Professional Documents
Culture Documents
المدخل لدراسة الشريعة (من الصفحة 51-60 ترقيم PDF
المدخل لدراسة الشريعة (من الصفحة 51-60 ترقيم PDF
فمَن األحكاِم التي نزلت بمناسبة حوادَث وقعت ،قولُه تعالىَ( :و اَل َتنِكُحوا اْلُم ْش ِر َك اِت َح َّتٰى ُيْؤ ِم َّن ۚ َو َأَلَم ٌة
ُّم ْؤ ِم َنٌة َخْيٌر ِّم ن ُّم ْش ِر َك ٍة َو َلْو َأْع َج َبْتُك ْم ﴾ [البقرةَ ]221 :فقد نزلت هذِه اآلية بمناسبة حادثٍة خالصتها أن أحد
الُم سلمين عزم على نكاح مشركٍة وعلَق ِنكاحه على موافقة النبي صلى هللا عليِه وسلم فلما أخبرُه بذلك
.نزلت هذه اآلية
ومن األحكاِم التي نزلت جوابًا على سؤال قوله تعالىَ( :و َيْس َأُلوَنَك َع ِن اْلَم ِح يِض ُقْل ُهَو َأًذ ى َفاْعَتِز ُلوا
الِّنَس اَء ِفي اْلَم ِح يِض َو اَل َتْقَر ُبوُهَّن َح َّتى َيْط ُهْر َن ﴾ [البقرة .]222 :وقوله تعالىَ( :و َيْس َأُلوَنَك َع ِن اْلَيَتاَم ى ُقْل
ِإْص َالٌح َّلُهْم َخ ْيٌر﴾ [البقرة .]220 :و( َو َيْس َأُلوَنَك َم اَذ ا ُينِفُقوَن ُقْل اْلَع ْفَو ﴾ [البقرة .]219 :ومن الُسنة ما ُروي
أن بعض الصحابة سألوا النبي صلى هللا عليِه وسلم عن ماء البحِر وجواز الوضوء به فَقال لهم« :هو
».الّطهور ماؤه الِح ل میتُته
الثاني ُو رود األحكاِم غيَر مسبوقٍة بسؤال وال حادثة معينة ،ولكن الشارَع يرى أن األوان قد آن لتشريع هذِه
األحكام لضرورتها للُم جتمع الذي يريد تكوينه وإيجاده ،ألن الشريعَة ما جاءت فقط لسد حاجاٍت قائمة
وإعطاء الحلول لوقائع حاصلة فعًال وإّنما جاءت إليجاد مجتمٍع من نوع خاص قائم على أسس معينة
ليكون هو الَم ثل األعلى لكل مجتمٍع في المستقبل .ومن هذا النوع من األحكام ،الشورى في الحكم ،وتبيان
.مقادير الزكاة ،وتفصيُل كثيٍر من أحكام األسرة وبيان بعض العقوبات ونحو ذلك
قام التشريع على أساس مراعاة مصالِح الناس ودرء األضرار والمفاِس د عنهم ،وهذا هو األصُل الكبير
الجامع لجميع أحكام الشريعة اإلسالمية .وبناًء على هذا األصل نستطيع أن ُنعدد ميزات التشريع في هذا
الدور ،وهي بالَح قيقة مظاهٌر لهذا األصل الكبير :رعاية مصالح الناس ودفعِه الضرر عنهم .فمن هذه
:المظاهر ،وإن شئَت قل الِم يزات ما يأتي
الصفحة 52
فالقرآُن الكريم ما نزَلت أحكامُه مرة واحدة وكذا أحكاُم السنة ما جاءت دفعة واحدة .وقد رأينا أن األحكام
كانت تنِز ل جوابًا عن سؤال ،أو تبيانًا لحكم حادثٍة وقعت أو بناًء على تقدير الشارع أن حكمًا معينًا قد آن
أوان تشريعه وتنفيذه وهذا كله يجعل التشريع موصوفًا بالتدرج .والحكمة من ذلك أن هذا النهج في
التشريع يجعُل األحكام أخف على النفس ِم ما لو نزلت دفعة واحدة وبالتالي تكون أدعى إلى القبول
واالمتثال .كما أن في هذا التدريج تيسيرًا للمَخ اَطبين لمعرفة األحكام وحفظها واإلحاطة بأسبابها وظروف
تشريعها ،وهذا هو المالئم لحالة العرِب ،وهم المسلمون األولون ،إذ ما كانت القراءة والكتابة شائعة فيهم،
وكان جل اعتمادهم على ذاكرتهم وحفظهم ،فمن حقهم أن ُتراعى حالتهم هذه وتنزل عليهم األحكام شيئًا
.فشيئًا حتى يمكن استيعابها ومعرفتها وحفظها
ب ـ تدرٌج في أنواع ما ُش ِر ع من أحكام :وهذا أمٌر ظاهر ،فإن المسلمين لم يَك لفوا بالتكليفات الكثيرة في
بدء اإلسالم ،بل أخذوا بالرفق تيسيرًا على نفوسهم ،فجاءت التكليفاُت قليلة أوال ليكون كل تكليف سابق
تمهيدًا لقبول التكليف الالحق .فالصالة مثًال شرعت في أول األمر صالٌة بالَغداة وصالة بالعشي ثم ُجعلت
خمس صلوات في اليوم والليلة .والزكاة ما كان لها حٌد محدود وإنما ترك األمر للمسلم ينفق ما يستطيعه
ويشاؤه ،ثم ُعينت مقاديرها على سبيل اإللزام .والخمُر ما حرمت رأسًا وإنما مهد لها ببيان أضرارها أوال
ثم النهي عن قربان الصالة في حالة الُسكر ثانيًا ثم جاء التحريم القاطع أخيرًا .والقتال كان في بدء
اإلسالم غير مأموٍر به لقلة عدد المسلمين ،فأمروا بالعفو والصبر على األعداء ،واإلعراض عنهم وترِك
ُم قاتلتهم ،قال تعالى ( :اَّتِبْع َم ا ُأوِح َي ِإَلْيَك ِم ْن َر ِّبَك ال ِإَلَه
الصفحة 53
ِإال ُهَو َو َأْع ِر ْض َع ِن اْلُم ْش ِر ِكيَن ﴾ [األنعام .]106 :ثم لما َقوي المسلمون أذن لهم في القتال دفاعًا عن
أنفسهم ،قال تعالىُ( :أِذ َن ِلَّلِذ يَن ُيَقاَتُلوَن ِبَأَّنُهْم ُظِلُم واۚ َو ِإَّن َهَّللا َع َلٰى َنْص ِرِهْم َلَقِد يٌر﴾ [الحج .]39 :ثم فرض
عليهم القتال فرضًا قال تعالىَ( :و َقاِتُلوا ِفي َس ِبيِل ِهَّللا اَّلِذ يَن ُيَقاِتُلوَنُك ْم َو اَل َتْعَتُدواۚ ِإَّن َهَّللا اَل ُيِح ُّب اْلُم ْعَتِد يَن ﴾
[البقرةَ( .]190 :و َقاِتُلوُهْم َح َّتى ال َتُك وَن ِفْتَنٌة َو َيُك وَن الِّديُن ُك ُّلُه ِهَّلِل َفِإِن اْنَتَهْو ا َفِإَّن َهَّللا ِبَم ا َيْع َم ُلوَن َبِص يٌر)
[.األنفال]39 :
ج -تدرٌج بذكر األحكام بشكٍل كلي ثم يأتي التفصيل بعد ذلك .فالتشريع الَم كي ،فيما َتَع رض له من أحكام
.عملية ،جاء بشكل كلي ثم جاء التشريع المدني مفصًال لهذا الكلي
ومن مميزات التشريع في هذا الدور أيضًا ،رفع الحرج (في الهاِم ش :وهذه الِم يزة ليست خاصة بهذا
الدور ،بل هي ميزٌة أصيلة للتشريع اإلسالمي ال ينفك عنها في أي دور من األدوار) .وهذا ظاهٌر للمتتبع
ألحكام الشريعة ،فهناك نصوٌص صريحة تدل على أن الشارع ما يريد بعباده إال التيسير والتخفيف وال
يريد بأحكاِم ه التضييق والتشديد قال تعالى« :يريد هللا بكم اليسر وال يريد بكم المتر﴾ [البقرةُ(. ]185 :يِر يُد
ُهَّللا َأن ُيَخ ِّفَف َعنُك ْم ﴾ [النساءَ (. ]28 :و َم ا َجَعَل َع َلْيُك ْم ِفي الِّديِن ِم ْن َح َر ٍج﴾ [الحج .]78 :وفـي الـُسـنـة أيضًا
الشيُء الكثير من النصوص بهذا المعنى ،من ذلك «يسروا وال تعسروا» «ُبعثت بالَح نيفية السمحة».
وصح أن النبي صلى هللا عليِه وسلم «ما ُخ ير بين شيئين إال اختار أيسَر هما» .وقال عليه الصالة والسالم:
«».لوال أن أُش ق على أمتي ألمرتهم بالسواك عند كل صالة
أـ اعتبار الَم رض والسفر واإلكراه والخطأ والنسيان أعذارًا لتخفيف األحكام وتشريع الُرخص .والقاعدة
الشرعية «الضرورات ُتبيح المحظورات» ُبنيت على أصِل رفع الحرج دفعًا للمشاق والضيق عن
.أصحاِب األعذار والضرورات
الصفحة 54
ب -قلة التكاليف في الشريعة :فالتشريع اإللهي في هذا العصر لم يأت بتكاليف كثيرة ترهق المكلفين ألن
في اإلرهاق حرجًا وضيقًا ،والحرج مرفوع كما قدمنا .كما ان المقُصود من التكاليف إيصال المكَلف إلى
الحياة السعيدِة في الدنيا واآلخرة فال يأتي التشريُع إال بالقْد ر الالزم الذي تطيقه الطبيعة البشرية .ومما يدل
على أن رغبَة الشارِع تقليُل التكاليف ما أمكن التقليل ما جاء في الُسنة من أحاديث منها« :إن َهللا فرض
فرائَض فال ُتضيعوها وَح ّد حدودًا فال تعتدوها وحّرم أشياء فال تنتهكوها ،وسكَت عن أشياء رحمًة بكم غير
نسياٍن فال تبحثوا عنها» وعندما سأل أحدهم النبي عن الحج وهل هو في كل عام؟ قال النبي صلى هللا عليِه
وسلم« :لو قلُت نعم لوَج بت ،ذروني ما تركتكم فإنما َهلك من كان قبلكم بكثرة مسائلهم واختالفهم على
».أنبيائهم
ومعناُه رفع الُحكم السابق بحكٍم الحق .وقد وقع الَنسخ في التشريع اإلسالمي هذا الدور فقط ،وسبُبه رعاية
:المصلحة ورفع الحرج والضيق عن المكلفين وأخذهم بُسنة التدرج والرفق ،فمن ذلك
أـ أن المتوَفى عنها زوجها كانت أول األمِر سنًة كاملة وكان على الزوج أن يوِص ي لها بالنفقة والسكنى في
هذه المدة ،قال تعالىَ( :و اَّلِذ يَن ُيَتَو َّفْو َن ِم ْنُك ْم َو َيَذ ُروَن َأْز َو اًجا َو ِص َّيًة ألْز َو اِجِهْم َم َتاًعا ِإَلى اْلَح ْو ِل َغْيَر
ِإْخ َر اٍج) [الـبـقرة ]240 :ثـم ُجعلت الِع دة أربعَة أشهٍر وعشرة أيام ،قال تعالىَ( :و اَّلِذ يَن ُيَتَو َّفْو َن ِم ْنُك ْم
َ.و َيَذ ُروَن َأْز َو اًجا َيَتَر َّبْص َن ِبَأْنُفِس ِهَّن َأْر َبَع َة َأْش ُهٍر َو َع ْش ًرا﴾ [البقرة]234 :
ب -وكانت الوصية للوالديِن واألقربيَن واجبًة ثم ُنسخت بآية المواريث كما جاءت السنة مؤكدًة لهذا الَنسخ
».فقد جاء في الحديِث عن النبي صلى هللا عليِه وسلم« :إن هللا أعطى كَل ذي حٍق حقه أال ال وصية لوارث
ج -نهى النبي صلى هللا عليِه وسلم عن زيارة الُقبور ثم أباحها بعد ذلك ،فقد جاء في الحديث « :كنُت قد
».نهيتكم عن زيارة القبور ،أال فزوروها فإنها تذكركم اآلخرة
د ـ ونهاُهم النبي صلى هللا عليِه وسلم عن إدخار لحوِم األضاحي ألجل الُو فود التي جاءت إلى المدينة ثم
.أَباح لهم االدخار بعد ذلك
الصفحة 55
.هـ -كانت الِقبلة أوًال إلى بيت المقدس ثم ُجعلت القبلة في الصالة إلى الكعبة
قلنا :إن الِفقه في هذا العصر هو فقه الوحي ،أي :إن مصدر التشريع هو وحُي هللا في قرآنه أو على لسان
رسوله في السنة .ولكن ثبت أن النبي صلى هللا عليِه وسلم اجتهد ،وأنه أِذ َن ألصحابه باالجتهاد وأقرهم
على بعض ما اجتهدوا فيه ،فهل ُيعتبر االجتهاد في هذا الدور مصدرًا للفقه وتشريع األحكام؟ هذا ما نجيب
.عليه مبتدئين أوًال بذكر بعِض ما اجتهد فيه النبي صلى هللا عليِه وسلم وما اجتهَد فيه أصحابه
ـ فمن اجتهاِد النبي صلى هللا عليِه وسلم أنه أخذ الِفداء من أسرى بدر ،ألَن ُحكم األسَر ى لم ُيشَر ع في122
ذلك الحين ولم ينِز ل الوحي بحكم هؤالء األسرى فاجتهد النبي صلى هللا عليِه وسلم واستشاَر أبا بكٍر وعمر
فأشار أبو بكر بأخذ الفداء وخالفُه عمر ،فأخذ النبي صلى هللا عليِه وسلم الِفداء من األسرى .ومنه أيضًا
إذنه للُم تخلفين عن غزوة تبوٍك بالبقاء في المدينة بناًء على ما ادَعوه من أعذار ،ومنه ما جاء في الحديث
أن النبي صلى هللا عليِه وسلم قال إلحدى أزواِج ه« :لوال أّن قومِك حديثو عهٍد بكفر لبنيُت الكعبة على
قواعد إبراهيم» وهذا الخبُر يشهد بأن النبي صلى هللا عليِه وسلم كان ُيرجح بعض األمور على بعٍض لما
يراه من المصلحة لألمة .وكذلك قوله عليه الصالة والسالم« :لوال أن أشق على أمتي ألمرتهم بالسواك
عند كل صالة» فهذا تخُيٌر منه عليه الصالة والسالم في أمر السواك وإيثاِر ترك األمر به لدفع المشقة عن
.األمة
ـ ومن اجتهادات الصحابة :أو إذن النبي صلى هللا عليِه وسلم لهم باالجتهاد ،حديُث معاذ المشهور123،
فإن النبي صلى هللا عليِه وسلم بعثُه إلى اليمن وقال له« :كيف تصنُع إن عرض لك قضاء؟» قال :أقضي
بما في كتاب هللا .قال« :فإن لم َيكن في كتاب هللا؟» قال :فبُسنة رسول هللا .قال« :فإن لم يكن في سنة
رسول هللا؟» قال :اجتِهُد رأيي وال آلو ـ أي ال أقِص ر ـ فضرب رسول هللا صلى هللا عليِه وسلم بيدِه على
صدره وقال« :الحمد هلل الذي وفق رسوَل رسوِل هللا لما ُيرضي رسوَل هللا» .فهذا دليل على إذن النبي
صلى هللا عليِه وسلم للمسلميَن في االجتهاد .ومن ذلك أن صحابيين خرجا في سفٍر وحان وقت الصالة ولم
يكن معهما ماء فتيمما وصليا ثم وجدا الماء قبل خروج الوقت فتوضأ أحُدهما
الصفحة 56
وأعاَد الصالة ولم ُيِع د اآلخر ،فلما قدما على النبي صلى هللا عليِه وسلم وأخبراه بما حصَل صّو َبهما ولم
ينكر على أحِد هما ،وقال للذي لم يعد صالته« :أصبَت السنة وأجزأتك صالتك» .وقال للذي أعاد« :لك
األجُر مرتين» .ومن ذلك أيضًا أن النبي صلى هللا عليِه وسلم لما َر جع من معركة الخندق وأراد أن ينزَع
لباس الحرِب أمره هللا بالتوجه إلى بني قريظة ،فقال النبي صلى هللا عليِه وسلم ألصحابه« :ال ُيصلين أحٌد
منكم العصر إال في بني قريظة ،فساروا ُم سرعين متوجهيَن إلى بني قريظة ،فلما حان وقت العصر صلى
بعضهم في الطريق وأّو َل كالَم النبي صلى هللا عليِه وسلم بأنُه أراد السرعة في المسير ال تأخير الصالة.
ولم ُيصل البعض اآلخر إال بعد وصوله إلى بني قريظة .ولم ينكر النبي صلى هللا عليِه وسلم على أحِد
.الفريقين
ـ فاالجتهاُد ،إذن ،ثابٌت وواقع في عصر النبي صلى هللا عليِه وسلم .ولكنه لم يكن مصدرًا للتشريع124
مستقًال عن الوحي .وبياُن هذا أن اجتهاد النبي صلى هللا عليِه وسلم إما أن يكون عن إلهاِم هللا له فهذا وحٌي
بالمعنى وهو من َقبيل الُسنة ،وإما أن يكون اجتهاَده عليه السالم بدون إلهاٍم من هللا له ،وفي هذه الحالة ال
ُيقره هللا على اجتهاده إذا لم يكن صوابًا كما في قضية أسرى بدر إذ نزل القرآن مبينًا أن أخذ الفداء ما كان
صوابًا ،وكذا نزل العتاب إلذنه للمتخلفين عن غزوة تبوك بالبقاء في المدينة .قال تعالىَ( :ع َفا ُهَّللا َع ْنَك ِلَم
َأِذ ْنَت َلُهْم َح َّتٰى َيَتَبَّيَن َلَك اَّلِذ يَن َص َد ُقوا َو َتْع َلَم اْلَك اِذ ِبيَن ) [التوبة .]43 :فاجتهاُد النبي صلى هللا عليِه وسلم
.مرُده إلى الوحي وليس بمصدر مستقل للتشريع
أما اجتهاُد أصحابه فمرده إلى النبي صلى هللا عليِه وسلم فإن أقره صار تشريعًا لألمة وإن لم يِقره لم يكن
تشريعًا ،فال ُيعتبر اجتهاد الصحابة مصدرًا للفقه .وال ُيقال ما الفائدة إذن من وقوع االجتهاد إذا لم يكن
مصدرًا للتشريع ،ألن الحكمة من وقوعه إعالُم األمة بجواز استنباط األحكام بطريق االجتهاد وإرشادها
.إليه
تبيَن مما ُقلناه أن النبي صلى هللا عليِه وسلم هو مرَج ع الُفتيا والقضاء وهو الُم بلغ عن ِهللا أحكاَم اإلسالم،
فال مصدر للتشريع في هذا العصر إال القرآن والسنة .أما اجتهاد الصحابة فمرده إلى النبي صلى هللا عليِه
وسلم فهو الذي يقره أو ينكره ،فما كان اجتهادهم مصدرًا مستقًال
الصفحة 57
.للفقه ،وحيُث ال اجتهاد فال اختالف وال تعُد َد أقواٍل في المسألة الواحدة ،وال إجماع
اتخذ النبي صلى هللا عليِه وسلم ُك تابًا يكتبون له ما ينِز ل من القرآن ،ومن هؤالء زيٌد بن ثابت وعلي بن أبي
طالب ،وعثمان بن عفان وغيرهم .كما أن بعض الصحابِة كان يكتُب لنفسه ما يتيسر له كتابته من آيات
.القرآن الكريم
وتوفي الرسول صلى هللا عليِه وسلم والقرآُن محفوظ في الصدور ،مدوٌن كله في الِر قاع ونحوها ،إال أنه لم
يكن مجموعًا في مصحٍف واحد وإنما كان مفرقًا حتى تم جمُعه في مجموعة واحدة -أي في مصحف
واحد -في زمان أبي بكر كما سنذكره فيما بعد .أما الُسنة فلم يتخذ النبي صلى هللا عليِه وسلم ُك تابًا يكتبونها
ولم يأمر بكتابتها ،بل َنهى عن كتابتها في أول األمر (الهامش :1جاء في صحيح مسلم عن النبي صلى هللا
عليه وسلم« :ال تكتبوا عني ،ومن كتَب عني غير القرآن فليمحه وحِد ثوا عني وال حرج .ومن كذب علي
ُم تعمدا فليتبوأ َم قعده من النار» .صحيح مسلم ج 18ص .129وهذا النهُي محمول -في أول األمر -على
خشية اختالط السنة بالقرآن فلما أِم ن الُلبَس واالختالط أبيح لهم أن يكتبوا .ويجوز أن يكون النهي عن
كتابة السنة موجهًا إلى ُك تاب الوحي خاصة لئال يختلط ما يكتبونه من السنة بما يكتبون من القرآن) َخشية
اختالطها بالقرآن ثم أباَح لهم كتابتها فكان بعض الصحابة يكتب ما يسمعه من النبي صلى هللا عليِه وسلم
مثل عبد هللا بن عمرو بن العاص (الهامش :2قال عبد هللا بن عمرو بن العاص :كنُت أكتب كل شيء
أسمعه من رسول هللا صلى هللا عليِه وسلم أريد حفظه فنهتني قريش فقالوا :إنك تكتب كل شيء تسمُعه من
رسول هللا صلى هللا عليِه وسلم ورسول هللا صلى هللا عليِه وسلم َبشٌر ،يتكلم في الغضب والرضا ،فأمسكُت
عن الكتابة فذكرت ذلك لرسول هللا صلى هللا عليِه وسلم فقال « :اكتب فوالذي نفسي بيده ما خرج مني إال
َح ق» :مسند اإلمام أحمد ج 10ص .)12والسنة ،وإن لم ُتدون ،فقد كانت محفوظة في صدور الصحابة
وبلُغ وها لغيرهم ولم يفِقد منها شيء ،ألن السنة ُم بينة للقرآن شارحٌة له ،والقرآن محفوظ بحفظ هللا .قال
.تعالىِ( :إَّنا َنْح ُن َنَّز ْلَنا الِّذْك َر َو ِإَّنا َلُه َلَح اِفُظوَن ﴾ [الحجر .]9 :ومن تمام حفظه حفظ الُسنة له
الصفحة 58
الفصل الثاني
:تمهيد 127
انقضی عصر النبي صلى هللا عليِه وسلم وقد تم فيه التشريُع اإللهي في الكتاب والسنة وهما األصالِن
.العظيمان اللذان خّلفهما هذا العصُر للعصِر الذي َتاله ولجميع العصوِر الالحقة به
وقد بدأ بالنمو واالتساع في هذا الدور الذي نحُن بصدده ،ذلك أن الفقهاء بعَد وفاة النبي صلى هللا عليِه
وسلم واجُهوا وقائع وأحداثًا ما كان لهم بها عهٌد في أيام النبي فكان ال بد من معرفة حكم هللا فيها .كما أن
الحروب التي وقعت وما نتَج عنها من قضايا وعالقاٍت بين الُم سلمين وبين غيرهم في أثناء الحرب وبعدها
أدت إلى كثرِة المسائل الفقهية .والفتوحاُت اإلسالمية وما ترتب عليها من امتداد سلطاِن اإلسالم على بالٍد
كثيرة ،واتصال المسلمين بأهل تلَك البالد ،ولكل بلٍد أعراُفه وعاداته وتقاليده وُنظمه ،كل ذلك أدى إلى
ظهور مسائَل وقضايا جديدة تستلِز ُم معرفة ُحكم الشرع فيها .وقد قاَم فقهاء الصحابة بمهمة التعُرف على
أحكام هذه المسائِل والوقائع الجديدة فاجتهدوا واستعملوا آراءهم على َض وء قواعد الشريعة ومبادئها العامة
ومعرفِتهم بمقاصدها .وهكذا ظهر االجتهاُد بالرأي كمصدٍر مستقل للفقه بعَد أن لم يكن لُه وجوٌد في عصر
النبي صلى هللا عليِه وسلم .واالجتهاُد -وهو َيقوم على الرأي -ال ُبد أن يتبَع ه اختالٌف وهذا ما حصل في
هذا الَدور وما كان له من وجوٌد في عصر النبي صلى هللا عليِه وسلم وكما اجتهَد الفقهاء في هذا العصر
واختلفوا فقد اجتهدوا واتفقوا ،واالتفاُق هو اإلجماع ،وهكذا ظهر اإلجماُع في هذا الدور كمصدٍر للفقه وما
.كان له وجوٌد في عصر النبي صلى هللا عليِه وسلم
الصفحة 59
كان ُفقهاء الصحابة -إذا نزلِت النازلةـ التمُسوا ُحكمها في كتاب هللا ،فإن لم يجدوا الحكَم فيه تحولوا إلى
السنة ،فإن لم يجدوا الحكم ،تحولوا إلى الرأي وَقضوا بما أداهم إليِه اجتهادهم .وكان االجتهاُد في زمن أبي
بكر وعمر بن الخطاب اجتهادًا جماعيًا أي يأخذ شكل الُش ورى ،فكان الخليفة إذا عرض عليِه األمر دعا
أولي الرأي والفقه وطرح عليهم المسألة وتناقشوا فيها فإذا اتفقت آراؤهم في حكِم المسألة قضى ِبما اتفقوا
عليه ،وإن اختلفت أخَذ بما يراه صوابًا .وكما وقع االجتهاد الجماعي وقع االجتهاد الفردي ،من الخليفِة
نفسه ومن غيره .إال أّن االجتهاد الجماعي كان هو الغالَب في عصر الخليفة األول والثاني وكان أكثر ما
يكون في المسائل العامة كما في مسألة تقسيم أرض السواِد في العراق على الفاتحين واستشارة عمر لفقهاء
.الصحابة وكبارهم في هذه المسألة
وقد وردت عن فقهاء الصحابة في هذا العصر آثاٌر كثيرة تدل على أن نهجهم في استنباط األحكام هو ما
:ذكرناه ،وأنهم كانوا يأخذون بالرأي حيث ال نص في المسألة ،وأن اإلجماع كان معتبرًا عندهم .فمن ذلك
أ -كان أبو بكر إذا ورد عليه الُخ صوم أو ُعرضت عليه مسألة نظر في كتاب هللا ،فإن وجَد فيه ما يقضي
به قضى به ،وإن لم يجد في كتاب هللا نظر في سنة رسوله فإن وجد فيها ما يقضي به قضى به ،فإن أعياُه
ذلك سأل الناس :هل عِلمتم ان رسول هللا صلى هللا عليِه وسلم قضى فيه بقضاء؟ فربما قام إليه القوُم
فيقولون قضى فيه بكذا وكذا فيقضي به ،فإن لم يجد سنة سنها النبي صلى هللا عليِه وسلم جمَع رؤساء
.الناس فاستشارهم ،فإذا اجتمع رأيهم على شيٍء قضى به .وكان عمر يفعل ذلك
.ب -كان أبو بكر يجتهُد برأيه ويقول :هذا رأيي فإن يكن صوابًا فمن هللا وإن يكن خطأ فِم ني وأستغفُر هللا
ج -وعمر بن الخطاب اجتهد برأيه ،وكان يقول لكاتبهُ :قل هذا ما رأى عمر بن
الصفحة 60
الخطاب .وكتب عمُر بن الخطاب إلى َش ريح :إذا وجدت شيئًا في كتاب هللا فاقِض به وال َتلتفت إلى غيره،
وإن أتاك شيء ليس في كتاب هللا فاقض بما سّن رسول هللا ،فإن أتاك ما ليس في كتاِب هللا ولم َيسن فيه
رسول هللا صلى هللا عليِه وسلم فاقض بما أجمَع عليه الناس ،وإن أتاك ما ليس في كتاب هللا وال سنة رسول
هللا صلى هللا عليِه وسلم ولم يتكلم فيه أحٌد قبلك فإن شئَت أن تجتهد برأيك فتَقدم وإن شئت أن تتأخر فتأخر،
وما أرى التأُخ ر إال خيرًا لك .وكتب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى األشعري :اعِرِف األشباه واألمثاَل
.وِقس األمور
د -قال عبُد هللا بن مسعود :من ُعرض له منكم قضاٌء فليقض بما في كتاب هللا فإن لم يكن في كتاب هللا
فلَيقض بما قضى فيه نبيه صلى هللا عليِه وسلم فإن جاء أمٌر ليس في كتاب هللا ولم يقض فيه نبيه صلى هللا
عليِه وسلم فليقض بما قضى به الصالحوَن ،فإن جاء أمر ليس في كتاب هللا ولم يقض فيه نبيه صلى هللا
.عليِه وسلم ولم يقض به الصالحون فليجتِهد برأيه ،فإن لم ُيحِس ن فليُقم وال يسَتحي
أما ما ُروي عن فقهاء الصحابة من ذم الرأي فهو محموٌل على ذم الرأي الفاسِد أو الرأي فيما ورد فيه
.النص ،أو الرأي بالنسبة لغير القادر عليه
قلنا إن فقهاء الصحابة ،ومنهم الخلفاء الراشدون ،كانوا يتلمسون الحكم في کتاِب هللا ثم في سنة رسوله
صلى هللا عليِه وسلم فإن لم يجدوا فيهما ُحكم المسألة تحولوا إلى االجتهاد بالرأي .وال شك أن هذا النهج
:هو الِم نهج السليم ،ويدل على ذلك أمور
.أوًال :فيما يخُص الرجوع إلى الكتاب والسنة ،وردت آياٌت كثيرة توجب اتباع ما جاء فيها
ثانيًا :وأما االجتهاُد بالرأي ،فيدل عليه أن النبي صلى هللا عليِه وسلم نفُسه اجتهد فيما لم ُينزل عليه فيه
وحي ،وأنه صلى هللا عليِه وسلم أِذ َن لصحابته في أن يجتهدوا كما في حديث معاٍذ بن جبل