You are on page 1of 19

‫سؤال املواطنة يف الفلسفة اليواننية بني الطابع املثايل‪ ،‬الواقعي والكوين‬

‫د‪ .‬جواق مسري‬

‫سؤال املواطنة يف الفلسفة اليواننية بني الطابع املثايل‪ ،‬الواقعي والكوين‪:‬‬


‫أفالطون‪ ،‬أرسطو واملدرسة الرواقية‬
‫‪The question of citizenship in Greek philosophy between ideality,‬‬
‫‪factuality and universality: Platon, Aristotle and Stoicism‬‬

‫‪*1‬‬
‫د‪ .‬جواق مسري‬
‫‪ 1‬جامعة عبد احلميد مهري‪ ،‬قسنطينة ‪ .2‬اجلزائر‪philo.samirdjouak@gmail.com .‬‬

‫اتريخ النشر‪2021/03/31 :‬‬ ‫اتريخ القبول‪2021/03/19 :‬‬ ‫اتريخ االستالم‪2021/02/20 :‬‬

‫‪Summary‬‬ ‫امللخص‬
‫‪This study aims to address the‬‬ ‫هتدف هذه الدراسة إىل معاجلة مفهوم املواطنة والتأويالت‬
‫‪concept of citizenship and the different‬‬
‫‪interpretations it took within Greek‬‬ ‫اليت أخذها يف الفلسفة اليواننية عرب ثالث حمطات فكرية أساسية‪:‬‬
‫‪philosophy over three periods of thought:‬‬
‫أفالطون‪ ،‬أرسطو واملدرسة الرواقية‪.‬‬
‫‪Plato, Aristotle and Stoicism.‬‬
‫‪The result shows that this concept is‬‬ ‫وقد متَّ التوصل إىل ٍ‬
‫نتيجة مفادها أن ظهور مطلح املواطنة كان مقروانً‬
‫‪strongly linked to the Greek city, also to‬‬
‫‪the nature of Greek society which admits‬‬ ‫ط بطبيعة اجملتمع اليوانين الذي يُقر‬
‫ابملدينة اليواننية‪ ،‬كما كانت ترتب ُ‬
‫‪social stratification, where citizenship is‬‬ ‫ابلطبقية‪ ،‬ومن مثة فقد كانت صفة املواطنة‪ /‬املواطن ُُتنح للفرد ذو‬
‫‪only offered to the individual whose origin‬‬
‫‪is Greek, it is his only right to participate‬‬ ‫األصل اليوانين فقط وهو وحده الذي يسمح له ابملشاركة السياسية‬
‫‪in the management of the state.‬‬
‫يف تسيري شؤون الدولة‪.‬‬
‫‪In the light of this reality of social‬‬
‫‪stratification, three approaches to‬‬ ‫تربز لنا ثالث مقارابت أساسية يف‬
‫على ضوء هذا الواقع الطبقي ُ‬
‫‪citizenship appear an idealistic approach,‬‬
‫‪which aims to build a correct society‬‬ ‫تناول مفهوم املواطنة‪ ،‬األوىل مقاربة مثالية تروم إىل أتسيس جمتمع‬
‫‪within an ideal republic, the second‬‬ ‫عادل يف مجهورية مثالية‪ .‬الثانية مقاربة واقعية تروم إىل أتسيس مواطنة‬
‫‪approach, consists in building a realistic‬‬
‫‪citizenship on real land, the third it is a‬‬ ‫متساوية على أرض الواقع‪ .‬أما الثالثة فهي مقاربة كونية تستوعب كل‬
‫‪universal approach that encompasses all‬‬
‫االنسانية‪.‬‬
‫‪of humanity.‬‬
‫‪Keywords : Citizenship, ideal‬‬ ‫الكلمات املفتاحية‪ :‬املواطنة‪ ،‬املواطنة املثالية‪ ،‬املواطنة الواقعية‪ ،‬املواطنة‬
‫‪citizenship, real citizenship, universal‬‬
‫‪citizenship.‬‬
‫الكونية‪.‬‬

‫*‬
‫د‪ .‬جواق مسري‪philo.samirdjouak@gmail.com :‬‬

‫مجلة تدفق ات ف لسفية‬ ‫المجلد األول‬


‫العدد الثاني‬
‫‪102‬‬ ‫دورية دولية أكاديمية محكمة‬
‫‪ISSN : 2716 – 8697‬‬ ‫مارس ‪2021‬‬
‫سؤال املواطنة يف الفلسفة اليواننية بني الطابع املثايل‪ ،‬الواقعي والكوين‬
‫د‪ .‬جواق مسري‬

‫مقدمة‪:‬‬

‫ارتبط ظهور مفهوم املواطنة ابملدينة اليواننيَّة ‪ ،La cité grecque‬وقد كانت صفة مُميزة لليوانين‬
‫احلر‪ ،‬صاحب اجلنسيَّة اليواننيَّة ‪ ،Nationalité grecque‬كما كانت تمعىن مبشاركة املواطن‪/‬اليوانين‬
‫ب ال يمتاح لغري اليوانين من األجانب أو األفراد الذين ينتمون‬ ‫ومكس ٌ‬
‫ّ‬ ‫حق‬
‫السياسيَّة يف تسيري شؤون املدينة‪ ،‬وهو ٌ‬
‫إىل الطبقات االجتماعيَّة األخرى (الصناع والعبيد)‪ ،‬ولئِّّن قمدر أ ّن يكون ظهور مفهوم املواطنة يف مُمتم ٍع طبق ٍي‬
‫من املقارابت الفلسفيَّة‪َّ ،‬إما أن تمزكي هذا الواقع الطبقي وتمق ِّّدم‬
‫كان من الطبيعي جداً بروز العديد ّ‬ ‫ابمتياز‪َّ ،‬‬
‫تضم اجلميع بتقاليدهم‬ ‫ِّ‬
‫ؤسس وفقاً لذلك النقد رؤيَّة كونيَّة ّ‬
‫مسوغات اثنيَّة واخالقيَّة للدفاع عنه‪ ،‬أو أن تنتقده وتم ّ‬
‫كل مقاربة فلسفيّة –ابختالف منابعها وتوجهها‪ -‬تصورها‬ ‫املتنوعة‪ ،‬ويف مجيع األحوال‪ ،‬لقد أقامت ّ‬‫وثقافاهتم ّ‬
‫من ذاك الواقع‪.‬‬
‫للمواطنة وفقاً ملوقفها ّ‬
‫انظمها هو املثال‪،‬‬
‫يف هذا الصدد‪ ،‬تربز َه مهنا؛ املقاربة املثالية اليت تكون غايتها أتسيس مُمتمع عادل م‬
‫على حنو ما جنده عند "أفالطون"‪ ،‬واملقاربة الواقعيَّة اليت سعت إىل جتسيد مفهوم املواطنة على أرض الواقع وليس‬
‫يف مجهوريَّة املثال‪ ،‬ويمعزى الفضل يف ذلك إىل "أرسطو"‪ ،‬واملقاربة الكونيَّة اليت أجنزهتا املدرسة الرواقيَّة‪ ،‬واليت تعَّد‬
‫امت اىل اخراج املواطنة من خندقها الضيق واضفاء عليها صبغة كونيَّة‪/‬عامليَّة‪ ،‬عن‬
‫َّأول حماولة فلسفيَّة اترخييَّة ر ْ‬
‫طريق خضوع املواطن لقواعد كونية و ِّ‬
‫العيش وفقاً هلا‪.‬‬

‫تبعاً هلذا التأسيس؛ ميكن صياغة اإلشكالية الرئيسة هلذه الدراسة على النحو التايل‪ :‬ما مفهوم املواطنة؟‬
‫ما هي التشكالت اليت اختذها املفهوم يف كل مرة عرب صريورة اترخييَّة مُمتدة منذ "أفالطون" وصوالً إىل املدرسة‬
‫الرواقية مروراً بـ "أرسطو"؟‬

‫مجلة تدفق ات ف لسفية‬ ‫المجلد األول‬


‫العدد الثاني‬
‫‪103‬‬ ‫دورية دولية أكاديمية محكمة‬
‫‪ISSN : 2716 – 8697‬‬ ‫مارس ‪2021‬‬
‫سؤال املواطنة يف الفلسفة اليواننية بني الطابع املثايل‪ ،‬الواقعي والكوين‬
‫د‪ .‬جواق مسري‬

‫‪ .1‬التأصيل اللغوي واالصطالحي ملفهوم املواطنــة‬

‫يموجهنا العنوان إىل محماولة الوقوف أوالً عند املعىن اللغوي ملفهوم املواطنة‪ ،‬كي منمَر اثنياً إىل املعىن‬
‫التطرق إىل التحوالت والتأويالت اليت أخذها املفهوم يف القول‬‫ِّ‬ ‫السبق قبل‬
‫االصالحي له‪ ،‬وهو إجراءٌ منهجي له م‬
‫الفلسفي اليوانين منذ "أفالطون" إىل املدرسة الرواقية مرورا بـ "أرسطو"‪ ،‬فما مفهوم املواطنة لغوايً واصطالحاً؟‬

‫‪ :1.1‬التأصيل اللغوي ملفهوم املواطنــة‬

‫ط يف هذا املقام‪ ،‬داللةٌ لغويَّة وأخرى اصطالحيَّة فلسفيَّة‪ ،‬جلها متداولةٌ على ٍ‬
‫نطاق واس ٍع‪ ،‬ومع‬ ‫ختتل م‬
‫م م‬
‫املتداو مل يف شأهنا‪ ،‬إذ يتضح‪ ،‬أن‬
‫القو مل َّ‬
‫استحضار ذلك ّ‬
‫م‬ ‫وجب‬
‫السؤال عن مفهوم املواطنة‪َ ،‬‬ ‫ذلك‪ ،‬مىت أمست ِّّ‬
‫حضر م‬
‫إىل البيئة اليواننيَّة وحضارهتا‬ ‫ِّ‬
‫إرجاع ممفردة املواطنة ّ‬
‫تتفق إبمجاع على ِّ‬
‫مجيع القواميس واملعاجم يف هذا املوضوع‪ ،‬م‬
‫جند إمجاعاً ههنا‪ ،‬على أ ّن ممفردة املواطنة جرى استخدامها‬
‫كما قد م‬‫القدمية خصوصا مدينة أثينا ‪َّ ،Athènes‬‬
‫تنحدر من كلمة "مدينة" «‪،»Cité‬‬
‫م‬ ‫يف اللسان الفرنسي ‪ ،Citoyenneté‬من "مواطن" ‪ ،citoyen‬اليت‬
‫ستخدم ههنا ابملعىن نفسه للكلمة اليواننيّة‬
‫م‬ ‫األص ِّل الالتيين ‪( civis‬مواطن)‪ ،‬و‪( civitas‬مدينَة)‪ ،‬وتم‬
‫ذات ّ‬‫وهي م‬
‫س على معيارين‬ ‫يتأس م‬
‫(‪ ،)Polis‬واليت تعين مُمتمع حتكمه القوانني ‪َّ ،une société régie par des lois‬‬
‫أساسيني ومتكاملني مها‪ :‬احلقوق والواجبات‪ ،‬حيث تعرتف الدولة ابألفراد كمواطنني أحرار ومتساويني‪ ،‬كما َّ‬
‫إن‬
‫املهام الرئيسة للدولة ههنا‪ ،‬هي أن توفر عنصر احلماية واحلريَّة ملواطنيها‪ ،‬على الرغم من َّ‬
‫أن هذا التصور‬ ‫من َّ‬
‫للمواطنة يف البيئة اليواننيَّة‪ ،‬كان ضيقاً للغايَّة‪ ،‬إذ خيص فئة قليلة هم اليواننيون ابلطبيعة أحراراً ومتساويني‪ ،‬وهم‬
‫السياسة ‪ la vie politique‬والوصول إىل القضاء واحلكم‪ ،‬وعليه َّ‬
‫فإن‬ ‫َّ‬ ‫وحدهم من ميكنهم املشاركة يف احلياة‬
‫هذا التصور يمقصي الفئات األخرى من النساء واملقيمني األجانب والعبيد‪ ،‬من هذا احلق السياسي واالجتماعي‪.‬‬
‫)‪(Morfaux, 2005, p:77‬‬

‫أي ال تنتمي‬
‫فهم مجاعات ال تنتمي إىل القيم اجلغرافيَّة والتقاليد الثقافيَّة الواحدة اليت جتمع اليواننيني‪ّ ،‬‬
‫إىل القوميَّة الواحدة‪ ،‬سواء من الناحيَّة اجلغرافيَّة (مكان الوالدة‪/‬االقامة)‪ ،‬أو من الناحيَّة االثنيَّة (األصل اليوانين)‪،‬‬

‫مجلة تدفق ات ف لسفية‬ ‫المجلد األول‬


‫العدد الثاني‬
‫‪104‬‬ ‫دورية دولية أكاديمية محكمة‬
‫‪ISSN : 2716 – 8697‬‬ ‫مارس ‪2021‬‬
‫سؤال املواطنة يف الفلسفة اليواننية بني الطابع املثايل‪ ،‬الواقعي والكوين‬
‫د‪ .‬جواق مسري‬

‫أو من الناحيَّة احلضارية والثقافيَّة (اللغة‪ ،‬التاريخ‪ ،‬التقاليد)‪ ،‬وقد نبه الفيلسوف األملاين "يورغن هابرماس" إىل‬
‫هذه الفكرة‪ ،‬حيث كان بصدد التأصيل اللغوي ملفهوم املواطنة‪ ،‬اليت تعين ‪-‬يف نظّره‪" -‬وفقاً هلذا االستخدام‬
‫مجاعات ٍ‬
‫أصل‪ ،‬ممندُمةٌ جغرافياً من خالل االستعمار واجلوار‪ ،‬وثقافياً من خالل‬ ‫م‬ ‫الكالسيكي‪َّ ،‬‬
‫فإن األمم هي‬
‫اللغة والعادات والتقاليد املشرتكة‪ ،‬ولكنها مل تندمج سياساً‪ ،‬بعد يف تنظيم رمسي‪".‬‬

‫‪«Selon cet usage classique, les nations sont des communautés‬‬


‫‪d’origine, intégrées géographiquement par la colonisation et le‬‬
‫‪voisinage, culturellement par le langage, les mœurs et les traditions‬‬
‫‪communes, mais pas encore politiquement au moyen d’une forme‬‬
‫)‪d’organisation étatique.»(Habermas, 1998, p:70‬‬

‫ويف ِّ‬
‫ذات السياق‪ ،‬يمشري فيلسوف التواصليَّة "هابرماس"‪ ،‬إىل أ ّن اتريخ نشوء الدولة القوميَّة ‪L’Etat-‬‬
‫املتداول حينها ملصطلح‬
‫‪ nation‬يتزامن مع نشوء "األمة" ‪ ،Nation‬وابلعودة إىل القاموس الروماين والفهم ّ‬
‫أتويل و ٍ‬
‫احد‪،‬‬ ‫"األمة"‪ ،‬فإنه حسب القراءة الفلسفيَّة اهلابرماسيَّة‪ ،‬مل ت ّكن حت ِّّمل إالَّ داللة واحدة‪ ،‬إذّ محتيل إىل ٍ‬
‫بوصفها "إهلة الوالدة واألصل‪/‬املصدر"‪،la déesse de la naissance et de la provenance‬‬
‫أعني "هابرماس"‪ ،‬كلمة "األمة" تتقاطع يف داللتها مع مفاهيم أخرى كـ "اجلنس"‬ ‫وهي هبذا التأويل‪ ،‬ويف ِّّ‬
‫أي ابعتبارها شعوب ما قبل سياسيَّة‪ ،‬غري منظمة‪ ،‬متوحشة وبربريَّة‪.‬‬
‫و"الشعب"‪ ،‬وعلى خالف "املدينة"‪ّ ،‬‬
‫(‪)Habermas, 1998, p:70‬‬

‫أي للداللة‬ ‫من ٍ‬


‫جهة أخرى‪ ،‬يرى "هابرماس"‪َّ ،‬‬
‫بقي ساري املفعول طيلة العصر الوسيط‪ّ ،‬‬
‫أن هذا الفهم لألمة َّ‬
‫تتغري‬
‫على أهنا مُمتمعات ما قبل سياسيَّة‪ ،‬غري ممنظمة بعد‪ ،‬وقد قمدر للمفهوم أن ينتظر العصر احلديث حىت ّ‬
‫فهم ممغاير ملا كان عليه يف الفهم التقليدي الكالسيكي‪ ،‬فغدت "األمة"‬
‫داللته ومعناه‪ ،‬فمع العصر احلديث نشأ ٌ‬
‫َّ‬
‫اجلهة الفاعلة يف السيادة ‪ ،protagoniste de la souveraineté‬ومتَّ تقليص مسافات البمعد اليت‬
‫كة‪ ،‬وقد أسفر عن هذه التطور أن‬ ‫كانت موجودة بني "الشعب" و"األمة"‪ ،‬ليصبحا متداخلني يف وحدةٍ مشرت ٍ‬
‫ّ‬ ‫م‬ ‫م‬ ‫ّ‬

‫مجلة تدفق ات ف لسفية‬ ‫المجلد األول‬


‫العدد الثاني‬
‫‪105‬‬ ‫دورية دولية أكاديمية محكمة‬
‫‪ISSN : 2716 – 8697‬‬ ‫مارس ‪2021‬‬
‫سؤال املواطنة يف الفلسفة اليواننية بني الطابع املثايل‪ ،‬الواقعي والكوين‬
‫د‪ .‬جواق مسري‬

‫أصبحت "األمة" هي "مصدر السيادة الرمسيَّة" ‪ ،la source de la souveraineté étatique‬وعليه‬


‫حتقيق االنتقال‬ ‫ٍ‬
‫مكسب يف نظَّر "هابرماس" هنا‪ ،‬أ ّن متَّ م‬ ‫احلق يف تقرير مصريها السياسي‪َّ ،‬‬
‫إن أهم‬ ‫َّ‬
‫فإن لكل أمة م‬
‫من السياق االثين‪ Ethnique‬الضيق إىل أفق "االرادة الدميقراطيَّة اجلماعيَّة" ‪la volonté‬‬
‫ّ‬
‫‪)Habermas, 1998, p:70( .démocratique‬‬

‫إالَّ َّ‬
‫أن اإلشكاليَّة السياسيَّة الرئيسة للمواطنة اليت أصبحت مطروحة اآلن يف الدميقراطيات احلاليَّة‪ ،‬واليت‬
‫تعيش تعدديَّة اثنيَّة وثقافيَّة وتتغىن بشعارات الدميقراطيَّة وحريَّة الرأي‪ ،‬يف البحث عن ٍ‬
‫سبيل لفتح ابب املشاركة‬
‫الفعالة ‪ la participation effective‬جلميع املواطنني يف احلياة السياسيَّة وصناعة القوانني‪ ،‬يعين هذا‬
‫أي شخص ومهما كانت خلفياته الثقافيَّة والعقديَّة واالثنيَّة يمسمح له ابملشاركة السياسيَّة وابداء الرأي‬
‫القول‪ ،‬أ ّن ّ‬
‫ّ‬
‫حول قضااي اجملتمع واملسامهة يف ما يهم الصاحل العام‪ ،‬شريطة احرتام القوانني واحلرايت األساسيَّة‬
‫لألفراد‪)Morfaux, 2005, p:77).‬‬

‫وقد نتج عن هذه الرؤيَّة‪ ،‬ممقاربة جديدة تنظر للمواطنة بوصفها "مواطنة عامليَّة" ‪Citoyenneté‬‬
‫أي َّ‬
‫أن االنتماء الوحيد هو لإلنسانية ‪،la seul appartenance à l’Humanité‬‬ ‫‪َّ ،Mondiale‬‬
‫تتأسس على قيمة املساواة يف احلقوق والواجبات ابلنسبة للجميع‪ ،‬ممتجاوزة بذلك التمييز على أساس‬
‫حيث َّ‬
‫م‬
‫اللغة أو اللون أو املعتقد الذي كانت تتأسس عليه مواطنة الدولة‪-‬األمة‪) Morfaux, 2005, p:77(.‬‬

‫القول‪ ،‬أ ّن احلريَّة واملساواة هي املقومات األساسيَّة اليت يقوم عليها املفهوم املعاصر للمواطنة‪،‬‬
‫وعليه‪ ،‬ممي ّكن ّ‬
‫"معجم املصطلحات السياسيَّة"‪ ،‬املواطنة بناءً‬
‫عرف م‬ ‫هذا ما أكدته مج ُّل معاجم وقواميس العلوم السياسيَّة‪ ،‬حيث يم ِّّ‬
‫على خصائص احلريَّة واملساواة واملشاركة الفعالة واملسؤولة للمواطنني‪ ،‬إذّ "تعين أ ّن كل املواطنني يف اجملتمع‬
‫متساويني يف احلقوق والواجبات‪ ،‬وتعتمد املواطنة على املساواة واحلرية واملشاركة واملسؤولية االجتماعية (كل‬
‫أي متييز بسبب الدين أو اجلنس أو اللون أو املستوى االقتصادي أو‬
‫الناس فوق تراب الوطن سواسيّة بدون ّ‬
‫االنتماء السياسي)‪(".‬العلوي‪ ،2014 ،‬ص‪)59:‬‬

‫مجلة تدفق ات ف لسفية‬ ‫المجلد األول‬


‫العدد الثاني‬
‫‪106‬‬ ‫دورية دولية أكاديمية محكمة‬
‫‪ISSN : 2716 – 8697‬‬ ‫مارس ‪2021‬‬
‫سؤال املواطنة يف الفلسفة اليواننية بني الطابع املثايل‪ ،‬الواقعي والكوين‬
‫د‪ .‬جواق مسري‬

‫فاملواطنة يف اجملتمعات املعاصرة‪ ،‬مل تعد توصيفاً لإلقامة أو ملكان السكن والوالدة‪ ،‬وال ختضع لالعتبارات‬
‫االثنيَّة والقومية واللغوية والعقديَّة اليت يشرتك فيها اجلميع‪ ،‬ويمقصى منها كل من خيالفها‪ ،‬وقد عرب فيلسوف‬
‫التواصليَّة "يورغن هابرماس" عن نقده الشديد هلذه الرؤيَّة‪ ،‬يف مقالته املوسومة بـ "املواطنة واهلويَّة القوميَّة"‬
‫«‪ ،»citoyenneté et identité nationale‬علماً َّ‬
‫أن حرف "الواو" هنا ال يمستخدم للعطف واجلمع‬
‫بينه َّما‬
‫بني املواطنة والقوميَّة‪ ،‬بل على الضد من ذلك‪ ،‬إذ يمستخدم لفك هذا التعالق العضوي الذي ما فتئ جيمع م‬ ‫ّ‬
‫ردحاً من الزمن‪ ،‬فلئِّّن قمدر ملفهوم املواطنة أ ّن يتخذ مدة طويلة معىن االنتماء إىل دولة قوميَّة‪ ،‬فقد أصبحت‬
‫فهم من‬
‫توصيفاً لوضع مواطن ‪ le statut du citoyen‬يتمتع حبقوقه املدنيَّة‪ ، les droits civiques‬يم ّ‬
‫خيضع إىل االعتبارات التقليديَّة‬
‫تتأسس على قيم اهلويَّة القوميَّة الضيقة‪ ،‬حيث االنتماء ال م‬ ‫هذا‪َّ ،‬‬
‫أن املواطنة مل تعد َّ‬
‫(مكان االقامة والوالدة)‪ ،‬ففي دولة القانون الدميقراطيَّة ‪ L’Etat de droit démocratique‬مُي ّدد‬
‫انتماء املواطنني إىل الدولة حسب فهمهم الذايت وحريتهم وارادهتم وقناعاهتم‪ ،‬بوصفهم مواطنني أحرار ومتساويني‬
‫‪)Habermas, 1998, p:73( .citoyens libres et égaux‬‬

‫أكثر‬
‫آخر يعد م‬ ‫فهم َ‬
‫عموماً‪ ،‬على خالف ما هو موجود يف االشتغال الفكري اليوانين والروماين‪ ،‬هناك ٌ‬
‫س تعريفاً‬ ‫ِّ‬
‫ليؤس َ‬
‫راهنيَّةً مبّا يتالءم مع الدولة احلديثة‪ ،‬إذّ يتجاوز املفهوم الغريب للمواطنة ههنا‪ ،‬النزعة الضيقة تلك‪ّ ،‬‬
‫وتستند على أ ِّ‬
‫مطر احلقوق والواجبات‪،‬‬ ‫م‬ ‫تقوم على قاعدة القانون‬
‫بني "الفرد والدولة"‪ ،‬م‬
‫جديداً للمفهوم بوصفه عالقة َّ‬
‫حقوق سياسيَّة‬‫ٍ‬ ‫من‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫الفرد ّ‬
‫َّد معاملم عضويتها مبَّا ميتلكه م‬‫يتضح أننا إزاء مرؤية جديدة للمواطنة‪ ،‬تتحد م‬
‫م‬ ‫وتبعاً لذلك‬
‫كحق االنتخاب والتصويت وتويل املناصب االجتماعيَّة والسياسيَّة‪ ،‬ومبَّا عليه من و ٍ‬
‫اجبات يم َلزمم عليه‬ ‫ومدنيَّة ِّ‬
‫ّ‬
‫اجنازها‪ ،‬ومميكننا أ ّن نمشري يف هذا الصدَّد إىل تعريف "دائرة املعارف الربيطانية" « ‪«Encyclopédie‬‬
‫تلك‬
‫ددها قَانمون تلك الدولَة‪ ،‬ومبا تَتضمنمه َ‬ ‫‪ Britannica‬املواطنة علَّى َّأهنا‪َ «:‬عالقة بني فرد ودولَة كما مُي م‬
‫أن املواطنَة على وجه العم مموم تمسبِّ مغ على املواطن محقوقاً سيَاسيَّة‪،‬‬
‫الدولَة (‪َّ )...‬‬
‫وح مقوق يف تلك َ‬ ‫من واجبَات م‬
‫العالقَة ّ‬
‫َ‬
‫العامة‪(».‬الكواري‪ ،2001 ،‬ص‪)30:‬‬
‫مثل َحق االنتخاب وتَويل املنَاصب َ‬
‫ْ‬

‫مجلة تدفق ات ف لسفية‬ ‫المجلد األول‬


‫العدد الثاني‬
‫‪107‬‬ ‫دورية دولية أكاديمية محكمة‬
‫‪ISSN : 2716 – 8697‬‬ ‫مارس ‪2021‬‬
‫سؤال املواطنة يف الفلسفة اليواننية بني الطابع املثايل‪ ،‬الواقعي والكوين‬
‫د‪ .‬جواق مسري‬

‫وسوعة الكتاب الدويل" «‪،»The World Book Encyclopaedia‬‬ ‫"م م‬


‫َّأما إذ عمدان إىل َ‬
‫كد على أ ّن "املواطَنَة هي عمضويَة َكاملَة يف دولَة‪ ،‬أو يف بعض وحدات احلمكم‪ ،‬وعالوةً على ذلك‪،‬‬ ‫وجدانها تمؤ م‬
‫م‬
‫ِّ‬
‫احلديث عن احلقوق والواجبات الذي تناولناهم سابقاً‪.‬‬ ‫فالتعريف الذي أهدته املوسوعة للمواطنة ال خير مج عن سياق‬
‫"معجم العلوم اإلنسانية" لصاحبه "جان فرنسوا‬ ‫(الكواري‪ ،2001 ،‬ص‪ )30:‬وهو املَ َ‬
‫عىن نفسه تقريباً‪ ،‬جندهم يف م‬
‫هذا يعين إعطاء مح مقوق‬ ‫اعة سياسيَّة‪ًّ ،‬‬
‫عرتف بك عمضواً فعاالً يف َمجَ َ‬
‫دورتييه" ف ـ ـ "أن تَكو َن ممواطناً‪ ،‬يَعين أن يم َ‬
‫اجبات ماليَّة وعسكريَّة‪(".‬دورتيه‪ ،2009 ،‬ص‪)1022:‬‬
‫(مدنيَّة‪ ،‬سياسيَّة‪ ،‬اجتماعيَّة) وو ْ‬
‫َ‬

‫‪ :2 .1‬التأصيل االصطالحي ملفهوم املواطنة‬

‫ِّ‬
‫الغالب عنها‪ ،‬فقد متَّت االشارة‬ ‫عادة ما تكون الداللة اللغويَّة مموجهة للداللة االصطالحيَّة‪ ،‬وتعبرياً يف‬
‫شرتك سواءٌ أكان سياسي أو‬‫كيان م ٍ‬‫توصيف لالنتماء إىل ٍ‬ ‫ٌ‬ ‫سابقاً إىل أ ّن املواطنة يف داللتها اللغويَّة ماهي إالَّ‬
‫م‬
‫اجتماعي أو عقدي‪ ،‬ويؤسس ذلك االنتماء على املشاركة يف ص ِّنع الرأي و ِّ‬
‫اختاذ القرار‪ ،‬وفعالً فالباحث عن‬ ‫م‬ ‫م‬
‫أن مفهوم املواطنة ال مُييل إالَّ إىل االنتماء إىل ُمتمع سياسي‬
‫الداللة االصالحيَّة ال مميكنه إالَّ االنتهاء إىل القول‪َّ ،‬‬
‫‪ ،Communauté politique‬بيد َّ‬
‫أن هذا االنتماء يعين‪ ،‬يف ممجلة ما يعنيه‪ ،‬مشاركة املواطنني الفعالة يف‬
‫مجيع القرارات اليت تتعلق بـاجملتمع‪ ،‬ففي اجلمهورايت احلرة‪َّ ،‬‬
‫إن مشاركة املواطنني هي مشاركة ضرورية يف القرارات‬
‫املشرتكة ‪( Blay, 2005, p:135(.décisions communes‬‬

‫ِّ‬
‫رسم‬ ‫التوس ِّل ابلدراسة م‬
‫املوسومة بـ "الدولة وإشكاليَّة املواطنة"‪ ،-‬م‬ ‫من خالل ّ‬ ‫وممي ّكن يف هذا الص ّدد‪ّ - ،‬‬
‫مثلما هو عليه اآلن يف داللتها احلديثة ٍ‬
‫كحق دستور ٍي‪،‬‬ ‫السياق التارخيي لتطور مفهوم املواطنة ليمصبح متعارفاً عليه‪َّ ،‬‬
‫من أبعاد املواطنة وهي املدنيَّة‬
‫كل مرحلة منها بمعداً رئيساً ّ‬
‫ومتكاملة‪ ،‬شكلت ّ‬
‫احل رئيسيَّة م‬
‫من خالل ثالث مر َ‬
‫ّ‬
‫االجتماعي‪( .‬هناك مالحظة أساسيَّة جتدر اإلشارة إليها يف هذا الص ّدد‪ ،‬وهي أن هذا التقسيم يف‬
‫َّ‬ ‫والسياسيَّة و‬
‫مراحل وأبعاد املواطنة يعود إىل دراسة "ت‪ .‬ه‪ .‬مارشال" «‪ »T.H. Marshall‬املوسومة ب ـ "املواطنة والطبقات‬
‫اعتمد عليها الباحث "سيدي حممد ولديب"‬
‫االجتماعيَّة" «‪ ،»Citizenship and Social Class‬وقد َّ‬

‫مجلة تدفق ات ف لسفية‬ ‫المجلد األول‬


‫العدد الثاني‬
‫‪108‬‬ ‫دورية دولية أكاديمية محكمة‬
‫‪ISSN : 2716 – 8697‬‬ ‫مارس ‪2021‬‬
‫سؤال املواطنة يف الفلسفة اليواننية بني الطابع املثايل‪ ،‬الواقعي والكوين‬
‫د‪ .‬جواق مسري‬

‫يف كتابه هذا الذي توسلنا به ههنا "الدولة واشكالية املواطنة‪ ،‬قراءة يف مفهوم املواطنة العربية"‪ ،‬بعد أن وجدان أن‬
‫حتليله للفكرة َّ‬
‫كان أكثر تعمقاً واقناعاً)‪.‬‬

‫ففي املرحلة األوىل‪ ،‬واليت أتيت زمانياً خالل القرن السابع عشر‪ ،‬برزت ما يمسمى ب ـ "املواطنة املدنيَّة"‬
‫اف حبق املساواة‬ ‫القول هبا‪ ،‬هي االعرت م‬
‫إن أهم النتائج اليت متخضت جراء ّ‬ ‫«‪َّ ،»La Citoyenneté Civile‬‬
‫املساس بكرامة صاحب‬ ‫ِّ‬ ‫التعبري عنه حبر ٍية مطلقة دون‬
‫كما صرحت ابحلق يف إدالء الرأي و ِّ‬
‫يف املعاملة أمام القانون‪َّ ،‬‬
‫من ذلك كله‪ ،‬فقط‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫الرأي أو انتقاصاً منه‪ ،‬ومُمارسة املمعتقد دون ضغط أو مسلطة‪ ،‬واحلق يف االمتالك‪ ،‬واألهم ّ‬
‫نفس احلظوظ يف الدفاع عن حقوقهم يف حالة استيالهبا‬‫من االستفادة من ِّ‬
‫مكنت "املواطنة املدنيَّة"‪ ،‬املواطنني َّ‬
‫وضياعها‪(.‬ولديب‪ ،2011 ،‬ص‪)50:‬‬

‫وأمجنزت بعد املواطنة املدنيَّة ما يمسمى ب ـ "املواطنة السياسيَّة"«‪،»La Citoyenneté Politique‬‬


‫لقد كانت أهم النتائج املميزة هلذه املرحلة احلاسة يف السياق التارخيي والفكري والسياسي ملفهوم املواطنة‪َّ ،‬‬
‫أن متَّ‬

‫ومن مثَّة‪ ،‬أصبح إبمكان ّ‬


‫أي‬ ‫رفع خصوصيَّة املشاركة السياسيَّة لتمصبح أمراً ممشاعاً ومهاً ممشرتكاً للجميع‪َّ ،‬‬‫فيها م‬
‫مواطن املسامهة يف صناعة القانون واملشاركة يف الوظائف السياسيَّة والعموميَّة‪ ،‬وعالوةً على ذلك‪ ،‬تمنبه "املواطنة‬
‫أي خط ٍر على النظَّام العام‬
‫ارس َّ‬ ‫السياسيَّة" على أنه ال ُِّيق ِّ ٍ‬
‫اس مبواقفه العقديَّة والدينيَّة مبا أهنا ال ممت م‬
‫ألي أحد املس م‬
‫م ّ‬
‫كما رمسه القانون‪(.‬ولديب‪ ،2011 ،‬ص‪)50:‬‬

‫أتت هذه املرحلةم احلامسة‪،‬‬


‫وأخرياً‪" ،‬املواطنة االجتماعيَّة" «‪ ،»La Citoyenneté Sociale‬لقد ْ‬
‫حق العمل‪،‬‬
‫من قبيل م‬‫اف حبقوق املواطنني االقتصاديَّة واالجتماعيَّة َّ‬
‫حيث متَّ االعرت م‬
‫حتديداً منذ سنة ‪ ،1949‬م‬
‫أتت بعدها‪،‬‬
‫القول ابملرحلة اليت ْ‬
‫قادت إىل ّ‬
‫أن كل مرحلة قد ْ‬ ‫القول‪َّ ،‬‬
‫وحق محاية نظام الضمان االجتماعي‪ ،‬وممي ّكن ّ‬
‫حق املواطنة للجميع‪(.‬ولديب‪ ،2011 ،‬ص‪)50:‬‬
‫زت من وجودها‪ ،‬حىت أصبح م‬
‫وعز ْ‬
‫َّ‬

‫مجلة تدفق ات ف لسفية‬ ‫المجلد األول‬


‫العدد الثاني‬
‫‪109‬‬ ‫دورية دولية أكاديمية محكمة‬
‫‪ISSN : 2716 – 8697‬‬ ‫مارس ‪2021‬‬
‫سؤال املواطنة يف الفلسفة اليواننية بني الطابع املثايل‪ ،‬الواقعي والكوين‬
‫د‪ .‬جواق مسري‬

‫العديد من األقو ِّال والتعار ِّ‬


‫وقيلت يف شأن‬
‫ْ‬ ‫سيقت‬
‫ْ‬ ‫يف‬ ‫َّ ّ‬ ‫القول بوجود‬
‫بناءً على ما سبق‪ ،‬ممي ّكن االنتهاء إىل ّ‬
‫استقر للداللة على أتويلني‬
‫وُمملها‪ ،‬قد ّ‬
‫كل األحوال‪ ،‬أ ّن أمرها‪ ،‬يف أغلبها م‬ ‫مفهوم املواطنة‪ ،‬إالَّ أنه َّ م‬
‫يتبني‪ ،‬يف ِّّ‬
‫أساسيني‪:‬‬
‫ّ‬

‫حمض أمارةٍ على املكان اجلغرايف والسكن واالقامة‪ ،‬ولالعتبارات االثنيَّة‬


‫صري املواطنة َّ‬ ‫أوالً‪ -‬التأويل الذي َّ‬
‫َ م‬
‫والقوميَّة والعقديَّة واللغويَّة‪ ،‬وهي املقاربة القدمية للمواطنة ‪.‬‬

‫صريها وجيعلها عالقة‬


‫يقف عند مُمرد السكن واالقامة‪ ،‬بل يم ّ‬ ‫اثنياً‪ -‬وهو ٌ‬
‫أتويل يوحي أب ّن معىن املواطنة ال م‬
‫لك من ٍ‬
‫حقوق‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫من واجبات وأخ مذ ما َ ّ‬ ‫عليك ّ‬
‫اجناز ما َ‬ ‫بني الفرد والدولة قوامها األساسي ورابطها املتني م‬
‫ضروريَّة ّ‬
‫وهي املقاربة احلديثة للمواطنة‪.‬‬

‫‪ .2‬تع ّدد مناذج املواطنة يف الفلسفة‬

‫‪ :1 .2‬أفالطون‪ :‬التأسيس الفلسفي للمواطنة يف اجلمهورية املثاليَّة‪:‬‬

‫اعات ونز ٍ‬
‫اعات عاصرها هذا‬ ‫ط به من صر ٍ‬ ‫كان "أفالطون" على وع ٍي ٍ‬
‫دقيق ابلواقع اليوانين وما ارتب َ‬ ‫َّ‬
‫ِّ‬
‫النهوض‬ ‫دفع به هذا الوعي للمشاركة يف العمل السياسي و‬
‫الفيلسوف‪ ،‬خبصائصها وتناقضاهتا ورهاانهتا‪ ،‬وقد َ‬
‫ِّ‬
‫التأليف يف السياسيَّة‪ ،‬وميكن للمشتغل على حماوراته املختلفة‪ ،‬وما يثوي بداخلها‪ ،‬أن‬ ‫ِّ‬
‫حبال الدولة والتوجه حنو‬
‫تفهم سعيه الشغوف إلقامة‬
‫قرب‪ ،‬وبذلك مميكن ُّ‬ ‫ِّ‬
‫يستبصر جتربة حياتيَّة واقعيَّة عاشها "أفالطون" والحظها عن ٍ‬
‫ّ‬
‫مُمتم ٍع سياسي ممستقر وعادل‪ ،‬وهو املوضوع املركزي الذي يثوي داخل ممصنفه االساسي "اجلمهوريَّة" ‪La‬‬
‫خاصة السياسيَّة والرتبوية واألخالقيَّة منها‪ ،‬ولعل ُمَّا‬
‫املتنوعة‪ّ ،‬‬
‫كما بقيَّة مصنفاته األخرى ّ‬
‫‪َّ ،République‬‬
‫يمستحسن االشارة إليه هنا‪ ،‬هو اعتماد هذا الفيلسوف على الربانمج الرتبوي ممعوالً عليه يف صناعة ممواط ٍن صاحلٍ‪،‬‬
‫بل وإنه يمراهن عليها من أجل الرتقي ابملواطن ومن مثة اجملتمع‪ ،‬نقرأ لـ "أفالطون"‪ «:‬فالرتبيَّة والتهذيب إذ ما‬
‫أحسن توجيههما‪ ،‬كونوا أانساً أخياراً‪ ،‬وهؤالء األخيار بدورهم إذ ما انتفعوا بتعليمهم كامل‪ ،‬يغدون أفضل من‬
‫كل ما سبقهم وترتقي كل صفاهتم‪(».‬أفالطون‪ ،2003 ،‬ص‪)292:‬‬

‫مجلة تدفق ات ف لسفية‬ ‫المجلد األول‬


‫العدد الثاني‬
‫‪110‬‬ ‫دورية دولية أكاديمية محكمة‬
‫‪ISSN : 2716 – 8697‬‬ ‫مارس ‪2021‬‬
‫سؤال املواطنة يف الفلسفة اليواننية بني الطابع املثايل‪ ،‬الواقعي والكوين‬
‫د‪ .‬جواق مسري‬

‫ِّ‬
‫النهوض حبال اجملتمع‬ ‫وعي "أفالطون" القلق خبصوص‬
‫يسكن َّ‬
‫م‬ ‫تٌعرب هذه اجلملة عن اهلَّم الفكري الذي‬
‫اليوانين‪ ،‬وهو السعي الذي رام إىل حتقيقه طيلة مساره الفكري والفلسفي‪ ،‬وعالوةً على ذلك‪ ،‬فإن هذه اجلملة‬
‫فصل موضوع املواطنة عند‬
‫ستحسن االشارة إليها يف هذا الصدد‪ ،‬وهي أنه ال مميكن م‬
‫م‬ ‫تمنبهنا إىل مالحظة أساسيَّة يم‬
‫اشج الكبري احلاصل بني‬
‫حول الرتبية والعدالة والقانون‪ ،‬نظراً لطبيعة التو م‬
‫هذا الفيلسوف عن بقيَّة أتمالته األخرى ّ‬
‫أن مجيع أتمالت هذا الفيلسوف‬ ‫وغين عن البيان‪ ،‬واحلالة هته‪َّ ،‬‬
‫هذه املوضوعات يف املنت الفلسفي لـ"أفالطون"‪ٌ .‬‬
‫أتت من ٍ‬
‫أتمل‬ ‫اليوانين حول اجملتمع السياسي وما يرتبط به من مفاهيم أخرى كالعدالة والدميقراطيَّة والرتبيَّة‪ ،‬مل ِّ‬
‫ّ‬
‫سابقة اترخييَّة وما عايشه يف عصرهِّ‪ ،‬بل كان نتيجة مالحظة "أفالطون"‬ ‫هو ٍس فكر ٍي بعي ٌد عن ٍ‬
‫نظر ٍي فارٍغ‪ ،‬أو عن َّ‬
‫حلول انجعة مبقتضاها يتِّّم‬
‫تقدمي ٍ‬ ‫اخفاق األمنوذج الدميقراطي الذي طرحه "صولون"‪ ،‬ودستور "بركليس"‪ ،‬يف ِّ‬
‫ِّ‬
‫اخراج اجملتمع اليوانين من اضطراابته إىل ضمان استقراره‪(.‬النشار‪ ،2005 ،‬ص‪ )33-29:‬وهي ٌ‬
‫جتارب سياسيَّة‬
‫االحتكام إىل النهج الدميقراطي الذي ينزعم إىل تقدمي مساواةٍ بني أفراد اجملتمع‪ ،‬ذلك َّ‬
‫أن‬ ‫ِّ‬ ‫أثبتت لـ "أفالطون" عدم‬
‫ْ‬
‫املناصب العامة و ِّ‬
‫ابداء الرأي‬ ‫ِّ‬ ‫نفس قَ ِّ‬
‫دم املساواة للمسامهَّة يف‬ ‫أي أ ّن األفراد ليسوا على ِّ‬
‫الواقع أثبَت خالف ذلك؛ ّ‬
‫حول قضااي الشأن العام‪(.‬ديلو‪ ،2000 ،‬ص‪ )68:‬هذا من جهة‪ ،‬ومن ٍ‬
‫جهة أخرى‪ ،‬أييت ازدراءم "أفالطون"‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫كد من حياته يف‬‫مقتل أستاذه "سقراط"‪ ،‬وهو الذي أمضى الو َّ‬ ‫للسياسية الدميقراطيَّة يف اعتبارها املسؤولة عن ِّ‬
‫أدت‬ ‫لتحصيل ِّ‬
‫اخلري ملا ْ‬ ‫ِّ‬ ‫سبيل تعليم الفضيلة والعدالة وطاعة القانون‪ ،‬فلو كانت الدميقراطيَّة سبيالً ِّ‬
‫للعدل وهنجاً‬ ‫ِّ‬
‫للسم‪.‬‬
‫عرب جترعه م‬
‫بـ "سقراط" إىل تلك النهاية البائسة َ‬
‫هذه القناعة الفكرية اليت انتهى إليها "صاحب احملاورات" قادته إىل البحث عن قاعدةٍ أخرى أكثر قوةٍ‬

‫تضمن "إعطاء كل ِّذي حق‬


‫م‬ ‫وعادل‪ ،‬تتحقق فيه املواطنة الكاملة اليت‬
‫ٌ‬ ‫ستقر‬
‫تمع مم ٌ‬
‫ينتهض عليها مُم ٌ‬
‫م‬
‫ٍ‬
‫وصالبة‬
‫ط يف النهاية بطبيعة املواطن‪ ،‬الذي هو اليوانين‬ ‫ح َقهم‪(".‬أفالطون‪ ،2003 ،‬ص‪ )182:‬علماً َّ‬
‫أن هذا احلق ممرتب ٌ‬
‫انمج‬
‫يتوجب عليه اخلضوعم أوالً إىل بر ٍ‬
‫م‬ ‫احلر فقط‪ ،‬ولكي يغدو الفرد ممواطناًكامالً يف مدونة "أفالطون" الفلسفيَّة‪،‬‬
‫بشكل م ٍ‬
‫نصف‬ ‫أن "أفالطون" قد جعل من فرصة التعليم أمراً ممتاحاً للجميع ٍ م‬ ‫جدير ابلتنبيه واالشارة َه مهنا‪َّ ،‬‬
‫تربوي‪ٌ .‬‬
‫ٍ‬
‫من أخذ مكانه األنسب وطبقته‬ ‫ومتساو ٍي‪ ،‬وأتيت أمهيَّة هذا الربانمج يف كونه االجراء األمث م‬
‫َّل الذي ممي ّكن كل فرد ّ‬ ‫م‬

‫مجلة تدفق ات ف لسفية‬ ‫المجلد األول‬


‫العدد الثاني‬
‫‪111‬‬ ‫دورية دولية أكاديمية محكمة‬
‫‪ISSN : 2716 – 8697‬‬ ‫مارس ‪2021‬‬
‫سؤال املواطنة يف الفلسفة اليواننية بني الطابع املثايل‪ ،‬الواقعي والكوين‬
‫د‪ .‬جواق مسري‬

‫االجتماعية اليت جيدر به االنتماءم إليها‪ ،‬من جهة‪ ،‬وتكوين شخصية احلاكم –الفيلسوف الذي سيمسري شؤون‬
‫الدولة العادلة‪ ،‬وابلتايل تتح َق مق املواطنة حينها‪ ،‬أي يف حالة "ما اقتصرت كل من الطوائف الثالث‪ :‬الصناع‬
‫واحملاربني واحلكام على ُماهلا اخلاص‪ ،‬وتولت كل منها العمل الذي يالئمها يف الدولة‪(".‬أفالطون‪،2003 ،‬‬
‫ص‪)307:‬‬

‫ملا كانت العدالة كما أرسى دعائمها "أفالطون" يف منت كتابه األساسي "اجلمهورية" تمفيد‪َّ «:‬‬
‫إن على‬
‫كل فرد أ ّن يمؤدي وظيفته احلقة‪ ،‬دون أن يتدخل يف شؤون غريه‪(».‬أفالطون‪ ،2003 ،‬ص‪ )316:‬كما يقول‬
‫يف ٍ‬
‫نص آخر‪َّ «:‬‬
‫إن من العدل أن ينصرف املرء إىل شؤونه دون أن يتدخل يف شؤون غريه‪(».‬أفالطون‪،2003 ،‬‬
‫وفئة وظيفتها ومنزلتها اخلاصة دون أن تتدخل يف شؤون‬ ‫طبقة ٍ‬
‫ابب العدل أن حترتم كل ٍ‬ ‫ص‪ )305:‬وعليه‪ ،‬فمن ِّ‬
‫ِّ‬ ‫كل واحدةٍ أن تتفاىن يف ِّ‬
‫س‪،‬‬
‫سيؤس م‬
‫تقدمي واجبها‪ ،‬هذا االحرتام لكل فئة لطبقتها‪ ،‬هو ما ّ‬ ‫كما جيب على ِّّ‬
‫غريها‪َّ ،‬‬
‫اجملتمع كياانً متناغماً‬ ‫يف ّ ِّ‬
‫م‬ ‫سيتصريم‬
‫َّ‬ ‫أعني "أفالطون"‪ ،‬للمواطنة وللوحدة السياسيَّة واالجتماعيَّة‪ ،‬ومبقتضاها‬
‫ممنسجماً‪ ،‬ف ـ َّ‬
‫"إن أعظم أسباب كمال الدولة هو تلك الفضيلة اليت جتعل كال من األطفال والنساء والعبيد واألحرار‬
‫والصناع واحلاكمني واحملكومني يؤدي عمله دون أن يتدخل يف عمل غريه‪(".‬أفالطون‪ ،2003 ،‬ص‪)305:‬‬

‫ابجلملة‪ ،‬هكذا نظر "أفالطون" إىل املواطنة بوصفها احرتام كل ٍ‬


‫طبقة لدورها ووظيفتها وأن ال تتعداها‬
‫وجيتهد يف‬
‫م‬ ‫اطن الصاحل هو من يعي هذه احلقيقة‬ ‫إىل سواها حىت ال خيتل النظَّام السياسي واالجتماعي‪ ،‬واملو م‬
‫جتسيدها وااللتزِّام هبا‪ ،‬وذلك من ابب حتقيق العدل واالنصاف‪ ،‬فـ"العدالة إمنَّا هي أن ميتلك املرء ما ينتمي فعالً‬
‫إليه ويؤدي الوظيفة اخلاصة به‪(".‬أفالطون‪ ،2003 ،‬ص‪)305:‬‬

‫تعلق ابلطبيعة املثاليَّة‬ ‫ِّ‬ ‫ِّ‬


‫عموماً فقد أنتجت رؤيّة "أفالطون" للمواطنة‪ ،‬الكثري من ردود األفعال‪ ،‬خاصة ما َ‬
‫تنظري وتشر ِّيع الطبقيَّة ِّ‬
‫وإقامة‬ ‫لتلك الرؤية واستحالة تطبيقها ميدانياً وعملياً‪ ،‬أو االنتقادات اليت وجهت خبصوص ِّ‬
‫م‬
‫ِّ‬
‫فس مد النظام السياسي ويمزعزعم أركانه أكثر ُمَّا يكو من خادماً له‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫امليّ ِّز الو ِّ‬
‫اضح بني افراد الدولة‪ ،‬وهو التمييز الذي يم ّ‬
‫ُييد عنه؟ وهل سنرى‬
‫هنج استاذه أم م‬
‫سينتهج َ‬
‫م‬ ‫ولعل من بني ردود هذه األفعال موقف تلميذه "أرسطو"‪ ،‬فهل‬
‫مع "أرسطو" رؤية أخرى للمواطنة؟‬

‫مجلة تدفق ات ف لسفية‬ ‫المجلد األول‬


‫العدد الثاني‬
‫‪112‬‬ ‫دورية دولية أكاديمية محكمة‬
‫‪ISSN : 2716 – 8697‬‬ ‫مارس ‪2021‬‬
‫سؤال املواطنة يف الفلسفة اليواننية بني الطابع املثايل‪ ،‬الواقعي والكوين‬
‫د‪ .‬جواق مسري‬

‫‪ :2 .2‬أرسطو‪ :‬املواطنة وامكان التحقق الواقعي‪:‬‬

‫بني أهم األعالم الفلسفيَّة يف اتريخ الفكر‬‫ال حاجة بنا إىل التذكري إىل أن "أرسطو" يعَّد حبق من ِّ‬
‫من اجملاالت‪ :‬كالرتبية‪ ،‬السياسية‪ ،‬األخالق‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫الفلسفي‪ ،‬اليوانين والكوين‪ ،‬على حد سواء‪ ،‬بتأثريه اهلائل يف العديد ّ‬
‫ُيتل مركزاً أساسياً يف مدونة هذا الفيلسوف‪،‬‬
‫أن مفهوم املواطنة م‬‫كما ال حاجة إىل التذكري أيضاً‪ ،‬إىل َّ‬
‫املنطق‪...‬اخل‪ّ .‬‬
‫شتغل على ِّ‬ ‫ِّ‬
‫خاصة اليت يوليها هلذا‬
‫منت هذا الفيلسوف إدر ماك تلك املكانة ّ‬ ‫الفكريَّة والسياسيَّة‪ ،‬وإبمكان ِّّ‬
‫أي مم ٍ‬
‫حني نعتربم أ ّن‬
‫ازف َّ‬
‫كما قد ال نمبالغ أو مجن م‬
‫السياسة" ‪ّ .La Politique‬‬ ‫َّ‬ ‫خاصة يف مصنفه العممدة "يف‬
‫املفهوم‪َّ ،‬‬
‫قدمت حتليالً دقيقاً ملفهوم املواطنة‬
‫ْ‬ ‫بني أهم األعمال الفكريَّة اليت‬
‫من ّ‬ ‫السياسة"‪ ،-‬يـمعَّد ّ‬
‫َّ‬ ‫عمله الرصني هذا ‪"-‬يف‬
‫جهة أخرى‪.‬‬ ‫ول بتارخييه وتراثه الفكري‪ ،‬من جهة‪ ،‬كما كا ّن موصوالً بواقعه وعصره إاب َن تلك الفرتة‪ ،‬من ٍ‬ ‫املوص ِّ‬
‫ُّ‬
‫ّ‬
‫االهنمام بدراسة الدولة ودساتريها حبكم أهنا متثّل‬
‫م‬ ‫ومقصده األساسي‪ ،‬من كل ذلك‪ ،‬هو‬ ‫وقد كا ّن غرضه الرئيس َّ‬
‫يقصده املواطنون‪(.‬أرسطو‪ ،‬د‪.‬ت‪ ،‬ص‪)92:‬‬ ‫ِّ‬
‫اخلري األعظم الذي ّ‬

‫الدوِّل‬ ‫االهنمام واالختيار الفكري لـ "أرسطو" ضرورة القيام بدراسة اترخييَّة‪ -‬حتليليَّة ِّ‬
‫لنشوء َّ‬ ‫لقد محَّل هذا َّ‬
‫ٍ‬
‫مجاعة‬ ‫ِّ‬
‫االنتماء إىل‬ ‫وحقيق ابإلشارة هنا‪ ،‬إىل أ ّن هذا الفيلسوف يمؤكد على ضرورةِّ‬ ‫وتطورها ووظائفها وغايتها‪.‬‬
‫ٌ‬
‫كما الرتبويَّة‪ .‬وميكن القول‪َّ ،‬‬
‫أن‬ ‫ِّ‬
‫نصوصه األخالقية والسياسيَّة َّ‬ ‫أكثر من موق ٍع يف‬ ‫ما‪ ،‬و َّ‬
‫أن هذا التأكيد يوجد يف َ‬
‫حتقيق ِّ‬
‫اخلري األمسى‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫من االنتماء إىل مجاعة سياسيَّة‪ ،‬يف عمرف "أرسطو" الفكري والفلسفي‪ ،‬هي م‬ ‫الغاية األساسيَّة ّ‬
‫السياسة"‪ «:‬كل دو ٍلة هي ابلبديهيَّة اجتماع وكل‬‫َّ‬ ‫ِّ‬
‫لصاحب مؤلف "يف‬ ‫اجتماع إنساين‪ .‬نقرأ‬
‫ٍ‬ ‫بوصفه غايةم كل‬
‫ٍ‬
‫خري‪،‬‬ ‫يتألف إالَّ خلري‪ ،‬مادام الناس أايًكانوا ال يعلمون أبداً شيئاً إالَّ وهم يقصدون إىل ما م‬
‫يظهر هلم أنه ّ‬ ‫اجتماع ال م‬
‫نوع ما‪ ،‬و َّ‬
‫أن أهم اخلريات كلها جيب أن يكون موضوع أهم‬ ‫فبني إذن َّ‬
‫أن كل االجتماعات ترمي إىل اخلري من ٍ‬ ‫ٌّ‬
‫االجتماعات ذلك الذي يشمل اآلخر كلها‪ ،‬وهذا هو الذي يمسمى ابلضبط الدولة أو االجتماع‬
‫السياسي‪(».‬أرسطو‪ ،‬د‪.‬ت‪ ،‬ص‪)92:‬‬

‫على ِّ‬
‫ضوء ما سبق‪ ،‬فإذا كانت كل دو ٍلة هي ابلبديهية اجتماع‪ ،‬و َّ‬
‫أن الغاية األساسيَّة اليت يرنو إليها كل‬
‫تفهم املقصود احلقيقي من عبارة "أرسطو"‪ ،‬وهي‬
‫حتقيق اخلري البشري‪ ،‬فإنه إبمكاننا‪ ،‬تبعاً لذلك‪ُّ ،‬‬
‫اجتماع هي م‬

‫مجلة تدفق ات ف لسفية‬ ‫المجلد األول‬


‫العدد الثاني‬
‫‪113‬‬ ‫دورية دولية أكاديمية محكمة‬
‫‪ISSN : 2716 – 8697‬‬ ‫مارس ‪2021‬‬
‫سؤال املواطنة يف الفلسفة اليواننية بني الطابع املثايل‪ ،‬الواقعي والكوين‬
‫د‪ .‬جواق مسري‬

‫أن "اإلنسان حيوان سياسي"‬ ‫وجب على َّ‬ ‫ٍ‬


‫أوس ِّع نطاق‪ ،‬واليت تم م‬
‫العبارة اليت يشتهر هبا هذا الفيلسوف على َّ‬
‫فهم من هذه العبارة َّ‬
‫أن "االنسان املعزول غري‬ ‫«‪ ،»L’homme est un animal politique‬إذّ يم َّ‬
‫ٍ‬
‫مكتف ذاتياً‪،‬‬ ‫القادر على املشاركة يف منافع التجمع والتعاطي السياسي‪ ،‬أو الذي ليس حباجة إىل املشاركة ألنه‬
‫فهو إما وحش أو إلــه‪(".‬هيرت‪ ،2008 ،‬ص‪)35:‬‬

‫تكم من أساساً يف املشاركة يف أجواء النقاش السياسي‬


‫نتوصل ُما سبق‪ ،‬أن فضيلة املواطنة عند "أرسطو"‪ ،‬م‬
‫من خالل االنتماء إىل مجاعة حضاريَّة‪ ،‬حبيث أ ّن لكل عض ٍو يف تلك اجلماعة وظيفة وخدمة ما جيب عليه‬
‫أن احلفاظ على سالمة الدولة وضمان استقرارها السياسي واالجتماعي‪ ،‬هي مم ِّّهمة م‬
‫يشرتك فيها اجلميع‪،‬‬ ‫اتقاهنا‪ ،‬و َّ‬
‫نص من كتاب "أرسطو"‪ ،‬يمشبه فيه الدولة‬ ‫بل وهي الغايَّة األوىل واالخرية من االجتماع االنساين‪ ،‬ويف اآليت ٌ‬
‫ابلسفينة‪ ،‬ويم ّبني من خالل ذلك التشبيه‪ ،‬كيف َّ‬
‫أن اجلميع يسعى إىل سالمة السفينة وينزعم حنو احلفاظ عليها‪.‬‬
‫يقول‪ «:‬املواطن كاملالح هو عضو مجاعة‪ ،‬ففي السفينة‪ ،‬مع أن لكل خدمة خمتلفة‪ ،‬أبن يكون الواحد جذافا‬
‫واآلخر رابانً‪ ،‬وهذا مساعدا وذاك م كلفا عمال آخر‪ ،‬بني برغم هذه التسميات والوظائف اليت ترتب ابملعىن‬
‫اخلاص فضيلة خاصة لكل منهم‪ ،‬اهنم مجيعا يشرتكون مع ذلك يف حتصيل غاية مشرتكة وهي سالمة السفينة‪،‬‬
‫اليت يقومون هبا كل فيما خيصه‪ ،‬واليت يسعى كل واحد منهم إليها على السواء‪( ».‬أرسطو‪ ،‬د ت‪ ،‬ص‪)187:‬‬

‫عرض السياق التارخيي لنشوء الدول‪ ،‬والغرض األساسي منها‪ ،‬يمقدم عرضاً‬ ‫من ِّ‬‫بعد أن ينتهي "أرسطو" ّ‬
‫ِّ‬
‫وضع تعريف للمواطن مُمرداً من ِّّ‬
‫كل النقائص‪ ،‬اهلّم الفكري‬ ‫ومفصالً عن مسات املواطن احلقيقي‪ ،‬وقد مثُّل م‬ ‫ممطوال م‬
‫ٍ‬
‫غامضة‪ ،‬واختلفت‬ ‫كان ذو ٍ‬
‫طبيعة‬ ‫أن مفهوم املواطن يف عصره وواقعه َّ‬ ‫وعي "أرسطو"‪ ،‬خصوصاً و َّ‬
‫يسكن َّ‬ ‫م‬ ‫الذي‬
‫أصل‬ ‫لد واإلقامة‪ ،‬أو على ِّ‬ ‫مكان املو ِّ‬
‫أساس ِّ‬
‫يف له على ِّ‬‫تقدمي تعر ٍ‬
‫من ذهب إىل ِّ‬
‫أساس ّ‬ ‫بني َّ َ‬
‫حوله الرؤى واملواقف‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬
‫أن هذا الشرف بعي ٌد عنهم؟‪،‬‬‫تصنيف األجانب والعبيد‪ ،‬فهل مميكن اعتبارهم مواطنون أم َّ‬
‫م‬ ‫ِّ‬
‫األب واألم‪ ،‬مثَّ ما‬
‫يكشف هذا السؤال عن صعوبة وضع تعريف للمواطن‪ .‬لنستمع إىل قول أرسطو‪ «:‬ال يكون املرء مواطناً مبحل‬
‫م‬
‫اإلقامة وحده‪َّ ،‬‬
‫ألن حمل اإلقامة ميلكه أيضاً األجانب املقيمون والعبيد‪ ،‬كذلك ال يكون املرء مواطناً مبجرد حق‬
‫ألن َّ‬
‫هذا احلق مميكن أن مخي َول مبجرد ممعاهدة جتارية‪ ،‬فمحل االقامة‬ ‫املدعاة لدى القضاء مدعياً أو ممدعى عليه‪َّ ،‬‬

‫مجلة تدفق ات ف لسفية‬ ‫المجلد األول‬


‫العدد الثاني‬
‫‪114‬‬ ‫دورية دولية أكاديمية محكمة‬
‫‪ISSN : 2716 – 8697‬‬ ‫مارس ‪2021‬‬
‫سؤال املواطنة يف الفلسفة اليواننية بني الطابع املثايل‪ ،‬الواقعي والكوين‬
‫د‪ .‬جواق مسري‬

‫كل ما يف األمر أنَّه يف بعض الدول مُيدد متتع القاطنني‬


‫واملدعاة القضائية ميكن أ ّن يكوان ألمانس ليسوا مواطنني‪ ،‬و ّ‬
‫هبذا احلق‪ ،‬فيفرض عليهم مثالً أ ّن خيتاروا كفيالً‪ ،‬وهذا تضييق يف احلق الذي خيولونه‪(».‬أرسطو‪ ،‬د‪.‬ت‪،‬‬
‫ص‪)182:‬‬

‫س عليه مفهوم املواطن يف مدونة "أرسطو" الفلسفيَّة‪،‬‬


‫يتأس م‬
‫ط أساسي َّ‬
‫السن شر ٌ‬ ‫عالوة على ذلك‪َّ ،‬‬
‫فإن َّ‬
‫إذ يمضيف هذا الفيلسوف‪ ،‬عدم جواز وصالحية تعريف املواطن على أساس الشروط السابقة حمل السكن والوالدة‬
‫يتعلق هذه املرة‪ِّ ،‬‬
‫بعامل السن‪،‬‬ ‫من توصيف املواطن‪ ،‬م‬ ‫أو املدعاة القضائيَّة‪ ،‬شروطاً أخرى مبقتضاها يمستبع مد األفراد ّ‬
‫من ِّ‬
‫سجل‬ ‫سواء أ تعلق األمر ههنا ابألوالد اللذين مل يبلغوا َّ ِّ‬
‫حذف أمسائهم ّ‬
‫م‬ ‫تعلق ابلشيوخ اللذين متَّ‬
‫سن الرشد أو َ‬ ‫ٌ‬
‫صفات توحي إليهم‬ ‫ضاف إىل هذين النوعني‬ ‫ِّ‬
‫السياق إىل ضرورة أ ّن يم َ‬ ‫القيد املدين‪ ،‬وينبه "أرسطو" يف ِّ‬
‫ذات‬
‫ٌ‬ ‫م‬
‫سن القيد املدين‪،‬‬
‫بوصفهم مواطنون انقصون أو متقاعدون‪ ،‬فأنشأ يكتب قائالً‪ «:‬واألوالد اللذين مل يبلغوا َّ‬
‫والشيوخ اللذين محذفت أمساؤهم منه‪ ،‬هم يف وض ٍع ممشابه تقريباً‪َّ ،‬‬
‫فإن هؤالء وهؤالء هم على التحقيق مواطنون‪،‬‬
‫وجه االطالق‪ ،‬وينبغي أن يمضاف إىل أولئك أهنم مواطنون انقصون‪،‬‬ ‫ولكنه ال مميكن أن يعطوا هذه الصفة على ِّ‬
‫أي تعب ٍري فال أمهية لأللفاظ‪ ،‬بل أنه ليفهم بال ٍ‬
‫عناء ما هي‬ ‫وإىل هؤالء أهنم مواطنون متقاعدون‪ ،‬وليخرت من شاء َّ‬
‫أحبث فيه هو املعىن املطلق للمواطن مُمرداً من كل النقائص اليت نبهنا إليها آنفاً‪(».‬أرسطو‪ ،‬د ت‪،‬‬ ‫فكريت‪ ،‬و َّ‬
‫أن ما م‬
‫ص‪)182:‬‬

‫نقائص‪ ،‬هو اهلاجس األساسي الذي‬ ‫َ‬ ‫من أيَِّّة‬ ‫مل للمواطن‪ٍ ،‬‬
‫خال َّ‬ ‫أن وضع تعر ٍ‬
‫يف كا ٍ‬ ‫هكذا ميكن القول‪َ َّ ،‬‬
‫السمات‬‫ِّ‬ ‫نذر له "أرسطو" جهده الفكري والفلسفي‪ .‬وقد اهتدى "أرسطو"‪ ،‬بعد هذا العرض‪ ،‬إىل َّ‬
‫من ّ‬ ‫أن ّ‬
‫همة تسي ّري شؤون الدولة‬ ‫أن املواطن احلق من يوّكل ِّ‬
‫إليه مم َّ‬ ‫األساسيَّة للمواطنة هي املشاركة يف الشؤون السياسيَّة‪ ،‬و َّ‬
‫ّم م‬
‫السمة املميزة للمواطن احلق‪ ،‬على الوجه األمت‪َّ ،‬إمنا هي التمتع بوظائف القاضي‬‫ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫ِّ‬
‫والقيام بوظائف احلمكم فيها "إن ّ‬
‫واحلكم‪(".‬أرسطو‪ ،‬د ت‪ ،‬ص‪)182:‬‬

‫من العناصر‬‫يتضح‪ُ ،‬مَّا سبق‪ ،‬أ ّن التعريف الذي قدمه "أرسطو" للمواطن واملواطنة‪ ،‬يمقصي الكثري ّ‬
‫بقي أسرياً للمجال التداويل‬
‫األساسيَّة املكونَّة للمجتمع والدولة‪ ،‬كاألطفال والنساء والعبيد والشيوخ‪ ،‬وهو يف ذلك َّ‬

‫مجلة تدفق ات ف لسفية‬ ‫المجلد األول‬


‫العدد الثاني‬
‫‪115‬‬ ‫دورية دولية أكاديمية محكمة‬
‫‪ISSN : 2716 – 8697‬‬ ‫مارس ‪2021‬‬
‫سؤال املواطنة يف الفلسفة اليواننية بني الطابع املثايل‪ ،‬الواقعي والكوين‬
‫د‪ .‬جواق مسري‬

‫اليوانين القائم على الطبقيَّة‪ ،‬خاصة وأ ّن ح َّججه املختلفة اليت قدمها للحصول على شرعيَّة ذلك االقصاء‪ِّ ،‬‬
‫وتبيان‬ ‫م‬ ‫ّ‬
‫ٍ‬
‫وصلبة‪ ،‬وممي ّكن القول‪ ،‬تبعاً لذلك أيضاً‪ ،‬أنه على‬ ‫تستند إىل أرضيَّ ٍة ٍ‬
‫قوية‬ ‫عادل‪ ،‬هي ضعيفةٌ جداً وال م‬
‫أنه إقصاءٌ ٌ‬
‫كان ّيعِّج هبا عصره حول املواطن واملواطنة‪ ،‬وقد‬ ‫الرغم من حماوالت "أرسطو" للخروج من ِّ‬
‫خندق التصورات اليت َّ‬

‫تلك التصورات‪ ،‬إالَّ أنه قد َّ‬


‫بقي أسرياً‬ ‫تقدمي تعر ٍ‬
‫يف واقع ٍي يتجاوز من خالله كل النقائص اليت موجدت يف َ‬ ‫ر َام إىل ِّ‬
‫سنشهد مع املدرسة الرواقية استمراراً لتلك التصورات أم ممنعرجاً جديداً يف فهم وتصور املواطنة؟‬
‫م‬ ‫هلا‪ ،‬فهل‬

‫‪ :3 .2‬املدرسة الرواقيَّة واملواطنة الكونية‪ :‬من مواطنة املدينة إىل مواطنة العال‬

‫عد الرواقيَّة ‪ Stoïcisme‬هي أوىل احملاوالت اجلادة إلرساء ِّ‬


‫قيم املواطنة‬ ‫من الناحيَّة التارخييَّة‪ ،‬تم م‬
‫وجب على‬ ‫الكومسوبوليتيَّة‪ ،‬والتنظري فلسفياً للمواطن العاملي‪ ،‬و ِّ‬
‫العيش وفقاً للقواعد الكونيَّة‪ ،‬علماً أن الرواقيَّة تم م‬
‫أي أن تكون مواطناً يف‬ ‫ٍ‬
‫املواطن إعال من الوالء إىل املدينة‪-‬األمة‪ ،‬من جهة‪ ،‬وإىل املدينة‪-‬العامل‪ ،‬من جهة أخرى؛ ّ‬
‫الوقوف على هذه املسألة‪َّ ،‬أما اجلو ماز‬ ‫سنحاول يف اآليت‬ ‫اطن أيضاً يف العامل‪.‬‬ ‫ِّ‬ ‫املدينة فأنت‪ ،‬يف ِّ‬
‫َ‬ ‫ّ‬ ‫نفس الوقت‪ ،‬مو ٌ‬
‫إجابة للسؤال اآليت‪ :‬ما هي رؤيَّة الرواقيَّة للمواطنة؟ وكيف مميكن‬ ‫يف ذلك‪ ،‬سيكون من خالل محماولة تقدمي ٍ‬
‫بني الوالء إىل "املدينة" وإىل "العامل" يف ِّ‬
‫نفس الوقت؟‬ ‫حتقيق التو ِّ‬
‫افق واالنسجام َّ‬ ‫للمواطن الرواقي م‬

‫حيث كان‬
‫يعود إىل "زينون"‪ ،‬نسبةً إىل الرواق‪ ،‬م‬‫إن فضل تسميَّة هذه املدرسة ب ـ "الرواقية" وأتسيسها‪ ،‬م‬
‫يف أبهم حماورها ومساعيها ومراميها‪.‬‬ ‫أجل مزيَِّّة ِّ‬
‫عرض فلسفته اجلديدة والتعر ِّ‬ ‫النقاش الفكري من ِّ‬ ‫ٍ‬
‫حلقات من ِّ‬ ‫دير‬
‫يم م‬
‫احل‬ ‫ِّ‬ ‫ِّ‬
‫عرب ثالثة مر َ‬
‫ستحسن بنا اإلشارة يف ذات السياق‪ ،‬إىل أ ّن التطور التارخيي‪-‬الفكري هلذه املدرسة كان َ‬
‫م‬ ‫كما يم‬
‫ّ‬
‫هت مج ُّل األحباث والدراسات إىل تقسيمها على النحو اآليت‪ :‬الرواقيَّة القدمية‪ -‬الرواقيَّة الوسطى‪-‬‬ ‫أساسيَّة اجت ْ‬
‫تص مل‬‫ِّ‬ ‫ئيس‪ ،‬إذ َّ‬ ‫ِّ‬ ‫الرواقيَّة احلديثة‪ .‬إالَّ أن ذلك ال مينع أبداً من ِّ ِّ‬
‫وشائج دقيقةٌ ّ‬
‫ٌ‬ ‫إن هناك‬ ‫تتبع اخليط الناظم لفكرها الر ْ‬ ‫ّ‬ ‫م‬
‫ِّ‬
‫األهداف‬ ‫تصل بني مراحلها املختلفة‪ ،‬توحي بوحدةِّ املنطلقات و ِّ‬
‫الوفاء لنفس‬ ‫ِّ‬ ‫بني تلك املر ِّ‬
‫ومسالك سريَّة ّ‬
‫ٌ‬ ‫احل‪،‬‬ ‫ّ‬
‫شتغل على هذه الفلسفة‪ ،‬وجود خاصيتني أساسيتني‬ ‫أي مم ٍ‬ ‫ِّ‬ ‫واشرت ٍ‬
‫يلفت انتباهَ ّ‬
‫اخلصائص‪ ،‬وفعالً‪ ،‬إ ّن ما م‬ ‫اك يف‬
‫امليز بينه وبني غريه‪:‬‬
‫قيم َّ‬
‫ميتاز هبما الفيلسوف‪ /‬املواطن الرواقي‪ ،‬إىل درجة أهنا تم م‬
‫م‬

‫مجلة تدفق ات ف لسفية‬ ‫المجلد األول‬


‫العدد الثاني‬
‫‪116‬‬ ‫دورية دولية أكاديمية محكمة‬
‫‪ISSN : 2716 – 8697‬‬ ‫مارس ‪2021‬‬
‫سؤال املواطنة يف الفلسفة اليواننية بني الطابع املثايل‪ ،‬الواقعي والكوين‬
‫د‪ .‬جواق مسري‬

‫تتعلق األوىل ب ـ "املتطلبات القاسية للتفاين من أجل الدولة وواجب أتدية اخلدمة العامة‪ ،‬فجاءت الفضيلة‬
‫م‬
‫وفق قواعد كونية‬ ‫املدنية يف أعلى املصاف‪ ،‬والثانية‪ :‬االميان أبن على املرء أن يكون مواطناً عاملياً عن طريق ِّ‬
‫العيش َ‬
‫للتصرف الصاحل‪ ،‬وهكذا علّمت الرواقية أن الفرد ككائن سياسي فاضل ينبغي أن يكون مخملصاً وأن يشعر ٍ‬
‫بوالء‬ ‫ُّ‬
‫ٍ‬
‫عميق ٍ‬
‫لكل من دولته والقانون الطبيعي الكوين‪ ،‬إذ إنه عضو يف كل من املدينة ‪ ،Polis‬وهي الدولة املوجودة‬
‫قانونياً ودستورايً‪ ،‬واملدينة العاملية ‪ ،Cosmopolis‬وهي فكرة ُمازية للمجتمع الكوين األخالقي‪(".‬هيرت‪،‬‬
‫‪ ،2008‬ص‪)63:‬‬

‫وهكذا َّ‬
‫فإن مبدأ "العامليَّة"‪ ،‬هو املبدأ الذي تقوم عليه الفلسفة الرواقيَّة‪ ،‬بل هو جوهرها وحمورها األساسي‪.‬‬
‫بغض النظر عن تفاوهتم االجتماعي ولون بشرهتم وجنسهم وأصلهم‪ ،‬فهم مجيعاً مواطنون‪،‬‬‫أن مجيع البشر ِّّ‬
‫أي َّ‬
‫َّ‬
‫ب أ ّن يمعاملوه‪ ،‬أي أن تكون معاملة أخالقية حسنة‬ ‫ٍ‬
‫عامل اآلخر كمواطن‪ ،‬مثل ما مُي م‬
‫وجيب على كل فرد أ ّن يم َ‬
‫كانت دعوة إىل ضرورة التوافق بني‬ ‫ِّ‬
‫بني اجلميع يف مدينة اإلنسانيّة‪ .‬ألن "الفلسفة الرواقية يف جوهرها ْ‬
‫متبادلة َّ‬
‫افق على أساس أن جوهر االنسان والطبيعة‬
‫الطبيعة االنسانية والطبيعة اخلارجيَّة مبعناها الواسع‪ ،‬ويقوم هذا التو م‬
‫واحد هو العقل‪ ،‬فالعقل االنساين إمنا هو جزء من العقل الكلي للعامل (‪ )...‬ومن هنا كانت دعوة الرواقية اىل‬
‫التوافق بني العقل االنساين والعقل اإلهلي‪(".‬النشار‪ ،2005 ،‬ص‪.)102،101:‬‬

‫بني العقل االنساين والعقل االهلي‪ ،‬هو‬ ‫افق ّ‬‫حتقيق التو ِّ‬
‫بني أهم النتائج اليت متخضت عن ِّ‬ ‫كان من ِّ‬
‫لقد َّ‬
‫ِّ‬
‫التفاوت بينهم‪ ،‬إالَّ التفاوت يف‬ ‫قيم املساواةِّ بني اجلميع‪ ،‬ونب مذ‬
‫اخلضوع له‪ ،‬وابلتايل إرساءم ِّ‬
‫َ‬ ‫االحتكام إىل القانون‪ ،‬و‬
‫م‬
‫ِّ‬
‫اختالف أدوارهم فيها‪ ،‬وعليه أتى‬ ‫ِّ‬
‫تفاوت منزلتهم االجتماعيَّة و‬ ‫العامل األساسي يف‬ ‫القدرات واملؤهالت اليت هي‬
‫م‬
‫يليق هبم كبش ٍر‪،‬‬
‫بشكل حس ٍن‪ ،‬مبَّا م‬
‫ٍ‬ ‫يستحسن معاملتهم‬
‫م‬ ‫موقفهم املـمناهض لسياسة معاملة العبيد معاملة سيئة‪ ،‬إذ‬
‫وابجلملة‪ ،‬لقد جعلهم ذلك التوافق "يؤمنون ابملبدأ الشهري العيش وفقا للطبيعة‪ ،‬وعلى الصعيد السياسي يكون‬
‫نتيجة االميان هبذا املبدأ‪ ،‬اإلميان أبن مجيع البشر سواسيَّة ال فرق طبيعي بينهم (‪ )...‬ومن مثَّة فإن على االنسان‬
‫احلكيم أن يدرك أنه ومجيع ما يف العامل من كائنات خيضعون لقانون واحد مسيطر وهو القانون احلاكم واملوجه‬
‫لكل ما جيري يف الكون‪(".‬النشار‪ ،2005 ،‬ص‪)102 :‬‬

‫مجلة تدفق ات ف لسفية‬ ‫المجلد األول‬


‫العدد الثاني‬
‫‪117‬‬ ‫دورية دولية أكاديمية محكمة‬
‫‪ISSN : 2716 – 8697‬‬ ‫مارس ‪2021‬‬
‫سؤال املواطنة يف الفلسفة اليواننية بني الطابع املثايل‪ ،‬الواقعي والكوين‬
‫د‪ .‬جواق مسري‬

‫ابجلملة‪ ،‬مميكن القول أن الرواقية تعد من الناحية التارخييّة‪ّ ،‬أول حماولة فلسفيَّة نظََّرت للمواطن العاملي‬
‫من أهم الروافد الفكريَّة‬ ‫جنازف حني نقول‪ ،‬أهنا تمعد ٍ‬
‫حبق ّ‬ ‫فنحن ال نبالغ أو‬
‫م‬ ‫وللقيم االخالقية الكونية‪ ،‬من مثة‪ ،‬م‬
‫واملرجعيات الفلسفية اليت هنلت منها األطروحات الفلسفية املعاصرة اليت تمنافح بقوة عن حقوق االنسان العامليَّة‬
‫ِّ‬
‫التباينات‬ ‫املؤسسة للمواطن الكوكيب‪ ،‬كاألخوة والتسامح والتعايش على الرغم من االختالفات و‬
‫َّ‬ ‫وعن القيم الكونية‬
‫بني األفراد‪ ،‬إذّ قدمت هذه الفلسفة ترسانة من املفاهيم اليت أعملَّها اخلطاب املعاصر يف ِّ‬
‫سبيل دفاعه عن األقليات‬ ‫ّ‬
‫واملنبوذين واملهمشني‪ ،‬جلهة أن اجلميع ينتمي إىل مدينة االنسانيَّة العاملية‪.‬‬

‫خاُتة‪:‬‬

‫على سبيل اخلتام‪ ،‬مميكن القول‪ ،‬أن مفهوم املواطنة يعود من حيث النشأة إىل املدينة اليواننية (أثينا)‪،‬‬
‫وقد كانت تعين –يف مجلة ما تعنيه‪ -‬احلق يف املشاركة السياسية واالجتماعية لتسيري شؤون الدولة وتويل املناصب‬
‫العليا فيها بني مواطنني أحرار ومتساويني‪ ،‬إال أن هذه املشاركة كانت مقصورة فقط على الفرد ذو األصل اليوانين‬
‫أتسست على الواقع اليوانين القائم على الطبقية االجتماعية‪ ،‬ومن مثة فإن هذا‬
‫ْ‬ ‫كما أن هذه الرؤية للمواطنة‬
‫التصور اليوانين للمواطنة كان ضيقاً للغاية إذ يمقصي الفئات والطبقات االجتماعية األخرى من األجانب واملقيمني‬
‫والعبيد والصناع ‪..‬اخل‪ .‬وقد مثل هذا الواقع اليوانين اخللفية الفكرية احلاكمة يف كل مقاربة فلسفية حول املواطنة‪،‬‬
‫إما أن تمزكي هذا الواقع أو تتجاوزه‪.‬‬

‫‪ -1‬املقاربة املثالية‪ :‬واليت ترتب م‬


‫ط ارتباطاً وثيقاً بـ "أفالطون"‪ ،‬لقد رام من خالهلا إىل أتسيس ُمتمع سياسي‬
‫تتحقق فيه املواطنة الكاملة‪ ،‬وذلك لن يكون ُمكناً إال من خالل أن ُيرتم كل مواطن الطبقة‬
‫م‬ ‫عادل ومستقر‬
‫االجتماعية اليت ينتمي إليها وأن يؤدي كل مواطن مهامه الكاملة وفقاً لطبقته دون أن يتدخل يف شؤون غريه‪،‬‬
‫ينتهض على الطبقية‪.‬‬
‫م‬ ‫وهكذا نالحظ أن هذه املقاربة تزكي الواقع االجتماعي اليوانين الذي‬

‫‪-2‬املقاربة الواقعية‪ :‬واليت يمعزى الفضل يف أتسيسها إىل "أرسطو"‪ ،‬وإن كانت هذه املقاربة أقل حدةً‬
‫من سابقتها إال أهنا ال تنفصل هي األخرى عن الواقع اليوانين‪ ،‬إذ مبقتضاها يرى "أرسطو" أن املواطنة احلقة‬

‫مجلة تدفق ات ف لسفية‬ ‫المجلد األول‬


‫العدد الثاني‬
‫‪118‬‬ ‫دورية دولية أكاديمية محكمة‬
‫‪ISSN : 2716 – 8697‬‬ ‫مارس ‪2021‬‬
‫سؤال املواطنة يف الفلسفة اليواننية بني الطابع املثايل‪ ،‬الواقعي والكوين‬
‫د‪ .‬جواق مسري‬

‫تكمن يف تضافر جهود اجلميع وكل من طبقته اليت ينتمي إليها من أجل احلفاظ على الدولة وسالمتها على‬
‫اجتماع بشري‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫أساس أن ذلك هو اخلري األمسى لكل‬

‫‪ -3‬املقاربة الكونية‪ :‬واليت يعود الفضل يف تشييدها إىل املدرسة الرواقية‪ ،‬لقد رامت املدرسة الرواقية إىل‬
‫مُماوزة الواقع اليوانين القائم على النزعة الطبقية واالقصائية عرب ارساء قيم املواطنة الكونية والعيش وفقاً هلا‪ ،‬فأن‬
‫تكون مواطناً يف املدينة فأنت يف الوقت ذاته مواطن يف العامل‪.‬‬

‫قائمة املصادر واملراجع‬

‫‪ .1‬قائمة املصادر‪:‬‬

‫_ أرسطو‪ .‬السياسة‪ .‬تر‪ :‬أمحد لطفي السيد‪ .‬مصر‪ :‬الدار القومية للطباعة والنشر‪.‬‬

‫_ أفالطون‪ .)2001( .‬حماكمة سقراط‪ ،‬حماورة أوطيفرون‪ -‬الدفاع‪ -‬أقريطون‪ .‬تر‪ :‬عزت قرين‪ .‬مصر‪ :‬دار قباء‬
‫للطباعة والنشر والتوزيع‪.‬‬

‫_ أفالطون‪ .)2003( .‬اجلمهورية‪ .‬تر‪ :‬فؤاد زكراي‪ .‬مصر‪ :‬دار الوفاء لدنيا الطباعة والنشر‪.‬‬

‫‪ .2‬قائمة املراجع‪:‬‬

‫أ‪ :‬ابللغة العربية‪:‬‬

‫_ العلوي‪ ،‬ايسر‪ .)2014( .‬معجم املصطلحات السياسية‪ .‬البحرين‪ :‬معهد البحرين للتنمية السياسية‪.‬‬

‫_ الكواري‪ ،‬على خليفة‪ .)2001( .‬املواطنة والدميقراطية يف البلدان العربية‪ .‬لبنان‪ :‬مركز دراسات الوحدة‬
‫العربية‪.‬‬

‫_ النشار‪ ،‬مصطفى‪ .)2005( .‬الفلسفة السياسية من صولون إىل ابن خلدون‪ .‬مصر‪ :‬الدار املصرية للنشر‬
‫والتوزيع‪.‬‬

‫مجلة تدفق ات ف لسفية‬ ‫المجلد األول‬


‫العدد الثاني‬
‫‪119‬‬ ‫دورية دولية أكاديمية محكمة‬
‫‪ISSN : 2716 – 8697‬‬ ‫مارس ‪2021‬‬
‫سؤال املواطنة يف الفلسفة اليواننية بني الطابع املثايل‪ ،‬الواقعي والكوين‬
‫د‪ .‬جواق مسري‬

‫_ دورتييه‪ ،‬جان فرنسوا‪ .)2009( .‬معجم العلوم االنسانية‪ .‬تر‪ :‬جورج كنتورة‪ .‬لبنان‪ :‬املؤسسة اجلامعية‬
‫للدراسات والنشر والتوزيع‪.‬‬

‫_ ديلو‪ ،‬ستيفن‪ .)2000( .‬التفكري السياسي والنظرية السياسية واجملتمع املدين‪ .‬تر‪ :‬بيع وهبة‪ .‬مصر‬

‫_ هيرت‪ ،‬ديريك‪ .)2008( .‬اتريخ موجز للمواطنة‪ .‬تر‪ :‬آصف انصر ومكرم خليل‪ .‬لبنان‪ :‬دار الساقي‪.‬‬

‫_ ولديب‪ ،‬سيد حممد‪ .)2001( .‬الدولة واشكالية املواطنة‪ ،‬قراءة يف مفهوم املواطنة العربية‪ .‬األردن‪ :‬دار‬
‫كنوز املعرفة للنشر والتوزيع‪.‬‬

‫ب‪ :‬ابللغة األجنبية‬

‫‪_ Habermas, Jurgen. (1998). L’Intégration Républicaine, essais de‬‬


‫‪théorie politique. Tr R- Rochlitz. France : Fayard.‬‬

‫‪_ Morfaux, Louis-Marie. (2005). nouveau vocabulaire de la‬‬


‫‪philosophie et des sciences humaines. France: Armand colin.‬‬

‫‪_ Blay, Michel. (2005). Larousse, grand dictionnaire de la‬‬


‫‪philosophie. France: CNRS édition.‬‬

‫مجلة تدفق ات ف لسفية‬ ‫المجلد األول‬


‫العدد الثاني‬
‫‪120‬‬ ‫دورية دولية أكاديمية محكمة‬
‫‪ISSN : 2716 – 8697‬‬ ‫مارس ‪2021‬‬

You might also like