You are on page 1of 219

‫الموسوعة الفقهية ‪ /‬الجزء الثالث عشر ‪.

‬‬

‫تعلّم وتعليم *‬
‫التّعريف ‪:‬‬
‫‪ -‬التّعلّم لغة ‪ :‬مصدر تعلّم ‪ .‬والتّعلّم مطاوع التّعليم ‪ ،‬يقال ‪ :‬علّمته العلم فتعلّمه ‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫والتّعليم مصدر علّم ‪ :‬يقال ‪ :‬علّمه إذا عرّفه ‪ ،‬وعلّمه وأعلمه إيّاه فتعلّمه ‪ ،‬وعلم المر‬
‫وتعلّمه ‪ :‬أتقنه ‪ .‬والعلم نقيض الجهل ‪ .‬والعلم أيضا ‪ :‬هو اعتقاد الشّيء على ما هو عليه‬
‫على سبيل الثّقة ‪ .‬وجاء بمعنى ‪ :‬المعرفة أيضا ‪.‬‬
‫ن العلم اختصّ بما كان بإخبار سريع‬
‫قال الرّاغب ‪ :‬التّعليم والعلم في الصل واحد ‪ ،‬إل أ ّ‬
‫‪ ،‬والتّعليم اختصّ بما يكون بتكرير وتكثير ‪ ،‬حتّى يحصل منه أثر في نفس المتعلّم ‪.‬‬
‫وربّما استعمل التّعليم بمعنى العلم إذا كان فيه تكرير نحو { أَ ُتعَّلمُونَ الّل َه بِدِي ِنكُمْ } ‪.‬‬
‫ول يخرج المعنى الصطلحيّ للتّعليم عمّا ذكر ‪.‬‬
‫اللفاظ ذات الصّلة ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬التّثقيف ‪:‬‬
‫‪ -‬التّثقيف ‪ :‬مصدر ثقّف ‪ .‬يقال ‪ :‬ثقّفت الرّمح ‪ :‬أي سوّيته وأزلت عوجه ويقال ‪ :‬رجل‬ ‫‪2‬‬

‫ثقف ‪ :‬إذا كان حاذقا فطنا سريع الفهم ‪ ،‬وثقّف النسان ‪ :‬أدّبه وعلّمه وهذّبه ‪.‬‬
‫فالتّثقيف أع ّم من التّعليم ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬التّدريب ‪:‬‬
‫‪ -‬التّدريب ‪ :‬من الدّربة ‪ ،‬وهي ‪ :‬التّجربة والتّعوّد والجرأة على المر ‪.‬‬ ‫‪3‬‬

‫ي « وكانت ناقة مدرّبة » أي مخرّجة مؤدّبة " قد‬


‫وقد درّبته تدريبا ‪ ،‬ومنه ما في حديث الثّقف ّ‬
‫ألفت الرّكوب والسّير " أي عوّدت المشي في الدّروب ‪ ،‬فصارت تألفها وتعرفها ول تنفر‬
‫فالتّدريب من وسائل التّعليم ‪.‬‬
‫ج ‪ -‬التّأديب ‪:‬‬
‫‪ -‬التّأديب ‪ :‬مصدر أدّب ‪ .‬يقال ‪ :‬أدّبته أدبا من باب ضرب ‪ ،‬ويضاعف للمبالغة والتّكثير ‪،‬‬ ‫‪4‬‬

‫فيقال ‪ :‬أدّبته ‪ -‬بالتّشديد ‪ -‬إذا علّمته رياضة النّفس ومحاسن الخلق ‪ .‬والسم ‪ :‬الدب ‪.‬‬
‫قال أبو زيد النصاريّ ‪ :‬الدب يقع على كلّ رياضة محمودة يتخرّج بها النسان في فضيلة‬
‫من الفضائل ‪ .‬ويأتي التّأديب أيضا بمعنى ‪ :‬العقوبة ‪ .‬يقال ‪ .‬أدّبته تأديبا ‪ :‬إذا عاقبته على‬
‫إساءته ‪ ،‬لنّه سبب يدعو إلى حقيقة الدب ‪.‬‬
‫الحكم التّكليفيّ‬
‫أ ‪ -‬التّعلّم ‪:‬‬
‫‪ -‬تعلّم العلم تعتريه الحكام التية ‪:‬‬ ‫‪5‬‬

‫قد يكون التّعلّم فرض عين وهو تعلّم ما ل ب ّد منه للمسلم ‪ ،‬لقامة دينه وإخلص عمله للّه‬
‫ح به عقيدته‬
‫تعالى أو معاشرة عباده ‪ .‬فقد فرض على كلّ مكلّف ومكلّفة ‪ -‬بعد تعلّمه ما تص ّ‬
‫ح به العبادات والمعاملت من الوضوء والغسل والصّلة‬
‫من أصول الدّين ‪ -‬تعلّم ما تص ّ‬
‫والصّوم ‪ ،‬وأحكام الزّكاة ‪ ،‬والحجّ لمن وجب عليه ‪ ،‬وإخلص النّيّة في العبادات للّه ‪ .‬ويجب‬
‫تعلّم أحكام البيوع على ال ّتجّار ليحترزوا عن الشّبهات والمكروهات في سائر المعاملت ‪،‬‬
‫وكذا أهل الحرف ‪ ،‬وكلّ من اشتغل بشيء يفرض عليه تعلّم حكمه ليمتنع عن الحرام فيه ‪.‬‬
‫وقد يكون التّعلّم فرض كفاية ‪ ،‬وهو تعلّم كلّ علم ل يستغنى عنه في قيام أمور الدّنيا كالطّبّ‬
‫والحساب والنّحو واللّغة والكلم والقراءات وأسانيد الحديث ونحو ذلك ‪.‬‬
‫ومن التّعلّم ما هو مندوب ‪ ،‬ومنه التّبحّر في الفقه بالتّوسّع فيه ‪ ،‬والطّلع على غوامضه ‪،‬‬
‫وكذا غيره من العلوم الشّرعيّة ‪.‬‬
‫وقد يكون التّعلّم حراما ‪ :‬ومنه تعلّم الشّعوذة ‪ .‬وضرب الرّمل ‪ ،‬والسّحر وكذا الكهانة ‪،‬‬
‫والعرافة ‪ .‬وقد يكون التّعلّم مكروها ‪ ،‬ومنه تعلّم أشعار الغزل ممّا فيه وصف النّساء‬
‫ص‪.‬‬
‫المعيّنات ‪ ،‬وتفصيل كلّ ما تقدّم في مصطلحه الخا ّ‬
‫وقد يكون التّعلّم مباحا ‪ ،‬ومنه الشعار الّتي ليس فيها ما ينكر من استخفاف بأحد المسلمين‬
‫أو ذكر عوراتهم أو نحو ذلك ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬التّعليم ‪:‬‬
‫‪ -‬قال النّوويّ ‪ :‬تعليم الطّالبين فرض كفاية ‪ ،‬فإن لم يكن هناك من يصلح إلّا واحد تعيّن‬ ‫‪6‬‬

‫عليه ‪ .‬وإن كان جماعة يصلحون ‪ ،‬فطلب ذلك من أحدهم فامتنع فهل يأثم ؟ يجري في ذلك‬
‫وجهان ‪ .‬والصحّ ‪ :‬ل يأثم ‪ .‬هذا ويلزم تعليم العلم اللّازم تعليمه ‪ ،‬كاستعلم كافر يريد‬
‫السلم عن السلم ‪ ،‬أو استعلم حديث عهد بالسلم عن صلة حضر وقتها ‪ ،‬وكالمستفتي‬
‫في الحلل والحرام فإنّه يلزم في هذه المور الجابة ‪ ،‬ومن امتنع كان آثما ‪.‬‬
‫وليس كذلك المر في نوافل العلم الّتي ل ضرورة بالنّاس إلى معرفتها ‪.‬‬
‫ج ‪ :‬ينبغي للعالم ‪ ،‬أو يتعيّن عليه ‪ :‬إذا رأى النّاس قد أعرضوا عن العلم أن‬
‫قال ابن الحا ّ‬
‫يعرض نفسه عليهم ‪ ،‬لتعليمهم وإرشادهم وإن كانوا معرضين ‪.‬‬
‫‪ -‬وقد حثّ الشّرع على تعليم العلوم الّتي تحتاجها المّة في دينها ودنياها ‪ ،‬وجاءت اليات‬ ‫‪7‬‬

‫والحاديث والخبار بذلك ‪ .‬ومن اليات قول اللّه تعالى ‪ { :‬فَلول َنفَ َر مِنْ ُكلّ فِرْ َق ٍة مِ ْن ُهمْ‬
‫ن وَلِيُنْذِرُوا قَومَهم إذا َرجَعُوا إليهم َلعَلّهم َيحْذَرُون } والمراد هو‬
‫طَا ِئ َفةٌ لِيَ َت َفقّهُوا في الدّي ِ‬
‫س وَل‬
‫ق الّذينَ أُوتُوا الكِتَابَ لَتُبَيّنُنّه للنّا ِ‬
‫التّعليم ‪ .‬وقوله جلّ شأنه ‪ { :‬وَإذْ َأخَذَ الّل ُه مِيثَا َ‬
‫َتكْ ُتمُونَه } وهو إيجاب للتّعليم ‪.‬‬
‫وقوله تعالى ‪ { :‬وَإنّ فَرِيقَا مِنْهم لَ َيكْ ُتمُونَ الحقّ وهم َيعْلَمون } وهو تحريم للكتمان ‪.‬‬
‫وقال صلى ال عليه وسلم ‪ « :‬من سئل عن علم فكتمه ألجم بلجام من نار يوم القيامة » ‪.‬‬
‫وقال صلى ال عليه وسلم ‪ « :‬طلب العلم فريضة على كلّ مسلم ‪ ،‬وإنّ طالب العلم يستغفر‬
‫له كلّ شيء حتّى الحيتان في البحر » ‪.‬‬
‫وقوله عليه السلم ‪ « :‬طلب العلم فريضة على ك ّل مسلم » ‪.‬‬
‫والتّحقيق حمل العلم في الحديثين السّابقين على المعنى العامّ ‪ ،‬فيشمل علوم الشّرع ‪ :‬علم‬
‫الكلم ‪ ،‬والفقه ‪ ،‬والتّفسير ‪ ،‬والحديث ‪ ،‬وعلوم الدّنيا ‪ .‬ومنها الزّراعة ‪ ،‬والصّناعة ‪،‬‬
‫والسّياسة ‪ ،‬والحرف ‪ ،‬والطّبّ ‪ ،‬والتّكنولوجيا ‪ ،‬والحساب ‪ ،‬والهندسة وغير ذلك من أنواع‬
‫العلوم ‪ ،‬وما يرتبط به مصالح أمور الدّنيا ‪.‬‬
‫فضل التّعليم والتّعلّم ‪:‬‬
‫‪ -‬وردت اليات والخبار والثار ‪ ،‬وتطابقت الدّلئل ال صّريحة على فضيلة العلم ‪ ،‬والح ثّ‬ ‫‪8‬‬

‫على تحصيله ‪ ،‬والجتهاد في اقتباسه وتعليمه ‪.‬‬


‫ن والّذينَ ل َيعْلَمون }‬
‫فمن اليات قوله تعالى ‪ُ { :‬قلْ ه ْل َيسْتَوي الّذينَ َيعْ َلمُو َ‬
‫ن عِبَادِه العُ َلمَاءُ }‬
‫خشَى الّلهَ مِ ْ‬
‫وقوله تعالى ‪ { .‬و ُقلْ رَبّ زِدْنِي عِ ْلمَا } وقوله تعالى ‪ { :‬إ ّنمَا َي ْ‬
‫وقال ‪ { :‬هو الّذي َبعَثَ في ا ُلمّيّينَ َرسُولً منهمْ يَتْلُو عليهمْ آياتِه وَيُ َزكّيهمْ وَ ُيعَّلمُهُم الكِتَابَ‬
‫وَالحِ ْك َمةَ ‪ ،‬وإنْ كَانُوا مِنْ قَ ْب ُل َلفِي ضَل ٍل مُبين }‬
‫ومن الخبار قوله صلى ال عليه وسلم ‪ « :‬مَن ُيرِدِ اللّه به خيرا يفقّهه في الدّين » وقوله‬
‫ن يهديَ اللّه بك رجلً واحدا خير لك من‬
‫ي رضي ال عنه ‪ « :‬لَ ْ‬
‫صلى ال عليه وسلم لعل ّ‬
‫حمْرِ النّعم » ‪ .‬وقوله صلى ال عليه وسلم ‪ « :‬إنّ اللّه لم يبعثني معنّتا ول متعنّتا ‪ ،‬ولكن‬
‫ُ‬
‫بعثني معلّما ميسّرا » ‪.‬‬
‫ومن الثار قول عليّ رضي ال عنه ‪ :‬كفى بالعلم شرفا أن يدّعيه من ل يحسنه ‪ ،‬ويفرح به‬
‫إذا نسب إليه ‪ ،‬وكفى بالجهل ذمّا أن يتبرّأ منه من هو فيه ‪.‬‬
‫وقوله ‪ :‬العلم يحرسك ‪ ،‬وأنت تحرس المال ‪ .‬والمال تنقصه النّفقة ‪ ،‬والعلم يزكو بالنفاق ‪.‬‬
‫آداب المعلّم والمتعلّم‬
‫أ ‪ -‬آداب المعلّم ‪:‬‬
‫‪ -‬فصّل الفقهاء القول في آداب المعلّم ووظائفه وأهمّها ما يلي ‪:‬‬ ‫‪9‬‬
‫‪ -‬أن يقصد بتعليمه وجه اللّه تعالى ‪ ،‬ول يقصد توصّل إلى غرض دنيويّ ‪.‬‬
‫‪ -‬وأن يتخلّق بالمحاسن الّتي ورد الشّرع بها وحثّ عليها ‪ ،‬والخلل الحميدة والشّيم‬
‫المرضيّة الّتي أرشد إليها ‪.‬‬
‫‪ -‬وأن يحذر من الحسد والرّياء والعجاب واحتقار النّاس ‪ ،‬وإن كانوا دونه بدرجات ‪.‬‬
‫‪ -‬وأن ل يذلّ العلم ول يذهب به إلى مكان ينتسب إلى من يتعلّمه منه ‪ ،‬وإن كان المتعلّم‬
‫كبير القدر ‪.‬‬
‫‪ -‬وأن يشفق على المتعلّمين ‪ ،‬وأن يجريهم مجرى بنيه ‪ ،‬قال رسول اللّه صلى ال عليه‬
‫وسلم ‪ « :‬إنّما أنا لكم بمنزلة الوالد » بأن يقصد إنقاذهم من نار الخرة ‪ ،‬وهو أه ّم من إنقاذ‬
‫الوالدين ولدهما من نار الدّنيا ‪.‬‬
‫‪ -‬وأن ل يتعظّم على المتعلّمين ‪ ،‬بل يلين لهم ويتواضع ‪ .‬قال عمر رضي ال عنه ‪:‬‬
‫تواضعوا لمن علّمكم ‪ ،‬وتواضعوا لمن تعلّمون ‪ ،‬ول تكونوا من جبّاري العلماء ‪.‬‬
‫‪ -‬وأن يتفقّد المتعلّمين ‪ ،‬ويسأل عمّن غاب منهم ‪ ،‬وينبغي أن يكون باذل وسعه في تفهيمهم‬
‫وتقريب الفائدة إلى أذهانهم ‪.‬‬
‫‪ -‬وأن يزجر المتعلّم عن سوء الخلق بطريق التّعريض ما أمكن ول يصرّح ‪ ،‬وبطريق‬
‫الرّحمة ل بطريق التّوبيخ ‪.‬‬
‫‪ -‬وأن يقتصر بالمتعلّم على قدر فهمه ‪ ،‬فل يلقي إليه ما ل يبلغه عقله ‪ ،‬فينفّره أو يخبط‬
‫ي صلى ال عليه وسلم حيث قال ‪ « :‬أنزلوا النّاس منازلهم‬
‫عليه عقله ‪ ،‬اقتداء في ذلك بالنّب ّ‬
‫»‪.‬‬
‫‪ -‬وأن يحرّضهم على الشتغال في كلّ وقت ‪ ،‬ويطالبهم في أوقات بإعادة محفوظاتهم ‪،‬‬
‫ويسألهم عمّا ذكر لهم من المهمّات ‪.‬‬
‫‪ -‬وأن يقدّم في تعليمهم إذا ازدحموا السبق فالسبق ‪.‬‬
‫‪ -‬وأن يكون عامل بعلمه فل يكذّب قوله فعله ‪ ،‬لنّ العلم يدرك بالبصائر والعمل يدرك‬
‫بالبصار ‪ ،‬وأرباب البصار أكثر ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬آداب المتعلّم ‪:‬‬
‫‪ -‬ينبغي أن يطهّر قلبه من الدناس ليصلح لقبول العلم وحفظه واستثماره ‪ ،‬ففي‬ ‫‪10‬‬

‫ن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح‬


‫الصّحيحين عن رسول اللّه صلى ال عليه وسلم ‪ « :‬إ ّ‬
‫الجسد كلّه ‪ ،‬وإذا فسدت فسد الجسد كلّه ‪ ،‬أل وهي القلب » ‪.‬‬
‫وقالوا ‪ :‬تطبيب القلب للعلم كتطبيب الرض للزّراعة ‪ .‬وينبغي أن يقطع العلئق الشّاغلة عن‬
‫كمال الجتهاد في التّحصيل ‪ ،‬ويرضى بما يتيسّر من القوت ‪ ،‬ويصبر إن ضاق به العيش ‪.‬‬
‫‪ -‬وينبغي للمتعلّم أن يتواضع لمعلّمه وينظر إليه بعين الحترام ‪ ،‬ويرى كمال أهليّته "‬
‫ورجحانه على أكثر طبقته ‪ ،‬فذلك أقرب إلى انتفاعه به ورسوخ ما سمعه منه في ذهنه ‪.‬‬
‫‪ -‬وليحذر المتعلّم البسط على من يعلّمه وإن آنسه ‪ ،‬والدلل عليه وإن تقدّمت صحبته ‪ ،‬ول‬
‫ن في ذلك كفرا لنعمته واستخفافا بحقّه ‪.‬‬
‫يظهر له الستكفاء منه والستغناء عنه ‪ ،‬فإ ّ‬
‫‪ -‬ول ينبغي أن تبعثه معرفة الحقّ للمعلّم على قبول الشّبهة منه ‪ ،‬ول ينبغي له أن يعنّت‬
‫معلّمه بالسّؤال ‪ ،‬ول يدعوه ترك العنات للمعلّم إلى التّقليد فيما أخذ عنه ‪ .‬وليست كثرة‬
‫ح في النّفس تقليدا ‪ .‬إل أنّه ل يلحّ في السّؤال‬
‫السّؤال فيما التبس إعناتا ‪ ،‬ول قبول ما ص ّ‬
‫إلحاحا مضجرا ‪ ،‬ويغتنم سؤاله عند طيب نفسه وفراغه‪ ،‬ويتلطّف في سؤاله ويحسن خطابه‪.‬‬
‫‪ -‬وليأخذ المتعلّم حظّه ممّن وجد طلبته عنده من نبيه وخامل ‪ ،‬ول يطلب الصّيت وحسن‬
‫الذّكر باتّباع أهل المنازل من العلماء ‪ ،‬إذا كان النّفع بغيرهم أعمّ ‪ ،‬إل أن يستوي النّفعان‬
‫ن النتساب إليه أجمل والخذ عنه‬
‫فيكون الخذ عمّن اشتهر ذكره وارتفع قدره أولى ‪ ،‬ل ّ‬
‫أشهر ‪.‬‬
‫‪ -‬وينبغي أن يكون حريصا على التّعلّم مواظبا عليه في جميع أوقاته ‪ ،‬ليل ونهارا حضرا‬
‫وسفرا ‪ ،‬ول يذهب من أوقاته شيئا في غير العلم إلّا بقدر الضّرورة لكل ونوم قدرا ‪ -‬ل بدّ‬
‫منه ‪ -‬ونحوهما من الضّروريّات ‪.‬‬
‫‪ -‬ومن آداب المتعلّم ‪ :‬الحلم والناة ‪ ،‬وأن تكون همّته عالية ‪ ،‬فل يرضى باليسير مع إمكان‬
‫كثير ‪ ،‬وأن ل يسوّف في اشتغاله ول يؤخّر تحصيل فائدة ‪ ،‬وإن قلّت ‪ :‬إذا تمكّن منها ‪ ،‬وإن‬
‫أمل حصولها بعد ساعة ‪ ،‬لنّ للتّأخير آفات ‪ ،‬ولنّ في الزّمن الثّاني يحصل غيرها ‪.‬‬
‫تعليم الصّغار ‪:‬‬
‫‪ -‬على الباء والمّهات وسائر الولياء تعليم الصّغار ما يلزمهم بعد البلوغ ‪ ،‬فيعلّم‬ ‫‪11‬‬

‫الصّغير ما تصحّ به عقيدته من إيمان باللّه وملئكته وكتبه ورسله واليوم الخر ‪ ،‬وما تصحّ‬
‫به عبادته ‪ ،‬ويعرّفه ما يتعلّق بصلته وصيامه وطهارته ونحوها ‪ ،‬وذلك لقول النّبيّ صلى‬
‫ال عليه وسلم ‪ « :‬مُرُوا أولدكم بالصّلة وهم أبناء سبع سنين ‪ ،‬واضربوهم عليها وهم‬
‫أبناء عشر سنين ‪ ،‬وفرّقوا بينهم في المضاجع » ‪.‬‬
‫ويعرّفه تحريم الزّنا واللّواط والسّرقة وشرب المسكر والكذب والغيبة وشبهها ‪ ،‬كما يعلّم أنّه‬
‫بالبلوغ يدخل في التّكليف ‪ ،‬ويعرّف ما يبلغ به ‪.‬‬
‫وقيل هذا التّعليم مستحبّ ‪ ،‬ونقل الرّافعيّ عن الئمّة وجوبه على الباء والمّهات ‪ ،‬وهذا ما‬
‫صحّحه النّوويّ ‪.‬‬
‫ن آمَنُوا قُوا أَنْفسَكمْ َوأَهليكمْ‬
‫ودليل وجوب تعليم الصّغير ‪ :‬قول اللّه ع ّز وجلّ ‪ { :‬يا أيّها الّذي َ‬
‫ي بن أبي طالب رضي ال عنه ومجاهد وقتادة ‪ :‬معناه علّموهم ما ينجون به‬
‫نَارَا } قال عل ّ‬
‫من النّار " وهذا ظاهر " وثبت في الصّحيحين عن ابن عمر رضي ال عنهما عن رسول اللّه‬
‫صلى ال عليه وسلم أنّه قال ‪ « :‬كلّكم راع ومسئول عن رعيّته » ‪.‬‬
‫ي أمانة عند والديه ‪ ،‬وقلبه الطّاهر جوهرة نفيسة‬
‫قال القاضي أبو بكر بن العربيّ ‪ :‬إنّ الصّب ّ‬
‫ساذجة خالية عن كلّ نقش وصورة ‪ ،‬وهو قابل لك ّل نقش وقابل لكلّ ما يمال به إليه ‪ ،‬فإن‬
‫عوّد الخير وعلّمه نشأ عليه وسعد في الدّنيا والخرة ‪ ،‬يشاركه في ثوابه أبواه وكلّ معلّم له‬
‫ومؤدّب ‪ ،‬وإن عوّد الشّ ّر وأهمل شقي وهلك ‪ ،‬وكان الوزر في رقبة القيّم به والول يّ عليه ‪.‬‬
‫ومهما كان الب يصون ولده من نار الدّنيا فينبغي أن يصونه من نار الخرة ‪ ،‬وهو أولى ‪،‬‬
‫وصيانته بأن يؤدّبه ويهديه ويعلّمه محاسن الخلق ‪ ،‬ويحفظه من قرناء السّوء ‪ ،‬ول يعوّده‬
‫التّنعّم ‪ ،‬ول يحبّب إليه الزّينة وأسباب الرّفاهية فيضيع عمره في طلبها إذا كبر ويهلك هلك‬
‫ال بد ‪ .‬وينب غي أن يعلّ مه أيضا من أمور الدّن يا ما يحتاج إل يه من ‪ :‬ال سّباحة والرّ مي وغ ير‬
‫ذلك ممّا ينف عه في كلّ زمان بح سبه ‪ .‬قال ع مر ر ضي ال ع نه ‪" :‬علّموا أولد كم ال سّباحة‬
‫والرّماية ‪ ،‬ومروهم فليثبوا على الخيل وثبا "‪.‬‬
‫هذا وللتّف صيل في العلم المحمود والعلم المذموم ‪ ،‬وأق سامهما وأحكامه ما ‪ ،‬و ما هو يتعيّن‬
‫طلبه وتعلّمه وما هو فرض كفاية ( ر ‪ :‬علم ) ‪.‬‬
‫تعليم النّساء ‪:‬‬
‫‪ -‬ل خلف بين الفقهاء في مشروعيّة تعليم النّساء القرآن والعلوم والداب ‪.‬‬ ‫‪12‬‬

‫ومن الفقهاء من قال بوجوب قيام المتأهّلة من النّساء بتعليم علوم الشّرع ‪ ،‬كما كانت‬
‫عائشة رضي ال عنها ونساء تابعات ‪ ،‬وقد قال اللّه تعالى لنساء نبيّه عليه الصلة والسلم‬
‫ح ْك َمةِ }‬
‫ت الّل ِه وَال ِ‬
‫ن مَا يُتْلَى في بُيُو ِتكُنّ مِنْ آيَا ِ‬
‫‪ { :‬وَا ْذكُرْ َ‬
‫ويجب أن يكون تعليم النّساء مع مراعاة آداب أمر الشّارع المرأة بالتزامها للحفاظ على‬
‫عرضها وشرفها وعفّتها ‪ ،‬من عدم الختلط بالرّجال وعدم التّبرّج ‪ ،‬وعدم الخضوع بالقول‬
‫إذا كانت هناك حاجة للكلم مع الجانب ‪.‬‬
‫وللتّفصيل ( ر ‪ :‬اختلط ‪ ،‬أنوثة ‪ ،‬تبرّج ‪ ،‬حجاب ‪ ،‬عورة ) ‪.‬‬
‫ويجب تعليم النّساء العلوم الّتي تعتبر ضروريّة بالنّسبة للنثى كطبّ النّساء ‪.‬‬
‫قال في الجوهرة ‪ :‬إذا كان المرض في سائر بدن المرأة يجوز النّظر إليه عند الدّواء ‪ ،‬لنّه‬
‫موضع ضرورة ‪ ،‬وإن كان في موضع الفرج فينبغي أن يعلّم امرأة تداويها ‪ . .‬قال ابن‬
‫عابدين ‪ :‬والظّاهر أنّ " ينبغي " هنا للوجوب ‪ .‬وللتّفصيل ( ر ‪ :‬تطبيب ‪ ،‬وتداوي ) ‪.‬‬
‫هذا ويرى أكثر الفقهاء عدم الكراهة في تعليم النّساء الكتابة كالرّجل ‪ .‬فقد أخرج أحمد وأبو‬
‫ي رسول‬
‫داود والنّسائيّ من حديث الشّفاء بنت عبد اللّه رضي ال عنها ‪ .‬قالت ‪ « :‬دخل عل ّ‬
‫اللّه صلى ال عليه وسلم وأنا عند حفصة فقال ‪ :‬أل تعلّمين هذه رقية النّملة كما علّمتها‬
‫الكتابة » ‪ .‬قال الشّيخ مجد الدّين بن تيميّة في المنتقى ‪ :‬وهو دليل على جواز تعلّم النّساء‬
‫الكتابة ‪ .‬وقد سرد ابن مفلح في الداب الشّرعيّة الحاديث الّتي يؤخذ من ظاهرها النّهي عن‬
‫تعليم النّساء الكتابة ‪ ،‬إل أنّه قد ضعّف هذه الحاديث ‪ ،‬أو أعلّها بالوضع ‪.‬‬
‫الضّرب للتّعليم ‪:‬‬
‫‪ -‬للمعلّم ضرب الصّبيّ الّذي يتعلّم عنده للتّأديب ‪ .‬وبتتبّع عبارات الفقهاء يتبيّن أنّهم‬ ‫‪13‬‬

‫ي المتعلّم بقيود منها ‪.‬‬


‫ق المعلّم في ضرب الصّب ّ‬
‫يقيّدون ح ّ‬
‫أ ‪ -‬أن يكون الضّرب معتادا للتّعليم كمّا وكيفا ومحلً ‪ ،‬يعلم المعلّم المن منه ‪ ،‬ويكون ضربه‬
‫باليد ل بالعصا ‪ ،‬وليس له أن يجاوز الثّلث ‪ ،‬روي « أنّ النّبيّ عليه الصلة والسلم قال‬
‫لمرداس المعلّم رضي ال عنه ‪ :‬إيّاك أن تضرب فوق الثّلث ‪ ،‬فإنّك إذا ضربت فوق الثّلث‬
‫ص اللّه منك » ‪.‬‬
‫اقت ّ‬
‫ي ‪ ،‬لنّ الضّرب عند التّعليم غير متعارف ‪ ،‬وإنّما الضّرب‬
‫ب ‪ -‬أن يكون الضّرب بإذن الول ّ‬
‫ي صبيّه إلى المعلّم‬
‫عند سوء الدب ‪ ،‬فل يكون ذلك من التّعليم في شيء ‪ ،‬وتسليم الول ّ‬
‫لتعليمه ل يثبت الذن في الضّرب ‪ ،‬فلهذا ليس له الضّرب ‪ ،‬إلّا أن يأذن له فيه نصّا ‪.‬‬
‫ي مطّرد بجواز ذلك بدون إذن الوليّ ‪.‬‬
‫ونقل عن بعض الشّافعيّة قولهم ‪ :‬الجماع الفعل ّ‬
‫ي يعقل التّأديب ‪ ،‬فليس للمعلّم ضرب من ل يعقل التّأديب من الصّبيان‬
‫ج ‪ -‬أن يكون الصّب ّ‬
‫قال الثرم ‪ :‬سئل أحمد عن ضرب المعلّم الصّبيان ‪ ،‬قال ‪ :‬على قدر ذنوبهم ‪ ،‬ويتوقّى بجهده‬
‫الضّرب وإذا كان صغيرا ل يعقل فل يضربه ‪.‬‬
‫ضمان ضرب التّعليم ‪:‬‬
‫‪ -‬ذهب المالكيّة والحنابلة إلى أنّ المعلّم إذا أدّب صبيّه الدب المشروع فمات ‪ ،‬فل‬ ‫‪14‬‬

‫ضمان عليه ‪ .‬وبهذا قال الحنفيّة ‪ .‬إل أنّهم يشترطون لنفي الضّمان أن يكون الضّرب قد‬
‫ي ‪ ،‬فضل عن كونه لم يخرج عن الضّرب المعتاد كمّا وكيفا ومحلّا‬
‫حصل بإذن الب أو الوص ّ‬
‫‪ ،‬فإذا ضرب المعلّم صبيّا يتعلّم منه بغير إذن الب أو الوصيّ ضمن عند الحنفيّة ‪ ،‬لنّه متعدّ‬
‫في الضّرب ‪ ،‬والمتولّد منه يكون مضمونا عليه ‪.‬‬
‫وقال الشّافعيّة ‪ :‬لو مات المتعلّم من ضرب المعلّم ‪ ،‬فإنّه يضمن وإن كان بإذن الوليّ وكان‬
‫مثله معتادا للتّعليم ‪ ،‬لنّه مشروط بسلمة العاقبة إذ المقصود التّأديب ل الهلك ‪ ،‬فإذا حصل‬
‫به هلك تبيّن أنّه جاوز الحدّ المشروع ‪ .‬وللتّفصيل ( ر ‪ :‬تأديب ‪ .‬ضمان ‪ .‬قتل ) ‪.‬‬
‫الستئجار لتعليم القرآن والعلم الشّرعيّ ‪:‬‬
‫‪ -‬ل خلف بين الفقهاء في جواز أخذ الرّزق من بيت المال على تعليم القرآن وتدريس‬ ‫‪15‬‬

‫علم نافع من حديث وفقه ونحوهما ‪ ،‬لنّ هذا الرّزق ليس أجرة من كلّ وجه بل هو كالجرة‪.‬‬
‫وإنّما اختلفوا في الستئجار لتعليم القرآن والحديث والفقه ونحوهما من العلوم الشّرعيّة ‪:‬‬
‫فيرى متقدّمو الحنفيّة ‪ -‬وهو المذهب عند الحنابلة ‪ -‬عدم صحّة الستئجار لتعليم القرآن‬
‫والعلم الشّرعيّ ‪ ،‬كالفقه والحديث ‪ .‬لحديث عبادة بن الصّامت رضي ال عنه قال ‪ « :‬علّمت‬
‫صفّة القرآن والكتابة ‪ ،‬فأهدى إليّ رجل منهم قوسا ‪ .‬قال ‪ :‬قلت ‪ :‬قوس ‪،‬‬
‫ناسا من أهل ال ّ‬
‫ي صلى ال عليه وسلم‬
‫وليس بمال ‪ .‬قال ‪ :‬قلت ‪ :‬أتقلّدها في سبيل اللّه ‪ ،‬فذكرت ذلك للنّب ّ‬
‫وقصصت عليه القصّة ‪ ،‬فقلت ‪ :‬يا رسول اللّه ‪ ،‬رجل أهدى إليّ قوسا ممّن كنت أعلّمه‬
‫ب أن تطوّق‬
‫الكتاب والقرآن ‪ ،‬وليست بمال ‪ ،‬وأرمي عنها في سبيل اللّه ‪ ،‬قال ‪ :‬إن كنت تح ّ‬
‫ي بن كعب رضي ال عنه ‪ ،‬أنّه علّم رجلً سورة من‬
‫طوقا من نار فأقبلها » ‪ .‬وحديث « أب ّ‬
‫القرآن ‪ ،‬فأهدى له خميصة أو ثوبا ‪ ،‬فذكر ذلك للنّبيّ صلى ال عليه وسلم فقال ‪ :‬إنّك لو‬
‫لبستها للبسك اللّه مكانها ثوبا من نار » ولنّه استئجار لعمل مفروض ‪ ،‬فل يجوز ‪،‬‬
‫كالستئجار للصّوم والصّلة ‪ ،‬ولنّه غير مقدور الستيفاء في حقّ الجير ‪ ،‬لتعلّقه بالمتعلّم ‪،‬‬
‫ن الستئجار على تعليم القرآن‬
‫فأشبه الستئجار لحمل خشبة ل يقدر على حملها بنفسه ‪ ،‬ول ّ‬
‫والعلم سبب لتنفير النّاس على تعليم القرآن والعلم ‪ ،‬لنّ ثقل الجر يمنعهم من ذلك ‪ ،‬وإلى‬
‫ن َمغْ َرمٍ مُ ْثقَلُونَ }‬
‫هذا أشار اللّه ج ّل شأنه في قوله عزّ وجلّ ‪َ { :‬أمْ َتسْألهم أَجرا فَهم مِ ْ‬
‫فيؤدّي إلى الرّغبة عن هذه الطّاعة ‪ ،‬وهذا ل يجوز ‪.‬‬
‫وذهب متأخّرو الحنفيّة ‪ -‬وهو المختار للفتوى عندهم ‪ -‬والمالكيّة في قول ‪ ،‬وهو القول‬
‫الخر عند الحنابلة ‪ -‬يؤخذ ممّا نقله أبو طالب عن أحمد ‪ -‬إلى جواز الستئجار على تعليم‬
‫القرآن والفقه ‪ ،‬لخبر ‪ « :‬إنّ أحقّ ما أخذتم عليه أجرا كتاب اللّه » ولما روي عن عبد‬
‫الجبّار بن عمر أنّه قال ‪ :‬كلّ من سألت من أهل المدينة ل يرى بتعليم الغلمان بالجر بأسا ‪.‬‬
‫ولنّ الحفّاظ والمعلّمين ‪ -‬نظرا لعدم وجود عطيّات لهم في بيت المال ‪ -‬ربّما اشتغلوا‬
‫بمعاشهم ‪ ،‬فل يتفرّغون للتّعليم حسبة ‪ ،‬إذ حاجتهم تمنعهم من ذلك ‪ ،‬فلو لم يفتح لهم باب‬
‫التّعليم بالجر لذهب العلم وق ّل حفّاظ القرآن ‪.‬‬
‫ي من أن يتوكّل لهؤلء السّلطين ‪ ،‬ومن أن يتوكّل لرجل‬
‫قال أحمد بن حنبل ‪ :‬التّعليم أحبّ إل ّ‬
‫من عامّة النّاس في ضيعة ‪ ،‬ومن أن يستدين ويتّجر ‪ ،‬لعلّه ل يقدر على الوفاء فيلقى اللّه‬
‫بأمانات النّاس ‪.‬‬
‫والمذهب عند المالكيّة ‪ :‬جواز الستئجار على تعليم القرآن ‪ ،‬أمّا الجارة على تعليم الفقه‬
‫وغيره من العلوم ‪ ،‬كالنّحو والصول والفرائض فإنّها مكروهة عندهم ‪.‬‬
‫وفرّق المالكيّة بين جواز الجارة على تعليم القرآن ‪ ،‬وكراهتها على تعليم غيره ‪ :‬بأنّ‬
‫ق والباطل‪.‬‬
‫ق ل شكّ فيه ‪ ،‬بخلف ما عداه ممّا هو ثابت بالجتهاد ‪،‬فإنّ فيه الح ّ‬
‫القرآن كلّه ح ّ‬
‫وأيضا فإنّ تعليم الفقه بأجرة ليس عليه العمل بخلف القرآن ‪ ،‬كما أنّ أخذ الجرة على‬
‫تعليمه يؤدّي إلى تقليل طالبه ‪.‬‬
‫وذهب الشّافعيّة ‪ -‬على الصحّ ‪ -‬إلى جواز الستئجار لتعليم القرآن بشرط تعيين السّورة‬
‫ح ‪ .‬وقيل ‪ :‬ل يشترط تعيين واحد منهما ‪ .‬أمّا‬
‫واليات الّتي يعلمها ‪ ،‬فإن أخلّ بأحدهما لم يص ّ‬
‫الستئجار لتدريس العلم فقالوا ‪ :‬بعدم جوازه إل أن يكون الستئجار لتعليم مسألة أو مسائل‬
‫مضبوطة ‪ ،‬فيجوز ‪ .‬وقد فصّل الفقهاء القول في شروط الستئجار على تعليم القرآن‬
‫والعلم ‪ ،‬عند الكلم عن الستئجار على الطّاعات ‪،‬يرجع إليها في أبواب ( الجارة ) من كتب‬
‫الفقه‪.‬‬
‫الستئجار على تعليم الحرف والعلوم غير الشّرعيّة ‪:‬‬
‫‪ -‬ل خلف بين الفقهاء في جواز الستئجار على تعليم الحرف والصّناعات المباحة الّتي‬ ‫‪16‬‬

‫تتعلّق بها المصالح الدّنيويّة ‪ ،‬كخياطة وحدادة وبناء وزرع ونسيج ونحو ذلك ‪.‬‬
‫ويرى جمهور الفقهاء صحّة الجارة على تعليم العلوم سوى العلوم الشّرعيّة البحتة ‪ ،‬كاللّغة‬
‫والداب ‪ ،‬لنّها تارة تقع قربة وتارة تقع غير قربة ‪ ،‬فلم يمنع من الستئجار عليه لفعله ‪،‬‬
‫كغرس الشجار وبناء البيوت ‪ ،‬لكون فاعلها ل يختصّ أن يكون من أهل القربة ‪.‬‬
‫وذهب المالكيّة إلى كراهة الجارة على تعليم مثل هذه العلوم ‪ .‬وللتّفصيل في شروط‬
‫ج‪.)1‬‬ ‫‪151‬‬ ‫الستئجار على تعليم الحرف والعلوم ( ر ‪ :‬مصطلح إجارة ف‬
‫تعليم علوم محرّمة ‪:‬‬
‫‪ -‬ل يجوز تعليم علوم محرّمة ‪ ،‬كالكهانة والتّنجيم والضّرب بالرّمل وبالشّعير‬ ‫‪17‬‬

‫وبالحمّص ‪ ،‬والشّعبذة ‪ ،‬وعلوم طبائع وسحر وطلسمات بغير العربيّة لمن ل يعرف معناها‬
‫ص الحديث الصّحيح« في‬
‫وتلبيسات ‪ .‬فتعليم كلّ ذلك محرّم وأخذ العوض عليها حرام بن ّ‬
‫النّهي عن حلوان الكاهن » والباقي في معناه ‪.‬‬
‫هذا ‪ ،‬وليس من المنهيّ عنه تعليم وتعلّم علم النّجوم ليستدلّ به على مواقيت الصّلة والقبلة‬
‫واختلف المطالع ونحو ذلك ‪.‬وللتّفصيل ( ر ‪ :‬علم ) ‪.‬‬
‫تعليم الجوارح ‪:‬‬
‫‪ -‬ل خلف بين الفقهاء في أنّه يشترط لحلّ ما قتلته الجوارح من الصّيد ‪ :‬كون الجارح‬ ‫‪18‬‬

‫ن ُتعَّلمُو َنهُنّ ممّا عَّلمَك ْم الّلهُ ‪َ ،‬فكُلُوا‬


‫جوَارحِ ُمكَلّبِي َ‬
‫ن ال َ‬
‫معلّما ‪ ،‬لقوله تعالى ‪َ { :‬ومَا عَّلمْ ُتمْ مِ َ‬
‫ن النّصّ ينطق باشتراط التّعليم ‪ ،‬وقوله عليه الصلة والسلم ‪:‬‬
‫سكْنَ عَليكمْ } حيث إ ّ‬
‫ِممّا َأ ْم َ‬
‫« إذا أرسلت كلبك المعلّمة وذكرت اسم اللّه فكل ممّا أمسكن عليك ‪ ،‬وإن قتلن ‪ ،‬إل أن يأكل‬
‫الكلب ‪ ،‬فإنّي أخاف أن يكون إنّما أمسكه على نفسه ‪ ،‬وإن خالطها كلب من غيرها فل تأكل‬
‫» ‪ .‬ولنّ الجارح إنّما يصير آلة بالتّعليم ‪ ،‬ليكون عامل للصّائد بما يريد من الصّيد ‪،‬‬
‫فيسترسل بإرساله ‪ ،‬ويمسك الصّيد على صاحبه ‪ ،‬ل لنفسه ‪.‬‬
‫ح أن يصاد به وشروط تعليمه وضبط تعليمه ينظر ‪:‬‬
‫وللتّفصيل في صفة الجارح الّذي يص ّ‬
‫مصطلح ‪ ( :‬صيد ) ‪.‬‬

‫تعمّد *‬
‫انظر ‪ :‬عمد ‪.‬‬

‫تعمّم *‬
‫انظر ‪ :‬عمامة ‪.‬‬

‫تعمير *‬
‫انظر ‪ :‬عمارة ‪.‬‬

‫تعميم *‬
‫التّعريف ‪:‬‬
‫‪ -‬التّعميم لغة ‪ :‬جعل الشّيء عامّا أي شامل ‪ ،‬يقال ‪ :‬ع ّم المطر الرض ‪ :‬إذا شملها ‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫ول يخرج استعمال الفقهاء لهذا اللّفظ عن الستعمال اللّغويّ ‪.‬‬


‫الحكم الجماليّ ‪:‬‬
‫التّعميم يكون في أمور منها ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬الوضوء ‪:‬‬
‫‪ -‬القاعدة أنّ كلّ عضو من أعضاء الجسم يجب غسله في الوضوء يجب تعميمه بالماء ‪،‬‬ ‫‪2‬‬

‫إل في حالة التّعذّر والضّرورة ‪ .‬واتّفق الفقهاء ‪ -‬ما عدا الزّهريّ ‪ -‬على أنّ الذنين ليستا‬
‫من الوجه ‪ ،‬فل يجب غسلهما بالماء في الوضوء ‪.‬‬
‫وخالف الحنابلة الئمّة الثّلثة في داخل الفم والنف ‪ ،‬وقالوا ‪ :‬إنّهما من الوجه ‪ ،‬فيفترض‬
‫غسلهما أي بالمضمضة للفم والستنشاق للنف ‪.‬‬
‫والمعتبر عند الئمّة الثّلثة ‪ :‬غسل ظاهر النف ‪.‬‬
‫‪ -‬واتّفق الئمّة الربعة على وجوب تعميم اليدين والمرفقين بالماء ‪ ،‬وقالوا ‪ :‬إذا لصق‬ ‫‪3‬‬

‫باليدين ‪ ،‬أو بأصل الظّفر طين أو عجين ‪ ،‬يجب إزالته وإيصال الماء إلى أصل الظّفر ‪ ،‬وإل‬
‫ن بعض الحنفيّة‬
‫بطل وضوءه ‪ .‬ويجب غسل تكاميش ( تجاعيد ) النامل ليعمّها الماء ‪ ،‬إل أ ّ‬
‫يرى ضرورة غسل الوساخ اللّاصقة بباطن الظّفر الطّويل ‪ ،‬فإن لم يفعل بطل وضوءه ‪.‬‬
‫واغتفروا للخبّاز الّذي تطول أظفاره ‪ ،‬فيبقى تحتها شيء من العجين لضرورة المهنة ‪.‬‬
‫وقال المالكيّة ‪ :‬إنّ وسخ الظفار يعفى عنه إلّا إذا تفاحش وكثر ‪ ،‬فيجب إزالته ليصل الماء‬
‫إلى ما تحت الظّفر ‪ .‬أمّا الشّافعيّة فقالوا ‪ :‬إنّ الوساخ الّتي تحت الظفار إن منعت من‬
‫وصول الماء إلى الجلد المحاذي لها من الصبع ‪ ،‬فإنّ إزالتها واجبة ليعمّ الماء الجلد ‪ ،‬ولكن‬
‫يعفى عن العمّال الّذين يعملون في الطّين ونحوه ‪ ،‬بشرط ألّا يكون كثيرا يلوّث رأس الصبع‪.‬‬
‫ب ‪ -‬الغسل ‪:‬‬
‫ن من أركان الغسل‬
‫ن تعميم الجسد كلّه بالماء فرض في الغسل ‪ ،‬ل ّ‬
‫‪ -‬اتّفق الفقهاء على أ ّ‬ ‫‪4‬‬

‫‪ :‬تعميم الجسد ‪ .‬واختلفوا في داخل الفم والنف ‪ ،‬فقال الحنفيّة والحنابلة ‪ :‬إنّه من البدن ‪،‬‬
‫فالمضمضة والستنشاق فرض عندهما في الغسل ‪ ،‬وقال المالكيّة والشّافعيّة ‪ :‬إنّ الفرض‬
‫هو غسل الظّاهر فقط ‪ ،‬فل تجب المضمضمة والستنشاق في الغسل ‪.‬‬
‫ويجب تعميم شعره وبشره وإيصال الماء إلى منابت شعره وإن كثف ‪.‬‬
‫ويجب نقض ضفائر ل يصل الماء إلى باطنها إلّا بالنّقض ‪.‬‬
‫وقال بعض المالكيّة ‪ :‬يستثنى من وجوب غسل الرّأس في الغسل العروس إذا كان شعرها‬
‫مزيّنا ‪ ،‬فل يجب عليها غسله ‪ ،‬بل يكفيها المسح ‪ ،‬قالوا ‪ :‬لما في الغسل من إضاعة المال ‪.‬‬
‫كما يجب غسل ما ظهر من صماخي الذنين ‪ ،‬وما يبدو من شقوق البدن الّتي ل غور لها ‪.‬‬
‫واتّفقوا على ضرورة إيصال الماء إلى ما يمكن إيصاله إليه من أجزاء البدن ‪ ،‬ولو كانت‬
‫غائرة ‪ ،‬كعمق السّرّة ومح ّل العمليّات الجراحيّة الّتي لها أثر غائر ‪.‬‬
‫ولكنّ الشّافعيّة اعتبروا شعب الذن يدخل فيه القرط من الباطن ‪ ،‬ل من الظّاهر ‪ ،‬فل يلزم‬
‫إدخال الماء إليه ولو أمكن ‪ ،‬واتّفقوا على إزالة كلّ حائل يمنع وصول الماء إلى ما تحته ‪،‬‬
‫كعجين وعماص في العين ليحصل التّعميم ‪.‬‬
‫ج ‪ -‬التّيمّم ‪:‬‬
‫‪ -‬اختلف الفقهاء في تعميم أعضاء التّيمّم بالمسح ‪ .‬فقال المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ‪:‬‬ ‫‪5‬‬

‫يجب تعميم المسح على الوجه ويدخل فيه اللّحية ولو طالت ‪ ،‬لنّها من الوجه ‪ ،‬لمشاركتها‬
‫في حصول المواجهة ‪ .‬والمعتبر توصيل التّراب إلى جميع البشرة الظّاهرة من الوجه ‪ ،‬وإلى‬
‫ما ظهر من الشّعر ‪ .‬ول يجب إيصال التّراب إلى ما تحت الحاجبين والشّارب والعذارين‬
‫ي صلى ال عليه وسلم وصف التّيمّم ‪ ،‬واقتصر على ضربتين ‪ ،‬ومسح‬
‫والعنفقة لنّ النّب ّ‬
‫وجهه بإحداهما ‪ ،‬ومسح إحدى اليدين بالخرى وبذلك ل يصل التّراب إلى باطن هذه الشّعور‬
‫ن المعتبر هو تعميم المسح ل التّراب ‪ .‬ويجب تعميم‬
‫للمشقّة في إيصاله فسقط وجوبه ‪ ،‬ول ّ‬
‫مسح يديه وكوعيه مع تخليل أصابعه على الرّاجح عند المالكيّة ‪ .‬ويلزم نزع الخاتم ‪ -‬ولو‬
‫مأذونا فيه أو واسعا ‪ -‬وإلّا كان حائل ‪ ،‬وهذا عند المالكيّة ‪ ( .‬ر ‪ :‬تيمّم ) ‪.‬‬
‫وقال الحنفيّة ‪ :‬تعميم الوجه واليدين بالمسح في التّيمّم شرط ل ركن ‪ .‬فإن كان المسح‬
‫بيده ‪ ،‬فإنّه يشترط أن يمسح بجميع يده أو أكثرها ‪ ،‬والمفروض المسح باليد أو ما يقوم‬
‫مقامها ‪ ،‬ويجب مسح الشّعر الّذي يجب غسله في الوضوء ‪ ،‬وهو المحاذي للبشرة ‪ ،‬فل‬
‫يجب مسح ما طال من اللّحية وقالوا ‪ :‬إنّ تحريك الخاتم الضّيّق والسّوار يكفي في التّيمّم ‪،‬‬
‫لنّ التّحريك مسح لما تحته ‪ ،‬والمفروض هو المسح ل وصول الغبار ‪.‬‬
‫د ‪ -‬الدّعاء ‪:‬‬
‫ن التّعميم في الدّعاء من السّنّة لقوله تعالى { وَاسْ َتغْفِ ْر لِذَنْبِكَ‬
‫‪ -‬اتّفق الفقهاء على أ ّ‬ ‫‪6‬‬

‫وللمؤمنينَ وَالمُؤمناتِ } ولخبر « ما من دعاء أحبّ إلى اللّه من أن يقول العبد ‪ :‬اللّهمّ‬
‫ارحم أمّة محمّد رحمة عامّة » ولحديث « العرابيّ الّذي قال ‪ :‬اللّهمّ ارحمني ومحمّدا ‪ ،‬ول‬
‫ترحم معنا أحدا فقال ‪ :‬لقد تحجّرت واسعا »‬
‫تعميم الصناف الثّمانية في الزّكاة ‪:‬‬
‫‪ -‬اختلف الفقهاء في وجوب تعميم الصناف الثّمانية في الزّكاة ‪ ،‬فالجمهور على أنّه غير‬ ‫‪7‬‬

‫واجب ‪ ،‬وذهب الشّافعيّة إلى وجوبه على تفصيل ينظر في ( الزّكاة ) ‪.‬‬
‫تعميم الدّعوة إلى الولئم ‪:‬‬
‫‪ -‬اختلف في حكم الدّعوة العامّة ‪ ،‬وهي الّتي تسمّى ( الجفلى ) فالجمهور على جواز‬ ‫‪8‬‬

‫إجابتها ‪،‬‬
‫وذهب الحنابلة إلى جواز إجابتها مع الكراهة ‪ ،‬على تفصيل ينظر في مصطلح ( دعوة ) ‪.‬‬

‫تعوّذ *‬
‫انظر ‪ :‬استعاذة ‪.‬‬
‫تعويذ *‬
‫التّعريف ‪:‬‬
‫‪ -‬التّعويذ في اللّغة ‪ :‬مصدر عوّذ ‪ ،‬من عاذ يعوذ عوذا ‪ :‬بمعنى التجأ ‪ .‬قال اللّيث يقال ‪:‬‬ ‫‪1‬‬

‫فلن عوذ لك ‪ :‬أي ملجأ ويقال ‪ :‬عذت بفلن ‪ :‬استعذت به ‪ :‬أي لجأت إليه وهو عياذي ‪:‬‬
‫أي ملجئي ‪ .‬والعوذة ‪ :‬ما يعاذ به من الشّيء ‪ ،‬والعوذة والتّعويذة والمعاذة كلّه بمعنى ‪:‬‬
‫الرّقية الّتي يرقى بها النسان من فزع أو جنون ‪ .‬والجمع ‪ :‬عوذ وتعاويذ ‪ ،‬ومعاذات‬
‫والتّعويذ في الصطلح يشمل الرّقى والتّمائم ونحوها ممّا هو مشروع أو غير مشروع ‪.‬‬
‫اللفاظ ذات الصّلة ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬الرّقية ‪:‬‬
‫‪ -‬الرّقية في اللّغة ‪ :‬من رقاه يرقيه رقية بمعنى ‪ :‬العوذة والتّعويذ ‪ .‬قال ابن الثير ‪:‬‬ ‫‪2‬‬

‫الرّقية ‪ :‬العوذة الّتي يرقى بها صاحب الفة ‪ ،‬كالحمّى والصّرع وغير ذلك من الفات ‪ ،‬لنّه‬
‫يعاذ بها ‪ .‬ومنه قوله تعالى ‪ { :‬وَقِي َل ‪ :‬مَنْ رَاقٍ } أي من يرقيه ؟ تنبيها على أنّه ل راقي‬
‫يرقيه ‪ ،‬فيحميه ‪ .‬وعرّفها بعض الفقهاء ‪ :‬بأنّها ما يرقى به من الدّعاء لطلب الشّفاء ‪.‬‬
‫فالرّقية أخصّ من التّعويذ ‪ ،‬لنّ التّعويذ يشمل الرّقية وغيرها ‪ ،‬فكلّ رقية تعويذ ول عكس ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬التّميمة ‪:‬‬
‫‪ -‬التّميمة في اللّغة ‪ :‬خيط أو خرزات كان العرب يعلّقونها على أولدهم ‪ ،‬يمنعون بها‬ ‫‪3‬‬

‫العين في زعمهم ‪ ،‬فأبطلها السلم ‪ .‬قال الخليل بن أحمد ‪ :‬التّميمة قلدة فيها عوذ ‪.‬‬
‫ومعناها عند أهل العلم ‪ :‬ما علّق في العناق من القلئد خشية العين أو غيرها ‪.‬‬
‫وفي الحديث ‪ « :‬من تعلّق تميمة فل أتمّ اللّه له » أي ‪ :‬فل أتمّ اللّه صحّته وعافيته ‪.‬‬
‫وهي عند الفقهاء ‪ :‬العوذة الّتي تعلّق على المريض والصّبيان ‪ ،‬وقد يكون فيها القرآن وذكر‬
‫اللّه إذا خرز عليها جلد ‪ .‬فالتّميمة عند الفقهاء أيضا ‪ :‬نوع من التّعويذ والفرق بينها وبين‬
‫الرّقية ‪ :‬أنّ الولى هي تعويذ يعلّق على المريض ونحوه ‪ ،‬والثّانية تعويذ يقرأ عليه‬
‫ج ‪ -‬الودعة ‪:‬‬
‫‪ -‬الودعة ‪ :‬شيء أبيض يجلب من البحر يعلّق في أعناق الصّبيان وغيرهم ‪.‬‬ ‫‪4‬‬

‫ع اللّه له » أي فل بارك اللّه ما هو فيه من العافية‬


‫وفي الحديث « من علّق ودعة فل وَدَ َ‬
‫وإنّما نهى عنها لنّهم كانوا يعلّقونها مخافة العين فالودعة مثل التّميمة في المعنى ‪.‬‬
‫د ‪ -‬ال ّتوَلة ‪:‬‬
‫‪ -‬التّولة في اللّغة بضمّ أوّله وفتح ثانيه ‪ :‬السّحر ‪ ،‬وخرز كانوا يرون أنّه يحبّب المرأة‬ ‫‪5‬‬

‫إلى زوجها ‪ ،‬ويقال فيها أيضا ‪ :‬ال ِتوَلة كعِنَبة ‪.‬‬


‫وفي الصطلح ‪ :‬تحبيب المرأة إلى زوجها ‪ .‬كما فسّره ابن مسعود رضي ال عنه راوي‬
‫الحديث ‪ " .‬قالوا ‪ :‬يا أبا عبد الرّحمن ‪ ،‬هذه التّمائم والرّقى قد عرفناها ‪ ،‬فما التّولة ؟ قال ‪:‬‬
‫شيء يصنعه النّساء يتحبّبن به إلى أزواجهنّ ‪ .‬فالتّولة أيضا ضرب من التّعويذ ‪.‬‬
‫هـ ‪ -‬التّفل ‪ ،‬النّفث ‪ ،‬النّفخ ‪:‬‬
‫‪ -‬التّفل ‪ :‬النّفخ معه ريق ‪ .‬والنّفث ‪ :‬نفخ ليس معه ريق ‪.‬‬ ‫‪6‬‬

‫فالتّفل شبيه بالبزق ‪ ،‬وهو أقلّ منه ‪ ،‬أوّله البزق ‪ ،‬ثمّ التّفل ‪ ،‬ثمّ النّفث ‪ ،‬ثمّ النّفخ ‪.‬‬
‫فكلّ من التّفل ‪ ،‬والنّفث ‪ ،‬والنّفخ قد يكون من ملبسات التّعاويذ ‪.‬‬
‫و ‪ -‬النّشرة ‪:‬‬
‫‪ -‬النّشرة في اللّغة ‪ :‬كالتّعويذ والرّقية ‪ .‬يعالج بها المجنون والمريض وحلّ السّحر عن‬ ‫‪7‬‬

‫المسحور ‪ ،‬وفي الحديث « فلعلّ طِبّا أصابه ‪ ،‬يعني سحرا ‪ ،‬ث ّم َنشّره ب قل أعوذ بربّ النّاس‬
‫» أي رقاه ‪ .‬والتّنشير ‪ :‬الرّقية أو كتابة النّشرة ‪.‬‬
‫وفي الصطلح ‪ :‬هي أن يكتب شيئا من أسماء اللّه تعالى أو من القرآن ‪ ،‬ثمّ يغسله بالماء ‪،‬‬
‫ثمّ يمسح به المريض أو يسقاه ‪ .‬أو يكتب قرآن وذكر بإناء لحامل لعسر الولدة ‪ ،‬ولمريض‬
‫يسقيانه ونحو ذلك ‪.‬‬
‫ز ‪ -‬الرّتيمة ‪:‬‬
‫‪ -‬الرّتيمة والرّتمة ‪ :‬خيط يربط بأصبع أو خاتم لتستذكر به الحاجة ‪ ،‬ويقال ‪ :‬أرتمه ‪ :‬إذا‬ ‫‪8‬‬

‫شدّ في أصبعه الرّتيمة وقيل ‪ :‬هي خيط كان يربط في العنق أو في اليد في الجاهليّة لدفع‬
‫المضرّة عن أنفسهم على زعمهم ‪.‬‬
‫الحكم التّكليفيّ للتّعويذ ‪:‬‬
‫‪ -‬يختلف حكم التّعاويذ باختلف ما تتّخذ منه التّعاويذ ‪ .‬وتنقسم إلى ثلثة أقسام ‪:‬‬ ‫‪9‬‬

‫القسم الوّل ‪:‬‬


‫‪ - 10‬ما ل يعقل معناه ‪:‬‬
‫ومنه ما كان يرقى به في الجاهليّة ‪ .‬فذهب جمهور الفقهاء إلى ‪ :‬أنّه يجب اجتنابه بل‬
‫خلف ‪ .‬لما صحّ « عن ابن مسعود رضي ال عنه ‪ :‬أنّه دخل على امرأته ‪ ،‬وفي عنقها‬
‫شيء تتعوّذ به ‪ ،‬فجبذه ‪ ،‬فقطعه ‪ ،‬ثمّ قال ‪ :‬لقد أصبح آل عبد اللّه أغنياء عن أن يشركوا‬
‫باللّه ما لم ينزّل به سلطانا ‪ .‬ثمّ قال ‪ :‬سمعت رسول اللّه صلى ال عليه وسلم يقول ‪ :‬إنّ‬
‫الرّقى والتّمائم والتّولة شرك ‪ ،‬قالوا ‪ :‬يا أبا عبد الرّحمن هذه الرّقى والتّمائم قد عرفناها ‪،‬‬
‫فما التّولة ‪ ،‬قال ‪ :‬شيء يصنعه النّساء يتحبّبن إلى أزواجهنّ » ‪ .‬فيتعيّن حمل الوعيد على‬
‫ما كانوا يفعلونه من تعليق خرزة يسمّونها تميمة أو نحوها ‪ ،‬يرون أنّها تدفع عنهم الفات ‪.‬‬
‫ك أنّ اعتماد هذا جهل وضلل ‪ ،‬وأنّه من أكبر الكبائر ‪ ،‬لنّه إن لم يكن شركا فهو‬
‫ول ش ّ‬
‫يؤدّي إليه ‪ ،‬إذ ل ينفع ول يض ّر ول يمنع ول يدفع إل اللّه تعالى وكذلك الرّقى والتّعاويذ‬
‫محمولة أيضا على ذلك ‪ ،‬أو على ما إذا كانت بغير لسان العرب ول يدرى ما هي ‪ ،‬ولعلّه‬
‫يدخلها سحر أو كفر أو غير ذلك ممّا ل يعرف معناه ‪ ،‬فإنّها حينئذ حرام ‪ ،‬صرّح به الخطّابيّ‬
‫ي وابن رشد والع ّز بن عبد السّلم وجماعة من أئمّة الشّافعيّة وغيرهم ‪ ،‬وقال في‬
‫والبيهق ّ‬
‫الشّرح الصّغير ‪ :‬ل يرقى بالسماء الّتي لم يعرف معناها ‪ ،‬قال مالك ‪ :‬ما يدريك لعلّها كفر؟‪.‬‬
‫واختلف العلماء في حكم النّفث وغيره عند الرّقى والتّعاويذ ‪ ،‬فمنعه قوم ‪ ،‬وأجازه آخرون ‪.‬‬
‫قال النّوويّ ‪ :‬وقد أجمعوا على جوازه ‪ ،‬واستحبّه الجمهور من الصّحابة والتّابعين ومن‬
‫ن النّبيّ صلى ال عليه وسلم كان‬
‫بعدهم ‪ ،‬واستدلّوا بما روته عائشة رضي ال عنها ‪ « :‬أ ّ‬
‫ينفث في الرّقية » ولفظه ‪ « :‬كان رسول اللّه صلى ال عليه وسلم إذا مرض أحد من أهله‬
‫نفث عليه بالمعوّذات ‪ ،‬فلمّا مرض مرضه الّذي مات فيه ‪ ،‬جعلت أنفث عليه وأمسحه بيد‬
‫نفسه ‪ ،‬لنّها أعظم بركة من يدي »‬
‫ن يده احترقت ‪ ،‬فأتت به أمّه النّبيّ‬
‫وأيضا بما روي « عن محمّد بن حاطب رضي ال عنه أ ّ‬
‫صلى ال عليه وسلم فجعل ينفث عليها ‪ ،‬ويتكلّم بكلم زعم أنّه لم يحفظه » ‪ .‬وقال محمّد‬
‫ي سوء فَرَقَتْني ونفثت ‪.‬‬
‫بن الشعث ‪ :‬ذهب بي إلى عائشة رضي ال عنها وفي عين ّ‬
‫ضحّاك‬
‫واستدلّ الخرون ‪ :‬وهم إبراهيم وعكرمة ‪ ،‬والحكم بما قال بعضهم ‪ :‬دخلت على ال ّ‬
‫وهو وجع ‪ ،‬فقلت ‪ :‬أل أعوذك يا أبا محمّد ؟ قال ‪ :‬بلى ‪ ،‬ولكن ل تنفث ‪،‬فعوّذته بالمعوّذتين‪.‬‬
‫وبما قال ابن جريج لعطاء ‪ :‬القرآن ينفخ أو ينفث ‪ .‬قال ‪ :‬ل شيء من ذلك ‪.‬‬
‫وأمّا حكم النّشرة ‪ ،‬فقد ذهب جمهور الفقهاء الحنفيّة والمالكيّة عدا ابن عبد السّلم‬
‫والشّافعيّة والحنابلة ‪ ،‬إلى أنّه جائز وهو قول سعيد بن المسيّب ‪ ،‬وعائشة رضي ال عنها ‪،‬‬
‫وأبي عبد اللّه والطّبريّ وكانت عائشة رضي ال عنها تقرأ بالمعوّذتين في إناء ‪ ،‬ثمّ تأمر أن‬
‫يصبّ على المريض ‪.‬‬
‫وذهب ابن عبد السّلم من المالكيّة إلى أنّه حرام ‪ ،‬ومنعها أيضا الحسن ‪ ،‬وإبراهيم النّخعيّ ‪،‬‬
‫وا بن الجوز يّ ‪ .‬وكذلك مجا هد لم ير أن تك تب آيات القرآن ‪ ،‬ث ّم تغ سل ‪ ،‬ث ّم ي سقاه صاحب‬
‫الفزع ‪ .‬وقال النّخعيّ ‪ :‬أخاف أن يصيبه بلء ‪ .‬لما روي عن النّبيّ صلى ال عليه وسلم ‪:‬‬
‫« إنّ النّشرة من عمل الشّيطان » ‪ .‬وقيل ‪ :‬المنع محمول على ما إذا كانت خارجة عمّا في‬
‫كتاب اللّه وسنّة رسول اللّه صلى ال عليه وسلم وعن المداواة المعروفة ‪ .‬والنّشرة من‬
‫جنس الطّبّ ‪ ،‬فهي غسالة شيء له فضل كوضوء رسول اللّه صلى ال عليه وسلم ‪.‬‬
‫وأمّا الرّتيمة فيختلف حكمها باختلف معانيها ‪:‬‬
‫فحكم الرّتيمة ‪ -‬بمعنى ‪ :‬أنّها خيط يربط بأصبع أو خاتم لتستذكر به الحاجة ‪ -‬فقد ذكر ابن‬
‫عابدين أنّها ل تكره ‪ ،‬لنّها تفعل لحاجة فليس بعبث ‪ ،‬لما فيه من الغرض الصّحيح ‪ ،‬وهو‬
‫ن النّبيّ صلى ال عليه وسلم أمر بعض أصحابه بذلك »‪،‬‬
‫التّذكّر عند النّسيان ‪ « .‬وروي أ ّ‬
‫وفي المنح ‪ :‬أنّه مكروه ‪ ،‬لنّه محض عبث ‪.‬‬
‫وعلى هذا الخلف ‪ :‬الدّملج ‪ ،‬وهو ما يصنعه بعض الرّجال في العضد وأمّا حكم الرّتيمة ‪-‬‬
‫بمعنى أنّها خيط كان يربط في العنق أو في اليد في الجاهليّة لدفع الضّرر بزعمهم ‪ -‬فهو‬
‫منهيّ عنه ‪ ،‬لنّه من جنس التّمائم المحرّمة ‪ ،‬وذكر في حدود اليمان أنّه كفر‬
‫القسم الثّاني ‪:‬‬
‫ن السترقاء‬
‫‪ -‬ما كان تعويذا بكلم اللّه تعالى أو بأسمائه فذهب جمهور الفقهاء إلى أ ّ‬ ‫‪11‬‬

‫ي ‪ :‬إنّ الجواز مقيّد باجتماع ثلثة شروط عند جميع العلماء وهي‪:‬‬
‫بذلك جائز ‪،‬وقال السّيوط ّ‬
‫أ ‪ -‬أن يكون بكلم اللّه أو بأسمائه وصفاته ‪.‬‬
‫ي وبما يعرف معناه ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬أن يكون باللّسان العرب ّ‬
‫ن التّعويذ والرّقية ل تؤثّر بذاتها ‪ ،‬بل بتقدير اللّه تعالى ‪ .‬وقيل ‪ :‬إن كان مأثورا‬
‫ج ‪ -‬يعتقد أ ّ‬
‫ي ‪ :‬أنّه إذا كان مفهوم المعنى ‪ ،‬وكان فيه ذكر اللّه ‪ ،‬فإنّه يستحبّ ‪.‬‬
‫فيستحبّ ‪ .‬وذكر الخطّاب ّ‬
‫وأنّ الرّقية الّتي أمر بها رسول اللّه صلى ال عليه وسلم هو ما يكون بقوارع القرآن وبما‬
‫فيه ذكر اللّه تعالى ‪ .‬وما نهي عنه هو رقية العزّامين ‪ ،‬ومن يدّعي تسخير الجنّ ‪.‬‬
‫وبالجواز قال أيضا الحسن البصريّ ‪ ،‬وإبراهيم النّخعيّ ‪ ،‬والزّهريّ والثّوريّ وآخرون ‪.‬‬
‫‪ -‬واحتجّ المجوّزون بأحاديث كثيرة منها ‪:‬‬ ‫‪12‬‬

‫ي صلى ال عليه وسلم « أنّه كان يعوّذ نفسه » ‪.‬‬


‫‪ -‬ما روي عن النّب ّ‬
‫ي صلى ال عليه وسلم كان يعوّذ بعض أهله ‪،‬‬
‫‪ -‬وروت عائشة رضي ال عنها ‪ « :‬أنّ النّب ّ‬
‫يمسح بيده اليمنى ويقول ‪ :‬اللّهمّ ربّ النّاس أذهب البأس ‪ ،‬واشفه وأنت الشّافي ‪ ،‬ل شفاء‬
‫إل شفاؤك ‪ ،‬شفاء ل يغادر سقما » ‪.‬‬
‫‪ -‬وروى جابر رضي ال عنه قال ‪ « :‬نهى رسول اللّه صلى ال عليه وسلم عن الرّقى ‪،‬‬
‫فجاء آل عمرو بن حزم ‪ ،‬فقالوا ‪ :‬يا رسول اللّه إنّها كانت عندنا رقية نرقي بها من‬
‫العقرب ‪ ،‬وإنّك نهيت عن الرّقى ‪ ،‬قال ‪ :‬فعرضوها عليه ‪ ،‬فقال ‪ :‬ما أرى بها بأسا ‪ ،‬فمن‬
‫استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل » ‪.‬‬
‫وقال الشّعبيّ وسعيد بن جبير وقتادة وجماعة آخرون ‪ :‬تكره الرّقى ‪ ،‬والواجب على المؤمن‬
‫أن يترك ذلك اعتصاما باللّه تعالى ‪ ،‬وتوكّل عليه ‪ ،‬وثقة به وانقطاعا إليه ‪.‬‬
‫واحتجّوا بحديث « رسول اللّه صلى ال عليه وسلم بأنّه ذكر أهل الجنّة الّذين يدخلون الجنّة‬
‫بغير حساب ‪ ،‬ولمّا سئل ما صفتهم قال ‪ :‬هم الّذين ل يتطيّرون ول يكتوون ‪ ،‬ول يسترقون ‪،‬‬
‫وعلى ربّهم يتوكّلون » ‪.‬‬
‫القسم الثّالث ‪:‬‬
‫‪ -‬ما كان بأسماء غير اللّه من ملك مقرّب أو من معظّم من المخلوقات كالعرش ‪ .‬فصرّح‬ ‫‪13‬‬

‫الشّوكانيّ ‪ :‬بأنّه يكره من الرّقى ما لم يكن بذكر اللّه وأسمائه خاصّة ‪ ،‬ليكون بريئا من‬
‫شوب الشّرك قال ‪ :‬وعلى كراهة الرّقى بغير القرآن علماء المّة ‪ .‬وقال القرطبيّ ‪ :‬هذا ليس‬
‫من الواجب اجتنابه ول من المشروع الّذي يتضمّن اللتجاء إلى اللّه والتّبرّك بأسمائه ‪،‬‬
‫ي به ‪ ،‬فينبغي أن يجتنب كالحلف بغير اللّه ‪.‬‬
‫فيكون تركه أولى ‪ ،‬إل أن يتضمّن تعظيم المرق ّ‬
‫الغرض من اتّخاذ التّعاويذ ‪:‬‬
‫أ ّولً ‪ :‬الستشفاء ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬الستشفاء بالقرآن ‪:‬‬
‫ح َمةٌ لِلْمؤمنين ‪،‬‬
‫شفَا ٌء وَ َر ْ‬
‫ن ما هو ِ‬
‫ن القُرْآ ِ‬
‫‪ -‬الصل في هذا الباب قوله تعالى { وَنُنَ ّز ُل مِ َ‬ ‫‪14‬‬

‫خسَارَا } واختلف العلماء في كون القرآن شفاء على قولين ‪:‬‬


‫ن إل َ‬
‫وَل يَزِي ُد الظّالمي َ‬
‫أحدهما ‪ :‬أنّه ل يشرع الستشفاء به من المراض البدنيّة ‪ ،‬بل هو شفاء للقلوب ‪ ،‬بزوال‬
‫الجهل عنها وإزالة الرّيب ‪ ،‬ولكشف غطاء القلب من مرض الجهل لفهم المعجزات ‪،‬‬
‫ظ ٌة مِنْ رَبّكمْ‬
‫عَ‬‫والمور الدّالّة على اللّه تعالى ‪ ،‬لقوله تعالى { يَا أَيّها النّاسُ قَدْ جَاءتْكمْ مَو ِ‬
‫َوشِفَا ٌء ِلمَا في الصّدورِ } ‪.‬‬
‫والقول الثّاني ‪ :‬أنّه شفاء أيضا من المراض بالرّقية والتّعوّذ ونحوه ‪ ،‬وإلى هذا ذهب‬
‫جمهور الفقهاء ‪ ،‬فجوّزوا الستشفاء بالقرآن ‪ :‬بأن يقرأ على المريض ‪ ،‬أو الملدوغ الفاتحة‬
‫‪ ،‬ويتحرّى ما يناسب ‪ ،‬وإن كان القرآن كلّه شفاء على أنّ { مِنْ } في قوله تعالى { وَنُنَ ّزلُ‬
‫مِنَ القُرآنِ } للبيان ‪ .‬وفي الخبر « من لم يستشف بالقرآن فل شفاه اللّه » ‪.‬‬
‫ي رضي ال عنه قال ‪ « :‬بعثنا‬
‫ي عن أبي سعيد الخدر ّ‬
‫ولما روى الئمّة ‪ ،‬واللّفظ للدّارقطن ّ‬
‫رسول اللّه صلى ال عليه وسلم في سريّة ثلثين راكبا ‪ ،‬قال فنزلنا على قوم من العرب ‪،‬‬
‫فسألناهم أن يضيّفونا ‪ ،‬فأبوا ‪ ،‬فلدغ سيّد الحيّ ‪ .‬فأتوا فقالوا ‪ :‬فيكم أحد يرقي من العقرب ؟‬
‫ن الملك يموت ‪ .‬قال ‪ :‬قلت أنا ‪ :‬نعم ‪ ،‬ولكن ل أفعل حتّى تعطونا ‪.‬‬
‫وفي رواية ابن قتّة ‪ :‬إ ّ‬
‫ب العَا َلمِينَ } سبع مرّات‬
‫حمْدُ لِّلهِ رَ ّ‬
‫فقالوا ‪ :‬فإنّا نعطيكم ثلثين شاة ‪ ،‬قال ‪ :‬فقرأت عليه { ال َ‬
‫فبرأ » وفي رواية سليمان بن قتّة عن أبي سعيد « فأفاق وبرأ ‪ .‬فبعث إلينا بالنّزل ‪ ،‬وبعث‬
‫إلينا بالشّاء ‪ ،‬فأكلنا الطّعام أنا وأصحابي ‪ ،‬وأبوا أن يأكلوا من الغنم ‪ ،‬حتّى أتينا رسول اللّه‬
‫صلى ال عليه وسلم فأخبرته الخبر ‪ ،‬فقال ‪ :‬وما يدريك أنّها رقية ؟ قلت ‪ :‬يا رسول اللّه ‪.‬‬
‫شيء ألقي في روعي ‪ ،‬قال ‪ :‬كلوا وأطعمونا من الغنم » ‪.‬‬
‫قال ابن حجر ‪ :‬فقد أخرج أحمد وأبو داود والنّسائيّ ‪ ،‬وصحّحه ابن حبّان والحاكم ‪ ،‬من‬
‫ن النّبيّ صلى ال عليه‬
‫رواية عبد الرّحمن بن حرملة عن ابن مسعود رضي ال عنه « أ ّ‬
‫وسلم كان يكره عشر خصال ‪ ،‬فذكر فيها الرّقى إل بالمعوّذات » وعبد الرّحمن بن حرملة‬
‫قال البخاريّ ‪ :‬ل يصحّ حديثه ‪ ،‬وقال الطّبريّ ل يحتجّ بهذا الخبر لجهالة راويه ‪ ،‬وعلى‬
‫تقدير صحّته فهو منسوخ بالذن في الرّقية بفاتحة الكتاب ‪ ،‬وأشار المهلّب إلى الجواب عن‬
‫ص الجواز بما يشتمل‬
‫ن في الفاتحة معنى الستعاذة ‪ ،‬وهو الستعانة ‪ ،‬فعلى هذا يخت ّ‬
‫ذلك بأ ّ‬
‫ي وحسّنه والنّسائيّ من حديث أبي سعيد رضي ال عنه‬
‫على هذا المعنى ‪ ،‬وقد أخرج التّرمذ ّ‬
‫ن وعين النسان حتّى نزلت المعوّذات‬
‫« كان رسول اللّه صلى ال عليه وسلم يتعوّذ من الجا ّ‬
‫‪ ،‬فأخذ بها وترك ما سواها » ‪ .‬وهذا ل يدلّ على المنع من التّعوّذ بغير هاتين السّورتين ‪،‬‬
‫بل يدلّ على الولويّة ‪ ،‬ول سيّما مع ثبوت التّعوّذ بغيرهما ‪ ،‬وإنّما اجتزأ بهما لما اشتملتا‬
‫عليه من جوامع الستعاذة من كلّ مكروه جملة وتفصيلً ‪.‬‬
‫ثمّ قال ابن حجر بعدئذ ‪ :‬ل يلزم من مشروعيّة الرّقى بالمعوّذات أن يشرع بغيرها من القرآن‬
‫‪ ،‬لحتمال أن يكون في المعوّذات سرّ ليس في غيرها ‪ .‬وقد ذكرنا من حديث أبي سعيد‬
‫رضي ال عنه أنّه صلى ال عليه وسلم ترك ما عدا المعوّذات ‪ ،‬لكن ثبتت الرّقية بفاتحة‬
‫الكتاب ‪ ،‬فدلّ على أن ل اختصاص للمعوّذات ‪ ،‬وفي الفاتحة من معنى الستعاذة باللّه‬
‫الستعانة به ‪ ،‬فمهما كان فيه استعاذة أو استعانة باللّه وحده ‪ -‬أو ما يعطى معنى ذلك ‪-‬‬
‫فالسترقاء به مشروع ‪ .‬ويجاب عن حديث أبي سعيد بأنّ المراد ‪ :‬أنّه ترك ما كان يتعوّذ به‬
‫ي بعنوان " الرّقى بالقرآن "‬
‫من الكلم غير القرآن ‪ ،‬ويحتمل أن يكون المراد بتبويب البخار ّ‬
‫بعضَه ‪ ،‬فإنّه اسم جنس يصدق على بعضه ‪ ،‬والمراد ما كان فيه التجاء إلى اللّه سبحانه ‪،‬‬
‫ومن ذلك المعوّذات ‪ .‬وقد ثبتت الستعاذة بكلمات اللّه في عدّة أحاديث كما مضى ‪.‬‬
‫قال ابن بطّال ‪ :‬في المعوّذات جوامع من الدّعاء تعمّ أكثر المكروهات من السّحر والحسد‬
‫وشرّ الشّيطان ووسوسته وغير ذلك ‪ ،‬فلهذا كان النّبيّ صلى ال عليه وسلم يكتفي بها ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬الستشفاء بالدعية المناسبة والذكار المأثورة ‪:‬‬
‫‪ -‬ل خلف بين الفقهاء في جواز الستشفاء بالدعية والذكار المأثورة ‪ ،‬لما روي عن‬ ‫‪15‬‬

‫عائشة رضي ال عنها « أنّه صلى ال عليه وسلم كان يعوّذ أهل بيته ‪ ،‬يمسح بيده اليمنى ‪،‬‬
‫ويقول ‪ :‬اللّهمّ ربّ النّاس أذهب البأس واشف أنت الشّافي ‪ ،‬ل شفاء إلّا شفاؤك ‪ ،‬شفاء ل‬
‫يغادر سقما » وفي حديث آخر عن عثمان بن أبي العاص « رضي ال عنه أنّه شكا إلى‬
‫رسول اللّه صلى ال عليه وسلم وجعا يجده في جسده منذ أسلم ‪ ،‬فقال له رسول اللّه صلى‬
‫ال عليه وسلم ‪ :‬ضع يدك على الّذي تألّم من جسدك ‪ ،‬وقل ‪ :‬بسم اللّه ثلثا ‪ ،‬وقل سبع‬
‫مرّات ‪ :‬أعوذ بعزّة اللّه وقدرته من شرّ ما أجد وأحاذر » ‪.‬‬
‫ثانيا ‪ :‬استمالة الزّوج ‪:‬‬
‫‪ -‬ما يستخدم لتحبيب الزّوجة أو الزّوج يسمّى " تولة " كما سبق ( ف ‪. ) 5 -‬‬ ‫‪16‬‬

‫ن ذلك حرام ل يحلّ ‪ ،‬وعلّل ابن وهبان بأنّه ضرب من السّحر ‪ ،‬والسّحر‬
‫صرّح الحنفيّة ‪ :‬أ ّ‬
‫حرام ‪ .‬ومقتضاه أنّه ليس مجرّد كتابة آيات ‪ ،‬بل فيه شيء زائد ‪ ،‬كما روي عن ابن مسعود‬
‫رضي ال عنه أنّه قال ‪ « :‬سمعت رسول اللّه صلى ال عليه وسلم يقول ‪ :‬إنّ الرّقى‬
‫والتّمائم والتّولة شرك » ‪.‬‬
‫ن ذلك حرام ل يحلّ ‪.‬‬
‫وفي الجامع الصّغير ‪ :‬امرأة أرادت أن تضع تعويذا ليحبّها زوجها ‪ ،‬أ ّ‬
‫عقّارٍ‬
‫وأمّا ما تتحبّب به المرأة إلى زوجها من كلم مباح أو ما تلبسه للزّينة ‪ ،‬أو تطعمه من ُ‬
‫مباح أكله ‪ ،‬أو أجزاء حيوان مأكول ممّا يعتقد أنّه سبب إلى محبّة زوجها ‪ ،‬لما أودع اللّه‬
‫تعالى فيها من الخواصّ بتقدير اللّه ‪ .‬ل أنّه يفعل بذاته ‪.‬‬
‫ن هذا جائز ‪ ،‬ل أعرف الن ما يمنعه في الشّرع ‪.‬‬
‫فقال ابن رسلن من الشّافعيّة ‪ :‬الظّاهر أ ّ‬
‫ثالثا ‪ :‬دفع ضرر العين ‪:‬‬
‫الكلم هنا في مواضع ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬الصابة بالعين ‪:‬‬
‫ن الصابة بالعين ثابتة موجودة ‪ ،‬ولها تأثير في النّفوس ‪،‬‬
‫‪ -‬ذهب جمهور العلماء إلى أ ّ‬ ‫‪17‬‬

‫ي ‪ ،‬والحيوان ‪.‬‬
‫وتصيب المال ‪ ،‬والدم ّ‬
‫ق ‪ ،‬ولو‬
‫والصل في ذلك ما رواه مسلم من حديث ابن عبّاس رضي ال عنه رفعه « العين ح ّ‬
‫كان شيء سابق القَدَر سبقته العين ‪ ،‬وإذا اسْ ُت ْغسِلْتُم فاغسلوا » ‪ .‬وما روى أبو هريرة‬
‫ق ‪ .‬ونهى عن الوشم » ‪.‬‬
‫رضي ال عنه عن النّبيّ صلى ال عليه وسلم قال ‪ « :‬العين ح ّ‬
‫وأنكر طائفة من الطّبائعيّين وطوائف من المبتدعة العين لغير معنى ‪ ،‬وأنّه ل شيء إل ما‬
‫تدركه الحواسّ الخمس وما عداها فل حقيقة له ‪.‬‬
‫والدّليل على فساد قولهم ‪ :‬أنّه أمر ممكن ‪ ،‬والشّرع أخبر بوقوعه فل يجوز ردّه ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬الوقاية من العين ‪:‬‬
‫ذكر العلماء للوقاية من العين الطّرق التية ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬قراءة بعض الدعية والذكار من قبل العائن ‪:‬‬
‫‪ -‬ذهب جمهور العلماء إلى أنّ قراءة بعض الدعية المأثورة ‪ ،‬واليات القرآنيّة تدفع‬ ‫‪18‬‬

‫ي صلى ال عليه وسلم قال‪:‬‬


‫ن النّب ّ‬
‫ضرر العين ‪ ،‬كما روى عامر بن ربيعة رضي ال عنه ‪ :‬أ ّ‬
‫« إذا رأى أحدكم من نفسه أو ماله أو أخيه شيئا يعجبه ‪ ،‬فليدع بالبركة ‪ ،‬فإنّ العين حقّ »‪،‬‬
‫ففيه دليل على أنّ العين ل تض ّر ‪ ،‬ول تعدو إذا برّك العائن ‪ ،‬فالمشروع على كلّ من أعجبه‬
‫شيء أن يبرّك ‪ ،‬فإنّه إذا دعا بالبركة صرف المحذور ل محالة ‪ ،‬والتّبرّك أن يقول ‪ :‬تبارك‬
‫اللّه أحسن الخالقين ‪ ،‬اللّهمّ بارك فيه ‪ .‬وقال النّوويّ يستحبّ للعائن أن يدعو لمعيّن‬
‫بالبركة ‪ ،‬فيقال ‪ :‬اللّهمّ بارك ول تضرّه ‪ .‬ويقول ‪ :‬ما شاء اللّه ل قوّة إلّا باللّه ‪.‬‬
‫وفي حديث أنس رضي ال عنه رفعه ‪ « :‬من رأى شيئا فأعجبه ‪ ،‬فقال ‪ :‬ما شاء اللّه ‪ ،‬ل‬
‫قوّة إل باللّه لم يضرّه » ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬السترقاء من العين ‪:‬‬
‫‪ -‬روى التّرمذيّ من حديث « أسماء بنت عميس رضي ال عنها أنّها قالت ‪ :‬يا رسول‬ ‫‪19‬‬

‫ن ولد جعفر تسرع إليهم العين ‪ ،‬أونسترقي لهم ؟ قال ‪ :‬نعم » الحديث ‪.‬‬
‫اللّه ‪ :‬إ ّ‬
‫وفي رواية عن جابر بن عبد اللّه رضي ال عنهما أنّه صلى ال عليه وسلم قال لسماء ‪:‬‬
‫ن العين تسرع‬
‫« ما لي أرى أجسام بني أخي ضارعة ؟ أتصيبهم الحاجة ؟ قالت ‪ :‬ل ‪ ،‬ولك ّ‬
‫إليهم ‪ ،‬قال ارقيهم ‪ ،‬قالت ‪ :‬فعرضت عليه ‪ ،‬فقال ‪ :‬ارقيهم » ‪.‬‬
‫ج ‪ -‬الستشفاء من إصابة العين ‪:‬‬
‫‪ -‬صرّح العلماء بوجوب الغتسال للستشفاء من إصابة العين ‪ ،‬فيؤمر العائن بالغتسال‬ ‫‪20‬‬

‫‪ ،‬ويجبر إن أبى ‪ ،‬لما روي عن عائشة رضي ال عنها قالت ‪ « :‬كان يؤمر العائن فيتوضّأ ‪،‬‬
‫ثمّ يغتسل منه المعين » ‪ .‬والمر حقيقة للوجوب ‪ ،‬ول ينبغي لحد أن يمنع أخاه ممّا ينتقع‬
‫به ‪ ،‬ول يضرّه هو ‪ ،‬ول سيّما إذا كان هو الجاني عليه ‪.‬‬
‫د ‪ -‬المعروف بالصابة بالعين وما عليه ‪:‬‬
‫‪ -‬نقل ابن بطّال عن بعض العلماء ‪ ،‬أنّه ينبغي إذا عرف واحد بالصابة بالعين أن يجتنب‬ ‫‪21‬‬

‫ويحترز منه ‪ ،‬وينبغي للمام منعه من مداخلة النّاس ‪ ،‬ويلزمه بيته ‪ ،‬وإن كان فقيرا رزقه‬
‫ما يكفيه ‪ ،‬فضرره أكثر من ضرر آكل الثّوم والبصل الّذي منعه النّبيّ صلى ال عليه وسلم‬
‫من دخول المسجد لئل يؤذي النّاس ‪ ،‬ومن ضرر المجذوم الّذي منعه عمر رضي ال عنه ‪.‬‬
‫وقال النّوويّ ‪ :‬هذا القول صحيح متعيّن ‪ ،‬ل يعرف عن غيره تصريح بخلفه ‪.‬‬
‫رابعا ‪ :‬دفع البلء ‪:‬‬
‫‪ -‬كان أهل الجاهليّة يعلّقون التّمائم والقلئد ‪ ،‬ويظنّون أنّها تقيهم وتصرف عنهم البلء ‪،‬‬ ‫‪22‬‬

‫فأبطلها السلم ‪ ،‬ونهاهم رسول اللّه صلى ال عليه وسلم عمّا كانوا يصنعونه من ذلك في‬
‫جاهليّتهم بقوله ‪ « :‬من تعلّق تميمة فل أتمّ اللّه له ‪ ،‬ومن علّق ودعة فل ودع اللّه له »‬
‫وذلك لنّه ل يصرفه إل اللّه ع ّز وجلّ ‪ ،‬واللّه تعالى هو المعافي والمبتلي ‪.‬‬
‫أ ‪ -‬تعليق التّعويذات على النسان ‪:‬‬
‫ي صلى‬
‫‪ -‬إن كان المعلّق خرزا أو خيوطا أو عظاما أو نحو ذلك فذلك حرام ‪ ،‬لقول النّب ّ‬ ‫‪23‬‬

‫ال عليه وسلم ‪ « :‬من تعلّق شيئا وكل إليه » ‪ .‬ولحديث « أنّه صلى ال عليه وسلم أبصر‬
‫على عضد رجل حلقة ‪ -‬أراه قال من صفر ‪ -‬فقال ‪ :‬ويحك ما هذه ؟ قال ‪ :‬من الواهنة ‪.‬‬
‫قال أمّا إنّها ل تزيدك إل وهنا ‪ ،‬انبذها عنك فإنّك لو متّ وهي عليك ما أفلحت أبدا » ‪.‬‬
‫وإن كان المعلّق شيئا ممّا كتب فيه الرّقى المجهولة والتّعوّذات الممنوعة فذلك حرام أيضا ‪.‬‬
‫لقول النّبيّ صلى ال عليه وسلم ‪ « :‬من تعلّق تميمة فل أتمّ اللّه له ‪ ،‬ومن تعلّق ودعة فل‬
‫ودع اللّه له » ‪ .‬وإن كان المعلّق شيئا كتب فيه شيء ممّا يجوز السترقاء به من القرآن أو‬
‫الدعية المأثورة ‪ ،‬فقد اختلف في جواز ذلك ‪:‬‬
‫فقالت طائفة ‪ :‬يجوز ذلك ‪ .‬وهو قول عبد اللّه بن عمرو بن العاص رضي ال عنه ‪ ،‬وهو‬
‫ظاهر ما روي عن عائشة رضي ال عنها وبه قال أبو جعفر ‪ ،‬وأحمد في رواية ‪ .‬وحملوا‬
‫حديث النّهي عن التّمائم على ما فيه شرك ونحوه من الرّقى الممنوعة على ما تقدّم بيانه ‪.‬‬
‫وقالت طائفة أخرى ‪ :‬ل يجوز ذلك ‪ ،‬وبه قال ابن مسعود وابن عبّاس ‪ ،‬وهو ظاهر قول‬
‫حذيفة وعقبة بن عامر وابن حكيم رضي ال عنهم ‪ ،‬وبه قال جمع من التّابعين ‪ ،‬منهم‬
‫أصحاب ابن مسعود ‪.‬‬
‫قال إبراهيم النّخعيّ ‪ :‬كانوا ‪ -‬يعني أصحاب ابن مسعود ‪ -‬يكرهون التّمائم كلّها ‪ ،‬من‬
‫القرآن وغيره ‪ .‬وكرهه أحمد في رواية اختارها كثير من أصحابه ‪ ،‬وجزم به المتأخّرون ‪،‬‬
‫لعموم النّهي عن التّمائم ‪ ،‬ولسدّ الذّريعة ‪ ،‬لنّ تعليقه يفضي إلى تعليق غيره ‪ ،‬ولنّه إذا‬
‫علّق فل ب ّد أن يمتهنه المعلّق ‪ ،‬بحمله معه في حال قضاء الحاجة والستنجاء ونحو ذلك ‪.‬‬
‫والّذين ذهبوا من العلماء إلى جواز تعليق التّعويذ اشترطوا ما يلي ‪:‬‬
‫‪ - 1 -‬أن يكون في قصبة أو رقعة يخرز فيها ‪.‬‬
‫‪ - 2 -‬أن يكون المكتوب قرآنا ‪ ،‬أو أدعية مأثورة ‪.‬‬
‫‪ - 3 -‬أن يترك حمله عند الجماع أو الغائط ‪.‬‬
‫‪ - 4 -‬أل يكون لدفع البلء قبل وقوعه ‪ ،‬ول لدفع العين قبل أن يصاب ‪ ،‬قالت عائشة رضي‬
‫ال عنها ‪ :‬ما تعلّق بعد نزول البلء فليس من التّمائم ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬تعليق التّعويذات على الحيوان ‪:‬‬
‫‪ -‬وأمّا تعليق التّعويذ على الحيوان فل يخلو إمّا أن يكون الحيوان طاهرا ‪ ،‬فيكره لنّه‬ ‫‪24‬‬

‫فعل غير مأثور ‪ ،‬ولما فيه من المتهان وملبسة النجاس والقذار ‪ ،‬وهذا بخلف الصّبيان‬
‫ونحوهم فلهم من يصونهم ويمنعهم من ذلك ‪.‬‬
‫وإن كان الحيوان نجسا كالكلب ونحوه فل إشكال في التّحريم ‪.‬‬
‫تعليق الجنب والحائض التّعاويذ ‪:‬‬
‫‪ -‬ذهب القائلون بجواز تعليق التّعاويذ إلى أنّه ل بأس بتعليق الجنب والحائض التّعاويذ‬ ‫‪25‬‬

‫أو بشدّها على العضد إذا كانت ملفوفة ‪ ،‬أو خرز عليها أديم ‪.‬‬
‫رقية الكافر للمسلم وعكسه ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬رقية الكافر للمسلم ‪:‬‬
‫‪ -‬اختلف الفقهاء في جواز رقية الكافر للمسلم فذهب الحنفيّة والمام الشّافعيّ ‪ ،‬وهو‬ ‫‪26‬‬

‫رواية عن مالك إلى ‪ :‬جواز رقية اليهوديّ والنّصرانيّ للمسلم إذا رقى بكتاب اللّه وبذكراللّه‪.‬‬
‫ن أبا بكر رضي ال عنه دخل على عائشة رضي ال تعالى عنها‬
‫لما روي في موطّأ مالك ‪ :‬أ ّ‬
‫وهي تشتكي ‪ ،‬ويهوديّة ترقيها ‪ ،‬فقال أبو بكر ‪ :‬ارقيها بكتاب اللّه ‪.‬‬
‫قال الباجيّ ‪ :‬يحتمل ‪ -‬واللّه أعلم ‪ -‬أن يريد بقوله " بكتاب اللّه " أي " بذكر اللّه ع ّز وج ّل "‬
‫أو رقية موافقة لما في كتاب اللّه ‪ ،‬ويعلم صحّة ذلك بأن تظهر رقيتها ‪ ،‬فإن كانت موافقة‬
‫لكتاب اللّه أمر بها ‪ .‬وفي رواية أخرى عن مالك أنّه قال ‪ :‬أكره رقى أهل الكتاب ‪ ،‬ول‬
‫أحبّه ‪ ،‬لنّنا ل نعلم هل يرقون بكتاب اللّه ‪ ،‬أو بالمكروه الّذي يضاهي السّحر ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬رقية المسلم للكافر ‪:‬‬
‫‪ -‬ل خلف بين الفقهاء في جواز رقية المسلم للكافر ‪ .‬واستدلّوا بحديث أبي سعيد‬ ‫‪27‬‬

‫ي ‪ -‬الّذي‬
‫) ووجه الستدلل أنّ الح ّ‬ ‫‪14‬‬ ‫الخدريّ رضي ال عنه الّذي سبق ذكره ( ف ‪-‬‬
‫ي صلى ال عليه‬
‫نزلوا عليهم فاستضافوهم فأبوا أن يضيّفوهم ‪ -‬كانوا كفّارا ‪ ،‬ولم ينكر النّب ّ‬
‫وسلم ذلك عليه ‪.‬‬
‫أخذ الجرة على التّعاويذ والرّقى ‪:‬‬
‫‪ -‬ذهب جمهور الفقهاء إلى جواز أخذ الجرة على التّعاويذ والرّقى ‪ ،‬وإليه ذهب عطاء‪،‬‬ ‫‪28‬‬

‫ي رضي ال عنه‬
‫وأبو قلبة ‪ ،‬وأبو ثور ‪ ،‬وإسحاق ‪ ،‬واستدلّوا بحديث أبي سعيد الخدر ّ‬
‫) واستدلّ الطّحاويّ للجواز وقال ‪ :‬يجوز أخذ الجر على الرّقى ‪،‬‬ ‫‪14‬‬ ‫الّذي سبق ذكره ( ف ‪-‬‬
‫ن في ذلك تبليغا عن اللّه تعالى ‪.‬‬
‫لنّه ليس على النّاس أن يرقي بعضهم بعضا ‪ ،‬ل ّ‬
‫وكره الزّهريّ أخذ الجرة على القرآن مطلقا ‪ ،‬سواء أكان للتّعليم أو للرّقية ‪.‬‬
‫تعويض *‬
‫التّعريف ‪:‬‬
‫‪ -‬أصل التّعويض لغة ‪ :‬العوض ‪ ،‬وهو البدل تقول ‪ :‬عوّضته تعويضا إذا أعطيته بدل ما‬ ‫‪1‬‬

‫ذهب منه ‪ .‬وتعوّض منه واعتاض ‪ :‬أخذ العوض ويفهم من عبارات الفقهاء أنّ التّعويض‬
‫ي بسبب إلحاق ضرر بالغير ‪.‬‬
‫اصطلحا هو ‪ :‬دفع ما وجب من بدل مال ّ‬
‫اللفاظ ذات الصّلة ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬التّثمين ‪:‬‬
‫‪ -‬التّثمين لغة ‪ :‬هو أن تجعل للشّيء ثمنا بالحدس والتّخمين وعلى هذا التّعريف ل يكون‬ ‫‪2‬‬

‫التّثمين إل في المعاوضات ‪ -‬المبادلت بعوض ‪ -‬أمّا التّعويضات ‪ -‬التّصرّفات المقتضية‬


‫للضّمان ‪ ،‬كالتلف والغصب ‪ -‬فل يدخل فيها التّثمين ‪ ،‬بل يدخل فيها التّقويم كما سيأتي ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬التّقويم ‪:‬‬
‫‪ -‬التّقويـم لغـة ‪ :‬مصـدر قوّم ‪ ،‬تقول ‪ :‬قوّمـت المتاع ‪ :‬إذا جعلت له قيمـة معلومـة ‪ ،‬وفـي‬ ‫‪3‬‬

‫الحد يث ‪ « :‬قالوا ‪ :‬يا ر سول اللّه لو قوّ مت ل نا ‪ ،‬فقال ‪ :‬إ نّ اللّه هو المقوّم » وأ هل مكّة‬
‫يقولون ‪ :‬استقمته بمعنى قوّمته ‪ .‬والتّقويم يستعمل في المعاوضات والتّعويضات ‪.‬‬
‫ج ‪ -‬الرش ‪:‬‬
‫‪ -‬أرش الجراحة لغة ‪ :‬ديتها ‪ .‬والجمع أروش ‪ ،‬مثل ‪ :‬فلس وفلوس ‪ .‬وأصله ‪ :‬الفساد ‪.‬‬ ‫‪4‬‬

‫يقال ‪ :‬أرّشت بين القوم تأريشا ‪ :‬إذا أفسدت ثمّ استعمل في نقصان العيان لنّه فساد فيها ‪.‬‬
‫ويقال ‪ :‬أصله هرش ‪ .‬واصطلحا ‪ :‬هو المال الواجب في الجناية على ما دون النّفس ‪ ،‬وقد‬
‫يطلق على بدل النّفس وهو الدّية وعلى هذا يكون التّعويض أعمّ من الرش ‪.‬‬
‫د ‪ -‬الضّمان ‪:‬‬
‫‪ -‬الضّمان لغة ‪ :‬اللتزام ‪ .‬يقال ‪ :‬ضمّنته المال ‪ :‬ألزمه إيّاه ‪.‬‬ ‫‪5‬‬

‫ق ثابت في ذمّة الغير ‪ ،‬أو إحضار من هو عليه ‪ ،‬أو التزام عين مضمونة‬
‫وشرعا ‪ :‬التزام ح ّ‬
‫أعمـ مـن التّعويـض ‪ ،‬لنّه يكون فـي‬
‫‪ ،‬ويقال للعقـد الّذي يحصـل بـه ذلك فالضّمان على هذا ّ‬
‫الموال ‪ ،‬ويكون في غير الموال كما في كفالة الشّخص ‪.‬‬
‫حكم التّعويض ‪:‬‬
‫‪ -‬التّعويض ل يكون إلّا مقابل ضرر ‪ ،‬ومن ثمّ فهو واجب الداء ‪ ،‬على خلف وتفصيل‬ ‫‪6‬‬

‫بين الفقهاء فيما يعوّض عنه وما ل يعوّض عنه ‪.‬‬


‫والضّرر المعوّض عنه عند الفقهاء يشمل الضّرر الواقع على المال بما فيه المنفعة ‪ ،‬سواء‬
‫كان عن طريق الغصب ‪ ،‬أم التلف ‪ ،‬أم العتداء على النّفس وما دونها ‪ ،‬وهي الدّية‬
‫والرش وتفصيله في ( الجنايات ) أم عن طريق التّفريط في المانة وغير ذلك ‪.‬‬
‫ويكون التّعويض بدفع مال مقدّر أو مصالح عليه يدفع لمن وقع عليه الضّرر ‪ ،‬أو لمن تنتقل‬
‫إليه التّركة بد ًل لما فقد وقطعا للخصومة والنّزاع بين النّاس ‪.‬‬
‫ثمّ إنّ التّعويض أثر شرعيّ لنّه موجب خطاب الوضع ‪ ،‬فيشمل المكلّف وغيره ‪.‬‬
‫وغير المكلّف يجب التّعويض في ماله ‪ ،‬يدفعه وليّه عنه ‪.‬‬
‫التّعويض عن الضّرر ‪:‬‬
‫‪ -‬يتحقّق الضّرر بإتلف العين أو المنفعة أو النّفس أو ما دونها ‪.‬‬ ‫‪7‬‬

‫والتّعويض ليس ملزما للتلف ‪ ،‬بحيث كلّما وجد التلف وجد التّعويض ‪.‬‬
‫وذلك لنّ التلف ينقسم إلى ‪ :‬إتلف مشروع ‪ ،‬وإلى إتلف غير مشروع ‪.‬‬
‫أمّا التلف غير المشروع فيترتّب عليه التّعويض بل خلف ‪ ،‬سواء أكان حقّا للّه ‪ ،‬كالصّيد‬
‫ق‪.‬‬
‫حالة الحرام أو في الحرم ‪ ،‬أم حقّا للعبد كإتلف أمواله بغير ح ّ‬
‫وأمّا التلف المشروع فيترتّب عليه التّعويض ‪ ،‬إن ترتّب عليه حقّ للغير في بعض الصّور ‪،‬‬
‫وإل فل ‪ .‬على تفصيل وخلف سبق في مصطلح ( إتلف ) ‪.‬‬
‫التّعويض بتفويت العين ‪:‬‬
‫‪ -‬تقدّم في مصطلح ( إتلف ) أنّ العين المتلفة إن كانت مثليّة يضمن المتلف مثلها ‪ ،‬وإن‬ ‫‪8‬‬

‫كانت قيميّة يضمن قيمتها ‪ ،‬ويراعى في تقدير القيمة مكان التلف ‪.‬‬
‫التّعويض عن تفويت المنفعة ‪:‬‬
‫‪ -‬ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ منافع الموال مضمونة بالتّفويت بأجرة المثل مدّة مقامها‬ ‫‪9‬‬

‫ن كلّ ما ضمن بالتلف جاز أن يضمن بمجرّد التّلف في يده‬


‫في يد الغاصب أو غيره ‪ ،‬ل ّ‬
‫كالعيان ‪ ،‬على خلف وتفصيل يذكره الفقهاء في مصطلح ( غصب ‪ ،‬وضمان ) ‪.‬‬
‫ومن المنافع الّتي نصّوا على ضمانها تفويت منفعة الحرّ ‪ ،‬فإنّ من قهر حرّا وسخّره في‬
‫عمل ضمن أجرته ‪ .‬وأمّا لو حبسه وعطّل منافعه فإنّه ضامن عند المالكيّة والحنابلة ‪ ،‬وغير‬
‫ضامن عند الشّافعيّة في الصحّ عندهم ‪.‬‬
‫وأمّا منافع المغصوب ‪ ،‬فقد اختلف الفقهاء في ضمانها ‪ :‬فذهب الشّافعيّة والحنابلة ‪ :‬إلى‬
‫ضمان منافع المغصوب ‪ ،‬وعليه أجر المثل ‪ -‬تعويضا ‪ -‬عمّا فاته ‪ ،‬سواء استوفى الغاصب‬
‫ن المنفعة مال متقوّم ‪ .‬وقال المالكيّة ‪ -‬في المشهور ‪ : -‬يضمن الغاصب‬
‫المنافع أم ل ‪ .‬ل ّ‬
‫غلّة مغصوب مستعمل دون غير المستعمل ‪ ،‬ويضمن غلّة ما عطّل من دار أغلقها ‪ ،‬وأرض‬
‫بوّرها ‪ ،‬ودابّة حبسها ‪ .‬وللتّفصيل انظر ( غصب ‪ ،‬وضمان ) ‪.‬‬
‫ن منافع المغصوب غير مضمونة ‪ ،‬لنّها ليست مال عندهم ‪ ،‬عدا ثلثة‬
‫وقال الحنفيّة ‪ :‬إ ّ‬
‫مواضع يجب فيها أجر المثل على اختيار بعض المتأخّرين ‪ ،‬وهي ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬الوقف ‪:‬‬
‫ن من تعدّى عليه ‪ -‬أي كمن‬
‫‪ -‬إذا كان الوقف للسّكنى أو للستغلل أو كان مسجدا ‪ ،‬فإ ّ‬ ‫‪10‬‬

‫جعل المسجد بيتا ‪ -‬يلزمه أجرة مثله مدّة شغله ‪ ،‬كما قاله ابن عابدين نقل عن الخيريّة‬
‫والحامديّة ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬مال اليتيم ‪:‬‬
‫‪ -‬قال ابن عابدين ‪ :‬وكذا اليتيم نفسه ‪ -‬لما في البزّازيّة ‪ -‬يتيم ل أب له ول أمّ ‪،‬‬ ‫‪11‬‬

‫استعمله أقرباؤه مدّة في أعمال شتّى بل إذن الحاكم وبل إجارة ‪ ،‬له طلب أجر المثل بعد‬
‫البلوغ إن كان ما يعطونه من الكسوة والكفاية ل يساوي أجر المثل ‪.‬‬
‫ن تفويت منفعته يوجب التّعويض أيضا ‪ ،‬وذلك كما إذا سكنت أمّ اليتيم‬
‫وأمّا مال اليتيم ‪ ،‬فإ ّ‬
‫مع زوجها في بيت له ‪ ،‬فتجب الجرة على الزّوج ‪.‬‬
‫وكذا إذا سكن الدّار شريك اليتيم ‪ ،‬فتجب الجرة على الشّريك أيضا ‪ ،‬على ما أفتى به ابن‬
‫نجيم في الصّورتين ‪ .‬وكذا ساكن الدّار إذا كان أجنبيّا من غير عقد ‪،‬فيجب عليه أجر المثل‪.‬‬
‫وذهب بعض الحنفيّة إلى التّفصيل ‪.‬‬
‫ج ‪ -‬المعدّ للستغلل ‪:‬‬
‫‪ -‬من بنى بيتا أو اشتراه لجل الستغلل ‪ ،‬فإنّ على من يستغلّه ‪ -‬من غير إذن صاحبه‬ ‫‪12‬‬

‫‪ -‬أجر المثل بشرط علم المستعمل بكونه معدّا لذلك ‪ ،‬وبشرط أن ل يكون المستعمل مشهورا‬
‫بالغصب ‪ .‬وأمّا لو سكن في المعدّ للستغلل بتأويل ملك أو عقد فل ضمان عليه ‪.‬‬
‫التّعويض بسبب التّعدّي والتّفريط في العقود ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬التّعويض في عقود المانات ‪:‬‬
‫‪ -‬عقود المانات كالوديعة والوكالة ‪ ،‬الصل فيها ‪ :‬أنّ محلّ العقد ل يضمنه من هو بيده‬ ‫‪13‬‬

‫إلّا بالتّفريط أو بالتّعدّي ‪.‬‬


‫ويرجع في تفصيل ذلك إلى مصطلحاتها ‪ ،‬وانظر ( تعدّي ‪ ،‬وضمان ) ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬التّعويض عن العيب في المبيع ‪:‬‬
‫‪ -‬إذا ظهر في المبيع عيب كان قبل البيع فيخيّر المشتري بين ردّه للبائع أو أخذ أرش‬ ‫‪14‬‬

‫النّقص ‪ .‬وتفصيله في مصطلح ( بيع ) وفي ( خيار العيب ) ‪.‬‬


‫ج ‪ -‬التّعويض في الجارة ‪:‬‬
‫ص وإمّا مشترك ‪.‬‬
‫‪ -‬الجير نوعان ‪ .‬إمّا خا ّ‬ ‫‪15‬‬

‫ص ‪ ،‬فقد اتّفق الفقهاء على أنّه ل يكون ضامنا إل بالتّعدّي ‪.‬‬


‫أمّا الخا ّ‬
‫واختلفوا في المشترك ‪ .‬وتفصيله في مصطلح ‪ ( :‬إجارة ‪ ،‬إتلف ) ‪.‬‬
‫التّعويض بسبب التّحريض ‪:‬‬
‫ن الضّمان على المغري ‪ -‬الظّالم‬
‫‪ -‬ذهب الجمهور إلى أنّ من أغرى ظالما على مال ‪ ،‬فإ ّ‬ ‫‪16‬‬

‫‪ . -‬لقاعدة ‪ " :‬يضاف الفعل إلى الفاعل ‪ -‬ل المر ‪ -‬ما لم يكن مجبرا "‬
‫وقال المالكيّة ‪ :‬ل يتبع المغري إلّا بعد تعذّر الرّجوع على المغري ‪ ،‬وذلك لنّ المباشر يقدّم‬
‫على المتسيّب ‪ .‬وقال النّوويّ ‪ :‬لو فتح باب الحرز فسرق غيره ‪ ،‬أو دلّ سارقا فسرق ‪ ،‬أو‬
‫أمر غاصبا فغصب ‪ ،‬أو بنى دارا فألقت الرّيح فيها ثوبا وضاع ‪ ،‬فل ضمان عليه ‪.‬‬
‫ن من أغرى ظالما بأخذ مال إنسان أو دلّه عليه ‪ ،‬فلصاحب المال‬
‫وذهب الحنابلة إلى أ ّ‬
‫تضمين المغري لتسبّبه أو الظّالم لظلمه ‪.‬‬
‫التّعويض بسبب الكراه ‪:‬‬
‫‪ -‬تقدّم في مصطلحي ( إكراه وإتلف ) اختلف الفقهاء في التّعويض بسبب الكراه ‪ ،‬هل‬ ‫‪17‬‬

‫يكون على المكرِه ‪ -‬بكسر الرّاء ‪ -‬فقط ‪ ،‬أو يكون على المكرَه ‪ -‬بفتح الرّاء ‪ -‬أيضا‬
‫لمباشرته للتلف ؟ انظر ( إكراه ‪ ،‬إتلف ) ‪.‬‬
‫التّعويض بالمباشرة أو بالتّسبّب ‪:‬‬
‫‪ -‬إذا أتلف شخص لخر شيئا أو غصبه منه فهلك أو فقد ‪ ،‬وكذا إذا ألحق بغيره ضررا‬ ‫‪18‬‬

‫بجناية في النّفس وما دونها ‪ ،‬أو تسبّب في شيء من ذلك ‪ ،‬فيجب عليه ضمان ما أتلفه‬
‫بمباشرته أو تسبّبه ‪.‬‬
‫وقد سبق ذلك في مصطلح ( إتلف ) وانظر مصطلح ( جناية ‪ ،‬ضمان ‪ ،‬غصب ) ‪.‬‬
‫تعويض ما تتلفه الدّوابّ ‪:‬‬
‫تقدّم اختلف الفقهاء في ضمان ما تتلفه الدّوابّ من الزّروع ‪ .‬واتّفق الفقهاء على ضمان ما‬
‫تتلفه الدّوابّ من غير الزّرع إذا كان معها من له يد عليها ولم يمنعها ‪ ،‬أو راع فيه كفاية‬
‫الحفظ ‪ .‬واختلفوا فيما إذا لم يكن لها راع ‪ .‬وتفصيل ذلك في مصطلح ( إتلف ) ‪.‬‬
‫ما يشترط لتعويض المتلفات ‪:‬‬
‫‪ -‬اشترط الفقهاء لضمان المتلفات أن يكون المتلف ما ًل متقوّما ‪ ،‬وأن يكون المتلف من‬ ‫‪19‬‬

‫أهل الضّمان ‪ .‬وتفصيل ذلك في مصطلح ( إتلف ) ‪.‬‬


‫ما يكون به التّعويض ‪:‬‬
‫‪ -‬إذا كان التلف في العيان كلّيّا فتعويضه بمثله إن كان مثليّا ‪ ،‬أو بقيمته إن كان قيميّا‬ ‫‪20‬‬

‫) أمّا إذا كان التلف جزئيّا ‪ ،‬ففيه أرش‬ ‫‪36‬‬ ‫‪ ،‬وتفصيل ذلك في مصطلح ( إتلف ف‬
‫النّقص ‪ ،‬ويرجع في تقديره إلى أهل الخبرة ‪ .‬انظر مصطلح ( أرش ) ‪.‬‬
‫أمّا إتلف النّفس فقد أوجب الشّارع فيه الدّية في الحالت الّتي ل يطلب فيها القصاص والدّية‬
‫تكون من البل ‪ ،‬أو البقر ‪ ،‬أو الغنم ‪ ،‬أو الذّهب ‪ ،‬أو الحلل على خلف بين الفقهاء في‬
‫بعضها ‪ .‬وفي إتلف العضو أو منفعته الدّية إن كانت له دية مقدّرة ‪ ،‬وإل فحكومة عدل كما‬
‫تجب كلّما سقط القصاص ‪ ،‬وفي الجناية خطأ على النّفس أو ما دونها ‪.‬‬
‫ويرجع في تفصيل ذلك كلّه في مصطلحات ( أرش ‪ ،‬دية ‪ ،‬حكومة عدل ) ‪.‬‬
‫التّعويض عن الضرار المعنويّة ‪:‬‬
‫‪ -‬لم نجد أحدا من الفقهاء عبّر بهذا ‪ ،‬وإنّما هو تعبير حادث ‪ .‬ولم نجد في الكتب الفقهيّة‬ ‫‪21‬‬

‫أنّ أحدا من الفقهاء تكلّم عن التّعويض الماليّ في شيء من الضرار المعنويّة ‪.‬‬

‫تعيّب *‬
‫انظر ‪ :‬خيار العيب ‪.‬‬

‫تعيّن *‬
‫انظر ‪ :‬تعيين ‪.‬‬

‫تعيين *‬
‫التّعريف ‪:‬‬
‫‪ -‬التّعيين ‪ :‬مصدر عيّن ‪ .‬تقول ‪ :‬عيّنت الشّيء تعيينا ‪ :‬إذا خصّصته من بين أمثاله ‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫وتعيّن عليه الشّيء ‪ :‬إذا لزمه بعينه قال الجوهريّ ‪ :‬تعيين الشّيء تخصيصه من الجملة ‪.‬‬
‫وعيّنت النّيّة في الصّوم إذا نويت صوما معيّنا ‪.‬‬
‫والتّعيين في الصطلح ‪ :‬جعل الشّيء متميّزا عن غيره ‪ ،‬بحيث ل يشاركه سواه ‪.‬‬
‫اللفاظ ذات الصّلة ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬البهام ‪:‬‬
‫‪ -‬البهام مصدر أبهم الخبر إذا لم يتبيّنه ‪ .‬وطريق مبهم إذا كان خفيّا ل يستبين وكلم‬ ‫‪2‬‬

‫مبهم ل يعرف له وجه يؤتى منه ‪ .‬وباب مبهم مغلق ل يهتدى لفتحه ‪ ،‬فهو ض ّد التّعيين ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬التّخيير ‪:‬‬
‫‪ -‬التّخيير ‪ :‬مصدر خيّرته بين الشّيئين أي فوّضت إليه الختيار ‪.‬‬ ‫‪3‬‬

‫طفِكُم » ‪.‬‬
‫والتّخيّر الصطفاء ‪ ،‬وهو طلب خير المرين وفي الحديث ‪ « :‬تَخيّرُوا لِ ُن َ‬
‫ج ‪ -‬التّخصيص ‪:‬‬
‫‪ -‬التّخصيص قصر العامّ على بعض أفراده ‪.‬‬ ‫‪4‬‬

‫الحكم التّكليفيّ ‪:‬‬


‫أوّل ‪ :‬التّعيين عند الصوليّين ‪:‬‬
‫‪ -‬ترد كلمة التّعيين عند الصوليّين والفقهاء في مقابلة التّخيير ‪ ،‬وذلك في باب الحكام‬ ‫‪5‬‬

‫ل ‪ ،‬وإلى مبهم بين أقسام‬


‫الشّرعيّة ‪ .‬قالوا ‪ :‬الواجب ينقسم إلى معيّن كصلة الظّهر مث ً‬
‫محصورة كخصال كفّارة اليمين ‪ ،‬فإنّ الحالف يخيّر عند حنثه بين ثلثة أشياء ‪ ،‬إطعام‬
‫عشرة مساكين ‪ ،‬أو كسوتهم ‪ ،‬أو تحرير رقبة ‪.‬‬
‫وأنكرت المعتزلة الواجب المخيّر ‪ ،‬وقالوا ‪ :‬ل معنى لليجاب مع التّخيير ‪.‬‬
‫وينظر تفصيل القول في ذلك في الملحق الصوليّ ‪ .‬وفي بحث ( تخيير ) ‪.‬‬
‫ثانيا ‪ :‬التّعيين عند الفقهاء ‪:‬‬
‫‪ -‬تعرّض الفقهاء لحكم التّعيين في مواضع منها ‪:‬‬ ‫‪6‬‬

‫أ ‪ -‬في الصّلة ‪:‬‬


‫‪ -‬ذهب الفقهاء إلى أنّه يجب على المصلّي أن يعيّن في نيّته الصّلة الّتي يصلّيها ‪ ،‬لتمتاز‬ ‫‪7‬‬

‫عن سائر الصّلوات ‪ .‬وذلك إذا كانت الصّلة فرضا اتّفاقا ‪ ،‬فيجب عليه نيّة الصّلة بعينها‬
‫ظهرا أو عصرا أو مغربا أو غيرها ‪ .‬أمّا السّنن ذوات الوقت أو السّبب ‪ ،‬ففي وجوب تعيينها‬
‫في النّيّة خلف وتفصيل ينظر في مصطلح ‪ ( :‬نيّة ‪ ،‬صلة ) ‪.‬‬
‫‪ -‬واتّفق الفقهاء على أنّ المأموم يجب عليه أن ينوي القتداء بالمام ‪ ،‬وليس عليه أن‬ ‫‪8‬‬

‫يعيّن المام ‪ .‬وذهب الحنفيّة إلى أنّه إذا عيّنه وأخطأ في تعيينه بطلت صلته ‪.‬‬
‫وليس على المام أن يعيّن المأموم ‪ ،‬فإذا عيّنه وأخطأ في تعيينه فل تبطل صلته ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬في الصّوم ‪:‬‬
‫‪ -‬ذهب جمهور العلماء إلى وجوب تعيين النّيّة في كلّ صوم واجب ‪ ،‬من رمضان أو قضاء‬ ‫‪9‬‬

‫أو كفّارة أو نذر ‪ .‬وذلك بأن ينوي أنّه صائم غدا عن رمضان مثلً ‪ ،‬لنّه عبادة مضافة إلى‬
‫وقت ‪ ،‬فوجب التّعيين في نيّتها ‪.‬‬
‫وذهب الحنفيّة ‪ ،‬وهو رواية عن أحمد إلى أنّه يكفي مطلق النّيّة في رمضان كالنّفل ‪ ،‬لنّ‬
‫الحاجة إلى التّعيين عند المزاحمة ‪ ،‬ول مزاحمة ‪ ،‬لنّ الوقت ل يحتمل إل صوما واحدا ‪ ،‬فل‬
‫حاجة إلى التّميّز بتعيين النّيّة ‪ .‬أمّا صيام القضاء والنّذر والكفّارة فقول الحنفيّة في تعيين‬
‫النّيّة فيه كقول الجمهور في وجوب التّعيين ‪.‬‬
‫ج ‪ -‬في البيع ‪:‬‬
‫‪ -‬ذهب الفقهاء إلى أنّه لو باع بنقد ‪ -‬وفي البلد نقد واحد أو نقدان فأكثر ‪ ،‬ولكنّ أحدها‬ ‫‪10‬‬

‫غالب ‪ -‬تعيّن الواحد أو الغالب ‪ .‬وإن كان في البلد نقدان فأكثر ‪ ،‬ولم يغلب أحدها ‪ ،‬اشترط‬
‫التّعيين لفظا ‪ ،‬لختلف الواجب باختلف النّقود ‪ ،‬ول يكفي التّعلّم بالنّيّة ‪.‬‬
‫أمّا إذا اتّفقت النّقود بأن ل تتفاوت في القيمة ول غلبة ‪ ،‬فإنّ العقد يصحّ بها من غير تعيين‪،‬‬
‫ويسلّم المشتري أيّها شاء ‪ .‬وذهبوا أيضا إلى وجوب تعيين الجل بالنّسبة للمسلم فيه في‬
‫بيع السّلم إذا كان مؤجّل ‪ ،‬لقوله صلى ال عليه وسلم ‪ « :‬من أسلف في شيء فليسلف في‬
‫كيل معلوم أو وزن معلوم إلى أجل معلوم » ‪.‬‬
‫قال ابن قدامة ‪ :‬ل نعلم في اشتراط العلم في الجملة اختلفا ‪ .‬وذهب جمهور الفقهاء إلى‬
‫وجوب تعيين مكان اليفاء أيضا ‪ ،‬إن كان العقد بموضع ل يصلح للتّسليم ‪ ،‬سواء أكان حال‬
‫أم مؤجّل أو يصلح للتّسليم ‪ ،‬ولكن لحمله مئونة ‪ ،‬وهذا في المؤجّل دون الحالّ ‪.‬‬
‫أمّا إذا كان المكان صالحا لليفاء ‪ ،‬وليس في حمله مئونة ‪ ،‬فل يجب تعلّم مكان لليفاء ‪ ،‬بل‬
‫يتعيّن مكان العقد للتّسليم عرفا بل خلف ‪ .‬وذهب أحمد وإسحاق ومحمّد وأبو يوسف ‪ ،‬وهو‬
‫قول مرجوح عند الشّافعيّة إلى ‪ :‬عدم وجوب تعيين مكان التّسليم ‪ ،‬سواء أكان في حمله‬
‫مئونة أم ل ‪ ،‬وسواء أكان مؤجّل أم حالّا ‪ ،‬لنّ مكان العقد هو الّذي يتعيّن ‪.‬‬
‫وذهب جمهور الفقهاء إلى أنّه لو عيّن المتعاقدان مكانا للتّسليم غير مكان العقد تعيّن ‪.‬‬
‫د ‪ -‬تعيين المبيع والثّمن ‪:‬‬
‫‪ -‬يشترط لصحّة البيع معلوميّة المبيع ‪ .‬ومعلوميّة الثّمن بما يرفع المنازعة ‪ ،‬فل يصحّ‬ ‫‪11‬‬

‫في جانب الثّمن ‪ -‬بيع‬ ‫‪ -‬في جانب المبيع ‪ -‬بيع شاة من هذا القطيع ‪ ،‬ول يصح‪-‬‬
‫الشّيء بقيمته ‪ ،‬أو بحكم فلن ‪ ،‬أو برأس ماله ‪ ،‬أو بما يبيع به النّاس إل أن يكون شيئا ل‬
‫ن بعض علماء الحنابلة يرون أنّه يصحّ البيع‬
‫يتفاوت ‪ ،‬لئل يفضي ذلك إلى النّزاع ‪ .‬إل أ ّ‬
‫بثمن المثل‪ .‬ويع ّد الحنفيّة هذا البيع من البيوع الفاسدة الّتي يمكن تصحيحها في المجلس ‪،‬‬
‫بخلف الجهالة في عين المبيع ‪ ،‬فإنّه يترتّب عليها بطلن العقد ‪.‬‬
‫هذا ‪ ،‬وهل الدّراهم والدّنانير تتعيّن بالتّعيين في العقد أم ل ؟ اختلف الفقهاء في ذلك ‪ :‬فذهب‬
‫الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّها تتعيّن بالتّعيين ‪ ،‬لنّه عوض في عقد ‪ ،‬فيتعيّن بالتّعيين ‪ ،‬كسائر‬
‫العواض ‪ .‬ولنّه أحد العوضين فيتعيّن بالتّعيين كالخر ‪.‬ولنّ للبائع غرضا في هذا التّعيين‪.‬‬
‫وذهب الحنفيّة والمالكيّة إلى أنّها ل تتعيّن بالتّعيين لنّه يجوز إطلقها في العقد ‪ ،‬فل تتعيّن‬
‫بالتّعيين فيه كالمكيال ‪ .‬وهو رواية عن المام أحمد رحمه ال ‪.‬‬
‫هـ ‪ -‬خيار التّعيين ‪:‬‬
‫‪ -‬نصّ الحنفيّة على صحّة خيار التّعيين في البيع ‪.‬‬ ‫‪12‬‬

‫وصورته أن يقول المشتري للبائع ‪ :‬اشتريت منك أحد هذين الثّوبين أو أحد هذه الثواب‬
‫الثّلثة من غير تعيين ‪ ،‬على أن يختار أيّها شاء ‪ .‬وذكروا له عدّة شروط منها ‪ :‬أن يكون‬
‫البيع فيه على واحد من اثنين أو ثلثة ل بعينه ‪ ،‬فل يزيد عن ثلثة ‪ ،‬فل يجوز على واحد‬
‫من أربعة ‪ ،‬فإنّ هذه الصّورة غير جائزة عندهم ‪ ،‬لندفاع الحاجة بالثّلثة ‪ ،‬لوجود جيّد‬
‫ورديء ووسط ‪ .‬ومنها ‪ :‬أنّه ل بدّ أن يقول بعد قوله ‪ :‬بعتك أحد هذين الثّوبين مثلً ‪ :‬على‬
‫أنّك بالخيار في أيّهما شئت أو على أن تأخذ أيّهما شئت ‪ ،‬ليكون نصّا في خيار التّعيين ‪،‬‬
‫ولنّه لو لم يذكر هذا يكون البيع فاسدا لجهالة المبيع ‪ .‬واختلفوا هل يشترط معه خيار‬
‫الشّرط أم ل ؟ والصحّ عدم اشتراطه معه ‪ ،‬وقال بعضهم ‪ :‬يشترط ذلك ‪.‬‬
‫وذكر المالكيّة هذه الصّورة ‪ ،‬ولكنّهم لم يذكروا خيار التّعيين بالسم إل أنّهم أجازوها ‪.‬‬
‫ويرى الشّافعيّة والحنابلة أنّ البيع بهذه الصّورة باطل ‪ ،‬لجهالة المبيع جهالة تفضي إلى‬
‫التّنازع ‪.‬‬
‫و ‪ -‬التّعيين في المسلم فيه ‪:‬‬
‫‪ -‬ل يجوز تعيين المسلم فيه ‪ ،‬بل يجب أن يكون دينا في ال ّذمّة ‪ ،‬فإن أسلم في عين كدار‬ ‫‪13‬‬

‫ح السّلم ‪ ،‬لنّه ربّما تلف المعيّن قبل‬


‫‪ ،‬أو قال ‪ :‬أسلمت إليك هذا الثّوب في هذه الشّاة لم يص ّ‬
‫ن السّلم‬
‫ن المعيّن يمكن بيعه في الحال ‪ ،‬فل حاجة إلى السّلم فيه ‪ ،‬حيث إ ّ‬
‫أوان تسليمه ‪ ،‬ول ّ‬
‫بيع المفاليس ‪ .‬ولذلك ل يجوز أن يسلم في ثمرة بستان بعينه ‪ ،‬ول ثمرة قرية صغيرة‬
‫بعينها ‪ ،‬لنّه قد ينقطع بجائحة ونحوها فل يحصل منه شيء ‪ ،‬وذلك غرر ل حاجة إليه ‪،‬‬
‫ي صلى ال‬
‫ولنّه روي عن عبد اللّه بن سلم رضي ال عنه قال ‪ « :‬جاء رجل إلى النّب ّ‬
‫ن بني فلن أسلموا لقوم من اليهود وإنّهم قد جاعوا ‪ .‬فأخاف أن يرتدّوا‬
‫عليه وسلم فقال ‪ :‬إ ّ‬
‫ي صلى ال عليه وسلم من عنده ؟ فقال رجل من اليهود ‪ :‬عندي كذا وكذا لشيء‬
‫‪ .‬فقال النّب ّ‬
‫قد سمّاه أراه قال ‪ :‬ثلثمائة دينار بسعر كذا وكذا من حائط بني فلن ‪ .‬فقال رسول اللّه‬
‫صلى ال عليه وسلم ‪ :‬بسعر كذا وكذا إلى أجل كذا وكذا ‪ ،‬وليس من حائط بني فلن » ‪.‬‬
‫قال ابن المنذر ‪ :‬إبطال السّلم إذا أسلم في ثمرة بستان بعينه كالجماع من أهل العلم ‪.‬‬
‫ي ‪ :‬أجمع النّاس على كراهة هذا البيع ‪.‬‬
‫وقال الجوزجان ّ‬
‫ز ‪ -‬في الوكالة ‪:‬‬
‫‪ -‬ذهب الفقهاء إلى أنّه إذا قال الموكّل للوكيل ‪ :‬بع لشخص معيّن ‪ ،‬فليس له أن يبيع‬ ‫‪14‬‬

‫لغيره ‪ ،‬بل عليه أن يتقيّد بهذا التّعيين ‪ ،‬لنّه قد يكون له غرض في تمليكه إيّاه دون غيره‬
‫ي أو في المكان الفلنيّ يجب عليه أن‬
‫‪ .‬وكذلك إذا قال ‪ :‬بع هذا الشّيء في الزّمن الفلن ّ‬
‫يتقيّد بهذا التّعيين ‪ ،‬إل إذا علم أنّه ل غرض للموكّل في هذا التّعيين ‪ ،‬فل يجب التّقيّد به ‪.‬‬
‫ح ‪ -‬في الجارة ‪:‬‬
‫‪ -‬ذهب جمهور الفقهاء إلى وجوب تعيين نوع المنفعة في الجارة وتعيين المدّة فيها ‪.‬‬ ‫‪15‬‬

‫وذلك إمّا بغايتها كخياطة الثّوب مثل ‪ ،‬وإمّا بضرب الجل إذا لم يكن لها غاية ككراء الدّور‬
‫ي‪.‬‬
‫والحوانيت ‪ ،‬وإمّا بالمكان المراد الوصول إليه ككراء الرّواحل إلى المكان الفلن ّ‬
‫ويرى بعض فقهاء السّلف جواز إجارة المجهولت ‪ ،‬مثل أن يعطي الرّجل حماره لمن‬
‫يحتطب عليه بنصف ما يعود عليه ‪ .‬والتّفاصيل في مصطلح ‪ ( :‬إجارة ) ‪.‬‬
‫ط ‪ -‬في الطّلق ‪:‬‬
‫‪ -‬ذهب الفقهاء إلى أنّه لو قال رجل لزوجتيه ‪ :‬إحداكما طالق ‪ ،‬ونوى واحدة بعينها‬ ‫‪16‬‬

‫طلقت ‪ ،‬ويلزمه التّعيين ‪ .‬والتّفاصيل في مصطلح ‪ ( :‬طلق ) ‪.‬‬


‫ي ‪ -‬في الدّعوى ‪:‬‬
‫‪ -‬من شروط صحّة الدّعوى أن يكون المدّعى به معلوما معيّنا ‪ ،‬فإن كان عينا كحيوان‬ ‫‪17‬‬

‫ن واللّون والنّوع ‪ ،‬وإن كان نقدا اشترط تعيين الجنس‬


‫اشترط تعيين الذّكورة والنوثة والسّ ّ‬
‫والنّوع والقدر والوصف ‪ ،‬ليتمكّن الحاكم من اللزام به إذا ثبت ‪.‬‬
‫والتّفاصيل في مصطلح ( دعوى ) ‪.‬‬

‫تغريب *‬
‫التّعريف ‪:‬‬
‫‪ -‬التّغريب في اللّغة ‪ :‬النّفي عن البلد والبعاد عنها ‪ .‬أصله غرب ‪ .‬يقال ‪ :‬غربت الشّمس‬ ‫‪1‬‬

‫غروبا ‪ :‬بعدت وتوارت ‪ .‬وغرب الشّخص ‪ :‬ابتعد عن وطنه فهو غريب ‪.‬وغرّبته أنا تغريبا‪.‬‬
‫وقد يكون غرب لزما كما يقال ‪ :‬غرب فلن عن بلده تغريبا ‪.‬‬
‫ول يخرج معناه الصطلحيّ عن المعنى اللّغويّ ‪.‬‬
‫الحكام المتعلّقة بالتّغريب ‪:‬‬
‫التّغريب يكون عقوبة في حدّ الزّنى ‪ ،‬وحدّ الحرابة ‪ ،‬كما يكون تعزيرا ‪.‬‬
‫أوّلً ‪ :‬التّغريب في حدّ الزّنى ‪:‬‬
‫‪ -‬اتّفق الفقهاء على مشروعيّة التّغريب في الزّنى ‪ ،‬في الجملة على خلف بينهم في‬ ‫‪2‬‬

‫اعتباره من حدّ الزّنى أو عدم اعتباره ‪.‬‬


‫فذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى ‪ :‬أنّ من حدّ الزّاني ‪ -‬إن كان بكرا ‪ -‬التّغريب لمدّة‬
‫ي صلى ال عليه وسلم ‪ « :‬البكرُ بالبكر جل ُد مائ ٍة ونفي‬
‫سنة لمسافة قصر فأكثر ‪ ،‬لقول النّب ّ‬
‫سنة ‪ ،‬والثّيّبُ بالثّيّب جلد مائة والرّجمُ » ولما روى أبو هريرة وزيد بن خالد رضي ال‬
‫ن ابني‬
‫ن رجلين اختصما إلى رسول اللّه صلى ال عليه وسلم فقال أحدهما ‪ :‬إ ّ‬
‫عنهما ‪ « :‬أ ّ‬
‫كان عسيفا على هذا ‪ ،‬فزنى بامرأته ‪ ،‬وأنّي افتديت منه بمائة شاة ووليدة ‪ ،‬فسألت رجالً‬
‫من أهل العلم ‪ ،‬فقالوا ‪ :‬إنّما على ابنك جلد مائة وتغريب عام ‪ ،‬والرّجم على امرأة هذا ‪.‬‬
‫ن بينكما بكتاب اللّه تعالى ‪ :‬على‬
‫ي صلى ال عليه وسلم ‪ :‬والّذي نفسي بيده لقضي ّ‬
‫فقال النّب ّ‬
‫ابنك جلد مائة وتغريب عام ‪ .‬وجلد ابنه مائة وغرّبه عاما ‪ .‬ثمّ قال لنيس السلميّ ‪ :‬واغد‬
‫يا أنيس إلى امرأة هذا ‪ ،‬فإن اعترفت فارجمها ‪ ،‬فاعترفت فَ َرجَمها » ‪.‬‬
‫ولنّ الخلفاء الرّاشدين جمعوا بين الجلد والتّغريب ‪ ،‬ولم يعرف لهم مخالف ‪،‬فكان كالجماع‪.‬‬
‫ن التّغريب ليس من الحدّ ‪ ،‬ولكنّهم يجيزون للمام أن يجمع بين الجلد‬
‫وذهب الحنفيّة إلى أ ّ‬
‫والتّغريب ‪ ،‬إن رأى في ذلك مصلحة ‪ .‬فالتّغريب عندهم عقوبة تعزيريّة ‪ ،‬وذهبوا إلى أنّ ما‬
‫روي من قوله صلى ال عليه وسلم ‪ « :‬البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام » ‪ .‬ل يؤخذ به‬
‫ص الية ‪ ،‬وهي قوله تعالى ‪:‬‬
‫لنّه لو أخذ به لكان ناسخا للية ‪ ،‬لنّ فيه زيادة على ن ّ‬
‫{ الزّانِي ُة وَالزّاني فَاجْلِدُوا كلّ وَاحِدٍ مِ ْن ُهمَا مِائةَ جَلْدَةٍ } والحديث المذكور ل يقوى على نسخ‬
‫الية لنّه خبر آحاد ‪.‬‬
‫وقالوا ‪ :‬في التّغريب فتح لباب الفساد ‪ ،‬ففيه نقص وإبطال للمقصود منه شرعا ‪ .‬ولما روى‬
‫عبد الرّزّاق قال ‪ :‬غرّب عمر بن الخطّاب رضي ال عنه ربيعة بن أميّة بن خلف في الشّراب‬
‫إلى خيبر ‪ ،‬فلحق بهرقل فتنصّر ‪ ،‬فقال عمر ‪ :‬ل أغرّب بعده مسلما ‪.‬‬
‫ويرى الشّافعيّة والحنابلة أنّ التّغريب هو النّفي من البلد الّذي حدث فيه الزّنى إلى بلد آخر ‪،‬‬
‫دون حبس المغرّب في البلد الّذي نفي إليه ‪ ،‬إل أنّه يراقب لئلّا يرجع إلى بلدته ‪.‬‬
‫وهذا فيمن زنى في وطنه ‪ ،‬وأمّا الغريب الّذي زنى بغير بلده ‪ ،‬فيغرّب إلى غير بلده ‪.‬‬
‫وقال المالكيّة ‪ :‬يغرّب الزّاني عن البلد الّذي حدث فيه الزّنى إلى بلد آخر ‪ ،‬مع سجنه في‬
‫البلد الّذي غرّب إليه ‪ .‬وهذا إن كان متوطّنا في البلد الّتي زنى فيها ‪ .‬وأمّا الغريب الّذي زنى‬
‫فور نزوله ببلد ‪ ،‬فإنّه يجلد ويسجن بها ‪ ،‬لنّ سجنه في المكان الّذي زنى فيه تغريب له ‪.‬‬
‫من يغرّب في حدّ الزّنى ‪:‬‬
‫‪ -‬اتّفق القائلون بالتّغريب على وجوبه على الرّجل الزّاني الح ّر غير المحصن لمدّة عام ‪.‬‬ ‫‪3‬‬

‫لقول النّبيّ صلى ال عليه وسلم ‪ « :‬البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام » ‪.‬‬
‫ي من المالكيّة إلى وجوب‬
‫وأمّا المرأة غير المحصنة ‪ ،‬فقد ذهب الشّافعيّة والحنابلة ‪ ،‬واللّخم ّ‬
‫التّغريب عليها كذلك ‪ .‬قال الشّافعيّة والحنابلة ‪ :‬ويكون معها زوج أو محرم ‪ ،‬لقول النّبيّ‬
‫صلى ال عليه وسلم ‪ « :‬ل تسافر المرأة إل ومعها زوج أو محرم » وفي الصّحيحين ‪:‬‬
‫« ل يحلّ لمرأة تؤمن باللّه واليوم الخر أن تسافر مسيرة يوم إلّا مع ذي محرم » ‪.‬‬
‫ولنّ القصد تأديبها ‪ ،‬والزّانية إذا خرجت وحدها هتكت جلباب الحياء ‪ .‬وذهب المالكيّة إلى‬
‫أنّه ل تغريب على المرأة ‪ ،‬ولو مع محرم أو زوج ولو رضيت بذلك ‪ ،‬على المعتمد عندهم ‪.‬‬
‫ثانيا ‪ :‬التّغريب في حدّ الحرابة ‪:‬‬
‫‪ -‬ورد النّفي في ح ّد الحرابة في قوله تعالى ‪ { :‬إ ّنمَا جَزَا ُء الّذينَ ُيحَارِبُونَ الّل َه وَ َرسُولَه‬ ‫‪4‬‬

‫ف أو‬
‫ن ُيقَتّلُوا أو يُصَلّبُوا أو ُت َقطّعَ أيْدِيهمْ َوأَ ْرجُُل ُهمْ مِنْ خِل ٍ‬
‫ن في الَرضِ َفسَادَا أَ ْ‬
‫وَ َيسْعَو َ‬
‫يُ ْنفَوا ِمنَ الرضِ } وقد اختلف الفقهاء في المراد بالنّفي في الية ‪:‬‬
‫ن النّفي من جميع الرض‬
‫ن المراد بالنّفي في حدّ الحرابة الحبس ‪ ،‬ل ّ‬
‫فذهب الحنفيّة إلى ‪ :‬أ ّ‬
‫محال ‪ ،‬وإلى بلد آ خر ف يه إيذاء لهل ها ‪ ،‬فلم ي بق إل الح بس ‪ ،‬والمحبوس ي سمّى منفيّا من‬
‫الرض ‪ ،‬لنّه ل ينتفع بطيّبات الدّنيا ولذّاتها ول يجتمع بأقاربه وأحبابه ‪.‬‬
‫وذهب المالكيّة إلى ‪ :‬أنّه مثل التّغريب في الزّنى ‪ ،‬ولكنّه يسجن في حدّ الحرابة حتّى تظهر‬
‫توبته أو يموت ‪ .‬وذهب الشّافعيّة إلى أنّ قاطع الطّريق ‪ -‬إذا أخذ قبل أن يقتل نفسا أو يأخذ‬
‫مال ‪ -‬يعزّر بالحبس أو التّغريب ‪ .‬وقالوا ‪ :‬هذا تفسير النّفي الوارد في الية ‪.‬‬
‫ن المراد بالنّفي في حدّ الحرابة تشريد قطّاع الطّريق في الرض ‪ ،‬وعدم‬
‫وذهب الحنابلة إلى أ ّ‬
‫تركهم يأوون إلى بلد حتّى تظهر توبتهم ‪.‬‬
‫ثالثا ‪ :‬التّغريب على سبيل التّعزير ‪:‬‬
‫‪ -‬اتّفق الفقهاء على مشروعيّة التّعزير بالتّغريب ‪.‬‬ ‫‪5‬‬

‫ي صلى ال عليه وسلم بالنّفي تعزيرا في شأن المخنّثين ‪.‬‬


‫لما ثبت من قضاء النّب ّ‬
‫ولنفي عمر بن الخطّاب رضي ال عنه للّذي عمل خاتما على نقش خاتم بيت المال وأخذ به‬
‫مال منه ‪ .‬وللتّفصيل انظر مصطلح ‪ ( :‬تعزير ) ‪.‬‬

‫تغرير *‬
‫انظر ‪ :‬غرر ‪.‬‬
‫تغسيل الميّت *‬
‫التّعريف ‪:‬‬
‫‪ -‬التّغسيل في اللّغة ‪ :‬مصدر غسّل بالتّشديد ‪ ،‬بمعنى ‪ :‬إزالة الوسخ عن الشّيء ‪ ،‬بإجراء‬ ‫‪1‬‬

‫ي ‪ ،‬وأمّا الحيّ ‪ -‬فهو بالتّشديد ل غير ‪-‬‬


‫الماء عليه ‪ ،‬والميّت بالتّخفيف والتّشديد ‪ :‬ضدّ الح ّ‬
‫ك مَيّتٌ وَإنّهمْ مَيّتُونَ } ويستوي فيه المذكّر‬
‫بمعنى من سيموت ‪ .‬ومنه قوله تعالى ‪ { :‬إنّ َ‬
‫ي به َبلْدَةً مَيْتَا } ولم يقل ميّتة ‪.‬‬
‫والمؤنّث ‪ ،‬قال تعالى ‪ { :‬لِ ُنحْيِ َ‬
‫فتغسيل الميّت من قبيل إضافة المصدر إلى المفعول ‪.‬‬
‫وفي الصطلح ‪ :‬تعميم بدن الميّت بالماء بطريقة مسنونة ‪.‬‬
‫الحكم التّكليفيّ ‪:‬‬
‫‪ -‬ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ تغسيل الميّت المسلم واجب كفاية ‪ ،‬بحيث إذا قام به‬ ‫‪2‬‬

‫البعض سقط عن الباقين ‪ ،‬لحصول المقصود بالبعض ‪ ،‬كسائر الواجبات على سبيل الكفاية‪.‬‬
‫ت وعدّ منها ‪ :‬أن يغسّله بعد موته »‬
‫لقوله عليه الصلة والسلم ‪ « :‬للمسلم على المسلم س ّ‬
‫والصل فيه ‪ « :‬تغسيل الملئكة عليهم الصلة والسلم لدم عليه السلم ‪ .‬ثمّ قالوا ‪ :‬يا بني‬
‫آدم هذه سنّتكم » ‪.‬‬
‫وأمّا القول بسنّيّة الغسل عند بعض المالكيّة ‪ ،‬فقد اقتصر على تصحيحه ابن الحاجب وغيره‪.‬‬
‫ما ينبغي لغاسل الميّت ‪ ،‬وما يكره له ‪:‬‬
‫‪ -‬ينبغي أن يكون الغاسل ثقة أمينا ‪ ،‬وعارفا بأحكام الغسل ‪.‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪.‬‬ ‫ي صلى ال عليه وسلم قال ‪ « :‬لِيغسّل موتاكم المأمونون »‬


‫وفي الحديث عن النّب ّ‬
‫ول يجوز له إذا رأى من الميّت شيئا ممّا يكره أن يذكره إل لم صلحة ‪ ،‬ل ما روي ع نه عل يه‬
‫الصلة والسلم أنّه قال ‪ « :‬من غسّل ميّتا ‪ ،‬فأدّى فيه المانة ‪ ،‬ولم يفش عليه ما يكون منه‬
‫عند ذلك ‪ ،‬خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمّه » ‪.‬‬
‫وإن رأى ح سنا م ثل أمارات الخ ير من وضاءة الو جه ون حو ذلك ‪ ،‬ا ستحبّ له إظهاره ليك ثر‬
‫التّرحّم عليه ‪ ،‬ويحصل الحثّ على طريقته ‪ ،‬والتّبشير بجميل سيرته ‪.‬‬
‫إل إذا كان الميّـت مبتدعا ‪ ،‬ورأى الغاسـل منـه مـا يكره ‪ ،‬فل بأس أن يحدّث النّاس بـه ‪،‬‬
‫ليكون زجرا لهم عن البدعة ‪.‬‬
‫شقـ ذلك لقسـوة الميّت أو غيرهـا‬
‫ّ‬ ‫كمـا يسـتحبّ أن يليّن مفاصـله إن سـهلت عليـه ‪ ،‬وإن‬
‫ف الغاسل على يده خرقة خشنة يمسحه بها ‪،‬‬
‫تركها ‪ ،‬لنّه ل يؤمن أن تنكسر أعضاؤه ‪ .‬ويل ّ‬
‫ن النّظر إلى العورة حرام ‪ .‬فاللّمس أولى ‪ ،‬ويعدّ لغسل ال سّبيلين خرقة‬
‫لئل يم سّ عورته ‪ .‬ل ّ‬
‫أخرى ‪ .‬قال الشّافعيّة ‪ :‬ويكره للغاسل أن ينظر إلى شيء من بدنه إلّا لحاجة ‪ ،‬أمّا المعيّن فل‬
‫ينظر إل لضرورة ‪.‬‬
‫ك ما يكره له أن ي قف على الدّكّة ‪ ،‬ويج عل الميّت ب ين رجل يه ‪ ،‬بل ي قف على الرض ويقلّ به‬
‫حيـن غسـله ‪ ،‬كمـا ينبغـي له أن يشتغـل بالتّفكّر والعتبار ‪ ،‬ل بالذكار الّتـي ابتدعوهـا لكلّ‬
‫عضو ذكر يخصّه ‪ ،‬فإنّها بدعة ‪.‬‬
‫ال ّنيّة في تغسيل الميّت ‪:‬‬
‫ن النّيّة ليست شرطا لصحّة الطّهارة ‪ ،‬بل شرط لسقاط الفرض عن‬
‫‪ -‬ذهب الحنفيّة إلى ‪ :‬أ ّ‬ ‫‪4‬‬

‫المكلّفين ‪ ،‬فلو غسّل الميّت بغير نيّة أجزأ لطهارته ‪ ،‬ل لسقاط الفرض عن المكلّفين ‪.‬‬
‫ي ‪ ،‬ورواية عن الحنابلة‬
‫وذهب المالكيّة ‪ ،‬وهو الصحّ عند الشّافعيّة ‪ ،‬وظاهر نصّ الشّافع ّ‬
‫ن كلّ ما يفعله في‬
‫ن الصل عند المالكيّة ‪ :‬أ ّ‬
‫إلى ‪ :‬عدم اشتراط النّيّة في تغسيل الميّت ‪ ،‬ل ّ‬
‫ن القصد التّنظيف ‪،‬‬
‫غيره ل يحتاج فيه إلى نيّة ‪ ،‬كغسل الناء من ولوغ الكلب سبعا ‪ ،‬ول ّ‬
‫فأشبه غسل النّجاسة ‪ .‬وذهب الشّافعيّة في قول آخر ‪ ،‬والحنابلة في رواية أخرى إلى وجوب‬
‫ن غسل الميّت واجب ‪ ،‬فافتقر إلى النّيّة كغسل الجنابة ‪ ،‬ولمّا تعذّرت النّيّة من‬
‫النّيّة ‪ ،‬ل ّ‬
‫الميّت اعتبرت في الغاسل ‪ ،‬لنّه المخاطب بالغسل ‪.‬‬
‫تجريد الميّت وكيفيّة وضعه حالة الغسل ‪:‬‬
‫‪ -‬ذهب الحنفيّة والمالكيّة ‪ ،‬وهو أحد قولي الشّافعيّة ‪ ،‬ورواية عن أحمد إلى أنّه يستحبّ‬ ‫‪5‬‬

‫ن المقصود من الغسل هو التّطهير وحصوله بالتّجريد أبلغ ‪.‬‬


‫تجريد الميّت عند تغسيله ‪ ،‬ل ّ‬
‫ولنّه لو اغتسل في ثوبه تنجّس الثّوب بما يخرج ‪ ،‬وقد ل يطهر ‪ ،‬وإليه ذهب ابن سيرين ‪.‬‬
‫وال صّحيح المعروف عند الشّافعيّة ‪ ،‬وهو رواية المرّوذ يّ عن أحمد أنّه يغ سّل في قميصه ‪.‬‬
‫وقال أح مد ‪ :‬يعجب ني أن يغ سّل الميّت وعل يه ثوب رق يق ينزل الماء ف يه ‪ ،‬يد خل يده من‬
‫تحتـه ‪ ،‬قال ‪ :‬وكان أبـو قلبـة إذا غسـّل ميّتـا جلّله بثوب ‪ .‬واعتـبره القاضـي سـنّة ‪ ،‬فقال ‪:‬‬
‫السّنّة أن يغسّل الميّت في قميص ‪ ،‬فيم ّر يده على بدنه ‪ ،‬والماء يصبّ ‪.‬‬
‫ي صلى ال عليه وسلم غسّل في قميصه » ‪.‬‬
‫ولنّ « النّب ّ‬
‫وأمّا ستر عور ته فل خلف ف يه ‪ ،‬ل نّ ستر العورة وا جب ومأمور به ‪ ،‬هذا إذا كان الذّ كر‬
‫يغ سّل الذّ كر ‪ ،‬والن ثى تغ سّل الن ثى ‪ ،‬وأمّا إذا كان الذّ كر المحرم يغ سّل الن ثى ‪ ،‬وعك سه ‪،‬‬
‫فيستر جم يع بدن الميّت ‪ .‬وأمّا كيفيّة وضعه ع ند تغ سيله ‪ ،‬فهي أنّه يو ضع على سرير أو‬
‫لوح هيّئ له ‪ ،‬ويكون موضع رأسه أعلى لينحدر الماء ‪ ،‬ويكون الوضع طول ‪ ،‬كما في حالة‬
‫المرض إذا أراد الصّلة بإيماء ‪.‬‬
‫ومن الحنفيّة من اختار الوضع كما يوضع في القبر ‪ .‬والصحّ أنّه يوضع كما تيسّر ‪.‬‬
‫عدد الغسلت وكيفيّتها ‪:‬‬
‫‪ -‬قبل أن يبدأ الغاسل بتغسيل الميّت يزيل عنه النّجاسة ‪ ،‬ويستنجيه عند أبي حنيفة‬ ‫‪6‬‬

‫ومحمّد ‪ .‬وأمّا إزالة النّجاسة وإنقاؤها فأبو حنيفة ومحمّد يقولن به بل إجلس وعصر في‬
‫أوّل الغسل ‪ ،‬وعند المالكيّة يندب عصر البطن حالة الغسل ‪ ،‬وعند الشّافعيّة والحنابلة يكون‬
‫إجلس الميّت وعصر بطنه في أوّل الغسل ‪.‬‬
‫ثمّ يوضّئه وضوءه للصّلة ‪ ،‬ول يدخل الماء في فيه ول أنفه ‪ ،‬وإن كان فيهما أذى أزاله‬
‫بخرقة يبلّها ويجعلها على أصبعه ‪ ،‬فيمسح أسنانه وأنفه حتّى ينظّفهما ‪ .‬وهذا عند الحنفيّة‬
‫والحنابلة ‪ ،‬وإليه ذهب سعيد بن جبير والنّخعيّ والثّوريّ ‪ ،‬وقال شمس الئمّة الحلوانيّ ‪:‬‬
‫وعليه عمل النّاس اليوم ‪.‬‬
‫وأمّا عند المالكيّة والشّافعيّة فل يغني ذلك عن المضمضة والستنشاق ‪.‬‬
‫ويميل رأس الميّت حتّى ل يبلغ الماء بطنه ‪ .‬وكذا ل يؤخّر رجليه عند التّوضئة ‪.‬‬
‫وبعد الوضوء يجعله على شقّه اليسر فيغسل اليمن ‪ ،‬ثمّ يديره على اليمن فيغسل اليسر ‪،‬‬
‫وذلك بعد تثليث غسل رأسه ولحيته ‪.‬‬
‫والواجب في غسل الميّت مرّة واحدة ‪ ،‬ويستحبّ أن يغسّل ثلثا كلّ غسلة بالماء والسّدر ‪،‬‬
‫أو ما يقوم مقامه ‪ ،‬ويجعل في الخيرة كافورا ‪ ،‬أو غيره من الطّيب إن أمكن ‪.‬‬
‫وإن رأى الغاسل أن يزيد على ثلث ‪ -‬لكونه لم ينق ‪ ،‬أو غير ذلك ‪ -‬غسله خمسا أو‬
‫سبعا ‪ ،‬ويستحبّ أن ل يقطع إل على وتر ‪ .‬وقال أحمد ‪ :‬ل يزيد على سبع ‪.‬‬
‫والصل في هذا قول النّبيّ صلى ال عليه وسلم لغاسلت ابنته زينب رضي ال عنها‬
‫« ابْدَأْن بميامنها ‪ ،‬ومواضع الوضوء منها ‪ ،‬واغسِلْنَها ثلثا أو خمسا أو سبعا ‪ ،‬أو أكثر من‬
‫ذلك إن رأيتنّ ذلك ‪ ،‬بماء وسدر ‪ ،‬واجْعلْنَ في الخرة كافورا أو شيئا من كافور » ‪.‬‬
‫ويرى ابن حبيب من المالكيّة أنّه ل بأس عند الوباء وما يشتدّ على النّاس من غسل الموتى‬
‫لكثرتهم ‪ ،‬أن يجتزئوا بغسلة واحدة بغير وضوء ‪ ،‬يصبّ الماء عليهم صبّا ‪.‬‬
‫وإن خرج منه شيء وهو على مغتسله ‪ ،‬فيرى الحنفيّة والمالكيّة ‪ -‬ما عدا أشهب ‪ -‬وهو‬
‫الصحّ عند الشّافعيّة ‪ ،‬واختاره أبو الخطّاب من الحنابلة ‪ :‬أنّه ل يعاد غسله ‪ ،‬وإنّما يغسل‬
‫ي أيضا ‪.‬‬
‫ذلك الموضع ‪ ،‬وإليه ذهب الثّور ّ‬
‫وذهب الحنابلة ‪ ،‬وهو قول آخر للشّافعيّة إلى أنّه إن خرج منه شيء وهو على مغتسله‬
‫غسّله إلى خمس ‪ ،‬فإن زاد فإلى سبع ‪ .‬وإليه ذهب ابن سيرين وإسحاق ‪.‬‬
‫وللشّافعيّة قول ثالث ‪ ،‬وهو أنّه يجب إعادة وضوئه ‪ .‬هذا إذا خرجت النّجاسة قبل الدراج‬
‫في الكفن ‪ ،‬وأمّا بعده فجزموا بالكتفاء بغسل النّجاسة فقط ‪.‬‬
‫ب أن يحمل الميّت إلى مكان خال مستور ل يدخله إل الغاسل ‪ ،‬ومن ل بدّ من‬
‫‪ -‬يستح ّ‬ ‫‪7‬‬

‫ي أن يدخله إن شاء ‪ ،‬وإن لم يغسّل ولم‬


‫معونته عند الغسل ‪ ،‬وذكر الرّويانيّ وغيره أنّ للول ّ‬
‫يعن ‪ ،‬وكان ابن سيرين يستحبّ أن يكون البيت الّذي يغسّل فيه الميّت مظلما ‪.‬‬
‫ي يحبّ أن‬
‫قال ابن قدامة ‪ :‬فإن لم يكن جعل بينه وبينهم سترا ‪ .‬قال ابن المنذر ‪ :‬كان النّخع ّ‬
‫ضحّاك أخاه سالما ‪ ،‬كما ذكر‬
‫يغسّل الميّت وبينه وبين السّماء سترة ‪ ،‬وهو ما أوصى به ال ّ‬
‫ن عائشة رضي ال تعالى عنها قالت ‪ « :‬أتانا رسول اللّه صلى ال عليه وسلم‬
‫القاضي أ ّ‬
‫ونحن نغسّل ابنته ‪ ،‬فجعلنا بينها وبين السّقف سترا » ‪.‬‬
‫صفة ماء الغسل ‪:‬‬
‫‪ -‬يشترط لصحّة غسل الميّت في الماء ‪ :‬الطّهوريّة كسائر الطّهارات ‪ ،‬والباحة كباقي‬ ‫‪8‬‬

‫ب الحنفيّة أن يكون الماء ساخنا لزيادة النقاء ‪ ،‬ويغلى الماء بالسّدر أو‬
‫الغسال ‪ ،‬واستح ّ‬
‫غيره ‪ ،‬لنّه أبلغ في النّظافة وهو المقصود ‪.‬‬
‫وعند المالكيّة يخيّر الغاسل في صفة الماء إن شاء باردا وإن شاء ساخنا ‪.‬‬
‫ويرى الشّافعيّة والحنابلة عدم غسل الميّت بالماء الحارّ في المرّة الولى ‪ ،‬إل لشدّة البرد أو‬
‫لوسخ أو غيره ‪.‬‬
‫واستحسن الشّافعيّة أن يتّخذ الغاسل إناءين ‪ ،‬والحنابلة أن يتّخذ ثلثة أوان للماء ‪.‬‬
‫ما يصنع بالميّت قبل التّغسيل وبعده ‪:‬‬
‫ن استعمال البخور عند تغسيل الميّت مستحبّ ‪ ،‬لئلّا تشمّ منه‬
‫‪ -‬يرى جمهور الفقهاء أ ّ‬ ‫‪9‬‬

‫رائحة كريهة ‪ .‬ويزداد في البخور عند عصر بطنه ‪.‬‬


‫وأمّا تسريح الشّعر ‪ ،‬وتقليم الظفار ‪ ،‬وحلق العانة ‪ ،‬ونتف البط ‪ ،‬فل يفعل شيء من ذلك‬
‫عند الحنفيّة ‪ ،‬وهو أيضا قول الحنابلة في العانة ‪ ،‬ورواية عندهم في تقليم الظفار ‪ ،‬وهو‬
‫ن ذلك يفعل لحقّ‬
‫مذهب المالكيّة والشّافعيّة في القديم أيضا إل في تسريح الشّعر واللّحية ‪ ،‬ل ّ‬
‫الزّينة ‪ ،‬والميّت ليس بمحلّ الزّينة ‪ .‬فل يزال عنه شيء ممّا ذكرنا ‪ ،‬وأمّا إن كان ظفره‬
‫منكسرا فل بأس بأخذه ‪.‬‬
‫ص الشّارب ‪،‬‬
‫وذهب الشّافعيّة في الجديد إلى أنّه يفعل كلّ ذلك ‪ ،‬وإليه ذهب الحنابلة في ق ّ‬
‫وهو رواية عندهم في تقليم الظّفر إن كان فاحشا ‪ ،‬ورواية عن أحمد في حلق العانة ‪ .‬ودليل‬
‫ي صلى ال عليه وسلم ‪ « :‬اصنعوا بموتاكم كما تصنعون بعرائسكم » ‪.‬‬
‫الجواز قول النّب ّ‬
‫ولنّ ترك تقليم الظفار ونحوها يقبّح منظر الميّت ‪ ،‬فشرعت إزالته ‪.‬‬
‫وأمّا الختان فل يشرع عند جمهور الفقهاء ‪ ،‬لنّه إبانة جزء من أعضائه ‪ ،‬كما أنّه ل يحلق‬
‫رأس الميّت ‪ .‬وحكى أحمد عن بعض النّاس أنّه يختن ‪.‬‬
‫وإذا فرغ الغاسل من تغسيل الميّت نشّفه بثوب ‪ ،‬لئلّا تبت ّل أكفانه ‪ .‬وفي حديث أمّ سليم رضي‬
‫ال عنها ‪ « :‬فإذا فرغت منها فألقى عليها ثوبا نظيفا » ‪ .‬وذكر القاضي في حديث ابن‬
‫عبّاس رضي ال عنه في غسل النّبيّ عليه الصلة والسلم قال ‪ « :‬فجفّفوه بثوب » ‪.‬‬
‫الحالت الّتي ييمّم فيها الميّت ‪:‬‬
‫‪ -‬ييمّم الميّت في الحالت التية ‪:‬‬ ‫‪10‬‬

‫أ ‪ -‬إذا مات رجل بين نسوة أجانب ‪ ،‬ولم توجد امرأة محرمة ‪ ،‬أو ماتت امرأة بين رجال‬
‫أجانب ‪ ،‬ولم يوجد محرم ‪ .‬وهذا عند الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة ‪ -‬في الصحّ ‪ -‬والحنابلة‬
‫ي ‪ ،‬وحمّاد ‪ ،‬وابن المنذر ‪.‬‬
‫‪ ،‬وإليه ذهب سعيد بن المسيّب والنّخع ّ‬
‫وأضاف الحنفيّة قولهم ‪ :‬إذا كان بين النّسوة امرأته غسّلته ‪ ،‬فإن لم تكن وكانت معهنّ‬
‫صبيّة صغيرة ‪ ،‬لم تبلغ حدّ الشّهوة ‪ ،‬وأطاقت الغسل ‪ ،‬علّمنها الغسل ‪ ،‬ويخلّين بينه وبينها‬
‫ن حكم العورة في حقّها غير ثابت ‪ .‬وكذلك إذا ماتت امرأة بين‬
‫حتّى تغسّله ‪ ،‬وتكفّنه ‪ ،‬ل ّ‬
‫رجال أجانب ‪ ،‬وكان معهم صبيّ لم يبلغ حدّ الشّهوة ‪ ،‬وأطاق الغسل ‪،‬علّموه الغسل فيغسّلها‪.‬‬
‫والوجه الثّاني عند الشّافعيّة ‪ ،‬وإليه ذهب أبو الخطّاب من الحنابلة ‪ ،‬وهو قول الحسن ‪،‬‬
‫ن الميّت ل ييمّم في هذه الحالة ‪ ،‬بل‬
‫وإسحاق ‪ ،‬والقفّال ‪ ،‬ورجّحه إمام الحرمين والغزاليّ ‪ :‬أ ّ‬
‫يغسّل ويصبّ عليه الماء من فوق القميص ‪ ،‬ول يمسّ ‪.‬‬
‫وحكى صاحب البيان من الشّافعيّة وجها ثالثا أنّه يدفن ول ييمّم ول يغسّل ‪ .‬قال النّوويّ ‪:‬‬
‫وهو ضعيف جدّا ‪ .‬وأمّا كيفيّة التّيمّم ففيها خلف وتفصيل يرجع فيه إلى مصطلح ( تيمّم ) ‪.‬‬
‫‪.‬‬ ‫‪19/‬‬ ‫ب ‪ -‬إذا مات خنثى مشكل وهو كبير ‪ ،‬على التّفصيل الّذي سيأتي في ف‬
‫ج ‪ -‬إذا تعذّر غسله لفقد ماء حقيقة أو حكما كتقطّع الجسد بالماء ‪ ،‬أو تسلّخه من صبّه‬
‫عليه ‪.‬‬
‫من يجوز لهم تغسيل الميّت ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬الحقّ بتغسيل الميّت ‪:‬‬
‫ن نظر النّوع إلى‬
‫‪ -‬الصل أنّه ل يغسّل الرّجال إلّا الرّجال ‪ ،‬ول النّساء إلّا النّساء ‪ ،‬ل ّ‬ ‫‪11‬‬

‫س ثابتة حالة الحياة ‪ ،‬فكذا بعد الموت ‪.‬‬


‫النّوع نفسه أهون ‪ ،‬وحرمة الم ّ‬
‫واختلفوا في التّرتيب ‪ .‬فذهب الحنفيّة إلى أنّه يستحبّ للغاسل أن يكون أقرب النّاس إلى‬
‫الميّت ‪ ،‬فإن لم يعلم الغسل فأهل المانة والورع ‪.‬‬
‫ي من الزّوجين في غسل صاحبه على العصبة ‪ ،‬ويقضى له بذلك‬
‫ويرى المالكيّة تقديم الح ّ‬
‫عند التّنازع ‪ ،‬ثمّ القرب فالقرب من عصبته ‪ ،‬ثمّ امرأة محرمة كأمّ وبنت ‪ .‬وإن كان الميّت‬
‫امرأة ‪ ،‬ولم يكن لها زوج ‪ ،‬أو كان وأسقط حقّه ‪ ،‬يغسّلها أقرب امرأة إليها فالقرب ‪ ،‬ثمّ‬
‫أجنبيّة ‪ ،‬ثمّ رجل محرم على التّرتيب السّابق ‪ .‬ويستر وجوبا جميع جسدها ‪ ،‬ول يباشر‬
‫جسدها إل بخرقة كثيفة يلفّها على يده ‪ .‬وعند الشّافعيّة إن كان الميّت رجل غسّله أقاربه ‪.‬‬
‫وهل تقدّم الزّوجة عليهم ‪ ،‬فيه ثلثة أوجه ‪:‬‬
‫الوجه الوّل ‪ ،‬وهو الصحّ ‪ :‬أنّه يقدّم من الرّجال العصبات ‪ ،‬ثمّ الجانب ‪ ،‬ثمّ الزّوجة ‪ ،‬ثمّ‬
‫النّساء المحارم ‪.‬‬
‫والوجه الثّاني ‪ :‬يقدّم الرّجال القارب ‪ ،‬ثمّ الزّوجة ‪ ،‬ثمّ الرّجال الجانب ‪ ،‬ثمّ النّساء المحارم‪.‬‬
‫والوجه الثّالث ‪ :‬تقدّم الزّوجة على الجميع ‪ .‬وإن كان الميّت امرأة قدّم نساء القرابة ‪ ،‬ثمّ‬
‫النّساء الجانب ‪ ،‬ثمّ الزّوج ‪ ،‬ثمّ الرّجال القارب ‪ .‬وذوو المحارم من النّساء القارب أحقّ‬
‫من غيرهم ‪ ،‬وهل يقدّم الزّوج على نساء القرابة ؟ وجهان ‪:‬‬
‫الوجه الوّل ‪ :‬وهو الصحّ المنصوص يقدّمن عليه لنّهنّ أليق ‪.‬‬
‫والثّاني ‪ :‬يقدّم الزّوج لنّه كان ينظر إلى ما ل ينظرن ‪ ،‬وظاهر كلم الغزاليّ تجويز الغسل‬
‫للرّجال المحارم مع وجود النّساء ‪ ،‬ولكنّ عامّة الشّافعيّة يقولون ‪ :‬المحارم بعد النّساء أولى‪.‬‬
‫ن الولى بالتّغسيل وصيّ الميّت إذا كان عدل ‪ ،‬ويتناول عمومه ما لو‬
‫وذهب الحنابلة إلى أ ّ‬
‫وصّى لمرأته ‪ ،‬وهو مقتضى استدللهم بأنّ أبا بكر رضي ال عنه وصّى لمرأته فغسّلته ‪.‬‬
‫وكذا لو أوصت بأن يغسّلها زوجها ‪ .‬وبعد وصيّه أبوه وإن عل ‪ ،‬ثمّ ابنه وإن نزل ‪ ،‬ثمّ‬
‫القرب فالقرب كالميراث ‪ ،‬ثمّ الجانب ‪ ،‬فيقدّم صديق الميّت ‪ ،‬وبعد وصيّها أمّها وإن علت ‪،‬‬
‫فبنتها وإن نزلت ‪ ،‬فبنت ابنها وإن نزل ‪ ،‬ث ّم القربى فالقربى ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬تغسيل المرأة لزوجها ‪:‬‬
‫‪ -‬ل خلف بين الفقهاء في أنّ للمرأة تغسيل زوجها ‪ ،‬إذا لم يحدث قبل موته ما يوجب‬ ‫‪12‬‬

‫البينونة ‪ .‬فإن ثبتت البينونة بأن طلّقها بائنا ‪ ،‬أو ثلثا ثمّ مات ‪ ،‬ل تغسّله لرتفاع ملك‬
‫البضع بالبانة ‪ .‬وأضاف الشّافعيّة أنّه إن طلّقها رجعيّا ‪ -‬ومات أحدهما في العدّة ‪ -‬لم يكن‬
‫للخر غسله عندهم لتحريم النّظر في الحياة ‪.‬‬
‫وكذا ل تغسّله عند جمهور الفقهاء إذا حدث ما يوجب البينونة بعد الموت ‪ ،‬كما لو ارتدّت‬
‫ن النّكاح كان قائما بعد الموت فارتفع بالرّدّة ‪ ،‬والمعتبر‬
‫بعده ثمّ أسلمت ‪ ،‬لزوال النّكاح ‪ ،‬ل ّ‬
‫بقاء الزّوجيّة حالة الغسل ل حالة الموت ‪ .‬ويرى زفر من الحنفيّة أنّ المعتبر بقاء الزّوجيّة‬
‫حالة الموت ‪ ،‬وعلى هذا فيجوز لها تغسيله عنده ‪ ،‬وإن حدث ما يوجب البينونة بعد موته ‪.‬‬
‫ن عائشة رضي ال تعالى عنها قالت ‪:‬‬
‫والصل في جواز تغسيل الزّوجة لزوجها ما روي أ ّ‬
‫« لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما غسّله إل نساؤه » ‪.‬‬
‫ج ‪ -‬تغسيل الزّوج لزوجته ‪:‬‬
‫‪ -‬ذهب الحنفيّة في الصحّ ‪ ،‬وهو رواية عن أحمد إلى أنّه ليس للزّوج غسلها ‪ ،‬وإليه‬ ‫‪13‬‬

‫ن الموت فرقة تبيح أختها وأربعا سواها ‪ ،‬فحرّمت الفرقة النّظر واللّمس‬
‫ذهب الثّوريّ ‪ ،‬ل ّ‬
‫كالطّلق ‪ .‬ويرى المالكيّة والشّافعيّة ‪ ،‬وهو المشهور عند الحنابلة أنّ للزّوج غسل امرأته ‪،‬‬
‫وهو قول علقمة وعبد الرّحمن وقتادة وحمّاد وإسحاق ‪ .‬لنّ عليّا رضي ال تعالى عنه غسّل‬
‫فاطمة رضي ال عنها واشتهر ذلك في الصّحابة فلم ينكروه ‪ ،‬فكان إجماعا ‪.‬‬
‫ولنّ « النّبيّ عليه الصلة والسلم قال لعائشة رضي ال تعالى عنها ‪ :‬ما ضرّك لو متّ‬
‫قبلي فقمت عليك ‪ ،‬فغسّلتك وكفّنتك ‪ ،‬وصلّيت عليك ‪ ،‬ودفنتك » إل أنّه يكره مع وجود من‬
‫يغسّلها ‪ ،‬لما فيه من الخلف والشّبهة ‪ .‬قال ابن قدامة ‪ :‬وقول الخرقيّ ‪ :‬وإن دعت‬
‫الضّرورة إلى أن يغسّل الرّجل زوجته فل بأس ‪ .‬يعني به أنّه يكره له غسلها مع وجود من‬
‫يغسّلها سواه ‪ ،‬لما فيه من الخلف والشّبهة ‪ .‬وأمّا المالكيّة والشّافعيّة فقد أطلقوا الجواز ‪.‬‬
‫ول يتأتّى ذلك عند الحنفيّة ‪ ،‬لنّه ليس للزّوج غسلها عندهم ‪.‬‬
‫د ‪ -‬تغسيل المسلم للكافر وعكسه ‪:‬‬
‫‪ -‬اتّفق الفقهاء على أنّه ل يجب على المسلم تغسيل الكافر ‪ ،‬لنّ الغسل وجب كرامة‬ ‫‪14‬‬

‫وتعظيما للميّت ‪ ،‬والكافر ليس من أهل الكرامة والتّعظيم ‪.‬‬


‫وذهب الحنفيّة ‪ ،‬وهو قول لحمد إلى جواز ذلك إذا كان الكافر الميّت ذا رحم محرم من‬
‫المسلم ‪ ،‬فيجوز عندهم تغسيله عند الحتياج ‪ ،‬بأن لم يكن هناك من يقوم به من أهل دينه‬
‫وملّته ‪ ،‬فإن كان ‪ ،‬خلّى المسلم بينه وبينهم ‪.‬‬
‫ي رضي ال عنه لمّا مات أبوه أبو طالب ‪ ،‬جاء إلى‬
‫والصل في ذلك ما روي « عن عل ّ‬
‫رسول اللّه صلى ال عليه وسلم فقال ‪ :‬يا رسول اللّه عمّك الضّالّ قد توفّي ‪ ،‬فقال ‪ :‬اذهب‬
‫واغسله وكفّنه وواره » ‪.‬‬
‫ومذهب الشّافعيّة جواز تغسيل المسلمين وغيرهم للكافرين ‪ ،‬وأقاربه الكفّار أحقّ به من‬
‫أقاربه المسلمين ‪.‬‬
‫وصرّح المالكيّة ‪ ،‬وهو المذهب عند الحنابلة بأنّ المسلم ل يغسّل الكافر مطلقا ‪ ،‬سواء أكان‬
‫قريبا منه أم لم يكن ‪.‬‬
‫وذهب المالكيّة والحنابلة إلى أنّه ليس للمسلم غسل زوجته الكافرة لنّ المسلم ل يغسّل‬
‫الكافر ول يتولّى دفنه ‪ ،‬ولنّه ل ميراث بينهما ول موالة ‪ ،‬وقد انقطعت الزّوجيّة بالموت ‪.‬‬
‫وكذلك ل تغسّله هي عند المالكيّة إل إذا كانت بحضرة المسلمين ‪ .‬وعند الحنابلة مطلقا ‪.‬‬
‫لنّ النّيّة واجبة في الغسل ‪ ،‬والكافر ليس من أهلها ‪.‬‬
‫وعرف من مذهب الشّافعيّة أنّ للزّوج غسل زوجته المسلمة وال ّذمّيّة ‪ ،‬ولها غسله ‪.‬‬
‫وأمّا عند الحنفيّة ‪ :‬فالمرأة ل تمنع من تغسيل زوجها بشرط بقاء الزّوجيّة ولو كتابيّة ‪.‬‬
‫وأمّا عكس ذلك فل يتأتّى عندهم في الصحّ ‪ ،‬وعند أحمد في رواية ‪ ،‬لنّه ليس للزّوج‬
‫)‪.‬‬ ‫‪13‬‬ ‫غسلها مطلقا كما سبق ( ف‬
‫تغسيل الكافر للمسلم ‪:‬‬
‫‪ -‬ذهب الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة في المخرج ‪ -‬مقابل الصّحيح المنصوص ‪-‬‬ ‫‪15‬‬

‫والحنابلة إلى أنّه ل يصحّ تغسيل الكافر للمسلم ‪ ،‬لنّ التّغسيل عبادة ‪ ،‬والكافر ليس من‬
‫أهلها ‪ ،‬فل يصحّ تغسيله للمسلم كالمجنون ‪ .‬وأيضا فإنّ النّيّة واجبة في الغسل والكافر ليس‬
‫من أهلها ‪ .‬وفي الصّحيح المنصوص عند الشّافعيّة أنّ الكافر لو غسّل مسلما فإنّه يكفي ‪.‬‬
‫هـ – تغسيل الرّجال والنّساء للطفال الصّغار وعكسه ‪:‬‬
‫‪ - 1 -‬تغسيل الرّجال والنّساء للطفال الصّغار ‪:‬‬
‫ن المرأة تغسّل الصّبيّ‬
‫‪ -‬قال ابن المنذر ‪ :‬أجمع كلّ من نحفظ عنه من أهل العلم على أ ّ‬ ‫‪16‬‬

‫الصّغير ‪ .‬وقيّده الحنفيّة والشّافعيّة بالّذي ل يشتهى ‪ ،‬والمالكيّة بثماني سنين فما دونها ‪،‬‬
‫والحنابلة بما دون سبع سنين ‪.‬‬
‫ثمّ اختلفوا في تحديد السّنّ على أقوال كثيرة فصّلها الفقهاء في ( كتاب الجنائز ) ‪.‬‬
‫أمّا تغسيل الرّجال للصّغيرة فذهب الحنفيّة والشّافعيّة إلى أنّه ل بأس للرّجل أن يغسّل الصّبيّة‬
‫ي وأبو‬
‫الّتي ل تشتهى إذا ماتت ‪ ،‬لنّ حكم العورة غير ثابت في حقّها ‪ ،‬وإليه ذهب الثّور ّ‬
‫الخطّاب ‪.‬‬
‫ويرى جمهور المالكيّة أنّه يجوز غسل صبيّة رضيعة وما قاربها كزيادة شهر على مدّة‬
‫الرّضاع ‪ ،‬ل بنت ثلث سنين ‪ .‬ويرى ابن القاسم منهم أنّه ل يغسّل الرّجل الصّبيّة وإن‬
‫صغرت جدّا ‪ .‬وقال عيسى ‪ :‬إذا صغرت جدّا فل بأس ‪.‬‬
‫وصرّح أحمد أنّ الرّجل ل يغسّل الصّبيّة إل ابنته الصّغيرة ‪ ،‬فإنّه يروى عن ابن قلبة أنّه‬
‫غسّل بنتا له صغيرة ‪ ،‬وهو قول الحسن أيضا ‪ .‬قال ابن قدامة ‪ :‬الصّحيح ما عليه السّلف‬
‫من أنّ الرّجل ل يغسّل الجارية ‪ ،‬والتّفرقة بين عورة الغلم والجارية ‪ ،‬لنّ عورة الجارية‬
‫ن العادة معاناة المرأة للغلم الصّغير ‪ ،‬ومباشرة عورته في حال تربيته ‪ ،‬ولم‬
‫أفحش ‪ ،‬ول ّ‬
‫تجر العادة بمباشرة الرّجل عورة الجارية في الحياة ‪ ،‬فكذلك حال الموت ‪.‬‬
‫تغسيل الصّبيّ للميّت ‪:‬‬
‫ي إذا كان عاقل أن يغسّل الميّت ‪ ،‬لنّه تصحّ‬
‫‪ -‬صرّح الحنفيّة والحنابلة بأنّه يجوز للصّب ّ‬ ‫‪17‬‬

‫طهارته فصحّ أن يطهّر غيره ‪ ،‬وهو المتبادر من أقوال المالكيّة والشّافعيّة ‪.‬‬
‫و ‪ -‬تغسيل المحرم الحلل وعكسه ‪ ،‬وكيفيّة تغسيل المحرم ‪:‬‬
‫‪ -‬ل خلف بين الفقهاء في جواز تغسيل المحرم الحلل وعكسه ‪ ،‬لنّ كلّ واحد منهما‬ ‫‪18‬‬

‫تصحّ طهارته وغسله ‪ ،‬فكان له أن يغسّل غيره ‪.‬‬


‫وأمّا كيفيّة تغسيل المحرم فاختلف الفقهاء فيها ‪:‬‬
‫ذهب الحنفيّة والمالكيّة إلى أنّ إحرامه يبطل بالموت فيصنع به كما يصنع بالحلل ‪.‬‬
‫ويرى الشّافعيّة والحنابلة ‪ :‬أنّ حكم إحرامه ل يبطل بموته ‪ ،‬فيصنع في تغسيله ما يصنع‬
‫بالمحرم ‪ .‬وفي الموضوع تفصيل يرجع فيه إلى مصطلح ( إحرام ) ‪.‬‬
‫ز ‪ -‬تغسيل الخنثى المشكل ‪:‬‬
‫‪ -‬إذا كان الخنثى المشكل صغيرا لم يبلغ ‪ ،‬يجوز للرّجال والنّساء تغسيله ‪ ،‬كما يجوز‬ ‫‪19‬‬

‫مسّه والنّظر إليه ‪ .‬وأمّا إذا كان كبيرا أو مراهقا فذهب الحنفيّة ‪ ،‬وهو وجه عند الشّافعيّة‬
‫إلى أنّه ل يغسّل رجل ول امرأة ‪ ،‬ول يغسّله رجل ول امرأة ‪ ،‬بل ييمّم ‪.‬‬
‫والصل عند الشّافعيّة أنّ الخنثى المشكل ‪ -‬إن كان له محرم من الرّجال أو النّساء ‪ -‬غسّله‬
‫بالتّفاق ‪ ،‬وإن لم يكن له محرم جاز للرّجال والنّساء غسله صغيرا ‪ .‬فإن كان كبيرا ففيه‬
‫وجهان ‪ :‬أحدهما ‪ :‬هذا ‪ ،‬والخر ‪ :‬أنّه يغسّل ‪ .‬قال أحمد ‪ :‬إذا لم تكن له أمة ‪ ،‬ييمّم ‪ ،‬وزاد‬
‫ن التّمييز ‪ ،‬وحرم بدون حائل على غير محرم ‪.‬‬
‫‪ :‬أنّ الرّجل أولى بتيميم خنثى في س ّ‬
‫ويرى المالكيّة ‪ :‬أنّه إن أمكن وجود أمة له ‪ -‬سواء أكانت من ماله أم من بيت المال ‪ ،‬أم‬
‫من مال المسلمين ‪ -‬فإنّها تغسّله ‪ ،‬وإلّا ييمّم ‪ ،‬ول يغسّله أحد سواها ‪.‬‬
‫وذهب الشّافعيّة في وجه آخر إلى أنّه يغسّل إذا لم يكن له محارم ‪.‬‬
‫وفيمن يغسّل أوجه ‪ :‬أصحّها ‪ :‬أنّه يجوز للرّجال والنّساء جميعا للضّرورة ‪ ،‬واستصحابا‬
‫لحكم الصّغر ‪ ،‬وبه قال أبو زيد ‪.‬‬
‫والوجه الثّاني ‪ :‬أنّه في حقّ الرّجال كالمرأة ‪ ،‬وفي حقّ النّساء كالرّجل ‪ ،‬أخذا بالحوط ‪.‬‬
‫والوجه الثّالث ‪ :‬وهو وجه ضعيف عندهم ‪ ،‬أنّه يشترى من تركته جارية لتغسّله ‪ ،‬فإن لم‬
‫تكن له تركة فمن بيت المال ‪.‬‬
‫من يغسّل من الموتى ومن ل يغسّل ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬تغسيل الشّهيد ‪:‬‬
‫ي صلى ال عليه وسلم‬
‫ن الشّهيد ل يغسّل ‪ ،‬لما روي « عن النّب ّ‬
‫‪ -‬اتّفق الفقهاء على أ ّ‬ ‫‪20‬‬

‫أنّه قال في شهداء أحد ‪ :‬ادفنوهم بدمائهم » ‪.‬‬


‫ويرى الحسن البصريّ وسعيد بن المسيّب تغسيل الشّهيد ‪.‬‬
‫وإن كان الشّهيد جنبا فذهب أبو حنيفة والحنابلة ‪ ،‬وهو رواية عن الشّافعيّة ‪ ،‬وقول سحنون‬
‫من المالكيّة إلى أنّه يغسّل ‪ .‬ويرى جمهور المالكيّة وأبو يوسف ومحمّد من الحنفيّة ‪،‬‬
‫والشّافعيّة في الصحّ أنّه ل يغسّل لعموم الخبر ‪.‬‬
‫وكذلك الحكم فيمن وجب عليه الغسل بسبب سابق على الموت ‪ ،‬كالمرأة الّتي تطهر من‬
‫حيض أو نفاس ثمّ تستشهد فهي كالجنب ‪.‬‬
‫وأمّا قبل الطّهارة من الحيض أو النّفاس فل يجب الغسل ‪.‬‬
‫وعن أبي حنيفة في هذه الحالة روايتان ‪ :‬إحداهما ‪ :‬يجب الغسل كالجنب والخرى ل يجب ‪.‬‬
‫ن الشّهيد البالغ وغيره سواء ‪ ،‬وإليه‬
‫وذهب جمهور الفقهاء ‪ -‬ما عدا أبا حنيفة ‪ -‬إلى أ ّ‬
‫ذهب أبو ثور وابن المنذر ‪ .‬والخلف في هذه المسألة وكذلك في تغسيل من كان به رمق ‪،‬‬
‫والمرتثّ ( وهو من حمل من المعركة جريحا وبه رمق ) ‪ ،‬ومن عاد عليه سلحه فقتله ‪،‬‬
‫ومن يقتل من أهل العدل في المعركة ‪ ،‬ومن قتل ظلما ‪ ،‬أو دون ماله أو دون نفسه وأهله‬
‫مبنيّ على خلف آخر ‪ ،‬وهو أنّ هؤلء وأمثالهم هل يعتبرون من الشّهداء أم ل ؟ ‪.‬‬
‫فيرجع للتّفصيل إلى مصطلح ( شهيد ) ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬تغسيل المبطون والمطعون وصاحب الهدم وأمثالهم ‪:‬‬
‫ن الشّهيد بغير قتل كالمبطون ‪ ،‬والمطعون ‪ ،‬ومنه‬
‫‪ -‬ل خلف عند جمهور الفقهاء في أ ّ‬ ‫‪21‬‬

‫الغريق ‪ ،‬وصاحب الهدم ‪ ،‬والنّفساء ‪ ،‬ونحوهم يغسّلون ‪ ،‬وإن ورد فيهم لفظ الشّهادة ‪.‬‬
‫ج ‪ -‬تغسيل من ل يدرى حاله ‪:‬‬
‫‪ -‬لو وجد ميّت أو قتيل في دار السلم ‪ .‬وكان عليه سيما المسلمين من الختان والثّياب‬ ‫‪22‬‬

‫والخضاب وحلق العانة ‪ ،‬فإنّه يجب غسله عند جمهور الفقهاء ‪ ،‬سواء أوجد في دار السلم‬
‫أم دار الحرب ‪ .‬وأمّا إذا لم يكن عليه ذلك فالصّحيح عندهم ‪ :‬أنّه إن وجد في دار السلم‬
‫ن الصل أنّ من كان في دار فهو من‬
‫يغسّل ‪ ،‬وإن وجد في دار الحرب ل يغسّل ‪ ،‬ول ّ‬
‫أهلها ‪ ،‬يثبت له حكمهم ‪ ،‬ما لم يقم على خلفه دليل ‪.‬‬
‫ن الميّت إن وجد بفلة ‪ ،‬ل يدرى أمسلم هو أم كافر ؟ فل‬
‫وصرّح ابن القاسم من المالكيّة بأ ّ‬
‫يغسّل ‪ .‬وكذلك لو وجد في مدينة من المدائن في زقاق ‪ ،‬ول يدرى حاله أمسلم أم كافر ؟‬
‫ن اليهود يختتنون ‪ ،‬وقال ابن حبيب ‪ :‬ومن‬
‫قال ابن رشد ‪ :‬وإن كان مختونا فكذلك ‪ ،‬ل ّ‬
‫النّصارى أيضا من يختتن ‪.‬‬
‫د ‪ -‬تغسيل موتى المسلمين عند اختلطهم بالكفّار ‪:‬‬
‫‪ -‬لو اختلط موتى المسلمين بموتى المشركين ولم يميّزوا ‪ ،‬فل خلف بين جمهور‬ ‫‪23‬‬

‫الفقهاء في أنّهم يغسّلون جميعا ‪ ،‬سواء أكان المسلمون أكثر أم أق ّل ‪ .‬أو كانوا على‬
‫ن غسل المسلم واجب ‪ ،‬وغسل الكافر جائز في الجملة ‪ ،‬فيؤتى بالجائز في‬
‫السّواء ‪ ،‬وهذا ل ّ‬
‫الجملة لتحصيل الواجب ‪.‬‬
‫هـ ‪ -‬تغسيل البغاة وقطّاع الطّريق ‪:‬‬
‫‪ -‬ذهب الحنفيّة إلى أنّه ل يغسّل البغاة إذا قتلوا في الحرب ‪ ،‬إهانة لهم وزجرا لغيرهم‬ ‫‪24‬‬

‫عن فعلهم ‪ .‬وأمّا إذا قتلوا بعد ثبوت يد المام عليهم فإنّهم يغسّلون ‪ .‬وفي رواية عن‬
‫الحنفيّة ‪ ،‬وهو ما ذهب إليه المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة أنّهم يغسّلون ‪ .‬ولتفصيل ذلك يرجع‬
‫إلى مصطلح ‪ ( :‬بغاة ) ‪ .‬ولم يفرّق الحنفيّة بين البغاة وقطّاع الطّريق في عدم التّغسيل ‪.‬‬
‫و ‪ -‬تغسيل الجنين إذا استهلّ ‪:‬‬
‫‪ -‬إذا خرج المولود حيّا ‪ ،‬أو حصل منه ما يدلّ على حياته من بكاء أو تحريك عضو أو‬ ‫‪25‬‬

‫ن الطّفل‬
‫طرف أو غير ذلك ‪ ،‬فإنّه يغسّل بالجماع ‪ ،‬قال ابن المنذر ‪ :‬أجمع أهل العلم على أ ّ‬
‫إذا عرفت حياته واستهلّ ‪ ،‬يغسّل ويصلّى عليه ‪.‬‬
‫كما أنّه يرى جمهور الفقهاء عدم تغسيل من لم يأت له أربعة أشهر ولم يتبيّن خلقه ‪ ،‬إل ما‬
‫روي عن ابن سيرين ‪ .‬وما ورد من الغسل في بعض كتب الحنفيّة ‪ ،‬فالمراد هو الغسل في‬
‫الجملة كصبّ الماء عليه ‪ ،‬من غير وضوء ول ترتيب ‪.‬‬
‫واختلفوا في الطّفل الّذي ولد لربعة أشهر أو أكثر ‪ ،‬فالصحّ عند الحنفيّة ‪ ،‬وهو المذهب‬
‫للشّافعيّة والحنابلة أنّه يغسّل ‪ .‬وذهب الحنفيّة في رواية ‪ ،‬والمالكيّة ‪ ،‬وهو قول للشّافعيّة‬
‫إلى أنّه ل يغسّل ‪ ،‬بل يغسل دمه ‪ ،‬ويلفّ في خرقة ويدفن ‪.‬‬
‫ز ‪ -‬تغسيل جزء من بدن الميّت ‪:‬‬
‫‪ -‬إذا بان من الميّت شيء غسّل وحمل معه في أكفانه بل خلف ‪.‬‬ ‫‪26‬‬

‫وأمّا تغسيل بعض الميّت ‪ ،‬فذهب الحنفيّة والمالكيّة إلى أنّه إن وجد الكثر غسّل ‪ ،‬وإل فل ‪.‬‬
‫وذهب الشّافعيّة ‪ ،‬وهو المذهب عند الحنابلة إلى أنّه يغسّل سواء في ذلك أكثر البدن وأقلّه‬
‫ن طائرا ألقى يدا بمكّة زمن وقعة الجمل ‪ ،‬وكانت يد عبد الرّحمن بن عتّاب بن‬
‫لما روي أ ّ‬
‫أسيد ‪ ،‬فغسّلها أهل مكّة ‪ ،‬وصلّوا عليها ‪.‬‬
‫أخذ الجرة على تغسيل الميّت ‪:‬‬
‫‪ -‬ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ أخذ الجرة على تغسيل الميّت جائز ‪ ،‬وأنّه يؤخذ من‬ ‫‪27‬‬

‫ن الفضل أن يغسّل الميّت مجّانا ‪ ،‬فإن‬


‫تركة الميّت ‪ ،‬كالتّجهيز والتّلقين ‪ .‬وصرّح الحنفيّة بأ ّ‬
‫ابتغى الغاسل الجر جاز إن كان ثمّة غيره ‪ ،‬وإل فل ‪ ،‬لتعيّنه عليه ‪ ،‬لنّه صار واجبا عليه‬
‫عينا ‪ ،‬ول يجوز أخذ الجرة على الطّاعة ‪ .‬وذهب البعض إلى الجواز ‪.‬‬
‫دفن الميّت من غير غسل ‪:‬‬
‫‪ -‬لو دفن الميّت بغير غسل ‪ ،‬ولم يهل عليه التّراب ‪ ،‬فل خلف أنّه يخرج ويغسّل ‪ .‬وأمّا‬ ‫‪28‬‬

‫بعده ‪ ،‬فذهب الحنفيّة ‪ ،‬وهو قول للشّافعيّة إلى أنّه ل ينبش لجل تغسيله لنّ النّبش مثلة ‪،‬‬
‫وقد نهي عنها ‪ ،‬ولما فيه من الهتك ‪.‬‬
‫ويرى المالكيّة ‪ ،‬وهو الصّحيح لدى الشّافعيّة والحنابلة أنّه ينبش ويغسّل ما لم يتغيّر ‪،‬‬
‫ويخاف عليه أن يتفسّخ ‪ ،‬وإليه ذهب أبو ثور ‪.‬‬
‫وفي الموضوع تفصيل يرجع إليه إلى مصطلح ( نبش ) ‪.‬‬
‫ما يترتّب على تغسيل الميّت ‪:‬‬
‫‪ -‬ذهب الحنفيّة ‪ ،‬وهو قول لمالك ‪ ،‬والشّافعيّة في الصّحيح عندهم ‪ ،‬والحنابلة إلى أنّه‬ ‫‪29‬‬

‫يستحبّ لغاسل الميّت أن يغتسل ‪ .‬لحديث رواه التّرمذيّ وذكر أيضا في الموطّأ وهو « من‬
‫غسّل ميّتا فليغتسل » ‪ .‬وفي قول لمالك ‪ ،‬وهو قول جمهور فقهاء المالكيّة ‪ -‬ما عدا ابن‬
‫ن تغسيل الميّت ليس بحدث ‪.‬‬
‫القاسم ‪ -‬أنّه ل غسل على غاسل الميّت ‪ ،‬ل ّ‬
‫ن « النّبيّ صلى ال عليه‬
‫وروي عن أحمد وجوب الغسل على من غسّل الكافر خاصّة ‪ ،‬ل ّ‬
‫وسلم أمر عليّا رضي ال عنه أن يغتسل ‪ ،‬لمّا غسّل أباه » ‪.‬‬
‫وللتّفصيل يرجع إلى مصطلح ( غسل ) ‪.‬‬

‫تغليظ *‬
‫التّعريف ‪:‬‬
‫ق ‪ .‬وكذا استغلظ ‪ ،‬والتّغليظ التّوكيد والتّشديد وهو‬
‫‪ -‬التّغليظ من غلظ غلظا خلف د ّ‬ ‫‪1‬‬

‫مصدر غلّظ ‪ :‬أي أكّد الشّيء وقوّاه ‪ .‬وهو ضدّ التّخفيف ‪ .‬ومنه غلّظت عليه في اليمين‬
‫تغليظا أي شدّدت عليه وأكّدت ‪ .‬وغلّظت اليمين تغليظا أيضا قوّيتها وأكّدتها ‪.‬‬
‫المغلّظ من النّجاسات ‪:‬‬
‫‪ -‬يقسّم الفقهاء النّجاسات إلى مغلّظة ومخفّفة ‪ .‬ث ّم اختلفوا في تحديد المغلّظ من النّجاسات‬ ‫‪2‬‬

‫‪ ،‬فعند الشّافعيّة والحنابلة هي نجاسة الكلب والخنزير وما تولّد من كلّ منهما ‪ .‬وعند أبي‬
‫ص فمخفّفة ‪.‬‬
‫حنيفة هي ما ورد في نجاستها نصّ لم يعارض بنصّ آخر ‪ ،‬فإن عارضه ن ّ‬
‫وعند أبي يوسف ومحمّد ما اتّفق العلماء على أنّه نجس ‪ ،‬فالرواث كلّها نجسة نجاسة‬
‫ص يدلّ على نجاستها ‪ ،‬وهو ما رواه ابن مسعود‬
‫غليظة عند أبي حنيفة ‪ ،‬لنّه ورد فيها ن ّ‬
‫ن أحجارا للستنجاء ‪،‬‬
‫ن النّبيّ صلى ال عليه وسلم طلب منه ليلة الج ّ‬
‫رضي ال عنه ‪ « ،‬أ ّ‬
‫فأتى بحجرين وروثة ‪ ،‬فأخذ الحجرين ‪ ،‬ورمى الرّوثة ‪ ،‬وقال ‪ :‬إنّها ركس » ولم يرد نصّ‬
‫يعارضه ‪ ،‬فكانت نجاستها مغلّظة ‪.‬‬
‫أمّا عند الصّاحبين فمخفّفة لختلف العلماء في نجاستها ‪.‬‬
‫وبول ما ل يؤكل لحمه نجس نجاسة مغلّظة بالتّفاق بين المام والصّاحبين ‪ ،‬لنعدام النّصّ‬
‫المعارض عند المام واتّفاق الفقهاء على نجاسته عندهما ‪.‬‬
‫والنّجاسة المغلّظة عند المالكيّة هي ما عدا فضلت ما يؤكل لحمه من النّجاسات ‪.‬‬
‫ويفرّق الحنابلة في النّجاسات بين كلّ من الخنزير والكلب وبين سائر النّجاسات ‪ ،‬فنجاسة‬
‫الخنزير والكلب أشدّ ‪ ،‬ويليها بول الدميّ وعذرته ‪ ،‬ثمّ سائر النّجاسات ‪ ،‬ثمّ بول الرّضيع ‪.‬‬
‫واختلف الفقهاء في أحكام النّجاسة المغلّظة ‪ ،‬فذهب الحنفيّة إلى أنّه يعفى عن النّجاسة‬
‫المغلّظة قدر درهم إذا أصابت الثّوب أو البدن في الصّلة ‪ ،‬أمّا المخفّفة فيعفى ما ليس‬
‫بفاحش ‪.‬‬
‫وقال المالكيّة ‪ :‬تطهر النّجاسة المخفّفة بالدّلك ‪ .‬أمّا المغلّظة فل تطهر إلّا بالغسل ‪.‬‬
‫والتّفصيل في باب النّجاسة ‪.‬‬
‫وقال الشّافعيّة والحنابلة ‪ :‬إنّ النّجاسة المغلّظة ل تطهر إل بسبع غسلت إحداهنّ بالتّراب ‪،‬‬
‫وما عداها فتطهر بغسلة واحدة ‪.‬‬
‫وأنّه ل يعفى عن قليل النّجاسة المغلّظة وإن قلّت ‪ ،‬أو أصابت البدن ‪ ،‬أو الثّوب ‪.‬‬
‫أمّا غير المغلّظة فيعفى عن قليلها على تفصيل ينظر في باب ( النّجاسة ) ‪.‬‬
‫العورة المغلّظة ‪:‬‬
‫‪ -‬ل خلف بين الفقهاء في حرمة النّظر إلى العورة ‪ ،‬ووجوب سترها في الصّلة‬ ‫‪3‬‬

‫ن الحنفيّة والمالكيّة قسّموها في الصّلة ‪،‬والنّظر إليها إلى ‪ :‬مغلّظة‬


‫وخارجها ‪ .‬ولك ّ‬
‫ومخفّفة‪ .‬فالمغلّظة عند الحنفيّة هي السّوأتان ‪ ،‬وهما القبل ‪ ،‬والدّبر ‪ ،‬بالنّسبة للرّجل‬
‫والمرأة على السّواء ‪ .‬وقال المالكيّة ‪ :‬إنّ العورة المغلّظة تختلف باختلف النّوع ‪ ،‬فعورة‬
‫الرّجل المغلّظة هي السّوأتان في الصّلة ‪ ،‬أمّا المرأة فهي ما عدا صدرها وأطرافها ‪ ،‬وهي‬
‫الذّراعان والرّجلن والعنق ‪.‬‬
‫وعند المالكيّة إذا صلّى مكشوف العورة المغلّظة فإنّه يعيد الصّلة في الوقت وبعد الوقت ‪.‬‬
‫ولم يرد في كتب الشّافعيّة والحنابلة هذا التّقسيم للعورة ‪ ،‬وكلّ ما جاء فيها أنّه إذا لم يجد ما‬
‫يستر به العورة كلّها يقدّم السّوأتين ‪ .‬والتّفصيل في باب شروط الصّلة ‪.‬‬
‫تغليظ الدّية ‪:‬‬
‫‪ -‬اتّفق الئمّة الشّافعيّ ومالك وأحمد ‪ -‬على أصل تغليظ الدّية ‪.‬‬ ‫‪4‬‬

‫ن أسباب التّغليظ هي ما يأتي‪:‬‬


‫ثمّ اختلفوا في أسباب التّغليظ ‪ ،‬فذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أ ّ‬
‫أ ‪ -‬أن يقع القتل في حرم مكّة ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬أن يقتل في الشهر الحرم وهي ذو القعدة ‪ ،‬وذو الحجّة ‪ ،‬والمحرّم ‪ ،‬ورجب ‪.‬‬
‫ج ‪ -‬أن يقتل قريبا له محرما ‪ .‬وهذا عند الشّافعيّة ‪ ،‬وفي قول عند الحنابلة ‪.‬‬
‫د ‪ -‬أن يكون القتل عمدا أو شبه عمد ‪.‬‬
‫هـ – أن يقتل في الحرام ‪ ،‬أي أن يكون المقتول محرما وهذا عند الحنابلة ‪ .‬وعند المالكيّة‬
‫والحنابلة يغلّظ في قتل لم يجب فيه قصاص ‪ ،‬كقتل الوالد ولده ‪ ،‬والمراد الب وإن عل ‪،‬‬
‫والمّ كذلك ‪ .‬وعند الحنفيّة ل تغليظ إل في شبه العمد إن قضى الدّية من البل ‪ ،‬وإن قضى‬
‫من غير البل فل تغلّظ ‪ .‬أمّا صفة التّغليظ وباقي التّفاصيل فيرجع فيها إلى مصطلح ( دية )‪.‬‬
‫ما يجري التّغليظ فيه من الدّعاوى ‪:‬‬
‫‪ -‬ذهب الشّافعيّة إلى أنّ التّغليظ يجري في دعوى الدّم ‪ ،‬والنّكاح ‪ ،‬والطّلق ‪ ،‬والرّجعة ‪،‬‬ ‫‪5‬‬

‫واليلء ‪ ،‬واللّعان ‪ ،‬والعدّة ‪ ،‬والحداد ‪ ،‬والولء ‪ ،‬والوكالة ‪ ،‬والوصاية ‪ ،‬وكلّ ما ليس‬


‫بمال ‪ ،‬ول يقصد منه المال ‪.‬‬
‫أمّا الموال فيجري التّغليظ في كثيرها ‪ ،‬وهو نصاب الزّكاة عشرون دينارا أو مائتا درهم ‪.‬‬
‫أمّا قليلها ‪ -‬وهو ما دون ذلك ‪ -‬فل تغليظ فيه ‪ ،‬إل أن يرى القاضي التّغليظ لجرأة الحالف ‪.‬‬
‫أمّا اليمين الّتي تغلّظ فيستوي فيه يمين المدّعى عليه ‪ ،‬واليمين المردودة ‪ ،‬واليمين مع‬
‫الشّاهد ‪ .‬وكذلك قال الحنابلة ‪ :‬ل تغلّظ اليمين إل فيما له خطر ‪ ،‬كالجنايات ‪ ،‬والطّلق ‪،‬‬
‫والعتاق ‪ ،‬وما تجب فيه الزّكاة من المال ‪.‬‬
‫وعند المالكيّة ‪ :‬يغلّظ اليمين في ربع دينار فأكثر ‪.‬‬
‫صفة تغليظ اليمان ‪:‬‬
‫‪ -‬أجمع الفقهاء على مشروعيّة تغليظ اليمان في الخصومات بزيادة السماء والصّفات ‪،‬‬ ‫‪6‬‬

‫على اختلف بينهم في الوجوب والستحباب والجواز ‪ .‬كأن يقول الحالف مثل ‪ :‬باللّه الّذي‬
‫ل إله إل هو عالم الغيب والشّهادة الرّحمن الرّحيم الّذي يعلم من السّ ّر ما يعلم من العلنية ‪.‬‬
‫والصل في ذلك ‪ :‬حديث أبي هريرة رضي ال عنه ‪ « ،‬أنّ رجل حلف بين يدي الرّسول‬
‫صلى ال عليه وسلم بذلك » ‪ ،‬ولنّ في النّاس من يمتنع من اليمين إذا غلّظ عليه ‪،‬‬
‫ويتجاسر بدونها ‪ .‬واختلفوا في تغليظها بالزّمان والمكان ‪.‬‬
‫فذهب المالكيّة إلى ‪ :‬أنّها تغلّظ بالمكان كالجامع ‪ ،‬وأداء القسم بالقيام ‪ ،‬وعند منبره صلى‬
‫ال عليه وسلم إن وقع اليمين في المدينة ‪ ،‬ول يغلّظ بالزّمان عندهم ‪.‬‬
‫وعند الشّافعيّة ‪ :‬يغلّظ بالمكان والزّمان ‪ ،‬فيجري بعد صلة عصر يوم الجمعة مثل في‬
‫ي صلى ال عليه وسلم وعند الرّكن‬
‫الجامع في غير مكّة والمدينة ‪ ،‬وفيهما عند منبر النّب ّ‬
‫السود ‪ .‬وهل التّغليظ بالمكان مستحبّ أم واجب ل يعتدّ بالقسم إل به ؟ فيه قولن‬
‫للشّافعيّة ‪ ،‬أظهرهما ‪ :‬الوّل ‪ ،‬وعند المالكيّة ‪ :‬واجب ‪.‬‬
‫ق المسلمين ‪ ،‬ل بالزّمان ول بالمكان‬
‫وذهب الحنفيّة والحنابلة إلى ‪ :‬أنّه ل تغلّظ اليمين في ح ّ‬
‫‪ ،‬لنّ المقصود هو تعظيم المقسم به ‪ ،‬وهو حاصل في غير المسجد كما يحصل في‬
‫ق المسلم إن رأى الحاكم في ذلك مصلحة ‪،‬‬
‫المسجد ‪ ،‬ولكنّ الحنابلة جوّزوا التّغليظ في ح ّ‬
‫وتغلّظ اليمين عند المذهبين في حقّ أهل ال ّذمّة ‪.‬‬
‫‪ -‬وهل يتوقّف تغليظ اليمين على طلب الخصم ‪ ،‬أم يغلّظ القاضي وإن لم يطلب الخصم ؟‬ ‫‪7‬‬

‫ذهب الحنفيّة والحنابلة إلى أنّ التّغليظ إلى رأي القاضي ‪ ،‬ول دخل للخصم في التّغليظ ‪.‬‬
‫ق للخصم ‪ ،‬فإن طلب الخصم غلّظت‬
‫وقال المالكيّة والشّافعيّة ‪ :‬إنّ التّغليظ في اليمين هو ح ّ‬
‫ل‪.‬‬
‫وجوبا ‪ ،‬فإن أبى من توجّهت عليه اليمين ممّا طلبه المحلّف من التّغليظ عدّ ناك ً‬
‫وانظر لمزيد من التّفصيل مصطلح ( أيمان ) ‪.‬‬
‫التّغليظ في اللّعان ‪:‬‬
‫‪ -‬اختلف الفقهاء في تغليظ اللّعان بالزّمان والمكان فذهب الشّافعيّة والمالكيّة إلى‬ ‫‪8‬‬

‫مشروعيّة تغليظه بالزّمان والمكان ‪ ،‬فيجري اللّعان عندهم في أشرف مواضع البلد ‪ ،‬فإن‬
‫كان في مكّة فبين الرّكن السود والمقام ‪ ،‬وفي المدينة عند منبر رسول اللّه صلى ال عليه‬
‫وسلم وفي بيت المقدس عند الصّخرة ‪ ،‬وفي سائر البلدان في الجامع عند المنبر ‪.‬‬
‫ويلعن غير المسلمين في الموضع الّذي يعظّمونه كالكنائس عند النّصارى ‪ ،‬وبيت النّار‬
‫للمجوس ‪ .‬وقال القفّال من الشّافعيّة ‪ :‬ل بل يلعن بينهما في المسجد أو مجلس الحكم ‪.‬‬
‫قال النّوويّ ‪ :‬ول يؤتى بيت الصنام في لعان الوثنيّين ‪ ،‬لنّه ل أصل له في الحرمة ‪،‬‬
‫واعتقادهم غير معتبر ‪ .‬ويغلّظ بالزّمان بعد صلة العصر ‪.‬‬
‫ويغلّظ بحضور جماعة من أعيان البلد وصلحائه ‪.‬‬
‫ثمّ التّغليظ بهذه المور واجب عند المالكيّة ‪ ،‬إل وقوعه بعد صلة ‪ ،‬فهو مندوب عندهم ‪،‬‬
‫وعند الشّافعيّة فيه أقوال ‪ ،‬والمذهب عندهم الستحباب في الجميع ‪ .‬ول يغلّظ اللّعان بالزّمان‬
‫ن اللّه أطلق المر بذلك ‪ ،‬ولم‬
‫ول بالمكان عند الحنفيّة والقاضي أبي يعلى من الحنابلة ‪ ،‬ل ّ‬
‫ي صلى ال عليه وسلم أمر‬
‫يقيّده بزمن ول مكان فل يجوز تقييده إلّا بدليل ‪ ،‬ولنّ « النّب ّ‬
‫هللً بإحضار امرأته ‪ ،‬ولم يخصّه بزمن ول مكان » ‪ ،‬ولو خصّه بذلك لنقل ولم يهمل ‪.‬‬
‫وقال أبو الخطّاب من الحنابلة ‪ :‬يستحبّ أن يتلعنا في الزمان والماكن الّتي تعظّم ‪.‬‬
‫تغليظ عقوبة التّعزير ‪:‬‬
‫ن تغليظ عقوبة التّعزير ‪ -‬وهي كلّ عقوبة شرعت في‬
‫‪ -‬ل خلف بين الفقهاء في أ ّ‬ ‫‪9‬‬

‫معصية ل حدّ فيها ول كفّارة ‪ -‬يكون باجتهاد الحاكم لنّ المقصود منها الزّجر وأحوال‬
‫النّاس تختلف في ذلك ‪.‬‬
‫تغيّر *‬
‫انظر ‪ :‬تغيير ‪.‬‬

‫تغيير *‬
‫التّعريف ‪:‬‬
‫‪ -‬من معاني التّغيير في اللّغة ‪ :‬التّحويل ‪ .‬يقال ‪ :‬غيّرت الشّيء عن حاله أي حوّلته‬ ‫‪1‬‬

‫وأزلته عمّا كان عليه ‪ .‬ويقال ‪ :‬غيّرت الشّيء فتغيّر ‪ ،‬وغيّره إذا بدّله ‪ ،‬كأنّه جعله غير ما‬
‫ك ُمغَيّرَا ِن ْع َمةً أَ ْن َع َمهَا على قَومٍ حتّى‬
‫كان عليه ‪ .‬وفي التّنزيل العزيز ‪ { :‬ذَلكَ بَِأنّ الّل َه لمْ يَ ُ‬
‫ُيغَيّرُوا مَا ِبأَ ْن ُفسِهمْ } ‪ .‬قال ثعلب ‪ :‬معناه حتّى يبدّلوا ما أمرهم اللّه ‪ .‬وغيّر عليه المر حوّله‬
‫ي عند الفقهاء ل يخرج عن معناه اللّغويّ ‪.‬‬
‫‪ ،‬وتغايرت الشياء اختلفت ‪ .‬ومعناه الصطلح ّ‬
‫اللفاظ ذات الصّلة ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬التّبديل ‪:‬‬
‫‪ -‬التّبديل من بدّلت الشّيء تبديل بمعنى غيّرت صورته تغييرا ‪ ،‬وأبدلته بكذا إبدالً نحّيت‬ ‫‪2‬‬

‫الوّل ‪ ،‬وجعلت الثّاني مكانه ‪ .‬وفرّق الصوليّون من الحنفيّة بين بيان التّغيير وبيان التّبديل‪.‬‬
‫فقالوا ‪ :‬بيان التّغيير هو البيان الّذي فيه تغيير لموجب اللّفظ من المعنى الظّاهر إلى غيره‪.‬‬
‫وذلك كالتّعليق بالشّرط المؤخّر في الذّكر ‪ ،‬كما في قول الرّجل لمرأته ‪ :‬أنت طالق إن دخلت‬
‫ي بدليل شرعيّ متراخ ‪ ،‬وهو النّسخ‬
‫الدّار ‪ .‬وبيان التّبديل بيان انتهاء حكم شرع ّ‬
‫الحكم التّكليفيّ ‪:‬‬
‫يختلف حكم التّغيير باختلف موضعه ‪ ،‬وبيان ذلك فيما يأتي ‪:‬‬
‫تغيّر أوصاف الماء في الطّهارة ‪:‬‬
‫‪ -‬أجمع العلماء على أنّ الماء الّذي غيّرت النّجاسة طعمه أو لونه أو ريحه أو أكثر من‬ ‫‪3‬‬

‫واحد من هذه الوصاف أنّه ل يجوز الوضوء ول التّطهّر به ‪ ،‬كما أجمعوا على أنّ الماء‬
‫الكثير المستبحر ل تضرّه النّجاسة الّتي لم تغيّر أحد أوصافه الثّلثة ‪.‬‬
‫ن كلّ ما يغيّر الماء ‪ -‬ممّا ل ينفكّ عنه غالبا كالطّين ‪ -‬أنّه ل يسلبه‬
‫كذلك أجمعوا على أ ّ‬
‫صفة الطّهارة أو التّطهير ‪ ،‬إل خلفا شاذّا روي عن ابن سيرين في الماء السن ‪.‬‬
‫وأمّا الماء الّذي خالطه زعفران أو غيره من الشياء الطّاهرة الّتي تنفكّ عنه غالبا متى‬
‫غيّرت أحد أوصافه الثّلثة ‪ ،‬فإنّه طاهر عند جميع العلماء ‪.‬‬
‫ولكنّهم اختلفوا في طهوريّته ‪ ،‬فذهب جمهور الفقهاء إلى أنّه غير مطهّر لنّه ل يتناوله اسم‬
‫الماء المطلق ‪ ،‬بل يضاف إلى الشّيء الّذي خالطه ‪ ،‬فيقال مثل ‪ :‬ماء زعفران ‪.‬‬
‫وذهب الحنفيّة إلى أنّه مطهّر ما لم يكن التّغيّر عن طبخ ‪.‬‬
‫أمّا المتغيّر بالطّبخ مع شيء طاهر فقد أجمعوا على ‪ :‬أنّه ل يجوز الوضوء ول التّطهّر به ‪.‬‬
‫واختلفوا في الماء غير المستبحر إذا خالطته نجاسة ولم تغيّر أحد أوصافه ‪ ،‬فذهب الجمهور‬
‫إلى الفرق بين الماء القليل والماء الكثير ‪ ،‬فقالوا ‪ :‬إن كان قليل أصبح نجسا ‪ ،‬وإن كان‬
‫كثيرا لم يكن نجسا ‪ .‬وهؤلء اختلفوا في الحدّ بين القليل والكثير ‪ ،‬فذهب المام أبو حنيفة‬
‫إلى أنّ الح ّد بينهما هو أن يكون الماء من الكثرة بحيث إذا حرّكه آدميّ من أحد طرفيه لم‬
‫تسر الحركة إلى الطّرف الثّاني منه ‪ ،‬أمّا إذا سرت الحركة فيه فهو قليل ‪.‬‬
‫ن الحدّ في ذلك هو قلّتان من قلل هجر ‪ ،‬مستدلّين بحديث‬
‫وذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أ ّ‬
‫النّبيّ صلى ال عليه وسلم « إذا كان الماء قلّتين لم يحمل الخبث » وفي لفظ « لم ينجس »‪.‬‬
‫ن النّجاسة تفسد قليل الماء وإن لم تغيّر أحد‬
‫ومن العلماء من لم يحدّ في ذلك حدّا وقال ‪ :‬إ ّ‬
‫أوصافه ‪ ،‬وهذا مرويّ عن المام مالك ‪ ،‬وروي عنه أيضا أنّ هذا الماء مكروه ‪.‬‬
‫وذهب بعض العلماء ‪ -‬ومنهم المالكيّة ‪ ،‬وأهل الظّاهر ‪ -‬إلى أنّه طاهر سواء كان قليل أو‬
‫كثيرا ‪ .‬وانظر لتفصيل ذلك الخلف في بحث ( مياه ) ‪.‬‬
‫تغيير ال ّنيّة في الصّلة ‪:‬‬
‫ن تغيير النّيّة في الصّلة ‪ ،‬ونقلها من فرض إلى آخر ‪ ،‬أو من‬
‫‪ -‬أجمع الفقهاء على أ ّ‬ ‫‪4‬‬

‫فرض إلى نفل عالما عامدا من غير عذر يبطل الصّلة ‪.‬‬
‫وتنظر تفاصيل هذه المسألة في مصطلح ( تحويل ‪ ،‬ونيّة ) ‪.‬‬
‫تغيّر حالة النسان التّكليفيّة في العبادات ‪:‬‬
‫‪ -‬أجمع الفقهاء على أنّه إذا تغيّرت حالة النسان التّكليفيّة ‪ ،‬كأن طهرت الحائض أو‬ ‫‪5‬‬

‫النّفساء ‪ ،‬أو بلغ الطّفل ‪ ،‬أو أسلم الكافر ‪ ،‬أو أفاق المجنون أو المغمى عليه ‪ ،‬أو أقام‬
‫المسافر وقد بقي من الوقت مقدار ما يمكن فيه أداء العبادة ‪ ،‬فإنّه يجب عليه الداء ‪.‬‬
‫ولكنّهم اختلفوا فيما إذا حصل هذا التّغيّر في العصر أو العشاء ‪ ،‬هل تجب عليهم صلة‬
‫الظّهر في الحالة الولى ‪ ،‬وصلة المغرب في الثّانية ؟ ‪.‬‬
‫ذهب جمهور الفقهاء إلى وجوب الظّهر والمغرب ‪ ،‬لنّ وقت الثّانية وقت الولى حال العذر ‪.‬‬
‫وذهب الحنفيّة والحسن البصريّ والثّوريّ إلى أنّه ل تجب عليهم إلّا الصّلة الّتي زالت في‬
‫وقتها السباب المانعة ‪ ،‬لنّ وقت الولى خرج في حال عذرهم ‪.‬‬
‫واختلفوا كذلك في القدر الّذي يتعلّق به الوجوب ‪ ،‬فذهب الجمهور إلى أنّه بمقدار تكبيرة‬
‫الحرام ‪ ،‬فمن أدرك من آخر الوقت ما يسع التّحريمة فقد وجبت عليه الصّلة ‪ ،‬وإل فل ‪.‬‬
‫وذهب المالكيّة إلى أنّه بمقدار ركعة فأكثر ‪ ،‬وهو قول مرجوح عند الشّافعيّة ‪ ،‬فمن أدرك من‬
‫آخر الوقت ما يسع ركعة فأكثر فقد وجبت عليه الصّلة ‪ ،‬وإلّا فل يجب عليه شيء ‪.‬‬
‫وتجب صلة الظّهر والمغرب عند المالكيّة ‪ ،‬إذا أدرك من آخر العصر أو العشاء ما يتّسع‬
‫لخمس ركعات في الحضر وثلث ركعات في السّفر ‪.‬‬
‫واختلفوا كذلك فيما إذا حاضت المرأة أو نفست أو جنّ العاقل أو أغمي عليه ‪ -‬وقد مضى‬
‫من الوقت قدر يتّسع للفرض ‪ -‬فذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى وجوب الصّلة الّتي أدرك‬
‫بعض وقتها ‪ ،‬وكذلك الّتي قبلها إن كانت تجمع معها وأدرك قدر ما يتّسع لها أيضا ‪ ،‬لنّ‬
‫وقت الثّانية وقت الولى في حال الجمع ‪.‬‬
‫ن حدوث هذه العذار يسقط الفرض ‪ ،‬وإن طرأت في آخر‬
‫وذهب الحنفيّة والمالكيّة إلى أ ّ‬
‫الوقت ‪ .‬ويتصوّر في هذه المسألة حدوث الجنون والغماء والحيض والنّفاس ‪ ،‬بخلف‬
‫الكفر والصّبا فل يتصوّر حدوث الصّبا ‪ ،‬لستحالة ذلك ‪ ،‬أمّا حدوث الكفر ‪ -‬والعياذ باللّه ‪-‬‬
‫فهو ردّة ل تسقط لزوم القضاء إلّا عند الحنفيّة ‪ .‬واختلفوا في مسألة بلوغ الطّفل في وقت‬
‫الصّلة ‪ -‬وقد صلّاها وفرغ منها ‪ -‬أو بلغ وهو في الصّلة ‪ ،‬وكذلك في صومه ‪.‬‬
‫انظر مصطلح ( بلوغ ‪ ،‬صلة ‪ ،‬صوم ) ‪.‬‬
‫تغيّر الجتهاد في القبلة ‪:‬‬
‫‪ -‬ذهب جمهور العلماء إلى أنّه إذا تغيّر اجتهاد المصلّي في القبلة من جهة إلى جهة‬ ‫‪6‬‬

‫أخرى ‪ -‬وكان في الصّلة ‪ -‬استدار إلى الجهة الثّانية وأت ّم الصّلة ‪ ،‬لما روي « أنّ أهل‬
‫قباء لمّا بلغهم تحويل القبلة من بيت المقدس استداروا كهيئتهم إلى الكعبة ‪ ،‬وأتمّوا‬
‫ن الصّلة المؤدّاة‬
‫صلتهم ‪ ،‬ولم يأمرهم رسول اللّه صلى ال عليه وسلم بالعادة » ‪ ،‬ول ّ‬
‫إلى جهة التّحرّي مؤدّاة إلى القبلة لنّها هي القبلة ‪ ،‬حال الشتباه ‪ ،‬ولنّ تبدّل الرّأي في‬
‫معنى انتساخ النّصّ ‪ ،‬وهذا ل يوجب بطلن العمل بالمنسوخ في زمان ما قبل النّسخ ‪.‬‬
‫ويشترط المالكيّة لهذا شرطين أوّلهما ‪ :‬أن يكون المصلّي أعمى ‪ ،‬وثانيهما ‪ :‬أن يكون‬
‫انحرافه عن القبلة قبل تغيّر الجتهاد يسيرا ‪ ،‬أمّا إذا كان بصيرا أو كان انحرافه عن القبلة‬
‫كثيرا ‪ ،‬فيقطع صلته وجوبا ‪ ،‬ويصلّي إلى الجهة الثّانية ‪.‬‬
‫ويرى بعض العلماء ‪ ،‬ومنهم المديّ أنّه ل ينقل من جهته الولى ‪ ،‬ويمضي على اجتهاده‬
‫الوّل ‪ ،‬لئل ينقض الجتهاد بالجتهاد ‪ .‬وإن كان تغيّر الجتهاد بعد الفراغ من الصّلة ‪ ،‬ولم‬
‫يتبيّن الخطأ يقينا ‪ ،‬فل يعيد ما صلّى بالوّل بل خلف ‪.‬‬
‫أمّا إذا ثبت الخطأ يقينا فقال المالكيّة والشّافعيّة ‪ :‬يعيدها إن فرغ منها ولم يزل في وقتها ‪،‬‬
‫ويقضيها بعد الوقت عند الشّافعيّة ‪ .‬وعند الحنفيّة والحنابلة ‪ ،‬وفي قول مرجوح للشّافعيّة ‪:‬‬
‫ل يعيدها إن فرغ منها سواء كان في الوقت أو بعده ‪.‬‬
‫تغيير نصاب الزّكاة في الحول ‪:‬‬
‫‪ -‬أجمع أهل العلم على أ نّ بيع النّصاب من عروض التّجارة بمثله أثناء الحول ل يقطع‬ ‫‪7‬‬

‫الحول ‪ ،‬لنّ الزّكاة تجب في قيمة العروض ل في نفسها ‪.‬‬


‫وذهب المالكيّة والحنابلة إلى أنّه إذا باع نصابا للزّكاة ممّا يعتبر فيه الحول بجنسه كالبل‬
‫بالبل ‪ ،‬أو البقر بالبقر ‪ ،‬أو الغنم بالغنم ‪ ،‬أو الذّهب بالذّهب ‪ ،‬أو الفضّة بالفضّة ‪ ،‬لم ينقطع‬
‫الحول وبنى حول البدل على حول النّصاب الوّل ( المبدل منه ) لنّه نصاب يضمّ نماؤه في‬
‫الحول ‪ ،‬فبنى حول بدله من جنسه على حوله كالعروض ‪.‬‬
‫ن الحول ينقطع بهذه المبادلة ما لم تكن للتّجارة ‪ ،‬فل ينقطع الحول إل‬
‫وذهب الشّافعيّة إلى أ ّ‬
‫في الصّرف فينقطع ‪ ،‬ويستأنف حول جديد ‪ ،‬لقوله صلى ال عليه وسلم ‪ « :‬ل زكاة في مال‬
‫حتّى يحول عليه الحول » ‪.‬‬
‫أمّا الحنفيّة ‪ ،‬فقد وافقوا المالكيّة والحنابلة في الثمان ‪ ،‬ووافقوا الشّافعيّة فيما سواها ‪ ،‬لنّ‬
‫الزّكاة إنّما وجبت في الثمان عندهم ‪ ،‬لكونها ثمنا ‪ ،‬بخلف غيرها من الموال الخرى ‪.‬‬
‫أمّا إذا باع نصابا للزّكاة بغير جنسه ‪ ،‬كإبل ببقر ‪ ،‬فقد اتّفقوا على انقطاع الحول واستئناف‬
‫حول جديد ‪ ،‬إذا لم يكن هذا فرارا من الزّكاة ‪ .‬وينظر التّفصيل في مصطلح ( زكاة ) ‪.‬‬
‫تغيير الزّوج أو الزّوجة في النّكاح من الح ّريّة والدّين ‪:‬‬
‫‪ -‬إذا خطب الرّجل امرأة بعينها ‪ ،‬فأجيب إلى ذلك ‪ ،‬ثمّ أوجب له النّكاح في غيرها ‪ ،‬وهو‬ ‫‪8‬‬

‫ن القبول انصرف إلى غير من وجد‬


‫يعتقد أنّها الّتي خطبها فقبل ‪ ،‬فل ينعقد النّكاح ‪ .‬ل ّ‬
‫اليجاب فيه ‪ ،‬وإلى هذا ذهب الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ولو نكح ‪ ،‬وشرط فيها‬
‫إسلما ‪ ،‬أو في أحدهما نسبا أو حرّيّة أو بكارة أو شبابا أو تديّنا فأخلف ‪ ،‬فمذهب جمهور‬
‫ن الخلف في الشّرط ل‬
‫الفقهاء ‪ ،‬وهو الرّاجح عند الشّافعيّة صحّة النّكاح ‪ .‬قال الشّافعيّة ‪ :‬ل ّ‬
‫يوجب فساد البيع مع تأثّره بالشّروط الفاسدة ‪ ،‬فالنّكاح أولى ‪.‬‬
‫قال الحنابلة ‪ :‬ويثبت الخيار لفوات الشّرط أو الوصف المرغوب ‪ .‬وذهب الشّافعيّة في قول‬
‫مرجوح عندهم إلى عدم صحّة النّكاح ‪ ،‬لنّه يعتمد الصّفات فتبدّلها كتبدّل العين ‪.‬‬
‫وأجمع أهل العلم على أنّه إذا عتقت المة ‪ -‬وزوجها عبد ‪ -‬فلها الخيار في فسخ النّكاح‬
‫لخبر بريرة رضي ال عنها ‪ .‬قالت عائشة رضي ال عنها « كاتبت بريرة فخيّرها رسول‬
‫اللّه صلى ال عليه وسلم في زوجها ‪ ،‬وكان عبدا فاختارت نفسها » ‪.‬‬
‫ولنّ عليها ضررا في كونها حرّة تحت عبد ‪.‬‬
‫واختلفوا فيما إذا عتقت وزوجها حرّ ‪ ،‬فالجمهور على أنّه ل خيار لها ‪ ،‬لنّها كافأت زوجها‬
‫في الكمال ‪ ،‬فلم يثبت لها الخيار ‪.‬‬
‫ي والثّوريّ والحنفيّة إلى أنّ لها الخيار ‪.‬‬
‫وذهب طاوس وابن سيرين ومجاهد والنّخع ّ‬
‫ي في سننه ‪.‬‬
‫ن زوجها كان حرّا ‪ ،‬كما رواه النّسائ ّ‬
‫واستدلّوا بما روي في حديث بريرة أ ّ‬
‫وأجمع الفقهاء على بقاء نكاح الكتابيّة الّتي أسلم زوجها ‪ ،‬سواء قبل الدّخول أو بعده ‪ ،‬لنّ‬
‫للمسلم أن يبتدئ نكاح كتابيّة ‪ ،‬فاستدامته أولى ‪.‬‬
‫كما أجمعوا على أنّه إذا أسلمت الكتابيّة قبل زوجها ‪ ،‬وقبل الدّخول بها تعجّلت الفرقة ‪،‬‬
‫سواء كان زوجها كتابيّا أم مجوسيّا أو غيرهما ‪ ،‬إذ ل يجوز لكافر نكاح مسلمة ‪.‬‬
‫واختلفوا فيما إذا أسلم أحد الزّوجين الوثنيّين أو المجوسيّين ‪ ،‬أو كتابيّ متزوّج بوثنيّة ‪.‬‬
‫وينظر ذلك في مصطلح ( إسلم ‪ ،‬ونكاح ) ‪.‬‬
‫تغيير المغصوب ‪:‬‬
‫‪ -‬اختلف الفقهاء في حكم تغيير المغصوب ‪.‬‬ ‫‪9‬‬

‫فقال الحنفيّة والمالكيّة ‪ :‬إن غيّر المغصوب فزال اسمه وأعظم منافعه ‪ ،‬كطحن حنطة ‪،‬‬
‫ضمنه الغاصب وملكه ‪ ،‬بل حلّ انتفاع قبل أداء ضمانه ‪.‬‬
‫وذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّه إن كان التّغيير قد زاد من قيمة المغصوب ‪ ،‬فهو للمالك‬
‫ول شيء للغاصب بسببها ‪ ،‬إن كانت الزّيادة أثرا محضا ‪ ،‬وإن نقص من المغصوب فعلى‬
‫الغاصب ردّه وأرش النّقص ‪ .‬والتّفاصيل في مصطلح ‪ ( :‬غصب ) ‪.‬‬
‫تغيّر حالة الجاني أو المجنيّ عليه ‪:‬‬
‫‪ -‬إذا تغيّر حال الجاني أو المجنيّ عليه من السلم إلى الكفر أو العكس ‪ ،‬ففي وجوب‬ ‫‪10‬‬

‫القصاص أو عدمه ‪ ،‬ومقدار الدّية مذاهب يرجع إليها في مباحث ( الدّية ‪ ،‬والقصاص ) ‪.‬‬

‫تفاؤل *‬
‫التّعريف ‪:‬‬
‫‪ -‬التّفاؤل ‪ :‬أن تسمع كلما حسنا فتتيمّن به ‪ ،‬وإن كان قبيحا فهو الطّيرة ‪ ،‬يقال ‪ :‬فأل به‬ ‫‪1‬‬

‫تفئيل جعله يتفاءل به ‪ ،‬وتفأّل به بالتّشديد تفؤّل ‪ .‬وتفاءل تفاؤل ‪ ،‬ويستعمل غالبا في الخير‬
‫‪ ،‬وفي الثر ‪ « :‬ل عدوى ‪ ،‬ول طيرة ‪ ،‬ويعجبني الفأل الصّالح » ‪.‬‬
‫وقد يستعمل في الشّ ّر أيضا ‪ ،‬يقال ‪ :‬ل فأل عليك أي ل ضير عليك ‪ ،‬وجاء في الثر ‪:‬‬
‫« ذكرت الطّيرة عند النّبيّ صلى ال عليه وسلم فقال ‪ :‬خيرها الفأل » ‪ .‬وصحّ عنه عليه‬
‫الصلة والسلم ‪ « :‬ل طيرة ويعجبني الفأل الكلمة الحسنة الكلمة الطّيّبة » ‪.‬‬
‫ول يخرج استعمال الفقهاء له عن المعنى اللّغويّ ‪ .‬وقد عرّفه القرافيّ بأنّه ‪ :‬ما يظنّ عنده‬
‫الخير ‪ .‬عكس الطّيرة والتّطيّر ‪ .‬غير أنّه تارة يتعيّن للخير ‪ ،‬وتارة للشّرّ ‪ ،‬وتارة يتردّد‬
‫بينهما ‪ ،‬فالمتعيّن للخير مثل الكلمة الحسنة يسمعها الرّجل من غير قصد ‪ .‬نحو ‪ :‬يا فلح ‪،‬‬
‫يا مسعود ‪.‬‬
‫اللفاظ ذات الصّلة ‪:‬‬
‫التّبرّك ‪:‬‬
‫‪ -‬التّبرّك ‪ :‬طلب ثبوت الخير اللهيّ في الشّيء ‪ .‬سمّيت بركة لثبوت الخير فيه ‪ ،‬كما‬ ‫‪2‬‬

‫يثبت الماء في البركة ‪.‬‬


‫حكمه التّكليفيّ ‪:‬‬
‫‪ -‬التّفاؤل مباح بل حسن إذا كان متعيّنا للخير ‪ ،‬كأن يسمع المريض يا سالم ‪ ،‬فينشرح‬ ‫‪3‬‬

‫لذلك صدره ‪ .‬ول خلف بين الفقهاء في جواز التّفاؤل بالكلمة الحسنة من غير قصد ‪ ،‬كأن‬
‫يسمع المريض يا سالم ‪ ،‬أو يسمع طالب الضّالّة يا واجد فتستريح نفسه لذلك ‪.‬‬
‫لخبر « ل عدوى ‪ ،‬ول طيرة ‪ ،‬ويعجبني الفأل الصّالح والكلمة الحسنة » ‪.‬‬
‫وكان النّبيّ عليه الصلة والسلم يعجبه ‪ :‬أن يسمع يا راشد يا نجيح إذا خرج لحاجته ‪.‬‬
‫وكان ل يتطيّر من شيء ‪ ،‬وكان إذا بعث عامل سأل عن اسمه فإذا أعجبه اسمه فرح به‬
‫ورئي بشر ذلك في وجهه ‪ ،‬وإن كره اسمه رئي كراهية ذلك في وجهه ‪ ،‬وإذا دخل قرية‬
‫سأل عن اسمها فإن أعجبه اسمها فرح ورئي بشر ذلك في وجهه وإن كره اسمها رئي‬
‫كراهية ذلك في وجهه ‪.‬‬
‫وإنّما كان يعجبه الفأل ‪ ،‬لنّه تنشرح له النّفس وتستبشر بقضاء الحاجة فيحسن الظّنّ باللّه ‪.‬‬
‫ي ‪ « :‬أنا عند ظنّ عبدي بي ‪ ،‬فل يظنّنّ بي إل خيرا » ‪.‬‬
‫وقال ع ّز من قائل في حديث قدس ّ‬
‫بخلف الطّيرة فإنّها من أعمال أهل الشّرك حيث كانوا يعتقدون حصول الضّرر بما يتطيّر به‪.‬‬
‫التّفاؤل المباح ‪:‬‬
‫‪ -‬التّفاؤل المباح ‪ :‬أن يسمع الرّجل الكلمة الطّيّبة من غير قصد ‪ ،‬أو يسمّي ولده اسما‬ ‫‪4‬‬

‫حسنا فيفرح عند سماعه ‪ .‬أمّا أخذ الفأل من المصحف ‪ ،‬كأن يفتحه فيتفاءل ببعض اليات‬
‫في أوّل الصّفحة ‪ ،‬أو يتفاءل بضرب الرّمل ‪ ،‬فيتفاءل ببعض رموزه فحرام ‪.‬‬
‫وانظر أيضا مصطلح ‪ ( :‬تطيّر ‪ ،‬وتسمية ) ‪.‬‬

‫تفرّق *‬
‫التّعريف ‪:‬‬
‫‪ -‬التّفرّق في اللّغة ‪ :‬مصدر ‪ :‬تفرّق ضدّ تجمّع ‪ ،‬يقال ‪ :‬تفرّق القوم تفرّقا ‪ ،‬ومثله افترق‬ ‫‪1‬‬

‫القوم افتراقا والتّفريق ‪ :‬خلف التّجميع ‪ ،‬يقال ‪ :‬فرّق الشّيء تفريقا وتفرقة ‪ :‬بدّده ‪ ،‬وهو‬
‫متعدّ ‪ ،‬أمّا التّفرّق فلزم ‪ .‬والتّفريق أبلغ من الفرق ‪ ،‬لما فيه من معنى التّكثير ‪.‬‬
‫والتّفرّق في الصطلح ل يخرج معناه عن المعنى اللّغويّ ‪.‬‬
‫اللفاظ ذات الصّلة ‪:‬‬
‫التّجزّؤ ‪:‬‬
‫‪ -‬التّجزّؤ ‪ :‬من تجزّأ الشّيء تجزّؤا ‪ ،‬وجزّأ الشّيء تجزئة ‪ :‬حمله أجزاء ‪.‬‬ ‫‪2‬‬

‫والتّفرّق يكون بين البدان ‪ ،‬والتّجزّؤ في المور ‪.‬‬


‫حكمه ‪:‬‬
‫‪ -‬تختلف أحكام التّفرّق باختلف موضوعه ‪ :‬فيسقط خيار المجلس بتفرّق المتعاقدين عند‬ ‫‪3‬‬

‫من يجيز خيار المجلس من الفقهاء ‪ .‬ويبطل العقد بالتّفرّق قبل القبض فيما يشترط في‬
‫ي بمثله ‪ ،‬أو بمتّحدّ معه في‬
‫صحّته التّقابض في المجلس ‪ .‬كرأس مال السّلم ‪ ،‬وبيع الرّبو ّ‬
‫العلّة ‪ ،‬على اختلف بين الفقهاء في بعض التّفاصيل ‪.‬‬
‫التّفرّق المؤثّر وحكمه ‪:‬‬
‫‪ -‬التّفرّق المؤثّر هو ‪ :‬أن يتفرّقا بأبدانهما ‪ ،‬ول خلف في ذلك بين الفقهاء ‪ ،‬والمرجع‬ ‫‪4‬‬

‫فيه عرف النّاس ‪ ،‬وعادتهم فيما يعدّونه تفرّقا ‪ ،‬لنّ الشّارع ناط عليه حكما ولم يبيّنه ‪ ،‬فدلّ‬
‫ذلك على أنّه أراد ما يعرفه النّاس ‪،‬ككلّ ما أطلقه الشّارع في المعاملت كالقبض ‪ ،‬والحراز‪.‬‬
‫هذا ويسقط بالتّفرّق خيار المجلس ‪ ،‬ويلزم العقد في غير الصّرف والرّبويّ ‪ ،‬ويبطل بالتّفرّق‬
‫بيع الرّبويّ قبل القبض ‪.‬‬
‫أمّا هل يقوم التّخاير مقام التّفرّق في إسقاط خيار المجلس ؟ وهل يجوز التّخاير قبل القبض‬
‫في بيع الرّبويّ ‪ ،‬وآراء الفقهاء في ذلك ؟ فيرجع فيها إلى مصطلح ( خيار المجلس ) ‪.‬‬
‫تفرّق المتعاقدين بعد انعقاد البيع ‪:‬‬
‫‪ -‬ذهب الشّافعيّة ‪ ،‬والحنابلة إلى أنّ التّفرّق بعد انعقاد البيع يسقط حقّه في خيار المجلس‬ ‫‪5‬‬

‫لخبر ‪ « :‬البيّعان بالخيار ما لم يتفرّقا » ‪ .‬قال ابن قدامة ‪ :‬وهذا قول أكثر أهل العلم ‪.‬‬
‫وإن لم يتفرّقا ‪ ،‬وأقاما مدّة طويلة ‪ ،‬فالخيار بحاله ‪ ،‬وإن طالت المدّة لعدم التّفرّق ‪.‬‬
‫لما روى أبو الوضيء ‪ -‬عبّاد بن نسيب ‪ « : -‬غزونا غزوة ‪ ،‬فنزلنا منزل ‪ ،‬فباع صاحب‬
‫لنا فرسا بغلم ‪ ،‬ثمّ أقاما بقيّة يومهما وليلتهما ‪ ،‬فلمّا أصبحا من الغد حضر الرّحيل ‪ ،‬فقام‬
‫إلى فرسه يسرّجه فندم ‪ ،‬فأتى الرّجل وأخذه بالبيع ‪ ،‬فأبى الرّجل أن يدفعه إليه ‪ ،‬فقال ‪:‬‬
‫ي صلى ال عليه وسلم فأتيا أبا برزة في ناحية العسكر‬
‫بيني وبينك أبو برزة صاحب النّب ّ‬
‫فقال له هذه القصّة فقال ‪ :‬أترضيان أن أحكم بينكما بقضاء رسول اللّه صلى ال عليه‬
‫وسلم ؟ قال ‪ :‬قال رسول اللّه صلى ال عليه وسلم ‪ :‬البيّعان بالخيار ما لم يتفرّقا وما أراكما‬
‫افترقتما » ‪.‬‬
‫الكراه على التّفرّق ‪:‬‬
‫‪ -‬إن أكره الشّخص على التّفرّق ففيه وجهان للشّافعيّة ‪ -‬وهما روايتان للحنابلة ‪-‬‬ ‫‪6‬‬

‫أحدهما ‪ :‬أنّه يبطل الخيار ‪ ،‬لنّه كان يمكنه الفسخ بالتّخاير ‪ ،‬وهو أن يقول لصاحبه ‪ :‬اختر‬
‫فيلزم العقد ‪ ،‬فحيث لم يفعل ذلك فقد رضي بإسقاط الخيار ‪.‬‬
‫الثّاني ‪ :‬ل يبطل الخيار لنّه لم يوجد منه أكثر من السّكوت ‪ ،‬والسّكوت ل يسقط الخيار ‪.‬‬
‫ولم يأخذ أبو حنيفة ومالك بخيار المجلس أصل ‪ .‬وتفصيله في مصطلح ( خيار المجلس ) ‪.‬‬
‫التّفرّق قبل القبض في بيع الرّبويّ ‪:‬‬
‫‪ -‬أجمع الفقهاء على أنّه إذا بيع أحد النّقدين بمثله ‪ ،‬أو بالخر يجب التّقابض في المجلس‬ ‫‪7‬‬

‫ل بمثل ‪ ،‬ول‬
‫‪ .‬وإل يبطل العقد لخبر ‪ « :‬ل تبيعوا الذّهب بالذّهب والفضّة بالفضّة إل مث ً‬
‫شفّوا بعضها على بعض ‪ ،‬ول تبيعوا الورق بالورق إلّا مثل بمثل ‪ ،‬ول تشفوا بعضها على‬
‫ُت ِ‬
‫بعض ‪ ،‬ول تبيعوا منها غائبا بناجز » ‪.‬‬
‫أمّا غير النّقدين من الرّبويّات فقد اختلف الفقهاء في حرمة التّفرّق قبل القبض فعند‬
‫المالكيّة ‪ ،‬والشّافعيّة ‪ ،‬والحنابلة ‪ ،‬يشترط التّقابض ويحرم التّفرّق قبل القبض ‪ ،‬إن اتّحد‬
‫الجنس ‪ ،‬أو اتّحدت علّة الرّبا فيهما ‪ ،‬ويبطل العقد بالتّفرّق قبل القبض ‪.‬‬
‫وذهب الحنفيّة إلى عدم اشتراط التّقابض في المجلس في الموزون والمكيل المعيّن ‪ ،‬ويجوز‬
‫التّفرّق قبل القبض ‪ ،‬ول يبطل العقد به ‪ .‬وتفصيله في ( ربا ‪ ،‬قبض ) ‪.‬‬
‫التّفرّق قبل قبض رأس مال السّلم ‪:‬‬
‫‪ -‬يشترط لصحّة عقد السّلم قبض رأس مال السّلم قبل التّفرّق ‪ ،‬فإن تفرّقا قبل القبض بطل‬ ‫‪8‬‬

‫العقد ‪ .‬وإلى هذا ذهب الحنفيّة ‪ ،‬والشّافعيّة والحنابلة ‪.‬‬


‫وقال المالكيّة ‪ :‬ل يشترط قبض رأس مال السّلم في المجلس ‪ ،‬ول يبطل بالتّفرّق ‪ ،‬فيجوز‬
‫عندهم تأخير القبض ثلثة أيّام لخفّة المر ولنّ ما قارب الشّيء يعطى حكمه ‪.‬‬
‫التّفرّق قبل التّقابض في بيع العرايا ‪:‬‬
‫‪ -‬العرايا ‪ :‬جمع عريّة ‪ ،‬وهي بيع ما على النّخلة من رطب بتمر على الرض ‪ ،‬أو العنب‬ ‫‪9‬‬

‫في الشّجر بزبيب فيما دون خمسة أوسق ‪ .‬ويشترط في صحّة بيع العرايا عند القائل به‬
‫التّقابض قبل التّفرّق ‪ .‬وتقدّم تفصيله في بيع العرايا ‪.‬‬
‫تفرّق المتناضلين قبل انتهاء المشروط ‪:‬‬
‫‪ -‬ل يجوز أن يفترق المتناضلن حتّى يستوفيا المقدار المشروط التّناضل به في الزّمن‬ ‫‪10‬‬

‫المحدّد إلّا لعذر كمرض ‪ ،‬أو ريح عاصفة أو بالتّراضي ‪ .‬والتّفصيل في مناضلة ‪.‬‬
‫تفرّق الصّفقة ‪:‬‬
‫‪ -‬تتفرّق الصّفقة بتفصيل الثّمن كأن يقول ‪ :‬بعتك هذا بكذا ‪ ،‬وهذا بكذا ‪ ،‬فيقبل الخر ‪،‬‬ ‫‪11‬‬

‫وبتعدّد المشتري ‪ ،‬أو البائع ‪ ،‬وبالجمع في صفقة بين ما يجوز بيعه وما ل يجوز بيعه‬
‫كخلّ ‪ ،‬وخمر ‪ .‬ومعنى تفرّق الصّفقة تفريقها في الحكم ‪.‬‬
‫ففي حالة تفصيل الثّمن مثل يجوز للمشتري قبول أحد المبيعين وردّ الخر ‪ ،‬وفي حالة تعدّد‬
‫العاقدين ‪ ،‬له ر ّد نصيب أحدهما بالعيب وإبقاء الخر ‪ ،‬وفي حالة الجمع بين الحلل والحرام‬
‫ح العقد في الحلل ‪ ،‬ويبطل في الحرام ‪ .‬والتّفصيل في تفرّق الصّفقة ‪.‬‬
‫في صفقة ‪ ،‬يص ّ‬
‫تفرّق المجتمعين في أثناء خطبة الجمعة ‪:‬‬
‫‪ -‬إذا تفرّق المجتمعون أثناء الخط بة ‪ ،‬أو ن قص عدد هم لم يح سب الجزء المؤدّى من‬ ‫‪12‬‬

‫أركان الخطبة في غيبتهم ‪ .‬والتّفصيل في صلة الجمعة ‪.‬‬


‫تفرّق العراة عند الصّلة ‪:‬‬
‫‪ -‬إذا اجتمع عراة للصّلة ‪ ،‬فإن كانوا في ظلم صلّوا جماعة ‪ ،‬وإل تفرّقوا وجوبا ‪،‬‬ ‫‪13‬‬

‫وصلّوا أفذاذا والتّفصيل في مصطلح ( عورة ) ‪.‬‬


‫تفرّق جمع وظهور قتيل ‪:‬‬
‫‪ -‬إذا تفرّق جمع وظهر في المكان قتيل ‪ ،‬يكون ذلك قرينة على أنّهم الجناة ‪ ،‬ويثبت‬ ‫‪14‬‬

‫ي الدّم أن يحلّفهم أيمان القسامة ‪ .‬وينظر التّفصيل في ( القسامة ) ‪.‬‬


‫لول ّ‬

‫تفريط *‬
‫التّعريف ‪:‬‬
‫‪ -‬التّفريط في اللّغة ‪ :‬التّقصير والتّضييع ‪ ،‬يقال فرّط في الشّيء وفرّطه ‪ :‬إذا ضيّعه وقدّم‬ ‫‪1‬‬

‫العجز فيه ‪ ،‬وفرط في المر يفرط فرطا أي ‪ :‬قصّر فيه وضيّعه حتّى فات ‪.‬‬
‫واصطلحا ‪ :‬ل يخرج عن هذا المعنى اللّغويّ ‪.‬‬
‫اللفاظ ذات الصّلة ‪:‬‬
‫الفراط ‪:‬‬
‫‪ -‬الفراط لغة ‪ :‬السراف مجاوزة الح ّد والفراط كذلك ‪ :‬الزّيادة على ما أمرت ‪ ،‬يقال أفرط‬ ‫‪2‬‬

‫إفراطا ‪ :‬إذا أسرف وجاوز الحدّ ‪ .‬ول يخرج استعمال الفقهاء له عن معناه اللّغويّ ‪ .‬قال‬
‫ن الفراط يستعمل في تجاوز الحدّ‬
‫الجرجانيّ في التّعريفات ‪ :‬الفرق بين الفراط والتّفريط ‪ ،‬أ ّ‬
‫من جانب الزّيادة والكمال ‪ ،‬والتّفريط يستعمل في تجاوز الحدّ من جانب النّقصان والتّقصير ‪،‬‬
‫فالنّسبة بين الفراط والتّفريط التّضادّ ‪.‬‬
‫الحكم الجماليّ ‪:‬‬
‫‪ -‬الصل في التّفريط التّحريم لما فيه من التّضييع لحقوق اللّه تعالى وحقوق الدميّين ‪،‬‬ ‫‪3‬‬

‫ومن ذلك عدم أداء الصّلة حتّى يخرج وقتها إهمال ‪ ،‬لقوله صلى ال عليه وسلم ‪ « :‬أما‬
‫إنّه ليس في النّوم تفريط ‪ ،‬إنّما التّفريط على من لم يص ّل الصّلة حتّى يجيء وقت الصّلة‬
‫الخرى » ‪.‬‬
‫أ ‪ -‬التّفريط في العبادات ‪:‬‬
‫‪ -‬هو صورة من صور التّفريط في حقوق اللّه تعالى ‪ ،‬والتّفريط في العبادة إمّا أن يكون‬ ‫‪4‬‬

‫بتركها بالكلّيّة ‪ ،‬أو بترك ركن من أركانها ‪ ،‬أو واجب من واجباتها ‪ ،‬أو سنّة من سننها ‪ ،‬أو‬
‫يكون بأدائها في غير وقتها المحدّد لها شرعا ‪.‬‬
‫فإن كان التّفريط بتركها بالكلّيّة ‪ ،‬فل خلف بين الفقهاء في تفسيق تاركها وتأثيمه وتعزيره‬
‫ل ‪ ،‬وتكفيره إن كان تركها جحودا ‪.‬‬
‫إن كان تركها تهاونا وكس ً‬
‫وإن كان التّفريط بترك ركن من أركان العبادة فإنّه يؤدّي إلى بطلنها ‪ ،‬ويجب عليه‬
‫العادة ‪ ،‬وذلك كمن ترك تكبيرة الحرام في الصّلة ‪ ،‬أو المساك في الصّوم ‪ ،‬أو الوقوف‬
‫بعرفة في الحجّ ‪.‬‬
‫وإن كان التّفريط بترك واجب من واجباتها ‪ ،‬فتبطل العبادة إن تركه عمدا ‪ ،‬كمن ترك التّشهّد‬
‫الوّل في الصّلة ‪ -‬عند من يقول بوجوبه في الصّلة ‪ -‬فإن تركه سهوا أو جهلً فيمكن‬
‫تدارك هذا التّفريط بالجبر فيسجد سجود السّهو لترك واجب الصّلة ‪.‬‬
‫ويجب في ترك الواجب في الحجّ دم حدّا له ‪.‬‬
‫وترك سنّة من سنن العبادة ‪ ،‬ليس تفريطا عند الجمهور ‪ ،‬ول إثم فيه ‪ ،‬ول شيء عليه‬
‫غير نقصان الثّواب ‪ ،‬وعبادته تقع صحيحة ‪.‬‬
‫ويرى المالكيّة والشّافعيّة مشروعيّة سجود السّهو لترك سنّة من سنن الصّلة ‪ ،‬أمّا عند‬
‫الحنفيّة لترك السّنّة تفريط لكنّه ل يوجب فسادا ول سهوا ‪ ،‬بل إساءة لو عامدا غير مستخفّ‬
‫‪ ،‬وقالوا ‪ :‬الساءة أدون من الكراهة التّحريميّة ‪ ،‬وحكم السّنّة أنّه يندب إلى تحصيلها ‪،‬‬
‫ويلم على تركها مع لحوق إثم يسير ‪.‬‬
‫وهناك تفصيل وخلف بين المذاهب ينظر في مصطلح ( سجود السّهو ) ‪ .‬وإن كان التّفريط‬
‫ح منه لتخلّف‬
‫بأداء العبادة في غير وقتها المحدّد لها شرعا ‪ ،‬فإن أدّاها قبل وقتها فل تص ّ‬
‫الشّرط عنها ‪ ،‬وإن أدّاها بعد خروج وقتها بغير عذر فإنّه آثم ‪ ،‬كأداء الصّلة بعد خروج‬
‫الوقت ‪ ،‬وتأخير الزّكاة عن الحول عند من يرى وجوب إخراجها على الفور ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬التّفريط في عقود المانات ‪:‬‬
‫‪ -‬وهو من صور التّفريط في حقوق العباد ‪ .‬إنّ التّفريط والتّقصير في عقود المانات‬ ‫‪5‬‬

‫كالوديعة يوجب الضّمان فيها ‪ .‬أمّا إن تلفت العين بغير تع ّد أو تفريط فل ضمان عليه ‪.‬‬
‫ومن صور التّفريط في المانات إهمال حفظها في حرز مثلها ‪ ،‬أو أن يودعها عند غير أمين‬
‫‪ .‬وكذلك العاريّة والرّهن عند من يعدّها من المانات ‪.‬‬
‫وهناك خلف وتفصيل في المذاهب ينظر في مصطلح ( ضمان ‪ ،‬وتعدّ ‪ ،‬وإعارة ) ‪.‬‬
‫ج ‪ -‬التّفريط في الوكالة ‪:‬‬
‫ن الصل في الوكيل أنّه أمين ‪ ،‬فل ضمان عليه فيما تلف في يده‬
‫‪ -‬ذهب الفقهاء إلى أ ّ‬ ‫‪6‬‬

‫بغير تفريط منه ول تعدّ ‪ ،‬وذلك لنّه في مقام المالك في اليد والتّصرّف ‪ ،‬فكان الهلك في‬
‫ن الوكالة عقد إرفاق ومعونة ‪ ،‬والضّمان‬
‫يده كالهلك في يد المالك ‪ ،‬فأصبح كالمودع ‪ ،‬ول ّ‬
‫ي كتفريطه وتعدّيه ‪.‬وللتّفصيل انظر مصطلح ( ضمان ‪ ،‬وكالة )‪.‬‬
‫مناف لذلك بدون موجب قو ّ‬
‫د ‪ -‬تفريط الجير ‪:‬‬
‫‪ -‬إذا فرّط الجير فيما وكّل إليه من عمل فتلف ما في يده وجب عليه الضّمان ‪ ،‬ل فرق‬ ‫‪7‬‬

‫ص كالخادم والرّاعي ‪ ،‬وبين الجير المشترك كالخيّاط والصّبّاغ ‪.‬‬


‫في ذلك بين الجير الخا ّ‬
‫وهناك تفصيل وخلف بين المذاهب ينظر في مصطلح ( إجارة ‪ ،‬ضمان ) ‪.‬‬
‫هـ ‪ -‬التّفريط في النّفقة ‪:‬‬
‫‪ -‬إذا فرّط الزّوج في النفاق على الزّوجة والولد ‪ ،‬أو أنفق عليهم دون كفايتهم ‪،‬‬ ‫‪8‬‬

‫فللزّوجة أن تأخذ من مال زوجها ما يكفيها وأولدها عرفا بغير إذنه ‪ « ،‬لقول النّبيّ صلى‬
‫ال عليه وسلم لهند بنت عتبة ‪ .‬حين قالت له ‪ :‬إنّ أبا سفيان رجل شحيح وليس يعطيني‬
‫من النّفقة ما يكفيني وولدي ‪ :‬خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف » وإن لم تقدر على أخذ‬
‫كفايتها وكفاية ولدها من ماله رفعت أمرها للحاكم ‪.‬‬
‫وهناك تفصيل وخلف بين المذاهب ينظر في مصطلح ‪ ( :‬نفقة ) ‪.‬‬
‫و ‪ -‬تفريط الوصيّ ‪:‬‬
‫ي أمين ‪ .‬فل يضمن ما هلك في يده من مال الموصى عليه ‪ ،‬ويقبل قوله مع‬
‫‪ -‬الوص ّ‬ ‫‪9‬‬

‫ي بعد بلوغه رشيدا ‪ .‬وإنّما يضمن إذا فرّط في مال الموصى‬


‫يمينه إذا اختلف مع الصّب ّ‬
‫عليه ‪ ،‬كما لو دفع المال إلى اليتيم قبل رشده بعد الدراك فضاع لنّه دفعه إلى من ليس له‬
‫أن يدفعه إليه ‪ .‬وللتّفصيل انظر مصطلح ( ضمان ‪ ،‬وصيّ ) ‪.‬‬
‫ز ‪ -‬التّفريط في إنقاذ مال الغير ‪:‬‬
‫‪ -‬من رأى مال غيره معرّضا للضّياع أو التّلف فلم يسع لنقاذه ‪ ،‬فتلف المال أو ضاع ‪،‬‬ ‫‪10‬‬

‫ن حفظ مال الغير واجب مع القدرة ‪.‬‬


‫فإنّه آثم بالتّفريط في إنقاذه ‪ ،‬ل ّ‬
‫واختلف الفقهاء في وجوب ترتّب الضّمان عليه ‪ ،‬فذهب الجمهور إلى أنّه ل ضمان عليه ‪،‬‬
‫والمشهور عند المالكيّة وجوب الضّمان عليه وللتّفصيل انظر ‪ :‬مصطلح ( ضمان ) ‪.‬‬
‫ح ‪ -‬التّفريط في إنقاذ حياة الغير ‪:‬‬
‫‪ -‬من فرّط في إنقاذ حياة إنسان كأن رآه في مهلكة ‪ ،‬فلم يم ّد له يد العون مع قدرته على‬ ‫‪11‬‬

‫ذلك ‪ ،‬فهلك النسان ‪ ،‬فإنّه آثم ل محالة لوجوب المحافظة على النفس ‪ ،‬واختلفوا في ترتّب‬
‫الضّمان عليه في ذلك ‪.‬‬
‫فذهب الجمهور " الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة في وجه " إلى أنّه ل ضمان عليه لنّه لم‬
‫يهلكه ‪ ،‬ل عن طريق المباشرة ‪ ،‬ول عن طريق التّسبّب ‪ .‬وذهب المالكيّة والحنابلة في وجه‬
‫إلى وجوب الضّمان عليه ‪ ،‬لنّه لم ينجه من الهلك مع إمكانه ‪.‬‬

‫تفريق *‬
‫التّعريف ‪:‬‬
‫‪ -‬التّفريق لغة واصطلحا خلف الجمع يقال ‪ :‬فرّق فلن الشّيء تفريقا ‪ ،‬وتفرقة إذا‬ ‫‪1‬‬

‫بدّده ‪ ،‬وفي الحديث ‪ « :‬ل يجمع بين متفرّق ‪ ،‬ول يفرّق بين مجتمع خشية الصّدقة » ‪.‬‬
‫الحكم التّكليفيّ ‪:‬‬
‫يختلف حكم التّفريق باختلف متعلّقه ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬تفريق المال المختلط خشية الصّدقة ‪:‬‬
‫‪ -‬ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّه ل يجوز لرباب الموال من أهل الزّكاة ‪ ،‬أن يفرّقوا‬ ‫‪2‬‬

‫أموالهم المختلطة ‪ ،‬الّتي وجب فيها باجتماعها فرض الزّكاة ‪ ،‬ليسقط عنها الفرض ‪ ،‬أو ليقلّ‬
‫الواجب ‪ .‬كأن يكون لهما أربعون شاة مختلطة خلطة اشتراك ‪ ،‬أو خلطة جوار فيفرّقاها قبل‬
‫نهاية الحول ليسقط عنها الفرض بالتّفرقة ‪ ،‬ول يجوز لرباب الموال أن يجمعوا أموالهم‬
‫المتفرّقة ليقلّ الواجب ‪ .‬وكذا السّاعي ل يجوز له أن يجمع المتفرّق خشية سقوط الصّدقة أو‬
‫قلّتها لحديث « ل يجمع بين متفرّق ول يفرّق بين مجتمع خشية الصّدقة » ‪.‬‬
‫وانظر تفصيل هذه المسألة في مصطلح ( زكاة ) ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬تفريق أيّام الصّوم ‪ ،‬في التّمتّع ‪:‬‬
‫‪ -‬اختلف الفقهاء في جواز وصل المتمتّع صوم اليّام العشرة إذا لم يصم الثّلثة في وقتها‬ ‫‪3‬‬

‫‪ .‬وجوّز الحنابلة والمالكيّة الوصل بين الثّلثة والسّبعة ‪ ،‬أمّا عند الحنفيّة إن لم يصم الثّلثة‬
‫في وقتها ‪ -‬وهو يوم قبل التّروية ‪ ،‬ويوم التّروية ‪ ،‬ويوم عرفة ‪ -‬يسقط عنه الصّوم ويعود‬
‫إلى الهدي ‪ .‬وذهب الشّافعيّة ‪ -‬في الظهر عندهم ‪ -‬إلى لزوم التّفريق بين الثّلثة‬
‫والسّبعة ‪ ،‬والظهر على هذا ‪ -‬في مدّة التّفريق ‪ -‬أنّها تكون بقدر أربعة أيّام ‪ ،‬ومدّة إمكان‬
‫السّير إلى أهله على العادة لتت ّم ‪ .‬ولو صام عشرة أيّام متوالية حصلت له الثّلثة ‪ ،‬ول يعتدّ‬
‫بالبقيّة لعدم التّفريق ‪ .‬ويراجع التّفصيل في مصطلح ‪ ( :‬تمتّع ) ‪.‬‬
‫ج ‪ -‬تفريق صوم جزاءات الحجّ ‪:‬‬
‫‪ -‬ل خلف بين الفقهاء في جواز تفريق أيّام الصّوم في جزاءات الحجّ بأنواعها‬ ‫‪4‬‬

‫المختلفة ‪ ،‬لنّ اللّه تعالى أمر به مطلقا في أنواعها كلّها ‪ ،‬فل يتقيّد بالتّتابع من غير دليل ‪.‬‬
‫وينظر للتّفصيل مصطلح ( تتابع ) ‪.‬‬
‫د ‪ -‬تفريق أشواط الطّواف ‪:‬‬
‫‪ -‬ل خلف بين الفقهاء في أنّه إذا تلبّس بالطّواف ثمّ أقيمت المكتوبة ‪ ،‬فإنّه يقطع الطّواف‬ ‫‪5‬‬

‫ويصلّي مع الجماعة ‪ ،‬ويبني على طوافه ‪ ،‬لنّه فعل مشروع في أثناء الطّواف ‪ ،‬فلم يقطعه‬
‫كاليسير ‪.‬‬
‫وفي غير المكتوبة اختلف الفقهاء تضييقا وتوسيعا ‪ .‬ويرجع إلى مصطلح ( طواف ) ‪.‬‬
‫هـ – التّفريق بين المّ وولدها ‪:‬‬
‫– ل خلف بين الفقهاء في حظر التّفريق بين المة المملوكة وولدها الصّغير بالبيع حتّى‬ ‫‪6‬‬

‫يميّز أو يثغر أو يبلغ ‪ ،‬على اختلف بين الفقهاء ‪ .‬لحديث « من فرّق بين الوالدة وولدها‬
‫فرّق اللّه بينه وبين أحبّته يوم القيامة » ‪.‬‬
‫واختلفوا في التّفريق بين الصّغير وبين غير المّ من المحارم ‪.‬‬
‫فذهب الحنفيّة والحنابلة إلى أنّه يحرم التّفريق بين الصّغير وبين محرمه المنفرد ‪ ،‬لحديث‬
‫ي رضي ال عنه ‪ ،‬قال ‪ « :‬أمرني رسول اللّه صلى ال عليه وسلم أن أبيع غلمين‬
‫عل ّ‬
‫ي صلى ال عليه وسلم فقال أدركهما‬
‫أخوين فبعتهما ‪ ،‬ففرّقت بينهما فذكرت ذلك للنّب ّ‬
‫فأرجعهما ‪ ،‬ول تبعهما إل جميعا » ولنّ بينهما محرميّة ‪ ،‬فلم يجز التّفريق بينهما كالمّ‬
‫ص بالمّ وولدها للحديث السّابق ‪.‬‬
‫ن التّحريم خا ّ‬
‫وولدها ‪ .‬وقال المالكيّة والشّافعيّة ‪ :‬إ ّ‬
‫ن التّفريق بين البهيمة وولدها حرام ‪ ،‬إل إن استغنى عنها ‪ ،‬أو بذبحه‬
‫وصرّح الشّافعيّة بأ ّ‬
‫هو ل بذبحها ‪ ،‬ول ببيعه للذّبح ‪.‬‬
‫و ‪ -‬تفريق الصّفقة لتعدّد أحد الطّرفين أو تعدّد المبيع ‪:‬‬
‫‪ -‬تفرّق الصّفقة بتفصيل الثّمن من الموجب أو القابل ‪ ،‬كأن يقول في عقد البيع مثلً ‪:‬‬ ‫‪7‬‬

‫بعتك هذا الثّوب بمائة ‪ ،‬وهذا بخمسين ‪ ،‬فيقبل الخر فيهما ‪ ،‬سواء فصّل القابل أم لم يفصّل‬
‫‪ ،‬فيجوز ر ّد أحدهما بعيب ‪ ،‬واستبقاء الخر ‪ .‬تفريقا للصّفقة لتعدّدها بتفريق الثّمن ‪.‬‬
‫وكذا إن تعدّد البائع ‪ ،‬أو المشتري ‪ ،‬فيجوز ردّ نصيب أحدهما بعيب ‪ ،‬تفريقا للصّفقة ‪.‬‬
‫أمّا إذا قبل أحد المبيعين ‪ ،‬أو نصيب أحد الطّرفين فل تفرّق الصّفقة ‪ ،‬لختلف اليجاب‬
‫والقبول ‪ ،‬فيبطل العقد ‪ .‬هذا التّفصيل للشّافعيّة ‪.‬‬
‫ومذهب الحنفيّة أنّه إذا اتّحد الموجب ‪ ،‬وتعدّد المخاطب ‪ ،‬لم يجز التّفريق بقبول أحدهما ‪،‬‬
‫سواء أكان الموجب بائعا أم مشتريا ‪ ،‬وعلى عكسه لم يجز القبول في حصّة أحدهما ‪.‬‬
‫وإن اتّحدا لم يصحّ قبول المخاطب في البعض ‪ ،‬فلم يصحّ تفريقها مطلقا في الحوال‬
‫الثّلثة ‪ ،‬لتّحاد الصّفقة في الكلّ ‪ .‬وكذا إن اتّحد العاقدان وتعدّد المبيع ‪ ،‬كأن يوجب بيع‬
‫ي ومثليّ ‪ ،‬لم يجز تفريقها بالقبول في أحدهما إل أن يرضى الخر بذلك بعد‬
‫مثليّين ‪ ،‬أو قيم ّ‬
‫القبول في البعض ‪ ،‬ويكون المبيع ممّا ينقسم الثّمن عليه بالجزاء ‪ ،‬كدار واحدة ‪ ،‬أو‬
‫موزون ‪ ،‬أو مكيل ‪ ،‬فيكون القبول إيجابا جديدا والرّضا قبول ‪.‬‬
‫أمّا إن كان المبيع ممّا ل ينقسم إل بالقيمة كثوبين أو دارين ‪ ،‬فل يجوز التّفريق في القبول ‪.‬‬
‫فإن بيّن ثمن كلّ واحد منهما بأن كرّر لفظ البيع كأن يقول ‪ :‬بعتك هذين الثّوبين ‪ :‬بعتك هذا‬
‫ح التّفريق بالقبول ‪.‬‬
‫بألف وبعتك هذا بألف ‪ ،‬يص ّ‬
‫أمّا إذا لم يكرّر لفظ البيع وفصّل الثّمن ‪ ،‬قال بعض الحنفيّة تعدّدت الصّفقة ‪ ،‬فيجوز تفريقها‬
‫ن اشتراط تكرار لفظ البيع للتّعدّد استحسان ‪ .‬وهو قول‬
‫بالقبول ‪ ،‬ومنعه آخرون ‪ .‬وقيل ‪ :‬إ ّ‬
‫أبي حنيفة ‪ .‬وعدم اشتراطه قياس ‪ .‬وهو قول الصّاحبين ‪.‬‬
‫ومذهب الحنابلة أنّ تفرّق الصّفقة يكون بتعدّد البائع أو المشتري أو المبيع أو بتفصيل الثّمن‬
‫‪ ،‬على الصّحيح عندهم ‪ .‬فإذا اشترى اثنان شيئا ‪ ،‬وشرطا الخيار ‪ ،‬أو وجداه معيبا فرضي‬
‫أحدهما فللخر الفسخ بناء على تعدّد الصّفقة بتعدّد الطّرفين ‪ .‬وهو الصّحيح عندهم ‪ ،‬وفي‬
‫قول ل تفرّق بناء على أنّ الصّفقة ل تتعدّد بتعدّد الطّرفين ‪.‬‬
‫وكذلك لو اشترى واحد من اثنين شيئا وظهر به عيب فله ر ّد نصيب أحدهما وإمساك الخر‬
‫‪ ،‬تفريقا للصّفقة ‪ ،‬وهو رأي المالكيّة والتّفصيل في مصطلح ( الرّ ّد بالعيب ) ‪.‬‬
‫تفريق الصّفقة المشتملة على ما يجوز بيعه ‪ ،‬وما ل يجوز ‪:‬‬
‫إذا اشتملت الصّفقة على ما يجوز بيعه وما ل يجوز ‪ ،‬فقد اختلف الفقهاء في حكمها على‬
‫النّحو التّالي ‪:‬‬
‫مذهب الحنفيّة ‪:‬‬
‫‪ -‬ذهب الحنفيّة إلى جواز تفريق الصّفقة ‪ ،‬إذا جمع فيها بين ما يملكه وما ل يملكه ‪،‬‬ ‫‪8‬‬

‫كداره ودار غيره ‪ ،‬فيصحّ البيع ‪ ،‬وينفذ في ملكه بقسطه من الثّمن باتّفاق أئمّتهم ‪ ،‬ويصحّ‬
‫في ملك غيره موقوفا على الجازة ‪ .‬أمّا إذا جمع فيها بين ميتة ومذكّاة أو خ ّل وخمر ‪،‬‬
‫فيبطل فيهما ‪ ،‬إن لم يسمّ لكلّ واحد ثمنا عند أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمّد ‪.‬‬
‫ن البيع يبطل‬
‫أمّا إذا سمّى لكلّ واحد منهما ثمنا فاختلفوا فيها ‪ :‬فذهب المام أبو حنيفة إلى أ ّ‬
‫فيهما ‪ ،‬لنّ الميتة والخمر ليسا بمال ‪ ،‬والبيع صفقة واحدة ‪ ،‬فكان القبول في الميتة‬
‫كالمشروط للبيع في المذبوحة ‪ ،‬وهو شرط فاسد مفسد للعقد في المذبوحة ‪ ،‬بخلف بيع ما‬
‫يملكه وما ل يملكه فالبيع موقوف ‪ ،‬وقد دخل تحت العقد لقيام الماليّة ‪.‬‬
‫وذهب الصّاحبان إلى صحّة العقد في الحلل بقسطه من الثّمن ‪ ،‬إذا سمّي لكلّ منهما قسط‬
‫ن الفساد ل يتعدّى المحلّ الفاسد ‪ ،‬وهو عدم الماليّة في الميتة ‪ ،‬فل يتعدّى إلى‬
‫من الثّمن ‪ .‬ل ّ‬
‫غيرها إذ ل موجب لتعدّيه ‪ ،‬لنّ كلّا منهما قد انفصل عن الخر بتفصيل الثّمن ‪ ،‬بدليل ما لو‬
‫كانتا مذكّاتين فتلفت إحداهما قبل القبض بقي العقد في الخرى ‪.‬‬
‫مذهب المالكيّة ‪:‬‬
‫‪ -‬إذا جمعت الصّفقة بين حلل وحرام بطلت فيهما عندهم ‪ ،‬إذا علم العاقدان الحرام أو‬ ‫‪9‬‬

‫علمه أحدهما ‪ .‬أمّا إذا لم يعلما ‪ ،‬كأن باع قلّتي خلّ وخمر على أنّهما خلّ ‪ ،‬فبانت إحداهما‬
‫خمرا ‪ ،‬أو باع شاتين على أنّهما مذبوحتان فبانت إحداهما ميتة ‪ ،‬فله التّمسّك بالباقي بقسطه‬
‫ص الخمر والميتة من الثّمن لفساد بيعه ‪.‬‬
‫من الثّمن ‪ ،‬يرجع على البائع بما يخ ّ‬
‫مذهب الشّافعيّة ‪:‬‬
‫‪ -‬ذهب الشّافعيّة إلى أنّ تفريق الصّفقة ثلثة أقسام ‪:‬‬ ‫‪10‬‬

‫أ ‪ -‬أن يكون التّفريق في البتداء ‪.‬‬


‫ب ‪ -‬أو في الدّوام ‪.‬‬
‫ج ‪ -‬أو في اختلف الحكم ‪ .‬فأمّا تفريقها ابتداء ‪ ،‬فكأن يبيع حل ًل وحراما في صفقة‬
‫واحدة ‪ ،‬كشاة وخنزير ‪ ،‬أو خلّ وخمر ‪ ،‬أو ميتة ومذكّاة ‪ ،‬أو داره ودار غيره بغير إذن‬
‫ح البيع في كلّ ذلك فيما يجوز بيعه من الحلل ‪ ،‬وما يملكه بقسطه من الثّمن‬
‫صاحبها ‪ .‬فيص ّ‬
‫ن الصّفقة اشتملت على صحيح وفاسد ‪ ،‬فالعدل تصحيحها في‬
‫‪ ،‬إعطاء لك ّل حكمه ‪ ،‬ل ّ‬
‫الصّحيح ‪ ،‬وقصر الفساد على الفاسد ‪ ،‬كنظيره فيما لو شهد فاسق وعدل ‪ .‬وفي قول يصحّ‬
‫ن العقد يتوجّه إلى ما يجوز بيعه ‪ ،‬فكان الخر كالمعدوم ‪.‬‬
‫العقد بجميع الثّمن للحلل ‪ ،‬ل ّ‬
‫ن الصّفقة جمعت بين حلل وحرام ‪ ،‬فغلب الحرام ‪ ،‬لقول ابن‬
‫وفي قول ‪ :‬يبطل فيهما ‪ ،‬ل ّ‬
‫عبّاس ‪ :‬ما اجتمع حلل وحرام ‪ ،‬إلّا غلب الحرام الحلل ‪ ،‬ولجهالة العوض الّذي يقابل‬
‫الحلل ‪.‬‬
‫وأمّا تفريق الصّفقة في الدّوام فكأن يبيع شاتين له ‪ ،‬فتلفت إحداهما قبل القبض ‪ ،‬فل ينفسخ‬
‫العقد ‪ ،‬بل يتخيّر المشتري بين الفسخ والجازة ‪ ،‬فإن أجاز يأخذ الباقي بقسطها من الثّمن ‪.‬‬
‫وأمّا تفريقها في اختلف الحكم فكما لو شملت الصّفقة مختلفي الحكم ‪ ،‬كإجارة وبيع بثمن‬
‫واحد ‪ ،‬أو إجارة وسلم صحّا ‪ ،‬ويوزّع المسمّى على القيمة ‪ ،‬وكذا بيع ونكاح ‪ ،‬فيصحّ‬
‫ن المال ليس شرطا فيه ‪ ،‬وفي البيع والصّداق قولن ‪ :‬الظهر صحّتهما‬
‫النّكاح بل خلف ‪ ،‬ل ّ‬
‫‪ ،‬ويوزّع المسمّى على قيمة المبيع ومهر المثل ‪.‬‬
‫مذهب الحنابلة ‪:‬‬
‫‪ -‬قسّم الحنابلة هذه المسألة إلى ثلثة أقسام ‪:‬‬ ‫‪11‬‬

‫أحدها ‪ :‬أن يبيع معلوما ومجهول في صفقة واحدة بثمن واحد ‪ ،‬كأن يقول بعتك هذه الفرس‬
‫ح بيعه‬
‫‪ ،‬وما في بطن هذه الفرس الخرى ‪ ،‬بألف ‪ .‬فهذا باطل ‪ .‬لنّ المجهول ل يص ّ‬
‫لجهالته ‪ ،‬فيصير المبيع المعلوم مجهول الثّمن ول سبيل إلى معرفته ‪ ،‬لنّ المعرفة إنّما‬
‫تكون بتقسيط الثّمن على المبيعين ‪ ،‬والمجهول ل يمكن تقويمه فيتعذّر التّقسيط ‪.‬‬
‫ثانيها ‪ :‬أن يكون المبيعان ممّا ينقسم الثّمن عليهما بالجزاء ‪ ،‬كدار مشتركة بينه وبين غيره‬
‫باعها بغير إذن شريكه ‪ ،‬ففي ذلك عند الحنابلة وجهان ‪:‬‬
‫ن لكلّ واحد‬
‫أحدهما ‪ :‬يصحّ البيع في ملكه بقسطه من الثّمن ‪ ،‬ويبطل فيما ل يملكه ‪ .‬ل ّ‬
‫منهما حكم المستقلّ لو انفرد ‪ ،‬فإذا جمع بينهما ثبت لك ّل واحد منهما حكمه ‪ .‬وهو كما سبق‬
‫قول أبي حنيفة وأحد قولي الشّافعيّ ‪.‬‬
‫والوجه الثّاني ‪ :‬ل يصحّ البيع ‪ ،‬لنّ الصّفقة جمعت حللً وحراما ‪ ،‬فغلب التّحريم ‪ ،‬ولنّ‬
‫الصّفقة إذا لم يمكن تصحيحها في جميع المعقود عليه بطلت في الكلّ ‪ ،‬كالجمع بين الختين‬
‫‪ .‬وهو قول للشّافعيّة ‪.‬‬
‫ثالثها ‪ :‬أن يكون المبيعان معلومين ممّا ل ينقسم عليهما الثّمن بالجزاء ‪ ،‬وأحدهما ممّا‬
‫يصحّ بيعه والخر ممّا ل يصحّ ‪ ،‬كخلّ وخمر ‪ ،‬وميتة ومذكّاة ‪ ،‬ومقدور التّسليم وغير‬
‫مقدور التّسليم ‪ ،‬فيبطل البيع فيما ل يصحّ بيعه ‪ ،‬وفي الخر روايتان ‪:‬‬
‫إحداهما ‪ :‬يصحّ فيه البيع بقسطه من الثّمن ‪ ،‬وهو الظهر من قولين للشّافعيّة ‪ ،‬لنّه يصحّ‬
‫بيعه منفردا فلم يبطل بانضمام غيره إليه ‪.‬‬
‫ن الثّمن مجهول ‪ ،‬لنّه يتبيّن بتقسيط‬
‫والثّاني ‪ :‬يبطل فيه أيضا ‪ ،‬وهو قول الشّافعيّة ‪ ،‬ل ّ‬
‫الثّمن على القيمة ‪ ،‬وذلك مجهول حين العقد ‪.‬‬
‫ز ‪ -‬تفريق الصّوم في الكفّارات ‪:‬‬
‫‪ -‬ل خلف بين الفقهاء في وجوب التّتابع في صوم كفّارتي القتل والظّهار ‪ ،‬لثبوت‬ ‫‪12‬‬

‫شهْرَينِ‬
‫التّتابع فيهما بنصّ القرآن ‪ ،‬في قوله تعالى في كفّارة القتل ‪َ { :‬فمَنْ ل ْم َيجِدْ فَصِيا ُم َ‬
‫شهْرينِ‬
‫ن َلمْ َيجِدْ فَصِيامُ َ‬
‫مُتَتَا ِبعَينِ تَو َب ًة مِنَ الّلهِ } وفي كفّارة الظّهار في قوله تعالى ‪َ { :‬فمَ ْ‬
‫مُتَتَابِعينِ مِنْ قَ ْب ِل أَنْ يَ َتمَاسّا } وثبت التّتابع في صيام كفّارة الوطء في رمضان بالسّنّة‬
‫ن النّبيّ صلى ال‬
‫الصّحيحة ‪ .‬وذهب إلى ذلك عامّة أهل العلم لما في حديث أبي هريرة « أ ّ‬
‫عليه وسلم جاء إليه رجل فقال ‪ :‬هلكت يا رسول اللّه قال ‪ :‬وما أهلكك ؟ قال ‪ :‬وقعت على‬
‫امرأتي في رمضان ‪ ،‬فقال ‪ :‬هل تجد ما تعتق ؟ قال ‪ :‬ل ‪ .‬قال ‪ :‬هل تستطيع أن تصوم‬
‫شهرين متتابعين ‪ » . . .‬إلى آخر الحديث ‪ .‬والتّفصيل في مصطلح ( تتابع ) ‪.‬‬
‫‪ -‬أمّا كفّارة اليمين فقد اختلف الفقهاء في جواز تفريق الصّوم فيها فذهب الحنفيّة‬ ‫‪13‬‬

‫والحنابلة إلى أنّه ل يجوز تفريق الصّوم في كفّارة اليمين ‪ ،‬واستدلّوا بقراءة ابن مسعود ‪،‬‬
‫ن َلمْ َيجِدْ فَصِيامُ ثَل َث ِة أَيّامٍ مُتتَا ِبعَات } ‪.‬‬
‫وأبيّ ‪ ،‬وقد قرآ ‪َ { :‬فمَ ْ‬
‫ن التّتابع في كفّارة اليمين غير واجب ‪ ،‬وهو قول عند‬
‫وذهب المالكيّة والشّافعيّة إلى أ ّ‬
‫ن المر بالصّوم فيها مطلق ‪ ،‬ول يجوز تقييده إل بدليل ‪.‬‬
‫الحنابلة ‪ ،‬ل ّ‬
‫وقد سبق تفصيل هذه المسألة في مصطلح ( تتابع ) ‪.‬‬
‫تتابع قضاء رمضان ‪:‬‬
‫‪ -‬ل يجب التّتابع في قضاء رمضان باتّفاق المذاهب الربعة ‪.‬‬ ‫‪14‬‬

‫وسبق التّفصيل في مصطلح ( تتابع ) ‪.‬‬

‫تفسير *‬
‫التّعريف ‪:‬‬
‫‪ -‬التّفسير في اللّغة ‪ :‬الكشف والظهار والتّوضيح ‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫وفي الصطلح ‪ :‬ل يخرج عن المعنى اللّغويّ ‪ ،‬وغلب على تفسير القرآن ‪ ،‬والمراد به ‪،‬‬
‫كما قال الجرجانيّ ‪ :‬توضيح معنى الية ‪ ،‬وشأنها ‪ ،‬وقصّتها ‪ ،‬والسّبب الّذي نزلت فيه ‪،‬‬
‫بلفظ يدلّ عليه دللة ظاهرة‬
‫اللفاظ ذات الصّلة ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬التّأويل ‪:‬‬
‫‪ -‬التّأويل مصدر أوّل ‪ .‬يقال ‪ :‬أوّل الكلم تأويل ‪ :‬دبّره وقدّره وفسّره ‪ ،‬وفي الصطلح ‪:‬‬ ‫‪2‬‬

‫صرف اللّفظ عن معناه الظّاهر إلى معنى يحتمله إذا كان المحتمل الّذي يراه موافقا للكتاب‬
‫ج الحَيّ مِن المَيّتِ } إن أراد به إخراج الطّير من البيضة‬
‫والسّنّة ‪ ،‬مثل قوله تعالى ‪ُ { :‬يخْرِ ُ‬
‫ل‪.‬‬
‫كان تفسيرا ‪ ،‬وإن أراد إخراج المؤمن من الكافر ‪ ،‬أو العالم من الجاهل كان تأوي ً‬
‫ن التّفسير أعمّ من التّأويل ‪ ،‬وأكثر استعمال التّفسير في‬
‫والفرق بين التّفسير والتّأويل أ ّ‬
‫اللفاظ ومفرداتها ‪ ،‬وأكثر استعمال التّأويل في المعاني والجمل ‪.‬‬
‫وأكثر ما يستعمل التّأويل في الكتب اللهيّة ‪ .‬أمّا التّفسير فيستعمل فيها وفي غيرها ‪.‬‬
‫ن معناه‬
‫وقال قوم ‪ :‬ما وقع مبيّنا في كتاب اللّه ‪ ،‬ومعيّنا في صحيح السّنّة سمّي تفسيرا ‪ ،‬ل ّ‬
‫قد ظهر ‪ ،‬وليس لحد أن يتعرّض له باجتهاد ول غيره ‪ ،‬بل يحمله على المعنى الّذي ورد ل‬
‫يتعدّاه ‪ ،‬والتّأويل ما استنبطه العلماء العالمون بمعاني الخطاب ‪ ،‬الماهرون بآلت العلوم ‪.‬‬
‫ن المراد من اللّفظ هو هذا ‪ ،‬والشّهادة على اللّه أنّه‬
‫قال الماتريديّ ‪ :‬التّفسير القطع على أ ّ‬
‫عنى باللّفظ هذا المعنى ‪ ،‬فإن قام دليل مقطوع به فصحيح ‪ ،‬وإل فتفسير بالرّأي ‪ ،‬وهو‬
‫المنهيّ عنه ‪ .‬والتّأويل ترجيح أحد الحتمالت بدون القطع والشّهادة على اللّه ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬البيان ‪:‬‬
‫‪ -‬البيان ‪ :‬إظهار المتكلّم المراد للسّامع ‪ ،‬وهو أعمّ من التّفسير ‪ ،‬لشموله ‪ -‬عدا بيان‬ ‫‪3‬‬

‫التّفسير ‪ -‬كلً من بيان التّغيير ‪ ،‬وبيان التّقرير ‪ ،‬وبيان الضّرورة ‪ ،‬وبيان التّبديل ‪.‬‬
‫حكم تفسير القرآن ‪:‬‬
‫‪ -‬ل خلف بين الفقهاء في جواز تفسير القرآن بمعنى اللّغة ‪ ،‬لنّه عربيّ ‪.‬‬ ‫‪4‬‬

‫وقال السّيوطيّ ‪ :‬قد أجمع العلماء على أنّ التّفسير من فروض الكفايات ‪ ،‬وأجلّ العلوم‬
‫الثّلثة الشّرعيّة ‪ -‬أي ‪ :‬التّفسير والحديث والفقه ‪. -‬‬
‫ي ‪ -‬أشرف صناعة يتعاطاها النسان تفسير القرآن ‪.‬‬
‫وقال ‪ - :‬نقل عن الصفهان ّ‬
‫كما أجمعوا على حظر تفسير القرآن بالرّأي من غير لغة ول نقل ‪ ،‬واستدلّوا بقوله تعالى ‪:‬‬
‫{ ُقلْ إ ّنمَا حَ ّرمَ رَبّي ال َفوَاحِشَ } إلى قوله { وَأنْ َتقُولُوا على الّلهِ مَا ل َتعْ َلمُونَ } وقوله صلى‬
‫ال عليه وسلم ‪ « :‬من قال في القرآن بغير علم فليتبوّأ مقعده من النّار » والمراد منه‬
‫التّفسير بالرّأي من غير لغة ‪ ،‬ول نقل ‪.‬‬
‫أقسام تفسير القرآن ‪:‬‬
‫‪ -‬قسّم العلماء معاني القرآن إلى ثلثة أقسام ‪:‬‬ ‫‪5‬‬

‫أ ‪ -‬ما ل سبيل إلى الوصول إليه ‪ ،‬وهو الّذي استأثر اللّه بعلمه ‪ ،‬وحجب علمه عن جميع‬
‫خلقه ‪ ،‬ومنه أوقات وقوع المور الّتي أخبر اللّه في كتابه أنّها كائنة ‪ ،‬مثل وقت قيام السّاعة‬
‫‪ ،‬ووقت نزول عيسى ‪ ،‬ووقت طلوع الشّمس من مغربها ‪ ،‬وما أشبه ذلك ‪ ،‬فهذا القسم ليس‬
‫لحد أن يتعرّض له بالتّأويل ‪.‬‬
‫ص اللّه نبيّه صلى ال عليه وسلم بعلم تأويله دون سائر أمّته ‪ ،‬ويحتاج العباد‬
‫ب ‪ -‬ما خ ّ‬
‫إلى تفسيره لمور دينهم ‪ ،‬ودنياهم ‪ ،‬فل سبيل لهم أيضا إلى علم ذلك إل ببيان الرّسول‬
‫صلى ال عليه وسلم لهم تأويله ‪.‬‬
‫ج ‪ -‬ما كان علمه عند أهل اللّسان الّذي نزل به القرآن ‪ ،‬وذلك علم تأويل عربيّته‬
‫وإعرابه ‪ ،‬فل يوصل إلى علم ذلك إل من قبلهم ‪.‬‬
‫طرق التّفسير ‪:‬‬
‫‪ -‬قال السّيوطيّ ‪:‬‬ ‫‪6‬‬

‫قال العلماء ‪ :‬من أراد تفسير القرآن الكريم طلبه أوّل من القرآن نفسه ‪ ،‬فما أجمل منه في‬
‫مكان بسط في موضع آخر ‪ ،‬وما اختصر في مكان بسط في موضع آخر منه ‪.‬‬
‫فإن أعياه ذلك طلبه من السّنّة ‪ ،‬فإنّها شارحة للقرآن ‪ ،‬ومبيّنة له ‪.‬‬
‫وقال الشّافعيّ رضي ال عنه ‪ :‬كلّ ما حكم به رسول اللّه صلى ال عليه وسلم فهو ممّا‬
‫س ِبمَا أَرَاكَ‬
‫ن النّا ِ‬
‫ب بِالحَقّ لِ َتحْ ُكمَ بَي َ‬
‫فهمه من القرآن ‪ .‬لقوله تعالى ‪ { :‬إنّا أَنْزَلْنَا إليكَ الكِتَا َ‬
‫الّلهُ } ‪ .‬وقال عليه الصلة والسلم ‪ « :‬أل إنّي قد أوتيت القرآن ومثله معه » ‪.‬‬
‫وقالوا ‪ :‬فإن لم يوجد في القرآن ‪ ،‬ول في السّنّة ما يوضّح المعنى ‪ ،‬يرجع إلى أقوال‬
‫الصّحابة في تفسيره ‪ ،‬فإنّهم أدرى بذلك لما شاهدوه من القرائن والحوال عند نزوله ‪ ،‬ولما‬
‫اختصّوا به من الفهم الصّحيح والعمل الصّالح ‪ ،‬وقد قال الحاكم في كتاب معرفة علوم‬
‫ي الّذي شهد الوحي والتّنزيل ‪ ،‬فأخبر عن آية من القرآن أنّها نزلت في‬
‫الحديث ‪ :‬إنّ الصّحاب ّ‬
‫كذا وكذا ‪ ،‬فإنّه حديث مسند ‪.‬‬
‫وقال صاحب كشّاف القناع ‪ :‬يلزم الرّجوع إلى تفسير الصّحابيّ لنّهم شاهدوا التّنزيل ‪،‬‬
‫وحضروا التّأويل ‪ .‬فتفسيره أمارة ظاهرة ‪.‬‬
‫ي ما يخالف القياس فهو توقيف‪ .‬وقال القاضي ‪ ،‬وغيره من الحنابلة ‪ :‬إن‬
‫وإذا قال الصّحاب ّ‬
‫ن نقل كلم العرب في ذلك صيّر‬
‫قلنا ‪ :‬إنّ قول الصّحابيّ حجّة لزم قبول تفسيره ‪ ،‬وإل فإ ّ‬
‫إليه ‪ ،‬وإن فسّره اجتهادا أو قياسا على كلم العرب لم يلزم قبول تفسيره ‪.‬‬
‫‪ -‬أمّا تفسير التّابعيّ فل يلزم الرّجوع إليه ‪ ،‬لنّه ليس حجّة بالتّفاق ‪ ،‬ونقل عن المام‬ ‫‪7‬‬

‫أحمد ‪ :‬يلزم الرّجوع إلى قول التّابعيّ في التّفسير ‪ ،‬وغيره ‪.‬‬


‫ونقل أبو داود ‪ :‬إذا جاء عن الرّجل من التّابعين ل يوجد فيه عن النّبيّ صلى ال عليه وسلم‬
‫ي صلى ال عليه وسلم يؤخذ‬
‫نقل ل يلزم الخذ به ‪ .‬وقال المرويّ ‪ :‬ينظر ما كان من النّب ّ‬
‫وجوبا ‪ ،‬فإن لم يكن فعن الصّحابة ‪ ،‬فإن لم يكن فعن التّابعين ‪ ،‬وقال القاضي ‪ :‬يمكن حمل‬
‫هذا القول على إجماعهم ‪ ،‬وقواعد المذاهب الخرى ل تأبى ذلك ‪.‬‬
‫والمسألة أصوليّة ‪ ،‬وتفصيل ذلك في الملحق الصوليّ ‪.‬‬
‫تفسير القرآن بمقتضى اللّغة ‪:‬‬
‫‪ -‬ذهب جمهور العلماء إلى جواز تفسير القرآن بمقتضى اللّغة ‪ ،‬وقالوا ‪ :‬لنّه عربيّ ‪.‬‬ ‫‪8‬‬

‫قال الغزاليّ ‪ :‬ثبت أنّه ليس في القرآن ما ل تفهمه العرب ‪ .‬فإن قيل ‪ :‬العرب إنّما تفهم من‬
‫ن على العَرْشِ اسْتَوى } الجهة ‪،‬‬
‫ق عِبَادِه } و { الرّحمَ ُ‬
‫قوله تعالى ‪ { :‬وهو القَاهِرُ فَو َ‬
‫والستقرار ‪ .‬وقد أريد به غيره فهو متشابه ‪ .‬قلنا هيهات ‪ ،‬فإنّ هذه كنايات ‪ ،‬واستعارات‬
‫ن اللّه تعالى ليس كمثله شيء ‪ ،‬وأنّها مؤوّلة‬
‫يفهمها المؤمنون من العرب المصدّقون بأ ّ‬
‫تأويلت تناسب تفاهم العرب ‪ .‬وهناك من يرى إثبات هذه السماء والصّفات على ظاهرها ‪،‬‬
‫مع التزام التّنزيه ‪ .‬والتّفصيل في علم العقيدة ‪.‬‬
‫ي ‪ :‬وفي حثّ اللّه تعالى عباده على العتبار بما في آي القرآن من المواعظ ‪،‬‬
‫وقال الطّبر ّ‬
‫ك لِيَدّبّرُوا آيَاتِه وَلِيَتَ َذكّ َر أُولوا اللْبِابِ }‬
‫ب أَنْزَلْنَاه إليكَ مُبَارَ ٌ‬
‫والبيانات في قوله تعالى ‪ { :‬كِتَا ٌ‬
‫وما أشبهها من آي القرآن الّتي أمر اللّه عباده ‪ ،‬وحثّهم فيها على العتبار بأمثال آي‬
‫القرآن والتّعاظ به ‪ ،‬ما يد ّل على أنّ عليهم معرفة تأويل ما لم يحجب عنهم تأويله من آيه ‪،‬‬
‫لنّه محال أن يقال ‪ -‬لمن ل يفهم ما يقال له ‪ ،‬ول يعقل تأويله ‪ -‬اعتبر بما ل فهم لك به ‪،‬‬
‫ول معرفة من القول والبيان والكلم على معنى المر بأن يفهمه ‪ ،‬ويفقهه ث ّم يتدبّره ‪،‬‬
‫ويعتبر به ‪ .‬فأمّا قبل ذلك فمستحيل أمره بتدبّره وهو جاهل عن معناه ‪.‬‬
‫ح هذا فقد فسد قول من أنكر تفسير المفسّرين في كتب اللّه ‪ ،‬ما لم يحجب‬
‫ثمّ قال ‪ :‬وإذا ص ّ‬
‫ن النّهي عن تفسير القرآن ‪ ،‬إنّما ينصرف إلى‬
‫اللّه تأويله عن خلقه ‪ .‬وقال العلماء ‪ :‬إ ّ‬
‫المتشابه منه ل إلى جميعه لنّ القرآن نزل حجّة على الخلق ‪ ،‬فلو لم يجز التّفسير لم تكن‬
‫الحجّة بالغة ‪ .‬فإذا كان كذلك ‪ ،‬جاز لمن عرف لغات العرب وأسباب النّزول أن يفسّره ‪ ،‬أمّا‬
‫من لم يعرف وجوه اللّغة فل يجوز أن يفسّره إلّا بمقدار ما سمع ‪ ،‬فيكون ذلك على وجه‬
‫ن المراد من الية كذا ‪ -‬وهو ل يعرف اللّغة‬
‫الحكاية ‪ ،‬ل على وجه التّفسير ‪ ،‬ولو قال ‪ :‬إ ّ‬
‫العربيّة ‪ ،‬ولم يسمع فيه شيئا ‪ ،‬فل يحلّ له ذلك ‪ ،‬وهو الّذي نهى عنه ‪ .‬وقال مجاهد ‪ :‬ل‬
‫يحلّ لحد يؤمن باللّه ‪ ،‬واليوم الخر ‪ ،‬أن يتكلّم في كتاب اللّه إذا لم يكن عالما بلغات العرب‪.‬‬
‫شروط المفسّر للقرآن ‪ ،‬وآدابه ‪:‬‬
‫‪ -‬يشترط فيمن يفسّر القرآن أن يكون عالما بلغة العرب لنّ القرآن نزل بها ‪ ،‬فبالعلم بها‬ ‫‪9‬‬

‫يعرف شرح مفردات اللفاظ ‪ ،‬ومدلولتها حسب الوضع والستعمال ‪.‬‬


‫وقد نقل عن مجاهد ‪ :‬ل يحلّ لحد يؤمن باللّه واليوم الخر ‪ :‬أن يتكلّم في كتاب اللّه إذا لم‬
‫ن المعنى يتغيّر ‪ ،‬ويختلف باختلف‬
‫يكن عالما بلغات العرب ‪ .‬ومنها أن يكون عالما بالنّحو ل ّ‬
‫ن به يعرف أبنية الكلمات واشتقاقاتها ‪ ،‬لنّ السم إذا كان اشتقاقه‬
‫العراب ‪ ،‬وبالصّرف ل ّ‬
‫من مادّتين مختلفتين اختلف معناه باختلفها ‪.‬‬
‫ويشترط أن يعرف علوم البلغة ‪ :‬المعاني ‪ ،‬والبيان ‪ ،‬والبديع ‪ ،‬لنّه بهذه العلوم يعرف‬
‫ص تراكيب الكلم من جهة إفادتها المعنى ‪ ،‬وخواصّها من حيث اختلفها ‪ ،‬حسب‬
‫خوا ّ‬
‫وضوح الدّللة ‪ ،‬وخفائها ‪ ،‬وتحسين الكلم ‪ ،‬كما يشترط أن يكون عالما بأصول الفقه ‪ ،‬إذ‬
‫به يعرف وجوه الستدلل على الحكام ‪ ،‬وطرق الستنباط ‪ ،‬وأن يعلم أسباب النّزول ‪ ،‬إذ به‬
‫يعرف معنى الية المنزّلة فيه بحسب ما أنزلت ‪.‬‬
‫ويشترط أيضا أن يعرف النّاسخ ‪ ،‬والمنسوخ ليعلم المحكم من غيره ‪ ،‬والحاديث المبيّنة‬
‫لتفسير الجمل ‪ ،‬والمبهم ‪.‬‬
‫ويشترط في المفسّر صحّة العتقاد ‪ ،‬ولزوم السّنّة ‪ ،‬وأل يتّهم بإلحاد ‪ ،‬ول هوى ‪ ،‬لنّه ل‬
‫يؤتمن على الدّنيا من كان مغموصا في دينه فكيف يؤتمن على الدّين ‪ ،‬ثمّ هو ل يؤتمن في‬
‫الدّين على الخبار عن عالم ‪ ،‬فكيف يؤتمن في الخبار عن أسرار اللّه ؟ وكذلك ل يؤتمن إذا‬
‫كان متّهما بإلحاد أن يبغي الفتنة ويغ ّر النّاس بليّه ‪ ،‬وخداعه ‪ ،‬وإن كان متّهما بهوى لم‬
‫يؤمن أن يحمله هواه على ما يوافق بدعته ‪.‬‬
‫وعدّ السّيوطيّ علم الموهبة قال ‪ :‬وهو علم يورثه اللّه تعالى لمن عمل بما علم ‪ ،‬وإليه‬
‫الشارة بحديث ‪ « :‬من عمل بما علم ورّثه اللّه علم ما لم يعلم » ‪.‬‬
‫ي أنّه يجب أن يكون اعتماد المفسّر على النّقل‬
‫‪ -‬ونقل السّيوطيّ عن أبي طالب الطّبر ّ‬ ‫‪10‬‬

‫الصّحيح عن النّبيّ صلى ال عليه وسلم ثمّ عن الصّحابة ومن عاصرهم من التّابعين ‪ ،‬وأن‬
‫يتجنّب المحدثات ‪ -‬أي القوال المبتدعة ‪ -‬وإذا تعارضت أقوال الصّحابة ‪ ،‬وأمكن الجمع‬
‫بينها فعل ‪ .‬وإن لم يمكن الجمع بينها ر ّد المر إلى ما ثبت فيه السّمع ‪ .‬فإن لم يجد سمعا ‪،‬‬
‫وكان للستدلل طريق إلى تقوية أحدهما رجّح ما قوي الستدلل فيه ‪ ،‬إذا كان ممّا يمكن‬
‫معرفة صحيحه من ضعيفه بطرق الستدلل ‪ ،‬لنّه قد ثبت أن ليس في القرآن ما ل تفهمه‬
‫العرب ‪ ،‬أمّا ما ل يمكن معرفته بطرق الستدلل ول نقل فيه فل سبيل إلى تفسيره ‪.‬‬
‫وعامّة هذا النّوع ممّا ل فائدة فيه ‪ ،‬ول حاجة بنا إلى معرفته كلون كلب أصحاب الكهف ‪،‬‬
‫واسمه ‪ ،‬والبعض الّذي ضرب به الميّت من البقرة ‪ ،‬واسم الغلم الّذي قتله صاحب موسى‬
‫عليه السلم ‪ ،‬ونحو ذلك ‪ ،‬ول ينبغي أن نشغل أنفسنا بذلك ‪.‬‬
‫وينبغي أن يكون المفسّر سليم المقصد فيما يقول ‪ ،‬ليلقى التّسديد من اللّه ‪ ،‬قال تعالى ‪:‬‬
‫حسِنينَ } وقال ‪ { :‬وَاتّقُوا الّلهَ وَ ُيعَّل ُم ُكمْ‬
‫ن جَاهَدُوا فِينَا لَ َنهْدِيَ ّن ُهمْ سُبُلَنَا وَإنّ الّل َه َلمَ َع ال ُم ْ‬
‫{ وَالّذِي َ‬
‫الّلهُ وَالّل ُه ِبكُ ّل شَيءٍ عَليمٌ }‬
‫مسّ المحدث كتب التّفسير وحمله لها ‪:‬‬
‫س كتب التّفسير وإن كان فيها آيات من القرآن‬
‫‪ -‬يجوز عند جمهور الفقهاء للمحدث م ّ‬ ‫‪11‬‬

‫وحملها والمطالعة فيها ‪ ،‬وإن كان جنبا ‪ ،‬قالوا ‪ :‬لنّ المقصود من التّفسير ‪ :‬معاني‬
‫القرآن ‪ ،‬ل تلوته ‪ ،‬فل تجري عليه أحكام القرآن ‪.‬‬
‫ن الجواز مشروط فيه أن يكون التّفسير أكثر من القرآن لعدم الخلل‬
‫وصرّح الشّافعيّة بأ ّ‬
‫بتعظيمه حينئذ ‪ ،‬وليس هو في معنى المصحف ‪ .‬وخالف في ذلك الحنفيّة ‪ ،‬فأوجبوا الوضوء‬
‫لمسّ كتب التّفسير ‪ .‬والتّفصيل في مصطلح ( مصحف ‪ ،‬وحدث ) ‪.‬‬
‫قطع سارق كتب التّفسير ‪:‬‬
‫ي والحنابلة وأبو‬
‫‪ -‬اختلف الفقهاء في قطع سارق كتب التّفسير ‪ ،‬فذهب مالك والشّافع ّ‬ ‫‪12‬‬

‫ثور إلى وجوب القطع بسرقتها إذا تمّت شروط القطع ‪.‬‬
‫وذهب الحنفيّة إلى عدم القطع على تفصيل يرجع فيه إلى مصطلح ( سرقة ) ‪.‬‬
‫تفسير المقرّ ما أبهمه في القرار ‪:‬‬
‫ي شيء ‪ ،‬ونحو ذلك ‪ ،‬صحّ‬
‫‪ -‬إذا قال ابتداء أو جوابا عن دعوى صحيحة ‪ :‬لفلن عل ّ‬ ‫‪13‬‬

‫القرار باتّفاق الفقهاء ‪ ،‬ويجب عليه تفسير المبهم ‪ ،‬فإن فسّره بما يتموّل قبل تفسيره ‪ ،‬قلّ‬
‫أو كثر ‪ .‬وإن فسّره بما ل يتموّل ولكنّه من جنس ما يتموّل ‪ ،‬كحبّة حنطة يقبل عند الشّافعيّة‬
‫‪ ،‬لنّه شيء يحرم أخذه بغير إذن ‪ ،‬ويجب ردّه على آخذه ‪.‬‬
‫ويشترط الحنفيّة أن يفسّر بذي قيمة ‪ ،‬وهو الرّاجح عند الحنابلة ‪ ،‬ووجه عند الشّافعيّة ‪.‬‬
‫وإن لم يكن من جنس ما يتموّل فإن كان ممّا يجوز اقتناؤه لمنفعته كالكلب المعلّم أو القابل‬
‫للتّعليم ‪ ،‬والسّرجين ‪ ،‬فيقبل تفسيره به ‪ ،‬وإن فسّره بما ل يجوز اقتناؤه ‪ ،‬كخمر غير‬
‫ال ّذمّيّ ‪ ،‬أو ككلب ل يجوز اقتناؤه ‪ ،‬فل يقبل تفسيره به ‪.‬‬
‫ق الشّفعة قبل ‪.‬‬
‫وإن فسّره بوديعة ‪ ،‬أو بح ّ‬
‫ن التّفسير واجب عليه ‪ ،‬فيصير بامتناعه عن‬
‫وإن امتنع عن التّفسير حبس حتّى يفسّر ‪ ،‬ل ّ‬
‫تفسير ما أق ّر به مجمل ‪ -‬كمن امتنع عن أداء حقّ وجب عليه ‪.‬‬
‫وفي وجه عند الشّافعيّة ل يحبس ‪ ،‬فإن وقع القرار المبهم في جواب دعوى ‪ ،‬وامتنع عن‬
‫التّفسير جعل منكرا ‪ ،‬ويعرض اليمين عليه ‪ ،‬فإن أصرّ ولم يحلف جعل ناكل ‪ ،‬وحلف‬
‫المدّعي ‪ ،‬وإن كان ابتداء بل سبق دعوى ادّعى عليه المقرّ له بالحقّ ‪ ،‬وقالوا ‪ :‬حيث أمكن‬
‫حصول الغرض فل يحبس ‪ .‬والتّفصيل في مصطلح ( إقرار ) ‪.‬‬

‫تفسيق *‬
‫التّعريف ‪:‬‬
‫‪ -‬التّفسيق ‪ :‬مصدر فسّق ‪ ،‬يقال ‪ :‬فسّقه إذا نسبه إلى الفسق ‪ ،‬والفسق ‪ -‬في الصل ‪-‬‬ ‫‪1‬‬

‫الخروج ‪ ،‬وغلب استعماله في الخروج عن الستقامة والطّاعة ‪ ،‬يقال ‪ :‬فسقت الرّطبة ‪ ،‬أي‬
‫‪ :‬خرجت عن قشرتها ‪.‬‬
‫والفسق هو الفجور والخروج عن طريق الحقّ والتّرك لمر اللّه ‪ ،‬والعصيان ‪ ،‬وفي التّنزيل‬
‫{ وَإنّه َل ِفسْقٌ } أي خروج عن الحقّ ‪ .‬وقال العسكريّ ‪ :‬الفسق الخروج من طاعة اللّه‬
‫بكبيرة ‪ ،‬والفجور النبعاث في المعاصي والتّوسّع فيها ‪.‬‬
‫ول يخرج استعمال الفقهاء لهذا اللّفظ عن المعنى اللّغويّ ‪.‬‬
‫اللفاظ ذات الصّلة ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬التّعديل ‪:‬‬
‫‪ -‬من معاني التّعديل النّسبة إلى العدالة ‪ ،‬يقال عدلت الشّاهد إذا نسبته إلى العدالة‬ ‫‪2‬‬

‫ووصفته بها ‪ .‬والعدالة لغة الستقامة ‪ ،‬وفي الشّريعة ‪ :‬عبارة عن الستقامة على طريق‬
‫الحقّ باجتناب ما هو محظور في الدّين ‪ .‬فالتّعديل ضدّ التّفسيق ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬التّكفير ‪:‬‬
‫‪ -‬من معاني التّكفير النّسبة إلى الكفر ‪ ،‬والكفر لغة التّغطية والسّتر ‪ ،‬يقال ‪ :‬فلن كفر‬ ‫‪3‬‬

‫النّعمة إذا سترها ولم يشكرها ‪ ،‬وشرعا هو ‪ :‬تكذيب النّبيّ صلى ال عليه وسلم في أمر من‬
‫المور المعلومة من الدّين بالضّرورة ( ر ‪ :‬كفر ) ‪.‬‬
‫والفرق بين التّفسيق والتّكفير أنّ التّفسيق أعمّ من التّكفير بهذا المعنى ‪.‬‬
‫الحكم الجماليّ ‪:‬‬
‫‪ -‬تفسيق المجلود في حدّ القذف ‪ :‬يفسّق المجلود في ح ّد القذف ‪ ،‬لقوله تعالى { وَالّذينَ‬ ‫‪4‬‬

‫شهَادَةً‬
‫شهَدَاءَ فَاجْلِدُوهم َثمَانِينَ جَلْدَ ًة وَل َتقْبَلُوا لَهمْ َ‬
‫ن ال ُمحْصَنَاتِ ثمّ ل ْم يَأتُوا بِأَرْ َب َعةِ ُ‬
‫يَ ْرمُو َ‬
‫سقُونَ } فقد تعلّق بالقذف ‪ -‬إذا لم يأت القاذف ببيّنة ‪ -‬ثلثة أحكام ‪:‬‬
‫ك هم الفَا ِ‬
‫أَبَدَا وَأولئ َ‬
‫الحدّ ‪ ،‬ور ّد الشّهادة ‪ ،‬والتّفسيق ‪ ،‬تغليظا لشأن القذف ‪ ،‬وقوّة في الرّدع عنه ‪.‬‬
‫وفي قبول شهادة الفاسق بعد التّوبة ‪ ،‬وشروط توبته ‪ ،‬تفصيل ينظر في مصطلحات ( توبة ‪،‬‬
‫شهادة ‪ ،‬فسق ‪ ،‬وقذف ) ‪.‬‬
‫تفسيق مرتكب الكبائر ‪:‬‬
‫‪ -‬ل خلف بين الفقهاء في تفسيق مرتكب الكبائر كالزّاني ‪ ،‬واللّائط ‪ ،‬والقاتل ‪ ،‬ونحوهم ‪،‬‬ ‫‪5‬‬

‫لنّ تفسيق القاذف ور ّد شهادته ثبت بنصّ القرآن فيقاس عليه كلّ مرتكب كبيرة ‪.‬‬
‫ن َيجْتَنِبُونَ كَبَائِ َر الِ ْثمِ وَالفَوَاحِشَ إل الّل َممَ }‪.‬‬
‫أمّا الصّغائر فل يفسّق بها ‪،‬لقوله تعالى ‪ {:‬الّذِي َ‬
‫أمّا تفسير الكبيرة ففيه خلف وتفصيل ينظر في ( كبائر ‪ ،‬عدالة ‪ ،‬فسق ‪ ،‬ومعصية ) ‪.‬‬
‫تفسيق أهل البدع ‪:‬‬
‫‪ -‬البدع إمّا عمليّة أو اعتقاديّة ‪ ،‬فأمّا البدع العمليّة ‪ ،‬فيرى المالكيّة والحنابلة وشريك‬ ‫‪6‬‬

‫وإسحاق بن راهويه وأبو عبيد وأبو ثور تفسيق أهلها ‪ ،‬وعدم قبول شهادتهم لنّ البتداع‬
‫فسق من حيث العتقاد ‪ ،‬وهو شرّ من الفسق من حيث التّعاطي ‪ ،‬ول فرق بين كون أهل‬
‫البدع متعمّدين للبدعة أو متأوّلين ‪ ،‬لنّهم ل يعذرون بالتّأوّل ‪.‬‬
‫أمّا الحنفيّة والشّافعيّة فيقولون بقبول شهادة أهل البدع إل الخطّابيّة فإنّهم ل تقبل شهادتهم ‪،‬‬
‫لنّهم يرون إباحة الكذب على خصومهم لتأييد مذهبهم ‪.‬‬
‫أمّا البدع العتقاديّة غير المكفّرة ‪ ،‬فقد اتّفق الفقهاء على تفسيق أهلها ‪ .‬إل أنّهم ل يعتبرون‬
‫هذا النّوع من الفسق مانعا من قبول الشّهادة ‪ ،‬لنّ أهل البدع ما أوقعهم في البدعة والهوى‬
‫إل التّعمّق والغلوّ في الدّين ‪ ،‬فمنهم من يعظّم الذّنب حتّى يجعله كفرا ‪ ،‬فيكون ممتنعا عن‬
‫الكذب ‪ ،‬فصار هذا كمن يشرب المثلّث من الحنفيّة ‪ ،‬أو يأكل متروك التّسمية عامدا من‬
‫الشّافعيّة معتقدا إباحته ‪ ،‬فإنّه ل تر ّد شهادته كذا هذا ‪ ،‬بخلف الفسق من حيث التّعاطي‬
‫والفعال حيث تر ّد الشّهادة به ‪.‬‬
‫أمّا البدع المكفّرة فتر ّد شهادة أهلها عند الجمهور ‪ ،‬وتفصيل ذلك ينظر في ( أهل الهواء ‪،‬‬
‫بدعة ‪ ،‬شهادة ‪ ،‬عدالة ‪ ،‬وفسق ) ‪.‬‬
‫تفسيق من ليس فاسقا ‪:‬‬
‫‪ -‬من فسّق مسلما بأن قذفه ب ( يا فاسق ) ‪ .‬وهو ليس بفاسق عزّر ‪ ،‬وهذا ما ل خلف‬ ‫‪7‬‬

‫فيه بين أهل العلم ‪.‬‬


‫أمّا لو قال لفاسق ‪ :‬يا فاسق فل يجب فيه شيء ‪ .‬التّفاصيل في ( سبّ ‪ ،‬وفسق ) ‪.‬‬
‫مواطن البحث ‪:‬‬
‫يتناول الفقهاء أحكام التّفسيق بالتّفصيل في أبواب الشّهادات ‪ ،‬وحدّ القذف ‪ ،‬والرّدّة ‪ ،‬فتنظر‬
‫فيها ‪ ،‬وفي مصطلحاتها الخاصّة ‪ ،‬وكذلك في مباحث ( المامة ‪ :‬كبرى أو صغرى ) ‪.‬‬

‫تفضيل *‬
‫التّعريف ‪:‬‬
‫‪ -‬التّفضيل في اللّغة ‪ :‬مصدر فضّله ‪ ،‬يقال ‪ :‬فضّلت فلنا على غيره تفضيلً ‪ ،‬أي ميّزته ‪،‬‬ ‫‪1‬‬

‫وحكمت له بالفضل ‪ ،‬أو صيّرته كذلك والفضل والفضيلة ‪ .‬ض ّد النّقص والنّقيصة ‪.‬‬
‫ول يخرج استعمال الفقهاء لكلمة تفضيل عن هذا المعنى اللّغويّ ‪.‬‬
‫اللفاظ ذات الصّلة ‪:‬‬
‫التّسوية ‪:‬‬
‫‪ -‬التّسوية من سوّيت الشّيء فاستوى ‪ ،‬أي ‪ :‬قوّمته فاستقام ‪ ،‬وقسم الشّيء بين الرّجلين‬ ‫‪2‬‬

‫بالسّويّة ‪ ،‬أي ‪ :‬على سواء ‪ ،‬ومن معانيها أيضا ‪ :‬العدل ‪ ،‬يقال ‪ :‬سوّيت بين الشّيئين ‪ :‬إذا‬
‫عدلت بينهما ‪ ،‬وسوّيت فلنا بفلن ‪ :‬ماثلته به ‪ .‬فالتّسوية ض ّد التّفضيل ‪.‬‬
‫الحكم الجماليّ ‪:‬‬
‫‪ -‬يختلف حكم التّفضيل باختلف مواضعه ‪ :‬فقد يكون واجبا كتفضيل الفارس على الرّاجل‬ ‫‪3‬‬

‫في تقسيم الغنيمة ‪ .‬فقد اتّفق الفقهاء على أنّه يعطى الفارس أكثر من الرّاجل ‪ ،‬ثمّ اختلفوا‬
‫في مقدار ما يعطاه الفارس ‪ ،‬والفرس ‪ ،‬والرّاجل ‪.‬‬
‫فذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ‪ ،‬وأبو يوسف ‪ ،‬ومحمّد من الحنفيّة إلى أنّه يعطى‬
‫ي صلى ال عليه‬
‫الفارس ثلثة أسهم ‪ ،‬سهما له وسهمين لفرسه لحديث ابن عمر « أنّ النّب ّ‬
‫وسلم أسهم يوم خيبر للفارس ثلثة أسهم ‪ :‬سهمان لفرسه ‪ ،‬وسهم له » ‪.‬‬
‫ويعطى الرّاجل سهما ‪ ،‬وقال أبو حنيفة بإعطاء الفارس سهمين ‪ ،‬والرّاجل سهما ‪ ،‬لحديث‬
‫مجمّع بن جارية « أنّ رسول اللّه صلى ال عليه وسلم قسم خيبر على أهل الحديبية ‪،‬‬
‫فأعطى الفارس سهمين ‪ ،‬وأعطى الرّاجل سهما » ‪.‬‬
‫وأمّا تفضيل بعض الغانمين على بعض فالصل أنّه ل يجوز ‪ ،‬وفي المسألة تفصيل يرجع فيه‬
‫إلى مصطلح ( غنيمة ) ‪.‬‬
‫‪ -‬واختلف الفقهاء في جواز التّفضيل بين الصناف المختلفة وآحاد الصّنف الواحد في‬ ‫‪4‬‬

‫إعطاء الزّكاة يرجع فيه إلى مصطلح ( تسوية ) وقد فصّل الفقهاء الكلم فيه في كتاب الزّكاة‬
‫عند الكلم عن ( مصرف الزّكاة ) ‪.‬‬
‫‪ -‬وقد يكون التّفضيل مكروها كتفضيل بعض الولد على بعض في العطيّة عند جمهور‬ ‫‪5‬‬

‫الفقهاء ‪ ،‬إن وقع جاز ‪ ،‬وروي عن مالك المنع ‪ ،‬وذهب الحنابلة إلى أنّه يجب التّسوية بين‬
‫الولد ‪ ،‬فإن خصّ بعضهم بعطيّة ‪ ،‬أو فاضل بينهم فيها ‪ ،‬دون معنى يقتضي ذلك أثم ‪،‬‬
‫وهناك خلف بين الفقهاء في معنى التّسوية ‪ ،‬هل تكون على حسب قسمة اللّه تعالى‬
‫الميراث ‪ ،‬أو تعطى النثى مثل ما يعطى الذّكر ؟ يرجع فيه إلى مصطلح ( تسوية وهبة ) ‪.‬‬
‫‪ -‬وقد يكون التّفضيل حراما كتفضيل زوجة على أخرى ‪.‬‬ ‫‪6‬‬

‫فقد اتّفق الفقهاء على حرمة التّفضيل بين الزّوجات في القسم ‪ ،‬وإن ترجّحت إحداهنّ بشرف‬
‫أو غيره ‪ ،‬وفي تفضيل الجديدة على القديمة ‪ ،‬وفي كيفيّة القسم خلف وتفصيل ‪.‬‬
‫يرجع إليه في مصطلحي ( تسوية وقسم ) ‪.‬‬
‫‪ -‬وللفقهاء أقوال وآراء حول تفضيل مكّة على المدينة المنوّرة ‪ ،‬وتفضيل قبره المكرّم‬ ‫‪7‬‬

‫صلى ال عليه وسلم وتفضيل الصّلة في المسجد الحرام ‪ ،‬والمسجد النّبويّ على غيرهما‬
‫من المساجد ‪ ،‬وتفضيل إدراك الجماعة على تثليث الوضوء وسائر آدابه ‪ ،‬والتّفضيل بين‬
‫آحاد ك ّل صنف في الوصيّة ذكر في موطنه ويرجع أيضا إلى مصطلحات ( المدينة المنوّرة ‪،‬‬
‫مكّة المكرّمة ‪ ،‬قبر ‪ ،‬مساجد ‪ ،‬وصيّة ) ‪.‬‬
‫ج الفقير ‪ ،‬وحجّ الفرض على‬
‫‪ -‬وأيضا ينظر تفصيل الكلم في تفضيل حجّ الغنيّ على ح ّ‬ ‫‪8‬‬

‫طاعة الوالدين ‪ ،‬وبناء الرّباط على حجّ النّفل ‪ ،‬والحجّ تطوّعا على الصّدقة ‪ ،‬ويوم عرفة إذا‬
‫وافق يوم الجمعة على غيره ‪ ،‬وتفضيل مجاورة المدينة على مكّة ‪ ،‬أو العكس في ( كتاب‬
‫الحجّ ) ‪ .‬ومصطلحي ( حجّ ‪ ،‬وجوار ) كما فصّل القرافيّ الكلم في التّفضيل بين العلوم في‬
‫الفرق الثّالث عشر والمائة ‪.‬‬

‫تفليج *‬
‫التّعريف ‪:‬‬
‫‪ -‬التّفليج لغة هو التّفريق بين السنان سواء ‪ ،‬أكان خلقة ‪ ،‬أم بتكلّف ‪ ،‬بأن يبردها‬ ‫‪1‬‬

‫بالمبرد ونحوه طلبا للحسن ‪ ،‬ويقال ‪ :‬رجل أفلج السنان وامرأة فلجاء السنان ‪.‬‬
‫ورجل مفلج الثّنايا أي منفرجها ‪ .‬والمتفلّجة هي الّتي تتكلّف ‪ ،‬بأن تفرّق بين السنان لجل‬
‫الحسن ‪ .‬وهو من الفلج ( بفتح الفاء واللم ) وهو الفرجة بين الثّنايا والرّباعيّات ‪.‬‬
‫وفي صفته صلى ال عليه وسلم أنّه كان مفلّج السنان ‪ ،‬وفي رواية أفلج السنان ‪ ،‬وعن‬
‫ابن عبّاس قال ‪ « :‬كان رسول اللّه صلى ال عليه وسلم ‪ :‬أفلج الثّنيّتين ‪ ،‬وإذا تكلّم رئي‬
‫كالنّور يخرج من بين ثناياه » ‪.‬‬
‫اللفاظ ذات الصّلة ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬التّفريق ‪:‬‬
‫‪ -‬التّفريق في اللّغة ‪ :‬خلف الجمع ‪ ،‬وهو الفصل بين الشياء ‪ ،‬أو الفصل بين أبعاض‬ ‫‪2‬‬

‫ي عن المعنى اللّغويّ وهو أعمّ من التّفليج ‪ ،‬حيث‬


‫الشّيء الواحد ‪ .‬ول يخرج معناه الشّرع ّ‬
‫يكون في السنان وغيرها ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬الوشر ‪:‬‬
‫‪ -‬الوشر في اللّغة ‪ :‬النّشر ‪ ،‬يقال ‪ :‬وشر الخشبة وشرا ‪ :‬إذا نشرها بالمنشار ‪.‬‬ ‫‪3‬‬

‫وهو في الشّرع ‪ :‬تحديد السنان وترقيق أطرافها ‪.‬‬


‫وفي الحديث ‪ « :‬نهى عن النّامصة والواشرة » ‪.‬‬
‫والفرق بينهما ‪ :‬أنّ التّفليج هو تفريق السنان ‪ ،‬والوشر هو تحديدها وترقيقها ‪.‬‬
‫الحكم الجماليّ ‪:‬‬
‫ن تفليج السنان لجل الحسن حرام ‪ ،‬سواء في ذلك طالبة التّفليج‬
‫‪ -‬اتّفق الفقهاء على أ ّ‬ ‫‪4‬‬

‫وفاعلته ‪ ،‬وذلك لما ثبت عن عبد اللّه بن مسعود رضي ال عنه أنّه قال ‪ « :‬لعن اللّه‬
‫الواشمات ‪ ،‬والمستوشمات ‪ ،‬والنّامصات ‪ ،‬والمتنمّصات ‪ ،‬والمتفلّجات للحسن المغيّرات خلق‬
‫اللّه قال ‪ :‬فبلغ ذلك امرأة من بني أسد يقال لها أ ّم يعقوب ‪ .‬وكانت تقرأ القرآن فأتته ‪.‬‬
‫فقالت ‪ :‬ما حديث بلغني عنك أنّك لعنت الواشمات ‪ ،‬والمستوشمات ‪ ،‬والمتنمّصات‬
‫والمتفلّجات للحسن المغيّرات خلق اللّه ‪ ،‬فقال عبد اللّه ‪ :‬وما لي ل ألعن من لعن رسول اللّه‬
‫صلى ال عليه وسلم وهو في كتاب اللّه ‪ .‬فقالت المرأة ‪ :‬قرأت ما بين لوحي المصحف فما‬
‫وجدته ‪ .‬فقال ‪ :‬لئن كنت قرأتيه لقد وجدتيه ‪ .‬قال اللّه عزّ وجلّ ‪َ { :‬ومَا آتَاكُمْ ال ّرسُولُ‬
‫َفخُذُوه َومَا َنهَاكُمْ عَنْه فَانْ َتهُوا } فقالت المرأة ‪ :‬إنّي أرى شيئا من هذا على امرأتك الن ‪.‬‬
‫قال ‪ :‬اذهبي فانظري ‪ .‬قال ‪ :‬فدخلت على امرأة عبد اللّه فلم تر شيئا ‪ ،‬فجاءت إليه فقالت ‪:‬‬
‫ما رأيت شيئا فقال ‪ :‬أما لو كان ذلك لم نجامعها » أي لم نجتمع معها ‪.‬‬
‫وعنه رضي ال عنه أنّه قال ‪ « :‬سمعت رسول اللّه صلى ال عليه وسلم يلعن المتنمّصات ‪،‬‬
‫والمتفلّجات ‪ ،‬والمتوشّمات اللتي يغيّرن خلق اللّه ع ّز وجلّ » ‪ .‬ثمّ إنّ هذه الحرمة ليست‬
‫ن اللم في قوله ‪ « :‬للحسن »‬
‫مطلقة ‪ ،‬وإنّما هي مقصورة على من تفعل ذلك للحسن ‪ .‬ل ّ‬
‫ن ونحوه فل بأس به ‪.‬‬
‫للتّعليل ‪ ،‬أمّا لو احتيج إليه لعلج أو عيب في السّ ّ‬
‫‪ -‬والتّفليج عادة يكون ما بين الثّنايا والرّباعيّات من السنان ‪.‬‬ ‫‪5‬‬

‫ي ‪ :‬ل يفعل ذلك إل في الثّنايا والرّباعيّات ‪ .‬وكان التّفليج يستحسن في المرأة ‪،‬‬
‫وقال العين ّ‬
‫فربّما صنعته المرأة الّتي تكون أسنانها متلصقة لتصير متفلّجة ‪.‬‬
‫قال النّوويّ ‪ :‬وتفعل ذلك العجوز ومن قاربتها في السّنّ إظهارا للصّغر وحسن السنان ‪،‬‬
‫لنّ هذه الفرجة اللّطيفة بين السنان تكون للبنات الصّغار ‪ ،‬فإذا عجزت المرأة وكبرت سنّها‬
‫فتبردها بالمبرد لتصير لطيفة حسنة المنظر وتوهّم كونها صغيرة ‪.‬‬

‫تفليس *‬
‫انظر ‪ :‬إفلس ‪.‬‬

‫تفويض *‬
‫التّعريف ‪:‬‬
‫‪ -‬التّفويض لغة مصدر فوّض ‪ ،‬يقال ‪ :‬فوّضت إلى فلن المر أي صيّرته إليه وجعلته‬ ‫‪1‬‬

‫ي عبدي » ‪.‬‬
‫الحاكم فيه ‪ .‬ومنه حديث الفاتحة « فوّض إل ّ‬
‫واصطلحا يستعمل في باب النّكاح ‪ .‬يقال ‪ :‬فوّضت المرأة نكاحها إلى الزّوج حتّى تزوّجها‬
‫من غير مهر ‪ ،‬وقيل ‪ :‬فوّضت أي أهملت حكم المهر ‪ ،‬فهي مفوّضة ‪ -‬بكسر الواو ‪-‬‬
‫ي بل مهر ‪ .‬ومفوّضة ‪ -‬بفتح الواو ‪ -‬من فوّضها وليّها‬
‫لتفويضها أمرها إلى الزّوج أو الول ّ‬
‫إلى الزّوج بل مهر ‪ .‬وهو في باب الطّلق ‪ :‬جعل أمر طلق الزّوجة بيدها ‪.‬‬
‫اللفاظ ذات الصّلة ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬توكيل ‪:‬‬
‫‪ -‬وكل إليه المر ‪ :‬سلّمه إليه ‪ ،‬والتّوكيل هو النابة في تصرّف جائز معلوم ‪.‬‬ ‫‪2‬‬

‫وتوكيل الزّوجة تطليق نفسها هو بعينه التّفويض في الطّلق في القول القديم للشّافعيّة ‪،‬‬
‫وهو عند المالكيّة أحد أنواع التّفويض الثّلثة ‪ :‬التّوكيل ‪ ،‬والتّمليك ‪ ،‬والتّخيير ‪ ،‬وجعل‬
‫الحنابلة حمل أمر الزّوجة بيدها ‪ ،‬وتعليق الطّلق على مشيئتها ‪ ،‬من باب التّوكيل ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬التّمليك ‪:‬‬
‫‪ -‬أملكه الشّيء وملّكه إيّاه تمليكا جعله ملكا له ‪.‬‬ ‫‪3‬‬

‫واعتبر الحنفيّة والشّافعيّة في الجديد تفويض الطّلق للزّوجة من التّمليك ‪ ،‬وهو أحد أنواع‬
‫التّفويض الثّلثة عند المالكيّة ‪،‬وجعله الحنابلة خاصّا بصيغة الختيار دون غيرها من الصّيغ‪.‬‬
‫ج ‪ -‬التّخيير ‪:‬‬
‫‪ -‬التّخيير من خيّرته بين الشّيئين فوّضت إليه الختيار فاختار أحدهما وتخيّره ‪ ،‬وحقيقة‬ ‫‪4‬‬

‫التّفويض هو تخيير الزّوجة بين البقاء في عصمة الزّوج ‪ ،‬أو الفراق ‪ ،‬سواء عن طريق‬
‫تمليكها للطّلق أو توكيلها في إيقاعه ‪ ،‬قالت عائشة رضي ال عنها « لمّا أمر النّبيّ صلى‬
‫ال عليه وسلم بتخيير نسائه وبدأ بي » الحديث‬
‫ويعتبر الفقهاء لفظ ( اختاري ) أحد صيغ التّفويض ‪.‬‬
‫الحكام المتعلّقة بالتّفويض ‪:‬‬
‫أوّل ‪ :‬التّفويض في النّكاح ‪:‬‬
‫حقيقة التّفويض وحكمه ‪:‬‬
‫‪ -‬المراد بالتّفويض في النّكاح السّكوت عن تعيين الصّداق حين العقد ‪ ،‬ويفوّض ذلك إلى‬ ‫‪5‬‬

‫أحد الزّوجين أو إلى غيرهما ‪ .‬وقد أجمع العلماء على جواز نكاح التّفويض لقوله تعالى ‪:‬‬
‫ضةً } ولما روى‬
‫{ ل جُنَاحَ عَليكُ ْم إنْ طَّلقْ ُتمْ ال ّنسَاءَ مَا َلمْ َت َمسّو ُهنّ ‪ ،‬أو َتفْرِضُوا َل ُهنّ َفرِيْ َ‬
‫معقل بن سنان أنّ رسول اللّه صلى ال عليه وسلم « قضى في بروع بنت واشق ‪ ،‬وكان‬
‫زوجها مات ‪ ،‬ولم يدخل بها ‪ ،‬ولم يفرض لها صداقا ‪ ،‬فجعل لها مهر نسائها ل وكس ول‬
‫ن القصد من النّكاح الوصلة والستمتاع دون الصّداق ‪ ،‬فصحّ من غير ذكره ‪.‬‬
‫شطط » ول ّ‬
‫‪ -‬واختلف الفقهاء في بعض الصّور الّتي يخلو العقد فيها من تسمية المهر هل تعتبر‬ ‫‪6‬‬

‫تفويضا فتأخذ حكمه أو ل ؟ كاشتراط عدم المهر ‪ ،‬والتّراضي على إسقاطه ‪.‬‬
‫فيرى جمهور الفقهاء أنّ هذه الصّور من التّفويض ‪ ،‬ومن ث ّم يصحّحون عقد الزّواج فيها ‪،‬‬
‫وذلك لنّ المهر ليس ركنا في العقد ول شرطا له ‪ ،‬بل هو حكم من أحكامه ‪ ،‬فالخلل فيه ل‬
‫تأثير له على العقد ‪.‬‬
‫وأمّا المالكيّة فيرون فساد النّكاح في هذه الصّور ‪ ،‬ويوجبون فسخه قبل الدّخول ‪ ،‬فإن دخل‬
‫ثبت العقد ووجب لها مهر المثل ‪.‬‬
‫أنواع التّفويض ‪:‬‬
‫‪ - 7‬التّفويض في النّكاح على ضربين ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬تفويض المهر ‪ :‬وهو أن يتزوّجها على ما شاءت ‪ ،‬أو على ما شاء الزّوج أو الوليّ ‪،‬‬
‫أو على ما شاء غيرهم ‪ ،‬والمالكيّة ل يسمّون هذا النّوع تفويضا بل يسمّونه التّحكيم ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬تفويض البضع ‪ :‬وهو أن يزوّج الب ابنته المجبرة بغير صداق ‪ ،‬أو تأذن المرأة‬
‫لوليّها أن يزوّجها بغير صداق ‪.‬‬
‫ما يجب في نكاح التّفويض ‪:‬‬
‫ن مهر المثل في‬
‫‪ -‬ذهب الحنفيّة والحنابلة ‪ -‬وهو مقابل الظهر عند الشّافعيّة ‪ -‬إلى أ ّ‬ ‫‪8‬‬

‫نكاح التّفويض يجب بالعقد ‪ ،‬ويتأكّد ويتقرّر بالموت أو الوطء ‪.‬‬


‫وذهب الشّافعيّة ‪ -‬في الظهر ‪ -‬إلى أنّه يجب بالوطء ‪.‬‬
‫وفرّق المالكيّة بين الوطء والموت ‪ ،‬فقالوا ‪ :‬إنّه يجب بالوطء ل بالموت على التّفصيل التي‬
‫فيما بعد ‪.‬‬
‫واتّفقوا على أنّه إن طلّقها قبل الدّخول لم يكن لها إل المتعة لقوله تعالى ‪ { :‬ل جُنَاحَ عَلَيكُمْ‬
‫ن على المُوسِعِ قَ َدرُه َوعَلى‬
‫ض ًة َومَتّعُوهُ ّ‬
‫إنْ طَّلقْ ُتمْ ال ّنسَا َء مَا َل ْم َت َمسّوهُنّ أو َتفْرِضُوا َلهُنّ فَرِي َ‬
‫حسِنينَ } على خلف بينهم في وجوبها ‪.‬‬
‫حقّا على ال ُم ْ‬
‫ال ُمقْتِرِ قَ َدرُهُ مَتَاعَا بِال َمعْرُوفِ َ‬
‫حقّا‬
‫ن المر يقتضي الوجوب ‪ ،‬ول يعارضه قوله { َ‬
‫فإلى الوجوب ذهب جمهور الفقهاء ‪ ،‬ل ّ‬
‫ن المفوّضة لم يجب لها شيء فتجب‬
‫عَلَى ال ُمحْسِنينَ } لنّ أداء الواجب من الحسان ‪ ،‬ول ّ‬
‫لها المتعة لليحاش ‪.‬‬
‫حقّا علَى‬
‫وإلى النّدب ذهب المالكيّة ‪ ،‬وهو القديم عند الشّافعيّة ‪ ،‬لقوله تعالى ‪َ { :‬‬
‫ص بها المحسنون دون غيرهم ‪.‬‬
‫حسِنينَ } قالوا ‪ :‬ولو كانت واجبة لم يخ ّ‬
‫ال ُم ْ‬
‫وأمّا موت أحد الزّوجين قبل الدّخول فهو محلّ خلف في إيجاب مهر المثل لها ‪ ،‬فذهب‬
‫الجمهور إلى أنّه إن مات الزّوج عن المفوّضة قبل الدّخول ‪ ،‬فلها مهر مثلها ‪ ،‬لحديث معقل‬
‫ن رسول اللّه صلى ال عليه وسلم « قضى في بروع بنت واشق ‪ ،‬وكان زوجها‬
‫بن سنان أ ّ‬
‫مات ‪ ،‬ولم يدخل بها ولم يفرض لها صداقا ‪ ،‬فجعل لها مهر نسائها ل وكس ول شطط » ‪.‬‬
‫وذهب المالكيّة إلى ‪ :‬أنّه ل صداق لها وإن ثبت لها الميراث ‪.‬‬
‫ثانيا ‪ :‬التّفويض في الطّلق ‪:‬‬
‫حكم التّفويض في الطّلق ‪:‬‬
‫‪ -‬اتّفق الفقهاء على ‪ :‬جواز تفويض الطّلق للزّوجة لما روى جابر بن عبد اللّه قال ‪:‬‬ ‫‪9‬‬

‫« دخل أبو بكر يستأذن على رسول اللّه صلى ال عليه وسلم فوجد النّاس جلوسا ببابه ‪ ،‬لم‬
‫يؤذن لحد منهم ‪ .‬قال ‪ :‬فأذن لبي بكر فدخل ‪ ،‬ثمّ جاء عمر فاستأذن فأذن له ‪ ،‬فوجد النّبيّ‬
‫صلى ال عليه وسلم جالسا حوله نساؤه واجما ساكتا ‪ ،‬قال ‪ :‬فقال واللّه لقولن شيئا أضحك‬
‫رسول اللّه صلى ال عليه وسلم فقال ‪ :‬يا رسول اللّه ‪ ،‬لو رأيت بنت خارجة سألتني النّفقة‬
‫ن حولي كما‬
‫فقمت إليها فوجأت عنقها ‪ ،‬فضحك رسول اللّه صلى ال عليه وسلم وقال ‪ :‬ه ّ‬
‫ترى يسألنني النّفقة فقام أبو بكر إلى عائشة يجأ عنقها ‪ ،‬وقام عمر إلى حفصة يجأ عنقها ‪،‬‬
‫كلهما يقول ‪ :‬تسألن رسول اللّه صلى ال عليه وسلم ما ليس عنده ‪ ،‬فقلن ‪ :‬واللّه ل نسأل‬
‫رسول اللّه صلى ال عليه وسلم شيئا أبدا ليس عنده ‪ ،‬ثمّ اعتزلهنّ شهرا أو تسعا وعشرين‬
‫ن تُرِ ْدنَ الحَيَاةَ الدّنيَا وَزِينَ َتهَا‬
‫‪ ،‬ثمّ نزلت عليه اليات ‪ { :‬يَا أَيّها النّبيّ ُقلْ ل ْزوَاجِكَ إنْ كُنْتُ ّ‬
‫ن تُرِ ْدنَ الّل َه وَ َرسُولَه وَالدّا َر الخِرَةَ فَإنّ‬
‫جمِيلً ‪ ،‬وَإنْ كُنْتُ ّ‬
‫سرَاحَا َ‬
‫حكُنّ َ‬
‫ن ُأمَتّ ْعكُنّ َوُأسَ ّر ْ‬
‫فَ َتعَالَي َ‬
‫عظِيمَا } قال ‪ :‬فبدأ بعائشة فقال ‪ :‬يا عائشة إنّي أريد أن‬
‫ن َأجْرَا َ‬
‫حسِنَاتِ مِ ْنكُ ّ‬
‫الّلهَ أَعَ ّد لِل ُم ْ‬
‫أعرض عليك أمرا أحبّ أل تعجلي فيه حتّى تستشيري أبويك ‪ ،‬قالت ‪ :‬وما هو يا رسول اللّه‬
‫؟ فتل عليها الية ‪ .‬قالت ‪ :‬أفيك يا رسول اللّه أستشير أبويّ ‪ ،‬بل أختار اللّه ورسوله والدّار‬
‫الخرة ‪ ،‬وأسالك أل تخبر امرأة من نسائك بالّذي قلت ‪ .‬قال ‪ :‬ل تسألني امرأة منهنّ إل‬
‫ن اللّه لم يبعثني معنّتا ول متعنّتا ‪ ،‬ولكن بعثني معلّما ميسّرا » ‪.‬‬
‫أخبرتها ‪ ،‬إ ّ‬
‫حقيقة التّفويض في الطّلق وصفته ‪:‬‬
‫‪ -‬ذهب الحنفيّة ‪ ،‬والشّافعيّ في الجديد ‪ ،‬إلى أنّ التّفويض تمليك للطّلق ‪ ،‬وعلى هذا قال‬ ‫‪10‬‬

‫الحنفيّة بعدم صحّة رجوع الزّوج عنه ‪ ،‬وذلك لنّ التّمليك يتمّ بالملك وحده بل توقّف على‬
‫ن التّمليك يجوز‬
‫ي في القديم له الرّجوع قبل تطليقها ‪ ،‬بناء على أ ّ‬
‫القبول ‪ .‬وقال الشّافع ّ‬
‫الرّجوع فيه قبل القبول ‪ ،‬وبناء على اشتراطهم لوقوعه تطليقها على الفور ‪ ،‬وذلك لنّ‬
‫التّطليق عندهم جواب للتّمليك ‪ ،‬فكان كقبوله ‪ ،‬وقبوله فور ‪.‬‬
‫وأمّا المالكيّة فقد جعلوا التّفويض جنسا تحته أنواع ثلثة ‪ :‬تفويض توكيل ‪ ،‬وتفويض تخيير‬
‫‪ ،‬وتفويض تمليك ‪ .‬ويمكن التّمييز بينها من خلل اللفاظ الصّادرة عن الزّوج ‪.‬‬
‫فكلّ لفظ دلّ على جعل إنشاء الطّلق بيد الغير مع بقاء حقّ الزّوج في المنع من إيقاعه فهو‬
‫تفويض توكيل ‪ ،‬وك ّل لفظ دلّ على أنّ الزّوج فوّض لها البقاء على العصمة أو الخروج منها‬
‫فهو تفويض تخيير ‪ ،‬وكلّ لفظ دلّ على جعل الطّلق بيدها أو بيد غيرها دون تخيير فهو‬
‫تفويض تمليك ‪ .‬وله الرّجوع في تفويض التّوكيل دونهما ‪ ،‬لنّه في التّوكيل جعلها نائبة عنه‬
‫في إنشائه ‪ ،‬وأمّا فيهما فقد جعل لها ما كان يملك ‪ ،‬فهما أقوى ‪.‬‬
‫وفرّق الحنابلة بين صيغ التّفويض ‪ ،‬فجعلوا صيغتين " أمرك بيدك " ‪ " ،‬وطلّقي نفسك " من‬
‫التّوكيل ‪ ،‬فيكون لها على التّراخي ما لم يفسخ أو يطأ ‪ ،‬وجعلوا صيغة " اختاري " من خيار‬
‫التّمليك ‪ ،‬فهو لها على الفور إل أن يجعله لها على التّراخي ‪.‬‬
‫ألفاظ التّفويض في الطّلق ‪:‬‬
‫‪ -‬ذهب جمهور الفقهاء إلى تقسيم ألفاظ التّفويض في الطّلق إلى صريح وكناية ‪،‬‬ ‫‪11‬‬

‫فالصّريح عندهم ما كان بلفظ الطّلق ‪ ،‬كطلّقي نفسك إن شئت ‪ ،‬والكناية ما كان بغيره‬
‫كاختاري نفسك وأمرك بيدك ‪.‬‬
‫وفرّق الحنابلة بينهما ‪ ،‬فجعلوا لفظ المر من باب الكناية الظّاهرة ‪ ،‬ولفظ الخيار من باب‬
‫الكناية الخفيّة ‪ .‬وتفتقر ألفاظ التّفويض الكنائيّة إلى النّيّة بخلف الصّريح منها ‪.‬‬
‫زمن تفويض الزّوجة ‪:‬‬
‫‪ -‬صيغة التّفويض إمّا أن تكون مطلقة ‪ ،‬أو تكون مقيّدة بزمن معيّن ‪ ،‬أو تكون بصيغة‬ ‫‪12‬‬

‫تعمّ جميع الوقات ‪.‬‬


‫‪ -‬أ ‪ -‬فإن كانت صيغة التّفويض مطلقة ‪.‬‬
‫ق الطّلق للمرأة مقيّد بمجلس علمها وإن طال ‪ ،‬ما لم‬
‫فقد ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ ح ّ‬
‫تبدّل مجلسها حقيقة كقيامها عنه ‪ ،‬أو حكما بأن تعمل ما يقطعه ممّا يدلّ على العراض عنه‬
‫ن التّخيير والتّمليك المطلقين باقيان بيدها ما لم توقف عند الحاكم‬
‫‪ ،‬وكان المام مالك يقول بأ ّ‬
‫‪ ،‬أو تمكّن زوجها من الستمتاع منها عالمة طائعة ‪ ،‬ثمّ رجع إلى ما ذهب إليه الجمهور ‪،‬‬
‫وهو ما أخذ به ابن القاسم ‪ ،‬ورجّحه الدّردير والدّسوقيّ ‪.‬‬
‫وقال الشّافعيّة ‪ :‬لو أخّرت بقدر ما ينقطع به القبول عن اليجاب ثمّ طلّقت لم يقع ‪.‬‬
‫وأمّا الحنابلة فقد جعلوا لك ّل صيغة من صيغ التّفويض حكما خاصّا بها ‪.‬‬
‫ق تطليق نفسها على التّراخي‬
‫فلو قال لها " أمرك بيدك " فل يتقيّد ذلك بالمجلس ‪ ،‬ولها ح ّ‬
‫وذلك لنّه توكيل يعمّ الزّمان ما لم يقيّده بقيد ‪ ،‬وكذلك الحكم لو قال لها " طلّقي نفسك " فهو‬
‫على التّراخي ‪ ،‬لنّه فوّضه إليها فأشبه " أمرك بيدك " ‪.‬‬
‫ولو قال لها ‪ :‬اختاري نفسك " فهو مقيّد بالمجلس ‪ ،‬وبعدم الشتغال بما يقطعه عرفا ‪ ،‬وهذا‬
‫مرويّ عن عمر وعثمان وابن مسعود وجابر ‪ ،‬ولنّه خيار تمليك ‪ ،‬فكان على الفور كخيار‬
‫القبول ‪ .‬إل أن يجعل لها أكثر من ذلك بأن يقول لها " اختاري نفسك يوما أو أسبوعا أو‬
‫شهرا " ونحوه فتملكه ‪.‬‬
‫‪ -‬ب ‪ -‬وإن كانت صيغة التّفويض تعمّ جميع الوقات فيكون لها حقّ تطليق نفسها متى‬
‫شاءت ول يتقيّد بالمجلس ‪ .‬وقيّده المالكيّة بعدم وقفها عند الحاكم لتطلّق أو تسقط التّمليك ‪،‬‬
‫أو يكون منها ما يدلّ على إسقاطه ‪ ،‬كأن تمكّنه من الستمتاع بها ‪ ،‬وذلك لنّهم يقولون‬
‫بوجوب التّفريق بين الزّوجين في حالة التّفويض حتّى تجيب بما يقتضي ردّا أو أخذا ‪ ،‬وإل‬
‫لدّى إلى الستمتاع في عصمة مشكوك في بقائها ‪.‬‬
‫وهذا في تفويض التّمليك والتّخيير دون التّوكيل لقدرة الزّوج على عزلها ‪.‬‬
‫‪ -‬ج ‪ -‬وإن كانت صيغة التّفويض مقيّدة بزمن معيّن ‪ ،‬فإنّه يستم ّر حقّ تطليق نفسها إلى‬
‫أن ينتهي هذا الزّمن ‪ ،‬ول يبطل التّفويض المؤقّت بانتهاء المجلس ول بالعراض عنه ‪.‬‬
‫وعند المالكيّة يستمرّ ما لم توقف عند الحاكم أو يكن منها ما يدلّ على إسقاطه ‪.‬‬
‫عدد الطّلقات الواقعة بألفاظ التّفويض ونوعها ‪:‬‬
‫‪ -‬فرّق الحنفيّة بين التّفويض بصريح الطّلق وكنايته ‪ ،‬فذهبوا إلى أنّه إن طلّقت الزّوجة‬ ‫‪13‬‬

‫نفسها بتفويض الزّوج لها الطّلق بصريحه ‪ ،‬فإنّ طلقها يقع طلقة واحدة رجعيّة ‪ ،‬إل أن‬
‫يجعل لها أكثر من واحدة ‪ ،‬كقوله ‪ :‬طلّقي نفسك ما شئت ‪.‬‬
‫وإن كان التّفويض بالكناية كقوله ‪ :‬أمرك بيدك أو اختاري نفسك ‪ ،‬فاختارت الزّوجة الفرقة‬
‫فإنّها تقع طلقة واحدة بائنة بينونة صغرى ‪ ،‬إل أن ينوي الكبرى فتوقعها بلفظها أو بنيّتها ‪.‬‬
‫ن المفيد للبينونة إذا قرن بالصّريح صار رجعيّا ‪.‬‬
‫وعندهم أ ّ‬
‫ن هذه اللفاظ جواب الكناية‬
‫وإنّما كان الطّلق بائنا في التّفويض بالكناية دون الصّريح ‪ ،‬ل ّ‬
‫والكنايات على أصلهم مبينات ‪ ،‬ولنّ قوله ‪ :‬أمرك بيدك جعل أمر نفسها بيدها ‪ ،‬فتصير عند‬
‫اختيارها نفسها مالكة نفسها ‪ ،‬وإنّما تصير مالكة نفسها بالبائن ل بالرّجعيّ ‪.‬‬
‫وأمّا المالكيّة فقد فصّلوا القول بناء على تقسيمهم التّفويض إلى أنواع ثلثة ‪.‬‬
‫ففي تفويض التّوكيل ‪ -‬للزّوجة أن توقع من الطّلقات ما وكّلها به من طلقة واحدة أو أكثر ‪،‬‬
‫وهو كذلك في تفويض التّمليك ‪ ،‬فلها أن توقع من الطّلقات ما جعل بيدها من طلقة واحدة أو‬
‫أكثر ‪ ،‬وله أن يناكرها فيما زاد على الطّلقة الواحدة إذا أطلق ‪.‬‬
‫وأمّا في تفويض التّخيير ‪ ،‬فيقع طلقها ثلثا إن اختارت الفراق ‪ ،‬فإن قالت اخترت واحدة أو‬
‫اثنتين لم يكن لها إلّا أن يخيّرها في طلقة واحدة أو طلقتين خاصّة فتوقعها ‪.‬‬
‫ن تفويض الطّلق للزّوجة يقع به طلقة واحدة رجعيّة ‪ ،‬إن كانت‬
‫وذهب الشّافعيّة إلى أ ّ‬
‫الزّوجة محلً للرّجعة ‪،‬إل أن يقول لها ‪ :‬طلّقي ونوى ثلثا فقالت ‪ :‬طلّقت ونوتهنّ فيقع ثلثا‪.‬‬
‫وذهب الحنابلة إلى أنّ الزّوجة لها أن تطلّق نفسها ثلثا في التّوكيل والتّمليك ‪ ،‬وأمّا في‬
‫الختيار فليس لها أن تطلّق نفسها أكثر من واحدة ‪ ،‬إل أن يجعل لها أكثر من ذلك ‪ ،‬سواء‬
‫جعله لها بلفظه ‪ ،‬أو بنيّته ‪ ،‬وتقع رجعيّة ‪.‬‬
‫ثالثا ‪ :‬التّفويض في الوزارة ‪:‬‬
‫أنواع الوزارة ‪:‬‬
‫‪ -‬يقسّم الفقهاء الوزارة إلى ضربين ‪ :‬وزارة تفويض ‪ ،‬ووزارة تنفيذ ‪ ،‬وسيأتي الكلم‬ ‫‪14‬‬

‫على وزارة التّنفيذ في ( وزارة ‪ ،‬وتنفيذ ) ‪.‬‬


‫تعريف وزارة التّفويض ‪:‬‬
‫‪ -‬وزارة التّفويض هي أن يستوزر المام من يفوّض إليه تدبير المور برأيه وإمضاءها‬ ‫‪15‬‬

‫على اجتهاده ‪.‬‬


‫مشروعيّتها ‪:‬‬
‫ج َعلْ‬
‫‪ -‬وزارة التّفويض مشروعة لقوله تعالى حكاية عن نبيّه موسى عليه السلم ‪ { :‬وَا ْ‬ ‫‪16‬‬

‫ن َأخِي اشْدُدْ ِب ِه أَزْ ِريْ َوَأشْ ِركْه في َأمْرِي } فإذا جاز ذلك في النّبوّة‬
‫لِي وَزِيرَا مِنْ أَهْلِي هَارُو َ‬
‫ن ما وكّل إلى المام من تدبير المّة ل يقدر على مباشرة جميعه‬
‫كان في المامة أولى ‪ ،‬ول ّ‬
‫إل باستنابة ‪ ،‬ونيابة الوزير المشارك له في التّدبير أجدى في تنفيذ المور من تفرّده بها ‪،‬‬
‫ليستظهر به على نفسه ‪ ،‬وبها يكون أبعد من الزّلل وأمنع من الخلل ‪ .‬قال الماورديّ وأبو‬
‫يعلى ما مفاده ‪ :‬يشترط في لفظ تولية وزارة التّفويض اشتماله على أمرين ‪ :‬أحدهما ‪:‬‬
‫عموم النّظر ‪ ،‬والثّاني ‪ :‬النّيابة ‪ ،‬فإن اقتصر على عموم النّظر دون النّيابة فكان بولية‬
‫ص فلم تنعقد به الوزارة ‪ ،‬وإن اقتصر به على النّيابة فقد أبهم ما استنابه فيه من‬
‫العهد أخ ّ‬
‫عموم وخصوص أو تنفيذ وتفويض فلم تنعقد به الوزارة ‪ ،‬وإذا جمع بينهما انعقدت وتمّت ‪.‬‬
‫شروط وزارة التّفويض ‪:‬‬
‫‪ -‬يعتبر في تقليد وزارة التّفويض ‪ ،‬شروط المامة إل النّسب وحده ‪.‬‬ ‫‪17‬‬
‫ويزاد على المامة شرط ‪ ،‬وهو أن يكون من أهل الكفاية فيما وكّل إليه من أمر الحرب‬
‫والخراج خبيرا بهما ‪ ،‬فإنّه مباشر لهما تارة بنفسه ‪ ،‬وتارة يستنيب فيهما ‪.‬‬
‫اختصاصات وزير التّفويض ‪:‬‬
‫‪ -‬لوزير التّفويض اختصاصات واسعة فكلّ ما صحّ من المام صحّ من هذا الوزير إل‬ ‫‪18‬‬

‫ن للمام أن يعهد إلى من يرى وليس ذلك للوزير ‪.‬‬


‫ثلثة أشياء ‪ .‬أحدها ‪ :‬ولية العهد فإ ّ‬
‫ن للمام أن يستعفي المّة من المامة ‪ ،‬وليس ذلك للوزير ‪.‬‬
‫والثّاني ‪ :‬أ ّ‬
‫ن للمام أن يعزل من قلّده الوزير ‪ ،‬وليس للوزير أن يعزل من قلّده المام ‪.‬‬
‫والثّالث ‪ :‬أ ّ‬
‫وما سوى هذه الثّلثة فحكم التّفويض يقتضي جواز فعله ‪ ،‬فإن عارضه المام في ردّ ما‬
‫أمضاه ‪ ،‬فإن كان في حكم نفذ على وجهه ‪ ،‬أو في مال وضع في حقّه لم يجز نقض ما نفذ‬
‫باجتهاده من حكم ول استرجاع ما فرّق برأيه من مال ‪ ،‬فإن كان في تقليد وال أو تجهيز‬
‫جيش وتدبير حرب جاز للمام معارضته بعزل المولّى والعدول بالجيش إلى حيث يرى ‪،‬‬
‫وتدبير الحرب بما هو أولى ‪ ،‬لنّ للمام أن يستدرك ذلك من أفعال نفسه ‪ ،‬فكان أولى أن‬
‫يستدركه من أفعال وزيره ‪.‬‬
‫تعدّد وزراء التّفويض ‪:‬‬
‫ي وأبو يعلى ما مفاده ‪:‬‬
‫‪ -‬قال الماورد ّ‬ ‫‪19‬‬

‫ل يجوز للخليفة أن يقلّد وزيري تفويض على الجتماع لعموم وليتهما ‪ ،‬كما ل يجوز تقليد‬
‫إمامين لنّهما ربّما تعارضا في العقد والحلّ ‪ ،‬والتّقليد والعزل ‪.‬‬
‫فإن قلّد وزيري تفويض لم يخل حال تقليده لهما من ثلثة أقسام ‪:‬‬
‫ح لما ذكر ‪ ،‬وينظر في‬
‫أحدها ‪ :‬أن يفوّض إلى كلّ واحد منهما عموم النّظر فل يص ّ‬
‫ح تقليد‬
‫تقليدهما ‪ ،‬فإن كان في وقت واحد بطل تقليدهما معا ‪ ،‬وإن سبق أحدهما الخر ص ّ‬
‫السّابق وبطل تقليد المسبوق ‪.‬‬
‫القسم الثّاني ‪ :‬أن يشرك بينهما في النّظر على اجتماعهما فيه ‪ ،‬ول يجعل إلى واحد منهما‬
‫أن ينفرد به ‪ ،‬فهذا يصحّ وتكون الوزارة بينهما ل في واحد منهما ‪ ،‬ولهما تنفيذ ما اتّفق‬
‫رأيهما عليه ‪ ،‬وليس لهما تنفيذ ما اختلفا فيه ‪ ،‬ويكون موقوفا على رأي الخليفة وخارجا‬
‫عن نظر هذين الوزيرين ‪ ،‬وحينئذ تكون هذه الوزارة قاصرة على وزارة التّفويض المطلقة‬
‫من وجهين ‪:‬‬
‫أحدهما ‪ :‬اجتماعهما على تنفيذ ما اتّفقا عليه ‪.‬‬
‫والثّاني ‪ :‬زوال نظرهما عمّا اختلفا فيه ‪.‬‬
‫القسم الثّالث ‪ :‬أن ل يشرك بينهما في النّظر ويفرد ك ّل واحد منهما بما ليس فيه للخر‬
‫نظر ‪ ،‬وهذا يكون على أحد وجهين ‪ :‬إمّا أن يخصّ كلّ واحد منهما بعمل يكون فيه عامّ‬
‫ص العمل ‪ ،‬مثل أن ير ّد إلى أحدهما وزارة بلد الشّرق وإلى الخر وزارة بلد‬
‫النّظر خا ّ‬
‫ص النّظر ‪ ،‬مثل أن‬
‫الغرب ‪ .‬وإمّا أن يخصّ كلّ واحد منهما بنظر يكون فيه عامّ العمل خا ّ‬
‫يستوزر أحدهما على الحرب والخر على الخراج ‪ ،‬فيصحّ التّقليد على كل الوجهين ‪ ،‬غير‬
‫أنّهما ل يكونان وزيري تفويض ويكونان واليين على عملين مختلفين ‪ ،‬لنّ وزارة التّفويض‬
‫ما عمّت ‪ ،‬ونفذ أمر الوزيرين بها في كلّ عمل وكلّ نظر ‪ ،‬ويكون تقليد كلّ واحد منهما‬
‫ص به ‪ ،‬وليس له معارضة الخر في نظره وعمله ‪.‬‬
‫مقصورا على ما خ ّ‬

‫تقابض *‬
‫التّعريف ‪:‬‬
‫‪ -‬التّقابض ‪ :‬صيغة تقتضي المشاركة في القبض ‪ .‬وهو في اللّغة ‪ :‬أخذ الشّيء وتناوله‬ ‫‪1‬‬

‫باليد ‪ ،‬ويقال ‪ :‬قبض عليه بيده ‪ :‬ضمّ عليه أصابعه ‪ ،‬وقبض عنه يده ‪ :‬امتنع عن إمساكه ‪.‬‬
‫ويستعمل القبض لتحصيل الشّيء وإن لم يكن فيه أخذ بالكفّ ‪ ،‬نحو قبضت الدّار والرض‬
‫جمِيعَا قَبْضَتُه يَومَ القِيا َمةِ } أي في حوزه ‪،‬‬
‫ض َ‬
‫من فلن أي ‪ :‬حزتهما ‪ .‬قال تعالى ‪ { :‬وَالرَ ُ‬
‫حيث ل تملك لحد غير اللّه تعالى ‪ .‬ويستعمل القبض ضدّ البسط أيضا ‪.‬‬
‫والقبض في اصطلح الفقهاء ‪ :‬حيازة الشّيء والتّمكّن من التّصرّف فيه ‪ ،‬سواء أكان ممّا‬
‫يمكن تناوله باليد أم لم يمكن ‪ .‬وقد غلب عند المالكيّة ‪ ،‬التّعبير عن القبض ‪ ،‬بالحوز‬
‫والحيازة ‪ .‬فالتّقابض أن يأخذ كلّ من المتعاقدين العوض ‪.‬‬
‫اللفاظ ذات الصّلة ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬التّعاطي ‪:‬‬
‫‪ -‬التّعاطي صيغة تقتضي المشاركة بمعنى حصول العطاء من طرفين ومنه التّعاطي في‬ ‫‪2‬‬

‫البيع ‪ ،‬وهو إعطاء البائع المبيع للمشتري على وجه البيع والتّمليك ‪ ،‬وإعطاء المشتري‬
‫الثّمن للبائع دون تلفّظ بإيجاب أو قبول ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬التّخلية ‪:‬‬
‫‪ -‬التّخلية ‪ :‬مصدر خلّى ‪ ،‬ومن معانيها ‪ :‬التّرك ‪ ،‬يقال ‪ :‬خلّيت الشّيء وتخلّيت عنه ‪،‬‬ ‫‪3‬‬

‫ومنه إذا تركته ‪ .‬وفي اصطلح الفقهاء ‪ :‬تمكين الشّخص من التّصرّف في الشّيء دون حائل‬
‫وإذا مكّن البائع المشتري من التّصرّف في المبيع حصلت التّخلية ‪.‬‬
‫ن الوّل من طرف المعطي ‪ ،‬والثّاني من طرف القابض ‪.‬‬
‫والفرق بين التّخلية والقبض ‪ :‬أ ّ‬
‫الحكم الجماليّ ‪:‬‬
‫‪ -‬ذهب المالكيّة ‪ ،‬والشّافعيّة ‪ ،‬والحنابلة ‪ ،‬إلى أنّه يشترط التّقابض قبل التّفرّق من‬ ‫‪4‬‬

‫المجلس في الصّرف ‪ ،‬وذلك لقول النّبيّ صلى ال عليه وسلم ‪ « :‬الذّهب بالذّهب ‪ ،‬والفضّة‬
‫بالفضّة ‪ ،‬والبرّ بالب ّر ‪ ،‬والشّعير بالشّعير ‪ ،‬والتّمر بالتّمر ‪ ،‬والملح بالملح ‪ ،‬مثل بمثل سواء‬
‫بسواء يدا بيد ‪ ،‬فإذا اختلفت هذه الصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد » أي مقابضة ‪.‬‬
‫وإذا بيع المال الرّبويّ بجنسه اشترط الحلول والمماثلة والتّقابض قبل التّفرّق ‪ ،‬فإن اختلف‬
‫الجنس جاز التّفاضل ‪ ،‬واشترط الحلول والتّقابض قبل التّفرّق ‪ ،‬وقال الحنابلة ‪ :‬ل يشترط‬
‫ذلك إلّا إن اتّحدت علّة الرّبا في العوضين من كيل أو وزن ‪.‬‬
‫وذهب الحنفيّة إلى أنّه ل يشترط التّقابض قبل التّفرّق إلّا في الصّرف ‪ ،‬أمّا في غيره من‬
‫ن البدل في‬
‫الرّبويّات فيمتنع النّساء ‪ ،‬ول يشترط فيها التّقابض ‪ .‬بل يكتفى فيها بالتّعيين ‪ ،‬ل ّ‬
‫غير الصّرف يتعيّن بمجرّد التّعيين قبل القبض ويتمكّن من التّصرّف فيه ‪ ،‬فل يشترط‬
‫ن القبض شرط في تعيينه ‪ ،‬فإنّه ل يتعيّن بدون القبض‬
‫قبضه ‪ ،‬بخلف البدل في الصّرف ‪ ،‬ل ّ‬
‫‪ ،‬إذ الثمان ل تتعيّن مملوكة إلّا به ‪ ،‬ولذلك كان لكلّ من المتعاقدين تبديلها ‪.‬‬
‫‪ -‬والتّقابض المعتدّ به عند الفقهاء في عقد الصّرف ‪ .‬هو ما كان قبل الفتراق بالبدان ‪.‬‬ ‫‪5‬‬

‫واستثنى الفقهاء أيضا من جواز التّصرّف في الثمان ‪ ،‬الثّمن في عقد الصّرف لشتراط‬
‫التّقابض ‪ .‬وإنّما جاز التّصرّف في الثمان عدا الصّرف لنّها ديون يجوز التّصرّف فيها قبل‬
‫القبض كسائر الدّيون ‪ -‬مثل المهر ‪ ،‬والجرة ‪ ،‬وضمان المتلفات وغيرها ‪ -‬لما روي عن‬
‫ابن عمر رضي ال عنهما قال ‪ « :‬كنت أبيع البل بالبقيع ‪ ،‬فأبيع بالدّنانير وآخذ الدّراهم ‪،‬‬
‫وأبيع بالدّراهم وآخذ الدّنانير ‪ ،‬آخذ هذه من هذه ‪ ،‬وأعطي هذه من هذه ‪ ،‬فأتيت رسول اللّه‬
‫صلى ال عليه وسلم وهو في بيت حفصة ‪ ،‬فقلت ‪ :‬يا رسول اللّه ‪ ،‬رويدك أسألك ‪ ،‬إنّي‬
‫أبيع البل بالبقيع ‪ ،‬فأبيع بالدّنانير وآخذ الدّراهم ‪ ،‬وأبيع بالدّراهم وآخذ الدّنانير ‪ ،‬آخذ هذه‬
‫من هذه ‪ ،‬وأعطي هذه من هذه ‪ ،‬فقال رسول اللّه صلى ال عليه وسلم ‪ :‬ل بأس أن تأخذها‬
‫بسعر يومها ‪ ،‬ما لم تفترقا وبينكما شيء » ‪.‬‬
‫وذكر الفقهاء جواز التّصرّف في الثمان ‪ ،‬واستثنوا الصّرف والسّلم ‪ ،‬وقالوا ‪ :‬ل يجوز‬
‫فيهما التّصرّف في الثّمن قبل القبض ‪.‬‬
‫أمّا الصّرف فلن كل من بدلي الصّرف مبيع من وجه وثمن من وجه ‪ ،‬فباعتبار كونه مبيعا‬
‫ح لشتراط التّقابض في‬
‫ل يجوز التّصرّف فيه قبل القبض ‪ ،‬وباعتبار كونه ثمنا أيضا ل يص ّ‬
‫الصّرف ‪ ،‬ولقول عمر رضي ال عنه ‪ :‬وإن استنظرك أن يدخل بيته فل تنظره ‪.‬‬
‫وأمّا السّلم ‪ :‬فالمسلم فيه ل يجوز التّصرّف فيه ‪ ،‬لنّه مبيع ‪ ،‬ورأس المال ( الثّمن ) ألحق‬
‫بالمبيع المعيّن في حرمة الستبدال شرعا ‪.‬‬
‫وينظر التّفصيل ( في الصّرف ‪ ،‬والرّبا ‪ ،‬والسّلم ) ‪.‬‬

‫تقادم *‬
‫التّعريف ‪:‬‬
‫‪ -‬التّقادم لغة ‪ :‬مصدر تقادم يقال ‪ :‬تقادم الشّيء أي ‪ :‬صار قديما ‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫وقد عبّرت مجلّة الحكام العدليّة عن التّقادم بمرور الزّمان ‪.‬‬


‫ول يخرج المعنى الصطلحيّ في الجملة عن المعنى اللّغويّ ‪.‬‬
‫التّقادم المانع من سماع الدّعوى ‪:‬‬
‫‪ -‬لوليّ المر منع القضاة من سماع الدّعوى في أحوال بشروط مخصوصة ‪ ،‬ومن ذلك‬ ‫‪2‬‬

‫ق ل يسقط‬
‫منع سماع الدّعوى في بعض الحالت بعد مدّة محدّدة معلومة ‪ ،‬ومع أنّ الح ّ‬
‫بتقادم الزّمان ‪ ،‬إل أنّ وجه هذا المنع هو تلفي التّزوير والتّحايل ‪ ،‬لنّ ترك الدّعوى زمانا‬
‫مع التّمكّن من إقامتها ‪ ،‬يدلّ على عدم الحقّ ظاهرا ‪.‬‬
‫ق في ذاته وإنّما هو‬
‫وعدم سماع الدّعوى بعد المدّة المحدّدة ليس مبنيّا على سقوط الح ّ‬
‫مجرّد منع القضاة عن سماع الدّعوى مع بقاء الحقّ لصاحبه حتّى لو أقرّ الخصم يلزمه ‪،‬‬
‫ولو كان التّقادم مسقطا للحقّ لم يلزمه ‪.‬‬
‫مدّة التّقادم المانع من سماع الدّعوى ‪:‬‬
‫‪ -‬فقهاء الحنفيّة مختلفون في تعيين المدّة الّتي ل تسمع بعدها الدّعوى في الوقف ومال‬ ‫‪3‬‬

‫اليتيم والغائب والرث ‪ ،‬فجعلها بعضهم ستّا وثلثين سنة ‪ ،‬وبعضهم ثلثا وثلثين ‪،‬‬
‫وبعضهم ثلثين فقط ‪ ،‬إل أنّه لمّا كانت هذه المدد طويلة استحسن أحد السّلطين فيما سوى‬
‫ذلك جعلها خمس عشرة سنة فقط ‪ ،‬وحيث كان القضاء يتخصّص بالزّمان والمكان‬
‫والخصومة ‪ ،‬ويقبل التّقييد والتّعليق ‪ ،‬فقد نهي قضاة ذلك السّلطان عن سماع دعوى تركها‬
‫المدّعي خمس عشرة سنة بل عذر ‪ ،‬لكنّه استثنى من ذلك المنع بعض مسائل ‪ ،‬وعلى هذا‬
‫النّهي استقرّ خلفاؤه في الدّولة العثمانيّة ‪ ،‬لما فيه من المصلحة العامّة ‪ ،‬ومن ذلك يظهر أنّ‬
‫التّقادم بمرور الزّمان مبنيّ على أمرين ‪:‬‬
‫الوّل ‪ :‬حكم اجتهاديّ ‪ ،‬نصّ عليه الفقهاء ‪.‬‬
‫والثّاني ‪ :‬أمر سلطانيّ يجب على القضاة في زمنه اتّباعه ‪ ،‬لنّهم بمقتضاه معزولون عن‬
‫سماع دعوى مضى عليها خمس عشرة سنة بدون عذر ‪ ،‬والقاضي وكيل عن السّلطان ‪،‬‬
‫والوكيل يستم ّد التّصرّف من موكّله ‪ ،‬فإذا خصّص له تخصّص ‪ ،‬وإذا عمّم تعمّم ‪ ،‬كما نصّ‬
‫عليه في الفتاوى الخيريّة وغيرها ‪.‬‬
‫وقد فرّق فقهاء الحنفيّة بين هذين المرين بأنّ منع سماع الدّعوى بعد خمس عشرة سنة‬
‫مبنيّ على النّهي السّلطانيّ ‪ ،‬فمن نهى عن سماع الدّعوى له أن يأمر بسماعها ‪ ،‬وأمّا عدم‬
‫سماع الدّعوى بعد ثلثين سنة فهو مبنيّ على منع الفقهاء ‪ ،‬فليس للسّلطان أن ينقضه ‪،‬‬
‫لنّ أمر السّلطان إنّما ينفذ إذا وافق الشّرع وإل فل ‪.‬‬
‫ودعاوى الدّين الوديعة والعقار المملوك والميراث وما ل يعود من الدّعاوى إلى العامّة ول‬
‫إلى أصل الوقف في العقارات الموقوفة بعد أن تركت خمس عشرة سنة بل عذر ل تسمع ‪،‬‬
‫وأمّا إذا كانت الدّعوى تعود إلى أصل الوقف فتسمع ‪ ،‬ولو تركت المدّة المذكورة بل عذر ‪.‬‬
‫‪ -‬ومدّة المنع مع سماع الدّعوى تحسب بالتّاريخ القمريّ ( الهجريّ ) كما قرّرت ذلك‬ ‫‪4‬‬

‫جمعيّة المجلّة اتّباعا للعرف الشّرعيّ إل إذا اتّفق على خلفه وعيّنا تاريخا شمسيّا ‪ ،‬والمنع‬
‫من سماع الدّعوى إنّما هو للقضاة ‪ ،‬أمّا المحكّمون فل يشملهم النّهي ‪ ،‬فلو حكّم اثنان‬
‫ن المحكّم يسعه أن‬
‫شخصا في نزاع مضى عليه أكثر من خمس عشرة سنة ولو بل عذر فإ ّ‬
‫يحكم بينهما ول يمتنع عليه النّظر في النّزاع ‪.‬‬
‫وأمّا ما يتعلّق بالنّزاع في أصل الوقف ‪ -‬وهو كلّ ما تتوقّف عليه صحّة الوقف ‪ -‬فتسمع‬
‫ت وثلثين سنة ‪ ،‬وأمّا ما يتعلّق بالنّزاع في غير أصل الوقف كأجرة النّاظر‬
‫دعواه حتّى س ّ‬
‫والّذين يعملون في الوقف فتسمع دعواهم حتّى خمس عشرة سنة فقط ‪.‬‬
‫العذار المبيحة لسماع الدّعوى بعد خمس عشرة سنة ‪:‬‬
‫‪ -‬أوردت مجلّة الحكام العدليّة من العذار الّتي يباح معها سماع الدّعوى بعد مدّة خمس‬ ‫‪5‬‬

‫عشرة سنة ‪ ،‬الصّغر ‪ ،‬والجنون ‪ ،‬والغيبة عن البلد الّذي فيه موضوع النّزاع مدّة السّفر ‪،‬‬
‫أو كون خصمه من المتغلّبة ‪ ،‬وفيما يلي تفصيلها ‪:‬‬
‫ن المدّة‬
‫‪ - 1 -‬الصّغر ‪ :‬إذا كان صاحب الحقّ صغيرا وسكت عن الدّعوى المدّة المقرّرة فإ ّ‬
‫ي أو وصيّ باتّفاق ‪ ،‬ومع الخلف في‬
‫تحسب عليه من تاريخ بلوغه رشيدا إن لم يكن له ول ّ‬
‫ي أو الوصيّ ‪ ،‬ورجّحت لجنة المجلّة الطلق لمصلحة الصّغير ‪ ،‬ومن في‬
‫حال وجود الول ّ‬
‫ي ‪ .‬ومثل ذلك المجنون ‪ ،‬فإنّ المدّة ل تحسب إل من تاريخ إفاقته ‪،‬‬
‫حكمه ‪ ،‬ولو كان له وص ّ‬
‫وكذلك المعتوه ‪ ،‬فإنّ المدّة تحسب من تاريخ زوال العته ‪.‬‬
‫‪ - 2 -‬غيبة صاحب الحقّ عن البلد مدّة السّفر وهي مدّة القصر ‪.‬‬
‫‪ - 3 -‬إذا كان المدّعى عليه من المتغلّبة بأن كان أميرا جائرا مثلً فذلك عذر يبيح للمدّعي‬
‫السّكوت عن رفع الدّعوى ‪ ،‬ول تبتدئ المدّة حتّى يزول الجور ولو طال الزّمن ‪.‬‬
‫متى تبتدئ المطالبة بالحقّ ؟‬
‫– مذهب الحنفيّة كما جاء في مجلّة الحكام العدليّة أنّه يبتدئ مرور الزّمان من تاريخ‬ ‫‪6‬‬

‫ثبوت الحقّ للمدّعي بإقامة الدّعوى بالمدّعى به ‪ ،‬فمرور الزّمان في دعوى دين مؤجّل إنّما‬
‫يبتدئ من تاريخ حلول الجل لنّه قبل حلوله ل يملك المدّعي الدّعوى والمطالبة بذلك‬
‫الدّين ‪ ،‬فمثل لو ادّعى واحد على آخر فقال ‪ :‬لي عليك كذا دراهم من ثمن الشّيء الّذي بعته‬
‫ل ثمنه لثلث سنين تسمع دعواه لنّه يكون قد مرّ اعتبارا‬
‫لك قبل خمس عشرة سنة مؤجّ ً‬
‫من حلول الجل اثنتا عشرة سنة ل غير ‪ ،‬ومثل لو وقف واقف وقفه وشرط أن يكون‬
‫الستحقاق لذرّيّته بطنا بعد بطن ‪ ،‬فل يستحقّ أحد من البطن الثّاني إلّا بعد انقراض البطن‬
‫الوّل ‪ ،‬فلو وقف رجل عقارا وشرط وليته وغلّته لولده ثمّ لحفاده بطنا بعد بطن فقام أحد‬
‫أولده لصلبه " أي من البطن الوّل " وباع ذلك العقار لخر وظلّ الخر متصرّفا فيه مدّة‬
‫أربعين سنة ‪ ،‬وبعد هذه المدّة توفّي البائع فقام أحد أبنائه يدّعي ذلك العقار على المشتري‬
‫ق إقامة الدّعوى‬
‫استنادا على شرط الواقف فتسمع دعواه ول يمنعه مضيّ هذه المدّة ‪ ،‬لنّ ح ّ‬
‫ل يثبت للحفيد إلّا بعد وفاة والده بمقتضى شرط الواقف ‪ ،‬فل يبتدئ مرور الزّمان بالنّسبة‬
‫لحقّه إلّا من بعد وفاة أبيه ‪.‬‬
‫ومثل ذلك لو وقف واقف عقارا وشرط غلّته لولده الذّكور وبعد انقطاعهم على بناته ‪ ،‬فباع‬
‫أولده الذّكور ‪ ،‬ذلك العقار لرجل وسلّموه إيّاه وبعد ستّين سنة مثل انقطعت ذرّيّة الواقف‬
‫الذّكور فقامت بناته يدّعين ذلك العقار على المشتري بحكم الوقف ‪ ،‬تسمع دعواهنّ ول يمنع‬
‫ق إقامة الدّعوى لم يثبت لهنّ إل بعد انقطاع‬
‫مرور هذه المدّة من سماع دعواهنّ ‪ ،‬لنّ ح ّ‬
‫ذرّيّة الواقف الذّكور ‪.‬‬
‫ويبتدئ مرور الزّمان بالنّسبة لمؤجّل الصّداق من وقت الطّلق أو من تاريخ موت أحد‬
‫ن الصّداق المؤجّل ل يصير معجّل إل من تاريخ الطّلق البائن أو الوفاة ‪.‬‬
‫الزّوجين ‪ ،‬ل ّ‬
‫‪ -‬وتبتدئ مطالبة المدين المفلس من تاريخ زوال الفلس كأن كان لدائن على مدين مبلغ‬ ‫‪7‬‬

‫من المال مثل وكان المدين مفلسا مدّة عشر سنوات مثل فإنّ هذه المدّة ل تدخل في الزّمن‬
‫وتبتدئ مدّة المطالبة من تاريخ يسار المفلس لنّ ترك الدّعوى بسبب إفلس المدين كان‬
‫) من المجلّة‬ ‫‪1669‬‬ ‫بعذر إذ ل يتأتّى له إقامة الدّعوى ما دام المدين مفلسا ‪ .‬ونصّت المادّة (‬
‫على أنّه " إذا ترك واحد دعواه بل عذر ومرّ عليها الزّمان على ما ذكر آنفا فكما ل تسمع‬
‫تلك الدّعوى في حياته ل تسمع أيضا من ورثته بعد مماته " ‪.‬‬
‫ن الوارث قائم مقام المورّث حقيقة وحكما ‪ ،‬فما يمنع سماع‬
‫وجاء في شرحها ‪ :‬وذلك ل ّ‬
‫ن هذا إذا ادّعى الوارث ذلك الملك بالرث‬
‫دعوى المورّث يمنع سماع دعوى الوارث ‪ .‬ولك ّ‬
‫عن مورّثه ‪ ،‬أمّا لو ادّعاه بسبب آخر فل يكون ترك مورّثه للدّعوى مانعا من سماع‬
‫دعواه ‪ ،‬لنّه بهذه الصّورة ل يدّعي تلقّي الملك من مورّثه فل يكون قائما مقامه ‪ ،‬فمثل لو‬
‫أوصى رجل بعقار لبن زيد القاصر وبعد موته بخمس عشرة سنة قام ابن زيد الّذي بلغ‬
‫رشيدا وادّعى ذلك العقار بمقتضى تلك الوصيّة على وارث الموصي تسمع دعواه ول يمنعه‬
‫منها ترك أبيه ذلك العقار في يد وارث الموصي لنّه هاهنا ل يدّعي الملك بسبب الرث عن‬
‫أبيه بل بسبب الوصيّة من أجنبيّ ولكن لو كان ذلك الموصي قد ترك الدّعوى بهذا العقار‬
‫ن الموصى له قائم‬
‫وهو في يد آخر مدّة خمس عشرة سنة ل تسمع به دعوى الموصى له ل ّ‬
‫ن الوصيّة أخت الميراث ‪ ،‬ومثل‬
‫مقام الموصي فما منع عنه الموصي منع عنه الموصى له ل ّ‬
‫الوصيّة بهذا المعنى البيع والشّراء والهبة ‪.‬‬
‫وإذا ترك المورّث الدّعوى مدّة وتركها الوارث مدّة أخرى وبلغ مجموع المدّتين حدّ مرور‬
‫الزّمان فل تسمع تلك الدّعوى ‪ ،‬لنّه حيث كان الوارث قائما مقام المورّث كانا كشخص واحد‬
‫حكما ‪ ،‬فلو ترك المورّث الدّعوى ثماني سنين مثل وتركها الوارث سبع سنين صار كأنّ‬
‫الوارث ترك الدّعوى خمس عشرة سنة فل تسمع دعواه ‪ ،‬ومثل البائع والمشتري كالموصي‬
‫والموصى له ‪ ،‬فلو كان واحد متصرّفا في عرصة متّصلة بدار خمس عشرة سنة ‪ ،‬وصاحب‬
‫الدّار ساكت ‪ ،‬ث ّم أوصى صاحب الدّار بداره هذه إلى رجل ‪ ،‬فقام الموصى له يدّعي أنّ‬
‫العرصة طريق خاصّ للدّار الموصى له بها ل تسمع دعواه ‪.‬‬
‫وإذا مات أحد وفي ورثته بالغ وقاصر ‪ ،‬فإنّ البالغ إذا ترك الدّعوى المدّة المقرّرة بل عذر‬
‫فل تسمع دعواه ‪ ،‬وأمّا القاصر فل يحسب عليه مرور الزّمان إلّا من تاريخ بلوغه رشيدا ‪،‬‬
‫مع ملحظة الخلف السّابق في وجود الوصيّ وعدمه ‪.‬‬
‫‪ -‬وكلّ ما تقدّم بالنّسبة لعدم سماع الدّعوى لمرور الزّمان إنّما هو عند إنكار المدّعى عليه‬ ‫‪8‬‬

‫‪ ،‬فإذا اعترف المدّعى عليه بالحقّ للمدّعي تسمع دعوى المدّعي مهما طال الزّمان ‪ ،‬والمراد‬
‫بعدم النكار إنّما هو عدم النكار أمام القاضي فل يعتبر عدم النكار خارج مجلس القضاء ‪،‬‬
‫ول يصحّ الحتجاج به لوجود شبهة التّزوير ‪ ،‬ولنّه لمّا كان المنع من سماع أصل الدّعوى‬
‫ن النّهي يشملها ‪ ،‬ولكن إذا كان‬
‫ففرعها وهو ادّعاء القرار أولى بالمنع من السّماع ل ّ‬
‫القرار المدّعى به قد أيّد بسند جاء بخطّ المدّعى عليه أو ختمه المعروفين ولم تم ّر مدّة‬
‫التّقادم من تاريخ السّند إلى وقت رفع الدّعوى فعند ذلك تسمع دعوى القرار على هذه‬
‫الصّورة ‪.‬‬
‫والحكام المتقدّمة الخاصّة بمرور الزّمان إنّما هي للحقوق الخاصّة المتعلّقة بالقرار ‪ ،‬أمّا ما‬
‫يتعلّق بالمور العامّة كالطّريق ونحوها فل تسري عليها أحكام مرور الزّمان ‪ ،‬فتسمع وإن‬
‫طالت المدّة ‪ ،‬وما تقدّم هو خلصة أحكام مذهب الحنفيّة بالنّسبة لمرور الزّمان ‪.‬‬
‫‪ -‬أمّا المالكيّة فيعبّرون عن مرور الزّمان بالحوز والحيازة وعندهم أنّ هناك دعاوى ل‬ ‫‪9‬‬

‫تسمع مطلقا ‪ ،‬وهي الدّعاوى الّتي توجب مَعرّةً كالدّعاوى الّتي ترفع على من عرف‬
‫بالستقامة والشّرف في المعاملة كأن يدّعي شخص معروف بالفقر والتّجنّي على النّاس على‬
‫شخص يطالبه بعقار في يده ‪ .‬والحيازة عندهم على قسمين ‪:‬‬
‫‪ -‬حيازة مع جهل أصل الملك لمن هو ؟ ‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫– حيازة مع علم أصل الملك لمن هو ؟ ‪ .‬فالولى تكفي فيها الحيازة المانعة من سماع‬ ‫‪2‬‬

‫الدّعوى لمدّة عشرة أشهر فأكثر سواء أكان المحوز عقارا أم غيره ‪.‬‬
‫والثّانية ل بدّ فيها من عشر سنين فأكثر في العقار ‪ ،‬أو عامين في الدّوابّ والثّياب ونحوها‬
‫‪ ،‬ويشترط لسماع الدّعوى في كلّ من الحيازتين أن تشهد البيّنة بذكر اليد ‪ ،‬وتصرّف الحائز‬
‫تصرّف المالك في ملكه ‪ ،‬والنّسبة ‪ ،‬وعدم المنازع ‪ ،‬وطول المدّة عشرة أشهر في الولى‬
‫وعشر سنين في الثّانية ‪ ،‬وعدم علمهم بما يفوّت على المالك الصليّ حقّه في استرجاع‬
‫ملكه ‪ ،‬فل تقبل الشّهادة مع فقد هذه المور أو صيغة الشّهادة الّتي تثبت الملك للمدّعي ‪،‬‬
‫وهم يفرّقون بين الشّاهد ذي العلم وغيره ‪.‬‬
‫‪ -‬وجمهور فقهاء المالكيّة يرون أنّه ل يسأل عن مصدر حيازته فل يقال له ‪ :‬كيف حزت‬ ‫‪10‬‬

‫ما تضع يدك عليه ؟ خلفا لبن رشد ‪ ،‬فإنّه جزم بأنّه ل بدّ من سؤال الحائز عن مصدر‬
‫حيازته ‪ ،‬هل هو الميراث مثل أو الشّراء أو الهبة أو غير ذلك ؟ ول بدّ أن يبيّن ذلك ‪ ،‬فأمّا‬
‫مجرّد دعوى الملك دون أن يدّعي شيئا من هذا فل ينتفع به مع الحيازة إذا ثبت أصل الملك‬
‫لغيره ‪ .‬ورأى ابن رشد خلف رأي الجمهور ‪ ،‬ورأي الجمهور هو المعمول به ‪ ،‬اللّهمّ إل إذا‬
‫ي وجه صار‬
‫كان الحائز معروفا بالتّسلّط والغصب والتّعدّي ‪ ،‬فل ب ّد عند الجمهور أن يبيّن بأ ّ‬
‫إليه ول ينفعه قوله اشتريته من القائم أو غيره أو ورثته بل ل بدّ من إثباته ذلك فإن لم‬
‫يثبته فعليه الكراء في جميع المدّة الّتي كان بيده بما يقوله أهل المعرفة ‪.‬‬
‫ن حيازته كانت بباطل لم ينفعه طول الحيازة وإن ادّعى شراءه ‪ ،‬إل أن يطول‬
‫وإن عرف أ ّ‬
‫ذلك نحو الخمسين سنة ونحوها والقائم حاضر ل يغيّر ول يدّعي شيئا ‪ ،‬والمعوّل عليه في‬
‫مذهب المالكيّة أنّ الحائز إذا حاز العقار مدّة عشر سنين مع وجود المدّعي وسكوته بل عذر‬
‫ي المدّة المذكورة يمنع سماع دعوى المدّعي ‪ ،‬وما قارب عشر سنين يأخذ حكم‬
‫ن مض ّ‬
‫فإ ّ‬
‫العشر فإذا نقصت شهرا أو شهرين أخذت حكم العشر ‪ ،‬وأمّا إذا قامت الخصومة بين‬
‫ن ذلك يقطع المدّة ‪ ،‬وفي غير العقار‬
‫المدّعي والحائز أمام القضاء أو غيره كالمحكّمين فإ ّ‬
‫ي عشرة أشهر ‪ ،‬وهناك خلفات بين فقهاء‬
‫يمنع من سماع الدّعوى مع عدم العذر مض ّ‬
‫ي المدّة ولو مرّة واحدة ‪ ،‬واشترط بعض المالكيّة‬
‫المالكيّة في ذلك ‪ ،‬والتّخاصم يقطع مض ّ‬
‫تكرار التّخاصم وهو ما نقله ابن سلمون عن سحنون ‪ ،‬وإذا سكت بعد المنازعة عشر سنين‬
‫ن سكوته يمنع من سماع دعواه ‪ ،‬واختلفوا فيما إذا سكت المدّعي عن مخاصمة الحائز‬
‫فإ ّ‬
‫عشر سنين ثمّ رفع المدّعي أمره ليقضي له وعلّل سكوته بأنّ بيّنته كانت غائبة ثمّ جاءت ‪،‬‬
‫فقيل ‪ :‬يقبل عذره وقيل ‪ :‬ل ‪ ،‬وكذلك لو قال ‪ :‬كنت فاقدا مستندي ث ّم وجدته ‪ ،‬وكذلك جهل‬
‫الحكم على معنى أنّ جهله أنّ الحيازة تملّك الحائز ليس عذرا وسكوت المورّث ثمّ الوارث‬
‫المدّة المذكورة يمنع من سماع الدّعوى لنّهما كشخص واحد ‪ ،‬وقيل تحسب مدّة المورّث‬
‫وحدها ومدّة الوارث وحدها فل يجمعان معا ‪.‬‬
‫‪ -‬ونفقة غير الزّوجة تسقط بمضيّ الزّمان فل تصير بفوتها دينا في ذمّة من تجب عليه‬ ‫‪11‬‬

‫إل باقتراض قاض بنفسه أو مأذونه لغيبة أو منع فإنّها حينئذ تصير دينا عليه بشرط أن‬
‫يثبت عنده احتياج الفرع وغنى الصل مثلً ‪.‬‬
‫أمّا نفقة الزّوجة فل تسقط بمضيّ الزّمان بل تصير دينا في ذمّة الزّوج ‪ ،‬والمراد بالنّفقة هنا‬
‫ن نفقة الزّوجة للستمتاع والتّمكين ‪ ،‬وكذلك المهر بعد الدّخول‬
‫ما سوى المسكن والخادم ‪ ،‬ل ّ‬
‫فإنّه ل يسقط بالتّقادم ‪ ،‬بل يستق ّر في ذمّة الزّوج ويستحقّ بالموت أو الطّلق البائن ويصير‬
‫مأمونا من سقوطه ‪.‬‬
‫‪ -‬ويبيّن أيضا ممّا تقدّم أنّ الحنفيّة والمالكيّة يكادون يتّفقون على إباحة سماع الدّعوى‬ ‫‪12‬‬

‫للعذار ‪ ،‬وهي على الجملة الصّغر والغيبة البعيدة والجنون والعته وكلّ عذر يمنع المدّعي‬
‫من رفع الدّعوى كأن يكون المدّعى عليه ذا سطوة ويخاف منه ‪ -‬على التّفصيل المتقدّم ‪.‬‬
‫التّقادم في الحدود ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬تقادم الشّهادة في الحدود ‪:‬‬
‫ن الشّهادة على الزّنى‬
‫‪ -‬ذهب جمهور الفقهاء من المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى أ ّ‬ ‫‪13‬‬

‫والقذف وشرب الخمر تقبل ولو بعد مضيّ زمان طويل من الواقعة لعموم آية الشّهادة في‬
‫ن الشّهادة إنّما صارت حجّة باعتبار وصف الصّدق‬
‫الزّنى ‪ ،‬ولنّه حقّ لم يثبت ما يبطله ‪ ،‬ول ّ‬
‫‪ ،‬وتقادم العهد ل يخلّ بالصّدق فل يخرج من أن يكون حجّة كالقرار وحقوق العباد ‪.‬‬
‫وقال الحنفيّة ‪ :‬التّقادم في الحدود الخالصة للّه تعالى يمنع قبول الشّهادة إل إذا كان التّأخير‬
‫لعذر كبعد المسافة أو مرض ونحو ذلك ‪ ،‬فحدّ الزّنى والشّرب والسّرقة خالص حقّ اللّه‬
‫تعالى حتّى يصحّ رجوع المق ّر عنها فيكون التّقادم فيها مانعا ‪ .‬وأمّا ح ّد القذف فالتّقادم فيه ل‬
‫ن فيه حقّ العبد لما فيه من دفع العار عنه ‪ ،‬ولهذا تقبل دعواه ‪ ،‬ول‬
‫يمنع قبول الشّهادة ‪ ،‬ل ّ‬
‫ن الدّعوى فيه شرط ‪ ،‬فل يتّهم الشّهود في ذلك ‪،‬‬
‫يصحّ رجوع المقرّ عن إقراره فيه ‪ ،‬ول ّ‬
‫ونقل ابن الهمام عن ابن أبي ليلى ‪ :‬ر ّد الشّهادة والقرار في جميع الحدود القديمة ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬تقادم القرار ‪:‬‬
‫ن التّقادم في القرار ل أثر له بالنّسبة لتلك الحدود ما عدا حدّ‬
‫‪ -‬اتّفق الفقهاء على أ ّ‬ ‫‪14‬‬

‫ق نفسه ‪ ،‬وعلى هذا‬


‫ن النسان غير متّهم في ح ّ‬
‫الشّرب عند أبي حنيفة وأبي يوسف ل ّ‬
‫فيقبل القرار بالزّنى ولو بعد مدّة ‪.‬‬

‫تقاصّ *‬
‫انظر ‪ :‬مقاصّة ‪.‬‬

‫تقاضي *‬
‫انظر ‪ :‬قضاء ‪.‬‬

‫تقايل *‬
‫انظر ‪ :‬إقالة ‪.‬‬

‫تقبّل *‬
‫التّعريف ‪:‬‬
‫‪ -‬التّقبّل مصدر تقبّل أي تكفّل ‪ ،‬ومن معانيه في اللّغة اللتزام والتّعهّد ‪ ،‬يقال ‪ :‬تقبّلت‬ ‫‪1‬‬

‫العمل من صاحبه إذا التزمته بعقد ‪ .‬ومنه القبالة بالفتح اسم المكتوب من ذلك لما يلتزمه‬
‫النسان من عمل ودين وغير ذلك ‪ ،‬وبالكسر ‪ :‬العمل ‪ ،‬والقبيل الكفيل ‪ ،‬والقبالة الكفالة ‪.‬‬
‫ول يخرج المعنى الصطلحيّ للتّقبّل عن المعنى اللّغويّ ‪.‬‬
‫واستعمل التّقبّل في الصطلح أيضا بمعنى التّعهّد واللتزام ‪ ،‬فقد ورد في المجلّة أنّ ‪" :‬‬
‫التّقبّل تعهّد العمل والتزامه " ‪.‬‬
‫وأطلقه الفقهاء غالبا على نوع من أنواع الشّركة فيما إذا اتّفق اثنان فأكثر على أن يتقبّل‬
‫ل من الخياطة أو القصارة أو غيرهما ‪ ،‬ويكون الكسب بينهما على ما شرطا ‪.‬‬
‫عم ً‬
‫وهذه التّسمية شائعة في كتب الحنفيّة أكثر من المذاهب الخرى ‪ ،‬وتسمّى أيضا شركة‬
‫العمال وشركة الصّنائع وشركة البدان ‪.‬‬
‫اللفاظ ذات الصّلة ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬الكفالة ‪:‬‬
‫ضمّ والتّحمّل واللتزام ‪ ،‬وفي الصطلح ضمّ ذمّة إلى ذمّة أخرى‬
‫‪ -‬الكفالة في اللّغة ‪ :‬ال ّ‬ ‫‪2‬‬

‫في المطالبة بشيء من نفس أو دين أو عين ‪ .‬فالعلقة بين الكفالة والتّقبّل أنّ التّقبّل يتضمّن‬
‫ص العمال فقط ‪.‬‬
‫الكفالة ‪ ،‬لكنّها قد تكون بالموال بخلف التّقبّل الّذي يخ ّ‬
‫ب ‪ -‬اللتزام ‪:‬‬
‫‪ -‬اللتزام مصدر التزم ‪ ،‬وأصله من اللّزوم بمعنى الثّبوت والدّوام ‪ ،‬يقال ‪ :‬ألزمته المال‬ ‫‪3‬‬

‫والعمل وغيره فالتزمه ‪ .‬فاللتزام بالشّيء قبوله واعتناقه سواء أكان بإرادة واحدة أم‬
‫بإرادتين ‪ ،‬على عمل أو غيره وعلى ذلك فهو أعمّ من التّقبّل والكفالة ( ر ‪ :‬التزام ) ‪.‬‬
‫الحكم الجماليّ ‪:‬‬
‫‪ -‬جمهور الفقهاء ‪ -‬الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة ‪ -‬على جواز شركة التّقبّل " شركة‬ ‫‪4‬‬

‫الصّنائع " في العمال الّتي تصلح فيها الوكالة ‪ ،‬لنّها قسم من شركة العقد فيعتبر كلّ واحد‬
‫من الشّريكين وكيل للخر ‪ .‬وما يتقبّله أحدهما من العمل يصير في ضمانهما يطالبان به ‪،‬‬
‫ويلزمهما عمله ‪ ،‬ولو مرض أحدهما أو سافر أو امتنع عمدا بل عذر فالخر مطالب‬
‫ن لكلّ واحد‬
‫ن العمل مضمون عليهما ‪ .‬كما أ ّ‬
‫بالعمل ‪ ،‬والكسب بينهما على ما شرطاه ‪ ،‬ل ّ‬
‫منهما المطالبة بالجرة ‪ ،‬فتبرأ ذمّة من يدفع الجرة لحدهما ‪ ،‬وإن تلفت الجرة في يد‬
‫أحدهما من غير تفريط فهي من ضمانهما ‪ ،‬تضيع عليهما معا ‪.‬‬
‫ن الشّريكين قد‬
‫ن المقصود منها تحصيل المال بالتّوكيل ‪ ،‬فكما أ ّ‬
‫‪ -‬واستدلّوا لجوازها بأ ّ‬ ‫‪5‬‬

‫يستحقّان الرّبح بالشتراك من أحدهما بالعمل ومن الخر بالمال كما في المضاربة ‪ ،‬وقد‬
‫يستحقّانه بالمال فقط كما في سائر الشّركات ‪ ،‬فكذا يجوز أن يستحقّاه بالعمل فقط ‪.‬‬
‫ولنّ المسلمين في سائر المصار يعقدون هذه الشّركة ويتعاملون بها ‪.‬‬
‫وقد روي « عن ابن مسعود رضي ال عنه قال ‪ :‬اشتركت أنا وسعد وعمّار يوم بدر ‪ ،‬فلم‬
‫أجئ أنا وعمّار بشيء ‪ ،‬وجاء سعد بأسيرين ‪ ،‬ومثل هذا ل يخفى على رسول اللّه صلى ال‬
‫عليه وسلم وقد أقرّهم عليه » ‪.‬‬
‫‪ -‬ول يشترط لصحّة التّقبّل وشركة العمال اتّحاد المكان عند من يجوّزونها ‪ :‬وهم‬ ‫‪6‬‬

‫ن المعنى المجوّز لشركة التّقبّل من كون المقصود تحصيل الرّبح ل‬


‫جمهور الفقهاء ‪ ،‬ل ّ‬
‫يختلف بين كون العمل في دكاكين أو دكّان ‪.‬‬
‫كما ل يشترط التّساوي في الرّبح أو العمل ‪ ،‬ول اتّحاد الصّنعة عند الحنفيّة والحنابلة ‪.‬‬
‫فيصحّ بالمناصفة أو الثّلث والثّلثين أو غير ذلك ‪ ،‬كما يصحّ أن يعمل أحدهما أكثر من‬
‫الخر ‪ ،‬اتّفقت صنعتهما كخيّاطين ‪ ،‬أو اختلفت كخيّاط وقصّار أو صبّاغ ‪ ،‬وكاشتراك حدّاد‬
‫ح كما لو اتّفقت الصّنائع ‪.‬‬
‫ونجّار وخيّاط ‪ ،‬لنّهم اشتركوا في مكسب مباح فص ّ‬
‫وقال المالكيّة ‪ :‬جازت الشّركة بالعمل إن اتّحد ‪ ،‬كخيّاطين ‪ ،‬أو تلزم بأن توقّف عمل أحدهما‬
‫على عمل الخر ‪ ،‬كنسج وإصلح غزل بتهيئة للنّسج ‪ ،‬وكأن يفوّض أحدهما لطلب اللّؤلؤ ‪،‬‬
‫والثّاني يمسك عليه ويجذب ‪ ،‬وبشرط أن يتساويا في العمل بأن يأخذ كلّ واحد بقدر عمله‬
‫من الغلّة ‪ ،‬أو يتقاربا في العمل وحصل التّعاون بينهما ‪.‬‬
‫ح كذلك في تملّك المباحات من‬
‫ح هذه الشّركة في الصّنائع ونحوها ‪ ،‬تص ّ‬
‫‪ -‬وكما تص ّ‬ ‫‪7‬‬

‫الحتشاش ‪ ،‬والصطياد ‪ ،‬والحتطاب ‪ ،‬والتّلصّص على دار الحرب ‪ ،‬وسائر المباحات ‪،‬‬
‫وهذا عند المالكيّة والحنابلة ‪.‬‬
‫وقال الحنفيّة ‪ :‬ل يصحّ التّقبّل وشركة العمال في المباحات من الصّيد والحطب ‪ ،‬وما يكون‬
‫ن سبب ثبوت الملك في‬
‫في الجبال من الثّمار ‪ ،‬وما أشبه ذلك ‪ ،‬لعدم صحّة الوكالة فيها ‪ ،‬ل ّ‬
‫المباحات الخذ والستيلء ‪ ،‬فإن تشاركا فأخذ كلّ واحد منهما شيئا من ذلك منفردا كان‬
‫المأخوذ ملكا له خاصّة ‪.‬‬
‫‪ -‬هذا ‪ ،‬وصرّح الشّافعيّة ببطلن شركة البدان مطلقا ‪ ،‬وذلك لعدم المال فيها ‪ ،‬ولما فيها‬ ‫‪8‬‬

‫من الغرر ‪ ،‬إذ ل يدري الشّريك أنّ صاحبه يكسب أم ل ‪ ،‬ولنّ كلّ واحد منهما متميّز ببدنه‬
‫ص بفوائده ‪ ،‬كما لو اشتركا في ماشيتهما وهي متميّزة ويكون الدّ ّر والنّسل‬
‫ومنافعه ‪ ،‬فيخت ّ‬
‫بينهما ‪ .‬وللتّفصيل ينظر مصطلح ‪ ( :‬شركة ) ‪.‬‬

‫تقبيل *‬
‫التّعريف ‪:‬‬
‫‪ -‬التّقبيل في اللّغة ‪ :‬مصدر قبّل ‪ ،‬والسم منه القبلة وهي اللّثمة ‪ ،‬والجمع القبل ‪ .‬يقال‬ ‫‪1‬‬

‫قبّلها تقبيلً أي لثمها وتقبّلت العمل من صاحبه إذا التزمته بعقد ‪.‬‬
‫والقبالة ‪ :‬اسم المكتوب من ذلك لما يلتزمه النسان من عمل ودين وغير ذلك ‪.‬‬
‫قال الزّمخشريّ ‪ :‬كلّ من تقبّل بشيء مقاطعة وكتب عليه بذلك كتابا ‪ ،‬فالكتاب الّذي كتب هو‬
‫القبالة " بالفتح " والعمل قبالة " بالكسر " ‪.‬‬
‫وتقبيل الخراج ‪ :‬هو أن يدفع السّلطان أو نائبه ‪ ،‬صقعا ‪ ،‬أو بلدة ‪ ،‬أو قرية ‪ ،‬إلى رجل مدّة‬
‫سنة ‪ ،‬مقاطعة بمال معلوم ‪ ،‬يؤدّيه إليه عن خارج أرضها ‪ ،‬أو جزية رءوس أهلها إن كانوا‬
‫أهل ال ّذمّة ‪ .‬وتفصيل الكلم في التّقبيل بهذا الطلق ينظر في مصطلح " خراج ‪ ،‬وقبالة " ‪.‬‬
‫ول يخرج استعمال الفقهاء عن هذه المعاني ‪.‬‬
‫أقسام التّقبيل ‪:‬‬
‫ن التّقبيل على خمسة أوجه ‪ :‬قبلة المودّة للولد على الخدّ ‪ ،‬وقبلة‬
‫‪ -‬ذكر بعض الفقهاء أ ّ‬ ‫‪2‬‬

‫الرّحمة لوالديه على الرّأس ‪ ،‬وقبلة الشّفقة لخيه على الجبهة ‪ ،‬وقبلة الشّهوة لمرأته أو‬
‫أمته على الفم ‪ ،‬وقبلة التّحيّة للمؤمنين على اليد ‪ .‬وزاد بعضهم قبلة الدّيانة للحجر السود ‪.‬‬
‫وفيما يلي أحكام التّقبيل بأنواعه المختلفة ‪ ،‬وما ينشأ عنه من آثار ‪:‬‬
‫أحكام التّقبيل أوّلً ‪:‬‬
‫التّقبيل المشروع ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬تقبيل الحجر السود ‪:‬‬
‫ن تقبيل الحجر السود للحاجّ والمعتمر في حالة الطّواف لمن يقدر عند عامّة الفقهاء‬
‫‪ -‬يس ّ‬ ‫‪3‬‬

‫‪ ،‬لما روى ابن عمر « أنّ عمر رضي ال عنه قبّل الحجر ثمّ قال ‪ :‬واللّه لقد علمت أنّك‬
‫حجر ولول أنّي رأيت رسول اللّه صلى ال عليه وسلم يقبّلك ما قبّلتك » ‪.‬‬
‫فإن عجز عن التّقبيل اقتصر على الستلم باليد ثمّ قبّلها ‪ ،‬وإن عجز عن الستلم باليد وكان‬
‫في يده شيء يمكن أن يستلم الحجر استلمه وقبّله ‪ ،‬وهذا عند جمهور الفقهاء الحنفيّة‬
‫ي صلى ال عليه وسلم « أنّه استلم الحجر السود‬
‫والشّافعيّة والحنابلة ‪ ،‬لما روي عن النّب ّ‬
‫باليد ثمّ قبّل يده » ‪ ،‬ولما روي عن ابن عبّاس قال ‪ « :‬رأيت رسول اللّه صلى ال عليه‬
‫وسلم يطوف بالبيت ويستلم الرّكن بمحجن معه ويقبّل المحجن » ‪.‬‬
‫وقال المالكيّة ‪ :‬إن لم يقدر أن يقبّله لمسه بيده أو بعود ثمّ وضعه على فيه من غير تقبيل ‪.‬‬
‫وتفصيله في مصطلح ‪ :‬طواف ‪ ،‬والحجر السود " ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬تقبيل الرّكن اليمانيّ ‪:‬‬
‫‪ -‬يندب استلم الرّكن اليمانيّ في الطّواف بل خلف بين الفقهاء لما روي عن ابن عمر‬ ‫‪4‬‬

‫قال ‪ « :‬كان رسول اللّه صلى ال عليه وسلم ل يدع أن يستلم الرّكن اليمانيّ والحجر في‬
‫كلّ طواف » ‪.‬‬
‫أمّا تقبيله فقال جمهور الفقهاء من الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة ‪ -‬وهو الصّحيح عند‬
‫الحنابلة ‪ :‬ل يقبّله ‪ :‬لكنّ الشّافعيّة قالوا ‪ :‬يستلمه باليد ويقبّل اليد بعد استلمه ‪ ،‬وقال‬
‫المالكيّة ‪ :‬يلمسه بيده ويضعها على فيه من غير تقبيل ‪.‬‬
‫وقال محمّد من الحنفيّة ‪ -‬وهو قول الخرقيّ من الحنابلة ‪ :‬يقبّله إن تمكّن من ذلك ‪.‬‬
‫ن تقبيل عتبة الكعبة أيضا من قبلة الدّيانة ‪.‬‬
‫هذا وذكر الحنفيّة أ ّ‬
‫ثانيا ‪ :‬التّقبيل الممنوع ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬تقبيل الجنبيّة ‪:‬‬
‫‪ -‬اتّفق الفقهاء على عدم جواز لمس وتقبيل المرأة الجنبيّة ولو للخطبة ‪.‬‬ ‫‪5‬‬

‫وتفصيل هذه المسائل في مصطلح ‪ ( :‬خطبة ونكاح ) ‪.‬‬


‫ب ‪ -‬تقبيل المرد ‪:‬‬
‫‪ -‬المرد إذا لم يكن صبيح الوجه فحكمه حكم الرّجال في جواز تقبيله للوداع والشّفقة‬ ‫‪6‬‬

‫دون الشّهوة ‪ ،‬أمّا إذا كان صبيح الوجه يشتهى فيأخذ حكم النّساء وإن اتّحد الجنس ‪ ،‬فتحرم‬
‫مصافحته وتقبيله ومعانقته بقصد التّلذّذ عند عامّة الفقهاء ‪.‬‬
‫وتفصيله في مصطلح ‪ ( :‬أمرد ) ‪.‬‬
‫ج ‪ -‬تقبيل الرّجل للرّجل ‪ ،‬والمرأة للمرأة ‪:‬‬
‫‪ -‬ل يجوز للرّجل تقبيل فم الرّجل أو يده أو شيء منه ‪ ،‬وكذا تقبيل المرأة للمرأة ‪،‬‬ ‫‪7‬‬

‫والمعانقة ومماسّة البدان ‪ ،‬ونحوها ‪ ،‬وذلك كلّه إذا كان على وجه الشّهوة ‪ ،‬وهذا بل خلف‬
‫بين الفقهاء لما روي « عن النّبيّ صلى ال عليه وسلم أنّه ‪ :‬نهى عن المكامعة وهي ‪:‬‬
‫المعانقة ‪ ،‬وعن المعاكمة وهي ‪ :‬التّقبيل » ‪ .‬أمّا إذا كان ذلك على غير الفم ‪ ،‬وعلى وجه‬
‫الب ّر والكرامة ‪ ،‬أو لجل الشّفقة عند اللّقاء والوداع ‪ ،‬فل بأس به كما يأتي ‪.‬‬
‫د ‪ -‬تقبيل يد الظّالم ‪:‬‬
‫‪ -‬صرّح الفقهاء بعدم جواز تقبيل يد الظّالم ‪ ،‬وقالوا ‪ :‬إنّه معصية إل أن يكون عند‬ ‫‪8‬‬

‫خوف ‪ ،‬قال صاحب الدّ ّر ‪ :‬ل رخصة في تقبيل اليد لغير عالم وعادل ‪ ،‬ويكره ما يفعله‬
‫الجهّال من تقبيل يد نفسه إذا لقي غيره ‪ ،‬وكذلك تقبيل يد صاحبه عند اللّقاء إذا لم يكن‬
‫صاحبه عالما ول عادل ‪ ،‬ول قصد تعظيم إسلمه ول إكرامه ‪.‬‬
‫هـ – تقبيل الرض بين يدي العلماء والعظماء ‪:‬‬
‫‪ -‬تقبيل الرض بين يدي العلماء والعظماء حرام ‪ ،‬والفاعل والرّاضي به آثمان ‪ ،‬لنّه‬ ‫‪9‬‬

‫يشبه عبادة الوثن ‪ ،‬وهل يكفر ؟ إن على وجه العبادة والتّعظيم كفر ‪ ،‬وإن على وجه التّحيّة‬
‫ل ‪ ،‬وصار آثما مرتكبا للكبيرة ‪ ،‬كما صرّح به صاحب الدّرّ ‪.‬‬
‫و ‪ -‬التّقبيل في العتكاف والصّيام ‪:‬‬
‫‪ -‬اتّفق الفقهاء على عدم جواز تقبيل أحد الزّوجين الخر في حالة العتكاف إن كان‬ ‫‪10‬‬

‫بشهوة ‪ ،‬لقوله تعالى ‪ { :‬وَل تُبَاشِرُوهُنّ َوأَنْ ُتمْ عَاكِفُونَ في ال َمسَاجِدِ } ‪ ،‬كما اتّفقوا على‬
‫كراهة التّقبيل في الصّيام لمن يخاف على نفسه المفسد من النزال والجماع ‪ ،‬بل صرّح‬
‫المالكيّة بالحرمة في حالة خوف المفسد والعلم بعدم السّلمة ‪.‬‬
‫وهل يبطل العتكاف بالتّقبيل ؟ فيه خلف وتفصيل يأتي في بيان آثار التّقبيل ‪.‬‬
‫ثالثا ‪ :‬التّقبيل المباح ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬تقبيل المبرّة والكرام ‪ ،‬وتقبيل المودّة والشّفقة ‪:‬‬
‫‪ -‬يجوز تقبيل يد العالم الورع والسّلطان العادل ‪ ،‬وتقبيل يد الوالدين ‪ ،‬والستاذ ‪ ،‬وكلّ‬ ‫‪11‬‬

‫ق التّعظيم والكرام ‪ ،‬كما يجوز تقبيل الرّأس والجبهة وبين العينين ‪ ،‬ولكن كلّ ذلك‬
‫من يستح ّ‬
‫إذا كان على وجه المبرّة والكرام ‪ ،‬أو الشّفقة عند اللّقاء والوداع ‪ ،‬وتديّنا واحتراما مع أمن‬
‫ي صلى ال عليه وسلم عانق جعفرا حين قدم من الحبشة وقبّل‬
‫الشّهوة ‪ .‬وقد ثبت أنّ « النّب ّ‬
‫بين عينيه » وروي « عن ابن عمر رضي ال عنه أنّه كان في سريّة من سرايا رسول اللّه‬
‫ي صلى ال عليه وسلم فقبّلنا يده » ‪.‬‬
‫صلى ال عليه وسلم فذكر قصّة قال ‪ :‬فدنونا من النّب ّ‬
‫قال ابن بطّال ‪ :‬أنكر مالك تقبيل اليد وأنكر ما روي فيه ‪.‬‬
‫قال البهريّ ‪ :‬وإنّما كرهه مالك إذا كان على وجه التّعظيم والتّكبّر ‪.‬‬
‫وأمّا إذا كان على وجه القربة إلى اللّه لدينه أو لعلمه أو لشرفه فإنّ ذلك جائز ‪.‬‬
‫ن تقبيل الولد للمودّة على الرّأس والجبهة والخدّ ‪ ،‬لحديث أبي هريرة قال‬
‫كذلك يجوز بل يس ّ‬
‫‪ « :‬قبّل رسول اللّه صلى ال عليه وسلم حسين بن عليّ ‪ ،‬فقال القرع بن حابس ‪ :‬إنّ لي‬
‫عشرة من الولد ما قبّلت منهم أحدا ‪ ،‬فقال ‪ :‬من ل يرحم ل يرحم » ‪.‬‬
‫ي صلى ال عليه وسلم فقال ‪:‬‬
‫ي إلى النّب ّ‬
‫وعن عائشة رضي ال عنها قالت ‪ « :‬جاء أعراب ّ‬
‫ي صلى ال عليه وسلم ‪ :‬أوأملك لك أن نزع اللّه من‬
‫تقبّلون الصّبيان فما نقبّلهم ‪ ،‬فقال النّب ّ‬
‫قلبك الرّحمة ؟ » ‪.‬‬
‫وعن عائشة رضي ال عنها قالت ‪ « :‬ما رأيت أحدا أشبه سمتا وهديا برسول اللّه صلى ال‬
‫عليه وسلم من فاطمة ابنته ‪ ،‬وكانت إذا دخلت عليه قام إليها يقبّلها وأجلسها في مجلسه ‪،‬‬
‫ي صلى ال عليه وسلم إذا دخل عليها قامت له فتقبّله وتجلسه في مجلسها » ‪.‬‬
‫وكان النّب ّ‬
‫ب ‪ -‬تقبيل الميّت ‪:‬‬
‫‪ -‬يجوز لهل الميّت وأقربائه وأصدقائه تقبيل وجهه ‪ ،‬لما روت عائشة رضي ال عنها‬ ‫‪12‬‬

‫ي صلى ال عليه وسلم قبّل عثمان بن مظعون وهو ميّت ‪ ،‬وهو يبكي أو عيناه‬
‫« أنّ النّب ّ‬
‫تذرفان » وروي كذلك عن عائشة رضي ال عنها قالت ‪ « :‬أقبل أبو بكر فتيمّم النّبيّ صلى‬
‫ال عليه وسلم وهو مسجّى ببرد حبرة ‪ ،‬فكشف عنه وجهه ‪ ،‬ث ّم أكبّ عليه فقبّله ‪ ،‬ثمّ بكى ‪،‬‬
‫فقال ‪ :‬بأبي أنت يا رسول اللّه ل يجمع اللّه عليك موتتين » ‪.‬‬
‫ج ‪ -‬تقبيل المصحف ‪:‬‬
‫‪ -‬ذكر الحنفيّة ‪ :‬وهو المشهور عند الحنابلة ‪ -‬جواز تقبيل المصحف تكريما له ‪ ،‬وهو‬ ‫‪13‬‬

‫المذهب عند الحنابلة ‪ ،‬وروي عن أحمد استحبابه ‪ ،‬لما روي عن عمر رضي ال عنه أنّه ‪:‬‬
‫كان يأخذ المصحف كلّ غداة ويقبّله ‪ ،‬ويقول ‪ :‬عهد ربّي ومنشور ربّي ع ّز وجلّ ‪ ،‬وكان‬
‫عثمان رضي ال عنه يقبّل المصحف ويمسحه على وجهه ‪ .‬وقال النّوويّ في التّبيان ‪:‬‬
‫روينا في مسند الدّارميّ بإسناد صحيح عن ابن أبي مليكة أنّ عكرمة بن أبي جهل كان يضع‬
‫المصحف على وجهه ويقول ‪ :‬كتاب ربّي كتاب ربّي ‪ .‬ونقل صاحب الدّرّ عن القنية ‪ :‬وقيل ‪:‬‬
‫إنّ تقبيل المصحف بدعة ‪ ،‬وردّه بما تقدّم نقله عن عمر وعثمان ‪.‬‬
‫وروي كذلك عن أحمد ‪ :‬التّوقّف في تقبيل المصحف ‪ ،‬وفي جعله على عينيه ‪ ،‬وإن كان فيه‬
‫ن ما طريقه التّقرّب إذا لم يكن للقياس فيه مدخل ل يستحبّ فعله ‪ ،‬وإن‬
‫رفعه وإكرامه ‪ ،‬ل ّ‬
‫كان فيه تعظيم إل بتوقيف ‪ ،‬ولهذا قال عمر عن الحجر ‪ « :‬لول أنّي رأيت رسول اللّه صلى‬
‫ال عليه وسلم يقبّلك ما قبّلتك » ‪ .‬ولم نعثر في كتب المالكيّة على حكم لهذه المسألة ‪.‬‬
‫د ‪ -‬تقبيل الخبز والطّعام ‪:‬‬
‫‪ -‬صرّح الشّافعيّة بجواز تقبيل الخبز ‪ ،‬وقالوا ‪ :‬إنّه بدعة مباحة أو حسنة ‪ ،‬لنّه ل دليل‬ ‫‪14‬‬

‫ن المكروه ما ورد عنه نهي ‪ ،‬أو كان فيه خلف قويّ ‪ ،‬ولم‬
‫على التّحريم ول الكراهة ‪ ،‬ل ّ‬
‫يرد في ذلك نهي ‪ ،‬فإن قصد بذلك إكرامه لجل الحاديث الواردة في إكرامه فحسن ‪ ،‬ودوسه‬
‫مكروه كراهة شديدة ‪ ،‬بل مجرّد إلقائه في الرض من غير دوس مكروه ‪.‬‬
‫وقال صاحب الدّ ّر من الحنفيّة مؤيّدا قول الشّافعيّة في جواز تقبيل الخبز ‪ :‬وقواعدنا ل تأباه‪.‬‬
‫أمّا الحنابلة فقالوا ‪ :‬ل يشرع تقبيل الخبز ول الجمادات إل ما استثناه الشّرع ‪.‬‬
‫آثار التّقبيل ‪:‬‬
‫أثر التّقبيل في الوضوء ‪:‬‬
‫‪ -‬صرّح الحنفيّة ‪ -‬وهو رواية عند الحنابلة ‪ -‬بعدم انتقاض الوضوء بمسّ الزّوجة ول‬ ‫‪15‬‬

‫ي صلى ال عليه وسلم قبّل‬


‫بتقبيلها ‪ ،‬لما روي عن عائشة رضي ال عنها قالت ‪ « :‬إنّ النّب ّ‬
‫بعض نسائه ثمّ صلّى ولم يتوضّأ » ‪.‬‬
‫ن المراد باللّمس في الية ‪ { :‬أوْ ل َمسْ ُتمْ ال ّنسَاءَ } الجماع كما فسّرها ابن عبّاس‬
‫وقالوا ‪ :‬إ ّ‬
‫ي صلى ال عليه وسلم ‪.‬‬
‫رضي ال عنه ‪ ،‬وقد تأكّد ذلك بفعل النّب ّ‬
‫ن اللّمس والتّقبيل ناقضان للوضوء‬
‫وقال الشّافعيّة ‪ -‬وهو رواية أخرى عند الحنابلة ‪ -‬إ ّ‬
‫مطلقا لعموم قوله تعالى ‪َ { :‬أوْ ل َمسْ ُتمْ ال ّنسَاءَ } ‪ ،‬ولنّه مظنّة اللتذاذ المثير للشّهوة ‪،‬‬
‫ومثله في ذلك باقي صور التقاء البشرتين بين الرّجل والمرأة ‪ ،‬ول فرق في ذلك بين‬
‫اللمس والملموس ‪ ،‬وزاد الشّافعيّة ‪ :‬ولو كان الممسوس ميّتا ‪.‬‬
‫والمشهور من مذهب أحمد أنّه يجب الوضوء على من قبّل لشهوة ‪ ،‬ول يجب على من قبّل‬
‫لرحمة ‪ .‬ول فرق عنده بين الجنبيّة والمحرم والصّغيرة الّتي تشتهى ‪ -‬أي ذات سبع سنين‬
‫فأكثر ‪ -‬والكبيرة ‪ ،‬لعموم النّصّ ‪ ،‬خلفا للشّافعيّة حيث قالوا بعدم النّقض بلمس ذوات‬
‫المحارم بنسب أو رضاع أو مصاهرة في الظهر ‪ ،‬لنّها ليست محلً للشّهوة ‪.‬‬
‫أمّا المالكيّة فقد فصّلوا في ذلك فقالوا ‪ :‬تقبيل فم من يلت ّذ صاحبه به عادة ناقض لوضوئهما‬
‫ن القبلة على الفم ل‬
‫مطلقا ‪ ،‬وإن لم يقصد اللّذّة أو لم يجدها ‪ ،‬وإن كان بكره أو استغفال ‪ ،‬ل ّ‬
‫تنفكّ عن اللّذّة غالبا ‪ ،‬والنّادر ل حكم له ‪.‬‬
‫أمّا تقبيل سائر العضاء ‪ ،‬فإن قصد به لذّة أو وجدها بدون القصد ينقضه وإل فل ‪.‬‬
‫وهذا كلّه إذا كانا بالغين وإل انتقض وضوء البالغ منهما إذا كان تقبيله لمن يشتهى عادة ‪.‬‬
‫ي ‪ :‬فعلى هذا لو قبّل شيخ شيخة‬
‫والمعتبر عادة النّاس ل عادة المقبّل والمقبّل ‪ ،‬قال الدّسوق ّ‬
‫انتقض وضوء كلّ منهما ‪ ،‬لنّ عادة المشايخ اللّذّة بالنّساء الكبار ‪.‬‬
‫وإذا كان التّقبيل لوداع عند فراق أو لرحمة كتقبيل المريض للشّفقة فل نقض ‪.‬‬
‫أثر التّقبيل في الصّلة ‪:‬‬
‫ن الطّهارة شرط لصحّة‬
‫‪ -‬التّقبيل مبطل للصّلة عند من يقول بنقض الوضوء به ‪ ،‬ل ّ‬ ‫‪16‬‬

‫الصّلة عند عامّة الفقهاء ‪ ،‬فإذا انتقض الوضوء بطلت الصّلة ‪.‬‬
‫كذلك تفسد الصّلة بالتّقبيل عند الحنفيّة الّذين ذهبوا إلى عدم نقض الوضوء به ‪ ،‬فإنّهم قالوا‬
‫ي ثديها‬
‫ص صب ّ‬
‫في التّقبيل بين الزّوجين ‪ :‬لو مسّها بشهوة أو قبّلها ولو بغير شهوة ‪ ،‬أو م ّ‬
‫وخرج اللّبن تفسد صلتهما ‪.‬‬
‫لكنّهم صرّحوا بأنّه لو قبّلته وهو في الصّلة ولم يشتهها ل تفسد صلته ‪.‬‬
‫أثر التّقبيل على الصّيام ‪:‬‬
‫‪ -‬يكره للصّائم تقبيل الزّوجة إن لم يأمن على نفسه وقوع مفسد من النزال والجماع ‪،‬‬ ‫‪17‬‬

‫ب فقال‬
‫لما روي أنّ عبد اللّه بن عمر قال ‪ « :‬كنّا عند النّبيّ صلى ال عليه وسلم فجاء شا ّ‬
‫يا رسول اللّه ‪ -‬أقبّل وأنا صائم ؟ قال ‪ :‬ل ‪ .‬فجاء شيخ فقال ‪ :‬أقبّل وأنا صائم ؟ قال ‪ :‬نعم ‪،‬‬
‫فنظر بعضنا إلى بعض ‪ ،‬فقال رسول اللّه صلى ال عليه وسلم ‪ :‬قد علمت لم نظر بعضكم‬
‫ن الشّيخ يملك نفسه » ‪ .‬ولنّه إذا لم يأمن المفسد ربّما وقع في الجماع فيفسد‬
‫إلى بعض ؟ إ ّ‬
‫صومه ‪ .‬وهذا عند الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة ‪.‬‬
‫ومحلّ الكراهة إذا كانت القبلة بقصد اللّذّة ل إن كان بدون قصدها ‪ ،‬كأن تكون بقصد وداع‬
‫أو رحمة فل كراهة ‪.‬‬
‫وإذا أمن على نفسه وقوع مفسد فل بأس بالتّقبيل عند جمهور الفقهاء ‪ ،‬لما روي عن‬
‫ن « النّبيّ صلى ال عليه وسلم كان يقبّل ويباشر وهو صائم » ‪.‬‬
‫عائشة رضي ال عنها أ ّ‬
‫ي أو مذي ‪،‬‬
‫وقال المالكيّة ‪ :‬تكره القبلة بقصد اللّذّة للصّائم لو علمت السّلمة من خروج من ّ‬
‫وإن لم يعلم السّلمة حرمت ‪ .‬واتّفق الفقهاء على أنّ التّقبيل ولو كان بقصد اللّذّة ل يفطر‬
‫الصّائم ما لم يسبّب النزال ‪ ،‬أمّا إذا قبّل وأنزل بطل صومه اتّفاقا بين المذاهب ‪.‬‬
‫وفي وجوب الكفّارة أو عدمه خلف وتفصيل ينظر في مصطلح ( كفّارة ) ‪.‬‬
‫أثر التّقبيل في العتكاف ‪:‬‬
‫‪ -‬ذهب جمهور الفقهاء ‪ :‬الحنفيّة والحنابلة ‪ ،‬وهو أظهر القوال عند الشّافعيّة ‪ ،‬إلى أنّه‬ ‫‪18‬‬

‫يبطل العتكاف بالتّقبيل واللّمس إذا أنزل ‪ ،‬لنّه بالنزال صار التّقبيل في معنى الجماع ‪.‬‬
‫أمّا إذا لم ينزل فل يبطل العتكاف بالتّقبيل عند الحنفيّة والحنابلة ‪ ،‬وفي الظهر عند‬
‫الشّافعيّة ‪ ،‬سواء أكان بشهوة أم بدونها ‪ ،‬كما ل يبطل به الصّوم ‪ ،‬لعدم معنى الجماع ‪ ،‬إل‬
‫ن َوأَنْ ُتمْ عَا ِكفُونَ في ال َمسَاجِدِ } ‪.‬‬
‫أنّه حرام إن كان بشهوة ‪ ،‬لقوله تعالى ‪ { :‬وَل تُبَاشِرُوهُ ّ‬
‫وإن كان بغير شهوة كالتّقبيل على سبيل الشّفقة والحترام فل بأس به ‪ ،‬كغسل المرأة رأس‬
‫زوجها المعتكف ‪ ،‬وترجيل شعره ‪.‬‬
‫وقال المالكيّة ‪ -‬وهو القول الثّاني عند الشّافعيّة ‪ :‬إذا قبّل وقصد اللّذّة أو لمس أو باشر‬
‫بقصد اللّذّة أو وجدها بطل العتكاف ‪ ،‬أمّا لو قبّل صغيرة ل تشتهى أو قبّل زوجته لوداع أو‬
‫لرحمة ولم يقصد اللّذّة ول وجدها لم يبطل ‪.‬‬
‫وهذا إذا كان التّقبيل على غير الفم ‪ .‬أمّا القبلة على الفم فتبطل العتكاف مطلقا ‪ ،‬ول‬
‫تشترط فيها الشّهوة عند المالكيّة ‪ ،‬لنّه يبطله من مقدّمات الوطء ما يبطل الوضوء ‪ .‬والقول‬
‫ن التّقبيل ل يبطل العتكاف مطلقا كالحجّ ‪ ،‬لكنّه حرام على ك ّل قول ‪.‬‬
‫الثّالث للشّافعيّة ‪ :‬إ ّ‬
‫أثر التّقبيل في الحجّ ‪:‬‬
‫‪ -‬يحرم على المحرم اللّمس والتّقبيل بشهوة ‪ ،‬ويجب على من فعل شيئا من ذلك الدّم ‪،‬‬ ‫‪19‬‬

‫سواء أنزل أم لم ينزل ؟ ‪ ،‬لكنّه ل يفسد حجّه عند جمهور الفقهاء ‪ :‬الحنفيّة والشّافعيّة‬
‫والحنابلة ‪ ،‬خلفا للمالكيّة حيث قالوا بفساد الحجّ إن أنزل ‪ ،‬وإل فعليه بدنة ‪.‬‬
‫أمّا القبلة بغير شهوة بأن كانت لوداع أو لرحمة أو بقصد تحيّة القادم من السّفر فل تفسد‬
‫الحجّ ‪ ،‬ول فدية فيها بغير خلف بين الفقهاء ‪ .‬وتفصيله في مصطلحي ‪ ( :‬إحرام وحجّ ) ‪.‬‬
‫أثر التّقبيل في الرّجعة ‪:‬‬
‫ن اللّمس والتّقبيل بغير شهوة وبغير نيّة الرّجعة ل يعتبر رجعة ‪.‬‬
‫‪ -‬اتّفق الفقهاء على أ ّ‬ ‫‪20‬‬

‫واختلفوا فيما إذا كان التّقبيل بشهوة ‪ ،‬فقال الحنفيّة ‪ :‬تصحّ الرّجعة بالوطء ‪ ،‬واللّمس‬
‫بشهوة ‪ ،‬والتّقبيل بشهوة على أيّ موضع كان فما ‪ ،‬أو خدّا أو ذقنا ‪ ،‬أو جبهة ‪ ،‬أو رأسا ‪،‬‬
‫ولو قبّلها اختلسا ‪ ،‬أو كان الزّوج نائما ‪ ،‬أو مكرها ‪ ،‬أو مجنونا ‪ ،‬أو معتوها ‪ ،‬إن صدّقها‬
‫س والنّظر بشهوة منه أو منها بشرط أن يصدّقها ‪،‬‬
‫الزّوج ‪ .‬ول فرق بين كون التّقبيل والم ّ‬
‫أمّا إذا ادّعته وأنكره فل تثبت الرّجعة ‪.‬‬
‫واشترط المالكيّة في الرّجعة النّيّة ‪ ،‬فالتّقبيل للمرأة المطلّقة رجعيّا رجعة إذا قارنه نيّة‬
‫الرّجعة ‪ ،‬ول تصحّ الرّجعة بالفعل دون نيّة ‪ ،‬ولو بأقوى الفعال كالوطء ‪.‬‬
‫ول تحصل الرّجعة عند الشّافعيّة ‪ -‬وهو ظاهر كلم الخرقيّ من الحنابلة ‪ -‬بالفعل كالوطء‬
‫ومقدّماته من اللّمس والتّقبيل ‪ ،‬لنّ ذلك حرم بالطّلق ‪ ،‬ومقصود الرّجعة حلّه ‪ ،‬فل تحصل‬
‫إل بالقول ‪ .‬وفي الرّواية الثّانية عند الحنابلة تحصل الرّجعة بالوطء ولو بغير نيّة ‪.‬‬
‫أمّا لو قبّلها أو لمسها بشهوة فالمنصوص عن أحمد أنّه ليس برجعة ‪ ،‬ويعتبر رجعة في‬
‫وجه عند بعض الحنابلة ‪.‬‬
‫أثر التّقبيل في الظّهار ‪:‬‬
‫‪ -‬الظّهار هو ‪ :‬أن يشبّه الزّوج زوجته بمحرّم عليه تأبيدا ‪.‬‬ ‫‪21‬‬

‫ي كظهر أمّي يحرم عليه وطؤها ودواعيه‬


‫فإذا ظاهر الزّوج من زوجته ‪ ،‬كأن يقول أنت عل ّ‬
‫من القبلة واللّمس بشهوة قبل الكفّارة عند الحنفيّة والمالكيّة ‪ -‬وهي رواية عند الشّافعيّة‬
‫ن اللّه سبحانه وتعالى منع التّماسّ‬
‫والحنابلة ‪ ،‬لنّ ذلك يدعو إلى الوطء ويفضي إليه ‪ ،‬ل ّ‬
‫س شامل للوطء‬
‫ن يَ َتمَاسّا } ‪ ،‬والتّما ّ‬
‫قبل الكفّارة حيث قال ‪ { :‬فَ َتحْرِيرُ رَقَ َب ٍة مِنْ قَ ْبلِ أ ْ‬
‫ودواعيه ‪ ،‬فيحرم عليه الكلّ بال ّنصّ ‪.‬‬
‫ل‪.‬‬
‫وروي عن محمّد من الحنفيّة جواز التّقبيل للشّفقة ‪ ،‬كأن قدم من سفر مث ً‬
‫والقول الثّاني للشّافعيّة ‪ -‬وهي الرّواية الثّانية عن أحمد ‪ ،‬أنّه ل بأس بالتّلذّذ بما دون‬
‫الجماع من القبلة واللّمس والمباشرة فيما دون الفرج ‪ ( .‬ر ‪ :‬ظهار ) ‪.‬‬
‫أثر التّقبيل في اليلء ‪:‬‬
‫‪ -‬اليلء ‪ :‬حلف الزّوج بالمتناع عن وطئه زوجته مدّة أربعة أشهر أو أكثر ‪.‬‬ ‫‪22‬‬

‫ن الحلف بالمتناع عن التّقبيل واللّمس والمباشرة فيما دون الفرج ل‬


‫واتّفق الفقهاء على أ ّ‬
‫ن الفيء أي للرّجوع عن اليلء ل يكون إل بالجماع في‬
‫يعتبر إيلء ‪ .‬واتّفقوا أيضا على أ ّ‬
‫الفرج ‪ ،‬فل ينحلّ اليلء بوطء في غير الفرج ‪ ،‬ول بالتّقبيل أو اللّمس والمباشرة بشهوة ‪،‬‬
‫لنّ حقّها هو الجماع في القبل ‪ ،‬فل يحصل الرّجوع بدونه ‪ ،‬ولنّه هو المحلوف على تركه ‪،‬‬
‫ول يزول الضّرر إل بالتيان به ‪ ( .‬ر ‪ :‬إيلء ) ‪.‬‬
‫أثر التّقبيل في حرمة المصاهرة ‪:‬‬
‫‪ -‬التّقبيل إذا لم يكن بشهوة ل يؤثّر في حرمة المصاهرة ‪ ،‬فمن قبّل امرأة بغير شهوة‬ ‫‪23‬‬

‫فله أن يتزوّج ببنتها أو أمّها ‪ ،‬ويجوز لها الزّواج بأصوله أو فروعه ‪ ،‬وكذلك من قبّل أمّ‬
‫امرأته بغير شهوة ل تحرم عليه امرأته ‪ .‬وهذا متّفق عليه ‪ ،‬إل إذا كانت القبلة على الفم ‪،‬‬
‫فخالف في ذلك الحنفيّة ‪ ،‬وألحق بعضهم الخدّ بالفم ‪.‬‬
‫أمّا التّقبيل أو المسّ بشهوة فاختلفوا في انتشار الحرمة بهما ‪ ،‬فقال جمهور الفقهاء ‪:‬‬
‫المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة " المباشرة في غير الفرج والتّقبيل ولو بشهوة ل يحرّم على‬
‫حلّ‬
‫المقبّل أصول من يقبّلها ول فروعها ‪ ،‬زوجة كانت أم أجنبيّة ‪ ،‬لعموم قوله تعالى ‪َ { :‬وُأ ِ‬
‫ن التّقبيل واللّمس بشهوة يوجب حرمة المصاهرة ‪،‬‬
‫َل ُكمْ مَا َورَاءَ ذَ ِل ُكمْ } ‪ .‬وصرّح الحنفيّة بأ ّ‬
‫فمن مسّ أو قبّل امرأة بشهوة ل تحلّ له أصولها ول فروعها ‪ ،‬وحرمت عليها أصوله‬
‫وفروعه ‪ .‬ومن قبّل أمّ امرأته بشهوة حرمت عليه امرأته ‪.‬‬
‫‪ -‬وإذا أقرّ بالتّقبيل وأنكر الشّهوة ‪ ،‬قيل ‪ :‬ل يصدّق ‪ ،‬لنّه ل يكون إل عن شهوة ‪ ،‬فل‬ ‫‪24‬‬

‫يقبل إنكاره إل أن يظهر خلفه ‪ .‬وقيل ‪ :‬يصدّق ‪ ،‬وقيل ‪ :‬بالتّفصيل بين كونه على الرّأس‬
‫والجبهة والخدّ فيصدّق ‪ ،‬أو على الفم فل ‪ ،‬وهذا هو الرجح ‪.‬‬
‫س والتّقبيل بشهوة بقوله تعالى ‪ { :‬وَل تَ ْن ِكحُوا مَا‬
‫واستدلّ الحنفيّة على انتشار الحرمة بالم ّ‬
‫َن َكحَ آبَاؤ ُكمْ } قالوا ‪ :‬المراد من النّكاح الوطء ‪ ،‬والتّقبيل بشهوة داع إلى الوطء ‪ ،‬فيقام‬
‫مقامه احتياطا للحرمة ‪ .‬وبما روي عن النّبيّ صلى ال عليه وسلم ‪ « :‬من نظر إلى فرج‬
‫امرأة بشهوة أو لمسها بشهوة حرمت عليه أمّها وابنتها ‪ ،‬وحرمت على ابنه وأبيه » ‪.‬‬
‫هذا ول تنتشر الحرمة بالتّقبيل ولو بشهوة بين الخوة والخوات ‪ ،‬فلو قبّل أخت امرأته ولو‬
‫بشهوة ل تحرم عليه امرأته اتّفاقا ‪ .‬وتفصيله في مصطلح ‪ ( :‬نكاح ) ‪.‬‬

‫تقرير *‬
‫التّعريف ‪:‬‬
‫‪ -‬التّقرير في اللّغة ‪ :‬مصدر قرّر ‪ ،‬يقال قرّر الشّيء في المكان ‪ :‬ثبّته ‪ ،‬وقرّر الشّيء في‬ ‫‪1‬‬

‫محلّه ‪ :‬تركه قارّا ‪ ،‬وقرّر فلنا بالذّنب ‪ :‬حمله على العتراف به ‪ ،‬وقرّر المسألة أو الرّأي‬
‫وضّحه وحقّقه ‪.‬‬
‫ول يخرج استعمال الفقهاء له عن المعنى اللّغويّ ‪ ،‬وهو عند الصوليّين ‪ -‬كما ذكر في‬
‫أقسام السّنّة ‪ :‬سكوت النّبيّ صلى ال عليه وسلم ‪ -‬عن إنكار قول قيل بين يديه أو في‬
‫عصره وعمل به ‪ ،‬أو سكوته عن إنكار فعل حين فعل بين يديه أو في عصره وعلم به ‪.‬‬
‫اللفاظ ذات الصّلة ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬القرار ‪:‬‬
‫ق أي اعترف به ‪.‬‬
‫‪ -‬القرار لغة ‪ :‬الذعان للحقّ والعتراف به ‪ .‬يقال ‪ :‬أقرّ بالح ّ‬ ‫‪2‬‬

‫واصطلحا ‪ :‬إخبار عن ثبوت حقّ للغير على نفسه ‪ ،‬وهو بذلك قد يكون أثرا للتّقرير ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬السّكوت ‪:‬‬
‫‪ -‬السّكوت ‪ :‬ترك الكلم والسّكوت عن المر عدم النكار ‪ ،‬والصّلة بينه وبين التّقرير هي‬ ‫‪3‬‬

‫أنّ السّكوت عند الفقهاء قد يكون تقريرا وقد ل يكون ‪.‬‬


‫ومن القواعد الفقهيّة ‪ :‬ل ينسب لساكت قول ‪ ،‬لكنّ هذه القاعدة استثني بها مسائل عديدة‬
‫اعتبر السّكوت فيها تقريرا ومن ذلك ‪ :‬سكوت البكر عند استئذانها في النّكاح ‪.‬‬
‫وقبول التّهنئة بالمولود والسّكوت على ذلك يعتبر إقرارا بالنّسب ‪ .‬قال الزّركشيّ ‪ :‬السّكوت‬
‫بمجرّده ينزّل منزلة التّصريح بالنّطق في حقّ من تجب له العصمة ‪ ،‬ولهذا كان تقريره صلى‬
‫ي حجّة عند كثيرين ‪ .‬أمّا غير المعصوم‬
‫ال عليه وسلم من شرعه ‪ ،‬وكان الجماع السّكوت ّ‬
‫فالصل أنّه ل ينزّل منزلة نطقه إل إذا قامت قرائن تدلّ على الرّضا فينزّل منزلة النّطق ‪.‬‬
‫ج ‪ -‬الجازة ‪:‬‬
‫‪ -‬من معاني الجازة ‪ :‬النفاذ ‪ ،‬يقال ‪ :‬أجاز الشّيء إذا أنفذه وجوّز له ما صنع وأجاز له‬ ‫‪4‬‬

‫‪ :‬أي سوّغ له ذلك وأجزت العقد ‪ :‬جعلته جائزا نافذا ‪ .‬وهي بهذا المعنى تكون كالتّقرير‬
‫ي عند الحنفيّة والمالكيّة ‪.‬‬
‫للمر الّذي حدث ‪ ،‬ومن ذلك إجازة المالك لتصرّف الفضول ّ‬
‫الحكم الجماليّ ‪:‬‬
‫أوّلً ‪ -‬التّقرير عند الصوليّين ‪:‬‬
‫‪ -‬ذكر الصوليّون التّقرير باعتباره قسما من أقسام السّنّة ‪ ،‬وصورته ‪ :‬أن يسكت النّبيّ‬ ‫‪5‬‬

‫صلى ال عليه وسلم عن إنكار قول قيل بين يديه أو في عصره وعلم به أو سكت عن إنكار‬
‫فعل فعل بين يديه أو في عصره وعلم به ‪.‬‬
‫ويلحق بذلك ‪ :‬قول الصّحابيّ ‪ :‬كنّا نفعل كذا ‪ ،‬وكانوا يفعلون كذا وأضافه إلى عصر رسول‬
‫اللّه صلى ال عليه وسلم وكان ممّا ل يخفى مثله عليه ‪.‬‬
‫‪ -‬والتّقرير حجّة ويدلّ على الجواز ورفع الحرج ‪ ،‬لكن ذلك ل ب ّد وأن يكون مع قدرة‬ ‫‪6‬‬

‫النّبيّ صلى ال عليه وسلم على النكار ‪ ،‬وكون المقرّر منقادا للشّرع ‪ ،‬وكون المر المقرّر‬
‫ثابتا لم يسبق النّهي عنه ‪ .‬لنّه لو لم يكن جائزا لما سكت عنه النّبيّ صلى ال عليه وسلم‬
‫ولما يترتّب عليه من تأخير البيان ‪.‬‬
‫ن النّبيّ‬
‫ن السّكوت وعدم النكار يحتمل أ ّ‬
‫وذهبت طائفة إلى أنّ التّقرير ل يدلّ على الجواز ل ّ‬
‫صلى ال عليه وسلم سكت لعلمه بأنّه لم يبلغه التّحريم فل يكون الفعل إذ ذاك حراما ‪،‬‬
‫ن إنكاره ثانيا ل يفيد فلم يعاوده ‪،‬‬
‫ويحتمل أنّه سكت عنه لنّ النكار لم ينجح فيه وعلم أ ّ‬
‫وبذلك ل يصلح التّقرير دليلً على الجواز والنّسخ ‪.‬‬
‫وفي الموضوع تفصيل ينظر في الملحق الصوليّ ‪.‬‬
‫ثانيا ‪ -‬التّقرير عند الفقهاء ‪:‬‬
‫‪ -‬يأتي التّقرير عند الفقهاء بمعان ثلثة ‪:‬‬ ‫‪7‬‬

‫ق المقرّر في شيء وتأكيده ‪ :‬أورد الحنفيّة التّقرير بهذا المعنى في‬


‫الوّل ‪ :‬بمعنى تثبيت ح ّ‬
‫مسألة طلب الشّفعة ‪ ،‬إذ أنّهم يقسمون طلب الشّفعة إلى ثلثة أقسام ‪:‬‬
‫طلب المواثبة ‪ ،‬وطلب التّقرير ‪ ،‬وطلب الخصومة والملك ‪ ،‬فطلب المواثبة هو طلب الشّفعة‬
‫في مجلس العلم بها ‪ ،‬لبيان أنّه غير معرض عن الشّفعة والشهاد ليس بشرط فيه ‪.‬‬
‫وطلب التّقرير والشهاد هو أن يشهد على طلبه عند البائع إن كان المبيع في يده ‪ ،‬أو عند‬
‫المبتاع إن كان البائع قد سلّمه المبيع أو عند العقار ‪ .‬فإذا فعل ذلك استقرّت شفعته ‪.‬‬
‫وهذا الطّلب يسمّى طلب التّقرير أو طلب الشهاد ‪ ،‬لنّه بذلك قرّر حقّه وأكّده ‪.‬‬
‫والشّفيع إنّما يحتاج إلى طلب التّقرير بعد طلب المواثبة إذا لم يمكنه الشهاد عند طلب‬
‫المواثبة ‪ .‬أمّا إذا استطاع عند طلب المواثبة الشهاد عند البائع أو المشتري أو العقار فذلك‬
‫يكفيه ويقوم مقام الطّلبين ‪ ،‬والشهاد إنّما هو لثبات الحقّ عند التّجاحد ‪.‬‬
‫هذا وبقيّة المذاهب تذكر الشهاد دون لفظ التّقرير ‪ ،‬وفي اعتبار الشهاد شرطا لستقرار‬
‫الشّفعة أو غير شرط ‪ .‬ينظر مصطلح ‪ ( :‬إشهاد ‪ ،‬وشفعة ) ‪.‬‬
‫الثّاني ‪ :‬بمعنى استمرار المر الموجود وإبقائه على حاله ‪ ،‬ومن أمثلة ذلك ما يأتي ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬في الشّركة ‪:‬‬
‫‪ -‬إذا مات أحد الشّريكين ولم يتعلّق بالتّركة دين ول دية فللوارث الرّشيد الخيار بين‬ ‫‪8‬‬

‫القسمة وتقرير الشّركة ‪ ،‬فإن كان على الميّت دين فليس للوارث تقرير الشّركة إل بعد قضاء‬
‫الدّين ‪ ( .‬ر ‪ :‬شركة ) ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬في القراض ‪:‬‬
‫‪ -‬إذا مات المالك وأراد الوارث الستمرار على العقد ‪ ،‬فإن كان المال ناضّا فلهما ذلك بأن‬ ‫‪9‬‬

‫يستأنفا عقدا بشرطه ‪ ،‬قال النّوويّ ‪ :‬وهل ينعقد بلفظ التّرك والتّقرير بأن يقول الوارث ‪:‬‬
‫تركتك أو قرّرتك على ما كنت عليه ؟ وجهان ‪ ،‬أصحّهما نعم لفهم المعنى ‪.‬‬
‫وإذا مات عامل المضاربة وأراد المالك تقرير وارث العامل مكانه فتقريره مضاربة مبتدأة ل‬
‫تجوز إل على نقد مضروب ‪ .‬وينظر تفصيل ذلك في مضاربة ( قراض ) ‪.‬‬
‫ج ‪ -‬في القضاء ‪:‬‬
‫‪ -‬الصل أنّه ل يجوز نقض حكم سابق إذا لم يخالف نصّا أو إجماعا أو قياسا جليّا ‪ .‬بل‬ ‫‪10‬‬

‫كان مجتهدا فيه ‪ ،‬وهذا في الجملة ‪.‬‬


‫لكن هل تقرير القاضي ما رفع إليه يعتبر حكما ل يجوز نقضه ؟‬
‫عقد ابن فرحون في تبصرته فصل بعنوان " تقرير الحاكم ما رفع إليه " ‪ .‬قال ‪ :‬اختلف أهل‬
‫المذهب ‪ -‬يعني المالكيّة ‪ -‬هل يكون تقرير الحاكم على الواقعة حكما بالواقع فيها أم ل ؟‬
‫كما إذا زوّجت امرأة نفسها بغير إذن وليّها ورفع ذلك إلى قاض حنفيّ فأقرّه وأجازه ثمّ عزل‬
‫‪ ،‬قال ابن القاسم ليس لغيره فسخه وإقراره عليه كالحكم به ‪ ،‬واختاره ابن محرز ‪ ،‬وهو‬
‫ظاهر المدوّنة ‪ ،‬يريد أنّ ذلك كالحكم فل يعترضه قاض آخر ‪ ،‬وقال عبد الملك ‪ :‬ليس بحكم‬
‫ولغيره فسخه ‪ ،‬وهذا بخلف ما لو رفع له فقال ‪ :‬ل أجيز النّكاح بغير وليّ من غير أن يحكم‬
‫بفسخه فهذه فتوى ولغيره الحكم في تلك الواقعة بما يراه ‪.‬‬
‫وينظر تفصيل ذلك في ‪ ( :‬قضاء ) ‪.‬‬
‫الثّالث ‪ -‬التّقرير بمعنى طلب القرار من المتّهم وحمله على العتراف ‪:‬‬
‫‪ -‬للقاضي تقرير المدّعى عليه وذلك بأن يطلب القاضي منه الجواب إمّا بالقرار أو‬ ‫‪11‬‬

‫بالنكار ‪ .‬وإقرار المكره ل يعمل به في الجملة ‪ .‬لكنّ الفقهاء جعلوا من باب السّياسة‬
‫الشّرعيّة مراعاة شواهد الحال وأوصاف المتّهم وقوّة التّهمة فأجازوا التّوصّل إلى القرار‬
‫ن دُبُرٍ ‪ } . . .‬وقد‬
‫ن كَانَ َقمِيصُه قُ ّد مِ ْ‬
‫ق بما يراه الحاكم استنادا إلى قوله تعالى ‪ { :‬وَإ ْ‬
‫بالح ّ‬
‫فعل ذلك « عليّ بن أبي طالب رضي ال تعالى عنه لمّا بعثه رسول اللّه صلى ال عليه‬
‫وسلم هو والزّبير بن العوّام في أثر المرأة الّتي حملت خطاب حاطب بن أبي بلتعة إلى أهل‬
‫مكّة ‪ ،‬وفي الكتاب إخبار بما عزم عليه رسول اللّه صلى ال عليه وسلم من المسير إليهم ‪،‬‬
‫فأدرك عليّ والزّبير المرأة واستنزلها والتمسا في رحلها الكتاب فلم يجدا شيئا فقال لها عليّ‬
‫رضي ال عنه ‪ :‬أحلف باللّه ما كذب رسول اللّه صلى ال عليه وسلم ول كذبنا ‪ ،‬ولتخرجن‬
‫لنا هذا الكتاب أو لنكشفنّك ‪ ،‬فلمّا رأت الج ّد منه استخرجت الكتاب من قرون رأسها » ‪.‬‬
‫لكنّهم اختلفوا هل يكون ذلك للقاضي أو لوالي المظالم ؟‬
‫فعند الحنفيّة والمالكيّة وبعض أصحاب المام أحمد أنّه يجوز للقاضي وللوالي ضرب المتّهم‬
‫ن القاضي نائب عن المام في تنفيذ الحكام ‪.‬‬
‫ضرب تقرير ل ّ‬
‫وعند الشّافعيّة وبعض أصحاب المام أحمد يكون ذلك لوالي المظالم ول يكون للقاضي ‪،‬‬
‫ووجه هذا القول أنّ الضّرب المشروع هو ضرب الحدود والتّعزير وذلك إنّما يكون بعد ثبوت‬
‫أسبابها وتحقّقها ‪.‬‬
‫‪ -‬قال ابن القيّم ‪ :‬الدّعاوى قسمان ‪ :‬دعوى تهمة ودعوى غير تهمة ‪.‬‬ ‫‪12‬‬

‫فدعوى التّهمة أن يدّعي فعل محرّم على المطلوب يوجب عقوبته مثل قتل أو قطع طريق أو‬
‫سرقة أو غير ذلك من العدوان الّذي يتعذّر إقامة البيّنة عليه في غالب الحوال ‪.‬‬
‫ودعوى غير التّهمة كأن يدّعي عقدا من بيع أو قرض أو رهن أو ضمان أو غير ذلك وكلّ‬
‫ي كالموال ‪،‬‬
‫من القسمين قد يكون حدّا محضا كالشّرب والزّنى ‪ ،‬وقد يكون حقّا محضا لدم ّ‬
‫وقد يكون متضمّنا للمرين كالسّرقة وقطع الطّريق ‪ .‬فهذا القسم ‪ -‬أي دعوى غير التّهمة ‪-‬‬
‫إن أقام المدّعي حجّة شرعيّة وإل فالقول قول المدّعى عليه مع يمينه لما روى مسلم في‬
‫صحيحه عن ابن عبّاس قال ‪ « :‬قال رسول اللّه صلى ال عليه وسلم ‪ :‬لو يعطى النّاس‬
‫ن اليمين على المدّعى عليه » ‪.‬‬
‫بدعواهم لدّعى ناس دماء رجال وأموالهم ولك ّ‬
‫‪ -‬أمّا القسم الوّل من الدّعاوى ‪ :‬وهو دعاوى التّهم وهي دعوى الجناية والفعال‬ ‫‪13‬‬

‫المحرّمة كدعوى القتل وقطع الطّريق والسّرقة والقذف والعدوان فهذا ينقسم المدّعى عليه‬
‫ن المتّهم إمّا أن يكون بريئا ليس من أهل تلك التّهمة ‪ ،‬أو فاجرا من‬
‫فيه إلى ثلثة أقسام فإ ّ‬
‫أهلها ‪ ،‬أو مجهول الحال ل يعرف الوالي والحاكم ‪ .‬فإن كان بريئا لم تجز عقوبته اتّفاقا ‪.‬‬
‫واختلفوا في عقوبة المتّهم له على قولين ‪ :‬أصحّهما أنّه يعاقب صيانة لتسلّط أهل الشّرّ‬
‫والعدوان على أعراض البرآء ‪.‬‬
‫قال مالك وأشهب رحمهما ال ‪ :‬ل أدب على المدّعي إل أن يقصد أذيّة المدّعى عليه وعيبه‬
‫وشتمه فيؤدّب ‪ .‬وقال أصبغ ‪ :‬يؤدّب قصد أذيّته أو لم يقصد ‪.‬‬
‫‪ -‬القسم الثّاني ‪ :‬أن يكون المتّهم مجهول الحال ل يعرف بب ّر ول فجور فهذا يحبس حتّى‬ ‫‪14‬‬

‫ينكشف حاله عند عامّة علماء السلم ‪.‬‬


‫والمنصوص عليه عند أكثر الئمّة أنّه يحبسه القاضي والوالي ‪ .‬هكذا نصّ عليه مالك‬
‫وأصحابه وهو منصوص المام أحمد ومحقّقي أصحابه وذكره أصحاب أبي حنيفة ‪.‬‬
‫ي صلى ال عليه وسلم في تهمة » قال أحمد ‪ :‬وذلك حتّى‬
‫وقال المام أحمد ‪ « :‬قد حَبَس النّب ّ‬
‫يتبيّن للحاكم أمره ‪ .‬ثمّ الحاكم قد يكون مشغو ًل عن تعجيل الفصل وقد يكون عنده حكومات‬
‫سابقة فيكون المطلوب محبوسا معوّقا من حين يطلب إلى أن يفصل بينه وبين خصمه وهذا‬
‫حبس بدون التّهمة ففي التّهمة أولى ‪.‬‬
‫ومنهم من قال ‪ :‬الحبس في التّهم إنّما هو لوالي الحرب دون القاضي ‪ ،‬وقد ذكر هذا طائفة‬
‫من أصحاب الشّافعيّ كأبي عبد اللّه الزّبيريّ والماورديّ وغيرهما وطائفة من أصحاب أحمد‬
‫من المصنّفين في أدب القضاة وغيرهم واختلفوا في مقدار الحبس في التّهمة هل هو مقدّر‬
‫أو مرجعه إلى اجتهاد الوالي والحاكم ؟ على قولين ذكرهما الماورديّ وأبو يعلى وغيرهما‬
‫فقال الزّبيريّ ‪ :‬هو مقدّر بشهر وقال الماورديّ ‪ :‬غير مقدّر ‪.‬‬
‫‪ -‬القسم الثّالث ‪ :‬أن يكون المتّهم معروفا بالفجور كالسّرقة وقطع الطّريق والقتل ونحو‬ ‫‪15‬‬

‫ذلك ‪ .‬قال ابن القيّم ‪ :‬ويسوغ ضرب هذا النّوع من المتّهمين كما « أمر النّبيّ صلى ال عليه‬
‫وسلم الزّبير بتعذيب المتّهم الّذي غيّب ماله حتّى أق ّر به في قصّة ابن أبي الحقيق » ‪.‬‬
‫قال شيخنا ‪ :‬واختلفوا فيه هل الّذي يضربه الوالي دون القاضي أو كلهما أو ل يسوغ‬
‫ضربه ؟ على ثلثة أقوال ‪:‬‬
‫أحدها ‪ :‬أنّه يضربه الوالي أو القاضي هذا قول طائفة من أصحاب مالك وأحمد وغيرهم منهم‬
‫أشهب بن عبد العزيز قاضي مصر فإنّه قال ‪ :‬يمتحن بالحبس والضّرب ويضرب بالسّوط‬
‫مجرّدا ‪.‬‬
‫والقول الثّاني ‪ :‬أنّه يضربه الوالي دون القاضي وهذا قول بعض أصحاب الشّافعيّ وأحمد‬
‫ن الضّرب المشروع هو ضرب الحدود‬
‫حكاه القاضيان ‪ :‬أبو يعلى والماورديّ ‪ ،‬ووجه هذا أ ّ‬
‫والتّعزير وذلك إنّما يكون بعد إثبات أسبابها وتحقّقها ‪.‬‬
‫والقول الثّالث ‪ :‬أنّه ل يضرب ‪ .‬وهذا قول أصبغ وكثير من الطّوائف الثّلثة بل قول أكثرهم‬
‫لكنّ حبس المتّهم عندهم أبلغ من حبس المجهول ‪.‬‬
‫ثمّ قالت طائفة منهم عمر بن عبد العزيز ومطرّف وابن الماجشون أنّه يحبس حتّى يموت‬
‫ونصّ عليه المام أحمد في المبتدع الّذي لم ينته عن بدعته أنّه يحبس حتّى يموت ‪ ،‬وقال‬
‫مالك ‪ :‬ل يحبس إلى الموت ‪ .‬والّذين جعلوا عقوبته للوالي دون القاضي قالوا ‪ :‬ولية أمير‬
‫الحرب معتمدها المنع من الفساد في الرض وقمع أهل الشّرّ والعدوان وذلك ل يتمّ إل‬
‫ن مقصودها إيصال الحقوق إلى‬
‫بالعقوبة للمتّهمين المعروفين بالجرام بخلف ولية الحكم فإ ّ‬
‫ن ك ّل وليّ‬
‫أربابها قال شيخنا ‪ :‬وهذا القول هو في الحقيقة قول بجواز ذلك في الشّريعة لك ّ‬
‫ي الصّدقات يملك من القبض والصّرف ما ل يملكه والي‬
‫ن ول ّ‬
‫أمر يفعل ما فوّض إليه فكما أ ّ‬
‫الخراج وعكسه كذلك والي الحرب ووالي الحكم يفعل كلّ منهما ما اقتضته وليته الشّرعيّة‬
‫مع رعاية العدل والتّقيّد بالشّريعة ‪.‬‬

‫تقسيم *‬
‫التّعريف ‪:‬‬
‫‪ -‬التّقسيم في اللّغة ‪ :‬التّجزئة والتّفريق ‪ ،‬وهو مصدر قسّم ‪ ،‬يقال ‪ :‬قسّم الشّيء ‪ :‬إذا‬ ‫‪1‬‬

‫جزّأه أجزاء ‪ ،‬وقسّم القوم ‪ :‬فرّقهم ويستعمل الصوليّون لفظ التّقسيم بمعنى حصر الوصاف‬
‫ن صلحيّتها علّة في الصل ‪.‬‬
‫الّتي يظ ّ‬
‫وقد أطلق الصوليّون مجموع السّبر والتّقسيم على حصر الوصاف الموجودة في الصل ‪-‬‬
‫المقيس عليه ‪ -‬وإبطال ما ل يصلح منها للعلّيّة ‪ ،‬وتعيين الباقي للعلّيّة ‪ ،‬وقد يقتصر على‬
‫ي في منهاجه ‪.‬‬
‫السّبر ‪ ،‬وقد يقتصر على التّقسيم كما فعل البيضاو ّ‬
‫قال السّعد في حاشية العضد ‪ :‬عند التّحقيق الحصر راجع إلى التّقسيم ‪ ،‬والسّبر إلى البطال‪.‬‬
‫وأطلق بعضهم التّقسيم على كون اللّفظ متردّدا بين أمرين ‪ ،‬أحدهما ‪ :‬ممنوع ‪ ،‬والخر ‪:‬‬
‫مسلّم ‪ ،‬واللّفظ محتمل لهما غير ظاهر في أحدهما ‪.‬‬
‫ويراد بالتّقسيم عند الفقهاء تبيين القسام ‪ ،‬ويرادفه القسمة ‪ ،‬وهي تعيين الحصّة الشّائعة‬
‫بمقياس ما ‪ ،‬كالكيل والوزن والذّراع فالقسمة والتّقسيم لفظان مترادفان في المعنى عند‬
‫الفقهاء ‪ .‬واختلف في القسمة ‪ ،‬هل هي مجرّد إفراز أو مبادلة ‪.‬‬
‫والفراز في اللّغة ‪ :‬التّنحية ‪ ،‬وهو عزل شيء عن شيء وتمييزه ‪.‬‬
‫ن التّقسيم قد‬
‫ول يخرج استعمال الفقهاء له عن ذلك ‪ .‬والصّلة بين التّقسيم والفراز ‪ ،‬أ ّ‬
‫يكون بالفراز ‪ ،‬وقد يقصد به بيان الحصص والقسام دون إفراز كما في المهايأة ‪.‬‬
‫اللفاظ ذات الصّلة ‪:‬‬
‫تنقيح المناط ‪:‬‬
‫‪ -‬التّنقيح في اللّغة ‪ :‬التّهذيب والتّمييز ‪ ،‬والمناط هو العلّة ‪.‬‬ ‫‪2‬‬

‫والمراد بتنقيح المناط عند الصوليّين ‪ ،‬إلحاق الفرع بالصل بإلغاء الفارق ‪ ،‬بأن يقال ‪ :‬ل‬
‫فرق بين الصل والفرع إل كذا وكذا ‪ ،‬وذلك ل مدخل له في الحكم ألبتّة ‪ ،‬فيلزم اشتراكهما‬
‫في الحكم لشتراكهما في الموجب له ‪ .‬ومثاله قياس المة على العبد في سراية العتق فإنّه‬
‫ل فرق بينهما إلّا الذّكورة ‪ ،‬وهذا الفرق ملغى بالجماع إذ ل مدخل له في العلّيّة ‪.‬‬
‫والفرق بين تنقيح المناط والسّبر والتّقسيم ‪ ،‬أنّ الحصر في دللة السّبر والتّقسيم لتعيين‬
‫العلّة ‪ ،‬إمّا استقللً أو اعتبارا ‪ ،‬وفي تنقيح المناط لتعيين الفارق وإبطاله ل لتعيين العلّة ‪.‬‬
‫الحكم الجماليّ ‪:‬‬
‫أ ّولً ‪ :‬عند الصوليّين ‪:‬‬
‫‪ -‬يعتبر جمهور الصوليّين السّبر والتّقسيم مسلكا من مسالك العلّة ‪ ،‬ومن العلل الّتي‬ ‫‪3‬‬

‫تعرف بواسطة السّبر والتّقسيم قول مجتهد مثل ‪ -‬في قياس الذّرة على البرّ في الرّبويّة ‪:‬‬
‫بحثت عن أوصاف البرّ فما وجدت َث ّم ما يصلح علّة للرّبويّة في بادئ الرّأي ‪ ،‬إل الطّعم أو‬
‫القوت أو الكيل ‪ ،‬ولكنّ كلّا من الطّعم والقوت ل يصلح لذلك عند التّأمّل ‪ ،‬فتعيّن الكيل ‪،‬‬
‫وعلى هذا يجري الرّبا في ك ّل المقدّرات من مكيلت أو موزونات ‪.‬‬
‫وقد أنكر بعض أهل الصول جعل السّبر والتّقسيم مسلكا للعلّيّة ‪.‬‬
‫قال ابن النباريّ في شرح البرهان ‪ :‬السّبر يرجع إلى اختيار أوصاف المحلّ وضبطها ‪،‬‬
‫والتّقسيم يرجع إلى إبطال ما يظهر إبطاله منها ‪ ،‬فإذا ل يكون من الدلّة ‪ ،‬وإنّما تسامح‬
‫الصوليّون في ذلك ‪ .‬وللتّوسّع في أدلّة الفريقين ‪ ،‬حول حجّيّة السّبر ‪ ،‬والتّقسيم ‪ ،‬وشروط‬
‫الحتجاج به ‪ ،‬وأقسامه ‪ ،‬وطرق الحذف ‪ .‬انظر ( الملحق الصوليّ ) ‪.‬‬
‫ثانيا ‪ :‬عند الفقهاء ‪:‬‬
‫تقسيم ما يستولي عليه المسلمون ‪:‬‬
‫‪ -‬إذا ظهر المام على بلد الحرب فالمستولى عليه ل يخلو من أحد أنواع ثلثة ‪ :‬المتاع‬ ‫‪4‬‬

‫والراضي والرّقاب ‪.‬‬


‫أمّا المتاع فيجب على المام تخميسه ‪ ،‬وتقسيم الربعة الخماس على الغانمين ‪ ،‬ول خيار له‬
‫خ ُمسَه وَلل ّرسُولِ } لنّ اللّه تعالى‬
‫ن شَيءٍ فََأنّ ِلّلهِ ُ‬
‫فيه لقوله تعالى ‪ { :‬وَاعْ َلمُوا أَ ّنمَا غَ ِنمْ ُتمْ مِ ْ‬
‫ن الربعة الخماس للغانمين لنّه أضافه إليهم ‪.‬‬
‫لمّا جعل لنفسه الخمس فهم منه أ ّ‬
‫وإن رأى المام أن يبيع الجميع ثمّ يقسم الثمان فذلك له ‪.‬‬
‫وهناك تفاصيل في كيفيّة تقسيم الخمس تنظر في " غنيمة " ‪.‬‬
‫أمّا الراضي فيرى جمهور الفقهاء جواز تقسيمها بين الغانمين ‪ ،‬لعموم قوله تعالى في‬
‫خ ُمسَه وَلل ّرسُولِ } وقد ثبت أنّ‬
‫ن شَيءٍ فََأنّ لّلهِ ُ‬
‫الرضين وغيرها { وَاعْ َلمُوا أ ّنمَا غَنمْ ُتمْ مِ ْ‬
‫« النّبيّ صلى ال عليه وسلم قسّم أرض بني قريظة وبني النّضير وخيبر بين الغانمين » ‪.‬‬
‫وذهب المالكيّة على المشهور ‪ -‬وهو رواية عن المام أحمد ‪ -‬إلى أنّ أرض الزّراعة‬
‫المفتوح بلدها عنوة ‪ ،‬ودور الكفّار ل تقسّم ‪ ،‬بل تصير وقفا بمجرّد فتح بلدها ‪ ،‬ويصرف‬
‫خراجها في مصالح المسلمين ‪.‬‬
‫‪-‬ثمّ اختلف جمهور الفقهاء في اعتبار التّقسيم أمرا ملزما للمام أم أنّ له خيارات أخرى‪:‬‬ ‫‪5‬‬

‫فذهب الحنفيّة ‪ -‬وهو قول للمالكيّة ‪ -‬إلى أنّ المام إذا فتح بلدة عنوة فهو بالخيار ‪ -‬إن‬
‫شاء قسّمها بين المسلمين ‪ ،‬كما فعل رسول اللّه صلى ال عليه وسلم بخيبر ‪ ،‬وإن شاء أقرّ‬
‫أهلها عليها ووضع عليهم الجزية وعلى أراضيهم الخراج ‪ ،‬كما فعل عمر رضي ال عنه‬
‫بسواد العراق ‪.‬‬
‫وقال الشّافعيّة ‪ -‬وهو رواية أخرى عن المام أحمد ‪ -‬بوجوب تقسيم الراضي كالمتاع ‪،‬‬
‫ي صلى ال عليه وسلم بأرض خيبر ‪.‬‬
‫لطلق الية الكريمة ‪ ،‬وعمل بفعل النّب ّ‬
‫ويرى الحنابلة على المذهب تخيير المام بين تقسيم الرض الّتي فتحت عنوة ‪ ،‬وبين وقفها‬
‫بلفظ يحصل به الوقف ‪.‬‬
‫وأمّا الرّقاب ‪ :‬فيخيّر المام فيها بين عدّة خصال ‪ ،‬وتفصيله في مصطلح ‪ ( :‬أسرى ) ‪.‬‬
‫تقسيم التّركة ‪:‬‬
‫‪ -‬ل خلف بين الفقهاء في جواز تقسيم التّركة إذا لم تكن مدينة وأخرجت منها سائر‬ ‫‪6‬‬

‫الحقوق المقدّمة على التّقسيم بين الورثة ‪.‬‬


‫أمّا إذا كانت التّركة مدينة بدين مستغرق لها فيرى الحنفيّة والمالكيّة ‪ -‬وهو رواية عند‬
‫الحنابلة ‪ -‬عدم جواز تقسيمها ‪ ،‬لنّ الورثة ل يملكونها ‪ ،‬إذ الدّين المستغرق يمنع من‬
‫دخول التّركة في ملك الوارث ‪ .‬فلذلك إذا ظهر دين على الميّت بعد تقسيم التّركة بين الورثة‬
‫بحسب حصصهم الرثيّة تفسخ القسمة ‪.‬‬
‫وذهب الشّافعيّة والحنابلة على المذهب إلى أنّ تعلّق الدّين بالتّركة ل يمنع ثبوت الملك فيها‬
‫للورثة ‪ ،‬وإن تصرّفوا في التّركة بالتّقسيم فتصرّفهم صحيح ‪ ،‬فإن قضوا الدّين وإل نقضت‬
‫تصرّفاتهم كما لو تصرّف السّيّد في العبد الجاني ولم يقض دين الجناية ‪.‬‬
‫وتنظر التّفاصيل في ( إرث ‪ ،‬وتركة ‪ ،‬وقسمة ) ‪.‬‬

‫تقصير *‬
‫التّعريف ‪:‬‬
‫‪ -‬التّقصير في اللّغة ‪ :‬مصدر قصّر ‪ .‬يقال ‪ :‬قصّر ثوبه ‪ :‬إذا جعله قصيرا ‪ ،‬وقصّر شعره‬ ‫‪1‬‬

‫‪ :‬إذا أخذ منه ‪ ،‬وقصّر في المر ‪ :‬توانى فيه وفرّط ‪.‬‬


‫وفي الصطلح ل يخرج عن هذه المعاني ‪.‬‬
‫اللفاظ ذات الصّلة ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬التّعدّي ‪:‬‬
‫‪ -‬التّعدّي في اللّغة ‪ :‬مجاوزة الشّيء إلى غيره ‪ .‬وفي الشّرع ‪ :‬إضرار بالغير بغير حقّ ‪.‬‬ ‫‪2‬‬

‫ن التّقصير من باب التّرك والهمال ‪ ،‬أمّا التّعدّي ففيه عمل‬


‫والفرق بين التّقصير والتّعدّي أ ّ‬
‫وعدوان ‪.‬‬
‫ص‪:‬‬
‫ب ‪ -‬الق ّ‬
‫‪ -‬القصّ ‪ :‬الخذ من الشّعر بالمقراض خاصّة ‪ ،‬والفرق بينه وبين تقصير الشّعر ‪ ،‬أنّ‬ ‫‪3‬‬

‫التّقصير إزالة الشّعر بأيّ آلة ‪.‬‬


‫حكمه التّكليفيّ ‪:‬‬
‫‪ -‬يختلف حكم التّقصير باختلف متعلّقه ‪ ،‬وبيانه فيما يأتي ‪:‬‬ ‫‪4‬‬

‫تقصير الشّعر في الحجّ والعمرة ‪:‬‬


‫‪ -‬ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ تقصير الشّعر أو حلقه في الحجّ والعمرة نسك يثاب عليه‬ ‫‪5‬‬

‫س ُكمْ َو ُمقَصّرِينَ } ‪،‬‬


‫ن شَا َء الّلهُ آمِنينَ ُمحَّلقِينَ رُءو َ‬
‫ن ال َمسْجِ َد الحَرَامَ إ ْ‬
‫لقوله تعالى ‪ { :‬لَتَ ْدخُلُ ّ‬
‫وخبر ‪ « :‬اللّهمّ ارحم المحلّقين ‪ ،‬والمقصّرين » ‪.‬‬
‫وفي قول للشّافعيّة والحنابلة ‪ :‬أنّه استباحة محظور ‪ ،‬فل يجب بتركه شيء ويحصل التّحلّل‬
‫بدونه ‪.‬‬
‫والتّقصير أفضل لمن اعتمر قبل الحجّ في وقت لو حلق فيه جاء يوم النّحر ولم ينبت له شعر‬
‫‪ ،‬ليكون الحلق للحجّ ‪ .‬وهو غير مشروع للمرأة ‪ ،‬لما في الحلق من المثلة في حقّها ‪.‬‬
‫أمّا هل هو ركن في الحجّ والعمرة ‪ ،‬فل يجبر بالدّم ‪ ،‬أو واجب فيجبر بالدّم ‪ ،‬وقدر التّقصير‬
‫من الشّعر ‪ ،‬وآراء الفقهاء في ذلك ‪ ،‬فيرجع في تفصيله إلى مصطلح ‪ ( :‬تحلّل ‪ ،‬وحلق ) ‪.‬‬
‫التّقصير في حفظ ما اؤتمن عليه ‪:‬‬
‫‪ -‬التّقصير يوجب الضّمان فيما ل ضمان فيه من المعاملت ‪ ،‬كالوديعة ‪ ،‬والوكالة ‪،‬‬ ‫‪6‬‬

‫ن المقصّر متسبّب في تلفها بترك ما وجب‬


‫والرّهن ‪ ،‬والمساقاة ‪ ،‬والمضاربة ‪ ،‬والجارة ‪ ،‬ل ّ‬
‫عليه في حفظها وهذا محلّ اتّفاق بين الفقهاء ‪.‬‬
‫والتّقصير الموجب للضّمان هو ما يعدّه النّاس تقصيرا عرفا في حفظ مثل نوع المانة ‪.‬‬
‫ويختلف التّقصير باختلف طبيعة المر المقصّر فيه ‪ ،‬ويذكر الفقهاء أمثلة للتّقصير في‬
‫أبوابها المختلفة فليرجع إليها ‪.‬‬
‫تقصير الحاكم في حكمه ‪:‬‬
‫‪ -‬إذا قصّر الحاكم في النّظر في مستند حكمه ‪ ،‬كأن يحكم بجلد إنسان أو قطعه أو قتله‬ ‫‪7‬‬

‫بشهادة شهود ‪ ،‬فجلد أو قتل أو قطع ‪ ،‬فبان الشّهود غير أهل للشّهادة ‪ :‬كأن بانا كافرين ‪،‬‬
‫أو فاسقين ‪ ،‬أو صبيّين ‪ ،‬ضمن الحاكم إذا ثبت أنّه لم يبحث حالة الشّهود ‪ ،‬أو قصّر في‬
‫البحث ‪ ،‬لنّه متسبّب في التّلف ‪ ،‬وإلى هذا ذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ‪.‬‬
‫ص ‪ ،‬أو‬
‫ن الحاكم ل يضمن ما تلف بحكمه ‪ .‬أمّا هل يضمن من ماله الخا ّ‬
‫وذهب الحنفيّة إلى أ ّ‬
‫تتحمّل عنه العاقلة أو بيت المال ‪ ،‬فيرجع في تفصيله إلى مصطلح ‪ ( :‬ضمان ) ‪.‬‬
‫تقصير الطّبيب ‪:‬‬
‫‪ -‬يضمن الطّبيب إذا عالج المريض فقصّر في معالجته ‪ ،‬أو أخطأ فيها خطأ فاحشا ‪ ،‬وهذا‬ ‫‪8‬‬

‫محلّ اتّفاق بين الفقهاء ‪.‬‬


‫تقصير الزار ‪:‬‬
‫‪ -‬تقصير الزار إلى الكعبين واجب إذا خيف تنجّسه ‪ ،‬ومحرّم إسباله للخيلء ‪ ،‬فقد جاء‬ ‫‪9‬‬

‫في الثر « من ج ّر ثوبه خيلء لم ينظر اللّه إليه يوم القيامة » وفيما عدا ذلك فإنّ تقصيره‬
‫مستحبّ إلى نصف السّاق ‪ ،‬ول يستحبّ أكثر من ذلك ‪ .‬وتفصيله في مصطلح ‪ ( :‬إسبال‪.) .‬‬
‫تقصير الصّلة ‪:‬‬
‫‪ -‬ينبغي تقصير صلة الجماعة للمام الّذي يخشى فتنة من وراءه ‪ ،‬أو ضررهم بالتّطويل‬ ‫‪10‬‬

‫لحديث ‪ « :‬يا معاذ ‪ :‬أفتّان أنت ؟ » ولحديث ‪ « :‬من أمّ بالنّاس فليتجوّز ‪ ،‬فإنّ خلفه‬
‫الضّعيف والكبير وذا الحاجة » وهذا ما لم يكن مَنْ وراءه محصورين يرضون بالتّطويل ‪.‬‬
‫)‪.‬‬ ‫‪213 6‬‬ ‫وتفصيل ذلك في مصطلح إمامة (‬
‫تقصير خطبة الجمعة ‪:‬‬
‫‪ -‬يستحبّ تقصير خطبة الجمعة ‪ ،‬وهذا محلّ اتّفاق بين الفقهاء ‪ ،‬لما روي من أنّ النّبيّ‬ ‫‪11‬‬

‫صلى ال عليه وسلم قال ‪ « :‬إنّ طول صلة الرّجل وقصر خطبته مئنّة في فقهه ‪ ،‬فأطيلوا‬
‫الصّلة وأقصروا الخطبة » ‪.‬‬
‫التّقصير في طلب الشّفعة أو أرش العيب ‪:‬‬
‫ق الشّفعة والرّ ّد بالعيب بالتّقصير في المطالبة بهما ‪ ،‬وهذا محلّ اتّفاق بين‬
‫‪ -‬يسقط ح ّ‬ ‫‪12‬‬

‫الفقهاء ‪ .‬أمّا هل طلب الشّفعة فوريّ ‪ ،‬أو على التّراخي ‪ ،‬وآراء الفقهاء في ذلك ‪ ،‬فيرجع‬
‫إلى مصطلحي ‪ ( :‬الرّدّ بالعيب ‪ ،‬والشّفعة ) ‪.‬‬

‫تقلّد *‬
‫التّعريف ‪:‬‬
‫‪ -‬التّقلّد ‪ :‬جعل النسان القلدة في عنقه ‪ .‬وتقلّد المر ‪ :‬احتماله ‪ ،‬وكذلك تقلّد السّيف ‪:‬‬ ‫‪1‬‬

‫متقلّدا سيفا ورمحا‬ ‫إذا جعل حمائله في عنقه ‪ .‬قال الشّاعر ‪ :‬يا ليت زوجك قد غدا‬
‫ن التّقلّد في الصل للسّيف ل للرّمح ‪ ،‬وإنّما عطف على مثال‬
‫أي ‪ :‬وحامل رمحا ‪ .‬يعني أ ّ‬
‫قولهم ‪ :‬علفتها تبنا وماء باردا ‪.‬‬
‫الحكم الجماليّ ‪:‬‬
‫‪ -‬التّقلّد بمعنى وضع القلدة في العنق ‪:‬‬ ‫‪2‬‬

‫التّزيّن بالقلئد نوع من الزّينة المباحة ‪ ،‬وهي في الغالب المعتاد من زينة النّساء والصّغار ‪.‬‬
‫وتباح للنّساء القلئد كلّها ‪ ،‬سواء أكانت من موادّ معتادة ‪ ،‬أو موا ّد ثمينة ‪ ،‬كاللّؤلؤ ‪،‬‬
‫والياقوت ‪ ،‬والحجارة الكريمة ‪ ،‬والذّهب ‪ ،‬والفضّة ‪ ،‬وغير ذلك ‪ ،‬فكلّه مباح لهنّ ما لم‬
‫يخرج إلى حدّ السّرف والخيلء ‪ .‬ول يجوز تقليد الصّغار إن كانوا ذكورا قلئد الذّهب أو‬
‫الفضّة ‪ ،‬لما في الحديث ‪ « :‬الذّهب والحرير حلّ لناث أمّتي وحرام على ذكورها » على أنّ‬
‫في ذلك بعض الخلف وينظر في مصطلح ‪ ( :‬ذهب ) ‪.‬‬
‫ي صلى ال عليه وسلم قال ‪ « :‬أيّما امرأة‬
‫وقد ورد في الحديث عن أسماء بنت يزيد أنّ النّب ّ‬
‫تقلّدت قلدة من ذهب قلّدت في عنقها مثله من النّار يوم القيامة » وفي حديث معاوية ‪:‬‬
‫« نهى النّبيّ صلى ال عليه وسلم عن لبس الذّهب إل مقطّعا » لكن قال الخطّابيّ ‪ :‬ذلك في‬
‫الزّمان الوّل ثمّ نسخ ‪ ،‬أو الوعيد على الكثير منه الّذي ل تؤدّى زكاته ‪.‬‬
‫تقلّد السّيف في الحرام ‪:‬‬
‫‪ -‬إذا احتاج المحرم إلى تقلّد السّلح في الحرام فله ذلك ‪ ،‬وبهذا قال المالكيّة والشّافعيّة‬ ‫‪3‬‬

‫والحنابلة وابن المنذر ‪ ،‬ورويت كراهة ذلك عن الحسن البصريّ ‪ .‬واستدلّ للوّلين « بأنّ‬
‫النّبيّ صلى ال عليه وسلم لمّا صالح أهل مكّة صلح الحديبية ‪ ،‬كان في الصّلح أل يدخل‬
‫المسلمون مكّة إل بجلبّان السّلح » " القراب بما فيه " وهذا ظاهر في إباحته عند الحاجة ‪،‬‬
‫لنّهم كانوا ل يأمنون أهل مكّة أن ينقضوا العهد ويخفروا ال ّذمّة ‪ ،‬فاشترطوا حمل السّلح في‬
‫قرابه ‪ .‬فأمّا من غير خوف ‪ ،‬فقد قال المام أحمد ‪ :‬ل ‪ ،‬إل من ضرورة ‪.‬‬
‫ن ابن عمر قال ‪ :‬ل يحمل السّلح في الحرم ‪ .‬أي ل من أجل الحرام ‪،‬‬
‫وإنّما منع منه ل ّ‬
‫فيكره حمله للمحرم وغيره في حرم مكّة ‪.‬‬
‫قال ابن قدامة ‪ :‬ولذلك لو حمل قربة في عنقه ل يحرم عليه ذلك ول فدية فيه ‪ .‬وقد سئل‬
‫أحمد عن المحرم يلقي جرابه في رقبته كهيئة القربة ‪ ،‬فقال ‪ :‬أرجو أن ل يكون به بأس ‪.‬‬

‫تقليد *‬
‫التّعريف ‪:‬‬
‫‪ -‬التّقليد لغة ‪ :‬مصدر قلّد ‪ ،‬أي جعل الشّيء في عنق غيره مع الحاطة به ‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫وتقول ‪ :‬قلّدت الجارية ‪ :‬إذا جعلت في عنقها القلدة ‪ ،‬فتقلّدتها هي ‪ ،‬وقلّدت الرّجل السّيف‬
‫فتقلّده ‪ :‬إذا جعل حمائله في عنقه ‪ .‬وأصل القلد ‪ ،‬كما في لسان العرب ‪ ،‬ليّ الشّيء على‬
‫الشّيء ‪ ،‬نحو ليّ الحديدة الدّقيقة على مثلها ‪ ،‬ومنه ‪ :‬سوار مقلود ‪.‬‬
‫وفي التّهذيب ‪ :‬تقليد البدنة أن يجعل في عنقها عروة مزادة ‪،‬أو حلق نعل ‪ ،‬فيعلم أنّها هدي‪.‬‬
‫وقلّد فلنا المر إيّاه ‪ .‬ومنه تقليد الولة العمال ‪.‬‬
‫ويستعمل التّقليد في العصور المتأخّرة بمعنى المحاكاة في الفعل ‪ ،‬وبمعنى التّزييف ‪ ،‬أي‬
‫صناعة شيء طبقا للصل المقلّد ‪ .‬وكل المعنيين مأخوذ من التّقليد للمجتهدين ‪ ،‬لنّ المقلّد‬
‫يفعل مثل فعل المقلّد دون أن يدري وجهه ‪ .‬والمر التّقليديّ ما يفعل اتّباعا لما كان قبل ‪ ،‬ل‬
‫بناء على فكر الفاعل نفسه ‪ ،‬وخلفه المر المبتدع ‪.‬‬
‫ويرد التّقليد في الصطلح الشّرعيّ بأربعة معان ‪:‬‬
‫أوّلها ‪ :‬تقليد الوالي أو القاضي ونحوهما ‪ ،‬أي توليتهما العمل ‪ ،‬وينظر في مصطلح ‪:‬‬
‫( تولية ) ‪.‬‬
‫ثانيها ‪ :‬تقليد الهدي بجعل شيء في رقبته ليعلم أنّه هدي ‪.‬‬
‫ثالثها ‪ :‬تقليد التّمائم ونحوها ‪.‬‬
‫رابعها ‪ :‬التّقليد في الدّين وهو الخذ فيه بقول الغير مع عدم معرفة دليله ‪ .‬أو هو العمل‬
‫بقول الغير من غير حجّة ‪.‬‬
‫اللفاظ ذات الصّلة ‪:‬‬
‫الشعار ‪:‬‬
‫‪ -‬الشعار حزّ سنام البدنة حتّى يسيل منها الدّم ليعلم أنّها هدي للكعبة فل يتعرّض لها أحد‬ ‫‪2‬‬

‫‪.‬‬
‫أحكام التّقليد ‪:‬‬
‫أ ّولً ‪ -‬تقليد الهدي ‪:‬‬
‫‪ -‬الهدي ما يهدى إلى الكعبة من بهيمة النعام في الحجّ ليذبح بمكّة تقرّبا إلى اللّه تعالى‪.‬‬ ‫‪3‬‬

‫وتقليد البهيمة أن يجعل في عنقها ما يد ّل على أنّها هديّة إلى البيت ‪ ،‬فيترك التّعرّض لها من‬
‫كلّ أحد تعظيما للبيت وما أهدي إليه ‪.‬‬
‫شعَائِرَ الّلهِ‬
‫ن آمَنُوا ل ُتحِلّوا َ‬
‫وأصل ذلك في القرآن العظيم ‪ ،‬قال اللّه تعالى ‪ { :‬يَا أَ ّيهَا الّذِي َ‬
‫شهْ َر الحَرَامَ وَل الهَديَ وَل القَلئِدَ } قال القرطبيّ ‪ :‬فالشّعائر ‪ :‬جمع شعيرة وهي البدنة‬
‫وَل ال ّ‬
‫تهدى إلى البيت ‪ ،‬وإشعارها أن يحزّ سنامها ليسيل منها الدّم فيعلم أنّها هدي ‪.‬‬
‫والقلئد قيل في تفسيرها ‪ :‬ما كان النّاس يتقلّدونه أمنة لهم ‪ .‬قال ابن عبّاس ‪ :‬ثمّ نسخ ذلك‪.‬‬
‫وقيل المراد بالقلئد ‪ :‬ما يعلّق على أسنمة الهدايا وأعناقها علمة على أنّه للّه تعالى ‪ ،‬من‬
‫س وَالشّه َر الحَرَامَ‬
‫ج َعلَ الّلهُ ال َكعْ َبةَ البيتَ الحَرَامَ قِيَامَا لِلنّا ِ‬
‫نعل أو غيره ‪ .‬وقال اللّه تعالى ‪َ { :‬‬
‫ن الّلهَ ِب ُكلّ‬
‫سمَواتِ وما في الرضِ وأ ّ‬
‫ك لِ َتعْ َلمُوا أنّ الّل َه َيعْلَمُ مَا في ال ّ‬
‫ي وَالقَلئِدَ ذل َ‬
‫وَالهَد َ‬
‫شَي ٍء عَليمٌ } أي جعل المذكورات صلحا ومعاشا يأمن النّاس فيها وبها ‪ .‬وقال القرطبيّ ‪:‬‬
‫عظّم اللّه سبحانه في قلوبهم البيت الحرام ‪ ،‬وأوقع في نفوسهم هيبته ‪ ،‬وعظّم بينهم‬
‫حرمته ‪ ،‬فكان من لجأ إليه معصوما به ‪ ،‬وكان من اضطهد محميّا بالكون فيه ‪ .‬وكذلك‬
‫الشهر الحرم ‪ .‬ثمّ قال ‪ :‬وشرع على ألسنة الرّسل الكرام الهدي والقلئد ‪ ،‬فكانوا إذا أخذوا‬
‫بعيرا أشعروه دما أو علّقوا عليه نعل ‪ ،‬أو فعل الرّجل ذلك بنفسه من التّقليد ‪ ،‬لم يروّعه‬
‫أحد حيث لقيه ‪ ،‬وكان الفيصل بينه وبين من طلبه وظلمه ‪ ،‬حتّى جاء اللّه بالسلم ‪.‬‬
‫ويذكر من حكمة تقليد الهدي أيضا أن يعلم المساكين بالهدي ‪ ،‬فيجتمعوا له ‪ ،‬وإذا عطبت‬
‫الهديّة الّتي سيقت إلى البيت تنحر ‪ ،‬ثمّ « تلقى قلدتها في دمها » كما ورد في الحديث ‪،‬‬
‫ليكون ذلك دال على كونها هديا يباح أكله لمن شاء ‪.‬‬
‫حكم تقليد الهدي ‪:‬‬
‫‪ -‬تقليد الهدي كان متّبعا في الجاهليّة ‪ .‬قال القرطبيّ ‪ :‬وهي سنّة إبراهيميّة بقيت في‬ ‫‪4‬‬

‫ي صلى ال عليه وسلم ‪ « :‬إنّي لبّدت رأسي ‪ ،‬وقلّدت‬


‫الجاهليّة وأقرّها السلم ‪ .‬وقال النّب ّ‬
‫هديي ‪ ،‬فل أحلّ حتّى أنحر » فتقليد الهدي سنّة في الجملة ‪ .‬وهذا متّفق عليه ‪.‬‬
‫وقد قال الشّافعيّ ‪ :‬من ترك الشعار والتّقليد فل شيء عليه ‪.‬‬
‫قال المالكيّة ‪ :‬والولى تقديم التّقليد على الشعار لنّه السّنّة ‪ ،‬والحكمة فيه أنّه يفعل كذلك‬
‫خوفا من نفارها لو أشعرت أولً ‪.‬‬
‫وعند الشّافعيّة في ذلك وجهان ‪ ،‬ومنصوص الشّافعيّ في المّ تقديم الشعار ‪.‬‬
‫ما يقلّد من الهدي وما ل يقلّد ‪:‬‬
‫ن من السّنّة تقليد الهدي إن كان من البل أو البقر ‪.‬‬
‫‪ -‬ل خلف في أ ّ‬ ‫‪5‬‬

‫أمّا الغنم فقد اختلف في تقليدها ‪ ،‬فذهب الحنفيّة والمالكيّة إلى أنّها ل تقلّد ‪ ،‬وليس تقليدها‬
‫سنّة ‪ ،‬قال الحنفيّة ‪ :‬لنّه غير معتاد ‪ ،‬ولنّه ل فائدة في تقليدها ‪ ،‬إذ فائدة التّقليد عدم ضياع‬
‫الهدي ‪ ،‬والغنم ل تترك بل يكون معها صاحبها ‪.‬‬
‫قال القرطبيّ وكأنّهم لم يبلغهم حديث عائشة رضي ال عنها في تقليد الغنم ‪ ،‬ونصّه ‪ ،‬قالت‬
‫ي صلى ال عليه وسلم مرّة إلى البيت غنما فقلّدها » أو بلغهم ولكنّهم ردّوه‬
‫‪ « :‬أهدى النّب ّ‬
‫لنفراد السود به عن عائشة ‪.‬‬
‫وذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّه يسنّ تقليدها أيضا ‪ ،‬للحديث السّابق ‪ ،‬ولنّها هدي فتقلّد ‪،‬‬
‫كالبل ‪ .‬وينصّ الحنفيّة على أنّه ليست كلّ أنواع الهدي تقلّد ‪ ،‬بل يقلّد هدي التّطوّع وهدي‬
‫التّمتّع والقران ‪ ،‬لنّه دم نسك ‪ ،‬وفي التّقليد إظهاره وتشهيره فيليق به ‪.‬‬
‫ولم نجد هذا التّفصيل لغير الحنفيّة ‪.‬‬
‫ول يقلّد دم الجناية ‪ ،‬لنّ سترها أليق ‪ ،‬ويلحق بها دم الحصار ‪ ،‬لنّها دم يجبر به النّقص ‪.‬‬
‫ما يقلّد به ‪ ،‬وكيفيّة التّقليد ‪:‬‬
‫‪ -‬يكون التّقليد بأن يجعل في أعناق الهدايا النّعال ‪ ،‬أو آذان القرب وعراها ‪ ،‬أو علقة‬ ‫‪6‬‬

‫إداوة ‪ ،‬أو لحاء شجرة ‪ ،‬أو نحو ذلك ‪ .‬وفي حديث عائشة أنّها « كانت تفتل قلئد هدي‬
‫النّبيّ صلى ال عليه وسلم من عهن » والعهن ‪ :‬الصّوف المصبوغ فقد روى أبو هريرة‬
‫ي صلى ال عليه وسلم رأى رجل يسوق بدنة ‪ ،‬قال ‪ :‬اركبها ‪ .‬قال ‪ :‬إنّها بدنة ‪.‬‬
‫« أنّ النّب ّ‬
‫قال ‪ :‬اركبها قال ‪ :‬فلقد رأيته يساير النّبيّ صلى ال عليه وسلم والنّعل في عنقها » ‪ .‬وفيه‬
‫أنّه « قلّد بدنه بيده » وفي التّاج والكليل من كتب المالكيّة يقلّد بما شاء ‪ .‬ومنع ابن القاسم‬
‫تقليد الوتار" أي للحديث الوارد في النّهي عنه ‪،‬ونصّه « قلّدوا الخيل ول تقلّدوها الوتار »‪.‬‬
‫قال ابن عابدين ‪ :‬كيفيّة التّقليد أن يفتل خيطا من صوف أو شعر ويربط به نعل أو عروة‬
‫مزادة ‪ ،‬وهي السّفرة من جلد ‪ ،‬أو لحاء شجرة أي قشرها ‪ ،‬أو نحو ذلك ممّا يكون علمة‬
‫على أنّه هدي ‪.‬‬
‫وقال المالكيّة والشّافعيّة ‪ :‬يكون تقليدها وهي مستقبلة القبلة ‪ ،‬ويقلّد البدنة وهي باركة ‪.‬‬
‫وفي كتب الشّافعيّة ‪ :‬أنّه ينبغي إذا قلّد نعلين أن يكون لهما قيمة ليتصدّق بهما ‪.‬‬
‫تقليد الهدي هل يكون به النسان محرما ؟ ‪:‬‬
‫‪ -‬ل ينعقد الحرام إل بنيّة الدّخول في النّسك ‪ .‬ول يشترط مع ذلك تلبية أو ذكر معيّن أو‬ ‫‪7‬‬

‫خصوصيّة من خصوصيّات الحرام كتقليد الهدي ‪ .‬وهذا مذهب المالكيّة على المشهور‬
‫عندهم والشّافعيّة والحنابلة ‪ .‬وينظر التّفصيل في مصطلح ( إحرام ) ‪.‬‬
‫أمّا الحنفيّة فل بدّ ليكون الرّجل محرما عندهم ‪ ،‬مع نيّة الدّخول في النّسك من ذكر أو‬
‫خصوصيّة من خصوصيّات الحرام ‪.‬‬
‫والخصوصيّات منها ‪ :‬أن يشعر بدنه ‪ ،‬أو يقلّدها ‪ ،‬تطوّعا ‪ ،‬أو نذرا ‪ ،‬أو جزاء صيد ‪ ،‬أو‬
‫شيئا من الشياء ‪ ،‬ويتوجّه معها يريد الحجّ أو العمرة ‪ .‬فمن فعل ذلك فقد أحرم ولو لم يكن‬
‫ي صلى ال عليه وسلم « من قلّد بدنه فقد أحرم » ‪.‬‬
‫منه تلبية ‪ .‬قالوا ‪ :‬لقول النّب ّ‬
‫ج أو‬
‫ولنّ سوق الهدي في معنى التّلبية في إظهار الجابة ‪ ،‬لنّه ل يفعله إل مريد الح ّ‬
‫العمرة ‪ ،‬وإظهار الجابة قد يكون بالفعل كما يكون بالقول ‪ ،‬فيصير به محرما لتّصال النّيّة‬
‫بفعل هو من خصائص الحرام ‪.‬‬
‫ولو قلّد هديا دون أن ينوي ‪ ،‬أو دون أن يسوقه متوجّها إلى البيت ‪ ،‬فل يكون محرما ‪.‬‬
‫ولو قلّده وأرسل به ولم يسقه لم يصر محرما ‪ ،‬لحديث عائشة أنّها قالت ‪ « :‬كنت أفتل‬
‫القلئد لهدي رسول اللّه صلى ال عليه وسلم فيبعث به ثمّ يقيم فينا حللً » ‪ ،‬قالوا ‪ :‬ثمّ إن‬
‫توجّه بعد ذلك لم يصر محرما حتّى يلحق الهدي ‪ ،‬لنّه عند التّوجّه إذا لم يكن بين يديه هدي‬
‫يسوقه لم يوجد منه إلّا مجرّد النّيّة ‪ ،‬فل يصير بها محرما ‪ ،‬إل هدي التّمتّع والقران فإنّه‬
‫يكون محرما بتقليده وبالتّوجّه ولو قبل أن يدرك الهدي الّذي بعثه أمامه ‪.‬‬
‫هذا ‪ ،‬وإن كان الهدي الّذي قلّده وساقه من الغنم ‪ ،‬فإنّه ل يصير بذلك محرما عند الحنفيّة ‪،‬‬
‫لنّ الغنم ل يسنّ تقليدها عندهم كما تقدّم ‪.‬‬
‫تعيّن الهدي ولزومه بالتّقليد ‪:‬‬
‫‪ -‬ينصّ المالكيّة على أنّ الرّجل إذا قلّد الهدي بالنّيّة تعيّن عليه إهداؤه وليس له أن يترك‬ ‫‪8‬‬

‫ذلك ‪ .‬قال الدّردير ‪ :‬يجب إنفاذ ما قلّد معيبا لوجوبه بالتّقليد وإن لم يجزه ‪ .‬أي وإن لم‬
‫يجزئه عن هدي واجب بتمتّع أو قران أو نذر غير أنّهم قالوا ‪ :‬إنّ ما قلّد من الهدي يباع في‬
‫الدّيون السّابقة ما لم يذبح ‪ ،‬ول يباع في الدّيون اللحقة ‪ .‬قالوا ‪ :‬ولو وجد الهدي المسروق‬
‫أو الضّالّ بعد نحر بدله نحر الموجود أيضا إن قلّد ‪ ،‬لتعيّنه بالتّقليد ‪.‬‬
‫وإن وجد الضّا ّل قبل نحر البدل نحرهما معا إن قلّدا لتعيّنهما بالتّقليد ‪ .‬وإن لم يكونا مقلّدين‬
‫أو كان المقلّد أحدهما دون الخر ‪ ،‬يتعيّن المقلّد ‪ .‬وجاز بيع الخر والتّصرّف فيه ‪.‬‬
‫ن التّقليد يجب به ذلك الهدي ‪ ،‬إذا نوى أنّه هدي ‪ ،‬ولو لم يقل‬
‫وينصّ الحنابلة أيضا على أ ّ‬
‫بلسانه إنّه هدي ‪ ،‬فيتعيّن بذلك ويصير واجبا معيّنا يتعلّق الوجوب بعينه دون ذمّة صاحبه ‪.‬‬
‫وحكمه حينئذ أن يكون في يد صاحبه كالوديعة يلزمه حفظه وإيصاله إلى محلّه ‪ ،‬فإن تلف‬
‫أو سرق أو ضلّ بغير تفريط لم يلزمه شيء ‪ .‬أمّا الشّافعيّة فيصرّحون بأنّ تقليد الرّجل نعمه‬
‫وإشعارها ل يكون به النّعم هديا ‪ ،‬ولو نواه ما لم ينطق بذلك ‪ ،‬على المذهب الصّحيح‬
‫المشهور عندهم ‪ ،‬كما لو كتب الوقف على باب داره ‪.‬‬
‫ثانيا ‪ :‬تقليد التّمائم وما يتعوّذ به ‪:‬‬
‫‪ -‬المراد بتقليد التّمائم والتّعويذات جعلها في عنق الصّبيّ أو الصّبيّة أو الدّابّة ونحوها ‪.‬‬ ‫‪9‬‬

‫كانوا يعتقدون أنّها تجلب الخير أو تدفع الذى والعين ‪.‬‬


‫وينظر حكم ذلك في مصطلح ‪ ( :‬تعويذة ) ‪.‬‬
‫ثالثا ‪ :‬تقليد المجتهد ‪:‬‬
‫‪ -‬التّقليد قبول قول الغير من غير حجّة ‪ ،‬كأخذ العامّيّ من المجتهد فالرّجوع إلى قول‬ ‫‪10‬‬

‫النّبيّ صلى ال عليه وسلم ليس تقليدا ‪ ،‬والرّجوع إلى الجماع ليس تقليدا كذلك ‪ ،‬لنّ ذلك‬
‫رجوع إلى ما هو الحجّة في نفسه ‪.‬‬
‫حكم التّقليد ‪:‬‬
‫ن الفقه ممدوح في‬
‫‪ -‬أهل التّقليد ليسوا طبقة من طبقات الفقهاء ‪ ،‬فالمقلّد ليس فقيها ‪ ،‬فإ ّ‬ ‫‪11‬‬

‫كلم النّبيّ صلى ال عليه وسلم والتّقليد مذموم ‪ ،‬وهو في الحقيقة نوع من التّقصير ‪.‬‬
‫أ ‪ -‬حكم التّقليد في العقائد ‪:‬‬
‫‪ -‬التّقليد ل يجوز عند جمهور الصوليّين في العقائد ‪ ،‬كوجود اللّه تعالى ووحدانيّته‬ ‫‪12‬‬

‫ووجوب إفراده بالعبادة ‪ ،‬ومعرفة صدق رسوله صلى ال عليه وسلم فل بدّ في ذلك عندهم‬
‫من النّظر الصّحيح والتّفكّر والتّدبّر المؤدّي إلى العلم وإلى طمأنينة القلب ‪،‬ومعرفة أدلّة ذلك‪.‬‬
‫وممّا يحتجّ به لذلك أنّ اللّه تعالى ذمّ التّقليد في العقيدة بمثل قوله تعالى ‪َ { :‬بلْ قَالوا إنّا‬
‫َوجَدْنَا آبَاءَنا على ُأ ّم ٍة وإنّا على آثَارِهمْ ُمهْتَدونَ } ‪ ،‬ولمّا نزل قوله تعالى ‪ { :‬إنّ في خَلْقِ‬
‫س َموَاتِ والرضِ وَاخْتِلفِ اللّي ِل وَال ّنهَارِ ليَاتٍ لولِي اللْبَابِ } قال النّبيّ صلى ال عليه‬
‫ال ّ‬
‫وسلم ‪ « :‬لقد نزلت عليّ اللّيلة آية ‪ .‬ويل لمن قرأها ولم يتفكّر فيها » ‪.‬‬
‫ولنّ المقلّد في ذلك يجوز الخطأ على مقلّده ‪ ،‬ويجوز عليه أن يكون كاذبا في إخباره ‪ ،‬ول‬
‫يكفي التّعويل في ذلك على سكون النّفس إلى صدق المقلّد ‪ ،‬إذ ما الفرق بين ذلك وبين‬
‫سكون أنفس النّصارى واليهود والمشركين الّذين قلّدوا أسلفهم وسكنت قلوبهم إلى ما كان‬
‫عليه آباؤهم من قبل ‪ ،‬فعاب اللّه عليهم ذلك ‪.‬‬
‫وذهب بعض الفقهاء إلى جواز الكتفاء بالتّقليد في العقائد ‪ ،‬ونسب ذلك إلى الظّاهريّة ‪.‬‬
‫ثمّ عند الجمهور يلحق بالعقائد في هذا المر كلّ ما علم من الدّين بالضّرورة ‪ ،‬فل تقليد‬
‫فيه ‪ ،‬لنّ العلم به يحصل بالتّواتر والجماع ‪ ،‬ومن ذلك الخذ بأركان السلم الخمسة ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬حكم التّقليد في الفروع ‪:‬‬
‫‪ -‬اختلف في التّقليد في الحكام الشّرعيّة العمليّة غير ما تقدّم ذكره على رأيين ‪:‬‬ ‫‪13‬‬

‫ن المجتهد فيها إمّا‬


‫الوّل ‪ :‬جواز التّقليد فيها وهو رأي جمهور الصوليّين ‪ ،‬قالوا ‪ :‬ل ّ‬
‫مصيب وإمّا مخطئ مثاب غير آثم ‪ ،‬فجاز التّقليد فيها ‪ ،‬بل وجب على العامّيّ ذلك ‪ ،‬لنّه‬
‫مكلّف بالعمل بأحكام الشّريعة ‪ ،‬وقد يكون في الدلّة عليها خفاء يحوج إلى النّظر‬
‫والجتهاد ‪ ،‬وتكليف العوّام رتبة الجتهاد يؤدّي إلى انقطاع الحرث والنّسل ‪ ،‬وتعطيل الحرف‬
‫ن الصّحابة رضي ال عنهم كان يفتي بعضهم بعضا ‪،‬‬
‫والصّنائع ‪ ،‬فيؤدّي إلى الخراب ‪ ،‬ول ّ‬
‫ويفتون غيرهم ‪ ،‬ول يأمرونهم بنيل درجة الجتهاد ‪ .‬وقد أمر اللّه تعالى بسؤال العلماء في‬
‫قوله تعالى ‪ { :‬فَاسْأَلُوا أَ ْهلَ ال ّذكْ ِر إنْ كُنْتُم ل َتعْ َلمُونَ } ‪.‬‬
‫ن التّقليد محرّم ل يجوز ‪ .‬قال بذلك ابن عبد البرّ ‪ ،‬وابن القيّم ‪ ،‬والشّوكانيّ ‪،‬‬
‫الثّاني ‪ :‬إ ّ‬
‫ن اللّه تعالى ذمّ التّقليد بقوله ‪ { :‬ا ّتخَذُوا َأحْبَارَهم وَ ُرهْبَانَهم أَرْبَابا مِنْ‬
‫وغيرهم ‪ .‬واحتجّوا بأ ّ‬
‫ضلّونا السّبيل } ونحو ذلك من‬
‫دونِ الّلهِ } وقوله { وَقَالُوا رَبّنَا إنّا َأطَعْنَا سَادَتَنَا َوكُبَرَاءَنا فَأَ َ‬
‫ن الئمّة قد نهوا عن تقليدهم ‪ ،‬قال أبو حنيفة وأبو يوسف ‪ :‬ل يحلّ لحد أن‬
‫اليات ‪ ،‬وإ ّ‬
‫يقول بقولنا حتّى يعلم من أين قلناه ‪.‬‬
‫وقال المزنيّ في أوّل مختصره ‪ :‬اختصرت هذا من علم الشّافعيّ ‪ ،‬ومن معنى قوله مع‬
‫إعلمه نهيه عن تقليده وتقليد غيره لينظر فيه لدينه ويحتاط لنفسه وقال أحمد ‪ :‬ل تقلّدني ‪،‬‬
‫ي ‪ ،‬ول الوزاعيّ ‪ ،‬وخذ من حيث أخذوا ‪.‬‬
‫ول تقلّد مالكا ول الثّور ّ‬
‫ن التّقليد الّذي يرى امتناعه هو " اتّخاذ أقوال رجل بعينه بمنزلة‬
‫وفي بعض كلم ابن القيّم أ ّ‬
‫نصوص الشّارع ل يلتفت إلى قول سواه ‪ ،‬بل ل إلى نصوص الشّارع ‪ ،‬إل إذا وافقت‬
‫نصوص قوله ‪ .‬قال فهذا هو التّقليد الّذي أجمعت المّة على أنّه محرّم في دين اللّه ‪ ،‬ولم‬
‫يظهر في المّة إلّا بعد انقراض القرون الفاضلة " ‪.‬‬
‫ي فوق التّقليد مرتبة أقلّ من الجتهاد ‪ ،‬هي مرتبة التّباع ‪،‬‬
‫وأثبت ابن القيّم والشّوكان ّ‬
‫وحقيقتها الخذ بقول الغير مع معرفة دليله ‪ ،‬على ح ّد ما ورد في قول أبي حنيفة وأبي‬
‫يوسف " ل يحلّ لحد أن يقول مقالتنا حتّى يعلم من أين قلنا " ‪.‬‬
‫ص من الكتاب أو‬
‫غير أنّ التّقليد يجوز عند الضّرورة ‪ .‬ومن ذلك إذا لم يظفر العالم بن ّ‬
‫السّنّة ‪ ،‬ولم يجد إلّا قول من هو أعلم منه ‪ ،‬فيقلّده ‪.‬‬
‫أمّا التّقليد المحرّم فهو أن يكون العالم متمكّنا من معرفة الحقّ بدليله ‪ ،‬ثمّ مع ذلك يعدل إلى‬
‫التّقليد ‪ ،‬فهو كمن يعدل إلى الميتة مع قدرته على المذكّى ‪.‬‬
‫والتّقليد إنّما هو لمن لم يكن قادرا على الجتهاد ‪ ،‬أو كان قادرا عليه لكن لم يجد الوقت لذلك‬
‫‪ ،‬فهي حال ضرورة كما قال ابن القيّم ‪.‬‬
‫وقد أفتى المام أحمد بقول الشّافعيّ ‪ ،‬وقال ‪ :‬إذا سئلت عن مسألة لم أعرف فيها خبرا أفتيت‬
‫فيها بقول الشّافعيّ ‪ ،‬لنّه إمام عالم من قريش ‪ ،‬وقد قال النّبيّ صلى ال عليه وسلم ‪:‬‬
‫« ل تسبّوا قريشا ‪ ،‬فإنّ عالمها يمل طباق الرض علما » ‪.‬‬
‫شروط من يجوز تقليده ‪:‬‬
‫‪ -‬ل يجوز للعامّيّ أن يستفتي إلّا من يعرفه بالعلم والعدالة ‪ ،‬أمّا من عرفه بالجهل فل‬ ‫‪14‬‬

‫يسأله اتّفاقا ‪ ،‬وكذا ل يسأل من عرفه بالفسق ‪.‬‬


‫ويجوز أن يستفتي من غلب على ظنّه أنّه من أهل العلم ‪ ،‬لما يراه من انتصابه للفتيا وأخذ‬
‫النّاس عنه بمشهد من أهل العلم ‪ ،‬وما يلمحه فيه من سمات أهل العلم والدّين والسّتر ‪ ،‬أو‬
‫يخبره بذلك ثقة ‪ .‬قال ابن تيميّة ‪ :‬ل يجوز أن يستفتى إل من يفتي بعلم وعدل ‪.‬‬
‫أمّا مجهول الحال في العلم فل يجوز تقليده إذ قد يكون أجهل من السّائل ‪.‬‬
‫وأمّا مجهول الحال في العدالة فقد قيل ‪ :‬ل ب ّد من السّؤال عنه من عدل أو عدلين لنّه ل‬
‫ن الصل في العلماء العدالة ‪.‬‬
‫يأمن كذبه وتدليسه ‪ ،‬وقيل ‪ :‬ل يلزم السّؤال عن العدالة ‪ ،‬ل ّ‬
‫ول يقلّد متساهلً في الفتيا ‪ ،‬ول من يبتغي الحيل المحرّمة ‪ ،‬ول من يذهب إلى القوال‬
‫الشّاذّة الّتي ينكرها الجمهور من العلماء ‪.‬‬
‫من يجوز له التّقليد ‪:‬‬
‫ن الّذي يجوز له التّقليد هو العامّيّ ومن على شاكلته من غير القادرين على‬
‫‪ -‬تقدّم أ ّ‬ ‫‪15‬‬

‫الجتهاد ‪ .‬وكذلك من له أهليّة الجتهاد إذا استشعر الفوات لو اشتغل بالجتهاد في الحكام ‪،‬‬
‫فله أن يقلّد مجتهدا ‪ .‬فأمّا المجتهد لو أراد التّقليد مع سعة الوقت وإمكان الجتهاد فقد قال‬
‫المام الشّافعيّ وغيره ‪ :‬ليس له أن يقلّد بل عليه أن يجتهد ‪ .‬وقيل ‪ :‬يجوز له التّقليد ‪.‬‬
‫ن اجتهاده في حقّ نفسه يضاهي النّصّ ‪ ،‬فل يعدل عن‬
‫ن الجتهاد يجب عليه أ ّ‬
‫ودليل القول بأ ّ‬
‫ص إلى القياس ‪.‬‬
‫الجتهاد عند إمكانه ‪ ،‬كما ل يعدل عن النّ ّ‬
‫أمّا إن اجتهد من هو أهل للجتهاد ‪ ،‬فأدّاه اجتهاده إلى معرفة الحكم ‪ ،‬فليس له أن يتركه‬
‫ويصير إلى العمل أو الفتاء بقول غيره تقليدا لمن خالفه في ذلك ‪ ،‬قال صاحب مسلّم الثّبوت‬
‫ن ما علمه هو حكم اللّه في حقّه فل يتركه لقول‬
‫‪ " :‬إجماعا " أي بإجماع أئمّة الحنفيّة ‪ ،‬ل ّ‬
‫أحد ‪ .‬ولكن لو أنّ القاضي المجتهد حكم بالتّقليد نفذ حكمه عند أبي حنيفة على رواية ‪ ،‬ولم‬
‫ينفذ على الرّواية الخرى ‪ ،‬ول على قول الصّاحبين والفتوى على قولهما ‪ ،‬وهي الرّواية‬
‫الخرى عن أبي حنيفة ‪.‬‬
‫والّذين قالوا بتجزّؤ الجتهاد يجب عندهم على المجتهد المطلق أن يقلّد فيما لم يظهر له حكم‬
‫الشّرع فيه ‪ ،‬فيكون مجتهدا في البعض مقلّدا في البعض الخر ‪ ،‬ولكن قيل ‪ :‬إنّه ما دام‬
‫صحّة ‪ ،‬بأن يظهره له المجتهد الخر ‪.‬‬
‫عالما فل يقلّد إلّا بشرط أن يتبيّن له وجه ال ّ‬
‫وأيضا قد يقلّد العالم في الثّبوت ‪ ،‬كمن قلّد البخاريّ في تصحيح الحديث ‪ ،‬ثمّ يجتهد في‬
‫الدّللة أو القياس أو دفع التّعارض بناء على ما ثبت عند غيره ‪.‬‬
‫تعدّد المفتين واختلفهم على المقلّد ‪:‬‬
‫‪ -‬إذا لم يكن في البلد إلّا مفت واحد وجب على المقلّد مراجعته والعمل بما أفتاه به ممّا ل‬ ‫‪16‬‬

‫يعلمه ‪.‬‬
‫وإن تعدّد المفتون وكلّهم أهل ‪ ،‬فللمقلّد أن يسأل من شاء منهم ‪ ،‬ول يلزمه مراجعة العلم ‪،‬‬
‫وذلك لما علم أنّ العوامّ في زمان الصّحابة كانوا يسألون الفاضل والمفضول ‪ ،‬ولم يحجر‬
‫على أحد في سؤال غير أبي بكر وعمر ‪ .‬فل يلزم إل مراعاة العلم والعدالة ‪.‬‬
‫لكن إذا تناقض قول عالمين ‪ ،‬فأفتاه أحدهما بغير ما أفتاه به الخر ‪ ،‬فإنّه يلزمه الخذ بقول‬
‫من يرى في نفسه أنّه الفضل منهما في علمه ودينه ‪ .‬فواجبه التّرجيح بين المقلّدين بالعلم‬
‫والدّين ‪ .‬قال صاحب مطالب أولي النّهى ‪ :‬يحرم الحكم والفتيا بقول أو وجه من غير نظر‬
‫ن الغلط على العلم أبعد ومن القلّ علما أقرب ‪.‬‬
‫في التّرجيح إجماعا ‪ .‬وهذا ل ّ‬
‫وليس للمقلّد أن يجعل نفسه بالخيار يأخذ ما شاء ويترك ما شاء ‪ ،‬وخاصّة إذا تتبّع الرّخص‬
‫ليأخذ بما يهواه بمجرّد التّشهّي ‪.‬‬
‫وذلك كما أنّ المجتهد واجبه التّرجيح بين الدلّة وليس له التّخيّر منها اتّفاقا ‪.‬‬
‫والّذين أجازوا التّخيّر ‪ -‬وهم قلّة ‪ -‬إنّما أجازوه عند عدم إمكان التّرجيح ‪ .‬وينظر الخلف‬
‫ي ‪ ،‬إذ في المسألة خلف ‪.‬‬
‫في ذلك والتّفصيل فيه في موضعه من الملحق الصول ّ‬
‫تقليد المذاهب ‪:‬‬
‫ي التزام مذهب معيّن ‪،‬‬
‫‪ -‬قال الشّوكانيّ ‪ :‬اختلف المجوّزون للتّقليد هل يجب على العامّ ّ‬ ‫‪17‬‬

‫فقال جماعة ‪ :‬يلزمه ‪ ،‬واختاره إلكيا الهرّاسيّ ‪.‬‬


‫وقال آخرون ‪ :‬ل يلزمه ‪ ،‬ورجّحه ابن برهان والنّوويّ ‪ ،‬وهو مذهب الحنابلة ‪ .‬واستدلّوا‬
‫ن الصّحابة رضي ال عنهم لم ينكروا على العامّة تقليد بعضهم في بعض المسائل وبعضهم‬
‫بأ ّ‬
‫في البعض الخر ‪ .‬وقد كان السّلف يقلّدون من شاءوا قبل ظهور المذاهب ‪.‬‬
‫ي‪.‬‬
‫وفي المسألة خلف وتفصيل يرجع إليه في الملحق الصول ّ‬
‫والّذين قالوا بأنّه يجب على العامّيّ التزام مذهب معيّن فإنّه يأخذ بعزائمه ورخصه ‪ ،‬إل أن‬
‫يتبيّن له أنّ غيره أولى باللتزام منه ‪ .‬قال ابن تيميّة ‪ :‬وإذا تبيّن له حكم اللّه ورسوله في‬
‫أمر فل يعدل عنه ‪ ،‬ول يتبع أحدا في مخالفة حكم اللّه ورسوله ‪ ،‬ويجوز له أيضا الخروج‬
‫عنه بتقليد سائغ ‪ ،‬أي بتقليد عالم من أهل الجتهاد أفتاه ‪.‬‬
‫أثر العمل بالتّقليد الصّحيح ‪:‬‬
‫‪ -‬من عمل بتقليد صحيح فل إنكار عليه ‪ ،‬لنّه ل إنكار في المسائل الجتهاديّة ‪ .‬ودعوى‬ ‫‪18‬‬

‫الحسبة أيضا ل تدخل فيها ‪ ،‬ولذلك فل يمنعه الحاكم ما فعل ‪.‬‬


‫س فرجه ثمّ صلّى دون أن يتوضّأ‪.‬‬
‫وهذا واضح فيما ضرره قاصر على المقلّد نفسه ‪ ،‬كمن م ّ‬
‫ن الحاكم أو المحتسب إن كان يرى‬
‫لكن لو كان في فعله ضرر يتعدّى إلى غيره ‪ ،‬فقد قيل ‪ :‬إ ّ‬
‫حرمة ذلك يجب عليه العتراض عليه ‪.‬‬
‫وليس معنى عدم النكار على من عمل بتقليد صحيح ترك البيان له من عالم يرى مرجوحيّة‬
‫فعله ‪ ،‬وكان البيان دأب أهل العلم ول يزال ‪ ،‬فضل عن الخذ والرّ ّد بينهم فيما يختلفون فيه‪.‬‬
‫وقد يخطّئ بعضهم بعضا ‪ ،‬وخاصّة من خالف نصّا صحيحا سالما من المعارضة ‪.‬‬
‫وهذا واضح على قول أكثر الصوليّين ‪ ،‬وهم القائلون بجواز تخطئة المجتهد في المسائل‬
‫الجتهاديّة ‪ .‬إل أنّ هذا البيان يكون مع تمهيد العذر للمخالف من أهل العلم ‪ ،‬وحفظ رتبته‬
‫وإقامة هيبته ‪ .‬واللّه أعلم ‪ .‬وأيضا ل تمنع هذه القاعدة الحاكم أن يحكم على مقلّد رفع إليه‬
‫أمره بما يراه طبقا لجتهاده ‪ ،‬إذ ليس للقاضي أن يقضي بخلف معتقده ‪.‬‬
‫إفتاء المقلّد ‪:‬‬
‫‪ -‬يشترط في المفتي عند الئمّة الثّلثة أن يكون مجتهدا ‪ ،‬وليس هذا عند الحنفيّة شرط‬ ‫‪19‬‬

‫صحّة ولكنّه شرط أولويّة ‪ ،‬تسهيل على النّاس ‪.‬‬


‫وصحّح ابن القيّم أنّ إفتاء المقلّد جائز عند الحاجة وعدم وجود العالم المجتهد ‪ ،‬وقيّده ابن‬
‫حمدان ‪ -‬من الحنابلة ‪ -‬بالضّرورة ‪ .‬ونقل الشّوكانيّ اشتراط بعض الصوليّين أن يكون‬
‫المفتي أهل للنّظر مطّلعا على مأخذ ما يفتي به وإل فل يجوز ‪.‬‬
‫وقال ابن قدامة ‪ :‬المفتي يجوز أن يخبر بما سمع إل أنّه ل يكون مفتيا في تلك الحال وإنّما‬
‫هو مخبر ‪ ،‬فيحتاج أن يخبر عن رجل بعينه من أهل الجتهاد فيكون معمول بخبره ل بفتياه‪.‬‬
‫ي أنّ ما يلقيه المقلّد عن مقلّده إلى المستفتي ليس من الفتيا في شيء ‪،‬‬
‫وصحّح الشّوكان ّ‬
‫وإنّما هو مجرّد نقل قول ‪ .‬قال ‪ :‬الّذي أعتقده أنّ المفتي المقلّد ل يحلّ له أن يفتي من يسأله‬
‫ن المقلّد ل‬
‫عن حكم اللّه وحكم رسوله ‪ ،‬أو عن الحقّ ‪ ،‬أو عمّا يحلّ له ويحرم عليه ‪ ،‬ل ّ‬
‫يدري بواحد من هذه المور ‪ ،‬بل ل يعرفها إل المجتهد ‪.‬‬
‫وهذا إن سأله السّائل سؤال مطلقا ‪ .‬وأمّا إن سأله سائل عن قول فلن ورأي فلن فل بأس‬
‫بأن ينقل إليه ذلك ويرويه له إن كان عارفا بمذهبه ‪.‬‬
‫ونقل ابن الصّلح عن الحليميّ والرّويانيّ من الشّافعيّة أنّه ل يجوز للمفتي أن يفتي بما هو‬
‫مقلّد فيه ‪ ،‬ثمّ قال ابن الصّلح ‪ :‬معناه أنّه ل يجوز له أن يذكّره في صورة ما يقوله من عند‬
‫نفسه ‪ ،‬بل يضيّفه ويحكيه عن إمامه الّذي قلّده ‪.‬‬
‫قال ابن الصّلح ‪ :‬فعلى هذا من عددناه من أصناف المفتين من المقلّدين ليسوا على الحقيقة‬
‫من المفتين ‪ ،‬ولكنّهم قاموا مقامهم وأدّوا عنهم ‪.‬‬
‫هل المقلّد من أهل الجماع ؟‬
‫‪ -‬يرى جمهور الصوليّين أنّ المقلّد ل يعتبر فقيها ‪ ،‬ولذا قالوا ‪ :‬إنّ رأيه ل يعت ّد به في‬ ‫‪20‬‬

‫الجماع وإن كان عارفا بالمسائل الفقهيّة ‪ ،‬إذ الجامع بين أهل الجماع هو الرّأي ‪ ،‬وليس‬
‫للمقلّد رأي إذ رأيه هو عن رأي إمامه ‪.‬‬
‫وهذا إن لم يكن مجتهدا في بعض المسائل ‪ ،‬فإن كان كذلك فعلى أساس قاعدة جواز تجزّؤ‬
‫الجتهاد ‪ ،‬يعتدّ بالمقلّد في الجماع في المسائل الّتي يجتهد فيها ‪.‬‬
‫قضاء المقلّد ‪:‬‬
‫‪ -‬يشترط الشّافعيّة والحنابلة ‪ ،‬وهو قول عند كلّ من الحنفيّة والمالكيّة ‪ ،‬في القاضي أن‬ ‫‪21‬‬

‫حكُمْ بَينَهمْ‬
‫يكون مجتهدا ‪ .‬وادّعى ابن حزم الجماع على ذلك ‪ ،‬ولقول اللّه تعالى ‪َ { :‬وأَنْ ا ْ‬
‫ن تَنَازَعْ ُت ْم في شَيءٍ فَرُدّوه إلى الّلهِ وَال ّرسُولِ } وفاقد‬
‫ِبمَا أَنْ َز َل الّلهُ } وقوله تعالى { فَإ ْ‬
‫الجتهاد إنّما يحكم بالتّقليد ول يعرف الرّ ّد إلى ما أنزل اللّه وإلى الرّسول ‪.‬‬
‫قال ابن قدامة ‪ :‬ل يجوز للقاضي أن يقلّد غيره ويحكم بقول سواه ‪ ،‬سواء ظهر له الحقّ‬
‫فخالفه غيره فيه أم لم يظهر له شيء ‪ ،‬وسواء ضاق الوقت أم لم يضق ‪.‬‬
‫وقال سائر الحنفيّة ‪ ،‬وهو قول عند متأخّري الحنابلة ‪ :‬يجوز أن يكون القاضي مقلّدا ‪ ،‬لئل‬
‫ن غرض القضاء فصل الخصومات فإذا تحقّق بالتّقليد‬
‫تتعطّل أحكام النّاس ‪ ،‬وعلّل الحنفيّة بأ ّ‬
‫جاز ‪ .‬وعند الشّافعيّة أنّه إن تعذّر القاضي المجتهد جاز تولية المقلّد عند الضّرورة وتتحقّق‬
‫الضّرورة بأمرين ‪:‬‬
‫الوّل ‪ :‬أن يولّيه سلطان ذو شوكة ‪ ،‬بخلف نائب السّلطان ‪ ،‬كالقاضي الكبر ‪ ،‬فل تعتبر‬
‫توليته لقاض مقلّد ضرورة ‪ .‬ويحرم على السّلطان تولية غير المجتهد عند وجود المجتهد ‪.‬‬
‫ثمّ لو زالت الشّوكة انعزل القاضي بزوالها ‪.‬‬
‫الثّاني ‪ :‬أن ل يوجد مجتهد يصلح للقضاء ‪ ،‬فإن وجد مجتهد صالح للقضاء لم يجز تولية‬
‫المقلّد ‪ ،‬ولم تنفذ توليته ‪ .‬وعلى قاضي الضّرورة أن يراجع العلماء ‪ ،‬وهذا موضع اتّفاق ‪،‬‬
‫وعليه عند الشّافعيّة أن يذكر مستنده في أحكامه ‪.‬‬
‫ما يفعله المقلّد إذا تغيّر الجتهاد ‪:‬‬
‫‪ -‬إذا تغيّر اجتهاد المجتهد بعد أن فعل المقلّد طبقا لما أفتاه به ‪ ،‬لم يلزم المقلّد متابعة‬ ‫‪22‬‬

‫المقلّد في اجتهاده الثّاني بالنّسبة لتصرّف أمضاه ‪ ،‬كما لو تزوّج امرأة بل وليّ ‪ -‬مثلً ‪-‬‬
‫ي ‪ ،‬ثمّ تغيّر اجتهاد المجتهد إلى البطلن ‪ ،‬وهذا كما‬
‫مقلّدا لمجتهد يرى صحّة النّكاح بل ول ّ‬
‫لو حكم له حاكم بذلك ‪ ،‬إذ ل ينقض الجتهاد بمثله ‪.‬‬
‫ول يلزم المجتهد إذا تغيّر اجتهاده أن يعلم من قلّده بذلك ‪.‬‬
‫وهذا إن كان الجتهاد معتبرا ‪ ،‬بخلف ما لو تبيّن خطؤه يقينا ‪ ،‬بأن كان مخالفا لنصّ‬
‫ي ‪ ،‬فينقض ‪.‬‬
‫صحيح سالم من المعارضة ‪ ،‬أو مخالفا للجماع ‪ ،‬أو لقياس جل ّ‬
‫وقيل بالتّفريق في ذلك بين النّكاح وغيره ‪ ،‬ففي النّكاح ينقض وفي غيره ل ينقض ‪.‬‬
‫أمّا قبل أن يتصرّف المقلّد بناء على الفتيا ‪ ،‬فليس له أن يقدم على ذلك التّصرّف بعد تغيّر‬
‫الجتهاد إن كانت تلك الفتيا مستنده الوحيد ‪.‬‬
‫التّقليد في استقبال القبلة ومواقيت الصّلة ونحو ذلك ‪:‬‬
‫‪ -‬من أمكنه معرفة جهة القبلة برؤية أو نحوها دون حرج يلحقه حرم عليه الخذ بالخبر‬ ‫‪23‬‬

‫عنها ‪ ،‬وحرم عليه الجتهاد والتّقليد في ذلك ‪.‬‬


‫وإل يمكنه العلم أخذ بخبر ثقة يخبر عن علم ‪ ،‬فإن أمكنه ذلك حرم عليه الجتهاد والتّقليد ‪،‬‬
‫وإل فعليه أن يجتهد في أدلّة القبلة ول يقلّد ‪ ،‬ومن عجز عن الجتهاد في الدلّة يقلّد ثقة‬
‫عارفا بأدلّة القبلة ‪ .‬فلو صلّى من غير تقليد معتبر وقد أمكنه أن يقلّد لزمته العادة ولو‬
‫صادفت صلته القبلة ‪ .‬أمّا ما صلّى بالجتهاد أو التّقليد وصادف القبلة أو لم يتبيّن الحال فل‬
‫إعادة عليه ‪ .‬وفي المسألة خلف وتفصيل يرجع إليه تحت عنوان ( استقبال القبلة ) ‪.‬‬
‫وقريب من ذلك القول في التّقليد في مواقيت الصّلة ( ر ‪ :‬أوقات الصّلة ) ‪.‬‬
‫أمّا تقليد أهل الخبرة من المنجّمين والحاسبين إذا اجتهدوا في دخول شهر رمضان مثلً‬
‫بالنّظر في الحساب فالمشهور أنّه ل يجب الصّوم ول الفطر بقولهم تقليدا لهم ول يجوز ‪.‬‬
‫ي من الشّافعيّة ‪ :‬يجوز للمنجّم والحاسب أن يعمل بمعرفتهما بل يجب عليهما ذلك‬
‫وقال الرّمل ّ‬
‫ن لغيره العمل به ‪.‬‬
‫‪ ،‬وليس لحد تقليدهما ‪ .‬وقال في موضع آخر ‪ :‬إ ّ‬
‫ولكن عند المالكيّة يجوز التّقليد من الصّائم في الفجر والغروب ولو من قادر على الجتهاد ‪.‬‬
‫وفرّقوا بينه وبين القبلة بكثرة الخطأ فيها ‪ .‬واللّه أعلم ‪.‬‬

‫تَ َقوّم *‬
‫التّعريف ‪:‬‬
‫‪ -‬التّقوّم ‪ :‬مصدر تقوّم الشّيء تقوّما ‪ .‬مطاوع قوّم يقال ‪ :‬قوّمته فتقوّم أي ‪ :‬عدّلته فتعدّل‬ ‫‪1‬‬

‫‪ ،‬وثمّنته فتثمّن ‪.‬‬


‫وهو عند الفقهاء ‪ :‬كون الشّيء مال مباح النتفاع به شرعا في غير ضرورة ‪ .‬فكلّ متقوّم‬
‫مال ‪ ،‬وليس كلّ مال متقوّما ‪ ،‬فما يباح بل تموّل ل يكون مال كحبّة قمح ‪ .‬وما يتموّل بل‬
‫إباحة انتفاع ل يكون متقوّما كالخمر ‪ .‬وإذا عدم المران لم يثبت واحد منهما ‪ ،‬كالدّم ‪ ،‬وإذا‬
‫وجدا كان الشّيء مال متقوّما ‪ .‬وقد يستعمل التّقوّم فيما يحصره ع ّد أو ذرع ‪ ،‬كحيوان‬
‫وثياب ‪ ،‬فالتّقوّم بهذا العتبار يقابل المثليّ ‪.‬‬
‫اللفاظ ذات الصّلة ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬التّموّل ‪:‬‬
‫‪ -‬يراد بالتّموّل عند الفقهاء اتّخاذ المال قنية ‪ .‬فالتّقوّم أخصّ من التّموّل ‪ ،‬لنّ التّقوّم‬ ‫‪2‬‬

‫يستلزم إباحة النتفاع بالشّيء شرعا ‪ ،‬فضل عن كونه متم ّولً ‪.‬‬
‫الحكم الجماليّ ‪:‬‬
‫‪ -‬يشترط في المعقود عليه في عقد البيع ونحوه ‪ -‬بجانب توافر سائر الشّروط ‪ -‬أن‬ ‫‪3‬‬

‫يكون متقوّما ‪ ،‬أي يباح النتفاع به ‪ ،‬فل يصحّ بيع المال غير المتقوّم ‪.‬‬
‫ن الحنفيّة يقولون بالتّفرقة بين بيع غير المتقوّم‬
‫وهذا ما ل خلف فيه بين الفقهاء ‪ .‬إل أ ّ‬
‫والشّراء بغير المتقوّم ‪ ،‬فبيع المال غير المتقوّم باطل عندهم ل يترتّب عليه حكم كبيع الدّم‬
‫بالخنزير ‪ ،‬فل يملك المشتري المبيع ول البائع الثّمن ‪ ،‬سواء أكان البيع حا ًل أم مؤجّل ‪.‬‬
‫أمّا الشّراء بثمن غير متقوّم ‪ ،‬فيعتبرونه فاسدا وتجري عليه أحكام البيع الفاسد ‪.‬‬
‫ن النتفاع إنّما‬
‫وسبب التّفرقة بين الحالتين أنّ المبيع هو المقصود الصليّ من البيع ‪ ،‬ل ّ‬
‫يكون بالعيان ‪ ،‬والثمان وسيلة للمبادلة ‪ .‬وللتّوسّع في ذلك ( ر ‪ :‬بطلن ‪ ،‬فساد ‪ ،‬بيع ‪،‬‬
‫بيع منهيّ عنه ) ‪.‬‬
‫تقوّم المتلفات ‪:‬‬
‫‪ -‬من شروط وجوب ضمان المتلفات أن يكون الشّيء المتلف متقوّما ‪ ،‬فل يجب الضّمان‬ ‫‪4‬‬

‫بإتلف الخمر والخنزير على المسلم ‪ ،‬سواء أكان المتلف مسلما أم ذمّيّا ‪ ،‬لسقوط تقوّم‬
‫)‪.‬‬ ‫‪522/ 1‬‬ ‫‪-‬‬ ‫‪34‬‬ ‫ق المسلم ‪ ( .‬ر ‪ :‬إتلف ف‬
‫الخمر والخنزير في ح ّ‬
‫ي على ذمّيّ خمرا أو خنزيرا فيرى الحنفيّة والمالكيّة وجوب‬
‫أمّا لو أتلف مسلم أو ذمّ ّ‬
‫الضّمان ‪ ،‬واستدلّوا بأنّنا أمرنا أن نترك أهل ال ّذمّة وما يدينون ‪ ،‬وقد روي عن عمر رضي‬
‫عمّالَه ‪ :‬ماذا تصنعون بما يم ّر به أهل ال ّذمّة من الخمور ؟ فقالوا ‪ :‬نعشّرها‬
‫ال عنه أنّه سأل ُ‬
‫‪ ،‬فقال ‪ :‬ل تفعلوا ‪ ،‬ولّوهم بيعها ‪ ،‬وخذوا العشر من أثمانها ‪ .‬فلول أنّها متقوّمة وبيعها‬
‫جائز لهم لما أمرهم بذلك ‪ ،‬فإذا كانت مالً لهم وجب ضمانها كسائر أموالهم ‪.‬‬
‫ويقول الشّافعيّة والحنابلة بعدم وجوب ضمان الخمر والخنزير مطلقا ‪ ،‬سواء أكانا لمسلم أم‬
‫ي صلى ال عليه وسلم قال ‪ « :‬أل إنّ اللّه ورسوله حرّما بيع‬
‫ذمّيّ ‪ ،‬لما روى جابر أنّ النّب ّ‬
‫الخمر والميتة والخنزير والصنام » وما حرم بيعه لحرمته لم تجب قيمته كالميتة ‪ ،‬ولنّ‬
‫الخمر والخنزير غير متقوّمين فل يجب ضمانهما ‪ ،‬ودليل أنّهما غير متقوّمين في حقّ‬
‫ي صلى ال عليه وسلم قال ‪ :‬فإذا قبلوا عقد‬
‫ي ‪ « -‬أنّ النّب ّ‬
‫المسلم ‪ -‬فكذلك في حقّ ال ّذمّ ّ‬
‫ن ك ّل ما ثبت في حقّ‬
‫ال ّذمّة فأعلمهم أنّ لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم » وهذا يقتضي أ ّ‬
‫ن عقد ال ّذمّة خلف‬
‫ق المسلمين ‪ ،‬ول ّ‬
‫ق ال ّذمّيّين ل أنّ حقّهم يزيد على ح ّ‬
‫المسلمين يثبت في ح ّ‬
‫عن السلم ‪ ،‬فيثبت به ما يثبت بالسلم ‪ ،‬إذا الخلف ل يخالف الصل ‪ ،‬فيسقط تقوّمهما في‬
‫حقّهم ‪ .‬وينظر التّفصيل في ( إتلف ‪ ،‬وضمان ) ‪.‬‬
‫تقوّم المنافع ‪:‬‬
‫‪ -‬يرى الشّافعيّة والحنابلة والمالكيّة في قول ‪ :‬أنّ المنافع أموال متقوّمة مضمونة بالعقود‬ ‫‪5‬‬

‫ن التّقوّم عبارة عن العزّة ‪،‬‬


‫ن المنفعة متقوّمة بنفسها أ ّ‬
‫والغصوب كالعيان ‪ .‬والدّليل على أ ّ‬
‫والمنافع عزيزة بنفسها عند النّاس ‪ ،‬ولهذا يبذلون العيان لجلها ‪ ،‬بل تقوّم العيان‬
‫باعتبارها فيستحيل أن ل تكون هي متقوّمة ‪.‬‬
‫وذهب الحنفيّة ‪ -‬وهو قول للمالكيّة ‪ -‬إلى أنّ المنافع ل تتقوّم بنفسها بل تقوّم ضرورة عند‬
‫ن التّقوّم ل يسبق الوجود والحراز ‪ ،‬وذلك فيما ل يبقى غير متصوّر ‪.‬‬
‫ورود العقد ‪ ،‬ل ّ‬
‫وتتفرّع على هذا الخلف فروع كثيرة ‪ ،‬تنظر في أبواب الغصب من الكتب الفقهيّة ‪ ،‬وفي‬
‫مصطلحي ‪ ( :‬ضمان ‪ ،‬وغصب ‪ ،‬وإجارة ) ‪.‬‬

‫تقويم *‬
‫التّعريف ‪:‬‬
‫‪ -‬التّقويم ‪ :‬مصدر قوّم ‪ ،‬ومن معانيه التّقدير ‪ ،‬يقال قوّم المتاع إذا قدّره بنقد وجعل له‬ ‫‪1‬‬

‫قيمة ‪ .‬والتّقويم في الصطلح ل يخرج عن هذا المعنى اللّغويّ ‪.‬‬


‫الحكم الجماليّ ‪:‬‬
‫‪ -‬الصل في التّقويم أنّه جائز ‪ ،‬وقد يكون واجبا ‪ ،‬كتقويم مال التّجارة لخراج زكاته ‪،‬‬ ‫‪2‬‬

‫وكتقويم صيد البرّ إذا قتله المحرم ‪.‬‬


‫تقويم عروض التّجارة ‪:‬‬
‫‪ -‬اتّفق الفقهاء على وجوب تقويم عروض التّجارة لخراج زكاتها ‪ ،‬مع مراعاة توفّر‬ ‫‪3‬‬

‫شروطها من بلوغ النّصاب وحولن الحول ‪.‬‬


‫ن تقويم مال التّجارة‬
‫واختلفوا فيما تقوّم به عروض التّجارة ‪ ،‬فذهب الحنفيّة والحنابلة إلى أ ّ‬
‫يكون بالنفع للفقراء ‪ .‬بأن تقوّم عروض التّجارة بما يبلغ نصابا من ذهب أو فضّة ‪ .‬وسواء‬
‫أقوّمت بنقد البلد الغالب ‪ -‬مع كونه الولى عند الحنابلة لنّه النفع للفقير ‪ -‬أم بغيره ‪.‬‬
‫وسواء أبلغت قيمة العروض بكلّ من الذّهب والفضّة نصابا ‪ ،‬أم بلغت نصابا بأحدهما دون‬
‫الخر ‪ .‬فيلتزم في كلّ الحالت تقويم السّلعة بالحظّ للفقراء ‪.‬‬
‫وذهب المالكيّة إلى تقويم عروض التّجارة بالفضّة ‪ ،‬سواء ما يباع بالذّهب أو ما يباع غالبا‬
‫بالفضّة ‪ ،‬فيقوّمهما بالفضّة ‪ .‬لنّها قيم الستهلك ولنّها الصل في الزّكاة ‪.‬‬
‫فإن كانت العروض تباع بهما ‪ ،‬واستويا بالنّسبة إلى الزّكاة ‪ ،‬يخيّر التّاجر بين تقويمهما‬
‫ن الذّهب والفضّة أصلن ‪ ،‬فيعتبر الفضل للمساكين ‪،‬‬
‫بالذّهب أو بالفضّة ‪ .‬وعلى القول بأ ّ‬
‫لنّ التّقويم لحقّهم ‪ .‬واشترط المالكيّة لتقويم عروض التّجارة أن ينضّ للتّاجر شيء ولو‬
‫ض له شيء في سنته فل تقويم ول زكاة‪.‬‬
‫ض له نصاب ‪ .‬فإن لم ين ّ‬
‫درهم ‪ .‬ول يشترط أن ين ّ‬
‫وليس على التّاجر أن يقوّم عروض تجارته بالقيمة الّتي يجدها المضطرّ في بيع سلعه ‪،‬‬
‫وإنّما يقوّم سلعته بالقيمة الّتي يجدها النسان إذا باع سلعته على غير الضطرار الكثير ‪.‬‬
‫وعند الشّافعيّة يختلف تقويم مال التّجارة بحسب اختلف أحوال رأس المال ‪.‬‬
‫فلرأس المال خمسة أحوال ‪:‬‬
‫الحال الوّل ‪ :‬أن يكون نقدا نصابا ‪ .‬فيقوّم آخر الحول بما اشتراه به من ذهب أو فضّة ‪،‬‬
‫ويزكّيه إذا بلغ نصابا عند حولن الحول ‪ ،‬وهذا هو المذهب المشهور ‪.‬‬
‫وصورته ‪ :‬أن يشتري عرضا بمائتي درهم ‪ ،‬أو بعشرين دينارا ‪ ،‬فيقوّم آخر الحول به أي‬
‫بالدّراهم أو بالدّنانير ‪ .‬فإن اشترى بالدّراهم وباع بالدّنانير ‪ ،‬وقصد التّجارة مستم ّر ‪ ،‬وتمّ‬
‫الحول ‪ ،‬فل زكاة إن لم تبلغ الدّنانير قيمة الدّراهم ‪.‬‬
‫ن التّقويم يكون أبدا بغالب نقد البلد ‪.‬‬
‫وهناك قول في المذهب أ ّ‬
‫الحالة الثّانية ‪ :‬أن يكون رأس المال نقدا دون النّصاب ‪ ،‬وفيه وجهان ‪:‬‬
‫أصحّهما ‪ :‬أنّه يقوّم بذلك النّقد ‪.‬‬
‫والثّاني ‪ :‬أنّه يقوّم بغالب نقد البلد ‪.‬‬
‫ومحلّ الوجهين إن لم يملك ما يتمّ به النّصاب ‪ .‬فإن ملك قوّم به ‪.‬‬
‫وصورته ‪ :‬أن يشتري بمائة درهم وهو يملك مائة أخرى ‪ ،‬فل خلف أنّ التّقويم بالدّراهم ‪.‬‬
‫لنّه اشترى ببعض ما انعقد عليه الحول ‪ ،‬وابتدأ الحول من حين ملك الدّراهم ‪.‬‬
‫الحال الثّالث ‪ :‬أن يملك بالنّقدين جميعا ‪ .‬وهو على ثلثة أضرب ‪.‬‬
‫الوّل ‪ :‬أن يكون كلّ واحد نصابا فيقوّم بهما على نسبة التّقسيط يوم الملك ‪.‬‬
‫وطريقة تقويم أحد النّقدين بالخر ‪.‬‬
‫وصورته ‪ :‬اشترى بمائتي درهم وعشرين دينارا فينظر إن كانت قيمة المائتين عشرين‬
‫دينارا ‪ ،‬فنصف العرض مشترى بدراهم والخر بدنانير ‪.‬‬
‫الضّرب الثّاني ‪ :‬أن يكون كلّ واحد منهما دون النّصاب ‪.‬‬
‫فعلى احتمالين ‪ :‬إمّا أن يجعل ما دون النّصاب كالعروض ‪ ،‬فيقوّم الجميع بنقد البلد ‪.‬‬
‫أو أن يجعل كالنّصاب فيقوّم ما ملكه بالدّراهم بدراهم ‪ ،‬وما ملكه بالدّنانير بدنانير ‪.‬‬
‫الضّرب الثّالث ‪ :‬أن يكون أحدهما نصابا والخر دونه ‪ .‬فيقوّم ما ملكه بالنّقد الّذي هو نصاب‬
‫بذلك النّقد من حين ملك ذلك النّقد ‪.‬‬
‫وما ملكه بالنّقد الخر على الوجهين المتقدّمين في الحال الثّاني ‪.‬‬
‫الحال الرّابع ‪ :‬أن يكون رأس المال غير النّقد ‪ ،‬بأن يملك بعرض قنية ‪ ،‬أو ملك بخلع فيقوّم‬
‫في آخر الحول بغالب نقد البلد من الدّراهم أو الدّنانير ‪ ،‬فإن بلغ به نصابا زكّاه ‪ ،‬وإل فل ‪،‬‬
‫وإن كان يبلغ بغيره نصابا ‪ .‬فلو جرى في البلد نقدان متساويان ‪ ،‬فإن بلغ بأحدهما نصابا‬
‫دون الخر قوّم به ‪ .‬وإن بلغ بهما فعلى أوجه ‪:‬‬
‫أصحّها ‪ :‬يتخيّر المالك فيقوّم بما شاء منهما ‪.‬‬
‫والثّاني ‪ :‬يراعى الحظّ للفقراء ‪.‬‬
‫والثّالث ‪ :‬يتعيّن التّقويم بالدّراهم لنّها أرفق ‪.‬‬
‫والرّابع ‪ :‬يقوّم بالنّقد الغالب في أقرب البلد إليه ‪.‬‬
‫الحال الخامس ‪ :‬أن يملك بالنّقد وغيره ‪ .‬بأن اشترى بمائتي درهم وعرض قنية ‪ ،‬فما قابل‬
‫الدّراهم يقوّم بها ‪ ،‬وما قابل العرض يقوّم بنقد البلد ‪.‬‬
‫تقويم جزاء الصّيد ‪:‬‬
‫‪ -‬ذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ومحمّد بن الحسن من الحنفيّة إلى وجوب المثل من‬ ‫‪4‬‬

‫النّعم على من قتل صيد الحرم ‪ .‬فيجب عليه أن يذبح مثله من البل أو البقر أو الغنم إن كان‬
‫ن ال ّنعَمِ‬
‫الصّيد الّذي قتله ممّا له مثل منها ‪ .‬ودليلهم قوله تعالى ‪َ { :‬فجَزَاءٌ مث ُل مَا قَ َتلَ مِ َ‬
‫حكُمُ بِه َذوَا عَ ْدلٍ مِ ْن ُكمْ } ولما ورد عن الصّحابة رضي ال عنهم ‪ -‬في تقويم صيد الحرم‬
‫َي ْ‬
‫بما له مثل بما يماثله ‪ .‬ومحلّ تفصيل معرفة المثل في مصطلح ( صيد ‪ ،‬وحرم ‪ ،‬وإحرام ) ‪.‬‬
‫وذهب الحنفيّة إلى عدم وجوب المثل من النّعم ‪ ،‬بل يقوّم الصّيد بالمال ‪ .‬لنّ المثل المطلق ‪،‬‬
‫بمعنى المثل في الصّورة والمعنى ‪ ،‬وهو المشارك في النّوع غير مراد في الية إجماعا ‪.‬‬
‫فبقي المثل معنى فقط وهو القيمة ‪ .‬وسواء أوجب على قاتل الصّيد المثل من النّعم ‪ -‬على‬
‫قول الجمهور ‪ -‬أم القيمة على قول الحنفيّة ‪ ،‬فيرجع لمعرفة المماثلة إلى تقويم عدلين من‬
‫ب أن يكونا فقيهين ‪.‬‬
‫أهل المعرفة والخبرة ‪ ،‬ومن المستح ّ‬
‫وذهب المالكيّة ‪ -‬وهو وجه عند الشّافعيّة ‪ -‬إلى عدم جواز كون أحد المقوّمين هو القاتل ‪.‬‬
‫قياسا على عدم جواز كون المتلف للمال هو أحد المقوّمين في الضّمان ‪.‬‬
‫وذهب الشّافعيّة ‪ -‬في الصّحيح عندهم ‪ -‬إلى جوازه ‪ ،‬وذلك لنّه وجب عليه لحقّ اللّه تعالى‬
‫ق أمينا فيه ‪ ،‬كربّ المال في الزّكاة ‪ .‬وهذا مقيّد بما إذا‬
‫‪ ،‬فجاز أن يجعل من يجب عليه الح ّ‬
‫قتله خطأ أو مضطرّا ‪ ،‬أمّا إذا قتله عدوانا فل يجوز أن يكون أحد المقوّمين ‪ ،‬لنّه يفسق‬
‫بتعمّد القتل ‪ ،‬فل يؤتمن في التّقويم ‪ .‬ويخيّر قاتل الصّيد بين ثلثة أمور ‪:‬‬
‫إمّا أن يهدي مثل ما قتله من النّعم لفقراء الحرم ‪ -‬إن كان الصّيد له مثل ‪ -‬أو أن يقوّمه‬
‫بالمال ويقوّم المال طعاما ويتصدّق بالطّعام على الفقراء ‪ .‬وهذا عند الحنفيّة والشّافعيّة‬
‫والحنابلة ‪.‬‬
‫ن الصّيد يقوّم ابتداء بالطّعام ‪ ،‬ولو قوّمه بالمال ثمّ اشترى به طعاما‬
‫أمّا المالكيّة فذهبوا إلى أ ّ‬
‫أجزأ ‪.‬‬
‫والمر الثّالث ‪ :‬أن يصوم عن كلّ م ّد من الطّعام يوما ‪ ،‬ودليله ما تقدّم من قوله تعالى ‪:‬‬
‫طعَامُ َمسَاكِينَ أ ْو عَ ْدلُ ذَِلكَ صِيامَا } ‪.‬‬
‫{ هَدْيَا بَالِ َغ ال َكعْ َبةِ أو َكفّارَةٌ َ‬
‫ويقوّم الصّيد في اليوم وفي المكان الّذي أصيب فيه ‪ ،‬أو في أقرب المواضع منه ‪.‬‬
‫وتمام ذلك في ( حجّ ‪ ،‬وإحرام ‪ ،‬وصيد ) ‪.‬‬
‫تقويم السّلعة المعيّنة في خيار العيب ‪:‬‬
‫‪ -‬إذا اختار المشتري إبقاء السّلعة الّتي اشتراها مع وجود عيب فيها ‪ .‬أو في حال ما إذا‬ ‫‪5‬‬

‫تعذّر ردّ السّلعة المعيبة بسبب هلكها أو تلفها أو استهلكها ‪ ،‬وأراد المشتري الرّجوع على‬
‫البائع ‪ ،‬أو في حال ما إذا حدث في السّلعة عيب عند المشتري ‪ ،‬مع وجود عيب قديم عند‬
‫البائع ‪ ،‬فاختار المشتري الرّدّ أو البقاء ‪.‬‬
‫ففي هذه الحالت تقوّم السّلعة معيبة وتقوّم سليمة ‪ ،‬ويرجع المشتري على البائع بمقدار ما‬
‫نقص العيب من ثمن السّلعة ‪ ،‬فإذا كانت قيمة السّلعة سليمة مائة ومع العيب تسعين ‪،‬‬
‫فنسبة النّقص عشر قيمة المبيع ‪ ،‬فيرجع المشتري على البائع بعشر الثّمن ‪.‬‬
‫وهل يجبر البائع على ما اختاره المشتري من الرّ ّد أو عدمه مع أخذ أرش العيب ؟ فيه‬
‫خلف وتفصيل يرجع إليه في مصطلح ‪ ( :‬خيار العيب ) ‪.‬‬
‫ولو حدث في السّلعة عيب حادث عند المشتري ‪ ،‬غير العيب القديم الّذي كان عند البائع ‪،‬‬
‫فتقوّم السّلعة ثلث مرّات ‪ .‬فتقوّم السّلع سليمة بعشرة مثل ‪ ،‬ثمّ تقوّم ثانيا بالعيب القديم‬
‫بقطع النّظر عن العيب الحادث بثمانية مثل ‪ ،‬فيقدّر النّقص بالنّسبة لثمنها سليمة بالخمس ‪.‬‬
‫ثمّ تقوّم ثالثا بالعيب الحادث بقطع النّظر عن القديم بثمانية مثل ‪ ،‬فيكون النّقص الخمس من‬
‫ثمنها سليمة ‪.‬‬
‫ويعتبر التّقويم يوم دخل المبيع في ضمان المشتري عند المالكيّة والحنابلة ‪.‬‬
‫وعند الشّافعيّة الصحّ اعتبار أقلّ قيمة المبيع المتقوّم من يوم البيع إلى وقت القبض ‪.‬‬
‫لنّ قيمة السّلعة إن كانت وقت البيع أقلّ فالزّيادة في المبيع حدثت في ملك المشتري ‪ ،‬وفي‬
‫الثّمن حدثت في ملك البائع فل تدخل في التّقويم ‪.‬‬
‫أو كانت القيمة وقت القبض ‪ ،‬أو بين الوقتين أقلّ فالنّقص في المبيع من ضمان البائع ‪،‬‬
‫وفي الثّمن من ضمان المشتري فل يدخل في التّقويم ‪ .‬وعند الحنفيّة ‪ :‬يكون تقويم الصل‬
‫وقت البيع وتقويم الزّيادة وقت القبض لنّ الزّيادة إنّما تأخذ قسطا من الثّمن بالقبض ‪.‬‬
‫التّقويم في الرّبويّات ‪:‬‬
‫‪ -‬ل يجوز بيع الرّبويّات بجنسها إلّا بعد تيقّن المماثلة كيلً أو وزنا ‪ ،‬ول يجوز التّفاضل‬ ‫‪6‬‬

‫بينها ‪ .‬ولهذا ل يعتبر التّقويم في الرّبويّات ‪ ،‬لنّ التّقويم ظنّيّ وقائم على التّخمين والتّقدير ‪.‬‬
‫والقاعدة عند الفقهاء في الرّبا أنّ الجهل بالتّماثل كالعلم بالتّفاضل ‪.‬‬
‫فما لم تتيقّن المماثلة ل يجوز البيع لحتمال التّفاضل ‪ .‬ومن أمثلته عند الفقهاء عدم جواز‬
‫بيع الطّعام بجنسه جزافا ‪ ،‬كقولك بعتك هذه الصّبرة من الطّعام بهذه الصّبرة مكايلة ‪ ،‬مع‬
‫الجهل بكيل الصّبرتين أو كيل أحدهما ‪ .‬وتفصيل ذلك في مصطلح ‪ ( :‬ربا ) ‪.‬‬
‫تقويم الجوائح ‪:‬‬
‫‪ -‬الجائحة ‪ :‬من الجوح ‪ ،‬وهو الهلك ‪ ،‬واصطلحا ‪ :‬ما أتلف من معجوز عن دفعه عادة‬ ‫‪7‬‬

‫قدرا من ثمر أو نبات بعد بيعه ‪.‬‬


‫كأن يهلك الثّمر بسبب برد أو ثلج أو غبار أو ريح حارّ أو جراد أو فئران أو نار أو عطش ‪.‬‬
‫فإذا أصابت الجائحة الثّمر ‪ ،‬وضع عن المشتري من الثّمن بقدر ما أتلفته بعد تقويمها ‪.‬‬
‫فيعتبر ما أصيب من الجائحة ‪ ،‬وينسب إلى قيمة ما بقي سليما في زمن الجائحة ‪.‬‬
‫فيقال مثل كم يساوي الثّمر قبل الجائحة ‪ ،‬فيقال عشرون ‪ ،‬والقدر المجاح زمن الجائحة ‪-‬‬
‫على أن يقبض في وقته ‪ -‬قيمته عشرة ‪ ،‬وقيمة السّليم يوم الجائحة ‪ -‬على أن يقبض في‬
‫وقته ‪ -‬عشرة ‪ ،‬فيوضع عن المشتري نصف قيمة الثّمر الّذي اشتراه ‪ ،‬وهو عشرة ‪.‬‬
‫ومحلّ تقويم الجائحة إذا كانت الثّمرة في ضمان البائع ‪ ،‬بأن تمّ العقد ولم يتمّ القبض ول‬
‫التّخلية ‪ ،‬وعليه يحمل قول الرّسول صلى ال عليه وسلم ‪ :‬في حديث جابر « رضي ال عنه‬
‫ي صلى ال عليه وسلم أمر بوضع الجوائح » ‪.‬‬
‫أنّ النّب ّ‬
‫أمّا إذا أصابت الجائحة الثّمر بعد التّخلية بعد تأخّر المشتري في الجذّ إلى الوقت الّذي‬
‫اشترى الثّمرة له ‪ ،‬فضمانها على المشتري ‪ ،‬وعليه يحمل قول الرّسول صلى ال عليه‬
‫وسلم في الحديث الّذي يرويه أبو سعيد الخدريّ ‪ -‬رضي ال عنه ‪ « : -‬أصيب رجل في‬
‫عهد رسول اللّه صلى ال عليه وسلم في ثمار ابتاعها فكثر دينه ‪ ،‬فقال رسول اللّه صلى‬
‫ال عليه وسلم تصدّقوا عليه ‪ ،‬فتصدّق النّاس عليه فلم يبلغ ذلك وفاء دينه ‪ ،‬فقال رسول‬
‫اللّه صلى ال عليه وسلم لغرمائه ‪ :‬خذوا ما وجدتم وليس لكم إل ذلك » ‪.‬‬
‫والضّمير في ( تصدّقوا ) للصّحابة غير البائعين ‪ .‬ومحلّ البحث في أحكام ضمان الجوائح‬
‫في مصطلح ‪ ( :‬ضمان ‪ ،‬وجائحة ‪ ،‬وثمر ) ‪ .‬ول يستعجل بالتّقويم يوم الجائحة ‪ ،‬بل ينتظر‬
‫إلى انتهاء البطون ‪ -‬فيما يزرع بطونا ليتحقّق المقدار المصاب الّذي يراد تقويمه ‪.‬‬
‫التّقويم في القسمة ‪:‬‬
‫‪ -‬قد تحتاج القسمة في بعض أنواعها إلى تقويم المقسم ‪ .‬ولهذا اشترط في القاسم أن‬ ‫‪8‬‬

‫يكون عارفا بالتّقويم ‪ .‬ويشترط في هذا النّوع من القسمة مقوّمان ‪.‬‬


‫لنّ التّقويم ل يثبت إل باثنين ‪ ،‬فاشترط العدد للتّقويم ل للقسمة ‪ ،‬فإن لم يكن في القسمة ما‬
‫يحتاج إلى تقويم كفى قاسم واحد ‪ ،‬بناء على أنّ القاسم في التّقويم نائب عن الحاكم فيكون‬
‫كالمخبر فيكتفى فيه بواحد كالقائف والمفتي والطّبيب ‪.‬‬
‫ن المقوّم شاهد ل‬
‫وفي قول للشّافعيّة أنّه يشترط مقوّمان ‪ ،‬بناء على المرجوح ‪ -‬عندهم ‪ -‬أ ّ‬
‫حاكم ‪ .‬وهذا الخلف فيمن ينصبه المام ‪ ،‬أمّا فيمن ينصبه الشّركاء فيكفي فيه قاسم واحد‬
‫قطعا ‪ .‬وللمام جعل القاسم حاكما في التّقويم ‪ ،‬وحينئذ فيعمل فيه بعدلين ذكرين يشهدان‬
‫عنده بالقيمة ل بأقلّ منها ‪ .‬وتتمّة هذا الموضوع في مصطلح ( قسمة ) ‪.‬‬
‫تقويم نصاب السّرقة ‪:‬‬
‫‪ -‬من شرط إقامة ح ّد السّرقة أن يبلغ المسروق نصابا ‪.‬‬ ‫‪9‬‬

‫واختلف الفقهاء في تقويم نصاب السّرقة ‪:‬‬


‫فذهب الحنفيّة إلى تقويم نصاب السّرقة بالدّراهم ‪ .‬بأن تبلغ قيمة المسروق عشرة دراهم ‪،‬‬
‫إن كان المسروق من غير الفضّة ولو كان ذهبا ‪ ،‬وأن يكون عشرة دراهم وزنا وقيمة إذا‬
‫كان المسروق من الفضّة ‪ .‬وهو أحد الرّوايات الثّلث عند الحنابلة ‪ .‬لحديث أمّ أيمن ‪-‬‬
‫رضي ال عنها ‪ -‬قالت ‪ « :‬قال رسول اللّه صلى ال عليه وسلم ‪ :‬ل تقطع يد السّارق إل‬
‫في حجفة » وقوّمت يومئذ على عهد رسول اللّه صلى ال عليه وسلم بدينار أو عشرة‬
‫دراهم ‪ .‬وقد اختلفت روايات الحديث فروي موقوفا ومرسل ‪ ،‬وروي موصول مرفوعا من‬
‫ن النّبيّ صلى ال عليه وسلم قطع يد رجل في‬
‫حديث ابن عبّاس ‪ -‬رضي ال عنهما ‪ « -‬إ ّ‬
‫مجنّ قيمته دينار أو عشرة دراهم » وعلى القول بأنّه موقوف إل أنّه مرفوع حكما لنّ‬
‫المقدّرات الشّرعيّة ل دخل للعقل فيها ‪.‬‬
‫وفي حديث ‪ « :‬ل يقطع السّارق إل في عشرة دراهم » وقد اختلف في تقويم ثمن المجنّ‬
‫فروي أنّه ثلثة دراهم ‪ ،‬وروي أنّه عشرة دراهم ‪ .‬فوجب الخذ بالكثر درءا للحدّ ‪.‬‬
‫وذهب المالكيّة إلى أنّ المسروق يقوّم بالدّراهم وبالدّنانير ‪ .‬والنّصاب ربع دينار شرعيّ من‬
‫الذّهب ‪ ،‬أو ثلثة دراهم شرعيّة من الفضّة أو ما يساويهما ‪.‬‬
‫ن كلّا من الذّهب والفضّة أصل بنفسه ‪ ،‬وعلى هذه الرّواية‬
‫وهو رواية عن الحنابلة بمعنى أ ّ‬
‫تقوّم غير الثمان بأدنى المرين من ربع دينار أو ثلثة دراهم ‪.‬‬
‫وذهب الشّافعيّة إلى تقويم نصاب السّرقة بالدّنانير ‪ ،‬بأن يبلغ المسروق قيمة ربع دينار من‬
‫الذّهب والعتبار بالذّهب المضروب ‪ .‬لحديث عائشة رضي ال عنها عن النّبيّ صلى ال‬
‫عليه وسلم قال ‪ « :‬ل تقطع يد السّارق إل في ربع دينار فصاعدا » ‪.‬‬
‫فإن كان المسروق ذهبا وجب أن يبلغ ربع دينار وزنا وقيمة ‪ ،‬وإن كان من غير الذّهب‬
‫وجب أن تبلغ قيمته ربع دينار من الذّهب ‪.‬‬
‫وفي رواية للحنابلة أنّ العروض ل تقوّم إل بالدّراهم ‪ ،‬ويكون الذّهب أصل بنفسه ل غير ‪.‬‬
‫ويكون تقويم المسروق بنقد البلد الغالب الّذي وقعت فيه السّرقة ‪ .‬والمعتبر في القيمة قيمة‬
‫الشّيء وقت إخراجه من الحرز ل قبله ول بعده عند الجمهور والطّحاويّ من الحنفيّة ‪.‬‬
‫وعند الحنفيّة تعتبر قيمة المسروق يوم السّرقة ووقت القطع بأن ل يقلّ فيهما عن نصاب ‪.‬‬
‫فلو كانت قيمته يوم السّرقة عشرة ‪ ،‬فنقصت وقت القطع ل يقام الحدّ ‪ .‬إل إذا كان النّقص‬
‫بسبب عيب دخل المسروق أو فات بعضه ‪.‬‬
‫كما يعتبر في تقويم المسروق مكان السّرقة ‪ ،‬فلو سرق في بلد وكانت قيمته عشرة ‪ -‬مثلً‬
‫‪ -‬فأخذ في بلد آخر وقيمته فيها أقلّ فل يقام عليه الحدّ ‪.‬‬
‫ن تقويمه في هذه الحالة من باب‬
‫ويكفي في التّقويم واحد إن كان موجّها من القاضي ‪ ،‬ل ّ‬
‫الخبر ل من باب الشّهادة ‪ .‬فإن لم يكن المقوّم موجّها من القاضي فل ب ّد من اثنين وإذا‬
‫اختلف المقوّمان بأن قوّم أحدهما المسروق نصابا والخر دون النّصاب كان هذا شبهة يدرأ‬
‫بها الحدّ ‪ .‬ول يجب إقامة الحدّ إل إذا قطع المقوّمون ببلوغ المسروق نصابا بأن يقولوا إنّ‬
‫قيمته بلغت نصابا قطعا أو يقينا مثلً ‪.‬‬
‫وإن اختلف المقوّمون في تقويم المسروق لختلف قيمة ما قوّم به ‪ ،‬بأن يقوّم مثل بنقدين‬
‫من الذّهب خالصين اعتبر أدناهما ‪ ،‬والوجه ‪ -‬كما يقول النّوويّ ‪ -‬أن يقوّم بأعلهما قيمة‬
‫درءا للحدّ ‪.‬‬
‫تقويم حكومة العدل ‪:‬‬
‫‪ -‬اتّفق الفقهاء على أنّ الجروح الّتي لم يقدّر الشّارع لها دية تجب فيها حكومة عدل ‪.‬‬ ‫‪10‬‬

‫ويقصد بالحكومة تقدير نسبة الجرح من الدّية الكاملة ‪ ،‬وتكون هذه النّسبة هي دية الجرح ‪.‬‬
‫وتعرف هذه النّسبة عن طريقين ‪:‬‬
‫الطّريق الوّل ‪ :‬تقويم المجنيّ عليه على تقدير كونه عبدا سليما غير مجروح ‪.‬‬
‫ثمّ يقوّم على تقدير كونه عبدا مجروحا ‪ ،‬وينظر كم نقصت الجناية من قيمته ‪ ،‬فإذا قدّر‬
‫النّقص بالعشر مثل وجب على الجاني عشر دية النّفس ‪.‬‬
‫ن القيمة للعبد كالدّية للحرّ‪.‬‬
‫وذلك لنّ الح ّر ل يمكن تقويمه ‪،‬فيقوّم على تقدير كونه عبدا ‪ .‬فإ ّ‬
‫الطّريق الثّاني ‪ :‬تقدير الجرح بنسبته من أقلّ جرح له أرش مقدّر وهو الموضحة ‪ ،‬وهي‬
‫الّتي توضح العظم أي تظهره ‪ ،‬ومقدارها شرعا نصف عشر الدّية الكاملة ‪ ،‬فيكون مقدار‬
‫دية هذا الجرح بمقدار نسبته من الموضحة ‪ ،‬فإن كان مقداره مثل نصف الموضحة مثلً‬
‫وجب فيه نصف دية الموضحة ‪ ،‬وإن كان الثّلث وجب ثلث دية الموضحة وهكذا ‪.‬‬
‫ن ما ل نصّ فيه يردّ إلى المنصوص عليه ‪ .‬وهذا قول الكرخيّ من الحنفيّة‪.‬‬
‫وهذا بناء على أ ّ‬
‫وفي قول للشّافعيّة أنّ تقويم النّقص يكون بالنّسبة إلى العضو الّذي وقعت عليه الجناية إن‬
‫كان لها أرش مقدّر ‪ .‬فإن لم يكن لها أرش مقدّر تقوّم الحكومة بالنّسبة إلى دية النّفس ‪.‬‬
‫‪ -‬ويشترط في تقويم الحكومة شروط ‪:‬‬ ‫‪11‬‬
‫الشّرط الوّل ‪ :‬إن كانت الجناية على عضو له أرش مقدّر ‪ ،‬يشترط فيها أن ل تبلغ الحكومة‬
‫أرش ذلك العضو ‪ ،‬فإن بلغت ذلك نقص القاضي منها شيئا باجتهاده ‪ ،‬فحكومة جرح النملة‬
‫العليا ‪ ،‬أو قلع ظفرها ل تبلغ أرش النملة ‪.‬‬
‫وكذلك حكومة الصبع ل تبلغ حكومتها أرش الصبع ‪.‬‬
‫والجناية على الرّأس ل تبلغ حكومتها أرش الموضحة ‪ ،‬وعلى البطن ل تبلغ أرش الجائفة ‪.‬‬
‫الشّرط الثّاني ‪ :‬إن كانت الجناية على عضو ليس له أرش مقدّر كالظّهر والكتف والفخذ ‪،‬‬
‫فيجوز أن تبلغ حكومتها دية عضو مقدّر كاليد والرّجل وأن تزيد عليه ‪ ،‬وإنّما يجب أن‬
‫تنقص عن دية النّفس ‪.‬‬
‫الشّرط الثّالث ‪ :‬يجب أن يتمّ تقويم الحكومة بعد اندمال الجرح وبرئه ‪ ،‬لحتمال أن يسري‬
‫تأثير الجناية إلى النّفس فيكون سببا للوفاة ‪ .‬أو يسري إلى عضو له أرش مقدّر ‪ ،‬فيختلف‬
‫تقويم الحكومة بذلك ‪ ،‬فتجب إمّا دية النّفس أو أرش العضو المقدّر ‪.‬‬
‫تقويم جناية البهائم ‪:‬‬
‫‪ -‬إذا جنت البهيمة على الزّرع مثل فأتلفته وثبت ضمانه على صاحبها ‪ .‬يقوّم أهل‬ ‫‪12‬‬

‫الخبرة والمعرفة الزّرع على تقدير تمامه وسلمته ‪ ،‬وعلى تقدير تلفه وجائحته ‪ ،‬ويضمن‬
‫صاحب البهيمة مقدار النّقص بين الثّمنين ‪.‬‬
‫وفي قول للمالكيّة ‪ :‬إنّه يقوّم مرّتين ‪ :‬مرّة على فرض تمامه ‪ ،‬ومرّة على فرض عدم‬
‫تمامه ‪ ،‬ويجعل له قيمة بين القيمتين ‪.‬‬
‫فيقال ‪ :‬ما قيمته على فرض تمامه ؟ فإن قيل ‪ :‬عشرة ‪ ،‬قيل ‪ :‬وما قيمته على فرض عدم‬
‫تمامه ؟ فيقال ‪ :‬خمسة ‪ .‬فتضمّ القيمتان ويجعل على الضّامن نصفها فيلزمه سبعة ونصف ‪.‬‬
‫وتفصيل أحكام جناية البهائم في مصطلح ‪ ( :‬جناية ‪ ،‬وبهيمة ‪ ،‬وإتلف ) ‪.‬‬

‫تقييد *‬
‫التّعريف ‪:‬‬
‫‪ -‬التّقييد ‪ :‬مصدر قيّد ‪ ،‬ومن معانيه في اللّغة جعل القيد في الرّجل ‪ ،‬قال في المصباح ‪:‬‬ ‫‪1‬‬

‫قيّدته تقييدا جعلت القيد في رجله ‪ .‬ومنه تقييد اللفاظ بما يمنع الختلط ويزيل اللتباس ‪.‬‬
‫وأمّا عند الصوليّين فيؤخذ من معنى المقيّد ‪ ،‬وهو أنّه كما جاء في التّلويح ‪ -‬ما أخرج عن‬
‫الشّيوع بوجه ما كرقبة مؤمنة ‪ - .‬فالتّقييد ‪ -‬على هذا ‪ -‬إخراج اللّفظ المطلق عن الشّيوع‬
‫بوجه ما ‪ ،‬كالوصف ‪ ،‬والظّرف ‪ ،‬والشّرط ‪ . .‬إلخ ‪.‬‬
‫ن المقيّد يطلق باعتبارين ‪:‬‬
‫وذكر المديّ أ ّ‬
‫الوّل ‪ :‬ما كان من اللفاظ الدّالّة على مدلول معيّن كزيد وعمرو وهذا الرّجل ونحوه ‪.‬‬
‫الثّاني ‪ :‬ما كان من اللفاظ دال على وصف مدلوله المطلق بصفة زائدة عليه كقولك ‪ :‬دينار‬
‫ي ‪ ،‬ل يستلزمه‬
‫مصريّ ودرهم مكّيّ ‪ .‬والتّقييد في العقود ‪ :‬هو التزام حكم التّصرّف القول ّ‬
‫ذلك التّصرّف في حال إطلقه ‪ .‬والصوليّون والفقهاء يستعملونه في مقابل الطلق ‪.‬‬
‫اللفاظ ذات الصّلة ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬الضافة ‪:‬‬
‫ضمّ والمالة والسناد والتّخصيص ‪.‬‬
‫‪ -‬تأتي الضافة في اللّغة بمعنى ال ّ‬ ‫‪2‬‬

‫وأمّا الصوليّون والفقهاء فإنّهم يستعملونها بمعنى السناد والتّخصيص ‪ ،‬فإذا قيل ‪ :‬الحكم‬
‫مضاف إلى فلن أو من صفته كذا كان ذلك إسنادا إليه ‪ ،‬وإذا قيل ‪ :‬الحكم مضاف إلى زمان‬
‫كذا كان تخصيصا له ‪ ،‬ويقصد بإضافة الحكم إلى الزّمن المستقبل إرجاء الوفاء بآثار‬
‫التّصرّف إلى الزّمن المستقبل الّذي حدّده المتصرّف ‪.‬‬
‫فالضافة بمعانيها المتقدّمة فيها معنى التّقييد ‪ ،‬لكنّه أعمّ منها ‪،‬لنّه يكون بالضافة وبغيرها‪.‬‬
‫ب ‪ -‬الطلق ‪:‬‬
‫‪ -‬الطلق مصدر أطلق ‪ ،‬ومن معانيه في اللّغة ‪ :‬التّخلية ‪ ،‬والحلّ والرسال ‪ ،‬وعدم‬ ‫‪3‬‬

‫التّقييد ‪ .‬وأمّا عند الصوليّين والفقهاء فيعرف معناه من معنى المطلق ‪ ،‬وهو ما دلّ على‬
‫شائع في جنسه ‪ .‬ومعنى كونه شائعا في جنسه ‪ ،‬أنّه حصّة من الحقيقة محتملة لحصص‬
‫كثيرة من غير شمول ول تعيين ‪.‬‬
‫ويأتي الطلق أيضا بمعنى استعمال اللّفظ في معناه حقيقة كان أو مجازا ‪ ،‬كما يأتي بمعنى‬
‫النّفاذ ‪ ،‬فإطلق التّصرّف نفاذه ‪ .‬والفرق بين الطلق والتّقييد واضح ‪ ،‬إذ الطلق شائع في‬
‫جنسه ‪ ،‬والتّقييد مخرج له عن ذلك الشّيوع بوجه ما ‪.‬‬
‫ج ‪ -‬التّخصيص ‪:‬‬
‫‪ -‬التّخصيص ‪ :‬مصدر خصّص ‪ ،‬وهو في اللّغة ‪ :‬ضدّ التّعميم ‪.‬‬ ‫‪4‬‬

‫والتّخصيص في الصطلح ‪ :‬هو قصر العامّ على بعض أفراده بدليل مستقلّ مقترن به‬
‫ن التّقييد من حيث هو يقتضي إيجاب شيء زائد على‬
‫ومحصّل الفرق بينه وبين التّقييد ‪ ،‬أ ّ‬
‫ل ‪ ،‬بل‬
‫المطلق فيصلح ناسخا ‪ ،‬وأمّا التّخصيص فهو من حيث حقيقته ل يقتضي اليجاب أص ً‬
‫إنّما يقتضي الدّفع لبعض الحكم ‪.‬‬
‫د ‪ -‬التّعليق ‪:‬‬
‫‪ -‬التّعليق ‪ :‬مصدر علّق ‪ ،‬ومعناه في اللّغة ‪ :‬جعل الشّيء مرتبطا بغيره ‪.‬‬ ‫‪5‬‬
‫وأمّا في الصطلح ‪ :‬فهو ربط حصول مضمون جملة بحصول مضمون جملة أخرى ‪،‬‬
‫ويسمّى يمينا مجازا ‪ ،‬لنّه في الحقيقة شرط وجزاء ‪ ،‬ولما فيه من معنى السّببيّة كاليمين ‪.‬‬
‫والتّعليق يشبه التّقييد في المعنى لما فيه من الرّبط ‪.‬‬
‫هـ ‪ -‬الشّرط ‪:‬‬
‫‪ -‬الشّرط بسكون الرّاء له عدد من المعاني منها ‪ :‬إلزام الشّيء والتزامه ‪.‬‬ ‫‪6‬‬

‫وأمّا بفتح الرّاء فمعناه العلمة ‪ ،‬ويجمع على أشراط كسبب وأسباب ‪.‬‬
‫ومعناه في الصطلح كما قال الحمويّ ‪ :‬التزام أمر لم يوجد في أمر وجد بصيغة مخصوصة‪.‬‬
‫وهو يشبه التّقييد لما فيه من اللتزام ‪.‬‬
‫الحكم الجماليّ ‪:‬‬
‫‪ -‬ذكر الصوليّون والفقهاء الحكام الخاصّة بمصطلح تقييد في عدد من المواطن ‪ ،‬ومن‬ ‫‪7‬‬

‫أشهر مسائله عند الصوليّين مسألة حمل المطلق على المقيّد ‪ ،‬وممّا قالوه في ذلك أنّ‬
‫المطلق والمقيّد إمّا أن يختلفا في السّبب والحكم ‪ ،‬وإمّا أن يتّفقا فيهما ‪ ،‬وإمّا أن يختلفا في‬
‫السّبب دون الحكم ‪ ،‬فإن كان الوّل فل حمل اتّفاقا ‪ ،‬كما قال المر لمن تلزمه طاعته ‪ :‬اشتر‬
‫لحم ضأن ‪ ،‬وكل لحما ‪ ،‬فل يحمل هذا على ذاك ‪ ،‬وإن كان الثّاني فيحمل المطلق على المقيّد‬
‫اتّفاقا ‪ ،‬كما في قوله تعالى كفّارة اليمين ‪َ { :‬فمَنْ ل ْم َيجِدْ فَصِيا ُم ثَل َثةِ أيّامٍ } مع قراءة ابن‬
‫مسعود " فصيام ثلثة أيّام متتاليات " وإن كان الثّالث وهو الختلف في السّبب دون حكم‬
‫فهو محلّ الخلف ‪ .‬فذهب الحنفيّة وأكثر المالكيّة إلى عدم جواز حمل المطلق على المقيّد ‪،‬‬
‫وذهب الشّافعيّة إلى الجواز ‪ .‬ومثاله ‪ :‬قوله تعالى في كفّارة الظّهار ‪ { :‬فَ َتحْرِيرُ رَقَ َبةٍ } وفي‬
‫القتل ‪ { :‬فَ َتحْرِيرُ رَقَ َب ٍة مُؤمِ َنةٍ } ‪.‬‬
‫‪ -‬هذا والتّقييد عند الصوليّين كالتّخصيص في الجملة ‪ ،‬فما جاز تخصيص العامّ به يجوز‬ ‫‪8‬‬

‫تقييد المطلق به وما ل فل ‪ .‬والتّفصيل في الملحق الصوليّ ‪.‬‬


‫وأمّا الفقهاء فقد ذكروا التّقييد في كثير من أبواب الفقه ‪ ،‬فذكروه في العتكاف والبيع ‪،‬‬
‫والجارة ‪ ،‬والعاريّة ‪ ،‬والضّمان ‪ ،‬والوكالة ‪ ،‬والقرار ‪ ،‬واليمين ‪ ،‬والكفّارات ‪.‬‬
‫ففي العتكاف على سبيل المثال يذكرون أنّ المعتكف يتقيّد بما ألزم به نفسه وما نواه من‬
‫حيث التزام التّتابع في العتكاف أيّاما إن نواه ‪ .‬وذكروا في البيع مسائل كثيرة في تقييده‬
‫بشرط صحيح أو فاسد ‪ ،‬ومسائل تتعلّق بخيار الشّرط يرجع إليها في موضعها ‪.‬‬
‫وذكروا في الجارة أنّها تكون مطلقة ومقيّدة بمدّة أو عمل أو شرط ‪ ،‬ويضمن المستأجر في‬
‫حال مخالفته للشّرط الّذي قيّد به المالك الجارة كما إذا آجره دابّة ليركبها هو فقط فأركبها‬
‫ن عقد الجارة قد يتقيّد دللة كما إذا آجره دارا للسّكنى‬
‫ن الحنفيّة ذكروا أ ّ‬
‫غيره فتلفت ‪ ،‬بل إ ّ‬
‫وأطلق فإنّه ل يجوز له أن يؤجّرها لحدّاد أو نحوه ‪ ،‬لنّ ذلك يوهن البناء فيتقيّد العقد دللة‪.‬‬
‫ولكن له أن يسكن غيره ممّن هو في حكمه ول يختلف حاله عن حاله في الستعمال ‪.‬‬
‫وأمّا العاريّة فقد ذكروا أنّها تتقيّد بالشّرط وبالمسافة وبالمدّة وبالعمل ‪ ،‬فإذا خالف المستعير‬
‫شرط المعير بحيث أدّى ذلك إلى تلف المستعار ضمن ‪ .‬كما إذا أعاره دابّة ليحمل عليها‬
‫عشرة أكياس من الشّعير فليس له أن يحمل عليها عشرة أكياس من حنطة ‪ ،‬لنّها أثقل من‬
‫الشّعير ‪.‬‬
‫وأمّا الوكالة فإنّه يجب على الوكيل التزام ما قيّده به الموكّل ‪ ،‬بل خلف ‪.‬‬
‫وأمّا القرار فإنّه يكون مطلقا ويكون مقيّدا من حيث الصّيغة ‪ ،‬والتّفصيل يرجع إليه في‬
‫مصطلح ( إقرار ) ‪.‬‬
‫وأمّا اليمين فقد ذكر الفقهاء أنّها تكون مطلقة ومقيّدة ‪ .‬واليمين المطلقة تصير مقيّدة بدللة‬
‫ن حلفه هذا يتقيّد بزمن وليته ‪.‬‬
‫الحال ‪ ،‬كما لو حلّفه وال ليعلمنّه بكلّ مفسد دخل البلدة ‪ ،‬فإ ّ‬
‫ن اليمين المطلقة يقيّدها العرف الفعليّ ‪.‬‬
‫وذكر المالكيّة أ ّ‬
‫وذكر النّوويّ أنّ الصل المرجوع إليه في البرّ والحنث ‪ ،‬اتّباع مقتضى اللّفظ الّذي تعلّقت به‬
‫ص أو قرينة ‪.‬‬
‫اليمين ‪ ،‬وقد يتطرّق إليه التّقييد والتّخصيص ‪ ،‬بنيّة تقترن به أو باصطلح خا ّ‬
‫ن الصّور الّتي تدخل تحت هذا الباب ل تتناهى ‪ ،‬وقد اقتصر على ذكر ما يكثر‬
‫ثمّ ذكر أ ّ‬
‫استعماله منها ‪ ،‬وهي الّتي ذكرها الشّافعيّ والصحاب ‪.‬‬
‫وأورد البهوتيّ في باب جامع اليمان صورا كثيرة في إطلق اليمين وتقييدها ‪.‬‬
‫وقد بحث الفقهاء التّقييد أيضا بالضافة إلى ما سبق في السّلم والطّلق والولية والعتق ‪.‬‬
‫وتفصيل ذلك في المصطلحات الخاصّة بها ‪.‬‬

‫تقيّة *‬
‫التّعريف ‪:‬‬
‫‪ -‬التّقيّة اسم مصدر من التّقاء ‪ ،‬يقال ‪ :‬اتّقى الرّجل الشّيء يتّقيه ‪ ،‬إذا اتّخذ ساترا يحفظه‬ ‫‪1‬‬

‫من ضرره ‪ ،‬ومنه الحديث ‪ « :‬اتّقوا النّار ولو بشقّ تمرة » ‪.‬‬
‫وأصله من وقى الشّيء ‪ ،‬يقيه ‪ ،‬إذا صانه ‪ ،‬قال اللّه تعالى ‪َ { :‬فوَقَاه الّلهُ سَيّئاتِ مَا َمكَرُوا }‬
‫أي حماه منهم فلم يضرّه مكرهم ‪ .‬ويقال في الفعل أيضا ‪ :‬تقاه يتّقيه ‪ .‬والتّاء هنا منقلبة عن‬
‫الواو ‪ .‬والتّقاة والتّقيّة والتّقوى والتّقى والتّقاء ‪ ،‬كلّها بمعنى واحد في استعمال أهل اللّغة ‪.‬‬
‫ن التّقوى والتّقى خصّا باتّقاء العبد للّه تعالى بامتثال أمره‬
‫أمّا في اصطلح الفقهاء فإ ّ‬
‫واجتناب نهيه والخوف من ارتكاب ما ل يرضاه ‪ ،‬لنّ ذلك هو الّذي يقي من غضبه وعذابه‪.‬‬
‫وأمّا التّقاة والتّقيّة فقد خصّتا في الصطلح باتّقاء العباد بعضهم بعضا ‪.‬‬
‫ن أَولِيَا َء مِنْ دُونِ‬
‫ن الكَافِري َ‬
‫وأصل ذلك قول اللّه تبارك وتعالى ‪ { :‬ل يَ ّتخِذ المؤمِنُو َ‬
‫ن الّل ِه في شَيء إل أنْ تَ ّتقُوا مِنْهمْ ُتقَاةً } ‪.‬‬
‫ن َيفْ َعلْ ذلكَ َفلَيسَ مِ َ‬
‫المُؤمِنين ‪ ،‬ومَ ْ‬
‫وقد عرّفها السّرخسيّ بقوله ‪:‬التّقيّة أن يقي النسان نفسه بما يظهره وإن كان يضمر خلفه‪.‬‬
‫وعرّفها ابن حجر بقوله ‪ :‬التّقيّة الحذر من إظهار ما في النّفس من معتقد وغيره للغير ‪.‬‬
‫والتّعريف الوّل أشمل ‪ ،‬لنّه يدخل فيه التّقيّة بالفعل إضافة إلى التّقيّة بالقول والتّقيّة في‬
‫العمل كما هي في العتقاد ‪.‬‬
‫اللفاظ ذات الصّلة ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬المداراة ‪:‬‬
‫‪ -‬المداراة ملينة النّاس ومعاشرتهم بالحسنى من غير ثلم في الدّين من أيّ جهة من‬ ‫‪2‬‬

‫الجهات والغضاء عن مخالفتهم في بعض الحيان ‪ .‬وأصلها " المدارأة " بالهمز ‪ ،‬من الدّرء‬
‫وهو الدّفع ‪ ،‬والمداراة مشروعة ‪ ،‬وذلك لنّ وداد النّاس ل يستجلب إل بمساعدتهم على ما‬
‫هم عليه ‪ .‬والبشر قد ركّب فيهم أهواء متباينة ‪ ،‬وطباع مختلفة ‪ ،‬ويشقّ على النّفوس ترك‬
‫ما جبلت عليه ‪ ،‬فليس إلى صفو ودادهم سبيل إل بمعاشرتهم على ما هم عليه من المخالفة‬
‫ن التّقيّة غالبا لدفع الضّرر عند الضّرورة ‪،‬‬
‫لرأيك وهواك ‪ .‬والفرق بين المداراة والتّقيّة ‪ :‬أ ّ‬
‫وأمّا المداراة فهي لدفع الضّرر وجلب النّفع ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬المداهنة ‪:‬‬
‫‪ -‬قال ابن حبّان ‪ :‬متى ما تخلّق المرء بخلق يشوبه بعض ما يكرهه اللّه فتلك هي‬ ‫‪3‬‬

‫المداهنة ‪ .‬وقوله تعالى ‪ { :‬وَدّوا لو تُدْهِنُ فَيُ ْدهِنُون } فسّره الفرّاء ‪ ،‬كما في اللّسان بقوله ‪:‬‬
‫ودّوا لو تلين في دينك فيلينون ‪ .‬وقال أبو الهيثم ‪ :‬أي ‪ :‬ودّوا لو تصانعهم في الدّين‬
‫ي صلى ال عليه وسلم‬
‫فيصانعوك ‪ .‬وهذا ليس بمخالف لما تقدّم عن ابن حبّان ‪ ،‬فإنّ النّب ّ‬
‫كان مأمورا بالصّدع بالدّعوة وعدم المصانعة في إظهار الحقّ وعيب الصنام واللهة الّتي‬
‫اتّخذوها من دون اللّه تعالى ‪ ،‬فكان تليين القول في هذا الميدان مداهنة ل يرضاها اللّه تعالى‬
‫لنّ فيها ترك ما أمر اللّه به من الجهر بالدّعوة ‪.‬‬
‫والفرق بين المداهنة والتّقيّة ‪ :‬أنّ التّقيّة ل تحلّ إل لدفع الضّرر ‪ ،‬أمّا المداهنة فل تحلّ أصل‬
‫‪ ،‬لنّها اللّين في الدّين وهو ممنوع شرعا ‪.‬‬
‫ج ‪ -‬النّفاق ‪:‬‬
‫‪ -‬النّفاق هو أن يظهر اليمان ويستر الكفر ‪ ،‬وقد يطلق النّفاق على الرّياء ‪ ،‬قال صاحب‬ ‫‪4‬‬

‫اللّسان ‪ :‬لنّ كليهما إظهار غير ما في الباطن ‪.‬‬


‫قال ابن تيميّة ‪ :‬أساس النّفاق الّذي بني عليه هو الكذب ‪ ،‬وأن يقول الرّجل بلسانه ما ليس‬
‫في قلبه ‪ ،‬كما أخبر اللّه تعالى عن المنافقين أنّهم يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم ‪.‬‬
‫والصّلة بين التّقيّة وبين النّفاق ‪ ،‬أنّ المنافق كافر في قلبه لكنّه يظهر بلسانه وظاهر حاله‬
‫أنّه مؤمن ويعمل أعمال المؤمنين ليأمن على نفسه في المجتمع السلميّ وليحصّل الميزات‬
‫الّتي يحصّلها المؤمن ‪ .‬فهو مغاير للتّقيّة ‪ ،‬لنّها إظهار المؤمن عند الخوف على نفسه ما‬
‫يأمن به من أمارات الكفر أو المعصية مع كراهته لذلك في قلبه ‪ ،‬واطمئنانه باليمان ‪.‬‬
‫مشروعيّة العمل بالتّقيّة ‪:‬‬
‫‪ -‬يذهب جمهور علماء أهل السّنّة إلى أنّ الصل في التّقيّة هو الحظر ‪ ،‬وجوازها‬ ‫‪5‬‬

‫ضرورة ‪ ،‬فتباح بقدر الضّرورة ‪ .‬قال القرطبيّ ‪ :‬والتّقيّة ل تحلّ إل مع خوف القتل أو القطع‬
‫أو اليذاء العظيم ‪ ،‬ولم ينقل ما يخالف ذلك فيما نعلم إلّا ما روي عن معاذ بن جبل من‬
‫ن اللّه تعالى نصّ عليها‬
‫الصّحابة ‪ ،‬ومجاهد من التّابعين ‪ ،‬وإنّما ذهب الجمهور إلى ذلك ل ّ‬
‫ن َي ْفعَ ْل ذَلكَ‬
‫ن المُؤمنين ومَ ْ‬
‫ن َأوْلِيَا َء مِنْ دُو ِ‬
‫ن الكَافِرِي َ‬
‫في كتابه بقوله ‪ { :‬ل يَ ّتخِ ِذ ال ُم ْؤمِنو َ‬
‫ن تَ ّتقُوا مِنْهم ُتقَاةً } قال ابن عبّاس في تفسيرها ‪ :‬نهى اللّه‬
‫س مِن الّلهِ في شَيءٍ إل أ ْ‬
‫فَلَي َ‬
‫المؤمنين أن يلطفوا الكفّار ‪ ،‬أو يتّخذوهم وليجة من دون المؤمنين ‪ ،‬إل أن يكون الكفّار‬
‫عليهم ظاهرين ‪ ،‬فيظهرون لهم اللّطف ويخالفونهم في الدّين ‪.‬‬
‫‪ -‬ومن الدلّة على مشروعيّة التّقيّة للضّرور ة قول اللّه تعالى ‪ { :‬مَنْ َكفَ َر بِالّل ِه مِنْ َبعْدِ‬ ‫‪6‬‬

‫ب مِن‬
‫ح بِال ُكفْرِ صَدْرَا َفعَلَيهمْ غَضَ ٌ‬
‫ن شَرَ َ‬
‫ن مَ ْ‬
‫طمَئنّ بِاليمَانِ وَلَك ْ‬
‫ن ُأكْرِهَ وَقَلْبُه ُم ْ‬
‫إ ْيمَانِه إل مَ ْ‬
‫عظِيمٌ } وسبب نزول الية « أنّ المشركين أخذوا عمّارا فلم يتركوه حتّى‬
‫ب َ‬
‫الّلهِ وَلَهمْ عَذَا ٌ‬
‫ي صلى ال عليه‬
‫ي صلى ال عليه وسلم وذكر آلهتهم بخير ‪ ،‬فتركوه ‪ .‬فلمّا أتى النّب ّ‬
‫سبّ النّب ّ‬
‫وسلم قال ‪ :‬ما وراءك ؟ قال ‪ :‬ش ّر ‪ ،‬ما تركت حتّى نلت منك وذكرت آلهتهم بخير ‪ .‬قال ‪:‬‬
‫ن أُكْرِ َه وَقَلْبُه‬
‫كيف تجد قلبك ؟ قال ‪ :‬مطمئنّ باليمان ‪ .‬قال ‪ :‬إن عادوا فعد ‪ ،‬فنزلت { إل مَ ْ‬
‫طمَئنّ بِاليمَانِ } » ‪.‬‬
‫ُم ْ‬
‫‪ -‬ومن الدلّة على جواز التّقيّة للضّرورة ما أخرجه ابن أبي شيبة عن الحسن ‪ « ،‬أنّ‬ ‫‪7‬‬

‫مسيلمة الكذّاب أخذ رجلين من أصحاب رسول اللّه صلى ال عليه وسلم فقال لحدهما ‪:‬‬
‫أتشهد أنّ محمّدا رسول اللّه ؟ قال ‪ :‬نعم ‪ .‬نعم ‪ .‬نعم ‪ .‬قال أتشهد أنّي رسول اللّه ؟ قال ‪:‬‬
‫ن محمّدا رسول قريش ‪ -‬ثمّ دعا بالخر ‪،‬‬
‫نعم وكان مسيلمة يزعم أنّه رسول بني حنيفة وأ ّ‬
‫ن محمّدا رسول اللّه ؟ قال ‪ :‬نعم ‪ .‬قال ‪ :‬أفتشهد أنّي رسول اللّه ؟ قال ‪ :‬إنّي‬
‫فقال ‪ :‬أتشهد أ ّ‬
‫أصمّ ‪ .‬قالها ثلثا ‪ ،‬كلّ ذلك يجيبه بمثل الوّل ‪ .‬فضرب عنقه ‪ .‬فبلغ ذلك رسول اللّه صلى‬
‫ال عليه وسلم فقال ‪ :‬أمّا ذلك المقتول فقد مضى على صدقه ويقينه ‪ ،‬وأخذ بفضله ‪ ،‬فهنيئا‬
‫له ‪ .‬وأمّا الخر فقبل رخصة اللّه فل تبعة عليه » ‪.‬‬
‫وقال الحسن ‪ :‬التّقيّة جائزة للمؤمنين إلى يوم القيامة ‪ .‬وقد نسب القرطبيّ إنكار التّقيّة إلى‬
‫ي إلى مجاهد ‪ ،‬قال ‪ " :‬كانت التّقيّة في جدّة السلم‬
‫ي والقرطب ّ‬
‫معاذ بن جبل ‪ ،‬ونسبه الرّاز ّ‬
‫قبل قوّة المسلمين فأمّا اليوم فقد أعزّ اللّه أهل السلم أن يتّقوا عدوّهم " ‪.‬‬
‫ونقل السّرخسيّ عن قوم لم يسمّهم أنّهم كانوا يأبون التّقيّة ‪ ،‬ويقولون ‪ :‬هي من النّفاق ‪.‬‬
‫التّقيّة من النبياء ‪:‬‬
‫ي ‪ :‬إنّ هذا النّوع ‪ -‬يعني النّطق بكلمة الكفر تقيّة ‪ -‬يجوز لغير الرّسل ‪.‬‬
‫‪ -‬قال السّرخس ّ‬ ‫‪8‬‬

‫فأمّا في حقّ المرسلين ‪ -‬صلوات ال وسلمه عليهم أجمعين ‪ -‬فما كان يجوز ذلك فيما‬
‫يرجع إلى أصل الدّعوة إلى الدّين الحقّ ‪ ،‬وتجويز ذلك محال ‪ -‬أي ممنوع شرعا ‪ -‬لنّه‬
‫يؤدّي إلى أن ل يقطع القول بما هو شريعة ‪ ،‬لحتمال أن يكون فعل ذلك أو قاله تقيّة ‪.‬‬
‫وهو يشير بذلك إلى ما يبيّنه أهل الصول من أنّ حجّيّة السّنّة النّبويّة متوقّفة على كون كلّ‬
‫ي صلى ال عليه وسلم حقّا ‪ ،‬إذ لو تطرّق إلى أقواله أو أفعاله احتمال أنّه فعل‬
‫ما أتى به النّب ّ‬
‫أو قال أشياء من ذلك على سبيل التّقيّة وهي حرام ‪ ،‬لكان ذلك تلبيسا في الدّين ‪ ،‬ولما‬
‫حصلت الثّقة بأقوال النّبيّ صلى ال عليه وسلم وأفعاله ‪.‬‬
‫وكذلك السّكوت منه صلى ال عليه وسلم على ما يراه ويسمعه من أصحابه إقرار تستفاد‬
‫منه الحكام الشّرعيّة ‪ ،‬فلو كان بعض سكوته يكون تقيّة للتبست الحكام على المسلمين ‪.‬‬
‫ض الّلهُ له سُ ّنةَ الّل ِه في الّذِينَ‬
‫ن على النّبيّ ِمنْ حَرَجٍ فِيمَا َفرَ َ‬
‫وقد قال اللّه تعالى ‪ { :‬مَا كَا َ‬
‫خشَونَ‬
‫خشَونَه وَل َي ْ‬
‫ت الّلهِ وَ َي ْ‬
‫ن َأمْرُ الّلهِ قَدَرَا َمقْدُورَا الّذينَ يُ َبّلغُونَ ِرسَال ِ‬
‫خَلَوا مِنْ قَبلُ َوكَا َ‬
‫ك وَإنْ‬
‫ك مِنْ رَبّ َ‬
‫حسِيبَا } ‪ ،‬وقال ‪ { :‬يَا أَيّها ال ّرسُولُ بَلّغْ مَا أُنْ ِزلَ إلي َ‬
‫أحَدَا إل الّلهَ َو َكفَى بالّلهِ َ‬
‫ن الّلهَ ل َيهْدِي القَومَ الكَا ِفرِينَ } قال‬
‫ك مِن النّاسِ إ ّ‬
‫صمُ َ‬
‫َلمْ َت ْف َعلْ َفمَا بَّلغْتَ ِرسَالَتَه وَالّلهُ َيعْ ِ‬
‫ن النّبيّ صلى ال عليه وسلم كتم شيئا من أمر‬
‫القرطبيّ ‪ :‬دلّت الية على ر ّد قول من قال إ ّ‬
‫الدّين تقيّة ‪ ،‬وعلى بطلنه وهم الرّافضة ‪.‬‬
‫قال شارح مسلّم الثّبوت ‪ :‬ما من نبيّ إل بعث بين أعدائه ‪ ،‬فلعلّه ‪ -‬أي في حال افتراض‬
‫عمله بالتّقيّة ‪ -‬كتم شيئا من الوحي خوفا منهم ‪ ،‬وكذا محمّد صلى ال عليه وسلم بعث بين‬
‫أعدائه ‪ ،‬ولم يكن له ولصحابه قدرة لدفعهم فيلزم على تجويز التّقيّة له احتمال كتمانه شيئا‬
‫من الوحي ‪ ،‬وأن ل ثقة بالقرآن ‪ .‬فانظر إلى شناعة هذا القول وحماقته ‪.‬‬
‫على أنّ امتناع التّقيّة على النبياء ل يعني عدم عملهم بالملطفة واللّين والمداراة للنّاس كما‬
‫تقدّم ‪ ،‬أي من دون إخلل بفريضة أو ارتكاب لمحرّم ‪.‬‬
‫حكم العمل بالتّقيّة ‪:‬‬
‫‪ -‬تقدّمت الدلّة على جواز العمل بالتّقيّة ‪ .‬وقد اختلف في حكمها ‪.‬‬ ‫‪9‬‬

‫فقيل ‪ :‬إذا وجد سببها وتحقّق شرطها فهي واجبة ‪ ،‬لنّ إنقاذ النّفس من الهلكة أو اليذاء‬
‫س ُكمْ } ‪.‬‬
‫العظيم ونحو ذلك ل يحصل إلّا بها في تقدير المكلّف لقوله تعالى ‪ { :‬وَل َتقْتُلُوا أَ ْنفُ َ‬
‫والصّحيح عند العلماء أنّ الولى للنسان أن يثبت على ما هو عليه من الحقّ بظاهره ‪ ،‬كما‬
‫هو عليه بباطنه ‪ .‬وقد يكون الثّبات أفضل وأعظم أجرا ومثوبة ولو كان العذر قائما ‪ ،‬وثبت‬
‫هذا بالدلّة الصّحيحة في الكتاب والسّنّة ‪ ،‬فمن الكتاب ما في سورة البروج ‪ ،‬فقد حكى اللّه‬
‫تعالى قصّة الّذين صبروا على عذاب الحريق في الخدود ‪ ،‬واختاروا ذلك على أن يظهروا‬
‫الرّجوع عن دينهم ‪ .‬وثناء اللّه تعالى عليهم بذلك الثّبات يد ّل على تفضيل موقفهم على‬
‫موقف العمل بالتّقيّة في قضيّة إظهار الكفر ‪.‬‬
‫ن يُتْ َركُوا أَنْ َيقُولُوا آمَنّا وَ ُهمْ ل ُيفْتَنُونَ وَ َلقَدْ فَتَنّا الّذِينَ‬
‫ب النّاسُ أ ْ‬
‫ومنها قوله تعالى ‪َ { :‬أحَسِ َ‬
‫ن الّلهُ الّذينَ صَدَقُوا وَلَ َيعْ َلمَنّ الكَاذِبينَ } ‪.‬‬
‫مِنْ قَبْلِهمْ فَلَ َيعْ َلمَ ّ‬
‫ي صلى ال عليه وسلم « ل تشرك باللّه شيئا‬
‫وممّا يستدلّ به على ذلك من السّنّة قول النّب ّ‬
‫وإن قُ ِتلْتَ وحُرّقْتَ » وكذلك ما تقدّم في مسألة مسيلمة ‪ ،‬فقد عذر النّبيّ صلى ال عليه‬
‫وسلم الصّحابيّ الّذي وافق مسيلمة وقال فيه ‪ « :‬ل تبعة عليه » وقال في حقّ الّذي ثبت‬
‫فقتل ‪ « :‬مضى على صدقه ويقينه ‪ ،‬وأخذ بفضله ‪ ،‬فهنيئا له » وهذا يد ّل على التّفضيل ‪.‬‬
‫ي أيضا بقصّة « خبيب بن عديّ لمّا امتنع من موافقة قريش على الكفر حتّى‬
‫واحتجّ السّرخس ّ‬
‫ي صلى ال عليه وسلم هو أفضل الشّهداء وقال ‪ :‬هو رفيقي في الجنّة » ‪.‬‬
‫قتلوه ‪ ،‬فقال النّب ّ‬
‫‪ -‬وقد بوّب البخاريّ رحمه ال لهذه المسألة بابا بعنوان " باب من اختار الضّرب والقتل‬ ‫‪10‬‬

‫ت أنّه قال « شكونا إلى رسول اللّه صلى‬


‫والهوان على الكفر " أورد فيه حديث خبّاب بن الر ّ‬
‫ال عليه وسلم وهو متوسّد بردة في ظلّ الكعبة ‪ ،‬فقلنا ‪ :‬أل تستنصر لنا ؟ أل تدعو لنا ؟‬
‫فقال ‪ :‬قد كان من قبلكم يؤخذ الرّجل ‪ ،‬فيحفر له في الرض فيجعل له فيها ‪ ،‬فيجاء بالمنشار‬
‫فيوضع على مفرق رأسه فيجعل نصفين ‪ ،‬ويمشّط بأمشاط الحديد من دون لحمه وعظمه ‪،‬‬
‫ن اللّه هذا المر حتّى يسير‬
‫فما يصدّه ذلك عن دينه ثمّ قال صلى ال عليه وسلم واللّه ليتمّ ّ‬
‫الرّاكب من صنعاء إلى حضرموت ‪ ،‬ل يخاف إل اللّه والذّئب على غنمه ‪ ،‬ولكنّكم تستعجلون‬
‫» ‪ .‬وهو واضح الدّللة على المقصود ‪.‬‬
‫وهكذا كلّ أمر فيه إعزاز للدّين وإعلء لكلمة اللّه وإظهار لثبات المسلمين وبسالتهم ‪،‬‬
‫وتثبيت لعامّة المسلمين على الحقّ ‪ ،‬يكون الثّبات على الحقّ وإظهاره أولى من التّقيّة ‪،‬‬
‫وهذا بخلف نحو الكراه على شرب الخمر وأكل الميتة وحيث ل تظهر المصالح المذكورة ‪.‬‬
‫قال الفخر الرّازيّ ‪ :‬اعلم أنّ للتّقيّة أحكاما كثيرة ونحن نذكر بعضها ‪:‬‬
‫‪ -‬الحكم الوّل ‪ :‬أنّ التّقيّة إنّما تكون إذا كان الرّجل في قوم كفّار ‪ ،‬ويخاف منهم على‬ ‫‪11‬‬

‫نفسه وماله فيداريهم باللّسان ‪ ،‬وذلك بأن ل يظهر العداوة باللّسان ‪ ،‬بل يجوز أيضا أن‬
‫يظهر الكلم الموهم للمحبّة والموالة ‪ ،‬ولكن بشرط أن يضمر خلفه ‪ ،‬وأن يعرّض في كلّ‬
‫ما يقول ‪ ،‬فإنّ التّقيّة تأثيرها في الظّاهر ل في أحوال القلوب ‪.‬‬
‫‪ -‬الحكم الثّاني للتّقيّة ‪ :‬أنّه لو أفصح باليمان والحقّ حيث يجوز له التّقيّة كان ذلك‬ ‫‪12‬‬

‫أفضل ‪ ،‬ودليله ما ذكرناه في قصّة مسيلمة ‪.‬‬


‫‪ -‬الحكم الثّالث للتّقيّة ‪ :‬أنّها إنّما تجوز فيما يتعلّق بإظهار الموالة والمعاداة ‪ ،‬وقد تجوز‬ ‫‪13‬‬

‫أيضا فيما يتعلّق بإظهار الدّين فأمّا ما يرجع ضرره إلى الغير كالقتل والزّنى وغصب الموال‬
‫والشّهادة بالزّور وقذف المحصنات واطّلع الكفّار على عورات المسلمين ‪ ،‬فذلك غير جائز‬
‫ألبتّة ‪.‬‬
‫ن التّقيّة إنّما تحلّ مع الكفّار الغالبين إل أنّ مذهب‬
‫‪ -‬الحكم الرّابع ‪ :‬ظاهر الية يدلّ على أ ّ‬ ‫‪14‬‬

‫الشّافعيّ رضي ال عنه أنّ الحالة بين المسلمين إذا شاكلت الحالة بين المسلمين والمشركين‬
‫حلّت التّقيّة محاماة على النّفس ‪.‬‬
‫‪ -‬الحكم الخامس ‪ :‬التّقيّة جائزة لصون النّفس ‪ ،‬وهل هي جائزة لصون المال ؟ يحتمل‬ ‫‪15‬‬

‫أن يحكم فيها بالجواز ‪ ،‬لقوله صلى ال عليه وسلم « حرمة مال المسلم كحرمة دمه »‬
‫ولقوله صلى ال عليه وسلم « من قتل دون ماله فهو شهيد » ولنّ الحاجة إلى المال شديدة‬
‫والماء إذا بيع بالغبن سقط فرض الوضوء ‪ ،‬وجاز القتصار على التّيمّم دفعا لذلك القدر من‬
‫نقصان المال ‪ ،‬فكيف ل يجوز هاهنا ‪.‬‬
‫‪ -‬الحكم السّادس ‪ :‬قال مجاهد ‪ :‬هذا الحكم كان ثابتا في أوّل السلم لجل ضعف‬ ‫‪16‬‬

‫المؤمنين فأمّا بعد قوّة دولة السلم فل ‪ ،‬وروى عوف عن الحسن ‪ :‬أنّه قال التّقيّة جائزة‬
‫للمؤمنين إلى يوم القيامة ‪ ،‬وهذا القول أولى ‪ ،‬لنّ دفع الضّرر عن النّفس واجب بقدر‬
‫المكان ‪.‬‬
‫شروط جواز التّقيّة ‪:‬‬
‫‪ -‬أ ‪ -‬يشترط لجواز التّقيّة أن يكون هناك خوف من مكروه ‪،‬على ما يذكر تفصيله بعد‪.‬‬ ‫‪17‬‬

‫فإن لم يكن هناك خوف ول خطر لم يجز ارتكاب المحرّم تقيّة ‪ ،‬وذلك كمن يفعل المحرّم‬
‫تودّدا إلى الفسّاق أو حياء منهم ‪ .‬وإن قال خلف الحقيقة كان كاذبا آثما ‪ ،‬وكذا من أثنى‬
‫على الظّالمين أو أعانهم على ظلمهم وصدقهم بكذبهم وحسن طريقتهم لتحصيل المصلحة‬
‫منهم دون أن يكون عليه خطر منهم لو سكت ‪ ،‬فإنّه يكون كاذبا آثما مشاركا لهم في ظلمهم‬
‫ي صلى ال‬
‫وفسقهم ‪ .‬وإن كان فيما صدّقهم به عدوان على مسلم فذلك أعظم ‪ ،‬قال النّب ّ‬
‫عليه وسلم « من أعان على قتل مسلم بشطر كلمة فهو آيس من رحمة اللّه » ‪.‬‬
‫ي أنّ‬
‫‪ -‬ب ‪ -‬قيل ‪ :‬يشترط لجواز التّقيّة أن تكون مع الكفّار الغالبين وسبق قول الرّاز ّ‬ ‫‪18‬‬

‫مذهب الشّافعيّ رضي ال عنه أنّ الحالة بين المسلمين إذا شاكلت الحالة بين المسلمين‬
‫والكافرين حلّت التّقيّة محاماة عن النّفس ‪.‬‬
‫‪ -‬ج ‪ -‬أن يعلم أنّه إن نطق بالكفر ونحوه تقيّة يترك بعد ذلك ‪ .‬وهذا الشتراط منقول‬ ‫‪19‬‬

‫عن المام أحمد ‪ ،‬فقد سئل عن الرّجل يؤسر فيعرض على الكفر ويكره عليه ‪ ،‬هل له أن‬
‫يرت ّد ‪ -‬أي ظاهرا ‪ -‬فكرهه كراهة شديدة وقال ‪ :‬ما يشبه هذا عندي الّذين أنزلت فيهم الية‬
‫من أصحاب النّبيّ صلى ال عليه وسلم أولئك كانوا يرادون على الكلمة ثمّ يتركون يفعلون‬
‫ما شاءوا ‪ ،‬وهؤلء يريدونهم على القامة على الكفر وترك دينهم ‪.‬‬
‫ن الّذي يكره على كلمة يقولها ثمّ يخلّى ل ضرر فيها ‪ ،‬وهذا المقيم‬
‫قال ابن قدامة ‪ :‬وذلك ل ّ‬
‫بينهم يلتزم بإجابتهم إلى الكفر المقام عليه واستحلل المحرّمات وترك الفرائض والواجبات‬
‫وفعل المحظورات والمنكرات وإن كان امرأة تزوّجوها واستولدوها أولدا كفّارا ‪ .‬وكذلك‬
‫ي والنسلخ من السلم ‪.‬‬
‫الرّجل ‪ .‬وظاهر حالهم المصير إلى الكفر الحقيق ّ‬
‫وحاصله أنّه يجوز إظهار الكفر إن علم أنّه يترك بعد ذلك ‪ ،‬أمّا إن كان مآله اللتزام بالقامة‬
‫بين أظهر الكفّار يجرون عليه أحكام الكفر ويمنعونه من إظهار دينه فليس له أن يوافقهم‬
‫على إظهار الكفر ‪ .‬وحينئذ فإن قدر على الهجرة من مثل تلك الرض إلى حيث يتمكّن من‬
‫إظهار دينه والعمل به فليس له القامة المذكورة بعذر التّقيّة ‪.‬‬
‫‪ -‬د ‪ -‬ويشترط لجواز التّقيّة أن ل يكون للمكلّف مخلّص من الذى إلّا بالتّقيّة ‪ ،‬وهذا‬ ‫‪20‬‬

‫المخلّص قد يكون الهرب من القتل أو القطع أو الضّرب ‪ ،‬وقد يكون التّورية عند الكراه‬
‫على الطّلق ‪ ،‬وعدم الدّهشة وهذا عند بعض الفقهاء ‪ ،‬وقد تكون الهجرة من بلد الكفر إلى‬
‫بلد السلم ‪ .‬فإن أمكنته الهجرة لم يكن له موالة الكفّار وترك إظهار دينه لقوله تعالى ‪:‬‬
‫ض َعفِينَ في الرْضِ‬
‫ن الّذينَ َت َوفّاهُم المَل ِئ َكةُ ظَا ِلمِي أَ ْن ُفسَهم قَالوا فِيمَ كُنْ ُتمْ قَالُوا كُنّا ُمسْتَ ْ‬
‫{إّ‬
‫ك مَ ْأوَاهمْ جَهنّمُ َوسَاءتْ مَصِيرَا }‬
‫س َعةً فَ ُتهَاجِرُوا فيها فَأولئ َ‬
‫ض الّلهِ وَا ِ‬
‫ن أَرْ ُ‬
‫قَالُوا أَ َلمْ َتكُ ْ‬
‫قال اللوسيّ ‪ :‬اعتذروا عن تقصيرهم في إظهار السلم وعن إدخالهم الخلل فيه وعن العجز‬
‫عن القيام بواجبات الدّين بأنّهم كانوا مقهورين تحت أيدي المشركين ‪ ،‬وأنّهم فعلوا ذلك‬
‫كارهين ‪ .‬فلم تقبل الملئكة عذرهم لنّهم كانوا متمكّنين من الهجرة ‪ ،‬فاستحقّوا عذاب جهنّم‬
‫لتركهم الفريضة المحتومة ‪.‬‬
‫ومقتضاه أنّ من كان مقهورا ل يقدر على الهجرة حقيقة لضعفه أو لصغر سنّه وسواء أكان‬
‫رجل أم امرأة بحيث يخشى التّلف لو خرج مهاجرا فذلك عذر في القامة وترك الهجرة ‪.‬‬
‫ضعَفِينَ مِن ال ّرجَالِ‬
‫وقد صرّحت بهذا المعنى اليتان التّاليتان للية السّابقة وهما { إل ال ُمسْتَ ْ‬
‫عسَى الّل ُه أنْ َي ْعفُو عَنْهم‬
‫ك َ‬
‫ن حِي َلةً ول َيهْتَدونَ سَبِيلً ‪ .‬فَأولئ َ‬
‫وَال ّنسَاءِ وَالوِلْدَان ل َيسْ َتطِيعو َ‬
‫غفُورَا } وقال اللوسيّ أيضا " كلّ مؤمن وقع في محلّ ل يمكن له أن يظهر‬
‫ع ُفوّا َ‬
‫َوكَانَ الّل ُه َ‬
‫دينه لتعرّض المخالفين وجب عليه الهجرة إلى محلّ يقدر فيه على إظهار دينه ‪ ،‬ول يجوز‬
‫له أصل أن يبقى هناك ويخفي دينه ويتشبّث بعذر الستضعاف ‪ ،‬فإنّ أرض اللّه واسعة ‪.‬‬
‫نعم إن كان ممّن له عذر شرعيّ في ترك الهجرة كالنّساء والصّبيان والعميان والمحبوسين‬
‫والّذين يخوّفهم المخالفون بالقتل أو قتل الولد أو الباء أو المّهات تخويفا يظنّ معه إيقاع‬
‫ما خوّفوا به غالبا ‪ ،‬سواء كان هذا القتل بضرب العنق أو حبس القوت أو بنحو ذلك ‪ ،‬فإنّه‬
‫يجوز له المكث مع المخالف ‪ ،‬والموافقة بقدر الضّرورة ويجب عليه أن يسعى في الحيلة‬
‫للخروج والفرار بدينه ‪ .‬وإن كان التّخويف بفوات المنفعة أو بلحوق المشقّة الّتي يمكن‬
‫تحمّلها كالحبس مع القوت ‪ ،‬والضّرب القليل غير المهلك فإنّه ل يجوز له موافقتهم ‪.‬‬
‫‪ -‬هـ ‪ -‬ويشترط أن يكون الذى المخوف وقوعه ممّا يشقّ احتماله ‪.‬‬ ‫‪21‬‬

‫والذى إمّا أن يكون بضرر في نفس النسان أو ماله أو عرضه ‪ .‬أو في الغير ‪ ،‬أو تفويت‬
‫منفعة ‪ .‬فالوّل كخوف القتل أو الجرح أو قطع عضو أو الحرق المؤلم أو الضّرب الشّديد أو‬
‫الحبس مع التّجويع ومنع الطّعام والشّراب ‪.‬‬
‫وقال المالكيّة ‪ :‬أو خوف صفع ولو قليل لذي مروءة على مل من النّاس ‪.‬‬
‫أمّا التّجويع اليسير والحبس اليسير والضّرب اليسير فل تحلّ به التّقيّة ول يجيز إظهار‬
‫موالة الكافرين أو ارتكاب المحرّم ‪ .‬ورخّص البعض في التّقيّة لجله ‪ .‬روى شريح أنّ عمر‬
‫بن الخطّاب رضي ال عنه قال ‪ :‬ليس الرّجل بأمين على نفسه إذا سجن أو أوثق أو عذّب ‪.‬‬
‫وفي لفظ ‪ :‬أربع كلّهنّ كره ‪ :‬السّجن والضّرب والوعيد والقيد ‪ .‬وقال ابن مسعود ‪ :‬ما كلم‬
‫يدرأ عنّي سوطين إل كنت متكلّما به ‪.‬‬
‫وأمّا العرض فكأن يخشى على حُ َر ِم ِه من العتداء ‪ .‬وأمّا الخوف على المال فقد قال الرّازيّ‬
‫‪ :‬فيما سبق بيانه ‪ :‬التّقيّة جائزة لصون النّفس وهل هي جائزة لصون المال ؟ يحتمل أن‬
‫يحكم فيها بالجواز لقول النّبيّ صلى ال عليه وسلم « حرمة مال المسلم كحرمة دمه » ‪.‬‬
‫وقوله « من قتل دون ماله فهو شهيد » ولنّ الحاجة إلى المال شديدة ‪ ،‬والماء إذا بيع‬
‫بغبن فاحش سقط فرض الوضوء وجاز القتصار على التّيمّم دفعا لذلك القدر من نقصان‬
‫المال ‪ ،‬فكيف ل يجوز هاهنا ؟ وقال مالك إنّ التّخويف بأخذ المال إكراه ولو قليل وفي‬
‫مذهبه غير ذلك ‪ .‬قال القاضي أبو يعلى ‪ :‬الكراه يختلف ‪ .‬واستحسن هذا القول ابن عقيل ‪.‬‬
‫أي يختلف باختلف الشخاص واختلف المر المكره عليه والمر المخوف فربّ أمر يرهب‬
‫ب شخص ذي وجاهة يضع الحبس‬
‫منه شخص ضعيف ول يرهبه شخص قويّ شجاع ‪ .‬ور ّ‬
‫ب تهديد أو ضرب‬
‫ولو يوما من قدره وجاهه فوق ما يضع الحبس شهرا من قدر غيره ور ّ‬
‫يسير يستباح به الكذب اليسير ويلغى بسببه القرار بالمال اليسير ‪ ،‬ول يستباح به القرار‬
‫بالكفر أو المال العظيم ‪ .‬وينظر في ذلك أيضا مصطلح ( إكراه ) ‪.‬‬
‫وأمّا خوف فوت المنفعة فقد قال فيه اللوسيّ في مختصر التّحفة إنّه ل يجيز التّقيّة ‪.‬‬
‫وذلك كمن يخشى إن لم يظهر المحرّم أن يفوته تحصيل منصب أو مال يرجو حصوله وليس‬
‫به إليه ضرورة ‪ .‬وهذا هو الصّواب ويدلّ عليه من القرآن قول اللّه تعالى { وَإذْ َأخَذَ الّلهُ‬
‫ظهُورِهمْ وَاشْتَرَوا بِه َثمَنَا‬
‫س وَل َتكْ ُتمُونَه فَنَبَذُوه وَرَا َء ُ‬
‫ق الّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ لَتُبَيّنُنّه لِلنا ِ‬
‫مِيَثا َ‬
‫ن } ذمّهم على الكتمان في مقابلة مصالح عاجلة ‪ .‬أي من مال أو جاه‪.‬‬
‫س مَا َيشْتَرُو َ‬
‫قَلِيلً فَبئ َ‬
‫لنّ قول الكذب والغيبة والنّميمة ونحوها وقول النسان بلسانه خلف ما في قلبه كلّ ذلك‬
‫محرّم والكاذب مثل ل يكذب إل لمصلحة يرجوها من وراء كذبه ‪ ،‬ولو سئل لقال إنّما كذبت‬
‫لغرض كذا وكذا أريد تحصيله ‪ ،‬فلو جاز الكذب لتحصيل المنفعة لعاد كلّ كذب مباحا ويكون‬
‫هذا قلبا لحكام الشّريعة وإخراجا لها عن وضعها الّذي وضعت عليه ‪.‬‬
‫أنواع التّقيّة ‪:‬‬
‫‪ -‬التّقيّة إمّا أن تكون بسبب إكراه بتهديد المسلم بما يضرّه من تعذيب أو نحوه ممّا تقدّم‬ ‫‪22‬‬

‫بيانه ‪ ،‬إن لم يفعل ما طلب منه ‪ ،‬وإمّا أن ل تكون بسبب إكراه ‪.‬‬
‫ن ما أنشأه من التّصرّفات تبعا لذلك ل‬
‫فأمّا ما كان منها بسبب إكراه ‪ ،‬وقد تمّت شروطه ‪ ،‬فإ ّ‬
‫يلزمه ‪ ،‬وإن أكره على القتل لم يحلّ له ‪ ،‬وإن أكره على الزّنى لم يح ّل له ‪ ،‬فإن فعل فل حدّ‬
‫عليه للشّبهة ‪ ،‬وإن أكره على النّطق بكلمة الكفر جاز له ذلك ‪ .‬ول يعتبر مرتدّا ‪.‬‬
‫وهذا إجمال ينظر تفصيله في مصطلح ( إكراه ) ‪ .‬أمّا التّقيّة بغير سبب الكراه ‪ ،‬بل لمجرّد‬
‫خوف المسلم من أن يحلّ به الذى من قتل أو قطع أو ضرب أو سجن أو غيره من صنوف‬
‫الذى والضّرر فهذا النّوع ل يحلّ به ما يح ّل بالكراه ‪ .‬والتّفصيل في إكراه ‪.‬‬
‫ما تحلّ فيه التّقيّة ‪:‬‬
‫ن التّقيّة خاصّة‬
‫‪ -‬اختلف الفقهاء فيما تحلّ فيه التّقيّة وما ل تحلّ ‪ ،‬فذهب بعضهم إلى أ ّ‬ ‫‪23‬‬

‫بالقول ‪ ،‬ول تتعدّى إلى الفعل ‪ ،‬وعليه فل يرخّص بحال بالسّجود لصنم أو بأكل لحم الخنزير‬
‫ي وسحنون ‪.‬‬
‫أو بزنى ‪ .‬وهذا مرويّ عن الوزاع ّ‬
‫ن الكراه في القول والفعل سواء ‪ .‬وهذا هو المعتمد على تفصيل‬
‫وذهب الكثرون إلى أ ّ‬
‫وخلف يعرف ممّا في بحث ( إكراه ) ومن التّفصيل التّالي ‪:‬‬
‫إظهار الكفر وموالة الكفّار ‪:‬‬
‫تقدّم بيان جوازه عند خوف القتل واليذاء العظيم ‪ ،‬وأنّ الصّبر على الذى فيه أفضل من‬
‫ارتكابه تقيّة ‪ .‬وقد تكون التّقيّة بإظهار الموالة ولو لم يكره على النّطق بالكفر لكن يخاف‬
‫ي ‪ :‬بأن ل يظهر لهم العداوة باللّسان ‪،‬‬
‫على نفسه أو ماله إن أظهر لهم العداء ‪ ،‬قال الرّاز ّ‬
‫ويجوز أن يظهر الكلم الموهم للمحبّة والموالة ‪ ،‬ولكن بشرط أن يضمر خلفه وأن يعرّض‬
‫ن التّقيّة تأثيرها في الظّاهر ل في أحوال القلوب ‪.‬‬
‫في كلّ ما يقول ‪ ،‬فإ ّ‬
‫ولو أكره على كفر فعليّ كالسّجود لصنم أو إهانة مصحف فالظّاهر أنّه يرخّص له في فعله‬
‫ن بِاليمَانِ } قال ‪ :‬الكفر يكون‬
‫طمَئِ ّ‬
‫تقيّة ‪ ،‬قال ابن حجر في قوله تعالى { إل َمنْ ُأكْرِهَ َوقَلْبُه ُم ْ‬
‫بالقول والفعل من غير اعتقاد وقد يكون باعتقاد ‪ ،‬فاستثنى الوّل وهو المكره ‪.‬‬
‫أكل لحم الميتة ونحوه ‪:‬‬
‫‪ -‬يباح للمكره شرب الخمر وأكل لحم الميتة أو لحم الخنزير وذلك على سبيل التّقيّة إذا‬ ‫‪24‬‬

‫وجدت شروطها لنّ حرمة هذه الشياء ثابتة بالشّرع ‪ ،‬وهي مفسدة في حال الختيار ‪ ،‬فإنّ‬
‫اللّه تعالى استثنى حال الضّرورة من التّحريم بقوله عزّ وجلّ { إل مَا اضْطررتُم إليه } فظهر‬
‫أنّ التّحريم مخصوص بحالة الختيار ‪ ،‬وقد تحقّقت الضّرورة هنا لخوف التّلف على نفسه‬
‫بسبب الكراه ‪ . .‬فإن لم يفعل حتّى قتل يكون آثما ‪ .‬وعن أبي يوسف ل يكون آثما ‪.‬‬
‫التّقيّة في بعض أفعال الصّلة ‪:‬‬
‫‪ -‬إن خاف المصلّي على نفسه عدوّا يراه إذا قام ول يراه إذا قعد جازت صلته قاعدا‬ ‫‪25‬‬

‫وسقط عنه فرض القيام ‪.‬‬


‫وكذا السير لدى الكفّار إن خافهم على نفسه إن رأوه يصلّي فإنّه يصلّي كيفما أمكنه ‪ ،‬قائما‬
‫أو قاعدا أو مضطجعا أو مستلقيا ‪ ،‬إلى القبلة وغيرها ‪ ،‬باليماء حضرا أو سفرا ‪ ،‬لقول‬
‫النّبيّ صلى ال عليه وسلم « إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم » ومثله المختبئ في‬
‫مكان يخاف أن يظهر عليه العدوّ إن خرج ول يمكنه أن يصلّي في مكانه على صفة الكمال ‪.‬‬
‫ولو خاف المصلّي من عدوّه الضّرر إن رآه يركع ويسجد فله أن يومئ بطرفه وينوي بقلبه‪.‬‬
‫والحنابلة ل يرون الصّلة خلف المبتدع والفاسق في غير جمعة وعيد يصلّيان بمكان واحد‬
‫من البلد ‪ ،‬فإن خاف منه إن ترك الصّلة خلفه فإنّه يصلّي خلفه تقيّة ثمّ يعيد الصّلة ‪.‬‬
‫ي صلى ال عليه وسلم على منبره‬
‫واحتجّوا بما روي عن جابر أنّه قال ‪ « :‬سمعت النّب ّ‬
‫ن امرأة رجل ‪ ،‬ول فاجر مؤمنا ‪ ،‬إل أن يقهره بسلطان أو يخاف سوطه أو‬
‫يقول ل تؤمّ ّ‬
‫سيفه » ‪ .‬وقد ذكر ابن قدامة حيلة في تلك الحال يمكن اعتبارها من التّقيّة لما فيها من‬
‫الستتار ‪ ،‬وهي أن يصلّي خلفه بنيّة النفراد ‪ ،‬فيوافق المام في الرّكوع والسّجود والقيام‬
‫ح صلته لنّه أتى بأفعال الصّلة وشروطها على الكمال ‪ ،‬فل تفسد بموافقة‬
‫والقعود ‪ ،‬فتص ّ‬
‫غيره في الفعال ‪.‬‬
‫التّقيّة في البيع وغيره من التّصرّفات ‪:‬‬
‫ل على أن يظهر أنّه اشتراه منه‬
‫‪ -‬إذا خاف على ماله من ظالم يغصبه ‪ ،‬فيواطئ رج ً‬ ‫‪26‬‬

‫ليحتمي بذلك ول يريدان بيعا حقيقيّا ‪.‬‬


‫وهذا البيع صحيح عند أبي حنيفة والشّافعيّ وباطل عند الحنابلة وأبي يوسف ومحمّد ‪.‬‬
‫أمّا عند المالكيّة ففي تبصرة الحكّام ‪ :‬يجوز السترعاء في البيع وهو أن يشهد قبل البيع‬
‫أنّي إن بعت هذه الدّار فإنّما أبيعها لمر أخافه من قبل ظالم أو غاصب ‪ ،‬ول يثبت السترعاء‬
‫في هذه الحال إل إن كان الشّهود يعرفون الكراه على البيع والخافة الّتي يذكرها‪.‬‬
‫والسترعاء عند المالكيّة يصحّ ويفيد صاحبه في كلّ تصرّف تطوّعيّ كالطّلق والوقف‬
‫والهبة ‪ .‬فإن فعل لم يلزمه أن ينفّذ شيئا من ذلك ‪ ،‬وإن لم يعلم الشّهود السّبب ‪ ،‬بخلف‬
‫مسألة البيع ‪ ،‬إذ المبايعة خلف ما يتطوّع به وقد أخذ البائع فيه ثمنا وفي ذلك حقّ للمبتاع‪.‬‬
‫وقال المالكيّة ‪ :‬من استرعي في وقف على تقيّة اتّقاها ث ّم أشهد بعد ذلك على إمضائه جاز‬
‫لنّه لم يزل على ملكه ‪.‬‬
‫وإن استرعى أنّه يترك حقّه في الشّفعة خوفا من إضرار المشتري وله سلطان وقدرة ‪ ،‬وأنّه‬
‫غير تارك لطلبه متى أمكنه نفعه ذلك ‪.‬ثمّ إذا ذهبت التّقيّة وقام من فوره بالمطالبة قضي له‪.‬‬
‫واختلفوا إذا سكت عن المطالبة بعد زوال ما يتّقيه ‪ ،‬والرّاجح أنّه ل يكون له المطالبة ‪ ،‬لنّه‬
‫متى زال فكأنّ البيع وقع حينئذ ‪ .‬ويجب أن يكثر من شهود السترعاء ‪ ،‬وأقلّهم عند ابن‬
‫الماجشون أربعة شهود ‪ .‬وانظر مصطلح ( بيع التّلجئة ) ‪.‬‬
‫التّقيّة في بيان الشّريعة والحكم بها ‪:‬‬
‫‪ -‬بيان الحكام الشّرعيّة والمر بالمعروف والنّهي عن المنكر في الصل واجبة على‬ ‫‪27‬‬

‫الكفاية ‪ ،‬وإذا خاف المسلم ضررا يلحقه من ذلك جاز له أن ينتقل من المر والنكار باليد‬
‫إلى المر والنكار باللّسان ‪ ،‬فإن خاف من ذلك أيضا جاز له أن ينتقل إلى السّكوت عن‬
‫المنكر مع النكار بقلبه ‪ ،‬وذلك أضعف اليمان ‪ ،‬كما في الحديث الوارد ‪ ،‬وذلك نوع من‬
‫ن المر بالمعروف والنّهي عن المنكر حيث يشرع التّغيير باليد ث ّم النكار‬
‫التّقيّة ‪ .‬على أ ّ‬
‫باللّسان ‪ ،‬مع خوف الضّرر ‪ ،‬أعظم درجة من السّكوت ‪ ،‬إذ أنّ ذلك نوع من الجهاد ‪ .‬وقد‬
‫ي أَ ِقمِ الصّل َة َوأْمُ ْر بِال َمعْرُوفِ‬
‫قال اللّه تعالى في حكاية قول لقمان لبنه وهو يعظه { يَا بُنَ ّ‬
‫ع ْزمِ الُمورِ } وفي الحديث ‪ « :‬أفضل‬
‫ن َ‬
‫ك إنّ ذَلكَ مِ ْ‬
‫ن المُ ْنكَرِ وَاصْبِرْ على مَا أَصَابَ َ‬
‫وَا ْنهَ ع ِ‬
‫الشّهداء حمزة بن عبد المطّلب ث ّم رجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتل » ‪.‬‬
‫ن َتعَيّنَ عليه ‪ ،‬بأن نكل عن البيان من سواه ‪ ،‬حتّى عمّ‬
‫‪ -‬وتعظم درجة المر والنّاهي إ ْ‬ ‫‪28‬‬

‫المنكر وظهر ‪ ،‬وخاصّة فيما يتعلّق بالتّلبيس في الدّين وطمس ‪ ،‬معالمه ‪ ،‬فلو أخذ جميع‬
‫العلماء بالتّقيّة ‪ ،‬ولم يقم أحد منهم بواجب البيان لظهرت البدعة وعمّت ‪ ،‬وتبدّلت الشّريعة‬
‫في أعين النّاس ‪ .‬وقد أخذ العلماء في عهد المأمون والمعتصم وامتحنوا ليقولوا بخلق‬
‫القرآن وكان ذلك بمشورة من بعض المعتزلة ‪ .‬فلمّا هدّد العلماء وأوذوا قالوا بذلك فتركوا ‪،‬‬
‫ولم يثبت منهم في المحنة إل أربعة أو خمسة مات بعضهم في السّجن ‪.‬‬
‫ونقل عن أحمد أيّام محنته في خلق القرآن أنّه سئل ‪ :‬إن عرضت على السّيف تجيب ؟ قال ‪:‬‬
‫ل ‪ ،‬وقال ‪ :‬إذا أجاب العالم تقيّة ‪ ،‬والجاهل يجهل ‪ ،‬فمتى يتبيّن الحقّ ؟ ‪.‬‬
‫وكان أبو يعقوب البويطيّ صاحب المام الشّافعيّ ممّن امتحن فصبر كذلك ولم يجب إلى ما‬
‫طلبوه منه في فتنة القول بخلق القرآن ‪ ،‬لمّا وشي به ‪ .‬وقد قال له أمير مصر الّذي كلّف‬
‫بمحنته ‪ :‬قل فيما بيني وبينك ‪ .‬قال ‪ :‬إنّه يقتدي بي مائة ألف ول يدرون ما المعنى ‪ .‬وقد‬
‫أمر بحمله من مصر إلى بغداد في الحديد ‪ ،‬ومات في السّجن ببغداد في القيد والغلّ رحمه‬
‫ال ‪ .‬وكان لثبات أحمد والبويطيّ ومن معهما أثره في تراجع الخلفة عن ذلك المنهج ‪،‬‬
‫وانكسرت بسبب ذلك شوكة المعتزلة ‪.‬‬
‫‪ -‬وليس للعالم أن ينطق بغير الحقّ وهو يعلم ‪ ،‬ول رخصة له في ذلك على سبيل التّقيّة‬ ‫‪29‬‬

‫مطلقا ‪ ،‬إن كان السّكوت كافيا لنجاته ‪ ،‬لعدم تحقّق شرط جواز التّقيّة حينئذ ‪.‬‬
‫وفي ذلك من المحذور أيضا الخوف من أن يخفى الحقّ على الجاهلين أو يضعف إيمانهم‬
‫ويحجموا عن نصر حقّهم اقتداء بمن أجاب تقيّة فيظنّوا جوابه هو الجواب ‪ ،‬وهم غافلون‬
‫عن مراده وأنّه قصد التّقيّة ‪.‬‬
‫ما ينبغي للخذ بالتّقيّة أن يراعيه ‪:‬‬
‫ينبغي لمن يأخذ بالتّقيّة أن يلحظ أمورا ‪:‬‬
‫‪ -‬منها ‪ :‬أنّه إن كان له َمخْلَص غير ارتكاب الحرام ‪ ،‬فيجب أن يلجأ إليه ‪ ،‬ومن ذلك أن‬ ‫‪30‬‬

‫يورّي ‪ ،‬كمن أكره على شتم النّبيّ صلى ال عليه وسلم وكرّم وشرّف ‪ ،‬فينوي محمّدا آخر‬
‫فإن خطرت بباله التّورية وتركها لم تكن التّقيّة عذرا له ‪ ،‬ويعتبر كافرا ‪.‬‬
‫‪ -‬ومنها ‪ :‬أن يلحظ عدم النسياق مع الرّخصة حتّى يخرج من ح ّد التّقيّة إلى حدّ‬ ‫‪31‬‬

‫النحلل بارتكاب المحرّم بعد انقضاء الضّرورة ‪ ،‬وأصل ذلك ما قال اللّه تعالى في شأن‬
‫غفُورٌ رَحيمٌ } فسّر الباغي بمن أكل الحرام‬
‫ن اضْطرّ غَيرَ بَاغٍ ول عَادٍ فَإنّ رَبّكَ َ‬
‫المضطرّ { َفمَ ْ‬
‫وهو يجد الحلل ‪ ،‬وفسّر العادي بمن أكل من الحرام فوق ما تقتضيه الضّرورة ‪.‬‬
‫وقد نبّه اللّه تعالى في شأن التّقيّة على ذلك حيث قال { ل يَ ّتخِذِ المُؤمِنُونَ الكَا ِفرِينَ أَولِياءَ‬
‫ن تَ ّتقُوا مِ ْن ُهمْ ُتقَا ًة وَ ُيحَذّ ُركُمْ‬
‫ن الّلهِ في شَي ٍء إل أَ ْ‬
‫س مِ َ‬
‫ن َي ْف َعلْ ذَلِكَ فَلَي َ‬
‫مِنْ دُونِ المُؤمنينَ ومَ ْ‬
‫الّلهُ َن ْفسَه } فحذّر تعالى من نفسه لئل يغت ّر المتّقي ويتمادى ‪.‬‬
‫خفُوا مَا في صُدُو ِر ُكمْ أو تُبْدُوه َيعْ َلمُه الّلهُ } ‪.‬‬
‫ن ُت ْ‬
‫ثمّ قال في الية التّالية { ُقلْ إ ْ‬
‫فنبّه على علمه بما يضمره مرتكب الحرام بموالة الكفّار أنّه هل يفعله تقيّة أو موافقة ‪.‬‬
‫قال الرّازيّ ‪ :‬إنّه تعالى لمّا نهى عن اتّخاذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين ظاهرا وباطنا‪،‬‬
‫واستثنى التّقيّة في الظّاهر ‪ ،‬أتبع ذلك بالوعيد على أن يصير الباطن موافقا للظّاهر في وقت‬
‫التّقيّة ‪ ،‬وذلك لنّ من أقدم عند التّقيّة على إظهار الموالة ‪ ،‬فقد يصير إقدامه على ذلك الفعل‬
‫بحسب الظّاهر سببا لحصول تلك الموالة في الباطن وهذا الوقوع في الحرام وعدم المبالة‬
‫به ‪ ،‬الّذي أوّله التّرخّص على سبيل التّقيّة ‪ ،‬وآخره الرّضا بالكفر وانشراح الصّدر به ‪ ،‬هو‬
‫الفتنة الّتي أشارت إليها بقيّة اليات من سورة النّحل الّتي تلت آية الكراه ‪ .‬قال تعالى { ُثمّ‬
‫ن َبعْدِها َلغَفُورٌ َرحِيمٌ }‬
‫ك مِ ْ‬
‫إنّ رَبّكَ لِلّذينَ هَاجَرُوا ِمنْ َبعْدِ مَا فُتِنُوا ُث ّم جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إنّ رَبّ َ‬
‫ج َعلَ فِتْ َن َة النّاسِ‬
‫ن النّاسِ َمنْ َيقُولُ آمَنّا بِالّلهِ فَإذا أُو ِذيَ في الّلهِ َ‬
‫وفي سورة العنكبوت { َومِ َ‬
‫ي " معناه إذا آذاه المشركون في إقراره باللّه جعل فتنة النّاس إيّاه‬
‫كَعَذَابِ الّلهِ } قال الطّبر ّ‬
‫كعذاب اللّه في الخرة فارت ّد عن إيمانه باللّه راجعا إلى الكفر به " ‪.‬‬
‫ن هذه الية نزلت في قوم من أهل اليمان كانوا بمكّة ‪ ،‬فخرجوا منها‬
‫قال ‪ " :‬وذكر أ ّ‬
‫مهاجرين فأدركوا وأخذوا فأعطوا المشركين لما نالهم أذاهم ما أرادوه منهم " ‪.‬‬
‫ي منهم عيّاش بن أبي ربيعة أخا أبي جهل لمّه ‪ ،‬وأبا جندل بن سهيل بن‬
‫وذكر غير الطّبر ّ‬
‫ك لِلّذِينَ‬
‫عمرو والوليد بن المغيرة وغيرهم ثمّ إنّهم هاجروا فنزل قوله تعالى { ُثمّ إنّ رَبّ َ‬
‫ن َبعْدِها َلغَفُورٌ َرحِيمٌ } ‪.‬‬
‫ك مِ ْ‬
‫هَاجَرُوا ِمنْ َبعْدِ مَا فُتِنُوا ُث ّم جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إنّ رَبّ َ‬
‫‪ -‬ومنها أن يلحظ النّيّة ‪ ،‬فينوي أنّه إنّما يفعل الحرام للضّرورة ‪ ،‬وهو يعلم أنّه حرام إل‬ ‫‪32‬‬

‫أنّه يأخذ برخصة اللّه ‪ ،‬فإن فعله وهو يرى أنّه سهل ول بأس به فإنّه يقع في الثم ‪ .‬وهذا‬
‫ب مِنَ‬
‫شرَحَ بِالكُفْ ِر صَدْرَا َفعَلَيهمْ غَضَ ٌ‬
‫ن مَنْ َ‬
‫ما يشير إليه آخر الية وهو قوله تعالى { وَلَك ْ‬
‫الّلهِ } وفي الحديث « دخل رجل الجنّة في ذباب ودخل النّار رجل في ذباب ‪ ،‬قالوا ‪ :‬وكيف‬
‫ذلك ؟ قال مرّ رجلن على قوم لهم صنم ل يجوزه أحد حتّى يقرّب له شيئا ‪ ،‬فقالوا لحدهما‬
‫‪ :‬قرّب قال ‪ :‬ليس عندي شيء فقالوا له قرّب ولو ذبابا ‪ ،‬فقرّب ذبابا فخلّوا سبيله قال ‪:‬‬
‫فدخل النّار ‪ ،‬وقالوا للخر قرّب ولو ذبابا قال ما كنت لقرّب لحد شيئا دون اللّه عزّ وجلّ‬
‫قال ‪ :‬فضربوا عنقه قال فدخل الجنّة » ‪.‬‬
‫قال في تيسير العزيز الحميد ‪ :‬وفيه ‪ :‬أنّه دخل النّار بسبب لم يقصده بل فعله تخلّصا من‬
‫شرّهم ‪ .‬وفيه ‪ :‬معرفة قدر الشّرك في قلوب المؤمنين كيف صبر على القتل ولم يوافقهم‬
‫على طلبتهم مع كونهم لم يطلبوا إل العمل الظّاهر ‪.‬‬

‫تكافؤ *‬
‫التّعريف ‪:‬‬
‫‪ -‬التّكافؤ لغة ‪ :‬الستواء ‪ ،‬وكلّ شيء ساوى شيئا حتّى يكون مثله فهو مكافئ له ‪،‬‬ ‫‪1‬‬

‫والمكافأة بين النّاس من هذا ‪ ،‬والمسلمون تتكافأ دماؤهم أي تتساوى في الدّية والقصاص ‪،‬‬
‫قال أبو عبيد ‪ :‬فليس لشريف على وضيع فضل في ذلك ‪.‬‬
‫والكفء ‪ :‬النّظير والمساوي ‪ ،‬ومنه ‪ :‬الكفاءة في النّكاح أي أن يكون الزّوج مساويا للمرأة‬
‫في حسبها ودينها ونسبها وبيتها وغير ذلك ‪.‬‬
‫وال َكفَاء مصدر كافأه أي قابله وصار نظيرا له ‪ ،‬وقولهم ‪ :‬الحمد للّه حمدا يوافي نعمه‬
‫ويكافئ مزيده ‪ ،‬أي يلقي نعمه ويساوي مزيد نعمه ‪ ،‬وهو أجلّ التّحاميد ‪.‬‬
‫ي مع الطلقات المختلفة ‪:‬‬
‫وسيأتي التّعريف الصطلح ّ‬
‫حكم الكفاءة ‪:‬‬
‫‪ -‬بحث الفقهاء التّكافؤ ‪ -‬أو الكفاءة حسب عبارتهم في النّكاح ‪ -‬في مواطن منها ‪:‬‬ ‫‪2‬‬

‫النّكاح ‪ ،‬والقصاص ‪ ،‬والمبارزة في القتال ‪ ،‬والمسابقة على خيل ونحوها ‪ ،‬وفيما يلي حكم‬
‫التّكافؤ في كلّ منها ‪:‬‬
‫الكفاءة في النّكاح ‪:‬‬
‫‪ -‬هي لغة ‪ :‬التّساوي والتّعادل ‪.‬‬ ‫‪3‬‬

‫واصطلحا ‪ :‬اختلفت عبارة الفقهاء في تعريفها الصطلحيّ ‪ ،‬وعرّفها القهستانيّ من‬


‫الحنفيّة بأنّها مساواة الرّجل للمرأة في المور المعتبرة في النّكاح ‪.‬‬
‫وعرّفها الشّافعيّة ‪ :‬بأنّها أمر يوجب عدمه عارا ‪.‬‬
‫وجمهور الفقهاء يعتبرون الكفاءة في النّكاح ‪ ،‬ويستدلّون بالكتاب والسّنّة والثار والمعقول ‪،‬‬
‫ي ذهبوا إلى عدم اعتبار الكفاءة الّتي اعتبرها‬
‫ي والثّوريّ والحسن البصر ّ‬
‫لكنّ الكرخ ّ‬
‫الجمهور في النّكاح ‪.‬‬
‫والوقت الّذي تعتبر عنده الكفاءة ‪ ،‬هو ابتداء عقد النّكاح ول يض ّر زوالها بعده ‪.‬‬
‫وتعتبر الكفاءة ‪ -‬عند جمهور الفقهاء ‪ -‬في جانب الرّجال للنّساء ول تعتبر في جانب النّساء‬
‫للرّجال ‪ .‬والحقّ في الكفاءة للمرأة أو للولياء أو لهما ‪ .‬على تفصيل في ذلك ‪.‬‬
‫وقد اختلف الفقهاء في خصال الكفاءة الّتي ينبغي أن يكافئ الزّوج فيها الزّوجة ‪ ،‬وذهب‬
‫أكثرهم ‪ -‬كما قال الخطّابيّ ‪ -‬إلى أنّ الكفاءة معتبرة بأربعة أشياء ‪ :‬الدّين ‪ ،‬والحرّيّة ‪،‬‬
‫والنّسب ‪ ،‬والصّناعة ‪ .‬واعتبر جمهور الفقهاء الكفاءة للزوم النّكاح ل لصحّته ‪ ،‬وفي رواية‬
‫ن الكفاءة شرط لصحّة النّكاح ‪،‬‬
‫الحسن المختارة للفتوى عند الحنفيّة ‪ ،‬ورواية عن أحمد ‪ ،‬أ ّ‬
‫وسبقت الشارة إلى عدم اعتبار الكفاءة عند الكرخيّ ‪ ،‬والثّوريّ والحسن البصريّ ‪.‬‬
‫وفي هذه المسائل ‪ ،‬وفي النّكاح الّذي تعتبر فيه الكفاءة ‪ ،‬وفي أثر عدم اعتبارها تفصيل‬
‫ينظر في مصطلح ( كفاءة ) وفي مصطلح ( نكاح ) ‪.‬‬
‫هذا عن حكم التّكافؤ " أثره " أمّا اختيار الكفاء في النّكاح فهو مسنون لقوله صلى ال عليه‬
‫وسلم ‪ « :‬إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوّجوه » ‪.‬‬
‫التّكافؤ في الدّماء ‪:‬‬
‫‪ -‬من الشّروط الّتي ذكرها الفقهاء للقصاص ‪ :‬أن يتكافأ المجنيّ عليه مع الجاني ‪ ،‬أي أن‬ ‫‪4‬‬

‫يكون بينهما تكافؤ في الدّم ‪.‬‬


‫وعرّف الشّافعيّة التّكافؤ في القصاص بأنّه ‪ :‬مساواة القاتل للقتيل الجاني للمجنيّ عليه ‪ .‬بأن‬
‫ل يفضله بإسلم أو أمان أو حرّيّة أو سيادة ‪ ،‬أو أصليّة ‪ -‬أي ل يكون أصل للمقتول وإن‬
‫عل ذكرا كان أو أنثى ولو كافرا ‪. -‬‬
‫ن القصاص يعتمد المساواة في العصمة ‪ ،‬فإذا وجدت فإنّ القصاص يجري بين‬
‫وقالوا ‪ :‬إ ّ‬
‫القاتل والقتيل المسلمين دون نظر إلى تفاوت في نسب أو مال أو صفات خاصّة ‪.‬‬
‫لقول النّبيّ صلى ال عليه وسلم ‪ « :‬المسلمون تتكافأ دماؤهم ‪. » . .‬‬
‫ويعتبر التّكافؤ بين القاتل والقتيل حال الجناية ‪ ،‬ول عبرة بالحال قبلها أو بعدها ‪ .‬ويعتبر‬
‫التّكافؤ بين الجاني والمجنيّ عليه في الجرح والنّفس ‪ ،‬فإن ساوى الجاني المجنيّ عليه‬
‫ن أثر اعتبار التّكافؤ في القصاص ‪ :‬أنّه ل يقتل المسلم بمن‬
‫اقتصّ فيهما ‪ .‬وصرّح الحنابلة بأ ّ‬
‫ل يساويه في العصمة ‪ ،‬ويقتل المسلم بالمسلم وإن تفاوتا في العلم والشّرف وغيرهما ‪.‬‬
‫وفي هذه المسائل وغيرها ممّا يتعلّق بالتّكافؤ في الدّماء تفصيل ينظر في مصطلح ‪:‬‬
‫( كفاءة ) وفي مصطلح ‪ ( :‬قصاص ) ‪.‬‬
‫التّكافؤ في المبارزة ‪:‬‬
‫‪ -‬المبارزة لغة ‪ :‬الخروج إلى الخصم لقتاله ومصارعته ‪ ،‬وكانت تتمّ بخروج أحد المقاتلين‬ ‫‪5‬‬

‫أمام أصحابه ودعوة أحد الخصوم للقتال ‪ ،‬فيبرز له من دعي إن كان قد سمّى أحدا أو يبرز‬
‫إليه أحد أكفائه إن لم يكن سمّى أحدا ‪ ،‬ويدور بينهما قتال حتّى يصرع أحدهما صاحبه ‪.‬‬
‫والتّكافؤ للمبارزة ‪ :‬أن يعلم الشّخص الّذي يخرج لها من نفسه القوّة والشّجاعة ‪ ،‬وأنّه لن‬
‫يعجز عن مقاومة عدوّه ‪.‬‬
‫وقد بيّن الفقهاء في باب " الجهاد " حكم المبارزة ‪ ،‬وأنّها تكون جائزة ‪ -‬خلفا للحسن ‪-‬‬
‫بإطلق أو بإذن المام ‪ ،‬وتكون مستحبّة لمن يعلم من نفسه القوّة والشّجاعة ‪ ،‬لنّ في‬
‫خروجه للمبارزة نصرا للمسلمين ودرءا عنهم وإظهارا لقوّتهم ‪ ،‬وتكون مكروهة للضّعيف‬
‫الّذي ل يثق من قوّته وشجاعته ‪ ،‬لما في ذلك من كسر قلوب المسلمين وإضعاف عزمهم‬
‫لنّه يقتل غالبا ‪ .‬فالتّكافؤ هو مناط الحكم بالجواز أو الستحباب أو الكراهة في المبارزة ‪،‬‬
‫ي ذلك في قوله ‪ :‬وإذا جازت المبارزة بما استشهدنا ‪ . .‬كان لتمكين‬
‫وقد بيّن الماورد ّ‬
‫المبارزة شرطان ‪:‬‬
‫أحدهما ‪ :‬أن يكون ذا نجدة وشجاعة يعلم من نفسه أنّه لن يعجز عن مقاومة عدوّه ‪ ،‬فإن‬
‫كان بخلفه منع ‪.‬‬
‫والثّاني ‪ :‬أن ل يكون زعيما للجيش يؤثّر فقده فيهم ‪.‬‬
‫ي صلى ال عليه وسلم التّكافؤ في المبارزة يوم بدر حين نادى عتبة بن ربيعة‬
‫وقد « أقرّ النّب ّ‬
‫‪ ،‬يا محمّد أخرج إلينا من قومنا أكفاءنا ‪ . .‬فقد خرج عتبة بين أخيه شيبة وابنه الوليد ‪،‬‬
‫ف دعا إلى المبارزة ‪ ،‬فخرج إليه فتية من النصار ثلثة ‪ ،‬وهم ‪:‬‬
‫حتّى إذا فصل من الصّ ّ‬
‫عوف ومعوّذ ابنا الحارث ورجل آخر يقال هو عبد اللّه بن رواحة ‪ ،‬فقالوا ‪ :‬من أنتم ؟‬
‫فقالوا ‪ :‬رهط من النصار ‪ ،‬قالوا ‪ :‬ما لنا بكم من حاجة ‪ ،‬ثمّ نادى مناديهم ‪ :‬يا محمّد أخرج‬
‫إلينا أكفاءنا من قومنا ‪ ،‬فقال رسول اللّه صلى ال عليه وسلم ‪ :‬قم يا عبيدة بن الحارث ‪،‬‬
‫وقم يا حمزة ‪ ،‬وقم يا عليّ ‪ ،‬فلمّا قاموا ودنوا منهم قالوا ‪ :‬من أنتم ؟ قال عبيدة ‪ :‬عبيدة ‪،‬‬
‫وقال حمزة ‪ :‬حمزة ‪ ،‬وقال عليّ ‪ :‬عليّ قالوا ‪ :‬نعم أكفاء كرام ‪ ،‬فبارز عبيدة وكان أسنّ‬
‫ي الوليد ‪ ،‬فأمّا حمزة فلم يمهل شيبة أن قتله ‪،‬‬
‫القوم عتبة ‪ ،‬وبارز حمزة شيبة ‪ ،‬وبارز عل ّ‬
‫ي فلم يمهل الوليد أن قتله ‪ ،‬واختلف عبيدة وعتبة بينهما ضربتين كلهما أثبت‬
‫وأمّا عل ّ‬
‫صاحبه ‪ ،‬وكرّ حمزة وعليّ بأسيافهما على عتبة فذفّفا عليه ‪ ،‬واحتمل صاحبهما فحازاه إلى‬
‫أصحابه » ‪.‬‬
‫التّكافؤ بين الخيل في السّبق ‪:‬‬
‫‪ -‬السّبق ‪ -‬بالسّكون ‪ -‬في اللّغة ‪ :‬المسابقة ‪ ،‬والسّبق ‪ -‬بفتح الباء ‪ -‬ما يجعل من المال‬ ‫‪6‬‬

‫رهنا على المسابقة ول يخرج المعنى الصطلحيّ عن المعنى اللّغويّ ‪.‬‬


‫وقد شرع السّبق في الخيل وفي البل ‪ -‬ولو بجعل ‪ -‬لما فيه من إعداد للجهاد في سبيل اللّه‬
‫تعالى ‪ .‬وقد اشترط الفقهاء للسّبق وحلّ الجعل شروطا منها ‪ :‬التّكافؤ بين الدّابّتين‬
‫المتسابقتين بحيث يمكن سبق كلّ منهما ‪ ،‬والتّكافؤ بينهما وبين المحلّل الّذي يدخل بينهما‬
‫في حالة شرط إخراج الجعل من المتسابقين ‪:‬‬
‫قال الحنفيّة ‪ :‬ول بأس بالمسابقة في الرّمي والفرس والبل ‪ . .‬وحلّ الجعل وطاب إن شرط‬
‫المال في المسابقة من جانب واحد ‪ ،‬وحرم لو شرط فيها من الجانبين ‪ ،‬لنّه يصير قمارا ‪،‬‬
‫إل إذا أدخل ثالثا محلّل بينهما بفرس كفء لفرسيهما يتوهّم أن يسبقهما ‪ ،‬وإل لم يجز أي‬
‫إن كان يسبق أو يسبق ل محالة فل يجوز ‪ .‬لقوله صلى ال عليه وسلم ‪ « :‬من أدخل فرسا‬
‫بين فرسين وهو ل يؤمن أن يسبق فليس بقمار ‪ ،‬ومن أدخل فرسا بين فرسين وقد أمن أن‬
‫يسبق فهو قمار » ‪.‬‬
‫وذهب المالكيّة إلى جواز المسابقة بجعل في الخيل ‪ ،‬وفي البل ‪ ،‬وبين الخيل والبل ‪ ،‬وفي‬
‫السّهم إذا كان الجعل ممّا يصحّ بيعه ‪ ،‬وعيّن المبدأ والغاية والمركب ‪ .‬وثمّ قالوا في شرح‬
‫المركب ‪ :‬ول ب ّد أن تكون الخيل أو البل متقاربة في الجري ‪ ،‬وأن يجهل كلّ واحد منهما‬
‫سبق فرسه وفرس صاحبه ‪ ،‬فإن قطع أحدهما أنّ أحد الفرسين أكثر جريا من الخر لم تجز‪.‬‬
‫وقال الشّافعيّة ‪ :‬وشرط المسابقة علم الموقف والغاية وتساويهما فيهما ‪ ،‬وتعيين الفرسين‬
‫ويتعيّنان ‪ ،‬وإمكان سبق كلّ واحد ‪.‬‬
‫فإن كان أحدهما ضعيفا يقطع بتخلّفه أو فارها يقطع بتقدّمه لم يجز ‪.‬‬
‫وقال الحنابلة ‪ :‬يشترط أن يكون فرس المحلّل مكافئا لفرسيهما أو بعيره مكافئا لبعيريهما ‪،‬‬
‫فإن لم يكن مكافئا مثل أن يكون فرساهما جوادين وفرسه بطيئا فهو قمار لما روى أبو‬
‫ن النّبيّ صلى ال عليه وسلم قال ‪ « :‬من أدخل فرسا بين فرسين‬
‫هريرة رضي ال عنه أ ّ‬
‫وهو ل يؤمن أن يسبق فليس بقمار ‪ ،‬ومن أدخل فرسا بين فرسين وقد أمن أن يسبق فهو‬
‫قمار » ‪ ،‬ولنّه مأمون سبقه فوجوده كعدمه ‪ ،‬وإن كان مكافئا لهما جاز ‪.‬‬
‫ويشترط في الرّهان أن تكون الدّابّتان من جنس واحد ‪ ،‬فإن كانتا من جنسين كالفرس‬
‫ن البعير ل يكاد يسبق الفرس فل يحصل الغرض من هذه المسابقة ‪.‬‬
‫والبعير لم يجز ‪ ،‬ل ّ‬

‫تكبير *‬
‫التّعريف ‪:‬‬
‫‪ -‬التّكبير في اللّغة ‪ :‬التّعظيم ‪ ،‬كما في قوله تعالى ‪ { :‬وَرَبّكَ َفكَبّرْ } أي فعظّم ‪ ،‬وأن يقال‬ ‫‪1‬‬

‫‪ " :‬اللّه أكبر " روي « أنّه لمّا نزل { وَرَبّكَ َفكَبّرْ } قال رسول اللّه صلى ال عليه وسلم اللّه‬
‫أكبر فكبّرت خديجة وفرحت وأيقنت أنّه الوحي » ‪.‬‬
‫ول يخرج استعمال الفقهاء لهذا اللّفظ عن المعنى اللّغويّ ‪.‬‬
‫اللفاظ ذات الصّلة ‪:‬‬
‫التّسبيح والتّهليل والتّحميد ‪:‬‬
‫‪ -‬الصّلة بين التّكبير وهذه اللفاظ أنّها كلّها مدائح يمدح بها الله ويعظّم ‪.‬‬ ‫‪2‬‬

‫فمن سبّح اللّه فقد عظّمه ونزّهه عمّا ل يليق به من صفات النّقص وسمات الحدوث ‪ ،‬فصار‬
‫واصفا له بالعظمة والقدم ‪ .‬وكذا إذا هلّل ‪ ،‬لنّه إذا وصفه بالتّفرّد واللوهيّة فقد وصفه‬
‫بالعظمة والقدم ‪ ،‬لستحالة ثبوت اللهيّة دونهما ‪.‬‬
‫كما أنّ التّحميد يراد به كثرة الثّناء على اللّه تعالى ‪ ،‬لنّه هو مستحقّ الحمد على الحقيقة ‪.‬‬
‫أحكام التّكبير ‪:‬‬
‫أوّلً ‪:‬‬
‫التّكبير في الصّلة تكبيرة الحرام ‪:‬‬
‫‪ -‬تكبيرة الحرام فرض من فروض الصّلة ‪.‬‬ ‫‪3‬‬

‫وهي قول المصلّي لفتتاح الصّلة ( اللّه أكبر ) أو كلّ ذكر يصير به شارعا في الصّلة ‪.‬‬
‫وتنظر أحكامها في مصطلح ( تكبيرة الحرام ) ‪.‬‬
‫أ ‪ -‬تكبيرات النتقالت ‪:‬‬
‫‪ -4‬يرى جمهور الفقهاء أنّ تكبيرات النتقالت سنّة ‪.‬‬
‫قال ابن المنذر ‪ :‬بهذا قال أبو بكر الصّدّيق وعمر وجابر وقيس بن عبادة والشّعبيّ‬
‫ي وسعيد بن عبد العزيز وأبو حنيفة ومالك والشّافعيّ ‪ ،‬ونقله ابن بطّال أيضا عن‬
‫والوزاع ّ‬
‫ي وابن مسعود وابن عمر وأبي هريرة وابن الزّبير ومكحول والنّخعيّ وأبي ثور‪.‬‬
‫عثمان وعل ّ‬
‫ي صلى ال عليه وسلم علّمه صلته ‪،‬‬
‫ودليل الجمهور حديث المسيء صلته ‪ ،‬فإنّ النّب ّ‬
‫فعلّمه واجباتها ‪ ،‬فذكر منها تكبيرة الحرام ‪ ،‬ولم يذكر تكبيرات النتقالت وهذا موضع‬
‫البيان ووقته ول يجوز التّأخير عنه ‪.‬‬
‫أمّا الحاديث الّتي تثبت التّكبير في كلّ خفض ورفع فمحمولة على الستحباب ‪ ،‬منها ما رواه‬
‫مسلم من حديث أبي هريرة رضي ال عنه يقول ‪ « :‬كان رسول اللّه صلى ال عليه وسلم‬
‫إذا قام إلى الصّلة يكبّر حين يقوم ‪ ،‬ثمّ يكبّر حين يركع ‪ ،‬ثمّ يقول سمع اللّه لمن حمده حين‬
‫يرفع صلبه من الرّكوع ‪ ،‬ثمّ يقول وهو قائم ربّنا لك الحمد ‪ ،‬ثمّ يكبّر حين يهوي ساجدا ‪ ،‬ثمّ‬
‫يكبّر حين يرفع رأسه ‪ ،‬ثمّ يكبّر حين يسجد ‪ ،‬ثمّ يكبّر حين يرفع رأسه ‪ ،‬ثمّ يفعل ذلك في‬
‫الصّلة كلّها حتّى يقضيها ‪ ،‬ويكبّر حين يقوم من المثنى بعد الجلوس » ‪ .‬والحديث فيه إثبات‬
‫التّكبير في كلّ خفض ورفع إل في رفعه من الرّكوع ‪ ،‬فإنّه يقول ‪ :‬سمع اللّه لمن حمده ‪.‬‬
‫وعن ابن مسعود رضي ال عنه قال ‪ « :‬كان رسول اللّه صلى ال عليه وسلم يكبّر في كلّ‬
‫خفض ورفع وقيام وقعود ‪ ،‬وأبو بكر وعمر رضي ال عنهما » ‪.‬‬
‫ن تكبير الخفض والرّفع واجب ‪ ،‬وهو قول إسحاق‬
‫ويرى أحمد بن حنبل في المشهور عنه أ ّ‬
‫ن النّبيّ صلى ال عليه وسلم أمر به وأمره للوجوب ‪ ،‬وفعله ‪ .‬وقال ‪:‬‬
‫بن راهويه وداود ‪ ،‬ل ّ‬
‫« صلّوا كما رأيتموني أصلّي » ‪.‬‬
‫وقد روى أبو داود عن عليّ بن يحيى بن خلّاد عن عمّه عن النّبيّ صلى ال عليه وسلم أنّه‬
‫قال ‪ « :‬ل تتمّ صلة لحد من النّاس حتّى يتوضّأ ‪ -‬إلى قوله ‪ -‬ثمّ يكبّر ‪ ،‬ثمّ يركع حتّى‬
‫تطمئنّ مفاصله ‪ ،‬ث ّم يقول سمع اللّه لمن حمده حتّى يستوي قائما ‪ ،‬ثمّ يقول اللّه أكبر ‪ ،‬ثمّ‬
‫ن ساجدا ‪ ،‬ث ّم يقول ‪ :‬اللّه أكبر ويرفع رأسه حتّى يستوي قاعدا ‪ ،‬ثمّ يقول‬
‫يسجد حتّى يطمئ ّ‬
‫اللّه أكبر ث ّم يسجد حتّى تطمئنّ مفاصله ‪ ،‬ثمّ يرفع رأسه فيكبّر ‪ ،‬فإذا فعل ذلك فقد تمّت‬
‫صلته » ‪ .‬وهذا نصّ في وجوب التّكبير ‪.‬‬
‫ولنّ مواضع هذه الذكار أركان الصّلة فكان فيها ذكر واجب كالقيام ‪.‬‬
‫وقال أبو عمر ‪ :‬قد قال قوم من أهل العلم إنّ التّكبير إنّما هو إيذان بحركات المام وشعار‬
‫الصّلة وليس بسنّة إل في الجماعة ‪ .‬فأمّا من صلّى وحده فل بأس أن يكبّر ‪.‬‬
‫حكمة مشروعيّة تكبيرات النتقالت ‪:‬‬
‫‪ -‬الحكمة في مشروعيّة التّكبير في الخفض والرّفع هي أنّ المكلّف أمر بالنّيّة أوّل الصّلة‬ ‫‪5‬‬

‫مقرونة بالتّكبير ‪ ،‬وكان من حقّه أن يستصحب النّيّة إلى آخر الصّلة ‪ ،‬فأمر أن يجدّد العهد‬
‫في أثنائها بالتّكبير الّذي هو شعار النّيّة ‪.‬‬
‫مدّ تكبيرات النتقالت وحذفها ‪:‬‬
‫‪ -‬يرى الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة على الجديد وهو الصّحيح ‪ -‬وهو ما يؤخذ من‬ ‫‪6‬‬

‫عبارات فقهاء الحنابلة ‪ -‬استحباب التّكبير في كلّ ركن عند الشّروع ‪ ،‬ومدّه إلى الرّكن‬
‫المنتقل إليه حتّى ل يخلو جزء من صلة المصلّي عن ذكر ‪ ،‬فيبدأ بالتّكبير حين يشرع في‬
‫النتقال إلى الرّكوع ‪ ،‬ويمدّه حتّى يصل حدّ الرّاكعين ‪ ،‬ثمّ يشرع في تسبيح الرّكوع ‪ ،‬ويبدأ‬
‫بالتّكبير حين يشرع في الهويّ إلى السّجود ويمدّه حتّى يضع جبهته على الرض ‪ ،‬ثمّ يشرع‬
‫في تسبيح السّجود ‪ ،‬وهكذا يشرع في التّكبير للقيام من التّشهّد الوّل حين يشرع في النتقال‬
‫ويمدّه حتّى ينتصب قائما ‪.‬‬
‫ويستثني المالكيّة من ذلك تكبير المصلّي في قيامه من اثنتين ‪ ،‬حيث يقولون إنّه ل يكبّر‬
‫للقيام من الرّكعتين حتّى يستوي قائما لنّه كمفتتح صلة ‪ .‬وروي ذلك عن عمر بن عبد‬
‫العزيز ‪ .‬وقال الشّافعيّة ‪ -‬على القديم المقابل للصّحيح ‪ -‬بحذف التّكبير وعدم مدّه ‪.‬‬
‫وتنظر الحكام المتعلّقة بترك تكبيرات النتقالت في ( سجود السّهو ) ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬التّكبيرات الزّوائد في صلة العيدين ‪:‬‬
‫ت تكبيرات في الولى وخمس في‬
‫‪ -‬قال المالكيّة والحنابلة ‪ :‬إنّ صلة العيدين فيها س ّ‬ ‫‪7‬‬

‫الثّانية ‪ .‬وروي ذلك عن فقهاء المدينة السّبعة وعمر بن عبد العزيز والزّهريّ والمزنيّ ‪.‬‬
‫واستدلّوا بما روي عن ابن عمر أنّه قال ‪ :‬شهدت الضحى والفطر مع أبي هريرة فكبّر في‬
‫الولى سبع تكبيرات قبل القراءة ‪ ،‬وفي الخرة خمسا قبل القراءة ‪.‬‬
‫ن النّبيّ صلى ال عليه وسلم كبّر في العيدين في‬
‫وبما روي عن عمرو بن عوف المزنيّ « أ ّ‬
‫الولى سبعا قبل القراءة وفي الثّانية خمسا قبل القراءة » ‪.‬‬
‫ويبدو أنّهم يعدّون تكبيرة الحرام في السّبع في الرّكعة الولى ‪ ،‬كما يعدّون تكبيرة النّهوض‬
‫ن العمل بالمدينة كان على هذا ‪.‬‬
‫زائدا على الخمس المرويّة في الرّكعة الثّانية بحجّة أ ّ‬
‫ن صلة العيدين فيها ستّ تكبيرات زوائد ثلث في الولى‬
‫ويرى الحنفيّة وأحمد في رواية أ ّ‬
‫ي وحذيفة بن اليمان وعقبة‬
‫وثلث في الثّانية ‪ .‬وبهذا قال ابن مسعود وأبو موسى الشعر ّ‬
‫ي والحسن البصريّ ومحمّد بن سيرين والثّوريّ‬
‫بن عامر وابن الزّبير وأبو مسعود البدر ّ‬
‫وعلماء الكوفة وهو رواية عن ابن عبّاس ‪.‬‬
‫فقد روى ابن أبي شيبة في مصنّفه عن مسروق قال ‪ :‬كان عبد اللّه بن مسعود يعلّمنا‬
‫التّكبير في العيدين تسع تكبيرات ‪ ،‬خمس في الولى وأربع في الخرة ‪ ،‬ويوالي بين‬
‫القراءتين ‪ ،‬في الولى تكبيرة الفتتاح والتّكبيرات الزّوائد وتكبيرة الرّكوع ‪ ،‬والربعة في‬
‫الرّكعة الخيرة ‪ ،‬التّكبيرات الثّلث الزّوائد وتكبيرة الرّكوع ‪.‬‬
‫وقال الشّافعيّة ‪ :‬إنّ التّكبيرات الزّوائد سبع في الولى وخمس في الثّانية واحتجّوا بحديث‬
‫عائشة رضي ال عنها قالت ‪ « :‬كان رسول اللّه صلى ال عليه وسلم يكبّر في العيدين‬
‫اثنتي عشرة تكبيرة سوى تكبيرة الفتتاح » ‪ .‬وبما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه‬
‫« أنّ رسول اللّه صلى ال عليه وسلم كان يكبّر في الفطر في الولى سبعا ‪ ،‬وفي الثّانية‬
‫خمسا سوى تكبيرة الصّلة » ‪.‬‬
‫وقد ذكر العينيّ تسعة عشر قول في عدد التّكبيرات الزّوائد ‪ ،‬وقال ‪ :‬الختلف محمول على‬
‫ن القياس لمّا لم‬
‫أنّ كلّ ذلك فعله رسول اللّه صلى ال عليه وسلم في الحوال المختلفة ‪ ،‬ل ّ‬
‫ن ك ّل واحد من الصّحابة رضي ال عنهم روى قوله عن رسول اللّه صلى‬
‫يدلّ حمل على أ ّ‬
‫ال عليه وسلم وكلّ واحد من التّابعين روى قوله عن صحابيّ ‪.‬‬
‫هذا وأمّا الحكام المتعلّقة بمحلّ التّكبيرات الزّوائد والذّكر بينها ‪ ،‬ورفع اليدين فيها ‪،‬‬
‫ونسيانها ‪ ،‬فتنظر في ( صلة العيدين ) ‪.‬‬
‫ج ‪ -‬التّكبير في أوّل خطبتي العيدين ‪:‬‬
‫ب أن يكبّر المام في أوّل الخطبة الولى لصلة أحد العيدين تسع تكبيرات ‪ ،‬وفي‬
‫‪ -‬يستح ّ‬ ‫‪8‬‬

‫أوّل الثّانية سبعا ‪ ،‬وهذه التّكبيرات ليست من الخطبة ‪ ،‬وهذا عند جمهور الفقهاء ‪.‬‬
‫وقال مالك ‪ :‬السّنّة أن يفتتح خطبته الولى والثّانية بالتّكبير ‪ ،‬وليس في ذلك حدّ ‪.‬‬
‫وللتّفصيل ( ر ‪ :‬خطبة ) ‪.‬‬
‫د ‪ -‬التّكبير في صلة الستسقاء ‪:‬‬
‫‪ -‬ذهب جمهور القائلين بصلة الستسقاء ومنهم مالك والثّوريّ والوزاعيّ وإسحاق‬ ‫‪9‬‬

‫وأحمد في المشهور عنه ‪ ،‬وأبو ثور وأبو يوسف ومحمّد وغيرهما من أصحاب أبي حنيفة‬
‫إلى أنّه يكبّر في صلة الستسقاء كسائر الصّلوات تكبيرة واحدة للفتتاح ‪ ،‬لما روي عن‬
‫ي صلى ال عليه وسلم فصلّى ركعتين وقلب رداءه » ‪،‬‬
‫عبد اللّه بن زيد ‪ « :‬استسقى النّب ّ‬
‫وروى أبو هريرة نحوه ولم يذكر التّكبير ‪ ،‬فتنصرف إلى الصّلة المطلقة ‪.‬‬
‫ن رسول اللّه صلى ال عليه وسلم‬
‫كما روى الطّبرانيّ بإسناده عن أنس بن مالك « أ ّ‬
‫استسقى فخطب قبل الصّلة ‪ ،‬واستقبل القبلة ‪ ،‬وحوّل رداءه ‪ ،‬ثمّ نزل فصلّى ركعتين لم يكبّر‬
‫فيهما إل تكبيرة » ‪.‬‬
‫وقال الشّافعيّة والحنابلة في صفة صلة الستسقاء ‪ :‬إنّه يكبّر فيها كتكبير العيد ‪ ،‬سبعا في‬
‫الولى ‪ ،‬وخمسا في الثّانية ‪ ،‬وهو قول سعيد بن المسيّب وعمر بن عبد العزيز ومكحول‬
‫ي ‪ ،‬وحكي عن ابن عبّاس ‪.‬‬
‫ومحمّد بن جرير الطّبر ّ‬
‫واستدلّوا بما روي أنّ مروان أرسل إلى ابن عبّاس يسأله عن سنّة الستسقاء ‪ ،‬فقال ‪«:‬‬
‫ن رسول اللّه صلى ال عليه وسلم قلب رداءه ‪،‬‬
‫سنّة الستسقاء الصّلة في العيدين ‪ ،‬إل أ ّ‬
‫فجعل يمينه يساره ويساره يمينه ‪ ،‬وصلّى ركعتين ‪ ،‬كبّر في الولى سبع تكبيرات ‪ ،‬وقرأ {‬
‫ث الغَاشِيةِ } وكبّر خمس تكبيرات »‪.‬‬
‫ك العْلَى } وقرأ في الثّانية { هلْ أَتَاكَ حَدِي ُ‬
‫سمَ رَبّ َ‬
‫سَ ّبحْ ا ْ‬
‫)‪.‬‬ ‫‪312/‬‬ ‫‪ ،‬ج ‪ ، 3/‬ص‬ ‫‪16/‬‬ ‫وتفصيل صفة صلة الستسقاء ينظر في استسقاء ( ف‬
‫هـ ‪ -‬تكبيرات الجنازة ‪:‬‬
‫ن تكبيرات الجنازة أركان ل تصحّ صلة الجنازة إل بها ‪ .‬أمّا‬
‫‪ -‬ل خلف بين الفقهاء في أ ّ‬ ‫‪10‬‬

‫عدد تكبيرات الجنازة ‪ ،‬فقد قال جماهير العلماء منهم أئمّة المذاهب الربعة ومحمّد بن‬
‫ي وسويد بن غفلة والثّوريّ ‪ :‬إنّ‬
‫الحنفيّة وعطاء بن أبي رباح ومحمّد بن سيرين والنّخع ّ‬
‫ح عن النّبيّ صلى ال عليه وسلم « أنّ آخر صلة صلّاها‬
‫تكبيرات الجنازة أربع ‪ .‬فقد ص ّ‬
‫على النّجاشيّ كبّر أربعا وثبت عليها حتّى توفّي » ‪.‬‬
‫وصحّ أنّ أبا بكر صلّى على النّبيّ صلى ال عليه وسلم فكبّر أربعا ‪ ،‬وصلّى صهيب على‬
‫ي فكبّر أربعا ‪ ،‬وصلّى عثمان على خبّاب فكبّر أربعا ‪.‬‬
‫عمر فكبّر أربعا وصلّى الحسن على عل ّ‬
‫وذهب قوم منهم عبد الرّحمن بن أبي ليلى وعيسى مولى حذيفة وأصحاب معاذ بن جبل وأبو‬
‫ي ‪ :‬وممّن‬
‫ن التّكبير على الجنائز خمس ‪ .‬قال الحازم ّ‬
‫يوسف من أصحاب أبي حنيفة إلى أ ّ‬
‫رأى التّكبير على الجنائز خمسا ابن مسعود وزيد بن أرقم وحذيفة بن اليمان ‪.‬‬
‫وقالت فرقة ‪ :‬يكبّر سبعا ‪ ،‬روي ذلك عن زرّ بن حبيش ‪.‬‬
‫وقال ابن عبّاس وأنس بن مالك وجابر بن زيد ‪ :‬يكبّر ثلثا ‪.‬‬
‫ن سنّة التّكبير على الجنازة أربع ‪ ،‬ول تسنّ الزّيادة عليها ‪ ،‬ول يجوز‬
‫قال ابن قدامة ‪ :‬إ ّ‬
‫النّقص منها ‪ .‬وللتّفصيل في أحكام رفع اليدين في تكبيرات الجنازة ‪ ،‬ومتابعة المام ‪،‬‬
‫وأحكام المسبوق بتكبير الصّلة في الجنازة ينظر مصطلح ( صلة الجنازة ) ‪.‬‬

‫ثانيا‬
‫التّكبير خارج الصّلة‬
‫التّكبير في الذان ‪:‬‬
‫‪ -‬يرى جمهور الفقهاء أنّ التّكبير في أوّل الذان أربع مرّات ‪ .‬وقال في شرح المشكاة‪:‬‬ ‫‪11‬‬

‫للعتناء بشأن هذا المقام الكبر ‪ ،‬كرّر الدّالّ عليه أربعا ‪ ،‬إشعارا بعظيم رفعته ‪.‬‬
‫ن التّكبير في أوّل الذان مرّتان اعتبارا بكلمة‬
‫وذهب المالكيّة وأبو يوسف من الحنفيّة إلى أ ّ‬
‫الشّهادتين ‪ ،‬حيث يؤتى بها مرّتين ‪ ،‬ولنّه عمل السّلف بالمدينة ‪.‬‬
‫أمّا التّكبير في آخر الذان فل خلف بين الفقهاء في أنّه مرّتان فقط ‪.‬‬
‫)‪.‬‬ ‫‪360/‬‬ ‫‪،‬‬ ‫‪359/‬‬ ‫ج ‪ 2/‬ص‬ ‫‪10/‬‬ ‫وللتّفصيل في ألفاظ الذان ‪ .‬ر ‪ :‬مصطلح ( أذان ‪ ،‬ف‬
‫التّكبير في القامة ‪:‬‬
‫‪ -‬التّكبير في بدء القامة مرّتان عند جمهور الفقهاء ‪ ،‬وأربع مرّات عند الحنفيّة ‪.‬‬ ‫‪12‬‬

‫أمّا التّكبير في آخر القامة فهو مرّتان بالتّفاق ‪.‬‬


‫)‪.‬‬ ‫‪6‬‬ ‫وتنظر كيفيّة القامة في مصطلح ‪ ( :‬إقامة ف ‪ 7/‬ج ‪ 6/‬ص ‪/ ، 7/‬‬
‫رفع الصّوت بالتّكبير عقيب المكتوبة ‪:‬‬
‫‪ -‬يرى جمهور الفقهاء عدم استحباب رفع الصّوت بالتّكبير والذّكر بعد الفراغ من الصّلة‬ ‫‪13‬‬

‫ي صلى ال عليه وسلم كان يرفع صوته بالذّكر‬


‫وقد حمل الشّافعيّ الحاديث الّتي تفيد أنّ النّب ّ‬
‫‪ .‬ومنها حديث ‪ " :‬ابن عبّاس رضي ال عنهما قال ‪ « :‬كنت أعرف انقضاء صلة النّبيّ‬
‫ن النّبيّ صلى ال عليه وسلم جهر ليعلم‬
‫صلى ال عليه وسلم بالتّكبير » حملها على أ ّ‬
‫الصّحابة صفة الذّكر ل أنّه كان دائما ‪ ،‬وقال الشّافعيّ ‪ :‬أختار للمام والمأموم أن يذكرا اللّه‬
‫بعد الفراغ من الصّلة ويخفيان ذلك إل أن يقصدا التّعليم فيعلّما ثمّ يسرّا ‪.‬‬
‫وللتّفصيل في الدعية والذكار في غير الصّلة والمفاضلة بين الجهر والسرار بها‬
‫)‪.‬‬ ‫‪175/‬‬ ‫‪ ،‬ج ‪ ، 4/‬ص‬ ‫‪20/‬‬ ‫( ر ‪ :‬ذكر ‪ ،‬وإسرار ف‬
‫التّكبير في طريق مصلّى العيد ‪:‬‬
‫‪ -‬ل خلف بين الفقهاء في جواز التّكبير جهرا في طريق المصلّى في عيد الضحى ‪ ،‬أمّا‬ ‫‪14‬‬

‫التّكبير في عيد الفطر فيرى جمهور الفقهاء أنّه يكبّر فيه جهرا واحتجّوا بقوله تعالى ‪:‬‬
‫{ وَلِ ُتكَبّرُوا الّل َه عَلى مَا هَدَا ُكمْ } قال ابن عبّاس ‪ :‬هذا ورد في عيد الفطر بدليل عطفه على‬
‫قوله تعالى ‪ { :‬وَلِ ُت ْكمِلُوا العِدّةَ } والمراد بإكمال العدّة بإكمال صوم رمضان ‪.‬‬
‫ولما روى نافع عن عبد اللّه « أنّ رسول اللّه صلى ال عليه وسلم كان يخرج في العيدين‬
‫مع الفضل بن عبّاس وعبد اللّه بن عبّاس وجعفر والحسن والحسين وأسامة بن زيد وزيد‬
‫بن حارثة وأيمن بن أمّ أيمن رافعا صوته بالتّهليل والتّكبير ‪ ،‬ويأخذ طريق الحدّادين حتّى‬
‫يأتي المصلّى » ‪ .‬وذهب أبو حنيفة إلى عدم الجهر بالتّكبير في عيد الفطر لنّ الصل في‬
‫جهْرِ ِمنَ القَولِ }‬
‫ن ال َ‬
‫ضرّعَا َوخِي َفةً وَدُو َ‬
‫ك في َن ْفسِكَ تَ َ‬
‫الثّناء الخفاء لقوله تعالى { وَاذْكُرْ رَبّ َ‬
‫ي»‪.‬‬
‫وقوله صلى ال عليه وسلم « خير الذّكر الخف ّ‬
‫ولنّه أقرب من الدب والخشوع ‪ ،‬وأبعد من الرّياء ‪.‬‬
‫ولنّ الشّرع ورد بالجهر بالتّكبير في عيد الضحى لقوله تعالى { وَاذْكُرُوا الّل َه في أَيّامٍ‬
‫َمعْدُودَات } جاء في التّفسير ‪ :‬المراد به التّكبير في هذه اليّام وليس كذلك يوم الفطر ‪ ،‬لنّه‬
‫لم يرد به الشّرع ‪ ،‬وليس في معناه أيضا ‪ ،‬لنّ عيد الضحى اختصّ بركن من أركان الحجّ ‪،‬‬
‫والتّكبير شرع علما على وقت أفعال الحجّ ‪ ،‬وليس في شوّال ذلك ‪.‬‬
‫وللتّفصيل في ابتداء التّكبير وانتهائه في العيدين وصفة التّكبير ( ر ‪ :‬صلة العيدين وعيد )‪.‬‬
‫التّكبير في أيّام التّشريق ‪:‬‬
‫‪ -‬ل خلف بين الفقهاء في مشروعيّة التّكبير في أيّام التّشريق إل أنّهم اختلفوا في حكمه‬ ‫‪15‬‬

‫‪ :‬فعند المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة هو مندوب ‪.‬‬


‫وقال الحنفيّة بوجوبه ‪ ،‬وقد سمّاه الكرخيّ سنّة ث ّم فسّره بالواجب ‪ ،‬فقال ‪ :‬تكبير التّشريق‬
‫سنّة ماضية ‪ ،‬نقلها أهل العلم ‪ ،‬وأجمعوا على العمل بها ‪.‬‬
‫ي ‪ :‬إطلق اسم السّنّة على الواجب جائز ‪.‬‬
‫وقال الكاسان ّ‬
‫هذا وللتّفصيل في صفة تكبير التّشريق وحكمه ‪ ،‬وفي وقته ‪ ،‬وفي محلّ أدائه ( ر ‪ :‬أيّام‬
‫‪ ،‬ومصطلح ‪ :‬عيد ) ‪.‬‬ ‫‪325/‬‬ ‫‪،‬ص‬ ‫‪7/‬‬ ‫‪-‬ج‬ ‫‪13/‬‬ ‫التّشريق ف‬
‫التّكبير عند الحجر السود ‪:‬‬
‫ن عند ابتداء كلّ طوفة من الطّواف بالكعبة استلم الحجر السود إن استطاع ‪،‬‬
‫‪ -‬يس ّ‬ ‫‪16‬‬

‫ويكبّر ويقول ‪ :‬باسم اللّه ‪ ،‬اللّه أكبر ‪ ،‬مع رفع يده اليمنى ‪ ،‬وإن لم يستطع استلمه يكبّر‬
‫عند محاذاته ويهلّل ويشير إليه ‪.‬‬
‫ي عن ابن عبّاس قال ‪ « :‬طاف النّبيّ صلى ال عليه وسلم بالبيت على بعير ‪،‬‬
‫وروى البخار ّ‬
‫وكان كلّما أتى على الرّكن أشار إليه بشيء في يده وكبّر » ‪ .‬وهذا محلّ اتّفاق بين الفقهاء ‪.‬‬
‫التّكبير في السّعي بين الصّفا والمروة ‪:‬‬
‫‪ -‬من سنن السّعي بين الصّفا والمروة التّكبير ‪ ،‬ويندب ‪ -‬بعد أن يرقى على الصّفا‬ ‫‪17‬‬

‫والمروة ويرى الكعبة ‪ -‬أن يكبّر ويهلّل ثلثا ‪ ،‬ث ّم يقول ‪ :‬اللّه أكبر على ما هدانا ‪. .‬‬
‫وهذا بل خلف ‪.‬‬
‫التّكبير أثناء الوقوف بعرفة ‪:‬‬
‫‪ -‬التّكبير أثناء الوقوف بعرفة مع رفع اليدين مبسوطتين سنّة عند الحنفيّة ‪ ،‬ومندوب‬ ‫‪18‬‬

‫عند المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ‪ .‬وكان ابن عمر يقول في عرفة ‪ :‬اللّه أكبر اللّه أكبر وللّه‬
‫الحمد ‪ .‬اللّه أكبر اللّه أكبر وللّه الحمد ‪ ،‬اللّه أكبر اللّه أكبر وللّه الحمد ‪.‬‬
‫التّكبير عند رمي الجمار ‪:‬‬
‫‪ -‬اتّفق الفقهاء على أنّه من السّنّة أن يكبّر مع رمي كلّ حصاة بأن يقول ‪ :‬باسم اللّه‬ ‫‪19‬‬

‫ن النّبيّ صلى ال‬


‫واللّه أكبر ‪ .‬ويقطع التّلبية مع أوّل حصاة لما روى الفضل بن عبّاس « أ ّ‬
‫عليه وسلم لم يزل يلبّي حتّى رمى جمرة العقبة » ‪.‬‬
‫التّكبير عند الذّبح والصّيد ‪:‬‬
‫ب أن يقول الشّخص عند الذّبح ‪ ،‬وعند إرسال الجارح ‪ ،‬ورمي السّهم للصّيد‬
‫‪ -‬يستح ّ‬ ‫‪20‬‬

‫" بسم اللّه واللّه أكبر " وهذا بل خلف ‪ .‬لحديث أنس الوارد في البخاريّ ومسلم ولفظه في‬
‫ي صلى ال‬
‫ن « النّبيّ صلى ال عليه وسلم سمّى وكبّر » وفي مسلم « أنّ النّب ّ‬
‫البخاريّ أ ّ‬
‫عليه وسلم قال ‪ :‬بسم اللّه واللّه أكبر » ولما روى عديّ بن حاتم قال ‪ « :‬سألت النّبيّ‬
‫صلى ال عليه وسلم عن الصّيد فقال إذا رميت سهمك فاذكر اسم اللّه عليه ‪ ،‬فإن وجدته قد‬
‫ن النّبيّ صلى ال عليه وسلم ذبح يوم العيد كبشين أملحين أقرنين‬
‫قتل فكل » وروي « أ ّ‬
‫وقال بسم اللّه واللّه أكبر » ‪ .‬وللتّفصيل ر ‪ ( :‬ذبح ‪ ،‬صيد ) ‪.‬‬
‫التّكبير عند رؤية الهلل ‪:‬‬
‫‪ -‬يستحبّ لمن رأى الهلل أن يقول ما روى ابن عمر قال ‪ « :‬كان رسول اللّه صلى ال‬ ‫‪21‬‬

‫عليه وسلم إذا رأى الهلل قال ‪ :‬اللّه أكبر الحمد للّه ل حول ول قوّة إل باللّه ‪ ،‬إنّي أسألك‬
‫خير هذا الشّهر ‪ ،‬وأعوذ بك من ش ّر القدر ‪ ،‬ومن سوء الحشر » ‪.‬‬
‫ي صلى ال عليه وسلم كان إذا رأى الهلل قال ‪ :‬اللّهمّ‬
‫وعن طلحة بن عبيد اللّه « أنّ النّب ّ‬
‫أهلّه علينا باليمن والسّلمة والسلم ‪ ،‬ربّي وربّك اللّه » ‪.‬‬

‫تكبيرة الحرام *‬
‫التّعريف ‪:‬‬
‫‪ -‬تكبيرة الحرام هي ‪ :‬قول المصلّي لفتتاح الصّلة " اللّه أكبر " أو كلّ ذكر يصير به‬ ‫‪1‬‬

‫شارعا في الصّلة ‪ .‬وسمّيت التّكبيرة الّتي يدخل بها الصّلة تكبيرة الحرام لنّها تحرّم‬
‫الشياء المباحة الّتي تنافي الصّلة ويسمّيها الحنفيّة في الغالب تكبيرة الفتتاح أو التّحريمة ‪.‬‬
‫والتّحريم جعل الشّيء محرّما والهاء لتحقيق السميّة ‪.‬‬
‫والحكمة من افتتاح الصّلة بالتّكبيرة هي تنبيه المصلّي على عظم مقام من قام لداء عبادته‬
‫من وصفه بأنواع الكمال وأنّ كلّ ما سواه حقير وأنّه جلّ عن أن يكون له شبيه من مخلوق‬
‫فان ‪ ،‬فيخضع قلبه وتخشع جوارحه ويخلو قلبه من الغيار فيمتلئ بالنوار ‪.‬‬
‫الحكم التّكليفيّ ‪:‬‬
‫‪ -‬ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ تكبيرة الحرام فرض من فروض الصّلة لقوله تعالى ‪:‬‬ ‫‪2‬‬

‫ن قوله تعالى ‪ { :‬وَرَبّكَ َفكَبّرْ } ‪ ،‬وكذا قوله ‪:‬‬


‫{ وَرَبّكَ َفكَبّرْ } والمراد تكبيرة الحرام ل ّ‬
‫سجُدُوا }‬
‫{ وَقُومُوا ِلّلهِ قَانِتِينَ } وقوله ‪ { :‬فَاقْرَءوا مَا تَ َيسّرَ مِنْه } ‪ ،‬وقوله ‪ { :‬ا ْر َكعُوا ‪ ،‬وَا ْ‬
‫أوامر ومقتضاها الفتراض ولم تفرض خارج الصّلة فوجب أن يراد بها الفتراض الواقع‬
‫في الصّلة إعمال للنّصوص في حقيقتها ‪.‬‬
‫ن النّبيّ صلى ال عليه وسلم قال ‪ :‬مفتاح الصّلة‬
‫ي رضي ال عنه « أ ّ‬
‫ولما روى عل ّ‬
‫الوضوء وتحريمها التّكبير وتحليلها التّسليم » وهو حديث حسن كما قال النّوويّ في‬
‫ي إلى‬
‫الخلصة ‪ .‬وذهب طائفة منهم سعيد بن المسيّب والحسن والحكم والزّهريّ والوزاع ّ‬
‫أنّ تكبيرة الحرام سنّة ‪ .‬كما روي عن مالك في المأموم ما يد ّل على أنّه سنّة ‪ ،‬ولم يختلف‬
‫قوله في المنفرد والمام أنّه واجب على ك ّل واحد منهما ‪.‬‬
‫‪ -‬هذا وقد اختلف الفقهاء في كون تكبيرة الحرام ركنا أو شرطا ‪.‬‬ ‫‪3‬‬

‫فذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ تكبيرة الحرام جزء من الصّلة وركن من أركانها ل تصحّ إل‬
‫بها ‪ ،‬لقوله عليه الصلة والسلم ‪ « :‬إنّ هذه الصّلة ل يصلح فيها شيء من كلم النّاس‬
‫إنّما هو التّسبيح والتّكبير وقراءة القرآن » فدلّ على أنّ التّكبير كالقراءة ‪ ،‬ولنّه يشترط لها‬
‫ما يشترط للصّلة من استقبال القبلة والطّهارة وستر العورة وهي أمارة الرّكنيّة ‪ ،‬ولنّه ل‬
‫يجوز أداء صلة بتحريمة صلة أخرى ولول أنّها من الركان لجاز كسائر الشّروط ‪.‬‬
‫ويرى الحنفيّة والشّافعيّة في وجه أنّها شرط خارج الصّلة وليست من نفس الصّلة ‪.‬‬
‫واستدلّوا بقوله تعالى ‪ { :‬وَ َذكَ َر اسْمَ رَ ّبهِ فَصَلّى } عطف الصّلة على الذّكر ‪ ،‬والذّكر الّذي‬
‫ص أن يكون التّكبير خارج الصّلة‬
‫تعقبه الصّلة بل فصل ليس إل التّحريمة فيقتضي هذا النّ ّ‬
‫لنّ مقتضى العطف المغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه إذ الشّيء ل يعطف على نفسه ‪.‬‬
‫وقال عليه الصلة والسلم « تحريمها التّكبير » فأضاف التّحريم إلى الصّلة والمضاف غير‬
‫المضاف إليه لنّ الشّيء ل يضاف إلى نفسه ‪ ،‬ولجل أنّ تكبيرة الحرام شرط فهو ل يتكرّر‬
‫كتكرار الركان في كلّ صلة كالرّكوع والسّجود فلو كان ركنا لتكرّر كما تكرّر الركان ‪.‬‬
‫كما علّلوا كون تكبيرة الحرام شرطا بأنّ الرّكن هو الدّاخل في الماهيّة والمصلّي ل يدخل في‬
‫الصّلة إل بفراغه من تكبيرة الحرام ‪ .‬وللتّوسّع فيما يترتّب على الخلف في كون تكبيرة‬
‫الحرام شرطا أو ركنا تنظر أبواب صفة الصّلة من الكتب الفقهيّة ‪.‬‬
‫شروط صحّة تكبيرة الحرام ‪:‬‬
‫مقارنتها لل ّنيّة ‪:‬‬
‫‪ -‬ل خلف بين الفقهاء في أفضليّة مقارنة تكبيرة الحرام للنّيّة ‪.‬‬ ‫‪4‬‬

‫وإنّما اختلفوا في جواز تقديم النّيّة على التّكبير ‪.‬‬


‫فذهب الحنفيّة والحنابلة والمالكيّة في أحد القولين إلى جواز تقديم النّيّة على التّكبير في‬
‫الجملة وقالوا ‪ :‬لو نوى عند الوضوء إنّه يصلّي الظّهر مثل ولم يشتغل بعد النّيّة بعمل يدلّ‬
‫على العراض كأكل وشرب وكلم ونحوها ثمّ انتهى إلى مح ّل الصّلة ولم تحضره النّيّة‬
‫ن الصّلة عبادة فجاء تقديم نيّتها عليها كالصّوم وتقديم‬
‫جازت صلته بالنّيّة السّابقة ‪ ، .‬ل ّ‬
‫النّيّة على الفعل ل يخرجه عن كونه منويّا ‪.‬‬
‫وهذا ما يعبّر عنه الحنفيّة بالمقارنة الحكميّة ‪ .‬وقد ذكر هذا الفريق شروطا لجواز تقديم‬
‫النّيّة على التّكبير تنظر في أبواب الصّلة من كتب الفقه وفي مصطلح ‪ ( :‬نيّة ) ‪.‬‬
‫ويرى الشّافعيّة والمالكيّة في القول الخر وابن المنذر وجوب مقارنة النّيّة للتّكبير لقوله‬
‫تعالى ‪َ { :‬ومَا ُأمِرُوا إل لِ َيعْبُدوا الّل َه ُمخْلِصِينَ لَه الدّينَ } فقوله ‪ُ { :‬مخْلِصِينَ } حال لهم في‬
‫ن الحال وصف هيئة الفاعل وقت الفعل ‪ ،‬والخلص هو النّيّة ‪ ،‬وقال النّبيّ‬
‫وقت العبادة ‪ ،‬فإ ّ‬
‫ن النّيّة شرط فلم يجز أن تخلو العبادة‬
‫صلى ال عليه وسلم ‪ « :‬إنّما العمال بالنّيّات » ول ّ‬
‫عنها كسائر الشّروط ‪.‬‬
‫واختار النّوويّ في شرح المهذّب والوسيط تبعا لمام الحرمين والغزاليّ الكتفاء بالمقارنة‬
‫العرفيّة عند العوّام بحيث يعدّ مستحضرا للصّلة اقتداء بالوّلين في تسامحهم بذلك ‪.‬‬
‫ن الصّلة‬
‫أمّا إذا تأخّرت النّيّة عن تكبيرة الحرام فل تجزئ التّكبيرة وتكون الصّلة باطلة ‪ ،‬ل ّ‬
‫عبادة وهي ل تتجزّأ ولو جاز تأخير النّيّة لوقع البعض الّذي ل نيّة فيه غير عبادة وما فيه‬
‫نيّة عبادة فيلزم التّجزّؤ ‪ .‬بهذا قال الحنفيّة والمالكيّة وللتّفصيل ( ر ‪ :‬نيّة ) ‪.‬‬
‫التيان بتكبيرة الحرام قائما ‪:‬‬
‫‪ -‬يجب أن يكبّر المصلّي قائما فيما يفترض له القيام « لقول النّبيّ صلى ال عليه وسلم‬ ‫‪5‬‬

‫لعمران بن حصين وكانت به بواسير صلّ قائما فإن لم تستطع فقاعدا فإن لم تستطع فعلى‬
‫ي « فإن لم تستطع فمستلقيا » ‪.‬‬
‫جنب » وزاد النّسائ ّ‬
‫ويتحقّق القيام بنصب الظّهر فل يجزئ إيقاع تكبيرة الحرام جالسا أو منحنيا والمراد بالقيام‬
‫ما يعمّ الحكميّ ليشمل القعود في نحو الفرائض لعذر ‪.‬‬
‫ل ‪ ،‬بل عدم النحناء المتّصف بكونه أقرب إلى‬
‫قال الطّحاويّ ‪ :‬ليس الشّرط عدم النحناء أص ً‬
‫الرّكوع من القيام ‪ .‬وللفقهاء خلف وتفصيل في انعقاد صلة المسبوق إذا أدرك المام راكعا‬
‫فحنى ظهره ثمّ كبّر ‪ ( :‬ينظر في مسبوق ) ‪.‬‬
‫النّطق بتكبيرة الحرام ‪:‬‬
‫‪ -‬يجب على المصلّي النّطق بتكبيرة الحرام بحيث يسمع نفسه ‪ ،‬إل أن يكون به عارض‬ ‫‪6‬‬

‫من طرش أو ما يمنعه السّماع فيأتي به بحيث لو كان سميعا أو ل عارض به لسمعه ‪.‬‬
‫أمّا تكبير من كان بلسانه خبل أو خرس فينظر في مصطلح ‪ ( :‬خرس ) ‪.‬‬
‫كون تكبيرة الحرام بالعربيّة ‪:‬‬
‫‪ -‬ل تجوز تكبيرة الحرام بغير العربيّة لمن يحسن العربيّة ‪ ،‬بهذا قال المالكيّة والشّافعيّة‬ ‫‪7‬‬

‫والحنابلة ‪ ،‬وأبو يوسف ومحمّد ‪.‬‬


‫وأمّا من لم يحسن العربيّة فيجوز له التّكبير بلغته في الجملة عند الشّافعيّة والحنابلة وأبي‬
‫ن التّكبير ذكر للّه ‪ ،‬وذكر اللّه يحصل بكلّ لسان ‪.‬‬
‫يوسف ومحمّد من الحنفيّة ‪ ،‬ل ّ‬
‫وقال المالكيّة والقاضي أبو يعلى بعدم إجزاء مرادف تكبيرة الحرام بعربيّة ول عجميّة فإن‬
‫عجز عن النّطق بها سقطت ككلّ فرض ‪.‬‬
‫وأجاز أبو حنيفة ترجمة تكبيرة الحرام لمن يحسن العربيّة ولغيره ‪ ،‬وقال لو افتتح الصّلة‬
‫بالفارسيّة وهو يحسن العربيّة أجزأه ‪ .‬وفي شرح الطّحاويّ لو كبّر بالفارسيّة أو بأيّ لسان‬
‫سواء كان يحسن العربيّة أو ل جاز باتّفاق المام وصاحبيه ‪ ،‬وهذا يعني رجوع الصّاحبين‬
‫إلى قول المام في جواز التّكبير بالعجميّة ‪.‬‬
‫) وأبواب الصّلة من كتب الفقه ‪.‬‬ ‫‪170/‬‬ ‫وللتّفصيل ( ر ‪ :‬ترجمة ف ‪ ، 9/‬ج ‪ ، 11/‬ص‬
‫الشّروط المتعلّقة بلفظ تكبيرة الحرام ‪:‬‬
‫‪ -‬ل خلف بين الفقهاء في انعقاد ال صّلة بقول المصلّي " اللّه أكبر " ث مّ اختلفوا فيما عداه‬ ‫‪8‬‬

‫ن الصّلة ل تنعقد إل بقول‬


‫من ألفاظ التّعظيم هل يقوم مقامه ؟ فذهب المالكيّة والحنابلة إلى أ ّ‬
‫" اللّه أكبر " ول يجزئ عند هم غ ير هذه الكلمة بشروط ها الّ تي ذكرو ها بالتّفصيل في كتبهم‬
‫ي صلى ال عليه وسلم ‪ « :‬تحريمها التّكبير » ‪.‬‬
‫واستدلّوا بقول النّب ّ‬
‫وقال للمسيء صلته ‪ « :‬إذا قمت إلى ال صّلة فكبّر » وفي حديث رفاعة أ نّ النّبيّ صلى ال‬
‫عل يه و سلم قال ‪ « :‬ل تت مّ صلة ل حد من النّاس حتّى يتوضّأ في ضع الوضوء مواض عه ث مّ‬
‫ي صلى ال عليه وسلم يفتتح الصّلة بقوله ‪ :‬اللّه أكبر » ولم‬
‫يقول ‪ :‬اللّه أكبر » « وكان النّب ّ‬
‫ينقـل عنـه العدول عـن ذلك حتّى فارق الدّنيـا ‪ .‬وهذا يدلّ على أنّه ل يجوز العدول عنـه ‪.‬‬
‫ويقول الشّافعيّة بمثل ما قال به المالكيّة والحنابلة من أنّه يتعيّن على القادر كلمة التّكبير ول‬
‫ب أعظم " إل أنّهم يقولون على المشهور بأ نّ‬
‫يجزئ ما قرب منها ‪ ،‬ك ‪ :‬الرّحمن أجلّ ‪ ،‬والرّ ّ‬
‫الزّيادة الّ تي ل تمنع ا سم التّ كبير ‪ :‬كاللّه ال كبر " ل تض ّر ‪ ،‬لنّه ل فظ يد ّل على التّ كبير وعلى‬
‫زيادة مبال غة في التّعظ يم و هو الشعار بالتّخ صيص ف صار كقوله اللّه أ كبر من كلّ ش يء ‪.‬‬
‫وكذا ل يضرّ عندهـم ( اللّه أكـبر وأجلّ ) وكذا ك ّل صـفة مـن صـفاته تعالى إذا لم يطـل بهـا‬
‫الف صل كقوله ‪ :‬اللّه عزّ وجلّ أ كبر ‪ ،‬لبقاء النّ ظم والمع نى ‪ ،‬بخلف ما لو تخلّل غ ير صفاته‬
‫تعالى أو طالت صفاته تعالى ‪.‬‬
‫ويرى إبراهيم النّخعيّ وأبو حنيفة ومحمّد صحّة الشّروع في الصّلة بكلّ ذكر هو ثناء خالص‬
‫للّه تعالى يراد به تعظيمه ل غير مثل أن يقول ‪ :‬اللّه أكبر اللّه الكبر ‪ ،‬اللّه الكبير ‪ ،‬اللّه أجلّ‬
‫‪ ،‬اللّه أع ظم ‪ ،‬أو يقول ‪ :‬الح مد للّه أو سبحان اللّه ‪ ،‬أو ل إله إل اللّه ‪ ،‬وكذلك كلّ ا سم ذ كر‬
‫مع ال صّفة ن حو أن يقول ‪ :‬الرّح من أع ظم ‪ ،‬الرّح يم أجلّ ‪ ،‬سواء كان يح سن التّ كبير أو ل‬
‫ّبـ‬
‫َصـلّى } والمراد منـه ذكـر اسـم الر ّ‬
‫ّهـ ف َ‬
‫اسـمَ رَب ِ‬
‫يحسـن ‪ .‬واحتجّوا بقوله تعالى ‪ { :‬وَ َذكَرَ ْ‬
‫لفتتاح ال صّلة لنّه عقّب ال صّلة الذّكر بحرف يوجب التّعقيب بل فصل ‪ ،‬والذّكر الّذي تتعقّبه‬
‫ال صّلة بل ف صل هو ت كبيرة الفتتاح ‪ ،‬ف قد شرع الدّخول في ال صّلة بمطلق الذّ كر فل يجوز‬
‫التّقي يد باللّ فظ المشت قّ من ال كبرياء بأخبار الحاد و به تبيّن أ نّ الح كم تعلّق بتلك اللفاظ من‬
‫ن التّكبير هو التّعظيم فك ّل لفظ‬
‫حيث هي مطلق الذّكر ‪ ،‬ل من حيث هي ذكر بلفظ خاصّ ‪ .‬ول ّ‬
‫ن أ با العالية سئل‬
‫دلّ على التّعظ يم وجب أن يكون الشّروع به ‪ ،‬و في سنن ابن أ بي شيبة أ ّ‬
‫بأيّ شيء كان النبياء يفتتحون الصّلة ؟ قال بالتّوحيد والتّسبيح والتّهليل ‪.‬‬
‫وقال أبو يوسف ل يصير شارعا إل بألفاظ مشتقّة من التّكبير وهي ثلثة ‪ :‬اللّه أكبر ‪ ،‬اللّه‬
‫ال كبر ‪ ،‬اللّه ال كبير ‪ ،‬إل إذا كان ل يح سن التّ كبير أو ل يعلم أ نّ الشّروع بالتّ كبير ‪ ،‬واحت جّ‬
‫بقوله صلى ال عليه وسلم « وتحريمها التّكبير » والتّكبير حاصل بهذه اللفاظ الثّلثة ‪.‬‬
‫أنـ الفقهاء اتّفقوا على وجوب تقديـم لفـظ‬
‫وممّا يتّصـل بالشّروط المتعلّقـة بلفـظ التّكـبير ‪ّ :‬‬
‫الجللة على ( أكـبر ) فـي التّكـبير ‪ ،‬فإن نكّسـه ل يصـحّ لنّه ل يكون تكـبيرا ‪ ،‬كمـا أنّه ل‬
‫خلف بين الفقهاء في وجوب الحتراز في التّكبير عن زيادة تغيّر المعنى ‪.‬‬
‫ح تكـبيره ‪.‬‬
‫ف من قال ‪ ( :‬آللّه أكـبر ) بمدّ همزة " اللّه " أو بهمزت ين أو قال اللّه أكبار لم يصـ ّ‬
‫ولم يختلفوا كذلك في أنّ زيادة المدّ على اللف الّتي بين اللّام والهاء من لفظ الجللة ل تضرّ‬
‫‪ ،‬ل نّ زيادة المدّ إشباع ل نّ اللّام ممدودة فغاي ته أنّه زاد في مدّ اللّام ولم يأت بحرف زائد ‪.‬‬
‫وألحق الشّافعيّة بمبطلت التّكبير زيادة واو ساكنة أو متحرّكة بين كلمتي التّكبير ‪.‬‬
‫ويقول المالكيّة ‪ :‬إ نّ زيادة واو قبل همزة اللّه أكبر أو قلب الهمزة واوا ل يبطل به الحرام ‪،‬‬
‫إل أنّهم يقولون ببطلن الحرام بالجمع بين إشباع الهاء من ( اللّه ) وزيادة واو مع همزة "‬
‫أكـبر " ‪ .‬أم ّا مجرّد إشباع الهاء مـن لفـظ الجللة وإن كان خطـأ لغـة إلّا أن ّه ل تفسـد بـه‬
‫ال صّلة ‪ ،‬بهذا صرّح الحنفيّة ‪ ،‬كما أ نّ فقهاء المذاهب الخرى لم يعدّوه من مبطلت الحرام‬
‫‪.‬‬
‫أمّا تشد يد الرّاء من ( أكبر ) فيبطل به الحرام بال صّلة عند المالكيّة و هو ما أفتى به ا بن‬
‫رزين من الشّافعيّة ‪ .‬وقال الرّمليّ وابن العماد وغيرهما ‪ :‬إنّه ل يض ّر لنّ الرّاء حرف تكرير‬
‫وزيادته ل تغيّر المعنى ‪.‬‬
‫أنـ الوقفـة الطّويلة بيـن ( اللّه ) ( وأكـبر ) مبطلة للحرام‬
‫هذا ويرى المالكي ّة والشّافعي ّة ّ‬
‫بالصّلة ‪ ،‬أمّا الوقفة اليسيرة بينهما فل يبطل بها الحرام ‪.‬‬
‫ن الفقهاء ذكروا شروطا كثيرة لصحّة تكبيرة الحرام ‪.‬‬
‫ويبقى التّنويه بأ ّ‬
‫أنـ معظـم الشّروط الّتـي ذكروهـا هـي نفسـها شروط‬
‫وبتتبّع عبارات هؤلء الفقهاء يتـبيّن ّ‬
‫لل صّلة كدخول الو قت واعتقاد دخوله والطّ هر من الحدث والخ بث و ستر العورة وال ستقبال‬
‫وتعيين الفرض في ابتداء الشّروع ونيّة اتّباع المام مع نيّة أصل الصّلة للمقتدي ‪.‬‬
‫ن هذه الشّروط تذ كر بالتّف صيل في م صطلح ( صلة ‪ ،‬ونيّة ‪ ،‬واقتداء ) ف قد اكت فى‬
‫ونظرا ل ّ‬
‫ه نا بذ كر ما تقدّم من الشّروط ‪ ،‬ف من أراد التّو سّع فليرا جع هذه الم صطلحات وأبواب صفة‬
‫الصّلة من كتب الفقه ‪.‬‬

‫تكرار *‬
‫التّعريف ‪:‬‬
‫‪ -‬التّكرار ‪ :‬التيان بالشّيء مرّة بعد أخرى ‪ ،‬وهو اسم مصدر من التّكرير ‪ .‬مصدر كرّر‬ ‫‪1‬‬

‫ول يخرج استعمال الفقهاء لكلمة " التّكرار " عن هذا المعنى اللّغويّ ‪.‬‬
‫اللفاظ ذات الصّلة ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬العادة ‪:‬‬
‫‪ -‬من معاني العادة ‪ :‬فعل الشّيء مرّة بعد أخرى ‪ .‬ولتفصيل باقي معانيها يرجع إلى‬ ‫‪2‬‬

‫مصطلح " إعادة " ‪ .‬والفرق بين التّكرار ‪ ،‬وبين العادة ‪ -‬بهذا المعنى ‪ : -‬أنّ التّكرار يقع‬
‫على إعادة الشّيء مرّة ومرّات ‪ ،‬والعادة للمرّة الواحدة فكلّ إعادة تكرار ‪ ،‬وليس العكس ‪.‬‬
‫حكمه الجماليّ ومواطنه ‪:‬‬
‫‪ -‬يختلف حكم التّكرار باختلف مواطنه ‪:‬‬ ‫‪3‬‬

‫فقد يكون مباحا ‪ ،‬كتكرار صلة الستسقاء في اليوم الثّاني والثّالث عند جمهور الفقهاء ‪.‬‬
‫وقال إسحاق ‪ :‬ل يخرج النّاس إل مرّة واحدة ‪ .‬وهو وجه للشّافعيّة أيضا ‪.‬‬
‫وقد يكون مندوبا ‪ :‬كتكرار عرض اليمين على المدّعى عليه ثلثا عند النّكول ‪.‬‬
‫وقد يكون سنّة ‪ :‬كتكرار الغسل في الوضوء والغسل عند الحنفيّة ‪ ،‬والشّافعيّة والحنابلة ‪.‬‬
‫وأمّا عند المالكيّة فمستحبّ ‪.‬‬
‫وكذلك تكرار مسح الرّأس عند الشّافعيّة ‪ .‬وهو رواية عن أحمد ‪.‬‬
‫ن ‪ .‬وروي ذلك عن‬
‫وأمّا عند الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة في الصّحيح من المذهب فل يس ّ‬
‫ابن عمر وابنه سالم ‪ ،‬والنّخعيّ ‪ ،‬ومجاهد ‪ ،‬وطلحة بن مصرف ‪ ،‬والحكم ‪ ،‬وقال التّرمذيّ ‪:‬‬
‫والعمل عليه عند أكثر أهل العلم من أصحاب رسول اللّه صلى ال عليه وسلم ومن بعدهم ‪.‬‬
‫وقد يكون واجبا ‪ :‬كتكرار سجدة التّلوة بتكرير تلوة سجدة واحدة في مجلس واحد عند‬
‫الحنابلة ‪ ،‬وهو أصل المذهب عند المالكيّة ‪ ،‬فإنّهم يقولون بتكرير السّجدة إن كرّر موجبها‬
‫في وقت واحد ‪ .‬لوجود المقتضي للسّجود إل المعلّم والمتعلّم ‪.‬‬
‫وذهب الحنفيّة والشّافعيّة إلى أنّ من كرّر الية الواحدة في المجلس الواحد ‪ ،‬أجزأته سجدة‬
‫واحدة ‪ ،‬وفي الموضوع تفصيل ‪ -‬يرجع فيه إلى ( سجدة التّلوة ) ‪.‬‬
‫وقد يكون مكروها ‪ :‬كتكرار المسح على الخفّ عند الشّافعيّة ‪ ،‬أو غير جائز كتكراره عند‬
‫الحنفيّة والمالكيّة ‪ .‬وعند الحنابلة ل يجب تكراره ‪ ،‬بل ل يسنّ ‪.‬‬
‫وقد اتّفق الفقهاء على عدم جواز التّكرار أو عدم وجوبه في مسائل ‪ ،‬واختلفوا في أخرى ‪.‬‬
‫فمن المسائل المتّفق عليها ‪:‬‬
‫‪ -‬عدم جواز تكرار سجود السّهو ‪ ،‬وعدم تكرار الحجّ وجوبا ‪ ،‬لنّ سببه البيت ‪ ،‬وأنّه ل‬ ‫‪4‬‬

‫يتعدّد ‪ ،‬فل يتكرّر الوجوب ‪ .‬وعدم جواز تكرار الحدّ ‪ ،‬فإنّ من كرّر جرائم السّرقة ‪ ،‬أو‬
‫الزّنى ‪ ،‬أو الشّرب ‪ ،‬أو القذف ‪ ،‬قبل إقامة الحدّ ‪ ،‬أقيم عليه ح ّد واحد ‪ ،‬وحكي عن ابن‬
‫القاسم أنّه يح ّد حدّا ثانيا ‪.‬‬
‫ومن المسائل المختلف فيها ‪:‬‬
‫‪ -‬تكرار السّرقة بعد قطع يده ورجله ‪ ،‬ففيه خلف وتفصيل يرجع فيه إلى مصطلح "‬ ‫‪5‬‬

‫سرقة " وإلى موطنه من كتب الفقه ‪.‬‬


‫وتكرار صلة الكسوف وقبول توبة من تكرّرت ردّته ‪ -‬والعياذ باللّه ‪ -‬ولتفصيل ذلك يرجع‬
‫إلى مصطلحي ( صلة الكسوف ‪ ،‬وتوبة ) ومواطنها من كتب الفقه ‪.‬‬
‫ومنها تكرير القرار في وجوب الحدّ ‪ :‬فذهب المالكيّة ‪ ،‬والشّافعيّة ‪ ،‬والحنفيّة ‪ -‬ما عدا زفر‬
‫‪ -‬إلى أنّه ل يشترط تكرير القرار في وجوب الحدّ ‪ ،‬ويرى الحنابلة وزفر من الحنفيّة وابن‬
‫شبرمة ‪ ،‬وابن أبي ليلى تكرير العتراف مرّتين ‪ ،‬وهو ما روي عن عليّ رضي ال عنه‬
‫أيضا ‪.‬‬
‫وفي تكرار الطّلق لمدخول بها وغير مدخول بها ‪ ،‬وتكرار الطّلق مع العطف وعدمه ‪،‬‬
‫وتكرار يمين اليلء في مجلس واحد ‪ ،‬وتكرار الظّهار وأثره في تحريم الزّوجة ‪ ،‬وتعدّد‬
‫‪24‬‬ ‫‪،‬‬ ‫‪23/ 2‬‬ ‫الكفّارة ‪ ،‬خلف وتفصيل يرجع فيه إلى مصطلح ( اتّحاد المجلس ) الموسوعة‬
‫ومواطنها من كتب الفقه ) ‪ .‬وأمّا مسألة اقتضاء المر الخالي عن القرائن ‪ -‬التّكرار أم ل ؟‬
‫فموطن تفصيلها الملحق الصوليّ ‪.‬‬

‫تكفير *‬
‫التّعريف ‪:‬‬
‫‪ -‬من معاني التّكفير في اللّغة ‪ :‬التّغطية والسّتر وهو أصل الباب ‪ .‬تقول العرب للزّرّاع ‪:‬‬ ‫‪1‬‬

‫عجَبَ الكُفّا َر نَبَاتُه } ‪.‬‬


‫ث أَ ْ‬
‫كافر ‪ ،‬ومنه قوله تعالى { َكمَ َثلِ غَي ٍ‬
‫وأيضا يقال ‪ :‬التّكفير في المحارب ‪ :‬إذا تكفّر في سلحه ‪ ،‬والتّكفير أيضا ‪ :‬هو أن ينحني‬
‫النسان ويطأطئ رأسه قريبا من الرّكوع ‪ ،‬كما يفعل من يريد تعظيم صاحبه ‪ ،‬ومنه حديث‬
‫أبي معشر« أنّه كان يكره التّكفير في الصّلة » أي النحناء الكثير في حال القيام ‪.‬‬
‫والكفر في الشّرع ‪ :‬نقيض اليمان ‪ ،‬وهو الجحود ‪ ،‬ومنه قوله تعالى { إنّا ِب ُكلّ كَا ِفرُون }‬
‫أي جاحدون ‪ .‬وهو بهذا ل يخرج عن معناه اللّغويّ ‪ ،‬لنّ الكافر ذو كفر ‪ ،‬أي ذو تغطية‬
‫لقلبه بكفره ‪ ،‬قال صاحب الدّرّ المختار ‪ :‬الكفر شرعا ‪ :‬تكذيبه صلى ال عليه وسلم في‬
‫شيء ممّا جاء به من الدّين ضرورة ‪ .‬والتّكفير ‪ :‬هو نسبة أحد من أهل القبلة إلى الكفر ‪.‬‬
‫حسَنَاتِ يُذْهِ ْبنَ‬
‫ن ال َ‬
‫وتكفير الذّنوب محوها بفعل الحسنات ونحوه ‪ ،‬لقوله تعالى ‪ { :‬إ ّ‬
‫السّيّئاتِ } وسيأتي تفصيله ‪ .‬والتّكفير عن اليمين ‪ :‬هو فعل ما يجب بالحنث فيها ‪.‬‬
‫اللفاظ ذات الصّلة ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬التّشريك ‪:‬‬
‫‪ -‬التّشريك ‪ :‬مصدر شرّك ‪ ،‬يقال ‪ :‬شرّكت بينهما في المال تشريكا ‪ ،‬وشرّك النّعل ‪ :‬جعل‬ ‫‪2‬‬

‫لها شراكا ‪ .‬وشرعا ‪ :‬أن تجعل للّه شريكا في ملكه أو ربوبيّته ‪ .‬قال تعالى حكاية عن عبده‬
‫عظِيمٌ } ‪.‬‬
‫ك َلظُ ْلمٌ َ‬
‫ن الشّرْ َ‬
‫ي ل ُتشْ ِركْ بِالّلهِ إ ّ‬
‫لقمان أنّه قال لبنه ‪ { :‬يَا بُنَ ّ‬
‫والكفر أعمّ من الشّرك فهو أحد أفراده ‪.‬‬
‫والتّشريك أيضا ‪ :‬بيع بعض ما اشترى بما اشتراه به ‪ ،‬فهو التّولية بجزء السّلعة ‪،‬‬
‫والمقصود من البحث هو المعنى الوّل ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬التّفسيق ‪:‬‬
‫‪ -‬التّفسيق ‪ :‬تفعيل من الفسق ‪ ،‬وهو في اللّغة ‪ :‬الخروج عن المر ‪ ،‬ويقال ‪ :‬أصله‬ ‫‪3‬‬

‫خروج الشّيء من الشّيء على وجه الفساد ‪ ،‬يقال ‪ :‬فسقت الرّطبة ‪ :‬إذا خرجت من‬
‫قشرها ‪ ،‬وكأنّ الفأرة إنّما سمّيت فويسقة لخروجها من جحرها على النّاس ‪.‬‬
‫وهو شرعا ‪ :‬العصيان والتّرك لمر اللّه عزّ وجلّ والخروج عن طريق الحقّ ‪ ،‬ومنه قوله‬
‫ن َأمْرِ رَ ّبهِ } أي خرج عن طاعة ربّه ‪.‬‬
‫ق عَ ْ‬
‫تعالى حكاية عن إبليس { َففَسَ َ‬
‫وقد يكون الفسق شركا ‪ ،‬أو كفرا ‪ ،‬أو إثما ‪.‬‬
‫الحكام المتعلّقة بالتّكفير ‪:‬‬
‫أوّلً‬
‫تكفير المسلم ‪:‬‬
‫‪ -‬الصل بقاء المسلم على إسلمه حتّى يقوم الدّليل على خلف ذلك ‪ ،‬لما ثبت عن النّبيّ‬ ‫‪4‬‬

‫صلى ال عليه وسلم أنّه قال ‪ « :‬من صلّى صلتنا ‪ ،‬واستقبل قبلتنا ‪ ،‬وأكل ذبيحتنا فهو‬
‫المسلم ‪ ،‬له ما لنا وعليه ما علينا » ‪.‬‬
‫ويجب قبل تكفير أيّ مسلم النّظر والتّفحّص فيما صدر منه من قول أو فعل ‪ ،‬فليس كلّ قول‬
‫أو فعل فاسد يعتبر مكفّرا ‪.‬‬
‫ويجب كذلك على النّاس اجتناب هذا المر والفرار منه وتركه لعلمائهم لخطره العظيم ‪ ،‬فعن‬
‫ابن عمر رضي ال عنه قال ‪ « :‬قال رسول اللّه صلى ال عليه وسلم ‪ :‬إذا قال الرّجل لخيه‬
‫يا كافر فقد باء به أحدهما ‪ ،‬فإن كان كما قال ‪ ،‬وإل رجعت عليه » ‪.‬‬
‫وعن أبي ذرّ رضي ال عنه أنّه سمع رسول اللّه صلى ال عليه وسلم يقول ‪ « :‬من دعا‬
‫ل بالكفر ‪ ،‬أو قال ‪ :‬عد ّو اللّه ‪ ،‬وليس كذلك إل حار عليه » ‪.‬‬
‫رج ً‬
‫التّحرّز من التّكفير ‪:‬‬
‫‪ -‬ل ينبغي أن يكفّر مسلم أمكن حمل كلمه على محمل حسن ‪ ،‬أو كان في كفره خلف‬ ‫‪5‬‬

‫ك في أنّه كفر ل يحكم به ‪ ،‬فإنّ المسلم ل يخرجه من اليمان‬


‫ولو كان رواية ضعيفة ‪ .‬ما يش ّ‬
‫ن السلم يعلو ‪ ،‬فإن كان في‬
‫إلّا جحود ما أدخله فيه ‪ ،‬إذ السلم الثّابت ل يزول بالشّكّ مع أ ّ‬
‫المسألة وجوه توجب التّكفير ووجه واحد يمنعه فعلى المفتي أن يميل إلى الوجه الّذي يمنع‬
‫ن الكفر نهاية في العقوبة فيستدعي نهاية‬
‫ن بالمسلم ‪ ،‬ول ّ‬
‫التّكفير ‪ ،‬لعظم خطره وتحسينا للظّ ّ‬
‫في الجناية ‪ ،‬ومع الشّكّ والحتمال ل نهاية ‪.‬‬
‫متى يحكم بالكفر ‪:‬‬
‫‪ -‬يشترط في تكفير المسلم أن يكون مكلّفا مختارا عند صدور ما هو مكفّر منه ‪ ،‬فل يصحّ‬ ‫‪6‬‬

‫ي ومجنون ‪ ،‬ول من زال عقله بنوم أو إغماء ‪ ،‬لعدم تكليفهم ‪ ،‬فل اعتداد بقولهم‬
‫تكفير صب ّ‬
‫واعتقادهم ‪ .‬وكذلك ل يجوز تكفير مكره على الكفر وقلبه مطمئنّ باليمان ‪ ،‬قال تعالى ‪{ :‬‬
‫طمَئنّ بِاليمَانِ } ‪.‬‬
‫ن أُكْرِ َه وَقَلْبُه ُم ْ‬
‫إل مَ ْ‬
‫وجرى الخلف بين الفقهاء في صحّة تكفير الصّبيّ المميّز والسّكران إذا صدر منهما ما هو‬
‫مكفّر ‪ .‬فذهب الحنفيّة والحنابلة إلى صحّة تكفير الصّبيّ المميّز إذا صدر منه ما هو مكفّر ‪.‬‬
‫ويفهم من كلم المالكيّة تقييده بالصّبيّ المميّز المراهق فقط ‪.‬‬
‫وذهب الشّافعيّة إلى عدم صحّة تكفير الصّبيّ المميّز لعدم تكليفه مع اتّفاقهم على أنّه ل يقتل‬
‫بل يجبر على السلم بالضّرب والتّهديد والحبس ‪.‬‬
‫وعند الحنابلة ينتظر إلى ما بعد البلوغ والستتابة ‪ ،‬فإن أصرّ قتل ‪ ،‬لحديث « رفع القلم عن‬
‫ي حتّى يكبر » ‪.‬‬
‫ثلثة ‪ :‬عن النّائم حتّى يستيقظ ‪ ،‬وعن المبتلى حتّى يبرأ ‪ ،‬وعن الصّب ّ‬
‫تكفير السّكران ‪:‬‬
‫ن السّكران غير المتعدّي بسكره ل يحكم بردّته إذا صدر منه ما هو‬
‫‪ -‬اتّفق الفقهاء على أ ّ‬ ‫‪7‬‬

‫مكفّر ‪ ،‬واختلفوا في السّكران المتعدّي بسكره ‪ :‬فذهب جمهور الفقهاء " المالكيّة والشّافعيّة‬
‫والحنابلة " إلى تكفيره إذا صدر منه ما هو مكفّر ‪.‬‬
‫ي رضي ال عنه " إذا سكر هذى ‪ ،‬وإذا هذى افترى ‪ ،‬وعلى المفتري ثمانون‬
‫لقول عل ّ‬
‫فأوجبوا عليه حدّ الفرية الّتي يأتي بها في سكره واعتبروا مظنّتها ‪ ،‬ولنّه يصحّ طلقه‬
‫وسائر تصرّفاته فتصحّ ردّته ‪ ،‬وذهب الحنفيّة إلى عدم تكفير السّكران مطلقا ‪.‬‬
‫بم يكون التّكفير ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬التّكفير بالعتقاد ‪:‬‬
‫‪ -‬اتّفق الفقهاء على تكفير من اعتقد الكفر باطنا ‪ ،‬إل أنّه ل تجري عليه أحكام المرت ّد إل‬ ‫‪8‬‬

‫إذا صرّح به ‪ .‬ومن عزم على الكفر في المستقبل ‪ ،‬أو تردّد فيه ‪ ،‬فإنّه يكفر حالً لنتفاء‬
‫ك إليه بالتّردّد في الكفر ‪.‬‬
‫التّصديق بعزمه على الكفر في المستقبل ‪ ،‬وتطرّق الشّ ّ‬
‫ول تجري عليه أحكام المرت ّد إل إذا صرّح بالكفر أيضا ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬التّكفير بالقول ‪:‬‬
‫‪ -‬اتّفق العلماء على تكفير من صدر منه قول مكفّر ‪ ،‬سواء أقاله استهزاء ‪ ،‬أم عنادا ‪ ،‬أم‬ ‫‪9‬‬

‫ن ل َتعْتَذِرُوا قد كَفَرْ ُتمْ َبعْدَ‬


‫اعتقادا لقوله تعالى ‪ُ { :‬قلْ أَبِالّلهِ وَآيَا ِت ِه وَ َرسُو ِل ِه كنُتْمُْ َتسْ َتهْزِئو َ‬
‫إيمَا ِنكُمْ } ‪ .‬وهذه اللفاظ المكفّرة قد تكون صريحة كقوله ‪ :‬أشرك أو أكفر باللّه ‪ ،‬أو غير‬
‫صريحة كقوله ‪ :‬اللّه جسم متحيّز أو عيسى ابن اللّه ‪ ،‬أو جحد حكما علم من الدّين‬
‫بالضّرورة ‪ ،‬كوجوب الصّلة وحرمة الزّنى ‪.‬‬
‫وأمّا من سبق لسانه إلى الكفر من غير قصد لشدّة فرح أو دهش أو غير ذلك ‪ ،‬كقول من‬
‫أراد أن يقول ‪ :‬اللّهمّ أنت ربّي وأنا عبدك ‪ ،‬فقال غلطا ‪ :‬أنت عبدي وأنا ربّك ‪ ،‬كما جاء في‬
‫حديث أنس بن مالك قال ‪ « :‬قال رسول اللّه صلى ال عليه وسلم للّه أشدّ فرحا بتوبة‬
‫عبده ‪ ،‬حين يتوب إليه ‪ ،‬من أحدكم كان على راحلته بأرض فلة ‪ ،‬فانفلتت منه ‪ ،‬وعليها‬
‫طعامه وشرابه ‪ ،‬فأيس منها ‪ ،‬فأتى شجرة فاضطجع في ظلّها ‪ ،‬قد أيس من راحلته ‪ ،‬فبينا‬
‫هو كذلك إذا هو بها قائمة عنده ‪ ،‬فأخذ بخطامها ‪ ،‬ثمّ قال من شدّة الفرح ‪ :‬اللّهمّ أنت عبدي‬
‫وأنا ربّك ‪ ،‬أخطأ من شدّة الفرح » ‪.‬‬
‫طمَئنّ بِاليمَانِ } ولقول‬
‫ن أُكْرِ َه وَقَلْ ُب ُه ُم ْ‬
‫أو أكره عليه فإنّه ل يكفر ‪ .‬لقوله تعالى ‪ { :‬إل مَ ْ‬
‫ن اللّه وضع عن أمّتي الخطأ والنّسيان وما استكرهوا عليه »‪.‬‬
‫النّبيّ صلى ال عليه وسلم «إ ّ‬
‫تكفير من سبّ اللّه عزّ وجلّ ‪:‬‬
‫‪ -‬اتّفق العلماء على تكفير من سبّ الذّات المقدّسة العليّة أو استخفّ بها أو استهزأ ‪،‬‬ ‫‪10‬‬

‫ن ل َتعْتَذِرُوا ق ْد كَفَرْ ُتمْ َبعْدَ إيمَا ِن ُكمْ }‬


‫لقوله تعالى ‪ُ { :‬قلْ أَبِالّلهِ وَآيَا ِت ِه وَ‍ َ‍رسُولِه كُنْتُمْ َتسْ َتهْزِئو َ‬
‫واختلفوا في قبول توبته فذهب جمهور الفقهاء إلى قبولها ‪.‬‬
‫وذهب الحنابلة إلى عدم قبولها ‪ ،‬ويقتل بكلّ حال ‪ ،‬وذلك لنّ ذنبه عظيم جدّا يدلّ على فساد‬
‫عقيدته ‪ .‬وأمّا بالنّسبة للخرة ‪ ،‬فإن كان صادقا في توبته قبلت باطنا ونفعه ذلك ‪.‬‬
‫تكفير من سبّ النبياء عليهم الصلة والسلم ‪:‬‬
‫‪ -‬ذهب الفقهاء إلى تكفير من سبّ نبيّا من النبياء ‪ ،‬أو استخفّ بحقّه ‪ ،‬أو تنقّصه ‪ ،‬أو‬ ‫‪11‬‬

‫نسب إليه ما ل يجوز عليه ‪ ،‬كعدم الصّدق والتّبليغ ‪ ،‬والسّابّ عند الحنفيّة والشّافعيّة يأخذ‬
‫حكم المرتدّ فيستتاب ‪ ،‬فإن تاب وإل قتل ‪.‬‬
‫ب الملئكة كسبّ النبياء‬
‫وعند المالكيّة والحنابلة يقتل حدّا ‪ .‬وإن تاب ‪ .‬ول تقبل توبته ‪ .‬وس ّ‬
‫ب من لم يجمع على‬
‫ي أو الملك المجمع على كونه نبيّا أو ملكا ‪ ،‬فإن س ّ‬
‫‪ ،‬وقيّده المالكيّة بالنّب ّ‬
‫كونه نبيّا أو ملكا كالخضر وهاروت وماروت لم يكفر ‪ ،‬وأدّبه الحاكم اجتهادا ‪.‬‬
‫تكفير مكفّر الصّحابة ‪:‬‬
‫ن من كفّر جميع الصّحابة فإنّه يكفر ‪ ،‬لنّه أنكر معلوما من الدّين‬
‫‪ -‬اتّفق الفقهاء على أ ّ‬ ‫‪12‬‬

‫بالضّرورة وكذّب اللّه ورسوله ‪.‬‬


‫ن من قذف السّيّدة عائشة رضي ال عنها بما برّأها اللّه منه ‪ ،‬أو أنكر صحبة‬
‫واتّفقوا على أ ّ‬
‫ص الكتاب ‪.‬‬
‫الصّدّيق كفر ‪ ،‬لنّه مكذّب لن ّ‬
‫وأمّا من كفّر بعض الصّحابة دون بعض ‪ ،‬فذهب الحنفيّة والمالكيّة في المعتمد عندهم‬
‫والمام أحمد في إحدى الرّوايتين إلى عدم كفره ‪.‬‬
‫وذهب الشّافعيّة والحنابلة في الرّواية المشهورة وبعض أهل الحديث وسحنون من المالكيّة‬
‫إلى تكفير من كفّر بعض الصّحابة وتطبّق عليه أحكام المرتدّ ‪.‬‬
‫ص صاحب الفواكه‬
‫قال المرداويّ في النصاف ‪ -‬وهو الصّواب ‪ -‬والّذي ندين اللّه به ‪ ،‬ون ّ‬
‫الدّواني على أنّ من كفّر أحد الخلفاء الربعة فإنّه يكفر ‪.‬‬
‫تكفير من سبّ الشّيخين ‪:‬‬
‫ب أحد الشّيخين أبي بكر وعمر رضي ال‬
‫‪ -‬ذهب جمهور الفقهاء إلى عدم تكفير من س ّ‬ ‫‪13‬‬

‫عنهما ‪ ،‬وتوقّف المام أحمد في كفره وقتله ‪ ،‬وقال ‪ :‬يعاقب ويجلد ويحبس حتّى يموت أو‬
‫ب صحابيّا مستحل كفر ‪ ،‬وإل فسّق ‪ .‬ونقل ابنه عبد اللّه‬
‫يرجع عن ذلك ‪ ،‬وعنه ‪ :‬من س ّ‬
‫عنه فيمن شتم صحابيّا قوله ‪ :‬القتل أجبن عنه ‪ ،‬ويضرب ‪ ،‬ما أراه على السلم ‪.‬‬
‫ب الشّيخين رضي ال عنهما ‪ ،‬وممّن قال‬
‫وعند الشّافعيّة وجه حكاه القاضي في تكفير من س ّ‬
‫ي ‪ ،‬وأبو اللّيث ‪ ،‬وجزم به صاحب الشباه ‪ .‬قال صاحب الدّرّ المختار ‪:‬‬
‫بتكفيره كذلك الدّبوس ّ‬
‫وهو الّذي ينبغي التّعويل عليه في الفتاء والقضاء ‪ ،‬رعاية لجانب حضرة المصطفى صلى‬
‫ال عليه وسلم وهذا خلف المعتمد عند الحنفيّة ‪ ،‬كما صرّح بذلك ابن عابدين ‪.‬‬
‫تكفير منكر الجماع ‪:‬‬
‫‪ -‬ذهب الفقهاء إلى تكفير من جحد حكما أجمعت عليه المّة ممّا علم من الدّين ضرورة ‪،‬‬ ‫‪14‬‬

‫كوجوب الصّلوات الخمس والزّكاة بل خلف بينهم ‪.‬‬


‫وأمّا ما أجمعت عليه المّة ولم يكن معلوما بالضّرورة ‪ ،‬كوجوب إعطاء السّدس لبنت البن‬
‫مع وجود البنت فل تكفير لمنكره ‪.‬‬
‫وأمّا الحنفيّة فلم يشرطوا للتّكفير سوى قطعيّة الثّبوت ‪ ،‬وعلى هذا قالوا بتكفير من جحد‬
‫استحقاق بنت البن السّدس مع البنت في ظاهر كلمهم ‪.‬‬
‫ج ‪ -‬التّكفير بالعمل ‪:‬‬
‫‪ -‬نصّ الفقهاء على أفعال لو فعلها المكلّف فإنّه يكفر بها ‪ ،‬وهي ك ّل ما تعمّده استهزاء‬ ‫‪15‬‬

‫صريحا بالدّين أو جحودا له ‪ ،‬كالسّجود لصنم أو شمس أو قمر ‪ ،‬فإنّ هذه الفعال تدلّ على‬
‫عدم التّصديق ‪ ،‬وكإلقاء المصحف في قاذورة ‪ ،‬فإنّه يكفر وإن كان مصدّقا ‪ ،‬لنّ ذلك في‬
‫حكم التّكذيب ‪ ،‬ولنّه صريح في الستخفاف بكلم اللّه تعالى ‪ ،‬والستخفاف بالكلم استخفاف‬
‫بالمتكلّم ‪ .‬وقد ألحق المالكيّة والشّافعيّة إلقاء كتب الحديث به ‪.‬‬
‫ي الكفر من لبس غيار ‪ ،‬وشدّ زنّار ‪ ،‬وتعليق صليب ‪.‬‬
‫وذهب المالكيّة إلى تكفير من تزيّا بز ّ‬
‫وقيّده المالكيّة والحنابلة بما إذا فعله حبّا فيه وميل لهله ‪ ،‬وأمّا إن لبسه لعبا فحرام وليس‬
‫بكفر ‪.‬‬
‫تكفير مرتكب الكبيرة ‪:‬‬
‫‪ -‬مذهب أهل السّنّة والجماعة عدم تكفير مرتكب الكبيرة ‪ ،‬وعدم تخليده في النّار إذا مات‬ ‫‪16‬‬

‫على التّوحيد ‪ ،‬وإن لم يتب ‪ ،‬لقول النّبيّ صلى ال عليه وسلم « يخرج من النّار من كان في‬
‫قلبه مثقال ذرّة من إيمان » ‪.‬‬
‫فلو كان مرتكب الكبيرة يكفر بكبيرته لما سمّاه اللّه ورسوله مؤمنا ‪.‬‬
‫تكفير السّاحر ‪:‬‬
‫‪ -‬اتّفق الفقهاء على تكفير من اعتقد إباحة السّحر ‪.‬‬ ‫‪17‬‬

‫واختلفوا في تكفير من تعلّمه أو عمله ‪ ،‬فذهب الجمهور ‪ -‬الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة ‪-‬‬
‫إلى أنّه ل يكفر بمجرّد تعلّم السّحر وعمله ما لم يكن فيه اعتقاد أو عمل ما هو مكفّر ‪،‬‬
‫وذهب المالكيّة إلى تكفيره مطلقا ‪ ،‬لما فيه من التّعظيم لغير اللّه ‪ ،‬ونسبة الكائنات والمقادير‬
‫إلى غير اللّه ‪.‬‬
‫وذهب الحنفيّة إلى وجوب قتله ‪ ،‬ول يستتاب لعمل السّحر ‪ ،‬لسعيه بالفساد في الرض ‪ ،‬ل‬
‫بمجرّد علمه إذا لم يكن في اعتقاده ما يوجب كفره ‪ ،‬ولقوله صلى ال عليه وسلم « حدّ‬
‫السّاحر ضربة بالسّيف » فسمّاه حدّا ‪ ،‬والح ّد بعد ثبوته ل يسقط بالتّوبة ‪.‬‬
‫وقصره الحنابلة على السّاحر الّذي يكفر بسحره ‪.‬‬
‫وعند المالكيّة يقتل إن كان متجاهرا به ما لم يتب ‪ ،‬فإن كان يسرّه قتل مطلقا ‪ ،‬ول تقبل له‬
‫توبة ‪.‬‬
‫آثار التّكفير ‪:‬‬
‫‪ -‬يترتّب على التّكفير آثار على ك ّل من المكفّر والمكفّر فآثاره على المكفّر إذا ثبت عليه‬ ‫‪18‬‬

‫الكفر هي ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬حبوط العمل ‪:‬‬
‫‪ -‬إذا ارت ّد المسلم واستمرّ كافرا حتّى موته كانت ردّته محبطة للعمل لقوله تعالى ‪:‬‬ ‫‪19‬‬

‫عمَالُهمْ } ‪.‬‬
‫ك حَ ِبطَتْ أَ ْ‬
‫ت وهو كَافِرٌ فَأولئ َ‬
‫ن دِينِه فَ َيمُ ْ‬
‫ن يَرْتَدِ ْد مِ ْنكُمْ عَ ْ‬
‫{ َومَ ْ‬
‫فإن عاد إلى السلم فمذهب الحنفيّة والمالكيّة أنّه يجب عليه إعادة الحجّ وما بقي سببه من‬
‫العبادات لنّه بالرّدّة صار كالكافر الصليّ فإذا أسلم وهو غنيّ فعليه الحجّ ‪.‬‬
‫ولنّ وقته متّسع إلى آخر العمر فيجب عليه بخطاب مبتدأ كما يجب عليه الصّلة والصّيام‬
‫ن سببه البيت المكرّم وهو باق بخلف غيره من العبادات‬
‫والزّكاة للوقات المستقبلة ‪ ،‬ول ّ‬
‫الّتي أدّاها ‪ ،‬لخروج سببها ‪ .‬وما بقي سببه من العبادات كمن صلّى الظّهر مثل ثمّ ارت ّد ثمّ‬
‫تاب في الوقت يعيد الظّهر لبقاء السّبب وهو الوقت ‪.‬‬
‫وذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّه ل يجب عليه أن يعيد عباداته الّتي فعلها في إسلمه من‬
‫صلة وحجّ وغيرها ‪ ،‬وذلك لنّه فعلها على وجهها وبرئت ذمّته منها فل تعود إلى ذمّته ‪،‬‬
‫ي‪.‬‬
‫كدين الدم ّ‬
‫ي رحمه ال تعالى حبوط ثواب العمال ل نفس العمال ‪.‬‬
‫والمنصوص عن الشّافع ّ‬
‫ب ‪ -‬القتل ‪:‬‬
‫ن من تحوّل عن دين السلم إلى غيره فإنّه يقتل لقول النّبيّ صلى‬
‫‪ -‬أجمع الفقهاء على أ ّ‬ ‫‪20‬‬

‫ال عليه وسلم « من بدّل دينه فاقتلوه » ‪ .‬وتفصيل ذلك في مصطلح ‪ ( :‬ردّة ) ‪. .‬‬
‫آثار التّكفير على المكفّر ‪:‬‬
‫‪ -‬لمّا كان التّكفير من المور الخطيرة فقد جعل الفقهاء فيه التّعزير ‪ ،‬فمن نسب أحدا‬ ‫‪21‬‬

‫ي ‪ ،‬ويا مجوسيّ‬
‫إلى الكفر ‪ ،‬أو قذفه بوصف يتضمّن معنى الكفر ‪ ،‬كيا يهوديّ ‪ ،‬ويا نصران ّ‬
‫ي صلى ال عليه وسلم ‪ « :‬إذا قال الرّجل لخيه يا كافر فقد باء به‬
‫عزّر ‪ ،‬وقد قال النّب ّ‬
‫أحدهما فإن كان كما قال وإلّا رجعت عليه » ‪.‬‬
‫ثانيا‬
‫تكفير الذّنوب‬
‫أ ‪ -‬الذّنوب الّتي شرعت لها كفّارات محدّدة ‪:‬‬
‫‪ -‬أوجب الشّارع على النسان كفّارات محدّدة لبعض الذّنوب بملبسته إيّاها وذلك لعظم‬ ‫‪22‬‬

‫هذه الذّنوب وخطرها ‪ ،‬والقصد من هذه الكفّارات تدارك ما فرّط من التّقصير وهي دائرة بين‬
‫العبادة والعقوبة ‪.‬‬
‫وهي خمس كفّارات ‪ :‬كفّارة القتل ‪ ،‬والوطء في نهار رمضان ‪ ،‬والظّهار ‪ ،‬والحنث في‬
‫اليمان ‪ ،‬وفعل محظور من محظورات الحجّ ‪ .‬وللتّفصيل انظر مصطلح ‪ ( :‬كفّارة ) ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬الذّنوب الّتي لم تشرع لها كفّارات محدّدة ‪:‬‬
‫‪ -‬لم يشرع السلم كفّارات محدّدة غير الخمس المذكورة آنفا وإنّما نصّ على بعض‬ ‫‪23‬‬

‫العمال والعبادات الّتي تكفّر الذّنوب عموما كاجتناب الكبائر ‪ ،‬فإنّه يكفّر الصّغائر ‪ ،‬قال‬
‫ن عَنْه ُنكَفّ ْر عَ ْن ُكمْ سَيّئا ِت ُكمْ } ‪.‬‬
‫تعالى ‪ { :‬إنْ َتجْتَنِبُوا كَبَائِ َر مَا تُ ْنهَو َ‬
‫وقال صلى ال عليه وسلم ‪ « :‬ما من عبد يؤدّي الصّلوات الخمس ‪ ،‬ويصوم رمضان ‪،‬‬
‫ويجتنب الكبائر السّبع إل فتحت له ثمانية أبواب الجنّة يوم القيامة حتّى إنّها لتصفق » ول‬
‫ينحصر تكفير الصّغائر في اجتناب الكبائر بل هناك بعض العبادات تكفّرها أيضا كالوضوء‬
‫والصّلوات الخمس وصوم رمضان والعمرة إلى العمرة والحجّ المبرور ‪.‬‬
‫وفي الحديث أيضا « من توضّأ نحو وضوئي هذا ثمّ قام فركع ركعتين ل يحدّث فيهما نفسه‬
‫إل غفر له ما تقدّم من ذنبه » ‪.‬‬
‫وذكر الصّلة في هذا الحديث للتّرغيب في سنّة الوضوء ليزيد ثوابه ‪ ،‬وإلّا فالتّكفير ل يتوقّف‬
‫على الصّلة كما أخرج أحمد مرفوعا « الوضوء يكفّر ما قبله ثمّ تصير الصّلة نافلة » ‪.‬‬
‫وقال صلى ال عليه وسلم ‪ « :‬الصّلوات الخمس ‪ ،‬والجمعة إلى الجمعة ‪ ،‬ورمضان إلى‬
‫رمضان مكفّرات ما بينهنّ إذا اجتنب الكبائر » وقال صلى ال عليه وسلم ‪ « :‬العمرة إلى‬
‫العمرة كفّارة لما بينهما والحجّ المبرور ليس له جزاء إل الجنّة » ‪.‬‬
‫ول ير ّد عليه أنّه إذا كفّر الوضوء لم يجد الصّوم ما يكفّره ‪ ،‬وهكذا ‪ ،‬وذلك لنّ الذّنوب‬
‫ن لكلّ نوع من أنواع المراض نوعا من أنواع‬
‫كالمراض ‪ ،‬والطّاعات كالدوية ‪ ،‬فكما أ ّ‬
‫الدوية ل ينفع فيه غيره ‪ ،‬كذلك الطّاعات مع الذّنوب ‪ ،‬ويدلّ عليه قوله صلى ال عليه‬
‫وسلم ‪ « :‬إنّ من الذّنوب ذنوبا ل يكفّرها الصّلة ول الصّيام ول الحجّ ول العمرة ‪ ،‬قالوا فما‬
‫يكفّرها يا رسول اللّه ‪ ،‬قال ‪ :‬الهموم في طلب المعيشة » ‪.‬‬
‫وهذا كلّه في الذّنوب المتعلّقة بحقوق اللّه تعالى ‪ ،‬وأمّا المتعلّقة بحقوق الدميّين فل بدّ فيها‬
‫من المقاصّة ‪.‬‬

‫تكفين *‬
‫التّعريف ‪:‬‬
‫‪ -‬التّكفين ‪ :‬مصدر كفّن ‪ ،‬ومثله الكفن ‪ ،‬ومعناهما في اللّغة ‪ :‬التّغطية والسّتر ‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫ومنه ‪ :‬سمّي كفن الميّت ‪ ،‬لنّه يستره ‪ .‬ومنه ‪ :‬تكفين الميّت أي لفّه بالكفن ‪.‬‬
‫ول يخرج المعنى الصطلحيّ عن ذلك ‪.‬‬
‫الحكم التّكليفيّ ‪:‬‬
‫ن تكفين الميّت بما يستره فرض على الكفاية ‪ ،‬لما روى ابن عبّاس‬
‫‪ -‬اتّفق الفقهاء على أ ّ‬ ‫‪2‬‬

‫ي صلى ال عليه وسلم قال ‪ « :‬البسوا من ثيابكم البياض فإنّها من‬


‫ن النّب ّ‬
‫رضي ال عنه أ ّ‬
‫خير ثيابكم ‪ ،‬وكفّنوا فيها موتاكم » ‪.‬‬
‫ولما روى البخاريّ عن خبّاب رضي ال عنه قال ‪ « :‬هاجرنا مع رسول اللّه صلى ال عليه‬
‫وسلم نلتمس وجه اللّه ‪ ،‬فوقع أجرنا على اللّه ‪ ،‬فمنّا من مات لم يأكل من أجره شيئا ‪ ،‬منهم‬
‫‪ :‬مصعب بن عمير ‪ ،‬ومنّا من أينعت له ثمرته فهو يهديها قتل يوم أحد ‪ ،‬فلم نجد ما نكفّنه‬
‫إلّا بردة ‪ ،‬إذا غطّينا بها رأسه خرجت رجله ‪ ،‬وإذا غطّينا رجليه خرج رأسه ‪ ،‬فأمرنا النّبيّ‬
‫صلى ال عليه وسلم أن نغطّي رأسه ‪ ،‬وأن نجعل على رجليه من الذخر » ‪.‬‬
‫صفة الكفن ‪:‬‬
‫ن الميّت يكفّن ‪ -‬بعد طهره ‪ -‬بشيء من جنس ما يجوز له لبسه في‬
‫‪ -‬ذهب الفقهاء إلى أ ّ‬ ‫‪3‬‬

‫حال الحياة ‪ ،‬فيكفّن في الجائز من اللّباس ‪.‬‬


‫ول يجوز تكفين الرّجل بالحرير ‪ ،‬وأمّا المرأة فيجوز تكفينها فيه عند جمهور الفقهاء ‪ ،‬لنّه‬
‫يجوز لها لبسه في الحياة ‪ ،‬لكن مع الكراهة ‪ ،‬لنّ فيه سرفا ويشبه إضاعة المال ‪ ،‬بخلف‬
‫لبسها إيّاه في الحياة ‪ ،‬فإنّه مباح شرعا ‪.‬‬
‫وعند الحنابلة يحرم التّكفين فيه عند عدم الضّرورة ذكرا كان الميّت أو أنثى ‪ ،‬لنّه إنّما‬
‫أبيح الحرير للمرأة حال الحياة ‪ ،‬لنّها محلّ زينة وقد زال بموتها ‪.‬‬
‫ويستحبّ تحسين الكفن عند الحنفيّة والمالكيّة بأن يكفّن في ملبوس مثله في الجمع والعياد‬
‫ن النّبيّ صلى ال عليه وسلم قال ‪:‬‬
‫ما لم يوص بأدنى منه ‪ ،‬فتتّبع وصيّته ‪ ،‬لما روى مسلم أ ّ‬
‫« إذا كفّن أحدكم أخاه فليحسن كفنه » ‪.‬‬
‫وأمّا عند الحنابلة فيجب أن يكفّن الميّت في ملبوس مثله في الجمع والعياد إذا لم يوص‬
‫بدونه ‪ ،‬لمر الشّارع بتحسينه ‪.‬‬
‫وذهب الشّافعيّة إلى أنّه يعتبر في الكفان المباحة حال الميّت ‪ ،‬فإن كان مكثرا فمن جياد‬
‫الثّياب ‪ ،‬وإن كان متوسّطا فأوسطها ‪ ،‬وإن كان مقلً فخشنها ‪.‬‬
‫وتجزئ جميع أنواع القماش ‪ ،‬والخلق إذا غسل والجديد سواء لما روي عن أبي بكر‬
‫الصّدّيق رضي ال عنه أنّه قال ‪ :‬اغسلوا ثوبيّ هذين وكفّنوني فيهما فإنّهما للمهل والصّديد‪.‬‬
‫والفضل أن يكون التّكفين بالثّياب البيض ‪ ،‬لما روى ابن عبّاس رضي ال عنهما عن رسول‬
‫اللّه صلى ال عليه وسلم أنّه قال ‪ « :‬البسوا من ثيابكم البياض فإنّها من خير ثيابكم وكفّنوا‬
‫فيها موتاكم » ‪.‬‬
‫ن ما يصفها غير ساتر فوجوده كعدمه ‪ ،‬ويكره إذا‬
‫ويشترط في الكفن أل يصف البشرة ‪ ،‬ل ّ‬
‫كان يحكي هيئة البدن ‪ ،‬وإن لم يصف البشرة ‪.‬‬
‫ن النّبيّ صلى ال عليه وسلم‬
‫ي رضي ال عنه أ ّ‬
‫وتكره المغالة في الكفن ‪ ،‬لما روي عن عل ّ‬
‫قال ‪ « :‬ل تغالوا في الكفن فإنّه يسلب سلبا سريعا » ‪ .‬كما يكره التّكفين بمزعفر ‪ ،‬ومعصفر‬
‫‪ ،‬وشعر ‪ ،‬وصوف مع القدرة على غيره ‪ ،‬لنّه خلف فعل السّلف ‪.‬‬
‫ي صلى ال عليه وسلم بنزع الجلود عن الشّهداء ‪ ،‬وأن‬
‫ويحرم التّكفين بالجلود لمر النّب ّ‬
‫يدفنوا في ثيابهم ‪ .‬ول يكفّن الميّت في متنجّس نجاسة ل يعفى عنها وإن جاز له لبسه‬
‫خارج الصّلة مع وجود طاهر ‪ ،‬ولو كان الطّاهر حريرا ‪.‬‬
‫ن الكفن ثلثة أنواع ‪:‬‬
‫أنواع الكفن ‪ :‬ذهب الحنفيّة إلى أ ّ‬
‫‪ -‬كفن السّنّة ‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪ -‬كفن الكفاية ‪.‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪ -‬كفن الضّرورة ‪.‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪ -‬أ ‪ -‬كفن السّنّة ‪ :‬هو أكمل الكفان ‪ ،‬وهو للرّجل ثلثة أثواب ‪ :‬إزار وقميص ولفافة ‪،‬‬ ‫‪4‬‬

‫والقميص من أصل العنق إلى القدمين بل دخريص ول أكمام ‪ .‬والزار للميّت من أعلى‬
‫ي واللّفافة كذلك ‪ .‬لحديث جابر بن سمرة ‪ ،‬فإنّه قال ‪:‬‬
‫الرّأس إلى القدم بخلف إزار الح ّ‬
‫« كفّن رسول اللّه صلى ال عليه وسلم في ثلثة أثواب ‪ :‬قميص وإزار ولفافة » ‪.‬‬
‫وللمرأة خمسة أثواب ‪ :‬قميص وإزار وخمار ولفافة وخرقة تربط فوق ثدييها ‪ ،‬لحديث أمّ‬
‫ي صلى ال عليه وسلم ناول اللّواتي غسّلن ابنته في كفنها‬
‫ليلى بنت قانف الثّقفيّة « أنّ النّب ّ‬
‫ن خمسة أثواب » ‪ ،‬ولنّها تخرج فيها حالة الحياة ‪ ،‬فكذا بعد الممات ‪.‬‬
‫ثوبا ثوبا حتّى ناوله ّ‬
‫‪ -‬ب ‪ -‬كفن الكفاية ‪ :‬هو أدنى ما يلبس حال الحياة ‪ ،‬وهو ثوبان للرّجل في الصحّ ‪،‬‬ ‫‪5‬‬

‫لقول أبي بكر الصّدّيق رضي ال عنه حين حضره الموت ‪ :‬كفّنوني في ثوبيّ هذين اللّذين‬
‫كنت أصلّي فيهما ‪ ،‬واغسلوهما ‪ ،‬فإنّهما للمهل والتّراب ‪.‬‬
‫ولنّ أدنى ما يلبسه الرّجل في حالة الحياة ثوبان ‪ ،‬لنّه يجوز له أن يخرج فيهما ‪ ،‬ويصلّي‬
‫فيهما من غير كراهة ‪ ،‬فكذا يجوز أن يكفّن فيهما أيضا ‪.‬‬
‫ويكره أن يكفّن في ثوب واحد ‪ ،‬لنّ في حالة الحياة تجوز صلته في ثوب واحد مع الكراهة‬
‫‪ ،‬فكذا بعد الموت ‪.‬‬
‫والمراهق كالرّجل يكفّن فيما يكفّن فيه الرّجل ‪ ،‬لنّ المراهق في حال حياته يخرج فيما‬
‫يخرج فيه البالغ عادة ‪ ،‬فكذا يكفّن فيه ‪ ،‬وإن كان صبيّا لم يراهق ‪ ،‬فإن كفّن في خرقتين‬
‫إزار ورداء فحسن ‪ ،‬وإن كفّن في إزار واحد جاز ‪ ،‬لنّه في حال حياته كان يجوز القتصار‬
‫على ثوب واحد في حقّه فكذا بعد الموت ‪.‬‬
‫وأمّا المرأة فأق ّل ما تكفّن فيه ثلثة أثواب ‪ :‬إزار ورداء وخمار ‪ ،‬لنّ معنى السّتر في حالة‬
‫الحياة يحصل بثلثة أثواب ‪ ،‬حتّى يجوز لها أن تصلّي فيها وتخرج ‪ ،‬فكذا بعد الموت ‪.‬‬
‫ويكره أن تكفّن المرأة في ثوبين ‪.‬‬
‫وأمّا الصّغيرة فل بأس بأن تكفّن في ثوبين ‪ ،‬والمراهقة بمنزلة البالغة في الكفن ‪ ،‬والسّقط‬
‫ن الشّرع إنّما ورد بتكفين الميّت ‪ ،‬واسم‬
‫يلفّ في خرقة ‪ ،‬لنّه ليس له حرمة كاملة ‪ ،‬ول ّ‬
‫الميّت ل ينطلق عليه ‪ ،‬كما ل ينطلق على بعض الميّت ‪.‬‬
‫‪ -‬ج ‪ -‬الكفن الضّروريّ للرّجل والمرأة ‪ :‬هو مقدار ما يوجد حال الضّرورة أو العجز بأن‬ ‫‪6‬‬

‫كان ل يوجد غيره ‪ ،‬وأقلّه ما يعمّ البدن ‪ ،‬للحديث السّابق في تكفين مصعب بن عمير رضي‬
‫ن حمزة رضي ال عنه لمّا استشهد كفّن في ثوب واحد لم يوجد له‬
‫ال عنه ‪ ،‬وكذا روي « أ ّ‬
‫غيره » فدلّ على الجواز عند الضّرورة ‪.‬‬
‫‪ -‬وأق ّل الكفن عند المالكيّة ثوب واحد ‪ ،‬وأكثره سبعة ‪.‬‬ ‫‪7‬‬

‫ويستحبّ الوتر في الكفن ‪ ،‬والفضل أن يكفّن الرّجل بخمسة أثواب ‪ ،‬وهي ‪ :‬القميص‬
‫والعمامة والزار ولفافتان ‪ ،‬ويكره أن يزاد للرّجل عليها ‪ .‬والفضل أن تكفّن المرأة في‬
‫سبعة أثواب ‪ .‬درع وخمار وإزار وأربع لفائف ‪ ،‬وندب خمار يلفّ على رأس المرأة ووجهها‬
‫بدل العمامة للرّجل ‪ ،‬وندب عذبة قدر ذراع تجعل على وجه الرّجل ‪.‬‬
‫‪ -‬وقال الشّافعيّة ‪ :‬أق ّل الكفن ثوب واحد وهو ما يستر العورة ‪.‬‬ ‫‪8‬‬

‫وفي قدر الثّوب الواجب وجهان ‪ :‬أحدهما ‪ :‬ما يستر العورة ‪ ،‬وهي ما بين السّرّة والرّكبة‬
‫في الرّجل ‪ ،‬وما عدا الوجه والكفّين في المرأة ‪.‬‬
‫والثّاني ‪ :‬ما يستر جميع بدنه إل رأس المحرم ووجه المحرمة ‪.‬‬
‫ب أن يكفّن الرّجل في ثلثة أثواب ‪ :‬إزار ولفافتين بيض ‪ ،‬ليس فيها قميص ول‬
‫والمستح ّ‬
‫عمامة ‪ ،‬لما روت عائشة رضي ال عنها ‪ ،‬قالت ‪ « :‬كفّن رسول اللّه صلى ال عليه وسلم‬
‫في ثلثة أثواب سحوليّة ليس فيها قميص ول عمامة » ‪.‬‬
‫والبالغ والصّبيّ في ذلك سواء ‪ ،‬وإن كفّن في خمسة أثواب لم يكره ‪ ،‬لنّ ابن عمر رضي‬
‫ن أكمل ثياب الحيّ‬
‫ال عنهما كان يكفّن أهله في خمسة أثواب فيها قميص وعمامة ‪ ،‬ول ّ‬
‫خمسة ‪ ،‬ويكره الزّيادة على ذلك ‪ ،‬لنّه سرف ‪.‬‬
‫وأمّا المرأة فإنّهـا تكفّن عنـد الشّافعيّة فـي خمسـة أثواب ‪ :‬إزار ودرع " قميـص " وخمار‬
‫ولفافتين ‪ ،‬لنّه عليه الصلة والسلم كفّن فيها ابنته أمّ كلثوم ‪.‬‬
‫ي صلى ال عليه وسلم ‪ :‬ناولها إزارا ودرعا وخمارا وثوبين‬
‫لما روت أمّ عطيّة « أنّ النّب ّ‬
‫» ‪ ،‬ويكره مجاوزة الخمسة في الرّجل والمرأة ‪ ،‬والخنثى كالمرأة ‪.‬‬
‫‪ -‬وقال الحنابلة ‪ :‬الكفن الواجب ثوب يستر جميع بدن الميّت رجل كان أو امرأة ‪،‬‬ ‫‪9‬‬

‫والفضل أن يكفّن الرّجل في ثلث لفائف ‪ ،‬وتكره الزّيادة على ثلثة أثواب في الكفن لما فيه‬
‫ي صلى ال عليه وسلم عنه ‪.‬‬
‫من إضاعة المال ‪ ،‬وقد نهى النّب ّ‬
‫ويجوز التّكفين في ثوبين « لقول النّبيّ صلى ال عليه وسلم في المحرم الّذي وقصته دابّته‬
‫‪ :‬اغسلوه بماء وسدر وكفّنوه في ثوبين » ‪ ،‬وكان سويد بن غفلة يقول ‪ :‬يكفّن في ثوبين ‪.‬‬
‫وقال أحمد ‪ :‬يكفّن الصّبيّ في خرقة ( أي ثوب واحد ) وإن كفّن في ثلثة فل بأس ‪.‬‬
‫تعميم الميّت ‪:‬‬
‫‪ -‬الفضل عند الشّافعيّة والحنابلة أن يكفّن الرّجل في ثلث لفائف بيض ليس فيها قميص‬ ‫‪10‬‬

‫ي صلى ال عليه وسلم وغيره‬


‫ول عمامة ‪ ،‬والعمل عليه عند أكثر أهل العلم من أصحاب النّب ّ‬
‫‪ ،‬فإن كان في الكفن عمامة لم يكره ‪ ،‬لكنّه خلف الولى ‪.‬‬
‫وعند المالكيّة الفضل أن يكفّن الرّجل بخمسة أثواب وهي ‪ :‬قميص وعمامة وإزار ولفافتان‪.‬‬
‫ي صلى ال عليه‬
‫وأمّا عند الحنفيّة فتكره العمامة في الصحّ ‪ ،‬لنّها لم تكن في كفن النّب ّ‬
‫وسلم ولنّها لو وجدت العمامة لصار الكفن شفعا ‪ ،‬والسّنّة أن يكون وترا ‪ ،‬واستحسنها‬
‫ن ابن عمر رضي ال عنهما كان يعمّم الميّت من أهله‬
‫المتأخّرون من الحنفيّة ‪ ،‬لما روي أ ّ‬
‫ويجعل العذبة على وجهه ‪.‬‬
‫على من يجب الكفن ‪:‬‬
‫ن كفن الميّت في ماله إن كان له مال ويكفّن من جميع ماله‬
‫‪ -‬ذهب جمهور الفقهاء إلى أ ّ‬ ‫‪11‬‬

‫ن هذا من أصول حوائج‬


‫إل حقّا تعلّق بعين كالرّهن ‪ ،‬ويقدّم على الوصيّة والميراث ‪ ،‬ل ّ‬
‫الميّت فصار كنفقته في حال حياته وهي مقدّمة على سائر الواجبات ‪.‬‬
‫وإن لم يكن له مال فكفنه على من تجب عليه نفقته ‪ -‬وإذا تعدّد من وجبت النّفقة عليه‬
‫فيكون كفنه عليهم ‪ ،‬على ما يعرف في باب النّفقات ‪ -‬كما تلزم كسوته في حال حياته ‪.‬‬
‫وإن لم يكن له مال ول من ينفق عليه فكفنه في بيت المال ‪ ،‬كنفقته في حال حياته لنّه أعدّ‬
‫لحوائج المسلمين ‪.‬‬
‫وإن لم يكن في بيت المال فعلى المسلمين تكفينه ‪ ،‬فإن عجزوا سألوا النّاس ‪ ،‬وإن لم يوجد‬
‫ذلك غسّل وجعل عليه الذخر ‪ -‬أو نحوه من النّبات ‪ -‬ودفن ويصلّى على قبره ‪.‬‬
‫وعلى الزّوج تكفين زوجته عند الحنفيّة على قول مفتى به ‪ ،‬والمالكيّة في قول ‪ ،‬والشّافعيّة‬
‫في الصحّ ‪ ،‬لنّ نفقة الزّوجة واجبة على زوجها في حال حياتها ‪ ،‬فكذلك التّكفين وعلّلوا‬
‫ن التّفريق في هذا بين الموت والحياة غير معقول ‪.‬‬
‫ذلك بأ ّ‬
‫وأمّا عند المالكيّة والحنابلة ومحمّد من الحنفيّة ‪ ،‬فل يلزم الزّوج كفن امرأته ول مؤنة‬
‫تجهيزها ‪ ،‬لنّ النّفقة والكسوة وجبا في حالة الزّواج وقد انقطع بالموت فأشبهت الجنبيّة ‪.‬‬
‫ول يجب على المرأة كفن زوجها بالجماع ‪ ،‬كما ل يجب عليها كسوته في حال الحياة ‪.‬‬
‫كيفيّة تكفين الرّجل ‪:‬‬
‫ن الكفان تجمّر أي تطيّب أوّل وترا قبل التّكفين بها ‪ ،‬لما روي عن‬
‫‪ -‬ذهب الفقهاء إلى أ ّ‬ ‫‪12‬‬

‫ن الثّوب‬
‫رسول اللّه صلى ال عليه وسلم أنّه قال ‪ « :‬إذا أجْمرْتُم الميّت فأجمروا وترا » ول ّ‬
‫ب أن‬
‫الجديد أو الغسيل ممّا يطيّب ويجمّر في حالة الحياة ‪ ،‬فكذا بعد الممات ‪ ،‬ث ّم المستح ّ‬
‫تؤخذ أحسن اللّفائف وأوسعها فتبسط أوّل ليكون الظّاهر للنّاس حسنها ‪ ،‬فإنّ هذا عادة الحيّ‬
‫يجعل الظّاهر أفخر ثيابه ‪ .‬ويجعل عليها حنوط ‪ ،‬ثمّ تبسط الثّانية الّتي تليها في الحسن‬
‫والسّعة عليها ‪ ،‬ويجعل فوقها حنوط وكافور ثمّ تبسط فوقهما الثّالثة ويجعل فوقها حنوط‬
‫ن أبا بكر الصّدّيق‬
‫وكافور ‪ ،‬ول يجعل على وجه العليا ول على النّعش شيء من الحنوط ‪ ،‬ل ّ‬
‫رضي ال عنه قال ‪ ":‬ل تجعلوا على أكفاني حنوطا " ‪ ،‬ثمّ يحمل الميّت مستورا بثوب ويترك‬
‫على الكفن مستلقيا على ظهره بعد ما يجفّف ‪ ،‬ويؤخذ قطن فيجعل فيه الحنوط والكافور‬
‫ويجعل بين أليتيه ويش ّد عليه كما يشدّ التّبّان ‪.‬‬
‫ويستحبّ أن يؤخذ القطن ويجعل عليه الحنوط والكافور ويترك على الفم والمنخرين والعينين‬
‫والذنين وعلى جراح نافذة إن وجدت عليه ليخفى ما يظهر من رائحته ‪ ،‬ويجعل الحنوط‬
‫والكافور على قطن ويترك على مواضع السّجود ‪ ،‬كما روي عن عبد اللّه بن مسعود رضي‬
‫ن هذه المواضع شرّفت بالسّجود فخصّت‬
‫ال عنه أنّه قال ‪ ":‬تتبع مساجده بالطّيب " ول ّ‬
‫بالطّيب ‪.‬‬
‫ف الكفن عليه بأن‬
‫ويستحبّ أن يحنّط رأسه ولحيته بالكافور كما يفعل الحيّ إذا تطيّب ‪ ،‬ثمّ يل ّ‬
‫يثنى من الثّوب الّذي يلي الميّت طرفه الّذي يلي شقّه اليسر على شقّه اليمن ‪ ،‬والّذي يلي‬
‫اليمن على اليسر ‪ ،‬كما يفعل الحيّ بالقباء ‪ ،‬ثمّ يلفّ الثّاني والثّالث كذلك ‪ ،‬وإذا لفّ الكفن‬
‫عليه جمع الفاضل عند رأسه جمع العمامة ‪ ،‬ور ّد على وجهه وصدره إلى حيث بلغ ‪ ،‬وما‬
‫فضل عند رجليه يجعل على القدمين والسّاقين ‪ ،‬ثمّ تشدّ الكفان عليه بشداد خيفة انتشارها‬
‫عند الحمل ‪ ،‬فإذا وضع في القبر ح ّل الشّداد ‪ ،‬هذا عند الشّافعيّة والحنابلة ‪.‬‬
‫أمّا عند الحنفيّة فكذلك إلّا أنّه يلبس القميص أوّل إن كان له قميص ثمّ يعطف الزار عليه‬
‫بمثل ما سبق ث ّم تعطف اللّفافة وهي الرّداء كذلك ‪.‬‬
‫أمّا عند المالكيّة فيكون الزار من فوق السّرّة إلى نصف السّاق تحت القميص واللّفائف فوق‬
‫ذلك على ما تقدّم ويزاد عليها الحفاظ وهي خرقة تشدّ على قطن بين فخذيه خيفة ما يخرج‬
‫من المخرجين ‪ ،‬واللّثام وهو خرقة توضع على قطن يجعل على فمه وأنفه خيفة ما يخرج‬
‫منهما ‪.‬‬
‫كيفيّة تكفين المرأة ‪:‬‬
‫م ‪ -‬وأمّا تكفين المرأة فقال الحنفيّة ‪ :‬تبسط لها اللّفافة والزار على ما تقدّم في الرّجل ‪،‬‬ ‫‪12‬‬

‫ثمّ توضع على الزار وتلبس الدّرع ‪ ،‬ويجعل شعرها ضفيرتين على صدرها فوق الدّرع ‪،‬‬
‫ويسدل شعرها ما بين ثدييها من الجانبين جميعا تحت الخمار ‪ ،‬ول يسدل شعرها خلف‬
‫ظهرها ‪ ،‬ثمّ يجعل الخمار فوق ذلك ‪ ،‬ثمّ يعطف الزار واللّفافة كما قالوا في الرّجل ‪ :‬ثمّ‬
‫الخرقة فوق ذلك تربط فوق الكفان فوق الثّديين والبطن ‪.‬‬
‫وذهب المالكيّة إلى أنّها تلبس الزار من تحت إبطيها إلى كعبيها ‪ ،‬ثمّ تلبس القميص ‪ ،‬ثمّ‬
‫تخمّر بخمار يخمّر به رأسها ورقبتها ‪ ،‬ثمّ تلفّ بأربع لفائف ‪ ،‬ويزاد عليها الحفاظ واللّثام ‪.‬‬
‫وعند الشّافعيّة على المفتى به تؤزّر بإزار ‪ ،‬ثمّ تلبس الدّرع ‪ ،‬ثمّ تخمّر بخمار ‪ ،‬ثمّ تدرّج في‬
‫ي رحمه ال ‪ :‬ويشدّ على صدرها ثوب ليضمّ ثيابها فل تنتشر ‪.‬‬
‫ثوبين ‪ ،‬قال الشّافع ّ‬
‫وأمّا عند الحنابلة ‪ ،‬فتشدّ الخرقة على فخذيها أوّل ‪ ،‬ثمّ تؤزّر بالمئزر ‪ ،‬ثمّ تلبس القميص ‪،‬‬
‫ثمّ تخمّر بالمقنعة ث ّم تلفّ بلفافتين على الصحّ ‪.‬‬
‫كيفيّة تكفين المحرم والمحرمة ‪:‬‬
‫‪ -‬قال الشّافعيّة والحنابلة ‪ :‬إذا مات المحرم والمحرمة حرم تطييبهما وأخذ شيء من‬ ‫‪13‬‬

‫شعرهما أو ظفرهما ‪ ،‬وحرم ستر رأس الرّجل وإلباسه مخيطا ‪ .‬وحرم ستر وجه المحرمة‬
‫ن النّبيّ صلى ال عليه وسلم قال في المحرم الّذي‬
‫لما روى ابن عبّاس رضي ال عنهما « أ ّ‬
‫وقصته ناقته فمات ‪ :‬اغسلوه بماء وسدر وكفّنوه في ثوبيه اللّذين مات فيهما ‪ ،‬ول تمسّوه‬
‫بطيب ‪ ،‬ول تخمّروا رأسه ‪ ،‬فإنّه يبعث يوم القيامة ملبّيا » ‪.‬‬
‫وعند الحنفيّة والمالكيّة يكفّن المحرم والمحرمة ‪ ،‬كما يكفّن غير المحرم أي يغطّى رأسه‬
‫ووجهه ويطيّب ‪ ،‬لما روي عن عطاء عن ابن عبّاس « عن النّبيّ صلى ال عليه وسلم أنّه‬
‫ي رضي ال عنه‬
‫قال في المحرم يموت ‪ :‬خمّروهم ول تشبّهوهم باليهود » ‪ .‬وروي عن عل ّ‬
‫أنّه قال في المحرم ‪ :‬إذا مات انقطع إحرامه ‪،‬‬
‫ي صلى ال عليه وسلم قال ‪ « :‬إذا مات ابن آدم انقطع عمله إل من ثلث ‪ :‬ولد‬
‫ولنّ النّب ّ‬
‫صالح يدعو له ‪ ،‬أو صدقة جارية ‪ ،‬أو علم ينتفع به » ‪ .‬والحرام ليس من هذه الثّلثة ‪.‬‬
‫تكفين الشّهيد ‪:‬‬
‫ن شهيد المعركة ‪ -‬الّذي قتله المشركون ‪ ،‬أو وجد بالمعركة جريحا‬
‫‪ -‬ذهب الحنفيّة إلى أ ّ‬ ‫‪14‬‬

‫ي صلى ال عليه‬
‫‪ ،‬أو قتله المسلمون ظلما ولم يجب فيه مال ‪ -‬يكفّن في ثيابه ‪ ،‬لقول النّب ّ‬
‫وسلم ‪ « :‬زمّلوهم بدمائهم » وقد روي في ثيابهم ‪ ،‬وعن عمّار وزيد بن صوحان أنّهما قال‬
‫‪ :‬ل تنزعوا عنّي ثوبا ‪ . .‬الحديث ‪ ،‬غير أنّه ينزع عنه الجلود والسّلح والفرو والحشو‬
‫والخفّ والمنطقة والقلنسوة "‪ .‬لما روي عن عليّ رضي ال عنه أنّه قال ‪ ":‬تنزع عنه‬
‫العمامة والخفّان والقلنسوة ‪ ،‬ولما روي عن ابن عبّاس رضي ال عنهما قال ‪ « :‬أمر‬
‫رسول اللّه صلى ال عليه وسلم بقتلى أحد أن ينزع عنهم الحديد والجلود ‪ ،‬وأن يدفنوا‬
‫بدمائهم وثيابهم » ولنّ هذه الشياء الّتي أمر بنزعها ليست من جنس الكفن ‪ ،‬ولنّ المراد‬
‫من قوله صلى ال عليه وسلم « زمّلوهم بثيابهم » الثّياب الّتي يكفّن بها وتلبس للسّتر ‪،‬‬
‫ولنّ الدّفن بالسّلح وما ذكر معه كان من عادة أهل الجاهليّة ‪ ،‬فإنّهم كانوا يدفنون أبطالهم‬
‫بما عليهم من السلحة وقد نهينا عن التّشبّه بهم ‪.‬‬
‫ويجوز أن يزاد في أكفانهم أو ينقص على أن ل يخرج عن كفن السّنّة ‪ ،‬لما روي عن خبّاب‬
‫أنّ « حمزة رضي ال عنه لم يوجد له كفن إل بردة ملحاء إذا جعلت على قدميه قلصت عن‬
‫رأسه حتّى مدّت على رأسه وجعل على قدميه الذخر » ‪.‬‬
‫وذاك زيادة ‪ ،‬ولنّ الزّيادة على ما عليه حتّى يبلغ عدد السّنّة من باب الكمال وأمّا النّقصان‬
‫فهو من باب دفع الضّرر عن الورثة لجواز أن يكون عليه من الثّياب ما يضرّ بالورثة تركه‬
‫عليه ‪.‬‬
‫ن شهيد المعركة يدفن بثيابه الّتي مات فيها وجوبا إن كانت مباحة وإل فل‬
‫وعند المالكيّة ‪ .‬أ ّ‬
‫يدفن بها ‪ ،‬ويشترط أن تستره كلّه فتمنع الزّيادة عليها ‪ ،‬فإن لم تستره زيد عليها ما‬
‫يستره ‪ ،‬فإن وجد عريانا ستر جميع جسده ‪.‬‬
‫قال ابن رشد ‪ :‬من عرّاه العدوّ فل رخصة في ترك تكفينه بل ذلك لزم ‪ .‬وأمّا الزّيادة على‬
‫ثيابه إذا كان فيها ما يجزيه فل بأس بها ‪ ،‬وليس لوليّه نزع ثيابه وتكفينه بغيرها ‪.‬‬
‫ويندب دفنه بخفّ وقلنسوة ومنطقة ‪ -‬ما يحتزم به في وسطه ‪ -‬إن قلّ ثمنها وخاتم قلّ ثمنه‬
‫‪ ،‬ول يدفن الشّهيد بآلة حرب قتل وهي معه كدرع وسلح ‪.‬‬
‫وقال الحنابلة ‪ :‬إنّ شهيد المعركة يجب دفنه في ثيابه الّتي قتل فيها ولو كانت حريرا على‬
‫ظاهر المذهب ‪ .‬وينزع السّلح والجلود والفرو والخفّ لحديث ابن عبّاس رضي ال عنه‬
‫السّابق ‪ ،‬ول يزاد في ثياب الشّهيد ول ينقص منها ‪ ،‬ولو لم يحصل المسنون بها لنقصها أو‬
‫زيادتها ‪ .‬وذكر القاضي في تخريجه أنّه ل بأس بهما ‪ ،‬وجاء في المبدع ‪ :‬فإن سلب ما على‬
‫الشّهيد من الثّياب ‪ ،‬كفّن بغيرها وجوبا كغيره ‪.‬‬
‫وقال الشّافعيّة ‪ :‬يكفّن شهيد المعركة ندبا في ثيابه لخبر أبي داود بإسناد حسن عن جابر‬
‫رضي ال عنه قال ‪ « :‬رمي رجل بسهم في صدره أو في حلقه فمات فأدرج في ثيابه كما‬
‫هو قال ‪ :‬ونحن مع النّبيّ صلى ال عليه وسلم » والمراد ثيابه الّتي مات فيها واعتاد لبسها‬
‫غالبا ‪ ،‬وإن لم تكن ملطّخة بالدّم ‪ ،‬ويفهم من عبارتهم أنّه ل يجب تكفينه في ثيابه الّتي‬
‫كانت عليه وقت استشهاده بل هو أمر مندوب إليه فيجوز أن يكفّن كسائر الموتى ‪ ،‬فإن لم‬
‫يكن ما عليه سابغا أي ساترا لجميع بدنه تمّم وجوبا ‪ ،‬لنّه حقّ للميّت ‪ ،‬ويندب نزع آلة‬
‫الحرب عنه كدرع وخفّ ‪ ،‬وكلّ ما ل يعتاد لبسه غالبا كجلد وفرو وجبّة محشوّة ‪.‬‬
‫وأمّا شهداء غير المعركة كالغريق والحريق والمبطون والغريب فيكفّن كسائر الموتى وذلك‬
‫باتّفاق جميع الفقهاء ‪.‬‬
‫إعداد الكفن مقدّما ‪:‬‬
‫ن امرأة جاءت إلى‬
‫‪ -‬في البخاريّ ‪ :‬عن ابن أبي حازم عن سهل رضي ال عنه ‪ « :‬أ ّ‬ ‫‪15‬‬

‫النّبيّ صلى ال عليه وسلم ببردة منسوجة فيها حاشيتها ‪ . . .‬فحسّنها فلن فقال ‪ :‬أكسنيها‬
‫ي صلى ال عليه وسلم محتاجا إليها ‪ ،‬ثمّ‬
‫ما أحسنها ‪ .‬قال القوم ‪ :‬ما أحسنت ‪ ،‬لبسها النّب ّ‬
‫سألته ‪ ،‬وعلمت أنّه ل ير ّد ‪ ،‬قال ‪ :‬إنّي واللّه ما سألته للبسها ‪ ،‬إنّما سألته لتكون كفني ‪،‬‬
‫قال سهل ‪ :‬فكانت كفنه » ‪.‬‬
‫ي صلى ال عليه وسلم لذلك ‪.‬‬
‫وهذا الحديث دليل على الجواز ‪ ،‬لعدم إنكار النّب ّ‬
‫وفي حاشية ابن عابدين ‪ .‬وينبغي أن ل يكره تهيئة الكفن لنّ الحاجة إليه متحقّقة غالبا ‪.‬‬
‫وقال الشّافعيّة ‪ :‬ل يندب أن يعدّ لنفسه كفنا لئل يحاسب على اتّخاذه إل أن يكون من جهة‬
‫حلّ أو أثر من ذي صلح فحسن إعداده ‪ ،‬لكن ل يجب تكفينه فيه كما اقتضاه كلم القاضي‬
‫أبي الطّيّب وغيره ‪ ،‬بل للوارث إبداله ‪ .‬ولهذا لو نزعت الثّياب الملطّخة بالدّم عن الشّهيد‬
‫وكفّن في غيرها جاز مع أنّ فيها أثر العبادة الشّاهدة له بالشّهادة ‪ ،‬فهذا أولى ‪.‬‬
‫إعادة تكفين الميّت ‪:‬‬
‫‪ -‬اتّفق الفقهاء على أنّه لو كفّن الميّت فسرق الكفن قبل الدّفن أو بعده كفّن كفنا ثانيا من‬ ‫‪16‬‬

‫ن العلّة في المرّة الولى الحاجة وهي‬


‫ماله أو من مال من عليه نفقته أو من بيت المال ‪ ،‬ل ّ‬
‫موجودة في الحالة الثّانية ‪.‬‬
‫القطع بسرقة الكفن ‪:‬‬
‫‪ -‬ذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة وأبو يوسف من الحنفيّة إلى قطع النّبّاش إذا تحقّقت‬ ‫‪17‬‬

‫ي صلى ال‬
‫ن النّب ّ‬
‫شروط القطع في السّرقة ‪ ،‬لما روى البراء بن عازب رضي ال عنه أ ّ‬
‫عليه وسلم قال ‪ « :‬من حرّق حرّقناه ‪ ،‬ومن غرّق غرّقناه ‪ ،‬ومن نبش قطعناه » ‪.‬‬
‫ن القبر حرز‬
‫ولما روي عن عائشة رضي ال عنها قالت ‪ :‬سارق أمواتنا كسارق أحيائنا ل ّ‬
‫للكفن ‪ ،‬وإن كان الكفن زائدا على كفن السّنّة أو دفن في تابوت فسرق التّابوت لم يقطع ‪،‬‬
‫لنّ ما زاد على المشروع في الكفن لم يجعل القبر حرزا له وكذلك التّابوت ‪.‬‬
‫وقال أبو حنيفة ومحمّد والشّافعيّة ‪ :‬ل قطع على النّبّاش مطلقا ‪ .‬لقوله صلى ال عليه وسلم‬
‫« ل قطع على المختفي » ‪ -‬وهو النّبّاش بلغة أهل المدينة ‪ -‬ولنّ الشّبهة تمكّنت في‬
‫الملك لنّه ل ملك للميّت حقيقة ول للوارث لتقدّم حاجة الميّت ‪ ،‬فتمكّنت الشّبهة المسقطة‬
‫للقطع ‪ ،‬ووافقهما الشّافعيّة إذا كان الميّت مدفونا في بريّة لعدم الحرز ‪.‬‬
‫الكتابة على الكفن ‪:‬‬
‫‪ -‬جاء في الجمل على شرح المنهج ‪ ،‬ل يجوز له أن يكتب عليها شيئا من القرآن أو‬ ‫‪18‬‬

‫السماء المعظّمة صيانة لها من الصّديد ‪ ،‬وبه قال ابن الصّلح ‪.‬‬

‫تكليف *‬
‫التّعريف ‪:‬‬
‫‪ -‬التّكليف لغة ‪ :‬مصدر كلّف ‪ .‬تقول ‪ :‬كلّفت الرّجل ‪ :‬إذا ألزمته ما يشقّ عليه ‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫س َعهَا } ‪.‬‬
‫قال اللّه تعالى ‪ { :‬ل ُيكَلّفُ الّل ُه َن ْفسَا إل ُو ْ‬
‫وفي الصطلح ‪ :‬طلب الشّارع ما فيه كلفة من فعل أو ترك ‪ ،‬وهذا الطّلب من الشّارع‬
‫بطريق الحكم ‪ ،‬وهو الخطاب المتعلّق بأفعال المكلّفين بالقتضاء أو التّخيير ‪.‬‬
‫اللفاظ ذات الصّلة ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬الهليّة ‪:‬‬
‫‪ -‬أهليّة النسان للشّيء صلحيّته لصدور ذلك الشّيء وطلبه منه ‪.‬‬ ‫‪2‬‬

‫قال الصوليّون ‪ :‬إنّه ل ب ّد في المحكوم عليه ‪ -‬المخاطب ‪ -‬من أهليّته للحكم ‪ -‬الخطاب ‪-‬‬
‫وإنّها ل تثبت إل بالبلوغ والعقل وهي على قسمين ‪ :‬أهليّة الوجوب ‪ ،‬وأهليّة الداء ‪.‬‬
‫أمّا أهليّة الوجوب فعبارة عن صلحيّة الشّخص لوجوب الحقوق المشروعة ‪ ،‬بحيث تثبت له‬
‫حقوق ‪ ،‬وتجب عليه واجبات والتزامات ‪ .‬وأهليّة الداء عبارة عن صلحيّته لصدور الفعل‬
‫على وجه يعتدّ به شرعا ‪ ،‬والثار الشّرعيّة تترتّب على هذه الهليّة ‪ ،‬وبهذا يعرف أنّ‬
‫الهليّة مناط التّكليف ‪ .‬وتفصيل ذلك في مصطلح ‪ ( :‬أهليّة ) ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬ال ّذمّة ‪:‬‬
‫‪ -‬ال ّذمّة في اللّغة ‪ :‬العهد والضّمان والمان ‪ ،‬وفي الصطلح ‪ :‬وصف يصير به الشّخص‬ ‫‪3‬‬

‫أهل لللزام واللتزام ‪ ،‬وهي من لوازم أهليّة الوجوب ‪ ،‬لنّ أهليّة الوجوب تثبت بناء على‬
‫ن التّكليف أعمّ ‪،‬لنّه يتعلّق بأهليّة الوجوب والداء معا‪.‬‬
‫ال ّذمّة ‪ ،‬فالفرق بين التّكليف وال ّذمّة أ ّ‬
‫الحكم الجماليّ ومواطن البحث ‪:‬‬
‫‪ -‬أورد علماء الفقه أحكام التّكليف والهليّة في باب الحجر ‪ ،‬وتكلّم عنه علماء أصول‬ ‫‪4‬‬

‫الفقه في بيان الحكم ‪ ،‬والحاكم ‪ ،‬والمحكوم عليه ‪ ،‬والمحكوم به ‪ ،‬وفي مواضع أخرى‬
‫يحتاج البحث فيها إلى ذكر التّكليف ‪.‬‬
‫والتّكليف يتوقّف على ما يتوقّف عليه الحكم من ‪ :‬الحاكم ‪ ،‬والمحكوم عليه ‪ ،‬والمحكوم به ‪:‬‬
‫وفيما يلي بيان ذلك ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬علقة التّكليف بالحاكم والشّارع علقة الفعل ‪ -‬المصدر ‪ -‬بفاعله لنّ التّكليف يقع من‬
‫الحاكم على المكلّفين اقتضاء أو تخييرا ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬صلة التّكليف بالمحكوم به ‪:‬‬
‫ن الحكام التّكليفيّة خمسة ‪ .‬قال الغزاليّ ‪ :‬أقسام الحكام الثّابتة لفعال‬
‫أورد علماء الصول أ ّ‬
‫المكلّفين خمسة ‪ :‬الواجب ‪ ،‬والمحظور ‪ ،‬والمباح ‪ ،‬والمندوب ‪ ،‬والمكروه ‪.‬‬
‫ن خطاب الشّرع إمّا أن يرد باقتضاء الفعل ‪ ،‬أو اقتضاء التّرك ‪ ،‬أو‬
‫ووجه هذه القسمة أ ّ‬
‫التّخيير بين الفعل والتّرك ‪ ،‬فإن ورد باقتضاء الفعل فهو أمر ‪ ،‬فإمّا أن يقترن به الشعار‬
‫بعقاب على التّرك فيكون واجبا ‪ ،‬أو ل يقترن فيكون ندبا ‪ .‬والّذي ورد باقتضاء التّرك فإن‬
‫أشعر بالعقاب على الفعل فحظر ‪ ،‬وإل فكراهية ‪ ،‬وإن ورد بالتّخيير فهو مباح ‪.‬‬
‫ك أنّ تسمية الخمسة تكليفيّة تغليب إذ ل تكليف في الباحة ول في النّدب والكراهة‬
‫ول ش ّ‬
‫التّنزيهيّة عند الجمهور ‪.‬‬
‫ومن ناحية أخرى اشترطوا في التّكليف أن يكون الفعل الّذي وقع التّكليف به ممكنا ‪.‬‬
‫ج ‪ -‬ويشترط في التّكليف بالنّظر إلى المكلّف وهو المحكوم عليه فهم المكلّف لما كلّف به ‪.‬‬
‫بمعنى قدرته على تصوّر ذلك المر والفهم من خطاب اللّه جلّ جلله بقدر يتوقّف عليه‬
‫ن التّكليف استدعاء حصول الفعل على قصد المتثال ‪ ،‬وهو محال عادة وشرعا‬
‫المتثال ل ّ‬
‫ممّن ل شعور له بالمر ‪ ،‬كما اشترطوا البلوغ وجعلوا الجنون والعته من عوارض الهليّة ‪.‬‬
‫وللتّفصيل ينظر الملحق الصوليّ ‪.‬‬

‫تكنّي *‬
‫انظر ‪ :‬كنية ‪.‬‬
‫تلوة *‬
‫التّعريف ‪:‬‬
‫‪ -‬التّلوة ‪ :‬من تل بمعنى قرأ ‪ ،‬ويأتي هذا الفعل بمعنى تبع ‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫وفي الصطلح ‪ :‬التّلوة القراءة ‪ .‬قال تعالى ‪ { :‬يَتْلو عَلَيهمْ آيَاتِه } وفسّر قوله تعالى ‪{ :‬‬
‫ق تِلوَ ِتهِ } ‪ ،‬باتّباع المر والنّهي ‪،‬بتحليل حلله وتحريم حرامه والعمل بما تضمّنه‪.‬‬
‫يَتْلُونَه حَ ّ‬
‫اللفاظ ذات الصّلة ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬التّرتيل ‪:‬‬
‫‪ -‬التّرتيل ‪ :‬لغة التّمهّل يقال ‪ :‬رتّلت القرآن ترتيل أي ‪ :‬تمهّلت في القراءة ولم أعجل ‪.‬‬ ‫‪2‬‬

‫وفي الصطلح ‪ :‬التّأنّي في القراءة والتّمهّل وتبيين الحروف والحركات تشبيها بالثّغر‬
‫ن التّلوة أعمّ ‪ ،‬والتّرتيل‬
‫المرتّل والنّسبة بين التّرتيل والتّلوة ‪ -‬بمعنى القراءة ‪ : -‬أ ّ‬
‫أخصّ ‪ ،‬فكلّ ترتيل تلوة ول عكس ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬التّجويد ‪:‬‬
‫ق الحرف ‪ ،‬الصّفة الذّاتيّة‬
‫‪ -‬التّجويد ‪ :‬إعطاء كلّ حرف حقّه ومستحقّه ‪ ،‬والمراد بح ّ‬ ‫‪3‬‬

‫ق الحرف ‪ ،‬ما ينشأ عن الصّفات الذّاتيّة‬


‫الثّابتة له ‪ ،‬كالشّدّة والستعلء والمراد بمستح ّ‬
‫اللّازمة ‪ ،‬كالتّفخيم وغيره ‪ .‬وهو أخصّ من التّلوة ‪ ( .‬ر ‪ :‬تجويد ) ‪.‬‬
‫ج ‪ -‬الحدْر ‪:‬‬
‫‪ -‬الحدر هو ‪ :‬السراع في القراءة ‪ .‬فهو أخصّ من التّلوة أيضا ‪.‬‬ ‫‪4‬‬

‫الحكم الجماليّ ‪:‬‬


‫‪ -‬المسلمون متعبّدون بفهم معاني القرآن الكريم وتطبيق أحكامه وإقامة حدوده ‪ ،‬وهم‬ ‫‪5‬‬

‫متعبّدون كذلك بتصحيح ألفاظه وإقامة حروفه على الصّفة المتلقّاة من أئمّة القراءة المتّصلة‬
‫ي صلى ال عليه وسلم وقد عدّ العلماء القراءة بغير تجويد لحنا ‪ ،‬فقسّموا اللّحن إلى‬
‫بالنّب ّ‬
‫جليّ وخفيّ ‪.‬‬
‫ن الجليّ يخلّ إخلل ظاهرا يشترك في معرفته‬
‫فاللّحن ‪ :‬خلل يطرأ على اللفاظ فيخلّ ‪ ،‬إل أ ّ‬
‫علماء القراءة وغيرهم ‪ ،‬وهو الخطأ في العراب ‪ ،‬والخفيّ يخ ّل إخلل يختصّ بمعرفته‬
‫علماء القراءة وأئمّة الداء الّذين تلقوه من أفواه العلماء وضبطوه من ألفاظ أهل الداء ‪.‬‬
‫والفقهاء متّفقون على أنّ قراءة القرآن في الصّلة ركن ‪ ،‬لقوله تعالى ‪ { :‬فَاقْرَءوا مَا تَ َيسّرَ‬
‫مِنْه } وإن اختلفوا في تعيين الفاتحة لهذه الفريضة ‪.‬‬
‫ويستحبّ الكثار من قراءة القرآن وتلوته خارج الصّلة ‪ .‬قال تعالى مثنيا على من كان ذلك‬
‫دأبه ‪ { :‬يَتْلُونَ آيَاتِ الّلهِ آنَاءَ اللّيلِ } ‪ ،‬وفي الصّحيحين من حديث ابن عمر رضي ال‬
‫عنهما « ل حسد إل في اثنتين ‪ :‬رجل آتاه الكتاب وقام به آناء اللّيل وآناء النّهار » ‪،‬‬
‫ي من حديث ابن مسعود ‪ « :‬من قرأ حرفا من كتاب اللّه فله به حسنة ‪،‬‬
‫وروى التّرمذ ّ‬
‫والحسنة بعشر أمثالها » ‪ .‬وفي حديث أبي سعيد « عن النّبيّ صلى ال عليه وسلم ‪ :‬يقول‬
‫الرّبّ ع ّز وجلّ من شغله القرآن وذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السّائلين ‪،‬‬
‫وفضل كلم اللّه على سائر الكلم كفضل اللّه على خلقه » ‪.‬‬
‫آداب تلوة القرآن ‪:‬‬
‫ي صلى ال عليه‬
‫ب الوضوء لقراءة القرآن ‪ ،‬لنّه أفضل الذكار ‪ ،‬وقد « قال النّب ّ‬
‫‪ -‬يستح ّ‬ ‫‪6‬‬

‫وسلم ‪ :‬إنّي كرهت أن أذكر اللّه ع ّز وج ّل إل على طهر » ‪.‬‬


‫ن النّبيّ صلى ال‬
‫قال إمام الحرمين ‪ :‬لكن تجوز القراءة للمحدث حدثا أصغر لنّه صحّ « أ ّ‬
‫عليه وسلم كان يقرأ مع الحدث » ‪.‬‬
‫وإذا كان يقرأ فعرضت له ريح أمسك عن القراءة حتّى يتمّ خروجها ‪ ،‬وأمّا الجنب والحائض‬
‫فتحرم عليهما القراءة ‪ ،‬ويجوز لهما النّظر في المصحف وإمراره على القلب ‪ ،‬ولم ير ابن‬
‫ي وابن المنذر ‪.‬‬
‫عبّاس بالقراءة للجنب بأسا ‪ ،‬وبه قال الطّبر ّ‬
‫وأمّا متنجّس الفم فتكره له القراءة ‪ ،‬وقيل تحرم كمسّ المصحف باليد النّجسة ‪ ،‬وتسنّ‬
‫القراءة في مكان نظيف وأفضله المسجد ‪ ،‬وكره قوم القراءة في الحمّام والطّريق ‪ ،‬وعند‬
‫ي أنّه ل تكره القراءة فيهما ‪ ،‬وعن الشّعبيّ أنّه تكره القراءة في الحشّ " بيت الخلء "‬
‫النّوو ّ‬
‫وفي بيت الرّحا وهي تدور ‪ ،‬ويستحبّ أن يجلس القارئ مستقبل القبلة في خشوع ووقار‬
‫ن أن يستاك تعظيما وتطهيرا ‪ ،‬وقد روى ابن ماجه عن عليّ موقوفا‬
‫مطرقا رأسه ‪ ،‬ويس ّ‬
‫والبزّار بسند جيّد عنه صلى ال عليه وسلم مرفوعا ‪ « :‬إنّ أفواهكم طرق للقرآن فطيّبوها‬
‫بالسّواك » ولو قطع القراءة وعاد عن قرب فمقتضى استحباب التّعوّذ إعادة السّواك أيضا ‪،‬‬
‫ن الشّيطَانِ‬
‫ت القُرْآنَ فَاسْ َتعِذْ بِالّلهِ مِ َ‬
‫ويسنّ التّعوّذ قبل القراءة لقوله تعالى ‪ { :‬فَإذا قَرَأ َ‬
‫ال ّرجِيمِ } يعني إذا أردت قراءة القرآن ‪.‬‬
‫وذهب قوم إلى وجوب التّعوّذ لظاهر المر فإن كان يقرأ وهو ماش فسلّم على قوم وعاد إلى‬
‫القراءة كان حسنا إعادة التّعوّذ ‪ .‬وصفته المختارة ‪ " :‬أعوذ باللّه من الشّيطان الرّجيم "‬
‫وكان جماعة من السّلف يزيدون بعد لفظ الجللة ‪ :‬السّميع العليم ‪ ،‬وعن حمزة أستعيذ‬
‫ونستعيذ واستعذت ‪ ،‬واختاره صاحب الهداية من الحنفيّة لمطابقة لفظ القرآن ‪ ،‬وهناك صيغ‬
‫أخرى للستعاذة ‪ .‬قال الحلوانيّ في جامعه ‪ :‬ليس للستعاذة حدّ ينتهى إليه ‪ ،‬من شاء زاد‬
‫ومن شاء نقص ‪ ،‬وفي النّشر لبن الجزريّ ‪ :‬المختار عند أئمّة القراءة الجهر بها ‪ ،‬وقيل ‪:‬‬
‫يس ّر مطلقا ‪ ،‬وقيل ‪ :‬فيما عدا الفاتحة ‪ ،‬وقد أطلقوا اختيار الجهر بها ‪ ،‬وقيّده أبو شامة بقيد‬
‫ل ب ّد منه ‪ ،‬وهو أن يكون بحضرة من يسمعه ‪ ،‬قال ‪ :‬لنّ في الجهر بالتّعوّذ إظهار شعار‬
‫القراءة ‪ ،‬كالجهر بالتّلبية وتكبيرات العيد ‪.‬‬
‫ن السّامع ينصت للقراءة من أوّلها ل يفوته منها شيء ‪ ،‬وإذا أخفى‬
‫ومن فوائد الجهر أ ّ‬
‫التّعوّذ لم يعلم السّامع بها إل بعد أن يفوته من المقروء شيء ‪ ،‬وهذا المعنى هو الفارق بين‬
‫القراءة في الصّلة وخارجها ‪.‬‬
‫قال ‪ :‬واختلف المتأخّرون في المراد بإخفاء الستعاذة ‪ ،‬فالجمهور على أنّ المراد به السرار‬
‫فل بدّ من التّلفّظ وإسماع نفسه ‪ ،‬وقيل ‪ :‬الكتمان بأن يذكرها بقلبه بل تلفّظ ‪ ،‬قال ‪ :‬وإذا‬
‫قطع القراءة إعراضا أو بكلم أجنبيّ ولو ردّا للسّلم استأنفها ‪ ،‬وإذا كان الكلم بالقراءة فل‪.‬‬
‫قال ‪ :‬وهل هي سنّة كفاية أو عين حتّى لو قرأ جماعة جملة ‪ ،‬فهل يكفي استعاذة واحد منهم‬
‫كالتّسمية على الكل أو ل ؟ لم أر فيه نصّا ‪ ،‬والظّاهر الثّاني ‪ ،‬لنّ المقصود اعتصام القارئ‬
‫والتجاؤه باللّه من شرّ الشّيطان ‪ ،‬فل يكون تعوّذ واحد منهم كافيا عن آخر ‪.‬‬
‫البسملة ‪:‬‬
‫ن أكثر‬
‫‪ -‬ومن آداب التّلوة أن يحافظ على قراءة البسملة أوّل كلّ سورة غير براءة ‪ ،‬ل ّ‬ ‫‪7‬‬

‫العلماء على أنّها آية ‪ ،‬فإذا أخلّ بها كان تاركا لبعض الختمة عند الكثرين ‪ ،‬فإن قرأ من‬
‫ص عليه الشّافعيّ فيما نقله العبّاديّ ‪ .‬قال القرّاء ‪ :‬ويتأكّد‬
‫أثناء سورة استحبّ له أيضا ‪ ،‬ن ّ‬
‫عةِ } ‪ { ،‬وَهو الّ ِذيْ أَ ْنشَأَ جَنّاتٍ } كما في ذكر ذلك بعد‬
‫عند قراءة نحو ‪ { :‬إليهِ يُرَ ّد عِ ْل ُم السّا َ‬
‫ي ‪ :‬والبتداء‬
‫الستعاذة من البشاعة وإيهام رجوع الضّمير إلى الشّيطان ‪ ،‬قال ابن الجزر ّ‬
‫بالي وسط " براءة " ق ّل من تعرّض له ‪ ،‬وقد صرّح بالبسملة أبو الحسن السّخاويّ ‪ ،‬وردّ‬
‫عليه الجعبريّ ‪.‬‬
‫ال ّنيّة ‪:‬‬
‫‪ -‬ل تحتاج قراءة القرآن إلى نيّة كسائر الذكار ‪ ،‬إل إذا نذرها خارج الصّلة ‪ ،‬فل بدّ من‬ ‫‪8‬‬

‫نيّة النّذر أو الفرض ‪.‬‬


‫التّرتيل ‪:‬‬
‫ن التّرتيل في قراءة القرآن قال تعالى ‪ { :‬وَرَ ّتلْ القُرْآنَ َترْتِيلً } وروى أبو داود‬
‫‪ -‬يس ّ‬ ‫‪9‬‬

‫وغيره عن أمّ سلمة « أنّها نعتت قراءة رسول اللّه صلى ال عليه وسلم قراءة مفسّرة حرفا‬
‫حرفا » ‪ .‬وفي البخاريّ عن أنس « أنّه سئل عن قراءة رسول اللّه صلى ال عليه وسلم‬
‫فقال كانت مدّا ‪ ،‬ثمّ قرأ بسم اللّه الرّحمن الرّحيم يم ّد اللّه ‪ ،‬ويمدّ الرّحمن ‪ ،‬ويمدّ الرّحيم » ‪.‬‬
‫ل قال له إنّي أقرأ المفصّل في ركعة واحدة ‪ ،‬فقال‬
‫وفي الصّحيحين عن ابن مسعود « أنّ رج ً‬
‫‪ :‬هذّا كهذّ الشّعر ‪ -‬يعني السراع بالقراءة ‪ -‬إنّ قوما يقرءون القرآن ل يجاوز تراقيهم ‪،‬‬
‫ي في حملة القرآن عن ابن مسعود‬
‫ولكن إذا وقع في القلب فرسخ فيه نفع » ‪ .‬وأخرج الج ّر ّ‬
‫‪ ،‬وقال ‪ :‬ل تنثروه نثر الدّقل ‪ -‬أي التّمر ‪ -‬ول تهذّوه كه ّذ الشّعر ‪ ،‬قفوا عند عجائبه ‪،‬‬
‫وحرّكوا به القلوب ‪ ،‬ول يكون ه ّم أحدكم آخر السّورة ‪.‬‬
‫واتّفقوا على كراهة الفراط في السراع ‪ ،‬قالوا ‪ :‬وقراءة جزء بترتيل أفضل من قراءة‬
‫جزأين في قدر ذلك الزّمان بل ترتيل ‪.‬‬
‫ويستحبّ التّرتيل للتّدبّر ‪ ،‬لنّه أقرب إلى الجلل والتّوقير وأشدّ تأثيرا في القلب ‪ ،‬ولهذا‬
‫ي الّذي ل يفهم معنى القرآن ‪.‬‬
‫يستحبّ التّرتيل للعجم ّ‬
‫واختلف القرّاء ‪ ،‬هل الفضل التّرتيل وقلّة القراءة ‪ ،‬أم السّرعة مع كثرتها ؟ وأحسن بعض‬
‫ن ثواب قراءة التّرتيل أجلّ قدرا ‪ ،‬وثواب الكثرة أكثر عددا ‪ ،‬لنّ بكلّ حرف‬
‫الئمّة فقال ‪ :‬إ ّ‬
‫ي ‪ :‬تفخيم ألفاظه ‪ ،‬والبانة عن حروفه ‪ ،‬وأل‬
‫عشر حسنات ‪ .‬وكمال التّرتيل كما قال الزّركش ّ‬
‫يدغم حرف في حرف ممّا ليس حقّه الدغام ‪ ،‬وقيل هذا أقلّه ‪ ،‬وأكمله أن يقرأه على منازله‬
‫إن تهديدا لفظ به لفظ التّهديد ‪ ،‬أو تعظيما لفظ به على التّعظيم ‪.‬‬
‫التّدبّر ‪:‬‬
‫‪ -‬تسنّ القراءة بالتّدبّر والتّفهّم ‪ ،‬فهو المقصود العظم ‪ ،‬والمطلوب الهمّ ‪ ،‬وبه تنشرح‬ ‫‪10‬‬

‫ك مُبَا َركٌ لِيَدّبّرُوا آيَا ِتهِ } وقال ‪:‬‬


‫الصّدور ‪ ،‬وتستنير القلوب ‪ .‬قال تعالى ‪ { :‬كِتَابٌ أَنْزَلْنَاه إلي َ‬
‫ب أَ ْقفَاُلهَا } وصفة ذلك أن يشغل قلبه بالتّفكّر في معنى ما‬
‫{ أَفَل يَتَدَبّرُونَ القُرْآنَ َأمْ عَلَى قُلُو ٍ‬
‫يلفظ به فيعرف معنى كلّ آية ‪ ،‬ويتأمّل الوامر والنّواهي ‪ ،‬ويعتقد قبول ذلك ‪ ،‬فإن كان ممّا‬
‫قصّر عنه فيما مضى اعتذر واستغفر ‪ ،‬وإذا مرّ بآية رحمة استبشر وسأل ‪ ،‬أو عذاب أشفق‬
‫وتعوّذ ‪ ،‬أو تنزيه نزّه وعظّم ‪ ،‬أو دعاء تضرّع وطلب ‪.‬‬
‫تكرير الية ‪:‬‬
‫ي صلى ال‬
‫‪ -‬ل بأس بتكرير الية وترديدها ‪ ،‬روى النّسائيّ وغيره عن أبي ذ ّر « أنّ النّب ّ‬ ‫‪11‬‬

‫ن ُتعَذّ ْبهُمْ فَإنّهمْ عِبَادُكَ } »‬


‫عليه وسلم قام بآية يردّدها حتّى أصبح ‪ { :‬إ ْ‬
‫البكاء عند التّلوة ‪:‬‬
‫ب البكاء عند قراءة القرآن والتّباكي لمن ل يقدر عليه والحزن والخشوع ‪ ،‬قال‬
‫‪ -‬يستح ّ‬ ‫‪12‬‬

‫خشُوعَا } وفي الصّحيحين حديث « قراءة ابن‬


‫تعالى ‪ { :‬وَ َيخِرّونَ لِلَذْقَانِ يَ ْبكُونَ وَ َيزِيدُ ُهمْ ُ‬
‫ي صلى ال عليه وسلم وفيه فإذا عيناه تذرفان » ‪.‬‬
‫مسعود على النّب ّ‬
‫وعن سعد بن مالك مرفوعا ‪ « :‬إنّ هذا القرآن نزل بحزن فإذا قرأتموه فابكوا ‪ ،‬فإن لم تبكوا‬
‫فتباكوا » ‪.‬‬
‫تحسين الصّوت ‪:‬‬
‫ب تحسين الصّوت بالقراءة وتزيينها لحديث ابن حبّان وغيره ‪ « ،‬وزيّنوا القرآن‬
‫‪ -‬يستح ّ‬ ‫‪13‬‬

‫بأصواتكم » ‪.‬‬
‫وقال الشّافعيّ ‪ :‬القراءة باللحان ل بأس بها ‪ ،‬وفي رواية الرّبيع الجيزيّ ‪ :‬إنّها مكروهة ‪،‬‬
‫قال الرّافعيّ ‪ :‬فقال الجمهور ‪ :‬ليست على قولين ‪ :‬بل المكروه أن يفرّط في المدّ وفي إشباع‬
‫ضمّة واو ‪ ،‬ومن الكسرة ياء ‪ ،‬أو يدغم في‬
‫الحركات ‪ ،‬حتّى يتولّد من الفتحة ألف ‪ ،‬ومن ال ّ‬
‫غير موضع الدغام ‪ ،‬فإن لم ينته إلى هذا الحدّ فل كراهة ‪ ،‬وقال في زوائد الرّوضة ‪:‬‬
‫والصّحيح أنّ الفراط على الوجه المذكور حرام ‪ ،‬يفسّق به القارئ ‪ ،‬ويأثم المستمع غير‬
‫المستنكر ‪ ،‬لنّه عدل به عن نهجه القويم ‪ ،‬قال ‪ :‬وهذا مراد الشّافعيّ بالكراهة ‪.‬‬
‫وفيه حديث « اقرءوا القرآن بلحون العرب وأصواتها ‪ ،‬وإيّاكم ولحون أهل الكتابين وأهل‬
‫الفسق ‪ ،‬فإنّه سيجيء بعدي قوم يرجّعون بالقرآن ترجيع الغناء ‪ ،‬والرّهبانيّة ل يجاوز‬
‫حناجرهم ‪ ،‬مفتونة قلوبهم وقلوب من يعجبهم شأنهم » ‪.‬‬
‫قال النّوويّ ‪ :‬ويستحبّ طلب القراءة من حسن الصّوت ‪ ،‬والصغاء إليها للحديث الصّحيح ‪،‬‬
‫ول بأس باجتماع الجماعة في القراءة ول بإدارتها ‪ ،‬وهي أن يقرأ بعض الجماعة قطعة ثمّ‬
‫البعض قطعة بعدها ‪.‬‬
‫تفخيم التّلوة ‪:‬‬
‫‪ -‬تستحبّ قراءة القرآن بالتّفخيم لحديث ‪ « :‬أنزل القرآن بالتّفخيم » قال الحليميّ ‪:‬‬ ‫‪14‬‬

‫ومعناه أنّه يقرؤه على قراءة الرّجال ‪ ،‬ول يخضع الصّوت فيه ككلم النّساء ‪ ،‬قال ‪ :‬ول‬
‫يدخل في هذا كراهة المالة الّتي هي اختيار بعض القرّاء ‪ ،‬ويجوز أن يكون القرآن نزل‬
‫بالتّفخيم ‪ ،‬فرخّص مع ذلك في إمالة ما تحسن إمالته ‪.‬‬
‫الجهر بالقراءة ‪:‬‬
‫‪ -‬وقد وردت أحاديث باستحباب الجهر بالقرآن ‪ ،‬وأخرى باستحباب الخفاء ‪ ،‬فمن الوّل‬ ‫‪15‬‬

‫ي حسن الصّوت يتغنّى بالقرآن يجهر به‬


‫حديث الصّحيحين ‪ « :‬ما أذن اللّه لشيء ما أذن لنب ّ‬
‫ي ‪ « :‬الجاهر بالقرآن كالجاهر بالصّدقة ‪،‬‬
‫» ومن الثّاني حديث أبي داود والتّرمذيّ والنّسائ ّ‬
‫والمسرّ بالقرآن كالمسرّ بالصّدقة » ‪.‬‬
‫ن الخفاء أفضل ‪ ،‬حيث خاف الرّياء ‪ ،‬أو تأذّى مصلّون أو‬
‫قال النّوويّ ‪ :‬والجمع بينهما أ ّ‬
‫ن فائدته تتعدّى إلى‬
‫نيام بجهره ‪ ،‬والجهر أفضل في غير ذلك لنّ العمل فيه أكثر ‪ ،‬ول ّ‬
‫السّامعين ‪ ،‬ولنّه يوقظ قلب القارئ ويجمع همّه إلى الفكر ‪ ،‬ويصرف سمعه إليه ‪ ،‬ويطرد‬
‫النّوم ويزيد في النّشاط ‪ ،‬ويدلّ لهذا الجمع حديث أبي داود بسند صحيح عن أبي سعيد‬
‫« اعتكف رسول اللّه صلى ال عليه وسلم في المسجد فسمعهم يجهرون بالقراءة فكشف‬
‫ن بعضكم بعضا ‪ ،‬ول يرفع بعضكم على بعض‬
‫ن كلّكم مناج لربّه ‪ ،‬فل يؤذي ّ‬
‫السّتر وقال ‪ :‬أل إ ّ‬
‫في القراءة » وقال بعضهم يستحبّ الجهر ببعض القراءة والسرار ببعضها ‪ ،‬لنّ المسرّ قد‬
‫يملّ فيأنس بالجهر ‪ ،‬والجاهر قد يكلّ فيستريح بالسرار ‪.‬‬
‫المفاضلة بين قراءة القرآن في المصحف وقراءته عن ظهر قلب ‪:‬‬
‫‪ -‬للفقهاء في المفاضلة بين قراءة القرآن في المصحف ‪ ،‬وقراءته عن ظهر قلب ‪ ،‬ثلثة‬ ‫‪16‬‬

‫اتّجاهات ‪:‬‬
‫ن النّظر فيه عبادة فتجتمع القراءة والنّظر ‪.‬‬
‫أ ‪ -‬أنّ القراءة من المصحف أفضل ل ّ‬
‫ي‪.‬‬
‫بهذا قال القاضي حسين والغزال ّ‬
‫ي من حديث أبي سعيد بن عون المكّيّ عن عثمان بن عبيد اللّه بن أوس الثّقفيّ‬
‫روى الطّبران ّ‬
‫عن جدّه قال ‪ :‬قال رسول اللّه صلى ال عليه وسلم « قراءة الرّجل في غير المصحف ألف‬
‫درجة ‪ ،‬وقراءته في المصحف تضاعف على ذلك ألفي درجة » ‪.‬‬
‫وعن عائشة مرفوعا ‪ « :‬النّظر في المصحف عبادة ‪ ،‬ونظر الولد إلى الوالدين عبادة » ‪.‬‬
‫ن المقصود من‬
‫ب ‪ -‬يرى أبو محمّد بن عبد السّلم أنّ القراءة عن ظهر قلب أفضل ‪ ،‬ل ّ‬
‫القراءة التّدبّر لقوله تعالى ‪ { :‬لِيَدّبّرُوا آيَا ِتهِ } والعادة تشهد أنّ النّظر في المصحف يخلّ‬
‫بهذا المقصود فكان مرجوحا ‪.‬‬
‫ج ‪ -‬قال النّوويّ في الذكار ‪ :‬إن كان القارئ من حفظه يحصل له من التّدبّر والتّفكّر وجمع‬
‫القلب أكثر ممّا يحصل له من المصحف ‪ ،‬فالقراءة من الحفظ أفضل ‪ ،‬وإن استويا فمن‬
‫المصحف أفضل ‪ .‬قال وهو مراد السّلف ‪.‬‬
‫قطع القرآن لمكالمة النّاس ‪:‬‬
‫ن كلم اللّه ل ينبغي أن يؤثر عليه‬
‫‪ -‬يكره قطع القراءة لمكالمة أحد ‪ ،‬قال الحليميّ ‪ :‬ل ّ‬ ‫‪17‬‬

‫كلم غيره ‪ ،‬وأيّده البيهقيّ بما في الصّحيح كان ابن عمر إذا قرأ القرآن لم يتكلّم حتّى يفرغ‬
‫منه ‪ ،‬وكره أيضا الضّحك والعبث والنّظر إلى ما يلهي ‪.‬‬
‫قراءة القرآن بالعجميّة ‪:‬‬
‫‪ -‬ل يجوز قراءة القرآن بالعجميّة مطلقا ‪ ،‬سواء أحسن العربيّة أم ل في الصّلة أم‬ ‫‪18‬‬

‫خارجها ‪ .‬وعن أبي حنيفة أنّه يجوز مطلقا ‪ ،‬وعن أبي يوسف ومحمّد يجوز لمن ل يحسن‬
‫ن أبا حنيفة رجع عن ذلك ‪ ،‬ووجه المنع أنّه يذهب‬
‫العربيّة ‪ ،‬لكن في شرح البزدويّ أ ّ‬
‫ن القراءة بالفارسيّة ل تتصوّر ‪ ،‬قيل له فإذا ل يقدر‬
‫إعجازه المقصود منه ‪ ،‬وعن القفّال ‪ :‬أ ّ‬
‫أحد أن يفسّر القرآن ‪ ،‬قال ‪ :‬ليس كذلك لنّ هناك يجوز أن يأتي ببعض مراد اللّه ويعجز‬
‫عن البعض ‪ ،‬أمّا إذا أراد أن يقرأه بالفارسيّة فل يمكن أن يأتي بجميع مراد اللّه تعالى ‪ ،‬لنّ‬
‫التّرجمة إبدال لفظة بلفظة تقوم مقامها ‪ ،‬وذلك غير ممكن بخلف التّفسير ‪.‬‬
‫)‪.‬‬ ‫‪168‬‬ ‫‪/‬‬ ‫‪11‬‬ ‫وللتّفصيل ( ر ‪ :‬ترجمة ف ‪، 5/‬‬
‫القراءة بالشّواذّ ‪:‬‬
‫‪ -‬نقل ابن عبد البرّ الجماع على عدم جواز القراءة بالشّاذّ ‪ ،‬لكن ذكر موهوب الجزريّ‬ ‫‪19‬‬

‫جوازها في غير الصّلة قياسا على رواية الحديث بالمعنى ‪.‬‬


‫ترتيب القراءة ‪:‬‬
‫ن ترتيبه لحكمة ‪ ،‬فل يترك التّرتيب‬
‫‪ -‬الولى أن يقرأ القارئ على ترتيب المصحف ‪ ،‬ل ّ‬ ‫‪20‬‬

‫إل فيما ورد فيه الشّرع ‪ ،‬كصلة صبح يوم الجمعة و { الم تَنْزِيلُ } ‪ ،‬و{ َهلْ أَتَى }‬
‫ونظائره ‪ ،‬فلو فرّق السّور أو عكسها جاز وترك الفضل ‪ ،‬وأمّا قراءة السّورة من آخرها‬
‫إلى أوّلها ‪ .‬فمتّفق على منعه ‪ ،‬لنّه يذهب بعض نوع العجاز ويزيل حكمة التّرتيب ‪ .‬لما‬
‫روي عن ابن مسعود أنّه سئل عن رجل يقرأ القرآن منكوسا ؟ قال ‪ :‬ذاك منكوس القلب ‪،‬‬
‫ن تركه من الداب ‪ ،‬لما أخرج أبو عبيد عن سعيد بن المسيّب «‬
‫وأمّا خلط سورة بسورة فإ ّ‬
‫أنّ رسول اللّه صلى ال عليه وسلم قال لبلل ‪ :‬يا بلل قد سمعتك وأنت تقرأ من هذه‬
‫السّورة ومن هذه السّورة ‪ .‬قال ‪ :‬كلم طيّب يجمع اللّه تعالى بعضه إلى بعض ‪ .‬فقال النّبيّ‬
‫صلى ال عليه وسلم كلّكم قد أصاب » ‪.‬‬
‫وأخرج عن ابن مسعود قال ‪ :‬إذا ابتدأت في سورة فأردت أن تتحوّل منها إلى غيرها فتحوّل‬
‫إل { ُقلْ هو الّلهُ َأحَدٌ } ‪ ،‬فإذا ابتدأت بها فل تتحوّل عنها حتّى تختمها ‪.‬‬
‫وقد نقل القاضي أبو بكر الجماع على عدم جواز قراءة آية آية من كلّ سورة ‪.‬‬
‫ن هذا التّأليف لكتاب اللّه مأخوذ من جهة النّبيّ‬
‫ي وأحسن ما يحتجّ به أن يقال ‪ :‬إ ّ‬
‫قال البيهق ّ‬
‫صلى ال عليه وسلم وأخذه عن جبريل ‪ ،‬فالولى للقارئ أن يقرأه على التّأليف المنقول ‪.‬‬
‫استماع التّلوة ‪:‬‬
‫ن الستماع لقراءة القرآن وترك اللّغط والحديث لحضور القراءة ‪ .‬قال تعالى ‪:‬‬
‫‪ -‬يس ّ‬ ‫‪21‬‬

‫{ وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلّكم ترحمون } قال الشّيخ أبو محمّد بن عبد‬
‫السّلم ‪ :‬والشتغال عن السّماع بالتّحدّث بما ل يكون أفضل من الستماع ‪ ،‬سوء أدب على‬
‫)‪.‬‬ ‫‪85/ 4،‬‬ ‫الشّرع ‪ ،‬وهو يقتضي أنّه ل بأس بالتّحدّث للمصلحة ‪ .‬وللتّفصيل ر ‪ ( :‬استماع‬
‫السّجود للتّلوة ‪:‬‬
‫‪ -‬في القرآن الكريم أربع عشرة آية فيها السّجود ‪ :‬في العراف ‪ ،‬والرّعد ‪ ،‬والنّحل ‪،‬‬ ‫‪22‬‬

‫والسراء ‪ ،‬ومريم ‪ ،‬والحجّ ‪ ،‬وفيها سجدتان في بعض المذاهب ‪ ،‬وفي الفرقان ‪ ،‬والنّمل ‪،‬‬
‫والسّجدة " الم تنزيل " و " ص " وفصّلت ‪ ،‬والنّجم ‪ ،‬والنشقاق ‪ ،‬واقرأ ‪ ،‬وزاد بعضهم آخر‬
‫الحجر ‪ ،‬والسّجود عند الجمهور بقراءة آيات السّجدة مسنون ‪ ،‬وواجب عند الحنفيّة ‪.‬‬
‫وتفصيل مواضع السّجود ‪ ،‬وعلى من يجب ‪ ،‬وشروط السّجود ‪ ،‬كلّ ذلك تفصيله في مصطلح‬
‫( سجود التّلوة ) ‪.‬‬

‫تلبية *‬
‫التّعريف ‪:‬‬
‫ج وإمّا في غيره كالوليمة والتّلبية في‬
‫‪ -‬التّلبية لغة ‪ :‬إجابة المنادي ‪ ،‬وهي إمّا في الح ّ‬ ‫‪1‬‬

‫)‪.‬‬ ‫‪251/‬‬ ‫غير الحجّ ‪ .‬وقد سبق الكلم عنها في مصطلح ( إجابة ج ‪ 1/‬ص‬
‫وأمّا في الحجّ فالمراد بها قول المحرم ‪ :‬لبّيك اللّهمّ لبّيك ‪ .‬أي ‪ :‬إجابتي لك يا ربّ ‪ .‬يقال ‪:‬‬
‫لبّى الرّجل تلبية ‪ :‬إذا قال لبّيك ‪ .‬ولبّى بالحجّ كذلك ‪ .‬قال الفرّاء ‪ :‬معنى لبّيك إجابة لك بعد‬
‫إجابة ‪ .‬وفي حديث الهلل بالحجّ ‪ « :‬لبّيك اللّهمّ لبّيك » ‪ :‬هو من التّلبية ‪ ،‬وهي إجابة‬
‫ن تثنية كلمة ( لبّيك ) على جهة التّوكيد ‪.‬‬
‫ب ‪ .‬وعن الخليل أ ّ‬
‫المنادي أي ‪ :‬إجابتي لك يا ر ّ‬
‫والجابة وإن كانت ل تخرج في معناها الصطلحيّ عن هذا إلّا أنّه قد ورد في الخرشيّ على‬
‫مختصر خليل ‪ :‬أنّ معنى التّلبية الجابة ‪ :‬أي ‪ :‬إجابة بعد إجابة وذلك أنّ اللّه تعالى قال ‪{ :‬‬
‫ن في النّاسِ‬
‫أَ َلسْتُ بِرَ ّب ُكمْ قَالوا بَلَى } فهذه إجابة واحدة ‪ ،‬والثّانية ‪ :‬إجابة قوله تعالى ‪َ { :‬وأَذّ ْ‬
‫ج أجابه النّاس في أصلب آبائهم فمن‬
‫حجّ } يقال ‪ :‬إنّ إبراهيم عليه السلم لمّا أذّن بالح ّ‬
‫بِال َ‬
‫أجابه مرّة حجّ مرّة ‪ ،‬ومن زاد زاد ‪ .‬فالمعنى أجبتك في هذا كما أجبتك في ذلك ‪.‬‬
‫وأوّل من لبّى الملئكة ‪ ،‬وهم أيضا أوّل من كان بالبيت ‪ .‬ومعنى لبّيك كما في حاشية‬
‫الطّحطاويّ على مراقي الفلح ‪ :‬أقمت ببابك إقامة بعد أخرى وأجبت نداءك مرّة بعد أخرى ‪.‬‬
‫وفي الفواكه الدّواني ‪ :‬أجبتك يا ألّله إجابة بعد إجابة ‪ .‬أو لزمت القامة على طاعتك من‬
‫ألبّ بالمكان إذا لزمه وأقام به ‪ .‬وهي مثنّاة لفظا ومعناها التّكثير ل خصوص الثنين ‪.‬‬
‫الحكم الجماليّ ‪:‬‬
‫‪ -‬تلبية المحرم مستحبّة عند الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة لما روى سهل بن سعد قال ‪:‬‬ ‫‪2‬‬

‫قال رسول اللّه صلى ال عليه وسلم ‪ « :‬ما من مسلم يلبّي إل لبّى عن يمينه وعن شماله‬
‫من حجر أو شجر أو مدر حتّى تنقطع الرض من هاهنا وهاهنا » ‪.‬‬
‫وهي واجبة عند المالكيّة ‪.‬‬
‫صيغتها المتّفق عليها بين الفقهاء ‪:‬‬
‫‪ -‬وهي تلبية رسول اللّه صلى ال عليه وسلم ‪.‬‬ ‫‪3‬‬

‫كما جاء في خبر الصّحيحين عن ابن عمر أنّ تلبية رسول اللّه صلى ال عليه وسلم ‪:‬‬
‫ن الحمد والنّعمة لك والملك ل شريك لك » ‪.‬‬
‫« لبّيك اللّهمّ لبّيك ‪ .‬لبّيك ل شريك لك لبّيك ‪ .‬إ ّ‬
‫وهل للمحرم أن يزيد عليها أو ينقص منها ؟ ‪.‬‬
‫ن ابن عمر رضي ال‬
‫قال الشّافعيّ وهو قول لمالك ‪ :‬إن زاد على هذا فل بأس ‪ .‬لما روي أ ّ‬
‫عنهما كان يزيد فيها ‪ :‬لبّيك وسعديك والخير كلّه بيديك والرّغبة إليك والعمل ‪.‬‬
‫ي صلى ال‬
‫ن العيش عيش الخرة ‪ .‬لما روي « أنّ النّب ّ‬
‫وإذا رأى شيئا يعجبه قال ‪ :‬لبّيك إ ّ‬
‫عليه وسلم كان ذات يوم والنّاس يصرفون عنه كأنّه أعجبه ما هم فيه ‪ .‬فقال ‪ :‬لبّيك إنّ‬
‫العيش عيش الخرة » ‪.‬‬
‫وذهب الحنابلة وهو قول آخر لمالك إلى أنّه ل يستحبّ الزّيادة على تلبية رسول اللّه صلى‬
‫ال عليه وسلم ول تكره ‪ ،‬وذلك لقول جابر ‪ « :‬فأه ّل رسول اللّه صلى ال عليه وسلم‬
‫بالتّوحيد لبّيك اللّهمّ لبّيك ‪ .‬لبّيك ل شريك لك لبّيك ‪ .‬إنّ الحمد والنّعمة لك والملك ل شريك‬
‫لك » وأهلّ النّاس بهذا الّذي يهلّون ‪ .‬ولزم رسول اللّه صلى ال عليه وسلم تلبيته ‪ .‬وكان‬
‫ابن عمر يلبّي بتلبية رسول اللّه صلى ال عليه وسلم ويزيد مع هذا « لبّيك ‪ .‬لبّيك ‪.‬‬
‫وسعديك والخير بيديك والرّغباء إليك والعمل » ‪.‬‬
‫وزاد عمر لبّيك مرغوبا ومرهوبا إليك ذا النّعماء والفضل الحسن ‪.‬‬
‫ن أنسا كان يزيد لبّيك حقّا حقّا تعبّدا ورقّا ‪ .‬وهذا يد ّل على أنّه ل بأس بالزّيادة ول‬
‫ويرى أ ّ‬
‫ن النّبيّ صلى ال عليه وسلم لزم تلبيته فكرّرها ولم يزد عليها ‪.‬‬
‫تستحبّ ل ّ‬
‫والقول الثّالث لمالك ‪ :‬كراهة الزّيادة على التّلبية المأثورة عن الرّسول صلى ال عليه وسلم‪.‬‬
‫وذهب الحنفيّة إلى أنّه يندب له أن يزيد عليها ويكره له إنقاصها ‪ ،‬وتكون الزّيادة عليها ممّا‬
‫هو مأثور فيقول ‪ :‬لبّيك وسعديك والخير كلّه بيديك والرّغباء إليك إله الخلق لبّيك بحجّة حقّا‬
‫تعبّدا ورقّا ‪ .‬لبّيك إنّ العيش عيش الخرة ‪ .‬وما ليس مرويّا فجائز وحسن ‪.‬‬
‫بم تصحّ التّلبية ؟‬
‫ح التّلبية عند الحنفيّة والشّافعيّة بغير العربيّة وإن أحسن العربيّة إل أنّ العربيّة‬
‫‪ -‬تص ّ‬ ‫‪4‬‬

‫ي يلبّي بلسانه إن لم يقدر عليها بالعربيّة‬


‫أفضل ‪ .‬وذهب المالكيّة والحنابلة إلى أنّ غير العرب ّ‬
‫كأن لم يجد من يعلّمه العربيّة ‪ ،‬ومفاد هذا أنّ العربيّ القادر عليها بالعربيّة ل يلبّي بغيرها‬
‫لنّه ذكر مشروع فلم تشرع بغير العربيّة مع القدرة عليها كالذان والذكار المشروعة في‬
‫الصّلة فإن لم يقدر على العربيّة لبّى بلغته كالتّكبير في الصّلة ‪.‬‬
‫رفع الصّوت بالتّلبية ‪:‬‬
‫‪ -‬استحبّ الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة لل ُمحْرم أن يرفع صوته بالتّلبية لما روى زيد بن‬ ‫‪5‬‬

‫ي أنّ رسول اللّه صلى ال عليه وسلم قال ‪ « :‬جاءني جبريل عليه السلم فقال ‪:‬‬
‫خالد الجهن ّ‬
‫يا محمّد مُ ْر أصحابك أن يرفعوا أصواتهم بالتّلبية فإنّها من شعائر الحجّ » ‪.‬‬
‫وقال أبو حازم ‪ :‬كان أصحاب رسول اللّه صلى ال عليه وسلم ل يبلغون الرّوحَاء حتّى تبحّ‬
‫حلوقهم من التّلبية ‪.‬‬
‫صحَل صوته ‪.‬‬
‫وقال سالم ‪ :‬كان ابن عمر يرفع صوته بالتّلبية فل يأتي الرّوحاء حتّى يَ ْ‬
‫ول يجهد نفسه في رفع الصّوت بها زيادة على الطّاقة لئل ينقطع صوته وتلبيته ‪.‬‬
‫وذهب المالكيّة إلى أنّ التّوسّط فيه مندوب فل يسرّه الملبّي حتّى ل يسمعه من يليه ‪ ،‬ول‬
‫يبالغ في رفعه حتّى يعقره فيكون بين الرّفع والخفض ول يبالغ في أيّهما ‪ ،‬وفي الفواكه‬
‫الدّواني ‪ :‬هذا في غير المسجد لنّه ل يجوز رفع الصّوت فيه إل المسجد الحرام ومسجد‬
‫منى لنّهما بنيا للحجّ ‪ ،‬وقيل ‪ :‬للمن فيهما من الرّياء ‪.‬‬
‫هذا في حقّ الرّجال ‪ .‬أمّا النّساء فإنّه ل خلف بين الفقهاء في كراهة رفع أصواتهنّ بالتّلبية‬
‫إل بمقدار ما تسمع المرأة نفسها أو رفيقتها ‪ ،‬فقد روي عن سليمان بن يسار قال ‪ :‬السّنّة‬
‫ن المرأة ل ترفع صوتها بالهلل وإنّما كره لها رفع الصّوت مخافة الفتنة بها‬
‫عندهم أ ّ‬
‫ومثلها الخنثى المشكل في ذلك احتياطا ‪.‬‬
‫الكثار من التّلبية ‪:‬‬
‫‪ -‬استحبّ الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة للمحرم أن يكثر من التّلبية لنّها شعار النّسك فيلبّي‬ ‫‪6‬‬

‫عند اجتماع الرّفاق ‪ ،‬أو متى عل شرفا أو هبط واديا ‪ ،‬وفي أدبار الصّلوات ‪ ،‬وإقبال اللّيل‬
‫والنّهار ‪ .‬لما روى جابر قال ‪ « :‬كان رسول اللّه صلى ال عليه وسلم يلبّي إذا رأى ركبا ‪،‬‬
‫ن في هذه المواضع‬
‫أو صعد أكمة ‪ ،‬أو هبط واديا ‪ ،‬وفي أدبار المكتوبة وآخر اللّيل » ول ّ‬
‫ترفع الصوات ويكثر الضّجيج ‪.‬‬
‫ج العجّ وال ّثجّ » ‪.‬‬
‫ي صلى ال عليه وسلم ‪ « :‬أفضل الح ّ‬
‫وقد قال النّب ّ‬
‫وذهب المالكيّة إلى أنّ التّوسّط في ذلك مندوب ‪ ،‬فل يكثر المحرم من التّلبية حتّى يملّها‬
‫ويلحقه الضّرر ‪ ،‬ول يقلّلها حتّى يفوت المقصود منها وهو الشّعيرة ‪.‬‬
‫متى تبدأ التّلبية ‪:‬‬
‫‪ -‬من المور المستحبّة لمريد الحرام بحجّ أو عمرة أو بهما معا متى بلغ ميقاته أن‬ ‫‪7‬‬

‫يصلّي ركعتين بنيّة الحرام في غير وقت كراهة ‪ ،‬وتجزئ المكتوبة ‪ ،‬فإن كان مفردا بالحجّ‬
‫قال بلسانه المطابق لجنانه ‪ :‬اللّهمّ إنّى أريد الحجّ فيسّره لي وتقبّله منّي ‪ ،‬كما يفعل ذلك‬
‫أيضا المعتمر والقارن ‪ ،‬ويشير إلى نوع نسكه ث ّم يلبّي دبر صلته ‪ .‬وبهذه التّلبية يكون‬
‫محرما وتسري عليه أحكام الحرام ‪ .‬هذا ما عليه فقهاء المذاهب الربعة ‪.‬‬
‫ن الجميع قد روي عن النّبيّ‬
‫وله الحرام بها إذا استوت به راحلته ‪ ،‬وإذا بدأ السّير سواء ل ّ‬
‫صلى ال عليه وسلم من طرق صحيحة ‪.‬‬
‫قال الثرم ‪ :‬سألت أبا عبد اللّه ‪ :‬أيّهما أحبّ إليك ‪ .‬الحرام في دبر الصّلة ‪ ،‬أو إذا استوت‬
‫به راحلته ؟ فقال ‪ :‬كلّ ذلك قد جاء في دبر الصّلة إذا عل البيداء ‪.‬‬
‫متى تنتهي التّلبية ‪:‬‬
‫ج ابتداء من رمي جمرة العقبة يوم النّحر عند الحنفيّة‬
‫‪ -‬تنتهي التّلبية بالنّسبة للحا ّ‬ ‫‪8‬‬

‫والشّافعيّة والحنابلة فيقطعها مع أوّل حصاة لخذه في أسباب التّحلّل ‪ ،‬ويكبّر بدل التّلبية مع‬
‫ن النّبيّ صلى ال عليه وسلم لمّا أتى إلى منى لم يعرّج إلى‬
‫كلّ حصاة ‪ .‬فقد روى جابر « أ ّ‬
‫شيء حتّى رمى جمرة العقبة بسبع حصيات وقطع التّلبية عند أوّل حصاة رماها ‪ ،‬ثمّ كبّر مع‬
‫كلّ حصاة ‪ ،‬ثمّ نحر ‪ ،‬ثمّ حلق رأسه ‪ ،‬ثمّ أتى مكّة فطاف بالبيت » ‪.‬‬
‫ن النّبيّ صلى ال عليه وسلم لم يزل يلبّي حتّى رمى جمرة‬
‫وروى الفضل بن العبّاس « أ ّ‬
‫العقبة » وكان الفضل رديفه يومئذ وهو أعلم بحاله من غيره ‪.‬‬
‫ولنّ التّلبية للحرام فإذا رمى فقد شرع في التّحلّل فل معنى للتّلبية ‪.‬‬
‫وللمالكيّة قولن ‪ :‬أحدهما ‪ :‬يستمرّ في التّلبية حتّى يبلغ مكّة فيقطع التّلبية حتّى يطوف‬
‫ويسعى ثمّ يعاودها حتّى تزول الشّمس من يوم عرفة ويروح إلى مصلها ‪.‬‬
‫والثّاني ‪ :‬يستم ّر في التّلبية حتّى الشّروع في الطّواف ‪ ،‬والوّل في رسالة ابن أبي زيد ‪.‬‬
‫وشهره ابن بشير ‪ ،‬والثّاني في المدوّنة في قول يقطع التّلبية حين يبتدئ الطّواف ‪.‬‬
‫أمّا المعتمر فيقطع التّلبية متى شرع في الطّواف واستلم الحجر عند الحنفيّة والشّافعيّة‬
‫ي صلى ال عليه وسلم أنّه قال ‪ « :‬يلبّي المعتمر‬
‫والحنابلة ‪ .‬لما روى ابن عبّاس عن النّب ّ‬
‫حتّى يستلم الحجر » وأمّا المالكيّة فالمعتبر عندهم أنّ معتمر الميقات من أهل الفاق وفائت‬
‫الحجّ أي ‪ :‬المعتمر لفوات الحجّ يلبّي كلّ منهما للحرم ل إلى رؤية البيوت ‪ ،‬ومعتمر‬
‫الجعرانة والتّنعيم يلبّي للبيوت أي ‪ :‬إلى دخول بيوت مكّة لقرب المسافة استدلل بما رواه‬
‫نافع عن ابن عمر من فعله في المناسك قال ‪ :‬وكان يترك التّلبية في العمرة إذا دخل الحرم‬
‫ج ‪ -‬إحرام ‪.‬‬
‫ينظر في تفصيل ذلك ‪ :‬ح ّ‬

‫تلجئة *‬
‫انظر ‪ :‬بيع التّلجئة ‪.‬‬
‫تلف *‬
‫التّعريف ‪:‬‬
‫‪ -‬التّلف لغة ‪ :‬الهلك والعطب في كلّ شيء ول يخرج استعمال الفقهاء له عن المعنى‬ ‫‪1‬‬

‫اللّغويّ ‪ .‬والتلف ‪ :‬إحداث التّلف ‪ ،‬وينظر لتفصيله مصطلح ‪ ( :‬إتلف ) ‪.‬‬


‫والتّلف في باب المضاربة مخصوص بالنّقص الحاصل ل عن تحريك ‪ ،‬بخلف الخسر فهو ما‬
‫نشأ عن تحريك ‪.‬‬
‫الحكم الجماليّ ‪:‬‬
‫‪ -‬التّلف يتعلّق به خطاب الوضع ‪ ،‬وتترتّب عليه آثار أهمّها الضّمان ‪.‬‬ ‫‪2‬‬

‫والتّلف ل يوصف بحلّ أو حرمة ‪ ،‬وإنّما ينظر فيمن يضمن التّلف ‪.‬‬
‫أمّا التلف ‪ ،‬فهو إحداث التّلف ‪ ،‬وتفصيل أحكامه في مصطلح ‪ ( :‬إتلف ) ‪.‬‬
‫أسباب التّلف ‪:‬‬
‫‪ -‬التّلف إمّا أن يكون بعارض سماويّ ‪ ،‬وهو ما يعبّر عنه بالفة السّماويّة أو بالجائحة ‪،‬‬ ‫‪3‬‬

‫وإمّا أن يكون بفعل من المخلوق ‪ ،‬وهذا يقسّمه الفقهاء إلى نوعين ‪ :‬تلف حسّيّ ‪ ،‬وتلف‬
‫ي ‪ ،‬ويسمّيه المالكيّة التّلف الحكميّ ‪.‬‬
‫شرع ّ‬
‫فالتّلف الحسّيّ ‪ :‬هو هلك العين نفسها ‪ ،‬سواء أتى عليها كلّها أو بعضها ‪.‬‬
‫والتّلف الشّرعيّ " الحكميّ " ‪ :‬هو منع الشّارع من النتفاع بالعين مع بقائها بسبب من‬
‫المتلف ‪ ،‬سواء أكان المنع عامّا يدخل فيه التّلف وغيره ‪ ،‬كما في العين ‪ ،‬أم مباحا للمتلف‬
‫دون غيره كما في وطء المة ‪ ،‬أم كان مباحا لغير المتلف كما في الصّدقة والهبة ‪.‬‬
‫وقد ذكر الفقهاء له صورا منها ‪ ،‬ما لو اشترى أمة فأعتقها أبوه قبل قبضها ‪ ،‬وذلك لنّ‬
‫الشّارع جعل عتق أبيه كعتقه ‪ ،‬حيث رتّب عليه حكمه ‪ ،‬ومثله الكتابة ‪ ،‬والتّدبير ‪،‬‬
‫والصّدقة ‪ ،‬والهبة ‪.‬‬
‫وهذا التّقسيم باعتبار المتلف ‪ ،‬أمّا باعتبار المحلّ ‪ ،‬فهو إمّا أن يرد على النّفس والعضاء ‪،‬‬
‫وتفصيل ذلك في مصطلح ‪ ( :‬جناية ‪ ،‬ودية ‪ ،‬وقصاص ) ‪.‬‬
‫وإمّا أن يرد على الموال ‪ ،‬وهو المقصود هنا ‪.‬‬
‫أ ّولً ‪ :‬أثر التّلف في العبادات ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬تلف زكاة المال ‪:‬‬
‫‪ -‬ذهب جمهور الفقهاء ‪ -‬المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ‪ -‬إلى أنّ الزّكاة ل تسقط بتلف‬ ‫‪4‬‬

‫المال بعد الحول ‪ ،‬ويجب على المزكّي الضّمان ‪ ،‬وذلك لنّها مال وجب في ال ّذمّة فلم يسقط‬
‫بتلف النّصاب ‪ ،‬كالدّين ‪ ،‬فضمنها بتلفها في يده ‪ .‬فل يعتبر بقاء المال ‪.‬‬
‫ب المال ‪.‬‬
‫وقيّد المالكيّة والشّافعيّة هذا الحكم بقيدين ‪ :‬التّمكّن من الداء ‪ ،‬والتّفريط من ر ّ‬
‫ب المال فل تسقط الزّكاة عنه ‪ ،‬ويجب‬
‫فإن تلف المال بعد التّمكّن من الداء أو بتفريط من ر ّ‬
‫عليه الضّمان ‪.‬‬
‫ولم يعتبر الحنابلة هذين القيدين وأوجبوا الضّمان مطلقا واعتبروا إمكان الداء شرطا‬
‫ي صلى ال عليه وسلم ‪ « :‬ليس في‬
‫لوجوب الخراج ل لوجوب الزّكاة ‪ .‬لمفهوم قول النّب ّ‬
‫مال زكاة حتّى يحول عليه الحول » فإنّه يدلّ على الوجوب بعد الحول مطلقا ‪.‬‬
‫ي ‪ ،‬ولنّه لو اشترط لم ينعقد‬
‫ق الفقير ‪ ،‬فلم يعتبر فيها إمكان الداء كدين الدم ّ‬
‫ولنّها ح ّ‬
‫الحول الثّاني ‪ ،‬حتّى يتمكّن من الداء ‪ .‬وليس كذلك بل ينعقد عقب الوّل إجماعا ‪ ،‬ولنّها‬
‫عبادة فل يشترط لوجوبها إمكان الداء كسائر العبادات ‪.‬‬
‫وعن أحمد رواية باعتبار التّمكّن من الداء مطلقا أي ولو بل تفريط ‪ ،‬واختارها ابن قدامة ‪.‬‬
‫واستثنوا من ذلك الزّرع والثّمر إذا تلف بجائحة قبل القطع ‪ ،‬فإنّ زكاتهما تسقط ‪ ،‬فإن بقي‬
‫بعد الجائحة ما تجب فيه الزّكاة زكّاه ‪ ،‬قال ابن المنذر ‪ :‬أجمع أهل العلم على أنّ الخارص‬
‫إذا خرص الثّمر ث ّم أصابته جائحة فل شيء عليه إذا كان قبل الجذاذ ‪ ،‬ولنّه قبل الجذاذ في‬
‫حكم ما ل تثبت اليد عليه ‪ ،‬بدليل أنّه لو اشترى ثمره فتلفت بجائحة رجع بها على البائع ‪.‬‬
‫وزاد المالكيّة في تلف المواشي قيدا ثالثا وهو مجيء السّاعي ‪ ،‬فإذا تلفت أو ضاعت بعد‬
‫الحول وقبل مجيء السّاعي فل يحسب ما تلف أو ضاع ‪ ،‬وإنّما يزكّى الباقي إن كان فيه‬
‫زكاة ‪ ،‬وذلك لنّهم يعتبرون مجيء السّاعي شرط وجوب ‪ ،‬وكذلك تسقط الزّكاة عندهم عنها‬
‫لو تلفت بعد مجيء السّاعي والعدّ وقبل أخذه ‪ ،‬وذلك لنّ مجيئه شرط في الوجوب وجوبا‬
‫موسّعا إلى الخذ ‪ ،‬كدخول وقت الصّلة ‪ ،‬فقد يطرأ أثناء الوقت ما يسقطها كالحيض ‪ ،‬كذلك‬
‫التّلف بعد المجيء والعدّ ‪ ،‬وأمّا لو ذبح منها شيئا بغير قصد الفرار ‪ ،‬أو باع شيئا كذلك بعد‬
‫مجيء السّاعي وقبل الخذ ‪ ،‬ففيه الزّكاة ‪ ،‬ويحسب علم المعتمد ‪ ،‬وأمّا لو كان بقصد الفرار‬
‫فتجب زكاته ‪ ،‬ولو كان ذلك قبل الحول ‪.‬‬
‫وذهب الحنفيّة إلى أنّ الزّكاة تسقط بتلف المال بعد الحول سواء أتمكّن من الداء أم ل ‪.‬‬
‫وإن هلك بعض النّصاب سقط من الواجب فيه بقدر ما هلك منه لتعلّقها بالعين ل بال ّذمّة ‪،‬‬
‫ولنّ الشّرع علّق وجوبها بقدرة ميسّرة ‪ ،‬والمعلّق بقدرة ميسّرة ل يبقى دونها ‪ ،‬ويقصدون‬
‫بالقدرة الميسّرة هنا وصف النّماء أي إمكان الستثمار ‪ ،‬ل مجرّد وجود النّصاب ‪.‬‬
‫وأمّا إذا تلف المال بعد الحول بفعل المزكّي نفسه فإنّ الزّكاة ل تسقط عنه ‪ ،‬وإن انتفت‬
‫القدرة الميسّرة لبقائها تقديرا ‪ ،‬زجرا له عن التّعدّي ونظرا للفقراء ‪.‬‬
‫هذه الحكام فيما إذا كان التّلف بعد حلول الحول ‪ ،‬وأمّا إذا كان التّلف قبل حلول الحول فل‬
‫خلف بين الفقهاء في سقوط الزّكاة عنه لعدم الشّرط ‪ ،‬ول خلف بينهم في سقوط الزّكاة‬
‫عنه إن أتلف ربّ المال قبل الحول إن لم يقصد الفرار منها ‪ ،‬فإن قصد بالتلف الفرار من‬
‫الزّكاة فاختلف الفقهاء على قولين ‪ :‬فذهب الجمهور ‪ -‬الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة ‪ -‬إلى‬
‫سقوط الزّكاة عنه مع الكراهة عند الشّافعيّة ومحمّد بن الحسن ‪.‬‬
‫وذهب الحنابلة إلى عدم سقوط الزّكاة عنه ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬تلف المال بعد وجوب زكاة الفطر ‪:‬‬
‫‪ -‬ذهب الفقهاء ‪ -‬ومنهم الحنفيّة ‪ -‬إلى أنّ تلف المال بعد وجوب زكاة الفطر وبعد التّمكّن‬ ‫‪5‬‬

‫من أدائها ل يسقطها ‪ ،‬بل تستقرّ في ذمّته اتّفاقا ‪ ،‬وفرّق الحنفيّة بينها وبين زكاة المال بأنّ‬
‫وجوب زكاة الفطر متعلّق بالقدرة الممكنة ‪ ،‬وهي أدنى ما يتمكّن به العبد من أداء ما لزمه‬
‫من غير حرج غالبا ‪ ،‬أمّا زكاة المال فيتعلّق وجوبها بالقدرة الميسّرة ‪ ،‬وهي ما يوجب يسر‬
‫الداء على المكلّف بعدما ثبت المكان بالقدرة الممكنة ‪ ،‬ودوامها شرط لدوام الواجب الشّاقّ‬
‫على النّفس كأكثر الواجبات الماليّة ‪ ،‬حتّى سقطت الزّكاة والعشر والخراج بهلك المال بعد‬
‫التّمكّن من الداء ‪ ،‬لنّ القدرة الميسّرة وهي وصف النّماء قد فاتت بالهلك ‪ ،‬فيفوت دوام‬
‫الوجوب لفوات شرطه ‪ ،‬بخلف القدرة الممكنة فليس بقاؤها شرطا لبقاء الواجب ‪ .‬أمّا إذا‬
‫كان تلف المال قبل التّمكّن من الداء ففي سقوط زكاة الفطر عند الشّافعيّة والحنابلة وجهان‬
‫‪ :‬أصحّهما تسقط كزكاة المال ‪ ،‬والثّاني ‪ :‬ل تسقط ‪ .‬وذهب المالكيّة إلى سقوط زكاة الفطر‬
‫بالتّلف ‪ ،‬إلّا أن يخرجها في غير وقتها فتضيع ‪ ،‬فإنّه يضمنها حينئذ ‪.‬‬
‫ج ‪ -‬تلف الضحيّة ‪:‬‬
‫ن الضحيّة المعيّنة إذا تلفت فل شيء على صاحبها ول يلزمه بدلها‬
‫‪ -‬اتّفق الفقهاء على أ ّ‬ ‫‪6‬‬

‫‪ -‬في الجملة ‪ -‬ويفرّق الحنفيّة في ذلك بين الموسر والمعسر ‪.‬‬


‫وخصّوا القول بعدم الضّمان بالمعسر ‪ ،‬قالوا ‪ :‬لنّ شراء الفقير للضحيّة بمنزلة النّذر ‪.‬‬
‫فإذا هلكت فقد هلك محلّ إقامة الواجب فيسقط عنه ‪ ،‬وليس عليه شيء آخر بإيجاب الشّرع‬
‫ابتداء ‪ ،‬لفقد شرط الوجوب وهو اليسار ‪.‬‬
‫ن الوجوب في جملة‬
‫وأمّا إن كان موسرا ‪ ،‬فإنّه يجب عليه أن يضحّي شاة أخرى ‪ ،‬ل ّ‬
‫الوقت ‪ ،‬والضحيّة المشتراة لم تتعيّن للوجوب ‪ ،‬والوقت باق ‪ ،‬وهو من أهل الوجوب فيجب‬
‫‪ .‬وخصّ الشّافعيّة والحنابلة القول بعدم الضّمان بما إذا تلفت قبل التّمكّن من ذبحها ‪ ،‬أو‬
‫تلفت بغير تفريط منه ‪ ،‬وأمّا إذا تلفت بعد التّمكّن من ذبحها أو بتفريط منه فأوجبوا عليه‬
‫الضّمان‪ .‬وإن تعدّى أجنبيّ عليها فأتلفها ‪ ،‬فعلى الجنبيّ القيمة بل نزاع ‪ ،‬يأخذها المضحّي‬
‫ويشتري بها مثل الولى ‪ ،‬وإن أتلفها المضحّي نفسه لزمه أكثر القدرين من قيمتها وثمن‬
‫مثلها على الصّحيح عند الشّافعيّة ‪ ،‬والصّحيح من مذهب الحنابلة أنّه يضمنها بالقيمة يوم‬
‫التّلف ‪.‬‬
‫د ‪ -‬تلف الهدي ‪:‬‬
‫‪ -‬من ساق هديا واجبا فعطب أو تعيّب بما يمنع الضحيّة ‪ ،‬أقام غيره مقامه ‪ ،‬وصنع‬ ‫‪7‬‬

‫بالمعيب ما شاء ‪ ،‬فإن كان المعيب تطوّعا فليس عليه غيره ‪ ،‬وينحره ول يأكل منه هو ول‬
‫غيره من الغنياء ويضرب صفحة سنامه ‪ ،‬ليعلم أنّه هدي للفقراء ‪.‬‬
‫وذهب المالكيّة إلى أنّه إن سرق الهدي الواجب ‪ ،‬أو تلف بعد ذبحه أو نحره أجزأ ‪ ،‬لنّه بلغ‬
‫محلّه ‪ .‬أمّا إن سرق أو تلف قبل ذبحه أو نحره ‪ ،‬فل يجزئ ويلزمه البدل ‪.‬‬
‫وأمّا الهدي المتطوّع به فل بدل عليه ‪ ،‬وإن سرق قبل ذبحه أو نحره ‪.‬‬
‫ويرى الشّافعيّة أنّ هدي التّطوّع ل يضمن بالتّلف ول بالتلف ‪ ،‬لنّه وإن تطوّع به مالكه‬
‫ن ملكيّته له ل تزول عنه بالتّطوّع ‪ ،‬فله أن يتصرّف فيه بذبحه وأكله وبيعه وسائر‬
‫فإ ّ‬
‫ن ملكه ثابت ولم ينذره ‪ ،‬وإنّما وجد منه مجرّد نيّة ذبحه ‪ ،‬وهذا ل يزيل الملك‬
‫التّصرّفات ‪ ،‬ل ّ‬
‫‪ ،‬كما لو نوى أن يتصدّق بماله ‪ ،‬أو يعتق عبده ‪ ،‬أو يطلّق امرأته ‪ ،‬أو يقف داره ‪ ،‬وفي‬
‫قول شا ّذ للشّافعيّة ‪ ،‬إنّه إذا قلّد الهدي صار كالمنذور ‪ ،‬والصّحيح الوّل ‪.‬‬
‫فإذا عطب وذبحه ‪ ،‬قال صاحب الشّامل وغيره ‪ :‬ل يصير مباحا للفقراء إلّا بلفظه ‪ ،‬وهو أن‬
‫يقول أبحته للفقراء أو المساكين ‪ ،‬قال ‪ :‬ويجوز لمن سمعه الكل ‪ ،‬وفي غيره قولن ‪ :‬قال‬
‫في الملء ‪ :‬ل يحلّ حتّى يعلم الذن ‪ ،‬وقال في القديم والمّ ‪ :‬يح ّل وهو الظهر ‪.‬‬
‫ومذهب الشّافعيّة في الهدي الواجب أنّه يضمن بالتلف ل بالتّلف ‪ ،‬فإن تلف من غير تفريط‬
‫لم يضمنه ‪ ،‬لنّه أمانة عنده ‪ ،‬فإذا هلكت من غير تفريط لم تضمن كالوديعة ‪ ،‬وإن أصابه‬
‫عيب وذبحه أجزأه ‪ ،‬لنّ ابن الزّبير أتي في هداياه بناقة عوراء ‪ ،‬فقال ‪ :‬إن كان أصابها‬
‫بعدما اشتريتموها فأمضوها ‪ ،‬وإن كان أصابها قبل أن تشتروها فأبدلوها ‪ ،‬ولنّه لو هلك‬
‫جميعه لم يضمنه ‪ ،‬فإذا نقص بعضه لم يضمنه كالوديعة ‪.‬‬
‫وإن تلف بتفريط منه بأن أخّر ذبحه بعدما عطب في الطّريق حتّى هلك ضمنه ‪ ،‬أو خالف‬
‫فباع الهدي فتلف عند المشتري أو أتلفه لزمه قيمته أكثر ما كانت من حين القبض إلى حين‬
‫التّلف كما في المجموع ‪ ،‬ويشتري النّاذر بتلك القيمة مثل التّالف جنسا ونوعا وسنّا ‪ ،‬فإن لم‬
‫يجد بالقيمة المثل لغلء حدث لزمه أن يض ّم من ماله إليها تمام الثّمن ‪ ،‬وهذا معنى قول‬
‫الصحاب يضمن ما باعه بأكثر المرين من قيمته ومثله ‪.‬‬
‫وقال الحنابلة ‪ :‬إن تلفت المعيّنة هديا أو ضلّت أو سرقت ولو قبل الذّبح فل بدل عليه إن لم‬
‫يفرّط ‪ ،‬لنّه أمين ‪ .‬وإن عيّن عن واجب في ال ّذمّة ما يجزئ فيه ‪ ،‬كالمتمتّع يعيّن دم التّمتّع‬
‫شاة أو بقرة أو بدنة ‪ ،‬أو عيّن هديا بنذره في ذمّته ‪ ،‬وتعيّب أو تلف أو ضلّ أو سرق أو‬
‫ن ال ّذمّة لم تبرأ من الواجب بمجرّد التّعيين عنه ‪ ،‬ولزمه بدله ‪.‬‬
‫عطب ونحوه لم يجزئه ‪ ،‬ل ّ‬
‫ثانيا ‪ :‬التّلف في عقود المعاوضات ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬تلف المبيع ‪:‬‬
‫‪ -‬تلف المبيع إمّا أن يكون كلّيّا أو جزئيّا ‪ ،‬قبل القبض أو بعده ‪ ،‬ولكلّ قسم أحكام ‪.‬‬ ‫‪8‬‬

‫والتّلف قد يكون بآفة سماويّة ‪ ،‬وقد يكون بفعل المشتري ‪ ،‬أو البائع ‪ ،‬أو بفعل أجنبيّ ‪.‬‬
‫تلف كلّ المبيع قبل القبض ‪:‬‬
‫‪ -‬إذا تلف المبيع كلّه قبل القبض بآفة سماويّة أو بفعل المبيع ‪ -‬بأن كان حيوانا فقتل‬ ‫‪9‬‬

‫نفسه ‪ -‬انفسخ البيع عند الجمهور ‪ ،‬وهو رواية عن أحمد وسقط الثّمن عن المشتري ‪ ،‬لنّ‬
‫النّبيّ صلى ال عليه وسلم قال ‪ « :‬ل يحلّ سلف وبيع ‪ ،‬ول شرطان في بيع ‪ ،‬ول ربح ما‬
‫لم يضمن » والمراد به ربح ما بيع قبل القبض ‪ ،‬والمبيع قبل قبض المشتري له هو في‬
‫ضمان البائع ‪ ،‬ولنّه لو بقي أوجب مطالبة المشتري بالثّمن ‪ ،‬وإذا طالبه بالثّمن فهو يطالبه‬
‫بتسليم المبيع ‪ ،‬وأنّه عاجز عن التّسليم ‪ ،‬فتمتنع المطالبة أصلً ‪ .‬فلم يكن في بقاء البيع‬
‫فائدة فينفسخ ‪ ،‬وإذا انفسخ البيع سقط الثّمن عن المشتري ‪ ،‬لنّ انفساخ البيع ارتفاعه من‬
‫الصل كأن لم يكن ‪ .‬وذهب الحنابلة في المكيل والموزون إلى مثل قول الجمهور ‪ ،‬وفي‬
‫غيرهما يهلك قبل القبض على حساب المشتري ‪ ،‬ومثل المكيل والموزون ما بيع برؤية أو‬
‫صفة متقدّمة ‪ .‬واحتجّوا بحديث « الخراج بالضّمان » ‪.‬‬
‫ن حكمه كالتّلف بآفة سماويّة عند الحنفيّة والشّافعيّة ‪.‬‬
‫وأمّا إذا كان التّلف بفعل البائع فإ ّ‬
‫وذهب الحنابلة في المبيع إذا كان مكيل أو موزونا أو نحوهما إلى تخيير المشتري بين‬
‫الفسخ وأخذ الثّمن الّذي دفعه إن كان ‪ ،‬وبين إمضاء البيع ‪ ،‬ويطالب المشتري متلفه البائع‬
‫بمثله إن كان مثليّا وإل فبقيمته ‪ ،‬لنّ التلف كالعيب وقد حصل في موضع يلزم البائع‬
‫ضمانه ‪ ،‬فكان للمشتري الخيار كالعيب في المبيع ‪.‬‬
‫أمّا إذا لم يكن المبيع مكيل أو موزونا أو نحوهما لم ينفسخ البيع عندهم ‪ ،‬ويطالب المشتري‬
‫البائع بالقيمة ‪ .‬وهذا قول مرجوح عند الشّافعيّة ‪.‬‬
‫ت أو على الخيار ‪ ،‬وبين أن يكون التّلف عمدا أو‬
‫وفرّق المالكيّة بين أن يكون البيع على الب ّ‬
‫خطأ ‪ ،‬فإذا كان البيع على البتّ فإتلف البائع يوجب الغرم للمشتري ‪ ،‬كان الضّمان منه أو‬
‫من البائع ‪ ،‬وسواء أكان التلف عمدا أم خطأ ‪.‬‬
‫‪ -‬وإذا كان البيع على الخيار ‪ ،‬فالخيار إمّا أن يكون للبائع أو للمشتري ‪ ،‬فإذا كان الخيار‬ ‫‪10‬‬

‫للبائع انفسخ البيع سواء أكان التلف عمدا أم خطأ ‪.‬‬


‫وإذا كان الخيار للمشتري وكان إتلف البائع للمبيع عمدا ضمن البائع للمشتري الكثر من‬
‫ن للمشتري أن يختار الرّ ّد إن كان الثّمن أكثر أو المضاء إن كانت‬
‫الثّمن أو القيمة ‪ ،‬ل ّ‬
‫القيمة أكثر ‪ .‬وأمّا إذا كان إتلف البائع للمبيع خطأ فينفسخ البيع ‪.‬‬
‫‪ -‬وإذا تلف كلّ المبيع بفعل المشتري فل ينفسخ البيع وعليه الثّمن ‪ ،‬لنّه بالتلف صار‬ ‫‪11‬‬

‫قابضا كلّ المبيع ‪ ،‬لنّه ل يمكنه إتلفه إلّا بعد إثبات يده عليه ‪ ،‬وهو معنى القبض فيتقرّر‬
‫عليه الثّمن ‪ ،‬سواء أكان البيع باتّا أم بالخيار عند الشّافعيّة والحنابلة ‪.‬‬
‫وقصر الحنفيّة والمالكيّة الحكم السّابق على البيع الباتّ ‪ ،‬أو بشرط الخيار للمشتري ‪ ،‬لنّ‬
‫خيار المشتري ل يمنع زوال البيع عن ملك البائع بل خلف ‪ ،‬فل يمنع صحّة القبض ‪ ،‬فل‬
‫يمنع تقرّر الثّمن ‪ .‬فإن كان البيع بشرط الخيار للبائع فذهب الحنفيّة إلى أنّ عليه ضمان مثله‬
‫إن كان له مثل وقيمته إن لم يكن له مثل ‪ ،‬لنّ خيار البائع يمنع زوال السّلعة عن ملكه بل‬
‫خلف ‪ ،‬فكان المبيع على حكم ملك البائع ‪ ،‬وملكه مضمون بالمثل أو القيمة ‪.‬‬
‫وذهب المالكيّة إلى أنّ المشتري يضمن الكثر من الثّمن والقيمة ‪ ،‬لنّه إذا كان الثّمن أكثر‬
‫كان للبائع أن يجيز البيع في زمن الخيار لما له فيه من الخيار ‪ ،‬وإن كانت القيمة أكثر من‬
‫الثّمن فللبائع أن يردّ البيع لما له فيه من الخيار ويأخذ القيمة ل فرق في ذلك بين أن يكون‬
‫التّلف عمدا أو خطأ ‪ ،‬إل أن يحلف المشتري أنّه ضاع بغير تفريط أو تلف بغير سببه ‪ ،‬فإنّه‬
‫يضمن الثّمن دون التفات إلى القيمة ‪ .‬وهذا إذا كانت القيمة أكثر من الثّمن ‪ ،‬فإن كان الثّمن‬
‫أكثر من القيمة أو مساويا لها ضمن الثّمن من غير يمين ‪.‬‬
‫‪ -‬وإذا كان التّلف بفعل أجنبيّ فعليه ضمانه بل خلف بين الفقهاء ‪ -‬سواء أكان التلف‬ ‫‪12‬‬

‫عمدا أم خطأ عند من يفرّق بينهما من الفقهاء ‪ -‬لنّه أتلف مال مملوكا لغيره بغير إذنه ول‬
‫يد له عليه ‪ ،‬فيكون مضمونا عليه بالمثل أو القيمة ‪.‬‬
‫ن المشتري بالخيار إن شاء فسخ البيع فيعود المبيع إلى ملك‬
‫وذهب جمهور الفقهاء إلى أ ّ‬
‫البائع فيتبع الجاني فيضمّنه ‪ ،‬وإن شاء اختار البيع فأتبع الجاني بالضّمان وأتبعه البائع‬
‫ل أو موزونا أو نحوهما ‪.‬‬
‫بالثّمن ‪ .‬وذهب الحنابلة إلى مثل قول الجمهور إذا كان المبيع مكي ً‬
‫فإن لم يكن كذلك هلك على حساب المشتري ويتبع المتلف بالضّمان ‪.‬‬
‫تلف بعض المبيع قبل القبض ‪:‬‬
‫‪ -‬إذا تلف بعض المبيع قبل القبض بآفة سماويّة ‪ ،‬فالمشتري بالخيار بين فسخ العقد‬ ‫‪13‬‬

‫والرّجوع بالثّمن ‪ ،‬وبين قبوله ناقصا ول شيء له لقدرته على الفسخ ‪.‬‬
‫هذا مذهب الشّافعيّة ‪ ،‬وهو مذهب الحنابلة إذا كان المبيع مكيل أو نحوه ‪.‬‬
‫أمّا غير المكيل ونحوه فتلف بعضه وتعيّبه يكون على حساب المشتري ول فسخ ‪.‬‬
‫وفرّق الحنفيّة بين التّلف الّذي ينشأ عنه نقصان قدر ‪،‬والتّلف الّذي ينشأ عنه نقصان وصف‪.‬‬
‫ونقصان الوصف وهو كلّ ما يدخل في البيع من غير تسمية ‪ ،‬كالشّجر والبناء في الرض‬
‫وأطراف الحيوان والجودة في المكيل والموزون ‪ ،‬فخصّوا الحكم السّابق بنقصان الوصف‬
‫ن الوصاف ل حصّة لها من الثّمن إل إذا ورد عليها القبض أو‬
‫دون نقصان القدر ‪ ،‬وذلك ل ّ‬
‫الجناية ‪ ،‬لنّها تصير مقصودة بالقبض أو الجناية ‪.‬‬
‫وأمّا إذا كان التّلف قد نشأ عنه نقصان قدر ‪ -‬بأن كان مكيل أو موزونا أو معدودا ‪ -‬فالعقد‬
‫ن كلّ قدر من المقدّرات معقود عليه ‪،‬‬
‫ينفسخ بقدر الهالك وتسقط حصّته من الثّمن ‪ ،‬ل ّ‬
‫فيقابله شيء من الثّمن ‪ ،‬وهلك كلّ المعقود عليه يوجب انفساخ البيع في الكلّ وسقوط‬
‫الثّمن ‪ .‬فهلك بعضه يوجب انفساخ البيع وسقوط الثّمن بقدره ‪ ،‬والمشتري بالخيار في‬
‫ن الصّفقة قد تفرّقت عليه ‪.‬‬
‫الباقي ‪ ،‬إن شاء أخذه بحصّته من الثّمن ‪ ،‬وإن شاء ترك ل ّ‬
‫وذهب المالكيّة إلى أنّه إن كان الباقي بعد التّلف النّصف فأكثر لزم المشتري الباقي بحصّته‬
‫ن بقاء النّصف كبقاء الجلّ ( الكثر ) فيلزمه ‪،‬‬
‫من الثّمن ويرجع بحصّة ما تلف ‪ ،‬وذلك ل ّ‬
‫وهذا في المبيع المتعدّد ‪ .‬فإن كان المبيع متّحدا كفرس مثل وبقي بعد التّلف النّصف فأكثر‬
‫فالمشتري بالخيار بين ر ّد المبيع وأخذ ثمنه ‪ ،‬وبين التّمسّك بالباقي بحصّته من الثّمن ‪.‬‬
‫وإن كان الباقي بعد التّلف أق ّل من النّصف حرم التّمسّك بالباقي ووجب ردّ المبيع وأخذ جميع‬
‫ثمنه لختلل البيع بتلف جلّ المبيع ‪ ،‬فتمسّك المشتري بباقيه كإنشاء عقد بثمن مجهول ‪ ،‬إذ‬
‫ص كلّ جزء على انفراده إل‬
‫ل يعلم ما يخصّ الباقي إل بعد تقويم الجميع ‪ ،‬ثمّ النّظر فيما يخ ّ‬
‫المثليّ فل يحرم التّمسّك بالقلّ ‪ ،‬بل المشتري بالخيار بين فسخ البيع وبين التّمسّك بالباقي‬
‫بحصّته من الثّمن ‪ ،‬وذلك لنّ المثليّ منابه ( مقابله ) من الثّمن معلوم ‪ ،‬فليس التّمسّك‬
‫بالباقي القليل ‪ ،‬كإنشاء عقد بثمن مجهول ‪ ،‬وإنّما يأتي هذا في المقوّم ‪.‬‬
‫تلف بعض المبيع بفعل البائع قبل القبض ‪:‬‬
‫‪ -‬أمّا إذا تلف بعض المبيع قبل القبض بفعل البائع ‪ ،‬فذهب الحنفيّة إلى بطلن البيع‬ ‫‪14‬‬

‫بقدره ويسقط عن المشتري حصّة المالك من الثّمن سواء أكان النّقصان نقصان قيمة أم‬
‫نقصان وصف ‪ -‬لنّ الوصاف لها حصّة من الثّمن عند ورود الجناية عليها ‪ ،‬لنّها تصير‬
‫أصل بالفعل فتقابل بالثّمن ‪ -‬والمشتري بالخيل في الباقي ‪ ،‬إن شاء أخذه بحصّته من‬
‫الثّمن ‪ ،‬وإن شاء ترك لتفرّق الصّفقة عليه ‪ .‬وعند الحنابلة إذا كان المبيع مكيل أو موزونا‬
‫‪.‬‬
‫قال ابن قدامة ‪ :‬قياس قول أصحابنا أنّ المشتري مخيّر بين الفسخ والرّجوع بالثّمن ‪ ،‬وبين‬
‫أخذه والرّجوع على البائع بعوض ما أتلف أو عيّب ‪.‬‬
‫أمّا إذا لم يكن المبيع مكيل أو موزونا فل ينفسخ البيع ‪ ،‬ويرجع المشتري على البائع‬
‫بعوض ما أتلف ‪.‬‬
‫وفرّق المالكيّة بين أن يكون التّلف عمدا أو خطأ ‪ ،‬وبين أن يكون الخيار للبائع أو للمشتري‪.‬‬
‫ن هذا‬
‫فإن كان الخيار للبائع وإتلفه للمبيع عمدا ‪ .‬كان فعله ردّا للبيع قبل جنايته ‪ ،‬ل ّ‬
‫التّصرّف من شأنه أن ل يفعله النسان إل في ملكه ‪ ،‬وإن كان إتلفه له خطأ ‪ ،‬فللمشتري‬
‫خيار العيب ‪ ،‬إن شاء تمسّك ول شيء له ‪ ،‬أو ر ّد وأخذ الثّمن بعد إجازة البائع بما له فيه‬
‫ن الخطأ مناف لقصد الفسخ ‪ ،‬إذ‬
‫من الخيار ‪ .‬وإنّما لم تكن جنايته خطأ ردّا كجنايته عمدا ل ّ‬
‫الخطأ ل يجامع القصد ‪ .‬وإن كان الخيار للمشتري وكان إتلف البائع للمبيع عمدا ‪،‬‬
‫فللمشتري الخيار بين الرّدّ أو إمضاء البيع وأخذ أرش الجناية ‪ ،‬وإن كان إتلفه له خطأ‬
‫فالمشتري بالخيار بين ردّه للبائع أو أخذه ناقصا ول شيء له ‪.‬‬
‫وذهب الشّافعيّة إلى تخيير المشتري بين الفسخ والرّجوع بالثّمن وبين إجازة العقد بجميع‬
‫الثّمن ‪ ،‬ول يغرم البائع للمشتري شيئا على المذهب عندهم ‪.‬‬
‫تلف بعض المبيع بفعل المشتري ‪:‬‬
‫‪ -‬إذا تلف بعض المبيع بفعل المشتري فل يبطل البيع ول خيار له لحصوله بفعله ‪ ،‬ول‬ ‫‪15‬‬

‫يسقط عنه شيء من الثّمن لنّه صار قابضا للكلّ بإتلف البعض ‪ ،‬ول يتمكّن من إتلف‬
‫البعض إلّا بإثبات اليد على الكلّ ‪ ،‬وصار قابضا قدر المتلف بالتلف والباقي بالتّعييب فتقرّر‬
‫عليه كلّ الثّمن ‪ .‬هذا هو مذهب الجمهور ‪ -‬الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة ‪. -‬‬
‫وفرّق المالكيّة بين أن يكون الخيار للبائع أو المشتري ‪ ،‬وبين التّلف العمد والخطأ ‪ ،‬فإن‬
‫كان الخيار للمشتري وكان إتلفه للمبيع عمدا فيعتبر ذلك رضا منه بالبيع ول رجوع فيه ‪.‬‬
‫وإن كان خطأ فللمشتري ردّه وما نقص ‪ ،‬وله التّمسّك به ول شيء له ‪ ،‬فإن ردّ وكان عيبا‬
‫مفسدا ضمن الثّمن كلّه ‪ .‬وإن كان الخيار للبائع فالبائع بالخيار بين ردّ البيع وأخذ أرش‬
‫الجناية ‪ ،‬أو المضاء وأخذ الثّمن ‪ ،‬سواء أكان التّلف عمدا أم خطأ ‪.‬‬
‫وعن ابن عرفة أنّ الخيار المذكور للبائع حيث كانت الجناية عمدا ‪ ،‬فإن كانت خطأ خيّر‬
‫المشتري بين أخذ المبيع ودفع الثّمن وأرش الجناية ‪ ،‬وبين ترك المبيع للبائع ودفع أرش‬
‫الجناية ‪ ،‬فأرش الجناية يدفعه في كلّ من حالتي تخييره عنده ‪ ،‬واعتمد بعضهم هذا ‪.‬‬
‫تلف بعض المبيع بفعل الجنبيّ ‪:‬‬
‫‪ -‬إن تلف بعض المبيع بفعل أجنبيّ فعليه ضمانه ‪ ،‬والمشتري بالخيار ‪ ،‬إن شاء فسخ‬ ‫‪16‬‬

‫البيع وأتبع البائع الجاني بضمان ما أتلفه ‪ ،‬وإن شاء اختار البيع وأتبع ( أي المشتري )‬
‫الجاني بالضّمان وعليه جميع الثّمن ‪ -‬وهذا ما ذهب إليه الحنفيّة والشّافعيّة ‪ ،‬وهو قول‬
‫الحنابلة في المبيع إذا كان مكيل ونحوه ‪ ،‬إل أنّ الشّافعيّة قالوا ‪ :‬ل يغرم الجنبيّ الرش إل‬
‫بعد قبض المبيع لجواز تلفه في يد البائع فينفسخ البيع ‪ .‬أمّا ما عدا المكيل والموزون عند‬
‫الحنابلة ‪ ،‬فليس للمشتري الخيار في الفسخ ‪ ،‬وإنّما يتبع المتلف بالضّمان ‪.‬‬
‫وذهب المالكيّة إلى أنّ أرش ما جنى الجنبيّ للبائع ولو كان الخيار لغيره ‪ ،‬وإذا أخذ البائع‬
‫أرش الجناية فالمشتري حينئذ بالخيار ‪ ،‬إمّا أن يأخذ المبيع معيبا مجّانا ‪ ،‬وإمّا أن ير ّد ول‬
‫شيء عليه ‪.‬‬
‫‪ -‬اتّفق الفقهاء على أنّ تلف كلّ المبيع بعد القبض ل يفسخ به البيع ‪ ،‬والهلك يكون‬ ‫‪17‬‬

‫على المشتري وعليه الثّمن ‪ ،‬لنّ البيع تقرّر بقبض المبيع فتقرّر الثّمن ‪ -‬هذا من حيث‬
‫الجملة ‪ -‬سواء أكان التّلف بآفة سماويّة أم بفعل المبيع أم بفعل المشتري ‪ ،‬وإذا كان التّلف‬
‫بفعل أجنبيّ فإنّه يرجع المشتري على الجنبيّ بضمانه ‪.‬‬
‫وفصّل الحنفيّة فقالوا ‪ :‬إذا تلف بفعل البائع فينظر إن كان المشتري قبضه بإذن البائع أو‬
‫ي سواء ‪.‬‬
‫بغير إذنه ‪ .‬فإن كان قبضه بإذنه فاستهلكه واستهلك الجنب ّ‬
‫وإن كان قبضه بغير إذن البائع صار البائع بالستهلك مستردّا للمبيع ‪ ،‬فحصل الستهلك‬
‫في ضمانه ‪ ،‬فيوجب بطلن البيع وسقوط الثّمن ‪ ،‬كما لو استهلك وهو في يده ‪.‬‬
‫وإذا كان المشتري قد قبض المبيع على الخيار له أو للبائع أو لهما ‪ ،‬ففي المذاهب تفصيل‬
‫في ضمان التّلف يرجع إليه في بحث ‪ ( :‬الخيار ) ‪.‬‬
‫تلف بعض المبيع بعد القبض ‪:‬‬
‫ن التّلف يكون على المشتري ‪ ،‬ول شيء على‬
‫‪ -‬إذا تلف بعض المبيع بعد القبض ‪ ،‬فإ ّ‬ ‫‪18‬‬

‫البائع ويجب عليه الثّمن ‪ ،‬لنّ المبيع خرج عن ضمان البائع بقبض المشتري فتقرّر عليه‬
‫الثّمن ‪ .‬وكذا إذا هلك بفعل أجنبيّ فالهلك على المشتري ويرجع بالضّمان على الجنبيّ ‪.‬‬
‫واستثنى الحنفيّة من ذلك التّلف بفعل البائع ‪ ،‬وفرّقوا بين ما لو كان للبائع حقّ السترداد أم‬
‫ل ‪ .‬فإن لم يكن للبائع حقّ السترداد فإتلفه والجنبيّ سواء ‪ ،‬وإن كان له حقّ السترداد‬
‫ينفسخ البيع في قدر المتلف ‪ ،‬ويسقط عن المشتري حصّته من الثّمن ‪ ،‬لنّه صار مستردّا‬
‫لذلك القدر بالتلف ‪ ،‬فتلف ذلك القدر في ضمانه ‪ ،‬فيسقط قدره من الثّمن ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬تلف زوائد المبيع ‪:‬‬
‫‪ -‬زوائد المبيع الحادثة في يد البائع ‪ ،‬كثمرة ولبن وبيض ‪ ،‬أمانة في يد البائع ‪ ،‬ل‬ ‫‪19‬‬

‫يضمنها إذا تلفت بغير تفريط منه ‪ ،‬وذلك لنّ ضمان الصل بالعقد وهو لم يشملها ‪ ،‬ولم‬
‫تمتدّ يده عليها لتملّكها ‪ ،‬كالمستام ولم يوجد منه تعدّ كالغاصب حتّى يضمن ‪.‬‬
‫ج ‪ -‬التّلف في الجارة ‪:‬‬
‫ن العين المؤجّرة أمانة في يد المستأجر ‪ ،‬فإن تلفت أو ضاعت‬
‫‪ -‬اتّفق الفقهاء على أ ّ‬ ‫‪20‬‬

‫بغير تعدّ منه ول تفريط فل ضمان عليه ‪ ،‬أمّا إذا تعدّى أو فرّط في المحافظة عليها فإنّه‬
‫يكون ضامنا لما يلحق العين من تلف أو نقصان ‪ ،‬وكذلك الحكم إذا تجاوز في النتفاع بها‬
‫حقّه فيه فتلفت عند ذلك ‪.‬‬
‫واتّفقوا كذلك على أنّ الجير الخاصّ أمين ‪ ،‬فل ضمان عليه فيما تلف في يده من مال أو ما‬
‫تلف بعمله إل بالتّعدّي أو التّفريط ‪ .‬لنّه نائب المالك في صرف منافعه إلى ما أمر به ‪ ،‬فلم‬
‫ن عمله غير مضمون عليه ‪ ،‬فلم يضمن ما تلف به كسراية القصاص ‪،‬‬
‫يضمن كالوكيل ‪ ،‬ول ّ‬
‫ولم يوجد منه صنع يصلح سببا لوجوب الضّمان ‪.‬‬
‫ن الجير المشترك إذا تلف عنده المتاع بتعدّ أو تفريط فإنّه يضمن ‪.‬‬
‫واتّفقوا على أ ّ‬
‫واختلفوا فيما إذا تلف بغير تعدّ منه أو تفريط ‪.‬‬
‫ن الصل أن ل‬
‫فذهب الشّافعيّة وأبو حنيفة وزفر إلى أنّ يده يد أمانة فل يضمن ما تلف ‪ ،‬ل ّ‬
‫يجب الضّمان إلّا على المتعدّي ‪ ،‬لقوله عزّ وجلّ { فَل عُ ْدوَانَ إل عَلَى الظّا ِلمِينَ } ولم يوجد‬
‫التّعدّي من الجير لنّه مأذون في القبض ‪ ،‬والهلك ليس من صنعه فل يجب الضّمان عليه ‪،‬‬
‫ولهذا ل يجب الضّمان على المودع ‪ .‬قال الرّبيع ‪ :‬اعتقاد الشّافعيّ أنّه ل ضمان على‬
‫الجير ‪ ،‬وإنّ القاضي يقضي بعلمه ‪ ،‬وكان ل يبوح به خشية قضاة السّوء وأجراء السّوء ‪.‬‬
‫وذهب أبو يوسف ومحمّد بن الحسن إلى أنّه مضمون عليه بالتّلف ‪ ،‬إل في حرق غالب ‪ ،‬أو‬
‫غرق غالب ‪ ،‬أو لصوص مكابرين ‪ ،‬فروي عن محمّد بن الحسن أنّه لو احترق محلّ الجير‬
‫المشترك بسراج يضمن الجير ‪ ،‬لنّ هذا ليس بحريق غالب ‪ ،‬وهو الّذي يقدر على‬
‫استدراكه لو علم به ‪ ،‬لنّه لو علم به لطفأه فلم يكن موضع العذر ‪.‬‬
‫واحتجّا بما روي عن رسول اللّه صلى ال عليه وسلم أنّه قال ‪ « :‬على اليد ما أخذت حتّى‬
‫تؤدّي » ‪ .‬وروي عن عمر رضي ال عنه أنّه كان يضمّن الجير المشترك احتياطا لموال‬
‫النّاس ‪ ،‬وهو المعنى في المسألة ‪ ،‬وهو أنّ هؤلء الجراء الّذين يسلّم المال إليهم من غير‬
‫شهود تخاف الخيانة منهم ‪ ،‬فلو علموا أنّهم ل يضمنون لهلكت أموال النّاس لنّهم ل‬
‫يعجزون عن دعوى الهلك ‪ ،‬وهذا المعنى ل يوجد في الحريق الغالب ‪ ،‬والغرق الغالب ‪،‬‬
‫والسّرق الغالب ‪.‬‬
‫وذهب الحنابلة إلى أنّه يضمن ما تلف بفعله ولو بخطئه ‪ ،‬كتخريق القصّار الثّوب ‪ ،‬وغلطه‬
‫كأن يدفعه إلى غير ربّه ‪ ،‬وأمّا ما تلف من حرزه بنحو سرقة أو تلف بغير فعله إذا لم يفرّط‬
‫فل ضمان عليه ‪ ،‬لنّ العين في يده أمانة ‪ ،‬أشبه بالمودع ‪.‬‬
‫وشرط المالكيّة لتضمينه شرطين ‪ :‬أحدهما ‪ :‬أن يغيب الجير المشترك على السّلعة ‪ ،‬وذلك‬
‫بأن يصنعها بغير حضور ربّها وبغير بيته ‪ ،‬وأمّا إن صنعها ببيته ولو بغير حضور ربّها ‪،‬‬
‫أو صنعها بحضوره لم يضمن ما نشأ من غير فعله كسرقة ‪ ،‬أو تلف بنار مثل بل تفريط ‪.‬‬
‫وثانيهما ‪ :‬أن يكون المصنوع ممّا يغاب عليه كثوب ونحوه ‪.‬‬
‫ثالثا ‪ :‬التّلف في عقود المانات وما في معناها ‪:‬‬
‫‪ -‬الصل في عقود المانات كالوديعة أنّ ما تلف فيها من العيان يكون تلفه على صاحبه‬ ‫‪21‬‬

‫ي صلى ال عليه‬
‫وليس على من كانت في يده شيء إن لم يتعدّ أو يفرّط فيها ‪ ،‬لقول النّب ّ‬
‫وسلم « ليس على المستعير غير المغلّ ضمان ‪ ،‬ول على المستودع غير المغلّ ضمان »‬
‫ي صلى ال عليه وسلم قال ‪ « :‬من‬
‫ولما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه أنّ النّب ّ‬
‫أودع وديعة فل ضمان عليه » ولحاجة النّاس إلى تلك العقود وفي إيجاب الضّمان عليهم‬
‫تنفير عنها ‪ .‬واستثنى الشّافعيّة والحنابلة من تلك العقود العاريّة ‪ ،‬فقالوا بضمانها مطلقا إن‬
‫ي صلى ال عليه وسلم قال ‪:‬‬
‫تلفت عند المستعير فرّط أم لم يفرّط ‪ ،‬لحديث سمرة أنّ النّب ّ‬
‫« على اليد ما أخذت حتّى تؤدّي » ‪ « .‬وعن صفوان أنّه صلى ال عليه وسلم استعار منه‬
‫يوم حنين أدرعا ولم يكن قد أسلم بعد فقال ‪ :‬أغصبا يا محمّد ؟ قال ‪ :‬بل عاريّة مضمونة »‪.‬‬
‫ولنّه مال يجب ردّه لمالكه فيضمن عند تلفه كالمستام ‪.‬‬
‫وأشار أحمد إلى الفرق بين العاريّة الوديعة وهو أنّ العاريّة أخذتها باليد ‪ ،‬الوديعة دفعت‬
‫إليك ‪ .‬واستثنى الشّافعيّة في الصحّ عندهم من ضمان العاريّة التّلف المنمحق ‪ -‬أي ما يتلف‬
‫بالكلّيّة عند الستعمال ‪ -‬والمنسحق ‪ -‬أي ما يتلف بعضه عند الستعمال ‪ -‬إذا تلف‬
‫باستعمال مأذون فيه لحدوثه عن سبب مأذون فيه ‪ ،‬فأشبه قوله ‪ :‬كل طعامي ‪.‬‬
‫ن مقتضى العارة الرّدّ ‪ ،‬ولم يوجد في‬
‫وعندهم قول بضمان المنمحق دون المنسحق ‪ ،‬ل ّ‬
‫المنمحق ‪ ،‬فيضمنه بخلف المنسحق ‪.‬‬
‫وخصّ المالكيّة الضّمان بتلف العاريّة المغيّب عليها ‪ -‬أي ما يمكن إخفاؤه ‪ -‬كالثّياب والحليّ‬
‫بخلف ما ل يغاب عليه ‪ ،‬فل ضمان عليه بتلفه ‪ ،‬كالحيوان والعقار ‪ ،‬إل أن يأتي المستعير‬
‫ببيّنة تثبت تلفه أو ضياعه بل سببه ‪ ،‬فل يضمنه خلفا لشهب القائل بالضّمان مطلقا ‪.‬‬
‫‪ -‬وهناك عقود فيها معنى المانة كالمضاربة والجارة والرّهن ‪ ،‬فهي وإن لم تكن في‬ ‫‪22‬‬

‫ن كلّا من المضارب والمستأجر والمرتهن أمين على ما في يده ‪.‬‬


‫أصلها عقد أمانة إلّا أ ّ‬
‫ب المال ول‬
‫ن ما تلف من مال المضاربة يكون تلفه على ر ّ‬
‫فل خلف بين الفقهاء في أ ّ‬
‫يضمنه المضارب ‪ ،‬فهو في يده بمنزلة الوديعة ‪ ،‬لنّه قبضه بإذن المالك ل على وجه البدل‬
‫والوثيقة ‪ ،‬إل أنّ المضارب يصير ضامنا لرأس المال إذا تلف بسبب مخالفة شرط ربّ‬
‫المال ‪ ،‬كأن شرط ربّ المال ألّا يسافر به في البحر فسافر فغرق المال ‪ ،‬فإنّ المضارب حينئذ‬
‫ضامن له لمخالفته شرط ربّ المال فصار بمنزلة الغاصب ‪.‬‬
‫ن يد المستأجر يد أمانة ‪ ،‬فما تلف في يده ل ضمان عليه إل‬
‫ول خلف بين الفقهاء في أ ّ‬
‫بالتّعدّي أو التّفريط ‪ ،‬أمّا إذا تعدّى أو فرّط في المحافظة عليها فإنّه يكون ضامنا لما يلحق‬
‫العين من تلف أو نقصان ‪ ،‬وكذلك الحكم إذا تجاوز في النتفاع بها حقّه فيه فتلفت عند ذلك‪.‬‬
‫واختلف الفقهاء في الرّهن إذا تلف في يد المرتهن ‪ ،‬هل يضمنه المرتهن أم ل ؟‬
‫فذهب الحنفيّة إلى أنّ المرهون إذا تلف في يد المرتهن فإنّه مضمون بالقلّ من قيمته ومن‬
‫الدّين ‪ ،‬وإن ساوت قيمته الدّين صار مستوفيا دينه ‪ ،‬وخصّ المالكيّة ضمان المرهون بما إذا‬
‫كان ممّا يغاب عليه ‪ ،‬كحليّ وثياب وسلح وكتب من ك ّل ما يمكن إخفاؤه وكتمه ‪ ،‬بخلف ما‬
‫ل يمكن كتمه كحيوان وعقار ‪ ،‬وهذا إن لم تشهد له بيّنة ‪ ،‬فإن شهدت بيّنة بتلفه أو هلكه‬
‫بغير سببه فل ضمان عليه ‪ ،‬لنّ الضّمان هنا ضمان تهمة ‪ ،‬وهي تنتفي بإقامة البيّنة ‪.‬‬
‫وذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّ المرهون أمانة في يد المرتهن ‪ ،‬فل يسقط بتلفه شيء من‬
‫الدّين بغير تعدّ من المرتهن أو تفريط ‪ ،‬لما روى سعيد بن المسيّب عن أبي هريرة رضي ال‬
‫ي صلى ال عليه وسلم قال « ل يغلق الرّهن من صاحبه الّذي رهنه ‪ ،‬له غنمه‬
‫ن النّب ّ‬
‫عنه أ ّ‬
‫وعليه غرمه » ‪ .‬ولنّه لو ضمن لمتنع النّاس من فعله خوفا من الضّمان ‪ ،‬وذلك وسيلة‬
‫إلى تعطيل المداينات ‪ ،‬وفيه ضرر عظيم ‪.‬‬
‫رابعا ‪ :‬التّلف في المزارعة والمساقاة ‪:‬‬
‫‪ -‬المزارعة والمساقاة صورتان من صور عقود العمل ‪ ،‬وقد اتّفق الفقهاء على‬ ‫‪23‬‬

‫مشروعيّة المساقاة ‪ ،‬واختلفوا في مشروعيّة المزارعة ‪.‬‬


‫وقد اعتبر الفقهاء العامل في عقدي المساقاة والمزارعة أمينا على ما في يده ‪ ،‬فما تلف منه‬
‫بل تعدّ ول تفريط ل شيء عليه فيه ‪ ،‬وأمّا إذا فرّط العامل ‪ ،‬كأن ترك السّقي حتّى فسد‬
‫الزّرع فإنّه ضامن له ‪ ،‬لنّه في يده وعليه حفظه ‪.‬‬
‫وللتّفصيل انظر مصطلح ( مزارعة ‪ ،‬ومساقاة ) ‪.‬‬
‫خامسا ‪ :‬تلف المغصوب ‪:‬‬
‫‪ -‬تلف المغصوب إمّا أن يكون حسّيّا ‪ ،‬وإمّا أن يكون معنويّا ‪ ،‬فالتّلف الحسّيّ ‪ :‬هو‬ ‫‪24‬‬

‫تفويت عين المغصوب عن ربّه ‪ ،‬والتّلف المعنويّ ‪ :‬هو تفويت معنى في المغصوب ‪ .‬وفي‬
‫كليهما الضّمان ‪.‬‬
‫واتّفق الفقهاء على أنّه إن تلف المغصوب المنقول عند الغاصب ‪ ،‬فإنّ عليه الضّمان ‪ ،‬سواء‬
‫تلف عنده بآفة أو بإتلف ‪ ،‬ويكون الضّمان بالمثل إن كان المغصوب مثليّا ‪ ،‬وبالقيمة إن‬
‫كان قيميّا ‪ ،‬وإن تلف بعضه فعليه أرش النّقصان ‪.‬‬
‫واختلفوا في غاصب العقار ‪ ،‬إذا تلف العقار عنده بسيل أو حريق أو شبه ذلك هل عليه‬
‫الضّمان أم ل ؟ ‪.‬‬
‫فذهب جمهور الفقهاء ‪ -‬المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ومحمّد بن الحسن من الحنفيّة ‪ -‬إلى‬
‫تضمينه ‪ ،‬وذهب الحنفيّة إلى عدم تضمينه إلّا في ثلث ‪ :‬الموقوف ‪ ،‬ومال اليتيم ‪ ،‬والمعدّ‬
‫للستغلل ‪ .‬هذا في التّلف الحسّيّ ‪ .‬أمّا التّلف المعنويّ ‪ ،‬فمن صوره الّتي ذكرها الفقهاء ‪،‬‬
‫ما لو غصب عبدا ذا حرفة فنسي المغصوب الحرفة عند الغاصب فإنّ عليه أرش النّقص ‪،‬‬
‫إل أن يتذكّرها سواء عند الغاصب أو المالك ‪ ،‬أو يتعلّمها عند الغاصب فل شيء عليه ‪ ،‬أمّا‬
‫لو تعلّمها عند المالك فالرش باق على الغاصب ‪.‬‬
‫وزاد الحنفيّة ما إذا كان شابّا فشاخ عند الغاصب ‪ ،‬فإنّه يجب عليه الضّمان أيضا ‪.‬‬
‫سادسا ‪ :‬تلف اللّقطة ‪:‬‬
‫‪ -‬لتلف اللّقطة حالن ‪ ،‬فهي في حال أمانة ل شيء على الملتقط إذا تلفت عنده أو‬ ‫‪25‬‬

‫ضاعت بغير تفريط منه ول تعدّ ‪ .‬وفي حال مضمونة بالتّلف أو الضّياع ‪.‬‬
‫ن اللّقطة أمانة عند الملتقط إذا أخذها ليحفظها لصاحبها ‪ ،‬فإن تلفت‬
‫وقد اتّفق الفقهاء على أ ّ‬
‫عنده أو ضاعت ل شيء عليه ‪ ،‬لنّه أخذها على سبيل المانة فكانت يده يد أمانة كيد‬
‫المودع ‪ .‬وإن أخذها بقصد الخيانة فإنّه ضامن لها إن تلفت عمل بقصده المقارن لفعله‬
‫ويعتبر كالغاصب ‪.‬‬
‫سابعا ‪ :‬تلف المهر ‪:‬‬
‫‪ -‬فرّق الحنفيّة في تلف الصّداق المعيّن بين أن يكون التّلف فاحشا أو غير فاحش ‪،‬‬ ‫‪26‬‬

‫وبين أن يكون في يد الزّوج أو في يد الزّوجة ‪ ،‬ويختلف الحكم في كلّ باختلف متلفه ‪.‬‬
‫أ ‪ -‬الصّداق بيد الزّوج والنّقصان فاحش ‪:‬‬
‫إن كان نقصان الصّداق بفعل أجنبيّ وكان فاحشا ‪ ،‬فالمرأة بالخيار بين أخذ المهر ناقصا مع‬
‫الرش ‪ ،‬وبين ترك الصّداق وأخذ قيمته من الزّوج يوم العقد ‪ ،‬ثمّ يرجع الزّوج على الجنبيّ‬
‫بضمان النّقصان ‪ .‬وإن كان النّقصان بآفة سماويّة ‪ ،‬فالزّوجة بالخيار ‪ ،‬إن شاءت أخذته‬
‫ناقصا ول شيء لها غير ذلك ‪ ،‬وإن شاءت تركته وأخذت قيمته يوم العقد ‪.‬‬
‫ن المرأة بالخيار بين أخذه ناقصا مع أرش النّقصان من‬
‫وإن كان النّقصان بفعل الزّوج ‪ ،‬فإ ّ‬
‫الزّوج ‪ ،‬وبين أخذ قيمته يوم العقد ‪ ،‬وروي عن أبي حنيفة أنّ الزّوج إذا جنى على المهر‬
‫فالزّوجة بالخيار إن شاءت أخذته ناقصا ول شيء لها غير ذلك ‪ ،‬وإن شاءت أخذت القيمة ‪،‬‬
‫وإن كان النّقصان بفعل الزّوجة نفسها فل شيء على الزّوج ‪ ،‬وصارت قابضة بالجناية ‪،‬‬
‫فجعل كأنّ النّقصان حصل في يدها ‪.‬‬
‫وإن كان النّقصان بفعل المهر ‪ ،‬بأن جنى المهر على نفسه ‪ ،‬ففيه روايتان ‪:‬‬
‫إحداهما ‪ :‬أنّ حكمه كما لو تلف بآفة سماويّة ‪ ،‬والثّانية ‪ :‬كما لو تلف بفعل الزّوج ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬الصّداق بيد الزّوج والنّقصان غير فاحش ‪:‬‬
‫إذا كان نقصان الصّداق يسيرا غير فاحش ‪ ،‬فل خيار للزّوجة ‪ ،‬كما إذا كان هذا العيب به‬
‫يوم العقد ‪ ،‬ثمّ إن كان هذا النّقصان بآفة سماويّة أو بفعلها أو بفعل المهر فل شيء لها ‪،‬‬
‫وإن كان بفعل أجنبيّ أو بفعل الزّوج أخذته مع أرش النّقصان ‪.‬‬
‫ج ‪ -‬الصّداق بيد الزّوجة والنّقصان فاحش ‪:‬‬
‫إذا كان نقصان الصّداق بفعل أجنبيّ ‪ ،‬وكان فاحشا قبل الطّلق فالرش لها ‪ ،‬فإن طلّقها‬
‫الزّوج فله نصف القيمة يوم قبضت ول سبيل له على العين ‪ ،‬وإن كانت جناية الجنبيّ عليه‬
‫بعد الطّلق فللزّوجة نصف المهر ‪ ،‬وهو بالخيار في الرش بين أخذ نصفه من المرأة مع‬
‫اعتبار قيمته يوم القبض ‪ ،‬وبين أخذ نصفه من الجاني ‪.‬‬
‫وإن كان النّقصان بفعل الزّوج فجنايته كجناية الجنبيّ ‪ ،‬لنّه جنى على ملك غيره ول يد له‬
‫ي‪.‬‬
‫فيه فصار كالجنبيّ ‪ ،‬وسبق حكم إتلف الجنب ّ‬
‫وإن كان النّقصان بآفة سماويّة قبل الطّلق فالزّوج بالخيار بين أخذ نصفه ناقصا ول شيء‬
‫له غير ذلك ‪ ،‬وبين أخذ نصف القيمة يوم القبض ‪ ،‬وإن كان ذلك بعد الطّلق فهو بالخيار‬
‫أيضا بين أخذ نصفه ونصف الرش ‪ ،‬وبين أخذ قيمته يوم قبضت ‪.‬‬
‫وإن كان النّقصان بفعل المرأة فالزّوج بالخيار بين أخذ نصفه ول شيء له ‪ ،‬وبين أخذ نصف‬
‫قيمته ‪.‬‬
‫وقال زفر ‪ :‬للزّوج أن يضمّنها الرش ‪ ،‬وإن كان ذلك بعد الطّلق فعليها نصف الرش ‪ ،‬وإن‬
‫كان النّقصان بفعل المهر نفسه فالزّوج بالخيار بين أخذ نصفه ناقصا وبين أخذ نصف قيمته‪.‬‬
‫د ‪ -‬الصّداق بيد المرأة والنّقصان غير فاحش ‪:‬‬
‫ي أو الزّوج ‪ ،‬فإنّ‬
‫إن كان النّقصان غير فاحش وهو بيد المرأة وكان النّقصان بفعل أجنب ّ‬
‫ن الرش يمنع التّنصيف ‪ ،‬وإن كان النّقصان بآفة سماويّة أو بفعلها أو‬
‫المهر ل يتنصّف ل ّ‬
‫بفعل المهر أخذ النّصف ول خيار له ‪.‬‬
‫‪ -‬ويفرّق المالكيّة بين ما إذا كان الصّداق ممّا يغاب عليه أو ممّا ل يغاب عليه ‪:‬‬ ‫‪27‬‬

‫فإذا تلف الصّداق وكان ممّا يغاب عليه ولم يثبت هلكه ببيّنة ‪ ،‬فضمانه ممّن هلك في يده ‪،‬‬
‫سواء أكان بيد الزّوج أم الزّوجة ‪ ،‬فإذا كان بيد الزّوج وادّعى ضياعه وكان قد دخل بها‬
‫ضمن لها قيمته أو مثله ‪ ،‬وإن كان بيدها ضاع عليها ‪ ،‬وإن كان طلّق قبل الدّخول لزم لها‬
‫نصف الصّداق إن ضاع بيده ‪ ،‬وإن كان بيدها غرمت له نصف القيمة أو نصف المثل ‪.‬‬
‫وإن كان الصّداق ممّا ل يغاب عليه ‪ ،‬أو كان ممّا يغاب عليه ‪ ،‬وقامت على هلكه بيّنة ‪،‬‬
‫فضمانه منهما سواء كان بيد الزّوج أو بيد الزّوجة ‪ ،‬فك ّل من تلف في يده ل يغرم للخر‬
‫حصّته ‪ .‬وهذا فيما إذا حصل طلق قبل الدّخول ‪.‬‬
‫ن ضمان الصّداق على‬
‫وأمّا إذا لم يحصل طلق قبل الدّخول ‪ ،‬وكان النّكاح صحيحا ‪ ،‬فإ ّ‬
‫الزّوجة بمجرّد العقد ولو كان بيد الزّوج ‪ ،‬والمراد بضمانها له أنّه يضيع عليها ‪.‬‬
‫وإن كان النّكاح فاسدا فإنّها ل تضمن الصّداق إل بقبضه ‪.‬‬
‫‪ -‬وقسّم الشّافعيّة تلف المهر إذا كان عينا إلى تلف كلّيّ وتلف جزئيّ ‪ ،‬وفرّقوا في الحكم‬ ‫‪28‬‬

‫بين أن يكون التّلف بفعل أجنبيّ ‪ ،‬أو بفعل الزّوج ‪ ،‬أو الزّوجة ‪ ،‬أو بآفة سماويّة ‪.‬‬
‫أ ‪ -‬التّلف الكلّيّ ‪ :‬فإذا تلف المهر في يد الزّوج بآفة سماويّة وجب عليه بدله من مثل أو‬
‫قيمة ‪ .‬وإن تلف بفعل الزّوجة فيعتبر إتلفها قبضا له إذا كانت أهل للتّصرّف ‪ ،‬ول شيء‬
‫على الزّوج لنّها قبضت حقّها وأتلفته ‪ ،‬وإن كانت غير رشيدة ‪ ،‬فل يعتبر إتلفها قبضا ‪،‬‬
‫لنّ قبضها غير معتدّ به ‪ ،‬ويجب على الزّوج الضّمان ‪.‬‬
‫وإن تلف بفعل الزّوج فحكمه كما لو تلف بآفة سماويّة ‪ ،‬فيجب عليه بدله من مثل أو قيمة ‪.‬‬
‫وإن تلف بفعل أجنبيّ ‪ ،‬فالزّوجة بالخيار بين فسخ الصّداق وإبقائه ‪ ،‬فإن فسخت الصّداق‬
‫أخذت من الزّوج مهر المثل ‪ .‬ويأخذ الزّوج الغرم من المتلف ‪ ،‬وإن أبقته غرم المتلف لها‬
‫المثل أو القيمة ‪ ،‬وليس لها مطالبة الزّوج ‪.‬‬
‫ي ‪ :‬إن تلف بعض الصّداق قبل قبضه بآفة سماويّة أو بفعل الزّوج ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬التّلف الجزئ ّ‬
‫انفسخ عقد الصّداق في التّالف دون الباقي ‪ ،‬ولها الخيار بين الفسخ والجازة لعدم سلمة‬
‫المعقود عليه ‪ ،‬فإن فسخت الصّداق فلها مهر المثل ‪.‬‬
‫وإن أجازت فلها حصّة التّالف من مهر المثل مع الباقي من المهر بعد التّلف ‪.‬‬
‫وإن تلف بعضه بفعل الزّوجة فهي قابضة لقسطه الّذي تلف بفعلها ‪ ،‬ول شيء على الزّوج‬
‫ولها الباقي من المهر بعد التّلف ‪.‬‬
‫وإن أتلفه أجنبيّ فهي بالخيار بين الفسخ والجازة ‪ ،‬فإن فسخت طالبت الزّوج بمهر المثل ‪،‬‬
‫وإن أجازت طالبت الجنبيّ بالبدل ‪ .‬على تفصيل في المذهب ينظر في ( صداق ) ‪.‬‬
‫‪ -‬وذهب الحنابلة إلى أنّ ضمان المهر على الزّوجة سواء أقبضته أم لم تقبضه لدخوله‬ ‫‪29‬‬

‫في ملكها بالعقد ‪ ،‬إل أن يمنعها الزّوج قبضه فيكون ضمانه عليه لنّه بمنزلة الغاصب ‪ .‬إل‬
‫أن يتلف الصّداق بفعلها ‪ ،‬فيكون إتلفها قبضا منها ويسقط عنه ضمانه ‪ ،‬هذا فيما إذا كان‬
‫الصّداق معيّنا ‪ .‬وأمّا إذا كان الصّداق غير معيّن ‪ ،‬فإنّه ل يدخل في ضمانها إل بقبضه ‪.‬‬
‫وهذا كلّه فيما إذا دخل بها ‪.‬‬
‫وأمّا إن طلّقها قبل الدّخول وتلف بعض الصّداق وهو بيدها ‪ ،‬فإن كان التّلف بغير جناية‬
‫عليه كأن نقص بمرض ‪ ،‬أو نسيان صنعة ‪ ،‬فالزّوج بالخيار بين أخذ نصف عينه ناقصا ول‬
‫شيء له غيره ‪ ،‬وبين أخذ نصف قيمته ‪ ،‬وإن كان نقصان الصّداق بجناية جان عليه فللزّوج‬
‫أخذ نصف الصّداق الباقي مع نصف الرش لنّه بدل ما فات منه‬
‫ما يتلفه البغاة ‪:‬‬
‫البغاة وهم مخالفو المام بالخروج عليه وترك النقياد له أو منع حقّ توجّه إليهم ‪ ،‬بشرط أن‬
‫تكون لهم شوكة وتأويل غير مقطوع بفساده ومطاع يصدرون عن أمره ‪.‬‬
‫‪ -‬واتّفق الفقهاء على أنّ ما يتلفه البغاة من الموال والنفس على المام العادل ل ضمان‬ ‫‪30‬‬

‫فيه ‪ ،‬وكذلك ما يتلفه المام عليهم ‪ .‬لقول الزّهريّ ‪ :‬هاجت الفتنة وأصحاب رسول اللّه‬
‫متواترون ‪ ،‬فأجمعوا أن ل يقاد أحد ‪،‬ول يؤخذ مال على تأويل القرآن إل ما وجد بعينه‪.‬‬
‫فقد جرت الوقائع في عصر الصّحابة رضوان ال عليهم ‪ ،‬كوقعة الجمل ‪ ،‬وصفّين ‪ ،‬ولم‬
‫يطالب بعضهم بعضا بضمان نفس أو مال ‪ ،‬ولجل التّرغيب في الطّاعة لئل ينفروا عنها‬
‫ويتمادوا على ما هم فيه ‪ ،‬ولهذا سقطت التّبعة عن الحربيّ إذا أسلم ‪ ،‬ولنّ المام مأمور‬
‫بالقتال فل يضمن ما يتولّد منه ‪ ،‬وهم إنّما أتلفوا بتأويل ‪.‬‬
‫ويشترط لنفي الضّمان أن يكون التلف في حال القتال ‪ ،‬وأمّا في غير حال القتال فإنّه‬
‫مضمون عليهم ‪ .‬وقيّد الشّافعيّة الحكم وخصّوه بما أتلف في القتال لضرورته ‪ ،‬فإن أتلف‬
‫فيه ما ليس من ضرورته فإنّه مضمون عندهم ‪ .‬واستثنوا من ذلك ما إذا قصد أهل العدل‬
‫بإتلف المال إضعافهم وهزيمتهم ‪ ،‬فإنّه ل ضمان ‪ ،‬بخلف ما لو قصدوا التّشفّي والنتقام ‪.‬‬
‫ولم يعتبر الحنفيّة هذا الشّرط ‪ ،‬وإنّما اعتبروا التّحيّز وعدمه ‪ ،‬وقالوا ‪ :‬ما فعلوه قبل التّحيّز‬
‫والخروج وبعد تفرّق جمعهم يؤاخذون به ‪ ،‬وأمّا ما فعلوه بعد التّحيّز فل ضمان فيه ‪.‬‬
‫وعندهم كذلك يضمن المام ما أتلفه عليهم قبل تحيّزهم وخروجهم ‪ ،‬أو بعد كسرهم وتفرّق‬
‫جمعهم ‪.‬‬
‫ما تتلفه الدّوابّ ‪:‬‬
‫‪ -‬قد سبق تفصيله في مصطلح ‪ ( :‬إتلف ) ‪.‬‬ ‫‪31‬‬

‫تلفيق *‬
‫التّعريف ‪:‬‬
‫ضمّ ‪ ،‬وهو مصدر لفّق ‪ ،‬ومادّة لفّق لها في اللّغة أكثر من معنى ‪،‬‬
‫‪ -‬التّلفيق في اللّغة ‪ :‬ال ّ‬ ‫‪1‬‬

‫ضمّ ‪.‬‬
‫فهي تستعمل بمعنى ال ّ‬
‫والملءمة ‪ ،‬والكذب المزخرف ‪ .‬والتّلفاق أو اللّفاق بكسرهما ‪ :‬ثوبان يلفّق أحدهما بالخر ‪.‬‬
‫ضمّ كما في المرأة الّتي انقطع دمها فرأت‬
‫وفي الصطلح ‪ :‬يستعمل الفقهاء التّلفيق بمعنى ال ّ‬
‫يوما دما ويوما نقاء ‪ ،‬أو يومين ويومين بحيث ل يجاوز التّقطّع خمسة عشر يوما عند غير‬
‫الكثرين على مقابل الظهر عند الشّافعيّة ‪.‬‬
‫وكما هو الحال في حصول الرّكعة الملفّقة في صلة الجمعة للمسبوق ‪.‬‬
‫ويستعملونه أيضا بمعنى التّوفيق والجمع بين الرّوايات المختلفة في المسألة الواحدة ‪ ،‬كما‬
‫في الرّوايات الموجبة للجعل في ردّ البق عند الحنفيّة ‪.‬‬
‫اللفاظ ذات الصّلة ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬التّفريق ‪:‬‬
‫‪ -‬التّفريق مصدر فرّق ومعناه في اللّغة ‪ :‬الفصل بين الشّيئين والفقهاء يستعملونه أيضا‬ ‫‪2‬‬

‫بهذا المعنى كما في التّفريق في صيام التّمتّع بين الثّلثة والسّبعة اليّام ‪ ،‬وكما في قسم‬
‫الصّدقات ‪ ،‬وكما في تفريق طلق المدخول بها إذا أراد أكثر من واحدة بأن يوقع كلّ طلقة‬
‫في طهر لم يمسّها فيه ليصيب السّنّة ‪ .‬فالتّفريق ض ّد التّلفيق ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬التّقدير ‪:‬‬
‫‪ -‬التّقدير ‪ :‬مصدر قدّر ‪ ،‬ويأتي في اللّغة على وجوه من المعاني ‪.‬‬ ‫‪3‬‬

‫أحدها ‪ :‬التّروّي والتّفكير في تسوية أمر وتهيئته ‪.‬‬


‫والثّاني ‪ :‬تقديره بعلمات يقطعه عليها وهو بيان المقادير ذرعا ‪ ،‬أو كيل ‪ ،‬أو وزنا ‪ ،‬أو عدّ‬
‫ذلك ‪.‬‬
‫والثّالث ‪ :‬أن تنوي أمرا بعزمك عليه ‪ .‬تقول قدّرت أمر كذا وكذا أي نويته وعقدت عليه ‪.‬‬
‫ن كلّا منهما فيه جمع بين أمور غير محدّدة ‪.‬‬
‫ويشترك التّقدير مع التّلفيق في أ ّ‬
‫الحكام الجماليّة ومواطن البحث ‪:‬‬
‫ذكر الفقهاء التّلفيق في عدد من المواطن نجملها فيما يلي ‪:‬‬
‫التّلفيق في الحيض إذا تقطّع ‪:‬‬
‫ن الطّهر المتخلّل بين الدّمين إذا كان خمسة عشر يوما فصاعدا فإنّه‬
‫‪ -‬اتّفق الفقهاء على أ ّ‬ ‫‪4‬‬

‫يكون فاصل بينهما ‪ ،‬أمّا إذا كان الطّهر الفاصل بين الدّمين أقلّ من هذه المدّة فقد اختلفوا‬
‫في اعتباره فاصل أو عدم اعتباره ‪.‬‬
‫‪ -‬فالحنفيّة يجمعون على أنّ الطّهر الفاصل بين الدّمين إذا كان أق ّل من ثلثة أيّام فإنّه ل‬ ‫‪5‬‬

‫يعتبر فاصل ‪ .‬وأمّا فيما عدا ذلك ففيه أربع روايات عن أبي حنيفة ‪:‬‬
‫ن الطّهر المتخلّل بين الدّمين إذا كان أق ّل من خمسة‬
‫الولى ‪ :‬وهي رواية أبي يوسف عنه أ ّ‬
‫عشر يوما يكون طهرا فاسدا ول يكون فاصل بين الدّمين بل يكون كلّه كدم متوال ‪ ،‬ثمّ يقدّر‬
‫ما ينبغي أن يجعل حيضا فيجعل حيضا والباقي يكون استحاضة ‪.‬‬
‫ن الدّم إذا كان في طرفي العشرة فالطّهر المتخلّل بينهما ل‬
‫الثّانية ‪ :‬وهي رواية محمّد عنه أ ّ‬
‫يكون فاصل ويجعل كلّه كدم متوال ‪ ،‬وإن لم يكن الدّم في طرفي العشرة كان الطّهر فاصل‬
‫بين الدّمين ‪ .‬ثمّ بعد ذلك إن أمكن أن يجعل أحد الدّمين حيضا يجعل ذلك حيضا ‪ ،‬وإن أمكن‬
‫أن يجعل كلّ واحد منهما حيضا يجعل أسرعهما وهو أوّلهما ‪ ،‬وإن لم يمكن جعل أحدهما‬
‫حيضا ل يجعل شيء من ذلك حيضا ‪.‬‬
‫الثّالثة ‪ :‬وهي رواية عبد اللّه بن المبارك عنه أنّ الدّم إذا كان في طرفي العشرة وكان بحال‬
‫لو جمعت الدّماء المتفرّقة تبلغ حيضا ل يصير الطّهر فاصلً بين الدّمين ويكون كلّه حيضا ‪،‬‬
‫وإن كان بحال لو جمع ل يبلغ حيضا يصير فاصل بين الدّمين ‪ ،‬ثمّ ينظر إن أمكن أن يجعل‬
‫أحد الدّمين حيضا يجعل ذلك حيضا ‪ ،‬وإن أمكن أن يجعل ك ّل واحد منهما حيضا ‪ ،‬يجعل‬
‫أسرعهما حيضا وإن لم يمكن أن يجعل أحدهما حيضا ل يجعل شيء من ذلك حيضا ‪.‬‬
‫الرّابعة ‪ :‬وهي رواية الحسن عنه أنّ الطّهر المتخلّل بين الدّمين إذا كان أقلّ من ثلثة أيّام ل‬
‫يكون فاصل بين الدّمين ‪ ،‬وكلّه بمنزلة المتوالي ‪ ،‬وإذا كان ثلثة أيّام كان فاصل بينهما ‪.‬‬
‫ن الطّهر المتخلّل بين الدّمين إذا كان أق ّل من ثلثة أيّام ل يعتبر فاصل ‪ ،‬وإن‬
‫واختار محمّد أ ّ‬
‫كان أكثر من الدّمين ‪ ،‬ويكون بمنزلة الدّم المتوالي ‪ ،‬وإذا كان ثلثة أيّام فصاعدا فهو طهر‬
‫كثير فيعتبر ‪ .‬لكن ينظر بعد ذلك إن كان الطّهر مثل الدّمين أو أق ّل من الدّمين في العشرة ل‬
‫يكون فاصل ‪ ،‬وإن كان أكثر من الدّمين يكون فاصل ‪ .‬هذا وأقلّ الحيض عند الحنفيّة ثلثة‬
‫أيّام وثلث ليال في ظاهر الرّواية ‪ ،‬وأكثره عشرة أيّام ولياليها ‪ ،‬وأقلّ الطّهر عندهم خمسة‬
‫عشر يوما ول غاية لكثره ‪ ،‬إل إذا احتيج إلى نصب العادة ‪.‬‬
‫‪ -‬ويرى المالكيّة في مسألة التّقطّع هذه أنّ المرأة تُ َلفّق أي تجمع أيّام الدّم فقط ل أيّام‬ ‫‪6‬‬

‫الطّهر على تفصيلها من مبتدأة ومعتادة وحامل ‪.‬‬


‫فتلفّق المبتدأة نصف شهر ‪ ،‬والمعتادة عادتها واستظهارها ‪ ،‬والحامل في ثلثة أشهر‬
‫النّصف ونحوه ‪ ،‬وفي ستّة فأكثر عشرين ونحوها ‪ ،‬ثمّ هي بعد ذلك مستحاضة ‪.‬‬
‫ن أنّه يعاودها قبل‬
‫وتغتسل الملفّقة وجوبا كلّما انقطع الدّم عنها في أيّام التّلفيق ‪ ،‬إل أن تظ ّ‬
‫انقضاء وقت الصّلة الّتي هي فيه ‪ ،‬فل تؤمر بالغسل ‪ ،‬وتصوم إن كانت قبل الفجر طاهرا ‪،‬‬
‫وتصلّي بعد طهرها فيمكن أن تصلّي وتصوم في جميع أيّام الحيض بأن كان يأتيها ليل‬
‫وينقطع قبل الفجر حتّى يغيب الشّفق فل يفوتها شيء من الصّلة والصّوم ‪ ،‬وتدخل‬
‫المسجد ‪ ،‬وتطوف الفاضة إلّا أنّه يحرم طلقها ويجبر على مراجعتها ‪.‬‬
‫هذا وأق ّل الحيض عند المالكيّة دفعة ‪ ،‬وأمّا أكثره فيختلف باختلف الحائض ‪ ،‬فالمبتدأة إن‬
‫تمادت بها الحيضة فأكثره في حقّها خمسة عشر يوما ‪.‬‬
‫والمعتادة إن لم تختلف عادتها استظهرت عليها بثلثة أيّام ما لم تجاوز خمسة عشر يوما ‪،‬‬
‫وإن اختلفت عادتها استظهرت على أكثر عادتها كذلك وهي حائض في أيّام الستظهار ‪.‬‬
‫‪ -‬ويرى الشّافعيّة في هذه المسألة أنّ التّقطّع ل يخلو ‪ ،‬إمّا أن يجاوز الخمسة عشر ‪،‬‬ ‫‪7‬‬

‫وإمّا أن ل يجاوزها ‪ ،‬فإن لم يجاوزها فقولن ‪:‬‬


‫أظهرهما عند الكثرين كما في الرّوضة أنّ الجميع حيض ‪ ،‬ويسمّى القول بذلك " السّحب "‬
‫بشرط أن يكون النّقاء محتوشا "محاطا " بدمين في الخمسة عشر ‪ ،‬وإلّا فهو طهر بل‬
‫خلف ‪.‬‬
‫والثّاني ‪ :‬حيضها الدّماء خاصّة ‪.‬وأمّا النّقاء فطهر ويسمّى هذا القول " التّلفيق " أو " اللّقط "‬
‫وعلى هذا القول إنّما يجعل النّقاء طهرا في الصّوم والصّلة والغسل ونحوها دون العدّة ‪،‬‬
‫ي ‪ .‬ثمّ القولن هما في النّقاء الزّائد على الفترة المعتادة ‪ ،‬فأمّا الفترة‬
‫والطّلق فيه بدع ّ‬
‫المعتادة بين دفعتي الدّم فحيض بل خلف ‪.‬‬
‫ول فرق في جريان القولين بين أن يستوي قدر الدّم والنّقاء أو يزيد أحدهما ‪.‬‬
‫أمّا إذا جاوز الدّم بصفة التّلفيق الخمسة عشر صارت مستحاضة كغيرها إذا جاوز دمها تلك‬
‫المدّة ‪ ،‬وَل صَائِر إلى اللتقاط من جميع الشّهر وإن لم يزد مبلغ الدّم على أكثر الحيض ‪،‬‬
‫وإذا صارت مستحاضة فالفرق بين حيضها واستحاضتها بالرّجوع إلى العادة ‪ ،‬أو التّمييز‬
‫كغير ذات التّلفيق ‪.‬‬
‫هذا وأق ّل الحيض عند الشّافعيّة يوم وليلة على المذهب وعليه التّفريع ‪ ،‬وأكثره خمسة عشر‬
‫ت أو سبع ‪ ،‬وأق ّل الطّهر بين حيضتين خمسة عشر يوما وغالبه تمام الشّهر‬
‫يوما وغالبه س ّ‬
‫بعد الحيض ول حدّ لكثره ‪.‬‬
‫‪ -‬ويرى الحنابلة في مسألة التّقطّع هذه أنّ المرأة تغتسل وتصلّي في زمن الطّهر حتّى‬ ‫‪8‬‬

‫ولو كان ساعة ‪ ،‬لقول ابن عبّاس ‪ :‬ل يح ّل لها إذا رأت الطّهر ساعة إل أن تغتسل ‪ ،‬ثمّ إن‬
‫انقطع الدّم لخمسة عشر فما دون فجميعه حيض ‪ ،‬تغتسل عقيب كلّ يوم وتصلّي في الطّهر ‪،‬‬
‫وإن عبر الخمسة عشر فهي مستحاضة تردّ إلى عادتها ‪.‬‬
‫والصل المعتبر الّذي تر ّد إليه مسائل التّلفيق عندهم حينئذ أنّها إن كانت عادتها سبعة‬
‫متوالية جلست ‪ ،‬وما وافقها من الدّم فيكون حيضها منه ثلثة أيّام أو أربعة ‪.‬‬
‫ن النّاسية كالمعتادة إن أجلسناها سبعا ‪ ،‬فإن أجلسناها أق ّل الحيض جلست يوما‬
‫وقالوا ‪ :‬إ ّ‬
‫وليلة ل غير ‪ ،‬وإن كانت مميّزة ترى يوما دما أسود ‪ ،‬ثمّ ترى نقاء ‪ ،‬ثمّ ترى أسود إلى‬
‫عشرة أيّام ‪ ،‬ثمّ ترى دما أحمر وعبر ( أي ‪ :‬تجاوز ) ردّت إلى التّمييز ‪ ،‬فيكون حيضها‬
‫زمن الدّم السود دون غيره ‪ ،‬ول فرق بين أن ترى الدّم زمنا يمكن أن يكون حيضا كيوم‬
‫وليلة ‪ ،‬أو دون ذلك كنصف يوم ونصف ليلة ‪ .‬فإن كان النّقاء أقلّ من ساعة فالظّاهر أنّه‬
‫ن الدّم يجري تارة وينقطع أخرى ‪.‬‬
‫ليس بطهر ل ّ‬
‫وإذا رأت ثلثة أيّام دما ثمّ طهرت اثني عشر يوما ‪ ،‬ث ّم رأته ثلثة دما ‪ ،‬فالوّل حيض لنّها‬
‫رأته في زمان إمكانه ‪.‬‬
‫والثّاني استحاضة لنّه ل يمكن أن يكون ابتداء حيض لكونه لم يتقدّمه أق ّل الطّهر ول من‬
‫الحيض الوّل ‪ ،‬لنّه يخرج عن الخمسة عشر ‪ ،‬والحيضة الواحدة ل يكون بين طرفيها أكثر‬
‫من خمسة عشر يوما ‪.‬‬
‫فإن كان بين الدّمين ثلثة عشر يوما فأكثر وتكرّر ‪ ،‬فهما حيضتان لنّه أمكن جعل كلّ واحد‬
‫منهما حيضة منفردة لفصل أقلّ الطّهر بينهما ‪ ،‬وإن أمكن جعلهما حيضة واحدة بأن ل يكون‬
‫بين طرفيهما أكثر من خمسة عشر يوما مثل أن ترى يومين دما وتطهر عشرة ‪ ،‬وترى‬
‫ثلثة دما وتكرّر فهما حيضة واحدة ‪ ،‬لنّه لم يخرج زمنهما عن مدّة أكثر الحيض ‪.‬‬
‫وجاء في مطالب أولي النّهى أنّ الطّهر في أثناء الحيضة صحيح تغتسل فيه وتصلّي ونحوه‬
‫أي ‪ :‬تصوم وتطوف وتقرأ القرآن ‪ ،‬ول يكره فيه الوطء لنّه طهر حقيقة ‪.‬‬
‫وقال في النصاف ‪ :‬حكمها حكم الطّاهرات في جميع أحكامها على الصّحيح من المذهب ‪.‬‬
‫هذا والحنابلة في أقلّ الحيض وأكثره وغالبه كالشّافعيّة ‪ ،‬إل أنّهم خالفوهم في أقلّ الطّهر‬
‫الفاصل بين الحيضتين ‪ ،‬حيث قالوا ‪ :‬إنّه ثلثة عشر يوما ‪.‬‬
‫والتّفصيل في مصطلح ( حيض ) ‪.‬‬
‫إدراك الجمعة بركعة ملفّقة ‪:‬‬
‫ن الجمعة تدرك بركعة ملفّقة من ركوع الولى وسجود‬
‫‪ -‬يرى الشّافعيّة والحنابلة أ ّ‬ ‫‪9‬‬

‫الثّانية ‪ ،‬وقد ذكر الشّافعيّة ذلك في المزحوم الّذي لم يتمكّن من السّجود في الرّكعة الولى‬
‫حتّى شرع المام في ركوع الرّكعة الثّانية من الجمعة ‪ ،‬فقد ذكروا أنّ المزحوم يراعي نظم‬
‫صلة نفسه في قول فيسجد الن ‪ ،‬ويحسب ركوعه الوّل في الصحّ لنّه أتى به في وقته ‪،‬‬
‫وإنّما أتى بالرّكوع الثّاني لعذر ‪ ،‬فأشبه ما لو والى بين ركوعين ناسيا ‪.‬‬
‫ق الن فركعته ملفّقة من ركوع‬
‫وقيل ‪ :‬يؤخذ بالرّكوع الثّاني لفراط التّخلّف فكأنّه مسبوق َلحِ َ‬
‫الرّكعة الولى ومن سجود الثّانية الّذي أتى به فيها ‪ ،‬وتدرك بها الجمعة في الصحّ لطلق‬
‫خبر ‪ « :‬من أدرك ركعة من الجمعة فليصلّ إليها أخرى » ‪ .‬وهذا قد أدرك ركعة وليس‬
‫التّلفيق نقصا في المعذور ‪ .‬وعلى مقابل الصحّ ل تدرك بها الجمعة لنقصها بالتّلفيق ‪.‬‬
‫هذا والظهر عند الشّافعيّة متابعة المام ‪ .‬لظاهر ‪ « :‬إنّما جعل المام ليؤتمّ به فإذا ركع‬
‫فاركعوا » ولنّ متابعة المام آكد ‪ ،‬ولهذا يتبعه المسبوق ويترك القراءة والقيام ‪.‬‬
‫وأمّا الحنابلة فقد ذكروا ذلك فيمن زال عذره بعد أن أدرك ركوع الولى ‪ ،‬وقد رفع إمامه من‬
‫ركوع الثّانية ‪ ،‬فقد جاء في النصاف ‪ :‬أنّه يتابعه في السّجود فتتمّ له ركعة ملفّقة من ركعتي‬
‫إمامه يدرك بها الجمعة على الصّحيح من المذهب ‪.‬‬
‫وتدرك الجمعة عند الشّيخين من الحنفيّة بإدراك المام في التّشهّد أو في سجود السّهو ‪،‬‬
‫وعلى هذا فل يتصوّر التّلفيق عندهما لعدم الحاجة إليه ‪ ،‬وقال محمّد ‪ :‬إنّها تدرك بإدراك‬
‫أكثر الرّكعة الثّانية مع المام ‪.‬‬
‫وذكر صاحب مواهب الجليل من المالكيّة قولين عن ابن القاسم وأشهب فيمن زوحم عن‬
‫السّجدة الخيرة في الجمعة بحيث لم يتمكّن من التيان بها إلّا بعد سلم المام في أنّه يتمّها‬
‫ظهرا أو جمعة ‪ .‬والتّفصيل في مصطلح ( جمعة ) ‪.‬‬
‫التّلفيق في مسافة القصر لمن كان بعض سفره في البحر وبعضه في البرّ ‪:‬‬
‫‪ -‬يرى المالكيّة على القول الّذي ل يفرّق بين السّفر في البحر والسّفر في البرّ في اعتبار‬ ‫‪10‬‬

‫المسافة أنّه إذا سافر وكان بعض سفره في الب ّر وبعضه في البحر فإنّه يلفّق أي ‪ :‬يضمّ‬
‫مسافة أحدهما لمسافة الخر مطلقا من غير تفصيل ‪.‬‬
‫وجاء في الزّرقانيّ أنّه يلفّق بين مسافة الب ّر ومسافة البحر إذا كان السّير في البحر بمجداف‬
‫‪ ،‬أو به وبالرّيح ‪ ،‬فإن كان يسير فيه بالرّيح فقط لم يقصر في مسافة البرّ المتقدّمة وهي‬
‫دون قصر فل تلفيق ‪.‬‬
‫ولم يفرّق الشّافعيّة وكذا الحنابلة ‪ -‬على الصّحيح من المذهب عندهم ‪ -‬في مسافة القصر‬
‫بين البرّ والبحر ‪ ،‬بل لو سار في البحر وقطع تلك المسافة في لحظة فإنّه يقصر ‪.‬‬
‫وعند الحنفيّة ل يعتبر السّير في البرّ بالسّير في البحر ‪ ،‬ول السّير في البحر بالسّير في البرّ‬
‫‪ ،‬وإنّما يعتبر في كلّ موضع منهما ما يليق بحاله ‪ ،‬والمختار للفتوى عندهم أن ينظر كم‬
‫تسير السّفينة في ثلثة أيّام ولياليها ‪ ،‬إذا كانت الرّياح مستوية معتدلة فيجعل ذلك هو المقدّر‬
‫‪ ،‬لنّه أليق بحاله كما في الجبل ‪ .‬والتّفصيل في مصطلح ‪ ( :‬سفر ) ‪.‬‬
‫التّلفيق في صوم الشّهرين في كفّارة الظّهار وما شابهها ‪:‬‬
‫‪ -‬المراد بالتّلفيق في صوم الكفّارة إتمام الشّهر الوّل منهما من الشّهر الثّالث ‪.‬‬ ‫‪11‬‬

‫اتّفق الفقهاء على أنّ المكفّر بالصّوم في كفّارة الظّهار ‪ ،‬أو القتل ‪ ،‬أو الوطء عمدا في نهار‬
‫رمضان إذا ابتدأ صوم الشّهرين باعتبار الهلّة فإنّ ذلك يجزئه حتّى وإن كانا ناقصين ‪.‬‬
‫واتّفقوا أيضا على الجزاء فيما إذا كان أحدهما ناقصا والخر كاملً ‪.‬‬
‫واتّفقوا أيضا على الجزاء فيما لو صام ستّين يوما بغير اعتبار الهلّة ‪.‬‬
‫واتّفقوا أيضا على أنّه لو ابتدأ الصّيام في أثناء شهر ‪ ،‬ثمّ صام الشّهر الّذي يليه باعتبار‬
‫الهلل ‪ ،‬ثمّ أكمل الشّهر الوّل من الشّهر الثّالث تلفيقا وبلغ عدد اليّام ستّين يوما فإنّه‬
‫يجزئه ‪ .‬أمّا لو بلغ عدد اليّام تسعة وخمسين يوما فإنّ ذلك يجزئه عند المالكيّة والحنابلة‬
‫والصّاحبين والشّافعيّة في الصّحيح ‪ ،‬ول يجزئه عند أبي حنيفة وعند الشّافعيّة في وجه شاذّ‬
‫‪ .‬والتّفصيل في مصطلح ( كفّارة ) ‪.‬‬
‫التّلفيق بين شهادتين لثبات الرّدّة ‪:‬‬
‫‪ -‬ذهب المالكيّة إلى جواز التّلفيق بين الشّهادتين في القوال المختلفة في اللّفظ المتّفقة‬ ‫‪12‬‬

‫في المعنى لثبات الرّدّة ‪ ،‬كما لو شهد أحدهما عليه أنّه قال ‪ :‬لم يكلّم اللّه موسى تكليما ‪،‬‬
‫وشهد آخر عليه أنّه قال ‪ :‬ما اتّخذ اللّه إبراهيم خليل ‪ ،‬فإنّ القاضي يجمع بين هاتين‬
‫الشّهادتين لثبات الرّدّة ‪ .‬أمّا إذا كانت إحدى الشّهادتين على قول ‪ ،‬مثل أن يشهد عليه أنّه‬
‫قال ‪ :‬في كلّ جنس نذير ‪ ،‬والخرى على فعل كإلقاء مصحف في قاذورة ‪ ،‬أو كانتا على‬
‫فعلين مختلفين كاللقاء المذكور ‪ ،‬وشدّ الزّنّار فل تلفيق ‪.‬‬
‫هذا وفي قبول الشّهادة لثبات الرّدّة خلف بين الفقهاء في أنّها هل تثبت بها مطلقا أي ‪:‬‬
‫على وجه الطلق أو ل بدّ من التّفصيل ؟ وهل يتعرّض للمشهود عليه إذا أنكر ؟‬
‫وهذا بعد اتّفاقهم جميعا على أنّ الشّهادة بها ل يقبل فيها إل العدول ‪.‬‬
‫فذهب الحنفيّة كما جاء في الدّرّ المختار إلى أنّهم لو شهدوا على مسلم بالرّدّة وهو منكر ل‬
‫ن إنكاره توبة ورجوع يدرأ عنه القتل فقط دون‬
‫يتعرّض له ل لتكذيب الشّهود والعدول بل ل ّ‬
‫غيره من أحكام الرّدّة ‪ ،‬كحبط عمل وبطلن وقف وبينونة زوجة وإل أي ‪ :‬إذا لم ينكر فإنّه‬
‫يقتل كارتداده بنفسه ‪.‬‬
‫ن الشّهادة بها ل تقبل بإطلق ‪ ،‬بل ل بدّ‬
‫وذهب المالكيّة والشّافعيّة على أحد القولين إلى أ ّ‬
‫من التّفصيل لختلف أهل السّنّة في أسباب الكفر فربّما وجب عند بعض دون آخرين ‪.‬‬
‫ن الشّهادة بها تقبل بإطلق‬
‫والقول المعتمد عند الشّافعيّة ‪ ،‬وهو أيضا مذهب الحنابلة هو أ ّ‬
‫من غير تفصيل ‪ ،‬حتّى إذا أنكر المشهود عليه ل ينفعه إنكاره بل ل ب ّد له من التّوبة وإل‬
‫قتل ‪ ،‬لنّها لخطرها ل يقدّم العدل على الشّهادة بها إل بعد تحقّقها بأن يذكر موجبها وإن لم‬
‫يقل عالما مختارا لختلف المذاهب في الكفر وخطر أمر الرّدّة ‪.‬‬
‫والتّفصيل في مصطلح ( ردّة ) ‪.‬‬
‫التّلفيق بين المذاهب ‪:‬‬
‫‪ -‬المراد بالتّلفيق بين المذاهب أخذ صحّة الفعل من مذهبين معا بعد الحكم ببطلنه على‬ ‫‪13‬‬

‫كلّ واحد منهما بمفرده ‪ ،‬ومثاله ‪ :‬متوضّئ لمس امرأة أجنبيّة بل حائل وخرج منه نجاسة‬
‫كدم من غير السّبيلين ‪ ،‬فإنّ هذا الوضوء باطل باللّمس عند الشّافعيّة ‪ ،‬وباطل بخروج الدّم‬
‫من غير السّبيلين عند الحنفيّة ‪ ،‬ول ينتقض بخروج تلك النّجاسة من غير السّبيلين عند‬
‫ن صحّة‬
‫الشّافعيّة ‪ ،‬ول ينتقض أيضا باللّمس عند الحنفيّة ‪ ،‬فإذا صلّى بهذا الوضوء ‪ ،‬فإ ّ‬
‫ن الحكم الملفّق باطل بالجماع‬
‫صلته ملفّقة من المذهبين معا ‪ ،‬وقد جاء في الدّرّ المختار ‪ :‬أ ّ‬
‫‪ ،‬وأنّ الرّجوع عن التّقليد بعد العمل باطل اتّفاقا ‪ ،‬وهو المختار في المذهب لنّ التّقليد مع‬
‫ن جوازه مشروط بعدم التّلفيق كما ذكر ابن عابدين في حاشيته ‪.‬‬
‫كونه جائزا فإ ّ‬
‫وفي تتبّع الرّخص ‪ ،‬وفي متتبّعها في المذاهب خلف بين الصوليّين والفقهاء ‪:‬‬
‫ن التّتبّع يحلّ رباط التّكليف ‪ ،‬لنّه إنّما تبع‬
‫ح كما في جمع الجوامع امتناع تتبّعها ل ّ‬
‫والص ّ‬
‫حينئذ ما تشتهيه نفسه ‪.‬‬
‫بل ذهب بعضهم إلى أنّه فسق ‪ ،‬والوجه كما في نهاية المحتاج خلفه ‪ ،‬وقيل ‪ :‬محلّ‬
‫الخلف في حالة تتبّعها من المذاهب المدوّنة وإل فسّق قطعا ‪ ،‬ول ينافي ذلك قول ابن‬
‫الحاجب كالمديّ ‪ :‬من عمل في مسألة بقول إمام ل يجوز له العمل فيها بقول غيره اتّفاقا ‪،‬‬
‫لتعيّن حمله على ما إذا بقي من آثار العمل الوّل ما يلزم عليه مع الثّاني تركّب حقيقة ل‬
‫ي في مسح بعض الرّأس ‪ ،‬ومالك في طهارة الكلب‬
‫يقول بها كلّ من المامين ‪ ،‬كتقليد الشّافع ّ‬
‫في صلة واحدة ‪.‬‬
‫وتتبّعها عند من أجازه مشروط بعدم العمل بقول آخر مخالف لذلك الخفّ ‪.‬‬
‫وينظر التّفصيل في الملحق الصوليّ ‪.‬‬
‫هذا والتّلفيق المقصود هنا هو ما كان في المسألة الواحدة بالخذ بأقوال عدد من الئمّة فيها‬
‫أمّا الخذ بأقوال الئمّة في مسائل متعدّدة فليس تلفيقا وإنّما هو تنقّل بين المذاهب أو تخيّر‬
‫منها ‪ ،‬وينظر التّفصيل في مصطلح ( تقليد ) ‪.‬‬

‫تلقين *‬
‫التّعريف ‪:‬‬
‫‪ -‬التّلقين ‪ :‬مصدر لقّن ‪ ،‬يقال لقّن الكلم ‪ :‬فهمه ‪ ،‬وتلقّنه ‪ :‬أخذه وتمكّن منه ‪ ،‬وقيل ‪:‬‬ ‫‪1‬‬

‫معناه أيضا فهمه ‪ .‬وهذا يصدق على الخذ مشافهة ‪ ،‬وعلى الخذ من الكتب ويقال ‪ :‬لقّنه‬
‫الكلم ‪ :‬ألقاه إليه ليعيده ‪ .‬ول يخرج استعمال الفقهاء له عن هذه المعاني اللّغويّة ‪.‬‬
‫اللفاظ ذات الصّلة ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬التّعريض ‪:‬‬
‫‪ -‬التّعريض في الكلم ‪ :‬ما يفهم به السّامع مراده من غير تصريح ‪ ،‬في حين يكون‬ ‫‪2‬‬

‫التّلقين صريحا غالبا ‪.‬‬


‫ب ‪ -‬التّعليم ‪:‬‬
‫‪ -‬التّعليم ‪ :‬مصدر علّم ‪ ،‬يقال ‪ :‬علّمه العلم والصّنعة وغير ذلك ‪ :‬جعله يعلمها والفرق بين‬ ‫‪3‬‬

‫التّعليم والتّلقين ‪ :‬أنّ التّلقين يكون في الكلم فقط ‪ ،‬والتّعليم يكون في الكلم وغيره ‪ ،‬فهو‬
‫أعمّ من التّلقين ‪.‬‬
‫الحكم الجماليّ ‪:‬‬
‫تكلّم الفقهاء عن التّلقين في عدّة مواطن منها ‪:‬‬
‫تلقين المحتضر ‪:‬‬
‫‪ -‬إذا احتضر النسان وأصبح في حالة النّزع قبل الغرغرة ‪ .‬فالسّنّة أن يلقّن الشّهادة‬ ‫‪4‬‬

‫بحيث يسمعها لقوله صلى ال عليه وسلم ‪ « :‬لقّنوا موتاكم ل إله إل اللّه » وقوله صلى ال‬
‫عليه وسلم ‪ « :‬من كان آخر كلمه ل إله إل اللّه دخل الجنّة » ‪.‬‬
‫ول يلحّ عليه في قولها مخافة أن يضجر ‪ ،‬فإذا قالها المحتضر مرّة ل يعيدها الملقّن ‪ ،‬إل أن‬
‫يتكلّم المحتضر بكلم غيرها ‪ ،‬وهذا باتّفاق الفقهاء ‪.‬‬
‫وفي المجموع نقل عن المحامليّ وغيره ‪ :‬يكرّرها عليه ثلثا ‪ ،‬ول يزاد على ثلث ‪.‬‬
‫ول يسنّ زيادة " محمّد رسول اللّه " عند الجمهور لظاهر الخبار ‪.‬‬
‫وذهب جماعة من الفقهاء إلى أنّه يلقّن الشّهادتين بأن يقول الملقّن ‪ :‬أشهد أن ل إله إل اللّه‬
‫ن المقصود تذكّر التّوحيد ‪ ،‬وذلك ل يحصل إل‬
‫ن محمّدا رسول اللّه " ودليلهم ‪ :‬أ ّ‬
‫وأشهد أ ّ‬
‫بالشّهادتين ‪.‬‬
‫ويسنّ أن يكون الملقّن غير متّهم بعداوة أو حسد أو نحو ذلك ‪ ،‬وأن يكون من غير الورثة ‪،‬‬
‫فإن لم يحضر غيرهم ‪ ،‬لقّنه أشفق الورثة ‪ ،‬ثمّ غيره ‪.‬‬
‫التّلقين بعد الموت ‪:‬‬
‫‪ -‬اختلفوا في تلقين الميّت بعد الموت ‪ ،‬فذهب المالكيّة وبعض أصحاب الشّافعيّ والزّيلعيّ‬ ‫‪5‬‬

‫ن هذا التّلقين ل بأس به ‪ ،‬فرخّصوا فيه ‪ ،‬ولم يأمروا به ‪ ،‬لظاهر قوله‬


‫من الحنفيّة إلى أ ّ‬
‫عليه الصلة والسلم ‪ « :‬لقّنوا موتاكم ل إله إل اللّه » وقد نقل عن طائفة من الصّحابة ‪،‬‬
‫ي وغيره ‪ ،‬وصفته أن يقول يا فلن بن فلن ‪ :‬اذكر دينك‬
‫أنّهم أمروا به كأبي أمامة الباهل ّ‬
‫الّذي كنت عليه وقد رضيت باللّه ربّا ‪ ،‬وبالسلم دينا ‪ ،‬وبمحمّد عليه الصلة والسلم نبيّا ‪.‬‬
‫وقالت طائفة من الفقهاء ل يلقّن ‪ ،‬إذ المراد بموتاكم في الحديث من قرب من الموت ‪ ،‬وفي‬
‫المغني مع الشّرح الكبير ‪ :‬أمّا التّلقين بعد الدّفن فلم أجد فيه عن أحمد شيئا ‪ ،‬ول أعلم فيه‬
‫للئمّة قول سوى ما رواه الثرم ‪ ،‬فقال ‪ :‬ما رأيت أحدا فعل هذا إلّا أهل الشّام حين مات أبو‬
‫المغيرة ‪ ،‬جاء إنسان فقال ذلك ‪.‬‬
‫وفي كلّ ذلك تفصيل ‪ ،‬ينظر في ( موت ‪ ،‬جنازة ‪ ،‬احتضار ) ‪.‬‬
‫تلقين المقرّ في الحدود ‪:‬‬
‫‪ -‬يرى جمهور الفقهاء ‪ -‬الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة ‪ -‬أنّه يسنّ للمام أو لمن ينوب‬ ‫‪6‬‬

‫عنه أن يلقّن المقرّ الرّجوع عن القرار في الحدود درءا للحدّ ‪ ،‬لما روي « أنّ ماعزا لمّا‬
‫أق ّر بين يدي رسول اللّه صلى ال عليه وسلم بالزّنى لقّنه الرّجوع ‪ ،‬فقال عليه الصلة‬
‫والسلم ‪ :‬لعلّك قبّلت ‪ ،‬أو غمزت ‪ ،‬أو نظرت » ‪ « ،‬وقال لرجل سرق ‪ :‬أسرقت ؟ ما إخالك‬
‫سرقت ؟ } ‪ .‬واختار بعض المالكيّة الخذ بالستفسار تعلّقا بما في بعض طرق الحديث الوارد‬
‫في الزّنى ‪ .‬وللفقهاء تفصيل ينظر في ‪ ( :‬إقرار ‪ .‬حدّ ) ‪.‬‬
‫تلقين الخصم والشّاهد ‪:‬‬
‫‪ -‬ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّه ل يجوز للقاضي أن يلقّن أحد الخصمين حجّته ‪ ،‬لنّه بذلك‬ ‫‪7‬‬

‫يكسر قلب الخصم الخر ‪ ،‬ولنّ فيه إعانة أحد الخصمين فيوجب التّهمة ‪ ،‬غير أنّه إن تكلّم‬
‫أحدهما أسكت الخر ليفهم كلمه ‪.‬‬
‫‪ -‬وأمّا بالنّسبة للشّاهد فقد ذهب جمهور الفقهاء إلى عدم جواز تلقينه في الجملة ‪ ،‬بل‬ ‫‪8‬‬

‫يتركه يشهد بما عنده ‪ ،‬فإن أوجب الشّرع قبوله قبله ‪ ،‬وإل ردّه ‪ ،‬وقال أبو يوسف ‪ :‬ل بأس‬
‫بتلقين الشّاهد بأن يقول ‪ :‬أتشهد بكذا وكذا ؟ ‪.‬‬
‫وجه قوله ‪ :‬أنّ من الجائز أنّ الشّاهد يلحقه الحصر لمهابة مجلس القضاء فيعجز عن إقامة‬
‫الحجّة ‪ ،‬فكان التّلقين تقويما لحجّة ثابتة فل بأس به ‪.‬‬
‫مواطن البحث ‪:‬‬
‫‪ -‬يتكلّم الفقهاء عن التّلقين في مواطن متعدّدة كالجنازة ‪ ،‬والقضاء ‪ ،‬والشّهادة ‪،‬والقرار‪.‬‬ ‫‪9‬‬

‫وانظر التّفصيل في تلك المصطلحات ‪.‬‬

‫تلوّم *‬
‫التّعريف ‪:‬‬
‫‪ -‬التّلوّم في اللّغة ‪ :‬بمعنى النتظار والتّمكّث ‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫ي ‪ :‬وكانت العرب تلوم بإسلمهم الفتح " أي ‪ :‬تنتظر ‪.‬‬


‫وفي حديث عمرو بن سلمة الجرم ّ‬
‫ول يخرج استعمال الفقهاء لكلمة التّلوّم عن هذا المعنى ‪.‬‬
‫الحكم الجماليّ ومواطن البحث ‪:‬‬
‫‪ -‬ذهب الحنفيّة في المختار عندهم ‪ :‬إلى أنّ المفتي يفتي يوم الشّكّ ‪ -‬الخواصّ بالصّيام‬ ‫‪2‬‬

‫تطوّعا ‪ ،‬والعوامّ بالتّلوّم إلى ما قبل الزّوال ‪ ،‬لحتمال ثبوت الشّهر ‪ ،‬وبعد ذلك ل صوم ‪.‬‬
‫وفي أكل المتلوّم ناسيا قبل النّيّة تفصيل يرجع فيه إلى موطنه ‪ .‬ول يتأتّى ذلك عند جمهور‬
‫الفقهاء ‪ ،‬لنّهم يرون وجوب تبييت النّيّة في صيام رمضان كما فصّلوه في موطنه ‪.‬‬
‫كذلك تعرّض جمهور الفقهاء إلى الكلم على التّلوّم في النّفقات عند الكلم عن عجز الزّوج‬
‫عن أداء النّفقة لزوجته ‪ ،‬فذهب المالكيّة وهو الظهر عند الشّافعيّة إلى جواز التّلوّم‬
‫والمهال ‪ ،‬وفي كيفيّته ومدّته خلف وتفصيل يرجع فيه إلى مصطلح ( نفقة ) ‪.‬‬
‫ويرى الحنابلة وهو أحد قولي الشّافعيّ عدم لزوم تأخير فسخ النّكاح في حالة ثبوت العسار‬
‫وأمّا الحنفيّة فل يتأتّى ذلك عندهم ‪ ،‬لنّهم ل يرون فسخ النّكاح بالعجز عن النّفقة ‪.‬‬

‫نهاية الجزء الثالث عشر ‪ /‬الموسوعة الفقهية‬

You might also like