You are on page 1of 68

‫شرح مشكالت الفتوحات المكية البن العربي ص ‪1‬‬

‫شرح مشكالت الفتوحات المكية وفتح‬


‫األبواب المغلقات من العلوم اللدنية‬
‫الشيخ األكبر ابن العربي‬

‫تأليف الشيخ‬
‫عبد الكريم بن إبراهيم بن عبد الكريم الجيلي‬
‫رضي هللا عنه هللا عنه‬
‫المتوفى ‪ 832‬هـ‬

‫‪1‬‬
‫شرح مشكالت الفتوحات المكية البن العربي ص ‪2‬‬

‫مقدمة الشيخ الجيلي رضي هللا عنه‬


‫الرحيم‬ ‫الرحمن ه‬ ‫ّللا ه‬
‫بسم ه‬
‫باّلل ‪ ،‬أعظم العلوم قدرا وأرفعها فخرا وأدقها معنى وأجلها‬ ‫أما بعد ؛ فإنه لما كان العلم ه‬
‫سرا ‪ ،‬إذ هو الغرض الالزم والواجب الدائم ‪ ،‬فحكمه ماض في األولى واألخرى ؛ وما‬ ‫ه‬
‫سواه من العلوم ‪ ،‬ينقطع حكمه بانصرام الدنيا ‪.‬‬
‫وهو المقصود من معرفة سائر العلوم ‪ ،‬وبه ال بغيره تفتخر العقول والفهوم ‪ .‬والعلماء‬
‫الزلفى ‪ ،‬وهم أفضل العلماء ‪ -‬على اإلطالق ‪-‬‬ ‫به ‪ ،‬هم أهل الوالية الكبرى والمكانة ه‬
‫بالتفصيل واإلجمال ‪ ،‬وأجمعهم لكل وصف محمود من صفات المجد والكمال ‪ .‬فهم‬
‫ّللا ِم ْن ِعبا ِد ِه ْالعُلَما ُء[‬
‫ّللا ‪ِ :‬إنَّما يَ ْخشَى َّ َ‬
‫الخلفاء ‪ ،‬الكمالء ‪ ،‬األدباء ‪ ،‬األمناء ؛ وفيهم قال ه‬
‫فاطر ‪.] 28:‬‬
‫ّللا شربا من عباب المعارف ‪ ،‬وأظهر لهم حالوة‬ ‫ّللا ‪ -‬أن أمنح عباد ه‬
‫أردت ‪ -‬بإذن ه‬
‫العلم بترتيب الحكمة في اآلالء والعوارف ‪ .‬وكانت الفتوحات المكية التي ألهفها الول ه‬
‫ي‬
‫األكبر والقطب األعظم األفخر ‪ ،‬مظهر الصفة العلمية ‪ ،‬ومجلى الكماالت العينية‬
‫والحكمية ‪ ،‬لسان الحقيقة وأستاذ الطريقة ‪ ،‬المتبوع التابع آلثار الشريعة ‪ :‬محيي الدين‬
‫ي بن محمد بن العربي الحاتمي‬ ‫ّللا محمد بن عل ه‬ ‫المقربين ‪ ،‬أبو عبد ه‬
‫ه‬ ‫‪ ،‬قدهامة األولياء‬
‫سره وأعلى عنده مقامه‬ ‫ّللا ه‬
‫الطائي المغربي األندلس « المتوفى سنة ‪ 638‬هـ» ‪ ،‬قدهس ه‬
‫وقدره ؛ أعظم الكتب المصنهفة في هذا العلم نفعا ‪ ،‬وأكثرها لغرائبه وعجائبه جمعا ‪،‬‬
‫وأجلهها إحاطة ووسعا ‪.‬‬
‫فصرح تارة عن حالة ‪،‬‬ ‫ه‬ ‫تكلهم فيها بألسنة كثيرة ‪ ،‬وأفصح عن معان غريبة خطيرة ؛‬
‫ورمز أخرى عن حال ‪.‬‬
‫وأفصح طورا عن مقصود ‪ ،‬وأدمج أخرى عن مراد في المقال ‪.‬‬
‫ّللا عنه ‪ -‬يتكلهم في هذا الكتاب على حقائق األشياء ‪ ،‬حتى آل به‬ ‫ولم يزل ‪ -‬رضي ه‬
‫األمر إلى اإلسهاب واإلطناب فعسر على األكثرين تحصيله ‪ ،‬وفات عن الغالب معرفته‬
‫وتأويله ‪.‬‬
‫وصار الناس فيه بين أحد رجلين ‪:‬‬
‫رجل عجز عن تحصيل الكتاب ‪ ،‬وعن انتوال الفائدة منه ‪ ،‬وخاب ‪،‬‬
‫صل ‪ ،‬وعجز عن معرفة ما أراده الشيخ من كنايات عجيبة وإشارات غريبة ‪،‬‬ ‫ورجل ح ه‬
‫فانقطع بالكلية عن درك علمه ؛ ألنه ‪ :‬يحتار عقل كل فاضل ولبيب ‪ ،‬في ح هل مشكل‬
‫ذلك الرمز الغريب ‪.‬‬
‫صرح بأنه جمع معاني العلوم المبسوطة في ذلك الكتاب ‪،‬‬ ‫ّللا عنه ‪ -‬ه‬‫لكنه ‪ -‬رضي ه‬
‫وجعلها مرموزة في الباب التاسع والخمسين بعد الخمسمائة من األبواب ‪،‬‬
‫وكف ذلك النهشر ‪ ،‬وأدمج ذلك العلم الكبير القدر ‪ ،‬الكثير الفخر ‪ ،‬على وضعه العجيب‬ ‫ه‬
‫وأسلوبه العزيز الغريب ‪ ،‬فانغلق بالكلية فهم ما جعله في ذلك الباب ‪ ،‬على كثير من‬
‫أولي األلباب ‪.‬‬
‫فقصدت بشرح هذا الباب المخصوص ‪ ،‬ح هل جميع مشكالت الكتاب ‪.‬‬

‫‪2‬‬
‫شرح مشكالت الفتوحات المكية البن العربي ص ‪3‬‬

‫واختصرت في الكالم ‪ ،‬لئال يفضي إلى اإلسهاب واإلطناب ‪ ،‬وسميته ‪:‬‬


‫شرح مشكالت الفتوحات المكية وفتح األبواب المغلقات من العلوم اللدنية ‪.‬‬
‫ّللا المرجو أن يع هم‬
‫غير أني سأتحفه تهذيبا ‪ ،‬وأجعله على أسلوب الكتاب ترتيبا ؛ ومن ه‬
‫به االنتفاع ‪ ،‬ويقدح بأسماعه زناد األسماع ‪ ،‬فيفهم معانيه كل من سمعه أو نظر فيه ‪،‬‬
‫ي اإلجابة ‪ ،‬والموفهق لإلصابة ‪.‬‬
‫إنه ول ه‬
‫وهو المستعان وعليه التكالن‪.‬‬

‫‪3‬‬
‫شرح مشكالت الفتوحات المكية البن العربي ص ‪4‬‬

‫الباب األول نحن مح هل انجالء ك هل شيء وظهوره‬


‫أسرار إلهية‬
‫ّللا عنه ‪ :‬الباب التاسع والخمسون بعد الخمسمائة ‪ ،‬في معرفة أسرار‬
‫قال اإلمام رضي ه‬
‫وحقائق من منازل مختلفة ‪.‬‬

‫فاختص كل‬
‫ه‬ ‫أراد باألسرار ‪ :‬اللطائف اإللهية التي أودعها في ذوات الموجودات ‪،‬‬
‫ه‬
‫الحق تعالى ‪ ،‬بها يرجع إلى ربهه ؛ وهي الحاكمة‬ ‫موجود بلطيفة هي محتده من كمال‬
‫ي‬
‫مقرب وال نب ه‬
‫يطلع عليه ملك ه‬‫سر ال ه‬
‫على روحه وقلبه ‪ ،‬ومن ث هم قيل ‪ :‬بين العبد وربهه ه‬
‫مرسل ‪.‬‬
‫ّللا فيه من خصائصه ‪،‬‬ ‫وسبب ذلك ‪ ،‬أن ك هل شيء من الموجودات مملوء بما أودعه ه‬
‫ّللا ‪ ،‬إال ما هو عليه ذلك‬
‫فليس في شيء فضلة يسع بها ما في غيره ‪ .‬فما لكل أحد من ه‬
‫سر بعض األشخاص ذاتيا ‪ ،‬فيرجع‬ ‫الشخص منه ‪ ،‬غير هذا ال يكون ؛ ولكن قد يكون ه‬
‫إليه في الحكم ‪ ،‬جميع أسرار الموجودات ؛ لضرورة رجوع الصفات إلى الذات ‪،‬‬
‫فيحوي كل ما حواه الوجود ‪ ،‬إجماال وتفصيال ‪ ،‬وليس له على التفصيل ‪ ،‬إال ما هو‬
‫عليه عينا ووجودا ‪ .‬فافهم ‪.‬‬

‫وأراد بالحقائق ‪ :‬ما تقتضيه تلك األسرار من األوصاف والنهسب اإللهية الحقيقية ‪.‬‬
‫وأراد بالمنازل ‪ :‬أطوار المراتب المختلفة ‪ ،‬ألنه ال يمكن أن تجتمع مخلوقات في‬
‫ّللا تعالى أوسع من أن يتجلهى‬ ‫مرتبة من المراتب اإلبداعية ‪ .‬هذا ال يكون أبدا ‪ ،‬ألن ه‬
‫على عبدين بصفة واحدة ‪ ،‬أو بصفة على عبد مرتين ‪.‬‬
‫مكرر ؛ بل كل شيء له مرتبة مخصوصة به ‪ ،‬وصفة من‬ ‫فليس في الوجود شيء ه‬
‫ّللا تعالى يرجع بها إليه ‪ ،‬واسم حاكم له وعليه ‪.‬‬
‫صفات ه‬
‫ولوال ذلك الختلطت الجزئيات ورجعت إلى األمر الكلهي ‪ ،‬وانبهم األمر التفصيلي ‪،‬‬
‫ض هد والنظير ‪ ،‬فاتهحد الماء بالنار ‪ ،‬وبطل حكم‬‫والتحق بعض الوجود ببعض ‪ ،‬فزال ال ه‬
‫التركيب ‪ ،‬وليس هذا إال في البداية والنهاية ‪ ،‬وأما في البرزخ الفاصل بين األزل‬
‫واألبد ‪ ،‬فال بد من رعاية ترتيب الحكمة اإللهية التي بها قامت األحكام وتميهز الكفر‬
‫واإلسالم وظهرت الربوبية والعبودية ‪ ،‬إلى غير ذلك من المراتب الخلقية والمظاهر‬
‫ّللا عنه ‪ -‬أن يتكلهم عليها في هذا الباب‪.‬‬
‫الحقهية التي قصد اإلمام ‪ -‬رضي ه‬

‫ّللا عنه‬
‫فأول ما أنشأ في ذلك ‪ ،‬قال ‪ :‬هّلل في خلقه نذير يعلمهم أنه البشير ‪ .‬أراد رضي ه‬
‫ي‬
‫بالنذير والبشير ‪ :‬الحقيقة المحمدية الكلية ‪ ،‬التي هي موجودة بجريانه في كل نب ه‬
‫ي بالعين والشهود ‪ .‬وفيما عدا هذين الوصفين‬ ‫بالحكم والوجود ‪ -‬فهي على ‪ -‬وول ه‬
‫سراج الذي سناه يبهر ألبابنا المنير‬
‫‪ .‬التحقيق روح األرواح ‪ ،‬ولهذا قال ‪ :‬وهو ال ه‬
‫ّللا ‪ -‬صلى‬‫أي ‪ ،‬الحقيقة المحمدية هي النور الذي يقع به التميهز ‪ ،‬ومن ث هم عبهر رسول ه‬
‫ّللا العقل»‪.‬‬
‫ّللا عليه وسلم عن روحه الكريمة بالعقل‪ ،‬فقال في حديث ‪« :‬أول ما خلق ه‬ ‫ه‬

‫‪4‬‬
‫شرح مشكالت الفتوحات المكية البن العربي ص ‪5‬‬

‫ّللا روح نبيهك يا جابر »‪.‬‬


‫وقد ورد عنه أنه قال ‪ « :‬أول ما خلق ه‬
‫ّللا‬
‫فعلمنا أن روحه هي العقل الذي به ظهر الوجود ‪ ،‬وتميهز العابد من المعبود ‪ ،‬ألن ه‬
‫تعالى جعل العقل األول جامعا لحقائق الموجودات ‪ ،‬وأبرزها منه على الترتيب الذي‬
‫أراده في علمه ‪ ،‬وقضى به في حكمه ‪.‬‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ ،‬أنه قال حاكيا عن‬
‫والدليل على ذلك ‪ ،‬ما ورد في الحديث عنه صلى ه‬
‫ّللا تعالى أنه قال للقلم ‪ « :‬اكتب ‪ .‬فكتب في اللوح المحفوظ ‪ ،‬ما كان ‪ ،‬وما يكون ‪،‬‬‫ه‬
‫وما هو كائن إلى يوم القيامة » ‪.‬‬
‫والقلم هو العقل األول المعبهر عنه بالروح المحمدية ‪ ،‬لقوله عليه الصالة والسالم « ‪:‬‬
‫ّللا القلم » ‪ .‬فوجه الجمع بين هذه األحاديث الثالثة ‪ ،‬أن يكون المراد‬
‫أول ما خلق ه‬
‫بجميعها واحدا ‪.‬‬
‫ّللا عنه ‪ -‬على تحقيق ظهور صفات العقل األول في كل قطب‬ ‫ثم نبهه الشيخ ‪ -‬رضي ه‬
‫كامل بقوله ‪ :‬في كل عصر له شخيص تجري بأنفاسه الدهور ‪.‬‬
‫يعني ‪ :‬لظهور صفات الحقيقة المحمدية في كل عصر ‪ ،‬إمام مستكمل الشروط القطبية‬
‫‪ .‬تجري بأنفاسه الدهور ‪ .‬أي ‪ :‬يتح هكم في حركات الوجود وسكناته حسبما يقتضيه‬
‫الكمال اإللهي ‪ ،‬خالفة محمدية ‪.‬‬
‫وكان أول ظاهر بهذا المقام ‪ ،‬أبونا آدم عليه الصالة والسالم ‪ .‬وهو لنا ‪ ،‬بحكم الوراثة‬
‫من أبينا ‪ .‬وسيكون آخر من يظهر بهذا المقام ‪ ،‬عيسى عليه الصالة والسالم‪.‬‬

‫يصرح أنه ال يكون في‬ ‫ه‬ ‫ّللا عنه ‪ ،‬من تعريفه ‪ ،‬أراد أن‬
‫ولما فرغ الشيخ ‪ ،‬رضي ه‬
‫الزمان ‪ ،‬إال لواحد ‪ ،‬فقال ‪ :‬عيهنه في الوجود فردا ‪ ،‬الواجد العالم البصير‪.‬‬
‫أي ذكره على التعيين ‪ ،‬أنه يكون فردا في الوجود ‪ ،‬ال منازع له فيه ؛ فعيهنه النهور‬
‫ي ‪ ،‬الذي هو روح ‪.‬‬ ‫ي الجزئ ه‬
‫المحمد ه‬
‫سره ‪،‬‬
‫ّللا عنه ‪ ،‬عبهر عنه بالواجد ‪ -‬بالجيم ‪ -‬لكونه وجده كذلك في ه‬ ‫والشيخ رضي ه‬
‫ّللا إياه ‪ ،‬ورآه ببصره ‪ -‬فالوجود يتعلق باإلدراك ‪ ،‬واإلعالم بالسمع ‪،‬‬ ‫وعلمه بإعالم ه‬
‫والرؤية بالبصر ‪ ،‬فلهذا قال ‪ :‬عيهنه الواجد العالم البصير ‪.‬‬
‫***‬
‫ولما فرغ الشيخ من التنبيه على ذلك ‪ ،‬استأنف الكالم ‪ ،‬ونادى حقيقة ؛ فقال ‪ :‬يا واجدا‬
‫ّللا تعالى ‪ ،‬وجد‬ ‫مجده تعالى ‪ ،‬ليس له في الورى نظير ‪ .‬إعلم أنه ليس كل من عرف ه‬
‫عنده تعظيم فم هجده كما ينبغي له ؛ وإنما يحصل ذلك للك همل من أوليائه ‪ .‬ولهذا نبهه على‬
‫ّللا تعالى ‪.‬‬ ‫ذلك من نفسه بقوله « ‪ :‬يا واجدا م هجده » ‪ ،‬أي ه‬
‫عظمه ه‬
‫يتصرف‬
‫ه‬ ‫ولما كان في المحل مظنة لقول من يقول له ‪ :‬كأنك تقول إن القطب كالحق ‪،‬‬
‫تصرفه ؟ !‬
‫ه‬ ‫في العالم‬
‫قال في الجواب ‪ ،‬دفعا لذلك السؤال ‪ " :‬ليس له في الورى نظير " ليزول تو ههم السامع‬
‫‪ ،‬فال يطعن في اعتقاد الشيخ ‪.‬‬

‫‪5‬‬
‫شرح مشكالت الفتوحات المكية البن العربي ص ‪6‬‬

‫ويحتمل أن يكون قوله « يا واحدا » بالحاء المهملة ‪ ،‬ويكون حينئذ " مجده " مرفوعا‬
‫على أنه فاعل تعالى ؛ فيكون تقديره ‪ :‬يا واحدا تعالى مجده ‪.‬ويكون الخطاب حينئذ‬
‫للذات اإللهية ‪ ،‬التي هي ذاته وذات كل ذات ؛ فافهم ‪.‬‬
‫ّللا تعالى ‪.‬‬
‫ثم إنه أراد أن يبيهن أن ذلك التصريف المنسوب إلى القطب ‪ ،‬راجع إلى ه‬
‫فقال ‪ :‬ليس ألنواره ظهور ‪ ،‬إال بنا ؛ إذ لنا الظهور‬
‫أراد باألنوار ‪ :‬الصفات واألسماء اإللهية التي ال ظهور لها ‪ ،‬إال بوجود الخلق ‪ .‬ألنه‬
‫يستحيل ظهور الرازق وال مرزوق ‪ ،‬والخالق ال مخلوق ‪ ،‬والقادر وال مقدور عليه ‪،‬‬
‫إلى غير هذه المعاني ‪ ،‬مما لمقتضى األسماء والصفات ؛ ولهذا قال ‪ :‬ونحن مجلى لكل‬
‫شيء يظهر في عينه األمور ‪ .‬الضمير في عينه ‪ ،‬يرجع إلى « مجلى »‪.‬‬

‫والمراد ‪ :‬نحن مظهر لكل شيء ‪ ،‬تظهر األمور في عين ذلك المظهر ؛ أي تبدو فينا‬
‫الحق الذي هو أصل جميع األشياء ‪،‬‬‫ه‬ ‫ك هل األمور ‪ ،‬ألنها مجلى كل شيء ومظهره ‪ ،‬ألن‬
‫تصور ‪ ،‬وفينا ظهر ‪.‬‬‫ه‬ ‫إنما ظهر بنا من حيث ذواتنا وأعياننا ؛ فبنا‬
‫فنحن ‪ :‬محل انجالء كل شيء وظهوره ‪.‬‬
‫لف في هذه األبيات جميع ما أراد‬
‫ّللا عنه ‪ -‬ه‬ ‫ّللا وإيهاك ‪ ،‬أن الشيخ ‪ -‬رضي ه‬ ‫إعلم ‪ ،‬أيهدنا ه‬
‫نشره في هذا الباب ‪.‬‬
‫ّللا وإياك بروح القدس ‪ ،‬أن هذا‬
‫ولما أراد التنبيه على عظم هذا الباب قال ‪ :‬إعلم أيهدنا ه‬
‫الباب من أشرف أبواب هذا الكتاب ‪.‬‬

‫هو الباب الجامع لفنون األنوار الساطعة ‪ ،‬والبروق الالمعة ‪ ،‬واألحوال الحاكمة ‪،‬‬
‫والمقامات الراسخة ‪ ،‬والمعارف اللدنية ‪ ،‬والعلوم اإللهية ‪ ،‬والمنازل المشهودة ‪،‬‬
‫والمعامالت األقدسية ‪ ،‬واألذكار المنتجة ‪ ،‬والمخاطبات المبهجة ‪ ،‬والنهفثات الروحية ‪،‬‬
‫الروعية ‪ .‬وكل ما يعطيه الكشف ‪ ،‬ويشهد له الحق الصرف ‪.‬‬ ‫والقابالت ه‬
‫التأييد ‪ ،‬هو المدد ‪ .‬وروح القدس ‪ ،‬هي الحقيقة اإلسرافيلية التي تظهر على هياكل‬
‫المحقهقين ‪ ،‬لتقدهس أرواحهم من نقائص أحكام البشرية وغيرها ‪.‬و « من » زائدة ؛‬
‫فتقديره ‪ :‬إن هذا الباب أشرف أبواب الكتاب ‪ .‬لكونه هو الباب الحاوي لفنون ‪ -‬أي‬
‫لجنس ‪ -‬األنوار الساطعة ‪ ،‬وهي البوادي والبواده التي تفجأ العبهاد ه‬
‫والزهاد من‬
‫مطالعات أنوار عجائب الملكوت ‪.‬‬
‫والبروق الالمعة ‪ ،‬هي عبارة عن مبادئ ظهور أنوار التجليهات ؛ وهي ألهل البداية ‪.‬‬
‫واألحوال الحاكمة ؛ يعني على المريدين ‪ :‬كالشوق ‪ ،‬والوله ‪ ،‬والقلق ‪ ،‬والحزن ‪،‬‬
‫والقبض ‪ ،‬والبسط ‪ ،‬وأمثال ذلك ‪ .‬والمقامات الراسخة ؛ للسالكين ‪ :‬كالرضى ‪،‬‬
‫والتفويض ‪ ،‬والزهد ‪ ،‬والمراقبة ‪ ،‬والمحاسبة ‪ ،‬وأمثال ذلك ‪.‬‬
‫والمعارف اللدنية ؛ للعارفين ‪ :‬وهي العلوم الواردة عليهم من قبل الحق بال واسطة ‪،‬‬
‫ألنها من لدنه تعالى ‪.‬‬

‫‪6‬‬
‫شرح مشكالت الفتوحات المكية البن العربي ص ‪7‬‬

‫والعلوم اإللهية ؛ هي ما أدركه المحقهقون من المعلومات ‪ ،‬على حقيقة االتصاف‬


‫ّللا بذاته وبمخلوقاته ‪ .‬والمنازل المشهودة‬
‫بالصفة العلمية اإللهية ‪ . .‬فهي من عين علم ه‬
‫ّللا تعالى ‪ ،‬من الغوثية والفردية والبدلية ‪ ،‬وغير ذلك ‪.‬‬
‫؛ يعني مقامات األولياء في ه‬
‫والمعامالت األقدسية ؛ هي التي من شأن المالمتية في جميع أحوالهم وحركاتهم ‪. .‬‬
‫وألجل ذلك جعلها " أقدسية " ولم يجعلها « قدسية » ألنهم ذاتيهون ‪ ،‬فكل ما ينسب إلى‬
‫الذات من حيث هو ذات ‪ ،‬يسمى « أقدسيا » وكل ما ينسب إلى ما ينزل عن التجلي‬
‫الذاتي ‪ -‬كتجليهات األسماء والصفات ‪ -‬يسمى قدسيا ‪.‬‬
‫واألذكار المنتجة ؛ التي هي من أوراد الصوفية ‪ ،‬أهل االستقامة على الطريقة‬
‫والشريعة ‪ .‬والمخاطبات المبهجة ؛ التي هي ألرواح المالئكة من الحق تعالى ‪ ،‬فيما‬
‫ّللا على الخصوص ‪ .‬وقد شرحنا طرفا‬ ‫يخص كالمهم على العموم ‪ ،‬وألرواح عباد ه‬ ‫ه‬
‫ي‬
‫منها ‪ ،‬في كتابنا المسمى « بالناموس األعظم والقاموس األقدم في معرفة قدر النب ه‬
‫ّللا عليه وسلم » فافهم‪.‬‬
‫صلى ه‬

‫والنهفثات الروحية ؛ هي التي من شأن سادات المالئكة على التخصيص ‪ ،‬ونودي لهم‬
‫ّللا تعالى من عباده ؛ فالنفث هو اإللقاء ‪ ،‬وهو لألنبياء وحي ‪،‬‬ ‫أن يلقوا على من أراد ه‬
‫ولألولياء إلهام ‪.‬‬
‫والقابالت الروعية ؛ يعني بالقابل ‪ :‬الكون ‪ ،‬وبالروع ‪ :‬النفس ‪.‬‬
‫يريد بذلك ‪ :‬المظاهر الموجوة من نفس الحق فيه ‪ .‬وك هل ما يعطيه الكشف ؛ يريد ‪ :‬من‬
‫العلوم التي هي من وراء أطوار العقل والنقل ‪ ،‬فال يدرك إال بالكشف ‪ .‬وما شهد له‬
‫سنهة ‪ ،‬وحكم العقل السليم ‪.‬‬
‫الحق الصرف ؛ يعني علم بالكتاب وال ه‬
‫فجمع هذا الباب ‪ ،‬أصناف العلوم المتعلهقة بالحق والخلق ‪ ،‬وما في الوجود سوى ذلك ‪،‬‬
‫فحوى جميع علوم الوجود ‪.‬‬
‫ّللا عنه ‪ -‬على إحاطة هذا الباب بجميع ما في كتاب الفتوحات ‪،‬‬ ‫ثم نبهه الشيخ ‪ -‬رضي ه‬
‫فقال ‪ :‬ض همنت هذا الباب ما يتعلهق بأبواب هذا الكتاب مما ال بد من التنبيه عليه ‪ ،‬مرتهبا‬
‫من الباب األول إلى آخره ‪ -‬يعني آخر الكتاب ‪ -‬فمن ذلك ‪ ،‬أي فمن بعض ما تض همنه‬
‫هذا الباب من العلوم المذكورة ‪ :‬سر اإلمام المبين ؛ وهو الروح الذي تكلهم عليه في‬
‫الباب األول من الفتوحات ‪ ،‬وهو حقيقة الختم ؛ وهي اللطيفة الذاتية المتعيهنة في‬
‫الصورة الجزئية ‪ ،‬بالكماالت الكلية ‪.‬‬
‫س هر هو اللطيفة المذكورة ؛ واإلمام المبين هو الروح اإلضافية ‪ ،‬وقد عبهر عنها بقوله‬ ‫فال ه‬
‫‪ :‬اإلمام المبيهن هو الصادق الذي ال يمين ‪.‬‬
‫لسر ‪ ،‬أن السر هو اللطيفة الذاتية بنظره إلى الكماالت‬ ‫الفرق بين الروح اإلضافية وا ه‬
‫اإللهية ‪ ،‬من غير اعتبار المظهر ‪.‬‬
‫والروح اإلضافية ‪ ،‬هي عين تلك اللطيفة الذاتية ‪ ،‬لكن باعتبار المظهر وإضافته إلى‬
‫الظاهر فيه ‪.‬‬

‫‪7‬‬
‫شرح مشكالت الفتوحات المكية البن العربي ص ‪8‬‬

‫بسر الربوبية المحضة ‪ ،‬تحقيقا لما تقتضيه الذات‬


‫سرا ‪ ،‬ألنه تحذية ه‬
‫السر ه‬
‫ه‬ ‫وإنما س همي‬
‫اإللهية ‪ .‬وأدب الموطن يقتضي عدم اإلفشاء بذلك‪.‬‬

‫والحكم المسماة إنسانا وآدميا وعبدا ‪ ،‬لمقتضياته الذاتية له ‪ ،‬الالزمة لصورته الناقصة‬
‫المباينة للكمال ‪ ،‬لئال يلزم التناقض بين حاله ومقامه ‪ ،‬إذ ليس ذلك من الشؤون الكمالية‬
‫‪ .‬فكتمه لذلك المعنى من عين أوصاف الرتبة الكمالية فجعل ذلك التحذهي سرا ال جهرا‬
‫‪ ،‬لما يقتضيه الكمال من صفة الحق ‪ ،‬وأدب المقام الالزم للخلق ‪.‬‬

‫ثم تكلهم على تلك اللطيفة بعبارة أخرى ؛ فقال ‪ :‬مجلى ما أحاط به العلم ‪ ،‬وتش هكل فيه‬
‫الكيف والكم ‪.‬‬
‫هو ‪ -‬أي الروح ‪ -‬مح هل انجالء العلم اإللهي ‪ .‬يعني أن الروح المقدهسة ‪ ،‬التي هي عين‬
‫س هر الذاتي ؛ هي عين العقل األول المعبهر عنه بالقلم األعلى ‪ .‬ولهذا‬ ‫الروح اإلضافي وال ه‬
‫كان مجلى المعلومات اإللهية ‪،‬‬
‫مما هو معنى ‪:‬‬
‫كالصفات واألعراض ‪ ،‬أو صورة ‪ :‬كالذوات والجواهر ‪ .‬وعن ذلك عبهر بما " تشك هل‬
‫الكيف فيه"‪.‬‬
‫ثم تكلهم عل تلك اللطيفة بعبارة أخرى ؛ فقال ‪ :‬وجلت به األعراض ‪ ،‬وفعل باإلرادات‬
‫واألغراض ‪ ،‬فانفعلت به األوعية المراض ‪.‬‬
‫أراد أن يبيهن أن تلك اللطيفة هي الروح اإلنسانية ‪ ،‬التي هي المدبهرة للجسم ‪ ،‬فهي‬
‫جوهر يح هل العرض فيه ‪ ،‬ويفعل في عالمه وفي تدبير جسمه باإلرادة متى اختار ‪،‬‬
‫وتنفعل له األجسام التي تحت تدبيرها ‪. .‬‬
‫وإنما س هماها األوعية المراض ‪ ،‬ألن األجسام كاألرواح ‪ ،‬من حيث أنها عين الحق ؛‬
‫فلنقصان تحققها في الظهور بالصفات اإللهية التي تظهر في األرواح ‪ ،‬س هميت مراضا‬
‫ألنها ليست في صحة اعتدال األرواح ‪.‬‬
‫ّللا عنه ‪ -‬من العبارة عن أطوار هذه الروح ‪ ،‬تكلهم عنها عند‬ ‫فلما فرغ الشيخ ‪ -‬رضي ه‬
‫نهايتها في الرتبة الكمالية ‪.‬‬
‫ّللا عنه ‪ ،‬كان هو اإلنسان الكامل ‪ ،‬وهذه العلوم التي يوردها في كتبه‬ ‫ألنه رضي ه‬
‫قاطبة ‪ ،‬مستفادة له ‪ ،‬أخذها من روحه ‪،‬‬
‫حسبما ذكر ذلك على اإلطالق في الباب األول من الكتاب ؛ فقال يصف حالتها في‬
‫الكمال ‪ :‬النور الباهر وجوهر الجواهر ‪.‬‬
‫يعني ‪ :‬الروح الكامل ‪ ،‬هو النور الباهر ‪ .‬يريد بذلك ‪ ،‬صفات األلوهية ‪ ،‬ألن الذات‬
‫ظلمة ‪ ،‬والصفات نور ‪.‬‬
‫واعلم أنه من ال يكون في نفسه ذاتا ساذجا يقبل معناه االنطباع بكل صورة من صور‬
‫الوجود ‪ ،‬سواء كانت تجليات إلهية أم عينيات كونية أم حكميات علمية ؛ ال يمكنه‬

‫‪8‬‬
‫شرح مشكالت الفتوحات المكية البن العربي ص ‪9‬‬

‫تحقيق االتصاف بالصفات اإللهية ‪ ،‬وال يستطيع أن يبرز بالفعل ما هو فيه بالقوة ‪ ،‬وال‬
‫ينطلق بالشأن الكلهي ‪ ،‬لكونه مقيهدا بالحصر الجزئي ‪.‬‬

‫ى عبهر عنه بأنه « جوهر الجواهر » ثم‬ ‫وعن ذلك االنطباع بصورة كل صورة ‪ ،‬معن ه‬
‫شرحه ‪ ،‬وأوضح ما أبهمه وفتحه ؛‬
‫فقال ‪ :‬يقبل اإلضافات الكونية ‪ ،‬واالستتارات الغيبية ‪ ،‬واألوضاع الحكمية ‪ ،‬والمكانات‬
‫الحكمية ‪ ،‬رفيع المكانة ‪ ،‬كثير االستكانة ‪ ،‬علم في رأسه نار ‪ ،‬عبرة ألولي األبصار ‪.‬‬
‫يعني ‪ :‬أن روح اإلنسان الكامل ‪ ،‬يقبل جميع أحكام الظهور والبطون ‪. .‬‬
‫فكنهى عن أحكام الظهور ‪ ،‬باإلضافات الكونية ‪ .‬وعن أحكام البطون ‪ ،‬باالستتارات‬
‫الغيبية ‪ -‬واالستتارات بالتاء المثناة من فوق والغيبية بالغين المعجمة ‪ -‬وهو العالم‬
‫المقابل لعالم الشهادة ؛‬
‫ي‪.‬‬ ‫ي ‪ ،‬ومع تحقهقه بعالم الشهادة ‪ ،‬غيب ه‬ ‫يعني ‪ :‬إنه مع تمكينه بعالم الغيب ‪ ،‬شهاد ه‬
‫الحق والخلق ‪ ،‬قابل لحكميهما ‪.‬‬ ‫ه‬ ‫فهو في اآلن الواحد والساعة الواحدة ‪ :‬ظاهر بوصف‬
‫وكنهى عن ترتيب وضع الحكمة في األكوان ‪ ،‬بقوله " واألوضاع الحكمية " بتحريك‬
‫الكاف ‪.‬‬
‫وكنهى عن المكانة اإللهية التي قبلتها هذه الروح الكاملة ‪ ،‬بقوله « والمكانات الحكمية‬
‫» بإسكان الكاف ‪.‬‬
‫فاإلنسان " رفيع المكانة " ألنه موصوف الصفات اإللهية ‪ « .‬كثير االستكانة » إلى ما‬
‫هو له من ذلك الجناب ‪ « .‬علم في رأسه نار » أي ‪ :‬هي علم على الذات اإللهية ‪.‬‬
‫« في رأسه النار » الموقدة التي تطلع على األفئدة ‪ ،‬المعبهر عنها بالجالل والعظمة‬
‫والقهر والكبرياء ‪ ،‬فهي الرياسة اإللهية التي هي آخر شيء يخرج من رؤوس‬
‫صدهيقين ‪ ،‬أي تظهر عليهم في نهايتهم ؛ ألن االتصاف بالعظمة والكبرياء والقهر ‪ ،‬ال‬ ‫ال ه‬
‫يكون إال في الكمال ‪.‬‬
‫يضره‬
‫ه‬ ‫ومن ث هم ‪ ،‬هلك الرجل الذي نظر إلى أبي يزيد ‪ -‬وقد كان يرى ربهه كل يوم فال‬
‫شيء ولم يصبه سوء ‪ -‬ألنه كان يرى ربهه على قدر قابلية نفسه ‪ ،‬فاستطاع الثبوت‬
‫عنده لذلك ‪ ،‬فظهر عليه أبو يزيد بالعظمة والهيبة ‪ -‬ومن وراء قابليته ‪ -‬فهلك ألن‬
‫قابليته ال تبلغ قابلية أبي يزيد ‪ ،‬فما استطاع الثبوت عنده ‪.‬‬
‫ْصار[ النهور ‪ ] 44 :‬وقد شرحنا في هذه النبذة ‪،‬‬ ‫ولذلك قال فيه إنه لَ ِعب َْرة ً ِألُو ِلي ْاألَب ِ‬
‫جميع ما حواه هذا الباب من كتاب الفتوحات ‪ ،‬فافهم ‪.‬‬
‫*‬

‫‪9‬‬
‫شرح مشكالت الفتوحات المكية البن العربي ص ‪10‬‬

‫الباب الثاني هيهات ‪ . .‬أنهى يسع الكون ذلك!‬


‫قال الشيخ ‪ :‬ومن ذلك ‪ ،‬أي ومن بعض ما تض همنه هذا الكتاب من العلوم المذكورة ‪:‬‬
‫سر الظرف ‪ ،‬هو المعاني الكمالية التي أودعها في‬ ‫سر الظرف المودع في الحرف ‪ .‬ه‬ ‫ه‬
‫الحرف ‪ .‬والحرف هو االسم والصفة اإللهية ؛ وقد شرحنا ذلك في كتابنا « الناموس‬
‫ّللا عليه وسلم »‬
‫ي صلى ه‬ ‫األعظم والقاموس األقدم في معرفة قدر النب ه‬
‫وقلنا فيه إن الحروف على ثمانية أطوار ‪:‬‬
‫‪-‬حروف حقيقية ؛ وهي أعيان األسماء والصفات ‪.‬‬
‫‪-‬وحروف عالية ؛ وهي ذوات معلومات العلم اإللهي ‪ ،‬المعبهر عنها باألعيان الثابتة‬
‫في العلم اإللهي ‪.‬‬
‫ّللا بها هذا الوجود ‪ ،‬كما أظهر‬
‫‪-‬وحروف روحية ؛ وهي األرواح النورية التي أظهر ه‬
‫الكلمات بالحروف الملفوظة ‪.‬‬
‫‪-‬وحروف صورية ؛ وهي جوانح هذا العالم الكلهي وجوارح اإلنسان ‪ ،‬بالحكم الجزئي‬
‫يختص‬
‫ه‬ ‫صلنا في كتابنا الموسوم « بقطب العجائب وفلك الغرائب »كل ما‬ ‫‪ .‬وقد ف ه‬
‫بجوارح اإلنسان من الحروف ‪ ،‬وقس على ذلك ما يضاهيه من العالم الكبير‪.‬‬

‫وقد ذكرنا مضاهاتها في كتابنا الموسوم « بالناموس األعظم والقاموس األقدم ‪ ،‬في‬
‫وّللا الموفهق ‪.‬‬ ‫ه‬
‫فتفطن لذلك ‪ ،‬ه‬ ‫ّللا عليه وسلم »‬
‫ي صلى ه‬ ‫معرفة قدر النب ه‬

‫‪-‬وحروف معنوية ؛ وهي حركات األشياء وسكناتها ‪ ،‬ينشأ منها حروف ‪ ،‬يتركب من‬
‫المتحرك ‪ ،‬كاإلنسان في حال قيامه ‪ ،‬يتركب‬ ‫ه‬ ‫تلك الحروف كلمات مناسبة لحال ذلك‬
‫يتصرف‬
‫ه‬ ‫منه صورة ألف ؛ وهي في حال منامه صورة الباء ‪ ،‬إلى غير ذلك ‪ .‬حتى أنه‬
‫يتصرف بالحروف ‪ ،‬إن كان عارفا بكيفية‬ ‫ه‬ ‫صاحب هذا العلم ‪ ،‬بحركات جسمية كما‬
‫التصرف بها ‪.‬‬
‫ه‬
‫‪-‬وحروف حسية ؛ وهي ما تشاهد رقما وكتابة ‪.‬‬
‫‪-‬وحروف لفظية ؛ وهي ما تش هكل في الهواء من قرع الريح ‪ ،‬الخارج من الحلق على‬
‫مخارج الحروف ‪.‬‬
‫‪-‬وحروف خيالية ؛ وهي صورة تلك الحروف في نفس اإلنسان ‪ ،‬عند تعقهله لها ‪.‬‬
‫ي‪،‬‬‫ي ‪ .‬أي مظهر لظهور كمال ه‬ ‫وك هل نوع من أنواع هذه الحروف ‪ ،‬ظروف ه‬
‫لسر إله ه‬
‫ّللا بتجليه عليه ‪ ،‬حين خلقه من المحت هد المقتضي لذلك ‪ ،‬بحكم ما لذلك المحت هد‬‫أودعه ه‬
‫من معنى الجمال أو الجالل أو الجمع أو الكمال ‪.‬‬

‫ولما كانت األسماء والصفات ‪ ،‬حاملة لما فيها من شؤون الذات الظاهرة عليها لذي‬
‫التجليات ؛ قال ‪ :‬الظرف وعاء ‪ ،‬والحرف وطاء ‪.‬‬
‫ّللا على ذات واجب الوجود تعالى ‪،‬‬
‫يعني بالظرف ‪ :‬األلوهية المفهومة عند إطالق اسم ه‬
‫عند اعتبارك لما يوصف به من الكمال والجمال والجالل ‪.‬‬

‫‪10‬‬
‫شرح مشكالت الفتوحات المكية البن العربي ص ‪11‬‬

‫فاالسم ‪ -‬أعني مفهوم هذه الحروف ‪ -‬مح هل لتلك الكماالت المعبهر عنها بحقائق األسماء‬
‫والصفات ‪.‬‬
‫وعاء ‪ ،‬أي ‪ :‬األلوهية حاملة للمعاني الكمالية اإللهية ‪.‬‬
‫والحروف ‪ -‬يعني اإلنسان ‪ -‬وطاء ‪ ،‬أي مظهر لتلك المعاني ‪ ،‬تختلف صورته وتحكم‬
‫سورته ‪ ،‬يعني ‪ :‬األلوهية تختلف صورتها بحسب تعيهنها في كل فرد من الك همل األفراد‬
‫ّللا عليهم وسلهم أجمعين ‪،‬‬ ‫‪ ،‬كما ظهرت في إبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلى ه‬
‫وفيمن سواهم من األنبياء واألولياء على الخصوص ‪ ،‬بالتعيين والوجود ‪ ،‬بل في ك هل‬
‫ذرة من ذرات الكائنات على العموم بالحكم والشهود ‪ ،‬فهي على اختالف صورها‬ ‫ه‬
‫ومظاهرها ‪ ،‬واحدة العين ‪ ،‬ال تعدهو فيها من حيثها ‪.‬‬
‫وإلى ذلك أشار بقوله « وتحكم سورته »‬
‫ّللا ‪ -‬وإن شئت قلت الحرف الذي‬ ‫ولهذا قال ‪ :‬هو ‪ .‬يعني الظرف الذي عبهرنا عنه باسم ه‬
‫عبهرنا عنه أنه اإلنسان الكامل ‪ -‬معنى المعاني ‪.‬‬
‫يص هح أن يكون « مغنى » بالعين المعجمة ‪ ،‬فيكون تعبيره ‪ :‬أنه محل المعاني الكمالية‬
‫‪.‬ويص هح أن يكون‬
‫ّللا » معنى معاني األسماء والصفات ‪،‬‬ ‫بالعين المهملة ‪ ،‬فيكون معناه ‪ :‬أن االسم « ه‬
‫أي مفهوم جميع الكماالت اإللهية ‪ .‬ألن األلوهية هي المظهر الختالف األشكال‬
‫والمباني ‪.‬‬
‫المباني ‪ -‬بالباء الموحدة من تحت ‪ -‬تعني ‪ :‬أن األلوهية ‪ ،‬التي هي حقيقة األسماء‬
‫والصفات ‪ ،‬هي التي أظهرت صور األشكال الخلقية واألوضاع الكونية ‪ .‬لكونها آثار‬
‫تجليات « السبع المثاني » التي هي أمهات الظهور وأئمة المظاهر الحقهية ‪ ،‬فهي الحياة‬
‫والعلم واإلرادة والقدر والسمع والبصر والكالم ‪.‬‬
‫سبْعا ً ِمنَ ْال َمثانِي َو ْالقُ ْرآنَ ْالعَ ِظ َ‬
‫يم(‬ ‫‪:‬ولَقَ ْد آتَي َ‬
‫ْناك َ‬ ‫وذلك هو المشار إليه بقوله تعالى لنبيهه َ‬
‫‪ [ ) 87‬الحجر ‪. ] 87 :‬‬
‫والمراد بالقرآن العظيم ‪ ،‬ما ترجع إليه هذه الصفات ‪.‬‬
‫فكانت األلوهية ‪ -‬وإن شئت قلت روح اإلنسان الكامل ‪ -‬جامعة للمظاهر الخلقية‬
‫والمظاهر الحقهية عموما على اإلطالق ‪.‬‬
‫ّللا ‪ ،‬بجميع‬ ‫ّللا وجوده ‪ .‬أي يحيط وجود اإلنسان الكامل واسم ه‬ ‫ولهذا قال ‪ :‬يحوي ه‬
‫معاني األلوهية تفصيال وإجماال ‪.‬‬
‫ويغني عن شهود الحق شهوده ‪ .‬أي ‪ :‬شهودك لإلنسان الكامل يغنيك عن شهودك‬
‫للحق المطلق ‪.‬‬
‫ويحتمل أن يكون المراد ‪ :‬إن شهودك لمعاني األلوهية ‪ -‬باستحضارها في ذهنك‬
‫سنهة من العلوم والمعارف ‪،‬‬ ‫وتعقهلك لها ‪ ،‬يغنيك عن مطالعة ما نقل إليك بالكتاب وال ه‬
‫حق ال ريب فيه ‪ .‬يعني ‪:‬‬‫التي هي ه‬

‫‪11‬‬
‫شرح مشكالت الفتوحات المكية البن العربي ص ‪12‬‬

‫أنك تنال بدوام حضورك مع معاني االسم اإللهي ‪ ،‬وتعقهلك له بحكم ما يقتضيه من‬
‫الكماالت ؛ تصل إلى ما ال ينال ‪ ،‬وتصل إلى ما ال تصل إليه بواسطة النقل والعقل ؛‬
‫على أنهما ه‬
‫حق ‪.‬‬
‫ولما بيهن حقيقة اإلنسان الكامل ‪ ،‬من حيث أمره الكلهي ؛ أراد أن يكشف عن كيفية تقلهبه‬
‫في األطوار الكلية التي تتحقهق بها له ‪ ،‬حقائق ما هو منطو فيه من األلوهية المحضة ‪،‬‬
‫فقال منازله معدودة ‪.‬‬
‫وهي سبعة أطوار ‪ ،‬ال بد لكل كامل أن يقطع تلك المنازل ‪ ،‬حتى يبلغ درجة التحقيق ‪.‬‬

‫الطور األول « التوحيد الصرف »‬


‫ي أن يقطع مسافة الفرق ‪ ،‬حتى يحصل في حقيقة الجمع ‪ ،‬فال يشهد وال يسمع‬ ‫ال بد للول ه‬
‫ّللا تعالى ‪ ،‬وهو ما دام فانيا ‪ ،‬ال يسافر من هذا المنزل ‪.‬‬
‫وال يعلم شيئا سوى ه‬

‫باّلل ‪ ،‬سافر إلى الطور الثاني ‪ ،‬فيحصل في حقيقة جمع الجمع‪.‬‬‫فإذا بقي ه‬
‫وفي هذا المشهد ‪ ،‬يفنى من كان باقيا بالطور األول ‪ ،‬ويبقى من كان فانيا ‪ ،‬فيتحقهق‬
‫حينئذ بالوحدة المحضة ‪ ،‬ويضرب له مثال على الرقيم الحامل للمعاني الكمالية بكأس‬
‫مآلن خمرا ‪ ،‬فشرب الخمر ‪ ،‬ورمي بالكأس ‪ ،‬فانكسر وانعدم‪.‬‬

‫ومن هذا المنزل ‪ ،‬يسافر إلى الطور الثالث –‬


‫التصور بك هل‬
‫ه‬ ‫وهو طور السذاجة المحضة الذاتية الصرفة ‪ -‬فيقبل بحقيقته وهيئته ‪،‬‬
‫صورة من صور التجليات ‪ ،‬ومعنى من معاني األسماء والصفات ‪ ،‬وبك هل هيئة وحالة‬
‫وشكل وحكم من سائر الموجودات ‪.‬‬
‫متصورا في نفسه‬
‫ه‬ ‫فيكون عين كل شيء ‪ ،‬على ما هو عليه ذلك الشيء ‪ .‬ويكون‬
‫بصورة ذلك الشيء ‪ ،‬يرى نفسه فيه بنفسه ‪ ،‬على التفصيل ؛ جمعا وفرادى ‪ ،‬ظاهرا‬
‫وباطنا ‪ ،‬حقها وخلقا ‪ ،‬كونا وبونا ‪.‬‬

‫ومن هذا المنزل ‪ ،‬يسافر إلى الطور الرابع ‪.‬‬


‫فيعطى مفاتيح الغيب ‪ ،‬وهي األسماء التي أظهرت صور الكائنات من الغيب إلى‬
‫الشهادة ‪.‬‬
‫فهي مفاتيح ألقفال خزائن الغيوب ‪ ،‬وهي أسماء األفعال التي كانت المؤثهرة في ظهور‬
‫عالم الغيب إلى عالم الشهادة ‪ ،‬ويسميها الشيخ ‪ :‬المفاتيح الثواني ‪.‬‬
‫وفي هذا الطور ‪ ،‬يسبح في فلك األسماء والصفات ‪ -‬في كل اسم وصفة على حدته ‪-‬‬
‫حتى يعلم مقتضياتها ‪ ،‬على ما هي عليه في محلها ‪.‬‬

‫ومن هذا المنزل ‪ ،‬يسافر إلى الطور الخامس ‪.‬‬

‫‪12‬‬
‫شرح مشكالت الفتوحات المكية البن العربي ص ‪13‬‬

‫فيعطى مفاتيح غيب الغيب ‪ -‬وهي أمهات األسماء ‪ ،‬وأئمة الصفات ‪ -‬فيصرفها بالذات‬
‫‪ ،‬ويتحقهق بها صورة ومعنى في جميع األوقات ‪.‬‬
‫ومن وصل إلى هذا الطور ‪ ،‬ال يتوارى عنه مشهوده بحال أصال ‪ ،‬وال يجوز عليه‬
‫االستتار قطعا ‪.‬‬
‫األول ؛ فيتحقهق العبد‬
‫ّللا عنه بالمفاتيح ه‬
‫وهذه األسماء ‪ ،‬هي التي يسميها اإلمام رضي ه‬
‫باالتصاف بها ‪.‬‬

‫ومن هذا المنزل ‪ ،‬يسافر إلى الطور السادس ؛‬


‫فيستكمل التحقهق باألسماء الذاتية والنعوت الصفاتية واألوصاف الفعلية ‪ ،‬ويتعيهن في‬
‫الظهور بها جملة وتفصيال ‪.‬‬
‫ويتوج بالعظمة ؛ فتكون له ‪.‬‬ ‫يتدرع بالهيبة ‪ ،‬ه‬ ‫وفي هذا المنزل ه‬
‫فلو نظر ‪ -‬بنظر نفسه البشرية اإلنسانية ‪ -‬إلى جبل بالقهر ‪ ،‬لتدكدك من هيبته ‪،‬‬
‫وتالشى لعظمته ‪ .‬فكيف له لو رأى ذلك بحقيقة اإللهية ‪.‬‬
‫هيهات أنهى يسع الكون ذلك ! بل ال يتجلهى عظمته ‪ -‬كما هو له ‪ -‬إال عنده ‪ ،‬وفي علمه‬
‫‪.‬‬
‫ّللا َح َّق قَ ْد ِر ِه [ األنعام ‪] 91 :‬‬
‫ّللا تعالى ‪َ :‬وما قَ َد ُروا َّ َ‬
‫ولهذا قال ه‬
‫فيعظمه بذاته لذاته ؛ ألن الكون وجود مقيهد‬‫ه‬ ‫يعني ‪ :‬ك هل ما سواه ال يستطيع أن يقدهره ‪،‬‬
‫ّللا تعالى على‬
‫‪ ،‬فال يستطيع لشيء من ذلك ‪ .‬فلو لمحت بارقة من عظمة جالل ه‬
‫األكوان ‪ ،‬ألعدمتها بالعين والحكم جملة وتفصيال ‪.‬‬

‫ومن هذا المنزل ‪ ،‬يسافر إلى الطور السابع ‪ ،‬المعبهر عنه بنزول الحق في الثلث‬
‫األخير من الليل إلى سماء الدنيا ‪ .‬وعندها يطلع الفجر ‪ ،‬وتظهر شمس الكمال على‬
‫سائر أعضائه الجسمانية ‪ -‬على حسب ما كان لروحه وقلبه ‪ -‬فيكون جسمه روحا ‪،‬‬
‫وقلبه عقال ‪ ،‬بالعين والحكم والوجود جملة وتفصيال ‪.‬‬
‫ي بالنوافل حتى أحبهه‬
‫يتقرب إل ه‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ « :‬ال يزال عبدي ه‬
‫وهذا معنى قوله صلى ه‬
‫‪ ،‬فإذا أحببته ‪ ،‬كنت سمعه الذي يسمع به ‪ ،‬وبصره الذي يبصر به ‪ ،‬ولسانه الذي ينطق‬
‫به ‪ ،‬ويده التي يبطش بها ‪ ،‬ورجله التي يمشي بها » « ‪ . . » 1‬فافهم !‬

‫وما بعد هذا المنزل ‪ ،‬إال العجز والحيرة في التجليات التي ال نهاية لها ‪.‬‬
‫وهذا العجز ‪ ،‬عين الكمال والقدرة ‪ .‬وهذه الحيرة ‪ ،‬عين الثبوت ‪ .‬ونهاية ما يعبهر به‬
‫عن هذه الحيرة وهذا العجز ‪،‬‬
‫بأن يقال ‪ :‬إنه يجد كماالته اإللهية ‪ ،‬التي هي له ‪ ،‬على ما هي عليه من عدم النهاية‬
‫التي يعجز العلم عن اإلحاطة بها ‪ ،‬من حيث أنها ال نهاية لها ‪.‬‬
‫فبالنظر إلى هذا العجز ‪ ،‬قال عليه الصالة والسالم ‪ « :‬ال أحصي ثناء عليك ‪» . .‬‬
‫وبالنظر إلى ما هو من كمال الصفة العلمية له تعالى ‪،‬‬

‫‪13‬‬
‫شرح مشكالت الفتوحات المكية البن العربي ص ‪14‬‬

‫قال ‪ « :‬أنت كما أثنيت على نفسك » ‪.‬‬


‫ولتحقهق روح اإلنسان الكامل بالحقائق اإللهية ‪ ،‬قال ‪ :‬آثاره مشهودة ‪.‬‬
‫يعني ‪ :‬آثار اإلنسان الكامل مرئية بالعين ‪ ،‬ألنه يحيي الموتى ‪ ،‬ويميت من شاء من‬
‫األحياء ‪ ،‬وينبئ الناس إذا شاء بأسمائهم وأفعالهم وبما يأكلون وما يدهخرون إلى يوم‬
‫القيامة ‪ .‬كلماته محدودة ‪.‬‬
‫يعني ‪ :‬أنه يقف بالكالم على ح هد الشريعة ‪ ،‬فال يخرج منه بلسان القدرة ‪ ،‬عن سياج‬
‫حق الربوبية بباطنه ‪ .‬وآياته‬ ‫حق العبودية بظاهره ‪ ،‬كما أدهى ه‬ ‫الحكمة ‪ ،‬بل يؤدي ه‬
‫بالنظر مقصودة ‪.‬‬
‫يعني ‪ :‬أنه في نفسه لنفسه ‪ ،‬يتجلهى متى شاء بما شاء فيما شاء ‪ .‬فكنهى باآليات عن‬
‫التجليات اإللهية ‪ ،‬بحكم األسماء والصفات ؛ يقصد منها ‪ :‬الظهور بما شاء ‪ ،‬والبطون‬
‫بما شاء ‪.‬‬
‫وإلى تحقيق ذلك أشار بقوله ‪ :‬أعطي مقاليد البيان ‪ ،‬فأفصح وأبان ‪.‬‬
‫يعني ‪ :‬أنه أوتي التمكين بالبيان ‪ -‬أي بالظهور ‪ -‬فأفصح ‪ ،‬وأظهر كلماته ‪.‬‬
‫"وأبان " عن المعاني بإرادة ذاته ‪.‬‬
‫وصرح به من‬‫ه‬ ‫وسوف أنبههك على علم شريف قد رمزه الشيخ في ذلك من وجه ‪،‬‬
‫وجه‪.‬‬
‫وهو أن جميع ما شرحناه لك في صفة هذه الروح الشريفة ‪ ،‬من أطوار المعاني‬
‫المذكورة هنا ؛ إنما هو من حيث كون اإلنسان حرفا من حروف أحد األنواع الثمانية‬
‫المذكورة في تقسيم الحروف ‪.‬‬
‫فاعتبر مثل جميع هذه المعاني المذكورة وكمالها ‪ ،‬لكل حرف من حروف كل نوع من‬
‫األنواع الثمانية ؛ ألن الحروف « وطاء » أي محل ظهور األسرار اإللهية ‪.‬‬
‫السر اإللهي ‪ ،‬لكن له في كل طور حكم‬ ‫ه‬ ‫والحروف كلها مرائي يظهر فيها معنى‬
‫مخصوص ومشهد منصوص وأثر منفرد ‪ ،‬وينسبه تحقهقه ‪ ،‬على أسلوب عجيب ونمط‬
‫غريب ‪ ،‬لو أردنا أن نتكلم في ذلك ‪ ،‬الحتجنا إلى مجلدات ‪.‬‬
‫تفطن ذلك وتدبهره ‪ ،‬فكلما قلنا لك « إن األعيان الثابتة حروف ‪ ،‬وكان النوع‬ ‫ولكن ه‬
‫اإلنساني من جملتها » فهو بالنسبة إلى بقية الحروف ألف ‪.‬‬
‫فاعتبر ذلك المعنى لكل ألف من أنواع الحروف الثمانية ؛ كالعقل الذي هو ألف‬
‫الحروف الروحية ‪ ،‬فإنه يجمع العلوم والخصوصيات كلها ‪ ،‬كما يجمع اإلنسان الكامل‬
‫ي ‪ ،‬فإنه يجمع المعاني المودعة في الحروف كلها ‪ ،‬كما يج همل جميع‬ ‫‪ .‬وكاأللف الرقم ه‬
‫ّللا به ‪.‬‬
‫الملفوظات ويوصلها إلى من أمره ه‬
‫فاعتبر هذا المعنى ‪ ،‬في كل قسم من هذه األقسام الثمانية ‪ ،‬بما يناسب ذلك العالم ‪،‬‬
‫ّللا تعالى ‪ ،‬فقد فتحت لك بابا إليها ‪.‬‬
‫ترى عجائب وغرائب من أسرار ه‬
‫واستعن في تحقيق ذلك ‪ ،‬بما ذكره الشيخ في الباب الثاني من الكتاب ‪ ،‬عند ذكره‬
‫ّللا تعالى فيها من‬‫مراتب الحروف اللفظية وعوالمها وأطوارها وخواصها وما أودع ه‬

‫‪14‬‬
‫شرح مشكالت الفتوحات المكية البن العربي ص ‪15‬‬

‫العجائب والغرائب ‪ ،‬مما يطول شرحه ‪ .‬وسوف أنبههك في األبيات المذكورة هنا ‪،‬‬
‫ّللا تعالى ‪.‬‬
‫على ما يعينك على معرفة ذلك ‪ ،‬إن شاء ه‬
‫قال الشيخ ‪ :‬فمنه نثر ‪ ،‬ومنه نظم ‪ ،‬ومنه أمر ‪ ،‬ومنه حكم ‪ .‬إن للتجليات الحقيقية ‪،‬‬
‫التي هي لإلنسان الكامل ‪ ،‬نثر تجليات ذاتية منفردة ‪ ،‬غير متعدهد ‪ ،‬ليس لكل تج هل إال‬
‫اسم واحد ‪ .‬ومنه نظم تجليات صفاتية ‪ ،‬يجمع ك هل تج هل أسماء متعدهدة وصفات متغايرة‬
‫؛ كتجلي القدرة ‪ -‬مثال ‪ -‬يجمع جميع تجليات األفعال ‪ ،‬وكذلك تجلي اإلرادة ‪ ،‬وكذلك‬
‫تجلي العلم ‪ ،‬وكذلك تجلي الجمال ‪ ،‬وكذلك تجلي الجالل وتجلي الكمال ‪ ،‬إلى غير ذلك‬
‫من تجليات الصفات واألسماء التي لها الهيمنة على ما تحتها ‪.‬‬

‫ولهذا قال « فمنه أمر » أي ‪ ،‬مما يصدر من تجلياته ‪ ،‬أمر بوجود أو تكوين ‪ ،‬أو غير‬
‫ذلك من أوامر الحق تعالى على عباده ‪ « .‬ومنه حكم » نافذ ال يتغيهر في العالم ‪ ،‬ألنه‬
‫ه‬
‫الحق المتعيهن ؛ هذا معناه ‪.‬‬

‫ولما كان ذلك لإلنسان ‪ ،‬الذي هو حرف من الحروف العاليات ؛ كذلك هو لأللف الذي‬
‫هو حرف من الحروف الحقيقية أو الروحية أو المعنوية أو الصورية أو اللفظية أو‬
‫الرقمية أو الخيالية ‪.‬‬
‫أال تراه يقول ‪ « :‬فمنه نثر ‪ ،‬ومنه نظم » إن اعتبرته في الحروف اللفظية ‪ ،‬وجدت‬
‫األمر كذلك ‪ « ،‬ومنه أمر ومنه حكم » كلفظة أفعل ؛ وهذه حروف مركبة ‪.‬‬
‫ولفظة قول وفعل ‪ ،‬وغير ذلك ‪ ،‬كلها أمر ؛ وك هل منها حرف واحد غير مر هكب !‬
‫ّللا تعالى ‪.‬‬
‫فاعتبر جميع الباب في أطوار الحروف ‪ ،‬تقع على كنز من كنوز ه‬
‫وإنما ضربنا على تبيهن كل ذلك ‪ ،‬لئال يفوت الغرض من تأليف هذا الكتاب ‪ ،‬والمراد‬
‫بذلك سعادتك ‪ ،‬وإنما هي في معرفتك لنفسك ‪ ،‬فألجل ذلك تكلهمنا على اإلنسان وحده ‪.‬‬

‫وقال في اللفظية والرقمية والخيالية أنها ‪ :‬ابن اإلمام المبين ‪ .‬الذي هو اللوح المحفوظ‬
‫‪ ،‬ألنها تبرز بتلك الحقائق ‪ ،‬كما تبرز المعاني من القلوب ‪ .‬ال ‪ ،‬بل هي أبوه ‪.‬‬
‫يعني ‪ :‬هي أصل لتلك الحقائق المكتوبة في اللوح ‪ ،‬ألنه ال بد من حروف كتبها القلم‬
‫في اللوح حتى قرئت ‪.‬‬
‫وتلك الحروف ‪ ،‬ولو كانت على غير هذه الهيئة ‪ ،‬فهي عين هذه الحروف الرقمية ؛‬
‫متلوة مقروءة ‪ ،‬ولو بال معنى ؛ فال يخرجها ذلك عن كونها حروفا ‪ ،‬فهي ‪ -‬أعني‬ ‫ألنها ه‬
‫الحروف ‪ -‬أصل للمعاني الموضوعة في اللوح المحفوظ ‪ ،‬إذ بها الكمال والتمام ‪.‬‬
‫لكونها مشهودة صورة ومعنى ‪ ،‬والموضوع في اللوح المحفوظ إنما هو مشهود معنى‬
‫ال غير ؛ فجمعت هذه الحروف ‪ ،‬حقائق المعنى والصورة ‪. .‬‬
‫وليس ذلك لتلك ‪ ،‬فافهم ‪.‬‬
‫ولكون اإلنسان الكامل ‪ ،‬كلهي التحقيق ؛ قال ‪ :‬إذا أسهب ذهب ‪ .‬أسهب ‪ -‬بالسين المهملة‬
‫طول في الحديث ‪.‬‬ ‫طول وأطنب ‪ -‬يقال « أسهب في الكالم وأطنب » إذا ه‬ ‫‪ -‬يعني إذا ه‬

‫‪15‬‬
‫شرح مشكالت الفتوحات المكية البن العربي ص ‪16‬‬

‫المراد ‪ :‬إذا تمادى وأطال نظره إلى حقائق صفاته ‪ -‬التي ال نهاية لها ‪ ،‬وكلها كمالية ‪-‬‬
‫ذهب عن حكم الكون ‪ ،‬فال يس همى خلقا بوجه من الوجوه ‪ ،‬ألنه قد ذهب عن العالم وما‬
‫فيه بالكلية ؛ فليس هو من العالم ‪ ،‬وال هو فيه ‪.‬‬

‫وإذا أوجز أعجز ‪ .‬اإليجاز ض هد اإلسهاب ‪ ،‬يعني ‪ :‬أن اإلنسان إذا اختصر في نفسه ‪،‬‬
‫فوقع نظره في صفاته ‪ ،‬إلى نظره لذاته ؛ أعجز غيره عن دركه‬
‫وإن شئت قلت ‪ :‬أظهر ك هل أمر معجز وإن اعتبرت ذلك في الحرف اللفظي والرقم ‪،‬‬
‫فمعناه ظاهر ‪. .‬‬
‫ومن ثم قال ‪ :‬فصيح المقال ‪ ،‬كثير القيل والقال ‪.‬‬
‫يعني ‪ :‬أن اإلنسان اإللهي الكامل ‪ ،‬ظاهر التكوين بالكلمة ؛ كثير الكالم ‪ ،‬ألن‬
‫متصور بكل صورة خلقية ‪،‬‬‫ه‬ ‫الموجودات كلها كلمات ‪ .‬تختلف أشكاله ومعارجه ‪ ،‬ألنه‬
‫ومتحقهق بكل حقيقة إلهية ؛ فهو مختلف األشكال والمعارج ‪.‬‬
‫ويخفى على المتهبع أثره ومدارجه ‪ .‬ألنه من وراء قوة أطوار الكون ‪ ،‬فيخفى أثره على‬
‫كل متهبع ‪ ،‬ألنه ال يبلغه حدهه ‪ ،‬وال يصل إليه دركه ‪.‬‬
‫واعتبر تلك المعاني في الحروف ‪ ،‬فالحرف اللفظي تختلف أشكاله على حسب وضع‬
‫كل واضع بكل لغة ‪.‬‬
‫و « يخفى على المتهبع أثره » يعني ‪ :‬على المقتفي له ‪ ،‬معرفة ما جعل ه‬
‫ّللا في كل‬
‫حرف من أثر ‪ -‬بالخاصية والطبع والفعل ‪ -‬في كل معنى وصورة ‪ ،‬مما لكل حرف‬
‫التصرف ‪.‬‬
‫ه‬ ‫من‬
‫ألن الحرف ‪ ،‬وإن شئت قلت اإلنسان الكامل ‪ :‬كائن بائن ‪.‬‬
‫الحق ‪ ،‬بائن عن الخلق » ويصح أن‬ ‫ه‬ ‫يص هح أن يقول عن اإلنسان الكامل إنه « كائن مع‬
‫يقول « هو كائن مع الخلق ‪ ،‬بائن عما هم فيه » كما أن الحرف كائن في رتبة‬
‫اإلحاطة ‪ ،‬بائن عن حكم القيد باإلحاطة ؛ لكونه يفعل بحقيقته في الغيب ‪ ،‬فهو غير‬
‫محصور على ما يشهده من صورته ‪.‬‬

‫ومن ث هم ‪ ،‬قال عن الحروف ‪ -‬وإن شئت قلت عن اإلنسان الكامل ‪ ،‬بل هو اإلنسان ‪-‬‬
‫راحل قاطن ‪.‬‬
‫أي راحل عن المراتب الخلقية ‪ ،‬قاطن في المراتب اإللهية ‪.‬‬
‫باّلل ‪.‬‬
‫استوطن الخيال ‪ ،‬فأقام في عالم ؛ معناه ‪ :‬وهو محل العلم ه‬
‫وافترش الكتاب ؛ يعني ‪ :‬لما كان في باطنه ساكنا مع ربه ؛ افترش الكتاب ‪ ،‬يعني‬
‫اتخذ الصفات واألسماء اإللهية ‪ ،‬فرشا له في موطن كماله ‪ ،‬يتقلهب عليها ‪.‬‬
‫واستوطأ اللسان ‪ ،‬بتحقيق القدرة واإلرادة ‪ ،‬في نفوذ األمر بكلمة ‪ُ :‬ك ْن[ النهحل ‪] 40 :‬‬
‫حيث يريد ‪.‬‬
‫واعتبر هذه المعاني للحروف الرقمية واللفظية والخيالية ؛ فالخيالية مستوطنة الخيال ‪،‬‬
‫ألنها ال تكون إال في عالم الخيال ‪ ،‬فال تخرج عنه ؛ والرقمية افترشت الكتاب ‪ ،‬ألنها‬

‫‪16‬‬
‫شرح مشكالت الفتوحات المكية البن العربي ص ‪17‬‬

‫متلوة ‪ ،‬فال تكون إال في الصحف ؛ واللفظية استوطأت اللسان ‪ ،‬فال تظهر إال‬
‫ه‬
‫بواسطته ‪ .‬وقس على ذلك ‪ ،‬ك هل األقسام الثمانية ‪.‬‬

‫وقد شرحنا في هذه النبذة ‪ ،‬جميع ما حواه الباب الثاني من كتاب الفتوحات ‪ ،‬في‬
‫الحروف وغيرها ؛ ونبههناك على ما هو المقصود من ذلك ‪.‬‬

‫*‬

‫‪17‬‬
‫شرح مشكالت الفتوحات المكية البن العربي ص ‪18‬‬

‫ّللا وبين العالم‬


‫الباب الثالث ما ث هم أمر فاصل بين ه‬
‫ّللا عنه ‪ :‬ومن ذلك ‪ .‬أي ‪ ،‬ومن بعض ما تض همنه هذا الباب من‬ ‫قال الشيخ رضي ه‬
‫ه‬
‫الحق تعالى لنفسه ‪،‬‬ ‫سر التنزيه النزيه ‪ .‬التنزيه النزيه ‪ ،‬هو تنزيه‬
‫العلوم المذكورة ‪ :‬ه‬
‫منزه عن مقابلة التشبيه ‪.‬‬‫كما يعلمه لذاته ‪ .‬وهذا التنزيه ال يقابله تشبيه ‪ ،‬بل هو ه‬
‫ننزهه به ‪ ،‬إنما هو منوط بضدهية التشبيه ‪.‬‬ ‫فتنزيهه ال نعلمه وال نعقله ‪ ،‬ألن كل تنزيه ه‬
‫فهو إذن يتعالى عن تنزيهنا له ‪ ،‬فتنزيهه منزه عن التنزيه والتشبيه ‪.‬‬

‫تنزهه عن معنى التشبيه‬ ‫المنزه ‪ .‬ألنك عندما تريد أن ه‬ ‫ه‬ ‫وألجل ذلك ‪ ،‬قال ‪ :‬التنزيه تحديد‬
‫‪ ،‬ليحصل بذلك ما تريده من التنزيه ؛ وبهذا الفعل تحصره على ما يضاد التشبيه ‪،‬‬
‫فتحدهه وتقيهده بذلك المعنى ؛ فالتنزيه تحديد وتقييد ‪ .‬والتشبيه تثنية المشبهه ‪ ،‬ألنك إذا‬
‫قلت « هو كذا وكذا » على التقييد بصورة واحدة دون غيرها ‪ ،‬فقد أشركته مع تلك‬
‫الصورة في معنى واحد ؛ وهذا هو عين التثنية ‪.‬‬
‫تنزهه في عين‬ ‫فكال األمرين على انفرادهما ‪ ،‬خطأ ؛ والصواب جمعهما بحيث أن ه‬
‫التشبيه ‪ ،‬وتشبههه في حكم التنزيه ‪.‬‬

‫وإلى هذا أشار ونبهه بقوله ‪ :‬فيا ولدي ‪ .‬يخاطب تلميذه بدر الحبشي بقوله ‪ ،‬ليسمع غيره‬
‫نزه وشبهه ‪ .‬يعني ‪ :‬تأ همل فيمن جمع بين الوصفين ؛ هل حاد عن‬ ‫‪ :‬تنبهه وتف هكر فيمن ه‬
‫سواء السبيل ؟ كلمات االستفهام إذا صدرت عن العارف بما يستفهم عنه ‪ ،‬تكون إما‬
‫نفيا وإما إثباتا ؛ ألن المتكلهم يعرف المعنى ‪ ،‬فال فائدة لالستفهام ‪.‬‬
‫و « هل » هنا بمعنى النفي ‪،‬‬
‫يعني ‪ :‬أن كل من جمع بين التشبيه والتنزيه ‪ ،‬ما حاد عن سواء السبيل ‪.‬‬
‫ّللا في نفسه ‪.‬‬
‫ّللا ‪ ،‬الذي هو صراط ه‬
‫أي ‪ ،‬ما مال عن طريق ه‬
‫وذلك هو المعبهر عنه بتجليات ذاته في حقائق أسمائه وصفاته ؛ فما حاد عن ذلك ‪ ،‬من‬
‫كان على هذا الوصف ؛ ألنه عرفه على ما هو األمر عليه ‪.‬‬
‫وهل هو من علمه في ظ هل ظليل ‪ .‬ولفظة « هل » هنا بمعنى اإلثبات ‪،‬‬
‫ه‬
‫المنزه في التشبيه والمشبهه في التنزيه ‪ ،‬في‬ ‫ه‬
‫الحق هو‬ ‫وتقديره ‪ :‬نعم هو من علمه أن‬
‫ظ هل ‪.‬‬
‫يعني ‪ :‬في ستر مانع ‪ ،‬مستور بصفات الحق عن صفات الخلق ؛ ولهذا كان ظلهه ظليال‬
‫‪ ،‬وإلى هذا أشار القائل ‪ ،‬بقول أبو نواس الحسن ابن هانئ‪:‬‬
‫تستهرت في دهري بظ هل جناحه * فعيني ترى دهري وليس يراني‬
‫فلو تسأل األيهام ما اسمي ما درت * وعن موضعي لم تدر أين مكاني‬

‫فمن هو بهذه الصفة على التحقيق ‪ :‬هو في خير مستقر وأحسن مقيل ‪ .‬ألنه يتنعهم‬
‫بتجليات ربهه بين الصورة والعروج والمعنى ‪.‬‬

‫‪18‬‬
‫شرح مشكالت الفتوحات المكية البن العربي ص ‪19‬‬

‫فال يخرج عنها بوجه من الوجوه ‪ ،‬بل يجدها في كل حال من الغيبة والحضور ‪،‬‬
‫والنزول والصعود ‪ ،‬والعروج والهبوط ؛ على اختالف الظهور ‪ ،‬فأمره نور على نور‬
‫‪.‬‬
‫ولما فرغ الشيخ من تعريف حال من له الجمع ‪ ،‬رجع إلى تعريف حال من له الفرق ‪،‬‬
‫المنزه يخلي ‪ ،‬بالخاء المعجمة ‪،‬‬ ‫ه‬ ‫ليميهز بينهما ‪ .‬فقال ‪:‬‬
‫فيعطله ‪ .‬والمشبهه يحلي ‪ ،‬بالحاء المهملة ‪،‬‬ ‫ه‬ ‫يعني ‪ :‬يخلهي الحق عن صفة التشبيه ‪،‬‬
‫الحق حلية غيره ‪ ،‬فيقصره على صورة الخلق ‪.‬‬ ‫ه‬ ‫المعنى ‪ :‬أنه يلبس‬
‫والذي بينهما ال يخلي وال يحلي ‪.‬‬
‫ه‬
‫الحق عما هو له ‪ ،‬وال يحليه‬ ‫يعني ‪ :‬والعارف الذي بين التشبيه والتنزيه ‪ ،‬ال يخلي‬
‫بصورة غيره ‪.‬‬
‫بل يقول ‪ :‬هو عين ما بطن وظهر ‪ ،‬وأبدر واستتر‪.‬‬
‫يعني ‪ :‬إن العارف بوصفه ‪ ،‬يصف البطون والظهور ؛ فبصفة الكمال الحكمي له‬
‫البطون ‪ ،‬وبصفة تعيهن الوجود له الظهور ‪.‬‬
‫فهو ‪ -‬أي الحق ‪ -‬عين ما أبدر ‪ ،‬أي صارت بدرا بالكمال والجمال والجالل ؛ وعين ما‬
‫استتر ‪ ،‬أي استتر باللباسات الخلقية ‪.‬‬
‫الحق تعالى ‪ .‬الشمس والقمر ‪ ،‬أي العبد والرب ‪ .‬والعالم له ‪ ،‬أي هّلل تعالى ‪.‬‬ ‫ه‬ ‫فهو ‪ ،‬أي‬
‫ه‬
‫والحق معنى الخلق ؛ فال‬ ‫ه‬
‫الحق ‪،‬‬ ‫كالجسد للنفس ‪ ،‬وكالصورة للمعنى ‪ ،‬فالخلق صورة‬
‫خلو للمعنى عن الصورة ‪ ،‬وال للصورة عن المعنى ‪.‬‬
‫ولهذا ‪ ،‬قال ‪ :‬فما ث هم هإال جمع ‪.‬‬
‫ه‬
‫بالحق ؛ فال وجود إال‬ ‫للحق إال بالخلق ‪ ،‬وال ظهور للخلق إال‬ ‫ه‬ ‫يعني ‪ :‬ما ثم ظهور‬
‫ّللا عين ك هل موجود ‪. .‬‬ ‫لصورة الجمعية بينهما ‪ ،‬ألن ه‬
‫حق خال عن وجود الخلق ‪،‬‬ ‫الحق ‪ ،‬وال ه‬ ‫ه‬ ‫ول هما لم يوجد في الوجود خلق خال عن وجود‬
‫ي الجدار ؛‬ ‫ه‬
‫الشق الفاصل بين جزئ ه‬ ‫قال ‪ :‬ما في الكون صدع ‪ .‬الصدع في اللغة ‪ ،‬هو‬
‫استعاره هنا ‪ ،‬للثنوية المتو ههمة بين الخلق والحق ‪.‬‬
‫ّللا وبين العالم ‪ ،‬بل هو عين العالم والعالم عينه ! فإن‬ ‫وتقديره ‪ :‬ما ث هم أمر فاصل بين ه‬
‫تو ههمت فاصال ‪ ،‬فإنما هو من حيث وهمك ال غير ‪ .‬ألن العالم له ‪ ،‬كهيكل اإلنسان‬
‫للنفس الناطقة ‪.‬‬
‫إن لم يكن األمر كذلك ‪ .‬يعني ‪ :‬إن لم تكن حقيقة األمر ‪ ،‬على أنه عين العالم ‪ ،‬وأن‬
‫العالم عينه ‪.‬‬
‫فما ث هم شيء هنالك ‪ ،‬فما ث هم شيء زائد على العالم وحقيقته ؛ فاترك ما توهمته من أنه‬
‫خارج عن حقيقة العالم ‪ ،‬وأن وجوده أمر زائد على الكون ؛ واعلم أنه عينك وأنت‬
‫عينه ‪.‬‬
‫ي العين « ‪ -‬موجود » في جميع ما‬ ‫واألمر موجود ‪ .‬يعني ‪ :‬ذات الباري تعالى ‪ -‬أحد ه‬
‫الحق والخلق ‪ ،‬فهو واحد العين في كثرة تعدادات األين ‪.‬‬ ‫ه‬ ‫يتصوره من صفتي‬‫ه‬
‫ال بل وجود ‪ .‬نفى الكثرة ‪ ،‬ألنه عين الوجود المطلق ‪ ،‬فال تعدهد في الوجود ‪.‬‬

‫‪19‬‬
‫شرح مشكالت الفتوحات المكية البن العربي ص ‪20‬‬

‫ومن هنا ن هكره فقال « وجود » ولم يقل « الوجود » لكون الكثرة عين الواحدية ‪ ،‬من‬
‫غير تعقهل مباينة ‪ ،‬ألنه عين التباين والتطابق ‪.‬‬
‫والحكم ‪ .‬يعني ‪ :‬آثار الصفات اإللهية في الذوات المخلوقة ‪ .‬مشهود ال بل شهود ؛‬
‫يعني ‪ :‬أنها مرئية وهي عين الرؤيا التي نراها بها ‪ ،‬فهي المشهود والشاهد والشهود ‪.‬‬
‫وبالنهسب ص هح النهسب ‪.‬‬
‫أي ‪ :‬بالربوبية وجدت العبودية ‪ ،‬وبالعبودية وجدت الربوبية ‪ ،‬فال تعقهل إلحداهما إال‬
‫باألخرى ‪ -‬كالمعلومية ؛ ال تحقهق بها إال بالعالمية ‪ ،‬وال تحقهق للعالمية إال بالمعلومية ‪.‬‬
‫‪ .‬وكال المرتبتين ال وجود لهما إال بتعقهل الصفة العلمية ‪ ،‬وال وجود للصفة العلمية إال‬
‫بتعقهلهما ‪.‬‬
‫وك هل واحد من العلم والعالم والمعلوم نسبة ؛ فما وجدت النهسب إال بالنهسب ‪.‬‬
‫سبب ‪.‬‬ ‫ولوال المسبهب ‪ ،‬ما ظهر حكم ال ه‬
‫المسبب يجوز أن يكون بالفتح والكسر ؛ فإن قلنا بالكسر ‪ ،‬كان اسم الفاعل ‪ ،‬وتقديره ‪:‬‬
‫ّللا الذي أوجد األسباب ‪ ،‬لما ظهر حكمها » وإن قلنا إنه بالنصب ‪ ،‬كان اسم‬ ‫« لوال ه‬
‫المفعول ‪،‬‬
‫يعني ‪ « :‬المسبهب ‪ ،‬الذي هو مفعول السبب ‪ ،‬أعطي السبب حكم السببية » فكما أن‬
‫القلم ‪ ،‬الذي هو سبب الكتابة ‪ ،‬علة لوجود المكتوب ؛ كذلك المكتوب علة لنسبة السببية‬
‫إلى الكتابة ‪ ،‬كما أن كال منهما علة لنسبة السببية إلى الكاتب ‪.‬‬
‫وكذلك الكاتب علة لنسبة السببية إلى القلم ‪ ،‬كنسبة السببية إلى المكتوب ‪ -‬فبالمسبهب ‪-‬‬
‫الذي هو فاعل ‪ -‬وبالمسبهب ‪ -‬الذي هو مفعول ‪ -‬ظهر حكم السبب عنهما ؛ فكان هذا به‬
‫فاعال ‪ ،‬وكان هذا به مفعوال ‪ . .‬فارتبط األمر بعضه ببعض ‪.‬‬
‫شورى ‪ ] 11 :‬زال الظ هل والفيء ‪ ،‬والظ هل‬ ‫ْس َك ِمثْ ِل ِه َ‬
‫ش ْيء[ ال ه‬ ‫ولهذا قال ‪ :‬فإن قلت ‪:‬لَي َ‬
‫ممدود بالنص ‪ ،‬فعليك بالفحص ‪.‬‬

‫ّللا عنه ‪ -‬ذكر في غير موضع من مؤلفاته ‪،‬‬


‫ّللا وإيهاك ‪ ،‬أن الشيخ ‪ -‬رضي ه‬ ‫إعلم أيهدنا ه‬
‫ْس َك ِمثْ ِل ِه َ‬
‫ش ْيء[ ال ه‬
‫شورى ‪ ] 11 :‬يحتمل أن تكون زائدة ‪،‬‬ ‫أن الكاف فيلَي َ‬

‫فيكون المعنى ‪ :‬ليس مثل الحق شيء ‪ ،‬ألنه عين الوجود كله ‪ ،‬فال مثل للوجود ‪ -‬ألنه‬
‫لو كان للوجود مثل ‪ ،‬لص هح أن يطلق عليه اسم الوجود ‪ -‬فالواجد أمر واحد ‪ ،‬ال مثل له‬
‫على الحقيقة ‪.‬‬
‫ه‬
‫الحق‬ ‫ويحتمل أن تكون الكاف تشبيهية ‪ ،‬فيكون معناه ‪ :‬ليس كاإلنسان ‪ ،‬الذي هو مثل‬
‫‪ ،‬شيء ‪.‬‬
‫وّللا تعالى عين الحق والخلق ‪ .‬فهو ‪ -‬أي اإلنسان ‪-‬‬ ‫ألن اإلنسان نسخة الحق والخلق ‪ ،‬ه‬
‫موصوف بكل ما يوصف به الحق ‪ ،‬ومنعوت بكل ما ينعت به الخلق ‪.‬‬
‫شورى ‪. ] 11 :‬‬ ‫ْس َك ِمثْ ِل ِه َ‬
‫ش ْيء[ ال ه‬ ‫فهو المثل الذي ال مثل له ‪ ،‬وهذا معنى لَي َ‬

‫‪20‬‬
‫شرح مشكالت الفتوحات المكية البن العربي ص ‪21‬‬

‫المنزهة عن الكثرة ‪ ،‬انعدم وجود الخلق عندك ‪ ،‬وزال‬‫ه‬ ‫فإن غلب عليك شهود األحدية‬
‫الظ هل والفيء ‪.‬‬
‫ّللا ‪ ،‬فيزول ؛ ألنك لم تشهد شيئا سوى الوحدة المحضة ‪ ،‬فال ظهور‬ ‫ألن العالم ظ هل ه‬
‫للظ هل ‪ ،‬ألن الظ هل يحتاج إلى نور مفيض وظالم قابل للصورة المتوسطة بين النور‬
‫وبين المحل ‪ ،‬وبظهور الوحدة ‪ ،‬ينعدم ذلك ؛ فال كثرة بوجه من الوجوه ‪ ،‬لقولنا إن‬
‫الوجود شيء واحد في كل موجود ‪ ،‬فال تعدهد للوجود ‪ ،‬وإذن فال تعدهد للموجودات ‪.‬‬

‫ألن الوجود على الحقيقة ‪ ،‬هو عين الموجودات ؛ فظهرت الواحدية ‪ ،‬وبظهورها‬
‫ّللا ‪.‬‬
‫بطنت الكثرة ‪ ،‬فزال الظل والفيء المعبهر به عما سوى ه‬

‫والسوى موجود ‪ ،‬والظ هل ممدود ‪ .‬فعليك بالفحص والبحث ‪ ،‬لتجمع في الحقيقة بين‬
‫ير"[‬
‫ص ُ‬‫س ِمي ُع ْالبَ ِ‬ ‫ْس َك ِمثْ ِل ِه َ‬
‫ش ْيء[ ال ه‬
‫شورى ‪ ] 11 :‬وبين أنه " َو ُه َو ال َّ‬ ‫القول بأن األمر لَي َ‬
‫شورى ‪] 11 :‬‬ ‫ال ه‬
‫ّللا‬
‫وحينئذ تجمع بين التنزيه والتشبيه ‪ .‬فعليك بالكشف عن هذه النكتة ‪ ،‬لتجدها إن شاء ه‬
‫تعالى ‪ ،‬وقد شرحنا لك في هذه النبذة ‪ ،‬جميع ما في الباب الثالث من كتاب الفتوحات ؛‬
‫رب غيره ‪.‬‬ ‫وّللا الموفق ‪ ،‬ال ه‬
‫ه‬
‫*‬

‫‪21‬‬
‫شرح مشكالت الفتوحات المكية البن العربي ص ‪22‬‬

‫الباب الرابع ما هذه المظاهر المشهودة هإال عين ال هظاهر فيها وهو ه‬
‫ّللا‬
‫ّللا عنه ‪ :‬ومن ذلك ‪ .‬أي ‪ ،‬ومن بعض ما تض همنه هذا الباب ‪.‬‬ ‫قال الشيخ رضي ه‬
‫سر بداء العالم ‪ .‬واللطيف صفة‬ ‫سر البدء اللطيف ‪ ،‬وما جاء فيه من التعريف ‪ .‬يريد ‪ :‬ه‬ ‫ه‬
‫س هر ‪.‬‬
‫سر البداء ‪ ،‬والضمير راجع إلى ال ه‬ ‫ه‬
‫وسوف أنبههك على مقدمة ‪ ،‬تعرف بها معنى كل ما يرد في هذه النبذة التي جمعت‬
‫جميع ما في الباب الرابع من كتاب الفتوحات المكية ‪.‬‬
‫أحب في شأن ذاته البطوني ‪ ،‬أن يظهر في كنزيته ‪ ،‬لما‬ ‫ه‬ ‫ّللا تعالى لما‬
‫وذلك ‪ :‬أن ه‬
‫وتصور‬
‫ه‬ ‫يقتضيه شأن ذاته الظهوري من الظهور على حكم شؤونه الذاتية ‪ .‬فتش هكل‬
‫بأشكال العالم وصوره ونسبه وإضافاته وأحكامه جميعا ؛ صورة ومعنى ‪ ،‬بطونا‬
‫وظهورا ‪ ،‬فناء وبقاء ‪ ،‬عينا وحكما ‪ ،‬وجودا وشهودا ‪.‬‬
‫وّلل المثلى األعلى ‪ -‬كمثل النفس الناطقة في هيكل‬ ‫فمثله تعالى في هذا المعنى ‪ -‬ه‬
‫اإلنسان ‪ ،‬إذا حدهثت نفسها بنفسها ‪ ،‬فتكون هي المتكلهمة والسامعة ‪ ،‬وهي عين كالمها ؛‬
‫ألنها تتصور لنفسها بصورة مفهوم ما تكلهمت به ‪.‬‬
‫فهي الكالم والمتكلهم والسامع ‪ ،‬وكذلك الحق تعالى ‪ ،‬عين العالم المس همى بالخلق ‪،‬‬
‫وعين الخالق له المس همى بالحق ‪ .‬يبدءان ألسمائه وصفاته ‪ ،‬ترتيبا تقتضيه كل صفة ‪،‬‬
‫لما هي عليه في شأنها ‪.‬‬
‫فلكل اسم مرتبة في ظهور العالم ‪ ،‬فهو ناظر إلى العالم ‪ ،‬من حيث تلك المرتبة‬
‫والمقتضى ‪ ،‬إليجاد الكون من جهة تلك الصفة ‪.‬‬
‫فنقول ‪ -‬مثال ‪ -‬إن الصفة العلمية أول متوجهة إليجاد العالم ‪ ،‬وإن الصفة اإلرادية أول‬
‫متوجهة لتخصيص كل شيء على ما هو عليه من الهيئة والترتيب ‪ ،‬وإن الصفة‬
‫الحس ‪.‬‬
‫ه‬ ‫القادرية أول متوجهة لظهور العالم في‬
‫لكن تو هجه كل صفة من هذه الثالثة المذكورة ‪ ،‬على ترتيب ذكرها ؛ فالعلم له التقدهم ‪،‬‬
‫ثم اإلرادة ‪ ،‬ثم القدرة ‪ ،‬وعلى ذلك فقس واحكم ‪ ،‬إلى أن تستوفي جميع األسماء‬
‫والصفات ؛ فإن أحكامها المتعلهقة أعيان وجودية ‪ ،‬يسمعها الكاشف ويراها ‪.‬‬
‫فاعتبر ذلك حتى تستوفي مقتضياتها ‪ ،‬إلى أن يت هم األمر بظهور كل المراتب الكونية ‪،‬‬
‫علوا وسفال ‪ ،‬لطيفا وكثيفا ‪.‬‬
‫ه‬

‫ّللا عنه ‪ -‬بقوله ‪ :‬إن العالم‬


‫فتنبهه لهذه المقدمة ‪ ،‬تفهم جميع ما أراده الشيخ ‪ -‬رضي ه‬
‫عالمة ‪.‬‬
‫يعني ‪ :‬أنه عالمة على موجده تعالى ‪ ،‬يعرف هو ‪ -‬سبحانه ‪ -‬بالعالم ‪ -‬وتحقيقه ؛ أن‬
‫ك هل وجه من وجوه العالم ‪ ،‬راجع إلى صفة من الصفات اإللهية ‪.‬‬
‫وتقدير ذلك ‪ :‬إن العالم من حيث كونه موجودا ‪ ،‬أثر صفة اسمه الموجد ؛ ومن حيث‬
‫كونه على هيئة مخصوصة ‪ ،‬أثر اسمه المريد ؛ ومن حيث كونه بارزا ‪ -‬من غير مادة‬
‫‪ ،‬وال تعيهن ‪ -‬أثر اسمه القادر ؛ ومن حيث كونه مخلوقا ‪ ،‬أثر اسمه الخالق ؛ ومن حيث‬
‫كونه مرزوقا ‪ ،‬أثر اسمه الرازق ؛ ومن حيث كونه مرئيا ‪ ،‬أثر اسمه البصير ؛ ومن‬

‫‪22‬‬
‫شرح مشكالت الفتوحات المكية البن العربي ص ‪23‬‬

‫حيث كونه مسموعا ‪ ،‬أثر اسمه السميع ‪ ،‬وقس على ذلك ؛ فهذه األسماء هي المظهرة‬
‫ألعيان هذه اآلثار ‪ ،‬وإن شئت قلت ‪ :‬هذه اآلثار هي التي أظهرت هذه األسماء ‪.‬‬
‫وعلى الحقيقة ‪ ،‬هو واحد في واحد لواحد ‪.‬‬
‫فلهذا قال ‪ :‬بدؤه م همن فهو عالمة على من ‪.‬‬
‫يعني ‪ :‬إذا كان الحق عين العالم ‪ ،‬فمن أين بدأ العالم ؟ بل هو في نفسه ‪ ،‬كما كان عليه‬
‫فإذن ‪ :‬ليس هو عالمة على شيء ‪ ،‬ألنه ما ث هم غيره ‪ .‬فال يقال إن الشيء الواحد ‪،‬‬
‫يكون عالمة على نفسه لنفسه ‪.‬‬
‫ه‬
‫الحق هو‬ ‫إذ ال مغايرة في نفسه لنفسه ‪ ،‬فال بدأ ‪ ،‬وال ظهر ‪ ،‬وال بطن ‪ ،‬وال استتر ؛ إذ‬
‫الكل ‪.‬‬
‫وإلى هذا المعنى ‪ ،‬أشار بقوله ‪ :‬ما استتر عين حتى يظهر كون ‪ .‬يعني ‪ :‬ما استترت‬
‫ذاته ‪ ،‬ليظهر غيره ‪.‬‬
‫ّللا عنه ‪ -‬بشهود واحدية الحق تعالى في كثرة الموجودات‬ ‫ولما تحقهق الشيخ ‪ -‬رضي ه‬
‫‪ ،‬وعاين كثرة تنوعات تجلياته في األسماء والصفات ؛ قال ‪ :‬رأينا رسوما ظاهرة ‪.‬‬
‫أراد بالرسوم ‪ ،‬األسماء والصفات التي هي الظاهرة في العالم بحقائقها وآثارها ‪.‬‬
‫ورأينا ربوعا ‪.‬‬
‫يعني بذلك ‪ ،‬المظاهر الكونية ‪ .‬دائرة ‪ ،‬فانية لظهور الحق تعالى ‪ .‬وقد كانت تلك‬
‫المظاهر الكونية ‪ ،‬التي يعبهر عنها بالسوى والعالم ‪ .‬قبل ذلك‪.‬‬

‫ه‬
‫ونظن أن لها وجودا ؛‬ ‫ه‬
‫الحق ‪ .‬عامرة ‪ ،‬لكوننا كنا نراها ‪،‬‬ ‫أي ‪ ،‬قبل شهودنا فيها أحدية‬
‫فكانت من حيثنا ‪ ،‬وجودية وناهية وآمرة ‪،‬‬
‫فسألناها ‪ :‬ما وراءك يا عصام ؟ ‪.‬‬
‫تكلهم الشيخ على لسان حال الوجود ‪.‬‬
‫ّللا وراء الموجودات ‪ ،‬من حيث استنادها إليه االستناد‬ ‫فك هل من نظر بعين اليقين ‪ ،‬وجد ه‬
‫اإليجادي ؛‬
‫وإن شئت قلت ‪ :‬من حيث كونها مظاهر ‪ ،‬وهو الظاهر ‪ .‬وألجل ذلك ‪ ،‬قال إن الحال‬
‫ّللا في‬
‫أجابه ؛ فقالت ‪ :‬ما يكون به االعتصام ‪ .‬االعتصام هو االحتفاظ ‪ ،‬فلوال نظر ه‬
‫فباّلل عصمة العالم وحفظه ‪.‬‬ ‫العالم وجوده ‪ ،‬لعدم العالم ؛ ه‬
‫ّللا وحبله ‪ ،‬وما ال يسع أحدا جهله ‪ .‬يعني ‪ :‬ما هذه‬ ‫ولهذا قال ‪ :‬فقلت ما ث هم إال ه‬
‫ّللا ‪.‬‬
‫المظاهر المشهودة ‪ ،‬إال عين الظاهر فيها ‪ ،‬وهو ه‬
‫وحبله الذي به االعتصام ‪ ،‬هو صفاته الحاكمة بتنوع الموجودات ‪.‬‬
‫فشبهه االعتصام بالحبل ‪ ،‬لالرتباط المعقول بين األثر والمؤثر ؛ وعن ذلك كنهى بقوله «‬
‫ما ال يسع أحدا جهله » لظهور آياته في مصنوعاته ‪.‬‬

‫فقال ؛ يعني ‪ :‬لسان العالم ‪ .‬لوال الكثائف ؛‬

‫‪23‬‬
‫شرح مشكالت الفتوحات المكية البن العربي ص ‪24‬‬

‫يعني ‪ :‬المخلوقات التي هي حجب على صانعها ‪ ،‬ألن الحجاب من طبعه أن يكون‬
‫كثيفا ‪ ،‬وإال لما حجب‬
‫‪.‬فلوال هذه الحجب الكثيفة ‪ ،‬ما علمت اللطائف ‪ .‬أراد باللطائف ؛ حقائق األسماء‬
‫والصفات ‪.‬‬
‫ولوال آثارها ‪ .‬الضمير راجع إلى اللطائف ‪،‬‬
‫يعني ‪ :‬ولوال آثار األسماء والصفات ‪ .‬ما ظهر منارها ‪.‬‬
‫أي منار الكثائف التي هي المخلوقات على اإلطالق ؛‬
‫ّللا وصفاته ‪ ،‬لما‬
‫يعني ‪ :‬لوال العالم ‪ ،‬ما عرفت أسماء الحق وصفاته ؛ ولوال أسماء ه‬
‫ظهر العالم ‪ .‬فمن خبت ناره ‪ ،‬انهد مناره ‪.‬‬
‫يعني ‪ :‬فك هل مظهر سكنت ناره ‪ -‬لبطون تجلي االسم الحاكم عليه ‪ -‬انهدم وفني من‬
‫الحس ‪ ،‬فصار له حضرة القدس ‪ ،‬على ما ؟ ؟ ؟ عليه ؛ ألنه كان ث هم قبل ظهوره‬ ‫ه‬ ‫حيث‬
‫‪ ،‬وصار إليه بعد بطونه ‪.‬‬
‫فما ازدادت حضرة القدس بدخوله فيها ‪ ،‬وما انتقصت بخروجه عنها ‪.‬‬
‫الحس ‪.‬‬
‫ه‬ ‫الحس ‪ .‬يعني ‪ :‬وما ين هم بوجود الموجودات ‪ ،‬إال مراتب‬
‫ه‬ ‫وما ين هم به إال‬
‫الحس ‪ .‬أي ‪ ،‬العالم المحسوس الدا هل على ه‬
‫ّللا ‪ .‬بشهود األثر ‪ .‬برؤية أثر األسماء‬ ‫ه‬ ‫لوال‬
‫ّللا ‪،‬‬
‫اإللهية ‪ ،‬والصفات الكمالية ‪ ،‬فلوال ذلك ‪ .‬ما عرف للطيف خبر ‪ .‬اللطيف هو ه‬

‫وتقديره ‪ :‬لوال الموجودات ‪ ،‬لما عرف الموجد سبحانه وتعالى ‪.‬‬


‫صص بذكر‬ ‫ّللا عنه ‪ -‬من الكالم على العالم عموما ‪ ،‬خ ه‬ ‫ولما فرغ الشيخ ‪ -‬رضي ه‬
‫اإلنسان ‪.‬‬
‫ّللا تعالى ‪ .‬للقرب المفرط‪.‬‬ ‫فقال ‪ :‬النهفس عمياء ‪ .‬يعني عن شهود كمال ه‬
‫ب إِلَ ْي ِه ِم ْن َح ْب ِل ْال َو ِري ِد[ ق ‪.]16 :‬‬
‫‪:‬ون َْح ُن أ َ ْق َر ُ‬
‫ّللا تعالى َ‬
‫حيث يقول ه‬
‫ألنه سبحانه عين النفس ‪ ،‬فجهلت النفس حقيقتها من أجل ذلك القرب ‪ ،‬ومن أجل ما‬
‫تشهده الحواس من كثائف الحجب ‪.‬‬
‫باّلل طبعا ‪.‬‬
‫وظاهر األمر ‪ :‬فصارت النفس بواسطة هذين األمرين ‪ ،‬جاهلة ه‬
‫ص هماء عن إدراك الوسواس ‪.‬‬ ‫وهي ‪ ،‬يعني النفس ‪ .‬ال ه‬
‫أراد بالوسواس ‪ ،‬الخواطر اإللهية التي ترد على النفوس بالفطرة ‪.‬‬
‫وإنما ص همت آذان النفوس عن إدراك هذه الخواطر ‪ ،‬ألن المادة حاكمة على النفس‬
‫بالعقل والمقتضيات البشرية ‪ ،‬فامتنعت عن سماع ما يرد من الحق ألجل ذلك ‪ .‬وهي‬
‫الخرساء فال تفصح ‪.‬‬
‫يعني ‪ :‬أن النفس صارت خرساء بالطبع الحيواني ‪ ،‬فال تفصح عن س هر من األسرار‬
‫اإللهية المودعة فيها ‪ ،‬لكونها بشرية بحكم الطبع في قيد الجسم وحصره ‪.‬‬
‫وهي ‪ .‬يعني النفس ؛ العجماء ‪ .‬إنما اعتجمت النفس بفراقها ما في قابليتها من‬
‫سيهة ‪.‬‬
‫الكماالت ؛ وإنما فارقته لعدم اشتغالها به ‪ ،‬بسبب ما أخذها عنه من األمور الح ه‬
‫فال تعقل النفس ما هي حاوية له من الكماالت اإللهية فتوضهح وتخبر عنه ‪.‬‬

‫‪24‬‬
‫شرح مشكالت الفتوحات المكية البن العربي ص ‪25‬‬

‫بالحس ‪ ،‬لظهر بالفعل ما هو باطن فيها بالقوة من أوصاف‬ ‫ه‬ ‫ولوال اشتغالها عن المعنى‬
‫الكمال ونعوت الجالل والجمال ‪.‬‬
‫وإلى ذلك أشار بهذه األبيات ‪:‬‬
‫سرى اللهطيف من اللهطيف فناسبه * وبدا له منه الخالف فعاتبه‬
‫اللطيف األول هو النفس ‪ ،‬واللطيف الثاني هو ذات واجب الوجود ‪.‬‬
‫يعني ‪:‬‬
‫أن النفس على الحقيقة ‪ ،‬مخلوقة من نور ذات الواجب بذاته ؛ ولهذا وجدت فيها من‬
‫ه‬
‫الحق به ‪ -‬وقد بيهنا كيفية مضاهاتها للحق والخلق على‬ ‫الكماالت ‪ ،‬جميع ما وصفت‬
‫التفصيل ‪ ،‬في كتابنا الموسوم " بإنسان عين الوجود ‪ ،‬ووجود عين اإلنسان الموجود "‬
‫فمن شاء أن يعلم ذلك ‪ ،‬فليطالع فيه ‪ -‬وحوت من النقائص جميع ما في الوجود ؛‬
‫الحق والخلق ‪ ،‬ما استوعب األمر على ما هو عليه ‪.‬‬ ‫ه‬ ‫فجمعت من كال وصفي‬
‫ق تعالى جامع لذلك ‪ ،‬فحصلت المناسبة بين النفس ‪-‬‬ ‫ولهذا قال « فناسبه » ألن الح ه‬
‫ه‬
‫الحق ‪ ،‬الذي هو روح العالم‪.‬‬ ‫التي هي روح العالم اإلنساني ‪ -‬وبين‬

‫وأما قوله « بدا له منه الخالف » فهو إشارة إلى ما يقع للنفس من النزول والركون‬
‫إلى المقتضيات األرضية التي ألجلها يكون العتاب ‪ ،‬وإليه اإلشارة بقوله " فعاتبه " ‪،‬‬
‫ثم قال ‪:‬‬
‫وتو هجهت منه إليه حقوقه * فدعاه للقاضي العليم وطالبه‬

‫يعني ‪ :‬واقتضى الحال أن يتو هجه على النفس حقوق كثيرة لموجدها ‪ ،‬إذ للصانع ه‬
‫حق‬
‫على مصنوعه ال ينكره العقل طبعا ‪ ،‬والقاضي هو العقل ‪،‬‬
‫ه‬
‫الحق للنفس إلى العقل ‪ -‬لتعرفه النفس ‪ -‬بقوله « فدعاه للقاضي العليم‬ ‫فعبهر عن إرجاع‬
‫حق الصانع عليه ‪.‬‬‫»فطالبه ‪ ،‬بأداء ه‬
‫ونعت القاضي ‪ -‬المعبهر به عن العقل ‪ -‬أنه عليم ‪ ،‬ألن العقل من طبعه درك األمور‬
‫ّللا فيه من مكنون علمه ‪ ،‬كما سبق بيانه ‪.‬‬‫كلها ‪ ،‬لما أودع ه‬
‫فعندما رجعت النفس إلى مقتضى العقل ‪ ،‬عرفت بحكم العقل ‪ ،‬أن نزولها إلى مقتضى‬
‫حكم الجسم وبال عليها ‪ ،‬فعبهر عن هذا المعنى بقوله ‪ :‬نادى عليه ‪.‬‬
‫يعني ‪ :‬نادى العقل على النفس ‪.‬‬
‫تجرسا ‪ .‬التجريس ‪ ،‬التعزيز على سبيل اإلهانة ته هكما إذ العقل يقضي أن يكون ‪ :‬هذا‬ ‫ه‬
‫جزاء من عامل الجنس البعيد وصاحبه ‪.‬‬
‫اإلشارة بقوله "هذا " إلى النزول واالنحصار والتقييد والعجز واالحتباس بحكم سجن‬
‫الطبع ‪ ،‬فذلك جزاء كل نفس اشتغلت بالظاهر عن حكم الباطن ؛ ألنها تألفه وتنسى ذلك‬
‫المعنى طبعا ‪.‬‬
‫فما أنزلها عن التحقهق بحقائق الكمال ‪ ،‬إال فعلها ‪ ،‬فإذن نزولها جزاء ما صنعت ‪.‬‬

‫‪25‬‬
‫شرح مشكالت الفتوحات المكية البن العربي ص ‪26‬‬

‫وعن الجسم ومقتضياته ‪ ،‬عبهر بالجنس البعيد ‪ .‬فنزول النفس إلى العجز ‪ ،‬ألمرين ‪:‬‬
‫أحدهما ‪ ،‬العمل بمقتضى الجسم ؛ والثاني ‪ ،‬مصاحبة الجسم ‪ .‬فاألول عارض ‪ ،‬والثاني‬
‫الزم ‪.‬‬
‫فينبغي أن يسعى المرء أوال في زوال حكم العارض ‪ ،‬حتى إذا ه‬
‫انفك عن الجسم ‪،‬‬
‫حصل له الالزم أيضا ‪ ،‬فيخلص إلى الكمال المطلق من كل وجه ‪.‬‬
‫وعن الرجوع عن المقتضيات البشرية عبهر بقوله ‪:‬‬
‫ليتوب من سمع النهداء فيرعوي * عنه ويعلم أنهه إن جانبه‬
‫تظفر يداه بك هل خير شامل * فاستعمل اإلرسال فيه وكاتبه‬
‫الالم في « ليتوب » للتعليل ‪،‬‬
‫مجرسا للنفس ‪ ،‬لتحصل منها التوبة ‪ ،‬وهي الرجوع عن حكم‬ ‫ه‬ ‫يعني ‪ :‬إنما نادى العقل‬
‫الحق ؛ فتلزم مشاهدته منها فيها ‪ -‬ولتعلم النفس ‪ ،‬بما أوضحه‬ ‫ه‬ ‫الجسم ومقتضاه ‪ ،‬إلى‬
‫العقل ‪ ،‬أنها إن جانبت الجسم ‪ -‬المعبهر عنه بالجنس البعيد ‪ -‬فتركت العمل بمقتضاه ‪،‬‬
‫وخالفت أحكامه ؛ ظفرت يداها بالصفات اإللهية ‪ ،‬التي هي في قوة النفس وقابليتها ‪،‬‬
‫فتستعمل االسترسال في ذلك بشهودها لحقائقها الحقيقية ؛ ألنها عين المعبهر عنه بالذات‬
‫اإللهية‪،‬‬
‫وإلى النفس أشار بقوله ‪ :‬هو اللطيف في أسمائه الحسنى ‪ ،‬وبها ظهر المأل األعلى‬
‫واألدنى ‪.‬‬
‫يعني ‪ :‬أن النفس المعبهر عنها بالذات ‪ ،‬ظاهرة في األسماء الحسنى والصفات العليا‬
‫التي ظهرت بواسطتها الموجودات ؛ فالضمير في قوله « بها » راجع إلى األسماء‬
‫سطت في إيجاد هذا‬ ‫الحسنى ‪ .‬وقد شرحنا لك في أول هذه النبذة ‪ ،‬عن كيفية كونها تو ه‬
‫العالم ‪.‬‬
‫وعبهر عن ذلك بقوله ‪ :‬لما تجاوزت تحاورت ‪ ،‬األول بالجيم ‪ ،‬والثاني بالحاء المهملة ‪.‬‬
‫يعني ‪ :‬لما حصلت المجاورة بين األسماء اإللهية والصفات الربانية ‪ ،‬ألنها كانت في‬
‫مح هل واحد فخاطبت بعضها بعضا بحكم المقتضى ؛ وعن ذلك عبهر بقوله « تحاورت‬
‫» ‪ .‬وقد قلنا لك إنها طلبت ظهور آثارها ‪ ،‬وإن الكالم على الحال ‪.‬‬
‫وذلك واقع صورة في اآلزال ‪ ،‬علم تحقهقه ‪.‬‬
‫وعن لسان حالها المطالب بمقتضى آثارها ‪ ،‬عبهر بقوله ‪ :‬ولما تكاثرت ‪ ،‬تسامرت ‪.‬‬
‫فرأت أنفسها على حقائق ‪ ،‬ما لها من طرائق ‪.‬‬
‫يعني ‪ :‬رأت األسماء والصفات أنفسها على حقائق مختلفة ‪ ،‬فلتلك الحقائق ظهور في‬
‫الوجود ‪.‬‬
‫فكان األمر ‪ :‬سماؤها ما لها من فروج ‪.‬‬
‫كنهى عنها بالسماء ‪ ،‬ألن السماء لها العلو على األرض ‪ ،‬كما أن المؤثهر له العلو على‬
‫ما أثهر فيه ؛ وإنهي بقوله َوما لَها ِم ْن فُ ُروج( ‪ [ ) 6‬ق ‪ ] 6 :‬عن عدم ظهور مؤثراتها‬
‫في ذلك الموطن ‪ ،‬فاقتضاه حالها ؛‬

‫‪26‬‬
‫شرح مشكالت الفتوحات المكية البن العربي ص ‪27‬‬

‫وعن ذلك عبهر بقوله ‪ :‬فطلبت أرضا تنبت فيها من كل زوج بهيج ‪ .‬يعني ‪ :‬طلبت‬
‫األسماء والصفات اإللهية ‪ ،‬المعبهر عنها بالسماء ‪ ،‬أرضا ؛ أي محال تظهر فيه آثارها ‪.‬‬
‫وعن ذلك عبهر بقوله َوأ َ ْنبَتْنا فِيها ِم ْن ُك ِهل زَ ْوج بَ ِهيج( ‪ [ ) 7‬ق ‪] 7 :‬‬
‫يعني ‪ :‬فاشتاقت أن تظهر هذه األسماء والصفات ‪ ،‬ك هل معنى لطيف من معاني آثارها‬
‫‪ ،‬في الموجودات ‪.‬‬
‫فقالت ‪ .‬أي لسان حال األسماء والصفات عند اقتضاء الظهور ‪ :‬المفتاح في النكاح ‪.‬‬
‫يعني ‪ :‬فتح باب اإليجاد ‪ ،‬بظهور الكون في تناكح األسماء ‪ ،‬أي توالج بعضها في‬
‫بعض ‪ ،‬لظهور هذا العالم ‪ .‬فعبهر عن دخول حكم األسماء بعضها على بعض ‪،‬‬
‫بالنكاح ‪.‬‬
‫وال ب هد من ثالثة ‪ ،‬ليصح النكاح المعنوي ‪ .‬وألجل ذلك بني عليه النكاح الصوري ‪ ،‬فال‬
‫يص هح النكاح في ظاهر األمر ‪ ،‬إال بثالثة ‪.‬‬
‫ي عدل ‪ ،‬لهذا القضاء الفصل ‪.‬‬ ‫ي ‪ ،‬وشاهد ه‬‫وهم ‪ :‬ول ه‬
‫فالثالثة المتصدرة المشروطة في نكاح األسماء اإللهية ‪ ،‬هم ‪:‬‬
‫ّللا ‪.‬‬ ‫االسم الذاتي ‪ ،‬وهو ه‬
‫واالسم الرحمن ‪ ،‬ألنه يرحم أسماءه وصفاته فيظهر آثارها ‪.‬‬
‫ي‪! .‬‬
‫ي ‪ ،‬وث هم نكاح قدس ه‬
‫واالسم الرحيم ‪ ،‬ألنه به ترحم الموجودات ‪ .‬هذا نكاح أقدس ه‬
‫والثالثة المشروطة في األسماء ‪ ،‬لنكاحها الثاني وتداخل بعضها في بعض لظهور‬
‫العالم كله ‪ -‬أعاله وأسفله ‪ ،‬أوله وآخره ‪ -‬هو ‪ :‬العلم واإلرادة والقدرة ‪.‬‬
‫صة وجود األسماء والصفات ‪.‬‬ ‫فالعلم هو محل ظور المعلومات ‪ ،‬ومن ه‬
‫صصة لكل موجود ‪ ،‬على حكم ما يقتضيه حال الكمال ‪.‬‬ ‫واإلرادة هي المخ ه‬
‫والقدرة هي المبرزة له من العلم إلى العين ‪ ،‬فهذه شروط صحة النكاح المعنوي‬
‫األسمائي األزلي األبدي ‪.‬‬
‫فالنكاح األول ‪ ،‬لتعلهق األسماء والصفات بحقائقها ‪ ،‬ولكمال ظهورها ‪.‬‬
‫والنكاح الثاني‪ ،‬لظهور الموجودات وتحقيق بروزها‪ ،‬ليتم به مقتضى الكمال‪ ،‬فافهم ‪.‬‬

‫ولما كانت الكلمة اإللهية ‪ ،‬التي هي مجلى العلم واإلرادة والقدرة ‪ ،‬وهي ‪ :‬كن ‪ ،‬متعلقة‬
‫ش ْيء ِإذا أ َ َر ْدناهُ‬
‫عز وج هل ‪ِ :‬إنَّما قَ ْولُنا ِل َ‬
‫بالمعلوم ‪ ،‬لشمول معاني الكمال له تعالى ‪ ،‬لقوله ه‬
‫ون( ‪ [ ) 40‬النهحل ‪. ] 40 :‬‬‫أ َ ْن نَقُو َل لَهُ ُك ْن فَيَ ُك ُ‬
‫فالشيء هو معلوم بالصفة العلمية ‪ ،‬ومراد بالصفة اإلرادية ‪.‬‬
‫وكلمة ُك ْن[ النهحل ‪ ] 40 :‬هي المتعلقة بعين ذلك المعلوم في العلم ‪ ،‬وصفة القدرة هي‬
‫المخرجة له من العلم إلى العين ‪.‬‬
‫عبهر عن ذلك بقوله ‪:‬‬
‫فقال العليم ‪ ،‬يعني الصفة العلمية أعطت أنه ‪ :‬ال بد من كلمة ُك ْن[ النهحل ‪] 40 :‬‬
‫لظهور هذه األعيان الثابتة في العلم ‪ ،‬وخروجها من محلها إلى العالم العيني ‪.‬‬
‫وعن كلمة ُك ْن[ النهحل ‪] 40 :‬‬

‫‪27‬‬
‫شرح مشكالت الفتوحات المكية البن العربي ص ‪28‬‬

‫ّللا‬
‫ّللا الرحمن الرحيم ‪ .‬ومن ث هم قال بعض العارفين ‪ « :‬بسم ه‬ ‫عبهر بقوله ‪ :‬بسم ه‬
‫ّللا ‪» . .‬‬
‫الرحمن الرحيم من العارف ‪ ،‬ككن من ه‬
‫ّللا تعالى ‪ -‬ولوال أن الكالم‬
‫وسوف يذكره الشيخ فيما يلي في هذا الفصل ‪ -‬إن شاء ه‬
‫من ال َّر ِح ِيم( ‪ [ ) 1‬الفاتحة ‪ ] 1 :‬في أثناء هذا الباب ‪ ،‬لتحدثنا‬
‫الر ْح ِ‬ ‫يأتي على ِب ْس ِم َّ ِ‬
‫ّللا َّ‬
‫ّللا عنه ‪.‬‬
‫هنا حسبما أراده الشيخ رضي ه‬

‫ي‪.‬‬‫ي ‪ ،‬الشاهدان والول ه‬ ‫فهذا يا ول ه‬


‫ّللا ‪ ،‬واالسم الرحمن ‪ ،‬واالسم الرحيم ؛ موجودا في البسملة ‪.‬‬ ‫لما كان االسم ه‬
‫ي هو االسم‬
‫ّللا عنه إلى ذلك ‪ -‬حسبما ذكرنا ذلك آنفا ‪ -‬فجعل الول ه‬ ‫أشار الشيخ رضي ه‬
‫ّللا ‪ ،‬والشاهدان هما الرحمن والرحيم ‪ ،‬على النمط السابق ‪.‬‬ ‫ه‬
‫سر النكاحين المعقودين لظهور‬ ‫الر ِح ِيم( ‪ [ ) 1‬الفاتحة ‪ ] 1 :‬ه‬
‫من َّ‬‫الر ْح ِ‬ ‫ففي بِ ْس ِم َّ ِ‬
‫ّللا َّ‬
‫ّللا تعالى ‪.‬‬
‫الحق وحقائق الخلق ‪ . .‬فتأ همل ‪ ،‬ترشد إن شاء ه‬ ‫ه‬ ‫حقائق‬

‫ّللا عنه ‪ :‬فهذا ‪ .‬يعني ما عبهرنا عنه من لسان حال الكمال في األزل‬ ‫قال الشيخ رضي ه‬
‫‪ :‬كان أول تركيب األدلة ‪ .‬أراد باألدلة ؛ المصنوعات وبروزها ‪.‬‬
‫يعني ‪ :‬بذلك المعقول آنفا‪ ،‬كان سبب تركيب المصنوعات وبروزها على لسان العموم‪.‬‬
‫وأما على الخصوص ‪ ،‬فاألدلة هي األسماء والصفات اإللهية ؛ لما اقتضاه الشأن‬
‫اإللهي ‪ ،‬من حيث ما هو األمر عليه ‪ ،‬ليكون ذات واجب الوجود ‪ ،‬منعوتا بنعوت‬
‫الكمال والجالل والجمال‪.‬‬
‫صة ‪ ،‬على شأن إلهي‬ ‫صته ؛ وتركيب كل صفة من ه‬ ‫فركوب كل اسم علما ‪ ،‬على صفة من ه‬
‫ّلل ْاأل َ ْسما ُء ْال ُح ْسنى[ األعراف ‪. ] 180 :‬‬
‫‪ ،‬فقال تعالى ‪َ :‬و ِ َّ ِ‬
‫ألن الشيء في نفسه ‪ ،‬ال يحتاج إلى اسم يميهز به نفسه لنفسه ‪.‬‬
‫هذا إذا كان ث هم موجود آخر ‪ ،‬فكيف إذا لم يكن ث هم غيره ؟ فباألولى ‪.‬‬
‫ولما الح هذا المعنى لبصائر المعتزلة ‪ ،‬من حيث أنهم لم يشعروا به ‪ ،‬ذهبوا إلى أن‬
‫القدم للذات فقط ‪ ،‬ليس لشيء من الصفات عندهم قدم في القدم ؛ فقالوا بأن جميع‬
‫األسماء والصفات اإللهية مخلوقة ‪.‬‬
‫باّلل ‪ ،‬كما فات من قال بأنها قديمة على اإلطالق ‪ ،‬لقدم الذات ‪،‬‬ ‫وفاتهم نصف المعرفة ه‬
‫باّلل ‪.‬‬
‫ولم يجمع بين الحكمين ‪ ،‬إال عارف ه‬
‫ّللا حقائق األشياء ‪ ،‬فعرفها ‪ ،‬وعرف مجاليها ‪ -‬على ما‬ ‫وال يكون ذلك ‪ ،‬إال لمن أشهده ه‬
‫ّللا ‪ ،‬فيحكم بأنه‬
‫هي عليه جملة وتفصيال ‪ -‬فعرف كيف ينسب كل اسم أو صفة إلى ه‬
‫قديم ؛ وكيف ينسبه إليه ‪ ،‬فيعرف بأنه ‪ -‬أي االسم والصفة ‪ -‬محدث ‪.‬‬
‫ه‬
‫الحق هو الجمعية ‪.‬‬ ‫ولم يقف على وجه دون آخر ‪ ،‬ألن‬
‫شبه المضلهة ‪.‬‬
‫وبعد هذا ‪ ،‬عرضت ال ه‬
‫بالحق ‪ ،‬فضلهت أهل تلك‬‫ه‬ ‫يعني ‪ :‬عرضت على العقول أمور ‪ ،‬يعطي بعضها االشتباه‬
‫العقول عن الطريق اإللهي الذي هو له تعالى ‪ .‬على أن الطريق المضلهة ‪ ،‬أيضا ‪ ،‬له‬

‫‪28‬‬
‫شرح مشكالت الفتوحات المكية البن العربي ص ‪29‬‬

‫وإليه ‪ ،‬لكن هذه على العموم وبحكم الوسائط البعيدة ‪ ،‬وتلك على الخصوص وبالوسائط‬
‫ّللا عنه ‪ ،‬ونبهه عليه‬
‫القريبة ‪ ،‬وقد شرحنا لك في هذه النبذة جميع ما أراده الشيخ رضي ه‬
‫في الباب الرابع من كتاب الفتوحات ‪.‬‬
‫وّللا الموفق ‪.‬‬
‫ه‬
‫*‬

‫‪29‬‬
‫شرح مشكالت الفتوحات المكية البن العربي ص ‪30‬‬

‫دوري يعود إلى ما بدأ!‬‫ه‬ ‫الباب الخامس األمر‬


‫ّللا عنه ‪ :‬ومن ذلك ‪ .‬أي ‪ ،‬ومن بعض ما تضمنه هذا الباب من‬ ‫قال الشيخ رضي ه‬
‫سر كن والبسملة ‪ ،‬فيمن علهله ‪.‬‬ ‫فنون العلم المشار إليه آنفا ‪ .‬ه‬
‫قد قلنا لك آنفا ‪ ،‬إن البسملة عبارة عن كلمة ُك ْن[ النهحل ‪، ] 40 :‬‬
‫سر كتابه الكريم‬
‫ّللا تعالى كما أظهر الموجودات بواسطة الكلمة ‪ ،‬كذلك أظهر ه‬ ‫ألن ه‬
‫بواسطة البسملة ‪.‬‬
‫فالكتاب كله ‪ ،‬نسخة جميع الوجود ؛ والفاتحة نسخة اإلنسان ‪ ،‬والبسملة نسخة كلمة‬
‫الحضرة ‪.‬‬
‫ّللا عليه وسلم البسملة في ابتداء األمور ‪ ،‬ليكون التقدير‬ ‫ّللا صلى ه‬
‫سن رسول ه‬ ‫ولهذا ‪ ،‬ه‬
‫باّلل ‪.‬‬
‫فيه ‪ :‬كل فعل يفعله عقيب البسملة ‪ ،‬ه‬
‫باّلل أشرب ‪ ،‬فال بد من تقدير الفعل‬
‫فمن بسمل عند األكل ‪ ،‬كان تقدير حاله أن يقول ‪ :‬ه‬
‫بعد البسملة بلسان الحال ‪ ،‬لتعلهق الباء من بِ ْس ِم َّ ِ‬
‫ّللا [ الفاتحة ‪:‬‬
‫ّللا ‪.‬‬
‫] ‪1‬؛ و « اسم » زائدة ‪ ،‬والمراد ه‬
‫س ِبهحِ ا ْس َم َر ِبه َك ْاأل َ ْعلَى( ‪ [ ) 1‬األعلى ‪ .]1:‬والمراد بذلك ‪ :‬سبهح ربهك ‪.‬‬
‫كما في قول ‪َ :‬‬

‫وقد وضعنا للبسملة كتابا ‪ ،‬شرحناها فيه أيام البداية ‪ ،‬وسميناه بالكهف والرقيم في‬
‫الر ِح ِيم( ‪ [ ) 1‬الفاتحة ‪.]1:‬‬
‫من َّ‬
‫الر ْح ِ‬ ‫شرح بِ ْس ِم َّ ِ‬
‫ّللا َّ‬

‫وهذا الكتاب المذكور ‪ ،‬أول كتاب صنهفناه في علم الحقيقة ‪ ،‬فالحمد لمن جعل أول‬
‫الر ِح ِيم ) ‪ [( 1‬الفاتحة ‪. ] 1 :‬‬
‫من َّ‬
‫الر ْح ِ‬ ‫تصنيفاتي في ‪ِ :‬ب ْس ِم َّ ِ‬
‫ّللا َّ‬
‫ليقع كمال النسبة اإللهية في إظهار الحقائق صورة ومعنى‪.‬‬
‫ولوال ما شرحناه من أمر البسملة ‪ ،‬ألوردنا لك ذلك كله ‪ ،‬على التفصيل واإلجمال ‪،‬‬
‫وزبدة األمر كله ؛ رجوع أمر جميع أفعال العباد ‪ ،‬إلى أنها أفعال هّلل ‪.‬‬

‫ّللا منك بمنزلة كن منه ‪.‬‬ ‫ه‬


‫الحالج ‪ ،‬وإن لم يكن من أهل االحتجاج ‪ ،‬بسم ه‬ ‫فلذلك ‪ :‬قال‬
‫ّللا عنه ‪ ،‬هو الحسين بن منصور الحالج ‪.‬‬
‫الحالج رضي ه‬

‫الحق " قتله سيف‬


‫ه‬ ‫قال الشيخ إنه ليس من أهل االحتجاج ‪ ،‬ألنه لما تحدهى وقال " أنا‬
‫الشريعة ؛ فلو امتنع بمقتضى صفات الحق ‪ ،‬لم يستطع أن يقتله أحد ؛ فكانت ح هجته‬
‫ثابتة ودعواه صحيحة عند الغير ‪.‬‬
‫ه‬
‫وأعز‬ ‫ّللا عنه في قوله ‪ :‬سبحاني‪ ،‬ما أعظم شأني‬ ‫كما جرى ألبي يزيد رضي ه‬
‫سلطاني!‬
‫ّللا عنه ‪ :‬معاشر األنبياء ‪ ،‬أوتيتم اللقب ‪ ،‬وأوتينا‬
‫وفي قول الشيخ عبد القادر رضي ه‬
‫ما لم تؤتوه !‬

‫‪30‬‬
‫شرح مشكالت الفتوحات المكية البن العربي ص ‪31‬‬

‫ّللا عنه‪ :‬خضنا بحرا وقف األنبياء‬


‫وفي قول الشيخ أبي الغيث بن جميل رضي ه‬
‫بساحله !‬
‫ّللا عنه ‪ :‬ما حالك ؟ قال ‪ :‬أصبحت أحيي وأميت ‪،‬‬
‫وقوله حين قال له الحكمي رضي ه‬
‫وأفعل ما أريد ‪ ،‬وأنا على كل شيء قدير ‪.‬‬

‫فك هل من هؤالء السادة ‪ ،‬منع بحاله أن يسطو عليه أحد ‪ ،‬فأقام ح هجته ‪.‬‬
‫الحق ‪ -‬ولهذا أخذته سيوف الشريعة ‪.‬‬ ‫ه‬ ‫وكان الحالج دون هذه المرتبة ‪ -‬ولو كان على‬
‫وال مؤاخذة على من قام عليه ‪ ،‬ألنهم قاموا بالحق ؛ ولو كان حقهه أعلى من حقههم ‪.‬‬
‫ونهاية األمر ؛ إن الذين فعلوا هذا الفعل ‪ ،‬إذا ظهرت عليهم الحقائق ؛ ن هكسوا رؤوسهم‬
‫‪ ،‬وآمنوا بقوله ‪.‬‬
‫ولوال الحقيقة ‪ ،‬ما أخذته سيوف الشريعة ؛ ألنه لما طلب ظهوره بالربوبية في عالم‬
‫أعز من وجود النار في قعر البحار ‪ -‬أطلقه لسان الوقت ‪ ،‬عن قيد‬ ‫العبودية ‪ -‬وذلك ه‬
‫الهيكل الجسماني ‪ ،‬ليتحقهق بما ادعاه في العالم الالئق بتلك الدعوى ‪ ،‬فجرى عليه ‪ ،‬ما‬
‫جرى غيره من الحقائق على الحقائق ؛ لئال يدهعي هذا المقام من ليس له ذلك ‪.‬‬

‫ولو كان متحقهقا بذلك كمال التحقهق ‪ ،‬كما كان عليه غيره من الك همل المذكورين ‪ ،‬المتنع‬
‫بحق صفات الربوبية عن تلك القتلة ‪ ،‬كما امتنع غيره ‪. .‬‬ ‫ه‬
‫ّللا ‪ ،‬ولو لم يكن له شاهد تلك البيهنة ؛ وكان من ذكرناهم من‬ ‫الحالج على بيهنة من ه‬ ‫ه‬ ‫فكان‬
‫ّللا ‪ ،‬ويتلوه شاهد منه ‪.‬‬ ‫الك همل ‪ ،‬على بيهنة من ه‬
‫ير[ لقمان ‪. ] 19 :‬‬ ‫ص ْوتُ ْال َح ِم ِ‬
‫ت لَ َ‬ ‫ّللا تعالى ‪ِ :‬إ َّن أ َ ْن َك َر ْاأل َ ْ‬
‫صوا ِ‬ ‫ولهذا ‪ ،‬قال ه‬
‫يريد بذلك ‪ ،‬كناية عن حال المريد إذا تكلهم قبل أوان الكالم ؛ وفي المثل السائر عند‬
‫يعز المرء أو يهان ‪.‬‬ ‫االمتحان ه‬
‫فلكل مقام مقال ‪ ،‬ال يصح دعوى المتكلهم عن ذلك ‪ ،‬إال إذا تم هكن فيه ‪.‬‬

‫ّللا عنه ‪ ،‬واجد الحقيقة ‪ ،‬ما قال غير متم هكن بالحال ؛ فتع هجل‬ ‫الحالج رضي ه‬ ‫ه‬ ‫فلو كان‬
‫وتكلهم ‪ ،‬ولو تأ همل في قوله تعالى لنبيه الكريم عليه الصالة والسالم ‪:‬ال ت ُ َح ِ هر ْك ِب ِه ِلسان ََك[‬
‫ّللا في حقههم ‪:‬ال يَ ْس ِبقُونَهُ‬ ‫القيامة ‪ ] 16 :‬اآلية ‪ ،‬لكان ‪ ،‬كغيره من الك همل الذين قال ه‬
‫بِ ْالقَ ْو ِل[ األنبياء ‪ ] 27 :‬اآلية‬
‫باّلل مطلقا ؛ ال يعلم هذا‬ ‫ّللا ‪ ،‬والعارف يعمل ه‬ ‫ّللا ‪ ،‬ك هل ما يعلمه ه‬
‫فالكامل يعمل بأمر ه‬
‫الحق إال الكامل ‪ -‬إال إذا كان عارفا كامال ‪ ،‬وإال‬ ‫ه‬ ‫األمر المخصوص ‪ -‬الذي يتو هجه من‬
‫فهو محجوب عنه ‪.‬‬
‫ّللا[ الفاتحة ‪ ] 1 :‬منه‬ ‫باّلل ‪ ،‬لتحقهق ذاته بمعنى صفاته ؛ كان ِب ْس ِم َّ ِ‬‫ي فاعال ه‬ ‫ولما كان الول ه‬
‫‪ ،‬بمنزله ُك ْن[ النهحل ‪ ] 40 :‬من ه‬
‫ّللا ‪.‬‬
‫إذا قارنت ذلك منه حركة إرادية لصدور ما يريد في الخارج ‪ ،‬كما أن كلمة ُك ْن[ النهحل‬
‫الحق مقارنة إلرادته ما يكون على الوجه المخصوص المراد ‪.‬‬ ‫ه‬ ‫‪ ] 40 :‬من‬

‫‪31‬‬
‫شرح مشكالت الفتوحات المكية البن العربي ص ‪32‬‬

‫ّللا عنه ‪ :‬فخذ التكوين عنه ‪ .‬الضمير في " عنه " راجع إلى‬ ‫ولهذا ‪ ،‬قال الشيخ رضي ه‬
‫ّللا المذكور في البسملة ‪،‬‬
‫اسم ه‬
‫المكون ؛ فقل للشيء ُك ْن[ النهحل ‪] 40 :‬‬
‫ه‬ ‫ّللا‬
‫والمراد ‪ :‬خذ علم كيفية التكوين ‪ ،‬عن ه‬
‫فيكون ‪ ،‬كما هو القائل تعالى لكل شيء ‪.‬‬
‫تقوى جأشه ‪ ،‬أي قلبه ؛ واستدار عرشه ‪ ،‬باستوائه بذاته‬ ‫وعن ذلك عبهر بقوله ‪ :‬فمن ه‬
‫على عرش أسمائه وصفاته ؛ وتم ههد فرشه ‪ ،‬بتمكنه من التحقهق ‪ ،‬صورة ومعنى ؛‬
‫فظهر أثر اسم باطنه على ظاهره ‪،‬‬
‫متصرفا في العالم ‪،‬‬
‫ه‬ ‫ه‬
‫للحق تعالى ‪ -‬كان‬ ‫فكان لجسمه جميع ما هو لروحه ‪-‬التي لها ما‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ ،‬قال كن‬ ‫تكون األشياء بكلمته لها ُك ْن[ النهحل ‪ ] 40 :‬كرسول ه‬
‫ّللا صلى ه‬ ‫ه‬
‫‪ ،‬ولم يبسمل ؛ فكان ‪ ،‬ولم يحوقل‪.‬‬

‫ّللا عليه وسلم ‪ ،‬لشيخ رآه من بعيد ‪ « :‬كن زيدا » فكان ذلك‬
‫أشار إلى قوله صلى ه‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ ،‬وترقهب‬
‫ّللا صلى ه‬ ‫ه‬
‫الخطاب ‪ ،‬أرسله رسول ه‬ ‫الشيخ زيدا ‪ ،‬أخو عمر بن‬
‫وصوله ؛ وحكايته مشهورة ‪ "" .‬في الحديث « كن أبا خيثمة » صحيح مسلم وصحيح‬
‫ابن حبان وروى القصة غيرهما‪"" .‬‬

‫تكون ذلك‬‫والمراد ‪ :‬أن من كان متحقهقا بربه ‪ -‬روحا وجسما ‪ ،‬وصورة ومعنى ‪ -‬ه‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ ،‬فقال ‪ُ :‬ك ْن[ النهحل ‪. ] 40 :‬‬
‫ّللا صلى ه‬ ‫الشيخ فصار زيدا لرسول ه‬
‫الر ِح ِيم( ‪ [ ) 1‬الفاتحة ‪. ] 1 :‬‬
‫من َّ‬
‫الر ْح ِ‬ ‫ولم يقل ِب ْس ِم َّ ِ‬
‫ّللا َّ‬
‫ّللا[ الفاتحة ‪ ] 1 :‬مرتبة العارف ‪ ،‬و ُك ْن [ النهحل ‪ ] 40 :‬مرتبة ه‬
‫ّللا ‪،‬‬ ‫ألن ِب ْس ِم َّ ِ‬
‫ّللا[ الفاتحة ‪ ] 1 :‬ليس المراد بهذا االسم غير المحقهق ‪ ،‬وال غير ه‬
‫ّللا‬ ‫والمحقهق هو َّ ِ‬
‫تعالى ‪.‬‬

‫ّللا عليه‬ ‫وقوله ‪ :‬فَكانَ [ األعراف ‪ ] 175 :‬ضميره راجع إلى ما قاله رسول ه‬
‫ّللا صلى ه‬
‫ّللا عليه‬
‫ّللا صلى ه‬‫وسلم ‪ُ :‬ك ْن[ النهحل ‪ ] 40 :‬وفاعل « لم يحوقل » راجع إلى رسول ه‬
‫باّلل ‪.‬‬
‫وسلم ‪ ،‬أي ‪ :‬لم يقل ال حول وال قوة إال ه‬
‫ّللا تعالى بالفناء عن صفات نفسه وأفعالها ‪ ،‬بل‬ ‫ألن ذلك مرتبة العارف الذي رجع إلى ه‬
‫وّللا راجع إلى المحقهق ‪ ،‬رجوع العارف إلى ه‬
‫ّللا ‪.‬‬ ‫وعن ذات نفسه ؛ ه‬
‫وّللا قائم بالمحقهق ‪.‬‬
‫باّلل ‪ ،‬ه‬
‫فالعارف قائم ه‬
‫باّلل ‪ ،‬كما يقول المحقهق ‪.‬‬
‫فلهذا ‪ ،‬لم يقل المحقهق ال حول وال قوة إال ه‬
‫فمن ذاق ‪ ،‬من شراب التمكين بالذات في تحقيق إظهار معاني األسماء والصفات ؛‬
‫ضاق مسلكه ‪ ،‬ألنه حينئذ يسير بالذات ‪ ،‬والذات ظلمة ال طريق فيها لسالك ‪.‬‬

‫ّللا عنه ‪،‬‬


‫وإلى هذا المعنى أشار سيدي محيي الدين عبد القادر الجيالني ‪ ،‬رضي ه‬
‫بقوله ‪:‬‬

‫‪32‬‬
‫شرح مشكالت الفتوحات المكية البن العربي ص ‪33‬‬

‫ك هل األولياء ل هما وصلوا إلى القدر وجدوه مصمتا فوقفوا ‪ ،‬إال أنا ‪ ،‬فتحت لي فيه روزنة‬
‫ه‬
‫بالحق ‪. .‬‬ ‫ه‬
‫الحق‬ ‫‪ ،‬فولجت فيها ‪ ،‬فدافعت أقدار‬
‫الحق ‪ ،‬ضاق عن قبوله بحكم‬‫ه‬ ‫ه‬
‫الحق في‬ ‫هذا معنى ؛ وإن شئت قلت ‪ :‬من ذاق ألوهية‬
‫الخلق بالكلية ؛ فإن في ذلك فقدانه للربوبية ‪ ،‬إذ ليس من الكمال ترك الربوبية للعبودية‬
‫‪ ،‬فيضيق المحقهق عن كمال التنزيل إلى العالم الخلقي من كل جهة ‪.‬‬
‫فإذن ‪ :‬يكون حقها مع حقيقته بالذات ‪ ،‬وخلقا مع خليقته باألسماء والصفات والشؤون‬
‫واالعتبارات والنسب واإلضافات ‪ ،‬فمعيهته مع الحق والخلق ‪ ،‬خير معيهة ‪ ،‬الحق‬
‫سبحانه وتعالى ! ولم يقر بهذه النكتة ‪ -‬حاال ‪ -‬إال كامل في هذه الدار ‪ ،‬وحقيقة األمر ؛‬
‫رجوع الك هل إلى هذا المعنى‪.‬‬

‫ّللا عنه إلى ذلك بقوله ‪:‬‬


‫وقد أشار الشيخ رضي ه‬
‫وإذا التفهت الساق بالساق ‪ :‬فإلى ربك المساق ‪ ،‬وإليه ترجع األمور ‪ ،‬إذ كان منه‬
‫الصدور ‪.‬‬
‫معناه ‪ :‬إذا التفت والتحقت الذات اإلنسانية بالذات الرحمانية ‪ ،‬بشهودها أنها عينها ‪ -‬ال‬
‫غيرها ‪ -‬من كل جهة ‪ ،‬وبكل اعتبار ‪ ،‬وعلى كل حال ‪ ،‬وفي كل وقت على الدوام ‪.‬‬
‫فإلى مقام الربوبية المحضة ‪ ،‬يكون مساق هذا اإلنسان ‪.‬‬
‫وحينئذ ‪ ،‬ترجع إليه ‪ -‬أي إلى اإلنسان ‪ -‬األمور ؛ ألنه الحق الذي كان منه البداية‬
‫ي ‪ ،‬يعود إلى ما بدأ ‪.‬‬
‫والصدور ‪ .‬إذ األمر دور ه‬

‫ّللا عنه ‪ :‬ال تبسمل ‪ ،‬وقل بكن ‪ ،‬مثل ما قاله يكن ‪.‬‬ ‫ولهذا ‪ ،‬قال الشيخ رضي ه‬
‫بكن األولى ‪ ،‬بالباء الموحدة ‪.‬‬
‫ويكن األخيرة ‪ ،‬بالياء المثناة من تحت ؛ وهذا جزاء لقوله ‪ :‬قل ‪.‬‬
‫والمعنى ‪ :‬ال ترجع بك إليه ‪ ،‬كما هو المقصود في البسملة ‪ ،‬بل ارجع باألمر كله إليك‬
‫‪ ،‬وقل ُك ْن[ النهحل ‪. ] 40 :‬‬
‫الحق ‪ ،‬يكن ما شئت كما شئت ‪.‬‬ ‫ه‬ ‫لما تريده ‪ ،‬كما يقوله‬
‫فإليه رجوعنا ‪ ،‬ال إلينا ‪ .‬أي ‪ :‬فإلى مقام الربوبية رجوعنا ‪ ،‬ال إلى مقام العبودية ‪.‬‬
‫فالربوبية الزمة لذواتنا ‪ ،‬والعبودية عارضة بحكم المحل ‪.‬‬
‫وترتيب الحكمة ‪ ،‬هو المقتضي للحكمين في المحلين ؛ من أجل هذه الذات الواحدة‬
‫الكاملة بجميع تلك المعاني ‪.‬‬
‫فكن عين الذات اإللهية من كل جهة ‪ ،‬وبكل اعتبار ‪ ،‬وعلى كل حال ‪ ،‬ال تخرج عن‬
‫ذلك طبعا ‪ .‬تكن ‪ ،‬عينه ‪ . .‬بإظهار األثر من نفوذ كل أمر ‪ ،‬وإدراك كل علم ‪ .‬وما‬
‫ع ِظيم ( ‪35‬‬ ‫صبَ ُروا َوما يُلَقَّاها ِإ َّال ذُو َح ه‬
‫ظ َ‬ ‫يلقهاها إال الذين صبروا ‪َ ،‬وما يُلَقَّاها ِإ َّال الَّذِينَ َ‬
‫صلت ‪. ] 35 :‬‬ ‫) [ف ه‬
‫صرح به الشيخ في الباب الخامس من كتاب‬ ‫وقد رمزت لك في هذه النبذة ‪ ،‬جميع ما ه‬
‫ّللا تعالى ‪.‬‬ ‫الفتوحات المكية ‪ .‬فتأمله ‪ ،‬ترشد بمعرفته إن شاء ه‬

‫‪33‬‬
‫شرح مشكالت الفتوحات المكية البن العربي ص ‪34‬‬

‫الباب السادس جرى بنا جواد البنان في هذا البيان حتهى أظهر ما لم يخطر إظهاره في‬
‫الجنان‬
‫ّللا عنه ‪ :‬ومن ذلك ‪ .‬أي ‪ ،‬ومن بعض ما تض همنه هذا الباب من فنون‬ ‫قال الشيخ رضي ه‬
‫سر الروح وتشبيهه بيوح ‪.‬‬ ‫العلم المشار إليه أوال ‪ .‬ه‬
‫سر الروح الكلية المشرقة من الهياكل‬ ‫األلف والالم في الروح ‪ ،‬للعهد ‪ -‬وتقديره ‪ :‬ه‬
‫الجزئية ‪ ،‬التي يص هح وقوعها على كل فرد من أفراد هذا النوع اإلنساني ‪.‬‬
‫وتشبههت هذه الروح بيوح ‪ ،‬وهو اسم من أسماء الشمس ‪ ،‬والمراد به هنا الحق تعالى ‪،‬‬
‫ألنه نور السماوات واألرض ‪.‬‬
‫شورى ‪ ، .]11 :‬في األرض وال‬ ‫ش ْيء[ ال ه‬‫ْس َك ِمثْ ِل ِه َ‬
‫فاإلنسان ‪ ،‬هو « المثل » الذي لَي َ‬
‫في السماء ‪ ،‬لكونه نسخة كاملة جامعة شاملة ‪.‬‬
‫صرحنا في كتاب « الكماالت اإللهية » عن حقيقة هذه النسخة وكيفية معناها ‪،‬‬ ‫وقد ه‬
‫وكشفنا عن ذلك أيضا على التفصيل ‪ -‬بعبارة مبسوطة ‪ -‬في كتابنا الموسوم " بإنسان‬
‫عين الوجود ووجود عين اإلنسان الموجود " فمن أراد تحقيق هذه المعرفة ‪ ،‬فليكشف‬
‫عن محلها من هذين الكتابين ‪. .‬‬
‫وسأذكر لك من ذلك طرفا جامعا ‪ ،‬وهو ‪:‬‬
‫سم ذاته قسمين ‪ -‬من‬ ‫أحب الظهور من ذاته لذاته ‪ ،‬بمقتضى ذاته ؛ ق ه‬ ‫ه‬ ‫ّللا تعالى ‪ ،‬لما‬
‫إن ه‬
‫غير تعدهد في العين ‪ -‬فسمى أحد القسمين بالواجب ‪ ،‬والقديم ‪ ،‬والرب ‪ ،‬والفاعل ‪.‬‬
‫وسمى القسم الثاني بالممكن ‪ ،‬والمحدث ‪ ،‬والعبد ‪ ،‬والمنفعل ‪.‬‬
‫ي سماه بالهباء والهيولى والقدرة ؛ ألن‬ ‫فأول ما أظهر من ذلك القسم الثاني ‪ ،‬محل حكم ه‬
‫العالم كله متحيهز ‪ ،‬وال بد للمتحيهز من مكان يحلهه ‪.‬فإن كان المكان مخلوقا ‪ ،‬فقد دخل‬
‫في حكم العالم ‪ ،‬وال بد له من مكان ؛ هكذا إلى أن يتسلسل ‪ ،‬أو يدور ‪ ،‬أو ينتهي لمح هل‬
‫حكم ال يقال إنه خلق ‪ ( ،‬لئال لغيره ) « ‪ » 1‬؛ كما أن غيره ال يكون ظرفا له ‪.‬‬

‫ه‬
‫الحق هنا بالخلقية في هذه المرتبة ‪ ،‬من أجل ذلك‬ ‫ه‬
‫الحق المخلوق ‪ ،‬وتقيهد‬ ‫فالهباء ‪ ،‬هو‬
‫االنقسام ‪.‬‬
‫ي بالهباء ‪ ،‬هو الهيولى المعبهر عند المحقهقين عنها بالعقل األول والروح‬‫وهذا المعن ه‬
‫المحمدية والقلم األعلى ‪.‬‬
‫فكانت الحقيقة المحمدية ‪ ،‬أول مخلوق ‪ .‬وكانت على النسخة اإللهية‪ ،‬صورة ومعنى‪.‬‬
‫ه‬
‫والحق روحه ؛ ذلك‬ ‫ه‬
‫الحق ‪،‬‬ ‫أما من حيث الصورة ‪ ،‬فكما أن الوجود المخلوق صورة‬
‫ّللا فيه نسخة كل شيء من صور الموجودات وحقائقها ‪ -‬جملة‬ ‫اإلنسان ‪ ،‬قد خلق ه‬
‫وتفصيال ‪ -‬فهو على صورة الخلق ‪ ،‬ألن العالم صورته ‪.‬‬
‫وأما كونه على النسخة المعنوية للحق ‪ -‬أيضا ‪ -‬فألنك تجدك قابال لكل اسم وصفة على‬
‫التمام والكمال ‪ ،‬فقل في األسماء الذاتية أوال إنك « أحد » ذا أحديهة غير مجهولة في‬
‫ي‪..‬‬‫كل شيء ‪ ،‬ألنها عبارة عن صرافة ذات الشيء ‪ ،‬بالنظر إليه من حيث هو ذات ه‬

‫‪34‬‬
‫شرح مشكالت الفتوحات المكية البن العربي ص ‪35‬‬

‫فمتى عرفت أنك هو ‪ ،‬كانت هذه األحدية ‪ -‬التي ذكرتها لك ‪ -‬نفي أحدية الواجب بذاته‬
‫؛ وقس على ذلك ‪.‬‬
‫ه‬
‫ولعزتها ‪ ،‬منع‬ ‫فليس شيء من تجليات األسماء والصفات ‪ ،‬أعلى من تجلهي األحدية ؛‬
‫ّللا قدم في تجلي األحدية ‪.‬‬
‫ّللا أن يكون لغير ه‬‫أهل ه‬
‫وسر المنع ‪ ،‬أن األحديهة ‪ -‬من حيث هي أحديهة ‪ -‬تقتضي عدم التعدهد فيها من كل وجه‬ ‫ه‬
‫وبكل اعتبار ‪ ،‬فكيف لخلق فيها قدم مع ه‬
‫حق ؟‬
‫وذلك مشعر بالتغاير واإلثنينية ‪ ،‬وهذا محال غير ممكن في تجلهي األحدية ‪.‬‬
‫فإذا قد ص هحت لك نسخة منها ‪ ،‬فباألولى أن يص هح لك جميع ما تحتها من الكماالت‬
‫المعبهر عنها باألسماء والصفات ‪.‬‬
‫ي ‪ ،‬وأنت العليم ‪ ،‬وأنت القدير ‪ ،‬وأنت المريد ‪ ،‬وأنت السميع ‪ ،‬وأنت‬ ‫فأنت الح ه‬
‫البصير ‪ ،‬وأنت المتكلهم ‪.‬‬
‫وهذه السبعة ‪ ،‬هي أمهات الكمال وأئمة األسماء والصفات ؛ قد سميت بها ظاهرا ‪،‬‬
‫وسوف أكشف لك عن مواقع نجومها باطنا ‪:‬‬
‫الحق سبحانه وتعالى ‪ ،‬كما أنه عين الوجود الساري‬ ‫ه‬ ‫ي ؛ فأنت متصف به ألن‬ ‫أما الح ه‬
‫في أعيان الممكنات ‪ ،‬كذلك أنت سار في أعيان الموجودات به همتك ؛ أال تراك إذا‬
‫افتكرت في السماء ‪ ،‬كيف تسري روحك فيها ؟ وفي األرض ‪ ،‬وفي جميع ما تفكر فيه‬
‫‪ ،‬أنت كذلك سار فيه بروحك ؛ فحياتك هي القائمة بحياة كل ما سرت فيه ‪.‬‬

‫ّللا به وبمعلوماته ‪ ،‬فهو‬


‫وأما العلم ؛ فأنت متصف به من حيث عقلك ‪ ،‬ألنه عين علم ه‬
‫ه‬
‫الحق والخلق ؟‬ ‫بالحق والخلق ؛ أال ترى إلى عقلك ‪ ،‬كيف عرفت به‬ ‫ه‬ ‫المحيط‬
‫فلوال أنه الصفة العلمية اإللهية ‪ ،‬لما اتسع لمعرفة الحق تعالى ‪.‬‬
‫وسبب ذلك ‪ ،‬أنك ال بد أن تطلق اسم الحق في علمك على شيء ‪ ،‬تضيف إليه ما هو‬
‫للحق من صفات الكمال ‪ ،‬وذلك الشيء الذي أطلقت هذا االسم عليه ‪ ،‬هو في عقلك‬
‫معلوم لك ‪ ،‬وهو عين الحق تعالى ‪ ،‬الذي أضفت إليه ما أضفت من صفات الجمال‬
‫والجالل والكمال ؛ فلو لم يكن عقلك ‪ ،‬عين الصفة العلمية اإللهية ‪ ،‬لما ظهر هو فيها ؛‬
‫عرفت بذلك أسرار كثيرة ‪.‬‬ ‫ألنه سبحانه ليس له محل إال العلم ‪ . .‬وقد ه‬

‫ّللا ‪ ،‬فقس باإلرادة والقدرة على ما ذكرت ‪ ،‬وتأ همل هل تجد حقيقة‬
‫إن كنت من أهل ه‬
‫فتتكون كما تريد أم‬
‫ه‬ ‫تصورك لألشياء في مخيهلتك وتخيهلك ‪،‬‬
‫ه‬ ‫هذين الوصفين لك في حال‬
‫ال ؟‬
‫ومتى عرفت ذلك ‪ ،‬لم تفتك معرفة السميع والبصير والمتكلم منك ‪ ،‬وتتحقهق هذه‬
‫المعرفة ‪.‬‬
‫فيجب عليك ‪ ،‬أن تسعى في زوال الموانع لك عن تحقيق ما تجده من كمالك ‪ ،‬ليظهر‬
‫جسمك بما هو لروحك ‪.‬‬

‫‪35‬‬
‫شرح مشكالت الفتوحات المكية البن العربي ص ‪36‬‬

‫تصوره في العالم الخيالي ؛ تستبرزه‬


‫ه‬ ‫وتكونه ‪ ،‬ما كنت‬
‫ه‬ ‫تصور ‪ ،‬في العالم‬
‫ه‬ ‫فإذن ‪:‬‬
‫للحس ‪ ،‬كما كان مشهودا للخيال ‪ ،‬وبذلك تعرف أنك‬
‫ه‬ ‫مشهودا‬
‫المعبهر عنه بمسمى األسماء الحسنى والصفات العلى !‬
‫جرى بنا جواد البنان في هذا البيان ‪ ،‬حتى أظهر ما لم يخطر إظهاره في الجنان ‪ ،‬من‬
‫كل علم ال يسعه الكيان ؛ فلنقبض العنان ‪ ،‬ولنرجع إلى ما كنا بصدده من شرح هذه‬
‫الكلمات الحسان ‪.‬‬

‫ّللا عنه ‪ :‬أشرقت أرض األجسام بالنفوس ‪ ،‬كما أشرقت األرض‬ ‫قال الشيخ رضي ه‬
‫بأنوار النفوس ‪.‬‬
‫ّللا عنه ‪ -‬فيما سبق ‪ -‬أن اإلنسان نسخة للحق ‪ ،‬أراد أن يظهر‬ ‫لما أظهر الشيخ رضي ه‬
‫كونه نسخة للخلق ؛ فشبهه روحه بالشمس التي هي روح العالم الدنياوي ‪ ،‬وشبهه‬
‫متصرفة في الهيكل اإلنساني ‪ ،‬ومدبهرة له ؛‬
‫ه‬ ‫اإلشراق باإلشراق ‪ ،‬ألن النفس الجزئية‬
‫مر الدهور ‪.‬‬‫تتصرف الشمس في العالم الدنياوي ‪ ،‬وتدبهره على ه‬
‫ه‬ ‫كما‬

‫وك هل من النفوس والشموس ‪ ،‬عين ك هل على الحقيقة ؛ إذ هذه الصورة كلها ‪ ،‬راجعة‬
‫للوجه الواحد الظاهر في مرائي مختلفة األشكال والمقادير ‪.‬‬

‫ّللا عنه ‪ :‬وإنما لم تفرد العين ‪ ،‬ألنها ما أشرقت ‪ ،‬إال بما‬


‫فلهذا ‪ ،‬قال الشيخ رضي ه‬
‫حصل فيها من نور الكون ‪ ،‬وإن كان األصل ‪ ،‬ذلك الواحد ؛ فليس ما صدر عنه بأمر‬
‫زائد ‪ ،‬فعدهدته األماكن ‪ ،‬لما أنزل نفسه فيها منزلة الساكن ‪.‬‬
‫ّللا تعالى ‪ ،‬هو المتجلهي بأعيان‬
‫زبدة هذا الكالمه ‪ ،‬وخالصة هذه المسألة ‪ :‬أن ه‬
‫الموجودات على حسب ما تقضيه قابلية كل هيئة لكل موجود ‪ ،‬كما أن الصورة تظهر‬
‫في كل مرآة بحسب تلك المرآة ؛ فاختلفت الصور المرئية الختالف المرائي ‪ ،‬وحقيقة‬
‫الصورة واحدة كما أن الحق تعالى واحد متعدهد بحسب تعدهد الموجودات ؛ وبالحقيقة ‪،‬‬
‫ال تعدهد ‪ ،‬ألن الشيء الواحد إذا تعدهد باعتبارات كثيرة راجعة إليه ‪ ،‬هو واحد غير‬
‫متعدهد في نفسه ‪.‬‬
‫وهذه االعتبارات هي األسماء والصفات ‪ ،‬التي هي أعيان الممكنات ‪ ،‬وإلى ذلك ‪،‬‬
‫أشار بقوله ‪ :‬فللحقيقة رقائق ‪ ،‬يعبهر عنها بالخالئق ‪.‬‬

‫أطلق هنا لفظ « الحقيقة » والمراد بها ‪ :‬الحقيقة اإللهية ‪.‬‬


‫لها " رقائق " أي معاني كمالية ‪ ،‬هي أعيان األسماء والصفات المظهرة لحقائقها في‬
‫ذوات الموجودات ‪ ،‬على سائر النعوت والنسب واإلضافات واالعتبارات ؛ فهي هوية‬
‫شيء واحد ‪ ،‬من كل الوجوه بالذات ‪،‬‬
‫وقد شرحنا في هذه النبذة ‪ ،‬جميع ما تض همنه الباب السادس من كتاب الفتوحات المكية ؛‬
‫ّللا للصواب ‪ ،‬وعلهمك الحكمة وفصل الخطاب‪.‬‬ ‫فتأ همل ذلك ‪ ،‬أرشدك ه‬

‫‪36‬‬
‫شرح مشكالت الفتوحات المكية البن العربي ص ‪37‬‬

‫للروح الهتي هي النهور المظهر لألشياء كلهها‬


‫الباب السابع الجسم هو المظهر ه‬

‫ّللا عنه ‪ :‬ومن ذلك ‪ .‬أي ‪ ،‬ومن بعض ما تض همنه هذا الباب من أنواع‬ ‫قال الشيخ رضي ه‬
‫سر الكيف والكم ‪ ،‬وما لهما من الحكم ‪.‬‬ ‫العلوم ‪ :‬ه‬
‫صة األجسام ‪،‬‬ ‫لما كان السؤال بكيف وكم ‪ ،‬من لوازم العالم المحسوس ‪ ،‬الذي هو من ه‬
‫ومظهر الكثافة واألجرام ‪.‬‬
‫عبهر بهما عن الجسم الكلهي ولوازمه ‪ ،‬والنفس الكلية وعوالمها ‪.‬‬
‫فسر ظهور العالم الجسماني ‪ ،‬هو لتحقهق اإلنسان بالشأن الرحماني ‪ ،‬حتى يظهر بالفعل‬ ‫ه‬
‫في صورة جزئية مخصوصة كاملة النشأة ‪ ،‬ما هو ثابت بالقوة في حقيقة الوجود الكلهي‬
‫الجامع ؛ لتكون تلك الصورة للوجود الكلهي ‪ ،‬كالروح للهيكل الحيواني ‪ ،‬وكالمعنى للفظ‬
‫‪ ،‬وكالملك للمملكة ‪. .‬‬
‫ّللا من عالم األجسام ‪ ،‬العرش ‪.‬‬ ‫فلهذه الحكمة ؛ أول ما خلق ه‬
‫وجعله محيطا بالمحيطات كلها‪ ،‬كما يحيط الجسم اإلنساني بجميع ما حواه هيكله‬
‫المخصوص‪.‬‬
‫واستوى سبحانه على العرش ‪ ،‬استواء مخصوصا ‪ ،‬هو عليه من غير تغيير لشأنه‬
‫الذي كان له قبل خلق العرش وما حواه ‪.‬‬
‫ي‬
‫وذلك االستواء ‪ -‬في ضرب المثل ‪ -‬كاستواء الروح على الجسم ؛ فالجسم الجزئ ه‬
‫ي للروح الكلية ‪ ،‬المعبهر عنها‬ ‫ي عرش كل ه‬ ‫ي للروح الجزئية ‪ ،‬والجسم الكل ه‬ ‫عرش جزئ ه‬
‫بالحقيقة المحمدية من حيث تعيهنها ‪ ،‬وبالحقيقة اإللهية من حيث عينها ‪.‬‬
‫ي صادق على الجزئي ‪.‬‬ ‫وال شك أن الكل ه‬
‫فاعرف بما ذكرته لك ‪ ،‬من أنت ؟ وما محلهك ؟‬
‫ي ‪ :‬هو البيت المعمور بالقوى ‪.‬‬ ‫تعلم حينئذ أن جسمك ‪ ،‬بل الجسم الكل ه‬

‫القوى ‪ ،‬عبارة عن المالئكة المو هكلة بتدبير العالم الكبير ‪ ،‬كما أن القوى الحيوانية‬
‫مو هكلة بتدبير جسمك ؛ الذي هو العالم الصغير بالنسبة إلى الجرم ‪ ،‬لقوله تعالى ‪:‬لَخ َْل ُق‬
‫ض[ غافر ‪ ] 57 :‬اآلية ‪،‬‬ ‫ت َو ْاأل َ ْر ِ‬
‫سماوا ِ‬
‫ال َّ‬
‫وأما بالنسبة إلى القدرة ؛ فإنك أنت العالم األكبر ‪ ،‬والسماوات واألرض بما فيها ‪ ،‬هو‬
‫ت َوما فِي ْاأل َ ْر ِ‬
‫ض َج ِميعا ً ِم ْنهُ[‬ ‫س َّخ َر لَ ُك ْم ما فِي ال َّ‬
‫سماوا ِ‬ ‫العالم األصغر‪ ،‬لقوله تعالى ‪َ :‬و َ‬
‫الجاثية ‪.] 13 :‬‬
‫فالسماوات بما أظلهت ‪ ،‬واألرض بما أقلهت ‪ ،‬مس هخرة لك ‪.‬‬
‫أعز قدرا ‪ ،‬وأعظم فخرا ؛ ولهذا تفنى السماوات واألرض يوم القيامة ‪ ،‬وأنت‬ ‫لكونك ه‬
‫باق إلى أبد اآلبدين ‪.‬‬
‫فجسمك الذي هو البيت المعمور ‪ ،‬بقواك التي هي مالئكة تسخيرك ؛ هو العرش‬
‫ّللا منك ‪.‬‬ ‫الكريم ‪ . .‬إذ ال موجود أكرم على ه‬

‫‪37‬‬
‫شرح مشكالت الفتوحات المكية البن العربي ص ‪38‬‬

‫ي هو العرش المحيط ‪ ،‬ألنه جامع للموجودات الجسمانية ‪ ،‬وليس وراءه إال‬ ‫والجسم الكل ه‬
‫عالم الجبروت ‪.‬‬
‫وسيأتي الكالم على العرش العظيم والعرش المجيد ‪ ،‬في موضعه من هذا الكتاب إن‬
‫ّللا ‪.‬‬
‫شاء ه‬
‫سر خلق العالم ‪.‬‬ ‫ّللا عنه ‪ ،‬أراد أن يبين لك في هذه النبذة ‪ ،‬ه‬ ‫إعلم أن الشيخ رضي ه‬
‫فبدأ بذكر العرش ‪ ،‬ألنه أول متعيهن في الصورة ‪ ،‬وإليه اإلشارة بقوله ‪ :‬والذي كان‬
‫عليه االستواء ‪.‬‬
‫علَى ْالعَ ْر ِش ا ْستَوى( ‪ [ ) 5‬طه ‪. ] 5 :‬‬ ‫الر ْح ُ‬
‫من َ‬ ‫إشارة إلى قوله تعالى ‪َّ :‬‬
‫ّللا عنه فيما مضى ‪ -‬وبيهنهاه لك ‪ -‬أن الروح المعبهر عنها بالحقيقة‬ ‫وقد كان الشيخ رضي ه‬
‫المحمدية ‪ ،‬وبالعقل األول ‪ ،‬وبالقلم األعلى ؛ هي أول مخلوق ‪.‬‬
‫وهي ‪ -‬أعني هذه الروح ‪ -‬كلية وأرواحنا جزئياتها ‪.‬‬
‫فلهذا المعنى ‪ ،‬أشرقت تلك المعاني الكمالية الموجودة في الحقيقة المحمدية ‪ ،‬في ذواتنا‬
‫ّللا أ ُ ْس َوة َح َ‬
‫سنَة [‬ ‫‪ .‬وإلى هذا المعنى ‪ ،‬أشار بقوله تعالى ‪:‬لَقَ ْد كانَ لَ ُك ْم ِفي َر ُ‬
‫سو ِل َّ ِ‬
‫يم[ الممتحنة ‪.] 4 :‬‬ ‫َت لَ ُك ْم أ ُ ْس َوة َح َ‬
‫سنَة فِي ِإبْرا ِه َ‬ ‫األحزاب ‪ .] 21 :‬وقوله تعالى ‪:‬قَ ْد كان ْ‬

‫ّللا عنه بقوله ‪:‬‬


‫وإلى هذا اإلشراق في األجسام أشار الشيخ رضي ه‬
‫محل الظهور المشرق بالنور ‪ .‬يعني ‪ :‬أن العالم الجسماني محل كمال الظهور اإللهي ؛‬
‫ألن الجسم اإلنساني ‪ ،‬آخر ظاهر من مراتب الوجود ‪.‬‬
‫ولهذا ؛ كان اإلنسان البشري ‪ ،‬نوع األنواع على اإلطالق ؛ وكان اإلنسان الحقيقي ‪،‬‬
‫جنس األجناس ‪.‬‬
‫ألنه أول كل موجود ‪ ،‬فحاز رتبة اإلحاطة ؛ فهو ‪ :‬األول واآلخر ‪.‬‬
‫وكان اإلنسان مشرقا بأنوار الكماالت ‪ ،‬معنى وصورة ‪.‬‬
‫فإشراقه المعنوي ‪ ،‬هو حقائق قواه المعبهر عنها بالعقل ‪ ،‬والخيال ‪ ،‬واله همة ‪،‬‬
‫والمصورة ‪ ،‬واإلرادة ‪ . .‬وأمثال ذلك ‪.‬‬
‫ه‬
‫فهذه القوى منه ‪ ،‬هي عين المالئكة المدبهرة للعالم الكبير ؛ فالعقل من مظاهر جبريل ‪،‬‬
‫والمصورة من مظاهر عزرائيل ‪ ،‬واإلرادة من مظاهر‬ ‫ه‬ ‫والخيال من مظاهر إسرافيل ‪،‬‬
‫ميكائيل ‪ . .‬وقس على ذلك ‪ ،‬باقي قواه المعنوية ‪.‬‬
‫وأما إشراقه الصوري ؛ فالعينان لعالم جسمه ‪ ،‬كالشمس والقمر للعالم الكبير ‪.‬‬
‫واللمس والش هم والذوق واألذنان ‪ ،‬كالخمس الكواكب األخرى من العالم الكبير ‪. .‬‬
‫فأشرق كال العالمين الجسمانيين بالنور ‪.‬‬
‫وعلى الحقيقة ؛ العالم الجسماني هو واحد ‪ ،‬ألنه عبارة عن العرش وما حواه ‪ ،‬فهو‬
‫محل الظهور اإللهي ‪ ،‬وهو « المشرق بالنور » أراد بالنور ‪ ،‬عبارة عن حقائق‬
‫الكمال الظاهرة فيه ‪ ،‬من تجليات الحق تعالى ‪.‬‬
‫وعن الجسم عبهر بقوله ‪ :‬كلمة الحق ‪.‬‬

‫‪38‬‬
‫شرح مشكالت الفتوحات المكية البن العربي ص ‪39‬‬

‫يعني ‪ :‬أنه نتيجة كلمة ُك ْن[ النهحل ‪ ] 40 :‬ألن األرواح متعيهنة في العلم اإللهي ‪ ،‬فهي‬
‫ه‬
‫الحق ‪.‬‬ ‫هناك أعيان ثابتة ‪ ،‬قديمة بقدم‬
‫والجسم ‪ ،‬هذا المحسوس ‪ ،‬إنما ظهر بواسطة الكلمة ‪ ،‬على ما كانت الروح عليها من‬
‫الصورة في العلم اإللهي ‪ .‬فكان الجسم أصال ‪ -‬من هذا الوجه ‪ -‬لظهور أعيان‬
‫الممكنات ‪ ،‬إذ هو المتعلهق به كلمة الحضرة ‪ ،‬لكونه أت هم المجالي ظهورا في المراتب‬
‫الكونية ‪.‬‬
‫ومن ث هم ‪ ،‬كان الجسم ‪ :‬مقعد الصدق ‪ .‬ألنه محل ثابت متم هكن بيهن من كل وجه ‪ ،‬وبكل‬
‫اعتبار ونسبة ‪ .‬ومعدن اإلرفاق ‪.‬‬
‫وكان الجسم معدن اإلرفاق ‪ ،‬وهي المعاني الكمالية التي تحصل لألرواح بسبب الجسم‬
‫‪ . .‬وقد ذكرنا ذلك في كتابنا الموسوم « بكشف الستور عن مخدرات النور » فمن‬
‫أراد معرفة ذلك ‪ ،‬فليطالع هنالك ‪.‬‬
‫ولما كان الجسم هو المتجلهي بجارحة السمع والبصر ‪،‬‬

‫قال الشيخ مشيرا إلى ذلك ‪ :‬ومظهر األوفاق ‪.‬‬


‫يعني ‪ :‬الجسم مظهر للصفات ‪ ،‬الموافقة لنعوت الحق تعالى ‪ ،‬من السمع والبصر ؛ إلى‬
‫شش ‪ ،‬والتع هجب ‪ ،‬والنسيان في قوله تعالى‬ ‫غير ذلك من القبضة ‪ ،‬واليمين ‪ ،‬والتب ه‬
‫‪:‬فَ ْاليَ ْو َم نَ ْنسا ُه ْم [ األعراف ‪، ] 51 :‬‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ « :‬ال تسبهوا الريح فإنها من نفس الرحمن » ‪.‬‬ ‫والنهفس في قوله صلى ه‬
‫رواه الحاكم في المستدرك وابن ماجة في سننه ورواه غيرهما ‪.‬‬

‫والصورة في قوله عليه الصالة والسالم ‪ " :‬رأيت ربي في صورة شاب ‪ .‬الحديث "‬

‫والذراع كما في قوله عليه الصالة والسالم في الحديث ‪ « :‬إن جلد الكافر أربعين‬
‫ذراعا بذراع الجبار » ‪ .‬رواه الحاكم في المستدرك وابن حبان في صحيحه ورواه‬
‫غيرهما ‪.‬‬
‫فك هل هذه الصفات ‪ ،‬هي للجسم حقيقة ‪.‬‬
‫تأول ‪ .‬ألن الشارع صلى‬‫ّللا تعالى ‪ ،‬أم لم ه‬
‫وقد وافقت ما هو هّلل ‪ ،‬سواء هأولتها في حق ه‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ ،‬قد نسبها إليه تعالى ؛ فكان الجسم محال لظهور األمور الموافقة‬‫ه‬
‫للنعوت الكمالية ‪.‬‬

‫صل للروح ‪-‬‬


‫فالجسم ‪ :‬محل البركات ‪ .‬لتزايد الظهور ‪ .‬في مرتبته ‪ ،‬ولكونه يح ه‬
‫بواسطة االمتزاج به ‪ -‬علوما ‪ ،‬ال يمكنها أن تعرفها إال بالجسم ‪.‬‬
‫فهو محل البركة للروح ‪ ،‬ومحل زيادة الظهور للحق ‪.‬‬
‫ومعيهن الحركات والسكنات ‪ .‬لما فيه من قوة الكثافة ‪ ،‬وتكاثف القوة التي بواسطتها‬
‫تحصل لألرواح الحركات والسكنات الجزئية المضافة إلى األجسام ‪ .‬وبه ‪.‬‬

‫‪39‬‬
‫شرح مشكالت الفتوحات المكية البن العربي ص ‪40‬‬

‫أي بوجود الجسم ‪ .‬عرفت المقادير واألوزان ‪.‬‬


‫ألن الجسم محل ذلك ‪ ،‬وموضعه ‪ ،‬ومجاله ‪ ،‬ومظهره ‪ .‬وبه سمي الثقالن ‪.‬‬
‫لثقل الجسد ورسوبه ‪ ،‬له ‪ -‬أي للجسد ‪ -‬من األسماء المتين ‪ ،‬بالتاء المثناة من فوق ‪،‬‬
‫لما فيه من القوة والمتانة ‪.‬‬
‫وهو الذي أبان النور المبين ‪.‬‬
‫أي ‪ :‬الجسم هو المظهر للروح ‪ ،‬التي هي النور المظهر لألشياء كلها ‪.‬‬
‫فلوال الجسم ‪ ،‬لما حصل للروح ما حصل من الكمال ‪ ،‬وال استطاعت أن تظهر بشيء‬
‫من ذلك في العالم ‪ .‬حكم ‪ .‬أي الجسم ‪ .‬في النور بالقسمة ‪.‬‬
‫النور هو الوجود ‪ ،‬ألنه إنما وقع الظهور به ؛ فلوال الوجود ‪ ،‬لما ظهر الموجود ‪ ،‬وال‬
‫عرف العبد وال المعبود ‪.‬‬
‫وما ظهرت القسمة في الوجود ‪ ،‬إال بسبب األجسام ‪ ،‬لكون األبعاد الثالثة الزمة لها ‪،‬‬
‫لكونها مركبة كثيفة ؛ وألجل ذلك ‪ :‬ظهرت بوجوده الظالالت والظلمة ‪.‬‬
‫ألن الكثافة الجسمانية ال تخرقها األنوار طبعا ؛ وألجل ذلك ‪ ،‬ظهر بوجود الجسم ‪،‬‬
‫ه‬
‫الظ هل ‪.‬‬
‫وكذلك الظلمة ‪ ،‬إنما ظهرت بواسطته ‪ ،‬ألن الليل هو عبارة عن استتار الشمس‬
‫باألرض عن أهل األرض ؛ وكذلك الخسوف ‪ ،‬عبارة عن حيلولة األرض بين الشمس‬
‫وبين جرم القمر ‪.‬‬
‫سط األرض ‪ ،‬لما ظهرت هذه الظلمة الموجودة ‪.‬‬ ‫فلوال تو ه‬
‫فالظلمة من طبع األجسام ‪ .‬وكذلك ‪ ،‬من غلب عليه العمل بمقتضى األمور الجسمانية ‪،‬‬
‫يكون في ظلمة من ذلك البرزخ ‪ ،‬حتى يؤول أمره إلى النار‪.‬‬
‫فالجسم أصل في كمال النور ‪ ،‬وأصل في الظلمة ‪.‬‬
‫ومنه ‪ ،‬أي من الجسم ‪ .‬تتف هجر ينابيع الحكم ‪.‬‬
‫لوجود الحواس الخمس فيه ؛ فلكل حاسة من الحواس ‪ ،‬حكمة مخصوصة ليست‬
‫لغيرها ؛ فال تنال الروح هذه الحكم ‪ ،‬إال بواسطة الجسم ‪.‬‬
‫فالعين ينبوع الحكم التي ال تحصل إال بالمعاينة ‪ ،‬كاأللوان ‪ ،‬والحسن المشهود ‪،‬‬
‫والطراوة ‪ ،‬والهيئات ‪ ،‬واألوضاع ‪ .‬فك هل من خلق أعمى ‪ ،‬ال عين له ‪ ،‬ليس يعرف‬
‫شيئا من هذه الحكم المستفادة بواسطة البصر ‪ ،‬ال في الدنيا ‪ ،‬وال في البرزخ ‪ ،‬وال في‬
‫اآلخرة ‪.‬‬
‫بل فاتته هذه الحكم على اإلطالق ‪ ،‬فال يشعر بها ‪ ،‬وال سبيل له إلى معرفتها ‪.‬‬
‫واألذن ينبوع الحكم التي ال تحصل إال باالستماع ‪ ،‬كعلوم القرون الماضية ‪ ،‬وعلوم‬
‫ّللا بواسطتهم ‪.‬‬‫األخبار ‪ ،‬واألحاديث المروية عن الرسل ‪ ،‬وعن ه‬
‫بل وال يعرف الرسالة وال الرسل ‪ ،‬ك هل من خلق أص هم ‪.‬‬
‫ولهذا ‪ ،‬يكون ك هل أصم ‪ ،‬خلق أبكم ‪ .‬ألنه ال يسمع من أحد ‪ ،‬شيئا من الكالم ‪.‬‬

‫‪40‬‬
‫شرح مشكالت الفتوحات المكية البن العربي ص ‪41‬‬

‫يحس بخشونة األصوات‬ ‫ه‬ ‫فال يشعر بأوضاع الكلمات ‪ ،‬وال يعرف لذة األنغام ‪ ،‬وال‬
‫ش هم ‪ ،‬والذهوق ‪ ،‬واللمس ؛ في معرفة الروائح ‪،‬‬‫الكريهة ‪ . .‬وقس على ذلك ‪ ،‬ال ه‬
‫واألطعمة ‪ ،‬والنعومة والخشونة ‪.‬‬
‫فك هل حاسة من الحواس الخمس ‪ ،‬ينبوع حكم كثيرة مخصوصة بها ‪ ،‬ال تص هح للروح‬
‫معرفتها ‪ ،‬إال بواسطة تلك الحاسة ‪ ،‬ولهذا ‪ ،‬احتاجت الروح في نيل الكماالت ‪ ،‬إلى‬
‫االمتزاج بالجسم ؛ فالجسم محل ظهور هذه الكماالت ‪.‬‬
‫وتبرز ‪ ،‬يعني ‪ :‬من الجسم ‪ .‬جوامع الكلم ‪ ،‬بواسطة اللسان ‪ .‬يحوي على رموز‬
‫النصائح وكنوز المصالح ‪.‬‬
‫أراد برموز النصائح ‪ :‬االعتبار الحاصل للروح ‪ ،‬بواسطة حواس الجسم ‪ .‬وأراد‬
‫بكنوز المصالح ‪ :‬األعمال الصالحة من األفعال ‪ ،‬واألقوال ‪ ،‬والعلوم ‪ ،‬والمعارف‬
‫اإللهية ؛ الحاصلة للروح بواسطة الجسم ‪.‬‬
‫ّللا بذلك ‪ ،‬فهي كنوز المصالح لها ‪.‬‬ ‫ألنها تزداد شرفا عند ه‬
‫شهادة سخافته ‪ ،‬والغيب كثافته ‪ .‬أراد بالشهادة هنا ‪ ،‬عالم الملك ؛ وبالغيب ‪ ،‬عالم‬ ‫ال ه‬
‫الملكوت ‪.‬‬
‫والمراد ‪ :‬أن ظهور عالم الشهادة ‪ ،‬بواسطة رقة سطح األجسام ‪ ،‬ألنها هي المشهودة‬
‫من عالم الملك ؛ وبطون عالم الغيب ‪ ،‬بواسطة الكثافة الجسمانية ‪ ،‬ألنها هي المانعة‬
‫عن ذلك ‪.‬‬
‫أال تراك إذا رأيت جسما من األجسام ‪ ،‬فإن رقة مسطحة ‪ -‬وهو ظاهره الذي عبهر عنه‬
‫الشيخ بسخافته ‪ -‬مشهود ‪ ،‬ذو الغيب والشهادة ‪.‬‬

‫تستهر ‪ -‬أي الجسم بالجسم ‪ .‬للغيرة اإللهية على ذاته تعالى ‪ ،‬إذ هو عين الجسم !‬
‫وسبب هذه الغيرة ‪ :‬حتى ال يرى راء غيره ‪.‬‬
‫ه‬
‫الحق تعالى ‪ -‬إذ هو عين الجسم ‪-‬‬ ‫فال يبصر مبصر غير ظاهر الجسم ‪ ،‬صيانة من‬
‫صل لجمليات مراتب‬ ‫لباطن الجسم ؛ إذ هو من أشرف مظاهر الوجود ‪ ،‬ألنه المف ه‬
‫الوجود ‪،‬‬
‫حيث أنه ‪ :‬يتقلهب ‪ .‬أي الجسم ‪ .‬في جميع األحوال ‪ ،‬كاللطافة والكثافة ‪ ،‬والصغر‬
‫سط ‪ ،‬والحسن‬ ‫والكبر ‪ ،‬والطول والعرض ‪ ،‬والعمق والسمك ‪ ،‬والبعد والقرب ‪ ،‬والتو ه‬
‫والقبح ‪ ،‬والفناء والبقاء ؛ إلى غير ذلك من األحوال الالزمة للجسم ‪ ،‬والعارضة له ‪.‬‬
‫فلوال شرفه ‪ ،‬لما كانت له األحوال كلها ‪.‬‬
‫التصرف في جميع‬
‫ه‬ ‫فهو يدخل في كل طور من أطوار النقص والكمال ‪ ،‬ويقبل بذاته‬
‫األعمال ‪.‬‬
‫يعني ‪ :‬أن للجسم ‪ -‬من حيث هو ‪ -‬قابلية لكل عمل من األعمال المتنوعة ؛ مما يستحيل‬
‫عادة ‪ ،‬كقتل العصفور بازا ؛ أو يستحيل عقال ‪ ،‬كحمل النملة جمال ‪.‬‬
‫فإن في قابليتها ‪ ،‬القبول لذلك ‪ .‬فلو حصل االستعداد ‪ ،‬ووافق القدر ‪ ،‬أمكنها فعل ذلك‬
‫السر ‪ -‬الذي أودعه في الجسم ‪ -‬من قدرته ‪.‬‬ ‫ه‬ ‫المستحيل ‪ . .‬وإنما حصل هذا‬

‫‪41‬‬
‫شرح مشكالت الفتوحات المكية البن العربي ص ‪42‬‬

‫تنبيه ‪ :‬إعلم أن األجسام على أربعة أقسام ‪:‬‬


‫القسم األول ‪ :‬هو المعدن ‪ .‬وهو عبارة عن كل جماد ال نمو له ‪ ،‬سواء كان مائعا أو‬
‫منعقدا ‪.‬‬
‫القسم الثاني ‪ :‬هو النبات ‪ .‬وهو كل نامي من األجسام ‪ ،‬ال روح فيه طبعا ‪.‬‬
‫القسم الثالث ‪ :‬هو الحيوان ‪ .‬وكل نامي ذي روح من األجسام ‪.‬‬
‫القسم الرابع ‪ :‬هو السماوات ‪ ،‬واألجرام النورانية ‪ ،‬واألفالك العلوية ؛ فإن ه‬
‫كال من‬
‫ذلك ‪ ،‬أرواح قائمة متجسدة ‪.‬‬
‫وإنما ص هح إطالق لفظ الجسم عليها ‪ ،‬لكونها تقبل األبعاد الثالثة التي هي من طبع‬
‫الجسم ‪ -‬وهي الطول والعرض والعمق ‪ -‬فكانت أجساما ‪ ،‬ألنها من تمام عالم الملك ‪.‬‬
‫وعالم الملك ‪ ،‬عبارة عن مرتبة الطور الجسماني ‪.‬‬

‫ّللا عنه ‪ -‬في الباب الذي ذكره في هذه النبذة ‪ ،‬خالصة ما فيه‬
‫وقد ذكر الشيخ ‪ -‬رضي ه‬
‫‪ .‬وهو الباب السابع من الفتوحات ‪.‬‬

‫إن عمر األرض ‪ ،‬أحد وسبعون ألف سنة من سني الدنيا ؛ فال تظن أن ذلك على‬
‫اإلطالق ‪ ،‬بل عمر العالم الدنياوي من وقت مخصوص وإال ‪ ،‬فعمر هذا العالم أطول‬
‫من أن يحصر ‪ ،‬أو يحصى بآالف األلوف من السنين ‪.‬‬

‫مصرحا في الفتوحات المكية ‪ ،‬حين ذكر أن في‬


‫ه‬ ‫وقد ذكر الشيخ ما يد هل على ذلك‬
‫األهرام الموجودة بأرض مصر ‪ ،‬كتابة بقلم غريب ‪ ،‬يقرؤها من يعرفها ‪.‬‬
‫ومفهوم تلك الكتابة ‪ ،‬أن باني تلك األهرام ‪ ،‬بناها والنسر الطائر في الحمل ؛‬

‫ّللا عنه ‪ :‬إن النسر الطائر ال ينتقل من برج إلى غيره ‪ ،‬إال بعد‬
‫وقال الشيخ رضي ه‬
‫مضي ثالثين ألف سنة ‪ ،‬وهو اليوم في الدلو ؛ فقد قطع عشرة أبراج ‪ ،‬وال يتأتى ذلك‬
‫إال بعد ثالثمائة ألف سنة ‪.‬‬
‫وإذا كان هذا عمر األهرام ‪ ،‬فأين أنت من عمر الدنيا ؟‬
‫فإذا كانت الدنيا المخلوقة للزوال بهذه المثابة من طول العمر ‪ ،‬فما قولك في الجنة‬
‫والنار المخلوقتان للبقاء ؟‬
‫ّللا عنه ‪ -‬في الفتوحات ‪ ،‬من أن عمر الجنة أو النار كذا‬
‫فال تحمل كالم الشيخ ‪ -‬رضي ه‬
‫كذا سنة ‪ ،‬على ظاهره ‪ ،‬بل ذلك من وقت مخصوص ‪.‬‬
‫لما كان الجسم اإلنساني ‪ ،‬كالعالم الدنياوي ‪ ،‬بالوضع والتفصيل ‪.‬‬
‫فإن حكم العالم الدنياوي إلى الزوال والفناء ‪ ،‬ألن ذلك من الزم الجسم اإلنساني ؛ فك هل‬
‫منهما نسخة لآلخر ‪ ،‬وعمر ك هل منهما على حسب هيكله ‪ ،‬فكان عمر اإلنسان قصيرا ‪،‬‬
‫ألن‬

‫‪42‬‬
‫شرح مشكالت الفتوحات المكية البن العربي ص ‪43‬‬

‫هيكله صغير ؛ وكان عمر العالم الدنياوي طويال ‪ ،‬لكبر هيكله ‪ . .‬وال بد له من‬
‫االنعدام والفناء ‪ ،‬كما أنه ال بد لإلنسان من ذلك ‪ .‬فافهم !‬

‫ولما كان العالم األخراوي ‪ ،‬نسخة من باطن اإلنسان وروحه ‪ -‬إذ ك هل منهما نسخة‬
‫ّللا تعالى ‪.‬‬
‫لآلخر ‪ -‬فكانت اآلخرة ‪ ،‬كالروح اإلنسانية ؛ باقية بإبقاء ه‬
‫فال يتو ههم أن الجنة والنار تفنيان بحال ‪ ،‬وما ورد من أن النار تفنى ‪ ،‬وينبت محلها‬
‫شجر الجرجير‪ ،‬إنما ذلك من حيث أقوات مخصوصة ‪ .‬ففناؤها وزوالها ‪ ،‬فناء مقيهد ‪،‬‬
‫ال فناء مطلق‪.‬‬

‫ّللا تعالى‬
‫ألن اآلخرة ‪ ،‬محل مشهود األعيان الثابتة ‪ -‬التي هي معلومات العلم ‪ -‬ألن ه‬
‫ّللا ‪.‬‬
‫يظهرها يومئذ ‪ ،‬فيرى منها كل أحد ‪ ،‬على حسب حاله ومقامه عند ه‬

‫وال شك أن النار معلوم العلم اإللهي ‪ ،‬فال سبيل إلى زوال المعلوم عن العلم ‪.‬‬

‫وقد كشفت بذلك ‪ ،‬عن أسرار شريفة ‪ ،‬لم يسمح بها أحد من المحقهقين ؛ غيرة على‬
‫باّلل ‪.‬‬
‫تفاصيل المعرفة ه‬
‫وفي هذه النبذة ‪ ،‬زبدة جميع ما أفرده الشيخ في الباب السابع من الفتوحات المكية ‪.‬‬
‫ّللا للصواب ‪.‬‬
‫فافهم ‪ ،‬أرشدك ه‬
‫*‬

‫‪43‬‬
‫شرح مشكالت الفتوحات المكية البن العربي ص ‪44‬‬

‫الباب الثامن وصار خرق العادة له عادة‬


‫ّللا عنه ‪ :‬ومن ذلك ‪ .‬أي ‪ ،‬ومن بعض ما تض همنه هذا الباب من فنون‬
‫قال الشيخ رضي ه‬
‫سر ظهور األجساد بالطريق المعتاد ‪.‬‬ ‫العلوم ‪ ،‬المشار إليها في صدر الكتاب ‪ .‬ه‬

‫فرقوا بين الجسم والجسد ؛‬ ‫ّللا عنا وعنك ‪ ،‬أن الصوفية ه‬‫اعلم ‪ ،‬رضي ه‬
‫فقالوا ‪ :‬إن الجسم هو كل صورة مرثية قابلة لألبعاد الثالثة ‪ ،‬حالة كونها كثيفة األصل‬
‫طبعا ‪.‬‬
‫وقالوا ‪ :‬إن الجسد عبارة عن كل صورة ‪ -‬يتش هكل بها روح ‪ -‬من الصور الجسمانية ‪.‬‬
‫وإذ قد عرفت ذلك ‪،‬‬
‫سر ظهور األجساد بالطريق المعتاد » هو‬ ‫ّللا عنه ‪ « -‬ه‬‫فاعلم أن قول الشيخ ‪ -‬رضي ه‬
‫ليعلم أن المراد بذلك ‪ ،‬عبارة عن تصويرات الروح في األشكال الحسية ‪ ،‬المشهودة ‪،‬‬
‫الصورية ‪.‬‬
‫وإنما قال الشيخ « بالطريق المعتاد » ليعلم أن المراد بذلك ‪ ،‬تصورات األرواح‬
‫تصور روحه الجزئية ‪،‬‬‫ه‬ ‫الجزئية ؛ كما يجيء لألشخاص ‪ -‬في حال تف هكرهم ‪ -‬من‬
‫تصور روحه ‪ ،‬بالصورة‬ ‫ه‬ ‫بالصورة الخيالية المشهودة له عينا ؛ أو كما يجري للنائم من‬
‫سا وشهادة‪.‬‬
‫المرئية في النوم ‪ ،‬المشهودة له ح ه‬
‫ولما كان عالم الخيال وعالم المثال متشابهين ‪ ،‬كأنهما من جنس واحد ‪ ،‬وكان البرزخ‬
‫أيضا شبيها لها ؛ قال تنبيها على ذلك ‪ :‬البرزخ ما قابل الطرفين بذاته ‪.‬‬

‫ّللا عنه ‪ ،‬أن يعلمك ‪:‬‬


‫أراد الشيخ رضي ه‬
‫أن عالم الخيال برزخ ؛ لكونه قابل طرفي الجسم والروح اإلنسانية ‪ ،‬بذاته ‪.‬‬
‫وأن عالم المثال ‪ -‬أيضا ‪ -‬برزخ ؛ لكونه قابل طرفي المعنى والصورة ‪ ،‬بذاته ‪.‬‬
‫وأن العالم الذي تصير إليه األرواح بعد فراقها لألجسام ‪ -‬أيضا ‪ -‬برزخ ؛ ألنه قابل‬
‫طرفي دار الدنيا ودار اآلخرة ‪ ،‬بذاته ‪.‬‬
‫فك هل من هؤالء البرازخ ‪ ،‬بين أحكام طرفيه ‪ -‬ال ب هد له من ذلك ‪ ،‬إذ هو ناشىء منهما ‪.‬‬

‫فالخيال ‪ ،‬بين أحكام الجسم وبين أحكام الروح ‪.‬‬


‫والمثال ‪ ،‬بين أحكام الصورة والمعنى ‪ .‬والمحل الذي تقيم فيه األرواح ‪ ،‬بين أحكام‬
‫الدنيا واآلخرة ‪.‬‬

‫وقد ذكرنا ذلك مفصال ‪ -‬على ما هو عليه ‪ -‬صريحا ‪ ،‬في الجزء التاسع عشر من‬
‫ّللا عليه وسلم »‬
‫كتاب « الناموس األعظم والقاموس األقدم في معرفة قدر النبي صلى ه‬
‫فمن أراد تحقيق الخيال ‪ ،‬والبرزخ ‪ ،‬والمثال ‪ ،‬وأرض الحقيقة ‪ -‬التي ذكرها الشيخ في‬
‫الفتوحات ‪ -‬فلينظر في ذلك الجزء ‪ ،‬فإنما وضعت تلك الرسالة لتحقيق ذلك ‪.‬‬

‫‪44‬‬
‫شرح مشكالت الفتوحات المكية البن العربي ص ‪45‬‬

‫فهذه العوالم األربعة ‪ ،‬قريبة بعضها من بعض ؛ وك هل منها برزخ ‪ ،‬ألنه قابل الطرفين‬
‫بذاته ‪ .‬وأبدى لذي العينين من عجائب آياته ‪ ،‬ما يد هل على قوته ‪ ،‬ويستد هل به على‬
‫وفتوته ‪.‬‬
‫كرمه ه‬
‫أراد بذي العينين ‪ ،‬ك هل من كان له نظر في عالم األرواح ‪ ،‬ونظر في عالم األجسام ‪.‬‬
‫احترازا ممن هو مقصود على عالم األجسام ‪ ،‬فكأنه ليس له إال عين واحدة ‪.‬‬
‫ولفظة « ما يد هل » موصولة ‪ ،‬وهي مفعول « أبدى » ؛‬
‫وتقديره ‪ :‬إن البرزخ ‪ ،‬ما قابل الطرفين بذاته ‪ ،‬وأبدى أمورا تد هل على قوته ‪ ،‬ك هل من‬
‫كان له عينان يبصر بهما في العالمين ‪.‬‬
‫سمسمة ‪،‬‬ ‫والدليل على أن هذه البرازخ المذكورة ‪ -‬من الخيال ‪ ،‬والمثال ‪ ،‬وأرض ال ه‬
‫والبرزخ ‪ -‬لها قوة ‪ ،‬أنها شعبة من القدرة ‪ ،‬وأمورها منوطة بالقدرة المحضة ‪.‬‬

‫تتكون فيها‬
‫وليست كأمور الدنيا ‪ ،‬موقوفة على الحكمة واألسباب ‪ ،‬ألن األشياء ه‬
‫باإلرادة ؛ فهي قدرة محضة ‪ .‬وإذا ص هح أن لها هذه القوة والقدرة ‪ ،‬ص هح أن لها كرما‬
‫وفتوة ‪.‬‬
‫لسر‬
‫متحول في الهيئات ؛ ه‬‫ه‬ ‫الحول أي ‪ :‬البرزخ متقلهب في الصور ‪،‬‬
‫فهو القلهب ه‬
‫مقتضيات طرفيه ‪ ،‬واختالف أمورهما ‪.‬‬
‫تمر عليه ‪ ،‬وتذهب عنه ‪ ،‬ولو كانت‬ ‫ولهذا ‪ ،‬ال تدوم الصور المرئية فيه للناظر ‪ ،‬بل ه‬
‫باقية ‪ ،‬من حيث هي هي‪.‬‬

‫يتحول ‪.‬‬
‫ه‬ ‫فلتقلهب أحوال البرزخ على أهله ؛ قال ‪ :‬والذي في ك هل صورة‬
‫عولت عليه‬‫يتحول ‪ .‬ه‬
‫ه‬ ‫تقديره ‪ :‬وهو ‪ -‬أي البرزخ ‪ -‬في كل صورة من صورة طرفيه ‪،‬‬
‫‪ .‬أي على البرزخ ؛ األكابر ‪.‬‬
‫ّللا ؛ لرجوعهم آخر األمر إليه ‪ ،‬فكان تعويلهم ‪ -‬لذلك ‪ -‬عليه حين جهلته ‪.‬‬
‫يعني ‪ :‬أهل ه‬
‫أي البرزخ ؛ األصاغر ‪.‬‬
‫وأراد باألصاغر ‪ ،‬المحجوبين ؛ وباألكابر ‪ ،‬أهل الكشف ‪ .‬فله ‪ .‬أي للبرزخ ؛ المعنى‬
‫في الحكم ‪ ،‬والقدم الراسخة في الكيف والك هم ‪.‬‬

‫إنما كان للبرزخ هذا المعنى ‪ ،‬لتعلهقه بطرفه الروحاني ؛ والكيف والك هم ‪ ،‬لتعلهقه بطرفه‬
‫الثاني ‪ ،‬وهو الطرف الصوري الجسماني ‪.‬‬
‫ولهذا ‪ ،‬ك هل برزخ ‪ :‬سريع االستحالة ؛ لكون صوره قليلة الدوام ؛ عند الرائي ‪ ،‬ال من‬
‫حيث هي هي ‪.‬‬
‫يعرف العارفون حاله ‪ ،‬بيده مقاليد األمور ؛ لكونه قدرة محضة ‪ ،‬تتكون األشياء فيه‬
‫باإلرادة ‪.‬‬
‫اغتر به ‪.‬‬
‫ه‬ ‫تحول صوره ‪ ،‬فمن ركن إلى شيء منها ‪،‬‬ ‫وإليه مسانيد الغرور ؛ من أجل ه‬
‫له ‪.‬‬

‫‪45‬‬
‫شرح مشكالت الفتوحات المكية البن العربي ص ‪46‬‬

‫ي الشريف ‪.‬‬ ‫أي للبرزخ ؛ النهسب اإلله ه‬


‫أراد بالنسب هنا ‪ ،‬تكوين األشياء بالقدرة ‪ ،‬أال تراك تكون ما أردته في خيالك ‪ ،‬على‬
‫حسب ما شئت ؟‬
‫وإن كنت متم هكنا ؛ كان لك ذلك في عالم المثال ‪ ،‬وفي العالم الذي تصير األرواح إليه‬
‫بعد االنتقال من دار الفناء والزوال ‪.‬‬

‫مرة في المنام ‪ ،‬وأنا بصنعاء اليمن‬


‫ولقد جرت لي واقعة عجيبة في هذا المعنى ‪ :‬رأيت ه‬
‫ي في صغرى ‪،‬‬ ‫بتاريخ سنة خمس وثمان مائة ‪ ،‬امرأة كانت قد ربهتني وأحسنت إل ه‬
‫وكانت قد ماتت ؛ فرأيتها مسودهة الوجه ‪ ،‬لما تلقاه من العذاب ‪ ،‬لنظرها إلى النار ‪.‬‬
‫فألبست النهار لها ‪ ،‬صورة الجنة ‪.‬‬
‫وقلت ‪ :‬انظري إلى الجنة ‪ .‬فنظرت إليها ‪ ،‬فزال عنها السواد الذي في وجهها ‪ ،‬وتهلهل‬
‫وجهها ‪ ،‬حتى صارت كالقمر في الحسن والبهاء ‪.‬‬

‫وكثيرا ما أرى في النوم أمورا ‪ ،‬أعرف فيه أن تعبيرها في اليقظة غير مالئم لطبع ‪،‬‬
‫فال أقربها ‪.‬‬
‫وبعض األحيان ‪ ،‬أقلبها إلى غير تلك الصورة المخالفة للطبع ‪ ،‬فأراها كما أريد ! وال‬
‫يستطيع ذلك ‪ ،‬إال من قدر على تصريف األمور في المعنى ‪ ،‬وصار خرق العادة له‬
‫عادة في العالم الروحاني ‪ ،‬ال يعرف ذلك ‪ ،‬إال من مارسه من العارفين ‪.‬‬

‫فللبرزخ ‪ :‬تلك الصفة اإللهية القادرية ‪ .‬والمنصب الكياني المنيف ‪.‬‬


‫أي ‪ ،‬وللبرزخ ‪ :‬المنصب الكياني العالي ؛ وهو التعيهن بالصورة المحسوسة ‪ ،‬المحدودة‬
‫ه‬
‫الحق‪.‬‬ ‫‪ ،‬الخلقية ‪ ،‬فهو خلق ‪ ،‬له وصف‬
‫ه‬
‫تلطف في كثافته وتكثهف في لطافته ‪ .‬لكونه بين عالمين ؛ أحدهما كثيف ‪ ،‬واآلخر‬
‫لطيف ‪ .‬فهو يظهر بحكم ك هل من عالمي اللطافة والكثافة ‪ ،‬في صورة واحدة ‪.‬‬

‫يخرجه العقل ببرهانه ‪ .‬أي ‪ :‬يخرج العقل بالفكرة ‪ ،‬صور األمور الخيالية ‪ -‬ألن‬
‫الخيال من جملة البرازخ ‪ -‬ببرهانه ‪ .‬وهي الدالئل العقلية ‪ ،‬التي تنتج في الفكر صورا‬
‫؛ على حسب مقتضاها ‪.‬‬

‫ويعدهله الشهرع ‪ ،‬بقوة سلطانه ‪ .‬أي ‪ :‬يصرفه الشرع إلى غير ما ظهر في العقل ‪ ،‬ألن‬
‫المشرع مرتبط بالوحي اإللهي ‪ ،‬فله الحكم على كل صورة ومعنى ‪.‬‬
‫فلذلك ؛ لم يكن للعقل ‪ ،‬في الشرع ‪ ،‬مجال ‪.‬‬
‫فالخيال ‪ :‬يحكم في كل موجود ‪ .‬ألنك تسري بعقلك في كل شيء ‪ ،‬وألن الخيال‬
‫يستحضر ك هل موجود في عالمه ‪ ،‬وإلى صحة األمور المشهودة بحكم الدالئل العقلية ‪،‬‬
‫أشار بقوله ‪ :‬ويد هل على صحة حكمه ‪ ،‬بما يعطيه الشهود ‪،‬‬

‫‪46‬‬
‫شرح مشكالت الفتوحات المكية البن العربي ص ‪47‬‬

‫فيقر ‪ .‬الجاهل بقدره ‪ .‬أي‬


‫ويعترف به ‪ .‬أي ‪ :‬بصحة ما حكم العقل ‪ -‬في الخيال ‪ -‬به ‪ ،‬ه‬
‫‪ :‬بقدر عالم الخيال ‪ .‬والعالم ‪ .‬أي بقدره ‪ .‬وال يقدر على ر هد حكمه حاكم ‪.‬‬
‫ألن العقل إذا اقتضى أمرا ‪ ،‬ال يمكن أحد من أهل المعرفة ‪ ،‬ر هد ذلك الحكم ‪.‬‬

‫وقد شرحت لك بهذه النبذة ‪ ،‬جميع ما تض همنه الباب الثامن من الفتوحات المكية ‪.‬‬
‫وّللا الموفق للصواب ‪.‬‬
‫فافهم ‪ ،‬وتأ همل ‪ ،‬ه‬
‫*‬

‫‪47‬‬
‫شرح مشكالت الفتوحات المكية البن العربي ص ‪48‬‬

‫أول من خالف في النههي!‬ ‫أول من خالف في األمر وآدم ه‬ ‫الباب التاسع إبليس ه‬
‫ّللا عنه ‪ :‬ومن ذلك ‪ .‬أي ‪ ،‬ومن بعض ما تض همنه هذا الباب ‪ ،‬من‬ ‫قال الشيخ رضي ه‬
‫سر الوالج والمارج ‪.‬‬ ‫فنون العلم ‪ .‬ه‬
‫الوالج ‪ :‬إشارة إلى األرواح الطاهرة المختلفة ‪ ،‬من العنصريين العلويين ‪ ،‬وهم مالئكة‬
‫الجو ‪ ،‬بين السماء واألرض ‪.‬‬ ‫ه‬
‫ّللا تعالى من امتزاج النار بالهواء‬ ‫ه‬
‫الجن ‪ ،‬خلقهم ه‬ ‫والمارج ‪ :‬هو األرواح الخبيثة ‪ ،‬وهي‬
‫‪ ،‬كما خلق اإلنسان من امتزاج الماء بالتراب ‪.‬‬
‫ولما كان خلق الجان ‪ ،‬من امتزاج النار بالهواء ‪ ،‬كان االنقالب طبعا له ‪.‬‬
‫ألن الهواء ال ثبوت له ؛ وكذلك النار ‪ ،‬تريد العلو واالرتفاع طبعا ‪ ،‬أال تراك إذا أخذت‬
‫ي‬
‫شمعة وأقلبتها ‪ ،‬ال تنقلب نارها معك ‪ ،‬بل ترجع إلى فوق بالطبع ؛ ألن الركن النار ه‬
‫يتعالى طبعا ‪.‬‬
‫وبعكسه التراب ‪ ،‬ال يطلب إال السفل ؛ فلو أخذت كفها من تراب ‪ ،‬ورميت به إلى فوق‬
‫‪ ،‬لرجع إلى أسفل بالطبع ‪.‬‬
‫ولهذا ؛ كان اإلنسان مؤتمرا طيعا ‪ ،‬والجان مخالفا عاصيا ‪ .‬فإن عرضت معصية من‬
‫اإلنسان ‪ ،‬كانت تلك الغفلة منه عارضة ‪ ،‬لما يقتضيه طبعه ‪.‬‬
‫كما أنه لو عرضت طاعة من الجان ‪ ،‬كانت تلك الطاعة عارضة ‪ ،‬لما يقتضيه طبعه ‪،‬‬
‫ّللا على آدم ‪ ،‬ولم يتب على إبليس ‪.‬‬ ‫ومن ث هم ‪ ،‬تاب ه‬
‫ألن إبليس من طبعه المعصية ‪ ،‬أال تراه تكبهر وقال ‪:‬أَنَا َخ ْير ِم ْنهُ[ األعراف ‪ ] 12 :‬في‬
‫حضرة الحق ‪ ،‬ولم يصدر من اإلنسان ‪ -‬الذي هو آدم ‪ -‬إال البكاء ‪ ،‬والندم ‪ ،‬والخوف ؛‬
‫لما يقتضيه التراب من الذهلهة وال ه‬
‫سفل ‪.‬‬
‫فلهذا المعنى ؛ لعن إبليس ‪ ،‬ألنه محل المعصية والخالف ‪.‬‬
‫وهو المشار إليه بقوله ‪ :‬أول جواد كبا ‪ ،‬حين أمر فأبى ‪.‬‬
‫ّللا ‪ .‬ونعته بأنه « جواد » ‪ ،‬ألنه كان قبل ذلك من‬ ‫يعني ‪ :‬إبليس هو أول من خالف ه‬
‫المقربين‪.‬‬
‫فإبليس أول من خالف في األمر ‪ ،‬وآدم ‪ -‬عليه السالم ‪ -‬أول من خالف في النههي ‪.‬‬
‫ألنه قيل له ال تأكل الحبهة ‪ ،‬فأكل ؛ وإبليس قيل له اسجد ‪ ،‬فما سجد ‪.‬‬
‫فالخالف واقع منهما ‪ ،‬ال من جهة واحدة ‪ ،‬بل من جهتين ‪.‬‬

‫ولذلك قال الشيخ ‪ :‬وأول من قدح في النههى من نهي وما انتهى‬


‫يعني ‪ :‬آدم عليه السالم ‪ ،‬نهي من أكل الجنة ‪ ،‬فما انتهى عن ذلك ؛ فكان فعله قدحا في‬
‫العقل ‪ ،‬ألن امتثال المولى ‪ ،‬مما يحكم العقل بلزومه ؛ فخالفه ‪ ،‬قدح في عقل المخالف‬
‫طبعا ‪.‬‬
‫وإنما وقع الخالف في هذين الجنسين ‪ -‬دون سائر األجناس ‪ -‬ألن الظهور في تركيبهم‬
‫لركنين ‪.‬‬

‫‪48‬‬
‫شرح مشكالت الفتوحات المكية البن العربي ص ‪49‬‬

‫ه‬
‫فالجن من النار والهواء ‪،‬‬ ‫على أن بقية األركان موجودة في كل جنس منهما ؛‬
‫واإلنسان من الماء والتراب ‪ ،‬والخالف واقع بين النار والهواء ‪ ،‬ألن النار « يابس »‬
‫والهواء « رطب » ؛ وبين الماء والتراب ‪ ،‬ألن التراب « يابس » والهواء "رطب "‪.‬‬
‫فغلب حكم الخالف في ذوات هذين الجنسين ‪ -‬دون غيرهما ‪ -‬ألن كل موجود سواهما‬
‫‪ ،‬غير مخصوص بركنين ‪ ،‬بل يتساوى فيه األربعة أركان ‪ ،‬جمعا وفردى ‪ ،‬وك هل من‬
‫الجان واإلنسان أيضا ‪ ،‬توجد فيه األركان األربعة ؛ لكن الظهور في ك هل منهما ‪،‬‬
‫لركنين ‪ ،‬كما ذكرنا ‪.‬‬
‫فلهذا خالفوا ‪ ،‬ألن طبع تركيبهم يقتضي المخالفة ‪.‬‬
‫سن الخالف في االئتالف ‪ ،‬فأظهر النقض‬ ‫ّللا عنه بقوله ‪ :‬ه‬
‫وإلى ذلك أشار الشيخ رضي ه‬
‫ّللا الخالف مسنونا في طبع تأليف اإلنسان والجان‬ ‫ليعرف الحبيب من البغيض ‪ .‬جعل ه‬
‫‪ ،‬وطلب منهما ما يناقض طبع ك هل منهما ؛ فطلب من الجان ‪ ،‬الذي أصله الكبر ‪ ،‬أن‬
‫يتواضع ‪ ،‬فيسجد ؛ وطلب من اإلنسان ‪ ،‬الذي أصله يقتضي التغذهي بالحبهة‪ ،‬أن يتركها‪.‬‬

‫فأظهر لك هل منهما ما يناقض مقتضى طبعه ‪ ،‬مخالفا ؛ ليظهر بذلك شرف الحبيب ‪-‬‬
‫وهو اإلنسان ‪ -‬ونقص البغيض ‪ ،‬وهو العدو الشيطان ‪.‬‬

‫امتثل األمر فيما يشقيه ‪.‬‬


‫ّللا بالسجود ولم يسجد ‪ -‬وامتثل‬ ‫الحق فيما يسعده ‪ -‬حيث أمره ه‬ ‫ه‬ ‫يعني ‪ :‬أن إبليس خالف‬
‫ت ِم ْن ُه ْم ِب َ‬
‫ص ْوتِ َك[‬ ‫ّللا تعالى له ‪َ :‬وا ْست َ ْف ِز ْز َم ِن ا ْست َ َ‬
‫ط ْع َ‬ ‫ّللا فيما يشقيه ‪ ،‬حيث قال ه‬
‫األمر من ه‬
‫اإلسراء ‪ ] 64 :‬اآلية ‪ ،‬فأطاع ذلك ‪ ،‬ولم يعص ‪.‬‬
‫وح هل به ‪ .‬أي إبليس ‪ .‬ما كان يتقيه ؛ من الذهلهة والبعد عن ه‬
‫ّللا ‪.‬‬
‫ّللا ‪ ،‬فيبعده‬ ‫ألنه ما ترك السجود آلدم ‪ ،‬إال بسبب أمرين ‪ :‬أحدهما ‪ ،‬لئال يسجد لغير ه‬
‫عنه من أجل ذلك ؛ والثاني ‪ ،‬لئال تح هل به المذلهة ‪ ،‬فح هل به األمران جميعا ‪ ،‬بالخالف‬
‫ّللا ‪.‬‬
‫ألمر ه‬
‫الردى ‪ ،‬ويخالف الهدى ‪ ،‬وال يترك سدى ‪.‬‬ ‫فهو والجن ‪ :‬يحالف ه‬
‫يحالف ‪ -‬األولى ‪ -‬بالحاء المهملة ‪ ،‬من المحالفة ؛ وهي القسم بعدم الخالف ‪.‬‬
‫ويخالف الثانية ‪ ،‬بالخاء المعجمة ‪ ،‬من الخالف ‪.‬‬
‫وتقديره ‪ :‬أنه مالزم للردى كأنه حلف أال يفارق ما يكون سببا للبالء ؛ وجاء بخالف‬
‫ما هو سبب للهدى ‪ .‬ومع اتصافه بالخوف ‪ ،‬ال يبرح في معاملته بالحيف ‪.‬‬
‫ّللا ‪ ،‬ال‬
‫ي ؛ فلو قدهر أنه يخاف من ه‬ ‫ه‬
‫الجن ‪ ،‬الميل واالنحراف إلى الغ ه‬ ‫يعني ‪ :‬أن طبع‬
‫يبرح يحيف في معاملته له ‪ ،‬وال يقصد سواء السبيل ‪ ،‬ألن المخالفة من طبعه الذي هو‬
‫عليه ‪.‬‬
‫فإذا جنح منهم من جنح إلى ربهه طائعا ‪ ،‬وكان لباب سعادته قارعا ‪ .‬لم يحسن أحد منا‬
‫ه‬
‫الحق بصره وسمعه ‪.‬‬ ‫قرعه ‪ ،‬وكان‬

‫‪49‬‬
‫شرح مشكالت الفتوحات المكية البن العربي ص ‪50‬‬

‫الجن ‪ ،‬إذا اتفق أن يرغب أحد منهم إلى ربهه ‪ ،‬وخالف ما يقتضيه الطبع الناري‬ ‫ه‬ ‫يعني ‪:‬‬
‫من المعصية ‪ ،‬والطبع الهوائي من عدم الثبوت على أمر ‪ ،‬فأطاع وثبت على الطاعة ؛‬
‫ي ال كثافة فيه ‪.‬‬ ‫يخرق في سرادق الحجب ‪ ،‬ألنه روحان ه‬
‫ي الكامل‬‫فألجل ذلك ‪ ،‬لم يستطع أحد من اإلنس أن يبلغ بجسمه ‪ ،‬ما يبلغه ذلك الجنه ه‬
‫المطيع ‪.‬‬
‫إن سمع أنصت ‪ .‬ألنه روح ‪ ،‬إذا تو هجه للشيء ‪ ،‬تو هجه فيه بالكلية ‪ .‬أال تراهم أنصتوا‬
‫ه‬
‫الجن ‪. ] 1 :‬‬ ‫ع َجبا ً[‬
‫س ِم ْعنا قُ ْرآنا ً َ‬
‫للحق ‪ ،‬لما سمعوه ؛ فقال قائلهم ‪ِ :‬إنَّا َ‬
‫ه‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ « :‬هم أسمع وأنصت منكم » ‪.‬‬ ‫ولهذا قال صلى ه‬
‫الرحمن ‪. ] 13 :‬‬ ‫آالء َر ِبه ُكما ت ُ َكذه ِ‬
‫ِبان( ‪ [ ) 13‬ه‬ ‫يِ ِ‬ ‫أال تراهم لما سمعوا قوله تعالى ‪:‬فَ ِبأ َ ه‬
‫قالوا ‪ :‬وال بشيء من آالء ربهنا نكذهب‪.‬‬
‫وإن أسمع أبهت ؛ لما يبديه من العجائب التي يصل علمه إليها ‪ ،‬والغرائب التي‬
‫يقتضيها طبعه وعالمه ‪ ،‬وقد شرحت بهذه النبذة ‪،‬‬
‫خالصة ما حواه الباب التاسع من الفتوحات المكية ‪ ،‬فاعلم ‪.‬‬
‫*‬

‫‪50‬‬
‫شرح مشكالت الفتوحات المكية البن العربي ص ‪51‬‬

‫الباب العاشر مرتبة اإلنسان الكامل عندي فوق مرتبة المالئكة‬


‫األنوار العلوية‬
‫ّللا عنه ‪ :‬ومن ذلك ‪ .‬أي ‪ :‬ومن بعض ما تض همنه هذا الباب ‪ ،‬فنون‬ ‫قال الشيخ رضي ه‬
‫سر النهور ‪.‬‬
‫العلوم المذكورة في الكتاب ‪ :‬ه‬
‫الحق في الخفاء والظهور ‪.‬‬‫ه‬ ‫أي ‪ :‬الوجود المطلق ‪ ،‬الذي هو‬
‫الحق تعالى لنفسه ‪ ،‬في ذاته بذاته ؛ وبالظهور ‪ ،‬تجلهيه لخلقه ‪،‬‬ ‫ه‬ ‫يعني ‪ :‬بالخفاء ‪ ،‬تجلهي‬
‫في مخلوقاته ‪.‬‬
‫أشرقت ‪ :‬أي ظهرت ‪.‬‬
‫األنوار ‪ :‬أي األسماء والصفات اإللهية ‪،‬‬
‫فشرقت ‪ :‬أي تعيهنت الذات بتعيهن األسماء والصفات ‪.‬‬
‫وتميهزت بها ‪ :‬أي باألسماء والصفات ‪ .‬األعيان الثابتة ‪ ،‬التي هي حقائق الممكنات ‪.‬‬
‫فافترقت‪.‬‬
‫يعني ‪ :‬تعيين ك هل موجود ‪ ،‬بسبب األسماء والصفات ؛ ألنها آثارها ‪ . .‬فحصلت‬
‫األعيان في الفرق ‪ ،‬بعد الجمع األول ‪.‬‬
‫فأغنت اإلشارات عن العبارات ‪.‬‬
‫أراد باإلشارات ‪ :‬الموجودات ‪ ،‬التي هي آثار األسماء والصفات ‪.‬‬
‫الحق أغنى الناظرين ‪ ،‬شهود األثر ‪ ،‬عن شهود‬ ‫ه‬ ‫وبالعبارات ‪ :‬األسماء والصفات‬
‫المؤثر ‪ .‬فمنها ‪ :‬أي من الموجودات الكونية ‪.‬‬
‫ّللا تعالى وجماله ‪ .‬فتهيهم ؛ كالعقل ‪.‬‬‫من هيهم ؛ كالمالئكة المهيهمة في جالل ه‬
‫األول ‪ ،‬والنفس الكلية ‪ ،‬والروح الكلية ‪.‬‬
‫ومنها ‪ :‬أي من الموجودات الكونية ‪ .‬من ح هكم ؛ كالطبيعة ‪ .‬فتح هكم ؛ كالمالئكة المو هكلة‬
‫بتدبير العالم ‪ ،‬ألنهم تح هكموا في إيجاد الموجودات ‪ :‬كالعقل الفعهال ‪ ،‬وكاألركان‬
‫األربعة ‪ ،‬وكالكواكب السبعة ‪.‬‬
‫فلك هل عين ؛ أي ملك من هذه المالئكة المهيهمة والمح هكمة ‪ .‬مقام معلوم ؛ أي وظيفة‬
‫مخصوصة يقوم بها ‪ ،‬ومحل مخصوص من الكمال يكون عليه ‪.‬‬
‫وح هد مرسوم ؛ لك هل من هذه المالئكة ‪ ،‬ح هد ال يتعدهاه ‪ .‬وذلك الح هد ‪ ،‬هو ما تقتضيه قابليته‬
‫من الفاعلية ‪ ،‬والمنفعلية ‪ ،‬والصورية ‪ ،‬والمعنوية ‪ ،‬والكلية ‪ ،‬والجزئية‪.‬‬
‫فمنه ؛ أي من مقام هذه األمالك ‪ .‬مرمز ؛ ال يدرك بالعقل ‪ ،‬كمقام القلم األعلى واللوح‬
‫المحفوظ ‪ .‬ومنه مفهوم ؛ كمقام األركان األربعة ‪ ،‬ألن فعل الطبائع في الوجود ‪ ،‬مفهوم‬
‫سا ‪.‬‬‫عقال ‪ ،‬ومشاهد ح ه‬

‫المالئكة المهيمة والمحكمة ‪:‬‬


‫يخلهقون نفوسهم كما يشاؤون ‪ .‬يعني األرواح الكلية ؛ كالهيولى ‪ ،‬فإنها ه‬
‫تتكون حسب‬
‫ما تقتضيه من الصور ‪.‬‬

‫‪51‬‬
‫شرح مشكالت الفتوحات المكية البن العربي ص ‪52‬‬

‫كالطبيعة إذا تخلهقت نارا ‪ ،‬أو هواء ‪ ،‬أو ماء ‪ ،‬ترابا ‪ -‬على حسب المقتضى ‪ -‬فتتخلهق‬
‫ّللا تعالى ‪.‬‬
‫بصورته ؛ فهي الخالقة لنفسها ‪ ،‬بقدرة ه‬
‫ي صورة‬ ‫يتحولون ‪ .‬يعني ‪ :‬أن األرواح الكلية ‪ ،‬تتصور بأ ه‬ ‫ه‬ ‫أي صورة شاؤوا ‪،‬‬ ‫وفي ه‬
‫تحول جبريل عليه السالم ‪،‬‬ ‫فتتحول فيه ‪ ،‬كما ه‬
‫ه‬ ‫تقتضي قوابلها ‪ -‬من الصور الجزئية ‪-‬‬
‫في صورة دحية الكلبي ‪.‬‬
‫هم الحدهادون ‪ .‬أي ‪ :‬األرواح المهيهمة ‪ ،‬هم الجاعلون لهم حدودا ‪ ،‬حسب ما تقتضيه‬
‫قوابلهم ‪ ،‬فال يتعدهى شيء منهم حدهه ‪.‬‬
‫ّللا تعالى ‪ ،‬ألنهم الفعلة لألمور ‪ ،‬فال‬ ‫والح هجاب ‪ .‬أي ‪ :‬المالئكة المح هكمة ‪ ،‬هم ح هجاب ه‬
‫ينظر الناظر ‪ ،‬إال إليهم ‪ .‬وهم ح هجاب ‪ ،‬يمنعون ‪ -‬أيضا ‪ -‬أبصار الناظر ‪ ،‬أن تقع على‬
‫ّللا من حجب ‪ .‬ولهم ؛ أي للمالئكة المهيهمة ‪،‬‬ ‫الحق تعالى ‪ ،‬وبهم ‪ ،‬حجب عن ه‬
‫والمح هكمة ‪.‬‬
‫سا ‪ ،‬وتارة عقال ؛ صورة ‪ ،‬ومعنى ‪ .‬والحجاب ‪ :‬ولهم البطون ‪ ،‬ألن‬ ‫ال هظهور ‪ :‬تارة ح ه‬
‫مقامهم يقتضي ذلك ‪ .‬أال ترى إلى الهيولى ‪ ،‬كيف ظهرت بظهور الصور ؛ وهي ‪-‬‬
‫عجاب[‬ ‫ش ْيء ُ‬ ‫أعني الهيولى ‪ -‬باطنة على الحقيقة ‪ ،‬بعد هذا التعيين والظهور ‪ِ .‬إ َّن هذا لَ َ‬
‫ص ‪.]5 :‬‬
‫يعني ‪ :‬كونهم ظاهرين في بطونهم ‪ ،‬وباطنين في ظهورهم ؛ أمر يحصل منه التع هجب‬
‫‪ ،‬لحصول النقيضين بحال واحد يكثرون التكبير ‪ ،‬ويحفهون بالسرير ‪.‬‬
‫أي بالعرش ‪ -‬والمراد به هنا ‪ :‬جميع المظاهر الكونية ‪ -‬فإن هذه المالئكة المهيهمة‬
‫والمح هكمة ‪ ،‬حافهون به ‪.‬‬
‫لهم المقام األشمخ ‪ .‬أي المنصب األعلى ؛ ألنهم مخلوقون بغير واسطة ‪ ،‬كالعقل‬
‫األول ؛ أو بواسطة قليلة ‪ ،‬كاألرواح الكلية ‪ .‬أو لكونهم أسبابا كلية ‪ ،‬لوجود‬
‫الموجودات ‪.‬‬
‫ّللا والعالم ‪ ،‬مثل‬ ‫ومنزلهم ؛ أي منزل المالئكة المهيهمة ‪ ،‬والمالئكة المح هكمة ‪ :‬بين ه‬
‫البرزخ ‪.‬‬
‫ّللا عنه ‪ -‬أفضل من البشر الك همل ‪ ،‬فقال إنهم متوسطون بين‬ ‫جعلهم الشيخ ‪ -‬رضي ه‬
‫مرتبة األلوهية وبين مرتبة اإلنسان الكامل ‪.‬‬
‫هذا مذهبه ! وال أقول بذلك ؛ بل مرتبة اإلنسان الكامل ‪ -‬عندي ‪ -‬فوق مرتبة المالئكة‬
‫‪ ،‬ألنهم له ‪ ،‬كالقوى للجسد ‪ ،‬وكالصفة للذات ‪ ،‬وكالعرض للجوهر‪.‬‬

‫فأصحاب النسب منهم الخلفاء من البشر ‪ .‬يعني ‪ :‬من كان منسوبا إلى أحد هذه‬
‫المالئكة المهيهمة أو المح هكمة ‪ ،‬بحكم ما تحقهق به في المراتب الكمالية الكلية ‪ ،‬الجميلة ‪،‬‬
‫والجزئية التفصيلية ‪ -‬كما يقال ‪ :‬فالن على قلب إسرافيل ‪ ،‬وفالن على قلب ميكائيل ‪-‬‬
‫كان خليفة للحق ‪ ،‬يعني ‪ :‬نبيها ‪.‬‬
‫واعلم ‪ ،‬أن الخلفاء على أقسام ‪:‬‬
‫ّللا ‪ ،‬على ما هو له ؛ يقومون بصفاته عنه ‪.‬‬ ‫خلفاء ه‬

‫‪52‬‬
‫شرح مشكالت الفتوحات المكية البن العربي ص ‪53‬‬

‫ّللا ‪ ،‬على ما هو منه ‪ ،‬يقومون به في خلقه ‪.‬‬ ‫وخلفاء ه‬


‫ّللا في كال القسمين ‪.‬‬
‫وخلفاء ‪ ،‬لخلفاء ه‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ ،‬ولألنبياء واألولياء‬‫ّللا ؛ لمحمد صلى ه‬ ‫فالخالفة المحضة ‪ ،‬فيما هو ه‬
‫الك همل ‪.‬‬
‫ّللا عليه وسلم وحده ‪ ،‬واألنبياء‬
‫ّللا ؛ لمحمد صلى ه‬ ‫والخالفة المحضة ‪ ،‬فيما هو من ه‬
‫ّللا عليه وسلم ‪.‬‬
‫نوابه ‪ .‬فهم ‪ ،‬خلفاء خالفته صلى ه‬ ‫واألولياء الك همل ه‬
‫ول هما كان هذا العلم ‪ ،‬مما ال يمكن دركه ألحد ‪ ،‬إال بالكشف والرؤية ‪.‬‬
‫قال ‪ :‬يعلم ذلك ‪ ،‬من تحقهق بالنظر ‪ .‬يعني ‪ :‬بالشهود والرؤية ‪.‬‬
‫ولهذا قال ‪ :‬واعتمد على ما جاء به الكشف والخبر ‪.‬‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ « :‬كنت نبيا ‪ ،‬وآدم بين الماء والطين » وهذا‬ ‫أراد بالخبر ‪ ،‬قوله صلى ه‬
‫الخبر ‪ ،‬هو الذي يعطيه الكشف ‪.‬‬
‫"" رواه الحاكم في المستدرك عن العرباض بن سارية السلمي قال سمعت النبي صلى‬
‫ّللا في أول الكتاب لخاتم النبيين وإن آدم لمنجدل في‬ ‫ّللا عليه وسلم يقول ‪ " :‬إني عند ه‬ ‫ه‬
‫طينته وسأنبكم بتأويل ذلك دعوة أبي إبراهيم وبشارة عيسى قومه ورؤيا أمي التي‬
‫رأت أنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام " ‪ .‬ورواه ابن حبان ورواه غيرهما‪.‬‬
‫""‬
‫ّللا وبين الخلق ؛ وكان صلى‬ ‫سط بين ه‬ ‫النبوة تقتضي أن يكون محلهها ‪ ،‬التو ه‬
‫ولما كانت ه‬
‫ّللا عليه وسلم واسطة الجمع قبل ظهور الك هل ‪.‬‬ ‫ه‬
‫ي ‪ ،‬من غير قوم يرسل إليهم ‪،‬‬ ‫كان هذا موضع تحيهر العقل ؛ حيث وجد نب ه‬
‫قال ‪ :‬والعقول من حيث أدلهتها ‪ ،‬قاصرة عن إدراك هذا العلم ‪ ،‬لطموس عين الفهم ‪.‬‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ ،‬نبيها قبل وجود آدم وذريته ‪ ،‬مما ال تدركه العقول ؛‬ ‫يعني ‪ :‬كونه صلى ه‬
‫لطموس طريقة الفهوم ‪ ،‬الموقوفة على األدلة ‪ ،‬فافهم ‪.‬‬
‫وّللا الموفق ‪ ،‬ال‬
‫وقد شرحت لك ‪ ،‬جميع ما حواه الباب العاشر من الفتوحات المكية ‪ ،‬ه‬
‫رب غيره‪.‬‬ ‫ه‬

‫*‬

‫‪53‬‬
‫شرح مشكالت الفتوحات المكية البن العربي ص ‪54‬‬

‫مقتطفات من الباب ‪ 559‬من الفتوحات المكية‬

‫سر االفتتاح بالنكاح ؛ من الباب األحد عشر ‪:‬‬


‫ومن ذلك ‪ ،‬ه‬
‫أنا في الوجود باب * وعليه منه قفل‬
‫فأنا بعل بوجه * وبوجه أنا أهل‬

‫تكون من السامع ‪،‬‬ ‫القول ‪ -‬من القائل ‪ -‬في السامع ‪ ،‬نكاح ‪ .‬فعين المقول ‪ ،‬عين ما ه‬
‫فظهر ‪. .‬‬
‫ظهور المصباح ‪ ،‬لتوجه سبب القول والتكوين ‪ -‬على التعيين ‪ -‬في المحل الظاهر ‪،‬‬
‫والحس ‪ ،‬واألمر المر هكب والنهفس ؛‬
‫ه‬ ‫لنزول الباطن إلى الظاهر ‪ .‬وهذا نكاح بين المعنى‬
‫ليجمع بين الكثيف واللطيف ‪ ،‬ويكون به التمييز والتعريف ‪.‬‬
‫وإن خالف تركيب المعاني ‪ ،‬تركيب الحروف ؛ فهو كخالف المعرفة والمعروف ‪.‬‬

‫ي ‪ ،‬من مقام االفتتاح ‪ ،‬إلى مقام األرواح ؛ ومن المنازل الرفيعة ‪،‬‬
‫ثم ينزل األمر النكاح ه‬
‫إلى ما يظهر من نكاح الطبيعة ؛ ومن بيوت األمالك ‪ ،‬إلى نكاح األفالك لوجود‬
‫األمالك ؛ ومن حركات األزمان ‪ ،‬إلى نكاح األركان ؛ ومن حركات األركان ‪ ،‬إلى‬
‫ظهور المولهدات التي آخرها جسم اإلنسان ‪ ،‬ثم تظهر األشخاص ‪ ،‬بين مباض ومناص‪.‬‬
‫فالنكاح ثابت مستقر ‪ ،‬ودائم مستمر ‪.‬‬

‫سر إطفاء النبراس باألنفاس ‪ ،‬من الباب الخامس عشر ‪:‬‬ ‫ومن ذلك ‪ ،‬ه‬
‫لما كان القائل له مزاج االنفعال ‪ ،‬كان للنهفس اإلطفاء واإلشعال ‪ .‬فإن أطفأ أمات ‪ ،‬وإن‬
‫يعول عليه ‪.‬‬
‫أشعل أحيا ‪ ،‬فهو الذي أضحك وأبكى ‪.‬فينسب الفعل إليه ‪ ،‬والقابل ال ه‬

‫وذلك لعدم اإلنصاف في تحقيق األوصاف ‪ ،‬مع علمنا بأن االشتراك معقول في‬
‫األصول ‪ .‬للقابل اإلعانة ‪ ،‬وال يطلب منه االستعانة ‪ .‬فهو المجهول المعلوم ‪ ،‬عليه‬
‫صاحب الذوق يحوم ‪ ،‬وحكمه في المحدث والقديم ‪.‬‬
‫يظهر ذلك ‪ ،‬في إجابة السائل ‪ ،‬وهذا معنى قولنا القابل ‪.‬‬
‫لوال نفس الرحمن ‪ ،‬ما ظهرت األعيان ‪ .‬ولوال قبول األعيان ‪ ،‬ما اتصفت بالكيان ‪،‬‬
‫وال كان ما كان ‪.‬‬
‫الصبح إذا تنفهس ‪ ،‬أذهب الليل الذي كان عسعس ‪.‬‬

‫ص هد ما عذب الوصال‬
‫صيد ما نفر الغزال * ولوال ال ه‬‫فلوال ال ه‬
‫شرع ما ظهرت قيود * ولوال الفطر ما ارتقب الهالل‬ ‫ولوال ال ه‬
‫صوم ما كان الوصال‬ ‫ولوال الجوع ما ذبلت شفاه * ولوال ال ه‬

‫‪54‬‬
‫شرح مشكالت الفتوحات المكية البن العربي ص ‪55‬‬

‫ولوال الكون ما انفطرت سماء * ولوال العين ما دكهت جبال‬


‫الرشد غيها * لما عرفت هداية أو ضالل‬ ‫ولوال ما أبان ه‬
‫وال كان النهعيم بك هل شيء * وال حكم الجالل وال الجمال‬
‫أرى شخصا له بصر ويرمي * وال قوس لديه وال نبال‬
‫فسبحان العليم بك هل أمر * له العلم المحيط له الجالل‬
‫إذا نظرت إليه عيون قوم * بال جفن بدا لهم الكمال‬
‫ووقتا ال يرون سوى نفوس * مبعهدة وغايتها اتصال‬

‫ومن ذلك ‪:‬‬


‫سر من منح ليربح ‪ ،‬فلنفسه سعى ‪ ،‬فكان لما أعطي وعا ‪ ،‬من الباب السابع عشر ‪:‬‬ ‫ه‬
‫إذا ما كنت ميدانا * فجل فيه إذا كانا‬
‫فإنهي لست أنفيه * لذا س هميت إنسانا‬

‫سر النافلة والفرض ‪ ،‬في تعلهق العلم بالطول والعرض ‪ ،‬من الباب‬ ‫ومن ذلك ‪ :‬ه‬
‫العشرين ‪:‬‬
‫من كان علته عيسى ‪ ،‬فال يوسي ‪ .‬فإنه الخالق المحيي ‪ ،‬والمخلوق الذي يحيي ‪.‬‬
‫عرض العالم في طبيعته ‪ ،‬وطوله في روحه وشريعته ‪.‬‬
‫صيهور والدهيهور » ‪ ،‬المنسوب إلى الحسين بن منصور ‪.‬‬ ‫وهذا النور ‪ ،‬من « ال ه‬
‫لم أر ‪ :‬متهحدا رتق وفتق ‪،‬‬
‫وبربهه نطق ‪،‬‬
‫وأقسم بالشهفق ‪ ،‬واللهيل وما وسق ‪ ،‬والقمر إذا اتهسق‬
‫وركهب طبقا عن طبق ‪ ،‬مثله‬
‫‪ . .‬فإنهه نور في غسق ‪.‬‬
‫منزلة الحق لديه ‪ ،‬منزلة موسى من التابوت ؛ ولذلك كان يقول بالالهوت والناسوت ‪.‬‬
‫وأين هو ‪ ،‬ممن يقول ‪ :‬العين واحدة ‪ ،‬ويحيل الصفة الزائدة ؟ وأين فاران من الطور‬
‫؟ وأين النار من النور ؟‬
‫العرض محدود ‪ ،‬والطول ظ هل ممدود ‪ ،‬والفرض والنفل ‪ :‬شاهد ومشهود ‪.‬‬

‫سر الجرس ‪ ،‬واتخاذ الحرس ‪ . .‬من الباب الخامس والثالثين ‪:‬‬ ‫ومن ذلك ‪ ،‬ه‬
‫صل مجمله ‪ ،‬وفتهح مقفله ؛ ه‬
‫اطلع‬ ‫الجرس كالم مجمل ‪ ،‬والحرس باب مقفل ‪ .‬فمن ف ه‬
‫على األمر العجاب ‪ ،‬والتحق بذوي األلباب ‪ ،‬وعرف ما صانه القشر من اللباب ‪،‬‬
‫ه‬
‫فعظم الحجاب والح هجاب ‪.‬‬
‫اإلجمال حكمة ‪ ،‬وفصل الخطاب قسمة ‪.‬‬
‫إلزالة غ همة ‪ ،‬في أمور مه همة ‪ ،‬محجوبة بليال مدله همة ‪.‬‬
‫والحرس عصمة ‪ ،‬فهم أعظم نعمة ‪ ،‬إلزالة نعمة ‪ ،‬إلزالة نقمة ‪.‬‬

‫‪55‬‬
‫شرح مشكالت الفتوحات المكية البن العربي ص ‪56‬‬

‫صلصلة الجرس ‪ ،‬عين حمحمة الفرس ‪.‬‬


‫*‬
‫سر وجود النهفس في العسس ‪ . .‬من الباب التاسع واألربعين ‪:‬‬ ‫ومن ذلك ‪ ،‬ه‬
‫بالعسس يطيب المنام ‪ ،‬وبالنهفس تزول اآلالم ‪ .‬إن أضيف إلى غير الرحمن ‪ ،‬فهو بتان‬
‫‪ .‬ظهور حكمه ‪ ،‬فزال عن المكروب غ همه ‪.‬‬
‫من قبل اليمن جاء ‪ ،‬وبعد تنفيذ حكمه فاء ‪ .‬وإليه يرجع األمر كله ‪ ،‬ألنه ظلهه ‪ ،‬ال‬
‫ينقبض ه‬
‫الظ هل ‪ ،‬إال إلى من صدر عنه ؛ فإنه ما ظهر عينه ‪ ،‬إال منه ‪ .‬فالفرع ال يستبد ‪،‬‬
‫فإنه إلى أصله يستند ‪.‬‬
‫في الفروع يظهر التفصيل ‪ ،‬وتشهد له األصول ‪ ،‬في قضية العقول ‪.‬‬

‫سر الحيرة والقصور ‪ ،‬فيما تحوي عليه الخيام والقصور ‪ . .‬من الباب‬ ‫ومن ذلك ‪ ،‬ه‬
‫الخمسين ‪:‬‬
‫الخيمة والقصر ‪ ،‬يؤذن بالقهر والقسر ‪ .‬لوال الحيرة ما وجد العجز ‪ ،‬وال ظهر سلطان‬
‫ه‬
‫العز ‪ ،‬وبالقصور ‪ ،‬علم بحدوث األمور ‪.‬‬
‫القصور يلزم الطرفين ‪ ،‬لعدم االستقالل بإيجاد العين ‪ .‬لوال القبول واالقتدار ‪ ،‬وتكوير‬
‫اليل والنهار ‪ -‬باإلقبال واإلدبار ‪ -‬ما ظهرت أعيان ‪ ،‬وال عدمت أكوان ‪ ،‬فسبحان‬
‫المتفضهل بالدهور واألمور ‪.‬‬

‫سر الهرب من الحرب ‪ ،‬من الباب األحد والخمسين ‪:‬‬ ‫ومن ذلك ‪ ،‬ه‬
‫متحرفا لقتال ‪ ،‬فما مال ‪ .‬فالهرب من الحرب ‪ ،‬وهو من‬ ‫ه‬ ‫من مال ‪ ،‬متحيهزا إلى فئة أو‬
‫قارا ‪ ،‬وال تتهبع ه‬
‫فارا ‪.‬‬ ‫الخداع ‪ ،‬في الفزاع ‪ ،‬كن ه‬
‫ال تضطره إلى ضيق ‪ ،‬فيأتيك من تكرهه من فوق ‪ .‬ك هل يجري في قربه إلى أجل ‪ ،‬فال‬
‫تق هل بج هل ‪ .‬إذا نزل القدر ‪ ،‬عمي البصر ‪ .‬نزول الحمام ‪ ،‬يقيهد األقدام ‪.‬‬
‫ال جناح ‪ ،‬لمن غلبه األمر المتاح ‪.‬‬
‫من راح ‪ ،‬استراح ‪ ،‬إلى مقر األرواح ‪.‬‬
‫من فتح له باب السماء ‪ ،‬استظ هل بسدرة االنتهاء ‪.‬‬
‫ي‪.‬‬‫ي ‪ ،‬وإنجازه ل ه‬‫الشهيد ح ه‬

‫سر عبادة الهوى ‪ ،‬لماذا تهوى ‪ . .‬من الباب الثاني والخمسين ‪:‬‬
‫ومن ذلك ؛ ه‬
‫وحق الهوى ‪ ،‬ه‬
‫إن‬ ‫ه‬ ‫ال احتجار على الهوى ‪ ،‬ولهذا يهوى ‪ .‬بالهوى يجتنب الهوى ‪.‬‬
‫الهوى سبب الهوى ‪ .‬ولوال الهوى في القلب ما عبد الهوى ‪ ،‬بالهوى يتهبع الحق ‪.‬‬
‫والهوى يقعدك مقعد الصدق ‪.‬‬

‫‪56‬‬
‫شرح مشكالت الفتوحات المكية البن العربي ص ‪57‬‬

‫‪.‬والنَّ ْج ِم ِإذا هَوى ( ‪ ) 1‬ما‬ ‫الهوى مالذ ‪ ،‬وفي العبادة به التذاذ ‪ ،‬وهو معاذ لمن به عاذ َ‬
‫صاحبُ ُك ْم َوما غَوى( ‪ [ ) 2‬النهجم ‪. ] 2 ، 1 :‬‬
‫ِ‬ ‫ض َّل‬‫َ‬
‫ُ‬
‫فبهوي النجم وقع القسم ‪ ،‬بعد ما طلع ونجم ‪ *،‬فَال أ ْق ِس ُم ِب َمواقِ ِع النُّ ُج ِ‬
‫وم ( ‪َ ) 75‬و ِإنَّهُ‬
‫عظم من‬ ‫علو قدره ‪ ،‬ما ه‬ ‫ع ِظيم( ‪ [ ) 76‬الواقعة ‪ ] 76 ، 75 :‬فلوال ه‬ ‫سم لَ ْو ت َ ْعلَ ُمونَ َ‬ ‫لَقَ َ‬
‫أمره ‪.‬‬

‫سر تعشهق القوم بالنوم ‪ ،‬من الباب السادس والتسعين ‪:‬‬ ‫ومن ذلك ‪ ،‬ه‬
‫الخيال عين الكمال ‪ .‬لواله ما فضهل اإلنسان على سائر الحيوان ؛ به جال وصال‬
‫وافتخر وطال ‪،‬‬
‫األواه ‪ .‬فله الشتات والجمع‬ ‫ّللا ‪ ،‬وبه كان الحليم ه‬ ‫وبه قال من قال ‪ :‬سبحاني ؛ وإنني أنا ه‬
‫بين أضداد الصفات حكم على المحال والواجب ‪ ،‬بما شاءه المذاهب ‪.‬‬
‫سدها في عين الناظر ‪ ،‬ويلحق األول‬ ‫يخرق فيهما العادة ‪ ،‬ويلحقهما بعالم الشهادة ‪ ،‬فيج ه‬
‫‪ -‬في الحكم ‪ -‬باآلخر ‪.‬‬
‫ال يثبت على حال ‪ ،‬وله الثبوت على تقلهب األحوال ‪ .‬فله من آي القرآن ‪ ،‬ما جاء في‬
‫آالء َر ِبه ُكما ت ُ َك هذ ِ‬
‫ِبان(‬ ‫يِ ِ‬‫سورة الرحمن ‪ ،‬من أنه تعالى ُك َّل يَ ْوم ُه َو ِفي شَأْن ( ‪ ) 29‬فَ ِبأ َ ه‬
‫الرحمن ‪] 30 ، 29 :‬‬‫‪ [ ) 30‬ه‬
‫‪ . .‬وال بشيء من آالئك ربنا نكذهب ‪ ،‬فإنها من جملة نعمائك !‬

‫سر العلم المستقر في النهفس بالحكم ‪ ،‬من الباب األحد ومائة ‪:‬‬ ‫ومن ذلك ‪ ،‬ه‬
‫العلم حاكم ‪ ،‬فإن لم يعمل العالم بعلمه ‪ ،‬فليس بعالم العلم ‪ .‬ال يمهل وال يهمل ‪ .‬العلم‬
‫أوجب الحكم ‪ ،‬ل هما علم الخضر حكم ؛ ول هما لم يعلم ذلك صاحبه ‪ ،‬اعترض عليه ‪،‬‬
‫ونسي ما كان قد ألزمه ‪ ،‬فالتزم !‬
‫وتبرز في صدر الخالفة ‪ ،‬وتقدهم ‪ ،‬العلم باألسماء ‪ ،‬العالمة‬‫ه‬ ‫لما علم آدم األسماء ‪ ،‬علم‬
‫على حصول اإلمامة ‪.‬‬
‫العلم يحكم واألقدار جارية * وك هل شيء له ح هد ومقدار‬
‫هإال العلوم الهتي ال ح هد يحصرها * لكن لها في قلوب الخلق آثار‬
‫فحدهها ما لها في القلب من أثر * وعينها فيه أنجاد وأغوار‬
‫فلو تح هد بح هد الفوز ناقضه * ح هد لنجد ‪ ،‬ففي التهحديد إصرار‬
‫إفهم قوله تعالى ‪َ :‬حتَّى نَ ْعلَ َم[ مح همد ‪ ] 31 :‬فتعلم ‪ ،‬إن كنت ذا فهم ‪ ،‬من أعطاه العلم ؟‬
‫من علم الشيء قبل كونه ‪ ،‬فما علمه من حيث كونه ‪ ،‬وإنما علمه من حيث عينه ‪ ،‬من‬
‫أن العين يكون ‪ ،‬وليس في العدم مكون ؟‬ ‫أين علم ه‬
‫هذا القدر من العلم ‪ ،‬أعطاه جوده ‪ ،‬وحكم به وجوده ‪.‬‬

‫ومن ذلك ‪ ،‬والية البشر عين الضرر ‪ ،‬من الباب الخمسين ومائة ‪:‬‬

‫‪57‬‬
‫شرح مشكالت الفتوحات المكية البن العربي ص ‪58‬‬

‫ض َخ ِليفَةً[ البقرة ‪ ] 30 :‬يؤمن به من كل خيفة ‪ ،‬أعطاه التقليد ‪،‬‬ ‫ِإ ِنهي جا ِعل فِي ْاأل َ ْر ِ‬
‫وم هكنه من اإلقليد ؛ فتح هكم به في القريب والبعيد ‪.‬‬
‫وجعله عين الوجود ‪ ،‬وأكرمه بالسجود ؛ فهو الروح المط ههر ‪ ،‬واإلمام المدبهر ‪.‬‬

‫شفهع الواحد عينه ‪ ،‬وحكم بالكثرة كونه ‪ .‬وإن كان كل جزء من العالم مثله في الداللة ‪،‬‬
‫فشرع ما شرع ‪ ،‬وأتبع ‪-‬‬ ‫ولكنه ليس بظ هل ‪ . .‬فلهذا انفرد بالخالفة ‪ ،‬وتميهز بالرسالة ؛ ه‬
‫فهو واسطة العقد ‪ ،‬وحامل األمانة والعهد ‪.‬‬

‫تضرر هو ‪ -‬كما‬ ‫ه‬ ‫حكم فقهر ‪ ،‬حين تح هكم في البشر ؛ فظهر النفع والضرر ‪ .‬فأول من‬
‫ذكر ‪ -‬ثم إنه لم يقتصر ‪ ،‬حتى آذى الحق وسبهه ؛ وأعطاه قلبه ‪ ،‬وعلم أنه ربهه ‪ ،‬فأحبهه ‪،‬‬
‫ول هما حسده وغبطه ‪ ،‬أغضبه وأسخطه ‪.‬‬
‫ثم بعد ذلك هداه ‪ ،‬وأرضاه ‪ ،‬واجتباه ‪.‬‬
‫فلوال قوة الصورة ما عتى ‪ ،‬ولرجوعه إلى الحق سمي فتى ‪ .‬بالجود في إزالة الغرض‬
‫‪ ،‬وأزال بزواله المرض ‪.‬‬
‫ق ( ‪ِ ) 29‬إلى َر ِبه َك‬
‫سا ِ‬ ‫س ُ‬
‫اق ِبال َّ‬ ‫وقام األمر على ساق ‪ ،‬وحصل القمر في اتساق ‪َ ،‬و ْالتَفَّ ِ‬
‫ت ال َّ‬
‫يَ ْو َمئِذ ْال َم ُ‬
‫ساق( ‪ [ ) 30‬القيامة ‪. ] 30 ، 29 :‬‬

‫ّللا يزع بالسلطان ‪ ،‬ما ال يزع بالقرآن ‪ .‬فإن السلطان ناطق خالق ‪ ،‬والقرآن ناطق‬
‫إن ه‬
‫صامت ! فحكمه حكم المائت ‪ ،‬ال يخاف وال يرجى ‪ ،‬وال يطرد وال يزجى ‪ .‬وما استند‬
‫عول المؤمنون عليه ؛ إال لصدق ما لديه ‪.‬‬
‫صدهيقون إليه ‪ ،‬وال ه‬
‫ال ه‬

‫أحق بالتعظيم من السلطان ‪ ،‬ألنه الكالم المجيد الذي ال يَأْتِي ِه ْال ِ‬


‫باط ُل ِم ْن بَي ِْن يَ َد ْي ِه‬ ‫فالقرآن ه‬
‫صلت ‪. ] 42 :‬‬‫َوال ِم ْن خ َْل ِف ِه ت َ ْن ِزيل ِم ْن َح ِكيم َح ِميد( ‪ [ ) 42‬ف ه‬
‫ال را هد ألمره ‪ ،‬وال معقهب لحكمه ‪ .‬يصدهق في نطقه ‪ ،‬ويعطي الشيء واجب حقهه ‪ .‬فهو‬
‫النور ‪ ،‬والسلطان قد يجور ‪.‬‬

‫ومن ذلك ‪ ،‬مراتب األحبة في منزل المحبة ‪ ،‬من الباب ( ‪: ) 185‬‬


‫رب دعوى ‪ ،‬فهو صاحب بلوى ‪.‬‬ ‫المحب ه‬ ‫ه‬ ‫األحباب أرباب ‪ ،‬والمحبوب خلف الباب ‪،‬‬
‫لوال دعوى المحبة ‪ ،‬ما طلبنا الجزاء من اللطيف ‪.‬‬
‫المحب في‬
‫ه‬ ‫المحبوب إن شاء وصل ‪ ،‬وإن شاء هجر ؛ فإذا ادهعى محبهه محبهه اختبر ‪.‬‬
‫ْصار َو ُه َو يُ ْد ِركُ ْاألَب َ‬
‫ْصار[‬ ‫االختبار ‪ ،‬والحبيب مصان من األغيار ‪ ،‬ولهذا ال ت ُ ْد ِر ُكهُ ْاألَب ُ‬
‫األنعام ‪. ] 103 :‬‬
‫فالمحب إذا كان ذا جنابة ‪،‬‬ ‫ه‬ ‫لألحبة منزل في المحبة ؛ فحبيب جنيب ‪ ،‬وحبيب قريب ‪.‬‬
‫فما هو من القرابة ‪ ،‬وإذا لم يكن جنيبا ‪ ،‬كان قريبا !‬

‫‪58‬‬
‫شرح مشكالت الفتوحات المكية البن العربي ص ‪59‬‬

‫قرب الحبيب باالشتراك في الصفة ‪ ،‬وجنابته في عدم االشتراك فيها ‪ ،‬كما أعطت المعرفة‬
‫ي بما ليس لي » لما طلب القرب الولي ‪،‬‬ ‫تقرب إل ه‬
‫‪ «:‬ه‬
‫ي العزيز الجبار ‪ ،‬والمتكبر خلف باب الدار ‪.‬‬ ‫والذي ليس له ‪ :‬ال هذلة واالفتقار ؛ فهو الغن ه‬
‫أنظر إلى ما أعطاه االشتراك والدعوى ‪ ،‬من البلوى ! هو في النزوح بالجسم الصوري‬
‫سبوح ‪.‬‬
‫والعقل والروح ‪ ،‬ولهذا ال يتجلى ‪ -‬لمن هذه صفته ‪ -‬إال القدهوس ال ه‬
‫فالنزيه للعين ‪ ،‬ال يقول باالشتراك في الكون ‪.‬‬

‫ومن ذلك ‪ ،‬الشوق واالشتياق للعشاق ‪ ،‬من الباب ( ‪: ) 187‬‬


‫شوق يسكن باللهقاء ‪ ،‬واالشتياق يهيج بااللتقاء‬ ‫ال ه‬
‫شاق ‪.‬‬‫ال يعرف االشتياق هإال الع ه‬
‫من سكن باللهقاء ‪ ،‬فما هو عاشق ‪ ،‬عند أرباب الحقائق ‪.‬‬
‫من قام بثيابه الحريق ؛ كيف يسكن ؟‬
‫وهل مثل هذا يتم هكن !‬
‫للنار التهاب وملكة ‪ ،‬فال ب هد من الحركة ‪.‬‬
‫والحركة قلق ‪ .‬فمن سكن ‪ ،‬ما عشق‬
‫سكون ؟ وهل في العشق كمون ‪ ،‬هو كلهه ظهور ‪ .‬ومقامه نشور‬ ‫كيف يص هح ال ه‬
‫العاشق ما هو بحكمه ‪ ،‬وإنهما هو تحت حكم سلطان عشقه ‪.‬‬
‫وال بحكم من أحبهه ‪.‬‬
‫هكذا تقتضي المحبهة ‪.‬‬
‫محب هإال نفسه ؛ أو ‪ ،‬ما عشق عاشق هإال معناه وح ه‬
‫سه ! لذلك ‪،‬‬ ‫ه‬ ‫حب‬
‫فما ه‬
‫شاق يتألهمون بالفراق ‪ ،‬ويطلبون لذهة التهالق ‪.‬‬ ‫الع ه‬
‫فهم في حظوظ نفوسهم يسعون‬
‫شاق األعلون ‪.‬‬ ‫وهم في الع ه‬
‫ستور ‪.‬‬ ‫ه‬
‫الحق خلف ال ه‬ ‫فإنههم العلماء باألمور ‪ ،‬وبالهذي خباه‬
‫لمحب على محبوبه ‪ ،‬فإنهه مع مطلوبه ‪،‬‬ ‫ه‬ ‫فال منهة‬
‫وال عنده محبوب ومرغوب ‪.‬‬
‫تقر به عينه ‪ ،‬ويبتهج به كونه ‪.‬‬ ‫سوى ما ه‬
‫المحب ‪ ،‬ما يريده المحبوب من الهجر‬ ‫ه‬ ‫ولو أراد‬
‫هلك ‪ . .‬بين اإلرادة ‪ ،‬واألمر ! وما ص هح دعواه في المحبهة‬
‫وال كان من األحبهة ‪. .‬‬
‫فف هكر ‪ ،‬تعثر !‬

‫ومن ذلك ‪ ،‬الشهطح من الفتح ‪ ،‬من الباب ( ‪: ) 202‬‬


‫من شطح عن فناء شطح ! وهذا من أعظم المنح ؛ إال أنه يلتبس على السامع ‪ ،‬فال‬
‫يعرف الجامع من غير الجامع ‪ ،‬ولهذا االلتباس ‪ ،‬جعله نقصا بعض الناس ‪ ،‬من باب‬

‫‪59‬‬
‫شرح مشكالت الفتوحات المكية البن العربي ص ‪60‬‬

‫س هد الذريعة ‪ ،‬لما فيها ‪ -‬بالنظر إلى المخلوق ‪ -‬من األلفاظ الشنيعة التي ال تجيزها لهم‬
‫الشريعة ‪.‬‬
‫تقوى في هذا الفتح ‪ ،‬وعلم من نفسه أنه ليس بشاطح ‪ ،‬لم يظهر عليه شيء من‬ ‫فمن ه‬
‫الشطح ‪ .‬فال يظهر الشطح ‪ ،‬من صاحب هذا الصف ‪ ،‬إال إذا كان في حاله ضعف ‪. .‬‬
‫أال إن تبيهن ذلك ‪ ،‬عند الواصل والسالك ‪. .‬‬
‫أال ترى إلى ما قال صاحب القوة ‪ ،‬والتمكين في إنفاذ األمر ‪ « :‬أنا سيهد ولد آدم وال‬
‫فخر » فانظر إلى أدبه في تحلهيه ‪ ،‬كيف تأدهب مع أبيه ‪ ،‬وما ذكر غير إخوته‪.‬‬
‫ه‬
‫الحق ؛ أنزل الناس منازلهم ‪ ،‬ل هما‬ ‫فاألديب من أخذ بأسوته ‪ ،‬فإن ربهه أدهبه ‪ .‬ومن أدهبه‬
‫تحقهق ‪.‬‬

‫ومن ذلك ‪ ،‬الجامع واسع ‪ ،‬من الباب ( ‪: ) 229‬‬


‫لو لم يكن في الجامع اتساع ‪ ،‬ما كان جامعا باإلجماع ‪ .‬قلب المؤمن جامع للوسع ؛‬
‫فتجول اإلبصار ‪ ،‬على قدر ما‬
‫ه‬ ‫فغاية اتهساعه على مقداره ‪ ،‬واتهساعه على قدر أنواره ‪،‬‬
‫‪ّ.‬للاُ‬
‫تكشف له األنوار ؛ ويكون السرور على قدر ما يحصل لك من الكشف بذلك النور َّ‬
‫ض[ النهور ‪ ] 35 :‬فقد ع هم الرفع والخفض ‪.‬‬‫ت َو ْاأل َ ْر ِ‬
‫سماوا ِ‬ ‫نُ ُ‬
‫ور ال َّ‬
‫فصاحب البصر الحديد ‪ ،‬يدرك به ما يريد ؛ ولهذا ‪ ،‬إرادة المحدث قاصرة ‪ ،‬ودائرته‬
‫ضيقة متقاصرة !‬
‫أال تراه ألبسه على ما قلناه في الخبر ‪ :‬فيها ما ال عين رأت ‪ ،‬وال أذن سمعت ‪ ،‬وال‬
‫خطر على قلب بشر ‪.‬‬
‫وهي جنهة محصورة ‪ ،‬واألمور فيها مقصورة ؛ فكيف بمن ال يأخذه حصر ‪ ،‬وال يسعه‬
‫قصر ؟ كيف ينضبط شأنه ‪ ،‬أو يح هد مكانه من مكانه ‪ ،‬عينه جهل ‪ ،‬ولو عرف كونه !‬

‫ومن ذلك ‪ ،‬المريد من يجد في القرآن ما يريد ‪ ،‬من الباب ( ‪: ) 235‬‬


‫كان شيخنا أبو مدين يقول ‪ :‬المريد ‪ ،‬من يجد في القرآن ك هل ما يريد ! ولقد صدق ‪ -‬في‬
‫طنا فِي ْال ِكتا ِ‬
‫ب ِم ْن َ‬
‫ش ْيء[ األنعام ‪] 38 :‬‬ ‫ّللا يقول ‪:‬ما فَ َّر ْ‬ ‫قوله ‪ -‬الشيخ العارف ؛ ألن ه‬
‫فقد حوى بجميع المعارف ‪ ،‬وأحاط بما في العلم اإللهي من المواقف ‪. .‬‬
‫وإن لم تتناهى ‪ ،‬فقد أحاط علما بها ‪ ،‬وبأنها ال تتناهى ‪ .‬فاسترسل عليها علمه ‪،‬‬
‫وأظهرها عن التتالي حكمه إلى غير أمد ‪ ،‬بل ألبد األبد ‪.‬‬
‫ون[ األنعام ‪ . . ] 73 :‬فمن لم يكن له‬ ‫فالمريد المكين ‪ ،‬من يقول ‪ -‬لما يريد ‪ُ -‬ك ْن فَيَ ُك ُ‬
‫هذا المقام ‪ ،‬فما هو مريد ‪ ،‬والسالم !‬
‫من كانت إرادته قاصرة ‪ ،‬وه همته متقاصرة ‪ ،‬ال يتميهز عن سائر العبيد ؛ فهذا معنى‬
‫ْت[ القصص ‪ ] 56 :‬فما أصبت ‪.‬‬ ‫المريد ‪ . .‬فإن احتججت بقوله ‪ِ :‬إنَّ َك ال ت َ ْهدِي َم ْن أ َ ْحبَب َ‬
‫العالم ‪ ،‬من ينتقل من مقام إلى مقام ؛ ذلك حكم الدار ‪ ،‬وأين دار البوار من دار القرار‬ ‫ه‬
‫؟‬

‫‪60‬‬
‫شرح مشكالت الفتوحات المكية البن العربي ص ‪61‬‬

‫ومن ذلك ‪ ،‬االغتراب تباب ‪ . .‬من الباب ( ‪: ) 237‬‬


‫الغربة مفتاح الكرب ‪ ،‬ولوالها ما كانت القرب ‪ .‬القريب هو الغريب ‪ ،‬وهو الحبيب ‪،‬‬
‫وال يقال في الحبيب أنه غريب ‪ ،‬هو للمحب عينه ‪ ،‬وذاته ‪ ،‬وأسماؤه ‪ ،‬وصفاته ‪ .‬ال‬
‫نظر له إليه ‪ ،‬فإنه ليس شيئا زائدا عليه ‪.‬‬
‫ما هو عنه بمعزل ‪ ،‬وما هو له بمنزل ‪.‬‬
‫قيل لقيس ليلى ‪ :‬من أنت ؟‬
‫قال ‪ :‬ليلى !‬
‫قيل له ‪ :‬من ليلى ؟‬
‫قال ‪ :‬ليلى !‬
‫فما ظهر له عين في هذا البين ‪ ،‬فما بقي اغتراب ‪ ،‬فإنه في تباب ؛ فقد عينه ‪ ،‬وزال‬
‫كونه ‪.‬‬
‫شاق ‪ ،‬ال يتصفون بالشوق واالشتياق ‪ ،‬الشوق إلى غائب ‪ ،‬وما ث هم غائب ‪ .‬من كان‬ ‫الع ه‬
‫الحق سمعه ‪ ،‬كيف يطلبه ؟ ومن كان لسانه ‪ ،‬كيف يعتبه ؟‬ ‫ه‬
‫فأين تذهبون ‪ ،‬وما ث هم أين عند من تحقهق بالعين ‪.‬‬

‫ومن ذلك ‪ ،‬من شرب طرب ‪ . .‬من الباب ( ‪: ) 256‬‬


‫ال يطرب الشارب ‪ ،‬إال إذا شرب خمرا ‪ ،‬وإذا شرب خمرا فقد جاء شيئا إمرا ؛ ألنه‬
‫يخامر العقول ‪ ،‬فيحول بينها وبين األفكار ‪ ،‬فيجعل العواقب في األخبار ‪ ،‬فيبدي‬
‫فحرمت في الدنيا لعظم شأنها ‪ ،‬وقوة سلطانها ‪ . .‬وهي لَذَّة‬‫األسرار برفع األستار ‪ .‬ه‬
‫ار ِبينَ [ مح همد ‪] 15 :‬‬
‫ش ِ‬‫ِلل َّ‬
‫مكرمة ‪.‬‬
‫محرمة ‪ ،‬وفي اآلخرة ه‬ ‫ه‬ ‫حيث كانت ‪ ،‬ولهذا ‪ ،‬ه‬
‫عزت وما هانت ‪ .‬في الدنيا‬
‫هي ألذه أنهار الجنان ‪ ،‬ولها مقام اإلحسان ‪ .‬عطاؤها أجزل العطاء ‪،‬‬

‫ولهذا يقول من أصابه حكمها ‪ ،‬وما أخطأ للشاعر الجاهلي المن هخل بن مسعود‬
‫اليشكري‪:‬‬
‫سدير‬ ‫فإذا سكرت فإنهني * ه‬
‫رب الخورنق وال ه‬
‫وهو صادق ‪ . .‬وإذا فارقه حكمها ‪ ،‬وعفا عنه رسمها ‪ ،‬يقول ‪ -‬أيضا ‪ -‬ويصدق ‪،‬‬
‫وقال الحق ‪:‬‬
‫وإذا صحوت فإنهني * ه‬
‫رب الشهويهة والبعير‬
‫ه‬
‫فتفطن لهذا الميزان ‪.‬‬ ‫رب الحيوان ‪،‬‬
‫وهذا المقام أعلى ‪ ،‬ألنه ه‬

‫ومن ذلك ‪ ،‬التنزيه تمويه ‪ . .‬من الباب ( ‪: ) 280‬‬


‫إن الوجود ألكوان وأشباه * فال إله لنا في الكون هإال هو‬
‫ه‬
‫ج هل اإلله فما يحظى به أحد * فلم يقل عارف بربهه ما هو‬
‫هّلل قوم إذا حفهوا بحضرته * يبغون وصلتههم بذاته تاهو‬

‫‪61‬‬
‫شرح مشكالت الفتوحات المكية البن العربي ص ‪62‬‬

‫موه القوم بالتهنزيه وهو هم * في ك هل حال ‪ ،‬فعين القوم عيناه‬ ‫قد ه‬


‫الرحمن من ولد * وما له والد ‪ ،‬ما ث هم هإال هو‬
‫وّللا ما ولد ه‬‫ه‬
‫وك هل ما في الوجود الكون من ولد * ووالد هو في تحقيقنا ما هو‬
‫بالرمل حين رمى * مح همد ‪ ،‬وهو قولي ‪ :‬ما هو هإال هو‬ ‫دليلنا ‪ :‬ما رمى ه‬
‫فالحمد هّلل ال أبغي به بدال * ألنهه ليس في األكوان هإال هو‬

‫ومن ذلك ‪ ،‬الدليل في حركة الثقيل ؛ من الباب ( ‪: ) 293‬‬


‫يتحرك إال عن أمر مهم ‪ ،‬وخطب ملم ‪. .‬‬
‫ه‬ ‫األمر جليل ‪ ،‬من أجل حركة الثقيل ؛ ال‬

‫الحب المفرط في الولد ‪ ،‬وال يلوي على‬


‫ه‬ ‫كزلزلة الساعة المذهلة عن الرضاعة ‪ ،‬مع‬
‫أحد ‪.‬‬
‫وقد ذهب بعض األوائل ‪ ،‬أن العالم أبدا نازل ‪ ،‬يطلب بنزوله من أوجده ‪ ،‬حين و هحده ‪.‬‬
‫والحق ال ينتهي ‪ ،‬فمن أول حركة ‪ ،‬كان ينبغي أن يعتكف عليه ‪ ،‬ألنه ج هل أن تقطع‬ ‫ه‬ ‫‪.‬‬
‫إليه المسافات المحقهقة ‪ ،‬فكيف المتو ههمة ؟‬
‫رسوم معلهمة ‪ ،‬وأسرار مكتهمة‬
‫بيوت مظلمة ‪ ،‬وألسنة غير مفهمة‬
‫ألن الخيال ‪ ،‬يخيهل العلم به والمقال !‬
‫فأين تذهبون ‪ ،‬أو ماذا تطلبون ؟‬
‫يقول العارف ألبي يزيد ‪ « :‬الذي تطلبه تركته ببسطام » فدلهه على المقام ‪ .‬فإن العبد‬
‫يسار به في حال إقامته ‪ ،‬إما إلى دار إهانته ‪ ،‬وإما إلى دار كرامته ‪.‬‬

‫ومن ذلك اإليثار ليس من صفات علماء األسرار من الباب ( ‪: ) 333‬‬


‫ما هو لك ‪ ،‬فما تقدر على دفعه ‪ .‬وما ليس لك ‪ ،‬فما لك استطاعة على منعه ‪ ،‬فأين اإليثار‬
‫؟ واألمر أمانة ‪ ،‬فأدهها إلى أهلها قبل أن تسلبها وتوصف بالخيانة ‪.‬‬
‫فاعطها عن رضى قلبك ‪ ،‬تفز برضى ربهك ‪ ،‬فهؤالء هم األحياء وإن ماتوا ‪:‬‬
‫الحق عينهم * هم األحياء إن عاشوا وإن ماتوا‬ ‫ه‬ ‫هّلل قوم وجود‬
‫األعز أال يدرون أنههم * هم وال ما هم هإال إذا ماتوا‬
‫ه‬ ‫هم‬
‫درهم من سادة سلفوا * وخلهفونا على اآلثار إذ ماتوا‬ ‫هّلل ه‬
‫ال يأخذ القوم نوم ال وال سنة * وال يؤدهم حفظ ولو ماتوا‬
‫إن القوم ما ماتوا‬‫باّلل ه‬
‫فكيف بالشهمس لو أبدت محاسنهم * أقسمت ه‬
‫ّللا أخبرنا * عن مثلهم ‪ ،‬أنههم ه‬
‫وّللا ما ماتوا‬ ‫إن ه‬ ‫وكنت تصدق ‪ ،‬ه‬
‫أحياء لم يعرفوا موتا وما قتلوا * في معرك وذووا رزق وقد ماتوا‬
‫فلو تراهم سكارى في محاربهم * لقلت إنههم األحيا وإن ماتوا‬
‫ّللا يحييهم به إذا ماتوا‬
‫شرفهم * ه‬‫ّللا ه‬
‫كرمهم ‪ ،‬ه‬
‫ّللا ه‬
‫ه‬
‫لقد رأيتهم كشفا وقد بعثوا * من بعد ما قبروا ‪ ،‬من بعد ما ماتوا‬

‫‪62‬‬
‫شرح مشكالت الفتوحات المكية البن العربي ص ‪63‬‬

‫ومن ذلك ‪ ،‬من وعظه النوم من القوم ؛ من الباب ( ‪: ) 374‬‬


‫قال ‪ :‬من أراد أن يعرف حاله بعد الموت ‪ ،‬فلينظر في حاله إذا نام هو ‪ ،‬وبعد النوم ‪.‬‬
‫ّللا لنا ذلك مثال ؛ وكذلك ضرب اليقظة من النوم ‪،‬‬ ‫فالحضرة واحدة ‪ ،‬وإنما ضرب ه‬
‫كالبعث من الموت ‪ ،‬لقوم يعقلون ‪.‬‬
‫ّللا عن الجمع بين األختين ‪ ،‬والجمع يجوز بين‬ ‫وقال ‪ :‬الدنيا واآلخرة أختان ‪ ،‬وقد نهى ه‬
‫ضرتان ! لكن لما كان في اإلحسان إلى إحدى األختين بالنكاح ‪،‬‬ ‫ه‬ ‫الض ههرتين ‪ ،‬فما هما‬
‫ضرتان ‪ ،‬فتنبهه ‪.‬‬
‫إضرار باألخرى ؛ لذلك قيل فيهما ه‬

‫وقال ‪ :‬سفينتك مركبك ‪ ،‬فاخرقه بالمجاهدة ‪.‬‬


‫وغالمك هواك ‪ ،‬فاقتله بسيف المخالفة ‪.‬‬
‫وجدارك عقلك ‪ -‬ال ‪ ،‬بل األمر المعتاد في العموم ‪ -‬فأقمه تستر به كنز المعارف‬
‫اإللهية عقال وشرعا ‪ ،‬حتى يبلغ الكتاب أجله ‪ ،‬إذا بلغ عقلك وشرعك فيك أشدههما ‪،‬‬
‫وتو هخيا ما يكون من المنفعة في حقههما ‪ ،‬وما أريد بالشرع إال اإليمان ‪ ،‬فإن العقل‬
‫واإليمان ‪ :‬نور على نور ‪.‬‬

‫الرحلة عن كل نحلة ؛ من الباب ( ‪: ) 375‬‬ ‫صل ‪ :‬صاحب ه‬ ‫ومن ذلك ‪ ،‬ما يح ه‬


‫ّللا تعالى ‪ ،‬جهل به تعالى ‪ .‬فلو رأى وجه الحق في كل‬ ‫قال ‪ :‬الرحلة من األكوان إلى ه‬
‫شيء ‪ ،‬لعرف قوله تعالى ‪َ :‬و ِل ُك هل ِو ْج َهة ُه َو ُم َو ِلهيها[ البقرة ‪ ] 148 :‬وقوله ‪:‬فَأ َ ْينَما ت ُ َولُّوا‬
‫عةً َو ِم ْنهاجا ً[ المائدة ‪] 48 :‬‬ ‫ّللا[ البقرة ‪ ] 115 :‬وقوله ‪ِ :‬ل ُك هل َجعَ ْلنا ِم ْن ُك ْم ِش ْر َ‬
‫فَث َ َّم َو ْجهُ َّ ِ‬
‫‪:‬و ِم ْنهاجاً[ المائدة ‪. ] 48 :‬‬ ‫على االعتبارين في قوله َ‬
‫وقال ‪ :‬الظلمة دليل على علم الغيب ‪ ،‬والنور دليل على عالم الشهادة ‪ .‬فالليل لباس ؛‬
‫فأنت الليل ‪ ،‬والنهار للحركة ‪ ،‬فهو للحق ‪ .‬شؤنة الحركة حياة ‪ ،‬وهي حقهية ؛ والسكون‬
‫ي ‪ ،‬ومع هذا ‪ ،‬فله ما سكن بالوجهين ‪ -‬من السكون والثبات ‪ -‬ولك ما‬ ‫موت ‪ ،‬فهو خلق ه‬
‫تحرك بالوجهين ‪ :‬من ‪ ،‬وإلى ‪ ،‬وال اعتبار لليل وال لنهار ‪ ،‬فله ما فيها من حكم اإليجاد‬ ‫ه‬
‫؛ ولك ما فيها من االنتفاع ‪ .‬والنوم راحة بدنية ‪ ،‬ومكاشفات عينية غيبية ‪.‬‬
‫ّللا فيها سعد ‪،‬‬ ‫وقال ‪ :‬إرداف النعم وتواليها ‪ ،‬إرفاد الحق ومنحه لعباده ‪ ،‬فمن اتقى ه‬
‫ومن لم يتهق ه‬
‫ّللا فيها شقي ‪.‬‬
‫الحق ال تحجير عليها ‪ ،‬فال تقل ‪ :‬لم نعط ‪،‬‬ ‫ه‬ ‫وقال ‪ :‬مواهب‬
‫الحق يقول ‪ :‬لم تأخذ ‪ .‬الدليل ما ورد من التكليف ‪. .‬‬ ‫ه‬ ‫فإن‬
‫قيل لك " ال تفعل " فعلت ‪ ،‬قيل لك " افعل " لم تفعل ‪ ،‬هكذا األمر !‬

‫ومن ذلك ؛ الفرق في الوحي ‪ ،‬بين التهحت والفوق ‪ . .‬من الباب ( ‪: ) 376‬‬
‫قال ‪ :‬إذا قام المكلهف بما خاطبه به رسوله ‪ ،‬من حيث ما بلهغه عن ربهه ‪ -‬ال من حيث‬
‫ه‬
‫الحق به في ميزان قيامه ‪،‬‬ ‫ما ه‬
‫سن له ‪ -‬فما دخل له ‪ ،‬مما أتحفه‬

‫‪63‬‬
‫شرح مشكالت الفتوحات المكية البن العربي ص ‪64‬‬

‫فذلك ‪ :‬العلم المكتسب ‪ ،‬وما خرج عن ميزانه ‪ ،‬وال يقبله ميزان عمله ‪،‬‬
‫فذلك ‪ :‬علم الوهب اإللهي ‪.‬‬
‫ي فتحه ‪. .‬‬
‫ّللا ‪ ،‬والوهب ه‬
‫ي نصر ه‬ ‫فالعلم الكسب ه‬
‫بحق ما كلهف ؛ وإذا‬
‫ه‬ ‫ّللا َو ْالفَتْ ُح( ‪ [ ) 1‬النهصر ‪ ، ] 1 :‬علم أنه قد قام‬
‫ص ُر َّ ِ‬‫فإِذا جا َء نَ ْ‬
‫سيهة والعقلية ‪-‬‬
‫انقادت إليه قواه ‪ -‬الح ه‬
‫ّللا على ما‬
‫ب ؛ فليشكر ه‬‫الر ه‬
‫ّللا ‪ ،‬ال صراط ه‬ ‫فمشت معه على طريقه ‪ ،‬الذي هو صراط ه‬
‫خوله به وحباه ‪.‬‬ ‫ه‬
‫ّللا إياه ‪ ،‬كما خفي عنهم موافقة الملك ربهه‬
‫وقال ‪ :‬خفي عن الناس طاعة إبليس ‪ ،‬بلعنة ه‬
‫ّللا عليهم ورضاه عنهم ‪.‬‬ ‫‪ -‬في خالفة آدم ‪ -‬بثناء ه‬

‫ومن ذلك ؛ االستقصاء ‪ ،‬هل يمكن فيه اإلحصاء ‪ . .‬من الباب ( ‪: ) 383‬‬
‫قال ‪ :‬إذا رأيت من يتبرأ من نفسه ‪ ،‬فال تطمح فيه ‪ ،‬فإنه منك أشد تبرؤا ‪ .‬فافهم !‬
‫ّللا ‪ . .‬فيا لها من مصيبة !‬
‫وقال ‪ :‬ما ث هم ثقة بشيء ‪ ،‬لجهلنا بما في علم ه‬
‫وقال ‪ :‬ما ث هم هإال اإليمان ‪ ،‬فال تعدل عنه ‪ .‬وإيهاك والتأويل فيما أنت به مؤمن ‪ ،‬فإنك ما‬
‫تظفر منه بطائل ‪ ،‬ما لم يكشف لك عينا ‪.‬‬
‫وقال ‪ :‬اجعل أساس أمرك كله على اإليمان والتقوى ‪ ،‬حتى تبين لك األمور ‪ ،‬فاعمل‬
‫بحسب ما بان لك ‪ ،‬وسر معها إلى ما يدعوك إليه ‪.‬‬
‫وقال ‪ :‬اجعل زمامك يد الهادي ‪ ،‬وال تتلكأ ‪ ،‬فيسلهط عليك الحادي ‪ ،‬فتشقى شقاء األبد ‪.‬‬
‫وقال ‪ :‬من كانت داره في الدنيا الجنان ‪ ،‬خيف عليه ‪ ،‬وبالعكس ! ‪.‬‬

‫ومن ذلك ‪ ،‬من خيهرك ‪ ،‬فقد حيهرك ‪ ،‬من الباب ( ‪: ) 400‬‬


‫قال ‪ :‬ما دعا المأل األعلى إلى الخصام ‪ ،‬إال التخيير في الكفهارات ‪.‬‬
‫التخيير حيرة ‪ ،‬فإنه يطلب األرجح أو األيسر ‪ ،‬وال يعرف ذلك إال بالدليل ‪ ،‬ففدية من‬
‫صيام أو صدقة أو نسك ‪ ،‬فكفارته إطعام عشرة مساكين من أواسط ما تطعمون أهليكم‬
‫‪ ،‬أو كسوتهم ‪ ،‬أو تحرير رقبة ‪.‬‬
‫الحق في أمور ‪ ،‬فانظر إلى ما قدهم منها بالذكر ‪ ،‬فاعمل به ‪ ،‬فإنه ما‬ ‫ه‬ ‫وقال ‪ :‬إذا خيهرك‬
‫قدهمه حتى تهمم به وبك ‪ ،‬فكأنه نبههك على األخذ به ‪.‬‬
‫ّللا عليه وسلم‬ ‫ّللا صلى ه‬ ‫ما تزول الحيرة عن التخيير ‪ ،‬إال باألخذ بالمتقدهم ‪ .‬تال رسول ه‬
‫ّللا[ البقرة ‪ ] 158 :‬ثم‬ ‫صفا َو ْال َم ْر َوة َ ِم ْن شَعائِ ِر َّ ِ‬
‫حين أراد السعي في ح هجة الوادع ‪ِ :‬إ َّن ال َّ‬
‫ّللا به » فبدأ بالصفا ‪. .‬‬ ‫قال ‪ « :‬أبدأ بما بدأ ه‬
‫ّللا أ ُ ْس َوة َح َ‬
‫سنَة [‬ ‫سو ِل َّ ِ‬ ‫وهذا عين ما أمرتك به إلزالة حيرة التخيير ؛لَقَ ْد كانَ لَ ُك ْم فِي َر ُ‬
‫األحزاب ‪. ] 21 :‬‬
‫ومن ذلك ؛ مزلهة األقدام ‪ ،‬في بعض أحكام العقول واألحالم ‪ . .‬من الباب ( ‪: ) 407‬‬
‫ّللا من حيث ما شرع ‪ ،‬ال من حيث ما عقل من طريق النظر ‪.‬‬‫قال ‪ :‬العارف من عبد ه‬

‫‪64‬‬
‫شرح مشكالت الفتوحات المكية البن العربي ص ‪65‬‬

‫وقال ‪ :‬العقل قيهد موجده ‪ ،‬والشرع والكشف أرسله ‪ ،‬وهو هّلل الحق ! ‪.‬‬
‫ي ‪ ،‬ال يشعر به إال أهل الكشف والوجود ‪.‬‬ ‫وقال ‪ :‬للهوى في العقل حكم خف ه‬
‫ّللا‬
‫وقال ‪ :‬أثر األوهام في النفوس البشرية ‪ ،‬أظهر وأقوى من أثر العقول ‪ ،‬إال من شاء ه‬
‫‪.‬‬
‫ّللا بنا ‪ ،‬أنه رفع عنا المؤاخذة بالنسيان ‪ ،‬والخطأ ‪ ،‬وما نحدث به‬
‫وقال ‪ :‬من رحمة ه‬
‫أنفسنا ‪ ،‬فلو أخذنا بما ذكرنا لهلك الناس ‪.‬‬
‫وقال ‪ :‬ما س هميت العقول عقوال ‪ ،‬إال لقصورها على من عقلته ‪ -‬من العقال ‪ -‬فالسعيد‬
‫من عقهله الشرع ‪ ،‬ال من عقهله غير الشرع ‪.‬‬

‫ومن ذلك ‪ ،‬تنبيه ‪ :‬ال تضاهي النور اإللهي ‪ . .‬من الباب ( ‪: ) 420‬‬
‫واحد[‬
‫ّللا إِله ِ‬
‫شورى ‪ ] 11 :‬إنما ه‬ ‫ْس َك ِمثْ ِل ِه َ‬
‫ش ْيء[ ال ه‬ ‫الحق ال يضاهي ‪ ،‬ألنه لَي َ‬
‫ه‬ ‫قال ‪:‬‬
‫البقرة ‪ ] 163 :‬فأين المضاهى ؟ ‪.‬‬
‫وقال ‪ :‬صفات التشبيه مضاهاة مشروعة ‪ ،‬فما أنت ضاهيت ! ‪.‬‬
‫وقال ‪ :‬العقل ينافي المضاهاة ‪ ،‬والشرع يثبت وينفي ‪ ،‬واإليمان بما جاء به الشرع هو‬
‫ّللا له ! ‪.‬‬ ‫شرع ه‬ ‫السعادة ‪ ،‬فال يتعدى العاقل ما ه‬
‫وقال ‪ :‬العاقل من هجر عقله ‪ ،‬واتهبع شرعه بعقله من كونه مؤمنا ‪.‬‬
‫وقال ‪ :‬أكمل العقول ‪ ،‬عقل ساوى إيمانه ‪ ،‬وهو عزيز ‪.‬‬
‫تصرف العقل ما كان عقال ‪ ،‬فالتصريف للعلم ال للعقل ‪.‬‬ ‫ه‬ ‫وقال ‪ :‬لو‬
‫وقال ‪:‬‬
‫لب ولأللباب أحالم * وللنههى في وجود الكون أحكام‬ ‫للعقل ه‬
‫تمضي اللهيالي مع األنفاس في عمه * للخوض فيه ‪ ،‬وأيهام وأعوام‬
‫وما لنا منه من علم ومعرفة * هإال القصور وأقدام وإيهام‬
‫باّلل نفي العلم عنك به * فك هل ما نحن فيه فهو أوهام‬ ‫العلم ه‬
‫وقال ‪ :‬العاقل ‪ ،‬من لعقله أعقل أنه ال يعقل ‪ ،‬فمتى عقلت جهلت ‪.‬‬

‫ومن ذلك ‪ ،‬من أبى أن يكون من النقباء ‪ . .‬من الباب ( ‪: ) 456‬‬


‫سنُ ِري ِه ْم‬ ‫باّلل من نفسه ‪ ،‬لما سمع قوله ه‬
‫عز وج هل ‪َ :‬‬ ‫قال ‪ :‬النقيب ‪ ،‬من استخرج كنز المعرفة ه‬
‫ْص ُرونَ ( ‪) 21‬‬ ‫صلت ‪ ] 53 :‬وقوله ‪َ :‬وفِي أ َ ْنفُ ِس ُك ْم أ َ فَال تُب ِ‬‫ق َوفِي أ َ ْنفُ ِس ِه ْم[ ف ه‬
‫آياتِنا فِي ْاآلفا ِ‬
‫ّللا عليه وسلم ‪ « :‬من عرف نفسه عرف ربهه‬ ‫[ الذهاريات ‪ ] 21 :‬وقول رسول ه‬
‫ّللا صلى ه‬
‫»‪.‬‬
‫وقال ‪ :‬من أبى أن تكون له مثل هذه المعرفة ‪ . .‬لم يكن من النقباء ‪.‬‬
‫باّلل من حيث نظره‬ ‫وقال ‪ :‬لما علم أن بين الدليل والمدلول وجها رابطا ‪ ،‬زهد في العلم ه‬
‫باّلل ‪. .‬‬ ‫في الدليل ‪ -‬وليس سوى نفسه ‪ -‬وكان م همن عرف نفسه ه‬
‫وقد ذهب إلى ذلك جماعة من أصحاب النظر ‪ ،‬مثل أبي حامد ‪ ،‬ولكن لنا في ذلك طريقة‬
‫غير طريقتهم ‪.‬‬

‫‪65‬‬
‫شرح مشكالت الفتوحات المكية البن العربي ص ‪66‬‬

‫فإن الذي ذهبوا إليه في ذلك ال يص هح ‪ ،‬والذي ذهبنا إليه يص هح ؛ وهو أن نأخذ العلم به‬
‫ه‬
‫الحق جميع قوانا فنعلمه به ‪ ،‬فنعلم عند ذلك نفوسنا‬ ‫إيمانا ‪ ،‬ثم نعمل عليه ‪ ،‬حتى يكون‬
‫به ‪ ،‬بعد علمنا به ‪. .‬‬
‫باّلل ‪.‬‬
‫ّللا في تقدهم العلم ه‬
‫وهذه طريقة أهل ه‬

‫ومن ذلك ‪ :‬دين األنبياء واحد ‪ ،‬ما ث هم أمر زائد ؛ وإن اختلفت الشرائع ‪ ،‬فث هم أمر جامع ‪:‬‬
‫الدهين عند األنبياء وحيد * ومقامه بين األنام شديد‬
‫تفطنوا لرحيله * عنهم وقام لهم بذاك شهيد‬ ‫الرجال ه‬ ‫فإذا ه‬
‫مهطعين لعلهه * يوما بقصدهم إليه يعود‬ ‫ه‬ ‫جاؤوا إليه‬

‫ّللا أبغض إليه من الطالق ‪ ،‬وهو بيد‬


‫يتفرق فيه ‪ .‬ما خلق ه‬ ‫قال ‪ :‬هو إقامة الدين ‪ ،‬وأن ال ه‬
‫من أخذ بالساق ‪ ،‬فلماذا يقصد إلى البغيض مع هذا التعريض ؟ ‪.‬‬
‫نكاح عقد وعرس شهدوا ‪ ،‬بتنا ببكر صهبا ؛ في ل هجة عمياء ‪.‬‬
‫زوجت بأبدانها ‪ ،‬ولم يكن ناكحها غير أعيانها ‪.‬‬ ‫نفوس ه‬
‫الت ِحينَ َمناص[ ص ‪. ] 3 :‬‬ ‫ثم أنه مع التكدهر واالنتقاص ‪َ ،‬و َ‬
‫عجاب[ ص ‪ ] 5 :‬وأعجب من ذلك ؛ "جبال‬ ‫ش ْيء ُ‬ ‫ثم مع هذا يدعو ويجاب إِ َّن هذا لَ َ‬
‫َت أَبْوابا"ً ذات "حبك " وبروج ‪ ،‬وأرواح لها‬
‫سرابا ً "ووسماء فتحت فَكان ْ‬ ‫سيهرت" فَكان ْ‬
‫َت َ‬
‫ووما لَها ِم ْن فُ ُروج[ ق ‪] 6 :‬‬ ‫فيها نزول وعروج ‪َ ،‬‬
‫فأين الولوج وأين الخروج ‪ ،‬وأين النزول ‪ ،‬وأين العروج ‪.‬‬
‫ْصار[ الحشر ‪. ] 2 :‬‬‫هذا موضع االعتبار ‪،‬فَا ْعت َ ِب ُروا يا أُو ِلي ْاألَب ِ‬
‫زوجنا به لبهيج ‪.‬‬‫وّللا ‪ ،‬إن أمرا نحن فيه لمريج ‪ ،‬وإن زوجا ه‬ ‫ه‬
‫سقف مرفوع ‪ ،‬ومهاد موضوع ‪.‬‬
‫ووتد مفروق ‪ ،‬ووتد مجموع ‪.‬‬
‫ظلمة ونور ‪،‬‬
‫وبيت معمور ‪،‬‬
‫وبحر مسجور ‪،‬‬
‫ومياه تغور ‪ ،‬ومراجل تفور‬
‫فار التهنهور ‪ ،‬واتهضحت األمور‬
‫نجوم مشرقة ‪ ،‬ورجوم محرقة ‪.‬‬
‫شهب ثواقب ‪ ،‬وشهب ذات ذوائب ‪.‬‬
‫كلهما نجمت ‪ ،‬ذهبت ! ‪.‬‬
‫يا ليت شعري ‪ :‬ما الذي أنارها ‪ ،‬وما الذي أوجب شرارها ‪.‬‬
‫وأخواتها ثوابت ال تزول ‪،‬‬
‫في طلوع وأفول ‪.‬‬
‫ليل عسعس ‪ ،‬فظهرت كواكبه ‪.‬‬

‫‪66‬‬
‫شرح مشكالت الفتوحات المكية البن العربي ص ‪67‬‬

‫وصباح تنفهس ‪ ،‬فضحه راكبه ‪.‬‬


‫جوار خنهس في مجاريها ‪ ،‬وظباء كنهس لتحفظ ما فيها ‪.‬‬
‫ليل ونهار ‪ ،‬أنجاد وأغوار ‪ ،‬إبدار وإسرار ‪.‬‬

‫يا أهل األفكار ‪:‬‬


‫أقسم نجيهكم قسما ال لغو فيه وال ثنيا ‪ ،‬إن الذي جاء بهذا كله لصادق ‪.‬‬
‫يؤمن به ‪ -‬ال بل يعلمه ‪ -‬الظالم لنفسه ‪ ،‬والمقتصد ‪ ،‬والسابق ؛ شخص من الجنس ‪ ،‬أيهد‬
‫بروح القدس ‪.‬‬
‫قيل له ‪ :‬بلهغ ‪ ،‬فبلهغ ‪ .‬وذكر ‪ ،‬فأبلغ‬
‫ه‬
‫بالحق على الباطل ‪ ،‬فد همغ ! ‪.‬‬ ‫وقذف‬
‫فزهق الباطل ‪ ،‬وتحلهى العاطل ‪.‬‬
‫نشأة اآلخرة ‪ ،‬ردهه في الحافرة ‪.‬‬
‫سد ‪ . .‬مع التهقيهد ؟ !‬
‫كيف يكون التهج ه‬
‫إن كان نفس األمر انقالب عين ‪ ،‬فقد جهل الكون ‪.‬‬
‫وإن كان في النظر ‪ ،‬فهو من مغالط البصر ‪. .‬‬
‫فإذا انبهم األمر ‪ ،‬وأشكل ‪ ،‬فما لك إال أن تتو هكل ! ‪.‬‬
‫ّللا وأنت محسن ‪ ،‬تكن م همن استمسك بالعروة الوثقى ‪ ،‬فإنه خير لك‬ ‫فأسلم وجهك إلى ه‬
‫وأبقى ‪.‬‬
‫ّللاُ َخيْر َوأَبْقى[ طه ‪. . ] 73 :‬‬ ‫وكن مع الرعيل الذي خطب بقوله ‪َ :‬و َّ‬
‫تكن السعيد ‪ ،‬الذي ال يشقى ‪.‬‬
‫فإن نزلت عن هذه الدرجة ‪ ،‬فانزل إلى ‪َ :‬و ْاآل ِخ َرة ُ َخيْر َوأَبْقى( ‪ [ ) 17‬األعلى ‪:‬‬
‫‪. . ] 17‬‬
‫فإنهم ‪ ،‬وإن كانوا سعداء ‪ ،‬فإنه ال يستوي المؤمنون الميهتون على فرشهم ‪ ،‬والشهداء ‪.‬‬
‫فلكل علم رجال ‪ ،‬ولكل مقام حال ‪.‬‬
‫ولكل بيت أهل ‪ ،‬ومع كل صعب سهل ‪.‬‬
‫وهذا القدر كاف في هذا الباب ‪ ،‬لمن علم فطاب ‪ ،‬وأوتي الحكمة وفصل الخطاب ‪.‬‬
‫انتهى الباب ‪ ،‬بانتهاء المجلدة الخامسة والثالثين من هذا الكتاب والحمد هّلل ‪ ،‬وصلهى‬
‫على محمد رسوله ‪ .‬بخط منشىء هذا الكتاب ‪.‬‬
‫*‬

‫‪67‬‬
‫شرح مشكالت الفتوحات المكية البن العربي ص ‪68‬‬

‫فهرس شرح مشكالت الفتوحات المكية‬

‫ص‪2‬‬ ‫‪ - 01‬مقدمة الشيخ عبد الكريم الجيلي‬


‫ص‪3‬‬ ‫‪ - 02‬الباب األول ‪ :‬نحن ؛ مح هل انجالء ك هل شيء ‪ ،‬وظهوره‬
‫ص ‪10‬‬ ‫‪ - 03‬الباب الثاني ‪ :‬هيهات ‪ . .‬أنهى يسع الكون ذلك !‬
‫ص ‪18‬‬ ‫ّللا وبين العالم‬
‫‪ - 04‬الباب الثالث ‪ :‬ما ث هم أمر فاصل بين ه‬
‫‪ - 05‬الباب الرابع ‪ :‬ما هذه المظاهر المشهودة ‪ ،‬هإال عين ال هظاهر فيها ؛ وهو ه‬
‫ّللا‬
‫ص ‪22‬‬
‫ص ‪30‬‬ ‫دوري ‪ ،‬يعود إلى ما بدأ !‬
‫ه‬ ‫‪ - 06‬الباب الخامس ‪ :‬األمر‬
‫‪ - 07‬الباب السادس ‪ :‬جرى بنا جواد البنان في هذا البيان حتهى أظهر ما لم يخطر‬
‫ص ‪34‬‬ ‫إظهاره في الجنان‬
‫للروح الهتي هي النهور المظهر لألشياء كلهها‬
‫‪ - 08‬الباب السابع ‪ :‬الجسم هو المظهر ه‬
‫ص ‪37‬‬
‫ص ‪44‬‬ ‫‪ - 09‬الباب الثامن ‪ :‬وصار خرق العادة له عادة‬
‫أول من خالف في‬
‫أول من خالف في األمر وآدم ه‬
‫‪ - 10‬الباب التاسع ‪ :‬إبليس ه‬
‫النههي! ص ‪48‬‬
‫‪ -11‬الباب العاشر ‪ :‬مرتبة اإلنسان الكامل عندي فوق مرتبة المالئكة ص ‪51‬‬
‫ص ‪54‬‬ ‫‪ -12‬مقتطفات من الباب ‪ 559‬من الفتوحات المكية‬
‫ص ‪68‬‬ ‫‪ - 13‬فهرس شرح مشكالت الفتوحات المكية‬

‫‪68‬‬

You might also like