You are on page 1of 203

‫لطائف السمر يف سكان الزُّهرة والقمر‬

‫أو‬
‫(الغاية يف البداءة والنهاية)‬
‫ميخائيل الصقال‬

‫تقديم‪ :‬نبيل سليامن‬

‫‪1‬‬
‫‪20‬‬
‫يوزع مجاناً مع العدد ‪ 63‬من مجلة الدوحة يناير ‪2013‬‬

‫لطائف السمر يف سكان الزُّهرة والقمر‬


‫أو (الغاية يف البداءة والنهاية)‬
‫ميخائيل الصقال‬

‫النارش ‪:‬‬
‫وزارة الثقافة والفنون والرتاث ‪ -‬دولة قطر‬
‫رقم اإليداع بدار الكتب القطرية ‪:‬‬
‫الرتقيم الدويل (ردمك) ‪:‬‬

‫إخراج وتنفيذ ‪ :‬القسم الفني ‪ -‬مجلة الدوحة‬


‫لوحة الغالف‪ :‬عبد الهادي الجزار ‪ -‬مرص‬

‫‪2‬‬
‫فهرس الكتاب‬

‫‪7‬‬ ‫تقديم‪ :‬نبيل سليامن‬


‫‪21‬‬ ‫مقدمة املؤلف‬
‫‪23‬‬ ‫الباب األول‬
‫‪25‬‬ ‫الفصل األول‪ :‬يف ترجمتي‬
‫‪28‬‬ ‫الفصل الثاين‪ :‬يف ترجمة والدي‬
‫‪29‬‬ ‫الفصل الثالث‪ :‬يف رؤياي لوالدي‬
‫‪33‬‬ ‫الفصل الرابع‪ :‬يف املريخ‬
‫‪33‬‬ ‫الفصل الخامس‪ :‬يف الزهرة‬
‫‪34‬‬ ‫الفصل السادس‪ :‬يف املدن والطرق‬
‫‪36‬‬ ‫الفصل السابع‪ :‬يف الدور‬
‫‪37‬‬ ‫الفصل الثامن‪ :‬يف النظافة‬
‫‪39‬‬ ‫الباب الثاين‬
‫‪41‬‬ ‫الفصل األول‪ :‬يف العبادة‬
‫‪41‬‬ ‫الفصل الثاين‪ :‬يف املعابد‬
‫‪42‬‬ ‫الفصل الثالث‪ :‬يف الصالة‬
‫‪44‬‬ ‫الفصل الرابع‪ :‬يف األعياد والصيام والحج‬
‫‪47‬‬ ‫الفصل الخامس‪ :‬يف قضاة الزهرة ونزولنا إىل األرض‬
‫‪49‬‬ ‫الفصل السادس‪ :‬يف بعض الرؤساء باألرض‬
‫‪53‬‬ ‫الفصل السابع‪ :‬يف خطيئات سكان الزهرة‬
‫‪55‬‬ ‫الفصل الثامن‪ :‬يف األحكام الحقوقية‬
‫‪57‬‬ ‫الفصل التاسع‪ :‬يف العقاب‬
‫‪61‬‬ ‫الفصل العارش‪ :‬يف القتل العدواين‬
‫‪62‬‬ ‫الفصل الحادي عرش‪ :‬يف القتل الديني‬
‫‪63‬‬ ‫الفصل الثاين عرش‪ :‬يف القتل الحريب‬
‫‪63‬‬ ‫الفصل الثالث عرش‪ :‬يف القتل السيايس واملدين العقايب باألرض‬
‫‪63‬‬ ‫الفصل الرابع عرش‪ :‬يف لو علم املحكوم ما كان عليه الجتنب اآلثام‬
‫‪64‬‬ ‫الفصل الخامس عرش‪ :‬يف عذاب زحل‬
‫‪67‬‬ ‫الباب الثالث‬
‫‪69‬‬ ‫الفصل األول‪ :‬يف املحاماة باألرض‬

‫‪3‬‬
‫‪70‬‬ ‫الفصل الثاين‪ :‬يف قضاة املحاكم األرضيني‬
‫‪71‬‬ ‫الفصل الثالث‪ :‬يف الوصاية باألرض‬
‫‪72‬‬ ‫الفصل الرابع‪ :‬يف الحروب واملذابح والفظائع باألرض‬
‫‪77‬‬ ‫الفصل الخامس‪ :‬يف السجون واملنايف‬
‫‪81‬‬ ‫الباب الرابع‬
‫‪83‬‬ ‫الفصل األول‪ :‬يف الطلق والوالدة وتربية الطفولة‬
‫‪85‬‬ ‫الفصل الثاين‪ :‬يف الرتبية وواجبات الوالدين باألرض‬
‫‪88‬‬ ‫الفصل الثالث‪ :‬يف مدراس وعلوم سكان الزهرة‬
‫‪89‬‬ ‫الفصل الرابع‪ :‬يف أنَّ آفة التلميذ باألرض مدرسته ودروسه ويف الرتبية أيضاً‬
‫‪94‬‬ ‫الفصل الخامس‪ :‬يف اللغة‬
‫‪96‬‬ ‫الفصل السادس‪ :‬يف املطابع‬
‫‪97‬‬ ‫الفصل السابع‪ :‬يف علامء األرض وحالة اإلنسان األوىل فيها‬
‫‪103‬‬ ‫الفصل الثامن‪ :‬يف الشعر والشعراء‬
‫‪115‬‬ ‫الباب الخامس‬
‫‪117‬‬ ‫الفصل األول‪ :‬يف بنات الهوى أو الغواين‬
‫‪118‬‬ ‫الفصل الثاين‪ :‬يف العذرات واملنتديات أي أماكن القهوة‬
‫‪118‬‬ ‫الفصل الثالث‪ :‬يف التلهي بالزهرة‬
‫‪119‬‬ ‫الفصل الرابع‪ :‬يف منتديات ومالهي األرض‬
‫‪122‬‬ ‫الفصل الخامس‪ :‬يف املآكل‬
‫‪122‬‬ ‫الفصل السادس‪ :‬يف األطباء وواجباتهم ويف السكر‬
‫‪126‬‬ ‫الفصل السابع‪ :‬يف العفاف‬
‫‪127‬‬ ‫الفصل الثامن‪ :‬يف االختالط واملعارشة باألرض ويف الرقص‬
‫‪131‬‬ ‫الفصل التاسع‪ :‬يف األزياء وأرضارها ويف النسائج‬
‫‪134‬‬ ‫الفصل العارش‪ :‬يف البائنة والفتيات‬
‫‪138‬‬ ‫الفصل الحادي عرش‪ :‬يف التمويه والطالء والخضاب‬
‫‪141‬‬ ‫الفصل الثاين عرش‪ :‬يف اختيار الزوجة‬
‫‪142‬‬ ‫الفصل الثالث عرش‪ :‬يف الخطبة والحب والغرية واملهر والجهاز‬
‫‪144‬‬ ‫الفصل الرابع عرش‪ :‬يف املالبس والحيل والهدايا من الزهر‬
‫‪145‬‬ ‫الفصل الخامس عرش‪ :‬يف البضع واالقرتان والعرس‬
‫‪147‬‬ ‫الباب السادس‬
‫‪148‬‬ ‫الفصل األول‪ :‬يف طبقات العباد‬
‫‪148‬‬ ‫الفصل الثاين‪ :‬يف الزراعة والفالحة باألرض ويف القرى وعيشها‬
‫‪151‬‬ ‫الفصل الثالث‪ :‬يف اآلالت واألدوات النقلية والزراعية وغريها من مخرتعات سكان الزهرة‬
‫‪154‬‬ ‫الفصل الرابع‪ :‬يف حرف سكان األرض‬
‫‪155‬‬ ‫الفصل الخامس‪ :‬يف البيع والرشاء‬

‫‪4‬‬
‫‪156‬‬ ‫الفصل السادس‪ :‬يف التجارة‬
‫‪156‬‬ ‫الفصل السابع‪ :‬يف الرباء‬
‫‪157‬‬ ‫الفصل الثامن‪ :‬يف طمع سكان األرض‬
‫‪158‬‬ ‫الفصل التاسع‪ :‬يف الحسد‬
‫‪159‬‬ ‫الباب السابع‬
‫‪161‬‬ ‫الفصل األول‪ :‬يف الرجل‬
‫‪163‬‬ ‫الفصل الثاين‪ :‬يف املرأة‬
‫‪164‬‬ ‫الفصل الثالث‪ :‬يف األصدقاء باألرض‬
‫‪166‬‬ ‫الفصل الرابع‪ :‬يف األعامر واملوت والزهرة‬
‫‪168‬‬ ‫الفصل الخامس‪ :‬يف األحزان‬
‫‪173‬‬ ‫الباب الثامن‬
‫‪175‬‬ ‫الفصل األول‪ :‬يف وجود الله تعاىل وخلقه الخلق‬
‫‪176‬‬ ‫الفصل الثاين‪ :‬يف األديان‬
‫‪178‬‬ ‫الفصل الثالث‪ :‬يف توحيد األديان‬
‫‪179‬‬ ‫الفصل الرابع‪ :‬يف قولهم لو كانت األديان كلها من الله تعاىل ملا اختلفت يف االعتقاد‬
‫‪180‬‬ ‫الفصل الخامس‪ :‬يف قول بعضهم إنَّ األديان قوانني وضعها عقالء البرش‬
‫‪181‬‬ ‫الفصل السادس‪ :‬يف املجوسية والوثنية‬
‫‪182‬‬ ‫الفصل السابع‪ :‬يف التقمص‬
‫‪182‬‬ ‫الفصل الثامن‪ :‬يف التشاؤم‬
‫‪184‬‬ ‫الفصل التاسع‪ :‬يف املعتوهني واملشعوذين‬
‫‪185‬‬ ‫الفصل العارش‪ :‬يف الكافر واملكابر‬
‫‪187‬‬ ‫الفصل الحادي عرش‪ :‬يف النجس‬
‫‪187‬‬ ‫الفصل الثاين عرش‪ :‬يف التوجع والطلق‬
‫‪189‬‬ ‫الباب التاسع‬
‫‪191‬‬ ‫الفصل األول‪ :‬يف األرض وقدمها‬
‫‪191‬‬ ‫الفصل الثاين‪ :‬يف كيف خلق الله تعاىل الخلق وملاذا‬
‫‪192‬‬ ‫الفصل الثالث‪ :‬يف قولهم خري لإلنسان أن ال يخلق‬
‫‪192‬‬ ‫الفصل الرابع‪ :‬يف قول بعضهم إنَّ الله تعاىل يخلق الحسن وينهانا عنه‬
‫‪193‬‬ ‫الفصل الخامس‪ :‬يف قول بعضهم إنَّ اإلنسان يلتمس من الله تعاىل ما يحتاج إليه فال يرد عليه‬
‫الفصل السادس‪ :‬يف قول بعضهم إنَّ الله تعاىل يحكم عىل زيد مث ًال بأن يفتقر بعد غنى وعىل‬
‫‪193‬‬
‫عمرو بأن يغنى وال يفتقر‬
‫‪195‬‬ ‫الفصل السابع‪ :‬يف قول بعضهم إنَّ اإلنسان ضعيف تستعبده شهواته‬
‫‪195‬‬ ‫الفصل الثامن‪ :‬يف كشف الرس والختام‬

‫‪5‬‬
6
‫الريادة الروائية النهضوية‪:‬‬
‫(لطائف السمر‪ )..‬مليخائيل الصقال أمنوذجاً‬

‫كام القاهرة‪ ،‬ورمبا أكرث من بريوت‪ ،‬كانت حلب القرن التاسع عرش بؤرة نهضوية يف‬
‫الفكر واألدب والفن‪ .‬وقد اشتهر من تلك البؤرة بخاصة عبد الرحمن الكواكبي (‪1848‬‬
‫ـ ‪ )1902‬وفرنسيس املراش (‪ 1837‬ـ ‪ )1873‬يف تلك الفرتة‪ ،‬كام بني ظهرانينا أيضاً‪ ،‬منذ‬
‫أخذنا نج ّد يف إثر (النهضة) عقب هزمية ‪ ،1967‬وال نزال‪ .‬وإذا كان آخرون قد ُعرفوا يف‬
‫تلك الفرتة أيضاً (رزق الله حسون وجربائيل الدالل وعبد الله املراش‪ )...‬فقد كان ومل‬
‫يزل حق ميخائيل الصقال يف أن يعرف مغمطاً‪ ،‬شأنه شأن أبيه األديب الرائد املجهول‪:‬‬
‫أنطوان الصقال‪ .‬وباألب نبدأ‪:‬‬
‫أنطوان الصقال (‪ 1824‬ـ ‪:)1885‬‬
‫يف صدر رواية (لطائف السمر يف سكان الزهرة والقمر‪ )...‬يرتجم ميخائيل الصقال‬
‫ألبيه‪ ،‬فيع ّده «أحد رجال النهضة األدبية يف هذه األمصار»‪ ،‬ويذكر االبن ومن ترجم‬
‫سواه لألب‪ ،‬أن أنطوان الصقال كان شاعراً‪ ،‬وله شأو يف الهندسة واملوسيقى‪ .‬وكان يتقن‬
‫إىل العربية‪ :‬الرسيانية والرتكية واإلنكليزية‪ ،‬كام كان الرتجامن األول لقائد الحملة‬
‫اإلنكليزية يف حرب القرم (‪ 1854‬ـ ‪ .)1856‬وقد عمل يف مالطة مدرساً ومصححاً لغوياً‬
‫ملا كان ُيطبع فيها من الكتب العربية‪ ،‬كام كتب بأسامء مستعارة يف صحف ومجالت‬
‫شتى‪ .‬أما األهم فهو ما يؤكده قسطايك الحميص يف كتابه (أدباء حلب ذوو األثر يف‬
‫القرن التاسع عرش) من أن ألنطوان الصقال «كتاب األسهم النارية‪ ،‬وهو رواية ض ّمنها‬

‫‪7‬‬
‫بعض الوقائع املحلية‪ .‬وله رواية أخرى مل يصلنا اسمها»‪ .‬أما محمد راغب الطباخ‬
‫فيكتب يف الجزء السابع من مصنفه (إعالم النبالء بتاريخ حلب الشهباء) أن أنطوان‬
‫الصقال كان «شاعراً مجيداً له ديوان شعر وروايتان‪ ،‬إحداهام غرامية أخالقية نحا بها‬
‫نحو حكايات ألف ليلة وليلة‪ ،‬وهي حكاية إحدى ملوك الصني املسامة بالقاهرة مع‬
‫الحسن البرصي نجل امللك عبد الرحيم»‪ .‬وقد دفعت هذه التوكيدات بشاكر مصطفى‬
‫إىل أن يكتب يف مصنفه (محارضات عن القصة يف سورية حتى الحرب العاملية الثانية)‬
‫أنه يكاد يرجح أن أنطوان الصقال «هو أول كاتب للقصة يف سورية إن مل يكن يف‬
‫العرب» إذا ما أسعفت املصادر يف املستقبل بذكر تاريخ روايته‪.‬‬
‫لقد طال القول بأن رواية (زينب ـ ‪ )1914‬ملحمد حسني هيكل (‪ 1956‬ـ ‪)1999‬‬
‫هي أول رواية عربية‪ .‬ثم جلجل القول برواية فرنسيس املراش (غابة الحق ـ ‪،)1865‬‬
‫ثم جلجل القول برواية (وي‪ ..‬إذن لست بإفرنجي ـ ‪ )1859‬لخليل الخوري (‪ 1836‬ـ‬
‫‪ )1907‬وبذا انتقلت الريادة الروائية بعد القاهرة‪ ،‬من حلب إىل بريوت‪ ،‬فهل يعيدها‬
‫أنطوان الصقال إىل حلب؟‬
‫ميخائيل الصقال (‪ 1852‬ـ ‪:)1937‬‬
‫كام ترجم ألبيه بإيجاز‪ ،‬يرتجم ميخائيل الصقال لنفسه أيضاً يف صدر روايته‬
‫(لطائف السمر‪ .)...‬وإىل ذلك أضيف أن أعامله املنشورة هي‪:‬‬
‫‪1‬ـ رواية (لطائف السمر يف سكان الزهرة والقمر أو الغاية يف البداءة والنهاية)‬
‫وقد صدرت يف القاهرة عام ‪ .1907‬وسوف نكتفي لذكرها بـ (لطائف السمر‪.)..‬‬
‫‪ 2‬ـ كتاب (العرب) ـ ‪.1911‬‬
‫‪ 3‬ـ ديوان شعر ـ ‪.1925‬‬
‫وله مخطوطات ذكرها قسطايك الحميص يف كتابه (أدباء حلب ذوو األثر‪)...‬‬
‫وذكرتها عائشة الدباغ يف كتابها (الحركة الفكرية يف حلب يف النصف الثاين من القرن‬
‫التاسع عرش ومطلع القرن العرشين ـ ‪ ،)1972‬واملخطوطات هي‪:‬‬
‫* طرائف النديم يف تاريخ حلب القديم‪.‬‬
‫* لطائف الحديث يف تاريخ حلب الحديث‪.‬‬
‫* مذكرات ميخائيل الصقال‪.‬‬
‫* رسالة يف النحل‪.‬‬
‫* رسالة يف الترشيح‪.‬‬

‫‪8‬‬
‫ولعل من املفيد أن أضيف اإلضاءتني التاليتني إىل ترجمة الكاتب‪:‬‬
‫أ ـ كام عمل ميخائيل الصقال يف التعليم ويف املحاماة والقضاء‪ ،‬عمل يف الصحافة‬
‫مع عبد الرحمن الكواكبي يف جريدة الشهباء التي صدرت يف ‪ ،1877/5/10‬وعاشت‬
‫سنة ونيفاً بال انتظام‪ ،‬إذ عطلها الوايل ثالث مرات قبل أن يحجز عىل مطبعتها ويضعها‬
‫تحت املراقبة‪ .‬لكن الجريدة عادت إىل الظهور‪ ،‬وظهر فيها اسم ميخائيل الصقال‪.‬‬
‫ويرجح جان داية يف كتابه (صحافة الكواكبي) أن اسم الصقال ُوضع صورياً عىل‬
‫األعداد التي صدرت قبل تعطيل الجريدة نهائياً‪ ،‬بينام كان الكواكبي فيها كام كان من‬
‫قبل‪ ،‬ولكن رساً‪ ،‬اتقا ًء لرش الوايل‪ .‬غري أن موىس بيطار الذي يرجح يف تقدميه للطبعة‬
‫الوحيدة منذ عام ‪ 1907‬لرواية (لطائف السمر‪ ..‬ـ ‪ )2006‬أن مشاركة الصقال يف‬
‫(الشهباء) مل تكن صورية‪ ،‬وأنه فيام قبل هذه املرحلة من عمر (الشهباء) كان يرتجم‬
‫األخبار واملقاالت عن اإلنكليزية والفرنسية‪ .‬وقد كتب بيطار فيام بعد أن فرنسيس‬
‫املراش كان وسيط ميخائيل الصقال إىل الثقافة الفرنسية التي يجهل لغتها‪ .‬وينقل‬
‫بيطار عن جريدة املصباح البريوتية يف ‪ 1883/3/29‬أن تهمة خطرية قد لفقت بحق‬
‫جامعة من أدباء حلب يف مقدمتهم الكواكبي والصقال‪ .‬والتهمة هي اختالس أموال‬
‫الشيخ عباس النجفي القريش الذي كان يعمل يف جريدة (الجوائب) يف اآلستانة‪ ،‬وجاء‬
‫حلب مريضاً‪ .‬أما األهم فهو أن ميخائيل الصقال وعبد الرحمن الكواكبي قد افرتقا‬
‫نهائياً بعد جريدة (الشهباء)‪ ،‬فلامذا؟‬
‫ب ـ يف عام ‪ 1897‬قصد ميخائيل الصقال ملجأ املفكرين واألدباء الشوام واللبنانيني‬
‫من العسف العثامين‪ ،‬أعني‪ :‬القاهرة‪ .‬وبعد عرشين سنة من العمل الصحايف يف جريدة‬
‫(الشهباء) أصدر الصقال مبشاركة أصدقاء يف القاهرة مجلة أسبوعية علمية مصورة هي‬
‫(األجيال)‪ .‬وبعد سنتني قفل الصقال إىل حلب‪ ،‬فلامذا؟‬
‫كتاب العرب‪:‬‬
‫يف عام ‪ 1907‬عاد الصقال إىل القاهرة ليطبع روايته (لطائف السمر‪ .)..‬ويف عام‬
‫‪ 1911‬أصدر كتابه (العرب) وقد ذكر يف املقدمة أنه أخذ فيه مأخذ (الشعر القصيص)‪،‬‬
‫وأعرب به «عن أحوال الكون وتقلباته وشؤون الرشق وعباداته وأمور الدنيا وأدوار‬
‫الحياة»‪ ،‬ود ّبج كل ذلك برواية «غرامية تهذيبية»‪.‬‬
‫عىل غرار ما سبق (العرب) يف (لطائف السمر‪ ،)..‬كام سرنى‪ ،‬أوقف الكاتب الفصول‬
‫(‪ 1‬ـ ‪ )11‬عىل الدعوة إىل اإلخاء واملساواة والنهضة االقتصادية والعلم‪ ،‬وعىل مهاجمة‬

‫‪9‬‬
‫الساسة وأعداء اإلصالح وتسييس الدين‪ ،‬كام ذ ّكر مبجد الرشق‪ ،‬وحدد مفهوم الدين‬
‫وأسباب تقدم الغرب‪.‬‬
‫أما الفصول ‪ 12‬ـ ‪ 18‬فقد رسدت (الرواية الغرامية التهذيبية) وهي قصة يوسف‬
‫وسعدى التي أرص والدها عىل أن يزوجها من غني شحيح‪ ،‬فأصابت الحمى يوسف‪،‬‬
‫ووقع يف الهذيان سبعني يوماً‪ّ ،‬‬
‫حي خاللها األطباء‪ .‬وملا بلغ سعدى خربه التقته‪ ،‬وتجدد‬
‫الحب‪ ،‬فعويف يوسف‪ ،‬واندفع يف عمله حتى أصاب النجاح وبلغ الشهرة‪ ،‬فندم األب‬
‫كام ندم زوج سعدى الذي أوىص قبل موته لها برثوته وبزواجها من يوسف‪ .‬وقد‬
‫تزوج العاشقان‪ ،‬لكن الهذيان عاد إىل يوسف إثر غرق ابنه‪ .‬ومبوته‪ ،‬ثم موت سعدى‪،‬‬
‫تنقفل (الرواية الغرامية التهذيبية)‪ .‬أما كتاب (العرب) فقد أوقف الفصل (‪ )19‬عىل رد‬
‫الصقال عىل من سلقوا بنقودهم روايته (لطائف السمر‪ ،)...‬كام أوقف الفصل األخري‬
‫(‪ )20‬عىل هجاء السلطان عبد الحميد‪ ،‬وبذا‪ُ ،‬حق يف الكتاب وصف شاكر مصطفى له‬
‫كخليط عجيب‪.‬‬

‫لطائف السمر‪:‬‬
‫بعد ترجمة الكاتب لنفسه وألبيه‪ ،‬يح ّدث عنوان (يف رؤياي لوالدي) أنه كان‬
‫قد التمس وعداً من أبيه عندما دنت ساعته أن يتجىل له بعد الرحيل‪ ،‬ليخربه مبا‬
‫سريى ويعلم‪ .‬وحني بلغ االبن التاسعة واألربعني‪ ،‬بعد ستة عرش عاماً من وفاة والده‪،‬‬
‫وبالضبط‪ :‬بعد ظهر يوم ‪ ،1901/8/16‬جلس وحيداً يفكر يف الكون والخليقة‪ ،‬حتى‬
‫حار يف أمره‪ .‬وإذ أغفى عاين والده مقب ًال يف بهاء ونور ال يستطيع برش وصفهام‪ ،‬ليفي‬
‫بوعد التجيل بعد املوت‪ ،‬أي لتبدأ الرواية‪.‬‬
‫تعي النسب‬ ‫ً‬
‫قبل ذلك كان الكاتب قد حدد لروايته عالمات فارقة ثالثا‪ :‬أوالها ّ‬
‫البالغي الكالسييك للرواية يف طالوة املجاز وحالوة االستعارة ومالحة املرسل ولطف‬
‫تعي النسب العجائبي للرواية مام يتجىل يف دعوة‬ ‫الكناية وحسن التورية‪ ،‬والثانية ّ‬
‫ّ‬ ‫ً‬
‫الكاتب للقراء‪« :‬فأقبلوا عليه تجدوا فوائد وآدابا ألقاها عيل والدي بعد رحيله عن‬
‫هذه الدنيا فكانت عجباً عجاباً»‪ .‬والحق أن العالمة الثالثة تتصدر هذه الدعوة‪،‬‬
‫وتتحدد مبا يتلوها‪« :‬وتجدوا فيه من الحكم واملواعظ ما البد منه للحكيم والواعظ»‪:‬‬
‫إنها عالمة الرتبية والفكرنة‪.‬‬

‫‪10‬‬
‫لعبة الحلم بني روايتني‪:‬‬
‫بالحلم إذن بدأت رواية (لطائف السمر‪ ،)...‬وبهذه (اللعبة الفنية) ستنهض إىل أن‬
‫تبلغ الخامتة بيقظة الحامل‪ .‬وهنا أحسب أن عىل املرء أن يذ ّكر برواية فرنسيس املراش‬
‫(غابة الحق ـ ‪ )1865‬والتي حمل فصلها األول هذا العنوان (الحلم)‪ .‬وكان املراش قد‬
‫ختم مقدمة روايته بأنه ظل كفريسة ترتعد بني مخالب االنفعاالت «إىل أن أخذتني‬
‫سنة املنام وانفتح لدى أعيني مرسح األحالم»‪.‬‬
‫بلعبة الحلم تبدأ (غابة الحق) إذن وتقوم‪ ،‬وباليقظة تأيت الخامتة‪« :‬وملا فتحت‬
‫أجفاين وجدت نفيس مضّ جعاً عىل فراش النوم تحت سامء اليقظة»‪ .‬وبلعبة الحلم أيضاً‬
‫تبدأ (لطائف السمر‪ )..‬وتقوم‪ ،‬وباليقظة تأيت خامتتها‪« :‬فانتبهت والليل مظلم وفكرت‪:‬‬
‫أكل هذا منام؟ إن يف األمر لعجباً‪ .‬ثم رشعت أكتب هذا الكتاب»‪.‬‬ ‫ما هذا يا ريب! ُّ‬
‫واألمر كذلك‪ ،‬تذهب املقارنة بني اللعبة الكربى للروايتني إىل تأثري رواية املراش يف‬
‫رواية الصقال‪ .‬غري أن ما عدا هذا الوقوع لـ(الحافر عىل الحافر)‪ ،‬ميايز بني الروايتني‬
‫بقوة‪ .‬وهنا قد يجلجل قائل‪ ،‬مبا قد يبدو من تناظر أو تصا ٍد بني أفكار الروايتني‬
‫(الفكريتني)‪ ،‬وبالتايل ما قد يبدو من تأثري ألفكار املراش يف أفكار الصقال‪ .‬غري أن أمر‬
‫التأثر والتأثري هنا أكرب من ذلك‪ .‬فاألفكار التي تشغل رواية الصقال‪ ،‬كام سرنى‪ ،‬هي‬
‫مام شغل النهضويني بعامة‪ ،‬من سبق منهم الصقال ومن جايله ومن تاله‪ .‬وعىل هذا‬
‫النحو هو القول بتجنيس كل من املراش والصقال لروايته بـ(الكتاب)‪ ،‬وهو ما أحسبه‬
‫قادماً من الرتاث الرسدي‪ ،‬ولسوف تتواصل أصداؤه بعد قرن أو أكرث‪ .‬فعىل سبيل‬
‫املثال‪ ،‬هو ذا جامل الغيطاين يج ّنس روايته (التجليات) بـ(الكتاب)‪ ،‬وهو ذا صالح‬
‫الدين بوجاه يج ّنس روايته (النخاس) بـ(الكتاب)‪ ،‬ومثلهام أيضاً فعل واسيني األعرج‬
‫يف عنوان روايته (كتاب األمري)‪...‬‬
‫أما ما ميايز بني روايتي الصقال واملراش‪ ،‬ففي رأسه أن األليجورية جاءت سم ًة‬
‫كربى لرواية الثاين‪ ،‬بينام جاءت ملاماً يف رواية األول‪ .‬فليك يتحاىش املراش أذى الرقابة‬
‫والقمع‪ ،‬لجأ إىل الرموز‪ ،‬بينام ن َدر أن فعل الصقال ذلك‪ ،‬ومنه أن املركبة الربقية قد‬
‫مضت بوالده بعد الوفاة إىل مدينة القضاة يف السامء الثالثة‪ ،‬حيث رأى القايض‬
‫األوسط وفوق رأسه كلمة (الحق)‪ ،‬وعىل ميينه القايض الذي فوق رأسه كلمة (العدل)‬
‫وعىل يساره القايض الذي فوق رأسه كلمة (الحكمة)‪..‬‬
‫ويف رأس ما ميايز بني روايتي الصقال واملراش أيضاً تأيت درجة النشاط التخيييل‬

‫‪11‬‬
‫األعىل يف رواية األول‪ ،‬كام سرنى‪ .‬والالفت أن التخييل‪ ،‬ومعه السوانح األليجورية‪ ،‬قد‬
‫جاءا يف إهاب من التعيني والرتهني (مخاطبة راهن الكاتب)‪ ،‬بخالف رواية املراش التي‬
‫دأبت عىل التجريد مرة واملخاتلة مرة‪ ،‬والنأي عن التعيني والرتهني مر ًة بعد مرة‪.‬‬
‫الفضاء الروايئ‪:‬‬
‫يسأل ميخائيل الصقال أباه‪« :‬أيجوز يل أن أسألك‪ :‬هل نحن يف األرض أم يف الزهرة؟‬
‫فقال‪ :‬لسنا يف إحداهام‪ ،‬وإمنا نحن بينهام‪ ،‬ألنه ال ُيسمح يل بأن أعود إىل األرض سجن‬
‫العاصني واملخالفني‪ ،‬وال يؤذن لك يف الدخول إىل الزهرة ألنها مقام األبرار الصالحني»‪.‬‬
‫يف هذا الربزخ‪ ،‬وفيام يح ّدث األب‪ ،‬ترسم املخيلة الفضاء الروايئ‪ :‬كواكب الزهرة‬
‫واملريخ وزحل واألرض‪ ،‬أما القمر فهو الغائب الحارض بحسب مشيئة املخيلة‪ ،‬ولعله‬
‫يتسم إال يف عنوان الرواية‪ .‬واملهم يف هذا الفضاء هو الزهرة أوالً‪ ،‬واألرض ثانياً‪.‬‬
‫لذلك مل َّ‬
‫ومن مفردات الفضاء يف الزهرة نعدد مدينة التكفري واملدينة العظمى‪ :‬مدينة القضاة‪،‬‬
‫واملعبد األكرب‪ ...‬أما من مفردات الفضاء األريض فنعدد املدارس والسجون واملحكمة‬
‫العمومية واملدن والطرق والبويرس واملقاهي واملراقص‪...‬‬
‫يف الفصل السادس وعنوانه (يف املدن والطرق) ـ من الباب األول من الرواية ـ تبدأ‬
‫املقارنة بني عامل األب وعامل االبن‪ ،‬بني عامل الفضاء الكوكبي وعامل الفضاء األريض‪ ،‬إذ‬
‫يخاطب األب ابنه «أما مدنكم يف الكرة األرضية فقد غصت بكم وضاقت عليكم حتى‬
‫ضاقت أخالقكم»‪ .‬وعىل هذا النهج ستميض الرواية‪ ،‬بينام يتواىل هتك األريضّ ونقده‬
‫وتعريته وهجاؤه‪ ،‬مع رسم الطريق إىل البديل كام هو متحقق يف الفضاء الكوكبي‪.‬‬
‫وهكذا تتمحور الرواية عىل هذا النحو‪:‬‬

‫‪ 1‬ـ محور الدين‪:‬‬


‫يتناول الباب الثاين من الرواية ـ الكتاب العبادة واملعابد والصالة والصيام واألعياد‬
‫والحج‪ .‬كام يخص (القتل الديني) بالفصل الحادي عرش من الباب الثاين‪ ،‬والذي يبدأ بقول‬
‫الوالد‪« :‬إن من الجنايات الفظيعة التي يتأسف عىل ارتكابها سكان الزهرة ويعجبون من‬
‫اإلقدام ويتأملون منها تأملاً عظي ًام جناية القتل الديني»‪ .‬ويختم الوالد هذا الفصل بقوله‪:‬‬
‫«أما الذي يقتل وهو يحسب أنه يق ّرب قرباناً لله تعاىل َف ُي َع ّد قات ًال و ُيعا َقب‪ ،‬و ُيعا َقب‬
‫معه ذاك الذي أغواه وأمره عقاباً ال أشد منه وال أقوى‪ ،‬وهو ال يخرج من زحل إال بعد‬
‫خروج آخر سجني بعرشين ألف سنة‪ ،‬وبعد ذلك ينقل إىل املريخ ال يكلمه أحد فيه‪ ،‬ولن‬

‫‪12‬‬
‫أفردت له أيضاً‬
‫ْ‬ ‫يدخل الجنة»‪ .‬وإذا كان املحور الديني سيظل يتالمح يف الرواية‪ ،‬فقد‬
‫الباب الثامن وعنوانه‪( :‬يف وجود الله تعاىل وخلقه الخلق)‪ .‬وقد توزعت الفصول هنا‬
‫بني توحيد األديان والرد عىل من ي ّدعي أنها قوانني وضعها عقالء البرش‪ ،‬وبني املجوسية‬
‫والوثنية والشعوذة والكفر‪ .‬وعىل نحو ما تخاطب به الرواية يوم كاتبها ويومنا بعدها‬
‫بأكرث من قرن‪ ،‬يف الباب الثاين‪ ،‬تفعل أيضاً يف الباب الثامن‪ ،‬كام يف تساؤل الوالد‪« :‬ماذا‬
‫أبتغي من املتدين بديني والذاهب مذهبي إذا مل يكن عىل صالح؟ ماذا أبتغي منه‬
‫ْ‬
‫«اعقل يا هذا‬ ‫وهو يؤذيني ويرضين ويرتقب عثاري؟»‪ ،‬وكام يف مخاطبة الوالد للقارئ‪:‬‬
‫وأدرك أن الدين ُوجد لخري اإلنسان ونفعه‪ ،‬فكيف تجعله لرضرك وتعاستك وتعاسة‬ ‫ْ‬
‫غريك بتح ّزبك وجهلك وبالهتك؟»‪ .‬ولعل ما يتوج محور الدين يف الرواية هو التسبيحات‬
‫األربع التي صاغتها عىل نحو شعاري يف‪ :‬املحبة ـ الصدق ـ العفة ـ التواضع‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ محور القضاء‪:‬‬
‫إذا كانت رواية (غابة الحق) قد وضعت الفيلسوف موضع الفقيه‪ ،‬بالقرب من‬
‫مجلس امللك‪ ،‬فقد أحلت (لطائف السمر) القضاة يف املحل األول‪ .‬ومن املعلوم أن‬
‫ميخائيل الصقال عمل يف املحاماة‪ ،‬كام كان عضواً يف املحكمة التجارية املختصة‬
‫بالدعاوى األجنبية يف حلب‪ ،‬وذلك كممثل للقنصلية اإلنكليزية‪ ،‬ولعرشات السنني‪.‬‬
‫وسواء أكان لذلك أثر عميق أم عابر يف تتويج (لطائف السمر‪ )...‬للقضاء‪ ،‬فقد أفردت‬
‫صدرها لكل ما يتصل به‪ :‬القضاة واملحامون والسجون والعقاب واألحكام والحقوق‪...‬‬
‫ويف الفصل الثامن من الباب الثاين يربز بجالء أثر املهنة يف الحاالت التي تفرتضها‬
‫الرواية ويف أحكامها‪.‬‬
‫لقد جعلت الرواية للقضاة رأس الهرم الطبقي يف مجتمع الزهرة يف الباب السادس‪،‬‬
‫بينام جعلت للصناع والزراع الطبقة الثانية‪ .‬ويف املجتمع األريض ظلت الطبقة الثانية‬
‫(السوقي) بالطبقة الثالثة‪ ،‬بينام جعلت الطبقة األوىل للملوك‬
‫ّ‬ ‫كام هي‪ ،‬وخصت‬
‫والعلامء والكهنة والقواد والحكام وأرباب السياسة «وكل محام صادق»‪ .‬وبالعودة إىل‬
‫الباب الثالث نجد أن الفصل األول كان من نصيب املحامني‪ ،‬بينام كان الفصل الثاين‬
‫من نصيب القضاة‪ .‬والفصالن يخاطبان األرضيني‪ ،‬أي املجتمع الذي عارصه الكاتب‪،‬‬
‫وهو الخطاب الذي يبدو وكأنه قد كتب خصيصاً ليومنا‪.‬‬
‫يحدد األب آفة الحقوق يف مجتمع االبن‪ ،‬أي يف املجتمع السوري مطلع القرن‬
‫العرشين ـ ومن بعد إىل ما بلغنا من القرن الحادي والعرشين ـ باملحامني‪ ،‬إذ يزداد‬

‫‪13‬‬
‫التزوير واالحتيال بازديادهم‪ .‬وإذا كان املحامي ال يصري محامياً إال إذا كان عاملاً ّ‬
‫متبحراً‬
‫يف العلم‪ ،‬فإن أكرث املحامني يف ذلك الزمن ـ أم يف هذا الزمن؟ ـ ٌ‬
‫أكلة ألموال اليتامى‬
‫ويخص الوالد بالتعنيف املحامني الذين تعينهم املحاكم للدفاع عن‬ ‫ّ‬ ‫واأليامى واألرامل‪.‬‬
‫املتهمني‪ ،‬مام يذ ّكر باملحامني الذين تع ّينهم يف زمننا محاكم أمن الدولة أو املحاكم‬
‫العسكرية‪ ،‬حيث يكون املحامي عىل املتهم‪ ،‬وليس معه أو عنه‪.‬‬
‫بصيغة السؤال االستنكاري يسأل الوالد املحامني‪« :‬أأنتم أنصار الحق؟ أأنتم‬
‫املصابيح النرية التي يستنري بها الحكام؟»‪ ،‬ثم يخاطبهم‪« :‬أنتم مبدأ الطمع واللصوصية‪.‬‬
‫أنتم منشأ اللوم ومعدن الفساد‪ .‬أنتم مصدر اإلغراء ورأس االحتيال وسبب الخصام‪.‬‬
‫أنتم منبع الرش وجرثومة املكر وواسطة الغدر ومادة الفتك‪ .‬أنتم أصل الظلم وفرع‬
‫البغي ومنجم الباطل‪ .‬أنتم الفظاظة ونهاية الدمار‪ .‬وأنتم الذين أخجل من أن‬
‫أخاطبكم بقويل لكم‪ :‬أنتم»‪.‬‬
‫ّ‬
‫وليس نصيب القضاة األرضيني من هذا الهجاء بأقل من نصيب املحامني‪ .‬فالوالد‬
‫يخاطب القضاة بقوله مث ًال‪« :‬يا أيها القضاة الذين لستم عىل يش ٍء من العلم والعقل‪:‬‬
‫ملاذا تعرضون نفوسكم للذل واإلهانة‪...‬؟ وإين ال ألومكم يا أكرث األعضاء ألنكم ب ْلهٌ ال‬
‫تعقلون»‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ محور اإلصالح االجتامعي‪:‬‬
‫ليس ما تقدم يف الدين أو القضاء إال من قبيل اإلصالح العميم الذي تنشده‬
‫(لطائف السمر‪ .)...‬سوى أن التبويب هو ما جعل للدين فصوالً وللقضاء فصوالً‪،‬‬
‫ولسواهام فصوالً‪ ،‬منها ما يتعلق ببنات الهوى والعذرات (مجالس القوم) واملنتديات‬
‫واملقاهي‪ ...‬وعرب ذلك ينهى املصلح الروايئ عن القامر والسكر والحِ داد والندب‬
‫والكحول والتدخني‪ ،‬ويرضب املثل مبتع التلهي يف الزهرة‪ ،‬حيث ال مالهي‪ ،‬بل إقبال‬
‫عىل البيت واألرسة واألهلني األقربني‪.‬‬
‫ومن فصول اإلصالح االجتامعي أيضاً ما يتعلق باألطباء‪ ،‬حيث تتبدى الثقافة‬
‫العلمية العميقة للكاتب ـ وهذا ما سيتبدى أيضاً يف مظانّ أخرى من الرواية كام‬
‫سرنى‪ .‬وكام سلق لسان الوالد املحامني والقضاة‪ ،‬يسلق األطباء األرضيني‪ ،‬إذ يخاطب‬
‫ابنه بأن أكرث هؤالء مجربون وممتحنون‪ ،‬ال مداوون‪ ،‬وبأنهم هم الطاعون‪ ،‬وهم‬
‫األمراض الفاتكة‪ ،‬ونقرأ‪« :‬ما أكرث األطباء عندكم فهم القتلة‪ ،‬هم سفاكو الدماء الطاهرة‬
‫التي ائتمنوا عليها‪ .‬هم أعداء اإلنسان»‪.‬‬

‫‪14‬‬
‫يرتكز الخطاب الروايئ اإلصالحي يف (لطائف السمر‪ )...‬بخاصة فيام يتعلق باملرأة‪.‬‬
‫فقد خصت الرواية املالبس والحيل والهدايا بفصل‪ ،‬وخصت بفصلٍ التمويه والطالء‬
‫والخضاب (املكياج بلغة هذه األيام)‪ ،‬وكان للطلق والوالدة وتربية الطفل فصل‪،‬‬
‫والختيار الزوجة فصل‪ ،‬وللعفاف فصل‪ ،‬وللبضع (املهر وعقد النكاح) والعرس فصل‪،‬‬
‫ولالختالط واملعارشة واملراقصة فصل‪ .‬ويذ ّكر الفصل التاسع من الباب الخامس وعنوانه‬
‫(يف البائنة (الدوتا) والفتيات) برواية خليل الخوري (وي‪ ..‬إذن لست بإفرنجي) ـ ‪.1858‬‬
‫وهي التي انتزعت لقب الرواية العربية األوىل من رواية فرنسيس املراش (غابة‬
‫الحق)‪.‬‬
‫تتت ّوج هذه التفاصيل مبا سييل يف الفصل األول من الباب السابع‪ ،‬وعنوانه (يف‬
‫ّ‬
‫والكف عن‬ ‫الرجل)‪ ،‬حيث يويص الوالد باألحادية‪ ،‬مبعنى إخالص الرجل لزوجته‬
‫العالقات خارج املؤسسة الزوجية‪ ،‬كام يويص باملساواة بني الجنسني‪ ،‬مثلام هو األمر‬
‫هن مك َّرمات أكرث منهم‪ .‬وقد جعل الوالد من‬ ‫يف الزهرة‪ ،‬حيث النساء كالرجال‪ ،‬بل ّ‬
‫منزلة املرأة معياراً للحضارة واإلنسانية‪ ،‬إذ قال «إذا َ‬
‫نزلت عىل قو ٍم وأردت أن تعرف‬
‫كن مثلهم يف الحقوق‪ ،‬فقد بلغوا‬ ‫منزلتهم من املدنية الحقة‪ ،‬فسل عن نسائهم‪ ،‬فإن ّ‬
‫ويخص الوالد الرجل‬
‫ّ‬ ‫ْ‬
‫فارحل عنهم»‪.‬‬ ‫من الحضارة واإلنسانية املنزلة الرفيعة‪ ،‬وإ ّال‬
‫تذل امرأتك» أو‪« :‬إذا ظلمت‬‫بالخطاب‪ ،‬جرياً عىل نهج النصح واملوعظة‪،‬فنقرأ‪« :‬ال ّ‬
‫امرأتك فقد ظلمت نفسك»‪.‬‬
‫من الخيال العلمي‪:‬‬
‫تحاول (لطائف السمر‪ )..‬أال يفوتها شأن من شؤون اإلصالح كافة‪ .‬ولذلك تخص‬
‫بفصل الزراعة والفالحة والحياة القروية‪ ،‬إنْ يف األرض أو يف الزهرة وإذا كانت الفالحة‬
‫والزراعة يف الزهرة خري الحرف‪ ،‬فالرواية تدعو بحرارة إىل الهجرة إىل الريف األريض‪،‬‬
‫حيث الراحة والسالم والرسور واالبتهاج‪ ،‬بل وحيث «الخالص من رؤية الحكام‬
‫الجائرين» والحرية املرشوعة‪ .‬وتعلن الرواية نزوعها النبايت املقرون بالدعوة إىل الرفق‬
‫بالحيوان‪« :‬أق ّلوا أكل اللحوم شيئاً فشيئاً حتى تستغنوا عنها فتقوى أبدانكم»‪ .‬ومن‬
‫أجل تحديث الزراعة والنهوض االقتصادي ينشط الخيال العلمي يف الرواية ّأيا نشاط‪.‬‬
‫ففي الزهرة تس ّمي األليجورية العامل أردوم (أي‪ :‬إرادة الله) الذي َولَد القايض مجدوم‬
‫(أي مجد الله) الذي استنبت فاكهة جديدة‪ .‬ومن اآلالت واألدوات النقلية والزراعية‬
‫وسواها‪ ،‬اخرتع سكان الزهرة املركبات النورية (الضوئية) التي تسري برسعة النور‬

‫‪15‬‬
‫(الضوء)‪ ،‬واخرتعوا السابر‪ ،‬وهو اآللة التي تبرص ما يف باطن األرض والبحار‪ ،‬واخرتعوا‬
‫اآللة التي تع ِّدل الهواء الحار والبارد للزرع (الكونديشن؟) فال خوف من الصقيع‬
‫والجليد والسموم والحرور‪ .‬كام اخرتع سكان الزهرة آني ًة تختلف أحوال السائل فيها‬
‫باختالف ألوانها‪ ،‬واخرتعوا آالت وهو لكل عني (تبرص ولكل أذن ال تسمع‪( ،‬والسامع)‬
‫آلة «سلكية نسمع بها من بالد بعيدة ما نريد إال أرسار الناس ـ واملخاطب‪ ،‬وهو آلة‬
‫ال سلكية أيضاً تضعها عىل األرض وتضغطها‪ ،‬فتخاطب من تريد أينام كان‪ .‬وها هو‬
‫اإلبداع العلمي والتكنولوجي قد ح ّول نبوءات املخيلة الروائية إىل حقائق‪ ،‬عقداً فعقداً‬
‫طوال قرن مىض‪ ،‬ولعله سيح َّول ما تبقى من تلك النبوءات ـ ومنها ما سييل ذكره ـ يف‬
‫وقت غري بعيد من القرن الحادي والعرشين‪.‬‬
‫يؤرش هذا النشاط التخيييل ـ بعد ثقافة الكاتب العلمية ـ إىل ما للعلم من شأو يف‬
‫أطروحات الرواية ومن ذلك ما يجيب به األب عىل التامس االبن أن يعلمه كيف كانت‬
‫ينص عليه األب من أن آفة العلم هي الجاهالت من‬ ‫حالة اإلنسان األوىل يف األرض‪ ،‬وما ّ‬
‫النساء‪ ،‬وما يدعو املرأة إليه يف قوله‪« :‬تعلمي لريى الرجال عظمتك»‪.‬‬
‫وال تفتأ الرواية تلح عىل العلم يف املدرسة والرتبية‪ .‬وبالقدر نفسه هو توكيد الرواية‬
‫عىل العقل‪ .‬فالعلم والعقل عنوانان رئيسان للفكرية الروائية لدى ميخائيل الصقال‪،‬‬
‫والتي تنرسب يف سائر املنظومات اإلصالحية التي تتداولها الرواية‪ ،‬كام بدا فيام سلف‪،‬‬
‫وكام ييل أيضاً فيام تسميه بالقتل العدواين والقتل السيايس واملدين العقايب يف األرض‪،‬‬
‫أو ما ترسله يف الرؤساء والرئاسة‪ ،‬وكذلك يف التجارة والرباء والكثري من املسائل النفسية‬
‫واألخالقية كالتشاؤم والطمع واألحزان والحب والغرية والحسد واالعرتاض عىل األحكام‬
‫العقابية‪ ،‬مام تعدد الرواية من (خطيئات سكان الزهرة)‪.‬‬
‫الخيال األلف لييلّ‪:‬‬
‫سيكون من الغنب بحق الخيال يف (لطائف السمر‪ )..‬إذا مل تدقق النظر يف الفصل‬
‫السادس من الباب الرابع‪ ،‬وعنوانه (يف املطابع)‪ ،‬حيث تتنبأ الرواية مبا صدقته ثورة‬
‫االتصاالت والتكنولوجيا‪ ،‬ومبا ال تزال تسعى إليه‪ .‬غري أن الخيال يف (لطائف السمر‪)..‬‬
‫هو أيضاً خيال (ألف لييلّ)‪ ،‬نسبة إىل (ألف ليلة وليلة)‪ .‬ومن ذلك هو النوم يف النوم‪،‬‬
‫حني يقول األب لالبن‪« :‬نم قلي ًال واسرتح إىل أن أعود إليك‪ ،‬ثم مىض‪ ،‬فنمت‪ ،‬ولكن‬
‫أيعلم القارئ ماذا رأيت؟»‪ .‬فاالبن الذي يحلم يف نومه بعد ظهرية يوم ‪ ،1901/8/16‬نام‬
‫يف النوم‪ ،‬وحلم يف الحلم مبا يجيب به عىل سؤاله للقارئ‪ :‬رأى نفسه يطوف يف مدينة‬

‫‪16‬‬
‫القضاة‪ ،‬ورأى أباه عند قايض القضاة يطلب البنه (مثرة اللذة) يك ينجو من الجزاء بعد‬
‫نجاته من األرض‪ .‬فآكل هذه الثمرة ال تُغ َلق يف وجهه أبواب مدينة القضاة‪ .‬وملا عاد‬
‫األب‪ ،‬أي ملا انتهى الحلم الذي يف الحلم ـ باالحرى‪ :‬حلم الحلم ـ رأى االبن بيد أبيه‬
‫كل منهام بحجم بطيخة‪ ،‬ولونها‪ :‬كام‬ ‫غصناً نضرياً يحمل مثرتني شهيتني ـ أي ل ّذتني ـ ٌّ‬
‫تشاء‪ .‬إن أردت الزرقة وذكرتها‪ ،‬ازر ّقت الثمرة‪ ،‬وإن أردتها حمراء احم ّرت‪ ...‬فإن مل‬
‫أبرصت لوناً بهيجاً ال تعرف له اس ًام‪ .‬ونقرأ‪« :‬فأخذ والدي ورقة من الغصن‬‫َ‬ ‫تعي لوناً‬
‫ّ‬
‫ّ‬
‫ماض‪ ،‬وقش به لذة من اللذتني‪ ،‬وقطع قطعة‪ ،‬وناولني إياها‪ ،‬وقال يل‪:‬‬ ‫فإذا هي سك ٌني ٍ‬
‫ْ‬
‫إن كنت تريد أن ال تأتثم فكل من مثر اللذة»‪.‬‬
‫يل يتأسس ما يف الرواية من الخيال العلمي‪ .‬وعىل الرغم من‬ ‫يف الخيال األلف لي ّ‬
‫أن نصيب الخيال يظل متواضعاً بالقياس إىل نصيب الفكرية‪ ،‬إ ّال أن هذا (اللعب)‬
‫هو عالقة روائية مميزة لصنيع ميخائيل الصقال يف (لطائف السمر‪ )...‬ومن ذلك ما‬
‫جاء يف الشعر والشعراء‪ ،‬حيث ع ّرب األب نرثاً قصيدة يف املحبة واملحبوبة لفتح الله‬
‫فتحي االبن‪ ،‬وفكر يف رسه‪« :‬لقد طال‬
‫النحاس الحلبي‪ ،‬وحيث أنشد األب من شعره ّ‬
‫الرس وسأل‪« :‬ما بالك مللتني؟»‪ ،‬فخجل االبن‪ ،‬لكنه قال‪:‬‬ ‫هذا الحلم» فأدرك األب ّ‬
‫طمعت‬
‫ْ‬ ‫«أراك تنشدين من شعري الذي نظمته بعد موتك»‪ .‬ولنئ كان األب سريد»‬
‫نفسك يف شعري فال بأس عليك إذا ادعيته» لكنه سيضحك ويق ّر بأن ما ينشده هو من‬
‫شعر االبن‪ ،‬فهل هي اإلشارة اللعبية هنا إىل أن األب واالبن واحد‪ ،‬وإمنا اشتق ميخائيل‬
‫الصقال من نفسه راوياً للرواية هو أبوه أنطوان الصقال؟‬
‫عىل الرغم من هذا النشاط التخيييل يفتقد موىس بيطار يف تقدميه لطبعة ‪2006‬‬
‫من (لطائف السمر) الخيال الخصيب الذي يحلق بقارئه تحليقات خفاقة الجناح يف‬
‫كل أرجاء الكون‪ ،‬كام يفتقد الخيال الوثاب الذي يقفز قفزات واسعة يف دنيا فسيحة‬
‫األرجاء‪ .‬ويعلل موىس ما يراه من اختالل فني يف الرواية بانغامس الصقال بالواقع‬
‫وهنا يبدو يل أن تقديراً الختالل صائب‪ ،‬بعكس تعليله ويف غري التحليق يف أرجاء‬
‫الكون‪ ،‬والقفزات الواسعة يف الدنيا‪ ،‬وهو ما تحقق يف الرواية‪ ،‬من املريخ إىل حلب‬
‫أو ألبوريس‪ .‬أما االختالل فيتالمح يف إثقال املتناصات الشعرية الطويلة عىل اإليقاع‬
‫الرسدي‪ ،‬الغزارة الفكرية التي أصابها الرهق كام أصابت الرواية بالرهق منذ الباب‬
‫السادس حتى النهاية‪.‬‬

‫‪17‬‬
‫اللغة‪:‬‬
‫يف الزهرة‪ ،‬بحسب األب‪ ،‬لغة واحدة ال ثانية لها‪ ،‬والكالم ال يحتاج التأويل‪ ،‬والناس‬
‫ال يتنافسون يف األلفاظ واملعاين‪ ،‬بل يف املباين‪ .‬وإزاء هذا (املثال اللغوي) تردد (لطائف‬
‫السمر‪ )...‬الدعوة إىل اللغة الواحدة يف األرض‪ ،‬سبي ًال إىل توحيد األديان والبرش‪،‬‬
‫فـ«تعدد اللغات يحدث البلبلة»‪ .‬وعىل الرغم من ذلك ميتدح األب اللغات األجنبية‪،‬‬
‫وهو كان يتقن اإلنكليزية‪ ،‬مقابل انتقاده املرير للغة العربية ولتعليمها يف املدارس‪.‬‬
‫فاللغة العربية‪ ،‬كام يتنبأ األب‪ ،‬ستميس لغة مرتوكة‪ ،‬ولو مل تكن من اللغات الدينية‬
‫لصارت تشبه اللغة القبطية التي أمست لغة قدمية مهجورة‪ .‬أما ع ّلة العربية فتكمن‬
‫يف صعوبتها ويف استغالق قواعدها عىل فهم الطالب‪ .‬يقول الوالد‪« :‬ومن البلية عندكم‬
‫أن القارئ ال يشتهي أن يراجع كتاب لغة لكرثة ما فيه من الرشوح والنقول واآلراء‬
‫واألقوال والروايات والحكايات اململة واملختلفة واملتناقضة»‪ .‬ومييض هذا النقد إىل‬
‫الرتجمة‪ ،‬فيقول‪« :‬أما العريب املتأنق يف األلفاظ فال تروقك معانيه إذا نقلت إىل غري‬
‫لغته كام راقتك قبل نقلها»‪ .‬ولدرء ذلك يدعو الوالد إىل تأسيس جمعية من جميع‬
‫البالد العربية لتكون مرجعاً يف الرتجمة والتعريب‪ ،‬ولتكشف املخبأت يف اللغة‪.‬‬
‫عىل مستوى لغوي آخر‪ ،‬يتعلق بلغة (لطائف السمر‪ )..‬نرى الوالد يف ختام الرواية‬
‫يويص ابنه بأن يثبت كل ما سمعه منه يف كتاب يطبعه لتعم الفائدة‪ .‬ويف الوصية‪:‬‬
‫«إين أريد أن ال تكتب بلغة عالية كام يفعل أكرث العرب فيحبسون تآليفهم عن العامة‬
‫مع أنها أوىل بها من الخاصة‪ ،‬فقلت‪ :‬أخىش أن أجمع بني العامي والفصيح فال أدرك‬
‫الغاية‪ .‬فقال‪ :‬اكتب الكالم والعبارات التي دارت بيننا نفسها‪ ،‬وهي لغة قريبة من‬
‫الفهم ما خال بعض كلامت ال بد منها فاجعل لها رشحاً»‪ .‬وقد رشح االبن ما ندر من‬
‫املفردات‪ ،‬فاملعاظلة نادرة يف الرواية‪ .‬وإذا كانت تؤرش إىل املكنة اللغوية القاموسية‬
‫للكاتب‪ ،‬ففي الرواية ما يؤرش بقوة إىل تأثر الكاتب املسيحي باألسلوب القرآين يف‬
‫الوعظ‪ ،‬عىل غرار هذا املثال الذي يذهب إىل أن القضاة ال يتقوفون أحداً يف املجالس‬
‫وال يستهجون‪ ،‬أي ال يركب واحدهم رأسه‪ ،‬ومن هذه الصيغة (‪...‬ون) كثري جداً‪.‬‬
‫•••‬
‫ما كادت (لطائف السمر‪ )..‬تصدر حتى أخذت السهام ترشقها‪ ،‬وقد بلغت ح ّد تكفري‬
‫الكاتب بدعوى التجرؤ عىل املؤسسة الدينية‪ ،‬وملا تضمنته من نقود ومن اقرتاحات‬
‫تتعلق بالحياة الروحية والفكرية واالجتامعية واالقتصادية‪ ...‬وألن ميخائيل الصقال كان‬

‫‪18‬‬
‫يتوقع ذلك الهجوم عىل روايته وعليه‪ ،‬فقد استشار آخرين فيها قبل الطباعة‪ ،‬وهذا ما‬
‫جعله يه ّمش الفصل السابع من الباب الثامن بنفي إميانه بالتقمص أو التناسخ‪ ،‬إىل أن‬
‫يقول مخاطباً القارئ‪« :‬فكل ما مير بك مام ال يطابق الدين القويم إنْ هو إال خواطر‬
‫شعرية سانحة‪ ،‬و ُر َّب شعر يف نرث ونرث يف شعر‪ ،‬واملقصود هو تهذيب األخالق وتفكهة‬
‫القارئني»‪ .‬وقد ر ّد الصقال يف كتابه (العرب) عىل من سلقوه وسلقوا روايته‪ ،‬فكتب أنه قد‬
‫بلغه يف القاهرة أن جامعة من املتحذلقني‪ ،‬وبينهم مراوغون ومنافقون‪ ،‬عابوا الرواية ـ‬
‫الكتاب وتنقصوا الكاتب وك ّفروه‪ ،‬والتمسوا من سيد عظيم مطاع أن مينع قراءة الكتاب‬
‫ـ الرواية‪ ،‬فقال لهم‪« :‬إن الكتاب رواية خيالية وأنتم تريدون أن تجعلوا الخيال جس ًام‬
‫واملجاز حقيقة‪ ،‬وهذا خطأ مبني‪ .‬فلام سمعوا كالمه تخاذلوا وارعووا»‪.‬‬
‫إنها املحنة القدمية الجديدة التي تتالىش‪ ،‬مهام يكن من أمرها‪ ،‬ليبقى الفكر والفن‬
‫النقديني‪ ،‬كالذي قامت به رواية (لطائف السمر‪ ،)..‬وهو ما يجعل حضورها اليوم أكرب‬
‫رضورة وإلحاحاً‪ .‬ومن أجل ذلك تأيت هذه الطبعة يف سلسلة الكتاب الشهري ملجلة‬
‫(الدوحة)‪.‬‬

‫نبيل سليامن‬

‫املصادر‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ ميخائيل الصقال‪ :‬لطائف السمر يف سكان الزهرة والقمر أو الغاية يف البداءة والنهاية‪ ،‬ط‪ ،1‬القاهرة‬
‫‪.1907‬‬
‫‪ 2‬ـ كتاب العرب‪ :‬املطبعة املارونية‪ ،‬ط‪ ،1‬حلب‪.1911 ،‬‬
‫املراجع‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ جان داية‪ :‬صحافة الكواكبي‪ ،‬مؤسسة فكر لألبحاث والنرش‪ ،‬ط‪ ،1‬بريوت ‪.1984‬‬
‫‪ 2‬ـ شاكر مصطفى‪ :‬محارضات عن القصة يف سورية حتى الحرب العاملية الثانية‪ ،‬معهد الدراسات‬
‫العربية‪ ،‬ط‪ ،1‬القاهرة ‪.1957‬‬
‫‪ 3‬ـ فرنسيس املراش‪ :‬غابة الحق‪ ،‬دار رياض الريس‪ ،‬ط‪ ،2‬لندن ‪.1989‬‬
‫‪ 4‬ـ قسطايك الحميص‪ :‬أدباء حلب ذوو األثر يف القرن التاسع عرش‪ ،‬املطبعة املارونية‪ ،‬ط‪ ،1‬حلب ‪.1925‬‬
‫‪ 5‬ـ عائشة الدباغ‪ :‬الحركة الفكرية يف حلب يف النصف الثاين من القرن التاسع عرش ومطلع القرن‬
‫العرشين‪ ،‬دار الفكر‪ ،‬ط‪ ،1‬بريوت ‪.1972‬‬
‫‪ 6‬ـ محمد راغب الطباخ‪ :‬إعالم النبالء بتاريخ حلب الشهباء‪ ،‬املطبعة العلمية‪ ،‬ط‪ ،1‬حلب ‪.1926‬‬

‫‪19‬‬
20
‫مقدمة املؤلف‬

‫نحمد الله تعاىل جزي ًال‪ .‬بكرة وأصي ًال(((‪ .‬ونشكره عدد أنفاسنا عىل ما ع ّلمنا‬
‫وأوىص‪ .‬حمداً وشكراً نتقرب بهام إىل عرشه األقىص‪ .‬ونس ّبحه تسبيحاً طوي ًال‪ .‬تعظي ًام‬
‫له وتبجي ًال‪.‬‬
‫أما بعد‪ ،‬فهذا كتاب فيه من طالوة املجاز ومالحة املرسل وحالوة االستعارة‪ ،‬ما‬
‫يهذب األخالق ويروض النفوس وين ّقي الضامئر‪ .‬وفيه من لطافة الكناية وحسن‬
‫التورية ور َّقة اإلشارة‪ ،‬ما ين ّور البصائر ويرقي األفكار ويط ّيب الرسائر‪ :‬سميته بالغاية‬
‫يف البداءة والنهاية‪ :‬فأقبلوا عليه تجدوا فيه فوائد وآداباً ألقاها عيل والدي بعد رحيله‬
‫عن هذه الدنيا فكانت عجباً عجاباً‪ .‬وتجدوا فيه من الحكم واملواعظ‪ ،‬ما الب ّد منه‬
‫للحكيم والواعظ‪.‬‬
‫وقد قسمته إىل تسعة أبواب‪:‬‬
‫الباب األول يشتمل عىل مثانية فصول‪.‬‬
‫الباب الثاين يشتمل عىل خمسة عرش فص ًال‪.‬‬
‫الباب الثالث يشتمل عىل خمسة فصول‪.‬‬
‫الباب الرابع يشتمل عىل مثانية فصول‪.‬‬
‫الباب الخامس يشتمل عىل خمسة عرش فص ًال‪.‬‬
‫الباب السادس يشتمل عىل تسعة فصول‪.‬‬
‫الباب السابع يشتمل عىل خمسة فصول‪.‬‬
‫الباب الثامن يشتمل عىل اثني عرش فص ًال‪.‬‬
‫الباب التاسع يشتمل عىل مثانية فصول‪.‬‬

‫‪ -1‬ـ األصيل‪ :‬الوقت بعد العرص إىل املغرب أو ال َع ِ ُّ‬


‫ش‪.‬‬

‫‪21‬‬
22
‫الباب األول‬

‫‪23‬‬
24
‫الفصل األول‬
‫_ من الباب األول _‬
‫يف ترجمتي‬
‫أنا ميخائيل بن أنطون الصقال‪ ،‬ولدت بجزيرة مالطا يف اليوم السادس عرش من‬
‫شهر آب‪ ،‬سنة اثنتني وخمسني بعد مثامنئة وألف ميالدية‪.‬‬
‫أفطمت((( رحل بنا والدي إىل مدينة حلب فجعلها َّ‬
‫محط رحاله‪ .‬ويف السنة‬ ‫ُ‬ ‫فلام‬
‫العارشة من عمري أقرأين اللغة العربية فأجهدت النفس يف درسها حتى أصبت منها‬
‫سه ًام‪ .‬ثم وجدت من نفيس ارتياحاً إىل النظم والنرث فراوحت((( بينهام‪ ،‬أوصل لييل‬
‫بنهاري إىل أن ّ‬
‫اعتل بدين من اإلجهاد‪.‬‬
‫وبعد هذا اتخذت اإلقراء حرف ًة يل‪ ،‬فأخذ بعض الناس ُي ّ‬
‫عيونني‪ ،‬ألنهم يع ّدونها‬
‫تحط من قدر صاحبها‪ ،‬فرتكتها كرهاً عني ال اختياراً ألنها من أرشف الحِ َرف‬ ‫دنيئ ًة ّ‬
‫ولكن الناس ال يعلمون أنَّ األستاذ الصادق يه ّذب األخالق ويؤ ّدب‬
‫وأعالها منزلة‪َّ .‬‬
‫ً‬
‫النفوس ويع ّد للمستقبل رجاال صالحني مثقفني‪ ،‬يدخلون املجتمع اإلنساين فيصلحونه‬
‫مبعارفهم وآدابهم‪.‬‬
‫عىل أنني مل أنقطع عن املطالعة‪ ،‬وقد ازددت رغبة يف الشعر حتى أحسنت نظمه‬

‫‪ 1‬ـ أفطم الرضيع‪ :‬دخل يف وقت الفطام وحان له أن يفطم‪.‬‬


‫‪ 2‬ـ َرا َو َح بني العملني‪ :‬تناول هذا مر ًة وهذا مرة‪.‬‬

‫‪25‬‬
‫ورصت ُأحسب يف عداد شعراء هذا الزمان‪ .‬غري أين مل أقبل جائزة‪ ،‬وقد حذوت بذلك‬
‫حذو والدي‪.‬‬
‫ويف أواخر سنة ‪ 1896‬رحلت إىل الديار املرصية‪ ،‬فرأيت يف مدينة اإلسكندرية‬
‫أخاليئ وأصدقايئ السادة نقواليك وعزيز وباسيل سميان يريدون أن يصدروا من مالهم‬
‫مجلة مبساعدة الكاتب الفاضل السيد يوسف شلحت‪ ،‬فاختاروين مديراً فأنشأنا مجلة‬
‫«األجيال» الشهرية يف مدينة القاهرة‪ .‬ولكنني بعد أن مارستها زهاء سنة ونصف‬
‫ُدعيت إىل حلب فلم أ َر إال إجابة الداعي‪.‬‬

‫أخالقي‬
‫يل فخلقني دمث الخلق حسن السلوك محباً للوطن ودوداً‬ ‫من الله تعاىل ع ّ‬ ‫لقد ّ‬
‫غيوراً ثابتاً عىل رعي الوالء‪ .‬أؤثر صديقي عىل نفيس وأدرأ عنه الشبهات ما استطعت‪.‬‬
‫ال أقبل فيه لومة الئم‪ .‬أتغاىض عن زلته وأكتمها كتامناً شديداً حتى يعتقد من نفسه‬
‫أنني مل أنتبه إليها وأحمل عىل النفس ضيمها‪ .‬أخفض له جناحي وأجتهد يف مجاراته‪،‬‬
‫كأنَّ خلقي من خلقه فال أخالفه إال فيام ال يجمل بنا‪ ،‬وأنا يف ضمن هذا ال أغفل عن‬
‫نصحه بعبارات رقيقة ُيرشبها ذوقه فال ينفر مني بل يرتاح إ ّيل ويأنس يب‪ .‬أالزمه أيام‬
‫مت حاجته عىل حاجتي ال أبتغي منه‬ ‫شدته وأواسيه وأع ّزيه‪ .‬إذا قصدين قاصد ق َّد ُ‬
‫عوضاً‪ ،‬فإذا عانيت يف معاونته مشقة خفيتها عنه ألين أعتقد أنَّ التعاون فرض عىل‬
‫بني اإلنسان ال ِم َّنة لهم فيه‪.‬‬
‫ال أطمع يف حطام الدنيا وال أرغب يف التفرد باملنفعة‪ .‬أقنع باليسري‪ .‬مل أجعل‬
‫ُ‬
‫ابتهجت برثوتهم ومتنيت لهم الزيادة‪.‬‬ ‫للحسد يف قلبي مح ًال‪ ،‬فكلام أثرى إخواين‬
‫ال يهمني من دنياي غري الفقري‪ ،‬فكنت أساعده وأسعى يف تخفيف مصيبته بقدر‬
‫بت ليلتي مرسوراً كأنني يف زهرة الدنيا‬ ‫االستطاعة‪ ،‬فإذا متكنت من معاونته وإفادته ّ‬
‫ُ‬
‫اغتممت‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ونضارتها‪ .‬إذا رأيت يتي ًام أو عجياً أو لطي ًام أو أميا أو أرملة أو غريبا بائسا‬
‫ً‬ ‫(((‬ ‫ً‬
‫أقدمت ال أنثني‪ ،‬أصرب عىل وثبات األيام بشجاعة‬ ‫ُ‬ ‫ُأ ْق ِد ُم إذا بدا يل وجه النجاة‪ ،‬فإذا‬
‫وثبات وأع ّلل النفس بأنَّ الدنيا ليست بذات قرار فالب َّد يل من فراقها إىل أحسن منها‪.‬‬

‫عجي‪،‬‬
‫‪ 1‬ـ اليتيم من الناس‪ :‬من فقد أباه ومل يبلغ الحلم‪ .‬فإن مات األبوان فهو لطيم‪ ،‬وإن ماتت أمه فهو ّ‬
‫واأليم‪ :‬من ال زوج لها بكراً أو ثيباً‪ ،‬واألرملة‪ :‬املحتاجة أو املسكينة‪.‬‬

‫‪26‬‬
‫وأعتقد أننا خلقنا للعذاب فيلزمنا أن نوطد النفوس عىل معاناة الشدائد واملكاره‪،‬‬
‫الغم‪.‬‬
‫وإال قتلنا ّ‬
‫أكره النميمة وأسعى يف إخامد نار الفتنة فأق ّرب القلوب املتنافرة‪ .‬أمقت البطالة‪،‬‬
‫الرس كأين قد نسيته‪ ،‬فأصبحت من حذر اإلفشاء قليل الكالم لئال يفيض الصدر‬ ‫أكتم َّ‬
‫أكتم للرس ألنَّ املكثار يعرث وهو ال يدري‪ .‬ال‬
‫عىل غري انتباه مني‪ ،‬فرأيت السكوت َ‬
‫أدخل مداخل السوء لئال أتهم بنقيصة‪.‬‬
‫وأحب‬
‫ّ‬ ‫ُ‬
‫أريد من اإلنسان العمل الحسن فال يخطر ببايل معتقده‪ .‬أقبل العذر‬
‫خلق‬
‫الصفح والحلم‪ ،‬وأ ّما الذين غلبت عليهم أهواؤهم فاعتادوها‪ ،‬والذين ُجبلوا عىل ٍ‬
‫ذميم فأريث ملصابهم وال أؤاخذهم بل أمتنى لهم اإلصالح والخري‪ ،‬ألنهم لو استطاعوا‬
‫لجعلوا نفوسهم أحسن الناس فال تصدر أفعالهم إال عن أخالقهم‪.‬‬
‫ُ‬
‫ال أجد يف الكريم الحسن الطبع مزية له تذكر فإنَّ خلقه الذي فطر عليه (من‬
‫غري أن يكون له به فضل) يالمئه ويساعده عىل الحسنات‪ .‬إنَّ الفضل العظيم ملن قمع‬
‫نفسه وأكرهها عىل اجتناب السيئات إذا كانت من سجيته‪.‬‬

‫مساويئ‬
‫يل نفيس فصار اإلباء ّيف عظمة‪ .‬فإذا لسنني أحد وأزرى يب نفرت‬
‫(((‬ ‫كربت ع ّ‬
‫لقد ْ‬
‫وكدت أعدو طوري وشتمته‪ ،‬بيد أنَّ شتمي ال يستحيا من استامعه‪.‬‬
‫ّ‬
‫استخف يب‪،‬‬ ‫ندمت عىل يشء يف حيايت قدر ما ندمت عىل لطمة رجل مسن‬ ‫ُ‬ ‫ما‬
‫فلم متر عىل اللطمة دقيقة حتى شعرت بخطايئ فصربت بعد هذا عىل إهانته وسبه‬
‫اعرتافاً باعتدايئ عليه‪ ،‬فأردت أن أصون نفيس من اإلهانة فأهنتها برشاستي‪ .‬والذي‬
‫يؤملني أنَّ الرجل مل يكن ليقوى عىل رضيب فيتش ّفى من غيظه فرتكته منكرس القلب‪.‬‬
‫جادلت واستعان املجادل ع َّ‬
‫يل باملواربة واملامحكة غضبت‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ومن هذا القبيل إذا‬
‫فأضعت برهاين بغضبي وانتهى يب الغضب إىل الخصام‪.‬‬
‫إذا أعلمني أحد أقاريب أو أحد أصدقايئ أنَّ زيداً اعتدى عليه ثرت من غري أن‬
‫أتر ّوى حتى ال يستطاع تسكيني‪ ،‬فإذا تُركت بضع دقائق ُ‬
‫عدت إىل الحلم‪.‬‬

‫‪ 1‬ـ لسن فالناً‪ :‬أخذه بلسانه وذكره بالسوء‪.‬‬

‫‪27‬‬
‫الفصل الثاين منه‬
‫_ يف ترجمة والدي _‬
‫ُولد والدي يف اليوم الثالث من شهر آذار ‪ .1824‬كان يعرف من اللغات العربية‬
‫والرسيانية واإلنكليزية والرتكية معرفة تامة تكل ًام وكتابة‪ ،‬ويعرف كثرياً من العلوم‬
‫لقيت إليه من مدارس مالطا ومن عني ورقة بلبنان ومن حلب‪.‬‬ ‫والفنون العرصية أَ ْ‬
‫وكان ناثراً محسناً بارعاً فصيحاً‪ .‬قوي الحجة مسموع الكلمة‪ .‬صادق الرواية‪ .‬رزين‬
‫املجلس‪ .‬وكان شاعراً مجيداً له ديوان شعر وروايتان‪.‬‬
‫وكان صياداً ماهراً وموسيقياً أطرب بأكرث املطربات العربية واألعجمية وفنونها يف‬
‫إيقاع حسن‪ ،‬ومهندساً اشتهر باألعامل اليدوية‪.‬‬
‫وكان باراً بأهله وجريانه‪ُ ،‬عرف بالنزاهة يف معامالته‪ .‬و ُذكر أيضاً باألمانة ورد‬
‫الحقوق إىل أربابها‪ ،‬فإذا حكم عدل وأنصف غري مرتدد‪ .‬يحب املساواة‪ .‬اجتهد يف إزالة‬
‫خرافات كثرية من عقول كثريين‪ .‬وهو أحد رجال النهضة األدبية األخرية يف هذه األمصار‬
‫فر ّغب أهلها يف املعارف وح ّبب إليهم املجالت العلمية والجرائد فتثقف كثريون منهم‪.‬‬
‫وقد كان رصيناً ثابت العزم س ّباق غايات‪ .‬ال يبارى يف مضامر‪ ،‬وال يستصعب صعباً‪،‬‬
‫إذا طلب أدرك غري هياب وال محجم‪.‬‬
‫شهد مواقع من حرب القرم سنة ‪ ،1854‬وهو الرتجامن األول لقائد الجيوش‬
‫اإلنكليزية حينام قامت بريطانيا العظمى تتنرص للدولة العثامنية العلية‪ .‬ويف الجملة‬
‫كان من الرجال الذين مل يقدرهم الزمان حق قدرهم‪.‬‬
‫ملا دنت ساعة والدي األخرية سألته عن معتقده فأجاب‪ :‬إنني أعتقد بل أشعر من‬
‫وجودي بأنَّ الله تعاىل موجد للكائنات وهو يجازي خلقه بحسب أعاملهم‪ .‬فقلت له‪:‬‬
‫ألتمس أن تعدين بأنك إذا ارتحلت عن هذه الدار تتجىل يل وتخربين مبا ترى وما تعلم‪،‬‬
‫فقال‪ :‬إذا استطعت فعلت وسأفعل إن شاء الله تعاىل‪.‬‬
‫وبعد هذا أوصاين بحفظ وصايا الله لفظاً ومعنى مع حسن تأمل وتفهم‪ ،‬ثم‬
‫احترض(((‪ ،‬وآخر كلمة قالها «املوت صعب» وكان ذلك يف اليوم الثامن من شهر كانون‬
‫األول سنة ‪.1885‬‬

‫‪ 1‬ـ احترض الرجل عىل املجهول‪ :‬حرضه املوت فهو محترض أي قريب من املوت‪.‬‬

‫‪28‬‬
‫الفصل الثالث منه‬
‫_ يف رؤياي لوالدي _‬
‫ملا كان اليوم السادس عرش من شهر آب سنة إحدى وتسعمئة وألف وهو اليوم‬
‫يل يف هذه الحياة الدنيا‪ ،‬وهي السنة السادسة‬ ‫األخري من تسع وأربعني سنة مرت ع ّ‬
‫عرشة من وفاة والدي‪ ،‬جلست بعد طعام الظهر وأنا يف الدار وحدي أفكر يف الكون‬
‫نعست وغفوت((( فعاينت والدي مقب ًال ع ّ‬
‫يل‬ ‫ُ‬ ‫والخليقة حتى حرت يف أمري‪ ،‬وأخرياً‬
‫احتي لئال‬
‫وهو يف بهاء ونور ال يستطيع برش وصفهام‪ ،‬فخررت لذقني أسرت برصي بر ّ‬
‫يخطفه نور محياه‪ .‬فدنا مني وملسني بيده ورفعني‪ ،‬فتلذذت بلمسه تلذذاً مل أشعر‬
‫مبثله كل حيايت‪ .‬ثم أمرين أن أجلس فجلست يف الحال ال أخىش تأثري نوره ّيف مبتهجاً‬
‫برؤيته‪ ،‬وقد الح يل أنه كبري الجثة ضخمها عريض األكتاف‪ .‬طويل القامة يف حجم‬
‫عرشة رجال‪ .‬أما حسنه فال تجشمني وصفه ألنه ليس من املستطاع أن أعرض نفيس‬
‫له‪ .‬فإذا شئت قلت عىل سبيل التقريب من باب املجاز ال الحقيقة أنه بينه وبني‬
‫اإلنسان من الجامل واألبهة أكرث مام بني الفتاة الحسناء والقرد الهرم‪.‬‬
‫فرميت بنفيس بني يديه أقبلهام‪ ،‬فضمني إىل صدره وقبلني ثالثاً مع أنني مل أذكر‬
‫أنه قبلني قبل ذلك مرة واحدة‪ ،‬ثم إنه أجلسني إىل جانبه وقال‪ :‬أال تذكر وعدي‬
‫لك ساعة احتضاري أين أظهر لك بعد رحييل وأعلمك كل ما أرى وأعلم؟ أمل تلتمس‬
‫مني هذا؟ فقلت له‪ :‬أتذكر ولكن ملاذا تركتني نحو ستة عرش حوالً؟ فأجاب‪ :‬اعلم يا‬
‫نجيل أنه ملا فاظت((( نفيس حملتها مركبة برقية فمرت بها مرور الربق تقصد السامء‬
‫الثالثة حتى وصلت مدينة القضاة وهي أعظم مدينة يف الزهرة‪ .‬فتذكرت أنني‬
‫وصلت إىل مدينة هي مسقط رأيس‪ ،‬وأنني من سكانها يقيم بها أهيل وأصدقايئ‪.‬‬
‫وهناك دخلت نفيس يف جسم أرقى من جسمي األريض‪ ،‬ولكنه دون أجساد سكان‬
‫الزهرة فتيقنت أنني معاقب ال يحق يل وال يسمح بأن ألبس الجسد الذي يلبسه‬
‫البار‪.‬‬

‫‪ 1‬ـ قال األزهري‪ :‬غفا الرجل غفوة إذا نام نومة خفيفة‪ .‬ويف الحديث فغفوت غفوة أي منت نومة خفيفة‪.‬‬
‫قال‪ :‬وكالم العرب أغفى وقلام يقال غفا‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ فاظ الرجل‪ :‬مات وفاظت نفسه تقيأها أي قذفها من جوفه‪.‬‬

‫‪29‬‬
‫ثم أدخلني بعض القضاة املدينة فوجدت أقاريب وخالين يبارصونني وهم يف‬
‫خجل واستحياء من جسمي الذي هو جسم األثيم املغضوب عليه‪.‬‬
‫وبعد دقائق أوقفني القايض يف مجلس القضاة األصغر‪ ،‬فإذا هو قرص عايل‬
‫األركان فسيح الجوانب يف روضة غناء بها من الثامر الشهية ما مل ي َر مثله آدم يف‬
‫فردوسه‪ .‬وكانت املياه املختلفة األلوان تتدفق ولها خرير يروق السامعني‪.‬‬
‫وهناك أبرصت ثالثة من القضاة الشيوخ يف أكيسة متتاز عن لبوس األهايل‪ .‬وهم‬
‫جالسون بعضهم بجانب بعض‪ .‬فالجالس يف الوسط مكتوب فوق رأسه بأحرف‬
‫كأنها نارية «الحق» والجالس عن ميينه مكتوب فوقه «العدل» والجالس إىل يساره‬
‫مكتوب فوق هامته «الحكمة»‪.‬‬
‫ً‬
‫فأمرين الجالس يف الوسط وهو أكربهم باإلصغاء والتفهم أوال ثم بقراءة هذه‬
‫الكلامت الثالث‪ ،‬فقلت له بعدما ائتمرت أمره‪ :‬إين تصورت اآلن أمامي كل آثامي‬
‫وجميع كبائري‪ ،‬ولكني أستغيث برحمة ريب وعفو موالي أنا أسري الوصمة((( وعبد‬
‫الشهوة‪ .‬لقد جنيت عىل نفيس فاستوجبت هذا الجسم‪ .‬لقد أسأت إىل خالقي الذي‬
‫أحسن إ ّيل‪ .‬لقد خالفت أحكامه ورشائعه‪ ،‬يا وييل ويا فضيحتي من هذا املوقف‬
‫الرهيب‪ ،‬يا لهف قلبي عىل ذوي قرابتي الذين تواروا عني خج ًال واستحياء‪ .‬آه لقد‬
‫عراين العار وأخزاين الخزي‪ .‬عفوك يا إلهي عفوك يا كريم‪.‬‬
‫فلام أمتمت هذا الكالم تراءى يل يف صدر املجلس لوح ُكتب فيه ما يأيت «لقد‬
‫كانت توبتك غري كافية لتربيرك َف ُحك َِم عليك بأن تقيم مبدينة التكفري يف القمر‬
‫عرشين سنة‪ .‬فإذا أصلحت نفسك بتوبة صادقة قبل ميض هذه املدة نُظِ َر يف‬
‫أمرك»‪.‬‬
‫تصب وال تيأس من رحمة الله تعاىل‬ ‫ُ‬
‫انتهيت من القراءة قال يل القايض األكرب‪ّ :‬‬ ‫ملا‬
‫وال تفرت عن حمده وشكره‪ .‬فخرجت من املجلس وأنا ال أقوى عىل التأمل بل أملح‬
‫ملحاً‪ ،‬يعذبني الخجل ويؤملني العار حتى وصلت باب املدينة َّ‬
‫املعد لخروج املذنبني‬
‫فوقفت يب بعد نحو دقيقة أمام رتاج مدينة التكفري‬
‫(((‬
‫ْ‬ ‫ُ‬
‫فركبت املركبة الربقية‬ ‫منها‬

‫‪ 1‬ـ الوصمة‪ :‬العار والعيب والنقص والفتور والكسل يف الجسد‪.‬‬


‫‪ 2‬ـ الرتاج‪ :‬الباب املغلق وفيه باب صغري‪ .‬والخادعة‪ :‬الباب الصغري يف الباب الكبري وهو الذي تسميه العامة‬
‫بالخ ْو َخة‪.‬‬
‫َ‬

‫‪30‬‬
‫موجع القلب دامع العني محني‬ ‫ُ‬ ‫فدخلت خادعته وأنا كئيب حزين ضيق الصدر‬
‫الظهر ترتجف أعضايئ من هول دخويل ومن هول ما رأيت‪.‬‬
‫يل جميع آثامي وكل كبائري مجسمة‪،‬‬ ‫لقد رأيت يف غرفتي التي ُأغلق بابها ع ّ‬
‫أبرصت كثرياً من أولئك الرجال والنساء الذين شاركوين يف املعايص وهم بأجسامهم‬
‫اآلدمية‪.‬‬
‫هذا يؤنبني وذاك يعنفني‪ .‬هذه تتظلم وتلك تشمت‪ .‬فكان يل من ذلك عذاب‬
‫شديد ليس يف وسعي وصف بعضه‪ .‬وحسبي أن أقول لك إنك كنت سألتني عن‬
‫حالتي دقيقة فراقي األرض‪ .‬فكانت كلمتي األخرية‪« :‬املوت صعب» ألين عانيت أملاً ال‬
‫يل وأعظم‬ ‫كاآلالم ووجعاً ال كاألوجاع كلها‪ ،‬ومع هذا فإنَّ عذايب يف غرفتي هذه أشد ع ّ‬
‫من تلك الساعة التي خرجت بها روحي من جسمي‪ .‬والذي كان يزيد يف تعذيبي هو‬
‫أنني كنت أتصور سكان مدينة القضاة وهم يف غبطة ورسور‪ .‬فمكثت عىل تلك عرش‬
‫سنني وأنا أصيل وأستغفر الله تعاىل من ذنويب لي ًال ونهاراً‪.‬‬
‫وبعد هذا أتوا يب إىل ع ّلية يف روضة فيحاء فيها من األزهار والثامر ما تطيب‬
‫به النفوس وتقر العيون‪ .‬فزالت عني تلك املخاوف واملناظر املبكتة والصور املعذبة‬
‫وبت يف راحة وسكينة إال أنه كان يؤملني ابتعادي عن سكان الزهرة وخصوصاً مدينة‬ ‫ُّ‬
‫القضاة‪.‬‬
‫أما شغيل فقد كان التعبد واالستغفار واإلكراء فشعرت بعد هذا بأنَّ الله تعاىل‬
‫(((‬

‫اقتبل توبتي هذه الثانية الصادقة وندامتي الكاملة الخالصة ألنَّ العدل اقتص بهام‬
‫للحق مني‪.‬‬
‫ملا كان اليوم األخري من السنة الخامسة يف سجني بغرفتي الثانية برشوين بالعفو‬
‫الكريم‪ ،‬فألبسوين جسدي الذي كنت ألبسه يف الزهرة‪ ،‬قبل إنزايل إىل األرض ثم علوت‬
‫مركبة األبرار فسارت يب تقصد املدينة العظمى((( حتى إذا دنوت منها خرج كل‬
‫السكان إىل استقبايل يتلقونني باألزاهري والرياحني‪ ،‬وهم يرتمنون بالنشائد الخصوصية‬
‫املنظومة للقاء التائبني‪.‬‬
‫وقد كان يف مقدمة املستقبلني رئيس املحكمة العمومية التي كنت فيها قاضياً‬

‫‪ -1‬أي مدينة القضاة‪.‬‬


‫‪ 2‬ـ أي مدينة القضاة‪.‬‬

‫‪31‬‬
‫وذلك قبل إنزايل إىل األرض فضمني إىل صدره وقال يل‪ :‬لقد أمرين قايض القضاة أمراً من‬
‫عند الله سبحانه وتعاىل بأن أعيدك إىل منصبك‪ .‬فدخلنا املدينة وقد زُينت يل زينة إذا‬
‫وصفتها ألحد ال يدرك لوصفي معنى‪ ،‬منها أنَّ الناظر يبرص املعبد األكرب قامئاً يف الهواء‬
‫والخلق يسبحون الله يف أعاله ويرتلون وهو وكل من عليه نور يف نور‪ .‬تخرج منه طيور‬
‫تختلف ألوانها الالمعة وهي تس ّبح الله وتشكره عني‪ .‬وكنت أراها توكب((( وتقبض‬
‫يل قائلة بلسان واحد وكالم فصيح‪« :‬نهنئك بعفو الله‬ ‫جناحها((( وتتكركر((( وتنزل ع ّ‬
‫عز ثناؤه إنه رؤوف بعباده»‪ ،‬ثم تدنو من األرض وهي تقول‪« :‬يا أيتها الخليقة برشي‬
‫ّ‬ ‫ّ (((‬
‫وتصف‬ ‫القايض العظيم بعفو ربه إنَّ الله تعاىل غ ّفار الذنوب»‪ ،‬ثم تهفو((( وتحلق‬
‫أجنحتها يف السامء((( وبعد ذلك تجثم((( وتهدهد((( ونحن نسمعها تقول‪« :‬يا أيها الذين‬
‫أحبكم الله تعاىل فخلقكم س ّبحوه معنا واشكروه عىل عفوه وغفرانه إنه ت ّواب رحيم»‪.‬‬
‫كريس وبعد طرفة عني أو قولك‬ ‫فلام وصلنا إىل املحكمة العمومية ُأجلست يف ّ‬
‫يل‪ .‬وكان قد دنا وقت الصالة‬ ‫«يا الله» أقبل قايض القضاة بجامعته فس ّلم وس ّلموا ع ّ‬
‫فاغتسلنا ثم تقدمني إىل املعبد األكرب والخلق وراءنا فص ّلينا وشكرنا وس ّبحنا‪.‬‬
‫وبعد هذا مضيت إىل داري وأنا مرسور بعفو ريب مبتهج مب ّنه وكرمه‪ ،‬يكلمونني‬
‫فال يسمعون مني غري حمده وشكره‪.‬‬
‫يل معظمه فأهم بسؤال‬ ‫أقول‪ :‬إنني كنت ُأدهش من هذا الكالم الذي أشكل ع ّ‬
‫يل فأعلمك كل ما تريد أن تسألني عنه‪.‬‬ ‫والدي عنه فيقول يل يف الحال‪ :‬متهل ع ّ‬
‫قال‪ :‬وبعد هذا تذكرت وعدي لك فالتمست اإلذن من قايض القضاة فأذن يل يف‬

‫‪ 1‬ـ أوكب الطائر‪ :‬نهض للطريان‪ .‬وقيل تهيأ للطريان‪.‬‬


‫‪ 2‬ـ قبض الطائر جناحه‪ :‬جمعه‪ .‬وقبض الطائر وغريه‪ :‬أرسع يف الطريان وامليش‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ تكركر الطائر‪ :‬تردى يف الهواء‪.‬‬
‫‪ -4‬هفا الطائر بجناحيه‪ :‬خفق وطار‬
‫‪ 5‬ـ ح ّلق الطائر بتشديد الالم‪ :‬ارتفع يف الهواء واستدار‪.‬‬
‫‪6‬ـ ّ‬
‫صف الطائر جناحيه يف السامء بتشديد الفاء‪ :‬بسطهام ومل يحركهام‪.‬‬
‫‪ 7‬ـ جثم الطائر والنعامة والخشف واألرنب والريبوع‪ :‬لزم مكانه فلم يربح أي تلبد باألرض‪ .‬وقيل الجثوم‬
‫مبنزلة الربوك لإلبل‪.‬‬
‫‪ 8‬ـ هدهد الطائر‪ :‬قرقر‪.‬‬

‫‪32‬‬
‫يشء ونهاين عن آخر‪ ،‬وها أنت جالس يف حرضيت‪ .‬فقلت له‪ :‬أيجوز يل أن أسألك هل‬
‫نحن يف األرض أم يف الزهرة؟ فقال‪ :‬لسنا يف إحداهام وإمنا نحن بينهام ألنه ال يسمح‬
‫يل بأن أعود إىل األرض سجن العاصني واملخالفني‪ ،‬وال يؤذن لك يف الدخول إىل الزهرة‬
‫ألنها مقام األبرار الصالحني‪.‬‬

‫الفصل الرابع منه‬


‫_ يف املريخ _‬
‫قال والدي‪ :‬إنَّ الله تعاىل أوجد الكائنات يف األزل فكان منها املريخ وهو‬
‫أزهى وأبهى وأسمى وأرقى موضع خلقه الله تعاىل‪ .‬وقد جعل الجنة يف أحسن‬
‫روضة من جنانه‪ .‬وبعد هذا خلق ذكراً وأنثى فتناسال إىل أن بلغ عدد العباد نحو‬
‫جل جالله أرسة من األرس العظيمة فأسكنها الزهرة‬ ‫مئة ربوة(((‪ .‬فتمردت عليه ّ‬
‫عقاباً لها‪.‬‬
‫ام وال ه ً‬
‫ام‪ .‬إنَّ أكلهم‬ ‫ثم قال والدي‪ :‬ال يجد سكان املريخ تعباً وال مرضاً وال غ ً‬
‫ورشبهم وكل ما يحتاجون إليه بني أيديهم‪ .‬أعامرهم من خمسة آالف إىل عرشة‬
‫آالف عام من أعوامكم‪ ،‬فإذا انقىض أجل أحدهم ُأرسل إىل الجنة يف أبهة واحتفاء‬
‫عظيمني جداً‪ ،‬فبالغْ ما استطعت يف وصفهام وال حرج عليك وال جناح‪ ،‬إنَّ سكان‬
‫الجنة يتمتعون بكل لذة من دون أن ميسوا شيئاً‪.‬‬

‫الفصل الخامس منه‬


‫_ يف الزهرة _‬
‫قال والدي‪ :‬إنَّ الزهرة رياض رائقة‪ .‬وغياض شائقة‪ .‬ذات أشجار باسقة((( وأزهار‬
‫باألطياب عابقة‪ .‬تتدفق فيها أنهار تختلف ألوان بعضها عن بعض وتجتمع إليها‬

‫‪1‬ـ الربوة‪ :‬الجامعة نحو عرشة آالف‪.‬‬


‫‪2‬ـ بسق النخل‪ :‬ارتفعت أغصانه وطال‪.‬‬

‫‪33‬‬
‫املياه من عيون رقت وصفت وراقت الشاربني‪ .‬يعسل((( ماؤها فتبرص عليه حروفاً‬
‫تأويل كالمها إنا جعلناك شفاء للمتقني‪.‬‬
‫ام بلي ًال علي ًال‪ .‬ال باردا قارسا وال حارا يابسا‪ .‬فكلام استنشقناه‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫يهب هواؤها نسي ً‬
‫تجددت فينا الحياة‪.‬‬
‫أما جبالها وأوديتها ومرتفعاتها ومنخفضاتها فإنها مزينة باألزاهري ذوات‬
‫الروائح الذكية التي تأخذ مبجامع القلوب رسوراً وابتهاجاً‪ ،‬كلام شممناها قويت‬
‫أبداننا ونشطنا إىل العمل‪.‬‬

‫يف الفصل السادس منه‬


‫_ يف املدن والطرق _‬
‫قال والدي‪ :‬إنَّ مدننا كثرية غري أننا ال نحب اإلقامة بها طوي ًال بل نفضل عليها‬
‫الجبال ونفضل عليها القرى يف الرباري الواسعة فال نتضايق وال نتزاحم يف البالد‪.‬‬
‫األمان سائد أينام ذهبنا‪ .‬ال معرتض يعرتض وال منازع ينازع‪ .‬كيفام نرس نر ّوح‬
‫قلوبنا بالحدائق والجنان والغياض والرياض واألنهار والجداول والعيون‪.‬‬
‫أما مدنكم يف الكرة األرضية فقد غصت بكم وضاقت عليكم حتى ضاقت بها‬
‫أخالقكم‪ .‬تحيط بها أسوار من املنازل والحوانيت واملخازن عالية األركان تحجب عنها‬
‫نور الشمس ومتنع الهواء النقي‪ .‬إنَّ مدنكم قليلة املياه ال تجري فيها األنهار فق ّلت‬
‫س ْت إىل غريه وأنتم ال تحتاطون بل تقولون‬ ‫النظافة عندكم‪ ،‬فإذا ابتيل أحدكم بع ّلة َ َ‬
‫هذا قضاء الله تعاىل‪ ،‬إنَّ الله ال يريد بعباده رشاً لو تعلمون‪.‬‬
‫إذا دخل أورويب مدنكم ظنها مأوى الحيوان لكرثة ما فيها منه وأنتم ال متيزون‪.‬‬
‫مخازننا قليلة لقلة احتياجنا إليها ولذلك ال نسمع جلبة وال رصخة وأنتم تجلبون‬
‫وترصخون‪.‬‬
‫طرقنا مستقيمة يف فساحة عظيمة فال نكاد نعرف طولها من عرضها‪ ،‬ونحن يف‬
‫مسرينا نتخذ الجهة اليمنى فال نتواجه وال نتصادم‪.‬‬
‫ال نرى صبياناً فإنهم مقيمون بالبيوت أو هم يف املدارس وال نرى شيئاً تعافه‬
‫النفوس بل نرى النظافة واإلتقان‪ .‬نبرص املياه النقية الصافية جارية يف جميع الطرق‬

‫‪ 1‬ـ عسل املاء‪ :‬حركته الريح فاضطرب‪.‬‬

‫‪34‬‬
‫العمومية والخصوصية وهي تصب يف أنهار رسيعة االنحدار والجريان فال تجتمع‬
‫إىل مناقع فتأسن((( وتنترش منها األمراض الفاتكة‪.‬‬
‫أما طرقكم القدمية املب ّلطة التي تعرثون فيها لضيقها فهي خري لكم من طرقكم‬
‫العريضة الحديثة غري املب ّلطة التي نحسبها مفاوز يثور غبارها عليكم وأنتم تتنزهون‪،‬‬
‫فتعودون إىل أماكنكم وقد امتألت منه أجوافكم فتعرضون عن الطعام وال تقبلون‪.‬‬
‫لقد كرثت عللكم بطرقكم وأنتم ال تدركون فإذا مل تتداركوا نفوسكم بتبليطها ولو‬
‫بنصف أموالكم ضعفت أبدانكم وفسدت بناكم(((‪ .‬إنَّ طرقكم لتجني عليكم فكيف‬
‫فيها تسلكون!‬
‫ٌّ‬
‫تسري الخليقة منا هادئة مبتسمة‪ .‬يح ّيي كل أخاه ببشاشة ووقار‪ ،‬فيا ليتكم بنا‬
‫تقتدون‪.‬‬
‫(((‬
‫عندنا السالم فال جدال وال خصام‪ .‬لدينا الراحة فال تعب وال عناء‪ .‬هناك الرتفة‬
‫والغدنة(((‪ ،‬هناك الرفاهة والعيش الرغد‪ .‬غري أنَّ هذه النعم ال ترتفنا وال تبطرنا بل‬
‫نحن نجفن نفوسنا((( ونكفها عن املحارم‪.‬‬
‫يسأل بعضنا بعضاً عند التحيات‪ :‬هل تريدون مساعدة؟ هل تبتغون مدداً؟ هل‬
‫تضطرون إىل يشء؟ فيجيبون مث ًال‪ :‬إننا نبني داراً أو نجدد بهواً أو غرفة فنتسابق‬
‫إىل تقديم معدات البناء والتشييد بهمم عالية وقلوب نقية‪ .‬ونشتغل ونحن نتامزح‬
‫متازحاً أدبياً ال ينتقل بنا إىل الجد‪ .‬أو نرتنم بالنشائد التي تذكر بها مآثر مشاهرينا‬
‫وفضائلهم يف تساعدهم ويف وجوب تعويد أبدانهم النشاط ويف الجد والعمل مع‬
‫حسن إتقان ودقة إحكام إىل غري ذلك‪.‬‬
‫فإذا مل يكن ألحد شغل أو عمل يلهيه وميرنه ذهب إىل قايض الحي الذي يقيم‬
‫به فيشغله بتمريض((( مريض أو يرسله إىل معمل يشتغل به من غري أن يجهد ألنه‬

‫تغي طعمه ولونه وريحه‪.‬‬


‫‪ 1‬ـ أسن املاء‪ّ :‬‬
‫‪ 2‬ـ جمع بنية وهي الفطرة‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ الرتفة‪ :‬النعمة والطعام الطيب‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ الغدنة‪ :‬النعمة واللني‪.‬‬
‫‪ 5‬ـ جفن نفسه‪ :‬منعها عن الخبائث‪.‬‬
‫‪ 6‬ـ م ّرض فالناً متريضاً‪ :‬أحسن القيام عليه يف مرضه وتكفل مبداواته‪.‬‬

‫‪35‬‬
‫من العار أن يقيم يوماً واحداً بطاالً خوفاً عىل نفسه من املفسدة‪ ،‬فإنَّ من يبطل‬
‫من عمل فسد قلبه‪ ،‬ولذلك نتساعد برغبة ونشاط ال نسأل بدالً وال عوضاً كأننا كلنا‬
‫أحباء وأصدقاء مختارون نتبادل املنافع‪ .‬إنَّ الخلق عندنا يف قناعة فال يتهافتون عىل‬
‫(((‬
‫حشد الذهب والفضة وال يطمعون‪ ،‬وال ينهب((( بعضهم بعضاً وليس فيهم حرض‬
‫وال منّام ذميم‪.‬‬

‫يف الفصل السابع منه‬


‫_ يف الدُّ ْور _‬
‫قال والدي‪ :‬إنَّ ُدورنا نظيفة فسيحة يبعد بعضها عن بعض‪ .‬ال يجتمع أوالدنا‬
‫فيتخاصمون تخاص ًام يتصل إىل األمهات فاآلباء‪.‬‬
‫نقيم بغرف متسعة ترشق الشمس عليها وتغرب وهي كلها عىل هضبات تجري‬
‫من تحتها ينابيع باردة‪ .‬ينام كل واحد منا يف مكان‪.‬‬
‫الرحال عندكم‪ .‬إال أننا ال نستعمل‬
‫ال نتخذ من األثاث أكرث مام يتخذه البدوي ّ‬
‫الصوف بل نجلس وننام عىل فرش شفافة وضاءة نسمي نسيجها باملرن (ألنه يتخذ‬
‫من البلور ا ُمل َّلي ذي املرونة)‪ .‬ومن العجب العجاب أننا نغسلها كل يوم بذائب‬
‫تخصص لها لتنظف بسهولة‪ ،‬وبعد غسلها تُرسم عليها صور الحرشات التي رمبا قد‬
‫غفلنا عنها فاستخفت فيها فنلتقطها حاالً وهذا من مخرتعاتنا املفيدة‪.‬‬
‫هم كل واحد‬‫إنَّ أبقارنا وغنمنا بعيدة عنا ال تهب ريحنا عليها وال ريحها علينا‪ّ .‬‬
‫منا أن ال يدخل داره كلب وال هر وال جرذ وال فأر وال منلة وكذلك ال ذباب وال‬
‫برغوث‪ ....‬ألنها كلها تنقل األمراض السامة فترض بأجسامنا‪.‬‬
‫إننا نرحل يف كل فصل من الفصول األربعة إىل جهة فإذا نزلنا يف أرض رحلنا عنها‬
‫إىل أنظف منها‪.‬‬
‫نذهب كل يوم مرتني صباحاً ومسا ًء إىل الجنات والحدائق التي تبعد عن منازلنا‬
‫من نصف ساعة إىل ساعة‪ ،‬فنجمع البقول الطيبة والفواكه الناضجة ثم نعود وقد‬

‫‪ 1‬ـ نهب الناس فالناً‪ :‬تناولوه بكالمهم‪.‬‬


‫‪ 2‬ـ رجل حرض‪ :‬ال خري فيه وقيل هو الساقط الذي ال خري فيه‪ .‬والحرض‪ :‬الرديء من الناس والكالم‪.‬‬

‫‪36‬‬
‫تنزهنا‪ .‬ونحن يف كل هذا ال منتطي مطايا بل نسعى عىل األقدام رياضة ألبداننا‪ .‬إننا‬
‫نجتنب الصيد فقد حرمه الله تعاىل علينا‪.‬‬
‫لقد كانت دياركم تصلح للصيف والشتاء فلام متدنتم التمدن الحديث‪ ،‬وبنيتم‬
‫لكم بيوتاً جديدة مثل بيوت سكان أوروبا عىل زعمكم‪ ،‬من غري أن متيزوا قارتكم من‬
‫قارتهم وتدركوا خصائص املاء والهواء فيهام‪ ،‬أمست مساكنكم ال تصلح للسكن وأنتم‬
‫غافلون‪ .‬فبدت العفونة بأمراضها الق ّتالة تنترش بينكم وأنتم ال تشعرون‪.‬‬
‫ولقد أنشأتم أكرث دوركم يف منخفض من األرض فجعلتموها أحجار الضبان ال‬
‫(((‬

‫قصور اإلنسان‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫تنام الفصيلة منكم يف حجرة ضيقة تفسد هواءها وتستنشقه سام قاتال ال هواء‬
‫(((‬

‫طيباً نقياً وأنتم ال تعقلون‪.‬‬


‫إذا دخل أجنبي بيوتكم اعرتض له يف مكان واحد منها أثاث عرش أرس فيحسب‬
‫نفسه يف سوق‪ ،‬فيا ليتكم تحسبون فال تقوى ربة املنزل عىل تنظيفها والنظافة مقدمة‬
‫عىل الطعام ولكنكم ال تفقهون‪.‬‬
‫تفاخرون يف مجالسكم بكرثة ما تلبسون وتفرشون من الفراء والصوف وال‬
‫تفاخرون إال مبا يرضكم إال أنكم ال تنتبهون‪ .‬والعجب كل العجب أنكم جعلتم كنفكم‬
‫يف مطابخكم فتتحد رائحة الطعام برائحة الكنيف فتأكلون وترشبون‪.‬‬
‫ويف الختام أقول لكم‪ :‬إنَّ يف تبديل الهواء حياة لكم لتقضوا أيامكم يف األرض‬
‫وأنتم ساملون معافون إن شاء الله‪.‬‬

‫الفصل الثامن منه‬


‫_ يف النظافة _‬
‫قال والدي‪ :‬النظافة وهل علمتم ما هي؟ هي أعظم من أن توصف بشفة‬
‫ولسان‪ .‬إين ال أدري كيف أصفها وأعلمها الناس وأشري إليها‪ .‬وال أعلم بأي كالم أحضهم‬

‫‪ 1‬ـ جمع الضب وهو حيوان بري يشبه ال َو َرل وقيل هو أنثى الحرذون وقيل هو دويبة عىل حد التمسح‬
‫الصغري‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ الفصيلة من الرجل‪ :‬عشريته ورهطه األَدْنون وأقرب آبائه إليه‪.‬‬

‫‪37‬‬
‫وأحثهم عىل التفاين يف التجمل والتحيل بها تفانياً يؤثر يف عقولهم وقلوبهم وحواسهم‬
‫وأعضائهم بل يف كل منبت شعرة منهم‪.‬‬
‫النظافة قاعدة من قواعد الدين‪ .‬النظافة رس من أرسار الحكمة‪ .‬النظافة غاية‬
‫املناقب واملحامد‪ .‬النظافة ال شك أساس الظرف وأصله‪ .‬هي الفيض الروحاين الذي‬
‫يسيل منه ماء الحياة‪ .‬هي رس خفي من أرسار الجنة الغامضة فإذا علمه اإلنسان‬
‫واهتدى إليه ظفر بيشء من السعادة الحقيقية‪.‬‬
‫ً‬
‫ال علة وال دواء مع النظافة إال فيام ندر وال عاهة أيضا‪ .‬فيجب أن يعتنى بها‬
‫شديد االعتناء‪ ،‬وذلك يف املأكل واملرشب وامللبس ويف الفراش واألثاث ويف كل ما تقع‬
‫عليه عيناك مبنزلك وغريه يف كل ما تلتصق به ويلتصق بك‪ ،‬ويف كل ما تشمه وتجسه‬
‫ومتسه وتلمسه‪.‬‬
‫ً‬
‫ال يبالغ الفتى والفتاة يف التجمل والتحسن طلبا للحسن الكاذب املموه الذي‬
‫كله تص ّنع يف تص ّنع‪ ،‬بل ليدأبا يف النظافة فإنها كل الظرف ونصف الحسن‪ .‬وهي إذا‬
‫تأملت ‪ -‬الحسن كله‪ .‬إذا كان السمن كام تقولون نصف الحسن فالنظافة كله‪ .‬وغاية‬
‫ما أقول إنَّ النظافة تقوي البنية وتلطف الهيئة فيحدث السمن الحقيقي الصحيح‬
‫يف البدن فينبعث النور والبهاء من البرشة‪ ،‬فينعم الجسم يف غضاضة ونضارة وطراءة‬
‫وبضاضة‪ .‬ويزهو حسن الوجه يف بياض واحمرار يشفان عن بهجة رائعة وطالوة‪.‬‬
‫وينشط القوام يف رشاقة وخفة فيسلم اإلنسان‪ .‬يا أيها البرش اجتنبوا القذرين‪.‬‬

‫‪38‬‬
‫الباب الثاين‬

‫‪39‬‬
40
‫الفصل األول من الباب الثاين‬
‫_ يف العبادة _‬
‫قال والدي‪ :‬إنَّ الله تعاىل أراد خرياً بتلك األرسة التي كانت متردت عليه يف املريخ‬
‫فأسكنها الزهرة‪ .‬وقال لها‪ :‬لتكن عبادتك «املحبة» «الصدق» «العفة» «التواضع»‪ .‬وقال‬
‫لها إين أريد من كل عبد قلبه‪ .‬واملرء مكرم بفضائله‪ .‬والنظافة الب َّد منها فثابري عليها‪.‬‬
‫وقال‪ :‬من خالفني منك أنزلته إىل األرض‪ ،‬فإن كانت توبته فيها غري كاملة أرسلته‬
‫بعد انقضاء أيامه إىل القمر‪ .‬فإن أرص عىل املخالفة بعثته إىل زحل فإنَّ فيه العذاب‬
‫األليم‪ .‬ومن أطاعني أعدته (بعد خروجه من األرض) إىل الزهرة فاملريخ حيث الجنة‬
‫بجالل مني عظيم‪.‬‬
‫قال والدي‪ :‬وقد كانت مدارك هذه األرسة أسمى وأرقى من مدارككم بكثري‬
‫فأخذت تتكاثر بعبادتها‪ ،‬وقد جعلت الفضائل ديدنها فعمرت البالد وأنشأت القرى‪،‬‬
‫فأقام الله عليها قضاة مرشدين ومدبرين ومخرتعني يخرتعون ما تضطر إليه تعمي ًام‬
‫للراحة والرفاهية فشكرته عىل آالئه‪ ،‬وبالشكر تدوم النعم‪.‬‬

‫الفصل الثاين منه‬


‫_ يف املعابد _‬
‫قال والدي‪ :‬إنَّ معابدنا متسعة اتساعاً عظي ًام‪ .‬طولها مسا ٍو عرضها‪ .‬أعظمها املعبد‬
‫األكرب يف مدينة القضاة العظمى وهو املعبد الذي نزلت فيه كلامت العبادة األربع‬
‫التي علمتها‪.‬‬

‫‪41‬‬
‫إنَّ الداخل إليه يقرأ يف صدر كل معبد كلمة «الله» مكتوبة عىل لوح كأنه‬
‫ذهبي بأحرف عظيمة يبرصها كل من حرض‪ .‬وهذه الكلمة الجليلة مركبة عندنا‬
‫من أربعة أحرف مختلفة األلوان‪ .‬فالحرف األول كتب باللون الوردي والثاين باألبيض‬
‫والثالث باألزرق والرابع بالبنفسجي‪ .‬وكلها ناصعة نقية ينبعث منها نور غاية يف‬
‫البهاء واللطافة فوق ما تشتهي‪.‬‬
‫ويقرأ أيضاً تحت هذه الكلمة الجليلة كلامت العبادة األربع‪ .‬فاملحبة مكتوبة‬
‫باللون الوردي والصدق باألبيض والعفة باألزرق والتواضع بالبنفسجي‪ ،‬أي أنَّ ألوان‬
‫لفظ الجاللة موزعة عىل الكلامت األربع‪ .‬ويجد الداخل تحتها كرسياً مرتفعاً وال يجد‬
‫شيئاً آخر ال فضة وال ذهباً وال جواهر وال مصابيح (فإنَّ النور يف املعابد ييضء كام‬
‫ييضء نهاراً) وال أواين وال مالبس وال متاثيل‪...‬‬

‫الفصل الثالث منه‬


‫_ يف الصالة _‬
‫يهب كل واحد وواحدة يف الفراش من ابن وبنت خمس سنني إىل ما‬ ‫قال والدي‪ُّ :‬‬
‫فوق‪ ،‬وال يستثنى منا إال العليل العاجز عن القيام وذلك قبل رشوق الشمس بربع‬
‫ساعة‪ ،‬فيخلع ثيابه حاالً وينزل إىل عنقه يف مغطس بارد يجري ماؤه من عني صافية‬
‫فيها مواد مقوية وال يرمتس((( فيه وال يبرتد(((‪ .‬وينظف فمه وأسنانه وأذنيه وأظفاره‪.‬‬
‫ثم يلبس ثيابه من غري أن يتنشف‪ ،‬كل ذلك يف خمس دقائق فقط‪ ،‬ويرسع امليش إىل‬
‫املعبد الذي يبعد عن داره عرش دقائق فريى هناك أحد القضاة يصيح بصوت عال‬
‫يسمعه الحارضون ويقول أوالً‪« :‬يا أيها األبناء الذين جاؤوا طائعني إنكم واقفون يف‬
‫حرضة الله تعاىل فنبهوا حواسكم»‪ .‬فنقول بصوت واحد غري مرتفع‪« :‬الله يا الله لقد‬
‫تنبهنا يا الله ونحن ضارعون خاشعون»‪ .‬ثم نسجد فيقول القايض ثانياً‪« :‬يا أيها األبناء‬
‫الصالحون إنكم واقفون أمام الله سبحانه وتعاىل فاخلعوا نعالكم احرتاماً وتوقرياً‪.‬‬

‫‪ 1‬ـ ارمتس يف املاء‪ :‬إذا انغمس فيه حتى رأسه وجميع جسده وقيل االرمتاس‪ :‬أن ال يطيل اللبث يف املاء‬
‫واالنغامس أن يطيله‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ ابرتد‪ :‬اغتسل باملاء وقيل يف املاء البارد‪ .‬وابرتد املاء‪ :‬صبه عىل رأسه‪.‬‬

‫‪42‬‬
‫إنَّ الله يأمركم بأن يحب كل واحد أخاه أكرث من نفسه»‪ .‬فنقول‪« :‬الله يا الله لقد‬
‫تنبهنا وسمعنا يا الله لك املجد لك العظمة يا مالئ الكائنات هيبة وجالالً»‪ .‬ثم نخلع‬
‫نعالنا ونرفع أيدينا إىل الله ثالثاً ونسجد مرتني‪ .‬فيقول القايض ثالثاً‪« :‬يا أيها األبناء‬
‫الصالحون املتعبدون إنكم واقفون بني يدي الله تبارك وعال فاكشفوا رؤوسكم تعظي ًام‬
‫له ومتجيداً‪ .‬إنَّ الله يأمركم بأن تصدقوا يف أقوالكم»‪ .‬فنقول‪« :‬الله يا الله لقد تنبهنا‬
‫وسمعنا وأطعنا يا الله‪ ،‬أنعم علينا بأن ال ندهش بغري عظمتك وجربوتك لنعبدك‬
‫وحدك حق عبادتك وال نرشك بك»‪ .‬ثم نكشف رؤوسنا ونحني ظهورنا ونسجد ثالثاً‪.‬‬
‫جل جالله يصغي إليكم فأخلصوا نياتكم واندموا عىل‬ ‫فيقول القايض رابعاً‪« :‬إنَّ الله ّ‬
‫سيئاتكم وإنَّ الله يأمركم بأن تتعففوا آناء الليل وأطراف النهار»‪ .‬فنقول‪« :‬الله يا‬
‫الله لقد تنبهنا وسمعنا وأطعنا وأجبنا‪ ،‬ولقد تبنا إليك فتب علينا واغفر لنا وتداركنا‬
‫برحمتك يا أرحم الراحمني‪ .‬إننا نعرتف لك بسيئاتنا عىل أننا مل نتعمدها فتجاوز عنها‬
‫بواسع حلمك يا رحيم يا حليم»‪ .‬ثم نرفع أيدينا وهي مبسوطة األكف وننزلها ثالثاً‬
‫ونسجد‪ .‬فيقول القايض خامساً‪« :‬إنَّ الله عز ثناؤه غفر سيئاتكم ووهب لكم نفوسكم‬
‫وإنَّ الله يأمركم بأن تتواضعوا فخ ّروا ألذقانكم ساجدين»‪ .‬فنقول‪« :‬الله يا الله لقد‬
‫تنبهنا وسمعنا وأطعنا وأجبنا وحمدنا وشكرنا حمداً وشكراً صادرين عن قلوب محبة‬
‫صادقة عفيفة متواضعة»‪ .‬ثم نخ ّر ونسجد ثالثاً ونحن نقول‪« :‬لقد قلت يا ربنا إنك‬
‫تريد منا قلوبنا فانظر إليها‪ .‬ور َّغبتنا يف الفضائل فق ِّونا عليها‪ .‬وحضضتنا عىل النظافة‬
‫إنَّ شفاءنا كان لديها‪ .‬نحمدك ونشكرك يا إلهنا ألنك متعتنا بخرياتك ونعمك وأغنيتنا‬
‫مب ّنك وكرمك‪( .‬فيقول هنا الذين مل ينزلوا إىل األرض)‪ .‬وألنك مل تضمنا إىل بني آدم‬
‫الالبسني أثواب العار»‪ .‬وهنا نعود كلنا فنقول‪« :‬ويف الختام نترضع إليك يا الله‬
‫ونلتمس من آالئك أن ترسلنا إىل الجنة لتمتعنا مبشاهدة وجهك الكريم»‪ .‬ثم نسكت‬
‫فيقول القايض‪« :‬لنذهب بأمن من الله وسالم»‪.‬‬
‫فنذهب وقد م ّر عىل صالتنا نصف ساعة‪ ،‬فنأكل ثم ننظر يف مصالحنا وأعاملنا من‬
‫غري أن نجهد نفوسنا‪ .‬وبعد خمس ساعات ننزل يف املاء إىل صدورنا ونتنظف ونلبس‬
‫ثيابنا ونبادر إىل املعابد مرة ثانية‪ .‬وبعد خمس ساعات أيضاً ننزل يف املاء إىل معدنا‬
‫ونتنظف ونسعى إىل املعابد‪ .‬وبعد خمس ساعات ننزل إىل ركبنا ونتنظف ونصيل‪ .‬أي‬
‫إننا نغتسل ونصيل أربع مرات كاملرة األوىل يف كل أربع وعرشين ساعة‪.‬‬

‫‪43‬‬
‫الفصل الرابع منه‬
‫_ يف األعياد والصيام والحج _‬
‫قال والدي‪ :‬إننا نجري إىل املعابد يف كل نهار خميس وهو اليوم السعيد الذي‬
‫نهب من فرشنا وننزل يف املياه ونتنظف‬
‫أنزل الله تعاىل فيه العبادة علينا‪ ،‬ذلك أنه ّ‬
‫ونسارع إىل الصالة‪ ،‬فنصيل ثم نسرتيح نصف ساعة يف األروقة حيث نحبب إىل‬
‫نفوسنا الفضائل التي منها حسن الصرب عىل فراق إخواننا املعاقبني واملغضوب عليهم‬
‫املسجونني يف األرض والقمر وزحل‪ .‬ومساعدة أقاربهم وعيادة املرىض‪ .‬وبعد هذا‬
‫نعود إىل املعابد ونسبح الله سبحانه وتعاىل بهذه التسبيحات‪.‬‬

‫(يف املحبة)‬
‫‪1‬ـ سبحانك يا خالق الكائنات يا من أحبنا فخلقنا ومتعنا بخرياته فتعلمنا‬
‫منه املحبة‪.‬‬
‫‪2‬ـ نسبحك يا أيها املحب الرؤوف بعباده‪ .‬ونشكرك ألنك أنزلت علينا وصاياك يف‬
‫مثل هذا اليوم السعيد‪.‬‬
‫‪3‬ـ سبحانك يا أيها املحب واملحبوب أنت الذي تبتهج قلوبنا مبحبته ألنك أمرتنا‬
‫بأن ن ّرب باملحبة والدينا‪.‬‬
‫‪4‬ـ نسبحك يا أيها الطاهر املحبة أنت الذي ال غاية وال نهاية ملحبته ألنك طهرت‬
‫قلوبنا باملحبة فطابت رسائرنا‪.‬‬
‫‪5‬ـ سبحانك يا أيها الصادق املحبة ألنك نجيتنا بها من القتل والغدر والنميمة‪.‬‬
‫‪6‬ـ نسبحك يا الله ألن املحبة منعتنا من اإلرضار بنفوسنا وعن اإلقدام عىل كل‬
‫شهادة زور‪.‬‬
‫‪7‬ـ نسبحك ألنك جعلت املحبة قاعدة كربى من قواعد الدين فأوثقت قلوبنا‬
‫بوثاق منها متني‪.‬‬

‫(يف الصدق)‬
‫‪8‬ـ نسبحك يا أصدق القائلني ألنك أمرتنا بأن نصدق يف الحديث والوعد‪ .‬ونصدق‬

‫‪44‬‬
‫العباد النصيحة والوالء‪.‬‬
‫‪9‬ـ نسبحك ألنك وثقت تعاملنا بالصدق فوثقتنا بنفوسنا ثقة تبادلنا بها املنافع‬
‫فطاب لنا العيش‪.‬‬
‫‪10‬ـ نسبحك ألنك عظمت بالصدق كل نفس منا فابتعدنا عن املدالسة وعن كل‬
‫رذيلة من رذائل الكذب‪.‬‬

‫(يف العفة)‬
‫‪11‬ـ سبحانك يا مطهر املضاجع ألنك أردتنا بأن نتعفف فختمت عىل قلوبنا‬
‫بالعفة فلم يغ ِو أحدنا أخاه‪.‬‬
‫‪12‬ـ نسبحك ألنك علمتنا بالعفة أن ال نغصب الحقوق لئال يرث الغريب حق‬
‫غريه بالدعارة‪.‬‬
‫‪13‬ـ نسبحك ألنك نهيتنا عن الفجور فانتهينا ومل نعرض أجسادنا لغوائل الشبق‬
‫ونعذبها به‪.‬‬
‫‪14‬ـ نسبحك يا واقي عباده رش الغرية ألنك بفضل وقايتك صنتنا من األحقاد‬
‫واملفاسد‪.‬‬
‫‪15‬ـ نسبحك يا الله ألنك وقيتنا بالعفة كل داء عياء عضال عقام ناجس مزمن‬
‫دفني(((‪.‬‬

‫(يف التواضع)‬
‫‪16‬ـ نسبحك يا من تليق الكربياء بعظمته ألنك تعطفت ودعوتنا أبناءك فتعلمنا‬
‫منك التواضع‪.‬‬
‫‪17‬ـ نسبحك ألنك أمرتنا بأن نتواضع فتعلمنا بالتواضع أن نكره حب الذات وندرأ‬
‫عنا الطمع‪.‬‬
‫‪18‬ـ نسبحك ألننا مب ّنك وفضلك مقتنا الطمع املذل وأحببنا القناعة املرشفة فلم‬
‫نسلب الحقوق‪.‬‬

‫‪ 1‬ـ الداء إذا أعيا األطباء فهو عياء‪ .‬فإذا كان يزيد عىل ممر األيام فهو عضال‪ .‬فإذا كان ال دواء له فهو‬
‫عقام‪ .‬فإذا كان ال يربأ بالعالج فهو ناجس ونجيس‪ .‬فإذا أعتق وأتت عليه أزمنة فهو مزمن‪ .‬فإذا ظهر بعد‬
‫خفائه فهو دفني‬

‫‪45‬‬
‫‪19‬ـ نسبحك ألنك حتمت علينا القناعة فجنبتنا الحسد املهلك وحفظتنا من‬
‫شوائب الرسقة وأرضارها‪.‬‬

‫(الخامتة)‬
‫‪20‬ـ نسبحك يا موالنا ألنك علمتنا عبادتك فجعلت بها أيامنا الطويلة يف بهجة‬
‫وحبور دامئني‪.‬‬
‫‪21‬ـ نسبحك يا منكد عيش بني آدم باملوت ألنك جعلت انتقالنا إليك لذة ومل‬
‫تجعله علينا نكداً‪.‬‬
‫‪22‬ـ نسبحك ألنك بتعليمك إيانا وصاياك ال تنزلنا إىل األرض بل ترسلنا إىل املريخ‬
‫حيث الجنة بجالل عظيم‪.‬‬
‫‪23‬ـ نسبحك ألنك تنعم علينا يف الجنة بأن نتمتع مبشاهدة وجهك الكريم فيفيض‬
‫علينا بهاء ونوراً‪.‬‬
‫‪24‬ـ نسبحك يا مكافئ الصالحني مبشاهدة وجهك الكريم الذي يشبع القلوب‬
‫لذات يف سعادة دامئة‪.‬‬
‫‪25‬ـ نسبحك يا سامع الدعاء يا من يزكو بك التسبيح ألنك مننت فسمعت‬
‫تسبيحاتنا يف البدء والختام‪.‬‬
‫قال‪ :‬وال نزال نس ّبح هذه التسبيحات مرة ثم نخرج إىل األروقة مدة نصف ساعة‪،‬‬
‫كام أبنت ونعود بعدها ونس ّبح إىل أن مير علينا تسع ساعات من ذلك النهار ونحن‬
‫من غري أكل ألننا ممسكون عن الطعام من نصف الليل‪ .‬فنذهب إىل دورنا ونأكل‬
‫ثم نتزاور والزيارة ال تكون أكرث من نصف ساعة‪ .‬وال عيد وال صيام عندنا غري هذين‪.‬‬
‫أما حجنا فهو إىل املعبد األعظم يف مدينة القضاة حيث نزلت كلامت العبادة‪ ،‬وذلك‬
‫يف اليوم األول من شهر نيسان من كل سنة‪ ،‬فيقدم الحجاج من جميع أنحاء الزهرة‬
‫وأقطارها ويقيمون ثالثة أيام يقدمون يف نهايتها الهدايا إىل قايض الرب ليوزعها عىل‬
‫املرىض العاجزين ثم ينرصف‪.‬‬
‫هذه كل كتب عبادتنا وصلواتنا وتسبيحاتنا‪ .‬فال يسمح ألحد مهام كانت صفته‬
‫بأن يضيف إليها شيئاً‪.‬‬
‫نحن ال نتوسع مثلكم يف النقول والرشوح والتفاسري‪ ،‬فنمأل منها األسفار العظيمة‬
‫واملجلدات الضخمة حتى تتشعب اآلراء ويحدث االختالف‪ ،‬فنلجأ إىل املناظرات التي‬

‫‪46‬‬
‫كانت يف الغالب سبباً يف تفريق الكلمة‪ ،‬فتحري كثريون فصاروا إىل الفتور الذي مت ّكن‬
‫منهم فافتتنوا يف دينهم‪.‬‬

‫الفصل الخامس منه‬


‫_ يف قضاة الزهرة ونزولنا إىل األرض _‬
‫قال والدي‪ :‬ال شك يف أنَّ القضاة عندنا ميتازون عن غريهم باملدارك والعلوم‬
‫وبالفضائل واملناقب وباملآثر واملحامد وباملكارم ومحاسن الصفات وحسن السلوك‪.‬‬
‫لقد وقفوا نفوسهم عىل خدمة الخليقة فال يهمهم غري تقدمها ونجاحها وسعادتها‪.‬‬
‫زهدوا يف املال ّذ ويف املالهي‪ .‬ال يخرجون من محاكمهم وفيها دعوى مل تنظر أو مؤجلة‪،‬‬
‫فإنَّ الدعاوي عندنا ال تحتاج إىل أكرث من تأجيلة واحدة‪ .‬ال يحابون وال يدهشون‬
‫املتحاك َم ْي بهيبتهم لئال يرتبكا يف الدفاع عن نفسهام‪ .‬ال يتقوفون أحداً يف املجلس(((‪.‬‬
‫ال يستهجون(((‪ .‬يتدبرون أمورهم ويبيتونها((( ويس ّفون((( لئال يرنّقوا يف أمر((( ‪ .‬ال‬
‫ينتهرون أحداً وال يحتدون عليه بل يصربون حتى يقطع(((‪ .‬هم وحدهم الصبورون‬
‫الحمولون الحليمون واملدققون البصريون الخبريون والرزينون الذين رصنت عقولهم‪.‬‬
‫هم الذين ال يعانون بإفراط فال يحسنون الظن كثرياً وال يسيئون‪ .‬ال مياطلون وال‬
‫يطاولون ال يغلطون املصيبني وال يغالطونهم وال يتغالطون(((‪.‬‬
‫إذا بدا لهم وجه الحق أبرشوا به حاالً‪ ،‬وعليه فالدعاوي الحقوقية عندنا نادرة‬
‫الحدوث ألنَّ القضاة ع ّلموا بنزاهتهم العبا َد الحق ومعرفته‪ ،‬فاملحقوق يعرف نفسه‬

‫‪ 1‬ـ تق ّوف فالناً يف املجلس‪ :‬أخذ عليه يف كالمه وقال له كذا وكذا‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ استهج فالن‪ :‬ركب رأيه فال يشاور أحداً‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ َب َّي َت األمر‪ :‬عمله لي ًال أو دبره لي ًال‪ .‬وكل ما فكر فيه أو خيض فيه بليل فقد ُب ِّيت‪.‬‬
‫أسف الرجل أي تتبع مداق األمور‪.‬‬ ‫أسف إىل مداق األمور بتشديد الفاء‪ :‬دنا‪ .‬ويف الصحاح ّ‬ ‫‪4‬ـ ّ‬
‫‪ 5‬ـ ر ّنق القوم يف األمر بتشديد النون‪ :‬خلطوا الرأي‪.‬‬
‫‪ 6‬ـ أقطع الرجل‪ :‬انقطعت حجته‪.‬‬
‫‪ 7‬ـ َغ َّل َطه‪ :‬قال له غلطت أو نسبه إىل الغلط‪ .‬وغالطه‪ :‬أوقعه يف الغلط وتغالطوا‪ :‬غالط بعضهم بعضاً‪..‬‬

‫‪47‬‬
‫وهو ال يرجو أن يرش َو القايض أو يدعوه((( أو يهدي له مأكوالً أو مرشوباً أو ملبوساً‪.‬‬
‫وال يأمل أن يخدعه بتباكيه أو يغفله بدهائه أو يستميله إليه ببيانه كبرياً كان أم‬
‫صغرياً‪ .‬إنَّ العباد يف الحق متساوون فال يبطل إال الطامع املكابر الذي أغواه طمعه أو‬
‫من به جنون أو علة‪ ،‬واملبطلون قليلون‪.‬‬
‫يرجع القايض من صالة الصبح األوىل إىل املحكمة فيقيض بني الخصوم إىل أن‬
‫يدنو وقت الصالة الثانية فيصيل ثم يذهب وقايض ال ّرب مع ُه إىل عيادة املرىض وافتقاد‬
‫العاجزين‪ ،‬فيمرضهم ويعالجهم ويالطفهم ويطلب إىل رفيقه أن يقدم إليهم كل ما‬
‫يعوزهم‪ .‬وبعد ثالث ساعات يعود إىل املحكمة ليفتي بنفسه املستفتني من العباد‪.‬‬
‫فإنَّ القايض عندنا هو الحرب والكاهن واإلمام الذي ُمني بحبورته وكهانته وإمامته‪.‬‬
‫وهو األستاذ والحاكم واملفتي والخطيب والطبيب واملصلح‪ .‬وهو الخادم الذي يخدم‬
‫الخليقة بأمانة والذي يستميت يف حبها من غري متييز وال تفضيل‪ .‬وهو أيضاً األب‬
‫الحنون الدائب يف تعزية الذين ُأنزل أقاربهم إىل األرض ومالطفتهم حتى ال يكون يف‬
‫الزهرة شاكٍ ال تدفع شكواه وال ُتزال‪ .‬فمن كان مضطراً مث ًال إىل عمل سعى له فيه‪،‬‬
‫وط ّيب قلبه ولهذا كله نكرم القضاة ونعظمهم ونحبهم محبة أعظم من أن توصف‬
‫بشفة ولسان‪ .‬وهم كلام عظموا ازدادوا تواضعاً ورغبوا يف الخدمة بفرح وابتهاج‪ .‬ال‬
‫يتأففون وال يتضجرون حتى أنهم ال يلمحون إىل أتعابهم‪.‬‬
‫يخاطبون العباد عىل اختالف طبقاتهم بكلامت رقيقة عذبة‪ ،‬فيشتهي السامع أن‬
‫ال يقطع القايض خطابه‪ ،‬فإنه كله نصائح وحكم وخطب أدبية تاريخية غري مملة ألنها‬
‫معقولة يرشبها الذوق ويأنس بها الصواب‪ ،‬فال نجد فيها غرابة نشك يف صدقها ألنَّ‬
‫علم القضاة غزير ومواد الكالم كثرية لديهم‪ ،‬فال يتوخون غريب الحديث وال يخانون‬
‫املعارضة فإنهم رصينون ال ينطقون عن الهوى‪ .‬يحاجون ويفحمون املعرتضني ألنهم‬
‫راسخون يف العلم‪.‬‬
‫ال ينتخبون إال من الرجال املجربني املوثوق بفضلهم ليعظموا يف عيوننا‪ ،‬فلو كانوا‬
‫دون غريهم باملعارف مل يعظموا‪ ،‬فإذا مل يعظموا مل يصلحوا لخدمة الدين والخليقة‬
‫ذلك ألنَّ القايض إذا كان جاه ًال حمل الج ّهال من الناس عىل االستخفاف بالدين‬
‫وجامعته‪.‬‬

‫‪ 1‬ـ دعا فالناً‪ :‬طلبه ليأكل عنده‬

‫‪48‬‬
‫إنَّ قضاتنا ال يرتجون((( ألنهم ال يعرفون التناوة((( ال نسمع لهم أصواتاً مرتفعة وال‬
‫يدعون أحداً إال بقولهم له‪« :‬يا حبيبي»‪ .‬ولكن هذا الدعاء مل يكن شفهياً لصدوره عن‬
‫قاض‪.‬‬
‫قلوبهم النقية الفائضة باملحبة‪ .‬كل واحد من الخليقة حبيب لكل ٍ‬
‫هنا قلت لوالدي‪ :‬إذا كانت هذه أعامل القضاة فهم ال يأمثون فلامذا أنزلك الله‬
‫قاض يف الزهرة؟ فقال‪ :‬اعلم أنَّ يف كل مدينة محكمة عمومية‬ ‫تعاىل إىل األرض وأنت ٍ‬
‫ً‬
‫مؤلفة من قضاة املدينة ومن بعض أعيانها الذين يسمون قضاة أيضا ألنهم يقضون‬
‫ويحكمون‪ .‬وهذه املحكمة يرأسها قايض قضاة املدينة‪ .‬أما غايتها فهي التدقيق يف‬
‫األمور الدينية والصحية واإلدارية املشكلة‪ ،‬أي لكل مدينة ثالث محاكم ألمور العبادة‬
‫والصحة واإلدارة (عدا املحكمتني الحقوقية والعقابية) فإذا أشكل عىل القضاة أمر‬
‫يف املحاكم الثالث وقفت عليه املحكمة العمومية ودققت فيه وحلته حاالً‪ .‬أما أنا‬
‫فقد عدوين من األعيان وانتخبوين عضواً كام تقولون أو قاضياً‪ .‬فرست ذات يوم إىل‬
‫(((‬
‫املحكمة فألفيت أحد القضاة قد سبقني وجلس يف كريس ألجلس بعده فلم أيارسه‬
‫يل األمر تكرباً مني وتجرباً‪ ،‬فعلمه قايض القضاة فأكربه وأعظمه‬ ‫وأسايره‪ ،‬بل عظم ع َّ‬
‫ووبخني توبيخاً غري شدي ٍد ألنه مأمور بالتوبيخ‪ ،‬فأذعن له رفيقي واستغفر الله من‬
‫ذنبه فعفا عنه‪ .‬أما أنا فعصيت قايض القضاة فارتكبت بهذا العصيان إمثني يف وقت‬
‫واحد‪ ،‬أي الكربياء واملعصية بتمردي عليه‪ ،‬فساقوين بأمره إىل محكمة العقاب فحكم‬
‫يل لشقايئ بأن ألبس جسم العار وأنزل إىل األرض وأعيش العيشة التي عرفتها‪.‬‬ ‫ع ّ‬

‫الفصل السادس منه‬


‫_ يف بعض الرؤساء باألرض _‬
‫قال والدي‪ :‬إين أرى اليوم بعض الرؤساء ال كلهم خالفاً ملا كانوا عليه باألمس‬
‫والبعض جزء من الكل‪ ،‬فرأيت أن أسرتسل((( يف الكالم عىس أن يظفروا منه بنصيحة‬

‫‪ 1‬ـ َت َ‬
‫رج الرجل‪ :‬أشكل عليه اليشء من علم أو غريه‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ التناوة‪ :‬ترك املذاكرة وهجر املدارسة‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ يارسه فالن‪ :‬أخذ يساره وفالناً الينه وساهله واليشء أخذه من جهة اليسار‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ اسرتسل يف الكالم‪ :‬انبسط فيه واتسع‪.‬‬

‫‪49‬‬
‫يستفيدونها فأقول لطالب الرئاسة‪ :‬إذا كنت زاهداً يف الدنيا راغباً عن لذاتها وشهواتها‬
‫الهياً عن مالهيها كارهاً للامل عاملاً عام ًال نشيطاً تقياً نقياً تفضل حب الناس عىل حب‬
‫ْ‬
‫وتفرغ‪ ،‬وإال فإنك تحمل‬ ‫نفسك‪ ،‬وإذا كنت متيناً ثابت الجنان‪ ،‬فتجرد لرئاسة الدين‬
‫أوزار العباد عىل عاتقك فيكون عقابك عظي ًام‪ .‬إذا ضللت كان ضاللك شديداً ألنك‬
‫تقود الخلق إىل الضاللة فيسألك الله تعاىل عنهم‪.‬‬
‫فتزوج‪ ،‬وال تكابر فإنَّ التزوج ملثلك خري من‬
‫ْ‬ ‫إذا كنت ال تصرب عىل قمع نفسك‬
‫«اللهم إين نذرت العفة والطاعة والفقر» ثم‬ ‫َّ‬ ‫التبتل((( وال تعد الله بأن تقول له‪:‬‬
‫تخلف وعدك‪ ،‬فإنَّ الرجل الصالح املتزوج الذي يعاين مصائب الدنيا ومشقاتها بصرب‬
‫هو أفضل من املتبتل املعتزل املنفرد بصومعته املنقطع عن إخوانه‪ ،‬ال يسأل عنهم‬
‫وال يساعدهم كأنه ليس من بني اإلنسان ال يهمه غري نفسه وال يحب سواها‪ ،‬وال‬
‫أقول ذلك أفضل من هذا فقط‪ ،‬بل أقول إنَّ الله ال يغفل عن عقاب هذا الكسالن‬
‫املبتول((( من اإلنسانية‪.‬‬
‫لو أدركت ما هي واجباتك التي أوجبها الله تعاىل عليك ألرعدت يوم تخلع‬
‫عنك ثوبك طائعاً مختاراً‪ .‬يوم تجرد نفسك من حب الدنيا عن حسن رىض منك‪ .‬يوم‬
‫تستأصل من قلبك كل شهوة‪ .‬يوم تلبس ذلك الثوب األسود ال حداداً عىل نفسك التي‬
‫أم ّتها بالزهد‪ ،‬بل حداداً عىل هذه النفس األمارة بالسوء وذلك إذا زغت أو كدت‬
‫تزوغ‪ ،‬فإنَّ من زاغ قلبه ال يأمن العثار بل الب َّد له من السقوط يف قلبه‪.‬‬
‫إين أخىش عليك أن تجعل ذلك الثوب لهالكك إذا مل تخدم الناس حق خدمتهم وإذا‬
‫غلبت حب نفسك وحب أقاربك عىل حبهم‪ .‬إذا اتخذت الرئاسة لتعظيمك وتعظيم‬
‫ذوي قرابتك‪ .‬إذا ألححت يف طلبها وإذا جعلت الناس يتعصبون لك وحضضتهم عىل‬
‫املناهضة يف التامسها وإذا غالبت أخاك ومكرت به وخطفتها منه‪.‬‬
‫قل يل‪ :‬كيف تلح وتحض وتعرض قومك لالضطراب وتحملهم عىل البغضاء التي‬
‫يكون معها خرابهم؟ أتعتقد أنَّ الله تعاىل يرىض عنك؟ إنك إذا اعتقدت هذا فقد كان‬
‫اعتقادك فاسداً‪ .‬إنك لتدرك أنَّ الله ال يرىض عنك إال أنك طمعت يف رحمته وعللت‬
‫نفسك بالتوبة بعد ذلك‪ .‬يا هذا إنَّ من تعمد اإلثم اليوم ليتوب عنه غداً فقد أثم‬

‫‪ 1‬ـ بتل إىل الله وتبتل‪ :‬انفصل وانقطع عن الدنيا وأخلص أو ترك الزواج وزهد منه‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ املبتول‪ :‬املقطوع‪.‬‬

‫‪50‬‬
‫مرتني إمثاً عظي ًام ال يغفل عنه الله تعاىل‪ .‬أتعتقد أنك تجيء شيئاً حسناً يعود عىل‬
‫قومك بالخري والفالح‪ ،‬عل ًام منك أنك أهل للرئاسة وأنك أوىل بها من غريك؟ إذ َّ‬
‫صح‬
‫دخلت مدخ ًال ينكره‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫اعتقدت ملا‬ ‫هذا فقد جهلت نفسك وقدرك ألنك لو كنت كام‬
‫َ‬
‫زهدت يف الرئاسة‬ ‫عليك األتقياء الورعون الذين رسخت يف قلوبهم محبة السالم‪ ،‬بل‬
‫متن عليهم بقبولها فإذا مل يجيئوك فقد نجوت‬ ‫حتى يجيئك الناس يلتمسون منك أن َّ‬
‫عىل األقل من ذل الخيبة‪.‬‬
‫اع َل ْم يا هذا أنَّ من طلب الرئاسة يف الزهرة فقد حرمت عليه‪ ،‬وأنَّ من اعتقد أنه‬
‫ليس بأهل لها اعتقاداً مقروناً بعلم وتواضع فقد صلحت له وصلح لها ألنه عرفها حق‬
‫معرفتها وأدرك ما وراءها مام مل تسبق إليه مدارك غريه‪ ،‬ومن يعتقد أنه جدير بها‬
‫فقد جهلها واستخف بها‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫ال تكن لرعيتك محبا غيوراً وأبا شفيقا بل كن لها خادما أمينا‪ .‬تدارك الفقراء‬
‫رق‬ ‫برأفتك يتداركك الله برحمته‪ .‬تدارك املرىض املعذبني املسجونني وأشفقْ عليهم‪ّ .‬‬
‫تلطف بهم‪ .‬خ ّف ْف عنهم مصائبهم وويالتهم‪ .‬ال تجتنبهم لوخامة مساكنهم‬ ‫ْ‬ ‫لهم‪.‬‬
‫وأوساخ ثيابهم بل نظفهم والزمهم‪ ،‬وال تشمخ بأنفك يف خدمتهم فإذا شمخت فقد‬
‫أصلح بينهم‪ .‬ال تقرص عن املواعظ والنصائح وال تتساهل يف‬ ‫ْ‬ ‫خرجت عن الدين‪.‬‬
‫تحريم الكبائر‪.‬‬
‫فأفتيت إفتاء كان فيه ضياع حق أو تقليل كرامة أو حاولت يف‬ ‫َ‬ ‫إذا استفتيت‬
‫إفتائك تحبباً وتزلفاً‪ ،‬فيا ويل نفيس ما أشدها جزعاً عليك من غضب الله تعاىل‬
‫وسخطه‪.‬‬
‫إذا عزمت أن تصلح بني الزوجني فاستمسك بقلبك ليفيض عدالً وحكمة‪ .‬إذا‬
‫غلبت حب املال عليك فقد تربأ منك الدين ألنك تجور عىل نفسك وعىل الناس وال‬
‫تنصفهم‪ ،‬ألنك تتخذ لك من دون الله وثناً تعبده‪ ،‬وألنك ترشك حب الدينار يف حب‬
‫الله‪ ،‬ومن تربأ عنه الدين يف مثل هذه الحالة يعاقبه الله عقاباً خصوصياً يف مدينة‬
‫التكفري‪ ،‬ولو أنه تاب يف األرض‪.‬‬
‫ال توعد وال تحقد وال تنتقم‪ .‬فإذا أوعدت وحقدت وانتقمت واتبعت هوى نفسك‬
‫يعاقبك موالك عقاباً خصوصياً‪ .‬إذا هابك الخلق باملحبة ومل يخشوك فأنت حكيم يغبطك‬
‫الناس‪ .‬ال تعرض نفسك للسقوط اعتامداً منك عىل ثباتك وقوتك ّ‬
‫فتزل بك قدمك وأنت ال‬
‫تدري حيث يصعب عليك بعد ذلك نهوضك أو حيث ال تستطيع النهوض‪.‬‬

‫‪51‬‬
‫شاور العقالء يف األمور واعتمد عليهم‪ .‬ال تسمع إىل أحاديث ّ‬
‫النممني واملغتابني‪.‬‬
‫امتحن نفسك‪ .‬فإذا كنت رشساً غضوباً ال تقوى عىل رد جامحك حني تغضب‬
‫فاجتنب الرئاسة ألنها تتربأ منك‪ .‬اجتنبها وال تغضب الله تعاىل عليك‪ .‬وإذا غلبتك‬
‫الرشاسة فجانب الناس ما استطعت لتخفيها عنهم‪ .‬كيف تقدم عىل الرئاسة التي‬
‫تحمل الحمقى‬ ‫تضطرك يف كل يوم إىل مخالطتهم ومصاحبتهم وخدمتهم‪ ،‬وإىل ّ‬
‫الجفاة األخالق منهم والصرب عىل غطرستهم وعجرفتهم‪ ،‬مع أنك قليل التحمل؟‬
‫إين ألعجب من اختيارك الرئاسة لنفسك كأنك واثق بها‪ ،‬تعتقد أنك قادر عىل‬
‫توسيع خلقك فتتحمل‪ ،‬بل أعجب من رئيسك الذي أقامك راعياً ورمبا عجبت‬
‫معي يف رسك أيضاً‪ ،‬إنَّ الله تعاىل سينتقم منه عن عباده انتقاماً شديداً خاصاً به‬
‫وحده‪ ،‬وذلك لعدم ترويه وتدقيقه التدقيق التام الكامل حني اختارك فغفل عن‬
‫حقيقتك‪ .‬وإذا كان قد تغافل عنها فهناك البالء األعظم الذي جره بيده عىل رأسه‪.‬‬
‫إنَّ من مل يضع األشياء يف محلها ومل يكن من الحكمة يف يشء فهو ومن اختاره يف‬
‫خَ َطاء عظيم‪ .‬إنَّ الرئيس الصالح يصلح قومه مدة قرن مث ًال أما الرئيس الفاسد فإنه‬
‫ام مني أين‬‫يفسدهم ثالثة قرون‪ .‬إنني كنت دعيت يف األرض إىل الرئاسة فأبيت عل ً‬
‫مل أكن خليقاً بها‪.‬‬
‫إذا كان الرئيس غري عامل فعليه أن ال يفتي وعليه أن ال يعتمد عىل نفسه يف‬
‫البحث عن املسائل املشكلة امللتبسة فإنَّ الجاهل ال يفهم دقائق املعاين‪.‬‬
‫ظن‬
‫إذا كان الرئيس ضعيف الربهان فال يجوز له أن يجادل‪ ،‬فإذا جادل وغلب َّ‬
‫وظن املجادل أنه كان عىل غري هدى من اعتقاده وهذا أمر‬ ‫مجادله أنه أصاب وفاز‪َّ ،‬‬
‫محرم ألنه ينشأ عنه ضالل مبني وتبدو منه فتنة عظيمة وافتتان يف الدين‪.‬‬
‫ليحبس نفسه عن مجالس الناس‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬
‫ويعتكف يف مكانه‪.‬‬ ‫لينز ِو الرئيس الصالح‬
‫العمومية والخصوصية (إال إذا دعت الرضورة) فيجد يف عيون الناس ويعلو كعبه‬
‫عندهم ويتفرغ إلجابة داعيه‪.‬‬
‫لقد رأيت بعضهم يجتمعون يف مجالس الطرب فيستخفهم حتى تهيج عواطفهم‪،‬‬
‫فيا حبذا لو أدركوا أنَّ مجالسيهم يستخفون بهم وينمون األحاديث عليهم‪.‬‬
‫إذا خافوا عىل نفوسهم أن تطالبهم برغائبها فليؤدبوها بالتقشف‪ .‬إين أتلطف‬
‫إليهم وأسألهم أن ال يعرض بعضهم قلوبهم الساكنة للتحريك لئال يضطروا إىل‬
‫ضغطها بعد هذا فيخىش عىل أبدانهم أن يؤثر فيها اإلكراه‪.‬‬

‫‪52‬‬
‫ال يرشبوا الخمور فإنَّ يف رشبها إمثاً وعاراً‪ .‬ليكن كالمهم أسمى من كالم الشعب‪.‬‬
‫لتكن أفواههم طاهرة مصونة ألنهم يخرجون منها كالم الله‪.‬‬
‫محظور عليهم أن يجاروا الناس يف كل أحاديثهم‪ .‬إنَّ كالم الرئيس يؤثر يف كثريين‬
‫من العباد‪ ،‬فعليه أن يتأمل ويرتوى ثم يتكلم ألنهم ينقلون حديثه ويحتجون به‪.‬‬
‫ال يرغب الرئيس كل الناس يف الوقف ويحرم الورثة‪ ،‬فلو اتبعوا رغائب أولئك‬
‫الرؤساء لجعلوا كل ما عىل األرض وقفاً فيميس الخلق كلهم يلتمسون خبزهم من‬
‫رؤسائهم‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫ال يكن الرئيس مشتتا لألفكار بتعسفه مفرقا للجامعات منفرا مهيجا‪ ،‬فإنه ر ٍاع‬
‫صالح‪ .‬ليتصدق عىل كل املحتاجني فإنه ال يجوز له أن يختص بنفسه فقراء‪.‬‬
‫لينبه الرئيس كل رئيس غفل عن واجباته وذلك برقة وحسن إشارة‪ ،‬فإذا مل ينتبه‬
‫فلينصحه ويوبخه رساً ال جهراً‪ .‬ال يكف عن توبيخه ألنه إذا زل ترك الناس كبائرهم‬
‫ومتسكوا بهفوته‪ ،‬ورمبا عابوا به كل الرؤساء ولو كانوا منزهني عن العيوب إجامالً‪.‬‬
‫وغاية ما أقول إنه خري له أن يكون عىل حذر وانتباه‪ ،‬ال يغفل عن نفسه‪ ،‬وأن يجعل‬
‫منها عليها رقيباً لئال تغلبه الشهوات فتستعبده املشتهيات‪.‬‬
‫إين أنصح الواعظني الذين يصعدون يف املنابر ينهون عليها ويأمرون وينصحون‬
‫ويحذرون أن يعمل كل منهم بنصيحة واحدة من كل عظة يلقيها‪ ،‬فإذا عمل ضمنت‬
‫له الجنة‪.‬‬
‫يا أيها الرؤساء العظامء إين أحمل إليكم سالم قضاة الزهرة وأبرشكم بأنهم‬
‫يتحدثون بأعاملكم الصالحة‪ ،‬فرسوا وابتهجوا واغفروا للذين يسيئون إليكم فإنهم ال‬
‫يعلمون من أنتم‪ ،‬أنتم حسنات األيام والليايل‪ ،‬أنتم الذين ريض الله تعاىل عنهم فأسبغ‬
‫عليهم بنعمه وبركاته فخففوا بها مصائب سكان األرض وويالتهم‪.‬‬

‫الفصل السابع منه‬


‫_ يف خطيئات سكان الزهرة _‬
‫قلت لوالدي‪ :‬ما هي خطيئات سكان الزهرة؟ أال تريد أن تقول ما هي؟ ألعلهم‬
‫ال يؤمنون بالله سبحانه وتعاىل؟ أليس من الواجب أن يؤمنوا أكرث منا؟ أسألك هذا‬
‫وأسألك أيضاً أن ال تعرض عن سؤايل وأن ال تنفر مني‪ .‬أنت تعلم أين ال أستطيع إال أن‬

‫‪53‬‬
‫ألح عليك مع أنني أكره اإللحاح‪ .‬إنني ال أسألك من نفيس فكأين مبلقن يلقنني السؤال‬
‫ويحضني عىل إلقائه‪ .‬فأجاب‪ :‬اعلم يا ولدي وفلذة كبدي وتأكد أننا ال نصادف يف كل‬
‫الزهرة نفساً واحدة ال تؤمن بوجود الله تعاىل‪ .‬إننا نشعر بقوته ومجده وندرك شيئاً‬
‫من حكمته كأننا نراه بعيوننا‪.‬‬
‫أما الخطيئات التي تكرب عندنا فهي الكربياء والحسد واالعرتاض عىل األحكام‬
‫العقابية‪.‬‬
‫فقلت له‪ :‬لقد ذكرت يف الكالم عن املالهي ما يأيت «ال ينظر الرجل إىل غري امرأته‬
‫وال تنظر الزوجة إىل غري زوجها إال ما ندر»‪ .‬فكيف يصدر مثل ذلك منكم ولو نادراً؟‬
‫أليس بعجيب منكم أن ينظر البعل((( إىل غري بعله مع سعة مداركه ومعرفته أنه‬
‫يعاقب عقاباً شديداً ال تقبل فيه له شفاعة وال ندامة بل ينزل حاالً إىل األرض؟‬
‫فقال‪ :‬اعلم أنَّ يف الزهرة ُح ْسناً يقام له ويقعد‪ ،‬وجامالً يستعبد األحرار‪ ،‬وبهاء‬
‫يسرتق العقول ويسلبها مداركها‪ ،‬ووضاءة تهيج البالبل‪ ،‬ومالحة ترقص القلوب يف‬
‫الصدور‪ ،‬ونضارة تشخص لها األبصار‪ .‬وبضاضة تحرك الساكنات وتسكن املتحركات‪.‬‬
‫ورشاقة تهفو بها األفئدة‪ ،‬وظرافة تذوب منها حبات القلوب‪ ،‬وكياسة تقول احفظ‬
‫نفسك يا أيها املتعبد‪ ،‬وبهجة تقول أغمض عينيك يا أيها املتبتل وإال افتتناك‪ ،‬وطالوة‬
‫يف كالم تقول لها األسامع لقد شنفتنا تشنيفاً‪ ،‬وغنة تطرب الجامد فيقول رفقاً يب فقد‬
‫أشجاين الحنني‪ ،‬ونباهة وفطانة ورزانة ورصانة وفصاحة وبالغة وكل ما يحبس اللسان‬
‫عن البيان وليس الخرب كالعيان‪.‬‬
‫فمن تاب منكم توبة صادقة كاملة رجع إىل الزهرة وتذكر فيها كل ما نسيه ووعى‬
‫ببصريته وأبرص بعينيه‪ ،‬وسمع بأذنيه‪ .‬فإذا مل ينتبه الناظر منا لنفسه ويستمسك‬
‫اللهم صني واحفظني فإين ال أريد أن أعرث‪ ،‬نيس العقاب وأضاع‬ ‫بقلبه‪ ،‬وإذا مل يقل َّ‬
‫جل جالله ع ّد له ذلك حسنة‪ ،‬و ُر َّب‬ ‫الصواب وسقط‪ .‬وإذا استمسك واستعان بالله ّ‬
‫حسنة واحدة دفعت سيئات‪ ،‬إنَّ الله عادل رحيم‪.‬‬
‫قال‪ :‬فتفرغ كثري من القضاة الذين هم من الطبقة األوىل للعلوم والفنون فربعوا‬
‫وفاقوا يف االخرتاع ويف كل يشء أولئك املتسامني املستكربين الذين كادوا يقعون يف‬
‫اآلثام بصلفهم‪ ،‬فتواضع كثري منهم بعد ما علموا أنَّ العلم غاية ال تدرك وأنَّ لكل‬
‫‪ 1‬ـ البعل‪ :‬الزوج‪ .‬وقيل ال يسمى الرجل بع ًال حتى يدخل بامرأته وهو زوج عىل كل حال واألنثى بعل أيضاً‬
‫وبعلة‪.‬‬

‫‪54‬‬
‫مجتهد فيه نصيباً وافراً منه فال يستطيع أحد أن يستأثر به‪.‬‬
‫فقل الحسد‪ .‬وأخذوا يثبتون للخلق‬ ‫وسعى القضاة يف تعميم كثري من املشتهيات َّ‬
‫أنَّ التشديد يف العقاب خري لهم من التخفيف‪ ،‬وأنَّ الله سبحانه وتعاىل يعاقبهم رأفة‬
‫بهم‪ .‬وقد أمر القضاة مبنع كرثة التزاور وحظروا عىل الخليقة االجتامعات التي يخىش‬
‫منها تعريض القلوب للمهيجات‪ .‬وقالوا إنَّ البطالة إثم وعار فكل باهل((( مكروه‬
‫فيجب اجتنابه ولو أنه ترك شغله ساعة واحدة‪.‬‬

‫الفصل الثامن منه‬


‫_ يف األحكام الحقوقية _‬
‫قال والدي‪ :‬يف كل محلة يف الزهرة محكمة حقوقية لها قاض واحد‪ .‬فإذا كانت‬
‫الدعوى من الدعاوي الحقوقية العادية واملديون َي ْح َر ُك((( ويأىب تربئة ذمته‪ ،‬شكاه‬
‫الدائن إىل عاقل املحلة وشيخها‪ ،‬وهو غري قايض املحكمة‪ ،‬فينصحه‪ ،‬فإذا أرص ومل‬
‫ينتصح قال له الدائن‪ :‬لنذهب إىل القايض‪ .‬فإذا امتنع عن الذهاب شكاه إليه فيحرضه‬
‫ويعده متمرداً يستوجب املعاقبة‪ .‬فينظر أوالً يف الدعوى الحقوقية‪ ،‬فإذا أق ّر مبا يطلب‬
‫منه حكم عليه بتوفية الحق‪ .‬فإذا مل يكن مقتدراً وكان الدائن محتاجاً ع ّوض له‬
‫القايض من مال الرب حاالً‪ ،‬وأمهل املديون إىل يوم إيساره ثم أرسله إىل محكمة العقاب‬
‫لتنظر يف دعوى التمرد وتحكم عليه يف الحال‪.‬‬
‫فإذا أنكر املدعى عليه الدين وقال للقايض‪ :‬هذا املدعي ِع ْر ٌض مبطل يكذب‬
‫(((‬

‫عليك‪ ،‬كانت الدعوى عقابية أكرث من كونها حقوقية‪ ،‬فيعجب القايض والحارضون من‬
‫ذلك اإلنكار الغريب‪ ،‬ألننا نعد الكذب وإبطال الحق كله وإنكاره جميعه أو بعضه‬
‫جناية ال تصدر غالباً إال عن اختالل يف الشعور واعتالل يف البدن‪ .‬فيأمر القايض فتحرض‬
‫آلة تشبه آلة الخياطني نسميها بالفاحص متتحن املخلوق‪ ،‬فإن كان فيه جنون أو علة‬
‫أخرى أعربت عنها وذلك بأن يجلس أمامها ويسند إليها يديه فتفوه بالحقيقة‪ .‬فإذا‬

‫‪ 1‬ـ الباهل‪ :‬املرتدد بال عمل‪.‬‬


‫‪ 2‬ـ حرك‪ :‬امتنع من الحق الذي عليه‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ رجل عرض‪ :‬يعرتض الناس بالباطل‪.‬‬

‫‪55‬‬
‫أنصع للحق((( قبل أن يسندهام واستغفر خ ّف ْت جنايته‪ ،‬فيساق إىل املحكمة العقابية‬
‫بعد الحكم بالدعوى الحقوقية وبعد التحصيل أيضاً‪ .‬فإذا أسند يديه وأفصح الفاحص‬
‫عن االختالل واالعتالل‪ ،‬أقام له القايض وصياً وأرسله إىل دار الشفاء‪ ،‬ثم حقق الدعوى‬
‫وحكم عىل الويص بأن يويف الدائن حقه من مال املديون إذا كان مقتدراً وإال َع َّو َض‬
‫للدائن مع اإلمهال‪.‬‬
‫فإذ كان املدعى عليه صحيح العقل ال اختالل فيه وال اعتالل‪ ،‬أمر القايض فتحرض‬
‫آلة أخرى اسمها املحقق‪ ،‬فيجلس أمامها ويسند يديه إليها أيضاً فتعرتف عنه بالحقيقة‪.‬‬
‫فإذا كان غري مديون كرمه القايض وتركه وعرض املدعي عىل الفاحص‪ .‬فإن كان فيه‬
‫اختالل واعتالل أرسله إىل دار الشفاء‪ .‬وإن كان صحيحاً أرسله إىل محكمة العقاب‪.‬‬
‫فإذا كان املدعى عليه مديوناً حكم عليه باإليفاء أو اإلمهال كام تبني لك وسيق إىل‬
‫املحكمة العقابية‪ .‬فإن كان مديوناً بيشء واملدعي ادعى بأكرث منه حكم عىل املديون‬
‫وسيق االثنان إىل املعاقبة‪.‬‬
‫غري أنَّ اإلنكار واإلبطال والكذب من األمور القبيحة النادرة الوقوع‪ ،‬وأندر منها‬
‫الجسارة عىل الجلوس أمام الفاحص فاملحقق‪ ،‬وهام من اخرتاعاتنا الغريبة املفيدة‪،‬‬
‫فإنَّ الحاكم يستغني بهام عن الصكوك وعن اإلطالة يف التحقيق والتدقيق فال يتحري‬
‫يف كشف الحقائق وال ُيظلم أحد بتزوير خفي‪ .‬ال تحليف عندنا وال حلف‪.‬‬
‫إ ّال أنَّ الدعاوى الحقوقية عندنا قليلة ألنَّ الخلق يستملئون يف الديون غالباً‪،‬‬
‫أي يجعلونها يف أهل ثقة‪ ،‬وهم األغنياء املوثوق بأماناتهم الذين يرصفونها يف سبيل‬
‫االخرتاعات التي يحصل بها ما يرصف عليها‪.‬‬
‫ال يثقل الدين رج ًال وال يبلغ به مشق ًة فيعجز عنه‪ ،‬ولذلك ال يقول قائل‪ :‬لقد‬
‫أوقرين((( ديني وبهظني(((‪.‬‬
‫نحن ال نعرف املحارضة‪ ،‬وهو أن يغالبك مث ًال أحد عىل حقك فيغلبك عليه‬
‫ويذهب به مغالب ًة أو مكابرة‪.‬‬
‫يل يف اقتضاء الدين‪ .‬وال يقول‪:‬‬ ‫مل ن َر الدائن َت َّكك عىل الغريم فيقول هذا يلح ع َّ‬

‫‪ 1‬ـ أنصع للحق‪ :‬أي أقر به‪ .‬وقيل نصع بالحق وأنصع‪ :‬أقر به وأدّاه‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ أوقر الدين فالناً‪ :‬أثقله‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ بهظ ُه األمر‪ :‬غلبه وثقل عليه وبلغ به مشقة وعجز عنه‪.‬‬

‫‪56‬‬
‫يا أيها الرجال تأملوا كيف يلبيني‪ ،‬انظروا كيف يخاصمني وقد جعل ثيايب يف عنقي‬
‫وصدري وقبضتي وجرين‪ .‬انظروا كيف يعتلني(((‪ ،‬أما أبرصمتوه جرين جراً عنيفاً‬
‫وجذبني وحملني؟‬
‫ً(((‬
‫وال يقول ليست ْدم ‪ ،‬وليكن مستدميا لريفق يب‪ ،‬وليكن الذي يستخرج دينه من‬
‫(((‬

‫لدي ما أكتفي به من‬‫غرميه بالرفق‪ .‬ال تدعوه يذهب يب إىل القايض فإين معرس ليس َّ‬
‫العيش‪.‬‬
‫وال يقول إنني أستنظره أي أطلب اإلمهال‪ .‬ما رضه لو طلب حقه يف مهلة؟ أمل أقل‬
‫له صرباً فتأخذ حقك مسمطاً‪ ،‬تأخذه سه ًال مجوزاً نافذاً؟ أمل أقل له حقك ناصع واضح؟‬
‫وال يقول إنني ذرعت مباله أوالً أي أقررت به ومل أنكره‪ .‬مل أط ّرق بحقه مل أجحده‬
‫ومل أقر به بعد ذلك‪.‬‬
‫َّ‬
‫وال يقول كام تقولون ماذا يبتغي مني هذا‪ ،‬لقد كان له عيل دين فأديته‪ .‬إنني‬
‫براء مام يدعي‪ .‬هذا كاذب يجيء بالباطل إىل غري هذا من القال والقيل‪ .‬ثم قال‬
‫والدي‪ :‬نحن سكان الزهرة مأمورون بتأييد الحق‪ ،‬نحن راضون بحقوقنا‪ ،‬راضون مبا‬
‫قسم الله تعاىل لنا‪ .‬من نرص منكم يف األرض محقاً عىل مبطل فقد جعله الله قاضياً‬
‫يف الزهرة‪.‬‬

‫الفصل التاسع منه‬


‫_ يف العقاب _‬
‫قال والدي‪ :‬يظهر لنا نحن سكان الزهرة أننا نرى ونسمع ما أنقله إليك‪ .‬يساق‬
‫الجاين إىل ساحة العقاب وهي م ّتسعة جداً ال ُيرى أوسع منها‪ ،‬فيسمع الخلق كلهم‬
‫أينام كانوا رعداً قاصفاً هائ ًال مرعباً ويبرصون الزهرة وكل من عليها يتألأل بنور يكاد‬
‫جل جالله فيطرقون وهم يستغفرونه‬ ‫يخطف األبصار‪ ،‬وهو نور العدالة من عند الله ّ‬
‫عز ثناؤه بجوارح خاشعة وقد دهشوا هيبة ووقاراً‪ ،‬وبعد نحو دقيقة والعباد عىل‬

‫‪ 1‬ـ عتله‪ :‬أخذه مبجامعه وجره عنيفاً فحمله‪.‬‬


‫‪ 2‬ـ استدام غرميه‪ :‬رفق به‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ املستدمي‪ :‬الذي يستخرج من غرميه دينه بالرفق‪.‬‬

‫‪57‬‬
‫ما وصفت يسمعون صوتاً جهورياً عظي ًام مهيباً ترتعد منه الفرائص وترتجف األبدان‬
‫رعباً وهلعاً من خشية الله ذي العظمة والجالل‪ ،‬حتى تكاد القلوب تنخلع والعقول‬
‫تضطرب فيرصخون بصوت واحد‪« :‬ارحمنا يا أيها اللطيف بعباده» ويخرون لوجوههم‬
‫ثم يصغون ليسمعوا حكم الله العادل وهو هذا‪:‬‬
‫«لقد حكمنا عليك يا أيها العايص بأن تخرج نفسك من جسدك هذا‪ ،‬وبأن تقل‬
‫مداركها وتنزل يف صلب الرجل الفالين‪ ،‬فرحم املرأة الفالنية من بني آدم يف بلد كذا‬
‫من الكرة األرضية وحالة كذا‪ ،‬فتلبس ذلك الجسم جسم العار غري ذاكر أنك من سكان‬
‫الزهرة وأنك كنت فيها سعيداً‪ .‬وقد جعلنا لك هذا النسيان رأفة منا بك‪ .‬فإذا عشت يف‬
‫الصالح والفضيلة أعدناك إىل هنا باحتفاء وذلك بعد انقضاء أيامك يف األرض‪ ،‬ومحونا‬
‫عنك العار الذي لبسته مبعصيتك فال يعريك أحد لبسه‪ ،‬فإذا أمثت ثانياً ضاعفنا عقابك‬
‫وأعدناك إىل األرض‪ .‬فإذا عشت يف الصالح وأمتمت أيامك فيها بالفضيلة رجعناك إىل‬
‫الزهرة من غري احتفاء‪ ،‬ومن دون أن تدخل املدينة العظمى مدينة القضاة ولو كنت من‬
‫سكانها‪ .‬فإذا داومت عىل اإلثم يف الزهرة ومتاديت ضاعفنا عقابك وأعدناك إىل األرض‬
‫ثالثاً‪ ،‬فإذا أمتمت أيامك بالصالح والفضيلة سمحنا لك بأن تدخل الزهرة‪ ،‬غري أننا نغلق‬
‫يف وجهك باب املدينة العظمى ونرتك عليك سمة العار‪ .‬فإذا أبيت إال اإلرصار عىل غيك‬
‫ومتاديت فيه سجناك يف زحل‪ ،‬حيث ال تكون مدتك أقل من خمسمئة سنة تكابد فيها‬
‫العذاب األليم‪ .‬وبعد انقضاء سنيك نرسلك إىل املريخ‪ ،‬ال تدخل الجنة فتكون يف منزلة‬
‫حقرية‪ .‬فإذا مل تعش يف األرض بالصالح والفضيلة غري أنك إذا تبت قبل انقضاء مدتك‬
‫رجعناك بعد انقضائها إىل الزهرة من دون احتفاء رافعني عنك سمة العار‪ ،‬إال أنك ال‬
‫تسكن املدينة العظمى إن كنت لست من أهلها فتقيم بوطنك إىل أن يتم عمرك‪،‬‬
‫فرنسلك إىل الجنة ولكنك ال تجلس مجالس الذي أطاعوا ومل يعصوا‪ .‬فإذا رجعت إىل‬
‫املعايص أعدناك ثانياً وثالثاً إىل األرض نضاعف عقابك يف املرتني‪ ،‬ثم نرسلك إىل زحل إذا‬
‫مل ترع ِو عن غيك كام أعلنا لك‪ .‬فإذا أمثت يف األرض وتبت قبل أن تتم أيامك وكانت‬
‫توبتك غري كاملة أرسلناك إىل مدينة التكفري يف القمر‪ .‬فإذا عشت فيها تقياً نقياً ك ّفرنا‬
‫عن آثامك وعفونا عنك وأعدناك إىل مدينتك قبل نهاية مدتك‪ ،‬فتدخلها باحتفاء فاتحني‬
‫أمامك أبواب املدينة العظمى إذا كنت من سكانها بعد أن منح َو عنك عالمة العار‪ ،‬وإال‬
‫فال نعفو فتقيم إىل أن تتم مدتك‪ .‬فبعد نهايتها نعيدك إىل الزهرة ال يحتفى بك وال متحى‬
‫عنك سمة العار‪ ،‬ولن تدخل املدينة العظمى‪ ،‬فإذا أمثت يف األرض ومت ومل تتب ومل تتربأ‬

‫‪58‬‬
‫ذمتك بالرد والتعويض أرسلناك إىل زحل ثم املريخ ال تدخل الجنة كام أفصحنا لك»(((‪.‬‬
‫هنا قال والدي‪ :‬إين ألعرتض عىل نفيس عنك فأقول إنَّ األثيم يحكم عليه بأن ينزل‬
‫إىل األرض ويقيم بها ويعود كام علمت‪ ،‬ومن املعلوم أنَّ الله تعاىل يجعله فيها ضعيفاً‪،‬‬
‫تؤثر فيه املؤثرات وتهيجه املهيجات‪ ،‬فيأثم بضعفه إمثاً يستوجب به السجن يف زحل‬
‫فيقع يف عقاب ثان أشد وأقوى من األول مل يعينه الله بحكمه يف الزهرة ومل يعلنه‪،‬‬
‫فهل من العدالة أن يضاعف عقابه بعد تعيينه؟ فأرد وأقول إنَّ هؤالء املحكومني‬
‫الذين يرسلون إىل األرض ثانياً وثالثاً والذين يسجنون يف زحل هم الذين كانت آثامهم‬
‫يف الزهرة كثرية فاستوجبوا السجن فيه‪ ،‬إال أنهم مل يكونوا من القتلة فرفق الله تعاىل‬
‫بهم وأمر فأرسلوا برأفة منه إىل األرض لعلهم يتوبون فيها‪ .‬فمنهم من يتوب ويعود‬
‫إىل الزهرة فينجو برفق الله ورحمته من عذاب زحل األليم‪.‬‬
‫قال‪ :‬فحينام ينتهي إعالن الحكم ينقطع الصوت ويغيب ذلك النور فيقف الخلق‬
‫فيبرصون نفس املحكوم تخرج منه يف هيئة أفعى تسقط وتتوارى فيبقى الصدى(((‪،‬‬
‫فيأمر قايض املحلة أهل املحكوم بأخذه وحفظه‪ ،‬فإن مل يكن له أهل فريفع إىل محل‬
‫ُأع َّد له ثم ينرصف الحارضون‪.‬‬
‫إنَّ املديون الذي ال يستطيع الدفع إذا حكم عليه باإلنزال إىل األرض يدفع عنه‬
‫قايض الرب‪.‬‬
‫أما الذي يتسبب بإغاظة غريه ويهيجه إىل الرش فيعاقب‪ .‬وأما مدة الحكم فهي‬
‫اليوم من دقيقة واحدة إىل مئة وتسعني سنة‪ .‬فاملحكوم عليه بدقيقة يقضيها يف‬
‫الرحم ويسقط منه ويعود إىل الزهرة‪ .‬ومن املحكومني من يحكم عليهم بالسقوط‬
‫إىل األرض وفيهم حياة فيتمون أيامهم ثم ميوتون ويعودون‪ .‬عىل أنَّ الذين ميوتون يف‬
‫األرحام قبل أن يخرجوا منها هم الذين كانت خطيئاتهم صغرية‪.‬‬
‫تعي يف الحكم كام سبق الكالم‪ ،‬فمنهم من يحكم‬ ‫هذا وإنَّ أماكن املحكومني ّ‬
‫عليهم باإلنزال إىل جهات حارة ومنهم إىل أنحاء باردة ومنهم إىل معتدلة ومنهم من‬

‫‪ 1‬ـ لقد أشار عيل بعض األمئة األفاضل بان أكتب ما يأيت‪ :‬اعلم يا أيها القارئ اللبيب أنني لست ممن‬
‫يقولون مبذهب التقمص أو التناسخ أو خلق النفوس قبل األجساد وقد أحلت هذا الجسم البايل لالقتصاص‬
‫منها‪ .‬فكل ما مير أمامك مام ال يطابق الدين القويم إن هو إال خواطر شعرية سانحة و ُر َّب شعر يف نرث ونرث‬
‫يف شعر‪ .‬واملقصود منها تهذيب األخالق وتفكهة القارئني‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ الصدى‪ :‬جسد اإلنسان بعد موته‪.‬‬

‫‪59‬‬
‫يحكم عليهم بأن يولدوا ويعيشوا يف الفقر أو يف الغنى‪ .‬ومنهم من يحكم عليهم بأن‬
‫تحسن حالهم‪ .‬ويكرث مالهم‪ ،‬ومنهم من يحكم عليهم بأن تنحط حالهم‪ ،‬ويقل مالهم‪،‬‬
‫ويضيق عليهم معاشهم‪ ،‬ويضعفوا ويذهب ما يف أيديهم ويحتاجوا ويخرسوا ويفتقروا‬
‫وترث هيئتهم وتسوء حالهم‪ .‬ومنهم من يحكم عليهم بأن‬ ‫ويلصقوا بالرتاب من الفقر‪ّ .‬‬
‫يستغنوا بعد فقر‪ ،‬أو أن يذلوا بعد عز ويفتقروا بعد غنى‪ .‬ومنهم من يحكم عليهم‬
‫بأن يولدوا يف العز أو يف الذل‪ ،‬يف الشقاء أو شبه السعادة ألنه ال سعادة يف األرض‪.‬‬
‫ومنهم من يحكم عليهم بالعقم ومبعاناة املصائب واملكاره الظاهرة أو الخفية‪ .‬منهم‬
‫من يحكم عليهم بالعمى أو العور أو العرج أو الشلل أو الصمم أو بالعمى والشلل‬
‫والصمم معاً مث ًال‪ ،‬ونحو ذلك ما يصيب اإلنسان أياماً وأوقاتاً معين ًة ومختلف ًة بحسب‬
‫الجرم‪ ،‬أي إنَّ بعضهم يولدون عمياً عوراً عرجاً َكتِعني ش ًال‪ .‬وبعضهم يعاقبون بعد‬
‫والدتهم بالعمى أو العور أو العرج ونحو ذلك‪ ،‬أو بعلتني وعاهتني أو بثالث أو بأكرث‬
‫يف وقت واحد‪ .‬غري أنَّ الله تعاىل ال يعاقب باألمراض العادية الخصوصية‪ ،‬وال باملوت‬
‫العمومي الدنيوي (ما خال العقاب املوقوت كام سيجيء) وال يعاقب بالجرح والقتل‬
‫والسلب والتعذيب ونحوها ألنه نهى عنها‪ .‬والحاصل أنَّ أحوال اإلنسان والتغيريات‬
‫التي تطرأ عليه ما خال ما استثنى منها‪ ،‬كلها بحكم الله‪.‬‬
‫قال‪ :‬ومن املحكومني من يولد عىل هيئتي أبيه وأمه معاً‪ ،‬أو عىل هيئة أحدهام‬
‫فيكون نجلهام يف الزهرة أو نج ًال لواحد منهام‪.‬‬
‫ومن املعلوم أنَّ بني آدم يختلفون بعقولهم وهم من عرق واحد عىل ما تقولون‪،‬‬
‫فاألخ يختلف عن أخيه ذلك ألنَّ أحدهام ذيك واآلخر أبله‪ .‬أو يختلفون يف طباعهم‬
‫وحل ذلك هو أن كل واحد منهم من نسل‬ ‫وبعض ألوانهم‪ ،‬أو يختلفون يف كل يشء‪ُّ .‬‬
‫الزهرة‪ ،‬فمن كان عاق ًال فيها وإن دين عقله حني خروج نفسه من جسمه وإنزاله إىل‬
‫األرض‪ ،‬فهو بالطبع ميتاز عن الجاهل الذي دين عقله أيضاً‪ ،‬وقس عىل هذا غريه‪.‬‬
‫أما األنبياء والرسل فإنهم ينزلون إىل األرض وهم أبرار أطهار وذلك رحمة‬
‫للعباد‪ ،‬ينزلون طائعني مختارين ويلبسون برضاهم الجسم اآلدمي‪ .‬ينزلون ويقاسون‬
‫التعذيب والقتل والذل وخصوصاً التكذيب الذي هو أصعب يشء عليهم‪ .‬وهم ال‬
‫يكونون إال من رؤساء القضاة‪.‬‬
‫وبعد نهاية مدة نبوءتهم ورسالتهم يعودون إىل مدينة القضاة يف الزهرة بأبهة‬
‫وإجالل من عند الله‪ ،‬يقول فيهام الواصفون إننا لعاجزون عن وصفهام‪ ،‬ولو اجتمعت‬

‫‪60‬‬
‫بالغة البلغاء وفصاحتهم يف كالمنا فإنَّ مجد الله ميأل الزهرة فيتألأل كل ما عليها‬
‫ويبتهج الخلق ابتهاجاً مدة ثالثني يوماً‪ ،‬فينقل ذلك النبي أو الرسول مبركبة برقية إىل‬
‫الجنة فيجلس بني يدي الله تعاىل‪.‬‬
‫إنَّ الذين يعذبون من األنبياء والرسل ويقتلون ميتازون عن سواهم مبجد أعظم‬
‫من مجدهم‪.‬‬
‫ً‬
‫أما امللوك فإنهم من أعاظم رجال الزهرة املحكومني أيضا‪ ،‬فإذا عاشوا يف صالح‬
‫وفضيلة وعدلوا ومل يقرصوا يف واجباتهم نحو الرعايا‪ ،‬عادوا بعد انقضاء أيامهم إىل‬
‫الزهرة بأبهة فيقيمون باملدينة العظمى سبعة أيام ثم يرسلون مبركبات خصوصية‬
‫إىل الجنة‪ .‬غري أنهم ال يساوون األنبياء والرسل بالعظمة واإلجالل فيجلسون بعدهم‪.‬‬
‫فإذا جاروا وظلموا أو طغوا أو عصوا وخالفوا ومل يضعوا األشياء يف محلها ومل يرعوا‬
‫الرعايا حق رعايتها‪ ،‬عوملوا معاملة سائر سكان الزهرة الذين أنزلوا إىل األرض من غري‬
‫امتياز‪ ،‬فكل واحد منهم يعاقب بحسب أعامله‪ ،‬وأما رسورهم األريض وكدرهم فإنهام‬
‫ناجامن عن أعامل رعاياهم أوالً ثم عن أعاملهم ثانياً‪ ،‬فإذا أدرك امللك الفساد وتدارك‬
‫األمة وأصلحها فقد أصلح نفسه معها وعاشوا جميعاً عيشاً هنيئاً رغيداً بقدر اإلمكان‪.‬‬

‫الفصل العارش منه‬


‫_ يف القتل العدواين _‬
‫قال والدي‪ :‬إنَّ الله تعاىل جعل جرمية القتل أعظم وأفظع من سائر الجرائم‪ ،‬ألنه‬
‫ّ‬
‫جل جالله خلق عباده لينموا ويكرثوا فال يسمح ألحد بأن مي ّد يده إليهم بأذى‪ .‬وألنَّ‬
‫القتل يخالف قاعدة كربى من قواعد الدين وهي املحبة‪ ،‬وعليه فلم نسمع منذ قرون‬
‫بحادثة قتل أو جرح يف الزهرة والقمر‪.‬‬
‫إنَّ القاتل الذي يعزم عندنا عىل القتل ويرتكبه ولو مدة نصف ساعة قبل وقوعه‪،‬‬
‫يرسل حاالً إىل زحل حيث ال تكون مدة سجنه أقل من ألف سنة‪ ،‬وبعد ذلك يرسل إىل‬
‫املريخ من غري أن يدخل الجنة‪ .‬فيا ويل نفوس أقاربه وأصدقائه ما أشدها حزناً عليه‬
‫وخج ًال منه! والذي يصمم عىل القتل ويقرتفه وهو يف األرض يرسل بعد انقضاء أيامه‬
‫فيها إىل زحل ومدة سجنه ال تكون أكرث من ألف سنة‪ .‬فإذا تاب وندم وكانت توبته‬
‫كاملة وندامته تامة فال يعفى من سجن زحل‪ ،‬إال إنَّ سنيه فيه أقل من سني الذي‬

‫‪61‬‬
‫ال يتوب وال يندم‪ .‬ويشرتط يف توبة القاتل النادم أن يساعد ما استطاع عيال القتيل‪.‬‬
‫أما القاتل املتهور غري املصمم‪ ،‬فإذا تاب يف األرض وندم توبة وندامة كاملتني‬
‫تامتني‪ ،‬وساعد الذين كان يعولهم املقتول بقدر استطاعته‪ ،‬فيسجن بعد ميض أيامه‬
‫يف مدينة التكفري مدى ال تقل عن مئة وخمسني سنة‪ ،‬يرسل بعدها إىل الزهرة من‬
‫غري احتفاء ومن دون أن يدخل مدينة القضاة ولو كان من سكانها‪ ،‬وتبقى عليه سمة‬
‫العار‪ .‬والساعي يف القتل واملحرض عليه واملشارك فيه هم جميعاً بحكم القتلة‪ .‬والذي‬
‫يكرر القتل يزاد عقابه يف كل مرة ضعفني‪ .‬والذي يعزم عىل القتل فال يقوى عليه ع َّد‬
‫من القتلة غري املصممني‪ .‬والذين يعذبون ثم يقتلون يضاعف عقابهم‪.‬‬
‫الفصل الحادي عرش منه‬
‫_ يف القتل الديني _‬
‫قال والدي‪ :‬إنَّ من الجنايات الفظيعة التي يتأسف عىل ارتكابها سكان الزهرة‬
‫ويعجبون من اإلقدام عليها ويتأملون منها تأملاً شديداً عظي ًام جناية القتل الديني‬
‫(حسب اعتقاد كثريين من األمم) ذلك أن يفتك اإلنسان مبن مل يتدين بدينه‪ ،‬ويعد‬
‫هذا الفتك قرباناً يقربه لله تعاىل‪ ،‬فيقتل ويفتك ويذبح وينحر ويتفنن يف التعذيب‪،‬‬
‫وهو يذكر الله تعاىل الذي أمره بالرأفة والرحمة ويستعني به‪ ،‬فرتاه يف ورع وخشوع‬
‫يهلك ونفسه مبتهجة‪ .‬يخضب يديه بدم أخيه وصدره منرشح‪ .‬يعذب نسيبه الذي‬
‫يستغيث به وقلبه طيب‪.‬‬
‫إنَّ الله حرم القتل بجميع أنواعه‪ ،‬فكيف يج ّزؤنه ّ‬
‫ويقسمونه وين ّوعونه ويجعلون‬
‫بعضه حالالً وبعضه حراماً‪ ،‬قس ًام منه منهياً عنه ونوعاً مأمورا به؟‬
‫ً‬
‫يغصب الشقيق شقيقه عىل دينه وكالهام يبتهالن إىل الله ويستعينان به‪ .‬ما‬
‫أقبح تلك املذابح الدينية! ما أفظع تلك السجون التي كانت ممتلئة بآالت التعذيب!‬
‫ما أردأ بني آدم! ما أجهلهم! ما أعظم غفلتهم! يا بني آدم أتعلمون أنكم أرشس من‬
‫الوحوش املتضورة؟ إنَّ الوحوش املفرتسة تتظلم إذا شبهناكم بها‪.‬‬
‫ً‬
‫قال‪ :‬أما الذي يقتل وهو يحسب أنه يق ّرب قرباناً لله تعاىل فيعد قاتال ويعاقب‪.‬‬
‫ويعاقب معه ذاك الذي أغواه وأمره عقاباً ال أشد منه وال أقوى‪ ،‬وهو ال يخرج من‬
‫زحل إال بعد خروج آخر سجني بعرشين ألف سنة‪ ،‬وبعد ذلك ينقل إىل املريخ ال‬
‫يكلمه أحد فيه ولن يدخل الجنة‪.‬‬

‫‪62‬‬
‫الفصل الثاين عرش منه‬
‫_ يف القتل الحريب _‬
‫قال والدي‪ :‬إنَّ كل من أثار فتنة وتسبب يف حرب حمل وزر كل مقتول وعوقب‬
‫عن كل قاتل‪ .‬وكل من أخمد فتنة ومنع حرباً فقد غفر الله سبحانه وتعاىل له سيئاته‬
‫وع ّده من الذين عملوا الصالحات‪.‬‬
‫أما الذين قتلوا يف الحروب وقد أمرهم بها حكامهم فتغفر ذنوبهم بدمائهم‬
‫ويعودون إىل الزهرة‪ .‬فإذا قتلوا وهم صالحون أرسلوا إىل الجنة ليجالسوا األبرار‬
‫معززين مكرمني‪.‬‬

‫الفصل الثالث عرش منه‬


‫_ يف القتل السيايس واملدين العقايب باألرض _‬
‫قال والدي‪ :‬إنَّ القتل السيايس والقتل املدين العادي معدودان عندنا من القتل‬
‫املنهي عنه‪ ،‬ولو كان بحكم حاكم‪ ،‬والسجن فيهام أقرب إىل التقوى والرحمة والعفو‬
‫يف بعض األحوال جائز‪ .‬أما الذين يقتلون عمداً والذين يكررون القتل فيعاقبون‬
‫بالسجن املؤبد‪.‬‬
‫الفصل الرابع عرش منه‬
‫_ يف لو علم املحكوم ما كان عليه الجتنب اآلثام _‬
‫قلت لوالدي‪ :‬لو علم املحكوم املقيم باألرض ما كان عليه يف الزهرة من السعادة‬
‫الجتنب اآلثام‪ .‬فقال‪ :‬لقد علمت مام تقدم أنَّ الله تعاىل حينام يحكم عىل األثيم‬
‫ويهبطه األرض يقول يف الحكم ما معناه‪« :‬غري أننا ال نجعلك تذكر أنك كنت متنع ًام‬
‫يف الزهرة وذلك رأفة منا بك»‪ ،‬ألنه تعاىل يعلم أنه إذا جعله يتذكر أيامه يف الزهرة‬
‫وعيشه الرغد بها كان الحكم شديداً بل أشد عليه من الشدة‪ .‬فإنَّ املخلوق مهام‬
‫كان أثي ًام يف األرض ال يستحق هذا العقاب‪ .‬إال أنَّ سجني مدينة التكفري وسجني زحل‬
‫يذكران الزهرة ويريانها‪ .‬وهذا عقاب خصويص للذين ال تكون توبتهم كاملة‪ .‬وللذين‬

‫‪63‬‬
‫يتامدون يف املعايص وينغمسون يف اآلثام يجتنبون املحارم والكبائر‪ .‬غري أنَّ املقام‬
‫مبدينة التكفري ليس مبستكره كاملقام بزحل‪ .‬ومدة التكفري غري طويلة غالباً‪ ،‬وأكرث‬
‫املكفرين يسمح لهم أن يقيموا باملدينة نفسها من غري أن يسجنوا‪ .‬ال يعذبون وال‬
‫يشكون غري فراقهم الزهرة‪ .‬والعربة للكثري يف جميع األشياء‪.‬‬
‫ثم قال‪ :‬إنَّ املخلوق يطمح ويجمح فيميس عبد الشهوات وأسري األهواء مرتكباً‬
‫جسوراً حيث ال محل للجسارة واإلقدام‪ ،‬ذلك ألنه يرى ويسمع الحكم عىل األثيم يف‬
‫الزهرة فريتعد بدنه ويستغفر وهو يشاهد تجريد املحكوم عليه من جسده‪ ،‬ويبرص‬
‫خروج نفسه منه بصورة أفعى قبيحة‪ ،‬ويبرص يف بعض األحيان سكان األرض يعذبون‬
‫فتنبض فريصته رعباً ويبرص كيف ميوت األبرار‪ ،‬ومع هذا كله فإنه ال يعترب بل يأثم‬
‫ويندم‪ ،‬ثم يعود إىل الزهرة ويأثم أيضاً فريجع إىل األرض وهذا منتهى العجب‪ .‬ال تقل‬
‫يف رسك ليت الله تعاىل يرسل إلينا يف كل مدة نبياً يدعو إىل الخري والفالح باملعجزات‬
‫(ولقد كنت عزمت يف رسي أن أقول هذا فعلمه قبل أن أفوه به) أما كفى ما قتل‬
‫الناس عندكم من األنبياء وعذبوا من الرسل وكذبوا؟ فعليكم بكتبهم فهي كافية وافية‬
‫واستمسكوا بها واسرتشدوا‪.‬‬
‫قال‪ :‬لقد قلت «إنَّ املخلوق يبرص يف بعض األحيان سكان األرض يعذبون»‪ ،‬أي‬
‫إنَّ الله تعاىل إذا رأى عبده يف الزهرة قريباً من االنحراف عن الحق أراه سكان األرض‬
‫وهم يعذبون وذلك ليعترب‪.‬‬

‫الفصل الخامس عرش منه‬


‫_ يف عذاب زحل _‬
‫صف يل عذاب زحل‪ :‬هل هو نار محرقة أم غري ذلك؟ فقال‪:‬‬ ‫وقلت لوالدي‪ْ :‬‬
‫إنَّ الله عز ثناؤه ينهي الخلق عن التعذيب فكيف ينهي عن يشء ويأيت مثله؟ لقد‬
‫جعل العقاب من نفس العمل‪ ،‬فيصور للمحكوم عليه أعامله بحالة طبيعية وينري‬
‫قلبه وعقله ليك يشعر بفظائعه ويقدرها حق قدرها‪ ،‬ويجعله ينظر املتنعمني من‬
‫أهل الزهرة واملريخ أيضاً (إال أنَّ املحبوسني يف مدينة التكفري ال يبرصون سكان‬
‫املريخ فعذابهم من هذا القبيل أخف من عذاب املسجونني بزحل) فيعاين عذاباً‬
‫ألي ًام شديداً‪ ،‬عذاباً قوياً مربحاً ال يق ّدر وال يعرب عنه‪ .‬وهو أنَّ بعض األرضيني يقتلون‬

‫‪64‬‬
‫ويعذبون ويسلبون ويظلمون ويهينون ويطردون إىل غري هذا من الجرائم والكبائر‬
‫والرشور والفظائع‪ .‬فحينام يذهبون إىل زحل تنجيل لهم الحقيقة فتتجسم أعاملهم‬
‫ويرونها كأنها تجرتح يف تلك الدقيقة التي هم فيها من غري أن تغيب عنهم وذلك‬
‫مدة سجنهم‪.‬‬
‫ً‬
‫ماذا يرون؟ يرى القاتل نفسه غالبا يقتل ويعذب نجله الذي ولد له يف الزهرة‬
‫وأخاه وابن عمه وأحد أقاربه أو أحد أصدقائه وأحبابه‪ .‬يراهم يسرتحمون ويتذللون‬
‫بني يديه لريحمهم ويريحهم من عذابهم‪ ،‬وهو يزداد قسوة وتوحشاً‪ .‬فعندما يتحقق‬
‫ذلك وفواحش أخرى اقرتفها يصري يف حالة من العذاب والندم والتأسف والتوجع‬
‫والتفجع أشد من النار املحرقة‪.‬‬

‫‪65‬‬
66
‫الباب الثالث‬

‫‪67‬‬
68
‫الفصل األول من الباب الثالث‬
‫_ يف املحاماة باألرض _‬
‫قال والدي‪ :‬إنَّ آفة الحقوق عندكم املحامون‪ .‬يزداد التزوير واالحتيال بازدياد‬
‫املحامني‪ .‬إنَّ املحاماة حرفة رشيفة رفيعة لكن العدد األوفر من أربابها أدنياء‪.‬‬
‫يجب أن يكون املحامون من أعاظم الرجال غري أين أرى أكرثهم من سفلتهم‪.‬‬
‫ال يكون املحامي محامياً إال إذا كان عاملاً متبحراً يف العلم‪ .‬فاميل أرى الجانب‬
‫األعظم منهم جهالء؟ هل املحامي إال صادق أمني‪ ،‬فلامذا تقبلون عىل الخونة الكاذبني؟‬
‫إنَّ الذي يخون خصمك ويخدعه يخونك بعده‪ .‬إنَّ املحامني الصادقني يؤيدون الحق‬
‫ويثبتونه‪ ،‬فكيف يجوز لكثري منهم أن يصريوا خصوماً يؤيدون الباطل؟ أيرجى منهم‬
‫أن يجتهدوا يف تخليص موكليهم وهم أكلة أموال اليتامى واأليامى واألرامل؟ أتدرون‬
‫من هم اليتامى؟ هم الصغار القارصون الذين ظلموا يف األرض قبل أن يعرفوا كيف‬
‫يتظلمون‪ .‬هم الضعفاء الذين يستمدون القوة من األقوياء فكيف يغدر بهم وهم‬
‫الذين لوالهم ملا أشار الناس إىل الرحيم وقالوا هذا الرجل من الرحامء؟‬
‫من هن األيامى واألرامل؟ هن اللوايت يعرفن كيف ظلم أوالدهن ولكنهن ال‬
‫يعرفن كيف يدرأن الظلم عنهم‪ ،‬وهن اللوايت مىض رجالهن وتركوهن إىل الذين‬
‫يتمدحون باملروءة وينافسون فيها‪ .‬أي فظاعة أفظع من محام يساعد ظاملاً عىل هضم‬
‫أيم ويتيم؟‬
‫حقوق ّ‬
‫ساعدوين يا إخواين من أهل النخوة واإلنسانية عىل لعن هذا املحامي‪ ،‬أجهروا‬
‫معي بإخزائه وأنتم ال لوم عليكم وال جناح‪ .‬أية لعنة أعدل من أختها هي التي تنقض‬
‫عىل هذا املحامي فتصعقه بصاعقة من غضب الله تعاىل وسخطه؟‬

‫‪69‬‬
‫هل يجوز للجانب األكرث من املحامني أن يج ّدوا يف تربئة اللصوص والقتلة؟ من دافع‬
‫عن لص وقاتل معروفني باللصوصية والقتل فقد شاركها فيهام‪.‬‬
‫ال أدري متى مين الله تعاىل عىل املجتمع اإلنساين فيكف عنه أولئك البغاة الطغاة‬
‫ويدحقهم دحقاً‪.‬‬
‫يا ويلكم يا أيها املحامون الظاملون الذين يساعدون الباغني عىل بغيهم‪ .‬من أنتم‬
‫وما هو شغلكم وعملكم؟ أأنتم أنصار الحق؟ أأنتم الطبقة األوىل من البرش؟ أأنتم الذين‬
‫يطلب الناس عندكم حقوقهم ودماءهم ويصونون بكم أعراضهم ويحفظون أموالهم؟‬
‫أأنتم املصابيح النرية التي يستنري بها الحكام؟ أبكم يستضيئون ومنكم يقتبسون؟ أفيكم‬
‫ينافسون؟ أإليكم يرجعون؟ أعليكم يعتمدون؟ أأنتم مالذ املظلومني وملجأ الضعفاء؟‬
‫أنتم مبدأ الطمع وداعي اللصوصية‪ .‬أنتم منشأ اللوم ومعدن الفساد‪ .‬أنتم مصدر‬
‫اإلغراء ُوأ ّس االحتيال وسبب الخصام‪ .‬أنتم منبع الرش وجرثومة املكر وواسطة الغدر‬
‫ومادة الفتك‪ .‬أنتم أصل الظلم وفرع البغي ومنجم الباطل‪ .‬أنتم غاية الفظاعة ونهاية‬
‫الدمار‪ .‬وأنتم الذين أخجل أن أخاطبكم بقويل لكم أنتم‪.‬‬
‫أما أولئك األفاضل الذين يأخذون بيد املظلوم ويرضبون عن يد الظامل‪ ،‬وأولئك الذين‬
‫يتسمون بالقناعة واملروءة ويتسامون بالنشاط ويدرأون عن نفوسهم الشبهات باألمانة‬
‫والنزاهة‪ ،‬وأولئك الذين إذا حكموا أنصفوا وأصلحوا ما أفسده الظاملون‪ ،‬وأولئك الذين ال‬
‫يراوغون؛ فهم الذين تبتهج اإلنسانية بذكرهم الصالح وتسأل الناس رفيعهم ووضيعهم‪،‬‬
‫أن مييزوهم ويخصوهم بالتكريم والتعظيم ألنهم دعاتها وأنصارها وهذا قليل من كثري‪.‬‬
‫إذا اختارت الحكومات املحامني مثلام تختار أعضاء املجالس فمن كان منهم صالحاً‬
‫أعلت منزلته وثبتته‪ ،‬ومن كان فاسداً منعته وطردته‪ ،‬كرث خريهم َّ‬
‫وقل رشهم‪.‬‬

‫الفصل الثاين منه‬


‫_ يف قضاة املحاكم األرضيني _‬
‫قال والدي‪ :‬من ظن يف نفسه أنه قادر عىل القضاء مل يعرف منزلتها من الجهل‪،‬‬
‫ومن استخف بالقضاء فقد استخف به الناس ووجب منعه منه‪ .‬ال يكون الرجل منكم‬
‫قاضياً إال إذا كان حكي ًام‪ ،‬وال يكون حكي ًام إال إذا كان عادالً عاملاً حلي ًام كالمه موافق‬
‫الحق‪ ،‬وال يكون حكي ًام أيضاً إال إذا وضع اليشء يف موضعه‪.‬‬

‫‪70‬‬
‫من كان فيه صواب األمر وسداده‪ ،‬ومن كان يحكم القول والفعل ومينع نفسه‬
‫مام ال ينبغي لها‪ ،‬فهو الحكيم‪ .‬فانظروا إىل الكثريين من قضاتكم وأعضاء مجالسكم‪:‬‬
‫هل هم حكامء؟ وهل يصلحون للقضاء؟ هل هم قانونيون؟ وهل لهم من قوة الحجة‬
‫واملعرفة ما يؤيدون به الحق؟ وهل لهم ألسنة تتكلم وهل يفهمون ما يتىل عليهم‬
‫وينقل إليهم؟ وهل يستطيعون االعرتاض ويدركون أنَّ لهم حق االعرتاض؟ أيعقلون؟ يا‬
‫ليت شعري ما هو وكيف يكون‪ .‬يا عجباً منهم‪ ،‬أهو صك يحسبون فائدته ودنانريه؟ أهو‬
‫نسيجة حائك يبخسونه حقه‪ ،‬أم هو ثوب بز يغبنون املشرتي يف بيعه؟‬
‫يا أيها القضاة الذين لستم عىل يشء من العلم والعقل ملاذا تعرضون نفوسكم‬
‫لذلك واإلهانة؟ إنني ال ألومكم ألنكم تعتقدون أنَّ املرثي ال ينقصه برثوته علم وعقل‪،‬‬
‫وأنه إذا هذى وجب عىل الناس أن يقولوا أفصح موالنا‪ .‬وإين ال ألومكم يا أكرث األعضاء‬
‫ألنكم ُب ْله ال تعقلون‪ .‬ولكنني ألوم أولئك الذين ميدحونكم ويعرضون أسامءكم يوم‬
‫توزيع األسامي كام تقولون يف اصطالحكم‪ .‬ملاذا يختارونكم؟ أيعتقدون أنكم أكفاء‬
‫للقضاء وللذين يشاركونكم فيه؟ فإن كان هذا اعتقادهم فهم مثلكم ودونكم‪ .‬وإن‬
‫كانوا يعرفونكم حق معرفتكم فلامذا يحكمونكم يف حقوق العباد ويعرضونكم للمذلة‬
‫واالحتقار؟ أمل يكن أكرم لكم لو تواريتم يف مخازنكم عن عيون النقادين؟ تطلبون‬
‫املعايل بالقضاء وهو يجعلكم أضحوكة‪ .‬أنتم ترضون بالهزء وتقبلون السخرية‪ ،‬وأما‬
‫األمة فال ترىض أن تنوبوا عنها ألنَّ النواب يجب أن يكونوا من العقالء املميزين العارفني‬
‫ما لألمة من الحقوق وما عليها من الواجبات‪ .‬تريد األمة رجاالً يحافظون عىل حقوقها‬
‫ويرعون كل أمورها‪ ،‬وأما أنتم فتضيعون الحقوق من غري أن تعلموا‪.‬‬
‫الفصل الثالث منه‬
‫_ يف الوصاية باألرض _‬
‫قال والدي‪ :‬ال تكن وصياً لئال تتهم وأنت بريء‪ ،‬ولئال تغفل عن حق اليتيم واأل ّيم‬
‫املظلومة فيسألك الله تعاىل عنهام‪ .‬ولئال تغلب حب ولدك عىل حب اليتيم‪ .‬ولئال‬
‫تستقرض ماله فال تستطيع رده‪ .‬ولئال يخدعوك فترصفه يف غري محله‪ ،‬ولئال تكون‬
‫عاجزاً فتؤذي اليتيم واأليم وأنت تشفق عليهام وال تريد إال نفعهام‪.‬‬
‫وصيتي إليك أن ترد الوصاية‪ .‬من أكل مال اليتيم واأليم فقد أكل جمرة ال تخمد‬
‫واستمطر عليه اللعنات ترتى الواحدة بعد األخرى‪.‬‬

‫‪71‬‬
‫الفصل الرابع منه‬
‫_ يف الحروب واملذابح والفظائع باألرض _‬
‫قال والدي‪ :‬ليس يل إال أن أقول طوىب لنا نحن سكان الزهرة‪ ،‬لنا السعادة والغبطة‪،‬‬
‫لنا الخري والحسنى‪ ،‬ألننا ال نعاين مصائب الحروب‪ .‬إنَّ أعراضنا وأوطاننا وكل ما لنا‬
‫مصونة مثل نفوسنا‪ .‬ال تهلع قلوبنا وال تنخلع باملذابح وال تذل نفوسنا باألرس‪ .‬ال‬
‫نحتم(((‪ ،‬ال نختلف يف يشء بالزهرة إال يزول حاالً‪ .‬نعم إنَّ الذين يقتلون يف الحروب‬
‫وهم مأمورون بها تغفر ذنوبهم بدمائهم ويعودون إىل الزهرة كام علمت ويخلصون‬
‫من األرض‪ ،‬غري أنَّ القتل والعذاب يؤملانهم ويكربانهم وهام غري معينني يف الحكم‬
‫عليهم بالزهرة‪.‬‬
‫إنَّ امللوك عندنا هم رؤساء القضاة وهم موكلون بحفظ الرعايا وراحتها‪ ،‬والقضاة‬
‫كام عرفت يفصلون الخالف ويصلحون فال نضطر إىل الحروب التي نتالىش بها‪ ،‬وال‬
‫يقوم األقوياء عىل الضعفاء وال يثور الكرباء عىل الصغراء‪ .‬ال تهجم الشعوب عىل‬
‫القبائل وال القبائل((( عىل العامئر‪ ،‬وال العامئر عىل البطون وال البطون عىل األفخاذ‪،‬‬
‫وال األفخاذ عىل الفصائل فيتفانوا ويتالشوا‪.‬‬
‫ال تغصب كل أمة أختها وتسلبها حقوقها الطبيعية والوضعية وتتسلط عىل خرياتها‬
‫مهنديس حرب وال أسلحة‪ ،‬ال ننافس يف اخرتاع‬
‫ّ‬ ‫وتستعبدها‪ .‬ال جنود عندنا وال قواد وال‬
‫األسلحة الرسيعة وال نتفاخر بالحيل واملكامن املعدمة الحياة‪ .‬ال نتبارى بالتغلب‬
‫والقهر وفتح املدن والقالع والحصون كام أنتم تتبارون‪ .‬ال قالع وال حصون عندنا يف‬
‫الزهرة‪ .‬ال نجعل النساء أيامى وال األطفال يتامى‪ .‬ال نجري دموع األمهات حزناً عىل‬
‫فتيانهن الذين يذهبون وهم يف مقتبل العمر فرائس األطامع‪ ،‬يداسون تحت األقدام‪،‬‬
‫يدوس األخ أخاه ويهلكه وهو ال يدري‪.‬‬

‫‪ 1‬ـ احتم الرجل‪ :‬اهتم يف الليل أو مل ينم من الهم‪.‬‬


‫‪ 2‬ـ قال صاحب الكشاف‪ :‬الشعب الطبقة األوىل من الطبقات الست التي عليه العرب وهي الشعب‬
‫والقبيلة والعامرة والبطن والفخذ والفصيلة‪ .‬فالشعب يجمع القبائل والقبيلة تجمع العامئر‪ .‬والعامرة‬
‫تجمع البطون‪ .‬والبطن يجمع األفخاذ‪ .‬والفخذ تجمع الفصائل‪ .‬فخزمية الشعب‪ .‬وكنانة قبيلة‪ .‬وقريش‬
‫عامرة‪ .‬وقيص بطن‪ .‬وهاشم فخذ‪ .‬والعباس فصيلة وقد زادوا طبقة سابعة وهي العشرية يريدون بها بني‬
‫األب األقربني‪.‬‬

‫‪72‬‬
‫ال مغيث ملستغيث وال مجري ملستجري‪ .‬إذا أراد راحم أن يرحم ومساعد أن يساعد‬
‫يف احتدام نريان املعامع فال يجدان إىل الرحمة واملساعدة سبي ًال‪.‬‬
‫ماذا تفعل عندكم يف تلك الساعة جمعية الصليب األحمر املحمود سعيها؟ تنظر‬
‫إىل بني اإلنسان وقلوبها تنقطع توجعاً وتفجعاً‪ .‬هناك التوحش الذي يستفظعه وينفر‬
‫منه من ألف كل فظيع‪ ،‬بل التوحش الذي هو أشد من توحش الوحوش الضارية التي‬
‫تلتهب أحشاؤها جوعاً وعطشاً‪ .‬ماذا أقول وكيف أصف ذلك التوحش؟ أقول إنه أشد‬
‫وأفظع وأقبح وأردأ من الشدة والفظاعة والقبح والرداءة‪ .‬ليتوار اإلنسان يف وهاد‬
‫األرض وأغوارها‪ .‬إنَّ هذا اإلنسان لفي جنون‪ ،‬فقد غلبته كبائره ورشاسته حتى ضاع‬
‫رشده‪ ،‬فيا ليته يعقل ويدرك ما يفعل ويا ليته يبرص‪ .‬لقد عمي وعمه((( ولكن عن‬
‫الرحمة والخري‪.‬‬
‫ما أكرث طمعك يا إنسان ما أشد تكربك وعجرفتك‪ .‬ما أعظم رشك ورضك‪ .‬ما أغراك‬
‫بالقبائح وأولعك بالفظائع‪ .‬هو الطمع هو الجشع الخبيثان املؤذيان القاتالن امللعونان‬
‫لعنات متواليات متتابعات‪ .‬لقد قادك صلفك إىل الرشور والرذائل وإىل إهانة نفسك‬
‫وإذاللها بل إىل إهالكها يف سبيل أطامعك الدنيئة الساقطة‪.‬‬
‫لقد دنست األرض ونجستها وظلمتها بكبائرك الصادرة عن تجربك وغطرستك‪.‬‬
‫لقد أقلقت األرض وأزعجتها بغدرك ومكرك ودهائك حتى لعنتك ومتنت لك االنقراض‬
‫لتسرتيح هي من توحشك‪ ،‬فتستأنس بالضواري لكونها أرحم منك‪ ،‬فإنها إذا شبعت‬
‫(((‬
‫أنست ولطفت وسكنت‪ ،‬وأما أنت يا أيها اإلنسان الظامل فإنك كلام شبعت أرشت‬
‫وبطرت ونهمت ورشهت وجفوت وقسوت وطغيت وبغيت حتى فقت بالتوحش‬
‫أعظم الوحوش كام ذكرت‪ ،‬فت ّربأ الحيوان املفرتس منك وتنصل((( إىل األرض والسامء من‬
‫خياناتك وجناياتك وكل فظائعك فرتكك وابتعد عنك ونفر منك‪ ،‬ال يساكنك خوفاً عىل‬
‫نسله لئال يتفنن تفننك يف التوحش‪ ،‬فاختار األودية والغابات والوهاد والجبال املرتفعة‬
‫الصعبة واملسالك وتوغل يف أدغالها وأجامتها فراراً منك واعتصاماً بها‪ ،‬أنت الذي‬
‫تفاخر بإنسانيتك‪ .‬وانفرد يحمد ربه ويشكر خالقه عىل نجاته من وجهك الغضوب‬

‫‪ -1‬عن الزمخرشي العمه كالعمى غري َّأن العمى عام يف البرص والبصرية والعمه خاص بالبصرية‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ أَ َ َّ‬
‫ش فالناً‪َ :‬ن َس َبه إىل ال ِّ‬
‫رش‪.‬‬
‫‪ -3‬تنصل إىل فالن من الجناية‪ :‬خرج وتربأ‪.‬‬

‫‪73‬‬
‫لئال يتطري((( بالنظر إليه‪ .‬أنت الذي تدعي باملدينة وتحارض بحضارتك وتباهي بتمدنك‬
‫الحديث وتباري بدينك ومعتقدك وتغضب وتسخط إذا تنقصهام أحد وتكفره‪ ،‬كأنك‬
‫تقي ورع وأنت يف كل ساعة تهني دينك بقبائحك وتهتك حرمته بإقدامك عىل هذه‬
‫الرذائل‪ .‬ملاذا تغار عىل يشء ال تعمل به وال تحبه؟ كيف تغار عليه وأنت بعيد عنه؟‬
‫ما هذا الرياء وما هذه املداجاة؟ ما هذا النفاق؟ أهذا كل دينك؟ ماذا تستفيد‬
‫منه إذا كنت ال تريده لنفسك؟ ملاذا ال تتدين لرتيح عقلك وقلبك وجسمك كله؟ تريد‬
‫أن تتدين ولكنك ال تجد لك ديناً يحلل املحرمات وال ينهاك عن املطامع الدنيئة‪ .‬قل‬
‫يل هل انتفعت بها حتى ال تنفك تسعى وراءها؟ أال يكفيك ما اقرتفت وما جمعت؟‬
‫يا ليتك اكتفيت واسرتحت وأرحت‪ .‬إنك رشير ال تريد إال اآلثام والرشور حتى رصت‬
‫متدح الرش وأهله‪ .‬ارحم نفسك يا أيها اإلنسان وال تهلكها‪ .‬لك العقل يا عبد طمعك‬
‫وأسري جشعك‪ ،‬واستيقظ من ضاللك وجهلك‪ ،‬واعلم أننا نحن سكان الزهرة إذا أردنا أن‬
‫نضع نفوسنا ونروضها ونتقشف نظرنا بأمر الله إليك عن بعد ونحن نرتعد من لؤمك‬
‫وقساوتك ومن شدة حرصك‪ ،‬فنحمد الله تعاىل ونعترب بك خاشعني‪.‬‬
‫نكره النظر إليك ونتعوذ بالله من رشورك‪ .‬أفهمت ما أقول يا أيها اإلنسان؟ أقول‪:‬‬
‫إننا نتعوذ بالله تعاىل من اإلنسان األثيم كام تتعوذ أنت من الشيطان الرجيم‪ ،‬فلك‬
‫الخزي والعار يا ويلك يا أيها اإلنسان الغضوب الرشس‪ ،‬بل الويل كل الويل لك يا أيها‬
‫املتغطرس املفرتس‪.‬‬
‫يا أيها البرش أبناء آدم‪ :‬ألستم كلكم أقرباء وأنسباء؟ ألستم من ساللة واحدة؟‬
‫ْ‬
‫وأدرك وافهم‬ ‫ألستم أوالد أعامم؟ ألستم من أب واحد وأم واحدة‪ .‬اعقل يا هذا‬
‫وتيقن أنه لو كان آدم يف األرض حياً ومات اليوم ألصابك منه سهم بحكم الوراثة‬
‫ألنك ولد من أوالده‪ .‬أفهمتهم يا أيها األرضيون أنكم من أصل واحد فكيف تتسابقون‬
‫إىل املقاتل واملذابح وأنتم تتمدحون يف جرائدكم ومجالتكم وتآليفكم ويف منابركم‬
‫وأنديتكم وتقولون‪ :‬هكذا يكون الوطني الغيور عىل وطنه فإنه يفديه بدمه؟ الله الله‬
‫ما هذه الغرية الوحشية! ما هذه النخوة الضائرة! ما الذي يبعثك يا أيها اإلنسان عىل‬
‫هذا الفداء وأنت تعيش برفاهية إن كنت ال تطمع يف وطن غريك؟ ال يبعثك عليه غري‬
‫التكرب والتعظم واستحالل ما هو محرم‪.‬‬

‫‪ 1‬ـ تطري بامليش ومنه‪ :‬تشاءم‪.‬‬

‫‪74‬‬
‫أال يقع نظرك يا أيها الوطني الغيور عىل أخيك حني تقتله؟ أال تأخذك به رأفة‬
‫فتكف عنه؟ إين ألعجب كيف ال ترتجف أعضاؤك ساعة قتله‪ ،‬وكيف ال يسقط السيف‬
‫من يدك‪ .‬أهكذا يفعل حب الذات يف اإلنسان؟ لريحمك الله يا أيها اإلنسان ألنك‬
‫لست تشعر بفظائعك وال تدري ما تفعل‪ .‬إنك تهدأ فتندم ثم تعود إىل أقبح مام‬
‫كنت عليه‪.‬‬
‫وقال‪ :‬لقد علمت أنَّ بعض الرحامء األفاضل عندكم يسعون اآلن يف منع الحروب‬
‫(كام سعى غريهم يف تخفيف بعض ويالتها فرحمهم الله عز ثناؤه وأحسن إليهم)‬
‫ولكن هذه غاية ال ترام اآلن وقد طلبت قبل أوانها ولذلك مل تتم‪ .‬وال أقول إنهم‬
‫طلبوها قبل وقتها فقط‪ ،‬بل مل ميهدوا لها الطرق ومل يعدوا املعدات الف ّعالة‪ .‬إنَّ هذه‬
‫املسألة العظمى تقتيض جهداً عظي ًام يف أعوام تتواىل عىل اآلباء واألبناء‪.‬‬
‫إذا أرادوا أن ينجحوا ويفلحوا ويربحوا رىض الله تعاىل التام ويصونوا كل عزيز لديهم‪،‬‬
‫فعليهم يف أول األمر أن يج ّدوا يف اختيار لغة قريبة املأخذ سهلة الحفظ قليلة الشوارد‬
‫وجيزة رقيقة‪ ،‬يجعلونها اللغة العامة ليك يتقارب البرش عندكم فيتشاركون يف املصالح‪،‬‬
‫ويتشاكلون ويتوافقون ويتامثلون يف العادات واملآكل واملشارب‪ ،‬ويتودد كل واحد إىل‬
‫اآلخر حتى يصاهر بعضهم بعضاً وتراهم يتشابهون يف كل أمر‪ .‬وعليهم يف ضمن هذا أن‬
‫ال يكفوا عن حسن السعي يف جعل الناس يقلعون عن التعصب والتح ّزب معاً‪ ،‬وذلك بنرش‬
‫الرسائل العلمية واملقاالت التهذيبية‪ ،‬وإذاعة النصوص والنقول واألحاديث الدينية التي‬
‫هي أقرب من غريها إىل تأليف القلوب واملساواة بني األمم‪ ،‬وإبداء النصائح والروايات‬
‫املؤثرة متهيداً لتعميم املحبة والفضيلة يف كل املدارس واألندية التي يجب أن تكون‬
‫جامعتها من جميع األديان وامللل املختلفة املذاهب والعادات واألهواء‪ .‬ويجب أن يجتهد‬
‫يف تعليم التالمذة بعض الفوائد والحكم التي تجتمع الكلمة بحفظها وترغبهم يف تبادل‬
‫املنافع‪ ،‬حتى إذا خرجوا من املدارس أعدت لهم الرشكات الخصوصية لتتحد القلوب‬
‫بتوحيد املنافع‪.‬‬
‫أما املعلمون فيلزم أن يكونوا من أكابر العلامء املشهورين باآلداب والفضائل‪،‬‬
‫وخصوصاً بعلم األخالق وإال فالفائدة معدومة‪ .‬ويجب عىل الشعراء واألدباء والخطباء‬
‫البلغاء ومشاهري الكتاب أن يدعوا كل يشء ويدأبوا يف الحث والتحريض والرتغيب‬
‫والتشويق والتحبيب مبا امتازوا به من الرباعة واملهارة يف الخطابة والكتابة واإلنشاء‪.‬‬
‫وال شك يف أنَّ امللوك ورؤساء األديان واألمراء والفضالء ينهضون عند ذلك نهضة‬

‫‪75‬‬
‫واحدة‪ ،‬ويأمرون أمراً نافذاً قاطعاً بإمضاء هذا الخري العام وتنفيذه‪ ،‬ويعينون جوائز‬
‫ومناصب للذين ميتازون عن سواهم باإلفادة والتأثري يف نجاحه وتعميمه‪ ،‬كل ذلك بعد أن‬
‫يكون أولو األمر قد تعاهدوا وتعاقدوا وتحالفوا عىل صيانة ماملكهم وحفظها من األطامع‪.‬‬
‫أما األرايض الخارجة عن العمران البرشي التي يعدونها غري داخلة يف حقوق الدول‪،‬‬
‫والتي مل تدخل يف سلطة األمراء العادلني‪ ،‬والتي يحسبونها غري مملوكة‪ ،‬فيتفقون عليها‪.‬‬
‫وبعد هذا كله فرتك الحرب مستطاع واإلجامع عىل السالم سهل‪.‬‬
‫فإذا أجمعوا ثم وقع بينهم خالف كان جزئياً وكان حله ممكنا (ما دامت ماملكهم‬
‫ً‬
‫واألرايض املباحة مصونة باملعاهدات كام ذكر) وذلك باختيار محكمني دامئني ينتخبون من‬
‫ربوات من الشعوب ويعينون لفصل كل خالف دويل‪ .‬فإذا حكم عىل أحد ومل يقبل الحكم‬
‫كان عىل الدول املتعاهدة إلزامه‪ ،‬وعندي أنه ال يسعه إال الرىض ألنَّ البرش حينئذ يصبحون‬
‫غري املوجودين اليوم‪ .‬ويف هذا ضامن السالم إن شاء الله تعاىل‪ .‬فيا لرسوركم وحبوركم إذا‬
‫نجوتم من تلك املصائب الفظيعة الناجمة عن األطامع!‬
‫فإذا أىت عىل ترك الحروب خمسون عاماً ال أكرث انقلب اإلنسان من حالة إىل ضدها‬
‫فيصبح وديعاً رحي ًام ومحباً رفيقاً‪ ،‬فتقل املحارم التي منها الطمع وتخف ويالت األرض‪،‬‬
‫ألنَّ املرء رهني العادة وأسريها فإذا عودته التوحش تعوده حتى يفوق الوحوش وبالعكس‪.‬‬
‫وقال‪ :‬ال تعرتض عيل بأن تقول إذا َّتم هذا اإلصالح العام وخفت ويالت األرض فال تصلح‬
‫َ‬
‫اعرتضت قلت لك‪ :‬إذا صح هذا االنقالب (وسوف‬ ‫لعقاب املجرمني من سكان الزهرة‪ .‬فإذا‬
‫يصح إذا شاء الله) وقدرنا أنَّ األرض ارتقت به مئة درجة‪ ،‬فالزهرة ترتقي خمسمئة‪ ،‬وعليه‬
‫فكلام تقدمت الزهرة خفف الله عقاب البرش يف األرض بتقدمها العمومي‪.‬‬

‫حرب اإلنكليز والبويرس‬


‫قلت لوالدي‪ :‬ما ترى يف حرب اإلنكليز والبويرس القامئة اآلن يف إفريقيا الجنوبية؟‬
‫أعادلة هي أم جائرة‪ .‬فأجاب‪ :‬كل حرب جائرة‪ .‬فقلت له‪ :‬إنَّ كثريين يقولون بجور اإلنكليز‪.‬‬
‫فقال‪ :‬إنَّ اإلنكليز ولو جاروا وهم أعداء فإنهم أعدل من أولئك األصدقاء الذي يضحون‬
‫بالبويرس عىل مذابح مآربهم‪ ،‬يريدون أن يغرقوا اإلنكليز بدماء محاربيهم فيبيدون عن‬
‫آخرهم واإلنكليز ال يغرقون‪ .‬لقد حمسوا البويرس حتى احتموا واحرتقوا أو كادوا واإلنكليز‬
‫متنعمون بجزيرتهم الباردة‪ .‬ميدحون بسالة البويرس وثباتهم وهم كلام مدحوا استقتلوا‪.‬‬
‫إنَّ البويرس يدافعون عن استقاللهم ولكن هل ينفعهم االستقتال؟ هل يكرهون‬

‫‪76‬‬
‫اإلنكليز عىل تركهم‪ .‬هل يستطيع اإلنكليز أن يرت ّدوا عنهم؟ إنَّ اإلنكليز مكرهون عىل‬
‫الثبات أكرث من أعدائهم‪ .‬إنَّ اإلنكليز مهام خرسوا فهم الرابحون بعد نجاتهم من هذه‬
‫الحروب‪ .‬إنَّ اإلنكليز يعوضون وأما البويرس فال أمل لهم بالتعويض ولو كابروا‪.‬‬
‫ما مثل البويرس من اإلنكليز إال مثل الرباغيث من اإلنسان‪ ،‬فإنها تقلقه وتحرمه لذيذ‬
‫املنام ومتتص من دمه غري أنها ال مترضه‪ ،‬فإذا طلبها فرت وتوارت ثم كرت عليه فيهب‬
‫من فراشه ويتأثرها فيدرك بعضها ويختفي بعضها وهكذا إىل أن يقل عددها‪ ،‬وهو مع‬
‫ضخامته ال يستطيع أن يدركها كلها يف وقت واحد ألنَّ مداخلها ضيقة وهي خفيفة كثرية‬
‫التنقل ال تستقر يف مكان فيتتبعها بصرب وحكمة إىل أن تحرص فتقبض‪.‬‬
‫لقد أخطأ البويرس يف استثناء اإلنكليز من بعض املعاهدات‪ ،‬فلو عاهدوهم كام‬
‫عاهدوا غريهم من الدول ألصابوا‪ ،‬ولكنهم اغرتوا مبواعيد بعض كبار السياسيني وغريهم‬
‫من املحرضني الذين ال يهمهم إال شغل اإلنكليز‪ ،‬ال ليتمكنوا منهم بيشء بل ليجعلوهم‬
‫يتغافلون عنهم‪.‬‬
‫لقد أخطأ ساسة البويرس وقوادهم يف غزو بعض املدن من مستعمرة الرأس‬
‫اإلنكليزية‪ .‬لقد خدعتهم أمانيهم وزعموا أنهم ميلكون تلك األمصار‪ .‬هجموا عىل قالع‬
‫اإلنكليز وحصونهم فارتدوا عنها مدحورين‪ ،‬فعلم أنهم رجال غارة ال رجال حرب‪ ،‬فلو‬
‫وقفوا يف حدودهم ألمنوا رش ال ُّر ْج َعى وذلها التي كانت عليهم أنىك من الحرب كلها‪،‬‬
‫ومل يكرهوا اإلنكليز عىل بذل النفس والنفيس ومل يضطروهم إىل تعويض رشفهم بتتبع‬
‫الحرب‪ .‬ومام زاد اإلنكليز رغبة يف مواصلة القتال هو استخفاف بعض الدول بهم تنرصاً‬
‫للبويرس فكانوا بذلك عليهم ال لهم‪ ،‬وهم ال يتأملون‪.‬‬
‫الفصل الخامس منه‬
‫_ يف السجون واملنايف _‬
‫قال والدي‪ :‬إذا أردت أن تعلم أين السالم والسكينة فاذهب لو أمكنك إىل غرفة‬
‫من غرف املنفى العظيم والحبس الكبري يف مدينة التكفري القائم عىل هضبة عالية يف‬
‫روضة أريضة‪ ،‬تفوح أزاهريها وتضوع((( فتحمل روائحها الرياح إىل الروايب والبطاح‬
‫ْ‬
‫وتأمل ت َر املياه النقية العذبة تنحدر من تلك الهضبة متكرسة‬ ‫فرتتاح إليها األرواح‪.‬‬

‫‪ 1‬ـ ضاع املسك‪ :‬تحرك فانترشت رائحته‪.‬‬

‫‪77‬‬
‫كأنها تصيح وترصخ حزناً عىل فراقها أعاليها‪ .‬تجد املحبوسني يف أمن وسالم يحمدون‬
‫الله تعاىل غالباً ويشكرونه‪ ،‬تجدهم معتكفني عىل التعبد والتزهد كأنهم يف معبد‬
‫عظيم‪ .‬كلام حمد املحبوس وشكر تفتحت أمامه أبواب الفرج فيزداد تعبداً وتورعاً‬
‫وتزداد أخالقه تحسناً‪ ،‬فإنَّ الغاية من املحابس التهذيب والتأديب برقة وتلطف‪ ،‬فيخرج‬
‫منها كأنه خرج من مدرسة عالية مشهورة بعلم السلوك واألخالق‪ ،‬وقد اتسعت دائرة‬
‫عقله فأدرك ما مل يكن يدركه قب ًال‪ ،‬وتعلم ما مل يعلم ألنه يتفرغ للتعلم فلم يشغله عنه‬
‫شاغل‪ ،‬وألنه اتعظ بتلك املواعظ وانتصح بالنصائح التي ألقاها عليه قضاة من مشاهري‬
‫الرجال األتقياء والعلامء ذوي الفضل والفضيلة‪ .‬وأولئك القضاة يقفون نفوسهم بالطوع‬
‫والرىض عىل خدمة املحبوسني وتعليمهم وتهذيبهم‪ .‬هذا وإنَّ سجن زحل األعظم الذي‬
‫يقايس فيه األرشار العذاب ألواناً نحسبه مدرسة‪ .‬فال يخرج السجني منه إال بعد أن ين ّقى‬
‫من كل عيب ويتج ّمل بأحاسن السجايا ومحاسن املزايا ليكون صالحاً لإلقامة باملريخ‪.‬‬
‫قال‪ :‬وإذا أردت أن تبرص رش اإلنسان وتوحشه ورشاسته وتوسعه يف فنون القبائح‬
‫وتقدمه يف اخرتاع الرذائل‪ ،‬وإذا طلبت أن تعلم كيف يكون غدر اإلنسان املتوحش‪ ،‬وإذا‬
‫رمت أن تعرف أين تقر الفجور واآلثام والكبائر والجرائم وأين الدناءة السدومية‪ ،‬وإذا‬
‫رغبت أن تتحقق أين توجد الدنايا وأين الفواحش الرببرية‪ ،‬وإذا شئت أن تنظر أي عامل‬
‫تنشأ فيه ويالت اإلنسان ومصائبه ونوائبه ومصاعبه ومتاعبه وشدائده ومكارهه وأكداره‬
‫وغمومه وهمومه وفواجعه وبالياه ورزياها وتنترش بني البرش عندكم‪ ،‬وإذا وددت لو‬
‫تتيقن كيف تنبعث األوخام واألوساخ واألدران واألقذار فتتفىش العلل واألمراض بكم‪،‬‬
‫ْ‬
‫وادخل ذلك العامل الصغري أال وهو السجن واملنفى العمومي يف قلعة‬ ‫وتشجع‬
‫ْ‬ ‫فق ِّو قلبك‬
‫من قالعكم التي ال تجهلها‪ .‬وال أخالك تدخله فإذا دخلته ارتعت من هول وشناعة تلك‬
‫ويقف((( شعرك ويتمعر((( وجهك‬‫املرايئ واملناظر الكريهة القبيحة‪ ،‬ال تدخله لئال تشمئز َّ‬
‫ويتقبض جلدك ويقشعر بدنك وترتجف أعضاؤك وتنبض عروقك ويحبض قلبك ‪.‬‬
‫(((‬

‫هناك الشتم والتعيري‪ .‬التهديد والحقد والنميمة‪ .‬هناك الكذب والتزوير واملراوغة‪.‬‬
‫االغتياب والرسقة والجور‪ .‬هناك الغدر واملكر والخديعة والغضب‪ .‬هناك اللطم‬

‫قف الشعر‪ :‬قام فزعاً‪.‬‬


‫‪ 1‬ـ َّ‬
‫‪ 2‬ـ معر الرجل وجهه‪ :‬غريه غيظاً‪ .‬ومتعر وجهه مطاوع معر‪ .‬يقال‪ :‬معر وجهه فتمعر‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ حبض القلب‪ :‬رضب رضباً شديداً‪.‬‬

‫‪78‬‬
‫واللكم والرضب والجرح والقتل‪ .‬تجد هذه النقائض والجرائم وتلك الرذائل والفظائع‬
‫والفواحش التي أرشت إليها وتجد أشياء كثرية غريها مل أذكرها‪.‬‬
‫ترى كثريين من املتأدبني أويل األخالق الرضية الحسنة يفقدون آدابهم ويضيعون‬
‫مزاياهم (بعد ما يضمون إىل السفلة األدنياء)‪.‬‬
‫يستغيثون ويستجريون ويتوجعون ويتفجعون ويشكون ويتظلمون ويتململون‪،‬‬
‫ويئنون وميوتون كالكالب عىل املزابل واألقذار‪ .‬تزهق نفوسهم بني القبائح والشنائع‬
‫ويخلصون وهم سعداء بخالصهم فيحسدهم إخوانهم الذين ميوتون ويحيون كل يوم‬
‫مراراً مام يعانون ويكابدون‪.‬‬
‫يطلبون أن تخرج أرواحهم فال يجابون فينتحرون‪ .‬إنَّ كثريين منهم يغلب عليهم‬
‫اليأس فيمسون ويصبحون كالكالب الك ْلبى((( أو الوحوش الضارية‪ .‬فأين الرحيمون‬
‫املشفقون الحنونون الرؤوفون؟ أين مخففو الويالت عن إخوانهم؟ أين جمعية الصليب‬
‫األحمر؟ أين لجنة الرفق بالحيوان لرتفق باإلنسان؟ أين املتبتلون؟ أين الزهاد؟ أين‬
‫النساك املقيمون برؤوس الجبال املعتزلون املنفردون عن البرش يف صوامعهم؟ أين‬
‫الرهبان املتنعمون يف أديارهم‪ .‬أين الذين ينذرون عىل نفوسهم متريض املرىض؟ أين‬
‫املتصدقون عىل املسجونني ليسارعوا إىل هذه السجون؟ ليعلموا جميعاً أنه ليس التزهد‬
‫والتنسك والرتهب يف تجنب الناس واالنزواء واالنفراد وحب الراحة‪ ،‬راحة األبدان إجابة‬
‫لداعي الكسل وحب الذات املتمكن من قلوبهم‪ ،‬وليس التعبد بالفرار من عذاب الدنيا‬
‫ومشقاتها‪.‬‬
‫يزعمون ويعللون نفوسهم بأنَّ لهم يف ذلك فض ًال وأجراً وثواباً‪ .‬ال فضل لهم وال‬
‫أجر وال ثواب إال مبساعدتهم إخوانهم هؤالء املسجونني يف أمثال تلك السجون البعيدة‬
‫عن األنظار‪.‬‬
‫لينذروا شيئاً من مالهم‪ ،‬لينذروا لله تعاىل خدمة إخوانهم مدة يعينونها بقدر‬
‫تجلدهم القوي‪ ،‬فيكافئهم الله بنقلهم إىل الزهرة فالجنة حيث يجلسون مع األبرار‪،‬‬
‫فإذا أقدموا وفعلوا انقلب ذلك السجن من حالة إىل ضدها والله سبحانه وتعاىل ال‬
‫يتخىل عن املحسنني‪.‬‬

‫‪ 1‬ـ ال َك َلب‪ :‬املصاب بداء ال َك َلب ومن يعقره الكلب‪ .‬ال َك َلب جمعه َك ْل َبى‪.‬‬

‫‪79‬‬
80
‫الباب الرابع‬

‫‪81‬‬
82
‫الفصل األول من الباب الرابع‬
‫_ يف الطلق والوالدة وتربية الطفولة _‬
‫قال والدي‪ :‬كل امرأة عندنا خصوف(((‪ ،‬تلد وهي تأكل وترشب وتضحك‪ ،‬ال تشكو‬
‫وال تنئ وال تتوجع شكوى وأنني وتوجع بني آدم‪ ،‬بل تضع كأنها متغص مغصاً ليس‬
‫بشديد‪ .‬ال تحتاج إىل قابلة ألنها ال يهددها خطر‪ ،‬إننا ال نظائر(((‪ ،‬ألننا نقول من رضع‬
‫غري أمه فقد تخلق بأخالقها‪ .‬إنَّ املرأة بعد أن تحجم للمولود‪ ،‬أي بعد أن ترضعه أول‬
‫رضعة ترضعه يف كل ساعة حرتتني (والحرتة الرضعة الواحدة) حتى إذا بلغ الشهر‬
‫السادس من عمره أرضعته يف كل ثالث ساعات مرة‪ ،‬فإذا زادت منعت وعدت جاهلة‬
‫بني نسائنا وهذا يحدث قلي ًال أو ال يحدث‪.‬‬
‫ال تضع األم ولدها يف رسير يهز‪ ،‬فقد عرفنا أنه تنجم عنه أخطار عظيمة ورمبا‬
‫كانت سبب هالك الطفل‪ .‬منها أنَّ االهتزاز الشديد يؤثر يف مجموع عصبه ويحدث‬
‫له القيء وغري ذلك من األمراض‪ .‬هذا إذا كان معاىف فإذا كان علي ًال متأملاً من حالة‬
‫عصبية دماغية أو معدية أو غريها ازداد تأملاً بالهز ومتكنت منه العلل‪.‬‬
‫وقد علم أنَّ كثريين أصيبوا منه بالشوص والحول‪ ،‬هذا إذا مل يسقط الطفل من‬
‫رسيره ألنَّ يف سقوطه الوبال عليه‪.‬‬
‫ومن املعلوم أنَّ الطفل إذا هزز رسيره ال ينام يف أول األمر إال بعد أن يأخذه دوار‪،‬‬

‫‪ -1‬الخصوف من النساء‪ :‬التي تلد وال تدخل يف العارش‪.‬‬


‫‪ 2‬ـ ظاءرت مظاءرة إذا اتخذت ظرئاً‪ .‬الظرئ‪ :‬املرضعة غري ولدها‪.‬‬

‫‪83‬‬
‫ورمبا كان التهزيز ميدد منه الرقبة ويلوي الرأس ويف كال األمرين خطر عظيم عليه‪.‬‬
‫تلفه والدته بلفائف من املرن((( ال تقمطه قمطاً شديداً لئال يلوي الساقني‬
‫والقدمني والساعدين واليدين لئال يضغط‪ .‬تضعه يف رسير ثابت وتضع عليه لحافاً من‬
‫املرن مينعه من التحرك القوي‪.‬‬
‫ال ترتكه وحده وال تقدم إليه ما ميتصه ليلتهي به عن الرضاع‪ .‬يخرج من غرفته‬
‫يف كل يوم ثالث مرات إىل محل طيب الهواء نقيه‪ .‬وبعد خروجه تفتح النوافذ ليبدل‬
‫هواؤها غري أنه يحرتز عليه من الربد والحر‪.‬‬
‫ال تسلمه أمه إىل أحد وال تتخذ له مربية‪ ،‬فإنَّ الوالدة أحن عىل الولد من غريها‬
‫وأشد انتباهاً إليه وأحرص عليه‪.‬‬
‫ال تق ّبله وال يق ّبله أحد لئال تنتقل إليه أمراض فم املقبل الضارة‪ .‬ال يضحك تضحيكاً‬
‫شديداً لئال تغثي نفسه((( أو يغمى عليه بل يرتك ليضحك حينام يشتهي ويريد ضحكاً‬
‫طبيعياً‪.‬‬
‫ال تالعبه أمه بخفضه ورفعه وال تقبض يده بيدها وترفعه أو تجره‪ .‬ال تضغطه‬
‫بضمه إىل صدرها وال تجعل مالعبته إال بقدر جسمه ال بقدر جسمها‪ .‬إذا العبته‬
‫وانزعج أو كاد تركته حاالً ليسرتيح ويرتاح(((‪.‬‬
‫ال تطعمه إال بعد أن يسن((( وتقوى أرضاسه وأنيابه معاً‪ ،‬فإنَّ األسنان وحدها ال‬
‫تستطيع طحن الطعام وتنعيمه‪ .‬فإن أطعمته أصيب بعلة األسنان املعروفة عندكم‬
‫تقريباً‪ .‬وبعد األسنان ونبات األرضاس وخروج األنياب تؤكله والدته أك ًال خفيفاً لطيفاً‬
‫ال يقايس يف مضغه تعباً لئال يبلعه‪ .‬ال تطعمه إال قلي ًال حينام ترى منه اشتهاء وإقباالً‬
‫عىل الطعام‪ ،‬فإذا آنست منه قلة يف االشتهاء رفعت الطعام وخفته‪.‬‬
‫إذا أبرص شيئاً ضاراً ولو قلي ًال ورغب فيه‪ ،‬منعته واجتهدت يف تحويل فكره عنه‬
‫ونقله إىل غريه فينتقل‪ .‬ال يسمع أصواتاً عالية مرتفعة‪ ،‬مزعجة كانت أو غري مزعجة‬

‫‪ 1‬ـ راجع املرن بقراءة الفصل السابع من الباب األول من الدور‪.‬‬


‫‪ 2‬ـ غثت نفسه تغثى غثياً وغثياناً‪ :‬جاشت وخبثت‪ .‬قال بعضهم‪ :‬تحلب الفم فرمبا كان من القيء وهو‬
‫الغثيان‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ ارتاح‪ :‬رس ونشط‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ أي تنبت أسنانه‪.‬‬

‫‪84‬‬
‫وال تعرض عليه املتحركات الرسيعة االنتقال والتغري لئال تزيد يف تحريك عينيه‪ .‬وال‬
‫يح ّد أحد نظره إليه‪ .‬وال ينظره وهو قطوب عبوس ليسكته ويسكنه باإلرهاب‪ ،‬بل‬
‫يسكن بالكالم الرقيق ويلهى باملناغاة((( إذا كان الصوت رخي ًام ال نربة فيه فإنه يأنس‬
‫بهام ويطيب خاطره‪ .‬فإذا ريب هذه الرتبية فال خوف عليه أن يقصع((( بل ينمو قوياً‬
‫صحيح الجسم والعقل‪ .‬إذا أخذ يف الكالم قومت أمه لسانه‪.‬‬
‫بعي ولدها وحرصه وفهاهته فتنبهه عىل كل كلمة غري‬ ‫إنَّ الوالدة مؤاخذة ّ‬
‫(((‬ ‫(((‬ ‫ُ‬
‫فصيحة‪ .‬كالمنا فصيح بليغ فكلنا ل ْسن يف بيان وتبيان ‪.‬‬

‫الفصل الثاين منه‬


‫_ يف الرتبية وواجبات الوالدين باألرض _‬
‫قال والدي‪ :‬يجب عىل الوالدين إذا كانا من الرشسني الذين فسدت سجيتهم‪.‬‬
‫وإذا مل يكونا محمودي الخصال ممدوحي الخالل ال مزية لهام وال مدحة وال فضيلة‬
‫وال مأثرة وال مفخرة وال محمدة وال منقبة‪ ،‬وإذا مل يكونا عىل يشء من حسن الرتبية‬
‫واآلداب أن ال يقذفا((( محصنة سمع ُأذن ولدهام‪ ،‬وال ميزقا عرض أخ وال عرض بعيد‬
‫وال عرض عظيم وال عرض حقري‪ ،‬وال عرض أحد من البرش‪ ،‬وال يغتابا صديقاً وال عدواً‬
‫وال أحداًَ من خلق الله تعاىل‪ .‬ويجب عليهام أيضاً أن يتحاميا الهجو والذم والهرت‬
‫والتنديد واالنتقاص والطعن والقدح‪ .‬وأن يرضبا عن الهذاء والبذاء واللغا(((‪ ،‬وأن‬
‫يعرضا عن الهذر والهذيان والخطل‪ .‬ومن الواجب أن يجتنبا املقاذحة واملسافهة‬
‫والسباب أمام ولدهام الذي ال شك يقتدي بهام ويحفظ مشامتتهام ومهاترتهام ويفوه‬

‫‪ 1‬ـ املناغاة‪ :‬تكليمك الصبي مبا يهوى‪ ،‬وناغت األم صبيها‪ :‬الطفته وشاغلته باملحادثة واملالعبة‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ قصع الغالم‪ :‬أبطأ شبابه‪ .‬وغالم قصع‪ :‬بطيء الشباب (يعني حان وقت شبابه ومل يشب)‪.‬‬
‫‪3‬ـ اللسن‪ :‬جمع لسن‪ .‬ورجل لسن أي فصيح بليغ‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ قيل الفرق بني البيان والتبيان هو أن البيان عمل اللسان والتبيان عمل الجنان وقيل َّإن التبيان أبلغ من‬
‫البيان َّ‬
‫ألن الزيادة يف الحروف أعطته زيادة يف املعنى‪.‬‬
‫‪ 5‬ـ قذف املحصنة‪ :‬سبها‪ .‬وقيل رماها بريبة‪ .‬ومزق عرض أخيه‪ :‬طعن فيه‪.‬‬
‫‪ 6‬ـ اللغا ما كان الكالم غري معقود عليه وما ال يعتد به من كالم وغريه ومثله اللغو وهو كرثة الكالم يف الباطل‪.‬‬

‫‪85‬‬
‫بهام يف حالة غضبه وإن يكن يجهل معناهام‪.‬‬
‫ليتهذبا ما أمكن قبل أن يأخذا يف تهذيب ابنهام‪ .‬ليكونا أمامه لطيفني رقيقني‬
‫وديعني بشوشني‪ .‬ليكونا حليمني أنيسني ساكنني هادئني‪ .‬ليجتهدا يف تجنب السخط‬
‫والتغضب والتكره‪ ،‬فإذا مل يستطيعا كبح رشاستهام وإخفاءها بالتعقل فاألوفق ملثلهام‬
‫أن ال يتزوجا بل أنصحهام وأشري عليهام بأن ال يقرتنا لئال يأتيا بأوالد رشسني غضوبني‬
‫مثلهام‪ ،‬فإن أرصا فقد جنيا عىل نفسيهام وعليهم وعىل املجتمع اإلنساين‪.‬‬
‫ليجتنبا أيضاً التحقري والتعييب والتهديد لئال يتكاشفا((( فإنَّ الولد كالببغا يحيك‬
‫(((‬

‫عن غريه الحديث ويحايك سواه وهو ال يدرك كنه الكالم كام سبق القول‪ .‬إذا نطق‬
‫بكلمة قبيحة فال يضحكان يف وجهه‪ .‬ال يسمع الخرافات والرتهات‪ .‬ال يه َّدد ويخ َّوف‬
‫ليهذب عىل قوة الجنان وثبات‬ ‫ْ‬ ‫باملزعجات وال ُيشغ َْل بحكايات عجائز الحي‪ ،‬بل‬
‫العزم وعلو الهمة واحتقار املصاعب واستصغار املصائب وعىل رشف النفس ورقة‬
‫القلب وخفة النهضة إذا استنهض‪ .‬ال يتهيبه يشء غري النقائص التي منها الكسل‬
‫والطمع وحب الذات واإلعجاب واملخادعة واملخاتلة واملامكرة واملراوغة والخبث‬
‫واملداهنة واملامسحة واملجاملة((( واملصاقلة واالحتيال واملصانعة واملراشاة واملواربة‬
‫واملكابرة‪ .‬ليجانب هذه النقائص وغريها أيضاً‪ .‬ليكن محام ًال((( ال مجام ًال((( ولتكمل‬
‫نفسه‪ .‬ليؤدب عىل الدين ليكون له حاجزاً يرده عن املحرمات‪ .‬ال يؤذن لوالديه أن‬
‫يعلامه بغض الذين ليسوا عىل دينهام‪ ،‬ولكن كيف يتم هذا وهام يحسبان هذا‬
‫البغض تورعاً وفضيلة؟‬
‫ال ير ّغبانه يف حب املال إذا كان من الراغبني فيه لئال يفرط فيطمع ويعيش حقرياً‬
‫ذلي ًال يكرهه األقارب واألباعد‪ .‬إذا أفرط يف حب املال ووجه كل محبته إليه احتاج‬

‫‪ 1‬ـ تكاشف القوم‪ :‬ظهر عيب بعضهم لبعض‪.‬‬


‫‪2‬ـ الببغا‪ :‬طائر هندي أخرض يعرف عند العامة بالدرة حسن اللون والصورة له منقار أحمر ولسان عريض‬
‫يشبه لسان اإلنسان ومن أشهر أوصافه أنه يسمع كالم الناس ويعيده‪ ،‬ويشبه به من حفظ كالم ومل يدرك‬
‫معناه‪.‬‬
‫اإلخاَء وماسحه بالجميل‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ جامل الرجل مجاملة‪ :‬مل ُي ْصفه َ‬
‫‪4‬ـ املحامل‪ :‬الذي يقدر عىل جوابك فيدعه إبقاء عىل مودتك‪.‬‬
‫‪ 5‬ـ املجامل‪ :‬الذي ال يقدر عىل جوابك فيدعه ويحقد عليك إىل وقت ما‪.‬‬

‫‪86‬‬
‫إىل محبة أخرى ليعيش بها وهي صعبة املنال‪ ،‬بل غري مستطاعة‪ ،‬فيعيش ناقصاً‪ .‬ولو‬
‫استطاعها ألضافها إىل تلك املحبة التي صارت فيه رذيلة‪ .‬إنَّ الولد يحتاج إىل املحبة‬
‫ليحب بها خالقه ووالديه وأستاذه وكل البرش‪ .‬أما الذين ُيعتقد أنهم غري متدينني فال‬
‫يحتقرهم بل عليه أن يتعلم كيف يستطيع إقناعهم بخطاب رقيق فيه دعة ونقاوة‬
‫ليك ينتفعوا وإال فليدعهم إىل خالقهم‪.‬‬
‫ال يكذب الوالدان وال يعدا أوالدهام ويخلفا وعدهام‪ ،‬ليحذرا املحاولة واملطاولة‬
‫واملامطلة والتسويف والتعليل باألماين الكواذب واالتكال عىل التقادير واالعتامد عىل‬
‫الزمان‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫ليمنع الولد منعا شديدا من معارشة الصبيان غري املهذبني وعن مالعبتهم وسامع‬ ‫ْ‬
‫أحاديثهم‪ ،‬وأرى األفضل أن ال ُيسمح له مبصاحبة غري والديه وأقاربهام املتأدبني الذين‬
‫يريدون بهام خرياً‪ .‬فإن كانوا كلهم من الرعاع فلريسل إىل املدرسة يف بلد غري بلد أبويه‪.‬‬
‫ليتنبه الوالدان إىل خلوات أبنائهام كل االنتباه‪ .‬ال تكن سطوتهام عىل ولدهام‬
‫قوي ًة فإنها تولد فيه البله والجبانة‪.‬‬
‫ال مينع اآلباء أبناءهم مام يضطرون إليه وخصوصاً إذا كانوا نشيطني أذكياء لئال‬
‫يحتالوا ويكذبوا ويرسقوا أو يستعطوا‪ ،‬ولئال يجدوا حاجاتهم عىل اضطرار منهم عند‬
‫أرشار الناس‪ .‬ليجتهدوا يف كفاية أوالدهم مؤونة الرشه فإنه يتولد غالباً من املنع‬
‫والحرمان‪ ،‬ذلك ألنَّ بعضهم ال يشبعونهم من طيباتهم وميسكون عنهم خرياتهم‬
‫فيمتنعون وهم ينظرون إليها بعيونهم وقلوبهم بل بكل حواسهم‪.‬‬
‫ليعلم البخالء أنهم ال يحفظون أموالهم ببخلهم وشحهم‪ ،‬بل يعرضونها للتلف‬
‫والضياع إذ يعلمون أوالدهم التبذير‪ ،‬ألنَّ الولد ال ينشأ عىل ما يكرهه‪ .‬وقد رأيت‬
‫كثريين من بني األشحاء يف األرض أضاعوا ثروات آبائهم بتبذيرهم‪.‬‬
‫ْ‬
‫وليعقل أنَّ إرادته من إرادة والديه ألنهام‬ ‫ليعقل الولد أنَّ له حدوداً ال يتعداها‪،‬‬
‫يريان له ما ال يراه حسناً ويحبان له ما هو جدير باملحبة‪ ،‬وهو ال يدرك غري أنه يجب‬
‫عليهام أن يكونا يف ذلك حكيمني أو أن يتشبها مبن تجملوا بالحكمة‪.‬‬
‫ال يرضب الولد فإنَّ الرضب يخمد فيه جذوة الذكاء فتنطفئ شعلة النشاط‪.‬‬
‫فإذا تتابع رضبه خبت ناره حتى تهمد‪ .‬ال يؤدب اآلباء أبناءهم وهم غضاب منهم‬
‫أو من غريهم لئال يتعدوا حد التأديب‪ ،‬فإنه من الجهل القبيح والخطأ الفاضح أن‬
‫يؤدب الولد بأكرث مام يستحق فيصري التأديب ظل ًام وبغياً وانتقاماً من غري أهله مع‬

‫‪87‬‬
‫أنَّ االنتقام من أهله مكروه‪ .‬وقد علم أنَّ التشديد يعلم االستعصاء إذا كان الولد‬
‫جسوراً‪ ،‬وإال فيضعف بدنه‪ ،‬ورمبا كان التضييق والضغط سبباً يف إحداث العاهات‪.‬‬
‫فإذا رضبت ولدك وأبكيته فال تكرهه عىل السكوت بل دعه وتوار عنه إىل أن يسكت‬
‫ويسكن فيوبخ‪.‬‬
‫الحكمة كل الحكمة أن تحسن تربية الغالم وتحكمها حينام يخلف ويحمم ‪،‬‬
‫(((‬ ‫(((‬

‫والسيام إذا كان يف الشباب الغيدق((( وهو بزيع(((‪ .‬وعىل اإلجامل فإنَّ الرتبية علم عال‬
‫يجب درسه بتأن وتفهم وإال فالزواج جناية‪ .‬ويف األخري أشري عىل الحكامء والعلامء‬
‫عندكم بأن يجعلوا فن الرتبية عل ًام قامئاً بنفسه يدرس يف جميع املدارس واملكاتب‬
‫ألنَّ فيه حياة اإلنسان‪ ،‬فإما أن يعيش بحسن الرتبية قريباً من السعادة‪ ،‬يسعد نفسه‬
‫وأهله واملجتمع اإلنساين‪ ،‬وإما أن يعيش شقياً يشقي نفسه ومن يلوذ به‪.‬‬

‫الفصل الثالث منه‬


‫_ يف مدارس وعلوم سكان الزهرة _‬
‫قال والدي‪ :‬إنَّ التعلم يف الزهرة واجب للذكور ولإلناث جميعاً‪ ،‬فالجاهل الغبي‬
‫عندنا ال يخلو مهام بحثنا من عقل وعلم‪ ،‬وذلك لسببني أولهام ألنَّ عقولنا أرقى من‬
‫عقولكم ومداركنا أسمى وأعىل من مدارككم كام أوضحت لك‪ ،‬وألنَّ التع ّلم عندنا‬
‫عمومي فسكان الزهرة كلهم علامء تقريباً‪ ،‬فيقتبس الولد من علم والديه وينشأ عليه‬
‫كام يقتبس من كالمهام بغري صعوبة‪ .‬والسبب الثاين هو ألنَّ لغتنا وعلومنا أسهل‬
‫وأقل من لغتكم وعلومكم‪ ،‬فال يضطر والحالة هذه ولدنا إىل إضاعة الجانب األعظم‬
‫من عمره يف الدرس واملطالعة حتى يكاد يفقد نور عينيه وإن شئت فقد كل صحته‪.‬‬
‫إنَّ مدارسنا كثرية ففي كل محلة مدرسة‪ .‬أما املعلمون فهم القضاة املشهورة‬

‫‪ 1‬ـ أخلف الغالم‪ :‬إذا راهق الحلم‪.‬‬


‫‪ 2‬ـ حمم الغالم‪ :‬بدت لحيته‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ شباب غيدق‪ :‬ناعم‪ .‬والغيدق من الغلامن الذي مل يبلغ‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ بزغ الغالم بزاعة فهو بزيغ‪ :‬ظرف وملح‪ .‬وغالم بزيع وجارية بزيعة إذا وصفا بالظرف واملالحة وذكاء‬
‫القلب‪ .‬وغالم بزيع أي يتكلم وال يستحي‪.‬‬

‫‪88‬‬
‫بالفضائل والبارعون‪ .‬وأما الدروس فهي خمسة يف سبعة أعوام أرقى من علومكم وأعىل‪.‬‬
‫أوالً‪ :‬علم اللغة قراءة وكتابة وإنشاء‪.‬‬
‫ثانياً‪ :‬علم الرتبية وعلم السلوك والواجبات‪.‬‬
‫ثالثاً‪ :‬علم التاريخ وعلم الجغرافيا‪.‬‬
‫رابعاً‪ :‬علم طبائع الحيوان‪.‬‬
‫خامساً‪ :‬علم طبقات األرض‪.‬‬
‫أما علم الحقوق والقوانني الحقوقية والعقابية بأحكامها فيأخذها الولد عن‬
‫والديه كام يأخذ الصالة والوصايا والتسبيحات والفضائل‪ .‬والتلميذ يقيم باملدرسة‬
‫ثالث سنني فقط‪ .‬ومن أراد التوسع يف املعارف والفنون والعلوم العالية ليفوق العلامء‬
‫العاديني ويتعلم علوم القضاة ويكون منهم أضاف مدة سنتني إىل الثالث‪.‬‬

‫الفصل الرابع منه‬


‫_ يف َّأن آفة التلميذ باألرض‬
‫مدرسته ودروسه ويف الرتبية أيضاً _‬
‫قال والدي‪ :‬يجتهد الوالدان املتأدبان يف تأديب ولدهام وتعليمه ليزاول أمور‬
‫الدنيا عندكم ويجاهد فيها الجهاد الحسن طلباً للرزق‪ ،‬فريسلونه إىل املدرسة وهو‬
‫طيب القلب نقي الضمري حسن السلوك‪ .‬فإذا مل يفسده أستاذه بنفسه ألقاه بني صبية‬
‫ملن مل يصيبوا من مدرسته غالباً غري فساد األخالق فيحذو حذوهم ويتخلق بأخالقهم‪.‬‬
‫فإذا كان التلميذ نبيهاً ذكياً حفظ شيئاً من العلوم‪.‬‬
‫وإذا كان بليداً جامد القريحة مت ّكن منه ذاك الفساد وتأصل فيه ومل يتعلم‬
‫شيئاً‪ ،‬فتكون مدرسته آفته فيخرج إىل الدنيا وهو فاسد جاهل أبله‪ ،‬فيقع عليه ذلك‬
‫التلميذ الذيك الفاسد مبدرسته الذي سبق ذكره ويقوده كيف شاء ويستخدمه فيام‬
‫بعد بأشغاله‪ ،‬وإن شئت ْ‬
‫فقل ويستعبده ألنه يجهده كام يجهد دابته وال يعطيه إال‬
‫ما يسد به الرمق‪ .‬فلو هذبتهام مدرستهام أو تركتهام عىل فطرتهام األصلية وعلمتهام‬
‫ومكنت املحبة من قلبهام ومدحت لهام املروءة أيضاً ورغبتهام فيهام‪ ،‬ذلك أن تثبت‬
‫لهام أنهام تعليان قدر املرء ألخذ كل منهام حقه من أخيه من غري أن يستعبد القوي‬
‫منهام الضعيف بطمعه‪ .‬ألنَّ املحبة املزينة باملروءة تبعث صاحبها عىل حب الفضيلة‬

‫‪89‬‬
‫التي تحيي القناعة فيه فإنها مصدر اإلنصاف فال يظلم ظامل وال يظلم مظلوم‪.‬‬
‫ثم قال والدي‪ :‬إنَّ صعوبة لغتكم وكرثة الدروس واختالف موضوعاتها التي تلقى‬
‫كل يوم عىل التلميذ مع جهل األستاذ فن اإللقاء‪ ،‬تو ّلد فيه الفتور والكسل والزهد‬
‫فيها‪ ،‬فيلهو عنها باملفاسد واستنباط الحيل ليكف بها أستاذه الذي يتغافل عنه لعجزه‬
‫وجهله‪ ،‬فإذا كان نشيطاً بارعاً عاملاً بفن اإللقاء فصيحاً بليغاً ر ّغب التالميذ يف دروسهم‬
‫وأفادهم‪ .‬غري أنه ال يستطيع مع ما يبذله من الجهد أن يجعلهم يفضلون لغتهم‬
‫العربية عىل لغة أوروبية‪ ،‬ألنهم يعلمون أنَّ الزمان الذي يذهبونه يف تعلم عربيتهم‬
‫ميكنهم من تعلم ثالث لغات‪ ،‬فاإلنكليزية والفرنساوية واألملانية اليوم خري لهم من‬
‫التبحر يف علم العربية التي أمست عىل صعوبتها ال تنفع طالبها كغريها من اللغات‪.‬‬
‫ومام يزيدهم رغبة عنها هو أن قواعدها كتبت بلغة ال يفهمونها‪ ،‬أي بغري اللغة‬
‫العامية‪ ،‬فيجب عليهم أن يتعلموا قواعد لغتهم باللغة الفصيحة التي ال يفهمونها‬
‫بخالف اللغات األوروبية فإنَّ قواعدها كتبت باللغة املألوفة‪.‬‬
‫أقول وأنا آسف عىل العريب يف هذا الزمان وعىل عربيته‪ :‬إنَّ األورويب يتكلم ويقرأ‬
‫ويكتب ويتعلم العلوم والفنون العرصية بلغة واحدة يف مدة غري طويلة‪ ،‬أما العريب‬
‫فإنه إذا دخل إىل مدرسة تلقى فيها اللغة العربية مع الثالث لغات التي ذكرتها لك‬
‫وغلب حب عربيته عىل غريها‪ ،‬خرج يف العرشين من عمره ال يعرف منها غري القراءة‬
‫وشيئاً من اإلعراب وقد أضاع اللغات الثالث‪ .‬فإذا أراد إنشاء رسالة فال يستطيع‪ ،‬وإذا‬
‫رأى أن يتعلم اإلنشاء والثالث لغات التي أمست اليوم رضورية مع يشء من العلوم‬
‫العرصية‪ ،‬أضاع مطاليب عمره يف مدرسته‪.‬‬
‫فبناء عىل ما ذكر ستميس اللغة العربية عام قليل لغة مرتوكة‪ .‬ولو مل تكن من‬
‫اللغات الدينية لصارت تشبه اللغة القبطية التي أمست اآلن لغة قدمية مهجورة‪.‬‬
‫والذي زاد يف تأخر اللغة العربية وانحطاطها عن عظمتها هو عدم تأليف جمعية‬
‫علمية لها رجالها من جميع البالد العربية الشهرية‪ ،‬يرجع إليها يف كشف املخبئات‬
‫ويف الرتجمة والتعريب‪ .‬فإذا أراد عريب عامل بالفرنساوية مث ًال أن يرتجم كتاباً إىل لغة‬
‫يف علم من العلوم العرصية الرضورية‪ ،‬مل يجد بني لغته الكلامت الدالة عىل املعاين‬
‫املطلوبة ترجمتها‪ ،‬فإذا ع ّرب أو وضع كلامت قريبة من املقصود بحسب معرفته‬
‫واجتهاده أنكرها عليه مبا ٍر وعابه حاسد‪ .‬فلو كانت الجمعية التي أرشت إليها قامئة‬
‫مبوجب جرايات تتناولها يف أوقاتها لرجع إليها املتباريان فلقيا عندها الفصل‪.‬‬

‫‪90‬‬
‫فإذا مل ينتبه علامء العرب إىل قويل هذا ومل يجمعوا عىل هذه الجمعية أمست‬
‫العربية كاليونانية واألرمنية‪ ،‬أي إنَّ العريب يضطر بعد حني من الدهر إىل تعزيز‬
‫العربية الدارجة وضبط قواعد لها بطرائق مخترصة وأساليب سهلة قريبة التأول‪،‬‬
‫فتصبح تلك املطوالت الطويلة العريضة الضخمة نسياً منسياً كام أمست وأصبحت‬
‫مطوالت اليونان واألرمن وأمثالهم‪.‬‬
‫لرنجع إىل الرتبية فنقول‪ :‬يجب عىل الوالدين أن يربيا أوالدهام باآلداب والفضائل‬
‫من صغرهم‪ ،‬فإذا بلغ الولد السنة السابعة من عمره أخذا يف تعليمه ساعة قبل الظهر‬
‫ومثلها بعده‪ .‬فإذا بلغ الثامنة جعال الساعة ساعتني قبل الظهر وبعده أيضاً‪ ،‬فإذا بلغ‬
‫التاسعة ع ّلامه مراجعة درسه مدة ساعة بعد أن يهب من فراشه ويصيل يف كل يوم‪.‬‬
‫فإذا بلغ العارشة لزمه مراجعة درسه صباحاً ومسا ًء ساعة فساعة‪ .‬فإذا بلغ السنة‬
‫الحادية عرشة وقد رسخت فيه اآلداب ونشأ عىل حب الفضيلة أرساله إىل املدرسة‬
‫فإذا عفا((( عليهام يف العلم قبل ذلك فال يتأخرا عن إرساله إليها‪ .‬هذا إذا كان الوالدان‬
‫مهذبني خريجي مدرسة اشتهرت عندكم بحسن التهذيب والتثقيف‪ ،‬وإال فعليهام أن‬
‫يرساله من السنة السادسة إىل تلك املدرسة قبل أن ينح َو نحوهام ويجري عىل سننهام‬
‫يف كل يشء فيصعب تأديبه وإرهافه‪.‬‬
‫لتكن املدرسة معروفة من تالمذتها باآلداب ال بالعلوم فقط‪ ،‬وبتقوى أساتذتها‬
‫وعفافهم‪ ،‬مشهورة بفضائلهم وحسن سلوكهم وطيب عنرصهم ودماثة أخالقهم‪،‬‬
‫وبرصانتهم ومروءتهم‪ ،‬فإنَّ املدرسة التي تجعل تالميذها وطلبتها بهذه املزايا هي‬
‫املدرسة العالية وحدها‪ ،‬ذلك ألنَّ املزايا ترغب التلميذ يف التعلم وتهون عليه مصاعب‬
‫العلم فيقتبس منه يف مدة قصرية‪.‬‬
‫يا أيها الناس يا ليتكم تعلمون وتسمعون أنه يجب عىل الوالدين واألقارب‬
‫واألصدقاء معاً أن يكونوا يداً واحدة وينتخبوا بتعقل وتأنٍ مدرسة لولدهام ولقريبهم‬
‫اوالبن صديقهام‪ ،‬فإنَّ املدرسة إما أن تفسد التلميذ وإما أنها تصلحه فعليها يتوقف‬
‫مستقبله‪.‬‬
‫يا أيها اآلباء إنني كنت تلميذاً ثم رصت معل ًام‪ ،‬فرأيت وعلمت ما ال تعلمون‪،‬‬
‫فاحفظوا وصيتي هذه‪ ،‬وإنني ألكررها لكم وهي أن تنتقوا ألوالدكم مدرسة تكون‬

‫‪ 1‬ـ عفا عليه يف العلم‪ :‬زاد عليه‪.‬‬

‫‪91‬‬
‫خرياً لهم وال رشاً عليهم‪ ،‬هذه وصيتي وهي ال كالوصايا التي أوصيت لكم فاعقلوها‬
‫وافهموها وتدبروها‪ .‬وهذه نصيحة ال كالنصائح التي نصحت فأدركوها وافطنوا إليها‬
‫وأتقنوها لعلكم تفلحون‪.‬‬
‫يا أيها املعلمون إليكم نصائح تلقونها عىل التالمذة يف خالل التعليم وهي‪ :‬يجب‬
‫عىل كل تلميذ أن يحفظ وصايا الله تعاىل‪ ،‬ويعمل حسب أوامره حفظاً جيداً حتى‬
‫ترسخ معانيها يف عقله وقلبه‪ .‬منها يجب عليه أن يحب الله تعاىل أكرث من نفسه‬
‫وغريه وأكرث من كل يشء محبة صادقة ثابتة باشتياق منه وتوقري وتعظيم ألنه ّ‬
‫جل‬
‫جالله أحبه كثرياً‪ .‬ويجب عليه أن ال يفرت عن الصالة يف أوقاتها‪ ،‬وأن يعتقد وهو يصيل‬
‫أنه فقري إليه تبارك وعال‪ ،‬وأنه ضعيف عاجز ال غنى له عنه وليس له ملجأ إليه سواه‪.‬‬
‫فيلتمس منه وقد أطبق جفنيه وتاب واستغفر أن يهبه الصرب الجميل عىل تحمل‬
‫مصائب الدنيا ومكارهها‪ ،‬وأن مينحه ما يحتاج إليه بقناعة‪ .‬وليكن هذا االلتامس بتأن‬
‫منه ووقار وحسن تفهم من غري أن يجعل الصالة عادة‪ ،‬فيتلو كلامتها برسعة فال يفهم‬
‫ما يقول وال يدري‪ ،‬كأنه مأمور برسد تلك الكلامت‪ ،‬فهمها أو مل يفهمها‪ ،‬فيرسدها تباعاً‬
‫من دون أن يتدبر معانيها كام يصيل ابن ثالث سنني ال يعقل ما يقول‪ ،‬ويجب أن يعلم‬
‫املصيل أنه يخاطب الله تعاىل الذي هو ملك امللوك ورب األرباب بل أعظم‪ ،‬فليخاطبه‬
‫كام يخاطب امللك العظيم عىل األقل‪.‬‬
‫ويجب عليه أن يحب غريه نظري نفسه ليكون له أعوان‪ ،‬أي أن يحب كل إنسان‬
‫عىل اإلطالق من دون استثناء ألننا كلنا إخوان‪ .‬وعليه فكل منا يخاطب أخاه يف الزهرة‬
‫هكذا‪« :‬يا أخي»‪ .‬ويجب عليه أن يتمنى الخري ألخيه كام يتمناه لنفسه‪ ،‬فإذا تحاببتم‬
‫كام أرشت كانت النتيجة أنَّ كل واحد منكم أحب نفسه فام أحسن هذه املحبة‪.‬‬
‫ليعلم التلميذ أنَّ من أحب نفسه فقط كرهه إخوانه البرش‪ ،‬وليعلم أنه ال نجاح‬
‫وال فالح إال باملحبة‪ ،‬فكلام ازدادت محبته ازداد نجاحه‪ ،‬فليسع وراءه مبا استطاع من‬
‫فليرس بها نفسه الرسور الذي يتمناه‪.‬‬
‫َّ‬ ‫املحبة‪ .‬إنَّ املحبة يف اإلنسان كثرية ال نهاية لها‬
‫ويجب عىل التلميذ أن يهم بالخري دامئاً وأن يعمله ولو مع الذي يظنه غري أهل‬
‫له‪ ،‬ألنَّ اإلنسان قد يخطئ يف معرفة املحتاجني إىل الخري‪.‬‬
‫ال يع ْد بالخري ويخلف وعده‪ .‬إذا قدر عىل خري يومه فال يؤجله إىل غده فإنه يف‬
‫تأخري ساعة ال يصيب الخري أهله ومحله‪ ،‬وتفوت الفرصة وتزهق النفس املضطرة‪ .‬ال‬

‫‪92‬‬
‫يغرت املحسن بالظواهر ف ُر َّب ذي بزة((( حسنة يلتهب حشاه جوعاً‪ ،‬وهذا هو الفقري‬
‫الصابر إذا أردت أن تعرفه‪ .‬إنَّ من يصطنع أي يتخذ صنيعاً يعني طعاماً ينفقه يف‬
‫سبيل الله تعاىل ويرحم الفقراء الصابرين‪ ،‬فقد رحمه الله ورأى من نفسه ارتياحاً‬
‫إىل الرحمة‪.‬‬
‫ليس الخري بالتص ّدق عىل الفقراء فقط‪ ،‬بل الخري كل الخري أن تسعى فيه لتكفي‬
‫أخاك شدة االحتياج‪ .‬إنَّ خري الناس من سعى يف إغاثة فقري وإغنائه عن ذل السؤال‪.‬‬
‫ليست اإلنسانية باإلنس والكالم الطيب بل بالرأفة والسعي الحسن‪.‬‬
‫إذا أنعم منعم فال يتحدث بأنعامه متدحاً وطلباً للشكر ألنَّ اإلحسان ال يكون‬
‫إحساناً إال إذا كان بغري عوض‪ ،‬فالشكر تعويض املحسن إليه‪ .‬والشكر يف اإلنسان غالباً‬
‫قريحة‪ ،‬ف ُر َّب محسن إليه كان جامد القريحة فقلبه أفصح من لسانه‪.‬‬
‫الكريم من ال يرد قاصداً عفاه(((‪ .‬إنَّ من ال يقيض حاجة مضطر وهو قادر عىل‬
‫قضائها فليكن ملعوناً ال يكلمه أحد‪.‬‬
‫وليعلم التلميذ أنَّ الذين يجهدون نفوسهم يف جمع األموال الطائلة‪ ،‬يستعبدون‬
‫لها ويلهون بها عن الله تعاىل وعام وجب عليهم إلخوانهم‪ ،‬وهم الذين يحتالون يف‬
‫طلبها وقد بعثهم عليها حب نفوسهم املتفانية يف حب العظمة‪.‬‬
‫إنَّ الذي ال يستطيع أن يتعظم بالعلم املتجمل بالفضيلة يزعم أنه يتعظم مباله‪،‬‬
‫وشتان بينهام فيخطئ من جهتني‪ ،‬فإنَّ التعظم يصدر عن الكربياء وهو خطأ فاضح‬
‫يجب أن يقلع عنه‪ .‬واالحتيال يف جمع األموال خطأ فاحش يلزمه أن يتربأ منه وأن‬
‫يتنصل إىل الله منهام‪.‬‬
‫من كانت الفضيلة دأبه وهو زاهد يف العظمة فقد عظمه الناس‪ ،‬وهذا هو‬
‫العظيم الذي يجب تعظيمه‪.‬‬
‫ويا أيها املعلمون أعيدوا النصائح وكرروا معي معانيها لتتم الفائدة‪ ،‬وخاطبوا كل‬
‫تلميذ هكذا‪ :‬إنَّ خري املال ما تجمعه بالرأفة والحنان لتنفقه يف مصالحك‪ ،‬وتنفق منه‬
‫ما أنت غني عنه يف مصالح من هم أكرث احتياجاً منك إليه‪.‬‬

‫‪ 1‬ـ البزة‪ :‬الثياب‪.‬‬


‫‪ 2‬ـ عفوت الرجل‪ :‬طلبت فضله‪ .‬وعفاه‪ :‬أتاه يطلب معروفه‪.‬‬

‫‪93‬‬
‫واسع وراء بغيتك‪ .‬إنَّ املخالفة مكروهة واالنقياد محمود‪.‬‬
‫ال تتفكن(((‪ ،‬بل ج َّد َ‬
‫التلميذ الصالح من إذا نصحته وردعته قرع(((‪ .‬الشجاعة مزية من مزايا الرجال‪ .‬ال‬
‫ينتقم لنفسه كريم‪ .‬الحليم مغبوط أينام كان‪ .‬خري التالمذة من عاش عامراً((( ورشهم‬
‫من كان حابضاً(((‪.‬‬
‫أما العلوم التي يجب أن تلقى عىل التالمذة عندكم فهي التي تلقى يف مدارس‬
‫الزهرة‪ ،‬غري أنه يضاف إليها علم الحساب‪ .‬فإذا ألقيت عليهم ببيان واختصار مدة‬
‫أربع سنني دخل يف السنة الخامسة عرشة من عمره‪ ،‬فينقل إذا أراد إىل مدرسة‬
‫الصنائع‪ ،‬فيتعلم أصعب حرفة يف مدة ثالث سنني‪ ،‬فيخرج من املدرسة يف الثامنة‬
‫عرشة من عمره‪.‬‬

‫الفصل الخامس منه‬


‫_ يف اللغة _‬
‫قال والدي‪ :‬إنَّ لغتنا واحدة ال ثانية لها‪ .‬إذا تكلمنا طربنا‪ ،‬فهي أشهى من تغريد‬
‫البالبل لدينا يف قرار وانخفاض‪ ،‬تسيل الرقة من شفاهنا‪ .‬ومن العجب أنه مع ضخامة‬
‫أجسامنا كام تراين ال تخرج الكلمة من أفواهنا إال لينة عذبة فيها صفاء وطالوة‪.‬‬
‫إننا نقرأ ونكتب ونتكلم بكالم واحد‪ ،‬وتراكيب واحدة‪ ،‬أما حروفنا فهي خمسة‬
‫عرش حرفاً كأنها تشبه األلف والباء والتاء والجيم والدال والراء والزاي والسني والفاء‬
‫والكاف والالم وامليم والنون والواو والياء وهي بأسامء خمسة عرش قاضياً وقاضية من‬
‫الشهريين والشهريات عندنا‪.‬‬
‫ال تجد بني حروفنا حرفاً حلقياً يصعب تلفظه‪ ،‬بل تُلفظ كلها بسهولة وليونة‪،‬‬
‫وهي مع قلتها قامئة بلغة خلق عظيم أعظم وأكرث منكم بكثري‪ .‬ومبا أننا نعيش عيش‬

‫‪ 1‬ـ تفكن‪ :‬تأسف وتلهف‪ .‬وقيل هو التلهف عىل اليشء يفوتك بعدما ظننت أنك ظفرت به‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ قرع‪ :‬قبل املشورة والنصيحة‪.‬‬
‫‪ -3‬رجل عامر‪ :‬هو الرجل القوي اإلميان الثابت يف أمره‪ .‬وقيل‪ :‬الكثري الصالة والصيام والقوي اإلميان الثابت‬
‫يف أمره والطيب الثناء‪.‬‬
‫‪4‬ـ حبض الغالم‪ :‬ظن به خري فأخلف الظن‪.‬‬

‫‪94‬‬
‫أهل الوبر تقريباً ونحن متقاربون فكالمنا قليل بقدر احتياجنا‪.‬‬
‫ثم قال‪ :‬ومن البلية عندكم أنَّ القارئ ال يشتهي أن يراجع كتاب لغة لكرثة‬
‫ما فيه من الرشوح والنقول واآلراء واألقوال والروايات والحكايات اململة واملختلفة‬
‫واملتناقضة‪ .‬هذا كله عدا قلة الرتتيب التي تضيق بها الصدور‪ ،‬وعندي أنَّ الوقت الذي‬
‫تضيعه يف مراجعة كلمة تستطيع أن تنشئ فيه رسالة أدبية‪ .‬واملصبية أنك إذا راجعت‬
‫مادة اضطررت كثرياً إىل مراجعة غريها وغريها‪ ،‬ومنها ما يصعب عليك فهمه كقوله‬
‫«ال َب ْ َيم ال َع َت َلة أو عتلة النجار خاصة»‪ ،‬فإذا راجعت مادة َع َت َل قرأت هكذا «ال َع َت َلة‬
‫َب ْ َيم النجار واملجتاب» إىل غري ذلك‪.‬‬
‫هذا وكالمنا ال يحتمل التأويل بحيث إنَّ الكلمة الواحدة تطلق عىل معنيني‬
‫متضادين كطرب للفرح والحزن معاً‪.‬‬
‫ال ننافس يف األلفاظ واملباين‪ ،‬بل ننافس يف املعاين‪ ،‬فإذا عرب كالمنا ل َّذ لك وراق‬
‫وأعجبت به فيسكرك وما بك من سكر‪ .‬أما العريب املتأنق يف األلفاظ فال تروقك‬
‫معانيه إذا نقلت إىل غري لغة كام راقتك قبل نقلها‪ .‬إنَّ كثريين من كتبتكم أهملوا‬
‫املعاين واكتفوا باأللفاظ والرتاكيب‪.‬‬
‫إننا ال نحدث لغة ثانية لعلمنا أنَّ تعدد اللغات يحدث البلبلة والتباين يف‬
‫العادات والغايات واألهواء واملآرب‪ ،‬فيبدو االختالف بني الخليقة‪ ،‬فينشأ الخصام‪،‬‬
‫فتنمو البغضاء‪ ،‬وهناك البالء بل هناك الطامة((( الكربى‪.‬‬
‫يا حبذا لو اتفق سكان األرض وأجمعوا عىل اختيار لغة واحدة قريبة الحفظ سهلة‬
‫التلفظ وذلك من غري أن يتعصب كل قوم للغتهم‪ .‬فإذا تعصبوا ومل يتفقوا فيمكن‬
‫وضع لغة جديدة مخترصة ال يزريها تأويل وال يعيبها شذوذ بحيث يهون تعلمها‪ .‬فإذا‬
‫خفت ويالتكم عليكم‪ .‬إن شاء الله تعاىل تقاربتم بالتآلف‪ ،‬فيسهل بعد‬ ‫تم هذا لكم ْ‬ ‫َّ‬
‫مين عليكم فتجتمعون عىل دين‬ ‫ذلك تقريب األديان بعضها من بعض باملحبة إىل أن ّ‬
‫واحد فيه خري لكم وملن بعدكم‪ .‬إنكم تحسبون نفوسكم عقالء ولكنكم ال تعقلون‪.‬‬
‫وبعد هذا قال يل والدي‪ :‬نم قلي ًال واسرتح إىل أن أعود إليك‪ ،‬ثم مىض فنمت‪،‬‬
‫ولكن أيعلم القارئ ماذا رأيت؟ ال يعلم‪ .‬كيف يعلم وأنا أشك يف األمر أنني رأيت‬
‫نفيس يف مدينة القضاة‪ ،‬وأنا أطوف يف شوارعها وأعجب مام أعاين عجباً كاد يذهب‬

‫‪ -5‬ـ الطامة‪ :‬الداهية تغلب ما سواها وذلك ألنها تطم كل يشء تعلوه وتغطيه‪.‬‬

‫‪95‬‬
‫بعقيل؟ فلو استطعت وأعربت عنه ملا صدقني الناس فالسكوت أكرم يل‪ .‬لقد أبرصت‬
‫والدي يخاطب قايض القضاة فسمعته يقول له‪ :‬أال تأمر له بيشء‪ .‬فقال‪ :‬خذ شيئاً من‬
‫الرمان فسكت والدي وأطرق‪ ،‬فقال له إنك تريد أن تقدم إىل ولدك مثرة اللذة لينج َو‬
‫من الجزاء بعد نجاته من األرض‪ ،‬فامذا نفعل إذا أثم بعد أكلها‪ ،‬وأنت تعلم أن آكلها‬
‫ال تغلق يف وجهه أبواب مدينة القضاة؟ فقال والدي‪ :‬إذا كنت تعلم أنه ال يأثم إمثاً‬
‫كبرياً فاسمح له‪ .‬فتأمل هنيهة ثم قال‪ :‬لقد أمرين الله تعاىل أن ال أرد التامسك‪ ،‬فعىل‬
‫ولدك أن ال يكفر بهذه النعمة‪ ،‬وعساه أن يقدر لها قدراً عظي ًام‪ .‬وبعد هذا استيقظت‬
‫فأبرصت والدي مقب ًال ويف يده غصن نضري بثمرتني شهيتني كل منهام بحجم بطيخة‪،‬‬
‫يبلغ ثقل الواحدة نحو ألفي درهم‪ ،‬أما لونها فهو كام تريد‪ ،‬فإن أردت الزرقة وذكرتها‬
‫ازرقت‪ ،‬وإن أردت األحمر احمرت إىل غري هذا من األلوان التي تروقك‪ ،‬فإن مل تعني‬
‫لوناً أبرصت لوناً بهجاً حسناً ال تعرف له اس ًام‪ .‬فأخذ والدي ورقة من ورق الغصن‬
‫وقش به لذة من اللذتني‪ ،‬وقطع قطعة وناولني إياها وقال يل‪:‬‬ ‫فإذا هي سكني ماض‪ّ ،‬‬
‫إن كنت تريد أن ال تأثم فكل من مثرة اللذة‪ ،‬وقد علمت ما جرى بيني وبني قايض‬
‫القضاة من أجلك‪ .‬فأكلت قطعة صغرية فشعرت بلذة ليس من املمكن أن يشعر‬
‫اقرتح شيئاً من املآكل‪ .‬فقلت‪ :‬أشتهي العنب‪ .‬فقال‪:‬‬ ‫بها سكان األرض‪ .‬ثم قال يل‪ْ :‬‬
‫كل‪ ،‬فأكلت عنباً ال يأكله آكل إال انرشح صدره‪ .‬ثم قال‪ْ :‬‬
‫اقرتح غري الفاكهة‪ .‬فقلت‪:‬‬ ‫ْ‬
‫اقرتح شيئاً من الحلواء‪ .‬فاقرتحت‬
‫أريد شواء‪ ،‬ثم أكلت فكان غاية يف اللذة‪ ،‬ثم قال‪ْ :‬‬
‫ال َّلوزِي َنج فكان كذلك‪ ،‬فسبحت الله الخالق العظيم وشكرت والدي عىل إحسانه‬
‫وعظمته أحسن تعظيم‪.‬‬

‫الفصل السادس منه‬


‫_ يف املطابع _‬
‫قال والدي‪ :‬يقف أحدنا أمام املطبعة ويتلو كالمه فتنقله بأرسع من ملح البرص‪،‬‬
‫وتقدمه إليه مطبوعاً طبعاً جيداً متقناً بحروف جلية ينبعث منها يف خالل سطورها‬
‫نور لطيف ملن كان ضعيف البرص‪ ،‬فيقرأها غري محتاج إىل منظر‪.‬‬
‫وإذا كان ال يريد أن يذهب إىل املطبعة‪ ،‬فيقول وهو يف داره‪ :‬يا صاحب املطبعة‬
‫الفالنية «تهيأ»‪ ،‬فيسمع حاالً قائ ًال يقول‪« :‬اقرأ»‪ ،‬فيقرأ املقالة‪ ،‬وبعد دقائق يراها بني‬

‫‪96‬‬
‫يديه مطبوعة‪ .‬وإذا أراد فيضعها يف آلة عنده فتنقلها وتضعها أمام املطبعة فتطبعها‬
‫حاالً‪ ،‬وإذا أردت أن يتك ّلم الكتاب املطبوع مبا فيه من الكالم تك ّلم كالماً فصيحاً‪ ،‬أما‬
‫آلة التك ّلم فإنها مخبأة يف الجلد اللطيف‪ ،‬ال تراها لدقتها‪ ،‬وإذا طبعت صورتك يف‬
‫كتابك قرأته عنك بصوتك ولهجتك كأنّك أنت تقرأه‪.‬‬

‫الفصل السابع منه‬


‫_ يف علامء األرض وحالة اإلنسان األوىل فيها _‬
‫قال والدي‪ :‬آفة العلم الجاهالت من النساء‪ .‬إنَّ املرأة الجاهلة ال تريد منك براعة‬
‫وعل ًام بل تريد ماالً كثرياً وقداً نضرياً ووجهاً منرياً واستعطافاً واستلطافاً‪ ،‬وتريد لها غراً‬
‫مل يجرب األمور‪ ،‬بل أغراراً ينشأون عىل إرادتها وينمون عىل محبتها لتفعل بهم ما‬
‫تشاء وتريد‪ ،‬فال يتحركون إال بحركتها وال يسكنون إال بسكنتها‪.‬‬
‫إذا تعلم الرجل أصل أحوال النساء فال يحسن عندهن أن يكون الرجال علامء‬
‫وهن جاهالت‪ .‬إنَّ املرأة الجاهلة تزعم أنها تستغني بحسنها ودهائها عن العلم الذي‬
‫يلزمه الثبات والجهاد الحسن‪ .‬املرأة تستعبد العامل وهي جاهلة فامذا كانت تفعل به‬
‫لو كانت عاملة؟ كانت هي الرجل وهي املرأة معاً‪ .‬لو اشتغل الرجل عن املرأة بالعلم‬
‫لكانت الدنيا للعلامء‪.‬‬
‫يا أيتها املرأة إنك لعظيمة أعظم مام تعلمني‪ .‬لقد هابك الرجل األول فأذلك‪ ،‬أما‬
‫اآلن وقد علمت كيف تسودين فلامذا ال تتعلمني؟ تعلمي ل َري الرجال عظمتك‪ ،‬ل َري‬
‫الرجال منك عظمة مزينة باملحبة الخالصة الساملة من شائبة التنقل وامللل‪ ،‬وهم‬
‫يحتاجون إىل الثبات فتقوى قلوبهم بك ويحرتمونك‪.‬‬
‫يا أيها الرجل كيف تطلب العلم وأنت ال ٍه عنه بحب املرأة‪ ،‬حائر ال تعرف كيف‬
‫تسرتضيها وال تدري كيف تستعطفها؟ كيف تسعى وراء العلم وأنت ال متلك عقلك؟ من‬
‫ترك املرأة وتفرغ للعلم فهو أكرب منها مع إنها أكرب منه‪ ،‬ولكن هيهات أن يسلم منها‪.‬‬
‫إنك يا أيتها املرأة جميلة ولكنك ال تعرفني قيمة جاملك فتعلمي ليك تصونيه وال‬
‫متتعي به األدنياء الذين ينكرونك متى ُملك جاملك‪ ،‬فإذا تعلمت حفظت لك جامالً‬
‫ال ميلك ودامت عظمتك‪.‬‬
‫يا أيها الذين خادعوا الحب فرسقوا من أوقاته ساعات رصفوها يف طلب العلم‪.‬‬

‫‪97‬‬
‫ويا أيها الذين غضبت عليهم حبيباتهم فهجرنهم مدة معلومة رجعوا بها إىل العلم‬
‫فأصبحوا علامء‪ ،‬أنتم علامء األرض ورجالها‪ .‬أنتم وال تعلمون من أنتم‪ .‬أنتم من أعاظم‬
‫رجال الزهرة وأكابرها الذين بأيديهم الحل والربط فيها‪ .‬أنتم البارعون املتفننون‪ ،‬أنتم‬
‫املخرتعون واملكتشفون‪ .‬أنتم األفاضل الذين يأسف عليكم سكان الزهرة‪ .‬أنتم الذين‬
‫يشهد لكم رجال الزهرة بالفضل عليها‪ ،‬نزلتم إىل األرض وقد بقيت يف نفوسكم بقية‬
‫من العلم فملتم بها إليه فكان نصيبكم منه العذاب والفقر‪.‬‬
‫من هم البائسون؟ ومن هم الفقراء الصابرون؟ من هم القانعون الراضون من‬
‫دنياهم مبا قسم الله تعاىل لهم من العيش الضيق؟ هم علامؤكم يا أكرث سكان األرض‪.‬‬
‫هم البائسون ولكنهم عظامء النفوس‪ .‬هم الفقراء الصابرون ولكنهم أباة الضيم‪ ،‬ال‬
‫يقعدون عىل الذل وال يرضون بالدنيئة‪ .‬لقد حكم الله تعاىل عليهم بأن تذل نفوسهم‬
‫فأنزلهم إليكم وجعلهم يلتمسون خبزهم منكم أنتم الذين ال علم لكم وال تدركون‬
‫للعمل مزية‪ .‬لقد أنزل الله كثريين من علامء الزهرة (الذين مل تكن خطيئاتهم‬
‫عظيمة) إىل غريكم من األمم التي عرفت فضل العلم فكانوا يف سعة من العيش‪.‬‬
‫إذا رأيت عاملاً فقرياً يف مدينة فاستدل بفقره عىل جهل أهلها‪ .‬إنَّ علامءكم‬
‫يلتمسون خبزهم منكم ولكنهم يعلمونكم ويهذبون أخالقكم ويدافعون عنكم‬
‫ويخاصمون لكم ويدرأون أعداءكم ويدلونكم عىل الخري ويرشدونكم إىل النجاح‬
‫ويتهالكون يف حبكم عند امللامت‪ .‬إنَّ رأي عامل فقري يحفظ أمة مبالها من بلية‬
‫كادت تذهب بها وتستأصلها‪ .‬يا أيها املتمولون الجهالء لو سعى العلامء بذكائهم‬
‫وفطنتهم وحسن جدهم وراء املال نصف سعيكم ملا تركوا لكم ديناراً تربحونه من‬
‫عمل ميارسونه‪ ،‬ولكنهم زهدوا يف املال ألنَّ نفوسهم أرفع منه وتركوه لكم‪ ،‬فاحمدوا‬
‫الله وال تضطروا بعضهم إىل هجر العلم وطلب املال‪ .‬ساعدوهم عىل نرش فوائدهم‬
‫وفضائلهم لعلكم تنتفعون بها‪ .‬أكرموهم وقربوهم منكم باإلخالص‪ .‬اركنوا إليهم‬
‫وشاوروهم يف أموركم فإنهم مخلصون ال يعرفون دهاء املتمولني وخداعهم‪ .‬إنَّ الذي‬
‫تحسبونه عظي ًام لديكم فتحرصون عليه هو محتقر عندهم فال تخافوهم إذا رجعتم‬
‫إليهم فيام يعز عليكم‪.‬‬
‫نحن نرجع إىل علامء الزهرة يف كل أمر‪ .‬نحن ال نستغني عنهم‪ .‬إنَّ الزهرة بدونهم‬
‫ال تصلح للعيش‪ ،‬فلذلك هم املقدمون عىل الخليقة وهم الرساة والعظامء‪.‬‬
‫ملا فرغ والدي من كالمه قلت له‪ :‬ألتمس منك أن تعلمني كيف كانت حالة‬

‫‪98‬‬
‫اإلنسان األوىل يف األرض‪ .‬فقال‪ :‬إنَّ الفصيلة البرشية األوىل (آكلة النبات) يف األرض‬
‫كانت تجري وراء الحيوان وتفتك به‪ .‬وكانت تقف له يف طريقه وتصيده‪ .‬فإذا ظفرت‬
‫به حياً مزقته بأظافريها وأنيابها وأكلته‪ .‬غري أنَّ اإلنسان توصل بأكله بقايا الحيوان‬
‫امللقى يف الهواء أيام الخريف إىل اكتشاف صناعة التقديد‪ ،‬فصار يصنع من اللحم‬
‫قديداً يدخره أليام الشتاء حيث يقل الحيوان إذ يعتصم مبالجئه الحصينة يف الجبال‪.‬‬
‫وكان يأكل أيضاً الحريد(((‪.‬‬
‫وتوصل أيضاً بأكله بقايا الحيوان امللقاة عىل الرمضاء أيام الصيف إىل معرفة‬
‫إنضاج اللحوم يف حرارة الشمس‪ ،‬وهذا هو العلم والصناعة األوىل اللذان انتفع بهام‬
‫اإلنسان وعرف منهام فائدة الحرارة‪ ،‬فأحب التوسع فيهام تفنناً منه فصار يدفن‬
‫اللحوم يف األرايض الرملية إىل أن تنضج فيأكلها‪ .‬ومن هنا ابتداء تاريخ الفنون‪ .‬وقد‬
‫قادت الصدفة رج ًال إىل قطعة من اللحم مخبأة يف رملة فأكلها متلذذاً بها‪( .‬أما أكله‬
‫النبات فلم يتعلمه تع ّل ًام بل كان طبيعياً فيه)‪.‬‬
‫أما علم التاريخ فكان ابتداؤه من نشأة اإلنسان األوىل‪ ،‬أي منذ كان األب ينقل إىل‬
‫أبنائه حوادث أيامه املستغربة‪ .‬إال أنَّ هذا النقل مل تتم به فائدة ألنَّ اإلنسان ملا كان‬
‫مولعاً بالغريب من الحديث غالباً‪ ،‬مل يكن يحفظ الحوادث العادية التي يف بعضها ما‬
‫هو جدير باالعتبار‪ .‬وأزيد عىل ذلك أنَّ تلك النقول والحكايات املكررة مل تكن تسلم‬
‫من شوائب املبالغات التي كانت تلفقها عجائز الحي‪ ،‬وال من الخرافات واألباطيل‬
‫والرتهات التي كانت مدعاة للجهل فتضيق بها دائرة العقل‪.‬‬
‫ولرنجع إىل الكالم عن الحرارة فأقول‪ :‬إنَّ اإلنسان اكتشف النار مبا تقذفه الرباكني‬
‫والثكن((( حواليها‪ .‬واكتشفها غريه بسقوط حجر من الصوان عىل حجر مثله‪ ،‬واكتشف‬
‫النار غريه من تصادم حجرين صدفة‪.‬‬
‫فلام عرف من أين وكيف تستخرج النار أخذ يقدح زناد فكرته شأن العامل املحقق‬
‫املتفنن‪ ،‬فأدرك أنه إذا حك قطعة من الخشب بقطعة أخرى حكاً قوياً متوالياً بضع‬
‫فهم بعد ذلك بالتجربة مستعيناً عىل بلوغ مراده‬ ‫ساعات‪ ،‬ظهرت النار الكامنة‪َّ ،‬‬
‫بالثبات إىل أن متت له أمنيته‪ ،‬فأصبحت النار طوع يديه‪ ،‬ينضج بها اللحوم ويستدفئ‬

‫‪ 1‬ـ الحريد‪ :‬السمك املقدّد‪.‬‬


‫‪ 2‬ـ الثكن جمع ثكنة وهي‪ :‬برئ النار‪.‬‬

‫‪99‬‬
‫بحرارتها أيام الربد‪ .‬فإيجاد النار إذاً علم وصناعة من أهم العلوم والصنائع‪ ،‬ذلك ألنَّ‬
‫اإلنسان حفظ بها نوعه بعض الحفظ يف ذلك الحني‪.‬‬
‫أما اكتشاف بعض املعادن فقد كان من إرضام نار شديدة يف بعض الجبال ومن‬
‫ظهور املواد الذائبة وتجمدها وتصلبها بعد انقطاع الحرارة عنها‪.‬‬
‫ولقد رأى اإلنسان مرة ثكنة تقذف سوائل عن بعد فدنا منها ما أمكن فإذا هي‬
‫تلتهب كالنار‪ ،‬ثم رآها بعد برودتها الحاصلة لها بفعل الهواء جامدة صلبة‪ ،‬أكرث‬
‫صالبة من الصوان الذي كان يهذبه ببعضه ويصنع منه سالحاً‪ ،‬فاستعاض عنه بهذا‬
‫املعدن‪ .‬واألمة التي اتخذت أسلحتها من املعدن تغلبت بها عىل األمم التي حواليها‬
‫واستعبدتها‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫وال شك أنَّ الصناعة تقدمت تقدما عظيام باكتشاف املعادن ومعرفة االنتفاع‪ ،‬إذ‬
‫نجا اإلنسان من هجامت الحيوان املتوالية بدفاعه عن نفسه باألسلحة الحديثة‪ ،‬فقد‬
‫م َّر قبل ذلك حني من الدهر عىل اإلنسان والحيوان كانت الحرب بينهام الحرب العوان‪،‬‬
‫ويف ذلك أمكن اإلنسان أن يحفظ نوعه أكرث من قبل وما كان هذا إال بفضل العلم‪.‬‬
‫فيستنتج مام تقدم أنَّ اإلنسان كان يف أول نشأته من آكالت النبات واللحوم‪ ،‬فلام‬
‫تع ّلم أن يستفيد من البحث والتدقيق يف طبائع األشياء‪ ،‬وكان يحب أكل النبات أيام‬
‫الحر‪ ،‬بحث عن خواصه واختربها بالحيوان الداجن ثم بنفسه‪ ،‬فاختار بعد ذلك من‬
‫النبات لطعامه وغذائه ما هو أصلح من غريه‪.‬‬
‫وال ريب أنَّ هؤالء الرجال املكتشفني واملتوصلني باجتهادهم إىل معرفة بعض‬
‫األشياء يف ذلك الزمان كانوا مكرمني ومعظمني لنفعهم‪ ،‬فنتج من تكرميهم وتعظيمهم‬
‫أن كثريين غريهم واصلوا الجد والتحقيق حتى برعوا وفاقوا سواهم يف علم الجامد‬
‫والنبات والحيوان‪ ،‬وأدركوا أنَّ يف تناول بعض النبات شفاء يف األبدان‪ ،‬وأنَّ الله سبحانه‬
‫وتعاىل خلق لكل علة نباتاً شافياً‪ ،‬فكان من ذلك علم الطب‪ ،‬فحفظ اإلنسان به نوعه‬
‫أكرث من قبل أيضاً‪ ،‬ولكن هذا العلم مل يتقدم التقدم املطلوب‪ ،‬وأقول إنه ال يستحق‬
‫إىل اليوم أن يسمى عل ًام‪ .‬ومل تزل الصناعات ترتقى بالعلم حتى وصلت إىل ما هي‬
‫عليه اآلن‪ ،‬وهي غري واقفة عند حد‪ ،‬وسيعلم اإلنسان بها ما مل يكن يخطر بباله‪.‬‬
‫أما الكالم (غري األسامء التي ع ّلمها الله تعاىل اإلنسان) فقد كان بعد ذلك عبارة‬
‫عن ألفاظ ال معنى لها أشري بها عن غري قصد وضعها إىل أشياء بعينها دون غريها‬
‫لتدل عليها وتتعرف بها‪ .‬فلام أفادت وتم بها الفهم وحصلت منها الداللة عىل املعاين‬

‫‪100‬‬
‫املقصودة بذاتها‪ ،‬تكرر استعاملها عىل أن لفظ كذا مخصص بهذا اليشء ليميزه عن‬
‫غريه يف املعرفة‪.‬‬
‫وملا كانت هذه األلفاظ قليلة العدد بالنظر إىل قلة الدواعي واالحتياج الداعية‬
‫إىل الكالم‪ ،‬تقررت يف األذهان ورسخت يف العقول‪ ،‬فكانت منها املشتقات بحسب‬
‫اللزوم‪ ،‬فلام ازدادت الدواعي بازدياد ترقي اإلنسان وضع لها أوالً فأوالً ألفاظاً تدل‬
‫عليها مناسبة لواقع الحال ولطبع اليشء وماهيته مستعيناً عىل ذلك بالقلب واإلبدال‪.‬‬
‫أما األصوات وما يضاف إليها فقد كان اإلنسان يعرب عنها بلفظ من مثلها‪ ،‬كام‬
‫عرب عن صوت الخيل مث ًال بالصهيل‪ ،‬وعن فصل العود اليابس بالكرس‪ .‬أال ترى يف‬
‫لفظ الصهيل محاكاة صوت الفرس؟ ويف لفظ الكرس مشابهة صوت ذاك العود وهو‬
‫يفصل؟ أي إنك إذا كرست عصاً سمعت صوتاً متناوالً أحرف كلمة الكرس‪.‬‬
‫أقول‪ :‬وال يخفى أنَّ الكالم جعل دلي ًال عىل مراد املتكلم‪ ،‬فإذا كان فصيحاً بليغاً كان‬
‫رسيع اإلعراب عام يف جنانه من املعاين‪ ،‬إذ يتناوله طبع السامع حاالً ويرشبه ذوقه‬
‫بسهولة‪ ،‬فيقع يف قلبه أحسن وقع‪ ،‬فريتاح املتكلم ويصغي إليه‪ ،‬وكثرياً ما بلغ الفصيح‬
‫غري العامل ببيانه وحلو خطابه مبلغاً مل يدرك شأوه العامل الراسخ يف العلم الذي ال بيان‬
‫له يف منطقه‪ .‬و ُر َّب كلمة فصيحة سكنت غضب أمري ساخط فعفا وأحسن‪.‬‬
‫وعليه فقد كانت املزية الكربى يف ذلك الحني ملن كان قوي الذاكرة شديد‬
‫العارضة((( يستظهر((( الكالم ويرويه الناس فينقلونه عنه‪ .‬إال أنه كان معرضاً للتحريف‬
‫والتصحيف وللزيادة والنقصان‪ .‬ومن كان ضعيف الحافظة غري مستطيع أن يحفظ يف‬
‫مخيلته كل ما ينظمه وينرثه فلم يكن له نصيب وافر من علمه وتعبه‪.‬‬
‫فلام وضعوا بعد هذا إشارات ورسوماً ملقاصد مخصوصة ومعان معينة‪ ،‬متكن‬
‫بعض العلامء أن يثبتوا بها شيئاً من آثارهم غري بالغني مرادهم يف إثبات كل ما‬
‫جل كالمهم‪ ،‬وذلك ألنَّ تلك اإلشارات والرسوم مل تكن‬ ‫يرومون إثباته أو من إثبات َّ‬
‫وافية باملرام‪ ،‬وألنَّ النقش عىل الحجر أو عىل الخشب كان صعباً وكان يقتيض نفقة‬
‫عظيمة أكرث من اقتدار ذلك الشاعر أو الخطيب أو العامل‪.‬‬
‫فلام ظهرت الكتابة بالحروف وظهر الرق دخل العلم يف الدور الثاين‪ ،‬فرتقت‬

‫‪ 1‬ـ العارضة‪ :‬البيان واللسن‪ .‬يقال‪ :‬فالن ذو عارضة‪.‬‬


‫‪ 2‬ـ يستظهر الكالم‪ :‬يحفظه ويقرأه ظاهراً‪ ،‬أي حفظاً بال كتاب‪.‬‬

‫‪101‬‬
‫املعامالت واستحكمت املعاقدات واملعاهدات وتق ّوت العالقة البرشية والرابطة‬
‫اإلنسانية‪ ،‬وذلك بإثبات وتدوين قواعد الدين التي أنزلها الله سبحانه وتعاىل عىل‬
‫أنبيائه ورسله العظام رأفة بالناس ورحمة لهم‪ ،‬فنجم عنها تهذيب األخالق وتثقيف‬
‫العقول وإيقاف اإلنسان عند حد معلوم ال يتجاوزه‪ ،‬فاجتنب كثرياً من املناهي‬
‫واملحارم‪ ،‬وكان ذلك سبباً لظهور مدنيتكم وحضارتكم فعرف اإلنسان تقريباً معنى‬
‫كلمة اإلنسانية‪ .‬وملا ظهرت املطابع دخل العلم يف دوره الثالث‪ ،‬وله أدوار أخرى‪،‬‬
‫فرتقى الرتقي املعروف عندكم وتأخر من جهات أخص منها اخرتاعه األسلحة الرسيعة‬
‫التفتك بالنظر إىل غاياته‪.‬‬
‫ولنعد إىل الكالم عن الفصاحة والبيان فأقول‪ :‬من املعلوم أنَّ املراد من علم املعاين‬
‫والبيان وعلم البديع هو معرفة اختيار األلفاظ املأنوسة الرقيقة الساملة من التنافر‬
‫ومعرفة الرتاكيب السهلة الخالية من التعقيد‪ .‬ولهذين العلمني فائدة عظيمة وهي‬
‫الرقة واملتانة‪ ،‬ألنَّ املتكلم حينئذ يرق لفظه ويجزل منطقه يف عذوبة ولطافة‪ .‬إنَّ‬
‫الكالم الرقيق ال يجري عىل لسان الفظ الغليظ من الناس‪.‬‬
‫فتبني مام ذكر أنَّ اإلنسان مل يحفظ نوعه هذا الحفظ‪ ،‬ومل يطب له بعض العيش‪،‬‬
‫ومل يعظم قدره إال بالعلم‪ ،‬وأنَّ أجدادكم عانوا املشقات وزاولوا الشدائد حتى توصلوا‬
‫إىل معرفة بعض أسباب الراحة والرفاهة‪ ،‬وقد وضعوا لكم قوانني وقواعد وتراتيب‬
‫وعادات يتحسن بها عيشكم‪.‬‬
‫غري أنَّ املتأخرين بعد أن أخذوا أخذهم وذهبوا مذهبهم يف البحث والتدقيق‪،‬‬
‫أضافوا إىل تلك العلوم والفوائد أشياء أمست رضورية لكم ومفيدة بالنظر إىل أحوال‬
‫الزمان وتقلبه وتغريه‪ .‬فيجب عىل اإلنسان العرصي أن يتتبع تلك العلوم وما أضيف‬
‫إليها بجملتها ويتعلمها بحفظ وإتقان غري متعلل بيشء‪ ،‬فإنَّ العلم أصبح هيناً قريب‬
‫املنال سهل املأخذ ال يجد الطالب يف الحصول عليه مشقة‪ ،‬بخالف عهد أجدادكم‬
‫فإنهم كانوا يجوبون القفار ويجوبون البالد ويقاسون املكاره يف طلب العلم‪ ،‬بل‬
‫يعرضون نفوسهم للمخاطر‪.‬‬
‫أما اآلن فقد أصبحت املدارس أكرث انتظاماً من قبل وهي تبتسم يف وجوه الطلبة‪،‬‬
‫والعلامء بني ظهرانيكم يرغبونكم يف التعلم‪ ،‬وهم ما برحوا يضعون الكتب التي هي‬
‫أقرب تناوالً من غريها تسهي ًال لكم لئال متلوا‪ .‬وأما نفقة التعليم فيالحظ بها أحوال‬
‫الناس واستعدادهم أيضاً ترغيباً لهم وتشويقاً‪.‬‬

‫‪102‬‬
‫فاميل أرى أكرث الناس مقرصين يف تعليم أبنائهم؟ أمل يهتدوا إىل اآلن ويدركوا‬
‫أنَّ قيمة اإلنسان ما يعلمه؟ أمل يشعروا أنَّ زمن أوالدهم أصبح غري زمنهم وأنهم‬
‫إن غادروهم جهالء ضلوا بجهلهم وأصبحوا وراء البرش؟ يا أيها الناس علموا أبناءكم‬
‫ليعلموا قدر نفوسهم‪ ،‬فإن مل تعلموهم عاقبكم الله تعاىل‪.‬‬

‫الفصل الثامن منه‬


‫_ يف الشعر والشعراء _‬
‫قال والدي‪ :‬إذا برع أحدنا يف الزهرة وفاق أقرانه يف املعارف والفنون وعلم من‬
‫نفسه أنَّ له قريحة شعرية كتمها‪ ،‬ونظم الشعر رساً ومل يظهره لئال يكون غري صحيح‬
‫فيفسد لغة حافظيه‪ .‬فحينام يرى أنه بلغ مبالغ الشعراء املجيدين ينظم يف كل نوع‬
‫من أنواع الشعر قصيدة‪ ،‬ويقدم القصائد إىل الندوة الشعرية‪ ،‬فإذا استجادت شعره‬
‫اتفقت عىل تعيني النوع الذي كانت إجادته فيه أكرث من غريه وخصته به‪ ،‬وحظرت‬
‫عليه أن ينظم الشعر يف نوع آخر‪ ،‬أي إنَّ الشاعر إذا أحسن يف الحِ كم مث ًال فال يسمح‬
‫له أن ينظم املديح‪ ،‬فإذا اختلفت الندوة يف التعيني ورأت الشاعر أجاد نظم نوعني أو‬
‫ثالثة‪ ،‬خريته يف اختيار النوع الذي يروقه‪ .‬وبعد هذا يعلن اسمه بالتكريم والتعظيم‬
‫وترفع مرتبته إذا مل يكن من أرباب املراتب العالية‪ ،‬فإذا كان منهم امتاز امتيازاً عظي ًام‪.‬‬
‫فإذا رأت الندوة أنَّ القصائد غري جيدة منعت صاحبها من إشهارها‪ ،‬غري أنه‬
‫يسمح له وهو يف الزهرة أن يلقي الشعر عىل من يريد من شعراء األرض‪.‬‬
‫أما أوزان الشعر فإنها بعدد أنواعه‪ ،‬أي إنَّ شعراءنا األولني جعلوا لكل نوع وزناً‬
‫خاصاً به يزيد الشعر تأثرياً يف السامعني‪ ،‬فللشجون مث ًال وزن ترقق نغمته القلوب‬
‫القاسية وتكرهها عىل الرحمة‪ .‬وللحامسة وزن آخر يهيج الخواطر ويشدد القوى إىل‬
‫غري ذلك‪.‬‬
‫واعلم أنَّ شاعرنا إذا أثم وطرد إىل األرض ظهرت قريحته فيها‪ ،‬غري أنَّ طبقته‬
‫تدىن وتفقد تلك املعاين والفصاحة التي كانت له يف الزهرة‪ ،‬فإذا رجع إليها أعيدت‬
‫قريحته إليه‪.‬‬
‫فقلت لوالدي‪ :‬وددت لو عربت يل قصيدة من شعركم‪ .‬فقال‪ :‬ال تستطيع أن‬
‫تفهمه‪ ،‬مع هذا فإين أترصف يف التعريب وأجعل القصيدة قريبة الفهم والتناول‪،‬‬

‫‪103‬‬
‫فاملعنى الذي ال يهون عليك فهمه أبدله بغريه‪ .‬قال الشاعر الذي تعريب اسمه‬
‫«صرب» وهو الشيخ فتح الله النحاس الحلبي‪ :‬ملا رأى الله تعاىل أن يخلق العباد عىل‬
‫أنهم ال يأتلفون وال يحفظون نوعهم إال إذا تقرب بعضهم إىل بعض باملحبة فأوجدها‬
‫لهم‪ ،‬فتجلت بحسن رقتها ولطافتها للعقل فأثرت فيه تأثرياً خاف أن يفقد به سداده‬
‫وحكمته‪ ،‬وهو عامل أنه الب َّد لكل مخلوق من املحبة‪ .‬فقال لها‪ :‬إنَّ الله جعل مركزك‬
‫القلب ألنك إذا تسلطت تسلطاً يخىش عليه منه نبهته وحذرته‪ ،‬فنزلت إىل القلب‬
‫واستقرت فيه‪ ،‬فظهرت بهذا التجيل واالستقرار الرابطة الطبيعية بني العقل والقلب‪،‬‬
‫عىل أنهام خافا أن يختلفا فجعال اإلرادة لهام حك ًام مسؤوالً عنهام‪ ،‬فتسامت املحبة‬
‫بتنبه العواطف الرشيفة إليها وشعورها بلذاتها‪ ،‬وتنورت بها القلوب املظلمة تنوراً‬
‫نجم عنه االئتالف فتلطفت خشونة العيش‪ .‬فبناء عىل ذلك أمر الله تعاىل عباده بأن‬
‫يحب بعضهم بعضاً وجعل املحبة قاعدة من قواعد الدين الكربى‪.‬‬
‫جل جالله أنَّ آفة املحبة الطمع‪ ،‬فجعل العيش ميرساً لجميع عباده فلم‬ ‫ورأى َّ‬
‫يضطروا إىل املضايقة فالنفار للقتال‪ ،‬ألنَّ أحدنا يستطيع بقليل من السعي والجد أن‬
‫يعيش عيش أخيه الرغد‪ ،‬ثم أمرهم بالقناعة‪.‬‬
‫ورأى الله تعاىل أيضاً أنَّ االئتالف واالختالط يتسببان بالفساد‪ ،‬فأمرهم بأن‬
‫يتعففوا وجازى املخالفني جزا ًء مهيناً ألي ًام فتحابوا حتى أصبحت املحبة عامة بينهم‬
‫وهم بها أعفاء فارتاحوا وسعدوا‪.‬‬
‫فلام تلذذوا بالراحة والسعادة الصادرتني من املحبة وهم يعلمون أنها من فضل‬
‫الله تعاىل‪ ،‬أدركوا أنهم يحتاجون إليه يف كل يشء‪ ،‬وأنه ال يحتاج إليهم يف يشء واحد‪،‬‬
‫ألنهم كالهباء املنثور بالقياس إىل اقتداره وعظمته واغتنائه بذاته عن سواه‪ .‬وعقلوا أنه‬
‫ليس يف وسعهم أن يقدموا إليه شيئاً من عندهم يفصحون به عن رسورهم العظيم‬
‫ويستعطفونه ليديم عليهم هذه النعم‪ ،‬فأقروا له بعجزهم فأرشدهم ذل العجز إىل‬
‫حمده وشكره اللذين هام مكافأة العاجز الذليل عىل فضل الفاضل وإحسانه‪.‬‬
‫وقد كان إقرارهم بالعجز وحمدهم إياه تعاىل منبعثاً عن شدة حرصهم عىل‬
‫طيبات الحياة فأخذوا يتقربون إليه بالتواضع والرقة‪ .‬وهو كلام تواضعوا وروقوا‬
‫أحسن إليهم بآالئه فنمت املحبة يف قلوبهم حتى فاضت فيضاً عظي ًام ُ َّ‬
‫س به‪ ،‬ألنه‬
‫كلام رسخت له املحبة فيها ازداد حب الخلق لبعضهم بعض‪ ،‬وهذا غاية ما يتمناه‬
‫الله تعاىل فإنه مسؤول بحكم عدله ورحمته عن راحتهم وهي ال تدوم إال باملحبة‪.‬‬

‫‪104‬‬
‫إنَّ هذه املحبة مل تنشأ فينا بسعينا واعتنائنا‪ ،‬بل هي هبة من عند الله تعاىل كام‬
‫علم‪ ،‬فكان من الواجب أن تكون له وحده وما زاد منها فللعباد‪.‬‬
‫هذا ومن املعلوم أنَّ الله سبحانه وتعاىل مل يقبل منا محبتنا ومل يرض علينا بها‬
‫ألنها يشء مذكور لديه‪ ،‬بل ألنه يريد من توجه قلوبنا إليه باملحبة أن نكون طاهرين‬
‫فنعتاد الطهارة يف كل فعل يصدر منا‪ .‬فاإلفراط يف حب الخليقة إذاً خيانة منا لله‬
‫تعاىل وإساءة من وجهني‪ .‬ففي الوجه األول يرى عبده لها عن حبه من أجل لذة وقتية‬
‫جزئية نيس بها اللذات العظيمة التي أعدها له‪ .‬ونيس أيضاً أنه مل يشعر بهذه اللذة‬
‫إال مبا جعله الله تعاىل يف خلقه من االستعداد الطبيعي لقبولها‪ ،‬فالفضل يف ذلك هو‬
‫بجعل الخلقة مستعدة لقبول اللذة ال للذة نفسها‪ .‬فيلزمنا أن ال نفرط يف املحبة لئال‬
‫ننىس خالقنا العظيم الذي جعلنا نتلذذ يف كل وقت مبواهبه‪.‬‬
‫ويف الوجه الثاين يرى إفراطنا يف غري محبته فيسؤه‪ ،‬ألنه يهيجنا فيميس لنا شغالً‬
‫شاغ ًال نلهو به عن واجباتنا وندع كل يشء وراءنا فال نستطيع الوصول إىل حاجاتنا‪.‬‬
‫وهناك أمر آخر وهو أنَّ اإلفراط يف اليشء مرض بصاحبه رضراً منهياً عنه‪ ،‬فمن ثم‬
‫يجب علينا أن نكون يف املحبة حكامء‪.‬‬
‫ولكن كيف أنهي عن اإلفراط وأنا مصاب به غالباً ال أستطيع اإلقالع عنه؟ إنني‬
‫أستغفر الله تعاىل إذا قلت لك يا حبيبتي إنَّ محبتي تكاد تكون غري معتدلة‪.‬‬
‫إنني أحبك‪ ،‬إنَّ جملة قويل «إنني أحبك» كتبتها بيدي الراجفة ثالثاً وأنا يف كل‬
‫مرة أمحوها استحياء منك‪ ،‬ثم كتبتها وأثبتها ألنَّ قلبي الصادق أرص عىل إثباتها فال‬
‫أخاله يغشني‪.‬‬
‫لقد اتفق القلب واإلرادة عىل كتابتها‪ ،‬أما العقل فإنه مل يتعرض لنا‪ ،‬وال شك أنَّ‬
‫عقيل ال يسومني خسفاً وال يعرضني ملا تكرهني‪.‬‬
‫إنَّ الخلقة السامية ال تكون سامية إال إذا كانت حرة يف املحبة‪ .‬إنَّ املحبة الطاهرة‬
‫ال يجب كتمها‪ ،‬غري أنَّ محبتي ليست بيشء يبيض به وجهي لديك ألنني أحبك‬
‫لنفيس‪ .‬إنَّ كرثة محبتي مع علمي رضرها أمر عجيب ال يحسن صدورها من مثيل‪.‬‬
‫يا ورديت البيضاء عىس أن تتعطفي‪ ،‬عىس أن تنتبهي إىل ما أقول (لقد خطر ببايل‬
‫اآلن أنك تحبينني) فإن صح هذا فال يبقى محل للعجب‪ ،‬ألنَّ املحبة تع ّززت مبثلها‬
‫فهي كثرية مبحبتك إن شاء الله تعاىل‪ ،‬وعليه فال أكتمها عنك‪ ،‬فإن مل تقبليها وإن‬
‫أنكرتها عيل زالت‪ ،‬ألنها ال تقوم بذاتها بل تقوم إذا اتحدت بغريها‪.‬‬

‫‪105‬‬
‫محبتي رشيفة طاهرة ال تضع من قدرك وال تعيبك إذا كانت محبتك مستعدة‬
‫لقبولها واالتحاد بها‪.‬‬
‫محبتي صافية ألنها استمدت صفاءها من قلبك‪ .‬اعذريني إذا كان ال يسمح‬
‫يل أن أذكر قلبك الصايف مقروناً بذكر محبتي‪ .‬إنَّ الفصاحة الشعرية ال تجيز تكرير‬
‫الكلامت‪ ،‬أما أنا فأكرر كلمة قلبك يف شعري ألنه يشتهي أن يتألأل به‪ ،‬أما هو فمنري‬
‫بنور الطهارة‪.‬‬
‫لقد منت املحبة وعظمت فلم يسعها قلبي فنفذته ورست إليك بقوة الجذب‬
‫الصادرة من جميع جوارحك‪ .‬إنَّ حالتي تكاد توصلني إىل حيث ال ينفعني قربك‬
‫فتداركيني بإشارة منك تحيي َّيف األمل‪.‬‬
‫إنَّ حالتي أجارك الله تعاىل من مثلها تضغط النفس يف أعامق القلب فيكاد‬
‫يتمزق‪ ،‬ولوال تعلله بأنه سيكون سعيداً بقربك ألسفت عليه الحياة ورحبت به األبدية‬
‫وقالت‪ :‬ادخل بسالم يا شهيد الغرام‪ .‬هذا إذا كنت تحبينني وكانت األيام ال تسمح‬
‫بقربك‪ .‬إنَّ الله تعاىل ال يريد عذاب عباده باملحبة‪.‬‬
‫لقد علمت أنني مؤاخذ إذا مل أستعد كالمي وأرده إىل نفيس ألين أفرطت وخبطت‪،‬‬
‫فالرحمة الرحمة يا خالقي العظيم العليم كل حسنة منك وكل سيئة من نفيس التي‬
‫ال تريد أن تضغط بالصرب‪.‬‬
‫إنَّ قلبك ال يستطيع أن يسألني عن محبة غريك‪ .‬أية فتاة تقول إنني نظرت إليها‬
‫ولو بطرف خفي؟ ال أنظر إىل أحد برغبة غريك‪.‬‬
‫لقد ابتدأ الحب بك وقلبي يحدثني بأنه ال ينتهي إال بك‪ ،‬فبك بداءيت يف املحبة‬
‫بعيني فتحسدانه‬
‫ّ‬ ‫ومنك حسن نهايتي إن شاء الله‪ .‬إنني أراك بقلبي أكرث مام أراك‬
‫عليك‪ ،‬إنني أرى نفيس أه ًال لك‪ ،‬هي النفس العزيزة التي تعز عىل كثريين من أكارم‬
‫سكان الزهرة فهي بالطبع عزيزة لديك أيضاً‪ ،‬هذه النفس التي ذابت وسالت إليك‬
‫تسألك اإلنصاف‪.‬‬
‫إنَّ صديقتي هي نفيس فال يعز عيل يشء بعد الله تعاىل غريها‪ ،‬فأحب وأشتهي‬
‫أن تكوين أليفتها لنقطع سوية أدوار هذه الحياة ومنيض بعدها إىل حيث السعادة‬
‫الدامئة يف املريخ‪ ،‬أال نكون سعيدين إذا أقمنا بالجنة؟ إنَّ الجنة لك يا إحدى فتياتها‬
‫وأرجو أن يجعلني الله تعاىل أه ًال لها‪.‬‬
‫أنت من الطبقة األوىل بني غادات الزهرة‪ ،‬فالعباد يتسابقون إليك وكل منهم‬

‫‪106‬‬
‫يعلل نفسه بأنه يظفر بك‪ ،‬فلمن تكونني يا ليت شعري؟ يتسابقون إليك ألنك عاملة‬
‫أديبة رضية األخالق وألنك متفردة باملحاسن‪.‬‬
‫ً‬
‫لقد ابتهجت ملا علمت بأنك ستهتدين قريبا إىل اكتشاف جديد يف علم تدبري‬
‫املنزل يعود عىل سكان الزهرة باملنافع والفوائد‪.‬‬
‫لقد رسين منك أنَّ الفتيات يقتدين بفضائلك وأنَّ كثريين من الرجال يريدون أن‬
‫يكون لهم يشء من مزاياك‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫أكرر قويل إنك تفردت باملحاسن مع أنَّ حسنا واحدا منها يستحق محبة أعظم‬
‫رجل‪ ،‬أقول هذا وقلبي يخفق عل ًام مني أنني ال أضاهيك يف كثري من املزايا‪ ،‬فأنا دونك‬
‫غري أنني أضاهيك بعظمة وفايئ ورشف قلبي وصدق محبتي وصفاء نيتي‪.‬‬
‫إنني ال أمتدح بهذه العبارات ألنَّ ما أمدحه غري مكتسب بهمتي بل هو هبة من‬
‫خالقنا‪ .‬أشكر الله تعاىل ألنه جعل َّيف صفات تروقك أكرث من غريها‪ .‬يظهر يل أنَّ الله‬
‫مل يخلق َّيف هذه املزايا إال ألكون أه ًال لك وذلك حباً بك‪ ،‬أي إنه أحبك فخلقني لك‪.‬‬
‫فام تقولني ولكن مايل وهذا الكالم الذي يعرب عن عظمة يف صاحبه هل أعظم به‬
‫يف عينيك؟ إنك تعرفني الحقائق وتعلمني من أنا‪ .‬اعذريني يا نور الحكمة‪ ،‬إذا وجدت‬
‫كالمي أعظم مني‪ .‬إنك ستجدينه كذلك‪ ،‬اعذريني فقد زعمت أنني أسرتضيك به‪.‬‬
‫آه ما أحىل املحبة إذا عدلت وما أمرها إذا جارت! إنَّ املحبة الجائرة تستخف‬
‫بصاحبها وتهجم عىل عقله وتزيغه عن مركزه قرساً‪ ،‬ولكن السبب يف ذلك هو أنَّ‬
‫املحب إذا مل يعتصم بالحكمة نقمت عليه املحبة نق ًام عادالً‪ ،‬فإذاً أنا مخطئ بقويل‬
‫إنَّ املحبة تجور‪ .‬ال تجور ألنها من الله‪.‬‬
‫أعود إىل ذكر محاسنك فأقول إنَّ الله تعاىل مل يخلقك عجباء يتعجب من حسنك‬
‫إال ليعجب املتكربون من اقتداره وعظمته الفائقتني‪.‬‬
‫لعينيك نور يدخل القلوب فتكرمي وألقه عىل قلبي لتنظرا هل فيه غري اسمك‬
‫الجميل مكتوباً بأحرف نارية تلتهب فيه‪.‬‬
‫إنني خشيت أن تسقط نفيس يف الكربياء وأردت أن تتواضع رحمة لها‪ ،‬فنظرت‬
‫إىل مرآة وجهك الصايف ليظهر الفرق العظيم بيني وبينك‪.‬‬
‫إنَّ وجهك كله أجمع بهجات يف محاسن‪ ،‬أما وجهي إذا قابلته بوجهك فيشبه‬
‫وجوه سكان بعض األجرام الحقرية‪ ،‬مع أننا نحن سكان الزهرة اقتبسنا شيئاً مذكوراً‬
‫من جامل سكان املريخ‪.‬‬

‫‪107‬‬
‫ما أعدل قوامك الذي علمنا االستقامة واالعتدال‪.‬‬
‫ما ألطف أنفك الذي تشتهي زهرة القلب أن تحاكيه (هي زهرة مشهورة بلطافتها‬
‫وحسن رقتها تسمى عندنا بالقلب)‪.‬‬
‫ً‬
‫إنني أسألك باملحبة الطاهرة أن ال تكلميني كثريا إذا سمحت يل بالقرب منك‪،‬‬
‫فإنَّ قلبي حينئذ يضطرب يف صدري من شدة التأثر فأشتغل به من حسن التمتع‬
‫مبشاهدتك‪.‬‬
‫ال أجد المئا يلومني إذا قلت إنني أحسب كالمك مثل كالم القايض «سا» العظيم‬‫ً‬
‫قاض من سكان الزهرة اسمه «سا» كان إذا ك ّلم رج ًال أسكره أو أذابه‪ ،‬فمنعه‬ ‫(هو ٍ‬
‫ً‬
‫قايض القضاة أن ال يكرث من خطاب الرجال وأمره أيضا بأن ال يخاطب أنثى‪ ،‬وكان ذلك‬
‫من نحو مئة وخمسني ألف عام)‪.‬‬
‫ال يحق لك أن تعتبي عيل ألين مل أصف حسن جيدك‪ ،‬إنني أذكر السبب وال‬
‫أخالك تجهلينه‪ ،‬وهو أنَّ نور عنقك غلب برصي فلم يق َو عىل النظر إليه فإذا وعدتني‬
‫أنك تسرتينه بشعرك عىل األقل تجارست عىل ملحه ملحاً خفيفاً ووصفته‪.‬‬
‫أحب أذنيك الصغريتني اللتني هام كصدفتني جميلتني يف بحر الزهرة (هو بحر له‬
‫صدف صغري متأللئ كلام ملحته نصع لونه‪ ،‬تزينه حمرة خفيفة كأنها من ذائب ياقوتة‬
‫حمراء لطيفة الحمرة)‪.‬‬
‫وأحبهام ألنهام تحرصان عىل درر الحكمة حينام تفرغ فيهام وتنبذان كل يشء‬
‫غريهام‪ ،‬أحبهام ألنهام تسمعان عن بعد رضبات قلبي العليل التي هي نقرات حروف‬
‫رسيعة الحركة أرسع من الربق‪ ،‬وال عجب يف ذلك ألنَّ مصدر رسعتهام نور املحبة‪،‬‬
‫وهذه الحروف ترتكب منها جمل الغرام االستعطافية فتنقلها أذناك اللطيفتان إىل‬
‫قلبك‪ ،‬غري أين أخاف عليه حرارتها ألنها منبعثة من قلبي‪.‬‬
‫أكتفي بهذا القدر من الكالم وال آيت عىل ذكر بقية محاسنك عل ًام مني أن وصفها‬
‫غري مستطاع‪.‬‬
‫وأقول يف الختام‪ :‬إنَّ املحبة راضية عني أين وفيتها حقها‪ ،‬فيا ليت شعري هل أنت‬
‫راضية مثلها؟ أجيبيني بحق املحبة‪.‬‬
‫ملا فرغ والدي من تعريب القصيدة قال‪ :‬إين أترصف أيضاً يف تعريب يشء من‬
‫شعر زاهد الشاعر‪ ،‬وهو الخوري نيقالوس الصائغ الحلبي‪ .‬قال‪ :‬إنَّ الجسم البسيط‬
‫القائم من مادة واحدة ال ينحل وال يتجزأ فيجب علينا أن نظل يف اعتقادنا أنَّ الله‬

‫‪108‬‬
‫تعاىل أحبنا فخلقنا‪ ،‬وأن نبقى ثابتني ويلزمنا أن نحبه محبة ال تنحل وال تتجزأ‪ .‬إنَّ‬
‫السعادة يف الجنة واملحبة بابها‪ .‬شاء الله تعاىل فكان كل ما يف اإلمكان‪.‬‬
‫إنَّ األجسام املركبة القامئة من مواد مختلفة هي قابلة االنحالل وهي ال تستطيع‬
‫إال أن تتجزأ‪ .‬فإذا أردنا أن ال ينحل نظام كياننا‪ ،‬وإذا أحببنا أن يستمر عقد انتظامنا‪،‬‬
‫فمن الرضورة أن تكون محبتنا من مادة واحدة‪ ،‬أي لغاية واحدة وهي مرضاة الله‪.‬‬
‫شاء الله تعاىل فكان كل ما يف اإلمكان‪.‬‬
‫إنَّ املواد يختلف بعضها عن بعض يف القوة والضعف‪ .‬فاملادة القوية هي التي‬
‫فيها قوة الجذب أشد من غريها‪ ،‬فكام أنَّ الحيوان يطلب قوته بجده ونشاطه كذلك‬
‫املواد‪ ،‬فإنَّ قويها يعالج ضعيفها ويجذبه إليه ليتغذى به ويتقوى‪ .‬شاء الله تعاىل‬
‫فكان كل ما يف اإلمكان‪.‬‬
‫إننا كثرياً ما نرى مبكرباتنا املادة الضعيفة املجذوبة تجذب مادة أضعف منها‬
‫وتضمها إليها لتغتذي بها أيضاً وتتقوى‪ ،‬ويظل هذا الجذب والضم حتى تصبح هذه‬
‫املواد كأنها جسم واحد‪ ،‬غري أنها ال تتحد بل هي يف اضطراب دائم‪ .‬إنَّ الجذب مبدأ‬
‫الحركة‪ .‬شاء الله تعاىل فكان كل ما يف اإلمكان‪.‬‬
‫ومن املعلوم أنَّ املواد الضعيفة املكرهة عىل االنضامم إىل غريها مل تفقد قوتها‬
‫وحالتها الطبيعية بتغلب القوية عليها‪ ،‬بل بقيت مع جاذبتها يف اضطراب ونزاع‬
‫شديدين دامئني‪ ،‬تريد القوية الثبات يف التآلف وتبتغي الضعيفة حرية االفرتاق حتى‬
‫صارت هذه الحالة طبيعية وصار التحرك فيها عادة منتظمة فكانت الحركة‪ .‬أعلمتم‬
‫ما هي الحركة؟ شاء الله فكان كل ما يف اإلمكان‪.‬‬
‫إنَّ هذا املركب إذا تخللته املياه واتخذت لها فيه مركزاً ضغطته ضغطاً قوياً‪،‬‬
‫وهاجت فيه الحركة هيجاناً ينجم عنه اصطدام‪ ،‬فتظهر قوة نارية‪ ،‬فال يقوى هذا‬
‫املركب عىل الثبات بل مييد ويتزلزل ثم يتجزأ‪ .‬ورمبا استقلت بعض املواد بنفسها وعاد‬
‫بعضه إىل أصله‪ .‬شاء الله تعاىل فكان كل ما يف اإلمكان‪.‬‬
‫وبعد ذلك انترشت يف الفضاء من هذه املواد املتحركة ذرات أصابتها ريح مائية‬
‫فكانت املائرات((( وهي الحييوينات األوىل املرتددات يف عرض‪ ،‬أي التي كانت شبه‬

‫‪ 1‬ـ مار اليشء‪ :‬تردد وتحرك يف عرض‪.‬‬

‫‪109‬‬
‫حركتها أفقية‪ ،‬فاملاصعات((( وهي الحييوينات الثانية التي لها مع شبه الحركة األفقية‬
‫شبه حركة عمودية‪ ،‬فاملتخلجات وهي الحييوينات الثالثة التي كانت فيها الحركة‬
‫أظهر‪ ،‬فاملتحركات وهي الرابعة وقد انتظمت فيها الحركة‪ .‬ثم الناقصات وهي‬
‫الخامسة التي مل تكمل وظائف أعضائها بل كانت ناقصة‪ ،‬فشبه الحيوان وهي التي‬
‫مرتبتها أدىن من الحيوان‪ .‬شاء الله تعاىل فكان كل ما يف اإلمكان‪.‬‬
‫أتم التعريب قلت له‪ :‬أحب أن تنشدين شيئاً من شعرك‪ .‬فقال‪ :‬اسمع وتأمل‪:‬‬ ‫فلام َّ‬
‫إنني كنت نظمت قبل فراقي األرض قصيدة ألقاها عيل الشاعر املسمى بعلم وهو‬
‫العالمة الشيخ ناصيف اليازجي‪ .‬فلام أمتمتها اشت َّد عيل دايئ فرتكتها حول رسيري‪.‬‬
‫فرسقت قلي ًال من النب‬‫ْ‬ ‫وقد كانت الخادمة ترسق ما يصل إليها من مأكول ومرشوب‬
‫وجعلته يف القصيدة ودفعته إىل أخ لها‪ ،‬فذهب به إىل رجل متظاهر بالتقوى وقال له‪:‬‬
‫خذ هذا النب وأعطني به سكراً‪ ،‬فأخذه وهو يعلم أنه مرسوق وأعطاه السكر وحفظ‬
‫القصيدة‪ ،‬فمر عليه أحد األتقياء املغفلني فقال له بعدما جعل يده عىل صدره وأمال‬
‫عنقه وأحنى رأسه‪ :‬يا سيدي إنني ملا عدت اليوم من صالة الصبح رأيت يف يد بعض‬
‫الصبيان هذه املواليات‪ ،‬وأشار إىل القصيدة وهي يف يده فأخذها الورع الذي كان ال‬
‫يحسن القراءة ونظر وتأمل وقال‪« :‬نعم نعم ال تجوز أبداً قراءة املواليات العشقية»‬
‫ثم م ّزق القصيدة وطرحها وهي‪:‬‬
‫النـــاس كلنـــا جهـــا ُء‬ ‫ُ‬ ‫أيهـــا‬ ‫ء‬‫ُ‬ ‫علـــا‬ ‫النـــاس أنهـــم‬
‫ُ‬ ‫زعـــم‬
‫شـــأن قـــو ٍم دليلهـــم عشـــوا ُء‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫األباطيـــل هـــذا‬ ‫مـــا عرفنـــا إال‬
‫ألي أمـــ ٍر ُخلقنـــا؟ شـــا َء ريب مـــن خلقـــ ِه مـــا يشـــا ُء‬ ‫أعلمتـــم ّ‬
‫ٌ‬
‫ظلمـــة وخفـــا ُء‬ ‫ُ‬
‫الكـــون‬ ‫ليـــس يف الكـــون للحقائـــق نـــو ٌر إمنـــا‬
‫كل يش ٍء عنــدي ســوى املــوت وهـ ٌـم كل يشء عنـــد اللبيـــب هبـــا ُء‬
‫مـــا ُخلقنـــا إال لـــي يتســـاوى بيننـــا األقويـــا ُء والضعفـــا ُء‬
‫والفقـــر ســـوا ُء‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫الحقـــوق ســـوا ًء فأخـــو املـــال‬ ‫فـــإذا كانـــت‬
‫وإذا كانـــت الربايـــا جميعـــاً بالتســـاوي فكلهـــم ســـعدا ُء‬

‫‪ 1‬ـ مصعت الدابة بذنبها‪ :‬حركته ورضبت به‪.‬‬

‫‪110‬‬
‫ال تُـــؤ َّدى مـــا دامـــت األهـــوا ُء‬ ‫ـوق م ــن غ ــر خ ــوف‬ ‫غ ــر َّأن الحق ـ َ‬
‫الـــر بيننـــا والشـــقاء‬‫ُّ‬ ‫معهـــا‬ ‫َّإن أطامعنـــا لتنمـــو فينمـــو‬
‫كـــم حقـــوق يصونهـــن اتقـــا ُء‬ ‫فاتقـــوا اللـــ َه إن أردتـــم خـــراً‬
‫كل أمـــ ٍر لكـــم عليـــه جـــزا ُء‬ ‫وأطيعـــوا وإنْ أبيتـــم فاعصـــوا‬
‫كـــم تجـــدُّ ون إنكـــم فقـــرا ُء‬ ‫أيهـــا األغنيـــا ُء والعيـــش رغـــدٌ‬
‫منكـــم والســـا ُء‬
‫ُ‬ ‫ضجـــت األرض‬ ‫أيهـــا الطامعـــون هـــا قنعتـــم‬
‫كيـــف ُيرجـــى مـــن البـــاد هنـــا ُء‬ ‫الحـــروب للنـــاس خـــراً‬
‫َ‬ ‫تزعمـــون‬
‫ليـــت شـــعري أيف الخلـــود رجـــا ُء‬ ‫أيهــا النــاس مــا لكــم قــد حرصتــم‬
‫ســـوف منـــي كـــا مـــى اآلبـــا ُء‬ ‫ـل ه ــذا‬ ‫نح ــن أبن ــاء م ــن مض ــوا قب ـ َ‬
‫غـــر ســـعي يـــدوم فيـــه الثنـــا ُء‬ ‫الســـعي والعنـــا ُء محـــا ًال‬
‫ُ‬ ‫يذهـــب‬

‫ثم قال يل‪ :‬وهذه قصيدة نظمتها يف صباي ففقدت مني بعد نظمها‪ ،‬فلام رجعت‬
‫إىل الزهرة علمت أنَّ أحد أصدقايئ كان طلبها فلم أعطه إياها فرسقها‪ ،‬وقد كان ألقاها‬
‫يل فهم الشاعر وهو األستاذ بطرس كرامة‪ ،‬قلت‪:‬‬ ‫ع َّ‬
‫الدعـــج‬
‫ِ‬ ‫أال تـــرى كيـــف ثـــارت فتنـــ ُة‬ ‫ال تعجـــنَّ إذا صالـــت عـــى املهـــج‬
‫تهـــج‬
‫ِ‬ ‫بغـــر مقلتهـــا الدعجـــاء مل‬ ‫رن ــت فهاج ــت علين ــا أس ــه ًام وظب ــى‬
‫ـرج‬
‫ال تطمع ــوا بع ــد ه ــذا الي ــأس بالف ـ ِ‬ ‫قامـــت متيـــس فنـــادى رمـــح قامتهـــا‬
‫ـج‬
‫طــريف وأخــى عــى قلبــي مــن الوهـ ِ‬ ‫تبـــدو إ َّيل فيخـــى شـــمس طلعتهـــا‬
‫ـج‬
‫(‪)1‬‬
‫علمــت كيــف يضيــع العقــل بالفلـ ِ‬ ‫تبســـمت ثـــم قالـــت إ ْذ رأت ولهـــي‬
‫ـج‬
‫تاهــت وهامــت مبعنــى حســنها البهـ ِ‬ ‫يــا ليــت شــعري متــى تحنــو عــي وقــد‬
‫يــروح يف حبهــا كيــف اشــتهت ويجــي‬ ‫ق ــد كان قلب ــي طوع ــي قبله ــا فغ ــدا‬
‫ممتـــزج‬
‫ِ‬ ‫يف صفحـــة الجيـــد بالكافـــور‬ ‫يــا حســن بيــت بــذوب املــاس مكتتــب‬

‫‪ 1‬ـ الفلج‪ :‬تباعد ما بني األسنان‬

‫‪111‬‬
‫ـرج‬
‫فــا عــى عاشــقي إن جــنّ مــن حـ ِ‬ ‫ُ‬
‫جعلـــت عقـــول النـــاس يف عنقـــي‬ ‫إين‬
‫عـــوج‬
‫ِ‬ ‫مثـــي تنـــ َّز َه عـــن شـــن وعـــن‬ ‫إن كان يرضيــك يــا ســلمى الوفــاء فمن‬
‫ـج‬ ‫أن ــا الغري ــق ف ــا أخ ــى م ــن اللج ـ ِ‬ ‫ـب بحــر قلــت يا أســفي‬ ‫قالــت هــو الحـ ُّ‬
‫(‪)1‬‬
‫بالبلـــج‬
‫ِ‬ ‫فقيـــل ذا مســـتهام غـــ َّر‬ ‫منبلـــج‬
‫ٌ‬ ‫أحســـب أنَّ الصبـــح‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫رسيـــت‬
‫وشـــج‬
‫ِ‬ ‫شـــكا إ ّيل تباريـــح الهـــوى‬ ‫شــكوت وجــدي فقالــت كــم وكــم ٍ‬
‫كلف‬
‫إين أمـــوت شـــهيد الحـــب فابتهجـــي‬ ‫ف ــات مل ت ُْج ــده الش ــكوى فقل ــت له ــا‬
‫ـزج‬
‫فع ــذب لفظ ــك أح ــى يل م ــن اله ـ ِ‬ ‫بذكــرك املــوت نــادى الســمع يــا طــريب‬
‫ـج‬
‫ـت الحــد مــن حجـ ِ‬ ‫فهــل لديــكِ ُوقيـ ِ‬ ‫ـئلت وق ــد ح َّلل ــت س ــفك دم ــي‬
‫إذا ُس ـ ِ‬
‫ـمج‬
‫أبي ــت أن تع ــريض ع ــن عذل ــه الس ـ ِ‬ ‫أعرضـ ِ‬
‫ـت عنــي والزمــت العــذول وقــد‬
‫عـــن كل واش بـــأرسار الهـــوى لهـــج‬ ‫إن كن ــت تصغ ــن لل ــوايش ف ــي صم ــم‬
‫عــن الئــم ليــم يف رشع الهــوى وهجــي‬ ‫إنَّ املليح ــة ي ــا س ــلمى م ــن ابتع ــدت‬
‫فقـــد علـــوا مبقامـــي أرفـــع الـــدرج‬ ‫ِ‬
‫أنكـــرت معرفتـــي‬ ‫ســـي املحبـــن إن‬
‫وفــاح مــن طيــب ذكــري طيــب األرج‬ ‫إذا ُذ ُ‬
‫كـــرت لهـــم طابـــت نفوســـهم‬
‫بـــه فكنـــت لديهـــم خـــر منتهـــج‬ ‫إين انتهجـــت طريـــق الحـــب منفـــرداً‬
‫شـــاء الهـــوى فأقـــم بالحـــي ال تعـــج‬ ‫قال ــت رأيت ـ َ‬
‫ـك م ــن أه ــل الوف ــاء ك ــا‬
‫مــن نــور وجهــي فقــد أغنى عــن الرسج‬ ‫وانظــر إىل القــر يف الظلــاء مقتبس ـاً‬
‫منـــي الســـام ورس رساً وال تلـــج‬ ‫واستنشـــق الريـــح إنَّ الريـــح حاملـــة‬

‫أما أنا فكنت أنظر متحرياً فقال يل‪ :‬ما بالك يف حرية؟ فأطرقت أقول يف خلدي‪:‬‬
‫لقد طال هذا الحلم‪ .‬فقال‪ :‬أهكذا يكون الحلم؟ ما بالك مللتني؟ أمل تستطع صرباً؟‬
‫فخجلت منه حتى كاد يحرقني ثويب من حرارة الخجل‪ .‬فقال‪ :‬ملاذا ال تجيبني؟‬
‫فقلت‪ :‬رأيتك تنشدين شعري الذي نظمته بعد خروجك من األرض‪ .‬فقال‪ :‬قد طمعت‬

‫‪ 1‬ـ البلج‪ :‬الفرجة بني الحاجبني‪.‬‬

‫‪112‬‬
‫نفسك يف شعري فال بأس عليك إذا ادعيته‪ .‬فقلت له‪ :‬لعيل مخطئ فضحك وقال‪ :‬إنَّ‬
‫الشعر شعرك وقد أنشدين إياه سديد الشاعر قبل أن يلقيه عليك وهو الشيخ حبيب‬
‫اليازجي‪ .‬فقلت‪ :‬كيف يكون هذا اإللقاء؟ فقال‪ :‬هو أنك إذا أردت أن تنظم شعراً‬
‫يف الحكمة مث ًال فتتصور شيئاً من املعنى فأمتمه وألقيه عليك إلقا ًء سه ًال فيرشبه‬
‫ذوقك ويرتاح إليه قلبك ويأنس به طبعك حتى تخاله لسهولته مسبوكاً بألفاظ جزلة‬
‫وتراكيب رقيقة فتنظمه‪.‬‬
‫غري أين ال أستطيع أن ألقي عليك معنى مل تفتكر بيشء منه‪ .‬ثم قال‪ :‬وهذه‬
‫قصيدة ثانية ألقاها عليك نبيه الشاعر وهو فرنسيس امل َّراش وأنشد‪:‬‬
‫كيـــف باللـــه ضيعتـــك يدايـــا‬ ‫ي ــا صب ــاي ال ــذي م ــى ي ــا صباي ــا‬
‫لي ــت ش ــعري مت ــى تجي ــب نداي ــا‬ ‫ً‬
‫مهـــا‬ ‫ّ‬
‫بـــت مـــن حرقتـــي أناديـــك‬
‫ال تـــرى الغيـــد زلتـــي وخطايـــا‬ ‫أتيـــت ذنبـــاً شـــفيعاً‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫كنـــت يل إن‬
‫يـــا مشـــيبي لقـــد ســـلبت هدايـــا‬ ‫كنــت منــي الهــدى إذا النفــس ضلت‬
‫لســـت أخـــى إذا طلـــت جفايـــا‬ ‫كنـــت أجفـــو إذا الربـــاب جفتنـــي‬
‫مـــا تـــرى العاشـــقني حـــول حاميـــا‬ ‫أدل إذا أدلـــت وقالـــت‬ ‫كـــم ُّ‬
‫يـــا مشـــيبي عدمـــت فيـــك هنايـــا‬ ‫أنـــا أشـــكو إىل الزمـــان مشـــيبي‬
‫فيـــه بلـــويت ومنـــه شـــقايا‬ ‫لســـت أشـــكو إىل زمـــاين ال ال‬
‫ُر َّب يـــوم ســـأبيك فيـــه بكايـــا‬ ‫أنـــا أبـــي عـــى شـــبايب ولكـــن‬
‫لســـت أرجـــو أن يســـتجاب دعايـــا‬ ‫رحـــت أدعـــو عـــى مشـــيبي وإين‬
‫وكتمـــت الهـــوى بغـــر رضايـــا‬ ‫فاجتنب ــت الحس ــان خ ــوف التج ــايف‬
‫يـــا ســـلوي لقـــد أذبـــت حشـــايا‬ ‫وتظاهـــرت بالســـلو احتشـــاماً‬
‫يف هواهـــن أســـتلذ ضنايـــا‬ ‫كيـــف أســـلو هـــوى الغـــواين وإين‬
‫أن يـــزول الضنـــى فأشـــكو شـــفايا‬ ‫لس ــت أش ــكو الضن ــى وإين ألخ ــى‬
‫أيهـــا العاذلـــون أوهـــت قوايـــا‬ ‫إنَّ يف القلـــب لوعـــة فأعـــذروين‬
‫كيـــف أبـــرت بهجتـــي وســـنايا‬ ‫ومهـــاة تبســـمت يل وقالـــت‬

‫‪113‬‬
‫ُنهايـــا‬ ‫مبقلتيهـــا‬ ‫حرمتنـــي‬ ‫فرأيـــت األعـــراض أوىل وإال‬
‫وباليـــا‬ ‫وذلتـــي‬ ‫فدعينـــي‬ ‫وأجبـــت‪ :‬الشـــباب أعـــرض عنـــي‬
‫أنـــا أهـــواك فابتهـــج بهوايـــا‬ ‫واتركينـــي خلـــو الفـــؤاد فقالـــت‬
‫فـــدع الشـــيب يل وثـــقْ بوفايـــا‬ ‫أنـــا أهـــواك شـــاعراً وأديبـــاً‬
‫غريهـــا وهـــي ال تـــروم ســـوايا‬ ‫فاقتســـمنا الغـــرام ال أمتنـــى‬

‫فقلت لوالدي‪ :‬كفى ما تنشدين من شعري‪ ،‬فقد شعرت من القصيدة األوىل أنك‬
‫تريد أن تقول يل‪ :‬أمل يأن لك حتى اآلن أن تقلع عن الحب؟ ولهذا قلت يف قلبي‪:‬‬
‫«أهكذا يكون الحلم؟»‪ .‬وكان قويل مني خج ًال واستحياء منك ال مل ًال‪ ،‬عىل أين سأريك‬
‫بعد اآلن ما يرسك إن شاء الله‪ .‬فسكت ومل يجبني‪.‬‬

‫‪114‬‬
‫الباب الخامس‬

‫‪115‬‬
116
‫الفصل األول من الباب الخامس‬
‫_ يف بنات الهوى أو الغواين _‬
‫قال والدي‪ :‬يخرج الفتى من مدرسته فريى الغادات املعرصات((( واقفات له‬
‫باملرصاد ويف أيديهن أقواس الحب لريمينه بنبالهن‪ ،‬فإذا مل تكن عليه درع املتانة‪ ،‬ومل‬
‫يكن رصني العقل قوي القلب‪ ،‬رمته إحداهن بسهم فيسقط‪ ،‬ثم تهرب غري متوارية‬
‫عنه‪ ،‬فيضع يده عىل قلبه الجريح ويتبعها ليطلب شفاءه عندها‪ .‬أما هي فتميش‬
‫وتتغ ّدن((( تغدن الغصن النضري كأنها ال تعلم شيئاً‪ ،‬حتى إذا أدركها وهو يتعرث بأذياله‬
‫وقف أمامها ذلي ًال منكرس القلب متلعثم اللسان‪ ،‬فتبتسم له ابتسامة يقوم ويقعد‬
‫بها قلبه حتى يكاد يطري من صدره‪ ،‬ومتد يدها إليه وهي ترتجف ولوعاً وغراماً كأنها‬
‫تريد نزع السهم منه‪ ،‬فإذا رأته مل يخرتقه ضغطته ضغطة تبلغ سويداءه‪ ،‬ثم تقوده‬
‫كيف شاءت وتستخدمه يف هواها وتستعبده ومتنعه من حسن السعي واالسرتزاق‪،‬‬
‫فيضيع مستقبله وتذهب أوقاته أدراج الرياح‪ .‬تراه دائباً يف استنباط األساليب التي‬
‫ترغب فيه حبيبته وهو ال يدري ماذا أعدت له األيام‪ .‬فإذا استفاق بعد ضياع الزمان‬
‫من غفلته أبرص أبواب الرزق مغلقة يف وجهه فيعيش شقياً تعيساً ال يجديه ندمه وال‬
‫ينفعه تأسفه‪ .‬إذا استسلم الفتى لهوى نفسه أضاع مستقبله‪.‬‬
‫إين ال أنهي عن الحب‪ ،‬ولكن أنهي عن الغرام والهيام اللذين يلهيان الفتى عن‬
‫السعي يف مصالحه ومصالح غريه‪ ،‬وأنهاه أيضاً عن فتاة ليس له معها يف دنياه نصيب‬

‫‪ 1‬ـ عرصت املرأة‪ :‬بلغت شبابها أو أدركت‪.‬‬


‫‪ 2‬ـ تغدن الغصن‪ :‬متايل وتعطف‪.‬‬

‫‪117‬‬
‫ألنه أحبها من غري أن يرتوى ويتأمل‪ ،‬ف َت َب َله ود َّل َه ُه الحب((( حتى أغواه وأضله‪.‬‬
‫من أفرط يف حبه ولها به عن شغله فقد خرج من الحب وصار من جملة العشاق‬
‫القارصين الغافلني عن أمورهم الذين هم كالسكارى أو كاملجانني‪ ،‬ال يشعر بهم‬
‫املجتمع اإلنساين وال يعلم لهم وجوداً فيه‪ ،‬ألنهم ال يعول عليهم وال يركن إليهم يف‬
‫يشء فهم من األموات‪.‬‬

‫الفصل الثاين منه‬


‫_ يف العذرات واملنتديات أي أماكن القهوة _‬
‫قال والدي‪ :‬إنَّ سكان الزهرة ال يعرفون العذرات((( واملنتديات‪ ،‬وهم يعجبون‬
‫منكم كيف تتلهون بها عن نسائكم وأوالدكم وأشغالكم ومصالحكم وشؤونكم‪ ،‬بل‬
‫عن حب الله تعاىل أيضاً! ومام يزيد يف تعجبهم هو أنكم أدركتم مضارها بنفوسكم‬
‫فنهيتم أوالدكم وأنتم ال تنتهون فكيف ال يقتدون بكم! لقد جنيتم عىل نفوسكم‬
‫وعىل أبنائكم فاسرتحموا لعلكم ترحمون‪ .‬يا أيها الناس دعوا هذه املجالس ف ُر ّب‬
‫مجلس كان مفسدة لكم وأنتم ال تعلمون‪.‬‬

‫الفصل الثالث منه‬


‫_ يف التلهي بالزهرة _‬
‫قال والدي‪ :‬ليس يف الزهرة مال ٍه وال مراقص‪ ،‬فإنَّ الرجل منا إذا فرغ من شغله‬
‫تلهى بامرأته وأوالده وشؤونه الداخلية وبأقاربه‪ ،‬ال يأنس بغريهم وال تلذ له معارشة‬
‫سواهم‪ .‬يستعذب كل ما تقوله زوجته وأوالده‪ ،‬وتستعذب هي كل ما يقوله قرينها‬
‫وبنوها ألنَّ أقوالهم مستعذبة مستحالة‪.‬‬
‫ال يصدر قول الواحد منهام إال عن علم ورصانة وحكمة يف محبة‪ .‬ولذلك يستحسن‬
‫كل منهام ويستلطف ما يستحسنه ويستلطفه اآلخر‪ ،‬أي إنهام ال يختلفان يف يشء‪ .‬يرس‬

‫الحب فالناً‪ :‬أسقمه وذهب بعقله‪ .‬ود َّلهَه ُّ‬


‫الحب والعشقُّ ‪ّ :‬‬
‫حيه وأدهشه‪.‬‬ ‫بل ُّ‬‫‪1‬ـ َت َ‬
‫‪2‬ـ العذرة‪ :‬مجلس القوم‪.‬‬

‫‪118‬‬
‫بها ويبتهج وتفرح به وتستبرش كأنهام عروسان مل متر عليهام ثالثة أيام‪.‬‬
‫يجتهدان يف ترقية أفكار بنيهام وتنويرها ويف إصالح أخطائهم‪ .‬إذا فاهوا بكالم غري‬
‫مهذب وكانوا ال يعقلونه د ّالهم عىل معناه بقدر ما يستطيع سنهم ونهياهم عنه من‬
‫غري زجر‪ .‬ال يفارق الرجل أهله حرصاً عىل محبتهم وآدابهم ذلك ألنه مسؤول عنهم‬
‫ومؤاخذ بهم‪ .‬إذا غفل عن تهذيبهم وتربيتهم وهو علة وجودهم وتأليفهم وجمعهم‬
‫بعد الله تعاىل فقد أساء إليهم‪ .‬ال يجوز له أن يهملهم ويتخىل عنهم ومييض أوقاته‬
‫يف املالهي وامرأته يف البيت تشتغل وتهتم ومتارس‪ ،‬فإذا تخىل كان سبب شقائهم‬
‫وعذابهم‪ .‬أمل يخلقنا الله تعاىل ومل َ‬
‫يتخل عنا؟ أما أحبنا وق ّدم إلينا كل ما نحتاج إليه‬
‫وأنزل علينا وصاياه فكان السبب يف سعادتنا؟ ال ينظر الرجل إىل غري امرأته وال تنظر‬
‫فكل منهام سعيد برفيقه ال‬‫ات ٌّ‬ ‫املرأة غري رجلها (إال ما ندر) ألنَّ املحبة مألت قلبيهام ل ّذ ٍ‬
‫يستغني عنه‪ .‬ال يسمح للرجل بأن يسافر ويرتك عياله‪ .‬فإذا بدا له سفر الب َّد منه صحبوه‬
‫يف الحل والرتحال‪ ،‬وإال منع من السفر وهذه عادة محمودة تدفع عادات مذمومة‪.‬‬

‫الفصل الرابع منه‬


‫_ يف منتديات ومالهي األرض _‬
‫قال والدي‪ :‬إنني ال أنصح الرجال املتزوجني وال أسألهم هجر املنتديات واملالهي‬
‫ألين ال أخالهم ينتصحون ويجيبون‪ ،‬فأنصح فتيانهم وشبانهم أن يجتنبوا تلك األماكن‬
‫التي تقتل أوقاتهم وتدفنها وتفقدهم علومهم ومعارفهم وفنونهم بعد ما عانوا أتعاباً‬
‫ومشقات عظيمة يف تعلمها‪ ،‬ألنَّ الطالب ال يكون عاملاً يف مدرسته بل يف بيته حينام‬
‫ينفرد بنفسه ويكرر دروسه ويعاودها ويتمرن عليها بالتكرير والتجريب ويرسخها يف‬
‫عقله باملقابلة والقياس‪.‬‬
‫ليجتنبوا تلك املالهي املضلة التي ترغبهم يف األلعاب الضارة فإنها ترضهم من‬
‫جهتني‪ .‬األوىل‪ :‬تضيع ثروتهم ورشفهم‪ ،‬والثانية‪ :‬تجرهم إىل البطالة والكسل‪ ،‬هذا‬
‫إذا كانت املالهي خيالية من الروايات الغرامية الخالعية التي متثلها وتشخصها‬
‫بنات الهوى املتهتكات اللوايت طاملا هجمن عىل الشبان واقتنصن قلوبهم وعقولهم‬
‫بخالعاتهن التي تهيج البالبل وتحرك األشجان الكامنة‪ ،‬فسلبنهم بعد ذلك أموالهم‬
‫وأفقدنهم صحتهم فعاشوا عليلني محتقرين ال يجدون من يرق لهم ويرحمهم‪.‬‬

‫‪119‬‬
‫ال يقل الشاب إنني عىل علم من غدرهن ومكرهن فال أقع بني أيديهن‪ .‬لقد ضل‬
‫وغوى‪ ،‬فإنَّ لهن حبائل امتزن عن غريهن بالرشاقة والخفة وقوة الجذب فيقع فيها‬
‫الفتى وهو حريص عىل نفسه‪.‬‬
‫إين أخاف عليك يا هذا أن تقع فتشب بوقوعك عىل الرذائل واملفاسد فال تجد‬
‫باباً للنجاة‪ ،‬فإذا وجدت تغافلت عنه إىل أن تأتيك ساعة وهي قريبة منك ال تبرص‬
‫بها وال تعي‪.‬‬
‫ارحم نفسك يا ولدي وال تنشأ بجهلك عىل الشقاء فتضيع منزلتك يف املجتمع‬
‫اإلنساين حتى إنك ال تصادف من تستعني به عىل تخفيف مصائبك‪ .‬ال تنظر بني‬
‫يديك وال تبرص غري جامعة من ذويك يرغبونك يف الفواحش واملناهي‪ ،‬فيتسع عليك‬
‫نطاق الشهوة وأنت تطلب من أجلها املال فال تظفر به‪ ،‬فتهون عليك اللصوصية‬
‫فتلص‪ ،‬وإىل هنا منتهى حياتك األدبية وستتبعها املادية عام قليل‪.‬‬ ‫ّ‬
‫فإذا كانت تلك املنتديات واملالهي خالية مام ذكرت القتصارها عىل األلعاب‬
‫التي يسمونها بالبسيطة كاللعب بالورق املعروف ونحوه‪ ،‬فهي تقود الفتى إىل‬
‫املقامرة ولو كانت يف أول األمر جزئية‪ ،‬ألنَّ حبها يكرث يف قلبه حتى تصبح ومتيس‬
‫كلية فيعتادها ويألفها وهو ال يستطيع اإلقالع عنها والتخلص منها‪ .‬إنَّ املقامرة إثم‬
‫وعار‪.‬‬
‫لقد علم الناس كبارهم وصغارهم‪ ،‬عاقلهم وجاهلهم أنَّ القامر انتهى بكثريين‬
‫إىل اللصوصية‪ ،‬وأقول وال أظلم نفيس بقويل‪ :‬إنَّ كل مقامر مدمن لص ألنه تكون فيه‬
‫أخالق اللصوص وكل حركاتهم وسكناتهم‪ ،‬وعليه فإين أنصح إخواين وأطلب إليهم‬
‫أن ال يغفلوا فيصاهرهم مقامر ولو كان غنياً مرثياً من قوم ماجدين فإنه يفتقر يف‬
‫ساعة واحدة رمبا انتحر بها‪.‬‬
‫إنَّ املقامر يتربأ من عياله‪ ،‬والوالد املقامر شقاء وبالء عىل أوالده ألنه يدعهم وال‬
‫ينفق عليهم‪ ،‬فإذا أوصل إليهم قوت يومهم فال يتفرغ لرتبيتهم‪ ،‬فإن تفرغ يف بعض‬
‫األحيان فال يصلح للتهذيب ألنه قد متكنت منه أخالق املقامرين الذين هم يف األكرث‬
‫عىل أطوار الرعاع واألسافل‪.‬‬
‫ال يقل أحد إذا خاتنني مقامر كففته عن املقامرة‪ ،‬لقد قال قوالً محاالً فإنَّ‬
‫(((‬

‫‪ 1‬ـ خاتنه‪ :‬تزوج إليه وصاهره‪.‬‬

‫‪120‬‬
‫املقامرين ال يرعوون وال يقلعون والنادر بحكم العدم‪ .‬فإذا منع الرجال بناتهم عن‬
‫املقامرين كان املنع عربة لهم وتأديباً ّ‬
‫فتقل املقامرة‪.‬‬
‫إين ألعجب من بعض العقالء الذين ميضون لياليهم باأللعاب التي منها الورق‪،‬‬
‫وهي وإن كانت أرضارها جزئية ال ترضهم يف الوقت الحارض‪ ،‬فإنها سترضهم بأكرث‬
‫أوالدهم الذين ينشأون عىل عادات آبائهم أوالً ثم يتوسعون ويزدادون إىل أن يعتادوا‪.‬‬
‫إنَّ اإلنسان إذا ولع بيشء مل يقدر عواقبه‪ ،‬فإذا قدر شيئاً منها ع ّلل نفسه باألماين‬
‫واألباطيل‪ ،‬فيقول مث ًال إنني ألعب اآلن إىل أن يكرب ولدي فأمتنع‪ ،‬كأنه يعتقد أنَّ ولده‬
‫سيكون طوع بنانه غداً كام هو اليوم‪ .‬أمن العدالة أن تشوق ولدك إىل اللعب وقد‬
‫تلذذت به واشتهيته كثرياً أيام أكرهت عىل تركه‪ ،‬ثم متنعه عىل ولدك وتغضب عليه‬
‫إذا خالفك؟‬
‫ال تقل إين إذا تركت اللعب أخذه ولدي عن غريي‪ .‬ليرتكه كل واحد منكم يا أيها‬
‫اآلباء فال يجد األبناء من يأخذونه عنه‪ .‬اتركه يا هذا أوالً ور ّغ ْب يف تركه غريك‪.‬‬
‫إين أسأل بعضهم وأقول لهم‪ :‬ملاذا ال تنهون الناس؟ أتعتقدون أنَّ تلك األلعاب غري‬
‫ضارة ومفسدة لألخالق‪ ،‬أم تخافون النهي لئال يكرهكم بعض الالعبني؟ أغاية الدين أن‬
‫تستعطفوا البرش وتسرتضوهم مبجاراتكم لهم فيام يرضهم ويضلهم؟‬
‫إذا استفتيت بضعهم يف اللعب تردد عىس أن ينقلب الحديث‪ ،‬فإذا أفتى مل تفهم‬
‫منه شيئاً‪ ،‬ذلك ألنه يقول يجوز اللعب إذا كان غري مرض‪ ،‬ويفرس قوله بهذه الجملة «أي‬
‫إذا كان اللعب بيشء جزيئ» وهنا ينظر إىل املستفتي فإذا رآه من الراغبني يف اللعب مل‬
‫يشدد عليه وذلك تقرباً منه وتزلفاً إليه‪.‬‬
‫ال يجوز التساهل‪ ،‬والتشديد واجب الب َّد منه‪ .‬يا أيها املستفتي الطالب الحقيقة ال‬
‫تستفت صغرياً قريب العهد من الرئاسة‪ ،‬فإنه ضعيف الحزب يخاف عىل نفسه الترصيح‬ ‫ِ‬
‫واستفت مسناً قوي الحزب فيرصح لك يف النهي‪ ،‬ولو‬ ‫ِ‬ ‫فيكتفي بالتلميح‪ ،‬وال تلح عليه‬
‫كانت للرؤساء عندكم جرايات ألفتوا يف املنع وأظنهم مينعون وينهون قبل أن يستفتوا‪.‬‬
‫ويف األخري أقول‪ :‬لله در أجدادكم الذين كانوا أقرب إىل الحكم منكم‪ ،‬ألنهم مل يكونوا‬
‫يتساهلون يف هذه األلعاب وغريها ولذلك كانت السعادة أقرب إليهم منكم‪.‬‬
‫اعلموا يا رجال هذا القرن أنكم متهدون ألوالدكم سب ًال ستكون ضيقة املسالك عليهم‬
‫وأنتم ال تعقلون إال يوم يصريون شباباً أو رجاالً مثلكم‪ .‬إنكم ستندمون يف شيخوختكم‬
‫وتحرتقون ولكنكم ال تذوبون‪ ،‬فلو ذبتم لنجوتم من عذاب أليم‪.‬‬

‫‪121‬‬
‫الفصل الخامس منه‬
‫_ يف املآكل _‬
‫قال والدي‪ :‬إننا نأكل البقول مطبوخة يف الغالب‪ .‬والفاكهة الناضجة النافعة‬
‫الصالحة لنامء الجسم‪ .‬ونأكل اللنب وبيض بعض الطيور أيضاً‪.‬‬
‫أما اللحوم فال نقربها ألنها غليظة ثقيلة يعرس هضمها‪ .‬وملا كانت مآكلنا خفيفة‬
‫رسيعة الهضم رأينا أن نأكل يف كل خمس ساعات أكلة‪ ،‬ولذلك ال تعتل أبداننا إال يف‬
‫النادر فرتانا أقوياء أشداء‪.‬‬
‫ال نستعبد مثلكم لألكل والرشب ألننا أرقى وأسمى منكم‪ .‬ال نهتم مثلكم بتنويع‬
‫األطعمة فنصنع منها ألواناً نتلذذ بها تلذذاً وقتياً يقوي فينا الشهوات‪ ،‬فتعصينا أبداننا‬
‫فننغمس يف الرذائل‪.‬‬
‫نحن ال نأكل لنتلذذ بل لنتغذى‪ ،‬فإنَّ للعقالء لذات كثريات غري الطعام‪ .‬وعليه‬
‫فقد رقت عقولنا وتوسعت مداركنا وحفظت أبداننا‪.‬‬
‫إنَّ املنهمكني يف املطاعم ضعيفو األجسام والعقول‪ ،‬وهم أقرب من غريهم إىل‬
‫العلل املهلكة‪.‬‬

‫الفصل السادس منه‬


‫_ يف األطباء وواجباتهم ويف السكر _‬
‫قال والدي‪ :‬إنَّ سكان الزهرة ال يحتاجون إىل أطباء ألنهم ال ميرضون إال يف ال َّن َد َرى‪.‬‬
‫فإذا مرض أحدهم دعوا له قايض محلته الذي الب َّد من أن يكون رج ًال مسناً حنكته‬
‫األيام وأحكمته التجارب‪ .‬وملا كانت األمراض والعلل ال تتجاوز العرشة عداً لقلة‬
‫األسباب والدواعي املمرضة‪ ،‬هان عىل القايض تشخيص العلة‪ ،‬فيصف للعليل ماء‬
‫العني الفالنية أو النبات الفالين فيشفى‪ .‬وبعد شفائه يجتهد القايض أن يعرف السبب‪،‬‬
‫فإذا تبني له أنَّ املريض ج ّر املرض عىل نفسه بتهامله أو بأكله أكرث اشتهائه وحاجته‪،‬‬
‫طلب من املحكمة العقابية أن تعاقبه بذنبه‪ ،‬وهو أي القايض يجد يف التطهري وزيادة‬
‫التنظيف ملنع رسيان العلة‪ .‬إنَّ التطبيب والتمريض ال يكونان عندنا إال مجاناً‪.‬‬

‫‪122‬‬
‫قال‪ :‬أما أكرث األطباء عندكم فهم القتلة‪ .‬هم سفاكو الدماء الطاهرة التي اؤمتنوا‬
‫عليها‪ .‬هم أعداء اإلنسان‪ .‬هم املوت األبيض واألحمر والعدو األزرق(((‪ ،‬هم الطاعون‪.‬‬
‫هم األمراض الفاتكة التي اكتشفتم بعضها‪ ،‬سل املقابر عنهم تجبك إننا مجازر األطباء‬
‫ومذابحهم‪.‬‬
‫ً‬
‫إين أرى كلمة الطب ال معنى لها‪ ،‬وإنَّ الطب اسم ال مسمى له غالبا كالغول‬
‫رس مجهول غامض ال تستطيع اآلن مدارك اإلنسان كشفه‪.‬‬ ‫والعنقاء عندكم‪ .‬فهو ّ‬
‫إنَّ األطباء عندكم يف أكرث األمراض مجربون وممتحنون ال مداوون يتوقعون‬
‫املصادفة الحسنة‪ .‬يوغلون يف املفاوز املهلكة يف الليايل املظلمة ويخبطون عىل غري‬
‫هدى‪ ،‬فإما أن ينجوا وإما أن يهلكوا‪ .‬يحمدون اليوم الدواء الفالين وغداً يذمونه‬
‫وينكرونه حتى أمست األدواء عندهم كاألزياء‪ .‬فلو منع أكرث األطباء ّ‬
‫لقل املوت‪ ،‬وهذا‬
‫أمر ال تقدمون عليه‪ .‬إنكم تقولون إذا منعنا األطباء أمتنا علم الطب‪ .‬إنكم جهالء‬
‫مكابرون متوتون بطبكم وال تدركون‪ .‬ليس كل طبيب مأذون يصلح للتطبيب‪ .‬يجب‬
‫أن يكون الطبيب رصيناً رزيناً ذكياً متوقد الفكر رسيع الخاطر‪ .‬إذا مل يعرف العلة‬
‫معرفة تامة ال شبهة فيها فال يجوز له وصف الدواء‪ .‬انبذوا عىل األقل األطباء الذين‬
‫مل يعرفوا بالنباهة وقوة الحافظة‪ .‬يا حبذا لو تداويتم باملجربات املأثورة عن آبائكم‬
‫وأجدادكم‪ ،‬ويا حبذا لو رجعتم إىل األطباء الخبريين املجربني إذا كانوا نبيهني وإال‬
‫فاجتنبوهم اجتناباً تاماً‪.‬‬
‫لقد رأيت كثريين من أطبائكم يف هذا الزمان متكنت من قلوبهم علة الطمع‬
‫فأمسوا وهم بها معتلون‪ ،‬يتفانون يف زيادة ثروتهم ال يف شفاء املرىض‪ ،‬يعودون‬
‫كثريين يف يوم واحد فال يستطيعون لكرثتهم وضيق أوقاتهم عىل ما بهم من األطامع‬
‫أن مييزوا العلة من سواها‪ ،‬فيخطئون يف تعيينها ويصفون العقاقري الضارة املضادة‬
‫فيزداد املرض إىل أن يذهب املريض قتيل جهلهم‪.‬‬
‫ما قولك يف عليل يتق ّلب عىل فراشه تأملاً‪ ،‬فإذا عاده الطبيب طابت نفسه أو‬
‫كادت واشتد به قلبه وهو ال يعلم ما خبأ له جهله؟ لقد خبأ السم النافع ليقبض به‬
‫روحه‪ .‬وما قولك يف رجل يعزه العليل ويبجله ويطلعه عىل خفياته ويجلسه يف صدر‬
‫مجلسه ويدفع له خرية دنانريه ليفتك به ويهلكه بها‪.‬‬

‫‪ 1‬ـ املوت األبيض‪ :‬املوت فجأة‪ .‬واملوت األحمر‪ :‬املوت قت ًال‪ .‬العدو األزرق‪ :‬قيل معناه الخالص العداوة‪.‬‬

‫‪123‬‬
‫إنَّ لهؤالء األطباء فوائد نعلمها وتجهلونها وهي أنهم حينام يقتلونكم بجهلهم‬
‫يخففون عنكم العذاب يف األرض‪ .‬كل طبيب أمات علي ًال بجهله ُع َّد قات ًال غري متعمد‬
‫القتل‪ ،‬ألنه يخرج كثريين من األرض قبل نهاية مدتهم فيها وهم غري مربرين وال‬
‫صالحني‪ ،‬مع إنَّ الغالب منهم لو مل يخرجوا منها يف ذاك الوقت لكفروا عن ذنوبهم‬
‫وتابوا وعوضوا وعملوا خرياً يفيد كثريين ويخلصهم‪ .‬أما الذي يقتله الطبيب وهو أثيم‬
‫يرسل إىل مدينة التكفري يف القمر وال يرسل إىل زحل ولو كان يستوجب السجن فيه‪.‬‬
‫حادثة‪ :‬لقد علمت ملا كنت يف األرض أنَّ طبيباً كان يطبب علي ًال اشتدت علته‪ ،‬فقال‬
‫البن حمي املريض‪ :‬إنَّ صهرك ميوت بعد ساعات وهو ذو عيال ال معني لهم غريه‪ ،‬فأشري‬
‫عليك بأن تجعله يطلب من وكيل رشكة ضامن الحياة أن يضمنه بخمسمئة ذهب‬
‫عثامين‪ ،‬ومبا أنني طبيب هذه الرشكة فأقنع الوكيل برشط أن ُيدفع لنا خمسون ذهباً‬
‫وبعد هذا أقدم إىل املريض دواء يخفف عنه عذاب املوت فيقبض عياله الخمسمئة‬
‫املعينة‪ .‬فلام سمع الرجل منه هذا الكالم وبخه وتركه وبعد أيام شفي العليل ْ‬
‫فتأمل‪.‬‬
‫أقول‪ :‬أما اآلن‪ ،‬وأنتم ترغبون يف الحياة األرضية والتطبب فأرى أن تختار املجالس‬
‫البلدية األطباء األذكياء الخبريين املجربني‪ ،‬وأن تعني لكل محلة طبيباً أو اثنني بحسب‬
‫كرثة األهايل وقلتهم‪ .‬وتعني معه طبيبني حدثني من الذين ظفروا باإلجازة ليتمرنا مدة‬
‫معلومة تزيد وتنقص بحسب مهارتهام‪ ،‬وذلك مبوجب جرايات يعيشون بها العيش‬
‫الرغد‪ .‬فإذا اعتل أحد األصحاء احرضوا له هؤالء الثالثة يف الحال فيفحصون ويدققون‬
‫برت ٍو وتأنٍ ‪ .‬فإذا أشكلت عليهم العلة لزمهم أن يعلموا األمر جمعية األطباء العمومية‬
‫ليحرضوا ويشخصوا ويصفوا الدواء الذي ال يكون إال يف النباتات‪.‬‬
‫ويجب عىل كل األطباء أن يداووا باملاء البارد والحار وبالهواء النقي‪ ،‬وأن يداووا‬
‫بالشمس أيضاً فإنَّ يف حرارتها ونورها شفاء كاملاء والهواء‪ .‬ويجب عليهم أن ال يغفلوا‬
‫عن النظافة وأن ال يغفلوا أيضاً عن جمع النباتات النافعة يف أوقاتها‪ ،‬وأن يطلبوا إىل‬
‫املجالس البلدية تعيني صيدليات عمومية يوزع بها العقاقري مجاناً صيادلة مشهود‬
‫لهم باملعرفة واالختبار‪ .‬وهذه املجالس تعني لقاء هذا كله رضيبة خصوصية يدفعها‬
‫الناس بحسب استطاعتهم‪ ،‬وبعد دفعها ليس عليهم أن يدفعوا شيئاً لألطباء الذين‬
‫يحظر عليهم قبض درهم واحد أو قبول هدية‪ ،‬إال أنَّ ذلك كله يجب أن يجري بنزاهة‬
‫تم هذا كله َّ‬
‫كف األطباء‬ ‫وتدقيق‪ .‬ومن خالف عوقب من غري أن تقبل شفاعة فيه‪ .‬فإذا َّ‬
‫عن املداواة باألدوية التي يستعينون بها عىل جمع األموال إجابة إىل دواعي األطامع‪،‬‬

‫‪124‬‬
‫فتغلق تلك املعامل املهلكة املعدة الستخراج األدوية السامة‪.‬‬
‫وعىل األطباء أن يتفقدوا الناس ويفصحوا عام يأكلون ويرشبون ويتعهدوا املنازل‬
‫الخصوصية والعمومية‪ ،‬وأخص منها املعامل التي يشتغل فيها الفقراء والبائسون حيث‬
‫تكرث األوخام واألقذار‪ ،‬وأن يعتنوا بتنظيفها يف كل ساعة حتى ال تنبعث منها األمراض‬
‫املعدية املميتة‪.‬‬
‫ً‬
‫وعىل األطباء أيضا أن مينعوا الفاكهة غري الناضجة والبقول واألسامك واللحوم‬
‫وجميع املآكل واملشارب الضارة منعاً قوياً شديداً‪.‬‬
‫وعليهم أن يهتموا بالحالقني وأماكنهم والحاممات والحامميني وأن يضعوا لهم قوانني‬
‫ال يتعدونها ونصائح واقية وافية‪ .‬وعليهم أن يسعوا يف اختيار العيون الصافية الطيبة‬
‫املياه وجرها إىل جميع الشوارع واألزقة واملنازل والفنادق العمومية والخصوصية واىل‬
‫كل املحال أيضاً‪ ،‬فإنَّ للامء تأثرياً عظي ًام يف األبدان‪ ،‬به العوايف إذا كان زالالً وإال فمنه‬
‫العلل واألسقام‪ .‬غري أنه ال يجوز أن يرشب إال من الينابيع املغطاة واملصونة‪.‬‬
‫وأرى أن ُتنع املسكرات منعاً باتاً ذلك بأن يسقط مدمنها من الحقوق العمومية‬
‫فال ُينتخب للمجالس واملحاكم وال ُيوظف‪ .‬وال ُيؤذن له أن يكون وكي ًال أو وصياً أو ولياً‬
‫أو كفي ًال أو مستشاراً أو طبيباً أو صيدلياً‪ ،‬ونحو هذا‪.‬‬
‫أما الفقراء الذين هم عندكم محرومون هذه الحقوق أو بعضها‪ ،‬والذين ال يسألون‬
‫عنها‪ ،‬فليجتنبهم الناس إىل أن يرعووا‪ .‬إين ال أريد إال وقايتهم من العلل‪ ،‬ومن البطالة‬
‫والسمعة القبيحة اللتني تعودان بالشقاء الدائم عليهم وعىل أنسالهم وذرياتهم وهم‬
‫ال يعلمون ما هو أقرب إىل الخري وأبعد عن الرش‪ ،‬غري أين ال أشري يف هذا كله بالسجن‬
‫وال الجزاء النقدي‪.‬‬
‫وليعلم الناس أنَّ يف التبغ والتنبك س ًام يضعف الجسم مهام كان قوياً‪ ،‬إال أنه ال‬
‫يفنيه رسيعاً بل يرسي يف دمه شيئاً فشيئاً فينحرف مزاجه وهو يجهل السبب إىل أن‬
‫تظهر العلة‪ .‬ومن الناس كثريون يعتقدون أنهام ال تؤثران إال يف الصدور‪ ،‬فإذا كانت‬
‫صدورهم صحيحة قالوا إنَّ التبغ والتنبك ال يرضان‪ ،‬ولكنهم غفلوا فلم يدركوا أنَّ سمهام‬
‫يتسبب بكل علة‪ ،‬ألنه كام علمت يرسي يف الدم فيفسده ولو بعد حني‪ ،‬يا أيها الذين‬
‫يريدون بنفوسهم خرياً أقلوا القهوة إذا كنتم ال تستطيعون تركها‪.‬‬
‫أما األكول النهم املستعبد لشهوات بطنه فهو عندي عدو نفسه‪ ،‬أو هو مختل اختل‬
‫نظام أمره فال يعقل وال يدرك نفعه من رضه وال خريه من رشه‪ .‬فيجب تهذيبه وتعيني‬

‫‪125‬‬
‫مقدار أكله ورشبه ووقتهام‪ .‬إنَّ أكلة واحدة تودي بحياة آكلها‪ .‬فإذا مل ميت رسيعاً عاش‬
‫علي ًال‪ ،‬وولد العليل عليل مثل أبيه‪ ،‬فهو يجني عىل نفسه وعىل أوالده‪ ،‬حتى عىل زوجته‬
‫التي رمبا ال يكون لها معني غريه‪ ،‬أفال يجب بعد هذا كله تهذيبه كام يهذب الصغري؟‬
‫إنَّ الذي يهذب صغرياً يهذب كبرياً فإذا مل يرد أو مل يستطع أن يتهذب فحجره أوىل‪.‬‬
‫يا أيها الناس إين أكرر القول وأقول‪ :‬اعلموا وتيقنوا وتأكدوا إنه كلام ازدادت‬
‫العقاقري املكلسة ازدادت العلل واألمراض والعاهات واملصاعب واملتاعب والهموم‬
‫والغموم‪ ،‬وإنَّ أكرث العلل تزول مبنع األسباب التي أحدثتها وهي غري خافية‪ ،‬وإنَّ‬
‫الذين يتعالجون كثرياً يعيشون سقاماً‪ ،‬وإنَّ الدواء النافع الذي فيه الشفاء‪ :‬الحمية‪.‬‬
‫أما علم الجراحة فإنه مفيد فيام خال األبطنة غري املعاينة إىل اآلن‪ ،‬إال إنني أرى‬
‫بعض الج ّراحني يتامدون فيهجمون بآالتهم عىل كل علة‪.‬‬

‫الفصل السابع منه‬


‫_ يف العفاف _‬
‫عم ال يحل وال يجمل بك قوالً وفع ًال فقد عففت‪ .‬من كف‬ ‫قال والدي‪ :‬إذا كففت ّ‬
‫نفسه عن محرم فقد ملكها‪ ،‬ومن ملك نفسه فقد اكتمل‪ ،‬ومن اكتمل فقد تش ّبه بالله‪.‬‬
‫العفة مزية مستمدة من عصمة الله تعاىل‪ ،‬ترشفت بها املزايا والخصال‪ .‬العفة‬
‫جلباب الظرف تنبعث منه أنوار الصيانة والكامل فيتألأل البسه بالعظمة والجالل‪.‬‬
‫العفة طهر النفوس ونقاوة األجساد فال خوف عليها من االعتالل‪.‬‬
‫من قرصت نفسه عىل امرأته ومن صانها من غريه فهي له وحده‪ ،‬ومن تغافل عن‬
‫امرأته فقد أباحها لغريه‪ ،‬ومن غفل عنها بقلة فطنته ملداق األمور فهو أبله ال متييز له‪.‬‬
‫من أحب أن يرس الناس ببهجة زوجته ولو سلمت نيته فال مروءة له‪ ،‬ومن رسه‬
‫من بعلته التربج((( واإلمياض((( فقد هان عليه عرضه‪.‬‬
‫إنَّ العفيفة ال تظهر للرجال ما خفي من محاسنها مبا تتخذه من الشفوف((( التي‬

‫‪ 1‬ـ تربجت املرأة‪ :‬أظهرت وجهها‪ .‬وإذا أبدت املرأة محاسن جيدها ووجهها قيل تربجت وترى مع ذلك يف‬
‫عينيها حسن نظر‪ .‬التربج‪ :‬إظهار املرأة زينتها ومحاسنها للرجال‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ أومضت املرأة‪ :‬سارقت النظر‪ .‬ويقال‪ :‬أومضت فالنة بعينها إذا برقت‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ الشفوف‪ :‬جمع الشف وهو الثوب الرقيق يرى ما وراءه‪.‬‬

‫‪126‬‬
‫ال تصونها‪ ،‬فإذا أظهرته فقد تص ّبتهم‪ .‬وإنَّ التي ال تتزين لرجلها بل للناس يقال إنها‬
‫تريد لها خدناً يخادنها‪ ،‬وإنَّ التي تكرث من التأنق يطمح برصها إىل الرجال ليعجبوا بها‬
‫ويتسابقوا إليها‪ ،‬وإنَّ التي تتزيا يف مالبسها بزي فتيات الهوى املتهتكات ُيخىش عليها‬
‫أن تكون منهن‪ .‬إنَّ املرأة الحصناء((( املدركة الحقائق ال تتزين بالحيل الكثري التي هي‬
‫زينة الصغريات الضعيفات العقول بل تتزين باملزايا والفضائل‪.‬‬
‫كل من خرج من األرض عفيفاً نقياً رجع إىل الزهرة حيث يبالغ يف تعظيمه ويكلله‬
‫قايض القضاة‪ ،‬وهذا اإلكليل ال ينزع من رأسه وهو من زهرة يف الجنة‪ ،‬ال تذبل وال‬
‫يتغري لونها بل يزداد لصوفاً((( ونضارة‪.‬‬
‫إذا أثم املكلل يف الزهرة فال يرجع إىل األرض بل يرسل إىل مدينة التكفري‪ ،‬وهذا‬
‫نادر ألنَّ األع ّفاء الذين مينعون نفوسهم عن الشهوات أتقياء‪ .‬واألتقياء ال يأمثون تعمداً‬
‫منهم بل خطأ وذهوالً‪.‬‬

‫الفصل الثامن منه‬


‫_ يف االختالط واملعارشة باألرض ويف الرقص _‬
‫قال والدي‪ :‬إنَّ سكان الزهرة يف عجب عجاب من كرثة اختالطكم ومعارشتكم‪،‬‬
‫ومن فرط انغامس بعضكم يف بعض انغامساً أفسد قلوبكم ودنّس ضامئركم مع أنكم‬
‫كنتم تجتنبون االختالط‪ ،‬فلم يكن رب األرسة يسمح بأن يرتدد إليه غري أقاربه‪ .‬أما‬
‫اآلن فقد نبذتم تلك العادة الحميدة‪ .‬أما اآلن فقد نسخ متدنكم الحديث تلك املأثرة‬
‫التي تعد مبآثر كثرية‪ .‬أما اليوم فقد أمىس كثريون من الرجال يسعون وراء الشبان‬
‫ذوي الجهورة((( ليجمعوهم ببناتهم فيالطفونهن ويالطفنهم‪ ،‬فيا للمصيبة ويا للبالء!‬
‫والبالء األعظم أنَّ الرجل الذي مل ينقد إىل هذا التمدن الحديث ُيحسب يف هذا الزمان‬
‫متوحشاً‪ ،‬أو يقولون عنه‪ :‬هذا الرجل خشن قديم العقل غري متمدن‪ ،‬وهذا عجب‪،‬‬

‫‪ 1‬ـ الحصناء‪ :‬العفيفة‪.‬‬


‫‪ 2‬ـ لصف اللون لصفاً ولصوفاً‪ :‬برق وتألأل‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ الجهورة‪ :‬حسن القد والخد‪.‬‬

‫‪127‬‬
‫وأعجب منه أنَّ الشاب يف هذه األيام إذا زار حبيبته أزوى((( أو خرته صديقه‪ .‬لقد‬
‫صار كثريون منكم رجاالً ذوي عيال فهل حمدتم متدنكم؟ ملاذا يعظ بعضكم أوالدهم‬
‫ويأمرونهم باجتنابه‪ .‬ملاذا يخاف كثري منكم عىل زوجاتهم وبناتهم ويأمرونهن بالتحذر‬
‫من غوائله ويعدونه رضبة شديدة عليهم؟ «أجيبوين»‪ .‬إذا استحيتم من الجواب أو‬
‫إذا جاوبتم ومل ترصحوا فأجاوب عنكم‪ ،‬إننا ال نسمح بأن يتمدن الشبان يف بيوتنا كام‬
‫متدنا يف بيوت غرينا‪ ،‬وإننا ال نريد لبناتنا وفتياتنا ما كنا أردناه لنفوسنا أيام صبوتنا‬
‫وشبابنا‪.‬‬
‫أال يا أيها الغافلون الذين غبي عليهم خريهم ال تظنوا أنكم إذا عرضتم بضاعاتكم‬
‫هذه عىل املتفرجني روجتموها‪ ،‬صونوا فتياتكم من ذلك االختالط واالجتامع لريغب‬
‫الشبان فيهن ويتسابقوا إليهن‪.‬‬
‫ال نصيب للمرأة من الراحة والرفاهة إذا تعود رجلها االختالط‪ ،‬وال نصيب له من‬
‫الصيانة إذا اعتادت زوجته كرثة االجتامع‪ ،‬فلامذا تجنون عىل نفوسكم وعىل أبنائكم‬
‫ونسائكم؟‬
‫ال يحسب الرجل أنَّ الشاب يحبه إلنسانيته أو فصاحته أو براعته أو كرمه أو‬
‫وجاهته‪ .‬إنَّ الشاب ال يحب يف الغالب هذه املزايا‪ ،‬وإمنا يحب تلك الالئذة بخدرها‬
‫املستمسكة بعفافها عىس أن يغريها‪ .‬ال يقل الرجل إنَّ يل ذات خدر قارصة الطرف من‬
‫أرسة عرفت بالتقوى والصيانة‪ ،‬أحبها وتحبني‪ .‬ليعلم فوق علمه أنَّ اإلنسان خلق عىل‬
‫الحب وأنه يحب أن يكون محباً ومحبوباً‪ ،‬وأنَّ الحب إذا غلب عمي صاحبه وعمه‬
‫فال يبرص ما بني يديه وال يقدر العواقب‪.‬‬
‫ال يشء يرض الفتيان والفتيات مثل االجتامعات العمومية وليايل األفراح يف هذا‬
‫الزمان الذي أصيب بالتمدن الفرنجي الحديث‪ .‬أال ترى النواهد والعواتق يتز ّين‬
‫ويتحسن وهن متمتعات بالحرية أتم متتع‪ ،‬ذلك ألنهن إذا دخلن املجتمع سقط عنهن‬
‫حكم اآلباء بحكم هذا التمدن‪ ،‬فيتبارى الشبان والشابات مبيدان الرقة والرشاقة‪،‬‬
‫ويتجارون باملعاين املؤولة املموهة فيفهمون بها ثم يستعينون بجوانب العيون فال‬
‫ترى بعد هذا غري الدنو والتقرب بفعل الجاذبية‪ ،‬إىل أن يشاهد كل اثنني يف حكاية‬
‫(أي كل فتى وفتاة) فيعرتكان باإلشارات وحركات البدن املتنوعة‪ ،‬حتى إذا انضغط‬

‫‪ 1‬ـ اختز فالناً‪ :‬أتاه وهو بني جامعة فأخذه منها‪.‬‬

‫‪128‬‬
‫الجسم بقوة امليل والعواطف أورى وملعت رشارة الهوى املعرتض((( والعارض بالتصنع‪،‬‬
‫ألنَّ الحب الرسيع الذي مل يكن ناشئاً من مصدره الطبيعي بقوة التامزج االختياري‬
‫الخايل من التصنع والتشبه ال يثبت بل يزول‪.‬‬
‫أقول‪ :‬فيفرتق املعرتكان وقد تعاقدا وتعاهدا عىل التزوج‪ ،‬فيعرتض األبوان لهام‬
‫إذا مل يريا بينهام نسبة كام يقولون أو كام يزعمون‪ ،‬أو يعرتض والد أحدهام فإما أن‬
‫يعصيا ويعيشا غالباً عيش ًة شقي ًة باقرتانهام‪ ،‬وإما أن يؤثر فيهام أو أحدهام النصح‬
‫فيقع االنفصال ويلتعنان‪ .‬وهذان يهون عليهام فيام بعد أن يعاهدا غريهام وينقضا‬
‫عهدهام مراراً‪ ،‬فيكونان قد تعودا الخيانة واملكر والغدر واإلخالف بطيشهام وقلة‬
‫ترويهام الناتجني عن رسعة االختالط‪.‬‬
‫فإذا كان الوالدان ال يريان ما مينعهام عن التزوج بحسب الظاهرة‪ ،‬وهام مل‬
‫ميال نفسيهام‪ ،‬واقرتنا حاالً فال يجدان يف قلبهام االرتياح واللذة اللذين وجداهام يف‬
‫االجتامع األول‪ ،‬ألنَّ حبهام كان مؤسساً عىل التصنع والطيش هائجاً ومدفوعاً بفعل‬
‫الخمور التي كانت كؤوسها تدار عليهام يف تلك الليلة‪.‬‬
‫عىل أنه إذا كان االثنان يف منزلة واحدة من الرصانة والرزانة‪ ،‬وإذا كانا متقاربني‬
‫يف طبعهام غري متنافرين‪ ،‬وإذا كانا ال يستعينان بالتصنع والتشبه واإلضامر‪ ،‬أي إخفاء‬
‫الفتى رشاسته وخلقه الذي ال يوافق يف أمر ويخالف ذوق الفتاة‪ ،‬فيكون الحب بينهام‬
‫محمود العواقب ويكون اقرتانهام قريباً من السعادة‪ .‬أما املتصنع املضمر فأراه غادراً‬
‫ماكراً محتاالً حتى عىل نفسه وليس عىل قرينته فقط‪ ،‬بل أراه قليل العقل ضعيفه ال‬
‫يعرف خريه من رشه وإال ما سعى برجله إىل العذاب‪ ،‬ألنه لو كان من العقالء ألدرك‬
‫أنَّ فالنة ال تصلح له ملا بينهام من التخالف يف الطباع واألهواء‪.‬‬
‫رست إليكم علل كثرية من‬ ‫قال‪ :‬لرنجع إىل حديث ذاك املجتمع‪ ،‬فأقول‪ :‬لقد ْ‬
‫إقبالكم عىل التمدن الفرنجي‪ ،‬ومتكنت من أبدانكم حتى أزمنت‪ ،‬وامتنع عليكم‬
‫شفاؤها منها‪ :‬الرقص الذي يسميه بعضكم باملخارصة‪ ،‬فاسمع يا ولدي‪ :‬يدخل الشاب‬
‫املتعنفص((( املرقص وهو نزق طائش يتكلف الخفة والرشاقة‪ ،‬زائغ البرص ينظر إىل‬

‫‪ 1‬ـ املعرتض من الهوى‪ :‬هو الذي يقع من أول وهلة فيسبي القلب يف دفعة واحدة إال َّأن تركه رسيع كام‬
‫َّأن أخذه رسيع‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ تعنفص‪ :‬ادعى مبا ليس فيه وكان ذا صلف وخفة وخيالء وزهو‪.‬‬

‫‪129‬‬
‫الجهات األربع‪ .‬يكاد لهوسه((( يعرث فيسقط ألنه يرقص يف مشيته عىل األنغام‪ ،‬فيسلم‬
‫عىل الجالس ذلك بأن يحني رأسه وينصف طرفه ويجزم بقلبه عىل حب غادة يف‬
‫الحال اختارها من الكواعب والنواهد وهو داخل‪ .‬إال أنه قبل جلوسه يختار غريها‬
‫فتنعقد عندها آماله‪ ،‬فإذا جلس ثم أدار طرفه وتأمل‪ ،‬ندم عىل ما فرط منه من‬
‫التعجيل يف االختيار وحار يف أمره‪ ،‬وصار ال يعرف أية األوانس يهوى وهو غافل‬
‫عنهن غري مبرص يف أيديهن أقواس الهوى وقد أوترنها فريمينه بسهامهن يف وقت‪،‬‬
‫واحد فتتكرس النصال عىل النصال‪ ،‬فيميس رصيع كل الغواين وأسري جميع الخرائد‬
‫والعواتق‪ ،‬فيضل وال يعرف بأيتهن هو هائم‪ .‬وأخرياً يقوم وهو ال يعي شيئاً وال يبرص‬
‫ما بني يديه فيقع عىل واحدة منهن‪ ،‬فيستمسك بيدها يف األول حاالً لئال يسبقه‬
‫إليها مزاحمه الذي هو يف شاكلته‪ ،‬ثم يخفض رأسه لها وهي اإلشارة املعرفة عند‬
‫الفرنجة يف طلب الرقص‪ ،‬فتبتسم له وتعتذر إليه وهي تتلوى وتنعطف يف تغنج خفي‬
‫وشكل لطيف‪ ،‬تخالفه وما بها خالف‪ ،‬فيخفق قلبه وتربد أطرافه فتشعر بربودته وهو‬
‫قابض عىل يدها بيديه الراجفتني‪ ،‬فتقوي نفسها وتتجلد وتثبت أمامه قائلة يف قلبها‪:‬‬
‫تشجعي تفوزي (أما هو فال يشعر بخفقان قلبها وال ينتبه إىل يدها الباردة ألنه أفرط‬
‫يف الربودة فكانت برودتها املعتدلة حرارة بالقياس إليه) وتعتمد عىل منزلتها عنده‬
‫بداللها عليه فيمر عىل هذا نحو عرش دقائق وهام يف مد وجزر‪ ،‬إىل أن يضطرب من‬
‫ضجره فيجذبها إليه جذبة قوية تكاد ترض بها عظام صدره فيخارصها((( أوالً ثم يلف‬
‫يده يف خرصها‪ ،‬ويقومان ويقعدان ويرتفعان وينخفضان ويقفزان ويعرثان ويدوسان‬
‫رجليهام وأنت يف طرفة عني تتوقع سقوطهام‪ ،‬فتتعب الناهد وقد أثر فيها ضغط‬
‫الشاب‪ ،‬فرتمي بنفسها إىل املقعد لتسرتيح‪ ،‬فيسارع إليها فتى آخر وراءه اثنان أو ثالثة‬
‫مثله ويلتمس منها الرقص فال تقوى عىل الكالم ولسان حالها يقول‪ :‬أال تبرص يا هذا‬
‫كيف يرتفع صدري وينخفض من شدة اإلعياء؟ وهنا تهجم عليها العواتق ويقلن لها‪:‬‬
‫انظري أذيالك وقد متزقت‪ ،‬فتشتغل بها عنه ويشتعل قلبها تأسفاً عىل ثوبها الذي مل‬
‫تحصل عليه إال بعد ألف حيلة كام تقولون‪ ،‬فيقول الفتى‪ :‬ليس من العادة أن متتعي‬
‫غريي برقصك الذي سلب عقيل أنا الذي أحاسن بك الناس‪ ،‬فتهم بالكالم فال تستطيع‬

‫‪ 1‬ـ الهوس‪ :‬طرف من الجنون وخفة العقل‪.‬‬


‫‪ 2‬ـ خارصها‪ :‬أخذ بيدها يف امليش‪.‬‬

‫‪130‬‬
‫ألنَّ خفقان قلبها مينعها منه‪ ،‬وهو مل يصدر عن الرقص فقط بل عن متزق ثوبها الضيق‬
‫الذي كاد يخنقها مشده‪ ،‬فتتجلد وتدخل معه يف حديث طويل ممل مآله أنَّ املشد‬
‫ال يرضها وال يتعبها‪ ،‬وبعد انتهاء حديثها تشدد عزميتها وتنهض للرقص فرتقص هنيهة‬
‫ثم تقعد ويف الغالب تهرب وتتوارى يف إحدى الحجر‪.‬‬
‫بعد أن يسرتيح الراقصون زهاء ربع ساعة أو أقل يعودون إىل ما كانوا عليه‪ ،‬أو‬
‫أنهم ال يسرتوحون((( بالرقص العريب الحديث وهو وإن يكن مهذباً بالقياس إىل غريه‬
‫إال أنه ال يخلو من أسباب التهييج فيجب تركه‪ ،‬وبعد اسرتواحهم به يرجعون إىل‬
‫املخارصة وهكذا تنتهي الليلة‪.‬‬
‫ً‬
‫عىل أنه ملا كان الناس بالرقص مولعني حتى إنه أمىس عادة ال يهون تركها عليهم‪،‬‬
‫رأيت أن يعودوا إىل الرقص العريب القديم‪ ،‬أال وهو الرقص املعروف بالسامح برشط‬
‫أن تكون أغانيه مهذبة ال تهيج بالبل الشبان والشابات‪ ،‬فيطرب طرباً نقياً تكون معه‬
‫رياضة للبدن فيتق ّوى ولله در آبائكم ما كان أعقلهم فقد كانوا ال يطربون بغري رقص‬
‫السامح‪ ،‬فليتكم تشبهتم بهم‪.‬‬

‫الفصل التاسع منه‬


‫_ يف األزياء وأرضارها ويف النسائج _‬
‫قال والدي‪ :‬لو تشبه سكان األرض بسكان الزهرة واقتدوا بهم يف املأكل واملرشب‬
‫وامللبس لخ ّف ْت ويالتهم‪ .‬انظروا الفرق بيننا وبينكم أنَّ املرأة عندنا غنية أو غري غنية‬
‫ال تجد لديها غري ثوبني‪ ،‬تلبس الواحد وترتك اآلخر لتلبسه يوم الغسل‪ ،‬وهام من‬
‫الكتان األزرق النقي الزرقة‪ ،‬ولذلك ال نشكو ألننا متجملون بالقناعة‪.‬‬
‫أما أنتم فتقولون لقد كنا سعداء فأمسينا تعساء‪ .‬كنا نشتغل قلي ًال فنجمع ما‬
‫يكفينا ويزيد ولكننا اليوم قيض علينا بأن نع َّذب العذاب الشديد‪ ،‬فإننا نكد ونكدح‬
‫لي ًال ونهاراً حتى انتحلت أبداننا وشبنا قبل املشيب‪ ،‬فال نجمع ما نستعني به عىل‬
‫نفقتنا‪ .‬فإذا سألناهم عن السبب‪ ،‬أجابوا زيادة الخرج عىل الدخل‪ .‬فإذا قلت لهم‬
‫كيف هذا؟ قالوا كنا نريح عرشة فنرصف منها ستة أو سبعة‪ ،‬أما اليوم فإننا نريح‬

‫‪ 1‬ـ اسرتوح‪ :‬مبعنى اسرتاح‪.‬‬

‫‪131‬‬
‫مئة فال تكفينا‪ .‬فإذا قلت لهم وملاذا؟ قالوا لقد أصبنا باألزياء األوروبية‪ .‬لقد تداركتنا‬
‫فرنسا أوالً التي تحبنا ورحمتنا بأن قدمت مصنوعاتها إلينا عىل ما بها من العيوب‪.‬‬
‫أحبتنا فروجت علينا سلعها ثم تبعتها غريها وغريها حتى استنزفت ثروتنا‪ .‬فإذا قلت‬
‫لهم أراكم عرفتم العلة فكيف ال تداوونها؟ قالوا نحىش أن يغضب علينا نساؤنا‪.‬‬
‫نساج الفرنجة إىل نسائكم؟ قالوا رقتها ولطافتها ونحن ال‬ ‫فإذا قلت ما الذي يحبب ّ‬
‫نستطيع اآلن أن نرفقها ونلطفها‪ ،‬فإننا نحتاج إىل أشياء كثرية صعبة املنال‪ .‬فإذا قلت‬
‫وما تبتغي نساؤكم من رقتها ولطافتها؟ قالوا التزين والتربج فيحسن يف عيوننا‪ .‬فإذا‬
‫قلت هل كن قبل هذه األزياء أقل حسناً من اآلن؟ قالوا ال فإنَّ الحسناء متتاز بحسنها‬
‫والعاقلة بعقلها والفصيحة بفصاحتها يف كل وقت وبكل زي‪.‬‬
‫يا أيها الرجال إنكم تجارون النساء وتوافقونهن يف اختيار األزياء الفرنجية‬
‫وترغبونهن فيها‪ ،‬ألنكم متدحون لطافتها أمامهن كأنكم تحبونها أكرث من أن تحبها‬
‫أزواجكم‪.‬‬
‫إنكم لتحبونها وتحبون معها تلك املشارب واملآكل التي ال يسعكم أن تحصلوا‬
‫عليها إال ببذل ما هو أعظم من وسعكم‪ .‬فإنْ عوتبتم نسبتم الحمق والنشوز إىل‬
‫نسائكم‪.‬‬
‫اتركوا عنكم هذه األعذار واقتدوا بالعثامنيني حكامكم الذين يزينون منازلهم‬
‫وعقيالتهم بنسائجكم وأنتم تكرهونها وتتربأون منها مع أنكم أوىل بها من سواكم‪.‬‬
‫يا هذا كيف تشوق الناس وترغبهم فيام تصنعه لهم وتصفه أحسن وصف وتؤكد‬
‫وتحلف‪ ،‬وأنت متقته وتجتنبه يف الفرش واللبس وال تريد أن تبرصه يف غرفتك وال أن‬
‫متسه زوجتك؟ أليس من الحكمة أن تسعى يف ترويجه بنفسك وبامرأتك وبناتك؟ إذا‬
‫كانت قرينتك حسناء ولبسته راق يف عيون جاراتها فأقبلن عليه فيزداد ربحك من‬
‫جهتني‪ .‬األوىل اعتياضك عن نسائج أوروبا السخيفة الغالية مبا تصنعه أنت وتنسجه‪،‬‬
‫والثانية ترويجك سلعك وبضاعاتك‪.‬‬
‫عد من جهلك يا هذا‪ ،‬إنَّ األمة التي ال تقوم بحاجاتها هي قارصة وعاجزة‪ ،‬واألمة‬
‫التي تقدر عىل القيام مبا تحتاج إليه فال تقوم به بل تقرص يدها عنه ومتدها إىل أمة‬
‫غريها‪ ،‬هي جاهلة غلبها جهلها وحمقها فال نصيب لها من العزة واملروءة ومن العمران‬
‫واالرتقاء يف معارج الفالح‪ ،‬فتموت بجهلها وحمقها‪ ،‬من غري أن تتدارك برأفة رحمة‪،‬‬
‫فإنَّ انقراضها وتالشيها خري لها من منوها عىل هذه الحالة الدنيئة القبيحة‪ ،‬وذلك ليك‬

‫‪132‬‬
‫ال تجني عىل أبنائها الذي ينشأون عىل جهلها وحمقها‪ ،‬وإال فهل ُسمع بأمة اشتهرت‬
‫بإتقان النسائج مث ًال التي هي سبب حياتها‪ ،‬فرتكت استعاملها بنفسها واستعملت‬
‫مصنوعات أمة غريها ترويجاً لها بيدها‪ ،‬ففرشتها ولبستها وكرهت مصنوعاتها ألنها‬
‫أقل لطافة من تلك‪ ،‬وهي تلوم الزمان وتذم األيام والليايل التي جعلت سلعها بائرة‬
‫وليس من يسأل عنها؟‬
‫أي جهل أفظع من هذا الجهل وهذا الحمق والجنون! إنَّ هذه األمة ال تستحق‬
‫الرحمة إال من وجه واحد وهو الجنون ألنها ال تدري ما تعمل‪.‬‬
‫إنني ال أنصحكم وال أحضكم وأحذركم‪ ،‬فقد انتبهت اآلن وعلمت أنَّ الله تعاىل‬
‫عكس عقولكم عقاباً لكم‪ ،‬ولذلك ال تستطيعون االنفكاك عن جهلكم وضاللكم فإنكم‬
‫رصتم إىل حالة ال متيزون بها خريكم من رشكم‪.‬‬
‫لريحمكم الله‪ ،‬لينظر إليكم أنتم الذين تجرون عىل نفوسكم بأيديكم‪ .‬أنتم يف‬
‫نظري بحكم األموات‪ ،‬مثل الجامد الذي تكلمه فال يشعر‪ ،‬مثل الجبل الراسخ فال‬
‫يتحرك‪ ،‬وإال قلت لكم انتبهوا وتيقظوا وافهموا ما أقول‪ .‬أقول رشفوا مصنوعاتكم‬
‫بنفوسكم وروجوها عليكم أوالً‪ ،‬وج ّدوا يف تحسينها وترقيتها ليك يقبل الناس عليها‬
‫فرتبحوا أكرث مام تنفقون‪ ،‬وهذا هو العيش الهنيء الرغد‪ ،‬ال تهملوها وال تزهدوا فيها‬
‫فإنَّ اإلهامل يزيلها مع أنكم ال تجدون بني أيديكم حرفة أخرى تضاهيها‪.‬‬
‫هذه هي الحرفة التي حسدكم عليها األوروبيون فكدوا وج ّدوا أعواماً يف سبيلها‬
‫حتى أخذوها عنكم‪ ،‬وقد كانوا يلجأون بها إليكم فاستغنوا بها وقد كانوا فقراء‪.‬‬
‫اليوم أنتم وسكان أوروبا يف حرب فجاهدوا يف سبيل أموالكم وال ترجعوا‬
‫ال َقه َقرى‪ .‬استغنوا عنهم وال تلجأوا إليهم فإنهم بذلك أعداء لكم‪ .‬أليس من الذل‬
‫أن تقعوا بني أيديهم؟ ج ّدوا ومارسوا وزاولوا فتتسع دوائر عقولكم فتخرتعون كام‬
‫اخرتعوا وترثون كام أثروا‪ .‬وال تقولوا سبقونا مبراحل‪ ،‬لقد كنتم السابقني فأدركوكم‬
‫فتعلموا منهم وخذوا عنهم‪ .‬تعلموا كيف أدركوكم وبأية وسيلة صاروا أمامكم‪ .‬هم‬
‫برش مثلكم فكيف يهولكم سبقهم؟ جدوا وثابروا وأثبتوا ترتقوا ويعد إليكم مجد‬
‫آبائكم وأجدادكم‪.‬‬
‫هذا ومن املقرر أنَّ تلك املآكل واملشارب واملالبس ليست تض ّيع األموال والرثوات‬
‫فقط بل ترض األبدان‪ ،‬فإنَّ منها ما ال يوافقكم أكله ورشبه فيحدث فيكم عل ًال وأمراضاً‬
‫ما عرفتموها‪ .‬ومنها ما ال يناسب وال يوافق لبسه فيضعفكم‪ .‬وال يخف عليكم أنَّ يف‬

‫‪133‬‬
‫بعض األلوان ما هو سام‪ ،‬وال تنسوا أنَّ كثرياً منها مع ٍد فتتعادون‪.‬‬
‫اتقوا الله تعاىل وارحموا أبدانكم وأموالكم‪ ،‬وال تجعلوا نفوسكم عبيداً لشهواتكم‪،‬‬
‫وال تكدوا لتقدموا إىل غريكم مثرات أتعابكم وتشرتوا بها التعاسة والشقاء لكم‬
‫ولنسائكم وألوالدكم‪ ،‬إنكم لفي ضالل مبني‪.‬‬

‫الفصل العارش منه‬


‫_ يف البائنة (الدوتا) والفتيات _‬
‫قال والدي‪ :‬إنَّ سكان الزهرة يرثون ألحوالكم ألنكم تشرتون العذاب بأموالكم‬
‫وأتعابكم‪ ،‬وألنكم اتبعتم األزياء فرصفتم عليها كل مرتخص وغالٍ لديكم‪ .‬فلام كنتم‬
‫عىل ما وصفت يف الفصل السابق من ازدياد النفقات أكرث من احتاملكم‪ ،‬أحجم‬
‫الشبان عن التزوج إال إذا كانت ثروة الشاب تساعده عىل اإلنفاق (ومثل هذا قليل)‬
‫حسبام تقتيض األزياء والدواعي الحديثة املنسوبة إىل التمدن العرصي‪ ،‬كاألشياء‬
‫اإلضافية التي يعدونها من لوازم األثاث ومتاع البيت وهي عبارة عن أوانٍ بلورية‬
‫وخزفية وخشبية ونحاسية وفضية وذهبية ال رضورة لها‪ ،‬بل كلها زوائد كأنها عملت‬
‫لتوليد األمراض املعدية‪ ،‬هذا عدا كثري من الرياش((( والعروض((( املحدثة التي إذا‬
‫نظرت إليها ومل متسك بنفسك طارت أو كادت تطري‪ ،‬وكذلك الحيل املرصعة باملعادن‬ ‫َ‬
‫البارقة املسامة عندكم بالجواهر الكرمية‪ ،‬فإنك إذا ملستها وقلبتها تجزأت وتبددت‪.‬‬
‫فلام رأى املرثون من اآلباء هذه الحالة خافوا عىل بناتهم العنوس واالمتهان مام يرض‬
‫بأبدانهن ورشفهن‪ ،‬فاضطروا إىل دفع مبلغ يستعني به الشاب عىل اإلنفاق يف املهر‬
‫ومعدات الزفاف‪ ،‬فيقدم إىل املخطوبة عقداً أو تاجاً من تلك الحيل التي أتيت عىل‬
‫وصفها‪ ،‬وذلك عوضاً عن القالدة الذهبية املنظومة من الذهب العتيق املرضوب وعن‬
‫السوار والقرطني اللذين هام من اإلبريز الخالص‪ .‬هذه الحيل التي إذا اضطر إىل‬

‫‪ 1‬ـ الرياش‪ :‬جمع ريش وهو اللباس الفاخر‪.‬‬


‫‪ 2‬ـ العروض‪ :‬األمتعة التي ال يدخلها كيل وال وزن وال يكون حيواناً وال عقاراً‪ .‬قيل واملراد به يف باب النفقة‬
‫املنقول‪.‬‬

‫‪134‬‬
‫قيمتها العروسان فيام بعد أو مل يضطرا فهي معدودة من الدنانري املروزة((( والدراهم‬
‫والس ُّتوق(((‪ ،‬فإنك إذا‬
‫النقود بخالف تلك املرصعات التي هي عندي كالزائف والبهرج ُّ‬
‫اشرتيت مرصعة منها مبئة دينار مث ًال وبعتها بعد أسبوع أضعت ربع قيمتها أو أكرث‪.‬‬
‫ومن الشبان من يقدم من هذه الحيل ما هو أكرث من استطاعته طلباً لألبهة‬
‫واالشتهار بالعظمة‪ ،‬فيبيعها قبل انقضاء أيام العرس ويدفع قيمتها إىل الدائنني‬
‫الواقفني له يف طريقه‪ ،‬فينكرس قلب عروسه ويعرتيها الهم والغم وهي مل تزل يف ليايل‬
‫عرسها وأيام أفراحها‪ ،‬فإذا سألها والدها عن سبب نحولها كتمت األمر لئال يوبخها‬
‫عىل اختيارها رجلها‪ ،‬فتحمل الوالدة هم بنتها وبداخلها من الكرب والحزن ما يقلقها‬
‫ويقلق أقاربها ومعارفها فيكون األب اشرتى العذاب لنفسه‪ ،‬ولن يلوذ به بتلك البائنة‬
‫التي مل تكن ثروته تسمح له بدفعها‪.‬‬
‫وملا كانت هذه البائنة أمست شائعة بني املسيحيني ال يستغنى عنها‪ ،‬اضطر‬
‫الرجل أحياناً إىل إعطاء ما هو أكرث من اقتداره ليخفي عىل الناس حالته ويحافظ‬
‫عىل سمعته املالية ورشفه‪ ،‬وأنت تعلم ما يف ذلك من الرضر اآلجل والعاجل و ُر َّب‬
‫بائنة تسببت بإفالس‪.‬‬
‫ولقد رأيت كثريين من الشبان تقاعدوا عن التزوج رعاية ألخواتهم القامئات بني‬
‫أيديهم‪ ،‬وذلك ألمرين األول ألنَّ الشاب ال يستطيع أن ينفق لو تزوج عىل عياله‬
‫الخصوصيني وعىل شقيقاته اللوايت غدون بعد والده عياالً عليه ورصن له الهم األعظم‬
‫(ألنَّ الناس ال يرغبون يف صهر عنده معارص((( وعوانس ال يخرجن من بيته) فيجود‬
‫عليهن بالدرهم الوضاح ليرصفنه عىل األزياء عىس أن يرشد الله تعاىل طريقهن‪ .‬واألمر‬
‫الثاين ألنه ال يريد أن يكدرهن بتزوجه‪ ،‬فإنَّ لهن حقوقاً إذا سكنت عنها تأدباً وصيانة‬
‫تعلقت بها جوارحهن‪ ،‬وهذه الفعلة أعدها مأثرة لذلك الشاب الهامم الصالح‪.‬‬
‫أقول‪ :‬فلام علم الشبان من التجارب أنهم ال يستطيعون االقرتان لكرثة النفقات‬
‫أخذوا يتزينون كالنساء ويتظاهرون بخالف حقيقة أحوالهم األدبية واملادية معاً‪،‬‬

‫‪ 1‬ـ املروزة من رازه إذا جربه واختربه وامتحنه‪.‬‬


‫والستُّوق من الدراهم‪ :‬الز َّيف البهرج الذي ال قيمة له‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ الدرهم ال َب ْهرج الذي فضته رديئة‪ُّ .‬‬
‫‪ 3‬ـ املعارص‪ :‬جمع معرص وهي من النساء ذات اإلعصار أي التي بلغت شبابها‪ .‬قال الكسايئ‪ :‬العانس فوق‬
‫املعرص والجمع عوانس وعنوس‪ .‬وعنس بضم العني وسكون النون‪ .‬وعنس بفتح النون وتشديدها‪.‬‬

‫‪135‬‬
‫وذلك ليك يحلوا يف عيون الفتيات‪َ ،‬ف ُي ْك ِرهن اآلباء بواسطة األمهات عىل دفع البائنات‪،‬‬
‫فتدخل الفتاة بني جامعة تباين جامعتها يف العادات واألخالق‪ ،‬ألنها اضطرت إىل تزوج‬
‫من مل تكن فيه كفاءة لها منقادة له بحكم ذلك االضطرار ومغرتة بظواهر الزواج أيضاً‬
‫فيتخالفان يف الغالب‪ ،‬فإما أن تصرب الزوجة كرهاً عنها‪ ،‬وإما أن تعرض نفسها لإلهانة‬
‫ويف كال األمرين غم للجامعتني وكآبة‪.‬‬
‫وأقول أيضاً‪ :‬ملا كان دخل الشبان أقل من خرجهم أحجموا عن االقرتان‪ ،‬عىس أن‬
‫تنفتح لهم أبواب الفرج فيميض الزمان عليهم وهم ال يزدادون إال تأخراً‪ ،‬فريسلون‬
‫العجائز والد ّالالت يف طلب البائنات‪ ،‬فاللوايت بائناتهن أكرث من غريها يتزوجن قبل‬
‫سواهن‪ .‬فأمىس الفتى اليوم ينظر إىل البائنة وال ينظر إىل األدب وحسن الخلق والبنية‬
‫والظرف‪ .‬وقد علمت أنَّ كثريين يتزوجون عىل غري رغبة منهم ومن غري أن تكون يف‬
‫قلوبهم محبة للزوجات فريتاحون بعد ذلك إىل غريهن ممن يحبونهن فيدخل النزاع‬
‫والفساد يف األرس‪.‬‬
‫وهنا أمر يجب االهتامم به‪ ،‬وهو أنَّ الجامعات التي اشتهرت بالحسن ُفقد منها‪،‬‬
‫ألنَّ الفتى الحسن الذي كان قب ًال ال يقرتن إال بحسناء مثله أمىس يف هذا الزمان ولده‬
‫الذي هو أحسن منه مضطراً إىل حرمان نفسه غادة يصبو إليها ألنها ليست بذات‬
‫بائنة‪.‬‬
‫واألرس التي كانت معروفة بالبنية القوية حرمتها بدخول الضعيفات بينها‬
‫ببائناتهن‪ .‬والتي كانت موصوفة بالذكاء أضاعته أيضاً وقس عىل هذا غريه‪.‬‬
‫وقد أبرصت كثريين تزوجوا فتيات عليالت خفيفات العقول‪ ،‬فمألوا بيوتهم مرىض‬
‫ومجانني من الذكور ومن اإلناث الاليت ليست لهن بائنات فكانت املصيبة عظمى‪.‬‬
‫ولكن من يقدر املصاب ويحرتز منه قبل الوقوع فيه؟ عىل أنَّ آباء هذه اإلناث أدركوا‬
‫بعد ذلك أنهم وقعوا يف رش مام كانوا يخشون من زيادة الدخل عىل الخرج‪ ،‬ألنهم‬
‫لو كانوا تزوجوا غادات عاقالت ممن ليست لهن بائنات وعاشوا قانعني باليسري من‬
‫دنياهم‪ ،‬ألتت البنات مثلهم ومثل نسائهم فيجدون لهن رجاالً مثلهن غري مرثين‪ ،‬فإذا‬
‫مل يجدوا تخلصن من املرض والجنون ويف ذلك ربح عظيم لهن ولهم‪.‬‬
‫وأقول‪ :‬ال ريب أنَّ الفتاة املطمئنة ببائنتها ال تهتم إال بالتزين والتصنع والتشبه‬
‫لتظفر بأحسن شاب يف مدينتها عىل زعمها‪ ،‬فال تسأل عن التأدب والتهذب وال عن‬
‫واجباتها التي أهمها معرفة تدبري املنزل‪ .‬فإذا تزوجت فال متس شيئاً بأصبعها‪ .‬فإذا‬

‫‪136‬‬
‫عوتبت قالت مث ًال‪ :‬أنا سيدة ولست بخادمة‪ ،‬وقد أجدت((( بعيل ألف دينار فليدفع‬
‫أجر الخدم‪ .‬وهذا كالم م ّر املذاق يصدع القلوب فيقع الخالف والرش والفساد يف‬
‫األرستني‪ .‬هذا ومن املعلوم أنَّ الجارية إذا عنست مل تسلم من علة تنجم عنها يف‬
‫الغالب حالة عصبية تنتابها‪ .‬بقي عيل أن آيت عىل وصف الفتيات اللوايت ال بائنات‬
‫لهن‪ .‬فأقول‪ :‬إنهن تأملن حاالتهن وقلوبهن منكرسة ال جابر لها فرأين األوىل بهن أن‬
‫يعتمدن عىل التعلم والتهذب‪ ،‬فرتى منهن غواين حكيامت امتزن بالعفاف والجامل‬
‫معاً وبكل ما يطلب منهن‪ ،‬فالواحدة هي الطباخة إذا تزوجت والخياطة والخادمة‬
‫واملشرية واملواسية‪ ،‬وهي األمينة املتفانية يف حب قومها واملجتهدة يف تنجيحهم‬
‫واملشاركة رجلها يف غمه‪ ،‬واملخففة عنه مصائب دنياه بطالقتها وعذوبة بيانها‬
‫ونباهتها‪ ،‬والفاتحة أبواب االقتصاد التي ال يهتدي إليها الرجل‪ ،‬واملشجعة له بثباتها‬
‫ورسوخها‪ .‬وترى منهن من هن أعقل من رجالهن فريشدنهم بحكمتهن وسداد آرائهن‬
‫إىل سبيل الفالح والعمران‪ ،‬ونحو هذا من املحامد واملحاسن التي تجعل أزواجهن‬
‫وعيالهن يف نعيم أريض أي يف راحة ودعة‪ .‬ولكن أين الشبان الذين يقدرون قدرهن؟‬
‫إنك ال تجد منهم إذا فتشت إال عدداً قلي ًال ال يذكر لقلته‪.‬‬
‫إن الله تعاىل إذا حكم يف الزهرة عىل رجل وامرأة بأن يفقرا يف األرض‪ ،‬ورأى منهام‬
‫صالحاً أو من أحدهام‪ ،‬أراحهام ورمبا أراح أيضاً أقاربهام املحكوم عليهم بالفقر إذا‬
‫مل يكونوا أرشاراً‪.‬‬
‫لقد علمتم يا أيها الشبان أنَّ البائنات كثرياً ما كانت وباالً عليكم‪ ،‬ألنها أذهبت‬
‫شيئاً مذكوراً من محاسنكم ومحامدكم التي كنتم تفاخرون بها وتنافسون فيها‬
‫املفاخرين واملنافسني‪ .‬وألنها أزالت عاداتكم ومزاياكم الكرمية املوروثة عن آبائكم‬
‫الذين أضاعوا النفوس والنفائس يف إثباتها وتعميمها‪.‬‬
‫ليعش كل منكم بقدر ما تسمح له ثروته‪ ،‬وليخرت له فتاة كرمية األخالق جامعة‬
‫الرشوط املطلوبة للمرأة الصالحة الفاضلة‪ .‬لتكن مناسبة له‪ .‬ال يزعم أنَّ رشف الرجل‬
‫يأتيه بتزوجه امرأة من قوم أعىل وأكرم من قومه‪ .‬إنَّ من يبتغي رشفه من زوجته‬
‫يعرتف لنفسه بالخسة‪ .‬ليطلب الرشف بجده إذا كان يعلم ما هو‪ ،‬وإال فليسأل عن‬
‫تعريفه‪ ،‬وليطلبه بحسن سعيه وبصالح أعامله وبالفضيلة والقناعة والكرم‪ ،‬ليطلبه‬

‫‪ 1‬ـ أجاده دره ًام‪ :‬أعطاه إياه‪ .‬وأجاده النقد‪ :‬أعطاه نقوداً جياداً‪.‬‬

‫‪137‬‬
‫باملحبة أيضاً‪ .‬وبهذا القدر كفاية ملن يسأل عن الرشف‪.‬‬
‫إذا أردتم يا أيها الشبان أن يكون أوالدكم رجاالً مهذبني كرام الطباع صالحني‪،‬‬
‫فاطلبوهم من الفتيات الصالحات اللوايت ذكرتهن ووصفتهن‪ ،‬ويف هذا الطلب‬
‫إصالح العيال والوطن وفيه العيش الهنيء الطيب من غري كد مرض وكدح مضنٍ ‪ .‬إنَّ‬
‫املرأة الصالحة هي الحياة الطيبة والزكاة وهي الغبطة والطوىب والحسنى والنعمى‬
‫والسعادة األرضية كلها‪.‬‬

‫الفصل الحادي عرش منه‬


‫_ يف التمويه والطالء والخضاب _‬
‫قال والدي‪ :‬إنَّ نساء الزهرة ال يعرفن التمويه((( والطالء‪ ،‬وال يعلمن ما الخضاب‬
‫والكحل وال يدركن لهذه األشياء محسنات‪ .‬إال أنهن ميوهن عقولهن بالعلوم واملعارف‬
‫والفنون وتهذيب األوالد وتثقيفهم‪ ،‬ويطلني قلوبهن باملحبة والصدق والعفة والتواضع‪،‬‬
‫ويخضنب أيديهن ويحجلن بنانهن((( ويغتمسن((( بالخياطة والطبخ وترتيب البنني‬
‫واملنازل‪ ،‬ويكحلن عيونهن بردها عن املناظر املنهي عنها‪ ،‬فيا لسعادتنا ويا لتعاستكم!‬
‫وقال‪ :‬ملا أخذ الشعب األورويب ميجد ويعظم ويشتهر مبحاسن مصنوعاته ولطافتها‬
‫(وقد راق متدنه الحديث كثريين لديكم) راجت يف بالدكم رواجاً عظي ًام وخصوصاً‬
‫النسائج النسائية منها‪ ،‬فأقبلت النساء عليها يتبعن كل زي يف وقته‪ ،‬وهن مل ينظرن‬
‫إىل مستقبل رجالهن‪ ،‬مغرتات مبا كانوا كسبوا حينام احرتب األمريكيون سنة ‪ 1861‬ومبا‬
‫جمعوا بحرب القرم سنة ‪ ،1854‬زاعامت أنَّ تلك املكاسب تدوم لهم‪ ،‬فلام وضعت‬
‫الحربان أوزارها ووضع رجالهن يف تجاراتهم((( من هبوط أمثان القطن وسائر البضائع‪،‬‬
‫وانقطعت عنهم موارد األرزاق الكثرية وقد تعودوا النفقات الحديثة‪ ،‬أدركن وأدرك‬
‫الرجال أنهم كانوا جميعاً عىل ضالل‪ .‬فرأوا أنْ يحجموا فأجمعوا عىل أنَّ اإلحجام عيب‬

‫‪ 1‬ـ مأخوذ من متويه النحاس أو الحديد إذا طاله بفضة أو ذهب‪ .‬والطالء كل ما يطىل به‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ حجلت املرأة بنانها‪ :‬لونت خضابه‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ اغتمست املرأة‪ :‬غمست يدها خضاباً مستوياً من غري تصوير‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ وضع يف تجارته‪ :‬خرس ومل يربح‪.‬‬

‫‪138‬‬
‫وعار‪ ،‬فأقدموا وكابروا يف اإلقدام حتى تعبوا وأعيوا وك ّلوا وم ّلوا‪ ،‬وبعد ذلك هموا‬
‫باإلحجام فسقطوا وانقطعوا عن املسري أو عن الرسى يف كل ليلة مظلمة فانظر ترهم‬
‫يف الطريق يسكعون(((‪.‬‬
‫ومن البضائع الحديثة األوروبية التي كان لها النصيب األعظم والسهم األوفر من‬
‫الرواج هي الطالء املعروف عندهم بحسن يوسف وسائر أنواعه‪ ،‬مع أنَّ أجدادكم‬
‫كانوا جهدوا يف مالشاته وكف املرضات بإزالته‪ ،‬فأعاده التمدن الحديث ولكنه مل يعده‬
‫كام كان يف قديم الزمان‪ ،‬بل أضاف إليه مواداً سامة تفننت وتنوعت يف األرضار‪ ،‬حتى‬
‫كان تأثريها رسيعاً فسلبت ماء الوجه النقي الشفاف الرائق‪ ،‬فخشنت برشته وجفت‬
‫وتقلصت بعد نعومته الطبيعية ونضارته ورقته‪ ،‬فأمىس الناظر إليه وهو بغري طيل‬
‫يظن أنه يبرص وجه ميتة ال حياة فيها‪ ،‬فكان الطالء جناية عظيمة عليه‪ .‬هذا كله عدا‬
‫العلل واألمراض التي تحدث فيه عيوباً تنتقل من األمهات إىل أوالدهن‪.‬‬
‫أقول‪ :‬وقد علقن بحسن يوسف وأرضابه وشغفن وافتنت حتى رصن يف جنون‬
‫مام يف قلوبهن منه‪ ،‬ومن املعلوم أنَّ اإلنسان إذا أفرط يف يشء وجن به ال يرى عيبه‪،‬‬
‫ولذلك جعلن فوق وجوههن وجوهاً أخرى من الجص‪ ،‬وخفني وجوههن الطبيعية‬
‫عن الناظرين‪ ،‬كأنهن يعتقدن قبحها وشناعتها فلم يربزنها خج ًال واستحياء مع أنها‬
‫ليست كام يزعمن‪.‬‬
‫يا ليتهن أدركن أنهن أردن التحسني وبالغن يف طلبه فصار بهن إىل ضده‪ .‬أال ترى‬
‫أنَّ الناظر إىل بنت الثالثني يظنها أربعينية؟‬
‫إال أنني ال أنكر أنَّ بعضهن برعن يف الطيل فحسنت وجوههن يف عيون األغرار‪،‬‬
‫ولكن هذا الحسن رسيع الزوال وسيعلمن ماذا يكون منه‪ .‬ومن األمور املستغربة أنَّ‬
‫الشبان يعلمون أن التمويه مرض ويقولون بقبحه‪ ،‬ويعقلون أنَّ الفتيات يغششنهم‬
‫ويخدعنهم ويستجهلنهم وهم ال يبالون‪ ،‬وال عجب يف ذلك ألنهم يقرتنون بالبائنة ال‬
‫بالفتاة‪ .‬ومن املدهش أنَّ الرجل يرى لبنته وجهني أي إنه يبرص وجهاً للناس مزيناً‬
‫ووجها آخر له‪ ،‬ويف كليهام فرق ظاهر فلو أمكن أن يرى الوجهني يف وقت واحد لحار‪.‬‬
‫فأنصح األمهات أن مينعن بناتهن‪ ،‬ألنهن إذا م ّوهن ولو أياماً فال يستطعن بعدها‬
‫ترك التمويه لرسعة تأثريه يف بعض الفتيات أكرث من غريهن‪ ،‬فيتكلح الوجه ويكمد‬

‫‪ 1‬ـ سكع‪ :‬مىش مشياً متعسفاً ال يدري أين يأخذ يف بالد الله ّ‬
‫وتحي‪.‬‬

‫‪139‬‬
‫ويتشنج‪ ،‬فيفضلن إذا تركن الطالء العود إليه وهن كارهات له ألرضاره‪ ،‬وكل مرض‬
‫مكروه‪.‬‬
‫عىل أنني أمدح العقيالت العاقالت والفتيات املهذبات اللوايت يتزين باآلداب‬
‫والفضائل وترتيب املنازل عىل فنون صحية‪ ،‬وأمتنى لهن الثبات بل أرجو أن يكرثن من‬
‫زينتهن هذه التي متأل بيوتهن خريات وسالماً‪.‬‬
‫ويف الختام ألتفت إىل ذلك الرجل وأنا مشمئز منه‪ ،‬وهو الشيخ الجاهل واألحمق‬
‫املتصايب((( والغبي املستصبي((( املتهتك الغاوي الخالع العذار‪ ،‬املنهمك يف الغي‪ ،‬املتبع‬
‫هوى نفسه وامللقي عنها جلباب الحياء‪ ،‬الذي ما برح حب الغواين يدلهه‪ ،‬والذي مل‬
‫يخصه الله تعاىل مبزية ميتاز بها عندهن‪ ،‬فخضب شعره ليحسن يف عيونهن‪ ،‬فينظرن‬
‫إليه ويعطفن عليه ويرحمن شبابه الكاذب‪ ،‬إنه ليكذب عىل نفسه‪ ،‬وإنهن عنه‬
‫ملعرضات وبه هازئات ومنه ساخرات وله كارهات وعليه ضاحكات‪.‬‬
‫تصبي الشيخ مهام تكن‬
‫(((‬
‫ويا أيها املس ّود شعر وجهه‪ ،‬اعلم أنَّ الحسناء الغيداء ال ْ‬
‫عنده من مزايا‪ .‬غري أنه رمبا امتاز عند املليحة الطامعة يف مدحه لها ليشنف أذنيها‬
‫تصبيك وأنت شيخ شائب مخنث تتزين‬ ‫بوصف محاسنها فتطيب نفسها‪ .‬فكيف ْ‬
‫بخضابك‪ ،‬بل تريد وتحاول أن تتزين وتتحسن بصقل شعرك‪ ،‬فتجلس أمام املرآة يف كل‬
‫يوم ساعات تخضب وتقنأ((( كل شعرة من شعرات رأسك وعذارك وشاربيك ولحيتك؟‬
‫ملاذا تنكر التطلية عىل املرأة وهي أحوج منك ومن كل الرجال إىل التحسن وال‬
‫تنكر خضابك كأنك تود لو أنك متوه عىل الناس وتلبس ليغفلوا عنك؟ فام مثلك إال‬
‫مثل الفاطر املتظاهر بالصيام‪ ،‬فإذا عرض له مفطر مثله اندفع عليه بالتبكيت واملالم‬
‫والخصام‪ .‬فإذا قلت إنَّ التمويه مرض بالبرشة قلت لك إنَّ الخضاب مرض باألعصاب‬
‫إرضاراً عظي ًام‪.‬‬
‫إنَّ الرجل األيب الكريم النفس أجل وأعظم من أن يتقرب إىل الحسناء بخضابه‪ ،‬وما‬
‫الخضاب إال كذب ظاهر وعيب دائم‪.‬‬

‫‪ 1‬ـ تصاىب الرجل‪ :‬مال إىل الصبوة واللهو واللعب‪.‬‬


‫‪ 2‬ـ استصبى الرجل‪َ :‬ف َع َل ف ْعل الصبي‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ أصبته‪ :‬شاقته ودعته إىل الصبا فحن إليها‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ قنأ اللحية‪ :‬س ّودها بالخضاب‪.‬‬

‫‪140‬‬
‫الفصل الثاين عرش منه‬
‫_ يف اختيار الزوجة _‬
‫قال والدي‪ :‬إنَّ يف الزهرة رجاالً من أعاظم الرجال‪ ،‬ليس عليهم إال أن يدققوا‬
‫ويبحثوا عن أقرب األسباب التي تزيد يف راحة األهايل وسعادتهم‪ .‬ومن جملتها أنَّ‬
‫كل مدرسة تطبع يف كل عام كتاباً توزعه عىل جميع الخليقة‪ ،‬فيه ملخص الشهادات‬
‫التي يدفعها األساتذة إىل التالمذة فيقرأونها بتأنٍ وتدقيق‪ ،‬وعندما يريد الشاب أن‬
‫يخطب امرأة ويريد أن يعرف منزلتها من املعارف والعلوم والفنون املنزلية وغريها‬
‫من اآلداب والفضائل التي هي أفضل ما ينظر فيه ويسأل عنه ويهتم به‪ ،‬يرجع إىل‬
‫الكتب املذكورة ويدقق فيها مع قومه وأصدقائه عاماً فعاماً‪ ،‬وكذلك الفتاة فإنها تنظر‬
‫أيضاً وتدقق مع أهلها‪.‬‬
‫وهذه الكتب يف غاية اإلحكام واإلتقان خالية من الزيادة والنقصان ومن التعقيد‬
‫والتأويل والتلبيس واإلبهام‪ ،‬كلها بيان وترصيح يف بيان وترصيح‪ ،‬مل ترم بشائبة‬
‫االنحراف والتزلف‪ ،‬ألنَّ األستاذ ال يستطيع أن يفضل تلميذاً عىل غريه إذا مل يكن‬
‫يستحق التفضيل‪ .‬ولذلك ينفرد بنفسه أياماً ال يرى فيها أحداً ليك ُيحكم وضع كتابه‪،‬‬
‫فإذا انحرف ُطرد وعوقب‪ .‬وعليه فقد رأينا هذه الطريقة أعدل من غريها وأقرب من‬
‫سواها إىل الحقيقة‪ ،‬إذا مل أقل هي الحقيقة بعينها بنت التحقيق والتنقيب فنعتمد‬
‫عليها كلنا يف اختيار الفتيات والفتيان‪.‬‬
‫فإذا كان الفتى والفتاة متجملني باملزايا والفضائل والرصانة‪ ،‬فال رضورة لشدة‬
‫التدقيق عن أحوال فصيلتهام وثروتهام‪ .‬فيا ليتكم تقتدون بنا أو تتشبهون ألننا بحثنا‬
‫أكرث منكم فعلمنا بالطبع فوق ما تعلمون‪ .‬وملا كانت غايتنا نقية رشيفة كنا مطلقي‬
‫الحرية يف اختيار األصلح غري مقيدين بقصد يراد به خري خصويص ومنفعة شخصية‪.‬‬
‫أما أنتم فيجب عىل الفتى منكم أن ال يغلب عىل عقله هواه يف اختيار الفتاة‬
‫ليعلم علم اليقني أنها تصلح له‪ ،‬وأنه يصلح لها وتناسب أخالقه أخالقها وتناسب أرسته‬
‫أوالً‪ ،‬فإذا غلبه هواه فقد حكم عىل نفسه بأن يسقط عنه حق التمييز واالنتقاد‪.‬‬
‫فليصغ يف ذلك إىل حديث والديه اللذين ال يتمنيان له غري الخري‪ ،‬وال يقل إنني أبعد‬
‫ليعلم ويعتقد أنَّ‬
‫ْ‬ ‫نظراً منهام لكرثة علومي ومعاريف وغزارة ماديت وذكايئ ودهايئ‪.‬‬
‫والدته املسنة ن ّقادة ال يستطيع الحكم أن يضاهيها يف نقد بنات جنسها‪.‬‬

‫‪141‬‬
‫ليخرت له فتاة رصينة رزينة‪ ،‬أبية متينة العقل قوية الجسم صحيحة البنية‪ ،‬لئال‬
‫ميأل منزله أوالداً مصابني بالعلل والجنون والعاهات‪ .‬وليخرت له أيضاً امرأة مزينة‬
‫بالقناعة عارفة برتتيب املنزل لتكون سيدة وخادمة ومرتبة ومشرية‪ .‬لتكن جميلة أو‬
‫كام تقولون خفيفة الدم قريبة من القلب‪.‬‬
‫بالتكب‬
‫ّ‬ ‫ولتكن دمثة األخالق غري مشاكسة وال مكابرة‪ .‬ولتكن متواضعة غري معيبة‬
‫ّ‬
‫والتعظم فتضطر إىل اإلرساف‪ .‬ولتكن صادقة يف حديثها نقية القلب يف ذكاء ونباهة‪.‬‬
‫ولتكن قادرة عىل التصرب والتحمل‪.‬‬
‫ولتكن يا أيها الشاب مثلها‪ .‬فإذا كانت هذه الصفات يف فتى وفتاة فهام الضالة‬
‫املنشودة والغاية املقصودة‪ ،‬بل ُيكتفى ببعض هذه املزايا فإنَّ كل واحدة منها بفتى‬
‫وفتاة‪ .‬أما التزوج فليكن يف السنة الخامسة والعرشين‪.‬‬

‫الفصل الثالث عرش منه‬


‫_ يف الخطبة والحب والغرية واملهر والجهاز _‬
‫قال والدي‪ :‬إننا نتزاور مرة واحدة يف كل أسبوع وال نزور إال أقاربنا‪ ،‬وال يسمح‬
‫لشاب أن يرتدد إىل جامعة فيها فتاة أكرث من ثالثة أشهر‪ ،‬فإن زاد عليها زيادة واحدة‬
‫ُع َّد خطيباً‪ ،‬فإنَّ الواحد منهام يستطيع أن يخرب اآلخر بنفسه يف هذه املدة‪ ،‬وعليه‬
‫إذا أحب وخطب فال يرجع عن الخطبة إال لعلة من العلل املانعة‪ ،‬وستعرفها‪ ،‬فإذا‬
‫رجع لغري علة وخطب فتاة أخرى جاذبته(((‪ ،‬فإذا رجعت الفتاة منعت فال يخطبها‬
‫فتى آخر‪.‬‬
‫قال‪ :‬وأما أنتم فيخطب الواحد منكم ويرجع عرش مرات وليس من يردعه‪ ،‬وهو‬
‫يف كل رجعة يعتذر عذراً مردوداً‪ ،‬وهذا الرجوع عار عظيم عندنا ال يقبله أحد ولو‬
‫كان يف منزلة غري رفيعة‪ .‬فال يستخف الشاب بحق الشابة بحبه املوقف الكاذب وال‬
‫يجعل الحب مشغلة له‪.‬‬
‫ليتأنَّ الفتى منكم وال يرسع يف الحكم عىل أنَّ فالنة توافقه‪ ،‬وليرت َّو وليدقق ليكون‬
‫عىل هدى من أمره‪ ،‬وال يعجل يف املعاهدة ألنه إذا م ّد يده وعاهد أو إذا عاهد ومل‬

‫‪ 1‬ـ جاذبت املرأة الرجل‪ :‬خطبها فردته‪.‬‬

‫‪142‬‬
‫ليضع للحب‬‫ميدها فقد التزم‪ .‬فإذا نقض عهده لغري علة مانعة غدر والغدر قبيح‪ْ .‬‬
‫حداً لئال يفيض به إىل العشق والهيام فيشغله عن حب الله تعاىل وعن الفضائل‬
‫والسعي الحسن وراء مصلحته وشغله‪.‬‬
‫لينظ ْر إىل نفسه وميتحنها فإن كان شديد الغرية فال يحسن به أن يحب إال الفتاة‬
‫التي هي أقرب من غريها إىل حب االنفراد واالعتزال عن الناس‪ ،‬والتي ال تشتهي‬
‫املعارشة واالختالط‪ ،‬وإال فقد ظلم زوجته وظلم نفسه ألنَّ الغرية الشديدة مجلبة‬
‫لشقاء الزوجني‪.‬‬
‫يزعم هذا الرجل أنه إذا بالغ يف الحرص عىل بعلته التي تحب العرشة صانها‪ .‬لقد‬
‫أخطأ‪ ،‬فإنَّ الغرية الشديدة تحمل املرأة عىل اتباع ما ال تحسن عقباه‪.‬‬
‫ليتجنب كل ما‬
‫ْ‬ ‫ليكن املحب يف حرضة خطيبته أديباً رصيناً غري مكرث من املزاح‪.‬‬
‫ال يحمد املرء عليه‪ ،‬فإنَّ املخطوبة تقتبس غالباً من أخالق خطيبها‪ .‬وليعلم أنه يجب‬
‫عليه أن ينتقي له فتاة ستكون أماً ألوالده ورشيكة لحياته يف حزنه وفرحه‪.‬‬
‫إنَّ كل شاب من سكان الزهرة يريد أن يخطب امرأة يلزمه أن يقدم إليها هدية‬
‫لطيفة من عمل يديه إن كان من أرباب الصناعات‪ ،‬أو مثاراً أو حبوباً‪ ،‬وذلك من‬
‫حدائقه وأراضيه إن كان من املشتغلني بالزراعة والفالحة‪ ،‬أو كتاباً يؤلفه إن كان‬
‫من الك ّتاب أو نحو ذلك مام يربهن عن متكنه من املعارف االخرتاعية أو األدبية أو‬
‫الصناعية أو الزراعية‪ ،‬فيعلم اقتداره وجدارته أو سبقه وبراعته‪ ،‬وإال فال خطبة وال‬
‫عروس وال امرأة ألنه ال يجد فتاة تقرتن به إذا مل تكن له مزية‪ .‬وبناء عليه تكون املرأة‬
‫التي يخطبها الرجل عىل ثقة من كفاءة خطيبها يف حارضها ومن حسن تقدمه ونجاحه‬
‫يف مستقبلها‪ .‬وهي أيضاً تتحفه تحفة من عمل يديها تدل عىل مهارتها وإتقانها‪.‬‬
‫قال‪ :‬وأما أنتم وبناتكم فال تردون طالباً وال تدققون يف البحث عنه‪ ،‬فتدخل‬
‫العروس بيت بعلها حينام تهدى إليه وقلبها يرتجف‪ .‬إنكم قد استمسكتم مبثلكم‬
‫العامي وهو «تزوجوا فقراء واملغني الله» ومل تفقهوا معناه الحقيقي‪ ،‬كأنَّ املقصود‬
‫منه ال متنعوا مطلوبة عن طالب‪ ،‬فال تستثنون الكسالن وال املخنث وال املقامر وال‬
‫الجاهل وال السكري‪ ...‬بل ال تستثنون أحداً من الدميمني واملذمومني‪.‬‬
‫ثم قال‪ :‬إنَّ مدة الخطبة عندنا ثالثة أشهر ال أكرث‪ ،‬فحينام تنتهي يهدي الشاب‬
‫إىل خطيبته باقة زهر‪ .‬أما والدها فيصنع لها ثوباً من الكتان األزرق‪ .‬وهذا هو املهر‬
‫والجهاز واملقدم واملؤخر‪.‬‬

‫‪143‬‬
‫الفصل الرابع عرش منه‬
‫_ يف املالبس والحيل والهدايا من الزهر _‬
‫قال والدي‪ :‬يذهب املدعوون إىل األعراس والوالئم والدعوات وهم بأكسيتهم‬
‫العادية رجاالً ونساء أغنياء وغري أغنياء‪ ،‬ألنهم ال يلبسون القديم البايل وال الوسخ‬
‫من الثياب‪ .‬وهم كلهم مع اختالف طبقاتهم وأحوالهم ال يلبسون غري كساء واحد‬
‫من الكتان البنفسجي وذلك يف الفصول األربعة‪ ،‬ال يزيدون وال ينقصون ألنهم عودوا‬
‫أبدانهم لبسه وحده فال يشكون به برداً وال حراً‪ ،‬وألنَّ فصولنا ال تتغري إال قلي ًال‪ .‬هذا‬
‫وكل واحد وواحدة يكتفي بثوبني فقط كام علمت‪ .‬فالغنية ال تُعاب ألنَّ ثوبها كثوب‬
‫جارتها التي هي دونها بل ُتدح‪ .‬عىل أنها تُعاب إذا كان وسخاً‪.‬‬
‫ومن العادات املستحسنة أنَّ القضاة ال يسمحون بأن ينسج نسيج أفخر من‬
‫الكتان‪ ،‬فإذا نُسج عوقب الناسج وإذا ُلبس عوقب الالبس أيضاً ومنعا‪.‬‬
‫مالبسنا عريضة يدخل إليها الهواء ويخرج منها فتقوى أبداننا وتتحسن‪ ،‬أما الزي‬
‫عندنا فواحد للنساء والرجال ال ثاين له‪ ،‬غري أنَّ املرأة تتميز عن الرجل بخامرها‪.‬‬
‫أما الحيل عندنا فنوعان تضعهام املتزوجة عىل كتفيها لتعرف أنها ذات بعل‪،‬‬
‫وهام من خشب براق تجمعت فيه أحاسن األلوان‪ ،‬له رائحة طيبة تقوي البدن‬
‫وتطيبه ونحن نتقن صوغهام وصنعهام إتقاناً عظي ًام‪.‬‬
‫إنَّ املرأة عندنا ال تتقرط وال تتقلد قالدة وال تتوشح وال تتختم خامتاً وال تتسور‬
‫سواراً‪...‬‬
‫قال والدي‪ :‬إننا ال نتهادى يف الزهرة بغري األزهار التي راقت وطابت ورقت‬
‫روائحها ولطفت‪ ،‬فال تؤثر يف أعصابنا ونحن نعتني بها اعتنا ًء شديداً‪ ،‬ونباهي بها‬
‫يف مجالسنا ونتنافس‪ ،‬هذه التي عرفنا كيف نجمع بينها ونؤلفها ونستخرج ما هو‬
‫أنفس منها‪ ،‬وعرفنا كيف نحدث أزهاراً تأخذ مبجامع القلوب رقة وبهجة ونرضة فهي‬
‫أحب يشء ندخره للمهاداة‪ .‬منها ما هي عىل هيئات لطيفة من الخلق والطري وسائر‬
‫الحيوان‪ ،‬ومنها ما تقدم يف األعراس‪ُ ،‬كتب عليها ما معناه «لكام التهاين بطول العمر‬
‫يف صحة ورفاهية» ومنها ما ُيهدى يف الوالئم والدعوات مكتوبة عليها عبارات رقيقة‬
‫تناسب واقع الحال‪ .‬إال أننا نجتنب الزهر التي تكرث فيها األمراض السامة املعدية‪.‬‬

‫‪144‬‬
‫الفصل الخامس عرش منه‬
‫_ يف البضع((( واالقرتان والعرس _‬
‫قال والدي‪ :‬يذهب الخطيبان وأقاربهام إىل أحد املعابد يف وقت واحد من‬
‫األوقات املعدة للصلوات‪ ،‬فتدخل كل جامعة من الجامعتني يف باب من أبواب املعبد‬
‫وذلك يف دقيقة واحدة ثم يصيل الجمع الصالة اليومية‪ .‬وبعد نهايتها يقف الخطيب‬
‫واملخطوبة تحت كلمة «الله» وتحت الكلامت األربع التي عرفتها‪ ،‬فيقول القايض‬
‫وهو عىل كرسيه‪« :‬إن فالناً وفالنة الحارضين (ويشري إليهام) يقرتنان فأنصفوهام من‬
‫نفوسكم ومجدوا الله تعاىل بصدقكم متجيداً»‪ .‬ثم يسكت دقيقة ويقول‪« :‬إنَّ فالناً‬
‫وفالنة الحارضين بني يدي الله سبحانه وتعاىل يقرتنان ويفلحان ويزرعان يف كرمه‬
‫ويخرجان مثرهام بإذنه تبارك وعال فأنصفوهام من نفوسكم وال تخفوا ما يف قلوبكم‬
‫جل جالله يعلم الخفيات»‪ .‬ثم يسكت فيقول الجمع‪« :‬فليباركهام الله تعاىل»‪.‬‬ ‫إنَّ الله ّ‬
‫فإن كان ال يجوز لهام أن يتزوجا لعلة من العلل املانعة كالقرابة الدموية‪،‬‬
‫أو كارتباطهام أو ارتباط أحدهام بعهد ملزم‪ ،‬أو كوجود علة يف بدنهام أو يف بدن‬
‫أحدهام‪ ،‬أو كوجود ريبة فيهام أو يف أحدهام‪ ،‬وقف من له علم بذلك ومد يده‪ ،‬فيأمر‬
‫القايض حاالً بانرصاف الناس فيذهب الخطيبان إىل منزلهام‪ ،‬وبعد هذا يفحص القايض‬
‫عن مسألة املنع‪ ،‬فإن كان مثة ما مينع من االقرتان وهو قليل نادر الحدوث أثنى عىل‬
‫املخرب وعىل املخربين إن كانوا كثريين وذلك يف املعبد علناً بعد نهاية الصالة التالية‪،‬‬
‫ووعدهم بحسن املكافأة وهو ال يخلف وعده‪.‬‬
‫فإن مل يثبت االدعاء باملنع وكان يف األمر سهو‪ ،‬وبخ القايض املخرب علناً وتلطف‬
‫بالعروسني واعتذر إليهام واىل جامعتهام‪ .‬فإن كان املخرب تعمد الكذب أمر القايض‬
‫بأن ُيخرج‪ ،‬وأمر الحارضين أن ال يجالسوه مدة يعينها لهم‪ .‬فيخرج حاالً فينزوي‬
‫ال يكلمه أحد وبعد نهايتها يحاكم وينزل إىل األرض إال إذا كان به جنون‪ .‬ثم مييض‬
‫العروسان وأهلهام بعد أن يباركهام الحارضون مرتني‪ ،‬ويذهبون إىل دار الشاب‬
‫فيهنئونهام ويدعون لهام بالنجاح والتوفيق‪ .‬ثم تجز األزهار الطيبة الروائح وتدار‬
‫بأطباقها البلورية النفيسة عىل الجالس فيأخذ كل واحد زهرة‪.‬‬

‫‪ 1‬ـ املهر‪ :‬املهر وعقد النكاح‪.‬‬

‫‪145‬‬
‫وبعد نصف ساعة ترد أطباق أخرى زاهية بالنقاوة والنظافة‪ ،‬عليها فاكهة طيبة‬
‫الك َّم ْ َثى غري أنها ألذ بكثري‪ ،‬فيأكلون ثم ينشدون نشائد أدبية حامسية‬ ‫شهية كأنها ُ‬
‫تُذكر فيها مشاهري رجالنا‪ ،‬وكذلك النساء فإنهن يف نشائدهن يذكرن الشهريات منهن‬
‫فيطربون جميعاً طرباً عظي ًام‪.‬‬
‫وبعد نصف ساعة ُيدار عليهم عصري العنب وهو ابن ساعته يف كؤوس تكاد‬
‫تبتسم يف وجوه الشاربني من حسن نقائها وصفائها‪ .‬وبعده يأتون بذلك الرمان الشهي‬
‫الذي كله لذاذة يف طيبة وحالوة فائقتني والذي ليس له عجم(((‪ ،‬والذي تقدر كل حبة‬
‫منه بعرش حبات من رمانكم‪ ،‬والذي يختلف بعض ألوانه الزاهية الفائضة بالنور‬
‫عن بعض‪ ،‬فإنك تبرص يف كل رمانة ألواناً كثرية‪ .‬وبعد هذا ينرصفون‪ .‬إنَّ املدعوين يف‬
‫املنزلة سواء فال يفضلون أحداً عىل غريه‪.‬‬

‫‪ 1‬ـ العجم‪ :‬نوى كل يشء أي ما كان يف جوف مأكول كالزبيب وما أشبهه‪ ,‬الواحدة عجمة‪.‬‬

‫‪146‬‬
‫الباب السادس‬

‫‪147‬‬
‫الفصل األول من الباب السادس‬
‫_ يف طبقات العباد _‬
‫قال والدي‪ :‬إنَّ الخليقة عندنا طبقتان‪ .‬األوىل القضاة والثانية الص ّناع وال ّزراع‪ .‬أما‬
‫الخدمة فال نعرفهم‪ ،‬أي ال وجود لهم عندنا‪ ،‬وأما طبقات البرش يف األرض فثالث‪ :‬األوىل‬
‫امللوك والعلامء والكهنة وأرباب السياسة والق ّواد والحكام وكل محام صادق‪ .‬وهم‬
‫يرعون األمة ويعلمونها ويهذبونها ويرقونها ويرشدونها إىل سواء السبيل‪ ،‬ويهدونها‬
‫ويكفون عنها مطامع أعدائها‪ ،‬ويحكمون بينها وينصفون ويدافعون عن حقوقها‬
‫ولذلك لهم املنزلة األوىل‪ .‬والطبقة الثانية هم الص ّناع وال ّزراع غري املعرضني للفقر‬
‫الذين تحتاج إليهم الطبقات الثالث مع أنهم أقل احتياجاً منها إليهم‪ ،‬وهم أكرث صدقاً‬
‫وأعظم قناعة وأشد مروءة وأطيب قلوباً وأصفى رسائر وأقوى أبداناً من جميع البرش‪،‬‬
‫ثم يليهم التاجر الذي يعيش بفضلهم ألنه ليس إال ناقل املصنوعات واألقوات وبائعها‪،‬‬
‫والطبقة الثالثة السوقي أي التاجر الصغري والخادم‪.‬‬

‫الفصل الثاين منه‬


‫_ يف الزراعة والفالحة باألرض ويف القرى وعيشها _‬
‫قال والدي‪ :‬يقول سكان الزهرة إنَّ الفالحة والزراعة خري الحرف وأقربها إىل التقوى‬
‫فاعتمدوا عليها‪ ،‬ألنَّ اإلنسان منكم يعيش بها العيش الرغد ويستفيد فوائد كثرية وجب‬
‫عليكم أن تنتبهوا إليها وهي أوالً‪ :‬إنَّ الزارع يستثمر األرض ويستخرج نباتها الطيب‬
‫من غري أن يزاحم أحداً عىل أسباب عيشه فال يعادي وال يعادى‪ .‬ثانياً‪ :‬إنَّ الزارع ينفرد‬
‫بقريته مبتعداً عن رشور البرش وويالتهم‪ ،‬فإنَّ االختالط غري محمود العواقب غالباً‪.‬‬
‫ثالثاً‪ :‬إنَّ الزارع يقوي بدنه وأبدان عياله بالهواء النقي واملاء الصايف والكسوة العريضة‬
‫والطعام البسيط وبراحة العقل والقلب وأتعاب البدن تعباً معتدالً‪ .‬إنَّ التعب يقوي‬
‫الجسم ومينع البطالة املفسدة لألخالق‪ .‬رابعاً‪ :‬إنَّ القرى بعيدة عن املنتديات واملالهي‬
‫واملراقص واملالعب واملسارح واألماكن الضارة‪ ،‬فينام الزارع يف راحة وسالمة غري مضطرب‬
‫خوفاً عىل بنيه‪ .‬خامساً‪ :‬إنَّ ال ّزراع سكان القرى ال يحتاجون إىل ما يحتاج إليه سكان‬

‫‪148‬‬
‫املدن من النفقات التي ترصف يف سبيل األزياء واالختالط والشهوات والخالعات‪ .‬سادساً‪:‬‬
‫إنَّ القرويني قليلو االنهامك يف األمور فيمكنهم أن يتفرغوا لرتبية أوالدهم وتهذيبهم‬
‫وتثقيف عقولهم بتقوى الله تعاىل وخوفه ليكونوا يف املستقبل رجاالً صالحني‪ .‬سابعاً‪:‬‬
‫إنَّ الزارع القانع املكتفي ينجو من شوائب املدنيني ونقائصهم‪ ،‬أريد منها الكذب واملكر‬
‫والغش والغنب يف املعامالت هذه التي يزعمون أنها فراسة ونباهة وبعضهم يسمونها‬
‫كياسة ومهارة وبراعة‪ .‬ثامناً‪ :‬إنَّ الزارع الصالح الحكيم البسيط يستغني عن االستعانة‬
‫برثوة الناس فال يضطر إليهم واالستغناء عن الناس يف هذه الحالة وأمثالها سعادة أرضية‬
‫لكم‪ .‬تاسعاً‪ :‬إن الزارع إذا أقام بقرية طيبة الهواء تجري إليها من الجبال عيون صافية‬
‫عذبة‪ ،‬وإذا جعل له حدائق وحقوالً فيها فاكهة شهية وبقول طيبة‪ ،‬ونصب له كروماً من‬
‫العنب والتني والزيتون والفستق‪ ،‬وجعل يف جهة منها خاليا يعسل فيها النحل ويشتار‬
‫العسل من العساالت(((‪ ،‬وإذا اعتنى برتبية الغنم واملاعز والبقر والدجاج ونحوها‪ ،‬عاش‬
‫عيشاً صالحاً مطمئناً ال يسأله ضمريه وال يحاسبه كأنه يف وليمة دامئة‪ .‬فاميل أرى اإلنسان‬
‫بعد هذا كله يشكو ويتظلم ويتضجر؟ ومايل أسمع بعضهم يقولون لقد ضاقت األرض‬
‫بأهلها فال يكفي الرزق منها؟ أال يرون مرسة القروي العاقل الذي يستطيع أن يعيش‬
‫العيشة التي وصفتها؟ ملاذا ال يرتكون املدن وحسد سكانها ورشهم؟ وملاذا ال يرفقون‬
‫بنفوسهم ويخلصونها من املصائب والنوائب املدنية ورزاياها املتتابعة؟‬
‫ال يقل املدين إنني أعيش يف العمران يا هذا ماذا رأيت من متدنك؟ أمل أسمعك تنئ‬
‫من ثقله وأنت كام تقول متوت يف كل ساعة مرة وتعيش؟ وساعة تعيش تسري كالسكران‬
‫الذي يرسي يف الليلة الظلامء أو كاملصاب بعقله وذلك من ضيقتك التي كادت تخنقك‪.‬‬
‫أتظن أنك إذا عشت يف القرية ال تجد لذاذة أعظم من لذة املدينة؟ إين أراك عىل‬
‫جهل عظيم‪ .‬اطلب من القرية حقة املدينة تجدها‪.‬‬
‫هناك الراحة والسالم‪ .‬هناك الرسور واالبتهاج‪ .‬هناك الخالص من رؤية الحكام‬
‫الجائرين‪ .‬هناك الحرية املرشوعة‪ .‬اطلب من الله تعاىل أن يوفقك إىل اله ِِج ّر((( لتقل‬
‫يف القرية آثامك وتهون عليك التوبة بها فال تعود إىل األرض بعد خروجك منها صالحاً‪.‬‬
‫يا أيها العاقل قم واخرت لك من أصدقائك املعروفني بالصدق والوفاء رفقاء وارحلوا‬

‫‪ 1‬ـ العساالت‪ :‬جمع عسالة وهي الشورة التي يتخذ فيها النحل العسل من راقود وغريه‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ الهجر بكرس الهاء والجيم وتشديد الراء‪ :‬املهاجرة إىل القرى‪.‬‬

‫‪149‬‬
‫إىل قرية طيبة الهواء واملاء‪ ،‬وارحموا نفوسكم وعيالكم رحمة دامئة تتبعها رحامت‪.‬‬
‫وال تقولوا إننا ال نجد بني أيدينا ما نستعني به عىل اشرتاء قرية وابتياع مواش‪ ،‬فإنَّ يف‬
‫منازلكم من األثاث والرياش ما يزيد عىل احتياجكم فبيعوه وأنفقوا يف سبيل خريكم‬
‫وصالحكم‪ ،‬هاجروا واتركوا الشقاء يف املدن املتمدنة بتلك املدنية الحديثة‪.‬‬
‫فإذا هاجرتم اقتدى بكم غريكم فترتكون ذكراً حسناً ينقله الخلف عن السلف‪ .‬وإذا‬
‫َّتم هذا لكم فاتخذوا من اآلالت املحدثة ما تساعدكم عىل إتقان فلح األرض وبذرها‬
‫وعىل الحصاد والرجاد واملدارس‪ ،‬وأوصيكم بأن تتبعوا الطرائق واالصطالحات الحديثة‬
‫التي ُأدخلت عىل علم الزراعة والفالحة عندكم‪ ،‬وهذا يتم لكم إذا أدخلتم أوالدكم‬
‫إىل املدارس الزراعية‪ ،‬أو إذا رغبتموهم ورغبتم نفوسكم يف قراءة كتبها واستظهارها‬
‫وعرضها(((‪ ،‬ليك تسددكم إىل العمل والتجربة وحسن التكرير والثبات يف دقة ونشاط‬
‫حتى تستفيدوا وتفيدوا‪ .‬وأوصيكم أيضاً بأن ال تتصدوا لحرارة الشمس إال تدريجياً إىل‬
‫أن تعتادوها‪ ،‬وبأن ال تقدموا عىل العيش الخشن مرة واحدة بل تدرجوا إليه تدرجاً‪.‬‬
‫ال تجوروا عىل الحيوان بل أرفقوا به وارحموه‪ .‬وال تستخدموا رجاالً غري معروفني‬
‫بالصالح وحب الفضيلة لئال يفسدوا أوالدكم‪ .‬والعاقل من استغنى بعياله عن الخادم‬
‫واألجري‪ ،‬غري أنَّ هذا ال يتم إال بعد أن ينشأ له أوالد قرويون أشداء‪.‬‬
‫أق ّلوا من أكل اللحوم شيئاً فشيئاً إىل أن تستغنوا عنها فتقوى أبدانكم‪ .‬ال تغفلوا عن‬
‫إرهاف((( أحداثكم ذلك أن تتخذوا لهم رجاالً أتقياء ورعني يعلمونهم دينكم ويهذبونهم‬
‫ويؤدبونهم ويعلمونهم العلوم االبتدائية الرضورية‪ ،‬فإذا أنفقتم عليهم أفادوكم وعوضوا‬
‫لكم بصالحهم وعلمهم أضعاف ما تنفقون ليكونوا شيوخاً حكامء ليحلوا لكم مشاكلكم‬
‫ويفصلوا الخصام حينام تختلفون‪ .‬فإذا فعلتم هذا كله عشتم عيشاً هنيئاً‪.‬‬
‫ويف األخري أوصيكم وصيتني األوىل أن تعتنوا بالنظافة اعتنا ًء ال تقوون عىل أكرث‬
‫منه‪ .‬والثانية إذا قال لكم أولو األمر‪« :‬إنا جعلناكم قضاة وأعضاء مجالس»‪ .‬فقولوا لهم‪:‬‬
‫«إنَّ الله تعاىل مل يجعلنا أه ًال لها»‪ .‬فإذا ألحوا عليكم فاستعفوهم بالتي هي أحسن‬
‫وجملوا استعفاءكم بالشكر‪ ،‬وال تطلبوا النجاح والفالح من أبواب الحكومة والسياسة‪،‬‬
‫بل اطلبوهام من املحراث لعلكم تفلحون‪.‬‬

‫‪ 1‬ـ عرض الكتاب‪ :‬قرأه عن ظهر القلب‪.‬‬


‫‪ 2‬ـ أرهف السيف‪ :‬حدّده ور َّقق حده‪.‬‬

‫‪150‬‬
‫وقال والدي‪ :‬لقد برع علامء النبات عندنا براعة حريت عقول كبار املكتشفني‬
‫واملخرتعني‪ ،‬ألنهم متكنوا بجدهم واجتهادهم من إيجاد نباتات مل تكن معروفة يف الزهرة‬
‫قبلهم‪ .‬منها أنَّ العامل الشهري املسمى «أردوم» أي إرادة الله ولد القايض «مجدوم»‬
‫أي مجد الله‪ ،‬كان أوجد من زمان قديم جداً فواكه طيبة شهية‪ ،‬أخص منها بالذكر‬
‫فاكهة كبرية الحجم بقدر الرحى العظيمة (وهذا عجيب وهل تستطيعون أن تصدقوا‬
‫أنَّ العامل ميكنه أن يوجد فاكهة وبقوالً وأمثاراً؟) وأعجب من ذلك أنَّ الناظر إىل هذه‬
‫الفاكهة يقرأ عليها كتابة بحروف نافرة جلية تعريبها‪« :‬أنا أردوم ابن القايض مجدوم من‬
‫مدينة القضاة يف الزهرة أوجدت بإذن الله تعاىل هذه الفاكهة النافعة للهضم اللذيذة‬
‫فاعرصوها وارشبوا عصريها فإنَّ فيه منافع لكم‪ .‬أما قرشها و ُث ْفلها((( فاجعلوها سامداً‬
‫ألرضها فتجود»‪ .‬وهذه الفاكهة هي املعروفة عندكم بالبطيخ األصفر إال أنَّ بطيخكم‬
‫أصغر حج ًام‪ ،‬فإذا أبرصه أحد سكان الزهرة قرأ الخطوط التي عليه كالتعريب الذي‬
‫تقدم‪ .‬وقد أنبت الله تعاىل هذه الفاكهة يف أرضكم حباً بكم‪ ،‬وقد توصل هذا العامل‬
‫بحسن خربته إىل جعل بعض الفاكهة واألمثار يف بعضها‪ .‬فإذا تناولت مث ًال جبسة ونظرتها‬
‫رأيت يف قلبها بطيخة أو تينة كبرية أو غري ذلك‪ .‬وإذا مددت يدك إىل شجرة تفاح‬
‫وجنيت منها تفاحة أبرصت ضمنها كرزة أو مشمشة ونحو ذاك‪ .‬وقد جعل هذا العامل‬
‫الفاضل يف العنقود الواحد أنواعاً كثرية من العنب بطعومه وألوانه املختلفة فتعجب‪.‬‬
‫أما البقول التي تأكلونها مطبوخة فهي عندنا ال تحتاج إىل الطبخ ألنَّ األرض تؤثر فيها‪.‬‬

‫الفصل الثالث منه‬


‫_ يف اآلالت واألدوات النقلية والزراعية‬
‫وغريها من مخرتعات سكان الزهرة _‬
‫قال والدي‪ :‬إنَّ اآلالت واألدوات عندنا كثرية وكلها مفيدة إفادة عمومية‪ ،‬أذكر‬
‫لك شيئاً منها‪.‬‬
‫أوالً‪ :‬املركبات النورية وهي مركبات تسري وترسي يف الهواء برسعة النور ومتر‬
‫قطراً بعضها وراء بعض‪ ،‬نسافر بها وننقل كل يشء‪ ،‬وهي غري معرضة لخطر وسميت‬

‫‪ 1‬ـ ال ُّث ْف ُل‪:‬ما استقر تحت اليشء من ُك ْد َرة‪ .‬والثقل أيضاً‪ :‬الحب‪.‬‬

‫‪151‬‬
‫بالنورية نسبة إىل النور‪ ،‬فإننا نستخدمه كام تستخدمون الكهرباء بل أكرث بكثري‪.‬‬
‫ومنها الكرايس الربقية فلكل واحد منا كريس يقعد عليه فيضغطه برجله ضغطاً لطيفاً‬
‫فينطاد بنا((( وهو طوع يديه ال خطر عليه منه وقد استغنينا بها عن البحار‪.‬‬
‫ثانياً‪ :‬الق ّالب وهو آلة تق ّلب األرض وتجعل أسفلها أعالها بأقل من دقيقة واحدة‪.‬‬
‫ثالثاً‪ :‬السابر وهو آلة نضعها عىل األرض فنبرص كل ما فيها ونقدرها‪ .‬ومثلها آلة‬
‫نسرب((( بها البحار ونبرص جميع ما فيها‪.‬‬
‫رابعاً‪ :‬الزارع وهو آلة تطرح الزرعة‪ ،‬أي البذر يف األرض تحت املقدار الذي نريده‬
‫من الرتاب‪.‬‬
‫خامساً‪ :‬املع ّدل وهو آلة تع ّدل البارد والحار إذا صودف أنَّ الهواء مل يكن معتدال‪ً،‬‬
‫وعليه فال خوف عىل الزرع والنبات من الجليد والصقيع وال من السموم والحرور(((‪،‬‬
‫أما السليق((( فال نعرفه‪.‬‬
‫سادساً‪ :‬املنظف وهو آلة تدخل األرض فتخرج منها جميع الحرشات وتستأصل‬
‫النبات الذي ال نريده‪.‬‬
‫سابعاً‪ :‬املجفف وهو آلة تجفف الزرع حينام نريد‪.‬‬
‫ثامناً‪ :‬املستثمر وهو آلة نضعها بجانب الزرع فتجمع إليها الحبوب حاالً وهي‬
‫نقية نظيفة‪ .‬ولدينا أيضاً أدوات زراعية كثرية أغنتنا عن الحيوان فهو يعيش بها يف‬
‫راحة‪ ،‬وحسبي أن أقول إنَّ عيشه أسعد بكثري من عيش اإلنسان املرفه واملتنعم يف‬
‫األرض‪ .‬إننا ال نريب من الحيوان وال نستخدم غري البقر والغنم وذلك ابتغاء الحليب‬
‫وهي كثرية أكرث من االحتياج وعليه فال نأخذ كل لبنها‪ .‬ونريب أيضاً الدجاج لبيضها‪.‬‬
‫تاسعاً‪ :‬الرافع وهو آلة نرفع بها األثقال التي ال يقوى عىل رفعها عرشون ألفاً من‬
‫رجالكم وأكرث‪.‬‬
‫عارشاً‪ :‬السامع وهو آلة غري مرتبطة بسلك نضعها عىل آذاننا فنسمع بها كل ما‬

‫‪ 1‬ـ انطاد‪ :‬ذهب يف الهواء صعدا‪.‬‬


‫‪ 2‬ـ سرب الجرح والبرئ وغريها‪ :‬امتحن غوره ليتعرف مقداره‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ السموم‪ :‬الريح الحارة‪ .‬قال أبو عبيدة‪ :‬السموم بالنهار وقد تكون بالليل والحرور بالليل وقد تكون‬
‫بالنهار‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ السليق من الشجر‪ :‬الذي سلقه الربد فأحرقه والشجر الذي أحرقه حر أو برد‪.‬‬

‫‪152‬‬
‫نريد أن نسمعه من بالد بعيدة من غري أن نحتاج إىل أحد‪ ،‬غري أننا ال نسمع بها أرسار‬
‫العباد‪.‬‬
‫حادي عرش‪ :‬الناظور وهو آلة نضعها عىل عيوننا فنبرص بها الكواكب وأدق‬
‫النجوم وكل ما فيها‪ .‬وننظر بها البالد القريبة والبعيدة عىل أننا ال نرى بها ما ال تجوز‬
‫لنا رؤيته‪.‬‬
‫ثاين عرش‪ :‬املخاطب وهو آلة ال سلك لها نضعها عىل األرض ونضغطها ونخاطب‬
‫بها من نريد ولو كان مقي ًام بأبعد مدينة فيسمع ويجيب ببيان‪ ،‬وكل من املخاطب‬
‫واملخاطب يبرص اآلخر‪.‬‬
‫ثالث عرش‪ :‬الجاذب وهو آلة نجذب بها ونخرج كل ما يدخل أجسادنا وأجساد‬
‫الحيوان من شوك وأبر ونحو ذلك من غري أن نلمسها ومنسها‪.‬‬
‫رابع عرش‪ :‬آالت لكل عني ال تبرص ولكل أذن ال تسمع ولكل عضو كرس وبرت‬
‫فتصلح وتصحح وتعوض‪ .‬وغريها لألخرس واألعرج واألجنأ واألحدب واألكتع واألشل‬
‫ونحو هذا فيصبحون بها أصحاء‪.‬‬
‫خامس عرش‪ :‬املطفئة وهي آلة إذا وجهتها إىل النار أخمدتها حاالً‪.‬‬
‫سادس عرش‪ :‬الكابح وهو آلة إذا أشري بها إىل ثور هائج جامح وغريها سكنته‬
‫وأوقفته حاالً‪.‬‬
‫ومن االخرتاعات النافعة أننا نرى بني أيدينا آنية تختلف ألوان بعضها عن بعض‪،‬‬
‫فإذا صببت سائ ًال مث ًال يف قدح رصايص((( برد‪ .‬وإذا أرقته يف مركن((( أحمر ح َّر‪ ،‬وإذا‬
‫سكبته يف باطية((( الزوردية حال‪ .‬وإذا جعلته يف إناء زنجاري حمض‪ .‬وإذا وضعته يف‬
‫ِق ْد ٍر((( سمراء ملح‪ .‬وذلك بقدر ما تريد من الربودة والحرارة والحالوة والحموضة‬
‫وامللوحة إىل غري ذلك من الطعوم‪...‬‬
‫أقول‪ :‬إذا اخرتع أحدنا اخرتاعاً أعلنه حاالً وطلب من الناس أن يساعدوه عىل‬
‫تعميمه وتوزيعه‪ ،‬فيذهبون إىل املعامل ويشتغلون بهمة ونشاط ومحبة كأنهم أشقاء‬

‫‪ 1‬ـ الرصايص‪ :‬ما كان لونه كالرصاص‪.‬‬


‫اإلجانة التي تغسل بها الثياب‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ املركن‪ّ :‬‬
‫‪ 3‬ـ الباطية‪ :‬الناجود‪ .‬وعن أيب عمر‪ :‬هي إناء من الزجاج ميأل من الرشاب يوضع بني َّ ْ‬
‫الشب يغرتفون منه‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ القدر‪ :‬إناء يطبخ فيه‪ .‬مؤنث أو يذكر ويؤنث‪.‬‬

‫‪153‬‬
‫متحابون‪ ،‬فحينام يتم العدد املطلوب من اآللة املخرتعة يأخذ كل من الخلق واحدة‬
‫متى أراد‪ ،‬وذلك بغري بدل وال عوض‪ .‬كل اخرتاع ميكن أن يحدث منه رضر ولو كان‬
‫جزئياً ال يجوز إظهاره‪ .‬أما املخرتع فينقل إىل مدينة القضاة ألنها مسكن لكل من تفرد‬
‫بيشء‪ .‬فإن كان املخرتع من ساكنيها فيجعل من القضاة وإن كان منهم علت منزلته‬
‫ألنهم طبقات‪.‬‬

‫الفصل الرابع منه‬


‫_ يف حرف سكان األرض _‬
‫قال والدي‪ :‬ال تسمح ألحد من أوالدك أن يتخذ حرفة دنيئة ولو كان ربحها كثرياً‬
‫كام يفعل بعض الطامعني ألنهم يفسدون آدابهم ويذلون قومهم‪ .‬إين أرى العامل‬
‫الفقري خري من ّ‬
‫الخمر الغني‪.‬‬
‫إنَّ الصناع والعامل العاملني بأيديهم ُيقدمون عىل التجار الذين يغشون ويغبنون‬
‫العباد يف البيوع غبناً فاحشاً وهم كثريون‪ .‬أال تعلم أنَّ أولئك الصناع والعملة والفعلة‬
‫املستخدمني واألجري الخاص والعام مهام كانوا أدنياء وطامعني‪ ،‬مل تزدد دناءتهم عن‬
‫إضاعة ساعتني من نهارهم تذهب بالبطاءة والكسل فال يكون إرضارهم عظي ًام‬
‫كأرضار التاجر؟‬
‫إنَّ األجري ينام من غري أن يحاكمه ضمريه ويوبخه توبيخاً شديداً‪ ،‬ألنَّ بطاءته‬
‫مل تكن خفية فتعد رسقة‪ ،‬بخالف التاجر الذي ال نوم له إال بعد أن يعتاد الرسقة‬
‫والحيلة فال يبايل‪ .‬خري األرباح ما حصلت لك بالنشاط واإلنصاف وخري الناس وأغناهم‬
‫من كان قانعاً‪.‬‬
‫ال يكن ولدك سوق ّياً لئال يعيش كذاباً سافل النفس مثل أولئك اللصوص الذين‬
‫يرسقون من الكيل وامليزان‪ ،‬فإنهم رسقة مدمنون اللصوصية ومواظبون عليها‪ ،‬وليسوا‬
‫كالذين يسمونهم لصوصاً ألنهم يرسقون يف كل شهر مرة مث ًال‪ .‬فيجب عىل الناس‬
‫أن يجتنبوا السوقي اللص وأن يؤاخذوه بذنبه يف الرسقة األوىل‪ .‬وهؤالء اللصوص ال‬
‫يقترصون عىل الرسقة من الكيل وامليزان فقط‪ ،‬بل يعمدون إىل املزج وهو حرفة قبيحة‬
‫سافلة أتقنوها كمزج السمن باملواد الدنيئة القيمة الضارة‪ .‬ويف املزج تفاوت يف الرضر‪،‬‬

‫‪154‬‬
‫بالشب((( ويبيعه للمساكني‪.‬‬
‫َّ‬ ‫فالذي ميزج الحليب باملاء ليس كالذي يخلط ملح الليمون‬
‫يا أيها الناس انتبهوا للذين يخلطون العقاقري وميزجونها مبا هو دونها عىل عمد‬
‫واهجروهم ونددوا بهم وحاكموهم فإنهم لصوص قتلة وال ترحموهم‪ ،‬وال تقولوا‬
‫إننا ال نؤذيهم وال نقطع رزقهم‪ .‬وال تقولوا النفس ضعيفة والخطأ أقوى منها ألنهم‬
‫رق لهم وعذرهم وتغافل عنهم فقد شاركهم‪،‬‬ ‫يتعمدون إرضاركم بطمعهم‪ ،‬فمن ّ‬
‫فنبهوه واعلموا أنَّ مثله مثل الذي يهدم مئة قرص إلخوانه ليبني لصاحبه داراً صغرية‪.‬‬
‫من وقي أخاه رشهم فقد كفه عنه بيده‪.‬‬

‫الفصل الخامس منه‬


‫_ يف البيع والرشاء _‬
‫قال والدي‪ :‬إنَّ الدنانري والدراهم ال وجود لها يف الزهرة ألننا ال نتخذ ذهباً وال‬
‫فضة‪ ،‬بل نقاول ونتعامل ونبيع ونشرتي ونتاجر يف األمتعة‪ ،‬وننسأ((( املرثين يف البيع‬
‫ونستلف ونتداين‪ ،‬ولكن كل ذلك بالعرض((( واملقايضة((( واملعاوضة(((‪ ،‬أي إننا نبيع‬
‫عرضاً بعرض‪ ،‬فأعطيك بقرة مث ًال عىل أن تعطيني ثوباً‪ .‬فإذا أردت أن تحتذي((( ومل‬
‫يكن لديك عوض فتقول لصانع األحذية‪ :‬أحذين نع ًال‪ ،‬فيحذوك غري مرتدد وال متأخر‪،‬‬
‫حل حقه عليك‬ ‫فتعاوضه يوم إيسارك بعرض يضطر إليه أو يرضب لك أج ًال فإذا َّ‬
‫وجبت التأدية‪ ،‬وإذا شاء عرضت((( له من حقه ثوباً ورمبا تركه لك هبة‪ .‬إذا طال‬
‫إعسارك فال يعرسك إال إذا علم منك الطمع‪.‬‬

‫الش ُب‪ :‬ملح متب ّلر‪ .‬اسمه الكياموي‪ :‬كربيتات األملنيوم والبوتاسيوم‪.‬‬
‫‪ 1‬ـ َّ‬
‫‪ 2‬ـ نسأ فالن فالناً يف البيع‪ :‬باعه بأخرة‪ .‬واألخرة‪ :‬النظرة وهي التأخري واإلمهال‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ عرض بسلعته‪ :‬بادل بها فأعطى سلعة وأخذ أخرى‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ قايضه‪ :‬عاوضه وبادله‪ .‬ومنه بيع املقايضة وهو بيع عرض بعرض‪.‬‬
‫‪ 5‬ـ عاوضه‪ :‬أعطاه خلفاً وبد ًال‪.‬‬
‫‪ 6‬ـ احتذى‪ :‬انتعل‪ .‬أي لبس نع ًال‪.‬‬
‫‪ 7‬ـ عرضت له من حقه ثوباً‪ :‬أعطيته إياه مكان حقه‪.‬‬

‫‪155‬‬
‫أما أنتم يا أهل األرض املستميتني يف املطامع القبيحة الشائنة التي تذل نفوسكم‪،‬‬
‫متاطلون ثم تتنازعون وتخاصمون وبعد ذلك تنكرون وتزورون فتقتلون‪ ،‬ويف النهاية‬
‫ترتكون كل يشء يف أرضكم وتذهبون وأنتم تحملون عىل ظهوركم الحقوق الثقيلة‬
‫التي كنتم تزعمون أنكم هضمتوها فال تسألون عنها‪ ،‬إنَّ الله تعاىل ليس بغافل عنكم‬
‫ولسوف تعلمون‪.‬‬

‫الفصل السادس منه‬


‫_ يف التجارة _‬
‫قال والدي‪ :‬إذا أردت أن ال تعرض نفسك للكذب فاجتنب االصطالح التجاري‬
‫والحالة التجارية الشائعة اآلن بني أكرث التجار الغشاشني الذين ال يفكرون إال يف‬
‫خدع العباد ليسلبوهم أموالهم‪ ،‬والسيام الذين يحتكرون القوت ليبيعوه للفقراء‬
‫بدماء قلوبهم طمعاً يف زيادة ثروتهم وهم يف غنى عن معظمها‪ .‬ال تحكر الطعام‬
‫فإذا تحكرته فاذكر إخوانك بالخري واملعروف‪ ،‬وال تغل األسعار كثرياً واجتنب الطمع‬
‫فإنَّ فيه مذمتك‪.‬‬
‫ال تغر وال ترغب‪ ،‬بل قل إين أبيع هذا الحارض بكذا أو أجعل الثمن محدوداً‬
‫معيناً لجميع الناس‪ .‬تجنب البضاعات الرديئة الفاسدة وال تبع كل الناس بنسيئة(((‪،‬‬
‫فمنهم من إذا أدنته وطالبته بحقك يوم حلول الدين اغتاظ منك وعاداك فإذا مل‬
‫تطالبه هضم حقك‪.‬‬
‫الفصل السابع منه‬
‫_ يف الرباء _‬
‫اب الناس مراباة فاحشة‪ ،‬فإنَّ‬
‫قال والدي‪ :‬اجتنب املراباة ما استطعت‪ ،‬وال تر ِ‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫املرابني كاملحكرين الطامعني الظاملني بل أشد منهم إرضارا وظلام وغدرا يخربون‬
‫البيوت العامرة ليبنوا بها اصطبالتهم‪.‬‬

‫‪ 1‬ـ النسيئة‪ :‬التأخري‪ .‬يقال باعه بنسيئة‪ ,‬أي بدين ُم َؤخر‪.‬‬

‫‪156‬‬
‫إين أراهم ميتصون دماء إخوانهم‪ .‬هم آفة املجتمع اإلنساين‪ .‬إنَّ العاقل ال يأخذ‬
‫الدينار بالرباء الفاحش ولو اضطر إليه ألنه مييس عبد املرايب وأسريه إىل املوت فيخلص‪،‬‬
‫أما عياله فال يخلصون‪.‬‬
‫ً‬
‫فاتق الله وال تفحش بطمعك فتعمل خريا مع‬ ‫ِ‬ ‫(((‬
‫إذا أبيت أال أن ترايب وتريب‬
‫كثريين‪ .‬اعلم أنَّ الظلم وخيم العاقبة‪.‬‬

‫الفصل الثامن منه‬


‫_ يف طمع سكان األرض _‬
‫قال والدي‪ :‬إنني طفت يف أكرث املاملك يف الزهرة واألرض‪ .‬وولجت كل بيت‪.‬‬
‫وسربت كل غور‪ .‬وعجمت((( كل عود‪ ،‬وتعرفت كل مقدار‪ .‬وأكلت كل طعام‪ .‬ووزنت‬
‫كل درهم‪ .‬وذرعت كل ثوب‪ .‬ولبست كل لباس‪ .‬وبذرت كل أرض‪ .‬ورضبت كل مثل‪.‬‬
‫ونشدت كل ضالة‪ .‬ومضغت كل طعام ورشبت كل ماء‪ .‬وعرفت كل كنه وقرأت كل‬
‫كتاب‪ .‬وبلوت كل رجل‪ .‬وأدركت كل حقيقة‪ .‬فلم أر شيئاً يرض برشف املرء وسمعته‬
‫ويعيبه ويشينه ويسقطه ويدنئه ويضيع ثروته مثل الطمع‪.‬‬
‫وقد تكلمت إىل اآلن كثرياً بهذا املوضوع وانقطعت عنه وعدت إليه ليكون أرسخ‬
‫يف األذهان وأثبت يف العقول وأمكن يف القلوب وأمنت يف النفوس وأقوى يف الجوارح‬
‫واألعضاء‪ .‬فأنصح وأكرر نصحي وأشري وأنبه وألح وأرص عىل أن تجتمع كل عشرية يف‬
‫كل صباح ومساء وتتواىص باجتناب الطمع‪ ،‬ألنه إذا بدأ باإلنسان أضله وإذا متكن منه‬
‫أعامه وجعله يخبط كاملرصوع‪.‬‬
‫الطمع مختل العقل ألنه يضيع الكل يف طلب البعض‪ .‬لينتبه الطامع لئال ينتهي‬ ‫ّ‬
‫به الطمع إىل اللصوصية‪ .‬الطامع مكروه ممقوت يجتنبه الناس كام يجتنبون األجرب‪.‬‬
‫الطامع يخذله الله‪ ،‬إنَّ الله تعاىل سيعاقبه عقاباً شديداً‪َّ .‬‬
‫اللهم زدين قناعة وال تخذلني‪.‬‬

‫‪ 1‬ـ راىب الرجل‪ :‬أعطى ماله بالرباء فهو مراب‪ .‬وأرىب الرجل إرباء‪ :‬أخذ أكرث مام أعطى‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ عجم اليشء‪ :‬عضه أو الكه لألكل أو للخربة كام تأخذ العود بسنك لتعلم صالبته من رخوته‪.‬‬

‫‪157‬‬
‫الفصل التاسع منه‬
‫_ يف الحسد _‬
‫قال والدي‪ :‬الحسد يتولد من الطمع‪ .‬الحسد إقرار الحاسد بفضل املحسود وفواقه‬
‫وسبقه‪ .‬لو علم الحاسد أنه يرس عدوه بحسده ملا حسده‪ .‬الحاسد دون املحسود فلو‬
‫كان فوقه كام يزعم ملا حسده‪.‬‬
‫ُر َّب محسود عىل حالة يتمنى لو كانت له ويود لو كان بها حاسداً‪.‬‬
‫الحاسد ال يهنئه طعام وال يسوغ له رشاب‪ .‬قلبه مغموم وصدره ضيق وعيشه‬
‫ناكد‪ .‬اجته ْد أن تكون محسوداً ال حاسداً‪ .‬لو ترك الحاسد الحسد وج ّد وراء املحسود‬
‫للحقه‪ ،‬و ُر َّب حاسد ارعوى فأصبح محسوداً‪ .‬إنَّ الحسد داء يأكل قلب صاحبه وجمرة‬
‫تلذعه حتى تذيبه‪.‬‬

‫‪158‬‬
‫الباب السابع‬

‫‪159‬‬
160
‫الفصل األول من الباب السابع‬
‫_ يف الرجل _‬
‫قال والدي يويص الرجل األريض‪ :‬يا أيها الرجل ال تحب من النساء غري زوجتك‪،‬‬
‫فإذا خالفت وأخلفت ومكرت وخدعت واتبعت هوى نفسك الرشيرة وأحببت غري‬
‫امرأتك‪ ،‬فال أقل من أن تحذر كل الحذر أن تعلمها حبك إىل أن ترجع عن غيك‬
‫وترعوي عن فسادك‪ ،‬وإال فقد جنيت عىل نفسك وعىل عيالك جناية ال كالجنايات‪ ،‬ال‬
‫تشعر بها إال بعد أن تفيق ويعود إليك عقلك فتندم وتسدم(((‪.‬‬
‫إين ألعجب كيف تسمح لنفسك بأن تحب غري زوجتك وال تسمح لها أن تحب‬
‫غريك‪ .‬ملاذا ترى حبها جناية منها وال ترى حبك سواها جناية أخرى؟ لقد حكمت‬
‫فجرت والله سبحانه وتعاىل ال يحب الجائرين‪ ،‬ومن ال يحبه الله فقد أهمله‪.‬‬
‫كأنك تحسب أنَّ الزوجة إذا أحبت عيبت وأنت إذا أحببت ال تعاب! كال كالكام‬
‫معيبان‪ .‬إنَّ الله مل يجعل لعباده رشيعتني الواحدة للرجل والثانية للمرأة‪ .‬إنَّ الرشيعة‬
‫واحدة وعليه فأنت وبعلتك متساويان موثقان بعهد ملزم ال فكاك لكام منه إال مبوت‬
‫أحدكام‪ ،‬ومن ظن غري هذا فقد بخس املرأة حقها وأخطأ واستوجب العقاب‪ .‬والزوجة‬
‫التي بخست حقوقها ال يؤمن فسادها إال إذا كانت أبية النفس طيبة العنرص‪ ،‬فتصرب‬
‫قهراً عنها فيعتل بدنها ورمبا أودت بها العلل‪ .‬إنَّ العفيف قرة عني امرأته‪.‬‬

‫‪ 1‬ـ سدم الرجل‪ :‬كان به سدم‪ .‬السدم‪ :‬الهم أو مع ندم أو غيظ مع حزن‪.‬‬

‫‪161‬‬
‫إين أنصح ملن ال يكتفي بزوجته أن ال يتزوج‪ ،‬ألنه ال راحة وال سالم يف األرسة إذا‬
‫كان الحب لغري البعلني‪.‬‬
‫ً‬
‫يجب عىل الرجل الصالح العادل الذي يحسب نفسه رشيفا أن يختار لنفسه يف‬
‫ذلك ما يختاره لزوجته وأن ال يريد لها ما ال يريده لنفسه‪.‬‬
‫يا أيها الرجل إياك والبخل فإنه يكرس قلب املرأة‪ .‬فإن كنت ال تستطيع إال أن‬
‫تضن عىل‬ ‫فضن عىل نفسك الخبيثة‪ ،‬وأهكلها بطعمك وشحك‪ ،‬وال ّ‬ ‫تعيش ضنيناً َّ‬
‫زوجتك وولدك لئال ّميدا يديهام إىل غريك والعياذ بالله تعاىل‪ ،‬ولئال تنقلب عنك‬
‫محبتهام فال يطيب لهام ولك عيش إال مبوتك‪ .‬اعلم أنه ال عز لبخيل‪.‬‬
‫ال تذل امرأتك‪ ،‬فإنَّ املرأة الذليلة ال تصلح لرتبية أوالدك وتهذيبهم‪ .‬ال تهددها وال‬
‫ترفع يدك عليها لئال تخشاك فيكون توقريها لك خُ ْدعة منها فتجعلك خدعة(((‪ .‬إنَّ‬
‫الخديعة يتولد منها الكذب والكذب آفة املجتمع اإلنساين‪.‬‬
‫إذا ظلمت امرأتك فقد ظلمت نفسك وجرحت قلبها‪ ،‬والقلب املجروح ميقت‬
‫جارحه ولن يحبه‪ ،‬وال عامر إال باملحبة‪.‬‬
‫ال تكن كلك لنفسك بل كن لها ولزوجتك‪ .‬إذا كنت ال تشتهي شيئاً وهو ال يرض‬
‫بها فال تسألها أن ال تشتهيه معك‪ ،‬فإنَّ لها ما لك ولك ما لها‪ ،‬ونفسك مثل نفسها‬
‫وحقوقكام بالرىض والغضب متساوية‪ .‬وال ُت ِْت إرادتها وال تجعلها تريد كل ما تريده‬
‫أنت‪ ،‬بل اجعل نفسها كبرية لتكون رشيفة‪ .‬وأطلقْ لها إرادتها لتعيش حرة فتسأل عام‬
‫تفعله وإال فقد أرصتها خادمتك البلهاء ومل تتخذها الرشيكة التي تشاطرك متاعب‬
‫الحياة بعد أن تخففها عنك بتدبريها وإتقانها وصربها وطالوة كالمها ورقتها‪ .‬إذا كانت‬
‫أخالقكام متباينة فتقاربا باملحبة‪ .‬إنَّ املرأة إذا رقيتها رقت أوالدك وانتفعتم كلكم بها‪،‬‬
‫وإن أهملتها ووضعتها أضعت مستقبل عيالك وعشتم وضيعني مهانني‪.‬‬
‫وأقول أخرياً‪ :‬إذا نزلت عىل قوم وأردت أن تعرف منزلتهم من املدينة الحقة‪ ،‬فسل‬
‫عن نسائهم‪ ،‬فإن كن مثلهم يف الحقوق فقد بلغوا من الحضارة واإلنسانية املنزلة‬
‫الرفيعة وإال فارحل عنهم‪.‬‬

‫والخدعة بضم الخاء‪ :‬ما يخدع به ومن يخدعه الناس كثرياً‪.‬‬


‫الخدعة بفتح الخاء‪ :‬املرة من خدع‪ُ .‬‬
‫‪1‬ـ َ‬

‫‪162‬‬
‫الفصل الثاين‬
‫_ يف املرأة _‬
‫قال والدي‪ :‬إنَّ النساء يف الزهرة كالرجال‪ ،‬بل هن مكرمات أكرث منهم ألنهن‬
‫يتعنب ويشتغلن مثلهم وأكرث‪ ،‬وهن أهم منهم إلتقانهن فن الرتبية والتهذيب‪ .‬ونحن‬
‫ال ننكر عليهن أفضالهن بل نشكرهن ونبجلهن ألنَّ الشكر والتبجيل يزيدهن ولوعاً‬
‫باملزايا عىل دعة منهن واتضاع‪ .‬فيا ليت النساء يف األرض يسلكن مسالكهن‪ ،‬ألنَّ املرأة‬
‫كلام خفضت جناحها لرجلها متكنت من قلبه أكرث متكناً‪ .‬إنَّ املرأة العاقلة هي التي‬
‫ال يهمها غري رجلها وولدها وبذلك تكون سعت لنفسها سعياً حسناً‪.‬‬
‫توقوا املرأة الطوافة يف بيوت جاراتها والجالعة((( والكاذبة ورش النساء املتطرفة ‪.‬‬
‫(((‬

‫واملرأة الصالحة والرزينة هي التي ال تحمل رجلها عىل الغرية وال تجعله يشك يف‬
‫محبتها له وإخالصها وقناعتها‪ .‬إنَّ خري النساء امرأة قارصة الطرف ال تحب غري‬
‫زوجها‪.‬‬
‫ثم قال‪ :‬الشجاعة والبأس للرجل‪ ،‬وللمرأة الرقة والدعة من غري جبانة منها‬
‫وال خشونة منه‪ .‬إذا أطاعت املرأة رجلها مع حفظها حقوقها وخدمته بطيبة فقد‬
‫خدمت نفسها‪ ،‬ألنَّ يف كل جسد من جسديهام نصف روح الجسد اآلخر‪ ،‬فهام‬
‫حارسان ورشيكان يسعيان يف مصلحة واحدة ويف طلب خري واحد‪ .‬لتحرص املرأة‬
‫عىل مال رجلها حرصها عىل حسنها فإنه مالها أيضاً ومال أوالدها‪ .‬إنَّ املرأة الطامعة‬
‫يف ثروة رجلها تبذيراً وإرسافاً جاهلة معيبة‪ .‬ليتها تعقل أنَّ التبذير واإلرساف ينفذان‬
‫كل ثروة ومال ويتسببان بالبطر فتغلب األهواء والشهوات وهناك الفساد الذي ال‬
‫صالح معه‪.‬‬
‫لتكن املرأة صبوراً عند حلول املصائب غري جازعة منها‪ .‬ال يلذ للعاقلة غري ترتيب‬
‫منزلها وال تجد بهجة إال به‪ .‬إنَّ مهارتها وفراستها تُعرفان من ترتيبها املنزل واألوالد‬
‫ومن نظافتهم‪ .‬إذا نظرت إىل الولد وثيابه عرفت منزلة أمه من اإلتقان والذوق‬
‫والتهذيب‪ .‬إنَّ التي ال تشتغل يف لوازم نفسها فهي زائرة ال منزل لها‪.‬‬

‫‪ 1‬ـ الجالعة‪ :‬السافرة القليلة الحياء واملتكلمة بالفحش‪.‬‬


‫‪ 2‬ـ تطرفت املرأة‪ :‬استطرفت الرجال ومل تثبت عىل زوج‪.‬‬

‫‪163‬‬
‫الرتبية فن رشيف من فنون الحكمة‪ ،‬فعىل املرأة أن تتقنه وتحكم وضعه وإلقاءه‬
‫عىل أوالدها بتأن وبراعة‪ ،‬تُعلم بهام سعة مداركها ويعرف صربها‪ .‬إنَّ املرأة الصالحة‬
‫املدركة يؤثر صالحها يف رجلها‪.‬‬
‫إنَّ التي ال تريد أن ترضع ولدها لغري علة مانعة من اإلرضاع فهي ال تحبه‪ .‬وأي‬
‫عار أشد وأعظم من أن يقول قائل إنَّ فالنة ال تحب ولدها وال تحن عليه ألنها ال‬
‫تحب غري نفسها‪ ،‬فإنَّ املحبة الدنيئة أال وهي محبة الذات تغلبت عليها‪ .‬وألنها ال‬
‫تحب رجلها أيضاً‪ ،‬بل ال تحب أحداً‪ .‬إنَّ التي عىل هذا الخلق القبيح ال تصلح لألمومة‬
‫ألنها دون اإلنسان والحيوان‪.‬‬
‫إنَّ الزوجني كاألخوين يف املنزلة‪ ،‬فالرجل هو األخ األكرب واملرأة األخ األصغر‪.‬‬
‫صب الكرام فقد ريض الله تعاىل‬‫وص َ َب ْ َ‬
‫والعاقل منهام من حمل عىل النفس ضيمها َ‬
‫عنه والناس أجمعون‪.‬‬

‫الفصل الثالث منه‬


‫_ يف األصدقاء باألرض _‬
‫قال والدي‪ :‬اجتنب الناس ما استطعت فتنعم وترفه‪ .‬كلام عرفت العامل األريض‬
‫وأدركت رساً من أرساره الغامضة كرهته وزهدت يف أهله‪ .‬ال خري يف أكرث الناس‬
‫عندكم فإنَّ كبارهم يأكلون صغارهم‪ ،‬هم وحوش ولكن عاقلة‪ ،‬ولذلك نراهم أشد‬
‫توحشاً من الحيوان ألنَّ عقولهم تساعدهم عىل الفتك الذريع والقتل الفظيع‬
‫والطمع الشنيع‪.‬‬
‫تنج من الرش‪ ،‬وإال فاخرت لنفسك منهم أصدقاء ولو كانوا‬ ‫ابتعد عن البرش ُ‬ ‫ْ‬
‫ال يصدقون إال قلي ًال ألنك يا أيها اإلنسان ال تطيق االنفراد‪ .‬ليكونوا ما استطعت‬
‫من الطبقة األوىل ألنهم يف الغالب أقل رضراً من غريهم‪ .‬فإن كنت ال تصل إليهم‬
‫فاقصد الطبقة الثانية واطلب منها الذين ربوا يف النعمة ونشأوا عىل املكرمة‪ .‬إياك‬
‫أن تختار من هم دونك‪ ،‬بل اتخذ لك أصدقاء أرفع منك قوماً وأرقى منزلة لتتأدب‬
‫وتتهذب عنهم وتقتبس من عاداتهم الحسنة‪ ،‬فتنتقل من حالة إىل أحسن وأرفع‬
‫منها وهم ال يطمعون فيك وال يحسدونك‪ ،‬ألنه مل يطمع بك وال يحسدك إال من‬
‫كان دونك‪ .‬غري أنه يلزمك أن تخفض لهم جناحك وأن تجتهد يف تطبيق أخالقك‬

‫‪164‬‬
‫عىل أخالقهم ويف مشاكلتهم ومامثلتهم غري مخالف لهم يف يشء‪ ،‬إال أنك رأيت‬
‫منهم ما يستهجن فاجتنبه‪.‬‬
‫ال تحاسبهم وال تطالبهم وال تعد زالتهم‪ ،‬ألنك إذا مل تغض طرفك لهم ال تظفر‬
‫بصديق واحد وال بنصف صديق ولو عشت عمرين‪.‬‬
‫ال تقاوم صديقك إذا غضب وال تنصحه وهو ثائر بل ه ّيبه إليك إذا تسخّ ط‬
‫(((‬

‫وتغضب‪ ،‬وانصحه إذا عاد إليه حلمه‪ ،‬ولكن احذر أن تنتقصه وتعيبه لئال يصري‬
‫نصحك توبيخاً ومالماً‪.‬‬
‫اصحبه يف غمه وحزنه بقدر صحابتك له يف رسوره وفرحه‪ .‬كن ثابتاً عىل‬
‫املودة‪ .‬ما أحسن الصديق إذا مل يكن معفياً((( إذا أصابه الدهر مباله‪ ،‬فال تنقص‬
‫من تكرميه‪ .‬ادفع عنه اغتياب املغتابني وكن أميناً عىل مجلسه كام أنت أمني عىل‬
‫عرضه ونفسه‪.‬‬
‫ً‬
‫زن نفسك دامئا لئال يستثقلك‪ .‬ال تتقرب إليه باملجاملة وال باملصانعة وال تجاره‬
‫عىل أمر ال يحمد عليه‪ .‬وال تجعل مزيتك لديه تبجيله وتعظيمه‪.‬‬
‫ْ‬
‫تلطف وانقله‬ ‫إذا سمعت الناس يذمونه وكان الذم يف محله فال تخفه عليه بل‬
‫جد يف مساعدته وقضاء حاجته‪ ،‬فإذا تعبت يف سبيله فاكتم تعبك عنه ألنَّ‬ ‫إليه‪َّ .‬‬
‫إظهارك إياه عيب من عيوب الصديق املخلص‪ .‬إنَّ صديقك مثل نفسك تتعب من‬
‫أجلها وال تحاسبها‪.‬‬
‫يا هذا كن كلك لصديقك وال تعلل بأنك تجد لك أصدقاء كثريين‪ ،‬فإذا ظفرت‬
‫يف كل عمرك بصديق أو صديقني فقد أفلحت حينئذ ألنك صديق‪.‬‬
‫أما أولئك الذين تعارشهم وتؤاكلهم وتكرث من الرتدد إليهم‪ ،‬والذين يسألون‬
‫عنك إذا غبت ويعاتبونك ويبتهجون بك إذا حرضت‪ ،‬فهم أصحاب ألفتهم وألفوك‬
‫وليسوا بأصدقاء‪ ،‬ألنَّ اإلنسان ألوف يحزن لكلبه إذا فقده‪ ،‬وأما الصديق فهو من‬
‫سعى من أجلك فأغناك عنه وعن غريه‪.‬‬

‫‪ 1‬ـ ه ّيبه إليه‪ :‬جعله مهيباً عنده‪.‬‬


‫‪ 2‬ـ املعفي‪ :‬من يصحبك وال يتعرض ملعروفك‪.‬‬

‫‪165‬‬
‫الفصل الرابع منه‬
‫_ يف األعامر واملوت بالزهرة _‬
‫قال والدي‪ :‬إنَّ سكان الزهرة يعمرون ويعيشون ال أقل من خمسمئة عام وال أكرث‬
‫من ألف‪ .‬فإذا دنا أجل أحدهم علم به من نفسه وقال ألهله وهو فرح مبتهج‪« :‬إين‬
‫ذاهب إىل لقاء ريب»‪ ،‬فيفرحون ويرسعون فيعلمون قايض قضاة املدينة فيذهب إليه‬
‫(إذا كان املدنف من الذين مل ينزلوا إىل األرض) ومعه جميع القضاة يحملون بأيديهم‬
‫باقات من األزهار النقية املختصة باملائتني‪ ،‬كتب عىل كل زهرة منها «اذهب بسالم أيها‬
‫العبد الصالح»‪ ،‬هذا إذا كان املائت متزوجاً وأما إذا كان متبت ًال فيحملون زهراً مختصة‬
‫باملتبتلني كتب عليها «نع ًام أنت يا أيها العبد الصالح»‪ .‬فحيثام يصلون إىل منزل امليت‬
‫يضعونه عىل اآللة((( وهي مزينة بأزهار كتب عليها الكلامت الخمس التي عرفتها‬
‫(وهي «الله» «املحبة» «الصدق» «العفة» «التواضع»)‪ .‬ثم يحمله قايض القضاة‬
‫بيديه ويساعده يف حمله كل القضاة‪ ،‬ويسريون به إىل املعبد األعظم وهم والعباد‬
‫ساكتون‪ .‬غري أنه يتقدمهم قايض يصيح بصوت جهوري له تأثري عظيم يف النفوس‬
‫ويقول‪« :‬أسعدنا يا ربنا كام أسعدت هذا العبد الصالح الذي تنقله إليك‪ .‬نسبحك‬
‫اللهم‬
‫اللهم ألنك جعلت موت األبرار بهجات لهم يبتهجون بها ويستبرشون‪ .‬نسبحك َّ‬ ‫َّ‬
‫اللهم‬
‫ونشكرك ألنك جعلتهم يستقبلون وجهك الكريم ويقولون يف حرضتك‪ .‬نسبحك َّ‬
‫ونحمدك ونشكرك ألنك أحببتنا فخلقتنا لنستحق املثول بني يديك الكرميتني»‪ .‬ثم‬
‫«اللهم انقلنا إليك وقربنا منك ال كرهاً بالزهرة وسكانها وعيشها بل تربكاً بك‪.‬‬
‫َّ‬ ‫يقول‪:‬‬
‫الزهرة مسكننا الذي نسكن إليه والسكان إخواننا الذين نأنس بهم والعيش طيب‬
‫ونحن مرغدون‪ ،‬فاجمعنا بني يديك لنشكرك عىل نعمتك بقدر استطاعتنا املستمدة‬
‫منك‪ .‬إننا عن شكرك لعاجزون»‪.‬‬
‫حينام يدخلون املعبد يضعون املحمول تحت الكلامت الخمس املكتوبة يف صدره‬
‫(كام سبق الكالم)‪ .‬ثم يصعد قايض القضاة إىل كرسيه ويقول بصوت مرتفع‪« :‬الله الله‬
‫يا مكافئ املحسن عىل حسناته بأحسن منها إنَّ عبدك (وهنا يذكر اسم امليت) البار‬
‫يسألك السعادة الدامئة يف مقر عرشك األقدس»‪َ ،‬ف ُي ْس َم ُع كالم فصيح بصوت رخيم‬

‫‪ 1‬ـ اآللة‪ :‬رسير امليت‪.‬‬

‫‪166‬‬
‫عن لسان الحق سبحانه وتعاىل وهو «يا عبدي الذي مل يلبس ثوب آدم ومل يتدنس‬
‫بسجن زحل‪ .‬يا عبدي الذي تفيض املحبة منه والذي يزهو بنور الصدق ويبهو بالعفة‬
‫ويتألأل بالتواضع‪ :‬إين آمر بأن تنتقل نفسك إىل الجنة العظيمة حيث عريش األقدس‬
‫لتقيم مع أخوتك األبرار يف راحة وسعادة دامئتني»‪ .‬وبعد هذا ينقطع الصوت والخلق‬
‫كلهم مطرقون خاشعون فتخرج النفس كأنها عصفور غاية يف الحسن والجامل‪ ،‬لونه‬
‫بني البياض الفيض والزرقة الالمعني‪ ،‬مكتوب عىل رأسه «الله» وعىل جناحه األمين‬
‫«العادل» وعىل جناحه األيرس «املكافئ»‪ .‬يراه الناظر صاعداً محفوفاً باألنوار وهو‬
‫اللهم ال‬
‫يشكر ويحمد ويسبح والحارضون يقولون‪« :‬يا ربنا انقلنا إليك وقربنا منك‪َّ .‬‬
‫تطل أيامنا يف الزهرة لنتمتع مبشاهدة وجهك الكريم»‪.‬‬
‫أما الصدى((( فيلقونه يف برئ كبرية‪ ،‬ثم يتفرق الجمع وهم يتمنون ألنفسهم ما‬
‫ظفر به فقيدهم الذي مل نره يتأمل دقيقة خروج نفسه‪ ،‬بل نراه يحمد ويشكر ويسبح‬
‫ويبتهل وهو مبتسم‪ ،‬كله رسور وحبور‪.‬‬
‫قال‪ :‬فإذا كان املائت من الذين أنزلهم الله تعاىل إىل األرض‪ ،‬أمر قايض القضاة‬
‫قايض املحلة أن مييض بعرشة من القضاة لحمل الرسير الذي ال يزين كله باألزهار‬
‫بل بعضه‪ ،‬فيذهبون ويف أيديهم باقات من الزهر كتب عىل كل زهرة منها «اذهب‬
‫«اللهم يا من أمرتنا بأن ال نرد سائ ًال إننا‬
‫َّ‬ ‫بسالم»‪ ،‬والقايض الذي يتقدم الرسير يقول‪:‬‬
‫عبادك الذين اعتصمنا بك ولجأنا إليك‪ ،‬والذين توكلنا عليك نسألك مب ّنك وفضلك أن‬
‫ال تنزلنا إىل األرض كام أنزلت هذا الذي أفسد يف الزهرة‪ ،‬فصلح بعد ذلك فأعدته‬
‫طاهراً نقياً يشكرك ويسبحك بكرة وعشياً‪ .‬اللهم قربنا منك وال تبعدنا عنك‪َّ .‬‬
‫اللهم‬
‫زدنا شوقاً إليك ورغبة فيك كام زدت هذا العبد بهجة ورسوراً بنقله إليك ليقف‬
‫اللهم إنه يرتجف من‬ ‫أمامك وهو مطرق خج ًال واستحيا ًء مام أثم وأفسد فيام مىض‪َّ .‬‬
‫هيبتك فاشدد قلبه وم ّتعه ببهاء من وجهك الكريم ليشكرك حق شكرك ويسبحك‬
‫متام تسبيحك فيسعد مبجدك األعظم وينعم بالراحة والسالم»‪.‬‬
‫فحينام يصلون إىل املعبد (غري املعبد األعظم) يضعونه تحت الكلامت الخمس‬
‫فيقول قايض القضاة‪« :‬إنَّ عبدك هذا (ويشري إليه) يسألك أن تنعم عليه بالسعادة‬
‫الدامئة حيث عرشك األقدس‪ ،‬فيسمع الحارضون ذلك الصوت القائل‪« :‬يا عبدي‬

‫‪ 1‬ـ الصدى‪ :‬الجسد من اإلنسان بعد موته وقد ذكر‪.‬‬

‫‪167‬‬
‫الذي مل يتدنس بسجن زُحل والذي رجع إيل فتبت عليه إين آمرك بأن تخرج نفسك‬
‫من جسدك وتذهب إىل الجنة العظيمة لتقيم مع إخوتك الصالحني يف راحة وسالم‬
‫دامئني»‪ .‬ثم تخرج النفس عىل هيئة عصفور أبيض مكتوبة عليه الكلامت الثالث التي‬
‫ذكرتها لك‪ ،‬فيعلو غري محفوف باألنوار وهو يشكر الله تعاىل ويسبحه تسبيحاً‪.‬‬
‫فلام فرغ والدي من كالمه قلت له‪ :‬أال تريد أن تعلمني كيف تكون حالة املحترض‬
‫يف األرض؟ فقال‪ :‬إنَّ االضطراب أو السكون اللذين يظهران عىل املدنف ال يدالن عىل‬
‫تأمله أو عدمه‪ ،‬ألنهام حالتان مالزمتان ومختلفتان باختالف العلة فتقويان وتضعفان‬
‫وتزيدان وتنقصان‪.‬‬
‫إال أنَّ الذي يتوب توبة صادقة عىل اعتقاد منه قوي متني‪ ،‬يؤثر ابتهاجه‬
‫العظيم (الصادر عن اعتقاده قرب السعادة) يف كل عضو من أعضائه تأثرياً ال‬
‫يجعله يشعر بأمل‪ .‬فإذا رأيته يضطرب ويقوم ويقعد فال تحسبه متأملاً متوجعاً‪.‬‬
‫والذي ال تكون توبته كاملة يتأمل غري أن تأمله أقل بكثري من توجع الطالح املحترض‬
‫ولو كان ساكناً تظهر عليه الراحة‪ ،‬فإنَّ األمل هنا ال يدل عىل االضطراب وال السكون‬
‫كام علمت‪.‬‬
‫ثم قال‪ :‬اعلم واعتقد أنَّ امليت يسمع كل قول ويعي ويظل عىل الوعي‬
‫والسمع ساعات وأنت وكل طبيب تحسبونه غري شاعر بيشء‪ .‬فيجب عىل أهله‬
‫وأقاربه أن ال يبكوه ويندبوه إال بعد ميض سبع ساعات عىل األقل‪ ،‬وأن ال يولولوا‬
‫ويعظموا فقده عىل زوجته وأوالده‪ ،‬وأن ال يذكروا سوء حالهم بعده إىل غري هذا‬
‫مام يؤمل امليت ويعذبه وهو ال يستطيع الحراك‪.‬‬

‫الفصل الخامس منه‬


‫_ يف األحزان _‬
‫قال والدي‪ :‬لقد علمت مام تقدم أنَّ سكان الزهرة ال يجزعون وال يحزنون بل‬
‫يهنئ بعضهم بعضاً ويفرحون عند املوت ألنَّ الحياة فيه‪.‬‬
‫أما أنتم يا أهل األرض فإنكم تحزنون الحزن الطويل الشديد عىل فقيدكم‬
‫وخصوصاً إذا كان صالحاً مع أنه نجا من العذاب ومىض إىل الراحة والسالم‪.‬‬
‫لقد أوثقتم نفوسكم بوثاق من عاداتكم فتنقادون بها إىل مصاعب األحزان‪،‬‬

‫‪168‬‬
‫وتكرهون عىل حفظ قواعدها وقوانينها ونظاماتها وموادها ومسائلها وقضاياها‬
‫ورشوطها إىل غري هذا من األثقال التي تحملونها فوق وسعكم‪.‬‬
‫إذا فقد أحدكم فقيداً شكا وبىك وعج وضج وصاح وأكرث الندب والنواح وحبس‬
‫نفسه يف بيته أياماً وليايل ال يأكل طيباً وال يرشب لذيذاً وال يلبس جديداً‪.‬‬
‫فإذا اشتهى طعاماً بنفسه امتنع عنه أو أكله رساً‪ .‬فإن ُقرع بابه وهو يأكل وارى‬
‫الطعام متلصصاً وإال عابه الناس وقالوا عنه هذا ال حاسة له‪ ،‬فال يحس بيشء وال‬
‫يشعر‪ ،‬فيالزم منزله كرهاً عنه حتى يذبل بعد نضارة ويضعف بعد قوة ويكسل‬
‫بعد نشاط‪ ،‬فرتاه حني يخرج من بيته كأنه ناقهٌ من مرض مزمن لكرثة تغريه‪ ،‬فيظن‬
‫(((‬
‫ناظروه أنَّ الحزن أنحله وأضناه وهم غري مصيبني يف ظنهم‪ ،‬فيا ليتهم يستبطنون‬
‫األمر ويعلمون أنَّ الذي أضناه هو حبسه وانقطاع أصحابه عنه‪.‬‬
‫وبعد خروجه ال يؤذن له أن يخالط ويصاحب أحداً‪ ،‬ألنَّ القاعدة تجربه عىل‬
‫الربوز من داره صباحاً والعود إليها من شغله مساء‪ ،‬فإذا أراد التنزه أبع َد كأنه غريب‬
‫انقطع عن أهله وعن العمران البرشي ألنه ال يجوز له أن يبرص الناس‪ ،‬أو كأنه‬
‫محكوم عليه بالحبس لي ًال وباالنفراد واالنزواء نهاراً‪ .‬أو بالتنزه يف الفلوات والقفار‬
‫مع الوحوش‪ .‬وهذه عادة حرمها الله تعاىل ألنه ال يريد بعباده إال خرياً‪ .‬فقد وضع‬
‫سبحانه لهم القوانني الصحية حفظاً ألبدانهم فكيف يسمح لهم بأن يعرضوها للعلل‬
‫واملخاطر؟ إنهم لفي غواية وإنهم يأمثون ويجنون عىل نفوسهم وهم غافلون‪ .‬إىل أن‬
‫قال‪ :‬لقد كان أجدادكم يجرون عىل مثل هذه العادات يوم كانوا ال يتزاورون‪ .‬يوم‬
‫كانوا يكرهون االختالط فيالزمون منازلهم‪ ،‬ال يظهرون للناس إال أوقات الصلوات‬
‫واألشغال فهم بالطبع محبوسون فيام خال هذه املواقيت فال تصعب العزلة ألنهم‬
‫نشأوا عليها‪ .‬فلو رجعتم إىل عادات آبائكم لكان لكم منها خري عظيم‪ .‬أما اآلن وقد‬
‫تغري عيشكم فيلزمكم أن تقلعوا عن كل عادة أمست مرضة بكم لكرثة اختالطكم‪.‬‬
‫انتبهوا من غفلتكم وال تسيئوا إىل نفوسكم وتضغطوا أبدانكم وأنتم تلومون العادات‬
‫القبيحة مع أنكم نبذتم أكرثها‪ ،‬فكيف تنبذون الحسنة منها ومتسكون بأهداب‬
‫السيئة وأنتم ال تقوون عىل الثبات؟ دعوها قبل أن تفلت أيديكم فتسقطوا‪.‬‬

‫‪ 1‬ـ استبطن األمر‪ :‬وقف عىل دخيلته‪.‬‬

‫‪169‬‬
‫ومن العادات التي ال لزوم لها وال اضطرار إليها الحداد(((‪ ،‬فتلبس املرأة لباس الحداد‬
‫وهي كارهة لها‪ .‬وال أعلم ماذا يريدون منها اليوم‪ .‬فإن كانت عالمة الحزن واالكتئاب‬
‫فلامذا يجعلونها تطابق الزي وتوافقه كسائر املالبس الصالحة للتزين والتربج‪ ،‬حتى‬
‫أمست غرامة عىل الذين يعرس عليهم تبديل ثيابهم لضيقتهم واحتياجهم إىل ما هو‬
‫أهم منها وألزم‪ ،‬مع أنَّ كثريين يتضجرون من الحداد ويتأففون؟‬
‫لقد رأيت كثريين يف األرض يذهبون إىل املالهي واملنتديات ويسمعون األغاين‬
‫وهم بثياب الحداد فامذا يبتغون من لبسها؟ إذا كانوا يريدون أن يعلموا الناس أنهم‬
‫فقدوا أحد أقاربهم فليعلنوا به يف الجرائد وعىل الجدران‪.‬‬
‫ومن العادات املستهجنة أنَّ كثرياً من البرش عندكم يعولون ويندبون ويقلقون‬
‫ويزعجون مع أنهم فرحون مبتهجون‪ .‬إين أشري عليكم وأنصحكم بل أحتم أن تقروا‬
‫وتسكنوا وتكفوا عن اإلعوال والولوال ألنهام يزعجان العباد ويرضان بكم‪ ،‬فإنَّ يف‬
‫القرار والسكون كرامة لكم‪.‬‬
‫لقد رأيت كثريين يف األرض من عقالء الناس وأذكيائهم غري املتينني ينوحون‬
‫نواح النوائح ويالزمون املناحة(((‪ ،‬ويرفعون أصواتهم كاملرأة السالقة((( ويتد ّعون‬
‫تد ّعيهن(((‪ ،‬ويعددون أمواتهم تعديداً ال يحسن صدوره منهم ويجمل نقله عنهم‪،‬‬
‫فاستخف بهم السامعون حتى نقصت منزلتهم عندهم أو كادت‪ .‬إنَّ الذي يجزع عند‬
‫امللمة جزعاً شديداً ويضج يستذله الناس وهو غافل عن نفسه‪ .‬فكتم األمل يوم الشدة‬
‫أصون للمرء وأكرم‪ ،‬والتأمل والتفجع من النازلة يبعثان الناس عىل التوجع‪ .‬فإذا توجع‬
‫لك عدوك أصابتك منه نازلة عظمى‪ ،‬فكيف ال يخفي العاقل البلية لينجو من أعظم‬
‫منها ويحفظ لنفسه كرامتها؟‬
‫فعىل العاقل أن يتقوى عند امللمة باملتانة والرسوخ وأن يتدرع عند جوالن الهموم‬
‫بالرزانة والرصانة‪ ،‬وأن يجتنب الحرسة عىل ما فات ويعلم أنه ال يدري ما يعمل وأنَّ‬

‫‪ 1‬ـ حدت املرأة وأحدت‪ :‬تركت الزينة والخضاب بعد وفاة زوجها املتوىف فهي حاد و ُم ِحد‪ .‬والحداد مصدر‬
‫حدت املرأة‪ .‬وثياب األتم السود‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ املناحة‪ :‬موضح النوح‪ .‬يقال كنا يف مناحة فالن‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ امرأة سالقة‪ :‬أي رافعة صوتها عند املصيبة أو الطمة وجهها‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ َت َدعَّت النائحة‪ :‬ط َّربت يف نياحتها عىل امليت‪.‬‬

‫‪170‬‬
‫النقادين واقفون له بطريقه‪ .‬واألجدر بالرصني السكوت فإنَّ فيه وقاراً‪.‬‬
‫ليزن نفسه دامئاً يف غمه وفرحه‪ ،‬ال يستخفه الطرب وال يستفزه الحزن‪ ،‬وعليه‬
‫أيضاً أن يجتهد ويقوي قلبه وأن يسرتشد ما استطاع ليدرك املصيبة ويقدرها حق‬
‫ليعلم أنَّ املصيبة تهجم‬
‫قدرها‪ ،‬لئال يكربها ويعظمها فيهلع ويدهش ويضطرب عقله‪ْ .‬‬
‫عليه كأنها الجبل العظيم ثم تصغر تدريجياً إىل أن تزول يف وقت قريب وهو يحسبها‬
‫تدوم‪.‬‬
‫ومن العادات املستهجنة واملستقبحة واملستكرهة يف األحزان تهافت كثريين من‬
‫أويل البطالة واملفاسد عىل الحزاىن باللوم والتنديد لتقصريهم فيام أوجبته عليهم‬
‫تعرض منكم ألمر ليست فيه مصلحتكم‬ ‫قواعد الحزن الضارة‪ .‬وهذا يا أيها الفضوليون ٌ‬
‫وال تتعلق به حقوقكم‪ ،‬فإنهم أدرى بشؤونهم وأحق من سواهم بتقديرها وإعطائها‬
‫ما وجب لها‪ ،‬فيفعلون األوفق لهم واألخلق بهم ويختارون لنفوسهم ما يناسبهم ال ما‬
‫يناسبكم أنتم الفظاظ الجفاة الذين خلت قلوبهم عام يشغلها فشغلوها بالحزن‪ .‬فيا‬
‫حبذا لو اشتغل كل منهم بنفسه وبحث عن نقائصها وعام قبح فيها فاجتنبها فيصلح‬
‫الناس كلهم يف أعاملهم‪ ،‬فيكفون عن التقبيح واالغتياب وعام ال يعينهم من كل أمر‪.‬‬
‫فإذا كفوا اجتمعوا عىل كلمة واحدة وتضافروا وتعاونوا عىل خريهم ونجاحهم وج ّدوا‬
‫يف سبيل تقدمهم وعمرانهم فيسعدون السعادة األرضية بعد شقائهم وينعمون‪.‬‬
‫عىل الرجل العاقل كلام رأى يف خلقه ما ال ينطبق عىل أخالق الناس أن يجتهد‬
‫يف تطبيقه ليوافقها‪ .‬فإذا وافقها دخل بينهم َو ُع َّد منهم‪ ،‬في ّكف عنهم فيقربونه إليهم‬
‫ويؤانسونه مؤانسة تطبب بها نفسه‪ ،‬هذا إذا مل يفيدوه عل ًام وماالً‪.‬‬

‫‪171‬‬
172
‫الباب الثامن‬

‫‪173‬‬
174
‫الفصل األول من الباب الثامن‬
‫_ يف وجود الله تعاىل وخلقه الخلق _‬
‫ملا وصل والدي إىل هنا قال‪ :‬إذا أردت أن تستفيد فسل عن كل ما تريد‪ ،‬فقلت له‪:‬‬
‫ما الحجج الدامغة والرباهني املقنعة عىل وجود الله سبحانه وتعاىل وخلقه الخلق؟‬
‫فقال‪ :‬اعلم أننا ال نشك يف وجوده َّ‬
‫جل جالله ألننا نراه بعقولنا وقلوبنا‪ .‬وأما أنتم‬
‫فكيف تلفت أحدكم وحيثام اتجه وأىن تحرك رأى ضعفه وقوة الطبيعة القاهرة‪.‬‬
‫رأى أشياء كثرية من أشياء أكرث منها ال عدد لها هي أعظم منه وأقوى عىل ما به من‬
‫العظمة والقوة‪ .‬رأى ذله ورأى عجزه‪ .‬رأى ما ال يقوى عىل تصوره‪ ،‬رأى ما هو فوق‬
‫مداركه‪ ،‬رأى ما ترتعد له الفرائص فيدهش فيسقط فيستغيث مبا يرى إقراراً منه‬
‫باقتدار كل ما يرى‪ .‬كأنه يشعر من نفسه باقتدار قادر‪ ،‬بل يشعر حقيقة بوجوده‬
‫فيسميه القادر املوجد‪.‬‬
‫إذا تأمل الكائنات العظيمة املدهشة وما يختص بها من األعامل الغريبة املختلفة‬
‫واملتباينة يف أحوالها وشؤونها وغاياتها مع انتظام حركاتها وسكناتها‪ ،‬بحيث أنها إذا‬
‫طرأ عليها خلل جزيئ خربت خراباً‪ ،‬فتكاد تقف حركة عقله من دهشه وعند ذلك يقر‬
‫شاء أو أىب بوجود مكون مدبر‪ .‬فإذا وصل إىل هنا وال ب َّد له من الوصول اضطر بحكم‬
‫القياس إىل اإلقرار أيضاً بأنَّ ذلك القادر املوجد املكون املدبر الذي أوجد الكائنات‬
‫العظيمة‪ ،‬يقدر بالطبع عىل خلق اإلنسان الحقري بالنسبة إليها‪ ،‬وعىل خلق الحيوان‬
‫بطبائعه املختلفة عىل ما به من القوة الطبيعية املدركة املحافظة عىل أنواعها الواقية‬
‫لها من الدمار واالضمحالل‪ .‬وهو أي ذلك اإلنسان ال يقوى عىل خلق أحقر بعوضة‬
‫فيكرر إقراره بعجزه وبوجود قوة خالق عظيم‪.‬‬
‫ْ‬
‫ليرتك كل يشء يف اإلنسان والحيوان وال ينظ ْر يف كل تراكيبهام وال يتأمل الفرق‬
‫الكائن بني الذكر واألنثى مع اختالف طبيعتهام وميلهام‪ ،‬بل لينظ ْر فقط إىل العني‬
‫البارصة ويطيل ويدقق يف تركيبها فيدهش أيضاً ويقر بقوة صانع عجيب‪.‬‬
‫لينظر يف النبات واختالف طبائعه وخاصياته فيدهش أيضاً ويقر بوجود مبدع‬
‫حكيم‪ .‬فهذا القادر املوجد الكون الخالق الصانع املبدع الحكيم هو واحد وهو‬
‫الله تعاىل‪.‬‬
‫ال ب َّد لإلنسان القوي املدارك النبيل الغاية الخايل من األهواء التي تدعوه إىل‬

‫‪175‬‬
‫العناد واملكابرة من اإلقرار بوجود الله تعاىل تقدست أسامؤه‪ ،‬ال بل ال ب َّد لإلنسان‬
‫النبيه الذيك مهام كان جاحداً منكراً مكابراً من اإلقرار بوجود الله تعاىل ولو بعد حني‪.‬‬
‫ما مثل الذي ينكر وجود الله إال مثل الذي ينكر وجود نفسه يف الحياة‪ .‬ال ينكر‬
‫وجود الله تعاىل إال من به جنون التأله‪ .‬إنَّ اإلنسان دون هذا الكون بل هو من‬
‫فضالته فكيف يجعل نفسه فوقه ويريد أن يجعله خاضعاً ملداركه‪.‬‬
‫من ع ّلم الناس أن ينكروا وجود الله تعاىل فهو عدو لهم مبني تعمد اإلخالل بنظام‬
‫الكون واملجتمع اإلنساين‪.‬‬

‫الفصل الثاين منه‬


‫_ يف األديان _‬
‫وقلت‪ :‬أريد أن تعلمني أي دين من األديان هو األفضل‪ ،‬فقد رأيت ك ًال يعظم‬
‫جل وعال وحب الخالئق‬ ‫دينه ويفضله عىل غريه‪ .‬فقال‪ :‬كل دين يع ّلم حب الله ّ‬
‫بعضها بعضاً‪ ،‬ويع ّلم أيضاً اجتناب املعايص واآلثام‪ ،‬هو مقبول بالطبع عند الله ّ‬
‫جل‬
‫جالله‪.‬‬
‫ثم قال‪ :‬اعلم أنَّ األديان من حيث التعليم واإلرشاد سواء‪ ،‬وما اختلف منها عن‬
‫اآلخر فقد روعي به الزمان واملكان وأحوال الناس وعيشهم ومداركهم وعاداتهم‬
‫وطبائعهم وميلهم‪ .‬فمن عمل صالحاً منكم واجتنب املعايص ومناهي الرشع فقد‬
‫صلح وخلص وال شك يف هذا‪.‬‬
‫وقال أيضاً‪ :‬إنك تعلم أنَّ الله عز وجل أراد بالدين أن يعيش خلقه يف راحة وسالم‪،‬‬
‫ال يتعادون وال يعتدون وال يفسدون‪ ،‬فكيف والحالة هذه يجوز لنا أن نحكم بهالك‬
‫رجل صالح مطيع لله تعاىل يف جميع أحكامه‪ ،‬إذا كان غري متدين بديننا؟ أمل يكن الله‬
‫سبحانه وتعاىل رحي ًام عادالً يريد من اإلنسان قلبه؟ ماذا ينفعني ديني إذا كان قلبي‬
‫غري نقي طاهر وغري منزه عن الرذائل؟‬
‫إذا وجد أحدكم رج ًال صالحاً ليس عىل دينه وجب عليه أن يحرتمه وأن يتعظ‬
‫بصالحه ويقتدي بتقواه‪ ،‬ووجب عليه أيضاً أن يحبه محبة عظيمة ألنه يعمل بأمر‬
‫الله سبحانه وتعاىل‪ ،‬وعليه أن يثق به ألنه صالح تقي مثله يف الصالح وألنه يوافقه وال‬
‫يخالفه يف اجتناب املحرمات‪.‬‬

‫‪176‬‬
‫ماذا أبتغي من املتدين بديني والذاهب مذهبي إذا مل يكن عىل صالح؟ ماذا‬
‫أبتغي منه وهو يؤذيني ويرضبني ويرتقب عثاري؟ أال أفضل عليه ذلك الصالح‬
‫الساعي وراء خريي ونجاحي الذي إذا عرثت أخذ بيدي ودرأ عني الشبهات وهو ليس‬
‫عىل ديني؟ أي االثنني أفضل‪ :‬هل هذا النافع الصالح الذي تسميه بالكافر‪ ،‬الخائف‬
‫الله تعاىل الزاهد يف املالهي‪ ،‬الراغب عن لذاتها‪ ،‬الواقف نفسه عىل خدمة بني‬
‫اإلنسان‪ ،‬املجتهد يف تخفيف ويالته ومصائبه‪ ،‬املحسن إليه واملتصدق عليه واملعتكف‬
‫عىل عبادة الله تعاىل بالطاعة وحسن الصرب‪ ،‬أم ذاك الطالح العايص القاتل الذي‬
‫النمم املحتال؟ كيف تسمي‬ ‫تسميه مؤمناً‪ ،‬املنقطع يف الحانات‪ ،‬املقامر اللص الزاين ّ‬
‫هذا مؤمناً وذاك كافراً؟ أمل يخلق لك الله عز اسمه عق ًال لتميز به الخري من الرش؟ فإن‬
‫قلت‪ :‬هذا األثيم ال أعده مؤمناً ألنه ليس فيه صالح املؤمنني‪ ،‬فأقول وماذا تعد ذاك‬
‫شك يف أنَّ قلبك يحكم‬‫الذي تدعوه كافراً وقد رأيت فيه صالح املؤمنني؟ أجبني‪ .‬ال َّ‬
‫حاالً بأنه أفضل من الذي تدعوه مؤمناً‪ ،‬ولكنك ال ترصح خوفاً من جامعتك عىل‬
‫زعمك‪ ،‬وهذا الخوف ناشئ عن جهلك‪.‬‬
‫ن ّزه قلبك وعقلك ولسانك عن االعتساف والفخفخة اللذين ال يكون معهام عدل‪.‬‬
‫احكم بعد ذلك فتعدل وتنصف‪ .‬قل يل‪ :‬أبعد هذا يسمح لك لسانك بأن تسمي‬
‫الصالح كافراً؟ إين أقول عنك ال‪.‬‬
‫إنَّ كلمة الكافر التي ألفت لفظها فهانت عليك تجرح قلوباً مؤمنة كثرية ال تعلم‬
‫بها‪ .‬رمبا لو راعيتها أو تركتها نفعتك وحافظت عليك‪ .‬إنَّ هذه الكلمة تورث قائليها‬
‫محناً وباليا ورزايا وهم ال يعقلون‪.‬‬
‫ال يستغني أخ عن أخيه وال قريب عن قريبه وال جار عن جاره وال إنسان عن‬
‫إنسان مثله‪.‬‬
‫يجب عىل البرش أن يجمعوا ويتحدوا ليتشاركوا يف املنافع التي تزداد منواً كل يوم‬
‫بحسن التساعد والتعاون‪ ،‬ولكن كيف يتم هذا لكم يا أيها الذين ينظرون ولكنهم‬
‫ال يبرصون؟ كيف السبيل إىل هذا‪ ،‬والتحزب الديني يجر عليكم الرش‪ ،‬ومينعكم من‬
‫الخري؟ كيف الوصول إىل هذا الخري القريب منكم؟ إنه بني أيديكم فلامذا تستبعدونه؟‬
‫ْ‬
‫وأدرك‬ ‫ما هذا الجهل؟ ما هذا الحمق؟ أمل تعتربوا بغريكم؟ أال تقتدون بسواكم؟ ْ‬
‫اعقل‬
‫يا هذا أنَّ الدين وجد لخري إنسان ونفعه‪ ،‬فكيف تجعله لرضرك وتعاستك وتعاسة‬
‫اقلع عن تغفلك واعلم أنَّ كل مرض يجب اجتنابه‪،‬‬ ‫غريك بتحزبك وجهلك وبالهتك؟ ْ‬

‫‪177‬‬
‫فلامذا ال تجتنب هذا االعتساف الذي ال يرضك غريه‪ ،‬والذي أجمع الناس عىل أنه‬
‫مرض؟‬
‫أقول‪ :‬إذا عودتم نفوسكم كره من ليس عىل دينكم فقد علمتموها البغض‬
‫فيتمكن منكم حتى إنكم تبغضون من يتدين بدينكم أيضاً وأنتم ال تدرون‪.‬‬
‫إنَّ البغض يرسخ يف القلب فيصري فيه طبعاً وغريزة‪ ،‬فيصبح ومييس عىل البغض‬
‫من غري أن يستثني أحداً‪ ،‬وال عجب يف هذا فإنَّ اإلنسان ابن العادة‪.‬‬
‫لقد رأيت وسمعت كثريين يخاطبون باألنفة والكرب والرتفع مفخفخني مدعني‬
‫بأنهم يرشفون بدينهم‪ ،‬فال يجوز لهم أن يكرموا من مل يكن عليه‪ .‬فأقول لهم إنَّ‬
‫الرشف ال يكون رشفاً إال إذا كان صعب املنال‪ ،‬ال يحصل عليه وال يوصل إليه إال بشق‬
‫النفس‪ ،‬مع أنَّ دينهم غري ممتنع عىل أحد‪ .‬فيه الرفيع والوضيع والعظيم والحقري‪ .‬من‬
‫قال لهم أنا عىل دينكم ضموه إليهم حاالً‪.‬‬
‫فإن قالوا‪ :‬إنَّ الله تعاىل جعل الرشف بديننا دون غريه‪ ،‬وإن كان قريب املنال غري‬
‫ممتنع عىل أحد‪ ،‬ولكن هذا الرشف ال يظفر به إال من كتبت له السعادة وأراد الله‬
‫تعاىل به خرياً‪ .‬فأقول لهم‪ :‬إنَّ الناس عند الله سواء‪ ،‬ال يفضل عبداً عىل عبد إال بأعامله‬
‫الصالحة‪ .‬وإنَّ الله تبارك وعال يريد بجميع عباده خرياً فالعظيم عظيم ولو بخسه‬
‫بعض الجاهلني حقه‪ .‬أمل تعلموا أنَّ الجاهلني ال يدركون؟‬
‫إين رأيت املتحزب مكروهاً يتأخر كل يوم‪ .‬إنَّ املتحزب يكره الناس دينه وأما‬
‫املتودد فإنه يرغبهم يف دينه‪.‬‬

‫الفصل الثالث منه‬


‫_ يف توحيد األديان _‬
‫وقلت لوالدي‪ :‬أمن املمكن توحيد األديان فينجو البرش من الويالت والرزايا التي‬
‫تنجم يف كل زمان ومكان عن التفرق واالختالف؟ فقال‪ :‬إنَّ الله تعاىل أمر األنبياء‬
‫تم ما جاء يف الكالم عن «الحروب واملذابح‬ ‫والرسل أن يتوافقوا يف تعاليمهم‪ .‬فإذا َّ‬
‫والفظائع»‪ .‬فالتوحيد ممكن‪ ،‬غري أنه ال ب َّد بعد ذلك من تأليف مجمع عام يجمعون‬
‫فيه عىل تعظيم وتبجيل األنبياء والرسل‪ ،‬ثم يتفقون عىل تلخيص عادل ينظر فيه إىل‬

‫‪178‬‬
‫أحوال الزمان وتقلباته يف كل وقت‪ ،‬فيعبد الناس كلهم الله تعاىل بكلمة واحدة حال‬
‫كونهم يعبدونه وهم متفرقون متشتتون‪ ،‬فهل يختلف أحد يف تفضيل االجتامع عىل‬
‫التفرق والوفاق عىل الخالف والقوة عىل الضعف؟‬
‫ً‬
‫فإذا فاز اإلنسان بهذه البغية صارت األرض مواسم وأعيادا‪ ،‬حيث يكون قام‬
‫اإلصالح العام ودخل الناس يف طور جديد أدركوا به أنهم من أب واحد وأم واحدة‪،‬‬
‫وأنهم ال ريب عشرية واحدة منت حتى مل تسعها بقعة واحدة فتفرقوا اضطراراً‪،‬‬
‫يجمعهم دين واحد ولغة واحدة وكلمة واحدة وعادات غري متباينات إن شاء الله‬
‫تعاىل وما هذا عىل كرمه ببعيد‪.‬‬
‫فانتبهوا يا أيها البرش وتعقلوا وأدركوا أنكم قادرون عىل راحتكم وراحة أوالدكم‪،‬‬
‫وأنكم قادرون أن تخلصوا من عذاب أليم‪ ،‬فريث هذا الخالص أبناؤكم وتخلدون لكم‬
‫ذكراً سعيداً دامئاً‪ .‬واعلموا أنكم إذا أقدمتم ساعدكم الله تعاىل وقواكم وأرشدكم‪ .‬فمن‬
‫أحب فليقدم وليساعد‪.‬‬

‫الفصل الرابع منه‬


‫_ يف قولهم لو كانت األديان كلها من الله تعاىل‬
‫ملا اختلفت يف االعتقاد _‬
‫وقلت لوالدي‪ :‬يقولون لو كانت األديان كلها من الله تعاىل ملا اختلفت يف االعتقاد‬
‫وتباينت يف التعاليم‪ .‬فقال‪ :‬إنَّ أساس الدين ودعامته الكربى‪ ،‬بل الدين نفسه هو أن‬
‫يحب الخلق الله سبحانه وتعاىل وأن يتحابوا‪ ،‬وأن يكفوا عن اآلثام ليعيشوا يف راحة‬
‫وسالم‪ .‬وكل دين من األديان مؤسس عىل املحبة واجتناب الكبائر واملعايص‪ .‬فاألديان‬
‫إذاً يؤيد بعضها بعضاً وال تتخالف كام تقدم القول‪.‬‬
‫أما االختالفات التي يشريون إليها فليست بأساسية طبيعية بل هي وضيعة‪ ،‬يحق‬
‫لكل نبي ورسول ولكل حكيم وضعها ليهذب بها أمته ويحفظ لهم صحتهم‪.‬‬
‫فلام تسامى البرش رغبوا فيام بعد يف الجنة وسعادتها‪َ ،‬و ُهددوا بجهنم وعذابها‪،‬‬
‫ومن املقرر أنَّ هذا كله يراد به خري بني اإلنسان‪ ،‬ولذلك يتأمل النبي أحوال قومه‬
‫واستعدادهم ومنزلتهم من العقل‪ ،‬ويختار لهم الطريقة الفضىل ولو كانت يف الظاهر‬

‫‪179‬‬
‫مباينة غريها من طرائق األنبياء إال أنها يف الباطن ويف الحقيقة ليست إال موافقة‪.‬‬
‫فزعمهم أنَّ األديان متباينة خطأ ال يدركه إال أولو البصائر‪.‬‬
‫إنَّ النبي حكيم وطبيب‪ ،‬فكام أنَّ الطبيب مداوي األبدان يداوي مث ًال خمسة‬
‫من املرىض املصابني بعلة واحدة يف وقت واحد‪ ،‬ويصف لكل منهم دواء غري الذي‬
‫وصفه سواه مراعياً بذلك اختالف أبدانهم وأمزجتهم وتربية بالدهم وهوائهم ومائهم‪،‬‬
‫فكذلك النبي فإنه يداوي النفوس واألجساد معاً باألدوية التي هي أنجح من غريها‬
‫وأنفع‪ ،‬فتنوعها ال يسمى تخالفاً يف الحقيقة ما دامت العلة واحدة‪ ،‬وإمنا الرايئ يرى‬
‫بحسب الصورة الظاهرة أنَّ هذا الخالف الذي يراه واقع يف املادة املنظورة إال أنَّ‬
‫الغاية الجوهرية املقصودة هنا واحدة‪ ،‬وهي فعل الدواء وتأثريه ليحصل بها الشفاء‬
‫تم وحصل‪.‬‬ ‫وقد َّ‬

‫الفصل الخامس منه‬


‫_ يف قول بعضهم َّإن األديان قوانني وضعها عقالء البرش _‬
‫وقلت لوالدي‪ :‬يقول بعضهم إنَّ األديان قوانني وضعها العاقلون غري مقرين‬
‫باألنبياء والرسل‪ .‬فقال‪ :‬لو تأمل اإلنسان حكمة كل نبي ورسول التي تفوق مدارك‬
‫قومه‪ ،‬وإذا دقق يف تعاليمهام السامية وغايتهام الرشيفة منها‪ ،‬وما يصدر عنها‬
‫من الفوائد العائدة عىل اإلنسان بالخري والراحة‪ ،‬ونظر يف معانيها التي هي أرقى‬
‫وأعىل من معاين قومه بكثري مع أنه منهم‪ ،‬وإذا حقق يف حالة ذلك النبي والرسول‬
‫وعيشهام وزهدهام ونسكهام وفقرهام وصربهام عىل املكاره والتعذيب وعىل القتل‬
‫واالستشهاد؛ أقر بأنَّ فيها «حكمة» «قوة» «روح» «محبة» متتاز عام يف اإلنسان امتيازاً‬
‫غريباً عجيباً‪ ،‬امتيازاً أعىل من تصور البرش‪ ،‬فهذا اإلقرار بقوة النبوة والرسالة‪.‬‬
‫رأينا كثرياً من امللوك امتازوا عن البرش‪ ،‬نعم امتازوا وفاقوا ألنهم كانوا مختارين‬
‫يف الزهرة كام علمت‪ ،‬غري أنهم كانوا راغبني يف العظامت واألبهات ويف حب التسلط‬
‫والتملك بخالف النبي والرسول (يف األكرث) مع أنهام بالنظر إىل امتياز مداركهام‬
‫وحكمتهام كان يهون عليهام أن يرأسا قومهام ويفتحا املاملك العظيمة ويعيشا ملكني‬
‫من أعاظم امللوك‪ .‬غري أنهام احتقرا املجد وزهدا يف كل يشء ووقفا نفسيهام عىل‬
‫محبة البرش‪ ،‬وهذا أمر يفوق الطبع البرشي ألنَّ كل يشء ممكن ما خال السامح‬

‫‪180‬‬
‫والرىض بسفك الدم فداء وتضحية عن املحبة التي ليس فيها بالطبع فائدة حسية‬
‫تعوض للمسفوك دمه‪.‬‬
‫ً‬
‫نعم إننا رأينا يف الناس من يعرض نفسه للهالك أمال منه بنجاة رشيفة ترفع‬
‫منزلته فيدرك بها املعايل‪ ،‬بخالف النبي فإنه زهد فيها وابتعد عنها ألنَّ غايته رشيفة‬
‫سامية أرشف وأسمى من تلك الغاية‪.‬‬
‫فهذه املحبة الفائقة املجردة عن رغبة يف فائدة ومقصد ينتفع بهام يف األرض‪،‬‬
‫ليست مبحبة برشية أرضية تصدر عن قوة إنسانية وحالة إنسانية وغاية إنسانية‪ ،‬بل‬
‫هي ال تصدر إال عن قوة عالية سامية إلهية يؤديها الله سبحانه وتعاىل‪.‬‬
‫حيث أنك أقررت بالنبوة والرسالة وجب عليك أن تتبع أوامرهام وتثق بهام ألنهام‬
‫ال محالة من الله تعاىل كام علمت‪.‬‬

‫الفصل السادس منه‬


‫_ يف املجوسية والوثنية _‬
‫وقلت لوالدي‪ :‬ما رأيك يف املجوسية والوثنية ونحوهام؟ فقال‪ :‬هي عبادات‬
‫ورشائع مدنية وضعها الفالسفة والحكامء ليكفوا بها الناس عن اإلرضار وعن التعرض‬
‫للقوة الحاكمة التي كان للكهنة فيها التأثري األعظم‪.‬‬
‫وقد كان من املمكن أن تفيد تلك العبادات والرشائع لو مل تختلط باألباطيل‬
‫والخرافات التي أضافها أولو املآرب‪ .‬ومل تزل تنحط مع توايل السنني حتى صارت‬
‫وثنية محضة‪.‬‬
‫وقد كان قصد واضعيها أن يعبد البرش الله تعاىل ليكفوا عن املعايص‪ .‬غري أنَّ‬
‫الشعوب القدمية مل تكن تؤمن إال مبا يقع تحت حواسها‪ .‬فقالوا لها مث ًال إنَّ الشمس‬
‫قوية عظيمة نحيا بها ونعيش ألنه لوال حرارتها لهلكنا ومل تخرج األرض نباتها‪ .‬وقالوا‬
‫أيضاً هي الشمس مكرمة عند الله تعاىل لعظمتها كام ترونها وإال مل يخلقها عظيمة‬
‫فيلزمنا أن نطلب منها التوسط بيننا وبينه تعاىل وأن تشفع فينا إليه‪ .‬فطلب اإلنسان‬
‫منها أوالً ثم سألها ثم التمس ثم استغاث ثم توسل ثم عبد‪ .‬وهكذا كانوا يدخلون‬
‫يف عبادة األوثان‪.‬‬

‫‪181‬‬
‫أما املحكوم عليه بالزهرة أن يعيش بني أولئك األمم فإن عاش صالحاً خلص‬
‫بصالحه وإن عاش طالحاً حكم عليه بحسب تلك الرشائع التي كان خاضعاً لها‪ .‬وأما‬
‫الذي ولد يف أماكن ال دين فيها وال رشائع فيخلص بصالحه إن عاش صالحاً‪ ،‬وإال‬
‫فيحكم عليه بقدر إدراكه فإذا أثم وكان ال يقدر اإلثم عذر‪ ،‬والله سبحانه وتعاىل‬
‫رؤوف بعباده‪.‬‬

‫الفصل السابع منه‬


‫_ يف التقمص _‬
‫وقلت لوالدي‪ :‬ما هو التقمص وما رأيك فيه؟ فقال‪ :‬لقد ذهب بعض البرش‬
‫عندكم إنه إذا خرجت روح اإلنسان من األرض غري مربرة أدخلت بعد خروجها من‬
‫جسم اإلنسان يف جثامن حيوان عقاباً لها‪ ،‬وهذا املذهب مل يقل به األكرثون‪ ،‬إال أنَّ‬
‫الذين قالوا به أرادوا أن يهددوا الناس ويخوفوهم‪ ،‬ألنه يكره لديهم أن تحل أرواحهم‬
‫يف جسوم الحيوان وأرادوا أيضاً أن يصونوا الحيوان من جور اإلنسان رحمة منهم‬
‫فريفق به ويحسن إليه‪.‬‬

‫الفصل الثامن منه‬


‫_ يف التشاؤم _‬
‫وقلت لوالدي‪ :‬ماذا تقول يف التشاؤم؟ فإين أرى كثريين يعتقدون إىل يومنا هذا‬
‫أنَّ الدار الفالنية مشؤومة‪ ،‬فمن أقام بها مات أو خرج منها مفلساً أو مصاباً بولده أو‬
‫بزوجته مث ًال أو توالت عليه املصائب وتتابعت النوائب‪ .‬فقال‪ :‬هذه أباطيل وخرافات‬
‫نهى الله تعاىل عنها‪ ،‬وقد ردها العقل السليم ألنَّ النوب التي تنتاب البرش مل تخصص‬
‫لها أماكن لالنتياب‪ .‬فال ب َّد والحالة هذه من أن تصيب الناس وهم بديارهم التي‬
‫يأوون إليها‪ ،‬فإذا تكررت املصيبة فليس من الحكمة أن تتطريوا منها وترموها بالشؤم‪.‬‬
‫إننا ال نتشاءم يف الزهرة وال نعتقد أنه من املمكن أن يشأمنا أحد وال نعرف‬
‫الشؤم‪.‬‬

‫‪182‬‬
‫أما مصدر هذه الخرافة فهو أجدادكم األولون‪ ،‬أولئك القبائل الرحل الذين كانوا‬
‫إذا ضاقت عليهم أرضهم أو أمحلوا وأجدبوا رحلوا وأخذوا ينتجعون(((‪ ،‬فإذا اضطروا‬
‫إىل النزول بأرض قليلة الكأل رديئة املاء خبيثة الهواء هلكت أموالهم وفني زادهم‬
‫وافتقروا وأصيبوا بكثري منهم ومن مواشيهم لسوء عيشهم وجهلهم‪ ،‬فريحلون وقد‬
‫أشاعوا يف حلهم وترحالهم أنَّ تلك األرض مشؤومة‪ .‬وبالعكس فإنهم إذا أصابوا أرضاً‬
‫كثرية املراعي والغدران طيبة املاء والهواء طابت نفوسهم وسمنت مواشيهم ومنت‬
‫فيقولون هذه أرض مباركة‪.‬‬
‫ً‬
‫فقلت ‪ :‬يعتقد بعضهم أنَّ من أنشأ دارا من مال الظلم كانت مشؤومة عليه‪.‬‬
‫فقال‪ :‬ال يبعد كثرياً أن يكون كذا ألنَّ الله تعاىل قد يعاقب يف األرض أيضاً ويسمى هذا‬
‫العقاب «العقاب األريض اإلضايف»‪ ،‬وهو أيضاً العقاب الذي يكون من نفس العمل‪.‬‬
‫ولكن الدار ال تكون مشؤومة عىل غري منشئها‪ ،‬وهذا ال يعد شؤماً بل عقاباً‪ ،‬إال أنَّ‬ ‫َّ‬
‫الله تعاىل ال يعاقب باملوت يف األرض ألنَّ مدة اإلنسان بها يعينها يف الحكم وهو إذ‬
‫ذاك بالزهرة‪.‬‬
‫فقلت له‪ :‬إذا كانت مدة اإلنسان معينة كام أبنت‪ ،‬أي ال تزيد وال تنقص‪ ،‬فال‬
‫فائدة من التطبب‪ .‬فقال‪ :‬إنَّ التطبيب ال يدفع املوت‪ ،‬وقد وضع الله تعاىل وصايا‬
‫لحفظ الصحة (هي الطب الشايف) ليك يكون اإلنسان معاىف يف مدته املعينة‪ .‬غري أنه‬
‫يستثنى العقاب األريض املوقوت والعاجل‪ ،‬فالذي يجر العلة عىل نفسه بعدم تحفظه‬
‫ومبكابرته يف عدم هربه فترسي إليه وترض به فيعاقبه الله هكذا‪ .‬فتنبه أنَّ الله‬
‫تعاىل يعلم بسابق علمه أنَّ أهايل مدينة كلكتا مث ًال يعرضون نفوسهم ونفوس غريهم‬
‫لتهلكة الوباء وهم ال يكرتثون له وال يدققون يف منع العدوى‪ ،‬فيميت حينئذ كثرياً‬
‫منهم لينتبه املقيمون مبدن أخرى‪ ،‬فيقل املوت‪ ،‬وبذلك تتم م َّدات املعاقبني املقيمن‬
‫باألرض‪ .‬أما أولئك الذين أميتوا فهم األوىل‪ ،‬انتهت مدتهم املعينة لهم والذين عفا الله‬
‫تعاىل عنهم وخلصوا من عذاب األرض‪.‬‬
‫وقال‪ :‬ومن هذا القبيل يعاقب الله تعاىل أيضاً باملرض يف بعض األحيان‪ .‬مث ًال إنَّ‬
‫زيداً وخيم والوخامة ترض به وترض غريه وهو ال يريد النظافة وقد أمر بها‪ ،‬فيعاقبه‬
‫الله بنفس عمله وذلك أن يسمح مبرضه املوقوت تنبيهاً له ويعجل دواءه النظافة أي‬

‫‪ 1‬ـ تنجع القوم وانتجعوا‪ :‬ذهبوا لطلب الكأل وهو العشب‪.‬‬

‫‪183‬‬
‫املنظفات واملطهرات فيتعظ به غريه‪ .‬أما حفظ الصحة بتناول بعض العقاقري املختربة‬
‫فمفيد كام مر بك‪.‬‬

‫الفصل التاسع منه‬


‫_ يف املعتوهني واملشعوذين _‬
‫وقلت لوالدي‪ :‬ما تقول باملعتوهني والبله؟ فقد رأيت كثريين من الناس يكرمونهم‬
‫تكريم أويل الكرامات واملعجزات‪ .‬فقال‪ :‬إنَّ العقالء واألتقياء ذوي املحامد واملناقب‬
‫أمروا من قديم الزمان بإكرام هؤالء املساكني والرفق بهم رحمة لهم‪ .‬فزعم بعض‬
‫الذين طابت رسيرتهم أنَّ يف كل واحد منهم رساً من أرسار النبوة‪.‬‬
‫ولوال هذا الزعم منهم لقست قلوب كثريين عىل هؤالء القارصين فأهملوا‬
‫وظلموا باإلهامل‪ ،‬ألنهم عاجزون ال يستطيعون أن يحصلوا عىل قوت يومهم‪ .‬غري‬
‫أنهم ليسوا عىل يشء من الكرامات‪.‬‬
‫أما الذين يعتدون عىل الناس ويأتون املنكر يف األزقة والشوارع فهم غري مدركني‪.‬‬
‫احذروا املشعوذين واملفائلني((( الدجالني املموهني املدعني علم الغيب ليستعينوا‬
‫به عىل كسبهم خدعة منهم‪ ،‬فإنهم يضلون ويغوون من صفت نيتهم ويسلبونهم‬
‫أموالهم بادعائهم علم الكيمياء‪ ،‬أي إنهم يحولون بعض املعادن إىل بعض وعىل‬
‫الخصوص جعل النحاس ذهباً‪.‬‬
‫ولقد رأيت منهم فسقة ظاملني يستخلون املغفالت ليخرجوا لهن الكنوز عىل‬
‫وجوههن فإذا خلت لهم األماكن سطوا عليهن لعنهم الله‪.‬‬
‫ال يعلم الغيب أحد يف األرض وال يعلم أين األركزة أي الخبايا املدفونة‪ .‬فإذا ُنقِل‬
‫إليكم أنَّ رج ًال من أولئك الدجالني أصاب يف يشء فقولوا إذا صدق النقل تلك حيلة‬
‫استنبطها ليخدع بها أو مصادفة عرف مبكره ودهائه كيف يستفيدها‪.‬‬
‫ولك دليل عىل بطالن تلك األباطيل والرتهات هو أنها ال تروج وال تكرث إال بني‬
‫املساكني الذين غلبت عليهم سالمة الصدور يف الجهات التي مل يزل الجهل ضارباً‬
‫بها خيامه‪ .‬فكلام تنورت األمة بأنوار العلوم واملعارف واتسعت مداركها نبذت تلك‬

‫‪ 1‬ـ املفائل‪ :‬الالعب بالفأل‪ ,‬والفأل ضد الطرية‪.‬‬

‫‪184‬‬
‫األكاذيب واألضاليل حتى أصبحت اليوم يف كثري من البلدان أساطري األولني‪ .‬فعليكم‬
‫أن تقتدوا بأولئك الذين كشفوا عن بصائرهم غشاوة الجهالة فلم يسلطوا عىل‬
‫عقولهم روايات املبطلني وحكايات عجائز الحي املخيفة الهائلة‪.‬‬
‫ومن الدجالني من هم أشد مكراً وأكرث دهاء من غريهم فيقولون إننا ال نعلم ما‬
‫سيكون ألنه ال يعلمه إال الله سبحانه وتعاىل وحده فقط‪ ،‬وإمنا نعلم ما هو كائن اآلن‬
‫فال تصدقوهم وكذبوهم ألنهم ال يعلمون أنهم ال يعلمون شيئاً‪.‬‬

‫الفصل العارش منه‬


‫_ يف الكافر واملكابر _‬
‫وقلت لوالدي‪ :‬من هو الكافر؟ فقال‪ :‬الذي يعرف الله سبحانه وتعاىل وينكره‬
‫ويكفر به‪ .‬فقلت له‪ :‬ماذا يجب أن نفعل به؟ فقال‪ :‬الطفوه وآنسوه وأحسنوا إليه وال‬
‫تنفروه إىل أن يهتدي ويرعوي عن ضالله ومكابرته‪ .‬فقلت له‪ :‬وإذا كان يحفظ وصايا‬
‫الله تعاىل وال يذكره؟ فقال‪ :‬اصربوا عليه وأقنعوه بحسن أعاملكم وقوة حججكم‬
‫جل جالله مؤمناً به‪ ،‬ألنه من املقرر أنَّ الذي‬ ‫وبراهينكم فإنه ال ميوت إال محباً لله َّ‬
‫يحب شيئاً ال يكره صانعه بل يحبه وخصوصاً إذا كان ذلك اليشء املحبوب حسناً‬
‫مفيداً‪ .‬فكيف يحب وصايا الله ويحفظها ألنها تعود عليه بالخري والنجاح‪ ،‬وال يحب‬
‫واضعها واآلمر بها رحمة للناس ورأفة بهم وهو تعاىل ال يرجو من الذي وضعها له‬
‫عوضاً وال بدالً؟ إنه يحب الله تعاىل باطناً وسيحبه ظاهراً أيضاً‪.‬‬
‫ثم قال والدي‪ :‬فإذا قال هذه قواعد وقوانني طبيعية وجدت يف الناس منذ خلقهم‬
‫فلم يضعها الله تعاىل ومل يأمر بها‪ ،‬فقولوا له لو كانت طبيعية ملا أكره اإلنسان عىل‬
‫اتباعها والعمل بها‪ .‬وملا قتل وملا زىن وملا رسق وملا شهد عند الحاكم لصاحبه عىل‬
‫غرميه بالكذب والزور‪ ،‬وملا وملا‪...‬‬
‫فإذا قال لكم إنَّ يل عق ًال أعرف به خريي من رشي يأمرين بالصالح فال أحتاج إىل‬
‫اإلميان‪ ،‬فقولوا له إنك حينئذ تنهي عن املعايص جهراً وتأيت أعظم منها رساً‪.‬‬
‫فإذا قال ال‪ ،‬فقولوا له إذاً أنت د ّين مؤمن تحب الله تعاىل وقد أخذت الدين عنه‬
‫وأنت ال تدري‪ .‬غري أنك إذا مل ترع ِو عن كربيائك وإنكارك نعمة الله تأثم‪.‬‬
‫ماذا يرض بك إذا أقررت بفضله وبدينه؟ أتطلب لنفسك العظمة واالفتخار بعقلك‬

‫‪185‬‬
‫وسدادك عىل زعمك؟ أال تعلم أوالً أنَّ التعظم إثم؟ وأال تعلم ثانياً أنَّ عقلك هذا الذي‬
‫تنافس فيه هو هبة لك من عند الله سبحانه وتعاىل؟ أتعتقد أنك أوجدته لنفسك؟ ال‪،‬‬
‫أتعتقد أنه ُو ِج َد من نفسه؟ ال‪ .‬إنك تجاوب وقد حرت أنَّ الطبيعة أوجدته يل‪ .‬أتعلم‬
‫ما معنى هذا الجواب؟ معناه أنك عجزت وعييت فكابرت وحاولت تكرباً منك وتجرباً‪،‬‬
‫ومل ترد أن تظهر عدالتك وتزيك نفسك برشف إقرارك‪.‬‬
‫أجب يا هذا‪ :‬من أوجد الطبيعة وما هذه الطبيعة؟ مالك ال تجيب؟ إنك ال تحب‬
‫أن تقول إنَّ الله تعاىل أوجدها لئال يقال إنك أخطأت فغلبت‪.‬‬
‫يا للعجب! إنك تستحيي أن تنسب إليك املغلبة وحدها فكيف يهون عليك أن‬
‫ترمى بالغلبة والجهل والكربياء واملكابرة واملحاولة وباإللحاد أيضاً؟‬
‫يجب عىل الرجل العاقل املنصف أن ال يجتهد يف تأييد أخطائه إذا برح له الخفاء‬
‫ووضح الحق وانجىل الصواب‪ ،‬وعىل الخصوص يف الدينيات‪ ،‬وعليه أن يذعن حاالً‬
‫لليقني ويق ّر به مرصحاً‪ ،‬فيحسب إقراره عل ًام منه ال جه ًال وقوة ال ضعفاً واقتداراً ال‬
‫عجزاً‪.‬‬
‫ما أحىل قولك ال أدري يف مسألة مل تقف عليها ومل تدرك رسها! أال تعلم أنَّ هذا‬
‫القول يحفظ كرامتك؟ ألنك إذا أجبت وخبطت خَ ْب َط عشواء عرضت نفسك لإلهانة‪.‬‬
‫وهذه العادة املستهجنة متمكنة من كثريين يجتمعون لحل معضالت يتوقف عليها‬
‫إصالح أمة أو فسادها‪ ،‬فيجتهد الرجل منهم يف إثبات رأيه بفصاحته وبالغته مع أنه‬
‫عىل ضالل‪ ،‬وهو يعلم ضاللته بعد ذلك فال يريد أن يقلع عنها خوفاً عىل منزلته عىل‬
‫زعمه لئال يقال عنه تكلم فالن فلم يصغ إليه ألنَّ فالناً أفسد عليه رأيه وغلبه بقوة‬
‫حجته وحسن برهانه‪.‬‬
‫فيبعث حب الذات والكربياء والحسد هذا الضال املكابر عىل املامحكة يف لجاجة‬
‫إىل أن ينفرط سلك الجمع‪ ،‬إما بخصام ونزاع عظيمني لهام تأثري شديد عىل األمة‪ ،‬وإما‬
‫بضياع الوقت يف الجدال فال يتفقون فتفوت الفرصة وهناك الرضر العظيم‪.‬‬
‫فأنصح هؤالء املكابرين أن يجتنبوا كل اجتامع خصويص وعمومي لئال يتمكن‬
‫منهم حب املقاومة واملخالفة‪ ،‬فيصري فيهم عادة يشتهرون بها فيفقدون منزلتهم‬
‫ويرضون إخوانهم رضراً ال أعظم وال أشد منه‪.‬‬
‫ليعلم هؤالء املكابرون واملقاومون أنَّ الذين يدعونهم إىل بعض املجالس يريدون‬
‫منهم أن يستعينوا بهم عىل الرش والضالل‪.‬‬

‫‪186‬‬
‫الفصل الحادي عرش منه‬
‫_ يف النجس _‬
‫وقلت لوالدي‪ :‬يقولون هذا اليشء نجس‪ ،‬وأنا أراه نظيفاً نقياً فلامذا هذا؟ وماذا‬
‫يريدون بالنجس؟ فقال‪ :‬كل قذر وخيم وكل عفن‪ .‬وكل آجن((( آسن((( وجب اجتنابه‬
‫عىل التعميم‪ ،‬وكل يشء تأباه نفسك وينفر منه طبعك ويرده ولو أكره عليه وجب‬
‫اجتنابه عىل التخصيص حتى الدواء‪.‬‬
‫وكل يشء حسن الظاهر قبيح الفعل وجب اجتنابه كالخمر بفعلها‪ ،‬فإنك إذا‬
‫نظرت عصري العنب املخمر وجدته نظيفاً حسناً‪ ،‬فإذا أسكر يف رشبه وظهر فعله وهو‬
‫اإلرضار بشاربه يف ماله وسمعته‪ ،‬وجب االمتناع عنه‪.‬‬
‫والدليل عىل أنَّ اليشء إذا قبح فعله منع هو أنَّ الخمرة إذا استحالت وخللت‪،‬‬
‫أي إذا حمضت وفسدت‪ ،‬زال املنع وذلك بزوال فعلها وهو اإلسكار مع أنها تحولت‬
‫من حالة إىل أدىن منها أي من الصالحة إىل الفساد‪.‬‬

‫الفصل الثاين عرش منه‬


‫_ يف التوجع والطلق _‬
‫وقلت لوالدي‪ :‬لقد جاء يف أول سفر التكوين من التوراة أنَّ الله تعاىل عاقب‬
‫حواء فجعلها تحبل وتلد باألوجاع ألنها مل تأمتر أمره تعاىل‪ ،‬وقد انتقل هذا العقاب‬
‫إىل جميع النساء‪ ،‬فهل يفهم من هذا أنَّ املرأة من طبعها تحبل وتلد من غري تأمل‪،‬‬
‫فلام عصت عوقبت بالتوجع؟ وقلت أيضاً‪ :‬إين أرى أنثى الحيوان تتأمل حينام تنتج فهل‬
‫حكمها يف ذلك حكم حواء؟ فقال‪ :‬ال ب َّد إلناث اإلنسان والحيوان من هذا العذاب‪ ،‬إال‬
‫أنه لو مل تخالف حواء ألنعم الله سبحانه وتعاىل عليها بأن ال تتعذب كام أنعم عىل‬
‫نسائنا يف الزهرة ليمتزن عن إناث الحيوان‪.‬‬

‫‪ 1‬ـ أجن املاء تغري طعمه ولونه وقيل رائحته وقيل غشيه الطلحب والورق فهو آجن وأجن وأجون‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ أسن املاء‪ :‬تغري طعمه ولونه وريحه فهو آسن‪.‬‬

‫‪187‬‬
188
‫الباب التاسع‬

‫‪189‬‬
190
‫الفصل األول من الباب التاسع‬
‫_ يف األرض وقدمها _‬
‫وقلت لوالدي‪ :‬إنني أسمع كثريين من العلامء يقولون إنَّ األرض قدمية أقدم من‬
‫التاريخ الذي يلوح يف التوراة‪ ،‬ويقولون إنَّ اإلنسان وجد قبل ذلك الزمان أيضاً‪ ،‬فامذا‬
‫ترى؟ فقال‪ :‬لقد صدقت التوراة‪ ،‬ولقد أصاب علامؤكم‪ ،‬ألنَّ الله تعاىل كان خلق األرض‬
‫وأنزل إليها جامعة من الزهرة وذلك منذ أحقاب ودهور غاية يف القدم‪ .‬غري أنه رأف‬
‫بعد ذلك بعباده املعذبني يف األرض فعفا عنهم عفواً عاماً وأمر‪ ،‬فصدمها أحد الربوج‬
‫فأحرقها يف طرفة عني فخرجت النفوس منها إىل الزهرة‪.‬‬
‫أما املعذبون يف زحل فلم يعف عنهم إىل اآلن‪ .‬وبعد أدهار عاد سكان الزهرة إىل‬
‫الخطيئة فأنزلهم إىل األرض بعد ما جعلها صالحة لعيش البرش‪ ،‬ثم عفا عنهم أيضاً‬
‫وهكذا إىل عهد آدم وحواء‪ ،‬وسوف يعفو عنهم مب ّنه وكرمه‪.‬‬

‫الفصل الثاين منه‬


‫_ يف كيف خلق الله تعاىل الخلق وملاذا _‬
‫وقلت لوالدي‪ :‬كيف خلق الله تعاىل الخلق وملاذا؟ فشزرين((( حتى خفته‪ .‬ثم قال‪:‬‬
‫لقد تعودتم يا سكان األرض مثل هذه األسئلة الدالة عىل قحتكم وجهلكم الفظيع‪،‬‬
‫ألنكم مل تقدروا قدرة الله تعاىل وحكمته وسموه‪ ،‬فكأنكم تزعمون أنكم تضاهونه‪،‬‬
‫ولهذا تريدون أن تدخلوه يف فلسفتكم‪.‬‬
‫ماذا تقولون إذا اجتمعت األمراض الحقرية وأخذت تبحث عن حالة اإلنسان؟ أال‬
‫تهزأون بها وتعجبون من حمقها؟ أنا ال أعلم ولن أعلم وال أريد أن أعلم كيف وملاذا‬
‫خلق الله تعاىل الخلق وال يوجد يف الزهرة رجل يحب أن يعلم ذلك‪.‬‬

‫اض أو الغضب‪.‬‬ ‫‪ 1‬ـ شزر فالناً وإليه‪َ :‬ن َظ َر إليه مبؤخر عينه‪ ,‬وأك ُرث ما ُ‬
‫يكون يف حال اإلعر ِ‬

‫‪191‬‬
‫الفصل الثالث منه‬
‫_ يف قولهم خري لإلنسان أن ال يخلق _‬
‫وقلت لوالدي‪ :‬ماذا ترى يف قولهم خري لإلنسان أن ال يخلق‪ ،‬ألنه يعاقب كثرياً‬
‫لكونه رهيناً بذنبه منقاداً ألهوائه الغالبة عليه مأسوراً بشهواته املتمكنة منه؟ فقال‪:‬‬
‫إنَّ اإلنسان مل ينزل إىل األرض ليتنعم بها‪ ،‬بل ليعاقب كام علمت‪ .‬أما الخلق يف الزهرة‬
‫فال يأثم منهم إال عدد قليل ال ُيعتد به بالقياس إىل كرثتهم‪ .‬فهل من الحكمة أن ال‬
‫ُيخلقوا وأن ُيحرموا السعادة والنعيم يف الزهرة واملريخ من أجل جزء منهم يسري ال‬
‫يريد أن يستعني بعقله عىل تخفيف شهوات قلبه ورغائبها؟ إنك تجيبني كال‪.‬‬
‫مع هذا كله إنَّ الله تعاىل يعلم ضعفكم ومنزلتكم من القوة والعقل والتحمل‪،‬‬
‫ولذلك مل يكلفكم أكرث من وسعكم فيعاقبكم عقاباً تستحقون أشد منه وأعظم‪ .‬وهو‬
‫تعاىل ال يريد أن ميسك عنكم رحمته إىل األبد فريفق بكم ويغفر لكم إذا استعنتم‬
‫به عىل التوبة ويرس بخالصكم‪ ،‬غري أنه يجب أن تحذروا الطمع برحمته وأن ال‬
‫تعصعوه بل يلزمكم أن تنتبهوا لنفوسكم‪ ،‬فإذا زلت بكم القدم وأدركتم سيئاتكم‬
‫ندمتم واستغفرتم حاالً من غري أن تؤخروا توبتكم وال دقيقة واحدة‪ ،‬ألنه رمبا كان‬
‫فيها انرصام حبل الحياة‪.‬‬

‫الفصل الرابع منه‬


‫_ يف قول بعضهم َّإن الله تعاىل‬
‫يخلق الحسن وينهانا عنه _‬
‫وقلت لوالدي‪ :‬ما رأيك يف قول بعض املعرتضني إنَّ الله تعاىل يخلق لنا الحسن‬
‫وينهانا عنه‪ ،‬مع أنه فطرنا عىل امليل إليه والرغبة فيه؟ فقال‪ :‬إنَّ األم توقد النار ليدفأ‬
‫بها طفلها من الربد فتقربها منه وال تبعدها عنه إال إذا م َّد يده إليها‪ ،‬ألنه يجهل درجة‬
‫حرارتها وتأثريها فيه فتحرقه أو تكاد وهو يبيك ويشكو جور أمه ألنها منعته الحسن‬
‫الذي كان يتلذذ بالنظر إليه مع أنه مرض به وقبيح عليه‪ .‬وهكذا الله تعاىل فإنه خلق‬
‫الحسن لإلنسان ليتمتع به برشط أن يقف عند حده وأن يدع اإلفراط‪ .‬فإذا تعدى‬
‫حده وأفرط جرم عليه ألنه انهمك به انهامكاً ضاراً وهو ال يدري وال يريد أن يدري‪.‬‬

‫‪192‬‬
‫فإذا درى هون عليه هوى نفسه عىل غيه وضالله‪ .‬إنَّ الله تعاىل يريد بعباده خرياً‬
‫وهم ال ينتبهون‪.‬‬

‫الفصل الخامس منه‬


‫_ يف قول بعضهم َّإن اإلنسان يلتمس من الله تعاىل‬
‫ما يحتاج إليه فال يرد عليه _‬
‫وقلت لوالدي‪ :‬ما رأيك يف قول بعضهم إنَّ اإلنسان يلتمس من الله تعاىل ما يحتاج‬
‫إليه فال يرد عليه؟ فقال‪ :‬لقد اتضح مام تقدم أنَّ الله يحكم عىل بعض أمثة الزهرة بأن‬
‫ينزلوا إىل األرض ويعيشوا أغنياء‪ ،‬وعىل بعضهم بأن يعيشوا فقراء‪ .‬فليس والحالة هذه‬
‫من املمكن أن يجيب ملتمس اإلنسان وأن مينحه شيئاً حرمه إياه عقاباً له‪ .‬فقلت‪ :‬أال‬
‫يجوز له أن يطلب منه ما يضطر إليه؟ فقال‪ :‬ليطلب األهم واأللزم وهو العفو واملغفرة‬
‫بالتوبة الصادقة‪ ،‬ويلتمس منه أن يصونه من عذاب القتل وغريه‪ ،‬وليسأله أن ال يسمح‬
‫بعذابه حني خروج نفسه من جسمه‪ .‬أليس ما ذكر أهم مام يضطر إليه اإلنسان يف‬
‫أيامه القالئل يف األرض التي تقيمون بها؟ كام يقيم الراحلون حينام يعرسون((( إىل أن‬
‫يبلغوا املدينة التي يقصدونها ويقيموا بها ولعلكم تعودون إىل الطريق الذي جئتم‬
‫منه فتسعدوا وتنعموا‪ .‬إنَّ الله تعاىل ال يتخىل عنكم فلامذا ال تسرتحمون‪.‬‬

‫الفصل السادس منه‬


‫_ يف قول بعضهم َّإن الله تعاىل يحكم عىل زيد مث ًال‬
‫بأن يفتقر بعد غنى وعىل عمرو بأن يغنى وال يفتقر _‬
‫وقلت لوالدي‪ :‬ما رأيك يف قول بعضهم إنَّ الله تعاىل يحكم عىل زيد مث ًال بأن‬
‫يفتقر بعد غنى وعىل عمرو بأن يغنى وال يفتقر؟ فقال‪ :‬إذا عاش الغني ظاملاً سالباً‬
‫أموال غني مثله فأفقره‪ ،‬وإذا أكل أموال اليتيم واأليم واألرملة‪ ،‬يعاقبه الله تعاىل‬

‫‪ 1‬ـ يعرسون‪ :‬أي ينزلون يف السفر يف آخر الليل‪.‬‬

‫‪193‬‬
‫عقاباً أرضياً يضيفه عىل عقاب الزهرة‪ ،‬وهو أن يفقره ليكون عقابه من نفس عمله‪،‬‬
‫مع أنَّ الغني الذي أفقره ذلك الغني كان محكوماً عليه يف الزهرة أن يفتقر يف‬
‫األرض فلم يتسلط عليه الغني والحالة هذه يف الحقيقة‪ ،‬ومل يفقره هو‪ ،‬وبيان ذلك‬
‫أنَّ الغني الظامل أرادت نفسه الظلم وهو من الحاسدين وقد أبرص بني يديه كثريين‬
‫من األغنياء (املحكوم عليهم بالفقر بعد غنى) فأفقر أحدهم أي كان سبب فقره‬
‫بغدره ومكره أو ببطشه ونفوذ كلمته‪.‬‬
‫وإذا دققت وبحثت عن ثروات بعض أولئك الذين اعتدي عليهم فافتقروا‪،‬‬
‫أدركت شيئاً من حكمة الله تعاىل وعدله‪ .‬فإذا قلت رأيت كثريين من األغنياء‬
‫يفتقرون وهم مل يظلموا ومل يعتدوا‪ ،‬قلت لك‪ :‬أمل أذكر أنَّ الفقر عقاب من عند‬
‫الله تعاىل يف الزهرة؟‬
‫وإين أزيد عىل هذا وأقول‪ :‬إنَّ كثريين من البرش عندكم يتزيون بأزياء العادلني‬
‫وهم ظاملون وأنتم ال تعلمون‪ .‬إنَّ الله تعاىل يعلم الخفيات وما يف تلك القلوب‬
‫والضامئر الرديئة املضمرة الغدر والرش وهي ترقب الفرص لتفرتصها‪ .‬فهؤالء‬
‫يعاقبون ولو يستطيعوا أن يفقروا غريهم ألنهم أرادوا وأرصوا فام استطاعوا‪.‬‬
‫أما بعض الصالحني األتقياء الذي يفتقرون بعد غنى وهم قليلون‪ ،‬فإنهم إذا‬
‫مل يكونوا أضاعوا ثروتهم بتغفلهم وتوانيهم فقد أضاعوها بالبخل والطمع وهم‬
‫ال ينتبهون‪ ،‬كالذين يجلبون بضاعاتهم ويرسلونها من غري ضامن فتغرق أو تحرتق‬
‫أو تفقد إىل غري هذا‪ .‬دققْ ون ّق ْب تجد سبباً بل أسباباً‪ .‬إنَّ الله تعاىل قد يحكم‬
‫يف األرض باالفتقار بعد الغنى ولكن للسبب الذي يجره املفتقر عىل نفسه وذلك‬
‫ليعترب الناس وينتبهوا‪.‬‬
‫وقلت لوالدي‪ :‬سمعت كثريين يقولون‪ :‬ترى باراً يشقى ورشيراً ينعم فام‬
‫الحكمة يف هذا؟ فقال‪ :‬أمل تعلم مام مر بك أنَّ البار املقيم باألرض كان حوكم يف‬
‫الزهرة فحكم عليه بأن يشقى بسجنه األريض‪ ،‬فإن عاش صالحاً عاد إىل الزهرة بعد‬
‫نهاية أيامه؟ والرشير قد حكم عليه بأن يرس يف األرض ألنَّ ذنبه كان يف الزهرة‬
‫أخف من ذنب البار‪ ،‬فإذا عاش طالحاً عوقب فيها أيضاً بعد خروجه من األرض‬
‫كام علمت‪.‬‬

‫‪194‬‬
‫الفصل السابع منه‬
‫_ يف قول بعضهم َّإن اإلنسان ضعيف تستعبده شهواته _‬
‫وقلت لوالدي‪ :‬ما رأيك يف قول بعضهم إنَّ اإلنسان ضعيف تستعبده شهواته فلو‬
‫خففها الله تعاىل لكان تخفيفها أرحم له؟ فقال‪ :‬يرتتب عىل ذلك أن يخلقه مقيداً‬
‫غري مطلق اإلرادة وغري حر أيضاً فيعد من املعتوهني الذين ال يحاكمون وال يعاقبون‬
‫كغريهم فال يستدل به عىل عظمته تعاىل وقدرته‪ .‬فقلت له‪ :‬لقد ظهر من كالمك أنَّ‬
‫اإلنسان مطلق اإلرادة‪ .‬فقال‪ :‬إذا أراد اإلنسان بنفسه خرياً دله الله تعاىل عليه وإذا‬
‫أراد رشاً نبهه ونهاه عنه‪ .‬فإذا مل يطع تركه عىل عصيانه‪ .‬فلو منعه مل يجعل له فض ًال‬
‫وأجراً يف الطاعة وكرس اإلرادة وزجر النفس األمارة بالسوء‪.‬‬

‫الفصل الثامن منه‬


‫_ يف كشف الرس والختام _‬
‫وقلت لوالدي‪ :‬كم سنة كان عمرك ملا أنزلت إىل األرض؟ فقال‪ :‬كانت مائتني‬
‫وخمسني سنة‪ .‬فقلت‪ :‬وكم عاماً كان عمرك حينام تزوجت يف الزهرة؟ فقال‪ :‬ستني‪.‬‬
‫فقلت له‪ :‬بكم زوجة اقرتنت؟ فقال‪ :‬بواحدة هي ابنة عمي‪ .‬فقلت له‪ :‬ألك أوالد‬
‫كثريون؟ فقال‪ :‬عندي خمسة من الذكور وخمس إناث‪.‬‬
‫ثم قال‪ :‬إنَّ أنجايل األربعة املقيمني بالزهرة تزوج منهم اثنان‪ .‬أحدهام وهو‬
‫األكرب له بنتان يف األرض‪ ،‬وهام الفتاتان اللتان أحببتهام يف وقت واحد وأردت االقرتان‬
‫بإحداهام وأنت ال تعلم أيتهن تختار‪ ،‬وبعد ذلك تركتهام واقرتنت ببنت عمك األصغر‬
‫القديم املقيم اآلن بالزهرة‪ ،‬وقد زعمت عىل حسن ودادك وصدق وفائك وإخالصك‬
‫الحب لهام أنك ميسء إليهام‪ ،‬ال يسمح ألرستنا بالزهرة أن يدخل الرجل عىل ابنة‬
‫شقيقه وال عىل ابنة شقيقته فهذه هي الحقيقة التي خفيت عليك‪ .‬وأما شقيقك‬
‫األصغر املتزوج فله بنت يف األرض وهي التي أحببتها بعد تزوجك‪.‬‬
‫فلام سمعت منه هذا الكالم عجبت ودهشت وسبحت الله تعاىل عىل حكمته‬
‫الفائقة التي ال تدركها عقولنا ثم سكت‪ .‬فقال‪ :‬سلني‪ .‬فقلت‪ :‬ألتمس منك أن تعلمني‬

‫‪195‬‬
‫أين اآلن شقيقتي الصغرى وبنايت الثالث؟ فقال‪ :‬يف الزهرة‪ .‬فقلت‪ :‬أشتهي أن تحرضهن‬
‫يل اآلن فقد اشتقتهن اشتياقاً أذابني أو كاد‪ .‬فقال‪ :‬بأية هيئة تريد أن تراهن؟ أمبثل‬
‫هيئتي هذه أم بهيئتهن الطبيعية يف الزهرة‪ .‬فقلت‪ :‬أحب أن أراهن كام هن اآلن‪.‬‬
‫فغاب هنيهة ثم عاد ويف يده غشاوة سوداء فوضعها عىل وجهي وقال‪ :‬إنك تستطيع‬
‫بهذا الستار أن تنظر إليهن فال خوف عىل عينيك من نورهن‪ ،‬وبعد هذا قال‪( :‬أرسعن)‬
‫وقبل ميض دقيقة رأيت أربع فتيات‪ ،‬ما ملحتهن إال مسني الخبل وانعقد لساين وسكنت‬
‫جميع حركايت ورصت كقطعة من جبل راسخة ال حراك بها‪ ،‬وشعرت للحال أنه ليس‬
‫يف عيني قوة ميكنهام بهام أن تبرصا حسنهن‪ ،‬وعلمت أنَّ جاملهن يشء آخر ال يشبه‬
‫جاملنا وأدركت أنَّ جسمي أضعف من أن يتحمل هذا املنظر الذي هو فوق حواس‬
‫سكان األرض‪ ،‬فاحتقرت نفيس ورصت كبعوضة حقرية وأنا مطرق خج ًال واستحياء‪.‬‬
‫أما هن فتقدمن إيل ووقعن عيل يقبلنني‪ ،‬فطابت نفيس وعاد إيل نشاطي وقوي‬
‫قلبي‪ ،‬وعقلت أن بني يدي من ال يجب أن أستحيي منهن فجعلت أقبلهن وأضمهن إىل‬
‫صدري وأنا أقول‪ :‬لقد غلبني شوقي أنا العفيف فال أقوى عىل اإلفصاح عام أكابده من‬
‫لوعات الفراق‪ .‬آه ما أحرها فإنَّ لها ناراَ شديدة االضطرام تحرق قلبي ولكنها ال تريد‬
‫أن تفنيه ألنج َو من عذاب أليم‪.‬‬
‫لقد ذهبنت إىل النعيم حيث السعادة وأنا مقيم باألرض أعاين مصائبها ونوائبها‪،‬‬
‫وأزاول مخاوفها ومصاعبها وأقايس بالياها وأمارس رزاياها وأتجشم شدائدها وأتكلف‬
‫مكارهها وأتحمل مكايدها‪.‬‬
‫إنَّ حزين عليكن شديد وقلبي منه عليل وجسمي به نحيل‪ ،‬فيا أميل خذ بيدي ويا‬
‫صربي ق ّوين‪ ،‬ويا ريب ال تنسني وإن شئت فتداركني برحمة منك‪.‬‬
‫فقلن يل بصوت واحد‪ :‬إننا نسأل الله سبحانه وتعاىل كل يوم أن يرحمنا بك‬
‫وبوالدتينا فأنتم غصتنا‪ ،‬وال نسأله أن يقرص أيامكم يف األرض ألنَّ حكمه ال يتغري‪ .‬ال‬
‫نسألك عن والدتينا وإخوتنا ألننا أعرف منك بأحوالهم‪ ،‬وإمنا نسألك أن ال تسأل عنا‬
‫فإننا بخري من الله تعاىل‪ .‬كل يشء يف الزهرة حسن وكل يشء لذيذ‪ .‬ال نشكو إىل الله‬
‫ضي ًام وال أملاً‪ .‬غمنا عىل فراقك أقل من غمك عىل فراقنا‪ ،‬ألننا نعلم أنك ستعود إلينا‪،‬‬
‫فتب إىل الله التواب العظيم لئال تكون أيامك يف مدينة التكفري طويلة‪ .‬إننا نحب‬ ‫ْ‬
‫ونشتهي أن تكون معنا اآلن يف الزهرة‪ ،‬ولكن الله العادل ال يحب ما نحبه ونتمناه‪،‬‬
‫فإذاً يجب علينا أن ال نحب ما ال يحبه الله ألننا إن أحببناه خالفناه‪.‬‬

‫‪196‬‬
‫فلام فرغن من كالمهن قلت لوالدي‪ :‬أال تأذن لهن بأن يتزوجن؟ فقال‪ :‬إنهن ال‬
‫يتزوجن إال بعد أن يرجع إىل الزهرة آخر سجني يف األرض من أقاربهن‪.‬‬
‫أما هيئتهن فقد رأيتها تختلف كثرياً عن هيئتنا نحن سكان األرض‪ .‬إين رأيت‬
‫لجسمهن لوناً يأخذ حسنه بالقلوب والعقول‪ ،‬وهو نوع من الزرقة البهجة التي تؤثر‬
‫يف األبصار‪ .‬ولشعورهن لون ألطف من الفضة وهي تلمع ملعان الربق وأعظم‪.‬‬
‫وبعد ربع ساعة قبلنني وقبلتهن ثم ذهنب‪ .‬فقال والدي‪ :‬أتريد أن تسألني؟ فقلت‪:‬‬
‫بقي عيل سؤال واحد وهو‪ :‬كم سنة أعيش يف األرض؟‬
‫فأجاب‪ :‬إين ال أستطيع أن أطلعك عىل املدة املعينة‪ ،‬وإمنا أستطيع أن أطلعك عىل‬
‫أمر يرسك وهو أنك ستكون قاضياً يف مدينة القضاة‪.‬‬
‫ثم قال‪ :‬أوصيك بأن تتوب توبة كاملة لتنجو من عذاب االحتضار‪ ،‬وأوصيك أيضاً‬
‫بأن تجعل الكلامت األربعة نصب عينيك‪ ،‬وأحب وأشتهي أن أكررها لك وهي «املحبة»‬
‫«العفة» «التواضع» «الصدق»‪.‬‬
‫ويف الختام أوصيك بأن تثبت كل ما سمعته مني يف كتاب تطبعه لتعم فائدته‪.‬‬
‫فقلت‪ :‬إين أخاف أن ال أحفظ وأذكر كل ما ذكرته ورسدته‪ ،‬فقال‪ :‬أنا أعلم أنك ال تنىس‬
‫بإذن الله تعاىل شيئاً‪ .‬ثم قال‪ :‬إين أريد أن ال تكتب بلغة عالية كام يفعل أكرث كتبة‬
‫العرب فيحبسون تآليفهم عن العامة مع إنها أوىل بها من الخاصة‪ .‬فقلت‪ :‬أخىش أن‬
‫أجمع بني العامي والفصيح فال أدرك الغاية‪ .‬فقال‪ :‬اكتب الكالم والعبارات التي دارت‬
‫بيننا نفسها وهي لغة قريبة الفهم ما خال بعض كلامت ال ب َّد منها فاجعل لها رشحاً‪.‬‬
‫ثم قبلت يديه فباركني وضمني إىل صدره وغاب كأنَّ غاممة وارته وأنا أقول‪ :‬أال‬
‫تحرض عيل مرة ثانية؟ فسمعته يقول‪ :‬إذا شاء الله تعاىل حرضت‪ .‬فانتبهت والليل‬
‫أخذت أتأمل وأقول يف نفيس‪ :‬ما‬ ‫ُ‬ ‫اللهم زدين إمياناً وتداركني برحمتك‪ .‬ثم‬
‫مظلم أقول‪َّ :‬‬
‫هذا يا ريب؟ أكل هذا منام؟ إنَّ يف األمر لعجباً! ثم رشعت أكتب هذا الكتاب حتى َّ‬
‫تم‬
‫بإذن الله تعاىل‪ ،‬فأسأله أن يغفر يل ذنويب وأن يخفف عني سكرات املوت ويختم يل‬
‫الخري ألتقرب إليه باملحبة‪.‬‬
‫صــــــــرت بالدنيــــــا خبيـــــــراً فلـــــــــذا أعرضــــت عـــــنهـــا‬
‫حــينمـــــا أخــــــــرج مــنهــــا‬ ‫أحـســــــن الساعـــــات عنـــــدي‬

‫‪197‬‬
198
‫صدر يف سلسلة كتاب الدوحة‬

‫عبد الرحمن الكواكبي‬ ‫ ‬


‫• طبائع االستبداد‬
‫غسان كنفاين‬ ‫ ‬ ‫• برقوق نيسان‬
‫(القميص املرسوق) وقصص أخرى‬
‫سليامن فياض‬ ‫ ‬ ‫• األمئة األربعة‬
‫عمر فاخوري‬ ‫ ‬ ‫• الفصول األربعة‬
‫عيل عبدالرازق‬ ‫ ‬
‫• اإلسالم وأصول الحكم‬
‫بحث يف الخالفة والحكومة يف اإلسالم‬
‫نبي‬
‫مالك بن ّ‬ ‫ ‬
‫• رشوط النهضة‬
‫محمد بغدادي‬ ‫ ‬‫• صالح جاهني‬
‫أمري شعراء العامية‬
‫أبو القاسم الشايب‬ ‫• نداء الحياة ‬
‫مختارات شعرية ‪ -‬الخيال الشعري عند العرب‬
‫سالمة موىس‬ ‫ ‬
‫• حرية الفكر وأبطالها يف التاريخ‬
‫ميخائيل نعيمة‬ ‫ ‬ ‫• الغربال‬
‫الشيخ محمد عبده‬ ‫ ‬ ‫• اإلسالم بني العلم واملدنية‬
‫بدر شاكر السياب‬ ‫• أصوات الشاعر املرتجم ‬
‫مختارات من قصائده وترجامته‬
‫ترجمة‪ :‬غادة حلواين‬ ‫ ‬‫• فتنة الحكاية‬
‫جون أيديك ‪ -‬سينثيا أوزيك ‪ -‬جيل ماكوركل ‪ -‬باتريشيا هامبل‬
‫الطاهر الحداد‬ ‫ ‬
‫• امرأتنا يف الرشيعة واملجتمع‬
‫طه حسني‬ ‫ ‬ ‫• الشيخان‬
‫محمود درويش‬ ‫ ‬ ‫• ورد أكرث‬
‫مختارات شعرية ونرثية‬
‫توفيق الحكيم‬ ‫ ‬
‫• يوميات نائب يف األرياف‬
‫عباس محمود العقاد‬ ‫ ‬ ‫• عبقرية عمر‬
‫عباس محمود العقاد‬ ‫ ‬ ‫• عبقرية الص ّديق‬
‫عيل أحمد الجرجاوي‪/‬صربي حافظ‬ ‫ ‬ ‫• رحلتان إىل اليابان‬

‫‪199‬‬

You might also like