Professional Documents
Culture Documents
أو
(الغاية يف البداءة والنهاية)
ميخائيل الصقال
1
20
يوزع مجاناً مع العدد 63من مجلة الدوحة يناير 2013
النارش :
وزارة الثقافة والفنون والرتاث -دولة قطر
رقم اإليداع بدار الكتب القطرية :
الرتقيم الدويل (ردمك) :
2
فهرس الكتاب
3
70 الفصل الثاين :يف قضاة املحاكم األرضيني
71 الفصل الثالث :يف الوصاية باألرض
72 الفصل الرابع :يف الحروب واملذابح والفظائع باألرض
77 الفصل الخامس :يف السجون واملنايف
81 الباب الرابع
83 الفصل األول :يف الطلق والوالدة وتربية الطفولة
85 الفصل الثاين :يف الرتبية وواجبات الوالدين باألرض
88 الفصل الثالث :يف مدراس وعلوم سكان الزهرة
89 الفصل الرابع :يف أنَّ آفة التلميذ باألرض مدرسته ودروسه ويف الرتبية أيضاً
94 الفصل الخامس :يف اللغة
96 الفصل السادس :يف املطابع
97 الفصل السابع :يف علامء األرض وحالة اإلنسان األوىل فيها
103 الفصل الثامن :يف الشعر والشعراء
115 الباب الخامس
117 الفصل األول :يف بنات الهوى أو الغواين
118 الفصل الثاين :يف العذرات واملنتديات أي أماكن القهوة
118 الفصل الثالث :يف التلهي بالزهرة
119 الفصل الرابع :يف منتديات ومالهي األرض
122 الفصل الخامس :يف املآكل
122 الفصل السادس :يف األطباء وواجباتهم ويف السكر
126 الفصل السابع :يف العفاف
127 الفصل الثامن :يف االختالط واملعارشة باألرض ويف الرقص
131 الفصل التاسع :يف األزياء وأرضارها ويف النسائج
134 الفصل العارش :يف البائنة والفتيات
138 الفصل الحادي عرش :يف التمويه والطالء والخضاب
141 الفصل الثاين عرش :يف اختيار الزوجة
142 الفصل الثالث عرش :يف الخطبة والحب والغرية واملهر والجهاز
144 الفصل الرابع عرش :يف املالبس والحيل والهدايا من الزهر
145 الفصل الخامس عرش :يف البضع واالقرتان والعرس
147 الباب السادس
148 الفصل األول :يف طبقات العباد
148 الفصل الثاين :يف الزراعة والفالحة باألرض ويف القرى وعيشها
151 الفصل الثالث :يف اآلالت واألدوات النقلية والزراعية وغريها من مخرتعات سكان الزهرة
154 الفصل الرابع :يف حرف سكان األرض
155 الفصل الخامس :يف البيع والرشاء
4
156 الفصل السادس :يف التجارة
156 الفصل السابع :يف الرباء
157 الفصل الثامن :يف طمع سكان األرض
158 الفصل التاسع :يف الحسد
159 الباب السابع
161 الفصل األول :يف الرجل
163 الفصل الثاين :يف املرأة
164 الفصل الثالث :يف األصدقاء باألرض
166 الفصل الرابع :يف األعامر واملوت والزهرة
168 الفصل الخامس :يف األحزان
173 الباب الثامن
175 الفصل األول :يف وجود الله تعاىل وخلقه الخلق
176 الفصل الثاين :يف األديان
178 الفصل الثالث :يف توحيد األديان
179 الفصل الرابع :يف قولهم لو كانت األديان كلها من الله تعاىل ملا اختلفت يف االعتقاد
180 الفصل الخامس :يف قول بعضهم إنَّ األديان قوانني وضعها عقالء البرش
181 الفصل السادس :يف املجوسية والوثنية
182 الفصل السابع :يف التقمص
182 الفصل الثامن :يف التشاؤم
184 الفصل التاسع :يف املعتوهني واملشعوذين
185 الفصل العارش :يف الكافر واملكابر
187 الفصل الحادي عرش :يف النجس
187 الفصل الثاين عرش :يف التوجع والطلق
189 الباب التاسع
191 الفصل األول :يف األرض وقدمها
191 الفصل الثاين :يف كيف خلق الله تعاىل الخلق وملاذا
192 الفصل الثالث :يف قولهم خري لإلنسان أن ال يخلق
192 الفصل الرابع :يف قول بعضهم إنَّ الله تعاىل يخلق الحسن وينهانا عنه
193 الفصل الخامس :يف قول بعضهم إنَّ اإلنسان يلتمس من الله تعاىل ما يحتاج إليه فال يرد عليه
الفصل السادس :يف قول بعضهم إنَّ الله تعاىل يحكم عىل زيد مث ًال بأن يفتقر بعد غنى وعىل
193
عمرو بأن يغنى وال يفتقر
195 الفصل السابع :يف قول بعضهم إنَّ اإلنسان ضعيف تستعبده شهواته
195 الفصل الثامن :يف كشف الرس والختام
5
6
الريادة الروائية النهضوية:
(لطائف السمر )..مليخائيل الصقال أمنوذجاً
كام القاهرة ،ورمبا أكرث من بريوت ،كانت حلب القرن التاسع عرش بؤرة نهضوية يف
الفكر واألدب والفن .وقد اشتهر من تلك البؤرة بخاصة عبد الرحمن الكواكبي (1848
ـ )1902وفرنسيس املراش ( 1837ـ )1873يف تلك الفرتة ،كام بني ظهرانينا أيضاً ،منذ
أخذنا نج ّد يف إثر (النهضة) عقب هزمية ،1967وال نزال .وإذا كان آخرون قد ُعرفوا يف
تلك الفرتة أيضاً (رزق الله حسون وجربائيل الدالل وعبد الله املراش )...فقد كان ومل
يزل حق ميخائيل الصقال يف أن يعرف مغمطاً ،شأنه شأن أبيه األديب الرائد املجهول:
أنطوان الصقال .وباألب نبدأ:
أنطوان الصقال ( 1824ـ :)1885
يف صدر رواية (لطائف السمر يف سكان الزهرة والقمر )...يرتجم ميخائيل الصقال
ألبيه ،فيع ّده «أحد رجال النهضة األدبية يف هذه األمصار» ،ويذكر االبن ومن ترجم
سواه لألب ،أن أنطوان الصقال كان شاعراً ،وله شأو يف الهندسة واملوسيقى .وكان يتقن
إىل العربية :الرسيانية والرتكية واإلنكليزية ،كام كان الرتجامن األول لقائد الحملة
اإلنكليزية يف حرب القرم ( 1854ـ .)1856وقد عمل يف مالطة مدرساً ومصححاً لغوياً
ملا كان ُيطبع فيها من الكتب العربية ،كام كتب بأسامء مستعارة يف صحف ومجالت
شتى .أما األهم فهو ما يؤكده قسطايك الحميص يف كتابه (أدباء حلب ذوو األثر يف
القرن التاسع عرش) من أن ألنطوان الصقال «كتاب األسهم النارية ،وهو رواية ض ّمنها
7
بعض الوقائع املحلية .وله رواية أخرى مل يصلنا اسمها» .أما محمد راغب الطباخ
فيكتب يف الجزء السابع من مصنفه (إعالم النبالء بتاريخ حلب الشهباء) أن أنطوان
الصقال كان «شاعراً مجيداً له ديوان شعر وروايتان ،إحداهام غرامية أخالقية نحا بها
نحو حكايات ألف ليلة وليلة ،وهي حكاية إحدى ملوك الصني املسامة بالقاهرة مع
الحسن البرصي نجل امللك عبد الرحيم» .وقد دفعت هذه التوكيدات بشاكر مصطفى
إىل أن يكتب يف مصنفه (محارضات عن القصة يف سورية حتى الحرب العاملية الثانية)
أنه يكاد يرجح أن أنطوان الصقال «هو أول كاتب للقصة يف سورية إن مل يكن يف
العرب» إذا ما أسعفت املصادر يف املستقبل بذكر تاريخ روايته.
لقد طال القول بأن رواية (زينب ـ )1914ملحمد حسني هيكل ( 1956ـ )1999
هي أول رواية عربية .ثم جلجل القول برواية فرنسيس املراش (غابة الحق ـ ،)1865
ثم جلجل القول برواية (وي ..إذن لست بإفرنجي ـ )1859لخليل الخوري ( 1836ـ
)1907وبذا انتقلت الريادة الروائية بعد القاهرة ،من حلب إىل بريوت ،فهل يعيدها
أنطوان الصقال إىل حلب؟
ميخائيل الصقال ( 1852ـ :)1937
كام ترجم ألبيه بإيجاز ،يرتجم ميخائيل الصقال لنفسه أيضاً يف صدر روايته
(لطائف السمر .)...وإىل ذلك أضيف أن أعامله املنشورة هي:
1ـ رواية (لطائف السمر يف سكان الزهرة والقمر أو الغاية يف البداءة والنهاية)
وقد صدرت يف القاهرة عام .1907وسوف نكتفي لذكرها بـ (لطائف السمر.)..
2ـ كتاب (العرب) ـ .1911
3ـ ديوان شعر ـ .1925
وله مخطوطات ذكرها قسطايك الحميص يف كتابه (أدباء حلب ذوو األثر)...
وذكرتها عائشة الدباغ يف كتابها (الحركة الفكرية يف حلب يف النصف الثاين من القرن
التاسع عرش ومطلع القرن العرشين ـ ،)1972واملخطوطات هي:
* طرائف النديم يف تاريخ حلب القديم.
* لطائف الحديث يف تاريخ حلب الحديث.
* مذكرات ميخائيل الصقال.
* رسالة يف النحل.
* رسالة يف الترشيح.
8
ولعل من املفيد أن أضيف اإلضاءتني التاليتني إىل ترجمة الكاتب:
أ ـ كام عمل ميخائيل الصقال يف التعليم ويف املحاماة والقضاء ،عمل يف الصحافة
مع عبد الرحمن الكواكبي يف جريدة الشهباء التي صدرت يف ،1877/5/10وعاشت
سنة ونيفاً بال انتظام ،إذ عطلها الوايل ثالث مرات قبل أن يحجز عىل مطبعتها ويضعها
تحت املراقبة .لكن الجريدة عادت إىل الظهور ،وظهر فيها اسم ميخائيل الصقال.
ويرجح جان داية يف كتابه (صحافة الكواكبي) أن اسم الصقال ُوضع صورياً عىل
األعداد التي صدرت قبل تعطيل الجريدة نهائياً ،بينام كان الكواكبي فيها كام كان من
قبل ،ولكن رساً ،اتقا ًء لرش الوايل .غري أن موىس بيطار الذي يرجح يف تقدميه للطبعة
الوحيدة منذ عام 1907لرواية (لطائف السمر ..ـ )2006أن مشاركة الصقال يف
(الشهباء) مل تكن صورية ،وأنه فيام قبل هذه املرحلة من عمر (الشهباء) كان يرتجم
األخبار واملقاالت عن اإلنكليزية والفرنسية .وقد كتب بيطار فيام بعد أن فرنسيس
املراش كان وسيط ميخائيل الصقال إىل الثقافة الفرنسية التي يجهل لغتها .وينقل
بيطار عن جريدة املصباح البريوتية يف 1883/3/29أن تهمة خطرية قد لفقت بحق
جامعة من أدباء حلب يف مقدمتهم الكواكبي والصقال .والتهمة هي اختالس أموال
الشيخ عباس النجفي القريش الذي كان يعمل يف جريدة (الجوائب) يف اآلستانة ،وجاء
حلب مريضاً .أما األهم فهو أن ميخائيل الصقال وعبد الرحمن الكواكبي قد افرتقا
نهائياً بعد جريدة (الشهباء) ،فلامذا؟
ب ـ يف عام 1897قصد ميخائيل الصقال ملجأ املفكرين واألدباء الشوام واللبنانيني
من العسف العثامين ،أعني :القاهرة .وبعد عرشين سنة من العمل الصحايف يف جريدة
(الشهباء) أصدر الصقال مبشاركة أصدقاء يف القاهرة مجلة أسبوعية علمية مصورة هي
(األجيال) .وبعد سنتني قفل الصقال إىل حلب ،فلامذا؟
كتاب العرب:
يف عام 1907عاد الصقال إىل القاهرة ليطبع روايته (لطائف السمر .)..ويف عام
1911أصدر كتابه (العرب) وقد ذكر يف املقدمة أنه أخذ فيه مأخذ (الشعر القصيص)،
وأعرب به «عن أحوال الكون وتقلباته وشؤون الرشق وعباداته وأمور الدنيا وأدوار
الحياة» ،ود ّبج كل ذلك برواية «غرامية تهذيبية».
عىل غرار ما سبق (العرب) يف (لطائف السمر ،)..كام سرنى ،أوقف الكاتب الفصول
( 1ـ )11عىل الدعوة إىل اإلخاء واملساواة والنهضة االقتصادية والعلم ،وعىل مهاجمة
9
الساسة وأعداء اإلصالح وتسييس الدين ،كام ذ ّكر مبجد الرشق ،وحدد مفهوم الدين
وأسباب تقدم الغرب.
أما الفصول 12ـ 18فقد رسدت (الرواية الغرامية التهذيبية) وهي قصة يوسف
وسعدى التي أرص والدها عىل أن يزوجها من غني شحيح ،فأصابت الحمى يوسف،
ووقع يف الهذيان سبعني يوماًّ ،
حي خاللها األطباء .وملا بلغ سعدى خربه التقته ،وتجدد
الحب ،فعويف يوسف ،واندفع يف عمله حتى أصاب النجاح وبلغ الشهرة ،فندم األب
كام ندم زوج سعدى الذي أوىص قبل موته لها برثوته وبزواجها من يوسف .وقد
تزوج العاشقان ،لكن الهذيان عاد إىل يوسف إثر غرق ابنه .ومبوته ،ثم موت سعدى،
تنقفل (الرواية الغرامية التهذيبية) .أما كتاب (العرب) فقد أوقف الفصل ( )19عىل رد
الصقال عىل من سلقوا بنقودهم روايته (لطائف السمر ،)...كام أوقف الفصل األخري
( )20عىل هجاء السلطان عبد الحميد ،وبذاُ ،حق يف الكتاب وصف شاكر مصطفى له
كخليط عجيب.
لطائف السمر:
بعد ترجمة الكاتب لنفسه وألبيه ،يح ّدث عنوان (يف رؤياي لوالدي) أنه كان
قد التمس وعداً من أبيه عندما دنت ساعته أن يتجىل له بعد الرحيل ،ليخربه مبا
سريى ويعلم .وحني بلغ االبن التاسعة واألربعني ،بعد ستة عرش عاماً من وفاة والده،
وبالضبط :بعد ظهر يوم ،1901/8/16جلس وحيداً يفكر يف الكون والخليقة ،حتى
حار يف أمره .وإذ أغفى عاين والده مقب ًال يف بهاء ونور ال يستطيع برش وصفهام ،ليفي
بوعد التجيل بعد املوت ،أي لتبدأ الرواية.
تعي النسب ً
قبل ذلك كان الكاتب قد حدد لروايته عالمات فارقة ثالثا :أوالها ّ
البالغي الكالسييك للرواية يف طالوة املجاز وحالوة االستعارة ومالحة املرسل ولطف
تعي النسب العجائبي للرواية مام يتجىل يف دعوة الكناية وحسن التورية ،والثانية ّ
ّ ً
الكاتب للقراء« :فأقبلوا عليه تجدوا فوائد وآدابا ألقاها عيل والدي بعد رحيله عن
هذه الدنيا فكانت عجباً عجاباً» .والحق أن العالمة الثالثة تتصدر هذه الدعوة،
وتتحدد مبا يتلوها« :وتجدوا فيه من الحكم واملواعظ ما البد منه للحكيم والواعظ»:
إنها عالمة الرتبية والفكرنة.
10
لعبة الحلم بني روايتني:
بالحلم إذن بدأت رواية (لطائف السمر ،)...وبهذه (اللعبة الفنية) ستنهض إىل أن
تبلغ الخامتة بيقظة الحامل .وهنا أحسب أن عىل املرء أن يذ ّكر برواية فرنسيس املراش
(غابة الحق ـ )1865والتي حمل فصلها األول هذا العنوان (الحلم) .وكان املراش قد
ختم مقدمة روايته بأنه ظل كفريسة ترتعد بني مخالب االنفعاالت «إىل أن أخذتني
سنة املنام وانفتح لدى أعيني مرسح األحالم».
بلعبة الحلم تبدأ (غابة الحق) إذن وتقوم ،وباليقظة تأيت الخامتة« :وملا فتحت
أجفاين وجدت نفيس مضّ جعاً عىل فراش النوم تحت سامء اليقظة» .وبلعبة الحلم أيضاً
تبدأ (لطائف السمر )..وتقوم ،وباليقظة تأيت خامتتها« :فانتبهت والليل مظلم وفكرت:
أكل هذا منام؟ إن يف األمر لعجباً .ثم رشعت أكتب هذا الكتاب». ما هذا يا ريب! ُّ
واألمر كذلك ،تذهب املقارنة بني اللعبة الكربى للروايتني إىل تأثري رواية املراش يف
رواية الصقال .غري أن ما عدا هذا الوقوع لـ(الحافر عىل الحافر) ،ميايز بني الروايتني
بقوة .وهنا قد يجلجل قائل ،مبا قد يبدو من تناظر أو تصا ٍد بني أفكار الروايتني
(الفكريتني) ،وبالتايل ما قد يبدو من تأثري ألفكار املراش يف أفكار الصقال .غري أن أمر
التأثر والتأثري هنا أكرب من ذلك .فاألفكار التي تشغل رواية الصقال ،كام سرنى ،هي
مام شغل النهضويني بعامة ،من سبق منهم الصقال ومن جايله ومن تاله .وعىل هذا
النحو هو القول بتجنيس كل من املراش والصقال لروايته بـ(الكتاب) ،وهو ما أحسبه
قادماً من الرتاث الرسدي ،ولسوف تتواصل أصداؤه بعد قرن أو أكرث .فعىل سبيل
املثال ،هو ذا جامل الغيطاين يج ّنس روايته (التجليات) بـ(الكتاب) ،وهو ذا صالح
الدين بوجاه يج ّنس روايته (النخاس) بـ(الكتاب) ،ومثلهام أيضاً فعل واسيني األعرج
يف عنوان روايته (كتاب األمري)...
أما ما ميايز بني روايتي الصقال واملراش ،ففي رأسه أن األليجورية جاءت سم ًة
كربى لرواية الثاين ،بينام جاءت ملاماً يف رواية األول .فليك يتحاىش املراش أذى الرقابة
والقمع ،لجأ إىل الرموز ،بينام ن َدر أن فعل الصقال ذلك ،ومنه أن املركبة الربقية قد
مضت بوالده بعد الوفاة إىل مدينة القضاة يف السامء الثالثة ،حيث رأى القايض
األوسط وفوق رأسه كلمة (الحق) ،وعىل ميينه القايض الذي فوق رأسه كلمة (العدل)
وعىل يساره القايض الذي فوق رأسه كلمة (الحكمة)..
ويف رأس ما ميايز بني روايتي الصقال واملراش أيضاً تأيت درجة النشاط التخيييل
11
األعىل يف رواية األول ،كام سرنى .والالفت أن التخييل ،ومعه السوانح األليجورية ،قد
جاءا يف إهاب من التعيني والرتهني (مخاطبة راهن الكاتب) ،بخالف رواية املراش التي
دأبت عىل التجريد مرة واملخاتلة مرة ،والنأي عن التعيني والرتهني مر ًة بعد مرة.
الفضاء الروايئ:
يسأل ميخائيل الصقال أباه« :أيجوز يل أن أسألك :هل نحن يف األرض أم يف الزهرة؟
فقال :لسنا يف إحداهام ،وإمنا نحن بينهام ،ألنه ال ُيسمح يل بأن أعود إىل األرض سجن
العاصني واملخالفني ،وال يؤذن لك يف الدخول إىل الزهرة ألنها مقام األبرار الصالحني».
يف هذا الربزخ ،وفيام يح ّدث األب ،ترسم املخيلة الفضاء الروايئ :كواكب الزهرة
واملريخ وزحل واألرض ،أما القمر فهو الغائب الحارض بحسب مشيئة املخيلة ،ولعله
يتسم إال يف عنوان الرواية .واملهم يف هذا الفضاء هو الزهرة أوالً ،واألرض ثانياً.
لذلك مل َّ
ومن مفردات الفضاء يف الزهرة نعدد مدينة التكفري واملدينة العظمى :مدينة القضاة،
واملعبد األكرب ...أما من مفردات الفضاء األريض فنعدد املدارس والسجون واملحكمة
العمومية واملدن والطرق والبويرس واملقاهي واملراقص...
يف الفصل السادس وعنوانه (يف املدن والطرق) ـ من الباب األول من الرواية ـ تبدأ
املقارنة بني عامل األب وعامل االبن ،بني عامل الفضاء الكوكبي وعامل الفضاء األريض ،إذ
يخاطب األب ابنه «أما مدنكم يف الكرة األرضية فقد غصت بكم وضاقت عليكم حتى
ضاقت أخالقكم» .وعىل هذا النهج ستميض الرواية ،بينام يتواىل هتك األريضّ ونقده
وتعريته وهجاؤه ،مع رسم الطريق إىل البديل كام هو متحقق يف الفضاء الكوكبي.
وهكذا تتمحور الرواية عىل هذا النحو:
12
أفردت له أيضاً
ْ يدخل الجنة» .وإذا كان املحور الديني سيظل يتالمح يف الرواية ،فقد
الباب الثامن وعنوانه( :يف وجود الله تعاىل وخلقه الخلق) .وقد توزعت الفصول هنا
بني توحيد األديان والرد عىل من ي ّدعي أنها قوانني وضعها عقالء البرش ،وبني املجوسية
والوثنية والشعوذة والكفر .وعىل نحو ما تخاطب به الرواية يوم كاتبها ويومنا بعدها
بأكرث من قرن ،يف الباب الثاين ،تفعل أيضاً يف الباب الثامن ،كام يف تساؤل الوالد« :ماذا
أبتغي من املتدين بديني والذاهب مذهبي إذا مل يكن عىل صالح؟ ماذا أبتغي منه
ْ
«اعقل يا هذا وهو يؤذيني ويرضين ويرتقب عثاري؟» ،وكام يف مخاطبة الوالد للقارئ:
وأدرك أن الدين ُوجد لخري اإلنسان ونفعه ،فكيف تجعله لرضرك وتعاستك وتعاسة ْ
غريك بتح ّزبك وجهلك وبالهتك؟» .ولعل ما يتوج محور الدين يف الرواية هو التسبيحات
األربع التي صاغتها عىل نحو شعاري يف :املحبة ـ الصدق ـ العفة ـ التواضع.
2ـ محور القضاء:
إذا كانت رواية (غابة الحق) قد وضعت الفيلسوف موضع الفقيه ،بالقرب من
مجلس امللك ،فقد أحلت (لطائف السمر) القضاة يف املحل األول .ومن املعلوم أن
ميخائيل الصقال عمل يف املحاماة ،كام كان عضواً يف املحكمة التجارية املختصة
بالدعاوى األجنبية يف حلب ،وذلك كممثل للقنصلية اإلنكليزية ،ولعرشات السنني.
وسواء أكان لذلك أثر عميق أم عابر يف تتويج (لطائف السمر )...للقضاء ،فقد أفردت
صدرها لكل ما يتصل به :القضاة واملحامون والسجون والعقاب واألحكام والحقوق...
ويف الفصل الثامن من الباب الثاين يربز بجالء أثر املهنة يف الحاالت التي تفرتضها
الرواية ويف أحكامها.
لقد جعلت الرواية للقضاة رأس الهرم الطبقي يف مجتمع الزهرة يف الباب السادس،
بينام جعلت للصناع والزراع الطبقة الثانية .ويف املجتمع األريض ظلت الطبقة الثانية
(السوقي) بالطبقة الثالثة ،بينام جعلت الطبقة األوىل للملوك
ّ كام هي ،وخصت
والعلامء والكهنة والقواد والحكام وأرباب السياسة «وكل محام صادق» .وبالعودة إىل
الباب الثالث نجد أن الفصل األول كان من نصيب املحامني ،بينام كان الفصل الثاين
من نصيب القضاة .والفصالن يخاطبان األرضيني ،أي املجتمع الذي عارصه الكاتب،
وهو الخطاب الذي يبدو وكأنه قد كتب خصيصاً ليومنا.
يحدد األب آفة الحقوق يف مجتمع االبن ،أي يف املجتمع السوري مطلع القرن
العرشين ـ ومن بعد إىل ما بلغنا من القرن الحادي والعرشين ـ باملحامني ،إذ يزداد
13
التزوير واالحتيال بازديادهم .وإذا كان املحامي ال يصري محامياً إال إذا كان عاملاً ّ
متبحراً
يف العلم ،فإن أكرث املحامني يف ذلك الزمن ـ أم يف هذا الزمن؟ ـ ٌ
أكلة ألموال اليتامى
ويخص الوالد بالتعنيف املحامني الذين تعينهم املحاكم للدفاع عن ّ واأليامى واألرامل.
املتهمني ،مام يذ ّكر باملحامني الذين تع ّينهم يف زمننا محاكم أمن الدولة أو املحاكم
العسكرية ،حيث يكون املحامي عىل املتهم ،وليس معه أو عنه.
بصيغة السؤال االستنكاري يسأل الوالد املحامني« :أأنتم أنصار الحق؟ أأنتم
املصابيح النرية التي يستنري بها الحكام؟» ،ثم يخاطبهم« :أنتم مبدأ الطمع واللصوصية.
أنتم منشأ اللوم ومعدن الفساد .أنتم مصدر اإلغراء ورأس االحتيال وسبب الخصام.
أنتم منبع الرش وجرثومة املكر وواسطة الغدر ومادة الفتك .أنتم أصل الظلم وفرع
البغي ومنجم الباطل .أنتم الفظاظة ونهاية الدمار .وأنتم الذين أخجل من أن
أخاطبكم بقويل لكم :أنتم».
ّ
وليس نصيب القضاة األرضيني من هذا الهجاء بأقل من نصيب املحامني .فالوالد
يخاطب القضاة بقوله مث ًال« :يا أيها القضاة الذين لستم عىل يش ٍء من العلم والعقل:
ملاذا تعرضون نفوسكم للذل واإلهانة...؟ وإين ال ألومكم يا أكرث األعضاء ألنكم ب ْلهٌ ال
تعقلون».
3ـ محور اإلصالح االجتامعي:
ليس ما تقدم يف الدين أو القضاء إال من قبيل اإلصالح العميم الذي تنشده
(لطائف السمر .)...سوى أن التبويب هو ما جعل للدين فصوالً وللقضاء فصوالً،
ولسواهام فصوالً ،منها ما يتعلق ببنات الهوى والعذرات (مجالس القوم) واملنتديات
واملقاهي ...وعرب ذلك ينهى املصلح الروايئ عن القامر والسكر والحِ داد والندب
والكحول والتدخني ،ويرضب املثل مبتع التلهي يف الزهرة ،حيث ال مالهي ،بل إقبال
عىل البيت واألرسة واألهلني األقربني.
ومن فصول اإلصالح االجتامعي أيضاً ما يتعلق باألطباء ،حيث تتبدى الثقافة
العلمية العميقة للكاتب ـ وهذا ما سيتبدى أيضاً يف مظانّ أخرى من الرواية كام
سرنى .وكام سلق لسان الوالد املحامني والقضاة ،يسلق األطباء األرضيني ،إذ يخاطب
ابنه بأن أكرث هؤالء مجربون وممتحنون ،ال مداوون ،وبأنهم هم الطاعون ،وهم
األمراض الفاتكة ،ونقرأ« :ما أكرث األطباء عندكم فهم القتلة ،هم سفاكو الدماء الطاهرة
التي ائتمنوا عليها .هم أعداء اإلنسان».
14
يرتكز الخطاب الروايئ اإلصالحي يف (لطائف السمر )...بخاصة فيام يتعلق باملرأة.
فقد خصت الرواية املالبس والحيل والهدايا بفصل ،وخصت بفصلٍ التمويه والطالء
والخضاب (املكياج بلغة هذه األيام) ،وكان للطلق والوالدة وتربية الطفل فصل،
والختيار الزوجة فصل ،وللعفاف فصل ،وللبضع (املهر وعقد النكاح) والعرس فصل،
ولالختالط واملعارشة واملراقصة فصل .ويذ ّكر الفصل التاسع من الباب الخامس وعنوانه
(يف البائنة (الدوتا) والفتيات) برواية خليل الخوري (وي ..إذن لست بإفرنجي) ـ .1858
وهي التي انتزعت لقب الرواية العربية األوىل من رواية فرنسيس املراش (غابة
الحق).
تتت ّوج هذه التفاصيل مبا سييل يف الفصل األول من الباب السابع ،وعنوانه (يف
ّ
والكف عن الرجل) ،حيث يويص الوالد باألحادية ،مبعنى إخالص الرجل لزوجته
العالقات خارج املؤسسة الزوجية ،كام يويص باملساواة بني الجنسني ،مثلام هو األمر
هن مك َّرمات أكرث منهم .وقد جعل الوالد من يف الزهرة ،حيث النساء كالرجال ،بل ّ
منزلة املرأة معياراً للحضارة واإلنسانية ،إذ قال «إذا َ
نزلت عىل قو ٍم وأردت أن تعرف
كن مثلهم يف الحقوق ،فقد بلغوا منزلتهم من املدنية الحقة ،فسل عن نسائهم ،فإن ّ
ويخص الوالد الرجل
ّ ْ
فارحل عنهم». من الحضارة واإلنسانية املنزلة الرفيعة ،وإ ّال
تذل امرأتك» أو« :إذا ظلمتبالخطاب ،جرياً عىل نهج النصح واملوعظة،فنقرأ« :ال ّ
امرأتك فقد ظلمت نفسك».
من الخيال العلمي:
تحاول (لطائف السمر )..أال يفوتها شأن من شؤون اإلصالح كافة .ولذلك تخص
بفصل الزراعة والفالحة والحياة القروية ،إنْ يف األرض أو يف الزهرة وإذا كانت الفالحة
والزراعة يف الزهرة خري الحرف ،فالرواية تدعو بحرارة إىل الهجرة إىل الريف األريض،
حيث الراحة والسالم والرسور واالبتهاج ،بل وحيث «الخالص من رؤية الحكام
الجائرين» والحرية املرشوعة .وتعلن الرواية نزوعها النبايت املقرون بالدعوة إىل الرفق
بالحيوان« :أق ّلوا أكل اللحوم شيئاً فشيئاً حتى تستغنوا عنها فتقوى أبدانكم» .ومن
أجل تحديث الزراعة والنهوض االقتصادي ينشط الخيال العلمي يف الرواية ّأيا نشاط.
ففي الزهرة تس ّمي األليجورية العامل أردوم (أي :إرادة الله) الذي َولَد القايض مجدوم
(أي مجد الله) الذي استنبت فاكهة جديدة .ومن اآلالت واألدوات النقلية والزراعية
وسواها ،اخرتع سكان الزهرة املركبات النورية (الضوئية) التي تسري برسعة النور
15
(الضوء) ،واخرتعوا السابر ،وهو اآللة التي تبرص ما يف باطن األرض والبحار ،واخرتعوا
اآللة التي تع ِّدل الهواء الحار والبارد للزرع (الكونديشن؟) فال خوف من الصقيع
والجليد والسموم والحرور .كام اخرتع سكان الزهرة آني ًة تختلف أحوال السائل فيها
باختالف ألوانها ،واخرتعوا آالت وهو لكل عني (تبرص ولكل أذن ال تسمع( ،والسامع)
آلة «سلكية نسمع بها من بالد بعيدة ما نريد إال أرسار الناس ـ واملخاطب ،وهو آلة
ال سلكية أيضاً تضعها عىل األرض وتضغطها ،فتخاطب من تريد أينام كان .وها هو
اإلبداع العلمي والتكنولوجي قد ح ّول نبوءات املخيلة الروائية إىل حقائق ،عقداً فعقداً
طوال قرن مىض ،ولعله سيح َّول ما تبقى من تلك النبوءات ـ ومنها ما سييل ذكره ـ يف
وقت غري بعيد من القرن الحادي والعرشين.
يؤرش هذا النشاط التخيييل ـ بعد ثقافة الكاتب العلمية ـ إىل ما للعلم من شأو يف
أطروحات الرواية ومن ذلك ما يجيب به األب عىل التامس االبن أن يعلمه كيف كانت
ينص عليه األب من أن آفة العلم هي الجاهالت من حالة اإلنسان األوىل يف األرض ،وما ّ
النساء ،وما يدعو املرأة إليه يف قوله« :تعلمي لريى الرجال عظمتك».
وال تفتأ الرواية تلح عىل العلم يف املدرسة والرتبية .وبالقدر نفسه هو توكيد الرواية
عىل العقل .فالعلم والعقل عنوانان رئيسان للفكرية الروائية لدى ميخائيل الصقال،
والتي تنرسب يف سائر املنظومات اإلصالحية التي تتداولها الرواية ،كام بدا فيام سلف،
وكام ييل أيضاً فيام تسميه بالقتل العدواين والقتل السيايس واملدين العقايب يف األرض،
أو ما ترسله يف الرؤساء والرئاسة ،وكذلك يف التجارة والرباء والكثري من املسائل النفسية
واألخالقية كالتشاؤم والطمع واألحزان والحب والغرية والحسد واالعرتاض عىل األحكام
العقابية ،مام تعدد الرواية من (خطيئات سكان الزهرة).
الخيال األلف لييلّ:
سيكون من الغنب بحق الخيال يف (لطائف السمر )..إذا مل تدقق النظر يف الفصل
السادس من الباب الرابع ،وعنوانه (يف املطابع) ،حيث تتنبأ الرواية مبا صدقته ثورة
االتصاالت والتكنولوجيا ،ومبا ال تزال تسعى إليه .غري أن الخيال يف (لطائف السمر)..
هو أيضاً خيال (ألف لييلّ) ،نسبة إىل (ألف ليلة وليلة) .ومن ذلك هو النوم يف النوم،
حني يقول األب لالبن« :نم قلي ًال واسرتح إىل أن أعود إليك ،ثم مىض ،فنمت ،ولكن
أيعلم القارئ ماذا رأيت؟» .فاالبن الذي يحلم يف نومه بعد ظهرية يوم ،1901/8/16نام
يف النوم ،وحلم يف الحلم مبا يجيب به عىل سؤاله للقارئ :رأى نفسه يطوف يف مدينة
16
القضاة ،ورأى أباه عند قايض القضاة يطلب البنه (مثرة اللذة) يك ينجو من الجزاء بعد
نجاته من األرض .فآكل هذه الثمرة ال تُغ َلق يف وجهه أبواب مدينة القضاة .وملا عاد
األب ،أي ملا انتهى الحلم الذي يف الحلم ـ باالحرى :حلم الحلم ـ رأى االبن بيد أبيه
كل منهام بحجم بطيخة ،ولونها :كام غصناً نضرياً يحمل مثرتني شهيتني ـ أي ل ّذتني ـ ٌّ
تشاء .إن أردت الزرقة وذكرتها ،ازر ّقت الثمرة ،وإن أردتها حمراء احم ّرت ...فإن مل
أبرصت لوناً بهيجاً ال تعرف له اس ًام .ونقرأ« :فأخذ والدي ورقة من الغصنَ تعي لوناً
ّ
ّ
ماض ،وقش به لذة من اللذتني ،وقطع قطعة ،وناولني إياها ،وقال يل: فإذا هي سك ٌني ٍ
ْ
إن كنت تريد أن ال تأتثم فكل من مثر اللذة».
يل يتأسس ما يف الرواية من الخيال العلمي .وعىل الرغم من يف الخيال األلف لي ّ
أن نصيب الخيال يظل متواضعاً بالقياس إىل نصيب الفكرية ،إ ّال أن هذا (اللعب)
هو عالقة روائية مميزة لصنيع ميخائيل الصقال يف (لطائف السمر )...ومن ذلك ما
جاء يف الشعر والشعراء ،حيث ع ّرب األب نرثاً قصيدة يف املحبة واملحبوبة لفتح الله
فتحي االبن ،وفكر يف رسه« :لقد طال
النحاس الحلبي ،وحيث أنشد األب من شعره ّ
الرس وسأل« :ما بالك مللتني؟» ،فخجل االبن ،لكنه قال: هذا الحلم» فأدرك األب ّ
طمعت
ْ «أراك تنشدين من شعري الذي نظمته بعد موتك» .ولنئ كان األب سريد»
نفسك يف شعري فال بأس عليك إذا ادعيته» لكنه سيضحك ويق ّر بأن ما ينشده هو من
شعر االبن ،فهل هي اإلشارة اللعبية هنا إىل أن األب واالبن واحد ،وإمنا اشتق ميخائيل
الصقال من نفسه راوياً للرواية هو أبوه أنطوان الصقال؟
عىل الرغم من هذا النشاط التخيييل يفتقد موىس بيطار يف تقدميه لطبعة 2006
من (لطائف السمر) الخيال الخصيب الذي يحلق بقارئه تحليقات خفاقة الجناح يف
كل أرجاء الكون ،كام يفتقد الخيال الوثاب الذي يقفز قفزات واسعة يف دنيا فسيحة
األرجاء .ويعلل موىس ما يراه من اختالل فني يف الرواية بانغامس الصقال بالواقع
وهنا يبدو يل أن تقديراً الختالل صائب ،بعكس تعليله ويف غري التحليق يف أرجاء
الكون ،والقفزات الواسعة يف الدنيا ،وهو ما تحقق يف الرواية ،من املريخ إىل حلب
أو ألبوريس .أما االختالل فيتالمح يف إثقال املتناصات الشعرية الطويلة عىل اإليقاع
الرسدي ،الغزارة الفكرية التي أصابها الرهق كام أصابت الرواية بالرهق منذ الباب
السادس حتى النهاية.
17
اللغة:
يف الزهرة ،بحسب األب ،لغة واحدة ال ثانية لها ،والكالم ال يحتاج التأويل ،والناس
ال يتنافسون يف األلفاظ واملعاين ،بل يف املباين .وإزاء هذا (املثال اللغوي) تردد (لطائف
السمر )...الدعوة إىل اللغة الواحدة يف األرض ،سبي ًال إىل توحيد األديان والبرش،
فـ«تعدد اللغات يحدث البلبلة» .وعىل الرغم من ذلك ميتدح األب اللغات األجنبية،
وهو كان يتقن اإلنكليزية ،مقابل انتقاده املرير للغة العربية ولتعليمها يف املدارس.
فاللغة العربية ،كام يتنبأ األب ،ستميس لغة مرتوكة ،ولو مل تكن من اللغات الدينية
لصارت تشبه اللغة القبطية التي أمست لغة قدمية مهجورة .أما ع ّلة العربية فتكمن
يف صعوبتها ويف استغالق قواعدها عىل فهم الطالب .يقول الوالد« :ومن البلية عندكم
أن القارئ ال يشتهي أن يراجع كتاب لغة لكرثة ما فيه من الرشوح والنقول واآلراء
واألقوال والروايات والحكايات اململة واملختلفة واملتناقضة» .ومييض هذا النقد إىل
الرتجمة ،فيقول« :أما العريب املتأنق يف األلفاظ فال تروقك معانيه إذا نقلت إىل غري
لغته كام راقتك قبل نقلها» .ولدرء ذلك يدعو الوالد إىل تأسيس جمعية من جميع
البالد العربية لتكون مرجعاً يف الرتجمة والتعريب ،ولتكشف املخبأت يف اللغة.
عىل مستوى لغوي آخر ،يتعلق بلغة (لطائف السمر )..نرى الوالد يف ختام الرواية
يويص ابنه بأن يثبت كل ما سمعه منه يف كتاب يطبعه لتعم الفائدة .ويف الوصية:
«إين أريد أن ال تكتب بلغة عالية كام يفعل أكرث العرب فيحبسون تآليفهم عن العامة
مع أنها أوىل بها من الخاصة ،فقلت :أخىش أن أجمع بني العامي والفصيح فال أدرك
الغاية .فقال :اكتب الكالم والعبارات التي دارت بيننا نفسها ،وهي لغة قريبة من
الفهم ما خال بعض كلامت ال بد منها فاجعل لها رشحاً» .وقد رشح االبن ما ندر من
املفردات ،فاملعاظلة نادرة يف الرواية .وإذا كانت تؤرش إىل املكنة اللغوية القاموسية
للكاتب ،ففي الرواية ما يؤرش بقوة إىل تأثر الكاتب املسيحي باألسلوب القرآين يف
الوعظ ،عىل غرار هذا املثال الذي يذهب إىل أن القضاة ال يتقوفون أحداً يف املجالس
وال يستهجون ،أي ال يركب واحدهم رأسه ،ومن هذه الصيغة (...ون) كثري جداً.
•••
ما كادت (لطائف السمر )..تصدر حتى أخذت السهام ترشقها ،وقد بلغت ح ّد تكفري
الكاتب بدعوى التجرؤ عىل املؤسسة الدينية ،وملا تضمنته من نقود ومن اقرتاحات
تتعلق بالحياة الروحية والفكرية واالجتامعية واالقتصادية ...وألن ميخائيل الصقال كان
18
يتوقع ذلك الهجوم عىل روايته وعليه ،فقد استشار آخرين فيها قبل الطباعة ،وهذا ما
جعله يه ّمش الفصل السابع من الباب الثامن بنفي إميانه بالتقمص أو التناسخ ،إىل أن
يقول مخاطباً القارئ« :فكل ما مير بك مام ال يطابق الدين القويم إنْ هو إال خواطر
شعرية سانحة ،و ُر َّب شعر يف نرث ونرث يف شعر ،واملقصود هو تهذيب األخالق وتفكهة
القارئني» .وقد ر ّد الصقال يف كتابه (العرب) عىل من سلقوه وسلقوا روايته ،فكتب أنه قد
بلغه يف القاهرة أن جامعة من املتحذلقني ،وبينهم مراوغون ومنافقون ،عابوا الرواية ـ
الكتاب وتنقصوا الكاتب وك ّفروه ،والتمسوا من سيد عظيم مطاع أن مينع قراءة الكتاب
ـ الرواية ،فقال لهم« :إن الكتاب رواية خيالية وأنتم تريدون أن تجعلوا الخيال جس ًام
واملجاز حقيقة ،وهذا خطأ مبني .فلام سمعوا كالمه تخاذلوا وارعووا».
إنها املحنة القدمية الجديدة التي تتالىش ،مهام يكن من أمرها ،ليبقى الفكر والفن
النقديني ،كالذي قامت به رواية (لطائف السمر ،)..وهو ما يجعل حضورها اليوم أكرب
رضورة وإلحاحاً .ومن أجل ذلك تأيت هذه الطبعة يف سلسلة الكتاب الشهري ملجلة
(الدوحة).
نبيل سليامن
املصادر:
1ـ ميخائيل الصقال :لطائف السمر يف سكان الزهرة والقمر أو الغاية يف البداءة والنهاية ،ط ،1القاهرة
.1907
2ـ كتاب العرب :املطبعة املارونية ،ط ،1حلب.1911 ،
املراجع:
1ـ جان داية :صحافة الكواكبي ،مؤسسة فكر لألبحاث والنرش ،ط ،1بريوت .1984
2ـ شاكر مصطفى :محارضات عن القصة يف سورية حتى الحرب العاملية الثانية ،معهد الدراسات
العربية ،ط ،1القاهرة .1957
3ـ فرنسيس املراش :غابة الحق ،دار رياض الريس ،ط ،2لندن .1989
4ـ قسطايك الحميص :أدباء حلب ذوو األثر يف القرن التاسع عرش ،املطبعة املارونية ،ط ،1حلب .1925
5ـ عائشة الدباغ :الحركة الفكرية يف حلب يف النصف الثاين من القرن التاسع عرش ومطلع القرن
العرشين ،دار الفكر ،ط ،1بريوت .1972
6ـ محمد راغب الطباخ :إعالم النبالء بتاريخ حلب الشهباء ،املطبعة العلمية ،ط ،1حلب .1926
19
20
مقدمة املؤلف
نحمد الله تعاىل جزي ًال .بكرة وأصي ًال((( .ونشكره عدد أنفاسنا عىل ما ع ّلمنا
وأوىص .حمداً وشكراً نتقرب بهام إىل عرشه األقىص .ونس ّبحه تسبيحاً طوي ًال .تعظي ًام
له وتبجي ًال.
أما بعد ،فهذا كتاب فيه من طالوة املجاز ومالحة املرسل وحالوة االستعارة ،ما
يهذب األخالق ويروض النفوس وين ّقي الضامئر .وفيه من لطافة الكناية وحسن
التورية ور َّقة اإلشارة ،ما ين ّور البصائر ويرقي األفكار ويط ّيب الرسائر :سميته بالغاية
يف البداءة والنهاية :فأقبلوا عليه تجدوا فيه فوائد وآداباً ألقاها عيل والدي بعد رحيله
عن هذه الدنيا فكانت عجباً عجاباً .وتجدوا فيه من الحكم واملواعظ ،ما الب ّد منه
للحكيم والواعظ.
وقد قسمته إىل تسعة أبواب:
الباب األول يشتمل عىل مثانية فصول.
الباب الثاين يشتمل عىل خمسة عرش فص ًال.
الباب الثالث يشتمل عىل خمسة فصول.
الباب الرابع يشتمل عىل مثانية فصول.
الباب الخامس يشتمل عىل خمسة عرش فص ًال.
الباب السادس يشتمل عىل تسعة فصول.
الباب السابع يشتمل عىل خمسة فصول.
الباب الثامن يشتمل عىل اثني عرش فص ًال.
الباب التاسع يشتمل عىل مثانية فصول.
21
22
الباب األول
23
24
الفصل األول
_ من الباب األول _
يف ترجمتي
أنا ميخائيل بن أنطون الصقال ،ولدت بجزيرة مالطا يف اليوم السادس عرش من
شهر آب ،سنة اثنتني وخمسني بعد مثامنئة وألف ميالدية.
أفطمت((( رحل بنا والدي إىل مدينة حلب فجعلها َّ
محط رحاله .ويف السنة ُ فلام
العارشة من عمري أقرأين اللغة العربية فأجهدت النفس يف درسها حتى أصبت منها
سه ًام .ثم وجدت من نفيس ارتياحاً إىل النظم والنرث فراوحت((( بينهام ،أوصل لييل
بنهاري إىل أن ّ
اعتل بدين من اإلجهاد.
وبعد هذا اتخذت اإلقراء حرف ًة يل ،فأخذ بعض الناس ُي ّ
عيونني ،ألنهم يع ّدونها
تحط من قدر صاحبها ،فرتكتها كرهاً عني ال اختياراً ألنها من أرشف الحِ َرف دنيئ ًة ّ
ولكن الناس ال يعلمون أنَّ األستاذ الصادق يه ّذب األخالق ويؤ ّدب
وأعالها منزلةَّ .
ً
النفوس ويع ّد للمستقبل رجاال صالحني مثقفني ،يدخلون املجتمع اإلنساين فيصلحونه
مبعارفهم وآدابهم.
عىل أنني مل أنقطع عن املطالعة ،وقد ازددت رغبة يف الشعر حتى أحسنت نظمه
25
ورصت ُأحسب يف عداد شعراء هذا الزمان .غري أين مل أقبل جائزة ،وقد حذوت بذلك
حذو والدي.
ويف أواخر سنة 1896رحلت إىل الديار املرصية ،فرأيت يف مدينة اإلسكندرية
أخاليئ وأصدقايئ السادة نقواليك وعزيز وباسيل سميان يريدون أن يصدروا من مالهم
مجلة مبساعدة الكاتب الفاضل السيد يوسف شلحت ،فاختاروين مديراً فأنشأنا مجلة
«األجيال» الشهرية يف مدينة القاهرة .ولكنني بعد أن مارستها زهاء سنة ونصف
ُدعيت إىل حلب فلم أ َر إال إجابة الداعي.
أخالقي
يل فخلقني دمث الخلق حسن السلوك محباً للوطن ودوداً من الله تعاىل ع ّ لقد ّ
غيوراً ثابتاً عىل رعي الوالء .أؤثر صديقي عىل نفيس وأدرأ عنه الشبهات ما استطعت.
ال أقبل فيه لومة الئم .أتغاىض عن زلته وأكتمها كتامناً شديداً حتى يعتقد من نفسه
أنني مل أنتبه إليها وأحمل عىل النفس ضيمها .أخفض له جناحي وأجتهد يف مجاراته،
كأنَّ خلقي من خلقه فال أخالفه إال فيام ال يجمل بنا ،وأنا يف ضمن هذا ال أغفل عن
نصحه بعبارات رقيقة ُيرشبها ذوقه فال ينفر مني بل يرتاح إ ّيل ويأنس يب .أالزمه أيام
مت حاجته عىل حاجتي ال أبتغي منه شدته وأواسيه وأع ّزيه .إذا قصدين قاصد ق َّد ُ
عوضاً ،فإذا عانيت يف معاونته مشقة خفيتها عنه ألين أعتقد أنَّ التعاون فرض عىل
بني اإلنسان ال ِم َّنة لهم فيه.
ال أطمع يف حطام الدنيا وال أرغب يف التفرد باملنفعة .أقنع باليسري .مل أجعل
ُ
ابتهجت برثوتهم ومتنيت لهم الزيادة. للحسد يف قلبي مح ًال ،فكلام أثرى إخواين
ال يهمني من دنياي غري الفقري ،فكنت أساعده وأسعى يف تخفيف مصيبته بقدر
بت ليلتي مرسوراً كأنني يف زهرة الدنيا االستطاعة ،فإذا متكنت من معاونته وإفادته ّ
ُ
اغتممت. ً ونضارتها .إذا رأيت يتي ًام أو عجياً أو لطي ًام أو أميا أو أرملة أو غريبا بائسا
ً ((( ً
أقدمت ال أنثني ،أصرب عىل وثبات األيام بشجاعة ُ ُأ ْق ِد ُم إذا بدا يل وجه النجاة ،فإذا
وثبات وأع ّلل النفس بأنَّ الدنيا ليست بذات قرار فالب َّد يل من فراقها إىل أحسن منها.
عجي،
1ـ اليتيم من الناس :من فقد أباه ومل يبلغ الحلم .فإن مات األبوان فهو لطيم ،وإن ماتت أمه فهو ّ
واأليم :من ال زوج لها بكراً أو ثيباً ،واألرملة :املحتاجة أو املسكينة.
26
وأعتقد أننا خلقنا للعذاب فيلزمنا أن نوطد النفوس عىل معاناة الشدائد واملكاره،
الغم.
وإال قتلنا ّ
أكره النميمة وأسعى يف إخامد نار الفتنة فأق ّرب القلوب املتنافرة .أمقت البطالة،
الرس كأين قد نسيته ،فأصبحت من حذر اإلفشاء قليل الكالم لئال يفيض الصدر أكتم َّ
أكتم للرس ألنَّ املكثار يعرث وهو ال يدري .ال
عىل غري انتباه مني ،فرأيت السكوت َ
أدخل مداخل السوء لئال أتهم بنقيصة.
وأحب
ّ ُ
أريد من اإلنسان العمل الحسن فال يخطر ببايل معتقده .أقبل العذر
خلق
الصفح والحلم ،وأ ّما الذين غلبت عليهم أهواؤهم فاعتادوها ،والذين ُجبلوا عىل ٍ
ذميم فأريث ملصابهم وال أؤاخذهم بل أمتنى لهم اإلصالح والخري ،ألنهم لو استطاعوا
لجعلوا نفوسهم أحسن الناس فال تصدر أفعالهم إال عن أخالقهم.
ُ
ال أجد يف الكريم الحسن الطبع مزية له تذكر فإنَّ خلقه الذي فطر عليه (من
غري أن يكون له به فضل) يالمئه ويساعده عىل الحسنات .إنَّ الفضل العظيم ملن قمع
نفسه وأكرهها عىل اجتناب السيئات إذا كانت من سجيته.
مساويئ
يل نفيس فصار اإلباء ّيف عظمة .فإذا لسنني أحد وأزرى يب نفرت
((( كربت ع ّ
لقد ْ
وكدت أعدو طوري وشتمته ،بيد أنَّ شتمي ال يستحيا من استامعه.
ّ
استخف يب، ندمت عىل يشء يف حيايت قدر ما ندمت عىل لطمة رجل مسن ُ ما
فلم متر عىل اللطمة دقيقة حتى شعرت بخطايئ فصربت بعد هذا عىل إهانته وسبه
اعرتافاً باعتدايئ عليه ،فأردت أن أصون نفيس من اإلهانة فأهنتها برشاستي .والذي
يؤملني أنَّ الرجل مل يكن ليقوى عىل رضيب فيتش ّفى من غيظه فرتكته منكرس القلب.
جادلت واستعان املجادل ع َّ
يل باملواربة واملامحكة غضبت، ُ ومن هذا القبيل إذا
فأضعت برهاين بغضبي وانتهى يب الغضب إىل الخصام.
إذا أعلمني أحد أقاريب أو أحد أصدقايئ أنَّ زيداً اعتدى عليه ثرت من غري أن
أتر ّوى حتى ال يستطاع تسكيني ،فإذا تُركت بضع دقائق ُ
عدت إىل الحلم.
27
الفصل الثاين منه
_ يف ترجمة والدي _
ُولد والدي يف اليوم الثالث من شهر آذار .1824كان يعرف من اللغات العربية
والرسيانية واإلنكليزية والرتكية معرفة تامة تكل ًام وكتابة ،ويعرف كثرياً من العلوم
لقيت إليه من مدارس مالطا ومن عني ورقة بلبنان ومن حلب. والفنون العرصية أَ ْ
وكان ناثراً محسناً بارعاً فصيحاً .قوي الحجة مسموع الكلمة .صادق الرواية .رزين
املجلس .وكان شاعراً مجيداً له ديوان شعر وروايتان.
وكان صياداً ماهراً وموسيقياً أطرب بأكرث املطربات العربية واألعجمية وفنونها يف
إيقاع حسن ،ومهندساً اشتهر باألعامل اليدوية.
وكان باراً بأهله وجريانهُ ،عرف بالنزاهة يف معامالته .و ُذكر أيضاً باألمانة ورد
الحقوق إىل أربابها ،فإذا حكم عدل وأنصف غري مرتدد .يحب املساواة .اجتهد يف إزالة
خرافات كثرية من عقول كثريين .وهو أحد رجال النهضة األدبية األخرية يف هذه األمصار
فر ّغب أهلها يف املعارف وح ّبب إليهم املجالت العلمية والجرائد فتثقف كثريون منهم.
وقد كان رصيناً ثابت العزم س ّباق غايات .ال يبارى يف مضامر ،وال يستصعب صعباً،
إذا طلب أدرك غري هياب وال محجم.
شهد مواقع من حرب القرم سنة ،1854وهو الرتجامن األول لقائد الجيوش
اإلنكليزية حينام قامت بريطانيا العظمى تتنرص للدولة العثامنية العلية .ويف الجملة
كان من الرجال الذين مل يقدرهم الزمان حق قدرهم.
ملا دنت ساعة والدي األخرية سألته عن معتقده فأجاب :إنني أعتقد بل أشعر من
وجودي بأنَّ الله تعاىل موجد للكائنات وهو يجازي خلقه بحسب أعاملهم .فقلت له:
ألتمس أن تعدين بأنك إذا ارتحلت عن هذه الدار تتجىل يل وتخربين مبا ترى وما تعلم،
فقال :إذا استطعت فعلت وسأفعل إن شاء الله تعاىل.
وبعد هذا أوصاين بحفظ وصايا الله لفظاً ومعنى مع حسن تأمل وتفهم ،ثم
احترض((( ،وآخر كلمة قالها «املوت صعب» وكان ذلك يف اليوم الثامن من شهر كانون
األول سنة .1885
1ـ احترض الرجل عىل املجهول :حرضه املوت فهو محترض أي قريب من املوت.
28
الفصل الثالث منه
_ يف رؤياي لوالدي _
ملا كان اليوم السادس عرش من شهر آب سنة إحدى وتسعمئة وألف وهو اليوم
يل يف هذه الحياة الدنيا ،وهي السنة السادسة األخري من تسع وأربعني سنة مرت ع ّ
عرشة من وفاة والدي ،جلست بعد طعام الظهر وأنا يف الدار وحدي أفكر يف الكون
نعست وغفوت((( فعاينت والدي مقب ًال ع ّ
يل ُ والخليقة حتى حرت يف أمري ،وأخرياً
احتي لئال
وهو يف بهاء ونور ال يستطيع برش وصفهام ،فخررت لذقني أسرت برصي بر ّ
يخطفه نور محياه .فدنا مني وملسني بيده ورفعني ،فتلذذت بلمسه تلذذاً مل أشعر
مبثله كل حيايت .ثم أمرين أن أجلس فجلست يف الحال ال أخىش تأثري نوره ّيف مبتهجاً
برؤيته ،وقد الح يل أنه كبري الجثة ضخمها عريض األكتاف .طويل القامة يف حجم
عرشة رجال .أما حسنه فال تجشمني وصفه ألنه ليس من املستطاع أن أعرض نفيس
له .فإذا شئت قلت عىل سبيل التقريب من باب املجاز ال الحقيقة أنه بينه وبني
اإلنسان من الجامل واألبهة أكرث مام بني الفتاة الحسناء والقرد الهرم.
فرميت بنفيس بني يديه أقبلهام ،فضمني إىل صدره وقبلني ثالثاً مع أنني مل أذكر
أنه قبلني قبل ذلك مرة واحدة ،ثم إنه أجلسني إىل جانبه وقال :أال تذكر وعدي
لك ساعة احتضاري أين أظهر لك بعد رحييل وأعلمك كل ما أرى وأعلم؟ أمل تلتمس
مني هذا؟ فقلت له :أتذكر ولكن ملاذا تركتني نحو ستة عرش حوالً؟ فأجاب :اعلم يا
نجيل أنه ملا فاظت((( نفيس حملتها مركبة برقية فمرت بها مرور الربق تقصد السامء
الثالثة حتى وصلت مدينة القضاة وهي أعظم مدينة يف الزهرة .فتذكرت أنني
وصلت إىل مدينة هي مسقط رأيس ،وأنني من سكانها يقيم بها أهيل وأصدقايئ.
وهناك دخلت نفيس يف جسم أرقى من جسمي األريض ،ولكنه دون أجساد سكان
الزهرة فتيقنت أنني معاقب ال يحق يل وال يسمح بأن ألبس الجسد الذي يلبسه
البار.
1ـ قال األزهري :غفا الرجل غفوة إذا نام نومة خفيفة .ويف الحديث فغفوت غفوة أي منت نومة خفيفة.
قال :وكالم العرب أغفى وقلام يقال غفا.
2ـ فاظ الرجل :مات وفاظت نفسه تقيأها أي قذفها من جوفه.
29
ثم أدخلني بعض القضاة املدينة فوجدت أقاريب وخالين يبارصونني وهم يف
خجل واستحياء من جسمي الذي هو جسم األثيم املغضوب عليه.
وبعد دقائق أوقفني القايض يف مجلس القضاة األصغر ،فإذا هو قرص عايل
األركان فسيح الجوانب يف روضة غناء بها من الثامر الشهية ما مل ي َر مثله آدم يف
فردوسه .وكانت املياه املختلفة األلوان تتدفق ولها خرير يروق السامعني.
وهناك أبرصت ثالثة من القضاة الشيوخ يف أكيسة متتاز عن لبوس األهايل .وهم
جالسون بعضهم بجانب بعض .فالجالس يف الوسط مكتوب فوق رأسه بأحرف
كأنها نارية «الحق» والجالس عن ميينه مكتوب فوقه «العدل» والجالس إىل يساره
مكتوب فوق هامته «الحكمة».
ً
فأمرين الجالس يف الوسط وهو أكربهم باإلصغاء والتفهم أوال ثم بقراءة هذه
الكلامت الثالث ،فقلت له بعدما ائتمرت أمره :إين تصورت اآلن أمامي كل آثامي
وجميع كبائري ،ولكني أستغيث برحمة ريب وعفو موالي أنا أسري الوصمة((( وعبد
الشهوة .لقد جنيت عىل نفيس فاستوجبت هذا الجسم .لقد أسأت إىل خالقي الذي
أحسن إ ّيل .لقد خالفت أحكامه ورشائعه ،يا وييل ويا فضيحتي من هذا املوقف
الرهيب ،يا لهف قلبي عىل ذوي قرابتي الذين تواروا عني خج ًال واستحياء .آه لقد
عراين العار وأخزاين الخزي .عفوك يا إلهي عفوك يا كريم.
فلام أمتمت هذا الكالم تراءى يل يف صدر املجلس لوح ُكتب فيه ما يأيت «لقد
كانت توبتك غري كافية لتربيرك َف ُحك َِم عليك بأن تقيم مبدينة التكفري يف القمر
عرشين سنة .فإذا أصلحت نفسك بتوبة صادقة قبل ميض هذه املدة نُظِ َر يف
أمرك».
تصب وال تيأس من رحمة الله تعاىل ُ
انتهيت من القراءة قال يل القايض األكربّ : ملا
وال تفرت عن حمده وشكره .فخرجت من املجلس وأنا ال أقوى عىل التأمل بل أملح
ملحاً ،يعذبني الخجل ويؤملني العار حتى وصلت باب املدينة َّ
املعد لخروج املذنبني
فوقفت يب بعد نحو دقيقة أمام رتاج مدينة التكفري
(((
ْ ُ
فركبت املركبة الربقية منها
30
موجع القلب دامع العني محني ُ فدخلت خادعته وأنا كئيب حزين ضيق الصدر
الظهر ترتجف أعضايئ من هول دخويل ومن هول ما رأيت.
يل جميع آثامي وكل كبائري مجسمة، لقد رأيت يف غرفتي التي ُأغلق بابها ع ّ
أبرصت كثرياً من أولئك الرجال والنساء الذين شاركوين يف املعايص وهم بأجسامهم
اآلدمية.
هذا يؤنبني وذاك يعنفني .هذه تتظلم وتلك تشمت .فكان يل من ذلك عذاب
شديد ليس يف وسعي وصف بعضه .وحسبي أن أقول لك إنك كنت سألتني عن
حالتي دقيقة فراقي األرض .فكانت كلمتي األخرية« :املوت صعب» ألين عانيت أملاً ال
يل وأعظم كاآلالم ووجعاً ال كاألوجاع كلها ،ومع هذا فإنَّ عذايب يف غرفتي هذه أشد ع ّ
من تلك الساعة التي خرجت بها روحي من جسمي .والذي كان يزيد يف تعذيبي هو
أنني كنت أتصور سكان مدينة القضاة وهم يف غبطة ورسور .فمكثت عىل تلك عرش
سنني وأنا أصيل وأستغفر الله تعاىل من ذنويب لي ًال ونهاراً.
وبعد هذا أتوا يب إىل ع ّلية يف روضة فيحاء فيها من األزهار والثامر ما تطيب
به النفوس وتقر العيون .فزالت عني تلك املخاوف واملناظر املبكتة والصور املعذبة
وبت يف راحة وسكينة إال أنه كان يؤملني ابتعادي عن سكان الزهرة وخصوصاً مدينة ُّ
القضاة.
أما شغيل فقد كان التعبد واالستغفار واإلكراء فشعرت بعد هذا بأنَّ الله تعاىل
(((
اقتبل توبتي هذه الثانية الصادقة وندامتي الكاملة الخالصة ألنَّ العدل اقتص بهام
للحق مني.
ملا كان اليوم األخري من السنة الخامسة يف سجني بغرفتي الثانية برشوين بالعفو
الكريم ،فألبسوين جسدي الذي كنت ألبسه يف الزهرة ،قبل إنزايل إىل األرض ثم علوت
مركبة األبرار فسارت يب تقصد املدينة العظمى((( حتى إذا دنوت منها خرج كل
السكان إىل استقبايل يتلقونني باألزاهري والرياحني ،وهم يرتمنون بالنشائد الخصوصية
املنظومة للقاء التائبني.
وقد كان يف مقدمة املستقبلني رئيس املحكمة العمومية التي كنت فيها قاضياً
31
وذلك قبل إنزايل إىل األرض فضمني إىل صدره وقال يل :لقد أمرين قايض القضاة أمراً من
عند الله سبحانه وتعاىل بأن أعيدك إىل منصبك .فدخلنا املدينة وقد زُينت يل زينة إذا
وصفتها ألحد ال يدرك لوصفي معنى ،منها أنَّ الناظر يبرص املعبد األكرب قامئاً يف الهواء
والخلق يسبحون الله يف أعاله ويرتلون وهو وكل من عليه نور يف نور .تخرج منه طيور
تختلف ألوانها الالمعة وهي تس ّبح الله وتشكره عني .وكنت أراها توكب((( وتقبض
يل قائلة بلسان واحد وكالم فصيح« :نهنئك بعفو الله جناحها((( وتتكركر((( وتنزل ع ّ
عز ثناؤه إنه رؤوف بعباده» ،ثم تدنو من األرض وهي تقول« :يا أيتها الخليقة برشي
ّ ّ (((
وتصف القايض العظيم بعفو ربه إنَّ الله تعاىل غ ّفار الذنوب» ،ثم تهفو((( وتحلق
أجنحتها يف السامء((( وبعد ذلك تجثم((( وتهدهد((( ونحن نسمعها تقول« :يا أيها الذين
أحبكم الله تعاىل فخلقكم س ّبحوه معنا واشكروه عىل عفوه وغفرانه إنه ت ّواب رحيم».
كريس وبعد طرفة عني أو قولك فلام وصلنا إىل املحكمة العمومية ُأجلست يف ّ
يل .وكان قد دنا وقت الصالة «يا الله» أقبل قايض القضاة بجامعته فس ّلم وس ّلموا ع ّ
فاغتسلنا ثم تقدمني إىل املعبد األكرب والخلق وراءنا فص ّلينا وشكرنا وس ّبحنا.
وبعد هذا مضيت إىل داري وأنا مرسور بعفو ريب مبتهج مب ّنه وكرمه ،يكلمونني
فال يسمعون مني غري حمده وشكره.
يل معظمه فأهم بسؤال أقول :إنني كنت ُأدهش من هذا الكالم الذي أشكل ع ّ
يل فأعلمك كل ما تريد أن تسألني عنه. والدي عنه فيقول يل يف الحال :متهل ع ّ
قال :وبعد هذا تذكرت وعدي لك فالتمست اإلذن من قايض القضاة فأذن يل يف
32
يشء ونهاين عن آخر ،وها أنت جالس يف حرضيت .فقلت له :أيجوز يل أن أسألك هل
نحن يف األرض أم يف الزهرة؟ فقال :لسنا يف إحداهام وإمنا نحن بينهام ألنه ال يسمح
يل بأن أعود إىل األرض سجن العاصني واملخالفني ،وال يؤذن لك يف الدخول إىل الزهرة
ألنها مقام األبرار الصالحني.
33
املياه من عيون رقت وصفت وراقت الشاربني .يعسل((( ماؤها فتبرص عليه حروفاً
تأويل كالمها إنا جعلناك شفاء للمتقني.
ام بلي ًال علي ًال .ال باردا قارسا وال حارا يابسا .فكلام استنشقناه
ً ً ً ً يهب هواؤها نسي ً
تجددت فينا الحياة.
أما جبالها وأوديتها ومرتفعاتها ومنخفضاتها فإنها مزينة باألزاهري ذوات
الروائح الذكية التي تأخذ مبجامع القلوب رسوراً وابتهاجاً ،كلام شممناها قويت
أبداننا ونشطنا إىل العمل.
34
العمومية والخصوصية وهي تصب يف أنهار رسيعة االنحدار والجريان فال تجتمع
إىل مناقع فتأسن((( وتنترش منها األمراض الفاتكة.
أما طرقكم القدمية املب ّلطة التي تعرثون فيها لضيقها فهي خري لكم من طرقكم
العريضة الحديثة غري املب ّلطة التي نحسبها مفاوز يثور غبارها عليكم وأنتم تتنزهون،
فتعودون إىل أماكنكم وقد امتألت منه أجوافكم فتعرضون عن الطعام وال تقبلون.
لقد كرثت عللكم بطرقكم وأنتم ال تدركون فإذا مل تتداركوا نفوسكم بتبليطها ولو
بنصف أموالكم ضعفت أبدانكم وفسدت بناكم((( .إنَّ طرقكم لتجني عليكم فكيف
فيها تسلكون!
ٌّ
تسري الخليقة منا هادئة مبتسمة .يح ّيي كل أخاه ببشاشة ووقار ،فيا ليتكم بنا
تقتدون.
(((
عندنا السالم فال جدال وال خصام .لدينا الراحة فال تعب وال عناء .هناك الرتفة
والغدنة((( ،هناك الرفاهة والعيش الرغد .غري أنَّ هذه النعم ال ترتفنا وال تبطرنا بل
نحن نجفن نفوسنا((( ونكفها عن املحارم.
يسأل بعضنا بعضاً عند التحيات :هل تريدون مساعدة؟ هل تبتغون مدداً؟ هل
تضطرون إىل يشء؟ فيجيبون مث ًال :إننا نبني داراً أو نجدد بهواً أو غرفة فنتسابق
إىل تقديم معدات البناء والتشييد بهمم عالية وقلوب نقية .ونشتغل ونحن نتامزح
متازحاً أدبياً ال ينتقل بنا إىل الجد .أو نرتنم بالنشائد التي تذكر بها مآثر مشاهرينا
وفضائلهم يف تساعدهم ويف وجوب تعويد أبدانهم النشاط ويف الجد والعمل مع
حسن إتقان ودقة إحكام إىل غري ذلك.
فإذا مل يكن ألحد شغل أو عمل يلهيه وميرنه ذهب إىل قايض الحي الذي يقيم
به فيشغله بتمريض((( مريض أو يرسله إىل معمل يشتغل به من غري أن يجهد ألنه
35
من العار أن يقيم يوماً واحداً بطاالً خوفاً عىل نفسه من املفسدة ،فإنَّ من يبطل
من عمل فسد قلبه ،ولذلك نتساعد برغبة ونشاط ال نسأل بدالً وال عوضاً كأننا كلنا
أحباء وأصدقاء مختارون نتبادل املنافع .إنَّ الخلق عندنا يف قناعة فال يتهافتون عىل
(((
حشد الذهب والفضة وال يطمعون ،وال ينهب((( بعضهم بعضاً وليس فيهم حرض
وال منّام ذميم.
36
تنزهنا .ونحن يف كل هذا ال منتطي مطايا بل نسعى عىل األقدام رياضة ألبداننا .إننا
نجتنب الصيد فقد حرمه الله تعاىل علينا.
لقد كانت دياركم تصلح للصيف والشتاء فلام متدنتم التمدن الحديث ،وبنيتم
لكم بيوتاً جديدة مثل بيوت سكان أوروبا عىل زعمكم ،من غري أن متيزوا قارتكم من
قارتهم وتدركوا خصائص املاء والهواء فيهام ،أمست مساكنكم ال تصلح للسكن وأنتم
غافلون .فبدت العفونة بأمراضها الق ّتالة تنترش بينكم وأنتم ال تشعرون.
ولقد أنشأتم أكرث دوركم يف منخفض من األرض فجعلتموها أحجار الضبان ال
(((
قصور اإلنسان.
ً ً
تنام الفصيلة منكم يف حجرة ضيقة تفسد هواءها وتستنشقه سام قاتال ال هواء
(((
1ـ جمع الضب وهو حيوان بري يشبه ال َو َرل وقيل هو أنثى الحرذون وقيل هو دويبة عىل حد التمسح
الصغري.
2ـ الفصيلة من الرجل :عشريته ورهطه األَدْنون وأقرب آبائه إليه.
37
وأحثهم عىل التفاين يف التجمل والتحيل بها تفانياً يؤثر يف عقولهم وقلوبهم وحواسهم
وأعضائهم بل يف كل منبت شعرة منهم.
النظافة قاعدة من قواعد الدين .النظافة رس من أرسار الحكمة .النظافة غاية
املناقب واملحامد .النظافة ال شك أساس الظرف وأصله .هي الفيض الروحاين الذي
يسيل منه ماء الحياة .هي رس خفي من أرسار الجنة الغامضة فإذا علمه اإلنسان
واهتدى إليه ظفر بيشء من السعادة الحقيقية.
ً
ال علة وال دواء مع النظافة إال فيام ندر وال عاهة أيضا .فيجب أن يعتنى بها
شديد االعتناء ،وذلك يف املأكل واملرشب وامللبس ويف الفراش واألثاث ويف كل ما تقع
عليه عيناك مبنزلك وغريه يف كل ما تلتصق به ويلتصق بك ،ويف كل ما تشمه وتجسه
ومتسه وتلمسه.
ً
ال يبالغ الفتى والفتاة يف التجمل والتحسن طلبا للحسن الكاذب املموه الذي
كله تص ّنع يف تص ّنع ،بل ليدأبا يف النظافة فإنها كل الظرف ونصف الحسن .وهي إذا
تأملت -الحسن كله .إذا كان السمن كام تقولون نصف الحسن فالنظافة كله .وغاية
ما أقول إنَّ النظافة تقوي البنية وتلطف الهيئة فيحدث السمن الحقيقي الصحيح
يف البدن فينبعث النور والبهاء من البرشة ،فينعم الجسم يف غضاضة ونضارة وطراءة
وبضاضة .ويزهو حسن الوجه يف بياض واحمرار يشفان عن بهجة رائعة وطالوة.
وينشط القوام يف رشاقة وخفة فيسلم اإلنسان .يا أيها البرش اجتنبوا القذرين.
38
الباب الثاين
39
40
الفصل األول من الباب الثاين
_ يف العبادة _
قال والدي :إنَّ الله تعاىل أراد خرياً بتلك األرسة التي كانت متردت عليه يف املريخ
فأسكنها الزهرة .وقال لها :لتكن عبادتك «املحبة» «الصدق» «العفة» «التواضع» .وقال
لها إين أريد من كل عبد قلبه .واملرء مكرم بفضائله .والنظافة الب َّد منها فثابري عليها.
وقال :من خالفني منك أنزلته إىل األرض ،فإن كانت توبته فيها غري كاملة أرسلته
بعد انقضاء أيامه إىل القمر .فإن أرص عىل املخالفة بعثته إىل زحل فإنَّ فيه العذاب
األليم .ومن أطاعني أعدته (بعد خروجه من األرض) إىل الزهرة فاملريخ حيث الجنة
بجالل مني عظيم.
قال والدي :وقد كانت مدارك هذه األرسة أسمى وأرقى من مدارككم بكثري
فأخذت تتكاثر بعبادتها ،وقد جعلت الفضائل ديدنها فعمرت البالد وأنشأت القرى،
فأقام الله عليها قضاة مرشدين ومدبرين ومخرتعني يخرتعون ما تضطر إليه تعمي ًام
للراحة والرفاهية فشكرته عىل آالئه ،وبالشكر تدوم النعم.
41
إنَّ الداخل إليه يقرأ يف صدر كل معبد كلمة «الله» مكتوبة عىل لوح كأنه
ذهبي بأحرف عظيمة يبرصها كل من حرض .وهذه الكلمة الجليلة مركبة عندنا
من أربعة أحرف مختلفة األلوان .فالحرف األول كتب باللون الوردي والثاين باألبيض
والثالث باألزرق والرابع بالبنفسجي .وكلها ناصعة نقية ينبعث منها نور غاية يف
البهاء واللطافة فوق ما تشتهي.
ويقرأ أيضاً تحت هذه الكلمة الجليلة كلامت العبادة األربع .فاملحبة مكتوبة
باللون الوردي والصدق باألبيض والعفة باألزرق والتواضع بالبنفسجي ،أي أنَّ ألوان
لفظ الجاللة موزعة عىل الكلامت األربع .ويجد الداخل تحتها كرسياً مرتفعاً وال يجد
شيئاً آخر ال فضة وال ذهباً وال جواهر وال مصابيح (فإنَّ النور يف املعابد ييضء كام
ييضء نهاراً) وال أواين وال مالبس وال متاثيل...
1ـ ارمتس يف املاء :إذا انغمس فيه حتى رأسه وجميع جسده وقيل االرمتاس :أن ال يطيل اللبث يف املاء
واالنغامس أن يطيله.
2ـ ابرتد :اغتسل باملاء وقيل يف املاء البارد .وابرتد املاء :صبه عىل رأسه.
42
إنَّ الله يأمركم بأن يحب كل واحد أخاه أكرث من نفسه» .فنقول« :الله يا الله لقد
تنبهنا وسمعنا يا الله لك املجد لك العظمة يا مالئ الكائنات هيبة وجالالً» .ثم نخلع
نعالنا ونرفع أيدينا إىل الله ثالثاً ونسجد مرتني .فيقول القايض ثالثاً« :يا أيها األبناء
الصالحون املتعبدون إنكم واقفون بني يدي الله تبارك وعال فاكشفوا رؤوسكم تعظي ًام
له ومتجيداً .إنَّ الله يأمركم بأن تصدقوا يف أقوالكم» .فنقول« :الله يا الله لقد تنبهنا
وسمعنا وأطعنا يا الله ،أنعم علينا بأن ال ندهش بغري عظمتك وجربوتك لنعبدك
وحدك حق عبادتك وال نرشك بك» .ثم نكشف رؤوسنا ونحني ظهورنا ونسجد ثالثاً.
جل جالله يصغي إليكم فأخلصوا نياتكم واندموا عىل فيقول القايض رابعاً« :إنَّ الله ّ
سيئاتكم وإنَّ الله يأمركم بأن تتعففوا آناء الليل وأطراف النهار» .فنقول« :الله يا
الله لقد تنبهنا وسمعنا وأطعنا وأجبنا ،ولقد تبنا إليك فتب علينا واغفر لنا وتداركنا
برحمتك يا أرحم الراحمني .إننا نعرتف لك بسيئاتنا عىل أننا مل نتعمدها فتجاوز عنها
بواسع حلمك يا رحيم يا حليم» .ثم نرفع أيدينا وهي مبسوطة األكف وننزلها ثالثاً
ونسجد .فيقول القايض خامساً« :إنَّ الله عز ثناؤه غفر سيئاتكم ووهب لكم نفوسكم
وإنَّ الله يأمركم بأن تتواضعوا فخ ّروا ألذقانكم ساجدين» .فنقول« :الله يا الله لقد
تنبهنا وسمعنا وأطعنا وأجبنا وحمدنا وشكرنا حمداً وشكراً صادرين عن قلوب محبة
صادقة عفيفة متواضعة» .ثم نخ ّر ونسجد ثالثاً ونحن نقول« :لقد قلت يا ربنا إنك
تريد منا قلوبنا فانظر إليها .ور َّغبتنا يف الفضائل فق ِّونا عليها .وحضضتنا عىل النظافة
إنَّ شفاءنا كان لديها .نحمدك ونشكرك يا إلهنا ألنك متعتنا بخرياتك ونعمك وأغنيتنا
مب ّنك وكرمك( .فيقول هنا الذين مل ينزلوا إىل األرض) .وألنك مل تضمنا إىل بني آدم
الالبسني أثواب العار» .وهنا نعود كلنا فنقول« :ويف الختام نترضع إليك يا الله
ونلتمس من آالئك أن ترسلنا إىل الجنة لتمتعنا مبشاهدة وجهك الكريم» .ثم نسكت
فيقول القايض« :لنذهب بأمن من الله وسالم».
فنذهب وقد م ّر عىل صالتنا نصف ساعة ،فنأكل ثم ننظر يف مصالحنا وأعاملنا من
غري أن نجهد نفوسنا .وبعد خمس ساعات ننزل يف املاء إىل صدورنا ونتنظف ونلبس
ثيابنا ونبادر إىل املعابد مرة ثانية .وبعد خمس ساعات أيضاً ننزل يف املاء إىل معدنا
ونتنظف ونسعى إىل املعابد .وبعد خمس ساعات ننزل إىل ركبنا ونتنظف ونصيل .أي
إننا نغتسل ونصيل أربع مرات كاملرة األوىل يف كل أربع وعرشين ساعة.
43
الفصل الرابع منه
_ يف األعياد والصيام والحج _
قال والدي :إننا نجري إىل املعابد يف كل نهار خميس وهو اليوم السعيد الذي
نهب من فرشنا وننزل يف املياه ونتنظف
أنزل الله تعاىل فيه العبادة علينا ،ذلك أنه ّ
ونسارع إىل الصالة ،فنصيل ثم نسرتيح نصف ساعة يف األروقة حيث نحبب إىل
نفوسنا الفضائل التي منها حسن الصرب عىل فراق إخواننا املعاقبني واملغضوب عليهم
املسجونني يف األرض والقمر وزحل .ومساعدة أقاربهم وعيادة املرىض .وبعد هذا
نعود إىل املعابد ونسبح الله سبحانه وتعاىل بهذه التسبيحات.
(يف املحبة)
1ـ سبحانك يا خالق الكائنات يا من أحبنا فخلقنا ومتعنا بخرياته فتعلمنا
منه املحبة.
2ـ نسبحك يا أيها املحب الرؤوف بعباده .ونشكرك ألنك أنزلت علينا وصاياك يف
مثل هذا اليوم السعيد.
3ـ سبحانك يا أيها املحب واملحبوب أنت الذي تبتهج قلوبنا مبحبته ألنك أمرتنا
بأن ن ّرب باملحبة والدينا.
4ـ نسبحك يا أيها الطاهر املحبة أنت الذي ال غاية وال نهاية ملحبته ألنك طهرت
قلوبنا باملحبة فطابت رسائرنا.
5ـ سبحانك يا أيها الصادق املحبة ألنك نجيتنا بها من القتل والغدر والنميمة.
6ـ نسبحك يا الله ألن املحبة منعتنا من اإلرضار بنفوسنا وعن اإلقدام عىل كل
شهادة زور.
7ـ نسبحك ألنك جعلت املحبة قاعدة كربى من قواعد الدين فأوثقت قلوبنا
بوثاق منها متني.
(يف الصدق)
8ـ نسبحك يا أصدق القائلني ألنك أمرتنا بأن نصدق يف الحديث والوعد .ونصدق
44
العباد النصيحة والوالء.
9ـ نسبحك ألنك وثقت تعاملنا بالصدق فوثقتنا بنفوسنا ثقة تبادلنا بها املنافع
فطاب لنا العيش.
10ـ نسبحك ألنك عظمت بالصدق كل نفس منا فابتعدنا عن املدالسة وعن كل
رذيلة من رذائل الكذب.
(يف العفة)
11ـ سبحانك يا مطهر املضاجع ألنك أردتنا بأن نتعفف فختمت عىل قلوبنا
بالعفة فلم يغ ِو أحدنا أخاه.
12ـ نسبحك ألنك علمتنا بالعفة أن ال نغصب الحقوق لئال يرث الغريب حق
غريه بالدعارة.
13ـ نسبحك ألنك نهيتنا عن الفجور فانتهينا ومل نعرض أجسادنا لغوائل الشبق
ونعذبها به.
14ـ نسبحك يا واقي عباده رش الغرية ألنك بفضل وقايتك صنتنا من األحقاد
واملفاسد.
15ـ نسبحك يا الله ألنك وقيتنا بالعفة كل داء عياء عضال عقام ناجس مزمن
دفني(((.
(يف التواضع)
16ـ نسبحك يا من تليق الكربياء بعظمته ألنك تعطفت ودعوتنا أبناءك فتعلمنا
منك التواضع.
17ـ نسبحك ألنك أمرتنا بأن نتواضع فتعلمنا بالتواضع أن نكره حب الذات وندرأ
عنا الطمع.
18ـ نسبحك ألننا مب ّنك وفضلك مقتنا الطمع املذل وأحببنا القناعة املرشفة فلم
نسلب الحقوق.
1ـ الداء إذا أعيا األطباء فهو عياء .فإذا كان يزيد عىل ممر األيام فهو عضال .فإذا كان ال دواء له فهو
عقام .فإذا كان ال يربأ بالعالج فهو ناجس ونجيس .فإذا أعتق وأتت عليه أزمنة فهو مزمن .فإذا ظهر بعد
خفائه فهو دفني
45
19ـ نسبحك ألنك حتمت علينا القناعة فجنبتنا الحسد املهلك وحفظتنا من
شوائب الرسقة وأرضارها.
(الخامتة)
20ـ نسبحك يا موالنا ألنك علمتنا عبادتك فجعلت بها أيامنا الطويلة يف بهجة
وحبور دامئني.
21ـ نسبحك يا منكد عيش بني آدم باملوت ألنك جعلت انتقالنا إليك لذة ومل
تجعله علينا نكداً.
22ـ نسبحك ألنك بتعليمك إيانا وصاياك ال تنزلنا إىل األرض بل ترسلنا إىل املريخ
حيث الجنة بجالل عظيم.
23ـ نسبحك ألنك تنعم علينا يف الجنة بأن نتمتع مبشاهدة وجهك الكريم فيفيض
علينا بهاء ونوراً.
24ـ نسبحك يا مكافئ الصالحني مبشاهدة وجهك الكريم الذي يشبع القلوب
لذات يف سعادة دامئة.
25ـ نسبحك يا سامع الدعاء يا من يزكو بك التسبيح ألنك مننت فسمعت
تسبيحاتنا يف البدء والختام.
قال :وال نزال نس ّبح هذه التسبيحات مرة ثم نخرج إىل األروقة مدة نصف ساعة،
كام أبنت ونعود بعدها ونس ّبح إىل أن مير علينا تسع ساعات من ذلك النهار ونحن
من غري أكل ألننا ممسكون عن الطعام من نصف الليل .فنذهب إىل دورنا ونأكل
ثم نتزاور والزيارة ال تكون أكرث من نصف ساعة .وال عيد وال صيام عندنا غري هذين.
أما حجنا فهو إىل املعبد األعظم يف مدينة القضاة حيث نزلت كلامت العبادة ،وذلك
يف اليوم األول من شهر نيسان من كل سنة ،فيقدم الحجاج من جميع أنحاء الزهرة
وأقطارها ويقيمون ثالثة أيام يقدمون يف نهايتها الهدايا إىل قايض الرب ليوزعها عىل
املرىض العاجزين ثم ينرصف.
هذه كل كتب عبادتنا وصلواتنا وتسبيحاتنا .فال يسمح ألحد مهام كانت صفته
بأن يضيف إليها شيئاً.
نحن ال نتوسع مثلكم يف النقول والرشوح والتفاسري ،فنمأل منها األسفار العظيمة
واملجلدات الضخمة حتى تتشعب اآلراء ويحدث االختالف ،فنلجأ إىل املناظرات التي
46
كانت يف الغالب سبباً يف تفريق الكلمة ،فتحري كثريون فصاروا إىل الفتور الذي مت ّكن
منهم فافتتنوا يف دينهم.
1ـ تق ّوف فالناً يف املجلس :أخذ عليه يف كالمه وقال له كذا وكذا.
2ـ استهج فالن :ركب رأيه فال يشاور أحداً.
3ـ َب َّي َت األمر :عمله لي ًال أو دبره لي ًال .وكل ما فكر فيه أو خيض فيه بليل فقد ُب ِّيت.
أسف الرجل أي تتبع مداق األمور. أسف إىل مداق األمور بتشديد الفاء :دنا .ويف الصحاح ّ 4ـ ّ
5ـ ر ّنق القوم يف األمر بتشديد النون :خلطوا الرأي.
6ـ أقطع الرجل :انقطعت حجته.
7ـ َغ َّل َطه :قال له غلطت أو نسبه إىل الغلط .وغالطه :أوقعه يف الغلط وتغالطوا :غالط بعضهم بعضاً..
47
وهو ال يرجو أن يرش َو القايض أو يدعوه((( أو يهدي له مأكوالً أو مرشوباً أو ملبوساً.
وال يأمل أن يخدعه بتباكيه أو يغفله بدهائه أو يستميله إليه ببيانه كبرياً كان أم
صغرياً .إنَّ العباد يف الحق متساوون فال يبطل إال الطامع املكابر الذي أغواه طمعه أو
من به جنون أو علة ،واملبطلون قليلون.
يرجع القايض من صالة الصبح األوىل إىل املحكمة فيقيض بني الخصوم إىل أن
يدنو وقت الصالة الثانية فيصيل ثم يذهب وقايض ال ّرب مع ُه إىل عيادة املرىض وافتقاد
العاجزين ،فيمرضهم ويعالجهم ويالطفهم ويطلب إىل رفيقه أن يقدم إليهم كل ما
يعوزهم .وبعد ثالث ساعات يعود إىل املحكمة ليفتي بنفسه املستفتني من العباد.
فإنَّ القايض عندنا هو الحرب والكاهن واإلمام الذي ُمني بحبورته وكهانته وإمامته.
وهو األستاذ والحاكم واملفتي والخطيب والطبيب واملصلح .وهو الخادم الذي يخدم
الخليقة بأمانة والذي يستميت يف حبها من غري متييز وال تفضيل .وهو أيضاً األب
الحنون الدائب يف تعزية الذين ُأنزل أقاربهم إىل األرض ومالطفتهم حتى ال يكون يف
الزهرة شاكٍ ال تدفع شكواه وال ُتزال .فمن كان مضطراً مث ًال إىل عمل سعى له فيه،
وط ّيب قلبه ولهذا كله نكرم القضاة ونعظمهم ونحبهم محبة أعظم من أن توصف
بشفة ولسان .وهم كلام عظموا ازدادوا تواضعاً ورغبوا يف الخدمة بفرح وابتهاج .ال
يتأففون وال يتضجرون حتى أنهم ال يلمحون إىل أتعابهم.
يخاطبون العباد عىل اختالف طبقاتهم بكلامت رقيقة عذبة ،فيشتهي السامع أن
ال يقطع القايض خطابه ،فإنه كله نصائح وحكم وخطب أدبية تاريخية غري مملة ألنها
معقولة يرشبها الذوق ويأنس بها الصواب ،فال نجد فيها غرابة نشك يف صدقها ألنَّ
علم القضاة غزير ومواد الكالم كثرية لديهم ،فال يتوخون غريب الحديث وال يخانون
املعارضة فإنهم رصينون ال ينطقون عن الهوى .يحاجون ويفحمون املعرتضني ألنهم
راسخون يف العلم.
ال ينتخبون إال من الرجال املجربني املوثوق بفضلهم ليعظموا يف عيوننا ،فلو كانوا
دون غريهم باملعارف مل يعظموا ،فإذا مل يعظموا مل يصلحوا لخدمة الدين والخليقة
ذلك ألنَّ القايض إذا كان جاه ًال حمل الج ّهال من الناس عىل االستخفاف بالدين
وجامعته.
48
إنَّ قضاتنا ال يرتجون((( ألنهم ال يعرفون التناوة((( ال نسمع لهم أصواتاً مرتفعة وال
يدعون أحداً إال بقولهم له« :يا حبيبي» .ولكن هذا الدعاء مل يكن شفهياً لصدوره عن
قاض.
قلوبهم النقية الفائضة باملحبة .كل واحد من الخليقة حبيب لكل ٍ
هنا قلت لوالدي :إذا كانت هذه أعامل القضاة فهم ال يأمثون فلامذا أنزلك الله
قاض يف الزهرة؟ فقال :اعلم أنَّ يف كل مدينة محكمة عمومية تعاىل إىل األرض وأنت ٍ
ً
مؤلفة من قضاة املدينة ومن بعض أعيانها الذين يسمون قضاة أيضا ألنهم يقضون
ويحكمون .وهذه املحكمة يرأسها قايض قضاة املدينة .أما غايتها فهي التدقيق يف
األمور الدينية والصحية واإلدارية املشكلة ،أي لكل مدينة ثالث محاكم ألمور العبادة
والصحة واإلدارة (عدا املحكمتني الحقوقية والعقابية) فإذا أشكل عىل القضاة أمر
يف املحاكم الثالث وقفت عليه املحكمة العمومية ودققت فيه وحلته حاالً .أما أنا
فقد عدوين من األعيان وانتخبوين عضواً كام تقولون أو قاضياً .فرست ذات يوم إىل
(((
املحكمة فألفيت أحد القضاة قد سبقني وجلس يف كريس ألجلس بعده فلم أيارسه
يل األمر تكرباً مني وتجرباً ،فعلمه قايض القضاة فأكربه وأعظمه وأسايره ،بل عظم ع َّ
ووبخني توبيخاً غري شدي ٍد ألنه مأمور بالتوبيخ ،فأذعن له رفيقي واستغفر الله من
ذنبه فعفا عنه .أما أنا فعصيت قايض القضاة فارتكبت بهذا العصيان إمثني يف وقت
واحد ،أي الكربياء واملعصية بتمردي عليه ،فساقوين بأمره إىل محكمة العقاب فحكم
يل لشقايئ بأن ألبس جسم العار وأنزل إىل األرض وأعيش العيشة التي عرفتها. ع ّ
1ـ َت َ
رج الرجل :أشكل عليه اليشء من علم أو غريه.
2ـ التناوة :ترك املذاكرة وهجر املدارسة.
3ـ يارسه فالن :أخذ يساره وفالناً الينه وساهله واليشء أخذه من جهة اليسار.
4ـ اسرتسل يف الكالم :انبسط فيه واتسع.
49
يستفيدونها فأقول لطالب الرئاسة :إذا كنت زاهداً يف الدنيا راغباً عن لذاتها وشهواتها
الهياً عن مالهيها كارهاً للامل عاملاً عام ًال نشيطاً تقياً نقياً تفضل حب الناس عىل حب
ْ
وتفرغ ،وإال فإنك تحمل نفسك ،وإذا كنت متيناً ثابت الجنان ،فتجرد لرئاسة الدين
أوزار العباد عىل عاتقك فيكون عقابك عظي ًام .إذا ضللت كان ضاللك شديداً ألنك
تقود الخلق إىل الضاللة فيسألك الله تعاىل عنهم.
فتزوج ،وال تكابر فإنَّ التزوج ملثلك خري من
ْ إذا كنت ال تصرب عىل قمع نفسك
«اللهم إين نذرت العفة والطاعة والفقر» ثم َّ التبتل((( وال تعد الله بأن تقول له:
تخلف وعدك ،فإنَّ الرجل الصالح املتزوج الذي يعاين مصائب الدنيا ومشقاتها بصرب
هو أفضل من املتبتل املعتزل املنفرد بصومعته املنقطع عن إخوانه ،ال يسأل عنهم
وال يساعدهم كأنه ليس من بني اإلنسان ال يهمه غري نفسه وال يحب سواها ،وال
أقول ذلك أفضل من هذا فقط ،بل أقول إنَّ الله ال يغفل عن عقاب هذا الكسالن
املبتول((( من اإلنسانية.
لو أدركت ما هي واجباتك التي أوجبها الله تعاىل عليك ألرعدت يوم تخلع
عنك ثوبك طائعاً مختاراً .يوم تجرد نفسك من حب الدنيا عن حسن رىض منك .يوم
تستأصل من قلبك كل شهوة .يوم تلبس ذلك الثوب األسود ال حداداً عىل نفسك التي
أم ّتها بالزهد ،بل حداداً عىل هذه النفس األمارة بالسوء وذلك إذا زغت أو كدت
تزوغ ،فإنَّ من زاغ قلبه ال يأمن العثار بل الب َّد له من السقوط يف قلبه.
إين أخىش عليك أن تجعل ذلك الثوب لهالكك إذا مل تخدم الناس حق خدمتهم وإذا
غلبت حب نفسك وحب أقاربك عىل حبهم .إذا اتخذت الرئاسة لتعظيمك وتعظيم
ذوي قرابتك .إذا ألححت يف طلبها وإذا جعلت الناس يتعصبون لك وحضضتهم عىل
املناهضة يف التامسها وإذا غالبت أخاك ومكرت به وخطفتها منه.
قل يل :كيف تلح وتحض وتعرض قومك لالضطراب وتحملهم عىل البغضاء التي
يكون معها خرابهم؟ أتعتقد أنَّ الله تعاىل يرىض عنك؟ إنك إذا اعتقدت هذا فقد كان
اعتقادك فاسداً .إنك لتدرك أنَّ الله ال يرىض عنك إال أنك طمعت يف رحمته وعللت
نفسك بالتوبة بعد ذلك .يا هذا إنَّ من تعمد اإلثم اليوم ليتوب عنه غداً فقد أثم
1ـ بتل إىل الله وتبتل :انفصل وانقطع عن الدنيا وأخلص أو ترك الزواج وزهد منه.
2ـ املبتول :املقطوع.
50
مرتني إمثاً عظي ًام ال يغفل عنه الله تعاىل .أتعتقد أنك تجيء شيئاً حسناً يعود عىل
قومك بالخري والفالح ،عل ًام منك أنك أهل للرئاسة وأنك أوىل بها من غريك؟ إذ َّ
صح
دخلت مدخ ًال ينكره
َ َ
اعتقدت ملا هذا فقد جهلت نفسك وقدرك ألنك لو كنت كام
َ
زهدت يف الرئاسة عليك األتقياء الورعون الذين رسخت يف قلوبهم محبة السالم ،بل
متن عليهم بقبولها فإذا مل يجيئوك فقد نجوت حتى يجيئك الناس يلتمسون منك أن َّ
عىل األقل من ذل الخيبة.
اع َل ْم يا هذا أنَّ من طلب الرئاسة يف الزهرة فقد حرمت عليه ،وأنَّ من اعتقد أنه
ليس بأهل لها اعتقاداً مقروناً بعلم وتواضع فقد صلحت له وصلح لها ألنه عرفها حق
معرفتها وأدرك ما وراءها مام مل تسبق إليه مدارك غريه ،ومن يعتقد أنه جدير بها
فقد جهلها واستخف بها.
ً ً ً ً ً
ال تكن لرعيتك محبا غيوراً وأبا شفيقا بل كن لها خادما أمينا .تدارك الفقراء
رق برأفتك يتداركك الله برحمته .تدارك املرىض املعذبني املسجونني وأشفقْ عليهمّ .
تلطف بهم .خ ّف ْف عنهم مصائبهم وويالتهم .ال تجتنبهم لوخامة مساكنهم ْ لهم.
وأوساخ ثيابهم بل نظفهم والزمهم ،وال تشمخ بأنفك يف خدمتهم فإذا شمخت فقد
أصلح بينهم .ال تقرص عن املواعظ والنصائح وال تتساهل يف ْ خرجت عن الدين.
تحريم الكبائر.
فأفتيت إفتاء كان فيه ضياع حق أو تقليل كرامة أو حاولت يف َ إذا استفتيت
إفتائك تحبباً وتزلفاً ،فيا ويل نفيس ما أشدها جزعاً عليك من غضب الله تعاىل
وسخطه.
إذا عزمت أن تصلح بني الزوجني فاستمسك بقلبك ليفيض عدالً وحكمة .إذا
غلبت حب املال عليك فقد تربأ منك الدين ألنك تجور عىل نفسك وعىل الناس وال
تنصفهم ،ألنك تتخذ لك من دون الله وثناً تعبده ،وألنك ترشك حب الدينار يف حب
الله ،ومن تربأ عنه الدين يف مثل هذه الحالة يعاقبه الله عقاباً خصوصياً يف مدينة
التكفري ،ولو أنه تاب يف األرض.
ال توعد وال تحقد وال تنتقم .فإذا أوعدت وحقدت وانتقمت واتبعت هوى نفسك
يعاقبك موالك عقاباً خصوصياً .إذا هابك الخلق باملحبة ومل يخشوك فأنت حكيم يغبطك
الناس .ال تعرض نفسك للسقوط اعتامداً منك عىل ثباتك وقوتك ّ
فتزل بك قدمك وأنت ال
تدري حيث يصعب عليك بعد ذلك نهوضك أو حيث ال تستطيع النهوض.
51
شاور العقالء يف األمور واعتمد عليهم .ال تسمع إىل أحاديث ّ
النممني واملغتابني.
امتحن نفسك .فإذا كنت رشساً غضوباً ال تقوى عىل رد جامحك حني تغضب
فاجتنب الرئاسة ألنها تتربأ منك .اجتنبها وال تغضب الله تعاىل عليك .وإذا غلبتك
الرشاسة فجانب الناس ما استطعت لتخفيها عنهم .كيف تقدم عىل الرئاسة التي
تحمل الحمقى تضطرك يف كل يوم إىل مخالطتهم ومصاحبتهم وخدمتهم ،وإىل ّ
الجفاة األخالق منهم والصرب عىل غطرستهم وعجرفتهم ،مع أنك قليل التحمل؟
إين ألعجب من اختيارك الرئاسة لنفسك كأنك واثق بها ،تعتقد أنك قادر عىل
توسيع خلقك فتتحمل ،بل أعجب من رئيسك الذي أقامك راعياً ورمبا عجبت
معي يف رسك أيضاً ،إنَّ الله تعاىل سينتقم منه عن عباده انتقاماً شديداً خاصاً به
وحده ،وذلك لعدم ترويه وتدقيقه التدقيق التام الكامل حني اختارك فغفل عن
حقيقتك .وإذا كان قد تغافل عنها فهناك البالء األعظم الذي جره بيده عىل رأسه.
إنَّ من مل يضع األشياء يف محلها ومل يكن من الحكمة يف يشء فهو ومن اختاره يف
خَ َطاء عظيم .إنَّ الرئيس الصالح يصلح قومه مدة قرن مث ًال أما الرئيس الفاسد فإنه
ام مني أينيفسدهم ثالثة قرون .إنني كنت دعيت يف األرض إىل الرئاسة فأبيت عل ً
مل أكن خليقاً بها.
إذا كان الرئيس غري عامل فعليه أن ال يفتي وعليه أن ال يعتمد عىل نفسه يف
البحث عن املسائل املشكلة امللتبسة فإنَّ الجاهل ال يفهم دقائق املعاين.
ظن
إذا كان الرئيس ضعيف الربهان فال يجوز له أن يجادل ،فإذا جادل وغلب َّ
وظن املجادل أنه كان عىل غري هدى من اعتقاده وهذا أمر مجادله أنه أصاب وفازَّ ،
محرم ألنه ينشأ عنه ضالل مبني وتبدو منه فتنة عظيمة وافتتان يف الدين.
ليحبس نفسه عن مجالس الناس ْ ْ
ويعتكف يف مكانه. لينز ِو الرئيس الصالح
العمومية والخصوصية (إال إذا دعت الرضورة) فيجد يف عيون الناس ويعلو كعبه
عندهم ويتفرغ إلجابة داعيه.
لقد رأيت بعضهم يجتمعون يف مجالس الطرب فيستخفهم حتى تهيج عواطفهم،
فيا حبذا لو أدركوا أنَّ مجالسيهم يستخفون بهم وينمون األحاديث عليهم.
إذا خافوا عىل نفوسهم أن تطالبهم برغائبها فليؤدبوها بالتقشف .إين أتلطف
إليهم وأسألهم أن ال يعرض بعضهم قلوبهم الساكنة للتحريك لئال يضطروا إىل
ضغطها بعد هذا فيخىش عىل أبدانهم أن يؤثر فيها اإلكراه.
52
ال يرشبوا الخمور فإنَّ يف رشبها إمثاً وعاراً .ليكن كالمهم أسمى من كالم الشعب.
لتكن أفواههم طاهرة مصونة ألنهم يخرجون منها كالم الله.
محظور عليهم أن يجاروا الناس يف كل أحاديثهم .إنَّ كالم الرئيس يؤثر يف كثريين
من العباد ،فعليه أن يتأمل ويرتوى ثم يتكلم ألنهم ينقلون حديثه ويحتجون به.
ال يرغب الرئيس كل الناس يف الوقف ويحرم الورثة ،فلو اتبعوا رغائب أولئك
الرؤساء لجعلوا كل ما عىل األرض وقفاً فيميس الخلق كلهم يلتمسون خبزهم من
رؤسائهم.
ً ً ً ً
ال يكن الرئيس مشتتا لألفكار بتعسفه مفرقا للجامعات منفرا مهيجا ،فإنه ر ٍاع
صالح .ليتصدق عىل كل املحتاجني فإنه ال يجوز له أن يختص بنفسه فقراء.
لينبه الرئيس كل رئيس غفل عن واجباته وذلك برقة وحسن إشارة ،فإذا مل ينتبه
فلينصحه ويوبخه رساً ال جهراً .ال يكف عن توبيخه ألنه إذا زل ترك الناس كبائرهم
ومتسكوا بهفوته ،ورمبا عابوا به كل الرؤساء ولو كانوا منزهني عن العيوب إجامالً.
وغاية ما أقول إنه خري له أن يكون عىل حذر وانتباه ،ال يغفل عن نفسه ،وأن يجعل
منها عليها رقيباً لئال تغلبه الشهوات فتستعبده املشتهيات.
إين أنصح الواعظني الذين يصعدون يف املنابر ينهون عليها ويأمرون وينصحون
ويحذرون أن يعمل كل منهم بنصيحة واحدة من كل عظة يلقيها ،فإذا عمل ضمنت
له الجنة.
يا أيها الرؤساء العظامء إين أحمل إليكم سالم قضاة الزهرة وأبرشكم بأنهم
يتحدثون بأعاملكم الصالحة ،فرسوا وابتهجوا واغفروا للذين يسيئون إليكم فإنهم ال
يعلمون من أنتم ،أنتم حسنات األيام والليايل ،أنتم الذين ريض الله تعاىل عنهم فأسبغ
عليهم بنعمه وبركاته فخففوا بها مصائب سكان األرض وويالتهم.
53
ألح عليك مع أنني أكره اإللحاح .إنني ال أسألك من نفيس فكأين مبلقن يلقنني السؤال
ويحضني عىل إلقائه .فأجاب :اعلم يا ولدي وفلذة كبدي وتأكد أننا ال نصادف يف كل
الزهرة نفساً واحدة ال تؤمن بوجود الله تعاىل .إننا نشعر بقوته ومجده وندرك شيئاً
من حكمته كأننا نراه بعيوننا.
أما الخطيئات التي تكرب عندنا فهي الكربياء والحسد واالعرتاض عىل األحكام
العقابية.
فقلت له :لقد ذكرت يف الكالم عن املالهي ما يأيت «ال ينظر الرجل إىل غري امرأته
وال تنظر الزوجة إىل غري زوجها إال ما ندر» .فكيف يصدر مثل ذلك منكم ولو نادراً؟
أليس بعجيب منكم أن ينظر البعل((( إىل غري بعله مع سعة مداركه ومعرفته أنه
يعاقب عقاباً شديداً ال تقبل فيه له شفاعة وال ندامة بل ينزل حاالً إىل األرض؟
فقال :اعلم أنَّ يف الزهرة ُح ْسناً يقام له ويقعد ،وجامالً يستعبد األحرار ،وبهاء
يسرتق العقول ويسلبها مداركها ،ووضاءة تهيج البالبل ،ومالحة ترقص القلوب يف
الصدور ،ونضارة تشخص لها األبصار .وبضاضة تحرك الساكنات وتسكن املتحركات.
ورشاقة تهفو بها األفئدة ،وظرافة تذوب منها حبات القلوب ،وكياسة تقول احفظ
نفسك يا أيها املتعبد ،وبهجة تقول أغمض عينيك يا أيها املتبتل وإال افتتناك ،وطالوة
يف كالم تقول لها األسامع لقد شنفتنا تشنيفاً ،وغنة تطرب الجامد فيقول رفقاً يب فقد
أشجاين الحنني ،ونباهة وفطانة ورزانة ورصانة وفصاحة وبالغة وكل ما يحبس اللسان
عن البيان وليس الخرب كالعيان.
فمن تاب منكم توبة صادقة كاملة رجع إىل الزهرة وتذكر فيها كل ما نسيه ووعى
ببصريته وأبرص بعينيه ،وسمع بأذنيه .فإذا مل ينتبه الناظر منا لنفسه ويستمسك
اللهم صني واحفظني فإين ال أريد أن أعرث ،نيس العقاب وأضاع بقلبه ،وإذا مل يقل َّ
جل جالله ع ّد له ذلك حسنة ،و ُر َّب الصواب وسقط .وإذا استمسك واستعان بالله ّ
حسنة واحدة دفعت سيئات ،إنَّ الله عادل رحيم.
قال :فتفرغ كثري من القضاة الذين هم من الطبقة األوىل للعلوم والفنون فربعوا
وفاقوا يف االخرتاع ويف كل يشء أولئك املتسامني املستكربين الذين كادوا يقعون يف
اآلثام بصلفهم ،فتواضع كثري منهم بعد ما علموا أنَّ العلم غاية ال تدرك وأنَّ لكل
1ـ البعل :الزوج .وقيل ال يسمى الرجل بع ًال حتى يدخل بامرأته وهو زوج عىل كل حال واألنثى بعل أيضاً
وبعلة.
54
مجتهد فيه نصيباً وافراً منه فال يستطيع أحد أن يستأثر به.
فقل الحسد .وأخذوا يثبتون للخلق وسعى القضاة يف تعميم كثري من املشتهيات َّ
أنَّ التشديد يف العقاب خري لهم من التخفيف ،وأنَّ الله سبحانه وتعاىل يعاقبهم رأفة
بهم .وقد أمر القضاة مبنع كرثة التزاور وحظروا عىل الخليقة االجتامعات التي يخىش
منها تعريض القلوب للمهيجات .وقالوا إنَّ البطالة إثم وعار فكل باهل((( مكروه
فيجب اجتنابه ولو أنه ترك شغله ساعة واحدة.
عليك ،كانت الدعوى عقابية أكرث من كونها حقوقية ،فيعجب القايض والحارضون من
ذلك اإلنكار الغريب ،ألننا نعد الكذب وإبطال الحق كله وإنكاره جميعه أو بعضه
جناية ال تصدر غالباً إال عن اختالل يف الشعور واعتالل يف البدن .فيأمر القايض فتحرض
آلة تشبه آلة الخياطني نسميها بالفاحص متتحن املخلوق ،فإن كان فيه جنون أو علة
أخرى أعربت عنها وذلك بأن يجلس أمامها ويسند إليها يديه فتفوه بالحقيقة .فإذا
55
أنصع للحق((( قبل أن يسندهام واستغفر خ ّف ْت جنايته ،فيساق إىل املحكمة العقابية
بعد الحكم بالدعوى الحقوقية وبعد التحصيل أيضاً .فإذا أسند يديه وأفصح الفاحص
عن االختالل واالعتالل ،أقام له القايض وصياً وأرسله إىل دار الشفاء ،ثم حقق الدعوى
وحكم عىل الويص بأن يويف الدائن حقه من مال املديون إذا كان مقتدراً وإال َع َّو َض
للدائن مع اإلمهال.
فإذ كان املدعى عليه صحيح العقل ال اختالل فيه وال اعتالل ،أمر القايض فتحرض
آلة أخرى اسمها املحقق ،فيجلس أمامها ويسند يديه إليها أيضاً فتعرتف عنه بالحقيقة.
فإذا كان غري مديون كرمه القايض وتركه وعرض املدعي عىل الفاحص .فإن كان فيه
اختالل واعتالل أرسله إىل دار الشفاء .وإن كان صحيحاً أرسله إىل محكمة العقاب.
فإذا كان املدعى عليه مديوناً حكم عليه باإليفاء أو اإلمهال كام تبني لك وسيق إىل
املحكمة العقابية .فإن كان مديوناً بيشء واملدعي ادعى بأكرث منه حكم عىل املديون
وسيق االثنان إىل املعاقبة.
غري أنَّ اإلنكار واإلبطال والكذب من األمور القبيحة النادرة الوقوع ،وأندر منها
الجسارة عىل الجلوس أمام الفاحص فاملحقق ،وهام من اخرتاعاتنا الغريبة املفيدة،
فإنَّ الحاكم يستغني بهام عن الصكوك وعن اإلطالة يف التحقيق والتدقيق فال يتحري
يف كشف الحقائق وال ُيظلم أحد بتزوير خفي .ال تحليف عندنا وال حلف.
إ ّال أنَّ الدعاوى الحقوقية عندنا قليلة ألنَّ الخلق يستملئون يف الديون غالباً،
أي يجعلونها يف أهل ثقة ،وهم األغنياء املوثوق بأماناتهم الذين يرصفونها يف سبيل
االخرتاعات التي يحصل بها ما يرصف عليها.
ال يثقل الدين رج ًال وال يبلغ به مشق ًة فيعجز عنه ،ولذلك ال يقول قائل :لقد
أوقرين((( ديني وبهظني(((.
نحن ال نعرف املحارضة ،وهو أن يغالبك مث ًال أحد عىل حقك فيغلبك عليه
ويذهب به مغالب ًة أو مكابرة.
يل يف اقتضاء الدين .وال يقول: مل ن َر الدائن َت َّكك عىل الغريم فيقول هذا يلح ع َّ
1ـ أنصع للحق :أي أقر به .وقيل نصع بالحق وأنصع :أقر به وأدّاه.
2ـ أوقر الدين فالناً :أثقله.
3ـ بهظ ُه األمر :غلبه وثقل عليه وبلغ به مشقة وعجز عنه.
56
يا أيها الرجال تأملوا كيف يلبيني ،انظروا كيف يخاصمني وقد جعل ثيايب يف عنقي
وصدري وقبضتي وجرين .انظروا كيف يعتلني((( ،أما أبرصمتوه جرين جراً عنيفاً
وجذبني وحملني؟
ً(((
وال يقول ليست ْدم ،وليكن مستدميا لريفق يب ،وليكن الذي يستخرج دينه من
(((
لدي ما أكتفي به منغرميه بالرفق .ال تدعوه يذهب يب إىل القايض فإين معرس ليس َّ
العيش.
وال يقول إنني أستنظره أي أطلب اإلمهال .ما رضه لو طلب حقه يف مهلة؟ أمل أقل
له صرباً فتأخذ حقك مسمطاً ،تأخذه سه ًال مجوزاً نافذاً؟ أمل أقل له حقك ناصع واضح؟
وال يقول إنني ذرعت مباله أوالً أي أقررت به ومل أنكره .مل أط ّرق بحقه مل أجحده
ومل أقر به بعد ذلك.
َّ
وال يقول كام تقولون ماذا يبتغي مني هذا ،لقد كان له عيل دين فأديته .إنني
براء مام يدعي .هذا كاذب يجيء بالباطل إىل غري هذا من القال والقيل .ثم قال
والدي :نحن سكان الزهرة مأمورون بتأييد الحق ،نحن راضون بحقوقنا ،راضون مبا
قسم الله تعاىل لنا .من نرص منكم يف األرض محقاً عىل مبطل فقد جعله الله قاضياً
يف الزهرة.
57
ما وصفت يسمعون صوتاً جهورياً عظي ًام مهيباً ترتعد منه الفرائص وترتجف األبدان
رعباً وهلعاً من خشية الله ذي العظمة والجالل ،حتى تكاد القلوب تنخلع والعقول
تضطرب فيرصخون بصوت واحد« :ارحمنا يا أيها اللطيف بعباده» ويخرون لوجوههم
ثم يصغون ليسمعوا حكم الله العادل وهو هذا:
«لقد حكمنا عليك يا أيها العايص بأن تخرج نفسك من جسدك هذا ،وبأن تقل
مداركها وتنزل يف صلب الرجل الفالين ،فرحم املرأة الفالنية من بني آدم يف بلد كذا
من الكرة األرضية وحالة كذا ،فتلبس ذلك الجسم جسم العار غري ذاكر أنك من سكان
الزهرة وأنك كنت فيها سعيداً .وقد جعلنا لك هذا النسيان رأفة منا بك .فإذا عشت يف
الصالح والفضيلة أعدناك إىل هنا باحتفاء وذلك بعد انقضاء أيامك يف األرض ،ومحونا
عنك العار الذي لبسته مبعصيتك فال يعريك أحد لبسه ،فإذا أمثت ثانياً ضاعفنا عقابك
وأعدناك إىل األرض .فإذا عشت يف الصالح وأمتمت أيامك فيها بالفضيلة رجعناك إىل
الزهرة من غري احتفاء ،ومن دون أن تدخل املدينة العظمى مدينة القضاة ولو كنت من
سكانها .فإذا داومت عىل اإلثم يف الزهرة ومتاديت ضاعفنا عقابك وأعدناك إىل األرض
ثالثاً ،فإذا أمتمت أيامك بالصالح والفضيلة سمحنا لك بأن تدخل الزهرة ،غري أننا نغلق
يف وجهك باب املدينة العظمى ونرتك عليك سمة العار .فإذا أبيت إال اإلرصار عىل غيك
ومتاديت فيه سجناك يف زحل ،حيث ال تكون مدتك أقل من خمسمئة سنة تكابد فيها
العذاب األليم .وبعد انقضاء سنيك نرسلك إىل املريخ ،ال تدخل الجنة فتكون يف منزلة
حقرية .فإذا مل تعش يف األرض بالصالح والفضيلة غري أنك إذا تبت قبل انقضاء مدتك
رجعناك بعد انقضائها إىل الزهرة من دون احتفاء رافعني عنك سمة العار ،إال أنك ال
تسكن املدينة العظمى إن كنت لست من أهلها فتقيم بوطنك إىل أن يتم عمرك،
فرنسلك إىل الجنة ولكنك ال تجلس مجالس الذي أطاعوا ومل يعصوا .فإذا رجعت إىل
املعايص أعدناك ثانياً وثالثاً إىل األرض نضاعف عقابك يف املرتني ،ثم نرسلك إىل زحل إذا
مل ترع ِو عن غيك كام أعلنا لك .فإذا أمثت يف األرض وتبت قبل أن تتم أيامك وكانت
توبتك غري كاملة أرسلناك إىل مدينة التكفري يف القمر .فإذا عشت فيها تقياً نقياً ك ّفرنا
عن آثامك وعفونا عنك وأعدناك إىل مدينتك قبل نهاية مدتك ،فتدخلها باحتفاء فاتحني
أمامك أبواب املدينة العظمى إذا كنت من سكانها بعد أن منح َو عنك عالمة العار ،وإال
فال نعفو فتقيم إىل أن تتم مدتك .فبعد نهايتها نعيدك إىل الزهرة ال يحتفى بك وال متحى
عنك سمة العار ،ولن تدخل املدينة العظمى ،فإذا أمثت يف األرض ومت ومل تتب ومل تتربأ
58
ذمتك بالرد والتعويض أرسلناك إىل زحل ثم املريخ ال تدخل الجنة كام أفصحنا لك»(((.
هنا قال والدي :إين ألعرتض عىل نفيس عنك فأقول إنَّ األثيم يحكم عليه بأن ينزل
إىل األرض ويقيم بها ويعود كام علمت ،ومن املعلوم أنَّ الله تعاىل يجعله فيها ضعيفاً،
تؤثر فيه املؤثرات وتهيجه املهيجات ،فيأثم بضعفه إمثاً يستوجب به السجن يف زحل
فيقع يف عقاب ثان أشد وأقوى من األول مل يعينه الله بحكمه يف الزهرة ومل يعلنه،
فهل من العدالة أن يضاعف عقابه بعد تعيينه؟ فأرد وأقول إنَّ هؤالء املحكومني
الذين يرسلون إىل األرض ثانياً وثالثاً والذين يسجنون يف زحل هم الذين كانت آثامهم
يف الزهرة كثرية فاستوجبوا السجن فيه ،إال أنهم مل يكونوا من القتلة فرفق الله تعاىل
بهم وأمر فأرسلوا برأفة منه إىل األرض لعلهم يتوبون فيها .فمنهم من يتوب ويعود
إىل الزهرة فينجو برفق الله ورحمته من عذاب زحل األليم.
قال :فحينام ينتهي إعالن الحكم ينقطع الصوت ويغيب ذلك النور فيقف الخلق
فيبرصون نفس املحكوم تخرج منه يف هيئة أفعى تسقط وتتوارى فيبقى الصدى(((،
فيأمر قايض املحلة أهل املحكوم بأخذه وحفظه ،فإن مل يكن له أهل فريفع إىل محل
ُأع َّد له ثم ينرصف الحارضون.
إنَّ املديون الذي ال يستطيع الدفع إذا حكم عليه باإلنزال إىل األرض يدفع عنه
قايض الرب.
أما الذي يتسبب بإغاظة غريه ويهيجه إىل الرش فيعاقب .وأما مدة الحكم فهي
اليوم من دقيقة واحدة إىل مئة وتسعني سنة .فاملحكوم عليه بدقيقة يقضيها يف
الرحم ويسقط منه ويعود إىل الزهرة .ومن املحكومني من يحكم عليهم بالسقوط
إىل األرض وفيهم حياة فيتمون أيامهم ثم ميوتون ويعودون .عىل أنَّ الذين ميوتون يف
األرحام قبل أن يخرجوا منها هم الذين كانت خطيئاتهم صغرية.
تعي يف الحكم كام سبق الكالم ،فمنهم من يحكم هذا وإنَّ أماكن املحكومني ّ
عليهم باإلنزال إىل جهات حارة ومنهم إىل أنحاء باردة ومنهم إىل معتدلة ومنهم من
1ـ لقد أشار عيل بعض األمئة األفاضل بان أكتب ما يأيت :اعلم يا أيها القارئ اللبيب أنني لست ممن
يقولون مبذهب التقمص أو التناسخ أو خلق النفوس قبل األجساد وقد أحلت هذا الجسم البايل لالقتصاص
منها .فكل ما مير أمامك مام ال يطابق الدين القويم إن هو إال خواطر شعرية سانحة و ُر َّب شعر يف نرث ونرث
يف شعر .واملقصود منها تهذيب األخالق وتفكهة القارئني.
2ـ الصدى :جسد اإلنسان بعد موته.
59
يحكم عليهم بأن يولدوا ويعيشوا يف الفقر أو يف الغنى .ومنهم من يحكم عليهم بأن
تحسن حالهم .ويكرث مالهم ،ومنهم من يحكم عليهم بأن تنحط حالهم ،ويقل مالهم،
ويضيق عليهم معاشهم ،ويضعفوا ويذهب ما يف أيديهم ويحتاجوا ويخرسوا ويفتقروا
وترث هيئتهم وتسوء حالهم .ومنهم من يحكم عليهم بأن ويلصقوا بالرتاب من الفقرّ .
يستغنوا بعد فقر ،أو أن يذلوا بعد عز ويفتقروا بعد غنى .ومنهم من يحكم عليهم
بأن يولدوا يف العز أو يف الذل ،يف الشقاء أو شبه السعادة ألنه ال سعادة يف األرض.
ومنهم من يحكم عليهم بالعقم ومبعاناة املصائب واملكاره الظاهرة أو الخفية .منهم
من يحكم عليهم بالعمى أو العور أو العرج أو الشلل أو الصمم أو بالعمى والشلل
والصمم معاً مث ًال ،ونحو ذلك ما يصيب اإلنسان أياماً وأوقاتاً معين ًة ومختلف ًة بحسب
الجرم ،أي إنَّ بعضهم يولدون عمياً عوراً عرجاً َكتِعني ش ًال .وبعضهم يعاقبون بعد
والدتهم بالعمى أو العور أو العرج ونحو ذلك ،أو بعلتني وعاهتني أو بثالث أو بأكرث
يف وقت واحد .غري أنَّ الله تعاىل ال يعاقب باألمراض العادية الخصوصية ،وال باملوت
العمومي الدنيوي (ما خال العقاب املوقوت كام سيجيء) وال يعاقب بالجرح والقتل
والسلب والتعذيب ونحوها ألنه نهى عنها .والحاصل أنَّ أحوال اإلنسان والتغيريات
التي تطرأ عليه ما خال ما استثنى منها ،كلها بحكم الله.
قال :ومن املحكومني من يولد عىل هيئتي أبيه وأمه معاً ،أو عىل هيئة أحدهام
فيكون نجلهام يف الزهرة أو نج ًال لواحد منهام.
ومن املعلوم أنَّ بني آدم يختلفون بعقولهم وهم من عرق واحد عىل ما تقولون،
فاألخ يختلف عن أخيه ذلك ألنَّ أحدهام ذيك واآلخر أبله .أو يختلفون يف طباعهم
وحل ذلك هو أن كل واحد منهم من نسل وبعض ألوانهم ،أو يختلفون يف كل يشءُّ .
الزهرة ،فمن كان عاق ًال فيها وإن دين عقله حني خروج نفسه من جسمه وإنزاله إىل
األرض ،فهو بالطبع ميتاز عن الجاهل الذي دين عقله أيضاً ،وقس عىل هذا غريه.
أما األنبياء والرسل فإنهم ينزلون إىل األرض وهم أبرار أطهار وذلك رحمة
للعباد ،ينزلون طائعني مختارين ويلبسون برضاهم الجسم اآلدمي .ينزلون ويقاسون
التعذيب والقتل والذل وخصوصاً التكذيب الذي هو أصعب يشء عليهم .وهم ال
يكونون إال من رؤساء القضاة.
وبعد نهاية مدة نبوءتهم ورسالتهم يعودون إىل مدينة القضاة يف الزهرة بأبهة
وإجالل من عند الله ،يقول فيهام الواصفون إننا لعاجزون عن وصفهام ،ولو اجتمعت
60
بالغة البلغاء وفصاحتهم يف كالمنا فإنَّ مجد الله ميأل الزهرة فيتألأل كل ما عليها
ويبتهج الخلق ابتهاجاً مدة ثالثني يوماً ،فينقل ذلك النبي أو الرسول مبركبة برقية إىل
الجنة فيجلس بني يدي الله تعاىل.
إنَّ الذين يعذبون من األنبياء والرسل ويقتلون ميتازون عن سواهم مبجد أعظم
من مجدهم.
ً
أما امللوك فإنهم من أعاظم رجال الزهرة املحكومني أيضا ،فإذا عاشوا يف صالح
وفضيلة وعدلوا ومل يقرصوا يف واجباتهم نحو الرعايا ،عادوا بعد انقضاء أيامهم إىل
الزهرة بأبهة فيقيمون باملدينة العظمى سبعة أيام ثم يرسلون مبركبات خصوصية
إىل الجنة .غري أنهم ال يساوون األنبياء والرسل بالعظمة واإلجالل فيجلسون بعدهم.
فإذا جاروا وظلموا أو طغوا أو عصوا وخالفوا ومل يضعوا األشياء يف محلها ومل يرعوا
الرعايا حق رعايتها ،عوملوا معاملة سائر سكان الزهرة الذين أنزلوا إىل األرض من غري
امتياز ،فكل واحد منهم يعاقب بحسب أعامله ،وأما رسورهم األريض وكدرهم فإنهام
ناجامن عن أعامل رعاياهم أوالً ثم عن أعاملهم ثانياً ،فإذا أدرك امللك الفساد وتدارك
األمة وأصلحها فقد أصلح نفسه معها وعاشوا جميعاً عيشاً هنيئاً رغيداً بقدر اإلمكان.
61
ال يتوب وال يندم .ويشرتط يف توبة القاتل النادم أن يساعد ما استطاع عيال القتيل.
أما القاتل املتهور غري املصمم ،فإذا تاب يف األرض وندم توبة وندامة كاملتني
تامتني ،وساعد الذين كان يعولهم املقتول بقدر استطاعته ،فيسجن بعد ميض أيامه
يف مدينة التكفري مدى ال تقل عن مئة وخمسني سنة ،يرسل بعدها إىل الزهرة من
غري احتفاء ومن دون أن يدخل مدينة القضاة ولو كان من سكانها ،وتبقى عليه سمة
العار .والساعي يف القتل واملحرض عليه واملشارك فيه هم جميعاً بحكم القتلة .والذي
يكرر القتل يزاد عقابه يف كل مرة ضعفني .والذي يعزم عىل القتل فال يقوى عليه ع َّد
من القتلة غري املصممني .والذين يعذبون ثم يقتلون يضاعف عقابهم.
الفصل الحادي عرش منه
_ يف القتل الديني _
قال والدي :إنَّ من الجنايات الفظيعة التي يتأسف عىل ارتكابها سكان الزهرة
ويعجبون من اإلقدام عليها ويتأملون منها تأملاً شديداً عظي ًام جناية القتل الديني
(حسب اعتقاد كثريين من األمم) ذلك أن يفتك اإلنسان مبن مل يتدين بدينه ،ويعد
هذا الفتك قرباناً يقربه لله تعاىل ،فيقتل ويفتك ويذبح وينحر ويتفنن يف التعذيب،
وهو يذكر الله تعاىل الذي أمره بالرأفة والرحمة ويستعني به ،فرتاه يف ورع وخشوع
يهلك ونفسه مبتهجة .يخضب يديه بدم أخيه وصدره منرشح .يعذب نسيبه الذي
يستغيث به وقلبه طيب.
إنَّ الله حرم القتل بجميع أنواعه ،فكيف يج ّزؤنه ّ
ويقسمونه وين ّوعونه ويجعلون
بعضه حالالً وبعضه حراماً ،قس ًام منه منهياً عنه ونوعاً مأمورا به؟
ً
يغصب الشقيق شقيقه عىل دينه وكالهام يبتهالن إىل الله ويستعينان به .ما
أقبح تلك املذابح الدينية! ما أفظع تلك السجون التي كانت ممتلئة بآالت التعذيب!
ما أردأ بني آدم! ما أجهلهم! ما أعظم غفلتهم! يا بني آدم أتعلمون أنكم أرشس من
الوحوش املتضورة؟ إنَّ الوحوش املفرتسة تتظلم إذا شبهناكم بها.
ً
قال :أما الذي يقتل وهو يحسب أنه يق ّرب قرباناً لله تعاىل فيعد قاتال ويعاقب.
ويعاقب معه ذاك الذي أغواه وأمره عقاباً ال أشد منه وال أقوى ،وهو ال يخرج من
زحل إال بعد خروج آخر سجني بعرشين ألف سنة ،وبعد ذلك ينقل إىل املريخ ال
يكلمه أحد فيه ولن يدخل الجنة.
62
الفصل الثاين عرش منه
_ يف القتل الحريب _
قال والدي :إنَّ كل من أثار فتنة وتسبب يف حرب حمل وزر كل مقتول وعوقب
عن كل قاتل .وكل من أخمد فتنة ومنع حرباً فقد غفر الله سبحانه وتعاىل له سيئاته
وع ّده من الذين عملوا الصالحات.
أما الذين قتلوا يف الحروب وقد أمرهم بها حكامهم فتغفر ذنوبهم بدمائهم
ويعودون إىل الزهرة .فإذا قتلوا وهم صالحون أرسلوا إىل الجنة ليجالسوا األبرار
معززين مكرمني.
63
يتامدون يف املعايص وينغمسون يف اآلثام يجتنبون املحارم والكبائر .غري أنَّ املقام
مبدينة التكفري ليس مبستكره كاملقام بزحل .ومدة التكفري غري طويلة غالباً ،وأكرث
املكفرين يسمح لهم أن يقيموا باملدينة نفسها من غري أن يسجنوا .ال يعذبون وال
يشكون غري فراقهم الزهرة .والعربة للكثري يف جميع األشياء.
ثم قال :إنَّ املخلوق يطمح ويجمح فيميس عبد الشهوات وأسري األهواء مرتكباً
جسوراً حيث ال محل للجسارة واإلقدام ،ذلك ألنه يرى ويسمع الحكم عىل األثيم يف
الزهرة فريتعد بدنه ويستغفر وهو يشاهد تجريد املحكوم عليه من جسده ،ويبرص
خروج نفسه منه بصورة أفعى قبيحة ،ويبرص يف بعض األحيان سكان األرض يعذبون
فتنبض فريصته رعباً ويبرص كيف ميوت األبرار ،ومع هذا كله فإنه ال يعترب بل يأثم
ويندم ،ثم يعود إىل الزهرة ويأثم أيضاً فريجع إىل األرض وهذا منتهى العجب .ال تقل
يف رسك ليت الله تعاىل يرسل إلينا يف كل مدة نبياً يدعو إىل الخري والفالح باملعجزات
(ولقد كنت عزمت يف رسي أن أقول هذا فعلمه قبل أن أفوه به) أما كفى ما قتل
الناس عندكم من األنبياء وعذبوا من الرسل وكذبوا؟ فعليكم بكتبهم فهي كافية وافية
واستمسكوا بها واسرتشدوا.
قال :لقد قلت «إنَّ املخلوق يبرص يف بعض األحيان سكان األرض يعذبون» ،أي
إنَّ الله تعاىل إذا رأى عبده يف الزهرة قريباً من االنحراف عن الحق أراه سكان األرض
وهم يعذبون وذلك ليعترب.
64
ويعذبون ويسلبون ويظلمون ويهينون ويطردون إىل غري هذا من الجرائم والكبائر
والرشور والفظائع .فحينام يذهبون إىل زحل تنجيل لهم الحقيقة فتتجسم أعاملهم
ويرونها كأنها تجرتح يف تلك الدقيقة التي هم فيها من غري أن تغيب عنهم وذلك
مدة سجنهم.
ً
ماذا يرون؟ يرى القاتل نفسه غالبا يقتل ويعذب نجله الذي ولد له يف الزهرة
وأخاه وابن عمه وأحد أقاربه أو أحد أصدقائه وأحبابه .يراهم يسرتحمون ويتذللون
بني يديه لريحمهم ويريحهم من عذابهم ،وهو يزداد قسوة وتوحشاً .فعندما يتحقق
ذلك وفواحش أخرى اقرتفها يصري يف حالة من العذاب والندم والتأسف والتوجع
والتفجع أشد من النار املحرقة.
65
66
الباب الثالث
67
68
الفصل األول من الباب الثالث
_ يف املحاماة باألرض _
قال والدي :إنَّ آفة الحقوق عندكم املحامون .يزداد التزوير واالحتيال بازدياد
املحامني .إنَّ املحاماة حرفة رشيفة رفيعة لكن العدد األوفر من أربابها أدنياء.
يجب أن يكون املحامون من أعاظم الرجال غري أين أرى أكرثهم من سفلتهم.
ال يكون املحامي محامياً إال إذا كان عاملاً متبحراً يف العلم .فاميل أرى الجانب
األعظم منهم جهالء؟ هل املحامي إال صادق أمني ،فلامذا تقبلون عىل الخونة الكاذبني؟
إنَّ الذي يخون خصمك ويخدعه يخونك بعده .إنَّ املحامني الصادقني يؤيدون الحق
ويثبتونه ،فكيف يجوز لكثري منهم أن يصريوا خصوماً يؤيدون الباطل؟ أيرجى منهم
أن يجتهدوا يف تخليص موكليهم وهم أكلة أموال اليتامى واأليامى واألرامل؟ أتدرون
من هم اليتامى؟ هم الصغار القارصون الذين ظلموا يف األرض قبل أن يعرفوا كيف
يتظلمون .هم الضعفاء الذين يستمدون القوة من األقوياء فكيف يغدر بهم وهم
الذين لوالهم ملا أشار الناس إىل الرحيم وقالوا هذا الرجل من الرحامء؟
من هن األيامى واألرامل؟ هن اللوايت يعرفن كيف ظلم أوالدهن ولكنهن ال
يعرفن كيف يدرأن الظلم عنهم ،وهن اللوايت مىض رجالهن وتركوهن إىل الذين
يتمدحون باملروءة وينافسون فيها .أي فظاعة أفظع من محام يساعد ظاملاً عىل هضم
أيم ويتيم؟
حقوق ّ
ساعدوين يا إخواين من أهل النخوة واإلنسانية عىل لعن هذا املحامي ،أجهروا
معي بإخزائه وأنتم ال لوم عليكم وال جناح .أية لعنة أعدل من أختها هي التي تنقض
عىل هذا املحامي فتصعقه بصاعقة من غضب الله تعاىل وسخطه؟
69
هل يجوز للجانب األكرث من املحامني أن يج ّدوا يف تربئة اللصوص والقتلة؟ من دافع
عن لص وقاتل معروفني باللصوصية والقتل فقد شاركها فيهام.
ال أدري متى مين الله تعاىل عىل املجتمع اإلنساين فيكف عنه أولئك البغاة الطغاة
ويدحقهم دحقاً.
يا ويلكم يا أيها املحامون الظاملون الذين يساعدون الباغني عىل بغيهم .من أنتم
وما هو شغلكم وعملكم؟ أأنتم أنصار الحق؟ أأنتم الطبقة األوىل من البرش؟ أأنتم الذين
يطلب الناس عندكم حقوقهم ودماءهم ويصونون بكم أعراضهم ويحفظون أموالهم؟
أأنتم املصابيح النرية التي يستنري بها الحكام؟ أبكم يستضيئون ومنكم يقتبسون؟ أفيكم
ينافسون؟ أإليكم يرجعون؟ أعليكم يعتمدون؟ أأنتم مالذ املظلومني وملجأ الضعفاء؟
أنتم مبدأ الطمع وداعي اللصوصية .أنتم منشأ اللوم ومعدن الفساد .أنتم مصدر
اإلغراء ُوأ ّس االحتيال وسبب الخصام .أنتم منبع الرش وجرثومة املكر وواسطة الغدر
ومادة الفتك .أنتم أصل الظلم وفرع البغي ومنجم الباطل .أنتم غاية الفظاعة ونهاية
الدمار .وأنتم الذين أخجل أن أخاطبكم بقويل لكم أنتم.
أما أولئك األفاضل الذين يأخذون بيد املظلوم ويرضبون عن يد الظامل ،وأولئك الذين
يتسمون بالقناعة واملروءة ويتسامون بالنشاط ويدرأون عن نفوسهم الشبهات باألمانة
والنزاهة ،وأولئك الذين إذا حكموا أنصفوا وأصلحوا ما أفسده الظاملون ،وأولئك الذين ال
يراوغون؛ فهم الذين تبتهج اإلنسانية بذكرهم الصالح وتسأل الناس رفيعهم ووضيعهم،
أن مييزوهم ويخصوهم بالتكريم والتعظيم ألنهم دعاتها وأنصارها وهذا قليل من كثري.
إذا اختارت الحكومات املحامني مثلام تختار أعضاء املجالس فمن كان منهم صالحاً
أعلت منزلته وثبتته ،ومن كان فاسداً منعته وطردته ،كرث خريهم َّ
وقل رشهم.
70
من كان فيه صواب األمر وسداده ،ومن كان يحكم القول والفعل ومينع نفسه
مام ال ينبغي لها ،فهو الحكيم .فانظروا إىل الكثريين من قضاتكم وأعضاء مجالسكم:
هل هم حكامء؟ وهل يصلحون للقضاء؟ هل هم قانونيون؟ وهل لهم من قوة الحجة
واملعرفة ما يؤيدون به الحق؟ وهل لهم ألسنة تتكلم وهل يفهمون ما يتىل عليهم
وينقل إليهم؟ وهل يستطيعون االعرتاض ويدركون أنَّ لهم حق االعرتاض؟ أيعقلون؟ يا
ليت شعري ما هو وكيف يكون .يا عجباً منهم ،أهو صك يحسبون فائدته ودنانريه؟ أهو
نسيجة حائك يبخسونه حقه ،أم هو ثوب بز يغبنون املشرتي يف بيعه؟
يا أيها القضاة الذين لستم عىل يشء من العلم والعقل ملاذا تعرضون نفوسكم
لذلك واإلهانة؟ إنني ال ألومكم ألنكم تعتقدون أنَّ املرثي ال ينقصه برثوته علم وعقل،
وأنه إذا هذى وجب عىل الناس أن يقولوا أفصح موالنا .وإين ال ألومكم يا أكرث األعضاء
ألنكم ُب ْله ال تعقلون .ولكنني ألوم أولئك الذين ميدحونكم ويعرضون أسامءكم يوم
توزيع األسامي كام تقولون يف اصطالحكم .ملاذا يختارونكم؟ أيعتقدون أنكم أكفاء
للقضاء وللذين يشاركونكم فيه؟ فإن كان هذا اعتقادهم فهم مثلكم ودونكم .وإن
كانوا يعرفونكم حق معرفتكم فلامذا يحكمونكم يف حقوق العباد ويعرضونكم للمذلة
واالحتقار؟ أمل يكن أكرم لكم لو تواريتم يف مخازنكم عن عيون النقادين؟ تطلبون
املعايل بالقضاء وهو يجعلكم أضحوكة .أنتم ترضون بالهزء وتقبلون السخرية ،وأما
األمة فال ترىض أن تنوبوا عنها ألنَّ النواب يجب أن يكونوا من العقالء املميزين العارفني
ما لألمة من الحقوق وما عليها من الواجبات .تريد األمة رجاالً يحافظون عىل حقوقها
ويرعون كل أمورها ،وأما أنتم فتضيعون الحقوق من غري أن تعلموا.
الفصل الثالث منه
_ يف الوصاية باألرض _
قال والدي :ال تكن وصياً لئال تتهم وأنت بريء ،ولئال تغفل عن حق اليتيم واأل ّيم
املظلومة فيسألك الله تعاىل عنهام .ولئال تغلب حب ولدك عىل حب اليتيم .ولئال
تستقرض ماله فال تستطيع رده .ولئال يخدعوك فترصفه يف غري محله ،ولئال تكون
عاجزاً فتؤذي اليتيم واأليم وأنت تشفق عليهام وال تريد إال نفعهام.
وصيتي إليك أن ترد الوصاية .من أكل مال اليتيم واأليم فقد أكل جمرة ال تخمد
واستمطر عليه اللعنات ترتى الواحدة بعد األخرى.
71
الفصل الرابع منه
_ يف الحروب واملذابح والفظائع باألرض _
قال والدي :ليس يل إال أن أقول طوىب لنا نحن سكان الزهرة ،لنا السعادة والغبطة،
لنا الخري والحسنى ،ألننا ال نعاين مصائب الحروب .إنَّ أعراضنا وأوطاننا وكل ما لنا
مصونة مثل نفوسنا .ال تهلع قلوبنا وال تنخلع باملذابح وال تذل نفوسنا باألرس .ال
نحتم((( ،ال نختلف يف يشء بالزهرة إال يزول حاالً .نعم إنَّ الذين يقتلون يف الحروب
وهم مأمورون بها تغفر ذنوبهم بدمائهم ويعودون إىل الزهرة كام علمت ويخلصون
من األرض ،غري أنَّ القتل والعذاب يؤملانهم ويكربانهم وهام غري معينني يف الحكم
عليهم بالزهرة.
إنَّ امللوك عندنا هم رؤساء القضاة وهم موكلون بحفظ الرعايا وراحتها ،والقضاة
كام عرفت يفصلون الخالف ويصلحون فال نضطر إىل الحروب التي نتالىش بها ،وال
يقوم األقوياء عىل الضعفاء وال يثور الكرباء عىل الصغراء .ال تهجم الشعوب عىل
القبائل وال القبائل((( عىل العامئر ،وال العامئر عىل البطون وال البطون عىل األفخاذ،
وال األفخاذ عىل الفصائل فيتفانوا ويتالشوا.
ال تغصب كل أمة أختها وتسلبها حقوقها الطبيعية والوضعية وتتسلط عىل خرياتها
مهنديس حرب وال أسلحة ،ال ننافس يف اخرتاع
ّ وتستعبدها .ال جنود عندنا وال قواد وال
األسلحة الرسيعة وال نتفاخر بالحيل واملكامن املعدمة الحياة .ال نتبارى بالتغلب
والقهر وفتح املدن والقالع والحصون كام أنتم تتبارون .ال قالع وال حصون عندنا يف
الزهرة .ال نجعل النساء أيامى وال األطفال يتامى .ال نجري دموع األمهات حزناً عىل
فتيانهن الذين يذهبون وهم يف مقتبل العمر فرائس األطامع ،يداسون تحت األقدام،
يدوس األخ أخاه ويهلكه وهو ال يدري.
72
ال مغيث ملستغيث وال مجري ملستجري .إذا أراد راحم أن يرحم ومساعد أن يساعد
يف احتدام نريان املعامع فال يجدان إىل الرحمة واملساعدة سبي ًال.
ماذا تفعل عندكم يف تلك الساعة جمعية الصليب األحمر املحمود سعيها؟ تنظر
إىل بني اإلنسان وقلوبها تنقطع توجعاً وتفجعاً .هناك التوحش الذي يستفظعه وينفر
منه من ألف كل فظيع ،بل التوحش الذي هو أشد من توحش الوحوش الضارية التي
تلتهب أحشاؤها جوعاً وعطشاً .ماذا أقول وكيف أصف ذلك التوحش؟ أقول إنه أشد
وأفظع وأقبح وأردأ من الشدة والفظاعة والقبح والرداءة .ليتوار اإلنسان يف وهاد
األرض وأغوارها .إنَّ هذا اإلنسان لفي جنون ،فقد غلبته كبائره ورشاسته حتى ضاع
رشده ،فيا ليته يعقل ويدرك ما يفعل ويا ليته يبرص .لقد عمي وعمه((( ولكن عن
الرحمة والخري.
ما أكرث طمعك يا إنسان ما أشد تكربك وعجرفتك .ما أعظم رشك ورضك .ما أغراك
بالقبائح وأولعك بالفظائع .هو الطمع هو الجشع الخبيثان املؤذيان القاتالن امللعونان
لعنات متواليات متتابعات .لقد قادك صلفك إىل الرشور والرذائل وإىل إهانة نفسك
وإذاللها بل إىل إهالكها يف سبيل أطامعك الدنيئة الساقطة.
لقد دنست األرض ونجستها وظلمتها بكبائرك الصادرة عن تجربك وغطرستك.
لقد أقلقت األرض وأزعجتها بغدرك ومكرك ودهائك حتى لعنتك ومتنت لك االنقراض
لتسرتيح هي من توحشك ،فتستأنس بالضواري لكونها أرحم منك ،فإنها إذا شبعت
(((
أنست ولطفت وسكنت ،وأما أنت يا أيها اإلنسان الظامل فإنك كلام شبعت أرشت
وبطرت ونهمت ورشهت وجفوت وقسوت وطغيت وبغيت حتى فقت بالتوحش
أعظم الوحوش كام ذكرت ،فت ّربأ الحيوان املفرتس منك وتنصل((( إىل األرض والسامء من
خياناتك وجناياتك وكل فظائعك فرتكك وابتعد عنك ونفر منك ،ال يساكنك خوفاً عىل
نسله لئال يتفنن تفننك يف التوحش ،فاختار األودية والغابات والوهاد والجبال املرتفعة
الصعبة واملسالك وتوغل يف أدغالها وأجامتها فراراً منك واعتصاماً بها ،أنت الذي
تفاخر بإنسانيتك .وانفرد يحمد ربه ويشكر خالقه عىل نجاته من وجهك الغضوب
-1عن الزمخرشي العمه كالعمى غري َّأن العمى عام يف البرص والبصرية والعمه خاص بالبصرية.
2ـ أَ َ َّ
ش فالناًَ :ن َس َبه إىل ال ِّ
رش.
-3تنصل إىل فالن من الجناية :خرج وتربأ.
73
لئال يتطري((( بالنظر إليه .أنت الذي تدعي باملدينة وتحارض بحضارتك وتباهي بتمدنك
الحديث وتباري بدينك ومعتقدك وتغضب وتسخط إذا تنقصهام أحد وتكفره ،كأنك
تقي ورع وأنت يف كل ساعة تهني دينك بقبائحك وتهتك حرمته بإقدامك عىل هذه
الرذائل .ملاذا تغار عىل يشء ال تعمل به وال تحبه؟ كيف تغار عليه وأنت بعيد عنه؟
ما هذا الرياء وما هذه املداجاة؟ ما هذا النفاق؟ أهذا كل دينك؟ ماذا تستفيد
منه إذا كنت ال تريده لنفسك؟ ملاذا ال تتدين لرتيح عقلك وقلبك وجسمك كله؟ تريد
أن تتدين ولكنك ال تجد لك ديناً يحلل املحرمات وال ينهاك عن املطامع الدنيئة .قل
يل هل انتفعت بها حتى ال تنفك تسعى وراءها؟ أال يكفيك ما اقرتفت وما جمعت؟
يا ليتك اكتفيت واسرتحت وأرحت .إنك رشير ال تريد إال اآلثام والرشور حتى رصت
متدح الرش وأهله .ارحم نفسك يا أيها اإلنسان وال تهلكها .لك العقل يا عبد طمعك
وأسري جشعك ،واستيقظ من ضاللك وجهلك ،واعلم أننا نحن سكان الزهرة إذا أردنا أن
نضع نفوسنا ونروضها ونتقشف نظرنا بأمر الله إليك عن بعد ونحن نرتعد من لؤمك
وقساوتك ومن شدة حرصك ،فنحمد الله تعاىل ونعترب بك خاشعني.
نكره النظر إليك ونتعوذ بالله من رشورك .أفهمت ما أقول يا أيها اإلنسان؟ أقول:
إننا نتعوذ بالله تعاىل من اإلنسان األثيم كام تتعوذ أنت من الشيطان الرجيم ،فلك
الخزي والعار يا ويلك يا أيها اإلنسان الغضوب الرشس ،بل الويل كل الويل لك يا أيها
املتغطرس املفرتس.
يا أيها البرش أبناء آدم :ألستم كلكم أقرباء وأنسباء؟ ألستم من ساللة واحدة؟
ْ
وأدرك وافهم ألستم أوالد أعامم؟ ألستم من أب واحد وأم واحدة .اعقل يا هذا
وتيقن أنه لو كان آدم يف األرض حياً ومات اليوم ألصابك منه سهم بحكم الوراثة
ألنك ولد من أوالده .أفهمتهم يا أيها األرضيون أنكم من أصل واحد فكيف تتسابقون
إىل املقاتل واملذابح وأنتم تتمدحون يف جرائدكم ومجالتكم وتآليفكم ويف منابركم
وأنديتكم وتقولون :هكذا يكون الوطني الغيور عىل وطنه فإنه يفديه بدمه؟ الله الله
ما هذه الغرية الوحشية! ما هذه النخوة الضائرة! ما الذي يبعثك يا أيها اإلنسان عىل
هذا الفداء وأنت تعيش برفاهية إن كنت ال تطمع يف وطن غريك؟ ال يبعثك عليه غري
التكرب والتعظم واستحالل ما هو محرم.
74
أال يقع نظرك يا أيها الوطني الغيور عىل أخيك حني تقتله؟ أال تأخذك به رأفة
فتكف عنه؟ إين ألعجب كيف ال ترتجف أعضاؤك ساعة قتله ،وكيف ال يسقط السيف
من يدك .أهكذا يفعل حب الذات يف اإلنسان؟ لريحمك الله يا أيها اإلنسان ألنك
لست تشعر بفظائعك وال تدري ما تفعل .إنك تهدأ فتندم ثم تعود إىل أقبح مام
كنت عليه.
وقال :لقد علمت أنَّ بعض الرحامء األفاضل عندكم يسعون اآلن يف منع الحروب
(كام سعى غريهم يف تخفيف بعض ويالتها فرحمهم الله عز ثناؤه وأحسن إليهم)
ولكن هذه غاية ال ترام اآلن وقد طلبت قبل أوانها ولذلك مل تتم .وال أقول إنهم
طلبوها قبل وقتها فقط ،بل مل ميهدوا لها الطرق ومل يعدوا املعدات الف ّعالة .إنَّ هذه
املسألة العظمى تقتيض جهداً عظي ًام يف أعوام تتواىل عىل اآلباء واألبناء.
إذا أرادوا أن ينجحوا ويفلحوا ويربحوا رىض الله تعاىل التام ويصونوا كل عزيز لديهم،
فعليهم يف أول األمر أن يج ّدوا يف اختيار لغة قريبة املأخذ سهلة الحفظ قليلة الشوارد
وجيزة رقيقة ،يجعلونها اللغة العامة ليك يتقارب البرش عندكم فيتشاركون يف املصالح،
ويتشاكلون ويتوافقون ويتامثلون يف العادات واملآكل واملشارب ،ويتودد كل واحد إىل
اآلخر حتى يصاهر بعضهم بعضاً وتراهم يتشابهون يف كل أمر .وعليهم يف ضمن هذا أن
ال يكفوا عن حسن السعي يف جعل الناس يقلعون عن التعصب والتح ّزب معاً ،وذلك بنرش
الرسائل العلمية واملقاالت التهذيبية ،وإذاعة النصوص والنقول واألحاديث الدينية التي
هي أقرب من غريها إىل تأليف القلوب واملساواة بني األمم ،وإبداء النصائح والروايات
املؤثرة متهيداً لتعميم املحبة والفضيلة يف كل املدارس واألندية التي يجب أن تكون
جامعتها من جميع األديان وامللل املختلفة املذاهب والعادات واألهواء .ويجب أن يجتهد
يف تعليم التالمذة بعض الفوائد والحكم التي تجتمع الكلمة بحفظها وترغبهم يف تبادل
املنافع ،حتى إذا خرجوا من املدارس أعدت لهم الرشكات الخصوصية لتتحد القلوب
بتوحيد املنافع.
أما املعلمون فيلزم أن يكونوا من أكابر العلامء املشهورين باآلداب والفضائل،
وخصوصاً بعلم األخالق وإال فالفائدة معدومة .ويجب عىل الشعراء واألدباء والخطباء
البلغاء ومشاهري الكتاب أن يدعوا كل يشء ويدأبوا يف الحث والتحريض والرتغيب
والتشويق والتحبيب مبا امتازوا به من الرباعة واملهارة يف الخطابة والكتابة واإلنشاء.
وال شك يف أنَّ امللوك ورؤساء األديان واألمراء والفضالء ينهضون عند ذلك نهضة
75
واحدة ،ويأمرون أمراً نافذاً قاطعاً بإمضاء هذا الخري العام وتنفيذه ،ويعينون جوائز
ومناصب للذين ميتازون عن سواهم باإلفادة والتأثري يف نجاحه وتعميمه ،كل ذلك بعد أن
يكون أولو األمر قد تعاهدوا وتعاقدوا وتحالفوا عىل صيانة ماملكهم وحفظها من األطامع.
أما األرايض الخارجة عن العمران البرشي التي يعدونها غري داخلة يف حقوق الدول،
والتي مل تدخل يف سلطة األمراء العادلني ،والتي يحسبونها غري مملوكة ،فيتفقون عليها.
وبعد هذا كله فرتك الحرب مستطاع واإلجامع عىل السالم سهل.
فإذا أجمعوا ثم وقع بينهم خالف كان جزئياً وكان حله ممكنا (ما دامت ماملكهم
ً
واألرايض املباحة مصونة باملعاهدات كام ذكر) وذلك باختيار محكمني دامئني ينتخبون من
ربوات من الشعوب ويعينون لفصل كل خالف دويل .فإذا حكم عىل أحد ومل يقبل الحكم
كان عىل الدول املتعاهدة إلزامه ،وعندي أنه ال يسعه إال الرىض ألنَّ البرش حينئذ يصبحون
غري املوجودين اليوم .ويف هذا ضامن السالم إن شاء الله تعاىل .فيا لرسوركم وحبوركم إذا
نجوتم من تلك املصائب الفظيعة الناجمة عن األطامع!
فإذا أىت عىل ترك الحروب خمسون عاماً ال أكرث انقلب اإلنسان من حالة إىل ضدها
فيصبح وديعاً رحي ًام ومحباً رفيقاً ،فتقل املحارم التي منها الطمع وتخف ويالت األرض،
ألنَّ املرء رهني العادة وأسريها فإذا عودته التوحش تعوده حتى يفوق الوحوش وبالعكس.
وقال :ال تعرتض عيل بأن تقول إذا َّتم هذا اإلصالح العام وخفت ويالت األرض فال تصلح
َ
اعرتضت قلت لك :إذا صح هذا االنقالب (وسوف لعقاب املجرمني من سكان الزهرة .فإذا
يصح إذا شاء الله) وقدرنا أنَّ األرض ارتقت به مئة درجة ،فالزهرة ترتقي خمسمئة ،وعليه
فكلام تقدمت الزهرة خفف الله عقاب البرش يف األرض بتقدمها العمومي.
76
اإلنكليز عىل تركهم .هل يستطيع اإلنكليز أن يرت ّدوا عنهم؟ إنَّ اإلنكليز مكرهون عىل
الثبات أكرث من أعدائهم .إنَّ اإلنكليز مهام خرسوا فهم الرابحون بعد نجاتهم من هذه
الحروب .إنَّ اإلنكليز يعوضون وأما البويرس فال أمل لهم بالتعويض ولو كابروا.
ما مثل البويرس من اإلنكليز إال مثل الرباغيث من اإلنسان ،فإنها تقلقه وتحرمه لذيذ
املنام ومتتص من دمه غري أنها ال مترضه ،فإذا طلبها فرت وتوارت ثم كرت عليه فيهب
من فراشه ويتأثرها فيدرك بعضها ويختفي بعضها وهكذا إىل أن يقل عددها ،وهو مع
ضخامته ال يستطيع أن يدركها كلها يف وقت واحد ألنَّ مداخلها ضيقة وهي خفيفة كثرية
التنقل ال تستقر يف مكان فيتتبعها بصرب وحكمة إىل أن تحرص فتقبض.
لقد أخطأ البويرس يف استثناء اإلنكليز من بعض املعاهدات ،فلو عاهدوهم كام
عاهدوا غريهم من الدول ألصابوا ،ولكنهم اغرتوا مبواعيد بعض كبار السياسيني وغريهم
من املحرضني الذين ال يهمهم إال شغل اإلنكليز ،ال ليتمكنوا منهم بيشء بل ليجعلوهم
يتغافلون عنهم.
لقد أخطأ ساسة البويرس وقوادهم يف غزو بعض املدن من مستعمرة الرأس
اإلنكليزية .لقد خدعتهم أمانيهم وزعموا أنهم ميلكون تلك األمصار .هجموا عىل قالع
اإلنكليز وحصونهم فارتدوا عنها مدحورين ،فعلم أنهم رجال غارة ال رجال حرب ،فلو
وقفوا يف حدودهم ألمنوا رش ال ُّر ْج َعى وذلها التي كانت عليهم أنىك من الحرب كلها،
ومل يكرهوا اإلنكليز عىل بذل النفس والنفيس ومل يضطروهم إىل تعويض رشفهم بتتبع
الحرب .ومام زاد اإلنكليز رغبة يف مواصلة القتال هو استخفاف بعض الدول بهم تنرصاً
للبويرس فكانوا بذلك عليهم ال لهم ،وهم ال يتأملون.
الفصل الخامس منه
_ يف السجون واملنايف _
قال والدي :إذا أردت أن تعلم أين السالم والسكينة فاذهب لو أمكنك إىل غرفة
من غرف املنفى العظيم والحبس الكبري يف مدينة التكفري القائم عىل هضبة عالية يف
روضة أريضة ،تفوح أزاهريها وتضوع((( فتحمل روائحها الرياح إىل الروايب والبطاح
ْ
وتأمل ت َر املياه النقية العذبة تنحدر من تلك الهضبة متكرسة فرتتاح إليها األرواح.
77
كأنها تصيح وترصخ حزناً عىل فراقها أعاليها .تجد املحبوسني يف أمن وسالم يحمدون
الله تعاىل غالباً ويشكرونه ،تجدهم معتكفني عىل التعبد والتزهد كأنهم يف معبد
عظيم .كلام حمد املحبوس وشكر تفتحت أمامه أبواب الفرج فيزداد تعبداً وتورعاً
وتزداد أخالقه تحسناً ،فإنَّ الغاية من املحابس التهذيب والتأديب برقة وتلطف ،فيخرج
منها كأنه خرج من مدرسة عالية مشهورة بعلم السلوك واألخالق ،وقد اتسعت دائرة
عقله فأدرك ما مل يكن يدركه قب ًال ،وتعلم ما مل يعلم ألنه يتفرغ للتعلم فلم يشغله عنه
شاغل ،وألنه اتعظ بتلك املواعظ وانتصح بالنصائح التي ألقاها عليه قضاة من مشاهري
الرجال األتقياء والعلامء ذوي الفضل والفضيلة .وأولئك القضاة يقفون نفوسهم بالطوع
والرىض عىل خدمة املحبوسني وتعليمهم وتهذيبهم .هذا وإنَّ سجن زحل األعظم الذي
يقايس فيه األرشار العذاب ألواناً نحسبه مدرسة .فال يخرج السجني منه إال بعد أن ين ّقى
من كل عيب ويتج ّمل بأحاسن السجايا ومحاسن املزايا ليكون صالحاً لإلقامة باملريخ.
قال :وإذا أردت أن تبرص رش اإلنسان وتوحشه ورشاسته وتوسعه يف فنون القبائح
وتقدمه يف اخرتاع الرذائل ،وإذا طلبت أن تعلم كيف يكون غدر اإلنسان املتوحش ،وإذا
رمت أن تعرف أين تقر الفجور واآلثام والكبائر والجرائم وأين الدناءة السدومية ،وإذا
رغبت أن تتحقق أين توجد الدنايا وأين الفواحش الرببرية ،وإذا شئت أن تنظر أي عامل
تنشأ فيه ويالت اإلنسان ومصائبه ونوائبه ومصاعبه ومتاعبه وشدائده ومكارهه وأكداره
وغمومه وهمومه وفواجعه وبالياه ورزياها وتنترش بني البرش عندكم ،وإذا وددت لو
تتيقن كيف تنبعث األوخام واألوساخ واألدران واألقذار فتتفىش العلل واألمراض بكم،
ْ
وادخل ذلك العامل الصغري أال وهو السجن واملنفى العمومي يف قلعة وتشجع
ْ فق ِّو قلبك
من قالعكم التي ال تجهلها .وال أخالك تدخله فإذا دخلته ارتعت من هول وشناعة تلك
ويقف((( شعرك ويتمعر((( وجهكاملرايئ واملناظر الكريهة القبيحة ،ال تدخله لئال تشمئز َّ
ويتقبض جلدك ويقشعر بدنك وترتجف أعضاؤك وتنبض عروقك ويحبض قلبك .
(((
هناك الشتم والتعيري .التهديد والحقد والنميمة .هناك الكذب والتزوير واملراوغة.
االغتياب والرسقة والجور .هناك الغدر واملكر والخديعة والغضب .هناك اللطم
78
واللكم والرضب والجرح والقتل .تجد هذه النقائض والجرائم وتلك الرذائل والفظائع
والفواحش التي أرشت إليها وتجد أشياء كثرية غريها مل أذكرها.
ترى كثريين من املتأدبني أويل األخالق الرضية الحسنة يفقدون آدابهم ويضيعون
مزاياهم (بعد ما يضمون إىل السفلة األدنياء).
يستغيثون ويستجريون ويتوجعون ويتفجعون ويشكون ويتظلمون ويتململون،
ويئنون وميوتون كالكالب عىل املزابل واألقذار .تزهق نفوسهم بني القبائح والشنائع
ويخلصون وهم سعداء بخالصهم فيحسدهم إخوانهم الذين ميوتون ويحيون كل يوم
مراراً مام يعانون ويكابدون.
يطلبون أن تخرج أرواحهم فال يجابون فينتحرون .إنَّ كثريين منهم يغلب عليهم
اليأس فيمسون ويصبحون كالكالب الك ْلبى((( أو الوحوش الضارية .فأين الرحيمون
املشفقون الحنونون الرؤوفون؟ أين مخففو الويالت عن إخوانهم؟ أين جمعية الصليب
األحمر؟ أين لجنة الرفق بالحيوان لرتفق باإلنسان؟ أين املتبتلون؟ أين الزهاد؟ أين
النساك املقيمون برؤوس الجبال املعتزلون املنفردون عن البرش يف صوامعهم؟ أين
الرهبان املتنعمون يف أديارهم .أين الذين ينذرون عىل نفوسهم متريض املرىض؟ أين
املتصدقون عىل املسجونني ليسارعوا إىل هذه السجون؟ ليعلموا جميعاً أنه ليس التزهد
والتنسك والرتهب يف تجنب الناس واالنزواء واالنفراد وحب الراحة ،راحة األبدان إجابة
لداعي الكسل وحب الذات املتمكن من قلوبهم ،وليس التعبد بالفرار من عذاب الدنيا
ومشقاتها.
يزعمون ويعللون نفوسهم بأنَّ لهم يف ذلك فض ًال وأجراً وثواباً .ال فضل لهم وال
أجر وال ثواب إال مبساعدتهم إخوانهم هؤالء املسجونني يف أمثال تلك السجون البعيدة
عن األنظار.
لينذروا شيئاً من مالهم ،لينذروا لله تعاىل خدمة إخوانهم مدة يعينونها بقدر
تجلدهم القوي ،فيكافئهم الله بنقلهم إىل الزهرة فالجنة حيث يجلسون مع األبرار،
فإذا أقدموا وفعلوا انقلب ذلك السجن من حالة إىل ضدها والله سبحانه وتعاىل ال
يتخىل عن املحسنني.
1ـ ال َك َلب :املصاب بداء ال َك َلب ومن يعقره الكلب .ال َك َلب جمعه َك ْل َبى.
79
80
الباب الرابع
81
82
الفصل األول من الباب الرابع
_ يف الطلق والوالدة وتربية الطفولة _
قال والدي :كل امرأة عندنا خصوف((( ،تلد وهي تأكل وترشب وتضحك ،ال تشكو
وال تنئ وال تتوجع شكوى وأنني وتوجع بني آدم ،بل تضع كأنها متغص مغصاً ليس
بشديد .ال تحتاج إىل قابلة ألنها ال يهددها خطر ،إننا ال نظائر((( ،ألننا نقول من رضع
غري أمه فقد تخلق بأخالقها .إنَّ املرأة بعد أن تحجم للمولود ،أي بعد أن ترضعه أول
رضعة ترضعه يف كل ساعة حرتتني (والحرتة الرضعة الواحدة) حتى إذا بلغ الشهر
السادس من عمره أرضعته يف كل ثالث ساعات مرة ،فإذا زادت منعت وعدت جاهلة
بني نسائنا وهذا يحدث قلي ًال أو ال يحدث.
ال تضع األم ولدها يف رسير يهز ،فقد عرفنا أنه تنجم عنه أخطار عظيمة ورمبا
كانت سبب هالك الطفل .منها أنَّ االهتزاز الشديد يؤثر يف مجموع عصبه ويحدث
له القيء وغري ذلك من األمراض .هذا إذا كان معاىف فإذا كان علي ًال متأملاً من حالة
عصبية دماغية أو معدية أو غريها ازداد تأملاً بالهز ومتكنت منه العلل.
وقد علم أنَّ كثريين أصيبوا منه بالشوص والحول ،هذا إذا مل يسقط الطفل من
رسيره ألنَّ يف سقوطه الوبال عليه.
ومن املعلوم أنَّ الطفل إذا هزز رسيره ال ينام يف أول األمر إال بعد أن يأخذه دوار،
83
ورمبا كان التهزيز ميدد منه الرقبة ويلوي الرأس ويف كال األمرين خطر عظيم عليه.
تلفه والدته بلفائف من املرن((( ال تقمطه قمطاً شديداً لئال يلوي الساقني
والقدمني والساعدين واليدين لئال يضغط .تضعه يف رسير ثابت وتضع عليه لحافاً من
املرن مينعه من التحرك القوي.
ال ترتكه وحده وال تقدم إليه ما ميتصه ليلتهي به عن الرضاع .يخرج من غرفته
يف كل يوم ثالث مرات إىل محل طيب الهواء نقيه .وبعد خروجه تفتح النوافذ ليبدل
هواؤها غري أنه يحرتز عليه من الربد والحر.
ال تسلمه أمه إىل أحد وال تتخذ له مربية ،فإنَّ الوالدة أحن عىل الولد من غريها
وأشد انتباهاً إليه وأحرص عليه.
ال تق ّبله وال يق ّبله أحد لئال تنتقل إليه أمراض فم املقبل الضارة .ال يضحك تضحيكاً
شديداً لئال تغثي نفسه((( أو يغمى عليه بل يرتك ليضحك حينام يشتهي ويريد ضحكاً
طبيعياً.
ال تالعبه أمه بخفضه ورفعه وال تقبض يده بيدها وترفعه أو تجره .ال تضغطه
بضمه إىل صدرها وال تجعل مالعبته إال بقدر جسمه ال بقدر جسمها .إذا العبته
وانزعج أو كاد تركته حاالً ليسرتيح ويرتاح(((.
ال تطعمه إال بعد أن يسن((( وتقوى أرضاسه وأنيابه معاً ،فإنَّ األسنان وحدها ال
تستطيع طحن الطعام وتنعيمه .فإن أطعمته أصيب بعلة األسنان املعروفة عندكم
تقريباً .وبعد األسنان ونبات األرضاس وخروج األنياب تؤكله والدته أك ًال خفيفاً لطيفاً
ال يقايس يف مضغه تعباً لئال يبلعه .ال تطعمه إال قلي ًال حينام ترى منه اشتهاء وإقباالً
عىل الطعام ،فإذا آنست منه قلة يف االشتهاء رفعت الطعام وخفته.
إذا أبرص شيئاً ضاراً ولو قلي ًال ورغب فيه ،منعته واجتهدت يف تحويل فكره عنه
ونقله إىل غريه فينتقل .ال يسمع أصواتاً عالية مرتفعة ،مزعجة كانت أو غري مزعجة
84
وال تعرض عليه املتحركات الرسيعة االنتقال والتغري لئال تزيد يف تحريك عينيه .وال
يح ّد أحد نظره إليه .وال ينظره وهو قطوب عبوس ليسكته ويسكنه باإلرهاب ،بل
يسكن بالكالم الرقيق ويلهى باملناغاة((( إذا كان الصوت رخي ًام ال نربة فيه فإنه يأنس
بهام ويطيب خاطره .فإذا ريب هذه الرتبية فال خوف عليه أن يقصع((( بل ينمو قوياً
صحيح الجسم والعقل .إذا أخذ يف الكالم قومت أمه لسانه.
بعي ولدها وحرصه وفهاهته فتنبهه عىل كل كلمة غري إنَّ الوالدة مؤاخذة ّ
((( ((( ُ
فصيحة .كالمنا فصيح بليغ فكلنا ل ْسن يف بيان وتبيان .
1ـ املناغاة :تكليمك الصبي مبا يهوى ،وناغت األم صبيها :الطفته وشاغلته باملحادثة واملالعبة.
2ـ قصع الغالم :أبطأ شبابه .وغالم قصع :بطيء الشباب (يعني حان وقت شبابه ومل يشب).
3ـ اللسن :جمع لسن .ورجل لسن أي فصيح بليغ.
4ـ قيل الفرق بني البيان والتبيان هو أن البيان عمل اللسان والتبيان عمل الجنان وقيل َّإن التبيان أبلغ من
البيان َّ
ألن الزيادة يف الحروف أعطته زيادة يف املعنى.
5ـ قذف املحصنة :سبها .وقيل رماها بريبة .ومزق عرض أخيه :طعن فيه.
6ـ اللغا ما كان الكالم غري معقود عليه وما ال يعتد به من كالم وغريه ومثله اللغو وهو كرثة الكالم يف الباطل.
85
بهام يف حالة غضبه وإن يكن يجهل معناهام.
ليتهذبا ما أمكن قبل أن يأخذا يف تهذيب ابنهام .ليكونا أمامه لطيفني رقيقني
وديعني بشوشني .ليكونا حليمني أنيسني ساكنني هادئني .ليجتهدا يف تجنب السخط
والتغضب والتكره ،فإذا مل يستطيعا كبح رشاستهام وإخفاءها بالتعقل فاألوفق ملثلهام
أن ال يتزوجا بل أنصحهام وأشري عليهام بأن ال يقرتنا لئال يأتيا بأوالد رشسني غضوبني
مثلهام ،فإن أرصا فقد جنيا عىل نفسيهام وعليهم وعىل املجتمع اإلنساين.
ليجتنبا أيضاً التحقري والتعييب والتهديد لئال يتكاشفا((( فإنَّ الولد كالببغا يحيك
(((
عن غريه الحديث ويحايك سواه وهو ال يدرك كنه الكالم كام سبق القول .إذا نطق
بكلمة قبيحة فال يضحكان يف وجهه .ال يسمع الخرافات والرتهات .ال يه َّدد ويخ َّوف
ليهذب عىل قوة الجنان وثبات ْ باملزعجات وال ُيشغ َْل بحكايات عجائز الحي ،بل
العزم وعلو الهمة واحتقار املصاعب واستصغار املصائب وعىل رشف النفس ورقة
القلب وخفة النهضة إذا استنهض .ال يتهيبه يشء غري النقائص التي منها الكسل
والطمع وحب الذات واإلعجاب واملخادعة واملخاتلة واملامكرة واملراوغة والخبث
واملداهنة واملامسحة واملجاملة((( واملصاقلة واالحتيال واملصانعة واملراشاة واملواربة
واملكابرة .ليجانب هذه النقائص وغريها أيضاً .ليكن محام ًال((( ال مجام ًال((( ولتكمل
نفسه .ليؤدب عىل الدين ليكون له حاجزاً يرده عن املحرمات .ال يؤذن لوالديه أن
يعلامه بغض الذين ليسوا عىل دينهام ،ولكن كيف يتم هذا وهام يحسبان هذا
البغض تورعاً وفضيلة؟
ال ير ّغبانه يف حب املال إذا كان من الراغبني فيه لئال يفرط فيطمع ويعيش حقرياً
ذلي ًال يكرهه األقارب واألباعد .إذا أفرط يف حب املال ووجه كل محبته إليه احتاج
86
إىل محبة أخرى ليعيش بها وهي صعبة املنال ،بل غري مستطاعة ،فيعيش ناقصاً .ولو
استطاعها ألضافها إىل تلك املحبة التي صارت فيه رذيلة .إنَّ الولد يحتاج إىل املحبة
ليحب بها خالقه ووالديه وأستاذه وكل البرش .أما الذين ُيعتقد أنهم غري متدينني فال
يحتقرهم بل عليه أن يتعلم كيف يستطيع إقناعهم بخطاب رقيق فيه دعة ونقاوة
ليك ينتفعوا وإال فليدعهم إىل خالقهم.
ال يكذب الوالدان وال يعدا أوالدهام ويخلفا وعدهام ،ليحذرا املحاولة واملطاولة
واملامطلة والتسويف والتعليل باألماين الكواذب واالتكال عىل التقادير واالعتامد عىل
الزمان.
ً ً
ليمنع الولد منعا شديدا من معارشة الصبيان غري املهذبني وعن مالعبتهم وسامع ْ
أحاديثهم ،وأرى األفضل أن ال ُيسمح له مبصاحبة غري والديه وأقاربهام املتأدبني الذين
يريدون بهام خرياً .فإن كانوا كلهم من الرعاع فلريسل إىل املدرسة يف بلد غري بلد أبويه.
ليتنبه الوالدان إىل خلوات أبنائهام كل االنتباه .ال تكن سطوتهام عىل ولدهام
قوي ًة فإنها تولد فيه البله والجبانة.
ال مينع اآلباء أبناءهم مام يضطرون إليه وخصوصاً إذا كانوا نشيطني أذكياء لئال
يحتالوا ويكذبوا ويرسقوا أو يستعطوا ،ولئال يجدوا حاجاتهم عىل اضطرار منهم عند
أرشار الناس .ليجتهدوا يف كفاية أوالدهم مؤونة الرشه فإنه يتولد غالباً من املنع
والحرمان ،ذلك ألنَّ بعضهم ال يشبعونهم من طيباتهم وميسكون عنهم خرياتهم
فيمتنعون وهم ينظرون إليها بعيونهم وقلوبهم بل بكل حواسهم.
ليعلم البخالء أنهم ال يحفظون أموالهم ببخلهم وشحهم ،بل يعرضونها للتلف
والضياع إذ يعلمون أوالدهم التبذير ،ألنَّ الولد ال ينشأ عىل ما يكرهه .وقد رأيت
كثريين من بني األشحاء يف األرض أضاعوا ثروات آبائهم بتبذيرهم.
ْ
وليعقل أنَّ إرادته من إرادة والديه ألنهام ليعقل الولد أنَّ له حدوداً ال يتعداها،
يريان له ما ال يراه حسناً ويحبان له ما هو جدير باملحبة ،وهو ال يدرك غري أنه يجب
عليهام أن يكونا يف ذلك حكيمني أو أن يتشبها مبن تجملوا بالحكمة.
ال يرضب الولد فإنَّ الرضب يخمد فيه جذوة الذكاء فتنطفئ شعلة النشاط.
فإذا تتابع رضبه خبت ناره حتى تهمد .ال يؤدب اآلباء أبناءهم وهم غضاب منهم
أو من غريهم لئال يتعدوا حد التأديب ،فإنه من الجهل القبيح والخطأ الفاضح أن
يؤدب الولد بأكرث مام يستحق فيصري التأديب ظل ًام وبغياً وانتقاماً من غري أهله مع
87
أنَّ االنتقام من أهله مكروه .وقد علم أنَّ التشديد يعلم االستعصاء إذا كان الولد
جسوراً ،وإال فيضعف بدنه ،ورمبا كان التضييق والضغط سبباً يف إحداث العاهات.
فإذا رضبت ولدك وأبكيته فال تكرهه عىل السكوت بل دعه وتوار عنه إىل أن يسكت
ويسكن فيوبخ.
الحكمة كل الحكمة أن تحسن تربية الغالم وتحكمها حينام يخلف ويحمم ،
((( (((
والسيام إذا كان يف الشباب الغيدق((( وهو بزيع((( .وعىل اإلجامل فإنَّ الرتبية علم عال
يجب درسه بتأن وتفهم وإال فالزواج جناية .ويف األخري أشري عىل الحكامء والعلامء
عندكم بأن يجعلوا فن الرتبية عل ًام قامئاً بنفسه يدرس يف جميع املدارس واملكاتب
ألنَّ فيه حياة اإلنسان ،فإما أن يعيش بحسن الرتبية قريباً من السعادة ،يسعد نفسه
وأهله واملجتمع اإلنساين ،وإما أن يعيش شقياً يشقي نفسه ومن يلوذ به.
88
بالفضائل والبارعون .وأما الدروس فهي خمسة يف سبعة أعوام أرقى من علومكم وأعىل.
أوالً :علم اللغة قراءة وكتابة وإنشاء.
ثانياً :علم الرتبية وعلم السلوك والواجبات.
ثالثاً :علم التاريخ وعلم الجغرافيا.
رابعاً :علم طبائع الحيوان.
خامساً :علم طبقات األرض.
أما علم الحقوق والقوانني الحقوقية والعقابية بأحكامها فيأخذها الولد عن
والديه كام يأخذ الصالة والوصايا والتسبيحات والفضائل .والتلميذ يقيم باملدرسة
ثالث سنني فقط .ومن أراد التوسع يف املعارف والفنون والعلوم العالية ليفوق العلامء
العاديني ويتعلم علوم القضاة ويكون منهم أضاف مدة سنتني إىل الثالث.
89
التي تحيي القناعة فيه فإنها مصدر اإلنصاف فال يظلم ظامل وال يظلم مظلوم.
ثم قال والدي :إنَّ صعوبة لغتكم وكرثة الدروس واختالف موضوعاتها التي تلقى
كل يوم عىل التلميذ مع جهل األستاذ فن اإللقاء ،تو ّلد فيه الفتور والكسل والزهد
فيها ،فيلهو عنها باملفاسد واستنباط الحيل ليكف بها أستاذه الذي يتغافل عنه لعجزه
وجهله ،فإذا كان نشيطاً بارعاً عاملاً بفن اإللقاء فصيحاً بليغاً ر ّغب التالميذ يف دروسهم
وأفادهم .غري أنه ال يستطيع مع ما يبذله من الجهد أن يجعلهم يفضلون لغتهم
العربية عىل لغة أوروبية ،ألنهم يعلمون أنَّ الزمان الذي يذهبونه يف تعلم عربيتهم
ميكنهم من تعلم ثالث لغات ،فاإلنكليزية والفرنساوية واألملانية اليوم خري لهم من
التبحر يف علم العربية التي أمست عىل صعوبتها ال تنفع طالبها كغريها من اللغات.
ومام يزيدهم رغبة عنها هو أن قواعدها كتبت بلغة ال يفهمونها ،أي بغري اللغة
العامية ،فيجب عليهم أن يتعلموا قواعد لغتهم باللغة الفصيحة التي ال يفهمونها
بخالف اللغات األوروبية فإنَّ قواعدها كتبت باللغة املألوفة.
أقول وأنا آسف عىل العريب يف هذا الزمان وعىل عربيته :إنَّ األورويب يتكلم ويقرأ
ويكتب ويتعلم العلوم والفنون العرصية بلغة واحدة يف مدة غري طويلة ،أما العريب
فإنه إذا دخل إىل مدرسة تلقى فيها اللغة العربية مع الثالث لغات التي ذكرتها لك
وغلب حب عربيته عىل غريها ،خرج يف العرشين من عمره ال يعرف منها غري القراءة
وشيئاً من اإلعراب وقد أضاع اللغات الثالث .فإذا أراد إنشاء رسالة فال يستطيع ،وإذا
رأى أن يتعلم اإلنشاء والثالث لغات التي أمست اليوم رضورية مع يشء من العلوم
العرصية ،أضاع مطاليب عمره يف مدرسته.
فبناء عىل ما ذكر ستميس اللغة العربية عام قليل لغة مرتوكة .ولو مل تكن من
اللغات الدينية لصارت تشبه اللغة القبطية التي أمست اآلن لغة قدمية مهجورة.
والذي زاد يف تأخر اللغة العربية وانحطاطها عن عظمتها هو عدم تأليف جمعية
علمية لها رجالها من جميع البالد العربية الشهرية ،يرجع إليها يف كشف املخبئات
ويف الرتجمة والتعريب .فإذا أراد عريب عامل بالفرنساوية مث ًال أن يرتجم كتاباً إىل لغة
يف علم من العلوم العرصية الرضورية ،مل يجد بني لغته الكلامت الدالة عىل املعاين
املطلوبة ترجمتها ،فإذا ع ّرب أو وضع كلامت قريبة من املقصود بحسب معرفته
واجتهاده أنكرها عليه مبا ٍر وعابه حاسد .فلو كانت الجمعية التي أرشت إليها قامئة
مبوجب جرايات تتناولها يف أوقاتها لرجع إليها املتباريان فلقيا عندها الفصل.
90
فإذا مل ينتبه علامء العرب إىل قويل هذا ومل يجمعوا عىل هذه الجمعية أمست
العربية كاليونانية واألرمنية ،أي إنَّ العريب يضطر بعد حني من الدهر إىل تعزيز
العربية الدارجة وضبط قواعد لها بطرائق مخترصة وأساليب سهلة قريبة التأول،
فتصبح تلك املطوالت الطويلة العريضة الضخمة نسياً منسياً كام أمست وأصبحت
مطوالت اليونان واألرمن وأمثالهم.
لرنجع إىل الرتبية فنقول :يجب عىل الوالدين أن يربيا أوالدهام باآلداب والفضائل
من صغرهم ،فإذا بلغ الولد السنة السابعة من عمره أخذا يف تعليمه ساعة قبل الظهر
ومثلها بعده .فإذا بلغ الثامنة جعال الساعة ساعتني قبل الظهر وبعده أيضاً ،فإذا بلغ
التاسعة ع ّلامه مراجعة درسه مدة ساعة بعد أن يهب من فراشه ويصيل يف كل يوم.
فإذا بلغ العارشة لزمه مراجعة درسه صباحاً ومسا ًء ساعة فساعة .فإذا بلغ السنة
الحادية عرشة وقد رسخت فيه اآلداب ونشأ عىل حب الفضيلة أرساله إىل املدرسة
فإذا عفا((( عليهام يف العلم قبل ذلك فال يتأخرا عن إرساله إليها .هذا إذا كان الوالدان
مهذبني خريجي مدرسة اشتهرت عندكم بحسن التهذيب والتثقيف ،وإال فعليهام أن
يرساله من السنة السادسة إىل تلك املدرسة قبل أن ينح َو نحوهام ويجري عىل سننهام
يف كل يشء فيصعب تأديبه وإرهافه.
لتكن املدرسة معروفة من تالمذتها باآلداب ال بالعلوم فقط ،وبتقوى أساتذتها
وعفافهم ،مشهورة بفضائلهم وحسن سلوكهم وطيب عنرصهم ودماثة أخالقهم،
وبرصانتهم ومروءتهم ،فإنَّ املدرسة التي تجعل تالميذها وطلبتها بهذه املزايا هي
املدرسة العالية وحدها ،ذلك ألنَّ املزايا ترغب التلميذ يف التعلم وتهون عليه مصاعب
العلم فيقتبس منه يف مدة قصرية.
يا أيها الناس يا ليتكم تعلمون وتسمعون أنه يجب عىل الوالدين واألقارب
واألصدقاء معاً أن يكونوا يداً واحدة وينتخبوا بتعقل وتأنٍ مدرسة لولدهام ولقريبهم
اوالبن صديقهام ،فإنَّ املدرسة إما أن تفسد التلميذ وإما أنها تصلحه فعليها يتوقف
مستقبله.
يا أيها اآلباء إنني كنت تلميذاً ثم رصت معل ًام ،فرأيت وعلمت ما ال تعلمون،
فاحفظوا وصيتي هذه ،وإنني ألكررها لكم وهي أن تنتقوا ألوالدكم مدرسة تكون
91
خرياً لهم وال رشاً عليهم ،هذه وصيتي وهي ال كالوصايا التي أوصيت لكم فاعقلوها
وافهموها وتدبروها .وهذه نصيحة ال كالنصائح التي نصحت فأدركوها وافطنوا إليها
وأتقنوها لعلكم تفلحون.
يا أيها املعلمون إليكم نصائح تلقونها عىل التالمذة يف خالل التعليم وهي :يجب
عىل كل تلميذ أن يحفظ وصايا الله تعاىل ،ويعمل حسب أوامره حفظاً جيداً حتى
ترسخ معانيها يف عقله وقلبه .منها يجب عليه أن يحب الله تعاىل أكرث من نفسه
وغريه وأكرث من كل يشء محبة صادقة ثابتة باشتياق منه وتوقري وتعظيم ألنه ّ
جل
جالله أحبه كثرياً .ويجب عليه أن ال يفرت عن الصالة يف أوقاتها ،وأن يعتقد وهو يصيل
أنه فقري إليه تبارك وعال ،وأنه ضعيف عاجز ال غنى له عنه وليس له ملجأ إليه سواه.
فيلتمس منه وقد أطبق جفنيه وتاب واستغفر أن يهبه الصرب الجميل عىل تحمل
مصائب الدنيا ومكارهها ،وأن مينحه ما يحتاج إليه بقناعة .وليكن هذا االلتامس بتأن
منه ووقار وحسن تفهم من غري أن يجعل الصالة عادة ،فيتلو كلامتها برسعة فال يفهم
ما يقول وال يدري ،كأنه مأمور برسد تلك الكلامت ،فهمها أو مل يفهمها ،فيرسدها تباعاً
من دون أن يتدبر معانيها كام يصيل ابن ثالث سنني ال يعقل ما يقول ،ويجب أن يعلم
املصيل أنه يخاطب الله تعاىل الذي هو ملك امللوك ورب األرباب بل أعظم ،فليخاطبه
كام يخاطب امللك العظيم عىل األقل.
ويجب عليه أن يحب غريه نظري نفسه ليكون له أعوان ،أي أن يحب كل إنسان
عىل اإلطالق من دون استثناء ألننا كلنا إخوان .وعليه فكل منا يخاطب أخاه يف الزهرة
هكذا« :يا أخي» .ويجب عليه أن يتمنى الخري ألخيه كام يتمناه لنفسه ،فإذا تحاببتم
كام أرشت كانت النتيجة أنَّ كل واحد منكم أحب نفسه فام أحسن هذه املحبة.
ليعلم التلميذ أنَّ من أحب نفسه فقط كرهه إخوانه البرش ،وليعلم أنه ال نجاح
وال فالح إال باملحبة ،فكلام ازدادت محبته ازداد نجاحه ،فليسع وراءه مبا استطاع من
فليرس بها نفسه الرسور الذي يتمناه.
َّ املحبة .إنَّ املحبة يف اإلنسان كثرية ال نهاية لها
ويجب عىل التلميذ أن يهم بالخري دامئاً وأن يعمله ولو مع الذي يظنه غري أهل
له ،ألنَّ اإلنسان قد يخطئ يف معرفة املحتاجني إىل الخري.
ال يع ْد بالخري ويخلف وعده .إذا قدر عىل خري يومه فال يؤجله إىل غده فإنه يف
تأخري ساعة ال يصيب الخري أهله ومحله ،وتفوت الفرصة وتزهق النفس املضطرة .ال
92
يغرت املحسن بالظواهر ف ُر َّب ذي بزة((( حسنة يلتهب حشاه جوعاً ،وهذا هو الفقري
الصابر إذا أردت أن تعرفه .إنَّ من يصطنع أي يتخذ صنيعاً يعني طعاماً ينفقه يف
سبيل الله تعاىل ويرحم الفقراء الصابرين ،فقد رحمه الله ورأى من نفسه ارتياحاً
إىل الرحمة.
ليس الخري بالتص ّدق عىل الفقراء فقط ،بل الخري كل الخري أن تسعى فيه لتكفي
أخاك شدة االحتياج .إنَّ خري الناس من سعى يف إغاثة فقري وإغنائه عن ذل السؤال.
ليست اإلنسانية باإلنس والكالم الطيب بل بالرأفة والسعي الحسن.
إذا أنعم منعم فال يتحدث بأنعامه متدحاً وطلباً للشكر ألنَّ اإلحسان ال يكون
إحساناً إال إذا كان بغري عوض ،فالشكر تعويض املحسن إليه .والشكر يف اإلنسان غالباً
قريحة ،ف ُر َّب محسن إليه كان جامد القريحة فقلبه أفصح من لسانه.
الكريم من ال يرد قاصداً عفاه((( .إنَّ من ال يقيض حاجة مضطر وهو قادر عىل
قضائها فليكن ملعوناً ال يكلمه أحد.
وليعلم التلميذ أنَّ الذين يجهدون نفوسهم يف جمع األموال الطائلة ،يستعبدون
لها ويلهون بها عن الله تعاىل وعام وجب عليهم إلخوانهم ،وهم الذين يحتالون يف
طلبها وقد بعثهم عليها حب نفوسهم املتفانية يف حب العظمة.
إنَّ الذي ال يستطيع أن يتعظم بالعلم املتجمل بالفضيلة يزعم أنه يتعظم مباله،
وشتان بينهام فيخطئ من جهتني ،فإنَّ التعظم يصدر عن الكربياء وهو خطأ فاضح
يجب أن يقلع عنه .واالحتيال يف جمع األموال خطأ فاحش يلزمه أن يتربأ منه وأن
يتنصل إىل الله منهام.
من كانت الفضيلة دأبه وهو زاهد يف العظمة فقد عظمه الناس ،وهذا هو
العظيم الذي يجب تعظيمه.
ويا أيها املعلمون أعيدوا النصائح وكرروا معي معانيها لتتم الفائدة ،وخاطبوا كل
تلميذ هكذا :إنَّ خري املال ما تجمعه بالرأفة والحنان لتنفقه يف مصالحك ،وتنفق منه
ما أنت غني عنه يف مصالح من هم أكرث احتياجاً منك إليه.
93
واسع وراء بغيتك .إنَّ املخالفة مكروهة واالنقياد محمود.
ال تتفكن((( ،بل ج َّد َ
التلميذ الصالح من إذا نصحته وردعته قرع((( .الشجاعة مزية من مزايا الرجال .ال
ينتقم لنفسه كريم .الحليم مغبوط أينام كان .خري التالمذة من عاش عامراً((( ورشهم
من كان حابضاً(((.
أما العلوم التي يجب أن تلقى عىل التالمذة عندكم فهي التي تلقى يف مدارس
الزهرة ،غري أنه يضاف إليها علم الحساب .فإذا ألقيت عليهم ببيان واختصار مدة
أربع سنني دخل يف السنة الخامسة عرشة من عمره ،فينقل إذا أراد إىل مدرسة
الصنائع ،فيتعلم أصعب حرفة يف مدة ثالث سنني ،فيخرج من املدرسة يف الثامنة
عرشة من عمره.
1ـ تفكن :تأسف وتلهف .وقيل هو التلهف عىل اليشء يفوتك بعدما ظننت أنك ظفرت به.
2ـ قرع :قبل املشورة والنصيحة.
-3رجل عامر :هو الرجل القوي اإلميان الثابت يف أمره .وقيل :الكثري الصالة والصيام والقوي اإلميان الثابت
يف أمره والطيب الثناء.
4ـ حبض الغالم :ظن به خري فأخلف الظن.
94
أهل الوبر تقريباً ونحن متقاربون فكالمنا قليل بقدر احتياجنا.
ثم قال :ومن البلية عندكم أنَّ القارئ ال يشتهي أن يراجع كتاب لغة لكرثة
ما فيه من الرشوح والنقول واآلراء واألقوال والروايات والحكايات اململة واملختلفة
واملتناقضة .هذا كله عدا قلة الرتتيب التي تضيق بها الصدور ،وعندي أنَّ الوقت الذي
تضيعه يف مراجعة كلمة تستطيع أن تنشئ فيه رسالة أدبية .واملصبية أنك إذا راجعت
مادة اضطررت كثرياً إىل مراجعة غريها وغريها ،ومنها ما يصعب عليك فهمه كقوله
«ال َب ْ َيم ال َع َت َلة أو عتلة النجار خاصة» ،فإذا راجعت مادة َع َت َل قرأت هكذا «ال َع َت َلة
َب ْ َيم النجار واملجتاب» إىل غري ذلك.
هذا وكالمنا ال يحتمل التأويل بحيث إنَّ الكلمة الواحدة تطلق عىل معنيني
متضادين كطرب للفرح والحزن معاً.
ال ننافس يف األلفاظ واملباين ،بل ننافس يف املعاين ،فإذا عرب كالمنا ل َّذ لك وراق
وأعجبت به فيسكرك وما بك من سكر .أما العريب املتأنق يف األلفاظ فال تروقك
معانيه إذا نقلت إىل غري لغة كام راقتك قبل نقلها .إنَّ كثريين من كتبتكم أهملوا
املعاين واكتفوا باأللفاظ والرتاكيب.
إننا ال نحدث لغة ثانية لعلمنا أنَّ تعدد اللغات يحدث البلبلة والتباين يف
العادات والغايات واألهواء واملآرب ،فيبدو االختالف بني الخليقة ،فينشأ الخصام،
فتنمو البغضاء ،وهناك البالء بل هناك الطامة((( الكربى.
يا حبذا لو اتفق سكان األرض وأجمعوا عىل اختيار لغة واحدة قريبة الحفظ سهلة
التلفظ وذلك من غري أن يتعصب كل قوم للغتهم .فإذا تعصبوا ومل يتفقوا فيمكن
وضع لغة جديدة مخترصة ال يزريها تأويل وال يعيبها شذوذ بحيث يهون تعلمها .فإذا
خفت ويالتكم عليكم .إن شاء الله تعاىل تقاربتم بالتآلف ،فيسهل بعد تم هذا لكم ْ َّ
مين عليكم فتجتمعون عىل دين ذلك تقريب األديان بعضها من بعض باملحبة إىل أن ّ
واحد فيه خري لكم وملن بعدكم .إنكم تحسبون نفوسكم عقالء ولكنكم ال تعقلون.
وبعد هذا قال يل والدي :نم قلي ًال واسرتح إىل أن أعود إليك ،ثم مىض فنمت،
ولكن أيعلم القارئ ماذا رأيت؟ ال يعلم .كيف يعلم وأنا أشك يف األمر أنني رأيت
نفيس يف مدينة القضاة ،وأنا أطوف يف شوارعها وأعجب مام أعاين عجباً كاد يذهب
-5ـ الطامة :الداهية تغلب ما سواها وذلك ألنها تطم كل يشء تعلوه وتغطيه.
95
بعقيل؟ فلو استطعت وأعربت عنه ملا صدقني الناس فالسكوت أكرم يل .لقد أبرصت
والدي يخاطب قايض القضاة فسمعته يقول له :أال تأمر له بيشء .فقال :خذ شيئاً من
الرمان فسكت والدي وأطرق ،فقال له إنك تريد أن تقدم إىل ولدك مثرة اللذة لينج َو
من الجزاء بعد نجاته من األرض ،فامذا نفعل إذا أثم بعد أكلها ،وأنت تعلم أن آكلها
ال تغلق يف وجهه أبواب مدينة القضاة؟ فقال والدي :إذا كنت تعلم أنه ال يأثم إمثاً
كبرياً فاسمح له .فتأمل هنيهة ثم قال :لقد أمرين الله تعاىل أن ال أرد التامسك ،فعىل
ولدك أن ال يكفر بهذه النعمة ،وعساه أن يقدر لها قدراً عظي ًام .وبعد هذا استيقظت
فأبرصت والدي مقب ًال ويف يده غصن نضري بثمرتني شهيتني كل منهام بحجم بطيخة،
يبلغ ثقل الواحدة نحو ألفي درهم ،أما لونها فهو كام تريد ،فإن أردت الزرقة وذكرتها
ازرقت ،وإن أردت األحمر احمرت إىل غري هذا من األلوان التي تروقك ،فإن مل تعني
لوناً أبرصت لوناً بهجاً حسناً ال تعرف له اس ًام .فأخذ والدي ورقة من ورق الغصن
وقش به لذة من اللذتني ،وقطع قطعة وناولني إياها وقال يل: فإذا هي سكني ماضّ ،
إن كنت تريد أن ال تأثم فكل من مثرة اللذة ،وقد علمت ما جرى بيني وبني قايض
القضاة من أجلك .فأكلت قطعة صغرية فشعرت بلذة ليس من املمكن أن يشعر
اقرتح شيئاً من املآكل .فقلت :أشتهي العنب .فقال: بها سكان األرض .ثم قال يلْ :
كل ،فأكلت عنباً ال يأكله آكل إال انرشح صدره .ثم قالْ :
اقرتح غري الفاكهة .فقلت: ْ
اقرتح شيئاً من الحلواء .فاقرتحت
أريد شواء ،ثم أكلت فكان غاية يف اللذة ،ثم قالْ :
ال َّلوزِي َنج فكان كذلك ،فسبحت الله الخالق العظيم وشكرت والدي عىل إحسانه
وعظمته أحسن تعظيم.
96
يديه مطبوعة .وإذا أراد فيضعها يف آلة عنده فتنقلها وتضعها أمام املطبعة فتطبعها
حاالً ،وإذا أردت أن يتك ّلم الكتاب املطبوع مبا فيه من الكالم تك ّلم كالماً فصيحاً ،أما
آلة التك ّلم فإنها مخبأة يف الجلد اللطيف ،ال تراها لدقتها ،وإذا طبعت صورتك يف
كتابك قرأته عنك بصوتك ولهجتك كأنّك أنت تقرأه.
97
ويا أيها الذين غضبت عليهم حبيباتهم فهجرنهم مدة معلومة رجعوا بها إىل العلم
فأصبحوا علامء ،أنتم علامء األرض ورجالها .أنتم وال تعلمون من أنتم .أنتم من أعاظم
رجال الزهرة وأكابرها الذين بأيديهم الحل والربط فيها .أنتم البارعون املتفننون ،أنتم
املخرتعون واملكتشفون .أنتم األفاضل الذين يأسف عليكم سكان الزهرة .أنتم الذين
يشهد لكم رجال الزهرة بالفضل عليها ،نزلتم إىل األرض وقد بقيت يف نفوسكم بقية
من العلم فملتم بها إليه فكان نصيبكم منه العذاب والفقر.
من هم البائسون؟ ومن هم الفقراء الصابرون؟ من هم القانعون الراضون من
دنياهم مبا قسم الله تعاىل لهم من العيش الضيق؟ هم علامؤكم يا أكرث سكان األرض.
هم البائسون ولكنهم عظامء النفوس .هم الفقراء الصابرون ولكنهم أباة الضيم ،ال
يقعدون عىل الذل وال يرضون بالدنيئة .لقد حكم الله تعاىل عليهم بأن تذل نفوسهم
فأنزلهم إليكم وجعلهم يلتمسون خبزهم منكم أنتم الذين ال علم لكم وال تدركون
للعمل مزية .لقد أنزل الله كثريين من علامء الزهرة (الذين مل تكن خطيئاتهم
عظيمة) إىل غريكم من األمم التي عرفت فضل العلم فكانوا يف سعة من العيش.
إذا رأيت عاملاً فقرياً يف مدينة فاستدل بفقره عىل جهل أهلها .إنَّ علامءكم
يلتمسون خبزهم منكم ولكنهم يعلمونكم ويهذبون أخالقكم ويدافعون عنكم
ويخاصمون لكم ويدرأون أعداءكم ويدلونكم عىل الخري ويرشدونكم إىل النجاح
ويتهالكون يف حبكم عند امللامت .إنَّ رأي عامل فقري يحفظ أمة مبالها من بلية
كادت تذهب بها وتستأصلها .يا أيها املتمولون الجهالء لو سعى العلامء بذكائهم
وفطنتهم وحسن جدهم وراء املال نصف سعيكم ملا تركوا لكم ديناراً تربحونه من
عمل ميارسونه ،ولكنهم زهدوا يف املال ألنَّ نفوسهم أرفع منه وتركوه لكم ،فاحمدوا
الله وال تضطروا بعضهم إىل هجر العلم وطلب املال .ساعدوهم عىل نرش فوائدهم
وفضائلهم لعلكم تنتفعون بها .أكرموهم وقربوهم منكم باإلخالص .اركنوا إليهم
وشاوروهم يف أموركم فإنهم مخلصون ال يعرفون دهاء املتمولني وخداعهم .إنَّ الذي
تحسبونه عظي ًام لديكم فتحرصون عليه هو محتقر عندهم فال تخافوهم إذا رجعتم
إليهم فيام يعز عليكم.
نحن نرجع إىل علامء الزهرة يف كل أمر .نحن ال نستغني عنهم .إنَّ الزهرة بدونهم
ال تصلح للعيش ،فلذلك هم املقدمون عىل الخليقة وهم الرساة والعظامء.
ملا فرغ والدي من كالمه قلت له :ألتمس منك أن تعلمني كيف كانت حالة
98
اإلنسان األوىل يف األرض .فقال :إنَّ الفصيلة البرشية األوىل (آكلة النبات) يف األرض
كانت تجري وراء الحيوان وتفتك به .وكانت تقف له يف طريقه وتصيده .فإذا ظفرت
به حياً مزقته بأظافريها وأنيابها وأكلته .غري أنَّ اإلنسان توصل بأكله بقايا الحيوان
امللقى يف الهواء أيام الخريف إىل اكتشاف صناعة التقديد ،فصار يصنع من اللحم
قديداً يدخره أليام الشتاء حيث يقل الحيوان إذ يعتصم مبالجئه الحصينة يف الجبال.
وكان يأكل أيضاً الحريد(((.
وتوصل أيضاً بأكله بقايا الحيوان امللقاة عىل الرمضاء أيام الصيف إىل معرفة
إنضاج اللحوم يف حرارة الشمس ،وهذا هو العلم والصناعة األوىل اللذان انتفع بهام
اإلنسان وعرف منهام فائدة الحرارة ،فأحب التوسع فيهام تفنناً منه فصار يدفن
اللحوم يف األرايض الرملية إىل أن تنضج فيأكلها .ومن هنا ابتداء تاريخ الفنون .وقد
قادت الصدفة رج ًال إىل قطعة من اللحم مخبأة يف رملة فأكلها متلذذاً بها( .أما أكله
النبات فلم يتعلمه تع ّل ًام بل كان طبيعياً فيه).
أما علم التاريخ فكان ابتداؤه من نشأة اإلنسان األوىل ،أي منذ كان األب ينقل إىل
أبنائه حوادث أيامه املستغربة .إال أنَّ هذا النقل مل تتم به فائدة ألنَّ اإلنسان ملا كان
مولعاً بالغريب من الحديث غالباً ،مل يكن يحفظ الحوادث العادية التي يف بعضها ما
هو جدير باالعتبار .وأزيد عىل ذلك أنَّ تلك النقول والحكايات املكررة مل تكن تسلم
من شوائب املبالغات التي كانت تلفقها عجائز الحي ،وال من الخرافات واألباطيل
والرتهات التي كانت مدعاة للجهل فتضيق بها دائرة العقل.
ولرنجع إىل الكالم عن الحرارة فأقول :إنَّ اإلنسان اكتشف النار مبا تقذفه الرباكني
والثكن((( حواليها .واكتشفها غريه بسقوط حجر من الصوان عىل حجر مثله ،واكتشف
النار غريه من تصادم حجرين صدفة.
فلام عرف من أين وكيف تستخرج النار أخذ يقدح زناد فكرته شأن العامل املحقق
املتفنن ،فأدرك أنه إذا حك قطعة من الخشب بقطعة أخرى حكاً قوياً متوالياً بضع
فهم بعد ذلك بالتجربة مستعيناً عىل بلوغ مراده ساعات ،ظهرت النار الكامنةَّ ،
بالثبات إىل أن متت له أمنيته ،فأصبحت النار طوع يديه ،ينضج بها اللحوم ويستدفئ
99
بحرارتها أيام الربد .فإيجاد النار إذاً علم وصناعة من أهم العلوم والصنائع ،ذلك ألنَّ
اإلنسان حفظ بها نوعه بعض الحفظ يف ذلك الحني.
أما اكتشاف بعض املعادن فقد كان من إرضام نار شديدة يف بعض الجبال ومن
ظهور املواد الذائبة وتجمدها وتصلبها بعد انقطاع الحرارة عنها.
ولقد رأى اإلنسان مرة ثكنة تقذف سوائل عن بعد فدنا منها ما أمكن فإذا هي
تلتهب كالنار ،ثم رآها بعد برودتها الحاصلة لها بفعل الهواء جامدة صلبة ،أكرث
صالبة من الصوان الذي كان يهذبه ببعضه ويصنع منه سالحاً ،فاستعاض عنه بهذا
املعدن .واألمة التي اتخذت أسلحتها من املعدن تغلبت بها عىل األمم التي حواليها
واستعبدتها.
ً ً
وال شك أنَّ الصناعة تقدمت تقدما عظيام باكتشاف املعادن ومعرفة االنتفاع ،إذ
نجا اإلنسان من هجامت الحيوان املتوالية بدفاعه عن نفسه باألسلحة الحديثة ،فقد
م َّر قبل ذلك حني من الدهر عىل اإلنسان والحيوان كانت الحرب بينهام الحرب العوان،
ويف ذلك أمكن اإلنسان أن يحفظ نوعه أكرث من قبل وما كان هذا إال بفضل العلم.
فيستنتج مام تقدم أنَّ اإلنسان كان يف أول نشأته من آكالت النبات واللحوم ،فلام
تع ّلم أن يستفيد من البحث والتدقيق يف طبائع األشياء ،وكان يحب أكل النبات أيام
الحر ،بحث عن خواصه واختربها بالحيوان الداجن ثم بنفسه ،فاختار بعد ذلك من
النبات لطعامه وغذائه ما هو أصلح من غريه.
وال ريب أنَّ هؤالء الرجال املكتشفني واملتوصلني باجتهادهم إىل معرفة بعض
األشياء يف ذلك الزمان كانوا مكرمني ومعظمني لنفعهم ،فنتج من تكرميهم وتعظيمهم
أن كثريين غريهم واصلوا الجد والتحقيق حتى برعوا وفاقوا سواهم يف علم الجامد
والنبات والحيوان ،وأدركوا أنَّ يف تناول بعض النبات شفاء يف األبدان ،وأنَّ الله سبحانه
وتعاىل خلق لكل علة نباتاً شافياً ،فكان من ذلك علم الطب ،فحفظ اإلنسان به نوعه
أكرث من قبل أيضاً ،ولكن هذا العلم مل يتقدم التقدم املطلوب ،وأقول إنه ال يستحق
إىل اليوم أن يسمى عل ًام .ومل تزل الصناعات ترتقى بالعلم حتى وصلت إىل ما هي
عليه اآلن ،وهي غري واقفة عند حد ،وسيعلم اإلنسان بها ما مل يكن يخطر بباله.
أما الكالم (غري األسامء التي ع ّلمها الله تعاىل اإلنسان) فقد كان بعد ذلك عبارة
عن ألفاظ ال معنى لها أشري بها عن غري قصد وضعها إىل أشياء بعينها دون غريها
لتدل عليها وتتعرف بها .فلام أفادت وتم بها الفهم وحصلت منها الداللة عىل املعاين
100
املقصودة بذاتها ،تكرر استعاملها عىل أن لفظ كذا مخصص بهذا اليشء ليميزه عن
غريه يف املعرفة.
وملا كانت هذه األلفاظ قليلة العدد بالنظر إىل قلة الدواعي واالحتياج الداعية
إىل الكالم ،تقررت يف األذهان ورسخت يف العقول ،فكانت منها املشتقات بحسب
اللزوم ،فلام ازدادت الدواعي بازدياد ترقي اإلنسان وضع لها أوالً فأوالً ألفاظاً تدل
عليها مناسبة لواقع الحال ولطبع اليشء وماهيته مستعيناً عىل ذلك بالقلب واإلبدال.
أما األصوات وما يضاف إليها فقد كان اإلنسان يعرب عنها بلفظ من مثلها ،كام
عرب عن صوت الخيل مث ًال بالصهيل ،وعن فصل العود اليابس بالكرس .أال ترى يف
لفظ الصهيل محاكاة صوت الفرس؟ ويف لفظ الكرس مشابهة صوت ذاك العود وهو
يفصل؟ أي إنك إذا كرست عصاً سمعت صوتاً متناوالً أحرف كلمة الكرس.
أقول :وال يخفى أنَّ الكالم جعل دلي ًال عىل مراد املتكلم ،فإذا كان فصيحاً بليغاً كان
رسيع اإلعراب عام يف جنانه من املعاين ،إذ يتناوله طبع السامع حاالً ويرشبه ذوقه
بسهولة ،فيقع يف قلبه أحسن وقع ،فريتاح املتكلم ويصغي إليه ،وكثرياً ما بلغ الفصيح
غري العامل ببيانه وحلو خطابه مبلغاً مل يدرك شأوه العامل الراسخ يف العلم الذي ال بيان
له يف منطقه .و ُر َّب كلمة فصيحة سكنت غضب أمري ساخط فعفا وأحسن.
وعليه فقد كانت املزية الكربى يف ذلك الحني ملن كان قوي الذاكرة شديد
العارضة((( يستظهر((( الكالم ويرويه الناس فينقلونه عنه .إال أنه كان معرضاً للتحريف
والتصحيف وللزيادة والنقصان .ومن كان ضعيف الحافظة غري مستطيع أن يحفظ يف
مخيلته كل ما ينظمه وينرثه فلم يكن له نصيب وافر من علمه وتعبه.
فلام وضعوا بعد هذا إشارات ورسوماً ملقاصد مخصوصة ومعان معينة ،متكن
بعض العلامء أن يثبتوا بها شيئاً من آثارهم غري بالغني مرادهم يف إثبات كل ما
جل كالمهم ،وذلك ألنَّ تلك اإلشارات والرسوم مل تكن يرومون إثباته أو من إثبات َّ
وافية باملرام ،وألنَّ النقش عىل الحجر أو عىل الخشب كان صعباً وكان يقتيض نفقة
عظيمة أكرث من اقتدار ذلك الشاعر أو الخطيب أو العامل.
فلام ظهرت الكتابة بالحروف وظهر الرق دخل العلم يف الدور الثاين ،فرتقت
101
املعامالت واستحكمت املعاقدات واملعاهدات وتق ّوت العالقة البرشية والرابطة
اإلنسانية ،وذلك بإثبات وتدوين قواعد الدين التي أنزلها الله سبحانه وتعاىل عىل
أنبيائه ورسله العظام رأفة بالناس ورحمة لهم ،فنجم عنها تهذيب األخالق وتثقيف
العقول وإيقاف اإلنسان عند حد معلوم ال يتجاوزه ،فاجتنب كثرياً من املناهي
واملحارم ،وكان ذلك سبباً لظهور مدنيتكم وحضارتكم فعرف اإلنسان تقريباً معنى
كلمة اإلنسانية .وملا ظهرت املطابع دخل العلم يف دوره الثالث ،وله أدوار أخرى،
فرتقى الرتقي املعروف عندكم وتأخر من جهات أخص منها اخرتاعه األسلحة الرسيعة
التفتك بالنظر إىل غاياته.
ولنعد إىل الكالم عن الفصاحة والبيان فأقول :من املعلوم أنَّ املراد من علم املعاين
والبيان وعلم البديع هو معرفة اختيار األلفاظ املأنوسة الرقيقة الساملة من التنافر
ومعرفة الرتاكيب السهلة الخالية من التعقيد .ولهذين العلمني فائدة عظيمة وهي
الرقة واملتانة ،ألنَّ املتكلم حينئذ يرق لفظه ويجزل منطقه يف عذوبة ولطافة .إنَّ
الكالم الرقيق ال يجري عىل لسان الفظ الغليظ من الناس.
فتبني مام ذكر أنَّ اإلنسان مل يحفظ نوعه هذا الحفظ ،ومل يطب له بعض العيش،
ومل يعظم قدره إال بالعلم ،وأنَّ أجدادكم عانوا املشقات وزاولوا الشدائد حتى توصلوا
إىل معرفة بعض أسباب الراحة والرفاهة ،وقد وضعوا لكم قوانني وقواعد وتراتيب
وعادات يتحسن بها عيشكم.
غري أنَّ املتأخرين بعد أن أخذوا أخذهم وذهبوا مذهبهم يف البحث والتدقيق،
أضافوا إىل تلك العلوم والفوائد أشياء أمست رضورية لكم ومفيدة بالنظر إىل أحوال
الزمان وتقلبه وتغريه .فيجب عىل اإلنسان العرصي أن يتتبع تلك العلوم وما أضيف
إليها بجملتها ويتعلمها بحفظ وإتقان غري متعلل بيشء ،فإنَّ العلم أصبح هيناً قريب
املنال سهل املأخذ ال يجد الطالب يف الحصول عليه مشقة ،بخالف عهد أجدادكم
فإنهم كانوا يجوبون القفار ويجوبون البالد ويقاسون املكاره يف طلب العلم ،بل
يعرضون نفوسهم للمخاطر.
أما اآلن فقد أصبحت املدارس أكرث انتظاماً من قبل وهي تبتسم يف وجوه الطلبة،
والعلامء بني ظهرانيكم يرغبونكم يف التعلم ،وهم ما برحوا يضعون الكتب التي هي
أقرب تناوالً من غريها تسهي ًال لكم لئال متلوا .وأما نفقة التعليم فيالحظ بها أحوال
الناس واستعدادهم أيضاً ترغيباً لهم وتشويقاً.
102
فاميل أرى أكرث الناس مقرصين يف تعليم أبنائهم؟ أمل يهتدوا إىل اآلن ويدركوا
أنَّ قيمة اإلنسان ما يعلمه؟ أمل يشعروا أنَّ زمن أوالدهم أصبح غري زمنهم وأنهم
إن غادروهم جهالء ضلوا بجهلهم وأصبحوا وراء البرش؟ يا أيها الناس علموا أبناءكم
ليعلموا قدر نفوسهم ،فإن مل تعلموهم عاقبكم الله تعاىل.
103
فاملعنى الذي ال يهون عليك فهمه أبدله بغريه .قال الشاعر الذي تعريب اسمه
«صرب» وهو الشيخ فتح الله النحاس الحلبي :ملا رأى الله تعاىل أن يخلق العباد عىل
أنهم ال يأتلفون وال يحفظون نوعهم إال إذا تقرب بعضهم إىل بعض باملحبة فأوجدها
لهم ،فتجلت بحسن رقتها ولطافتها للعقل فأثرت فيه تأثرياً خاف أن يفقد به سداده
وحكمته ،وهو عامل أنه الب َّد لكل مخلوق من املحبة .فقال لها :إنَّ الله جعل مركزك
القلب ألنك إذا تسلطت تسلطاً يخىش عليه منه نبهته وحذرته ،فنزلت إىل القلب
واستقرت فيه ،فظهرت بهذا التجيل واالستقرار الرابطة الطبيعية بني العقل والقلب،
عىل أنهام خافا أن يختلفا فجعال اإلرادة لهام حك ًام مسؤوالً عنهام ،فتسامت املحبة
بتنبه العواطف الرشيفة إليها وشعورها بلذاتها ،وتنورت بها القلوب املظلمة تنوراً
نجم عنه االئتالف فتلطفت خشونة العيش .فبناء عىل ذلك أمر الله تعاىل عباده بأن
يحب بعضهم بعضاً وجعل املحبة قاعدة من قواعد الدين الكربى.
جل جالله أنَّ آفة املحبة الطمع ،فجعل العيش ميرساً لجميع عباده فلم ورأى َّ
يضطروا إىل املضايقة فالنفار للقتال ،ألنَّ أحدنا يستطيع بقليل من السعي والجد أن
يعيش عيش أخيه الرغد ،ثم أمرهم بالقناعة.
ورأى الله تعاىل أيضاً أنَّ االئتالف واالختالط يتسببان بالفساد ،فأمرهم بأن
يتعففوا وجازى املخالفني جزا ًء مهيناً ألي ًام فتحابوا حتى أصبحت املحبة عامة بينهم
وهم بها أعفاء فارتاحوا وسعدوا.
فلام تلذذوا بالراحة والسعادة الصادرتني من املحبة وهم يعلمون أنها من فضل
الله تعاىل ،أدركوا أنهم يحتاجون إليه يف كل يشء ،وأنه ال يحتاج إليهم يف يشء واحد،
ألنهم كالهباء املنثور بالقياس إىل اقتداره وعظمته واغتنائه بذاته عن سواه .وعقلوا أنه
ليس يف وسعهم أن يقدموا إليه شيئاً من عندهم يفصحون به عن رسورهم العظيم
ويستعطفونه ليديم عليهم هذه النعم ،فأقروا له بعجزهم فأرشدهم ذل العجز إىل
حمده وشكره اللذين هام مكافأة العاجز الذليل عىل فضل الفاضل وإحسانه.
وقد كان إقرارهم بالعجز وحمدهم إياه تعاىل منبعثاً عن شدة حرصهم عىل
طيبات الحياة فأخذوا يتقربون إليه بالتواضع والرقة .وهو كلام تواضعوا وروقوا
أحسن إليهم بآالئه فنمت املحبة يف قلوبهم حتى فاضت فيضاً عظي ًام ُ َّ
س به ،ألنه
كلام رسخت له املحبة فيها ازداد حب الخلق لبعضهم بعض ،وهذا غاية ما يتمناه
الله تعاىل فإنه مسؤول بحكم عدله ورحمته عن راحتهم وهي ال تدوم إال باملحبة.
104
إنَّ هذه املحبة مل تنشأ فينا بسعينا واعتنائنا ،بل هي هبة من عند الله تعاىل كام
علم ،فكان من الواجب أن تكون له وحده وما زاد منها فللعباد.
هذا ومن املعلوم أنَّ الله سبحانه وتعاىل مل يقبل منا محبتنا ومل يرض علينا بها
ألنها يشء مذكور لديه ،بل ألنه يريد من توجه قلوبنا إليه باملحبة أن نكون طاهرين
فنعتاد الطهارة يف كل فعل يصدر منا .فاإلفراط يف حب الخليقة إذاً خيانة منا لله
تعاىل وإساءة من وجهني .ففي الوجه األول يرى عبده لها عن حبه من أجل لذة وقتية
جزئية نيس بها اللذات العظيمة التي أعدها له .ونيس أيضاً أنه مل يشعر بهذه اللذة
إال مبا جعله الله تعاىل يف خلقه من االستعداد الطبيعي لقبولها ،فالفضل يف ذلك هو
بجعل الخلقة مستعدة لقبول اللذة ال للذة نفسها .فيلزمنا أن ال نفرط يف املحبة لئال
ننىس خالقنا العظيم الذي جعلنا نتلذذ يف كل وقت مبواهبه.
ويف الوجه الثاين يرى إفراطنا يف غري محبته فيسؤه ،ألنه يهيجنا فيميس لنا شغالً
شاغ ًال نلهو به عن واجباتنا وندع كل يشء وراءنا فال نستطيع الوصول إىل حاجاتنا.
وهناك أمر آخر وهو أنَّ اإلفراط يف اليشء مرض بصاحبه رضراً منهياً عنه ،فمن ثم
يجب علينا أن نكون يف املحبة حكامء.
ولكن كيف أنهي عن اإلفراط وأنا مصاب به غالباً ال أستطيع اإلقالع عنه؟ إنني
أستغفر الله تعاىل إذا قلت لك يا حبيبتي إنَّ محبتي تكاد تكون غري معتدلة.
إنني أحبك ،إنَّ جملة قويل «إنني أحبك» كتبتها بيدي الراجفة ثالثاً وأنا يف كل
مرة أمحوها استحياء منك ،ثم كتبتها وأثبتها ألنَّ قلبي الصادق أرص عىل إثباتها فال
أخاله يغشني.
لقد اتفق القلب واإلرادة عىل كتابتها ،أما العقل فإنه مل يتعرض لنا ،وال شك أنَّ
عقيل ال يسومني خسفاً وال يعرضني ملا تكرهني.
إنَّ الخلقة السامية ال تكون سامية إال إذا كانت حرة يف املحبة .إنَّ املحبة الطاهرة
ال يجب كتمها ،غري أنَّ محبتي ليست بيشء يبيض به وجهي لديك ألنني أحبك
لنفيس .إنَّ كرثة محبتي مع علمي رضرها أمر عجيب ال يحسن صدورها من مثيل.
يا ورديت البيضاء عىس أن تتعطفي ،عىس أن تنتبهي إىل ما أقول (لقد خطر ببايل
اآلن أنك تحبينني) فإن صح هذا فال يبقى محل للعجب ،ألنَّ املحبة تع ّززت مبثلها
فهي كثرية مبحبتك إن شاء الله تعاىل ،وعليه فال أكتمها عنك ،فإن مل تقبليها وإن
أنكرتها عيل زالت ،ألنها ال تقوم بذاتها بل تقوم إذا اتحدت بغريها.
105
محبتي رشيفة طاهرة ال تضع من قدرك وال تعيبك إذا كانت محبتك مستعدة
لقبولها واالتحاد بها.
محبتي صافية ألنها استمدت صفاءها من قلبك .اعذريني إذا كان ال يسمح
يل أن أذكر قلبك الصايف مقروناً بذكر محبتي .إنَّ الفصاحة الشعرية ال تجيز تكرير
الكلامت ،أما أنا فأكرر كلمة قلبك يف شعري ألنه يشتهي أن يتألأل به ،أما هو فمنري
بنور الطهارة.
لقد منت املحبة وعظمت فلم يسعها قلبي فنفذته ورست إليك بقوة الجذب
الصادرة من جميع جوارحك .إنَّ حالتي تكاد توصلني إىل حيث ال ينفعني قربك
فتداركيني بإشارة منك تحيي َّيف األمل.
إنَّ حالتي أجارك الله تعاىل من مثلها تضغط النفس يف أعامق القلب فيكاد
يتمزق ،ولوال تعلله بأنه سيكون سعيداً بقربك ألسفت عليه الحياة ورحبت به األبدية
وقالت :ادخل بسالم يا شهيد الغرام .هذا إذا كنت تحبينني وكانت األيام ال تسمح
بقربك .إنَّ الله تعاىل ال يريد عذاب عباده باملحبة.
لقد علمت أنني مؤاخذ إذا مل أستعد كالمي وأرده إىل نفيس ألين أفرطت وخبطت،
فالرحمة الرحمة يا خالقي العظيم العليم كل حسنة منك وكل سيئة من نفيس التي
ال تريد أن تضغط بالصرب.
إنَّ قلبك ال يستطيع أن يسألني عن محبة غريك .أية فتاة تقول إنني نظرت إليها
ولو بطرف خفي؟ ال أنظر إىل أحد برغبة غريك.
لقد ابتدأ الحب بك وقلبي يحدثني بأنه ال ينتهي إال بك ،فبك بداءيت يف املحبة
بعيني فتحسدانه
ّ ومنك حسن نهايتي إن شاء الله .إنني أراك بقلبي أكرث مام أراك
عليك ،إنني أرى نفيس أه ًال لك ،هي النفس العزيزة التي تعز عىل كثريين من أكارم
سكان الزهرة فهي بالطبع عزيزة لديك أيضاً ،هذه النفس التي ذابت وسالت إليك
تسألك اإلنصاف.
إنَّ صديقتي هي نفيس فال يعز عيل يشء بعد الله تعاىل غريها ،فأحب وأشتهي
أن تكوين أليفتها لنقطع سوية أدوار هذه الحياة ومنيض بعدها إىل حيث السعادة
الدامئة يف املريخ ،أال نكون سعيدين إذا أقمنا بالجنة؟ إنَّ الجنة لك يا إحدى فتياتها
وأرجو أن يجعلني الله تعاىل أه ًال لها.
أنت من الطبقة األوىل بني غادات الزهرة ،فالعباد يتسابقون إليك وكل منهم
106
يعلل نفسه بأنه يظفر بك ،فلمن تكونني يا ليت شعري؟ يتسابقون إليك ألنك عاملة
أديبة رضية األخالق وألنك متفردة باملحاسن.
ً
لقد ابتهجت ملا علمت بأنك ستهتدين قريبا إىل اكتشاف جديد يف علم تدبري
املنزل يعود عىل سكان الزهرة باملنافع والفوائد.
لقد رسين منك أنَّ الفتيات يقتدين بفضائلك وأنَّ كثريين من الرجال يريدون أن
يكون لهم يشء من مزاياك.
ً ً
أكرر قويل إنك تفردت باملحاسن مع أنَّ حسنا واحدا منها يستحق محبة أعظم
رجل ،أقول هذا وقلبي يخفق عل ًام مني أنني ال أضاهيك يف كثري من املزايا ،فأنا دونك
غري أنني أضاهيك بعظمة وفايئ ورشف قلبي وصدق محبتي وصفاء نيتي.
إنني ال أمتدح بهذه العبارات ألنَّ ما أمدحه غري مكتسب بهمتي بل هو هبة من
خالقنا .أشكر الله تعاىل ألنه جعل َّيف صفات تروقك أكرث من غريها .يظهر يل أنَّ الله
مل يخلق َّيف هذه املزايا إال ألكون أه ًال لك وذلك حباً بك ،أي إنه أحبك فخلقني لك.
فام تقولني ولكن مايل وهذا الكالم الذي يعرب عن عظمة يف صاحبه هل أعظم به
يف عينيك؟ إنك تعرفني الحقائق وتعلمني من أنا .اعذريني يا نور الحكمة ،إذا وجدت
كالمي أعظم مني .إنك ستجدينه كذلك ،اعذريني فقد زعمت أنني أسرتضيك به.
آه ما أحىل املحبة إذا عدلت وما أمرها إذا جارت! إنَّ املحبة الجائرة تستخف
بصاحبها وتهجم عىل عقله وتزيغه عن مركزه قرساً ،ولكن السبب يف ذلك هو أنَّ
املحب إذا مل يعتصم بالحكمة نقمت عليه املحبة نق ًام عادالً ،فإذاً أنا مخطئ بقويل
إنَّ املحبة تجور .ال تجور ألنها من الله.
أعود إىل ذكر محاسنك فأقول إنَّ الله تعاىل مل يخلقك عجباء يتعجب من حسنك
إال ليعجب املتكربون من اقتداره وعظمته الفائقتني.
لعينيك نور يدخل القلوب فتكرمي وألقه عىل قلبي لتنظرا هل فيه غري اسمك
الجميل مكتوباً بأحرف نارية تلتهب فيه.
إنني خشيت أن تسقط نفيس يف الكربياء وأردت أن تتواضع رحمة لها ،فنظرت
إىل مرآة وجهك الصايف ليظهر الفرق العظيم بيني وبينك.
إنَّ وجهك كله أجمع بهجات يف محاسن ،أما وجهي إذا قابلته بوجهك فيشبه
وجوه سكان بعض األجرام الحقرية ،مع أننا نحن سكان الزهرة اقتبسنا شيئاً مذكوراً
من جامل سكان املريخ.
107
ما أعدل قوامك الذي علمنا االستقامة واالعتدال.
ما ألطف أنفك الذي تشتهي زهرة القلب أن تحاكيه (هي زهرة مشهورة بلطافتها
وحسن رقتها تسمى عندنا بالقلب).
ً
إنني أسألك باملحبة الطاهرة أن ال تكلميني كثريا إذا سمحت يل بالقرب منك،
فإنَّ قلبي حينئذ يضطرب يف صدري من شدة التأثر فأشتغل به من حسن التمتع
مبشاهدتك.
ال أجد المئا يلومني إذا قلت إنني أحسب كالمك مثل كالم القايض «سا» العظيمً
قاض من سكان الزهرة اسمه «سا» كان إذا ك ّلم رج ًال أسكره أو أذابه ،فمنعه (هو ٍ
ً
قايض القضاة أن ال يكرث من خطاب الرجال وأمره أيضا بأن ال يخاطب أنثى ،وكان ذلك
من نحو مئة وخمسني ألف عام).
ال يحق لك أن تعتبي عيل ألين مل أصف حسن جيدك ،إنني أذكر السبب وال
أخالك تجهلينه ،وهو أنَّ نور عنقك غلب برصي فلم يق َو عىل النظر إليه فإذا وعدتني
أنك تسرتينه بشعرك عىل األقل تجارست عىل ملحه ملحاً خفيفاً ووصفته.
أحب أذنيك الصغريتني اللتني هام كصدفتني جميلتني يف بحر الزهرة (هو بحر له
صدف صغري متأللئ كلام ملحته نصع لونه ،تزينه حمرة خفيفة كأنها من ذائب ياقوتة
حمراء لطيفة الحمرة).
وأحبهام ألنهام تحرصان عىل درر الحكمة حينام تفرغ فيهام وتنبذان كل يشء
غريهام ،أحبهام ألنهام تسمعان عن بعد رضبات قلبي العليل التي هي نقرات حروف
رسيعة الحركة أرسع من الربق ،وال عجب يف ذلك ألنَّ مصدر رسعتهام نور املحبة،
وهذه الحروف ترتكب منها جمل الغرام االستعطافية فتنقلها أذناك اللطيفتان إىل
قلبك ،غري أين أخاف عليه حرارتها ألنها منبعثة من قلبي.
أكتفي بهذا القدر من الكالم وال آيت عىل ذكر بقية محاسنك عل ًام مني أن وصفها
غري مستطاع.
وأقول يف الختام :إنَّ املحبة راضية عني أين وفيتها حقها ،فيا ليت شعري هل أنت
راضية مثلها؟ أجيبيني بحق املحبة.
ملا فرغ والدي من تعريب القصيدة قال :إين أترصف أيضاً يف تعريب يشء من
شعر زاهد الشاعر ،وهو الخوري نيقالوس الصائغ الحلبي .قال :إنَّ الجسم البسيط
القائم من مادة واحدة ال ينحل وال يتجزأ فيجب علينا أن نظل يف اعتقادنا أنَّ الله
108
تعاىل أحبنا فخلقنا ،وأن نبقى ثابتني ويلزمنا أن نحبه محبة ال تنحل وال تتجزأ .إنَّ
السعادة يف الجنة واملحبة بابها .شاء الله تعاىل فكان كل ما يف اإلمكان.
إنَّ األجسام املركبة القامئة من مواد مختلفة هي قابلة االنحالل وهي ال تستطيع
إال أن تتجزأ .فإذا أردنا أن ال ينحل نظام كياننا ،وإذا أحببنا أن يستمر عقد انتظامنا،
فمن الرضورة أن تكون محبتنا من مادة واحدة ،أي لغاية واحدة وهي مرضاة الله.
شاء الله تعاىل فكان كل ما يف اإلمكان.
إنَّ املواد يختلف بعضها عن بعض يف القوة والضعف .فاملادة القوية هي التي
فيها قوة الجذب أشد من غريها ،فكام أنَّ الحيوان يطلب قوته بجده ونشاطه كذلك
املواد ،فإنَّ قويها يعالج ضعيفها ويجذبه إليه ليتغذى به ويتقوى .شاء الله تعاىل
فكان كل ما يف اإلمكان.
إننا كثرياً ما نرى مبكرباتنا املادة الضعيفة املجذوبة تجذب مادة أضعف منها
وتضمها إليها لتغتذي بها أيضاً وتتقوى ،ويظل هذا الجذب والضم حتى تصبح هذه
املواد كأنها جسم واحد ،غري أنها ال تتحد بل هي يف اضطراب دائم .إنَّ الجذب مبدأ
الحركة .شاء الله تعاىل فكان كل ما يف اإلمكان.
ومن املعلوم أنَّ املواد الضعيفة املكرهة عىل االنضامم إىل غريها مل تفقد قوتها
وحالتها الطبيعية بتغلب القوية عليها ،بل بقيت مع جاذبتها يف اضطراب ونزاع
شديدين دامئني ،تريد القوية الثبات يف التآلف وتبتغي الضعيفة حرية االفرتاق حتى
صارت هذه الحالة طبيعية وصار التحرك فيها عادة منتظمة فكانت الحركة .أعلمتم
ما هي الحركة؟ شاء الله فكان كل ما يف اإلمكان.
إنَّ هذا املركب إذا تخللته املياه واتخذت لها فيه مركزاً ضغطته ضغطاً قوياً،
وهاجت فيه الحركة هيجاناً ينجم عنه اصطدام ،فتظهر قوة نارية ،فال يقوى هذا
املركب عىل الثبات بل مييد ويتزلزل ثم يتجزأ .ورمبا استقلت بعض املواد بنفسها وعاد
بعضه إىل أصله .شاء الله تعاىل فكان كل ما يف اإلمكان.
وبعد ذلك انترشت يف الفضاء من هذه املواد املتحركة ذرات أصابتها ريح مائية
فكانت املائرات((( وهي الحييوينات األوىل املرتددات يف عرض ،أي التي كانت شبه
109
حركتها أفقية ،فاملاصعات((( وهي الحييوينات الثانية التي لها مع شبه الحركة األفقية
شبه حركة عمودية ،فاملتخلجات وهي الحييوينات الثالثة التي كانت فيها الحركة
أظهر ،فاملتحركات وهي الرابعة وقد انتظمت فيها الحركة .ثم الناقصات وهي
الخامسة التي مل تكمل وظائف أعضائها بل كانت ناقصة ،فشبه الحيوان وهي التي
مرتبتها أدىن من الحيوان .شاء الله تعاىل فكان كل ما يف اإلمكان.
أتم التعريب قلت له :أحب أن تنشدين شيئاً من شعرك .فقال :اسمع وتأمل: فلام َّ
إنني كنت نظمت قبل فراقي األرض قصيدة ألقاها عيل الشاعر املسمى بعلم وهو
العالمة الشيخ ناصيف اليازجي .فلام أمتمتها اشت َّد عيل دايئ فرتكتها حول رسيري.
فرسقت قلي ًال من النبْ وقد كانت الخادمة ترسق ما يصل إليها من مأكول ومرشوب
وجعلته يف القصيدة ودفعته إىل أخ لها ،فذهب به إىل رجل متظاهر بالتقوى وقال له:
خذ هذا النب وأعطني به سكراً ،فأخذه وهو يعلم أنه مرسوق وأعطاه السكر وحفظ
القصيدة ،فمر عليه أحد األتقياء املغفلني فقال له بعدما جعل يده عىل صدره وأمال
عنقه وأحنى رأسه :يا سيدي إنني ملا عدت اليوم من صالة الصبح رأيت يف يد بعض
الصبيان هذه املواليات ،وأشار إىل القصيدة وهي يف يده فأخذها الورع الذي كان ال
يحسن القراءة ونظر وتأمل وقال« :نعم نعم ال تجوز أبداً قراءة املواليات العشقية»
ثم م ّزق القصيدة وطرحها وهي:
النـــاس كلنـــا جهـــا ُء ُ أيهـــا ءُ علـــا النـــاس أنهـــم
ُ زعـــم
شـــأن قـــو ٍم دليلهـــم عشـــوا ُء ُ َ
األباطيـــل هـــذا مـــا عرفنـــا إال
ألي أمـــ ٍر ُخلقنـــا؟ شـــا َء ريب مـــن خلقـــ ِه مـــا يشـــا ُء أعلمتـــم ّ
ٌ
ظلمـــة وخفـــا ُء ُ
الكـــون ليـــس يف الكـــون للحقائـــق نـــو ٌر إمنـــا
كل يش ٍء عنــدي ســوى املــوت وهـ ٌـم كل يشء عنـــد اللبيـــب هبـــا ُء
مـــا ُخلقنـــا إال لـــي يتســـاوى بيننـــا األقويـــا ُء والضعفـــا ُء
والفقـــر ســـوا ُء
ُ ُ
الحقـــوق ســـوا ًء فأخـــو املـــال فـــإذا كانـــت
وإذا كانـــت الربايـــا جميعـــاً بالتســـاوي فكلهـــم ســـعدا ُء
110
ال تُـــؤ َّدى مـــا دامـــت األهـــوا ُء ـوق م ــن غ ــر خ ــوف غ ــر َّأن الحق ـ َ
الـــر بيننـــا والشـــقاءُّ معهـــا َّإن أطامعنـــا لتنمـــو فينمـــو
كـــم حقـــوق يصونهـــن اتقـــا ُء فاتقـــوا اللـــ َه إن أردتـــم خـــراً
كل أمـــ ٍر لكـــم عليـــه جـــزا ُء وأطيعـــوا وإنْ أبيتـــم فاعصـــوا
كـــم تجـــدُّ ون إنكـــم فقـــرا ُء أيهـــا األغنيـــا ُء والعيـــش رغـــدٌ
منكـــم والســـا ُء
ُ ضجـــت األرض أيهـــا الطامعـــون هـــا قنعتـــم
كيـــف ُيرجـــى مـــن البـــاد هنـــا ُء الحـــروب للنـــاس خـــراً
َ تزعمـــون
ليـــت شـــعري أيف الخلـــود رجـــا ُء أيهــا النــاس مــا لكــم قــد حرصتــم
ســـوف منـــي كـــا مـــى اآلبـــا ُء ـل ه ــذا نح ــن أبن ــاء م ــن مض ــوا قب ـ َ
غـــر ســـعي يـــدوم فيـــه الثنـــا ُء الســـعي والعنـــا ُء محـــا ًال
ُ يذهـــب
ثم قال يل :وهذه قصيدة نظمتها يف صباي ففقدت مني بعد نظمها ،فلام رجعت
إىل الزهرة علمت أنَّ أحد أصدقايئ كان طلبها فلم أعطه إياها فرسقها ،وقد كان ألقاها
يل فهم الشاعر وهو األستاذ بطرس كرامة ،قلت: ع َّ
الدعـــج
ِ أال تـــرى كيـــف ثـــارت فتنـــ ُة ال تعجـــنَّ إذا صالـــت عـــى املهـــج
تهـــج
ِ بغـــر مقلتهـــا الدعجـــاء مل رن ــت فهاج ــت علين ــا أس ــه ًام وظب ــى
ـرج
ال تطمع ــوا بع ــد ه ــذا الي ــأس بالف ـ ِ قامـــت متيـــس فنـــادى رمـــح قامتهـــا
ـج
طــريف وأخــى عــى قلبــي مــن الوهـ ِ تبـــدو إ َّيل فيخـــى شـــمس طلعتهـــا
ـج
()1
علمــت كيــف يضيــع العقــل بالفلـ ِ تبســـمت ثـــم قالـــت إ ْذ رأت ولهـــي
ـج
تاهــت وهامــت مبعنــى حســنها البهـ ِ يــا ليــت شــعري متــى تحنــو عــي وقــد
يــروح يف حبهــا كيــف اشــتهت ويجــي ق ــد كان قلب ــي طوع ــي قبله ــا فغ ــدا
ممتـــزج
ِ يف صفحـــة الجيـــد بالكافـــور يــا حســن بيــت بــذوب املــاس مكتتــب
111
ـرج
فــا عــى عاشــقي إن جــنّ مــن حـ ِ ُ
جعلـــت عقـــول النـــاس يف عنقـــي إين
عـــوج
ِ مثـــي تنـــ َّز َه عـــن شـــن وعـــن إن كان يرضيــك يــا ســلمى الوفــاء فمن
ـج أن ــا الغري ــق ف ــا أخ ــى م ــن اللج ـ ِ ـب بحــر قلــت يا أســفي قالــت هــو الحـ ُّ
()1
بالبلـــج
ِ فقيـــل ذا مســـتهام غـــ َّر منبلـــج
ٌ أحســـب أنَّ الصبـــح
ُ ُ
رسيـــت
وشـــج
ِ شـــكا إ ّيل تباريـــح الهـــوى شــكوت وجــدي فقالــت كــم وكــم ٍ
كلف
إين أمـــوت شـــهيد الحـــب فابتهجـــي ف ــات مل ت ُْج ــده الش ــكوى فقل ــت له ــا
ـزج
فع ــذب لفظ ــك أح ــى يل م ــن اله ـ ِ بذكــرك املــوت نــادى الســمع يــا طــريب
ـج
ـت الحــد مــن حجـ ِ فهــل لديــكِ ُوقيـ ِ ـئلت وق ــد ح َّلل ــت س ــفك دم ــي
إذا ُس ـ ِ
ـمج
أبي ــت أن تع ــريض ع ــن عذل ــه الس ـ ِ أعرضـ ِ
ـت عنــي والزمــت العــذول وقــد
عـــن كل واش بـــأرسار الهـــوى لهـــج إن كن ــت تصغ ــن لل ــوايش ف ــي صم ــم
عــن الئــم ليــم يف رشع الهــوى وهجــي إنَّ املليح ــة ي ــا س ــلمى م ــن ابتع ــدت
فقـــد علـــوا مبقامـــي أرفـــع الـــدرج ِ
أنكـــرت معرفتـــي ســـي املحبـــن إن
وفــاح مــن طيــب ذكــري طيــب األرج إذا ُذ ُ
كـــرت لهـــم طابـــت نفوســـهم
بـــه فكنـــت لديهـــم خـــر منتهـــج إين انتهجـــت طريـــق الحـــب منفـــرداً
شـــاء الهـــوى فأقـــم بالحـــي ال تعـــج قال ــت رأيت ـ َ
ـك م ــن أه ــل الوف ــاء ك ــا
مــن نــور وجهــي فقــد أغنى عــن الرسج وانظــر إىل القــر يف الظلــاء مقتبس ـاً
منـــي الســـام ورس رساً وال تلـــج واستنشـــق الريـــح إنَّ الريـــح حاملـــة
أما أنا فكنت أنظر متحرياً فقال يل :ما بالك يف حرية؟ فأطرقت أقول يف خلدي:
لقد طال هذا الحلم .فقال :أهكذا يكون الحلم؟ ما بالك مللتني؟ أمل تستطع صرباً؟
فخجلت منه حتى كاد يحرقني ثويب من حرارة الخجل .فقال :ملاذا ال تجيبني؟
فقلت :رأيتك تنشدين شعري الذي نظمته بعد خروجك من األرض .فقال :قد طمعت
112
نفسك يف شعري فال بأس عليك إذا ادعيته .فقلت له :لعيل مخطئ فضحك وقال :إنَّ
الشعر شعرك وقد أنشدين إياه سديد الشاعر قبل أن يلقيه عليك وهو الشيخ حبيب
اليازجي .فقلت :كيف يكون هذا اإللقاء؟ فقال :هو أنك إذا أردت أن تنظم شعراً
يف الحكمة مث ًال فتتصور شيئاً من املعنى فأمتمه وألقيه عليك إلقا ًء سه ًال فيرشبه
ذوقك ويرتاح إليه قلبك ويأنس به طبعك حتى تخاله لسهولته مسبوكاً بألفاظ جزلة
وتراكيب رقيقة فتنظمه.
غري أين ال أستطيع أن ألقي عليك معنى مل تفتكر بيشء منه .ثم قال :وهذه
قصيدة ثانية ألقاها عليك نبيه الشاعر وهو فرنسيس امل َّراش وأنشد:
كيـــف باللـــه ضيعتـــك يدايـــا ي ــا صب ــاي ال ــذي م ــى ي ــا صباي ــا
لي ــت ش ــعري مت ــى تجي ــب نداي ــا ً
مهـــا ّ
بـــت مـــن حرقتـــي أناديـــك
ال تـــرى الغيـــد زلتـــي وخطايـــا أتيـــت ذنبـــاً شـــفيعاً
ُ َ
كنـــت يل إن
يـــا مشـــيبي لقـــد ســـلبت هدايـــا كنــت منــي الهــدى إذا النفــس ضلت
لســـت أخـــى إذا طلـــت جفايـــا كنـــت أجفـــو إذا الربـــاب جفتنـــي
مـــا تـــرى العاشـــقني حـــول حاميـــا أدل إذا أدلـــت وقالـــت كـــم ُّ
يـــا مشـــيبي عدمـــت فيـــك هنايـــا أنـــا أشـــكو إىل الزمـــان مشـــيبي
فيـــه بلـــويت ومنـــه شـــقايا لســـت أشـــكو إىل زمـــاين ال ال
ُر َّب يـــوم ســـأبيك فيـــه بكايـــا أنـــا أبـــي عـــى شـــبايب ولكـــن
لســـت أرجـــو أن يســـتجاب دعايـــا رحـــت أدعـــو عـــى مشـــيبي وإين
وكتمـــت الهـــوى بغـــر رضايـــا فاجتنب ــت الحس ــان خ ــوف التج ــايف
يـــا ســـلوي لقـــد أذبـــت حشـــايا وتظاهـــرت بالســـلو احتشـــاماً
يف هواهـــن أســـتلذ ضنايـــا كيـــف أســـلو هـــوى الغـــواين وإين
أن يـــزول الضنـــى فأشـــكو شـــفايا لس ــت أش ــكو الضن ــى وإين ألخ ــى
أيهـــا العاذلـــون أوهـــت قوايـــا إنَّ يف القلـــب لوعـــة فأعـــذروين
كيـــف أبـــرت بهجتـــي وســـنايا ومهـــاة تبســـمت يل وقالـــت
113
ُنهايـــا مبقلتيهـــا حرمتنـــي فرأيـــت األعـــراض أوىل وإال
وباليـــا وذلتـــي فدعينـــي وأجبـــت :الشـــباب أعـــرض عنـــي
أنـــا أهـــواك فابتهـــج بهوايـــا واتركينـــي خلـــو الفـــؤاد فقالـــت
فـــدع الشـــيب يل وثـــقْ بوفايـــا أنـــا أهـــواك شـــاعراً وأديبـــاً
غريهـــا وهـــي ال تـــروم ســـوايا فاقتســـمنا الغـــرام ال أمتنـــى
فقلت لوالدي :كفى ما تنشدين من شعري ،فقد شعرت من القصيدة األوىل أنك
تريد أن تقول يل :أمل يأن لك حتى اآلن أن تقلع عن الحب؟ ولهذا قلت يف قلبي:
«أهكذا يكون الحلم؟» .وكان قويل مني خج ًال واستحياء منك ال مل ًال ،عىل أين سأريك
بعد اآلن ما يرسك إن شاء الله .فسكت ومل يجبني.
114
الباب الخامس
115
116
الفصل األول من الباب الخامس
_ يف بنات الهوى أو الغواين _
قال والدي :يخرج الفتى من مدرسته فريى الغادات املعرصات((( واقفات له
باملرصاد ويف أيديهن أقواس الحب لريمينه بنبالهن ،فإذا مل تكن عليه درع املتانة ،ومل
يكن رصني العقل قوي القلب ،رمته إحداهن بسهم فيسقط ،ثم تهرب غري متوارية
عنه ،فيضع يده عىل قلبه الجريح ويتبعها ليطلب شفاءه عندها .أما هي فتميش
وتتغ ّدن((( تغدن الغصن النضري كأنها ال تعلم شيئاً ،حتى إذا أدركها وهو يتعرث بأذياله
وقف أمامها ذلي ًال منكرس القلب متلعثم اللسان ،فتبتسم له ابتسامة يقوم ويقعد
بها قلبه حتى يكاد يطري من صدره ،ومتد يدها إليه وهي ترتجف ولوعاً وغراماً كأنها
تريد نزع السهم منه ،فإذا رأته مل يخرتقه ضغطته ضغطة تبلغ سويداءه ،ثم تقوده
كيف شاءت وتستخدمه يف هواها وتستعبده ومتنعه من حسن السعي واالسرتزاق،
فيضيع مستقبله وتذهب أوقاته أدراج الرياح .تراه دائباً يف استنباط األساليب التي
ترغب فيه حبيبته وهو ال يدري ماذا أعدت له األيام .فإذا استفاق بعد ضياع الزمان
من غفلته أبرص أبواب الرزق مغلقة يف وجهه فيعيش شقياً تعيساً ال يجديه ندمه وال
ينفعه تأسفه .إذا استسلم الفتى لهوى نفسه أضاع مستقبله.
إين ال أنهي عن الحب ،ولكن أنهي عن الغرام والهيام اللذين يلهيان الفتى عن
السعي يف مصالحه ومصالح غريه ،وأنهاه أيضاً عن فتاة ليس له معها يف دنياه نصيب
117
ألنه أحبها من غري أن يرتوى ويتأمل ،ف َت َب َله ود َّل َه ُه الحب((( حتى أغواه وأضله.
من أفرط يف حبه ولها به عن شغله فقد خرج من الحب وصار من جملة العشاق
القارصين الغافلني عن أمورهم الذين هم كالسكارى أو كاملجانني ،ال يشعر بهم
املجتمع اإلنساين وال يعلم لهم وجوداً فيه ،ألنهم ال يعول عليهم وال يركن إليهم يف
يشء فهم من األموات.
118
بها ويبتهج وتفرح به وتستبرش كأنهام عروسان مل متر عليهام ثالثة أيام.
يجتهدان يف ترقية أفكار بنيهام وتنويرها ويف إصالح أخطائهم .إذا فاهوا بكالم غري
مهذب وكانوا ال يعقلونه د ّالهم عىل معناه بقدر ما يستطيع سنهم ونهياهم عنه من
غري زجر .ال يفارق الرجل أهله حرصاً عىل محبتهم وآدابهم ذلك ألنه مسؤول عنهم
ومؤاخذ بهم .إذا غفل عن تهذيبهم وتربيتهم وهو علة وجودهم وتأليفهم وجمعهم
بعد الله تعاىل فقد أساء إليهم .ال يجوز له أن يهملهم ويتخىل عنهم ومييض أوقاته
يف املالهي وامرأته يف البيت تشتغل وتهتم ومتارس ،فإذا تخىل كان سبب شقائهم
وعذابهم .أمل يخلقنا الله تعاىل ومل َ
يتخل عنا؟ أما أحبنا وق ّدم إلينا كل ما نحتاج إليه
وأنزل علينا وصاياه فكان السبب يف سعادتنا؟ ال ينظر الرجل إىل غري امرأته وال تنظر
فكل منهام سعيد برفيقه الات ٌّ املرأة غري رجلها (إال ما ندر) ألنَّ املحبة مألت قلبيهام ل ّذ ٍ
يستغني عنه .ال يسمح للرجل بأن يسافر ويرتك عياله .فإذا بدا له سفر الب َّد منه صحبوه
يف الحل والرتحال ،وإال منع من السفر وهذه عادة محمودة تدفع عادات مذمومة.
119
ال يقل الشاب إنني عىل علم من غدرهن ومكرهن فال أقع بني أيديهن .لقد ضل
وغوى ،فإنَّ لهن حبائل امتزن عن غريهن بالرشاقة والخفة وقوة الجذب فيقع فيها
الفتى وهو حريص عىل نفسه.
إين أخاف عليك يا هذا أن تقع فتشب بوقوعك عىل الرذائل واملفاسد فال تجد
باباً للنجاة ،فإذا وجدت تغافلت عنه إىل أن تأتيك ساعة وهي قريبة منك ال تبرص
بها وال تعي.
ارحم نفسك يا ولدي وال تنشأ بجهلك عىل الشقاء فتضيع منزلتك يف املجتمع
اإلنساين حتى إنك ال تصادف من تستعني به عىل تخفيف مصائبك .ال تنظر بني
يديك وال تبرص غري جامعة من ذويك يرغبونك يف الفواحش واملناهي ،فيتسع عليك
نطاق الشهوة وأنت تطلب من أجلها املال فال تظفر به ،فتهون عليك اللصوصية
فتلص ،وإىل هنا منتهى حياتك األدبية وستتبعها املادية عام قليل. ّ
فإذا كانت تلك املنتديات واملالهي خالية مام ذكرت القتصارها عىل األلعاب
التي يسمونها بالبسيطة كاللعب بالورق املعروف ونحوه ،فهي تقود الفتى إىل
املقامرة ولو كانت يف أول األمر جزئية ،ألنَّ حبها يكرث يف قلبه حتى تصبح ومتيس
كلية فيعتادها ويألفها وهو ال يستطيع اإلقالع عنها والتخلص منها .إنَّ املقامرة إثم
وعار.
لقد علم الناس كبارهم وصغارهم ،عاقلهم وجاهلهم أنَّ القامر انتهى بكثريين
إىل اللصوصية ،وأقول وال أظلم نفيس بقويل :إنَّ كل مقامر مدمن لص ألنه تكون فيه
أخالق اللصوص وكل حركاتهم وسكناتهم ،وعليه فإين أنصح إخواين وأطلب إليهم
أن ال يغفلوا فيصاهرهم مقامر ولو كان غنياً مرثياً من قوم ماجدين فإنه يفتقر يف
ساعة واحدة رمبا انتحر بها.
إنَّ املقامر يتربأ من عياله ،والوالد املقامر شقاء وبالء عىل أوالده ألنه يدعهم وال
ينفق عليهم ،فإذا أوصل إليهم قوت يومهم فال يتفرغ لرتبيتهم ،فإن تفرغ يف بعض
األحيان فال يصلح للتهذيب ألنه قد متكنت منه أخالق املقامرين الذين هم يف األكرث
عىل أطوار الرعاع واألسافل.
ال يقل أحد إذا خاتنني مقامر كففته عن املقامرة ،لقد قال قوالً محاالً فإنَّ
(((
120
املقامرين ال يرعوون وال يقلعون والنادر بحكم العدم .فإذا منع الرجال بناتهم عن
املقامرين كان املنع عربة لهم وتأديباً ّ
فتقل املقامرة.
إين ألعجب من بعض العقالء الذين ميضون لياليهم باأللعاب التي منها الورق،
وهي وإن كانت أرضارها جزئية ال ترضهم يف الوقت الحارض ،فإنها سترضهم بأكرث
أوالدهم الذين ينشأون عىل عادات آبائهم أوالً ثم يتوسعون ويزدادون إىل أن يعتادوا.
إنَّ اإلنسان إذا ولع بيشء مل يقدر عواقبه ،فإذا قدر شيئاً منها ع ّلل نفسه باألماين
واألباطيل ،فيقول مث ًال إنني ألعب اآلن إىل أن يكرب ولدي فأمتنع ،كأنه يعتقد أنَّ ولده
سيكون طوع بنانه غداً كام هو اليوم .أمن العدالة أن تشوق ولدك إىل اللعب وقد
تلذذت به واشتهيته كثرياً أيام أكرهت عىل تركه ،ثم متنعه عىل ولدك وتغضب عليه
إذا خالفك؟
ال تقل إين إذا تركت اللعب أخذه ولدي عن غريي .ليرتكه كل واحد منكم يا أيها
اآلباء فال يجد األبناء من يأخذونه عنه .اتركه يا هذا أوالً ور ّغ ْب يف تركه غريك.
إين أسأل بعضهم وأقول لهم :ملاذا ال تنهون الناس؟ أتعتقدون أنَّ تلك األلعاب غري
ضارة ومفسدة لألخالق ،أم تخافون النهي لئال يكرهكم بعض الالعبني؟ أغاية الدين أن
تستعطفوا البرش وتسرتضوهم مبجاراتكم لهم فيام يرضهم ويضلهم؟
إذا استفتيت بضعهم يف اللعب تردد عىس أن ينقلب الحديث ،فإذا أفتى مل تفهم
منه شيئاً ،ذلك ألنه يقول يجوز اللعب إذا كان غري مرض ،ويفرس قوله بهذه الجملة «أي
إذا كان اللعب بيشء جزيئ» وهنا ينظر إىل املستفتي فإذا رآه من الراغبني يف اللعب مل
يشدد عليه وذلك تقرباً منه وتزلفاً إليه.
ال يجوز التساهل ،والتشديد واجب الب َّد منه .يا أيها املستفتي الطالب الحقيقة ال
تستفت صغرياً قريب العهد من الرئاسة ،فإنه ضعيف الحزب يخاف عىل نفسه الترصيح ِ
واستفت مسناً قوي الحزب فيرصح لك يف النهي ،ولو ِ فيكتفي بالتلميح ،وال تلح عليه
كانت للرؤساء عندكم جرايات ألفتوا يف املنع وأظنهم مينعون وينهون قبل أن يستفتوا.
ويف األخري أقول :لله در أجدادكم الذين كانوا أقرب إىل الحكم منكم ،ألنهم مل يكونوا
يتساهلون يف هذه األلعاب وغريها ولذلك كانت السعادة أقرب إليهم منكم.
اعلموا يا رجال هذا القرن أنكم متهدون ألوالدكم سب ًال ستكون ضيقة املسالك عليهم
وأنتم ال تعقلون إال يوم يصريون شباباً أو رجاالً مثلكم .إنكم ستندمون يف شيخوختكم
وتحرتقون ولكنكم ال تذوبون ،فلو ذبتم لنجوتم من عذاب أليم.
121
الفصل الخامس منه
_ يف املآكل _
قال والدي :إننا نأكل البقول مطبوخة يف الغالب .والفاكهة الناضجة النافعة
الصالحة لنامء الجسم .ونأكل اللنب وبيض بعض الطيور أيضاً.
أما اللحوم فال نقربها ألنها غليظة ثقيلة يعرس هضمها .وملا كانت مآكلنا خفيفة
رسيعة الهضم رأينا أن نأكل يف كل خمس ساعات أكلة ،ولذلك ال تعتل أبداننا إال يف
النادر فرتانا أقوياء أشداء.
ال نستعبد مثلكم لألكل والرشب ألننا أرقى وأسمى منكم .ال نهتم مثلكم بتنويع
األطعمة فنصنع منها ألواناً نتلذذ بها تلذذاً وقتياً يقوي فينا الشهوات ،فتعصينا أبداننا
فننغمس يف الرذائل.
نحن ال نأكل لنتلذذ بل لنتغذى ،فإنَّ للعقالء لذات كثريات غري الطعام .وعليه
فقد رقت عقولنا وتوسعت مداركنا وحفظت أبداننا.
إنَّ املنهمكني يف املطاعم ضعيفو األجسام والعقول ،وهم أقرب من غريهم إىل
العلل املهلكة.
122
قال :أما أكرث األطباء عندكم فهم القتلة .هم سفاكو الدماء الطاهرة التي اؤمتنوا
عليها .هم أعداء اإلنسان .هم املوت األبيض واألحمر والعدو األزرق((( ،هم الطاعون.
هم األمراض الفاتكة التي اكتشفتم بعضها ،سل املقابر عنهم تجبك إننا مجازر األطباء
ومذابحهم.
ً
إين أرى كلمة الطب ال معنى لها ،وإنَّ الطب اسم ال مسمى له غالبا كالغول
رس مجهول غامض ال تستطيع اآلن مدارك اإلنسان كشفه. والعنقاء عندكم .فهو ّ
إنَّ األطباء عندكم يف أكرث األمراض مجربون وممتحنون ال مداوون يتوقعون
املصادفة الحسنة .يوغلون يف املفاوز املهلكة يف الليايل املظلمة ويخبطون عىل غري
هدى ،فإما أن ينجوا وإما أن يهلكوا .يحمدون اليوم الدواء الفالين وغداً يذمونه
وينكرونه حتى أمست األدواء عندهم كاألزياء .فلو منع أكرث األطباء ّ
لقل املوت ،وهذا
أمر ال تقدمون عليه .إنكم تقولون إذا منعنا األطباء أمتنا علم الطب .إنكم جهالء
مكابرون متوتون بطبكم وال تدركون .ليس كل طبيب مأذون يصلح للتطبيب .يجب
أن يكون الطبيب رصيناً رزيناً ذكياً متوقد الفكر رسيع الخاطر .إذا مل يعرف العلة
معرفة تامة ال شبهة فيها فال يجوز له وصف الدواء .انبذوا عىل األقل األطباء الذين
مل يعرفوا بالنباهة وقوة الحافظة .يا حبذا لو تداويتم باملجربات املأثورة عن آبائكم
وأجدادكم ،ويا حبذا لو رجعتم إىل األطباء الخبريين املجربني إذا كانوا نبيهني وإال
فاجتنبوهم اجتناباً تاماً.
لقد رأيت كثريين من أطبائكم يف هذا الزمان متكنت من قلوبهم علة الطمع
فأمسوا وهم بها معتلون ،يتفانون يف زيادة ثروتهم ال يف شفاء املرىض ،يعودون
كثريين يف يوم واحد فال يستطيعون لكرثتهم وضيق أوقاتهم عىل ما بهم من األطامع
أن مييزوا العلة من سواها ،فيخطئون يف تعيينها ويصفون العقاقري الضارة املضادة
فيزداد املرض إىل أن يذهب املريض قتيل جهلهم.
ما قولك يف عليل يتق ّلب عىل فراشه تأملاً ،فإذا عاده الطبيب طابت نفسه أو
كادت واشتد به قلبه وهو ال يعلم ما خبأ له جهله؟ لقد خبأ السم النافع ليقبض به
روحه .وما قولك يف رجل يعزه العليل ويبجله ويطلعه عىل خفياته ويجلسه يف صدر
مجلسه ويدفع له خرية دنانريه ليفتك به ويهلكه بها.
1ـ املوت األبيض :املوت فجأة .واملوت األحمر :املوت قت ًال .العدو األزرق :قيل معناه الخالص العداوة.
123
إنَّ لهؤالء األطباء فوائد نعلمها وتجهلونها وهي أنهم حينام يقتلونكم بجهلهم
يخففون عنكم العذاب يف األرض .كل طبيب أمات علي ًال بجهله ُع َّد قات ًال غري متعمد
القتل ،ألنه يخرج كثريين من األرض قبل نهاية مدتهم فيها وهم غري مربرين وال
صالحني ،مع إنَّ الغالب منهم لو مل يخرجوا منها يف ذاك الوقت لكفروا عن ذنوبهم
وتابوا وعوضوا وعملوا خرياً يفيد كثريين ويخلصهم .أما الذي يقتله الطبيب وهو أثيم
يرسل إىل مدينة التكفري يف القمر وال يرسل إىل زحل ولو كان يستوجب السجن فيه.
حادثة :لقد علمت ملا كنت يف األرض أنَّ طبيباً كان يطبب علي ًال اشتدت علته ،فقال
البن حمي املريض :إنَّ صهرك ميوت بعد ساعات وهو ذو عيال ال معني لهم غريه ،فأشري
عليك بأن تجعله يطلب من وكيل رشكة ضامن الحياة أن يضمنه بخمسمئة ذهب
عثامين ،ومبا أنني طبيب هذه الرشكة فأقنع الوكيل برشط أن ُيدفع لنا خمسون ذهباً
وبعد هذا أقدم إىل املريض دواء يخفف عنه عذاب املوت فيقبض عياله الخمسمئة
املعينة .فلام سمع الرجل منه هذا الكالم وبخه وتركه وبعد أيام شفي العليل ْ
فتأمل.
أقول :أما اآلن ،وأنتم ترغبون يف الحياة األرضية والتطبب فأرى أن تختار املجالس
البلدية األطباء األذكياء الخبريين املجربني ،وأن تعني لكل محلة طبيباً أو اثنني بحسب
كرثة األهايل وقلتهم .وتعني معه طبيبني حدثني من الذين ظفروا باإلجازة ليتمرنا مدة
معلومة تزيد وتنقص بحسب مهارتهام ،وذلك مبوجب جرايات يعيشون بها العيش
الرغد .فإذا اعتل أحد األصحاء احرضوا له هؤالء الثالثة يف الحال فيفحصون ويدققون
برت ٍو وتأنٍ .فإذا أشكلت عليهم العلة لزمهم أن يعلموا األمر جمعية األطباء العمومية
ليحرضوا ويشخصوا ويصفوا الدواء الذي ال يكون إال يف النباتات.
ويجب عىل كل األطباء أن يداووا باملاء البارد والحار وبالهواء النقي ،وأن يداووا
بالشمس أيضاً فإنَّ يف حرارتها ونورها شفاء كاملاء والهواء .ويجب عليهم أن ال يغفلوا
عن النظافة وأن ال يغفلوا أيضاً عن جمع النباتات النافعة يف أوقاتها ،وأن يطلبوا إىل
املجالس البلدية تعيني صيدليات عمومية يوزع بها العقاقري مجاناً صيادلة مشهود
لهم باملعرفة واالختبار .وهذه املجالس تعني لقاء هذا كله رضيبة خصوصية يدفعها
الناس بحسب استطاعتهم ،وبعد دفعها ليس عليهم أن يدفعوا شيئاً لألطباء الذين
يحظر عليهم قبض درهم واحد أو قبول هدية ،إال أنَّ ذلك كله يجب أن يجري بنزاهة
تم هذا كله َّ
كف األطباء وتدقيق .ومن خالف عوقب من غري أن تقبل شفاعة فيه .فإذا َّ
عن املداواة باألدوية التي يستعينون بها عىل جمع األموال إجابة إىل دواعي األطامع،
124
فتغلق تلك املعامل املهلكة املعدة الستخراج األدوية السامة.
وعىل األطباء أن يتفقدوا الناس ويفصحوا عام يأكلون ويرشبون ويتعهدوا املنازل
الخصوصية والعمومية ،وأخص منها املعامل التي يشتغل فيها الفقراء والبائسون حيث
تكرث األوخام واألقذار ،وأن يعتنوا بتنظيفها يف كل ساعة حتى ال تنبعث منها األمراض
املعدية املميتة.
ً
وعىل األطباء أيضا أن مينعوا الفاكهة غري الناضجة والبقول واألسامك واللحوم
وجميع املآكل واملشارب الضارة منعاً قوياً شديداً.
وعليهم أن يهتموا بالحالقني وأماكنهم والحاممات والحامميني وأن يضعوا لهم قوانني
ال يتعدونها ونصائح واقية وافية .وعليهم أن يسعوا يف اختيار العيون الصافية الطيبة
املياه وجرها إىل جميع الشوارع واألزقة واملنازل والفنادق العمومية والخصوصية واىل
كل املحال أيضاً ،فإنَّ للامء تأثرياً عظي ًام يف األبدان ،به العوايف إذا كان زالالً وإال فمنه
العلل واألسقام .غري أنه ال يجوز أن يرشب إال من الينابيع املغطاة واملصونة.
وأرى أن ُتنع املسكرات منعاً باتاً ذلك بأن يسقط مدمنها من الحقوق العمومية
فال ُينتخب للمجالس واملحاكم وال ُيوظف .وال ُيؤذن له أن يكون وكي ًال أو وصياً أو ولياً
أو كفي ًال أو مستشاراً أو طبيباً أو صيدلياً ،ونحو هذا.
أما الفقراء الذين هم عندكم محرومون هذه الحقوق أو بعضها ،والذين ال يسألون
عنها ،فليجتنبهم الناس إىل أن يرعووا .إين ال أريد إال وقايتهم من العلل ،ومن البطالة
والسمعة القبيحة اللتني تعودان بالشقاء الدائم عليهم وعىل أنسالهم وذرياتهم وهم
ال يعلمون ما هو أقرب إىل الخري وأبعد عن الرش ،غري أين ال أشري يف هذا كله بالسجن
وال الجزاء النقدي.
وليعلم الناس أنَّ يف التبغ والتنبك س ًام يضعف الجسم مهام كان قوياً ،إال أنه ال
يفنيه رسيعاً بل يرسي يف دمه شيئاً فشيئاً فينحرف مزاجه وهو يجهل السبب إىل أن
تظهر العلة .ومن الناس كثريون يعتقدون أنهام ال تؤثران إال يف الصدور ،فإذا كانت
صدورهم صحيحة قالوا إنَّ التبغ والتنبك ال يرضان ،ولكنهم غفلوا فلم يدركوا أنَّ سمهام
يتسبب بكل علة ،ألنه كام علمت يرسي يف الدم فيفسده ولو بعد حني ،يا أيها الذين
يريدون بنفوسهم خرياً أقلوا القهوة إذا كنتم ال تستطيعون تركها.
أما األكول النهم املستعبد لشهوات بطنه فهو عندي عدو نفسه ،أو هو مختل اختل
نظام أمره فال يعقل وال يدرك نفعه من رضه وال خريه من رشه .فيجب تهذيبه وتعيني
125
مقدار أكله ورشبه ووقتهام .إنَّ أكلة واحدة تودي بحياة آكلها .فإذا مل ميت رسيعاً عاش
علي ًال ،وولد العليل عليل مثل أبيه ،فهو يجني عىل نفسه وعىل أوالده ،حتى عىل زوجته
التي رمبا ال يكون لها معني غريه ،أفال يجب بعد هذا كله تهذيبه كام يهذب الصغري؟
إنَّ الذي يهذب صغرياً يهذب كبرياً فإذا مل يرد أو مل يستطع أن يتهذب فحجره أوىل.
يا أيها الناس إين أكرر القول وأقول :اعلموا وتيقنوا وتأكدوا إنه كلام ازدادت
العقاقري املكلسة ازدادت العلل واألمراض والعاهات واملصاعب واملتاعب والهموم
والغموم ،وإنَّ أكرث العلل تزول مبنع األسباب التي أحدثتها وهي غري خافية ،وإنَّ
الذين يتعالجون كثرياً يعيشون سقاماً ،وإنَّ الدواء النافع الذي فيه الشفاء :الحمية.
أما علم الجراحة فإنه مفيد فيام خال األبطنة غري املعاينة إىل اآلن ،إال إنني أرى
بعض الج ّراحني يتامدون فيهجمون بآالتهم عىل كل علة.
1ـ تربجت املرأة :أظهرت وجهها .وإذا أبدت املرأة محاسن جيدها ووجهها قيل تربجت وترى مع ذلك يف
عينيها حسن نظر .التربج :إظهار املرأة زينتها ومحاسنها للرجال.
2ـ أومضت املرأة :سارقت النظر .ويقال :أومضت فالنة بعينها إذا برقت.
3ـ الشفوف :جمع الشف وهو الثوب الرقيق يرى ما وراءه.
126
ال تصونها ،فإذا أظهرته فقد تص ّبتهم .وإنَّ التي ال تتزين لرجلها بل للناس يقال إنها
تريد لها خدناً يخادنها ،وإنَّ التي تكرث من التأنق يطمح برصها إىل الرجال ليعجبوا بها
ويتسابقوا إليها ،وإنَّ التي تتزيا يف مالبسها بزي فتيات الهوى املتهتكات ُيخىش عليها
أن تكون منهن .إنَّ املرأة الحصناء((( املدركة الحقائق ال تتزين بالحيل الكثري التي هي
زينة الصغريات الضعيفات العقول بل تتزين باملزايا والفضائل.
كل من خرج من األرض عفيفاً نقياً رجع إىل الزهرة حيث يبالغ يف تعظيمه ويكلله
قايض القضاة ،وهذا اإلكليل ال ينزع من رأسه وهو من زهرة يف الجنة ،ال تذبل وال
يتغري لونها بل يزداد لصوفاً((( ونضارة.
إذا أثم املكلل يف الزهرة فال يرجع إىل األرض بل يرسل إىل مدينة التكفري ،وهذا
نادر ألنَّ األع ّفاء الذين مينعون نفوسهم عن الشهوات أتقياء .واألتقياء ال يأمثون تعمداً
منهم بل خطأ وذهوالً.
127
وأعجب منه أنَّ الشاب يف هذه األيام إذا زار حبيبته أزوى((( أو خرته صديقه .لقد
صار كثريون منكم رجاالً ذوي عيال فهل حمدتم متدنكم؟ ملاذا يعظ بعضكم أوالدهم
ويأمرونهم باجتنابه .ملاذا يخاف كثري منكم عىل زوجاتهم وبناتهم ويأمرونهن بالتحذر
من غوائله ويعدونه رضبة شديدة عليهم؟ «أجيبوين» .إذا استحيتم من الجواب أو
إذا جاوبتم ومل ترصحوا فأجاوب عنكم ،إننا ال نسمح بأن يتمدن الشبان يف بيوتنا كام
متدنا يف بيوت غرينا ،وإننا ال نريد لبناتنا وفتياتنا ما كنا أردناه لنفوسنا أيام صبوتنا
وشبابنا.
أال يا أيها الغافلون الذين غبي عليهم خريهم ال تظنوا أنكم إذا عرضتم بضاعاتكم
هذه عىل املتفرجني روجتموها ،صونوا فتياتكم من ذلك االختالط واالجتامع لريغب
الشبان فيهن ويتسابقوا إليهن.
ال نصيب للمرأة من الراحة والرفاهة إذا تعود رجلها االختالط ،وال نصيب له من
الصيانة إذا اعتادت زوجته كرثة االجتامع ،فلامذا تجنون عىل نفوسكم وعىل أبنائكم
ونسائكم؟
ال يحسب الرجل أنَّ الشاب يحبه إلنسانيته أو فصاحته أو براعته أو كرمه أو
وجاهته .إنَّ الشاب ال يحب يف الغالب هذه املزايا ،وإمنا يحب تلك الالئذة بخدرها
املستمسكة بعفافها عىس أن يغريها .ال يقل الرجل إنَّ يل ذات خدر قارصة الطرف من
أرسة عرفت بالتقوى والصيانة ،أحبها وتحبني .ليعلم فوق علمه أنَّ اإلنسان خلق عىل
الحب وأنه يحب أن يكون محباً ومحبوباً ،وأنَّ الحب إذا غلب عمي صاحبه وعمه
فال يبرص ما بني يديه وال يقدر العواقب.
ال يشء يرض الفتيان والفتيات مثل االجتامعات العمومية وليايل األفراح يف هذا
الزمان الذي أصيب بالتمدن الفرنجي الحديث .أال ترى النواهد والعواتق يتز ّين
ويتحسن وهن متمتعات بالحرية أتم متتع ،ذلك ألنهن إذا دخلن املجتمع سقط عنهن
حكم اآلباء بحكم هذا التمدن ،فيتبارى الشبان والشابات مبيدان الرقة والرشاقة،
ويتجارون باملعاين املؤولة املموهة فيفهمون بها ثم يستعينون بجوانب العيون فال
ترى بعد هذا غري الدنو والتقرب بفعل الجاذبية ،إىل أن يشاهد كل اثنني يف حكاية
(أي كل فتى وفتاة) فيعرتكان باإلشارات وحركات البدن املتنوعة ،حتى إذا انضغط
128
الجسم بقوة امليل والعواطف أورى وملعت رشارة الهوى املعرتض((( والعارض بالتصنع،
ألنَّ الحب الرسيع الذي مل يكن ناشئاً من مصدره الطبيعي بقوة التامزج االختياري
الخايل من التصنع والتشبه ال يثبت بل يزول.
أقول :فيفرتق املعرتكان وقد تعاقدا وتعاهدا عىل التزوج ،فيعرتض األبوان لهام
إذا مل يريا بينهام نسبة كام يقولون أو كام يزعمون ،أو يعرتض والد أحدهام فإما أن
يعصيا ويعيشا غالباً عيش ًة شقي ًة باقرتانهام ،وإما أن يؤثر فيهام أو أحدهام النصح
فيقع االنفصال ويلتعنان .وهذان يهون عليهام فيام بعد أن يعاهدا غريهام وينقضا
عهدهام مراراً ،فيكونان قد تعودا الخيانة واملكر والغدر واإلخالف بطيشهام وقلة
ترويهام الناتجني عن رسعة االختالط.
فإذا كان الوالدان ال يريان ما مينعهام عن التزوج بحسب الظاهرة ،وهام مل
ميال نفسيهام ،واقرتنا حاالً فال يجدان يف قلبهام االرتياح واللذة اللذين وجداهام يف
االجتامع األول ،ألنَّ حبهام كان مؤسساً عىل التصنع والطيش هائجاً ومدفوعاً بفعل
الخمور التي كانت كؤوسها تدار عليهام يف تلك الليلة.
عىل أنه إذا كان االثنان يف منزلة واحدة من الرصانة والرزانة ،وإذا كانا متقاربني
يف طبعهام غري متنافرين ،وإذا كانا ال يستعينان بالتصنع والتشبه واإلضامر ،أي إخفاء
الفتى رشاسته وخلقه الذي ال يوافق يف أمر ويخالف ذوق الفتاة ،فيكون الحب بينهام
محمود العواقب ويكون اقرتانهام قريباً من السعادة .أما املتصنع املضمر فأراه غادراً
ماكراً محتاالً حتى عىل نفسه وليس عىل قرينته فقط ،بل أراه قليل العقل ضعيفه ال
يعرف خريه من رشه وإال ما سعى برجله إىل العذاب ،ألنه لو كان من العقالء ألدرك
أنَّ فالنة ال تصلح له ملا بينهام من التخالف يف الطباع واألهواء.
رست إليكم علل كثرية من قال :لرنجع إىل حديث ذاك املجتمع ،فأقول :لقد ْ
إقبالكم عىل التمدن الفرنجي ،ومتكنت من أبدانكم حتى أزمنت ،وامتنع عليكم
شفاؤها منها :الرقص الذي يسميه بعضكم باملخارصة ،فاسمع يا ولدي :يدخل الشاب
املتعنفص((( املرقص وهو نزق طائش يتكلف الخفة والرشاقة ،زائغ البرص ينظر إىل
1ـ املعرتض من الهوى :هو الذي يقع من أول وهلة فيسبي القلب يف دفعة واحدة إال َّأن تركه رسيع كام
َّأن أخذه رسيع.
2ـ تعنفص :ادعى مبا ليس فيه وكان ذا صلف وخفة وخيالء وزهو.
129
الجهات األربع .يكاد لهوسه((( يعرث فيسقط ألنه يرقص يف مشيته عىل األنغام ،فيسلم
عىل الجالس ذلك بأن يحني رأسه وينصف طرفه ويجزم بقلبه عىل حب غادة يف
الحال اختارها من الكواعب والنواهد وهو داخل .إال أنه قبل جلوسه يختار غريها
فتنعقد عندها آماله ،فإذا جلس ثم أدار طرفه وتأمل ،ندم عىل ما فرط منه من
التعجيل يف االختيار وحار يف أمره ،وصار ال يعرف أية األوانس يهوى وهو غافل
عنهن غري مبرص يف أيديهن أقواس الهوى وقد أوترنها فريمينه بسهامهن يف وقت،
واحد فتتكرس النصال عىل النصال ،فيميس رصيع كل الغواين وأسري جميع الخرائد
والعواتق ،فيضل وال يعرف بأيتهن هو هائم .وأخرياً يقوم وهو ال يعي شيئاً وال يبرص
ما بني يديه فيقع عىل واحدة منهن ،فيستمسك بيدها يف األول حاالً لئال يسبقه
إليها مزاحمه الذي هو يف شاكلته ،ثم يخفض رأسه لها وهي اإلشارة املعرفة عند
الفرنجة يف طلب الرقص ،فتبتسم له وتعتذر إليه وهي تتلوى وتنعطف يف تغنج خفي
وشكل لطيف ،تخالفه وما بها خالف ،فيخفق قلبه وتربد أطرافه فتشعر بربودته وهو
قابض عىل يدها بيديه الراجفتني ،فتقوي نفسها وتتجلد وتثبت أمامه قائلة يف قلبها:
تشجعي تفوزي (أما هو فال يشعر بخفقان قلبها وال ينتبه إىل يدها الباردة ألنه أفرط
يف الربودة فكانت برودتها املعتدلة حرارة بالقياس إليه) وتعتمد عىل منزلتها عنده
بداللها عليه فيمر عىل هذا نحو عرش دقائق وهام يف مد وجزر ،إىل أن يضطرب من
ضجره فيجذبها إليه جذبة قوية تكاد ترض بها عظام صدره فيخارصها((( أوالً ثم يلف
يده يف خرصها ،ويقومان ويقعدان ويرتفعان وينخفضان ويقفزان ويعرثان ويدوسان
رجليهام وأنت يف طرفة عني تتوقع سقوطهام ،فتتعب الناهد وقد أثر فيها ضغط
الشاب ،فرتمي بنفسها إىل املقعد لتسرتيح ،فيسارع إليها فتى آخر وراءه اثنان أو ثالثة
مثله ويلتمس منها الرقص فال تقوى عىل الكالم ولسان حالها يقول :أال تبرص يا هذا
كيف يرتفع صدري وينخفض من شدة اإلعياء؟ وهنا تهجم عليها العواتق ويقلن لها:
انظري أذيالك وقد متزقت ،فتشتغل بها عنه ويشتعل قلبها تأسفاً عىل ثوبها الذي مل
تحصل عليه إال بعد ألف حيلة كام تقولون ،فيقول الفتى :ليس من العادة أن متتعي
غريي برقصك الذي سلب عقيل أنا الذي أحاسن بك الناس ،فتهم بالكالم فال تستطيع
130
ألنَّ خفقان قلبها مينعها منه ،وهو مل يصدر عن الرقص فقط بل عن متزق ثوبها الضيق
الذي كاد يخنقها مشده ،فتتجلد وتدخل معه يف حديث طويل ممل مآله أنَّ املشد
ال يرضها وال يتعبها ،وبعد انتهاء حديثها تشدد عزميتها وتنهض للرقص فرتقص هنيهة
ثم تقعد ويف الغالب تهرب وتتوارى يف إحدى الحجر.
بعد أن يسرتيح الراقصون زهاء ربع ساعة أو أقل يعودون إىل ما كانوا عليه ،أو
أنهم ال يسرتوحون((( بالرقص العريب الحديث وهو وإن يكن مهذباً بالقياس إىل غريه
إال أنه ال يخلو من أسباب التهييج فيجب تركه ،وبعد اسرتواحهم به يرجعون إىل
املخارصة وهكذا تنتهي الليلة.
ً
عىل أنه ملا كان الناس بالرقص مولعني حتى إنه أمىس عادة ال يهون تركها عليهم،
رأيت أن يعودوا إىل الرقص العريب القديم ،أال وهو الرقص املعروف بالسامح برشط
أن تكون أغانيه مهذبة ال تهيج بالبل الشبان والشابات ،فيطرب طرباً نقياً تكون معه
رياضة للبدن فيتق ّوى ولله در آبائكم ما كان أعقلهم فقد كانوا ال يطربون بغري رقص
السامح ،فليتكم تشبهتم بهم.
131
مئة فال تكفينا .فإذا قلت لهم وملاذا؟ قالوا لقد أصبنا باألزياء األوروبية .لقد تداركتنا
فرنسا أوالً التي تحبنا ورحمتنا بأن قدمت مصنوعاتها إلينا عىل ما بها من العيوب.
أحبتنا فروجت علينا سلعها ثم تبعتها غريها وغريها حتى استنزفت ثروتنا .فإذا قلت
لهم أراكم عرفتم العلة فكيف ال تداوونها؟ قالوا نحىش أن يغضب علينا نساؤنا.
نساج الفرنجة إىل نسائكم؟ قالوا رقتها ولطافتها ونحن ال فإذا قلت ما الذي يحبب ّ
نستطيع اآلن أن نرفقها ونلطفها ،فإننا نحتاج إىل أشياء كثرية صعبة املنال .فإذا قلت
وما تبتغي نساؤكم من رقتها ولطافتها؟ قالوا التزين والتربج فيحسن يف عيوننا .فإذا
قلت هل كن قبل هذه األزياء أقل حسناً من اآلن؟ قالوا ال فإنَّ الحسناء متتاز بحسنها
والعاقلة بعقلها والفصيحة بفصاحتها يف كل وقت وبكل زي.
يا أيها الرجال إنكم تجارون النساء وتوافقونهن يف اختيار األزياء الفرنجية
وترغبونهن فيها ،ألنكم متدحون لطافتها أمامهن كأنكم تحبونها أكرث من أن تحبها
أزواجكم.
إنكم لتحبونها وتحبون معها تلك املشارب واملآكل التي ال يسعكم أن تحصلوا
عليها إال ببذل ما هو أعظم من وسعكم .فإنْ عوتبتم نسبتم الحمق والنشوز إىل
نسائكم.
اتركوا عنكم هذه األعذار واقتدوا بالعثامنيني حكامكم الذين يزينون منازلهم
وعقيالتهم بنسائجكم وأنتم تكرهونها وتتربأون منها مع أنكم أوىل بها من سواكم.
يا هذا كيف تشوق الناس وترغبهم فيام تصنعه لهم وتصفه أحسن وصف وتؤكد
وتحلف ،وأنت متقته وتجتنبه يف الفرش واللبس وال تريد أن تبرصه يف غرفتك وال أن
متسه زوجتك؟ أليس من الحكمة أن تسعى يف ترويجه بنفسك وبامرأتك وبناتك؟ إذا
كانت قرينتك حسناء ولبسته راق يف عيون جاراتها فأقبلن عليه فيزداد ربحك من
جهتني .األوىل اعتياضك عن نسائج أوروبا السخيفة الغالية مبا تصنعه أنت وتنسجه،
والثانية ترويجك سلعك وبضاعاتك.
عد من جهلك يا هذا ،إنَّ األمة التي ال تقوم بحاجاتها هي قارصة وعاجزة ،واألمة
التي تقدر عىل القيام مبا تحتاج إليه فال تقوم به بل تقرص يدها عنه ومتدها إىل أمة
غريها ،هي جاهلة غلبها جهلها وحمقها فال نصيب لها من العزة واملروءة ومن العمران
واالرتقاء يف معارج الفالح ،فتموت بجهلها وحمقها ،من غري أن تتدارك برأفة رحمة،
فإنَّ انقراضها وتالشيها خري لها من منوها عىل هذه الحالة الدنيئة القبيحة ،وذلك ليك
132
ال تجني عىل أبنائها الذي ينشأون عىل جهلها وحمقها ،وإال فهل ُسمع بأمة اشتهرت
بإتقان النسائج مث ًال التي هي سبب حياتها ،فرتكت استعاملها بنفسها واستعملت
مصنوعات أمة غريها ترويجاً لها بيدها ،ففرشتها ولبستها وكرهت مصنوعاتها ألنها
أقل لطافة من تلك ،وهي تلوم الزمان وتذم األيام والليايل التي جعلت سلعها بائرة
وليس من يسأل عنها؟
أي جهل أفظع من هذا الجهل وهذا الحمق والجنون! إنَّ هذه األمة ال تستحق
الرحمة إال من وجه واحد وهو الجنون ألنها ال تدري ما تعمل.
إنني ال أنصحكم وال أحضكم وأحذركم ،فقد انتبهت اآلن وعلمت أنَّ الله تعاىل
عكس عقولكم عقاباً لكم ،ولذلك ال تستطيعون االنفكاك عن جهلكم وضاللكم فإنكم
رصتم إىل حالة ال متيزون بها خريكم من رشكم.
لريحمكم الله ،لينظر إليكم أنتم الذين تجرون عىل نفوسكم بأيديكم .أنتم يف
نظري بحكم األموات ،مثل الجامد الذي تكلمه فال يشعر ،مثل الجبل الراسخ فال
يتحرك ،وإال قلت لكم انتبهوا وتيقظوا وافهموا ما أقول .أقول رشفوا مصنوعاتكم
بنفوسكم وروجوها عليكم أوالً ،وج ّدوا يف تحسينها وترقيتها ليك يقبل الناس عليها
فرتبحوا أكرث مام تنفقون ،وهذا هو العيش الهنيء الرغد ،ال تهملوها وال تزهدوا فيها
فإنَّ اإلهامل يزيلها مع أنكم ال تجدون بني أيديكم حرفة أخرى تضاهيها.
هذه هي الحرفة التي حسدكم عليها األوروبيون فكدوا وج ّدوا أعواماً يف سبيلها
حتى أخذوها عنكم ،وقد كانوا يلجأون بها إليكم فاستغنوا بها وقد كانوا فقراء.
اليوم أنتم وسكان أوروبا يف حرب فجاهدوا يف سبيل أموالكم وال ترجعوا
ال َقه َقرى .استغنوا عنهم وال تلجأوا إليهم فإنهم بذلك أعداء لكم .أليس من الذل
أن تقعوا بني أيديهم؟ ج ّدوا ومارسوا وزاولوا فتتسع دوائر عقولكم فتخرتعون كام
اخرتعوا وترثون كام أثروا .وال تقولوا سبقونا مبراحل ،لقد كنتم السابقني فأدركوكم
فتعلموا منهم وخذوا عنهم .تعلموا كيف أدركوكم وبأية وسيلة صاروا أمامكم .هم
برش مثلكم فكيف يهولكم سبقهم؟ جدوا وثابروا وأثبتوا ترتقوا ويعد إليكم مجد
آبائكم وأجدادكم.
هذا ومن املقرر أنَّ تلك املآكل واملشارب واملالبس ليست تض ّيع األموال والرثوات
فقط بل ترض األبدان ،فإنَّ منها ما ال يوافقكم أكله ورشبه فيحدث فيكم عل ًال وأمراضاً
ما عرفتموها .ومنها ما ال يناسب وال يوافق لبسه فيضعفكم .وال يخف عليكم أنَّ يف
133
بعض األلوان ما هو سام ،وال تنسوا أنَّ كثرياً منها مع ٍد فتتعادون.
اتقوا الله تعاىل وارحموا أبدانكم وأموالكم ،وال تجعلوا نفوسكم عبيداً لشهواتكم،
وال تكدوا لتقدموا إىل غريكم مثرات أتعابكم وتشرتوا بها التعاسة والشقاء لكم
ولنسائكم وألوالدكم ،إنكم لفي ضالل مبني.
134
قيمتها العروسان فيام بعد أو مل يضطرا فهي معدودة من الدنانري املروزة((( والدراهم
والس ُّتوق((( ،فإنك إذا
النقود بخالف تلك املرصعات التي هي عندي كالزائف والبهرج ُّ
اشرتيت مرصعة منها مبئة دينار مث ًال وبعتها بعد أسبوع أضعت ربع قيمتها أو أكرث.
ومن الشبان من يقدم من هذه الحيل ما هو أكرث من استطاعته طلباً لألبهة
واالشتهار بالعظمة ،فيبيعها قبل انقضاء أيام العرس ويدفع قيمتها إىل الدائنني
الواقفني له يف طريقه ،فينكرس قلب عروسه ويعرتيها الهم والغم وهي مل تزل يف ليايل
عرسها وأيام أفراحها ،فإذا سألها والدها عن سبب نحولها كتمت األمر لئال يوبخها
عىل اختيارها رجلها ،فتحمل الوالدة هم بنتها وبداخلها من الكرب والحزن ما يقلقها
ويقلق أقاربها ومعارفها فيكون األب اشرتى العذاب لنفسه ،ولن يلوذ به بتلك البائنة
التي مل تكن ثروته تسمح له بدفعها.
وملا كانت هذه البائنة أمست شائعة بني املسيحيني ال يستغنى عنها ،اضطر
الرجل أحياناً إىل إعطاء ما هو أكرث من اقتداره ليخفي عىل الناس حالته ويحافظ
عىل سمعته املالية ورشفه ،وأنت تعلم ما يف ذلك من الرضر اآلجل والعاجل و ُر َّب
بائنة تسببت بإفالس.
ولقد رأيت كثريين من الشبان تقاعدوا عن التزوج رعاية ألخواتهم القامئات بني
أيديهم ،وذلك ألمرين األول ألنَّ الشاب ال يستطيع أن ينفق لو تزوج عىل عياله
الخصوصيني وعىل شقيقاته اللوايت غدون بعد والده عياالً عليه ورصن له الهم األعظم
(ألنَّ الناس ال يرغبون يف صهر عنده معارص((( وعوانس ال يخرجن من بيته) فيجود
عليهن بالدرهم الوضاح ليرصفنه عىل األزياء عىس أن يرشد الله تعاىل طريقهن .واألمر
الثاين ألنه ال يريد أن يكدرهن بتزوجه ،فإنَّ لهن حقوقاً إذا سكنت عنها تأدباً وصيانة
تعلقت بها جوارحهن ،وهذه الفعلة أعدها مأثرة لذلك الشاب الهامم الصالح.
أقول :فلام علم الشبان من التجارب أنهم ال يستطيعون االقرتان لكرثة النفقات
أخذوا يتزينون كالنساء ويتظاهرون بخالف حقيقة أحوالهم األدبية واملادية معاً،
135
وذلك ليك يحلوا يف عيون الفتياتَ ،ف ُي ْك ِرهن اآلباء بواسطة األمهات عىل دفع البائنات،
فتدخل الفتاة بني جامعة تباين جامعتها يف العادات واألخالق ،ألنها اضطرت إىل تزوج
من مل تكن فيه كفاءة لها منقادة له بحكم ذلك االضطرار ومغرتة بظواهر الزواج أيضاً
فيتخالفان يف الغالب ،فإما أن تصرب الزوجة كرهاً عنها ،وإما أن تعرض نفسها لإلهانة
ويف كال األمرين غم للجامعتني وكآبة.
وأقول أيضاً :ملا كان دخل الشبان أقل من خرجهم أحجموا عن االقرتان ،عىس أن
تنفتح لهم أبواب الفرج فيميض الزمان عليهم وهم ال يزدادون إال تأخراً ،فريسلون
العجائز والد ّالالت يف طلب البائنات ،فاللوايت بائناتهن أكرث من غريها يتزوجن قبل
سواهن .فأمىس الفتى اليوم ينظر إىل البائنة وال ينظر إىل األدب وحسن الخلق والبنية
والظرف .وقد علمت أنَّ كثريين يتزوجون عىل غري رغبة منهم ومن غري أن تكون يف
قلوبهم محبة للزوجات فريتاحون بعد ذلك إىل غريهن ممن يحبونهن فيدخل النزاع
والفساد يف األرس.
وهنا أمر يجب االهتامم به ،وهو أنَّ الجامعات التي اشتهرت بالحسن ُفقد منها،
ألنَّ الفتى الحسن الذي كان قب ًال ال يقرتن إال بحسناء مثله أمىس يف هذا الزمان ولده
الذي هو أحسن منه مضطراً إىل حرمان نفسه غادة يصبو إليها ألنها ليست بذات
بائنة.
واألرس التي كانت معروفة بالبنية القوية حرمتها بدخول الضعيفات بينها
ببائناتهن .والتي كانت موصوفة بالذكاء أضاعته أيضاً وقس عىل هذا غريه.
وقد أبرصت كثريين تزوجوا فتيات عليالت خفيفات العقول ،فمألوا بيوتهم مرىض
ومجانني من الذكور ومن اإلناث الاليت ليست لهن بائنات فكانت املصيبة عظمى.
ولكن من يقدر املصاب ويحرتز منه قبل الوقوع فيه؟ عىل أنَّ آباء هذه اإلناث أدركوا
بعد ذلك أنهم وقعوا يف رش مام كانوا يخشون من زيادة الدخل عىل الخرج ،ألنهم
لو كانوا تزوجوا غادات عاقالت ممن ليست لهن بائنات وعاشوا قانعني باليسري من
دنياهم ،ألتت البنات مثلهم ومثل نسائهم فيجدون لهن رجاالً مثلهن غري مرثين ،فإذا
مل يجدوا تخلصن من املرض والجنون ويف ذلك ربح عظيم لهن ولهم.
وأقول :ال ريب أنَّ الفتاة املطمئنة ببائنتها ال تهتم إال بالتزين والتصنع والتشبه
لتظفر بأحسن شاب يف مدينتها عىل زعمها ،فال تسأل عن التأدب والتهذب وال عن
واجباتها التي أهمها معرفة تدبري املنزل .فإذا تزوجت فال متس شيئاً بأصبعها .فإذا
136
عوتبت قالت مث ًال :أنا سيدة ولست بخادمة ،وقد أجدت((( بعيل ألف دينار فليدفع
أجر الخدم .وهذا كالم م ّر املذاق يصدع القلوب فيقع الخالف والرش والفساد يف
األرستني .هذا ومن املعلوم أنَّ الجارية إذا عنست مل تسلم من علة تنجم عنها يف
الغالب حالة عصبية تنتابها .بقي عيل أن آيت عىل وصف الفتيات اللوايت ال بائنات
لهن .فأقول :إنهن تأملن حاالتهن وقلوبهن منكرسة ال جابر لها فرأين األوىل بهن أن
يعتمدن عىل التعلم والتهذب ،فرتى منهن غواين حكيامت امتزن بالعفاف والجامل
معاً وبكل ما يطلب منهن ،فالواحدة هي الطباخة إذا تزوجت والخياطة والخادمة
واملشرية واملواسية ،وهي األمينة املتفانية يف حب قومها واملجتهدة يف تنجيحهم
واملشاركة رجلها يف غمه ،واملخففة عنه مصائب دنياه بطالقتها وعذوبة بيانها
ونباهتها ،والفاتحة أبواب االقتصاد التي ال يهتدي إليها الرجل ،واملشجعة له بثباتها
ورسوخها .وترى منهن من هن أعقل من رجالهن فريشدنهم بحكمتهن وسداد آرائهن
إىل سبيل الفالح والعمران ،ونحو هذا من املحامد واملحاسن التي تجعل أزواجهن
وعيالهن يف نعيم أريض أي يف راحة ودعة .ولكن أين الشبان الذين يقدرون قدرهن؟
إنك ال تجد منهم إذا فتشت إال عدداً قلي ًال ال يذكر لقلته.
إن الله تعاىل إذا حكم يف الزهرة عىل رجل وامرأة بأن يفقرا يف األرض ،ورأى منهام
صالحاً أو من أحدهام ،أراحهام ورمبا أراح أيضاً أقاربهام املحكوم عليهم بالفقر إذا
مل يكونوا أرشاراً.
لقد علمتم يا أيها الشبان أنَّ البائنات كثرياً ما كانت وباالً عليكم ،ألنها أذهبت
شيئاً مذكوراً من محاسنكم ومحامدكم التي كنتم تفاخرون بها وتنافسون فيها
املفاخرين واملنافسني .وألنها أزالت عاداتكم ومزاياكم الكرمية املوروثة عن آبائكم
الذين أضاعوا النفوس والنفائس يف إثباتها وتعميمها.
ليعش كل منكم بقدر ما تسمح له ثروته ،وليخرت له فتاة كرمية األخالق جامعة
الرشوط املطلوبة للمرأة الصالحة الفاضلة .لتكن مناسبة له .ال يزعم أنَّ رشف الرجل
يأتيه بتزوجه امرأة من قوم أعىل وأكرم من قومه .إنَّ من يبتغي رشفه من زوجته
يعرتف لنفسه بالخسة .ليطلب الرشف بجده إذا كان يعلم ما هو ،وإال فليسأل عن
تعريفه ،وليطلبه بحسن سعيه وبصالح أعامله وبالفضيلة والقناعة والكرم ،ليطلبه
1ـ أجاده دره ًام :أعطاه إياه .وأجاده النقد :أعطاه نقوداً جياداً.
137
باملحبة أيضاً .وبهذا القدر كفاية ملن يسأل عن الرشف.
إذا أردتم يا أيها الشبان أن يكون أوالدكم رجاالً مهذبني كرام الطباع صالحني،
فاطلبوهم من الفتيات الصالحات اللوايت ذكرتهن ووصفتهن ،ويف هذا الطلب
إصالح العيال والوطن وفيه العيش الهنيء الطيب من غري كد مرض وكدح مضنٍ .إنَّ
املرأة الصالحة هي الحياة الطيبة والزكاة وهي الغبطة والطوىب والحسنى والنعمى
والسعادة األرضية كلها.
1ـ مأخوذ من متويه النحاس أو الحديد إذا طاله بفضة أو ذهب .والطالء كل ما يطىل به.
2ـ حجلت املرأة بنانها :لونت خضابه.
3ـ اغتمست املرأة :غمست يدها خضاباً مستوياً من غري تصوير.
4ـ وضع يف تجارته :خرس ومل يربح.
138
وعار ،فأقدموا وكابروا يف اإلقدام حتى تعبوا وأعيوا وك ّلوا وم ّلوا ،وبعد ذلك هموا
باإلحجام فسقطوا وانقطعوا عن املسري أو عن الرسى يف كل ليلة مظلمة فانظر ترهم
يف الطريق يسكعون(((.
ومن البضائع الحديثة األوروبية التي كان لها النصيب األعظم والسهم األوفر من
الرواج هي الطالء املعروف عندهم بحسن يوسف وسائر أنواعه ،مع أنَّ أجدادكم
كانوا جهدوا يف مالشاته وكف املرضات بإزالته ،فأعاده التمدن الحديث ولكنه مل يعده
كام كان يف قديم الزمان ،بل أضاف إليه مواداً سامة تفننت وتنوعت يف األرضار ،حتى
كان تأثريها رسيعاً فسلبت ماء الوجه النقي الشفاف الرائق ،فخشنت برشته وجفت
وتقلصت بعد نعومته الطبيعية ونضارته ورقته ،فأمىس الناظر إليه وهو بغري طيل
يظن أنه يبرص وجه ميتة ال حياة فيها ،فكان الطالء جناية عظيمة عليه .هذا كله عدا
العلل واألمراض التي تحدث فيه عيوباً تنتقل من األمهات إىل أوالدهن.
أقول :وقد علقن بحسن يوسف وأرضابه وشغفن وافتنت حتى رصن يف جنون
مام يف قلوبهن منه ،ومن املعلوم أنَّ اإلنسان إذا أفرط يف يشء وجن به ال يرى عيبه،
ولذلك جعلن فوق وجوههن وجوهاً أخرى من الجص ،وخفني وجوههن الطبيعية
عن الناظرين ،كأنهن يعتقدن قبحها وشناعتها فلم يربزنها خج ًال واستحياء مع أنها
ليست كام يزعمن.
يا ليتهن أدركن أنهن أردن التحسني وبالغن يف طلبه فصار بهن إىل ضده .أال ترى
أنَّ الناظر إىل بنت الثالثني يظنها أربعينية؟
إال أنني ال أنكر أنَّ بعضهن برعن يف الطيل فحسنت وجوههن يف عيون األغرار،
ولكن هذا الحسن رسيع الزوال وسيعلمن ماذا يكون منه .ومن األمور املستغربة أنَّ
الشبان يعلمون أن التمويه مرض ويقولون بقبحه ،ويعقلون أنَّ الفتيات يغششنهم
ويخدعنهم ويستجهلنهم وهم ال يبالون ،وال عجب يف ذلك ألنهم يقرتنون بالبائنة ال
بالفتاة .ومن املدهش أنَّ الرجل يرى لبنته وجهني أي إنه يبرص وجهاً للناس مزيناً
ووجها آخر له ،ويف كليهام فرق ظاهر فلو أمكن أن يرى الوجهني يف وقت واحد لحار.
فأنصح األمهات أن مينعن بناتهن ،ألنهن إذا م ّوهن ولو أياماً فال يستطعن بعدها
ترك التمويه لرسعة تأثريه يف بعض الفتيات أكرث من غريهن ،فيتكلح الوجه ويكمد
1ـ سكع :مىش مشياً متعسفاً ال يدري أين يأخذ يف بالد الله ّ
وتحي.
139
ويتشنج ،فيفضلن إذا تركن الطالء العود إليه وهن كارهات له ألرضاره ،وكل مرض
مكروه.
عىل أنني أمدح العقيالت العاقالت والفتيات املهذبات اللوايت يتزين باآلداب
والفضائل وترتيب املنازل عىل فنون صحية ،وأمتنى لهن الثبات بل أرجو أن يكرثن من
زينتهن هذه التي متأل بيوتهن خريات وسالماً.
ويف الختام ألتفت إىل ذلك الرجل وأنا مشمئز منه ،وهو الشيخ الجاهل واألحمق
املتصايب((( والغبي املستصبي((( املتهتك الغاوي الخالع العذار ،املنهمك يف الغي ،املتبع
هوى نفسه وامللقي عنها جلباب الحياء ،الذي ما برح حب الغواين يدلهه ،والذي مل
يخصه الله تعاىل مبزية ميتاز بها عندهن ،فخضب شعره ليحسن يف عيونهن ،فينظرن
إليه ويعطفن عليه ويرحمن شبابه الكاذب ،إنه ليكذب عىل نفسه ،وإنهن عنه
ملعرضات وبه هازئات ومنه ساخرات وله كارهات وعليه ضاحكات.
تصبي الشيخ مهام تكن
(((
ويا أيها املس ّود شعر وجهه ،اعلم أنَّ الحسناء الغيداء ال ْ
عنده من مزايا .غري أنه رمبا امتاز عند املليحة الطامعة يف مدحه لها ليشنف أذنيها
تصبيك وأنت شيخ شائب مخنث تتزين بوصف محاسنها فتطيب نفسها .فكيف ْ
بخضابك ،بل تريد وتحاول أن تتزين وتتحسن بصقل شعرك ،فتجلس أمام املرآة يف كل
يوم ساعات تخضب وتقنأ((( كل شعرة من شعرات رأسك وعذارك وشاربيك ولحيتك؟
ملاذا تنكر التطلية عىل املرأة وهي أحوج منك ومن كل الرجال إىل التحسن وال
تنكر خضابك كأنك تود لو أنك متوه عىل الناس وتلبس ليغفلوا عنك؟ فام مثلك إال
مثل الفاطر املتظاهر بالصيام ،فإذا عرض له مفطر مثله اندفع عليه بالتبكيت واملالم
والخصام .فإذا قلت إنَّ التمويه مرض بالبرشة قلت لك إنَّ الخضاب مرض باألعصاب
إرضاراً عظي ًام.
إنَّ الرجل األيب الكريم النفس أجل وأعظم من أن يتقرب إىل الحسناء بخضابه ،وما
الخضاب إال كذب ظاهر وعيب دائم.
140
الفصل الثاين عرش منه
_ يف اختيار الزوجة _
قال والدي :إنَّ يف الزهرة رجاالً من أعاظم الرجال ،ليس عليهم إال أن يدققوا
ويبحثوا عن أقرب األسباب التي تزيد يف راحة األهايل وسعادتهم .ومن جملتها أنَّ
كل مدرسة تطبع يف كل عام كتاباً توزعه عىل جميع الخليقة ،فيه ملخص الشهادات
التي يدفعها األساتذة إىل التالمذة فيقرأونها بتأنٍ وتدقيق ،وعندما يريد الشاب أن
يخطب امرأة ويريد أن يعرف منزلتها من املعارف والعلوم والفنون املنزلية وغريها
من اآلداب والفضائل التي هي أفضل ما ينظر فيه ويسأل عنه ويهتم به ،يرجع إىل
الكتب املذكورة ويدقق فيها مع قومه وأصدقائه عاماً فعاماً ،وكذلك الفتاة فإنها تنظر
أيضاً وتدقق مع أهلها.
وهذه الكتب يف غاية اإلحكام واإلتقان خالية من الزيادة والنقصان ومن التعقيد
والتأويل والتلبيس واإلبهام ،كلها بيان وترصيح يف بيان وترصيح ،مل ترم بشائبة
االنحراف والتزلف ،ألنَّ األستاذ ال يستطيع أن يفضل تلميذاً عىل غريه إذا مل يكن
يستحق التفضيل .ولذلك ينفرد بنفسه أياماً ال يرى فيها أحداً ليك ُيحكم وضع كتابه،
فإذا انحرف ُطرد وعوقب .وعليه فقد رأينا هذه الطريقة أعدل من غريها وأقرب من
سواها إىل الحقيقة ،إذا مل أقل هي الحقيقة بعينها بنت التحقيق والتنقيب فنعتمد
عليها كلنا يف اختيار الفتيات والفتيان.
فإذا كان الفتى والفتاة متجملني باملزايا والفضائل والرصانة ،فال رضورة لشدة
التدقيق عن أحوال فصيلتهام وثروتهام .فيا ليتكم تقتدون بنا أو تتشبهون ألننا بحثنا
أكرث منكم فعلمنا بالطبع فوق ما تعلمون .وملا كانت غايتنا نقية رشيفة كنا مطلقي
الحرية يف اختيار األصلح غري مقيدين بقصد يراد به خري خصويص ومنفعة شخصية.
أما أنتم فيجب عىل الفتى منكم أن ال يغلب عىل عقله هواه يف اختيار الفتاة
ليعلم علم اليقني أنها تصلح له ،وأنه يصلح لها وتناسب أخالقه أخالقها وتناسب أرسته
أوالً ،فإذا غلبه هواه فقد حكم عىل نفسه بأن يسقط عنه حق التمييز واالنتقاد.
فليصغ يف ذلك إىل حديث والديه اللذين ال يتمنيان له غري الخري ،وال يقل إنني أبعد
ليعلم ويعتقد أنَّ
ْ نظراً منهام لكرثة علومي ومعاريف وغزارة ماديت وذكايئ ودهايئ.
والدته املسنة ن ّقادة ال يستطيع الحكم أن يضاهيها يف نقد بنات جنسها.
141
ليخرت له فتاة رصينة رزينة ،أبية متينة العقل قوية الجسم صحيحة البنية ،لئال
ميأل منزله أوالداً مصابني بالعلل والجنون والعاهات .وليخرت له أيضاً امرأة مزينة
بالقناعة عارفة برتتيب املنزل لتكون سيدة وخادمة ومرتبة ومشرية .لتكن جميلة أو
كام تقولون خفيفة الدم قريبة من القلب.
بالتكب
ّ ولتكن دمثة األخالق غري مشاكسة وال مكابرة .ولتكن متواضعة غري معيبة
ّ
والتعظم فتضطر إىل اإلرساف .ولتكن صادقة يف حديثها نقية القلب يف ذكاء ونباهة.
ولتكن قادرة عىل التصرب والتحمل.
ولتكن يا أيها الشاب مثلها .فإذا كانت هذه الصفات يف فتى وفتاة فهام الضالة
املنشودة والغاية املقصودة ،بل ُيكتفى ببعض هذه املزايا فإنَّ كل واحدة منها بفتى
وفتاة .أما التزوج فليكن يف السنة الخامسة والعرشين.
142
ليضع للحبميدها فقد التزم .فإذا نقض عهده لغري علة مانعة غدر والغدر قبيحْ .
حداً لئال يفيض به إىل العشق والهيام فيشغله عن حب الله تعاىل وعن الفضائل
والسعي الحسن وراء مصلحته وشغله.
لينظ ْر إىل نفسه وميتحنها فإن كان شديد الغرية فال يحسن به أن يحب إال الفتاة
التي هي أقرب من غريها إىل حب االنفراد واالعتزال عن الناس ،والتي ال تشتهي
املعارشة واالختالط ،وإال فقد ظلم زوجته وظلم نفسه ألنَّ الغرية الشديدة مجلبة
لشقاء الزوجني.
يزعم هذا الرجل أنه إذا بالغ يف الحرص عىل بعلته التي تحب العرشة صانها .لقد
أخطأ ،فإنَّ الغرية الشديدة تحمل املرأة عىل اتباع ما ال تحسن عقباه.
ليتجنب كل ما
ْ ليكن املحب يف حرضة خطيبته أديباً رصيناً غري مكرث من املزاح.
ال يحمد املرء عليه ،فإنَّ املخطوبة تقتبس غالباً من أخالق خطيبها .وليعلم أنه يجب
عليه أن ينتقي له فتاة ستكون أماً ألوالده ورشيكة لحياته يف حزنه وفرحه.
إنَّ كل شاب من سكان الزهرة يريد أن يخطب امرأة يلزمه أن يقدم إليها هدية
لطيفة من عمل يديه إن كان من أرباب الصناعات ،أو مثاراً أو حبوباً ،وذلك من
حدائقه وأراضيه إن كان من املشتغلني بالزراعة والفالحة ،أو كتاباً يؤلفه إن كان
من الك ّتاب أو نحو ذلك مام يربهن عن متكنه من املعارف االخرتاعية أو األدبية أو
الصناعية أو الزراعية ،فيعلم اقتداره وجدارته أو سبقه وبراعته ،وإال فال خطبة وال
عروس وال امرأة ألنه ال يجد فتاة تقرتن به إذا مل تكن له مزية .وبناء عليه تكون املرأة
التي يخطبها الرجل عىل ثقة من كفاءة خطيبها يف حارضها ومن حسن تقدمه ونجاحه
يف مستقبلها .وهي أيضاً تتحفه تحفة من عمل يديها تدل عىل مهارتها وإتقانها.
قال :وأما أنتم وبناتكم فال تردون طالباً وال تدققون يف البحث عنه ،فتدخل
العروس بيت بعلها حينام تهدى إليه وقلبها يرتجف .إنكم قد استمسكتم مبثلكم
العامي وهو «تزوجوا فقراء واملغني الله» ومل تفقهوا معناه الحقيقي ،كأنَّ املقصود
منه ال متنعوا مطلوبة عن طالب ،فال تستثنون الكسالن وال املخنث وال املقامر وال
الجاهل وال السكري ...بل ال تستثنون أحداً من الدميمني واملذمومني.
ثم قال :إنَّ مدة الخطبة عندنا ثالثة أشهر ال أكرث ،فحينام تنتهي يهدي الشاب
إىل خطيبته باقة زهر .أما والدها فيصنع لها ثوباً من الكتان األزرق .وهذا هو املهر
والجهاز واملقدم واملؤخر.
143
الفصل الرابع عرش منه
_ يف املالبس والحيل والهدايا من الزهر _
قال والدي :يذهب املدعوون إىل األعراس والوالئم والدعوات وهم بأكسيتهم
العادية رجاالً ونساء أغنياء وغري أغنياء ،ألنهم ال يلبسون القديم البايل وال الوسخ
من الثياب .وهم كلهم مع اختالف طبقاتهم وأحوالهم ال يلبسون غري كساء واحد
من الكتان البنفسجي وذلك يف الفصول األربعة ،ال يزيدون وال ينقصون ألنهم عودوا
أبدانهم لبسه وحده فال يشكون به برداً وال حراً ،وألنَّ فصولنا ال تتغري إال قلي ًال .هذا
وكل واحد وواحدة يكتفي بثوبني فقط كام علمت .فالغنية ال تُعاب ألنَّ ثوبها كثوب
جارتها التي هي دونها بل ُتدح .عىل أنها تُعاب إذا كان وسخاً.
ومن العادات املستحسنة أنَّ القضاة ال يسمحون بأن ينسج نسيج أفخر من
الكتان ،فإذا نُسج عوقب الناسج وإذا ُلبس عوقب الالبس أيضاً ومنعا.
مالبسنا عريضة يدخل إليها الهواء ويخرج منها فتقوى أبداننا وتتحسن ،أما الزي
عندنا فواحد للنساء والرجال ال ثاين له ،غري أنَّ املرأة تتميز عن الرجل بخامرها.
أما الحيل عندنا فنوعان تضعهام املتزوجة عىل كتفيها لتعرف أنها ذات بعل،
وهام من خشب براق تجمعت فيه أحاسن األلوان ،له رائحة طيبة تقوي البدن
وتطيبه ونحن نتقن صوغهام وصنعهام إتقاناً عظي ًام.
إنَّ املرأة عندنا ال تتقرط وال تتقلد قالدة وال تتوشح وال تتختم خامتاً وال تتسور
سواراً...
قال والدي :إننا ال نتهادى يف الزهرة بغري األزهار التي راقت وطابت ورقت
روائحها ولطفت ،فال تؤثر يف أعصابنا ونحن نعتني بها اعتنا ًء شديداً ،ونباهي بها
يف مجالسنا ونتنافس ،هذه التي عرفنا كيف نجمع بينها ونؤلفها ونستخرج ما هو
أنفس منها ،وعرفنا كيف نحدث أزهاراً تأخذ مبجامع القلوب رقة وبهجة ونرضة فهي
أحب يشء ندخره للمهاداة .منها ما هي عىل هيئات لطيفة من الخلق والطري وسائر
الحيوان ،ومنها ما تقدم يف األعراسُ ،كتب عليها ما معناه «لكام التهاين بطول العمر
يف صحة ورفاهية» ومنها ما ُيهدى يف الوالئم والدعوات مكتوبة عليها عبارات رقيقة
تناسب واقع الحال .إال أننا نجتنب الزهر التي تكرث فيها األمراض السامة املعدية.
144
الفصل الخامس عرش منه
_ يف البضع((( واالقرتان والعرس _
قال والدي :يذهب الخطيبان وأقاربهام إىل أحد املعابد يف وقت واحد من
األوقات املعدة للصلوات ،فتدخل كل جامعة من الجامعتني يف باب من أبواب املعبد
وذلك يف دقيقة واحدة ثم يصيل الجمع الصالة اليومية .وبعد نهايتها يقف الخطيب
واملخطوبة تحت كلمة «الله» وتحت الكلامت األربع التي عرفتها ،فيقول القايض
وهو عىل كرسيه« :إن فالناً وفالنة الحارضين (ويشري إليهام) يقرتنان فأنصفوهام من
نفوسكم ومجدوا الله تعاىل بصدقكم متجيداً» .ثم يسكت دقيقة ويقول« :إنَّ فالناً
وفالنة الحارضين بني يدي الله سبحانه وتعاىل يقرتنان ويفلحان ويزرعان يف كرمه
ويخرجان مثرهام بإذنه تبارك وعال فأنصفوهام من نفوسكم وال تخفوا ما يف قلوبكم
جل جالله يعلم الخفيات» .ثم يسكت فيقول الجمع« :فليباركهام الله تعاىل». إنَّ الله ّ
فإن كان ال يجوز لهام أن يتزوجا لعلة من العلل املانعة كالقرابة الدموية،
أو كارتباطهام أو ارتباط أحدهام بعهد ملزم ،أو كوجود علة يف بدنهام أو يف بدن
أحدهام ،أو كوجود ريبة فيهام أو يف أحدهام ،وقف من له علم بذلك ومد يده ،فيأمر
القايض حاالً بانرصاف الناس فيذهب الخطيبان إىل منزلهام ،وبعد هذا يفحص القايض
عن مسألة املنع ،فإن كان مثة ما مينع من االقرتان وهو قليل نادر الحدوث أثنى عىل
املخرب وعىل املخربين إن كانوا كثريين وذلك يف املعبد علناً بعد نهاية الصالة التالية،
ووعدهم بحسن املكافأة وهو ال يخلف وعده.
فإن مل يثبت االدعاء باملنع وكان يف األمر سهو ،وبخ القايض املخرب علناً وتلطف
بالعروسني واعتذر إليهام واىل جامعتهام .فإن كان املخرب تعمد الكذب أمر القايض
بأن ُيخرج ،وأمر الحارضين أن ال يجالسوه مدة يعينها لهم .فيخرج حاالً فينزوي
ال يكلمه أحد وبعد نهايتها يحاكم وينزل إىل األرض إال إذا كان به جنون .ثم مييض
العروسان وأهلهام بعد أن يباركهام الحارضون مرتني ،ويذهبون إىل دار الشاب
فيهنئونهام ويدعون لهام بالنجاح والتوفيق .ثم تجز األزهار الطيبة الروائح وتدار
بأطباقها البلورية النفيسة عىل الجالس فيأخذ كل واحد زهرة.
145
وبعد نصف ساعة ترد أطباق أخرى زاهية بالنقاوة والنظافة ،عليها فاكهة طيبة
الك َّم ْ َثى غري أنها ألذ بكثري ،فيأكلون ثم ينشدون نشائد أدبية حامسية شهية كأنها ُ
تُذكر فيها مشاهري رجالنا ،وكذلك النساء فإنهن يف نشائدهن يذكرن الشهريات منهن
فيطربون جميعاً طرباً عظي ًام.
وبعد نصف ساعة ُيدار عليهم عصري العنب وهو ابن ساعته يف كؤوس تكاد
تبتسم يف وجوه الشاربني من حسن نقائها وصفائها .وبعده يأتون بذلك الرمان الشهي
الذي كله لذاذة يف طيبة وحالوة فائقتني والذي ليس له عجم((( ،والذي تقدر كل حبة
منه بعرش حبات من رمانكم ،والذي يختلف بعض ألوانه الزاهية الفائضة بالنور
عن بعض ،فإنك تبرص يف كل رمانة ألواناً كثرية .وبعد هذا ينرصفون .إنَّ املدعوين يف
املنزلة سواء فال يفضلون أحداً عىل غريه.
1ـ العجم :نوى كل يشء أي ما كان يف جوف مأكول كالزبيب وما أشبهه ,الواحدة عجمة.
146
الباب السادس
147
الفصل األول من الباب السادس
_ يف طبقات العباد _
قال والدي :إنَّ الخليقة عندنا طبقتان .األوىل القضاة والثانية الص ّناع وال ّزراع .أما
الخدمة فال نعرفهم ،أي ال وجود لهم عندنا ،وأما طبقات البرش يف األرض فثالث :األوىل
امللوك والعلامء والكهنة وأرباب السياسة والق ّواد والحكام وكل محام صادق .وهم
يرعون األمة ويعلمونها ويهذبونها ويرقونها ويرشدونها إىل سواء السبيل ،ويهدونها
ويكفون عنها مطامع أعدائها ،ويحكمون بينها وينصفون ويدافعون عن حقوقها
ولذلك لهم املنزلة األوىل .والطبقة الثانية هم الص ّناع وال ّزراع غري املعرضني للفقر
الذين تحتاج إليهم الطبقات الثالث مع أنهم أقل احتياجاً منها إليهم ،وهم أكرث صدقاً
وأعظم قناعة وأشد مروءة وأطيب قلوباً وأصفى رسائر وأقوى أبداناً من جميع البرش،
ثم يليهم التاجر الذي يعيش بفضلهم ألنه ليس إال ناقل املصنوعات واألقوات وبائعها،
والطبقة الثالثة السوقي أي التاجر الصغري والخادم.
148
املدن من النفقات التي ترصف يف سبيل األزياء واالختالط والشهوات والخالعات .سادساً:
إنَّ القرويني قليلو االنهامك يف األمور فيمكنهم أن يتفرغوا لرتبية أوالدهم وتهذيبهم
وتثقيف عقولهم بتقوى الله تعاىل وخوفه ليكونوا يف املستقبل رجاالً صالحني .سابعاً:
إنَّ الزارع القانع املكتفي ينجو من شوائب املدنيني ونقائصهم ،أريد منها الكذب واملكر
والغش والغنب يف املعامالت هذه التي يزعمون أنها فراسة ونباهة وبعضهم يسمونها
كياسة ومهارة وبراعة .ثامناً :إنَّ الزارع الصالح الحكيم البسيط يستغني عن االستعانة
برثوة الناس فال يضطر إليهم واالستغناء عن الناس يف هذه الحالة وأمثالها سعادة أرضية
لكم .تاسعاً :إن الزارع إذا أقام بقرية طيبة الهواء تجري إليها من الجبال عيون صافية
عذبة ،وإذا جعل له حدائق وحقوالً فيها فاكهة شهية وبقول طيبة ،ونصب له كروماً من
العنب والتني والزيتون والفستق ،وجعل يف جهة منها خاليا يعسل فيها النحل ويشتار
العسل من العساالت((( ،وإذا اعتنى برتبية الغنم واملاعز والبقر والدجاج ونحوها ،عاش
عيشاً صالحاً مطمئناً ال يسأله ضمريه وال يحاسبه كأنه يف وليمة دامئة .فاميل أرى اإلنسان
بعد هذا كله يشكو ويتظلم ويتضجر؟ ومايل أسمع بعضهم يقولون لقد ضاقت األرض
بأهلها فال يكفي الرزق منها؟ أال يرون مرسة القروي العاقل الذي يستطيع أن يعيش
العيشة التي وصفتها؟ ملاذا ال يرتكون املدن وحسد سكانها ورشهم؟ وملاذا ال يرفقون
بنفوسهم ويخلصونها من املصائب والنوائب املدنية ورزاياها املتتابعة؟
ال يقل املدين إنني أعيش يف العمران يا هذا ماذا رأيت من متدنك؟ أمل أسمعك تنئ
من ثقله وأنت كام تقول متوت يف كل ساعة مرة وتعيش؟ وساعة تعيش تسري كالسكران
الذي يرسي يف الليلة الظلامء أو كاملصاب بعقله وذلك من ضيقتك التي كادت تخنقك.
أتظن أنك إذا عشت يف القرية ال تجد لذاذة أعظم من لذة املدينة؟ إين أراك عىل
جهل عظيم .اطلب من القرية حقة املدينة تجدها.
هناك الراحة والسالم .هناك الرسور واالبتهاج .هناك الخالص من رؤية الحكام
الجائرين .هناك الحرية املرشوعة .اطلب من الله تعاىل أن يوفقك إىل اله ِِج ّر((( لتقل
يف القرية آثامك وتهون عليك التوبة بها فال تعود إىل األرض بعد خروجك منها صالحاً.
يا أيها العاقل قم واخرت لك من أصدقائك املعروفني بالصدق والوفاء رفقاء وارحلوا
1ـ العساالت :جمع عسالة وهي الشورة التي يتخذ فيها النحل العسل من راقود وغريه.
2ـ الهجر بكرس الهاء والجيم وتشديد الراء :املهاجرة إىل القرى.
149
إىل قرية طيبة الهواء واملاء ،وارحموا نفوسكم وعيالكم رحمة دامئة تتبعها رحامت.
وال تقولوا إننا ال نجد بني أيدينا ما نستعني به عىل اشرتاء قرية وابتياع مواش ،فإنَّ يف
منازلكم من األثاث والرياش ما يزيد عىل احتياجكم فبيعوه وأنفقوا يف سبيل خريكم
وصالحكم ،هاجروا واتركوا الشقاء يف املدن املتمدنة بتلك املدنية الحديثة.
فإذا هاجرتم اقتدى بكم غريكم فترتكون ذكراً حسناً ينقله الخلف عن السلف .وإذا
َّتم هذا لكم فاتخذوا من اآلالت املحدثة ما تساعدكم عىل إتقان فلح األرض وبذرها
وعىل الحصاد والرجاد واملدارس ،وأوصيكم بأن تتبعوا الطرائق واالصطالحات الحديثة
التي ُأدخلت عىل علم الزراعة والفالحة عندكم ،وهذا يتم لكم إذا أدخلتم أوالدكم
إىل املدارس الزراعية ،أو إذا رغبتموهم ورغبتم نفوسكم يف قراءة كتبها واستظهارها
وعرضها((( ،ليك تسددكم إىل العمل والتجربة وحسن التكرير والثبات يف دقة ونشاط
حتى تستفيدوا وتفيدوا .وأوصيكم أيضاً بأن ال تتصدوا لحرارة الشمس إال تدريجياً إىل
أن تعتادوها ،وبأن ال تقدموا عىل العيش الخشن مرة واحدة بل تدرجوا إليه تدرجاً.
ال تجوروا عىل الحيوان بل أرفقوا به وارحموه .وال تستخدموا رجاالً غري معروفني
بالصالح وحب الفضيلة لئال يفسدوا أوالدكم .والعاقل من استغنى بعياله عن الخادم
واألجري ،غري أنَّ هذا ال يتم إال بعد أن ينشأ له أوالد قرويون أشداء.
أق ّلوا من أكل اللحوم شيئاً فشيئاً إىل أن تستغنوا عنها فتقوى أبدانكم .ال تغفلوا عن
إرهاف((( أحداثكم ذلك أن تتخذوا لهم رجاالً أتقياء ورعني يعلمونهم دينكم ويهذبونهم
ويؤدبونهم ويعلمونهم العلوم االبتدائية الرضورية ،فإذا أنفقتم عليهم أفادوكم وعوضوا
لكم بصالحهم وعلمهم أضعاف ما تنفقون ليكونوا شيوخاً حكامء ليحلوا لكم مشاكلكم
ويفصلوا الخصام حينام تختلفون .فإذا فعلتم هذا كله عشتم عيشاً هنيئاً.
ويف األخري أوصيكم وصيتني األوىل أن تعتنوا بالنظافة اعتنا ًء ال تقوون عىل أكرث
منه .والثانية إذا قال لكم أولو األمر« :إنا جعلناكم قضاة وأعضاء مجالس» .فقولوا لهم:
«إنَّ الله تعاىل مل يجعلنا أه ًال لها» .فإذا ألحوا عليكم فاستعفوهم بالتي هي أحسن
وجملوا استعفاءكم بالشكر ،وال تطلبوا النجاح والفالح من أبواب الحكومة والسياسة،
بل اطلبوهام من املحراث لعلكم تفلحون.
150
وقال والدي :لقد برع علامء النبات عندنا براعة حريت عقول كبار املكتشفني
واملخرتعني ،ألنهم متكنوا بجدهم واجتهادهم من إيجاد نباتات مل تكن معروفة يف الزهرة
قبلهم .منها أنَّ العامل الشهري املسمى «أردوم» أي إرادة الله ولد القايض «مجدوم»
أي مجد الله ،كان أوجد من زمان قديم جداً فواكه طيبة شهية ،أخص منها بالذكر
فاكهة كبرية الحجم بقدر الرحى العظيمة (وهذا عجيب وهل تستطيعون أن تصدقوا
أنَّ العامل ميكنه أن يوجد فاكهة وبقوالً وأمثاراً؟) وأعجب من ذلك أنَّ الناظر إىل هذه
الفاكهة يقرأ عليها كتابة بحروف نافرة جلية تعريبها« :أنا أردوم ابن القايض مجدوم من
مدينة القضاة يف الزهرة أوجدت بإذن الله تعاىل هذه الفاكهة النافعة للهضم اللذيذة
فاعرصوها وارشبوا عصريها فإنَّ فيه منافع لكم .أما قرشها و ُث ْفلها((( فاجعلوها سامداً
ألرضها فتجود» .وهذه الفاكهة هي املعروفة عندكم بالبطيخ األصفر إال أنَّ بطيخكم
أصغر حج ًام ،فإذا أبرصه أحد سكان الزهرة قرأ الخطوط التي عليه كالتعريب الذي
تقدم .وقد أنبت الله تعاىل هذه الفاكهة يف أرضكم حباً بكم ،وقد توصل هذا العامل
بحسن خربته إىل جعل بعض الفاكهة واألمثار يف بعضها .فإذا تناولت مث ًال جبسة ونظرتها
رأيت يف قلبها بطيخة أو تينة كبرية أو غري ذلك .وإذا مددت يدك إىل شجرة تفاح
وجنيت منها تفاحة أبرصت ضمنها كرزة أو مشمشة ونحو ذاك .وقد جعل هذا العامل
الفاضل يف العنقود الواحد أنواعاً كثرية من العنب بطعومه وألوانه املختلفة فتعجب.
أما البقول التي تأكلونها مطبوخة فهي عندنا ال تحتاج إىل الطبخ ألنَّ األرض تؤثر فيها.
1ـ ال ُّث ْف ُل:ما استقر تحت اليشء من ُك ْد َرة .والثقل أيضاً :الحب.
151
بالنورية نسبة إىل النور ،فإننا نستخدمه كام تستخدمون الكهرباء بل أكرث بكثري.
ومنها الكرايس الربقية فلكل واحد منا كريس يقعد عليه فيضغطه برجله ضغطاً لطيفاً
فينطاد بنا((( وهو طوع يديه ال خطر عليه منه وقد استغنينا بها عن البحار.
ثانياً :الق ّالب وهو آلة تق ّلب األرض وتجعل أسفلها أعالها بأقل من دقيقة واحدة.
ثالثاً :السابر وهو آلة نضعها عىل األرض فنبرص كل ما فيها ونقدرها .ومثلها آلة
نسرب((( بها البحار ونبرص جميع ما فيها.
رابعاً :الزارع وهو آلة تطرح الزرعة ،أي البذر يف األرض تحت املقدار الذي نريده
من الرتاب.
خامساً :املع ّدل وهو آلة تع ّدل البارد والحار إذا صودف أنَّ الهواء مل يكن معتدالً،
وعليه فال خوف عىل الزرع والنبات من الجليد والصقيع وال من السموم والحرور(((،
أما السليق((( فال نعرفه.
سادساً :املنظف وهو آلة تدخل األرض فتخرج منها جميع الحرشات وتستأصل
النبات الذي ال نريده.
سابعاً :املجفف وهو آلة تجفف الزرع حينام نريد.
ثامناً :املستثمر وهو آلة نضعها بجانب الزرع فتجمع إليها الحبوب حاالً وهي
نقية نظيفة .ولدينا أيضاً أدوات زراعية كثرية أغنتنا عن الحيوان فهو يعيش بها يف
راحة ،وحسبي أن أقول إنَّ عيشه أسعد بكثري من عيش اإلنسان املرفه واملتنعم يف
األرض .إننا ال نريب من الحيوان وال نستخدم غري البقر والغنم وذلك ابتغاء الحليب
وهي كثرية أكرث من االحتياج وعليه فال نأخذ كل لبنها .ونريب أيضاً الدجاج لبيضها.
تاسعاً :الرافع وهو آلة نرفع بها األثقال التي ال يقوى عىل رفعها عرشون ألفاً من
رجالكم وأكرث.
عارشاً :السامع وهو آلة غري مرتبطة بسلك نضعها عىل آذاننا فنسمع بها كل ما
152
نريد أن نسمعه من بالد بعيدة من غري أن نحتاج إىل أحد ،غري أننا ال نسمع بها أرسار
العباد.
حادي عرش :الناظور وهو آلة نضعها عىل عيوننا فنبرص بها الكواكب وأدق
النجوم وكل ما فيها .وننظر بها البالد القريبة والبعيدة عىل أننا ال نرى بها ما ال تجوز
لنا رؤيته.
ثاين عرش :املخاطب وهو آلة ال سلك لها نضعها عىل األرض ونضغطها ونخاطب
بها من نريد ولو كان مقي ًام بأبعد مدينة فيسمع ويجيب ببيان ،وكل من املخاطب
واملخاطب يبرص اآلخر.
ثالث عرش :الجاذب وهو آلة نجذب بها ونخرج كل ما يدخل أجسادنا وأجساد
الحيوان من شوك وأبر ونحو ذلك من غري أن نلمسها ومنسها.
رابع عرش :آالت لكل عني ال تبرص ولكل أذن ال تسمع ولكل عضو كرس وبرت
فتصلح وتصحح وتعوض .وغريها لألخرس واألعرج واألجنأ واألحدب واألكتع واألشل
ونحو هذا فيصبحون بها أصحاء.
خامس عرش :املطفئة وهي آلة إذا وجهتها إىل النار أخمدتها حاالً.
سادس عرش :الكابح وهو آلة إذا أشري بها إىل ثور هائج جامح وغريها سكنته
وأوقفته حاالً.
ومن االخرتاعات النافعة أننا نرى بني أيدينا آنية تختلف ألوان بعضها عن بعض،
فإذا صببت سائ ًال مث ًال يف قدح رصايص((( برد .وإذا أرقته يف مركن((( أحمر ح َّر ،وإذا
سكبته يف باطية((( الزوردية حال .وإذا جعلته يف إناء زنجاري حمض .وإذا وضعته يف
ِق ْد ٍر((( سمراء ملح .وذلك بقدر ما تريد من الربودة والحرارة والحالوة والحموضة
وامللوحة إىل غري ذلك من الطعوم...
أقول :إذا اخرتع أحدنا اخرتاعاً أعلنه حاالً وطلب من الناس أن يساعدوه عىل
تعميمه وتوزيعه ،فيذهبون إىل املعامل ويشتغلون بهمة ونشاط ومحبة كأنهم أشقاء
153
متحابون ،فحينام يتم العدد املطلوب من اآللة املخرتعة يأخذ كل من الخلق واحدة
متى أراد ،وذلك بغري بدل وال عوض .كل اخرتاع ميكن أن يحدث منه رضر ولو كان
جزئياً ال يجوز إظهاره .أما املخرتع فينقل إىل مدينة القضاة ألنها مسكن لكل من تفرد
بيشء .فإن كان املخرتع من ساكنيها فيجعل من القضاة وإن كان منهم علت منزلته
ألنهم طبقات.
154
بالشب((( ويبيعه للمساكني.
َّ فالذي ميزج الحليب باملاء ليس كالذي يخلط ملح الليمون
يا أيها الناس انتبهوا للذين يخلطون العقاقري وميزجونها مبا هو دونها عىل عمد
واهجروهم ونددوا بهم وحاكموهم فإنهم لصوص قتلة وال ترحموهم ،وال تقولوا
إننا ال نؤذيهم وال نقطع رزقهم .وال تقولوا النفس ضعيفة والخطأ أقوى منها ألنهم
رق لهم وعذرهم وتغافل عنهم فقد شاركهم، يتعمدون إرضاركم بطمعهم ،فمن ّ
فنبهوه واعلموا أنَّ مثله مثل الذي يهدم مئة قرص إلخوانه ليبني لصاحبه داراً صغرية.
من وقي أخاه رشهم فقد كفه عنه بيده.
الش ُب :ملح متب ّلر .اسمه الكياموي :كربيتات األملنيوم والبوتاسيوم.
1ـ َّ
2ـ نسأ فالن فالناً يف البيع :باعه بأخرة .واألخرة :النظرة وهي التأخري واإلمهال.
3ـ عرض بسلعته :بادل بها فأعطى سلعة وأخذ أخرى.
4ـ قايضه :عاوضه وبادله .ومنه بيع املقايضة وهو بيع عرض بعرض.
5ـ عاوضه :أعطاه خلفاً وبد ًال.
6ـ احتذى :انتعل .أي لبس نع ًال.
7ـ عرضت له من حقه ثوباً :أعطيته إياه مكان حقه.
155
أما أنتم يا أهل األرض املستميتني يف املطامع القبيحة الشائنة التي تذل نفوسكم،
متاطلون ثم تتنازعون وتخاصمون وبعد ذلك تنكرون وتزورون فتقتلون ،ويف النهاية
ترتكون كل يشء يف أرضكم وتذهبون وأنتم تحملون عىل ظهوركم الحقوق الثقيلة
التي كنتم تزعمون أنكم هضمتوها فال تسألون عنها ،إنَّ الله تعاىل ليس بغافل عنكم
ولسوف تعلمون.
156
إين أراهم ميتصون دماء إخوانهم .هم آفة املجتمع اإلنساين .إنَّ العاقل ال يأخذ
الدينار بالرباء الفاحش ولو اضطر إليه ألنه مييس عبد املرايب وأسريه إىل املوت فيخلص،
أما عياله فال يخلصون.
ً
فاتق الله وال تفحش بطمعك فتعمل خريا مع ِ (((
إذا أبيت أال أن ترايب وتريب
كثريين .اعلم أنَّ الظلم وخيم العاقبة.
1ـ راىب الرجل :أعطى ماله بالرباء فهو مراب .وأرىب الرجل إرباء :أخذ أكرث مام أعطى.
2ـ عجم اليشء :عضه أو الكه لألكل أو للخربة كام تأخذ العود بسنك لتعلم صالبته من رخوته.
157
الفصل التاسع منه
_ يف الحسد _
قال والدي :الحسد يتولد من الطمع .الحسد إقرار الحاسد بفضل املحسود وفواقه
وسبقه .لو علم الحاسد أنه يرس عدوه بحسده ملا حسده .الحاسد دون املحسود فلو
كان فوقه كام يزعم ملا حسده.
ُر َّب محسود عىل حالة يتمنى لو كانت له ويود لو كان بها حاسداً.
الحاسد ال يهنئه طعام وال يسوغ له رشاب .قلبه مغموم وصدره ضيق وعيشه
ناكد .اجته ْد أن تكون محسوداً ال حاسداً .لو ترك الحاسد الحسد وج ّد وراء املحسود
للحقه ،و ُر َّب حاسد ارعوى فأصبح محسوداً .إنَّ الحسد داء يأكل قلب صاحبه وجمرة
تلذعه حتى تذيبه.
158
الباب السابع
159
160
الفصل األول من الباب السابع
_ يف الرجل _
قال والدي يويص الرجل األريض :يا أيها الرجل ال تحب من النساء غري زوجتك،
فإذا خالفت وأخلفت ومكرت وخدعت واتبعت هوى نفسك الرشيرة وأحببت غري
امرأتك ،فال أقل من أن تحذر كل الحذر أن تعلمها حبك إىل أن ترجع عن غيك
وترعوي عن فسادك ،وإال فقد جنيت عىل نفسك وعىل عيالك جناية ال كالجنايات ،ال
تشعر بها إال بعد أن تفيق ويعود إليك عقلك فتندم وتسدم(((.
إين ألعجب كيف تسمح لنفسك بأن تحب غري زوجتك وال تسمح لها أن تحب
غريك .ملاذا ترى حبها جناية منها وال ترى حبك سواها جناية أخرى؟ لقد حكمت
فجرت والله سبحانه وتعاىل ال يحب الجائرين ،ومن ال يحبه الله فقد أهمله.
كأنك تحسب أنَّ الزوجة إذا أحبت عيبت وأنت إذا أحببت ال تعاب! كال كالكام
معيبان .إنَّ الله مل يجعل لعباده رشيعتني الواحدة للرجل والثانية للمرأة .إنَّ الرشيعة
واحدة وعليه فأنت وبعلتك متساويان موثقان بعهد ملزم ال فكاك لكام منه إال مبوت
أحدكام ،ومن ظن غري هذا فقد بخس املرأة حقها وأخطأ واستوجب العقاب .والزوجة
التي بخست حقوقها ال يؤمن فسادها إال إذا كانت أبية النفس طيبة العنرص ،فتصرب
قهراً عنها فيعتل بدنها ورمبا أودت بها العلل .إنَّ العفيف قرة عني امرأته.
1ـ سدم الرجل :كان به سدم .السدم :الهم أو مع ندم أو غيظ مع حزن.
161
إين أنصح ملن ال يكتفي بزوجته أن ال يتزوج ،ألنه ال راحة وال سالم يف األرسة إذا
كان الحب لغري البعلني.
ً
يجب عىل الرجل الصالح العادل الذي يحسب نفسه رشيفا أن يختار لنفسه يف
ذلك ما يختاره لزوجته وأن ال يريد لها ما ال يريده لنفسه.
يا أيها الرجل إياك والبخل فإنه يكرس قلب املرأة .فإن كنت ال تستطيع إال أن
تضن عىل فضن عىل نفسك الخبيثة ،وأهكلها بطعمك وشحك ،وال ّ تعيش ضنيناً َّ
زوجتك وولدك لئال ّميدا يديهام إىل غريك والعياذ بالله تعاىل ،ولئال تنقلب عنك
محبتهام فال يطيب لهام ولك عيش إال مبوتك .اعلم أنه ال عز لبخيل.
ال تذل امرأتك ،فإنَّ املرأة الذليلة ال تصلح لرتبية أوالدك وتهذيبهم .ال تهددها وال
ترفع يدك عليها لئال تخشاك فيكون توقريها لك خُ ْدعة منها فتجعلك خدعة((( .إنَّ
الخديعة يتولد منها الكذب والكذب آفة املجتمع اإلنساين.
إذا ظلمت امرأتك فقد ظلمت نفسك وجرحت قلبها ،والقلب املجروح ميقت
جارحه ولن يحبه ،وال عامر إال باملحبة.
ال تكن كلك لنفسك بل كن لها ولزوجتك .إذا كنت ال تشتهي شيئاً وهو ال يرض
بها فال تسألها أن ال تشتهيه معك ،فإنَّ لها ما لك ولك ما لها ،ونفسك مثل نفسها
وحقوقكام بالرىض والغضب متساوية .وال ُت ِْت إرادتها وال تجعلها تريد كل ما تريده
أنت ،بل اجعل نفسها كبرية لتكون رشيفة .وأطلقْ لها إرادتها لتعيش حرة فتسأل عام
تفعله وإال فقد أرصتها خادمتك البلهاء ومل تتخذها الرشيكة التي تشاطرك متاعب
الحياة بعد أن تخففها عنك بتدبريها وإتقانها وصربها وطالوة كالمها ورقتها .إذا كانت
أخالقكام متباينة فتقاربا باملحبة .إنَّ املرأة إذا رقيتها رقت أوالدك وانتفعتم كلكم بها،
وإن أهملتها ووضعتها أضعت مستقبل عيالك وعشتم وضيعني مهانني.
وأقول أخرياً :إذا نزلت عىل قوم وأردت أن تعرف منزلتهم من املدينة الحقة ،فسل
عن نسائهم ،فإن كن مثلهم يف الحقوق فقد بلغوا من الحضارة واإلنسانية املنزلة
الرفيعة وإال فارحل عنهم.
162
الفصل الثاين
_ يف املرأة _
قال والدي :إنَّ النساء يف الزهرة كالرجال ،بل هن مكرمات أكرث منهم ألنهن
يتعنب ويشتغلن مثلهم وأكرث ،وهن أهم منهم إلتقانهن فن الرتبية والتهذيب .ونحن
ال ننكر عليهن أفضالهن بل نشكرهن ونبجلهن ألنَّ الشكر والتبجيل يزيدهن ولوعاً
باملزايا عىل دعة منهن واتضاع .فيا ليت النساء يف األرض يسلكن مسالكهن ،ألنَّ املرأة
كلام خفضت جناحها لرجلها متكنت من قلبه أكرث متكناً .إنَّ املرأة العاقلة هي التي
ال يهمها غري رجلها وولدها وبذلك تكون سعت لنفسها سعياً حسناً.
توقوا املرأة الطوافة يف بيوت جاراتها والجالعة((( والكاذبة ورش النساء املتطرفة .
(((
واملرأة الصالحة والرزينة هي التي ال تحمل رجلها عىل الغرية وال تجعله يشك يف
محبتها له وإخالصها وقناعتها .إنَّ خري النساء امرأة قارصة الطرف ال تحب غري
زوجها.
ثم قال :الشجاعة والبأس للرجل ،وللمرأة الرقة والدعة من غري جبانة منها
وال خشونة منه .إذا أطاعت املرأة رجلها مع حفظها حقوقها وخدمته بطيبة فقد
خدمت نفسها ،ألنَّ يف كل جسد من جسديهام نصف روح الجسد اآلخر ،فهام
حارسان ورشيكان يسعيان يف مصلحة واحدة ويف طلب خري واحد .لتحرص املرأة
عىل مال رجلها حرصها عىل حسنها فإنه مالها أيضاً ومال أوالدها .إنَّ املرأة الطامعة
يف ثروة رجلها تبذيراً وإرسافاً جاهلة معيبة .ليتها تعقل أنَّ التبذير واإلرساف ينفذان
كل ثروة ومال ويتسببان بالبطر فتغلب األهواء والشهوات وهناك الفساد الذي ال
صالح معه.
لتكن املرأة صبوراً عند حلول املصائب غري جازعة منها .ال يلذ للعاقلة غري ترتيب
منزلها وال تجد بهجة إال به .إنَّ مهارتها وفراستها تُعرفان من ترتيبها املنزل واألوالد
ومن نظافتهم .إذا نظرت إىل الولد وثيابه عرفت منزلة أمه من اإلتقان والذوق
والتهذيب .إنَّ التي ال تشتغل يف لوازم نفسها فهي زائرة ال منزل لها.
163
الرتبية فن رشيف من فنون الحكمة ،فعىل املرأة أن تتقنه وتحكم وضعه وإلقاءه
عىل أوالدها بتأن وبراعة ،تُعلم بهام سعة مداركها ويعرف صربها .إنَّ املرأة الصالحة
املدركة يؤثر صالحها يف رجلها.
إنَّ التي ال تريد أن ترضع ولدها لغري علة مانعة من اإلرضاع فهي ال تحبه .وأي
عار أشد وأعظم من أن يقول قائل إنَّ فالنة ال تحب ولدها وال تحن عليه ألنها ال
تحب غري نفسها ،فإنَّ املحبة الدنيئة أال وهي محبة الذات تغلبت عليها .وألنها ال
تحب رجلها أيضاً ،بل ال تحب أحداً .إنَّ التي عىل هذا الخلق القبيح ال تصلح لألمومة
ألنها دون اإلنسان والحيوان.
إنَّ الزوجني كاألخوين يف املنزلة ،فالرجل هو األخ األكرب واملرأة األخ األصغر.
صب الكرام فقد ريض الله تعاىلوص َ َب ْ َ
والعاقل منهام من حمل عىل النفس ضيمها َ
عنه والناس أجمعون.
164
عىل أخالقهم ويف مشاكلتهم ومامثلتهم غري مخالف لهم يف يشء ،إال أنك رأيت
منهم ما يستهجن فاجتنبه.
ال تحاسبهم وال تطالبهم وال تعد زالتهم ،ألنك إذا مل تغض طرفك لهم ال تظفر
بصديق واحد وال بنصف صديق ولو عشت عمرين.
ال تقاوم صديقك إذا غضب وال تنصحه وهو ثائر بل ه ّيبه إليك إذا تسخّ ط
(((
وتغضب ،وانصحه إذا عاد إليه حلمه ،ولكن احذر أن تنتقصه وتعيبه لئال يصري
نصحك توبيخاً ومالماً.
اصحبه يف غمه وحزنه بقدر صحابتك له يف رسوره وفرحه .كن ثابتاً عىل
املودة .ما أحسن الصديق إذا مل يكن معفياً((( إذا أصابه الدهر مباله ،فال تنقص
من تكرميه .ادفع عنه اغتياب املغتابني وكن أميناً عىل مجلسه كام أنت أمني عىل
عرضه ونفسه.
ً
زن نفسك دامئا لئال يستثقلك .ال تتقرب إليه باملجاملة وال باملصانعة وال تجاره
عىل أمر ال يحمد عليه .وال تجعل مزيتك لديه تبجيله وتعظيمه.
ْ
تلطف وانقله إذا سمعت الناس يذمونه وكان الذم يف محله فال تخفه عليه بل
جد يف مساعدته وقضاء حاجته ،فإذا تعبت يف سبيله فاكتم تعبك عنه ألنَّ إليهَّ .
إظهارك إياه عيب من عيوب الصديق املخلص .إنَّ صديقك مثل نفسك تتعب من
أجلها وال تحاسبها.
يا هذا كن كلك لصديقك وال تعلل بأنك تجد لك أصدقاء كثريين ،فإذا ظفرت
يف كل عمرك بصديق أو صديقني فقد أفلحت حينئذ ألنك صديق.
أما أولئك الذين تعارشهم وتؤاكلهم وتكرث من الرتدد إليهم ،والذين يسألون
عنك إذا غبت ويعاتبونك ويبتهجون بك إذا حرضت ،فهم أصحاب ألفتهم وألفوك
وليسوا بأصدقاء ،ألنَّ اإلنسان ألوف يحزن لكلبه إذا فقده ،وأما الصديق فهو من
سعى من أجلك فأغناك عنه وعن غريه.
165
الفصل الرابع منه
_ يف األعامر واملوت بالزهرة _
قال والدي :إنَّ سكان الزهرة يعمرون ويعيشون ال أقل من خمسمئة عام وال أكرث
من ألف .فإذا دنا أجل أحدهم علم به من نفسه وقال ألهله وهو فرح مبتهج« :إين
ذاهب إىل لقاء ريب» ،فيفرحون ويرسعون فيعلمون قايض قضاة املدينة فيذهب إليه
(إذا كان املدنف من الذين مل ينزلوا إىل األرض) ومعه جميع القضاة يحملون بأيديهم
باقات من األزهار النقية املختصة باملائتني ،كتب عىل كل زهرة منها «اذهب بسالم أيها
العبد الصالح» ،هذا إذا كان املائت متزوجاً وأما إذا كان متبت ًال فيحملون زهراً مختصة
باملتبتلني كتب عليها «نع ًام أنت يا أيها العبد الصالح» .فحيثام يصلون إىل منزل امليت
يضعونه عىل اآللة((( وهي مزينة بأزهار كتب عليها الكلامت الخمس التي عرفتها
(وهي «الله» «املحبة» «الصدق» «العفة» «التواضع») .ثم يحمله قايض القضاة
بيديه ويساعده يف حمله كل القضاة ،ويسريون به إىل املعبد األعظم وهم والعباد
ساكتون .غري أنه يتقدمهم قايض يصيح بصوت جهوري له تأثري عظيم يف النفوس
ويقول« :أسعدنا يا ربنا كام أسعدت هذا العبد الصالح الذي تنقله إليك .نسبحك
اللهم
اللهم ألنك جعلت موت األبرار بهجات لهم يبتهجون بها ويستبرشون .نسبحك َّ َّ
اللهم
ونشكرك ألنك جعلتهم يستقبلون وجهك الكريم ويقولون يف حرضتك .نسبحك َّ
ونحمدك ونشكرك ألنك أحببتنا فخلقتنا لنستحق املثول بني يديك الكرميتني» .ثم
«اللهم انقلنا إليك وقربنا منك ال كرهاً بالزهرة وسكانها وعيشها بل تربكاً بك.
َّ يقول:
الزهرة مسكننا الذي نسكن إليه والسكان إخواننا الذين نأنس بهم والعيش طيب
ونحن مرغدون ،فاجمعنا بني يديك لنشكرك عىل نعمتك بقدر استطاعتنا املستمدة
منك .إننا عن شكرك لعاجزون».
حينام يدخلون املعبد يضعون املحمول تحت الكلامت الخمس املكتوبة يف صدره
(كام سبق الكالم) .ثم يصعد قايض القضاة إىل كرسيه ويقول بصوت مرتفع« :الله الله
يا مكافئ املحسن عىل حسناته بأحسن منها إنَّ عبدك (وهنا يذكر اسم امليت) البار
يسألك السعادة الدامئة يف مقر عرشك األقدس»َ ،ف ُي ْس َم ُع كالم فصيح بصوت رخيم
166
عن لسان الحق سبحانه وتعاىل وهو «يا عبدي الذي مل يلبس ثوب آدم ومل يتدنس
بسجن زحل .يا عبدي الذي تفيض املحبة منه والذي يزهو بنور الصدق ويبهو بالعفة
ويتألأل بالتواضع :إين آمر بأن تنتقل نفسك إىل الجنة العظيمة حيث عريش األقدس
لتقيم مع أخوتك األبرار يف راحة وسعادة دامئتني» .وبعد هذا ينقطع الصوت والخلق
كلهم مطرقون خاشعون فتخرج النفس كأنها عصفور غاية يف الحسن والجامل ،لونه
بني البياض الفيض والزرقة الالمعني ،مكتوب عىل رأسه «الله» وعىل جناحه األمين
«العادل» وعىل جناحه األيرس «املكافئ» .يراه الناظر صاعداً محفوفاً باألنوار وهو
اللهم ال
يشكر ويحمد ويسبح والحارضون يقولون« :يا ربنا انقلنا إليك وقربنا منكَّ .
تطل أيامنا يف الزهرة لنتمتع مبشاهدة وجهك الكريم».
أما الصدى((( فيلقونه يف برئ كبرية ،ثم يتفرق الجمع وهم يتمنون ألنفسهم ما
ظفر به فقيدهم الذي مل نره يتأمل دقيقة خروج نفسه ،بل نراه يحمد ويشكر ويسبح
ويبتهل وهو مبتسم ،كله رسور وحبور.
قال :فإذا كان املائت من الذين أنزلهم الله تعاىل إىل األرض ،أمر قايض القضاة
قايض املحلة أن مييض بعرشة من القضاة لحمل الرسير الذي ال يزين كله باألزهار
بل بعضه ،فيذهبون ويف أيديهم باقات من الزهر كتب عىل كل زهرة منها «اذهب
«اللهم يا من أمرتنا بأن ال نرد سائ ًال إننا
َّ بسالم» ،والقايض الذي يتقدم الرسير يقول:
عبادك الذين اعتصمنا بك ولجأنا إليك ،والذين توكلنا عليك نسألك مب ّنك وفضلك أن
ال تنزلنا إىل األرض كام أنزلت هذا الذي أفسد يف الزهرة ،فصلح بعد ذلك فأعدته
طاهراً نقياً يشكرك ويسبحك بكرة وعشياً .اللهم قربنا منك وال تبعدنا عنكَّ .
اللهم
زدنا شوقاً إليك ورغبة فيك كام زدت هذا العبد بهجة ورسوراً بنقله إليك ليقف
اللهم إنه يرتجف من أمامك وهو مطرق خج ًال واستحيا ًء مام أثم وأفسد فيام مىضَّ .
هيبتك فاشدد قلبه وم ّتعه ببهاء من وجهك الكريم ليشكرك حق شكرك ويسبحك
متام تسبيحك فيسعد مبجدك األعظم وينعم بالراحة والسالم».
فحينام يصلون إىل املعبد (غري املعبد األعظم) يضعونه تحت الكلامت الخمس
فيقول قايض القضاة« :إنَّ عبدك هذا (ويشري إليه) يسألك أن تنعم عليه بالسعادة
الدامئة حيث عرشك األقدس ،فيسمع الحارضون ذلك الصوت القائل« :يا عبدي
167
الذي مل يتدنس بسجن زُحل والذي رجع إيل فتبت عليه إين آمرك بأن تخرج نفسك
من جسدك وتذهب إىل الجنة العظيمة لتقيم مع إخوتك الصالحني يف راحة وسالم
دامئني» .ثم تخرج النفس عىل هيئة عصفور أبيض مكتوبة عليه الكلامت الثالث التي
ذكرتها لك ،فيعلو غري محفوف باألنوار وهو يشكر الله تعاىل ويسبحه تسبيحاً.
فلام فرغ والدي من كالمه قلت له :أال تريد أن تعلمني كيف تكون حالة املحترض
يف األرض؟ فقال :إنَّ االضطراب أو السكون اللذين يظهران عىل املدنف ال يدالن عىل
تأمله أو عدمه ،ألنهام حالتان مالزمتان ومختلفتان باختالف العلة فتقويان وتضعفان
وتزيدان وتنقصان.
إال أنَّ الذي يتوب توبة صادقة عىل اعتقاد منه قوي متني ،يؤثر ابتهاجه
العظيم (الصادر عن اعتقاده قرب السعادة) يف كل عضو من أعضائه تأثرياً ال
يجعله يشعر بأمل .فإذا رأيته يضطرب ويقوم ويقعد فال تحسبه متأملاً متوجعاً.
والذي ال تكون توبته كاملة يتأمل غري أن تأمله أقل بكثري من توجع الطالح املحترض
ولو كان ساكناً تظهر عليه الراحة ،فإنَّ األمل هنا ال يدل عىل االضطراب وال السكون
كام علمت.
ثم قال :اعلم واعتقد أنَّ امليت يسمع كل قول ويعي ويظل عىل الوعي
والسمع ساعات وأنت وكل طبيب تحسبونه غري شاعر بيشء .فيجب عىل أهله
وأقاربه أن ال يبكوه ويندبوه إال بعد ميض سبع ساعات عىل األقل ،وأن ال يولولوا
ويعظموا فقده عىل زوجته وأوالده ،وأن ال يذكروا سوء حالهم بعده إىل غري هذا
مام يؤمل امليت ويعذبه وهو ال يستطيع الحراك.
168
وتكرهون عىل حفظ قواعدها وقوانينها ونظاماتها وموادها ومسائلها وقضاياها
ورشوطها إىل غري هذا من األثقال التي تحملونها فوق وسعكم.
إذا فقد أحدكم فقيداً شكا وبىك وعج وضج وصاح وأكرث الندب والنواح وحبس
نفسه يف بيته أياماً وليايل ال يأكل طيباً وال يرشب لذيذاً وال يلبس جديداً.
فإذا اشتهى طعاماً بنفسه امتنع عنه أو أكله رساً .فإن ُقرع بابه وهو يأكل وارى
الطعام متلصصاً وإال عابه الناس وقالوا عنه هذا ال حاسة له ،فال يحس بيشء وال
يشعر ،فيالزم منزله كرهاً عنه حتى يذبل بعد نضارة ويضعف بعد قوة ويكسل
بعد نشاط ،فرتاه حني يخرج من بيته كأنه ناقهٌ من مرض مزمن لكرثة تغريه ،فيظن
(((
ناظروه أنَّ الحزن أنحله وأضناه وهم غري مصيبني يف ظنهم ،فيا ليتهم يستبطنون
األمر ويعلمون أنَّ الذي أضناه هو حبسه وانقطاع أصحابه عنه.
وبعد خروجه ال يؤذن له أن يخالط ويصاحب أحداً ،ألنَّ القاعدة تجربه عىل
الربوز من داره صباحاً والعود إليها من شغله مساء ،فإذا أراد التنزه أبع َد كأنه غريب
انقطع عن أهله وعن العمران البرشي ألنه ال يجوز له أن يبرص الناس ،أو كأنه
محكوم عليه بالحبس لي ًال وباالنفراد واالنزواء نهاراً .أو بالتنزه يف الفلوات والقفار
مع الوحوش .وهذه عادة حرمها الله تعاىل ألنه ال يريد بعباده إال خرياً .فقد وضع
سبحانه لهم القوانني الصحية حفظاً ألبدانهم فكيف يسمح لهم بأن يعرضوها للعلل
واملخاطر؟ إنهم لفي غواية وإنهم يأمثون ويجنون عىل نفوسهم وهم غافلون .إىل أن
قال :لقد كان أجدادكم يجرون عىل مثل هذه العادات يوم كانوا ال يتزاورون .يوم
كانوا يكرهون االختالط فيالزمون منازلهم ،ال يظهرون للناس إال أوقات الصلوات
واألشغال فهم بالطبع محبوسون فيام خال هذه املواقيت فال تصعب العزلة ألنهم
نشأوا عليها .فلو رجعتم إىل عادات آبائكم لكان لكم منها خري عظيم .أما اآلن وقد
تغري عيشكم فيلزمكم أن تقلعوا عن كل عادة أمست مرضة بكم لكرثة اختالطكم.
انتبهوا من غفلتكم وال تسيئوا إىل نفوسكم وتضغطوا أبدانكم وأنتم تلومون العادات
القبيحة مع أنكم نبذتم أكرثها ،فكيف تنبذون الحسنة منها ومتسكون بأهداب
السيئة وأنتم ال تقوون عىل الثبات؟ دعوها قبل أن تفلت أيديكم فتسقطوا.
169
ومن العادات التي ال لزوم لها وال اضطرار إليها الحداد((( ،فتلبس املرأة لباس الحداد
وهي كارهة لها .وال أعلم ماذا يريدون منها اليوم .فإن كانت عالمة الحزن واالكتئاب
فلامذا يجعلونها تطابق الزي وتوافقه كسائر املالبس الصالحة للتزين والتربج ،حتى
أمست غرامة عىل الذين يعرس عليهم تبديل ثيابهم لضيقتهم واحتياجهم إىل ما هو
أهم منها وألزم ،مع أنَّ كثريين يتضجرون من الحداد ويتأففون؟
لقد رأيت كثريين يف األرض يذهبون إىل املالهي واملنتديات ويسمعون األغاين
وهم بثياب الحداد فامذا يبتغون من لبسها؟ إذا كانوا يريدون أن يعلموا الناس أنهم
فقدوا أحد أقاربهم فليعلنوا به يف الجرائد وعىل الجدران.
ومن العادات املستهجنة أنَّ كثرياً من البرش عندكم يعولون ويندبون ويقلقون
ويزعجون مع أنهم فرحون مبتهجون .إين أشري عليكم وأنصحكم بل أحتم أن تقروا
وتسكنوا وتكفوا عن اإلعوال والولوال ألنهام يزعجان العباد ويرضان بكم ،فإنَّ يف
القرار والسكون كرامة لكم.
لقد رأيت كثريين يف األرض من عقالء الناس وأذكيائهم غري املتينني ينوحون
نواح النوائح ويالزمون املناحة((( ،ويرفعون أصواتهم كاملرأة السالقة((( ويتد ّعون
تد ّعيهن((( ،ويعددون أمواتهم تعديداً ال يحسن صدوره منهم ويجمل نقله عنهم،
فاستخف بهم السامعون حتى نقصت منزلتهم عندهم أو كادت .إنَّ الذي يجزع عند
امللمة جزعاً شديداً ويضج يستذله الناس وهو غافل عن نفسه .فكتم األمل يوم الشدة
أصون للمرء وأكرم ،والتأمل والتفجع من النازلة يبعثان الناس عىل التوجع .فإذا توجع
لك عدوك أصابتك منه نازلة عظمى ،فكيف ال يخفي العاقل البلية لينجو من أعظم
منها ويحفظ لنفسه كرامتها؟
فعىل العاقل أن يتقوى عند امللمة باملتانة والرسوخ وأن يتدرع عند جوالن الهموم
بالرزانة والرصانة ،وأن يجتنب الحرسة عىل ما فات ويعلم أنه ال يدري ما يعمل وأنَّ
1ـ حدت املرأة وأحدت :تركت الزينة والخضاب بعد وفاة زوجها املتوىف فهي حاد و ُم ِحد .والحداد مصدر
حدت املرأة .وثياب األتم السود.
2ـ املناحة :موضح النوح .يقال كنا يف مناحة فالن.
3ـ امرأة سالقة :أي رافعة صوتها عند املصيبة أو الطمة وجهها.
4ـ َت َدعَّت النائحة :ط َّربت يف نياحتها عىل امليت.
170
النقادين واقفون له بطريقه .واألجدر بالرصني السكوت فإنَّ فيه وقاراً.
ليزن نفسه دامئاً يف غمه وفرحه ،ال يستخفه الطرب وال يستفزه الحزن ،وعليه
أيضاً أن يجتهد ويقوي قلبه وأن يسرتشد ما استطاع ليدرك املصيبة ويقدرها حق
ليعلم أنَّ املصيبة تهجم
قدرها ،لئال يكربها ويعظمها فيهلع ويدهش ويضطرب عقلهْ .
عليه كأنها الجبل العظيم ثم تصغر تدريجياً إىل أن تزول يف وقت قريب وهو يحسبها
تدوم.
ومن العادات املستهجنة واملستقبحة واملستكرهة يف األحزان تهافت كثريين من
أويل البطالة واملفاسد عىل الحزاىن باللوم والتنديد لتقصريهم فيام أوجبته عليهم
تعرض منكم ألمر ليست فيه مصلحتكم قواعد الحزن الضارة .وهذا يا أيها الفضوليون ٌ
وال تتعلق به حقوقكم ،فإنهم أدرى بشؤونهم وأحق من سواهم بتقديرها وإعطائها
ما وجب لها ،فيفعلون األوفق لهم واألخلق بهم ويختارون لنفوسهم ما يناسبهم ال ما
يناسبكم أنتم الفظاظ الجفاة الذين خلت قلوبهم عام يشغلها فشغلوها بالحزن .فيا
حبذا لو اشتغل كل منهم بنفسه وبحث عن نقائصها وعام قبح فيها فاجتنبها فيصلح
الناس كلهم يف أعاملهم ،فيكفون عن التقبيح واالغتياب وعام ال يعينهم من كل أمر.
فإذا كفوا اجتمعوا عىل كلمة واحدة وتضافروا وتعاونوا عىل خريهم ونجاحهم وج ّدوا
يف سبيل تقدمهم وعمرانهم فيسعدون السعادة األرضية بعد شقائهم وينعمون.
عىل الرجل العاقل كلام رأى يف خلقه ما ال ينطبق عىل أخالق الناس أن يجتهد
يف تطبيقه ليوافقها .فإذا وافقها دخل بينهم َو ُع َّد منهم ،في ّكف عنهم فيقربونه إليهم
ويؤانسونه مؤانسة تطبب بها نفسه ،هذا إذا مل يفيدوه عل ًام وماالً.
171
172
الباب الثامن
173
174
الفصل األول من الباب الثامن
_ يف وجود الله تعاىل وخلقه الخلق _
ملا وصل والدي إىل هنا قال :إذا أردت أن تستفيد فسل عن كل ما تريد ،فقلت له:
ما الحجج الدامغة والرباهني املقنعة عىل وجود الله سبحانه وتعاىل وخلقه الخلق؟
فقال :اعلم أننا ال نشك يف وجوده َّ
جل جالله ألننا نراه بعقولنا وقلوبنا .وأما أنتم
فكيف تلفت أحدكم وحيثام اتجه وأىن تحرك رأى ضعفه وقوة الطبيعة القاهرة.
رأى أشياء كثرية من أشياء أكرث منها ال عدد لها هي أعظم منه وأقوى عىل ما به من
العظمة والقوة .رأى ذله ورأى عجزه .رأى ما ال يقوى عىل تصوره ،رأى ما هو فوق
مداركه ،رأى ما ترتعد له الفرائص فيدهش فيسقط فيستغيث مبا يرى إقراراً منه
باقتدار كل ما يرى .كأنه يشعر من نفسه باقتدار قادر ،بل يشعر حقيقة بوجوده
فيسميه القادر املوجد.
إذا تأمل الكائنات العظيمة املدهشة وما يختص بها من األعامل الغريبة املختلفة
واملتباينة يف أحوالها وشؤونها وغاياتها مع انتظام حركاتها وسكناتها ،بحيث أنها إذا
طرأ عليها خلل جزيئ خربت خراباً ،فتكاد تقف حركة عقله من دهشه وعند ذلك يقر
شاء أو أىب بوجود مكون مدبر .فإذا وصل إىل هنا وال ب َّد له من الوصول اضطر بحكم
القياس إىل اإلقرار أيضاً بأنَّ ذلك القادر املوجد املكون املدبر الذي أوجد الكائنات
العظيمة ،يقدر بالطبع عىل خلق اإلنسان الحقري بالنسبة إليها ،وعىل خلق الحيوان
بطبائعه املختلفة عىل ما به من القوة الطبيعية املدركة املحافظة عىل أنواعها الواقية
لها من الدمار واالضمحالل .وهو أي ذلك اإلنسان ال يقوى عىل خلق أحقر بعوضة
فيكرر إقراره بعجزه وبوجود قوة خالق عظيم.
ْ
ليرتك كل يشء يف اإلنسان والحيوان وال ينظ ْر يف كل تراكيبهام وال يتأمل الفرق
الكائن بني الذكر واألنثى مع اختالف طبيعتهام وميلهام ،بل لينظ ْر فقط إىل العني
البارصة ويطيل ويدقق يف تركيبها فيدهش أيضاً ويقر بقوة صانع عجيب.
لينظر يف النبات واختالف طبائعه وخاصياته فيدهش أيضاً ويقر بوجود مبدع
حكيم .فهذا القادر املوجد الكون الخالق الصانع املبدع الحكيم هو واحد وهو
الله تعاىل.
ال ب َّد لإلنسان القوي املدارك النبيل الغاية الخايل من األهواء التي تدعوه إىل
175
العناد واملكابرة من اإلقرار بوجود الله تعاىل تقدست أسامؤه ،ال بل ال ب َّد لإلنسان
النبيه الذيك مهام كان جاحداً منكراً مكابراً من اإلقرار بوجود الله تعاىل ولو بعد حني.
ما مثل الذي ينكر وجود الله إال مثل الذي ينكر وجود نفسه يف الحياة .ال ينكر
وجود الله تعاىل إال من به جنون التأله .إنَّ اإلنسان دون هذا الكون بل هو من
فضالته فكيف يجعل نفسه فوقه ويريد أن يجعله خاضعاً ملداركه.
من ع ّلم الناس أن ينكروا وجود الله تعاىل فهو عدو لهم مبني تعمد اإلخالل بنظام
الكون واملجتمع اإلنساين.
176
ماذا أبتغي من املتدين بديني والذاهب مذهبي إذا مل يكن عىل صالح؟ ماذا
أبتغي منه وهو يؤذيني ويرضبني ويرتقب عثاري؟ أال أفضل عليه ذلك الصالح
الساعي وراء خريي ونجاحي الذي إذا عرثت أخذ بيدي ودرأ عني الشبهات وهو ليس
عىل ديني؟ أي االثنني أفضل :هل هذا النافع الصالح الذي تسميه بالكافر ،الخائف
الله تعاىل الزاهد يف املالهي ،الراغب عن لذاتها ،الواقف نفسه عىل خدمة بني
اإلنسان ،املجتهد يف تخفيف ويالته ومصائبه ،املحسن إليه واملتصدق عليه واملعتكف
عىل عبادة الله تعاىل بالطاعة وحسن الصرب ،أم ذاك الطالح العايص القاتل الذي
النمم املحتال؟ كيف تسمي تسميه مؤمناً ،املنقطع يف الحانات ،املقامر اللص الزاين ّ
هذا مؤمناً وذاك كافراً؟ أمل يخلق لك الله عز اسمه عق ًال لتميز به الخري من الرش؟ فإن
قلت :هذا األثيم ال أعده مؤمناً ألنه ليس فيه صالح املؤمنني ،فأقول وماذا تعد ذاك
شك يف أنَّ قلبك يحكمالذي تدعوه كافراً وقد رأيت فيه صالح املؤمنني؟ أجبني .ال َّ
حاالً بأنه أفضل من الذي تدعوه مؤمناً ،ولكنك ال ترصح خوفاً من جامعتك عىل
زعمك ،وهذا الخوف ناشئ عن جهلك.
ن ّزه قلبك وعقلك ولسانك عن االعتساف والفخفخة اللذين ال يكون معهام عدل.
احكم بعد ذلك فتعدل وتنصف .قل يل :أبعد هذا يسمح لك لسانك بأن تسمي
الصالح كافراً؟ إين أقول عنك ال.
إنَّ كلمة الكافر التي ألفت لفظها فهانت عليك تجرح قلوباً مؤمنة كثرية ال تعلم
بها .رمبا لو راعيتها أو تركتها نفعتك وحافظت عليك .إنَّ هذه الكلمة تورث قائليها
محناً وباليا ورزايا وهم ال يعقلون.
ال يستغني أخ عن أخيه وال قريب عن قريبه وال جار عن جاره وال إنسان عن
إنسان مثله.
يجب عىل البرش أن يجمعوا ويتحدوا ليتشاركوا يف املنافع التي تزداد منواً كل يوم
بحسن التساعد والتعاون ،ولكن كيف يتم هذا لكم يا أيها الذين ينظرون ولكنهم
ال يبرصون؟ كيف السبيل إىل هذا ،والتحزب الديني يجر عليكم الرش ،ومينعكم من
الخري؟ كيف الوصول إىل هذا الخري القريب منكم؟ إنه بني أيديكم فلامذا تستبعدونه؟
ْ
وأدرك ما هذا الجهل؟ ما هذا الحمق؟ أمل تعتربوا بغريكم؟ أال تقتدون بسواكم؟ ْ
اعقل
يا هذا أنَّ الدين وجد لخري إنسان ونفعه ،فكيف تجعله لرضرك وتعاستك وتعاسة
اقلع عن تغفلك واعلم أنَّ كل مرض يجب اجتنابه، غريك بتحزبك وجهلك وبالهتك؟ ْ
177
فلامذا ال تجتنب هذا االعتساف الذي ال يرضك غريه ،والذي أجمع الناس عىل أنه
مرض؟
أقول :إذا عودتم نفوسكم كره من ليس عىل دينكم فقد علمتموها البغض
فيتمكن منكم حتى إنكم تبغضون من يتدين بدينكم أيضاً وأنتم ال تدرون.
إنَّ البغض يرسخ يف القلب فيصري فيه طبعاً وغريزة ،فيصبح ومييس عىل البغض
من غري أن يستثني أحداً ،وال عجب يف هذا فإنَّ اإلنسان ابن العادة.
لقد رأيت وسمعت كثريين يخاطبون باألنفة والكرب والرتفع مفخفخني مدعني
بأنهم يرشفون بدينهم ،فال يجوز لهم أن يكرموا من مل يكن عليه .فأقول لهم إنَّ
الرشف ال يكون رشفاً إال إذا كان صعب املنال ،ال يحصل عليه وال يوصل إليه إال بشق
النفس ،مع أنَّ دينهم غري ممتنع عىل أحد .فيه الرفيع والوضيع والعظيم والحقري .من
قال لهم أنا عىل دينكم ضموه إليهم حاالً.
فإن قالوا :إنَّ الله تعاىل جعل الرشف بديننا دون غريه ،وإن كان قريب املنال غري
ممتنع عىل أحد ،ولكن هذا الرشف ال يظفر به إال من كتبت له السعادة وأراد الله
تعاىل به خرياً .فأقول لهم :إنَّ الناس عند الله سواء ،ال يفضل عبداً عىل عبد إال بأعامله
الصالحة .وإنَّ الله تبارك وعال يريد بجميع عباده خرياً فالعظيم عظيم ولو بخسه
بعض الجاهلني حقه .أمل تعلموا أنَّ الجاهلني ال يدركون؟
إين رأيت املتحزب مكروهاً يتأخر كل يوم .إنَّ املتحزب يكره الناس دينه وأما
املتودد فإنه يرغبهم يف دينه.
178
أحوال الزمان وتقلباته يف كل وقت ،فيعبد الناس كلهم الله تعاىل بكلمة واحدة حال
كونهم يعبدونه وهم متفرقون متشتتون ،فهل يختلف أحد يف تفضيل االجتامع عىل
التفرق والوفاق عىل الخالف والقوة عىل الضعف؟
ً
فإذا فاز اإلنسان بهذه البغية صارت األرض مواسم وأعيادا ،حيث يكون قام
اإلصالح العام ودخل الناس يف طور جديد أدركوا به أنهم من أب واحد وأم واحدة،
وأنهم ال ريب عشرية واحدة منت حتى مل تسعها بقعة واحدة فتفرقوا اضطراراً،
يجمعهم دين واحد ولغة واحدة وكلمة واحدة وعادات غري متباينات إن شاء الله
تعاىل وما هذا عىل كرمه ببعيد.
فانتبهوا يا أيها البرش وتعقلوا وأدركوا أنكم قادرون عىل راحتكم وراحة أوالدكم،
وأنكم قادرون أن تخلصوا من عذاب أليم ،فريث هذا الخالص أبناؤكم وتخلدون لكم
ذكراً سعيداً دامئاً .واعلموا أنكم إذا أقدمتم ساعدكم الله تعاىل وقواكم وأرشدكم .فمن
أحب فليقدم وليساعد.
179
مباينة غريها من طرائق األنبياء إال أنها يف الباطن ويف الحقيقة ليست إال موافقة.
فزعمهم أنَّ األديان متباينة خطأ ال يدركه إال أولو البصائر.
إنَّ النبي حكيم وطبيب ،فكام أنَّ الطبيب مداوي األبدان يداوي مث ًال خمسة
من املرىض املصابني بعلة واحدة يف وقت واحد ،ويصف لكل منهم دواء غري الذي
وصفه سواه مراعياً بذلك اختالف أبدانهم وأمزجتهم وتربية بالدهم وهوائهم ومائهم،
فكذلك النبي فإنه يداوي النفوس واألجساد معاً باألدوية التي هي أنجح من غريها
وأنفع ،فتنوعها ال يسمى تخالفاً يف الحقيقة ما دامت العلة واحدة ،وإمنا الرايئ يرى
بحسب الصورة الظاهرة أنَّ هذا الخالف الذي يراه واقع يف املادة املنظورة إال أنَّ
الغاية الجوهرية املقصودة هنا واحدة ،وهي فعل الدواء وتأثريه ليحصل بها الشفاء
تم وحصل. وقد َّ
180
والرىض بسفك الدم فداء وتضحية عن املحبة التي ليس فيها بالطبع فائدة حسية
تعوض للمسفوك دمه.
ً
نعم إننا رأينا يف الناس من يعرض نفسه للهالك أمال منه بنجاة رشيفة ترفع
منزلته فيدرك بها املعايل ،بخالف النبي فإنه زهد فيها وابتعد عنها ألنَّ غايته رشيفة
سامية أرشف وأسمى من تلك الغاية.
فهذه املحبة الفائقة املجردة عن رغبة يف فائدة ومقصد ينتفع بهام يف األرض،
ليست مبحبة برشية أرضية تصدر عن قوة إنسانية وحالة إنسانية وغاية إنسانية ،بل
هي ال تصدر إال عن قوة عالية سامية إلهية يؤديها الله سبحانه وتعاىل.
حيث أنك أقررت بالنبوة والرسالة وجب عليك أن تتبع أوامرهام وتثق بهام ألنهام
ال محالة من الله تعاىل كام علمت.
181
أما املحكوم عليه بالزهرة أن يعيش بني أولئك األمم فإن عاش صالحاً خلص
بصالحه وإن عاش طالحاً حكم عليه بحسب تلك الرشائع التي كان خاضعاً لها .وأما
الذي ولد يف أماكن ال دين فيها وال رشائع فيخلص بصالحه إن عاش صالحاً ،وإال
فيحكم عليه بقدر إدراكه فإذا أثم وكان ال يقدر اإلثم عذر ،والله سبحانه وتعاىل
رؤوف بعباده.
182
أما مصدر هذه الخرافة فهو أجدادكم األولون ،أولئك القبائل الرحل الذين كانوا
إذا ضاقت عليهم أرضهم أو أمحلوا وأجدبوا رحلوا وأخذوا ينتجعون((( ،فإذا اضطروا
إىل النزول بأرض قليلة الكأل رديئة املاء خبيثة الهواء هلكت أموالهم وفني زادهم
وافتقروا وأصيبوا بكثري منهم ومن مواشيهم لسوء عيشهم وجهلهم ،فريحلون وقد
أشاعوا يف حلهم وترحالهم أنَّ تلك األرض مشؤومة .وبالعكس فإنهم إذا أصابوا أرضاً
كثرية املراعي والغدران طيبة املاء والهواء طابت نفوسهم وسمنت مواشيهم ومنت
فيقولون هذه أرض مباركة.
ً
فقلت :يعتقد بعضهم أنَّ من أنشأ دارا من مال الظلم كانت مشؤومة عليه.
فقال :ال يبعد كثرياً أن يكون كذا ألنَّ الله تعاىل قد يعاقب يف األرض أيضاً ويسمى هذا
العقاب «العقاب األريض اإلضايف» ،وهو أيضاً العقاب الذي يكون من نفس العمل.
ولكن الدار ال تكون مشؤومة عىل غري منشئها ،وهذا ال يعد شؤماً بل عقاباً ،إال أنَّ َّ
الله تعاىل ال يعاقب باملوت يف األرض ألنَّ مدة اإلنسان بها يعينها يف الحكم وهو إذ
ذاك بالزهرة.
فقلت له :إذا كانت مدة اإلنسان معينة كام أبنت ،أي ال تزيد وال تنقص ،فال
فائدة من التطبب .فقال :إنَّ التطبيب ال يدفع املوت ،وقد وضع الله تعاىل وصايا
لحفظ الصحة (هي الطب الشايف) ليك يكون اإلنسان معاىف يف مدته املعينة .غري أنه
يستثنى العقاب األريض املوقوت والعاجل ،فالذي يجر العلة عىل نفسه بعدم تحفظه
ومبكابرته يف عدم هربه فترسي إليه وترض به فيعاقبه الله هكذا .فتنبه أنَّ الله
تعاىل يعلم بسابق علمه أنَّ أهايل مدينة كلكتا مث ًال يعرضون نفوسهم ونفوس غريهم
لتهلكة الوباء وهم ال يكرتثون له وال يدققون يف منع العدوى ،فيميت حينئذ كثرياً
منهم لينتبه املقيمون مبدن أخرى ،فيقل املوت ،وبذلك تتم م َّدات املعاقبني املقيمن
باألرض .أما أولئك الذين أميتوا فهم األوىل ،انتهت مدتهم املعينة لهم والذين عفا الله
تعاىل عنهم وخلصوا من عذاب األرض.
وقال :ومن هذا القبيل يعاقب الله تعاىل أيضاً باملرض يف بعض األحيان .مث ًال إنَّ
زيداً وخيم والوخامة ترض به وترض غريه وهو ال يريد النظافة وقد أمر بها ،فيعاقبه
الله بنفس عمله وذلك أن يسمح مبرضه املوقوت تنبيهاً له ويعجل دواءه النظافة أي
183
املنظفات واملطهرات فيتعظ به غريه .أما حفظ الصحة بتناول بعض العقاقري املختربة
فمفيد كام مر بك.
184
األكاذيب واألضاليل حتى أصبحت اليوم يف كثري من البلدان أساطري األولني .فعليكم
أن تقتدوا بأولئك الذين كشفوا عن بصائرهم غشاوة الجهالة فلم يسلطوا عىل
عقولهم روايات املبطلني وحكايات عجائز الحي املخيفة الهائلة.
ومن الدجالني من هم أشد مكراً وأكرث دهاء من غريهم فيقولون إننا ال نعلم ما
سيكون ألنه ال يعلمه إال الله سبحانه وتعاىل وحده فقط ،وإمنا نعلم ما هو كائن اآلن
فال تصدقوهم وكذبوهم ألنهم ال يعلمون أنهم ال يعلمون شيئاً.
185
وسدادك عىل زعمك؟ أال تعلم أوالً أنَّ التعظم إثم؟ وأال تعلم ثانياً أنَّ عقلك هذا الذي
تنافس فيه هو هبة لك من عند الله سبحانه وتعاىل؟ أتعتقد أنك أوجدته لنفسك؟ ال،
أتعتقد أنه ُو ِج َد من نفسه؟ ال .إنك تجاوب وقد حرت أنَّ الطبيعة أوجدته يل .أتعلم
ما معنى هذا الجواب؟ معناه أنك عجزت وعييت فكابرت وحاولت تكرباً منك وتجرباً،
ومل ترد أن تظهر عدالتك وتزيك نفسك برشف إقرارك.
أجب يا هذا :من أوجد الطبيعة وما هذه الطبيعة؟ مالك ال تجيب؟ إنك ال تحب
أن تقول إنَّ الله تعاىل أوجدها لئال يقال إنك أخطأت فغلبت.
يا للعجب! إنك تستحيي أن تنسب إليك املغلبة وحدها فكيف يهون عليك أن
ترمى بالغلبة والجهل والكربياء واملكابرة واملحاولة وباإللحاد أيضاً؟
يجب عىل الرجل العاقل املنصف أن ال يجتهد يف تأييد أخطائه إذا برح له الخفاء
ووضح الحق وانجىل الصواب ،وعىل الخصوص يف الدينيات ،وعليه أن يذعن حاالً
لليقني ويق ّر به مرصحاً ،فيحسب إقراره عل ًام منه ال جه ًال وقوة ال ضعفاً واقتداراً ال
عجزاً.
ما أحىل قولك ال أدري يف مسألة مل تقف عليها ومل تدرك رسها! أال تعلم أنَّ هذا
القول يحفظ كرامتك؟ ألنك إذا أجبت وخبطت خَ ْب َط عشواء عرضت نفسك لإلهانة.
وهذه العادة املستهجنة متمكنة من كثريين يجتمعون لحل معضالت يتوقف عليها
إصالح أمة أو فسادها ،فيجتهد الرجل منهم يف إثبات رأيه بفصاحته وبالغته مع أنه
عىل ضالل ،وهو يعلم ضاللته بعد ذلك فال يريد أن يقلع عنها خوفاً عىل منزلته عىل
زعمه لئال يقال عنه تكلم فالن فلم يصغ إليه ألنَّ فالناً أفسد عليه رأيه وغلبه بقوة
حجته وحسن برهانه.
فيبعث حب الذات والكربياء والحسد هذا الضال املكابر عىل املامحكة يف لجاجة
إىل أن ينفرط سلك الجمع ،إما بخصام ونزاع عظيمني لهام تأثري شديد عىل األمة ،وإما
بضياع الوقت يف الجدال فال يتفقون فتفوت الفرصة وهناك الرضر العظيم.
فأنصح هؤالء املكابرين أن يجتنبوا كل اجتامع خصويص وعمومي لئال يتمكن
منهم حب املقاومة واملخالفة ،فيصري فيهم عادة يشتهرون بها فيفقدون منزلتهم
ويرضون إخوانهم رضراً ال أعظم وال أشد منه.
ليعلم هؤالء املكابرون واملقاومون أنَّ الذين يدعونهم إىل بعض املجالس يريدون
منهم أن يستعينوا بهم عىل الرش والضالل.
186
الفصل الحادي عرش منه
_ يف النجس _
وقلت لوالدي :يقولون هذا اليشء نجس ،وأنا أراه نظيفاً نقياً فلامذا هذا؟ وماذا
يريدون بالنجس؟ فقال :كل قذر وخيم وكل عفن .وكل آجن((( آسن((( وجب اجتنابه
عىل التعميم ،وكل يشء تأباه نفسك وينفر منه طبعك ويرده ولو أكره عليه وجب
اجتنابه عىل التخصيص حتى الدواء.
وكل يشء حسن الظاهر قبيح الفعل وجب اجتنابه كالخمر بفعلها ،فإنك إذا
نظرت عصري العنب املخمر وجدته نظيفاً حسناً ،فإذا أسكر يف رشبه وظهر فعله وهو
اإلرضار بشاربه يف ماله وسمعته ،وجب االمتناع عنه.
والدليل عىل أنَّ اليشء إذا قبح فعله منع هو أنَّ الخمرة إذا استحالت وخللت،
أي إذا حمضت وفسدت ،زال املنع وذلك بزوال فعلها وهو اإلسكار مع أنها تحولت
من حالة إىل أدىن منها أي من الصالحة إىل الفساد.
1ـ أجن املاء تغري طعمه ولونه وقيل رائحته وقيل غشيه الطلحب والورق فهو آجن وأجن وأجون.
2ـ أسن املاء :تغري طعمه ولونه وريحه فهو آسن.
187
188
الباب التاسع
189
190
الفصل األول من الباب التاسع
_ يف األرض وقدمها _
وقلت لوالدي :إنني أسمع كثريين من العلامء يقولون إنَّ األرض قدمية أقدم من
التاريخ الذي يلوح يف التوراة ،ويقولون إنَّ اإلنسان وجد قبل ذلك الزمان أيضاً ،فامذا
ترى؟ فقال :لقد صدقت التوراة ،ولقد أصاب علامؤكم ،ألنَّ الله تعاىل كان خلق األرض
وأنزل إليها جامعة من الزهرة وذلك منذ أحقاب ودهور غاية يف القدم .غري أنه رأف
بعد ذلك بعباده املعذبني يف األرض فعفا عنهم عفواً عاماً وأمر ،فصدمها أحد الربوج
فأحرقها يف طرفة عني فخرجت النفوس منها إىل الزهرة.
أما املعذبون يف زحل فلم يعف عنهم إىل اآلن .وبعد أدهار عاد سكان الزهرة إىل
الخطيئة فأنزلهم إىل األرض بعد ما جعلها صالحة لعيش البرش ،ثم عفا عنهم أيضاً
وهكذا إىل عهد آدم وحواء ،وسوف يعفو عنهم مب ّنه وكرمه.
اض أو الغضب. 1ـ شزر فالناً وإليهَ :ن َظ َر إليه مبؤخر عينه ,وأك ُرث ما ُ
يكون يف حال اإلعر ِ
191
الفصل الثالث منه
_ يف قولهم خري لإلنسان أن ال يخلق _
وقلت لوالدي :ماذا ترى يف قولهم خري لإلنسان أن ال يخلق ،ألنه يعاقب كثرياً
لكونه رهيناً بذنبه منقاداً ألهوائه الغالبة عليه مأسوراً بشهواته املتمكنة منه؟ فقال:
إنَّ اإلنسان مل ينزل إىل األرض ليتنعم بها ،بل ليعاقب كام علمت .أما الخلق يف الزهرة
فال يأثم منهم إال عدد قليل ال ُيعتد به بالقياس إىل كرثتهم .فهل من الحكمة أن ال
ُيخلقوا وأن ُيحرموا السعادة والنعيم يف الزهرة واملريخ من أجل جزء منهم يسري ال
يريد أن يستعني بعقله عىل تخفيف شهوات قلبه ورغائبها؟ إنك تجيبني كال.
مع هذا كله إنَّ الله تعاىل يعلم ضعفكم ومنزلتكم من القوة والعقل والتحمل،
ولذلك مل يكلفكم أكرث من وسعكم فيعاقبكم عقاباً تستحقون أشد منه وأعظم .وهو
تعاىل ال يريد أن ميسك عنكم رحمته إىل األبد فريفق بكم ويغفر لكم إذا استعنتم
به عىل التوبة ويرس بخالصكم ،غري أنه يجب أن تحذروا الطمع برحمته وأن ال
تعصعوه بل يلزمكم أن تنتبهوا لنفوسكم ،فإذا زلت بكم القدم وأدركتم سيئاتكم
ندمتم واستغفرتم حاالً من غري أن تؤخروا توبتكم وال دقيقة واحدة ،ألنه رمبا كان
فيها انرصام حبل الحياة.
192
فإذا درى هون عليه هوى نفسه عىل غيه وضالله .إنَّ الله تعاىل يريد بعباده خرياً
وهم ال ينتبهون.
193
عقاباً أرضياً يضيفه عىل عقاب الزهرة ،وهو أن يفقره ليكون عقابه من نفس عمله،
مع أنَّ الغني الذي أفقره ذلك الغني كان محكوماً عليه يف الزهرة أن يفتقر يف
األرض فلم يتسلط عليه الغني والحالة هذه يف الحقيقة ،ومل يفقره هو ،وبيان ذلك
أنَّ الغني الظامل أرادت نفسه الظلم وهو من الحاسدين وقد أبرص بني يديه كثريين
من األغنياء (املحكوم عليهم بالفقر بعد غنى) فأفقر أحدهم أي كان سبب فقره
بغدره ومكره أو ببطشه ونفوذ كلمته.
وإذا دققت وبحثت عن ثروات بعض أولئك الذين اعتدي عليهم فافتقروا،
أدركت شيئاً من حكمة الله تعاىل وعدله .فإذا قلت رأيت كثريين من األغنياء
يفتقرون وهم مل يظلموا ومل يعتدوا ،قلت لك :أمل أذكر أنَّ الفقر عقاب من عند
الله تعاىل يف الزهرة؟
وإين أزيد عىل هذا وأقول :إنَّ كثريين من البرش عندكم يتزيون بأزياء العادلني
وهم ظاملون وأنتم ال تعلمون .إنَّ الله تعاىل يعلم الخفيات وما يف تلك القلوب
والضامئر الرديئة املضمرة الغدر والرش وهي ترقب الفرص لتفرتصها .فهؤالء
يعاقبون ولو يستطيعوا أن يفقروا غريهم ألنهم أرادوا وأرصوا فام استطاعوا.
أما بعض الصالحني األتقياء الذي يفتقرون بعد غنى وهم قليلون ،فإنهم إذا
مل يكونوا أضاعوا ثروتهم بتغفلهم وتوانيهم فقد أضاعوها بالبخل والطمع وهم
ال ينتبهون ،كالذين يجلبون بضاعاتهم ويرسلونها من غري ضامن فتغرق أو تحرتق
أو تفقد إىل غري هذا .دققْ ون ّق ْب تجد سبباً بل أسباباً .إنَّ الله تعاىل قد يحكم
يف األرض باالفتقار بعد الغنى ولكن للسبب الذي يجره املفتقر عىل نفسه وذلك
ليعترب الناس وينتبهوا.
وقلت لوالدي :سمعت كثريين يقولون :ترى باراً يشقى ورشيراً ينعم فام
الحكمة يف هذا؟ فقال :أمل تعلم مام مر بك أنَّ البار املقيم باألرض كان حوكم يف
الزهرة فحكم عليه بأن يشقى بسجنه األريض ،فإن عاش صالحاً عاد إىل الزهرة بعد
نهاية أيامه؟ والرشير قد حكم عليه بأن يرس يف األرض ألنَّ ذنبه كان يف الزهرة
أخف من ذنب البار ،فإذا عاش طالحاً عوقب فيها أيضاً بعد خروجه من األرض
كام علمت.
194
الفصل السابع منه
_ يف قول بعضهم َّإن اإلنسان ضعيف تستعبده شهواته _
وقلت لوالدي :ما رأيك يف قول بعضهم إنَّ اإلنسان ضعيف تستعبده شهواته فلو
خففها الله تعاىل لكان تخفيفها أرحم له؟ فقال :يرتتب عىل ذلك أن يخلقه مقيداً
غري مطلق اإلرادة وغري حر أيضاً فيعد من املعتوهني الذين ال يحاكمون وال يعاقبون
كغريهم فال يستدل به عىل عظمته تعاىل وقدرته .فقلت له :لقد ظهر من كالمك أنَّ
اإلنسان مطلق اإلرادة .فقال :إذا أراد اإلنسان بنفسه خرياً دله الله تعاىل عليه وإذا
أراد رشاً نبهه ونهاه عنه .فإذا مل يطع تركه عىل عصيانه .فلو منعه مل يجعل له فض ًال
وأجراً يف الطاعة وكرس اإلرادة وزجر النفس األمارة بالسوء.
195
أين اآلن شقيقتي الصغرى وبنايت الثالث؟ فقال :يف الزهرة .فقلت :أشتهي أن تحرضهن
يل اآلن فقد اشتقتهن اشتياقاً أذابني أو كاد .فقال :بأية هيئة تريد أن تراهن؟ أمبثل
هيئتي هذه أم بهيئتهن الطبيعية يف الزهرة .فقلت :أحب أن أراهن كام هن اآلن.
فغاب هنيهة ثم عاد ويف يده غشاوة سوداء فوضعها عىل وجهي وقال :إنك تستطيع
بهذا الستار أن تنظر إليهن فال خوف عىل عينيك من نورهن ،وبعد هذا قال( :أرسعن)
وقبل ميض دقيقة رأيت أربع فتيات ،ما ملحتهن إال مسني الخبل وانعقد لساين وسكنت
جميع حركايت ورصت كقطعة من جبل راسخة ال حراك بها ،وشعرت للحال أنه ليس
يف عيني قوة ميكنهام بهام أن تبرصا حسنهن ،وعلمت أنَّ جاملهن يشء آخر ال يشبه
جاملنا وأدركت أنَّ جسمي أضعف من أن يتحمل هذا املنظر الذي هو فوق حواس
سكان األرض ،فاحتقرت نفيس ورصت كبعوضة حقرية وأنا مطرق خج ًال واستحياء.
أما هن فتقدمن إيل ووقعن عيل يقبلنني ،فطابت نفيس وعاد إيل نشاطي وقوي
قلبي ،وعقلت أن بني يدي من ال يجب أن أستحيي منهن فجعلت أقبلهن وأضمهن إىل
صدري وأنا أقول :لقد غلبني شوقي أنا العفيف فال أقوى عىل اإلفصاح عام أكابده من
لوعات الفراق .آه ما أحرها فإنَّ لها ناراَ شديدة االضطرام تحرق قلبي ولكنها ال تريد
أن تفنيه ألنج َو من عذاب أليم.
لقد ذهبنت إىل النعيم حيث السعادة وأنا مقيم باألرض أعاين مصائبها ونوائبها،
وأزاول مخاوفها ومصاعبها وأقايس بالياها وأمارس رزاياها وأتجشم شدائدها وأتكلف
مكارهها وأتحمل مكايدها.
إنَّ حزين عليكن شديد وقلبي منه عليل وجسمي به نحيل ،فيا أميل خذ بيدي ويا
صربي ق ّوين ،ويا ريب ال تنسني وإن شئت فتداركني برحمة منك.
فقلن يل بصوت واحد :إننا نسأل الله سبحانه وتعاىل كل يوم أن يرحمنا بك
وبوالدتينا فأنتم غصتنا ،وال نسأله أن يقرص أيامكم يف األرض ألنَّ حكمه ال يتغري .ال
نسألك عن والدتينا وإخوتنا ألننا أعرف منك بأحوالهم ،وإمنا نسألك أن ال تسأل عنا
فإننا بخري من الله تعاىل .كل يشء يف الزهرة حسن وكل يشء لذيذ .ال نشكو إىل الله
ضي ًام وال أملاً .غمنا عىل فراقك أقل من غمك عىل فراقنا ،ألننا نعلم أنك ستعود إلينا،
فتب إىل الله التواب العظيم لئال تكون أيامك يف مدينة التكفري طويلة .إننا نحب ْ
ونشتهي أن تكون معنا اآلن يف الزهرة ،ولكن الله العادل ال يحب ما نحبه ونتمناه،
فإذاً يجب علينا أن ال نحب ما ال يحبه الله ألننا إن أحببناه خالفناه.
196
فلام فرغن من كالمهن قلت لوالدي :أال تأذن لهن بأن يتزوجن؟ فقال :إنهن ال
يتزوجن إال بعد أن يرجع إىل الزهرة آخر سجني يف األرض من أقاربهن.
أما هيئتهن فقد رأيتها تختلف كثرياً عن هيئتنا نحن سكان األرض .إين رأيت
لجسمهن لوناً يأخذ حسنه بالقلوب والعقول ،وهو نوع من الزرقة البهجة التي تؤثر
يف األبصار .ولشعورهن لون ألطف من الفضة وهي تلمع ملعان الربق وأعظم.
وبعد ربع ساعة قبلنني وقبلتهن ثم ذهنب .فقال والدي :أتريد أن تسألني؟ فقلت:
بقي عيل سؤال واحد وهو :كم سنة أعيش يف األرض؟
فأجاب :إين ال أستطيع أن أطلعك عىل املدة املعينة ،وإمنا أستطيع أن أطلعك عىل
أمر يرسك وهو أنك ستكون قاضياً يف مدينة القضاة.
ثم قال :أوصيك بأن تتوب توبة كاملة لتنجو من عذاب االحتضار ،وأوصيك أيضاً
بأن تجعل الكلامت األربعة نصب عينيك ،وأحب وأشتهي أن أكررها لك وهي «املحبة»
«العفة» «التواضع» «الصدق».
ويف الختام أوصيك بأن تثبت كل ما سمعته مني يف كتاب تطبعه لتعم فائدته.
فقلت :إين أخاف أن ال أحفظ وأذكر كل ما ذكرته ورسدته ،فقال :أنا أعلم أنك ال تنىس
بإذن الله تعاىل شيئاً .ثم قال :إين أريد أن ال تكتب بلغة عالية كام يفعل أكرث كتبة
العرب فيحبسون تآليفهم عن العامة مع إنها أوىل بها من الخاصة .فقلت :أخىش أن
أجمع بني العامي والفصيح فال أدرك الغاية .فقال :اكتب الكالم والعبارات التي دارت
بيننا نفسها وهي لغة قريبة الفهم ما خال بعض كلامت ال ب َّد منها فاجعل لها رشحاً.
ثم قبلت يديه فباركني وضمني إىل صدره وغاب كأنَّ غاممة وارته وأنا أقول :أال
تحرض عيل مرة ثانية؟ فسمعته يقول :إذا شاء الله تعاىل حرضت .فانتبهت والليل
أخذت أتأمل وأقول يف نفيس :ما ُ اللهم زدين إمياناً وتداركني برحمتك .ثم
مظلم أقولَّ :
هذا يا ريب؟ أكل هذا منام؟ إنَّ يف األمر لعجباً! ثم رشعت أكتب هذا الكتاب حتى َّ
تم
بإذن الله تعاىل ،فأسأله أن يغفر يل ذنويب وأن يخفف عني سكرات املوت ويختم يل
الخري ألتقرب إليه باملحبة.
صــــــــرت بالدنيــــــا خبيـــــــراً فلـــــــــذا أعرضــــت عـــــنهـــا
حــينمـــــا أخــــــــرج مــنهــــا أحـســــــن الساعـــــات عنـــــدي
197
198
صدر يف سلسلة كتاب الدوحة
199