Professional Documents
Culture Documents
اخلطابات العنصرية
قراءات نقدية
رئيس التحرير
أ .د .عماد عبد اللطيف
2
نبذة عن املجلة
مجلة خطابات دورية علمية نصف سنوية ،تُعنى بنشر دراسات الخطاب،
تنشر دراسات تطبيقية في الخطابات المختلفة؛ الدينية ،والسياسية ،واألدبية،
واالجتماعية ،واإلعالمية ،والتربوية ،والرياضية ،واإلشهارية ،وغيرها .كما تنشر
دراسات نظرية في منهجيات تحليل الخطاب مثل التحليل النقدي للخطاب،
وتحليل المحادثة ،وتحليل السرد ،ودراسات الحجاج ،وبالغة الجمهور،
وغيرها .تُرحب المجلة ،على وجه الخصوص ،بالدراسات البينية التي توظف
مناهج تكاملية تدمج بين التحليل اللساني ،والبالغي ،والتواصلي ،والسياسي،
واالجتماعي ،والنفسي ،وغيرها .لغة النشر الرئيسة في المجلة هي العربية،
وتقبل المجلة منشورات باإلنجليزية والفرنسية في بعض أعدادها.
تسعى مجلة خطابات أن تكون نقطة التقاء باحثي الخطاب في العالم العربي.
تمكنهم من التعريف ببحوثهم ،ومشاريعهم فهي تقدم نافذة نشر متخصصة ّ
العلمية؛ من خالل نشر المقاالت المحكمة ،ومراجعات الكتب ،وتقارير ّ
المؤتمرات والفعاليات األكاديمية ،وملخصات رسائل الماجستير والدكتوراه
جسرا بين
ً وثيقة الصلة .عالوة على ذلك ،تسعى مجلة خطابات أن تكون
دراسات الخطاب في العالم العربي وخارجه؛ عبر نشر تراجم متخصصة،
ومراجعات لكتب منشورة بلغات غير العربية ،ومتابعات لواقع حقل تحليل
الخطاب خارج العالم العربي.
3
شروط نشر املقاالت يف املجلة
منشورا ،أو مقد ًما للنشر إلى أية وسيلة نشر أخرى ،إلكترونية أو مطبوعة.
ً .1أال يكون البحث
.2أن ُير َفق بالبحث ملخصان أحدهما باللغة العربية واآلخر باإلنجليزية أو الفرنسية ،في حدود 150
لكل منهما ،وأن يتضمن البحث خمس كلمات مفتاحية. كلمة ٍّ
.3أن يكتب البحث بخط Traditional Arabicمقاس المتن ،14ومقاس الهامش .12
.4أن ُيشار إلى الهامش واإلحاالت أسفل كل صفحة ،على أن تعرض قائمة المصادر والمراجع في
هجائيا بحسب اسم الشهرة.
ً نهاية المقال مرتبة
.5أن تترك مسافة 1سم بين األسطر ،وتكون هوامش الصفحة 2سم من كل الجهات.
.6أن ُيرسل البحث في ملف وورد ،على أن تتضمن الورقة األولى لمادة النشر المعلومات الشخصية
العلمية التي يتبع لها ،ورقم هاتفه،
ّ للباحث :اسمه ولقبه ،ورتبته األكاديمية ،وتخصصه ،والمؤسسة
وبريده اإللكتروني.
.7تتبع المقاالت المكتوبة بالفرنسية واإلنجليزية ـ«نظام شيكاغو» للتوثيق https://www.
.chicagomanualofstyle.org/tools_citationguide.html
.8توضع الصور ،والخرائط ،والجداول والرسوم البيانية في متن المقال ،على أن تتضمن مصادرها،
والروابط المشيرة لها.
.9المقاالت المنشورة في المجلة ال تعبر إال عن رأي صاحبها.
.10يتراوح حجم البحث ما بين 10000 - 5000كلمة ،بما في ذلك الجداول والمرفقات من هوامش
ومصادر ومراجع.
رفق الباحث مع بحثه تعهدً ا يفيد بأن بحثه أصيل ،وال يتضمن أي انتهاك لقواعد األمانة العلمية .11ي ِ
ُ
المتعارف عليها .وفي حال ثبوت ما يخالف ذلك ،تقوم المجلة بإخطار الجامعة أو المؤسسة التي
يعمل بها الباحث بواقعة السرقة ،ويوضع في قائمة سوداء ُيحظر التعامل معها الحقًا.
.12يحق لهيئة التحرير إجراء تعديالت على المادة المقدمة للنشر ،متى لزم األمر.
يحكم البحوث أساتذة مختصون ،و ُينشر البحث إذا وافق على نشره محكمان اثنان على األقل. ّ .13
.14في حالة إبداء مالحظات من طرف المحكمين ،ترسل المالحظات إلى الباحثين إلجراء التعديالت
الالزمة خالل مدة أقصاها أسبوعان.
.15ترسل المقاالت إلى البريد االلكتروني التاليMajalat.khitabat@gmail.com :
4
محتوى العدد
افتتاحية العدد
8 عن دور المعرفة في التعافي من أمراض جامعة قطر (قطر) أ .د .عماد عبد اللطيف
الخطاب
5
الصفحة عنوان البث االنتساب األكاديمي اسم الباحث
بالغة الجمهور
مركز الدراسات
161 قراءة من منظور الدعاية التقليدية حيدر إبراهيم المصدّ ر
اإلقليمية/غزة
والمستجدة
6
تتوجه جمةل خطاابت ابلشكر والامتنان لألساتذة املشاركني
لألساتذة املشاركني والامتنان
هذا العدد ابلشكرمقاالتخطاابت حتكمي
يف تتوجه جمةل
تيبهذا العدد
األجبدي مقاالت
وفق الرت يفومهحتكمي
تيبجربي
األجبدي إدريس ومه د.
وفق الرت
أمحدجربي
نتوف إدريس د .د.
نتوف
إبراهيم د .د.بدرأمحد
حممد
إبراهيم
حممدالعوادي
بدر سعيد د .د.
العوادي سعيد
سالم دياب د .د.
صالحدياب
حاوي د.د.سالم
صالح حاوي
عبداملبدي أ.د.ضياء
عادلعبداملبدي
اجملداوي ضياء أ .أ.
اجملداوي
عبدالسالم د .أ .عادل
عبدالرمحن
عبدالسالم عبدالرمحن
عيسى برهومة د .د.
معتزبرهومة
سالمة عيسى د .د.
معتز سالمة
عبدالباسط عيد حممد د .د.
يطاويعيد
عبدالباسط
حممدحممد د .د.
منيةيطاوي
عبيدي حممد د .د.
نادرعبيدي
كاظم د .د.منية
د .نادر كاظم
7
افتتاحية العدد
عن دور املعرفة يف التعايف من أمراض اخلطاب
أكتب هذه االفتتاحية إثر إطاللة سريعة على صحافة يوم عادي هو 30يناير .2023
« -فتاة فرنسية تُحرم من المشاركة في بطولة كرة سلة محلية؛ ألنها ترتدي حجا ًبا» (موقع قناة الجزيرة).
« -مظاهرات في مدينة ممفيس األمريكية بسبب مقتل شاب أسود على يد الشرطة أثناء القبض عليه
بتهمة ارتكاب مخالفة مرورية»( ،بي بي سي).
« -دراسة تكشف عن ميل أصحاب العمل إلى عدم توظيف من هم فوق 50عا ًما» (بي بي سي)...إلخ.
يوم عادي ،وأخبار عادية ،ال تعلو وجوه قارئيها دهشة ،وال يضطرب لهم بسببها جفن .فاألخبار السابقة
جزء من حياتنا اليومية ،اكتسبت «عاديتها» من تراث طويل من شرعنة العنصرية والتمييز .في قريتي كان
المحتفلون باألعراس يرددون أغنية تقول «ما جالنا جواب امبارح...إن البنات غاليين/السوداء بأربعة
عشر/والبيضاء بأربعين ،»..وغيرها من األغاني واألمثال الشعبية التي تُمعن في عنصريتها من كل وجه
وسبيل .وحين أفكر في األلقاب والصفات التي كان أطفال قريتي يطلقونها على أطفال آخرين استنا ًدا إلى
لونهم أو دينهم أو عرقهم أو نوعهم ،أشعر بالخجل من تلك العنصرية الممارسة بال خجل وال وجل في
ذاك الزمان البعيد.
مقتصرا على ممارسات أطفال القرى البعيدةً لم يعد تداول الخطابات العنصرية في عالمنا الراهن
ملمحا من مالمح الحياة اليومية لفاعلين اجتماعيين في كثير من ً غير الواعين بجريمتهم ،بل يكاد يكون
المجتمعات ،يتربع بعضهم على مقاعد الحكم ،ويرتدون تيجان العروش .وليست الشعبية المتصاعدة
مظهرا من مظاهر تغلغل العنصرية والتمييز في
ً لخطابات اليمين المتطرفة في معظم دول العالم الراهن إال
نسيج عالمنا الراهن.
تتطلب مواجهة العنصرية إنجاز بحوث علمية تفحص ماهية الخطاب العنصري ،ومحفزات إنتاجه،
وعوامل انتشاره ،وطرقة عمله ،وسبل مقاومته .فالوعي بالظلم شرط مقاومته .وما ال نعيه ونعرفه ،ال
يمكننا تغييره وتحديه .وانطال ًقا من هذا التقدير لدور المعرفة في تحسين شروط حياة اإلنسان ،دعت
مجلة خطابات الباحثين في العلوم اإلنسانية واالجتماعية إلى تقديم دراسات علمية لظاهرة العنصرية في
محفزا على إنتاج مزيد
ً الخطاب العربي .على أمل أن يكون هذا العدد الخاص عن العنصرية في الخطاب
من البحوث المستقبلية .وبفضل تعاون مثمر مع العالم الجليل األستاذ الدكتور نادر كاظم أنجزنا هذا
العدد .وقد حرصنا على االلتزام بالمعايير الصارمة التي وضعتها مجلة خطابات لنفسها ،بما فيها تحكيم
8
9 اخلطاابت العنرصية :قراءات نقدية
علميا سر ًيا .وبالفعل فقد نشرنا أقل من 50%من البحوث التي وصلتنا .واستبعدنا ً تحكيما
ً البحوث
البحوث األخرى إما لضعف صلتها بمحور البحث أو تلبي ًة لتوصيات المحكمين .وخضعت بعض
البحوث المنشورة لتغييرات جذرية حتى تلبي توصيات المحكمين .وال يسع مجلة خطابات إال شكر
هؤالء المحكمين األجالء على جهودهم الكريمة في تحكيم البحوث.
استراتيجيا هو حث الباحثين العرب على إنجاز بحوث
ً وضعت مجلة خطابات لنفسها هد ًفا
ْ لقد
تفحص ما أسميه «أمراض الخطاب» .لتحقيق تلك الغاية ،تبنت مجلة خطابات خطة إنجاز أعداد خاصة
بأمراض الخطاب العربي مثل التالعب واالستبداد والقهر والكراهية والتمييز واإلقصاء وغيرها .بدأناها
بتخصيص عدد خطابات الثالث لدراسة التالعب في الخطاب ،وتخصيص عددها الخامس لدراسة
مخصصا لدراسة العنصرية
ً خطابات االحتالل والمقاومة في البلدان المحتلة .ويأتي هذا العدد السادس
في الخطاب ،يتبعه ،في صيف ،2023عدد خاص عن خطاب المجازر والجرائم ضد اإلنسانية التي
ارتكبها االستعمار في عالمنا العربي المنكوب .وتخطط المجلة إلصدار ثالثة أعداد حول خطاب الجوع،
وخطاب الكراهية ،وخطاب القهر .ونأمل أن تكون المعرفة العلمية الرصينة التي تحرص مجلة خطابات
على تقديمها للباحثين العرب مح ِّفزة على تقديم مزيد من الفحص العلمي ألمراض الخطاب ،وأن تكون
جهود مجلة خطابات شمعة في الطريق إلى عالم نبيل بديل.
رئيس التحرير
أ.د .عماد عبد اللطيف
تقدمي امللف
العنرصية يف لك ماكن!
د .نادر كاظم
أستاذ الدراسات الثقافية بجامعة البحرين سابقا
10
11 اخلطاابت العنرصية :قراءات نقدية
التنوع ً
أصل ،لكن الجديد في العنصرية التنوع البشري ،فهي موقف سلبي من هذا ّ فهي ممارسة قديمة قدم ّ
مسوغات جديدة للعنصرية.هو أشكال التبريرات والبحث عن ّ
لقرون طويلة ،قبل أن يجري تجريم العنصرية وخطاباتها في العصر الحديث ،قامت العنصرية على
ذاتيا .إن القول بأن السود «حيوانات» و«مجرمون» و«قبيحون» و«عبيد بالفطرة» ،هو جزء منتبرير نفسها ً
خطاب تبرير العنصرية تجاههم ،تما ًما كما يجري تبرير العنصرية تجاه العرب والمسلمين بأنهم «متعصبون»
و«متخلفون» و«رجعيون» و«بدو» و«إرهابيون بالفطرة» ،وينسحب األمر على العنصرية تجاه اآلسيويين
والالتينيين والسكان األصليين...إلخ .ال تتهم العنصرية نفسها .إن المتهم ،في خطابات العنصرية ،هو
«مبررة» ،أي أن
تلك األعراق والجماعات «المنحطة» ،وهذا يعني أن هذه العنصرية تجاههم عنصرية ّ
العنصريين ال يفترون عليهم حين يصفونهم -ويتعاملون معهم على هذا األساس -على أنهم أدني منهم
في كل شيء.
إال أن العنصرية عاجزة عن تبرير نفسها ما لم تطلب العون من االختزال والتنميط .إن العنصرية ذات
طبيعة اختزالية وتنميطية بالضرورة ،فهي ال تتعامل مع األفراد على أنهم ذوات مستقلة وقائمة بذاتها
وذوات شخصيات فريدة ،بل إنها تختزل هؤالء األفراد في أعراقهم وجماعاتهم وكياناتهم الكبيرة .وهو
اختزال تدعمه بنى وترتيبات اجتماعية وسياسية واقتصادية تعيد إنتاج التمايزات بين البشر (نحن وهم)،
المتعصبين إلى اختزال وجود البشر األفراد من لحم ودم ومشاعر وكرامة ومعرفة إلى ّ وتدفع بكثير من
كياناتهم الجماعية الكبرى كأعراق وإثنيات وطوائف وجماعات دينية وأنواع اجتماعية (رجال ونساء)
وطبقات ومناطق وجهويات...إلخ ،بحيث يكون التعامل مع الفرد على أنه نسخة مصغّ رة من هذه الكيانات
المنمطة .والمفارقة هنا أن وجود هذه الكيانات الجماعية يعتمد على تحويلنا كأفراد إلى تروسّ الجماعية
مجزأة -في آالتها الضخمة ،إال أن علينا ،في المقابل ،أن نتلقّى كامل الضربات التي – مجرد تروس ّ
أصل عن هذه الكيانات الجماعية (بماستنهال على رؤوسنا باسم هذه الكيانات ،وكامل الشرور التي تتو ّلد ً
التعصب الطبقي
ّ إننا مجرد نسخ مصغّ رة ومستنسخة) من العنصرية إلى الطائفية إلى األبوية الذكورية إلى
والمناطقي والقومي (الشوفيني).
هناك ضرب آخر من تبرير العنصرية ،وهو القول بأنها عنصرية طبيعية .فإذا كان الغرب عنصر ًيا تجاه
السود ،والعرب عنصريين تجاه السود ،ومعظم شعوب األرض عنصريين تجاه السود ،أال يعني هذا أن
التحيز تجاه النساء ،إذ يمكن للمتحيزين
ّ هذه هي طبيعة السود؟ وهذا ضرب من التبرير ينسحب حتى على
تجاه النساء أن يجادلوا ،خطأ ،بأنه إذا كانت النساء خاضعات للرجال في معظم المجتمعات البشرية،
تفوق الرجل وسيادته ودونية المرأةتجره وراءها من أفكار حول ّ أال يعني هذا أن الذكورية األبوية ،وما ّ
صورا نمطيةً كونت
وخضوعها ،حالة طبيعية؟ والحقيقة أن هؤالء ال ينتبهون إلى أن المجتمعات التي ّ
توسعية ومركزية ذاتية تقوم على
سلبية تجاه السود هي ذاتها المجتمعات التي كانت ذات نزعة إمبريالية ّ
الفتح والغزو واالستعمار واالحتالل...إلخ ،وهي ذاتها المجتمعات التي عرفت مؤسسات العبودية سيئة
السمعة طوال التاريخ.
خطابات 12
إن المجتمعات التي استعبدت الشعوب السالفية الصهباء ما زالت إلى اليوم تسمي العبد باسم مشتق
من اسم هذه الشعوب« :السالفي» « .»slaveإال أن هذه المجتمعات ال تمثّل البشرية بأكملها ،بل إنها ال
تمثّل حتى نصف سكان البشرية حتى نقول إن البشرية كلها تحمل نظرة دونية تجاه هذا الشعب أو ذاك.
ومن يقول بذلك يستثني عمدً ا كامل شعوب القارة األفريقية ،وسكان الصين والهند وأغلب شعوب آسيا،
وشعوب أمريكا الالتينية ،وسكان أستراليا وأمريكا األصليين...إلخ .ومع هذا ،فإن الهدف األساسي ،في
هذا النوع من األطروحات ،هو تبرير العنصرية ،وإضفاء قدر من المشروعية على هذه الممارسة والنظرة
الالإنسانية.
يتوسل بالعلم «الزائف» إلصابة هدفه .وسأعرض هنا لمحاولة نموذجية هناك تبرير بيولوجي للعنصرية ّ
رواد النهضةتتوسل بهذا النوع من العلم «الزائف» ،وكان رائدها أحد أجرأ ّ
من هذا النوع من العنصرية التي ّ
العربية الحديثة في النصف األول من القرن العشرين .في فبراير 1910فتح سالمة موسى ،الكاتب المصري
استمرت جوالتها حتى أغسطس .1910وحكاية هذه المعركة تكشف عن مدى ّ المعروف ،معركة عنصرية
تجذر العنصرية تجاه السود في المتخيل العربي منذ العصور الوسطى حتى العصر الحديث ،وهو موضوع ّ
كرست له كتابي الضخم «تمثيالت اآلخر» .كان سالمة موسى قد كتب ،في مجلة «المقتطف» ،مقالة ّ
ِ
عن كاتب إنجليزي اسمه ه .ج .ولس .وامتدح ،في المقالة ،كتابات هذا األخير ورواياته ،وعرض أمام
قراء «المقتطف» أشهر كتبه ورواياته ،وكان من بينها كتاب اسمه «المستقبل في أمريكا» .كان ِولس ً
كاتبا ّ
اشتراكيا (سوشيالي بتعبير سالمة موسى) ،زار الواليات المتحدة األمريكية ،وكتب عن ثراء البلد ،وهوس ً
األمريكيين بالثراء ،وعنصريتهم تجاه السود بحيث كان ُيمنع أي اختالط بين البيض والسود في األماكن
مبررة ،وأنها ترجع إلى اشتراكيا ،أن هذه عنصرية غير ّ
ً العامة (المطاعم ،الفنادق .)...رأى ولس ،بوصفه
عادات قديمة ولم يعد من داعي لها اآلن ،ولهذا طالب بالمساواة بين البيض والسود.
الحد وسالمة موسى ال دخل له بالسود وال بالعنصرية ،فهو مجرد كاتب يستعرض أفكار كاتب إلى هذا ّ
عارضا أو مرور الكرام ،فكتب هذا التعليق
ً مرورا
ً يمر
آخر .إال أن سالمة موسى أبى أن يترك هذا الموضوع ّ
ردا على مطالبة ولس بالمساواة بين البيض والسود« :أما أنا فال أرى ذلك ،إذ ال الذي ال يخلو من لؤم ًّ
بعضا يمكن إصالحه يمكنني أن أفهم أن األسود الذي كان أسالفه منذ مئة سنة أو مئتي سنة يأكل بعضهم ً
بالتمدن فوحشيته أصيلة فيه» .بعد هذا االعتراض ،يخلص ّ اليوم ،وإدخال دمه في دم األبيض ،فمهما تظاهر
ّ
نتفضل إلى نتيجته العنصرية الصادمة ،وهي أن السود متوحشون وال أمل في إصالحهم ،نعم يمكننا أن
تنبهت مجلة عليهم بحيث «نعاملهم معاملة إنسانية ،ولكن يجب منعهم من التناسل ولو بالخصاء» ّ .
(((
القراء ،فكتبت في الهامش «المقتطف» إلى هذه العنصرية غير المحتملة ،فأرادت التخفيف من وقعها على ّ
هذا التعليق« :كم من أسود يفوق البيض في آدابه وأخالقه حتى في الواليات المتحدة»(((.
((( سالمة موسى ،كتب ولس ورواياته ،مجلة المقتطف ،العدد الثاني ،المجلد السادس والثالثين ،األول من فبراير ،1910
ص.121
((( المرجع نفسه ،ص ،121الهامش رقم (.)1
13 اخلطاابت العنرصية :قراءات نقدية
إال أن هذا االستدراك لم يردع سالمة موسى ،فعاد في مارس 1910ليستكمل هجومه العنصري تجاه
يقدم أدلته «القاطعة» على «انحطاط السود» .ابتدأ السود .فهو لم يقبل أن تع ّلق المجلة على رأيه ،فأراد أن ّ
الهينة ،فالسود لم يقيموا ألنفسهم مدنية خاصة بهم على خالف بقية شعوب العالم ،بل إن بعرض األدلة ّ
محاوالت تمدينهم الخارجية (باالستعمار أو بالتبشير المسيحي) ،كلها آلت إلى الفشل .وهنا يسوق لنا هذه
تعدد الزوجات« ،فلم زنجيا بأفضلية الزواج األحادي على ّ ً مبشرا أراد أن يقنع
ً الحكاية العنصرية ،وهي أن
يكن من الزنجي حتى يظهر تقواه للمبشّ ر إال أن أكل كل زوجاته إال واحدة!»((( .ماذا يمكن أن نستنتج من
هذه الحكاية؟ إن السود كائنات متوحشة وال أمل في إصالحها .ثم ينتقل النهضوي العربي إلى دليله الثاني،
وهو أن الزنجي األمريكي لم يستفد من الحقوق التي منحت له في الواليات المتحدة األمريكية ،فبقي
همجيا بحسب أصله .وهو ينقل عن طبيب أمريكي يتقاسم معه عنصريته هذا القول« :ال داعي لخصائه [أي ً
الزنجي] ألن حيوانيته ستقضي عليه» مع الزمن .أما الدليل الثالث فهو تاج األدلة وبعده ال تقوم قائمة لكل
من يطالب بالمساواة بين البيض والسود .وهنا يستعمل سالمة موسى نسخة زائفة من العلم (البيولوجيا
تحديدً ا) مثله في ذلك مثل كل العنصريين العتاة في العالم الحديث .إن البيولوجيين ،كما يقول« ،وجدوا
أن تالفيف دماغ الزنجي أقرب إلى تالفيف دماغ القرد منها إلى تالفيف دماغ اإلنسان األبيض»((( .ويبدو
يتحدث باسم العلم في زمن جرى فيه رفع العلم ّ مقنعا آنذاك ،فالرجل
أن هذا الدليل «العلمي» البائس كان ً
«المقدس» .ويبدو أن لغة العلم هي ما جعلت مجلة «المقتطف» ،في تعليقها على مقالة موسى ّ إلى مرتبة
األخيرة ،تتراجع خطوة إلى الوراء عن دفاعها عن السود ،بل كتبت بأنها «ال تخالف حضرة الكاتب في أن
أحط من البيض ،وأن البيض أرقى من السود بوجه عام»(((! السود ّ
انخرط كتاب آخرون في هذه المعركة ،بعضهم اعترض على عنصرية سالمة موسى ،وآخرون ناصروه
ووقفوا إلى صفه ،ومن بينهم طالب طب اسمه «دالور سلمان» الذي ذهب أبعد من صاحبه في عنصريته،
ألم يكن طالب طب؟! مما يعني أنه يستطيع أن يأتي بالدليل الطبي والعلمي القاطع على انحطاط السود.
يتحدث بلغة الجماجم والجلود واألنوف ،فرأى أن جماجم ّ الغر ،فراح
وبالفعل هذا ما فعله هذا الطالب ّ
تتغير إال على مدىالسود الضيقة ال تنفع معها ال تربية وال إصالح؛ ألن هذه عملية ضد الطبيعة التي ال ّ
زمني طويل يبلغ مئات القرون ،فمن يريد أن يصلح السود يمكنه ذلك ،ولكن فقط «إذا أمكن اإلنسان أن
يبدل من جلدهم األسود ،وجماجمهم الضيقة ،وأنوفهم الفطساء ،بشر ًة بيضاء رقيقة ،وأنو ًفا شماء دقيقة، ّ
وجماجم م ّتسعة» .وظل سالمة موسى ،طوال هذه األشهر ،ينافح عن عنصريته بال هوادة ،بل ّ
تخيل نفسه (((
تحول إلى نيتشه جديد يطالب بالضرب بال رحمة أو شفقة على كل الخاملين المنحطين الذين يعيقون وقد ّ
التقدم الظافر لإلنسانية البيضاء!
ّ
((( مجلة المقتطف ،العدد الثالث ،المجلد السادس والعشرين 1 ،مارس ،1910ص.290
((( المرجع نفسه ،ص.290
((( المرجع نفسه ،ص.291
((( مجلة المقتطف ،العدد الثاني ،المجلد السابع والثالثين 1 ،أغسطس ،1910ص.787
خطابات 14
الغر كل هذه العنصرية تجاه السود؟ من الواضح أن العلم العنصري من أين لسالمة موسى وطالب الطب ّ
دورا في تعميق هذه العنصرية البغيضة ،لكن الزائف الذي استعان به االثنان (البيولوجيا تحديدً ا) لعب ً
ّ
ومتجذرة بلغة جديدة .إن سالمة الحقيقة أن هذا العلم الزائف لم يفعل سوى أنه أعاد إنتاج عنصرية قديمة
توهم حين طالب بالقطيعة مع التراث العربي القديم ،في قبضة هذا التراث موسى واقع ،على خالف ما ّ
ومتخيله السلبي عن السود .كما أن هذه العنصرية وصلت إلى هذا القدر الذي رأيناه لدى سالمة موسى ّ
عندما التقت عنصرية متجذرة من العصور الوسطى بعنصرية حديثة تعاون على تعميقها اإليمان األعمى
بالعلم العنصري الزائف وبرقي اإلنسان األبيض دون سواه من البشر.
تسعى أبحاث هذا الملف من مجلة «خطابات» إلى تقديم إسهامها العلمي على طريق تفكيك هذه
الخطابات العنصرية الموجودة في كل مكان عبر قراءات نقدية تناهض العنصرية التي تتغلغل في حياتنا
والمنسية ،وهي
ّ كما في ممارساتنا وخطاباتنا؛ وذلك من أجل تذكير الجميع بهذه الحقائق اإلنسانية األولية
أننا نوع إنساني واحد في األصل ،وأننا بشر متساوون ،وأن مصيرنا مشترك ،وأن الخطوات األولى على هذا
الطريق تبدأ بمناهضة العنصرية ونقد منطلقاتها ومقاومة اختزال البشر في أعراقهم وجماعاتهم.
نقد خطاب العنصرية اُمل َض َّمن يف حتقيق أسبوعية «األيام»
آلياته احلجاجية ووظائفه اإلقناعية
Criticizing Racism Discourse in Al-Ayyam Journal
Argumentative Mechanisms and Persuasive Functions
نبيل الهومي
باحث بسلك الدكتوراه ،جامعة القاضي عياض ،مراكش ،المغرب
المستخلص
إن الحديث عن العنصرية ،باعتبارها نوعا من الخطابات التي ترتهن نفسها بالشرح والتحليل ،وأضحت
تمارس سلطانها في الجريدة والتلفاز والمذياع ومواقع التواصل االجتماعي ،حتى غدت كالهواء الذي
نستنشقه ،يفرض على الدارس مقاربة هذه العنصرية ،سيما في مجال األجناس الصحفية ،من أجل ابتعاث
دالالتها ومعانيها ،وفتح منافذ تأويلها ومقاربة آليات اشتغالها .فإذا كان الصحفي ،وخاصة المشتغل بجنس
التحقيق الصحفي ،يقارب خطاب العنصرية ويسلط الضوء على حضوره في ثقافة من الثقافات ،فإن َم َه َّم َة
المحلل تتجلى أساسا في االستماع إلى دبيب العنصرية وإماطة اللثام عن طرق اشتغالها ،وتأويل كثير
من اإلشارات واألمارات التي تُعرض بها في مجال الصحافة .وتبعا لذلك ،سيحاول هذا البحث تحليل
خطاب العنصرية ونقده في مادة صحفية تتمثل في تحقيق عرضته جريدة األيام المغربية (عدد 811بتاريخ
27 21-يونيو )2018بعنوان« :الصورة الخطيرة للمغرب في مخيال المشارقة» ،مقاربا التعالق الحاصل
بين العنصرية والسلطة النفسية واالجتماعية السائدة في مجتمع معين ،وباحثا في أدوات نقد العنصرية
وآليات مجابهتها .وهكذا ،فإن المقاربة الالئقة التي سيوظفها البحث في دراسة خطاب مناهض للعنصرية
في مجال التحقيق الصحفي هي المقاربة الحجاجية((( ،على اعتبار أن أغلب التحقيقات الصحفية التي
تتطرق للعنصرية أو تناهضها هي خطابات حجاجية بامتياز ،تروم خلق تفاعل بين األنا والغير ،يتأسس
على تبادل رسائل لغوية تقوم على التعارض والنقض ،وتسعى إلى اإلبانة عن موقف ،واإلخبار عن تصور
لألشياء والكائنات والظواهر.
((( ظهرت هذه المقاربة مع كل من أرسطو وبيرلمان وتيتيكا وتولمان وهامبالن وغيرهم.
15
خطابات 16
الكلمات المفتاحية
. التحقيق الصحفي، اإلعالم، الحجاج، مخيال المشارقة، صورة المغرب،نقد العنصرية
Abstract
Talking about racism, as a kind of discourse that pledges itself to explanation and
analysis, and has become exercising its authority in the newspaper, television, radio, and
social networking sites, until it has become like the air we breathe, requires the student to
approach this racism, especially in the field of journalistic genres, in order to spread its
connotations and meanings Opening doors for interpretation and approaching the mech-
anisms of its operation. If the journalist, especially one working in the field of investi-
gative journalism, approaches the discourse of racism and sheds light on its presence in
one of the cultures, then the task of the analyst is mainly to listen to the signs of racism,
uncover the ways of its operation, and interpret many of the signs and indications that
are presented in the field of journalism. Accordingly, this research will attempt to analyze
and critique the discourse of racism in a journalistic article represented in an investiga-
tion presented by the Moroccan Al-Ayyam newspaper. The appropriate approach that the
research will employ in studying an anti-racist discourse in the field of journalistic inves-
tigation is the argumentative approach, given that most of the journalistic investigations
that deal with or oppose racism are argumentative discourses par excellence, aiming to
create an interaction between the ego and the other, based on the exchange of linguistic
messages based on contradiction and refutation, and seeks to clarify a position, and to
report on a perception of things, beings, and phenomena.
Keywords
Criticizing racism, Morocco image, Eastern-Arabs imagination, argument, media, re-
portage.
:الحجاج
ِ
على أن الحجاج «إجراء،تفصح الدالالت اللغوية التي تنبثق من ثنايا القواميس العربية والفرنسية
حمل مستمع على تبني موقف من خالل اللجوء إلى عروض-بوساطته يحاول شخص –أو جماعة
17 اخلطاابت العنرصية :قراءات نقدية
أو إثباتات-حجج -تهدف إلى إظهار صحته أو صوابه»((( ،وقد انتهى فيليب أوليرون ،انطالقا من هذا
التعريف ،إلى أن الحجاح إجراء يتم من خالله ممارسة التأثير على الغير .وتبعا لذلك ،فإن هذا اإلجراء
يستلزم مسوغات وأدلة لصالح األطروحة المدافع عنها.
المقاربة الحجاجية :هي تصور يتم وفقه تناول خطاب معين ،وتقتضي أن يؤخذ توظيف الحجج
واشتغال األساليب باإلضافة إلى استراتيجيات الحجاج وغيرها ،بعين االعتبار في كافة العمليات المرتبطة
بتحليل الخطاب موضوع الدراسة.
التحقيق لغة:
جاءت كلمة (تحقيق) في اللغة العربية من حق األمر حقا بمعنى صح وثبت ،وقد جاء في القرآن الكريم
﴿لينذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين﴾((( .وقد ورد في لسان العرب تحت مادة (ح ق ق) بلغ
أي
حقيقة األمر أي يقين شأنه .والحق :صدق الحديث ،والحق :اليقين بعد الشك .وتحقق عنده الخبر ْ
َص َّح»((( .وما يستشف من التعريف اللغوي للتحقيق أنه ينحو منحى استكناه الحقيقة والتثبت منها ،وكذا
تتبع السبل القمينة بالوصول إلى حل مشكلة أو ظاهرة.
(1) Pierre Oléron: l’argumentation ،que sais-je? Presses Universitaires de France ،Paris 1983 ،P: 4.
((( سورة يس ،اآلية.7 :
((( ابن منظور ،لسان العرب ،الطبعة الثانية ،دار إحياء التراث ،بيروت ،1997 ،ج.257-256 /3
((( عبد الملك بن عبد العزيز بن شلهوب ،التحقيق الصحفي؛ أسسه ،أساليبه ،اتجاهاته الحديثة ،الطبعة األولى ،مكتبة
الملك فهد الوطنية ،المملكة العربية السعودية ،2004 ،ص.15 :
خطابات 18
من تعريفات التحقيق ،أنها صادرة عن تجارب شخصية أو ذات طبيعة مهنية ،فتارة يكون التحقيق الخبر
المهم الطريف الذي ينبغي أال يمر الناس عليه مرور الكرام ،وتارة أخرى هو تقرير بالصور يقوم بإجرائه
صحفي محترف بهدف كشف جوانب إحدى المشكالت وإثارة انتباه الرأي العام من حولها .وما يمكن
تسجيله حول هذين التعريفين أنهما يخلطان بين الخبر والتقرير من جهة والتحقيق من جهة أخرى،
فاألهمية والطرافة عنصرا األهمية في أي جهد إعالمي خبرا كان أم تحقيقا أم تقريرا .كما أنه ال يوجد
هناك وجه الشتراط كون التحقيق مصورا إال من حيث كون الصورة دليال على صحة القصة أو الواقعة.
إلى جانب أن توظيف الصورة هو عنصر تتطلبه كل أشكال الكتابة الصحفية .وبين صاحب كتاب «فن
تحرير التحقيق الصحفي» أن كل هذه التعريفات ال تفي بالمطلوب ،لذلك قدم هو تعريفا للتحقيق يكون
بديال لكل هذه التعريفات« :التحقيق الصحفي المصور هو تغطية تحريرية مصورة تضيف مزيدا إلى خبر
جديد ،أو يتناول موضوعا قديما أو مشكلة هامة ،وتكون أكثر من مجرد قصة أو تقرير عنه .مقدمة لظواهره،
رابطة بين أسبابه القريبة والبعيدة ونتائجه الحالية والمتوقعة ،مقدمة كذلك آلراء من يتصلون به عن قرب
أو يثق القراء في درايتهم بجوهره ،مع جواز تقديمها لرأي المحرر نفسه أو وجهة نظر وسيلة النشر ،ضاربة
المثل بوقائع مشابهة في الداخل أو الخارج حديثة أو قديمة ،يقوم بها محرر يجمع بين صفات المخبر
الصحفي والباحث ،وله دراية باللغة العربية وقدر من الذوق األدبي ومعرفة بلغة أجنبية أو أكثر ومعرفة
بالتصوير وباالختزال ويقدم لقرائه بهذه التغطية مادة مفيدة ومشوقة ،وقد يوجههم بعدها إلى وجهة معينة،
كما يقدم لصحيفته أو مجلته زيادة في عدد النسخ المبيعة»((( .ويتطلب التحقيق من صاحبه أن يكون على
مكنة من اإلجادة والمهارة؛ ذلك أنه يتوجب عليه أن يمتلك أسلوبا قصصيا ولغة سليمة إضافة إلى غزارة
المعلومات .وهذا يبرز صعوبة كتابة التحقيق ،فأمر كتابته ال يسلم قياده لكل شخص ،وإنما يفترض في
صاحبه أن يكون فنانا أديبا «يعرف كيف يتعامل مع أدواته ويوظفها لصالح موضوعه»(((.
والتحقيق عادة ال يتناول موضوعا معينا ،إنما يتطرق إلى جملة من المواضيع يشد بعضها بعضا وتربط
بينها وشائج معينة وتصل بينها قناة واحدة ،فإذا ما أردنا أن نكتب تحقيقا عن نظافة مدينة معينة فإننا ال نركز
على النظافة بصفتها المجردة ،وإنما نتناول بالحديث سعة المدينة موضوع التحقيق ،وشوارعها وأحياءها
ومسؤولية المواطنين ،والمضار المترتبة على وجود هذه األزبال في األحياء...
ونقف مع تعريف مختصر لعبد الوهاب الرامي في كتابه الموسوم بعنوان« :األجناس الصحفية مفتاح
اإلعالم المهني» يقول فيه« :يسعى –التحقيق -لإلجابة عن ثالثة أسئلة أساسية 1- :من المسؤول؟ (عن
الخلل الذي يخوض فيه التحقيق ،شخصا أو مجموعة أشخاص أو مؤسسة أو مؤسسات) 2- .من
المستفيد؟ (من وضعية ما ،إما شخص أو مجموعة أشخاص أو مؤسسة أو مؤسسات) 3- .من المتضرر؟
(من وضعية ما ،إما شخص أو مجموعة أشخاص أو مؤسسة أو مؤسسات)»(((.
((( عبد الملك بن عبد العزيز بن شلهوب ،التحقيق الصحفي؛ أسسه ،أساليبه ،اتجاهاته الحديثة ،ص16 :
((( وائل العاني ،آراء في الكتابة والعمل الصحفي ،دار الحرية للطباعة ،بغداد ،1980 ،ص.41 :
((( عبد الوهاب الرامي ،األجناس الصحفية؛ مفتاح اإلعالم المهني ،منشورات المنظمة اإلسالمية للتربية والعلوم والثقافة،
إيسيسكو ،2011 ،ص.132 :
19 اخلطاابت العنرصية :قراءات نقدية
التحقيق الصحفي واحد من أهم «الفنون الصحفية ،وهو يجمع بين عدد من الفنون التحريرية في آن
واحد؛ إذ يجمع بين الخبر والحديث وآراء ذوي االرتباط بموضوع التحقيق ،وهو من أصعب الفنون
التحريرية»(((.
((( ضحى حسن ،الصحافة والكتابة اإلبداعية؛ دليل المواطن الصحفي في مناطق النزاعات ،مؤسسة فريدريش إيبرت،
بيروت ،2016 ،ص.45 :
((( فاطمة الزهراء مشتة ،التقنيات الحديثة في التحرير الصحفي؛ التقرير -الروبرتاج -التحقيق( ،دون طبعة) ،دار األمة،
الجزائر ،2017 ،ص.94 :
((( عبد الوهاب الرامي ،األجناس الصحفية؛ مفتاح اإلعالم المهني ،ص.126 :
((( فاطمة الزهراء مشتة ،التقنيات الحديثة في التحرير الصحفي ،ص.97 :
((( عبد المطلب صديق مكي ،توظيف التقنيات المعلوماتية واالتصالية الجديدة في إعداد التحقيق الصحفي ،كلية التدريب،
قسم البرامج التدريبية ،جامعة نايف الغربية للعلوم األمنية ،اإلمارات ،2010 ،ص.24 :
خطابات 20
-وظيفة تفسيرية :يقوم التحقيق الصحفي بتفسير األخبار واألحداث وشرحها ،وذلك بالكشف عن
أبعادها االجتماعية واالقتصادية ودالالتها الجديدة.
-وظيفة توجيهية :يعمل من خاللها منجز التحقيق الصحفي إلى توجيه عناية القراء إلى ظاهرة أو
مشكلة معينة بغرض إيجاد حلول لها.
التحليل الحجاجي لتحقيق جريدة األيام:
«الصورة الخطيرة للمغرب في مخيال المشارقة»
سياق التحقيق:
يرتبط المقام التخاطبي في عرف البالغيين بمطابقة الكالم لمقتضى الحال ،أي أن القول يكون منسجما
مع االعتبارات السياقية الداعية إلى صياغته ،وكلما كان القول «مناسبا لما يقتضيه الحال كان بليغا»((( ،وهذا
يعني تبعا لعبد القاهر الجرجاني أن االستدالل البالغي ال تكمن قيمته في الداللة على «أنفس المعاني التي
يقصد المتكلم إليها بخبره ،وإنما في طريق إثباته لها وتقريره إياها»((( .وبالعودة إلى التحقيق نلحظ أن
العوامل المتحكمة فيه يمكن أن تتفرع إلى سياقين اثنين:
-سياق مباشر :يتمثل في خسارة المغرب تنظيم كأس العالم سنة ،2026ولعل ضياع حلم تنظيم
موروكو 2026يتمثل في قوة الملف األمريكي المشترك ،مقارنة بالملف المغربي ،لكن األدهى واألمر
من هذا أن دول المشرق سيما السعودية واإلمارات والكويت ،صوتوا ضد أشقائهم وبني جلدتهم العرب،
فكانت خيانة األشقاء العرب دافعا للصحفية زينب مركز حدا بها إلى كتابة هذا التحقيق الصحفي ،لذلك
وجدنا أنها كتبت في أعلى هذا التحقيق وبخط مضغوط «على هامش «خيانة أشقاء» عرب ،متمثلة بذلك
قول بدوي الجبل:
المـــر ُرعنـــا ُه ِ
باإلبـــاء لكنَّنـــا هــر بالبلــوى و َغ ْم َرتِهــا
ِّ َمــا َراعنــا الدَّ ُ
ــة ُح ٌَغــدر األحب ِ الحــزن ال َشــكوى وال َملل ْ
ــزن مــا احتَملنــاه َّ ُ إن نَحمــل ُ
-سياق غير مباشر :يتجلى في الصورة القاتمة التي يرسمها المشارقة عن المغرب ،منذ القدم ،ولعل
العبارة المتواترة على مسيل العصور ،التي مؤداها «أهل المشرق أهل إبداع ،وأهل المغرب أهل فقه
وهوامش» تؤكد هذه الصورة ،مما يبرز أن اإلبداع الحق مصدره المشرق ،وأن المغاربة يكتفون فقط
بالشرح والتعليق ووضع الهوامش .وهو ما تختزله كذلك المقولة المشهورة «بضاعتنا ردت إلينا»((( التي
قالها الصاحب بن عباد عندما وصله كتاب العقد الفريد البن عبد ربه.
((( التحليل الحجاجي للخطاب؛ بحوث محكمة ،إشراف وتقديم أحمد قادم وسعيد العوادي ،الطبعة األولى ،دار كنوز
المعرفة للنشر والتوزيع ،2016 ،ص.546 :
((( عبد القاهر الجرجاني ،دالئل اإلعجاز ،قرأه وعلق عليه محمود محمـد شاكر ،الطبعة الثالثة ،مطبعة المدني،1992 ،
ص.43 :
((( أصول البحث األدبي ومصادره ،جامعة المدينة العالمية ،ماليزيا ،2011 ،ص.91 :
21 اخلطاابت العنرصية :قراءات نقدية
تصنيف «الصورة الخطيرة للمغرب في مخيال المشارقة»
ضمن األجناس الصحفية:
تشكل األجناسية مجاال إلبراز أوجه التمايز واالختالف والخصوصية بين عناصر يجمعها رابط التشابه
واالنتماء إلى األصل ،سواء كان هذا األصل فنيا أو أدبيا أو صحفيا ..لهذا يعد التحديد األجناسي أو
الخصوصية األجناسية للعنصر أو الموضوع أو المادة قيد الدراسة ،مدخال معرفيا ومنهجيا في تحديد مسار
الدراسة ونتائجها ،في هذا السياق يمكن تقسيم األجناسية الصحفية من حيث المبدأ إلى أجناسية كبرى
وأجناسية صغرى .أما األجناسية الكبرى فتتوزع إلى ثالثة محاور كبرى ،وهي :صحافة الخبر وصحافة
الرأي وصحافة التحري ،ويمكن تقسيم هذه األخيرة بدورها إلى أجناسية صغرى وتضم االستطالع
واالستجواب .والتحقيق ،مجال دراستنا في هذا البحث ،أكثر أجناس التحري نضجا وأثرا على الوعي
وعلى الواقع ،ألنه الجنس الصحفي األكثر قدرة على استقطاب القارئ ورفع حجم المقروئية .ودليل ذلك
التحقيق الصحفي الذي أنجزه بوب ودورد وكارل برنشتاين في جريدة الواشنطن بوست ،والذي أطاح
بالرئيس األمريكي نيلكسون سنة ،1974وما أثاره ،أيضا ،التحقيق الخاص بالكوميسير الحاج ثابث في
المغرب من قبل جريدة االتحاد االشتراكي في التسعينات ،وكذلك التحقيق الذي أنجزته جريدة المساء
عن الدعارة في الشارع المغربي.
صدر التحقيق ،موضوع الدراسة ،عن أسبوعية األيام عدد 811بتاريخ 27 21-يونيو 2018ضمن باب
«الغالف» وهو من أهم أبواب هذه األسبوعية؛ ذلك أنه يحتل أربع صفحات من حيز األيام ،واأليام أسبوعية
مغربية مستقلة إيداعها القانوني ،2001/0134يرأس تحريرها محمـد مفتاح ،وتصدر عن شركة األيام
لإلعالم ،وهي شركة ذات مسؤولية محدودة ،Sarlوتعد الصحفية زينب مركز التي أعدت هذا التحقيق
عضوة بهيأة تحرير هذه األسبوعية ،ونجد أنها اختارت كموضوع لهذا التحقيق« :الصورة الخطيرة للمغرب
في مخيال المشارقة» وهو موضوع متعدد األبعاد ويحمل دالالت نفسية واجتماعية وسياسية ودبلوماسية
وتسويقية ،وينم اختيارها لهذا الموضوع عن رؤيا تعكس معرفة وفهما لطبيعة الوظيفة اإلعالمية المتمثلة
في تغيير الوعي بالواقع وبالقضايا ،مما يحدد طريقة إدراكنا لها .وبالتالي طريقة التعامل معها إجرائيا.
حجاجية العنوان:
يشكل العنوان في الصحافة آلية تسويقية وداللية يبيع من خاللها الصحفي منتوجه اإلعالمي موظفا حافز
اإلغراء وعنصر التشويق والرغبة في المعرفة .وانطالقا من هذا المبدأ يبدو عنوان هذا التحقيق مغريا ومحفزا
ومثيرا ،ال من جهة الشكل واللون؛ أي لون الحروف وشكلها وحجمها ،بل كذلك من ناحية اختيار الصحفية
للمفردات ،فقوة هذا العنوان وسلطته تجردها مفردتان اثنتان ،هما« :الخطيرة والمشارقة» أوال ألن مفردة
الخطيرة تثير اإلحساس بالخوف والوجل والفزع ،وثانيا ألن المشارقة مفردة قومية تحيل على الغير القريب.
ومن هنا يصبح العنوان بصيغة أخرى :الخطر القادم من الشرق أو خطورة القرابة ،وبالتالي يصبح أثر العنوان
أعمق وأوقع على المعني بالخطاب أوال وهو اإلنسان المغربي .وبالتالي يحمل العنوان بنية تقابلية:
خطابات 22
العنوان عبارة عن مركب اسمي ،ومن المركوز في العرف أن الجملة االسمية تتسم بالثبات والسكون
بخالف الجملة الفعلية التي تنحو منحى الحركة والتجدد ،وهو ما يعني أن هذه الصورة التي ترتسم في
مخيال المشارقة عن المغرب هي صورة دائمة ال تكاد تمحوها السنين وال يعفو عنها الدهر ،ولهذا نجد أن
التحقيق الصحفي يبحث في األسباب والبواعث التي جعلت هذه الصورة تقر في خلد المشارقة.
ُكتِ َب العنوان بخط أحمر مضغوط في إشارة إلى الخطر الذي يتهدد صورة المغاربة عموما عند نظرائهم
المشارقة ،وبما أن األحمر عالمة دالة على الخطر ،فقد اختارته الصحفية ،أوال إلثارة ،انتباه قارئ الصحيفة،
ثم كذلك ليتساوق مع فحوى تحقيقها الذي يؤشر على الخطر (التمثل) القادم من الشرق عن المغاربة.
النظر فقط في المتخيالت الراسخة بذهنهم عن هذا البلد .كما أن الصورة كذلك ركزت على الشكل
الدائري من خالل ذلك المنتوج النحاسي الذي يدل على أصالة الصانع المغربي ،غير أن اتخاذه شكال
دائريا مرده ربما إلى أنه على مدار الزمن لم ت ُْم َح صورة المغربي البدائي والمتخلف من ذهن المشرقي.
رمزيته المكون
التاريخ العريق واألصيل صومعة حسان
إبداع الصانع المغربي المنتوج
العتمة والظالم غطاء الرأس المنسدل
أما باقي الصور المضمنة في التحقيق فإنها جاءت موائمة للموضوع ومناسبة له ،فتارة نجد صورة شموع
مضاءة وطقوس للسحر ،وتارة نلمح صور ممثالت مغربيات تقمصن أدورا جريئة ،وكل هذه الصور منتقاة
بعناية وترسم هي األخرى صورة قاتمة عن المغرب في خلد المشارقة .وهكذا نجد أن الصورة تزكي
غرض التحقيق وتخدمه بشكل يجعل القارئ ينظر إلى الصور فيستشف منها كنه التحقيق ومحتواه.
نأتي اآلن إلى نوع هذا التحقيق ،وسبق أن ألمحنا إلى أن التحقيق ينصرف إلى أنواع ،منها :تحقيق
األحداث الجارية المرتبطة باليومي محليا ووطنيا ودوليا ،وتحقيق األخبار المتفرقة ،وهو أقرب إلى
التحقيق البوليسي ،الذي يعمل على تشكيل الحلقات الضائعة في حدث ما ،ثم تحقيق التحري ،وهو
تحقيق يتطلب جهدا ومهنية من الصحفي ،باإلضافة إلى تحقيق البورتريه ،الذي يشتغل على الشخصيات
العامة ،وكذا تحقيق الماغزين الذي ينصرف إلى تحقيق يسائل البنيات المجتمعية .وهكذا نجد أن التحقيق
الصحفي ،موضوع الدراسة ،يدخل في جنس تحقيق الماغازين ،ألنه يقارب ظاهرة اجتماعية مرتبطة بنظرة
مجتمعات بعينها إلى مجتمع آخر ،كما أنه يتناول موضوعا من موضوعات علم االجتماع وهو التمثالت
التي يصنعها المتخيل الجمعي ويحاكم بها ظاهرة معينة .وهذا ما يقودنا إلى تحديد زاوية المعالجة التي
تبدو اجتماعية تتناول تيمة المتخيل والتمثالت ،وهي مفاهيم مستقاة من علم االجتماع .لهذا يجب تحديد
مفهوم المتخيل ومفهوم التمثالت أوال قصد فهم الظاهرة التي نحن بصدد تحليلها.
مفهوم المتخيل:
عرفه موريس غودلييه بقوله« :هو منظومة متكاملة من التصورات مثل السحر أو المعتقد»((( ،ويورد
مثاال لهذا بالطفل الذي يعرف مثال أن األرنب القماشي الذي بين يديه ليس أرنبا حقيقيا ،لكنه يتعامل معه
على أنه كذلك .وتبعا لذلك ،فالمتخيل أو المخيالي يركز على المعتقدات ويتعامل معها على أنها الواقع
نفسه أو هي واقع فوق الواقع ،وهذا الواقع يثبت وجوده عبر أشياء لها وجود واقعي .وبالتالي فالصورة
الخطيرة للمغرب في مخيال المشارقة هي تخيل غذته الوضعية السلبية التي تزكيها وسائل اإلعالم.
بناء التحقيق:
اعتمدت الصحفية في بناء تحقيقها على قالب الهرم المعتدل المبني على العرض الموضوعي؛ إذ نجد
أنها استهلت تحقيقها بمقدمة حرصت ،من خاللها ،على إثارة انتباه القراء إلى الموضوع المطروق ،انطالقا
من اإلشارة إلى الصورة السوداء التي ينسجها مخيال المشارقة عن المغرب ،كما أن هذه المقدمة ركزت
على الزاوية األساس للتحقيق والمتمثلة في الوقوف عند التمثل الكائن في ذهن المشارقة عن المغرب،
وفصلت في كل زاوية من زوايا الموضوع في العرض؛ من خالل بيان تجليات الصورة الخطيرة يرسمها
المشارقة عن المغرب ،وفي الخاتمة سطرت النتائج التي أفضت إلى هذا التمثل.
((( خديجة نادي وسناء بن حدة ،المرجعيات الثقافية وبناء المتخيل السردي ،مذكرة مكملة لنيل شهادة الماستر في اللغة
واألدب العربي ،إشراف :رشيد سلطاني ،كلية اآلداب واللغات ،الجزائر ،2017 -2016 ،ص.12 :
((( المولدي األحمر ،المتخيل والمخيالي والرمزي ،مجلة عمران ،العدد الرابع ،2016 ،ص.2 :
((( صالح بن عبد الله بن حميد ،أصول الحوار وآدابه في اإلسالم ،الطبعة األولى ،دار المنارة للنشر والتوزيع ،جدة -مكة،
،1994ص.14 :
خطابات 26
العروسي ،الذي رأى((( أن المغرب في عرف المشارقة هو إحالة على التخلف واألفول والظالم ،وأن
المشارقة يتوجسون من قدوم المغاربة إلى بالدهم ،زعما منهم أن هذا المغربي يحمل معه التخلف ،وأن
شره سيحجب نور المشرق الوهاج .وتبرز هذه الحجة ،كذلك ،من خالل تصور ابن خلدون والبكري عن
المغرب والمغاربة.
-حجة واقعية :هي الحجة الطاغية على مسيل التحقيق وامتداده ،ولعل توظيف الصحفية لهذه الحجة
مرده إلى أنها حجة مشهورة بين الناس ومتداولة ،وال سبيل ،بذلك ،إلى دحضها وتكذيبها .ارتكزت
الحجة الواقعية على ما كتبه تركي آل الشيخ ،رئيس مجلس إدارة الهيأة العامة للرياضة واللجنة األولمبية
العربية السعودية واالتحاد العربي لكرة القدم ،بخصوص خسارة المغرب تنظيم كأس العالم ((( 2026مبديا
سخريته من ترشح المغرب لتنظيم هذا الحدث العالمي الكبير .كما نجد هذه الحجة حاضرة في األدوار
التي تقمصتها الممثالت المغربيات مثل سناء عكرود وموزيان ،ما كرس وضعية المغرب السوداء في
مخيال المشارقة وبالهم.
حجة الكم :نستشفها انطالقا من اإلحصائيات التي ساقتها الصحفية ،والتي أعدها المركز األمريكي
«بيو»((( وخلص من خاللها إلى أن 86 ٪من المغاربة مقتنعون بوجود الجن ،و 78 ٪يؤمنون بالسحر
والشعوذة ،و 80 ٪متأكدون من وجود «شر العين».
((( زينب مركز ،الصورة الخطيرة للمغرب في مخيال المشارقة ،أسبوعية األيام ،عدد 811بتاريخ 27 -21يونيو .2018
((( جريدة أخبارنا المغربية ،بتاريخ.20-03-2018 :
((( زينب مركز ،الصورة الخطيرة للمغرب في مخيال المشارقة.
محمد العمري ،الطبعة
ّ وتعليق وتقديم ترجمة النص، لتحليل ((( هنريش بليث ،البالغة واألسلوبية نحو نموذج سيميائي
األولى ،منشورات مجلة دراسات سيميائية أدبية لسانية ،الدار البيضاء ،1989 ،ص.44 :
27 اخلطاابت العنرصية :قراءات نقدية
حتى غدت مقدمتها استفهاما كبيرا ،يتحول من طلب معرفة أشياء لم تكن حاضرة عند السائل وقت
الطلب إلى وسيلة إثبات لقضايا أو نقض ألخرى ،وهكذا توزعت وظيفة االستفهام بين التعبير عن رأي،
وتقرير وضع .وينتمي هذا النوع من أفعال الكالم عند سورل إلى صنف التوجيهات((( التي يتحدد غرضها
اإلنجازي تبعا ألغراض ومقاصد أطراف الكالم وسياق الخطاب.
وقد جاءت استفهامات المقدمة على الشكل اآلتي:
-ما سر هذه الصورة التي شكلها المخيال الجمعي للمشارقة عن المغرب؟
-كيف ال يبرز المغرب والمغاربة لدى المشارقة في مصر والخليج وبالد الشام ومنطقة الهالل
والخصيب إال بربرا من بني حمر؟
-هل هو الجهل بالمغرب؟ أم المقررات الدراسية التي تعرض نتفا هامشية عن المغرب؟
واستفهامات الصحفية تبكيتية من ناحية ،وتوبيخية من ناحية أخرى ،تبكيتية ألنها تؤنب اإلعالم العربي
ووعي المشارقة الجمعي الذي تغطيه العتمة ويعتريه الظالم ،وتوبيخية على اعتبار أن المغاربة أنفسهم،
بحسب الصحفية ،يساهمون في تسويق هذه الصورة ،من خالل هجرة الفتيات على سبيل المثال ال الحصر
إلى الشرق بحثا عن مصادر الرزق والعيش.
وهكذا فاالستفهام في الحجاج يخرج عن طبيعته االستفسارية ،ليصير فعال ذا قوة إنجازية ،تنبجس منه
معان تتحدد تبعا للسياق الذي ورد فيه ،والغرض الذي قصده المتكلم.
وقسم آخر صعب المنال ،بعيد المرام ،سماه الجرجاني« :معنى المعنى» ،ويتطلب هذا الضرب من
المتلقي تسخير كفاءاته الذهنية واالستداللية والموسوعية ،للوصول إلى الغرض المراد من الكالم .وال
يكون الوصول إلى هذا الغرض بداللة اللفظ وحده ،بل ينطلق المخاطب من الداللة الوضعية (المباشرة)
ليستخلص معنى مضمرا هو المراد والمقصود.
لجأت الصحفية إلى توظيف ألفاظ كنائية ذات قوة حجاجية ،ولعل توظيفها للكناية يجعل المعنى
أكثر تأثيرا في المتلقي من الكالم الصريح ،ألنها –الكناية -تحتاج من المتلقي إلى تفكيك أجزاء الصورة
وتأويلها جزءا جزءا ،ويمكن أن نمثل على سبيل الذكر ال الحصر بكناية «المغرب صندوق األسرار».
خاتمة
من خالل دراسة التحقيق الموسوم بـ« :الصورة الخطيرة للمغرب في مخيال المشارقة» يمكن
استخالص ما يلي:
-ت ََح َّك َم في إنتاج الصورة السلبية للمغرب في خلد المشارقة نسق ثقافي استمر من جيل آلخر وتجسد
بشكل الشعوري في إنتاجات المشارقة وخطاباتهم.
-زكت وسائل اإلعالم بمختلف أشكالها الصورة القاتمة التي ارتسمت في مخيال المشارقة عن
المغرب ،وبذلك ،أصبحت هذه الصورة المقدمة كأنها الواقع نفسه.
-أسعف جنس التحقيق الصحفي كاتبته في نقد العنصرية ومجابهتها وكشف وسائل تأجيجها ،على
اعتبار أن وظيفة اإلعالم تنصرف أساسا إلى تغيير الوعي بالواقع وبالقضايا التي تعرف تمثالت
خاطئة.
قوى المقصد الحجاجي الذي تغياه التحقيق. -خدمت عناوين التحقيق الفرعية العنوان الرئيس بشكل َّ
وخدَ مته؛ إذ إن القارئ يمكنه أن ينظر ،فقط ،إلى الصور فيستشف
-زكت صور التحقيق رأي الصحفية َ
منها جوهر التحقيق وماهيته.
-وظفت الصحفية مجموعة من الحجج المتنوعة لمقاربة خطاب العنصرية ونقده ،واستقت زينب
29 اخلطاابت العنرصية :قراءات نقدية
مركز أغلب حججها من الواقع ،نظرا ألن المحاج يلزمه سبر أغوار اآلراء المشهورة عند المتلقي
قصد تحقيق التأثير المرغوب.
-خرج االستفهام في التحقيق عن طبيعته االستفسارية ،ليصبح فعال إنجازيا يؤدي مقصدا حجاجيا
تتحدد وظيفته في مؤاخذة وسائل اإلعالم على تأجيج العنصرية وتغليط الرأي العام.
-غص التحقيق بالكناية ،التي نفثت طاقة إقناعية في سطور المكتوب ،وجعلت التمثالت التي نسجها
مخيال المشارقة عن المغرب تقر في خلد القارئ وفكره.
خطابات 30
د.المهدي لعرج
أستاذ التعليم العالي بالمركز الجهوي لمهن التربية والتكوين ،فاس ،المغرب
المستخلص
يتمحور هذا المقال حول ما ندعوه «خطاب التفوق» ،في الشعر العربي القديم ،وهو ما يمكن رصده منذ
جماليا ،حتى ولو تعلق األمر
ً ومعيارا
ً تشكل القصيدة في العصر الجاهلي ،حيث أصبحت المبالغة بنية فنية،
َشكل هذا الخطاب بالموازاة مع أزمة المجتمع القبلي المنقسم على نفسه، بهجاء قائم على أساس عنصري .ت َّ
ما بين أحرار وعبيد .وقد ترسخ هذا االنقسام من خالل تراكم التمثالت التي تم إنتاجها في سياق انشغال
األنساق السائدة بإنهاك خصومها المحتملين .تبلورت بمرور الزمن ثقافة التمييز بين العادي وغير العادي،
بين ما ال يثير وجوده أية حساسية في التواصل وبين اآلخر المختلف ،والسيما اإلنسان األسود ،على الرغم
من التطور الكبير في مجال تصنيف علوم الدين ،وتنظير علوم اإلنسان والمجتمع ،التي تمنع استعباد الناس
وتهميشهم على أساس أعراقهم وألوانهم .سمحت الممارسات االجتماعية بوجود مظاهر مختلفة من التمييز
ضد الفئات المهمشة وتعايشت مع احتقار العبيد .بل أضفى المتخيل على هذه الممارسات معنى الفرادة
والجمال واإلدهاش ،كما عكس ذلك الخطاب الشعري .وهكذا ،فسواء من خالل التشبيهات العابرة ،التي
أشرنا إليها عند بشار بن برد ودعبل الخزاعي والمعتمد بن عباد ،أو من خالل تأمل مركز لكل من الفخر
والهجاء عند عنترة والمتنبي ،كان اإلنسان األسود مضطهدً ا في الخطاب الشعري ،موسو ًما بعار النسب
سببا إلنقاذ
واللون والسلوك .األسود يظل مقيدً ا في دائرة أصله وماضيه البعيد حتى ولو كانت شجاعته ً
القبيلة من الهالك ،وهذه هي حال عنترة .شكل شعر عنترة صدمة للمنظومة الرمزية الجاهلية التي تقدس نقاء
النسب وال تعترف بالعبيد ،فجاز للخطاب أن يخرق العرف القبلي ،غير أن هذا الخرق لم ينتج عنه إال مزيد
من الكشف عن عمق متخيل الكراهية والتمييز في مجتمع القبيلة .كما أن األسود عبدٌ نتن بالضرورة حتى ولو
كان ً
ملكا ،هذا ما عبر عنه المتنبي بكل قوة .وال عبرة عند الشاعر بالواقع ومفارقاته ،فسلطة كافور اإلخشيدي
32
33 قراءات نقدية:اخلطاابت العنرصية
ألنها تحققت في سياق الفوضى التي اجتاحت منظومة،بمصر ينبغي أن تكون مغتصبة زائفة تقتضي الهجاء
ً وذلك بالقدر الذي أعاق،الخالفة
.أيضا رغبة الشاعر في صون حريته وتحقيق أحالمه
كلمات مفتاحية
. المتخيل، العنصرية، العبيد، المبالغة، الشعر العربي،خطاب التفوق
Abstract
This article focuses on what we call the “discourse of superiority” in ancient Arabic
poetry, which can be observed since the formation of the Qasidah in the pre-Islamic era,
where hyperbole became an artistic structure and an aesthetic criterion, even if it was
related to satire based on a racial basis. This discourse was formed in parallel with the
crisis of the tribal society, which was divided against itself, between free and slaves. This
division has become entrenched through of the accumulation of representations that were
produced in the context of the preoccupation of the prevailing systems with the exhaus-
tion of their potential opponents. Over time, a culture of distinction between the ordinary
and the extraordinary, between what does not raise any sensitivity in communication, and
the different other, especially the black person, crystallized over time, despite the great
development in the classification of religious sciences, and theorizing the sciences of man
and society, which prevent the enslavement and marginalization of people on the basis of
Their races and colors. Social practices allowed various manifestations of discrimination
against marginalized groups and coexisted with contempt for slaves. Rather, the imagi-
nary gave these practices the meaning of uniqueness, beauty and astonishment, as reflect-
ed in the poetic discourse. Thus, whether through the fleeting similes, which we referred
to in the writings of Bashar ibn Burd, Daabal al-Khuza’i, and al-Mu’tamid ibn Abbad, or
through a focused meditation on both pride and satire in Antarah and al-Mutanabbi, the
black man was oppressed in poetic discourse, marked by the shame of lineage, color, and
behavior. The black remains confined to the circle of his origin and his distant past, even if
his courage was a reason to save the tribe from destruction, and this is the case of Antarah.
Antarah’s poetry was a shock to the pre-Islamic symbolic system that sanctifies the purity
of lineage and does not recognize slaves, so the discourse was permitted to violate the
tribal custom, but this breach only resulted in more revelations of the depth of the imag-
ined hatred and discrimination in the tribal society. Likewise, the black his necessarily
stinky slave, even if he is king. This was expressed by al-Mutanabbi with all force. And if
a lesson in reality and its paradoxes, the authority of Kafur al-Ikhshidi in Egypt should be
a false usurper that requires satire, because it was achieved in the context of the chaos that
swept the caliphate system, to the extent that also hindered the poet’s desire to preserve
his freedom and achieve his dreams.
Keywords
Discourse of superiority, Arabic poetry, hyperbole, Slaves, Racism, Imaginary
خطابات 34
تمهيد
تعدهم تعد أفرادها للصراع والرحيل أكثر مما ّ بالتمزق ،وبدا كما لو أن القبيلة ّ
ّ تميزت حياة الجاهليين
ّ
وشكل مجيء اإلسالم لحظة فارقة في الوعي الجمعي ،لكنه لم يحدث قطيعة مع ّ لالستقرار والوئام.
أنشطة االختالف التي ازدادت حدة .وقد علقت بهذا الوعي مجموعة من الترسخات ،بحيث أصبح
الشعور بالتفوق وقهر اآلخر جز ًءا من العناية بالذات ومنطلقًا لوجودها اآلمن .وعكس الخطاب مستويات
هذا الترسخ ،وهو ما نجده ماثال بوضوح في الشعر .أصبح من الالفت تبلور ما يمكن أن ندعوه «خطاب
ومعيارا
ً جماليا،
ً التفوق» ،الذي ساعدت عليه لغة المجاز الجامحة ،إذ أصبحت «المبالغة» بنية فنية وأسلو ًبا
يقاس عليه الكالم ،حتى ولو تعلق األمر بهجاء قائم على أساس عنصري.
وربما كان الرجل األسود مجرد را ٍع إلبل القبيلة ،وهو وضع يجعله في حكم االستعباد .ولم يكن بإمكان
مثل. العبد الراعي أن يحوز الشرف واالعتراف من الجماعة إال عندما يحدق بها الهالك ،وهذا حال عنترة ً
تعبيرا بالضرورة عن مجد الشجاعة ،وإنما صرخة احتجاج في وجه الكراهية خطاب الحماسة في شعره ليس ً
ملكا ،فالخطاب الشعري عند الضرورة ٌ
كفيل برده واالحتقار .كما أنه ال قيمة للرجل األسود حتى ولو أصبح ً
مثل .تبلورت بمرور الزمن إلى أصله ،وهذا حال التعبير عن مقام االنفصال بين المتنبي وكافور اإلخشيدي ً
ثقافة التمييز بين العادي وغير العادي ،بين ما ال يثير وجوده أية حساسية في التواصل وبين اآلخر المختلف،
ومبررا حتى في حال محاولة إثبات العكس ،كما قد ً ً
مستساغا والسيما اإلنسان األسود .وأصبح هذا التمييز
مثل في حديثه عن فخر السودان على البيضان. يستشف ذلك لدى الجاحظ ً
انطلق التمييز بين الناس على أساس اللون وغيره من أسباب مختلفة ،ومن أجل خدمة مقاصد شتى،
وسنعمل في هذا السياق على اإلشارة إلى مجموعة من المفاهيم التي يمكن عدها منطلقًا لفهم متخيل
مؤطرا ألي نزوع نحو التعبير ً العنصرية في الخطاب الشعري عند العرب ،منها مفهوم المبالغة بوصفه
عن التفوق على اآلخر ،ومفهوم النسب الذي استخدم في تمحيص األنساب ،بكل ما كان ينتجه ذلك
من تصنيفات عنصرية .وكذا مفهوم الغرض الذي شكل نظرية متكاملة لدى النقاد العرب ،ومن مكوناتها
أيضا مفهوم الخطأ الذي أغفل الهجاء الذي أطلق الشعراء فيه العنان لقرائحهم من أجل تحقير السود .ومنها ً
الحديث عن فداحة معنى التمييز ضد السود ،بحيث اكتسب الخطاب هويته أحيانًا من الهوية العرقية للذات
إحساسا
ً المتلفظة به .أصبح اإلحساس بوجود معضلة التمييز بين الناس على أساس أعراقهم وألوانهم
مندرجا ضمن نطاق ً جمعيا استعادته الذات المتلفظة بالخطاب كلما كان ذلك ً ً
متخيل ً
مفرطا وشكل
الحفاظ على توازن هذه الذات وصون شروط وجودها .عكس الخطاب الشعري ذلك صراحة وبشكل
مضمر ،وبالموازاة مع ذلك اشتغل النقاد بدأب على فهم هذا الخطاب وتأويله ،في حدود المفاهيم التي
أسعفتهم ،وبقدر ما سمحت به مختلف شروط إنتاج الخطاب.
((( الجاحظ ،البيان والتبيين ،تحقيق عبد السالم محمد هارون ،مكتبة الخانجي ،القاهرة ،ط ،1998 ،7ج ،1ص.241 :
((( ابن رشيق القيرواني ،العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده ،تحقيق محمد قرقزان ،دار المعرفة ،بيروت ،1988 ،ج،1
والناس فيها مختلفون :منهم من يؤثرها،
ُ ضروب كثيرة،ٌ ص ،649 :يقول ابن رشيق ،تحت عنوان (باب المبالغة)« :وهي
أشعر الناس
ُ مشهور من مذهب نابغة بني ذبيان ،وهو القائل: ٌ ويقول بتفضيلها ،ويراها الغاية القصوى في الجودة ،وذلك
وضحك من رديئه». َ من استجيدَ كذ ُبه،
ل الهامش رقم ،7الموالي. ((( انظر مث ً
((( في قول حسان:
يقطرن من ن َْجدَ ٍة دما
َ وأسيا ُفنا الج َف ُ
نات ال ُغ ُّر يلمع َن بالضحى لنا َ
انظر العمدة( ،م.س) ،ج ،1ص ،650 :والمرزباني ،الموشح ،تحقيق علي محمد البجاوي ،نهضة مصر للطباعة والنشر
والتوزيع ،القاهرة ،1965ص ،70-69 :والبيت في ديوان حسان بن ثابت ،تحقيق عبد أ .مهنا ،دار الكتب العلمية،
بيروت ،ط ،1994 ،2ص ،219 :ونقل المرزباني« :فقال له :ما صنعت شي ًئا ،قللت أمركم ،فقلت :جفنات وأسياف».
((( عبد الله بن المعتز ،كتاب البديع ،تحقيق إغناطيوس كراتشقوفسكي ،مكتبة المثنى ببغداد (د.ت) ،ص.65 :
خطابات 36
يتعلق بنوع من القول ترتبط طرافته بالتعبير عما ال يكاد يتصور في الذهن من األوصاف ،ولذلك مهد لذكر
أحد األبيات بقوله« :ثم أسرف الخثعمي حتى خرج عن حد اإلنسان»((( .وما يهمنا هنا هو وعي ناقد الشعر
بضرورة خروج الشاعر إلى اإلسراف في التعبير عن رؤيته للناس واألشياء ،وكأن األمر يتعلق بنوع من
االنزياح التركيبي الناتج عن االستجابة لضرورات السياق .ومعنى هذا أن الخطاب الشعري ينبغي أن يتسع
لمثل هذا اإلفراط ،ولمزيد من االبتعاد عن المعاني المباشرة لألشياء ،أي أن يتمكن الشاعر من اختراع
معانيه المتخيلة الخاصة .ويتصل مفهوم المبالغة بمفهوم آخر هو االستعارة ،ففي سياق الحديث عنها وجدنا
ابن قتيبة يقول« :وكان بعض أهل اللغة يأخذ على الشعراء أشياء من هذا الفن ،وينسبها فيه إلى اإلفراط
جائزا على ما َّبيناه من مذاهبهم ،كقول النابغة في وصف سيوف:
وتجاوز المقدار .وما أرى ذلك إال ً
ِ (((
الحباحــب»
نــار ُ
َ ِ
بالصفــاح وتوقــدُ نســج ُه
ُ المضاعــف
َ الســلوقي
َ تقــدُّ
قائم على أساس ٌ
مستساغ ٌ أمر
نوعا من الزيادة في المعنى وهو ٌتجاوز المقدار في صفة الشيء يشكل ً
قرينة تركيبية ،ودليل واضح على انفصال الخطاب عن مقام التواصل المباشر من أجل تأسيس المقام
الفني المنشود .هذا ما أدركه قدامة بن جعفر في حديثه عن مفهوم المبالغة« :وهي أن يذكر الشاعر ً
حال
من األحوال في شعر لو وقف عليها ألجزأه ذلك في الغرض الذي قصده ،فال يقف حتى يزيد في معنى ما
ذكره من تلك الحال ما يكون أبلغ في ما قصد»((( .وهكذا ارتبطت المبالغة بتأكيد معاني القول ،وهو ما نجد
صداه يتكرر في كتب البالغة والنقد(((.
مظهرا من مظاهر
ً تعتبر المبالغة التي شغلت النقاد والبالغيين ،كما شغلت الشعراء من قبل ومن بعد،
خطاب التفوق في الشعر العربي القديم .فقد أتاحت للشعراء التعبير عن المرئي وغير المرئي ،عن الواقعي
والخيالي ،وعن أبعد حدود المعاني الشعرية .وكان من تبعات ذلك اإلمعان في تحقير الخصوم ،والمبالغة
في ذكر عيوبهم ،بما في ذلك ما يتصل بأنسابهم وأعراقهم وألوانهم .أي أن المبالغة أتاحت للشعراء ترسيخ
متخيل التمييز ،بحيث أصبح األسود أو الزنجي أو الحبشي وغيرها ،من المعاني الشعرية المقبولة المتداولة.
كانت الكرامة اإلنسانية مرتبطة بمركزية اللون األبيض ،ولذلك لم يأبه الشعراء بالجانب النفسي في حياة
السود ،بل على العكس من ذلك كان ينبغي اختراع المزيد من الصور والمعاني التي ترسخ انحطاط فئة من
المجتمع على أساس العرق واللون.
((( األصمعي ،كتاب فحولة الشعراء ،تحقيق شارل توري ،دار الكتاب الجديد ،بيروت ،1980 ،ص.16 :
((( سيبويه ،الكتاب ،تحقيق عبد السالم محمد هارون ،مكتبة الخانجي بالقاهرة ،1988 ،ج ،1ص.26 :
((( المرجع نفسه ،ج ،1ص.32 :
((( األصمعي ،كتاب الفرق ،تحقيق صبيح التميمي ،دار أسامة ،بيروت ،1987 ،ص.56 :
((( ابن فارس ،ذم الخطأ في الشعر ،تحقيق رمضان عبد التواب ،مكتبة الخانجي ،القاهرة ،1980 ،ص.21 :
خطابات 38
مؤشرا على أهمية الضرورة الفنية في التعبير عن مختلف أحوال المعنى التي يبعث عليها السياق ،بما في
ً
ذلك السياق الثقافي وما يجيزه من ممارسات خطابية.
تبلور مفهوم الخطأ في النقد العربي القديم ،ولكن من أجل معالجة قضايا جزئية في عملية اإلبداع
متمحورا حول القضايا الصرفية والمعجمية والتركيبية وما يتصل
ً الشعري .ظل االهتمام بالخطأ في الغالب
بها من عيوب في الوزن واإليقاع ،ولم يتعده -بشكل واع -إلى الجانب التداولي للخطاب .أي أن مفهوم
قاصرا عن أن يؤطر الحديث عن األخطاء الفادحة في معاني الشعر التي تجيز الهجاء الفاحشً الخطأ كان
الذي يطعن في سالمة العرض وصحة النسب ،بل وغير ذلك مما يتعلق بلون اإلنسان ،في ظل هيمنة اللون
األبيض وترسخ متخيل التمييز ضد ذوي البشرة السوداء الذين كانت لهم أدوار هامشية في المجتمع.
-4-0مفهوم الخير والصالح
ارتبط الشعر عند العرب بالتعبير عن مأزق الذات في االنفصال والحنين واألحالم المستحيلة ،وعن
أزمات خانقة أخرى أبرزها الحرب وهجاء األعداء .كان الشر محد ًقا باإلنسان في بيئة قاسية ،لذلك ً
أيضا
ازدهر شعر التحدي والحماسة والعالقة مع القوى الخارقة التي تمنح النجاة من هشاشة الوجود وإكراهات
المجال .أي أن الشعر اكتسب طبيعته الجوهرية من بيئة الشر أكثر من تعلقه بموضوع الخير .وهكذا ،لم
يكن من الوارد أن يهتم الشعراء بالتعبير عن معاني األخوة اإلنسانية والتضامن مع الضعفاء والمحرومين
والتعاطف مع الفئات المهمشة ،مثل العبيد .بل وقع االهتمام بما يضمن استمرار وظائف المنظومة الرمزية
ً
انفصال القائمة على أساس مركزية النسب والعرق واللون .وهكذا ،فإن كل انزياح عن هذا الرهان سيشكل
«الشعر نكد بابه الشر ،فإذا دخل في الخير
ُ وصدمة في التلقي .ولعل هذا هو ما حدا باألصمعي إلى أن يقول:
فحل من فحول الجاهلية ،فلما جاء اإلسالم سقط شعره»((( .فالشاعر يمكن أن ضعف ،هذا حسان بن ثابت ٌ
يفقد فحولته ألن تجربته الشعرية وقع فيها انفصال حاد ،بحيث أصبح من الممكن أن نتحدث عن تصنيف
جوهري يتقابل فيه الخير والشر .كما أنه لم يبعث على نفي الفحولة عن لبيد بن ربيعة سوى خ ُلقه الفاضل،
صالحا كأنه ينفي عنه جودة الشعر»((( .إذ ينص
ً إذ ورد في كتاب الفحولة« :وقال لي مرة أخرى :كان ً
رجل
صراحة على تعارض جودة الشعر مع الصالح في الحياة ،وهو ما ينسجم مع ما أشرنا إليه من أن تحقير
السودان وهجاء العبيد شكل أحد عناصر المتخيل الشعري ،وهو ما لم يكن ُيقابل بأي اعتراض واضح
في مجال النقد ،ألن صوت ما يمكن أن نطلق عليه نقد مركزية األخالق ،أو على األقل النقد األخالقي
كان صوتًا خاف ًتا ال يكاد ُيسمع وسط الجلبة الهائلة لشعر الحماسة والفخر والهجاء وهدير المدح الذي
قائما على أساس التالعب بأهواء يتمحور حول صناعة نموذج اإلنسان الكامل .كان الخطاب الشعري ً
أيضاقرائه وسامعيه ،وكان الشعراء يتنافسون في إعادة إنتاج التمثالت بحسب ما يتسع له كل سياق .ولذلك ً
تنافر كبير بين الخطاب الشعري والخطاب الديني .وإذا كان اختالف النقاد في هذا السياق قد كاد حدث ٌ
((( ابن قتيبة ،الشعر والشعراء ،تحقيق أحمد محمد شاكر ،دار الحديث ،القاهرة ،1998 ،ج ،1ص.305 :
((( انظر األصمعي ،كتاب فحولة الشعراء ،تحقيق شارل توري ،دار الكتاب الجديد ،بيروت ،1980 ،ص .15
39 اخلطاابت العنرصية :قراءات نقدية
يحسم بمبدأ «والدين بمعزل عن الشعر»((( ،فإن ذلك لم ينتج عنه صياغة مقوالت وكليات ترسخ احترام
الكرامة اإلنسانية وتكره تحقير العبيد وتشويههم ،بل نتج عنه المزيد من الحرية أمام الشعر ،على أساس أن
«الصدق غير ملتمس من الشاعر ،وإنما المراد منه حسن القول في المبالغة في الوصف .والشعر في فنون
الباطل واللهو أمكن منه في فنون الصدق والحق»((( .لم تكن للعبيد حقوق تحفظ كرامتهم ،ألنهم كانوا
مستعبدين يباعون ويشترون في األسواق كسائر البضائع .ولكن ،حتى لو كان من حق الشعر أن يدافع عنهم
مظهرا
ً ً
مسترذل ،ألنه سيؤدي إلى إنتاج معان كان النقاد ينظرون إليها بوصفها فإن مثل هذا الدفاع سيكون
من مظاهر الضعف واإلسفاف.
تشكل خطاب التفوق في الشعرية العربية القديمة أدى إلى ترسيخ نوع وعلى العموم ،فإننا نتصور أن ّ
من الممارسات العنصرية ،بحيث أصبح تبنينها في النص مسألة جمالية خالصة .إن معاني الشعر بالنظر إلى
الترسخات الرمزية تكاد تكون جاهزة ،بحيث ال مزية لصانع الخطاب فيها سوى جودة الرصف وحسن
السبك .وكان من الممكن أن يتم إبطال المعاني التي تتعارض مع الكرامة اإلنسانية ،لكن القول الشعري
مهيبا،
في نهاية المطاف استطاع أن يؤسس شرعيته ورمزيته غير القابلة للنقض .أصبح الشعر خطا ًبا رمز ًيا ً
ال ينبغي المساس به ،ولكن يمكن تفسيره وتأويله وتصويبه من غير «إفساد» مجاله الحيوي بنوع من اإللزام
المسبق أو التوجيه القسري إلى الحديث عن أمور أخالقية كان من األولى أن تحتكر الحديث عنها خطابات
أخرى.
((( القاضي الجرجاني ،الوساطة بين المتنبي وخصومه ،تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم وعلي محمد البجاوي ،المكتبة
العصرية ،صيدا بيروت ،ط ،2006 ،1ص.63 :
((( ابن وكيع ،كتاب المنصف للسارق والمسروق منه ،تحقيق عمر خليفة بن إدريس ،منشورات جامعة قاريونس ،بنغازي،
ط ،1994 ،1ص.128 :
((( انظر الرابط أسفله:
https: //www.larousse.fr/dictionnaires/francais/imaginaire/41613
https: //www.larousse.fr/dictionnaires/francais/imaginaire/41613
خطابات 40
تنظيمها باستمرار ،هكذا أصبح للمتخيل مجاله المتميز ،إذ تكمن أهميته لدى جيلبر ديران في بلورة ما
يسميه المسافة األنتروبولوجية ،أي التبادل الدائم الذي يوجد على مستوى المتخيل بين الدوافع الموضوعية
واإليحاءات الذاتية المحايثة للوضع الكوني واالجتماعي((( .ويكاد المتخيل يلتبس ً
أيضا بالتمثل ،غير أنه إذا
كان التمثل يرتبط بمجرد استحضار الحقائق الخارجية التي تم إدراكها ،على مستوى الذهن ،فإن المتخيل
يتجاوز ذلك إلى نوع من اإلدراك اإلبداعي((( .بل أصبح مدلول المتخيل يرتبط بالخيال الرمزي أكثر من
ارتباطه بمجرد الخيال اإلبداعي((( .وعلى العموم ،فالمتخيل هو موضوع التخييل ،وباعتباره موضوع التخيل
الحر يكون موجو ًدا خالل اإلبداع وخالل التلقي ،مثله مثل الخيال((( .وكونه موضوع التخييل ال يعني أنه
مفارق للواقع أو نقيض له ،إنه على العكس ،يعد وثيق الصلة بالوعي مثله مثل الواقع((( ،بل إن المتخيل،
على نحو ما يكون أكثر واقعية من الواقع ،ألنه داخلي ويضبط الموقف المنجز للوعي((( .ولكن مم يتكون
المتخيل؟ وكيف يتشكل بالقدر الذي يساعد على الفهم والتموضع إزاء الواقع لتجنب إكراهاته أو إنتاج
رهاناته المنشودة؟ يرى لوبيز أماديو أن المتخيل يشمل مجموع الصور التي ينتجها الوعي ،سواء كانت ذات
طبيعة هستيرية ،حلمية ،أسطورية ،عجائبية ،أو نتيجة نشاط إبداعي حر ألوضاع وكائنات من الخيال((( .من
هنا تنبع أهمية المتخيل في فهم االستعارة والمجاز وتفكيك الصور التي يبنيها الخطاب بحرص وعناية ،وال
سيما الخطاب الشعري ،الذي تتأسس جماليته على االبتعاد ما أمكنه ذلك عن لغة الواقع اليومي بواسطة لغة
رمزية تتفاعل مع هذا الواقع من أجل تغييره أو على األقل التعبير عن مفارقاته.
وقد كانت للشعراء العرب منذ الجاهلية تمثالتهم الخاصة ،وحاولوا التعبير عن إحساساتهم وعواطفهم،
شاعرا
ً وتحولت هذه المحاوالت إلى عالم متداخل ومعقد من الرموز .ولنا أن نتصور أن الشاعر باعتباره
معنيا في المقام األول بمجرد اإلقامة في العالم المادي الذي يكبله بما هو لحظي وطارئ ،بللم يعد ً
إنه ينشد الشعر كلما أتيح له ذلك ليعيش بالفعل في عالم رمزي .كانت ُعدة الشاعر األساسية هي اللغة
التي طوعها للتعبير عن هواجسه وأحالمه وأوهامه ،وهي على العموم من الخيوط األساسية التي تحاك
منها الشبكة الرمزية ،أعني النسيج المعقد للتجارب اإلنسانية((( .إن ما ظل يسحرنا في الشعر الجاهلي
((( �Les structures anthropologiques de l’imaginaire- Introduction à l’archétypologie générale, Gilbert Du
.rand, DUNOD, 2016, P: 20
((( .JACQUES LE GOFF, L’imaginaire médiéval, Editions Gallimard, Paris, 2013, P: 3
((( :Brigitte Munier, L’imaginaire, un concept-voyou, Article disponible en ligne à l’adresse
.https: //www.cairn.info/revue-hermes-la-revue-2018-1-page-51.htm
((( انظر شاكر عبد الحميد ،الخيال من الكهف إلى الواقع االفتراضي ،عالم المعرفة ،الكويت ،2009 ،ص.48-47 :
((( .López Amadeo. Le réel et l’imaginaire. In: América: Cahiers du CRICCAL, n°12: 45
(6) Le réel et l’imaginaire: 46.
((( .Le réel et l’imaginaire: 41
((( إرنست كاسيرر ،مدخل إلى فلسفة الحضارة اإلنسانية ،أو مقال في اإلنسان ،ترجمة إحسان عباس ،دار األندلس،
بيروت ،1961 ،ص.67 :
41 اخلطاابت العنرصية :قراءات نقدية
مثل ليست المعاني واألفكار التي يمكن تجريدها من هذا الشعر وإحصاؤها ،وإنما مجموع الهواجس ً
والعواطف والمواقف التي تم التعبير عنها بحسب كل مقام ،مع أشكال االتصال واالنفصال التي يتاح لنا
أن نتأملها في طريقة التعبير وأسلوبه .ومعنى هذا ،أن الشاعر العربي القديم أدرك أهمية التعبير عما يتجاوز
ضرورات الحياة الواقعية ،أي أنه أدرك جاذبية التعبير عن أحالمه بالنسبة لمتلقي شعره .ذلك أن اإلنسان
ال يعيش في عالم من الحقائق الصلدة أو حسب حاجاته ورغباته المباشرة ،وإنما يعيش في وسط عواطف
متخيلة وفي اآلمال والمخاوف وفي انتحال األوهام ورفضها وفي تصوراته وأحالمه((( .هكذا ،يكتسي
المتخيل أهميته من قدرته الفائقة على اختراق حواجز العلم والمعرفة التي يحاول اإلنسان أن يضبط من
خاللها حدود وجوده .الوجود أكبر من أن تحيط به المعرفة التي يتم تنميطها ،وحياة اإلنسان تتسع لعوالم
ً
محركا للفعل والتاريخ .المتخيل -خال ًفا لما قد أخرى غير مرئية((( .ولذلك ً
أيضا ينظر للمتخيل باعتباره
يظن -ليس مجموعة من األوهام المحلقة ،وال هو خيال عرضي زائد وخامل وفاقد التأثير في التاريخ
جماعيا والتي تتمتع
ً والمجتمعات ،بل هو نسق من التصورات والتمثيالت والقيم واالفتراضات المشتركة
بحضور قوي وفاعل في الممارسات التي تؤثر في األفراد وتحرك المجتمعات((( .وهذا ما ينطبق على
وملهما.
ً محرضا على الفعل
ً منتجا للمتخيل وحاض ًنا له ،فقد كان الشاعر بالفعل
الشعر العربي بوصفه ً
شكل منظومة متكاملة ارتبطت وظيفتها بإعادة إنتاج القيم التي تحظى واعتبر الشعر ديوان العرب ،أي َّ
بقبول الطبقة المهيمنة في المجتمع ،بحيث كانت تمنح لنفسها حق تصنيف الهويات وتقييمها ،بكل ما
يؤدي إليه ذلك من ترسيخ التفرقة والتمييز ،وهو ما حدث للعبيد خاصة ،وللسود عامة.
استطاع الشعر العربي أن يتمثل المنظومة الرمزية السائدة في الجاهلية ،كما استطاع أن يستوعب مجموع
التحوالت الدينية والسياسية واالجتماعية التي كان يفرضها منطق التطور في الزمان والمكان وعالقات
التفاعل والتثاقف والحوار .غير أن الشعر العربي لم يكن يفقد هويته في كل مرة ،بل حافظ على رمزيته التي
تكونت عبر السنين ،أي حافظ على نسق تخييالته المكتسبة ،وأضاف إليه الشعراء ما استجد من تجاربهم
وتجارب مجتمعاتهم وظروف حياتهم باستمرار .وبالموازاة مع تدفق المادة الشعرية عبر مختلف الحقب،
أيضا .فقد تعقب النقاد ما كان ينتجه الشعراء ،وحاولوا فهم كان للنقاد والبالغيين تصوراتهم الخاصة ً
قصائد أشعارهم مجتمعة ومتفرقة ،وذلك في ضوء التقاليد والعادات والعقائد والتشريعات ،وفي ضوء
تبعا الختالفهم في أمور الدين
المعارف المتخصصة والعلوم باختالف أصنافها .واختلفوا في ذلك وائتلفوا ً
والسياسة والمعامالت االقتصادية ،وما نتج عن ذلك من حروب وفتن وهجرات ،وكذا من تحضر ورقي
وازدهار .وإن ما يلفت االنتباه في مسار االشتغال على فهم الشعر العربي القديم هو قدرة الشعراء والنقاد
معا على الترميز وإنتاج المعنى .ولكن ،بينما كان الشعراء سباقين إلى صناعة خطاب اإلبداع فأسسوا لذلكً
أسطورة الشعر وأسبقية المعنى على الفهم ،ظل النقاد منشغلين بجزئيات النص غافلين عن التفاعل مع
مقاصد الخطاب ورهاناته .ومن هنا ترسخ متخيل التمييز ضد العبيد والسود وغيرهم من الفئات المهمشة،
في سياق كانت تعين عليه مختلف مظاهر الطغيان واالستبداد التي كانت تعمل للحفاظ على مصالح الطبقة
المهيمنة واستدامة التبعية واالستعباد .بما في ذلك توجيه الشعر وتطويعه لخدمة المعاني التي توافق مزاج
الحاكم .وهكذا ،صار هذا التمييز نفسه بنية فنية في النص الشعري ومكونًا من مكوناته الجمالية .كيف
حدث ذلك؟ وما هي بعض معالم إنتاج التمثالت في الشعر العربي القديم؟
-2-2إنتاج التمثالت في الشعر العربي
لعل من أبرز ما يساعد في الوقوف على طبيعة اشتغال المتخيل في الشعر العربي القديم ونقده في
سياق استشراف ترسخات العنصرية وممارساتها ،أن حياة اإلنسان العربي في البيئة التي عاش فيها كانت
محفوفة بالفعل بما يؤدي إلى ترسيخ ثقافة يمتزج فيها الواقعي بالخيالي ،والمعقول بغير المعقول ،وأن هذا
االمتزاج كان يعد جز ًءا من التنشئة االجتماعية لألفراد الذين سيعيدون بدورهم إنتاج قيم المجتمع ومكونات
المنظومة الرمزية التي تؤطره .يقول الجاحظ متحد ًثا عن ظروف االعتقاد بوجود الغيالن وغيرها« :وإذا
استوحش اإلنسان تمثل له الشيء الصغير في صورة الكبير ،وارتاب ،وتفرق ذهنه ،وانتقضت أخالطه،
فرأى ما ال ُيرى ،وسمع ما ال ُيسمع ،وتوهم على الشيء اليسير الحقير ،أنه عظيم جليل .ثم جعلوا ما تصور
وربي به الطفل،
شعرا تناشدوه ،وأحاديث توارثوها فازدادوا بذلك إيمانًا ،ونشأ عليه الناشئُ ،
لهم من ذلك ً
فصار أحدهم حين يتوسط الفيافي ،وتشتمل عليه الغيطان في الليالي الحنادس-فعند أول وحشة وفزعة،
وعند صياح بوم ومجاوبة صدى ،وقد رأى كل باطل ،وتوهم كل زور ،وربما كان في أصل الخلق والطبيعة
نفاجا ،وصاحب تشنيع وتهويل ،فيقول في ذلك من الشعر على حسب هذه الصفة ،فعند ذلك يقول: كذا ًبا ً
وكلمت السعالة! ثم يتجاوز ذلك إلى أن يقول قتلتها ،ثم يتجاوز ذلك إلى أن يقول رافقتها!
ُ رأيت الغيالن!
ُ
ثم يتجاوز ذلك إلى أن يقول تزوجتها!»((( .يسمح لنا هذا النص العميق باستخالص المالحظات اآلتية:
-إدراك الجاحظ أهمية الطبيعة والحس في تشكل وعي اإلنسان ومتخيله ،هذا المتخيل ال ينشأ من
فراغ ،وإنما يحدث عندما يتأتى لإلنسان أن يعيش تجربة االستيحاش ،أي عندما ُيتاح له أن يحتك
مصدرا للمعرفة ،ألن الوهم نفسه
ً بالواقع .فهذه التجربة حتى ولو نتج عنها مجرد الوهم ،تظل
مقياس لمعرفة الحقيقة ،وتحصيل ذلك محفوف بالصعاب ،مثلما ينبغي أن يحدث في طلب أي
علم باألشياء.
-أن التمثالت الحاصلة من حال االستيحاش ينتج عنها تكوين صور .ويكتسي هذا اإلدراك أهمية
بالغة ،ألن هذه الصور المتخيلة تتراكم فتنتج عنها صور أخرى وتتحول في الخطاب إلى رموز،
وينفصل اإلنسان عن واقعه ليعيش في عالم هذه الصور والرموز ،أي في عالم المتخيل.
((( الجاحظ ،الحيوان ،تحقيق عبد السالم محمد هارون ،مطبعة مصطفى البابي الحلبي ،القاهرة ،1965 ،ج ،5ص.251-250 :
43 اخلطاابت العنرصية :قراءات نقدية
-أن إدراك األوهام ناتج عن اضطراب نفسي وفيزيولوجي لدى اإلنسان ،فالخوف واالرتياب الشديد
أمر يثبته علم األعصاب وتشريح الدماغ في عصرنا(((. يؤدي إلى انتقاض األخالط ،وهذا ٌ
-أن الحواس (البصر ،السمع )..ليست بالضرورة مصادر موثوقة لمعرفة الحقيقة((( ،بل ربما كانت
مجرد شرارة الشتعال الوهم حيث يمكن لإلنسان أن يرى ما ال ُيرى ،ويسمع ما ال ُيسمع.
-أن تصورات اإلنسان «الزائفة» قابلة ألن تتحول من مجرد إدراك ساذج إلى مواقف تظهر على مستوى
الخطاب الشعري.
جمعيا ،تصبح أكثر قابلية للترسخ (فازدادوا بذلك إيمانًا) ،عن
ًّ ً
متخيل -أن هذه التصورات باعتبارها
طريق التناشد والتوارث.
-أن طبع اإلنسان يساعده على تطوير األوهام والتخيالت التي يتم إعادة إنتاجها في سياق التنشئة
االجتماعية ،منذ مرحلة مبكرة من حياته.
أيضا على اإلنسان عندما يستنكر االستبداد والطغيان ويستوحش من الظلم غير أن هذا يمكن أن يسري ً
كثيرا ما كانت تُلجئ الشاعر إلى التعبير عن والجبروت ،ومن الفقر والمرض وغيرها من المؤرقات التي ً
رغبته الدفينة في االنفصال عن حياته االجتماعية والرجوع إلى رحم الطبيعة ،كما يبرهن على ذلك احتفال
الشعراء الالفت بوصف كائنات الصحراء .وهكذا ،فليس ثمة ما يمنع من أن نعتبر أن الشعر في مجمله
يقوم على أساس عالم المتخيل وليس عالم الواقع الحسي ،ألن الشاعر يرى ما ال ُيرى ويسمع ما ال ُيسمع،
ويتحسس ما ال يكاد يأبه به أحد .وبالتالي فمضمرات خطابه أكثر أهمية مما يصرح به عادة.
دليل على الوعي بأهمية المتخيل في الشعر العربي ،فالشعر في نهاية المطاف ينبغي أن يعتبر هذا النص ً
خادعا وتنتج عنهً غالبا ما يكون
يكون سلسلة من الصور الناتجة عن اتصال الحواس بالواقع .هذا االتصال ً
في الشعر معرفة «زائفة» ،لكنها معرفة أساسية يحتفي بها الخطاب ويعمل على ترسيخها ،بل تشكل أهم
مظهر من مظاهر سلطة هذا الخطاب ،سلطة يمارسها عبر المتخيل .إذ في ضوئه بنى اإلنسان حقائقه الزائلة
أيضا سنحاول االقتراب من متخيل وأوهامه المقيمة ،في ظالله تحدث عن مقاصده وضروراته .وفي ضوئه ً
العنصرية في تراثنا الشعري .ولعل أبرز ما نستهل به هذا االقتراب هو الحديث عن متخيل اللون األسود.
-3-2متخيل اللون األسود
ً
وارتباطا بذلك ،تم اقترن شيوع الممارسات العنصرية بفكرة نقاء األجناس وتفاوتها ،منذ زمن قديم(((.
(1) See NEUROSCIENCES- à la découverte du cerveau, Mark F. Bear • Barry W. Connors • Michael A.
Paradiso, Traduction et adaptation André Nieoullon, Éditions Pradel, Paris, 2016, p: 622.
وما بعدها ،حيث يتم الحديث عن بدايات التنظير للتفاعالت التي تجري في الدماغ جراء مختلف العواطف التي يحس
بها اإلنسان ،في خضم حياته الواقعية أو المتخيلة.
((( جون روجرز سيرل ،رؤية األشياء كما هي ،ترجمة إيهاب عبد الرحيم علي ،عالم المعرفة رقم ،456الكويت ،يناير
،2018ص ،66 :وما بعدها.
((( انظر مصطفى الخشاب ،مادة «عنصرية» ،في إبراهيم مدكور وآخرون ،معجم العلوم االجتماعية ،الهيئة المصرية العامة
للكتاب ،القاهرة ،1975 ،ص.433-432 :
خطابات 44
رمزا للوضاعة واالحتقار ،في المتخيل العربي منذ فترة ما قبل اإلسالم.
النظر إلى اللون األسود بوصفه ً
ومما ال شك فيه أن اإلنسان األسود كان يالقي بعض الصعوبات في حياته االجتماعية ،وتنشأ عن ذلك
أزمات نفسية ،فقد قال اإلمام ابن الجوزي في مقدمة كتابه تنوير الغبش« :أما بعد ،فإني رأيت جماعة من
أخيار الحبشان تنكسر قلوبهم ألجل اسوداد األلوان ،فأعلمتهم أن االعتبار باإلحسان ال بالصور الحسان،
ووضعت لهم هذا الكتاب في ذكر فضل خلق كثير من الحبش والسودان»((( .وكان يفترض أن يشكل
هذا الموقف قاعدة لصناعة خطاب معاد لكراهية السود ونقض التمييز ضدهم ،لكننا نجد ابن الجوزي
نفسه يستسلم إلعادة إنتاج التمثالت السلبية عن اإلنسان األسود ،في إشارته إلى عبد بني الحسحاس(((،
وسحيم((( ،وغيره(((.
محببا عندما
ً محببا في لون الشعر ،والسيما لدى النساء ألنه رمز للصبا والشباب ،كما كان
ً كان السواد
يختلط بالبياض في العينين ألنه عالمة من عالمات الحسن والجمال .لكن سواد البشرة على العموم كان
يشكل رمز انتماء اجتماعي مثقل بالوضاعة واالحتقار ،ألن العرب استعبدوا السودان القادمين من الحبشة
وغيرها ،قبل أن تصبح تجارة العبيد بضاعة رائجة ،سيعمل اإلسالم بطرق مختلفة على إبطالها((( .ولكن،
على الرغم من ذلك فقد أصبح العبيد يشكلون طبقة دنيا في المجتمع ،وأصبح أفرادها محرومين مما
كانت تخوله الحياة االجتماعية من مظاهر التواصل اإلنساني القائم على أساس التعاطف واالحتضان.
أصبح العبيد عالة على المجتمع ،وعب ًئا على وجودهم الذي تحدق به الكراهية من كل جانب .فالعبد فاقد
للحرية ،وال يملك التصرف في إرادته ،لكنه في نفس الوقت إنسان مرهف الحس واسع األمل وال حد
((( ابن الجوزي ،تنوير الغبش في فضل السودان والحبش ،تحقيق مرزوق علي إبراهيم ،دار الشريف للنشر والتوزيع،
الرياض ،1998 ،ص .29 :وقد حاولت الثقافة العربية اإلسالمية تجاوز إشكالية اإلحساس بالغبن والتمييز من قبل
أيضا إلى هذا األمر في كتابه «فخر السودان على السود بخاصة ،منذ فترة مبكرة من عصر التدوين ،وأشار الجاحظ ً
البيضان»( ،انظر ،رسائل الجاحظ ،ج ،1تحقيق عبد السالم محمد هارون ،مكتبة الخانجي بالقاهرة( ،د.ت) ،ص،173 :
ترسيخا لنوع من االنقسام الحاد في تصنيف الناس على أساس ً وما بعدها) ،ولكن هذه المحاولة لم تزد في الواقع إال
اللون ،بما في ذلك ترسيخ مركزية اللون األبيض .فقد كان اإلنسان األسود موسو ًما بالنقص أو غموض األصل ،وكان
عليه أن يثبت في محنة إثبات العكس ،لذلك كان المعول على البطولة أو البالغة أو الورع ،أو غير ذلك من مظاهر ذكاء
السود وفطنتهم وكمال عقولهم ،بحسب مقاصد هذا الخطاب الذي حاول التعبير عن موقف مناهض لكراهية السود ،أو
على األقل إدماج نوابغهم وأهل الفضل والمزية منهم في المنظومة الرمزية للمجتمع العربي اإلسالمي.
((( المرجع نفسه ،ص.165 :
((( المرجع نفسه ،ص.167 :
رمزا للغول أو الجني المفزع ،أي كائنًا منبو ًذا يعيش مختف ًيا في
((( المرجع نفسه ،ص ،188 :حيث يصبح اإلنسان األسود ً
هامش يتعارض مع الضروري مما يحفظ الكرامة اإلنسانية ،حتى وإن كان سرد مثل هذه القصص يراد منه ضرب المثل
لما يصلح أن يعد من مفاخر السودان.
جوهرا في التفاضل بينهم ،بل يكون ذلك على أساس ً ((( يحفل القرآن الكريم بالتنبيه على المساواة بين الناس وأن اللون ليس
التقوى والعمل .ثم تقرر في السنة أن عتق العبيد ليس مجرد مكرمة أخالقية ،بل مرتبة من مراتب تحقيق اإليمان .ولم
يحدث قط أن تم التنظير في علوم الشرع لما من شأنه أن يحط من الكرامة اإلنسانية على أساس اللون ،لكن الممارسات
االجتماعية التي تعيد إنتاج المتخيل الراسخ في الوعي الجمعي كانت توحي بوجود كراهية جاهزة للسود وتمييز مضمر
مثل :السيد محمد عاشور ،التفرقة العنصرية ،مكتبة المهتدين ،القاهرة ،1986 ،ص.201 : أو صريح ضدهم .وانظر ً
45 اخلطاابت العنرصية :قراءات نقدية
لطموحه .غير أن هذا الطموح كان يتعرض للتضييق والحصار باستمرار ،وال سيما في ظل ترسخ ثنائية
الحر والعبد .كان وضع «الحر» مقا ًما يجلب التقدير واالحترام ،اإلنسان الحر ُيتجاوز عن سقطاته وأقصى
ما يحذره في مجال التواصل هو أن ُيالم ،أما وضع «العبد» فكان يجلب الوضاعة واالحتقار ،والعبد إذا هفا
ينبغي أن ينال ما يستحقه من عقاب شديد .وقد عبر بشار بن برد عن ترسخ هذا االنقسام في قوله:
ِ (((
الحر ُيوصى والعصا للعبد
ُّ
كثيرا باإلشارة إلى متخيل اللون األسود ،السيما في المصنفات التي عنيت بالحديث واحتفل الخطاب ً
مثل فيعن األنساب ،وهي مسألة شائكة ظلت مبعثًا للنزاع والصراع .فقد خصص محمد بن حبيب ً
خاصا عنوانه« :أبناء الحبشيات»((( ،ومنهم عمر بن الخطاب(ض) ،يقول ابن حبيب: كتابه المحبر ً
فصل ً
عير عمر بن الخطاب فقال له« :يا ابن السوداء!» فأنزل «وذكروا أن ثابت ابن قيس بن شماس األنصاري َّ
خيرا منهم« «((( .الثابت إذن أن
الله تبارك وتعالى» :يا أيها الذين آمنوا ال يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا ً
ً
ودليل ماد ًيا لالنتماء العرقي .وتم النظر إلى هذا األمر في عنصرا للتصنيف االجتماعيً اللون األسود كان
دال لمدلول يرتبط بمنظومة رمزية ،هي منظومة الحياة الجاهلية ،فقد قال القرطبي مرحلة الحقة بوصفه ً
في تفسيره« :هذه اآلية والتي بعدها تأديب لألمة ،لما كان فيه أهل الجاهلية من هذه األوصاف الذميمة
التي وقع النهي عنها»((( .إشارة أبي حيان إلى مفهوم «األمة» إدراك واضح لقوة السخرية من منطلق عرقي
عنصري على تدمير وحدة المجتمع أو األمة .وهو يقابل هنا بين مجالين :مجال الجاهلية حيث كانت
تشيع هذه «األوصاف الذميمة» ،ومجال األمة التي تحتاج إلى «التأديب» بضرب المثل وغيره مما يسمح
بالمقارنة بين األحوال والمآالت ويفضي إلى ترسيخ الحكمة وتحقيق مقصد الحياة الكريمة القائمة على
غالبا هي مصدر الشقاء في حياة اإلنسان األسود ،ليس ألنها أساس التآخي والتعاضد .وقد كانت األم ً
وآت من ٍ
بعيد إلى بيئة ال ترحم الضعفاء .لم يكن ضعيف ٍ ٌ ٌ
طرف مسؤولة عن توريث لونها ،ولكن ألنها
للحبشية سوى جسدها الذي تستهلكه الشهوة العابرة ،لم يكن لها نسب معروف وال تاريخ يوقف على
أمر كان يبعث على احتجاج مكتوم أو غضب أمجاده ،لذلك كانت ترتبط بأصل منبوذ ليس له امتداد ،وهذا ٌ
ساطع ،يمكن تقديره فيما يتم التصريح به مباشرة ،أو فيما يظل كام ًنا في مضمرات الخطاب.
كانت العبودية مجرد ممارسة اجتماعية فرضتها ظروف تاريخية خاصة ،ولذلك كان االنعتاق منها ممك ًنا
بفضل تعاليم منظومة متكاملة جديدة ،كما حدث مع اإلسالم ،وكما سيحدث مع مبادئ حقوق اإلنسان في
رأساعصرنا الحديث ،أو بفضل الجهد الفردي ،الذي يستطيع أن يقلب سلم القيم في المجتمع -مؤق ًتاً -
((( بشار بن برد ،ديوانه ،تحقيق محمد الطاهر ابن عاشور ،منشورات لجنة التأليف والترجمة والنشر ،القاهرة ،1954 ،ج،2
ص ،224 :وفي رواية أخرىُ « :يلحى بدل يوصى».
((( محمد بن حبيب ،كتاب المحبر ،تحقيق إيلزة ليختن شتيتر ،منشورات المكتب التجاري ،بيروت( ،د.ت) ،ص،306 :
أيضا المنمق في أخبار قريش ،تحقيق خورشيد أحمد فاروق ،عالم الكتب ،بيروت ،1982 ،ص.400 : وانظر ً
((( محمد بن حبيب ،كتاب المحبر ،ص.306 :
((( أبو حيان األندلسي ،تفسير البحر المحيط ،تحقيق عبد الرزاق المهيري ،دار إحياء التراث العربي ،بيروت ،ج ،8ص:
،160حيث يذكر أبو حيان سب ًبا آخر لنزول هذه اآلية.
خطابات 46
على عقب ،كما فعل عنترة وغيره ،أي من خالل التعويل على خطاب التفوق البليغ الذي أصبح بدوره
أحد مظاهر متخيل العجيب والمدهش ،كما يستشف ذلك من قصة الدارمية الحجونية مع معاوية ،إذ على
الرغم من أن قصتها في هذا السياق إنما بنيت على أساس تبئير بالغتها إال أن صوت الراوي يبدو متعاط ًفا
مع صوت محاورها الذي يستدعي ماضيها العميق الغامض ،وهي صيغة خطابية واضحة للتعريض ،فقد تم
تقديم الخبر على الشكل اآلتي« :قال :حج معاوية سنة من سنيه فسأل عن امرأة يقال لها الدارمية الحجونية
كانت امرأة سوداء كثيرة اللحم ،فأخبر بسالمتها ،فبعث إليها ،فجيء بها ،فقال لها :كيف حالك يا ابنة حام،
قالت :بخير ،ولست لحام إنما أنا امرأة من قريش من بني كنانة من بني أبيك( .(((»)...كيف يتجسد مكر
الخطاب من خالل هذا اللقاء المستحيل الممكن؟ نسجل بهذا الصدد المالحظات اآلتية:
-أن الضرورة التي كانت تؤطر اللقاء هي محاولة تأنيب األصوات المعارضة الستالم زمام الحكم.
وقد اعتنت األخبار عقب انتصار معاوية بمحاولة استقصاء األبعاد النفسية الدفينة الستماتة أنصار
علي(ض) في الوفاء له والبقاء على عهد محبته .أي أنه كان هناك سياق عام يستدعي صناعة خطاب
يعمل على إصالح عطب الفرقة ،وتلطيف األجواء من مخلفات أعمال العنف والكراهية .وبالتالي،
فإنه ومهما حدث من أمر هذه المرأة «الفظة» فإن الحاكم (معاوية) سيظهر من الحلم والكياسة
مؤشرا على كفاءته لتولي أمور الناس.
ً الرفق واللين) ما يعد
ورجاحة العقل (إيطوس ِّ
-أن اإلشارة إلى لون المرأة وشكل جسدها« :كانت امرأة سوداء كثيرة اللحم» ،غير بريء من تحامل
الراوي على تموضعها في هذا المقام التواصلي .وكأن هذا الوسم ذا البعد العنصري هو الذي هيأ
للصوت اآلخر أن يقول« :كيف حالك يا ابنة حام» ،وهو سؤال مبطن بالسخرية ألن أبناء حام في
متخيل الثقافة السائدة رمز للزنج ،قال ابن األثير في الكامل« :وصارت بقية ولد حام بالسواحل من
النوبة والحبشة والزنج»((( .أي أن الخطاب(اللوغوس) يموقع هذه المرأة ضمن «الغريب الوافد»
من بعيد ،وهو وضع قلق غير مريح ،يجعلها الطرف المنفعل في الخطاب وليس الفاعل ،على الرغم
من تأطير أقوالها ضمن «بالغة النساء» .إنها بالغة ُيراد منها أن تدعم النسق وترسخه ،ولم يكن قد
حان الوقت بعد ألن تُفهم في سياق العمل على فضحه وتقويضه.
-أن رفض المرأة لربطها بحام ،دليل على إحساسها بوقع السخرية (باطوس النقص) .كما يرتبط
هذا الرفض بتأكيد انتمائها إلى أرومة قريش «المبجلة» ،ذلك أن األسود عمو ًما ال يمكنه أن يفرح
ويطمئن باالنتماء إلى هذا العالم األسود المنغلق ،بالنسبة إليه ال يوجد إال منفذ واحد للخروج،
((( أحمد بن أبي طاهر ،بالغات النساء ،تحقيق أحمد األلفي ،مطبعة مدرسة والدة عباس األول ،القاهرة ،1908 ،ص.76 :
((( ابن األثير ،الكامل في التاريخ ،ج ،1تحقيق عبد الله القاضي ،دار الكتب العلمية ،بيروت ،1987 ،ص .63 :واعتبرت
زعما بأن الله قد لعن األفارقة السود بالعبودية األبدية ،وقد استخدم ذلك
النسبة إلى حام بمثابة لعنة ،أي «لعنة حامً ،
كأحد أعظم المبررات للعبودية على مدى آالف السنين» ،انظر إيان لوو ،العنصرية والتعصب العرقي من التمييز إلى
أيضا سفر
اإلبادة الجماعية ،ترجمة عاطف معتمد وآخرون ،المركز القومي للترجمة ،القاهرة ،2006 ،ص .38 :وانظر ً
التكوين اآليات.25-18 :
47 اخلطاابت العنرصية :قراءات نقدية
يفضي بالضرورة إلى العالم األبيض((( .وقد حرص الخطاب في النهاية على إيجاد نوع من القرابة
بين المرأة السوداء «المعارضة» وبين الحاكم الذي لم يبايعه كل الناس بحيث يشعر بعضهم أنه
مجرد مغتصب للسلطة .المهم أن التوافق حدث بين الطرفين ،وهو إيذان بأهمية التهدئة أثناء أو في
أعقاب صراع سياسي شرس نتج عنه ظهور مواقف ومذاهب واعتقادات شتى .وكان من الطبيعي أن
أمر مهم من أجل استمرار الحياة.يحرص الخطاب على حصول التفاهم ،فتجاوزُ الخالف ٌ
-4-2خطاب الفخر ومتخيل الوضع االجتماعي
ما هو المتخيل االجتماعي؟ طرح تشارلز تايلر نفس هذا السؤال ،ثم أجاب عنه ً
قائل« :أعني بالمتخيل
االجتماعي شي ًئا أوسع وأعمق من الصيغ الفكرية التي قد يعتمدها الناس عندما يفكرون في الواقع
االجتماعي بعيدً ا عن االنخراط فيه»((( .إذ يقتضي تحديد مجال المتخيل االجتماعي تمييزه عن مجال
التفكير في الواقع االجتماعي وتنظيره ،وهو ما يوحي بالبعد المتعالي للفكر بشكل عام مقارنة بالممارسات
االجتماعية التي تتحدى األطر الفكرية والخلفيات النظرية الصارمة .إذ على الرغم من أن بعض الممارسات
ال يقرها ال العلم وال الدين وال األخالق العامة ،إال أنها ممكنة الحدوث وقابلة لالنتشار والشيوع ،ولذلك
نوعا من الفهم المشترك الذي يجعل الممارسات االجتماعية اجتماعيا ،أي ً
ً ً
متخيل فهي بهذا االعتبار تعتبر
ممكنة((( ،وهو ما كان ً
شائعا في بيئة الحياة الجاهلية وما بعدها ،بحيث تقبل الناس أن يكون البعض أسيا ًدا
وأن يكون آخرون عبيدً ا ،ورسخ العرف االجتماعي هذه الممارسة ،من غير أن يعني ذلك أنها كانت محط
ترحيب من قبل العبيد .بل إن استكانتهم كانت مفروضة بالعقاب النفسي والجسدي والقمع الممنهج
طعما للحرية وال معنى لالنفصال
وبالحرمان الذي ينشأ عليه اإلنسان األسود منذ الصغر ،بحيث ال يعرف ً
عن اآلخر واالتصال بإرادته .وهكذا ،فعلى الرغم من التوتر الحاصل بين عناصر المنظومة التي يتم تأصيلها
نقيضا لهذه العناصر المؤسسة ،إالبواسطة الدين والعلم ونظرياته ،والمتخيل الذي يبدو كما لو أنه يشكل ً
مسلما بها ،ال يكاد التواصل بشأنها يثير أي
ً أن المتخيل االجتماعي مع ذلك يصبح بمرور الوقت ممارسة
متواترا في الخطاب.
ً انتباه ،وهذا هو الذي جعل السخرية من السود والتمييز ضدهم حديثًا
وقد كانت مسألة النسب ،كما أشرنا شديدة األهمية في االنتماء االجتماعي ،وكانت حساسيتها في
بيئة الحياة العربية منذ العصر الجاهلي نابعة من الرغبة في تحصين الذات ضد مختلف مظاهر اإلقصاء
والتهميش .ثم ما لبثت أن أصبحت معرفة األنساب من جملة علوم الفهم التي تنير تفسير النصوص وتأويل
مثل إن علم النسب علم جليل رفيع ،إذ به يكون التعارف((( .وهكذا، الخطابات ،ولذلك يقول ابن حزم ً
فكأن من ال يوقف على نسبه ال يستحق أن يرتقي إلى منزلة التواصل والتفاعل والتعارف .إذ تقتضي هذه
(1) FRANTZ Fanon, Peau Noir Masques blancs, éditions du seuil, 1952, P: 41
((( تشارلز تايلر ،المتخيالت االجتماعية الحديثة ،ترجمة الحارث النبهان ،المركز العربي لألبحاث ودراسة السياسات،
الدوحة ،2015 ،ص.35 :
((( المرجع نفسه ،ص.35 :
((( ابن حزم األندلسي ،جمهرة أنساب العرب ،تحقيق عبد السالم محمد هارون ،دار المعارف ،القاهرة ،ط ،1982 ،5ص.2 :
خطابات 48
متبادل من طرفين ينتج عنه اندماج األفراد في الجماعة أو المجتمع ،مع ما يخوله ذلك من ً المنزلة اعترا ًفا
مصدرا للفخر وطالما تغنى بها الشعراء ،ألنهاً مزايا ،وأبرزها مزية االنتماء ،فهذه في حد ذاتها شكلت
تكسبهم هويتهم الجوهرية في مواجهة اآلخر المختلف .فكيف يكون حال الفرد في هذا السياق ،أي عندما
سببا لتردي الوضع يكون نسبه مما تُلقى عليه ظالل الشك والغموض؟ وعندما يكون غموض النسب ً
االجتماعي؟ وأي رد فعل تجاه هذا المأزق عندما يتعلق األمر بعنترة بن شداد(((؟ نفترض أن خطاب الفخر
الذي يميز شعر عنترة نابع من رغبة دفينة في التمرد واالحتجاج ضد ممارسة تحتقر اإلنسان على أساس
عاجزا عن اقتالع جذور هذه الممارسة ألنها مترسخة ومتجذرة وقائمة على ً لونه .سيتبين أن عنترة كان
ً
مؤهل متخيل ،فقد كان هذا الشاعرً أساس ثنائية التطويع والخضوع .لكن ،لكونها تشتغل ً
أيضا بوصفها
لمحاولة تقويضها ،وذلك من خالل كفاية التعبير عن متخيل الرفض والطموح إلى االنعتاق ،أي من خالل
صناعة خطاب تفوق بديل يستند على فعل البطولة الخارق .غير أن هذا االستثناء ال يمكنه أن ينسخ قاعدة
االستعباد التي تعد من أبرز مكونات المنظومة الرمزية السائدة ،ولكنه مع ذلك يسمح لنا أن نقدر أهمية
الخطاب الشعري في معرفة كيفية اشتغال متخيل الوضع االجتماعي.
وكان من أبرز ما مهد به شراح شعره ،وال سيما معلقته هو اإلشارة إلى ما يشكل جذور مأساة هذا
الشاعر ،وهو غموض نسبه وانتماؤه إلى فئة العبيد ،أي إشارته إلى وضعه االجتماعي الوضيع الذي يمثل
أسباب نقمته العميقة وغضبه الكاسح .يقول ابن األنباري« :وكانت أم عنترة حبشية ،وكان له إخو ٌة من أمه
بأسا ،وأجودهم بما يملك ،فجلس يو ًما في مجلس بعد ما أبلى واعترف به عبيدً ا ،وكان من أشد الناس ً
رجل من بني عبس فذكر سواده وأمه وإخوته»(((. أبوه ،وكان قبل ذلك ينكره أبوه لسواده ودناءة أمه ،فسابه ٌ
وسما للوضاعة االجتماعية ووصمة عار تلحق بالفرد وتطارده حتى ولو َّبرز في مضمار كان السواد إذن ً
الحرب والبطولة .ثم إن الرجل األسود ال بد أن ُيذكر مقترنًا بعشيرته :السيما األم واإلخوة .فالتقابل في
رمزا لفئة اجتماعية مهمشة
سياق ترسيخ متخيل العنصرية ال يقام بين فرد ومجموعة ،وإنما بين جماعة تعد ً
وموسومة بعار االنتماء ،ومجتمع يمتلك شرعية التفوق ،ويمتلك بالتالي سلطة التحكم في توزيع األدوار
ومراقبة الهويات.
خطاب التفوق المضاد الذي تفيض به معلقة عنترة هو رد فعل مباشر على متخيل العنصرية الذي كان
أيضاسمة أساسية لخطاب التفوق الذي تحتفي به المنظومة الرمزية السائدة ،وهذا ما يشير إليه الشنتمري ً
في تمهيده لشرح قصيدته ،أي أن مقام التلفظ بخطاب الميمية المشهورة التي تعد من جملة المعلقات رد
فعل من الشاعر/العبد على السباب الذي آلمه وحز في نفسه ،بالقدر الذي فجر بركان شجاعته وجعله
مباشرا عن اندفاعه لصياغة
ً يحمل على األعداء ويقهرهم ،ويقدم لنا البيت ما قبل األخير من القصيدة جوا ًبا
خطاب تفوقه المضاد:
((( انظر في التضارب الحاصل بشأن نسب عنترة :ابن الكلبي ،جمهرة النسب ،تحقيق ناجي حسن ،عالم الكتب ،بيروت،
ط ،1986 ،1ص ،449 :وقارن بما ورد في الشعر والشعراء.250/1 :
((( ابن األنباري ،شرح القصائد السبع الطوال ،تحقيق عبد السالم محمد هارون ،دار المعارف ،ط ،1993 ،5ص.293 :
أيضا ديوان عنترة بشرح األعلم الشنتمري ،تحقيق محمد سعيد مولوي ،المكتب اإلسالمي ،ص.181 :
وانظر ً
49 اخلطاابت العنرصية :قراءات نقدية
(((
لــم القهمــا دمــي
َ والناذر ْي ِ
ــن إذا لشــاتمي عرضــي ولــم أشــتمهما
ْ َا
وكأنما نظمت القصيدة برمتها من أجل هذا البيت الذي يشكل بؤرة أساسية ،فهو يأتي بعد متتالية
التجريد في بداية القصيدة ،ومتتالية الغزل والوصف والفخر المباشر .أي كأن األمر يتعلق هنا بغرض
القصيدة األساسي ،وهو االنتصار لكرامته المهدورة ،ورد االعتبار لعرضه المجروح .هنا في هذه النهاية
يتقابل صوتان متصادمان :صوت الشاتمين ،وهو في الواقع صوت المجتمع الظالم ،صوت اإلقصاء
غائرا .كل القتل والدمار الذي أحدثهجرحا ً
ً والسخرية المؤلمة ،فالشتم عندما يمتد إلى العرض يصبح
عنترة في خصومه كان من أجل القضاء على صوت الشتم ،وكأنما كان يتفاعل مباشرة مع صوت الحكمة
العميقة في قول اآلخر:
ِ (((
ــر ُه ومــن ال يتــق الشــتم يشــتم ِ
َيف ْ المعروف مــن دون عرضه
َ ومن يجعــل
أما الصوت اآلخر فهو صوت التحدي ،الصوت الذي يحاول أن يصنع أسطورة التفوق من رماد الهوان
طبيعيا ،ألنه مؤسس على صيانة
ً وضعا
ً ومن اإلقامة في جحيم وضع اجتماعي كان المتخيل الجمعي يعتبره
مصالح المنظومة الرمزية القائمة على أساس الظلم والتمييز .ولذلك فمجموع ما برهن عليه عنترة من
شجاعة وبسالة في مقارعة األعداء وقهر الخصوم ينبغي أن ُيفهم في سياق اتقاء صوت الشتم الجارح .بل
وفي سياق رحلة البحث عن رتق التمزق الهائل في حياته من أجل استعادة هوية مفقودة ،ألن المنظومة
الرمزية السائدة جعلتها هوية مشروخة ،باعتراف هذا الصوت اليائس الحزين نفسه:
ِ (((
نصــل
بالم ُ
شــطري ،وأحمــي ســائري ُ ٍ
عبــس منص ًبــا ِ
خيــر امــرؤ مــن
ٌ إنــي
كان األمل الوحيد الذي يلوح أمام هذا الصوت المضطرب بالتحدي هو أن ينخرط في إنهاك المنظومة الرمزية
السائدة من داخلها ،أي أن يعبر عن تفوقه في حيازة أبرز قيمة تعترف بها هذه المنظومة نفسها ،وهي الشجاعة ،بل
ً
وارتباطا بمأزق المتلفظ أن يصبح وجود المجتمع الذي يحمي المنظومة رهي ًنا بوجود هذا الخطاب الجسور.
في هذا الخطاب ،ظل شراح شعره مشدودين إلى هذا الوضع .فقد ذكر ابن قتيبة في تفسيره« :يقول :النصف من
أيضا»((( .وحيثما وردت فأشر ُفه ً
نسبي في خير عبس ،وأحمي النصف اآلخر ،وهو نسبه في السودان ،بالسيفِّ ،
اإلشارة إلى النسب واالنتماء في شعر عنترة ،يرتبط تفسيره لدى شراح شعره بأزمة وضعه االجتماعي ،كل
عناصر خطابه ينبغي أن تلتقي عند ناصية التعبير عن هويته المفتقدة ،السيما عندما تشتد األزمة:
ِ (((
معــم مخــول
ٍّ خيــرا مــن
ً لفيــت
ُ ُأ وتالحظــت
ْ أحجمــت
ْ وإذا الكتيبــ ُة
أيضا في أبيات
علما أن أبيات القصيدة تختلف بحسب الرواة ،وهو ما يؤثر ً((( ديوانه ،بشرح األعلم الشنتمري ،صً ،222 :
نهايتها ،كما هو حال رواية ابن األنباري للقصيدة ،انظر شرحه ،ص.365 :
((( ديوان زهير بن أبي سلمى ،تحقيق فخر الدين قباوة ،دار اآلفاق الجديدة ،بيروت ،1980 ،ص.26 :
((( انظر ديوانه ،بشرح األعلم الشنتمري( ،م.س) ،ص.248 :
حاربت حميت شطري اآلخر
ُ ((( الشعر والشعراء .254/1 :وفي شرح الشنتمري« :يقول :شطري شريف من قبل أبي ،فإذا
من قبل أمي ،حتى يصير إليه من الشرف مثل ما صار للشطر األول» ،الديوان.248 :
((( ديوانه ،ص.250 :
خطابات 50
ٍ
رجل كريم خيرا من
جدت في ذلك الموطن ً قال الشنتمري« :يقول :إذا اشتدت الحرب وانهزم القوم ُو ُ
كنت كريم الفعل»(((.كانت الوسيلة الوحيدة المتاحة أمام
هجين إذا ُ
ٌ األعمام واألخوال ،أي ال يضرني أني
صوت االحتجاج ضد النزوع العنصري والتمييز في المجتمع الجاهلي ،كما أشرنا هو االنخراط في بناء
خطاب تفوق مضاد لخطاب التفوق الذي تتبناه المنظومة الرمزية السائدة ،القائم على أساس نقاء اللون
ومركزية النسب .هكذا يسترد العبد األسود عرضه وشرفه ويكتسب شرعية االنتماء إلى المجتمع الحر،
وهو ما كافأه عليه الخطاب في نهاية األمر ،ما دام المتخيل الجمعي قد احتفظ بالنص وما يحف به من
أخبار وشروح وتأويالت:
-فقد ُعد عنترة من أصحاب المعلقات ،وهو ما خوله اكتساب مجد الشعر ،بحيث احتل ما يليق به من
تقدير من قبل سدنة الكعبة ،وكذا ضمن مؤلفات التراجم ،وكتب الطبقات(((.
-وجاز له أن يذكر في شعره األطالل ،وأن يتغزل بالنساء.
-كما أتاح له الخطاب أن يتأمل الطبيعة وكائناتها ،وأن يستعيد ذكريات الصحراء والناقة والفرس
وغيرها من المخلوقات الصديقة.
-كما جاز له أن يشرب الخمر المعتقة ،وهي من مظاهر التنعم في بيئة الشاعر.
ِ
كالحلم والعفة أيضا أن يفخر بمجموع األخالق السامية التي كانت خاصة باألشراف، -وجاز له ً
والكرم والجود.
-وجاز له بشكل خاص المبالغة في ذكر شجاعته ،بما في ذلك القضاء على األعيان واألشراف والتغني
بإهالكهم(((.
نستطيع -بعد تقديم هذه المالحظات -أن نتحدث في مأزق متخيل الوضع االجتماعي عن االختراق
الذي أحدثه خطاب التفوق المضاد في بنية المنظومة الرمزية السائدة .وهكذا أصبح باإلمكان أن نتحدث
في حال عنترة عن مقامين:
والتاريخ
ُ عبء ٍ
ثقيل، ٍ اللون األسو َد ،ويتحول الخ ْل ُق إلى
َ ُ
مركزية المنظومة -مقام الهوان :حيث تنهك فيه
شتيمة مؤلمة .غير أن الخ ْلق يمكن أن يصبح من الماضي ،إذ يمكن أن تغطي عليه ٍ الشخصي إلى
ُّ
الوقائع وتنسيه األحداث.
خطاب يعمل على تبئير األخالق الخالدة،ٌ -مقام العز والسؤدد :ويصنعه خطاب التفوق المضاد ،وهو
أمر
رمزا وأسطورة ،في مسار تشكيل متخيل االنعتاق من العبودية واالسترقاق ،وهو ٌ التي تصبح ً
ممكن بالفعل ،وعليه شواهد شتى من تاريخ اإلنسانية.
((( انظر عبده بدوي ،الشعراء السود وخصائصهم في الشعر العربي ،الهيئة المصرية العامة للكتاب ،القاهرة ،1988 ،ص.31 :
((( ديوان دعبل الخزاعي ،تحقيق عبد الصاحب الدجيلي ،مطبعة اآلداب ،النجف ،1962 ،ص.192 :
خطابات 52
حضورها في الخطاب الشعري بعد ذلك ينطلق من حقيقة مضمرات الذات المتلفظة .لقد رسخ الخطاب
الرسمي اعتبار ثورة الزنج فتنة ،وبما أن الفتنة أشد من القتل((( ،فإن الوعي الجمعي لم يتسامح معها،
بل طويت صفحتها بمزيد من التكريه والتشويه ،على شاكلة الصورة التي يقترحها دعبل الخزاعي على
أيضا خيار آخر للتعاطف مع ضحايا هذه المحنة إال عبر التحايل مخاطبه في هذه القصيدة .ولم يكن هناك ً
إلبقائها حاضرة في الخطاب ،من خالل بنينتها ضمن المسافة الجمالية التي اشتغل الشعراء على ابتكارها
عن طريق ما كان يعتبر من جملة التشبيهات العجيبة الرائقة.
ب -تشبيه المعتمد بن عباد
وذلك في القصة التي يرويها علي بن ظافر األزدي ،باعتبار اشتمالها على قول يعد من جملة بدائع
حائزا على القبول واالستحسان في مجال التلقي خالل ً وتشبيها رائقًا
ً ً
جميل البدائه ،أي باعتباره ً
قول
عصره« :قال :ركب المعتمد على الله أبو القاسم بن عباد للتنزه بظاهر إشبيلية في جماعة من ندمائه
وخواص شعرائه ،فلما أبعد أخذ في المسابقة بالخيول ،فجاء فرسه بين البساتين سابقًا ،فرأى شجر َة تين
وانتهت ،فسدد إليها عصا كانت في يده ،فأصابها ،وثبتت
ْ بلغت
ْ وأزهرت ،وبرزت منها ثمرة قد
ْ أينعت
ْ قد
في أعالها ،فأطربه ما رأى من حسنها وثباتها ،والتفت ليخبر من لحقه من أصحابه ،فرأى ابن جاخ الصباغ
ٍ
الحق به ،فقال :أجز: أول
كأنها فوق العصا
مسرعا:
ً فأجاب
زنجي عصىٍّ هام ُة
فزاد طربه وسروره بحسن ارتجاله ،وأمر له بجائزة سنية»((( .نحن هنا بإزاء مقام تلفظ مباشر ،أي واقعة
عرضية كان من شأنها أن تبعث على ارتجال قول شعري ،وكانت مثل هذه المقامات معهودة بين الخالن
وعادات منشودة في مناسبات مختلفة ،هاته واحدة منها .وقد يبدو األمر ألول وهلة كما لو كان مجرد
حدث من عجائب ما يتأتى للناس على حين غرة ،ولكن ،حتى لو كان ذلك كذلك ،فإن هذا ال يخلي
مسؤولية الخطاب من قصدية تشويه صورة اإلنسان األسود ،لعدة اعتبارات منها:
كبيرا في تهيئة
-احتفال الخطاب بإعداد المتلقي لسماع شيء عجيب .فقد بذل راوي القصة جهدً ا ً
األجواء لمقام التلفظ الذي يتواجه فيه المتلفظ والمتلفظ له( :هناك رحلة تنزه يشارك فيها الملك
ُ
الملك سابقًا ،ونظر ٌة خاطفة ،وتسديدة وندماؤه ،في فضاء محدد مشار إليه ،وسباق بالخيول يأتي فيه
التفاتة إلى الخلف من أجل اإلخبار وإنجاز المطلوب).ٌ أصابت الهدف ،ثم
((( يعد هذا األمر ثابتًا من ثوابت الخطاب الديني ،قال تعالى» :والفتنة أشد من القتل « ،سورة البقرة ،اآلية ،191 :وإن كان
وقع االختالف حول طبيعة األحداث ،وظروف تكييفها مع مقاصد الشرع ومصالح العباد.
((( علي بن ظافر األزدي ،بدائع البدائه ،تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم ،مكتبة األنجلو المصرية ،القاهرة ،1970 ،ص:
.74-73والبيت في ديوان المعتمد بن عباد ،تحقيق رضا الحبيب السويسي ،الدار التونسية للنشر ،1975 ،ص.80 :
53 اخلطاابت العنرصية :قراءات نقدية
-تحديد مجال القول بقيود الوزن والقافية والروي ،إذ كان يمكن أن يكون حرف الروي شي ًئا آخر،
السيما أن النص ال يشير صراحة إلى لون الثمرة .فلماذا ينبغي أن تكون ثمرة التين هاته سوداء؟
-حدوث الطرب والسرور بحسن االرتجال ومنح جائزة كبيرة.
وعلى أية حال فهناك تطابق في وجهتي النظر حول ما حدث أو ما ينبغي أن يحدث .معنى البيت الشعري
هو حصيلة التعاون بين شطره األول والثاني ،وقد تكفل كل متلفظ بشطر ،ووقع التوافق واالنسجام التام.
شائعا ضار ًبا بأطنابه في بيئة هذا المجال،
سلوكا ً ً وهذا مؤشر واضح على أن السخرية من الزنجي كانت
أي أن األمر يتعلق بممارسة يرعاها الملك بنفسه ويكافئ مقربيه بسخاء على جهود إعادة إنتاجها .ولكن،
ملكا؟ ماذا يكون مآل هذا المتخيل؟ وكيف سيعمل الخطاب على إعادة إنتاج منزع ماذا لو أصبح الزنجي ً
التفوق في وضع عنصري مقلوب؟ تحدونا هذه األسئلة إلى تأمل عالقة المتنبي وكافور المتأزمة.
-2-6خطاب الهجاء ومتخيل العبيد
واسعا إلدراك معنى الطموح للبطولة ً نموذجيا لروح عصره ،فقد شكل أفقًا
ًّ ً
تمثيل يقدم شعر المتنبي
شاسعا من االنفعال المرهف باألماني المستحيلة وطول األمل .لكن المتنبي انشغل ً
أيضا ً وعالما
ً والمجد،
بالغوص على خبايا النفس اإلنسانية في شتى أحوالها .خبر دسائس األمراء والملوك ،حسد الشعراء ،تحامل
النقاد ،واحتنكته تجارب السفر والرحيل والحنين الممتد إلى زمن ال جحود فيه .والدليل على شساعة هذا
طويل الختالفات وخصومات وتأويالت معاصريه ومن جاء بعدهم .وتمثل عالقة المتنبي ً األفق أنه اتسع
بكافور ،كما تجلت عبر شعره صورة ناصعة لمتخيل العبيد في عصره .إذ على الرغم من أن المماليك
نجحوا في تأسيس دولة خاصة بهم إال أن إخفاق الشاعر في تحقيق طموحه الشخصي ،السيما في عالقته
بزعيمهم جعله يكشف عن حقيقة موقفه ،وهو موقف نابع من ترسخات المتخيل الجمعي .وإذا كان عنترة
قد صاغ خطاب التفوق في شعره من خالل غرض الفخر ،فإن المتنبي وجد ضالته في الهجاء .فما الذي
ينطوي عليه هجاء المتنبي لكافور؟ كيف جاز له أن يتحول إلى هجائه بعدما بالغ في مدحه؟ ما هي أبرز
خصائص خطاب هجاء كافور في شعر المتنبي؟ سنحاول اإلجابة عن هذه األسئلة من خالل التركيز على
قصيدة واحدة من قصائد الشاعر هي داليته التي قالها يو ًما واحدً ا قبل مغادرة مصر((( .يمكن النظر إلى
وتعبيرا شفا ًفا عن متخيل العنصرية في عصره.
ً هذه القصيدة بوصفها تكثي ًفا لتجربة المتنبي الشعرية برمتها
يهمنا باألساس أن نبرز في هذا السياق كيف عبر خطاب التفوق الشعري عن نفسه باستيعاب هذا المتخيل
ودمجه ،بحيث أصبح ذلك جز ًءا من أفق االنتظار الذي أسسه هذا الشاعر((( .سنعتبر هذه القصيدة ضرورة
((( انظر الفسر ،البن جني ،تحقيق رضا رجب ،المجلد ،1دار الينابيع ،دمشق ،ط ،2004 ،1ص ،1090 :حيث يقول ابن جني
أيضا شرحفي تقديم القصيدة« :وقال في يوم عرفة من سنة خمسين وثالثمائة قبل مسيره من مصر بيوم واحد» .وانظر ً
ديوان أبي الطيب المتنبي (معجز أحمد) للمعري ،تحقيق عبد المجيد دياب ،دار المعارف بمصر ،ط ،1992 ،2ج،4
ص.168 :
((( نفترض أن عبارة ابن رشيق« :ثم جاء المتنبي فمأل الدنيا وشغل الناس» ،هي عنوان واضح على إحداث شعر المتنبي
وفتحا ألفق مغاير.
ً انعطافة تاريخية في تلقي الشعر العربي،
خطابات 54
كبرى اقتضتها حياة الشاعر المهددة بالهالك ،فقد استحال عليه المقام بمصر ،لذلك دبر رحلة خاطفة
محببا وال صديقًا ،كما سننظر إلى هذه الضرورة في انشطارها واتساعها لضرورات
ً بعيدً ا عن مجال لم يعد
فرعية أخرى تتفاعل وتتكامل في صياغة صورة أخرى مما ندعوه خطاب التفوق في الشعر العربي القديم.
وهكذا ،يركز خطاب التفوق في هذه القصيدة على تحقيق ثالث ضرورات متكاملة متواشجة:
-ضرورة المجد :وهو ما بحث عنه المتنبي طيلة حياته ،وما توهم أنه من الممكن بلوغه ،ولعل االندفاع
كثيرا
وراء تحقيق هذا الوهم هو الذي صنع أسطورته الشخصية .وفي كل األحوال ،فقد انشغل المتنبي ً
بالتعبير عن هواجسه التواقة لتحقيق المجد ،وهذا الهاجس يحضر في هذه القصيدة ً
أيضا ،يقول في البيت
الثالث منها:
(((
حــرف وال جــردا ُء قيــدو ُد
ٌ وجنــا ُء ـوب بهاب بــي ما أجـ ُ
تج ْ
لــوال العال لــم ُ
فرس جرداء»((( .ومعنى ٍ
فلوات ٌ
ناقة وجناء وال ٌ وفي الشرح« :يقول لوال ما أطلبه من العال لم تقطع بي
هذا أن الرحلة إلى مصر كانت في األصل من أجل تحصيل مجد ما .وليس هناك ما يتعارض مع رغبة
ساميا يرتفع باإلنسان عن مشاغل ً اإلنسان في تحقيق هذه الضرورة ،بل على العكس من ذلك تعد مقصدً ا
مرتبطا بذكره بعد انقضاء فترة حياته ،وبالتالي فرحلة المجد هي رحلة ً الحياة اليومية ،ألنه يتعلق بما يبقى
البحث عن الخلود .وال شك أن األمر يتعلق بمطلب صعب ،يحتاج إلى تضحية وإلى اتخاذ قرارات
مؤلمة ،وقد يفضي إلى نهاية مأساوية .وبالتالي ،فهو شبيه بطريق األبطال األسطوريين .وينبغي لصوت
البطل األسطوري أن يعترف بالعذاب وبالجحيم ،وهذا هو مضمون البيت الخامس:
شــي ًئا ُيتيمــ ُه عيــ ٌن وال جيــدُ لــم يتـ ِ
ـرك الدهـ ُـر مــن قلبــي وال كبدي
موضعا يشغله العشق»(((. ً وفي الشرح« :يقول إن الدهر قد مأل قلبي من المحن والشدائد ،ولم يترك بي
أيضا أن ننصت لشارحه بإمعان .لم وال ينبغي أن ننطق هذا النص بما ال يحتمله ،وسيكون من الشيق ً
يكن القصد منصر ًفا إذن إلى التعبير عن نشوة الغزل والتعلق بذكر النساء ولو على سبيل احترام مقتضيات
الشكل الشعري ،كما كان يفعل الشعراء منذ زمن بعيد .بل كان بصدد بناء صوته األسطوري الذي ينطلق
أيضا بالغ في التأكيد على أهمية حيازة الشرف والمجد فقال في البيت الثامن: من تأمل حالته هو ،ولذلك ً
ِ
النفــس مفقــو ُد وحبيــب وجدتهــا ِ
اللــون صافيــ ًة كميــت
َ أردت
ُ إذا
ُ
قال ابن جني« :حبيب النفس عنده هو المجد والشرف»((( ،وفي معجز أحمد للمعري« :وقيل أراد
فقدت العز والعال»(((.
ُ تشاغلت بالخمر
ُ بالحبيب :الشرف ،أي إذا
((( انظر شرح ديوان المتنبي للمعري (معجز أحمد) ،تحقيق عبد المجيد دياب ،دار المعارف بمصر ،1992 ،ج ،4ص،168 :
وسنعتمد أرقام األبيات بنسقها في هذا الشرح ،مع العلم أننا سنغني الشروح بالرجوع إلى مصادر أخرى نشير إليها.
((( المرجع نفسه ،ج ،4ص.169 :
((( المرجع نفسه ،ج ،4ص.170 :
((( ابن جني ،الفسر شرح ابن جني الكبير على ديوان المتنبي ،تحقيق د .رضا رجب ،دار الينابيع ،دمشق ،2004 ،ص.1095 :
((( معجز أحمد ،ج ،4ص.170 :
55 اخلطاابت العنرصية :قراءات نقدية
ومن الواضح أنه ال يمكن تحقيق المجد إال عن طريق امتالك الحرية ،فقد اقتضت الظروف أن يسلك
محاصرا ،في حاجة إلى استرداد
ً المتلفظ طريقًا خاط ًئا بالذهاب إلى مصر ،حيث وجد نفسه فاقدً ا إلرادته
حريته.
-ضرورة الحرية :وهو ما عبر عنه في البيت الحادي عشر:
عــن القــرى وعــن الترحــال محــدود نزلــت بكذابيــ َن ضيفهــم
ُ إنــي
نزلت على قوم كذابين ،ضيفهم ممنوع من القرى الذي يعد للضيوف ،وكذلك وفي شرحه« :يقول :إني ُ
ممنوع من الرحيل ،فال يضيفونه وال يخلون سبيله»((( .وكان يبدو أن المتنبي في شبه إقامة جبرية بالفعل،
طمعا في االستفادة
وكان هذا هو حال المثقفين مع الحكام في العصور الوسطى ،يرحبون بهم في بالطاتهم ً
من علومهم وإشعاعهم ،ثم يبدو لهم أن يجعلوهم تحت نوع من المراقبة التي تقيد حريتهم .ولم يكن هذا
ليرضي المتنبي التواق إلى الضرب في األرض وتغيير المعاهد والديار .كانت تجربة اتصاله بكافور تجربة
مريرة ،ألنها أتت بعد مقام سيف الدولة ،وكان يريدها أن تكون مرحلة مجيدة مفعمة بالمجد ،لكنه على
العكس من ذلك وجد نفسه عالقًا في شرك اإلهمال وقلة االعتراف .وهذا ما أتاح له التعبير عن ضرورة
أخرى ال تقل أهمية عما سبق.
-ضرورة الهجاء :يعد الهجاء بالنسبة للمتنبي ضرورة قصوى ،ألن المعاني التي سيعبر عنها في هذا
غيظا وتحرق كبده ،كما أشار .الهجاء السياق من جملة الهم والنكد والشدائد والمحن التي تمأل قلبه ً
بوصفه ضرورة ،في هذا السياق يقتضي سلب معاني المدح التي يمكن أن يكون الشاعر قد أسبغها على
كافور(البيت ،)23والفرار من أرض المهانة(البيت ،)25الستحالة العثور على من يرد الجميل(البيت.)30
ويقع التعبير عن هذه الضرورة في متتالية من اثنين وعشرين ( )22بي ًتا ،أي من البيت التاسع إلى البيت
األخير ( .)30يقول في التاسع:
محسود
ُ ماذا لقيت من الدنيا؟ وأعجبها أني بما أنا ٍ
باك منه ُ
أحسد على ما أبكي منه! ُ لقيت :أني
وأعجب ما ُ
ُ وفي شرحه« :يقول :ما أعجب ما ألقاه من هذه الدنيا!
قاسيا في إشارته إلى كافور بـ «األسود»؟ لم يجد يريد كونه عند األسود وقربه منه» .وهل كان المعري ً
(((
أيضا لترسخ متخيل احتقار حرجا في ذكر هذا الوصف ليس فقط ألنه يتعصب ألبي الطيب ،ولكن ً المعري ً
العبيد حتى عصره ،فقد كان ذلك أعمق من أي تصرف آخر يمكن أن يؤثر في مسار نقد الشعر ،السيما في
ضوء االنضباط لجمالية الغرض الشعري الذي أشرنا سابقًا إلى قيامه على أساس المبالغة.
وفي البيت األخير من القصيدة:
فكيــف ِ
الخ ْصيــ ُة الســو ُد؟ َ عــن الجميــل وذاك أن الفحــول البيــض عاجــز ٌة
وفي شرحه« :يقول :أنا أعذره ،ألن الذكور األحرار تعجز عن الجميل ،فكيف ال يعجز السود
الخصيان؟»(((.
بالنسبة للمتنبي ،هذا الهجاء ضرورة ،ومجرد تذكير بأزمة الشاعر أكثر من كونه عقا ًبا لكافور .كان الواقع
التباسا ،فالمتنبي ينوء بمجموع الخيبات التي مر بها ،وهذه مجرد محنة أخرى .هجاء المتنبي لكافور ً أشد
من خالل هذه القصيدة يتأطر ضمن غرض الهجاء عامة ،وضمن خطاب المبالغة التي ينبغي أن تتحقق.
فهو متقنع في نهاية المطاف أن الذات الراغبة في تحقيق المجد ال تستطيع أن تحقق موضوعها ،ذلك أن
هذا الموضوع بعيد المنال بفعل ظروف الواقع البئيس وقوى المعارضة الغاشمة التي تستعبد الحر وتطلق
العنان للعبيد .في هذه الظروف يلتجئ الشاعر إلى سلطة الخطاب .هكذا ،يصبح الهجاء هو الحل ،ومن
خالله يقترح المتلفظ على قارئه خطا ًبا يعيد للذات توازنها وتفوقها.
خاتمة
تَشكل خطاب التفوق في الشعر العربي القديم بالموازاة مع أزمة المجتمع المنقسم على نفسه انقسا ًما
أساسا من أحرار وعبيد ،وترسخ هذا االنقسام على ً حا ًدا ،كان المجتمع العربي ،منذ عهد القبيلة يتكون
الرغم من التطور الهائل في مجال التأصيل الديني لعلوم الشرع وتنظير علوم اإلنسان التي تمنع استعباد
الناس وتهميشهم على أساس أعراقهم وألوانهم .لكن الممارسات االجتماعية سمحت بوجود مظاهر
مختلفة من التمييز ضد الفئات المهمشة وتعايشت مع احتقار العبيد والسود .بل أضفى المتخيل الجمعي
على هذه الممارسات معنى الفرادة والجمال واإلدهاش ،كما عكس ذلك الخطاب الشعري .ومما ال
شك فيه أن متخيل العنصرية أوجد قاعدة عريضة من القراء والمتلقين ،ذلك أن التلقي كان يرتبط في
الشعر خاصة بـ«ظاهرة الشاعر» أكثر من قيامه على أساس فكري أو أيديولوجي .فقد تنال نفس الصورة
الشعرية استحسان األصدقاء واألعداء ،إذ كان الوالء في التلقي للمبالغة كما أشرنا ،والختراع المعاني
البليغة المستفزة من غير إحداث أية قطيعة مع الشعراء السابقين.
النزوع إلى تأكيد التفوق على اآلخر عبر الفخر والهجاء والمدح أفضى في نظرنا إلى تشكيل ما ندعوه
خطاب التفوق في الشعر العربي القديم .ما يتلفظ به الشاعر لبناء المعنى في قصيدته ينبغي أن يكون في
الغاية من القوة والمبالغة ،وال عبرة بما يبدو أنه من قبيل التناقض في النص .فالشاعر يقف على األطالل
مظهرا ضعفه الشديد أمام مهابة جمالها اآلسر،
ً ومستعبرا حتى يشتد به البكاء ،ويتغزل في المرأة
ً متذكرا
ً
لكنه يرحل وسط المهامه والقفار المخوفة غير متردد وال هياب فيصف ما يراه وما يتخيله أو يتوهمه،
يصحبه في ذلك فرسه األصيل أو ناقته التي تقهر طبيعة الصحراء القاسية ،وإذا تعرض لهجاء األعداء
نموذجا أسطور ًيا للكرم والعفة
ً توعدهم بالهالك وألصق بهم كل مثلبة ،وفي المدح يصنع من المخاطب
أصبحت هذه البنية روحه النابضة بالتحدي ،ووظيفة أساسية لصياغة النماذج الكاملة لألشياء .وسواء تعلق
األمر بحديث الذات السوداء ،أو الحديث عنها ،فإن األمر كان ينطوي على استثارة متخيل العنصرية الثاوي
ً
استفحال مظاهر طغيان في الممارسات االجتماعية والمترسخ في الوعي الجمعي .وهو ترسخ كانت تزيده
واستبداد السلطة الحاكمة التي تغذي الصراعات االجتماعية وتزيد من حدة االنقسام.
59 اخلطاابت العنرصية :قراءات نقدية
-أحمد بن أبي طاهر ،بالغات النساء ،تحقيق أحمد األلفي ،مطبعة مدرسة والدة عباس األول ،القاهرة،
.1908
-إرنست كاسيرر ،مدخل إلى فلسفة الحضارة اإلنسانية ،أو مقال في اإلنسان ،ترجمة إحسان عباس،
دار األندلس ،بيروت.1961 ،
-األصمعي ،كتاب الفرق ،تحقيق صبيح التميمي ،دار أسامة ،بيروت.1987 ،
-األصمعي ،كتاب فحولة الشعراء ،تحقيق شارل توري ،دار الكتاب الجديد ،بيروت.1980 ،
-إيان لوو ،العنصرية والتعصب العرقي من التمييز إلى اإلبادة الجماعية ،ترجمة عاطف معتمد
وآخرون ،المركز القومي للترجمة ،القاهرة.2006 ،
-الباقالني ،أبو بكر ،إعجاز القرآن ،تحقيق السيد أحمد صقر ،دار المعارف بمصر( ،د.ت).
-التبريزي ،شرح القصائد العشر ،تحقيق فخر الدين قباوة ،دار اآلفاق الجديدة ،بيروت.1980 ،
-تشارلز تايلر ،المتخيالت االجتماعية الحديثة ،ترجمة الحارث النبهان ،المركز العربي لألبحاث
ودراسة السياسات ،الدوحة.2015 ،
-الجاحظ ،البيان والتبيين ،تحقيق عبد السالم محمد هارون ،مكتبة الخانجي ،القاهرة ،ط.1998 ،7
-الجاحظ ،الحيوان ،تحقيق عبد السالم محمد هارون ،مطبعة مصطفى البابي الحلبي ،القاهرة.1965 ،
-الجاحظ ،رسائل الجاحظ ،ج ،1تحقيق عبد السالم محمد هارون ،مكتبة الخانجي بالقاهرة( ،د.ت).
-جون ر .سيرل ،رؤية األشياء كما هي ،ترجمة إيهاب عبد الرحيم علي ،عالم المعرفة ( ،)456الكويت،
.2018
-ديوان بشار بن برد ،تحقيق محمد الطاهر ابن عاشور ،منشورات لجنة التأليف والترجمة والنشر،
القاهرة.1954 ،
-ديوان حسان بن ثابت ،تحقيق عبد أ .مهنا ،دار الكتب العلمية ،بيروت ،ط.1994 ،2
-ديوان دعبل الخزاعي ،تحقيق عبد الصاحب الدجيلي ،مطبعة اآلداب ،النجف.1962 ،
-ديوان زهير بن أبي سلمى ،تحقيق فخر الدين قباوة ،دار اآلفاق الجديدة ،بيروت.1980 ،
-ديوان عنترة بشرح األعلم الشنتمري ،تحقيق محمد سعيد مولوي ،المكتب اإلسالمي ،بيروت،
.1964
-ديوان المعتمد بن عباد ،تحقيق رضا الحبيب السويسي ،الدار التونسية للنشر.1975 ،
-ديوان النابغة الذبياني ،تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم ،دار المعارف ،القاهرة.1985 ،
-الرماني ،النكت في إعجاز القرآن ،ضمن ثالث رسائل في إعجاز القرآن ،تحقيق محمد خلف الله
أحمد ومحمد زغلول سالم ،دار المعارف ،القاهرة.1991 ،
-السجلماسي ،أبو محمد القاسم ،المنزع البديع في تجنيس أساليب البديع ،تحقيق عالل الغازي،
مكتبة المعارف ،الرباط.1980 ،
-سيبويه ،الكتاب ،تحقيق عبد السالم محمد هارون ،مكتبة الخانجي بالقاهرة.1988 ،
61 اخلطاابت العنرصية :قراءات نقدية
-السيد محمد عاشور ،التفرقة العنصرية ،مكتبة المهتدين ،القاهرة.1986 ،
-شاكر عبد الحميد ،الخيال من الكهف إلى الواقع االفتراضي ،عالم المعرفة ،الكويت.2009 ،
-عبد الله بن المعتز ،كتاب البديع ،تحقيق إغناطيوس كراتشقوفسكي ،مكتبة المثنى ببغداد (د.ت).
-العصرية ،صيدا بيروت ،ط.2006 ،1
-عبده بدوي ،الشعراء السود وخصائصهم في الشعر العربي ،الهيئة المصرية العامة للكتاب ،القاهرة،
.1988
-علي بن ظافر األزدي ،بدائع البدائه ،تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم ،مكتبة األنجلو المصرية،
القاهرة.1970 ،
-القاضي الجرجاني ،الوساطة بين المتنبي وخصومه ،تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم وعلي محمد
البجاوي ،المكتبة العصرية ،صيدا بيروت ،ط.2006 ،1
-قدامة بن جعفر ،نقد الشعر ،تحقيق محمد عبد المنعم خفاجي ،دار الكتب العلمية ،بيروت( ،د.ت).
-قدامة بن جعفر ،جواهر األلفاظ ،تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد ،دار الكتب العلمية،
بيروت.1979،
-محمد بن حبيب ،كتاب المحبر ،تحقيق إيلزة ليختن شتيتر ،منشورات المكتب التجاري ،بيروت،
(د.ت).
-محمد بن حبيب المنمق في أخبار قريش ،تحقيق خورشيد أحمد فاروق ،عالم الكتب ،بيروت،
.1982
-المرزباني ،أبو عبد الله ،الموشح في مآخذ العلماء على الشعراء ،تحقيق علي محمد البجاوي ،نهضة
مصر للطباعة والنشر والتوزيع ،القاهرة .1965
-المعري ،شرح ديوان أبي الطيب المتنبي (معجز أحمد) ،تحقيق عبد المجيد دياب ،دار المعارف
بمصر.1992 ،
-نادر كاظم ،تمثيالت اآلخر صورة السود في المتخيل العربي الوسيط ،المؤسسة العربية للدراسات
والنشر ،بيروت.2004 ،
المراجع األجنبية
- Brigitte Munier, L’imaginaire, un concept-voyou, Article disponible en ligne à
l’adresse:
- https://www.cairn.info/revue-hermes-la-revue-2018-1-page-51.htm.
- Dictionnaire Larousse sur:
- https://www.larousse.fr/dictionnaires/francais/imaginaire/41613
- FRANTZ Fanon, Peau Noir Masques blancs, éditions du seuil, 1952.
خطابات 62
المستلخص
تتأمل المقالة التي نقترحها رواية «طواسين الغزالي» للروائي المغربي عبد اإلله بن عرفة ،حيث ينكب
التحليل النصي على معالجة اإلقصاء باعتباره امتدادا للعنصرية المرتكزة على البعد الطائفي ،من ثمة نتجه
في مقالتنا إلى استجالء مالمح هذا اإلقصاء وأبعاده ،فالمتأمل في هذا العمل السردي يتضح له بجالء
ثم ،فإن المقالة تستعين بمفهوم
طبيعة االنحياز التسريدي المعتمد في تخييل الفرقة اإلسماعيلية روائيا ،من ّ
المهمش والمنسي كما أرسته مدرسة الحوليات ،للكشف عن مسوغات هذا اإلقصاء ودواعيه في أفق
تفكيك الخطاب العنصري الثاوي في ثنايا النص .إن الهدف من مقالتنا من خالل ما نقترحه ،يتجلى
باألساس في الحفر النصي الكاشف ألعطاب الثقافة العربية اإلسالمية ،من ثمة تتجلى أهمية البحث في
انخراطه في التفكير الجماعي الهادف إلى إدانة كل األفعال والخطابات والممارسات الفكرية والثقافية
التي تنزع إلى الحط من قيمة اإلنسان باعتباره إنسانا ،عبر التوجه إلى اختزاله المخزي بناء على محددات
العرق أو الدين أو اللون.
كلمات مفتاحية
لسرد ،العنصرية ،التهميش ،اإلنسان ،الطائفية.
63
خطابات 64
Abstract
The article examines the novel “Tawasin al-Ghazali” by the Moroccan novelist Abd
al-Ilah bin Arafa, where the analysis focuses on the treatment of exclusion, in the exten-
sion of the sectarian title, the sectarian dimension. There is a difference in the sectarian
dimension in clarifying the features of this narrative. Legends, in the winter, in the fall,
and the color of the color, and the color of the color, and the color of the color. The aim
of our article is to focus on collective thought aimed at culture and intellectual practices,
aiming at its shameful reduction based on the determinants of race, religion, or color.
Keywords
narrative, racism, marginalization, humans, sectarianism
مدخل
إن قارئ رواية «طواسين الغزالي» لعبد اإلله بن عرفة ال شك أنه سيدرك انزياح الكتابة إلى تسريد الذات
المرجعية اإلمام أبي حامد الغزالي ،وذلك من خالل التركيز على المسار العلمي الذي اتخذته هذه الذات
لنفسها .من ثمة جاءت الرواية مستجيبة لهذا التطلع ،إال أنها وقعت تحت سطوة الحدث بشكل كبير ،وهذا
نلحظه من خالل المسار السردي الخطي التسلسلي الذي سارت عليه العملية الحكائية ،فالسارد يتتبع
مسار الذات البطلة منذ والدتها إلى وفاتها ،مما جعل العمل يقترن في محاوالته التسريدية بما وقع في
المرجع من أحداث ،وهذا يتعزز من خالل هذا االرتكان الكبير إلى زمن وقوع الحادثة التاريخية .ولعل
هذا ما يلوح منذ الوهلة األولى لقراءة العمل ،حيث نجد »:في سنة 450ه1058 /م دخل البساسيري خلف
الفاطميين الشيعة إلى بغداد وأمر الخليفة العباسي القائم بأمر الله أن يكتب وثيقة خطية بأن ال حق له أو
ألحد من بني العباس في الخالفة العباسية...في ليلة باردة من شتاء هذه السنة كان أحد بيوت قرية غزالة
في مدينة طوس بخراسان يشهد والدة صغير ...هاجر أجداده من جزيرة العرب واستقروا في خراسان»(((.
هكذا تعلن الرواية عن البطل الغزالي ،منطلقة من تأريخ سنة والدته مشيرة إلى األوضاع السياسية التي
صاحبت هذه الوالدة ،لتتخذ بعد ذلك الرواية مسارا خطيا يروم تسريد ما اعترض الذات البطلة في رحلتها
العلمية في عالقتها باآلخر اإلسماعيلي على وجه التحديد ،وفي تحصيلها للمعارف والعلوم ضمن سياقها
التاريخي ،هنا تكمن أهمية الرواية في قدرتها الفائقة في تمثيل المرجعيات الثقافية والنفسية واالجتماعية
والتاريخية ..عبر اإلسهام في تمثيل التصورات الكبرى عن الذات واآلخر»((( .من ثمة استحال التسريد في
كثير من األحيان إلى اقتفاء للحياة العلمية للغزالي المرجعي ،من أجل تخييل بعض المواقف العلمية أو
االنطالقات السفرية بغية تلقي المعارف ،ولعل هذا ما يفسر اقتران تسريد الحياة العلمية للغزالي بالسفر
((( عبد اإلله بن عرفة ،طواسين الغزالي ،دار اآلداب ،بيروت ،الطبعة األولى ،2011 ،ص.21.
((( عبد الله إبراهيم ،السردية العربية الحديثة ،األبني السردية والداللية ،المؤسسة العربية للدراسات والنشر بيروت ،الطبعة
األولى ،.2013ص.5.
65 اخلطاابت العنرصية :قراءات نقدية
في كثير من مواطن الرواية .في هذا نجد قول الغزالي في المقاطع اآلتية« :وصلنا إلى طوس ،وأتتنا األخبار
عن دخول السلطان ملك شاه للترحم على عم والده ،السلطان طغرا بك ،مؤسس دولة السالجقة ،المدفون
داخل المنارة الدائرية بالمدينة»(((.
«ركبنا على سفينة في النيل تخترق بنا صعيد مصر؛ ألن الطريق الشامي لم يعد آمنا ...مررنا على عدة
مدن وقرى صغيرة ،مثل منفلوط ،وأسيوط ،وإخميم ،وهي مدينة قديمة بها مسجد ذي النون المصري ،كما
أن بهذه المدينة آثارا قديمة ،وكنائس النصارى األقباط»(((.
«عزمت على المسير إلى نيسابور في ذي القعدة ستة تسع وتسعين وأربع مائة ...أخبرت زوجي باألمر
الجديد ،فاستبشرت خيرا وسرت بذلك سرورا؛ ألنها ستعود إلى المدينة التي تحاببنا وتزوجنا فيها»(((.
تكشف المقاطع السابقة سيرة االنتقاالت التي قامت بها الذات البطلة في النص ،ونالحظ أن عملية
التسريد ظلت محكومة بالتاريخ المرجعي للذات في تحققها الواقعي .هكذا كان الهاجس التاريخي
بمرجعتيه قوي التأثير على السارد ،حيث ظل مشدودا إليه وهو يقوم بتسريد انتقاالت الذات مما ضيق
هامش التخييل واالنتقاء والتصرف .ولعل طغيان هذا االنشداد إلى المرجعي لم يقتصر على انتقاء تحركات
الذات المرجعية ،بل تحكم في عملية تأطير الفضاء الحكائي ،فالسارد كثيرا ما عمد إلى التأريخ للمدن
المزورة أي المنتقل إليها ،مما أدى إلى تكثيف المعرفة التاريخية في النص ،وهذا نمثل له عبر المقطع
اآلتي »:نور الصحابة قد وصل إلى بالدنا حيث فتحت في عهد الخليفة عمر بن الخطاب بعد فتح نهاوند،
وقد فتحها سويديين بن مقرن ،وقد دخلها من الصحابة أبو عبد الله الحسين بن على رضي الله عنهما»(((.
المقطع هنا يشير إلى مدينة جرجان ،إذ نالحظ كيف أن فعل التسريد ينخرط في تقديم المعطيات
التاريخية عن المدينة ليبرز فاتحها وسيرتها في عالقتها بالصحابة تاريخيا ،ولعل هذا النزوع في تأطير
الفضاء النصي ضمن سياقه التاريخي في عالقته باالمتداد اإلسالمي ،هو ما أدى إلى تكثيف هذه المعطيات
التاريخية في النص ،إذ صار الولوج إلى الفضاء النصي المتعين والمنتقل إليه محكوما بما مضى من
األحداث التاريخية في المرجع .ولعل هذا ما قد يؤدي إثقال النص معرفيا في ظل هذه السطوة للمعرفة
التاريخية على الفضاء ،وهذا سنالحظه بكثافة أيضا حين استحضار شخصيات مرجعية أخرى ستلتقي معها
الذات النصية البطلة في تنقالتها لطلب العلم ،وهذا ما نستخلصه من المقطع الذي ينطلق من قول الذات
البطلة« :وخالل تلك األيام جاءني أحد الطلبة من أهل المغرب يدعى أبا بكر بن العربي المعافري مع والده
الفقيه الرئيس أبي محمد وكانا قد هاجرا سنة 475ه بعد عام من استيالء سلطان المغرب ناصر الدين أبي
يعقوب يوسف بن تاشفين على مملكة إشبيلية وغيرها من بالد األندلس»(((.
فالذات البطلة تتحدث عن أيامها بالعراق حيث انتقلت للتعليم وممارسة شغفها المعرفي ،إال أن تسريد
هذا المعطى التاريخي ظل تحت سطوة الحدث المرجعي .فالتسريد ارتبط بالزمن التاريخي المرجعي،
كما أن المتتبع لمسار هذا التسريد سيلمس انجذابا إلى تأريخ الدولة المغربية في عهد يوسف بن تاشفين،
وذلك عبر مقاطع بحمولة معرفية تاريخية كثيفة ،على نحو تكاد تتحول فيها الفقرات الروائية إلى وثائق
تاريخية ،وهذا نجده في كثير من محطات الرواية ،ونتلمسه أيضا في االستعراض المعرفي الذي تتجه إليها
إحدى الذوات النصية في الصفحات 121-120حين تقدم المعطيات التاريخية للدول المتعاقبة.
هكذا رزحت الرواية ،في سعيها إلى تسريد السيرة العلمية للغزالي ،تحت سطوة الحدث التاريخي
في مختلف مفاصلها الحكائية ،ولعل اإلشارة إلى منتهى الرواية كفيل ببيان هذه السطوة الممتدة« :في
يوم اإلثنين 14اآلخر عام 565الموافق 18من آخر شهر عجمي من سنة ،1111لما كان الصبح توضأت
وصليت وقلت ألهلي ،علي بالكفن ،فأحضرته لي حواء باكية شاحبة»(((.
((( فيصل دراج ،الرواية وتأويل التاريخ ،نظرية الرواية والرواية العربية ،المركز الثقافي العربي ،بيروت الطبعة األولى،
ص.94.
((( ميشيل فوكو ،يجب الدفاع عن المجتمع ،ترجمة وتقديم وتعليق الزواوي بغورة ،دار الطليعة للطباعة والنشر بيروت،
الطبعة األولى ،2003ص .87
((( عبد اإلله بن عرفة ،طواسين الغزالي ،م.س ،ص.51.
((( عبد اإلله بن عرفة ،طواسين الغزالي ،م.س ،ص.57.
خطابات 68
إدراك عميق لطبيعة ما هو منتظر منه ،رغم اإليحاء المتضمن في ختام المقطع ،الذي يشير إلى الطموح
المتمثل في االستجابة إلى دعوة اإلخوان .هكذا يتحدد العطاء هنا باعتباره استدراجا للذات من أجل
االنخراط في الفرقة اإلسماعيلية ،بتبني خطها األيديولوجي ونهجها السياسي ،هذا االستدراج الذي
سيتعزز حسب الخطاب الروائي من خالل آلية أخرى ،أال وهي األنثى ،حيث ستبرز الذات النصية «حواء»
(الطاهرة) باعتبارها عامال محفزا للغزالي من أجل تبني الفكر اإلسماعيلي .وهذا نستخلصه من قول الفتى
اإلسماعيلي علي حين يرد على طلب الغزالي العاشق الذي يبتغي االقتراب من الطاهرة واالرتباط بها
حيث يقول علي»:لقد قلت لك إنها لن تقبل بك مالم تطمئن لوالئك ،فهي حفيدة ألحد كبراء الطائفة من
العلويين ،فال تطمع بالظفر مالم تصبح واحدا منا»(((.
يقدم المقطع تصورا واضحا عن النظرة إلى اإلسماعيليين باعتبارهم فرقة تعتمد مختلف الوسائل سواء
المشروعة أم غير المشروعة ،من أجل استقطاب األفراد إلى جماعتهم ،باعتبارها جماعة سرية تنشط من
أجل أهداف سياسية تروم زعزعة كيان الدولة .ولعل هذا الفهم .تكريس للرواية التاريخية الرسمية عن هذه
الطائفة ،حيث يتم «تعريف الهامشيين بالنسبة إلى المجتمع المهيمن بصورة سلبية»((( ،والرواية تعمد إلى
تسريد هذا التصور والموقف وبذلك تزكيته وهذا تجسد في التحول الطارئ على شخصية الغزالي حيث
أخذت خطة الفرقة تحقق هدفها حول مصيره العلمي ،إذ تعكس إحدى حوادث هذا االنخراط في الجماعة
ردا للجميل الذي أحيط به وطلبا للفوز بالمحبوبة الطاهرة« :اجمع بيني وبينها واترك الحديث عن هذا إلى
ما بعد ،فقد بروا بي وتكفلوا بدراستي وأعانوني ،فكيف ال أنحاش إليهم وأنصر بيت النبوة»(((.
فهذا االقتناع المتجسد في خطاب الذات النصية الغزالي ،لم ينبع باألساس من الجدوى الفكرية
للمشروع اإلسماعيلي ،بل هو نابع من الخدمات المقدمة للذات .فعلى هذا األساس يتضح أن اآلخر
اإلسماعيلي ،تعوزه الحجة الفكرية في اإلقناع من ثمة يلتجئ إلى هذه األساليب الستدراج المنتسبين إليه،
في حين أن اإلسماعيلية ترى نفسها أو يراها المعاصرون «مدرسة فلسفية ثورية ..ترمي إلى إحداث ثورات
شعبية ..ضد الحكام والمالك واإلقطاعيين واألثرياء ،وأصبحت ملجأ لكل ناقم وحاقد على األوضاع
ومكانا أمينا يأوي إليه العلماء وطالب المعرفة»((( .فعلى النقيض من هذا تماما تقدم الرواية صورة غاية
في السلبية واالتهامية ولعل هذا ما نستنتجه حين نتأمل حادثة القلعة .التي دعي إليها الغزالي ،حيث يقول
الغزالي عنها« :في الصباح قمت باكرا على أهبة مغادرة هذه القلعة العجيبة التي يتم فيها التدليس على
تجمع المسلمين ،لذا بدأت تتالشى في ذهني والءاتي السابقة حينما كنت فتى في جرجان ،فقد تفتق أكثر
بألويات العمل»(((.
هكذا يتضح بجالء االقتران الواضح بين التحوالت الفكرية وأثرها البالغ في تغيير نظرة الذات إلى اآلخر
المخالف مذهبا ،من ثمة يتعزز الموقف تجاهه باعتباره فتانا ضاال .إذاك تنبري هذه الذات وفق قناعاتها
الفكرية الجديدة في التصدي ألصدقاء األمس الفكري ،عبر ما تتيحه سيرتها العلمية وارتقاؤها المعرفي
ببلوغها الدرجة العلمية الرفيعة التي ستؤهلها لتكون لسان الدولة في مقارعة الخصوم األيديولوجيين،
هذا االنحياز األيديولوجي هو نفسه ما تستنكره الذات نفسها حينما تستحضر اآلخر المخالف طائفيا
ومذهبيا ،حيث تقول الذات حينما تسترجع ماضيها مع اإلسماعيليين« :لقد كنت مستجيبا بين هؤالء
القوم ،وأجازوني في مراتبهم وفي في غفلة من تدبيراتهم ،لكني شككت في هذا األمر( )...بدا لي أنه ربما
كانوا يبيتون أن أصبح أحد علمائهم المكافحين عن عقيدتهم ،فلم يكلفوني بمهمة صعبة.(((...
هكذا تنفلت الرواية «لتربض في المناطق الفاصلة بين األفراد والعالم ،حيث ال تقبل مهمة تصوير
العالم ومحاكاة خريطته البشرية والتاريخية كما هو إنما صارت مهمتها إعادة إنتاجه وترتيبه وتمثيل القيم
المتناقضة فيه»((( ،وفق هذا المنطلق يتكشف الدور الكبير للموقع األيديولوجي في اتخاد الموقف من
اآلخر ،إما قبوال أو رفضا ،فالذات التي قبلت يوما أن تكون منخرطة مع اإلسماعيليين ،بحكم أياديهم
البيضاء ،ستغير نظرتها إلى هذا اآلخر ،ليصبح خصما ،بما للخصومة من دالالت وفق أبعادها الفكرية
والسياسية ،والتي قد ترخي بظاللها على المجتمع ،حيث تصبح فضاء للصراع الطائفي ،المتسلح باإلقصاء
والمحو ،باعتبار ذلك تجسيدا لعنصرية « تبدو كوسيلة لصراع فئة اجتماعية ضد فئة أخرى ولكن تستخدم
كاستراتيجية كلية وشاملة للمحافظين االجتماعيين ..إنها عنصرية الدولة عنصرية المجتمع يمارسها على
نفسه على عناصره ذاتها ،عنصرية داخلية (((»،بما يتنافى مع قيمتي الحرية والعدل باعتبارهما ضامنتين لحق
كل األصوات والقناعات في بث أفكارها وقناعاتها فلكي يتحقق التسامح كقيمة «يدخل العدل في مضمونها
وتزيد عليه يجب إعطاء األولوية لتوفير حق الغير ،إن العدل يقتضي المساواة ..فذلك هو التسامح ،بمعنى
عدم الغلو في الدين الواحد وسلوك سبيل اليسر التي هي من جهة احترام حق األقليات الدينية في ممارسة
عقائدها وشعائر دينها دون تضييق أو ضغط ،من جهة أخرى حاجة تفرض نفسها بحكم تعدد الممارسات
الدينية داخل الدين الواحد وتعدد األديان داخل المجتمع الواحد ،هذا التعدد هو ظاهرة إنسانية حضارية
ال يمكن تجاوزها وال القفز عليها ،لذلك فالتسامح يعني التخفيف إلى أقصى حد ممكن من الهيمنة التي
يمارسها مذهب األغلبية داخل الدين الواحد ودين األكثرية داخل المجتمع الواحد»((( .هذه التعددية التي
خاتمة
شيدت معمارها السردي تكشف الدراسة أن رواية « طواسين الغزالي» للمغربي عبد اإلله بن عرفةّ ،
باعتماد المعرفة التاريخية ،وذلك بالعودة إلى الماضي؛ إذ حاولت التفكير في زمن الغزالي مستعيدة هذه
الشخصية للكشف عن التحوالت الفكرية التي رافقت هذه الذات المرجعية ،إال أن عمليات التحليل
أبرزت أن الروائي ظل مشدودا إلى التاريخي الرسمي في عمليات التسريد ،بما جعله أسيرا لألحداث
التاريخية بما هي تجسيد لخطاب مهيمن ،ولعل ذلك ما أفرز هذا اإلقصاء العنصري للفاعل التاريخي
ترسخ المنظور
المتمثل في الفرقة اإلسماعلية التي طالتها عمليات التشويه واإلنكار ،على هذا األساس ّ
ّ
ولعل ذلك ما أدى إلى مواصلة تغييب صوت هذا التاريخي السلبي الرسمي روائيا ،تجاه هذه الحركة،
المبعد والمقصي ،من خالل تكريس الرواية الرسمية لألحداث إبداعيا دون االلتفات إلى خطاب
َ اآلخر
هؤالء الذين تواجدوا في العتمة والصمت في ظل سلطة باترة مارست مختلف أساليبها لتحقيق اإلخضاع،
وكتبت التاريخ من زاويتها لتبرير مختلف هذه األساليب.
73 اخلطاابت العنرصية :قراءات نقدية
صالح حاوي.د
العراق، جامعة البصرة،أستاذ البالغة وتحليل الخطاب
المستخلص
ينتمي هذا المقال إلى واحدة من اإلجراءات المقترحة لدراسة الظواهر االجتماعية والخطابات التي
،بالغي ناقد
ّ ثم تحليلها في إطار
ّ ومن،تنتجها الجماعات أو تص ّنف من خاللها بوصفها ممارسات خطابية
عملت على إنكارها ضد جماعة ِ ونسعى في هذا المقال للنظر في الخطابات التي أنتجت العنصري َة أو
وكان هناك أكثر من محور في التعامل مع خطاب،«الغجر» بوصفهم أقلية عرقية في المجتمع العراقي
. واالنتقال من خطاب المنبر إلى خطاب السرد،العنصرية وكيفية تشكيل هوية الغجر
كلمات مفتاحية
. خطاب المنبر، البالغة الناقدة، الغجر، الظاهرة االجتماعية، الهوية،العنصرية
Abstract
This article belongs to one of the proposed procedures for studying the social phenom-
ena and discourses that groups produce or classify through them as rhetorical practices,
and then analysis them in a critical rhetorical framework. In this article, I seek to look
at the discourses that produced or worked to deny racism against the “Gypsies” group
as an ethnic minority in Iraqi society. There was more than one axis in dealing with the
discourse of racism and how to form the identity of the Gypsies, and the transition from
discourse of the pulpit to the discourse of the narrative.
Keywords
racism, identity, social phenomenon, gypsies, critical Rhetoric, discourse of the
74
75 اخلطاابت العنرصية :قراءات نقدية
سؤاالن في الهوية والعنصرية
وفاعل في إنتاجً سببا
نتحدث عن الهوية؟ وما عالقتها بالخطاب العنصري؟ قد تكون الهوية ً ّ لماذا
معكوسا عندما تسهم العنصرية في اللجوء إلى الهوية والتمسك بها، ً الخطابات العنصرية ،وقد يكون األمر
سأعمل في هذه اإلضاءة على تأجيل اإلجابة التفصيلية التطبيقية عن سؤال العالقة بين الهوية والعنصرية
لكن السؤال األول المتع ّلق بمسألة أو الهوية وتأثيرات الخطاب العنصري ليكون ضمن محاور الكتابةّ ،
نصا لكاترين آلبيرن يحمل السؤال ذاته « لماذا االفتتان بالهوية واالنشغال بها في أزماتنا الراهنة ،أستعير له ًّ
حد أننا نحكم فيه على المفهوم بالتشويش؟ لفهم ذلك ،من نتكلم هذه األيام عن الهوية بهذا القدر ،إلى ّ
المفيد العودة إلى قصة رواجه ،إن مفهوم الهوية الذي انتشر بكثافة خالل الستينيات في الواليات المتحدة
هو انعكاس لسياق خاص ،أعني تنامي قوة األقليات ،وكذلك لميل الحداثة القوي إلى تأكيد الفرد»(((.
سؤالنا اآلخر ،لماذا نفكر في العنصرية وننشغل في الكتابة عنها أو محاولة تشخيص أسبابها؟ هل
بنيوي
ّ ٍ
بشكل ً
مرتبطا مجتمعاتنا العربية متورطة باألفعال والسلوكيات العنصرية؟ ألم يجد اإلسالم – بوصفه
حل للعنصرية وللمسائل المرتبطة بها من األشكال التمييزية والعرقية واإلثنية؟ ولماذا ننشغل بأمة العربً -
ثقافيا؟ يبدو أنّنا ال نملك القدرة
خطابيا أو ً
ً اآلن تحديدا بالعنصرية والبحث عن الخالص منها أو معالجتها
مجتمعا يرفض خطاب ً ولنعده
ّ العربي صور ًة جميل ًة ّبراقة،
ّ الكافية أو الرصيد اإليجابي لنمنح المجتمع
ويتنوع في إنتاج خطاب متعدد الكراهية بين ّ الكراهية وينتج خطاب التسامح ،بل العكس هو مجتمع يبدع
وفعال ًة
كل هذه األنماط تظل وظيفته في اإلقصاء نشط ًة ّ والعرقي ،وفي ّ
ّ واإلثني
ّ والقومي
ّ والمذهبي
ّ الديني
ّ
ِّ
ومستمر ًة وتعمل على رسم حدود الهويات في ظل معادلة التوالد واألسباب والمسببات التي تفرض النظر ّ
فأي منهم يسهم في إنتاج اآلخر؟ في العالقة الشائكة بين العنصرية والكراهية واإلقصاء والهويةٌّ ،
االستفهامية ،وبالتالي ربطها باإلجابة عنها عبر نظام (هويتي وهوية اآلخر) فهل كانت هناك حاجة ذاتية
ويقدم كاظم االجابة :إن التعبير عن الكراهية يتطلب وجود اآلخر
للتعبير عن الكراهية من أجل التنفيس؟ ّ
بالضرورة ،فالعيش وسط الناس والمجتمع يسهل من مهمة تحقيق أهداف كراهيتهم((( .فال كراهية من دون
ثم أفترض ً
شكل لهذه العالقات بين نسميها (خطاب الكراهية) ،ومن ّ
يحق لنا أنْ ّ
تفاعل واستعمال ،ولذا ّ
(العنصرية والكراهية والهوية واإلقصاء) التي ترسم وجودها وحدودها في دائرة الفعل والنتيجة.
العنصرية
اإلقصاء الهوية
الكراهية
بالتفوق عبر وسائل مختلفة وعلى أسس ّ فالعنصرية ممارسات قائمة على التمييز بين البشر والشعور
متعددة كأن تكون قائمة على النوع أو القومية أو الدين أو المذهب أو العرق ،فهي ّإما أن تكون على أساس
التفوق والتمايز البيولوجي ،أو أساس إثني وهو يستند على الجماعات المتشكلة عرقي وهذا يستند على ّ ّ
ٍ ّ
وقوميا ،فهذه كلها أشكال محدِّ دة للعنصرية وهي ذاتها التي تسمح لنا بوصف خطاب ما بأنه خطاب ً ثقافيا
ً
عنصري ،أو وصف ممارسة ،أو ظاهرة بأنها ممارسة أو ظاهرة عنصرية؛ ّأما عن الحلقة الدائرية بين
العنصرية ومتالزماتها؛ فقد تكون العنصرية مسؤولة عن إنتاج وظيفة إقصاء اآلخر المختلف معك أو معي
مما ُيسهم في إشاعة وتداول خطاب الكراهية وممارساته ،وشعورنا بأننا وقعنا تحت تأثير هذه عنصر ًياّ ،
بكل تأكيد -باحثين عن االحتماء ،أو المكان األليف لنا الذي تمثّله الهوية؛ وهيالعملية سيجعلنا نلجأ – ِّ
تحمل الصفة ذاتها التي تُص ّنف بها أنواع العنصرية.
وقد يكون دوران الدائرة يبدأ من الهوية وينتهي بالكراهية ،فهناك هويات قومية وإثنية ودينية وانتماءات
يحدثنا
األمان والحماية من اآلخر المختلف؟ ّ َ ُ
الهوية فرعية أخرى تعلن عن تشكيل الهوية ،فهل تمنحني
أمين معلوف في «الهويات القاتلة» عن نماذج الهوية التي تسهم في أن تكون ضحيتها عرضة للقمع؛ وقد
وبكل أشكالها ،فالهوية ليست مال ًذا
ِّ شاهدنا وعاصرنا مشاهدَ الموت اليومية في العراق تحت عنوان الهوية
سببا في القتل والعنف ،أو تكون أداتنا في إنجاز هذه الممارسات؛ نحتمي به على الدوام ،بل أحيانًا تكون ً
عندما تعلن عن نفسها بأنّها الهوية الوحيدة الممثلة للوطن وهذا ما يقترب من تسمية الفيلسوف الهندي
أمارتيا صن «وهم الهوية المتفردة» التي تنجح في اإلقصاء ،إ ْذ «أنّ ً
كثيرا من النزاعات واالعمال الوحشية
في العالم تتغذى على وهم هوية متفردة ال اختيار فيها ،وفن بناء الكراهية يأخذ شكل القوى السحرية لهوية
مالئما ً
ميال ً ً
شكل كل االنتماءات األخرى وعندما تعطي هذه الهوية مزعومة السيادة والهيمنة تحجب َّ
المترسخة في تصنيفاتّ اعتبار أنّ العرقية «صارت هي المبحث العام الذي يشمل كل أنواع التشكيالت
البشر ألنفسهم وتمييز بعضهم عن بعض»((( .وهنا الرغبة إليجاد عالقة تأصيلية بين العرقية والعصبية
مفروض ال ُّ
يدل على التحامل ٌ فالع َص ُبة واقع ن ََس ٌّ
بي ال َن َس ّبية أو القبائلية كما فرضها علينا المفهوم المعجمي؛ ُ
لكن العصبية هي االنتقال من الواقع (ون َْح ُن ُع ْص َب ٌة)(((ّ ،
يدل على هوية الجماعة ذوي العدد َ والعنصرية ،بل ّ
منتجا
فعل ً وتجسيرا إلنتاج التعصب بوصفه ً ً تطر ًفا وتكون تمهيدً االطبيعي المحايد إلى المرحلة األكثر ّ
للعنصرية ي ّتصف به من يكون ذا عصبية ،ويمكن توصيفه بالشكل اآلتي:
فتتحول إلى العصبية «المفهوم القبائلي وهو ّ عرقي /قبلي» قد تتضخم ّ الع ْصبة في أصلها «مفهوم إنّ ُ
بحد
صفة لمن ينتج فعل التعصب» أي منح الذات االستعالء ومنح اآلخر الدونية ،وهذه المعادلة هي ّ
لكن ما يمكن
عنصري يؤ ّدي إلى ممارسة اإلقصاء ،وما يترتب عليه من انتاج خطابات الكراهيةّ . ٌّ ذاتها فعل
بالع ْصبة (الجماعة النسبية) إلى أن يكون مراجعته واستيعابه بحذر هو انتقال مفهوم التعصب من عالقته ُ
وتعص ٌب ثقافي
ّ ديني يستلزم التكفير وممارسة العنف والغاء اآلخر، تعص ٌب ٌّ متطرف؛ فهناك ّ فعل ّ لكل ٍتمثيل ِّ ً
الع ْصبة الجذر األول هي المؤسس لمفهوم سلبي فيما بعد وهو ثم تتأكّ د حقيقة أنّ ُ ورياضي واجتماعي؛ ومن ّ
التعصب خرج من جذره ودخل في مفاوضات جديدة تسهم في خلق العنصريات. ّ التعصب ،أو القول :إن ّ
أمارتيا صن ،الهوية والعنف «وهم المصير الحتمي» ،ترجمة سحر توفيق.12-11 : (((
ابن منظور ،لسان العرب ،مادة عصب. (((
عبد الله الغذامي ،القبيلة والقبائلية أو هويات ما بعد الحداثة.36 : (((
سورة يوسف :اآلية 8 (((
خطابات 78
.3-1العرق واإلثنية
مجموعة من األعراف « نظم الخطاب» التي يشكلها ٌ ٍ
خطاب ما لم تتحكم به يتشكل أي ّ ال يمكن أن
نفسه في عملية تفاوض من أجل معينة ،مثلما يدخل الخطاب ُ
(((
تجسد أيديولوجيات ّ المجتمع وهي بدورها ّ
فثمة عالقة بنيوية ذات نظام متداخل ومتشابك بين العرق واإلثنية، السيطرة على تلك األعراف وقيادتهاّ ،
المقومات ،أو الخصائص مثل ّ والعقيدة ،واللغة ،واللون؛ فالعرقية تتزاحم مع اإلثنية في االستحواذ على
«العقيدة واللغة والنسب» وهنا وجبت المراجعة والتفصيل.
بي قد ترتبط به اللغة والعقيدة ،أو يتخ ّلى عنهما؛ لك ّنه من الصعب أن يتخ ّلى عن العرق له نظام ن ََس ٌّ
تشعب ومنه ِعرق الشجرة((( ،أي :أنّه الم ِّ
الس ْنخ ُ
أصل من أصول مفردة العرق وهي ِّ ٍ النسب الذي يشير إلى
مفهوم بيولوجي ال يمكن التخ ّلي عنه أو إسقاطه من التركيبة البيولوجيةّ ،أما التخ ّلي عن اللغة في البناء
العرقي فهي إشكالية مضافة تسهم في تعقد التداخل وانتقال ما يمكن أن يسهم في فهم العرقي وتمييزه
األمم في لغاتها بحد ذاتها -الشكل األكثر ثباتًا لتمثيل الهوية اللغوية للعرق؛ إذ تتمايز ُ عن اإلثني ،فاللغةّ -
مثلما تتمايز في أصولها ومنابعها النسبية الوراثية ،ويرى بعض القدامى – كما يقول علي الوردي -أنّ
أي شيء نزل به الوحي»((( ّأما مقدسة يجب أن تؤخذ كما يؤخذ ُّ جزء من الدين ،وهي أذن ّ «اللغة العربية ٌ
مؤثرا في
ً ً
عامل يتدخل السياق الخارجي ويكون ّ العقيدة -إذا تمثلت بالدين -فهي مسألة ثقافية ،فقد
والدين ،وال يعني انفصالهما يحدد شكل العالقة الهشّ ة بين العرق ّ صياغة العالقات العقدية الدينية ،وهذا ّ
فضلعده خصائص العرقً ، بنيوي بين العرق ،وال ّنسب ،واللغة؛ من الممكن ّ ٍّ ٍ
تداخل التام ،وما ذكرته من
تمي ًزا وهي لون البشرة ،إذ «تتكون األعراق من خالل االشتراك في أنواع معينة من عن خصيصة أخرى أكثر ّ
البشرة في األغلب ،أكثر من ّ
تشكلها ِ معينة يميزها ُ
لون الشخصيات والقيم ،والميول المرتبطة بأنماط جسد ّ
عميقة الجذور»((( وتساعد هذه الخصال على بروز العنصرية ،أي: ُ ٌ
بيولوجية ٌ
خصال من أناس تجمعهم
«اللوني ،أو البيولوجي»
ّ العرقي
ّ دافع ومح ّفز إلنتاج الخطاب العنصري باالعتماد على التمييز إنّ العرقية ٌ
عرقيان؛ ّأما االحتماء بهما أو الدفاع عنهما هو صراع مستمر ال ينقطع مع ّ فالمظهر والسلوك عنصران
ويتعرض بسببهما اإلنسان إلى اإلهانة والتحقير في مختلف ميادين الحياة؛ ولذا يرى ّ الفعل العنصري،
اجتماعي «تم استخدامه
ٌّ بناء
المحلالن الناقدان مارتن ريزيجيل وروث فوداك أن المسألة العرقية هي ٌ
كأداة إيديولوجية لشرعنة قمع واستغالل فئات اجتماعية معينة وحرمانها من الوصول إلى الموارد المادية
والثقافية والسياسية والعمل وخدمات الرعاية واإلسكان والحقوق السياسية»(((.
أ ّما اإلثنية فهو مفهوم ثقافي يتداخل بقوة مع مفهوم العرق ،ولذا يعتقد الباحث في الدراسات الثقافية
((( ينظر :نورمان فيركلف ،اللغة والسلطة ،ترجمة محمد عناني.49 :
((( ينظر :ابن فارس ،معجم مقاييس اللغة :م 4مادة عرق
((( علي الوردي ،أسطورة األدب الرفيع.131 :
((( سايمون ديورنغ ،الدراسات الثقافية :مقدمة نقدية ،ترجمة ممدوح يوسف عمران.264 :
(5) Martin Reisigl and Ruth Wodak.Discourse and Discrimination Rhetorics of racism and anti-Semitism: 2.
79 اخلطاابت العنرصية :قراءات نقدية
سايمون ديورنغ أن هناك عالقة وثيقة االرتباط بين العرق واألثنية ،فالناس اإلثنيون ال ينحدرون من الثقافة
المشتركة فحسب ،بل ترتبط اإلثنية مع النسب والدم ،فإذا كان العرق بين المجتمع والطبيعة ،فإن اإلثنية
وسأفترض مساح ًة ُأخرى للتفريق بين العرق واإلثنية هي العودة إلى المعجم ُ تتوسط بين العرق والثقافة(((.
مرتبطا بالنسب أو األصلّ ،أما اإلثني فلم يرد في المعاجم العربية مكسور ً العربي الذي أعانني في فهم العرق
مؤشر على أن كلمة األثن ٌ
لغة في الوثن(((؛ وهذا األ ْثنة» ويقولون ُ الهمزة ،بل جاء بفتح الهمزة «أثن ومنه ُ
ٌ
كثيرا بمعنى العرق؛ وهذا ما فعلته المترجمة رجم ً اإلثني هي مأخوذة من الكلمة االنجليزية ( )Ethnicالتي ُت ُت ُ
خلطا جديدً ا بين العرقيالقراء ً
غيداء العلي في كتاب فان دايك (الخطاب والسلطة) وقد أضافت على كاهل ّ
واإلثني ،بينما يمكن القول إنّ كلمة ( )Raceهي ترجمة العرق أو ( )Ethnicismالعرقية بينما (( Ethnicهي
يقر مارتن ريزيجل وفوداك بالخلط الشائع بين العرقي ( )Racialواإلثني (،((()Ethnical ترجمة اإلثنية ،ولذا ُّ
بل يؤكّ د الباحثان أن تون فان دايك اللساني المعتني بموضوع العنصرية ال يميز بين العرقية ()Ethnicism
والعنصرية ( )Racismوأشكال التمييز المتاخمة ،ويعتقد أنها مفاهيم غامضة ومتداخلة(((!!.
اإلثني
ّ واإلثني نرى أنّ العرقي هو االنتساب البيولوجيّ ،أما
ّ ولالجتهاد في وضع حدٍّ فاصل بين العرق
ثم ٍ ٍ ٍ قوميا لجماعة ُم ّ
نظمة عبر موجهات لغوية وبيئية .ومن ّ ً فقد يتجاوز حدود البيولوجي ليكون انتسا ًبا
تبادليا
ً تبنى على أساسهما أشكال الفعل العنصري ،وإنتاج خطابات الكراهية واإلقصاء؛ فقد يكون األمر
حتما إلى فشل مشروع تفاعليا بين اإلعتزاز بالهوية العرقية أو اإلثنية والمواجهة العنصرية التي تؤ ّدي ً ً أو
والتحيز.
ّ التسامح والتعايش ونجاح مشاريع اإلقصاء
-2من هم الغجر؟
يختلف األنثروبولوجيون والمهتمون بالجغرافية العرقية في تحديد نقطة انطالق الغجر؛ من حيث
العراقي حميد الهاشمي فرضيتين أساسيتين في أصل الغجر ّ األصول والتسمية ،ولذا ذكر األنثروبولوجي
يعتمد عليهما في تحديد األصول األربعة (الهند ،وفلسطين ،ومصر ،والعراق) وخالصتها أن اآلراء التي
رجحت أصولهم إلى الشرق األوسط (فلسطين ،مصر ،العراق) ّأما الفرضية األخرى، تعتمد األساطير ّ
لكن المرحوم مصطفى جواد ترجح المجيء من الهند ّ ،
(((
الخ ْلقي والثقافي ،ولذا ّ
فهي تستند إلى التشابه ُ
أساسا في معرفة الغجر وتسمياتهم ،وهيً الذي سبق حميد الهاشمي اعتمد فرضية (التهجير والتشريد)
فرضية ظلت مالزمة لهم ،بل ُعرف الغجر بها حتى ُو ِص ُفوا بأنّهم الجماعة المتشردة أو الضيوف الثقالء(((،
(الزط) أقدم تسمية عربية للغجر مستندً ا في ذلك على ما جاء في القاموس ويرى الدكتور مصطفى جواد أن ُّ
معرب َج ٌّت»((( ولم يأخذ الحديث عن هذه الكلمة «الزط بالضم جيل من الهند ّ المحيط للفيروزآبادي ُّ
لكن مصطفى جواد ُيع ّلق بأن «هذا الجيل أي الشعب قد عايش العالم مساحة كبيرة عند الفيروزآباديّ ،
الزط هم أسالف ثائرا ومرة متجندً ا وثالثة متعايشً ا» ؛ وينتهي جواد بالقول :إن ّ
(((
مرة ًالعربي القريب منه ّ
الزط هم الغجر وبحثوا فضل عن أن هناك العديد من الدراسات والمقاالت التي أكّ دت على أن ّ الغجرً ،
الزط بأنهم قوم لكن الصفات والممارسات التي يذكرها مصطفى جواد عن ُّ في ثورتهم عام 201هـ(((ّ ،
يسفكون الدماء ويقطعون الطرق وينشرون الرعب ال تتطابق مع الغجر المعاصرين الذين يصفون أنفسهم
معياراً بأنهم رمز الحب والرومانسية .فالهجرة والتشريد بوصفهما الطالعة األولى إلى البالد الغربية ليست
لعدهم أسال ًفا للغجر ،وقال جواد في المقال ذاتهّ :أما الطالعة الثانية ،فهم القفس الذي أصطلح عليهم ّ
الغربيون Gypsyوينفي مصطفى جواد أية صلة بين ( )Gypsyو(((()Egypt؛ وهذا النفي يؤكّ د نفي الرأي
القائل :إن الغجر أصولهم من مصر ،ويبدو أن القفس يشابهون الغجر في تأزّ م هويتهم الدينية أو ما يمكن
لكنالقول غيابها ،فكما يفهم مصطفى جواد لم تكن لهم ديانة أو معتقد ال في االسالم وال في الجاهليةّ ،
الصفات االخرى التي ذكرها ومنها القوة والبطش لم يتوارثوها في العراق تحديدً اّ .أما عن تسميتهم
بالقرج ،فقد استعرض طه حمادي الحديثي رأي الباحث م .بنيامين الذي يذهب إلى الترابط بين الغجر
والقرج عبر صفة «اللون األسود» بأنّ القرجي ( )Qaratchiمشتق من الكلمة التركية «قرة» وهي بمعنى
الحديثي
ّ لكن
األسود ،وإن التسمية الفرنسية ( )Gitansأي الغجر تكون نسبة إلى اللون األسود لخيمهم(((ّ ،
تسمية ٍ
لنمط ٌ الرأي الوارد في المعجم التركي أن كلمة «قره جي »Karji /مرادفة لكلمة الغجري وهي َ يؤيد
ّ
المستهجنة ،وليست آتية من اللون األسود .وهناك تسميات أخرى عربية وأجنبية متفق
(((
من السلوكية ُ
لكن ما يهمنا هو مصطلح الغجر أو الكاولية بحسب أو مختلف حولها ال أريد الخوض في تفاصيلها(((ّ ،
الزنا التسمية الشعبية العراقية؛ وهذه التسمية لها أصل ينطبق «على قبائل هندية كانت بعض نسائهم تمارس ّ
والرقص لخدمة دينية لرجال الدين ،وباألجر إلى طالبي المتعة ،ومنهم ما كان في معبد الملك الكولي
(كاول)»((( .ومثلما اختلف الباحثون والمؤرخون في الشأن االجتماعي حول التسمية فقد اختلفوا حول
لكن
األصل أو الموطن األصل الذي انحدروا منه ،بين الهند ومصر وإيران وتركيا وبالد ما بين النهرينّ ،
أصل هندي ويمتازون بصفات يمتاز بها الهنود أنفسهم؛ مثل ٍ أهم اآلراء المتواترة في االنحدار بأنهم من
البشرة السمراء الضاربة لالصفرار وكذلك الشعر األسود الفاحم.
تنوعا
األشد ًّ لكن األمر
خاضعة للعمليات المتواصلة بين الدخول ضمن أطر الجماعة أو الخروج عنهاّ .
نتجمنشطرا ومتأزّ ًما داخل الهوية الواحدة ،فكيف يمكنه أن ُي َ ً وتعقيدً ا عندما تتأزّ م الهوية أو يكون الفرد
ِِ
دائما لحالة خطاباته؟ هل ستكون هذه الخطابات تحمل صفة التأزّ م؟ يبدو أنّ مفردة «التأزّ م» ليست مالئمة ً
االنشطار داخل الهوية ذاتها ،فقد تكون عملية التفكير ومراجعة المسلمات في موروثات الهوية ونتائجها
موجه أيديولوجي ال تخلق التأزم بقدر ما تخلق اإلبداع ،وهذا ما يحدث في الهويات المصاغة بفعل ّ
أقل تقدير هو بحث جديد في إعادة إنتاج الهوية نفسها عبر المراجعة والتفتيش ومعتقداتي ،أو على ّ
في المسكوت عنه؛ وهذا ما نجده عند الكثير من المفكرين والك ّتاب المعروفين بانتمائهم لتلك الهوية
األيديولوجية والعقدية ،لكنهم يرفضون التماهي معها ويميلون إلى تفكيك نظمها البديهية ،أو قد يخلق
التمرد في نموذج الهويات المرتبطة بالمؤسسات االجتماعية (العائلة والقبيلة والمدينة). ّ الفرد حالة من
.1-4الهوية والخطاب
ما هي الهويات األكثر عرضة للتأزم؟ وهل يسهم الخطاب في تأكيد التأزّ م؟ يبدو أن الهويات التي
يتميز بها الكرد الفيليون هي بموجه محدد وهذا ما ينطبق على (الغجر) ،أو الهوية المركبة التي ّ ّ ال ترتبط
األقرب إلى حمل هذه الصفة ،فعلى سبيل المثال عندما نراجع هوية الكرد الفيلين لهم أكثر من انتماء على
المقوم مع
ّ اإلثني هم أكراد يجمعهم هذا
ّ المقوم
ّ الديني واللغة ،فمن حيثّ مستويات القومية والمذهب
((( ال أستعمل مفهوم (الخطاب والممارسة الخطابية) بالمعنى اللغوي المحدد بالجملة أو المضمون ،بل استعمله بمفهوم
أشمل يتضمن القدرة اللغوية وغير اللغوية على ان يتشكل عبر عناصره (المتكلم ،النص ،المخا َطب ،السياق ،الوظيفة،
االستعمال).
خطابات 82
الكرد اآلخرين ،لك ّنهم يتميزون عن الكرد باالنتماء للمذهب الشيعي ،ومعظم األكراد ُس ّنة على المذهب ُ
الشافعيّ ،أما من حيث اللهجة ،فهم يتميزون باللهجة اللورية الفيلية والبختارية التي يتحدثون بها على
خالف الكرد ولهجاتهم األخرى(((.
متأزمة؟ وقبل ذلك كله هل هناك هويات بالغية؟ وكيف يمكن إذن هل يمكننا القول بوجود هويات ّ
متأزمة؟
ّ للخطاب أن يسهم في تشكيل الهوية حتى يمكن وصف (الغجر) أنهم يملكون هوية بالغية
والمتخيلة ،والهجينة ،والممزوجة
ّ كثيرا عن الهويات وهي ملحقة بصفات؛ مثل الهويات القاتلة، قرأنا ً
لكن اتصاف والهويات السردية ،والصغرى ،والكبرى ،والهوية الملوثة ،والقلقة وغيرها من التوصيفاتّ ،
أمر يدعونا إلى االستدالل حتى نصل مع القارئ إلى إشعار القبول بتلك الفرضية أو رفضها، بالغيا ٌ
ً الهوية
فهي فرضية تستند إلى مقوالت منتجة عبر اتجاه البالغة النقدية والتحليل الناقد للخطاب ،فإذا كان المرجع
الفلسفي لهذين االتجاهين (ميشيل فوكو) يرى أن الخطاب له دور في تكوين الذات االجتماعية ،فإنّ
يشكل المواقف اجتماعيا إنّه ّ
ً أساسيا بقدر كونه مفهو ًما
ً اجتماعيا
ً عد مكونًاالتحليل النقدي يرى أن «الخطاب ُي ُّ
وأركان المعرفة والهويات االجتماعية لألفراد والجماعات والعالقات بين األفراد والجماعات»((( فقد
مساهما في تشكيل الهوياتً تجاوز الخطاب حدود المفهوماتية االجتماعية والتكوين االجتماعي ،بل صار
لألفراد والجماعات ،ولذا يرفض نورمان فيركلف المبدأ أو كما يسميها النظرة إلى الذات التي تؤمن بها
نظريات الخطاب واللغة التي ترى أن الناس يشتركون «في الممارسات االجتماعية والتفاعل االجتماعي
بهويات اجتماعية سبق تشكيلها وتؤ ّثر في ممارستهم ولكنها ال تتأثر بها»((( فالممارسة الخطابية بأشكالها
مادي له وجود ملموس عبر وظائفه في الواقع االجتماعي قادرة على ٌّ ك ّلها اللغوية وغير اللغوية هي ٌ
فعل
مهما في تشكيل الهويات؛ حيث تؤ ّدي اللغة وظائف الدعم واإلسناد ،فهي تدعم األنشطة صانعا ً
ً أن تكون
والهويات االجتماعية وكذلك بما تملكه القوة البالغية من وسائل حجاجية تفرض من خاللها اإلقناع،
ثم تنتج الهويات.فإنّها تدعم االنتماءات البشرية داخل الجماعات ومن ّ
الرسمي أو الشعبي لما وجدنا هوية تحمل سواء على المستوى ٌّ ولوال الخطابات العقدية والفقهية
أيديولوجيا تلك العقائد والمنظومات الفقهية((( ،ولوال خطابات التشديد على األمة بمختلف أعراقها
لحة بحقوقها لما كانت هناك هوية الم ّ
العربية والكردية واألمازيغية وغيرها واإلشادة بأصولها والمطالبة ُ
ُرسخ بقوة خطاباتِها وقدرتِها البالغية .وك ّلما اختفت الخطابات أو ظلت متسترة قومية؛ وهي هوية انتماء ت ّ
سريري للهويات التي تمثلها؛ فهل
ّ سيعلن عن موت وغير قادرة على الظهور واإلعالن عن نفسها؛ حتما ُ
((( ينظر :فريدة جاسم داره ،الكرد الفيليون :شقاء الهوية المركبة وجراح الذاكرة الجماعية ،ضمن كتاب االقليات في
العراق.147 :
((( روث فوداك ،ميشيل ماير ،مناهج التحليل النقدي للخطاب ،ترجمة حسام احمد فرج وعزة شبل محمد.26 :
((( نورمان فيركلف ،الخطاب والتغير االجتماعي ،ترجمة محمد عناني.65 :
((( ينظر :صالح حاوي ،فاعلية الطقوس الدينية في المجتمع العراقي ،مجلة التراث الشعبي ،ع 2021 ،314فقد وقفت في
هذه الدراسة عند العالقة بين الهوية الدينية وشكل الخطاب الطقوسي الذي ينتجه التدين الشعبي.
83 اخلطاابت العنرصية :قراءات نقدية
قادرا على مواجهة
نتصور هوية قائمة ثابتة فاعلة بإثبات حضورها من دون أن تمتلك خطا ًبا ً ّ يمكن أن
بالغيا.
ً الخطابات األخرى؟ قد يكون هذا السؤال هو مفتاح اإلجابة عن تأزّ م هوية الغجر
2-4الغجر – هوية متأزمة
جماعة ما ووضع حدود لالنتساب لها أو الخروج عنها ما لم نكن على معرفة ٍ ال يمكن توصيف
مؤثرا أو
فاعل ً سواء كان ًٌ بخصائصها وشكل هويتها التي تعلن من خاللها عن حضورها وغيابها؛ فوجودها
هيم ًنا عليه في المجتمع ،وهذا ما ينطبق تما ًما على الغجر ،فهم جماعة ال يمكن توصيفهم ِ
متأثرا ،مهيم ًنا أو ُم َ
ً
بأنهم قومية تسعى لتعزيز مصالح أمتها وتأمين وجود المنتمين إليها ،أو طائفة لها منظومتها العقدية والفقهية،
جزء من المجتمع الذي يعيشون فيه، مقد ٌس يختلف عن غيره من األديان ،بل هم ٌ كتاب ّصحف أو ٌ ٌ دين له
أو ٌ
بوصفهم جماع ًة قلقة بين االنتماء وعدمه ،أو جماعة منتشرة في بقاع األرض ،فقد ينتمون إلى قومية هذا
الدين وتلك الطائفة بحسب تواجدهم وتعايشهم الذي ال يمكن المجتمع أو ذاك ،وقد يتدينون بعقيدة هذا ّ
نتحدث عن الغجر؛ سيكون حديثنا عن أفراد أم جماعة؟ أي حديثنا عن ّ سلمي .فعندما ّ وصفه بأنه تعايش
وكل هذه التساؤالت ترجعنا إلى هوية فردية أم هوية جماعة؟ والتأزم في هوية الفرد أم في هوية الجماعة؟ ُّ
يحدد وجود الغجر أو مرحلة تعايشهم المتأزم؛ فهو تعايش قائم على المنفعة والترحال؛ فليس هناك موقع ّ
زمنية عاشوا فيها ثم انقرضوا ،بل ثمة تعدد في التسمية واألصل ،واألمكنة ،والحضور البشري المتواصل؛
فقد الحظنا في فقرة سابقة أنهم من حيث التسمية يصطلح على هذه الجماعة التي تحمل صفات الغجر
ويعيشون أسلوب حياتهم أكثر من مصطلح أو تسمية.
عرقية تنتمي إلى المجتمع العراقي الذي ّ
أقل أقلية ّ تقدم يمكن توصيف الغجر بأنهم جماعة أو ّ وعلى ما ّ
ظل عباءاتهم الفرعية»((( ،لكنهم ليسوا أقلية إثنوجغرافيةما يقال عن أفراده أنهم «أضاعوا طرف العباءة في ّ
(أقلية قومية – دينية) وليسوا أقلية قومية ،بل هم جماعة عرقية تتسم بالغموض واإلبهام أو التعددية في
أصولها وتسميتها وانتماءاتها ولغتها ،لك ّنها مكشوفة في ممارساتها االجتماعية ،ولذا فهي متأزّ مة في مجتمع
مر تأريخه؛ ّأما الغجر، س فيه العنصرية ِّ
بكل أشكالها القومية والطائفية واإلثنية وعلى ّ ُمار ُ
متعدد الهويات ت َ ّ
فلهم النصيب األكبر من أن يكون ماد ًة للخطاب العنصري في المجتمع العراقي ،كما أن هذه الجماعة
ال تمتلك أدنى مقومات إنتاج خطاب مضاد قادر على دفع العنصرية ،بل هي قادرة على إنتاج ممارسات
سلبي مثل الرقص والغناء والدعارة تثبت من ّ اجتماعي
ّ اجتماعيا ّ
أقل ما يوصف بأنه فعل ً خطابية تنتج ً
فعل
خاللها هذه الجماعة فيها هويتها وتعلن عن نفسها.
.3-3الغجر جماعة أم جماعات؟
نتصورها
ّ ثمة توصيفات تلحق بجماعة الغجر تزيد من تأزّ مها وغياب حدود هويتها ،بل تجعلنا ّ
جماعات ال جماعة واحدة بما يلحقها من توصيفات يمكن تصنيفها كما يأتي:
أول :الغجر هم (الجماعات المتحررة) وهذه صفة ناتجة عن سلوكياتهم وخروجهم عن المألوف في ً
((( محمد غازي األخرس ،كتاب المكاريد -حكايات من سرداب المجتمع العراقي.22 :
خطابات 84
التعامل مع األعراف االجتماعية ،فهم «يرون أنفسهم سادة األرض والشعب الحر وهم رمز الحب
والرومانسية»(((.
كثيرا باالستقرار ،إذ ثانيا :هم (الجماعات المتشردة) ألنّهم جماعة قائمة على الترحال ولم تنعم ً ً
دائما لالضطهاد واإلفالس فيجوبون الشوارع ألداء وظيفة جديدة وهي «الكدية» كما يتعرضون ً ّ
أن حركات التنقل مستمرة «من مكان إلى آخر من مناطق الغجر إما ألسباب دينية أو خارجة على
إرادتهم مثل التهجير المقصود الذي تفرضه الدولة عليهم»(((.
مجتمعيا ويسكنون
ً ثالثًا :الغجر (جماعة متشظية) من حيث االنتماء الديني والمذهبي ،فهم منبوذون
مدنًا ومناطق معزولة ،وفي بعض األحيان يمارسون الطقوس الدينية في عاشوراء إذا سكنوا المناطق
المحرمة
ّ ذات األغلبية الشيعية ،ويظلون يمارسون أفعالهم من رقص ودعارة وغناء حتى في األيام
في مناطق ال وجود للتشيع فيها.
شكل فيه من التنوع ،بل عاشوا في حالة من التأزّ م وما بظل هوية واحدة قد تأخذ ًإذن الغجر لم يستظ ّلوا ّ
العرقي وممارساتهم ،وعندما سأل الباحث االنثربولوجي العراقي حميد الهاشمي ّ يجمعهم ًإل تناسلهم
عشر تلميذا وتلميذة في مدرسة تابعة للغجر عن دينهم الذي يتبعونه ،كان الصمت سيد اإلجابة، ثماني َة َ
(((
وفوجئ بإجابة أحدهم – بعد أن أعاد معلم اإلسالمية السؤال عليهم -أنّ ديانتهم المسيحية!!
ُّ
نستدل على الغجر؟ -4كيف
استفهامي آخر يحاذي الداللة نفسها أو يمنحها تساندً ا ،العنوان اآلخر المقترح
ّ قد يكون هناك عنوان
قائم على العالقة بين الغجر الهوية البالغية المتأزّ مة من ناحية ،والخطابات التي تمثلها من ناحية أخرى، ٌ
البالغي؟ نؤكّ د مرة أخرى أن ثمة عالقة شديدة ٍ
الغجر خطابات؟ وما نوعها؟ وما قيمتها وغرضها فهل أنتج
ّ ُ
المعبرة عن الجماعة وهويتها ،ويبدو أنّ أحد أسبابّ األهمية بين الجماعات وخطاباتها ،أو بين الخطابات
يقدموا
تأزّ م هوية الغجر ،أو الدونية التي يعاني منها السود في العراق هو غياب الخطابات التي تمثلها ،إذ لم ّ
داخليا يمثّل تطلعاتهم وحقوقهم وواجباتهم ومركزهم االجتماعي في الوسط ً فرعيا أو يكتبوا نظا ًما
دستورا ً
ً
الذي يعيشون فيه ،وكيف يعيشون أو تبرير وسائل كسبهم للعيش ،وإذا كان الغجر ُكتبت عنهم دراساتٍ
اجتماعي ًة وأنثربولوجي ًة وجغرافي ًة وحتى تاريخية ،أي أنهم ممثَّلون لكنهم لم يمثّلوا أنفسهم ،فإنّ السود
– تحديدً ا في العراق -لم يكتب الباحثون عن معاناتهم ووجودهم في العراق ،وما عاشوه من اضطهاد
ُعد دراسة الدكتور فيصل السامر (ثورة وأوضاع مأساوية خالل القرون الماضية ،ومازالوا يعيشونها ،إذ ت ُ
شكل من أشكال التعبير عن وجودهم في العراق ومعاناتهم في الماضي ومن ثم تشكيلهم جماعة الزنج) ً
((( رئيس جمعية أنصار الحرية االنسانية ،ومؤسس حركة العراقيين األحرار ،وقد اغتيل في العراق عام 2013بسبب مواقفه
المناهضة للعنصرية ضد السود.
((( جالل اذياب ،السود ذاكرة جريحة وهوية مستعادة ،ضمن كتاب االقليات في العراق ،تحرير سعد سلوم.139-138 :
((( حميد الهاشمي ،تكيف الغجر.100 :
((( ينظر المصدر السابق.101 :
((( ُعرضت هذه الحلقة على موقع قناة الشرقية /يوتيويب يوم /6أغسطس.2019 /
خطابات 86
بالغي بمفهوم «علم البالغة االجتماعي» وليس بالمفهوم التقليدي(((؛ ٌّ خطاب
ٌ الظاهرة االجتماعية بأنها
خطابي يخضع لالستعمال والتداول في سياقات ّ أداء ٍ
فعل بمعنى أنّ الممارسة الخطابية هي إنجازٌ أو ُ
كل األفعال تحتاج إلى ممارسة حتى يشكل َ
وظائف داخل المنظومة االجتماعية؛ وبالتالي ًّ محددة ،وينتج
ّ
نتصور «الخطاب» بأنه يخرج عن ّ وجودها ظاهرةً .وعندما نقرن مصطلح الممارسة بالخطابي ،فال شك أننا
وتأثيرا على اآلخرين ،فالممارسة
ً حدود اللغوي إلى عموم الممارسات التي تمنح مستعملها قدر ًة وسلط ًة
بالتحول إلى ظواهر لها أساليب تؤ ّدى بها
ّ الخطابية هي األفعال االجتماعية التي يسهم تكرارها ّ
واطرادها
ووظائف ناتجة عنها ،ومن أهم هذه الوظائف هو التعبير عن هوية الجماعات التي تؤ ّديها؛ فالرقص والغناء
تعبر عن هويتهم ،ولذا فهي تستحق أن تصل تحولت إلى ظاهرة ّ مطردة عند الغجر ّهي ممارسات اجتماعية ّ
إلى مستوى الممارسة الخطابية بفعل قدرتها على إنتاج حوادث خطابية مهمة .وكذلك الحديث باللهجة
الغجرية المركّ بة من الفارسية والعربية والكردية والتركية ،والوصول إلى لغة مشفرة وظيفتها إنتاج األلغاز
القسرية الذي يقع ضحيتها الغجر
ّ السيما بحضور شخص غريبً ،
فضل عن العزلة الجغرافية االختيارية أو
وتؤمن االجواء المناسبة لها داخل ِّ
كل جماعة(((. سببا في انتعاش الكراهيات بين البشر ّفقد تكون ً
-5الهوية المتأزمة في التص ّور الشعبي (غير النخبوي)
العراقي غير النخبوي إلى قسمين في التعامل مع الغجر (الكاولية). ّ ينقسم أفراد المجتمع
القسم األول (الجماعات المحافظة)
سأطلق وصف المحافظ على نوعين من الجماعات أو مستويين من التيارات واالتجاهات المحافظة
أحدهما التيار المحافظ الذي يسعى للمحافظة على القيم والعادات والمعتقدات االجتماعية السائدة عبر
الديني هو المغذي لهذه المعتقدات ،بل قد يكون ّ منظومة األعراف وليس بالضرورة أن يكون المحور
ثقافيا ،وتمتلك هذه الجماعة وسائل وآليات الدفاع عن قيمها ومنظومتها االجتماعية ،وتعمل اجتماعيا أو ً
ً
على إزاحة واستبعاد كل ما هو خارج هذه المنظومةّ ،أما التيار المحافظ اآلخر ،فهو أكثر تطر ًفا ،أو ما يمكن
سواء في عالم السياسة ،أو الثقافة ،أو الدين ،أو المجتمع ،وكال االتجاهين ٌ وصفه بالمحافظة الراديكالية
لكن الناتج هو أنّ الجماعات المحافظة متحررةّ ، ّ لهما آلياته في التعامل مع «الغجر» بوصفهما جماعة
ترفض ممارسات الغجر وأفعالهم ويصفونها بالشاذة وغير األخالقية.
الهوية وحذفها)
ّ التوصيف البالغي (إنتاج
مادي بالمعنى المستعمل في هذه الدراسة؛ قادرة ّ بالغي ٍ
أفعال /خطابات ذات تأثير ً الغجر ُينتج
ّ ُ
بالغيا عبر التالعب بالمتلقي (الرجال من غيرً تعبر عن وجودهمعلى خلق التأثير وإنتاج الوظائف التي ّ
مما يسهم في زيادة الغجر) وبوسائل لفظية وغير لفظية (حركات اإلغراء التي تمارسها بنات الغجر) ّ
التخييل واالمتاع ،فهم يزيدون من مساحة التعبير عن وجودهم وتأثيرهم عبر المماثلة أو التناسب مع
ٌ
«بحث في الذاكرة».131 : ((( ينظر :صالح حاوي ،تحرير البالغة
((( ينظر :ناد كاظم ،لماذا نكره.17 :
87 اخلطاابت العنرصية :قراءات نقدية
والرقص والحركات األخرى التي تؤ ّدي وظيفتها متلقي أفعالهم المتأثر بسلطة ممارستهم .إ ْذ أن الغناء ّ
ثم ينتقل خطاب الحركة من االمتاع إلى اإلقناع((( وفي المقابلفي المتلقي هي وسائل جذب وتأثير ،ومن ّ
حد القطيعة معهم ،أو ممارسة ستكون هناك جماعة محافظة تعلن بشكل صريح رفضهم الوجود الغجري ّ
العنف عليهم وتبرير هذا العنف بوصفه حذ ًفا لجملة أو مفردة تثقل تفاصيل الكتابة والتعبير ،وليس الحذف
بمعنى اإليجاز عندما يكون ترك الذكر أفصح من الذكر على حدِّ تعبير الجرجاني((( ،بل الحذف بمعنى
جمل ال قيمة لها في التركيب قد تؤ ّدي إلى تشويه الداللة .وإذا كان الحذف نوعا من جنس ٍ التخ ّلص من
االختزال عند السجلماسي ،فإن حذف (قتل أو اقصاء) المفعول به (الغجرية أو الغجري) «ساغ حذفه ألنه
يمر عبر آليات الحذف.
بد أن ّفضلة يستقل القول دونها»((( والتخ ّلص من الفضلة ال ّ
وال يمثّل هذا الصراع بين إنتاج الجمل والتوليد المستمر لداللة العبارات (الممارسات الغجرية
وتأثيرها في الفضاء االجتماعي) التي تسهم في قوة هوية الجماعة الغجرية من جهة ،وبين العمل على
صراع بين هويتين
ٌ حذف منتج الممارسة (حذف الفاعل ومحو الفعل) وإلغاء وجوده من جهة أخرى ،هو
متعارضتين ،بل صراع هوية كبرى واضحة المالمح تسعى إلى اإلزاحة والحذف وهوية فرعية متأزمة
تسعى إلى البقاء مستعينة بأدواتها وآليات عملها في التأثير على اآلخرين .فالجماعة الكبرى لها القدرة
ثم
محل المحذوف أي شيء ،ومن ّ يحل ّعلى حذف الجماعات الصغرى من أجل تحقيق االتساق «إذ ال ّ
نجد في الجملة الثانية ً
فراغا بنيو ًيا يهتدي القارئ إلى ملئه»(((.
القسم الثاني( :الجماعة المتماهية)
إذا كان في المجتمع جماعات تحيط نفسها بجدار أو حاجز اجتماعي وثقافي يمنع دخول المختلف
حد القتل /الحذف المادي ،في المقابل هناك وخروج المؤتلف وهي الجماعة المحافظة التي تصل ّ
شكل من أشكال ً جماعات تجد في التماهي مع اآلخر -بغض النظر عن سلوكياته أو نوع التماهي-
التناسب أو إيراد المالئم على حد تعبير البالغيين والنقد البالغي((( ،وبالتالي توفّر هذه الجماعة عالقة
جديدة بين الغجري والجماعة المتماهية معه تصل إلى نوع من أنواع التماثل والتخ ّلص من التضاد عبر
حجج تسوغ الفعل وتبرر النتيجة .وهنا يقترب المرسل (الجماعات غير الغجرية) من االعتماد على
االستراتيجية التضامنية مع المرسل إليه (الغجر).
((( لسنا بصدد الحديث عن مرجعية السيد محمد الصدر وعالقتها بالمجتمع والنخبة فهناك الكثير من الدراسات التي
اهتمت بهذا الموضوع أبرزها (محمد محمد صادق الصدر مرجعية الميدان مشروعه التغييري ووقائع االغتيال) للكاتب
عادل روؤف وغيرها العشرات من الدراسات.
((( الجمعة 45من كتاب خطب الجمعة لشهيد الجمعة.675 :
خطابات 90
الر ْشدُ ِم َن ا ْلغَ ّي﴾»((( هذه التناصات بوصفها آليات حجاجية يستعملها المتكلم ،ال يقصد ِفي الدِّ ِ
ين ۖ َقد ت ََّب َّي َن ُّ
الغجري فحسب ،وإنّما لتسويغ االنتقال من ُمخاطبة ال ُّنخب (سادة القوم والزعماء ّ التأثير في
َ من توظيفها
واالثرياء الذين ليسوا على طريق الهداية) إلى مخاطبة الهوامش (الغجر والشخصيات التي تفرض قوتها في
ونص الصدر السابق يؤكّ د تعصب الغجر المجتمع أو ما ُيسمى في اللهجة العراقية «الشقاوات» وغيرهم)ّ ،
تعصبهم لعاداتهم – كأنّما إعطاء العذر إننا لماذا دققنا با َبهم وهم ُمتعصبون»(((.
فإن ّ
لعنصريتهم «وبالتأكيدّ ،
.3-6انتقاد العنصرية
اجتماعية؟ هذا السؤال يمثّل منطلق محمد الصدر في ّ عنصرية
ّ دينية أم
عنصرية ّ
ّ العنصرية مع الغجر هي
عنصري ًة أخرى
ّ إنكار العنصرية تجاه الغجري عبر آلية انتقاد أو نقد العنصرية عند المؤسسة الدينية ،أي أن هناك
الدينية عبر إهمال االستراتيجيات الخطابية جميعها بين المرسل تُسهم في تأزم هوية الغجري وهي العنصرية ّ
أن
والمرسل إليه (الغجر) إذ يقول الصدر« :من الواضح ّ ممثل عن المؤسسة الدينية) ُ (الحوزة العلمية بوصفها ً
التقليدي للحوزة الشريفة – اآلن انظر إلى الحوزة الشريفة هل مفكرة بالغجر طرفة عين؟ هل سامعين ّ االتجاه
الملتفتون؛يلتفت إليها ُ
ُ قل ماأذكركم على بعض االمور َّ غرائب هذا منها ّ َ بذلك؟ أنتم إن شاء الله ترونَ م ّني
وذكاء – ال يحتمل أن يخطر في باله ال ّتصدي لشيء من هذا القبيل». ٍ وهي ُمعاشة فقط تحتاج إلى انتباه
هناك تركيبان في هذا المقطع أحدهما جملة مركزية والمقطع اآلخر جملة اعتراضية.
الجملة المركزية «من الواضح أن االتجاه التقليدي للحوزة الشريفة ال يحتمل أن يخطر في باله التصدي
لنخبوية الحوزة والتعالي الخطابي الذي تفرضه في تعاملها ّ لشيء من هذا القبيل» جملة خبرية تحمل نقدً ا
ٍ
دينية في غطاء اجتماعيٍ .
مع قضايا المجتمع؛ ومنها قضية الغجر بوصفها قضية ّ
أنظر إلى الحوزة الشريفة هل ُمفكرة بالغجر طرفة عين؟ سبحان الله! هل الجملة االعتراضية «اآلن ْ
قل ما يلتفت إليهاغرائب هذا منها أذكّ ركم على بعض االمور ّ َ َ
ترون م ّني سامعين بذلك أنتم؟ إن شاء الله
تعبيرا ويبدو أنها
ً حضورا وأطول
ً الملتفتون وهي معاشة فقط تحتاج إلى انتباه وذكاء» وهي الجملة األكثر
يتشكل التركيبّ األكثر مركزية من الجملة األولى أو تحتل مكانتها ،وفي هذا المقطع من خطبة الجمعة
االعتراضي من مجموعة أساليب انشائية (أسلوب األمر ،أسلوب االستفهام ،والعبارة التعجبية) فأسلوب
األمر غرضه إثارة اإلنتباه ،إ ْذ أنّ واحدة من الدالالت التي تؤديها الجملة االعتراضية تنبيه المتلقي وجعله
التوبيخي للخطاب التقليدي في الحوزة (هل ّ منجذ ًبا نحو الخطاب(((ّ ،أما االستفهام فهو فيه من اإلنكار
تفرد الصدر -بوصفه ُممث ًّل عن النخبة الدينية -في الحوزة الشريفة ُمفكر ٌة بالغجر طرف َة عين؟) وهذا يفسر ّ
واجتماعيا (الغجر) وهذا ما تنماز به التراكيب االعتراضية بوصفها «تقنية ً دينيا
همش ً الم َّ
معالجة العالقة مع ً
أسلوبية تعمل على خلخة بنية التتابع في تراكيب الكالم مما ُيسهم في تشكيل بنية جديدة لها دالالت ومنها
داللة التفسير»(((.
بسبب كسبهم المال من طرق غير مشروعة مثل «الرقص والغناء والزنا وقراءة الكف وغيرها» «ويترت ُّب
شخصا لديه
ً أن
مرة ّ
وجوب مقاطعتهم على المتشرعة والمتورعين ،فإنه جاء في استفتاء أكثر من ّ
ُ على ذلك
حرام مائة بالمائة ،فهل يجوز البيع
كل كسبهم وأرباحهم ٌ محل أو دكان قرب منطقة فيها غجر ،وهو يعلم أن َّ
فكتبت في الجواب بالحرمة ال يجوز»(((.
ُ لهم وأخذ الثمن منهم؟
ذكرت في الصفحات السابقة شعورهم ُ ّأما النتيجة الثانية ،فهي تأكيد آخر على شعورهم بالتفوق أو كما
بانهم يمتلكون هوية سحرية «يرون أنفسهم سادة االرض والشعب الحر وهم رمز الحب والرومانسية»(((.
فالذي يتبين من حالهم – على حد قول الصدر – «حا ُلهم أنّهم حيث يشعرون بأهمية عاداتهم وصفاتهم،
ويشعرون باالنعزال عن المجتمع ،ويشعرون بضعف الوازع الديني ،وقلة اهمية الدين في أنفسهم وعقولهم».
.5-6إعادة تشكيل هوية الغجر
التحرر
ّ قدمها محمد الصدر سواء كان انتقاد العنصرية ضد الغجر ،أو انتقاد ّ
وكل ما ذكر من انتقادات ّ
ثم قدرته على إعادة صياغة هويتهم، الذي يمارسونه بأفعالهم ،فهي عبارة عن أسباب إلنتاج خطابه ،ومن ّ
يقدم
تصوره عن ذاتهم وما أسميته «تمثيل الغجر» ،لك ّنه في الخطبة الثانية ّيقدم ّ فهو في الخطبة االولى ّ
تصوره عن هويتهم المقترحة أو الهوية البديلة التي يقترحها:
ّ
أساسا.
ً مؤمنين بوجود الله وصحة االسالمَ كبير من الغجر بصفتهم «قسم ٌ
ٌ - 1الهوية االسالمية للغجر
وإن لم يشعروا بأهمية إسالمهم ،فعليهم أن يلتفتوا إلى أهمية فعلْ ، وبتعبي ٍر آخر إنّهم مسلمون ً
اإلسالم»(((.
جيل بعد جيل ،ألنها قائمة على - 2هوية جديدة تتخ ّلى عن األفكار الموروثة من أجيالهم السابقة ً
الخرافة وعلى أمور غير منطقية إطال ًقا.
بديل عن ذلك هوية االندماج مع المجتمع ،ورفض ويقدم الصدر ً - 3رفض هوية العزلة والترحالّ ،
العزلة ،وأن يرفضوا قناعتهم أن يكونوا مجموعة بشرية مجهول ًة مبغوض ًة ومتشردةً.
ٍ ً
كعشيرة من العشائر مبنيا على العشيرة والنسب « فليكونوا شكل جديد ُا ً - 4منح هويتهم الغجرية
ونسب من األنساب» وليس البناء على الضحالة والرذائل(((.
.6-6من التوجيه إلى التضامن – إنكار العنصرية في بالغة المنبر
ويمثل هذا النموذج رجل الديني الشيعي العراقي علي الطالقاني في أحدى مقاطع اليوتيوب المنشور
يوم /24ديسمبر 2014 /عندما زار الطالقاني قرية الزهور أحدى قرى التابعة للحمزة الشرقي في محافظة
الديوانية .يقول الطالقاني(((:
عبر شخصية زعيم الغجر ميلكيادس ،وكوازيمودو الطفل األحدب ابن العائلة الغجرية في رائعة فيكتور
العربي شخصية «سبلو الغجري» في رواية جمال ناجي «زوابع ّ هوغو «أحدب نوتردام» وكذلك في أدبنا
المخلفات األخيرة» ورواية «الغجر أسياد الحرية» لعبد الله المالكي ،وأعمال سردية أخرى حملت اسم
الغجر ،لك ّنها لم تدخل في تفاصيل حياتهم وعالقتهم بالمجتمع.
.1-7الكمالية -المكان المجازي عن الغجر
بديل عنما العالقة التي تربط الغجر بمكان عيشهم؟ وهل يمثّل لهم المكان بيئة آمنة يمكن أن تكون ً
تحدثنا عن العرق الغجري وعالقته بالمكان، الهوية التي ال تملك القدرة على توفير الحماية لهم؟ إذا ّ
عابرا للحدود ولم يفكروا يو ًما ما أن عالميا ً
ً فهو عرق خاضع لعملية الشتات ،بل هم يشكلون شتاتًا
أصلي لهم مثلما فعل اليهود ،وعندما تكون هناك مطالبات من نشطاء مهتمين بشؤون ّ يطالبوا بموطن
الشعبي لهذه المطالبات من أجل االعتراف الدولي بتاريخ الغجر ّ الدعمالغجر وحقوقهم يقابله القليل من ّ
بدل من ذلك ،وفقًاالمشترك ،وتخليصهم من االضطهاد ،ألجل إنشاء دولة الغجر المقترحة – رومانستانً -
للسجل اإلثنوغرافيُ ،يظهر عدد قليل من المجموعات الغجرية اهتما ًما بإحداث تماسك خيالي أو عملي
متأزمة تضاف لما ذكرناه من تأزّ م في العالقات االخرى ّ مع بعضهم البعض((( .فعالقة الغجر بالمكان عالقة
الدينية واللغوية واالجتماعية.
جماعة في المجتمع العراقي سواء كانت جماعة دينية ،أو قومية ،أو إثنية ،أو قبائلية ،باختيار ٍ ُيعرف ُّ
كل
لكن التحديدبديل عنهّ ،مكان كبير لتجمعهم حتى وإن كان هناك بعض أفراد هذه الجماعة يختارون مكانًا ً
دال على الهوية الفرعية، المكاني سمة للهوية الفرعية في العراق ،ولذا يكون المكان العراقي وبنسبة عالية ًّ
ّأما مع الغجر فعالقتهم مع المكان عالقة تحديد مؤقت وال توجد لهم عالقة حميمة ودافئة مع المكان؛
تسمى مناطق الغجر ،مثل الفوار في الديوانية، وهذه المعادلة ال تنفي أنّ هناك بعض المدن والقرى ّ
والكمالية ،وأبو غريب في بغداد ،وحمام العليل في الموصل ،وتازه في كركوك ،لك ّنها تسميات مؤقتة
سرعان ما يفقد الغجر عالقتهم بالمكان ،ألنهم جماعة قائمة على الترحال ،فإذا لم يتفقوا على شيء ،فهم
جدهم االسطوري (كين) المثبت في خيالهم وحكاياتهم عن ّ يتفقون على ممارستهم وسلوكهم ،وكذلك ّ
تل شقي َقه ،فعاقبه الله ،وجعله هائما في االرض ،ومن هنا اقترح الروائي العراقي فوزي الهنداوي الذي َق َ
روايته «لعنة كين» رواية تعتمد التوثيق والتاريخ إلى جانب السرد في الكتابة عن «الغجر» فهناك عالقتان
تتغير عالقته بالمكان ،فقد ينشط أو يضعف وجوده أو أن بين الغجر والمكان «الكمالية» أي أن الغجري ّ
(((
(1) see: Paloma Gay Y blasco, Gypsy/Roma diasporas. A comparative perspective, 173.
((( وهو حي سكني في بغداد وتحديدً ا في جانب الرصافة ،شرق مدينة بغداد ،و ُيعدُّ الكمالية من أقدم األحياء السكنية
المستقرة للغجر في العراق ،وترجع عملية استيطانيهم ألول مرة في الكمالية إلى عام ،1958فقد كانت الحكومة العراقية
الغجر أجانب ،ولذا حرمتهم من تم ّلك العقارات الزراعية واألميرية وتمنعهم من حق اإلرث وانتقال الملكية ،وف ًقا
َ تعدُّ
علما بأن بعضهم كان يشتغل للقانون رقم 43سنة 1973م ،ولم يشملهم قانون اإلصالح الزراعي رقم 30سنة 1958م ً
قانون اإلصالح الزراعي سنة ،1971فكان الغجر يشترون أراضي ومساكن في الكمالية ويسجلونها ُ بالزراعة ،كما أغفلهم
بأسماء من يثقون بهم من العراقيين ،وكان المصرف العقاري العراقي يمتنع من إعطاء قروض عقارية للغجر ،فصار الغجر
95 اخلطاابت العنرصية :قراءات نقدية
تكون الغلبة لهويته أو تخسر هويته المنازلة ،ومن ثم التخ ّلي عن المكان اآلمن بالنسبة له.
.2-7العالقة االولى بين المكان وهوية الغجر «مرحلة القوة»
ين ِف َيها َأ َبدً ا﴾ سورة النساء اآلية ،122فالنهر
األن َْه ُار َخالِ ِد َ
ات ت َْج ِري ِم ْن ت َْحتِ َها َ
قال تعالى﴿س ُن ْد ِخ ُل ُهم َج َّن ٍ
ْ َ
مكان ،والمكان ال يجري ألنه جامد ،وإنما الماء /النهر هو الذي يجري في المكان ،وعلى وفق هذا الفهم
نظر البالغيون إلى العالقة بين النهر والماء ،ومن ثم إلى تخ ّلي الماء عن االسناد ومنحه للنهر ،فصارت
العالقة مكانية ضمن إطار المجاز العقلي الذي يعتمد االسناد في فهم المعنى .التفكير في العالقة المكانية
قدم فوزي ضمن المجاز العقلي هو المدخل لفهم العالقة بين الغجري والمكان ،فمن هذا المنطلق ّ
لكن
الغجر وعالقتهم بالمكان /الكمالية المدينة التي يقتسمها الغجر مع أناس ليسوا بغجرّ ، َ الهنداوي
ُسمى الكمالية «حي الغجر» عالقتهم مع المكان هي عالقة مجازية أخرى هي عالقة الجزء مع الكل ،إ ْذ ت ّ
الغجر وجو َدهم أيام نظام الحكم
ُ من باب تسمية الكل باسم الجزء ،وهو ذاته المكان الذي مارس فيه
البعثي ،إذ كان مال ًذا لرجال الدولة حتى يمارسوا ملذاتهم مقابل منح الغجر سلطتهم بالوكالة ،وحتى يكون
قادرا على النفاذ ،والتحكم ،وأداء مهام عالية في الدولة العميقة ،والنتيجة خطابيا ًً الغجرية ً
فاعل ّ الغجري/
ّ
الغجر أسيا َد الكمالية ومنحوها تسمية «حي الغجر» مثلما منحوا أحد احياء قضاء الزبير((( تسمية «حي ُ صار
الطرب» وبدأت هويتهم تتفوق في مدينة الكمالية على هوية العوائل المحترمة حسب تعبير غير الغجري
في رواية لعنة كين «اسمعوا شباب أنتم طالب جدد في الكلية ،هنا مجتمع مختلف تماما عن المدرسة
الثانوية ،طالب وطالبات من معظم أحياء بغداد ومن محافظات الجنوب والشمال ،نحن أبناء الكمالية ندرك
أن فيها عوائل محترمة شريفة وقبائل معروفة ،ليس كل من يسكن الكمالية هو غجري ،هذه الحقيقة أعرفها ّ
أنا مثلما تعرفوها انتم لكن هذا الكالم ال ينفع في الكلية ،والجميع هنا يعتقد أن الكمالية هي مدينة الغجر،
وأقدم منكم في الكلية ،أعرف ما ال تعرفونه أنتم، ُ ال يسكن فيها غير الغجر ،أنا زميلكم وابن منطقتكم
وأي
أحذركم بشدة إياكم أن تقولوا إننا نسكن الكمالية ،ال في حفالت التعارف وال في أ ِّية مناسبةُّ ، لذلك ّ
يتحمل تبعات كالمه سيكون موضع سخرية وازدراء ،إياكم إياكم ّ احد منكم يفشي هذا السر ،فهو الذي
إياكم»((( .القدرة المجازية للتسمية وصراع الهويات في االستحواذ على المكان يعلن انتصار الغجر ،وفي
الوقت يعلن عن وجود نخبة جديدة هم طلبة الجامعات ،هذه النخبة تعمل على إنتاج عنصرية مصاغة
السراي تسكن في بغداد الجديدة سنةيستقرضون من األفراد العراقيين مقابل اإليفاء لهم باألقساط ،وكانت أسرة حامد ّ
1956م ،وفي سنة ،1958انتقلوا إلى الكمالية فكانوا أول أسرة غجرية تسكن حي الكمالية وجذبوا إلى المنطقة عوائل
غجرية أخرى ،وتُعدّ الكمالية المنطقة الغجرية الوحيدة الواقعة في حدود بلدية بغداد ،وفي السبعينات اتخذ الغجر من
ً
شمال وينصب خيا ًما منطقة الكمالية منطل ًقا إلى تخييم موسمي متجول في قرى ومدن أخرى ،فكان بعضهم يتوجه
يقضي فيها الصيف ،كما أصبحت الكمالية مقصدً ا موسم ًيا لعوائل غجرية من مناطق أخرى يأتون إلى الكمالية لمزاولة
فاضطر
ّ الغجر من مزاولة أعمالهم في بيوتهم في الكمالية،
َ أعمالهم في بغداد ،وفي سنة 1976م منعت شرط ُة الكرادة
بعضهم إلى نصب خيام في مدن أخرى خالل تلك السنة .ينظر :طه الحديثي ،الغجر والقرج في العراق.53-50 :
((( إحدى أقضية محافظة البصرة جنوب العراق.
((( لعنة كين ،فوزي الهنداوي.57 :
خطابات 96
بطريقة تهكمية؛ أي ما يمكن االصطالح عليه «العنصرية الساخرة» ولذا فالسكوت بالنسبة لغير الغجري
ليكونوا هوي ًة للمكان /الكمالية المدينة التي ّأمنت حياة الغجري من الموت ،فصارت
يعني انتصار الغجر ّ
ضباط الجيش العراقي ملذاتهم الجنسية في مكانًا ألي ًفا له في الحرب العراقية – اإليرانية ،بعد أن وجد ّ
بدل من أن ينتقلوا هم إلى ساحات شباب الغجر على نقل ضباط الجيش إلى الكمالية ًُ «ع ِز َم
بيت الغجري َ
الموت»((( أنجز الغجري عملية التحايل بنجاح وحقّق فعل اإلقناع ،عبر آلية تبادل المواقع واالنزياح عن
تحول بفعل
المألوف فـ«الجندي في ساحة المعركة» هو الوضع المألوف في ظل ظروف الحرب ،لك ّنه ّ
قوة الهوية البالغية التي يمتلكها الغجري إلى تحقيق االنزياح فانتقل «الضابط المسؤول والجندي الغجري ّ
من المعركة إلى بيت الغجري» .هذا البيت الذي أصبح ساحة معركة ،لك ّنها آمنة بالنسبة للغجري وممتع
للضابط العسكري المسؤول عنه.
.3-7العالقة الثانية :فقدان المكان أو استبدال التسمية
قد تنتهي عالقتك بالمكان بمجرد خروجك منه وقطع صلتك به ومحو ذكرياتك عنه ،وقد تكون هذه
النهاية قسرية أو اختيارية حسب الظروف واالشتراطات الموضوعية التي تؤ ّدي في النهاية إلى فقدان
لكن هذا الجسد في عهد نظام صدام المكان ،جسد الغجرية عالمة مستغلة في جميع األزمة واالمكنةّ ،
مستغل من قبل ازالم السلطة ،وهي بدورها تستغل السلطة لتمرير غاياتها وأهدافها ،وقد و ّثق فوزي ٌّ حسين
الهنداوي تلك العالقة بين السلطة والغجر عبر حادثة التبرع بالذهب لصالح الجهد الحربي المعروفة في
زمن الحرب العراقية – االيرانية ،وهي حادثة تؤكّ د العالقة الوثيقة بين الغجر والوالء للحكومة العراقية
الحربي حيث
ّ الغجر فرصة دعوة الناس للتبرع بالذهب لدعم المجهود ُ وتحديدً ا حزب البعث «لم يدع
تبرعت معظم الغجريات بكميات ٌ
بصمة فيها ،فقد ّ تمر دون أن تكون لهم أطلقت الحكومة في الثمانينيات ُّ
كبيرة من المصوغات الذهبية ،ونقلت شاشة التلفزة الحكومية لقطات تظهر نساء الغجر وهن ينتزعن
تعم
تغيرت الظروف بعد احتالل بغداد وبدأت الفوضى ُّ قالئدهن وأساورهن ويتبرعن بها» وما إن ّ
(((
الشوارع والمدن صار من السهل استعمال أشكال متعددة من وسائل العنف واالضطهاد واإلقصاء ضد
تشكل في خطاب الرواية ،فمن الشخصيات اجتماعيا وعلى رأسهم الغجر ،وهذا ما ّ
ً المهمشة
َّ الجماعات
التي مارست عنصريتها في رواية» لعنة كين» هي شخصية الحاج صالح الذي سكن في جامع المدينة/
تغير الحال وسيطر االحتالل االمريكي على العراق ،فبالمقابل سيطر هذا الكمالية قبل ،2003وما أن ّ
المحرضة ضد الغجر «أه ّنئكم ونفسي ِّ الشيخ أو الحاج صالح على المنبر ،وأخذ يلقي الخطب الدينية
بسقوط الطاغية ،ك ّنا نتمنى أن تكون نهاية الطاغية على أيدينا ،لكن هكذا شاء الله ،وال راد إلرادته سبحانه
وتعالى قدر أن يسقط الطاغية على أيدي الشيطان األكبر ،فليذهب هو الشيطان األكبر لنار جهنم ،ال أريد
طهروها
االطالة ،فالوقت ليس وقت كالم ،أدعوكم لتطهير مدينتكم ،مدينة الزهراء ،نعم هذا اسمها الجديد ّ
الخاتمة
ال يمكننا نفي فاعلية الخطابات العنصرية في مجتمعات مفترض فيها الدخول والخروج وقبول اآلخر
عينة
تحدثنا عن ّ
التعددية ،هكذا األمر في مجتمع مثل العراقّ ،أما إذا ّ
ّ ورفضه ،وفي مجتمعات مبنية على
والعربي ،يد ّلك على وجود هوية قابلة
ّ الغربي
ّ الدراسة ،فعند مراجعة تاريخ الغجر وتوزيعهم في العالم
لالنشطارات ،وفي العراق تتأزّ م هوية الغجر مع تأزم وضعهم االجتماعي ،حتى وإن أرادوا أن يعيشوا
تعبر عنهم ،لك ّنهم ينتجون ممارسات وعبارات ٍ ٍ
خارج ما كان ينتمون له ،فالغجر ال يملكون بيانات وكتابات ّ
شكل مختل ًفا عن غيرهم من أفراد المجتمع العراقي؛ ذلك المجتمع الذي ّ
يحق لنا أن ً هي تمنح هويتهم
نستعير له عبارة الدكتور نادر كاظم في عنوان كتابه (استعماالت الذاكرة في مجتمع تعددي مبتلى بالتاريخ)
العراقي مجتمع ُمبتلى،
ّ ونختم بها هذا البحث بعد إعادة صياغتها حسب ما نهدف ونطمح له؛ فالمجتمع
لكن االبتالء ليس في التاريخ ،بل ُمبتلى بالتعددية التي تُسهم في إنتاج خطابات العنصرية وتزاحم الهويات
ّ
وصراعاتها.
الحسين الوكيلي.د
المغرب،األكاديمية الجهوية للتربية والتكوين
المستخلص
الذي جعله مسارا يتأسس على القول،تهدف هذه الدراسة إلى تتبع المسار النضالي للشاعر عنترة
كما جعله يتأسس على.الشعري باعتباره خطابا حماسيا يناهض من خالله كل أشكال العنصرية والتمييز
من أجل تأكيد حضوره،المقاومة الميدانية لنسف نزعة العنصرية داخل الوسط االجتماعي الذي يعيش فيه
فسعى إلى مناهضة العنصرية بالتمرد على بنية المنظومة االجتماعية لتشكيل صورة إنسان،في هذا المجتمع
ًّ حيث جعله لونا جميال،جديد انتصر سواده على كل أشكال التمييز العنصري
دال على القوة والشجاعة
. فكان عنترة نموذجا للبطل الذي انتصر في معركة الكرامة والشعر على حد سواء.والغضب
الكلمات المفتاحية
. اإلرادة الحرة، توكيد الذات، جمالية السواد، النزعة العرقية،مناهضة العنصرية
Abstract
This study aims at following Antarah’s path of activism، which is a path based on an
enthusiastic speech through which he combated all forms of racism and discrimination.
It is also a speech based on field resistance to demolish the tendency of racism inside the
social environment in which he lives in order to confirm his strong presence in his society.
Antarah sought to fight racism by rebelling against the social system structure to form
the image of a new human being whose black-colored skin triumphed over all forms of
racial discrimination، making it a beautiful color that manifests in strength، courage، and
anger. Antarah was the perfect model of a hero who had won the battle of both dignity
and poetry.
Keywords
Anti-racism، ethnocentrism، black esthetics، self-assertion، free will.
100
101 اخلطاابت العنرصية :قراءات نقدية
توطئة
الشخصيات البطولية حضورا، زعمت أن شخصية عنترة بن شدّ اد من أكثر ّ ُ ليس من المغاالة في شيء ،إن
ليس في التراث الشعري العربي فحسب ،بل في الثقافة العربية كذلك .وذلك بسبب الدور الريادي الذي
اضطلع به من أجل مناهضة العنصرية ،ونسف المواقف االجتماعية التي تعادي السود ،وتقويض السلوك
فتحولت
ّ العنصري في البيئة القبلية ،ليجتث بذور التأسيس العرفي للعنصرية في المجتمع الجاهلي.
تمجد أخالقه وشهامته ،وتنبهر بشجاعته وفروسيته ،وترى ُحاك حولها قصص ّ شخصيته إلى سيرة شعبية ت ُ
يشق له غبار.
فيه بطال أسطوريا ،وفارسا مغوارا ال ّ
التواقة الراغبة في تكسير
الحرة ّوالحق أن شخصية عنترة ترمز -في بعدها االجتماعي -إلى اإلرادة ّ ّ
والتحرر من كل قيد ي ُغ ّل بشريته ،ويسلب كرامته ،ويبيد في داخله بذرة ّ األغالل ،أغالل المجتمع القبلي،
الحر .ذلك أن عنترة -من يوم مولده حتى يوم مصرعه -ظل يناضل من أجل الكرامة والحرية اإلنسان ّ
الشكل، تفرد وتنوع واختالف جسماني قد يتمظهر في اللون أو ّ والحق في التعدد ّية بما هي ّ
ّ والمساواة،
أو اختالف إثني له عالقة بالعرق ،كما ناضل من أجل محو تلك النظرة التقسيمية التي تصنّف الناس إلى
بشر وأشباه بشر ،وهو إلى هذا كله ناضل من أجل المكانة االجتماعية التي يحظى فيها باالحترام والتقدير
التف حول سائر جسده ،وأراد وليكسر حلقات القيد الكبير .ولن يكون ذلك القيد سوى قيد العبودية الذي ّ
يشل إرادته وحركته ،ويخنق أنفاسه ،ويص ّيره عبدً ا مكسور الجناحين ،كسيح الرجلين .إذ من المعلوم أن أن ّ
وتفرد بفروسيته يبقى في طبقةالعبد في المجتمع القبلي سجين عبود ّيته ،لصيق ذ ّله ،فحتى وإن نبغ بشعرهّ ،
مهينة ،مك ّبال بقيد العبودية الذي يترك في نفسه شعورا بضعف القدرة ،وضيق االختيار ،ومنع االنطالق.
لشل حركة الميز واإلقصاء في فسخر كل طاقاته ّ وحده عنترة استطاع تكسير هذا القيد المضروب حولهّ ،
مؤس ًسا حركة ارتدادية عكسية انضوى مجتمعه ،ليس من أجل ذاته وحسب ،بل من أجل اإلنسانية جمعاءِّ .
تحت لوائها الشعراء السود .ذلك أن عنترة آمن بنفسه وبمقدرته الحربية التي اكتسبها بالمران ،وبمقدرته
الجسدية بما هي قوة ،وبمقدرته الشعرية التي ناهض بها الموقف التمييزي تجاه شخصه ،فرأى اإلبداع
مرهونا بالواقع ،لما له من قدرة على إحداث تغيير جذري في بنية المجتمع وفي منظومة القيم واألعراف
يتلهى به
مجرد ترف جمالي ّ مجرد تماس مع سطوح األشياء ،أو ّ السائدة .وبذلك ينأى الشعر عن أن يكون ّ
التحول والتجدّ د والتّمرد والنقد،
ّ مؤسسا على وعي عميق بحاجة الحياة البشرية إلى الشعراء ،ليصير شعرا ّ
تحقيقا للعدالة اإلنسانية ورغب ًة في خلق إنسان جديد منسجم مع ذاته ومواقفه ،يقف في وجه الميز والقسوة
والشطط واإلقصاء.
لحق
االجتماعي ،لما فيه من عنف رمزي وإبادة لكينونة اإلنسان .والحق أن العنصرية بما هي مصادرة ّ
اإلنسان في أن يكون إنسانا ،ال تتعامل مع األفراد على أنهم ذوات مستقلة لهم من الفرادة والتم ّيز ما يجعلهم
يتميزون عن اآلخرين ،بل إنها تختزل هؤالء األفراد في عرقهم ولونهم ونسبهم ،وهو اختزال تد ّعمه ال ُبنى
االجتماعية القبلية التي كانت أشد ما تكون حساسية للون األسود .وإذا سلمنا أن العنصرية هي نوع من
السيطرة الوجدانية التي تقوم بها الفئة المهيمنة على الفئة المهيمن عليها ،ونوع من الجهل باآلخر المختلف ّ
عني ثقافة وشكال وعرقا ،أمكننا أن نفهم أن العنصرية بما هي ممارسة اجتماعية تح ّيزية قائمة على السيطرة
واإلخضاع والعنف ،تمثل أيضا نوعا من االستعباد والقهر واإلقصاء .ولعل المنطلق المنهجي للدراسة
يتغ ّيا البحث في آليات مناهضة العنصرية واالستعباد في الشعر العربي القديم من خالل البحث في سيرة
والحق أن خوضنا في جوانب لها عالقة ّ عنترة الشعرية عن اآلليات التي ن ّفذ من خاللها عملية المناهضة.
بحياة الشاعر وبسيرته ،ليس تقليدا ،وال تبعية علمية ،بل هي مقاربة نبغي من خاللها إيجاد خيط رابط بين
فعل مناهضة العنصرية من حيث هو إجراء ميداني يستوجب كفاية اجتماعية ونفسية وجسدية وأخالقية،
واألداة التي نع ّلل بها ومن خاللها فعل المناهضة.
التوجه الذي يصير فيه عنترة بطال فرديا ،يرسم طريقا الحبا للمجد ال ترى فيه ّ تنطلق رؤيتنا من هذا
وغارسا -من خالل القول الشعري -بذور الكرامة ٍ
ارتياب، ٍ
عوجا وال أمتا ،مجابها الصعاب دون خوف أو
ً
وسمو ًقا ،فيجعل األجيال القادمة تذكره بإكبار وإجالل عظيمين .فكان شعره صرخة والعدالة ،لتزهر أل ًقا ُ
في وجه مجتمعه الذي أراد وأد إنسانيته ،و َقت ِْل كرامته وإخصاء كينونته.
ومعلوم أن فعل المناهضة الذي قام به عنترة لنسف المواقف العنصرية المتجذرة في البيئة القبلية ،وما
يصاحبها من أشكال الميز تجاه السود ومعلولي النسب -في اعتقادهم -كان نابعا من قناعة ترى أن اإلنسان
شرف .على هذا األساس كانت غاية البحث ترمي إلى استدراج نصوص ديوان عنترة ليكرم و ُي ّ
ما خلق إال ّ
الشعرية بالتحليل ،للكشف عن المسارات التي أخذتها الذات في مناهضتها للعنصرية ،مع رصد البدائل التي
عمد إليها عنترة ليجعل السواد يتشكل جماليا ورمزيا بوصفه لون القوة والفحولة والشجاعة ،ويعيد تشكيل
صورة اإلنسان ليس من خالل نسبه أو لونه ،وإنّما من خالل مكارمه وأخالقه وفضائله وفاعليته االجتماعية.
وهو بهذا يكون صانعا لمنظومة قيمية بديلة عن تلك التي كانت سائدة وقتئذ .فهو لم يختر المداراة أو المالينة،
فحذر بشعره خصومه من حط من مكانتهّ ، وإنما اختار القتال ،فأشهر سيفه في وجه كل من استنقص قدره ،أو ّ
العنصريين ،وربط التحذير بالفعل ميدانيا ،فخرج عن كل ما هو سائد مألوف ومقدّ س.
تصور مركزي ،يتج ّلى في كون عنترة نظر إلى على هذا األساس يتشكل المنطلق المنهجي للدراسة من ّ
أحس
العبودية باعتبارها إبادة ليس للذات فحسب ،بل هي إبادة لرغباته واستئصال إلرادته .ألجل ذلك ّ
سر الشجاعة التي ُعرف بها عنترة ،إذ ليس لديه عنترة بالعدم يتهدّ ده فسعى إلى مجابهته ،وهذا -في نظرناّ -
جل أشكال التمييز قد ُمورست ما يخسره ما دامت ج ّبة العبودية تتل ّبسه وتحيط به من كل جانب ،وما دامت ّ
عليه فحرمت السود من فرص مجتمعية تضمن لهم كرامتهم ،وتوازنهم النفسي واالجتماعي .فكانت هذه
يتقصى سبيل الحرية ،ويستنفد الجهد في سبيل تحقيق ذاته وتوكيدها. العناصر وغيرها كفيلة بجعله ّ
103 اخلطاابت العنرصية :قراءات نقدية
املبحث األول
النزعة العرقية وإعادة تشكيل صورة اإلنسان في المجتمع القبلي
من المهم أن نشير إلى أن معاناة عنترة من االضطهاد والعنصرية بدأت وهو ما يزال طفال صغيرا،
حين وجد نفسه غريبا منبوذا بين أقرانه وأقاربه ومجتمعه ،ال لشيء سوى ألنه أسود البشرة ،ومشكوك
فاغتم وحزن وتأ ّلم .وأصل المشكلة نشأ عن عرف جاهلي ظالم ،يمنع األب من االعتراف بأوالده ّ النسب،
المنحدرين من أ ّمهات سوداوات إماء كزبيبة أم عنترة ،فيصبح االبن عبدا ألبيه وإخوته البيض ،يقوم بأعمال
يتعرض للتحقير واإلذالل ،ويبعد
ويتعرض لإلهانة والشتم والضرب ،كما ّ ّ الخدم من رعي وحلب وسخرة،
عن مجالس السادة ،وال ُيطلب له رأي في شؤون القبيلة.
تأسس على العصبية القبلية ،فمن المحال أن تتماثل وحين يكون الطغيان ضاربا جذوره في مجتمع ّ
حظوظ أبناء هذا المجتمع ،وتتساوى حقوقهم وواجباتهم .ولو تماثلوا وتساووا لما كان مجال لبروز
تمردوا على قيمالنزعة االحتجاجية في شعر طائفة من شعراء هذه الحقبة ،سواء الشعراء الصعاليك الذي ّ
المجتمع ،وبنيته الثقافية وأعرافه ،وافتخروا بهامشيتهم ،كعروة بن الورد والشنفرى وغيرهما ،أو الشعراء
السود الذين أرادوا كسب الرهان في معركة انعدم فيها التكافؤ االجتماعي ،كما هو أمر شاعرنا عنترة.
وهذا الوضع أ ّدى إلى فر ٍز اجتماعي عميق .طبقة األحرار التي تتشكل من السادة واألشراف الذين يتو ّلون
ووحدهم عملهم الممثّل حماية القبيلة وتدبير شؤونها ،وطبقة العبيد الذين جمعهم األسر واالسترقاقّ ،
في الرعي والسقي واالحتالب واالحتطاب وخدمة األحرار .هذا الوضع السائد في الغالب األعم لم
فالسادة لهم الوجاهة
يكن يثير حساسية ألحد؛ ألنهم رأوه قدرا يحكم الطبيعة اإلنسانية وتنتظم وفقهّ .
والرياسة ،والعبيد عليهم الطاعة والخضوع .لكن عنترة لم ير هذا الوضع مسايرا للطبيعة اإلنسانية ،وال
منصفا إلنسانية اإلنسان ،كما أنه لم يقبل أن يكون ضعيفا منصاعا ،وال ذاتا ضامرة مسلوبة الهوية واإلرادة.
التمرد في اإلطاحة ببعض ألجل ذلك اعتمد مبدأ القوة في مجابهة ّ
الرق والظلم واإلقصاء ،كما اعتمد مبدأ ّ
األعراف التي كانت مانعة له من تحقيق ذاته وكينونته في المجتمع.
((( مجدي وهبه ،وكامل المهندس ،معجم المصطلحات العربية في اللغة واألدب ،مكتبة لبنان ،بيروت ،الطبعة الثانية،
،1984ص.120.
خطابات 104
التمرد االجتماعي الذي أحدثه عنترة ّ هذا الكالم بالموضوع الذي نحن بصدد االشتغال عليه ،وجدنا أن
كان ناتجا عن سلوك فردي يهدف إلى مناهضة سلطة القبيلة وبنيتها االجتماعية ،وما يرتبط بها من أعراف
وتقاليد جرى من خاللها تصنيف البشر إلى سادة وعبيد .وفعل المناهضة أمر طبيعي فرضته طبيعة اإلنسان
الفطرية الرافضة للظلم والميز واإلقصاء ،ذلك أنه حيث توجد سلطة توجد معها مقاومة .والحقيقة أن
السود ،كانت مك ّبلة
المتمرد عنترة فحسب ،بل يخدم مصلحة فئة كثيرة من ّ ِّ التمرد سلوك ال يخدم مصلحة ّ
بقيود القبيلة ،على اعتبار أن عنترة كان نموذجا للصوت الصادح بالحرية ،والرافض للظلم .صوت حاولت
محتجا ومقاوما ورافضاّ القبيلة أن تسكته وتقمعه في بداية األمر ،ثم ما لبث أن عاد للصراخ من جديد،
لنظرة التنقيص ،ومناهضا لكل أشكال الميز واالستعباد.
واعتبارا لكون العرف من صميم النسق الثقافي للمجتمع الجاهلي؛ فإن أثره في تكريس مظاهر
العنصرية كان جل ّيا واضحا .إذ من المتعارف عليه -في المجتمع الجاهلي ،-أن تُعطى لصاحب النسب
تقرر وتشارك وتأمر الرفيع مقومات السلطة ،واإلشراف على تس ّيير القبيلة .فنكون أمام فئة األسياد التي ّ
وتس ّير ،لها سلطتها ونفوذها المجتمعي .وفئة العبيد التي تأتمر بأوامر أسيادها ،تخدمهم ،وتتو ّلى تدبير
أمورهم الحياتية ،وتكون عجينا ط ّيعا في أيديهم ،يشكلونها كيفما أرادوا ،وفي أي وقت شاؤوا .وقد كان
منشأ النزعة العرقية يعود إلى الوضع االعتباري الذي كانت عليه القبيلة في العصر الجاهلي ،فهي «تؤمن
إيمانا قو ّيا بجنسها ،وتعتبر أنها أنقى القبائل د ًما ،وأشرفهم حسبا ونسبا ،وال تعترف ألحد بفضل عليها.
وهذا اإليمان قادها إلى االعتناء بنسبها ،كما قادها إلى احتقار غير العرب ،فوجدت طائفة األغربة»((( الذين
لم ينالوا شرف االنتماء إلى القبيلة ،فتركوا في ذيل الهرم المجتمعي .وعنترة واحد من هؤالء الشعراء
الذين أطلق عليهم اسم(األغربة) ،إذ إنه بسبب سواد بشرته تنكّر له األب ،كما تنكّرت له القبيلة .وألنه
وجد في هذا المجتمع الذي أراد أن يحبط إرادته ،ويميت قدرته ،كان من ال َبدهي أن يتو ّلد لعنترة شعورا
التمرد ،بسبب هذا الحيف الذي طاله وأراد النيل من كرامته وحر ّيته .ومن ّ بالقهر والظلم والرغبة في
الطبيعي أمام هذا اإلقصاء والتنكيل أن تتفجر رغبة التمرد في داخله ،فبدأ بتكسير السائد في بنية المنظومة
الثقافية ،وما يرتبط بها من عادات وتقاليد وأعراف ،ومعارضة كل سلوك عنصري يستهدف كرامته .ذلك
أن المجد والسلطة والتنافس غايات يهفو إليها قلب كل إنسان ،وكذلك كان قلب عنترة ،طامحا للمجد،
ّتواقا للوجاهة والرياسة ،وكان خياله الجامح دافعا به إلى بدل الكثير من الجهد لتحقيق حريته ونيل كرامته.
حق قدره ،رغم ما قدّ م لهم من تضحيات جسام كاد أن يلقى فيها حتفه أحس عنترة أن قومه ما قدروه ّ لقد ّ
(((
غير ما مرة .يقول عنترة( :الطويل)
ب وا ْلبع ِ ِ ِ ُأ َذكّــر َقو ِمــي ُظ ْلمه ِ
ــد ــر ِ َ ُ ْ
َوق َّلــ َة إن َْصافــي َع َلــى ا ْل ُق ْ ــم لــي َو َب ْغ َي ُه ْ
ــم َُ ْ ُ ْ
((( عفيف عبد الرحمان ،الشعر وأيام العرب في العصر الجاهلي ،دار األندلس ،بيروت ،لبنان ،الطبعة األولى،1984 ،
ص.19.
((( الخطيب التبريزي ،شرح ديوان عنترة ،قدم له ووضع حواشيه وفهارسه :مجيد الطراد ،دار الكتاب العربي ،لبنان ،بيروت،
الطبعة األولى1996 ،م ،ص.59.
105 اخلطاابت العنرصية :قراءات نقدية
َف َلمــا َتنَاهــى مجدُ هــم هدّ مــوا م ِ ف َم ْجــدً ا ُم َشــ ّيدً ا ــت َلهــم بِالســي ِ
جــدي َ َ ْ ُ ْ َ ُ َ ّ َبنَ ْي ُ ُ ْ َّ ْ
ِ ِ
ــو ُد مــ ْن ِج ْلــدي ِ ِ ِ َي ِعي ُب َ
ــم بِ ُ
الخ ْبــث َأ ْس َ ف َعا ُل ُه ْ ــواد َوإن َّمــا الس َ ــون َل ْونــي بِ َّ
تشكّل هذه األبيات اعترافا ضمنيا بالدور الدفاعي الذي يتو ّلى القيام به هذا الشاعر الفارس داخل وسطه
االجتماعي ،كما أنها أبيات تشكّل تشخيصا دقيقا للوضع الذي كان عليه الشعراء السود في العصر الجاهلي،
قزم المجتمع تضحياتهم تجاه القبيلة ويراها تضحيات دون المستوى ،وأقل من الواجب ،ويمعن حيث ُي ّ
في إلحاق األذى بهم .فالظلم وقلة اإلنصاف ،والسخرية والتنقيص ،واإلمعان في اإلقصاء ،واستهجان
التواق إلى المجد .ذلك أن همة الشاعر وإرادته ،ولم توقف طموحه ّ لونهم األسود ،كلها أفعال لم تنل من ّ
هوية جديدة ينسف بها ومن خاللها الصورة الهجينة التي أراد المجتمع عنترة ظل دائم السعي إلى تأسيس ّ
الجاهلي إلصاقها له ،تلك التي كانت لها عالقة بسواده ونسبه .وهو بهذا يضطلع بأدوار شتّى ،جعلت منه
حامي القبيلة والمدافع عنها بسيفه ولسانه ،فهو أشبه ما يكون بالبطل الملحمي الذي يتّسم بالشجاعة،
يفسر لنا بالملموس السبب الذي جعل عنترة والسمعة الطيبة ،واألثر الحسن ،والقدرة الخارقة .وهذا ّ
ويحسنها في أعين الساخرين منه ،ويمسح يجمل صورته ٍ
ّ يحاول بكل ما أوتي من قوة وبراعة بيان أن ّ
من ذاكرة قبيلته كل التمثالت التي لها عالقة باللون والهجانة ،وصرف األنظار عنها إلى خصاله وسجاياه
(((
وتحمل للمكاره .يقول( :الطويل) ّ الحميدة ،وبسالته الفائقة وما يصاحبها من إخافة للعدو ،وجلد
ــر
قص ُ ــر ِق َعنِّــي ُي َ الش ْ َو َمــا َز َال َب ُ
ــاع َّ ــر ُب َذ َّل لِ َه ْي َبتِــي ِ
إِ َذا َمــا َرآنــي ا ْل َغ ْ
ــس ْالَ ْب َط ِ ِ
ــو ُت َي ْصبِ ُ
ــر ــال َوا ْل َم ْ َع َلــى َأ ْن ُف ِ ــر َصابِ ٍ
ــر ــو ُت إِالَّ َأنَّنــي َغ ْي ُ َأنَــا ا ْل َم ْ
ــر ُي ْذك ُ
َــر ــف إلــى الدَّ ْه ِ َوفِ ْع ِلــي َلــ ُه َو ْص ٌ َأ َنــا ْالَ َســدُ ا ْل َح ِامــي ِح َمى َمـ ْن َي ُلو ُذ بِي
ــر ب الدِّ َمــا َيت ََج ْو َه ُ
ٍ
بِ َســ ْيف َع َلــى ُش ْ
ــر ِ ـت َر ْأ َس ـ ُهـو َت َع َّم ْمـ ُ إِ َذا َمــا َل ِقيـ ُ
ـت ا ْل َمـ ْ
فخــر ُ ــاب َي ْز ُهــو َو َيَوفِ ْع ِلــي َع َلــى ْالَن َْس ِ ـم ِائ ِلي ادي بيـ ٌ ِ
ـاض حي ـ َن َت ْبــدُ و َشـ َ ََ
ســو ِ
َ َ
ِ ِ ِ
يــزا َو َينْ َثنــي ِ ِ ِ
َأالَ َف ْل َيع ْ
ــر عَــدُ ِّوي َذليــا نَاد ًمــا َيت ََح َّس ُ ــش َجــاري َعز ً
تكسر قواعد المنظومة االجتماعية التي كانت ترى حرة ،استطاعت أن ّ تكشف األبيات أعاله عن إرادة ّ
الشاعر صوتا للقبيلة ،تابعا لها ،ومصفقا إلنجازاتها .ذلك أن عنترة استبدل (نا) الدالة على الجماعة ،بـ(أنا)
الدالة على ذاته ،وكأني بعنترة يرفض أن يكون صوتا للقبيلة ،أو أن يكون صدً ى ألحد من الناس ،ذلك أنه
يريد أن يكون صوت الحق الذي يشيع في األرض إنصافا وعدال ،كرامة وأمنا ،فهيبته انتشرت في كل بقاع
بياضا ناصحا يبدد ظلمة الواقع
إن سواده صار ً الجزيرة العربية ،يناصر من استنصره ،ويحمي من يلوذ به ،بل ّ
المعاش ،لما له من ٍ
أياد بيضاء على الناس.
لقد أدرك عنترة أهمية القوة لتحرير هو ّيته المسلوبة ،وعتقها من مظالم التمييز العرقي .لذلك نراه
يوظف فروسيته بدهاء وذكاء كبيرين ،حيث إنه أقنع عبسا أن تموقعه في طبقة الفرسان البواسل أجدى
للقبيلة وأفيد لها من تموقعه في طبقة الرعاة والعبيد ،ألنه سيكون ساعدها األيمن الذي يقصم ظهر كل
((( أبو الفرج ،علي بن الحسين األصفهاني ،كتاب األغاني ،تحقيق :إحسان عباس ،وإبراهيم السعافين ،دار صادر بيروت،
الطبعة الثالثة ،2008 ،ج.170/8
((( الخطيب التبريزي ،شرح ديوان عنترة ،مصدر سابق ،ص.184.
107 اخلطاابت العنرصية :قراءات نقدية
والنسب والشرف ،إذ أرغمهم على تغيير نظرتهم إلى اإلنسان ،وأفهمهم أن الشرف ليس إرثا ألحد ،بل هو
رهان ومعركة حياة ،يبذل اإلنسان ثمن هذا الشرف تضحية ومجاهدة ،ويعطي من نفسه ما يجعله جديرا به.
(((
يقول عنترة( :البسيط)
َار َهــا ِمــ ْن ِشــدَّ ِة ال َّل َه ِ ِ ِ ُخ ِل ْق ُ ِ
ــب َو َأ ْص َطلــي ن َ ب َأ ْحم َيهــا إِ َذا َب َ
ــر َد ْت ــر ِــت ل ْل َح ْ
ب ــر ُة ْالَ ْع َجــا ِم َوا ْل َع َ
ــر ِ َلــ ُه َج َبابِ َ ــجدَ ْت بِ َص ِ
ــار ٍم َح ْي ُث َمــا َج َّر ْدتُــ ُه َس َ
ار ِمــي الَ بِ ُأ ِّمــي الَ َوالَ بِ َأبِــي بِ َص ِ و َقــدْ َط َلبــت ِمــن ا ْلع ْلي ِ
ــاء َمن ِْز َلــ ًة َ َ َ ْ ُ َ
ب َوا ْل َحـ َـر ِ
ـم ا ْل َحـ ْـر ِ ِ ِ
ب َو َم ـ ْن َأ َبــى َذ َاق َط ْعـ َ ــاب ن ََجــا م َّمــا ُي َحــاذ ُر ُه َف َمــ ْن َأ َج َ
تشير هذه األبيات إلى مسألة غاية في األهمية ،وهي أن الفعل الذي أحدثه عنترة بما هو مناهضة وتمر ّد
له أثر في نقض بناء التقاليد التي كانت تحكم حركة االجتماع البشري؛ فقد جرت العادة في المجتمع
القبلي أن تعطى الحظوة والرياسة ألصحاب النسب الشريف ،لكن عنترة حاز المكانة العل ّية ليس بأبيه وال
بأمه ،وإنما بسيف صارم شهره في وجه األعاجم والعرب ،فذ ّلوا له خاضعين بعد أن كانوا هم أهل مشورة
ورأي ،كما نالها بقوله الشعري حين أرغم مجتمعه على االعتراف بأصالة شعره وبأهليته في أن يتبوأ أعلى
فض ّم شعره إلى سجل الشعر الخالد حين ُع ّلقت قصيدته على أستار الكعبة ،وصار اسمه مكان وأرفعهُ ،
ملكا للتاريخ بوصفه أحد شعراء المعلقات العرب .وهذا النّوال الذي أحرزه جاء البيت األخير من القصيدة
الرتب،أن من أجاب ول ّبى نداء الحر ّية نجا من الذل والمهانة بأن يصير في أسمى ّ أعاله معبرا عنه ،ذلك ّ
ومن تو ّلى ونكص على عقبيه ُسلبت منه حريته ،و ُم ّرغت كرامته في التراب.
والتمرد ،ألنه قول
ّ بهذه الحماسة ناهض عنترة كل أشكال الميز ،وأشعل من خالل شعره جذوة الغضب
صير شعره سالحاشعري منبثق من أرض الواقع ،وصادر عن ذات مهمومة أوجعها اإلقصاء والميز .هكذا ّ
صيره
الزيف والبشاعة واالستغالل في المجتمع ،كما ّيناجز به القيم المستهجنة ،ويصارع من خالله مظاهر ّ
ريشة يرسم من خاللها معاركه ضد كل أشكال الميز العنصري.
يتضمن
ّ الصيرورة الوجودية لعنترة .فالعبودية مسخ وتزوير لهذه الصيرورة ،والموت إنهاء لها .بيد أنه إنهاء
(((
اإلرادة المتمثلة في القتل بما هو مناهضة للعبودية .يقول عنترة( :الوافر)
ــل ا ْل َقطِي َعــ َة َوا ْلبِ َعــا َدا َو َأ ْحت َِم ُ ـر الَ ُي َعــا َدى ف َد ْهـ ٍ
ـادي َصـ ْـر َُأ َعـ ِ
ــم ا ْل ِ
ــو َدا َدا َوإِ ْن َخان ْ
َــت ُق ُلو ُب ُه ُ ــو ٍم َض َّي ُعونِــي ــح َق ْ َو ُأ ْظ ِه ُ
ــر ن َُص َ
ــر ا ْل َج ِم ِ
يــل َوإِ ْن ت ََمــا َدى الص ْب ِ َوبِ َّ يــاــل بِا ْل ُمنَــى َق ْل ًبــا َع ِل ً ُأ َع ِّل ُ
ِِ َوبِيـ ُ اد ِج ْلـ ِ ُتعيرنِــي ا ْل ِعــدَ ى بِســو ِ
ـوا َدا ـض َخ َصائلــي ت َْم ُحــو َّ
السـ َ ـدي َ َ َ ِّ ُ
ِ
َو َر ْد ُت ا ْل َحـ ْـر َبَ ،و ْالَ ْب َط ُال َح ْولي
الص َعــا َدا ــم َر ِّ
الس ْ ــز َأ ُك َّف َهــا ُّ ت َُه ُّ
ب َتت َِّقــدُ اتِّقــا ًدا ــر ِ
َــار ا ْل َح ْ
َون ُ ـت بِ ُم ْه َجتِي َب ْحـ َـر ا ْل َمنَا َيا
َو ُخ ْضـ ُ
يبدو أن عنترة بين نارين :نار العنصرية الحارقة لكرامته وكينونته ،حيث يع ّيره قومه بسواد جلده،
ويسترخصون وجوده بينهم ،ونار الموت التي تتهدده في كل وقت وحين بسبب دفاعه المستميت عن
قبيلته ،وعن حريته وكرامته المهدورة .ومعنى هذا أن خوضه بحر الموت ليس اختيارا ذاتيا ،بل هو إلزام
مجتمعي ُف ِرض عليه فرضا ،فلم يجد من خيار غير أن يخوض بحر المنايا ،إما مناصرة لقبيلته حتى يقدم لها
نموذج البطل الملحمي ،وإما دفاعا عن ذاته من خطر يتهدّ ده ،أو أذى يتربص به.
ثان كما هو شأن حمار بوريدان(Ane والحقيقة أن عنترة حين خاض بحر الموت لم يكن أمامه خيار ِ
)de Buridanوهو حجة لتأييد حرية االختيار ،ومؤداها أنه لو لم تكن هناك هذه الحرية ووضع حمار
على مسافة واحدة من الماء والعلف ما استطاع أن يرجح جانبا على آخر ومات جوعا وعطشا((( .فعطش
عنترة إلى الحرية كعطشه إلى الحياة ،ونعني انعدام إمكانية االختيار بين الحرية والحياة النعدام التفاوت
بين الحياة والحرية ،بتساويهما وتماثلهما .فالحرية حياة ،والحياة حرية ،لكنه قادر على اختيار الموت في
صيغة القتل ،ألنه الضامن الواحد لحريته .لذلك فهو يستشعره ويستحضره في كل يوم وليلة .يقول عنترة:
(((
(الكامل)
ــل َذا َو ُأ ِريــدُ ْــت َأ ْط ُل ُ
ــب َق ْب َ َمــا ُكن ُ ــر الَ ُت ْب ِ
ــق َع َلــي َف َقــدْ َدنَــا َيــا َد ْه ُ
إن إرادة الموت عند عنترة ليست حبا في الموت وشغفا به ،بل هي إرادة ناشئة عن إيمان عميق بكونّ
التحول من العبودية إلى الحرية ال يمكن أن يتم إال عن طريق هذا المسار النضالي .أي أن الموت يصير
ّ
حركة عضوية يسعى من خالله الشاعر إلى األفضل واألعدل ،كما يسعى من خالله إلى تخليد ذكره،
وترسيخ أثره.
(((
يقول عنترة (الكامل)
((( الخطيب التبريزي ،شرح ديوان عنترة ،الخطيب مصدر سابق ،ص.49.
((( -المعجم الفلسفي ،مجمع اللغة العربية ،جمهورية مصر العربية ،تصدير :إبراهيم مدكور ،تم إعادة الطبع بمطابع دوكيو
سنة ،2020ص.67.
((( – الخطيب التبريزي ،شرح ديوان عنترة ،مصدر سابق ،ص.56.
((( – المصدر نفسه ،ص.56.
109 اخلطاابت العنرصية :قراءات نقدية
ــو ٍم ِذك ُْر ُهــ َّن َج ِديــدُ
فِــي ك ُِّل َي ِ َيا َع ْبل إٍ ْن َس ـ َفكُوا َد ِمــي َفف َع ِائ ِلي
إن عنترة يضفي على إمكانية تحويل الحتمية إلى حرية طابعا موضوعيا عقالنيا .إذ رأى الموت من زوايا
متعددة ،معتبرا أن بقاءه تحت نير العبودية بمثابة موت رمزي ال يقل ضراوة وفتكا عن الموت الواقعي.
والتمرد والرفض سبيال لتخليد اسمه وتأبيد سيرته .لذلك خاطب حبيبته ّ فوجد في الشجاعة واإلقدام
عبلة بما يفيد أن موته لن يوقف ذكر الناس لفعاله ،وأياديه البيضاء على قومه ،وعلى المستضعفين من
يفرق بين الحياة والموت ،فاالثنين معا بلون واحد عنده ،وهذا ما شك أن عنترة كان ال ّ بني جلدته .فال ّ
أشار إليه عبده بدوي حين تحدّ ث عن الذين أسماهم بالشعراء األغربة فقال« :ولقد اهتموا اهتماما خاصا
بالموت ،فعنترة يمزج بينه وبين الحياة بحيث يصعب التفريق بينهما ،...والذي وراء هذا أنهم يحسون أن
الحياة متداعية ،وأن جذورهم ال تضرب بعيدا في المجتمع ،وأن هناك ماضيا انتزعوا منه انتزاعا ،ثم إنهم
يحسون أنهم دائما في خطر ،ومن ثم فإن خالصهم الحقيقي البد أن يكون خارج الحياة ال داخلها ،وهم
في الغالب لم يمارسوا الحياة في دائرة األدب ،وهكذا عاشوا يتامى في الحياة ،وفي الوقت نفسه كانوا
(((
مطالبين بالحصول على تصريح إقامة داخل مناطق بعينها في المجتمع».
هذا الكالم يفيد أن الموت عند عنترة ال يمكن فصله عن الحياة القاسية التي عاشها؛ ألجل ذلك وجد
في الموت حياة أخرى أعاد فيها غرس جذور إنسان جديد ،كما أعاد تشكيل هو ّية جديدة ،استطاعت أن
وتحتل موقع الصدارة تأثيرا وفعال .وهو بهذا يكون قد جعل المن ّية مطية لتحقيق ّ تندمج في المجتمع،
وتحمله عظيما .يقول( :الوافر)
ّ األمنيات والمراتب ،لذلك كان صبره كبيرا
ِ ِ ِ ِ ــت َأ َّن َمنِ َّيتِــي إِ ْن ت َْأتِينِــي
ــر ُار ْالَ ْس َ
ــر ُع الَ ُينْجينــي من ًْهــا ا ْلف َ َو َع َر ْف ُ
ــع ِ
لج َبــان َت َط َّل ُ ت َْر ُســو إِذا َن ْف ُ
ــس ْا َ ــر ًة
ــك ُح َّ ار َفــ ًة لِ َذلِ َ ــر ُت َع ِ
َف َص َب ْ
فالشاعر بدا متقبال للموت ،غير خائف منه ،وال متردد في مواجهته ،وكيف يخافه وهو يحيط به من
كل جانب ،ويتنفسه أينما ُوجد؟ والحق أن البيتين يكشفان عن وعي قاس ،جعل عنترة يرى الموت حقيقة
الوجود الكبرى ،فاإلنسان يجيء إلى الحياة ومعه قدره المحتوم المتمثل في الموت ،ومادام هذا حال كل
تحمل الشدائد والمكاره والمعاملة المشينة لقومه له ،فكان إنسان حي ،فإن عنترة صبر ،وو ّطن نفسه على ّ
بذلك أحد نماذج الفتوة والبطولة العربية في عهد ما قبل اإلسالم .وهو إلى هذا كلهَ ،ع َلم شامخ من أعالم
القوة والنضال والصبر والجلد عند اشتعال نار الحروب والقتال.
(((
يقول عنترة( :الكامل)
ـز ِل ض ا ْلح ُتـ ِ
ـوف بِ َم ْعـ ِ ـت َع ـ ْن َغـ َـر ِ ُ َأ ْص َب ْحـ ُ ُــوف ك ََأنَّنِــي
َ بكَــر ْت ت َ ِ
ُخ ِّو ُفنــي ُ
الحت َ َ
س ا ْل َمن َْه ِ
ــل الَ ُبــدَّ َأ ْن ُأ ْســ َقى بِــك َْأ ِ ــل ِ
َف َأ َج ْبت َُهــا :إِ َّن ا ْل َمن ّيــ َة َمن َْه ٌ
ــم ُأ ْقت ِ
َــل وت إِ ْن َل ْ ــر ٌؤ َس َ
ــأ ُم ُ َأنِّــي ا ْم ُ ــكَ ،وا ْع َل ِمــي
َفا ْقنَــي حيــاء ِك الَ َأبــا َل ِ
َ ْ ََ َ
((( عبده بدوي ،الشعراء السود وخصائصهم في الشعر العربي ،الهيئة المصرية العامة للكتاب ،القاهرة ،1988َ ،ص.9.
((( – الخطيب التبريزي ،شرح ديوان عنترة ،مصدر سابق ،ص128.
خطابات 110
إن عالقة عنترة بالموت عالقة حياة ،وإثبات أحدهما يعني في الوقت نفسه إثبات اآلخر ،وهذه العالقة
الجدلية تمنح الشاعر عنترة فرصة إدراك النقيض ،فتبقى رغبته في الحياة أكثر حضورا واستحواذا على
أن الموت قضاء على االستعباد والظلم الذي مورس عليه حين كان طفال .لذلك نراه وجدانه ،ألنه يعرف ّ
في اختياراته الحياتية ال يريد إال المكانة العل ّية ،والكرامة المصونة.
(((
يقول( :الكامل)
ــك ِمــ ْن ْاز ِد َحــا ِم ا ْل َج ْح َف ِ ــاك يــوم ك َِريه ٍ َوإِ َذا ا ْل َج َب ُ
ــل َخ ْو ًفــا َع َل ْي َ ــة َ ــان ن ََه َ َ ْ َ
ــق ا ِّلل َقــا فِــي ْالَ َّو ِل وا ْق ِ
ــد ْم إِ َذا َح َّ َ ــل بِ َهــا َح َف ْ َفا ْع ِ
ــص َم َقا َلتَــ ُه َوالَ ت ْ
ــت ظِ ِّ ْــزال َتع ُلــو بِ ِ َــر لِنَ ْف ِس َ
ــل ا ْل َق ْســ َط ِل َح َ يمــا ت ْ ــت ك َِر ً
َأ ْو ُم ْ ــه ــك َمن ِ ْ اخت َْو ْ
ــو َشــ َّيدْ َت ُه بِا ْل َجنْــدَ ِل ِ يــك ِمــن آ َفاتِ ِ ــو ُت الَ ُين ِْج َ
ح ْصــ ٌنَ ،و َل ْ ــه ْ َفا ْل َم ْ
يــت َأ ِســير َط ٍ ِمــ ْن َأ ْن َيبِ َ مــو ُت ا ْل َفتَــى فِــي ِع َّ ٍ
ْح ِ
ــل ــرف َأك َ ْ َ ــر َلــ ُهــزة َخ ْي ٌ َ ْ
ــزلِ ــماك ْالَ ْع َ ِ ِ ِ ِ
ْــت فــي عَــدَ د ا ْل َعبِيــد َف ِه َّمتــي ِ إِ ْن ُكن ُ
الس َ ــو َق ال ُّث َريــا َو ِّ َف ْ
إن المعاني الشعرية المعبر عنها ،تفيد أن الحياة التي تغيب فيها المنزلة االجتماعية التي تضمن لإلنسان
يعول عليها ،وأفضل منها موت كريم تحت غبار الحرب .ورغبته في كرامته ،وتحفظ كيانه هي حياة ال ّ
الموت لم تكن قنوطا من الحياة ،أو تذمرا وسخطا ونقمة على الدهر ،بل هي لحظة امتالء بالحياة ،وإيمان
لهوية الذات التي عميق بها حدّ الشبع ،ذلك أن حضور الموت في شعر عنترة يعني إعادة صياغة جديدة ّ
تحلم أن تكون في عزة تغنيها عن كل تبعية ،وتبعد عنها كل استعباد يمكن أن يستبيح كرامتها ،إذ إن أقبح
مراحل الحياة أن يعيش اإلنسان ذيليا لغيره ،يفتقد اإلرادة والقدرة والقرار .وهذا ما كان ينفر منه عنترة
ويتحاشى الوقوع فيه ،فصنع من الموت سلسلة انتصارات ُس ّطرت بمداد من فخر حتى صار أسطورة في
تاريخ الشعر العربي القديم.
(((
يقول عنترة( :الكامل)
ــقينِي بِا ْل ِع ّ
ــز ك َْأ َس ا ْل َحنْ َظ ِ
ــل ــل َفاس َِب ْ ــاة بِ ِذ َّل ٍ
ــة ــقنِي مــاء ا ْلحي ِ الَ تَس ِ
ْ ََ َ َ ْ
ْــزلِ
ــب َمن ِ َ ِ ِ ٍ ِ ِ ِ
ــز أ ْط َي ُ َّــم با ْلع ِّ
َو َج َهن ُ َمــا ُء ا ْل َح َيــاة بذ ّلــة ك َ
َج َهنَّــ ٍم
الهشة التي منحها له المجتمع القبلي حين يأبى الشاعر أن ينال حياة الذل والهوان ،نقصد تلك الحياة ّ
جعله ابن أمة سوداء ال يصلح إال لتقديم خدمات للسادة ،من رعي وحلب وحطب وسخرة ،لكنه رفض
هذه الحياة المهينة رفضا قاطعا ،ألنه رأى نفسه أكبر من أن تُختزل حياته في أعمال ال تثمر مكانة علية وال
حرا أب ّيا ،وإما ُمنازلة األعداء ،أو الموت الذي يخ ّلد
منزلة سنية .لذلك كان خياره إما حياة كريمة يعيش فيها ّ
ذكره في سجل البطوالت.
((( عبده بدوي ،الشعراء السود وخصائصهم في الشعر العربي ،مرجع سابق305 ،
((( الخطيب التبريزي ،شرح ديوان عنترة ،مصدر سابق ،ص.191.
خطابات 112
عليه ،ومن جملة انتصاراته هو أنه نظر إلى لونه األسود نظرة استحسان وإعجاب وافتخار .وهذا الفعل
متفردة ومتميزة ،ال ذاتا
يدخل ضمن دائرة تقدير الذات ،فهو بهذه النظرة يكون قد أدرك ذاته بوصفها ذاتا ّ
مستهجنة مستقبحة ،ليس هذا وحسب ،بل إنه أدخل اللون األسود ضمن خانة االستحسان االجتماعي،
رجا عنيفا في منظومة القيم واألعراف أي أنه ص ّيره لونا داال على العنفوان واإلقدام والثبات ،محدثا بذلك ًّ
السائدة في المجتمع الجاهلي ،فما كان في عرفهم السائد قبيحا هجينا أمسى داال على الفتوة والقوة
والشجاعة والفحولة ،ذلك أن «األلوان كلها ك ّلما اشتدّ ت قربت من السواد ،وب ُعدَ ت من البياض ،فال
تزال كذلك إلى أن تصيرا سوادا»((( .فاللون األسود يدل في بعده السيميائي هنا على المهابة والرهبة ،كما
يدل على الخوف والشدّ ة ،ألن سياق توظيفه اقترن ببسالة عنترة الحربية التي ذ ّلت لها األبطال ،وخضعت ّ
أن عنترة جعل اللون األسود معادال والتمرد والغضب ،أي ّ
ّ لها الفرسان .كما يمكنه أن ّ
يدل على الثورة
موضوعيا استطاع من خالله التوحيد بين مختلف مظاهر التباين الموجودة في المجتمع الجاهلي ،مضفيا
بذلك انسجاما على كل ما هو مختلف في ثقافة القبيلة ،وخارج عن السائد والمتداول .لذلك جعله عنترة
وقوته وثباته في مواجهة الشدائد.
ناقال فن ّيا لمشاعره ،ومع ّبرا عن صالبته ّ
السواد بالهجاء
ّ والمتأمل في التجارب الشعرية المرتبطة بالعصر الجاهلي يدرك أنه قد شاع اقتران
والذم والقبح ،لكن عنترة عمد إلى إقامة عدول عن المتعارف عليه في المجتمع القبلي ،فما عاد سواد
والقوة والفحولة ،ذلك
ّ ا ّللون استهجانا وال استقباحا لصاحبه ،بل صار لونا داال على العنفوان والشجاعة
أن عنترة و ّظف السواد توظيفا فنيا رائعا طمس به تلك النظرة السائدة للسواد وبخاصة سواد البشرة .ولسنا
تمجه وتستهجنه، نغالي إن قلنا :إن عنترة جعل من اللون األسود-الذي كانت المنظومة الثقافية وقتئذ ّ
وتراه قبيحا معيبا-مسلكا شعريا يرصد مزايا الذات الشاعرة ،ويحمل خصوصية الشخصية المحورية
المجسدة لدور البطل المناهض لكل أشكال الميز العنصري واإلقصاء االجتماعي .وهو بهذا صار قادرا ّ
على التفاعل االجتماعي الج ّيد مع كل أشكال الميز العنصري ،بما امتلكه من كفايات وقدرات أسعفته في
تحويل النقصان إلى كمال ،والقبيح إلى مليح ،والهجين إلى جميل.
والمقصود بالكفايات هنا ،تلك التي لها عالقة بالكفاية االجتماعية بما هي قدرة على االندماج،
وتحويل الضعف إلى قوة تك ّيفا مع الوضع االجتماعي .وكذا الكفاية النفسية بما هي تقبل للذات وتقدير
فتوة وقوة وشجاعة وصالبة لها ،وإحساس بالرضا واالطمئنان الداخلي ،ثم الكفاية الجسمية ،بما هي ّ
عود .والكفاية األخالقية بما هي عفة وشهامة ورجولة ووفاء.
أ -تجميل السواد من خالل الكفاية االجتماعية:
يؤهل الذات للتأقلم مع مختلف الوضعيات الحياتية ،ذلك تعكس الكفاية االجتماعية نضجا اجتماعيا ّ
أن عنترة كان يمتلك مهارات اجتماعية من قبيل المقدرة على القيادة ،والتك ّيف مع عناصر المجتمع القبلي
بإثبات ذاته ميدانيا ،وفرض حضوره الوازن داخل الوسط االجتماعي ليس بوصفه عبدا ،بل باعتباره واحدا
((( أبو عثمان عمر بن بحر ،الجاحظ ،كتاب الحيوان ،تحقيق :عبد السالم محمد هارون ،مطبعة مصطفى البابي الحلبي،
مصر ،الطبعة الثانية ،1966 ،ص,59.
113 اخلطاابت العنرصية :قراءات نقدية
من أبناء القبيلة الذين لهم فاعلية مجتمعية ،وقدرة على الذود عن القبيلة وتمثيلها في المناسبات ،وقد
جمة اعترضت مساره النّضالي ،ذلك أنه رغم تنكّر األب والقبيلة له، مكّنته هذه العناصر من تجاوز معيقات ّ
حل بها مكروه ،أو غشيها خطب. وكفران فضله ،إال أنه بدا شخصا مسؤوال ،يقف جنب قبيلته عبس ك ّلما ّ
(((
يقول عنترة( :الطويل)
َوفِ ْع ِلــي َع َلــى ْالَن َْس ِ
ــاب َي ْز ُهــو َوي ْف ُ
خــر ـم ِائ ِلي ادي بيـ ٌ ِ
ـاض حيـ َن َت ْبــدُ و َشـ َ ََ
ســو ِ
َ َ
فالمتأمل في داللة البيت الشعري يجده مع ّبرا عن إرادة شاعر كفء استطاع أن يمحو الهجنة عنه ،بما
يقوم به من أفعال تزهو على كل نسب أو انتماء قبلي .والحقيقة أن عنترة جعل نسبه غير مرتبط ال بقبيلة وال
(((
بأب ،بل جعله يرتبط بهو ّيته بما هي لون أسود يفيض فتوة وقوة وشجاعة .يقول عنترة( :الوافر) ٍ
َان إِ َذا ا ْنت ََســ ْبنا
الســن ُ ِ
ُح َســاميَ ،و ِّ ادي نِ ْســ َبتِي َو َأبِــي َو ُأ ِّمــي
جــو ِ
َ َ
تجذرت فيه وهذا منتهى االتزان االنفعالي الذي يمكن أن تكون عليه الذات التي تعيش ضمن مجتمع ّ
قلب لجدلية األشياء ذات فترسخت حدّ التقديس .ذلك أن افتخاره بلونه ٌ مظاهر الميز وزكّتها األعراف ّ
الصلة بما هو قبلي عرفي .أي أنه جعل اللون األسود قنطرة عبور من القبيح -في زعم القبيلة -إلى الجميل
الذي يظهر عظمة الذات بما هي شخصية محورية تشكّل مدار القول الشعري .وهو بهذا يكون قد استطاع
(((
عال من االقتدار .يقول عنترة( :الوافر) إبراز صورة الذات االجتماعية واقعيا ،وما تتم ّيز به من مستوى ٍ
ــح َأ ْســنَى ِ بِ ِف ْع ِلــي ِمــ ْن َب َي ــر َأنِّــي َشــبِيه ا َّللي ِ ِ
الص ْب ِ
ــاض ُّ ــل َل ْونــيَ ،غ ْي َ ُ ْ
يتبدّ ى التوظيف الشعري للون جل ّيا في ديوان عنترة ،حيث إن غلبة اللون األسود وهيمنته تعطي مؤشرا
غرس السواد في ثنايا المتن الشعري موح ّيا–دالليا-
على إدراك عنترة لعالمه الذي يعيش فيه ،ومن تم يكون ْ
ومحولة إياه من سواد
ّ إلى قتامة الواقع وسوداويته ،وتكون أفعاله وأياديه البيضاء مجل ّية لظلمة هذا الواقع،
حالك إلى بياض ناصع ،في إشارة منه إلى القدرة على التغيير ،والفعل اإليجابي داخل المنظومة المجتمعية.
ومن المالحظ أن المستند الحقوقي بما هو شعور بالمساواة واالنتماء ليس وحده الذي دفع عنترة إلى
إعادة النظر في وضعه االجتماعي ،بل هناك دافع ذاتي بما هو مقدرة حربية وقدرة على المواجهة سنفصل
فيها فيما يأتي.
ب -تجميل السواد من خالل الكفاية الحربية:
تعكس الكفاية الحربية قدرة جسمانية عالية ،وشجاعة داخلية تؤهل عنترة ألن يكون فارسا من فرسان
القبيلة األشداء ،يصونها ويحميها ،ويخوض دونها ومعها المعارك ،باذال دمه وروحه في سبيلها ،وقد
نماه بالمران الدائم ليل نهار ،أن يرغم الناس
استطاع بقوة تضحيته وإيثاره ،وحسن استعداده الحربي الذي ّ
على رؤية معدنه األصلي الذي أرادوا له أن يختفي تحت أردية اللون والنسب.
((( الخطيب التبريزي ،شرح ديوان عنترة ،مصدر سابق ،ص.79 .
((( – المصدر نفسه ،ص.195.
((( – المصدر نفسه ،ص.195.
خطابات 114
(((
يقول عنترة( :البسيط)
ِ ِّــز ِ ادي َفهـ ِ َل ِئ ـن ي ِعيبــوا ســو ِ
ال إِ َذا َمــا َفاتَنــي الن ََّس ُ
ــب ــو َم الن َ
َي ْ ـبـو لــي ن ََسـ ٌ ْ َ ْ َ ُ َ َ
يدل على نجاح عنترة في معركة الكرامة التي إحساسا داخليا بالرضا واالنبساطّ ، ً هذا البيت يبرز
خاضها ،فإن كان قومه يعيبون سواده ،ويعيرونه بكونه معلول النسب ،أسود البشرة ،فهذا لن يضيره في
الشرف ليس إرثا تذل أمام هيبته يوم النّزال خنوعا وركوعا .فأفهمهم أن ّ شيء ما دامت الفرسان البواسل ّ
ألحد ،وإنما هو كسب لكل من بذل ثمنه تضحية ،وأعطى من نفسه ما يجعله جديرا به.
هكذا تج ّلت كفاية عنترة الحربية من خالل سلوكه الميداني في ساحات المعارك بوصفه شخصية
(((
قيادية قاهرة لألعداء .يقول عنترة (الكامل)
وســواد ِج ْل ِ
ــدي َث ْو ُب َهــا َو ِر َد َاهــا و َأنَــا ا ْلمنِيــ ُة وابــن ك ُِّل منِي ٍ
ــة
َ َ َ ُ َ ّ َ ّ َ ْ ُ َ
ٍ
معتد على مجسدا في شخص الشاعر عنترة باعتباره خاطفا ألرواح كل إن التعبير عن الموت جاء
ّ
كرامته ،وفي هذا داللة على السطوة والتدمير والفتك ،وقد زاد من تعميق هذه الداللة المتع ّلقة بالسطو
مجسد في
كونه جعل جلده األسود ثوبا يلبسه الموت ويلتحف به ،مما يعني أن عنترة يتقنّع بقناع ملحمي ّ
الموت ،في إشارة منه إلى هيمنته على األعداء بما يصيبهم منه في ساحة المعركة من طعنات موجعة قاتلة،
يؤهله للظفر بكل معركة أو نزال. ألنه شيخ الحروب وكهلها وفتاها ،له من الخبرة والمران والدربة ما ّ
ج -تجميل السواد من خالل الكفاية األخالقية:
هما يشغل بال الشاعر عنترة ،حيث أراد أن يشكّل من خالل األخالق التي تغنّى إن قضية األخالق تعتبر ّ
بها نموذج اإلنسان الكامل أو المثالي ،الذي ينأى بنفسه عن كل نقص ،ويسمو بها على كل قبيح يشينها.
(((
يقول عنترة( :الوافر)
ــدي ِمــ ْن َد َو ِاء
ادي ِج ْل ِ
ومــا لِســو ِ
َ َ َ َ ـك َل ْونِي
ـو ًدا َفا ْل ِم ْسـ ُ
َلئـ ْن َأ ُك َأ ْسـ َ
ِ
ض عــن جــو الســم ِ ِ َو َل ِكــ ْن َت ْب ُعــدُ ا ْل َف ْح َشــا ُء َعنِّــي
اء َك ُب ْعــد ْالَ ْر ِ َ ْ َ ِّ َّ َ
معلوم أن المسك األسود يعتبر من أغلى أنواع المسك وأروعها ،نظرا لما يتميز به من رائحة عطرية
زكية ،وعنترة ش ّبه سواد لونه بسواد المسك استحسانا منه للسواد الذي اصطبغت به بشرته ،لكن تجاوز
هذا الجانب المتج ّلي فيه بما هو لون أسود وانتقل للتعبير عن الخفي الممثل في أخالقه التي ينأى بها عن
التدنيس والتنجيس ،حتى أن الفحشاء تبعد عنه كبعد األرض عن السماء.
هكذا استطاع عنترة تحويل العنصرية والرق إلى طاقة إيجابية زحزح من خاللها السائد والمتداول في
المنظومة الثقافية العربية .فألزم قبيلته على النظر إليه بوصفه شاعرا وفارسا لم ينقص سواد بشرته منه شيئا،
بل زاده فخرا واعتزازا وقوة.
تغ ّلب على كل المفاهيم المد ّمرة التي عرفها المجتمع القبلي العربي ،واستطاع -ليس استجداء وترج ّيا وإنما
بقوته وإرادته -أن يمسح عن اللون األسود كل نقص َعلق به ،كما استطاع بفضل لون بشرته أن يدرك ذاته
متفردا في بيئة وضعت معايير قيمية من خاللها يصنّف األفراد إلى أسياد وعبيد،
بوصفه كائنا متم ّيزا عن غيرهّ ،
كما نجح في تحويل ما كان قبيحا مستهجنا في العرف القبلي السائد ،إلى جميل يجسد شخصية عنترة وهويته.
خاتمة:
والخالصة ،إن المسار النضالي الذي قطعه عنترة كان مداره الشعر بما هو خطاب حماسي مناهض لكل
حرة تتمتع بكل مقومات اإلنسانية أشكال العنصرية والميز ،ومداره السيف بما هو صراع من أجل ذات ّ
الرفعة ليستوشروطها ،فقدّ م صورة البطل العربي المناهض للظلم واإلقصاء ،فأفهم المجتمع القبلي أن ّ
مركزا ومكانة متوارثة دونها أصحاب البشرة السوداء وأبناء الحبشيات ،بل هي فروسية وشهامة وأخالق
ومبادئ تُنال بما يبذله اإلنسان من جهد وطاقة ،كما أنّها ف ٌّن وذوق وتعبير صادق .وهذه كلها سمات
وأوصاف اصطبغت بها شخصية عنترة وانعكست على أرض الواقع ،ذلك أنه قدّ م صورة للبطل الذي انتصر
ليس في عالم المادة حيث الحروب والمعارك ،بل إنه انتصر كذلك في عالم الفن واألخالق ،فنال وسام
الكفاءة والشرف والحرية .فكان نضاله تجسيدا لتجربة إنسانية تأسست على الصراع والمواجهة ،رغبة
في إثبات الذات داخل وسط اجتماعي ُبني على العصبية والعنصرية ،وتوكيد حضوره النوعي داخل هذا
المجتمع ،حتّى صار اسمه رمزا أدبيا يترجم سيرة بطل يناصر المظلومين ،ويطيح بالباغين الظالمين ،فكان
سوط عذاب على ممتهني الكرامة اإلنسانية ،ورسول حب وسالم للمظلومين المستضعفين ،أصحاب
القلوب المنكسرة والنفوس المتضعضعة ،كما كان بذرة أمل ُغرست في تربة الجزيرة العربية فأثمرت نبال
وشرفا وعزة ،لتؤسس لمفهوم جديد لإلنسان .ذلك اإلنسان الذي ْ
يشرف و َيكْمل بما يقوم به من أياد بيضاء
تخدم إنسانية اإلنسان ،وليس ذاك اإلنسان الذي يدّ عي كماال وشرفا ونقاء عرق ،فيلزم اآلخرين الذين
يراهم دونه مكانة ووجاهة بخدمته وتبجيله.
للسود
لقد كان عنترة –بحق -شاعر الهامش بامتياز ،حيث قدح الزناد الذي أيقظ حركة الحقوق القبلية ّ
والصعاليك وكل المهمشين والمنسيين والمعذبين في شبه الجزيرة العربية ،وجعل لهم صوتا مسموعا،
والتمرد والمناهضة والمواجهة كلها أفعال ناتجة عن حالة قهر اجتماعي أو ميز عنصري ّ وع ّلمهم أن الرفض
فتمخضت عنه مقاومة ومواجهة. ّ مارسه إنسان على أخيه اإلنسان
نو ّد أن نشير في الختام إلى أن النضال الحقيقي ضد كل فعل ينقص من كرامة اإلنسان سواء أكان عنصرية
وتمييزا ،أو إهانة وتنقيصا ،أو استعبادا وإذالال ،ال يمكن أن يكون إال نضاال ميدانيا ،يبدأ بتأهيل الذات وجعلها
قادرة على الفعل اإليجابي في الحياة ،والحضور الوازن والنوعي في الواقع اليومي المعاش ،والعمل على
يقوض فكرة الصراع من أساسها ،بما هو صراع أجناس متحضرة ضد أجناس تأسيس حوار حضاري حقيقي ّ
متخلفة ،واستيعاب الطبيعة التعددية للحضارة اإلنسانية من حيث هي تنوع وثراء واختالف ،تحقيقا لما
يمكن أن نسيمه بوحدة العالم اإلنساني التي تنمحي فيها عقدة التفوق العرقي والحضاري.
119 اخلطاابت العنرصية :قراءات نقدية
المستخلص
تسعى هذه الدراسة إلى قراءة التراث السردي العربي الخاص بتمثيل ذوي البشرة السوداء من خالل
التركيز على ثالثة نماذج كتابية :رسالة «فخر السودان على البيضان» للجاحظ ،وكتاب « تنوير الغبش
في فضل السودان والحبش « لإلمام ابن الجوزي ،وكتاب «رفع شأن الحبشان» لإلمام جالل الدين
السيوطي .هذه الدراسة تسلم بمركزية الخطاب القائم على التمييز بين األسود والعربي ،أو ،بتعبير آخر كما
طرحها الدكتور نادر كاظم في كتابه «تمثيالت اآلخر :صورة السود في المتخيل العربي الوسيط» بفكرة
أن المخزون الثقافي العربي مخزون مليء بالنظرة الدونية لآلخر األسود مع الرغبة في االستحواذ على
تمثيله في السرد وفي الشعر .وإذا كانت العنصرية ضد السود لها ارتباطات اجتماعية وسياسية وثقافية،
والمخزون الثقافي العربي يخدم هذه الصور في حين أن اإلسالم ينبذ التمييز العرقي والتفاضل اللوني،
فكيف تحايل أو تعامل األدباء ورجال الدين مع هذه الخطابات .هل كانت هناك مقاومة لهذا المخزون
الثقافي؟ وكيف جاءت أشكال هذه المقاومة أو محاولة خلخلة هذا المخزون؟ هذه الدراسة تعتزم استقراء
حضور أصحاب البشرة السوداء في التراث الشعري والسردي واستقراء موقف ورأي كل من اإلمام ابن
الجوزي واإلمام السيوطي والجاحظ في تمثيل األسود وفي تقديم مقاومة ثقافية ألعراف وتقاليد سلطوية.
الكلمات المفتاحية
العنصرية ،مناهضة العنصرية ،الجاحظ ،السيوطي ،السود ،البيض
Abstract
This study seeks to read the Arab narrative heritage of the representation of black peo-
”ple by focusing on three writing models: the message “The Pride of Sudan on the Whites
by Al-Jahiz, and the book “Tanweer Al-Ghabash in the Virtue of Sudan and Habash” by
Imam Ibn Al-Jawzi, and the book “Raising the Status of Habshan” by the Imam Jalalud-
din Al-Suyuti. This study acknowledges the centrality of the discourse based on the dis-
tinction between the black and the Arab, or, in other words, as put forward by Dr. Nader
Kazem in his book “Representations of the Other: The Image of Blacks in the Median
Arab Imagination” with the idea that the Arab cultural stock is a stock filled with an infe-
rior view of the black other with the desire to possess His representation in the narrative
and in poetry. And if racism against blacks has social, political and cultural links, and the
Arab cultural repository serves these images, while Islam renounces racial discrimination
and color differentiation, then how do writers and clerics deal with these discourses? Was
there resistance to this cultural stock? And how did the forms of this resistance come
about or the attempt to disrupt this stockpile? This study intends to extrapolate the pres-
ence of black people in the poetic and narrative heritage and extrapolate the position and
opinion of each of Imam Ibn al-Jawzi, Imam al-Suyuti and al-Jahiz in representing black
people and in presenting cultural resistance to authoritarian norms and traditions.
Keywords
racism, Anti-racism, al-Jāḥiẓ, al-Ṣuyūṭī.
((( جاك ماهو ،العنصرية منطق اإلقصاء العام (بيروت :مركز دراسات الوحدة العربية .87 ،)1999
((( مرجع سابق.
121
خطابات 122
للطيبين واألصدقاء»((( .ويصف أشكال النعوت القبيحة التي تم إلصاقها باآلخر من قبل الحضارة األوروبية
مرورا بالمهاجرين في العصور الحديثة.
ً الوسيطة سواء كان هذا اآلخر يهوديا ،أو زنجيا ،أو مسلما ،أو امرأة،
فالحاجة إلى اختراع العدو تمت تغذيتها من خالل شيطنة اآلخر الذي هو بالضرورة المختلف والغريب
والذي قد يشكل مصدر إزعاج أو تهديد أو مغايرة للحمة المجتمعية كما يعتقد الفرد القابع داخل ثقافته
ومحيطه((( .فتأتي ممارسات معرفية مثل اختزاله في صور نمطية ثابتة سلبية وتمثيله لتقوم بتسهيل وتسييس
عملية التعامل مع العدو /اآلخر.
وقد عانى أصحاب البشرة السوداء في مختلف الثقافات من مثل هذه الممارسات التي تختزلهم
وتصنفهم في أنماط محددة تشيطنهم أحيانا وتنفي عنهم الصفات اإلنسانية في أحيان أخرى .وأسهمت
هذه النزعة الشائعة بين ثقافات مختلفة في تنميط ذوي البشرة السوداء وتجريمهم ووضعهم في رتبة دنيا
عن الطبيعة اإلنسانية .كل هذا كان حصيلة أفكار بالية تم توراثها واستقبالها كمس َّلمات سواء كانت هذه
األفكار مرتبطة بمرجعيات دينية مثل ربط السواد بالخطيئة أو مرتبطة بمرجعيات ثقافية مثل ربط السواد
بالدونية أو الشؤم أو الدنس .وقبول هذه الفرضيات دون مساءلة هو ما يزيد من الصراع الحضاري إضافة
إلى قصر الوعي ،ويفسر حاجة بدائية إنسانية تسعى إلى التفوق على اآلخر من خالل تقليصه وتحجيمه(((.
ما يعنينا هنا هو فهم وضع السود في الحضارة العربية واإلسالمية ،إذ نجد أن الثقافة العربية امتألت
ً
احتكاكا بصور سلبية قاتمة عن السود تهدف إلى تهميشهم وتبرير استرقاقهم .ونجد أن بين العرب والسود
صراعيا ساهم في زيادة العدائية والفجوة بين العرب واألحباش تحديدً ا .وقد كشف نادر كاظم عن ً تاريخيا
ً
عالقة غير متوازنة أو صحية بين العرب وأصحاب البشرة السوداء ،ويرى أن هناك عد ًدا من المتخيالت
والمرجعيات التاريخية التي أدت إلى تصعيد العالقة المتوترة والمشحونة مع العرق األسود .ويسرد كاظم
تاريخية الصراع بين العرب واألحباش قبل اإلسالم والتي كان الغرض منها السيطرة وحكم العرب مثل
غزو اليمن وحملة أبرهة لهدم الكعبة .كل هذه الصراعات ساهمت في تصوير الحبشي كعدو وغا ٍز وخطر
في المتخيل العربي .يقول إن «الذاكرة الجماعية العربية مشحونة بالوقائع التاريخية والعالقات الصراعية
مع السودان والحبشان»((( .وهذا الصراع على السلطة هو نتيجة التقارب الجغرافي بين العرب وبالد
الحبشة ،وقد حدثت كذلك أشكال صراع مختلفة مع ممالك مجاورة أخرى لم تخلق في الذهنية العربية
العدائية نفسها التي اصطبغت بها عالقة العرب باألحباش .يفسر حلمي شعراوي عمق هذا الصراع بسبب
امتداده الزمني الطويل ،يقول:
((( حلمي شعراوي ،صورة األفريقي لدى المثقف العربي :محاولة تخطيطية لدراسة «ثنائية قبول /استبعاد» (بيروت :مركز
دراسات الوحدة العربية .234 ،)1999
((( نادر كاظم ،المرجع السابق.237 ،
((( حلمي شعراوي ،المرجع السابق.233 ،
((( لالستزادة ،انظر :نادر كاظم ،تمثيالت اآلخر :صورة السود في المتخيل العربي الوسيط( ،بيروت :المؤسسة العربية
للدراسات والنشر).147-124 ،
((( المرجع السابق.80 ،
((( حلمي شعراوي ،المرجع السابق.229 ،
((( نادر كاظم ،المرجع السابق.87 ،
((( المرجع السابق.88،
خطابات 124
هائلة»((( .وهكذا نجد في كتب التاريخ والرحالت واألدب والطب ما يعزز فكرة األسود اآلخر المختلف
والمغاير للعربي المتمدن كما وانتشرت أحاديث موضوعة تؤكد على كراهة اللون األسود((( .ولعل الثقافة
العربية عززت تمثيل األسود في صور دونية ووحشية ومختلفة عن العربي حتى تبرر وتسوغ استمرارية
نظام الرق ،والذي هو موضوع حاربه الدين اإلسالمي .ولكي تضمن الثقافة العربية استمرارية هذا النظام
التراتبي قامت بصناعة خطاب تداولته كتب السير واألدب والتاريخ والجغرافيا والشعر على حد سواء،
حيث «يكون فيه السودان والزنوج األفارقة موضوعا للدرس والكتابة والحديث وإطالق األحكام القيمية
وإشاعة األوصاف المتكررة بشأنهم»((( ،وهو الخطاب الذي أسماه نادر كاظم بخطاب «االستفراق»((( وهو
خطاب مماثل في مضامينه لخطاب االستشراق الذي أراد فيه الغرب خلق صور نمطية ثابتة عن الشرق،
تؤكد على اختالفه ودونيته في مقابل الغرب ،في خطابات تهدف إلى إخضاع الشرق من خالل تمثيله
وبالتالي السيطرة عليه(((.
((( ابن خلكان البزمكي ،وفيات األعيان( ،بيروت :دار صادر )1972ج ،3ص.471 :
((( شهاب الدين األبشيهي ،المستطرف من كل فن مستظرف( ،القاهر :دار الحديث .355 ،)2000
((( المرجع السابق.
((( نادر كاظم ،المرجع السابق.255 ،
((( المرجع السابق.258 ،
127 اخلطاابت العنرصية :قراءات نقدية
وعند اآلخرين بهائم سائبة أو سباع متوحشة ،وهم عراة منتنون ،وحمقى ال يفقهون قوال إال بقدر ما تفهم
الدواب والبهائم .غير أن الذي يثير اإلشكال في موقف الجاحظ من السودان والزنوج هو أنه صاحب أول
رسالة تؤلف في الفخر بالسودان وتفضيلهم على البيضان(((.
يعرف عن الجاحظ أنه يدافع عن الرأي ونقيضه ،وأنه يحسن القبيح ويقبح الحسن ،وأنه يراوغ ويواري
في كتبه فال يعرف له رأي محدد في كثير من المسائل .فتمثيله للسود والزنج في موسوعة الحيوان ،مثال،
ال يختلف عن الصور الشائعة التي تقارن بين السود والبهائم وتسلب منهم الكثير من الفضائل اإلنسانية.
جليا كما ظهرت وعندما نقرأ رسالة فضل السودان على البيضان نرى رسالة ال يظهر فيها فضل السودان ً
مثالبهم ونقائصهم متناثرة في كتب الجاحظ األخرى ،ولكننا نواجه رسالة قصيرة كثيفة المعاني تحتاج إلى
التمحص.
ّ الكثير من
يقول الجاحظ في مستهل الرسالة أنها موجهة إلى شخص معروف ولم يذكر اسمه ويقول أنه طلب منه
أن يتحدث عن مفاخر السودان ،وكأن الحديث عن السود يحتاج إلى تبرير .ويبدو أن هذا ديدن العرب،
أي توجيه الكتاب إلى شخص بارز عادة عربية من أجل إبعاد فكرة وجود أغراض أو نوايا عند المؤلف
من اختيار الموضوع كما يبحث عن شخص معروف ليسانده إن استفز أو استثار الرأي العام ،وكأنهم
مسوغ للكتابة ،وكأنهم ،كشهرزاد ،بحاجة ماسة إلى ترخيص شخص ذي سلطة بذلك «يبحثون عن عذر أو ّ
أو يعتبر حجة وعمدة»((( .وهذه االستهالل بدون ذكر اسم الشخص المعروف يدل على أنه في الغالب
شخص غير حقيقي وأن هذا االستهالل ضرورة لحماية الجاحظ من التهميش أو اإلقصاء.
تحتوي الرسالة على خصال السودان الحسنة وتؤكد على قوتهم وشجاعتهم كما تثني على مزايا اللون
األسود فهو «أهول في الصدور» وكذلك هو شكل من أشكال القوة «أقوى الحيوان ما كان أسود» ،والحسن
«وأحسن الخضرة ما ضارع السواد»((( .كما وتذكر بعض نجبائهم وفضالئهم مثل لقمان الحكيم ،والمقداد
«أول من عدا به فرسه» ،ووحشي قاتل مسيلمة ،وبالل بن رباح(((.
أما محاوالت تقويض التمثيل العربي للسود فتتجلى في محاولة تفسير اللون األسود وصرف الصور
السلبية المرتبطة به منها في قوله « والسواد والبياض إنما هما من قبل خلقة البلدة ،وما طبع الله عليه الماء
والتربة ،ومن قبل قرب الشمس وبعدها ،وشدة حرها .وليس ذلك من قبل مسخ وال عقوبة ،وال تشويه وال
تقصير»((( .فربط اللون بأثر البيئة والمشيئة اإللهية يوحي بتعمد الكاتب في إزالة السلبيات العالقة بلون
السواد في المخزون الثقافي.
كذلك آلية الحجاج العقلي والقياس المنطقي التي اشتهر بها الجاحظ والتي تأتي هنا لتؤصل تبعية
العرب للسود بل ويطعن في فكرة نقاء الدم العربي والعرب الخ ّلص .فيقول الجاحظ مثال أن الرسول
صلى الله عليه وسلم إنما بعث «إلى األحمر واألسود» ولم يقل العرب ،وفي حين أن األحمر إشارة كما هو
متعارف إلى البيض من العجم فإن لفظة األسود تشمل العرب مع السود ،وبالتالي يكون السود هم العرق
األشمل وهم األصل والخ ّلص والعرب هم الفرع والتابع .ويستدل على ذلك بإحاالت كثيرة ،منها «قالوا:
ومنا العرب ال من البيضان ،لقرب ألوانهم من ألواننا»((( .وفي حين» أنه ال يقال للزنج والحبشة والنوبة
بيض وال حمر ،وليس لهم اسم إال السود» وأن العرب مشمولون مع األسود ،فإننا «جعلنا والعرب سواء،
[ ]...فإن كان اسم أسود وقع علينا فنحن السودان الخلص ،والعرب أشباه الخلص .فنحن المتقدمون في
الدعوة»((( .وبهذا يصل في نهاية االستدالل المنطقي إلى أن الرسالة المحمدية ،والتي هي مفخرة العرب،
أول ألنهم هو الجنس األشمل واألعم والذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم في حديثه موجهة إلى السود ً
«إنما بعثت إلى األحمر واألسود» ،وبالتالي تصبح الرسالة المحمدية مفخرة السود وهم أولى بها وهم
األصل فيها .ثم يستطرد ليثبت أن تبعية العرب للسود ليست فقط مجازا بل يثبتها حتى تاريخيا من خالل
إحالة أخرى إذ يقول «قالوا :والقبط جنس من السودان وقد طلب منهم خليل الرحمن الولد فولد له منهم
نبي عظيم الشأن ،وهو أبو العرب إسماعيل عليه السالم»(((.
نادرا ما يبدي
نالحظ إذن كثرة اإلحاالت عند الجاحظ من خالل استعمال «قالوا» و«قلنا» ،فالجاحظ ً
رأ ًيا هو منشؤه ،بل يحيل إلى جماعة غائبة غير محددة «قالوا» .إال أن ما يأتي بعد اإلحالة عادة ما يكون
مطبوعا بأسلوب الجاحظ القائم على المنطق واالستدالل والقياس .فتوظيف «قالوا» إشارة أيضا إلى ً
توق وحذر من عقوبات الثقافة المركزية .
((( الحذر في فعل الكتابة وأن استنطاق جماعة مجهولة هو أسلوب ٍ
تختلف الرسالة عن كثير من الرسائل األخرى كما تختلف عن سرديات التراث المليئة باالقتباسات
األدبية والدينية ،فاالقتباس فيها قليل والمنقوالت الشعرية فيها قليلة ،ولكن الالفت فيها هو انتقائية التمثيل
وانتقائية الغياب .وأعني بانتقائية التمثيل هنا أي انتقاء الشخصيات واألفكار التي تظهر مفاخر السودان.
مثل أنه انتقى شاعرين من الشعراء السود وهما الحيقطان وسرد قصيدته التي يرد فيها على هجاء فنجد ً
جرير وشرح معانيها ،وسنيح بن رباح شار كما أورد قصيدته التي هجا فيها جريرا وفخر عليه بالزنج .ولم
يتحدث أو يذكر عنترة بن شداد ،أو أبو دالمة أو غيرهم من الشعراء المبرزين .من هو الحيقطان ومن هو
سنيح بن رباح؟ ما مناسبة سرد القصيدة كاملة في حين أن الجاحظ لم يسرد أشعار العرب مثل ما جرت
العادة ومثل ما فعل السيوطي وابن الجوزي؟
وفي سياق حديثه عن مقاومة الشاعر األسود للتمثيل الشعري العربي الذي يعزز تهميش األسود ودونية
مكانته وتسويغ تنميط مثالبه ،كما هو منتشر في شعر ابن الرومي والمتنبي ،يرى نادر كاظم أن الشعراء
مفاخر السودان تتمثل في (نجبائهم ،كثرة عددهم ،تبعية العرب لهم ،أثر البيئة في اللون) .كما يبدو أن
طرح الجاحظ فيها عقالني ومنطقي عازف فيه عن االستعطاف ومخاطبة المشاعر سواء من خالل الدين
والمساواة أو من خالل أشعار الغزل والتشبيب بالنساء .فالرسالة مقتضبة وجادة ويبدو أنها تكشف بحذر
عن مكنونات الجاحظ فيما يختص بموضوع السود في المجتمع على خالف ما كتب سابقا عنهم في كتبه
األخرى ،وكأنه بهذا يناقض نفسه ويفاجئ قراؤه .وبما أن الجاحظ نفسه من ذوي البشرة السوداء فإن كتابته
في هذا الباب هي بشكل من األشكال كتابة عن ذاته.
يبدو أن موقف الجاحظ من الثقافة العربية مشابه إلى حد كبير لما أسماه هومي بابا بأزمة الهوية في البالد
التي خضعت لالستعمار .ففي حديثه عن هجنة الهويات ،يحلل هومي بابا هوية ما بعد االستعمار ،ويعتقد
أن الوعي بالذات ،مفهوم «الهوية» ،موجود فقط في العالقة مع اآلخر .ويذكر أن «المطالبة بالتمثيل -أي
المستعمر تمر بثالث
َ أن تكون اآلخر يستلزم تمثيل الذات في نظام تمايز عن اآلخر»((( .ويرى أن هوية
المستعمر وتحمل في طياتها مفاهيم الغالبِ مفاهيم .أولها «المحاكاة « »Mimicryبمعنى أنها تحاكي
والمغلوب وتنتصر ألحدهما في موقف وقد تتبدل إلى اآلخر في موقف آخر ،وقد تحمل كال الموقفين
المستعمر أقل إنسانية ِ
المستعمر التي تقول بأن في نفس الوقت .وهذه المحاكاة تهدف إلى تقويض دعوى
َ
وال يشابهه .ويرى بابا أن هناك فضاء بين البينين في « تعيين الهوية» وأن هذا الفضاء هو «ممر خاللي بين
الهويات الثابتة والمحددة» يبشر بإمكانية تهجين ثقافي ال تنفي االختالفات الثقافية ولكن تتحدى الهرمية
الثقافية ،الهايراركية ،المفترضة أو المفروضة((( .هذا التهجين الثقافي يسعى إلى تفكيك أحادية الرأي في
الطرح مثلما يفعل الجاحظ؛ فهو تارة ابن البيئة العربية الخالصة التي تذم السود وتار ًة هو يناقض هذه
السردية بذكر حسن خلقهم وبالغة خطبهم والمبرزين منهم.
ويأتي المفهوم التالي وهو «االزدواجية» “ ”ambivalenceفيما يتعلق بالهوية ،والتي تعي مسألة
المستعمرة ،وهذا التعايش يحتوي ِ
المستعمر والهوية التمايز العرقي والثقافي ،وتتناول التعايش بين هوية
َ
المستعمر بالحالة األخيرة والتي حددها هومي بابا
َ على الرغبة والخوف من التشابه واالختالف .ثم يمر
بمفهوم «التنكر» أو «التنصل» “ ”Disavowalويشير إلى استراتيجية إنكار تهدف إلى االعتراف بالموضوع
االستعماري وإنكاره في نفس الوقت؛ فبالتالي تكون الهوية االستعمارية محفوفة بالخوف والرغبة من
بالمستعمر ومن التنصل منه في الوقت نفسه .لذلك ،فإن هجنة الهوية ،التي تتعارض مع نقاء الهوية، ِ التشبه
تكرر الصراع داخل الذات التي تشعر باالنتماء والال-انتماء في اآلن نفسه ،وليس بين الذات واآلخر .يبدو
أن نظرية هومي بابا تقدم تأكيدً ا قو ًيا على مفهوم االختالف والمساواة في الوقت نفسه ،مما يجعل التهجين
والمستعمر(((. ِ
المستعمر مفهو ًما يمكن أن يؤثر على ٍّ
كل من
َ
كثيرا باالسترقاق
صحيح أننا ال نتحدث عن عالقة استعمار بين السود والعرب ،ولكنها عالقة مرتبطة ً
وبعالقة الغالب مع المغلوب الذي يسعى إلى إخضاعه ثقافيا ومعرفيا من خالل تمثيله .وبالنظر إلى خطاب
(1) Homi Bhabha، The Location of Culture، (London: Routledge 1994)، 45.
((( المرجع السابق.4 ،
(3) Childs and Williams، An introduction to post-colonial theory، (Harlow: Longman 2006).
131 اخلطاابت العنرصية :قراءات نقدية
الجاحظ عن السود ،نجد أنه في كتاباته السابقة اتخذ مواقف مشابهة للخطاب العربي «االستفراقي» والذي
هو مختلف في مضامينه وأهدافه عن الخطاب االستعماري إال أنه يشابهه في صفة المركزية وتهميش
األقليات وفي تبعية وإذعان الهامش للمركز من حيث األفكار والمعتقدات ،فكانت كتاباته مهينة وتحقيرية
للسود .ولعلها تعكس رغبته في «محاكاة» الثقافة المركزية ،ثم ما لبث أن وجد نفسه في موقع مزدوج من
الرغبة والخوف من التشابه واالختالف ،إلى أن كتب هذه الرسالة التي «تتنصل» من الثقافة المركزية أو
الغالبة .ولعلي أجازف وأقول أن موسوعة الحيوان قد ألفت وجمعت مادتها قبل رسالة فخر السودان على
البيضان؛ إذ أن الثانية تعكس موقفا مغايرا من السود ،فكتاب الحيوان يتبنى المخزون الثقافي العربي ،أما
صورا تغاير ما هو شائع ومعروف عن السودان بل وتفضل السواد في بعض المواطن ً الرسالة فإنها تطرح
حتى بما في ذلك السواد في عالم الحيوان والنبات.
مركزا إلبداعهم الشعري وللرد فيها على المتخيل ً وفي حين أن الشعراء السود جعلوا من عقدة اللون
العربي السالب لهم لكل فضيلة « ،فلقد كانت [عقدة اللون] إلى حد ما وراء االستجابة السريعة لإلسالم،
ووراء المطالبة المبكرة بالعدل االجتماعي [ ]...ووراء التحول من ضمير الجمع القبلي إلى ضمير المفرد
اإلنساني ،ووراء اقتراب الشاعر من ذاته بعد أن كانت القبيلة ذاته ،ووراء التوتر في اإليقاعات المتألقة
للقصيدة ،واختيار األوزان القصيرة [ ]...باإلضافة إلى أنها كانت وراء إسقاط عدد من تقاليد القصيدة
العربية المتوارثة»((( .وفي حين انصرف عنترة للمفاخرة بذاته وللفروسية وانصرف غيره للزهد والورع
واالنصراف عن الحياة العامة ،انصرف الجاحظ للتأليف الموسوعي وللسرد القائم على المقايسة
مبهرا قراؤه بعلمه وبتملصه من أحادية الرأي من خالل طرح الرأي ونقيضه والحجاج واالستدالل العقلي ً
أحيانا ومن خالل تطعيم كتبه بالملح والنوادر والدفاع عن الرأي وضده ،وبكثرة األصوات الواردة في
سرده ،إذ قلما يطرح رأ ًيا يكون هو المنشئ له أو المدافع عنه؛ فتكثر عنده اإلشارة إلى أشخاص وجماعات
غير محددة باستخدام البادئة (قالوا) .كما أن كتابة الجاحظ عن السود تعكس مقاربة لما تمر به الهوية
المابعد استعمارية من محاكاة واندهاش بالثقافة الغالبة ،هذه الدهشة ما تلبث أن تخلق مأز ًقا فكريا يكتنفه
الشعور بالقلق والبحث عن معابر لثقافة أكثر تعددية وأقل تنميطا للثقافة المغلوبة أو الخاضعة للتمثيل.
والسؤال هو :هل رسالة فضل السودان على البيضان تنصل فكري من الثقافة العربية في موقفها من السود؟
هل هي محاولة لردم ما سبق أن اعتنقه الجاحظ وتبناه؟ وترى هذه الدراسة أن رسالة الجاحظ هي بمثابة
التكفير عما كتبه وسخره في كتاباته من ملح وظرائف تستهين بالسود في المجتمعات العربية بل وتمعن
في إخضاعهم لصور سالبة من خالل فرض سردية تقوم بتوسعة الطرح عن السود وإعطاء مساحة كذلك
للسود لتمثيل أنفسهم وذلك من خالل مناصرة وحفظ قصائد شعراء سود مقهورين قاموا في قصائدهم
باإلقذاع في هجاء العرب وبالمفاخرة بأنفسهم وبقومهم .وال يبدو أنه من باب المصادفة أن قامت ثورة
الزنج في البصرة بعد رسالة الجاحظ وفي عام وفاته عام 255هـ إذ أنها كتبت في وقت زادت فيه التوترات
وأنها ساهمت في خلق هذا الوعي الجمعي لدى سود العرب.
((( عبده بدوي ،الشعراء السود( ،الهيئة المصرية العامة للكتاب .8-7،)1988
خطابات 132
((( عبد الواسع الحميري ،خطاب السلطة والخطاب المضاد( ،بيروت :مؤسسة االنتشار العربي).10-9 ،
133 اخلطاابت العنرصية :قراءات نقدية
بالصور الحسان ،ووضعت لهم هذا الكتاب في ذكر فضل خلق كثير من الحبش والسودان»((( .فهو هنا
يكتب مواساة ومؤازرة للسود واألحباش الذين تنكسر قلوبهم ليذكرهم بمحاسنهم وفضائلهم ولكنه ال
ينفي تهمة القبح أو يتحداها وكذلك ال يخاطب العرب في هذا الكتاب إذ يقول «ووضعت لهم» أي للسود،
فهو كتاب للسود ومن أجل السود.
ويسرد بعد ذلك اإلمام ابن الجوزي فضائل في طباع السودان وسعة أراضيهم ويذكّ ر بكرمهم وبموقفهم
الشهم من المهاجرين المسلمين األوائل .ثم يسرد موقف النبي -صلى الله عليه وسلم -منهم وتبسطه
معهم ويذكر بالمبدأ الديني القائم على التقوى ،وذكر ما سمعه النبي -صلى الله عليه وسلم -من كالم
جذورا عميقة في الذاكرة الدينية والمحمدية؛ فالحديث عن ً الحبشة وأعجبه وكأنه بذلك يؤسس لهم
كالمهم وعن إعجاب النبي -صلى الله عليه وسلم -به يشير إلى رغبة ابن الجوزي في دفع الفكرة القائلة
أن كالمهم ما هو إال همهمة .وهي فكرة تسعى إلى إثبات دونية األسود وبهيميته ،وقد تم التأسيس لها من
خالل نسق ثقافي يسعى إلى تبرير المأزق األخالقي للرق في اإلسالم كما أشار إليها نادر كاظم(((.
ثم يذكر بعدها السودان من األنبياء مثل نبي أصحاب األخدود وذي القرنين فيسرد قصتهما باستطراد
وما فيها من عجائب وإصرار على الحق .ثم يذكر نجباء السودان ويسرد سيرة لقمان الحكيم ويذكر قصصا
متتالية فيها الكثير من الكرامات والخوارق المحيطة بشخصية لقمان الحكيم وبشخصيات أخرى من الزهاد
والمتعبدين .والالفت في هذا السرد المبني على انتقاء شخصيات ذات رفعة ومكانة في الثقافة اإلسالمية
أنه ال يتخاطب مباشرة مع األفكار االنتقاصية السائدة والمرتبطة بالسود والرقيق ،ولكنه خطاب تذكيري
المهمة في الثقافة اإلسالمية ،كما أنه خطاب وجداني يصر على ذكر العجائبية ّ بوجود هذه الشخصيات
والخوارق والكرامات المحيطة بالزهاد والعباد من السود ،فهو يثبت بذلك أنهم أصحاب فضل وأخالق
مثل أن لقمان كان عبدً ا يباع ويشترى ولم ودين على خالف ما كان شائعا في المخيلة االجتماعية .فنجد ً
ينقص ذلك من علمه وال من فضله .وانتقائية القصص التي تشير إلى تقواه وعظم شأنه في اإلسالم -
بحيث نزلت فيه سورة في القرآن -تقاوم فكرة العبد العصي الرديء والمذموم بالصفات السيئة والتي كانت
جز ًءا من المخيلة االجتماعية آنذاك.
يختم بعد ذلك كتابه بالدعاء واالسترشاد بالله عز وجل دون التعليق المباشر على التقوى وعلى مساواة
الدين بين األسود واألبيض ،ثم يذكر دعاء الخوف من السلطان وسط أدعية االستعاذة بالله والتقرب إليه
وبذلك ينهي كتابه عن السود.
((( ابن الجوزي ،تنوير الغبش في فضل السودان والحبش( ،الرياض :دار الشريف للنشر والتوزيع).29 ،
((( نادر كاظم ،المرجع السابق.-113 91 ،
خطابات 134
كل من اإلمام ابنونظرا الستمرارية الصراع التمثيلي بين العرب والسود فإننا نجد أن ً
ً الفكري والديني،
الجوزي واإلمام السيوطي قد تناول موضوع السود في المجتمع العربي واإلسالمي بطريقة متشابهة
مصبوغة بالصبغة الدينية خال ًفا لما ورد عند الجاحظ.
إذن ال تختلف طريقة اإلمام السيوطي عن اإلمام ابن الجوزي في توظيف الخطاب المضاد .فنجد أنه
سار على نهج اإلمام ابن الجوزي مع زيادة في االستطراد وزيادة في سرد الحوادث والسير والقصص
وكرامات األولياء ،إضافة إلى الحسان من النساء السود وإلى ظرف السمراوات .فهو في مقدمته يقول:
«هذا كتاب وضعته في فضل الحبش» «وقد وقفت على كتاب في هذا المعنى للحافظ أبي الفرج بن
الجوزي سماه «تنوير الغبش» فرأيته لم يستوف وال قارب»((( فكتب هذا الكتاب متمما له وزيادة فيه.
من خالل هذا االستعراض لما ورد في كل من كتاب تنوير الغبش وكتاب رفع شأن الحبشان ،نجد أن
المؤلفين يتعمدان ،على خالف الجاحظ ،مخاطبة العاطفة ال العقل من خالل أساليب متعددة بغرض سد
الصدع المجتمعي الحاصل في زمانهما وبغرض تلطيف العالقة بين العرب والسود.
ومن ضمن هذه األساليب العاطفية تعمد ذكر النساء الحسان من السوداوات والسمراوات وما كتبه
الشعراء من تغزل بالنساء السود والسمر .وورود هذه السردية في كتاب يذكر بالتقوى وبكرامات األتقياء
ليس إال محاولة لـ«أنسنة األسود» أي تقريبه نفسيا وعاطفيا من العربي بقدر ماهي رغبة في التالطف وسد
الفجوة .وبهذه اآللية يناقض كال المؤلفين تهمة القبح والبهيمية عن اآلخر األسود التي مازالت ملتصقة به
في المتخيل العربي.
كذلك وظف كل من اإلمام ابن الجوزي واإلمام السيوطي أسلو ًبا آخر في مخاطبة العاطفة وذلك
من خالل استدعاء مخزون ثقافي مضاد والذي برز من خالل أفراد قد يكونون هم الصانعين لنمط
جديد ،مثل سرد قصص األفراد المتمثلة في – على سبيل المثال ال الحصر -الصحابي بالل بن رباح،
والنجاشي ومواقفه مع المسلمين المهاجرين ،وقصص لقمان وما تحيطه من كرامات وخلفيته مع العبودية
واالسترقاق .كذلك التذكير بالتقوى والدين هو شكل آخر من أشكال مخاطبة العاطفة وترقيق القلوب مع
تجنب الصدام المباشر مع الثقافة المركزية.
الخاتمة
عزمت هذه الدراسة على تحليل وسبر أغوار المساحة المتاحة لتمثيل السود في الثقافة العربية وتحليل
أشكال هذا التمثيل .ومن خالل قراءة في التراث السردي نجد أن هناك ثقافة مهيمنة تسعى الستبقاء
األسود خاضعا للتمثيل الثقافي العربي من خالل إخضاعهم أو تحويلهم إلى موضوع لهذا التمثيل من أجل
الحفاظ على آخريته عن العربي وبالتالي عدم السماح له بالدخول في حيز التمثيل العربي .وكذلك نجد أن
المحاوالت التي تسعى إلى استبعاد األسود من حيز التمثيل العربي ماهي إال النموذج القديم لما نجده في
العصر الحاضر من التمييز العرقي والطائفي من أجل الحفاظ على هوية ثقافية نقية.
المستخلص
يتناول هذا البحث الخطاب السياسي عند العباسيين م ّت ً
خذا من خطبتي أبي العباس الس َّفاح ّ
وعمه داود
مت ًنا للتحليل ،ويستند في الدراسة إلى التحليل النقدي للخطاب الذي يتميز بأهميته المتنامية في الدرس
يقدمه من نتائج عميقة تكشف إيديولوجية الباث والمجتمع ،والعالقة التفاعلية المعاصر؛ لما يمكن أن ّ
فيوضح البحثّ بين منتجي النص بوساطة األدوات اللغوية ،وغير اللغوية التي يجندها لهذه األغراض،
اآلثار اإليديولوجية والعمليات السلطوية التي انطوى عليها الخطاب ،ويجلي الظروف التي أدت إلى
إفرازه وإنتاجه ،ويمتد ليركز على كيفية توظيف اللغة لخدمة إيديولوجية الباث عبر الوقوف على األدوات
المدرجة في إنتاج تمثيالت الذات واآلخرين ،فيظهر كيف اعتمد المتكلمان على التكثيف االنفعالي
ويبين األفعال المسندة إلى الفاعلين في الخطاب ،كما يقف على أثر استثمار الضمائر
بالمفردات والتعابيرّ ،
في توجيه الخطاب وتحقيق مراميه ،ويسعى البحث إلى بلورة األفعال اإلنجازية التي انبثقت عن محاوالت
الباث ممارسة السلطة على المتكلم عبر التوظيف غير النزيه للغة ،ويكشف عن المعاني المستلزمة
فيعرج على التناص ،ويبرز وظيفته اإلقناعية ،وال
المقصودة ،ومن جهة أخرى يتناول التضفير الخطابيّ ،
تشكل الخطاب ،كذلك يسفر البحث عن موقف الجمهور يغفل عن اإلشارة إلى مدى تأثير الجمهور في ُّ
نتيجة المنجز الخطابي عامة ،وما ترتب عليه من استجابات خطابية وغير خطابية.
الكلمات المفتاحية
التحليل النقدي للخطاب ،الخطاب السياسي ،اللغة ،الدين ،السلطة.
Abstract
This research deals with the political speech of the Abbasids، taking from the two
sermons of Abu al-Abbas al-Saffah and his uncle Dawood as a study model. The study
is based on the analysis of the critical discourse، which is characterized by its growing
importance in the contemporary researches. It can provide profound results that reveal the
خطابات 138
ideology of the path and society، and the interactive relationship between the speakers
through the linguistic and non-linguistic tools that it recruits for these purposes. The re-
search clarifies the ideological effects and authoritarian processes involved in the speech،
and clarifies the conditions that led to its production. It extends to focus on how language
is used to serve the ideology of the speaker by standing on the tools included in the pro-
duction of representations of self and others، showing how the two speakers depended
on emotional intensification of vocabulary and expressions. It shows the verbs attributed
to the actors in the speech، as well as the effect of using pronouns in directing the speech
and achieving its goals. The research seeks to clarify the action verbs that emerged from
the attempts of the speaker to exercise power over the addressee through the dishonest
use of language، and reveals the required intended meanings. On the other hand، it deals
with interdiscursivity، so it turns to intertextuality، highlights its persuasive function، and
indicates the extent to which the audience influences the formation of the speech. The re-
search also shows audience’s position as a result of the rhetorical achievement in general،
and the resulting discursive and non-discursive responses.
Keywords
Critical Discourse Analysis, political discourse, language, religion, authority.
المقدمة:
يتط ّلع هذا البحث إلى دراسة الخطاب السياسي عند العباسيين باالعتماد على التحليل النقدي للخطاب
متخذا من خطبتي أبي العباس الس َّفاح وعمه داود مت ًنا للدرس؛ لما تزخرا به من مواقف إيديولوجية سافرةً
تستدعي السيطرة على ذهن المتلقي وإذعانه لرؤية المتكلم ،إضافة إلى المعرفة بسياق الخطبتين ومالبسات
إنتاجهما ،وما ترتب عليهما بحسب ما دونته المظان؛ إذ إن اإلحاطة بمالبسات المنجز الخطابي أمر مهم
جدً ا؛ لتعزيز فهم المواقف الخطابية التفاعلية التي تعكس الهيمنة السلطوية المرتكزة على أيدلوجيات
اجتماعية ،فاألمر ال يقتصر على العالقة بين منتجي الخطاب ،بل يجاوزه ليشمل إيديولوجية المجتمع التي
هي عصارة تجارب فكرية تمخضت عن مواقف تفاعلية ،ويتخذ البحث من المنهج الوصفي التحليلي ً
سبيل
إلى الدراسة ،ويفيد من اإلطار التحليلي الذي اقترحه عماد عبد اللطيف في بحثه الموسوم بـ « إطار مقترح
لتحليل الخطاب التراثي تطبيقًا على خطب حادثة السقيفة « ،ويجتهد في اإلجابة عن عدد من التساؤالت،
تشكل الخطاب على المستويات المختلفة :سواء أكان على المستوى المعجمي ،أم على تتلخص في :كيف ّ
تمكن المتكلم من تطويع اللغة لخدمة أغراضه المستوى التركيبي ،أم على المستوى النصي؟ وإلى أي مدى َّ
اإليديولوجية؟ وما األفعال المسندة إلى الفاعلين في الخطاب؟ وإلى أي حد نجح الباث في تمثيل ذاته
وفي تمثيل اآلخر؟ وكيف أثر استثمار الضمائر في توجيه الخطاب؟ وما األفعال الكالمية التي انبثقت عن
محاوالت الباث ممارسة السلطة على المتكلم؟ وكيف أدى التناص وظيفة مهمة في إقناع الجمهور؟ وما أثر
تشكل الخطاب؟ وكيف كانت استجابته؟ فهذا البحث يرصد الممارسات االجتماعية السلطوية الجمهور في ُّ
وآليات الهيمنة التي تأتت عبر التوظيف غير النزيه للغة ،فأسفرت عن موقف الجمهور نتيجة المنجز الخطابي،
وال يغفل عن اإلشارة إلى العوامل غير اللغوية التي كان لها أثر فعّال في التفاعل الخطابي.
139 اخلطاابت العنرصية :قراءات نقدية
تعريف التحليل النقدي للخطاب:
تحصلت بوساطته نتائج ناجعة َّ لئن كان تحليل الخطاب قد أثبت جدارته في العقود السابقة -إذ
وعرت مواقف منتجيها كشفت عن مضامين النصوص المستهدفة ،وفككت شفراتها ،فبلورت مقاصدهاَّ ،
وفق مالبسات إنتاج تلك النصوص -فإن التحليل النقدي للخطاب ما هو إال منهج متقدم في تحليل
أساسا طرائق إساءة استخدام السلطة االجتماعية،ً الخطاب ،فهو نوع من البحث التحليلي للخطاب يدرس
والهيمنة ،والتحيز التي تُسن إعادة إنتاجها ،ويتصدى لها عبر النص والخطاب ضمن السياقين االجتماعي
والسياسي ،غير أن أهم ما يتميز به التحليل النقدي للخطاب عن تحليل الخطاب أنه يتناول اللغة على أنها
يطوعها المرسل لخدمة أهدافه في محاولة السيطرة على ذهن المتلقي وسلب رؤيته، ممارسة اجتماعية ّ
فهي بهذا المنظور ذات هدف بعيد عن الشفافية يخضع إليديولوجية المجتمع ،وثقافة الباث ونظرته.
فالتحليل النقدي للخطاب من أولوياته التركيز على الممارسة النصية ،ورصد التفاعل الخطابي وتحليله،
وإيضاح السلطة الممارسة التي تفرزها الهيمنة االجتماعية والسياسية ونقدها ،فـ « ثمة إجماع على أن
التحليل النقدي للخطاب يتضمن عنصرين أساسيين :أحدهما اهتمام سياسي ،يقل أو يكثر ،باشتغال
اإليدلوجيا والسلطة في المجتمع ،واهتمام خاص بالكيفية التي تسهم وتدعم وتكشف من خاللها اللغة
وضوحا على العالقة بين اللغة (النص ،الخطاب) والسلطة ً ذلك االشتغال .هكذا تشدد أكثر التعريفات
(الصراع السياسي ،الالمساواة ،الهيمنة) « .فالتحليل النقدي للخطاب يركز على تحليل الوحدات اللسانية
النصية المتعالقة مع مختلف الظواهر االجتماعية ،وذلك بناء على نظريات يتقاطع فيها اللساني مع غير
لساني .ويمكن القول بعبارة أخرى إن التحليل النقدي للخطاب يختلف عن تحليل الخطاب من حيث
إن األخير هو علم دراسة اللغة في االستعمال ،بينما التحليل النقدي للخطاب هو علم استعمال اللغة
الموظف لخدمة إيديولوجيات محددة. َّ
.1مالبسات إنتاج الخطاب السياسي عند أبي العباس وعمه المؤثرة في توجيه الخطاب:
جاء الخطاب السياسي القائم في خضم جو صاخب من التناحر على السلطة بين األمويين والعباسيين،
فقد كان الصراع على أشده آنذاك ،فبعد أن وصل خبر مقتل إبراهيم بن محمد على يد مروان بن محمد -
يحول الخالفة
الذي تزعم الدعوة العباسية قبل ظهورها عل ًنا -إلى أهل الكوفة أراد أبو سلمة الخالل أن ّ
إلى آل علي بن أبي طالب رضي الله عنه ،ووافقه على ذلك األمراء والنقباء ،فأحضروا أبا العباس إلى
الكوفة؛ ليولوه األمر ،ولقد وقع االختيار على الكوفة تحديدً ا لوالئها آلل البيت ،وفي ليلة الجمعة بايعه
أبو سلمة ،وفي اليوم التالي خرج السفاح وقت صالة الجمعة على برذون أبلق ،والجنود تحيط به من كل
جانب ،فدخل دار اإلمارة ،وبعدها خرج إلى المسجد ،فصلى بالناس ،وعقب خطبة الجمعة ،صعد إلى
المنبر ،فبايعه الناس وهو في أعاله ،وعمه داود يقف دونه على بعد ثالث درجات ،ثم خطب بالناس،
مريضا فاشتد عليه المرض ،ولعل هذا ما جعله يوجز فيجلس ،ويترك المجال لعمه ،فيخطب بعده ً وكان
ً
وتفصيل ،وبعد ذلك توجها إلى القصر ،وتوافد رسخت ما جاء في خطبة أبي العباس جملة خطبة أخرىّ ،
خطابات 140
الناس على مبايعته حتى العصر ،ومن العصر حتى العشاء ،ليكون أول خليفة عباسي يتولى دفة الحكم
حرجا في تاريخ المسلمين ،مع ً ً
مفصل بعد األمويين ،وال يخفى ما في هذه الفترة من حساسية ،إذ تعد
األخذ بعين النظر االختالف القائم على تولي السلطة منذ حادثة السقيفة ،فانتقال الخالفة من األمويين
آثارا بالغة على مختلف األصعدة السياسية واالجتماعية والدينية وغيرها ،مما حدا إلى العباسيين يحمل ً
بالممارسات السلطوية في هذا الحدث الخطابي أن تكون واضحة ،سافرة ،وال شك أن للعوامل غير
أثرا بالغً ا في توجيه الخطاب ،وتهيئة الجمهور لإلذعان؛ حيث تسهم في تحديد المسافة بين فاعلي اللغوية ً
وتمهد لرسم الدور الذي سيمارسه كل منهما في عملية ّ الخطاب ،وتساعد في توضيح العالقة بينهما،
مهيبا
إنتاج الخطاب .فخروج أبي العباس من مقره يركب برذون أبلق ،والجنود تلتف حوله ،يخلق مشهدً ا ً
للناظر ،وجلي ما يحمله هذا المشهد من تلويح بالقوة والبطش ،كما أن في إمامة أبي العباس للناس في
تعزيزا لتلك القوة ،وتمهيدً ا لتوليه القيادة ،إضافة إلى أن اعتالءه لرأس المنبر ،ووقوف عمه
ً صالة الجمعة
أشد وأعتى عندما يتصدر عمه للخطابة أدنى منه يشي بتنصيبه خليفة على الناس .وتصبح هذه السيطرة َّ
ليرسخ موقفه؛ مما يسلب الجمهور حق االختيار ،أو تقرير المصير ،ويحثه على الصعود إلى من بعدهّ ،
توجب عليه الذهاب إلى القصر، المنبر لمبايعته وهو في األعلى ،ومن لم يتمكن من مبايعته في المسجد ّ
وفي هذا أو ذاك أعني في الصعود إلى المنبر ،أو الذهاب إلى القصر سيطرة واضحة ،وفوقية جلية ،كما أن
اختيار المسجد مكانًا إلنجاز الخطاب يضفي الشرعية على موقفه ،ويكسبه هالة من القداسة .إضافة إلى
أن تحديد زمن الخطاب عقب صالة الجمعة ،يضمن هذه القداسة والشرعية عليه ناهيك عن وصوله إلى
جمهور غفير .فالممارسات االجتماعية السلبية ،وعمليات الهيمنة المتالحقة ،والمؤثرات اإليديولوجية
أطرت الخطاب السياسي القائم الذي لم يأل جهدً ا في إظهار هذه المعاني وبلورتها ،فجاء المنجز الراهنة َّ
مهما من سلسلة المنعطفات التي أفرزتها المعطيات التاريخية، الخطابي ً
مثقل بها ،كاش ًفا لها ،فمثَّل منعط ًفا ً
فأدت إلى تغييرات جذرية في تاريخ المسلمين على مختلف األصعدة.
.2العوامل اللغوية المؤثرة في تشكيل الخطاب وتوجيهه:
إن اإللمام بالمرحلة التاريخية التي أفرزت هذا المنجز الخطابي ،والوقوف على الحالة االجتماعية
يفسر التجليات والحالة السياسية لفاعلي الخطاب ،ومعرفة المرجعية الدينية لهم ،وإدراك المسافة بينهمّ ،
تشكالت كل منهما على مختلف المستويات اللغوية ،ويبرر التفاعالت ويسوغ ّ
ّ الخطابية في كال المنجزين،
الخطابية بين الفاعلين المشاركين في الحدث .وبناء على ما سبق يمكن للبحث أن يتناول أهم الظواهر
المتعلقة بالممارستين النصية والخطابية عبر الوقوف على اآلتي:
.2.1تيمة الموضوع وأدوار فاعلي الخطاب :جاء الخطاب السياسي القائم في كتلتين لغويتين ،وردتا
نصيا كثي ًفا بينهما، ً
تفاعل ًّ في قالب خطبتين ،األولى ألبي العباس ،والثانية لعمه داود ،وقد رصدت الدراسة
فما الخطبة الثانية إال استجابة واضحة ،قوية لألولى .فهما تتمحوران حول هدف ظاهر واحد يتمثل في
أحقية آل البيت بتولي الخالفة ،وقد تالحقت أدوار متكلمي الخطاب بغية تحقيق هذا الهدف ،فجاءت
وتفصل ما أجمل فيها إمعانًا في ترسيخ المعاني في أذهان ّ الخطبة األخيرة لتدعم ما ورد في األولى،
141 اخلطاابت العنرصية :قراءات نقدية
تفردت باستحضار ما يشبه المهاد التاريخي لتولي السلطة منذ المتلقين ،مع األخذ بعين النظر أن األولى قد ّ
عهد الرسول صلى الله عليه وسلم حتى ساعة إلقاء الخطاب ،واضعة إياه نصب عيني المتلقي بغية تدعيم
أحقية آل البيت بالسلطة ،وعلى الرغم من أن سالسل الملفوظات المتتابعة في مساحة الخطاب عامة
تنهض بهذه الوظيفة التي تتغيا تحقيق هذا الهدف المنشود إال أن التبصر في مجريات األحداث ،ومحاولة
الفهم االجتماعي لمتكلمي الخطاب يبرز أهدا ًفا أخرى ال تقل أهمية عن هذا الهدف الظاهر ،تختبئ خلفه،
وتدفعه إلى سطح الخطاب « ،فالموضوع الخطابي الذي هو إيديولوجي ليس الغرض منه بيان الحقيقة.
الكلية .أما الحقيقة – من المنظور الخطابي -فهي نفعية وجزئية َّ فالحقيقة هذه نتاج علمي تؤديه الرؤية
وفئوية ،تخرج بطبعها عن النطاق الموضوعي ويعبر عنها في إطار هذا البعد النفعي الجزئي« ،ويمكن
حصرا ،وليس أي شخص آخر من آل ً إجمال هذه األهداف في أمرين اثنين ،األول :تولية أبي العباس
البيت ،وتمكينه من السلطة المطلقة .ولعل هذا الهدف هو ما جعل أدوار المتكلمين تتالحق بعيدة عن فتح
باب الحوار مع متلقي الخطاب ،وس َل َبهم حق االختيار ،وأسرهم بجملة من المقومات ليرووا العالم من
مضم ًنا في الخطاب ،وهو أن تنصيب أبي ّ أمرا وقول ً
وفعل ،كما أن هذا التالحق يؤكد ً ً خالل الخطيب هيأة
قطعا قبل إلقاء هذا الخطاب ،وبرهان ذلك تلقيب عمه داود له بأمير المؤمنين .فـ « العباس أمر قد ُّب َّت فيه ً
ليس من قول في السياسة إال خلفه فعل سياسي « .والثاني :نعت المروانيين بالظلم ،وسلب السلطة من آل
البيت؛ لتأجيج الناس ،فينقضوا عليهم أينما ثقفوهم .فاألمر ليس مسألة انتقال سلطة فحسب ،بل إنه يعدو
ذلك إلى تصفية حسابات خلفتها نزاعات شتى .وهذا ما تؤكده محاوالت العباسيين بعد ذلك لمالحقتهم
وقتلهم حتى بعد ابتعادهم عن السلطة .وهذا ال يعني إلغاء دور متلقي الخطاب أو التقليل من شأنه ،فلئن كان
تشكل الخطاب ،وانتخاب لبناته التي تطرح أفكارهما ،وتعبر عن رؤيتهما، لمنش َئي الخطاب أثر فعال في ّ ِ
المتمرس
ّ فإن للمتلقين ما يوازي هذا األثر ،أو ربما يفوقه في بعض الخطابات ،وليس منشئ الخطاب
بغافل عن ذلك ،إذ إنه يضع الجمهور نصب عينيه ،فـ« سلطة الجمهور تشتغل عند تأليف الخطابات وفي
أثناء إلقائها أو توزيعها ،وساعة تلقيها ،فمنشئ الخطاب يستحضر معتقدات الجمهور المستهدف وبنيته
اإلدراكية « فيجتهد في انتقاء المفردات ،واختيار التراكيب ،وحشد الحجج وغير ذلك بما يتالءم مع طبيعة
يمكن في الوقت نفسه من السيطرة عليه ،وتحقيق الجمهور التي تتحكم في توجيه الخطاب؛ وهذا ما ّ
االستجابات التي يرومها المنشئ منه ،ولم يأل أبو العباس وعمه جهدً ا في ذلك ،فحرصا عامة على مراعاة
تأس ًيا بأولي النفوذ قبلهم ،سواء أكانوا من رجال الدين أم السياسة أم كليهما ،إذ إن
شروط الخطبة المتداولة ّ
هذا يضمن شرعنة الخطاب ،وإضفاء الوجاهة والحزم عليه ،فاستفتحا خطبتاهما بحمد الله تعالى ،واستندا
وتحملت الثانية بالتناص
ّ فتشبعت الخطبة األولى بالشواهد القرآنية،
إلى الموروث الديني في المحاججةَّ ،
مع القرآن الكريم -سيأتي الحديث عن ذلك الحقًا -فتغ َّلف الخطاب السياسي بالخطاب الدينيَّ ،
وتلبس
فيه للهيمنة على الجمهور ،والتحكم في عقله ،إلعادة إنتاج الهيمنة ،والسيما أن ذلك يتوافق مع معتقداته،
فليس أقوى من االرتكاز على العقيدة ،واستغاللها لسلب الفاعلية ،وتحقيق األهداف المنشودة.
.2.2األدوات المدرجة في إنتاج تمثيالت الذات واآلخرين :حفل الخطاب القائم بتقنيات غزيرة أدت
وظيفة مهمة جدً ا تتجلى في تمثيل ذات منش َئي الخطاب ومن يحذو حذوهما من جهة ،ومن جهة ثانية
خطابات 142
تجسيد الطرف اآلخر ،ومن أبرز هذه التقنيات المفردات والتعابير ،واألفعال ،والضمائر ،وقد جاءت هذه
معا ،ويتطلب البحث العلمي الصارم تفكيكها للوقوف على اشتغاالت كل منها على التقنيات متضافرة ً
حدة في الخطاب ،ويمكن ذلك عبر النقاط اآلتية:
.2.2.1التكثيف االنفعالي بالمفردات والتعابير :ارتكز أبو العباس وعمه على المعجم اللغوي؛
بغية تحقيق أغراضهم ،وعلى رأسها :تثبيت أحقيتهم بالخالفة ،واالجتهاد في تقسيم الناس إلى فريقين
متباينين ،فريق آل البيت ومواليه الذي يتزعمه أبو العباس ،وفريق األمويين ومواليهم الذي يتزعمه مروان،
وقد توسال إلى ذلك عبر مجموعة من المفردات والتعابير التي حملت طاقات معنوية هائلة تتراوح ما بين
فعال في هذه القسمة ،ويمكن إجمال أهم هذه المفردات والتعابيراإليجابية والسلبية ،فأسهمت إسها ًما ً
في ثالثة أقسام:
.2.2.1.1المفردات والتعابير ذات الداللة الدينية :استند منشئا الخطاب إلى الحقل المعجمي
الديني ،فوردت مفردات وتعابير لصيقة بالدين اإلسالمي ،ويمكن توضيح أبرزها في الجدولين األول
والثاني اآلتيين:
الكتلة اللغوية األولى
رحم رسول
الخالفة السبئية عز ًّ
وجل الله ّ كتا ًبا يتلى التقوى اإلسالم الحمد لله
الله
أمرهم سرر هدى
أهل البيت أخراهم الباطل جهالتهم ضاللتهم
شورى متقابلين
العاجلة سرية رسول كتاب اهلل صدقاتكم أهل بيت احلق نبينا احلمد هلل
اهلل نبيكم
املعايص األوزار العباد املحارم اآلثام الدار الباقية الدار الفانية اآلجلة
كالم اجلمعة عدو الرمحن الصالة املنرب املؤمنني ضالله باطله عدو اهلل
((( فنيخرة ،حنان محمد ضياء الدين .االتساق النصي من خالل التكرار في شعر لطفي عبد اللطيف (ديوان قليل من التعري
أنموذجا) ،المجلة العلمية لكلية التربية جامعة مصراتة ،ليبيا ،2019 ،مج ،1.ع ،14 .ص 77
((( العبد ،محمد .النص والخطاب واالتصال ،األكاديمية الحديثة للكتاب الجامعي ،مصر ،2014 ،ص191.
145 اخلطاابت العنرصية :قراءات نقدية
الطرف الثاني المقابل للذات األفعال المسندة إلى الذات
األفعال المسندة إلى االله تعالى
المنشئة وطرفها المنشئة وطرفها
• وثب بنو حرب ومروان • أرجو • نرصهم اص َط َفى ْ ِ
ال ْس َل َم • ْ
• ابتزوها • زدتكم يف أعطياتكم • أنقذهم • كرمه
• تداولوها • أظهر بنا احلق • رشفه
• جاروا فيها • أدحض بنا الباطل • عظمه
• استأثروا فيها • أصلح بنا ما كان فاسدً ا • اختاره لنا
• ظلموا أهلها • رفع بنا اخلسيسة • أيده بنا
• آسفوه (وردت مرتني) أتم النقيصة • ً • َج َع َلنَا َأ ْه َل ُه
• َج ََع ا ْل ِف ْر َق َة • َأ ْلزَ َمنَا ك َِل َم َة ال َّت ْق َوى
• فتح اهلل ذلك • جعلنا أحق هبا
• قبضه اهلل رح ِم َر ُسول اهلل • َخصنَا بِ ِ
َّ
• َأ ْم َل اللَُّ َل ُ ْم ِحينًا • اشتقنا
• ا ْن َت َق َم ِمن ُْه ْم بِ َأ ْي ِدينَا • وضعنا
• َر َّد َع َل ْينَا َح َّقنَا • أنزل كتا ًبا
• تَدَ َار َك بِنَا ُأ َّم َتنَا • قال (وردت 4مرات)
• ويل نرصنا • أعلمهم فضلنا
• يم ّن بنا ب عليهم َح َّقنَا • َأ ْو َج َ
• َخت ََم بِنَا يم ِة • َأجزَ َل ِمن ا ْل َفي ِء وا ْلغَنِ
َ َ ْ َ ْ
• ا ْف َتت ََح بِنَا ن َِصي َبنَا
• بِنَا َهدَ ى اللَُّ النَّاس
كثيرا على
فعل ،وقد اتكأ الخطاب ً • تشبع الخطاب باألفعال المسندة إلى الله تعالى حيث ورد (ً )48
األفعال المتعدية المسندة إلى الذات اإللهية ،حيث تزاحمت هذه األفعال في الكتلة األولى ،فوردت
( )37مرة من أصل ( ،)39ولم تخل منها الكتلة اللغوية الثانية إذ وردت تسع مرات « .ومن المعلوم أن
التعدية تقر للفاعل القدرة واالستطاعة والوصول((( « فكيف والفاعل هو الله تعالى الذي بيده مقاليد
كل شيء ،وهو السلطة العليا ،فتطاع أوامره ،وتتجنب معاصيه بحسب المرجعية الدينية للفاعلين في
منش َئي الخطاب قد برعا في استثمار هذا األمر ،فالتعدية « أداة تعطي للمتحدثالخطاب .ويبدو أن ِ
اختيارات توافق رؤيته وإيدولوجيته التي يريد عكسها في خطبته((( « فيلحظ أن معظم هذه األفعال
قد حملت دالالت إيجابية تسربت إلى معموالتها التي تمثلها الذات المنشئة ومجموعتها -أو ما
يتعلق بها -فأضفت عليها تشري ًفا من ناحية ،وأعطتها شرعية من ناحية أخرى؛ مما يضمن تسليم
الجمهور لهم ،ويحقق نجاح هدفهم في أحقيتهم بتولي الخالفة ومحاربة األمويين ،بل إن الجمهور
سيهرع إلى مباركة هذا األمر ،والعمل على تنفيذه ،فهو مشيئة الله تعالى في األرض .فأبو العباس
وعمه يحاوالن عبر التوظيف الموارب للغة أن يقنعا الجمهور بأنهما ينفذان ما أمر به الله تعالى،
وينفيان ما تمليه المصالح السياسية أو الرغبات الشخصية.
• وردت بعض األفعال المسندة إلى الذات اإللهية التي تحمل دالالت ترهيب ،ويمكن حصرها في
ثالثة أفعال ،فعلين متعديين ،وهما :أهلك عدونا ،وأبالنا .وثالث الزم ،وهو انتقم منه .ويلحظ أن
الفعل األول انصب على بني أمية ،كما أن الفعل الالزم قد تعدى بوساطة حرف الجر إلى بني أمية
كذلك ،مما يسهم في تعميق الفجوة بين الطرفين ،ويجعل من بني أمية أعداء لله البد من إزاحتهم
ومحاربتهم .أما أبالنا فعلى الرغم من أن ظاهر داللته سلبية إال أن السياق الذي جاء فيه ،أخرجه
إلى اإليجاب إذ جاء في معرض تحمل المسؤولية والنهوض بما كلفهم به الله تعالى .ويؤكد ذلك
الفعل الذي لحقه «أوالنا».
• ما يلفت النظر في الجدول السابق أن الكتلة اللغوية األولى كادت تخلو من األفعال المسندة إلى
الذات المنشئة وجماعتها ،فلم يرد إال فعالن اثنان مسندان إلى أبي العباس في نهايتها وهما« :
كبيرا في الداللة؛ إذ يثبتان السلطة ألبي
ثقل ًأرجو» و«زدتكم» ،وعلى الرغم من تفردهما إال أن لهما ً
طيبا للجمهور، ً
مستقبل ً ً
ممسكا بزمام األمور ،ينشد العباس ،ويضعانه في رأس الهرم القيادي فيظهر
ويغدق عليهم كيف يشاء .أما الكتلة الثانية فقد تكثفت فيها األفعال المسندة إلى الذات المنشئة
فعل ما بين أفعال مثبتة ومنفية ،ولعل في هذا ما يحقق التوازن مع الكتلة وجماعتها فورد (ً )14
اللغوية األولى التي حشدت فيها األفعال المسندة إلى الذات اإللهية ،ومن جهة ثانية يحقق دالالت
((( التحليل النقدي للخطبة السياسية من الفعل الخطابي إلى فعل االستجابة( ،مرجع سابق) ص.114
((( بكار ،سعيد .الخطاب السياسي ألوباما في ضوء التحليل النقدي للخطاب ،ضمن كتاب (قراءات في الخطاب السياسي)،
إعداد :محمد خطابي ولحسن بوتكالي ،منشورات كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية ،جامعة ابن زهر ،المغرب،2016 ،
ص477 .
147 اخلطاابت العنرصية :قراءات نقدية
عميقة جدً ا ،لها وقعها البالغ في نفس الجمهور ،فبعد أن ضغط عليه المنشئ األول بوساطة اإلرادة
اإللهية التي يسعى إلى تطبيقها ،وخلص إلى إظهار ذاته وحده وفرض سطوتها في نهاية الكتلة ،جاء
المنشئ الثاني لينقل مسار األفعال من الذات اإللهية إلى الذات اإلنسانية ،فيبرر سبب خروجهم على
بني أمية ،ويوضح كيفية إدارتهم لزمام األمور ،وأحقيتهم بالسلطة طوال الحياة ،وفي ذلك تمثيل ّبين
لهم ،له أثر بالغ في تضخيم وجودهم في نفس الجمهور ،وإبراز دورهم القيادي ،وقدرتهم على
تولي الخالفة .كما اجتهد في تقديم صورة دينية مثالية ألبي العباس ،عندما برر عودته إلى المنبر بعد
وجها آخر يتجلى فيلكن لهذا الفعل ً
الصالة بحرصه على عدم الخلط بين خطبة الجمعة وخطبتهَّ ،
حرص أبي العباس على إفراد كالمه وإسبال الخصوصية عليه للفت النظر إليه وحده.
• جاءت األفعال المسندة إلى الطرف الثاني في مجملها ذات إيحاءات سلبية تظهر الطرف اآلخر
وجماعته أمام الجمهور بصورة بشعة ،وقد انتشرت هذه األفعال في الكتلتين غير أن عددها في
الكتلة الثانية جاوز ضعف األولى حيث ورد ( )17مرة في حين ورد في األولى ثماني مرات؛ رغبة
في التفصيل والتوكيد ورسم التمثيالت السلبية لألمويين؛ مما يعزز الهوة بين الفريقين ،ويفرض
على الجمهور أن يكونوا في صف العباسيين لمواجهة األمويين .فـعمليات التمثيل تزداد أهميتها
في خطابات االشتباكات بناء على الهوية الفردية أو الجمعية ،لهذا حرص منشئا الخطاب على
تجسيد تمثيالت إيجابية للذات أو للجماعة في مقابل الطرف اآلخر الذي أسند إليه التمثيالت
السلبية ،رغبة في االستيالء على السلطة واالستئثار بممارستها ،والتحكم فيها((( .وهنا يتبلور سوء
توظيف سلطة الخطاب وابتعاده عن الشفافية.
.2.2.3ضمائر الحضور المستثمرة في الخطاب:
كامل ،ليحيل .2.2.3.1ضمائر المتكلم :انتشر ضمير جماعة المتكلمين «نا» في سطح الخطاب ً
على آل البيت ومنشئَي الخطاب ،وقد حرص كال المتكلمين على إدراج ذاتهما مع آل البيت ،في محاولة
الستعطاف الجمهور عبر العزف على الوتر الديني ،فاإللحاح الشديد على استحضار السلطة الدينية،
معمول إلى ً واالتكاء عليها يسهل الطريق أمامهم للوصول إلى السلطة ،والسيما أن هذا الضمير قد جاء
يسوغ السعي إلى نيل أفعال مسندة إلى الله تعالى الذي يمثّل السلطة العليا -كما سبقت اإلشارة – مما ّ
السلطة ،غير أن منشئ خطاب الكتلة اللغوية األولى أراد في نهايتها أن يظهر ذاته ،ويعرب عن سياسته،
ل ْر ُج َو َأنْ َل َي ْأتِ َي ُك ُموهذا يفسر اتباعه الستراتيجية تدريجية متصاعدة في ظهور األنا ،حيث قالَ « :وإِنِّي َ َ
ت إِ َّل بِال َّل ِه، الص َل ُحَ ،و َما تَو ِفيقُ َنا َأ ْه َل ا ْلبي ِ
َْ ْ
ِ
ا ْل َج ْو ُر م ْن َح ْي ُث َجا َء ُك ُم ا ْل َخ ْي ُرَ ،و َل ا ْل َف َس ُاد م ْن َح ْي ُث َجا َء ُك ُم َّ
ِ
َيا َأ ْه َل ا ْل ُكو َف ِةَ ،أ ْن ُت ْم َم َح ُّل َم َح َّبتِ َنا َو َم ْن ِز ُل َم َو َّدتِ َناَ ،و َأ ْن ُت ْم َأ ْس َع ُد ال َّن ِ
اس بِ َنا َو َأكْ َر ُم ُه ْم َع َل ْي َناَ ،و َق ْد ِز ْدت ُُك ْم ِفي
اح ا ْل َهائِ ُجَ ،والثَّائِ ُر ا ْل ُمبِ ُير ».فبعد أن كان صوته مضم ًنا مع آل َ َأ ْع ِطياتِ ُكم ِما َئ َة ِدر َهمٍ َ ،ف ِ
اس َتع ُّدواَ ،فأنَا َّ
الس َّف ُ ْ ْ َ ْ
وعبر عن ذاته بياء المتكلم في قوله« :إني» ،وألحق ذلك بالفعل «أرجو» تفردّ ، البيت ،في الضمير «نا»ّ ،
((( إطار مقترح لتحليل الخطاب التراثي تطبي ًقا على خطب حادثة السقيفة( ،مرجع سابق) ص201 -200 .
خطابات 148
الذي يشتمل على ضمير مستتر يعود عليه ،فهنا ظهرت األنا في معرض رجائه أال يأتيهم ظلم أو فساد في
عهد خالفته ،وهذا يشي بأنه اطمأن إلى تس ُّلم الخالفة ،بل ذهب إلى أبعد من ذلك حينما وسم هذا العهد
وصرح قبل
ّ قدم
بالخير والصالح ،وبالوقت ذاته ألمح إلى مغايرته لعهد األمويين الظالم الفاسد بحسب ما ّ
توج هذا االستعطاف حين أنجز ذلك ،وفي هذا ترغيب للجمهور واستمالة له؛ ليبارك تنصيبه خليفة ،وقد ّ
لغويا تمثّل في زيادة أعطيات المتلقين ،ثم عاد إلى تضمين ذاته مع آل البيت معززً ا ذلك باستثماره فعل ًّ ً
ومعول -ومؤكدً ا -من جديد على السلطة اإللهية في استدرار التوفيق عبر أسلوب ً ألسلوب االختصاص،
مراوغا يعمل على توليف ذهن ً الحصر ،فمنشئ النص يحاصر ذهن الجمهور عبر توظيف اللغة توظي ًفا
الجمهور ،بل مضى في مناوراته لجلب الجمهور ،وجعله يذعن لرغبته في تسلم السلطة إلى استعمال ما
عبر عن
يغاير ذلك ،حيث جاء بالتهديد والوعيد ،فهو يناور ما بين الترغيب والترهيب ،وفي مقام الترهيب ّ
صارخا ،إذ أبرز ضمير المتكلم« :أنا» ،وأسند إليه صفات مخيفة تتمثل في «السفاح» و«الهائج» ً تعبيرا
ذاته ً
واحتد ليجلي سلطته ،ويهيمن بها على الجمهور ،و ُيلحظ أن» هناك َّ و«الثائر» و« المبير» ،فاشتد بالخطاب،
طرديا بين حضور السلطة أو درجتها واألنا المضمرة أو المظهرة في الخطاب(((» ،ومن ناحية أخرى ًّ تناسبا
ً
إذا أخذنا الوضع الصحي له آنذاك بعين النظر يمكن أن نعلل هذا التصاعد الحاد في األنا ،بأنه عندما شعر
باشتداد الوعكة الصحية عليه قرر أن يعلن عن ذاته ،لينهي خطابه،وقد وضع حجر األساس لسلطته ،وأسفر
عن موقفه؛ لذلك تسارعت حدة األنا ،وظهرت في معرضين متقابلين يلخصان ُسنته في الحكم .ويمكن
تمثيل هذا التصاعد في ظهور األنا عبر الخطاطة اآلتية:
((( الشهري ،عبد الهادي .استراتيجيات الخطاب :مقاربة لغوية تداولية ،دار الكتاب الجديد المتحدة ،بيروت ،2004 ،ص228 .
149 اخلطاابت العنرصية :قراءات نقدية
االجتماعية لهذا الغرض ،فأطلق عليه لقب أمير المؤمنين من قبل أن يبايعه الجمهور ،وال يخفى ما في
هذه الممارسات اللغوية من هيمنة على الجمهور ،ومصادرة لرأيه ،وسلب لحريته في االختيار .فـ« يجب
على محللي الخطاب أن يكونوا على وعي تام بأن المعتقدات الدينية والقوانين...ومعطى التراتبية ،من
أخطر مداخل التحكم في الخطاب؛ فموقع صاحب الخطاب وذاته القويان يسعفانه في الهيمنة على زمام
الممارسة الخطابية بتنسيق مجرياته ونمطه وأسلوبه وتغيراته ،وحتى نبرة الصوت فيه»(((.
.2.2.3.2ضمائر المخاطب :انحصر مجيء الضمير «أنتم» في نهاية الكتلة اللغوية األولى حيث ورد
اس «أ ْن ُت ْم َم َح ُّل َم َح َّبتِ َنا َو َم ْن ِز ُل َم َو َّدتِ َناَ ،و َأ ْن ُت ْم َأ ْس َع ُد ال َّن ِ في معرض االستعطاف في موضعين متالحقين ،فقالَ :
مهما تداوليا ً ًّ وظفه ليحقق بعدً ا بِ َنا» ،ولم يرد المتكلم من وراء هذا الضمير اإلحالة على المرجع فقط ،وإنما ّ
يتجسد في التقرب من الجمهور ،وإشعاره بأن الخطاب يرتكز عليه ،فقد عمد إلى التوجه إلى الجمهور
وإبرازه عبر «أنتم» قبل أن يبرز ذاته في محاولة الستمالته ،وجعله يستنبط اهتمامه به؛ مما يضفي على
الخطاب الصدق واإلخالص ،فباالتكاء على االستراتيجية التضامنية ،يكون قد تودد إلى الجمهور؛ ليكفل
المردود اإليجابي على سير العالقة ،وبالتالي يضمن النتائج المتوقعة على خطابه ذاته((( .كما رصدت
«وإِنِّي تكدست في آخر الكتلة األولى ،إذ قالَ : الدراسة استبداله الضمير «أنتم» بـ«كم» في خمسة مواضع َّ
ِ ِ ِ ََ
...و َق ْد ِز ْدت ُُك ْم الص َل ُح َ ل ْر ُج َو َأنْ َل َي ْأت َي ُك ُم ا ْل َج ْو ُر م ْن َح ْي ُث َجا َء ُك ُم ا ْل َخ ْي ُرَ ،و َل ا ْل َف َس ُاد م ْن َح ْي ُث َجا َء ُك ُم َّ
تصاعديا ،حيث ًّ ِفي َأ ْع ِط َياتِ ُك ْم ِما َئ َة ِد ْر َهمٍ » ،وقد جاءت كلها في موضع الرجاء واالستمالة ،وبدا هذا األمر
راجيا ثم استمالهم عبر الضمير «أنتم» السابق ،وبعد ذلك عاد إلى الضمير «كم» توجه إلى الجمهور بالبداية ً
في معرض االستمالة ولكن هذه المرة جاءت مادية .وبذلك يتضافر الرجاء مع االستمالة مادية ومعنوية
بغية إغواء الجمهور ،وجعله يذعن لمراده.
«و َر َج َع أما الكتلة الثانية فقد عمد منشئها إلى مراكمة الضمير «كم» في الثلث األول منها ،حيث قالَ :
وء ِس َير ِة َبنِي ُأ َم َّي َة ...ولِس ِ ِ ِ ت َنبِي ُكمَ ،أ ِه ِل ْ ِ ا ْل َح ُّق إلى نِ َصابِ ِه ِفي َأ ْه ِل َبي ِ
الر ْح َمة بِ ُك ْم َوا ْل َع ْطف َع َل ْي ُك ْم َ ُ الرأ َفة َو ََّّ ِّ ْ ْ
اس أنَْ َار ُه ْم بِ َف ْيئِ ُك ْم َو َصدَ َقاتِ ُك ْمَ ،ف َل ُك ْم َع َل ْي َنا ِذ َّم ُة ال َّل ِه َو ِذ َّم ُة َر ُسولِ ِه َو ِذ َّم ُة ا ْل َع َّب ِ
ْ ُ
يكمَ ،واستِ ْذ َل ُل ُهم َل ُكمَ ،واست ْئثِ
ْ ْ ْ ف ُ ْ
ِ
ول ال َّل ِه َص َّلى ال َّل ُه اص ِة بِ ِسير ِة َر ُس ِ
َ
ِ ِ ِ ِ
اب ال َّلهَ ،ونَس َير في ا ْل َع َّامة م ْن ُك ْم َوا ْل َخ َّ
يكم بِما َأن َْز َل ال َّل ُهَ ،ونَعم َل بِ ِك َت ِ ِ
ْ َ
ِ
ن َْح ُك َم ف ُ ْ َ
كامل؛ ليضعه في قلب الحدث ،وليشعره توجها ً ً عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» فورد عشر مرات حيث توجه إلى الجمهور
ويسهل من عملية توجيهه ّ أنه هو المعني في األمر ،وهذا ما يجعله ينجذب أكثر إلى الخطاب ويهتم به،
عزز ذلك بارتكازه كيفما يريد منشئ الخطاب ،فيسلب منه إرادته ،ويتمكن من السيطرة على ذهنه ،وقد ّ
تعهد بأن حكمهم سيكون بحسب الشريعة اإلسالمية ،وبهذا يضمن أن الجمهور على السلطة الدينية حينما ّ
أصبح أداة طيعة بين يديه ،تعمل على تحقيق مآربه .كما عاد إلى استثمار هذا الضمير في الثلث األخير،
وعلى الرغم من أنه أورده مرتين فقط ،إال أن هاتين المرتين جاءتا في سياقين مهمين جدً ا ،أوالهما عندما
ين َأفْس ُدوا ِفي ْ َ ِ ِ ِ ِ الر ْح َم ِنَ ،و َخ ِلي َف ِة َّ قالَ »:ف َق ْد َأ ْبدَ َل ُك ُم ال َّل ُه بِ َم ْر َو َ
ض َب ْعدَ ال ْر ِ لس َف َلة ا َّلذ َ َ الش ْي َطان ،ا ْل ُم َّتبِعِ ل َّ ان َع ُد ِّو َّ
((( يطاوي ،محمد .دائرة الخطاب ودائرة السلطة ،مجلة الجديدhttps: //aljadeedmagazine.com ،2019 ،
((( استراتيجيات الخطاب :مقاربة لغوية تداولية( ،مرجع سابق) ،ص290-289.
خطابات 150
ال ْخ َيا ِرّ « . البرا ِر ْ َ ِِ َْ ِ َص َل ِح َهاَّ ،
تم من عند الله فوظفه ليظهر أن هذا األمر قد َّ اب ا ْل ُم َت َك ِّه َل ،ا ْل ُم ْق َتدي بِ َس َلفه ْ َ الش َّ
معمول للفعل «أبدل» المسند إلى الله سبحانه وتعالى ،وهذا ما يجعلهم ً تعالى ،حيث جعل الضمير «كم»
يسلمون باألمر من غير نقاش ،وإمعانًا في السيطرة على رأي الجمهور نعت مروان بعدو الرحمن وخليفة
الشيطان؛ ليزيد من تنفيره له ،وأردف بمقارنة سافرة مع أبي العباس حيث جعلهما على طرفي نقيض مما
«و ْاع َل ُموا َيا َأ ْه َل ا ْل ُكو َف ِة َأن َُّه َل ْم َي ْص َع ْد
يقود الجمهور إلى التسليم بأطروحته .أما الموضع الثاني فعندما قالَ :
ينب َو َأ ِم ُير ا ْل ُم ْؤ ِمنِ َين َع ِل ُّي ْب ُن َأبِي َطالِ ٍ ول ال َّل ِه َص َّلى ال َّل ُه َع َل ْي ِه َو َس َّل َم إِ َّل َأ ِم ُير ا ْل ُم ْؤ ِمنِ َ
ِم ْنبر ُكم َه َذا َخ ِلي َف ٌة َب ْعدَ َر ُس ِ
ََ ْ
عزز فيه ما جاء في بداية هذه الكتلة من إشراك الجمهور في الحدث عبر َ ٍ
َع ْب ُد الله ْب ُن ُم َح َّمد َهذا ».حيث ّ ِ َّ
مهما جدً ا في توجيه مجريات األحداث ،إذ يضع الجمهور في موضع تمليكه المنبر ،وهذا يحمل معنى ً
المسؤولية ،ويوقع على كاهله مهمة تحقيق إرادة الله تعالى في نزع السلطة من األمويين ،وتسليمها إلى
أبي العباس الذي سينصفهم ،ويعيد األمور إلى نصابها ،بحسب ما أورده منشئا الخطاب ،ووظفا األدوات
اللغوية وغير اللغوية لتحقيقه.
.2.3األفعال اإلنجازية :تُعد األفعال اإلنجازية من الوسائط المهمة التي يتوسل بها المتكلم إلى تحقيق
كثيرا منها يستلزم معاني متضمنة بحسب ما يمليه الحدث الخطابي تكشف عن نوايا مقاصده ،وال يخفى أن ً
المتكلم في تحقيق أغراضه((( .وبعد رصد هذه األفعال في الكتلتين يمكن تقسيمها إلى قسمين رئيسن:
.2.3.1األفعال اإلخبارية ،تظهر معاينة الخطاب القائم أن األفعال اإلخبارية قد سيطرت عليه ،شأنه
شأن كثير من الخطابات السياسية((( ،و ُيلحظ أن الحمولة الداللية في غالبيتها تتكون من قوتين :قوة إنجازية
مباشرة ،وقوة إنجازية غير مباشرة تستلزم معنى معي ًنا ،ويمكن توضيح ذلك في النقاط اآلتية:
.2.3.1.1أفعال إخبارية مباشرة يكمن غرضها اإلنجازي في التنويه على مزايا آل البيت ،وترجمة
اعتقاد منش َئي الخطاب أحقية آل البيت ممثلة في شخص أبي العباس في تسلم السلطة ،من هذه األفعال،
«خصنا بِ َر ِحمِ رسول ال َّل ِه َص َّلى ال َّل ُه َع َل ْي ِه َو َس َّل َم َو َق َرا َبتِ ِه» ،و«اشتقنا من
َّ قول أبي العباس في الكتلة األولى:
اس َب ْعدَ َض َل َلتِ ِهم» ،و«أظهر بنا الحق» .وقول عم أبي العباس في الكتلة الثانية: نبعته» ،و«بِ َنا َهدَ ى ال َّل ُه ال َّن َ
ت َنبِ ِّي ُكم أهل الرأفة والرحمة بكم والعطف عليكم» وقوله« :أبدلكم الله «و َر َج َع ا ْل َح ُّق إلى نِ َصابِ ِه ِفي َأ ْه ِل َبي ِ
َ
ْ
بمروان...الشاب المتكهل المقتدي بسلفه األبرار األخيار» ،يلحظ أن هذه األفعال قد حملت إلى جانب
قوتها اإلنجازية المباشرة قو ًة إنجازية غير مباشرة تندرج تحت األفعال التعبيرية تستلزم معنى الثناء على آل
فعالة تعمل على تحضير ذهنه لتقبل البيت .ولهذا الثناء بعد حجاجي يتغيا استمالة الجمهور؛ إذ إنه وسيلة ّ
بدل من األمويين. وتمهد لمساندته في تولي السلطة ً األطروحة التي تناوب على عرضها أبو العباس وعمهّ ،
ويمكن توضيح ذلك في الخطاطة اآلتية:
((( للتوسع في ذلك ينظر جلولي ،العيد .نظرية الحدث الكالمي من أوستين إلى سيرل ،مجلة األثر ،العدد 12ص 59 -58
https: //dspace.univ-ouargla.dz/jspui/bitstream/123456789/6186/1/02.pdf
((( بوقرة ،نعمان .نحو نظرية لسانية عربية لألفعال الكالمية .مجلة اللغة واألدب ،جامعة الجزائر ،ع ،17،2006.ص197.
151 اخلطاابت العنرصية :قراءات نقدية
.2.3.1.2أفعال إخبارية مباشرة تحمل قوة حرفية يتجلى غرضها اإلنجازي في ذكر مثالب األمويين،
ووصف سيرة حكمهم بالفساد بحسب ما يعتقده منشئا الخطاب ،من ذلك ما جاء في الكتلة اللغوية
اس َت ْأ َث ُروا بِ َهاَ ،و َظ َل ُموا َأ ْه َل َها» ،وما جاء في الكتلة اللغوية ِ وها َوتَدَ َاو ُل َ
وهاَ ،ف َج ُاروا ف َيهاَ ،و ْ األولى ،نحوَ « :ف ْاب َت ُّز َ
الثانية ،نحو »:فركبوا اآلثام وظلموا األنام ،وارتكبوا المحارم ،وغشوا الجرائم ،وجاروا في سيرتهم في
العباد» ،ويبدو أن هذه األفعال تعكس قوة إنجازية غير مباشرة تندرج تحت األفعال التعبيرية ،إذ يتوخى
منشئا الخطاب بوساطتها ذم األمويين؛ ليخلصا من وراء ذلك إلى تحريض الجمهور على الخروج عليهم،
وتحفيزهم على التطلع إلى نزع السلطة منهم ،وإيالئها إلى من ينصفهم .ولم يدخرا منذ بداية كلتا الكتلتين
فمهدا للبديل المتمثل في آل البيت ،وأكدا شرعيتهم في اللغويتين جهدً ا في الوصول إلى هذا الهدفَّ ،
ً
محنكا ذلك ،في محاولة ذكية لتهيئة الجمهور ،وتوجيه ذهنه لتقبل األطروحة ،فجاء توظيف اللغة توظي ًفا
موار ًبا يكفل التحكم بالجمهور عبر استثارته لنزع الحكم من األمويين وإعادته إلى آل البيت .ويمكن
توضيح ذلك في الخطاطة اآلتية:
خطابات 152
.2.3.1.3أفعال إخبارية مباشرة تحمل قوة إنجازية حرفية تنبئ عن مكانة الجمهور عند منشئ
وحظوته عنده ،ويتجلى ذلك في قول أبي العباس « :أنتم محل محبتنا ،ومنزل مودتنا وأنتم أسعدالخطابُ ،
الناس بنا ،وأكرمهم علينا» ،ويظهر أن هذا الفعل ذو طاقة إنجازية كثيفة ،فباإلضافة إلى القوة اإلنجازية
المباشرة يحمل قوى إنجازية غير مباشرة ،فالقوة األولى تستلزم معنى االستمالة؛ إذ إن منشئ الخطاب
يسعى في نهايته إلى التلويح بالسعادة التي سيحظى بها الجمهور حال تسلمه للسلطة .وال يقف األمر
عند هذا الحد ،بل يشتم منه قوة إنجازية أخرى تندرج تحت األفعال اإللزامية فهو يقطع على نفسه عهدً ا
غير مباشر للجمهور بإسعاده وإكرامه ،وال يخفى ما في هذا من محاولة خفية أخرى لتقليبه على األمويين
الذين -بحسب قوله -ظلموا الجمهور وجاروا في حكمه ،فيظهر في أحشاء هذا الفعل فعل توجيهي
ينبض بالتحريض على بني أمية؛ لنزع السلطة منهم .ويمكن توضيح ذلك في الخطاطة اآلتية:
تصور منشئ الخطاب وتصفه ،غير أنها تحمل قوة إنجازية غير ّ .2.3.1.4أفعال إخبارية مباشرة
مباشرة تستلزم تخويف الجمهور ،وتهديد كل من يشق عصا الطاعة ،ويتمثل ذلك في قول أبي العباس:
اح ا ْل َهائِ ُجَ ،والثَّائِ ُر ا ْل ُمبِ ُير» حيث أجاد في اإلخبار عن ذاته وتصويرها عبر التنقل بين المشتقات َ
« َفأنَا َّ
الس َّف ُ
الوصفية التي أسهمت في إفراز الفعل التوجيهي غير المباشر الذي يستلزم معنى التهديد .ويمكن توضيح
ذلك في الخطاطة اآلتية:
153 اخلطاابت العنرصية :قراءات نقدية
يظهر مما سبق أن األفعال اإلخبارية قد أدت أمانتها في تحقيق أغراض الخطاب ،فكشفت عن نية
منش َئي الخطاب من وراء تشكالتها في نسيجه ،وخدمت مقاصدهما .وتجدر المالحظة إلى أن الكتلة
ترسخ لذات أبي العباس ،وتكشف عن سياسته القادمة اللغوية األولى قد تفردت باألفعال اإلنجازية التي ّ
في الحكم المتأرجحة ما بين الترغيب والترهيب كما اتضح في القسميين األخيرين السالفين.
تشبع الخطاب باألفعال اإلخبارية ال يعني أنه قد خال من األفعال .2.3.2األفعال غير اإلخبارية ،إن ّ
األخرى؛ إذ وردت في الكتلتين اللغويتين األولى والثانية بعض األفعال التعبيرية التي يستدعيها بناء الخطبة
نحو «الحمد لله» في بدايتهما وفي آخر الثانية منهما ،وقد ألحق المتكلم في الكتلة الثانية «الحمد لله»
وإخالصا لغايته في توكيد كل ما جاء في الكتلة ً األولى بالشكر ثالث مرات إمعانًا في الثناء على الله تعالى،
األولى .كما وردت بعض األفعال التوجيهية التي تحمل قوة إنحازية مباشرة تتمثل في االستفهام نحو قول
ِ
اس؟» وجلي أن هذا الفعل التوجيهي ال ُيراد منه االستفهام ،وإنما الغاية منه أبي العباس« :بِ َم؟ َول َم َأ ُّي َها ال َّن ُ
جذب انتباه الجمهور ،وتنشيط عقولهم ليشاطروه رؤيته ،فينقلبوا على كل من يتولى الخالفة من غير آل
البيت ،فالتحريض هو الفعل التوجيهي غير المباشر المراد من االستفهام .كذا ورد الفعل االستفهامي في
الكتلة اللغوية الثانية حين قال عم أبي العباس « :أظن عدو الله أن لن نقدر عليه؟ « ،ويستلزم هذا الفعل
معاني عدة تتمثل في تقزيم حجم مروان واالستهزاء بقوته ،وإظهار قدرة العباسيين وتعظيم قوتهم .ومن
األفعال التوجيهية التي حملت قوة إنجازية مباشرة تتجسد في الرجاء قول أبي العباس « :وإني ألرجو أال
يأتيكم الجور من حيث جاءكم الخير ،وال الفساد من حيث جاءكم الصالح» ،فيستلزم هذا الفعل معنى
المديح لعهده ،والتلويح بفساد عهد األمويين ،كما يمكن أن ُيستشف منه فعل إلزامي غير مباشر يتمثل
صالحا .وقد جاء الفعل اإللزامي المباشر على لسان أبي العباس ً عادلً في إلزام نفسه بأن يكون عهده
فعل إعالني غير مباشر يتمثل حين قال« :وقد زدتكم في أعطياتكم مائة درهم» ،و ُيلمح من هذا الفعل ٌ
متنفذا له كلمته على الجمهور حتى قبل مبايعتهم له ،فهو من يملك ً حاكما
ً في تنصيب أبي العباس نفسه
صرح عم أبي العباس بفعل إلزامي مباشر حين قالَ « :ف َل ُك ْم َع َل ْي َنا ِذ َّم ُة حق المنح والعطاء والتكرم .كذلك َّ َّ
اب ال َّل ِهَ ،ون َِس َير ِفي ا ْل َع َّام ِة ِم ْن ُك ْم
يك ْم بِ َما َأن َْز َل ال َّل ُهَ ،ون َْع َم َل بِ ِك َت ِ
اس َأنْ ن َْح ُك َم ِف ُ ال َّل ِه َو ِذ َّم ُة َر ُسولِ ِه َو ِذ َّم ُة ا ْل َع َّب ِ
ول ال َّل ِه َص َّلى ال َّل ُه َع َل ْي ِه َو َس َّل َم» .وهذا الفعل يؤكد ما جاء من فعل إلزامي غير مباشر في اص ِة بِ ِسير ِة َر ُس ِ
َ َوا ْل َخ َّ
اس بِ َنا َو َأكْ َر ُم ُه ْم َع َل ْي َنا» فهو تبيين وتوضيح لنهج الحكم «وأ ْن ُت ْم َأ ْس َع ُد ال َّن ِ
الكتلة األولى حين قال العباسَ :
الذي سيطبقه أبو العباس على الجمهور من خالل إلزام نفسه بإسعادهم وتكريمهم .وال غرابة ،في ذلك
فالكتلة اللغوية الثانية ما هي إال -كما سلف -صدى لسابقتها وتفصيل لمعانيها.
يتبين مما سبق أن األفعال غير اإلخبارية سواء أكانت تعبيرية أم إلزامية أم توجيهية أم إعالنية قد
معا مع ما تحمله من معان مستلزمة لتأدية غرض الخطاب وخدمة مقاصد المنشئ ،بعيدً ا عن تعاضدت ً
الشفافية والنزاهة.
على أية حال فإن ما يسترعي االنتباه في خاتمة الحديث عن األفعال اإلنجازية أنها قد جاءت متنوعة
متالحقة في نهاية مطاف الكتلة اللغوية األولى في صورة من التماهي مع حالة المتكلم المتصاعدة إثر
خطابات 154
تنامي الحدث الخطابي ،وتفاقم الوعكة الصحية التي اشتدت عليه ،فسارع إلى الرجاء والترغيب وقطع
العهد وإلزام النفس بالعطايا ،وختم بالتهديد والتخويف .أما الكتلة اللغوية الثانية فقد انتشرت في أنحائها
هذه األفعال ،وغاب عنها اإلعالن المباشر والتخويف ،فالمتكلم ال يملك سلطة أبي العباس ،ويعرف
حدود دوره ،فيوظف لغته فيما يخدم غرضه في توطيد أطروحة أبي العباس وتمكينه من استالم السلطة؛
فجاءت األفعال اإلنجازية منتشرة في نسيج الكتلة الثانية لتفي بمقصديتها في ترسيخ المعاني السابقة ،وقد
صحيا يضغط عليه ،وال يجثم على صدره كاهل مسؤولية تولي ًّ عارضا
ً بدا المتكلم أكثر راحة فهو ال يعاني
السلطة وإمساك زمام األمور .وحري بالقول إن هذه األفعال قاطبة قد تضافرت مع بعض لينبثق عنها الفعل
اإلنجازي األكبر المتمثل في إعالن اعتالء السلطة وتسلمِ أبي العباس الخالفة ،واالنقالب على بني أمية.
جليا في الخطاب القائم؛ إذ مزج منشئا الخطاب بين .2.4التضفير الخطابي :يظهر التضفير الخطابي ًّ
(((
الخطابين السياسي والديني إسوة بالسواد األعظم من الخطب السياسية التي جاءت بعد اإلسالم ،فالحاكم
يدعم موقفه السياسي عبر االرتكاز على الموروث له صفة سياسية وأخرى دينية بآن واحد ،ويحاول أن ّ
الديني .وال يخفى ما لتأثير التضفير الخطابي من خطورة في إنتاج معان سلبية تتمثل في منح الحاكم سلطات
التمعن في الخطاب القائم أن أبا العباس وعمه دأبا على ذلك ،حيث يتج ّلى ّ واسعة على رعاياه (((.ويظهر
هذا االرتكاز في بدايتي الكتلتين اللغوتين ،وفي خواتيم الثانية منهما ،وطغيان المفردات والتعابير الدينية،
« ويصل هذا التغلغل إلى حد احتالل النوع؛ أي هيمنة خصائص نوع الخطبة الدينية على نوع الخطبة
السياسية(((» ،وإمعانًا في هذا االستناد إلى الموروث الديني فقد عمد أبو العباس إلى االقتباس المتتالي
من القرآن الكريم في بداية خطابه ،كما انتشرت عالقات التناص معه في جسد الخطاب عامة؛ لتنسج
وجدانيا عند الجمهور يؤدي إلى تغلغل ًّ قبول وشائج تواصلية بين المتكلم والجمهور ،من شأنها أن تخلق ً
فاط ٍ اس َب ْعدَ ا ْل َعدَ َاو ِة َأ ْه َل ت ََع ُ
األطروحة في ذهنه ،والعمل على تحقيقها ،من ذلك قولهَ « :ح َّتى َعا َد ال َّن ُ
ين ِفي ُأ ْخ َر ُاه ْم» حيث يتناص مع قوله تعالى في سورة اه ْمَ ،وإِ ْخ َوانًا َع َلى ُس ُر ٍر ُم َت َقابِ ِل َ اة ِفي ُدن َْي ُ َوبِر َومواس ٍ
ٍّ ُ َ َ
غل إخوانًا على سرر متقابلين(((﴾ .كذلك حفلت الكتلة اللغوية الحجر﴿ :ونزعنا ما في صدورهم من ٍّ
يث،اد َ ونَ ،ف َأصب ُحوا َأ َح ِ
ْ َ س ال َّل ِه َب َياتًا َو ُه ْم نَائِ ُم َ الثانية بالتناص من ذلك قول عم أبي العباسَ « :ف َأت ُ
َاه ْم بِ ْأ ُ
﴿و َكم
ين « ،حيث يتناص مع قوله تعالى في سورتي األعراف وسبأَ : الظالِ ِم َ
َو ُم ِّز ُقوا ُك َّل ُم َم َّز ٍقَ ،ف ُب ْعدً ا لِ ْل َق ْو ِم َّ
ون(((﴾ ﴿ ،فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا وظلموا أنفسهم اها َف َجا َء َها َب ْأ ُس َنا َب َياتًا َأ ْو ُه ْم َقائِ ُل َ ِّمن َق ْر َي ٍة َأ ْه َل ْك َن َ
صبار شكور(((﴾ فجعلناهم أحاديث ومزقناهم كل ممزق إن في ذلك آليات لكل َّ
((( للتوسع في هذا المصطلح ينظر عبد اللطيف ،عماد .تحليل الخطاب السياسي ،ط ،1 .دار كنوز المعرفة ،عمان ،األردن،
،2020/1441ص268-267 .
((( المرجع السابق ،ص283 .
((( المرجع السابق ،ص280 .
((( الحجر47/15 ،
((( األعراف4 /7،
((( سبأ19 / 34 ،
155 اخلطاابت العنرصية :قراءات نقدية
فالتناص من القرآن الكريم ،يحفز ذهن الجمهور على استحضار النص القرآني الكريم الذي يستمد منه
حججا دامغة ،لها أثر بارز
ً ويقدم
أحكامه ،ويسلم بأوامره ونواهيه ،وبذلك يسبغ المشروعية على الخطاب ّ
في توجيه رأي الجمهور ،وجعله يرضخ لألطروحة الماثلة من غير نقاش.
الخاتمة
يمكن حصر أبرز النقاط التي خلص إليها البحث في اآلتي:
-ساعدت العوامل غير اللغوية التي سجلتها كتب األثر على توجيه الخطاب ،والكشف عن العالقة
بين المتفاعلين فيه.
ً
استعمال غير -أثرت العوامل اللغوية في تشكالت الخطاب على مختلف مستوياته ،واس ُتعملت اللغة
نزيه لتحقيق المآرب.
وفصلت إجمالها. -شكلت الخطبة الثانية استجابة ّبينة لألولى ،فدعمت ما ورد فيهاّ ،
-بدت سلطة الجمهور واضحة في تكوين الخطاب وسيرورته وتصاعد وتيرته.
((( ابن عمر ،عبد الرزاق .سلطة اللغة ولغة السلطان .أو في جدلية اللغة والسلطة من خالل المتالزمات اللفظية ،ضمن
كتاب (التحليل النقدي للخطاب ،مفاهيم ومجاالت وتطبيقات) إشراف :محمد يطاوي ،المركز الديمقراطي العربي
للدراسات االستراتيجية والسياسية ،برلين ،ألمانيا ،ط ،2019 ،1 .ص495.
خطابات 156
-أدت المرجعية الدينية للمتفاعلين في الخطاب وظيفة في غاية األهمية في تحقيق مقاصد الخطاب،
وقد بدا المعجم الديني ذا ثقل واضح في الخطاب مما يكفل التأثير في وجدان المتلقين.
-جاءت االطرادات المعجمية لتؤدي وظيفة مهمة في بلورة هدف الخطاب وإسبال الشرعية عليه.
-وردت المفردات المترادفة في الخطاب لتنهض بوظيفة التنامي الداللي ،ولتحقق وظائف مواربة
تتجلى في خلق اليقين لدى المتلقي لسلبه محاولة التشكيك في أطروحة المتكلم.
-تشبع الخطاب باألفعال المسندة إلى الله تعالى ،وأغلب هذه األفعال كانت متعدية ،في محاوالت
سافرة للسيطرة على ذهن الجمهور ،ولنفي ما تمليه المصالح الشخصية أو المطامع السياسية.
-جاءت تمثيالت الذات المتكلمة وجماعتها إيجابية في مقابل الطرف اآلخر الذي جاءت تمثيالته
سلبية ،فبدت الفجوة واسعة بين الطرفين؛ مما كشف عن االستخدام غير النزيه للغة ،وألزم الجمهور
بالوقوف في صف المتكلم.
-جاءت ذات منشئي الخطاب مدرجة مع آل البيت ،لكسب تعاطف الجمهور عبر االتكاء على الخلفية
الدينية ،غير أن منشئ خطاب الكتلة اللغوية األولى حرص في آخرها على إظهار ذاته لإلعراب عن
متبعا استراتيجية تدريجية متصاعدة في ذلك.
سياسته ً
-ورد ضمير المخاطب بغية التقرب من الجمهور ،وجعله محور الحدث ،مما يكفل انجذابه ألطروحة
الخطاب ،وجعله ينافح عنها.
-سيطرت االفعال اإلخبارية على الخطاب وقد تكونت حمولتها الداللية في أغلبها من قوة إنجازية
مباشرة ،وأخرى غير مباشرة تستلزم معاني مختلفة تلبي مقاصد الخطاب.
-تفردت الكتلة اللغوية األولى من الخطاب باألفعال اإلنجازية التي كشفت عن سياسة أبي العباس
المستقبلية ورسخت له.
-تضافرت األفعال اإلنجازية المختلفة مع بعض لينبثق عنها الفعل اإلنجازي األكبر في الخطاب
المتجلي في إعالن االنقالب على األمويين وتسلم أبي العباس السلطة.
-تضمن الخطاب التضفير الخطابي حيث ورد المزج بين الخطابين السياسي والديني.
-وردت عالقات التناص في الخطاب لتفضي إلى إقناع الجمهور بمقاصده وإكسابه المشروعية.
-انبثقت عن الخطاب استجابة من الجمهور خطابية وغير خطابية ،مما أثبت نجاح هذا الخطاب في
تحقيق مراميه.
157 اخلطاابت العنرصية :قراءات نقدية
-فنيخرة ،حنان محمد ضياء الدين .االتساق النصي من خالل التكرار في شعر لطفي عبد اللطيف
(ديوان قليل من التعري أنموذجا) ،المجلة العلمية لكلية التربية ،جامعة مصراتة ،ليبيا،2019 ،
مج ،1.ع ،14 .ص .ص ()89 – 58
-ابن كثير .البداية والنهاية ،ط ،8بيروت ،مكتبة المعارف ،-1990 1410 ،ج 10
-المسدي ،عبد السالم .اللغة والسياسة ثقافات ،ع ،2008 ،21 .ص .ص (https:// )179-169
376959/16748/archive.alsharekh.org/Articles/200
-يطاوي ،محمد .التحليل النقدي للخطبة السياسية من الفعل الخطابي إلى فعل االستجابة ،ضمن
كتاب (التحليل النقدي للخطاب ،مفاهيم ومجاالت وتطبيقات) إشراف :محمد يطاوي ،المركز
الديمقراطي العربي للدراسات االستراتيجية والسياسية ،برلين ،ألمانيا ،ط ،2019 ،1 .ص .ص
()135 97-
-يطاوي ،محمد .دائرة الخطاب ودائرة السلطة ،مجلة الجديدhttps://aljadeedmagazine.com ،2019 ،
- Van Dijk، T. A. (2001). Critical discourse analysis. In D. Tannen، D. Schiffrin، & H.
Hamilton (Eds.)، Handbook of discourse analysis (pp. 352-371). Oxford: Black-
well.
159 اخلطاابت العنرصية :قراءات نقدية
إلى نصابه ،إلى أهل نبيكم أهل الرأفة والرحمة والعطف عليكم ،أيها الناس ،إنا والله ما خرجنا لهذا األمر
ذهبا وال فضة ،وإنما أخرجتنا األنفة قصرا ،وال لنجمع ً نهرا ،وال لنبني ً
لنكنز لجي ًنا وال عقيانًا ،وال لنحفر ً
من انتزاع حقنا ،والغضب لبني عمنا ،ولسوء سيرة بني أمية فيكم ،واستذاللهم لكم ،واستئثارهم بفيئكم
وصدقاتكم ،فلكم علينا ذمة الله ،وذمة رسوله ،وذمة العباس ،أن نحكم فيكم بما أنزل الله ،ونعمل بكتاب
الله ،ونسير في العامة والخاصة بسيرة رسول اللهً ،تبا ًتبا لبني أمية وبني مروان ،آثروا العاجلة على اآلجلة،
والدار الفانية على الدار الباقية ،فركبوا اآلثام ،وظلموا األنام ،وارتكبوا المحارم ،وغشوا الجرائم ،وجاروا
في سيرتهم في العباد ،وسنتهم في البالد التي بها استلذوا تسربل األوزار ،وتجلبب اآلصار ،ومرحوا في
وعميا عن أخذ الله ،وأم ًنا لمكر الله،
ً أعنة المعاصي ،وركضوا في ميادين الغيً ،
جهل مهم باستدراج الله،
فأتاهم بأس الله بياتًا وهم نائمون ،فأصبحوا أحاديث ومزقوا كل ممزق ،فبعدً ا للقوم الظالمين .وأدان الله
غره بالله الغرور ،أرسل عدو الله في عنانه حتى عثر جواده في فضل خطامه ،أظن عدو الله من مروان ،وقد َّ
أن لن يقدر عليه أحد؟ فنادى حزبه وجمع جنده ورمى بكتائبه فوجد أمامه ووراءه وعن يمينه وعن شماله
وأحل دائرة السوء به ،وأحاط بهَّ ومن فوقه ومن تحته من مكر الله وبأسه ونقمته ما باطله ،ومحق ضالله،
عزيزا ،إنما عاد إلى المنبر بعد
نصرا ً
ورد إلينا حقنا وآوانا .أيها الناس :إن أمير المؤمنين نصره الله ًخطيئتهَّ ،
صالة الجمعة ألنه كره أن يخلط بكالم الجمعة غيره ،وإنما قطعه عن استتمام الكالم شدة الوعك ،فادعوا
الله ألمير المؤمنين بالعافية ،فقد أبدلكم الله بمروان عدو الرحمن ،وخليفة الشيطان ،المتبع للسفلة الذين
المتوكل على الله المقتدي باألبرار ،األخيار الذين أصلحوا األرض َ يفسدون في األرض وال يصلحون،
فعج الناس له بالدعاء ،ثم قال :واعلموا يا أهل الكوفة أنَّه بعد فسادها بمعالم الهدى ،ومناهج التقى .قالَّ :
لم يصعد منبركم هذا خليفة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وأمير
المؤمنين هذا -وأشار بيده إلى السفاح -واعلموا أن هذا األمر فينا ليس بخارج ع َّنا ،ح َّتى نسلمه إلى عيسى
ابن مريم عليه السالم ،والحمد لله رب العالمين على ما أبالنا وأوالنا»(((.
المستخلص
قاربت هذه الورقة «بالغة الجمهور» من منظوري الدعاية التقليدي والسيبراني المستجد ،وتوجهت
إلى عرض التداخالت والتباينات المفاهيمية والمقارنة بينهما ،كما تطرقت لمواقع الشبكات االجتماعية
وما أفرزته من ظواهر دعائية تحول دون تحقيق مسعى إنتاج الجمهور الستجابات بليغة .وتوصلت الورقة
إلى عدة استنتاجات أهمها وجود تناقض حاد بين مساعي «بالغة الجمهور» والدعاية التقليدية ،واعتبار
ً
معطل للتأثير الدعائي ،والعدة التي بمقدورها عرقلة فاعليتها ،وتالقيها مع الدعاية ً
مجال «بالغة الجمهور»
ً
وصول إلى اعتبار األخيرة ردي ًفا لها إذا ما انطلقت من قواعد وأسس أخالقية الفردية في العديد من األوجه
ونقدية موضوعية ،بجانب ما قد تشكله الظواهر الدعائية السيبرانية من تهديد جدي على جهود صناعة وعي
كاف إلنتاج استجابات متحررة عبر إتاحتها فرصة للسلطة إلعادة استحضار هيمنتها وسيطرتها جماهيري ٍ
بهيئات جديدة.
الكلمات المفتاحية
البالغة ،بالغة الجمهور ،الدعاية ،الدعاية الفردية ،مواقع الشبكات االجتماعية ،االستجابات البليغة.
Abstract
This paper approached “Audience Rhetoric” from the perspectives of traditional and
modern propaganda، and the conceptual overlaps between them. It tackled Social Net-
working Sites and the generated propaganda phenomena that prevent audience from pro-
ducing eloquent responses. The paper reached several conclusions، the most important
of which is the existence of a sharp contradiction between the endeavors of “Audience
161
خطابات 162
Keywords
rhetoric، Audience Rhetoric، Propaganda، Individual Propaganda، Social Networking
Sites، Eloquent Responses.
(1) Miles ،Chris (2019) Rhetorical methods and metaphor in viral propaganda. In: Baines P ،O’Shaugh-
nessy N ،Snow N ،(Eds.) The SAGE Handbook of Propaganda. Thousand Oaks: SAGE; pp. 155-170.
(2) Ibid ،p.159.
163 اخلطاابت العنرصية :قراءات نقدية
من ناحية أخرى ،تقوم البالغة على ركائز مثل المصداقية (اإليتوس) ،والعواطف اإليجابية (الباتوس)،
وحسن اختيار المنطق البليغ (اللوغوس) ،بحيث تندمج جميعها داخل بوتقة واحدة؛ لبث روح جمالية
في الخطاب ،وجعله أكثر إيجابية وفعالية ،بمعنى آخر تقديم الحقيقة بأسلوب بالغي حي ،بينما تعتمد
غالبا على لغة االستقطاب ،والكراهية ،والشحن العاطفي دون المنطق ،وتميل إلى إبراز الجوانبالدعاية ً
والمشاعر السلبية ،وال تهتم بالحقيقة الكلية المجردة ،بل بأجزاء منها ،وهي أقرب لوصف «توين فان
دايك» في كونها خطاب تالعب عاطفي غير مشروع يسعى إلى تعزيز أجندة السلطة على حساب مصالح
أيضا ما يتعلق بالجمهور ،فالبالغة تحاول مساعدة الجمهور على رؤية الجمهور((( .ومن الفروقات المهمة ً
حقيقة الواقع ،بينما الدعاية تحاول فصله عنها ،ودمجه داخل عالم متخيل ال أصل واقعي له.
وأخيرا ،تُعبر البالغة عن مجهودات خيرة وسامية على نحو الفلسفة األرسطية ،إال أن ذلك ال يمنعً
تحولها إلى دعاية وفق الفلسفة األفالطونية سيما إذا ما وظفت التالعب بالحقائق والكلمات وسيلة لبلوغ
مراميها ،وعلى العكس قد تتحول الدعاية إلى بالغة إذا ما سعت إلى الحقيقة بوسائل أخالقية.
(1) Dijk ،T. Van (2006). Discourse and manipulation. Discourse & Society ،)3(17 ،p. 361.
((( عماد ،عبد اللطيف ،بالغة المخاطب :البالغة العربية من إنتاج الخطاب السلطوي إلى مقاومته ،ضمن السلطة ودور
المثقف ،جامعة القاهرة ،2005 ،ص .7
((( نفسه ،ص .13-10
((( صالح حسن حاوي ،بالغة الجمهور ونظريات التواصل :نظرية التلقي نموذج التشابه والخالف ،مجلة آداب ،جامعة
ذي قار ،المجلد ،1العدد ،2017 ،21ص .140
((( عادل المجداوي ،مفهوم الجمهور بين البالغة العامة وبالغة الجمهور ،مجلة العمدة في اللسانيات وتحليل الخطاب،
جامعة محمد بو ضياف ،المجلد ،2019العدد ،2019 ،6ص .184
خطابات 164
وتفترض «بالغة الجمهور» أن وعي األفراد بالكيفيات التي تستخدم بها الخطابات السلطوية اللغة
يمثل خطوة أولى وضرورية لمقاومة سيطرتها وهيمنتها؛ فالمتلقي ليس طر ًفا ً
سلبيا في العملية االتصالية،
وليس مجرد مستقبل بليد لنص المتكلم ،فهو يستطيع بعد عملية إنتاج معنى النص بالتأويل والتفسير أن
ُيدخل تغييرات جوهرية على الرسالة ذاتها من خالل استجاباته لها ،حيث إن االستجابات اآلنية للجمهور،
والمتمثلة في رد الفعل والتغذية الراجعة تؤثر في الطريقة التي يبني المتكلم بها نصه ومجمل خطابه؛
والجمهور الذي يدرك قدرة استجابته على تعديل نص المتكلم ،ويمتلك قدرة على التمييز بين خطاب
سلطوي يستهدف السيطرة عليه وآخر غير سلطوي يستهدف تحريره ،فإنه يستطيع بواسطة تطوير وتفعيل
استجابته أن يقاوم الخطاب السلطوي ،وتنطوي هذه المقاومة «على نقد خطاب المتكلم بما ُيمكن من نقله
من دائرة اليقين إلى االحتمال ،ومن دائرة التسليم المطلق إلى دائرة المساءلة ،ومن دائرة حرية التأثير إلى
دائرة البحث في األغراض والمصالح»(((.
وتقترح «بالغة الجمهور» أن استجابة الجمهور ربما تمثل المدخل الطبيعي لدراسة العالقة بين
أساسا في اآلثار التي تحدثها في استجابة الجمهور ،ومن ثمً الخطاب والسلطة ،فسلطة الخطاب تتجلى
معيارا لتحديد ما
ً فإن القيود والمحددات التي تفرضها الظواهر اللغوية على استجابة الجمهور قد تعد
أساسا بقدرته على السيطرة علىً هو سلطوي ،كما أن نجاح خطاب سلطوي ما في تحقيق وظائفه يقاس
أيضا من خالل االستجابات استجابات مستهلكيه ،وأن السلطة ال تمارس من خالل اللغة فقط ،وإنما ً
الموجهة التي تتعاضد معها ،ومن ثم فإن مقاومة الخطاب السلطوي ال تكون بالكشف عن العالقة بين
الخطاب واستجابة الجمهور فقط ،بل كذلك من خالل إجهاض قدرته على التحكم في استجابات
مستهلكيه ،وتعرية االستجابات المتواطئة معه(((.
وتصب «بالغة الجمهور» اهتمامها على بعدين أساسيين ،بيداغوجي وأكاديمي ،وفيما يتعلق باألول
وهو محور تركيزنا ،فإن «بالغة الجمهور» تُعنى برفع قدرات األفراد في مجاالت التمييز بين الخطابات
السلطوية وغير السلطوية ،وتطوير مهاراتهم على إنتاج استجابات بالغية سواء بالفضح أو التفنيد أو
التدعيم ،وتوسيع رقعة إدراكهم لألغراض التي يسعى المتكلم إلى تحقيقها بواسطة خطابه ،وتعريفهم
بطرق تحقيق التضليل بواسطة اللغة بما يصب في خدمة تطويرهم الستجابات مضادة((( ،ومنتهى ما تحاول
«بالغة الجمهور» الوصول إليه يتمثل في جعل علم البالغة في خدمة الطرف األضعف في عملية االتصال
ً
ممتلكا بشكل الجماهيري ،أي الجمهور ،مستهدفة زعزعة هيمنة الخطاب ومنشئيه بحيث يصبح الجمهور
فعلي لحرية اإلرادة والفعل بعيدً ا عن الخداع والتضليل(((.
((( عماد عبد اللطيف ،بالغة المخاطب :البالغة العربية من إنتاج الخطاب السلطوي إلى مقاومته ،مرجع سابق ،ص .18-16
((( عماد عبد اللطيف ،تحليل الخطاب بين بالغة الجمهور وسيميائية األيقونات االجتماعية ،مجلة فصول ،الهيئة المصرية
العامة للكتاب ،العدد ،84-83خريف/شتاء 2013-2012م ،ص .513
((( عماد عبد اللطيف ،بالغة المخاطب :البالغة العربية من إنتاج الخطاب السلطوي إلى مقاومته ،مرجع سابق ،ص .21-20
((( نفسه ،ص .31
165 اخلطاابت العنرصية :قراءات نقدية
وعلى الصعيدين المنهجي والنظري ،تتكامل «بالغة الجمهور» مع توجه «نورمان فيركلف» في تحليل
الخطاب ،ولكنها تتميز عنه في اهتمامها بطرق االستجابات ،وليس طرق إنتاج التأويل والمعنى ،بمعنى
البحث في العالقة بين الظواهر اللغوية المكونة لخطاب ما واالستجابات الفعلية التي ينتجها المستهدفون
بهذا الخطاب ،والعالقة بين السلطة واستجابات الجمهور وأساليب التالعب بهذه االستجابات((( .لذلك،
تضع «بالغة الجمهور» نفسها في حقل العلوم النقدية التحررية بشكل يتشابه مع اإلطار النظري لمدرسة
فرانكفورت سيما عند «هابرماس»(((.
((( عماد عبد اللطيف ،تحليل الخطاب بين بالغة الجمهور وسيميائية األيقونات االجتماعية ،مرجع سابق ،ص .513-512
((( بثينة حمدي ،تحليل الخطاب وممارسات المستخدمين عبر الفضاء االفتراضي :نحو محاولة وضع أطر تحليلية جديدة
لدراسة االتصاالت الرقمية ،حوليات جامعة قالمة للعلوم االجتماعية واإلنسانية ،المجلد ،16العدد ،2022 ،1ص.256
خطابات 166
((( عماد عبد اللطيف ،بالغة المخاطب :البالغة العربية من إنتاج الخطاب السلطوي إلى مقاومته ،مرجع سابق ،ص .16
((( عماد عبد اللطيف ،ماذا تقدم بالغة الجمهور للدراسات العربية؟ اإلسهام ،الهوية المعرفية ،النقد ،تحرير :صالح حسن
حاوي وعبد الوهاب صديقي ،ضمن :بالغة الجمهور مفاهيم وتطبيقات ،دار شهريار ،البصرة/العراق ،ط،2017 ،1
ص.25
167 اخلطاابت العنرصية :قراءات نقدية
بوسائط تفاعلية من أسفل إلى أعلى بشكل متحرر من الرقابة والتحكم ،وتتخذ مسارات اتصالية متنوعة من
مجموعة إلى مجموعة ،أو ثنائية ،أو متشعبة شديدة الفوضوية .والالمركزية تعني إذابة الحواجز بين منتجي
المعلومات ومستهلكيها ،في تناقض صارخ مع نموذج االتصال المركزي اآلتي من أعلى ،والموجه من فئة
قليلة إلى جموع كبيرة بنمط غير تفاعلي .ولعل الفرق بين الشكلين المركزي والالمركزي ينحصر في تمثيل
األول لألنظمة السلطوية التي تسعى من خالل قنواتها االتصالية إلى تقييد االنفتاح المعلوماتي ،والتحكم
به ،وحصره في زاوية مصالحها ،وهي هنا أقرب لمسعى «الدعاية» ،بينما ُيجسد الثاني حال َة فقدان االتزان
الذي تعرضت له السلطة بتحرر الفرد النسبي من سطوتها االتصالية ومن ثم السياسية ،مع ما يعنيه ذلك من
نشوء صيغة تواصلية جديدة تعتمد على تقاسم القوة فيما يتعلق باإلنتاج واالستجابة والنشر والتأثير ،وهي
هنا أقرب لتمثيل «بالغة الجمهور»(((.
وتتشابه «بالغة الجمهور» على مستوى المظهر مع مفهوم «الدعاية االجتماعية/األفقية» التي تطرق
إليها الفيلسوف الفرنسي «جاك إيلول» في ستينيات القرن العشرين عبر كتابه «الدعاية وتشكيل مواقف
أفقيا
الرجال» ،وبالتحديد مع موضوع المنبع أو المنشأ؛ فهي دعاية تولد داخل حواضن شعبية ،وتتمدد ً
داخل المجتمع ،أي إنها منبعثة من الداخل ،وليست قادمة من أعلى ،وال تتطلب سوى تجمعات جماهيرية
كثيرا عن
تضمن انتقالها من فئة إلى أخرى .وعندما طرح «إيلول» فكرة «الدعاية األفقية» فهو لم يبتعد ً
مفهوم السيطرة ،لكنه أكد على تغلغلها غير المحسوس ،فاألفراد يخضعون لقيادة صغرى من ذات المستوى
االجتماعي ترعى مناقشات جماعية حول موضوعاتها ،ولكن بطريقة مدروسة وموجهة سل ًفا ،وتؤدي إلى
نتائج ترغب الجهات المتحكمة في تمريرها وتثبيتها بشكل غير مباشر ،وفي هذه الحالة سيشعر األفراد
وكأنهم توصلوا لالستنتاجات والحقائق بمفردهم وعلى طريقتهم دون إكراه((( .والسابق يعني أن الدعاية
يمكن أن تتستر بهيئات اجتماعية مقبولة كالمؤسسات التعليمية ،واألندية الثقافية والرياضية ،وغيرها؛ من
أجل تأسيس وغرس معتقدات وأنماط حياة وسلوكيات مشتركة ترغب السلطة في ترسيخها؛ كما يعني
بشكل ضمني أن «بالغة المتكلم» على ذات منوال الدعاية االجتماعية قد توظف اللغة والخطاب؛ بهدف
«إدماج الجمهور في إطار النظام السائد عبر تشكيل يرسم لهم خارطة طريق للكيفية التي يجب أن يكون
نابعا من إرادة حرة ،في حينعليها وعيهم وشخصيتهم ونمط تفكيرهم ،ليبدو لنا سلوك األفراد كما لو كان ً
أنه مقيد بأيديولوجيا خفية قد ال يعيها اإلنسان في أقصى تقدير للمسألة»(((.
(1) Khamis ،S. ،Gold ،P. B. & Vaughn ،K. (2013). Propaganda in Egypt and Syria’s Cyberwars:
Contexts ،actors ،tools ،and tactics. In J. Auerbach & R. Castronova (Eds.) ،The Oxford handbook
of propaganda studies ،New York ،NY: Oxford University Press ،pp. 418–438.
(2) Marlin ،Randal (2014). Jacques Ellul and the Nature of Propaganda in the Media. In Robert S. Fortner،
P. Mark Fackler (Eds.). The Handbook of Media and Mass Communication Theory. New Jersey: John
Wiley & Sons ،Inc ،pp. 190-209.
((( عبد الكبير الحسني ،بالغة الجمهور :نحو بناء فرضية ذهنية جديدة ،إعداد المهدي لعرج وآخرين ،ضمن :البالغة العربية
وآفاق تحليل الخطاب ،منشورات المركز األكاديمي للدراسات الثقافية واألبحاث التربوية ،ط ،1فاس ،2020 ،ص .205
خطابات 168
وبرغم مالمسة فلسفة «إيلول» لحاضرنا ّإل أنّها لم تؤكد على استقاللية إنتاج الجمهور للدعاية ،وما
شكل يخضع لتوجيه ورعاية السلطة ،ولكن بأسلوب يترتب عليها من استجابات بليغة متحررة ،بل عرضت ً
ناعم غير مرصود ،وهذا يعني أن مقاربته لمنبت الدعاية ومنبعها ال يصلح أن تعمم مع «بالغة الجمهور»،
سيما وأن تكنولوجيا االتصال تحررت إلى حد نسبي من السيطرة التقليدية ،وأسهمت في بروز قنوات
أي حال ما يعنينا هو ذلك التشابه تفاعلية اجتماعية أتاحت بدورها نشوء بالغة مصدرها األفراد .وعلى ّ
بين «الدعاية االجتماعية» بالمفهوم المتحرر و«بالغة الجمهور» ،وقدرة رسائلهما على االنبعاث من داخل
المجتمع ،بوصفهما ظواهر اجتماعية ،وبأيدي أفراد وجماعات مستقلة تما ًما عن أي أجندة سياسية أو
حزبية ،بحيث يمكن لهما التنقل من فرد آلخر بشكل سلس متحرر من الرقابة ،ويرد سبب ذلك بالدرجة
األولى إلى فقدان مركزية االتصال ،وصعوبة التأثير في الوعي الجماهيري كما كان سائدً ا.
وأخيرا ،إن العالقة بين الدعاية التقليدية و«بالغة الجمهور» عبارة عن صورة لصراع محتدم بين ً
ممارسات سلطوية تسعى إلى بناء إجماع جماهيري لصالحها بأساليب ملتوية ،وبين ممارسات جماهيرية
واعية تنشط في تفكيك هذا البناء السلطوي عبر كشف تناقضاته وأالعيبه بما يخدم مصلحة الجمهور ً
أول
وأخيرا.
ً
.4بالغة الجمهور والدعاية الفردية
خاضعا
ً محصورا
ً في العقود التي سبقت ظهور شبكة اإلنترنت تميزت الدعاية بوصفها ً
فعل مركز ًيا
لالحتكار ،تنفذه جهات مهيمنة عليا من أعلى إلى أسفل على نحو نظرية الرصاصة السحرية؛ بهدف
كمتلق سلبي غير قادر على صد رسائل ٍ صناعة إجماع جماهيري حول أطروحاتها .لذاُ ،صنف الجمهور
الدعاية ،أو مواجهة تأثيرها والتعديل عليها ،ولكن بدخول القرن الحادي والعشرين انقلبت المعادلة
ليتحول الجمهور إلى فاعل إيجابي يستطيع صناعة الرسالة وبثها ،بعيدً ا عن قيود ورقابة السلطة .وبمرور
األيام وتطور تكنولوجيا االتصال ،تحول الفرد إلى جزء أساسي في العملية الدعائية ،من ناحية اإلنتاج
ممنهجا
ً اتصاليا
ً والتداول والتفاعل .هذا التطور ،أذاب التقسيم التقليدي الجامد الذي اعتبر الدعاية ً
نشاطا
من أعلى إلى أسفل ،أو ينحصر في مرسل (جهة الدعاية) ومستقبل (وجهة الدعاية) فقط((( .وتغير طبيعة
حادي إلى ثنائي دون وجود حراس بوابة ،سحب البساط من تحت السلطة ،وأفقدها ّ االتصال من نسق ُأ
مؤق ًتا قدرتها على التحكم الحصري في عملية صناعة الواقع ،وفرض قوى جديدة تدلي بدلوها في عملية
تمثيله وتجسيده على نحو أنهى احتكار الشكل المركزي؛ وانتقال االتصال من حالة مركزية إلى المركزية
منفتحة وعشوائية فوضوية ،سمح للجمهور بالتحول من ٍ
متلق خامل إلى منتج مشارك ،مستعي ًنا بالحرية
التي منحته إياها أشكال االتصال الحديثة .وفي العرف الدعائي التقليدي ،فقدان السيطرة على وسائط
(1) Chang ،T.K. & Lin ،F. (2014). From Propaganda to Public Diplomacy: Assessing China’s Interna-
tional Practice and its Image2009–1950 ،. Public Relations Review ،)3(40 ،pp. 450–458.
169 اخلطاابت العنرصية :قراءات نقدية
سلبا في عملية الهيمنة
االتصال أو ظهور وسائط أخرى غير خاضعة لسلطان القوة والتوجيه يعني التأثير ً
التي ترعاها وتنظمها السلطة.
وتعد «بالغة الجمهور» من وجهة نظرنا ردي ًفا للدعاية الفردية((((*) من ناحية قوة أشكال االتصال
الحديثة في تحفيز استجابة الجمهور على مختلف أنواع الخطابات ،ليس فقط كونها خ َّلصت األفراد من
أيضا ألنها «ثوت خلف انبعاث عالم افتراضي ،بات تراتبية أدوات التواصل التقليدية وهرميتها ،ولكن ً
األفراد والجماعات من بين ظهرانيه فاعلين مباشرين ،بمستطاعهم إبداء آرائهم وتصوراتهم عن وفي
القضايا اإلشكالية الكبرى التي ترهن حاضرهم ،أو من شأنها التأثير في مستقبلهم»((( .وألنّ اإلنسان في
حالة تفاعل دائم مع محيطه ،وتزداد رغبته في التأثير فيه لصالح تصورات ومعتقدات وأفكار يرى أنها
صحيحة ،واالستجابة هنا تحيل إلى فعل وا ٍع يحاول عبره الفرد إحداث تبدل في تصورات اآلخرين،
وتتوافق مع رؤيته ومصلحته الخاصة على نحو مشابه للمسعى الذي تحاول «بالغة الجمهور» بلوغه.
فعل على سلطة «بالغة المتكلم» فهي إ ًذا بالغة معكوسة تعمل على رد ٍ وإذا كانت «بالغة الجمهور» َّ
إلغاء فعالية أدوات المتكلم في حال استخدامها في خطاب بالغي سلطوي((( ،وعلى ذات المنوال ،إذا كانت
الدعاية الفردية رد فعل على سلطة دعاية الدولة أو الخصم ،فهي في أحد أوجهها دعاية معكوسة تعمل
على إبطال أساليب الدعائي حال استخدامها في خطاب دعائي موجه .ويتضح لنا أن «بالغة الجمهور»
كما الدعاية الفردية ممارسة قائمة على الوعي المسبق بأساليب وأدوات المتكلم ،وتُعنى بالكشف عن
التحيزات واألالعيب التي تُمارس بواسطة الظواهر اللغوية وغير اللغوية ،ما يعني أنها في ممارسة فعلية
موجهة ضد كل أشكال السلطة المستبدة وتجلياتها.
وتفيد «بالغة الجمهور» وفق منظور الدعاية الفردية بانتقالها من وضعية مؤسساتية متحكم بها إلى
حالة ذاتية متحررة ناجمة عن تفاعل مجموعة من المشاعر والغرائز واألفكار داخل األفراد ،تشق طريقها
للخارج على شكل تعبير لغوي أو سيميائي عشوائي فوضوي ،وأحيانًا منظم ،وهي بذلك أكثر من مجرد
ِ
مكونات الخطاب ضمنيا استجابة ،بل دائرة متكاملة تروم اإلنتاج والتداول بجانب االستجابة ،كما تعكس
ً
وتلق ،واستجابة؛ برغم تركيزها على المكون األخير.األربعة :إنتاج ،وتداولٍ ،
واالنتقال إلى الذاتية ال يعني بالضرورة استدعاء نمط العصور القديمة التي تجسدت مع اإلسكندر
األكبر ويوليوس قيصر وغيرهما ،فتلك الدعاية السحيقة ناجمة عن اندماج الذات بسطوة الحكم ،بحيث
((( أطلقنا مسمى «الدعاية الفردية» لوصف الدعاية التي تصدر عن عموم األفراد على مواقع الشبكات االجتماعية بشكل
متحرر عن السلطة.
((( يحيى اليحياوي« ،الشبكات االجتماعية والمجال العام بالمغرب :مظاهر التَّحكُّم والدَّ َم ْق َر َطة» ،تاريخ الدخول:
،2022/11/21انظر الموقع اإللكتروني:
https: //studies.aljazeera.net/ar/mediastudies/2015/11/201511885144375848.html.
((( صالح حسن حاوي ،بالغة الجمهور ونظريات التواصل ،مرجع سابق ،ص .144
خطابات 170
الـمتأ ِّله ،وقدرته على السيطرة والتحكم بوسائل التعبير الرمزية من
استمدت وجودها من سلطة الفرد ُ
منحوتات وتماثيل وعمالت معدنية وغيرها ،أما البالغة التي نقصدها فتلك التي تنطلق من ذات الفرد
نفسيا
ً تعبيرا
ً تخريبيا ،بل
ً المتحرر من خطاب السلطة والمقاوم لسلطة الخطاب ،وهي هنا ليست ً
فعل
يتجسد بأشكال متعددة إيجابية أو سلبية« ،فهو يستطيع نشر رأيه وموقفه مما سمعه ،أو قرأه ،أو شاهده على
شكل استجابات خطابية مباشرة آنية قد تكون مواجهة لما تلقاه فتؤيده أو تفنده ،وتستحسنه أو تستهجنه،
وتؤكد مصداقيته أو تنزعها عنه ،أو تكون موازية له فتضيف إليه أو تستبدله ،أو تكون على هامشه فتقدم
خطابها الخاص الذي ال يمت للخطاب األصلي بصلة»(((ّ .إل أنّ ما سبق ال ينفي عدم تأثر الفرد بالقوى
الخارجية المحيطة به ،سيما إذا ما شعر بضغط يقيد ذاتيته المستقلة لصالح استجابات مرهونة ومحكومة
باشتراطات الخوف من السلطة ،لذلك من الضروري عند مقاربة مفهوم استجابات الجمهور استبعاد
هابطا من أعلى إلى أسفل ،بل يجب النظر فعل متعمدً ا ً المدخل التقليدي للدعاية ،والتوقف عن اعتبارها ً
إليها كعملية تنشأ داخل حواضن مجتمعية تشهد حالة من الصراع(((.
وتتالقى «بالغة الجمهور» مع الدعاية الفردية في نوعية الجمهور؛ فهو عند كليهما جمهور العامة ال
وقدرا من اإليجابية تتيح له تعلم إنتاج استجابات
ً النخبوي كما تعرضه «نظرية التلقي» ،بحيث يمتلك رشدً ا
بليغة ،وذلك بخالف ما ذهب إليه «غوستاف لوبون» بوصفه الجمهور حشدً ا من الغوغاء تحكمه الغريزة
والالوعي ،وبالتالي صعوبة تحويله إلى كتلة نقدية واعية .وبرغم صحة توجهات لوبون إذا ما أخذنا
باالعتبار جمهور مواقع الشبكات االجتماعية ،إال أن «بالغة الجمهور» والدعاية الفردية تتحدى ذلك رغم
اشتراط وربط تحقيق مبتغيهما بوجود مسار تدريبي مدعوم بثروة معرفية مسبقة تؤسس لتحول إيجابي في
فكر الجمهور ،ومقاربته للخطابات السلطوية.
أيضا بين «بالغة الجمهور» والدعاية الفردية تكريس بعض اإلنتاجات ومن األرضيات المشتركة ً
كافيا يؤهله
وعيا ً
كبيرا من جمهور العامة ال يمتلك ً قطاعا ً
واالستجابات للخطاب السلطوي على قاعدة أن ً
لتفكيك خطاب سلطوي أو إنتاج خطاب مضاد ،ولعل مرد ذلك يكمن في غياب التجانس الجماهيري
خاصة على مواقع الشبكات االجتماعية ،وتباين الثقافة بين األفراد ،وبالتالي تفاوت نوعية االستجابات
بين بليغة متحررة عن السلطة وغير بليغة تابعة ومكرسة للسلطة .وال بد هنا من اإلشارة إلى المخاطر
المتصلة باالستجابات الجماهيرية والدعاية الفردية على مواقع الشبكات االجتماعية ،واحتمال تحولهما
إلى خطاب سلطوي يعمد إلى إعادة إنتاج القهر والهيمنة ،سيما إذا ما أدرك الفرد أو الجماعة قدرتهم على
استغالل اللغة والوسيلة وكيفية توظيفهما لصالح توجهات قد ال تخدم الصالح العام ،على نحو الخطابات
الشعوبية التي تخدم مصالح وطموحات جماعات مجتمعية بعينها دون غيرها؛ وهذا ما حذر منه «عماد
((( عماد عبد اللطيف ،تحليل الخطاب بين بالغة الجمهور وسيميائية األيقونات االجتماعية ،مرجع سابق ،ص .515
((( حيدر المصدر ،الدعاية على الشبكات االجتماعية ،مركز الدراسات اإلقليمية ،غزة ،2020 ،ص .79
171 اخلطاابت العنرصية :قراءات نقدية
ضمنيا من تحول «بالغة الجمهور» وما يرشح عنها من استجابات إلى خطاب سلطوي سيماً عبد اللطيف»
إذا ادعت أنها تمتلك الحقيقة أو قامت بإقصاءات وتمييزات خطابية أو مادية((( .وتحذير «عبد اللطيف»
ينسجم تما ًما مع تحذير آخر أطلقه «إيلول» حول المخاطر المترتبة عن االستجابات داخل بيئة مشحونة
دعائيا ،وضرورة إنتاج أشكال أخالقية تقاوم الدعاية ،وتحد من آثارها دون اإلضافة عليها عبر تقديم دعاية
ً
وتأسيسا على ما سبق ،قد تتحول األرضية المعرفية والعدة البيداغوجية إلىً مضادة من نفس جنسها(((.
سيف ذي حدين ،من ناحية رفعها مستوى وعي األفراد في مجال مقاومة خطابات السلطة وتفنيدها ،ومن
ناحية أخرى تزويدهم بالمعرفة الالزمة واألدوات الكافية لممارسة سلطة على أفراد وجماعات آخرين؛
وهنا قد ترتد «بالغة الجمهور» إلى الوراء لتعود سيرة البالغة األولى.
4.1استجابة أم إنتاج
من الفروق الضئيلة بين «بالغة الجمهور» والدعاية الفردية ما يتعلق بالتداخل المفاهيمي بين داللتي
االستجابة واإلنتاج؛ فاالستجابة ،بحسب «بالغة الجمهور» ،تفترض وجود رسالة أو خطاب يستحث
بالضرورة استجابة جماعية ،بعكس مفهوم اإلنتاج في الدعاية الفردية الذي يميل إلى الشمولية في معناه؛
ألنه يضم مفهومي الصناعة المنفصلة واالستجابة بشقيها الفردي والجماعي؛ فالفرد يصنع لخطابه الدعائي
المستقل الذي يحاول من خالله التأثير في اآلخرين دون أن يرتبط بمثير خطابي خارجي ،أو يقدم الستجابته
الخاصة بعد أن يتفاعل مع خطاب ما .بمعنى آخر ،تؤكد «بالغة الجمهور» على ارتباط االستجابة بمثير
خطابي ضمن سياق محدد ،وعلى جماهيريتها ال فرديتها ،وعلى اشتراط تداولها في فضاءات عمومية ال
فردية أو بين شخصية((( ،بينما تشدد الدعاية الفردية على الصناعة المستقلة دون ارتباط بسياق محدد من
ناحية ،وعلى االستجابة الفردية والجماعية المرتبطة بسياق محدد من ناحية أخرى ،إضافة إلى إمكانية
تداولها في فضاءات عمومية وخاصة على السواء.
في كل األحوال ،تشترك االستجابة واإلنتاج في كونهما عمليتين تتأسسان على الفهم والتأويل والتجرد
أيضا عمليتان نفسيتان تفاعليتان تتأثران بالموروث والسياق قدر اإلمكان من النزعات الذاتية ،ولكنهما ً
السائد وتؤثران فيه؛ فالعوامل السياسية ،واالجتماعية ،والثقافية ،والتربوية ،والتاريخية ،واأليديولوجية،
دورا في ضبط عمليتي االستجابة واإلنتاج وكل ما يرتبط بتشكيل اإلطار المرجعي لإلنسان تؤدي ً
وتوجيههما ،كما تفضي البيئة ،واللحظة الراهنة ،والسياق ،ونمط التفاعالت إلى تحديد نوعية االستجابة
واإلنتاج الصادر عن الجمهور ،وهنا قد ال يستطيع الفرد الفكاك من تأثير كل ما سبق ،سيما إذا ما عكست
االستجابات موضوعات تحظى باهتمامه ،وترتبط بواقعه الحياتي والسيكولوجي بشكل مباشر ،لذلك قد
((( عماد عبد اللطيف ،بالغة المخاطب :البالغة العربية من إنتاج الخطاب السلطوي إلى مقاومته ،مرجع سابق ،ص .19
(2) Marlin ،Randal. Jacques Ellul and the Nature of Propaganda in the Media ،Ibid ،p.206.
((( عماد عبد اللطيف ،ماذا تقدم بالغة الجمهور للدراسات العربية ،مرجع سابق ،ص.24
خطابات 172
أيضا لردود ال تعبر االستجابة واإلنتاج عن خيارات بال معنى ،أو عن خيارات بليغة فقط ،بقدر ما يعكسان ً
أفعال قائمة على أحكام مسبقة ،أو حاجات نفسية كالتعبير عن الذات ،أو تنفيس عن الضغط ،أو تخفيف عن
النفس ،أو إشباع رغبة المشاركة والتفاعل مع اآلخرين ،أو محاولة التأثير في الواقع...إلخ .وبهذا الصدد،
يؤكد «حسين البعطاوي» على مسعى «بالغة الجمهور» في تخليص الذوات من النزعات السيكولوجية
أو األحكام المسبقة «التي ال تنطلق من سند تفسيري أو تأويلي األمر الذي يهدد طبيعة االستجابة (البليغة
المنطلقة من ذات واعية)؛ كأن تكون االستجابة حصيلة رد فعل نابع من توجه أيديولوجي ،أو سوء فهم
للخطاب السلطوي ،أو عن صناعة إعالمية نابعة من سيوف التعاليق التي تابعت الخطاب ،لتصبح االستجابة
رهينة ذوات أخرى في تلقي الخطاب»(((.
وفيما يتصل بالقصدية ،تتصف بعض االستجابات بغياب الوعي؛ لفقدانها نية التأثير المسبق والمتعمد
في صانع الرسالة/الخطاب ،وبالتالي ال تضطره إلى تعديل خطابه ،بعكس االستجابات الواعية التي
تعي قدرتها المسبقة على التأثير ،وإرغام السلطة على التجاوب معها .وينسحب ذات األمر على اإلنتاج
الفردي للدعاية ،فبعضها عشوائي بال معنى أو هدف ،وبعضها اآلخر مقصود يبتغي تحقيق تأثير من نوع ما.
وكل من االستجابة التي أكدت عليها «بالغة الجمهور» واإلنتاج وفق مدخل الدعاية الفردية إذا لم يرتبطا
بالقصد انتفت عنهما صفة الجهد الواعي .وفي حالة مواقع الشبكات االجتماعية قد نقع على النوعين
معا؛ الرتباط االستجابة واإلنتاج بممارسات جماهيرية عشوائية غير مقصودة أحيانًا ومنظمة متعمدة أحيانًا
ً
عمليا يصنع
ً أخرى .ومهما يكن وأ ًيا كان ،فالفرد عند نشره أو تفاعله مع رسالة عبر وسيط تفاعلي فهو
لدعاية أو استجابة تؤدي بأولئك المتعرضين لها إلى التفكير بطريقة قد تتوافق إلى حد ما مع مقاصده،
وهي في حالة اإلنتاج الجماعي دعاية جماهيرية متحررة غير مسيطر عليها تستطيع التأثير في المجالين
االفتراضي والفعلي ،وليس مثال الثورات العربية ببعيد عن ذلك.
4.2االستجابات بين أخالقية بالغة الجمهور ومزاجية الدعاية الفردية
تنطلق «بالغة الجمهور» من قاعدة وجوب ربط إنتاج االستجابات بمعايير أخالقية قائمة على مسوغات
عقالنية ،وموضوعية ،ومنزهة عن الغرض والمصلحة الذاتية ،وقوامها في ذلك انتهاج نقد بناء قائم على
المعرفة والتمييز متبوع بفعل نقدي إنجازي رشيد يتجلى على شكل استجابة بليغة يقوم بها الجمهور
ً
أفعال ذات قيمة تعكس فضائل إنسانية كبيرة الناقد تجاه الخطاب المنقود ،وبذلك تُصبح االستجابات
لمقاومتها العنصرية ،والتمييز ،والتالعب ،والتضليل ،والهيمنة ،واإلقصاء ،واالستبداد الخطابي((( .وعلى
((( حسين البعطاوي ،بين بالغة الجمهور ونظرية التلقي تكامل أم تمايز معرفي؟ ،إعداد المهدي لعرج وآخرين ،ضمن:
البالغة العربية وآفاق تحليل الخطاب ،منشورات المركز األكاديمي للدراسات الثقافية واألبحاث التربوية ،ط ،1فاس،
،2020ص .178
((( عماد عبد اللطيف ،البالغة العربية الجديدة :مسارات ومقاربات ،دار كنوز المعرفة للنشر والتوزيع ،عمان ،ط ،2ص
.470
173 اخلطاابت العنرصية :قراءات نقدية
تصورا للنقد تُصبح فيه مهمة الناقد تغيير العالم؛ ً
وبدل من أن تقتصر ً هذا األساس ،تطرح «بالغة الجمهور»
مهمته األساسية على فهم نظام العالم ،ومهاجمة نقاطه الضعيفة ،تطمح بالغة الجمهور إلى تغييره عبر
التركيز على مكون الفعل النقدي ،فالفضيلة وفق بالغة الجمهور تنطوي إما على مقاومة السلطة أو على
قبول وا ٍع (نقدي) لها(((.
على الجهة المقابلة ،تعاني الدعاية الفردية من مزاجية استجاباتها على النحو الذي أوضحناه بإيجاز
سريع خالل حديثنا عن االستجابة واإلنتاج ،كما تتخلى في كثير من حاالتها عن النقد البناء لصالح
منطلقات تتجاوز المعرفة والتمييز إلى تفعيل نوازع النفس ورغباتها في النظر والحكم على األشياء؛
شكل من أشكال خداع الذات عبر تلقينها أجزاء من الحقيقة المرغوبة على حساب ً ويمكن اعتبارها
متطلبات الفكر النقدي الالزم لتوليد استجابات رشيدة تخدم الصالح العام .لذلك ،يمكن اعتبار الدعاية
الفردية الوجه السلبي لبالغة الجمهور ،سيما إذا ما قرر اإلنسان االنحياز واالرتهان في حكمه للباتوس
واإليتوس دون اللوغوس.
(1) Ellul ،Jacques (1971). Propaganda: The Formation of Men’s Attitudes. New York: Vintage Books،
p. 64.
((( عبد الوهاب صديقي ،البالغة والخطابة السياسية المعاصرة :قراءة في كتاب «الخطابة السياسية في العصر الحديث
لعماد عبد اللطيف» ،إعداد المهدي لعرج وآخرين ،ضمن :البالغة العربية وآفاق تحليل الخطاب ،منشورات المركز
األكاديمي للدراسات الثقافية واألبحاث التربوية ،ط ،1فاس ،2020 ،ص .141
(3) Asmolov ،Gregory (2019). The Effects of Participatory Propaganda: From Socialization to Interna-
lization of Conflicts. Journal of Design and Science ،No.6 ،pp. 1-25.
175 اخلطاابت العنرصية :قراءات نقدية
متخصصا ،وتتمتع بميزة الديمومة داخل البيئة االفتراضية؛ فهي قابلة للحياة والتجدد لفترات طويلة
ً تدريبا
ً
بعكس االستجابات التقليدية ،كما تشارك التكنولوجيا الذكية في صناعتها ،وترويجها ،وتستطيع مصاحبة
استجابة أخرى من خالل خاصية المشاركة.
وفي المحصلة ،رغم أن فضاءات تداول خطابات الجمهور تمثل أحد أوجه قوة الجماهير وقوة بالغتها
التي تتمكن في كثير من األحيان من قلب المعادلة والتأثير على الخطاب السلطوي بل ودفع منشئه إلى
تعديله ،تظل ذات تأثير محدود ما لم تستفد هذه الجماهير من ممارسات تعليمية ،وتثقيفية ،وتوعوية
تؤهلها إلنتاج استجابات بليغة((( .ومن هذا المنطلق ،ال بد من التعرف على الظواهر الدعائية التي برزت
داخل مواقع الشبكات االجتماعية ،واستفادة السلطة منها ومن خصائصها التقنية في إعادة إنتاج هيمنتها،
األمر الذي يسهم إيجا ًبا في رفع وعي الجمهور وقدرته على تجاوز تأثير هذه الظواهر ،وبالتالي إنتاج
استجابات بليغة تتحدى مساعي السلطة.
5.1االستجابات المزيفة *
(((( )
تفترض «بالغة الجمهور» أن االستجابات تُن َتج من جمهور ملموس (من لحم ودم) قد يكون معلو ًما
أو مجهول الهوية((( ،وهي بذلك تتناغم مع األنواع التقليدية للدعاية (الدعايتين السوداء والبيضاء) ،إال أنها
تتناقض مع أشكالها الحديثة سيما الحاسوبي ،ودخول اآللة على خط إنتاج التأثير عبر توليدها استجابات
برمجية ال عالقة لها بالبعد الفيزيقي البشري برغم التوجيه البشري المحدود((((*) .وألن «بالغة الجمهور»
على مواقع الشبكات االجتماعية في غالبيتها مجال تواصلي غير مرئي مع الجمهور ،ولكن مجرد تفاعل
وتشغيليا مع استجابات
ً بحثيا
مع نصوص وصور ومشاهد ،فذلك يضعها في مأزق من ناحية كيفية تعاطيها ً
ربما تكون مزيفة غير حقيقية.
غالبا بصعوبة كشف هوية منتجيها أو تتبع مصادرها الحقيقية،
أي حال ،تتسم االستجابات المزيفة ً
وعلى ّ
((( نزهة خلفاوي ،مالمح تجديدية في البالغة وتحليل الخطاب :قراءة في مشروع بالغة الجمهور لعماد عبد اللطيف،
إعداد المهدي لعرج وآخرين ،ضمن :البالغة العربية وآفاق تحليل الخطاب ،منشورات المركز األكاديمي للدراسات
الثقافية واألبحاث التربوية ،ط ،1فاس ،2020 ،ص .156
((( (*) ُيقصد باالستجابات المزيفة تلك التي تصدر عن وسائل الدعاية البشرية مثل الميليشيات اإللكترونية والمتصيدين
والحشود المزيفة وغيرهم ،أو وسائل الدعاية الحاسوبية مثل الروبوتات االجتماعية ،وهي استجابات معدة سل ًفا تتعمد
صناعة انطباعات مضللة في ذهن الجمهور في محاولة من السلطة إعادة فرض سيطرتها على الفضاء االفتراضي وتوجيه
اآلراء بما يخدم هذه السيطرة .وقد تتخذ االستجابات المزيفة شكل عمليات منسقة لنشر استجابات تدعم فكرة أو أجندة
ً
مضلل معينة بأسلوب مخادع يرتكز على التكثيف الظاهري لعدد االستجابات وتوسيع رقعة انتشارها ما يخلق انطبا ًعا
بصدورها عن حشود جماهيرية مستقلة اإلرادة.
((( عماد عبد اللطيف ،ماذا تقدم بالغة الجمهور للدراسات العربية ،مرجع سابق ،ص .41
((( (*) تُعرف الدعاية الحاسوبية أو دعاية البرمجيات الحاسوبية بكونها االستخدام المتعمد للخوارزميات واألتمتة بالتوازي
مع الرعاية البشرية في نشر معلومات مضللة على مواقع الشبكات االجتماعية ،ويقصد بالرعاية البشرية اإلشراف والدعم
البشري الذي تتلقاه الجهود الدعائية اآللية على مواقع الشبكات االجتماعية.
خطابات 176
ٍ
متخف يوحي بصدورها أو مجيئها عن مصدر أو جهة معلنة ومحددة داخل فهي تعمل عاد ًة بأسلوب
الفضاء االفتراضي ،بحيث تستفيد من خليط السرية والتفاعلية التي توفرها مواقع الشبكات االجتماعية،
وإمكانية تخفي وتنكر السلطة وأدواتها خلف هويات وأسماء مستعارة أو مزيفة؛ ولكن ليس كل مصدر
لالستجابات وهمي أو آلي؛ ألن منها ما هو بشري مكشوف يتعمد منشئيها تضليل منظور الجمهور بطريقة
معلنة مستفيدين من عالمية الوسيلة ،وإمكانية صدور االستجابات من أي حساب في العالم.
ويمكن اعتبار االستجابات المزيفة أداة من أدوات دعاية التضليل أو ما يعرف باسم «صناعة االنطباع
المضلل»؛ لكونها تندرج تحت بند الممارسات الدعائية المخادعة التي تستهدف صناعة إجماع وهمي
تجاه شيء ما بأسلوب ملت ٍو ومدروس ،وعاد ًة ما توظفها السلطة لخلق انطباع مزيف لدى الفئة المستهدفة
بأن اآلراء واالستجابات أصيلة ،وأن رأ ًيا أو موق ًفا يحظى بموافقة ودعم من عدد مستخدمين كبير وهي
غير ذلك تما ًما ،بحيث تستغل الجانب السيكولوجي لإلنسان ،من خالل التأثير في طريقة إدراكه للواقع،
وبالتالي دفعه نحو تكوين انطباع مغشوش حول حقيقة االستجابات الماثلة أمامه.
من ناحية أخرى ،تتميز االستجابات الجماهيرية األصيلة عن المزيفة بانبثاقها عن قواعد شعبية حقيقية
تعكس مواقف بشرية متحررة ،بعكس الثانية التي تصدر عن فئات تنتمي للسلطة أو تتبنى مواقفها،
وتكرس إلرادة بشرية تابعة ومنقادة تتعمد تشويش المنظور اإلدراكي لألفراد تجاه مختلف الموضوعات
والمناقشات واألحداث من خالل ممارسة ألعاب بالغية وعالماتية هدفها استقطاب اآلراء ،أو توجيه
الحوارات ،أو حتى بناء الواقع وفق ما تمليه أجندة السلطة ،ويمكن وصفها باختصار على أنها استجابات
سلطوية مزيفة تتنكر على هيئة استجابات جماهيرية أصيلة .كما تتصف بعدة خصائص ،فهي جهد منظم
يجري على مسرح افتراضي ،يقف خلفها فاعل سلطوي ،وتتجسد بشكل مصطنع بغرض الخداع لتحقيق
أهداف استراتيجية ،وهي مصطنعة؛ ألنها ال تعبر بشكل صريح عن آراء فردية مستقلة ،بل تحاكي هذه
اآلراء؛ لتبدو وكأنها مستقلة ،وهي مخادعة؛ ألن غايتها اإليقاع بالهدف ،ودفعه لالعتقاد أن االستجابات
الماثلة أمامه حقيقية ،وهي استراتيجية؛ ألن الفاعل السلطوي يسعى عبرها إلى تحقيق أهداف معينة تتجاوز
مربع المراوغة التكتيكية.
وغالبا ما تتجلى االستجابات المزيفة في الردود والتعليقات التي تحظى بها بعض المنشورات والرسائل،
ً
نصية كانت أم مرئية؛ لتحقيق أهداف عدة منها مناصرة الحكومات ،واألحزاب ،والشخصيات السياسية،
أو تشويه المعارضة والمعارضين ،أو االغتيال المعنوي ،أو تحويل اتجاه المحادثات وحمالت النقد إلى
اتجاهات أخرى بعيدة عن الموضوع األساسي ،أو تعزيز االستقطاب والفرقة ،أو قمع المشاركات الجادة
والموضوعية...إلخ .كما تختلف أشكالها؛ فبعضها إيجابي جذاب يدلل على اشتغال إقناعي مدروس
يصب مباشرة في صالح السلطة ،بينما يتخذ بعضها اآلخر شكل استجابات سلبية كالبذاءة واألذى اللفظي
177 اخلطاابت العنرصية :قراءات نقدية
سيما تجاه مستخدمين من أصحاب المواقف المعادية أو الناقدة ،وهناك استجابات محايدة تهدف إلى
صرف األنظار أو االنتباه عن موضوعات وقضايا جا ٍر تداولها.
جدول رقم (:)1
إيجابية
(1) De Figueiredo ،John (2006). Law E-Rulemaking: Bringing Data to Theory at the Federal Communica-
tions Commission ،Duke Law Journal ،Vol 55 ،No 5 ،pp.969-993.
خطابات 178
إسها ًما قابال للتطوير هدفه المساعدة على التفريق بين االستجابات المزيفة البشرية واآللية ،إلى جانب
مقترحات للتعامل معها ،كاآلتي:
جدول رقم ( :)2مؤشرات االستجابات المزيفة ومقترحات لمواجهتها
مقترحات لمواجهتها
مؤشرات االستجابات مؤشرات االستجابات
اآللية المزيفة البشرية المزيفة
التجاهل الكشف
تجنب الدخول في كتابة تعليق توضح فيه تتخذ االستجابات ً
شكل االستجابات طويلة قد
مناقشات مع أصحاب للمستخدمين المشاركين عالمات ًيا مثل أضحكني تتعدى أربعة أسطر ،وتتخذ
االستجابات المزيفة لعدة أن االستجابات مزيفة. أغضبني...إلخ. غال ًبا ً
شكل نص ًيا.
أسباب منها:
مشاركة لقطات شاشة الكتابة ركيكة ،وأحيانًا غال ًبا ،االستجابات بعيدة
كلما اشتركت في حوار لكشف الحسابات كثيرة غير مفهومة. عن سياق الموضوع
أو مناقشة ،كلما زادت المستخدمة في توليد األساسي ،أو ال تمت له
مصداقيته وجاذبيته، استجابات مزيفة ،وبالتالي تميل إلى االقتباس عن بصلة.
وبالتالي انتشار استجابته حصر أنشطتها. مصادر ومستخدمين ،ثم
بين المستخدمين. إعادة نشرها كاستجابة. غال ًبا ما يتصف مصدر
توعية المستخدمين االستجابة بالعدوانية
كلما ارتفع عدد التعليقات باالستجابات المزيفة صادرة عن صفحة غير والعدائية وحب الجدل
التي يتلقاها على مشاركاته، البشرية التي عادة ما تأتي نشطة ال تتلقى تحديثات دون توقف أو ملل.
قادرا على مراكمة
كلما كان ً بلغة واضحة ،بعكس اآللية حالة متواصلة ،بعكس
تأثير أكبر بمرور الوقت، التي تأتي بلغة سيئة يغيب البشري الصادر عن صفحة ثقافة المستجيب متواضعة؛
وتعاظم فرص ظهوره عند عنها االنسجام والترابط نشطة تحوي تحديثات إال أن ذلك ال يعني عدم
مستخدمين آخرين. بين الكلمات والجمل. للحالة وبيانات شخصية وجود استجابة عالية
(مزورة في الغالب) إضافة الثقافة.
إمكانية توظيف إلى الصور والروابط.
االستجابات في دق تكرار االستجابات وبذات
األسافين والتخريب، يتميز النوع البشري األسلوب على فترات
وغيرها. بالديمومة لفترات طويلة زمنية طويلة ،وحول
من الزمن بعكس اآللي مختلف الموضوعات
الذي سرعان ما ُيكتشف والقضايا.
ويحيد.
5.2التعهيد الجماعي لالستجابات
تُعرف «ماريا الستكوفا» التعهيد الجماعي بوصفه عملية تجنيد مؤقت تستعين فيها السلطة بمصادر
جماهيرية من خارج إطارها الوظيفي واأليديولوجي؛ لتأدية مهام دعائية بمقابل مدفوع أو تطوعي(((.
وبشكل أساسي ،يسعى التعهيد الجماعي إلى استحضار وتسخير الذكاء الجماعي لألفراد على افتراض
(1) Lastovka ،Maria (2015). Crowdsourcing as New Instrument in Policy-making: Making the Demo-
cratic Process More Engaging ،European View ،Vol 14 (1) ،pp. 93–99.
179 اخلطاابت العنرصية :قراءات نقدية
أن التأثير الدعائي يتشكل ويتعمق عندما تمتزج مجموعة أفكار وجهود مختلفة مع بعضها البعض .وما
سبق يعني أن التعهيد الجماعي عملية تشاركية تتم عن ُبعد ،وتقوم على طلب الخدمة من جمهور الشبكات
ً
مسلكا باتجاه واحد يهتم بصياغة الرأي العام االجتماعية .وفي المجال السياسيُ ،يعد التعهيد الجماعي
وتوجيهه من خالل مشاركة المواطن للسلطة(((.
وتكمن خطورة التعهيد الجماعي بالنسبة «لبالغة الجمهور» في استغالها الدوافع المادية والنفسية
لألفراد في صناعة استجابات موجهة تخدم جهود السلطة إعادة إنتاج سيطرتها داخل عالم افتراضي
وظيفيا
ً ُيعتقد أنه متحرر بالكلية ،وهي تختلف عن اللجان اإللكترونية والحشود المزيفة؛ ألن األخيرة تتبع
أيديولوجيا لها ،بعكس التعهيد الجماعي الذي يستغل أفرا ًدا ال تربطهم صلة بالسلطة
ً للسلطة ،أو تنتمي
أو أيديولوجيتها ،وغير مقيدين بمكان وجغرافيا معينة ،ومع ذلك يسهمون في صناعة استجابات تخدمها.
لذلك ،ينسجم التعهيد الجماعي مع حقيقة دخول الجمهور على خط اإلقناع والتأثير وقدرته على إنتاج
استجابات متعددة .والخطورة الثانية ترتبط بنوعية مضمون االستجابات التي ينتجها هذا النمط من التجنيد؛
ألنها تعتمد على الخبرات ،والمشاهدات ،والتجارب الشخصية في توليد استجابات متنوعة تتمازج مع
خطاب السلطة بأسلوب يصعب تحديه ومواجهته .وتتجلى الخطورة الثالثة في صعوبة حصر وقياس
االستجابات بخالف ما أكد عليه «عماد عبد اللطيف»؛ ألنها ال تتخذ صيغة رقمية على شكل تعليقات
تتوالى أسفل خطاب منشور على صفحة ما ،األمر الذي يسمح بقياسها ومالحظتها ،بل ألنها تتخذ شكل
شبكيا ،مستقلة ومنفصلة عن مكان نشر الخطاب .ولعل الخطر األكبر ما يتعلق ً منشورات ممتدة وموزعة
بالوهم الناشئ عن التعهيد الجماعي؛ لما يمتلكه من قدرة على توليد تصور ذهني مضلل باتساع حجم
االستجابات ،وتنوع مصادرها ما يرتد باإليجاب على رواج خطاب السلطة ومصداقيته.
وألن العرض السابق ال يوضح كيفية اشتغال التعهيد الجماعي على مواقع الشبكات االجتماعية لصالح
مثل تنفيذ حملة هدفها دعم خطاب ما بإنتاج السلطة ،كان لزا ًما تقديم مثال لتقريب الصورة؛ فإذا ما أردنا ً
استجابات إيجابية حوله ،عندها س َنعهد لألفراد بعد إتمامنا إجراءات العرض والطلب تنفيذ مهام متنوعة،
مثل كتابة منشورات مستقلة ،أو كتابة تعليقات ،أو استخدام خاصية إعادة نشر...إلخ؛ ليتلقى األفراد بعد
إنجازها مكافأة تتحدد قيمتها بحسب الجهد المبذول .والمنطق التجاري السابق ال يعكس لكل أنماط
العمل؛ فالبعض المعهود إليه قد يشارك طواعي ًة تلبي ًة إلشباعات نفسية مثل تحقيق الذات ،أو إشباع الحاجة
للبروز االجتماعي ،أو االندماج مع الجماعة ،أو االنتقام...إلخ .لذلك ،يعد التعهيد الجماعي واحدً ا من
األدوات التي تعيق مسعى «بالغة الجمهور» في تحرير الجماهير ،وتشجيعهم على إنتاج استجابات بليغة
تخدم النفع العام.
5.3تقييد االستجابات ومالحقتها
تُعرف السلطة بقدرتها على السيطرة ،وتتجلى هذه السيطرة على مواقع الشبكات االجتماعية بأشكال
كثيرة منها تقييد انتشار االستجابات الجماهيرية داخل الفضاء االفتراضي ،وأحيانًا كثيرة حذفها ،أو إغالق
(1) Ibid.
خطابات 180
صفحات منشئيها حال عارضت خطاب السلطة أو تناقضت معه أو حرضت عليه .ويعكس مفهوم تقييد
جزئيا خاصية ضعفً االستجابات ،في أحد أوجهه ،التحالف القائم بين الوسيلة والسلطة بما يعارض ولو
الخضوع للرقابة التي تحدث عنها «عماد عبد اللطيف» ،فالتحرر من الرقابة ساد لفترة زمنية وجيزة سرعان
ما أدركت السلطة خطورته على سيطرتها ،بحيث اتجهت إلى عقد تحالفات وصفقات غير معلنة مع مالك
أدل على ذلك من إجراءات الوسائل؛ للحد من سطوة االستجابات الجماهيرية ،وتقييد تأثيرها .وليس ّ
منصة فيسبوك بحق المحتوى الفلسطيني عبر الحد من انتشاره ،أو حجبه ،أو تعليق حسابات العديد من
المستخدمين بحجة مخالفة قواعد االستخدام ،أو بحجة معاداة السامية ونشر خطاب الكراهية والتحريض
على العنف((( .وما يؤكد تحالف الوسيلة مع السلطة ما أعلنته وزيرة القضاء «اإلسرائيلية» «أيليت شاكيد»
طلبا إلى إدارة فيسبوك إلزالة محتوى «تحريضي» وإغالق من تقديم «إسرائيل» في العام 2016حوالي ً 158
حسابات لفلسطينيين ،واستجابة فيسبوك لغالبية الطلبات المقدمة له(((.
وألن التقييد يعكس معركة خطابية تدور رحاها بين السلطة والجمهور داخل فضاء افتراضي ،فهو ال
أيضا باألشكال التي طورتها السلطة لنفسهايتمظهر فقط بالتحالف القائم بين السلطة والوسيلة ،بل يتجلى ً
للحد من االستجابات التي تعتبرها معادية ،وقد سبق اإلشارة إلى بعضها مثل اللجان اإللكترونية ،وأسراب
وصول إلى إقرار تشريعات وقوانين تجرم إنتاج استجاباتً الروبوتات االجتماعية ،والمتصيدين ،وغيرها،
من شأنها إحراج خطاب السلطة؛ كما يتجلى بعدة أساليب مثل استغالل خيار اإلبالغ عن المحتوى،
أو شن هجمات جماعية منسقة ،أو محاولة التأثير على خوارزميات الوسيلة ،أو اإلطباق على الوسوم
«الهاشتاك» ،وغيرها الكثير.
وتجدر اإلشارة إلى الخطورة المترتبة عن استهداف أفراد بعينهم «المؤثرون» كأحد أساليب تقييد
االستجابات البليغة؛ فالسلطة عبر لجانها اإللكترونية تتعمد استهداف الحسابات التي تقرر أنها مؤثرة؛
بهدف الحد من إنتاجها لالستجابات النقدية العميقة «البليغة» ،وما يترتب عنها من عدوى بالغية حميدة
مع تركها باقي االستجابات السطحية «غير البليغة» دون مساس ،ما يؤدي بالضرورة وبمرور الوقت إلى
تسطيح الحالة والمزاج الفكري النقدي الجماهيري لصالح مجهودات إنتاج الغباء وتدويره بأسلوب غير
مباشر ،وبذلك تفقد االستجابات ميزتها البليغة لصالح غير البليغة ،وفي المحصلة تقليل عدد االستجابات
القادرة على مقاومة الخطاب السلطوي.
5.4غرف الصدى وعرقلة االستجابات البليغة
تؤكد «بالغة الجمهور» على أن غايتها األهم «تدريب اإلنسان العادي على إنتاج استجابات بالغية
فعالة تجاه كل ما يتلقاه ،تمكنه من مقاومة الخطابات المتالعبة التي تستهدف تضليله والسيطرة عليه،
((( شهيرة بن عبد الله ،هاشتاغ (غزة_تحت_القصف) الوسم لغة وسائطية مقاومة أم بالغة مراوغة؟ ،مجلة خطابات ،العدد
الخامس ،يونيو ،2022ص .35-14
((( موقع الضمير« ،االعتقاالت على خلفية التحريض على مواقع التواصل االجتماعي وسياسات حكومة االحتالل فيسبوك
نموذجا ،تاريخ الدخول ،2022/11/21 :انظر الموقع اإللكتروني.https: //bit.ly/2FwDzh8 :
ً
181 اخلطاابت العنرصية :قراءات نقدية
وفضحها ،وإنتاج خطاب بديل يخلو من التالعب والتضليل»((( .وتفترض هذه الغاية سل ًفا حتمية مواجهة
الجمهور لكل أنواع الخطابات ،ولكنها بشكل غير مباشر تضع عملية إنتاج االستجابات في دائرة االحتمال
والشرطية .من ناحية أخرىُ ،يعرف الفضاء البالغي بوصفه فضا ًء يتم فيه الصراع بين بالغات وخطابات
افتراضيا
ً السلطة والجمهور ،وبالتالي تمثل مواقع الشبكات االجتماعية أحد هذه الفضاءات بوصفها فضا ًء
نسبيا عن التحكم فيه وفي نتائجه .وهنا تبرز تساؤالت محورية:
مفتوحا عجزت السلطة حتى وقت قريب ً ً
تعرضا لكل أنواع الخطابات؟ وهل يسهم البناء التقني للوسيلة إلى
ً هل تتيح مواقع الشبكات االجتماعية
تلق مباشر يستجلب استجابات بالغية؟جانب العوامل النفسية لألفراد في تحقيق ِ
أكاديميا
ً الجواب بالتأكيد «ال» ،فالخصائص التقنية لمواقع الشبكات االجتماعية تتيح نشوء ما ُيعرف
باسم «غرف الصدى» التي تحد من إمكانية التعرض لمختلف الخطابات ،وبالتالي عرقلة مسعى «بالغة
أصل لربطنا في عالم مفتوح الجمهور» في دفع األفراد نحو إنتاج استجابات بالغية؛ فالوسيلة المصممة ً
تتيح لنا في ذات الوقت حجب أجزاء من هذا العالم ال نرغب في مواجهته أو التعرض له .فمن ناحية
دورا في نشوء وترسيخ تأثير غرف الصدى؛ فهي قادرة على تقنية ،تؤدي خوارزمية «فقاعات التصفية» ً
قراءة تفضيالت المستخدم واختياراته ومختلف تفاعالته وتتبعها ،وتخزينها ،وفلترتها ،وتحليلها ،وتقديم
محتوى ومعلومات تتوافق مع ميوله ورغباته وأفكاره ،أي أنها انعكاس لنظام خوارزمي متحيز يحدد ويعرض
للمستخدم محتوى بالنظر إلى سلوكه الشبكي (زيارة وتصفح مواقع ،وسلوكيات إعجاب ،وأنشطة تسوق،
وعمليات بحث...إلخ) .ويتجسد التأثير الناجم عن فقاعات التصفية في قيامها بفصل المستخدمين عن
المحتوى الذي يتعارض مع تفضيالتهم ،وما يترتب عليه صناعة «فقاعة» ثقافية وأيديولوجية تعزل الفرد
عن باقي «الفقاعات» المختلفة.
ومن ناحية اجتماعية ،تشير «غرف الصدى» إلى نزعة الفرد نحو المحتوى الذي يعزز ويرسخ معتقداته
داخل نظام مغلق ،وتدلل على ميله إلى التفاعل مع أفراد ومستخدمين يماثلونه في التوجهات واألفكار
والمعتقدات ،ومشاركة وتداول أفكار ومعلومات تتوافق مع قيم مجموعته ومعاييرها بشكل يعزز
المعتقدات السائدة داخلها((( .وهذه الميول والرغبات إلى جانب عوامل أخرى تسمح بنشوء تجمعات
شبكية منعزلة عن األخرى تضم أفرا ًدا مستقطبين ،يتشاركون ويتبادلون االهتمامات والسرديات نفسها،
ويتعرضون لخبرات وتجارب متشابهة((( .ونتيجة لذلك ،يقع المستخدم في وهم اإلجماع ،وعزز لذلك
قدرة تكنولوجيا الذكاء االصطناعي وأنظمة الخوارزميات على إبراز أطر أيديولوجية محددة وتضخيمها،
ثم تأكيدها وترسيخها.
((( عماد عبد اللطيف ،تحليل الخطاب بين بالغة الجمهور وسيميائية األيقونات االجتماعية ،مرجع سابق ،ص .514
(2) Sunstein ،Cass (2007). Republic.com 2.0. Princeton ،NJ: Princeton University Press ،p. 88.
(3) Garimella ،K. ،Morales ،D.F.G. ،Gionis ،A. & Mathioudakis ،M. (2018). Political Discourse on
social media: Echo chambers ،gatekeepers ،and the price of bipartisanship. In: Proceedings of the
2018 World Wide Web Conference on World Wide Web. International World Wide Web Conferences
Steering Committee ،pp. 913–922.
خطابات 182
ومن ناحية نفسية« ،غرف الصدى» هي حالة يبحث فيها المستخدم عن راحته المعرفية ،من خالل
ناتجا عن قيام األفراد بترديد تأثيرا ً
مناقشة أفكاره مع أفراد يشابهونه التفكير والرأي .ويمكن اعتبارهاً ،
وتعزيز آراء نابعة عن أقران اجتماعيين يشابهونهم في المواقف والمعتقدات واألفكار (تجانس) ،أو
ممارسة الشعورية «للتحيز التوكيدي» تتضح من خالل بحثهم عن آراء ومعلومات تعزز مواقفهم القائمة.
لذلك ،تُعد «غرف الصدى» محصل ًة طبيعي ًة عن تفضيل أو اكتفاء مجموعة من المستخدمين بالتواصل
والتفاعل فيما بينهم ،مع استبعاد الغرباء؛ وكلما تكاملت شبكة المستخدمين عبر تأسيس مزيد من الروابط
داخل المجموعة وفصلها مع من هم خارجها ،كلما كانت أكثر انطواء وعزلة عن وجهات النظر الخارجية،
األمر الذي يسمح فقط بانتشار وتداول وجهات نظر أعضائها على نحو واسع داخلها(((.
ونستنتج أن التعرض للخطابات المخالفة كشرط مفترض إلنتاج استجابات بليغة قد ال يتحقق على
إطالقه داخل مواقع الشبكات االجتماعية؛ ألن التعرض لخطابات تعبر عن أفكار ومواقف متشابهة داخل
«غرف صدى» قد يؤدي باألفراد إلى إنتاج استجابات داعمة لهذه الخطابات بالتوازي مع إنتاج استجابات
تهاجم أي خطاب يشكل تحد ًيا لألفكار والمعتقدات التي يؤمنون بها؛ وبالتالي تتحول مواقع الشبكات
مفتوحا يتيح تفكيكه ونقده. ً االجتماعية إلى وسيلة لترسيخ وتثبيت خطابات السلطة أكثر من كونها فضا ًء
وفي المحصلة ،تستطيع مواقع الشبكات االجتماعية تخصيص محتوى بناء على ميول وتفضيالت الفرد،
وذلك بعد تجزئة الجمهور إلى أقسام ومجموعات منفصلة عن بعضها البعض ما يؤدي إلى نشوء غرف
قائمة على االستقطاب؛ «وكلما ارتفع منسوب االستقطاب بين األفراد فيما يتعلق بالقضايا السياسية
يتصاعد على التوازي احتمال تجاهلهم للخطابات والحجج المخالفة ،عبر إحاطة أنفسهم بمصادر
إخبارية واجتماعية تعكس آراء ينسجمون معها»((( .وقد أثبتت عدة دراسات إمكانية وقوع المستخدمين
تحت تأثير «غرف الصدى» حال تجنبهم التعرض لمضامين أو وسائط إعالمية متعددة ،لذا يعد التنوع أدا ًة
فعال ًة للتحلل والخالص من تأثيرها وسيطرتها(((.
خاتمة
بناء على ما تقدم ،يتضح وجود تناقض بين «بالغة الجمهور» والدعاية التقليدية ،في سعي األولى إلى
تحرير الفرد عبر رفع قدراته النقدية والتفنيدية ،بعكس الثانية التي تسعى إلى السيطرة عليه ،وتبين أن «بالغة
الجمهور» هي المجال المعطل للتأثير الدعائي والعدة التي بمقدورها عرقلة فاعلية الدعاية وتجميدها
وبيداغوجيا
ً معرفيا
ً نموذجا
ً داخل إطار «المحاولة» ،وهي متقدمة على علم الدعاية الذي لم يطور بعد
مستقل يسهم في الحد من خطورة أشكالها السلبية على الجمهور. ً
((( حيدر المصدر ،الدعاية على الشبكات االجتماعية :قراءة في أدوات السيطرة والتضليل ،مرجع سابق ،ص .168
(2) Garimella ،K. ،Morales ،D.F.G. ،Gionis ،A. & Mathioudakis ،M. Ibid ،pp. 913–922.
(3) Dubois ،E. & Blank ،G. (2018) The Echo Chamber is Overstated: the moderating effect of political
interest and diverse media. Information ،Communication & Society ،Vol. 21(5) ،pp. 729-745.
183 اخلطاابت العنرصية :قراءات نقدية
وخلص البحث إلى وجود تشابه بين «بالغة الجمهور» والدعاية الفردية فيما يتعلق بقدرة األفراد على
سلبيا لبالغة الجمهور خاصة إذا ما
وجها ًإنتاج استجابات متحررة عن السلطة ،وإلى اعتبار الدعاية الفردية ً
ارتهن األفراد في إصدار أحكامهم للنزعات العاطفية دون المنطقية .إلى ذلك ،اثبت البحث أهمية «بالغة
الجمهور» بكونها معرفة اجتماعية مضادة للدعاية السلطوية بأشكالها كافة ،وإن تالقت إلى حد معين مع
الدعاية الفردية في صدورها عن أفراد عاديين ال نخبويين ،واتجاه كوني يسعى إلى ضبط ما ينتجه األفراد
من استجابات ضمن إطار أخالقي مجرد من النزعات الدعائية الذاتية ،ويسعى إلى الصالح الكلي العام ال
الجزئي ،ويمكن استدعاؤها واالستفادة منها بشكل عام في الحيلولة دون استغالل أي سلطة للدعاية في
بسط نفوذها وهيمنتها السياسية ،وتوظيفها بشكل خاص في تعزيز الوعي التحرري ،خاصة ما يتعلق بسبل
المحتل في استالب إرادة األفراد عبر الكشف عن طريقة تالعبه بالكلمات ،وطريقة استغالله لمختلف
السياقات ،وكيفية استفادته من الواقع المادي والنفسي لصالح إنتاج أطروحات دعائية تدفع الجماهير إلى
السلوك بغير ما تمليه عليهم مصالحهم.
وأخيرا ،تشكل «بالغة الجمهور» ثورة معرفية لسعيها إلى تنوير األفراد واالستفادة من ذكائهم وقدراتهم
ً
في الحد من جهود الدعاية تضليله واستعباده ،أي أنها وقبل كل شيء عدة بيد الجمهور يكتسب بها شرعيته،
ويحقق بها مصالحه وتطلعاته إن أحسن استغاللها على الوجه الفضيل المفترض؛ وهي أشبه بالغوص في
الوعي الفردي والجماعي؛ بهدف تنشيطه وحثه عبر تزويده بالمعارف األكاديمية والبيداغوجية الالزمة
لمقاومة أي خطاب يسعى إلى التأثير فيه ،بغض النظر عن نوع التأثير ،وبذلك تتحول استجابات األفراد
إلى ممارسة نقدية نابعة من وعي شديد التيقظ والفاعلية.
خطابات 184
المراجع األجنبية
- Asmolov، G. (2019). The Effects of Participatory Propaganda: From Socialization to
Internalization of Conflicts. Journal of Design and Science، No.6، pp. 1-25.
- Chang، T.K. & Lin، F. (2014). From Propaganda to Public Diplomacy: Assessing
China’s International Practice and its Image 1950–2009. Public Relations Review،
40 (3)، pp. 450–458.
- De Figueiredo، J. (2006). Law E-Rulemaking: Bringing Data to Theory at the Federal
Communications Commission، Duke Law Journal، Vol 55 (5)، pp.969-993.
- Dubois، E. & Blank، G. (2018). The Echo Chamber is Overstated: the moderating
effect of political interest and diverse media. Information، Communication & Soci-
ety، Vol. 21 (5)، pp. 729-745.
- Dijk، T. Van (2006). Discourse and manipulation، Discourse & Society، Vol. 17 (3)،
pp.359–383.
- Ellul، J. (1971). Propaganda: The Formation of Men’s Attitudes. New York: Vintage
Books.
- Garimella، K.، Morales، D.F.G.، Gionis، A. & Mathioudakis، M. (2018). Political
Discourse on social media: Echo chambers، gatekeepers، and the price of biparti-
sanship. In: Proceedings of the 2018 World Wide Web Conference on World Wide
خطابات 186
Web. International World Wide Web Conferences Steering Committee، pp. 913–
922.
- Khamis، S.، Gold، P. B. & Vaughn، K. (2013). Propaganda in Egypt and Syria’s
Cyberwars: Contexts، actors، tools، and tactics. In J. Auerbach & R. Castronova
(Eds.)، The Oxford handbook of propaganda studies، New York، NY: Oxford Uni-
versity Press، pp. 418–438.
- Lastovka، M. (2015). Crowdsourcing as New Instrument in Policy-making: Making
the Democratic Process More Engaging، European View، Vol 14 (1)، pp. 93–99.
- Marlin، R. (2014). Jacques Ellul and the Nature of Propaganda in the Media. In Rob-
ert S. Fortner، P. Mark Fackler (Eds.). The Handbook of Media and Mass Commu-
nication Theory. New Jersey: John Wiley & Sons، Inc، pp. 190-209.
- Miles، C. (2019). Rhetorical methods and metaphor in viral propaganda. In: Baines
P، O’Shaughnessy N، Snow N، (Eds.) The SAGE Handbook of Propaganda. Thou-
sand Oaks: SAGE; pp. 155-170.
- Sunstein، C. (2007). Republic.com 2.0. Princeton، NJ: Princeton University Press.
االستبداد وصراع التقابالت
المستلخص
يعد كتاب (طبائع االستبداد ومصارع االستعباد) من أهم منجزات الفكر العربي في القرن التاسع عشر
ومطلع القرن العشرين؛ ألهميته وريادته في دراسة االستبداد السياسي وشؤونه ،ويظل سؤال االستبداد
ودواعيه التي أثارها الكواكبي من أهم مشكالت العصر العربي راهنية .وقد سعت الدراسة إلى فحص بنية
الخطاب من خالل تأمل طبيعة التقابل بوصفه من أهم الوسائل الخطابية فعالية ،عبر مناقشة صراع أشكال
الوعي في كتاب الكواكبي ،فقد سعى الكتاب إلى تأسيس خطاب تنويري عبر نقض االستبداد وتقويض
مفاهيمه ،وقد بني الكتاب على أن االستبداد بوصفه رؤية شمولية تمكنه من امتالك العالم وإعادة إنتاجه،
لذا تلمس المخاطب االستبداد في مختلف مجاالت الحياة وشؤونها ،وهو ما قاده إلى الجدل مع تلك
الرؤية الكلية ،والسعي إلى خلخلة أركان السردية الكبرى التي يروم االستبداد تشييدها مستندا إلى وعيه
النقدي.
الكلمات المفتاحية
لكواكبي ،االستبداد ،التقابل ،الصراع ،الذات
Abstract
The book (Natures of Tyranny and the Wrestler of Enslavement) is considered one of
the most important achievements of Arab thought in the nineteenth and early twentieth
centuries. For his importance and leadership in the study of political tyranny and its af-
187
خطابات 188
fairs، and the question of tyranny and its causes raised by Al-Kawakibi remains one of
the most important current problems of the Arab era. The study sought to examine the
structure of the discourse by reflecting on the nature of Opposition as one of the most ef-
fective rhetorical means by discussing the conflict of forms of consciousness in the book
alkawakibi، The book that sought to establish an enlightenment speech by overturning
authoritarianism، It takes care of the values of renaissance and authenticity، contrary to
the values established by the autocrat and based on ambiguity and irrational conscious-
ness، Alkawakibi have treated authoritarianism as a holistic vision، one that can own and
reproduce the world. Accordingly، the book becomes a struggle between tyrannical con-
sciousness and enlightenment consciousness; Because in that controversy an opportunity
to destroy the pillars of grand narratives that tyranny seeks to build.
Keywords
Alkawakibi, Tyranny, oppositions, Conflict, Sel
((( كتاب الصناعتين الكتابة والشعر ،أبو هالل العسكري ،تحقيق :علي محمد البجاوي ومحمد أبو الفضل إبراهيم ،دار
الفكر العربي ،ط ،2د.ت.346 :
((( ينظر :موسوعة البالغة ،توماس أ .سلوان ،ج ،1ترجمة :عماد عبد اللطيف ومحمد مشبال وآخرون ،المركز القومي
للترجمة -القاهرة ،ط.121 :2016 1
((( ينظر :التأويلية العربية ،نحو نموذج تساندي في فهم النصوص والخطابات ،محمد بازي ،الدار العربية للعلوم ناشرون-
بيروت ،ط.222 :2010 1
((( ينظر :معجم النقد األدبي ،ترجمة وتحرير :كامل عويد العامري ،دار المأمون -بغداد ،ط.30 :2013 1
((( ينظر :دليل الناقد األدبي ،ميجان الرويلي وسعد البازعي ،المركز الثقافي العربي -المغرب ،ط.80 :2007 ،5
((( تحليل الخطاب النظرية والمنهج ،ماريان يورغنسن ولويز فيليبس ،ترجمة :شوقي بوعناني ،هيئة البحرين للثقافة -ط،1
.62 :2019
189 اخلطاابت العنرصية :قراءات نقدية
حاضرا بشكل ما في الخطاب ،ويمكن أن يدخل في صراع دائم مع داخل الخطاب. ً فما جرى استبعاده
واستنا ًدا لما سبق يمكن عد اللغة من حيث هي نظام من القيم المقدرة التي تقابل الخطاب ،واستعمال اللغة
وعقليا
ً قيما جديدة((( .وتعد القيمة وص ًفا معيار ًيا
استعمال ينتقي القيم ويمكن أن يحدث ً ً في مقام بعينه،
لألفعال واألشياء بوصفها تستحق التقدير ،مرغوب فيها أو غير مرغوب ،حسنة أو قبيحة ،أو غير ذلك،
وغالبا ما تكون نسبية ،وفي تحول دائم ،غير أن ً وتعد القيم ذات طابع مجتمعي ،أي أنها ليست فردية(((،
هذا الرؤية تقابلها أشكال وعي ترى أن قيمها متعالية ،وغير قابلة للتحول((( .وتنتظم القيم داخل الخطاب
القيم العليا التي ما دونها ،وتسيطر عليها ،وأن اختالف سلم القيم هو ما يعطي بشكل تراتبي ،توجه فيه ُ
فضلوتمثيلً ،
ً تنظيما
ً للجماعات اإلنسانية هويتها المهيمنة((( .فالخطاب إذن يشكل طريقة نظر للعالم
مشروطا -إنه يشكل المواقف وأركان ً اجتماعيا
ً أساسيا بقدر كونه مفهو ًما
ً اجتماعيا
ً عن أنه «يعد مكونًا
والهويات االجتماعية لألفراد والجماعات والعالقات بين األفراد والجماعات .وهو مكون المعرفةُ ،
أساسي بمعنيين :األول ،بمعنى أنه يساعد في تعزيز الوضع االجتماعي القائم وتجديده .والثاني ،بمعنى أنه
يسهم في تحويله((( « ،ويعد التمفصل Articulationأحد مكونات التحول في نظرية الخطاب ،وينظر إليه
على أنه «ممارسة تنشئ عالقة بين العناصر بحيث تتغير هوية العناصر((( « ،ويمكن مالحظته في مختلف
الخطابات وال سيما خطاب الكواكبي ،فهو يجري على الذات والمجتمع ويسعى إلى تحويل هويتهما
االجتماعية ،وأن الذات تخضع لقيود تلزمها أن تعمل في إطار مواقع محددة في أنماط الخطاب((( ،أي
أنها تفهم عبر المواقع التي تشغلها داخل بنية الخطاب ،وأن تعدد مواقعها تشكك بوحدة الذات الواحدة،
الهوية تماهي مواقع الذوات التي يمنحها الخطاب فضل عن أن ُ حيث تدخل تلك المواقع في صراع(((ً .
غالبا ما تكون الذات عامة ،و ُيراد بها األمة العربية بوصفها لها ،وفي السياق الذي ينتمي إليه الكواكبي ً
(((
ذاتًا كلية ،أو يراد بها فئة ما ،وأن تقديم الذات الكلية على الفردية يحيل على سياق عصر النهضة ،ووعي
مفكريه الكلي.
مثّل أسلوب التقابل موضع اهتمام من لدن الدارسين ،ويمكن هنا أن نشير إلى أهمية دراسات
((( -ينظر :معجم تحليل الخطاب ،باتريك شارودو ودومينيك منغنو ،ترجمة :عبدالقادر المهيري وحمادي صمود ،المركز
الوطني للترجمة -تونس ،ط.180 :2008 ،1
((( ينظر :موسوعة الالند الفلسفية ،أندريه الالند ،ترجمة :خليل أحمد خليل ،منشورات عويدات -بيروت ،ط:2001 ،2
.1523-1522
((( ينظر :نظرية القيم في الفكر المعاصر ،صالح قانصوه ،دار الثقافة للنشر -القاهرة.341 :1986 ،
((( ينظر :الخطاب السياسي في القرآن السلطة والجماعة ومنظومة القيم ،عبد الرحمن الحاج ،الشبكة العربية لألبحاث-
بيروت ،ط.250 :2012 ،1
((( مناهج التحليل النقدي للخطاب ،تحرير :روث فوداد وميشيل ماير ،ترجمة :حسام أحمد فرج وعزة شبل محمد،
مراجعة :عماد عبد اللطيف ،المركز القومي للترجمة -القاهرة ،ط.26 :2014 ،1
((( تحليل الخطاب النظرية والمنهج.65 :
((( ينظر :اللغة والسلطة ،نورمان فيركلف ،ترجمة :محمد عناني ،المركز القومي للترجمة -القاهرة ،ط.62 :2015 ،1
((( ينظر :تحليل الخطاب النظرية والمنهج.90-89 :
((( ينظر :المصدر نفسه.92 :
خطابات 190
الدكتور محمد بازي ،التي تعاملت مع التقابل من ناحية خطابية ،وتعد دراسة الدكتور محمد جمال طحان
(االستبداد وبدائله في فكر الكواكبي) ،وكذلك دراسة الدكتور جورج كتورة(طبائع الكواكبي في طبائع
االستبداد دراسة تحليلية) من أهم الدراسات التي تناولت كتاب الكواكبي بوصفه خطا ًبا ،كذلك نبهت
بمواقف عدة إلى األبعاد التقابلية التي يحملها.
((( طبائع االستبداد ومصارع االستعباد ،عبد الرحمن الكواكبي ،تحقيق :محمد جمال طحان ،دار صفحات -دمشق ،ط،5
.203 :2012
((( تصورات األمة المعاصرة دراسة تحليلية لمفاهيم األمة في الفكر العربي الحديث والمعاصر ،ناصيف نصار ،المركز
العربي لألبحاث ودراسة السياسات -قطر ،ط.32 :2017 ،3
191 اخلطاابت العنرصية :قراءات نقدية
يعد مفهوم السلطة Powerمن المفاهيم الرئيسة التي ترتبط باالستبداد «وتشير إلى العالقة غير المتكافئة
بين الفاعلين االجتماعيين الذين يتولون وظائف اجتماعية مختلفة أو ينتمون لمجموعة اجتماعية متباينة(((»،
فـاالستبداد Tyrannyبشكل ما إساءة استعمال للسلطة أو كما يقول الكواكبي هو «تصرف فرد أو جمع في
حكما ،التي تتصرف فعل أو ً حقوق قوم بالمشيئة وبال خوف تبعة [...فهو] صفة للحكومات المطلقة العنانً ،
في شؤون الرعية كما تشاء بال خشية حساب وال عقاب محققين .وتفسير ذلك هو كون الحكومة إما هي
غير مكلفة بتطبيق تصرفها على شريعة ،أو على أمثلة تقليدية ،أو على إرادة األمة ،وهذه حالة الحكومات
المطلقة .وإما هي مقيدة بنوع معين من ذلك ولكنها تملك بنفوذها إبطال قوة القيد بما تهوى((( « ،وهو
(((
شكل من أشكال اإليديولوجيا Ideologyالذي ينظر إليه على أنه «نسق كلي لتأويل العالم االجتماعي
« مثلما هو مجموعة من القيم واألخالق واألهداف التي ينوي تحقيقها على المديين القريب والبعيد(((،
ِ
االستبداد األم َة ،مثلما وقد قسم المتكلم المستبدين إلى نوعين :مستبد مقيد وآخر غير مقيد ،ويقابل مفهوم
يجري عليها ،ومن صفاته التعالي واالستغالل ،وكذلك التصرف من دون خشية قانون أو تبعة ،وويكشف
المتكلم عن أنه وعي ينتمي إلى سياقه ،ويعيد ذلك السياق لشرطين مرتبطين بحال األمة وبنيتها األول :إن
األمة لم تكلف الحاكم بضرورة التقيد بالقانون وااللتزام به ،أو أنها كلفته بذلك من دون رقابة تحد من
نفوذه .فالمتكلم في هذا المفهوم يشير إلى فاعلية الجهل في إنتاج االستبداد ،ويمكن عد قيمة التسلط هي
القيمة الكبرى في مفهوم االستبداد ،يقابلها الجهل لدى األمة ،تتبعه قيم أخرى ثانوية مثل الفساد والتهور
والتعالي .ويعد المستبد بالنسبة لألمة هو اآلخر ،ولكنه «عدو للذات متربص بها ،مهدد لها ،خطر عليها.
والنتيجة الثقافية المستخلصة منهما :أنه يجب إفناؤه ومحوه وإزالته كنوع من إزالة العدو كلية ،والسيطرة
على الوضع والموقف((( « ،ويسعى االستبداد بشكل ضمني إلى فرض الهيمنة على المجتمعات بأشكال
عدة ،والهيمنة شكل من أشكال السلطة الخفية ،حيث يتم التصرف بالناس على خالف إرادتهم ولمصلحة
عدد من المفاهيم التي تكسبه السلطة وهي محاولة إلعادة إنتاج األيدولوجيات((( .يتصل بمفهوم االستبداد ٌ
داللة مضافة ،ومن تلك المفاهيم (الطاغية) الذي يوصف بأنه «رجل يصل إلى الحكم بطريق غير مشروع
فيمكن أن يكون قد اغتصب الحكم بالمؤامرات أو االغتياالت أو القهر أو الغلبة بطريقة ما .وباختصار هو
طبيعيا لكنه قفز إلى منصة الحكم من غير طريق ً سيرا
شخص لم يكن من حقه أن يحكم لو سارت األمور ً
شرعي(((» ،أما المفهوم اآلخر فهو (الدكتاتور) ،ويدل على «النظام الحكومي الذي يتو ّلى فيه شخص واحد
جميع السلطات(وفي األغلب األعم بطريقة غير مشروعة) ،ويملي أوامره وقرارته السياسية ،وال يكون أمام
بقية المواطنين سوى الخضوع والطاعة [...و] الدكتاتور قد يكون فر ًدا ..أو قد يكون جماعة فيما ُس ّمي
باسم ((دكتاتورية البروليتاريا))(الطبقة العاملة)(((» ،ولم يميز المتكلم بين تلك المفاهيم بل كان االستبداد
تطرق مزيدات قائل« :وقد ُ واعيا بحضور التقابل وأهميته ،إذ أشار لذلك ًشموليا ،وقد كان ً
ً لديه مفهو ًما
على هذا المعنى االصطالحي فيستعملون في مقام كلمة (استبداد)كلمات :استعباد ،واعتساف ،وتسلط،
وتحكم .وفي مقابلتها كلمات :مساواة ،وحس مشترك ،وتكافؤ ،وسلطة عامة .ويستعملون في مقام صفة
مستبد كلمات :جبار ،وطاغية ،وحاكم بأمره ،وحاكم مطلق .وفي مقابلة (حكومة مستبدة) كلمات :عادلة،
ومسؤولة ،ومقيدة ،ودستورية ،ويستعملون في مقام وصف الرعية (المستبد عليهم) كلمات:أسرى،
ومستصغرين ،وبؤساء ،ومستنبتين ،وفي مقابلتها :أحرار ،وأباة ،وأحياء ،وأعزاء »(((.فهو يقيم ً
تقابل بين
منظومتين للتفكير ،ويقف خلف ذاك مسعى نقدي ،يروم من خالله المتكلم تنوير القراء ونقلهم من موقع
الجهل بمكامن االستبداد ومخاطره إلى الوعي به .وقد أشار في تعريف السياسة إلى أنها((« :إدارة الشؤون
المشتركة بمقتضى الحكمة)) ويكون بالطبع أول مبحث السياسة وأهمها بحث ((االستبداد)) أي التصرف
في الشؤون المشتركة بمقتضى الهوى(((» ويشير جورج كتورة إلى أن «المؤلف ال يريد تحديد السياسة وهي
الهدف األول من الكتابة – بمعنى الهدف هو السياسة اإلصالحية -بل يريد إبراز مضادات هذه السياسية؛
أو ما ال يوصل إليها .تما ًما كما وصف كل من أفالطون والفارابي المدينة الفاضلة التي كانا يحلمان
سلبا ،ففي
بتحقيقها »,أي أن طريقة بحثه في محاولة فهم االستبداد وتحليله تعتمد الوصف والتحليل ً
(((
تحديده لمعنى االستبداد يعمد إلظهار المعنى عبر تقديم المرادفات والمقابالت ال بطريق السبر والتقسيم
قيما ما،
أو االستدالل واالستنباط ،وأن المقابلة بين السياستين اإلصالحية واالستبدادية تضمر وتظهر ً
(((
وأن تلك القيم تحيل على مرجعيات مختلفة ترتبط بالسياق ،فاإلدارة السياسية في زمن اإلصالح تسعى
لتدعيم المشاركة والتضامن والمساواة ،وهذه القيم تؤسس لوعي جديد يحفظ للمجتمع مكانته الحضارية،
مشيرا إلى تغييب األمة أمام
ً وإذا كانت القيم هنا ذات بعد مجتمعي فإنها في زمن االستبداد ذات بعد فردي،
فردية المستبد .ومن المظاهر التي يمكن تبيان أشكال االستبداد فيها «الحاكم الفرد المقيد المنتخب متى
منتخبا؛ ألن االشتراك في الرأي ال يدفع االستبداد وإنما قد
ً كان غير مسؤول ،وتشمل حكومة الجمع ولو
أيضا الحكومة الدستورية نوعا ،وقد يكون عند االتفاق أضر من استبداد الفرد .ويشمل ً يعدله االختالف ً
المفرقة فيها بالكلية قوة التشريع عن قوة التنفيذ وعن القوة المراقبة ،ألن االستبداد ال يرتفع ما لم يكن
هناك ارتباط في المسؤولية فيكون المنفذون مسؤولين لدى المشرعين ،وهؤالء مسؤولين لدى األمة»(((.
يقود تغييب الرقابة عن الحكومات المنتخبة إلى تحوالت كبيرة وجوهرية في بنيتها وطبيعة موقفها من
اإلنسان والعالم ،ومن تلك التحوالت االستبداد والفوضى ،وهنا يمكن تلمس تقابل ضمني بين االستبداد
الثانوية التي تتدرج من تلك القيم متغيرة وهي تقابل القيم المضادة لها ظاهر أو ضمني .وقد رأت نظرية
ما بعد الحداثة تقابل المستبد والرعية تقابل ذوات الفاعلة والمفعول بها ،ويستند تقابل الذوات ً
أيضا إلى
تقابل آخر وهو (تقابل الخطاب) ،الذي يعد من التقابالت الرئيسة في تشكل البنى ،ويتحكم هذا النوع من
وافتراضيا؛
ً ضمنيا
ً التقابل بالداللة العامة« ،وقد يكون ظاهر ًيا معل ًنا ،فيسهل الوقوف عليه .كمـا قـد يكون
وفي هذه الحالة ال بد من تتميمه .ويتم إكمـال صورة هذا التقابل المركزي ،وتوسيع مضامينه بتقابالت
تفصيلية واستتباعية ظاهرة أو مفترضة(((» .ويمكن أن نتوقف لدى نوعين من التقابالت:
-الحاكم والعامة
يحمل خطاب الكواكبي شكلين من األمة شكل قائم ،يرمي المتكلم إلى تقويض مفاهيمها ،ونفي قيمه
التي ترسخت عبر صلته باالستبداد ،وآخر يسعى إلى إقامته عبر المفاهيم وتصورات التنويرية التي يطمح
وطنيا
ً إليها الكواكبي ،وبالتالي يمكن عد فكرة األمة نتاج الخطابات الوطنية التي ُقدمت بوصفها سر ًدا
وتابعا
خاضعا للسلطة ً ً ومحاولة لبعث نرجسية الذات((( ،وهنا يحضر زمنان :زمن حاضر يظهر فيه المجتمع
لها ،ومستقبل يروم الكواكبي صناعته ،ولعل قيمة الخطاب التنويري تظهر بتطلعه للمستقبل؛ أي أن
المجتمع ال وجود له قبل تشكل الخطاب((( .فاإلنسان في زمن النهضة متحكم بمصيره ،فهو لم يكن جز ًءا
من العالم وحسب بل ذات قادرة على أنتاج العالم وتغييره((( .وينبه الكواكبي إلى مركزية المستبد في
المجتمعات التي يظهر فيها ،إذ قال« :ما أشبه المستبد في نسبته إلى رعيته بالوصي الخائن القوي ،يتصرف
في أموال األيتام وأنفسهم كما يهوى ما داموا ضعا ًفا قاصرين ،فكما أنه ليس من صالح الوصي أن يبلغ
األيتام رشدهم ،كذلك ليس من غرض المستبد أن تتنور الرعية بالعلم .وال يخفى على المستبد مهما كان
غبيا أن ال استعباد وال اعتساف إال ما دامت الرعية حمقاء تخبط في ظالمة جهل وتيه عماء ،فلو كان ً
طيرا لكان خفاشا يصطاد هوام العوام في ظالم الجهل ،ولو كان وحشً ا لكان ابن آوي يتلقفً المستبد ً
حاكماً المتكلم المستبدَ
ُ دواجن الحواضر في غشاء الليل ،ولكنه هو اإلنسان يصيد عالمه جاهله »(((.ال يعد
بل عدو ،وبهذا التحديد يضعه في تموقع جديد ،فهو يحاول أن يدفعه عن موقع السيطرة إلى موقع آخر
متغير وقلق((( ،ويشير لذلك التغير بـ(الوصي -الخائن ،يتصرف في أموال األيتام وأنفسهم -ضعا ًفا
قاصرين ،ليس من غرض المستبد -تتنور الرعية )...وهذه التقابالت التي تصل بين المستبدين والعامة
قيما مثل االستغالل والظالمية والجهل ،وتستند إلى معقد تظهر العداء الذي يحمله لها ،والتي حملت ً
حجاجيا ،يرمي من خالله الخطاب إلى الدفاع عن اإلنسان ،وإلغاء ً االستبداد ،الذي يحضر فيها بعدً ا
((( التأويلية العربية ،نحو نموذج تساندي في فهم النصوص والخطابات.281 :
((( ينظر :األمة والسرد ،هومي بابا ،ترجمة :خالد العارف ،مجلة العرب والفكر العالمي -مج ،37ع.44 :2016 ،38
((( ينظر :تحليل الخطاب النظرية والمنهج.86 :
((( ينظر :نظرية األدب ،تيري ايغلتون ،ترجمة :ثائر ديب ،منشورات وزارة الثقافة -دمشق ،ط.106-105 :1995 ،1
((( طبائع االستبداد ومصارع االستعباد.85 :
((( ينظر :الخطاب ،سارة ميلز ،ترجمة :غريب اسكندر ،دار الشؤون الثقافية العامة -بغداد ،ط.43 :2015 ،1
195 اخلطاابت العنرصية :قراءات نقدية
التراتبية بين الحاكم واألمة التي خلقها التخلف ،فالمستبد المقابل الضد لألمة الذي ينتظر غفلتها ويرجو
ً
وملكا، وغالبا ما يغيب محاوالت التفاوض ،واستبعاد تلك القيمة جاء لعده األمة وأموالها غنيمة ً جهلها،
وأي مسعى إصالحي لتنوير الناس يقود إلى زوال سلطانه ،وتشكل قيم جديدة .وإذا كان االستبداد قد
ومضمرا ،وكال
ً ً
مقابل استبعد المفاهيم التي تتقاطع مع رؤيته ال سيما التنويرية ،يمكن عد اإلصالح معقدً ا
المعقدين يمكن عدهما رئيسيين في توجيه الخطاب((( ،وهنا يبرز تقابل ضمني يمكن فهم أبعاده من
مستمرا:
ً السياق ،وقد نبه الكواكبي لذلك ً
قائل« :وينتج مما تقدم أن بين االستبداد والعلم حر ًبا دائمة وطرا ًدا
يسعى العلماء في تنوير العقول ويجتهد المستبد في إطفاء نورها ،والطرفان يتجاذبان العوام .ومن هم
العوام؟ هم أولئك الذين إذا جهلوا خافوا ،وإذا خافوا استسلموا ،كما أنهم هم الذين متى علموا قالوا ومتى
قالوا فعلوا”((( .فقد عبر عن صراع العلم مع االستبداد بالحرب؛ لتمسك المستبد بمواقعه وخشيته عليها،
غالبا ما تتكون السياسة من طبقتين عليا ظاهرة ،تمثل فضل عما للعلم من دور كبير في صناعة األمم ،لذا ً ً
هرم السلطة وصراعه مع العلم ،وخفية تمثل القيم التي تكرسها السلطة في المجتمع .وفي النص السابق
تتجاور القيم الكبرى مع القيم الصغرى ،ويأتي ذاك التجاور بشكل هرمي ،ومن القيم الكبرى ،الجهل ،أما
القيم الصغرى ،فمنها ،التهميش والعداء والخوف .ويقابل ذلك معقد قيم مقابلة ،وهو العلم وقيمته الكبرى
الوعي ،أما القيم الصغرى التي تتفرع من ذاك المعقد ،فهي التنوير واالدراك والتحرر ،وهذه القيم والمعاقد
بعضا ،وتدخل في صراع مع بعض .ويشير المتكلم لذلك في قوله « :إن العوام يذبحون تقابل بعضها ً
أنفسهم بأيديهم بسبب الخوف الناشئ عن الجهل والغباوة ،فإذا ارتفع الجهل وتنور العقل زال الخوف،
طبعا لغير منافعهم كما قيل :العاقل ال يخدم غير نفسه ،وعند ذلك ال بد للمستبد وأصبح الناس ال ينقادون ً
من االعتزال أو االعتدال »(((.فالذات في سياق االستبداد تتحول إلى جالد قامعة لذاتها ،وتحسب أن غياب
الحريات جزء من طبيعتها ،ويرسخ ذلك الوهم الذي يصنعه الجهل داخلها ،مثلما يؤكده الخوف من سلطة
المستبد ،لذا يشكل التماهي مع الجور إحدى المظاهر البارزة في سعي اإلنسان المقهور لحل مأزقه
الوجودي والتخفيف من انعدام الشعور باألمن ،أي أنه يهرب من ذاته ويتنكر لها ،ويغدو الهروب من
الواقع ذا طابع اجتماعي ،ويكون ذلك الهروب من خالل التشبه بالمستبد وتمثيل أفعاله وقيمه َ
أمل
بالخالص((( .وإذا ما تحقق التنوير فإن الذات تستضيء بقيم العقل والمعرفة ،وال تنقاد لغيرها من دون
الهوية التي أدامت السلطة صناعتها ،وفي دراية ،وأن هذا التموقع الذي تأخذه األمة في زمن االستبداد يمثل ُ
المقابل يرمي المتكلم إلى ترسيم تموقع مختلف يغاير قيم االستبداد ويقوضها ،فإذا كانت الذات في زمن
االستبداد تتسم بالجهل ويغلب عليها الخوف بسبب قسوة المستبدين وبطشهم فإنها تتسم بوعي ودراية في
المخاطب العلماء إلى ضربين :ضرب ِ زمن النهضة ،وذلك كله يكشف الفرق بين الزمنين .وقد قسم
يخافهم وهم الراشدون المرشدون ،والضرب اآلخر يمثل العلماء المنافقين((( ،وهذان الضربان يتقابالن
مع بعضهما مثلمان يقابل كل منهما المستبد ،فتقابل العلماء المنافقين مع المستبد تقابل توافقي ،لذا أن
الوعي الذي يحمله أولئك يدعم السلطة الجائرة ،أما تقابل العلماء اإلصالح مع الحكام تقابل تضاد،
ويتحقق التضاد مع وجود العلماء الذين يرمون إلى ترسيخ وعي مغاير وواقع مختلف ،في حين أن العلماء
وغالبا ما كانوا يديمون القديم ويحافظون عليه من التحول .ولعل ً المنافقين تغلب عليهم التبعية واإلذعان،
التفاتة المستبد لعلوم بعينها ومحاربته أخرى يؤكد مسعاه إلى تقويض المفاهيم النقدية ،فـ«المستبد ال
يخشى علوم اللغة ،تلك العلوم التي بعضها يقوم اللسان ،وأكثرها هزل وهذيان يضيع به الزمان .نعم ال
يخاف علم اللغة إذا لم يكن وراء اللسان حكمة حماس تعقد األلوية ،أو سحر بيان يحل عقد الجيوش[]...
وكذلك ال يخاف المستبد من العلوم الدينية المتعلقة بالمعاد ،المختصة ما بين اإلنسان وربه ،العتقاده أنها
ال ترفع غباوة وال تزيل غشاوة ،وإنما يتلهى بها المتهوسون للعلم ،حتى إذا ضاع فيها عمرهم ،وامتألت بها
علما غير علمهم ،فحينئذ يأمن المستبد منهم كما أدمغتهم ،وأخذ منهم الغرور ما أخذ ،فصاروا ال يرون ً
يؤمن شر السكران إذا خمر(((» ،قابل المتكلم بين نمطين من العلوم ،وقد استند ذلك التقابل إلى وعيه
بموقفها من السلطة وفاعليتها االجتماعية .فقيمة تلك العلوم بالنسبة للمتكلم في مدى إعادة األمة إلى ذاتها
وتصحيح اآلثار التي تركها االستبداد عليها((( ،ويرى أن العلوم قسمان نافعة وأخرى غير نافعة ،وأن الغاية
التي يرمي إليها الخطاب هي تنويرية نقدية فقد حددت تلك الغاية مواقع الذوات التي ينبغي للمخاطبين
أخذها في علوم اللغة ،كذلك حددت الغاية النقدية المواقع التي شغلها المستبدون من تلك العلوم،
فإقبالهم على علوم بعينها ظاهره أفضلية تلك العلوم ،وباطن األمر خشيتهم من العلوم التي جرى استبعادها؛
كونها ذات بعد نقدي قادر على فضح بنى التفكير التي ُيراهن عليها ،ويشير المتكلم إلى ذلك ً
قائل« :ترتعد
فرائص المستبد من علوم الحياة مثل الحكمة النظرية ،والفلسفة العقلية ،وحقوق األمم وطبائع االجتماع،
وتوسع
ّ تكبر النفوس
والسياسة المدنية ،والتاريخ المفصل ،والخطابة األدبية ،ونحو ذلك من العلوم التي ّ
وتعرف اإلنسان ما حقوقه ،وكم هو مغبون وكيف الطلب ،وكيف النوال ،وكيف الحفظ[]...وينتج العقول ّ
مستمرا :يسعى العلماء في تنوير العقول ويجتهدً مما تقدم أن بين االستبداد والعلم حر ًبا دائمة وطرا ًدا
وغالبا
ً تموقعا مختل ًفا في الخطاب،
ً المستبد في إطفاء نورها ،والطرفان يتجاذبان العوام »(((.يأخذ المستبد
ما يكون التموقع في فضاء نزاعي ،إذ تحضر تراتبية العلوم والطبقات((( ،ويقسم المتكلم العلوم إلى أخروية
يرعاها المستبد ويقبل عليها ،وعلوم دنيوية يسعى جاهدً ا إلى نفيها وإقصاء أهلها ،وأن محاولة إقصاء علوم
تتحول من مجتمعات مفارقة لصورة الحاكم إلى مشابهة له ،لتنتقل بذلك من التعددية إلى التبعية والخضوع،
خطرا على المستبد،
ً تكامليا ،وبذلك لم يعد المجتمع يشكل ً وهنا يغدو التقابل بين المجتمع وبينه ً
تقابل
ومنتجا له .وفي الغالب يصدر المستبد خطابه بوصفه حقيقة ،ويكون ً فهو قد أصبح جز ًءا من كيان االستبداد
وأسا له ،فهو يرى المجتمع خصو ًما له لذ يتمركز النظام القانوني حوله ،وله وحده حق مركز الخطاب ً
الهيمنة وما يتفرع عنها((( ،من أجل إخضاع المجتمع وتهذيبه على وفق أساليبه .ويشير المتكلم إلى «أن
األخالق ،زمن االستبداد ،حرب إرادات بين الحاكم المطلق والرعايا المحكومين ،صراع بين األخالق
واالستبداد ،كل منهما يريد إلغاء اآلخر .وبالطبع فإن من مصلحة المستبد تفشّ ي الفساد األخالقي الذي
يؤدي إلى اعتياد المذلة وضعف الثقة بالنفس(((» .دل المتكلم على خطر اآلخر الذي يتمثل بالمستبد من
خالل مجموعة من العالمات منها (حرب ،صراع ،إلغاء ،تفشي ،)...وفي الغالب تجري مقابالت الكواكبي
بين المستبد بوصفه مؤسسة واإلنسان العربي بوصفه ذاتًا ،لينبه إلى أن شيوع قيم االستبداد هو في الواقع
ضرب من أضرب قتل اإلنسان .وهنا يحضر الخطاب الناقد لالستبداد ومفاهيمه ويشير لذلك في قوله:
«ربما يستريب المطالع اللبيب ،الذي لم يتعب فكره في درس طبيعة االستبداد ،من أن االستبداد المشؤوم
كيف يقوم على قلب الحقائق ،مع أنه إذا دقق النظر يتجلى له ان االستبداد يقلب الحقائق في األذهان.
ويرى أنه كم مكن بعض القياصرة والملوك األولين من التالعب باألديان تأييدً ا الستبدادهم فاتبعهم الناس.
ويرى أن الناس وضعوا الحكومات ألجل خدمتهم ،واالستبداد قلب الموضوع ،فجعل الرعية خادمة
للرعاة فقبلوا وقنعوا .ويرى أن االستبداد استخدم قوة الشعب ،وهي هي قوة الحكومة ،على مصالحهم ال
لمصالحهم فيرتضوا ويذعنوا .ويرى أنه قد قبل الناس من االستبداد ما ساقهم إليه من اعتقاد أن طالب
الحق فاجر ،وتارك حقه مطيع ،والمشتكي المتظلم مفسد ،والنبيه المدقق ملحد ،والخامل المسكين صالح
حجاجيا ،فعبر تلك الوسيلة الخطابية كشف المتكلم عما يضمره ً أمين(((» يحمل المقتبس السابق بعدً ا
االستبداد ،فقد نقل قدم المتبس السابق صورة عن صراع الحقائق ،وأن مسعى قلب الحقائق ذاك يحمل
معه هاجس تغييب الحقائق األصيلة والبناءة ،وهنا يستند المستبد إلى حقائق وقيم إقصائية الستحضار قيم
التغييب ،ليتمكن من فرض هيمنته على المجتمع .وقد أشار المتكلم إلى أن التغيير االجتماعي من أهم
والهويات ،يتبعها تغيير
مرامي االستبداد ،لما يحققه له من تغيير في مواقع المؤسسات والهيآت واألفراد ُ
في رؤيتها االجتماعية ،أي أنها تتحول من كونها مستقلة إلى خادمة لالستبداد ،وهنا يحدث تقابل وقلب
في الوقت ذاته بين التعددية في زمن النهضة والتبعية إلى المستبد في زمن االستبداد .ويرى المتكلم أن
بشاعة أفعال المستبدين تعود على األمة وانتقالها من حال إلى حال ،ال سيما إذا ما طال ذاك الزمن واشتد،
إذ أصبح ينظر لطالب حق فاجر والنبيه المدقق ملحد ،وأن هذا الموقع الذي أنكره المتكلم جاء نتيجة
سطوة المستبد وحاشيته ،وكذلك للجهل الذي تبثه مؤسساته ،وقد حملت اللغة النقدية التي جاء بها
((( ينظر :يجب الدفاع عن المجتمع ،ميشيل فوكو ،ترجمة :الزواوي بغوره ،دار الطليعة -بيروت ،ط.53-52 :2003 ،1
((( االستبداد وبدائله في فكر الكواكبي ،محمد جمال طحان ،منشورات اتحاد الكتاب العرب -دمشق ،ط.192 :1992 ،1
((( طبائع االستبداد ومصارع االستعباد.135 :
199 اخلطاابت العنرصية :قراءات نقدية
المتكلم دعوة إلى القارئ لتغيير موقعه وموقفه من االستبداد ،الذي يرمي إلى تشويه الحقائق التي تتصل
بفطرة اإلنسان ،ليؤكد أن االستبداد كيان طارئ على الجسد االجتماعي ،يرمي إلى تشويه الفطرة اإلنسانية،
وأن استناد المتكلم إلى الفطرة محاولة إلثبات أصالة الطابع التنويري في اإلنسان؛ لذا تجده يعود إلى أصل
األشياء ثم مآالتها مع االستبداد ،نحو ذلك قوله« :والمقصود من المال هو أحد اثنين ال ثالث لهما وهما:
تحصيل لذة ،أو دفع ألم(((» ثم تتبع تحوالت وظائفه في ظل سلطة االستبداد التي عزلت بين األخالق
وواقعا مغايرين يعزز تصورات المستبد ويؤكد سلطته .وقد حاول مرسل ً وعيا
والمال ،وهذا العزل خلق ً
رجل وأراد أن يحتسب وينتسب لقال(( :أنا الشر، قائل« :االستبداد لو كان ً
الخطاب تحديد موقع المال ً
الضر ،وخالي الذل ،وابني الفقر ،وبنتي
ُّ وأبي الظلم ،وأمي اإلساءة ،وأخي الغدر ،وأختي المسكنة ،وعمي
البطالة ،وعشيرتي الجهالة ،ووطني الخراب ،أما ديني وشرفي وحياتي فالمال المال المال)) »(((.استند
المتكلم في تحديد موقع المال في سلطة االستبداد إلى عملية التمثيل ،ليبرز المعاني في ذهن المتلقي،
ويعطي بذلك المال أهمية خاصة في تشكيل هرم السلطة ،فهو وسيلة إغراء كبيرة يمتلكها المستبد في
صناعة أشكال االستبداد األخرى ،ويمكن فهم صورة المال عبر ما يقابله ،أي استعماله في منفعة األمة،
لحماية ممتلكاتها ،وتنمية رفاهيتها ،وهذه السمات تمثل الجانب اآلخر من المال الذي سكت عنه االستبداد
وضمنه المتكلم في خطابه((( .وال تتوقف ممارسات االستبداد لدى السلطة المؤسساتية ،بل أن مسعاه
يصبح ظاهرة اجتماعية وهو ما تغذيه السلطة وترسخه .فـ«التربية غير مقصودة وال مقدورة في ظالل
االستبداد إال ما قد يكون بالتخويف من القوة القاهرة ،وهذا النوع يستلزم انخالع القلوب ال تزكية النفوس.
فضل عن الترهيب ،وأن وقد أجمع علماء االجتماع واألخالق والتربية على أن اإلقناع خير من الترغيب ً
التكمل
ّ التعليم مع الحرية بين المعلم والمتعلم ،أفضل من التعليم مع الوقار ،وأن التعليم عن رغبة في
طمعا في المكافأة ،أو غير ًة من األقران « (((.فالخطاب يكشف عن تمكن المستبد
أرسخ من العلم الحاصل ً
منتجا بذلك مستبدين ً
ومحل لها(((؛ أي أنه راح يزرع وعيه فيهاً ، ممرا للسلطة
من األمة ،التي أصبحت ً
صغارا ،ليتشكل بذلك هرم االستبداد من الحاكم إلى المؤسسات ثم األفراد ،وهذه المواقع وإن اختلفت ً
تكامليا ،وهنا يمكن مالحظة نمطين للسلطة :سلطةً في شكلها إال أنها تتقابل مع المستبد األعظم ً
تقابل
عليا تمثل الحاكم وحاشيته ،وهي منفصلة عن المجتمع وتمثل االستبداد بوصفه مؤسسة ،وسلطة أخرى
يشارك المجتمع في إنتاجها وتداولها ،وهذه السلطة األخيرة منتج من لدن السلطة العليا ،ويمكن النظر إلى
هاتين السلطتين بشكل هرمي في ظل االستبداد ،يمثل المستبد القمة والمنتج لها ،ثم تمتد تلك السلطة إلى
رئيسا في خطاب الكواكبي ،إذ يجري الصراع بين وعيين هما المجتمع ومختلف شؤونه .وتعد األمة معقدً ا ً
خطاب الكواكبي وما يحمله من وعي تنويري ،وبين الوعي الزائف الذي يحمله االستبداد ،وكل وعي يروم
بناء مجتمع يناسب رؤاه((( .ونلحظ التقابل الهرمي يتجلى في مجال األخالق زمن االستبداد ،وعلى الرغم
من أن «أقوى ضابط لألخالق :النهي عن المنكر بالنصيحة والتوبيخ ،أي يحرص األفراد على حراسة نظام
االجتماع ،وهذه الوظيفة غير مقدور عليها في عهد االستبداد لغير ذوي المنعة من الغيورين ،وقليل ما هم،
ضررا
وقليل مما يفيد نهيهم ،ألنه ال يمكنهم توجيهه لغير المستضعفين الذين ال يملكون ًً ً
وقليل ما يفعلون،
نفعا(((» فوظيفتا التوجيه والنقد تفارقان السياق االستبدادي ،وتغييب تلك الوظائف بفعل السلطة وال ً
الرقابية التي يفرضها المستبد على األفراد ،وهنا يؤكد هرمية أشكال الوعي في حقب االستبداد ،وتتحقق
فاعليته إذا ما توجه من األعلى إلى األسفل أو كان من ذوي المنعة والمكانة .أما زمن اإلدارة الحرة «فيمكن
لكل غيور على نظام قومه أن يقوم به بأمان وإخالص ،وأن يوجه سهام قوارصه إلى الضعفاء واألقوياء
أيضا ذوي الشوكة والعناد .وأن يخوض في كل يخص بها الفقير المجروح الفؤاد ،بل تستهدف ً ّ سواء ،فال
واد حتى في مواضع تخفيف الظلم ومؤاخذة الحكم ،وهذا هو النصح اإلنكاري الذي يعدي ويجدي(((»
تسير الخطابات في الحكم الديمقراطي بشكل أفقي ،إذ يقف المجتمع والحاكم في مسافة واحدة ،وأن
الوعي االنتقائي الذي يعد سمة للوعي الزائف قد فارق خطاب التنوير ،الذي يوجه نقده لمختلف مناحي
الحياة .وفي إزاء ذلك نجد أن الصراع بين الوعيين التنويري والزائف جاء في مستويات عدة :ففي مستوى
الزمن نرى انتماءهما إلى زمنين مختلفين ،ولكليهما رؤية خاصة ،وتقوم تلك الرؤيتان على التعارض
ِ
المخاطب ضبابية االستبداد والتباسه على الناس، والنفي؛ النتمائهما إلى مرجعيات مختلفة .كذلك ّبين
ووضوح الخطاب التنويري واتصاله الحقيقي باألمة؛ لذا يتحاشى دعاته التعميمات غير المنضبطة،
ويسعون إلى تلقط التفاصيل ومساءلة الواقع بشكل متكامل ،في حين يستند االستبداد إلى االنتقاء في بسط
تعميماته على مختلف مجاالت الحياة.
-الحاكم والبطانة
يمكن النظر إلى صلة الحاكم ببطانته كإحدى أشكال تقابل الذوات ،وينهض هذا التقابل على التكامل
والتجاور ،وهو شكل من أشكال التقابل التوافقي؛ لتوافق المستبد وبطانته على استغالل المجتمع والسيطرة
عليه ،فالحاشية منتج ثان للسلطة المستبد والمحافظ عليها ،وقد اصطلح على أولئك بـ(المتمجدين) وهم
وغالبا ما كانوا خاصين باإلدارات المستبدة((( ،وهؤالء -كما رأى المتكلم
ً الطبقة التي تناسب رؤاه وأهواءه،
-مستبدون صغار في كنف المستبد األعظم((( ،وهم «القربى من المستبد بالفعل كاألعوان والعمال ،أو
إلى رضى المستبد .أما حاشية السلطة فتشغل موقعين أولها الطموح للسلطة والسعي لها ،أما الموقع
اآلخر فهو الخضوع للمستبد والتبعية له((( ،والموقعان يتكامالن مثلما يتقابالن .وإذا كان المجد يستند إلى
األفكار الحرة والرؤى الهادفة فإن التمجيد وخلفه المتمجدين« ،يريدون أن يخدعوا العامة ،وما يخدعون
غير نسائهم الالتي يتفحفحن بين عجائز الحي بأنهم كبار العقول أحرار في شؤونهم ال يزاح لهم نقاب،
وال تصفع منهم رقاب ،فيحوجهم هذا المظهر الكاذب لتحمل اإلساءات واإلهانات التي تقع عليهم من
المستبد بل تحوجهم للحرص على كتمها ،بل على إظهار عكسها ،بل على مقاومة من يدعي خالفها ،بل
حق المستبد وإبعادهم عن اعتقاد أن من شأنه الظلم,»(((.يتقابل في المقتبس على تغليظ أفكار الناس في ّ
السابق ثالث ذوات ،ذات تدل على الحاشية تسعى عبر الخداع إلى السيطرة وتسير وعي الناس وهم بطانة
جانبا من كذبة الحاشية ،وأوهمت نفسها بها العامة التي صدقت ًُ المستبد وحاشيته ،ويقابل تلك الذات
لتقع بسطوة الجهل واالستبداد .ويقابل ذلك المتكلم الذي سعى عبر ما يمتلكه من وعي تنويري ولغة
نقدية إلى تعرية خطاب االستبداد ،والكشف عن المواقع التي تنتقل إليها البطانة بغية تجاوز محدودية
الموقع الذي تقف عندها ،وتستند في فعل التجاوز إلى البطش والحيلة ،ويرى المتكلم أن الحاشية تلجأ
إلى الخداع لتغطي به نقصها ،وهنا تقابل بين ارتفاع شأنهم الظاهر وتدني مقامهم في الباطن .فالطبقة
التي اصطنعها المستبد تستند إلى الخداع والكذب ،وتسعى إلى تضليل الناس عبر طرح فهم زائف عن
الحق والحقوق ،عوض المفهوم الذي يطرحه ذوو الفكر الحر والمجد ،وال يمكن للمستبد أن يستغني
عن المتمجدين؛ ألنهم الممثل لرؤيته البديلة والوسيلة المثلى لتطبيقها ،فعبرهم يطبق ما يرتضيه على
المجتمع .ويقابل ذلك المجتمع تقابل خضوع ،فالحاشية تطمع بالسلطة التعويضية التي يجود بها الحاكم،
والشعب يخشى السلطة القسرية التي يفرضها على مختلف َق ّطاعات الحياة((( .وال تتوقف المقابلة عند هذا
الحد بل تمتد خشية الحاكم من تلك الحاشية فيستعمل معها «سياسة الشدة والرخاء ،والمنع واإلعطاء،
وااللتفات واإلغضاء ،كي ال يتفقوا عليه .وتارة يعاقب عقا ًبا شديدً ا باسم العدالة ،إرضاء للعوام ،وأخرى
استحقارا ،ويقصد بذلك
ً استكبارا ،فيجعلهم سادة عليهم يفركون آذانهم
ً يقرنهم بأفراد كانوا يقبلون أذيالهم
كسر شوكتهم أمام الناس وعصر أنوفهم أمام عظمته .والحاصل أن المستبد يذلل األصالء بكل وسيلة
دائما بين رجليه كي يتخذهم لجا ًما لتذليل الرعية »(((.تستند سياسة المستبد إلى حتى يجعلهم مترامين ً
معا ،وهاتان الوسيلتان يلجأ لهما المستبد
الشدة واإلرخاء ،أي أنها تستعمل السلطتين القسرية والتعويضية ً
لتسيير الحاشية بالترغيب والترهيب ،ويعود ذلك إلى خشيته من توحد المجتمع واجتماعه ،وهنا يبدو
جليا التقابل بين السلطتين القسرية والتعويضية ،فاألولى لدفع مكايد الحاشية ،واألخرى ألجل كسبها، ً
وتظهر قيمة الخنوع والتبعية ظاهرة في الخطاب ،وأن ذاك الخنوع يجلب على البطانة بالمنافع مثلما يدفع
مرة يرعاه االستبداد ويسعى عبره إلى هدم تصورات الناس وفهمهم الواقعي لحيواتهم ،وتقديم بديل عنها.
والصيغة األخرى هي الهدم المضاد الذي ينهض به التنوير لمواجهة الوعي االستبدادي ،وهنا اإلصالح
الذي يرمي إليه الخطاب إنما يجب أن يكون في أحد أهم معالمه هو اإلصالح الديني ،وتعود رؤيته تلك
إلى السياق االجتماعي ذي الطابع الديني الذي نشأ فيه ،إذ أن خشيته من استغالل الحاكم للقيم الدينية كان
حافزا للتنبيه إليها ،كذلك أن انتماءه إلى تربية دينية حفزت فيه الفاعل الديني.
ً
الخاتمة
يمكن للقارئ أن ينتهي في هذه الدراسة إلى نتائج عدة منها:
-سعى خطاب الكواكبي إلى تأسيس فهم جديد ألسباب تخلف األمة العربية ،من خالل اجتراحه
سن ًنا جديدة في التفكير والرؤية التنويريتين ،فقد لفت المجتمع العربي إلى السياسة ،وما ينتظم
حولها من مؤسسات ،وما تبثّه من قيم ترسخ وعي السلطة في الواقع االجتماعي ،ويمكن لهذه
مدفوعا بقدرة العربي
ً القيم أن تحدد تموقع سلطة ما ،مثلما تحدد هوية المجتمعات ،وقد تأمل ذلك
على التغيير والمقاومة ،وتشير لذلك بنية الكتاب التي اختتم بفصلين وهما (االستبداد والترقي،
فضل عن استناده إلى لغة نقدية تحيل إلى عصر نقدي ينشغل مفكروه االستبداد والتخلص منه)ً ،
بقضايا المجتمع ،وأسئلة النهضة والتنوير ،وقد جاء كتابه نقدً ا لقيم التخلف التي ضيعت شخصية
األمة العربية وبدلت هويتها ،وعده االستبداد معقدً ا للخراب يعد سمة تمثل خطابه في السياق الذي
ينتمي إليه.
-يعد تقابل الذوات أهم التقابالت التي شكلت الخطاب ،وتعود أهميته الرتباط الذات بالموضوع،
موضوعا ،وقد تعامل الخطاب مع جملة منً أي بموضوع االستبداد ،فقد تصبح تلك الذات نفسها
الذوات سواء أكانت ذات المستبد أو الذات االجتماعية ،وأحيانًا تشير الذات إلى الكل االجتماعي
الذي يقابل المستبد ،مثلما تجري عليه أساليب االستبداد ،وقد تدل على الذات المقاومة والناقدة
ويمثلها علماء التنوير.
وعيين ،ويسعى كل وعي إلى تكريس قيمه عبر بث صراعا بين َ
ً -إن كتاب الكواكبي يمثّل من عنوانه
مركزا للتخلف وبا ًثا لقيمه ،فقد جعل الكواكبي من
ً مجموعة من القيم والرؤى ،وإذا كان المستبد
نفسه با ًثا مضا ًدا ،وأن هذا الصراع القيمي يقود إلى كشف مجموعة من معاقد الخطاب ،فنجد لدى
المستبد أن التخلف هو معقد الخطاب ،وفي المقابل تعد الحرية والتنوير معقدً ا لخطاب الكواكبي،
وتدور حول كل معقد مجموعة من القيم التي ترسخه.
207 اخلطاابت العنرصية :قراءات نقدية
املصادر واملراجع
-االستبداد وبدائله في فكر الكواكبي ،محمد جمال طحان ،منشورات اتحاد الكتاب العرب -دمشق،
ط.1992 ،1
-األمة والسرد ،هومي بابا ،ترجمة :خالد العارف ،مجلة العرب والفكر العالمي -مج ،37ع.2016 ،38
-التأويلية العربية ،نحو نموذج تساندي في فهم النصوص والخطابات ،محمد بازي ،الدار العربية
للعلوم ناشرون -بيروت ،ط.2010 1
-تحليل الخطاب النظرية والمنهج ،ماريان يورغنسن ولويز فيليبس ،ترجمة :شوقي بوعناني ،هيئة
البحرين للثقافة -ط.2019 ،1
-التخلف االجتماعي مدخل إلى سيكولوجيا اإلنسان المقهور ،مصطفى حجازي ،المركز الثقافي
العربي -المغرب ،ط2005 ،9
-التقابل تحليل لغوي وسايكولوجي ،تشارلز كي أوغدن ،ترجمة :كيان أحمد حازم ،دار الكتاب
الجديد -بيروت ،ط.2018 1
-تشريح السلطة ،جون كينيث جالبريث ،ترجمة :عباس حكيم ،دار المستقبل ،دمشق ،ط:1994 ،2
-تصورات األمة المعاصرة دراسة تحليلية لمفاهيم األمة في الفكر العربي الحديث والمعاصر ،ناصيف
نصار ،المركز العربي لألبحاث ودراسة السياسات -قطر ،ط.2017 ،3
-الحياة النفسية للسلطة :نظرية في اإلخضاع ،جوديث بتلر ،ترجمة :نور حريري ،دار نينوى -دمشق،
ط.2021 ،1
-الخطاب ،سارة ميلز ،ترجمة :غريب اسكندر ،دار الشؤون الثقافية العامة -بغداد ،ط.2015 ،1
-الخطاب السياسي في القرآن السلطة والجماعة ومنظومة القيم ،عبد الرحمن الحاج ،الشبكة العربية
لألبحاث -بيروت ،ط.2012 ،1
-الخطاب والتغير االجتماعي ،نورمان فيركلف ،ترجمة :محمد عناني ،المركز القومي للترجمة-
القاهرة ،ط.2015 ،1
-الخطاب والسلطة ،توين فان دايك ،ترجمة :غيداء العلي ،المركز القومي للترجمة -القاهرة ،ط،1
.2014
-دليل االستبداد والمستبدين ،بروس بيونو دو مسقيتا وألستير سميث ،ترجمة :فاطمة نصر ،الهيئة
المصرية العامة للكتاب -القاهرة ،ط.2014 1
-دليل الناقد األدبي ،ميجان الرويلي وسعد البازعي ،المركز الثقافي العربي -المغرب ،ط.2007 ،5
-الذات تصف نفسها ،جوديث بتلر ،ترجمة :فالح رحيم ،دار التنوير -ط.2014 ،1
خطابات 208
-سؤال العصر الذات اآلخر ،مالكة العاصمي ،كتاب شراع -المغرب ،2000 ،د.ط.
-الطاغية :دراسة فلسفية لصور من االستبداد السياسي ،إمام عبد الفتاح إمام ،عالم المعرفة -الكويت،
د .ط.1994 ،
-طبائع الكواكبي في طبائع االستبداد دراسة تحليلية ،جورج كتورة ،المؤسسة الجامعية للدراسات-
بيروت ،ط.1987 ،1
-عبد الرحمن الكواكبي فارس النهضة واألدب ،ماجدة حمود ،اتحاد الكتاب العرب -سوريا ،د .ط،
.2001
-كتاب الصناعتين الكتابة والشعر ،أبو هالل العسكري ،تحقيق :علي محمد البجاوي ومحمد أبو
الفضل إبراهيم ،دار الفكر العربي ،ط ،2د.ت.
-معجم تحليل الخطاب ،باتريك شارودو ودومينيك منغنو ،ترجمة :عبدالقادر المهيري وحمادي
صمود ،المركز الوطني للترجمة -تونس ،ط.2008 ،1
-معجم النقد األدبي ،ترجمة وتحرير :كامل عويد العامري ،دار المأمون -بغداد ،ط.2013 1
-مفهوم األيديولوجيا ،عبد الله العروي ،المركز الثقافي العربي -الدار البيضاء ،ط.1993 ،5
-مناهج التحليل النقدي للخطاب ،تحرير :روث فوداد وميشيل ماير ،ترجمة :حسام أحمد فرج وعزة
شبل محمد ،مراجعة :عماد عبد اللطيف ،المركز القومي للترجمة -القاهرة ،ط.2014 ،1
-موسوعة البالغة ،توماس أ .سلوان ،ترجمة :عماد عبد اللطيف وآخرون ،المركز القومي للترجمة-
القاهرة ،ط.2016 1
-موسوعة الالند الفلسفية ،أندريه الالند ،ترجمة :خليل أحمد خليل ،منشورات عويدات -بيروت،
ط.2001 ،2
-موسوعة نظرية األدب :إضاءة تاريخية على قضايا الشكل ،ترجمة :جميل نصيف التكريتي ،دار
الشؤون الثقافية العامة -بغداد ،ط.1986 ،2
-نظرية األدب ،تيري ايغلتون ،ترجمة :ثائر ديب ،منشورات وزارة الثقافة -دمشق ،ط.1995 ،1
-نظرية القيم في الفكر المعاصر ،صالح قانصوه ،دار الثقافة للنشر -القاهرة.1986 ،