You are on page 1of 7

‫الصفحة ‪51‬‬

‫فمَن األحكاِم التي نزلت بمناسبة حوادَث وقعت‪ ،‬قولُه تعالى‪َ( :‬و اَل َتنِكُحوا اْلُم ْش ِر َك اِت َح َّتٰى ُيْؤ ِم َّن ۚ َو َأَلَم ٌة‬
‫ُّم ْؤ ِم َنٌة َخْيٌر ِّم ن ُّم ْش ِر َك ٍة َو َلْو َأْع َج َبْتُك ْم ﴾ [البقرة‪َ ]221 :‬فقد نزلت هذِه اآلية بمناسبة حادثٍة خالصتها أن أحد‬
‫الُم سلمين عزم على نكاح مشركٍة وعلَق ِنكاحه على موافقة النبي صلى هللا عليِه وسلم فلما أخبرُه بذلك‬
‫‪.‬نزلت هذه اآلية‬

‫ومن األحكاِم التي نزلت جوابًا على سؤال قوله تعالى‪َ( :‬و َيْس َأُلوَنَك َع ِن اْلَم ِح يِض ُقْل ُهَو َأًذ ى َفاْعَتِز ُلوا‬
‫الِّنَس اَء ِفي اْلَم ِح يِض َو اَل َتْقَر ُبوُهَّن َح َّتى َيْط ُهْر َن ﴾ [البقرة‪ .]222 :‬وقوله تعالى‪َ( :‬و َيْس َأُلوَنَك َع ِن اْلَيَتاَم ى ُقْل‬
‫ِإْص َالٌح َّلُهْم َخ ْيٌر﴾ [البقرة‪ .]220 :‬و( َو َيْس َأُلوَنَك َم اَذ ا ُينِفُقوَن ُقْل اْلَع ْفَو ﴾ [البقرة‪ .]219 :‬ومن الُسنة ما ُروي‬
‫أن بعض الصحابة سألوا النبي صلى هللا عليِه وسلم عن ماء البحِر وجواز الوضوء به فَقال لهم‪« :‬هو‬
‫‪».‬الّطهور ماؤه الِح ل میتُته‬

‫الثاني ُو رود األحكاِم غيَر مسبوقٍة بسؤال وال حادثة معينة‪ ،‬ولكن الشارَع يرى أن األوان قد آن لتشريع هذِه‬
‫األحكام لضرورتها للُم جتمع الذي يريد تكوينه وإيجاده‪ ،‬ألن الشريعَة ما جاءت فقط لسد حاجاٍت قائمة‬
‫وإعطاء الحلول لوقائع حاصلة فعًال وإّنما جاءت إليجاد مجتمٍع من نوع خاص قائم على أسس معينة‬
‫ليكون هو الَم ثل األعلى لكل مجتمٍع في المستقبل‪ .‬ومن هذا النوع من األحكام‪ ،‬الشورى في الحكم‪ ،‬وتبيان‬
‫‪.‬مقادير الزكاة‪ ،‬وتفصيُل كثيٍر من أحكام األسرة وبيان بعض العقوبات ونحو ذلك‬

‫‪ :‬ـ ُم ميزات التشريع في هذا الدور‪117‬‬

‫قام التشريع على أساس مراعاة مصالِح الناس ودرء األضرار والمفاِس د عنهم‪ ،‬وهذا هو األصُل الكبير‬
‫الجامع لجميع أحكام الشريعة اإلسالمية‪ .‬وبناًء على هذا األصل نستطيع أن ُنعدد ميزات التشريع في هذا‬
‫الدور‪ ،‬وهي بالَح قيقة مظاهٌر لهذا األصل الكبير‪ :‬رعاية مصالح الناس ودفعِه الضرر عنهم‪ .‬فمن هذه‬
‫‪:‬المظاهر‪ ،‬وإن شئَت قل الِم يزات ما يأتي‬

‫الصفحة ‪52‬‬

‫‪ :‬ـ أوًالـ التدرج في التشريع‪118‬‬

‫فالقرآُن الكريم ما نزَلت أحكامُه مرة واحدة وكذا أحكاُم السنة ما جاءت دفعة واحدة‪ .‬وقد رأينا أن األحكام‬
‫كانت تنِز ل جوابًا عن سؤال‪ ،‬أو تبيانًا لحكم حادثٍة وقعت أو بناًء على تقدير الشارع أن حكمًا معينًا قد آن‬
‫أوان تشريعه وتنفيذه وهذا كله يجعل التشريع موصوفًا بالتدرج‪ .‬والحكمة من ذلك أن هذا النهج في‬
‫التشريع يجعُل األحكام أخف على النفس ِم ما لو نزلت دفعة واحدة وبالتالي تكون أدعى إلى القبول‬
‫واالمتثال‪ .‬كما أن في هذا التدريج تيسيرًا للمَخ اَطبين لمعرفة األحكام وحفظها واإلحاطة بأسبابها وظروف‬
‫تشريعها‪ ،‬وهذا هو المالئم لحالة العرِب‪ ،‬وهم المسلمون األولون‪ ،‬إذ ما كانت القراءة والكتابة شائعة فيهم‪،‬‬
‫وكان جل اعتمادهم على ذاكرتهم وحفظهم‪ ،‬فمن حقهم أن ُتراعى حالتهم هذه وتنزل عليهم األحكام شيئًا‬
‫‪.‬فشيئًا حتى يمكن استيعابها ومعرفتها وحفظها‬

‫‪ :‬والتدرج في التشريع أنواع‬


‫أـ تدرٌج زمني ‪ :‬بمعنى أن األحكام ما كانت تنزل في زمٍن واحد‪ ،‬وإنما كان منها الُم تقدم ومنها المتأخر كما‬
‫‪.‬هو معروف‪ ،‬فأحكام القانون اإلسالمي ما ُش رعت دفعة واحدة وإنما استغرق تشريعها طيلة مدة النبوة‬

‫ب ـ تدرٌج في أنواع ما ُش ِر ع من أحكام ‪ :‬وهذا أمٌر ظاهر‪ ،‬فإن المسلمين لم يَك لفوا بالتكليفات الكثيرة في‬
‫بدء اإلسالم‪ ،‬بل أخذوا بالرفق تيسيرًا على نفوسهم‪ ،‬فجاءت التكليفاُت قليلة أوال ليكون كل تكليف سابق‬
‫تمهيدًا لقبول التكليف الالحق‪ .‬فالصالة مثًال شرعت في أول األمر صالٌة بالَغداة وصالة بالعشي ثم ُجعلت‬
‫خمس صلوات في اليوم والليلة‪ .‬والزكاة ما كان لها حٌد محدود وإنما ترك األمر للمسلم ينفق ما يستطيعه‬
‫ويشاؤه‪ ،‬ثم ُعينت مقاديرها على سبيل اإللزام‪ .‬والخمُر ما حرمت رأسًا وإنما مهد لها ببيان أضرارها أوال‬
‫ثم النهي عن قربان الصالة في حالة الُسكر ثانيًا ثم جاء التحريم القاطع أخيرًا‪ .‬والقتال كان في بدء‬

‫اإلسالم غير مأموٍر به لقلة عدد المسلمين‪ ،‬فأمروا بالعفو والصبر على األعداء‪ ،‬واإلعراض عنهم وترِك‬
‫ُم قاتلتهم‪ ،‬قال تعالى‪ ( :‬اَّتِبْع َم ا ُأوِح َي ِإَلْيَك ِم ْن َر ِّبَك ال ِإَلَه‬

‫الصفحة ‪53‬‬

‫ِإال ُهَو َو َأْع ِر ْض َع ِن اْلُم ْش ِر ِكيَن ﴾ [األنعام‪ .]106 :‬ثم لما َقوي المسلمون أذن لهم في القتال دفاعًا عن‬
‫أنفسهم‪ ،‬قال تعالى‪ُ( :‬أِذ َن ِلَّلِذ يَن ُيَقاَتُلوَن ِبَأَّنُهْم ُظِلُم واۚ َو ِإَّن َهَّللا َع َلٰى َنْص ِرِهْم َلَقِد يٌر﴾ [الحج‪ .]39 :‬ثم فرض‬
‫عليهم القتال فرضًا قال تعالى‪َ( :‬و َقاِتُلوا ِفي َس ِبيِل ِهَّللا اَّلِذ يَن ُيَقاِتُلوَنُك ْم َو اَل َتْعَتُدواۚ ِإَّن َهَّللا اَل ُيِح ُّب اْلُم ْعَتِد يَن ﴾‬
‫[البقرة‪َ( .]190 :‬و َقاِتُلوُهْم َح َّتى ال َتُك وَن ِفْتَنٌة َو َيُك وَن الِّديُن ُك ُّلُه ِهَّلِل َفِإِن اْنَتَهْو ا َفِإَّن َهَّللا ِبَم ا َيْع َم ُلوَن َبِص يٌر)‬
‫‪[.‬األنفال‪]39 :‬‬

‫ج ‪ -‬تدرٌج بذكر األحكام بشكٍل كلي ثم يأتي التفصيل بعد ذلك‪ .‬فالتشريع الَم كي‪ ،‬فيما َتَع رض له من أحكام‬
‫‪.‬عملية‪ ،‬جاء بشكل كلي ثم جاء التشريع المدني مفصًال لهذا الكلي‬

‫‪:‬ـ ثانيًاـ رفُع الحرج‪119‬‬

‫ومن مميزات التشريع في هذا الدور أيضًا‪ ،‬رفع الحرج (في الهاِم ش‪ :‬وهذه الِم يزة ليست خاصة بهذا‬
‫الدور‪ ،‬بل هي ميزٌة أصيلة للتشريع اإلسالمي ال ينفك عنها في أي دور من األدوار)‪ .‬وهذا ظاهٌر للمتتبع‬
‫ألحكام الشريعة‪ ،‬فهناك نصوٌص صريحة تدل على أن الشارع ما يريد بعباده إال التيسير والتخفيف وال‬
‫يريد بأحكاِم ه التضييق والتشديد قال تعالى‪« :‬يريد هللا بكم اليسر وال يريد بكم المتر﴾ [البقرة‪ُ(. ]185 :‬يِر يُد‬
‫ُهَّللا َأن ُيَخ ِّفَف َعنُك ْم ﴾ [النساء‪َ (. ]28 :‬و َم ا َجَعَل َع َلْيُك ْم ِفي الِّديِن ِم ْن َح َر ٍج﴾ [الحج‪ .]78 :‬وفـي الـُسـنـة أيضًا‬
‫الشيُء الكثير من النصوص بهذا المعنى‪ ،‬من ذلك «يسروا وال تعسروا» «ُبعثت بالَح نيفية السمحة»‪.‬‬
‫وصح أن النبي صلى هللا عليِه وسلم «ما ُخ ير بين شيئين إال اختار أيسَر هما»‪ .‬وقال عليه الصالة والسالم‪:‬‬
‫‪«».‬لوال أن أُش ق على أمتي ألمرتهم بالسواك عند كل صالة‬

‫‪:‬فرفُع الحرج أصٌل مقطوع به في الشريعة‪ ،‬ومن مظاهره ما يأتي‬

‫أـ اعتبار الَم رض والسفر واإلكراه والخطأ والنسيان أعذارًا لتخفيف األحكام وتشريع الُرخص‪ .‬والقاعدة‬
‫الشرعية «الضرورات ُتبيح المحظورات» ُبنيت على أصِل رفع الحرج دفعًا للمشاق والضيق عن‬
‫‪.‬أصحاِب األعذار والضرورات‬
‫الصفحة ‪54‬‬

‫ب‪ -‬قلة التكاليف في الشريعة ‪ :‬فالتشريع اإللهي في هذا العصر لم يأت بتكاليف كثيرة ترهق المكلفين ألن‬
‫في اإلرهاق حرجًا وضيقًا‪ ،‬والحرج مرفوع كما قدمنا‪ .‬كما ان المقُصود من التكاليف إيصال المكَلف إلى‬
‫الحياة السعيدِة في الدنيا واآلخرة فال يأتي التشريُع إال بالقْد ر الالزم الذي تطيقه الطبيعة البشرية‪ .‬ومما يدل‬
‫على أن رغبَة الشارِع تقليُل التكاليف ما أمكن التقليل ما جاء في الُسنة من أحاديث منها‪« :‬إن َهللا فرض‬
‫فرائَض فال ُتضيعوها وَح ّد حدودًا فال تعتدوها وحّرم أشياء فال تنتهكوها‪ ،‬وسكَت عن أشياء رحمًة بكم غير‬
‫نسياٍن فال تبحثوا عنها» وعندما سأل أحدهم النبي عن الحج وهل هو في كل عام؟ قال النبي صلى هللا عليِه‬
‫وسلم‪« :‬لو قلُت نعم لوَج بت‪ ،‬ذروني ما تركتكم فإنما َهلك من كان قبلكم بكثرة مسائلهم واختالفهم على‬
‫‪».‬أنبيائهم‬

‫‪:‬ـ ثالثًا النسخ‪120‬‬

‫ومعناُه رفع الُحكم السابق بحكٍم الحق‪ .‬وقد وقع الَنسخ في التشريع اإلسالمي هذا الدور فقط‪ ،‬وسبُبه رعاية‬
‫‪:‬المصلحة ورفع الحرج والضيق عن المكلفين وأخذهم بُسنة التدرج والرفق‪ ،‬فمن ذلك‬

‫أـ أن المتوَفى عنها زوجها كانت أول األمِر سنًة كاملة وكان على الزوج أن يوِص ي لها بالنفقة والسكنى في‬
‫هذه المدة‪ ،‬قال تعالى‪َ( :‬و اَّلِذ يَن ُيَتَو َّفْو َن ِم ْنُك ْم َو َيَذ ُروَن َأْز َو اًجا َو ِص َّيًة ألْز َو اِجِهْم َم َتاًعا ِإَلى اْلَح ْو ِل َغْيَر‬
‫ِإْخ َر اٍج) [الـبـقرة‪ ]240 :‬ثـم ُجعلت الِع دة أربعَة أشهٍر وعشرة أيام‪ ،‬قال تعالى‪َ( :‬و اَّلِذ يَن ُيَتَو َّفْو َن ِم ْنُك ْم‬
‫‪َ.‬و َيَذ ُروَن َأْز َو اًجا َيَتَر َّبْص َن ِبَأْنُفِس ِهَّن َأْر َبَع َة َأْش ُهٍر َو َع ْش ًرا﴾ [البقرة‪]234 :‬‬

‫ب‪ -‬وكانت الوصية للوالديِن واألقربيَن واجبًة ثم ُنسخت بآية المواريث كما جاءت السنة مؤكدًة لهذا الَنسخ‬
‫‪».‬فقد جاء في الحديِث عن النبي صلى هللا عليِه وسلم‪« :‬إن هللا أعطى كَل ذي حٍق حقه أال ال وصية لوارث‬

‫ج ‪ -‬نهى النبي صلى هللا عليِه وسلم عن زيارة الُقبور ثم أباحها بعد ذلك‪ ،‬فقد جاء في الحديث ‪« :‬كنُت قد‬
‫‪».‬نهيتكم عن زيارة القبور‪ ،‬أال فزوروها فإنها تذكركم اآلخرة‬

‫د ـ ونهاُهم النبي صلى هللا عليِه وسلم عن إدخار لحوِم األضاحي ألجل الُو فود التي جاءت إلى المدينة ثم‬
‫‪.‬أَباح لهم االدخار بعد ذلك‬

‫الصفحة ‪55‬‬

‫‪.‬هـ‪ -‬كانت الِقبلة أوًال إلى بيت المقدس ثم ُجعلت القبلة في الصالة إلى الكعبة‬

‫‪ :‬ـ االجتهاد في هذا العصر وأثرُه في التشريع‪121‬‬

‫قلنا‪ :‬إن الِفقه في هذا العصر هو فقه الوحي‪ ،‬أي‪ :‬إن مصدر التشريع هو وحُي هللا في قرآنه أو على لسان‬
‫رسوله في السنة‪ .‬ولكن ثبت أن النبي صلى هللا عليِه وسلم اجتهد‪ ،‬وأنه أِذ َن ألصحابه باالجتهاد وأقرهم‬
‫على بعض ما اجتهدوا فيه‪ ،‬فهل ُيعتبر االجتهاد في هذا الدور مصدرًا للفقه وتشريع األحكام؟ هذا ما نجيب‬
‫‪.‬عليه مبتدئين أوًال بذكر بعِض ما اجتهد فيه النبي صلى هللا عليِه وسلم وما اجتهَد فيه أصحابه‬
‫ـ فمن اجتهاِد النبي صلى هللا عليِه وسلم أنه أخذ الِفداء من أسرى بدر‪ ،‬ألَن ُحكم األسَر ى لم ُيشَر ع في‪122‬‬
‫ذلك الحين ولم ينِز ل الوحي بحكم هؤالء األسرى فاجتهد النبي صلى هللا عليِه وسلم واستشاَر أبا بكٍر وعمر‬
‫فأشار أبو بكر بأخذ الفداء وخالفُه عمر‪ ،‬فأخذ النبي صلى هللا عليِه وسلم الِفداء من األسرى‪ .‬ومنه أيضًا‬
‫إذنه للُم تخلفين عن غزوة تبوٍك بالبقاء في المدينة بناًء على ما ادَعوه من أعذار‪ ،‬ومنه ما جاء في الحديث‬
‫أن النبي صلى هللا عليِه وسلم قال إلحدى أزواِج ه‪« :‬لوال أّن قومِك حديثو عهٍد بكفر لبنيُت الكعبة على‬
‫قواعد إبراهيم» وهذا الخبُر يشهد بأن النبي صلى هللا عليِه وسلم كان ُيرجح بعض األمور على بعٍض لما‬
‫يراه من المصلحة لألمة‪ .‬وكذلك قوله عليه الصالة والسالم‪« :‬لوال أن أشق على أمتي ألمرتهم بالسواك‬
‫عند كل صالة» فهذا تخُيٌر منه عليه الصالة والسالم في أمر السواك وإيثاِر ترك األمر به لدفع المشقة عن‬
‫‪.‬األمة‬

‫ـ ومن اجتهادات الصحابة‪ :‬أو إذن النبي صلى هللا عليِه وسلم لهم باالجتهاد‪ ،‬حديُث معاذ المشهور‪123،‬‬
‫فإن النبي صلى هللا عليِه وسلم بعثُه إلى اليمن وقال له‪« :‬كيف تصنُع إن عرض لك قضاء؟» قال‪ :‬أقضي‬
‫بما في كتاب هللا‪ .‬قال‪« :‬فإن لم َيكن في كتاب هللا؟» قال ‪ :‬فبُسنة رسول هللا‪ .‬قال‪« :‬فإن لم يكن في سنة‬
‫رسول هللا؟» قال ‪ :‬اجتِهُد رأيي وال آلو ـ أي ال أقِص ر ـ فضرب رسول هللا صلى هللا عليِه وسلم بيدِه على‬
‫صدره وقال‪« :‬الحمد هلل الذي وفق رسوَل رسوِل هللا لما ُيرضي رسوَل هللا»‪ .‬فهذا دليل على إذن النبي‬
‫صلى هللا عليِه وسلم للمسلميَن في االجتهاد‪ .‬ومن ذلك أن صحابيين خرجا في سفٍر وحان وقت الصالة ولم‬
‫يكن معهما ماء فتيمما وصليا ثم وجدا الماء قبل خروج الوقت فتوضأ أحُدهما‬

‫الصفحة ‪56‬‬

‫وأعاَد الصالة ولم ُيِع د اآلخر‪ ،‬فلما قدما على النبي صلى هللا عليِه وسلم وأخبراه بما حصَل صّو َبهما ولم‬
‫ينكر على أحِد هما‪ ،‬وقال للذي لم يعد صالته‪« :‬أصبَت السنة وأجزأتك صالتك»‪ .‬وقال للذي أعاد‪« :‬لك‬
‫األجُر مرتين»‪ .‬ومن ذلك أيضًا أن النبي صلى هللا عليِه وسلم لما َر جع من معركة الخندق وأراد أن ينزَع‬
‫لباس الحرِب أمره هللا بالتوجه إلى بني قريظة‪ ،‬فقال النبي صلى هللا عليِه وسلم ألصحابه‪« :‬ال ُيصلين أحٌد‬
‫منكم العصر إال في بني قريظة‪ ،‬فساروا ُم سرعين متوجهيَن إلى بني قريظة‪ ،‬فلما حان وقت العصر صلى‬
‫بعضهم في الطريق وأّو َل كالَم النبي صلى هللا عليِه وسلم بأنُه أراد السرعة في المسير ال تأخير الصالة‪.‬‬
‫ولم ُيصل البعض اآلخر إال بعد وصوله إلى بني قريظة‪ .‬ولم ينكر النبي صلى هللا عليِه وسلم على أحِد‬
‫‪.‬الفريقين‬

‫ـ فاالجتهاُد‪ ،‬إذن‪ ،‬ثابٌت وواقع في عصر النبي صلى هللا عليِه وسلم‪ .‬ولكنه لم يكن مصدرًا للتشريع‪124‬‬
‫مستقًال عن الوحي‪ .‬وبياُن هذا أن اجتهاد النبي صلى هللا عليِه وسلم إما أن يكون عن إلهاِم هللا له فهذا وحٌي‬
‫بالمعنى وهو من َقبيل الُسنة‪ ،‬وإما أن يكون اجتهاَده عليه السالم بدون إلهاٍم من هللا له‪ ،‬وفي هذه الحالة ال‬
‫ُيقره هللا على اجتهاده إذا لم يكن صوابًا كما في قضية أسرى بدر إذ نزل القرآن مبينًا أن أخذ الفداء ما كان‬
‫صوابًا‪ ،‬وكذا نزل العتاب إلذنه للمتخلفين عن غزوة تبوك بالبقاء في المدينة‪ .‬قال تعالى‪َ( :‬ع َفا ُهَّللا َع ْنَك ِلَم‬
‫َأِذ ْنَت َلُهْم َح َّتٰى َيَتَبَّيَن َلَك اَّلِذ يَن َص َد ُقوا َو َتْع َلَم اْلَك اِذ ِبيَن ) [التوبة‪ .]43 :‬فاجتهاُد النبي صلى هللا عليِه وسلم‬
‫‪.‬مرُده إلى الوحي وليس بمصدر مستقل للتشريع‬
‫أما اجتهاُد أصحابه فمرده إلى النبي صلى هللا عليِه وسلم فإن أقره صار تشريعًا لألمة وإن لم يِقره لم يكن‬
‫تشريعًا‪ ،‬فال ُيعتبر اجتهاد الصحابة مصدرًا للفقه‪ .‬وال ُيقال ما الفائدة إذن من وقوع االجتهاد إذا لم يكن‬
‫مصدرًا للتشريع‪ ،‬ألن الحكمة من وقوعه إعالُم األمة بجواز استنباط األحكام بطريق االجتهاد وإرشادها‬
‫‪.‬إليه‬

‫‪:‬ـ ال اختالف في هذا العصر ‪125‬‬

‫تبيَن مما ُقلناه أن النبي صلى هللا عليِه وسلم هو مرَج ع الُفتيا والقضاء وهو الُم بلغ عن ِهللا أحكاَم اإلسالم‪،‬‬
‫فال مصدر للتشريع في هذا العصر إال القرآن والسنة‪ .‬أما اجتهاد الصحابة فمرده إلى النبي صلى هللا عليِه‬
‫وسلم فهو الذي يقره أو ينكره‪ ،‬فما كان اجتهادهم مصدرًا مستقًال‬

‫الصفحة ‪57‬‬

‫‪.‬للفقه‪ ،‬وحيُث ال اجتهاد فال اختالف وال تعُد َد أقواٍل في المسألة الواحدة‪ ،‬وال إجماع‬

‫‪:‬التدويُن في هذا العصر ‪126-‬‬

‫اتخذ النبي صلى هللا عليِه وسلم ُك تابًا يكتبون له ما ينِز ل من القرآن‪ ،‬ومن هؤالء زيٌد بن ثابت وعلي بن أبي‬
‫طالب‪ ،‬وعثمان بن عفان وغيرهم‪ .‬كما أن بعض الصحابِة كان يكتُب لنفسه ما يتيسر له كتابته من آيات‬
‫‪.‬القرآن الكريم‬

‫وتوفي الرسول صلى هللا عليِه وسلم والقرآُن محفوظ في الصدور‪ ،‬مدوٌن كله في الِر قاع ونحوها‪ ،‬إال أنه لم‬
‫يكن مجموعًا في مصحٍف واحد وإنما كان مفرقًا حتى تم جمُعه في مجموعة واحدة ‪-‬أي في مصحف‬
‫واحد‪ -‬في زمان أبي بكر كما سنذكره فيما بعد‪ .‬أما الُسنة فلم يتخذ النبي صلى هللا عليِه وسلم ُك تابًا يكتبونها‬
‫ولم يأمر بكتابتها‪ ،‬بل َنهى عن كتابتها في أول األمر (الهامش ‪ :1‬جاء في صحيح مسلم عن النبي صلى هللا‬
‫عليه وسلم‪« :‬ال تكتبوا عني‪ ،‬ومن كتَب عني غير القرآن فليمحه وحِد ثوا عني وال حرج‪ .‬ومن كذب علي‬
‫ُم تعمدا فليتبوأ َم قعده من النار»‪ .‬صحيح مسلم ج‪ 18‬ص‪ .129‬وهذا النهُي محمول ‪-‬في أول األمر‪ -‬على‬
‫خشية اختالط السنة بالقرآن فلما أِم ن الُلبَس واالختالط أبيح لهم أن يكتبوا‪ .‬ويجوز أن يكون النهي عن‬
‫كتابة السنة موجهًا إلى ُك تاب الوحي خاصة لئال يختلط ما يكتبونه من السنة بما يكتبون من القرآن) َخشية‬
‫اختالطها بالقرآن ثم أباَح لهم كتابتها فكان بعض الصحابة يكتب ما يسمعه من النبي صلى هللا عليِه وسلم‬
‫مثل عبد هللا بن عمرو بن العاص (الهامش ‪ :2‬قال عبد هللا بن عمرو بن العاص‪ :‬كنُت أكتب كل شيء‬
‫أسمعه من رسول هللا صلى هللا عليِه وسلم أريد حفظه فنهتني قريش فقالوا‪ :‬إنك تكتب كل شيء تسمُعه من‬
‫رسول هللا صلى هللا عليِه وسلم ورسول هللا صلى هللا عليِه وسلم َبشٌر‪ ،‬يتكلم في الغضب والرضا‪ ،‬فأمسكُت‬
‫عن الكتابة فذكرت ذلك لرسول هللا صلى هللا عليِه وسلم فقال ‪« :‬اكتب فوالذي نفسي بيده ما خرج مني إال‬
‫َح ق»‪ :‬مسند اإلمام أحمد ج‪ 10‬ص‪ .)12‬والسنة‪ ،‬وإن لم ُتدون‪ ،‬فقد كانت محفوظة في صدور الصحابة‬
‫وبلُغ وها لغيرهم ولم يفِقد منها شيء‪ ،‬ألن السنة ُم بينة للقرآن شارحٌة له‪ ،‬والقرآن محفوظ بحفظ هللا‪ .‬قال‬
‫‪.‬تعالى‪ِ( :‬إَّنا َنْح ُن َنَّز ْلَنا الِّذْك َر َو ِإَّنا َلُه َلَح اِفُظوَن ﴾ [الحجر‪ .]9 :‬ومن تمام حفظه حفظ الُسنة له‬
‫الصفحة ‪58‬‬

‫الفصل الثاني‬

‫الدور الثاني عصُر الخلفاء الراشدين‬

‫‪:‬تمهيد ‪127‬‬

‫انقضی عصر النبي صلى هللا عليِه وسلم وقد تم فيه التشريُع اإللهي في الكتاب والسنة وهما األصالِن‬
‫‪.‬العظيمان اللذان خّلفهما هذا العصُر للعصِر الذي َتاله ولجميع العصوِر الالحقة به‬

‫وقد بدأ بالنمو واالتساع في هذا الدور الذي نحُن بصدده‪ ،‬ذلك أن الفقهاء بعَد وفاة النبي صلى هللا عليِه‬
‫وسلم واجُهوا وقائع وأحداثًا ما كان لهم بها عهٌد في أيام النبي فكان ال بد من معرفة حكم هللا فيها‪ .‬كما أن‬
‫الحروب التي وقعت وما نتَج عنها من قضايا وعالقاٍت بين الُم سلمين وبين غيرهم في أثناء الحرب وبعدها‬
‫أدت إلى كثرِة المسائل الفقهية‪ .‬والفتوحاُت اإلسالمية وما ترتب عليها من امتداد سلطاِن اإلسالم على بالٍد‬
‫كثيرة‪ ،‬واتصال المسلمين بأهل تلَك البالد‪ ،‬ولكل بلٍد أعراُفه وعاداته وتقاليده وُنظمه‪ ،‬كل ذلك أدى إلى‬
‫ظهور مسائَل وقضايا جديدة تستلِز ُم معرفة ُحكم الشرع فيها‪ .‬وقد قاَم فقهاء الصحابة بمهمة التعُرف على‬
‫أحكام هذه المسائِل والوقائع الجديدة فاجتهدوا واستعملوا آراءهم على َض وء قواعد الشريعة ومبادئها العامة‬
‫ومعرفِتهم بمقاصدها‪ .‬وهكذا ظهر االجتهاُد بالرأي كمصدٍر مستقل للفقه بعَد أن لم يكن لُه وجوٌد في عصر‬
‫النبي صلى هللا عليِه وسلم‪ .‬واالجتهاُد ‪-‬وهو َيقوم على الرأي ‪-‬ال ُبد أن يتبَع ه اختالٌف وهذا ما حصل في‬
‫هذا الَدور وما كان له من وجوٌد في عصر النبي صلى هللا عليِه وسلم وكما اجتهَد الفقهاء في هذا العصر‬
‫واختلفوا فقد اجتهدوا واتفقوا‪ ،‬واالتفاُق هو اإلجماع‪ ،‬وهكذا ظهر اإلجماُع في هذا الدور كمصدٍر للفقه وما‬
‫‪.‬كان له وجوٌد في عصر النبي صلى هللا عليِه وسلم‬

‫الصفحة ‪59‬‬

‫‪:‬ـ طريقتهم في التعرف على األحكام‪128‬‬

‫كان ُفقهاء الصحابة ‪-‬إذا نزلِت النازلةـ التمُسوا ُحكمها في كتاب هللا‪ ،‬فإن لم يجدوا الحكَم فيه تحولوا إلى‬
‫السنة‪ ،‬فإن لم يجدوا الحكم‪ ،‬تحولوا إلى الرأي وَقضوا بما أداهم إليِه اجتهادهم‪ .‬وكان االجتهاُد في زمن أبي‬
‫بكر وعمر بن الخطاب اجتهادًا جماعيًا أي يأخذ شكل الُش ورى‪ ،‬فكان الخليفة إذا عرض عليِه األمر دعا‬
‫أولي الرأي والفقه وطرح عليهم المسألة وتناقشوا فيها فإذا اتفقت آراؤهم في حكِم المسألة قضى ِبما اتفقوا‬
‫عليه‪ ،‬وإن اختلفت أخَذ بما يراه صوابًا‪ .‬وكما وقع االجتهاد الجماعي وقع االجتهاد الفردي‪ ،‬من الخليفِة‬
‫نفسه ومن غيره‪ .‬إال أّن االجتهاد الجماعي كان هو الغالَب في عصر الخليفة األول والثاني وكان أكثر ما‬
‫يكون في المسائل العامة كما في مسألة تقسيم أرض السواِد في العراق على الفاتحين واستشارة عمر لفقهاء‬
‫‪.‬الصحابة وكبارهم في هذه المسألة‬

‫وقد وردت عن فقهاء الصحابة في هذا العصر آثاٌر كثيرة تدل على أن نهجهم في استنباط األحكام هو ما‬
‫‪:‬ذكرناه‪ ،‬وأنهم كانوا يأخذون بالرأي حيث ال نص في المسألة‪ ،‬وأن اإلجماع كان معتبرًا عندهم‪ .‬فمن ذلك‬
‫أ‪ -‬كان أبو بكر إذا ورد عليه الُخ صوم أو ُعرضت عليه مسألة نظر في كتاب هللا‪ ،‬فإن وجَد فيه ما يقضي‬
‫به قضى به‪ ،‬وإن لم يجد في كتاب هللا نظر في سنة رسوله فإن وجد فيها ما يقضي به قضى به‪ ،‬فإن أعياُه‬
‫ذلك سأل الناس‪ :‬هل عِلمتم ان رسول هللا صلى هللا عليِه وسلم قضى فيه بقضاء؟ فربما قام إليه القوُم‬
‫فيقولون قضى فيه بكذا وكذا فيقضي به‪ ،‬فإن لم يجد سنة سنها النبي صلى هللا عليِه وسلم جمَع رؤساء‬
‫‪.‬الناس فاستشارهم‪ ،‬فإذا اجتمع رأيهم على شيٍء قضى به‪ .‬وكان عمر يفعل ذلك‬

‫‪.‬ب‪ -‬كان أبو بكر يجتهُد برأيه ويقول‪ :‬هذا رأيي فإن يكن صوابًا فمن هللا وإن يكن خطأ فِم ني وأستغفُر هللا‬

‫ج‪ -‬وعمر بن الخطاب اجتهد برأيه‪ ،‬وكان يقول لكاتبه‪ُ :‬قل هذا ما رأى عمر بن‬

‫الصفحة ‪60‬‬

‫الخطاب‪ .‬وكتب عمُر بن الخطاب إلى َش ريح‪ :‬إذا وجدت شيئًا في كتاب هللا فاقِض به وال َتلتفت إلى غيره‪،‬‬
‫وإن أتاك شيء ليس في كتاب هللا فاقض بما سّن رسول هللا‪ ،‬فإن أتاك ما ليس في كتاِب هللا ولم َيسن فيه‬
‫رسول هللا صلى هللا عليِه وسلم فاقض بما أجمَع عليه الناس‪ ،‬وإن أتاك ما ليس في كتاب هللا وال سنة رسول‬
‫هللا صلى هللا عليِه وسلم ولم يتكلم فيه أحٌد قبلك فإن شئَت أن تجتهد برأيك فتَقدم وإن شئت أن تتأخر فتأخر‪،‬‬
‫وما أرى التأُخ ر إال خيرًا لك‪ .‬وكتب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى األشعري‪ :‬اعِرِف األشباه واألمثاَل‬
‫‪.‬وِقس األمور‬

‫د‪ -‬قال عبُد هللا بن مسعود‪ :‬من ُعرض له منكم قضاٌء فليقض بما في كتاب هللا فإن لم يكن في كتاب هللا‬
‫فلَيقض بما قضى فيه نبيه صلى هللا عليِه وسلم فإن جاء أمٌر ليس في كتاب هللا ولم يقض فيه نبيه صلى هللا‬
‫عليِه وسلم فليقض بما قضى به الصالحوَن ‪ ،‬فإن جاء أمر ليس في كتاب هللا ولم يقض فيه نبيه صلى هللا‬
‫‪.‬عليِه وسلم ولم يقض به الصالحون فليجتِهد برأيه‪ ،‬فإن لم ُيحِس ن فليُقم وال يسَتحي‬

‫أما ما ُروي عن فقهاء الصحابة من ذم الرأي فهو محموٌل على ذم الرأي الفاسِد أو الرأي فيما ورد فيه‬
‫‪.‬النص‪ ،‬أو الرأي بالنسبة لغير القادر عليه‬

‫‪:‬البرهاُن على صحة طريقتهم في التعرف على األحكام ‪129-‬‬

‫قلنا إن فقهاء الصحابة‪ ،‬ومنهم الخلفاء الراشدون‪ ،‬كانوا يتلمسون الحكم في کتاِب هللا ثم في سنة رسوله‬
‫صلى هللا عليِه وسلم فإن لم يجدوا فيهما ُحكم المسألة تحولوا إلى االجتهاد بالرأي‪ .‬وال شك أن هذا النهج‬
‫‪:‬هو الِم نهج السليم‪ ،‬ويدل على ذلك أمور‬

‫‪.‬أوًال‪ :‬فيما يخُص الرجوع إلى الكتاب والسنة‪ ،‬وردت آياٌت كثيرة توجب اتباع ما جاء فيها‬

‫ثانيًا‪ :‬وأما االجتهاُد بالرأي‪ ،‬فيدل عليه أن النبي صلى هللا عليِه وسلم نفُسه اجتهد فيما لم ُينزل عليه فيه‬
‫وحي‪ ،‬وأنه صلى هللا عليِه وسلم أِذ َن لصحابته في أن يجتهدوا كما في حديث معاٍذ بن جبل‬

You might also like