Professional Documents
Culture Documents
تهدف الدراسة إلى بيان أثر الغرر في المعامالت المالية المعاصرة على االستقرار
االقتصادي ،وتحدثت فيها عن التأمين التجاري ،وعقود الخيارات المالية ،والتسويق الشبكي،
والمسابقات التجارية ،وكلها تحتوي على الغرر الكثير المؤثر في هذه العقود ،والذي يؤثر
تأثي اًر سلبياً على االستقرار االقتصادي ،ومن أهم اآلثار السلبية في ذلك تفشي البطالة،
والغش والتحايل التجاري ،وخسارة أكثر من يشاركون في هذه المعامالت ،ويجب على األفراد
والمؤسسات والدول مكافحتها واالستعانة بالمتخصصين للبحث عن بدائلها الشرعية حتى
تتخلص من اآلثار السلبية على االقتصاد بشكل عام.
الكلمات المفتاحية :الغرر ـ المعامالت المالية المعاصرة ـ االستقرار االقتصادي
Abstract
The study aims at explaining the effect of deceiving of contemporary
financial transactions on economic stability.
I discussed the commercial insurance, contracts of financial options,
network marketing, and commercial competitions.
All these transactions contain the deceiving actions in these contracts,
which negatively affects economic stability
The most significant negative effects are the widespread of unemployment,
trade fraud, and the loss of the most participants who participate in these
affairs.
Individuals, institutions and countries must fight them and use
specialists to search for their legitimate alternatives so as to eliminate the
negative effects on the economy in general.
Keywords: Deceiving, Contemporary financial Transactions, Economic
Stability.
1ـ في حدود علم الباحث لم يتطرق أحد لجمع المعامالت المالية المعاصرة ذات الغرر
الكثير الذي له آثار سلبية على االستقرار االقتصادي.
2ـ إضافة هذه الدراسة إلى دراسات االقتصاد اإلسالمي والمعامالت المالية المعاصرة.
فرضيات البحث :تفترض الدراسة اآلتي:
1ـ البطالة من أهم آثار الغرر في المعامالت المالية المعاصرة.
2ـ الخسارة االقتصادية لبعض أطراف عقود المعامالت المالية من سمات هذه العقود.
3ـ النمو الكبير لثروات المنظمين للمعامالت المالية المعاصرة المحتوية على الغرر الكثير،
وذلك على حساب غيرهم ممن يتعاملون معهم ،وذلك لوجود الجهالة والقمار والميسر في هذه
المعامالت.
4ـ التأمين التجاري وعقود الخيارات والتسويق الشبكي كلها تحتوي على الغرر الكثير المؤثر
فيها ،والتعامل بها له تأثير سلبي على االستقرار االقتصادي.
منهجية البحث 1 :ـ اعتمدت في بحثي هذا على المنهج االستقرائي واالستنباطي ،حيث قمت
باستقراء المعامالت المالية المعاصرة ،والبحث عما تحتوي منها على الغرر الكثير المؤثر
من عدمه ،ومن ثم استنباط ما يمكن استنباطه من اآلثار السلبية للغر على االستقرار
االقتصادي مستعينا بذلك بالمراجع العلمية التي لها عالقة بهذه الموضوعات.
2ـ اكتفيت في البحث بذكر التعريفات الالزمة للمعامالت المالية المعاصرة التي ذكرتها في
البحث ،ومن ثم توضيح الغرر فيها ،وأخي اًر ذكر اآلثار االقتصادية التي يمكن أن يسببها
الغرر في هذه المعامالت ،ولكل معاملة على حدة.
3ـ لم أتطرق لذكر البدائل الشرعية واالقتصادية للمعامالت التي تحتوي على الغرر المؤثر
إال ما ندر ،ألنها تحتاج إلى بحث مستقل وقد ذكر بعض الباحثين بعض البدائل لذلك كما
فعل ذلك الباحث تريحان ترميجان في بحثه الغرر وتطبيقاته في المعامالت المالية
المعاصرة.
الدراسات السابقة :هناك العديد من الدراسات التي تكلمت عن المعامالت المالية المعاصرة
وبينت أحكامها الشرعية وآراء العلماء والمجامع الفقهية وكتبت في ذلك بحوثاً كثيرة منها
المتوسعة ومنها المختصرة ومن هذه المؤلفات على سبيل المثال ال الحصر:
1ـ موسوعة القضايا الفقهية المعاصرة ،تأليف /أ.د .علي بن أحمد السالوس.
2ـ المعامالت المالية المعاصرة تأليف /أ.د .وهبة الزحيلي.
76 ديسمبر2017
أثر الغرر في عقود المعامالت المعاصرة... د.هاني بن عبد هللا العزي
3ـ المعامالت المالية المعاصرة في الفقه اإلسالمي تأليف /د .محمد عثمان شبير ،وغيرهم
ممن كتب في المعامالت المالية المعاصرة ،وكلها تناولت أحكامها الشرعية ولم تتطرق إلى
آثارها االقتصادية إال ما ندر.
وهناك العديد من الدراسات التي تحدثت عن الغرر في المعامالت المالية المعاصرة منها:
1ـ الغرر وتطبيقاته في المعامالت المالية المعاصرة ،تأليف /تريحان ترميجان ،رسالة
ماجستير ـ جامعة سو ار كرتا المحمدية ـ 2015 / 1437م ،ذكر فيها المعامالت المالية
المعاصرة وتطبيق الغرر فيها ولم يتطرق إلى ذكر أي آثار اقتصادية لذلك.
2ـ أثر الغرر في المعامالت المالية المعاصرة ،تأليف /مالك يوسف القضاة ،وقد ذكر فيها
مجموعة من المعامالت وخاصة التي تتعامل بها المصارف اإلسالمية مثل المرابحة لآلمر
بالشراء والمضاربة والمشاركة واإلجارة المنتهية بالتمليك وخلص إلى أنها تحتوي على الغرر
القليل الذي ال يؤثر في العقود ،علما أنني لم أذكر شيئا من هذه المعامالت التي ذكرت في
هذه الرسالة عدا التأمين.
3ـ أثر عقود الغرر في تدهور االقتصاد ،تأليف /نياز نوري أحمد عبدهللا ،وهي رسالة
ماجستير قدمها الباحث في جامعة بغداد ،وليست مطبوعة أو موجودة على الشبكة
العنكبوتية وإنما الموجود منها مقدمة الباحث وخطة البحث والنتائج والتوصيات التي توصل
إليها الباحث ،وحسب ما ذكره الباحث في خطة البحث فلم يتطرق للمعامالت المالية
المعاصرة وإنما اقتصر على المسائل الفقهية المبثوثة في كتب الفقه والمحتوية على الغرر،
وتحدث عن نوعين من العقود وهي عقود المعاوضات المالية وتحديدا البيع والشراء ،والعقود
المالية التي تحمل معنى المعاوضة مثل عقود الشركات والرهون والوكاالت والضمانات ،ثم
بين آثار هذه العقود على تدهور االقتصاد.
خطة البحث :ويحتوي البحث على مقدمة وتمهيد وأربعة مباحث وخاتمة:
المقدمة وتحتوي على مشكلة البحث وأهميته وأهدافه وفرضيات البحث ومنهجية البحث
والدراسات السابقة.
التمهيد ويحتوي على التعريف اللغوي واالصطالحي لمفردات عنوان البحث.
المبحث األول :الغرر في التأمين التجاري وأثره على االستقرار االقتصادي.
المبحث الثاني :الغرر في عقود الخيارات وأثره على االستقرار االقتصادي.
المبحث الثالث :الغرر في المسابقات التجارية وأثره على االستقرار االقتصادي.
باألمور غافل عنها( ،)3والغرور :مكاسر الجلد ،والواحدة غر بالفتح ،فيقال :طويت الثوب
()4
. على غرة ،أي على كسرة
2ـ الغرر اصطالحاً :اختلفت عبارات الفقهاء في تعريف الغرر ،فعرفه الكاساني من الحنفية
بقوله( :الغرر هو الخطر الذي استوى فيه طرف الوجود والعدم بمنزلة الشك) ( ،) 5وعند
الشافعية( :الغرر هو ما انطوت عنا عاقبته ،أو ما تردد بين أمرين أغلبهما أخوفهما ،ومنه
المجهول والمبهم ومالم ُي َر قبل العقد)(.)6
ويقول ابن رشد من المالكية( :الغرر ينفي عن الشك أن يكون معلوم الوجود ،معلوم القدر،
مقدو ار على تسليمه)( ،)7وعرفه العنقري من الحنابلة بأنه( :ما انطوت عنا عاقبته ،أو ما تردد
بين أمرين أغلبهما أجرمهما)( ،)8وعرفه ابن القيم بأنه( :ماال يقدر على تسليمه ،سواء كان
موجوداً أو معدوماً)(.)9
وإن اختلفت ألفاظ الفقهاء في تعريف الغرر إال أنها متقاربة المعنى ،حيث تبين أن الغرر
عقد يشتمل على الخطر ،وتعريف ابن رشد من أوضح التعريفات في الغرر حيث شمل
تعريفه الجهل بالمعقود عليه ،وبصفته ومقداره ،وعدم القدرة على تسليمه ،وهذا يشمل جميع
فروع الغرر .وهللا أعلم
ثانياً :تعريف العقد :وهو لغة الشد ،والضمان ،والعهد ،والتوثيق ،والوالية ،والعزم.
الشد يقال :عقد الحبل والبيع والعهد بعقدة :شده وعنقه إليه ،والعقد: () 10
يقول الجوهري:
الضمان والعهد ،والجمل الموثق الظهر ،والعقدة قالدة ،والعقد الخيط ينظم فيه الخرز،
وجمعه عقود ،وقد اعتقد الدر والخرز وغيره إذا اتخذ منه عقداً.
وما حسينة إذ قامت تودعنا ....للبين واعتقدت شذ ار وحرمان.
وأما العقد اصطالحاً :فله معنيان عند الفقهاء :أحدهما عام واآلخر خاص .أما المعنى العام:
هو كل التزام تعهد به اإلنسان على نفسه سواء كان يقابله التزام آخر أم ال ،وسواء كان
()11
التزاماً دينياً كالنذر أو دنيوياً كالبيع ونحوه.
أما المعنى الخاص فقد اختلفت عبارات الفقهاء في تعريفه:
78 ديسمبر2017
أثر الغرر في عقود المعامالت المعاصرة... د.هاني بن عبد هللا العزي
فعند الشافعية :وهو ربط أجزاء التصرف ،أي اإليجاب والقبول شرعاً( ).
12
وعند الحنابلة :كل اتفاق بين إرادتين أو أكثر على إنشاء التزام أو نقله ،فهو ال يتفق إال من
طرفين أو أكثر( ) ،ولكن كل عباراتهم تدور حول التحقق من وجود إرادتي العاقدين وتوافقهما
13
واإليجاب والقبول.
ثالثاً :تعريف المعامالت المعاصرة :ولتعريف المصطلح فالبد أوال من تعريف المعامالت ،ثم
المعاصرة ليتم تعريف المصطلح كامالً.
1ـ تعريف المعامالت لغة :هي جمع معاملة ،وهي مأخوذة من عاملت الرجل أعامله،
الع َملة :القوم يعملون
والمعاملة في كالم أهل العراق هي المساقاة في كالم الحجازيين ،و َ
بأيديهم ضروريا من العمل(.)14
2ـ المعاملة في االصطالح :تطلق على األحكام الشرعية التي تنظم تعامل الناس سواء في
المال أو النساء ،وخصها بعض العلماء بتنظيم األمور المالية وهو األقرب ،وعرفها محمد
عثمان شبير على أنها( :األحكام الشرعية المنظمة لتعامل الناس في األموال)(.)15
3ـ المعاصرة :هي في اللغة مأخوذة من العصر وهو الزمن الذي ينسب لشخص كعصر
النبي أو لدولة كالدولة األموية أو إلى وقت كالعصر الحديث(.)16
والمقصود به هنا هو العصر الحاضر أو الوقت الحاضر حيث اشتهرت فيه كثير من
المعامالت الحديثة.
4ـ تعريف المعامالت المعاصرة( :وهي القضايا المالية المستحدثة في عصرنا الحاضر
والتي تحتاج إلى اجتهاد فردي أو جماعي إلصدار أحكام شرعية مناسبة لها).
رابعاً :مفهوم االستقرار االقتصادي :االستقرار في اللغة معناه التمكن ( ،) 17قال تعالى:
ع) األنعام ،98وحالة عدم االستقرار هي الفوضى والبلبلة والصخب ( َف ُم ْس َتَقر َو ُم ْس َت ْوَد ٌ
والجلبة ( ،) 18واالستقرار الثبات ،ومنه االستقرار في المكان :الثبات فيه ،واستقرار المهر:
ثبوته(.)19
واالستقرار االقتصادي معناه بقاء الوضع االقتصادي في وضع ثابت ومتوازن بين الدخل
واإلنتاج ليحافظ على المستوى العام لألسعار ،ويبقي على قيمة النقود مستقرة وثابتة ،ولذلك
عرف االستقرار االقتصادي بأنه( :تحقيق التشغيل الكامل للموارد االقتصادية المتاحة ُي َ
وتفادي التغيرات الكبيرة في المستوى العام لألسعار مع االحتفاظ بمعدل نمو حقيقي مناسب
في الناتج القومي)(.)20
وألن المعامالت المالية المعاصرة لها دور كبير في تحقيق النمو االقتصادي ،وفي إيجاد
البيئة االقتصادية المستقرة ،كان البد من دراستها والبحث عن المشكالت التي تجعلها تحيد
عن هدفها ومسارها وعدم تحقيقها لالستقرار االقتصادي الكامل ،ومن أهم هذه المشكالت
مشكلة الغرر ،وقد تناول علماء الشريعة اإلسالمية هذه المشكلة بالبيان والتوضيح ألنواعه
وأحكامه وبينوا آثاره السلبية على المعامالت المالية.
وكما أن للغرر عالقة بالفقه واالقتصاد اإلسالمي ،فله أيضاً عالقة باالقتصاد بشكل عام،
بل نجده في األنظمة االقتصادية األخرى بشكل أوسع وبصورة أعقد ،كما في بعض العقود
المالية في األسواق المالية (البورصات) ،وشركات التأمين ،وبعض معامالت المصارف أو
المؤسسات التجارية.
خامساً :حكم بيع الغرر :والغرر منه الكثير ومنه اليسير ،أما اليسير فمعفو عنه في الشريعة
اإلسالمية ،وأما الكثير فقد ثبتت حرمته بالكتاب والسنة واإلجماع.
أما من الكتاب فقد قال تعالى( :والَ َتأ ُْكُلوْا أَمواَل ُكم بيَن ُكم ِباْلب ِ
اط ِل َوُت ْدُلوْا ِب َها ِإَلى اْل ُح َّكا ِم َ َْ َْ َ
َنت ْم َت ْعَل ُمو َ ) البقرة ،188وبيع الغرر فيه أخذ مال ن اس ِباإل ْثمِ َوأ ُ
ِ الن ِ لِ َتأ ُْكُلوْا َف ِريقاً ِم ْن أَم َو ِ
ال َّ ْ
الغير ظلماً ،وأخذ المال ظلماً من أكله بالباطل وقد نهى هللا عنه.
أما من السنة حديث أبي هريرة رضي هللا عنه قال( :نهى رسول هللا صلى هللا عليه وسلم
عن بيع الغرر)( ،)21وأما اإلجماع فقد أجمعت األمة على حرمة بيع الغرر.
وهذا الحكم في بيع الغرر حكماً مجمالً وهو ينطبق على الغرر الكثير الذي يؤثر في العقد،
وفي مسائله الفرعية يوجد خالفاً كبي اًر بين الفقهاء مكانها كتب الفقه.
والعلة من تحريم الغرر أنه أكل ألموال الناس بالباطل ،وما يؤدي إليه من النزاع وعدم القدرة
على التسليم(.)22
أما الغرر اليسير فإن العلماء متفقون على جوازه إذا وقع ،وذلك ألنه معفو عنه ،قال القرافي
في حكم أنواع الغرر( :وقليله جائز إجماعاً ،كأساس الدار ،وقطن الجبة)( ،)23وقال اإلمام
النووي( :فأما ما تدعو إليه الحاجة ،وال يمكن االحتراز عنه ،كأساس الدار ،وشراء الحامل
مع احتمال أن الحمل واحد أو أكثر ،وذكر أو أنثى وكامل األعضاء أو ناقصها ،وكشراء
الشاة في ضرعها لبن ونحو ذلك ،فهذا يصح بيعه باإلجماع) ،ثم قال( :وقد نقل العلماء
أيضا أشياء غررها حقير ،منها أن األمة أجمعت على صحة بيع الجبة المحشوة وإن لم ير
حشوها ،ولو باع حشوها منفردا لم يصح)(.)24
80 ديسمبر2017
أثر الغرر في عقود المعامالت المعاصرة... د.هاني بن عبد هللا العزي
المبحث األول :الغرر في التأمين التجاري وأثره على االستقرار االقتصادي ويحتوي على
ثالثة مطالب:
المطلب األول :تعريف التأمين لغة واصطالحاً:
أوالً :تعريف التأمين لغ ًة واصطالحاً :أما لغة فهو مشتق من األمن ،وهو طمأنينة النفس
وزوال الخوف( ،)25ويقال :أمن فالناً على كذا وثق فيه واطمأن عليه ،وأمنه على الشيء
تأميناً جعله في ضمانه(.)26
ثانياً :تعريف التأمين اصطالح ًا :التأمين إما نظاماً أو عقداً ،وهما يختلفان عن بعضهما،
فالتأمين كنظام يقصد به( :تعاون منظم تنظيماً دقيقاً بين عدد كبير من الناس معرضين
لخطر واحد ،حتى إذا تحقق الخطر بالنسبة إلى بعضهم تعاون الجميع في مواجهته،
بتضحية قليلة يبذلها كل منهم ،يتالفون بها أض ار اًر جسيمة تحيق بمن نزل الخطر به
الت ْق َوى
بر َو َّ
(وَت َع َاوُنوْا َعَلى اْل ِ
منهم) ،وهذا من التعاون الذي أمر هللا به الناس حيث قالَ :
()27
عقد متضمن للمعاوضة المالية ،حيث يدفع المستأمن أقساط التأمين ويدفع المؤمن مبلغ
التأمين عند حصول الخطر للمستأمن ،فهو عقد معاوضة مالية ،وهو عقد احتمالي ألن كل
ما يدفعه المؤمن والمستأمن مجهوال بالنسبة لهما ،فقد يدفع المستأمن قسط أو قسطين
ويحصل على مبلغ التأمين كامالً ،وقد يدفع جميع األقساط وال يحصل على شيء ،كذلك
فهو عقد إذعان حيث يخضع المستأمن لجميع الشروط التي يفرضها المؤمن مطبوعة ،وتكاد
()29
تكون هذه الشروط متساوية في جميع شركات التأمين التجاري.
المطلب الثاني :الغرر في عقد التأمين التجاري :المتأمل في واقع الحياة يجد اإلنسان
محاطاً بالمخاطر التي ال حصر لها ،والتي تؤثر عليه مادياً ومعنوياً ،بل قد تؤثر على
المجتمع ككل ،وهذه المخاطر قد تؤدي إلى خسارة الثروات واألموال ،وهذا يؤدي إلى إحجام
األفراد والمجتمع عن االستثمار وإنعاش االقتصاد ،مما يؤدي إلى الركود االقتصادي،
وضعف اإلنتاج ،وألن اإلنسان يريد تحقيق المكاسب فيبحث عما يحافظ على ثروته ومكاسبه
واستثماراته ،فيلجأ إلى شراء األمن من شركات التأمين ،وهي مصلحة عظيمة في ظاهرها،
ولكنها في حقيقتها مفسدة شرعية ظاهرة الحتوائها على المحاذير الشرعية من الغرر والربا
وأكل أموال الناس بالباطل ،وهذه إذا اجتمعت في عقد من عقود المعامالت المالية جعلته
ممنوعاً شرعاً ،ولست بصدد ذكر األدلة على حرمتها ،وتوضيح هذه األدلة ،فقد بينها العلماء
المعاصرون ،وبينتها المجامع الفقهية ،وغيرها ،وما سأذكره هنا هو الغرر الكثير الفاحش
الموجود في عقد التأمين التجاري وأثره على االقتصاد وهو كالتالي:
1ـ الغرر يوجد في عقد التأمين التجاري ويؤثر عليه تأثي ار كبي اًر ،وقد نهى النبي صلى هللا
عليه وسلم عن بيع الغرر ففي حديث أبي هريرة رضي هللا عنه قال( :نهى رسول هللا صلى
هللا عليه وسلم عن بيع الحصاة وبيع الغرر)( ،)30وعن ابن عمر رضي هللا عنهما( :أن
النبي صلى هللا عليه وسلم نهى عن بيع الغرر)( ،)31وال يكون الغرر محرماً ومنهي عنه
إلى إذا كان في عقود المعاوضات المالية ،والتأمين عقد معاوضة يشتمل على الغرر الكثير
الفاحش ،إذ يشترط في عقد المعاوضة المالية العلم التام بمقدار ما يحصل عليه كمتعاقد،
مع أن عقد التأمين عقد احتمالي ،ألن كال من العاقدين ال يعرف عند إبرام العقد مجموع ما
سيأخذ من المال ،وال مقدار ما سيدفع ،ألن ذلك متوقف على وقوع الخطر أو عدم وقوعه،
وبذلك يكون الغرر واضحاً في عقد التأمين التجاري ،كما أن التأمين التجاري يتضمن الغرر
في األجل كما في التأمين العمري حيث تلتزم شركة التأمين بدفع مبلغ التأمين عند وفاة
82 ديسمبر2017
أثر الغرر في عقود المعامالت المعاصرة... د.هاني بن عبد هللا العزي
المستأمن وهو أجل مجهول( ،)32ولذا فإن عقد التأمين يحتوي على الغرر الكثير المؤثر في
العقد.
2ـ عقد التأمين التجاري يتضمن القمار والميسر :والقمار والميسر هي من الغرر ،والميسر
هو قمار الجاهلية باألزالم ،فقد قال ابن عباس( :كان الرجل في الجاهلية يخاطر الرجل،
على أهله وماله ،فأيهما قمر صاحبه ذهب بماله وأهله)(.)33
والقمار والمراهنة في القانون( :عقد بين شخصين أو أكثر اختلفوا على أمر بمقتضاه يتفقون
على أن من يظهر صواب رأيه منهم يتسلم من اآلخر مبلغ ًا من المال أو أي شيء
ِ
آمُنوْا ِإَّن َما اْل َخ ْمُر (يا أَُّي َها َّالذ َ
ين َ آخر) ،واإلسالم حرم الميسر كما في قوله تعالىَ :
() 34
من البيع ،ق ال ابن القيم( :فإن المنهي عنه قد اشتغلت فيه الذمتان بغير فائدة ،فإنه لم يتعجل
أحدهما ما يأخذه فينتفع بتعجيله ،وينتفع صاحب المؤخر بربحه ،بل كالهما اشتغلت ذمته
بال فائدة)(.)40
ولو تأملنا كثي اًر في عقد التأمين لوجدناه كذلك ،فهو يتضمن بيع الدين بالدين ،فالمستأمن
يدفع أقساطاً هي دين في ذمته ،وشركة التأمين تدفع مبلغ التأمين عند حصول الخطر وهو
دين في ذمتها ،فهو دين بدين.
ولهذا فإن عقد التأمين التجاري عقد متضمن للغرر الكثير والشتماله على أنواع الغرر ،وهي
غرر الحصول ،وغرر المقدار ،وغرر األجل ،وكونه قد يؤدي إلى النزاع ،ويكون الغرر في
المعقود عليه أصالة ،وهو قسط التأمين ،ومبلغ التأمين وهما معلق حصولهما ومقدارهما على
حصول الخطر ،وهو احتمال قد يقع وقد ال يقع.
والتأمين التجاري بهذه الصورة له مضار اقتصادية كبيرة ،وإن كان في ظاهرة له فوائد ،إال
أنه لو تأملنا في خباياه لوجدنا ضرره أكبر من نفعه ،وهو يؤثر تأثي ار سلبيا على الفرد
والمجتمع ،والشريعة اإلسالمية لم تحرم شيئا وتجعل فيه النفع للناس ،وإنما التحريم جاء لدفع
الضرر عن الفرد والجماعة.
المطلب الثالث :أثر الغرر في التأمين التجاري على االستقرار االقتصادي :ومما ال شك فيه
أن التأمين عملية اقتصادية تعمل على جمع المدخرات وتغطي المخاطر ،ولكن المحرم شرعاً
ال يستفيد منه المجتمع ويجب تجنبه إلى البدائل الشرعية ،وقد ابتكر العلماء المعاصرون في
االقتصاد اإلسالمي بالتعاون مع االقتصاديين والفقهاء بديال جيدا للتأمين التجاري وهو
التأمين التعاوني القائم على التعاون والتبرع ،والغرر ال يؤثر على عقود التبرع حتى ولو كان
غر اًر كثي اًر.
وكما ذكرت آنفا أن الشريعة عندما تحرم شيئا فهي تدفع عن األمة مضرة هذا الشيء كما
يهما ِإ ْثم َكِبير ومَن ِ
ِِ ِ ِ
اف ُع قال تعالى في الخمر والميسرَ( :ي ْسأَُلوَن َك َعن اْل َخ ْم ِر َواْل َمْيس ِر ُق ْل ف َ ٌ ٌ َ َ
اس َوِإ ْث ُم ُه َما أَ ْكَبُر ِمن َّن ْف ِع ِه َما )...البقرة ،219ففيهما نفع إال أن ضررهما أكبر ،ولذلك لِ َّلن ِ
انطِ س ِم ْن َع َم ِل َّ
الشْي َ اب َواأل َْزالَ ُم ِر ْج ٌ
َنص ُ
ِ
حرمها هللا عز وجل فقالِ( :إَّن َما اْل َخ ْمُر َواْل َمْيسُر َواأل َ
وه )....المائدة ،90وكذلك التأمين وإن كان فيه بعض الفوائد االقتصادية سواء َف ِ
اج َتنُب ُ
ْ
لشركات التأمين ،أو للمستأمنين إال أنها تضر كثي ار بالناس ،فالربا والغرر والميسر وأكل
أموال الناس بالباطل كلها تجتمع في هذا العقد ،ولو وجدت واحدة منها في عقد لجعلته
84 ديسمبر2017
أثر الغرر في عقود المعامالت المعاصرة... د.هاني بن عبد هللا العزي
محرما فكيف بهذا العقد وقد اجتمعت فيه هذا المحرمات ،فحاشا وكال أن تبيح الشريعة عقداً
يحتوي على الربا والغرر والقمار وأكل المال بالباطل ،ولذا فإن من أعظم مساوئ التأمين هو
مخالفته للشريعة والخروج من الحدود الشرعية ،بحيث لو تجاوزنا هذه الحدود اختلت الحياة
االقتصادية واختل التوازن االقتصادي ،والوقوع فيما حرمه هللا عز وجل هو أسوأ ما يقع
اإلنسان فيه ،ومن السوء أن يقع اإلنسان في الربا والميسر والغرر وأكل أموال الناس
بالباطل ،فينزع هللا البركة من المال وتوجب لمن يستحلها عذاب هللا وسخطه ومقته في
اآلخرة.
وهناك مساوئ اقتصادية كثيرة للتأمين التجاري وهي كالتالي:
1ـ تربح شركات التأمين من عملية التأمين أرباحاً طائلة ،ولكن أكثر من يؤمن لدى
الشركات ويدفع األقساط التأمينية يخسرون أموالهم بال فائدة ،وال يحصل على التعويض إلى
القليل ،وهذه الشركات ال تحتفظ باألموال في بلدها ليتم استثمارها واالستفادة منها ،وإنما
تضعها في شركات التأمين الكبرى (إعادة التأمين) لتتضاعف أرباح تلك الشركات حتى أن
ميزانية إحدى هذه الشركات أكثر من ميزانية دول ،ولو حصلت عواصف وأزمات اقتصادية
فإن هذه الشركات تخسر كل ما لديها كما حصل في أزمة الرهن العقاري في نهاية 2008م.
وإن الكثرة الكاثرة في التأمين هي الجماعة الخاسرة في عملية التأمين ،والقلة النادرة هي الفئة
الرابحة ،فإن قد اًر ال يستهان به من أموال األفراد والجماعات والجهات والدول يرمى به في
صناديق التأمين في العالم دون سبب حقيقي لهذا التصرف ،والجميع خاسرون لهذه األموال
دون فائدة ظاهرة وملموسة ،وال يستثنى من هؤالء سوى قلة نادرة ال تعد شيئاً إلى جانب
األعداد الهائلة المؤمن لهم ،هذه القلة النادرة هم أولئك الذين يقع لديهم الحادث المؤمن
ضده ،وال يدفع لهم تعويضاً عن ذلك إال إذا جاوزت تكاليف الحادث ما دفعوه من أقساط مع
اعتبار زمن استثمار هذه األقساط لو لم يدفعوها واستثمروها بأنفسهم حتى ذلك الحين.
والذين يقع لهم الحادث هم من الندرة ،بحيث ال يكادون يذكرون بالنسبة لمجموع المؤمن لهم،
فالرابحون الحقيقيون من وراء خسارة المجموع في عملية التأمين ،هم قادة التأمين في العالم،
لذا فخسارة األمة في التأمين باهظة ،وهي عامة شاملة ،بل إنها من أشد الخسائر
()41
االقتصادية التي منيت بها الشعوب في العصور المتأخرة.
2ـ ال يستطيع الكثير من الناس في بعض البلدان تأسيس مشاريع استثمارية رغم توفر
رؤوس األموال لديهم ،سواء كانت مشاريع استثمارية كبيرة أو متوسطة أو صغيرة ،ألن
قوانين هذه البلدان ال تصرح لقيام أي مشروع إال إذا كان مؤمناً عليها في شركة التأمين،
وشركات التأمين تفرض رسوماً كبيرة فتزيد من كلفة هذه المشاريع فيحجم أصحابها عن
تأسيسها.
3ـ األصل أن شركات التأمين تعمل على تحقيق ادخارات كبيرة تدعم العملية االستثمارية
وتسهم في توفير التمويل الالزم لها عن طريق توظيف هذه المدخرات في صور متعددة
(أسهم ـ سندات ـ عقارات) ،وبذلك يحقق عملية ضخ مستمرة في مختلف الفروع االستثمارية
مما يساعد في إقامة مشاريع جديدة وتشغيل األيدي العاملة ،إال أن هذا ال يتم لألسف في
شركات التأمين التجاري ،بل تقوم الشركات بإيداع األموال في البنوك الربوية ،وجزء من هذه
األموال يتم إيداعها في شركات التأمين العالمية إلعادة التأمين ،فيتم تصدير المدخرات لخارج
البلد فيكون المستفيد هي الدولة المصدرة للتأمين والخاسر هم المساهمون في التأمين الذين
ال يحصل لهم الخطر وال يتلقون أي تعويضات ،وهم األكثرية في العملية التأمينية ،وهذا
أيضاً يربك ميزانية مدفوعات الدول المستوردة ،وال يعوض هذه الخسارة ما قد ترده هذه
الشركات األجنبية من تعويضات عند تحقق الحادث.
4ـ التعمد إلتالف المال للحصول على مبالغ التأمين ،كأن يتسبب في سرقة المال أو حرقه
أو إتالفه ،خاصة إذا كان المال قد كسد أو فسد ،أو أنه ستحصل له خسارة في تجارته
فيعمد إلى إتالفها حتى يحصل على مبلغ التأمين ويعوض خسارته ،وهذا يسبب خسارة على
األفراد وعلى شركات التأمين وعلى اقتصاد البلد التي يوجد بها التأمين( ،وبسبب إغراء المال
والطمع في الحصول على مبالغ التأمين ،أقدم عدد من الموصى لهم بهذه المبالغ ،أو
المستفيدين لها بعد أصحابها على ارتكاب جرائم شنيعة مروعة من اإلحراق والقتل ،فهذا
يفجر الطائرة بمن فيها بالجو لكي يحصل على تأمينها ،وهذا يغرق الباخرة بمن فيها ليحصل
على التأمين)(.)42
5ـ من رواسب االقتصاد الرأسمالي تكدس األموال بأيدي قلة من الناس ،والبقية فقراء أو
متوسطي الدخل ،وال شيء أسوأ على األمة من تكديس الثروة بيد مجموعة من الناس،
والتأمين مما يساعد في تكديس األموال بيد القلة بل يصبح لألغنياء دون الفقراء ،فالفقراء ال
يستطيعون دفع الكلفة التأمينية لكثير من حوائجهم التي ال يحصلون عليها من غير تأمين
إال مع العنت الشديد ،بل إن الكثير يتركون حاجاتهم الضرورية بسبب عجزهم عن دفع
()43
تأمينها.
86 ديسمبر2017
أثر الغرر في عقود المعامالت المعاصرة... د.هاني بن عبد هللا العزي
6ـ إبطال حقوق اآلخرين وضياع المحافظة الفردية على الممتلكات ،فتستخدم شركات
التأمين أعداداً كبيرة من أشهر المحامين في العالم ،ليتولوا الدفاع عنها بالحق أو بالباطل،
إلبطال حجج خصومها من المؤمن لهم ،وهي ال تقف عند هذا الحد ،ولكنها تستميل كل من
تستطيع ممن له أثر في تقرير الحوادث ،وهي تفعل ذلك إليجاد أي ثغرة تخرج بها من
المسؤولية ،فتتحلل من دفع مبالغ التأمين المستحقة.
()44
كما يتسبب التأمين في وقوع كثير من اإلهمال لدى المؤمن لهم ،الذين ال يعتنون وال
يحافظون على أموالهم وممتلكاتهم المؤمن عليها ،كمحافظتهم على غير المؤمن عليها ،بل
قد يصل األمر بهم إلى حد الرغبة في تلف بعض األعيان المؤمن عليها ،طمعاً في مبلغ
()45
تأمينها الذي قد يفوق قيمتها.
وكذلك إخافة الناس وإرعابهم حتى يسعى الناس لطلب التأمين من هذه الشركات ،وعلى
الرغم من أنها تسمى شركات التأمين إال أنها تزرع الخوف في نفوس األفراد وذلك لتدفعهم
للجوء إلى طلب التأمين ،والناس قد يخشون على استثماراتهم من حوادث المستقبل ،ويخافون
عليها الهالك ،ولكن األصل في المسلم عدم الخضوع لما هو محرم شرعاً ،واإلسالم يراعي
مصلحة الفرد والمجتمع ،وال أشك في ذلك أنه يدعو إلى حماية الممتلكات ،وقد شرع لنا من
األحكام ما يحافظ على حقوقنا ،مثل قطع يد السارق وقتل قاطع الطريق وناهب المال
وغيرها من األحكام ،فهو يدعو إلى حماية األموال ،ويحث على التعاون والتكافل ،ولذا ينبغي
أن نعود إلى شركات التأمين التعاوني القائمة على التكافل والتعاون والتبرع ،بل إن أرباب
التأمين التجاري بدأوا بمنحى التأمين اإلسالمي التعاوني خاصة بعد األزمة المالية ،ولكن
بشكل محدود ،ولكنهم بدأوا بالتفكير في العمل به ،خاصة وأن المصارف اإلسالمية نجحت
في تجاوز األزمة االقتصادية ولم تتأثر بها كثي اًر لعدم ارتباطها بالجهاز المصرفي الربوي،
وليست هذه الفكرة بجديدة ،بل ظهرت نتيجة تطور األعمال االقتصادية وقيام مجموعة من
المصارف اإلسالمية في العالم في سبعينيات القرن الماضي ،فكانت الحاجة للحماية التأمينية
لممتلكات وعمليات هذه المصارف ،فبادر بنك فيصل اإلسالمي السوداني بإنشاء أول شركة
للتأمين التكافلي في العالم عام (1979م) وهي شركة التأمين اإلسالمية ـ السودان ،تالها
قيام الشركة اإلسالمية العربية للتأمين بالمملكة العربية السعودية ،وبعد ذلك شركة البركة
للتأمين اإلسالمي ثم انزاحت التجربة إلى دول العالم اإلسالمي وغير اإلسالمي فقامت
شركات كثيرة وأيضاً نوافذ إسالمية في شركات تأمين تجارية.
()46
المبحث الثاني :الغرر في عقود الخيارات وأثرها على االستقرار االقتصادي :تعتبر عقود
الخيارات من المعامالت المالية المعاصرة التي يتم التعامل بها في األسواق المالية ،وهي من
العقود المستقبلية ،وصورة من صورها ،وهي من األوراق المالية التي ليس لها قيمة ذاتية،
وإنما تستمد قيمتها من األوراق المالية التي يجري عليها االختيار ،فما هي عقود الخيارات؟
وهل يؤثر فيها الغرر؟ وهل لها أثر على االستقرار االقتصادي؟ ويحتوي هذا المبحث على
ثالثة مطالب:
المطلب األول :تعريف وحكم عقود الخيارات:
أوالً :تعريف عقود الخيارات :ويقصد بالخيارات األحقية التي تمنح لصاحب الخيار بأن ينفذ
عقد شراء أو بيع عدد محدد من األوراق المالية بسعر محدد خالل مدة محددة ،أو أن يمتنع
()47
عن ذلك مقابل دفع غرامة محددة.
وعقد الخيار :هو عقد بين طرفين يعطي لمشتريه الحق ـ ـ ال االلتزام ـ ـ أن يشتري أو يبيع
كمية معينة من األسهم أو من سلعة معينة بسعر تنفيذ معين ،خالل فترة سريان العقد ،ويدفع
مشتري الخيار لقاء تلقيه هذا الحق مبلغاً معيناً يسمى (ثمن الخيار) ،وهو مبلغ بسيط من
وعرف بأنه( :عقد يمثل حقاً يتمتع به المشتري ،والتزاماً سعر السهم أو من سعر السلعة.
()48
يقدمه البائع ،فيدفع األول ثمناً مقابل تمتعه بذلك الحق ،ويقبض اآلخر هذا الثمن مقابل
تعهده والتزامه ،وينتج عنه أداة قابلة للبيع والتداول)(.)49
وثمن االختيار ليس جزءاً من ثمن األسهم أو السلع التي يقع عليها االختيار فهو ال يمثل
دفعة مقدمة على ثمن األسهم أو السلع.
()50
ولضمان تنفيذ عقود االختيارات البد من وجود طرف ثالث يكون ضامناً لوفاء كال الطرفين
بالتزامهم ،يقول الدكتور عبد الستار أبو غدة( :االختيارات تمارس فقط في أسواق المستقبليات
باألسهم ،والسلع ،والعمالت ،والمؤشرات ،وهي تقترن دائماً بكفالة جهة ثالثة تضمن وفاء
الطرفين بالتزاماتها ،فهي كفالة مزدوجة األثر مع وحدة الكفيل ،إذا تكفل البائع لصالح
المشتري فيما يترتب في ذمته من التزامات ،وتكفل المشتري لصالح البائع فيما يترتب في
ذمته من التزامات أيضاً ،وهذه الجهة هي غرفة المقاصة أو السمسار)(.)51
وتتنوع عقود الخيارات المالية المعاصرة إلى عدة أنواع ،منها أن يشتري أو يمتنع ،وأن يبيع أم
ال ،وذلك على النحو التالي:
88 ديسمبر2017
أثر الغرر في عقود المعامالت المعاصرة... د.هاني بن عبد هللا العزي
أ ـ ـ ـ خيار الطلب أو الشراء :وهذا النوع من الخيار حق للمشتري بأن يتسلم األوراق المالية
التي تم العقد عليها ،أو يمتنع عن ذلك مقابل دفع مبلغ معين لمالك األسهم لقاء منحه إياه
هذا الحق ،وفي الغالب فإن قيمة الغرامة يعتمد على العرض والطلب لألوراق المالية،
()52
وبالنظر إلى معنى خيار الشراء يتضح اآلتي:
1ـ ال يتضمن هذا العقد التزام مشتري حق الخيار لتنفيذ الشراء ،وإنما يتضمن حصوله على
حق الشراء الذي له أن يمارسه في أي لحظة يريدها خالل الفترة المحددة.
2ـ يتضمن العقد التزام البائع لحق الخيار بتنفيذ الصفقة عند الطلب بالثمن المحدد في
العقد.
3ـ ثمن الخيار الذي يدفعه مشتري الخيار ال يحتسب كعربون من قيمة السهم المتفق عليه
عند العقد ،كونه ال يسترد بأي حال.
ب ـ ـ ـ خيار البيع ويسمى خيار الدفع أو خيار العرض ،ويعرف على أنه( :عقد بين طرفين،
يخول أحدهما حق بيع أوراق مالية معينة ،أو سلع موصوفة في الذمة ،أو عمالت ،أو غيرها
للطرف اآلخر ،بسعر معلوم ،في تاريخ معلوم ،أو خالل مدة معلومة ،مقابل عوض
معلوم)( ،)53فهو عقد لبيع عدد من األسهم واألوراق المالية بسعر محدد خالل فترة محددة،
وال يجبر على البيع ،إنما هو الخيار ،ألن قابض ثمن الخيار هو الملزم بالشراء في هذه
الحالة أو التنفيذ بشكل عام ،إذا ما قرر مشتري حق البيع التنفيذ وبالسعر المتفق عليه خالل
المدة المحددة ،وهنا كذلك ما يدفعه مقابل تمتعه بحق خيار البيع ،غير مسترد بأي حال(،)54
ولذلك فإن هذا النوع بعكس النوع األول (خيار الشراء) فالمشتري هنا لهذا الخيار هو صاحب
األوراق المالية الذي عرضها للبيع ،كما أن هذا العقد يلزم بائع حق الخيار بالشراء ،إذا قرر
مالك األوراق المالية بيعها ،والذي دفع بائع األوراق المالية لشراء الخيار هو الخشية من
هبوط أسعارها.
ثانياً :حكم عقود الخيارات :من خالل ما ذكرناه في تعريف عقود الخيارات وأنواعها
وماهيتها ،يتبين أن عقود الخيارات ليست عقوداً على سلع أو أسهم أو غيره مما يمكن أن
يباع ،ولكنه مجرد بيع أو شراء الحق في التصرف في المبيع ،فالمبيع هو االختيار نفسه،
وهو ملزم ألحد الطرفين إما بائع االختيار أو مشتريه ،ولذا فإن هذا العقد بصورته الراهنة قد
صدرت ق اررات وفتاوى كثيرة بتحريم بيعه وتداوله وذلك لما تضمنه من الغرر والقمار
والميسر ،حيث جاء في قرار مجمع الفقه اإلسالمي رقم )7/1( 63ما يلي:
(إن عقود االختيارات ،كما تجري اليوم في األسواق المالية العالمية ،هي عقود مستحدثة ال
تنضوي تحت أي عقد من العقود الشرعية المسماة ،وبما أن المعقود عليه ليس ماالً وال
منفع ًة وال حقاً مالياً يجوز االعتياض عنه ،فإنه عقد غير جائز شرعاً ،وبما أن هذه العقود ال
تجوز ابتداء فال يجوز تداولها)( ، )55وجاء في منتدى الندوة السادسة لمجموعة البركة( :تداول
المشاركون الرأي حول بيوع الخيار وشراء حق االختيار ،و أروا أنه غير جائز ،ألن هذا الحق
ليس مما يصح في البيع)( ،)56وجاء في فتاوى وتوصيات الندوة السابعة عشر للمجموعة
المذكورة( :حيث أن محل االختيارات هو حق اختيار الشراء أو البيع لسلعة ما بشروط
محددة لقاء عوض عن ذلك الحق ،وتقوم إدارة المتعاقدين على توقعات متضادة لتقلبات
األسعار ،فإن الندوة انطالقاً من إرادة المتعاقد ومشيئته ليست محالً للعقد وال العوض عنها،
تؤكد على قرار مجمع الفقه اإلسالمي رقم .)7/1( 63
()57
المطلب الثاني :الغرر في عقود الخيارات :وهذه العقود التي يتم تداولها في األسواق المالية
العالمية بأنواعها من عقود الغرر المنهي عنه شرعاً ويمكن توضيحه كما يلي:
أوالً :الغرر كما عرفناه سابقاً هو ما خفيت عاقبته وكان مجهوالً ،ووجه الغرر في عقود
الخيارات هو عدم معرفة حصول العقد من عدمه ،وإن حدث فال يدري متى يحدث،
والمشتري والبائع في هذا سواء ،فمشتري الخيار ال يستخدمه وال يقدم على ممارسته إال في
حالة واحدة وهو ارتفاع األسعار بالنسبة لمشتري حق الشراء ،أو تنخفض بالنسبة لمشتري
حق البيع ،وتغير األسعار في صالحه أمر مجهول له ،وقد يحصل فيمارس حقه في الشراء
أو البيع ،وقد ال يحصل فتذهب عليه فائدة المعقود عليه (حق الخيار) ،ألنه ال يستعمله
حينئذ ،والمعقود عليه إذا خال من الفائدة كان كالمعدوم ،وهذا عين الغرر.
وبالنسبة لمحرر الخيار فهو يقدم على إبرام عقد الخيار سواء أكان خيار بيع أم خيار شراء،
أمالً في أن تكون األسعار خالل فترة الخيار في غير صالح المشتري ،بحيث ال يمارس
المشتري حقه في الشراء أو في البيع ،ليربح ـ أي المحررـ حينئذ ثمن الخيار ،إذ لو تغيرت
األسعار في صالح المشتري ،فإنه سيمارس حقه في الشراء أو في البيع ،وسيضطر المحرر
في حالة خيار الشراء إذا لم يكن مالكاً لألسهم مثالً إلى شراءها من السوق بالسعر المرتفع،
ليسلمها إلى المشتري ،كما سيضطر في حالة البيع إذا لم يمكن له غرض في األسهم إلى
بيعها في السوق بالسعر المنخفض متكبداً في كال الحالتين خسارة تذهب بثمن الخيار الذي
قبضه من المشتري ،وهذا األمر أي إقدام المشتري على ممارسة حقه في الشراء أو البيع أمر
90 ديسمبر2017
أثر الغرر في عقود المعامالت المعاصرة... د.هاني بن عبد هللا العزي
مجهول للمحرر مبني على أمر مجهول ،وهو تغير األسعار ،قد يقدم المشتري على ممارسة
الخيار ،فال يحصل للمحرر مقصوده من العقد ،وقد ال يقدم على ممارسة الخيار ،فيحصل
للبائع مقصوده ،وكل ذلك غرر بالنسبة له(.)58
فالغرر موجود في الحصول ،أي حصول الربح بسبب ارتفاع السعر وانخفاضه ،فقد يضارب
حامل الخيار على صعود السعر ،فيهبط السعر خالفاً لتوقعه ويخسر ،وقد يضارب على
انخفاض السعر فيرتفع السعر خالفاً لتوقعه فيخسر ايضاً ،وغرر في المقدار ،أي مقدار
الربح بسبب صدق توقعه ،وذلك بسبب عدم معرفة مقدار الفرق بين سعر األصل في تاريخ
التنفيذ ،وبين سعر التنفيذ ،فكلما ازداد الفرق بينهما كلما ازداد ربح أحد الطرفين وازدادت
خسارة الطرفين.
وغرر في األجل ،أي في أجل حدوث الربح ،وذلك يتوقف على تاريخ تنفيذ العقد ،فقد ينفذ
العقد ،وقد ال ينفذ ،وإذا نفذ العقد فال يعلم متى ينفذ ،إذ يتوقف ذلك على رغبة حامل الخيار
تبعاً للحالة السوقية لألصل محل العقد.
كما أن الغرر يقع على مقصود العقد ،وليس على أمر تابع له ،وعالوة على الغرر الفاحش
59
الذي يحيط بعقود الخيارات ،فعقود الخيارات غير المغطاة تتضمن بيع ما ليس عند البائع.
ثانياً :تحتوي عقود الخيارات على القمار ،والقمار من الغرر كما قرر ذلك ابن عبد البر
فقال( :بيع الغرر يجمع وجوهاً كثيرة ،منها :المجهول كله في الثمن والمثمن ،إذا لم يوقف
على حقيقة جملته ...ومن بيوع الغرر بيع اآلبق والجمل الشارد ،واإلبل الصعاب في
المرعى ،وكذلك الرمك (الفرس) والبقر الصغار ...إلخ)( ،)60وخالف في ذلك شيخ اإلسالم
بن تيمية حيث يرى أن الغرر من القمار(.)61
والغرر أعم وأشمل من القمار ،فهو مطلق التردد وعدم التأكد من حصول المعقود عليه من
عدمه ،بينما القمار هو التردد بين حصول الغنم والغرم ،والقمار في عقود الخيار يكمن في
المعقود عليه ،وهو حق المشتري في الممارسة ليكسب ،ويقابله خسارة الملتزم أو حق
المشتري في عدم الممارسة ليخسر ،ويقابله كسب الملتزم (محرر االختيار)( ،)62والتعامل في
عقود الخيارات قائم على القمار والميسر على بائع الخيار وعلى مشتريه في الحاالت التي
تنتهي بالتسوية المالية وهي الغالبة في عقود الخيارات ،أما الحاالت التي تنتهي بتسلم وتسليم
السلعة والثمن فهي نادرة وال يجري فيها القمار ،والقمار الذي هو تردد بين الغرم والغنم
موجود في عقود الخيارات بهذا المعنى ،سواء تحققت توقعات محرر االختيار بانخفاض
األسعار في حالة الشراء أو بارتفاعها في حالة اختيار البيع ،ولذا في هذه الحالة فإن مشتري
الخيار سيخسر ثمن االختيار الذي هو في نفس الوقت ربح لمحرر االختيار ،أو تحققت
توقعات مشتري الخيار وذلك بارتفاع األسعار في حالة اختيار الشراء ،أو بانخفاضها في
حالة اختيار البيع ،وفي هذه الحالة فإن مشتري الخيار سيمارس حقه في الشراء كما
سيمارس مشتري االختيار حقه في البيع ،وحينئذ فإن مشتري الخيار سيقبض من المحرر في
كال نوعي االختيار الفرق بين سعر التنفيذ وسعر السوق الذي سيكون أكثر من المبلغ الذي
دفعه ثمناً لالختيار ،وهذا يمثل ربحاً لمشتري االختيار وخسارة لمحرره(.)63
فكل واحد منهما متردد بين الغنم والغرم ألن البائع يضارب على الهبوط ،والمشتري يضارب
على الصعود ،فإذا جاء يوم التصفية يتقاضى البائع الفرق من المشتري إذا هبط السعر ،أو
يدفع للمشتري الفرق إذا ارتفع السعر وهذا هو القمار الممنوع.
وعقود الخيارات إلى جانب وجود الغرر والقمار فإنهما يحتويان على بيع اإلنسان ماال يملك،
وبيع الكالئ بالكالئ وكالهما محرم في الشريعة وقد بينت ذلك عند الحديث عن الغرر في
التأمين التجاري.
المطلب الثالث :أثر الغرر في عقود االختيارات على االستقرار االقتصادي :لم تحرم الشريعة
اإلسالمية شيئاً إال وضرره أكثر من نفعه ،وعقود االختيارات من العقود المحرمة كما بينت
ذلك سابقاً ،الشتمالها على الغرر والقمار والميسر وأكل أموال الناس بالباطل ،وهي وإن
سميت بيوعاً إال أنها ال تتضمن حكمة مشروعية التبادل ،وال تحقق منفعة التبادل التي
قصدها الشارع من إباحة البيع ،وال تحقق مصلحة المتعاقدين في البيع والشراء ،بل هي
تحتوي على مفاسد اقتصادية يتأثر بها المتعاملون بها ،وال تحقق الهدف من البيع والشراء
ألطراف العقد ،وهي من أدوات المجازفة على األسعار ،وهي من العقود التي تجعل أحد
أطراف العق د في خسارة ،وهذا بالضبط ما يحصل في عقود االختيارات في األسواق المالية
الدولية.
وإن كان هناك بعض الفوائد التي يذكرها الباحثون لعقود الخيارات وهي تلك التي تؤمن
المستثمرين في السوق المالية ،وذلك بحمايتها للمستثمرين من خسارتهم المحتملة ألوراقهم
المالية ،وتساعدهم في جني األرباح سريعاً ،ولذلك فإن المستثمرين في عقود الخيارات ال
يستثمرون استثما اًر حقيقياً فيها ،وإنما يستفيدون من تقلبات األسعار فيربحون فارق السعر
معتمدين على توقعاتهم في االرتفاع واالنخفاض في قيمتها.
92 ديسمبر2017
أثر الغرر في عقود المعامالت المعاصرة... د.هاني بن عبد هللا العزي
إال أن سوءها وضررها أكثر من منفعتها ،ولم أتطرق هنا لذكر الفوائد واإليجابيات التي
يستفيد منها بعض أطراف العقد وليس الكل ،حيث والبحث يهدف إلى إظهار آثار الغرر
على هذا العقد ،فسأذكر مفاسده وآثاره السلبية على السوق المالية واالقتصاد بشكل عام،
ومن آثارها السلبية ما يلي:
1ـ أنها وسيلة كبيرة للتالعب في أسعار األوراق المالية ،ألن الخيارات قائمة على
المضاربة ،والمضاربة فيها طرفان ،طرف يتوقع انخفاض سعر األوراق المالية ،وطرف آخر
يتوقع ارتفاعها ،فإذا لجأ أحد كبار التجار على البيع على المكشوف وهو يتوقع انخفاض
السعر ،فإن غيره من التجار غالباً ما يحاكونه في هذه السلوك باعتباره قائداً ،األمر الذي
يترتب عليه اتجاه السعر إلى الهبوط ،وبالرغم من ذلك وألن التاجر يتوجس خيفة من تقلبات
السوق وتغير اتجاهات األسعار ،فإنه يلجأ إلى بيع عقود الخيارات ،وبأسعار زهيدة يغري
المشترين على الشراء رغم أنه غير راغب في تسليم األوراق المالية في مثل هذه الظروف،
كونه لن يطالب أحد بتسليم األوراق مالم يرتفع سعرها ،وهكذا يتالعب محرر الخيار
()64
باألسعار حسب مصلحته.
أضف إلى ذلك أن هذه العقود ال تحقق مصلحة طرفي العقد واألصل في العقود أن يستفيد
منها الطرفان البائع والمشتري ،أما هذه فإن ربح طرف يعني خسارة الطرف اآلخر ،والعكس
بالعكس ،وهذا يخالف كافة العقود المتعارف عليها شرعاً وقانوناً والتي تحقق مصلحة أطراف
العقد ،وهذه العملية التي تساعد في تحقيق ربح طرف وخسارة آخر تؤثر سلباً على توزيع
الثروات ،ولذا نجد أنها تتركز في أيدي فئة معينة وهي الفئة الرابحة ،وهؤالء في الغالب هم
المتمرسون في السوق وكبار المستثمرين والمضاربين الذي قد خبروا السوق وعرفوا متى
ارتفاع األسعار ومتى انخفاضها( ،ولذلك فهم يستطيعون تدوير هذه األموال لصالحهم من
خالل تأثيرهم على األسعار وتالعبهم بها ،وبهذا التدوير لألموال الضخمة من قبل كبار
المتعاملين سيؤدي إلى إفالس اآلخرين وهم القاعدة األكثر اتساعاً)(.)65
2ـ من اآلثار السلبية لعقود الخيارات التي يشوبها الغرر والقمار والميسر ،تفشي البطالة في
المجتمع ،وتأثر اإلنتاج االقتصادي ،وذلك ألن عقود الخيارات في األسواق المالية تؤمن
أصحاب رؤوس األموال وتحميهم من مخاطر تقلبات األسعار ،ولذا فإن هذه العقود تصبح
محفزة ألصحاب رؤوس األموال بدفع أموالهم لالستثمار في البورصة ،وتوفر لهم األرباح
الكبيرة عندما تصدق توقعاتهم ،وهذا يؤدي إلى عزف كبير عن توجيه هذه الثروات في
االستثمار الحقيقي واستخدامها في اإلنتاج ،وتشغيل اليد العاملة ،وأما إذا ازداد ربحاً ازداد
تعلقاً بالمضاربة في عقود الخيارات ،فتصير األموال دولة بينهم دون توجيهها لالستثمار
الحقيقي واإلنتاج االقتصادي.
(وهذه العقود هي من أكبر أسباب األزمة المالية التي حصلت في عام 2008ـ 2009م،
كيف ال وهي عقود وهمية ال ينفذ منها إال نسبة ضئيلة وهذا ما أثبته واقع التعامل بها في
األسواق المالية ،فقد ثبت أن ما نسبته %98من هذه العقود ال يجري تنفيذه ،حتى تلك
النسبة لو تم االتفاق على تنفيذها فإنما يكون ذلك بالتصفية على فروق األسعار دون أن
يحصل تبادل حقيقي بين الطرفين ،فال البائع يقبض الثمن ،وال المشتري يقبض السلعة ،إنما
يكتفي أن يأخذ كل واحد منها فرق السعر من اآلخر وبالتالي البد أن يكون واحدا منهما
خاس ار واآلخر رابحاً ،ومن هنا وصف بعض االقتصاديين أن هذه العقود ليست ذات قيمة
اقتصادية واضحة )(.)66
ولو تأملنا في هذه اآلثار السلبية التي يسببها التعامل بعقود الخيارات المالية التضح لنا أن
أكبر المسببات لها هي المضاربات الوهمية على فروق األسعار التي يسودها الغرر الفاحش
الذي نهى عنه النبي صلى هللا عليه وسلم.
واإلسالم ال يرغب في هذه االستثمارات القائمة على الغرر والقمار والميسر والربا وأكل أموال
الناس بالباطل ويحث على االستثمار الحقيقي الذي ينتفع به كل األطراف ،ويرغب في
المشاركة الحقيقية في الربح والخسارة بين أطراف العقد ،ليحقق العدالة في المجتمع
اإلنساني ،ويمنع الربا الذي يهدم اقتصاديات البلدان ،ويلتهم الثروات ،ويحرم نظام المشتقات
المالية التي يسودها الغرر والجهالة ،ويمنع اإلسالم كل ما فيه هالك للمال أو ضياعه
ويحث على ما يحقق للناس الرفاه االقتصادي ويعمل على التوزيع العادل ألموال وثروات
المجتمع.
المبحث الثالث :الغرر في المسابقات التجارية وأثره على االستقرار االقتصادي ويحتوي
على ثالثة مطالب:
المطلب األول :تعريف المسابقات التجارية وأنواعها :وهي مما اُ ِ
ستحدث من المعامالت،
وهي معاوضات مالية تجري بين األفراد ،كأوراق اليانصيب والمسابقات بواسطة االتصاالت
الحديثة ،والمسابقة معاملة تقوم على المنافسة بين شخصين فأكثر في تحقيق أمر أو القيام
به بعوض أو بغير عوض.
94 ديسمبر2017
أثر الغرر في عقود المعامالت المعاصرة... د.هاني بن عبد هللا العزي
أوالً :تعريف المسابقات التجارية :هي المغالبات التي يقيمها أصحاب السلع والخدمات،
لجذب المشترين إلى أسواق أو متاجر معينة ،أو الترويج لسلع أو خدمات معينة ،أو تنشيط
()67
المبيعات.
والمسابقات التجارية منها ما هو جائز ومنها ما هو غير جائز شرعاً ،وسأكتفي هنا ببيان
المسابقات الغير مشروعة التي تحتوي على الغرر الفاحش والتي لها أثر سلبي على
االقتصاد.
ثانياً :أنواع المسابقات التجارية:
أ ـ أوراق اليانصيب :وأوراق اليانصيب كما عرفها بعضهم أنها لعبة يساهم فيها عدد كبير
من الناس ،كل يدفع مبلغاً صغي ار ابتغاء كسب النصيب ،والنصيب مبلغ أو عدة مبالغ وقد
يكون شيئا أو عدة أشياء توضع تحت السحب ،فيكون لكل مساهم رقم معين ويسحب من
بين هذه األرقام عن طريق الحظ المحض الرقم أو األرقام الفائزة ويصرف الباقي للجهة
()68
المنظمة.
ويتضح من خالل التعريف السابق ألوراق اليانصيب بأنها مسابقة تعتمد على الحظ بشكل
مطلق ،فالذي يشتري ورقة اليانصيب تكاد تكون فرصته للفوز بالجائزة معدومة ،فهي تعتمد
على محض الصدفة ال غير ،وهذه صورة مشابهة لما كانت عليه الجاهلية األولى من ضرب
القداح على أجزاء الجزور قما اًر.
وعملية اليانصيب تنقسم إلى قسمين:
1ـ اليانصيب الخيري :هو الذي تقوم الجهات المنظمة له بعد إعطاء الفائز جائزة اليانصيب
بصرف المبالغ المتبقية في مشاريع الخير المختلفة.
()69
2ـ اليانصيب التجاري :هو الذي تقوم فيه الجهات المنظمة للسباق بعد إعطاء الفائز جائزة
النصيب ،بصرف ما تبقى من أموال للجهة المنظمة التي يكون لها حرية التصرف
70
باألموال.
ب ـ المسابقات بواسطة االتصاالت الحديثة :وهذه المسابقات ال يكاد يخلو بيت من بيوت
المسلمين منها ،وهي تنشط في بعض المواسم مثل رمضان واألعياد ،فتقوم الجهات برصد
عدد من الجوائز يستبق عليها من يجد في نفسه الكفاءة واالهتمام ،وتتوزع موضوعات
المسابقة في الفكر والتاريخ والعلوم و ....وال يعرف المتسابقون بعضهم بعضاً ،وغالباً ما
يكون االشتراك في هذا النوع من المسابقات مفتوحاً للجميع ،ويشترط في المشارك أن يتحمل
سعر المكالمة التي يراد فيها نتيجة اتصاله ويكون هذا المبلغ للجهات المنظمة ،وأما جوائزها
فهي من مجموع االشتراكات التي تدفع على المكالمات(.)71
ولذلك فإن الذي يتصل يغرم قيمة االتصال ،وهو في الغالب يكون ذا سعر مضاعف عن
السعر االعتيادي ،والمتصلون كثر فتربح الجهة المنظمة مبالغ كبيرة والجائزة تكون لعدد
محدد ،وتجعل الناس يتوهمون بأنهم سيربحون فيعتمدون على هذه المعامالت التي تعتمد
على الجهالة والحظ وتدعو إلى الكسل وإهمال العقل في التفكير اإلنتاجي واالستثماري.
المطلب الثاني :الغرر في المسابقات التجارية:
أوالً :الغرر في أوراق اليانصيب :واليانصيب بنوعيه الخيري والتجاري يعتبر نوعاً من أنواع
الغرر والقمار وهو محرم شرعاً ،والغرر ال يجعل العقد محرماً إال إذا كان غر اًر فاحشاً ،وال
شك أن الغرر في أوراق اليانصيب كثي اًر ،وهو في المعقود عليه أصالة ،وهو الجائزة أو
العوض عن الثمن المدفوعة من جهة المشاركين ،إذ أن المشارك يدفع قيمة االشتراك وقد
يربح الجائزة فيكون غانماً ،وقد ال يربح شيئاً فيكون غارماً ،وعين القمار والقمار من الغرر،
إضافة إلى ذلك فاليانصيب من أكل أموال الناس بالباطل ،وتضييع ألوقات الناس وبعثرت
جهودهم وتعطيل لروح البناء واإلنتاج في األمة.
والقائمون على اليانصيب يفترضون موت نوازع الخير وبواعث الرحمة ومعاني البر في
المجتمع ،وال سبيل إلى جمع األموال إال بالقمار واللهو المحظور ،فالذي يستبيحون
()72
اليانصيب كالذين يجمعون التبرعات بفعل المحرمات.
ثانياً :الغرر في المسابقات بواسطة االتصاالت الحديثة :وهذه المسابقات من عقود
المعاوضات المالية ،وهي تحتوي على الغرر الكثير الذي يجعلها محرمة شرعاً وذلك ألن
المتسابق يدفع قيمة االتصال ،ويدفعها مثله آالف المتصلين ،وكل واحد منهم ال يدري هل
سيحصل على الجائزة أم ال ،ولذلك قد يكون في هذه المسابقة غارماً وغانماً ،بل واألكثر
يغرمون وال يفوز إال القلة ،فالذي يغرم ال يحصل على شيء مما دفع ،والذي يغنم يحصل
على شيء أكثر مما دفعه بكثير ،وهذا هو عين القمار والغرر ،والجوائز التي يحصل عليها
المتسابقون هي األصل الذي يؤثر فيه الغرر ،ألنها المعقود عليه أصالة.
المطلب الثالث :أثر الغرر في المسابقات التجارية على االستقرار االقتصادي :ذكرت آنف ًا
أن المسابقات التجارية مثل أوراق اليانصيب والمسابقات عن طريق االتصاالت الحديثة هي
من القمار والغرر والميسر ،ولهما آثار سلبية على االستقرار االقتصادي منها:
96 ديسمبر2017
أثر الغرر في عقود المعامالت المعاصرة... د.هاني بن عبد هللا العزي
1ـ أن األغلبية من الناس الذين يشاركون في مسابقات أوراق اليانصيب والمسابقات التجارية
عن طريق االتصاالت يخسرون أموالهم ،والرابحون هم القلة القليلة وبنسبة ضئيلة جداً ،وهذا
يعتبر من إهدار األموال فيما ال ينفع وال يفيد ،ولو تم توجيه هذا األموال في االستثمار لكان
أنفع لألفراد والمجتمع.
2ـ تؤدي هذه المسابقات إلى النمو السريع لثروات المنظمين لها ،فيصبحون أثرياء في وقت
وجيز مما يدفع بهم إلى أعمال غير مشروعة مثل غسيل األموال وذلك لتبرير هذه المكاسب،
وإظهارها بمظهر المكاسب الحالل الناتجة عن استثمارات حقيقية ،مع أنها أموال مشبوهة
محرمة تضر بالمجتمع بأكمله.
3ـ المسابقات التجارية من أكبر عوامل انتشار البطالة ،حيث يتفرغ كثير من الشباب لهذه
المسابقات لهثاً وراء المكاسب والجوائز التي ال يعرف هل سيحصلون عليها أم ال ،ونسبة
عدم الحصول عليها ،%99واألصل أن الحكومات والدول الناصحة لرعاياها توفر فرص
العمل الحقيقية لمواطنيها ،وذلك بإنشاء المصانع والمزارع ،والتشجيع عليها ،فتستفيد من هذا
الكادر البشري ،وذلك لتنمية المجتمع وزيادة اإلنتاج وتوجيه المال إلى المسار الصحيح،
والمقصد الشرعي من األموال كلها خمسة أمور :رواجها ،ووضوحها ،وحفظها ،وثباتها،
والعدل فيها ،فالرواج دوران وتداول المال بين أيدي أكثر من يمكن من الناس بوجه حق ،قال
ض يب َت ُغو َن ِمن َف ْض ِل َّ ِ ِ
َّللا) المزمل ،20وقال النبي صلى (وآ َخُرو َن َي ْض ِرُبو َن في ْاألَْر ِ َ ْ
تعالىَ :
عليه وسلم( :ما من مسلم يزرع زرعاً أو يغرس غرساً فيأكل منه أو إنسان أو بهيمة إال
كان له به صدقة)( ،)74()73والقمار والميسر ال تمت إلى هذه المقاصد بصلة ،وهي بعيدة
عنها كل البعد ،بل إن شيوعه وانتشاره يعطل األنشطة االقتصادية المختلفة ،وتنتشر البطالة
بين الناس.
المبحث الرابع :الغرر في التسويق الشبكي وأثره على االستقرار االقتصادي ويحتوي على
ثالثة مطالب:
المطلب األول :تعريف التسويق الشبكي وتكييفه:
أوالً :تعريف التسويق الشبكي :وهو عبارة عن برنامج تسويقي يمنح المشاركين فيه شراء
حق التوظيف ،لمزيد من المشاركين وبيع المنتجات أو الخدمات ،والتعويض عن المبيعات
عن طريق األشخاص الذين قاموا بتجنيدهم ،فضالً عن المبيعات الخاصة بهم(.)75
وقد يختلط مفهوم التسويق الشبكي والتسويق الهرمي ،فالتسويق الهرمي هو نموذج يقوم على
ما يجمع من المشتركين فيها بدفعه على نقد أو خدمة أو معلومة ،مقابل جلب مشتركين
آخرين لالنضمام في المنطقة ،أو تدريبهم لجلب أعضاء آخرين ،والتركيز الرئيسي في هذه
العملية هو جلب مشتركين جدد ،ولذلك سمي هذا النظام بالهرم ،ألن المشتركين الجدد
ُيضافون تحت من سبقهم من المشتركين مما يكون هرماً ،أعاله مؤسس المنظمة أو مندوبه
()76
وأدناه آخر المشتركين انضماماً.
والتسويق الهرمي ال يقوم على بيع وشراء السلع بيعاً حقيقياً ،وإذا دخلت السلعة فإنه يتم بيعها
للمشتركين فقط ،أو لمن أراد االشتراك ،وغالبها قائم على االشتراكات المالية المجردة بين
األعضاء ،وقد قامت القوانين العربية بحظر التسويق الهرمي ،وتصنيفها ضمن معامالت
الغش التجاري ،وهو ممنوع ومحارب في أمريكا ومعظم دول أوروبا وآسيا وجنوب أفريقيا
وغيرها ،وقد تم التحذير منه من مثل هذا النوع من التعامل ،وقد حذر الكثير من
االقتصاديين الغربيين من خطورة هذا النوع على االقتصاد الوطني واإلضرار بمصالح
المتعاملين ،كما حذرت أمريكا من هذا النوع من التسويق الهرمي على الموقع الرسمي على
()77
االنترنت.
ولذلك فالتسويق الهرمي يشترك مع التسويق الشبكي في أنهما يقومان على وعود للمستهلكين
والمستثمرين على جني أرباح كبيرة تستند على تجنيد آخرين لالنضمام لبرنامجهم ،وليس
على أساس استثمار حقيقي أو بيع حقيقي لمنتجاتهم ،فال يوجد مبيعات تجزئة في األسواق
أو للمستهلكين ،بل تقتصر المبيعات على المجندين داخل الهرم.
وتشترط شركات التسويق الشبكي على من سيدخل معهم في هذه الشبكة أن يشتري هو أو ً
ال
من هذا المنتج ،وذلك مقابل حصوله على فرصة للتسويق لمنتجات الشركة ،وحصوله على
العمولة المخصصة مقابل كل شخص يقنعه بالشراء من منتجات الشركة ،والشخص الذي تم
إقناعه بالشراء يحصل على نفس المميزات التي حصل عليها من أقنعه بذلك إن أقنع غيره
بالشراء وهكذا ،وبهذا تتكون شبكة كبيرة من المسوقين كلهم يشترون وكلهم يبحثون عن
العمولة مقابل إقناعهم للمستهلكين وترويجيهم للسلعة.
()78
ثانياً :تكييف التسويق الشبكي حسب صوره وأنواعه ينقسم إلى أقسام:
القسم األول :تكييف ما تتفق عليه أغلب شركات التسويق الشبكي الهرمي هو اشتراط شراء
منتج للشركة للحصول على حق التسويق والحصول من ثم على العموالت ،وتنظيم المشترين
98 ديسمبر2017
أثر الغرر في عقود المعامالت المعاصرة... د.هاني بن عبد هللا العزي
المسوقين في شبكة وهرم المستويات وطبقات بعضها فوق بعض ،يحصل األعلى درجة
واألقدم عمولة عن شراء وانضمام من تحته ومن تحت تحته وهكذا ،األعلى يحصل على
عمولة عن بيع األقل درجة.
فالمشترون هم المسوقون ،وشراء السلعة غير مقصود بعينه وإنما هو وسيلة لالنضمام إلى
قائمة المسوقين للحصول على الغرض الرئيسي وهو العموالت ،فشراء السلعة في العقد هو
وسيلة وليس غاية.
والقسم الثاني :تكييف ما تدعيه بعض شركات التسويق الشبكي من أنها ال تشترط شراء
المنتج لالنضمام إلى طبقات المسوقين وشبكاتهم وإنما تشترط دفع رسم مالي فقط ،وإنشاء
مركز مالي يتضمن دفع مبلغ مالي للحصول على حق التسويق ،والحصول على العموالت
االحتمالية المعلن عنها مقابل إغراء مجموعة من الناس لشراء المنتج واالنضمام إلى الشبكة
التسويقية ،فاإلعفاء من الشراء هو عن المشتري األول وليس عمن جاء من طريقه.
والقسم الثالث :تكييف التسويق الشبكي إذا كانت األموال الموعود بها المشتري المسوق
قائمة على الوعد والهبة االحتمالية وليست قائمة ومرتبطة بالتسويق.
المطلب الثاني :الغرر في التسويق الشبكي :وبناء على ما سبق من ذكر تكييف التسويق
الشبكي فهو يحتوي على اآلتي:
1ـ الغرر الكثير ألن المشتري ال يقدم على شراء السلعة إال أمالً في الحصول على
العموالت مستقبالً ،واألرباح االحتمالية المجهولة التحقق ،فهو غرر وتغرير.
2ـ يحتوي هذا العقد على القمار والميسر وذلك أن المشتري يبحث عن العموالت االحتمالية
المجهولة وهذه العموالت ممكن أن تزيد فيغنم ،وممكن انخفاضها عما دفعه في الشراء أو
تنعدم فيغرم.
3ـ أكل أموال الناس بالباطل ،وهذه العلة تتحقق في جوهر نظام التسويق القائم على ربط
الناس ونظمهم في طبقات يأكل بعضهم من جهد بعض ،والشركة تأكل من جهد الجميع دون
وجه حق ،فهو أكل لألموال بالباطل ،وشراء المنتج فيه يكون صورياً للوصول إلى العموالت
79
واألموال الموعودة االحتمالية ،وهذا من الحيل المذمومة الستبانة القمار والميسر.
وبناء عليه فإن التسويق الشبكي يحتوي على الغرر الكثير حيث يشتري السلعة للحصول
على عمولة غير متحققة الحصول ،فقد يحصل عليها وقد ال يحصل ،فيخسر ذلك ،فوجوده
مجهول ،وهذا عين الغرر ،ولذلك فإن التسويق الشبكي محرم شرعاً وقد ذهب إلى ذلك
جمهور العلماء المعاصرين ،وهللا أعلم.
المطلب الثالث :أثر الغرر في التسويق الشبكي على االستقرار االقتصادي :وبسبب
المحظورات الشرعية على التسويق الشبكي وأبرزها الغرر ،فإن هناك آثا اًر سلبية للتسويق
الشبكي على االستقرار االقتصادي من أهمها ما يلي:
1ـ عدم تحقيق الكفاءة االقتصادية لمفهوم التسويق ،ومن المعلوم أن مفهوم التسويق الكفء
يجب أن يختصر التكاليف والوقت ويستجيب مع التطور التكنلوجي ،وقد ظهر التسويق
الشبكي وانتشر في الواليات المتحدة األمريكية في الفترة التي سبقت عصر اإلنترنت
واالتصاالت السريعة ،وكانت الحاجة له مدفوعة من التكلفة العالية للتوزيع والشحن والتخزين
التي تتكبدها الشركات المصنعة لمنتجات عدد مستهلكيها قليل ،وتوزيعهم على مستوى
جغرافي كبير ،وقد قام التسويق الشبكي بحل هذه اإلشكالية عن طريق خفض التكاليف
والمصاريف المتعلقة باستئجار معارض ومستودعات وتوظيف مندوبين مبيعات وفنيي
صيانة ،واالنتشار الجغرافي عن طريق نظام شبكة الموزعين.
()80
فمما يثير التساؤالت حول الشركات التي تستخدم هذا النظام في الوقت الحالي ،أن هذا
النظام أساساً نشأ وازدهر في بيئة كانت تحتاج لهذا النوع من التسويق ،ففي الفترة قبل
اإلنترنت وقبل االتصاالت السريعة ،كان من الصعب إن لم يكن مستحيالً إيصال رسالة أو
إقناع مزارع أو فالح في قرية نائية بأهمية منتج قد يسهل حياته ،أو يزيد من إنتاجيته ،وأما
اآلن فمع وجود التقنية أصبح بإمكان المشتري في قرية صغيرة من أقاصي البالد طلب منتج
من الطرف اآلخر من العالم بضغطة زر خالل عشر دقائق ويصله إلى أقرب مدينة كبيرة
إن لم يكن إلى باب بيته خالل أسابيع قليلة ،وبالتالي اختفى الداعي لوجود نظام تسويق
()81
شبكي بالكثافة المرجوة حالياً.
2ـ التسويق الشبكي ليس له من مسمى التسويق الحقيقي نصيب ،حيث يفقد موضوع
الترويج للسلع والخدمات التي يمكن أن تقدمها الشركات والمؤسسات اإلنتاجية ،ولذلك من
المعلوم عند خبراء التسويق أن شركات التسويق الشبكي تكون مبيعاتها لغير ممثلي الشركة
أو الراغبين في الدخول في هذه الشبكة ال يتجاوز إال نسبة ضئيلة جداً ،ولذلك يقول
فيتزباتريك( :أن أضخم شركات التسويق الشبكي تعترف بأن حجم مبيعاتها لغير ممثلي
الشركة والراغبين في إنشاء شبكة تسويقية ال يتجاوز %18فقط)(.)82
100 ديسمبر2017
أثر الغرر في عقود المعامالت المعاصرة... د.هاني بن عبد هللا العزي
3ـ شركات التسويق الشبكي بيئة خصبة لالحتيال والنصب ،يقول فيتزباتريك( :أن الخداع
هو من السمات المميزة والمتأصلة في جميع أنظمة التسويق الشبكي وهو ضروري وال يمكن
االستغناء عنه لتسويق تلك األنظمة ،فغالبية من يستثمر في التسويق الشبكي يكتشف في
النهاية أنه صفقة خاسرة ،وهذه حقيقة تاريخية مؤكدة ،ويضيف بأننا إذا ما قمنا بإزالة بريق
المشروع التجاري وفرصة تحقيق األرباح الكبيرة من عملية بيع السلعة بالتسويق الشبكي تجد
أنك أمام نموذج غير عملي أو إنتاجي من أساليب البيع ،فالتسويق من فرد لفرد هو نموذج
من الماضي السحيق وليس المستقبل ،والتسويق مباشرة من الفرد ألقربائه أو أصدقائه يتطلب
منهم تغيير عاداتهم الشرائية ،ففي هذا النموذج تكون اختياراتهم للسلع محدودة وال تمثل
التنوع الكبير الموجود في الموالت مثالً ،وغالبية األحيان تكون المنتجات ـ وإن كانت عالية
الجودة ـ منتجات غالية الثمن عن وضعها الطبيعي)(.)83
وهذه األسباب التي توضح عدم جدوى أو كفاءة التسويق من فرد لفرد والتي هي مسؤولة عن
الوضع الحقيقي لشركات التسويق الشبكي التي هي بيع الفرصة الوهمية لتحقيق أرباح كبيرة
للعديد من الراغبين في االستثمار وليس البيع الفعلي للمنتجات.
4ـ التسويق الشبكي يدفع كثير من الناس إلى الشراء من السلع التي تروجها هذه الشركات
طمعاً في الحصول على العموالت التي سيحصلون عليها بتسويقهم لهذه السلع فيما بعد،
وهذا يهدر ثروات المجتمع وينهك اقتصادهم ،ويأخذ وقتهم وجهدهم ،والتي كان في األصل
أن تستخدم هذه األموال وهذه الطاقات وهذه األوقات في التنمية الحقيقية ،وفي االستثمار
الحقيقي الذي يدفع بعجلة التنمية إلى األمام.
يقول الدكتور رضا عبد السالم( :التسويق الشبكي يعتبر استنزافا ألموال المنتج لصالح
شركات التسويق الشبكي ،عن طريق بيع منتجات بأضعاف ما تستحقه ،وإشغال كثير من
الشباب عن التركيز في األعمال التي تعود عليهم وعلى مجتمعهم بالتنمية والتطوير إلى
()84
أعمال تستنزف أموال المجتمع وتضيع أوقات الشباب الطامحين).
5ـ التسويق الشبكي يعد صورة من صور الغش التجاري ،وهو ال يختلف كثي اًر عن التسويق
الهرمي كما ذكرت سابقاً ،والذي منعت منه القوانين واألنظمة ،فالتسويق الشبكي كالهرمي
يجعل أتباعه يحلمون بالثراء السريع ،لكنهم في الواقع ال يحصلون على شيء ،ألنهم
يقصدون سراباً ،بينما تذهب معظم المبالغ التي يتم جمعها من خاللهم إلى أصحاب الشركة
والمستويات العليا في الشبكة.
وأخي اًر فإن التسويق الشبكي بيع للوهم والنصب واالحتيال على الشعوب المهضومة ،وقد
قامت إحدى الدوريات المتخصصة وهي دورية (بورصات وأسواق) إحصاء تناول الموضوع
من جهة أخرى على أساس الرابحين والخاسرين فكان النتيجة كاآلتي:
()85
%75من المشتركين ال يربحون شيئاً وهم طبعاً المستويات األخيرة الرابع والخامس.
%12.5من المشتركين يحصلون على $250وبالتالي يخسرون $350وهم المستوى
الثالث.
%6.25من المشتركين يحصلون على $500وبالتالي يخسرون $100وهم المستوى
الثاني.
أما المستوى األول فهم الرابحون ونسبتهم هي %6.25ولكن أرباحهم تتفاوت من أرباح
بسيطة في المستويات المتأخرة إلى أرباح خيالية عند المستويات األولى.
ولذا فإن التسويق الشبكي كارثة اقتصادية تستهدف الضعفاء والبسطاء والفقراء وتجعلهم
الوهم ،فال هم من حافظ على أمواله ويستثمرها استثما اًر صحيحاً ،والهم الذين يعيشون
األموال التي يحلمون بها ،وهؤالء تذهب أموالهم وممتلكاتهم إلى هذه الشركات يربحون
فتتضاعف أرباحها وتنمو ثرواتها ،فنحن أمام نازلة اقتصادية يجب أن يقف المجتمع وتقف
الدولة لها بالمرصاد وتمنع كل من يفكر في عمل مثل هذه الشركات.
الخاتمة وتحتوي على أهم النتائج والتوصيات وهي كاآلتي:
1ـ مع أن المعامالت المعاصرة لم تكن موجودة في عهد التشريع اإلسالمي ،إال أن الشريعة
اإلسالمية قادرة على معالجة هذه القضايا وتوضيح أحكامها الشرعية.
2ـ الغرر الذي يؤثر في المعامالت المالية المعاصرة هو الغرر الكثير الفاحش ،وهو موجود
في التأمين التجاري وعقود الخيارات والتسويق الشبكي والمسابقات التجارية وكلها محرمة
شرعاً بسبب احتوائها عليه.
3ـ األغلبية من الناس الذين يدخلون في هذه المعامالت المالية يخسرون أموالهم ،وال يجني
األرباح منهم إال القلة ،وذلك بسبب الجهالة والقمار والميسر المفضية إلى أكل أموال الناس
بالباطل.
4ـ تكدس األموال بأيدي قلة من الناس وتعطيلها عن اإلنتاج ،وإبطال حقوق اآلخرين ،ودفع
الناس إلى إهالك أموالهم ألجل الحصول على مبالغ التأمين ،من أهم اآلثار السلبية لعقد
التأمين التجاري.
102 ديسمبر2017
أثر الغرر في عقود المعامالت المعاصرة... د.هاني بن عبد هللا العزي
5ـ التالعب في أسعار األوراق المالية ،وتفشي البطالة في المجتمع ،وتأثر اإلنتاج التي
تسببها المضاربات الوهمية والمحتوية على الجهالة والقمار هي من أهم آثار الغرر المؤثر
على االستقرار االقتصادي.
6ـ من أهم اآلثار السلبية لالقتصاد من الغرر في التسويق الشبكي هي عدم تحقق الكفاءة
االقتصادية لمفهوم التسويق ،حيث ينحصر التسويق في شبكة محددة هم المسوقين وهم
المستهلكين في نفس الوقت ،وكذلك تعتبر صورة من صور الغش التجاري الذي يؤثر على
استقرار االقتصاد.
7ـ يوصي الباحث المراكز البحثية المتخصصة في االقتصاد اإلسالمي والمعامالت المالية
أن يكثفوا من أبحاث المعامالت المالية إليجاد البدائل المناسبة والخالية من المحظورات
الشرعية المؤثرة تأثي ار سلبياً.
8ـ أوصي الجهات المنظمة لهذه المعامالت سواء جهات حكومية أو خاصة ،جماعية أو
فردية التخلي عن هذه المعامالت والعدول عنها إلى البدائل الشرعية ،وعدم التقليد األعمى
لكل ما يأتي لنا من الخارج ،ففي ديننا ما يغنينا عن هذه التعامالت.
الهوامش:
104 ديسمبر2017
أثر الغرر في عقود المعامالت المعاصرة... د.هاني بن عبد هللا العزي
42خليل ،أيمن ،آثار التأ مين اإليجابية والسلبية ،مرجع سابق ،وينظر أيضا الزحيلي ،وهبة ،الفقه اإلسالمي
وأدلته ( 109/5ـ ،)111ط 2.دار الفكر ،دمشق ـ سورية 1405ـ 1985م.
43المرجع السابق.
44السويلم ،سامي ،وقفات في قضية التأمين( ،من إصدارات شركة الراجحي المصرفية لالستثمار ـ مركز
البحث والتطوير ـ عمان األردن 1423ـ 2002م ،).وخليل ،أيمن ،آثار التأمين اإليجابية والسلبية.
45نفس المرجع.
46إبراهيم ،عثمان الهادي ،التكافل وإعادة التكافل ،ماهيته وتطوراته ومتطلبات نجاحه ،المدير العام لشركة
شيكان للتأمين وإعادة التأمين المحدودة السودان (من منشورات شركة شيكان للتأمين وإعادة التأمين المحدودة
ع2001 ،70م) ،وينظر أيضا عبد الرزاق ،إسماعيل ،التأمين في ضوء الفقه اإلسالمي( ،مكتبة كلية العلوم
اإلسالمية ـ ج بغداد ص 400وما بعدها).
47انظر أحمد ،أحمد محي الدين ،أسواق األوراق المالية وآثارها اإلنمائية ص ،438ط 1415 ،1.ـ 1995م،
سلسلة صالح كامل للرسائل الجامعية.
48حمامي ،عبد الكريم قاسم ،سلسلة االستثمارات الحديثة في خيارات األسهم وخيارات مؤشرات األسهم
ص ،9مطابع الفرزدق التجارية ـ الرياض.
49القري ،محمد علي ،األسهم واالختيارات المستقبليات أنواعها والمعامالت التي تجري فيها ،مجلة مجمع
الفقه اإلسالمي ،العدد السابع 211/1
50نفس المرجع .211/1
51غدة ،عبد الستار ،االختيارات في األسواق المالية في ضوء مقررات الشريعة اإلسالمية ،مجلة مجمع الفقه
اإلسالمي المجلد السابع .331/1
52انظر مهيدات ،محمد فهد ،عقود الخيارات المالية المعاصرة بين المجيزين والمانعين ،من ضمن أدبيات
دائرة اإلفتاء العام ـ األردن.
53العمران ،عبد هللا محمد ،العقود المالية المركبة ،دراسة فقهية تأصيلية وتطبيقية ص ،325دار كنوز إشبيليا
ط1431 ،2.هـ ـ 2010م.
54انظر :جابر ،محمد صالح ،أسواق األوراق المالية وآثارها اإلنمائية ص ،439االستثمار باألسهم والسندات
وتحليل األوراق ص ،255دار الرشيد للنشر ،بغداد 1982م ،ط ،1.ونحو سوق مالية إسالمية ص ،4بحث
مقدم إلى المؤتمر العالمي لالقتصاد اإلسالمي ،المملكة العربية السعودية ،جامعة أم القرى ،كلية الشريعة
والدراسات اإلسالمية2005 ،م.
55قرارات وتوصيات مجمع الفقه اإلسالمي الدولي ،للدورات من 2ـ ،19ص ،225راجعه د .أحمد عبد
العليم ،الطبعة األولى1432 ،هـ ـ 2011م.
56فتاوى ندوات البركة ص1403 ،110هـ ـ 1417هـ 1981 ،ـ 1997م /جمع د .عبد الستار أبو غدة ،وعز
الدين خوجة ،منشورات مجموعة البركة ،ط.
57حولية البركة ،العدد الثاني ،رمضان 1421هـ ،ص.273،274
58أحكام التعامل في األسواق المالية المعاصرة ص 1053ـ .1054
59الجرف ،محمد سعدو ،عقود الخيارات المالية في الفقه اإلسالمي ص ،41ضمن أبحاث الندوة العلمية
(التحوط في المعامالت المالية الضوابط واألحكام) مجمع الفقه اإلسالمي 26ـ 27ابريل .2016
60ابن عبد البر ،التمهيد 467/8ـ .468
61ابن تيمية ،أحمد بن عبد الحليم ،مجموع الفتاوى .385/28
62اإلسالمبولي ،أحمد محمد ،العقود المستقبلية ورأي الشريعة اإلسالمية فيها ص.277
63انظر أحكام التعامل في األسواق المالية المعاصرة ص.1057
64رضوان ،سمير عبد الحميد ،أسواق األوراق المالية ودورها في تمويل التنمية ص ،321المعهد العالمي
للفكر اإلسالمي ،القاهرة1996 ،1." ،م.
65مهيدات ،محمد فهد ،المضاربات الوهمية (السوقية) ودورها في األزمة المالية ص ،16من أبحاث المؤتمر
العلمي الدولي حول( :األزمة المالية واالقتصادية العالمية المعاصرة من منظور اقتصادي إسالمي ،عمان ـ
األردن 1ـ 2ديسمبر 2010م).
66اإلسالمبولي ،أحمد محمد ،العقود المستقبلية ورأي الشريعة اإلسالمية ص ،78الجامعة األمريكية 2003م.
67با زرعة ،محمود صادق ،إدارة التسويق ص ،487المكتبة األكاديمية 2001م.
68الطحان ،زكريا محمد ،المسابقات والجوائز وحكمها في الشريعة اإلسالمية ،ص( 170رسالة ماجستير)
2001م.
69المسابقات والجوائز وحكمها في الشريعة اإلسالمية ص170
70نفس المرجع.
71سانو ،قطب ،بطاقات المسابقات ص ،26مجمع الفقه اإلسالمي الدورة الرابعة عشر ( 2003/1/11ـ
)2003/1/16الدوحة ـ قطر.
72المسابقات التجارية في الفقه اإلسالمي ص.65
73رواه البخاري ك /المزارعة ( )34/6برقم 2320ومسلم ب /فضل غرس والزرع ( )28/5برقم .4055
74ابن عاشور ،محمد الطاهر ،مقاصد الشريعة اإلسالمية ص ،464دار النفائس للنشر والتوزيع ـ األردن
1421هـ.
75المسابقات التجارية في الفقه اإلسالمي ص.75
76انظر عدنان ،حمزة ،شركات االحتيال ـ النموذج الهرمي (عن طريق بحث التسويق الشبكي ـ رؤية
اقتصادية إسالية بحث منشور في مجلة االقتصاد اإلسالمي العالمية على موقعها اإللكتروني).
77نفس المرجع السابق.
78ترميجان ،تريحان ،الغرر وتطبيقاته في المعامالت المالية المعاصرة ص.22
79نفس المرجع ص24
80عدنان ،حمزة التسويق الشبكي (رؤية اقتصادية إسالمية)
81انظر هارون ،جاسم ،شركات االحتيال ـ التسويق الشبكي على الموقع اإللكتروني
()http://goog.l//ZqpDbx
82انظر التسويق الشبكي (رؤية اقتصادية إسالمية) منقول منه.
83نفس المرجع السابق
84رمضان ،وائل ،التسويق الشبكي كسب حال أم بيع للوهم ونصب واحتيال ،موقع مجلة الفرقان
()http://goog.l//Zmala3
85نفس المرجع السابق.
106 ديسمبر2017