You are on page 1of 24

41 DOI   ‫المعرّ ف الرقمي‬

https://doi.org/10.31430/MXFO8015
Accepted   ‫القبول‬
2022-9-26
Revised   ‫التعديل‬
2022-8-14
Received   ‫التسلم‬
2022-7-16

((4(*
Raja Bahlul | ‫رجا بهلول‬
‫العقل العام والدين والهوية في سياق‬
‫فلسفة رولز السياسية‬
Public Reason, Religion, and Identity in the
Context of John Rawls’s Political Philosophy
‫ تناقش هــذه الــدراســة قضايا العقل العام والهوية والدين (أو العقيدة الشاملة) كما تتبدى‬:‫ملخص‬
‫ و ُتـنــاقــش كــذلــك االنـتـقــادات الـتــي واجهتها مــواقــف رولــز مــن هذه‬،‫فــي فلسفة جــون رولــز السياسية‬
‫أيضا عند مفهوم‬ ً ‫ نتوقف‬.‫ وباألخص الجماعاتيين وأتباع العقائد الشاملة‬،‫القضايا عند بعض النقاد‬
‫سؤااًل حول ما إذا كانت هذه المفاهيم تحظى بأي مشروعية‬ ً ‫ ونطرح‬،‫المعقولية والمسوغات العامة‬
‫ليبراليا يرتدي لبوس‬
ً ً ‫ وتحديدً ا مــا إذا كــان عقل رولــز العام ال يعدو كونه‬،‫تسمو فــوق العقائد‬
‫عقاًل‬
‫ ينتهي بنا القول إلى اعتبار أن الجدل القائم بين رولز وأنصار الليبرالية‬.‫العمومية من دون وجه حق‬
‫ ليس مــن الـنــوع القابل‬،‫ والجماعاتيين وأتـبــاع العقائد الشاملة مــن جهة أخ ــرى‬،‫السياسية مــن جـهــة‬
‫ إن‬،‫ في هذا السياق‬،‫ يبقى لنا أن نقول‬.‫موضع خالف‬ َ ‫ ما دام مفهوم المعقولية نفسه‬،‫عقالنيا‬ ً ‫للحسم‬
‫التطورات التاريخية الطويلة المدى والعميقة األثر في العلم واالقتصاد واالجتماع والتنظيم هي فقط‬
‫ أو إعادة بناء المفاهيم‬/‫ وذلك من خالل صياغة و‬،‫التي في وسعها أن تُقرب وجهات النظر المتباينة‬
.‫والمعتقدات والقيم والتوجهات االنفعالية واإلدراكية نحو القضايا ذات الشأن‬
،‫ العقائد الشاملة‬،‫ الدين‬،‫ المسوغات العامة‬،‫ العقل العام‬،‫ الليبرالية السياسية‬:‫كلمات مفتاحية‬
.‫ اإلسالم الليبرالي‬،‫المعقولية‬
Abstract: This paper discusses the concepts of public reason, identity, and
religion (more generally, comprehensive doctrine) in the context of John Rawls’s
political philosophy, and the objections that have been raised to Rawls’s views by
communitarians and proponents of comprehensive doctrines. The study dwells
on the concepts of reasonableness and public reason, and seeks to determine
whether these concepts enjoy overriding legitimacy over that of religions and other
comprehensive doctrines. In particular, we investigate whether Rawls’s "public
reason" is no more than liberal reason presenting itself as "public". The study
concludes by suggesting that so long as the concept of reasonableness itself is in
question, disagreements between supporters of political liberalism and proponents
of comprehensive doctrines cannot be resolved through philosophy. Nothing short
of profound and enduring historical developments in science, economy, and society
can bring about reconciliation between divergent views by crafting or rebuilding
concepts, beliefs, and affective and cognitive attitudes toward relevant issues.
Keywords: Political Liberalism, Public Reason, Public Justifications, Religion,
Comprehensive Doctrines, Reasonableness, Liberal Islam.

.‫* أستاذ ورئيس برنامج الفلسفة في معهد الدوحة للدراسات العليا‬


Professor and Head of the Philosophy Program (Doha Institute for Graduate Studies).
raja.bahlool@dohainstitute.edu.qa
‫العدد ‪ - 43‬المجلد ‪Issue 43 - Volume 11 / 11‬‬
‫شتاء   ‪Winter 2023‬‬ ‫‪42‬‬
‫مقدمة‬
‫نطرح في هذه الدراسة بعض األفكار حول مفهوم العقل العام وعالقته بمفهوم آخر أكثر ألفة‪،‬‬
‫التباسا‪ ،‬أال وهو مفهوم الهوية‪ ،‬كما يمكن أن تتحدد هذه األفكار (على األقل‬ ‫ً‬ ‫مع أنه أكثر‬
‫جزئ ًيا) باإلشارة إلى الدين والعقائد الشاملة عمو ًما‪ .‬ومن أجل تبيان طبيعة المشكالت واستكشاف‬
‫آفاق الحلول الممكنة نركز جل اهتمامنا على فلسفة جون رولز (‪ )2002–1921‬السياسية‪ ،‬كما نراها‬
‫متمثلة في مقاله الصادر عن مجلة فلسفة وشؤون عامة ‪ Philosophy and Public Affairs‬بعنوان‪:‬‬
‫"العدالة كإنصاف‪ :‬سياسية وليست ميتافيزيقية" (‪ ،((()1985‬وكتاب الليبرالية السياسية (‪ ،((()1993‬إضافة‬
‫إلى فصل "عود إلى العقل العام"((( في كتاب قانون الشعوب (‪ ،)1997‬وهي من أهم ما ألفه رولز بعد‬
‫كتابة الذائع الصيت نظرية في العدالة(((‪.‬‬

‫وخصوصا‬
‫ً‬ ‫إن موضوعات العقل العام والدين والهوية‪ ،‬من أكثر المواضيع اتسا ًعا وإثارة للجدال‪،‬‬
‫المفهومين األخيرين‪ .‬ومع أنه من الممكن مناقشة هذه األفكار بصورة تجمع بين مفكرين كُثر‪ ،‬فإن‬
‫ذلك يستعصي على دراسة بحثية‪ ،‬إال أن تبقى هذه على السطح فال تعطي المسائل المعقدة حقها‪،‬‬
‫وال تذهب بالنقاش إلى نهاياته المنطقية‪ .‬ما عدا ذلك‪ ،‬فإن للتركيز على فلسفة رولز ما يبرره؛ إذ نجح‬
‫هذا الفيلسوف خالل نصف قرن من الزمن‪ ،‬في تقديم المقاربة الليبرالية في السياسة في أقوى صورة‪،‬‬
‫وبات يعتبر الممثل األول لهذه المدرسة‪ ،‬فال يكاد أحد يستطيع مناقشة التوجه الليبرالي في الفلسفة‬
‫قلياًل أو كثي ًرا‪.‬‬
‫السياسية دون أن ينطلق من كتاباته أو يتوقف عليها ً‬

‫نناقش في القسم األول من الدراسة مفهوم العقل العام عند رولز‪ ،‬شكله ومضمونه‪ ،‬وفي القسم الثاني ننتقل‬
‫إلى الحديث عن مفهوم المسوغات ‪ Reasons‬العامة منها والخاصة‪ ،‬وعالقة هذه المفاهيم بمفهوم العقائد‬
‫الشاملة‪ .‬أما في القسم الثالث‪ ،‬فنناقش مداخالت رولز المتعلقة بالهوية‪ ،‬ونطرح سؤااًلً حول ما إذا كان‬
‫تصور رولز منصفًا في حق أصحاب الديانات وغيرهم ممن يؤمنون بعقائد شاملة من نوع غير ليبرالي‪ .‬وفي‬
‫القسم الرابع‪ ،‬نناقش مسألة ما إذا كان موقف أنصار العقائد الشاملة نفسه منصفًا في حق من ال يؤمنون بأي‬
‫عقائد شاملة‪ ،‬بل في حق من يعتقدون عقائد شاملة من نوع مغاير لتلك التي يؤمنون بها‪ .‬يقودنا النقاش إلى‬
‫استنتاج مفا ُده أننا بصدد مجابهة مشكلة تستعصي على الحل فلسفيًا‪ .‬وفي القسم الخامس‪ ،‬نصل إلى نهاية‬
‫الدراسة بخاتمة استنتاجية تقول إن الحل يكمن في التطورات التاريخية المستقبلية نفسها‪ ،‬وبما قد تحمله‬
‫من تغيرات في المفاهيم‪ ،‬والمعتقدات‪ ،‬والتوجهات اإلدراكية واالنفعالية‪.‬‬

‫‪(1) John Rawls, "Justice as Fairness: Political not Metaphysical," Philosophy and Public Affairs, vol. 14, no. 3 (Summer‬‬
‫‪1985), pp. 223–251.‬‬
‫‪(2) John Rawls, Political Liberalism (New York: Columbia University Press, 1993).‬‬
‫‪(3) John Rawls, "The Idea of Public Reason Revisited," University of Chicago Law Review, vol. 64, no. 3 (Summer‬‬
‫;‪1997), pp. 765–807‬‬
‫ولالطالع على الترجمة العربية‪ ،‬ينظر‪ :‬جون رولز‪ ،‬قانون الشعوب وعود إلى فكرة العقل العام‪ ،‬ترجمة محمد خليل (القاهرة‪ :‬المجلس‬
‫األعلى للثقافة‪ ،)2007 ،‬ص ‪.223–184‬‬
‫‪(4) John Rawls, A Theory of Justice (Cambridge: Harvard University Press, 1970).‬‬
‫‪43‬‬ ‫ملف خاص‪ :‬قضايا في الفلسفة السياسية المعاصرة (‪)2‬‬
‫ةيسايسلا زلور ةفسلف قايس يف ةيوهلاو نيدلاو ماعلا لقعلا‬

‫ً‬
‫أوال‪ :‬العقل العام‪ :‬الشكل والمضمون‬
‫من أجل مقاربة مفهوم العقل العام عند رولز‪ ،‬قد ال يكون ثمة ما هو أفضل من التذكير بما قاله‬
‫فيلسوف أميركي آخر في العالقة بين حكم األغلبية (أو الديمقراطية بمعنى ما) والمداولة أو التداول‬
‫‪ ،Deliberation‬أي المناقشة وتبادل اآلراء والحجج في الفضاء العام بين المواطنين حول المسائل‬
‫التي تهمهم جمي ًعا‪ .‬يقول جون ديوي (‪ )1952–1859‬في كتاب صدر عام ‪" :1927‬يتسم حكم األغلبية‪،‬‬
‫بصفته حكم أغلبية‪ ،‬بالحمق‪ ،‬تما ًما كما يزعم نقّاده‪ .‬ولكن المسألة لم تكن يو ًما ما مجرد حكم أغلبية‪.‬‬
‫األمر األهم هو الطريقة التي تتشكل بها األغلبية‪ :‬المناظرات بين المختلفين في الرأي‪ ،‬وقيام األغلبية‬
‫بتعديل مواقفها مراعاة لموقف األقلية‪ .‬بعبارة أخرى‪ ،‬تكمن الحاجة األساسية في تحسين مناهج‬
‫الحجاج وظروفه وتبادل اآلراء"(((‪.‬‬

‫مفهوم التداول هذا حاضر بقوة عند رولز في المؤلفات التي ذكرناها؛ من حيث طبيعته‪ ،‬وآلياته‪،‬‬
‫ومسوغات العمل بموجبه في النظام الديمقراطي الليبرالي الدستوري‪ .‬يناقش رولز هذه المسائل تحت‬
‫مظلة مفهوم العقل العام‪ .‬وقد تطور هذا المفهوم عنده مع تطور أفكاره المتعلقة بالطريقة األنسب لفهم‬
‫أواًل كيف تطور مفهوم الليبرالية عنده في الفترة ما بين كتاب نظرية‬
‫الليبرالية‪ .‬وبما أن األمر كذلك‪ ،‬فلنبين ً‬
‫في العدالة (‪ )1970‬والمؤلفات التي تلته في فترة الثمانينيات والتسعينيات‪ ،‬خصوصا كتاب الليبرالية‬
‫السياسية (‪ .)1993‬باختصار شديد بات رولز ينظر إلى الليبرالية الممثلة في كتاب نظرية في العدالة‬
‫كـ "ليبرالية شاملة"‪ ،‬أي كعقيدة ميتافيزيقية غير تعددية‪ ،‬ومثيرة للجدل‪ ،‬في حين أن الليبرالية الممثلة في‬
‫أاّل تكون عقيدة شمولية أو ميتافيزيقية‪ .‬يقول‬ ‫كتاب الليبرالية السياسية هي "ليبرالية سياسية" يُفترض ّ‬
‫رولز واصفًا الفرق بين مرحلتين من مراحل تفكيره المرتبطة بالليبرالية‪" :‬يقدم الكتاب [أي كتاب نظرية‬
‫في العدالة] تصور العدالة كإنصاف‪ ،‬كمذهب ليبرالي شامل [‪ ]...‬يعتنق فيه جميع أعضاء مجتمع‬
‫جيد التنظيم نفس المذهب‪ .‬هذا النوع من المجتمع [‪ ]...‬يتناقض مع الليبرالية التعددية‪ ،‬ومن ثم ترى‬
‫الليبرالية السياسية أن هذا المجتمع أمر مستحيل‪ .‬الكتابان [أي كتاب نظرية في العدالة‪ ،‬وكتاب الليبرالية‬
‫السياسية] ليسا متماثلين‪ ،‬ولك ْن كل منهما لديه فكرة العقل العام‪ .‬في الكتاب األول يتمثل العقل العام‬
‫في مذهب ليبرالي شامل [أي إن مضمون العقل العام في كتاب نظرية في العدالة عبارة عن مذهب‬
‫ليبرالي شامل]‪ ،‬بينما يتمثل العقل العام في الكتاب الثاني في طريقة للتفكير حول القيم السياسية‬
‫التي يتشارك فيها مواطنون متساوون وأحرار [‪ ]...‬ال تتعدى [الطريقة األخيرة] على مذاهب شاملة‬
‫للمواطنين‪ ،‬ما دامت تلك المذاهب تتفق مع التنظيم السياسي للمجتمع"(((‪.‬‬

‫يقول رولز‪ ،‬إذًا‪ ،‬إن العقل العام في كتاب الليبرالية السياسية هو طريقة للتفكير في المسائل السياسية‪.‬‬
‫فما تلك الطريقة التي ينبغي أن يسلكها المواطنون عندما يلتقون في الفضاء العام (حرفيًا أو مجازيًا)‬
‫وينهمكون في النقاش وتبادل الحجج واألفكار والمسوغات؟ يعتقد رولز أن عليهم االلتزام بقواعد‬

‫‪(5) John Dewey, The Public and its Problems (Denver: Alan Swallow, 1927), p. 207.‬‬
‫((( رولز‪ ،‬ص ‪.227‬‬
‫العدد ‪ - 43‬المجلد ‪Issue 43 - Volume 11 / 11‬‬
‫شتاء   ‪Winter 2023‬‬ ‫‪44‬‬
‫ومعايير تحدد طرق االستدالل المقبولة وأنواع البينات المالئمة التي يمكن استخدامها في النقاش‪ .‬ها‬
‫هي تلك العناصر والمتطلبات التي ينبغي أن يلتزم أطراف النقاش بها‪:‬‬

‫‪ .1‬المعتقدات العامة والمقبولة في الوقت الحاضر‪.‬‬

‫‪ .2‬مناهج االستدالل التي يقول بها الحس السليم‪.‬‬

‫‪ .3‬مناهج العلم واستنتاجاته حينما ال تكون هذه موضوع خالف‪.‬‬

‫‪ .4‬عند تقديم المبررات والحجج ينبغي عدم االستناد إلى العقائد الشمولية الفلسفية أو الدينية أو‬
‫االقتصادية المثيرة للخالف‪.‬‬

‫‪ .5‬يجب أن تعتمد المداوالت على الحقائق البينة والمعروفة على نطاق واسع‪ ،‬أو التي يمكن‬
‫للمواطنين عمو ًما الحصول عليها(((‪.‬‬

‫يمكن هنا إضافة عنصر آخر‪ ،‬من دون خشية من التعارض مع ما يقوله رولز‪ ،‬ذلك أنه مرتبط بالعلم‪ ،‬وهو‬
‫أيضً ا مكون من مكونات الحس السليم‪ ،‬وهو‪:‬‬

‫‪ .6‬المنطق والرياضيات‪.‬‬

‫واضح لكل من يتمعن في هذه الشروط أنها شكلية ‪ Formal‬إلى درجة كبيرة‪ ،‬بمعنى أنها تتعلق باإلطار‬
‫الصوري للنقاش من دون التطرق إلى الموضوع أو الموضوعات التي سيجري التداول بشأنها‪ .‬من‬
‫الواضح‪ ،‬إذًا‪ ،‬أ ّن للعقل العام جان ًبا صوريًّا إجرائ ًّيا يحكم التداول‪ .‬فماذا عن المضمون؟ أللعقل العام‬
‫مضمون‪ /‬محتوى محدد أم أنه مجرد عناصر ومتطلبات صورية تحكم النقاش؟ عطفًا على ما سبق من‬
‫قول رولز إن العقل العام‪ ،‬بحسب كتاب نظرية في العدالة‪ ،‬قد تمثل في مذهب ليبرالي شامل؛ فال ريب‬
‫في أن مضمون العقل العام في ذلك الكتاب كان ليبرالية شاملة مثيرة للخالف كما كانت الليبرالية دو ًما‪.‬‬
‫فما الذي استقر عليه األمر في كتاب الليبرالية السياسية وما تال نظرية في العدالة من مؤلفات أخرى؟‬
‫وما مضمون العقل العام في هذه المرحلة من تطور أفكار رولز؟‬

‫يقول رولز إن ما يزود العقل العام بمضمونه هو "مجموعة التصورات السياسية الليبرالية المستوفية‬
‫لمعيار المعاملة بالمثل"(((‪ ،‬وهي‪ ،‬إذًا‪ ،‬مجموعة من التصورات الليبرالية‪ ،‬وليست تصو ًرا واح ًدا(((‪.‬‬
‫أما معيار المعاملة بالمثل‪ ،‬فيقتضي أال يطرح المتحاور على اآلخرين تصورات سياسية ال يعقل أن‬
‫نتوقع أن يقبل بها اآلخرون‪ ،‬تما ًما كما أن المتحاور نفسه لن يرضى بأن يطرح عليه اآلخرون تصورات‬
‫ال يعقل منه القبول بها‪ .‬مثال ذلك أن ينطلق الماركسي في حواره مع جاره المسيحي من منطلقات‬
‫ماركسية (أو العكس)‪ ،‬أو أن يبدأ ليبرالي شمولي حوا ًرا مع مسلم أو مسيحي‪ ،‬انطالقًا من المبدأ‬

‫‪(7) Rawls, Political Liberalism, p. 225.‬‬


‫((( رولز‪ ،‬ص ‪.223‬‬
‫((( بحسب ما يرى رولز‪" ،‬يوجد العديد من الليبراليات واآلراء المصاحبة لها"‪ .‬ينظر‪ :‬المرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.192‬‬
‫‪45‬‬ ‫ملف خاص‪ :‬قضايا في الفلسفة السياسية المعاصرة (‪)2‬‬
‫ةيسايسلا زلور ةفسلف قايس يف ةيوهلاو نيدلاو ماعلا لقعلا‬

‫مستقاًل تمام االستقالل بذاته‪ ،‬على خالف‬


‫ً‬ ‫الميتافيزيقي الشامل الذي يتطلب أن يكون اإلنسان فر ًدا‬
‫كونه عب ًدا لله أو جز ًءا من جسد المسيح الذي هو الكنيسة‪.‬‬

‫ما تلك التصورات التي تزود العقل العام بمضمونه والتي سوف تشكل موضوع نقاش وتبادل للرأي؟‬
‫يتضح في النص التالي أن تلك التصورات ذات طابع ليبرالي‪ ،‬وأن كل واحد منها يحدد حقوقًا أساسية‬
‫وفق نظام أولويات محدد‪ ،‬كما أنه يؤكد على توفير الوسائل الالزمة لالستفادة من تلك الحقوق‪" :‬تتم‬
‫صياغة محتوى العقل العام باإلشارة إلى تصور سياسي للعدالة ذي طابع ليبرالي‪ .‬من سمات هذا‬
‫التصور أنه يحدد عد ًدا معي ًنا من الحقوق األساسية والحريات والفرص؛ كما أنه يحدد المرتبة التي‬
‫تحتلها هذه بحسب نظام أولويات محدد‪ .‬وأنه يؤكد على وجود إجراءات تضمن لجميع المواطنين‬
‫وسائل عامة لكي يستفيدوا من تلك الحريات األساسية والفرص"(‪.((1‬‬

‫وللتمثيل على تلك الحقوق والحريات والفرص التي يمكن التداول بشأنها‪ ،‬يمكن اإلشارة إلى‬
‫معاهدات حقوق اإلنسان التي تشتمل على تشكيلة واسعة من الحقوق الفردية والجماعية السياسية‬
‫والمدنية واالجتماعية واالقتصادية‪ .‬بالطبع‪ ،‬سوف تختلف اآلراء بشكل معقول حول هذه الحقوق؛‬
‫فأيّها أساسي؟ وأيّها ثانوي؟ وما الذي زاد فيها أو نقص منها؟ وكيف تنتظم من حيث األولوية؟ يتناقش‬
‫المواطنون حول هذه التصورات ويطرحون المسوغات التي يعتقدون أنها صادقة لتأييد وجهات نظرهم‪.‬‬
‫مثاًل‪ ،‬فيميل‬
‫من هذه التصورات‪ ،‬على سبيل المثال‪ ،‬ما يُعلي من شأن الحرية الفردية في مجال االقتصاد ً‬
‫في اتجاه الرأسمالية‪ .‬ومنها ما قد يؤكد على قيمة التضامن االجتماعي فيميل في اتجاه االشتراكية‪.‬‬
‫ومنها ما يُعلي من قيمة التعددية الثقافية أو حقوق المرأة واألقليات‪ .‬ومنها ما يأخذ موقفًا محافظًا من‬
‫هذه القضايا‪ .‬ومنها ما يمنح دو ًرا مركزيًا للدولة‪ .‬ومنها ما ينحو إلى التقليل من دور الدولة في المجتمع‪.‬‬
‫ت ُتداول هذه التصورات لدى المواطنين‪ ،‬ومن المفترض أن استخدام العقل العام للمواطنين أنفسهم‬
‫سوف يقود في النهاية إلى تفاهمات واتفاقات جماعية حول المسائل الدستورية األساسية الكبرى‬
‫ومسائل العدالة األساسية‪ .‬ويزعم رولز أن هذه التصورات السياسية المتعددة ذات الطابع الليبرالي‬
‫"ال تتعدى على المعتقدات أو األوامر والوصايا الدينية ما دامت هذه تتفق مع الحريات الدستورية‬
‫الجوهرية بما في ذلك حرية الدين والضمير‪ .‬ال حاجة إلى حرب بين الدين والديمقراطية [‪[ ]...‬بذلك]‬
‫تختلف الليبرالية السياسية اختالفًا حا ًّدا عن ليبرالية عصر التنوير‪ ،‬بل وترفض الليبرالية السياسية ليبرالية‬
‫عصر التنوير التي شنت هجو ًما على المسيحية األرثوذكسية"(‪.((1‬‬

‫شكاًل هو التداول من خالل جملة المسوغات العامة‪،‬‬


‫ً‬ ‫شكاًل ومضمونًا؛‬
‫ً‬ ‫هذا هو‪ ،‬إذًا‪ ،‬العقل العام‬
‫ومضمونًا هو االنطالق من تصورات ليبرالية سياسية‪ ،‬من المعقول (وإن لم يكن من المحتم) توقع أن‬
‫يقبل بها اآلخرون‪ .‬ننتقل اآلن إلى تلك المسوغات العامة‪.‬‬

‫‪(10) Rawls, Political Liberalism, p. 223.‬‬


‫(‪ ((1‬رولز‪ ،‬ص ‪.224–223‬‬
‫العدد ‪ - 43‬المجلد ‪Issue 43 - Volume 11 / 11‬‬
‫شتاء   ‪Winter 2023‬‬ ‫‪46‬‬
‫ثان ًيا‪ :‬العقل العام والمسوغات العامة‬
‫من أهم العناصر اإلجرائية في تصور رولز للعقل العام‪ :‬البند الرابع الذي يقول‪ :‬إنه "عند تقديم المبررات‬
‫والحجج‪ ،‬ينبغي عدم االستناد إلى العقائد الشمولية الفلسفية أو الدينية أو االقتصادية المثيرة للخالف"‪.‬‬
‫يستند رولز في هذا القول إلى فكرة "ما هو معقول ‪ reasonable‬سياس ًيا" في مجتمع تعددي تسود‬
‫فيه قيم وأديان ومعتقدات وفلسفات متباينة ال سبيل إلى التوفيق بينها‪ .‬في مثل هذه المجتمعات‪،‬‬
‫ليس من المعقول "سياس ًيا" تقديم أطروحات تفترض صحة هذه العقيدة أو تلك‪ ،‬ألنها لن تالقي‬
‫قبواًل من أصحاب العقائد األخرى‪ ،‬حتى إن كانت "معقولة" دين ًيا أو فلسف ًيا أو أخالق ًيا في نظر من‬ ‫ً‬
‫يؤمنون بها‪ .‬يقول رولز‪" :‬فكرة المعقول سياسيًا فكرة كافية في ذاتها لغرض العقل العام‪ ،‬عندما تكون‬
‫المسائل السياسية األساسية موضوع خالف‪ .‬بطبيعة الحال سوف ترفض المذاهب الدينية الشاملة‬
‫ويرفض الحكام األوتوقراطيون والدكتاتوريون فكرة العقل العام وديمقراطية التداول‪ .‬سوف يقولون إن‬
‫الديمقراطية تؤدي إلى ثقافة مناقضة لعقائدهم الدينية أو تنكر القيم التي ال يمكن الحفاظ عليها سوى‬
‫بالحكم الدكتاتوري أو األوتوقراطي‪ .‬ويزعمون أن ما هو صواب دينيًا أو فلسفيًا يتخطى أو يتجاوز‬
‫المعقول سياس ًيا‪ .‬ونقول نحن ببساطة إن مثل هذه المذاهب غير معقولة سياس ًيا‪ .‬في إطار الليبرالية‬
‫السياسية ال يوجد المزيد من القول"(‪.((1‬‬

‫يطلق رولز ومعلقوه تسمية ‪ ،Public Reasons‬أي "المسوغات العامة"‪ ،‬على المسوغات التي يجوز‬
‫للمواطنين استخدامها في المداوالت‪ .‬هناك أيضً ا تسمية يذكرها روبرت أودي عندما يتحدث عن‬
‫‪ ،Secular Reasons‬أي مسوغات علمانية‪ ،‬وهو يعرف المسوغ العلماني بالطريقة التالية‪:‬‬

‫"المسوغ العلماني هو المسوغ الذي ال تعتمد وجاهته كمسوغ على ب ّينات تفترض االعتقاد بوجود إله‬
‫أو عدم وجوده‪ ،‬وال على أي اعتبارات الهوتية أو مواقف صادرة عن مؤسسة دينية أو شخص يتمتع‬
‫بصفة دينية"(‪.((1‬‬

‫من الواضح أن التمييز بين المسوغات العلمانية والمسوغات العامة أمر واجب‪ ،‬ذلك أن بعض‬
‫المسوغات قد تجتاز شرط العلمانية من خالل تجنب اإلشارة إلى الدين‪ ،‬ولكنها قد تقوم على افتراضات‬
‫فلسفية ماركسية أو كانطية أو أفالطونية مثيرة للجدل‪ ،‬شأنها في ذلك شأن المعتقدات الدينية‪ .‬وهذه‬
‫المسوغات ليست عامة بالمعنى الذي يقصده رولز‪ ،‬على الرغم من أنها علمانية بالمعنى الذي يقصده‬
‫أودي‪.‬‬

‫تساهم البنود األخرى المذكورة في شرائط التداول من خالل العقل العام في تحديد طبيعة المسوغات‬
‫المقبولة للبنود مثل االلتزام بمعطيات العلم غير الخالفية‪ ،‬والمنطق والحقائق البينة والمعروفة لدى‬
‫الجميع‪ .‬ولكن مفهوم المسوغ العام يتحدد أكثر من خالل مقابلته بالمسوغ الخاص أو غير العام‪.‬‬

‫(‪ ((1‬المرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.226‬‬


‫‪(13) Robert Audi & Nicholas Wolterstorff, Religion in the Public Square (Lanham: Rowman & Littlefield Publishers,‬‬
‫‪1997), p. 26.‬‬
‫‪47‬‬ ‫ملف خاص‪ :‬قضايا في الفلسفة السياسية المعاصرة (‪)2‬‬
‫ةيسايسلا زلور ةفسلف قايس يف ةيوهلاو نيدلاو ماعلا لقعلا‬

‫فحياتنا السياسية ليست كل حياتنا‪ ،‬وليس الفضاء العام هو الفضاء الوحيد الذي نتحرك فيه‪ .‬لنا حياة‬
‫خاصة نعيشها على صعيد العائلة والنوادي التي نختار االنضمام إليها‪ ،‬ومنظمات المجتمع المدني التي‬
‫قد تخضع العضوية فيها لشروط معينة ال تنطبق على جميع المواطنين‪ .‬ويذكر رولز في سياق الحياة‬
‫غير العامة الكنائس التي يمارس فيها الناس طريقتهم الخاصة في التدين‪ .‬وهذا أمر مهم‪ ،‬بقدر ما هو‬
‫مربك‪ ،‬ذلك أن على القارئ الهندوسي أو المسلم أن يحاول أن يجد في دينه ما قد يقابل الكنائس من‬
‫أجل التعمق في فهم رولز هنا؛ إذ ينشأ إشكال عندما ال يكون هناك ما يشبه الكنائس في دين معين‪،‬‬
‫أو عندما يكون الدين من النوع الذي ال يفصل بين الحياة العامة والخاصة‪ .‬ستكون لنا عودة إلى هذا‬
‫األمر الحقًا في هذه الدراسة‪ ،‬ولكننا نسجل هنا إقرار رولز بوجود أنواع من العقل غير العام‪ ،‬يشار إلى‬
‫بعضها من خالل مسميات مثل عقل الكنائس وعقل الجامعات وغيرها من عقول روابط المجتمع‬
‫المدني(‪ .((1‬ومن الطبيعي أن يسوق أعضاء مثل هذه الكيانات والتجمعات الخاصة مسوغات غير عامة‬
‫أي كان أن يفهمها‪ ،‬بل أن يقبل‬‫في مداوالتهم الخاصة‪ ،‬إضافة إلى المسوغات (العامة) التي في وسع ّ‬
‫(مثاًل‪ :‬قد يدعم أحدهم موقفه القائل بضرورة ارتداء الحجاب‪ ،‬باإلشارة إلى آية قرآنية أو‬
‫ً‬ ‫بها أيضً ا‬
‫حديث نبوي‪ ،‬في حين يعارض آخر هذا الرأي باإلشارة إلى تفسيرات واجتهادات دينية مغايرة)‪ .‬لهؤالء‬
‫المواطنين أعضاء هذه الروابط المجتمعية أفكار وقيم ومسوغات يسوقونها في مداوالتهم‪ ،‬وهي تعبّر‬
‫عن هويات وانتماءات محددة‪ .‬ال يقلل رولز من أهمية هذه الهويات أو دورها في حياة المواطن‪ ،‬بل‬
‫إنه يقول‪" :‬من الجوهري التأكيد أن في وسع المواطنين‪ ،‬في حياتهم الشخصية وفي الحياة الداخلية‬
‫للروابط التي ينتمون إليها‪ ،‬أن ينظروا إلى غاياتهم القصوى وإلى ارتباطاتهم بطريقة تختلف عن الطريقة‬
‫التي يتطلبها التصور السياسي‪ ،‬بل يمكنهم أن يعتبروا أنه من غير الممكن التفكير في أنفسهم بمعزل‬
‫عن قناعات دينية وفلسفية وأخالقية محددة‪ ،‬أو ارتباطات ووالءات دائمة‪ .‬هذه القناعات واالرتباطات‬
‫تشكل جز ًءا مما يمكن تسميته بهوياتهم الخاصة"(‪.((1‬‬

‫للمواطن‪ ،‬إذًا‪ ،‬هويتان‪ :‬هوية عامة في الفضاء العام‪ ،‬وهي ذات طبيعة سياسية‪ ،‬وهوية أو هويات غير‬
‫عامة في الفضاء أو الفضاءات الخاصة‪ .‬سنناقش اإلشكاليات التي يثيرها هذا التمييز في الجزء التالي‬
‫من هذه الدراسة‪ .‬ولكننا فيما تبقى من هذا الجزء‪ ،‬نعرض لمسألة ما إذا كان العقل العام كاف ًيا لألغراض‬
‫التي يوكلها رولز إليه‪ ،‬ونستكشف إمكانية تصور عقل عام غير ذي مضمون ليبرالي (للتوكيد نقول‪:‬‬
‫مثاًل أاّلّ يحمل مضمونًا‬
‫"عقل عام"‪ ،‬ال "عقل غير عام"؛ ألن في وسع عقل غير عام كعقل الكنائس ً‬
‫ليبراليًا‪ ،‬وهذا أمر متوقع وغير مثير للجدل)‪.‬‬

‫فيما يخص المسألة األولى‪ ،‬نعرف أن رولز يزعم أنه في وسع المواطنين استخدام العقل العام ليوصلهم‬
‫إلى توافقات حول بعض المسائل المهمة التي تؤثر فيهم جمي ًعا‪ .‬ولكن هناك من يقول بعدم كفاية العقل‬
‫العام لهذا الغرض‪ ،‬ألن المسوغات العامة التي يعقل أن يفهمها وأن يستجيب لها جميع المواطنين‬

‫;‪(14) Rawls, Political Liberalism, p. 213‬‬


‫ينظر ً‬
‫أيضا‪ :‬رولز‪ ،‬ص ‪.220–219‬‬
‫‪(15) Rawls, "Justice as Fairness," p. 241.‬‬
‫العدد ‪ - 43‬المجلد ‪Issue 43 - Volume 11 / 11‬‬
‫شتاء   ‪Winter 2023‬‬ ‫‪48‬‬
‫قائاًل إن العقل العام كما يصفه رولز‬
‫أفقر من أن تؤدي إلى اتفاق‪ .‬يحاج ديفيد رايدي ‪ً David Reidy‬‬
‫يتسم بالنقص وعدم االستقالل‪ .‬فهو ناقص ألنه عاجز عن حسم جميع الخالفات‪ ،‬وهو غير مستقل‬
‫ألنه قد يدفع المواطنين إلى االستعانة بالعقائد الشاملة أو بملكات أخالقية خاصة‪ ،‬من أجل حسم‬
‫المسائل‪ .‬يزعم رايدي‪ ،‬بداية‪ ،‬أن القيم السياسية والغايات التالية غالبًا ما يتعارض ويتنافس بعضها مع‬
‫بعض كالحرية الفردية‪ ،‬والسعادة‪ ،‬والمساواة السياسية‪ ،‬وتكافؤ الفرص‪ ،‬وعدالة التوزيع‪ ،‬واالستقرار‬
‫االجتماعي‪ ،‬واألخوة‪ ،‬والشفافية‪ ،‬واالزدهار االقتصادي‪ ،‬والتنوع االجتماعي‪ ،‬والدفاع المشترك‪،‬‬
‫والرفاهية العامة‪ ،‬والحيوية الثقافية‪ .‬ثم يعرض رايدي حجته القاضية بنقصان العقل العام وعدم استقالله‬
‫على الوجه التالي‪:‬‬

‫"من المؤكد أن كل تصور [ليبرالي] سياسي للعدالة [‪ ]...‬سوف يقوم بترتيب القيم أو الغايات السابقة‬
‫مثاًل] [‪]...‬‬
‫بطريقة محددة [‪ .]...‬لكن في عدد كبير من القضايا [اإلجهاض‪ ،‬حقوق الحيوانات‪ ،‬البيئة‪ً ،‬‬
‫لن يكون لدى العديد من المواطنين أي إحساس بكيفية تنظيم القيم المتنافسة أو المتضاربة ضمن‬
‫مفهومهم السياسي للعدالة‪ .‬في هذه الحاالت‪ ،‬إن لم يج ِر استخالص مثل هذا المعيار أو المعايير من‬
‫أساليب التفكير المنطقي‪ ،‬والحقائق غير الخالفية للعلم وما شابه‪ ،‬فعندئذ توجد طريقتان فقط [‪]...‬‬
‫لترتيب القيم والغايات [‪ ]...‬فإذا كانت القيم والغايات قابلة للقياس في ضوء بعض المعايير غير العامة‬
‫‪ Non–public Criteria‬أو معايير مستمدة من عقيدة أخالقية‪ ،‬أو دينية‪ ،‬أو فلسفية شاملة أو أخرى‪ ،‬فقد‬
‫يجري ترتيبها بشكل عقالني في ضوء هذا المعيار أو المعايير‪ .‬وإن لم يكن األمر كذلك‪ ،‬فقد يمكن‬
‫ترتيبها بشكل عقالني من خالل الحدس أو الحكم األخالقي [‪ .]...‬تكمن الصعوبة هنا‪ ،‬إذًا‪ ،‬ذلك أنه‬
‫إذا كان على المواطنين أو المسؤولين اللجوء إما إلى المذاهب الشاملة غير العامة وإما إلى شكل من‬
‫وكاماًل إلى الدرجة التي يقترحها‬
‫ً‬ ‫مستقاًل‬
‫ً‬ ‫الحدس أو الحكم األخالقي‪ ،‬فإن العقل العام الليبرالي ليس‬
‫رولز"(‪.((1‬‬

‫نأتي اآلن إلى مسألة ما إذا كان من المحتم أن يكون العقل العام ذا طابع ليبرالي‪ .‬عندما يقول رولز‬
‫إ ّن مضمون العقل العام هو مجموعة تصورات سياسية للعدالة ذات طابع ليبرالي‪ ،‬فهل علينا أن نفهم‬
‫أ ّن مفهوم العقل العام‪ ،‬بحد تعريفه‪ ،‬ذو مضمون ليبرالي؟ إذا كان األمر كذلك‪ ،‬فهذا يعني أنه من‬
‫المستحيل منطق ًيا التفكير في عقل عام ال يكون ليبرالي المضمون‪ .‬ولكن في هذه الحالة يكون القول‬
‫بليبرالية مضمون العقل العام مجرد تحصيل حاصل يعبر عن استخدام معين لمصطلح ليس له معنى‬
‫متفق عليه‪.‬‬

‫هل يمكن‪ ،‬إذًا‪ ،‬أن نفهم العقل العام بطريقة مغايرة؟ نعم‪ ،‬وفي وسعنا الشروع في هذا من خالل التفكير‬
‫في طرح قدمه منير شفيق‪ ،‬وهو كاتب فلسطيني ماركسي سابق‪ ،‬تح ّول إلى الفكر اإلسالمي‪ ،‬وبات‬
‫يفكر في مسألة تقليدية هي العالقة بين اإليمان والعقل؛ ليس العقل العام بالطبع‪ ،‬بل العقل ببساطة‪.‬‬
‫يقول هذا الكاتب‪" :‬يجب االنتهاء من المغالطة التي تبدأ من السؤال من مع العقل ومن مع الدين؟ ألن‬

‫‪(16) David Reidy, "Rawls’s Wide View of Public Reason: Not Wide Enough," Res Publica, vol. 6, no. 49–72 (2000),‬‬
‫‪pp. 64–65.‬‬
‫‪49‬‬ ‫ملف خاص‪ :‬قضايا في الفلسفة السياسية المعاصرة (‪)2‬‬
‫ةيسايسلا زلور ةفسلف قايس يف ةيوهلاو نيدلاو ماعلا لقعلا‬

‫البداية الصحيحة والعادلة هي من مع العقل الذي يرتكز إلى اإلسالم‪ ،‬ومن مع العقل الذي يقوم على‬
‫كاًّل منها‬
‫مرتكزات أخرى‪ .‬فالصراع ليس بين عقل والعقل‪ ،‬وإنما هو صراع فيما بين مقوالت يحمل ًّ‬
‫عقل محدد"(‪.((1‬‬

‫ما يثير االهتمام في هذا القول هو مفهوم "العقل الذي يرتكز على اإلسالم" (أو ما شئت من األديان‬
‫والعقائد األخرى)‪ .‬من السهل نسب ًيا القيام بمقارنة بين طرح رولز والطرح الحالي‪ ،‬ذلك أنه يمكن‪،‬‬
‫من دون تج ٍّن كبير‪ ،‬النظر إلى حديث شفيق عن "ارتكاز العقل على اإلسالم" كمقابل لحديث رولز‬
‫عن المضمون الليبرالي للعقل العام‪ .‬نفترض هنا بالطبع أنه ليس هناك من سيحتج على النظر إلى‬
‫العقل (بمعزل عن مرتكزاته ومضامينه) كطريقة تفكير تتسق مع المنطق والحس السليم والعلم والتاريخ‬
‫والحقائق المعروفة‪ .‬فكرة "المقوالت" التي "تتصارع" (فكريًا وليس بالضرورة عسكريًا) عند شفيق‬
‫تقابلها فكرة "تصورات سياسية ليبرالية متنافسة للعدالة" يجري النقاش حولها في الفضاء العام عند‬
‫رولز‪ .‬ومن ثم‪ ،‬يمكن مبدئيًا الحديث عن عقل إسالمي ذي مضمون أو طابع إسالمي هو مجموعة‬
‫تصورات سياسية للعدالة ذات طابع إسالمي‪ .‬وتختلف هذه التصورات اإلسالمية فيما بينها على النحو‬
‫الذي يصفه راشد الغنوشي بقوله‪" :‬على مثل هذه األرضية [اقرأ هنا‪" :‬المضمون الذي يرتكز عليه العقل‬
‫اإلسالمي"] يمكن أن تتنوع أساليب الوصول إلى األهداف المشتركة بين القادة الجماهيريين أو النخبة‪.‬‬
‫فمن مائل إلى الشدة ومائل إلى اللين‪ ،‬ومن مؤثر للعجلة ومؤثر للتدرج‪ ،‬ومن نزاع إلى شيء من الغلو‬
‫إلى مفضل لالعتدال‪ .‬االختالف في الرأي حول الخطط واألساليب بين النخبة جائز أن ينتهي إلى‬
‫اجتهادات مختلفة تلتف حولها أو خلف زعمائها فئات من الشعب تتنافس لتحقيق األهداف نفسها‪،‬‬
‫فتنشأ األحزاب‪ ،‬وهي كلها في الحقيقة حزب واحد هو حزب الله‪ ،‬وكلهم الجماعة الناجية"(‪.((1‬‬

‫متى شرعنا في التفكير في "عقل إسالمي"‪ ،‬مضمونه تصورات إسالمية للعدالة‪ ،‬يسهل علينا التفكير في‬
‫"عقل ليبرالي" مضمونه تصورات ليبرالية للعدالة‪ .‬من بعد ذلك‪ ،‬يمكن الذهاب إلى عقل ماركسي أو‬
‫مسيحي أو هندوسي‪ ،‬أي عقول ترتكز على تصورات ماركسية أو مسيحية أو هندوسية أو غيرها‪ .‬بهذا‬
‫بداًل من ذلك مفهوم "العقل الليبرالي"‪.‬‬
‫نكون قد سلبنا من رولز مفهوم "العقل العام" وأعطيناه ً‬

‫عقاًل‬
‫هذه بالتأكيد عملية تبادل لن يرضى بها رولز بتاتًا‪ .‬سوف يقول بالطبع‪ :‬العقل اإلسالمي ليس ً‬
‫عا ًّما‪ ،‬فهو يخرج من إطاره كل من هم غير مسلمين‪ .‬وفي مقابل ذلك‪ ،‬أال يمكن القول إن العقل‬
‫عقاًل عا ًّما ألنه (تما ًما كالعقل اإلسالمي)‬
‫العام بمفهوم رولز‪ ،‬هو في واقع األمر "عقل ليبرالي" وليس ً‬
‫يُخرج من إطاره من يُخرج‪ ،‬وتحدي ًدا كل من ال يقبلون بالتصورات السياسية الليبرالية؟ وإال فما معنى‬

‫(‪ ((1‬منير شفيق‪ ،‬اإلسالم في معركة الحضارة (تونس‪ :‬دار البراق للنشر‪ ،)1991 ،‬ص ‪.138‬‬
‫(‪ ((1‬راشد الغنوشي‪ ،‬الحريات العامة في الدولة اإلسالمية (بيروت‪ :‬مركز دراسات الوحدة العربية‪ ،)1993 ،‬ص ‪ .295–294‬ال ينبغي‬
‫شعورا بالصدمة‪ .‬لنضع اللغة‬‫ً‬ ‫أن تسبب اللغة الدينية التي يستخدمها الغنوشي ("حزب الله"‪" ،‬الفرقة الناجية") للقارئ الموضوعي‬
‫كليا؟ على سبيل المثال‪ ،‬يعتقد كثير من‬ ‫جانبا ونسأل‪ :‬هل الفكر والممارسة في بعض الديمقراطيات الغربية بمنأى عن هذا ًّ‬ ‫الدينية ً‬
‫الناس أن ال فرق يذكر بين الحزب الديمقراطي والحزب الجمهوري في الواليات المتحدة (كلها حزب الله = كلها ليبرالية بمعنى ما)‪.‬‬
‫(مثاًل‪ :‬في مجال زيادة الضرائب أو‬ ‫وقد يقول البعض إن الفرق بينهما هو الفرق بين ما هو مائل إلى الشدة وما هو مائل إلى اللين ً‬
‫خفضها‪ ،‬وزيادة اإلنفاق العام أو خفضه)‪.‬‬
‫العدد ‪ - 43‬المجلد ‪Issue 43 - Volume 11 / 11‬‬
‫شتاء   ‪Winter 2023‬‬ ‫‪50‬‬
‫االشتراط الذي يحتوي عليه زعم رولز أن التصورات الليبرالية "ال تتعدى على المعتقدات أو األوامر‬
‫والوصايا الدينية ما دامت هذه تتفق مع الحريات الدستورية الجوهرية بما في ذلك حرية الدين‬
‫والضمير"؟(‪ ((1‬وما معنى الطرح الذي يقدمه بخصوص المذاهب التي تزعم "أن ما هو صواب دين ًيا‬
‫أو فلسفيًا يتخطى أو يتجاوز المعقول سياسيًا"؟ "نقول ببساطة‪ :‬إن مثل هذه المذاهب غير معقولة‬
‫سياس ًيا"(‪ .((2‬من الجلي هنا أن المضمون الليبرالي الذي يقوم العقل العام على قاعدته ليس محاي ًدا‬
‫تما ًما‪ ،‬فهو يميز بين عقائد معقوله وعقائد غير معقولة‪ُ ،‬محد ًدا شرط العقالنية بإقرار العقائد الشاملة‬
‫أن الصواب الديني أو الفلسفي أو األخالقي ليس في وسعه أن يتجاوز ما هو معقول سياسيًا‪ ،‬أي‬
‫ما يمكن قبوله من المتحاورين األحرار المتساوين الذين يتعاملون بعملة المسوغات العامة‪ ،‬والتي‬
‫يشترط تعريفها استثناء العقائد الشمولية الفلسفية أو الدينية المثيرة للخالف كما هو مذكور في البند‬
‫الرابع من متطلبات العقل العام‪.‬‬

‫أميكن‪ ،‬والحال هذه‪ ،‬القول إن العقل العام مبفهوم رولز "يتسامى فوق العقائدية" أم أنه عقائدي‬
‫كغريه من العقول؟ ظاهريًا يبدو أن العقل العام مبفهوم رولز غري عقائدي‪ .‬فمزية العقل العام‬
‫خصيصا للمجتمعات املنقسمة فكريًا وعقائديًا ودين ًيا وأخالق ًيا‪ ،‬األمر الذي‬
‫ً‬ ‫بحسب مفهومه أنه ُمعد‬
‫ينوي رولز معالجته من خالل مفهوم الليربالية السياسية‪ ،‬وهو عنوان كتابه الصادر عام ‪ ،1993‬وفيه‬
‫يطرح السؤال اآليت‪" :‬كيف ميكن قيام مجتمع يتمتع بالدميومة واالستقرار ويتألف من أفراد أحرار‬
‫ومستقلني تفرق بينهم وبشكل عميق عقائد معقولة‪ ،‬دينية وفلسفية وأخالقية؟"(‪ .((2‬يف الفرتة الالحقة‬
‫من تاريخ تطوره الفكري‪ ،‬مل يعد يرص عىل رضورة أن "يعتنق جميع أعضاء مجتمع جيد التنظيم‬
‫املذهب نفسه"‪ ،‬كام سبق أن قال يف كتابه نظرية يف العدالة‪ .‬ومن ناحية أخرى؛ ال بد للمجتمع‬
‫عقائديًا من أن يكون متوافقًا عىل تصور ما للمجتمع العادل ليك ينعم بالسالم واالستقرار‪ ،‬ويتجنب‬
‫التفكك إىل مجتمعات متعددة‪ .‬فام يف وسع هذا التصور أن يكون؟ بالتأكيد لن يكون عقيدة شاملة‪.‬‬
‫فليكن‪ ،‬إذًا‪ ،‬عقيدة خفيفة الوزن ال تثقل عىل الناس‪ ،‬بل تدع لهم أوسع مجال للحرية واالختالف‪،‬‬
‫مبا يف ذلك اعتناق املذاهب الشاملة يف حياتهم الخاصة! وما عىس هذه العقيدة الخفيفة الوزن أن‬
‫تكون سوى الليربالية السياسية؟‬

‫بعبارة أخرى‪ ،‬ال يبدو أن رولز قد تخلى كليًّا عن النظر إلى المجتمع بوصفه "اتحا ًدا أو جماعة‬
‫ذات منظور واحد"‪ .‬هذا المنظور الواحد هو مضمون العقل العام بحسب فهم رولز لهذا األخير‪.‬‬
‫يعبر نيكوالس وولترستورف عن هذه الفكرة عندما يقول‪" :‬األمر الالفت للنظر هو أن أنصار‬
‫الموقف الليبرالي المعاصرين ال ينفكون عن التفكير في السياسة من منظور 'سياسة الجماعة التي‬
‫تتسم بالمنظور المشترك'‪ .‬هم يدركون أن السياسة في مجتمعاتنا [الغربية المعاصرة] ال يمكن أن‬
‫تتمحور حول عقيدة شاملة‪ .‬لذا‪ ،‬تراهم يقترحون تخفيض سقف التوقعات‪ .‬يعرض هؤالء كنموذج‬

‫(‪ ((1‬رولز‪ ،‬ص ‪.224–223‬‬


‫(‪ ((2‬المرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.226‬‬
‫‪(21) Rawls, Political Liberalism, p. 4.‬‬
‫‪51‬‬ ‫ملف خاص‪ :‬قضايا في الفلسفة السياسية المعاصرة (‪)2‬‬
‫ةيسايسلا زلور ةفسلف قايس يف ةيوهلاو نيدلاو ماعلا لقعلا‬

‫لتفكيرهم مجتم ًعا ديمقراط ًيا ليبرال ًيا إلى درجة ما‪ ،‬ثم يركزون على جانب محدد منه أال وهو الجانب‬
‫السياسي"(‪.((2‬‬

‫عقاًل ليبراليًا اختار أن‬


‫إذا قبلنا بالمقارنات السابقة المتعلقة بعقل رولز العام (الذي قد ال يعدو كونه ً‬
‫ينسب إلى نفسه صفة العمومية دونما سند قوي)‪ ،‬وجدنا أنفسنا قبالة انسداد فكري‪ ،‬بحيث نقف أمام‬
‫عدة عقول تتصارع حول مقوالت ذات أصول عقائدية مختلفة‪ ،‬تنسب كل واحدة منها إلى نفسها‬
‫المعقولية والعمومية‪ ،‬استنا ًدا إلى اعتبارات ال تخرج عن العقيدة الشاملة أو التاريخ أو الثقافة‪ .‬فكيف‬
‫نجد وسيلة تمكننا من التفكير في مجتمع عادل ومستقر ينقسم الناس فيه‪ ،‬بشكل عميق‪ ،‬بين عقائد‬
‫متباينة؟‬

‫واقع األمر أن الليبرالية السياسية تنظر إلى المجتمع من وجهة نظر سياسية بحتة‪ ،‬كما يقول وولترستورف‪،‬‬
‫وال يعنيها كثي ًرا ما يفعله الناس في حياتهم الخاصة‪ ،‬ما دام ال يتعارض مع مجتمع مكون من أفراد‬
‫مستقلين لكل منهم مصالحه وقيمه الخاصة‪ ،‬بحيث يسهر الجميع على حرياتهم ومصالحهم‪ .‬تربطهم‬
‫"صداقة مدنية" ‪ ،Civic Friendship‬كما يقول رولز في أكثر من موضع(‪ ،((2‬ولكن صداقتهم ليست‬
‫حميمية‪ ،‬بل هي أشبه ما تكون بعالقات عمل زمائلية ال تتسم بكثير من الدفء‪ .‬لن يجد اإلسالميون‬
‫حا‪ .‬وإضافة إلى ذلك‪ ،‬قد يرون‬
‫وال الجماعاتيون عمو ًما هذا المنظور الليبرالي السياسي للمجتمع مري ً‬
‫أنه غير واقعي وغير عادل‪ .‬وهذا ما سنناقشه في القسم التالي من الدراسة‪.‬‬

‫ً‬
‫ثالثا‪ :‬الهوية وعدالة التصور الليبرالي للعدالة‬
‫يعرف رولز جيدً ا تراث إيمانويل كانط ‪ )1804–1724( Immanuel Kant‬الذي يقول بفكرة الذات‬
‫الحرة المستقلة التي تشرع لنفسها بنفسها‪ ،‬والتي ال تستقي مبادئها من جهة خارجية‪ ،‬ال من المجتمع‬
‫وال حتى من الله نفسه‪ .‬هي ذات يمكنها أن تتصور نفسها بمعزل عن معتقداتها وانتماءاتها الحالية‪،‬‬
‫كما في وسعها أن تراجعها أو تخرج منها أو تبقى عليها بحسب ما يمليه العقل‪ .‬يتنصل رولز بعض‬
‫الشيء من هذه الفكرة‪ ،‬من خالل اعترافه باألهمية البالغة للهويات الخاصة‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬ال يتردد في‬
‫تقديم الهوية العامة على الهوية الخاصة من خالل وصفه لوضع أصلي ‪ Original Position‬يشارك‬
‫فيه الناس بنقاش حر وعقالني حول المجتمع العادل من وراء "حجاب جهل" ‪،Veil of Ignorance‬‬
‫يخفي عنهم معظم األوصاف التي نعرفها من خاللهم‪ ،‬مثل الدين والمعتقدات والتاريخ واألهواء‬
‫والطموحات والقدرات واألذواق والتصورات المتعلقة بالحياة الجيدة والحياة الرديئة‪.‬‬

‫بالطبع‪ ،‬ليس الوضع األصلي أكثر من افتراض تخيلي يهدف إلى مساعدتنا في التوصل الستنتاجات‬
‫معينة حول نظام ومؤسسات المجتمع العادل‪ ،‬التي يرى رولز أنها األصوب‪ .‬ولكن االفتراض المضمر‬
‫هنا هو أن الفرد يبقى هو ذاته‪ ،‬حتى لو غدت أوصافه أو خصائصه مختلفة عما هي عليه اآلن‪ .‬ولكن‬

‫‪(22) Audi & Wolterstorff, p. 109.‬‬


‫‪(23) Rawls, Political Liberalism, p. 253.‬‬
‫العدد ‪ - 43‬المجلد ‪Issue 43 - Volume 11 / 11‬‬
‫شتاء   ‪Winter 2023‬‬ ‫‪52‬‬
‫ليس هذا ما يؤمن به كثير من الفالسفة بخصوص العالقة بين الذات وصفاتها‪ .‬يقولون إن الصفات‬
‫التي تحظى بها الذات ليست كثوب يخلعه اإلنسان ويرتدي غيره من دون أثر لذلك في استمراريته‪،‬‬
‫أو أثر في كينونته الذاتية أيضً ا‪ .‬يصف هيليارد أرونوفيتش الذات عند الجماعتيين بالذات "المثقلة"‬
‫‪ Encumbered‬المتموضعة اجتماع ًيا وتاريخ ًيا وثقاف ًيا(‪ ،((2‬ال تفصلها مسافة كبيرة عن صفاتها‪ .‬هذا على‬
‫خالف الذات الليبرالية التي يقول لسان حالها على لسان الجماعاتي مايكل ساندال‪" :‬ما من التزام‬
‫علي فهم نفسي من دونه‪ .‬وال تغيير في األهداف والخطط الحياتية يمكن أن يمزقني أو يؤثر‬ ‫يستعصي َّ‬
‫في المعالم الرئيسة لشخصيتي‪ .‬وال من مشرو َع أساسيًا لدي بحيث أن التخلي عنه يجعلني ال أعود‬
‫أعرف من أنا"(‪.((2‬‬

‫مثاًل‪ .‬مثال‬
‫ربما تكون الذات أيضً ا هكذا عند أصحاب العقائد الشاملة‪ ،‬وباألخص الدينية منها كاإلسالم ً‬
‫جا‬
‫ذلك أبو األعلى المودودي (‪ )1979–1903‬الذي يصف عالقة المسلم بالشريعة التي ترسم له برنام ً‬
‫كاماًل حتى على مستوى الحياة اليومية بقوله‪" :‬وهذه األحكام المتعلقة بالمعروف والمنكر شاملة لجميع‬
‫ً‬
‫شُ َعب حياتنا‪ ،‬من العبادات الدينية وأعمال األفراد وسيرتهم وأخالقهم وعاداتهم وآدابهم في األكل والشرب‬
‫والجلوس والقيام واللباس والكالم‪ ،‬والشؤون العائلية والصالت الجماعية والقضايا المالية واالقتصادية‬
‫واإلدارية وحقوق المواطنة وواجباتها‪ ،‬والعدالة ومرافق الحكومة وحاالت السلم والحرب والعالقات‬
‫باألمم األجنبية وما إليها‪ .‬فما هناك من شعبة من شعب الحياة وال ناحية من نواحيها إال وقد تناولتها‬
‫الشريعة وأوضحت لنا فيها الخير من الشر والطاهر من الخبيث والصحيح من الفاسد"(‪.((2‬‬

‫ومع هذا كله‪ ،‬ال يجد رولز غضاضة في دعوته المضمرة ألصحاب العقائد الشاملة إلى التمييز بين‬
‫هوية عامة وهوية خاصة‪ :‬هوية عامة يتقمصونها في الفضاء العام حيث يفكرون في إطار العقل العام‪،‬‬
‫وحيث يستخدمون المسوغات العامة‪ ،‬وهوية خاصة يتقمصونها في الفضاءات الخاصة‪ ،‬حيث يفكرون‬
‫في إطار العقل الكنائسي‪ ،‬أو قل‪ :‬العقل اإلسالمي‪ ،‬مستخدمين ما شاؤوا من المسوغات النابعة من‬
‫عقائدهم الشاملة‪.‬‬

‫ليس مطلب رولز التمييز بين هويتين والتفكير من خالل عقلين باألمر اله ّين‪ .‬وما يزيد األمر صعوبة‬
‫مطلبه المتمثل في أن يقدم المواطن مسوغاته العامة بحسن نية وإخالص واقتناع(‪ ،((2‬وليس من وراء‬
‫ظهر‪ ،‬كمن يتكلم فقط للتالعب بأفكار المستمعين‪ .‬ولكن تقديم المسوغات العامة بنية وإخالص‪،‬‬
‫وعن قناعة بأن تلك المسوغات العامة كافية لعرض تأييد المقترحات التي تجري مناقشتها أو دحضها‪،‬‬
‫يعني أن المواطن قادر على التفكير بصورة مستقلة عن عقيدته الشاملة‪ ،‬وأنه في غنى عن تلك العقيدة‬
‫من أجل إثبات المقترحات أو دحضها‪ .‬يدعو هذا األمر ويل كمليشكا إلى طرح الصعوبة التالية‪:‬‬

‫‪(24) Hilliard Aronovitch, "From Communitarianism to Republicanism: On Sandel and His Critics," Canadian Journal‬‬
‫‪of Philosophy, vol. 30, no. 4 (December 2000), p. 621.‬‬
‫‪(25) Michael Sandel, Liberalism and the Limits of Justice, 2nd ed. (Cambridge, UK/ New York: CUP, 1988), p. 62.‬‬
‫(‪ ((2‬أبو األعلى المودودي‪ ،‬القانون اإلسالمي وطرق تنفيذه (بيروت‪ :‬مؤسسة الرسالة‪ ،)1975 ،‬ص ‪.24–23‬‬
‫‪(27) Rawls, Political Liberalism, p. 241.‬‬
‫‪53‬‬ ‫ملف خاص‪ :‬قضايا في الفلسفة السياسية المعاصرة (‪)2‬‬
‫ةيسايسلا زلور ةفسلف قايس يف ةيوهلاو نيدلاو ماعلا لقعلا‬

‫"المشكلة هي كيف تفسر أ ّن مواط ًنا سوف يقبل بمثال االستقالل والفردية في سياق الحياة السياسية‬
‫والعامة‪ ،‬من دون أن يقبل به أيضً ا في الحياة الخاصة‪ .‬إذا كان األفراد هم أعضاء جماعات دينية تعتبر أن‬
‫الغايات والقيم الدينية جزء أساسي من الهوية‪ ،‬وإذا كان األفراد ليسوا بقادرين على وضع تلك الغايات‬
‫والقيم جانبًا؛ فلماذا سيقبلون بالتصورات السياسية العامة التي تفترض أنه لديهم هذه القدرة؟"(‪.((2‬‬

‫قد يقول قائل إن كمليشكا وساندال يضخمان من حجم المشكلة‪ ،‬ذلك أن اإلنسان العادي يتنقل‬
‫بين هويات مختلفة كل يوم‪ :‬فهو إنسان وأب وموظف ومسلم وجزائري وأفريقي‪ ،‬وقد يحمل جواز‬
‫سفر فرنسيًا وما إلى ذلك وأكثر‪ ،‬من دون أن يسبب هذا تمزقًا في الهوية(‪ .((2‬ومن المفكرين من يقول‬
‫بأن الهوية تتسم بالميوعة وعدم التحديد وأن القول بخالف ذلك يفضي بنا إلى جوهرانية تختزل‬
‫الوجود اإلنساني‪ ،‬بشكل غير واقعي‪ ،‬إلى عنصر واحد‪ .‬فما المشكلة؟ في الواقع‪ ،‬قد تكمن المشكلة‬
‫عند رولز نفسه‪ ،‬في ضوء التعبيرات التي يستخدمها عندما يطرح سؤاله المهم حول "إمكانية قيام‬
‫مجتمع يتسم بالديمومة واالستقرار‪ ،‬ويتألف من أفراد أحرار ومستقلين‪ ،‬تفرق بينهم وبشكل عميق‬
‫عقائد معقولة‪ ،‬دينية وفلسفية وأخالقية"(‪ ،((3‬وهو أيضً ا من يقر بأنه من الممكن أن بعض المواطنين‬
‫ال يستطيعون "التفكير في أنفسهم بمعزل عن قناعات دينية وفلسفية وأخالقية محددة‪ ،‬أو ارتباطات‬
‫ووالءات دائمة"(‪.((3‬‬

‫ليست هذه بالعبارات التي يمكن تجاهلها أو تناولها مجازيًا‪ .‬لنتوقف هنا عند حديث رولز عن مجتمع‬
‫منقسم "بشكل عميق" ومواطنين "ال يستطيعون التفكير في أنفسهم بمعزل عن قناعات دينية وفلسفية‬
‫وأخالقية"؛ أال يبدو رولز هنا كمن يقبل بالفرضية الجماعاتية التي تقر بأن الذات بطبيعتها مثقلة؟ وإذًا‪،‬‬
‫يجب عليه أن يقدم لنا تفسي ًرا يجيب عن هذا السؤال (المضمر في اعتراض كمليشكا المذكور آنفًا)‪:‬‬
‫كيف يكون في وسع الذوات المثقلة بعقائد شاملة غير ليبرالية أن تلتقي في فضاء عام حيث تتداول‬
‫بعملة المسوغات العامة عن قناعة وإخالص؟‬

‫قد يبدو لنا أن رولز يقدم مثل هذا التفسير من خالل التمييز بين المذاهب الشاملة التي يُفترض أن تكون‬
‫الذوات مثقلة بها‪ .‬فبعض هذه المذاهب الشاملة معقول‪ ،‬في حين أن بعضها غير معقول‪ .‬المذاهب‬
‫غير المعقولة هي تلك المذاهب التي يزعم أصحابها أ ّن ما هو صواب دين ًيا أو ما هو صواب فلسف ًيا‬
‫يتخطى‪ ،‬أو يتجاوز‪ ،‬المعقول سياسيًا‪ .‬أما المذاهب المعقولة فهي تلك المذاهب التي ال تقر بأولوية‬
‫الصواب السياسي على الصواب الديني أو الفلسفي أو األخالقي فحسب‪ ،‬بل هي أيضً ا مذاهب شاملة‬

‫‪(28) Will Kymlicka, "Two Models of Pluralism and Tolerance," in: Will Kymlicka & David Heyd (eds.), Toleration: An‬‬
‫‪Elusive Virtue (Princeton: Princeton University Press, 1996), p. 91.‬‬
‫متعقبا المسيحيين‬
‫ً‬ ‫(‪ ((2‬يورد رولز مثال شاول الطرسوسي اليهودي المتزمت‪ ،‬الذي تحول إلى بولس الرسول في الطريق إلى دمشق‬
‫األوائل‪ .‬فرغم ال َّتحول الجذري الذي حصل لشاول‪ ،‬فال أحد من المؤرخين ُيمكنه الشك في كون بولس هو شاول‪ ،‬وهو األمر الذي‬
‫يفسر مطاردة كهنة اليهود لبولس ورغبتهم بمحاكمته‪ .‬ويميز رولز بين الهوية العامة "شاول"‪ ،‬والهوية الخاصة "بولس"‪ .‬لالطالع أكثر‬
‫على مالحظة رولز المتعلقة بمسألة الهوية الشخصية‪ .‬ينظر‪.Rawls, "Justice as Fairness," p. 242 :‬‬
‫‪(30) Rawls, Political Liberalism, p. 4.‬‬
‫‪(31) Rawls, "Justice as Fairness," p. 241.‬‬
‫العدد ‪ - 43‬المجلد ‪Issue 43 - Volume 11 / 11‬‬
‫شتاء   ‪Winter 2023‬‬ ‫‪54‬‬
‫قد وجدت طريقها الخاص من داخلها‪ ،‬للتوافق مع اإلطار الليبرالي العام الذي تنضوي تحت لوائه‬
‫التصورات الليبرالية المختلفة للعدالة(‪ .((3‬ولكن إذا كانت تلك المذاهب قد وجدت من داخلها طريقة‬
‫للتوافق مع التنظيم السياسي للمجتمع بحسب مواصفات الليبرالية السياسية بعقلها العام ذي المضمون‬
‫مقبواًل‬
‫ً‬ ‫الليبرالي‪ ،‬وكانت أيضً ا تقر بأن الصواب الديني أو األخالقي أو الفلسفي ال يتخطى ما قد يكون‬
‫سياسيًا لدى الجميع‪ ،‬فكيف يمكن الزعم حينها أن المواطنين منقسمون بشكل عميق وأن ذواتهم‬
‫مثقلة؟ يعطي حديث رولز عن انقسام المجتمع بشكل "عميق" بين عقائد شاملة معقولة انطبا ًعا مفاده‬
‫أن االتفاق على مبادئ الليبرالية السياسية من شأنه أن يشكل إنجازًا عقالن ًيا كبي ًرا يتجاوز االنقسام‬
‫الفكري "العميق"‪ ،‬في حين أنه في الحقيقة ليس أكثر من تحصيل حاصل‪ .‬فمعقولية تلك العقائد‬
‫فعاًل‪ ،‬وأن إجماعهم على مشترك‬ ‫بحسب التصور الليبرالي‪ ،‬تعني أن االنقسام بين أصحابها ليس عميقًا ً‬
‫القاسم الليبرالي السياسي أمر محتم‪.‬‬

‫مثقاًل به ّم‬
‫ً‬ ‫في غياب تفنيد يقدمه رولز لمزاعم الجماعاتيين حول الذات المثقلة‪ ،‬سوف يبقى هو نفسه‬
‫الهويات‪ .‬فالذوات المثقلة فعل ًيا تنقسم إلى جماعات تحت–مجتمعية ‪ Sub–societal‬لكل منها عقله‬
‫الخاص‪ .‬ولن يكون هناك عقل عام إذا ما تبين‪ ،‬كما أشرنا‪ ،‬أن العقل العام الذي يصفه رولز ليس أكثر من‬
‫عقل يرتكز على الليبرالية السياسية‪ ،‬أي إنه عقل ليبرالي يضاف إلى مجموعة العقول الخاصة األخرى‪.‬‬

‫مع انهيار فكرة العقل العام يتعرض مفهوم الفضاء العام نفسه للضغط‪ .‬هذا ما يمكن استنتاجه من‬
‫مساءلة جيمس بوهمان لمفهوم الفضاء العام عند رولز‪ ،‬فهو يزعم أن رولز يك ّن افتراضً ا مضم ًرا (يسميه‬
‫"افتراض الفرادة" ‪ ،Assumption of Singularity‬مفاده أن المجتمع يحتوي على فضاء عام واحد‪،‬‬
‫وأن ما سواه ال يعدو أن يكون فضاءات خاصة‪ .‬وأما الحقيقة‪ ،‬بحسب ما يرى بوهمان‪ ،‬فهي أنه "إذا‬
‫كان المجتمع تعدديًا ومنقس ًما‪ ،‬فليس هناك 'مجال عام' واحد‪ ،‬وليس هناك جمهور ‪ Public‬واحد‪ ،‬بل‬
‫عدة مجاالت وعدة جماهير‪ :‬جماهير الجماعات تحت–المجتمعية‪ ،‬والثقافات"(‪ .((3‬وليس يخفى هنا‬
‫تشظ وتعددية في المسوغات العامة‪.‬‬ ‫أن التعددية والتشظي اللذين يلحقان بالفضاء العام‪ ،‬يصاحبهما ٍ‬
‫فكما أن هناك فضاءات عامة متعددة بحسب تعدد المعتقدات الشاملة‪ ،‬هناك أيضً ا منظومات متعددة‬
‫سؤااًل هو‪:‬‬
‫ً‬ ‫من المسوغات العامة بحسب تعدد تلك المعتقدات الشاملة نفسها‪ .‬كل ذلك يطرح علينا‬
‫هل يلزم أن نعترف بوجود فضاء عام واحد في ظل تعدد العقول الخاصة وفقر المضمون الليبرالي‬
‫السياسي الذي يقتات به العقل العام‪ ،‬بحسب مواصفات رولز؟‬

‫(‪ ((3‬نشير هنا إلى مفهوم اإلجماع المتقاطع‪ ،‬حيث تجد كل "عقيدة شاملة معقولة" طريقها الخاص بها للقبول باإلطار الليبرالي‪.‬‬
‫تفسر األديان بطريقة روحية أخالقية متسامحة تقر بحقوق اإلنسان‪ .‬حول مفهوم اإلجماع المتقاطع‪ ،‬ينظر‪:‬‬
‫هذا ما يحصل عندما ما َّ‬
‫;‪Rawls, Political Liberalism, p. 389‬‬
‫مرحبا به في إجماع رولز المتقاطع‪ ،‬ينظر‪:‬‬
‫ً‬ ‫حول تفسير اإلسالم بطريقة تجعله‬
‫‪Raja Bahlul, "Modernity and Islamic Religious Consciousness," in: Raja Bahlul & S. Akbarzadeh (eds.), A Handbook of‬‬
‫‪Political Islam (London: Routledge, 2012), pp. 35–50.‬‬
‫"‪(33) James Bohman, "Public Reason and Cultural Pluralism: Political Liberalism and the Problem of Moral Conflict,‬‬
‫‪Political Theory, vol. 23, no. 2 (May 1995), p. 260.‬‬
‫‪55‬‬ ‫ملف خاص‪ :‬قضايا في الفلسفة السياسية المعاصرة (‪)2‬‬
‫ةيسايسلا زلور ةفسلف قايس يف ةيوهلاو نيدلاو ماعلا لقعلا‬

‫ولكن حتى لو اعترفنا جداًلً بفكرة وجود فضاء عام واحد يحيط به عدد غير محدد من الفضاءات‬
‫الخاصة‪ ،‬فسوف يبقى هناك سؤال يُطرح حول عدالة التصور الليبرالي بوصفه هو نفسه تصو ًرا للعدالة‪.‬‬
‫فبحسب ما يرى وولترستورف‪ ،‬يفترض رولز أنه على الرغم من أن المؤمنين في العادة ال يقسمون‬
‫حيواتهم ما بين جانب ديني خاص وجانب سياسي عام‪ ،‬فإن قيامهم بذلك لن يشكل تعديًا على‬
‫تدينهم(‪ .((3‬وقد رأينا رولز يقول إن الليبرالية السياسية من خالل تصوراتها للعدالة "ال تتعدى على‬
‫مذاهب شاملة للمواطنين طالما أن تلك المذاهب تتفق مع التنظيم السياسي للمجتمع"(‪ .((3‬ولكن شرط‬
‫اتفاقها مع التنظيم العام هو التفاصيل التي "يكمن فيها الشيطان"‪ .‬فهذه المذاهب إن لم تتفق مع التنظيم‬
‫السياسي للمجتمع بحسب المواصفات التي تضعها الليبرالية السياسية تغدو "غير معقولة"‪ .‬ال يجد‬
‫وولترستورف أن هذا االفتراض منصف فيما يتعلق بحق العقائد الشاملة‪ .‬يقول المؤلف‪[" :‬يفترض رولز]‬
‫على الرغم من أن المؤمنين قد ال يقسمون حيواتهم ما بين جانب ديني وجانب غير ديني‪ ،‬وعلى الرغم‬
‫من أن بعضهم قد ال يسعد بمثل هذا التقسيم‪ ،‬أن ذلك لن يشكل في أي حال من األحوال انتهاكًا لدينهم‬
‫[‪ ]...‬ولكن رولز مخطئ في هذا االفتراض‪ .‬فقط عندما نتفكر في أمر المؤمنين الذين يعتقدون أن‬
‫دينهم يملي عليهم العيش بطريقة دينية متكاملة [في الفضاءين الخاص والعام]‪ ]...[ ،‬تظهر ال–عدالة‬
‫الموقف الليبرالي من الدين بشكل جلي"(‪.((3‬‬

‫من البيّن أن وولترستورف محق هنا إلى درجة معينة‪ .‬فمن الجائز الظن أن الدين (أو التفسير الذي يقبل‬
‫به المؤمنون للدين‪ ،‬بغض النظر عن معقولية ذلك التفسير من وجهة نظر الجهات الخارجية) قد يملي‬
‫على من يؤمنون به أسلوب حياة معي ًنا‪ ،‬كأن ال يعترف بالتفريق بين الحياة الخاصة والعامة على سبيل‬
‫المثال‪ .‬وقد ال يكون وولترستورف محقًا في زعمه أن الموقف الليبرالي الذي يتطلب الفصل بين الدين‬
‫والدنيا‪ ،‬يوقع ظل ًما بالمؤمنين‪ ،‬ولكن ال بد من القول إن النظام الليبرالي يسبب‪ ،‬على األقل‪ ،‬ما سوف‬
‫يعتقد المؤمنون أنه ظلم‪ ،‬وما سوف يختبرونه وجدانيًا وسلوكيًا أنه بمنزلة الظلم‪.‬‬

‫مع هذا كله‪ ،‬يجب االعتراف بأن ما يقوله وولترستورف والجماعاتيون‪ ،‬ليس إال وج ًها واح ًدا للعملة‬
‫التي نتداولها في هذا السياق‪ .‬هناك وجه آخر يتمثل في التعددية واالنقسامات (العميقة في كثير من‬
‫األحيان) القائمة بشكل متزايد في أغلب المجتمعات‪ .‬ماذا نصنع بتلك التعددية؟ ألن يحيق النوع نفسه‬
‫من الظلم بغير المؤمنين إذا ما طُلب من المواطنين جمي ًعا االلتزام بعقيدة شاملة من نوع أو آخر في‬
‫نطاق الحياة العامة؟ سنعالج هذا السؤال فيما يلي‪.‬‬

‫رابعا‪ :‬مأزق الليبرالية السياسية والعقائد الشاملة‬


‫ً‬
‫رأينا في القسم السابق أن خصوم رولز يطرحون تحديات أساسية وذات معنى في وجه الموقف‬
‫الليبرالي في السياسة‪ ،‬وهم بذلك يعبرون عن مخاوف وشكوك تراود الكثيرين من أصحاب العقائد‬

‫‪(34) Audi & Wolterstorff, p. 116.‬‬


‫(‪ ((3‬رولز‪ ،‬ص ‪.227‬‬
‫‪(36) Audi & Wolterstorff, p. 116.‬‬
‫العدد ‪ - 43‬المجلد ‪Issue 43 - Volume 11 / 11‬‬
‫شتاء   ‪Winter 2023‬‬ ‫‪56‬‬
‫الشاملة كاألديان؛ ممن ال يجدون الموقف الليبرالي مقن ًعا أو مطم ِئ ًنا‪ .‬ولكن العدل يقتضي التوقف‬
‫عند الصعوبات التي سوف تواجهنا إذا نحن قررنا العبور إلى موقف غير ليبرالي‪ ،‬كذلك الذي ينادي‬
‫دال على ذلك‪ ،‬لنتدارس الموقف الذي دافع عنه المفكر‬ ‫به بعض أنصار العقائد الشاملة‪ .‬وكمثلٍ ّ‬
‫اإلسالمي راشد الغنوشي في كتاب الحريات العامة في الدولة اإلسالمية الصادر عام ‪.((3(1993‬‬

‫ينتمي الغنوشي إلى فريق من المفكرين اإلسالميين الذي يعتقدون أنه ال يوجد تعارض بين‬
‫اإلسالم والديمقراطية؛ إذ يقول‪" :‬إذ يمكن آلليات الديمقراطية [‪ ]...‬باعتبارها إرث ًا إنسان ًيا أن تعمل‬
‫في مناخات ثقافية وعلى أرضيات فكرية مختلفة‪ ،‬فليست العلمانية [‪ ]...‬وفصل الدين عن الدولة‬
‫[‪ ]...‬حتميات الزمة [للنظام الديمقراطي] بما هو سيادة للشعب ومساواة بين الموطنين وهيئات‬
‫للحكم منبثقة عن إرادة الشعب عبر انتخابات حرة وتداول على السلطة من خالل االعتراف‬
‫بحق األغلبية في الحكم والقرار [‪ .]...‬ليس في هذه اآلليات [‪ ]...‬ما يتعارض ضرورة مع قيم‬
‫اإلسالم"(‪.((3‬‬

‫يشتمل فكر الغنوشي أيضً ا على العدة المفاهيمية الالزمة لصياغة تصور عما يمكن تسميته بـ "عقل‬
‫إسالمي" يقوم بدور مشابه للدور الذي يقوم به العقل العام عند رولز‪ .‬من المناسب هنا التذكير‬
‫بما اقتبسناه سابقًا من حديث الغنوشي عن تصورات واجتهادات وتوجهات تتنافس على أرضية مشتركة‬
‫من المفاهيم والقيم اإلسالمية‪ ،‬فـ "تنشأ األحزاب‪ ،‬وهي كلها في الحقيقة حزب واحد هو حزب الله‪،‬‬
‫وكلهم الجماعة الناجية"(‪.((3‬‬

‫هذا الجانب "المشرق" من فلسفة الغنوشي السياسية‪ ،‬يخفي من ورائه جان ًبا ليس أقل قتامة من الجانب‬
‫المض َمر في مفهوم رولز عن العقل ذي المضمون الليبرالي‪ .‬فبعد أن ينتهي الغنوشي من القول "تنشأ‬
‫قائاًل‪" :‬وال ضير بعد ذلك أن توجد عندنا كما هو عند الغرب [‪ ]...‬جماعات‬ ‫األحزاب [‪ ،"]...‬يضيف ً‬
‫هامشية [‪ ]...‬يتكفل المجتمع المدني بتهميشها دون حاجة إلى سلطان الدولة"(‪ .((4‬لعل الغنوشي‬
‫يقصد اإلشارة إلى احتمال قيام أحزاب شيوعية أو علمانية أو حركات نسوية تنادي بالمساواة الكاملة‬
‫بين الرجال والنساء‪ .‬بالطبع وصف هذه الجماعات بالهامشية وصف متحامل وغير موضوعي يستبق‬
‫األحداث‪ ،‬فمن يدري؟ لعلها تنمو وتتطور‪ .‬هل سيكون عندها حاجة إلى سلطان الدولة لتهميشها؟‬
‫حا‪ .‬وفي موضع آخر يقول الغنوشي‪" :‬في الدولة اإلسالمية غير المسلم ممن يوالي‬ ‫ليس هذا واض ً‬
‫الدولة‪ ،‬ويعترف بشرعيتها وال يهدد نظامها العام وال يوالي أعداءها‪ ،‬فهو مواطن‪ .‬ولكن مواطنته تظل‬
‫ذات خصوصية ال ترتفع إال بدخوله اإلسالم‪ ،‬أي يظل متمت ًعا بحرية ال يتمتع بها المسلم تتعلق بحياته‬
‫الشخصية في أكله وشربه وزواجه‪ ،‬محرو ًما من حقوق يتمتع بها المسلم كتولي مواقع رئيسية في الدولة‬

‫تغير فكر الغنوشي‪ ،‬وباألخص بعد الثورة التونسية عام ‪ 2011‬كما س ُنبين‬‫(‪ ((3‬ينظر‪ :‬الغنوشي‪ .‬والكتاب بالطبع قديم العهد‪ ،‬وقد ّ‬
‫الحقًا‪ .‬ما يعنينا في المقام األول هو تقديم نموذج عن العقائد الشاملة التي يعترض عليها رولز‪.‬‬
‫(‪ ((3‬المرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.88‬‬
‫(‪ ((3‬المرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.295–294‬‬
‫(‪ ((4‬المرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.295‬‬
‫‪57‬‬ ‫ملف خاص‪ :‬قضايا في الفلسفة السياسية المعاصرة (‪)2‬‬
‫ةيسايسلا زلور ةفسلف قايس يف ةيوهلاو نيدلاو ماعلا لقعلا‬

‫ذات مساس بهويتها (الرئاسة العامة) [‪ ]...‬وهي استثناءات محدودة ال تخل بمبدأ المساواة‪ ،‬وهو مبدأ‬
‫أساسي مرعي في الدولة اإلسالمية"(‪.((4‬‬

‫هنا ال يظهر أن الغنوشي يدرك تما ًما التبعات المترتبة على القول بالمواطنة "ذات الخصوصية"‬
‫و"االستثناءات المحدودة التي ال تخل بمبدأ المساواة"‪ .‬قد ال يجد الغنوشي في العالم العربي من‬
‫يعترض على هذين المفهومين‪ ،‬ولكنه حت ًما سيجد في الخارج من يقول له إن المواطنة ذات الخصوصية‪،‬‬
‫بحسب هذا الفهم‪ ،‬هي مواطنة منقوصة‪ ،‬وإن المواطنة ال تأتي بدرجات‪ .‬وسيجد من يقول له إن مبدأ‬
‫المساواة ال يقبل االستثناء‪ ،‬فإما أن نقول إن الناس متساوون أو غير متساوين‪ .‬وحتى بعد سبع سنوات‬
‫من صدور كتاب الحريات العامة في الدولة اإلسالمية‪ ،‬بقي الغنوشي يشعر بالحاجة إلى طمأنة الرجال‬
‫(فضاًل عن انتخابات رئاسة الدولة)‪:‬‬
‫ً‬ ‫حول مخاطر السماح للمرأة بالمشاركة في االنتخابات البرلمانية‬
‫"إن عدد النساء الالتي يرشحن للمجلس النيابي سيظل محدو ًدا‪ ،‬وستظل األكثرية الساحقة من الرجال‪،‬‬
‫وهذه األكثرية هي التي تحل وتعقد فال مجال للقول إن ترشيح المرأة للمجلس سيجعل الوالية للنساء‬
‫على الرجال"(‪.((4‬‬

‫يذكرنا الغنوشي هنا بأن للدولة اإلسالمية هوية إسالمية يحملها المواطن العادي في المجال الخاص‪،‬‬
‫وفي المجال العام من دون تمييز‪ .‬ال يرتدي المواطنون قبعتين‪ ،‬واحدة في المنزل وأخرى في الشارع‬
‫كما يتخيل رولز‪ ،‬وال هم يشعرون بالتمزق‪ ،‬كما يخشى وولترستورف الذي يشفق على المؤمن الذي‬
‫ال يستطيع العيش بطريقة دينية متكاملة كما يتطلب دينه‪ .‬ال شك في أن هذه صورة مريحة بالنسبة إلى‬
‫الغنوشي ومن يرى رأيه‪ ،‬بقدر ما هي منفرة بالنسبة إلى من ال يشاركونهم موقفهم الشامل‪ ،‬سواء كانوا‬
‫ليبراليين أو منتمين إلى عقائد شاملة أخرى‪.‬‬

‫من الواضح اآلن‪ ،‬في ضوء ما رأيناه في هذا القسم والقسم السابق‪ ،‬أن الخط الليبرالي والخط العقائدي‬
‫حاًّل عقالن ًّيا‬
‫الشامل يسير أحدهما بموازاة اآلخر‪ .‬الخالف فلسفي صرف‪ ،‬وليس من الواضح أن هناك ًّ‬
‫يمكن التوافق عليه‪ .‬لو جردنا العقل من "مضمونه" الليبرالي أو اإلسالمي وكل مضمون آخر‪ ،‬فلن يبقى‬
‫لنا سوى عقل المنطق والرياضيات وغير الخالفي من العلم (في هذا الوقت)‪ ،‬والحس السليم (الذي‬
‫قد نشك في عموميته‪ ،‬كونه يختلف بين ثقافة وأخرى ومن عصر إلى آخر)‪ .‬هذا العقل في المجمل‬
‫عقل حسابي وسائلي‪ ،‬ليس في وسعه حسم خالفات فلسفية تشمل المسائل األساسية‪ ،‬مثل طبيعة‬
‫اإلنسان والغاية من االجتماع والقيم األخالقية وحقيقة الدين ومعنى الحياة‪ .‬أما إذا أردنا إغناء هذا العقل‬
‫معقواًل‪ .‬وسوف‬ ‫ً‬ ‫بمضمون من نوع ما؛ فسوف يُطرح السؤال نفسه‪ ،‬حول ما إذا كان ذلك المضمون‬
‫يقول البعض إن هذا المضمون معقول أو إن ذلك المضمون غير معقول‪ ،‬كما يفعل رولز عندما يصنف‬
‫العقائد الشاملة إلى عقائد معقولة وعقائد غير معقولة‪ .‬واآلن كيف نحدد المعقولية؟ هل لها من تعريف‬
‫متفق عليه؟‬

‫(‪ ((4‬المرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.291–290‬‬


‫(‪ ((4‬راشد الغنوشي‪ ،‬المرأة بين القرآن وواقع المسلمين (لندن‪ :‬المركز المغربي للبحث والترجمة‪ ،)2000 ،‬ص ‪.119‬‬
‫العدد ‪ - 43‬المجلد ‪Issue 43 - Volume 11 / 11‬‬
‫شتاء   ‪Winter 2023‬‬ ‫‪58‬‬
‫في سياق عرضه للتصور اإلجرائي للديمقراطية يقول جوزيف شومبيتر (‪ )1950–1883‬إن هناك نو ًعا‬
‫من الموقف الديني الذي يرى في المهرطق ما هو أسوأ من اإلنسان الفاقد العقل(‪ .((4‬يصدمنا هذا‬
‫القول كثي ًرا في الوقت الحاضر‪ ،‬والغالبية العظمى من الناس سوف تقول إن هذا الموقف الديني يحدد‬
‫العقالنية بصورة غير معقولة‪ .‬ولكن ماذا عن اإلنسان الذي يرفض الفصل بين الخاص الديني والعام‬
‫حا بين رولز وخصومه‪.‬‬
‫السياسي؟ أهو إنسان معقول أم إنسان غير معقول؟ ليس الجواب واض ً‬
‫يقول رولز إننا بصدد الحديث عن "معقولية سياسية" وليس معقولية على نحو مطلق‪ .‬ومن ثم (ومن‬
‫معقواًل‬
‫ً‬ ‫وجهة نظر رولز)‪ ،‬يمكن القول إن اإلنسان الذي يرفض الفصل بين الدين والسياسة‪ ،‬ليس إنسانًا‬
‫سياسيًا‪ ،‬فهو يطرح ما ليس من المعقول سياسيًا أن يقبل به اآلخرون‪ .‬أما التصورات الليبرالية التي‬
‫يرحب بها رولز‪ ،‬فهي "معقولة" سياس ًيا‪ ،‬ألنه من المتوقع والمعقول سياس ًيا أن يقبل بها اآلخرون؛‬
‫الليبراليون بالطبع (هذا بديهي)‪ .‬ولكن األهم من ذلك أن يقبل بها أصحاب العقائد الشاملة‪ .‬يستبق‬
‫قائاًل إن المقصود هنا هو "العقائد الشاملة المعقولة"‪،‬‬
‫رولز اعتراضً ا متوق ًعا‪ ،‬فيسارع إلى تحصين موقفه ً‬
‫وليس العقائد الشاملة من دون قيد أو شرط‪ .‬فمن المفهوم طب ًعا أن كثي ًرا من العقائد الشاملة ال تقبل‬
‫مثاًل)‪.‬‬
‫بالتصورات الليبرالية (ينظر االنتقادات الجماعاتية ً‬

‫ولكن كيف ت ُف َهم معقولية العقائد الشاملة المعقولة عند رولز؟ يبدو أن ذلك يجري باإلشارة إلى قبول تلك‬
‫العقائد بالحريات الدستورية األساسية‪ ،‬بما فيها حرية الدين والضمير‪ ،‬وأيضً ا اإلقرار بأولوية الصواب‬
‫السياسي على الصواب األخالقي أو الميتافيزيقي (يُمكن الرجوع إلى القسم الثاني من هذه الدراسة)‪.‬‬
‫وال يخفى أن هذا ليس تعريفًا محاي ًدا للمعقولية‪ ،‬ولن يرضى به أصحاب العقائد الشاملة‪ ،‬إال من نجح‬
‫منهم في إعادة تفسير عقيدته بما قد يضمن التوافق بين الليبرالية وتلك العقيدة الشاملة‪ .‬وهذا ليس باألمر‬
‫الهيّن‪ ،‬ذلك أن أول ما تقتضيه إعادة التفسير هذه هو أن يُستب َدل بالمفهوم العقائدي للمعقولية (عقل‬
‫إسالمي‪ ،‬عقل كنسي ‪ ...‬إلخ) المفهو ُم الليبرالي للعقالنية أو ما يسميه رولز بالعقل العام‪.‬‬

‫إعادة التفسير هذه أم ٌر ممكن‪ ،‬نجد لها أمثلة في كتابات الباكستاني األصل‪ :‬فضل الرحمن مالك الذي‬
‫يع ّرف إسالمية ‪ Islamicity‬المعتقدات والمؤسسات باإلشارة إلى نبوعها من التعليم الكلي للقرآن‬
‫والسنة‪ ،‬الذي ندرك من خالله أن هدف التعاليم اإلسالمية يتمثل في خلق جماعة تحيا حياة عادلة‬
‫وخ ّيرة(‪ .((4‬كما نجده أيضً ا في كتابات السوداني عبد الله النعيم الذي يدعو إلى إصالح إسالمي يتمثل‬
‫في العبور من أحكام الشريعة التاريخية القائمة على اآليات القرآنية المدنية إلى أحكام شرعية جديدة‬
‫تقوم على أساس اآليات المكية التي يعتقد النعيم أنها متوافقة تما ًما مع فهمنا المعاصر لحقوق اإلنسان‪،‬‬
‫بما في ذلك المواطنة دونما تمييز على أساس الجنس أو الدين(‪.((4‬‬

‫‪(43) J. Schumpeter, Capitalism, Socialism, and Democracy (New York: Harper & Row, 1976), p. 245.‬‬
‫‪(44) Fazlur Rahman, Islam and Modernity: Transformation of an Intellectual Tradition (Chicago, IL: University of‬‬
‫‪Chicago Press. 1982), pp. 13, 22.‬‬
‫‪(45) A. An–Na’im, Toward an Islamic Reformation: Civil liberties, Human Rights, and International Law (Syracuse,‬‬
‫‪NY: Syracuse University Press, 1990), pp. 52, 179.‬‬
‫‪59‬‬ ‫ملف خاص‪ :‬قضايا في الفلسفة السياسية المعاصرة (‪)2‬‬
‫ةيسايسلا زلور ةفسلف قايس يف ةيوهلاو نيدلاو ماعلا لقعلا‬

‫لكن من المرجح أن يلقى المنادون بالتفسير الليبرالي للدين معارضة شديدة م ّمن يعتقدون أن إعادة‬
‫التفسير تعني التخلي عن العقيدة‪ .‬هذا ما حصل في حالة المفكر السوداني محمود طه الذي أُعدم‬
‫عام ‪ ،1985‬وتلميذه عبد الله النعيم الذي يعيش اآلن في المنفى‪ ،‬والذي ال يبدو أن إصالحه اإلسالمي‬
‫المقترح يقل جذرية عن اإلصالح البروتستانتي الذي انتهى إلى تقسيم العالم المسيحي إلى قسمين(‪.((4‬‬
‫في مثل هذه الحاالت من االختالف الجذري‪ ،‬من المحتم أن ال يشمل الخالف عناصر محددة من‬
‫العقائد فحسب‪ ،‬بل أيضً ا مفهوم المعقولية نفسه‪ ،‬كما شهدنا في حالة رولز‪.‬‬

‫من ثم‪ ،‬هناك ما يدعو إلى الظن أنه من غير الممكن حسم الخالفات العقائدية نتيجة الحوار العقالني‬
‫والتنازالت المتبادلة‪ .‬بل على العكس من ذلك‪ ،‬يزعم أحد الكتاب أن الحسم والتغيير في المجال‬
‫العقائدي ينجم عن تطورات تاريخية طويلة األمد وبعيدة األثر‪ ،‬ال تكون دو ًما أو بالضرورة سلمية‪ .‬يقول‬
‫صمويل هاريس‪" :‬إن السبب الوحيد الذي يقود اإلنسان إلى تبني موقف معتدل في األمور اإليمانية‬
‫هو أن اإلنسان قد استوعب بعض دروس الفكر البشري في آخر ألفَي عام‪ .‬والباب الذي يخرجنا من‬
‫التفسير الحرفي للنصوص الدينية ال ينفتح من الداخل‪ .‬إن االعتدال الذي نجده عند بعض المتدينين‬
‫من غير األصوليين ال يشير إلى حقيقة مفادها أن المعتقد الديني نفسه قد تطور‪ ،‬بل على العكس‪ ،‬ليس‬
‫ذلك االعتدال سوى نتيجة الضربات التي قامت الحداثة بتوجيهها للدين‪ ،‬األمر نجم عنه الشك في‬
‫بعض المعتقدات الدينية"(‪.((4‬‬

‫خامسا‪ :‬دور للتاريخ‬


‫ً‬
‫من أجل حشد بعض التأييد لفكرة أن التاريخ والتطورات التاريخية هي التي في وسعها حسم الخالفات‬
‫قلياًل‪ ،‬بعض الوقت‪،‬‬
‫العقائدية‪ ،‬ومن ثم الوصول إلى قناعات متفق عليها‪ ،‬من المستحسن أن نبتعد ً‬
‫عن موضوع الليبرالية والعقائد الشاملة‪ ،‬لنتحدث عن مفهوم حقوق اإلنسان في الوقت الحاضر‪ .‬ومن‬
‫الواضح لدينا أن المساواة والحرية وغيرهما من حقوق اإلنسان ليست متحققة على أرض الواقع اآلن‪،‬‬
‫وأن الصراع من أجلها ال يزال مستم ًرا على أمل أن يأتي ذلك اليوم الذي نقول فيه إن اإلنسان قد نال‬
‫حقوقه‪ .‬وفي انتظار ذلك الوقت‪ ،‬تبقى عبارة "الناس أحرار ومتساوون" التي تتكرر‪ ،‬إلى حد بات يدعو‬
‫إلى السأم في نقاشات حقوق اإلنسان‪ ،‬ملتبس ًة بين معنين يسهل الخلط بينهما؛ معنى "ينبغي أن يكون‬
‫الناس أحرا ًرا ومتساوين" (وهو ما تقول به المواثيق والعهود الدولية وأعداد متزايدة من البشر)‪ ،‬ومعنى‬
‫(فعاًل) أحرار ومتساوون"‪ ،‬وهو أبعد ما يكون عن الصواب‪.‬‬‫ً‬ ‫"الناس‬

‫بالطبع‪ ،‬تعلمنا من فالسفة كبار في الحقبة الحديثة (وباألخص فالسفة العقد االجتماعي) أن الناس‬
‫"بالطبيعة" أحرار ومتساوون‪ ،‬وقد عاشوا كذلك في حالة الطبيعة ‪ State of Nature‬التي اختاروا (ألسباب‬
‫مختلفة) الخروج منها من خالل "عقد اجتماعي" يصون حقوقهم؛ بما فيها الحرية والمساواة وغيرهما‬

‫(‪ ((4‬من أجل مناقشة مستفيضة لهذه المسألة‪ ،‬وباإلشارة إلى ما يمكن تسميته بـ "اإلسالم الليبرالي"‪ ،‬ينظر‪:‬‬
‫"‪Bahlul, "Modernity and Islamic Religious Consciousness.‬‬
‫‪(47) S. Harris, The End of Faith: Religion, Terror and the Future of Reason (London: The Free Press, 2004), p. 19.‬‬
‫العدد ‪ - 43‬المجلد ‪Issue 43 - Volume 11 / 11‬‬
‫شتاء   ‪Winter 2023‬‬ ‫‪60‬‬
‫من الحقوق التي كانوا يمتلكونها في حالة الطبيعة‪ .‬لم تغب هذه الفكرة عن أذهاننا ولو برهة قصيرة منذ‬
‫بداية العهد الحديث‪ .‬ولذا‪ ،‬تجد مارغريت كانوفان فكرة المساواة الطبيعية (والحرية الطبيعية أيضً ا)‪،‬‬
‫ُمنبثة في فلسفة جون رولز السياسية‪ ،‬بحيث "يسير شبح حالة الطبيعة متخفيًا بلباس "الوضع األصلي"‬
‫‪ ،((4(The Original Position‬بل يمكن القول‪ ،‬بعبارات طالل األسد هذه المرة‪ ،‬إننا أصبحنا ننظر إلى‬
‫حالة الطبيعة (التي لم نعد نفكر فيها كواقعة تاريخية) كنوع من الحقيقة الميتافيزيقية العميقة ‪Deep‬‬
‫‪ Reality‬التي تتجاوز في عمقها حقائق عالمنا المادي واالقتصادي واالجتماعي بوقائعه المعروفة‬
‫والكئيبة(‪.((4‬‬

‫ولكن هل فكرة أن لإلنسان حقوقًا ال يمكن سلبها في الحرية والمساواة وغيرها أكثر من أسطورة يمكن‬
‫مقارنتها بأسطورة الكهف عند أفالطون‪ ،‬أو قصة الخلق المتميز في الدين‪ ،‬أو اعتقاد كارل ماركس‬
‫المتمثل في حتمية قيام المجتمع الشيوعي؟ مرة أخرى‪ ،‬تقول كانوفان‪" :‬كما أشار عدد ال يحصى‬
‫من النقاد؛ ليس من الحس السليم في شيء افتراض أن كل البشر قد خلقوا متساوين‪ ،‬أو أنهم منحوا‬
‫حقوقًا ال يمكن سلبها في الحياة والحرية والبحث عن السعادة‪ .‬بل على العكس من ذلك تما ًما‪ :‬سوف‬
‫يستنتج المراقب ال ُمحايد‪ ،‬الذي ينظر في أحوال البشر عن بُعد‪ ،‬أن فكرة المساواة بين البشر ليست بينة‬
‫بذاتها"(‪.((5‬‬

‫واستنا ًدا إلى ذلك؛ تستنتج كانوفان أنه يجب علينا النظر إلى الليبرالية‪ ،‬ومعها حقوق اإلنسان بالطبع‪،‬‬
‫بوصفها مشرو ًعا تاريخ ًيا نأمل أن يتحقق في المستقبل‪" :‬لم تكن الليبرالية يو ًما وصفًا للعالم [كما هو]"‪،‬‬
‫بل هي "مشروع ينبغي السعي لتحقيقه"(‪.((5‬‬

‫يوجد هنا‪ ،‬إذًا‪ ،‬دور للتاريخ؛ وذلك ألن الوصول إلى الوضع الذي تتحقق فيه حقوق اإلنسان على أرض‬
‫الواقع‪ ،‬يتطلب أن تتغير الكثير من المعتقدات التي نحملها والمفاهيم التي نفكر من خاللها‪ ،‬بل – أكثر‬
‫من ذلك – يجب أن تتغير أحاسيسنا ومشاعرنا الوجدانية حول ما نحب ونكره‪ .‬وقد ذهب ريتشارد رورتي‬
‫(‪ )2007–1931‬إلى ربط آمالنا وأحالمنا بمستقبل ت ُحترم فيه حقوق اإلنسان؛ ليس بالفلسفة والحجج‬
‫المنطقية التي تثبت صدق القول بحقوق اإلنسان‪ ،‬بل بتنمية المشاعر المؤيدة لحقوق اإلنسان في‬
‫"أجيال من الطلبة الذين يتمتعون بحسن الخلق والتسامح‪ ،‬ومن هم ميسورو الحال ويشعرون باألمان‬
‫في حياتهم ويحترمون اآلخرين"(‪.((5‬‬

‫‪(48) Ibid.‬‬
‫‪(49) Talal Asad, Formations of the Secular: Christianity, Islam, Modernity (Palo Alto: Stanford University Press, 2003),‬‬
‫‪p. 57.‬‬
‫‪(50) Margaret Canovan, "On Being Economical with the Truth: Some Liberal Reflections," Political Studies, vol. 38,‬‬
‫‪no. 1 (March 1990), p. 9.‬‬
‫‪(51) Ibid., p. 16.‬‬
‫‪(52) R. Rorty, "Human Rights, Rationality and Sentimentality," in: R. Rorty, Truth and Progress (Cambridge: Cambridge‬‬
‫‪University Press, 1994), p. 179.‬‬
‫‪61‬‬ ‫ملف خاص‪ :‬قضايا في الفلسفة السياسية المعاصرة (‪)2‬‬
‫ةيسايسلا زلور ةفسلف قايس يف ةيوهلاو نيدلاو ماعلا لقعلا‬

‫ما ينطبق على حقوق اإلنسان والليبرالية‪ ،‬ينطبق أيضً ا على العقائد الشاملة التي يؤمن بها الناس في‬
‫مختلف بقاع العالم؛ بمعنى أن للتاريخ دو ًرا يؤديه في التغييرات التي يمكن أن تل ّم بفهمنا لها وطريقة‬
‫عيشنا إياها يو ًما بعد يوم‪ .‬وأبرز مثال دال على ذلك ما خبرناه‪ ،‬وما نخبره‪ ،‬في الحالة التونسية من‬
‫تطور في فكر حزب النهضة اإلسالمي‪ ،‬وزعيمه راشد الغنوشي‪ .‬فكما يورد آندرو مارتش ‪Andrew‬‬
‫‪ March‬في الكتاب الذي أصدره عام ‪ 2019‬حول فكر الغنوشي كممثل للفكر اإلسالمي الحديث(‪،((5‬‬
‫اضطر الغنوشي‪ ،‬تحت وطأة حقائق وتاريخ الواقع التونسي‪ ،‬إلى االعتراف بأنه "يجب التعامل مع‬
‫نطاق التعددية األخالقية والسياسية في تونس كحقيقة ثابتة حول ذلك المجتمع"(‪ .((5‬هذا يعني أنه‬
‫لم يعد في وسعه أن يحلم بالمشاركة في الحياة السياسية التونسية منذ عام ‪ 2011‬فصاع ًدا‪ ،‬سي ًرا على‬
‫البرنامج الذي اختطه في كتاب الحريات العامة في الدولة اإلسالمية (‪)1993‬؛ أي إنه لم يعد في وسعه‬
‫أن يفسر الشريعة بالطريقة السياسية التقليدية التي تضع مواطنة غير المسلم في إطار خصوصية معينة‪.‬‬
‫وما حصل بالفعل‪ ،‬بحسب ما يرى مارتش‪ ،‬هو أن الشريعة باتت في نظر الغنوشي‪ ،‬على وجه التقريب‪،‬‬
‫تقتصر على االلتزام بحكم القانون ومحدودية صالحيات الحكومة‪ ،‬ولم تعد ذلك المخزون الثقيل‬
‫من القواعد والمناهج والمبادئ‪ .‬ولم يعد المبدأ العام المنظم عنده هو النظرية الدستورية اإلسالمية‬
‫كما تفهم تقليديًا‪ ،‬بل الدروس المستفادة من وثيقة دستور المدينة كما يفهمها الغنوشي نفسه اآلن(‪.((5‬‬

‫إذا صح مثل هذا الكالم‪ ،‬فإن الغنوشي قد بات قاب قوسين أو أدنى من االنضمام إلى صف اإلسالميين‬
‫الليبراليين مثل علي حسن أحمد عبد الرازق (‪ ،)1966–1888‬وعبد الله أحمد النعيم (‪،)–1946‬‬
‫وفضل الرحمن (‪ ،)1919–1988‬وحسين حاجي فرج الدباغ المعروف باسم عبد الكريم سروش‬
‫(‪ ،)–1945‬ومحمد الطالبي (‪ ،)2017–1921‬وغيرهم(‪ .((5‬وعندما يصل الغنوشي إلى هذا المنعطف‪،‬‬
‫فإن رولز لن يمانع في النظر إلى عقيدة الغنوشي الشاملة (واإلسالم الليبرالي عمو ًما) بوصفها عقيدة من‬
‫العقائد المعقولة التي يمكن أن تتعايش مع العقائد األخرى تحت مظلة نظام سياسي قائم على أساس‬
‫الليبرالية السياسية(‪.((5‬‬

‫ال ينبغي أن نعتقد أن األديان هي التي يجب أن تتخذ الخطوة األولى في مسعى التقارب‪ ،‬بل إن‬
‫الليبرالية نفسها قد تكتشف أنها تدين بالكثير لألديان‪ .‬وربما كان هذا أم ًرا ال يحتاج إلى مضي قرون‬
‫قبل أن نشرع في تفهمه؛ إذ يقول بذلك كثير من المفكرين‪ ،‬مع أن األمر ليس شائ ًعا بين عامة الناس‬

‫‪(53) Andrew March, The Caliphate of Man: Popular Sovereignty in the Modern Islamic Thought (Cambridge: Harvard‬‬
‫‪University Press, 2019).‬‬
‫‪(54) Ibid., p. 216.‬‬
‫‪(55) Ibid., pp. 216–217.‬‬
‫(‪ ((5‬لمناقشة هذا التحول في فكر الغنوشي وتفسيره الجديد لعالقة الشريعة بالسياسة‪ ،‬ينظر‪:‬‬
‫"‪Raja Bahlul, "Islamic Democracy and Popular Sovereignty: A Critical Essay on Andrew March’s The Caliphate of Man,‬‬
‫‪Comparative Political Theory, vol. 1, no. 2 (December 2021), pp. 303–312.‬‬
‫لنقاش مستفيض متعلق بالعالقة بين اإلسالم الليبرالي والليبرالية السياسية ومفهوم اإلجماع المتقاطع ‪Overlapping Consensus‬‬‫(‪((5‬‬
‫عند رولز‪ ،‬ينظر على سبيل المثال‪:‬‬
‫‪Bahlul, "Modernity and Islamic Religious Consciousness," pp. 35–50.‬‬
‫العدد ‪ - 43‬المجلد ‪Issue 43 - Volume 11 / 11‬‬
‫شتاء   ‪Winter 2023‬‬ ‫‪62‬‬
‫الذين قد ال يدركون التقارب الفعلي بين هذا وذاك‪ .‬الليبرالية ليست بعيدة عن األسطورة‪ ،‬وذلك أن‬
‫مفهوم العقد االجتماعي الذي خرج به الناس من حالة الطبيعة إلى حالة المجتمع لم يكن يو ًما سوى‬
‫قصة أسطورية ع ّبرت من خاللها الليبرالية عن نفسها‪ .‬وكما تقول كانوفان؛ ليس هناك من برهان عقالني‬
‫على أن الناس متساوون وأحرار‪ ،‬بل قد ال يعدو األمر أن يكون فعل "إيمان"‪ ،‬أي مبدأ يؤمن به اإلنسان‬
‫كما يؤمن بدين معين‪ .‬يقول الري سيدنتوب إن "االفتراض القائل إن المجتمع يتألف من أفراد يحظى‬
‫كل واحد منهم [‪ ]...‬بأرضية وجودية خاصة به هو ترجمة للمبدأ المسيحي القائل بتساوي البشر في‬
‫نظر الله"(‪ .((5‬في حين يقول حسن الترابي "إن الشرع اإلسالمي عرف جوهر الديمقراطية [‪ ]...‬يوم‬
‫آمن المسلمون بالله الواحد‪ُ ،‬مدركين أنهم متساوون في عبادته"(‪ .((5‬وال يجد روبرت دال (‪–1915‬‬
‫‪ )2014‬سن ًدا لفكرة المساواة الجوهرية ‪ Intrinsic Equality‬بين البشر‪ ،‬أفضل من "العقيدة المشتركة‬
‫بين اليهودية والمسيحية واإلسالم التي تقول إن الناس جمي ًعا هم أبناء الله"(‪( ((6‬أو قُل‪ :‬عباد الله بلغة‬
‫المفاهيم اإلسالمية)‪ .‬كل هذه اإلقرارات تشي بأن الليبرالية تحتوي على جانب إيماني بحت ال يكاد‬
‫يختلف جوهريًا عن الدين‪ ،‬سوى في غياب التفاصيل والجانب القصصي والمجاز‪.‬‬

‫تاريخيًا‪ ،‬وعلى مستوى معين‪ ،‬يمكن أن تلتقي الليبرالية مع العقائد الشاملة‪ ،‬ولكن قد ال يحصل هذا‬
‫قبل أن تقر الليبرالية بأنها تحتوي على جانب ديني‪ ،‬وقبل أن تقر األديان بأنها تحتوي على جانب‬
‫ليبرالي‪ .‬من الواضح‪ ،‬بالطبع‪ ،‬أن مثل هذا اللقاء ال يبدو قريبًا من التحقق في الوقت الحاضر‪ .‬فأغلب‬
‫الناس ال يدركون أن الدين يحتوي على عناصر ليبرالية‪ /‬ديمقراطية في جوهره‪ ،‬بل تراهم يلتفتون إلى‬
‫ما يطفو على سطح الدين من أحكام وقوانين وردت في سياقات تاريخية لم يعد بعضها قائ ًما‪ .‬وأغلب‬
‫الناس أيضً ا ال يدركون أن الليبرالية‪ ،‬بوصفها موقفًا حول اإلنسان وكيف ينبغي له أن يعيش‪ ،‬تحتوي‬
‫على موقف إيماني شبه ديني ال يستند إلى برهان عقلي‪ ،‬بل تراهم يلتفتون إلى ما يطفو على سطح‬
‫الليبرالية من الفردانية والدعوة إلى الفصل بين الدين والدولة‪.‬‬

‫كما أسلفنا‪ ،‬لن ينجم هذا االلتقاء (إن قدر له أن يتحقق) عن براهين وحوار عقالني بين أطراف تختلف‬
‫في الرأي‪ ،‬بقدر ما سيكون نتيجة تغيرات تاريخية تتصارع فيها مصالح وقدرات‪ ،‬وتُج َّرب فيها طرق‬
‫حياة وتعا ُمل‪ ،‬بعضها ينجح وبعضها يفشل‪ .‬وهناك بالطبع دور للنزعات التي ُجبلنا عليها طبيع ًيا مثل‬
‫نزعتنا نحو االجتماع‪ ،‬ومحبة اآلخرين والحاجة إلى التعاون معهم‪ ،‬وأيضً ا نزعة حب الذات واالستعداد‬
‫للدفاع بالقوة عن المصالح الشخصية‪ .‬كل هذه الجوانب من حياة اإلنسان والتطورات التاريخية في‬
‫العلم واالقتصاد والتنظيم تتفاعل وتؤدي إلى تغييرات في القيم واالنفعاالت والمفاهيم والمعتقدات‬
‫التي تموت وتحيا بقدر ما تنجح في خدمة اإلنسان(‪.((6‬‬

‫‪(58) Larry Siedentop, "Liberalism: The Christian Connection," Times Literary Supplement, vol. 24, no. 30 (March‬‬
‫‪1989), pp. 24–30.‬‬
‫(‪ ((5‬حسن الترابي‪ ،‬قضايا الحرية والوحدة والشورى والديمقراطية (الرياض‪ :‬الدار السعودية للنشر والتوزيع‪ ،)1987 ،‬ص ‪.43‬‬
‫‪(60) Robert Dahl, Democracy and Its Critics (New Haven: Yale University Press, 1989), p. 86.‬‬
‫(‪ ((6‬لمناقشة هذه األمور من وجهة نظر طبيعانية تطورية‪ .‬ينظر‪ :‬رجا بهلول‪ ،‬خطاب الكرامة وحقوق اإلنسان (الدوحة‪ /‬بيروت‪:‬‬
‫المركز العربي لألبحاث ودراسة السياسات‪.)2017 ،‬‬
‫‪63‬‬ ‫ملف خاص‪ :‬قضايا في الفلسفة السياسية المعاصرة (‪)2‬‬
‫ةيسايسلا زلور ةفسلف قايس يف ةيوهلاو نيدلاو ماعلا لقعلا‬

‫وفي الحصيلة‪ ،‬إن قيام نظام سياسي ليبرالي ال يشعر فيه أصحاب العقائد الشاملة بالقمع مرتهن‬
‫بتطورات تاريخية أكثر من ارتهانه بتحقيق انتصارات نظرية في البراهين والنقاشات الفلسفية الجارية‬
‫فعاًل) لن‬
‫أاّل نقول إن النجاحات النظرية (إن تحققت ً‬ ‫اآلن بين الليبراليين وخصومهم‪ ،‬مع أنه يجب ّ‬
‫تكون عديمة األثر‪ .‬ولكن تحقق االنتصارات على مستوى النظرية أمر نادر الحصول‪ .‬وفي غياب ذلك‪،‬‬
‫ال يبقى هناك من فعل على الواقع سوى الفعل السياسي أو الفعل التاريخي‪ ،‬كما كان عهدنا دائ ًما في‬
‫العالقة بين القول والفعل‪.‬‬

‫‪References‬‬ ‫المراجع‬
‫العربية‬
‫بهلول‪ ،‬رجا‪ .‬خطاب الكرامة وحقوق اإلنسان‪ .‬الدوحة‪ /‬بيروت‪ :‬المركز العربي لألبحاث ودراسة‬
‫السياسات‪.2017 ،‬‬
‫الترابي‪ ،‬حسن‪ .‬قضايا الحرية والوحدة والشورى والديمقراطية‪ .‬الرياض‪ :‬الدار السعودية للنشر‬
‫والتوزيع‪.1987 ،‬‬
‫رولز‪ ،‬جون‪ .‬قانون الشعوب وعود إلى فكرة العقل العام‪ .‬ترجمة محمد خليل‪ .‬القاهرة‪ :‬المجلس‬
‫األعلى للثقافة‪.2007 ،‬‬
‫شفيق‪ ،‬منير‪ .‬اإلسالم في معركة الحضارة‪ .‬تونس‪ :‬دار البراق للنشر‪.1991 ،‬‬
‫الغنوشي‪ ،‬راشد‪ .‬الحريات العامة في الدولة اإلسالمية‪ .‬بيروت‪ :‬مركز دراسات الوحدة العربية‪.1993 ،‬‬
‫________‪ .‬المرأة بين القرآن وواقع المسلمين‪ .‬لندن‪ :‬المركز المغاربي للبحث والترجمة‪.2000 ،‬‬
‫المودودي‪ ،‬أبو األعلى‪ .‬القانون اإلسالمي وطرق تنفيذه‪ .‬بيروت‪ :‬مؤسسة الرسالة‪.1975 ،‬‬
‫األجنبية‬
‫‪An–Na’im, A. Toward an Islamic Reformation: Civil liberties, Human Rights, and‬‬
‫‪International Law. Syracuse, NY: Syracuse University Press, 1990.‬‬
‫‪Aronovitch, H. "From Communitarianism to Republicanism: On Sandel and His‬‬
‫‪Critics." Canadian Journal of Philosophy. vol. 30, no. 4 (December 2000).‬‬
‫‪Asad, Talal. Formations of the Secular: Christianity, Islam, Modernity. Palo Alto:‬‬
‫‪Stanford University Press, 2003.‬‬
‫& ‪Audi, R. & N. Wolterstorff. Religion in the Public Square. Lanham: Rowman‬‬
‫‪Littlefield Publishers, 1997.‬‬
‫‪Bahlul, Raja & S. Akbarzadeh (eds.). A Handbook of Political Islam. London: Routledge,‬‬
‫‪2012.‬‬
‫‪Bahlul, Raja. "Islamic Democracy and Popular Sovereignty: A Critical Essay on Andrew‬‬
‫‪March’s The Caliphate of Man." Comparative Political Theory. vol. 1, no. 2 (December‬‬
‫‪2021).‬‬
Issue 43 - Volume 11 / 11 ‫ المجلد‬- 43 ‫العدد‬
Winter 2023   ‫شتاء‬ 64
Bohman, James. "Public Reason and Cultural Pluralism: Political Liberalism and the
Problem of Moral Conflict." Political Theory. vol. 23, no. 2 (May 1995).
Canovan, Margaret. "On Being Economical with the Truth: Some Liberal Reflections."
Political Studies. vol. 38, no. 1 (March 1990).
Dahl, Robert. Democracy and Its Critics. New Haven: Yale University Press, 1989.
Dewey, John. The Public and its Problems. Denver: Alan Swallow, 1927.
Harris, S. The End of Faith: Religion, Terror and the Future of Reason. London: The
Free Press, 2004.
Kymlicka, Will & David Heyd (ed.). Toleration: An Elusive Virtue. Princeton: Princeton
University Press, 1996.
March, Andrew. The Caliphate of Man: Popular Sovereignty in the Modern Islamic
Thought. Cambridge: Harvard University Press, 2019.
Rahman, Fazlur. Islam and Modernity: Transformation of an Intellectual Tradition.
Chicago, IL: University of Chicago Press, 1982.
Rawls, John. A Theory of Justice. Cambridge: Harvard University Press, 1970.
_______. "Justice as Fairness: Political not Metaphysical." Philosophy and Public
Affairs. vol. 14, no. 3 (Summer 1985).
_______. Political Liberalism. New York: Columbia University Press, 1993.
_______. "The Idea of Public Reason Revisited." University of Chicago Law Review.
vol. 64, no. 3 (Summer 1997).
Reidy, David. "Rawls’s Wide View of Public Reason: Not Wide Enough." Res Publica.
vol. 6, no. 49–72 (2000).
Rorty, R. Truth and Progress. Cambridge: Cambridge University Press, 1994.
Sandel, Michael. Liberalism and the Limits of Justice. 2nd ed. Cambridge, UK/
New York: CUP, 1988.
Schumpeter, J. Capitalism, Socialism, and Democracy. New York: Harper and Row,
1976.
Siedentop, Larry. "Liberalism: The Christian Connection." Times Literary Supplement.
vol. 24, no. 30 (March 1989).

You might also like