‬
‫ّللا تعالى ‪30‬‬
‫من أي حقيقة ابتلي أولياء ه‬
‫توحيد ‪32‬‬
‫تفسير من باب اإلشارة ‪ :‬ولو أنهم أقاموا التوراة ‪ . . .‬اآلية ‪33‬‬
‫ّللا عليه وسلم للقرآن الكريم ‪35‬‬ ‫كيفية تبليغ الرسول صلهى ه‬
‫تفسير من باب اإلشارة ‪ :‬صفة العارفين ‪40‬‬
‫‪607‬‬

‫ص ‪607 :‬‬
‫أنواع األقسام ‪ -‬راجع سورة الحاقة آية ‪42 38‬‬
‫إساءة المسئ إحسان كبير إن عقلت ‪42‬‬
‫كل مسكر حرام والحكم أعم من العلة الموجبة للتحريم ‪43‬‬
‫ّللا تعالى في األشياء سابق ال يحدث له علم ‪44‬‬ ‫علم ه‬
‫التمدح بالتجاوز عن إنفاذ الوعيد ‪44‬‬
‫المثل في كفارة قتل المحرم الصيد ‪45‬‬
‫إشارة واعتبار في اإلحرام ‪47‬‬
‫لم سميت الكعبة كعبة ؟ ‪48‬‬
‫الفرق بين الرسول والخليفة ‪49‬‬
‫قول الرسل عليهم السالم يوم القيامة « ال علم لنا ‪51 » . . .‬‬
‫إشارة ‪ :‬ال تطلب مائدة حتى تعرف شرطها ‪54‬‬
‫قول عيسى عليه السالم ‪ « :‬تعلم ما في نفسي وال أعلم ما في نفسك » ‪56‬‬
‫قول عيسى عليه السالم ‪ « :‬ما قلت لهم إال ما أمرتني به » ‪58‬‬
‫ّللا وبين عباده ‪60‬‬ ‫نصيحة ‪ :‬ال تدخل بين ه‬
‫ّللا عنهم ورضوا عنه ‪61‬‬ ‫رضي ه‬
‫تحقيق الرضا ‪62‬‬
‫سورة األنعام‬
‫س ًّمى ِع ْن َدهُ »اآلية ‪63‬‬‫« ث ُ َّم قَضى أ َ َج ًال َوأ َ َج ٌل ُم َ‬
‫ّللا به خلقه ‪65‬‬ ‫بعث الرسل أول ابتالء ابتلى ه‬
‫الرحمات الثالث ‪65‬‬
‫هار »اآلية ‪66‬‬ ‫س َكنَ فِي اللَّ ْي ِل َوالنَّ ِ‬ ‫« َولَهُ ما َ‬
‫إشارة ‪ :‬وله ما سكن في الليل والنهار ‪67‬‬
‫إشارة ‪ :‬فاطر السماوات واألرض ‪68‬‬
‫« َو ُه َو ْالقا ِه ُر فَ ْوقَ ِعبا ِد ِه »اآلية ‪68‬‬
‫‪608‬‬

‫ص ‪608 :‬‬
‫لفظة الشيئية ال تطلق على الحق ‪70‬‬
‫تحقيق ‪َ «:‬ولَ ْو ُردُّوا لَعادُوا »‪73‬‬
‫نصيحة ‪ :‬ال تضف إلى أثقالك أثقاال ‪73‬‬
‫إشارة ‪ :‬حسرة العالم الشقي يوم القيامة ‪75‬‬
‫يب الَّذِينَ يَ ْس َمعُونَ »‪76‬‬ ‫نكتة وسر دقيق في قوله تعالى ‪ِ «:‬إنَّما يَ ْست َ ِج ُ‬
‫الولي ال يأمر أبدا بعلم فيه تشريع ناسخ لشرعه ‪78‬‬
‫الر ْح َمةَ »اآلية ‪81‬‬ ‫على نَ ْف ِس ِه َّ‬ ‫ب َربُّ ُك ْم َ‬‫« َكت َ َ‬
‫ب ال يَ ْعلَ ُمها ِإ َّال ُه َو »اآلية ‪82‬‬ ‫« َو ِع ْن َدهُ َمفاتِ ُح ْالغَ ْي ِ‬
‫الطبيعة ‪83‬‬
‫الخوض في القرآن بأنه محدث أو قديم وغير ذلك ‪85‬‬
‫بحث في الحق المخلوق به ‪87‬‬
‫العالم مظهر الحق على الكمال ‪88‬‬
‫حجاب عين البصيرة ‪90‬‬
‫النور الذي ينبسط من حضرة الجود على المغيبات ال يعم ‪90‬‬
‫باّلل واالعتبار ‪91‬‬ ‫إشارة ‪ :‬الكوكب والقمر والشمس في المعرفة ه‬
‫التوجه في الصالة ‪92‬‬
‫إشارة ‪ :‬من دعاء التوجه في الصالة ‪92‬‬
‫المعلومات األربعة ‪93‬‬
‫حجج الرسل عليهم السالم ليست عن نظر فكري ‪94‬‬
‫تحقيق الحجة ‪95‬‬
‫األسباب محال رفعها ‪ «95‬أُولئِ َك الَّذِينَ َه َدى َّ‬
‫ّللاُ فَ ِب ُهدا ُه ُم ا ْقت َ ِد ْه »اآلية ‪96‬‬
‫ّللا موازن لقدره عندك ‪99‬‬ ‫حكمة ‪ :‬قدرك عند ه‬
‫ّللا تعالى ‪99‬‬ ‫ّللا أن ينسب اإلنسان ما سنهه إلى ه‬ ‫من االفتراء على ه‬
‫‪609‬‬

‫ص ‪609 :‬‬
‫إشارة ‪ :‬وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها ‪101‬‬
‫التوحيد السابع في القرآن ‪102‬‬
‫ْصار »اآلية ‪103‬‬ ‫ْصار َو ُه َو يُ ْد ِركُ ْاألَب َ‬
‫« ال ت ُ ْد ِر ُكهُ ْاألَب ُ‬
‫التوحيد الثامن في القرآن وهو توحيد االتهباع ‪106‬‬
‫تعريف العلم ‪109‬‬
‫تغير األحوال يغير األحكام ‪109‬‬
‫ّللا ‪110‬‬‫إشارة ‪ :‬سماع األشعار التي أهلت لغير ه‬
‫ّللا ‪ -‬الوقف على الجاللة الثانية ‪112‬‬ ‫ّللا ه‬
‫قراءة ‪ :‬رسل ه‬
‫رقيقة في قوله تعالى ‪ِ «:‬إ ْن يَشَأ ْ »وكون العلم تابعا للمعلوم ‪114‬‬
‫ما كل محرم نجس ‪116‬‬
‫العلم تابع للمعلوم في الحادث والقديم ‪117‬‬
‫الشريعة هي المحجة البيضاء ‪ ،‬محجة السعداء ‪119‬‬
‫رتبة الخالفة متوارثة ‪ ،‬والخليفة واحد أبدا ‪122‬‬
‫وزن األعمال يوم القيامة بالعامل ‪124‬‬
‫إشارة ‪ :‬لم أتى إبليس ابن آدام من جميع جهاته إال أعاله ؟ ‪128‬‬
‫أول أمر وأول نهي في الوجود ‪129‬‬
‫إشارة ‪ :‬ال تقربا هذه الشجرة ‪129‬‬
‫إشارة ‪ :‬سر ظهور سوأة آدم وحواء ‪130‬‬
‫إشارة ‪ :‬اهبطوا بعضكم لبعض عدو ‪131‬‬
‫إشارة ‪ :‬رحم آدم عليه السالم رحم مقطوعة عند أكثر الناس ‪131‬‬
‫إشارة ‪ :‬السوءة عورة لميلها ‪131‬‬
‫باس الت َّ ْقوى ذ ِل َك َخي ٌْر »اآلية ‪132‬‬ ‫« َو ِل ُ‬
‫كما أنه تعالى لم يأمر بالفحشاء كذلك ال يريدها ‪132‬‬
‫« َكما بَ َدأ َ ُك ْم تَعُودُونَ »اآلية ‪133‬‬

‫‪610‬‬

‫ص ‪610 :‬‬
‫إشارة إلى النعلين ‪135‬‬
‫« قُ ْل َم ْن َح َّر َم ِزينَةَ َّ ِ‬
‫ّللا »اآلية ‪138‬‬
‫ّللا ‪141‬‬ ‫تحقيق ‪ :‬زينة ه‬
‫ّللا نفسا إال وسعها ‪144‬‬‫إشارة ‪ :‬ال يكلف ه‬
‫الجنة المحسوسة والجنة المعنوية والجنات الثالث ‪145‬‬
‫إشارة وشرحها ‪147‬‬
‫ما الدين بالدف والمزمار واللعب ‪ «150‬أَال لَهُ ْالخ َْل ُق َو ْاأل َ ْم ُر »اآلية ‪152‬‬
‫من باب اإلشارة ‪ :‬هو الذي يرسل الرياح بشرا ‪154‬‬
‫إشارة ‪ :‬الرجل من جعل نفسه سفينة نوح ‪156‬‬
‫فائدة ‪159‬‬
‫طريق العصمة من المكر اإللهي ‪159‬‬
‫ال يكون انتقام إلهي إال بعد إغضاب ‪164‬‬
‫إشارة ‪ :‬اللهم أنت الخليفة في األهل ‪165‬‬
‫المناجاة والرؤية والمشاهدة ‪165‬‬
‫إشارة ‪ :‬لم سأل موسى الرؤية وهو يعجز عن النظر ؟ ‪172‬‬
‫إشارة ‪ :‬جزاء من استخلف في مقام اإلحسان ‪175‬‬
‫إشارة ‪ :‬هل يصح قول العارف ‪ :‬إن الوجود ينعدم في حقه ؟ ‪175‬‬
‫ش ْيءٍ »اآلية ‪ -‬شمول الرحمة ‪178‬‬ ‫ت ُك َّل َ‬ ‫« َو َر ْح َمتِي َو ِسعَ ْ‬
‫التوحيد التاسع في القرآن ‪ :‬توحيد الملك ‪182‬‬
‫إشارة ‪ :‬عصا موسى ‪184‬‬
‫الميثاق الثاني ‪ :‬قول بلى ‪186‬‬
‫تحقيق ‪ :‬شمول الرحمة من سلطان « بلى » ‪190‬‬
‫مراتب األسماء اإللهية ‪ -‬شرح األسماء الحسنى ‪192‬‬
‫‪611‬‬

‫ص ‪611 :‬‬
‫بحث في األسماء اإللهية ‪200‬‬
‫ّللا تعالى في تعدد أسمائه ‪203‬‬ ‫إشارة ‪ :‬حكمة ه‬
‫واح َدةٍ »اآلية ‪205‬‬ ‫« ُه َو الَّذِي َخلَقَ ُك ْم ِم ْن نَ ْف ٍس ِ‬
‫ف ‪» . . .‬اآلية ‪207‬‬ ‫س ُه ْم طائِ ٌ‬ ‫« ِإ َّن الَّذِينَ اتَّقَ ْوا ِإذا َم َّ‬
‫صتُوا ‪» . . .‬اآلية ‪208‬‬ ‫آن فَا ْست َ ِمعُوا لَهُ َوأ َ ْن ِ‬ ‫ئ ْالقُ ْر ُ‬ ‫« َو ِإذا قُ ِر َ‬
‫سورة األنفال‬
‫لم سميت المغانم أنفاال ؟ ‪210‬‬
‫من هو المؤمن حقا ؟ ‪211‬‬
‫جواز صالة الفرض عند المسايفة ولو على غير طهارة ‪215‬‬
‫ّللا َرمى »اآلية ‪216‬‬ ‫ْت َول ِك َّن َّ َ‬ ‫ْت ِإ ْذ َر َمي َ‬‫« َوما َر َمي َ‬
‫تفسير من باب اإلشارة ‪ :‬استجيبوا هّلل وللرسول ‪222‬‬
‫صةً »اآلية ‪223‬‬ ‫ظلَ ُموا ِم ْن ُك ْم خَا َّ‬ ‫صيبَ َّن الَّذِينَ َ‬ ‫« َواتَّقُوا فِتْنَةً ال ت ُ ِ‬
‫سو َل »اآلية ‪224‬‬ ‫الر ُ‬
‫ّللا َو َّ‬ ‫« يا أَيُّ َها الَّذِينَ آ َمنُوا ال ت َ ُخونُوا َّ َ‬
‫ّللا يَ ْجعَ ْل لَ ُك ْم فُ ْرقانا ً »اآلية ‪226‬‬‫« يا أَيُّ َها الَّ ِذينَ آ َمنُوا ِإ ْن تَتَّقُوا َّ َ‬
‫تقسيم الغنائم ‪231‬‬
‫إشارة ال تفسير ‪232‬‬
‫الحس وعين الخيال ‪233‬‬ ‫ه‬ ‫عين‬
‫الفرق بين العلم والمعرفة ‪235‬‬
‫النبوة في حق ذات النبي أعم وأشرف من الرسالة ‪237‬‬
‫ّللا سبق » ‪238‬‬ ‫تحقيق ‪ « :‬لوال كتاب من ه‬
‫ّللا عليه وسلم أنه أحلت له الغنائم ‪238‬‬ ‫مما اختص به النبي صلهى ه‬
‫سورة التوبة‬
‫سبب دوام التنعم في الجنة وانتفاء الملل ‪249‬‬
‫‪612‬‬

‫ص ‪612 :‬‬
‫شرط أمير المؤمنين عمر بن الخطاب على أهل الذمة ‪254‬‬
‫التوحيد العاشر في القرآن توحيد األمر بالعبادة ‪256‬‬
‫عقوبة مانع الزكاة ‪257‬‬
‫ّللا عليه وسلم يصاحب وال يصاحب ‪259‬‬ ‫سبب كون النبي صلهى ه‬
‫تحقيق ‪ :‬أشرف مقام ينته إليه ‪259‬‬
‫ت لَ ُه ْم ‪-‬اآلية ‪260‬‬ ‫ع ْن َك ِل َم أ َ ِذ ْن َ‬ ‫عفَا َّ‬
‫ّللاُ َ‬ ‫َ‬
‫إشارة ‪ :‬مقابلة األصناف التي تجب لهم الزكاة باألعضاء ‪264‬‬
‫ّللا فنسيهم ‪265‬‬ ‫إشارة ال تفسير ‪ :‬نسوا ه‬
‫ّللا عنه الزكاة من ثعلبة ‪269‬‬ ‫أخذ عثمان بن عفان رضي ه‬
‫إشارة ‪ :‬االستكثار من المال هو الداء العضال ‪272‬‬
‫الرضا ‪273‬و‬
‫س ِيهئا ً ‪-‬اآلية ‪274‬‬
‫ع َم ًال صا ِلحا ً َوآخ ََر َ‬ ‫طوا َ‬ ‫ََآخ َُرونَ ا ْعت َ َرفُوا بِذُنُوبِ ِه ْم َخلَ ُ‬
‫إشارة من كلمة مالك ‪275‬‬
‫سولُهُ َو ْال ُمؤْ ِمنُونَ ‪-‬اآلية ‪276‬‬ ‫ع َملَ ُك ْم َو َر ُ‬ ‫ّللاُ َ‬‫سيَ َرى َّ‬ ‫فَ َ‬
‫س ُه ْم ‪-‬اآلية ‪278‬‬ ‫ّللا ا ْشتَرى ِمنَ ْال ُمؤْ ِمنِينَ أ َ ْنفُ َ‬ ‫المطهرون ‪ِ 277‬إ َّن َّ َ‬
‫التائبون العابدون السائحون اآلية ‪281‬‬
‫إن إبراهيم ألواه حليم ‪283‬‬
‫الهدى التبياني والهدى التوفيقي ‪285‬‬
‫ّللا هو التواب الرحيم ‪ -‬نصيحة ‪286‬‬ ‫إن ه‬
‫موعظة ‪ :‬نصب األبدان ‪287‬‬
‫جهاد العدو من فروض الكفاية ‪ -‬الجهاد األكبر ‪288‬‬
‫مرض القلوب ‪289‬‬
‫سو ٌل ِم ْن أ َ ْنفُ ِس ُك ْم ‪-‬اآلية ‪290‬‬ ‫لَقَ ْد جا َء ُك ْم َر ُ‬
‫‪613‬‬

‫ص ‪613 :‬‬
‫التوحيد الحادي عشر ‪ -‬توحيد االستكفاء ‪292‬‬
‫سورة يونس‬
‫قدم الصدق ‪293‬‬
‫ِإنَّهُ يَ ْب َدؤُا ْالخ َْلقَ ث ُ َّم يُ ِعي ُدهُ‪ -‬اآلية ‪296‬‬
‫الحمد هّلل هو آخر دعوى السعداء ‪298‬‬
‫للمشرك ضرب من التوحيد ‪300‬‬
‫ّللاُ يَ ْب َدؤُا ْالخ َْلقَ ث ُ َّم يُ ِعي ُدهُ‪ -‬اآلية ‪304‬‬ ‫قُ ِل َّ‬
‫ظ ِل ُمونَ ‪ -‬اآلية ‪306‬‬ ‫س ُه ْم يَ ْ‬ ‫اس أ َ ْنفُ َ‬
‫َول ِك َّن النَّ َ‬
‫جميع أنواع المخلوقات في الدنيا أمم ‪307‬‬
‫الموت والحياة ‪308‬‬
‫تحقيق ‪ :‬حزن القلب ‪309‬‬
‫رقيقة ‪ :‬على قدر ما يخرج به العبد من عبوديته ينقصه من تقريبه من سيده ‪310‬‬
‫البشرى في الحياة الدنيا ‪311‬‬
‫ّللا ‪313‬‬ ‫سؤال الرسل األجر من ه‬
‫إيمان فرعون ‪315‬‬
‫حكم آل فرعون في نفس األمر خالف حكم فرعون نفسه ‪317‬‬
‫رفع البأس عن قوم يونس ‪319‬‬
‫سورة هود‬
‫علَى ْال ِ‬
‫ماء‪ -‬اآلية ‪323‬‬ ‫شه ُ َ‬ ‫ع ْر ُ‬
‫إحكام اآليات وتفصيلها ‪َ 321‬وكانَ َ‬
‫إشارة ‪ :‬بالماء حياة األحياء ‪325‬‬
‫على بَ ِيهنَ ٍة ِم ْن َر ِبه ِه َويَتْلُوهُ شا ِه ٌد ِم ْنهُ ‪-‬اآلية ‪328‬‬ ‫أ َ فَ َم ْن كانَ َ‬
‫تحقيق ‪ :‬العبد مع الحق على حالين ‪ ،‬عبودية أو إجارة ‪330‬‬
‫ّللا مستندا ‪333‬‬ ‫إشارة ‪ :‬حال ومآل من اتخذ غير ه‬
‫‪614‬‬

‫ص ‪614 :‬‬
‫إشارة ‪ :‬من اعتصم بغير الحق هلك ‪334‬‬
‫إشارة ‪ :‬الجهل ال يكون معه خير ‪335‬‬
‫صراطٍ ُم ْست َ ِق ٍيم ‪-‬اآلية ‪336‬‬ ‫على ِ‬ ‫ِإ َّن َر ِبهي َ‬
‫نصيحة ‪ :‬ال تجعل زمامك إال بيد ربك ‪337‬‬
‫يظ‪ -‬اآلية ‪338‬‬ ‫ش ْيءٍ َح ِف ٌ‬ ‫على ُك ِهل َ‬ ‫ِإ َّن َر ِبهي َ‬
‫تجسد المالئكة في صورة محسوسة ‪340‬‬
‫يب‪ -‬اآلية ‪342‬‬ ‫يم لَ َح ِلي ٌم أ َ َّواهٌ ُمنِ ٌ‬‫ِإ َّن ِإبْرا ِه َ‬
‫قا َل لَ ْو أ َ َّن ِلي بِ ُك ْم قُ َّوة ً أ َ ْو آ ِوي ِإلى ُر ْك ٍن َ‬
‫شدِي ٍد‪ -‬اآلية ‪343‬‬
‫ّللا وبين الرزق ‪345‬‬ ‫الفرق بين رزق ه‬
‫التوفيق ‪ -‬كماله وعمومه وخصوصه ‪347‬‬
‫إيمان فرعون ‪352‬‬
‫خالدين فيها ‪ . . .‬إال ما شاء ربك ‪ . . .‬اآلية ‪354‬‬
‫أقسام الجنة ومراتب التفاضل ‪357‬‬
‫ت‪ -‬اآلية ‪362‬‬ ‫فَا ْست َ ِق ْم َكما أ ُ ِم ْر َ‬
‫ّللا ‪363‬‬‫إشارة ‪ :‬ال تركن إلى غير ه‬
‫إشارة ‪ :‬الصالة انبعثت من الحضرة الصمدانية ‪364‬‬
‫المشيئة اإللهية ‪366‬‬
‫ّللا عليه وسلم بعلم إحياء األموات معنى وحسا ‪367‬‬ ‫خص صلهى ه‬
‫« َو ِإلَ ْي ِه يُ ْر َج ُع ْاأل َ ْم ُر ُكلُّهُ »اآلية ‪368‬‬
‫تحقيق ‪ :‬المسافر ترك الحق في أهله خليفة ‪371‬‬
‫تحقيق ‪َ «:‬و ِإلَ ْي ِه يُ ْر َج ُع ْاأل َ ْم ُر ُكلُّهُ »‪371‬‬
‫سورة يوسف‬
‫الرؤيا ‪372‬‬
‫إشارة ‪ :‬وبيع بثمن بخس ‪380‬‬
‫‪615‬‬

‫ص ‪615 :‬‬
‫ولقد همت به وه هم بها ‪381‬‬
‫قول لسيدي أحمد بن إدريس ‪ -‬هامش ‪384‬‬
‫لم سمي تأويل الرؤيا عبارة ‪385‬‬
‫فتوة يوسف عليه السالم ‪386‬‬
‫النفس ليست أمارة بالسوء من حيث ذاتها ‪387‬‬
‫استدراك وموعظة للواعظ ‪388‬‬
‫وعليه فليتوكل المتوكلون ‪391‬‬
‫إشارة ‪ :‬صواع يوسف عليه السالم ‪392‬‬
‫ّللا فقد أدى قربة ‪395‬‬ ‫ّللا عن أمر ه‬ ‫من سجد لغير ه‬
‫باّلل إال وهم مشركون ‪397‬‬ ‫وما يؤمن أكثرهم ه‬
‫تحقيق ‪ :‬ال شقاء مع التوحيد ‪398‬‬
‫ّللا على بصيرة ‪399‬‬ ‫الدعوة إلى ه‬
‫سورة الرعد‬
‫ع َم ٍد ت َ َر ْونَها »اآلية ‪405‬‬
‫ت ِبغَي ِْر َ‬ ‫ّللاُ الَّذِي َرفَ َع ال َّ‬
‫سماوا ِ‬ ‫« َّ‬
‫إن في ذلك آليات لقوم يتفكرون ‪407‬‬
‫إشارة ‪ :‬يسقى بماء واحد ‪410‬‬
‫المعقبات ‪411‬‬
‫سجود الظالل ‪413‬‬
‫نكتة ‪ :‬أنفت الظالل من السجود للشمس ‪415‬‬
‫شعر في الصبر والرضا ‪418‬‬
‫ّللا تطمئن القلوب ‪420‬‬ ‫أال بذكر ه‬
‫شجرة طوبى ‪421‬‬
‫ّللا ما يشاء ويثبت ‪425‬‬ ‫يمحو ه‬
‫‪616‬‬

‫ص ‪616 :‬‬
‫سورة إبراهيم‬
‫سو ٍل ِإ َّال بِ ِل ِ‬
‫سان قَ ْو ِم ِه »اآلية «‪429‬‬ ‫س ْلنا ِم ْن َر ُ‬ ‫« َوما أ َ ْر َ‬
‫ّللا »اآلية ‪431‬‬ ‫َوذَ ِ هك ْر ُه ْم ِبأَي َِّام َّ ِ‬
‫ش َك ْرت ُ ْم َأل َ ِزي َدنَّ ُك ْم »اآلية ‪433‬‬ ‫« لَئِ ْن َ‬
‫ق َجدِي ٍد »اآلية ‪437‬‬ ‫ت ِبخ َْل ٍ‬ ‫« ِإ ْن يَشَأ ْ يُ ْذ ِه ْب ُك ْم َويَأ ْ ِ‬
‫ف »‪439‬‬ ‫قوله تعالى ‪ «:‬أ َ لَ ْم ت َ َر َك ْي َ‬
‫إشارة ‪ :‬وآتاكم من كل ما سألتموه ‪440‬‬
‫اس »اآلية ‪444‬‬ ‫غ ِللنَّ ِ‬ ‫« هذا بَال ٌ‬
‫سورة الحجر‬
‫« َويُ ْل ِه ِه ُم ْاأل َ َم ُل »اآلية ‪445‬‬
‫ّللا تعالى في الدنيا ما يجب من تعظيم محمد صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم ‪445‬‬ ‫أخفى ه‬
‫إنا نحن نزلنا الذكر ‪ -‬نون الجمع ال العظمة ‪446‬‬
‫ش ْيءٍ ِإ َّال ِع ْن َدنا خَزائِنُهُ »اآلية ‪447‬‬ ‫« َو ِإ ْن ِم ْن َ‬
‫خلق اإلنسان األول ‪450‬‬
‫سر في السجود ‪454‬‬
‫ّللا العقل ‪455‬‬ ‫وجه ‪ :‬أول ما خلق ه‬
‫إشارة ‪ :‬ظهور آدم في الدنيا في المقام المحمود ‪455‬‬
‫أبواب جهنم السبعة ‪458‬‬
‫إشارة ‪ :‬ال يمتحن بالدليل إال صاحب الدعوى ‪459‬‬
‫ّللا ‪459‬‬ ‫إشارة ‪ :‬الصوفية أضياف ه‬
‫س ِمينَ »اآلية ‪460‬‬ ‫ت ِل ْل ُمت َ َو ِ ه‬‫« ِإ َّن فِي ذ ِل َك َآليا ٍ‬
‫الحق المخلوق به العالم ‪461‬‬
‫تحقيق ‪ :‬كنت كنزا لم أعرف فأحببت أن أعرف ‪462‬‬
‫السبع المثاني والقرآن العظيم ‪463‬‬
‫‪617‬‬

‫ص ‪617 :‬‬
‫ين »اآلية ‪465‬‬ ‫« َوا ْعبُ ْد َرب ََّك َحتَّى يَأْتِيَ َك ْاليَ ِق ُ‬
‫بحث في اليقين ‪466‬‬
‫سورة النحل‬
‫بحث في نزول المالئكة على البشر ‪470‬‬
‫خلق السماوات واألرض بالحق ‪471‬‬
‫سبِي ِل َو ِم ْنها جائِ ٌر »اآلية ‪473‬‬ ‫ّللا قَ ْ‬
‫ص ُد ال َّ‬ ‫علَى َّ ِ‬‫« َو َ‬
‫صوها »اآلية ‪475‬‬ ‫ّللا ال ت ُ ْح ُ‬ ‫« َو ِإ ْن تَعُدُّوا نِ ْع َمةَ َّ ِ‬
‫سبب تكبر الثقلين دون سائر الموجودات ‪478‬‬
‫ال بد أن اآلخرة تطلب حشر األجساد وظهورها ‪479‬‬
‫مسألة الوجود العيني واألعيان الثابتة ‪481‬‬
‫ش ْيءٍ ِإذا أ َ َر ْدناهُ »‪487‬‬ ‫مسائل مستفادة من قوله تعالى ‪ِ «:‬إنَّما قَ ْولُنا ِل َ‬
‫« فَ ْسئَلُوا أ َ ْه َل ال ِذه ْك ِر »اآلية ‪488‬‬
‫الشكل السداسي في بيوت النحل ‪494‬‬
‫فال تضربوا هّلل األمثال ‪496‬‬
‫وّللا أخرجكم من بطون أمهاتكم ‪500‬‬ ‫إشارة ‪ :‬قرأ بعضهم ‪ :‬ه‬
‫ّللا باق ‪503‬‬ ‫وما عند ه‬
‫الر ِج ِيم »اآلية ‪505‬‬ ‫ْطان َّ‬ ‫شي ِ‬ ‫اّلل ِمنَ ال َّ‬‫ت ْالقُ ْرآنَ فَا ْست َ ِع ْذ بِ َّ ِ‬ ‫« فَإِذا قَ َرأْ َ‬
‫الذي يحرم بالعموم في الخطاب المشروع على واحد يعم جميع المكلفين ‪510‬‬
‫سنَ ِة "اآلية ‪512‬‬ ‫ظ ِة ْال َح َ‬
‫سبِي ِل َر ِبه َك بِ ْال ِح ْك َم ِة َو ْال َم ْو ِع َ‬‫ع ِإلى َ‬ ‫"ا ْد ُ‬
‫سورة اإلسراء‬
‫الفرق بين الوارث المحمدي وباقي ورثة األنبياء عليهم السالم ‪514‬‬
‫العبودية المحضة أشرف الحاالت ‪515‬‬
‫سر اإلسراء ليال ‪516‬‬
‫‪618‬‬

‫ص ‪618 :‬‬
‫ّللا عليه وسلم كان بجسمه ‪520‬‬ ‫إسراء الرسول صلهى ه‬
‫مشهد روحاني عن إسراء الرسول صلهى ه‬
‫ّللا عليه وسلم وعروجه ‪523‬‬
‫يال »اآلية ‪530‬‬ ‫« ‪ . . .‬أ َ َّال تَت َّ ِخذُوا ِم ْن دُونِي َو ِك ً‬
‫تعريف الزمان ‪532‬‬
‫وال »اآلية ‪533‬‬ ‫س ً‬ ‫ث َر ُ‬ ‫« ‪َ . . .‬وما ُكنَّا ُمعَ ِذه ِبينَ َحتَّى نَ ْبعَ َ‬
‫طاء َر ِبه َك ‪» . . .‬اآلية ‪535‬‬
‫ع ِ‬ ‫ُالء ِم ْن َ‬ ‫ُالء َو َهؤ ِ‬ ‫« ُك ًّال نُ ِم ُّد هؤ ِ‬
‫ّللا ‪537‬‬ ‫على الحقيقة ما عبد المشرك إال ه‬
‫مقارنة بين استخراج الحكم بالقياس وبين استخراجه بالنص ‪539‬‬
‫ّللا وخاصته ‪540‬‬ ‫إشارة ‪ :‬أهل القرآن هم أهل ه‬
‫الحق ال يدرك ال علما وال رؤية ‪542‬‬
‫نصيحة ‪ :‬قف مع الظاهر في كل األحوال ‪543‬‬
‫س ِبه ُح بِ َح ْم ِد ِه ‪» . . .‬اآلية ‪543‬‬ ‫ش ْيءٍ إِ َّال يُ َ‬
‫« َوإِ ْن ِم ْن َ‬
‫حياة كل الصور ‪544‬‬
‫الفرق بين روح التدبير وروح التسبيح ‪548‬‬
‫دور العقل في اإلنس والجن ‪551‬‬
‫العالم كله حيوان ناطق ‪552‬‬
‫آيتان أمان من الوسواس ‪555‬‬
‫ض »اآلية ‪556‬‬ ‫على بَ ْع ٍ‬ ‫ض النَّبِ ِيهينَ َ‬‫« َولَقَ ْد فَض َّْلنا بَ ْع َ‬
‫تحقيق ‪ :‬تعلم الخصام ‪557‬‬
‫مقام الرجاء ‪557‬‬
‫الحفظ لألولياء والعصمة لألنبياء ‪560‬‬
‫تحقيق وإشارة في معنى إقامة الصالة ‪563‬‬
‫التهجد والنافلة والمقام المحمود ‪566‬‬
‫القرآن شفاء ورحمة للمؤمنين ‪570‬‬
‫‪619‬‬

‫ص ‪619 :‬‬
‫وح ‪» . . .‬اآلية ‪571‬‬ ‫الر ِ‬ ‫ع ِن ُّ‬ ‫« َويَ ْسئَلُون ََك َ‬
‫مراتب األرواح وأقسامها ‪573‬‬
‫بحث في العلم ‪575‬‬
‫رقيقة للشيخ أبي مدين ‪576‬‬
‫إعجاز القرآن ‪576‬‬
‫ّللا تعالى ‪578‬‬ ‫إرسال الرسول من جنس البشر ابتالء من ه‬
‫إشارة ‪ :‬الفرق بين الخالفة والرسالة ومعرفة النبوة والوالية ‪579‬‬
‫الر ْحمنَ ‪» . . .‬اآلية ‪582‬‬ ‫عوا َّ‬ ‫ّللا أ َ ِو ا ْد ُ‬
‫عوا َّ َ‬ ‫« قُ ِل ا ْد ُ‬
‫ّلل الَّذِي لَ ْم يَت َّ ِخ ْذ َولَدا ً ‪» . . .‬اآلية ‪585‬‬ ‫« َوقُ ِل ْال َح ْم ُد ِ َّ ِ‬
‫المراجع ‪589‬‬
‫‪- 23‬كتاب الفناء ‪.‬‬
‫‪- 24‬كتاب الجالل والجمال ‪.‬‬
‫‪- 25‬ديوان الشيخ األكبر ‪.‬‬
‫‪- 26‬كتاب الوصية ‪.‬‬
‫‪- 27‬كتاب مسامرة األبرار ومحاضرة األخيار ‪.‬‬
‫‪- 28‬كتاب تلقيح األذهان ‪.‬‬
‫‪- 29‬كتاب نقش الفصوص ‪.‬‬
‫‪- 30‬كتاب العقد النفيس لسيدي أحمد بن إدريس ‪.‬‬
‫‪- 31‬كتاب المسائل ‪.‬‬
‫‪- 32‬كتاب التجليات ‪.‬‬
‫‪- 33‬كتاب القسم اإللهي ‪.‬‬
‫‪- 34‬رسالة اليقين ‪.‬‬
‫‪- 35‬كتاب شجرة الكون ( المعراج )‪.‬‬
‫‪620‬‬

‫ص ‪620 :‬‬

You might also like