You are on page 1of 160

‫‪A‬‬ ‫‪F‬‬ ‫‪K‬‬ ‫‪A R‬‬

‫رئ ـيـ ـ ـ ــ�س ال ـت ـحـ ـ ـ ـ ــري ـ ـ ـ ـ ـ ــر‬


‫�أ‪ .‬زيــــــــــــــــاد �أبــــــــــــو لــــــــنب‬

‫ه ـ ـي ـ ـئ ـ ـ ـ ــة الـ ـت ـ ـح ـ ـ ـ ــريـ ـ ــر‬


‫د‪�.‬أحــــمـــــــــــــــــد را�شــــــــــــــــد‬
‫�أ‪.‬يــ�ســــــــــــار اخل�صـــــــــاونــــــة‬
‫�صـــــدر الــعـــــــدد الأول مــن جملـــــة �أفـكـــــــار فـي حـــزيــــران عــــــــام ‪1966‬‬
‫�س ـك ـ ـ ــرت ـي ـ ــر ال ـت ـ ـح ـ ــريـ ــر‬
‫�أ‪ .‬فـــتـــــــــحـــــي الـــ�ضـــمــــــــور‬

‫الإ�ش ـ ـ ـ ـ ـ ــراف ال ـفـ ـن ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــي‬


‫يــــو�ســــــــف الــ�صـــــــرايــــــــرة‬
‫‪293‬‬
‫الإخـ ـ ـ ـ ــراج وال ـتــ�ص ـم ـي ـ ـ ــم‬
‫عـــبـــــــــــادة الــفــحــمـــــــــاوي‬ ‫حــزيــران‬
‫‪2013‬‬
‫وح ـ ــدة الـتـ�صـمـيـ ـ ــم الـفـنـي‬
‫وزارة الـثـق ـ ـ ـ ــافـ ــة‬

‫هات ــف مبـا�ش ـ ـ ـ ــر‬ ‫ميكن ت�صفح املجلة على موقع الوزارة ‪www.culture.gov.jo‬‬
‫( رئي�س التحريـر )‪5672136 :‬‬ ‫رق ــم الإي ــداع لـ ـ ــدى دائـ ــرة املكتبـ ــة الــوطنيـ ــة (‪ / 2010 )1090‬د‬
‫املــرا�سـ ــالت‪ :‬با�س ــم رئي ــ�س التح ــري ـ ــر‬
‫العنوان الربيدي‪ :‬الأردن – عمان �ص‪.‬ب ‪ 6140 :‬الرمز الربيدي‪ - 11118 :‬عمان‬
‫‪E-mail: afkar@culture.gov.jo‬‬
‫املـحــتـــويــــــــــــــات‬ ‫حــزيــران ‪2013‬‬ ‫‪293‬‬

‫االفتتـ ـ ـ ـ ـ ــاح ـي ـ ـ ـ ـ ــة‪:‬‬


‫‪4‬‬ ‫رئ ـيـ ـ ــ�س التح ـ ــري ـ ـ ـ ــر‬ ‫‪ -‬فـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــي ذكـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــرى رح ـيـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــل �إدوارد �س ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــعيـ ـ ــد‬

‫درا�س ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــات‪:‬‬
‫‪7‬‬ ‫د‪ .‬حمم ــد �صــابر عبيــد‬ ‫النقدي اخل ّالق ‬
‫ّ‬ ‫الن�ص‬
‫‪� -‬صوت الناقد احلديث‪� :‬س�ؤال املنهج ودينام ّية ّ‬
‫‪17‬‬ ‫د‪� .‬سـ ـ ــمية ال�شــوابك ـ ـ ــة‬ ‫‪ -‬رحـلـ ــة الـوجـ ــع و�سـ ـ ـفــر الــحي ـ ـ ـ ــاة‪ :‬ق ـ ـ ـ ــراءة ن�صي ـ ــة تنـ ــا�صيـ ـ ــة‬
‫‪17‬‬
‫‪26‬‬ ‫ن�ضـ ـ ـ ـ ـ ــال القا�س ـ ـ ـ ـ ـ ــم‬ ‫‪ -‬تــجليـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــات الــنب ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــوءات‪ :‬الـمـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــا�ضـ ـ ـ ـ ـ ـ ــي‪ ،‬الآن‪� ،‬ألآت‬

‫�إبـ ــداع ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــات‪:‬‬


‫‪42‬‬ ‫د‪ .‬را�ش ـ ـ ـ ـ ـ ــد عي�سـ ـ ـ ــى‬ ‫ن�ص‬
‫‪� -‬أ�س ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـم ـ ــاك زينـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــة!!! ّ‬
‫‪43‬‬ ‫حميـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــد �س ـ ـ ـ ـ ـ ــعيد‬ ‫‪ -‬تــجليـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــات امل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــاء ‪� -‬شعر‬
‫‪45‬‬ ‫�أحمـ ـ ـ ـ ـ ـ ــد اخلطي ـ ـ ـ ــب‬ ‫‪ -‬ف ـ ــي بي ـ ـ ـ ــت �س ـ ـ ـ ـ ـ ــريتـ ـ ـ ــه ‪� -‬شعر ‬
‫‪48‬‬ ‫حيـ ـ ـ ـ ـ ـ ــدر الب�ستنجـ ـ ــي‬ ‫‪ -‬حـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــادي العيـ ـ ـ ـ ـ ـ ــ�س ‪� -‬شعر‬
‫‪26‬‬
‫‪51‬‬ ‫مي�س ــون طـ ــه النوبان ــي‬ ‫‪ -‬ه ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــي لـ ـ ـ ـ ـ ـ ــن ت ـعـ ـ ـ ـ ـ ــود ‪� -‬شعر‬
‫‪52‬‬ ‫د‪ .‬عبـ ـ ــداهلل من�ص ـ ـ ــور‬ ‫‪ -‬لـ ـيـ ـ ـ ـ ـل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــة �صـي ـ ـ ـ ـ ــف ‪� -‬شعر‬
‫‪53‬‬ ‫رائـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــدة زقـ ـ ـ ـ ـ ـ ــوت‬ ‫‪ -‬خ ــروج �س ـ ـ ــافر عن الن�ص – ق�صة‬
‫‪55‬‬ ‫فــتحـ ـ ـ ــي الـ�ضمـ ـ ـ ـ ـ ــور‬ ‫‪� -‬سـ ـ ـ ــاع ـ ــي ال ـب ـ ـ ـ ــري ـ ـ ـ ـ ـ ــد ‪ -‬ق�صة‬
‫‪57‬‬ ‫عم ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــر �ضم ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــرة‬ ‫‪ -‬ال ـم ــ�س ـ ـم ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــار – ق�صة‬
‫‪59‬‬ ‫من ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــال حم ـ ـ ـ ـ ـ ــدي‬ ‫‪ -‬نـ ـهـ ـ ـ ـ ـ ـ ــايـ ــة الــلعبـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــة ‪ -‬ق�صة‬
‫‪60‬‬ ‫مني ـ ـ ـ ـ ـ ــرة �صـ ـ ـ ـ ـ ــالـ ــح‬ ‫‪ -‬الـث ـ ـ ـ ـ ـ ــانيــة عــ�ش ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــرة ‪ -‬ق�صة‬ ‫‪67‬‬

‫�آداب �أجـ ـنـ ـبـ ـي ـ ـ ـ ـ ـ ــة‪:‬‬


‫‪62‬‬ ‫علـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــي عـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــوده‬ ‫‪ -‬ج ـ ــولـ ـ ـ ـ ـ ــي ‪ -‬ق�صة‪ :‬هـي ـ ـ ــرم ـ ـ ـ ـ ـ ــان هــي�سـ ـ ـ ــه ترجمها عن الأمل ـ ـ ــانية‪:‬‬
‫‪65‬‬ ‫ح�سـ ــام ح�سن ــي بـ ـ ــدار‬ ‫‪ -‬النهاية املر ّوعة لل�سيد جونز بقلم‪� :‬ستيفن ليكوك ترجمها عن الإجنليزية‪:‬‬

‫ح ـ ـ ـ ــوار الـ ـعـ ـ ـ ـ ــدد‪:‬‬


‫‪67‬‬ ‫�س ـ ـ ـ ـ ـ ــليم النج ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــار‬ ‫‪ -‬ح ــوار مـع الـروائيـ ــة املغــربيــة الــزه ــرة رمـي ـ ــج حـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــاورهـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــا‪:‬‬
‫‪74‬‬
‫حــزيــران ‪2013‬‬ ‫‪293‬‬

‫م ـل ـ ـ ــف ال ـع ـ ـ ـ ـ ـ ــدد‪ :‬الــدكتــور نهــــاد املو�ســى عـا�شـــق ال�ضـــاد‬

‫‪75‬‬ ‫د‪ .‬عبا�س عبد احلليم عبا�س‬ ‫‪ -‬تـ ـ ـ ـقـ ـ ـ ـ ــديـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــم‪ ..‬و�سـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـيـ ـ ــرة فـ ـ ـ ـ ـ ــي ح ـكـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــايـ ـ ــة‬
‫‪82‬‬ ‫د‪� .‬إ�سـ ـ ــماعيل القي ـ ـ ــام‬ ‫‪ -‬نظ ـ ــر ّية اخلط ـ ـ ـ�أ يف كتـ ــاب (اللغــة العرب ّيــة و�أبنا�ؤها) لنهاد املو�سى‬
‫‪� -‬آفـ ـ ـ ـ ــاق الل�س ـ ـ ـ ـ ــانيـ ـ ـ ـ ـ ــات ‪ :‬درا�س ــات – مراجع ــات – �شـ ـ ــهادات‬
‫‪87‬‬ ‫د‪ .‬عبا�س عبد احلليم عبا�س‬ ‫(تكرمي ًا للأ�ستاذ الدكتور نهاد املو�سـى)‬
‫‪94‬‬ ‫د‪ .‬عبـ ــداحل ــق بلع ـ ــابد‬ ‫‪ -‬نحو الرجال ولغة الأجيال (نهاد املو�سى واجتهاداته يف اللغة العربية)‬ ‫‪128‬‬
‫‪100‬‬ ‫د‪ .‬عمـ ــاد �أحم ــد الــزبن‬ ‫ـوي عنــد الدكتور نهاد املو�سى‬
‫التب�ص ــر يف الت ـ ــراث اللغ ـ ـ ّ‬
‫‪ -‬حمـ ـ ـدّدات ّ‬
‫‪104‬‬ ‫د‪ .‬هيثـ ـ ـ ـ ــم �س ـ ـ ــرحــان‬ ‫‪� -‬أ�س ــئلة اللغة العــربية يف ع�صــر العومل ــة‪ :‬قي ـ ُـم الثـُّبــوت وقوى التـَّح ُّول‬
‫‪110‬‬ ‫حـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــاوره‪ :‬د‪ .‬ولي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــد العنـ ـ ــاتي‬ ‫‪ -‬حـ ـ ـ ـ ــوار مـ ـ ـ ـ ــع الـ ـ ــدك ـ ـت ـ ـ ـ ـ ــور ن ـه ـ ـ ـ ـ ـ ــاد الـمـ ـ ــو�سـ ـ ــى‬

‫مـ ـت ـ ـ ـ ـ ـ ــاب ـ ـ ـع ـ ـ ـ ـ ـ ــات‪:‬‬


‫‪128‬‬ ‫د‪� .‬سـ ـ ــليمان الأزرع ـ ــي‬ ‫‪�" -‬شـ ـ ــرفــة الـ ـع ـ ـ ــار" �صرخة �أخرى لن�صرة املر�أة‬ ‫‪138‬‬
‫‪131‬‬ ‫د‪ .‬ح�سـ ـ ـ ـ ـ ـ ــني جمع ـ ـ ــة‬ ‫‪ -‬رحـ ـلـ ـ ـ ـ ـ ــة فـ ــي �أدغـ ـ ـ ـ ــال‪ :‬قـ ـ ـ ـ ـ ــارع الأج ـ ــرا�س‬
‫‪138‬‬ ‫�إلي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــا�س ف ـ ـ ــركـ ـ ــوح‬ ‫‪ -‬بي ـ ـ ـ ـ ـ ــروت‪َ :‬ح َجـ ـ ـ ـ ـ ـ ُر التجـ ـ ـ ــرب ِة و�ش ـ ـ ـ ـ ـ ــرارتها‬
‫‪142‬‬ ‫�س ـ ـ ـ ـ ـ ــمري ال�ش ـ ــري ـ ــف‬ ‫‪ -‬القا�صة ب�سمة النمري والدوران يف �شرنقة الذات‬
‫‪145‬‬ ‫د‪� .‬شـ ـ ـ ــوكت دروي ـ ـ ـ ــ�ش‬ ‫‪ -‬ق ـيـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــم الأدواء ف ـ ـ ـ ـ ــي "ذات م ــ�سـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــاء"‬
‫‪148‬‬ ‫ف ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــوزي اخلطبـ ـ ـ ـ ـ ــا‬ ‫‪ -‬ه ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــزاع ال ـب ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــراري روائ ـيـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ًا‬
‫‪151‬‬ ‫جعف ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــر العقيل ـ ـ ـ ـ ــي‬ ‫‪ -‬ا�س ـ ــرتاتيجية الت ـ ـ ـ�أويل الداللـ ــي عنـ ــد املعت ـ ــزلة‬ ‫‪145‬‬
‫‪156‬‬ ‫د‪ .‬في�صـ ـ ـ ـ ــل غرايب ـ ـ ــه‬ ‫‪ -‬ثقـ ـ ـ ـ ــافة املعـ ـ ـ ـ ــرفة والتفكيـ ـ ـ ــر اال�سـ ـ ــرتاتيجي‬

‫الكلم ـ ـ ــة الأخيـ ــرة‪:‬‬


‫‪159‬‬ ‫جمـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــال القي�سـ ـ ـ ـ ــي‬ ‫‪ -‬ح ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــني ي ـ ـخـ ـ ـ ـ ـ ـ ــون املـبـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــدع نــف�سـ ـ ـ ـ ـ ـ ــه‬

‫‪148‬‬
‫افتتــاحـي ـ ـ ـ ـ ــة‬

‫فـي ذك ــرى رحيـ ـ ــل �إدوارد �س ـ ـ ــعيد‬


‫يف الذكرى العا�شرة لرحيل �إدوارد �سعيد‪ ،‬ا�ستوقفني «�شيلي واليا» يف كتابه «�إدوارد �سعيد‬
‫وكتابة التاريخ»‪ ،‬الذي قام برتجمته وتقدميه �أحمد خري�س ونا�صر �أبو الهيجاء‪ ،‬و�صدر عن‬
‫دار �أزمنة يف عمان عام ‪ ،2007‬الذي ي�سلط ال�ضوء على حياة �إدوار �سعيد‪ ،‬املف ّكر الذي‬
‫ق ّدم �إ�سهامات فكرية مه ّمة حول الغرب واال�ست�شراق وحتليل اخلطاب وال�سيا�سات امل�ضا ّدة‬
‫ودرا�سات ما بعد الكولونيالية‪ ،‬هذا املف ّكر الذي اخترب املنايف والإبتعاد عن وطنه فل�سطني‪،‬‬
‫فقد عا�ش الجئ ًا يف م�صر بعد حرب عام ‪ ،1948‬فمهاج ًرا �إىل الواليات املتحدة الأمركية‪،‬التي‬
‫عاي�ش فيها احلقد العن�صري‪ ،‬ليكتب مذكراته «خارج املكان»‪ ،‬الذي يعد �شهادة امل�ؤلف على‬
‫ع�صره‪ ،‬ويكتب عن امل�س�ألة الفل�سطينية‪ ،‬ويزيد من اهتمامه يف الق�ضية الفل�سطينية باعتباره‬
‫فان�ضم‬
‫ّ‬ ‫فل�سطين ًيا الجئا ومهاج ًرا‪ ،‬و�أي�ض ًا ما �أ�صابه من �أمل وحزن بعد هزمية عام ‪،1967‬‬
‫�إىل املجل�س الوطني الفل�سطيني عام ‪ ،1977‬فم ّثل �إدوارد �سعيد بهذا كله مثال املثقف الذي‬
‫ميزج اخلا�ص بالعام‪ ،‬بل ميزج ان�شغاالته الأدبية بالفل�سفية والثقافية وال�سيا�سية‪ ،‬عرب موقفه‬
‫املعار�ض والراديكايل الذي «ي�سعى فيه �إىل مواجهة ال�سلطة بقول احلقيقة»‪ ،‬وبعد اتفاق �أو�سلو‬
‫عام ‪ 1993‬ي�صبح �إدوارد خارج امل�ؤ�س�سة‪ ،‬لي�ستنه�ض م�شروعه يف �سياق الدرا�سات الثقافية‬
‫والتاريخية‪.‬‬
‫يتخطى �إدورد �سعيد يف كتابه «اال�ست�شراق» املارك�سيني الغربيني‪« ،‬على ما ت�شغله الثقافة‬
‫والفل�سفة من �أهمية داخل مناذج ا�سرتاتيجيات ال�سلطة كما �صاغها كل من فوكو وغرام�شي‪،‬‬
‫‪..‬كا�شفا عن الكيفية التي ت�صطبغ بها املعرفة الغربية بال�سلطة‪ ،‬والبواعث ال�سيا�سية‪ ،‬نائية‬
‫عن �صفتها الأكادميية»‪ ،‬لذا ف�إنّ كتاب اال�ست�شراق مدينُ « دين ًا عظيم ًا لتنظريات فوكو حول‬
‫العالقة بني ال�سلطة واملعرفة ‪ ..‬وي�ستثمر �سعيد املنتظم الفوكوي لي�ضع‪� ،‬سو ّي ًا‪ ،‬جمموعة‬
‫متباينة من الن�صو�ص ال�سيا�سية‪ ،‬والأدبية‪ ،‬والأل�سنية‪ ،‬والإثنوغرافية‪ ،‬والتاريخية ليعينّ خطاب‬
‫اال�ست�شراق‪ .‬وال يقف‪ ،‬حاذي ًا حذو فوكو‪ ،‬عند هذا احلد‪ ،‬بل مي�ضي لينظر يف البنى التي تكمن‬
‫وراء انتاج الن�صو�ص وامللفوظات التي تبدو �ضرورية لفهم ا�سرتاتيجيات املعرفة وال�سلطة‬
‫واملراقبة التي هدفت �إىل انتاج ال�شرق»‪.‬‬
‫�أما يف كتابه «الثقافة والإمربيالية» فيتج ّلى وعي �إدوارد بالنزعات الإمربيالية ال�سائدة يف‬
‫�إجنلرتا القرن التا�سع ع�شر‪ ،‬الفتا انتباه القارئ الغربي �إىل الثقافات غري الغربية‪ ،‬فهو كما‬
‫ُ‬
‫يرحتل من الأدب �إىل التاريخ وال�سيا�سة‪ ،‬ومن علم االجتماع �إىل الأوبرا‬ ‫و�صفه «�شيلي واليا»‪»:‬‬
‫والفنون‪ ،‬ويتوىل هذا الكتاب كتابة التاريخ وفق ًا لهذه املمار�سات الثقافية وعالقتها بال�سلطة»‪.‬‬
‫وقد �أ�سهمت كتابات �إدوارد يف «مبحث التاريخ نحو درا�سات «التابع»‪ ،‬ومداخالته‪ ،‬حني مل‬
‫ينظر �إىل احلقيقة �إ ّال بو�صفها ذات �سمة ظرف ّية و�سيا�سية»‪ ،‬وقد ك�شف �سعيد عن العالقة‬
‫الإ�شكالية بني الأدب والتاريخ عرب كتابيه‪»:‬اال�ست�شراق»‪ ،‬و»الثقافة والإمربيالية»‪ ،‬فثمة تداخل‬
‫كبري بني التاريخ والأدب‪ ،‬وترابط وثيقً يف ال�سرود الأدبية بال�سيا�سة‪ ،‬ويرى «�شيلي واليا»‪� :‬أن‬
‫كتابات �إدوارد تنطوي «على اجتاه را�سخ يجعل الظاهرة الإيديولوجية يف القلب من التحليل‬
‫يرف�ض ت�شميل وجهات النظر والتق�سيمات‬ ‫الدياليكتيكي‪ .‬م�ش ّددة على تبني موقف كوين االجتاه ُ‬
‫الأكادميية التي تق�ص ُد �إىل �إ�سقاط نوايا امل�ؤلف»‪.‬‬
‫يك�شف الكتاب عن ثقافة �إدوارد �سعيد ب�صورة بانورامية مكثفة قام بها «�شيلي واليا»‬
‫للم�صادر التي �ش ّكلت ثقافة �إدوارد يف كتابة التاريخ‪ ،‬ثم �إن الكتاب يقوم على ق�سمني ق�سم كتبه‬
‫«�شيلي واليا»‪ ،‬وق�سم �آخر عبارة عن حوار طويل �أجراه «و‪.‬ج‪.‬ت‪ .‬ميت�شيل» مع �إدوارد بعنوان‬
‫«الفزع من الب�صري»‪ُ ،‬ن�شر يف جملة متخ�ص�صة عام ‪.1998‬‬
‫رئي�س التحرير‬
‫درا�س ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــات‪:‬‬
‫النقدي اخل ّالق ‬
‫ّ‬ ‫الن�ص‬
‫‪� -‬صوت الناقد احلديث‪� :‬س�ؤال املنهج ودينام ّية ّ‬
‫‪ -‬رحـلـــة الـوجـــع و�ســــفــر الــحيـــــــاة‪ :‬قــــــراءة ن�صيـــــة تنــا�صيـــــة‬
‫‪ -‬تــجليــــــــــــــات الــنبــــــــــــــــــوءات‪ :‬الـمــــــــــــــا�ضــــــــــــــي‪ ،‬الآن‪� ،‬ألآت‬
‫‪‬‬
‫‪7‬‬

‫�صوت الناقد احلديث‬


‫النقدي اخل ّالق‬
‫ّ‬ ‫الن�ص‬
‫�س�ؤال املنهج ودينام ّية ّ‬
‫د‪ .‬حممد �صابر عبيد‬

‫التقليدي الذي بقي م�صمم ًا‬


‫ّ‬ ‫ف�ض ًال على ذلك النمط‬ ‫العربي احلديث حتتاج �إىل د ّقة‬
‫ّ‬ ‫�إنّ معاينة جتربة الناقد‬
‫العربي والدعوة‬
‫ّ‬ ‫النقدي‬
‫ّ‬ ‫على التمرت�س خلف منطقة املرياث‬ ‫علمية عالية وحذر �شديد‪ ،‬ومن �أجل �أن يعي املعاين طبيعة‬
‫الأ�صولية �إىل ا�ستثماره ومناه�ضة الآخر الوافد به‪� ،‬أو الدعوة‬ ‫اللب�س والإرباك والفو�ضى التي دخلت التجربة النقدية العربية‬
‫املنهجي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫النقدي‬
‫ّ‬ ‫�إىل قراءته قراءة جديدة بوحي من الراهن‬ ‫العربي‪،‬‬
‫ّ‬ ‫النقدي‬
‫ّ‬ ‫املنهجي الذي اجتاح العقل‬
‫ّ‬ ‫يف ّ‬
‫خ�ضمها �إثر امل ّد‬
‫يرت�صد حدود التجربة يف مدى ا�ستقالليتها من‬ ‫ف�إنّ عليه �أن َّ‬
‫أكادميي ي�ضع ت�ص ّور ًا‬
‫ّ‬ ‫لذا ف�إنّ �أ ّية �إمكانية لإيجاد ت�صنيف �‬ ‫جهة‪ ،‬ويف املدى الذي ذهبت �إليه باجتاه الآخر من جهة �أخرى‪،‬‬
‫مركزي ًا و�شام ًال لهذه احلدود �سي�صطدم مبعيقات حقيقية ال‬ ‫النقدي‬
‫ّ‬ ‫الن�ص‬
‫والكيفية التي انعك�س فيها هذا وذاك على جوهر ّ‬
‫ت�ساعد مطلق ًا يف حتقيق جناحات تذكر‪ ،‬و�ستبقى معاينة هذه‬ ‫بو�صفه املم ّثل الأبرز ل�صوت الناقد احلديث‪.‬‬
‫التجربة على الأق ّل يف الظروف احلالية حمفوفة باملخاطر‬
‫العلم ّية التي ال ت�ؤدي �إىل نتائج وا�ضحة ومطم ِئنة‪.‬‬ ‫املنهجي وانفتاح التجربة النقد ّية على‬
‫ّ‬ ‫ورمبا كان للتن ّوع‬
‫نقدي جديد ووا�سع‪ ،‬يزدحم ب�شبكة من املناهج املعرو�ضة‬ ‫�أفق ّ‬
‫من هنا ف�إنه بو�سعنا �أن نقر�أ الفاعلية الإن�سانية واحل�ضارية‬ ‫للعمل واملر�شحة لال�ستخدام‪ ،‬الت�أثري البالغ يف �إرباك �صوت‬
‫إبداعي من‬
‫الن�ص ال ّ‬ ‫للعلمية النقدية‪ ،‬بو�صفها جتربة تنقل ّ‬ ‫الناقد عرب تن ّقله بني املناهج من دون و�ضوح كامل يف الر�ؤية‪،‬‬
‫واحل�ضاري‪ ،‬وممار�سة‬
‫ّ‬ ‫الكتابي �إىل ف�ضائه الإن�سا ّ‬
‫ين‬ ‫ّ‬ ‫ح ّيزه‬ ‫املنهجي ويحفظ �سالمة ال�شروط‬ ‫ّ‬ ‫يدعم �شرعية التب ّني‬
‫ت�ستثمر طاقاتها القرائية تف�سري ًا وحتلي ًال وت�أوي ًال لتح ّرر‬ ‫الأكادميية للمنهج ر�ؤي ًة وت�ص ّور ًا وتطبيق ًا‪.‬‬
‫اللغوي وجتعله قاب ًال للحياة‪ .‬لذا ف�إنّ‬
‫ّ‬ ‫الن�ص ّي من ربقة‬
‫الكيان ّ‬
‫العربي احلديث يف �صورته العامة‬ ‫ّ‬ ‫وظ ّل �صوت الناقد‬
‫أدبي تتم ّثل يف �أن�سنة الن�صو�ص‬ ‫النزعة الإن�سانية يف النقد ال ّ‬ ‫يت�أرجح بني الركون �إىل املنهج ّية داخل ال�سياقات امل�ضب ّبة التي‬
‫يل ل�شعرية‬ ‫والتجارب الإبداعية ثقافي ًا‪ ،‬ويف �إيجاد تربير جما ّ‬
‫ق ّدمنا لها‪ ،‬واالن�سحاب �إىل منطقة ذاتية ال�صوت وخ�صو�صيته‬
‫الأدب ي�ساعد يف �إدراك جوهر الإن�سان وتل ّم�س خ�صائ�صه‬ ‫املنهجي الثائر‪،‬‬ ‫عرب مالم�سة خفيفة ملا تقذفه حمم الربكان‬
‫ّ‬
‫الإن�سانية الباطنية‪ ،‬على النحو الذي ت�صبح فيه ح�سا�سية‬ ‫واال�شتغال املحدود والهادئ عليها لتطوير �آفاق ر�ؤية ال�صوت‬
‫احلياة �أكرث حيوية وفرح ًا و�إيجابية‪.‬‬ ‫النقدي بذاتيته وخ�صو�صيته‪.‬‬
‫ّ‬
‫�أ�ستاذ الأدب العربي احلديث يف جامعة املو�صل‪ -‬العراق‪.‬‬
‫‪‬‬
‫‪8‬‬

‫تن�ضم على بع�ضها‬ ‫النظرية بطبيعة احلال نظريات‪ ،‬لكنها ّ‬ ‫احلقيقي واحلا�سم بني �صوت‬ ‫ّ‬ ‫ومن هنا يت�أكد الفرق‬
‫نظري‪ ،‬والنظرية تتك�شف‬‫ّ‬ ‫يف �إطار واحد ميكن و�صفه ب�إطار‬ ‫الناقد و�صوت معلم النقد‪ ،‬حيث ال يكتفي �صوت الناقد بعر�ض‬
‫عن جمموعة ر�ؤيات ميكن �أن تُربط بن�سيج م�شرتك‪ ،‬كما �أنّ‬ ‫النظريات النقدية �أ�صو ًال ومقوالت وتلخي�صها‪ ،‬مكتفي ًا مبوقعة‬
‫تتمخ�ض عن �شبكة مناهج خمتلفة ت�أخذ اختالفها‬ ‫الر�ؤية ّ‬ ‫العملية النقدية نظر ّي ًا كما هي احلال لدى معلم النقد‪ ،‬بل‬
‫ومتايزها من منتهجيها وحملة لوائها‪ ،‬وك ّل منهج بدوره يق ّدم‬ ‫يتع ّدى ذلك �إىل ت�سخري الآليات والتقانات التي تتيحها هذه‬
‫جمموعة قراءات تت�س ّلح بجهاز م�ستقل ونا�ضج من امل�صطلحات‬ ‫النظريات لغر�س الروح النقدية يف عقل الناقد ل�سان ًا وذوق ًا‬
‫النقدي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫واملفاهيم يف ال�سبيل �إىل ت�شكيل ال�صوت‬ ‫وج�سد ًا وح�سا�سية‪.‬‬
‫مبعنى �أنّ النظرية ت�صل تخوم ال�صوت عرب �سل�سلة تتابعات‬ ‫تلك الروح التي تطلق رغبته غري املحدودة يف �إحياء‬
‫وفكري خا�ص‪ ،‬تعبرّ �ضرورة يف كيفية ما‬
‫ّ‬ ‫فل�سفي‬
‫ّ‬ ‫ذات ن�شاط‬
‫متظهرات اخلطاب وجت�سيدها يف لغة الن�صو�ص الإبداعية‬
‫ين‪ ،‬على النحو الذي تخ�ضع فيه التجربة‬ ‫عن ال�شرط الإن�سا ّ‬
‫احلقيقي والوا�ضح يف تطوير �إن�سانية‬
‫ّ‬ ‫�إىل درجة الإ�سهام‬
‫والفكري‬
‫ّ‬ ‫الفل�سفي‬
‫ّ‬ ‫النقدية ب�أكملها ملفرزات الن�شاط بطابعه‬
‫ول�ضرورات ال�شرط الإن�سا ّ‬
‫ين وموحياته وانعكا�ساته‪.‬‬
‫النقدي‬
‫ّ‬ ‫الن�ص‬
‫إبداعي عرب ّ‬
‫الن�ص ال ّ‬ ‫املتل ّقي‪ ،‬وهو يتفاعل مع ّ‬
‫تفاع ًال روحي ًا وج�سدي ًا ي ّن�شط خاليا احلياة ويع ّمق الإح�سا�س‬
‫نقدي خلاّ ق ي�ستوعب‬
‫ن�ص ّ‬ ‫ ال ّ‬
‫�شك يف �أنّ الو�صول �إىل ّ‬ ‫إيجابي بها‪.‬‬
‫ال ّ‬
‫�س�ؤال املنهج ومي ّثل على نحو عميق و�أ�صيل �صوت الناقد‬
‫احلديث‪ ،‬يتط ّلب ح�سا�سية دينامية ّ‬
‫تتدخل يف ك�شف امل�ضمون‬ ‫لكنّ هذه املهمة التي كما تبدو على قدر غري قليل من‬
‫اجلوهري للثقافة وت�أهيله يف �سياق �إعادة �صياغته‬
‫ّ‬ ‫الإن�سا ّ‬
‫ين‬ ‫ال�صعوبة والتعقيد ال ينبغي لها �أن تكون مكتفية مبنطق الرغبة‬
‫نقدي ًا‪.‬‬ ‫والطموح يف الإجناز‪ ،‬اعتماد ًا على الذائقة املجردة وتعوي ًال‬
‫على �إمكاناتها التي قد يعتقد البع�ض �أنها حمدودة وغري‬
‫ـ �ضرورة النظر ّية‪:‬‬
‫كافية‪ ،‬بل النظر �إىل الأداة املنهجية امل�ستندة �إىل النظرية‪،‬‬
‫ال نح�سب �أنّ �أحد ًا اليوم من �أولئك امل�شتغلني يف حقل‬ ‫بو�صفها العامل الأ�سا�س يف االنتقال بالذائقة من حدودها‬
‫واحل�سا�س من حقول املعرفة‬‫ّ‬ ‫املعرفة النقد ّية لهذا احلقل املهم‬ ‫الفني املعزّز بروح علمية‪،‬‬
‫ّ‬ ‫الذاتوية ال�صرف �إىل الف�ضاء‬
‫الإن�سانية احلديثة ال يق ّر ب�ضرورة النظرية‪� ،‬إذ اندفع خيال‬ ‫العاطفي و�شطحاتها الإن�شائية‪.‬‬
‫ّ‬ ‫يخ ّل�ص الذائقة من ان�سياحها‬
‫النظرية لي�ضرب بظ ّله �آفاق النقد من «مغربه �إىل م�شرقه!»‪،‬‬
‫وات�سعت قا ّرتها ل ُتظهِ ر مرجع ّية ال منا�ص من الركون �إليها‬ ‫منطقة النظرية منطقة �ضرورية ومركزية وف ّعالة‬
‫ال�ستلهام روح النظام املعر ّيف‪ ،‬من �أجل تر�صني العمل ّية النقد ّية‬ ‫يف العملية النقدية‪ ،‬لكنها لي�ست تلك النظرية التي تبقى‬
‫وم�ضاعفة متا�سكها وتعزيز قدرتها على الك�شف والإجناز‬ ‫حمتفلة برماديتها ويبا�سها وجترديتها وك�آبتها‪ ،‬بل النظرية‬
‫املبدع اخل ّالق‪.‬‬ ‫القابلة لأن ّ‬
‫تتك�شف عن حياة ح ّية بو�سعها �أن ترفد الفعاليات‬
‫النقدية مبزيد من الر�صانة والد ّقة واحلرفية‪ ،‬امل�ستندة �إىل‬
‫يل للنظر ّية ا�ستناد ًا �إىل معطيات‬
‫يتح ّدد املفهوم ال�شمو ّ‬
‫نظم وتقاليد ومعايري تعمل على �إنتاج دينامية خال ّقة ّ‬
‫للن�ص‬
‫النقدي بكونها «�سل�سلة‬
‫ّ‬ ‫قابليتها الإجرائية يف م�ساحة العمل‬
‫العمليات ّ‬ ‫النقدي‪.‬‬
‫ّ‬
‫املنظمة التي يهتدي بها الناقد م�ستخ َل�صة من �آفاق‬
‫‪‬‬
‫‪9‬‬

‫تف ّرده وخ�صو�ص ّيته‪ ،‬و�صوت الناقد الآخر (بقيم ِه الفرد ّية‬ ‫الر�ؤ ّية لالقرتاب �إىل الأهداف التي تنطوي عليها الف ّعالية‬
‫واجلمع ّية) وبر�ؤاه التطابق ّية �أو االختالفية‪ ،‬لتحقيق قدر كبري‬ ‫الإبداعية»(‪.)1‬‬
‫أدبي‬
‫من الدينام ّية والكفاءة يف طبيعة هذا الن�شاط‪ ،‬وفتح ال ّ‬ ‫النقدي املعا�صر ت�شتغل على الظاهرة‬
‫ّ‬ ‫غري �أنها يف حمتواها‬
‫ين على‬ ‫ين وحتري�ض الثقا ّيف والإن�سا ّ‬ ‫فيه على الثقا ّيف والإن�سا ّ‬
‫الأدبية « ال�شعر ّية وال�سرد ّية « يف جهد خ ّالق ُيعلي خ�صائ�صها‬
‫أدبي بو�صفه جذوة حياة م�شتعلة بالتجديد والتحديث‪،‬‬ ‫قبول ال ّ‬
‫ين‪،‬‬‫احليوي مع اجلوهر الإن�سا ّ‬
‫ّ‬ ‫ذات القابلية على التداخل‬
‫النقدي بو�صفه و�سيط ًا‬‫ّ‬ ‫ومبا يعك�س قيمة توا�صل ّية لل�صوت‬
‫واحل�ضاري‪.‬‬ ‫م�شارك ًا يف هذا املهرجان الثقا ّيف‬ ‫نقدي متميز وف ّعال ومنتج‪ ،‬ينتمي �إىل �أ�صال ٍة‬
‫لت�شكيل �صوت ّ‬
‫ّ‬
‫مرجعي ٍة وي�سري بخطوات م�شحونة باخل�صب والرثاء والعمق‬
‫ـ �س�ؤال احلداثة‪ :‬من الر�ؤية �إىل املنهج‬ ‫والو�ضوح واملنهجية واجل ّدة يف �آن‪.‬‬
‫ح�سا�سة‬
‫يتمخ�ض �صوت الناقد احلديث عن جملة �أ�سئلة ّ‬ ‫ّ‬ ‫�إذ ت�ؤكد النظرية النقدية املعا�صرة يف هذا ال�سياق ب�أ�شكالها‬
‫النقدي‪ ،‬ومبا‬
‫ّ‬ ‫الدينامي واخل ّالق ّ‬
‫للن�ص‬ ‫ّ‬ ‫تعمل يف الف�ضاء‬ ‫كافة على «اخل�صائ�ص النوعية للأدب باعتباره ن�شاط ًا تخيلي ًا‬
‫مركزي‬
‫ّ‬ ‫تتلخ�ص يف �س�ؤال احلداثة وهو يتح ّرك يف حمور‬ ‫متميز ًا يف طبيعته عن غريه من الأن�شطة الإن�سانية ‪ .‬وانطالق ًا‬
‫من حماوره على واحدة من �أهم احللقات امل�ؤ�س�سة لل�صوت‬ ‫من هذا الت�أكيد يحاول النقد املعا�صر النفاذ يف ن�سيج العمل‬
‫النقدي‪ ،‬املركزّة يف املنطقة الأكرث ثراء بني �أفق الر�ؤية و�آل ّيات‬
‫ّ‬ ‫ال�شعري‪ ،‬وت�أ ّمله باعتباره بنية من العالقات يك�شف تفاعلها‬
‫ّ‬
‫املنهج‪.‬‬ ‫عن معنى الق�صيدة‪ ،‬كما ي�شري �إىل طريقتهما املتميزة يف �إثراء‬
‫العربي احلديث يف هذا امل�ضمار‬ ‫ّ‬ ‫تو ّزع �صوت الناقد‬ ‫املتلقي‪ ،‬وتعميق وعيه بنف�سه‪ ،‬وخرباته بالواقع»(‪.)2‬‬
‫على �إيقاعات �شتّى عك�ست تنوع ًا كبري ًا و�صل �إىل ح ّد اللب�س‬ ‫ويف الوقت الذي يبدو فيه اال�شتغال يف منطقة النظرية‬
‫والتداخل واملفارقة‪ ،‬و�أ�صبح من ال�صعب فح�صها على وفق‬ ‫�شائك ًا بع�ض ال�شيء‪ ،‬ب�سبب من طبيعتها التجريدية ذات البعد‬
‫إيقاعي يف ال�صوت‬ ‫معايري �أكادميية دقيقة‪ ،‬لأنّ ال�شطط ال ّ‬ ‫الفل�سفي التي ت�ستلزم فح�ص ًا وتدقيق ًا ومتحي�ص ًا‬ ‫املنطقي‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫العربي احلديث مل يحدث على �صعيد الن ّقاد ح�سب‪ ،‬بل‬ ‫ّ‬ ‫النقدي‬
‫ّ‬ ‫ومرونة عالية يف التفكري والتعامل مع الفرو�ض ال�ستخال�ص‬
‫على �صعيد الناقد الواحد حيث �أخذت قراءاته النقدية تقرتح‬ ‫النتائج‪ ،‬ف�إ ّنه ال ينبغي �أن يقف ذلك حائ ًال دون التم�سك بها‬
‫جمموعة مناهج ال منهج ًا واحد ًا �أو ف�ضاء منهج ّيا م�ستق ًال‪.‬‬ ‫وا�ستئنا�س �أجوائها والتع ّرف اجلاد واملجتهد �إىل فقهها‪ ،‬و�صو ًال‬
‫ولع ّلنا لو �شئنا الربهنة على هذه املقولة لك ّلفنا ذلك‬ ‫النقدي الفاعل واملبدع ل�صوت الناقد‪ ،‬فمن‬‫ّ‬ ‫�إىل تر�سيخ الوجود‬
‫الإحاطة بك ّل املزاعم النقد ّية التي ي�ضعها الن ّقاد عادة يف‬ ‫دون «النظر ّية مهما كانت غري وا�ضحة‪ ،‬ومفاهيمها �ضمنية‬
‫مو�ضحني فيها ر�ؤيتهم ومنهجهم‪،‬‬ ‫مق ّدمات كتبهم النقدية‪ّ ،‬‬ ‫أدبي �أ�سا�س ًا وكيفية وجوب‬
‫ف�إننا لن نتع ّرف �إىل ماه ّية العمل ال ّ‬
‫وقد اندفع بع�ضهم �أكرث من ذلك حيث ع ّدوها بيانات نقد ّية‪.‬‬ ‫قراءته‪� .‬إنّ معاداة النظر ّية تعني عادة‪ ،‬معار�ضة لنظر ّيات‬
‫الآخرين ون�سيان الفرد لنظر ّيته»(‪.)3‬‬
‫�سنعاين على �سبيل املثال بع�ض ًا من ذلك على النحو الذي‬
‫ينا�سب مقرتح املداخلة يف �س�ؤال احلداثة‪ ،‬من الر�ؤية �إىل‬ ‫�إنّ الت�أكيد على �ضرورة النظر ّية هنا من �ش�أنه �أن ينقذ‬
‫املنهج‪� ،‬إذ ع ّد �أحدهم الر�ؤية مثابة ينطلق منها الناقد نحو‬ ‫النقدي من تخ ّبطه وفو�ضاه وال جدواه‪ ،‬ويقوده �إىل‬
‫ّ‬ ‫الن�شاط‬
‫املنهج‪ ،‬وقد ينطلق من املثابة نف�سها جمموعة من الن ّقاد‬ ‫حالة دقيقة وف ّعالة من التوازن بني �صوت الناقد الفرد ب�أجلى‬
‫‪‬‬
‫‪10‬‬

‫املنهجي على �سواه‪ ،‬على النحو الذي‬


‫ّ‬ ‫لتوكيد علو كعب الأمنوذج‬ ‫ي�شرتكون يف ر�ؤية واحدة لك ّنهم يفرتقون على حدود املنهج‪،‬‬
‫يثري �إ�شكال ّية منهج ّية غاية يف اخلطورة والتعقيد‪.‬‬ ‫منهجي‬
‫ّ‬ ‫قائ ًال يف تف�سري مقاربته املت�شك ّلة من �أكرث من ن�سق‬
‫احلداثوي يف‬
‫ّ‬ ‫خا�صة‪ ،‬وجتليات الت�ش ّكل‬
‫«�إنّ مقاربتنا لل�شعر ّية ّ‬
‫�سنعر�ض لأمنوذج واحد يعتقد �صاحبه �أنه يقرتب كثري ًا‬
‫الن�صو�ص حمكومة �أ�سا�س ًا ب�أ�سبقية الر�ؤية على املنهج ‪ .‬فثمة‬
‫يل‬‫من حدود متثيل النزعة الإن�سان ّية يف املجال ال�سو�سيوجما ّ‬
‫ر�ؤية مرهونة باحلداثة قدر ًا وم�صري ًا‪ ،‬مقرتنة ببحث قلق‬
‫النقدي‪ ،‬قائ ًال ب�أنّ «املنهج الذي �سري�ضي ّ‬
‫احل�س االجتماعي‬ ‫ّ‬ ‫ودائب عن �إجابات (ن�ص ّية) لأ�سئلة املنهج التي بلغت ذروة‬
‫وخا�صة يف‬
‫ّ‬ ‫وي�شبع الف�ضول الف ّني هو « البنيو ّية التكوين ّية «‬ ‫�إ�شكالياتها»( ‪.)4‬‬
‫�صياغتها الكولدمانية التي حتقق االن�سجام بني وحدة الأثر‬
‫ووظيفته‪ ،‬وتفتح �إمكان ّية �إدراك العالقات الأ�سا�س ّية فيه‪،‬‬ ‫فهو يراهن على ر�ؤية احلداثة وما ّ‬
‫يتمخ�ض عنها من �أن�ساق‬
‫ومنهم من يعتقد �أنه منهج قادر على ك�شف ما مل يكن معروف ًا‬ ‫منهج ّية ت�ؤ ّلف �إ�شكاالتها احليوية‪ ،‬عرب امتحان الن�صو�ص‬
‫الن�ص‪ ،‬و�أنه منا�سب لدرا�سة الأعمال الأدب ّية‬ ‫من خ�صائ�ص ّ‬ ‫الن�صي على الو�صول بكفاءتها الإنتاج ّية‬
‫ومترين �آل ّيات العمل ّ‬
‫والفكر ّية لأنه يتيح الربط بني العمل الف ّن ّي واملرحلة االجتماعية‬ ‫(النوع ّية) �إىل �أعلى ح ّد ممكن‪ ،‬داخل ف�ضاء من البحث القلق‬
‫والتاريخ ّية‪ ،‬مع جت ّنب الأحكام اجلاهزة «(‪.)6‬‬ ‫العلمي‪ ،‬واالجتهاد املهموم باملعرفة واجلمال‬
‫ّ‬ ‫املنتج‪ ،‬والد�أب‬
‫و�صناعة احلياة يف عناء �إن�سا ّ‬
‫ين خال�ص ‪.‬‬
‫املنهجي لن‬
‫ّ‬ ‫�إنّ هذه املرافعة الهادفة �إىل ت�سويق الأمنوذج‬
‫يت�س ّنى لها حتقيق فتوحات منهج ّية ترقى �إىل م�ستوى الطموح‪،‬‬ ‫وعلى الرغم من «�أنّ املناهج يف جوهرها ما هي �إ ّال �إرها�صات‬
‫فل�سف ّية فكر ّية‪� ،‬أيديولوج ّية‪ ،‬حت ّدد �أبعادها و�أهدافها ّ‬
‫وتلخ�ص‬
‫لأنها �ست�صطدم مبرافعات �أخرى ال تق ّل بالغة وف�صاحة‬
‫الن�ص املبدع فكر ّي ًا كان‬
‫يف مفاهيم واجتاهات مع ّينة لتُخ�ضع ّ‬
‫ومنطق ّية عن مناذج منهج ّية �أخرى بالقدر نف�سه من احلما�س‬
‫�أم �أدبي ًا للر�ؤية �أو الهدف الذين �أراد �صاحب املنهج الرتويج‬
‫والتربير والربهنة‪ ،‬يف ال�سبيل �إىل تعقيد �س�ؤال احلداثة‬
‫الإ�شكا ّ‬
‫يل من ف�ضاء الر�ؤية �إىل حدود املنهج‪ ،‬وتعميق �إ�شكال ّيته‬
‫الن�ص املبدع نف�سه مبا ينطوي عليه من قيم‬ ‫لهما»(‪� ،)5‬إ ّال �أنّ ّ‬
‫�إن�سانية راقية ال يكتفي باخل�ضوع ملركز ّية املنهج يف �سياق‬
‫العربي احلديث وخطابه‪.‬‬
‫ّ‬ ‫املعلنة من جبهة �صوت الناقد‬
‫�سلطة الر�ؤية‪ ،‬بل تت�س ّرب حيواته الإن�سانية وميكانزماته �إىل‬
‫ـ القراءة النقد ّية وحدود الت�أويل‪:‬‬ ‫ن�سيج التقانات والآل ّيات لتل ّونها ب�ألوانها‪ ،‬ولتبعث يف مناخها‬
‫ين �إيقاعاتها القادمة من �صوت الناقد‪�/‬صوت‬ ‫ال�صياغي التقا ّ‬
‫ّ‬
‫�شغلت القراءة يف عالقتها بالت�أويل معظم فر�سان النقد‬
‫الن�ص‪ ،‬وهي ت�شحن الهدف بقدرات م�ضافة تتف ّوق على منطق‬ ‫ّ‬
‫العربي احلديث داخل املدو ّنة الأدب ّية وخارجها‪ ،‬بعد �أن �أعيد‬
‫ّ‬ ‫الرتويج ّ‬
‫متك�شفة عن طاقات خلق ت�ص ّعد من ح�ضور النزعة‬
‫اعتبار القارئ بو�صفه �أحد �أبرز العنا�صر الرئي�سة احلا�سمة‬
‫الإن�سان ّية يف العمل ّية النقدية‪.‬‬
‫ين‪ ،‬و�أ�ضحى‬‫إبداعي �إىل ح ّيز الوجود الإن�سا ّ‬
‫الن�ص ال ّ‬‫يف نقل ّ‬
‫�صوت الناقد احلديث يف ف ّعالية جوهر ّية من فعال ّياته منطلق ًا‬ ‫لكنّ امل�شكلة التي تنح�سر فيها الر�ؤية وي�ضيق املنهج ترتاءى‬
‫من منطقة القراءة‪ ،‬داخ ًال فيها حدود الت�أويل‪.‬‬ ‫يف املرافعة التي يتعاىل فيها �صوت الناقد دفاع ًا ع ّما ميكن‬
‫�أن ندعوه هنا بـ «الأمنوذج املنهجي»‪ ،‬وهي م�شكلة �أ�سا�سية‬
‫الن�ص‪،‬‬
‫القراءة على وفق هذه املعطيات هي «�إعادة لكتابة ّ‬ ‫العربي احلديث‪ ،‬تدفعه با�ستمرار‬ ‫وجوهر ّية يف �صوت الناقد‬
‫ّ‬
‫االجتماعي»(‪،)7‬‬
‫ّ‬ ‫تقوم على ممار�سات ثقاف ّية لها ت�أثري يف احلقل‬ ‫�إىل اللهاث املتعب وراء ح�شد الأ�سباب والفرو�ض والرباهني‬
‫‪‬‬
‫‪11‬‬

‫هذا الو�صف «هي غياب ي�ستح�ضره املتلقي لأنه �صانع اخلطاب‬ ‫‪/‬االجتماعي يبلغ �أق�صى‬
‫ّ‬ ‫الكتابي‪/‬الثقا ّيف‬
‫ّ‬ ‫بحيث �إنّ الف�ضاء‬
‫فيه»(‪ .)11‬ومن ّثم ف�إنّ القراءة‪ /‬القارئ‪ /‬الت�أويل ينقل‬ ‫القرائي املنتج‪.‬‬
‫ّ‬ ‫متا�سكه على يد الفعل‬
‫فعاليات الواقعة الن�صية من الكمون �إىل الظهور‪ /‬من الغياب‬
‫إبداعي ي�ستكمل‬
‫بهذا املعنى تتح ّول القراءة �إىل ن�شاط � ّ‬
‫الن�ص ممكن ًا وقاب ًال للحياة بكفاءة‬
‫�إىل احل�ضور‪ ،‬ويجعل ّ‬
‫الن�ص ّي اخل ّالق‪ ،‬وميلأ‬
‫احللقة الأخطر من حلقات الإنتاج ّ‬
‫�إن�سانية تتنا�سب طردي ًا مع قيمته الفنية‪� ،‬إذ ك ّلما كان ّ‬
‫الفني‬
‫الن�ص ّي ليحر ّره من �أ�سره‬
‫الفراغات املنت�شرة يف اجل�سد ّ‬
‫يل �أعلى قدر ًا يف ّ‬
‫الن�ص‪ ،‬ف�إنه يتمتع بقابلية �أكرب على‬ ‫واجلما ّ‬
‫الكتابي ويبعث فيه روح الأن�سنة و�أ�سباب احلياة‪.‬‬
‫ّ‬
‫الثوري‪.‬‬
‫ّ‬ ‫تو�سيع م�ساحة النزعة الإن�سانية وتعميق حمتواها‬
‫ال�سيميائي تختزل الزمن‬
‫ّ‬ ‫�إنّ القراءة الت�أويلية يف منحاها‬
‫أدبي �إىل الثقا ّ‬
‫يف‪:‬‬ ‫ـ الكتابة النقد ّية‪ :‬كتابة احلياة‪/‬من ال ّ‬
‫الن�ص‪ ،‬بحيث متنحنا «القدرة على �إ�ضاءة املعهود‬‫على �أر�ض ّ‬
‫الكتابة النقدية كتابة من طراز خا�ص‪ ،‬تتو�سط يف �آل ّياتها‬ ‫والك�شف عنه وفق ج�سر يربط املا�ضي باحلا�ضر على �ضوء ما‬
‫الكتابية وتقاناتها بني الكتابة الإبداعية بطابعها الوجدا ّ‬
‫ين‬ ‫يقت�ضيه الراهن للتعبري عن جتليات احلياة اال�ست�شرافية‪ ،‬هذه‬
‫النظري‬
‫ّ‬ ‫يل‪ ،‬والكتابة الفل�سفية والفكرية بطابعها‬ ‫واجلما ّ‬ ‫هي �أهداف القراءة الت�أويلية»(‪.)8‬‬
‫الكتابي من وهج‬
‫ّ‬ ‫والر�ؤيوي‪� ،‬ساعية يف ذلك �إىل تقريب وعيها‬ ‫غري �أنّ للت�أويل حدود ًا لي�س بالإمكان �إغفالها تك�شف عن‬
‫يتم‬
‫ين ور�ؤيتها الدينامية احليوية ‪ .‬وال ّ‬ ‫احلياة بطابعها الإن�سا ّ‬ ‫الفل�سفي وامل�ضمون الإن�سا ّ‬
‫ين للم�صطلح‪ ،‬وال�س ّيما يف‬ ‫ّ‬ ‫اجلوهر‬
‫البنائي الذي يربط بني‬‫ّ‬ ‫ذلك �إال من خالل �إدراك �س ّر التوا�صل‬ ‫ال�شعري الذي ال ينبغي للت�أويل �أن يكون �إ�سقاط ًا‬
‫ّ‬ ‫ميدان العمل‬
‫هذه الأمناط املتنوعة واملتعددة من الكتابة‪ ،‬ويخ�ضعها لن�سيج‬ ‫عليه‪« ،‬و�إ ّال ف�إنه ال يكون مكون ًا من �أهم مكونات �شعرية ال�شعر‪،‬‬
‫يل املح ّرك لأدوات الكتابة‬ ‫م�شرتك ينه�ض به الوعي اجلما ّ‬ ‫�إن مل يكن املك ّون الأم ‪ .‬ولكن ما هو وا�ضح �أي�ض ًا هو قابلية العمل‬
‫وفعالياتها‪� ،‬إذ ال �سبيل �إىل مقاربة هذا الوعي «على النحو‬ ‫ال�شعري بال�ضرورة ذو‬
‫ّ‬ ‫ال�شعري للت�أويل لي�ست بال حدود‪ ،‬العمل‬
‫ّ‬
‫الأمثل‪ ،‬من خالل مقاربة ال�شكل الذي هو الوعي متمظهر ًا‪� ،‬أو‬ ‫طابع مفتوح من الوجهة الت�أويلية‪ ،‬ولكن هذا ال يجوز �أن يعني‬
‫يل»(‪.)12‬‬‫الفني هو �شكل الوعي اجلما ّ‬ ‫لنقل �إنّ ال�شكل ّ‬ ‫�أنه قابل ل ّأي ت�أويل على الإطالق‪ ،‬ثمة �إذن ت�أويل على الأرجح‬
‫وال ميكن للكتابة النقدية �إذا ما �شاءت �أن تكون كتابتها‬ ‫‪ ،‬يتطابق مع املعاين املخبوءة يف العمل ال�شعري‪ ،‬وما عدا ذلك‬
‫كتابة حياة تعك�س ر�ؤية �إن�سانية مبدعة‪� ،‬أن تتفادى الوعي‬ ‫ال�شعري من قبل امل�ؤ ّول»(‪.)9‬‬
‫ّ‬ ‫ف�إنه �سيكون �إ�سقاط ًا على العمل‬
‫الن�صي‪ ،‬كما �أنّ عليها �أن‬
‫ّ‬ ‫يل متدخ ًال يف �صياغة ال�شكل‬
‫اجلما ّ‬ ‫وي�سري هذا الأمر على الأنواع الأدبية كافة لكن ذروة‬
‫النقدي بو�صفه «فنّ درا�سة الأ�ساليب‬
‫ّ‬ ‫تُخل�ص ملفهومية الن�شاط‬ ‫ال�شعري‪ ،‬بو�صفه �أكرث الأنواع قابلية‬
‫ّ‬ ‫داللته تتم ّثل يف النوع‬
‫اللغوية وا�ستنباط مطارح اجلمال يف طرائق التعبري»(‪،)13‬‬ ‫لتعدد القراءة و�سيميائية الت�أويل‪.‬‬
‫ف�ض ًال عن ا�ستخال�ص العن�صر الإن�سا ّ‬
‫ين البارز فيها‪.‬‬
‫أويلي ي�ستق�صي طبقات الواقعة‬ ‫قرائي ت� ّ‬
‫ّ‬ ‫�إذن ثمة منطق‬
‫باحليوي‬
‫ّ‬ ‫النقدي على وفق هذه املعطيات املرتهنة‬
‫ّ‬ ‫�إنّ العمل‬ ‫الن�صية وي�ستجلي مكامنها وب�ؤرها‪ ،‬ويلتقط �إ�شاراتها اخلف ّية‬
‫وح�ضاري ال يقل �أهمية‬
‫ّ‬ ‫إبداعي‬
‫واملنهجي هو «عمل � ّ‬
‫ّ‬ ‫والإن�سا ّ‬
‫ين‬ ‫املكتنزة بالدالالت والقيم واملعرفة اجلمالية ذات الكيفية‬
‫عن عملية �إبداع الن�صو�ص الأدبية»(‪ ،)14‬ويذهب يف وظائفه‬ ‫االنفعالية والعاطفية‪ ،‬وينتج قارئ ًا خا�ص ًا يو�صف ب�أنه «�صاحب‬
‫أدبي والثقا ّيف �أبعد من حدود الن�صو�ص‪ ،‬ويتح ّمل يف‬
‫بني ال ّ‬ ‫الن�ص»(‪ ،)10‬لأنّ �شبكة الدالالت ّ‬
‫املتك�شفة عن قراءته يف �إطار‬ ‫ّ‬
‫‪‬‬
‫‪12‬‬

‫ويف ظ ّل جت ّلي كتابة احلياة يف الكتابة النقدية ف�إنّ الفعل‬ ‫ذلك م�س�ؤولية ذلك ح�ضاري ًا و�إن�ساني ًا‪ .‬لذلك ف�إنّ ثمة من ين ّبه‬
‫النقدي ي�ستم ّد اجلزء الأكرب من قواه الفاعلة املتدخ ّلة يف‬ ‫ّ‬ ‫�إىل �إ�شكالية العالقة بني املد ّونة النقدية واملد ّونة الأدبية يف‬
‫النقدي مبحتواه الإن�سا ّ‬
‫ين ال‬ ‫ّ‬ ‫ت�ش ّكل �صوته من منطقة الفكر‬ ‫عملية �صراع القوى واملواقع بالن�سبة للقراءة والقارئ‪ ،‬معتقد ًا‬
‫النقدي‬
‫ّ‬ ‫التجريدي‪ ،‬عرب قناعة را�سخة مت�أتية من «�أنّ التفكري‬
‫ّ‬ ‫�أنّ «للنقد على الأدب من اخلطر �أحيان ًا ما له عليه من الف�ضل‬
‫قابل للتطور والتجديد يف ك ّل االجتاهات وامل�سارب العقلية‪،‬‬ ‫واملزية‪ ،‬ي�أخذ بع�ضه من بع�ض فيرتاكم حتى يحتجب القول‬
‫ين دائم املغامرة‪ ،‬والدخول �إىل عوامل‬ ‫ذلك لأنّ العقل الإن�سا ّ‬ ‫النقدي»(‪.)15‬‬
‫ّ‬ ‫أدبي وراء القول‬
‫ال ّ‬
‫جمهولة‪ ،‬فك ّلما عرف �شيئ ًا انطلق �إىل ما بعده يرود ويكت�شف‬
‫النقدي �إال جزء من هذه املغامرة التي يك�سب‬
‫ّ‬ ‫غريه‪ ،‬وما الفكر‬ ‫لكنّ ذلك يتوقف على درجة مت ّثل احلياة وتوكيد النزعة‬
‫بها معارف جديدة‪ ،‬ويجتهد يف بلورة جتارب �إن�سانية ما كانت‬ ‫الإن�سانية يف ك ّل من املدونتني‪ ،‬وقابلية املد ّون �أ ّي ًا كانت هويته‬
‫تعلم �آفاقها لواله»(‪.)17‬‬ ‫على تفعيل �شروط احلياة يف ج�سد التلقي و�إطالق فتنته‬
‫اخلطي‪� ،‬إىل‬
‫ّ‬ ‫الكتابي من‬
‫ّ‬ ‫الإن�سانية‪� ،‬إمعان ًا يف �إنتاج ل ّذة تنقل‬
‫ورمبا كان تعدد القراءات وتن ّوعها يف مواجهة التعدد ّية‬ ‫أدبي �إىل الثقا ّيف‪.‬‬
‫الف�ضائي املتخ ّيل‪ ،‬من ال ّ‬
‫ّ‬ ‫املد ّون‪� ،‬إىل‬
‫الن�ص ّية من �ش�أنه �أن يح ّمل �صوت الناقد احلديث م�س�ؤولية‬
‫الن�ص ومنطقة التل ّقي‪،‬‬
‫تطوير العالقة الإن�سانية بني منطقة ّ‬ ‫تلك الل ّذة املعرفية العميقة التي تنتج �أ�سئلتها معها‪ ،‬الأ�سئلة‬
‫فهو «مدع ّو الآن �أكرث من � ّأي وقت م�ضى �إىل �أن يبذل جهد ًا‬ ‫املتنوعة واملتعددة التي تتمظهر على هذا النحو‪« :‬ما حدود‬
‫حقيقي ًا‪ ،‬يف �سبيل �إزالة الفجوة بني القارئ والق�صيدة العربية‬ ‫الكتابة النق ّية‪ ،‬وما حدود غريها من الكتابات ؟ وما العالقة‬
‫احلديثة‪ ،‬وبينه وبني الأ�شكال الأدبية احلديثة ب�شكل عام‪ ،‬قبل‬ ‫بني الكتابة واحلياة ؟ هل نحيا لكي نكتب �أم نكتب لكي نحيا‬
‫�أن تبلغ حد ًا من االتّ�ساع يتع ّذر معه �إقامة ج�سر فوقها ي�صل‬ ‫؟ وبني الوهم والواقع‪ :‬هل نتوهم ما نكتبه �أم نكتب ما نتوهمه‬
‫العربي بالأ�شكال الأدبية احلديثة‪ ،‬فت�ضمحل هذه‬ ‫ّ‬ ‫القارئ‬ ‫؟ وهل ثمة حدود فا�صلة بني هذه الأمور كلها؟ �ألي�س م�شروع ًا‬
‫الأ�شكال يف عزلتها القا�سية‪ ،‬وهذه ما تلوح بوادره املخيفة‬ ‫�أن نلغي احلدود بينها ونخلق ف�ضاءات متنا�سجة‪ ،‬متواجلة‪،‬‬
‫بالفعل»(‪.)18‬‬ ‫يلغي الوهم فيها احلقيقة‪ ،‬واحلياة الكتابة‪ ،‬وال�شعر النقد؟‬
‫وت�ؤدي �إذا ما ات�سعت حدودها �إىل االنتقا�ص من ح�ضور‬ ‫على تبادل بني الفاعل واملفعول يف ك ّل هذه اجلمل؟ فتنت َُج‬
‫النزعة الإن�سانية يف بناء �إ�شكالية العالقة النقدية بني القارئ‬ ‫ن�صو�ص جديدة ك ّل اجل ّدة‪ ،‬خمتلفة ك ّل االختالف‪ ،‬وميرئي‬
‫والن�ص‪ ،‬و�إىل �إ�ضعاف �صفاء �صوت الناقد وانح�سار دوره‬ ‫ّ‬ ‫اخليال املنتهك نف�سه مراياه املتواجلات‪ ،‬ثم نحتفي يف ذلك‬
‫وتقليل �أهميته يف جعل الكتابة النقدية �شك ًال من �أ�شكال كتابة‬ ‫كله باالختالف واالنتهاك؟»(‪.)16‬‬
‫احلياة‪.‬‬ ‫بحيث تت�ضمن كتابة احلياة بنزعتها الإن�سان ّية �آفاق الكتابة‬
‫�إنّ نقدنا املعا�صر مل يكتف ب َق�صر �إ�شكاليته على موقع‬ ‫النقد ّية‪ ،‬ومت�ضي بها يف ا�ستلهام راقٍ ل�شروطها ومعطياتها‬
‫إبداعي نف�سه‪� ،‬إذ مل ي�ش ّكل‬
‫الن�ص ال ّ‬
‫القراءة‪ ،‬بل تع ّداه �إىل موقع ّ‬ ‫نحو جر�أة االختالف واالنتهاك‪ ،‬وهي تعيد �صوغ �س�ؤال‪�/‬أ�سئلة‬
‫يف نظر البع�ض «حركة فاعلة‪ّ � ،‬أي �أنه مل يقم عالقة �إيجابية‬ ‫املنهج‪ ،‬وتفتح �صوت الناقد احلديث على �إ�شكال ّيات مر�آو ّية‬
‫الن�ص‪ ،‬ي�ستخرج مقايي�سه من خ�صو�صية هذا الأخري‪ ،‬ثم‬ ‫مع ّ‬ ‫ت�ش ّدد على اخل�صو�ص ّية ال�صوت ّية‪ ،‬التي ت�ستنه�ض يف روح‬
‫ميتلك القدرة على و�ضعه يف حقل للأ�سئلة الكا�شفة»(‪ ،)19‬توفر‬ ‫مكرها و�س ّريتها وعنفوانها‪.‬‬
‫الكتابة �أعلى درجات ِ‬
‫‪‬‬
‫‪13‬‬

‫لكنه ما يلبث يف بيانه املت�ض ّمن �إعالن ًا عن املوت النقد‬ ‫له فر�صة دعم خ�صو�صيته ال�صوتية وتف ّردها‪ ،‬وت�سهم �إ�سهام ًا‬
‫أدبي �أن يرتاجع بع�ض ال�شيء فيما يتع ّلق مبنجزه الكبري‪،‬‬ ‫ال ّ‬ ‫حقيقي ًا يف بلورة قيم جمالية ميكن �أن تط ّور ر�ؤاها و�آل ّياتها‬
‫النقدي‬
‫ّ‬ ‫�إذ لي�س الق�صد عنده ـ كما يقول‪« :‬هو �إلغاء املنجز‬ ‫حت�ض الن�صو�ص على‬ ‫كلما حت�ص ّنت بنزعة �إن�سانية مبنينة‪ّ ،‬‬
‫أدبي‪ ،‬و�إمنا الهدف هو يف حتويل الأداة النقدية من �أداة يف‬ ‫ال ّ‬ ‫حت�ض احلياة على �أن�سنة الن�صو�ص ‪.‬‬‫ممار�سة احلياة مثلما ّ‬
‫يل اخلال�ص وتربيره (وت�سويقه) بغ�ض النظر عن‬ ‫قراءة اجلما ّ‬
‫عيوبه الن�سق ّية‪� ،‬إىل �أداة يف نقد اخلطاب وك�شف �أن�ساقه‪ ،‬وهذا‬ ‫أدبي يف‬
‫ؤن�سن حلركة النقد ال ّ‬ ‫وا�ستناد ًا �إىل هذا املعيار امل� ِ‬
‫يقت�ضي �إجراء حتويل يف املنظومة اال�صطالحية»(‪.)22‬‬ ‫ظ ّل �إقامته الإ�شكالية املقرتحة للكتابة النقدية‪/‬كتابة احلياة‪،‬‬
‫ميكننا ا�ستقبال املغامرة املنهجية من العيار الثقيل الداعية �إىل‬
‫أدبي �أوقع نف�سه‬
‫ويف ذلك تناق�ض ما بني �إقراره ب�أنّ النقد ال ّ‬ ‫النقدي‪ ،‬واقرتاح البيعة‬ ‫أدبي من �ساحة العمل‬
‫ّ‬ ‫ت�سريح النقد ال ّ‬
‫و�أوقعنا يف حالة من العمى الثقا ّيف التام عن العيوب الن�سق ّية‬ ‫لنقد جديد دُعي عند ّ‬
‫منظريه وم�ش ّيعيه بـ «النقد الثقا ّيف»‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫يل‪ ،‬وب�أنه غري م�ؤهل لك�شف هذا‬ ‫املختبئة حتت عباءة اجلما ّ‬
‫اخللل الثقا ّيف من جهة‪ ،‬و�أبعاد ق�صده عن فكرة �إلغاء املنجز‬
‫منهجي بالغ الق�سوة ميكن‬
‫ّ‬ ‫حيث �أُخ�ضع النقد ال ّ‬
‫أدبي لت�شريح‬
‫ؤيوي‬
‫�أن يجر ّده حتى من حقوقه التقاعدية‪ ،‬يف �ضوء ا�ستقراء ر� ّ‬
‫أدبي من جهة �أخرى‪ ،‬لأنّ فكرة الإلغاء والتدمري ماثلة‬
‫النقدي ال ّ‬
‫ّ‬
‫وحا�ضرة وق�صدية متام ًا يف مداخلته‪ ،‬وال ميكن لهذه الإملاحة‬ ‫أدبي على‬‫ذاتوي يف الأن�ساق الثقافية العربية‪ ،‬و�ضع النقد ال ّ‬ ‫ّ‬
‫الرتاجعية �أن تخ ّفف من �صرامة الفكرة وحد ّيتها وق�سوتها ‪.‬‬ ‫الئحة املتّهمني ب�إف�ساد الثقافة العربية وتدمري م�ضمونها‪.‬‬

‫فهل يقرتح النقد الثقا ّيف يف ال�س�ؤال املنهجي اخلطري �صوت ًا‬ ‫�أ�صحاب النقد الثقا ّيف الذين ينادون بقفزة نقدية جا ّدة‬
‫جديد ًا للناقد احلديث‪ ،‬يجعل �صلته بالنزعة الإن�سانية وقابليته‬ ‫نحو �أن�سنة النقد ثقافي ًا‪ ،‬يرون �أنّ النقد ال ّ‬
‫أدبي �أ ّدى «دور ًا‬
‫أدبي على‬
‫على متثيلها �أكرث حيوية وحرارة ومعنى من النقد ال ّ‬ ‫مهما يف الوقوف على (جماليات) الن�صو�ص‪ ،‬ويف تدريبنا‬
‫الرغم من غمو�ض ال�س�ؤال وعدم و�ضوح الدعوة؟‪.‬‬ ‫الن�صو�صي‪ ،‬ولكنّ النقد‬
‫ّ‬ ‫على التذ ّوق اجلما ّ‬
‫يل وتق ّبل اجلميل‬
‫أدبي‪ ،‬مع هذا‪ ،‬وعلى الرغم من هذا‪� ،‬أو ب�سببه‪� ،‬أوقع نف�سه‬ ‫ال ّ‬
‫�شك يف �أنّ مداخلة الغذامي امل�ستفي�ضة يف كتابة (النقد‬ ‫ال ّ‬
‫و�أوقعنا يف حالة من العمى الثقا ّيف التام عن العيوب الن�سق ّية‬
‫الثقا ّيف) ال جتيب على هذا الت�سا�ؤل �إجابة �شافية‪ ،‬مكتفية‬
‫يل‪ ،‬وظ ّلت العيوب الن�سق ّية تتنامى‬‫املختبئة حتت عباءة اجلما ّ‬
‫بالدعوة �إىل توحيد الأداة النقدية نحو نقد اخلطاب و�إىل‬
‫والبالغي‪ ،‬وحتى �صارت مناذجنا‬
‫ّ‬ ‫ال�شعري‬
‫ّ‬ ‫متو�س ّلة باجلما ّ‬
‫يل‪،‬‬
‫�إجراء حتويل يف املنظومة اال�صطالحية‪ ،‬من دون تزويد دعوته‬
‫بالإجراءات والآل ّيات والو�سائل التي ت�ضعها مو�ضع التنفيذ‬ ‫الن�سقي»(‪.)20‬‬
‫ّ‬ ‫الراقية بالغي ًا هي م�صدر اخللل‬
‫الفعلي والوا�ضح يف امليدان‪ ،‬ولنا �أن نت�ساءل �أي�ض ًا ملاذا ال‬
‫ّ‬ ‫وح�سب الدكتور عبداهلل الغذامي �أحد �أهم املنادين‬
‫ّ‬
‫ميكن �أن يكون للنقد الثقايف وجود ت�ضامني و�ساند بجانب‬ ‫ّ‬
‫واملنظرين لهذا النقد الثقا ّيف ف�إنه «ومبا �أنّ النقد ال ّ‬
‫أدبي غري‬
‫�صحت دعوة‬ ‫أدبي ت�صحيح ًا وتوجيه ًا وتقومي ًا‪� ،‬إذا ما ّ‬‫النقد ال ّ‬ ‫م�ؤهّ ل لك�شف هذا اخللل الثقا ّيف فقد كانت دعوتي ب�إعالن موت‬
‫الغذامي �إجرائي ًا؟‪.‬‬ ‫أدبي‪ ،‬و�إحالل النقد الثقا ّيف مكانه»(‪ ،)21‬ولع ّل نزعة‬
‫النقد ال ّ‬
‫�صوت الناقد وف�ضاء املنهج ّية‪:‬‬ ‫التدمري التي تخ ّللت دعوة الغذامي هذه ال تنجو هي نف�سها من‬
‫أدبي ‪.‬‬
‫الن�سقي نف�سه الذي نعاه على النقد ال ّ‬
‫ّ‬ ‫اخللل‬
‫العربي احلديث ال�ستك�شاف‬
‫ّ‬ ‫البحث يف �صوت الناقد‬
‫‪‬‬
‫‪14‬‬

‫ال�شعراء من جهة �أخرى‪ ،‬وقد حاولت �أن �أتبينّ التط ّور احلا�صل‬ ‫املنهجي �س�ؤا ًال وحمتوىً ‪ ،‬يتط ّلب يف نظرنا جهد ًا ج ّبار ًا‬
‫ّ‬ ‫ف�ضائه‬
‫لدى ال�شاعر يف توظيفه لأ�سطورة �أورفيو�س والفكر الأور ّيف‪،‬‬ ‫ال�ستنطاق تلك الر�ؤى التي يجتهد الن ّقاد يف ب ّثها بني ثنايا‬
‫وقد �ساقتني هذه املنهج ّية للوقوف على الكثري من م�شاكل‬ ‫مقد ّمات كتبهم النقد ّية‪.‬‬
‫العربي املعا�صر وق�ضاياه الفن ّية والفكر ّية”(‪.)23‬‬
‫ّ‬ ‫ال�شعر‬
‫وهو ما تعجز مقاربتنا هذه عن النهو�ض به لأ�سباب‬
‫ولنا �أن نرتّب ر�ؤيته املنهج ّية على وفق العالمات الواردة‬ ‫ذات ّية ومو�ضوع ّية كثرية‪ ،‬ميكن �أن تع ّو�ض هنا على نحو‬
‫ن�ص املداخلة املنهجية‪� ،‬إذ و�ضع قراءته و�ضع ًا بنيويا بالغ‬ ‫يف ّ‬ ‫ينا�سب الطبيعة املركزّة لأهداف املقاربة‪ ،‬يف حوار بع�ض‬
‫اال�ستقالل ّية والرتكيز بو�صفها “ن�ص ّية دقيقة”‪ ،‬لكنّ املنت‬ ‫الر�ؤى التي حملتها مقدمات كتب نقد ّية ا�شتغلت على ظواهر‬
‫النقدي يف الكتاب يت�ساهل على نحو ما مع هذه الن�ص ّية‬ ‫ّ‬ ‫العربي احلديث يف‬
‫ّ‬ ‫ون�صو�ص متعددة‪ ،‬عك�ست �صوت الناقد‬
‫والد ّقة‪ ،‬وال يبقى متم�سك ًا بها ك ّلما وجد ذلك منا�سب ًا و�ضروري ًا‬ ‫متنوعة ك�شفت عن ت�ص ّورات واجتهادات تتباين يف قيم‬ ‫مرايا ّ‬
‫املنهجي املعبرّ عنه يف عنوان الكتاب‪.‬‬
‫ّ‬ ‫وم�ستجيب ًا للهدف‬ ‫احلقيقي يف ت�ش ّكل هذا ال�صوت‪،‬‬
‫ّ‬ ‫�إجنازاتها وحدود �إ�سهامها‬
‫كما ب�سط الظاهرة على م�ساحة الن�صو�ص بتتبعه‬ ‫ولب�س جعله يتخ ّلف كثري ًا عن‬‫بعد �أن تع ّر�ض الهتزاز وت�شويه ٍ‬
‫“الظاهرة الأورفية يف جمموعة ن�صو�ص ال�شعراء”‪ ،‬وهو ما‬ ‫العاملي على‬
‫ّ‬ ‫الإجنازات الباهرة التي ح ّققها �صوت الناقد‬
‫حت�سبت للخ�صو�صيات‬ ‫اجتهد يف ا�ستق�صائه بر�ؤية �شمول ّية ّ‬ ‫والتطبيقي‪ ،‬يف قابليته الف ّذة على متثيل‬
‫ّ‬ ‫النظري‬
‫ّ‬ ‫ال�صعيدين‬
‫يف حماولته تبيان “التط ّور احلا�صل لدى ال�شاعر يف توظيفه‬ ‫أدبي‪.‬‬
‫النقدي وال ّ‬
‫ّ‬ ‫الإن�سا ّ‬
‫ين يف‬
‫املنهجي‬
‫ّ‬ ‫لأ�سطورة �أورفيو�س والفكر الأور ّيف”‪ ،‬منفتح ًا يف �أفقه‬ ‫وال ّ‬
‫�شك يف �أنّ الع ّينات املختارة ال تهدف �إىل متثيل �صوت‬
‫على النظر يف الظاهرة بو�صفها ن�شاطا �إبداع ّيا خ ّالقا داخل‬
‫العربي احلديثّ ب�إ�شكاالته و�ألوانه وطبقاته‪ ،‬كما �أ ّنها ال‬
‫ّ‬ ‫الناقد‬
‫ظاهرة �أدب ّية �أعم و�أ�شمل‪ ،‬م ّكنته من “الوقوف على الكثري من‬
‫العربي‪،‬‬
‫ّ‬ ‫النقدي‬
‫ّ‬ ‫تق�صد متييزها نوع ّيا �أو و�ضعها يف ق ّمة املنجز‬
‫العربي املعا�صر وق�ضاياه الفكر ّية والفن ّية”‪ .‬على‬
‫ّ‬ ‫م�شاكل ال�شعر‬
‫ف�ض ًال على �أنها قد ال تطابق بال�ضرورة ر�ؤيتنا �أو تنهج منهجنا‪،‬‬
‫النحو الذي متّع املنهج مبرونة كبرية‪ ،‬ووعي خ�صب‪ ،‬وخيال‬
‫�صح التعبري قابلة للمناق�شة‬ ‫�إمنا هي عي ّنات “تو�ضيحية” �إن ّ‬
‫ين ال يقفل الأدوات ومنظومة العمل على طاقة �إنتاج ّية‬ ‫�إن�سا ّ‬
‫واحلوار يف �ضوء �شروط املقاربة و�أهدافها‪.‬‬
‫ريا�ض ّية م�سبقة‪ ،‬تط ّوق �صوت الناقد وحترمه من مبادراته‬
‫اخل ّالقة يف الفح�ص واملعاينة واال�ستقراء‪.‬‬ ‫العربي املعا�صر” ينتخب‬
‫ّ‬ ‫يف كتابه “الأورفية وال�شعر‬
‫الناقد الدكتور علي ال�شرع الظاهرة الأورفية التي عك�ست‬
‫ويقرتح الناقد الدكتور وجيه فانو�س لر�ؤيته املنهج ّية �ضمن‬
‫اهتمام ًا مبكر ًا با�ستلهام تقانات الأ�سطورة و�آل ّياتها لدى‬
‫�سياق �آخر‪� ،‬شبكة مناهج متداخلة ومتعا�ضدة ومتوا�شجة يف‬
‫�شعراء احلداثة العربية‪ ،‬وتباينت ظروف التوظيف و�سياقاته‬
‫أدبي”‪،‬‬
‫مقدمة كتابه “خماطبات يف ال�ضفة الأخرى للنقد ال ّ‬ ‫و�أهدافه باختالف الأمناط احلداثية لدى ه�ؤالء ال�شعراء ‪.‬‬
‫تعمل جميعها بروح االندفاع امل�شرتك نحو متثيل ر�ؤيته‬
‫وجت�سيدها منهجي ًا يف قراءة الن�صو�ص والظواهر واملفا�صل‬ ‫�سعى الدكتور علي ال�شرع �إىل حتليلها وتقومي جتربتها‬
‫النقد ّية الأخرى‪ ،‬را�سم ًا �صورة ذلك بقوله‪“ :‬ولئن �سعيت‪،‬‬ ‫بر�ؤية حداثية معلنة‪ ،‬اقرتحت منهج ًا و�صفه الناقد على النحو‬
‫ها هنا‪� ،‬إىل كثري من الواقع ّية التحليلية واال�ستنتاج ّية‪ ،‬فلقد‬ ‫الآتي‪�“ :‬إنّ منهجيتي يف هذه الدرا�سة تقوم على قراءة ن�ص ّية‬
‫تو�سلت يف �سعيي هذا مناهج عمل ت�ستند �إىل مفاهيم تق ّدمها‬ ‫من جهة‪ ،‬وعلى تت ّبع الظاهرة الأورفية يف جمموعة ن�صو�ص‬
‫‪‬‬
‫‪15‬‬

‫أيوبي يجتهد يف ذلك �أي�ض ًا �أن ال يبتعد‬‫لكنّ الناقد ال ّ‬ ‫نظر ّية التل ّقي‪ ،‬و�إىل معاجلات تقوم على كثري من التحليل‬
‫عن تلك الأهداف املنهج ّية يف ر�ؤيتها العا ّمة التي نادى بها‬ ‫البنائي‪ ،‬واعتمدت يف هذا جميعه قراءة تقوم على املعطى‬ ‫ّ‬
‫أيوبي‬
‫منهجي �آخر‪� ،‬إذ ي�ص ّرح ال ّ‬ ‫ّ‬ ‫الدكتور فانو�س يف �سياق‬ ‫أدبي‪ ،‬و�إعادة تركيبه مبا يتّفق على هذه احلقيقة‬
‫الفكري �أو ال ّ‬
‫ّ‬
‫باتخاذ درا�سات كتابه “منحى نقد ّي ًا ع ّول كثري ًا على اجلانب‬ ‫نظرة املجتمع الذي نحن فيه ومنه”(‪.)24‬‬
‫وال�شخ�صي‪ ،‬امل�ستند �إىل نظرة مو�ضوع ّية حمايدة‬
‫ّ‬ ‫الذوقي‬
‫ّ‬
‫قدر امل�ستطاع‪ ،‬متوخني ال�صدق فيما نقول‪ ،‬والعدل فيما‬ ‫ويالحظ متام ًا زخم التع ّددية املنهج ّية يف احت�شاد مفاهيم‬
‫نحكم‪ ،‬والنزاهة فيما نرى‪ ،‬واجلر�أة الأدبية يف �إبداء الر�أي‬ ‫ؤيوي‬
‫وم�صطلحات وقيم منهج ّية كثرية داخل لوحة املقرتح الر� ّ‬
‫واملالحظة”(‪.)25‬‬ ‫املنهجي للدكتور فانو�س‪ ،‬ابتدا ًء من “الواقع ّية التحليلية‬‫ّ‬
‫البنائي”‬
‫ّ‬ ‫واال�ستنتاج ّية”‪“ ,‬نظر ّية التل ّقي” و”التحليل‬
‫جلي ال�صورة املنهجية التقليدية التي‬ ‫ويتّ�ضح على نحو ّ‬ ‫أدبي” و”�إعادة تركيبه”‪،‬‬‫الفكري �أو ال ّ‬
‫ّ‬ ‫و”تفكيك املعطى‬
‫ر�سمها لر�ؤيته وال�س ّيما يف حتا�شيه ذكر مفردة “منهج”‪ ،‬ويف‬
‫منهجي يف التفاعل مع الواقع والتوافق‬
‫ّ‬ ‫و�صو ًال �إىل ما هو خارج‬
‫العربي‬
‫ّ‬ ‫اعتماد تعبريات ترتد �إىل مواقع املناهج ال�سياقية والنقد‬
‫مع نظرة املجتمع‪.‬‬
‫املنهجي نحو مناهج احلداثة وما بعدها)‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫(ما قبل التحول‬
‫ال�شخ�صي”‬
‫ّ‬ ‫الذوقي‬
‫ّ‬ ‫نقدي” و”اجلانب‬ ‫وتبتدئ بـ “منحى ّ‬ ‫ورمبا تراءى نوع من اللب�س واخللط والتداخل يف �شبكة‬
‫و”نظرة مو�ضوعية حمايدة” ومنتهية بـ “ال�صدق” و”العدل”‬ ‫املفاهيم وامل�صطلحات التي تنحدر من مرجع ّيات منهج ّية‬
‫و”النزاهة” و”اجلر�أة الأدبية” و”�إبداء الر�أي واملالحظة”‪.‬‬ ‫خمتلفة‪ ،‬لكننا نعتقد وب�صرف النظر عن تقومي مدى التوازن‬
‫ال�شخ�صي‬
‫ّ‬ ‫ؤيوي يخلط‬
‫ح�س ر� ّ‬ ‫وهي تعبريات تك�شف عن ّ‬ ‫املنهجي يف جت ّمع كل هذه احللقات املنهج ّية يف خط �شروع‬ ‫ّ‬
‫باملنهجي‪ ،‬لكنه يهدف �إىل متثيل �أكرث حظ ًا‬ ‫ّ‬ ‫أخالقي‬
‫ّ‬ ‫وال‬ ‫منهجي يف متثيل‬
‫ّ‬ ‫منهجي واحد‪ ،‬وما يثريه ذلك من �إ�شكال‬ ‫ّ‬
‫النقدي‪� ،‬إذ جرى يف معظم الدرا�سات التي‬ ‫ّ‬ ‫ين يف‬‫للإن�سا ّ‬ ‫�سخر ك ّل ما ميكن ت�سخريه‬
‫ؤيوي للناقد‪� ،‬أنّ الناقد ّ‬
‫الأمنوذج الر� ّ‬
‫النقدي‪ ،‬ب�سبب‬
‫ّ‬ ‫ق ّدمها الكاتب بني د ّفتي الكتاب على ح�ساب‬ ‫للتو�صل �إىل حقيقة تفاعل الر�ؤية‬
‫من �إمكانات منهج ّية متاحة‪ّ ،‬‬
‫منهجي �ضروري يحقق له كفاءة‬ ‫ّ‬ ‫عدم االرتفاع به �إىل م�ستوى‬ ‫مع الواقع وا�ستلهامها لنظرة املجتمع يف حالته الفاعلة‪ ،‬تعزيز ًا‬
‫احلداثي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫النقدي بت�ش ّكله‬
‫ّ‬ ‫االنتماء �إىل ف�ضاء ال�صوت‬ ‫تتج�سد وتتمظهر‬‫يل وهي ّ‬ ‫للنزعة الإن�سان ّية يف حمتواها اجلما ّ‬
‫ميكن لقراءتنا التي اقت�صرت على مقاربة ثالث جتارب‬ ‫النقدي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫يف املنجز‬
‫النقدي فيها‪� ،‬أن‬
‫ّ‬ ‫منهج ّية لنقاد عرب ال�ستك�شاف قيمة ال�صوت‬ ‫النقدي و�إملاحاته مبتعدة‬
‫ّ‬ ‫يف حني تتغيرّ نربات ال�صوت‬
‫تنفتح ومتت ّد �إىل جتارب �أخرى ت�سعى �إىل حتليل ف�ضاء ال�صوت‬ ‫املنهجي الكثيف وال�ضاغط لدى الدكتور‬
‫ّ‬ ‫احل�س‬
‫ّ‬ ‫عن هذا‬
‫العربي احلديث‪ ،‬ومدى �إ�سهامها يف بناء‬ ‫ّ‬ ‫النقدي يف النقد‬
‫ّ‬ ‫أيوبي يف مقدمة كتابه‪“ :‬ف�صول يف نقد ال�شعر‬ ‫يا�سني ال ّ‬
‫نقدي خ ّالق بدينام ّية �إبداعية تتفاعل مع �س�ؤال‪� /‬أ�سئلة‬
‫ن�ص ّ‬‫ّ‬ ‫العربي احلديث”‪ ،‬ومقرتبة من ب�سط ر�ؤية تقليد ّية تتوخى‬‫ّ‬
‫املنهج من جهة‪ ،‬وتنقل الفعال ّية النقد ّية �إىل املجال الإن�سا ّ‬
‫ين‬ ‫الب�ساطة وعدم الدخول يف متاهة ال�شبكة ال�شائكة للمنظومة‬
‫ورقي ذوقه‪،‬‬
‫بحركته احل�ضار ّية القائمة على تط ّور الإن�سان‪ّ ،‬‬ ‫اال�صطالح ّية واملفهوم ّية التي �أنتجتها الثورة املنهج ّية‬
‫وح�سا�س ّيته‪ ،‬ونظرته �إىل الأ�شياء من جهة �أخرى‪.‬‬
‫احلديثة‪.‬‬
‫‪‬‬
‫‪16‬‬

‫‪� -16‬صدمة‪ /‬هزة اال�ستعارة‪ ،‬كمال �أبو ديب‪ ،‬جملة ثقافات‪ ،‬البحرين‪ ،‬العدد ‪،1‬‬
‫‪.43 :2002‬‬
‫الهوام�ش والإحاالت‪:‬‬
‫‪ -1‬اللغة الثانية يف �إ�شكال ّية املنهج والنظر ّية وامل�صطلح يف اخلطاب النقدي العربي‬
‫‪ -17‬يف ت�شكيل اخلطاب النقدي مقاربات منهجية معا�صرة‪ ،‬د‪ .‬عبد القادر الرباعي‪،‬‬
‫احلديث‪ ،‬فا�ضل ثامر‪ ،‬املركز الثقايف العربي‪ ،‬الدار البي�ضاء‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪1994 ،1‬‬
‫الأهلية للن�شر والتوزيع‪ ،‬عمان‪ ،‬ط‪.7 :1998 ، 1‬‬
‫‪.23 :‬‬
‫‪ -18‬عن بناء الق�صيدة العربية احلديثة‪ ،‬د‪ .‬علي ع�شري زايد‪ ،‬القاهرة‪.6 :1978 ،‬‬
‫‪ -2‬ال�صورة الفنية يف الرتاث النقدي والبالغي‪ ،‬د‪ .‬جابر ع�صفور‪ ،‬دار املعارف‪،‬‬
‫‪ -19‬الإيقاع والزمان‪ ،‬جودت فخر الدين‪ ،‬دار احلرف العربي دار املناهل‪ ،‬بريوت‪،‬‬ ‫القاهرة‪.5 :‬‬
‫ط‪.28 :1995 ،1‬‬
‫‪ -3‬مقدمة يف النظرية الأدبية‪ ،‬تريي �إيغلنت‪ ،‬ترجمة �إبراهيم جا�سم العلي‪ ،‬دار‬
‫‪ -20‬النقد الثقايف قراءة يف الأن�ساق الثقافية العربية‪ ،‬عبداهلل الغذامي‪ ،‬املركز‬ ‫ال�ش�ؤون الثقافية العامة‪ ،‬بغداد‪.5 :1992 ،‬‬
‫الثقايف العربي ‪ ،‬الدار البي�ضاء‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪.78 :2000 ،1‬‬
‫‪ -4‬ما ال ت�ؤديه ال�صفة املقرتحات الل�سانية والأ�سلوبية وال�شعرية ‪ ،‬حامت ال�صكر‪ ،‬دار‬
‫‪ -21‬م‪ .‬ن‪.8 :‬‬ ‫كتابات‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪.6 :1993 ، 1‬‬

‫‪ -22‬م‪ .‬ن‪.8 :‬‬ ‫‪ -5‬املنهج ال�سيميائي بني التهذيب والتوليد‪ ،‬بو جمعة بو يعيو‪ ،‬جملة املوقف الأدبي‪،‬‬
‫احتاد الكتاب العرب‪ ،‬دم�شق‪ ،‬العدد (‪.11 :2002 ، )173‬‬
‫‪ -23‬الأورفية وال�شعر العربي املعا�صر‪ ،‬د‪ .‬علي ال�شرع‪ ،‬من�شورات وزارة الثقافة‪،‬‬
‫عمان‪ ،‬ط‪. 9 : 1999 ، 1‬‬ ‫‪� -6‬إ�شكالية املناهج يف النقد الأدبي‪ ،‬د‪ .‬حممد خرما�ش‪ ،‬فا�س ‪ ،‬ط‪.2 :2001 ،1‬‬

‫‪ -24‬خماطبات يف ال�ضفة الأخرى للنقد الأدبي ‪ ،‬وجيه فانو�س ‪ ،‬احتاد الكتاب‬ ‫‪� -7‬شعرية الن�ص بني املبدع واملتلقي‪ ،‬د‪ .‬ال�سعيد بو�سقطة‪ ،‬جملة املوقف الأدبي‪،‬‬
‫اللبنانيني ‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪.7 :2001 ،1‬‬ ‫م‪� .‬س‪.20 :‬‬

‫‪ -25‬ف�صول يف نقد ال�شعر العربي احلديث‪ ،‬د‪ .‬يا�سني الأيوبي‪ ،‬احتاد الكتاب العرب‪،‬‬ ‫‪ -8‬دالئلية الن�ص الأدبي‪ ،‬عبد القادر فيدوح‪ ،‬ديوان املطبوعات اجلامعية‪ ،‬وهران‪،‬‬
‫دم�شق‪.6 :1989 ،‬‬ ‫ط‪.25-24 ،1993 ،1‬‬

‫‪ -9‬ال�شعر والوجود درا�سة فل�سفية يف �شعر �أدوني�س‪ ،‬عادل ظاهر‪ ،‬دار املدى للثقافة‬
‫والن�شر‪ ،‬دم�شق‪ ،‬ط‪.85 :2002 ،1‬‬

‫‪ -10‬ت�شريح الن�ص مقاربات ت�شريحية لن�صو�ص �شعرية معا�صرة‪ ،‬د‪ .‬عبد اهلل‬
‫الغذامي‪ ،‬دار الطليعة للطباعة والن�شر‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪.65 :1987 ،1‬‬

‫‪ -11‬م‪ .‬ن‪.65 :‬‬

‫‪ -12‬وعي احلداثة درا�سات جمالية يف احلداثة ال�شعرية‪ ،‬د‪� .‬سعد الدين كليب‪،‬‬
‫احتاد الكتاب العرب‪ ،‬دم�شق‪.56 :1997 ،‬‬

‫‪ -13‬النقد والدرا�سة الأدبية‪ ،‬د‪ .‬حلمي مرزوق‪ ،‬دار النه�ضة العربية للطباعة‬
‫والن�شر‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪.7 :1982 ،1‬‬

‫‪ -14‬بنية اخلطاب النقدي‪ ،‬د‪ .‬ح�سني خمري‪ ،‬دار ال�ش�ؤون الثقافية العامة‪ ،‬بغداد‪،‬‬
‫ط‪.6 :1990 ،1‬‬

‫‪ -15‬قراءات مع ال�شابي واملتنبي واجلاحظ وابن خلدون‪ ،‬د‪ .‬عبد ال�سالم امل�سدي‪،‬‬
‫ال�شركة التون�سية للتوزيع‪ ،‬تون�س‪.31 ،1984 :‬‬
‫‪‬‬
‫‪17‬‬

‫(‪)2‬‬ ‫تغريبة وليد �سيف(‪ ،)1‬تغريبة بني فل�سطني‬


‫رحلـــة الـوجـــع و�ســـفر احليــــاة‬
‫«قراءة ن�صية تنا�صية»‬

‫د‪� .‬سمية ال�شوابكة‬

‫وتنق�سم تغريبة بني فل�سطني �إىل ثالث ق�صائد‪:‬‬


‫* تغريبة زيد اليا�سني‪ ،‬وعدد �سطورها ما يقارب ‪.787‬‬
‫* �سرية عبداهلل بن �صف ّية وعدد �سطورها ‪.502‬‬
‫* مقتل زيد اليا�سني على طرف املخيم وعدد �سطورها ‪.201‬‬
‫ويغلب على الق�صائد الثالث الطول الذي ي�صيرّ الق�صيدة‬
‫الواحدة �سفر ًا للحياة‪ ،‬يندغم فيها العام باخلا�ص‪ ،‬وتن�صهر‬
‫يف بوتقتها الذات مع الآخر يف مفارقات ومتالزمات يتنا�ص‬
‫فيها امل�ألوف وغري امل�ألوف يف تكرارات معجمية لفظية(‪)3‬‬
‫تحُ ّمل ال ّن�ص غري حمولة داللية؛ بحثا عن هُ و ّية وعنوان لق�ضية‬
‫�شعب ووطن ع ّود نف�سه النهو�ض من رماد احرتاقه يف ك ّل مرة؛‬ ‫ٍ‬
‫ليبعث حي ًا حر ًا يف دورة للحياة جديدة‪.‬‬
‫وي�شك ّل زيد اليا�سني(‪ )4‬وخ�ضرة رمزان مهمان ينه�ضان‬
‫الفل�سطيني املعذب‬
‫ّ‬ ‫بعبء التغريبة ؛ فزيد اليا�سني منوذج‬
‫اجلمعي‪� ،‬سرية‬
‫ّ‬ ‫الفل�سطيني‬
‫ّ‬ ‫ال�شعبي‬
‫ّ‬ ‫التغريبة �سرية املوروث‬
‫املطارد من الداخل واخلارج على حد �سواء‪ ،‬وخ�ضرة املر�أة‬
‫ملحمية للموت وامليالد والبعث والقيامة‪ ،‬تغريبة تتجاوز الزمان‬
‫والأر�ض‪ ،‬وال�سند والو�شم وال ُهو ّية‪.‬‬
‫الفل�سطيني واالهرتاء‬
‫ّ‬ ‫واملكان؛ لتميط اللثام عن وجه العذاب‬
‫* تغريبة زيد اليا�سني‬ ‫العربي‪ ،‬وتعري �أنظمة العذاب والقمع والقهر والتنكيل يف �أبنية‬
‫ّ‬
‫يف تغريبة زيد اليا�سني تلتهب الأ�شجار‪ ،‬وتت ّيب�س الأقمار‪،‬‬ ‫�شعر ّية رمز ّية الداللة تقب�س من املوروث ما ي�ضيء حا�ضر‬
‫وتقطر الدماء‪ ،‬وتت�أرجح فوق كرا�سي التحقيق الر�ؤو�س‪،‬‬ ‫الق�صيدة‪ ،‬وي�ست�شرف قادم املخا�ض‪.‬‬

‫�أ�ستاذة يف مركز اللغات يف اجلامعة الأردنية‪.‬‬


‫‪‬‬
‫‪18‬‬

‫يحرق كاجلمر»(‪ )9‬يف مفارقة عجيبة الأ�ضداد‪ ،‬حيث تتقاطع‬ ‫وتغيب العيون‪ ،‬وتتدلىّ ال�شفاه‪ ،‬وتنزف الوجوه ع�صري التوت‬
‫ال�شهوة والثورة لتمطر على الأعداء جمر ًا‪ ،‬وتفي�ض على بنيها‬ ‫الربي دم ًا‪ ،‬وتتع ّرى الأ�شجار‪ ،‬وت�سقط املدن بحث ًا عن خارطة‬
‫ّ‬
‫حب ًا‪.‬‬ ‫الوطن‪.‬‬
‫وي�ستدعي �سيف ملمح ال�صلب يف عادات النوم على امل�سمار‬ ‫«حني ي�صري البحر قريب ًا من كفيه‬
‫وقد تقا�سمها مع �أهل معان ووادي الأردن يف قوله‪»:‬فبني معان‬ ‫حني ي�صري العامل باب ًا مفتوح ًا بني يديه‬
‫وبيني الآن �سوء التغذية وعادات النوم على امل�سمار»(‪،)10‬‬
‫وعلى ملمح ال�صلب «�أ�سقطت الآالم التي كان يتح ّملها ال�شاعر‬ ‫تن�سرب املر�أة يف تلك اللحظة‬
‫املعا�صر‪� ،‬سواء �أكانت تلك الآالم ماد ّية �أم معنو ّية»(‪.)11‬‬ ‫ترتك يف العامل واحللم امل�شبوب ثقوب ًا فارغة‬
‫وي�ستلهم �سيف �أ�سطورة عرو�س النيل التي كانت تُقدم‬ ‫وحريق ًا وبقايا جممرة‬
‫مبحبة و�إجالل زمن الفراعنة �إىل نهر النيل العظيم ابتهاج ًا‬ ‫ترتك يف الأر�ض �شقوق ًا تتحرق للماء»(‪.)5‬‬
‫بفي�ضانه‪ ،‬ويوظفها توظيف ًا عك�سي ًا �أي على غري داللتها؛ فنيل‬
‫م�صر‬ ‫وحني يغدو العامل مقفر ًا �إال من الدم‪ ،‬ير�سم زيد اليا�سني‬
‫خل�ضرة بعد القحط‪،‬‬ ‫حلم العط�شى للخ�صب بعد اجلدب‪ ،‬وا ُ‬
‫«كان �إذا فا�ضت فيه ال�شهوات ال�سحر ّية‬ ‫فيم ّد كفيه �إىل البحر( َك َب ِا�س ِط َك َّف ْي ِه �إِلىَ المْ َاء ِل َي ْب ُل َغ َفا ُه َو َما هُ َو‬
‫ال�سري‬
‫ّ‬ ‫ي�سرق واحدة منهن �إىل عامله‬ ‫ِب َبا ِل ِغ ِه َو َما د َُعاء ا ْل َكا ِف ِرينَ ِ�إ َّال فيِ َ�ض َال ٍل )(‪ ،)6‬ويبقى الباب‬
‫موارب ًا للمر�أة الآلهة التي قد متلأ معه �شقوق الأر�ض املتحرقة‬
‫ف�إذا جاء ال�صيف تفتّح نهداها من حتت الطمي‬
‫ما ًء بعد �أن ارتوت دما ًء على �أيدي زبانية احلر�س والبولي�س‬
‫�سنابل قمح‬ ‫ال�سري؛ فـ‬
‫و�سهو ًال من زهر اللوت�س والقطن‬ ‫الدموي‬
‫ّ‬ ‫«يتال�شى احللم‬
‫�سبحان اخلالق من دور ذاك النهد»(‪.)12‬‬ ‫والعامل ي�سرتجع ك ّل �شظاياه وتلتئم الأ�شالء»(‪.)7‬‬
‫فهو ذات النهد الذي تفي�ض فيه ال�شهوة والثورة واحلرقة‬ ‫�إنّ يف هذه املر�أة التي تن�سرب يف حلظة �إلوه ّية �صورة‬
‫واجلمر يف ت�أكيد �شبه �إلوهي للخ�صب واخل�ضرة واحلياة‪ ،‬وقد‬ ‫لإيزي�س التي جمعت �أ�شالء �أوزوري�س املتناثرة‪ ،‬ونفخت فيها‬
‫انتقلت من َبعد �سيناء �إىل �شط النيل‪ ،‬و�صارت كنانة م�صر‬ ‫احلياة فعاد النهد «يقطر بال�شهد وبال�ضوء والأنداء»(‪،)8‬‬
‫فارغة‪.‬‬ ‫و�أكمل العامل دورته حني تراجعت ال�صحراء �أمام عينيها‪،‬‬
‫ّ‬
‫وتك�شفت عن نافورة ماء وك�أنها �أم العرب (هاجر) يف رحلتها‬
‫و ُيلب�س �سيف الرئي�س امل�صري الراحل �أنور ال�سادات لبو�س‬
‫وتفجر املاء من حتت‬‫�إىل �صحراء مكة ‪ ،‬ومعاناتها وولدها‪ُّ ،‬‬
‫كافور الإخ�شيدي الذي كان عبد ًا خم�صي ًا ف�صار يف غفلة من‬
‫قدميه زمزم ًا‪.‬‬
‫الزمن حاكم الف�سطاط‪ ،‬يف �إ�شارة دالة على رف�ضه ما �سمي‬
‫مبفاو�ضات ال�سالم العادل ال�شامل‪ ،‬وقد ُق ِ�سم الوطن وبيع على‬ ‫وما زالت هذه املر�أة الآلهة رغم جحيم كوابي�س ال�شرطة‬
‫طاولة املفاو�ضات؛ فاحلل ال�سلمي �أخطر من احلرب نف�سها‪،‬‬ ‫«تع�صر من نهديها لنب الثورة وال�شهوة والقهر‪ ،‬مطر ًا يل�سع‪،‬‬
‫‪‬‬
‫‪19‬‬

‫وما زالت رحلة تغريبة زيد اليا�سني م�ضنية طويلة‪ ،‬ف�صولها‬ ‫وقد �س ّودت اتفاقية كامب ديفيد ‪ -‬حيث ال�صلح املنفرد مع‬
‫املطاردة وفوا�صلها احلزن ؛ فالنا�س ميوجون‪ ،‬ويتحدثون عن‬ ‫العربي فوق �سواده ب�أجماد احلل‬
‫ّ‬ ‫�إ�سرائيل‪� -‬صفحات التاريخ‬
‫«الزبد املنفي على ال�سطح»(‪ ،)18‬ولع ّل يف هذا �إ�شارة �إىل الزبد‬ ‫ال�سلمي وال ّن�صر ال�صائم عن �سيناء‪.‬‬
‫الذي ال يغني وال ي�سمن من جوع‪ ،‬فيذهب ُجفاء بعك�س ما ينفع‬ ‫إخ�شيدي‬
‫ّ‬ ‫«ور�أيت هنالك كافور ال‬
‫النا�س فيمكث يف الأر�ض يف قوله تعاىل‪� (:‬أَ َّما ال َّز َب ُد َف َي ْذهَ ُب‬
‫ا�س َف َي ْم ُكثُ فيِ الأَ ْر ِ�ض َك َذ ِل َك َي ْ�ض ِر ُب اللهَّ ُ‬
‫ُج َفا ًء َو�أَ َّما َما َي ْن َف ُع ال َّن َ‬ ‫ال�سلمي‬
‫ّ‬ ‫ي�س ّود �صفحات التاريخ ب�أجماد احلل‬
‫الأَ ْم َث َال )(‪.)19‬‬ ‫ال�سلمي‬
‫ّ‬ ‫وهجوم احلل‬
‫ولأنّ زيد اليا�سني ما زال مطارد ًا منكوب ًا‪ ،‬ومق�صي ًا ملفوظ ًا‬ ‫جمهوري‬
‫ّ‬ ‫يتمدد فوق الف�سطاط ويعلن يف مر�سوم‬
‫ترت�صده عيون ال�شرطة وكالب البولي�س‪ ،‬وترتب�ص به الوجوه‬ ‫�أنّ الإن�سان‬
‫ال�شائهة مل يجد �أمامه غري ال�صراخ يف وجه هذا العامل الذي»‬
‫يغرق يف النوم ويف الن�سيان»(‪ )20‬ليوقظه بعد �أن �أ�صبح �أ�شال ًء‬ ‫يولد يف الأ�صل خ�صي ًا»(‪)13‬‬

‫ممزقة يف ك ّل مكان‪:‬‬ ‫ويف مفارقة �ساخرة َيعجب �سيف من مر�سوم الرئي�س‬


‫«يا عامل‪..‬يا عامل‪ ..‬يا عامل‪..‬يا عامل‪ ..‬يا عامل‪ ..‬يا �أ�سود‪..‬‬ ‫اجلمهوري الذي يعلن‪� :‬أنّ الإن�سان الذي يولد يف الأ�صل خ�صي ًا‬ ‫ّ‬
‫ويا �أبي�ض‬ ‫يجعل منه غالء العي�ش و�أمرا�ض الع�صر»�إن�سان ًا عادي ًا و�سوي ًا‬
‫يف �أرذل �أيام العمر!!!» (‪)14‬؛ حيث ين ّك�س اهلل اخللق فيقول‬
‫ويا �أ�صفر‪ ..‬ويا �أحمر‪ ..‬ويا �أزرق‪ ..‬ويا �ضوء‪ ..‬ويا ظل‬ ‫�سبحانه وتعاىل‪:‬‏‬
‫يا �سادات ويا خدام ويا كرباء ويا تع�ساء ويا �أجزاء ويا ك ّل‬ ‫( َو ِمن ُكم َّمن ُي َت َو َّفى َو ِمن ُكم َّمن ُي َر ُّد ِ�إلىَ �أَ ْر َذ ِل ا ْل ُع ُم ِر ِل َك ْيال‬
‫ا�سمي زيد ‪..‬زيد‬ ‫َي ْع َل َم ِمن َب ْع ِد ِع ْل ٍم َ�ش ْي ًئا‏)(‪ ،)15‬في�ستلهم بذلك ما يف القر�آن‬
‫الكرمي �إ�شار ًة ودالل ًة‪.‬‬
‫و�أبي يدعى يا�سني‪..‬يا�سني‬
‫ويعود �سيف ليجيب عن �س�ؤاله الذي �س�أله بعد حديثه عن‬
‫ريفي مقهور‬
‫و�أنا رجل ّ‬ ‫�أ�سرار طمي النيل وعرائ�سه‪:‬‬
‫من �أر�ض فل�سطني‪..‬فل�سطني‪ ..‬فل�سطني‪ ..‬فل�سطني»»(‪.)21‬‬ ‫«�أ�صحيح �أنّ النيل ينبع من �أر�ض اجلنة‬
‫وما ا�ست�صراخه �إ ّال رغبة يف �إيقاظ النيام عن املقاومة‬ ‫من ي�شربه مرة يرجع لو بعد �سنني»(‪)16‬‬
‫الفل�سطيني �إىل من �أدار ظهره‬
‫ّ‬ ‫والفداء‪ ،‬وحتميل وزر ال�شتات‬
‫في�ؤكد كذب �أ�سطورة نيل اجلنة ‪ ،‬وقد تقا�سم و�أهل م�صر‬
‫عنها‪ ،‬واكتفى باالحتماء بعر�شه و�سلطانه العتيد‪ ،‬وت�أكيد ذلك‬
‫اخلبز املغ�شو�ش ‪ ،‬ووجع البلهار�سيا‪ ،‬فع ّلمه الفقراء هنالك �أنّ‬
‫�أنه يُ�شهِ د ه�ؤالء جميعا يف �صرخته �أنّ ُمزق حلمه لن تزول عن‬
‫النيل‬
‫�أيدي جالديه‪ ،‬و�أنها �ستظل �شاهدة على تاريخهم معه �إىل �أن‬
‫يراودهم املوت فيموتون ويظل هو احلي فيهم‪ ،‬حال ًة فريد ًة‬ ‫«ينبع من جلد الفقراء امل�صريني‬
‫متفردة جتمع بني احلياة واملوت وقد َكبرُ فيه الوطن ف�صار‬ ‫ويعرب �سر ًا من بني الأ�سالك �إىل �أر�ض فل�سطني»(‪)17‬‬
‫‪‬‬
‫‪20‬‬

‫ويف رحلة التغريبة امل�ضنية يقطع زيد اليا�سني عر�ض البحر‬ ‫كبري ًا وهم ما زالوا يقلون» وك ّل زنازين الليل تقل»»(‪ )22‬وهو‬
‫الأبي�ض متخفي ًا عن �أعني الع�س�س الرقباء ؛ لي�صل ال�صحراء‬ ‫لي�س ب�أقل‪.‬‬
‫العرب ّية‪/‬الربع اخلايل‪ ،‬فلع ّل موعده مع القد�س ورايات الفتح‬
‫«انظر يا عامل كفيك ونعليك‬
‫اخل�ضراء فيلتقي –هناك‪ -‬بـ»ت�أبط خريا»(‪ ،)27‬وهنا ال يوظف‬
‫�سيف �شخ�صية �صعلوك اجلاهلية على ما جاءت ا�سم ًا �شائع ًا‬ ‫ترى ُمزقا من حلمي ال تنحل»(‪.)23‬‬
‫لها فما يراه �إ ّال وقد ت�أبط خري ًا فهو» مقطوع الن�سب طريد‪،‬‬ ‫ومي�ضي زيد اليا�سني ال�ضحية املقهور يف رحلته طلب ًا‬
‫�صعلوك تقذفه البيداء �إىل البيداء»(‪.)28‬‬ ‫للن�صرة والعون ف ُييمم طريق املغرب؛ فت�سلخه فجيعته ب�أمري‬
‫بل ي�صبح ت�أبط خري ًا وجه زيد اليا�سني نف�سه‪ ،‬الطريد‬ ‫الكفار‪ -‬ال امل�ؤمنني ‪ -‬الذي كان يع ّد الع ّدة بعيد ًا عن القد�س‪،‬‬
‫الذي ل ّوحه التّغريب‪ :‬طريدان حزينان خلعتهما القبيلة‪ ،‬وتن ّكر‬ ‫وقد ولىّ وجهه �شطر الع�سل ال�صايف والرز ال ّ‬
‫أمريكي‪ ،‬فيبكي‬
‫لهما الأهل‪ ،‬وجدا ذاتيهما فتجاذبا «�أطرف ال�شعر و�أخبار‬ ‫�آنذاك ت�شتّته وت�شرذمه يف العوا�صم العرب ّية بعد ما بكى �إرث‬
‫ال�سلمي»(‪ ،)29‬وم�ضيا يتقا�سمان هموم‬‫ّ‬ ‫املوت و�أوجاع احلل‬ ‫الفاحت طارق بن زياد‪ ،‬وتاريخ �أمته ال�ضائع يف عرو�س الأندل�س‬
‫الداخل واخلارج يف «عر�صات التاريخ و�أزمنة القحط»(‪)30‬‬ ‫(غرناطة) �آخر معاقل امل�سلمني ‪ ،‬فما بني بني فل�سطني وبني‬
‫فمرا مبحطات �سقوط الأ�صنام وارتفاع رايات نور اليقني‪.‬‬ ‫الأحمر تاريخ من الفرقة وال�ضياع‪.‬‬

‫ومي ّر الطريد زيد اليا�سني بوجع الذاكرة العرب ّية التي تن ّز‬ ‫«قلت‪ :‬وماذا ظ ّل يف ج�سمي حتى ُي�سلخ‪..‬‬
‫تاريخ ًا �صعب ًا‪ ،‬وتقطر هم ًا وموت ًا وهو ي�ستذكر» داح�س والغرباء»‬ ‫خ ّلفت �شظايا منه بعمان وبغداد وم�صر‪..‬‬
‫�أطول حروب اجلاهلية التي ما زالت خالدة يف �ضمري التاريخ‬
‫العربي»(‪.)24‬‬
‫ّ‬ ‫وب ّر ال�شام وبريوت وك ّل عوا�صم هذا الوطن‬
‫اجلمعي تنذر بقرب الثورة القيامة‪ ،‬فكما للقيامة‬ ‫ّ‬ ‫العربي‬
‫ّ‬
‫عالمات كذلك للثورة عالمات‪:‬‬ ‫وي�ستثمر �سيف لغة القر�آن الكرمي على ل�سان زيد اليا�سني‬
‫الذي ما يفت�أ �أنْ يعود حي ًا رغم حماوالت رجال ال�شرطة‬
‫«�إذ يطلع قرن ال�شيطان من ال�صحراء النجد ّية‬
‫تغييبه‪ ،‬وطم�س وجوده؛ ففي ج�سده املمزق»�أ�سرار ا ُ‬
‫خل�ضرة‬
‫يقطر باملوت والنفط وبالدم وبال�سم‬ ‫ت�صويري خلق‬
‫ّ‬ ‫و�صفي‬
‫ّ‬ ‫والتكوين»(‪ ،)25‬حيث ن�شهد يف م�شهد‬
‫ال�ضحية يف ك ّل م ّرة خلق ًا جديد ًا رغم �سطوة جربوت اجلالد‪.‬‬
‫وتخطر يف �أثواب العمرة‬
‫« حلمي ينمو الآن على اجلدران‬
‫يا ولدي فت�أهب تلك عالمات الثورة!!» (‪)31‬‬
‫وفوق هروات البولي�س‬
‫وي�سرتجع �سيف يف تغريبة بطله خروج الر�سول الكرمي‬
‫‪� -‬ص ّلى اهلل عليه و�س ّلم‪� -‬إىل الطائف؛ طلب ًا للن�صرة والعون‬ ‫الوح�شي‬
‫ّ‬ ‫وكرا�سي التّحقيق كما ينمو الع�شب‬
‫من �سادة ثقيف وكربائها بعد تعر�ضه �إىل �شتى �ألوان العذاب‬ ‫ويحاول رجل ال�شرطة �أنْ يك�شطه عن كفيه‬
‫بني �أهله ونا�سه يف مكة‪ ،‬وما ناله من �أذى غلمانها و�سفهائها‪،‬‬
‫وغلظة و�سماجة �سادتها الذين �أغروا به �سفهاءهم وعبيدهم‪،‬‬ ‫النف�سي‬
‫ّ‬ ‫بح ّد ال�سكني و�أدوية التنظيف و�أنواع الطب‬
‫ي�سبونه وي�صيحون به‪ ،‬ويرمونه باحلجارة‪.‬‬ ‫ف�إذا جن الليل* يعود كما كان»(‪.)26‬‬
‫‪‬‬
‫‪21‬‬

‫وي�سيل النور‪ ،‬وي�شرق يف عني الر�سول الكرمي –�صلى اهلل‬ ‫ويتماهى زيد اليا�سني املعذب املطارد احلزين يف �شخ�صية‬
‫علية و�سلم‪:-‬‬ ‫زيد بن حارثة الذي كان مع الر�سول الكرمي يقيه بنف�سه حتى‬
‫�شج يف ر�أ�سه عدة �شجاج في�صري يف التغريبة وجه ًا نا�صر ًا‬‫ّ‬
‫« نور ًا يتفتح من م�شكاة‬
‫ون�صري ًا قائال‪ً:‬‬
‫يف م�صباح‬
‫«وفتحت ذراعي‬
‫يف قلب زجاجة‬
‫النبوي ال�شوك و�أحجار ال�سفهاء‬
‫ّ‬ ‫تلقيت عن الوجه‬
‫الدري املتوقد من �شجرة زيتون‬
‫تت�ألق كالنجم ّ‬ ‫�صرخت ب�أعلى �صوتي‪ :‬يا �أبناء الطائف‪ ،‬يا فقراء الطائف‬
‫تخرتق الأر�ض وتورق فوق الغرب وفوق ال�شرق‬ ‫ذاك نبي اهلل‪ ،‬وتلك عباءته‬
‫ومت ّد الظل لك ّل ال�ضعفاء املقهورين‬ ‫تت�ساقط فيها الأجنم‬
‫و�أبناء �سبيل احلق»(‪.)35‬‬ ‫قد جاء �إليكم من غار حراء ومن وجع الأيتام‬
‫وهذا يذكر مبا ورد يف �سورة النور يف قوله تعاىل‪ ( :‬اللهَّ ُ ُنو ُر‬ ‫و�أحزان املنبوذين مبكة وال�شعب»‪)32(.‬‬
‫ماوات َوالأَْ ْر ِ�ض َم َث ُل ُنو ِر ِه َكمِ ْ�شكا ٍة ِفيها ِم ْ�صبا ٌح المْ ِْ�ص ُ‬
‫باح فيِ‬ ‫ال�س ِ‬ ‫َّ‬
‫َ‬
‫ُّجاج ُة َك�أ َّنها َك ْو َك ٌب ُد ِّر ٌّي ُيو َق ُد ِمنْ َ�ش َج َر ٍة ُمبا َر َك ٍة‬ ‫وح ّذر زيد اليا�سني من مغبات اتباع �أبي جهل املعا�صر الذي‬
‫جاج ٍة الز َ‬ ‫ُز َ‬
‫َز ْيتُو َن ٍة ال َ�ش ْر ِق َّي ٍة َوال َغ ْر ِب َّي ٍة َيكا ُد َز ْيتُها ُي ِ�ضي ُء َو َل ْو لمَ ْ تمَ ْ َ�س ْ�س ُه‬ ‫«ي�أك ّل بالباطل و�أموال النفط و�أوراق الأيتام‬
‫نا ٌر ُنو ٌر َعلى ُنو ٍر َي ْه ِدي اللهَّ ُ ِل ُنو ِر ِه َمنْ َي�شا ُء َو َي ْ�ض ِر ُب اللهَّ ُ الأَْ ْم َ‬
‫ثال‬ ‫ويركب يف الليل ح�صان ًا بجناحني‬
‫ا�س َواللهَّ ُ ِب ُك ِّل َ�ش ْيءٍ َع ِلي ٌم )(‪.)36‬‬ ‫ِلل َّن ِ‬
‫�إىل �أر�ض الروم‬
‫وعندما ي�ضيء النور القلب يب�سم وجه اخلري‪ ،‬وي�صري‬
‫�صاحب الدم املهدور زيد اليا�سني فار�س ًا جواد ًا‬ ‫ليخ�سر �أموال الوقف على �صدر مغنية‬
‫من ن�سل بني الأ�صفر»‪)33(.‬‬
‫«يقفز من �أ�سوار القد�س العرب ّية‬
‫يف �إ�شارة زاعقة �إىل ال�سالطني الطغاة الذين يبيعون‬
‫ويثري النقع ويعرب كال�سهم املارق‬
‫البالد والعباد يف جنح الليل‪ ،‬ويقدمون الوالء والطاعة على‬
‫كي ي�شرب قطرة ماء من طربية»(‪.)37‬‬ ‫الفردي اخلا�ص‪.‬‬
‫ّ‬ ‫موائد الغرب �إيثار ًا ّ‬
‫لل�سالمة واخلال�ص‬
‫وقد دا�س على ر�أ�س ابن �أُبي كبري املنافقني الذي «باع‬ ‫ويوظف �سيف القر�آن الكرمي في�ستلهمه �أم ًال ونور ًا وب�شارة‬
‫ّ‬
‫مفاتيح القد�س لأبناء قريظة»(‪.)38‬‬ ‫موقن ًا ب�أنّ ال�صبح قريب‪ ،‬و�سيتفتق عن نوره نور ًا يغيرّ وجه‬
‫الأ�شياء الراكدة‪:‬‬
‫ويظل زيد اليا�سني مطارد ًا يف ح ّله وترحاله من ال�شرطة‬
‫ورجالها الذين يرت�صدونه وال يكفون عن مالحقته ‪ ،‬فر�أ�س‬ ‫«يا �أهل الطائف موعدنا ال�صبح‬
‫الواحد منهم كان «يط ّل كحبة زقوم ّ‬
‫ناري»(‪ )39‬كتلك التي‬ ‫�ألي�س ال�صبح قريب ًا؟»(‪.)34‬‬
‫‪‬‬
‫‪22‬‬

‫كاملخرز والكف يف‬ ‫والت�ضحية‪ ،‬فـ»الكف تالطم �شربية»(‪)44‬‬ ‫تخرج من �أ�صل اجلحيم (طلعها ك�أ ّنه ر�ؤو�س ال�شياطني)‬
‫جدلية عالقتهما‪.‬‬ ‫(‪ )40‬قبح ًا وغلظ ًة و�سماج ًة �إ ّال �أنّ ك ّل حماوالتهم يف م�صادرة‬
‫ومنتلئ على امتداد �صفحات ال�سرية برائحة املوت ح ّد‬ ‫�صوته ووجهه وروحه‪ ،‬وانتزاع حلمه ال ت�ستطيع �أن تثنيه عن‬
‫تقي�ؤها؛ �إذ تت�سرب �إلينا من حيث ندري وال ندري كاحلزن‬ ‫امل�ضي �إىل وطنه؛ فهو �صديق اخل�ضرة والتكوين‪ ،‬وهو من‬
‫متام ًا يف تغريبة زيد اليا�سني؛ فك ّل الأ�شياء تت�صدع وتت�شقق‬ ‫ال تقدر �سكاكينهم �أن تك�شط عن جلده لون الأر�ض وبارود‬
‫وتفوح منها رائحة املوت‪� :‬ضوء ال�شم�س‪ ،‬ورائحة البحر‪،‬‬ ‫الرف�ض(‪ ،)41‬وهو الذي ما زال يكرب ويكرب ووطنه يكرب‪،‬‬
‫والذاكرة الأوىل‪ ،‬والنهر والنجم» ميوت‪ ..‬يغرق يف بحر الدم‪..‬‬ ‫و�أعدا�ؤه يقلون‪ ،‬وك ّل زنازين الليل تقل وهولي�س ب�أقل‪.‬‬
‫ميوت وميوت وميوت»»(‪ ،)45‬فـ»تغيب الألوان عن الكون‪،‬‬ ‫* �سرية عبداهلل بن �صف ّية‬
‫وت�صبح ك ّل الأ�شياء �سدميية»(‪.)46‬‬
‫تق�ص حكاية الغربة امل ّرة‪ ،‬والت�شظي الرهيب‬
‫�سرية �شعب ّية ّ‬
‫�أما الع�صفور فـ»ي�سقط يف فخ ال�صيد و�آخر ينقر يف الأر�ض‬ ‫بحث ًا عن ال ُهو ّية الوطن‪ ،‬والوطن العنوان يف عامل ال ي�أبه بحجم‬
‫ليدفن �صاحبه»(‪ )47‬يف جرمية يكون ال�شاهد عليها طرف ًا فيها‪،‬‬ ‫الفل�سطيني‪ُ ،‬ي ّتم بها ال�شاعر التغريبة‬
‫ّ‬ ‫�سني العذاب والقهر‬
‫وهنا ينتزع �سيف من الق�صة القر�آنية ما يت�صل بق�ضيته يف‬ ‫التي انتهت بال�صرخة ؛ لإيقاظ العامل الذي يف يد جالديه بقية‬
‫تذكري ير�سخ دور الع�صفور‪ /‬الغراب الذي �أدى دوره يف جرمية‬ ‫ُمزق زيد اليا�سني املتناثرة يف العوا�صم املمتدة �شرق ًا وغرب ًا‬
‫قتل الأخ �أخيه يف ق�صة قابيل وهابيل؛» فوجود هابيل �أقوى ِمن‬ ‫و�شما ًال وجنوب ًا‪.‬‬
‫الع�صري �أ�ش ّد ِمن �أنْ تخفى»‪)48( .‬‬
‫ّ‬ ‫�أنْ يوارى ‪ ،‬وجرمية قابيل‬
‫تبد�أ �سرية عبداهلل بعادة تلقني الأموات؛ تذكري ًا مبا عا�شه‬
‫يوظف الغراب الذي ع ّلم الإن�سان الأول‬ ‫و�سيف هنا ّ‬ ‫وكانه يف �صورة مغايرة‪ ،‬فعلى عك�س ما ينبغي تلقينه به عند‬
‫كيف يخفي جرميته ‪ ،‬وقد كان �شاهد ًا على قتل قابيل لأخيه‬ ‫�س�ؤال امللكني املوك ّلني بال�س�ؤال بعد النداء‪ُ ،‬يلقن عبداهلل بن‬
‫هابيل يف ثنائية اجلالد وال�ضحية‪ ،‬وقد ورد ذلك يف كتاب‬ ‫�صف ّية مبا ينبغي �أنْ يقوله حني يجيء �إليه ال�شرطيان للتحقيق‬
‫اهلل العزيز‪َ ( :‬وات ُْل َع َل ْيهِ ْم َن َب�أَ ا ْب َن ْي �آد ََم ِبالحْ َ ِّق �إِ ْذ َق َّر َبا ُق ْر َبا ًنا‬ ‫معه‪ ،‬وك�أنّ م�سل�سل الترّ ّب�ص والترّ �صد واملالحقة واملطاردة ال‬
‫َف ُت ُق ِّب َل ِمن �أَ َح ِد ِه َما َولمَ ْ ُي َت َق َّب ْل ِمنَ ال َآخ ِر َق َال َ ألَ ْق ُت َل َّن َك َق َال �إِ َمّ َنا‬ ‫ينتهي بنهاية احلياة‪ ،‬بل متت ّد حلقاته �إىل ما بعد املوت ح�ساب ًا‬
‫طت �إِليَ َّ يَدَ َك ِل َت ْق ُت َل ِني َما �أَ َن ْا‬ ‫َي َت َق َّب ُل اللهّ ُ ِمنَ المْ ُ َّت ِقنيَ‪َ  * ‬ل ِئن َب َ�س َ‬ ‫وعقاب ًا‪ ،‬فمن �سجن �إىل �سجن ‪ ،‬ومن عذاب �إىل �آخر‪ ،‬ومن‬
‫اف اللهّ َ َر َّب ا ْل َعالمَ ِنيَ‪� * ‬إِ ِيّن‬ ‫ِب َب ِا�س ٍط َي ِد َي �إِ َل ْي َك َ ألَ ْق ُت َل َك ِ�إ ِيّن َ �أ َخ ُ‬ ‫موت �إىل موت‪ ،‬و»حدود العامل مغلقة يف وجه الراحل من غري‬
‫اب ال َّنا ِر َو َذ ِل َك‬ ‫�أُرِي ُد �أَن َت ُبو َء ِب ِ�إ ْثمِ ي َو ِ�إ ْثمِ َك َف َت ُكونَ ِمنْ َ�أ ْ�ص َح ِ‬ ‫هُ و ّية»(‪.)42‬‬
‫الظالمِ ِنيَ‪َ  * ‬ف َط َّو َع ْت َل ُه َنف ُْ�س ُه َقت َْل �أَ ِخي ِه َف َق َت َل ُه َف�أَ ْ�ص َب َح‬ ‫َجزَ اء َّ‬ ‫وكما تبد�أ ال�سرية بال�س�ؤال تنتهي بال�س�ؤال ‪ ،‬والو�صية التي‬
‫ِمنَ الخْ َ ِا�س ِرينَ ‪َ  * ‬ف َب َعثَ اللهّ ُ ُغ َرا ًبا َي ْب َحثُ فيِ الأَ ْر ِ�ض ِليرُ ِ َي ُه‬ ‫مل يجد عبداهلل ف�سحة ليرتكها لأخيه الأ�صغر‪� :‬آخر َمن تبقى‬
‫َك ْي َف ُي َوارِي َ�س ْوء َة �أَ ِخي ِه َق َال َيا َو ْي َلتَا �أَ َع َجزْ تُ �أَنْ �أَ ُكونَ ِم ْث َل هَ َـذا‬ ‫و�سجنت وطوردت‬ ‫و�شظيت ُ‬‫من عائلة عبداهلل التي ُ�شردت ُ‬
‫اب َف�أُ َوار َِي َ�س ْوء َة َ�أ ِخي َف�أَ ْ�ص َب َح ِمنَ ال َّنا ِد ِمنيَ‪.)49( *  ‬‬ ‫ا ْل ُغ َر ِ‬ ‫وماتت حتت الب�ساطري والهروات‪ ،‬ويف الغرف ال�سر ّية بال زاد‬
‫�أو ماء‪� ،‬سيرتك له عظام يديه؛ «لكي ي�صنع منها �شربية»(‪،)43‬‬
‫ال�شعري غري م ّرة(‪� )50‬إ ّال ت�أكيد‬
‫ّ‬ ‫وما تكرار هذا املقطع‬
‫داللة حر�صه على �أن ُيورثه راية املقاومة واملجاهدة والفداء‬
‫لتناق�ض معادلة املوت واحلياة يف �آن؛ فواحد ي�سقط يف الفخ‬
‫‪‬‬
‫‪23‬‬

‫الليلي ما زالت توقظ يف العمر الأوجاع‪ ،‬تحُ اكم‬


‫ّ‬ ‫احلر�س‬ ‫�ضحية‪ ،‬و�آخر يتوىل الدفن ‪ ،‬وهذه حقيقة من حقائق الوجود‬
‫خل�ضرة وتطاردها‪ « ،‬في�صري ال�شجر الأخ�ضر مطرود ًا‬ ‫ا ُ‬ ‫ودورة من دورات احلياة منذ بدء احلياة و�إىل الآن ؛ فـ» ال�ض ّد‬
‫يحكم بالإعدام»(‪ )61‬و «تع ّلق خ�ضرة قمر ًا م�صلوب ًا فوق‬ ‫يحن �إىل ال�ض ّد»(‪.)51‬‬
‫الأبواب»(‪.)62‬‬
‫ال�سري‬
‫ّ‬ ‫وما زال عبداهلل مهموم ًا م�ؤرق ًا بكوابي�س الوجع‬
‫ويزاوج كعادته بني الأمل والي�أ�س فرغم احلزن والأمل‬ ‫الليلي‪ ،‬وع�س�س‬
‫ّ‬ ‫لوطن يحمله معه رغم مطاردات احلر�س‬
‫والكمد والقهر واخلوف والقمع‪ ،‬يقب�ض زيد اليا�سني على‬ ‫البولي�س وكالب ال�شرطة‪.‬‬
‫احللم الذي يتجاوز به حدود الزمان واملكان‬
‫« َكبرُ الهم‪َ ،‬كبرُ الهم ‪َ ،‬كبرُ الهم‬
‫«حيث �سهول احلنطة والزنبق‬ ‫وهذا عبداهلل ينوء ب�ساقيه الداميتني ويحلم»(‪.)52‬‬
‫حيث ا ُ‬
‫خل�ضرة واملاء»(‪.)63‬‬ ‫نعم‪ ،‬الهم كبري ‪ ،‬والليل ثقيل ‪ ،‬والدرب طويل‪ ،‬والزاد قليل‪،‬‬
‫وخ�ضرة املر�أة الأر�ض‪ ،‬والواقع واحللم نربا�س ًا‬ ‫وي�صري َ‬ ‫والوطن بعيد‪ ،‬وعبداهلل مك ّلوم حمزون‪ ،‬و»امللك عقيم»(‪.)53‬‬
‫يوقد يف «قلب العامل جرح امل�أ�ساة»(‪ ،)64‬فيحيا يف ك ّل مرة‬ ‫ولع ّل طول الدرب ‪ ،‬ووط�أة ثقل الليل ت ّذكر بقول امرئ‬
‫ميوت‪ ،‬و ُيبعث حي ًا لي�ضيء درب ال�سائرين �إىل نور ال�شهادة يف‬ ‫القي�س ال�شهري‪:‬‬
‫ك ّل مكان ‪ :‬يف باقة وغزة وع ّمان و‪ ...‬فيوغل يف الكربياء والنبل‬
‫ويتفجر ح�ضوره رغم الغياب يف خمتلف‬ ‫‪ ،‬والت�ضحية والعطاء‪ّ ،‬‬ ‫وليل كموج البحر �أرخى �سدوله علي ب�أنواع الهموم ليبتلي‬
‫الأنحاء رغم م ّر الفجيعة بذوي القربى ‪ ،‬فـ‬ ‫غري �أنّ عبداهلل ال ميوت �إ ّال «ليحيا ثانية واملوت ميوت!» (‪.)54‬‬
‫«يا لتعا�سة قلب طيب‬ ‫وتقرتب لغة �سيف من لغة امل�ألوف كثريا؛ ليقرتب يف ك ّل‬
‫�صدق يوم ًا �أكذوبة ذي القربى»(‪.)65‬‬ ‫م ّرة من عامل �أولئك الذين هم منه وهو منهم ُمكرث ًا يف �سرية‬
‫عبداهلل بن �صف ّية من لغة املوروث ال�شعبي الذي يع�ش�ش يف‬
‫اجلاهلي طرفة بن‬
‫ّ‬ ‫وال �شك �أنّ هذا يذ ّكر مبا قاله ال�شاعر‬ ‫الذاكرة الفل�سطين ّية من مثل‪ :‬تكرر �صرخة ب�سطاء الريف‬
‫العبد‪:‬‬ ‫عندما يتلقون نب�أ فاجعة ما « يا وردي»(‪ ،)55‬و»يا زينب هاتي‬
‫وظلم ذوي القربى �أ�ش ّد م�ضا�ضة‬ ‫خلقي و�أعدي الزوادة يا م�ستورة» (‪ ،)56‬و»الكف تالطم‬
‫�شربية»(‪ ،)57‬و»يا خالة خليها اليوم على اهلل» (‪ ، )58‬و»الطف‬
‫على املرء من وقع احل�سام املهند‬ ‫يا رب الطف‪ ،‬فالبيت �أ�صابتها العني»(‪� )59‬أي احل�سد‪ ،‬و»ح ّوطت‬
‫�إ�ضاءة‪،،،‬‬ ‫الأطفال ببع�ض الكلمات الدينية»(‪.)60‬‬
‫�إنّ زيد اليا�سني املحزون الطريد الذي �سلبوه هُ ويته وا�سمه‬ ‫* مقتل زيد اليا�سني على طرف املخيم‬
‫وعنوانه‪ ،‬و�أردوه قتي ًال بر�صا�صهم املجنون مل ميت‪ ،‬ومل تذبل‬ ‫يثري �سيف يف مرثية زيد اليا�سني احلزن الذي مل يغادر‬
‫ابت�سامته احللوة ‪ ،‬ومل ي�سقط �أبد ًا بل عال فوقهم جميع ًا ف�صار‬ ‫القلب والعني منذ بدء تغريبته وحتى نهاية رحلته امل�ضنية‪،‬‬
‫الأ�سطورة اخلالدة النق ّية التي ما زالت تع�ش�ش يف ذاكرة القلب‬ ‫خل�ضرة �سواد ًا ي�سبغ ك ّل الأ�شياء‪ ،‬ورجاالت‬
‫احلزن الذي يحيل ا ُ‬
‫‪‬‬
‫‪24‬‬

‫‪ -2‬كان وليد �سيف قد �س ّمى الديوان “تغريبة زيد اليا�سني” غري �أنّ حممد القي�سي‬ ‫رغم رائحة املوت‪ ،‬وق�سوة القادم؛ لأنّ ‪:‬‬
‫– رحمه اهلل‪ -‬كان قد اقرتح عليه ت�سميته بـ”تغريبة بني فل�سطني”؛ لت�صوير ملحمة‬
‫الفل�سطيني‪ ،‬حيث التغريبة هُ و ّية الوطن ال�ضائع ال�سليب‪ ،‬وعنوان امل�سحوقني‬
‫ّ‬ ‫التاريخ‬ ‫«حما�س ال�شهداء‬
‫املفجوعني من �أبناء اخليبة وال�شتات املقهورين‪.‬انظر‪:‬عادل الأ�سطة‪ ،‬تغريبتنا‬
‫الفل�سطين ّية‪ ،‬جريدة الأيام‪ ،‬ع ‪.2005/1/30 ،3241‬‬ ‫لن يفرت يوم ًا‬
‫‪ -3‬التكرار الزمة من لوازم ديوان التغريبة ي�أتي مرة ومرتني و�أكرث كلمة �أو جملة �أو‬ ‫وعلى الوطن اخلالد حيث تقوم جيو�ش الأعداء‬
‫مقطع ًا �أو حرف ًا‪.‬‬

‫‪ -4‬يذهب �إح�سان الديك �إىل �أن زيد اليا�سني ا�سم مركب‪� :‬أوله داللة الزيادة والنماء‪،‬‬
‫و�سرتات رجال ال�شرطة‬
‫�أما الثاين ف ُمك ّون من حرف النداء (يا) و(�سني) وهو كبري �آلهة ح�ضرموت‪� ،‬أما‬
‫ينبعث طموح يتفجر كالأ�سطورة‬
‫الفل�سطيني‪ ،‬لها مزارات وكرامات‪ ،‬ولع ّل‬
‫ّ‬ ‫خ�ضرة فقدي�سة ولية يف املوروث ال�شعبي‬
‫يف امتزاج الرمزين ما يوحي مبحاولة �أ�سطرة الواقع بحث ًا عن كوة �أمل وطوق جناة‪.‬‬ ‫�أن يغم�س ك ّل النا�س طعامهم باحلب‬
‫انظر‪�،‬إح�سان الديك‪� ،‬أ�سطرة الواقع يف �شعر وليد �سيف‪ :‬حكاية خ�ضرة وزيد اليا�سني‬
‫منوذج ًا‪ ،‬جملة جامعة النجاح‪ ،‬مج‪.2008 ،22‬‬ ‫الليلي‬
‫�إذ ت�سرتجع خ�ضرة يف يوم ما ا�سما �صادره احلر�س ّ‬
‫‪ -5‬وليد �سيف‪ ،‬ديوان تغريبة بني فل�سطني‪ ،‬دار العودة‪� ،1980 ،‬ص‪.9‬‬
‫ا�سم ًا حمفور ًا يف قلب القلب»(‪.)66‬‬
‫‪� -6‬سورة الرعد ‪� ،‬آية رقم‪14‬‬
‫احلب يف القلب‪ ،‬ومتثله الفرد م ّنا �سلوك ًا‪ ،‬ونظر‬
‫�إذا وقر ّ‬
‫‪ -7‬الديوان ‪� ،‬ص‪.12‬‬ ‫عم اخلري الأر�ض‪،‬‬ ‫�إىل الأخر نظرة احرتام على �أ ّنه �أهل لذاك ّ‬
‫‪ -8‬الديوان ‪� ،‬ص‪.12‬‬ ‫ونعم الإن�سان باحلياة‪.‬‬
‫‪ -9‬الديوان ‪� ،‬ص ‪.‬‬

‫‪ -10‬الديوان ‪� ،‬ص‪.20‬‬

‫العربي املعا�صر‪،‬‬
‫ّ‬ ‫‪ -11‬علي ع�شري زايد ‪ ،‬ا�ستدعاء ال�شخ�صيات الرتاثية يف ال�شعر‬
‫دار غريب للطباعة والن�شر والتوزيع‪ ،‬ط‪� ،2006 ،1‬ص‪.82‬‬
‫الهوام�ش والإحاالت‪:‬‬
‫‪ -12‬الديوان ‪� ،‬ص‪.21‬‬ ‫‪ -1‬وليد �سيف‪ :‬ولد يف باقة الغربية‪ /‬طولكرم عام ‪ ،1948‬ح�صل على �شهادة‬
‫‪ -13‬الديوان ‪� ،‬ص‪.23‬‬ ‫البكالوريو�س يف اللغة العرب ّية و�آدابها من اجلامعة الأردنية‪ ،‬وح�صل على دكتوراه‬
‫يف علم الل�سانيات يف جامعة لندن عام ‪ ،1975‬عمل �أ�ستاذ ًا لعلم ال�صوتيات يف‬
‫‪ -14‬الديوان ‪� ،‬ص‪.24‬‬ ‫اجلامعة الأردنية‪ ،‬ويف جامعة القد�س املفتوحة‪ ،‬وعدد من اجلامعات العرب ّية‪ ،‬عمل‬
‫يف حمطة �إذاعة و تلفزيون العرب ‪ ، A.R.T‬ح�صل من رابطة الكتاب الأردنيني‬
‫‪� -15‬سورة احلج ‪� ،‬آية ‪.5‬‬
‫على جائزة عرار الأدبية‪ ،‬وعلى جائزة غالب هل�سا للإبداع الثقايف وغريهما‪ ،‬وهو‬
‫‪ -16‬الديوان ‪� ،‬ص‪.21‬‬ ‫ع�ضو احتاد الكتاب الأردنيني‪ ،‬واالحتاد العام للأدباء والكتاب العرب‪.‬من م�ؤلفاته‬
‫ال�شعر ّية‪ :‬ق�صائد يف زمن الفتح ‪ ،1969‬و�شم على ذراع خ�ضرة‪ ،1971‬وتغريبة‬
‫‪ -17‬الديوان ‪� ،‬ص‪.27‬‬ ‫بني فل�سطني ‪.1980‬تفرغ منذ �سنوات للكتابة الدرامية‪ ،‬وطغت �شهرته بها على‬
‫�شاعريته‪.‬من �أبرز �أعماله الدرامية‪ :‬م�سل�سل عمر الفاروق‪ ،‬اخلن�ساء‪� ،‬شجرة الدر‪،‬‬
‫‪ -18‬الديوان ‪� ،‬ص‪.29‬‬
‫عروة بن الورد‪ ،‬املعتمد بن عباد‪ ،‬ملوك الطوائف‪� ،‬صقر قري�ش‪ ،‬ربيع قرطبة‪،‬‬
‫‪� -19‬سورة الرعد ‪� ،‬آية رقم ‪. 17‬‬ ‫والتغريبة الفل�سطين ّية‪.‬‬
‫‪‬‬
‫‪25‬‬

‫‪ -44‬الديوان ‪� ،‬ص ‪.95‬‬ ‫‪ -20‬الديوان ‪� ،‬ص‪.36‬‬

‫‪ -45‬الديوان ‪� ،‬ص ‪.80‬‬ ‫‪ -21‬الديوان ‪� ،‬ص‪36‬و‪ 37‬وتكراره يف �ص ‪69‬و‪70‬و‪.73‬‬

‫‪ -46‬الديوان ‪� ،‬ص ‪.115‬‬ ‫‪ -22‬الديوان ‪� ،‬ص‪.38‬‬

‫‪ -47‬الديوان ‪� ،‬ص ‪ 83‬وانظر تكراره �ص‪.99‬‬ ‫‪ -23‬الديوان ‪� ،‬ص‪.37‬‬

‫‪ -48‬ابت�سام �شرار‪ ،‬التنا�ص الديني والتاريخي يف �شعر حممود دروي�ش‪ ،‬ر�سالة‬ ‫‪ -24‬الديوان ‪� ،‬ص‪ 40‬وانظر �ص ‪.43‬‬
‫ماج�ستري‪ ،‬جامعة اخلليل‪� ،2007 ،‬ص‪.35‬‬
‫‪ -25‬الديوان ‪� ،‬ص‪.41‬‬
‫‪� -49‬سورة املائدة‪ ،‬الآيات ‪. 31-27‬‬
‫‪ -26‬الديوان ‪� ،‬ص‪ 41‬وانظر تكرار التعبري �ص‪ *،47‬وهنا ثمة �إ�شارة �إىل قوله‬
‫‪ -50‬الديوان ‪� ،‬ص ‪ 86‬و‪.99‬‬ ‫تعاىل ‪َ :‬ف َل َّما َجنَّ َع َل ْي ِه ال َّل ْي ُل َر�أَى َك ْو َك ًبا َق َال هَ َذا َر ِّبي �سورة الأنعام �آية‪.76‬‬

‫‪ -51‬الديوان ‪� ،‬ص ‪.90‬‬ ‫‪ -27‬هو ثابت بن جابر �أحد �شعراء اجلاهلية عرف بـ ت�أبط �شر ًا‪.‬‬

‫‪ -52‬الديوان ‪� ،‬ص ‪.99‬‬ ‫‪ -28‬الديوان ‪� ،‬ص‪.46‬‬

‫‪ -53‬الديوان ‪� ،‬ص ‪.101‬‬ ‫‪ -29‬الديوان ‪� ،‬ص ‪.46‬‬

‫‪ -54‬الديوان ‪� ،‬ص ‪.114‬‬ ‫‪ -30‬الديوان ‪� ،‬ص ‪.46‬‬

‫‪ -55‬الديوان ‪� ،‬ص ‪ 80‬و�ص‪. 81‬‬ ‫‪ -31‬الديوان ‪� ،‬ص ‪.48‬‬


‫‪ -56‬الديوان ‪� ،‬ص ‪ ،84‬وا َ‬
‫خللق ‪:‬الثوب املمزق‪.‬‬ ‫‪ -32‬الديوان ‪� ،‬ص ‪49‬و‪.50‬‬

‫‪ -57‬الديوان ‪� ،‬ص ‪ 95‬و�ص ‪.113‬‬ ‫‪ -33‬الديوان ‪� ،‬ص ‪.51‬‬

‫‪ -58‬الديوان ‪� ،‬ص ‪.100‬‬ ‫‪ -34‬الديوان ‪� ،‬ص ‪ .52‬واهلل تعاىل يقول‪�:‬إن موعدهم ال�صبح‪� ،‬ألي�س ال�صبح‬
‫بقريب�سورة هود‪� ،‬آية ‪.81‬‬
‫‪ -59‬الديوان ‪� ،‬ص ‪.109‬‬
‫‪ -35‬الديوان ‪� ،‬ص ‪.52‬‬
‫‪ -60‬الديوان ‪� ،‬ص ‪.114‬‬
‫‪� -36‬سورة النور ‪� ،‬آية ‪.35‬‬
‫‪ -61‬الديوان ‪� ،‬ص ‪.122‬‬
‫‪ -37‬الديوان ‪� ،‬ص ‪.55‬‬
‫‪ -62‬الديوان ‪� ،‬ص ‪.126‬‬
‫‪ -38‬الديوان ‪� ،‬ص ‪.53‬‬
‫‪ -63‬الديوان ‪� ،‬ص ‪.130‬‬
‫‪ -39‬الديوان ‪� ،‬ص ‪.57‬‬
‫‪ -64‬الديوان ‪� ،‬ص ‪.130‬‬
‫‪� -40‬سورة ال�صافات ‪� ،‬آية‪. 65‬‬
‫‪ -65‬الديوان ‪� ،‬ص ‪.134‬‬
‫‪ -41‬انظر‪:‬الديوان ‪� ،‬ص ‪.62‬‬
‫‪ -66‬الديوان ‪� ،‬ص ‪.138‬‬
‫‪ -42‬الديوان ‪� ،‬ص ‪.76‬‬

‫‪ -43‬الديوان ‪� ،‬ص ‪ 78‬وانظر �ص ‪.120‬‬


‫‪‬‬
‫‪26‬‬

‫جتليات النبوءات‪ /‬املا�ضي‪ ،‬الآن‪� ،‬ألآت‬


‫يف ديوان «ماء الغواية» لنادر هدى‬

‫ن�ضال القا�سم‬

‫فرا�ستها؟! �أهو تلظي ال�شاعر يف �أتون واقعة امل ّر املعي�ش بكل‬


‫ح�سه املرهف الذي ميت�ص كل‬ ‫�أبعاده املادية والنف�سية‪ ،‬ودونه ّ‬
‫هذه الآالم واملعيقات وي�صيرِّ ها بكلماته كوائن ناطقة‪ ،‬معبرَّ ة‬
‫املحاكاة وال�س�ؤال والر�ؤى ؟! �أهي ر�ؤيته الفنية القائمة على‬
‫�ضرورة التجديد؟! �أهو � ٍأي من هذا �أم كله يف �آن‪ ،‬ام كله مع ًا‬
‫؟! �أ�سئلة يبقى لها يف معطيات التطور واجلدل ما ي�سوغها‪،‬‬
‫فال�شعر يف بدء الكينونة �إلهام و�إيحاء‪ ،‬ويف م�سارها مر�آة نرى‬
‫من خاللها �أنف�سنا عرب �أبعاد الزمن جلية ناب�ضة‪ ،‬ويف كل ذلك‬
‫نبوءات ال�شاعر التي متخر عباب امل�ستقبل‪.‬‬
‫وعندما يت�شرب ال�شاعر كل هذا من خالل �سياقات‬
‫وان�ساغ تنا�صاته املتنوعة وامل�شبعة بنب�ض الواقع‪ ،‬يبدو الأمر‬
‫�أكرث و�ضوح ًا‪ ،‬فالتنا�ص ماء ال�شاعر وتربته اخل�صبة‪ ،‬وبذاره‬
‫املح�سنة‪ ،‬وهو يف عامل ال�شاعر املتمكن م�سوغ للر�ؤيا التي‬
‫هي ا�ست�شراف امل�ستقبل �ضمن معادلة مقدماتها ت�ؤدي �إىل‬
‫نتائجها‪.‬‬
‫لقد �شهدنا من نبوءات نادر هدى يف ديوان «مزامري الريح»‬
‫الذي حب�س لوحته الأوىل على واقع �أو�ضاع �أمته‪ ،‬وهو ميتح من‬ ‫ما الذي يجعل من ال�شاعر متنبئ ًا؟‬
‫ما�ضيها الأثيل ماء ح�ضارة كانت‪ ،‬وي�سفحه يف �سواقي القلوب‬
‫و�أ�شجار الكالم يف ا�ستح�ضاره خلطة الفاحت العظيم (مو�سى‬ ‫�أهي ثقافة ال�شاعر و�سعة اطالعه يف حيثيات الواقع‬
‫بن ن�صري) التي كانت تق�ضي ب�أن‪« :‬يعود هو و جي�شه �إىل دم�شق‬ ‫واحل�ضارة الإن�سانية املت�أتية من عمق التجربة ومكنة‬

‫كاتب �أردين‪.‬‬
‫‪‬‬
‫‪27‬‬

‫�ضجر يف تنائي البعيد‪ ...‬البعيد‬ ‫عن طريق �أملانيا وم�ضيق الق�سطنطينية و�آ�سيا ال�صغرى‪ ،‬بحيث‬
‫ينازعني الوقت والطق�س‬ ‫يحيط بالبحر الأبي�ض من كل جانب وي�صبح بحرية �إ�سالمية‬
‫ُ‬
‫توفر طرق املوا�صالت بني خمتلف الواليات الإ�سالمية «‪.‬‬
‫ما �أن �أ�ض ُّج ب َنفْ�سي‬
‫‪� -‬أقول �شهدناه يقف على واقع الأمة املعا�صر‪� ،‬إذ غزا‬
‫بيح ال�س�ؤال املُريب‬‫�أُ ُ‬ ‫النظام العراقي دولة الكويت‪ ،‬وما �آلت �إليه احلال يف �شرط‬
‫علي‬
‫فماذا ّ‬ ‫وا�ستحقاق تاريخي وجدت الأمة نف�سها فيه‪.‬‬
‫ويف عا ٍمل يتعامى‬ ‫يقول نادر يف ق�صيدة «كوامن احلجب» التي ي�ؤرخها يف‬
‫� ٌّ‬ ‫‪� ،1990/4/2‬أي قبل غزو العراق للكويت يف ‪:1990/9/2‬‬
‫النواقي�س وحدي‬
‫َ‬ ‫أدق‬
‫وال من جميب!‬ ‫لعلك �أيها الآتي‬

‫و�أ�صرخ‪-:‬‬ ‫ُّ‬
‫تف�ض كوامن احلجب‬

‫والوعد‬
‫ِ‬ ‫القلب‬
‫�أينك يا فتنة َ ِ‬ ‫ت�ضيء عوامل الإح�سا�س‬
‫ترينا َ‬
‫ثواكل يف الريح ‪...‬‬ ‫لعلك تو ِق�ض احلرا�س‬
‫حل ُلم بو�صل ًة ومتاه‬
‫يو�سدُنا ا ُ‬
‫ترينا ِّ‬ ‫ف�آتي ال ِّريح‬
‫ثكل الدوائر واال�شتباه‬
‫لنحيا على وق ِع ِ‬ ‫لن ترتك لنا ح ًال‬
‫يد ّثرنا الي�أ�س والوقت واحلرف‬ ‫وال حرم ًا‬
‫حفا ًة‪ ...‬عراة‬ ‫ولن ترتك لنا ع ّمة وال خالة‬
‫�أينك يا امل�صطفاة؟!!!(‪)2‬‬ ‫ل ُي ْ�س َلب �أرث ما�ضينا‬
‫نعم قال نادر كل ذلك م�ستع�صم ًا بر�ؤاه الفكرية والإبداعية‪:‬‬ ‫ويلقينا بعمق متاهة الظلمات‬
‫ما�ض‪ ،‬و�آن‪ ،‬و�آت‪ ،‬فكانت نبوءات كفلق ال�صبح‪« ،‬وك�أنه ينظر‬ ‫ٍ‬
‫للغيب من �سرت رقيق»‪.‬‬ ‫ت�أكلنا م�آ�سينا(‪)1‬‬

‫ولعل يف الوقوف على داللة العنوان وتاريخ الق�صائد‪ ،‬ما‬ ‫َّ‬ ‫ويقول يف ق�صيدة «ثكل الدوائر» التي ي�ؤرخها يف ت�شرين‬
‫ي�شكل عتبة �سيميائية مهمة لفهم الن�ص‪ ،‬و�سرب �شبكة العالقات‬ ‫أخ�ضع‬
‫أخرجت القوات العراقية من الكويت‪ ،‬و� ِ‬
‫ثاين ‪ ،1992‬وقد � ِ‬
‫الداللية والت�شكيلية لبنيته الفنية والإيحائية‪.‬‬ ‫العراق حل�صا ٍر وح�ضر لطريانه الوطني يف بع�ض �أجوائه‪ ،‬بعد‬
‫�أن وقع يف خيمة (�صفوان) �شروط ا�ست�سالمه – يقول‪:‬‬
‫* * *‬
‫‪‬‬
‫‪28‬‬

‫ال�شاعر طفل دائم‪ ،‬وغريب دائم‪ ،‬وكذا �شاعرنا يف دنيا‬ ‫كل هذا ا�ستدعاين للتوقف عند نبوءات ال�شاعر نادر هدى‬
‫«من الأ�شباح ومن تغريبة ال�صور»‪ ،‬وما بني هذين املعطيني‬ ‫يف ديوان «ماء الغواية»‪ ،‬وقد جاء طافح ًا بغري واحدة منها‪،‬‬
‫يلتب�س الأمر‪ ،‬حتى ك�أنه يرى يف طوفان نوح طهره وخال�صه؛‬ ‫وك ُّل يف �إطار �سياقها الذي ال يخرج عن عنت الواقع‪ ،‬هذا الذي‬
‫طهر وخال�ص الواقع‪ ،‬وهنا ي�ستح�ضر ال�شاعر الرائي �شخ�صية‬ ‫يرف�ضه ال�شاعر ويتمرد عليه‪ ،‬معلنا ثورته بحث ًا عن العامل‬
‫نبي اهلل نوح ًا‪ ،‬ففي كال العاملني ما ي�ستوجب الطوفان‪:‬‬ ‫الأجمل‪ ،‬عامل مثل احلق واخلري واجلمال‪ ،‬وكافة الف�ضائل‬
‫ف�إنِّ الظلم َّ‬
‫عم‬ ‫الإن�سانية‪ ،‬فهو يف هذا الواقع مغدور بالطعنات والن�أي‪� ،‬أنها‬
‫غربة ال�شعراء والفال�سفة واحلكماء وقب ًال الأنبياء؛ غربة‬
‫كذلك الظلماتُ تفرت�س الطبيع َة‬ ‫الذات يف واقعها االجتماعي‪ ،‬وقد عبرَّ عنها طرفة بن العبد‬
‫وال َّندى � ْأعمى‬ ‫ ‬ ‫ال�شاعر‪ ،‬قوله‪:‬‬
‫وما ُء ال�ضو ِء َّ‬
‫جف‬ ‫وظلم ذوي القربى �أ�شد م�ضا�ض ًة‬
‫يجري‪.‬‬
‫فلم ي ُع ْد ْ‬ ‫على املرء من وقع احل�سام املهند‬
‫عامل يف غاية الب�شاعة – ال �شك – ذلك �أن ال�شاعر من‬ ‫وغربة الذات يف �أوطانها‪ ،‬وقد عبرَّ عنها �أبو العالء املعري‬
‫خالل التقم�ص واال�ستدعاء مل يجد ال�شك َّية يف ال�س�ؤال‪ ،‬فحري‬ ‫قوله‪:‬‬
‫�أن «يتعب من حرفه» وقد �أتعبه فع ًال‪ ،‬فرناه يبحث عن خال�ص‬
‫و�آخر يف حرية من ال�شك مريب‪ ،‬يف عامل الأحياء‪ ،‬ورمبا يف‬ ‫�أولو الف�ضل يف �أوطانهم غرباء‬
‫عامل الأموات‪ ،‬وكالهما يف واقع ال�شاعر واحد‪ ،‬فالن�صغي �إليه‬ ‫تن ُّد وتن�أى عنهم القربــاء‬
‫يف �صراعه هذا قوله‪:‬‬
‫أ�سائل؛ ما � ُ‬
‫� ُ‬ ‫وغربة الغربات‪ :‬الذات والروح والر�ؤى وقد عبرَّ عنها �أبو‬
‫أ�سائل؟‬
‫حيان التوحيدي يف الإ�شارات الإلهية قوله‪« :‬قد قيل‪ :‬الغريب‬
‫ْع َيل �صبرْ ي!‬ ‫من جفاه احلبيب‪ ،‬و�أنا �أقول‪ :‬بل الغريب من وا�صله احلبيب‪،‬‬
‫ال�شك ْي َة يف ال�س� ِؤال‬
‫أجد َّ‬
‫ومل � ِ‬ ‫بل الغريب من هو يف غربته غريب‪ ،‬بل الغريب من لي�س له‬
‫تعبتُ من ح ْريف‬ ‫ن�سيب‪ ،‬بل الغريب من لي�س له يف احلق ن�صيب‪ ...‬يا هذا !‬
‫‪ ..‬الغريب الذي ال ا�سم له فيذكر‪ ،‬وال ر�سم له في�شهر‪ ،‬وال‬
‫وال تجُ دي النبوءاتُ‬ ‫طي له فين�شر‪ ،‬وال عذر له فيعذر‪ ،‬وال ذنب له فيغفر‪ ،‬وال عيب‬ ‫َّ‬
‫بال�س ْيف‬
‫تت�شح َّ‬
‫التي مل ْ‬ ‫عنده في�سرت‪ ،‬هذا غريب مل يتزحزح عن م�سقط ر�أ�سه‪ ،‬ومل‬
‫ال جتدي ي ٌد بي�ضا ُء‬ ‫يتزعزع عن مهب �أنفا�سه‪ ،‬و�أغرب الغرباء من �صار غريب ًا يف‬
‫حمل قربه‪ ،‬لأن غاية‬ ‫وطنه‪ ،‬و�أبعد البعداء من كان بعيد ًا يف ِّ‬
‫آويل الأخري ُة ُم ْ�سرتاح ًا‬
‫تجد الت� ُ‬
‫ف ْل ِ‬ ‫ويق�ص عن‬
‫املجهود �أن ي�سلو عن املوجود‪ ،‬ويغم�ض عن امل�شهود‪ُّ ،‬‬
‫تريح دمي من الإ�صغا ِء للموتى‬
‫كي َ‬ ‫املعهود‪ ...‬يا هذا! الغريب من �إذا ذكر احلق هُ ِج َر‪ ،‬و�إذا دعا‬
‫ي�سري‬ ‫�إىل احلق ُز ِج َر‪ ...‬يا رحمتاه للغريب؟‪.‬‬
‫وللما ِء الذي ْ‬
‫‪‬‬
‫‪29‬‬

‫جلدُر» ففي جوفها �أن ي�أتي هذا الفار�س الأبي «ما‬‫«البئر ‪ ...‬ا ُ‬ ‫هنا‪ ،‬ومن كبد كل هذا تت�أتى نبوءة ال�شاعر املغدور‪،‬‬
‫ُيريح» �أن ميتح املاء منها‪ ،‬وهنا مكمن الر�ؤيا عنده‪ ،‬يف مكمن‬ ‫والنائي‪ ،‬املنذور واملرئي والرائي وب�صيغة تعيدنا �إىل خطاب‬
‫�س ّر احلياة‪:‬‬ ‫الأنبياء‪ ،‬على ما نرى يف الكتب املقد�سة‪ ،‬وب�صورة احلزم‬
‫أبي ُّ‬
‫يف�ض الظالم‬ ‫�أما من � ٌّ‬ ‫واجلزم قوله‪:‬‬
‫فريوي العطا�ش‬ ‫�أنا املغدور َّ‬
‫بالطعنات والنائي‬
‫فقد بلغ ال�سيل حنق الف�ؤاد اجلريح‬ ‫واملرئي والرائي‬
‫ُّ‬ ‫�أنا املنذور‬
‫ويف البئر من عتقها ما ُيريح‬ ‫� ُ‬
‫أقول لكم ‪:‬‬
‫فمن ميتح املاء من جوفها‬ ‫هو ُّ‬
‫الطوفان والهلكوتُ‬
‫ماء معنى احلياة ال�صديح؟!(‪)5‬‬ ‫فاتع�ضوا(‪)3‬‬

‫لكنه على ما يبدو فاقد ًا للأمل‪ ،‬ف�أعداء احلياة «اجلدر‪..‬‬ ‫* * *‬


‫هم لهم يف ذلك وال م�صلحة‪ ،‬فينالون من‬ ‫الدمى‪ ..‬الغثاء» ال َّ‬ ‫هذه واحدة‪ ،‬و�أخرى‪ ،‬من ق�صيدة «�أنا من ر�أى» ن�أخذها‪،‬‬
‫ر�ؤاه بالعنت والبغي ما ينالون‪ ،‬فرناه «وحيد ًا ‪� ..‬أر ِق ُ�ص ظلي‬
‫فماذا ر�أى‪ ،‬وما امل�سوغ ملا ر�أى ؟! وكيف ت�أ َّثثت الر�ؤيا هنا ؟!‬
‫بظلي» يف �صورة �أقرب �إىل ال�سفاهة واجلنون‪� .‬أمام هذا الواقع‬
‫�أن الفي�صل الرئي�س الذي يقف عليه �شاعرنا هو (املكابرة)‬
‫يبحث ال�شاعر عما ي�سند روحه فال يجده �إال يف الأحرف‬
‫«ج ُد ٌر من التيه‪ ...‬دمى متحركة‪....‬‬ ‫أهل ح�سب و�صف ِه هم ُ‬ ‫من � ٍ‬
‫الكلمات‪ ،‬ويف كل هذا ومثله مي�ضي‪:‬‬
‫غثاء ك�سيح» كل هذا ي�سوقه واقع مغرق يف العماء؛ والعماء هنا‬
‫أبيد يح ِّن ُط م َّر ال�س� ْؤال‬
‫متعب يف انتظا ٍر � ٍ‬ ‫واقع الأمة بال �أي م�شروع ح�ضاري من خالله تلتم�س م�سوغات‬
‫وجودها ومعناها‪ ،‬ويف حني ميتلك الآخر مثل هذا امل�شروع‪ ،‬يرى‬
‫متعب يف غياب يغ ُّل ال ُّر�ؤى بامل�آل‬ ‫ال�شاعر يف �أمته عبئ ًا فائ�ض ًا على العامل الراقي‪ ،‬و�إذ هي كذلك‬
‫متعب يف املواقف والأحجيات ال ِّثقال‬ ‫فـ «�سقط متاع‪ ،‬تباع ببخ�س وت�شري ببخ�س‪ ،‬يدثرها الوحل‬
‫والوهم والإدعاء»‪ ،‬وقد قال الكواكبي يف «طبائع اال�ستبداد»‪:‬‬
‫ميزق ك ْبدي الظالم‬ ‫«الأمة التي ال ت�ضيف �إىل احلياة �شيئا هي عبء عليها»‪ ،‬وذا‬
‫وت�أخذه النار وال ِّريح والعا�صفات الظوام‬ ‫حال الغالب من املغلوب – ح�سب ابن خلدون يف مقدمته –‬
‫وهنا يت�أتى ال�س�ؤال ّ‬
‫املق�ض املوجع‪:‬‬
‫فدعني �أحبرِّ ُ هذا الكالم‬
‫�أنا من ر�أى‪ ....‬وتلظى يف ال�س�ؤال‪:‬‬
‫‪/‬‬
‫�إالم ن�ضل بهذا العماء‪.....‬؟!(‪)4‬‬
‫�أنا من ر�أى‪....‬وتلظى يف ال�س�ؤال‪:‬‬
‫يبحث ال�شاعر عن اخلال�ص م�ستنه�ض ًا الفار�س الأبي �ألآت‬
‫إالم ن�ض ُّل بهذا العماء‪......‬؟!(‪)6‬‬
‫� َ‬ ‫فـ « قد بلغ ال�سيل الزُّبى « ويف بحثه هذا يرتد �إىل ما�ضيه الآثيل‬
‫‪‬‬
‫‪30‬‬

‫متتزج الذات احلبيبة امل�ضيئة‪ ،‬بعنت الغربة ‪ /‬الواقع‬ ‫وبهذه ال�صيغة تت�أتى الر�ؤيا‪� ،‬صيغة ال�س�ؤال الدائب الدائم‪،‬‬
‫املنك�سر املظلم‪ ،‬ومن هذه املفارقة املده�شة ب�إنزياحاتها تت�أتى‬ ‫املوغل يف اللظى‪.‬‬
‫الر�ؤيا‪ ،‬و�صو ًال �إىل اخلال�ص (املطر)‪ ،‬ويف �آنا كل ذلك و�أطرافه‬ ‫* * *‬
‫(هدى) الزاد واملتك�أ وامل�أوى‪� ،‬س ّر البعث والإحياء‪ ،‬ويرت�آى‬
‫الواقع ب�أ�شيائه عرب �أبعاد الزمن‪ ،‬وب�صورة �أخاذة ناب�ضة‬ ‫هذه ثانية و�أخرى‪ ،‬من ق�صيدة «املُرتقى» ن�أخذها‪� ،‬إذ يف‬
‫باحلميمة‪ ،‬حتى لنكاد ن�شتم من كلماته ونحن نتلوها ذلك‬ ‫البدء ي�ستدعي �إ�شراقة الوعد (هداه) لت�سمو املعاين هيام ًا‬
‫احلميمي العتيق «البئر‪ ...‬النبع‪ ...‬ال�ساقية‪...‬‬
‫ِّ‬ ‫العطر الأثريي‬ ‫تداع من اخلطابات‪ ،‬هي �إىل الرتاتيل واملزامري �أقرب‪:‬‬ ‫عرب ٍ‬
‫الراعي‪ ...‬القطيع‪ ...‬املطر» يف مفارقات دالة‪ ،‬فلم تعد البئر‬ ‫�أيا جمر َة اخل�صب هُ ِّلي‬
‫والنبع وال�ساقية مورد ًا ملاء نق�صده حلاجاتنا‪ ،‬ومل تعد النار‬
‫(نار ال ِقرى) والذام ‪-‬املروءة ومنظومات القيم‪ -‬مل يعد �سوى‬ ‫ف�إين �أرى البئ َر تن�ضب‬
‫�أ�سطورة من رماد ! والراعي �ضال و « كلكم راع‪ ،‬وكلكم م�سئول‬ ‫والنب َع وال�ساقية‬ ‫ ‬
‫عن رعيته « فحالنا والأمر هذا حال التمزق وال�شتات والغربة‪،‬‬
‫�أرى النا َر تخمِ ُد‬
‫�إنه عامل الغربان التي ال تنذر �إال بال�ش ِّر امل�ستطري‪ ،‬هنا يبحث‬
‫عن اخلال�ص‪ ،‬من املخل�ص (هداه)‪ ،‬وهنا تت�أتى الر�ؤية �أمنية‪:‬‬ ‫والذام �أ�سطور ٌة من رماد‬
‫ُ‬
‫إيقاعهُ‪،‬‬ ‫أخذ َ‬
‫�شكل الق�صيد ِة � َ‬ ‫لي� َ‬ ‫راع ي�ض ُّل‬
‫�أرى ك َّل ٍ‬
‫جنم ًة يف ال�سماء‬ ‫وين�أى القطيع‬
‫ويهمي ا‬ ‫متز ُق كبدَ ال َّر�ضيع‬
‫مناف ِ‬
‫ٍ‬
‫ل‬ ‫وال �شي َء �إ ّال الغراب‬
‫م‬ ‫الغراب‬ ‫ ‬
‫ط‬ ‫الغراب‬
‫ر ‪)8( ...‬‬ ‫ف� َ‬
‫أينك ؟‬
‫وملَّا كان الن�ص ال�شعري ي�ؤخذ بوحدته الق�صيدة الع�ضوية‬ ‫هبات‬
‫�أين ا�صطفاء امل�شارب وال َّر ْ‬
‫ف�إن يف جو الق�صيدة التفا�صيل‪ ،‬ولكن ح�سبنا الإملاح هنا‪،‬‬ ‫اخلراب‬
‫َ‬ ‫ُنع ِلل هذا‬
‫وللم�ستزيد ج ُّده وجهده‪.‬‬
‫ايقاعهُ‪،‬‬ ‫أخذ َ‬
‫�شكل الق�صيد ِة َ‬ ‫لي� َ‬
‫* * *‬
‫جنم ًة يف ال�سماء‬
‫هذه ثالثة‪ ،‬و�أخرى‪ ،‬تكون فيها مع (هداه)‪� ،‬أن تزف الفجر‬
‫ويهمي املطر‪)7(...‬‬
‫يف ق�صيدة (زيف الفجر هداي) تلك التي‪:‬‬
‫‪‬‬
‫‪31‬‬

‫َ‬
‫املدارك‬ ‫ت�صادي‬
‫َّّ‬ ‫مايل �أُر ِّق ُم يف‬ ‫احلرف‬
‫ِ‬ ‫حتف ُر �صورتَها يف‬
‫طاعن ًا يف الن�أيِّ‬ ‫الكلمات‬
‫ْ‬ ‫ويف‬ ‫ ‬
‫والن� ُّأي ُعراي؟!‬ ‫وت�ش ِّكلني �صل�صا ًال تنفخُ فيه‬
‫مت�سائ ًال‪:‬‬ ‫احليوات‬
‫ْ‬ ‫ف�إذا روحي ت�سكن ك َّل‬
‫فلمن �أُ ِ�س ّر‬ ‫�أنا ِ�س ْف ُر �س� ٍ‬
‫ؤال يف املر�آة(‪)9‬‬

‫أبيح‬
‫ملن � ُ‬ ‫كذا ير�سم �صورتها ليبث �شكيته‪ ،‬ويف ال�شكية نبوءة ما‬
‫ملن حرويف �أن ُرث الإيحا َء فيها‬ ‫يرى‪ :‬الطارق والهاتف وال�س�ؤال‪� ،‬أو قل الأ�سئلة حيث ال�شك‬
‫والتيه والنزف والنزق واخلواء‪.‬‬
‫َ‬
‫واجلوى ُج َّواي‪- /...‬‬
‫لكن هل �أ�سلم ال�شاعر النبي ع�صاه ؟! بالت�أكيد ال‪ ،‬وهنا‬
‫وكانني ملك م�ضاع يا �أناي !!‬ ‫ي�ستح�ضر امل�سيح عليه ال�سالم‪ ،‬قوله‪�« :‬أطلبوا جتدوا‪ ،‬اقرعوا‬
‫وك�أنني ٌ‬
‫ملك م�ضا ٌع يا �أناي!!‬ ‫يفتح لكم»(‪ )10‬ويبقى الأمل‪ ،‬احللم فهو يدرك وهداه �أن عملية‬
‫التغيري والبناء دائمة دائبة‪ ،‬ويف هذا �سنة احلياة‪ ،‬ي�سوقه يف‬
‫وقد‪:‬‬ ‫ا�ستح�ضار‪ ،‬يو�شيه ب�سياق الن�ص القر�آين ( �إِنْ َت ْن ُ�ص ُروا اللهَّ َ‬
‫بلغت جراحي مبتغى احلرف املُ َعب‬ ‫َي ْن ُ�ص ْر ُك ْم َو ُي َث ِّب ْت �أَ ْقدَ َام ُك ْم)(‪ ،)11‬فالن�صر بحدِّ ذاته ال يكفي‬
‫بل يعوزه ال�سهر واجلد واجلهد حلمايته وتع�ضيده وحت�صينه‪،‬‬
‫�أ�سلمت �أعنا َقها لعبار ِة ال ُّر�ؤيا‬
‫والبناء عليه‪ ،‬ويف كل ذلك الأخذ بالأ�سباب والن�أي عن املعيقات‬
‫الكالم !‬
‫ْ‬ ‫وما نف َع‬ ‫واملحبطات وتطويعها‪ ،‬وهذا هو �أفقه وعمقه ومداه مع (هداه)‪،‬‬
‫�آه‪ ،‬فماذا بع ُد �أنتظ ُر‬ ‫و�صو ًال �إىل الر�ؤيا‪ ،‬اخلال�ص‪ ...‬الفجر‪:‬‬

‫هاتف ي�أتي‬
‫وهل من ٍ‬ ‫مداك‪ ...‬مداي‬
‫�صوب ِ‬
‫كوين ال ُّر�ؤية َ‬
‫(مبا ي�أتي وال ي�أتي )‬ ‫زيف الفج َر هداي(‪)12‬‬

‫املقام ؟!(‪)14‬‬
‫لينتظم ْ‬
‫َ‬ ‫* * *‬
‫هذا رابعة‪ ،‬و�أخرى‪ ،‬فيها يخاطب �إمامه �أن (�أرفق بنا يا‬
‫هذا ر�صد لواقع حال‪ ،‬وك�أنه معطيات‪ ،‬و�صو ًال �إىل نتيجة‬
‫�إمام)‪ :‬فـ‬
‫علمية ح�سب منطق العلوم الطبيعية‪ ،‬ويف ثناياه مكمن النبوءة‬
‫يرتك لنا �أن ن�ست�شفها‪� ،‬إذ ح�سب ال�شاعر الإ�شارة والإيحاء‪،‬‬ ‫الكوائن‬
‫ِ‬ ‫التي ُه ُ‬
‫ينه�ش يف‬
‫وقيل‪�« :‬أن اللبيب من الإ�شارة يفهم» وقال ال�شاعر‪:‬‬ ‫واخلوا ْء‪)13( ....‬‬
‫والعبد يقرع بالع�صا‬ ‫احل ُّر تكفيه الإ�شارة‬ ‫�سائ ًال‪:‬‬
‫‪‬‬
‫‪32‬‬

‫ال�شرع الدينية واملواثيق العاملية‪ ،‬ووفق‬ ‫حل العدوان‪ ،‬وفق ِ‬ ‫َّ‬ ‫وهذه �أحد ال�صيغ يف نبوءات �شاعرنا‪ ،‬بعد �سوق هذه‬
‫نهجنا الإ�سالمي احلنيف ح�سب فتوى ابن تيمية ال�شهرية‪:‬‬ ‫املعطيات وك�أنها �سرد حماججة قانونية‪ ،‬ليقف على املق�صد‬
‫«�إذا احتلت ار�ض امل�سلمني‪ ،‬بات اجلهاد فر�ض عني على كل‬ ‫– احلجة الدامغة – يف واقع امل ِّر واملرارات‪ ،‬واحلق والعدالة‬
‫م�سلم وم�سلمة»‪ .‬ومن مياري يف ذلك لي�س �إال �ضا ٌل م�ض َّلل‬ ‫امل�ضيعان با�سم دولة القانون وامل�ؤ�س�سات امل َّدعاة‪ ،‬حيث ي�ست�أثر‬
‫م�ض ِّلل حتت �ستار املعقولية التي هي معادل مو�ضوعي للخنوع‬ ‫من ي�ست�أثر فيها مبكت�سبات التنمية‪ ،‬تارك ًا عامة اجلمهور‬
‫واال�ست�سالم‪ ،‬وقد �أثبتت حرب ‪� 2006‬إذ مرغت املقاومة �أنفة‬ ‫نهب ًا‪ ،‬وهنا تت�صيرّ (�أنا) ال�شاعر (�أنا) جمعية كونية‪ ،‬لت�أت‬
‫«اجلي�ش الذي ال يقهر» يف الرتاب‪ ،‬وعاد من لبنان يجر �أذيال‬ ‫ال�صرخة‪ ...‬ال�س�ؤال املد ّوي‪ ،‬تارك ًا لنا ح�سن اعتباره‪:‬‬
‫اخليبة واخلزي والعار يف مواجهة املقاومة البا�سلة‪ ،‬وهذا ما‬
‫ِم نَ ُن ال�س�ؤال (بدولة القانون)‬
‫�أثبته العدوان على غزة (‪ ،)2009/1 /17– 2008/12/27‬و�إذ‬
‫ن�شهد ما ن�شهد مما ي�سمى باملفاو�ضات‪ ،‬ليت�أكد لنا بجالء‪:‬‬ ‫زا ُد ال ُّذل‪ ،‬ما ُء الوجه‬
‫�أن املقاومة هي ال�سبيل الوحيد والأوحد ال�ستعادة الأر�ض‬ ‫ماذا بع ُد‬
‫واملقد�سات‪ ،‬و�شرف الأمة بالعي�ش الكرمي‪ ،‬و�أقوال ال�شاعر نادر‬
‫هدى فائ�ضة جلية يف حواراته الأدبية (حوارات نادر هدى‪-‬‬ ‫ماذا يا �إمام؟!‬
‫الر�ؤية والإبداع‪ )-‬ويف �سريته الإبداعية (م�شارب الرهبة)‪،‬‬ ‫* * *‬
‫فنحيل عليها غاية للإيجاز وعدم الإكثار‪.‬‬ ‫هذه خام�سة‪ ،‬و�أخرى‪ ،‬بها نكون مع ق�صيدة «�أجنم تكن�س‬
‫و�إذ يح ُّل نادر ق�صيدته في�ض م�شاعره للمقاومة و�سيدها‬ ‫اجلرذ» ول�سيد املقاومة يهديها‪ ،‬ق�صيدة تعبرِّ عن متا�س‬
‫يف ا�ستح�ضار لكربالء «�أمانات حلم بالر�ؤى املحكمات» ي�أين‬ ‫ال�شاعر املبا�شر مع املقاومة التي يرى فيها اجلدار الأخري‬
‫�س�ؤاله‪�« :‬أهو الدم ماء ؟ « بالت�أكيد نقول مع ال�شاعر‪� :‬أن ال‪،‬‬ ‫ل�شرف الأمة‪ ،‬واملعنى الوفري ال�ستنها�ض الكامن فيها – روح‬
‫ومع ًا للمقاومة و�سيدها نهتف ِّ‬
‫ونحذر‪:‬‬ ‫اجلهاد – و� ُّأ�س البالء الغا�صب املحتل املتغطر�س املدعوم‪ ،‬من‬
‫كل قوى الت�أمر وال�ش ِّر التي تكيل لهذه الأمة العداء‪ ،‬وهي تعي‬
‫ف�أُ َّم اجلموع الغفري َة‬ ‫الكامن فيها‪ ،‬وقد ت�صيرَّ فتح ًا‪ ،‬ومنارات �إ�شعاع ع ّمرت الدنيا‬
‫واحلمام‬
‫احلمى ِ‬
‫خذ بنوا�صي ِ‬ ‫وكانت اجلذوة حل�ضارته‪ ،‬والكامن ذاته مل يتغري يف انتظار‬
‫باعثه املنتظر القريب – �أن �شاء اهلل – هنا خمت�صر نبوءة‬
‫فولىَّ زمان‪ ،‬وهذا زمان‬ ‫ال�شاعر‪:‬‬
‫�سي�ؤ َّرخ فيه الزَّمان(‪)16‬‬
‫ف�إين �أرى‪ ...‬ما �أرى؟!‬
‫‪.....‬‬ ‫�أجن ٌم تَك ُن ُ�س ا ُ‬
‫جل َ‬
‫رذ‬
‫�أيا �س َّيدَ اال�سم والفعل واحلرف‬ ‫ونا ٌر ِ�ضرام(‪)15‬‬
‫دونك �ضيقُ العبارة واملومياء‬ ‫وما اجلرذ �إال دولة �إ�سرائيل املغت�صبة‪ ،‬وما الأجنم والنار‬
‫فك ُّل املدائن تغ ِّلق �أبوابها‬ ‫وال�ضرام �إال جذوة املقاومة �أ َّنى كانت‪ ،‬وهي حق مقد�س �أنى‬
‫‪‬‬
‫‪33‬‬

‫لعلي من ثنايا ال�صمت �أ�ست�سقي نداءاتي‬ ‫وكل احلواري ت�ؤ ِّبد نوامها‬
‫عود من البخور وال َّند‬
‫على ٍ‬ ‫�أهو ال َّد ُم ماء!‬
‫�سري املكنونَ من وجع‬
‫ف�أف�ضي ما ي�ؤبد َ‬ ‫فمن يبعث النور والنار يف كربالء‬
‫وقد �أوزعت لل�صخر م�س ّراتي‬ ‫لم والبعث والكربياء(‪)17‬‬ ‫وينطق با ُ‬
‫حل ِ‬
‫برحت ت�ؤان�سني على قدرٍ‪ :‬لك ال ُّر�ؤيا‬
‫فما ْ‬ ‫* * *‬
‫لك ال ُّر�ؤيا ‪ ..‬لك ال ُّر�ؤيا‬ ‫هذه �ساد�سة‪ ،‬و�أخرى‪ ،‬لنا فيها مع «ق�صيدة غزة» وقفة يف‬
‫فهل من قارئٍ كفي‬ ‫نبوءة لل�شاعر نقر�أها – وهي واحدة من غري نبوءة ت�ضمنتها‬
‫الق�صيدة ‪ /‬امللحمة التي هي الق�صيدة الأطول يف م�سار جتربته‬
‫مبا يخفى وي َّدخ ُر ؟!‬ ‫ال�شعرية‪ ،‬بعد مرثاته لأمه يف ديوان «�س�أع ُّد �أيامي مبو ِت ِك»‪.‬‬
‫ونبد�أ من مر�آة كفه لنخل�ص �إىل ما ُيخفي و ُيدخر‪ ،‬يف‬ ‫نادر هدى يف ق�صيدة غزة م َّكننا من وثيقة ح ّية لأيام‬
‫انتظار «الذي ي�أتي وال ي�أتي» يف غو�ص خلوابي الذات والر�ؤيا‪،‬‬ ‫العدوان منذ بدءه يف ‪ 2008/12/27‬وحتى توقفه يف‬
‫ع َّلنا معه ن�ست�سقي نداءاته‪ ،‬ونف�ضي �إىل ما ي�ؤبد املكنون من‬ ‫را�صد‪ ،‬راءٍ ‪،‬‬
‫‪ ،2009/1/17‬معربة ب�أحا�سي�س وم�شاعر �شاعر‪ٍ :‬‬
‫وجع‪ ،‬ولنخل�ص �إىل �أن‪« :‬خراب كله املعنى» فهل غري �أ�سطورة‬
‫دقيق‪ ،‬ملجريات ما حدث يف بعده النف�سي واملعنوي على ال�شعب‬
‫الفينيق يخفي ال�شاعر وي َّد ِخ ُر؟!‬
‫املحا�صر الأعزل‪.‬‬
‫تتداعى هنا الأ�سطورة م�سلحة بالفكر ال َّنام عن ر�صد‬
‫لقد �أبان ال�شاعر لنا بق�صيدته حقيقة ال�صراع العربي‬
‫الواقع وقراءاته‪ ،‬وهذه �إحدى �أ�شكال النبوءة عند نادر‪ّ ،‬‬
‫ت�شف‬
‫الإ�سرائيلي‪ ،‬مبا بثه من �أفكار وت�أمالت ان�سربت لواقع اليهود‬
‫وتعذب‪ ،‬وت�ستدعيك للحفر يف طبقات الن�ص وخلفية م�أتاه‪،‬‬ ‫ّ‬
‫يف احل�ضارة العربية الإ�سالمية‪ ،‬واقع الت�سامح والعي�ش‬
‫مبا تك ّنه من الألفاظ واملعانى وال ُّر�ؤى‪ ،‬ولع ّل يف حماكاة ق�ضية‬
‫ال�صلب امل�سيحي مع الإ�سالمي تكمن الداللة والإ�شارة‪:‬‬ ‫الكرمي يف حرية املعتقد والذات �إىل �أن فتك داء ال�صهيونية‬
‫وت�صيرَّ دولة �سرطانية يف اجل�سم العربي‪ ،‬بزرع دولة �إ�سرائيل‬
‫‪/‬‬ ‫املغت�صبة‪ ،‬والتي �ستل َف�ض يوم ًا ال حمالة‪ ،‬ويف ِعبرَ التاريخ ال�س ُّر‬
‫ُ‬
‫اخليال امل�ضطرب‬ ‫أنت‬ ‫ال ال�شرق �شر ُق َك‪ٌ ،‬‬
‫نازف � َ‬ ‫واخلرب اليقني‪.‬‬
‫‪ -‬وما �صلبوه‬ ‫ر�صد نادر العدوان وعاي�شه م�سلح ًا بخلفيته الثقافية‬
‫‪ -‬بل �صلبوه‪ ،‬وكلُّنا ن�صلب‬ ‫الوا�سعة‪ ،‬فلنكن مع الن�ص لنحاكيه‪:‬‬
‫ق�صيدة غزة‪� ،‬شاهدة على ا�ستح�ضارات جتعل من وثيقتها‬ ‫أحادث ال َّر َيح املعتق َة‬
‫وقلت � ُ‬
‫وحدة ع�ضوية نخل�ص من خاللها على نبوءات و�أخرى‪ ،‬لها يف‬ ‫الذات وال ُّر�ؤيا‬
‫خوابي ِ‬
‫مكنه ال�شاعر املاهر امل�سلح بثقافة الوا�سعة قراءاتها املتعددة‪،‬‬
‫بعيد ًا عن �أحادية املعنى لت�أتي �أكلها‪.‬‬ ‫مبا ي�أتي وال ي�أتي‬
‫مبا ي�أتي و�أنتظر‬
‫* * *‬
‫‪‬‬
‫‪34‬‬

‫�أنها حرية الإرادة والفكر يف ر�أي اخلليفة ومزاجه –‬ ‫هذه �سابعة‪ ،‬و�أخرى تكون فيها مع ق�صيدة «كن�س اخلراب»‬
‫ُق ِد�س �سره – �أي يكون �صاحب ال�سلطان ال�سيا�سي‪ ،‬وهو يف‬ ‫وما �أدراك ما كن�س اخلراب!‪:‬‬
‫الوقت نف�سه �صاحب الر�أي وال�سيف‪ ،‬ويف م�سار الفكر العربي‬ ‫فهيئوا املائدة‬
‫وقراءات جتديده(‪)18‬اخلرب اليقني‪ .‬ير�سم لنا ال�شاعر معادلة‬
‫�إنه ر�أ�س احل�سني‬
‫�آية من الأحكام عرب احت�شادات دينية وتراثية وتاريخية‪،‬‬
‫متخذ ًا من الت�شكيل الب�صري و�سيلة‪َّ ،‬‬
‫ليدل وي�ؤكد على حقيقة‬ ‫�إنها كربالء التي مل تنت ِه ‪...‬‬
‫�سالح الذاكرة التي تراهن عليه �إ�سرائيل الغا�صبة‪:‬‬ ‫قال اخلليفة ‪� :‬أعطوه �ألف دينا ٍر‬
‫وعلى زيتونة – ال �شرقية وال غربية –‬ ‫قال اخلليفة ‪ :‬اقطعو ر�أ�سه‬
‫يكاد �سنا برقها ي�ضيء‬ ‫فعلمت �أن للكلمات جنود جمندة‬
‫�أع ِّلق قلبي‬ ‫يف قد�س �سره‬

‫فـ �أعني ذ‬ ‫لي� َّأم طيور ‬ ‫وعليه‪� ،‬أبحت بالآتي‬


‫‪........‬‬
‫ا‬ ‫ ‬
‫لـ‬
‫�سيهدم الأق�صى‬ ‫ ‬
‫ك‬ ‫ ‬
‫�س‬ ‫ ‬
‫�أنت يف نرث ال�شعر مع نادر عليك �أن تكون م�سلح ًا‪ ،‬عدا �سعة‬
‫ر‬ ‫ ‬
‫ط‬ ‫ ‬
‫الثقافة‪ ،‬بامل�آالت‪ ،‬وما ترمي �إليه‪ ،‬تكون حق ًا مع كافة مفاهيم‬
‫ت‬ ‫ ‬
‫ي‬ ‫ ‬ ‫احلقوق الإن�سانية يف‪ :‬احلرية والعدالة وامل�ساواة‪ ،‬وهذه ق�صة‬
‫ي‬ ‫ن ‬ ‫ ‬ ‫�أخرى‪ ،‬ومو�ضوع قائم بر�أ�سه‪ ،‬تكفي الإ�شارة �إليه هنا‪ ،‬كي ال‬
‫نخرج عن مو�ضوعنا‪.‬‬
‫‪ -‬وعن ظهر قهر ‪-‬‬
‫مباذا يوحي القول‪ :‬هيئوا املائدة ؟ ف�إذا به ر�أ�س احل�سني‪،‬‬
‫�أو ِدع �سري ل�سري(‪)19‬‬ ‫�أهي النبوءة ب�أننا �أمام كربالء التي ال تنتهي؟ و�إىل �أين؟‪،‬‬
‫وتبقى الكلمة الأخرى �إال نبقى يف من�آى عما يك ُّن ُه مثل هذا‬ ‫حيث يهدم الأق�صى ؟ ولكن من الذي �سيهدمه؟! �أهو التخاذل‬
‫العربي �أم �إ�سرائيل الغا�صبة ؟!‬
‫اخلطاب ال�شعري‪ ،‬ففيه ما فيه من احليوية والإيحاء‪� .‬إنها‬
‫معركة الذاكرة!!!‬ ‫احلق �أن لنادر ر�ؤيته‪ ،‬ولكن ممكن اجلواب يف‪:‬‬
‫* * *‬ ‫قال اخلليفة‪� :‬أعطوه �ألف دينار‬

‫هذه ثامنة‪ ،‬و�أخرى‪� ،‬س�أقول فيها لقلمي‪�« :‬أ�سكت يا‬ ‫قال اخلليفة‪� :‬أقطعوا ر�أ�سه‬
‫قلم‪ ،‬وانطلق يا ر�صا�ص» لكن ر�صا�ص املعنى والر�ؤية ممث ًال‬ ‫ملاذا وكيف ؟!‬
‫‪‬‬
‫‪35‬‬

‫وهنا ممكن من يخدع نف�سه‪ ،‬ويكذب عليها‪ ،‬فيكون �أول‬ ‫باحتالل العراق‪ ،‬وم�شهد اعتقال رئي�سه و�إعدامه‪ ،‬ما يعني‬
‫امل�صدقني‪ ،‬و�آخر املكذبني‪ ،‬لكن بعد ماذا‪:‬‬ ‫ا�ستهتارا بالقيم الإن�سانية واحل�ضارية والأعراف الب�شرية‬
‫للنيل من ثوابت الأمة يف عقيدتها وح�ضارتها كحلقة من‬
‫لقد ن�سينا متاثيلنا العرجاء‬
‫حلقات ت�آمرية خللق عراق ممزق مهان‪ ،‬يغ ّله العنف الطائفي‬
‫ف�أن�ستنا �أنف�سنا‬ ‫واالنق�سام الداخلي غ ًال‪ ،‬ويوغل يف الوجدان جرح ًا ال يندمل‪،‬‬
‫لكن باملقابل ملاذا مت غزو العراق و�صو ًال لواقعة املهني ؟! �ألي�ست‬
‫وكانت حت�سبنا جميع ًا‬
‫ال�سيا�سة اخلرقاء؛ �سيا�سة‪:‬‬
‫وقلوبنا �شتى‬
‫ما �شئت‪ ،‬ال ما �شاءت الأقدار‬
‫بعد ذلك؛ ماذا ينتظر ال�شاعر من هدى‪ ،‬وملاذا؟!‪:‬‬ ‫فاحكم‪ ،‬ف�أنت الواحد القهار !‬
‫يا هدى‬ ‫تلك التي هيئت للأعداء كل م�شروعية لبغي ت�آمرهم‪،‬‬
‫�ألهمي الرائي يقين ًا‬ ‫وغي م�آربهم‪ ،‬لع ّل هذا ومثله‪ ،‬وغريه‪ ،‬لكن �أين تكمن الر�ؤيا‬ ‫ّ‬
‫النبوءة هنا‪ ،‬وب� ّأي �صيغة ت�أتّت ؟‪:‬‬
‫لع َّل البوح يف ال�صمت يندى‬
‫(متاثيلنا العرجاء)‬
‫�إن ممكن ال ُّر�ؤيا النبوءة يف الإ�شارة الرا�صدة الواعظة‬
‫وقد‪:‬‬ ‫نن�صبها على العتبات‬

‫ن�ضجت ثمار الكلمات‬ ‫لتدو�سها الأرجل‬

‫ت�ساقطت‬ ‫ويف �آخرة الليل ن�ضاجعها‬

‫والقلب ُم ْد َمى(‪)21‬‬
‫‪.....‬‬
‫ما � َ‬
‫أجمل الفاكه َة الطازج َة‬
‫هو ذا ال�شعر عندما يتجلى �أبعاد الزمن‪ ،‬وينك�شف �أمام‬
‫�ضربات الواقع ‪ ،‬وها هو ال�شاعر الذي يفتق بالكلمات ِعبرَّ‬ ‫عندنا تكون ال�شم�س �ساطع ًة!(‪)20‬‬
‫الر�ؤيا؛ وي�صيرّ ها م�سالت نازفة !!!‬
‫هذه واحدة وفيها تكمن املكابرة واخلنوع واال�ست�سالم‪� ،‬أو‬
‫قل خداع النف�س‪ ،‬لكن ما هي النتيجة واخلال�صة‪:‬‬
‫* * *‬
‫و�آح َر غدي‬
‫هذه تا�سعة‪ ،‬و�أخرى يف (ربيع الثورات العربية) لنا �سرية‬
‫�أخرى‪.‬‬ ‫الكف �أ�سئل ٌة « !!!‬ ‫ُ‬
‫والكف تلو ِ‬
‫يف اللوحة الثانية (عرائ�ش العزّ) من ديوان (ماء الغواية)‬ ‫�إذ من دم احلي�ض ن�ستلهم الكربياء‬
‫الذي �ضم (ق�صيدة غزة)‪ ،‬تلك امللحمة الرا�صدة الدقيقة‬ ‫ون�سفح الدم الطهور ماء !!!‬
‫‪‬‬
‫‪36‬‬

‫يف ربيع الثورات هذه وجدنا �أ�صداء وقر�أنا مالحم را�صدة‬ ‫للعدوان الإ�سرائيلي على غزة (‪،)12009/17 – 2008/12/27‬‬
‫ح�س �شاعرنا من خالل عنوانات هي‪ :‬فاحتة للع�شق والثورة‪/‬‬ ‫يف ِّ‬ ‫�إ�ضافة لق�صيد ٍة (�أجنم تكن�س اجلرذ) وهي تعبري عن تراكم‬
‫ُن ُذر ال ِّريح ‪ /‬حبيبتي اخل�ضراء ‪ /‬عزم الأباة ‪ /‬الثورة امل�شتهاة‬ ‫املواقف للمقاومة و�سيدها والتي تلقى احتفاء و�صدى يف وجدان‬
‫‪ /‬مباذا نكتب تاريخك ‪ /‬ماذا �سنقول‪ /‬كـم؟!‪� /‬سطع القمر‪.‬‬ ‫ال�شاعر نادر هدى‪.‬‬
‫وما بني ‪ 2012/4/8– 2011/1/15‬كان مدى كتابتها‪ ،‬ق�صائد‬
‫تد ُّل عناوينها على م�ضامينها‪.‬‬ ‫وهذا ما ي�ؤكد حقيقة ر�ؤيته من خالل �إجابته على �س�ؤال‬
‫عن اقرتاحه اجلمايل‪ ،‬قوله‪� »:‬أن اقرتاحي اجلمايل الذي‬
‫كلُّها تعبرِّ عن �أمل حم َرق يعي�شه ال�شاعر‪ ،‬نظر ًا ملا يحيق‬ ‫�أ�سعى �إليه هو احلوار لكي يكون ج�سر ًا من �أجل التوا�صل لكل‬
‫بواقع الأمة والوطن‪ ،‬وك�أنها �أ�إرها�صات ملا هو كائن و�آت‪ .‬وكل‬ ‫ما هو م�ؤثر يف �صالح الإن�سانية بعيد ًا عن م�صطلحات الت�شنج‬
‫هذا ميثل بعد ًا نوعي ًا ملا هو كائن عرب حقب وقرون‪ ،‬و�أ�صبح‬
‫والعبث والفو�ضى يف هذا العامل الذي مل يعد يحتمل �إال تعزيز‬
‫واقع ًا بف�ضل (عزم الأباة) بالربيع العربي الذي ن�شهد‪ .‬هكذا‬
‫قيم اجلمال والتوا�صل الإن�ساين»(‪.)22‬‬
‫مت�ضي الق�صيدة متماهية يف املر�أة الثورة‪ ،‬ف�إذا هي حبيبته‬
‫اخل�ضراء التي ي�أتي �إليها حمم ًال بزهر ًة من ماء‪:‬‬ ‫وبالواقع املنبت الذي �أ�صبح عليه حال الأمة والوطن يعلن‬
‫من �أجلها حبيبتي اخل�ضراء‬ ‫ثورته(‪ .)23‬ويرى‪�« :‬إن االنبتات الذي ن�شهده ما بني الأنظمة‬
‫و�شعوبها لدليل على خوائها‪ ،‬وانعدام م�شروعيتها يف البقاء‬
‫�آتي حم َّم ًال بزهرة من ماء‬ ‫حلظة واحدة‪ ،‬فليعط الأمر لأهله �صدق ًا وحق ًا‪� ...‬إن واقع‬
‫�أقول يا حبيبتي‬ ‫النظام العربي ب�شكله وت�شكيله الراهن يف امتحان‪ ،‬وهو مه َّدد‬
‫باالنهيار‪(...‬ويرى)‪�...‬أن م�شروعية البقاء لأي نظام هو‬
‫جتملي بال�صرب؛‬
‫احلوار ال القوة‪ ،‬الت�صالح مع ال�شعب بحيث يكون النظام يف‬
‫�إن الفجر �آت‬ ‫حدِّ ذاته مكت�سب ًا وطني ًا »(‪.)24‬‬
‫�ستلفظ الأموات‬ ‫يرف�ض نادر الإيديولوجيات ال�سائدة يف النظام العربي‪،‬‬
‫املجد للحياة‬ ‫ي�صب يف وئد ال�شعوب‬ ‫ُّ‬ ‫ويرى �أن كلها تنهل من معني واحد‬
‫وقهرها لتخل�ص �إىل �أثنيات من الفقر والف�ساد والطائفية‪،‬‬
‫‪/‬‬
‫والبديل هو �أن تعي ال�شعوب �أن احلرية والكرامة لي�ست م ّنة‬
‫ال وقت بعد الآن للرفاة‬ ‫احلاكم‪ :‬امل�سلح‪ ،‬املُل َهم‪ ،‬وال�ضرورة‪ ،‬وعليه ال ب ّد من اخللود �إىل‬
‫ال وقت للحانات‬ ‫الذات �أمام الأ�سئلة اجلوهرية يف الوجود واحلياة‪ :‬ماذا نريد؛‬
‫و�إىل �أين؟ »(‪.)25‬‬
‫ال وقت للذئاب يف الغابات‬
‫وبناء ًا على هذا الو�صف والتو�صيف يخل�ص �إىل‪�« :‬أن النظام‬
‫فلتبعث الأرواح من رمادها‬
‫العربي �أمام �س�ؤال �صعب‪ ،‬و�أن �س ِّول له كعادته �سوق احلجج‬
‫ومن ف�ضاء الذات (‪)27‬‬ ‫ومربرات الأ�سباب فـ (حديث خرافة يا �أم عمرو)»(‪.)26‬‬
‫‪‬‬
‫‪37‬‬

‫موات‬
‫والأر�ض ْ‬ ‫لذا ي�ضع للواقع �شرائط ا�ستحقاقه يف �أن امل�صاحلة مع‬
‫الواقع بح َّلته التي يراها ال�شاعر بربيع الثورات هي اال�ستجابة‬
‫و�أراين يف ُح ُجب الغيب �أجنم يف ال ْآت‬
‫احلقيقية لإن�سانية الإن�سان يف احلرية والعدالة والكرامة‪،‬‬
‫(�أهو الزمن الفائ�ض يف غول الإنرتنت‬ ‫مبادئ جاءت بها كل الأديان؛ و�أكدتها ال�شرائع واملذاهب‬
‫الأخالقية والفل�سفية‪ ،‬فلماذا نبقى يف من�أى عن املعاي�شة‬
‫اجلينات ؟!)(‪)29‬‬
‫ْ‬ ‫وح َّمى‬
‫والتفاعل‪ .‬نرى بع�ض الدول ا�ستجابت لواقع الثورات فالتفتت‬
‫وا�صف ًا احلال التي �صارت عليه الأمة و�صار عليه الوطن‪:‬‬ ‫�إىل د�ساتريها املعطلة املركونة باحث ًة يف تعديلها وجتديدها‬
‫ما ت ُ‬ ‫وك�أن العبء يف الن�صو�ص ال يف النفو�س‪ ،‬لقد كانت الن�صو�ص‬
‫ُنبئ فيه ال ِّريح‬
‫! فما كان مدى �أثرها على واقع املواطن العربي الذي عا�ش‬
‫�إ َّنا �أ�شالء خاوية تتقاذفها ال ِعقبان‬ ‫يف جور حاكمة‪ ،‬لت�صل الأمور �إىل اال�ستعانة بالأجنبي(‪)28‬‬
‫ليخل�صنا من ح�صار عدونا وجور حاكمنا‪ ،‬وقد حاول تف�صيل‬
‫يف ُ�س ُر ٍر يت�س َّيدها (ال ِقعدان)‬
‫د�ستور بالده على مقا�سه و�أبناءه ورمبا �أحفاده فقط‪ ،‬ناهيك‬
‫�إ َّنا اال�سم املا�ضي‬ ‫عن تعطيل الد�ستور‪ ،‬وتعطيل كافة امل�ؤ�س�سات الوطنية وفقا‬
‫والفعل املا�ضي‬ ‫لغلواء �أهوائه‪ ،‬وبالتايل �سجن الوطن واال�ستئثار مبكت�سباته‪ ،‬ال‬
‫بل خولت له النف�س الأمارة �أن الدولة مل تت�صيرّ �إال له‪ ،‬و�إنه مل‬
‫والأثر املا�ضي‬ ‫يخلق �إال لها‪ ،‬و�أن الوطن رهينة له‪ ،‬فميزانية الدولة جيبه‪ ،‬فهو‬
‫والعني املفقوءة‬ ‫ويل ال ِّنعم‪ ،‬وال�شعوب رعايا رعاع‪.‬‬

‫�إ َّنا التاريخ الواطي‬ ‫لقد تغ ّول اال�ستبداد يف عرف احلاكم العربي حتى ك�أنه‬
‫جزء من �أعمال ال�سيادة‪ ،‬و�أ�سبغ على نف�سه القيم ال�شرعية‬
‫يف جثث املا�ضي‬ ‫ببقائه وخلوده باحلكم‪ ،‬وبلغ حد ًا �أ�صبح معه جمرد التذمر‬
‫و (امللل ‪ ....‬النحل) امل�أجورة‬ ‫�سر ًا مما نرى ون�شهد خيانة عظمى بحق �شخ�صه املقد�س‬
‫الذي ال ي�أتيه الباطل‪ ،‬فهو ال�صالح و�أن �أجمع ال�شعب على �أنه‬
‫�إ َّنا �أقنعه عبيد الذات اخل�صيان‬ ‫مل يعد �صاحل ًا‪ ،‬وهو املبارك‪ ،‬والزين‪ ،‬واملُع َّمر‪ ،‬والأ�سد‪ ،‬مهما‬
‫يف نعمة موالنا ال�سلطان‬ ‫كان البون �شا�سع ًا بني �صفات ي�صبغها على نف�سه‪ ،‬و�أخرى‬
‫يراها �شعبه‪ .‬لقد انعدمت �أرادت ال�شعوب حتى �س ّول للحاكم‬
‫فبماذا‬ ‫وطغمته م�سخها وجتريدها من فطرتها التي خلقها اهلل عليها‪.‬‬
‫أبيح؟!(‪)30‬‬
‫ومباذا يا ُجدُر التيه � ْ‬ ‫حت�س�س نادر �آالم �أمته وعذابات �أوطانه ف�أنذر‪:‬‬
‫بهذا َّ‬

‫ويف �سياق كل ذلك ير�صد الآالم والآمال والأحالم‪ ،‬عرب‬ ‫وج ٌع � ْآت‬
‫توقيعات ووم�ضات �شعرية‪ ،‬عربت عنها ق�صائد اللوحة‪ ،‬وهي‬ ‫فات‬
‫يت�أبط ما قد ْ‬
‫‪‬‬
‫‪38‬‬

‫وتاريخ الأ�سفار‬ ‫ع�صارة وجدانه الذي‪ :‬يرى وي�شهد وير�صد‪ ،‬من خالله الواقع‪،‬‬
‫بعني على املا�ضي‪ ،‬و�أخرى على امل�ستقبل‪.‬‬
‫هي �سحر ال ُّر�ؤيا‬
‫ماء القلب‬ ‫لقد كان ال�شاعر نادر هدى ل�سان حال املواطن العربي‪،‬‬
‫ول�سان حال الوطن‪ ،‬الذي �أن�سنه ف�أنطقه ق�صائد كلها نبوءات‬
‫ف�ضاء ال ُّروح‬ ‫واعدة‪ :‬بالغد الآتي‪ ،‬والفجر الآتي‪ ،‬واحللم الآتي‪:‬‬
‫املعنى والإيثار‬ ‫‪ -‬هل �أنبئ بالآت؟‬
‫‪..........‬‬ ‫‪ -‬ني ًال وفرات‬
‫‪/‬‬
‫متطر يف تون�س ع�شق ًا‬
‫كانت يف البدء حمامة قلبي‪� ،‬صارت �أطيا ْر‬
‫تتفجر يف م�صر الأنهار‬
‫مطر ًا �أجمعه‪� ،‬صارت �أنها ْر‬
‫يف (برقة)‬
‫كانت يف البدء املنفى‪� ،‬صارت وطن ًا ع�شق ًا‬
‫يف �صنعاء الأنوار‬
‫�أبنيه املجد �صروح ًا‬
‫تنداح الأ�ستار‬
‫�أودعه احل�ضرة والأنوار(‪.)32‬‬
‫ك ّنا يف جوف البئر‬
‫وك�أين به اطمئن على �أن الثورة امل�شروع والهدف قد �أتت‬
‫�أكلها‪ ،‬داعي ًا �إىل املحافظة على مكت�سباتها ومنجزاتها‪ ،‬وال�سهر‬ ‫الطمي‪ ،‬نقتات البهتان‬
‫ُّ‬ ‫وي�أكلنا‬
‫على الإعالء من �ش�أنها وا�ستثمارها‪ ،‬ف�أن�شد‪:‬‬ ‫ال نحلم بالإمطار‬
‫�سطع القمر‬ ‫وها قد جاء ُّ‬
‫الطوفان (‪)31‬‬
‫فا�شتدي زمي»(‪)33‬‬ ‫« هذا �أوان ال�شدِّ‬ ‫و�إذ بدئت طالئع الثورة هلل‪ ،‬فك�أنا �أمام (�سمفونية)‬
‫اليوم غري الأم�س‪،‬‬ ‫لهدى‪� ،‬إن �أخذنا الق�صيدة غفال عن �سياقها‪ ،‬وما هدى هنا‬
‫اال (الثورة امل�شتهاة)‪:‬‬
‫قد وىل بال كفن‬
‫فليعرب الآتون من كل البالد‬ ‫احلب‬
‫وارفة �أ�شجار ِ‬

‫بال انتظار‪ ،‬يعربون‬ ‫وعابقة الأ�سرار‬

‫ولي�ستحموا من �أريج املاء يف �ضوء القمر‬ ‫احلرف‬


‫ِ‬ ‫هي بدء‬
‫‪‬‬
‫‪39‬‬

‫«املواطنون �أمام القانون �سواء‪ ،‬مبا لهم من حقوق‪ ،‬وما عليهم‬ ‫كال�ؤل�ؤ املنثور من زهو امليادين‬
‫من واجبات»‪ ،‬وهذا ما يجدر �أن يتج�سد �صدق ًا وحق ًا‪ ....،‬وقد‬
‫القناطر‬
‫بلغ ال�سيل الزُّبى»(‪.)35‬‬
‫واجل�سور‪ ،‬هو القمر‬
‫وبعـــد‪:‬‬
‫ال ترتكوه يف العراء يغلُّه الربد ال�س�أم‬
‫يل �شائك‪ ،‬ترتكب �أ�ضالعه يف مثلث‬ ‫هذا مو�ضوع �أ�شكا ٌّ‬
‫مت�ساوي الأ�ضالع‪ ،‬لكل من �أر�ؤ�سه‪ :‬الكلمة‪ ،‬هدى‪ ،‬النبوءة‪،‬‬ ‫ال ترتكوه للأفاعي والأمل‬
‫املنك�سر الأليم‪ ،‬ير�صده ال�شاعر‬
‫ويف داخله الواقع امل ُّر القا�سي ِ‬ ‫كونوا له �أم ًا‪� ...‬أب ًا‬
‫الرائي فيهتف لهداه‪ ،‬زاده الكلمات‪ ،‬وكالهما املتكئ وامل�أوى‬
‫خر ٌب؛ ر�سالته �أن يجعل‬ ‫والزاد يف غربة هو فيها‪ ،‬ودونه عامل ِ‬ ‫وتعمدوا من في�ضه الوهاب �أحالم الندى‬
‫منه �أكرث جما ًال‪ ،‬بتجاوزه وتخطيه‪ ،‬ويف ِّ‬
‫كل ذلك ال ي�ألو ال�شاعر‬ ‫قولو له‪� :‬أنت ال�سالم املرجتى‬
‫جهدا يف �أن يعزَّز رواه بالإ�ستح�ضارات‪ :‬الدينية‪ ،‬والرتاثية‪،‬‬
‫والتاريخية‪ ،‬والواقعية‪ ،‬والأ�سطورية‪ ،‬و�صو ًال �إىل الر�ؤيا‬ ‫�أيقونة املعنى وينبوع الهدى‬
‫النبوءة‪ ،‬التي هي خال�صة املبدع للخال�ص؛ التي هي الإ�شارة‬ ‫ها قد بد�أنا الدرب �صوب ال�شم�س‬
‫من خالل العبارة‪ ،‬و�إذا قال (النفري) «كلما ات�سعت الر�ؤيا‬
‫�ضاقت العبارة» �أرى نادر يقول‪ :‬كلما غال الواقع عتو ًا‪� ،‬ضاقت‬ ‫فالنم�ض �سرا ًة ن�صطفي �آياتنا‬
‫ِ‬
‫العبارة‪ ،‬فت�أتت الر�ؤيا‪ ،‬وقد وجدناها عند �شاعرنا يف �صيغ عدة‬ ‫وجنمل املعنى املعبرَّ باملباهج وال ُّر�ؤى‬
‫بارزة للعيان حين ًا‪ ،‬وت�ست�شف ا�ست�شفاف ًا‪ ،‬وغاية الق�صيدة كما‬
‫ال وقت للما�ضي نعبئه‬
‫يقول (بودلري) �أن « تخفي �أكرث مما تعطي»‪ ،‬وح�سب (�أيكو)‬
‫« ف�إن امل�ؤلف يقدم ن�ص ًا ناق�ص ًا‪ ،‬وعلى املتلقي �أن ِّ‬
‫يتم َمه وميلأ‬ ‫بت�أويل املتون اخلاوية‬
‫فراغاته»‪ ،‬وقد �أ�شرنا �إىل (لومتان) قوله‪�« :‬إن اللفظ يف ال�شعر‬
‫ال وقت للنا�ؤون ي�صطرعون ح َّمى الهاوية‬
‫يكتب دالالت �إ�ضافية لأنه ذو طبيعة ازدواجية»‪.‬‬
‫الفجر �آت والقمر‬
‫الفجر �آت والقمر‪.)34( ...‬‬
‫ولي�س هذا بعيد ًا عن ر�ؤية نادر وفكره �إذ جنده يف (م�شارب‬
‫الهوام�ش‪:‬‬ ‫الرهبة) يقول‪:‬‬
‫‪ -1‬نادر هدى‪ ،‬ثالثية‪( :‬حرب العتمة‪ ،‬مزامري الريح‪ ،‬عامل ل�ست فيه‪...‬؟!)‪ ،‬وزارة‬
‫الثقافة الأردنية‪2010 ،‬م‪.‬‬
‫«لقد و ّلت �إىل غري رجعة ثقافة االحتواء وال�شمولية‪ ،‬ثقافة‬
‫ال�شعارات والتنظريات‪ ،‬ثقافة «كل �شيء على ما يرام»‪ ،‬ثقافة‬
‫‪ -2‬نف�سه‪.‬‬
‫«ما �شئت ال ما �شاءت الأقدار»‪ ،‬لتحل مكانها ثقافة احلوار‬
‫‪ -3‬ماء الغواية‪ ،‬ق�صيدة‪ :‬رهبة احلرف‪.‬‬ ‫والعي�ش امل�شرتك‪ ،‬ثقافة واقعية تن�ص عليها عامة الد�ساتري‬
‫‪‬‬
‫‪40‬‬

‫‪ -24‬حوارات ‪� ،‬ص ‪� .176 – 175‬أجري احلوار من قبل الأ�ستاذ الدكتور‪ :‬عبد‬ ‫‪ -4‬ماء الغواية‪ ،‬ق�صيدة‪� :‬أنا من ر�أى‪.‬‬
‫الرحمن ترب ما�سني‪ ،‬ون�شر يف العددين التا�سع والعا�شر تباعا‪ ،‬يف جملة ف�سيف�ساء‬
‫‪ -5‬نف�سه‪.‬‬
‫التون�سية‪.‬‬
‫‪ -6‬نف�سه‪.‬‬
‫‪ -25‬حوارات‪� ،‬ص ‪.179‬‬
‫‪ -7‬نف�سه‪.‬‬
‫‪ -26‬حوارات‪� ،‬ص ‪.180‬‬
‫‪ -8‬نف�سه‪.‬‬
‫‪ -27‬ماء الغواية‪� ،‬ص‪. 147‬‬
‫‪ -9‬ماء الغواية‪ ،‬ق�صيدة‪ :‬زيف الفجر هداي‪.‬‬
‫‪ -28‬ن�شري هنا �إىل جورج غلوي (غري امل�سلم) رئي�س قافلة �شريان احلياة ‪ 3‬لقطاع‬
‫غزة املحا�صرة ‪ ،‬وهو رئي�س حزب االحرتام الربيطاين ونائب يف الربملان الربيطاين‪،‬‬ ‫‪ -10‬الأناجيل املقد�سة‬
‫مدافع ومنا�ضل من �أجل الق�ضية الفل�سطينية‪ ،‬ومن �أجل الق�ضايا الإن�سانية‪ .‬منذ‬
‫خم�سة وثالثون عاما‪ ،‬حال نظام حممد ح�سني مبارك (امل�سلم) دون م�ساعيه‪ ،‬لأنه‬ ‫‪� -11‬سورة حممد‪� ،‬آية ‪7‬‬
‫يف احلقيقة هو من يحا�صر القطاع‪ .‬ثم �أعلمته اخلارجية امل�صرية ب�أنه �شخ�ص غري‬ ‫‪ -12‬ماء الغواية‪ ،‬ق�صيدة‪ :‬زيف الفجر هداي‪.‬‬
‫مرغوب فيه مب�صر م�ستقب ًال‪ ،‬انظر و�سائل الإعالم (‪ ،)2010/5/6‬ثم �أن هذا‬
‫النظام ‪ -‬قام ببناء جدار فوالذي عازل بني م�صر وقطاع غزة املحا�صر حتت الأر�ض‪،‬‬ ‫‪ -13‬ماء الغواية‪ ،‬ق�صيدة‪� :‬أرفق بنا يا �أمام‪.‬‬
‫ويربر مبقت�ضيات ال�سيادة الوطنية‪ ،‬والعهد بكل اجلدر �أنها فوق الأر�ض‪ ،‬وقد ق�ضى‬
‫‪ -14‬نف�سه‪.‬‬
‫الواقع ب�إزالتها‪� ،‬أيها التاريخ كم �أ�شفق عليك‪ ،‬لك�أنك عزيز قوم ذل‪ ،‬ف�صرب جميل‬
‫واهلل امل�ستعان‪.‬‬ ‫‪ -15‬ماء الغواية‪ ،‬ق�صيدة‪� :‬أجنم تكن�س اجلرذ‪.‬‬
‫‪ -29‬ماء الغواية‪ ،‬ق�صيدة ‪ :‬نذر الريح‪.‬‬ ‫‪ -16‬نف�سه‪.‬‬
‫‪ -30‬ماء الغواية‪ ،‬ق�صيدة‪ :‬نذر الريح‪.‬‬ ‫‪ -17‬نف�سه‪.‬‬
‫‪ -31‬ماء الغواية‪ ،‬ق�صيدة ‪:‬فاحتة للع�شق والثورة‪.‬‬ ‫‪ -18‬ينظر على �سبيل املثال زكي جنيب حممود‪ :‬جتديد الفكر العربي‪ ،‬وخا�صة‬
‫موقف اخلليفة املهدي من ب�شار بن برد ال�شاعر‪ ،‬وق�صة احلالج بعده‪ ،‬ثم ابن املقفع‬
‫‪ -32‬ماء الغواية‪ ،‬ق�صيدة ‪:‬هل �أنبئ بالآت‪.‬‬
‫الأديب احلكيم‪ ،‬ثم ق�صة الإمام �أحمد بن حنبل ورفاق �سربه مع اخلليفة امل�أمون‪:‬‬
‫‪ -33‬هذا مما امتثل به احلجاج يف العراق على منرب الكوفة‪ ،‬وهو يف كتب التاريخ‬ ‫على �أثر حمنة القر�آن‪� :‬أقدمي هو �أم حادث‪ ،‬حيث �أخذ اخلليفة بالر�أي (احلادث)‬
‫والأدب مب�سوط‪ :‬مروج الذهب ‪ ،154/2‬الطربي ‪ ،210/7‬الكامل البن الأثري‬ ‫فجعل من نف�سه اخل�صم واحلكم‪ ،‬فحكم على الإمام بال�سجن على ثبات ر�أيه املخالف‬
‫‪ ،374/4‬الكامل للمربد ‪ ،493/2‬البيان والتبني ‪... 223/2‬‬ ‫مما ي�شعرنا بالزهو �أن كان لأ�سالفنا مثل هذا الوقوف عند الر�أي والعقيدة �ص ‪46‬‬
‫من�شورات وزارة الثقافة الأردنية ‪،‬مكتبة اال�سرة‪.2009‬‬
‫‪ -34‬ماء الغواية‪ ،‬ق�صيدة ‪� :‬سطع القمر‪.‬‬
‫‪ -19‬ماء الغواية‪ ،‬ق�صيدة‪ :‬كن�س اخلراب‪.‬‬
‫‪ -35‬م�شارب الرهبة‪ /‬منازل الوجد‪ ،‬حرائق الروح‪ ،‬جمرة الذاكرة‪ ،‬دار‬
‫البريوين‪،‬الأردن‪� 2009،‬ص ‪.79‬‬ ‫‪ -20‬ماء الغواية‪ ،‬ق�صيدة‪ :‬و�آحر غدي‪.‬‬

‫‪ -21‬نف�سه‪.‬‬

‫‪( -22‬حوارات نادر هدى‪-‬الر�ؤية والإبداع‪ ،)-‬دار الكتاب الثقايف‪ ،‬ودار املتنبي‪،‬‬
‫الأردن‪� ،2007،‬ص ‪.139‬‬

‫‪ -23‬حوارات‪� ،‬ص ‪173‬وما بعدها‪.‬‬


‫�إبـ ــداع ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــات‪:‬‬
‫ن�ص‬
‫‪� -‬أ�ســــــــــــــــــــمـــــاك زينــــــــــــــــة!!! ّ‬
‫‪ -‬تــجلــيــــــــــــــــــات املـــــــــــــــــــــاء ‪� -‬شعر‬
‫‪ -‬فـــــي بيـــــــــت �ســـــــــــــيــرتــــــــه ‪� -‬شعر‬
‫‪ -‬حــــــــــــــــــــــــــادي العيـــــــــــــــ�س ‪� -‬شعر‬
‫‪ -‬هـــــــــــــــي لــــــــــــــن تــعــــــــــــــود ‪� -‬شعر‬
‫‪ -‬لـــيـــــــــلـــــــــــــــــــــــة �صـيـــــــــــف ‪� -‬شعر‬
‫‪ -‬خـــروج �ســـــــافر عــن النــــــ�ص – ق�صة‬
‫‪� -‬ســــــــاعـــــي الــبـــــــــريـــــــــــــــد ‪ -‬ق�صة‬
‫‪ -‬الــمـــ�ســــمــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــار – ق�صة‬
‫‪ -‬نـــهــــــــــــــايـــــة الــلعبــــــــــــــــــة ‪ -‬ق�صة‬
‫‪ -‬الـثــــــــــــــانيــة عــ�شــــــــــــــــــــرة ‪ -‬ق�صة‬
‫‪‬‬
‫‪42‬‬

‫نــــــ�ص‪:‬‬
‫ّ‬

‫�أ�سماك زينة!!!‬
‫د‪ .‬را�شد عي�سى‬

‫ع�شاق احلرية �أعمارهم ق�صرية و�آثارهم خالدة مديدة‪،‬‬ ‫العبودية �سجية جمبولة بدماء بع�ض الكائنات نبات ًا �أم‬
‫وع�شاق العبودية ميتون يف احلياة‪ .‬احلزيون �أيائل على قيم‬ ‫حيوان ًا طري ًا �أم ب�شر ًا‪ ،‬فالنبات الذي نر ِّبيه داخل �صالونات‬
‫اجلبال مت ّد �أعناقها النافرة لتق�ضم ال�شم�س‪ ،‬والعبود ُّيون بغال‬ ‫البيوت يع�شق الظل والرطوبة وميوت �إن تعر�ض لل�شم�س‪،‬‬
‫حراثة �أو �ضفادع‪� ،‬أو نعاج تثغو يف حظرية الذل‪.‬‬ ‫وحمام املنازل يكره العي�ش يف الغابات لأنه يخاف ال�صقور‪،‬‬
‫واخلروف ال يفارق ظل الراعي حتى ال ي�أكله الذئب‪ .‬وال ّ‬
‫�شك‬
‫الإبداع هو الناطق الإعالمي الأول با�سم احلرية‪ .‬الأدباء‬ ‫�أن من الب�شر �أ�صناف ًا ت�شبه الكائنات املذكورة‪� .‬إذ ًا ثمة �أنا�س‬
‫العظماء �سالطني احلرية لأنهم ي�سرحون �أفكارهم يف مراعي‬ ‫دواجن يت�ضررون �إذا منحوا احلرية لأنهم ال يعرفون كيف‬
‫النور الإن�ساين‪ ،‬هم عرابو املجاز و�أ�سياد الكتابة وهم عقبان‬ ‫ي�ستثمرونها‪ ،‬ومل ي�سبق لهم �أن تدربوا على تذوق لذتها فتكون‬
‫يزيحون مبناقريهم �ستائر ال�ضباب الذي يحجب ال�شم�س‬ ‫احلرية نقمة عليهم‪.‬‬
‫ثمن النا�س‪ .‬الأدباء املوهوبون لي�سوا عبدن ًا حتى يف البيئات‬
‫اال�ستعمارية املتغطر�سة يقول �أحد الكتاب الأمريكان يف ق�صة‬ ‫احلرية ال تليق باجلبناء وال�ضعفاء لأنهم يخذلون معانيها‬
‫الإن�سانية املقد�سية‪� ،‬إمنا تليق بكل نف�س ج�سورة برية حتب‬
‫ق�صرية جد ًا (�أهدى طوين �صديقه جوين �أرنب ًا‪ .‬يف �صباح‬
‫ال�شم�س وال�سماء بكربياء عالية تزاحم جمرات النجوم احلرية‬
‫و�ضع جوين الأرنب يف قف�ص بابه مفتوح‪ .‬يف امل�ساء تفقد جوين‬
‫ملن ي�ستحقها كرامة لذة‪ ،‬وملن ال ي�ستحقها عتمة ذ َّلة‪.‬‬
‫الأرنب فوجده متم�سك ًا ب�أ�سالك القف�ص بقوة‪ ،‬وهو يرتعد خوف ًا‬
‫حتى احلرية) الأرنب الأ�صيل يولد ويف دمه جني احلرية ‪.‬‬ ‫حق وخري وجمال والعبودية باطل و�شر وقبح‪،‬‬ ‫احلرية ٍ‬
‫احلرية باهظة الثمن ال ي�شرتيها �إال �أغنياء النفو�س وع�شاق‬
‫ومع ذلك فاحلرية ك�أي ثنائية جندية ال يعي�ش دون نق�ضها‬ ‫النور‪ ،‬والعبودية �أرخ�ص من الباذجنان ي�ستطيع �أن يحتازها‬
‫العبودية‪ .‬ال�سمكة التي ت�سبح يف حو�ض زجاج لن تن�سى البحر‪,‬‬ ‫فقراء النفو�س‪ .‬احلرية نحلة والعبودية ذبابة‪ .‬احلرية قرية‬
‫وقع ذلك ثمنه �أدباء �أ�سماك زينة!!‪..‬‬ ‫فلفل حار‪ ،‬والعبودية قرية ب�إمياء‪.‬‬
‫�صانعوا الإدارة �أول اخللق بربح احلرية والنهارات‬
‫ال�شم�سية‪� ،‬أما املن ّوخون املليون ف�أوىل الب�شر بربح املهانة‬
‫والو�ضاعة‪.‬‬

‫�شاعر �أردين‪.‬‬
‫‪‬‬
‫‪43‬‬

‫جتليات املاء‬
‫حميد �سعيد‬

‫أنت الذي ْمل َي َر البح َر‪..‬‬


‫� َ‬ ‫�أفار ُق ًك الآنً ‪..‬‬
‫هذا الذي يرتاءى َ‬
‫لك الآنَ ‪..‬‬ ‫�إيهاب*‬
‫كنت تبحثُ عنه‬
‫لي�س الذي َ‬ ‫موعد‬
‫حتى �إذا ما التقينا‪ ..‬على غ ِري ما ِ‬
‫اجلميل‬
‫ِ‬ ‫دم ال�س ّي ِد اجلميل‪ ..‬ي�شه ُد لل�س ِّيد ِ‬
‫�إنَّ َ‬ ‫يف الطريق �إىل مطعم الأمرية الغجر ّي ِة‪..‬‬
‫مبا‪َ ..‬م َّد موك ُب ُه الأ ُ‬
‫بي�ض املهيب ُ‪..‬‬ ‫ال�سابع‪..‬‬
‫ٍ‬ ‫عند منعطف ال�شار ِع‬
‫من �أ َل ٍق حيثُ كانَ ‪..‬‬ ‫التنتظرين‬
‫ك ُّل البحا ِر ُ‬
‫تفتح خلجانها‪..‬‬ ‫ُم ْذ َ‬
‫حلت يل يف �شتاءٍ بعيد‪ ..‬تُغا ِد ُر فندقك العتيقَ ‪..‬‬
‫املهيب‪ ..‬وتغل ُقها‪..‬‬ ‫ُ‬
‫االبي�ض ُ‬ ‫املوكب‬
‫ُ‬ ‫ليدخ ُلها‬
‫ُ‬ ‫لتلحقَ بي‪ ..‬حتا�شيت َُك‪..‬‬
‫أنت في ْه‬
‫دونَ ما � َ‬ ‫كنتُ حتا�شيت َُك من ُ‬
‫قبل‬
‫َ‬
‫اختطفتك �إلي ِه‪..‬‬ ‫الرياح التي‬
‫َ‬ ‫� ْإذ توهمت‪� ..‬إن‬ ‫َ‬
‫كيف التقينا؟‬
‫َ�ست ُْ�س ِل ُمهُ‪..‬‬ ‫�أال تتذ ّك ُر ماكان َ‬
‫منك‪ ..‬وما كانَ م ّني؟‬
‫�أَ ْ�س َل َمت َْك �إىل ُعزْ َل ِة‪ ..‬تتوارى بعيد ًا عن املا ِء‬ ‫َ‬
‫الثقيل‪..‬‬ ‫ما زلتُ �أ�سم ُع وق َع ُخ َ‬
‫طاك‬
‫املهيب‪..‬‬
‫أبي�ض ُ‬ ‫اجلميل‪َ ..‬‬
‫مازال موك ُب ُه ال ُ‬ ‫ُ‬ ‫وال�س ّيد ُ‬ ‫على حجر ال�شار ِع‪..‬‬
‫يدخ ُل �أَ َّي البحا ِر ي�شا ْء‬
‫ُ‬ ‫ا�شيت ك َّل الذين مت ُّر ْ‬
‫بهم‬ ‫َ‬ ‫أنت تحَ‬
‫� َ‬
‫لمِ َ هذا الغبا ْء؟‬ ‫ووقفت لت�س�أ ُلني‪َ ..‬‬
‫عنك!‬ ‫َ‬
‫حاولت �أنْ َ‬
‫جتعل املا َء مقرب ًة‬ ‫َ‬ ‫‪......‬‬

‫�شاعر عراقي‪.‬‬
‫‪‬‬
‫‪44‬‬

‫ُمذ �أَ َ�س َ‬


‫رتك امليا ُه البعيد ُة‪َ ..‬‬
‫غاب احلوا ْر‬ ‫وحاول �أن يجعل املا َء‪ ..‬مملك ًة ٍ‬
‫�ساحر ْه‬ ‫َ‬
‫‪......‬‬ ‫يف موانئ بارد ٍة‪..‬‬
‫�ستحلم ثاني ًة �أنْ تكون؟‬
‫ُ‬ ‫�أَتُرى‪ْ ..‬‬
‫هل‬ ‫بانتظارك ك ُّل الذين �ض ّيعتهم يف امليا ِه البعيد ِة‬
‫َ‬
‫لت�صعدَ من وم�ض ٍة‪..‬‬ ‫ماكنت تحَ َ�س ُب ُه ُح ُلم ًا‪..‬‬
‫َ‬ ‫اقتفيت‬
‫َ‬ ‫حيثُ‬
‫فت َّ‬
‫كل ما َخ ّب�أت ُه ال ُقرونْ‬ ‫َك َ�ش ْ‬ ‫وهم تل َّب َ�س َ‬
‫روحك‪..‬‬ ‫أجل ٍ‬
‫ومن � ِ‬
‫تعو ُد �إىل املاءِ‪..‬‬ ‫أنت ‪ ..‬يف هذه املدين ِة‪..‬‬
‫ها � َ‬
‫املهيب‪..‬‬
‫أبي�ض ُ‬‫املوكب ال ُ‬
‫ُ‬ ‫من غري �أن يرتاءى لك‬ ‫املوت‪..‬‬
‫ال�أح ٌد من �أباطرة ِ‬
‫اجلميل‬
‫ِ‬ ‫ُمق ِرتن ًا بدم ال�س ّيد‬ ‫العوا�ص ِف‪..‬‬
‫ِ‬ ‫خلعت عليهم ُبرو َد‬
‫ممِ َّ ن َ‬
‫ُ‬
‫ال�ضفاف البعيد ُة‪�َ ..‬صف َو َك‬ ‫تُعي ُد �إليك‬ ‫َي�س�أَ ُل َ‬
‫عنك‬
‫ُكن َح ِذر ًا َ‬
‫منك‬ ‫‪......‬‬
‫كنت‬ ‫�إ ّي َ‬
‫اك �أنْ تتمادى‪ ..‬كما َ‬ ‫يف ما م�ضى‪..‬‬
‫يفتح �أبوابه لل ُمح ّب َني‬
‫للما ِء هذي القراءة‪ُ ..‬‬ ‫كانت الأ�ساط ُري ُ‬
‫تنزل حيثُ َن َ‬
‫زلت‬ ‫ْ‬
‫التوقظ املوت ثاني ًة‪ ..‬ليم َّد يديه �إلي ْه‬ ‫�شاخت الأ�ساط ُري وانطف�أت قناديلها‪..‬‬
‫ْ‬ ‫لقد‬
‫‪......‬‬ ‫�أَ ُّي �أ�سطور ٍة �ستُعي ُد � َ‬
‫إليك �سطوتك الآفلهْ؟‬
‫�أفار ُق َك الآنَ ‪..‬‬ ‫الغراب َة‪ ..‬يف ما اتهيت �إلي ْه‬
‫إيهاب‬
‫� ْ‬ ‫أغرب مما انتهيت �إليه‪� ..‬سي�أتي‬
‫و� ُ‬
‫يتبعني املا ُء‪..‬‬ ‫فمن �ستكون‪ ..‬بال بحر؟‬
‫ُكنْ َح ِذر ًا َ‬
‫منك‪..‬‬ ‫ال ُ�س ُفنٌ ‪ ..‬ال رفا ٌق‪..‬‬
‫الرياح الرخ ّي ُة‬
‫ُ‬ ‫وليكنْ البح ُر َ‬
‫بيتك‪ ..‬ت�أتي �إليه‬ ‫وال عائل ْه‬
‫فج عميقْ‬ ‫من ِّ‬
‫كل ٍّ‬ ‫حلمت‪ ..‬ب�أ ّن َك بالقرب من باب َ‬
‫بيتك‪..‬‬ ‫لو َ‬
‫رب من باب َ‬
‫بيتك‪..‬‬ ‫ت�شك ‪ ..‬ب�أ ّن َك بال ُق ِ‬
‫نت ُّ‬ ‫ُك َ‬
‫�إيهاب‪ ،‬القبطان بطل رواية «موبي ديك» لهريمان ملفيل‪ ،‬والق�صيدة قراءة �شعرية‬
‫*‬
‫ذاتية لهذه الرواية العظيمة‪.‬‬ ‫ال�أَ َح ٌد يف اجلوا ِر ‪..‬‬
‫‪‬‬
‫‪45‬‬

‫يف بيت �سريته‬


‫�أحمد اخلطيب‬

‫الفجر‬
‫ِ‬ ‫‪ ...‬وظاه ُر‬

‫اليوم مخُ ت ِلفا‬


‫م َّر َ‬
‫ماج‪،‬‬
‫حرير َ‬
‫عن حار ٍة من ٍ‬
‫وانحرفا‬

‫ف�سيقَ للور ِد‪،‬‬

‫ما ّ‬
‫ابي�ض ْت خواطر ُه‬

‫وال ت�أ ّنى‪،‬‬

‫لكي نهدي ِه ما انك�شفا‬

‫ل ُه الأيادي �إذا ما َ‬
‫ارتاح يف خد ٍر‬

‫م�أ ًوى هنا‪،‬‬

‫و�سري ٌر يف العيون طفا‬


‫ُ‬
‫يقول‪ :‬ماذا دهى نب�ضي‪،‬‬ ‫ا�سكت�ش للفنان حممد �أبو عزيز‬

‫�شاعر �أردين‪.‬‬
‫‪‬‬
‫‪46‬‬

‫لك ّن ُه الهج ُر ُيعلي �ش�أنَ ُغرب ِتها‬ ‫و�ساح ُلهُ؟!‬

‫وي�ستبح د ََم اخل ّي ِال حيثُ غفا‬


‫ُ‬ ‫فيمهِ ُر الظنُّ �أ�سباب ًا‪ ،‬و ُملتحفا‬

‫تزاحمِ ها‬
‫املدائن تُف�ضي يف ُ‬
‫ِ‬ ‫ك ُّل‬ ‫الغيب من�شغ ًال‬
‫يعو ُد من �سور ٍة يف ِ‬

‫نحو الربي ِع‬ ‫يُباغتُ الوج َه متثا ًال‪ ،‬ومنعطفا‬

‫ال�صحفا‬
‫بعزف يجمع ّ‬
‫ٍ‬ ‫قام ُمت َِّكئ ًا‬
‫ك�أنَّ هذا اجلفا �إنْ َ‬

‫بدم‬
‫ك�أنني الآنَ �أرفو حقلها ٍ‬ ‫نف�سي‪،‬‬
‫ْ‬
‫القلب من �أقالمهِ ا �شرفا‬
‫ويع ِق ُد ُ‬ ‫�أقام ل ُه يف العالمَ َني َ�صفا‬

‫ِمنْ ل�ؤل�ؤ الع ِني‪،‬‬ ‫ال�شعر‪،‬‬


‫ِ‬ ‫ما بني ذبذب ٍة يف‬

‫والأقما ُر عنْ َ�سع ٍة‬ ‫موئ ُلهُ‪...‬‬


‫تراو ُد َ‬
‫الليل‬ ‫وبني نرث الوفا‪،‬‬

‫أ�شباح‬
‫وال َ‬ ‫يحتاجني ُنتفا‬

‫وال�س ُجفا‬
‫ُّ‬ ‫البيت َم ْر َود ًة‬ ‫لكي �أُ َ‬
‫قيم ل ُه يف ِ‬
‫لكي َ‬
‫مييل �إىل الدنيا‪ ،‬في�شرحها‬ ‫كح ُل َّ‬
‫الظل‪،‬‬ ‫ُي ِّ‬
‫َ‬
‫العزف لو �أبقي ُت ُه خلفا‬ ‫ويو ِق ُف‬ ‫�أو يرمي ل ُه َط َر َفا‬

‫هذا وجو ُد دمي‬ ‫ما بيننا‪...‬‬

‫بيت �سريت ِه‬


‫يف ِ‬ ‫موط ُنها‬
‫ال�شم�س ِ‬
‫ِ‬ ‫َ�سرو ٌة يف‬

‫أ�صل فرع ًا َّ‬


‫ظل ُمعتكفا‬ ‫�إذ ي�س ُرت ال ُ‬ ‫للموت‬
‫تقول ِ‬‫ُ‬

‫�أعليتُ �صق َر وجو ِد الظامئني هنا‬ ‫ّخ ْذ من ِمرفقي الأ�سفا‬


‫‪‬‬
‫‪47‬‬

‫البنف�سج يا �أ�صقا َع قريتنا‬


‫َ‬ ‫ملّي‬ ‫و�إذ � ُ‬
‫أطوف‪،‬‬

‫إيقاع ُه ان�صرفا‬
‫وط ّوعي املا َء لو � ُ‬ ‫�أرى يف الطاعن َني دفا‬

‫البيات‪،‬‬
‫ِ‬ ‫�إىل‬ ‫بب املُ ْرخي �سرائ َر ُه‬
‫ال�س َ‬
‫و�أتب ُع ّ‬

‫وكانت �شهوتي �صور ًا‬ ‫بع ِني حم�أت ِه‪،‬‬

‫يتاب ُع ال�ضو ُء فيها‬ ‫�أو �أ�شتهي ِه‪،‬‬

‫من �سها‪،‬‬ ‫كفى‪...‬‬

‫وجفا‬ ‫حتى يئنَّ �ضحى �آيات ِه‪،‬‬

‫وال تعومي‪،‬‬ ‫ول ُه‬

‫فقد �أبر�أتُ حاجتنا‬ ‫�إذا تباط�أَ ظنٌّ ِ‬


‫النا�س‪،‬‬

‫وخالف البح َر مو ٌج عانقَ َّ‬


‫ال�شغفا‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫�سيل وفى‬

‫النب�ض �إذ غ ّنى‪،‬‬


‫وقا َر َب َ‬ ‫�إين لأدفنَ ُحلمي‬

‫حرفت‪...‬‬
‫ْ‬ ‫و�إذ‬ ‫حني �أع ِت ُق ُه‬

‫ل ُه الأما ُّ‬
‫ين‪،‬‬ ‫ال�ضباب‪،‬‬
‫ِ‬ ‫من‬

‫ما �أ ّن ْت‪ ،‬وما حذفا‬ ‫وخويف ُمت ِل ٌف تلفا‬

‫النجم الحت عند ُبو�صل ٍة‬


‫ب�صائ ُر ِ‬ ‫ومن مرايا ال�صدى‬

‫فقلتُ يكفي‪،‬‬ ‫عك�س �صور ِته‬


‫يف ِ‬

‫ال�صدفا‬
‫‪� ...‬أنا من �أبد َع َّ‬ ‫ِومنْ حتود ُِب َمنْ �أخفى‬

‫ل ُه ُّ‬
‫ال�صحفا‬
‫‪‬‬
‫‪48‬‬

‫حــــادي العيـــ�س‬
‫د‪ .‬حيدر الب�ستنجي‬

‫مل يزل الغناء طري ًا وحاف ًال‪ ،‬وقا�شو�ش يقود م�آذن دم�شق‬
‫الع�صية بحنجرته النازفة‪.‬‬

‫�شمعة للربيع‬
‫�شمعة للربيع الذي يت�سلق وجه املكان‬
‫ي�ضيء م�صابيحه‬
‫يهدهد �أحالمنا العائدة‬
‫الغيوم انتهت من حرا�سه ليلكها يف حقول امل�سرة واليا�سمني‬
‫و�أطلت على �شارع مالح يف طلول الكالم‪.‬‬
‫لعلي �أ�سوي على باب روح الأغاين بني ال�صدفني يدي‬
‫و�أترك �صوتي‪ ...‬مي�سح يف وله غيمة بال�شام‬
‫ومي�سح يف ال�شام هوى لل�شام‬
‫لأظل �صدى للبيوت التي تتما�سك باليا�سمني‬
‫فتنه�ض هذه النوافد و�سط ر�سائلنا الراجعة‬
‫رمبا‪ ...‬كنت �أرتب هذا امل�ساء الذي فر من لوعة ال�شعر‬
‫رمبا‪...‬كنت �أكتبه بالدم احلر‬
‫ا�سكت�ش للفنان حممد �أبو عزيز‬

‫�شاعر �أردين‪.‬‬
‫‪‬‬
‫‪49‬‬

‫يراقب �صحو ال�صهيل الذي يلب�س الأر�ض‬ ‫�أعيد امل�ساء على الورق الأبي�ض املتهدج‬
‫لي�ضحي عليها املدى و�شعاع القلق‪.‬‬ ‫لتنتف�ض الأغنيات على الطاولة الواجفة‬
‫مل يعد حار�س احللم والأغنيات‬ ‫وت�سيل ال�شوارع بالنا�س‬
‫نام مثل رماد عتيق‬ ‫ي�سيل دم يف ورق تت�سطر فيه الق�صائد‬
‫وعاد كما الريح يغ�سل وجه املدينه‬ ‫وال�شهداء‬
‫ينظم �أجواءها‬ ‫ووقع الن�ساء اللواتي ن�سني مقام الأغاين اجلميلة‬
‫وين�شرها بني يديه‬ ‫من خ�شيه الطلقة اخلائنة‬
‫�إىل حالة من �ألق‪.‬‬ ‫ها هنا‬
‫يا عبري اجلهات وحامل �أوجاعها‬
‫قاد قا�شو�ش دهر الغناء الأ�سري‬
‫يا �شفيع الرتاب وناظم ذراته يف جفون التعب‬
‫كغيمة يف �أعايل الف�ضا‬
‫من �سيحمل روحي �إىل زهوة ال�صبح‬
‫واحرتق‬
‫كي �أ�سري وحيد ًا �إىل وجه �أمي‬
‫كان في�ض الف�صول عليه �شفيفا‬
‫من �سريفع �أ�سماءنا كاملالئكة الطيبني حينما نلتقي بحدو�س‬
‫ف�أرخ نب�ض الربيع على عطرنا‬
‫ال�شظايا‬
‫مر دون انتظار‬
‫ونذوي معا‪ ...‬يف نثار القبور‬
‫ومن �سي�ضم املرايا مع ًا يف �صباح جديد‬ ‫تعملق يف دفرت الدهر‬

‫يا �أبي‬ ‫ثم ان�سرق‬

‫ا�ستعد يف غياب رياحك مائي‬ ‫مل يعد حار�س احللم والأغنيات‬

‫ا�ستعدين بزرقة هذي ال�سماء‬ ‫نام يف ف�ضة املوت ع�شب ًا �ضريرا‬

‫ا�ستعد قو�س ذاكرتي‬ ‫يراقب بوح الدروب التي ال ت�ؤوب �إليه‬


‫‪‬‬
‫‪50‬‬

‫مت�شط �أقدامه املتعبات ب�صلب املطر‬ ‫كي نغني �سويا‬


‫وماذا تريد‪...‬‬ ‫وننقذ �أرواحنا بالكمنجات من ال�صمت يف �إجاج الغرق‬
‫�أريد ل�ساحات هذا امل�ساء‬ ‫عادل ورقي يا �أبي‬
‫الذي يتو�ض�أ فينا‬ ‫�شاعر ج�سدي حينما تنزع الريح �أع�ضاءها‬
‫يراجع �أنفا�سه‬ ‫�سي�شق هواي‬
‫�أن يرتيث كي �أ�ستعيد طيور امل�سافات من وردة نزفت يف‬ ‫على وطن طيب يف عروق الورود‬
‫الطريق‬
‫طيب يف النذور‬
‫و�أن ت�ستعيد امل�ساكب يف غمرات البيوت جدائلها‬
‫طيب يا �أبي �إذ ي�سمى ب�أ�سماء من �سقطوا على �أوجاعه‪...‬‬
‫والن�ساء اللطيفات‬
‫ويثور‪.‬‬
‫يعدن �إىل حلم �أزواجهن‬
‫طيب يا �أبي‪�..‬إذ يتور‬
‫يودعن اطفالهن من غري خوف �إىل اجلهة الآمنة‬
‫�شمعة للربيع‬
‫�أحاول‪...‬‬
‫خامتة‪�( ...‬شمعة للربيع)‬
‫�أحاول �أن ا�سرتيح من املوت‬
‫ومن مدية يف الظالم‬ ‫بدون الظالل ال�صغرية‬

‫جتو�س البيوتات‪ ...‬كافرة‪ ...‬خائنة‬ ‫متوت ال�صور‬

‫�أحاول �أن ا�سرتيح من املوت‬ ‫وي�ستهلك الوقت ملح ال�سهاد‬

‫�أرخي على �سور جارتنا ندهة اليا�سمني‬ ‫ويلتقي بنا‪ ...‬يف ثنايا اخلدر‬

‫و�أترك �أغنيتي حار�س ًا للربيع‬ ‫وماذا تريد الغيوم من الأر�ض‬

‫�شمعة للربيع‪� ...‬شمعة للربيع‬ ‫كيما تعطر ده�شة هذا امل�ساء‬

‫وتنقر خد الرتاب‪...‬‬
‫‪‬‬
‫‪51‬‬

‫هــي لــن تعــــود‬


‫مي�سون طه النوباين‬

‫�أوحى لها التابوتُ‬ ‫ك�أمري ٍة باعت جواهرها الثمين ْة‬


‫�أنَّ ال�شم�س ت�شرق يف كفنْ‬ ‫رتقت �شراعا لل�سفين ْة‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬ ‫و ت�س َّللت من ثقب �إبرة‬

‫و �أمريها ترك الغنا ْء‬ ‫املوانئ‬


‫ِ‬ ‫ال ترتدي غري‬

‫أ�سرت �أ�صابعه املنايا‬


‫� ْ‬ ‫و الدروب امل�ستحيل ْة‬

‫َن�صلت منه ال�سما ْء‬


‫فت ْ‬ ‫*‬ ‫*‬ ‫*‬
‫ك�سرت مراياها اجلميل ْة‬
‫ْ‬ ‫كغريب ٍة‬
‫*‬ ‫*‬ ‫*‬
‫ا�سرت�سلت يف الكحل عيناها‬
‫ْ‬ ‫و‬
‫هي لن تعود‬
‫حملت متا َع العمر يف �شرخ الزمنْ‬
‫ْ‬
‫تعب املغني‬
‫دت تغازلها املنايف‬
‫و َب ْ‬
‫و تعرثت قدم احلبيب ْة‬
‫غري �أنَّ الوجه ُ‬
‫يطرق يف وهنْ‬
‫هلكت ر�ؤاه �إذا �أ�ضا ْء‬
‫كالليل �إن ْ‬
‫للمرة الأوىل متوت‬
‫كالروح‬
‫ِ‬
‫و الق ُرب قد يغدو وطنْ‬
‫البعيد‬
‫ِ‬ ‫كال�صوت‬
‫ِ‬
‫لب�ست متائمها العتيق ْة‬
‫كما نعود �إىل اخلوا ْء‬
‫كانت �ضفائرها �سنابل‬
‫و الأر�ض تابوت كبري‬
‫�شاعرة �أردنية‪.‬‬
‫‪‬‬
‫‪52‬‬

‫ليلـــة �صيـــف‬
‫د‪ .‬عبداهلل من�صور‬

‫و ُر ْحتُ �أُح�صي بع ِني ُّ‬


‫ال�سهد أ�َنجْ مهـا‬ ‫َطويت من ليلتـ ـ ـ ـ ــي ال ّغ ــراء ُم ْعظمها‬

‫َو ِددْتُ ل ــو �أَ َّنـ ـ ـهـ ــا تدنــو لأَ ْفهمته ـ ــا‬ ‫و�شو�ش ًة‬
‫ح�سبت فيها ارتعا�ش الوم�ض ْ‬

‫َف َحنَّ ب ـ ــد ٌر فح ّياه ـ ـ ــا وك َّلمتـ ـ ـهـ ـ ــا‬ ‫ووح ــد ِت ــها‬
‫الذت ِبعـ ــزلتهـ ـ ـ ــا مثـ ــلي ْ‬
‫ْ‬

‫عبـ ـ ـ ــاء ًة َج َّملـ ْـت كـ ـ ْون ـ ـ ًا فك َّرم ـ ـه ــا‬ ‫تبـ ـ ـ ــدو ال�س ـ ــما ُء لــعيني يف ت�أَ ٌّن ِقـ ـ ــها‬

‫و�شــاه ــا ونمَ ْ نمتها‬ ‫ك�أّمنـ ـ ــا النـ ـ ُ‬


‫ـجم َّ‬ ‫الح ـ ْـت ُم ــط َّرز ًة ف ــي �أَوجــع زينته ـ ـ ــا‬

‫أبت خيـ ــاالتـ ــي ِلت ْنظمت ــها‬


‫ملـ ّ ــا ا�شر� ْ‬ ‫�أَو كــالقـ ــالد ِة �إِذ ت ــرمـ ـ ــي لآل ـئ ـهـ ـ ــا‬

‫بح لأتبـ ــدى تجَ ُّهمت ــها‬ ‫و�إِن �أَتى ْ‬


‫ال�ص ُ‬ ‫�إذا احتواها امل�ســاء �أَ ْ‬
‫بدت ب�شا�شـ ــتهـا‬

‫كالغيد � ْإذ َح َ�ض ْ‬


‫نت بال�شـوق ُمعزمها‬ ‫و ِددْتُ لو ِ�ص ْرتُ جنمـ ـ ًا بي ــن �أَنــجمهـا‬

‫ملا جعلتُ عظي ـ ــم الوج ـ ِـد ُ�سلـ ـ ـ ـَّمها‬ ‫فيا لهـ ــا �أُنثـى جـ ٍ‬
‫ـالل ك ـ ــم رقيتُ لـهـا‬

‫ري�سـ ــمها‬
‫و َّد الو�ص ـ ــول لها فجري ِل ُ‬ ‫كلـ ـ ــوح ٍة من غـمــو�ض الع ْت ـ ــم رائ ــع ٍة‬

‫ع�ص َّي ـ ـ ًة ل ـ ــم يكن فهمي ليقْحمـ ــها‬ ‫ظ َّل ْت غوام ــ�ض هـ ـ ــذا ال ـكــون نــائيـ ًة‬

‫وال تَخ َّيل ـ ـهـ ـ ــا ع ْقـ ـ ـ ـ ـ ٌل �أَو ت َّ‬


‫َوهمـ ــها‬ ‫وكيف ُت ْر َ�سـ ـ ـ ـ ُـم ما ال عـ ـلـ ـ ـ ُـم ُي ْدركهـا‬

‫�شاعر �أردين‪.‬‬
‫‪‬‬
‫‪53‬‬

‫قـ�صـــة‪:‬‬

‫خروج �سافر عن الن�ص!‬


‫رائدة زقوت‬

‫مطلق‪ ،‬ونحن بعده بحداثتنا‪� ،‬أعدنا البدائية احليوانية‪ ،‬وقذفنا‬ ‫تدوزن الكالم فيخرج ممو�سق ًا‪ ،‬ال يهم املعنى مبا �أن العزف‬
‫باحلجارة كل ح�سنات بدائيته‪ ،‬وزرعنا يف �أ�ص�ص احلياة حداثة‬ ‫يخرج الأفعى من جحرها �أو ي�سقطنا يف اجلحر‪ ،‬حيدت قلبها‬
‫منزوعة احلياة‪.‬‬ ‫وعزفت با�سمه‪ ،‬فخرج احلرف دون حاجة لطلق مفتعل‪.‬‬

‫‪ -‬ذكرتني مبجتمع القرود‪ ،‬يقال وعلى ذمة الرواة ب�أن القرود‬ ‫كحجر يف ماءٍ راكد‪ ،‬فيثري زوبعة‪ ،‬تبعد امل�صطافني‬‫ٍ‬ ‫�أرمي ِه‬
‫�أول من طبق �شريعة «رجم الزناة»‪ ،‬ونحن ما زلنا ال نطيق‬ ‫عن �أطراف البحرية‪ ،‬خ�شية البلل و�أ�شياءٍ �أخرى �أ�شد فتك ًا‪،‬‬
‫االعرتاف ب�أن الرجم يطهر الروح‪ ،‬ويفني مكمن اخلطيئة‪.‬‬ ‫طفل يف �شهره‬ ‫ح ّيدت عقلي‪ ،‬فخرج احلرف متع�سر ًا كوالدة ٍ‬
‫ال�سابع‪ ،‬ولد من نطفة ال تهوى الظهور وتخ�شى احلبلى من‬
‫‪ -‬هذا خروج �سافر عن الن�ص‪ ،‬نحن ال منلك حكمة القرود‪ ،‬وال‬ ‫ف�ضيحة تعقر ب�شرفها‪ ،‬فتخفي احلمل واملحمول‪.‬‬
‫قدرتها على �صياغة قوانني جمتمعاتها‪ ،‬ماذا لو تُركنا لنمار�س‬
‫احلياة ب�شكلها البهيمي؟ هل كنا �سنجد هذا العدد الهائل من‬ ‫وهي على هذا احلبل كثري ًا‪ ،‬نتوقف لأخذ‬
‫تلعب‪ ...‬نلعب �أنا ّ‬
‫ُ‬
‫املخالفات احلياتية التي تتنافى مع العقل واملنطق؟‬ ‫نف�س طويل‪ ،‬قبل �أن نعيد الكرة يف كل مرة ُنخرج فيها ن�ص ًا‬
‫ٍ‬
‫للعلن‪ ،‬عقلها وقلبي و�سل�سلة الن�صو�ص املولودة من رحميهما ‪.‬‬
‫‪ -‬مل �أخرج عن الن�ص ولكنه عقلك موقع العلة وب�ؤرة الف�ساد‪ ،‬لو‬
‫أنك ترتكينه قلي ًال‪ ،‬خلرجت الن�صو�ص �أجمل‪ ،‬ما عيب احلرف‬ ‫� ِ‬ ‫هذا خداج مل تخالطه حياة‪ :‬قال عقلها لقلبي‪ ،‬وهو يحاول‬
‫القلبي؟ �ألي�س هو من يجذب القراء‪ ،‬ويحث القلوب على تتبع‬ ‫الوالدة‪.‬‬
‫النب�ض؟ ال ت�سجني قلبك بق�ضبان العقل‪ ،‬فالقلب مناط احلياة‬ ‫‪� -‬أريده مبتور ًا ليزرع له �أحدهم �أطراف ًا وقلب ًا �صناعي ًا رمبا!‬
‫واحلب‪ ،‬والعقل مناط اخلطوة التي ير�سمها القلب‪.‬‬ ‫‪� -‬ستتهمني باجلنون وقلبك باجلنوح �صوب البدائية!‬
‫‪ -‬توقفي عن �إدخايل يف دهاليز وم�صائد‪ ،‬تتنقلني بخفة من‬ ‫‪ -‬هذه تهمة �أتعاي�ش معها منذ خططت احلرف الأول‪ ،‬احلداثة‬
‫مو�ضوع ملو�ضوع‪ ،‬هذا توهان ال �أو ّد �أن �أغرق فيه‪ ،‬امل�شكلة �أنني‬
‫ٍ‬ ‫وليدة البدائية‪ ،‬والإن�سان البدائي عرف احلياة وخربها بانفتاح‬
‫قا�صة �أردنية‪.‬‬
‫‪‬‬
‫‪54‬‬

‫بال مفقودة‪ ،‬وهدوءٍ غري حذر وال م�شروط‪،‬‬ ‫�أبحث عن راحة ٍ‬


‫وتبحثني عن فل�سفة ال �أريدها‪ ،‬وال �أطمح للغو�ص فيها على �أقل‬
‫تقدير بالوقت الراهن‪ ،‬حيث �أعي�ش العجز بكل تفا�صيله‪.‬‬
‫‪ -‬هنا عليك بالرجم‪ ،‬عودي لقاعدة «القرود» ارجمي عجزك‪،‬‬
‫واخلذالن‪ ،‬تذكري مقولة «من كان منكم بال خطيئة فلريجمها‬
‫بحجر» �سينتع�ش قلبك جمدد ًا ويتطهر‪ ،‬الغفران يتبع الرجم‬
‫والطهر �أي�ض ًا‪ِ � ،‬‬
‫أعط نف�سك فر�صة العي�ش دون منغ�صات‪.‬‬
‫قلبي‪ ،‬كيف يل �أن �أرجم ما ال طاقة يل‬ ‫‪ -‬هذا كالم حم�ض ّ‬
‫برجمه‪� ،‬أريد ح�صاة كبرية جد ًا لأرجم عقلي بها‪ ،‬هو من‬
‫بحر ي�سحبني للقاع‬‫ورطني ببحر ال �شواطئ له‪ ،‬وال مرف�أ‪ٍ ،‬‬
‫كلما حاولت ال�سباحة لل�سطح لأخذ ح�صتي من الأك�سجني‪،‬‬
‫�أريد حياة بي�ضاء‪ ،‬ال �أحب الرمادي والأ�سود م ّل مني‪� ،‬أريد‬
‫ب�صوت ال رجفة فيه‪� ،‬أريد �أن �أمار�س غجريتي بالرق�ص‬
‫ٍ‬ ‫الغناء‬
‫والدوران حول النار دون �أن حترقني‪� ،‬أريد �أن �أقف على ر�أ�س‬
‫جبل و�أ�صرخ ب�أعلى �صوت‪� ،‬أنا ل�ست �أنا‪� ،‬أنا متُ وهذه �أخرى‬
‫ٍ‬
‫خرجت من رحم الأ�سود بي�ضاء‪.‬‬
‫‪ -‬على ر�سلك‪ ،‬متهلي‪ ...‬هاتي يدك و�أغم�ضي عينيك و�سريي‬
‫معي‪� ،‬سنهرب �سوي ًة �صوب ٍ‬
‫جبل ال يع�صمنا من اجلنون‪ ،‬يعتقنا‬
‫من �أنف�سنا‪ ،‬ونطلق العنان لل�صوت لي�صدح‪ ،‬وللغجرية لتمار�س‬
‫رق�صتها الأبدية حول النار‪.‬‬
‫نوم حط بغري وقته فوق‬
‫نه�ضت متكا�سلة‪ ،‬مللمت نف�سي من ٍ‬
‫قلبي يحيد العقل‪ ،‬حملتها‬
‫ن�ص ّ‬ ‫كومة ورق كانت معدة لكتابة ٍ‬
‫يدي وخرجت �صوب الفناء‪� ،‬أ�شعلتها ومار�ست الدوران‬‫بني ّ‬
‫ا�سكت�ش للفنان حممد �أبو عزيز‬
‫حولها برق�صة غجرية تقت ملمار�ستها منذ الأزل‪.‬‬
‫‪‬‬
‫‪55‬‬

‫قـ�صـــة‪:‬‬

‫�ســـاعـي البــريـد‬
‫فتحي ال�ضمور‬

‫الفرحة التي ملأت قلب زوجته كانت بحجم ال�سماء‪،‬‬ ‫ا�ست�سلم للف�شل واحل�سرة‪ ،‬بعد �أن ا�ستنفذ ك ّل املحاوالت‬
‫راحت تك�شف عن‬ ‫عندما ا�ستق ّر نب�ض الطفلة يف �أح�ضانها‪ْ ،‬‬ ‫التي ت�ساعده على الإجناب‪ .‬م�ضت ال�سنوات اخلم�س وال �أحد‬
‫�س ّر الطبيعة‪ ،‬و�سحر الأنثى على الأر�ض‪ ،‬بينما كان الزوج �أق ّل‬ ‫�سواهما يف البيت‪ ،‬ال �شيء �سوى الكالم والأمنيات‪� .‬أدمن‬
‫فرح ًا منها‪ْ � ،‬إذ مل يكن يعنيه يف ذلك �سوى �أ ّنها لي�ست ابنته‪.‬‬ ‫وزوجته على م�شاهدة الأفالم الأجنب ّية‪ ،‬والأغنيات‪ ،‬والوحدة‪.‬‬
‫هو ال يعرف �أنّ الأنثى بطبيعتها تولد �أ ّم ًا‪ ،‬حتر�ص منذ �أن‬ ‫الكالم العذب وحده يب ّدد احللم الذي مل يتح ّقق‪ ،‬ويخ ّف ُف‬
‫تن�ض َج عيناها على امتالك دمية �صغرية‪ ،‬تكون هذه اللعبة‬ ‫ُ‬ ‫عنهما وط�أة الوحدة وجنون الرغبة يف الإجناب؛ لك ّنها اللعنة‬
‫«عرو�س ًا»‪ ،‬وال تخلد لل ّنوم �إال معها‪ ،‬ت�ض ّمها بيديها‪ ،‬تنام قريرة‬ ‫دائم ًا تلحق باملهزومني �أينما كانوا‪.‬‬
‫العني دافئة ال�صدر‪.‬‬
‫كالعادة جل�سا �أمام التلفاز‪ ،‬وقد وقع اختيارهما هذه امل ّرة‬
‫هو ال يعرف �س ّر الأنثى‪ ،‬و�أ ّنها تولد �أ ّم ًا بالفطرة‪ ،‬قبل �أن‬ ‫على م�شاهدة فيلم «‪ .»The Postman‬تابعاه ب�شغف‪ ،‬و ما �أن‬
‫تكون �أخت ًا �أو ابنة �أو زوجة‪ ،‬ال يعرف �س ّر الدمية العرو�س يف يد‬ ‫انتهيا من م�شاهدته‪ ،‬حتّى ق ّرر الرجل �أن يذهب �صباح ًا �إىل‬
‫الطفلة‪ ،‬و�س ّر الأ ّم‪ ،‬يف ّكر فقط بالفيلم‪ ،‬وب�ساعي الربيد‪ ،‬ك ّل ما‬ ‫مركز رعاية الأيتام‪ ،‬ليتب ّنى طفلة لزوجته املغرمة بالفتيات‪.‬‬
‫بريد �آخر!‬
‫يخ�شاه �أن يظهر يف حياة زوجته �ساعي ٍ‬
‫مركز الأيتام الذي ال يبعد عن بيتهما �إال قلي ًال‪ ،‬كان قد‬
‫«هبة» التي كربت‪ ،‬و�أ�صبح عمرها ثالثة وع�شرين عام ًا‪،‬‬ ‫ا�ستقبل �أيتام ًا من خمتلف الأعمار‪ ،‬منهم من مات �أبواه‪،‬‬
‫كانت من اجلمال والبهاء ما يجعلها ت�أمن على نف�سها خماوف‬ ‫ومنهم من كان لقيط ًا‪ ،‬ال �أحد يعرف �أ ّية نطفة �ألقت به �إىل‬
‫فتيات هذه الأيام من العنو�سة‪ .‬لك ّنها تهوي بج�سدها على‬ ‫زج به القدر يف رحم اخلطيئة �إىل‬ ‫هذه الدنيا‪ .‬كان �آخر من ّ‬
‫�سرير ال�س�ؤال والقلق‪ ،‬تعرف حقيقة �أمرها‪ ،‬وتداري مرارة‬ ‫هذا املركز‪ ،‬طفلة تبلغ من العمر �سنتني‪ ،‬ينادونها با�سم «هبة»‪،‬‬
‫احت�ضنت وجعها‪.‬‬
‫ْ‬ ‫الوجود مبن‬ ‫فكانت الهبة التي انتظرتها الزوجة طوي ًال‪.‬‬

‫قا�ص �أردين‪.‬‬
‫‪‬‬
‫‪56‬‬

‫�سنوات‪ ،‬و�أ ّنها مل ترزق بعد بطفل يك�سر �إيقاع امللل وال�ضجر‬ ‫كان �أكرث املتقدمني خلطبتها‪ ،‬من �أ�صحاب املكانة املرموقة‬
‫يف حياتها‪.‬‬ ‫يف املجتمع‪ ،‬لك ّنهم �سرعان ما ينقلبون على �أعقابهم عندما‬
‫تخربهم ب�أمرها‪ .‬ومبج ّرد �أنْ يعرف �أحدهم �أنْ ال ح�سب وال‬
‫انحب�ست �أنفا�س «هبة»‪ ،‬وارجتف قلبها عندما ر�أت زوج‬
‫ن�سب لها يذهب من غري رجعة‪ ،‬و�إذا عاد �إليها ف�إنمّ ا يعود‬
‫ال�س ّيدة‪ ،‬حتى �أ ّنها مل تقدر على الوقوف لل�سالم على حبيبها‬
‫لغايات ج�سدها املتج ّمد يف القطب املهجور‪.‬‬
‫بحجة القدر‪ .‬وب�أجواء م�شحونة‪ ،‬وبتوتر املحرومني‬ ‫الذي تركها ّ‬
‫�أخذ زوجته وم�ضى كالهارب من املوت‪ ،‬ال�س ّيدة ق ّبلتها على‬ ‫«هبة» مل تع�شق �سوى لون عينيها‪ ،‬ومل ت�ؤمن �إال بنب�ض‬
‫خديها الباردين‪ ،‬وذهبت مع زوجها‪ .‬وقبل �أن ي�ستقلاّ ال�سيارة‪،‬‬ ‫قلبها‪ ،‬وقعت يف الغرام‪ ،‬الغرام الذي ي�أتي وال ي�ؤتى عليه‪� .‬أح ّبت‬
‫نادت «هبة» على ال�س ّيدة ب�صوت مهزوز ول�سان يرجتف‪ :‬يا‬ ‫�شاب ًا وحر�صت يف بداية عالقتها معه على كتمان �س ّرها عنه‪.‬‬
‫منك‪.‬‬
‫ن�سيت �أن ت�أخذي القر�ص الذي �سقط ِ‬ ‫ِ‬ ‫«مدام»‪ ،‬لقد‬ ‫هي ال تريد �أن تف�سد على قلبها الفرحة يف ممار�سة طقو�س‬
‫عادت ال�س ّيدة وق ّبلتها م ّرة �أخرى‪ ،‬وهم�ست يف �أذنها قائلة‪ :‬يا‬ ‫احلب‪ ،‬لك ّنها حتم ًا لن تقدر على اال�ستمرار يف �إخفاء‬
‫و�شعائر ّ‬
‫�إلهي‪ ،‬كدّتُ �أن�ساه‪� ،‬إ ّنه فيلم �ساعي الربيد‪ ،‬كان قد �أ�شا َر ّ‬
‫علي‬ ‫ذلك طوي ًال‪.‬‬
‫مب�شاهدته �صدي ٌق قدمي‪.‬‬
‫ا�ستقامت لهما �أ�سباب الزواج‪ ،‬واتّفقا على تفا�صيل‬
‫ْ‬ ‫بعد �أنْ‬
‫حفل الزفاف‪� ،‬أر�سلت له لي ًال بر�سالة على هاتفه اجل ّوال‬
‫عرفت �أنيّ لقيطة‪ ،‬وال � ُ‬
‫أعرف من‬ ‫َ‬ ‫جاء فيها‪« :‬حبيبي‪ ،‬ماذا لو‬
‫�أنت�سب �إليهم‪ ،‬و�أنّ �أبي الذي تعرفه‪ ،‬ما هو ب�أبي‪ ،‬و�أ ّمي لي�ست‬
‫ب�أ ّمي ؟»‪.‬‬
‫هاتفها بعد �أنْ قر�أ ر�سالتها مت�سائ ًال ع ّما تهذي به‪� .‬أخربته‬
‫بك ّل �شيء‪ ،‬وقالت قبل �أن تنتهي املكاملة‪ ،‬وتنتهي معها عالقتهما‪:‬‬
‫«ما ذنبي يف خطيئة مل �أقرتفها‪ ،‬ولي�ست من فعل يدي ؟»‪.‬‬
‫أيقنت �أنّ زواجها من �آخر‬
‫م�ضت �سنوات على فراقهما‪ ،‬و� ْ‬ ‫ْ‬
‫بات �أمر ًا م�ستحي ًال‪ ،‬وهي تعرف �أنّ من �ألقى بها يف ّ‬
‫جلة‬
‫أبدي‪ ،‬والوجع الذي‬
‫ال�ضياع‪ ،‬جعلها امر�أة غارقة يف العذاب ال ّ‬
‫ال ينتهي‪ ،‬فال تكرتث بعد ذلك ملن يخد�ش قلبها الذي ما يزال‬
‫ي�شهق �شوق ًا لع�شيقها‪.‬‬
‫ال�صدفة وحدها جعلتها تلتقط قر�ص ًا �إلكرتون ّي ًا‪ ،‬كان قد‬
‫�سقط من حقيبة �س ّيدة بدا عليها التعب يف حمل لبيع الأفالم‬
‫الأجنب ّية‪� ،‬أم�سكت بيد ال�س ّيدة قبل �أن يتهاوى ج�سدها على‬
‫الأر�ض‪ ،‬و�أجل�ستها على مقعد يف مقهى قريب‪ ،‬وملّا ا�ستعادت‬
‫ا�سكت�ش للفنان حممد �أبو عزيز‬
‫ال�س ّيدة توازنها وعافيتها اتّ�صلت بزوجها ت�ستعجله باحل�ضور‪.‬‬
‫�أثناء تلك الفرتة �أخربتها ال�س ّيدة‪� ،‬أ ّنها متزوجة منذ خم�س‬
‫‪‬‬
‫‪57‬‬

‫قـ�صـــة‪:‬‬

‫امل�سمـــار‬
‫عمر �ضمرة‬

‫كان �أبي بعيد ًا عني يف البيت‪ ،‬وبعيد ًا عني يف املنجرة‪...‬‬ ‫تفتح وعيي على �صورة �أبي الغارق يف عمله باملنجرة‪ ،‬وكنت‬
‫حاولت �أن �أقرتب منه و�أن �أفهمه‪ ...‬باءت حماوالتي‬ ‫�أعلم �أين �س�ألج هذا العامل عن قريب‪ ،‬بالرغم من اجتهادي‬
‫بالف�شل‪...‬‬ ‫على مقاعد الدرا�سة‪� ،‬إذ بدا الأمر وك�أنه حتمي بالن�سبة �إ ّ‬
‫يل‪.‬‬
‫يف املنجرة �أم�سك ب�آلة الفارة بيدي اللتني اعتادتا الآن‬ ‫بعد �أن �أنهيت املرحلة الإعدادية‪� ،‬أعلنت للعائلة �أين‬
‫على العمل‪ ،‬و�أبد�أ بتنعيم اخل�شب اخل�شن‪� ،‬أ�صبحت معتاد ًا‬ ‫�س�أ�صبح جنار ًا‪ ،‬و�س�أبا�شر العمل مع �أبي‪ .‬تبادل والداي‬
‫على العمل‪ ،‬كنت �أعمل برتكيز قليل‪ ،‬مما يتيح يل ا�ستطلالع‬ ‫النظرات‪ ...‬ومل يعلقا ب�أي �شيء‪ ،‬فاعتربت ذلك موافقة على‬
‫ال�شارع بعيني‪.‬‬ ‫قراري‪ ،‬وهكذا بد�أت حياتي مع عامل اخل�شب‪.‬‬
‫�سمعت ال�صوت �أو ًال‪ ،‬طق طق طق‪� ،‬صوت بعيد يقرتب‬ ‫كان �أبي �صارم ًا يف العمل‪ ،‬ال يحب اللف والدوران‪ ،‬كان‬
‫رويد ًا رويد ًا‪ ،‬جرفني طوفان من الف�ضول‪ ،‬حتى �أن ّ‬
‫يدي توقفتا‬ ‫م�ستقيم ًا و�صريح ًا‪ ،‬حيث كانت كلمته ال تعاد‪ ،‬وخا�صة يف‬
‫عن العمل‪ ،‬مل يطل الأمر كثري ًا‪� ،‬إذ �سرعان ما اقرتب ال�صوت‬ ‫�صفقاته مع الزبائن‪ ،‬فحينما يقول للزبون ب�أن ال�سرير الذي‬
‫�أكرث وملحت فتاة يف الع�شرينيات من العمر‪ ،‬ترتدي �سروا ًال من‬ ‫طلبه �سينتهي بعد �أ�سبوع‪ ،‬فع ًال �سينتهي بعد �أ�سبوع ال يزيد وال‬
‫اجلينز وقمي�ص ًا �أبي�ض يغطي جزء ًا من ال�سروال‪ ،‬وحذاء �أ�سود‬ ‫ينق�ص‪ ،‬وحينما كان الزبون ي�ستعجل والدي المتامه قبل ذلك‪،‬‬
‫ذي كعب عال‪.‬‬ ‫كان �أبي يرف�ض‪ ،‬حتى لو ا�ضطره الأمر �إىل خ�سارة ال�صفقة‪.‬‬
‫كنت م�شدود ًا نحوها‪ ،‬مل �أكن لوحدي‪ ،‬حتى �أن الوالد‬ ‫يف البداية كلفني �أبي ب�أعمال ب�سيطة‪ ،‬كنت �أم�سك بيدي‬
‫توقف قلي ًال عن عمله وتوجه بب�صره ناحيتها‪ .‬مل تلتفت �إلينا‪،‬‬ ‫االثنتني ب�آلة «الفارة» و�أن ّعم �أ�سطح اخل�شب‪ ،‬بدا يل الأمر‬
‫ووا�صلت تقدمها‪ ..‬طق طق طق‪ ،‬وم�ضت‪ .‬ملحني الوالد متوقف ًا‬ ‫�صعب ًا وجمهد ًا‪ ،‬ب�سبب عدم اعتيادي العمل من قبل‪ ،‬تق ّرحت‬
‫عن العمل‪ ،‬حيث لفظ ا�سمي ليعيدين �إىل واقعي الذي غفلت‬
‫يداي‪ ،‬ونزف الدم منهما‪ ،‬لأن طريقة ام�ساكي كانت خاطئة‬
‫عنه‪.‬‬
‫بح�سب والدي‪.‬‬
‫تكرر مرورها يومي ًا بنف�س الوقت‪ ،‬الثامنة والن�صف‬
‫كنا نذهب �أبي و�أنا �إىل العمل يف متام ال�ساعة ال�سابعة‬
‫�صباح ًا‪ ...‬طق طق طق‪ .‬مل �أعد �أتوقف عن العمل كما يف املرات‬
‫�صباح ًا‪ ،‬حيث كان �أول عمل ي�ؤديه والدي هو �إعداد ال�شاي‪ ،‬ثم‬
‫الأوىل‪.‬‬
‫نتناول فطورنا الب�سيط من اخلبز واجلبنة البي�ضاء‪� ،‬إذ تقارب‬
‫كانت تغري مالب�سها با�ستمرار‪� ،‬إال حذاءها الأ�سود ذي‬ ‫ال�ساعة الثامنة‪ ،‬ون�شرع بالعمل‪ ،‬وهو نظام دقيق ال يخرقه �أبي‬
‫الكعب العايل‪� .‬أ�صبحت �أكرث �ألفة بالن�سبة يل مبرورها اليومي‪،‬‬ ‫�إال يف احلاالت الطارئة‪.‬‬

‫قا�ص �أردين‪.‬‬
‫‪‬‬
‫‪58‬‬

‫لدي‪ .‬ف�ضلت العمل‬


‫الآخرين بالزواج‪ ،‬كما مل �أ�شغل �أي �أجري ّ‬ ‫و�صرت �أترقب حلظات مرورها‪� ،‬إال �أن الوالد الحظ هروبي‬
‫لوحدي‪ ،‬ومل �آ�سف يف هذه الدنيا على �أي �شيء‪.‬‬ ‫بب�صري �إليها كلما مرت‪ ،‬ومل �أدر �أبد ًا ما الذي �ضايقه!!! فقد‬
‫بدق امل�سامري الالزمة للطاوالت والكرا�سي‬ ‫طلب مني �أن �أقوم ّ‬
‫قلة هم معاريف‪ .‬اكت�سبت �صرامة �أبي يف التعامل مع الزبائن‪،‬‬
‫بل على نحو �أ�شد �أي�ض ًا‪ ،‬ما جعلني �أخ�سر الكثري من الزبائن‪ ،‬اال‬ ‫وما �شابه‪.‬‬
‫�أن القليل يكفيني‪.‬‬ ‫وهكذا بد�أت بال ّدق‪ .‬ولأن دق امل�سامري يختلف عن العمل‬
‫�صرت مهوو�س ًا بال ّدق‪ .‬كثري ًا ما تنتابني حلظات من الك�آبة‬ ‫علي ا�ستطالع ال�شارع والنظر �إىل‬ ‫ب�آلة الفارة‪� ،‬أ�صبح ع�صي ًا ّ‬
‫الثقيلة واملوح�شة‪ ،‬ولكني �صرت خبري ًا يف التخل�ص من تلك‬ ‫الفتاة حينما مت ّر‪ ،‬وخا�صة مع مراقبة �أبي امل�ستمرة يل‪ ..‬ال �أعلم‬
‫اللحظات التي جتثم على �صدري‪ ،‬وحتيله �إىل �صحراء قاحلة‪.‬‬ ‫ما الذي �ضايقه!!!‬
‫كنت �أعد ال�شاي و�أبد�أ بالغناء‪ ،‬وتت�شكل مالمح ابت�سامة �صغرية‬ ‫ّ‬
‫دق امل�سمار يحتاج �إىل تركيز �شديد حتى ال �أ�ضرب �أ�صابعي‪،‬‬
‫على �شفتي الرقيقتني حينما �أثبت امل�سمار على �سطح اخل�شب‪،‬‬ ‫وال � ّ‬
‫أدق امل�سمار يف املكان غري املنا�سب‪ ...‬وهكذا حرمت من ر�ؤية‬
‫وتت�سع ابت�سامتي مع كل دقة‪ ...‬دق دق دق دق‪.‬‬ ‫الفتاة‪.‬‬
‫كانت ت�أتي من �أق�صى ال�شارع‪ ،‬وكان �صوت حذائها يتغلغل‬
‫يف خاليا ج�سدي‪ ،‬فيحثه على الن�شاط‪ ...‬طق طق طق طق‪ ،‬و�أنا‬
‫مم�سك بامل�سمار �أ ّدقه‪ ...‬دق دق دق دق‪.‬‬
‫دق امل�سمار من �أمتع اللحظات يف حياتي‪،‬‬ ‫غدت حلظات ّ‬
‫حلظة ام�ساكي بامل�سمار‪ ،‬و�إح�سا�سي بربودته ال�صباحية ومعدنه‬
‫القا�سي‪ ،‬ثم و�ضعه يف النقطة املطلوبة‪ ،‬وتثبيته على ال�سطح‬
‫جيد ًا بالأ�صابع قبل �أن تنزل املطرقة بال ّدقة الأوىل‪ ،‬ثم متابعة‬
‫رحلة انغراز امل�سمار يف اخل�شب الذي يح�سبه املرء طري ًا مع كل‬
‫د ّقة‪ ،‬وحتى بلوغ اللحظة احلا�سمة‪ ..‬حلظة االنت�شاء مع ال ّدقة‬
‫الأخرية‪ ،‬لي�صبح امل�سمار جزء ًا من اخل�شب‪ ،‬ثم ال ّدقة الأخرية‬
‫اخلفيفة التي ت�شمل امل�سمار واخل�شب مع ًا‪ ،‬حيث تكون ناعمة‬
‫رقيقة‪ ،‬وك�أنها لطلب ال�سماح من امل�سمار على ال ّدقة العنيفة التي‬
‫�سبقتها‪.‬‬
‫بقيت يف عملي‪ .‬مات والدي‪ ،‬وطر�أ على ال�شارع تغيريات‬
‫كثرية‪ ،‬و�أ�صبحت ال�سيارات مت ّر من �أمام املنجرة التي بقيت‬
‫على حالها‪� ،‬إال �أن حياتي مل يطر�أ عليها �أ ّية تغيريات‪ ...‬وقنعت‬
‫بعملي‪.‬‬
‫مل �أكن �أغادر املنجرة �إال للنوم‪ ،‬كنت �أتناول ع�شائي و�أخلد‬
‫ا�سكت�ش للفنان حممد �أبو عزيز‬ ‫�إىل النوم ب�سرعة من �شدة التعب واالرهاق‪ ،‬ومل �أ�ستمع لن�صائح‬
‫‪‬‬
‫‪59‬‬

‫قـ�صـــة‪:‬‬

‫نهاية اللعبة‬
‫منال حمدي‬

‫فتحت لها الباب‪ ،‬ويف يديها ق ّفازات وحول خ�صرها مريول‬ ‫كانت تفتعل ال�شجار لفراق لي�س بالق�صري‪ .‬وملزيد من‬
‫املطبخ‪ .‬تراجعت �إىل اخللف دون �أن ت�سمح لأي منهما احلديث‬ ‫املناكفات‪ ،‬ذهبت برفقة �صديق م�شرتك �إىل املقهى ذاته الذي‬
‫�إليها‪ .‬ورغم كل حماوالته االت�صال بها‪� ،‬إال �أنها مل ت�ستجب‪.‬‬ ‫اعتاد �أن يلتقيا فيه‪ .‬وكما توقعت كان هناك؛ ولكن ما مل تتوقعه‬
‫هو وجود �أخرى معه!‬
‫مت�ض ب�ضعة �شهور حتى علم بزواجها من �صديقهما‬ ‫مل ِ‬
‫امل�شرتك الذي كانت تخرج و�إياه‪ .‬قرر �أن يذهب والفتاة‬ ‫ت�صافح ال�صديقان‪ ،‬ثم جل�ست ورفيقها �إىل الطاولة املقابلة‬
‫لزيارتهما دون موعد م�سبق‪ .‬فوجيء ال�صديق بالزيارة‪� .‬أما‬ ‫حتبه‪ .‬ظ ّلت طوال الوقت ت�سرتق النظر �إليهما‪ ،‬ويف‬
‫لطاولة َمن ّ‬
‫الزائر؛ فلم ي�أبه بنظرات ال�صديق �صاحب البيت‪ ،‬لكنه ح ّدق‬ ‫كل مرة تخفي رجفة �أ�صابعها ب�إ�شعال ال�سيجارة الواحدة تلو‬
‫�إليها مم ّددة على الأريكة! ا�ستقامت بدورها منده�شة‪ ،‬فاقرتب‬ ‫الأخرى‪ ،‬وهي تطفئها بحركة متوترة يف املنف�ضة‪.‬‬
‫منها مم�سك ًا بيد الفتاة وقال لها‪:‬‬
‫راهنت ب�أنه يلعب معها اللعبة نف�سها التي تلعبها معه يف‬
‫حاولت لأكرث من مرة �أن �أخربك �أنّ هذه الفتاة �أختي‪،‬‬ ‫كل ِ�شجا ٍر يحدث بينهما‪ .‬عادت �إىل البيت وما تزال عالقة‬
‫و�صديقنا انتهز الفر�صة فدخل اللعبة ليتزوج منك‪ ،‬فهو‬ ‫يف ذهنها �صورته‪ ،‬وهو مي�سك بيد الفتاة الأخرى ويق ّبلها‪،‬‬
‫يعرفها حقّ املعرفة‪� .‬أنا و�أنت مل نكن نعلم �أنها �ستكون لعبة‬ ‫دون االكرتاث بوجودها‪ .‬بعد حماوالت ات�صاالت ع ّدة‪ ،‬ر َّد‬
‫طويلة الأمد!!‪.‬‬ ‫عليها ليخربها �أنه جال�س‪ ،‬الآن‪ ،‬وخطيبته يف املقهى‪ ،‬ودعاها‬
‫ليع ّرفها �إليها‪.‬‬
‫هم باملغادرة‪ ،‬فا�ستوقفه �صديقه قائ ًال‪:‬‬
‫ّ‬
‫يكف عن العبث معها‪،‬‬ ‫�ضحكت با�ستهزاء‪ ،‬وطلبت منه �أنّ ّ‬
‫يا �صديقي‪ ،‬زوجتي �أي�ض ًا كانت تعرف �أنّ َمن ج َل َ�ست �إىل‬
‫�إال �أنه �أنهى احلديث بربود كبري‪ .‬مل حت�سب وال م ّرة �أنّ هذه‬
‫الطاولة معك هي �أختك!‬
‫ا ّللعبة �ستطول كل هذه امل ّدة‪ .‬وبعد تفكري طويل ق ّررت الذهاب‬
‫�إىل بيته‪ ،‬وكانت تلك �أ ّول مرة‪� .‬أذهلها منظر الفتاة حينما‬

‫قا�صة �أردنية‪.‬‬
‫‪‬‬
‫‪60‬‬

‫قـ�صـــة‪:‬‬

‫الثانية ع�شــرة‬
‫منرية �صالح‬

‫�شفتيه على �شاكلة‪� :‬صحة يا (مدام)‪ ،‬ت�أمري ب�شيء يا (مدام)‬ ‫جئنا من موت بليد‪ ،‬وب�سرعة انتحلنا �صفة متزوجينْ ‪ ،‬بيدينا‬
‫عفو ًا؛ احل ّمام من هنا يا (مدام)‪ .‬والفتاتان الكبريتان‬ ‫و�ضع ك ّل منا خامت ًا بيده الي�سرى‪ ،‬وجل�سنا متقابلني على طاولة‬
‫املتقابلتان تبكيان ح�سد ًا‪.‬‬ ‫�صغرية يف مطعم القد�س‪ .‬مل يكن املكان هادئ ًا يليق بع�شاق‪،‬‬
‫لكن تناولنا طعام ًا‪ ،‬و�صفه ب�أنه م�شبع ورخي�ص‪ ،‬ن�صحني �أثناء‬
‫اللعنة‪� :‬إنها العقارب‪ ،‬ت�سري متال�صقة الذراعني �إىل الثانية‬
‫أكف عن �إطعامه بيدي‪ ،‬قال‪ :‬ذلك ال يليق بزوجني‬ ‫ذلك ب�أن � َّ‬
‫ع�شرة‪ .‬تركنا مطعم القد�س‪ .‬لتحملنا حافلتان؛ هو نحو معتقل‬
‫عتيقني ن�سبي ًا‪ ،‬و�أ�شار �إىل جتاعيد ب�شرته اجلافة‪.‬‬
‫�س ّري لالجئني يقع �شرق احلدود‪ ،‬و�أنا �إىل �إ�صالحية الوالدين‬
‫�إياها‪..‬‬ ‫‪� -‬سيك�شفوننا‪.‬‬
‫من ي�صدق!‬ ‫ان�صعتُ لن�صف حذره‪ .‬رمقت فتاتني كبريتني جتل�سان غري‬
‫بعيد‪ ،‬تنظران �إىل يدي الي�سرى بح�سد‪ .‬املكان ال�شعبي �صار‬
‫الئق ًا ملا منلكه من بقية نقود‪� .‬إثر كذبتني‪ ،‬عن خالة له حتت�ضر‪.‬‬
‫وعن ادعاء مر�ضي ملديرة املدر�سة‪ ،‬ف�أ�سعفتني بنموذج طبي‬
‫مزور‪ .‬تالقينا على طرف جممع رغدان‪ .‬كانت اخلوامت‬
‫جاهزة‪ .‬وذهبنا حل�صد مكاف�أة يل‪� ،‬إثر كذبة �أطلقتها يف ملحق‬
‫الأدب‪ .‬انطلقنا بالنقود حا ًال نحو قهوة زجاجية عمالقة‪ ،‬تقع‬
‫�أول �شارع ال�صحافة‪ .‬كنا فوق ال�شارع متام ُا‪ ،‬وفوقهم‪ .‬نرفع‬
‫�ساق ًا فوق �ساق‪ .‬وندليّ �أل�سنتنا لهم‪ .‬فهذا ال�شارع رف�ض �أن‬
‫تق ّل ن�سبة العنو�سة يف البلد العتبارات تتعلق ب�أوهام؛ مث ًال عدم‬
‫مالئمة الأوراق الثبوتية التي يحملها العري�س‪� ،‬أنا وهو رف�ضنا‬
‫�أن ننحني للقرار‪ ،‬فجئنا لنحتال عليهم ب�صفاقة‪.‬‬
‫منحنا القهوة الفخمة جزء ًا لي�س ي�سري ًا من �أموال املكاف�أة‪.‬‬
‫ومبا تبقى لنا‪ ،‬ركبنا التاك�سي �إىل منت�صف البلد‪.‬‬
‫قدمي نادل ر�أى‬
‫نحن الآن يف مطعم القد�س‪ ،‬يقبع عند ّ‬
‫ا�سكت�ش للفنان حممد �أبو عزيز‬ ‫اخلامت يف ي�سراي‪ ،‬فظل يزوم حين ًا بعد حني ب�أ�شياء من بني‬

‫قا�صة �أردنية‪.‬‬
‫�آداب �أجـ ـنـ ـبـ ـي ـ ـ ـ ـ ـ ــة‪:‬‬
‫‪ -‬جـــــولـــــــــــي ‪ -‬ق�صة‪ :‬هـيـــــــرمـــــــــــــان هــي�ســــــــه‬
‫‪ -‬النهاية املر ّوعة لل�سيد جونز بقلم‪� :‬ستيفن ليكوك‬
‫‪62‬‬

‫جــــولـــي‬
‫ق�صة‪ :‬هريمان هي�سه*‬

‫ترجمها عن الأملانية‪ :‬علي عوده‬

‫من ذي قبل‪ .‬كانت يداها �صغريتني وجميلتني‪ ،‬وجهها نظيف ًا‪،‬‬ ‫باب املنزل الثقيل ببطء‪ ،‬وظهر من فتحته وج ُه خادم ٍة‬ ‫ُف َتح ُ‬
‫لكنه ممتلئ و�صارم وال زال مرتفع ًا‪ ،‬قا�سي ًا يفتقد التوهج‪.‬‬ ‫�شابة‪� .‬س�ألتُ عن �س ّيد املنزل‪ ،‬و�صعدتُ ِ�سلم ًا‪ ،‬و�سط ظلمة‬
‫ولكن ثمة �أثر جمال دار�س‪ ،‬تبدو ملحاته على الأ�صداغ وحركات‬ ‫زيتي م�ضا ًء‪ ،‬وبينما كنتُ �أنز ُع‬
‫حالكة‪ .‬يف املمر كان م�صباح ٌّ‬
‫الأذرع‪.‬‬ ‫نظارتي‪ ،‬خرج (هري�شل) وح ّياين‪.‬‬
‫«كيف و�صلت �إىل �إللغينبريغ؟»‪.‬‬ ‫قال ب�صوت خفي�ض‪« :‬عرفتُ ‪� ،‬أنك �ست�أتي»‪.‬‬
‫«�سري ًا على الأقدام يا عزيزتي»‪.‬‬ ‫«كيف َ‬
‫لك �أنْ َ‬
‫تعرف هذا؟»‪.‬‬
‫«لق�ضاء �أعمال هنا؟»‬ ‫«من خالل زوجتي‪� .‬إنني �أعرف َمنْ تكون‪� .‬أرجوك‪ ،‬تف�ضل‪،‬‬
‫خفف عنك‪� ..‬أرجو‪ ،‬نعم‪ ،‬هكذا‪»..‬‬
‫«كال‪� ،‬أريد فقط ر�ؤية املدينة مرة �أخرى»‪.‬‬
‫يبدو �أنه مل يكن على ما يرام‪ ،‬و�أنا كذلك‪.‬‬
‫«متى كنت هنا �آخر مرة؟»‪.‬‬
‫دلفنا �إىل حجرة �صغرية‪ ،‬حيث توجد فيها من�ضدة عليها‬
‫علم بهذا‪� ،‬إ�ضافة �إىل �أنني مل‬
‫إنك على ٍ‬
‫«قبل ع�شر �سنوات‪ِ � .‬‬
‫مالءة بي�ضاء وم�صباح م�شتعل‪ ،‬وقد ُجهزت للع�شاء‪.‬‬
‫�أجد تغيري ًا كبري ًا يف املدينة‪».‬‬
‫�إنه ال�شخ�ص الذي تعرفت عليه اليوم �صباح ًا‪ ،‬جويل‪،‬‬
‫«حقيقة؟ �إنني بالكاد تعرفتُ عليك ثاني ًة»‪.‬‬
‫ا�سمحي يل �أن �أقدم ال�س ّيد‪.»..‬‬
‫«�أ ّما �أنا‪ ،‬فعرفتك فور ًا يا عزيزتي»‪.‬‬
‫« �إنني �أعرفه»‪ ،‬ردت جويل بانحناءة من عنقها‪ ،‬دون �أن‬
‫�أخذ ال�س ّيد هري�شل بال�سعال‪.‬‬ ‫مت ّد يل يدها‪.‬‬
‫«�أال ترغب بتناول الع�شاء معنا؟»‪.‬‬ ‫« تف�ضل باجللو�س»‪.‬‬
‫« �إنْ كان هذا ال يزعجك»‪.‬‬ ‫جل�ست على كر�سي اخليزران بينما جل�ست هي على‬
‫الكنبة‪ .‬نظرتُ �إليها‪ .‬كانت قوية البنية‪ ،‬لكن بدا حجمها �أ�صغر‬
‫« ال �أبد ًا تف�ضل‪ ،‬فقط �شرائح بالزبدة»‪.‬‬

‫مرتجم وقا�ص �أردين‪.‬‬


‫‪63‬‬

‫« كما تريدين‪ .‬ت�سرين �أن تكوين على ما ُيرام‪ .‬هل �أنت يف‬ ‫الم و�سلطة‬
‫ا�شتمل الع�شاء على حلم حممر بارد مع هُ ٍ‬
‫�صحة وعافية؟»‪.‬‬ ‫الفا�صوليا والأرز والكمرثى املطبوخة‪ .‬كما احت�سوا ال�شاي‬
‫واحلليب‪.‬‬
‫«�أجل مبقدورنا �أن نكون �سعداء»‪.‬‬
‫رب البيت على خدمتي وحتادثنا قلي ًال‪� .‬أما جويل‬ ‫قام ُ‬
‫«وتلك الأيام‪ ،‬حدثيني جويل‪� ،‬أال تفكرين بتلك الأيام؟»‪.‬‬ ‫فبالكاد َن َب َ�س ْت بكلمة واحدة‪ ،‬كانت تنظر �إ ّ‬
‫يل برتفع وريبة‪،‬‬
‫«ماذا تبغي مني؟ ليذهب التاريخ القدمي �إىل غري رجعة!‬ ‫وك�أنها ترغب بح ّل لغز جميء‪ .‬وليتني �أعرف هذا �شخ�صي ًا!‬
‫لقد حدث بال�شكل الذي حدث عليه‪� ،‬أعني‪� ،‬أنه جميل لنا‬ ‫�س�ألت‪« :‬هل لديك �أطفال؟»‪ ،‬وقد �أ�صبحت الآن �أكرث مي ًال‬
‫جميع ًا‪ .‬فيما م�ضى مل يكن لديك احلق لدخول (�إللغينبريغ)‪،‬‬ ‫للحديث‪.‬‬
‫رغم كل �أفكارك‪ ،‬وقد يكون هذا الإجراء غري عادل»‪.‬‬
‫هموم املدر�سه‪ ،‬الأمرا�ض‪� ،‬ش�ؤون الرتبية‪ ،‬جميعها على‬
‫«�أكيد‪ ،‬جويل‪ .‬ال �أريد �أن �أمتنى �أحداث ًا مل تقع‪ .‬ومل يتوجب‬ ‫ما يرام‪.‬‬
‫عليك �أن تُفكري بي‪ ،‬بالت�أكيد ال‪ ،‬ولكن بكل الأ�شياء اجلميلة‬
‫واملحببة التي حدثت �آنذاك‪� .‬أيام �شبابنا‪ ،‬تلك التي �أق�صدها‬ ‫«ومع هذا فاملدر�سة كاملن�شار»‪ ،‬قال هري�شل ُمقاطع ًا‪.‬‬
‫و�أريد �أن �أراها ب�أ ّم عيني»‪.‬‬ ‫«حقيقة؟ كنت �أعتقد دوم ًا‪� ،‬أنه ينبغي على الطفل دون‬
‫غريه �أن يحظى برتبية والديه»‪.‬‬
‫«�أرجوك‪ ،‬حتدث عن �شيء �آخر‪ .‬رمبا يكون هذا بالن�سبة‬
‫لك خمتلف ًا‪ ،‬ولكن بالن�سبة يل تخلله الكثري»‪.‬‬ ‫«ها �أنت لي�س لديك �أطفال»‪.‬‬
‫�أنظر �إليك ف�أرى �أنّ كل جمال ذاك الزمان قد تخلى عنك‪،‬‬ ‫«لذلك ل�ستُ �سعيد ًا»‪.‬‬
‫كنت فقط جمرد ال�س ّيدة هري�شل‪.‬‬
‫«لكنك متزوج؟»‬
‫«بال �شك»‪ ،‬قلت بفظاظة‪ ،‬لي�س لدي �شيء �ضد هذا‪،‬‬ ‫«كال‪� ،‬سيد هري�شل‪� ،‬أعي�ش وحيد ًا»‪.‬‬
‫عندما عاد الرجل الآن حام ًال زجاجتي نبيذ‪.‬‬
‫تخنقني حبات الفا�صوليا‪ ،‬لقد ُق ْ‬
‫�شرت ب�شكل �سيء‪ .‬بعد‬
‫امل�شروب فرن�سي ًا‪ ،‬وهري�شل‪ ،‬الذي مل يكن على ما يبدو‬
‫ُ‬ ‫كان‬ ‫�أن ُرفع الطعام‪ ،‬عر�ض الرجل زجاجة نبيذ‪ ،‬فلم �أرف�ض‪.‬‬
‫�سكري ًا‪ ،‬اختلف و�ضعه عند الك�أ�س الثانية‪ .‬وبد�أ يدفع زوجته‬ ‫وكما متنيت‪ ،‬ذهب بنف�سه �إىل القبو‪ ،‬وبقيت لربهة وحيد ًا مع‬
‫ملعاك�ستي‪ .‬وملّا مل ت�ستجب له‪� ،‬ضحك وقرع ك�أ�سه بك�أ�سي‪.‬‬ ‫املر�أة‪.‬‬
‫«يف البداية مل تود زوجتي جميئك �إىل املنزل»‪� ،‬أ�س ّر �إ ّ‬
‫يل‪.‬‬ ‫قلت‪« :‬جويل»‪.‬‬
‫نه�ضت جويل‪.‬‬ ‫ردت‪« :‬ماذا تحُ ب؟»‪.‬‬
‫«�أرجو املعذرة‪ ،‬ينبغي �إلقاء نظرة على الأطفال‪ ،‬اخلادمة‬ ‫«�أال تالحظني �أنني مل �أمل�س يدك �أبد�أً»‪.‬‬
‫لي�ست ب�صحة جيدة»‪.‬‬
‫« �أعتقد �أن هذا هو عني ال�صواب»‪.‬‬
‫‪64‬‬

‫* هريمان هي�سه‪ :‬كاتب �أملاين‪ ،‬كتب يف بداية حياته ال�شعر‪ ،‬ف�أ�صدر جمموعته الأوىل‬ ‫خرجت‪ ،‬و�أنا �أعرف �أنها لن تعود‪ .‬فتح الزوج الزجاجة‬
‫بعنوان‪�« :‬أغاين رومان�سية»‪ ،‬وذلك يف عام ‪ ،1898‬ثم ن�شر يف العام التايل ن�صو�ص ًا‬ ‫الثانية وهو يغمز بعينه‪.‬‬
‫نرثية حتت عنوان‪�« :‬ساعة بعد منت�صف الليل»‪.‬‬
‫«مل يكن بو�سعك قول �شيء قبل هذا»‪ ،‬خاطبته ُمتهما‪.‬‬
‫�أول �إجناز �أدبي حققه هي�سه كان مع ن�شر روايته الناقدة للتطور احل�ضاري عام‬
‫‪« 1904‬بيرت كامن ت�سد»‪ ،‬وهو ذات العام الذي تزوج فيه من امل�صورة ماريا برينو‬ ‫�ضحك فقط‪.‬‬
‫و�أجنب منها ثالثة �أوالد‪.‬‬

‫من �أهم �أعماله‪ :‬روية �سدهارتا عام ‪ ،1922‬رواية ذئب البوادي عام ‪ ،1927‬رواية‬
‫«يا �إلهي‪� ،‬إنها يف النهاية �س ّيدة طيبة‪ ،‬لن ت�ستاء من‬
‫لعبة الكرات الزجاجية عام ‪ ،1943‬وكان هي�سه اتخذ موقف ًا راف�ض ًا لنظام احلكم‬ ‫مالحظتي‪ .‬ا�شرب‪� ،‬أم �أنك ال ت�ست�سيغ النبيذ؟»‪.‬‬
‫النازي �آنذاك‪.‬‬
‫النبيذ طيب املذاق‪.‬‬
‫«�ألي�س كذلك؟ �أجل‪ ،‬قل كيف كانت العالقة �آنذاك بينك‬
‫وبني زوجتي؟ عابثة‪ ،‬ماذا؟»‪.‬‬
‫«عابثة! اعمل معروف ًا ال تتحدث حول ذلك»‪.‬‬
‫«�أكيد – بال �شك – وال �أريد �أن �أبوح بال�س ّر‪ ،‬م�ضت ع�شر‬
‫�سنوات على هذا»‪.‬‬
‫«�أرجو املعذرة‪� ،‬أف�ضل املغادرة الآن»‪.‬‬
‫«ملاذا؟»‪.‬‬
‫«�أف�ضل هذا‪ ،‬رمبا نرى بع�ضنا غد ًا �صباح ًا»‪.‬‬
‫«ها‪� ،‬إن كنت م�صر ًا على املغادرة‪ ،‬انتظر‪� ،‬س�أ�ضيء‬
‫امل�صابيح‪ .‬متى �ستح�ضر غد ًا؟»‪.‬‬
‫«ح�سن ًا‪ ،‬الحت�ساء القهوة ال�سمراء‪� .‬س�أرافقك �إىل الفندق‪.‬‬
‫كال‪� ،‬أ�ص ّر على ذلك‪ .‬ب�إمكاننا �أن نتناول هناك �شيئ ًا»‪.‬‬
‫«�أ�شكرك‪� ،‬أريد النوم‪� ،‬أ�شعر بالتعب‪ .‬ب ّلغ حتياتي �إىل‬
‫زوجتك‪� .‬إىل اللقاء»‪.‬‬
‫تخل�صتُ منه �أمام الباب وان�صرفت وحيد ًا عرب �ساحة ال�سوق‬
‫الوا�سعة وخالل ظلمة ال�شوارع الهادئة‪ .‬جتولت قلي ًال يف املدينة‬
‫ال�صغرية‪ ،‬ولو �سقطت قطعة قرميد من �سطح قدمي ل�صرعتني‪،‬‬
‫ا�سكت�ش للفنان حممد �أبو عزيز‬
‫رمبا �أكون محُ ق ًا فيما م�ضى‪� ،‬أنني جمنون‪� ،‬أنني جمنون!!‬
‫‪65‬‬

‫النهاية املر ّوعة لل�سيد جونز‬


‫ق�صة‪� :‬ستيفن ليكوك*‬

‫ترجمها عن الإجنليزية‪ :‬ح�سام ح�سني بدار‬

‫‪�« -‬إذنْ رجا ًء ال تذهب‪».‬‬ ‫بع�ض النا�س غريك وغريي بالت�أكيد – فنحن رابطو‬
‫بقي جونز فع ًال‪ ..‬و�شرب �أحد ع�شر كوب ًا من ال�شاي‪ ..‬و�أخذ‬ ‫اجل�أ�ش �إىل �أبعد احلدود‪ ,‬يجدون �صعوبة بالغة يف �أنْ يقولوا‬
‫الليل ب�إ�سدال �ستاره‪ ,‬فنه�ض ال�ضيف امل�سكني من مقعده ثانية‪,‬‬ ‫«�إىل اللقاء» عند قيامهم بزيارة �أو مت�ضية �سهرة‪ .‬فعندما‬
‫وقال با�ستحياء‪« :‬ح�سنا! الآن �أعتقد �أنني فع ًال يجب �أنْ ‪»...‬‬ ‫تقرتب اللحظة التي ي�شعر الزائر فيها �أنّ عليه املغادرة‪,‬‬
‫ينه�ض ويقول بغتة‪« :‬ح�سن ًا! �أظنّ �أنني‪ »...‬وعندها يقول له‬
‫‪�»-‬أيجب �أنْ تذهب؟» قالت ال�سيدة ب�أدب‪« .‬ظننتُ �أنك‬ ‫�أ�صحاب املكان‪�« :‬آه‪ .‬هل يتوجب عليك الذهاب الآن؟ الوقت‬
‫�ستمكث معنا للع�شاء‪».‬‬ ‫مبكر بالت�أكيد‪ ».‬ويتبع ذلك �صراع يدعو للرثاء‪.‬‬
‫«يف الواقع‪� ..‬أ�ستطيع البقاء‪ ..‬لو �أنني‪»..‬‬
‫�أ�سو�أ حالة من هذا النوع �صادفتني هي ما حدث ل�صديقي‬
‫‪�»-‬أرجوك �أنْ متكث �إذن‪� .‬أنا واثقة من �أنّ زوجي �سيكون‬ ‫امل�سكني «ملبومين�س جونز» – راعي �أبر�شية لطيف املع�شر‪ ,‬مل‬
‫م�سرور ًا‪».‬‬ ‫يتجاوز عمره الثالثة والع�شرين‪� .‬إنه بب�ساطة مل يكن قادر ًا على‬
‫«ح�سنا‪� .‬س�أمكث‪� ».‬أجاب جونز ب َوهَ ن‪ ,‬وهو يرمي بنف�سه‬ ‫الته ّرب من النا�س‪ ,‬وع ّفة ل�سانه كانت متنعه من �أنْ يكذب‪,‬‬
‫ثانية اىل مقعده ويغو�ص فيه‪ ,‬ممتلئ ًا بال�شاي‪..‬‬ ‫وورعه كان يثنيه عن �أنْ يكون فظ ًا‪ .‬وما حدث هو �أنه ذهب‬
‫لزيارة بع�ض �أ�صدقائه بعد ظهر �أول يوم من �أيام �إجازته‬
‫وبالتعا�سة‪.‬‬ ‫ال�صيفية‪� .‬أما الأ�سابيع ال�ستة التالية‪ ،‬ف�ستكون له بالكامل ولن‬
‫عاد زوج ال�سيدة اىل منزله و�أخذوا جميع ًا بتناول الع�شاء‪.‬‬ ‫يكون لديه �شيء يفعله‪ .‬تبادل �صديقي الأحاديث لفرتة من‬
‫و�أثناء ذلك كان جونز يخطط ملغادرة البيت يف الثامنة‬ ‫الزمن‪ ,‬واحت�سى كوبني من ال�شاي‪ ,‬ثم ا�ستجمع �شجاعته وقال‬
‫والن�صف‪ .‬وت�ساءل جميع �أفراد العائلة يف داخلهم فيما �إنْ كان‬ ‫فج�أة‪« :‬ح�سنا! �أعتقد �أنني‪»...‬‬
‫ال�سيد جونز غبي ًا ونكد ًا �أم غبي ًا فقط‪.‬‬ ‫لكن �سيدة البيت قالت‪�« :‬آه‪ ,‬ال! �أال ت�ستطيع يا �سيد جونز‬
‫‪1‬‬ ‫�أن تطيل بقاءك قلي ًال؟»‬
‫بعد الع�شاء قررت ال�سيدة �أنْ تُخرج ال�سيد جونز من خجله‪,‬‬ ‫كان جونز دائم ًا �صادق ًا‪ ,‬مما دفعه �أنْ يقول‪« :‬نعم‪..‬‬
‫فو�ضعت �أمامه مئات من �صور العائلة «الرتاثية»‪ ..‬واحدة‬ ‫بالطبع‪� ..‬أ�ستطيع البقاء‪».‬‬

‫مرتجم �أردين‪.‬‬
‫‪66‬‬

‫ال�شاب البائ�س عينيه على و�سعهما با�ستغراب للحظات‪ ,‬ثم‬ ‫لعم �صاحب البيت وزوجته‪ ..‬وثانية لأخ �صاحبة البيت وابنه‬
‫قام و�ش ّد على يد حم ّدثه ودفع له �أجرة �شهر مق ّدم ًا‪ ,‬ودخل يف‬ ‫ال�صغري‪ ..‬وثالثة مثرية لالهتمام ل�صديق عم الزوج بلبا�سه‬
‫نوبة بكاء حا ّدة وهو ي�شهق كالطفل‪.‬‬ ‫الع�سكري‪ ..‬و �أخرى فظيعة ج ّد ًا للزوج وقد بدا فيها كال�شيطان‬
‫يف حفلة تنكرية‪ .‬يف الثامنة والن�صف كان جونز قد انتهى من‬
‫يف الأيام التي تلت ذلك اعرتت جونز ك�آبة �شديدة‪ ,‬و�أ�صبح‬
‫فح�ص احدى و�سبعني �صورة‪ ,‬وبقي �أمامه ت�سع و�ستون �أخرى مل‬
‫متقلب املزاج ومنغلق ًا على نف�سه‪ .‬ونظر ًا لأنه كان يعي�ش يف‬
‫ي�شاهدها بعد‪.‬‬
‫غرفة اال�ستقبال كان يفتقر �إىل الهواء املتج ّدد و ممار�سة‬
‫التمارين البدنية‪ ,‬مما كان له �أ�سو�أ الأثر على �صحته‪ .‬و�أم�ضى‬ ‫بتو�سل‪.‬‬
‫‪« -‬يجب �أنْ �أودعكم الآن‪ ».‬قال جونز ّ‬
‫جونز وقته يف �شرب ال�شاي والنظر �إىل ال�صور‪ .‬وكان يق�ضي‬
‫‪�»-‬أ�ستغادرنا الآن؟! �إنها الثامنة والن�صف فقط‪ .‬هل لديك‬
‫�ساعات طويلة وهو يح ّدق يف �صورة �صديق عم �صاحب البيت‬
‫�شيء تو ّد عمله؟»‬
‫يوجه �شتائم مريرة‬‫بلبا�سه الع�سكري‪ ,‬ويتحدث �إليها‪ ..‬و�أحيان ًا ّ‬
‫�إليها‪ .‬كان من الوا�ضح �أنّ قواه العقلية �آخذة بالرت ّدي‪.‬‬ ‫‪« -‬ال �شيء‪ ».‬اعرتف الزائر‪ ,‬ومتتم بكلمات حول �إجازته‬
‫التي �ستمتد ل�ستة �أ�سابيع‪ ..‬ثم �ضحك بتعا�سة‪.‬‬
‫�أخري ًا‪ ..‬جاء اليوم الذي انهار فيه ال�سيد جونز متام ًا‪,‬‬
‫فحملوه اىل ال ّدور العلوي وهو يف حالة هذيان ناجم عن احلمى‪.‬‬ ‫عندها فقط ات�ضح �أنّ الطفل الأثري لدى العائلة قد اخفى‬
‫وا�شت ّد مر�ضه‪ ,‬ومل يعد قادر ًا على متييز الوجوه‪ ..‬حتى و�إن كان‬ ‫قبعة ال�سيد جونز‪ ,‬مما جعل زوج ال�سيدة ي�ص ّر على بقائه‪ ,‬ودعاه‬
‫الوجه ل�صديق عم الزوج بلبا�سه الع�سكري‪ .‬وبني فينة و�أخرى‬ ‫وجتاذب �أطراف احلديث معه‪� .‬إحتفظ الزوج‬ ‫ُ‬ ‫اىل �شرب الغليون‬
‫فزع ًا‪ ,‬وي�صرخ‪�« :‬أعتقد �أنني‪ »...‬ثم‬ ‫كان ينه�ض من فرا�شه ِ‬ ‫ً‬
‫بالغليون لنف�سه وترك جلونز‪ ,‬الذي ما زال قابعا يف مكانه‪ ,‬مهمة‬
‫يرمتي ثانية على و�سادته وهو يطلق �ضحكة خميفة‪ ..‬مع كلمات‬ ‫الكالم‪ .‬ويف كل حلظة كان جونز يحاول جاهد ًا انْ يحزم �أمره‬
‫كهذه‪« :‬كوب ًا �آخر من ال�شاي‪ ..‬ومزيد ًا مزيد ًا من ال�صور‪.»..‬‬ ‫كان يعجز عن ذلك‪ .‬بعد ذلك بد�أ �صاحب البيت ي�ضيق ذرع ًا‬
‫بال�سيد جونز‪ ,‬و�أخذ يتململ‪ ,‬و�أخري ًا قال بنربة هازئة‪�« :‬ألي�س من‬
‫بعد �شهر من املعاناة والأمل‪ ,‬ويف اليوم الأخري من �أيام‬
‫الأف�ضل لك �أنْ تبيت معنا الليلة؟! �إننا �سنع ّد لك فرا�شا للنوم‪».‬‬
‫�إجازته‪ ,‬رحل ال�سيد جونز عن هذا العامل‪ .‬ويقولون �أنه عندما‬
‫وجه – والدموع ترتقرق يف‬ ‫مل يدرك جونز ُك ْنه هذا الكالم‪ ,‬و ّ‬
‫حانت حلظته الأخرية‪ ,‬جل�س على �سريره وقد ارت�سمت على‬
‫عينيه – ال�شكر �إىل الرجل الذي �أر�شده �إىل فرا�شه يف الغرفة‬
‫حمياه ابت�سامة جميلة متل�ؤها الثقة‪ ,‬وقال‪« :‬املالئكة تناديني!‬
‫االحتياطية وهو يلعنه �س ّر ًا من كل قلبه‪.‬‬
‫�أخ�شى �أنه يجب علي حق ًا �أنْ �أذهب الآنْ ‪ ..‬طاب م�سا�ؤكم‪.‬‬
‫بعد تناول الفطور يف اليوم التايل ذهب �سيد البيت �إىل عمله‬
‫وكان اندفاع روحه من �سجنها كاندفاع قطة ُمطا َردَة قفزت‬
‫يف املدينة‪ ,‬تارك ًا جونز يلعب مع الطفل وهو م�سحوق الف�ؤاد‪.‬‬
‫فوق �سور حديقة‪.‬‬
‫فقد ال�ضيف التّع�س �أع�صابه بالكامل‪ ,‬وعزم على املغادرة طوال‬
‫اليوم‪ ,‬ولكنه مل ي�ستطع التلفظ بكلمات الوداع‪ .‬يف امل�ساء عاد زوج‬
‫ح�س‬
‫* �ستيفن ليكوك‪ :‬كاتب كندي متعدد املواهب‪ .‬تويف عام ‪ ,1944‬وكان ذا ٍ ّ‬ ‫ال�سيدة من عمله‪ ,‬و�أ�صابه الذهول والغ�ضب الكت�شاف �أنّ جونز‬
‫فكاهي وا�ضح يف كثريمن ق�ص�صه العديدة‪ .‬عنوان هذه الق�صة باللغة الإجنليزية‬ ‫ما زال يف منزله‪ .‬وف ّكر بالتخل�ص منه بنكتة‪ ,‬فقال‪�« :‬أعتقد ب�أنه‬
‫‪ ,The Awful Fate of Melpomenus Jones‬وقد �أخذت من‬
‫موقع ‪.www.online-literature.com‬‬
‫علي �أن �أطالبك ب�أجرة مقابل مكوثك يف بيتنا‪ ».‬فتح‬ ‫يتوجب ّ‬‫ّ‬
‫‪‬‬
‫‪67‬‬

‫حوار مع الروائية املغربية الزهرة رميج‬


‫«الب�ساطة يف الرواية هي ال�صعب»‬

‫حاورها‪� :‬سليم النجار‬

‫ثمة نفر قليل من املبدعني ي�ش ّذ عن هذه القاعدة‪ ،‬ومن بني‬


‫ه�ؤالء‪ ،‬الروائية املغربية الزهرة رميج‪ ،‬التي �أ�صدرت روايتني‪،‬‬
‫الأوىل «عزوزة»‪ ،‬التي �صدرت عن الدار البي�ضاء‪ ،‬ورويتها‬
‫الثانية التي �صدرت هنا يف عمان عن دار ف�ضاءات للن�شر‬
‫والتوزيع‪ ،‬وحملت عنوان ًا «الناجون»‪.‬‬
‫الزهرة رميج يف جتربتها الروائية ا�شتغلت على لغة روائية‬
‫ب�سيطة‪ ،‬وهي الأ�صعب‪ ،‬لأنها كاحلقيقة قوية وب�سيطة يف نف�س‬
‫الوقت‪ ،‬والبون �شا�سع بني الب�ساطة وال�سذاجة‪� ،‬إنها االقرتاب‬
‫احلذر من لب الرواية �أو من جوهرها‪ ،‬فتجربة رميج الروائية‬
‫ال ت�سعى للغة متكلفة �أو �شاخمة الأنوف‪� ،‬أو ذات الربوج امل�شيدة‬
‫من جمل حديدية والتواءات متعمدة‪ ،‬بغمو�ض مفتعل ال ي�ستهدف‬
‫�سوى ادها�ش الق ّراء و�إبهارهم‪ ،‬فهي تبدع لغة روائية تتجلى‬
‫�صورها االجتماعية كالنهر �أو الينبوع �أو ال�شجرة‪ ،‬يف ب�ساطتها‬
‫تكمن عظمتها وقوتها وحياتها‪ ،‬فهي تنظر �إىل الأ�شياء كعا�شقة‬
‫تريد املزيد من احلب واملعرفة �أبد ًا‪ ،‬و�أن تقول بب�ساطة �شيئ ًا‬
‫خمتلف ًا من نف�س الكلمات التي يتداولها النا�س فيما بينهم‪.‬‬
‫وعلى هام�ش هذا القول �أجرينا مع الزهرة رميج هذا‬
‫اللقاء‪.‬‬
‫يقول نيت�شه‪« :‬نحن نبدع الفن‪ ،‬كي ال منوت ب�سبب الواقع»‪،‬‬
‫‪ -‬كثري ًا ما تتحدث الروائية الزهرة رميج عن �أمل الكتابة‪،‬‬ ‫هذا ينطبق على واقعنا العربي املرير‪ ،‬لكن هناك وجه ًا �آخر‬
‫فهل �إىل هذا احلدّ تعد حماولة الكتابة م�ؤملة؟‬ ‫للق�ضية على ما يبدو‪ ،‬فج ّل النتاجات الأدبية والفنية العربية‬
‫* مل تكن الكتابة يوم ًا ترف ًا بالن�سبة يل‪ .‬كانت دائم ًا‬ ‫«اجلادة طبع ًا» تنحو نحو البكائية والإغراق يف الأحزان يف‬
‫حاجة �ضرورية‪ .‬فمنذ انك�سار حلم الي�سار بالتغيري اجلذري‪،‬‬ ‫حماولة لتج�سيد هول املحنة التي ي�صنعها العرب‪ ،‬وفنطازيا‬
‫وبناء جمتمع دميقراطي حقيقي قائم على امل�ساواة والعدالة‬ ‫حياتهم‪.‬‬

‫كاتب �أردين‪.‬‬
‫‪‬‬
‫‪68‬‬

‫االجتماعية‪� ،‬أ�صبح االنتماء للكتابة بدي ًال لأي انتماء �سيا�سي‪.‬‬


‫و�أ�صبحت الكتابة ال�صوت الوحيد الذي يعرب عن مواقفي مما‬
‫يجري حويل‪ ،‬وعن �آالمي وانك�ساراتي‪ ،‬وعن رف�ضي ملظاهر‬
‫القبح والف�ساد‪ ،‬وو�سيلتي للر ّد على �أ�ساليب القهر والطغيان يف‬
‫كل املجاالت �سواء منها ال�سيا�سية �أو االجتماعية �أو االقت�صادية‪.‬‬
‫ولذلك‪ ،‬غالب ًا ما ترتبط الكتابة عندي بالأمل‪ .‬فهي متتح من‬
‫الذاكرة الزاخرة بامل�شاهد امل�ؤملة �سواء على امل�ستوى اخلا�ص �أو‬
‫امل�ستوى العام‪ ،‬كما من املعي�ش اليومي الذي ي�ستفزين با�ستمرار‪،‬‬
‫ملا يتّ�سم به من تردي وتقهقر غريب‪ .‬فا�ستح�ضار امل�شاهد‬
‫والأحداث امل�ؤملة‪ ،‬واملظاهر امل�ستفزة للم�شاعر‪ ،‬وحتويلها �إىل‬
‫مادة تخييلية‪ ،‬يثري الأع�صاب‪ ،‬ويفتح اجلراح الثاوية يف الأعماق‪،‬‬
‫ويجعلها تعاود نزيفها‪ ،‬وهذا ما عانيته يف كتابة روايتي «�أخاديد‬
‫الأ�سوار» التي كتبتها و�أنا يف حالة حداد بعد وفاة زوجي الذي كان‬
‫معتق ًال �سيا�سي ًا �سابق ًا‪ ،‬والتي ّ‬
‫توخيت منها ر ّد االعتبار له ولأمثاله‬
‫من املنا�ضلني الي�ساريني الذين مور�ست عليهم �أ�ساليب القمع‬
‫والقهر خالل مرحلة ال�سبعينيات‪ ،‬التي ا�صطلح على ت�سميتها‬
‫بـ»�سنوات اجلمر والر�صا�ص»‪ ،‬والذين �ضحوا ب�أحالمهم اخلا�صة‬
‫يف �سبيل حتقيق احللم اجلماعي‪ ،‬ومل ي�سعوا قط‪� ،‬إىل ا�ستثمار‬
‫القهر والعنف الذكوري على بنت جن�سها‪ .‬فالكتابة عن الأمل‬ ‫ن�ضالهم‪ ،‬واملتاجرة به للح�صول على امتيازات معينة‪ ،‬وال حتى‬
‫ت�سبب �أمل ًا �أكرب‪ .‬وكثريا ما تنتقل عدوى م�أ�ساة �شخ�صياتي �إيل‪،‬‬ ‫للح�صول على التعوي�ض املادي الذي اقرتحته هيئة الإن�صاف‬
‫ف�أجدين �أت�أمل لأملها و�أبكي لبكائها‪ .‬وقد كان �أكرثها ت�أثري ًا ّيف‪،‬‬ ‫وامل�صاحلة‪� ،‬إميان ًا منهم ب�أن حب الوطن واجب مقد�س ي�سمو‬
‫�شخ�صية عزوزة �أدخلني تخيلي مل�شاهد العنف الذي كان‬ ‫عن كل م�صلحة �شخ�صية‪ .‬وقد ك�شفت هذه الهيئة عن منا�ضلني‬
‫زوجها وحماتها ميار�سانه عليها يف حالة من احلزن ال�شديد‪،‬‬ ‫خرجوا من ال�سجن‪ ،‬لكنهم ظلوا يعي�شون �سنني طويلة �أو�ضاع ًا‬
‫�إذ مل �أ�ستطع حتمل تلك الدرجة من العنف والق�سوة رغم كونها‬ ‫�صحية ونف�سية واجتماعية مزرية‪ ،‬دون �أن يهتم بهم �أحد‪ .‬ي�ؤملني‬
‫ال ترقى مل�ستوى ما ميار�س يف الواقع على الكثري من الن�ساء‪.‬‬ ‫غاية الأمل مثل ه�ؤالء الذين �آمنوا بالقيم الإن�سانية العادلة‪،‬‬
‫وقد كان عدم حتملي مل�شاهد العنف من بني الأ�سباب التي‬ ‫ونا�ضلوا من �أجلها‪ ،‬وظلوا يعانون يف �صمت �إىل �أن ماتوا �أمل ًا‬
‫جعلتني �أتوقف عن كتابة الرواية‪ ،‬بل والتفكري يف �إلغاء م�شروع‬ ‫وح�سرة‪.‬‬
‫كتابتها‪ .‬لكني �س�أجد نف�سي �أعود �إليها بعد عدة �سنوات‪ ،‬ورمبا‬ ‫ويف رواية «عزوزة» ا�ستح�ضرت معاناة املر�أة املغربية‪ ،‬وخا�صة‬
‫بعدما «ا�شتد عودي» بكتابة رواية «�أخاديد الأ�سوار» التي �أبانت‬ ‫منها املر�أة البدوية التي كانت تعاين من العنف لي�س فقط‪ ،‬على‬
‫عن جناعة معاجلة الأمل بالأمل‪.‬‬ ‫يد الرجل الذي كان ي�ستبيح كرامتها‪ ،‬ويعاملها باعتبارها ُملك ًا‬
‫لكن �أمل الكتابة ال يحول دون متعة الكتابة‪ .‬فالكتابة والدة‬ ‫خا�ص ًا يفعل به ما ي�شاء‪ ،‬و�إمنا �أي�ض ًا‪ ،‬على يد املر�أة نف�سها التي‬
‫متجددة‪ .‬والوالدة دائم ًا‪ ،‬ميتزج فيها الأمل باللذة‪ ،‬وت�ؤدي يف‬ ‫ما �إن ت�صبح حماة حتى تتحول �إىل طاغية متار�س كل �أ�ساليب‬
‫‪‬‬
‫‪69‬‬

‫ال�صراع بني اال�شرتاكية والر�أ�سمالية ل�صالح هذه الأخرية التي‬ ‫النهاية �إىل الفرح‪ ،‬خا�صة عندما يخرج املولود يف ال�صورة‬
‫�أ�صبحت النظام االقت�صادي الأوحد الذي يفر�ض نف�سه كنموذج‬ ‫املنتظرة‪ .‬لذلك‪ ،‬ف�إن �أمل الكتابة على عك�س الأمل النف�سي‪ ،‬لي�س‬
‫للتقدم والرقي والرفاه االجتماعي‪.‬‬ ‫�أمل ًا مدمر ًا‪ ،‬و�إمنا �أمل ًا حمرر ًا‪� ،‬إذ ي�شفي اجلراح‪ ،‬ويطهر دواخل‬
‫النف�س من �أدرانها‪ ،‬ومينحها جرعة جديدة من الأوك�سجني‪،‬‬
‫هذا الواقع الدوين يفر�ض على املثقف العربي‪� ،‬أن يت�سلح‬
‫ملوا�صلة الطريق‪.‬‬
‫بالوعي‪ ،‬و�أن يتعامل بعقالنية مع احل�ضارة الغربية بحيث ينتقي‬
‫منها ما يفيد جمتمعه ويدفع به للخروج من واقع التخلف‪ .‬و�أن‬ ‫ومن هنا‪ ،‬ميكن القول ب�أن الأمل له �آثار �إيجابية على‬
‫يتعامل مع الأفكار والنظريات الغربية تعام ًال نقدي ًَا‪ ،‬يحول دون‬ ‫الكتابة كما على الكاتب‪ .‬فهو من جهة‪ ،‬مييز العمل الإبداعي‬
‫�سقوطه يف اتخاذ مواقف متطرفة من الغرب‪ ،‬بحيث ينظر‬ ‫بال�صدق الفني الذي مينحه العمق‪ ،‬ويجعله ي�صل ب�سهولة‪� ،‬إىل‬
‫�إليه �إما على �أنه ال�شيطان الذي يتوجب حماربته ورف�ض كل‬ ‫وجدان املتلقي‪ ،‬لأن الأمل هو املادة احلقيقية التي �صنع منها‬
‫�أفكاره وقيمه‪� ،‬أو �أنه النموذج الأمثل الذي يجب تبني كل �أفكاره‬ ‫الإن�سان الذي «يولد‪ ،‬فيتعذب‪ ،‬فيموت» ح�سب احلكيم ال�صيني‬
‫ونظرياته دون غربلتها و�إخ�ضاعها ملحك الواقع وخ�صو�صياته‪.‬‬ ‫القدمي‪ .‬ولذلك‪ ،‬ميتلك قوة الت�أثري يف النفو�س‪ ،‬والقدرة على‬
‫توحيدها �أكرث من الفرح‪ .‬ومن جهة �أخرى‪ ،‬ي�ؤدي �إىل تطهري‬
‫وللخروج من هذا الواقع‪ ،‬ينبغي على املثقف يف اعتقادي‪� ،‬أن‬
‫نف�س الكاتب‪ ،‬وبالتايل �إىل والدته من جديد‪ ،‬و�إىل جتدد �أفكاره‬
‫يكون طالئعي ًا‪ ،‬و�أن يعود لالنخراط يف ق�ضايا وطنه وجمتمعه‪،‬‬
‫ور�ؤاه‪ .‬هذا ما ا�ستخل�صته من جتربتي‪ ،‬ووجدته يتوافق مع‬
‫و�أن ي�سعى لفهم واقعه اجلديد‪ ،‬وال�شروط التي حتكمه‪ .‬ففهم‬
‫ر�ؤية نيت�شه للإبداع عندما قال على ل�سان زراد�شت‪« :‬الإبداع‬
‫الذات هو الكفيل بطرح الأ�سئلة احلقيقية التي تهم املجتمع‪،‬‬
‫هو اخلال�ص الأكرب من الأمل‪ ،‬وهو ما يجعل احلياة خفيفة»‪.‬‬
‫وبالتايل بلورة ر�ؤية م�ستقبلية قادرة على �إيجاد احللول‬
‫ال�صحيحة للم�شاكل التي تعوق تطورها‪ .‬وعلى املبدع العربي‬ ‫‪ -‬من منظور �إدوارد �سعيد لال�ست�شراق باملعنى الثقايف‬
‫بوجه خا�ص‪� ،‬أن يكون ابن واقعه ال ابن واقع غريه‪� .‬أن ال يبحث‬ ‫واالجتماعي جندنا يف حالة من التعاطي مع واقعنا الثقايف‬
‫عن العاملية مبغازلة الغرب‪ ،‬واعتناق الق�ضايا التي �أفرزها واقعه‬ ‫املحكوم عليه �سلف ًا بالفوقية من قبل الغرب‪ ،‬فما هو دور‬
‫الذي حتققت فيه �شروط احلياة الكرمية للمواطن عن طريق‬ ‫املثقف العربي يف هذا‪ ،‬وكيف لنا اخلروج من هذا احل�صر؟‬
‫�سيادة الدميقراطية وحقوق الإن�سان‪ ،‬بينما ال تزال جمتمعاتنا‬
‫* �إن الغرب الذي ينظر �إىل باقي ال�شعوب نظرة دونية‪،‬‬
‫تعاين من الأنظمة ديكتاتورية‪ ،‬ومن هذا الغرب نف�سه الذي ما �إن‬
‫ويتخذ من بلدان العامل الثالث �أ�سواق ًا لرتويج منتوجاته‪،‬‬
‫يتجاوز حدوده اجلغرافية حتى ي�ضرب بقيم الدميقراطية عر�ض‬
‫مل يعد ي�ستعمل القوة الع�سكرية‪ ،‬و�إمنا القوة االقت�صادية‬
‫احلائط‪ ،‬لأن ال�شعوب التي ال تفهم نف�سها‪ ،‬وال تعرف ما�ضيها‬
‫والثقافية الناعمة ليجعل من هذه املجتمعات طاقات‬
‫وحا�ضرها‪ ،‬وال ت�ستثمر قدراتها وطاقاتها الفكرية والب�شرية‪،‬‬
‫ا�ستهالكية اقت�صادي ًا وثقافي ًا‪ .‬وهذا يتجلى بو�ضوح‪ ،‬يف انت�شار‬
‫وت�سلم زمام مقاليدها للآخر‪ ،‬هي �شعوب ال ت�ستحق االحرتام‬
‫النمط الغربي للعي�ش‪ .‬فقد �أ�صبحت ال�شعوب العربية‪ ،‬ت�ستهلك‬
‫واملعاملة باملثل‪.‬‬
‫كل ما ينتجه الغرب مبا يف ذلك املنتوجات التي ال تتالءم مع‬
‫�إن جتاوز نظرة الغرب الدونية ال يكون �إال بالت�سلح بالوعي‬ ‫احتياجاتها‪ ،‬والأفكار والنظريات التي ال تتالءم مع واقعها‪،‬‬
‫امل�ضاد لثقافة الهيمنة الذي ميكن من مقاومة اال�ستالب والتبعية‬ ‫وتتبنى ق�ضايا �أفرزها الواقع الغربي ال الواقع العربي‪ .‬هذه‬
‫والعدمية‪ ،‬وكل �أ�شكال الظلم والقهر وامليز العن�صري �سواء �أكان‬ ‫التبعية االقت�صادية والثقافية للغرب‪ ،‬جعلت العامل العربي‬
‫م�صدرها خارجي ًا‪� ،‬أم داخلي ًا‪.‬‬ ‫يعي�ش ا�ستالب ًا ا�ستعماري ًا من نوع جديد‪ ،‬خا�صة بعدما ح�سم‬
‫‪‬‬
‫‪70‬‬

‫عالقته باملكان‪ ،‬وبالطبيعة واحليوان‪� .‬إن االحتفاء بالتفا�صيل‬ ‫ويف زمن الثورات العربية‪ ،‬على املثقف �أن ينخرط �أكرث‪،‬‬
‫ال�صغرية يف الرواية العربية �أمر مهم لكون هذه التفا�صيل تلعب‬ ‫و�أن ي�ستفيد من الواقع اجلديد لطرح الأ�سئلة اجلوهرية‪ ،‬و�أن‬
‫دور ًا مزدوج ًا‪ .‬من جهة‪ ،‬جتعلنا ك�شعوب عربية نتعرف على‬ ‫يجعل معركته الأ�سا�سية هي ن�شر الوعي بني اجلماهري‪ ،‬وحماربة‬
‫ذواتنا ونقف على مواطن اختالفنا والتقائنا‪ ،‬ومتكننا من فهم‬ ‫انت�شار الفهم ال�سطحي للدين الذي يجعل الدميقراطية حتيد عن‬
‫خ�صو�صيات كل منطقة من عاملنا العربي من �أجل توا�صل �أكرث‬ ‫هدفها‪ ،‬لت�صبح �أداة لتكري�س التخلف‪ ،‬ومن ثم �أداة ال�ستمرار‬
‫فعالية و�إيجابية؛ �إذ �أننا ك�شعوب عربية ال زلنا حلد الآن‪ ،‬نحمل‬ ‫الهيمنة الغربية‪.‬‬
‫�أفكار ًا خاطئة عن بع�ضنا بع�ضا‪ .‬ومن جهة �أخرى‪ ،‬تنقل �صورة‬ ‫واملثقف املبدع مطالب �أكرث من غريه‪ ،‬بالت�سلح بالوعي امل�ضاد‬
‫�صادقة عن الواقع العربي ككل‪ ،‬وعن ح�ضارته املختلفة عن‬ ‫لثقافة الهيمنة‪ ،‬لأن الإبداع يف جوهره مقاومة للقبح‪ ،‬والرداءة‪،‬‬
‫ح�ضارات باقي ال�شعوب‪ ،‬وبالتايل ت�ساهم يف حوار احل�ضارات‪،‬‬ ‫والن�سيان‪ .‬وقد كان ادوارد �سعيد حمق ًا عندما و�صفه بكونه �أ�ش ّد‬
‫وتفاهم ال�شعوب واحلد من مظاهر امليز العن�صري والتطرف‬ ‫الأ�شكال الثقافية مقاومة وممانعة‪.‬‬
‫بكل �أ�شكاله‪� ،‬أي �أنها ت�ؤدي �إىل الت�سامح‪ ،‬وقبول الآخر املختلف‪،‬‬
‫والتعاي�ش معه‪ .‬ذلك �أين �أومن �أن فن الرواية يعرب عن حقيقة‬ ‫‪ -‬ال�سرد لديكم به �سمات خا�صة تتمثل يف تداعي التفا�صيل‬
‫املجتمعات‪� ،‬أكرث من علم االجتماع والتاريخ وال�سيا�سة‪ ،‬لكونه‬ ‫ب�شكل كبري‪ ،‬وجتلى ذلك يف روايتك الثانية «عزوزة» فما هي‬
‫حتديد ًا‪ ،‬يتغذى على تفا�صيلها الدقيقة ومعطياتها اخلفية‬ ‫ر�ؤية الزهرة رميج لل�سرد عامة يف الرواية العربية؟‬
‫* �إن توظيف التفا�صيل بكرثة يف هذه الرواية‪ ،‬يرتبط بر�ؤيتي‬
‫ال�سردية‪ .‬ففي زمن هيمنة ثقافة العوملة التي تقوم على حمو‬
‫خ�صو�صية املجتمعات‪ ،‬وبناء عامل ك ّلي بال جزئيات وال تفا�صيل‬
‫يتم فيه �إلغاء الفوارق بني املكونات الب�شرية‪ ،‬وطم�س هويات‬
‫ال�شعوب من �أجل تعميم النموذج احل�ضاري للأقوى اقت�صادي ًا‪،‬‬
‫ي�صبح االحتفاء بالتفا�صيل ال�صغرية التي متيز املجتمعات‬
‫عن بع�ضها‪ ،‬وتنقل ال�صورة احلقيقية لواقعها‪� ،‬أمر �ضروري‬
‫للحفاظ على الهوية‪ ،‬وعلى االختالف الذي تتميز به الإن�سانية‬
‫حتى ال ن�سقط يف اال�ستن�ساخ احل�ضاري‪ .‬يف رواية «عزوزة»‬
‫حاولت نقل �صورة املجتمع املغربي الأ�صيل‪ ،‬مبا فيه من �سلبيات‬
‫و�إيجابيات‪ ،‬و�إبراز الكثري من القيم التي بد�أت تنقر�ض و�أهمها‬
‫قيم املقاومة واحلب واجلمال‪ .‬كما �أين �سعيت �إىل ر ّد االعتبار‬
‫للبادية‪ .‬ذلك �أنها يف الأعمال الإبداعية املغربية مل حت�ض يف‬
‫اعتقادي‪ ،‬باالهتمام الالئق بها‪� ،‬إذ يقت�صر ت�صويرها يف الغالب‬
‫ت�صوير ًا �سطحي ًا يتعامل معها على �أنها جمرد ف�ضاء للعنف‬
‫والب�ؤ�س والقبح‪ .‬لذلك عملت يف رواية «عزوزة» على �إبراز جانبها‬
‫اجلمايل املغيب‪ ،‬وذلك من خالل االحتفاء بالتفا�صيل ال�صغرية‬
‫املرتبطة بكل مكوناتها‪ ،‬وبعالقة الإن�سان ب�أخيه الإن�سان‪ ،‬وكذلك‬
‫‪‬‬
‫‪71‬‬

‫التي ي�ستمدها الروائي من جتاربه الإن�سانية‪ ،‬وغو�صه يف �أعماق‬


‫املناطق املعتمة من الذات ومن املجتمع‪.‬‬
‫‪ -‬قيل �إننا يف زمن الرواية‪ ،‬فهل الرواية العربية ب�شكل عام‬
‫ا�ستحقت تلك املقولة؟‬
‫* بالنظر �إىل �إقبال دور الن�شر على الرواية �أكرث من �أي جن�س‬
‫�أدبي �آخر‪ ،‬و�إىل التزايد الكبري واملطرد يف عدد كتاب الرواية‪،‬‬
‫وعدد الوافدين عليها من �أجنا�س �أخرى كالق�صة وال�شعر والنقد‪،‬‬
‫بل ومن جماالت معرفية �أخرى‪ ،‬وبالنظر �أي�ض ًا �إىل �أهمية اجلوائز‬
‫التي �أ�صبحت تخ�ص�ص للرواية العربية‪ ،‬والتي �شجعت كتّاب‬
‫الرواية القدماء منهم واملحدثني على املزيد من احلفر الروائي‬
‫بالبحث عن املوا�ضيع والأ�شكال اجلديدة‪ ،‬لدخول عامل املناف�سة‬
‫وحتقيق ال�شهرة لي�س فقط داخل الوطن العربي‪ ،‬و�إمنا �أي�ض ًا على‬
‫ال�صعيد العاملي عن طريق الرتجمة �إىل اللغات الأجنبية‪ ،‬بالنظر‬
‫�إىل كل ذلك‪ ،‬ميكن القول �إننا نعي�ش زمن الرواية‪ .‬لكن الأمر‬
‫يختلف �إذا ما �أخذنا بعني االعتبار عدة معطيات منها الأمية‬
‫امل�ست�شرية يف العامل العربي‪ ،‬والإقبال ال�ضعيف على القراءة حتى‬
‫من طرف املتعلمني‪� ،‬إذ ي�صل معدل القراءة �إىل دقيقتني للفرد يف‬
‫كم‬
‫يطرح م�شكل املقيا�س الذي يقا�س به زمن الرواية‪ .‬هل هو ّ‬ ‫ال�سنة (!)وقلة عدد الكتب التي تطبعها دور الن�شر والتي ال تتجاوز‬
‫�إ�صداراتها؟ �أم ن�سبة مقروئيتها؟ �أم االهتمام النقدي بها؟‬ ‫ثالثني كتاب ًا لكل مليون عربي يف الوقت الذي ت�صل فيها ن�سبة‬
‫الن�شر يف �أمريكا باعتبارها مقيا�س التقدم‪� ،‬أكرث من مائتي �ألف‬
‫‪ -‬هل الرواية العربية تعاين من حركة نقدية موازية‬
‫لك ّل مليون‪ ،‬وعدد الن�سخ التي تطبع من هذه الكتب‪ ،‬والذي نادر ًا‬
‫الغث من ال�سمني‪ ،‬و�أي�ض ًا تخرجنا من الت�صنيف‬
‫ت�ستطيع متييز ّ‬
‫ما يتجاوز الألف ن�سخة‪ ،‬والتوزيع ال�ضعيف للكتاب الذي يتمحور‬
‫احلاد؟‬
‫غالب ًا يف املدن الرئي�سية‪ .‬كل ذلك يجعلنا نقول ب�أن الزمن لي�س‬
‫* بالقيا�س �إىل الرتاكم الذي عرفته الرواية العربية‬ ‫زمن الرواية وال حتى زمن الإبداع الأدبي الذي يحتل بكل �أنواعه‪،‬‬
‫وخا�صة يف الألفية الثالثة‪ ،‬ف�إن احلركة النقدية تبدو متخلفة‬ ‫املرتبة الدنيا مقارنة بباقي التخ�ص�صات‪ .‬يف اعتقادي‪ ،‬ال ميكن‬
‫عن ركبها‪ .‬فالنقد ب�شكل عام مل يعد يقوم بوظيفته يف غربلة‬ ‫احلديث عن زمن جن�س ما �إال �إذا �أ�صبح هذا اجلن�س فار�ض ًا‬
‫الغثّ من ال�سمني‪ ،‬كما �أن كبار النقاد يف العامل العربي ما‬ ‫نف�سه على املجتمع‪ .‬يف زمن ال�شعر‪ ،‬كان الآالف من ال�شعراء‬
‫عادوا يهتمون بالبحث عن الن�صو�ص اجليدة‪ ،‬واكت�شاف‬ ‫يكتبون ال�شعر‪ ،‬وكان عامة النا�س يحفظونه‪ ،‬بل وينظمونه �أي�ض ًا‪.‬‬
‫املواهب احلقيقية‪ ،‬والتعريف بها لدى القارئ‪ ،‬مثلما كان‬ ‫كما كانت نظرة املجتمع �إىل ال�شاعر نظرة احرتام وتقدير ي�صل‬
‫�أ�سالفهم يفعلون‪ ،‬و�إمنا يختارون الطريق ال�سهل بااللتفاف‬ ‫�أحيان ًا‪ ،‬حد التقدي�س‪ .‬والرواية العربية رغم حظوتها‪ ،‬ال تزال‬
‫حول الأ�سماء املعروفة املكر�سة �سلف ًا يف عامل الرواية‪ .‬ويتجلى‬ ‫تتعاي�ش مع باقي الأجنا�س‪ ،‬وخا�صة منها ال�شعر الذي ال يزال من‬
‫هذا �أكرث‪ ،‬عندنا يف املغرب حيث �أ�صبحت عيون النقد تتجه‬ ‫حيث كم الإ�صدارات وعدد ال�شعراء يحتل املرتبة الأوىل‪ .‬وهذا ما‬
‫‪‬‬
‫‪72‬‬

‫املتطلعة �إىل العدالة االجتماعية والكرامة الإن�سانية‪ ،‬عن طريق‬ ‫�إىل اخلارج �أكرث من الداخل‪ ،‬وحيث حتظى الروايات امل�شرقية‬
‫التنظيم املحكم‪ ،‬والعمل املتوا�صل‪ ،‬واالحتكاك باجلماهري‬ ‫باالهتمام �أكرث من الروايات املغربية‪ ،‬وذلك خالف ًا ملا كان عليه‬
‫ال�شعبية‪ ،‬وخدمتها بكل الو�سائل‪ ،‬ومتكنت بذلك‪ ،‬من ك�سب‬ ‫النقد املغربي يف القرن املا�ضي‪.‬‬
‫ثقتها‪ ،‬وهو ما عجز الي�سار عن حتقيقه‪ .‬وهذا ما جعلها تقطف‬
‫لكن وحل�سن احلظ‪ ،‬هناك فئة من النقاد املغاربة والعرب‬
‫ثمار الثورات العربية‪ ،‬رغم كونها مل تكن حمركها الفعلي‪� .‬إن‬
‫ت�سري يف الطريق ال�صحيح �إىل جانب قلة من النقاد الكبار الذين‬
‫املبادئ اال�شرتاكية التي ي�ؤمن بها الي�سار العربي ال تزال لها‬
‫ما يزالون يتحملون م�س�ؤوليتهم جتاه الرواية العربية ويتعاملون‬
‫جاذبيتها لأنها يف عمقها مبادئ كانت و�ستظل مطلب الإن�سانية‬
‫معها كفن له �شروطه ومقوماته اجلمالية التي ينبغي التعامل‬
‫التي حتلم بعامل تتحقق فيه العدالة االجتماعية والكرامة‬
‫معه على �أ�سا�سها‪ ،‬بغ�ض النظر عن �أي ت�صنيف‪ ،‬ذكوري ًا كان‬
‫الإن�سانية‪ .‬فهذه املبادئ وبغ�ض النظر عن ت�سمية الإطار الذي‬
‫�أم ن�سائي ًا‪ ،‬كال�سيكي ًا �أم حداثي ًا‪ ،‬اجتماعي ًا �أم ذاتي ًا‪ ،‬فن ًا �سردي ًا‬
‫تندرج فيه‪ ،‬هي نف�سها التي حركت ال�شباب العربي الذي مل يجد‬
‫خال�ص ًا‪� ،‬أم مزيج ًا من الأجنا�س‪ .‬فه�ؤالء النقاد ‪-‬و�أنت واحد‬
‫�ضالته ال يف الي�سار وال يف الإ�سالميني‪ ،‬وقادته للثورة على الظلم‬
‫منهم‪ -‬يواكبون الإ�صدارات‪ ،‬ويعرفون بالأعمال اجلديدة بغ�ض‬
‫والطغيان‪ .‬لذلك‪� ،‬أعتقد �أنه يف ظل الأو�ضاع احلالية‪ ،‬وبعدما‬
‫النظر ع ّما �إذا كان �أ�صحابها مكر�سني يف عامل الرواية‪� ،‬أم يف‬
‫خيبت الأحزاب الإ�سالمية الآمال بعدم التزامها بتعهداتها‪،‬‬
‫بداية الطريق‪ .‬ذلك �أن ما يهمهم هو الن�ص‪ ،‬وال �شيء غريه‪.‬‬
‫وعدم حتقيقها ملنجزات ملمو�سة ل�صالح اجلماهري ال�شعبية التي‬
‫وهذه هي مهمة النقد احلقيقي‪.‬‬
‫�أو�صلتها �إىل �سدة احلكم‪ ،‬ي�ستطيع الي�سار �أن يلعب دور ًا مهم ًا‬
‫يف التغيري‪� ،‬إذا ما وحد �صفوفه‪ ،‬وو�ضع م�صلحة الوطن فوق كل‬ ‫‪ -‬روايتك الأخرية «الناجون»‪� ،‬أ ّرخت لتجربة الي�سار املغربي‬
‫اعتبار‪ ،‬و�أ�سا�س ًا �إذا نزل من برجه والتحم باجلماهري ال�شعبية‪.‬‬ ‫وال�صراع بني القيمة االجتماعية وال�سلوك النقي�ض لهذه‬
‫عليه �أن ي�ستفيد من الدر�س‪ .‬فالنوايا الطيبة وحدها ال تكفي‪.‬‬ ‫القيمة‪ ،‬بر�أيك ما زال هناك ي�سار مغربي وعربي ب�شكل عام؟‬
‫واجلماهري ال�شعبية هي الفي�صل يف عامل الدميقراطية‪.‬‬
‫* بعد ال�ضربة القا�ضية التي تلقاها الي�سار املغربي من‬
‫‪ -‬بر�أيك‪ ،‬هل �أخرجت الثورات العربية مبدعات ثوريات؟‬ ‫النظام‪ ،‬والتي زجت بقياداته �إىل ال�سجن‪ ،‬وع�صفت بحلمه‬
‫يف التغيري اجلذري‪ ،‬وبعد انهيار االحتاد ال�سوفياتي‪ ،‬وهيمنة‬
‫* يف احلقيقة‪ ،‬لي�س يل علم ب�أ�سماء مبدعات عربيات‬
‫خرجن من رحم الثورة‪ ،‬وخا�صة يف جمال الأدب‪ .‬لكني �أعرف‬ ‫الر�أ�سمالية على العامل‪� ،‬أ�صبح الي�سار املغربي يعانى من الت�شتت‬
‫�أن الثورات العربية �أخرجت ن�ساء ثوريات �ساهمن ب�شكل فعال يف‬ ‫والتمزق واالنق�سام‪ ،‬مما �أ ّدى به �إىل تكوين جمموعات وتيارات‬
‫�إجناح الثورة‪ ،‬منهن من ا�شتهرن‪ ،‬وح�صلن على جوائز عاملية‪،‬‬ ‫�سيا�سية ي�سارية عديدة‪ .‬ورغم كون هذه التنظيمات حاولت‬
‫ومنهن من بقني خلف ال�ستار‪� .‬أعتقد �أن هذه الفئة الأخرية‪،‬‬ ‫اخلروج من هذا الو�ضع �إما باالندماج يف الأحزاب اال�شرتاكية‬
‫�ستفرز م�ستقب ًال‪ ،‬مبدعات ثوريات ي�ستلهمن بالت�أكيد‪ ،‬جتربتهن‬ ‫التي كانت قد انف�صلت عنها يف ال�سابق‪� ،‬أو بتكتل بع�ضها الآخر‪،‬‬
‫الثورية‪ .‬فالثورة لي�ست حدث ًا عادي ًا‪ ،‬ونادر ًا ما تعا�ش �أكرث من‬ ‫�إال �أنها مع ذلك‪ ،‬تظل �ضعيفة‪ ،‬وتعي�ش بعيد ًا عن اجلماهري‬
‫مرة واحدة يف العمر‪ .‬واملحظوظون هم الذين يتفاعلون معها‬ ‫ال�شعبية‪ .‬و�أعتقد �أن الي�سار العربي لي�س �أح�سن حا ًال من الي�سار‬
‫ويعي�شون �أحداثها بعمق‪ ،‬مما �سيطبع حياتهم ويدفعهم للتعبري‬ ‫املغربي‪ .‬ف�ضعف هذا الي�سار‪ ،‬وغيابه عن ال�ساحة‪ ،‬وعدم ارتباطه‬
‫ع ّما عا�شوه واقتنعوا به‪� .‬أعتقد �أن هذه الثورات ال ب ّد لها �أن تفرز‬ ‫باجلماهري ال�شعبية‪ ،‬وح�صر ن�شاطه داخل ال�صالونات‪� ،‬ساهم‬
‫مبدعات عربيات كثريات ويف كل جماالت الإبداع‪ ،‬لأن م�ساهمة‬ ‫يف انت�شار املد اال�سالمي الذي عم الدول العربية كلها‪ .‬لقد‬
‫املر�أة كانت كبرية وفعالة‪ .‬ذلك �أن الذين يكونون منخرطني كلية‬ ‫ا�ستطاعت الأحزاب الإ�سالمية ا�ستقطاب اجلماهري ال�شعبية‬
‫‪‬‬
‫‪73‬‬

‫‪ -‬ب�صراحة‪ ،‬يف روايتك الثانية «عزوزة» وروايتك الثالثة‬


‫يف الثورات ال ميكنهم �أن يجمعوا بني الفعل الثوري ال�ساخن‬
‫«الناجون» ت�ؤرخ لأيام القهر والعذاب والثورة يف الغرب وعاملنا‬
‫والكتابة عنه‪ .‬فعندما يكون الإن�سان يف قلب احلدث‪ ،‬ال ي�ستطيع‬
‫العربي»‪.‬‬
‫�أن يت�أمله‪ .‬فالإبداع العميق يتطلب م�سافة معينة من احلدث‪،‬‬
‫* كثري ًا ما �أت�ساءل‪« :‬هل ي�ستمر الإبداع لو حتقق حلم املدينة‬ ‫و�إال �أ�صبح جمرد ا�ستن�ساخ للواقع‪ .‬ويكفينا فخر ًا �أن املر�أة‬
‫الفا�ضلة؟» ذلك �أن ما يحرك املبدع هو عدم ر�ضاه عن الواقع‬ ‫�أبدعت مع الرجل �أعظم ثورة �سلمية ا�ستحقت عليها تقدير‬
‫الذي يعي�ش فيه‪ ،‬وحلمه بتحقق عامل �أف�ضل تتحقق فيه �أحالمه‬ ‫العامل واحرتامه‪.‬‬
‫و�آماله‪ .‬ولهذا‪ ،‬ي�أتي الإبداع يف الغالب‪ ،‬لك�شف معاناة الإن�سان‬
‫واملعوقات التي حتول دون حتقق ال�سعادة على وجه الأر�ض‪� .‬أعتقد‬ ‫أنت مدينة للمهم�شني والنا�س وتراب ال�شوارع؟‬
‫‪ -‬هل � ِ‬
‫�أن الإبداع يف عامل النق�صان‪ ،‬ال يكون �إبداع ًا حقيقي ًا �إال �إذا انحاز‬ ‫* �أنا مدينة يف كتابتي للتجارب التي ع�شتها و�أعي�شها‪،‬‬
‫للمقهورين واملهم�شني واملعذبني يف الأر�ض‪ ،‬وكان مبثابة الذاكرة‬ ‫أ�شم رائحة‬
‫وللنا�س الذين �أحترك بينهم‪ ،‬وللأر�ض التي � ّ‬
‫التي حتول دون ن�سيان امل�آ�سي التي متر بها ال�شعوب‪ ،‬والثورات‬ ‫ترابها‪ ،‬و�أكحل عيني بزرقة �سمائها وبحرها وخ�ضرة �سهولها‬
‫التي تقوم بها ملقاومة الظلم والطغيان‪.‬‬ ‫وجبالها‪ ...‬ولكني على وجه اخل�صو�ص‪ ،‬مدينة للمهم�شني‬
‫يف رواية «عزوزة» حاولت ت�سليط ال�ضوء على القهر الذي‬ ‫الذين يلهمونني با�ستمرار‪ .‬لذلك تراين مث ًال �أتخيل ثوريات‬
‫عانت منه املر�أة املغربية يف ظ ّل هيمنة ال�سلطة الذكورية‪ ،‬و�أردت‬ ‫عربيات جمهوالت قد يظهرن يف امل�ستقبل من خالل �إبداعهن‪،‬‬
‫�إبراز منوذج املر�أة املقاومة لهذا الو�ضع رغم الظروف غري‬ ‫وقد ال يظهرن مطلقا‪ .‬فقد �صادفت يف حياتي الكثري من‬
‫امل�ساعدة �آنذاك‪� ،‬سواء من الناحية االجتماعية �أو القانونية �أو‬ ‫النا�س الب�سطاء الذين لعبوا �أدور ًا مهمة يف مقاومة اال�ستعمار‬
‫التعليمية‪ ،‬لتكون عربة ومنوذج ًا للمر�أة املعا�صرة‪ .‬فرغم تعليم‬ ‫الفرن�سي‪ ،‬وخا�صة منهم الن�ساء‪ ،‬وعا�شوا وماتوا دون �أن يذكر‬
‫املر�أة وخروجها �إىل العمل‪ ،‬واملكت�سبات التي حققتها‪� ،‬إال �إنها مع‬ ‫�أحد �أ�سماءهم‪ .‬وكذلك ال�ش�أن بالن�سبة للي�سار املغربي‪ .‬فهناك‬
‫ذلك‪ ،‬ال تزال تخ�ضع لنف�س ال�سلطة‪ ،‬و�أحيانا ب�إرادتها لأن املجتمع‬ ‫الكثري من املنا�ضلني واملنا�ضالت الذين غامروا بحياتهم‬
‫مل يتحرر بعد‪ ،‬من الثقافة الذكورية‪.‬‬ ‫وقدموا الت�ضحيات وماتوا �أو ما يزالون على قيد احلياة وال‬
‫ويف رواية «الناجون» �أردت �أن �أنقل �صورة عن زمن ال�سبعينيات‬ ‫�أحد يعرف عنهم �شيئ ًا‪ ...‬ه�ؤالء املقاومون املهم�شون �أجدهم‬
‫الذي اطلقت عليه «زمن الغ�ضب والثورة»‪ .‬فهذه املرحلة تعترب‬ ‫�أمامي با�ستمرار‪� ،‬أثناء الكتابة‪ .‬يفر�ض علي ه�ؤالء النا�س‬
‫املرحلة الذهبية يف تاريخ ن�ضال الي�سار‪ .‬وما و�صل �إليه املغرب‬ ‫احرتامهم وتقديرهم لأنهم �صادقني يف حبهم لوطنهم ولأنهم‬
‫حالي ًا‪ ،‬من تقدم يف جمال الدميقراطية وحقوق الإن�سان‪ ،‬يعود‬ ‫جمبولون على العطاء‪ ،‬وال ينتظرون مقاب ًال عليه‪ .‬وكما �أن‬
‫الف�ضل فيه ب�شكل كبري‪� ،‬إىل الت�ضحيات التي قدمها �أولئك‬ ‫احلياة اليومية تقدم يل با�ستمرار‪ ،‬مناذج رائعة من النا�س‬
‫احلاملون‪ ،‬الطوباويون الذين وهبوا حياتهم قربان ًا حللمهم بوطن‬ ‫الب�سطاء الذين ي�صارعون احلياة‪ ،‬ويحاولون اقتالع الأ�شواك‬
‫تتحقق فيه العدالة االجتماعية‪ ،‬واحلرية والكرامة الإن�سانية‪.‬‬ ‫التي تعرت�ض طريقهم‪� .‬أنا�س يتحدون واقعهم الأليم‪ ،‬يقاومون‬
‫وعلى احلا�ضر �أن ال ين�سى املا�ضي القريب الذي قام على م�آ�سيه‬ ‫الفقر واحلرمان والأمرا�ض والعاهات‪� ...‬أبطال حقيقيون يف‬
‫وت�ضحيات �أبنائه‪.‬‬ ‫مواجهة احلياة‪ ،‬لكن ال �أحد يراهم �أو يهتم بهم‪ ...‬ولذلك‪،‬‬
‫�إن الإبداع هو ذاكرة الإن�سان وذاكرة املجتمعات‪ .‬هو الذي‬ ‫�أرى �أن الإبداع هو القادر على �إن�صاف ه�ؤالء ب�أن يكون �صوت ًا‬
‫ميار�س فعل الف�ضح والإدانة واالحتجاج‪ .‬ومن ثم‪ ،‬ي�ساهم يف جعل‬ ‫لهم يعرب عن معاناتهم و�آالمهم‪ ،‬ويخرجهم من الظل �إىل‬
‫العامل يخطو ولو بطيئ ًا‪ ،‬يف اجتاه املدينة الفا�ضلة التي ما يزال‬ ‫النور‪.‬‬
‫ب�صر الب�شرية �شاخ�ص ًا �إليها منذ �آالف ال�سنني‪.‬‬
‫م ـل ـ ـ ــف ال ـع ـ ـ ـ ـ ـ ــدد‪ :‬الــدكتــور نه ــاد املو�ســى عـا�ش ــق ال�ض ــاد‬
‫‪ -‬تـــــقــــــــــديـــــــــــــــــــم‪ ..‬و�ســـــــــــــــــــيــــــرة فــــــــــــي حــكــــــــــــــــــــــــايــــــة‬
‫‪ -‬نظـــــر ّية اخلطــــــ�أ يف كتــــاب (اللغــة العـــرب ّيــة و�أبنا�ؤها) لنهـاد املو�سـى‬
‫‪� -‬آفـــــــــــــاق الل�ســـــــــــانيــــــــــــات ‪ :‬درا�ســــات – مــــراجعـــات – �شـــــــهادات‬
‫(تكرميــ ًا للأ�ســتاذ الدكتور نهاد املو�ســى)‬
‫‪ -‬نحو الرجال ولغة الأجيال (نهاد املو�سى واجتهـاداته يف اللغة العربيـة)‬
‫اللغـــــوي عنــد الــدكتــور نهــاد املو�ســى‬
‫ّ‬ ‫التب�صـــر يف التـــــراث‬
‫ّ‬ ‫حمـــــددات‬
‫ّ‬ ‫‪-‬‬
‫قيـــم الثـُّبــوت وقــوى التـَّحـ ُّول‬
‫‪� -‬أ�ســئلة اللغة العـربية يف ع�صـر العوملـــة‪ُ :‬‬
‫‪ -‬حـــــــــــــــــــوار مــــــــــــــــع الــــــدكــــتـــــــــــــــــور نــهـــــــــــــــــــاد الـمــــو�ســـــــــى‬
‫‪‬‬ ‫‪‬‬
‫‪75‬‬

‫نهــاد املو�سـى‪ ..‬عا�شق ال�ضـاد‬


‫تقدمي‪ ..‬و�سرية يف حكاية‬

‫تقدمي د‪ .‬عبا�س عبد احلليم عبا�س‬

‫�سرية يف حكاية‪:‬‬ ‫من �أفق احلرف �إىل ف�ضاء الوجود‪ ،‬ومن ت�ش ّكل الكلمات‬
‫وكثري ًا ما يت�صف �أ�سلوب النحاة بالكزازة واجلفاف‪� ،‬أما‬ ‫�إىل حركة الن�ص‪ ..‬وجتدد العامل‪ ..‬من هنا �إىل هناك‪،‬‬
‫نهاد املو�سى ف�إنه ين�أى عن ذلك بل ي�شبه �أن تكون له فرادة‬ ‫ترحتل الر�ؤى والأمنيات‪ ،‬من زمن �إىل زمن‪ ..‬يعرب بنا الوقت‪،‬‬
‫�أ�سلوبية يتميز بها؛ ف�إذا قر�أت ما يكتبه يف مو�ضوع نحوي �أو‬ ‫فنجرتح الذاكرة‪ ،‬واقفني عند حدود النظر وم�سارات الت�أمل‪،‬‬
‫لغوي مل تخطئ �أن تقول �إن الكاتب هو نهاد املو�سى دون �سواه‪.‬‬ ‫نت�شبث مبا ينفع النا�س وميكث يف الأر�ض‪ ،‬تاركني الكثري من‬
‫الزبد‪ ..‬باحثني ع ّنا فينا‪ ،‬يف ن�سغ احلرف‪ ،‬ورهافة الكلمة‪ ،‬يف‬
‫يقول الدكتور علي احلمد الأ�ستاذ بجامعة الريموك يف هذه‬
‫ال�سبيل‪ :‬الأ�ستاذ نهاد املو�سى ذو �أ�سلوب متميز مميز‪ ،‬فال تكاد‬ ‫عبق اجلملة‪ ،‬واكتمال الن�ص‪ ..‬لتبد�أ كينونة اللغة‪ ،‬يف رحلة‬
‫تقر�أ �سطر ًا �أو �سطرين من مقالة �أو كتاب حتى تتيقن �أنك تقر�أ‬ ‫وله ووجد و�شوق �أبدي لكائنات تر�سم كونها‪ ،‬و�أل�سنة تنطقها‬
‫ٍ‬
‫لنهاد املو�سى‪ ،‬و�إن �سمعته يتحدث عن ُب ْعد �أو من وراء حجاب‬ ‫«بل�سان عربي مبني» ل�سان ع�شاقها‪ ..‬وهم يراودونها‪ ..‬تعدهم‬
‫عرفته من �أ�سلوبه وف�صاحته ونغمة �صوته‪� ،‬إنه ‪،‬حق ًا‪� ،‬أ�سلوب‬ ‫‪ ،‬فت�سقيهم من رحيقها املختوم‪ ،‬في�سكرون وال ي�سكرون‪.‬‬
‫متف ِّرد حمبب �إىل النف�س خفيف على ال�سمع‪ ،‬وهبه اهلل �إياه‪،‬‬ ‫نهاد املو�سى واحد من ه�ؤالء‪ ،‬ممن اكتتوا بنارها ‪،‬‬
‫وحباه واخت�صه به‪� .‬إنه �أ�سلوب يجدر �أن نطلق عليه الأ�سلوب‬ ‫واعرتاهم نورها‪ ،‬وما �أدراك ما نورها‪ ..‬نور النطق‪ ،‬والإف�صاح‪،‬‬
‫النهادي‪.‬‬ ‫والتبيني‪ ..‬هذا النور الذي �شق الزمان واملكان‬
‫�أقول هذا وقد عرفته وخربته متحدث ًا حماور ًا مناق�ش ًا وقد‬
‫لتغ�سل جداوله �شغاف القلب‪ ،‬وت�سبح يف رحابة الروح‪..‬‬
‫قر�أت جل ما كتب تقريب ًا‪� ،‬إنه ذو �أ�سلوب جذاب ر�شيق مغدق‬
‫لتتقد بذلك كله جذوة البيان‪ ،‬ف�إذا بك �أمام عامل‪� ..‬شاعر‪..‬‬
‫و�شائق‪.‬‬
‫مرت�سل‪ ..‬بحنو الأب‪ ،‬ونداوة الأخ‪ ،‬وروعة ال�صديق‪ ،‬ونبل‬
‫ومن الظواهر الالفتة �أن هذه الأناقة الأ�سلوبية املائزة قد‬ ‫الإن�سان‪.‬‬
‫ت�أثرها كثري ممن تلمذ له من الدار�سني؛ ف�إنك واجد طابعه‬
‫التنا�ص الالفت‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫الأ�سلوبي ماث ًال يف كتاباتهم على نحو من‬ ‫* * * *‬
‫‪‬‬ ‫‪‬‬
‫‪76‬‬

‫�سبت‪ ،‬ويوم ال�سبت كانت تقام يف العبا�سية �سوق جامعة يتوافد‬ ‫ولعل هذا ما جعل مبدع ًا هو الدكتور وليد �سيف يتمثله‬
‫�إليها النا�س من �أهل القرى املجاورة‪.‬‬ ‫نحوي‪ ،‬وما جعل مفكر ًا هو �إبراهيم العجلوين‬
‫�شاعر ًا يف زي ّ‬
‫�أح�س�ست يومذاك �أن �شيئ ًا ما يحدث‪� ،‬أيقنت باخلطر‪،‬نظرت‬ ‫يرى �أن نهاد املو�سى «يحقق معادلة �صعبة يندر �أن تتهي�أ لها‬
‫�إىل بوابة الدار ذات الفناء الف�سيح‪ ،‬كانت البوابة م�شرعة‪،‬‬ ‫الأ�سباب �إال يف منعطفات الأزمنة وعلى مفارق القرون‪.‬‬
‫�أح�س�ست �أن البوابة امل�شرعة هي م�صدر اخلطر الآتي من‬ ‫ولعل ذلك يكون نوع ًا من التفرد الذي �أوتيه معلم النحو‬
‫اخلارج‪ ،‬لكنني قدرت �أن التقدم نحوها لإغالقها �سيكون‬ ‫اجلميل على فرتة من املعلمني ذوي الطبائع القوية‪� ،‬أولئك‬
‫�أخطر‪ .‬لزمت باب �إحدى الغرف امل�صفوفة حول الفناء‪،‬‬ ‫الذين ال حتول قواعد النحو و�إ�شاراته احلمراء دون �أن يرت�سلوا‬
‫ت�شاغلت مب�شاهدة الر�صا�ص الفارغ املت�ساقط من على �أغ�صان‬ ‫عن �سجية �سمحة ويف بيان مبني»‪.‬‬
‫ا�شجار اليوكالبتو�س يف فناء الدار‪.‬‬
‫ومي�ضي �إبراهيم العجلوين قائ ًال‪ :‬لقد �أمكن لأ�ستاذ النحو‪،‬‬
‫ثم زايلني اخلوف حني ر�أيت نا�س ًا من �أهل القرية يدخلون‬
‫ممث ًال بنهاد املو�سى‪� ،‬أن يجعل ال�ضرورة �شرط ًا للحرية ‪ ،‬و�أن‬
‫�سراع ًا‪ ،‬ويخلون بع�ض اجلرحى �إىل غرفة يف �إحدى زوايا الدار‪،‬‬
‫يك�سر املعهود يف النحاة من �أنهم يف الغالب ال يفح�صون‪ ،‬و�أن‬
‫ويحكون عن غارة قام بها اليهود من امل�ستعمرة املجاورة‪.‬‬
‫�شعرهم خملع‪ ،‬ونرثهم ممزع‪ ،‬فكان لنا منه الأديب املرت�سل‬
‫وما يزال يوم ال�سبت على �صفحة الذاكرة يوم ًا داكن ًا‬ ‫�إىل جانب العامل املتمهل‪ ،‬وكان لنا منه الأمنوذج الف ّذ يف مكان‬
‫�سدميي ًا ‪ ،‬ودخلت فل�سطني و�أهلها يف �أهوال و�أحوال‪ ،‬وكانت‬ ‫�سوى بني «البياين» و «املحقق»‪ ،‬وما �أراين ذاكر ًا �إياه �إال و�أنا‬
‫النكبة‪ ،‬وينت�صب يف ذاكرة الطفولة مني م�شاهد وحكايات‪...‬‬ ‫على ذكر مما ذهب �إليه ابن خلدون من �أن حت�صيل ملكة‬
‫ومل يكن املخيم دار �إقامة‪ ،‬وك�أن قوى خفية كانت حتر�ض‬ ‫الل�سان ال يكون بحفظ قواعد النحو و�إجراء �أقي�سته وب�سط‬
‫على مبارحته‪ ،‬وكانت �أوىل خطواتي يف الرحيل عن املخيم‬ ‫علله‪ ،‬ولكنها تكون بالقراءة احلاذقة لكتب الأدب ودواوينه‪،‬‬
‫مغامرة فردية يف حرق املراحل؛ �إذ عملت على �أن �أ�ستبق‬ ‫وبتكوين ذائقة �صناع جراء ذلك‪ ،‬وكالهما �أمران متح�صالن‬
‫التقدم المتحان ال�شهادة الثانوية �سنتني‪ ،‬وكان ظهور النتائج‬ ‫لدى �أخينا الدكتور نهاد‪ ،‬ومتجليان يف كثري مما يكتب ويقول‪.‬‬
‫مفاج�أة ملن كان حويل؛ �إذ �إن �أحد ًا مل يكن يعلم بذلك و» كنت‬ ‫ولعل ما كتبه نهاد املو�سى عن نف�سه‪ ،‬يف �سياق �آخر‪� ،‬أن‬
‫وحدي» ‪.‬‬ ‫يكون مثا ًال م�شخ�ص ًا ميثل بيان ًا عن جانبه البياين‪ ،‬كما ميثل‬
‫كان املخيم منوذج ًا ا�ستثنائي ًا للظلم ال�شامل؛ �إذ �إنه‬ ‫�صفحة من �سريته الذاتية ت�شبه �أن تكون « بيان ًا « عن الرجل‬
‫ينتظم جموع ًا من النا�س الذين �أخرجوا من ديارهم بغري حق‪.‬‬ ‫والأ�سلوب يف �آن مع ًا ؛ �إذ كتب يقول‪:‬‬
‫ولكن هذا النموذج امل�شخ�ص للظلم قد �أنبت َّيف مثل اليقني‬
‫كان ذاك يوم �سبت‪ ،‬يف العبا�سية‪ ،‬يوم ا�ستيقظ َّيف فج�أة‬
‫ب�أن « العدل « �ضرورة‪ ،‬وان�ضاف �إىل هذه القيمة امل�ستفادة‬
‫�أول �إح�سا�س باخلوف‪ .‬ونظرت حويل‪ ،‬وانداح من حويل فراغ‬
‫من نقي�ضها منظومة من املثل يف ا�ستقامة الق�صد‪ ،‬و�صراحة‬
‫ووح�شة‪ ،‬ووقفت وحدي‪ .‬وكنت يومذاك على �أبواب ال�ساد�سة‪،‬‬
‫الإف�ضاء بالر�أي وجمانبة الهوى « �أعرف الرجال باحلق وال‬
‫وكانت فل�سطني على �أبواب الزلزال العظيم‪ .‬كان ذاك يوم‬
‫�أعرف احلق بالرجال»‪.‬‬
‫‪‬‬ ‫‪‬‬
‫‪77‬‬

‫رف به_ ا�شتغا ًال‬ ‫وع َ‬


‫ا�شتغل بتدري�س النحو العربي _ ُ‬ ‫�إذا ذكرتَ نهاد املو�سى لدى �أقرانه يف املدر�سة الأوىل‬
‫ممتد ًا منذ تعيينه يف اجلامعة الأردنية حما�ضر ًا متف ِّرغ ًا‬ ‫خا�ص وذكروا‪ ،‬من فورهم‪ ،‬كيف �أنه ح�صل‬ ‫�شهدوا له بتميز ّ‬
‫(‪ )1969-1967‬ف�أ�ستاذ ًا م�ساعد ًا (‪ )1975 -1969‬ف�أ�ستاذ ًا‬ ‫على ال�شهادة الثانوية قبل �سنتني من الزمن املرتب لذلك؛ �إذ‬
‫م�شارك ًا (‪ )1980-1975‬ف�أ�ستاذ ًا منذ عام ‪ 1980‬حتى الآن‪.‬‬ ‫�إنه تقدم �إىل امتحانها العام بعد ال�صف التا�سع مبا�شرة‪ ،‬على‬
‫حني كان الطلبة يتقدمون �إىل ذلك االمتحان بعد �إنهاء ال�صف‬
‫ويف هذا ال�سياق عمل �أ�ستاذ ًا زائر ًا يف جامعة امللك‬ ‫احلادي ع�شر‪.‬‬
‫�سعود ‪ ،1983/1982‬وجامعة الكويت ‪ ،1989/1988‬وجامعة‬
‫الإمارات العربية املتحدة ‪ ،1994/1993‬وجامعة البرتا‬ ‫وقد ذكر يل بع�ض �أقرانه �أنه‪ ،‬لمَ َّا ظهر من نبوغه ما ظهر‪،‬‬
‫الأردنية ( البنات �سابق ًا) ‪ .1999/1998‬كما د ّر�س �أو حا�ضر‬ ‫د ّر�س يف املدر�سة التي تعلم فيها قبل �أن يتلقى تعليمه العايل‪،‬‬
‫بع�ض منْ كانوا زمالءه على‬‫وكان من تالميذه يف املدر�سة ُ‬
‫على �أنحاء �شتى يف جامعة م�ؤتة ‪ ،1987/1986‬وجامعة‬
‫مقاعد الدرا�سة فيها‪.‬‬
‫الريموك ‪ 1985/1984‬واجلامعة الها�شمية ‪ ،2003‬وجامعة‬
‫الب�صرة عام ‪ ،1981‬وجامعة بريزيت ‪ ،1979‬وجامعة تك�سا�س‬ ‫التح�صيل‪:‬‬
‫يف �أو�سنت‪ ،‬وجامعة والية �أوهايو يف كوملبو�س ‪ ،1994‬وجامعة‬ ‫‪ -‬تخرج يف ق�سم اللغة العربية و�آدابها من جامعة دم�شق ‪ -‬وهو‬
‫�سيدين وجامعة ملبورن يف �أ�سرتاليا ‪ ،1991‬وجامعة اللغات‬ ‫الق�سم املعروف يومذاك بحفاظه وت�شدده يف معايري ال�صواب‬
‫الأجنبية يف بكني ‪.1983‬‬ ‫النحوي‪.‬‬
‫ّ‬
‫ويف هذه الأثناء �أن�ش�أ درا�ساته الأوىل يف النحو العربي؛ بد�أ‬ ‫‪ -‬و�أع ّد ر�سالته للماج�ستري يف ق�سم اللغة العربية و�آدابها‬
‫ذلك بن�شر بحوثه يف جملة كلية الآداب من اجلامعة الأردنية‬ ‫من جامعة القاهرة (‪ ،)1966‬واتخذ لها مو�ضوع « النحت يف‬
‫ومنها‪ :‬التطور النحوي وموقف النحويني منه (‪ )1972‬و» يف‬ ‫اللغة العربية» ملا كان يرى من طرافة هذه الظاهرة التي تقوم‬
‫الظاهرة النحوية بني الف�صحى ولهجاتها» (‪ ،)1973‬وجملة‬ ‫على توليد كلمة من كلمتني �أو �أكرث‪ ،‬وملا كان يرى من دورها‬
‫الأبحاث (اجلامعة الأمريكية يف بريوت) « ظاهرة الإعراب‬ ‫يف تنمية �ألفاظ اللغة العربية ومتكينها من التعبري عن املعاين‬
‫يف اللهجات العربية القدمية» (‪ ،)1971‬وجملة الل�سان العربي‬ ‫احل�ضارية والعلمية امل�ستحدثة‪.‬‬
‫«اللهجات العربية والوجوه ال�صرفية» (‪.)1976‬‬ ‫‪ -‬و�أعد ر�سالته للدكتوراه يف ق�سم اللغة العربية و�آدابها من‬
‫وقد ن�شرت هذه الأبحاث جمتمعة بدعم من اجلامعة‬ ‫جامعة القاهرة �أي�ض ًا (‪ )1969‬عن َع َلم من �أعالم اللغة والنحو‬
‫الأردنية يف كتابه‪ :‬يف تاريخ العربية‪� :‬أبحاث يف ال�صورة‬ ‫وال�شعر والأخبار يف الب�صرة‪ ،‬عا�صمة الثقافة العربية يومذاك‪،‬‬
‫التاريخية للنحو العربي‪.1976 ،‬‬ ‫هو �أبو عبيدة معمر بن املثنى‪ ،‬ك�أمنا كان يجد يف عامل �أبي‬
‫عبيدة ذي الطبيعة املو�سوعية وعامل الب�صرة امل َّوار بالفعالية‬
‫وكانت درا�ساته هذه يف النحو درا�سة داخلية جت ِّلي ظواهر‬ ‫املعرفية لت�أ�سي�س الثقافة العربية وتدوينها‪ ،‬ك�أمنا كان يجد فيه‬
‫يف نحو العربية‪ ،‬وتنطوي على حوار مع النحاة القدامى مل يكن‬ ‫ويلتم�س لديه مالذ ًا وجداني ًا مينحه �سكينة و�أن�س ًا‪ .‬وقد مكنت‬
‫بع�ض الدار�سني يف ال�سياق املحلي يرت�ضونه؛ �إذ كان املوقف‬ ‫له تلك الر�سالة ب�أبعادها املتنوعة معرفة ممتدة وات�صا ًال وثيق ًا‬
‫املغلق من الرتاث النحوي وغياب االجتهاد والوعي الل�ساين‬ ‫مبا�شر ًا مب�صادر الثقافة العربية و�أ�صولها الأوىل‪.‬‬
‫‪‬‬ ‫‪‬‬
‫‪78‬‬

‫جذاب ًا واعد ًا بالب�صائر الإ�ضافية يف و�صف الظاهرة‬ ‫�أفق ًا َ‬ ‫يف تلك الأثناء ‪ -‬يف امل�شهد املحلي وبع�ض امل�شهد العربي‬
‫النحوية وحتليلها‪ .‬وهناك جعل برناجمه قائم ًا على املزاوجة‬ ‫ال�سجال‬
‫‪ -‬ي�ستهجن ما كان الأوائل �أنف�سهم يتعاطونه من ِّ‬
‫بني عمله يف تدري�س النحو ومتابعة الأنظار املتداولة يف امل�شهد‬ ‫وا�ستدراك بع�ضهم على بع�ض‪.‬‬
‫الل�ساين‪ ،‬ويف هذا ال�سبيل �شارك يف حلقة الدرا�سات اللغوية‬ ‫وتتابعت درا�ساته النحوية على �أنحاء �شتى‪:‬‬
‫يف جامعة القاهرة التي امتدت ف�ص ًال �صيفي ًا كام ًال (‪.)1973‬‬
‫و�شهد حما�ضرات ديفيد دي كامب يف الل�سانيات االجتماعية‬ ‫فقد وجد �أن �أبناء العربية يتنازعون خمتلفني يف بع�ض‬
‫خا�صة‪ ،‬وهو منهج يتجاوز النظر الذاتي يف اللغة وير�صد‬ ‫امل�سائل حتى �أخذ بع�ضهم يتف َّكه بتعدد وجوه املو�ضع الواحد‬
‫ما يكون من تفاعل اللغة وحميطها‪ ،‬وقد قر�أ يف �ضوء ذلك‬ ‫مع ِّلق ًا عند ذكر كل م�س�ألة خالفية بقوله‪ :‬فيها قوالن �أو‬
‫كتاب �سيبويه يتلم�س فيه ما تنبه �إليه �سيبويه من َد ْور ال�سياق‬ ‫َق َوالن‪ .‬فو�ضع د‪ .‬نهاد بحثه «فيها قوالن �أو �أ�ضواء على م�س�ألة‬
‫يف ا�ستكمال و�صف الظاهرة النحوية وو�ضع بحثه‪ :‬الوجهة‬ ‫التعدد يف وجوه العربية (جملة �أفكار‪ ،‬متوز ‪ )1975‬ملتم�س ًا‬
‫االجتماعية يف منهج �سيبويه يف كتابه‪ ،‬و�أ�سهم به يف م�ؤمتر‬ ‫لهذه الظاهرة تف�سري ًا يف بناء العربية على لهجات خمتلفة‬
‫ذكرى القرن الثاين ع�شر لوفاة �سيبويه الذي عقد يف �شرياز‬ ‫وا�ستيعابه ملراحل من عمرها متعاقبة‪ ،‬واختالف مناهج‬
‫النحاة يف التقعيد والتف�سري‪ ،‬ونامو�س اللب�س النافذ يف اللغات‬
‫عام ‪.1974‬‬
‫الب�شرية جميع ًا‪.‬‬
‫وتابع �سريته يف هذه ال�سبيل فحر�ص على �أن ي�شارك يف‬
‫وماراه �أحد امل�ست�شرقني يف وقوع احلال يف العربية منفية‪،‬‬
‫احللقة الدرا�سية الل�سانية التي عقدت يف جامعة نيويورك يف‬
‫ف�أن�ش�أ يف ذلك بحث ًا كتيب ًا و�سمه « حا�شية على اال�ست�شراق‬
‫او�سويجد (‪ )1976‬وامتدت ف�ص ًال �صيفي ًا كام ًال‪ ،‬وقد هي�أت له‬
‫املعا�صر‪ :‬حتقيق يف احلال‪ :‬هل تقع احلال يف العربية نفي ًا؟»‪،‬‬
‫تلك امل�شاركة االت�صال بالل�سانيات ات�صا ًال مبا�شر ًا‪ ،‬و�أن يطلع‬
‫وقد ُن�شر بدعم من اجلامعة الأردنية و�صدر عن امل�ؤ�س�سة‬
‫على �أنظارهم ومقارباتهم للظاهرة اللغوية‪ ،‬وحني رجع النظ َر‬
‫العربية للدرا�سات والن�شر عام ‪.1980‬‬
‫فيما كانوا يتداولونه وا�ستح�ضر ما كان مت َّر�س به من قراءة‬
‫�أعمال النحاة الأوائل ووجد «ا َمل�شابه» بني هذا وذاك كثرية‬ ‫وملا وجد يف ا�ستعمال املعا�صرين للإ�ضافة وجوه ًا خالفية‬
‫�أن�ش�أ كتابه «نظرية النحو العربي يف �ضوء مناهج النظر اللغوي‬ ‫حادثة كتعدد امل�ضافات �إىل م�ضاف �إليه واحد‪ .......‬ح�صر‬
‫احلديث» الذي �صدر يف طبعته الأوىل بدعم من اجلامعة‬ ‫هذه الوجوه وراجعها يف �أ�صول النحو والن�صو�ص العربية‬
‫الأردنية عن امل�ؤ�س�سة العربية للدرا�سات والن�شر والتوزيع‬ ‫وتتبعها يف اال�ستعمال اجلاري يف العربية على الزمان و�أن�ش�أ‬
‫(بريوت ‪.)1980‬‬ ‫بحثه‪ :‬اللغة العربية بني الثبوت والتحول‪َ :‬م َث ٌل من ظاهرة‬
‫الإ�ضافة‪ ،‬وقد ن�شر يف حوليات اجلامعة التون�سية عام ‪.1976‬‬
‫ويف العام التايل �شهد احللقة الدرا�سية اللغوية التي ُع ِقدت‬
‫يف جامعة هاواي وكان حمورها التخطيط اللغوي مبا هو جملة‬ ‫النحوي والل�سا ّ‬
‫ين‬ ‫ّ‬ ‫اندغام‬
‫من التدابري وال�شروط التي متكن لنا من توجيه م�سار اللغة‪،‬‬ ‫على �أنه يف �أثناء ا�شتغاله بالنحو مل ينح�صر يف �أفقه‬
‫وكان �أمر االزدواجية اللغوية يف العربية هاج�س ًا م�ؤ ِّرق ًا‪ ،‬ف�أن�ش�أ‬ ‫الذاتي‪ ،‬وكانت الل�سانيات مبا هي درا�سة اللغة درا�سة علمية‬
‫‪‬‬ ‫‪‬‬
‫‪79‬‬

‫ولكنه التفت‪ ،‬يف هذا ال�سياق الل�ساين‪� ،‬إىل ُب ْعد ثالث؛ �إذ‬ ‫كتابه « ق�ضية التحول �إىل الف�صحى يف العامل العربي احلديث»‬
‫الحظ �أن ا�ستح�ضار النماذج الل�سانية وتطبيقها على العربية‬ ‫مقدم ًا م�شروعه جلعل العربية الف�صحى لغ ًة للمحادثة والكتابة‬
‫كانت ر�ؤية �إ�ضافية للعربية مبر�آة الآخر‪ ،‬فا�ستثار لديه هذا‬ ‫ووظائف اللغة يف احلياة العربية جميع ًا‪ .‬وقد ُن ِ�شر الكتاب‬
‫خمتلف يتلم�س فيه العربية يف مر�آة‬ ‫ٍ‬ ‫لبحث‬
‫ٍ‬ ‫التيار حافز ًا‬ ‫بدعم من اجلامعة الأردنية‪ ،‬و�صدر عن دار الفكر يف عمان‬
‫الآخر‪.‬‬ ‫عام ‪.1987‬‬
‫وقد تتبع‪ ،‬لذلك‪ ،‬موارد العربية يف كتب الرواد الأوائل يف‬ ‫وتتخذ ت�صانيفه الل�سانية ثالثة �أبعاد؛ يتمثل �أحدها يف‬
‫الل�سانيات الأمريكية ( بلومفيلد و�سابري وهياكاوا وهاري�س)‪،‬‬ ‫تطبيق املقوالت الل�سانية على مو�ضوعات نحوية �أو ظواهر‬
‫ومواردها يف الكتب الل�سانية اخلال�صة التي و�ضعها القوم‬ ‫لغوية التما�س ًا لتف�سري �إ�ضايف كما يف بحثه « الأعراف �أو نحو‬
‫هناك يف الل�سانيات الأنرثوبولوجية‪ ،‬والو�صفية‪ ،‬واالجتماعية‪،‬‬
‫الل�سانيات االجتماعية يف العربية» الذي ا�ست�ضاء فيه مبقوالت‬
‫والتحويلية‪ ،‬واحلا�سوبية‪ ،‬وقد ب�سط ذلك يف كتابه‪ :‬العربية يف‬
‫النحو الوظيفي و�سياق احلال والل�سانيات االجتماعية وقر�أ يف‬
‫الل�سانيات الأمريكية‪ ،‬الذي �صدر عام ‪.2005‬‬
‫�ضوئها �أعمال النحاة العرب‪ ،‬وقد قدمه يف امللتقى الدويل‬
‫�أما كتابه « اللغة العربية يف الع�صر احلديث‪ ....‬قيم‬ ‫الثالث لل�سانيات الذي انعقد يف اجلامعة التون�سية (‪.)1983‬‬
‫الثبوت وقوى التحول» ‪ ،‬الذي �صدر عام ‪ 2006،‬ف�إنه ي�ست�شرف‬ ‫ويف كتابه « ق�ضية التحول �إىل الف�صحى» الذي ا�ست�ضاء فيه‬
‫فيه �صورة العربية املتدافعة بني قيم الثبوت وقوى التحول‬ ‫باملقوالت والتدابري الإجرائية امل�ستفادة بالل�سانيات التطبيقية‬
‫واملجاالت التي يظهر فيها هذا التجاذب‪� .‬أما عوامل الثبوت‬ ‫وال �سيما التخطيط اللغوي‪ .‬ولعل �أبرز �إجنازاته يف هذه‬
‫فهي التي حتفظ للعربية �صورتها‪ ،‬على التعميم‪ ،‬وهذه العوامل‬ ‫ال�سبيل كتابه « العربية‪ :‬نحو تو�صيف جديد يف �ضوء الل�سانيات‬
‫الن�ص املقد�س‪ ،‬والرتاث‪ ،‬والهوية‪ .‬وهي قيم ثبوت متثل‬ ‫هي ُّ‬ ‫احلا�سوبية» الذي قدم فيه �أطروحته حول متثيل العربية‬
‫للعربية َمدد ًا وم�صدر ًا للقوة واال�ستمرارية والدميومة‪ .‬و�أما‬
‫للمعاجلة احلا�سوبية على مقت�ضى الفرق بني و�صف العربية‬
‫قوى التحول فهي قوى العوملة و�أدواتها احلوا�سيب والإنرتنت‬
‫للإن�سان وتو�صيفها للحا�سوب‪ .‬وقد �صدر عن امل�ؤ�س�سة العربية‬
‫والف�ضائيات‪ .‬و�أما ملتقى التجاذب بينهما فهو يف جماالت‬
‫التعليم والرتجمة والإعالم والإعالن واالقت�صاد‪ ،‬و�أما �أبرز‬ ‫للدرا�سات والن�شر (‪.)2000‬‬
‫ظواهر هذا التجاذب اللغوية فهي االزدواجية والثنائية‪.‬‬ ‫�أما البعد الثاين فيتمثل يف مقابلته بني �أنظار ا�ستخرجها‬
‫�أما �أ�سئلة الكتاب فهي �أ�سئلة العربية يف ع�صر العوملة‪،‬‬ ‫من �أعمال نحاة العربية ومثيالتها من الأنظار التي وجدها‬
‫�أ�سئلة العربية يف امتدادها التاريخي واجلغرايف‪� ،‬أ�سئلة العربية‬ ‫لدى الل�سانيني املحدثني‪ ،‬وذلك يف كتابه املتقدم ذكره « نظرية‬
‫يف بعدها اللغوي والثقايف واالقت�صادي‪ ،‬هي �أ�سئلة العربية يف‬ ‫النحو العربي يف �ضوء مناهج النظر اللغوي احلديث» ‪.‬‬
‫عالقتها بنا وعالقتها بالأخر‪.‬‬ ‫وهذان البعدان الأوالن مما ا�شتغل به �آخرون؛ �إذ �أن�ش�أ‬
‫بوي‬ ‫النحوي رَّ‬
‫والت ّ‬ ‫ّ‬ ‫اندغام‬ ‫كثريون درا�سات يف العربية يف �ضوء املنهج الو�صفي �أو الوظيفي‬
‫�أو التحويلي‪ ،‬كما �أن�ش�أ �آخرون مقاالت �أو بع�ض م�ؤلفات يف‬
‫وحنب ُعهِ د �إليه ب�أن يُدَ ِّر َ�س طلبة املاج�ستري يف ق�سم اللغة‬
‫املقابلة بني نحاة العربية و�أنظار الل�سانيني املحدثني‪.‬‬
‫العربية و�آدابها « باب ًا من الكتب النحوية الأ�سا�سية « عام‪1975‬‬
‫‪‬‬ ‫‪‬‬
‫‪80‬‬

‫واال�ستعمال‪َ :‬م َث ٌل من باب اال�ستثناء‪،‬املن�شور يف جملة درا�سات‬ ‫ور�أى �أن هذا ال�ضرب من الدر�س ينبغي �أن ُيتنا َو َل مب�ستوى‬
‫(اجلامعة الأردنية‪.)1976‬‬ ‫يليق بالدار�سني املتخ�ص�صني وعلى نحو ي�شوقهم اتخذ لذلك‬
‫باب اال�ستثناء‪ ،‬ور�سم لنف�سه وطلبته �أن يقر�أوه قراءة حتليلية‬
‫ويف هذه ال�سبيل من َو ْ�صل اللغوي بالرتبوي تناول ق�ضية‬
‫يف �سبعة من كتب النحو الأ�صول هي كتاب �سيبويه وكتاب‬
‫اخلط�أ متتبع ًا �إياها يف �سياقها التاريخي ومواقف القدماء‬
‫املقت�ضب للمربد وكتاب الأ�صول البن ال�سراج وكتاب اجلمل‬
‫واملحدثني منها‪ ،‬وعمد �إىل م�سح ميداين لأخطاء الطلبة‬
‫املف�صل للزخم�شري وكتاب �أ�سرار العربية‬‫للزجاجي وكتاب َّ‬
‫والكتبة‪ ،‬ور�سم منهج ًا ملعاجلتها‪ ،‬وذلك يف كتابه‪ :‬اللغة‬
‫البن الأنباري وكتاب �أو�ضح امل�سالك البن ه�شام‪ .‬وكانت تلك‬
‫العربية و�أبنا�ؤها‪� :‬أبحاث يف ق�ضية اخلط�أ و�ضعف الطلبة يف‬
‫القراءة التحليلية جتربة �شائقة يف التعمق من جهة ويف املقارنة‬
‫اللغة العربية‪ ،‬الذي �صدر يف طبعته الأوىل عن دار العلوم‬
‫بني كتب النحاة يف تناول الظاهرة النحوية الواحدة من جهة‬
‫بالريا�ض(‪.)1984‬‬
‫�أخرى‪.‬‬
‫بوي‪ :‬مدخل‪.‬‬ ‫رَّ‬
‫الت ّ‬
‫ولكنه مل يكتف بذلك؛ �إذ ر�سم لنف�سه وللطلبة �أن َي ْ�ستَقروا‬
‫يف ال�شباب الأول دخل �أوىل جتاربه يف املجال الرتبوي؛ �إذ‬ ‫�أمثلة اال�ستثناء يف ن�صو�ص ع�صر االحتجاج‪ :‬القر�آن الكرمي‪،‬‬
‫كان عليه �أن يُدَ ِّر�س العربية و�أ�ساليب تدري�سها يف معهد تدريب‬ ‫تنخل يف احلديث ال�شريف هو التجريد ال�صريح‬ ‫وكتاب ُم َّ‬
‫املعلمات يف رام اهلل‪ ،‬ووقف‪ ،‬لهذه الغاية‪ ،‬على الكتب املتداولة‬ ‫لأحاديث اجلامع ال�صحيح‪ ،‬و�أحد ع�شر ديوان ًا جاهلي ًا و�إ�سالمي ًا‬
‫يومذاك يف �أ�ساليب تعليم العربية‪ :‬كتاب « املوجه الفني‬ ‫و�أموي ًا‪ .‬وق�صد من ذلك �إىل املقارنة بني �صورة الباب لدى‬
‫ملدر�سي اللغة العربية « لعبد العليم �إبراهيم‪ ،‬وكتاب «اللغة‬ ‫النحاة وما قد تكون « النظرية « �أدخلته عليها و�صورة الباب‬
‫العربية وطرائق تدري�سها لعبد العزيز عبد املجيد‪ ،‬وغريهما‪،‬‬ ‫يف الن�صو�ص املبا�شرة التي �أُقيمت عليها �صفة الباب‪ .‬وكانت‬
‫واتخذها عدة له يف توجيه الطالبات و�إعداد الدرو�س‬ ‫املقابلة �شائقة ملا تبني من تقاطع النظرية واال�ستعمال‪.‬‬
‫النموذجية‪ ،‬ويومذاك �أيقن ب�أهمية «الطريقة» يف التعليم �إىل‬
‫جانب التمكن من « املو�ضوع «‪.‬‬ ‫ثم اتخذ لهذه الدرا�سة جانب ًا �إح�صائي ًا يتمثل يف ح�ساب‬
‫تواتر قواعد الباب يف كتب النحاة وتواترها يف اال�ستعمال‪،‬‬
‫ولكنه ر�أى �أن هذه الكتب ت�صدر عن منطلق تربوي نف�سي‬ ‫ور�أى لذلك قيمة عملية يف متييز القواعد املحورية الأكرث‬
‫فح�سب‪ .‬ولكن ا�شتغاله بفقه اللغة وات�صاله باملدار�س الل�سانية‬ ‫تواتر ًا‪ ،‬وفت�ش لهذا البحث الإح�صائي عن دور تربوي يف‬
‫( الو�صفية خا�صة) التي تنظر �إىل اللغة من حيث هي نظام‬ ‫تي�سري النحو‪ .‬وقد قارن بني قواعد الباب الأكرث تواتر ًا كما‬
‫جعله يتخذ موقف ًا �إ�ضافي ًا يف هذه ال�سبيل‪ .‬وينبني هذا املوقف‬ ‫ا�ستخرجها باال�ستقراء والإح�صاء وقواعد الباب كما وردت‬
‫لديه على �أن اعتبار طبيعة املو�ضوع « وهو اللغة « ال يقل �ش�أن ًا‬ ‫يف كتاب يق�صد �إىل التي�سري باالنطباع وهو كتاب حترير‬
‫النف�سي»‪.‬‬
‫ّ‬ ‫عن اعتبار «طبيعة املتعلم يف ُبعدها الرتبوي‬ ‫النحو العربي مع التي�سري الذي �أقره جممع اللغة العربية يف‬
‫و�أ�صبح هذا املنظور الل�ساين مرجع ًا ثابت ًا لديه يف تعليم‬ ‫القاهرة‪ ،‬ووجد باملقارنة �أن منهج اال�ستقراء امل�ست�أنف القائم‬
‫ر�سم املحتوى‪،‬‬
‫اللغة العربية؛ �إذ يف �ضوئه تتحدد الأهداف‪ ،‬و ُي َ‬ ‫على الإح�صاء �أدنى �إىل التي�سري و�أكرث وظيفية و�أهدى �سبي ًال‪.‬‬
‫و�أ�ساليب التقومي‪.‬‬ ‫وذلك كلُّه مب�سوط يف بحثه ‪ :‬النحو العربي بني النظرية‬
‫‪‬‬ ‫‪‬‬
‫‪81‬‬

‫‪ -‬رئي�س جلنة خرباء اللغة العربية‪ ،‬امل�ؤمتر الوطني للتطوير‬ ‫وحني دخلت وزارة الرتبية والتعليم يف الأردن يف جتربة‬
‫الرتبوي‪ ،‬ع ّمان‪.1987 ،‬‬ ‫ت�أليف كتب اللغة العربية بطريق الوحدة ان�ش�أ بحثه املو�سوم ب‬
‫« تعليم اللغة العربية بطريقة الوحدة « متخذ ًا له �أ�سا�س ًا لغوي ًا‬
‫‪ -‬امل�شاركة يف و�ضع مناهج كلية ت�أهيل املعلمني‪ ،‬وزارة التعليم‬
‫نظري ًا‪ ،‬وطبقه تطبيق ًا عملي ًا من�سجم ًا على �إحدى الوحدات‬
‫العايل‪ ،‬ع ّمان‪.1988 ،‬‬
‫التعليمية‪.‬‬
‫‪ -‬امل�شاركة يف و�ضع مناهج اللغة العربية لكليات املجتمع‪ ،‬وزارة‬
‫وكان هذا املنظور الل�ساين دليله �إىل نقد مناهج اللغة‬
‫التعليم العايل‪،‬ع ّمان‪.1988،‬‬
‫العربية‪ ،‬وت�أليف كتبها‪ ،‬وطرق تعليمها‪ ،‬ور�أى فيها �سبي ًال �إىل‬
‫‪ -‬خبري (العربية) يف برنامج التطوير الرتبوي‪ ،‬اليمن‪-1990 ،‬‬ ‫تعليم اللغة العربية مبنهج علمي م�ضبوط‪ ،‬وقد ب�سط م�شروعه‬
‫‪ .1993‬و‪.2000-1999‬‬ ‫هذا يف بحثه الذي �ألقاه يف م�ؤمتر « الل�سانيات يف خدمة اللغة‬
‫العربية « يف اجلامعة التون�سية (‪ )1981‬وجعل عنوانه «مقدمة‬
‫‪ -‬خبري (العربية) يف برنامج التقومي الت�شخي�صي‪ ،‬وزارة‬
‫يف علم تعليم العربية» ‪.‬‬
‫الرتبية‪ ،‬ع ّمان‪.1996،‬‬
‫وقد و�سم هذا املنحى م�ساهماته املتعددة يف تطوير‬
‫‪ -‬خبري(العربية) يف الدورة التدريبية ملوجهي املدار�س‬
‫املناهج وت�أليف كتب اللغة العربية يف الأردن ( ‪1987، 1973‬‬
‫القر�آنية والعربية والإ�سالمية‪ ،‬املالديف‪.1997 ،‬‬
‫وعمان ( ‪ ) 1984، 1976‬واليمن‬ ‫‪ُ 2005 ،1993،2004، 1991،‬‬
‫‪ -‬م�ست�شار ت�أليف كتب اللغة العربية يف �إطار تطوير املناهج‬ ‫(‪ ،)2000-1999 ، 1993-1990‬كما و�سمت م�ساهمته يف و�ضع‬
‫نحو االقت�صاد املعريف‪ ،‬وزارة الرتبية والتعليم‪ ،‬عمان ‪-2004 ،‬‬ ‫منهاج اللغة العربية اللغة العربية لغري الناطقني بها (اجلامعة‬
‫‪.2005‬‬ ‫الأردنية ‪ ،)1983‬ويف ت�صميم « معيار للكفاية اللغوية يف‬
‫‪ -‬خبري تطوير معايري كفايات اللغة العربية يف مكتب الرتبية‬ ‫العربية « الذي قدمه يف م�ؤمتر « التدري�س الفعال ملهارات اللغة‬
‫العربي لدول اخلليج ‪.2007-2006‬‬ ‫العربية يف التعليم اجلامعي « الذي عقد يف جامعة الإمارات‬
‫العربية املتحدة (‪ .)1998‬وعلى هدي هذا املنحى �سار يف‬
‫‪ -‬خبري تطوير برنامج الدرا�سات العليا يف اللغة العربية و�آدابها‬ ‫تدري�سه لأ�ساليب اللغة العربية يف اجلامعة الأردنية (‪.)1975‬‬
‫يف عدد من اجلامعات املاليزية ‪.2007-2006‬‬
‫الرتبوي‪ :‬وقائع وم�ساهمات‬
‫ّ‬
‫وكل ما تقدم مدخل كلي واحد �إىل تف�سري طابعه الرتبوي‬
‫اخلا�ص‪� ،‬أما الوقائع والتجارب املذكورة قب ًال ف�إمنا هي « �إطار»‬ ‫‪ -‬خبري م�شارك للغة العربية يف م�شروع املناهج الوطنية‪،‬‬
‫و�س ِجل للتوثيق والتذكار؛ ذلك �أن تف�صيل القول يف «الرتبوي»‬ ‫ِ‬ ‫الإمارات العربية املتحدة‪.1977 ،‬‬
‫وما انطوت عليه هذه الوقائع والتجارب من «ر�ؤى منهجية» فهو‬ ‫‪ -‬م�ست�شار اليون�سكو لتعليم اللغة العربية يف معهد اللغات‬
‫مو�ضوع هذا الكتاب‪.‬‬ ‫الأجنبية‪ ،‬بكني‪.1983 ،‬‬
‫‪ -‬مقرر جلنة مناهج اللغة العربية يف برنامج الرتبية بجامعة‬
‫القد�س املفتوحة‪.1988 /1987 ،‬‬
‫* ز ّودنا الزميل الكرمي الدكتور وليد العناتي م�شكور ًا بهذه ال�سرية ّ‬
‫املف�صلة‪.‬‬
‫‪‬‬ ‫‪‬‬
‫‪82‬‬

‫نظرية اخلط�أ‬
‫ّ‬
‫يف كتاب (اللغة العرب ّية و�أبنا�ؤها) لنهاد املو�سى‬

‫د‪� .‬إ�سماعيل الق ّيام‬

‫اللغوي‪ ،‬و�شغلوا �أنف�سهم‬


‫ّ‬ ‫ُعني القدماء واملحدثون باخلط�أ‬
‫بت�صحيحه والتنبيه عليه‪ ،‬حتّى تراكم لدينا تراث �ضخم‬
‫ُينبئ عن مبلغ عناية اللغو ّيني بتنقية اللغة العرب ّية وغريتهم‬
‫عليها(‪ .)1‬ولكنّ حركة الت�صحيح هذه‪ ،‬على كرثة امل�شتغلني بها‬
‫وجالل قدرهم‪ ،‬مل ت�ؤت الثمار املرج ّوة منها‪ ،‬وما زالت ال�شكوى‬
‫من انت�شار اخلط�أ هي ال�شكوى‪ ،‬وما زال اللغو ّيون اليوم ين ّبهون‬
‫على �أخطاء ن ّبه عليها القدماء قبل نحو �ألف �سنة(‪.)2‬‬
‫منحى �آخر يف درا�سة الأخطاء ال�شائعة‬ ‫ولع ّل ّ‬
‫التوجه �إىل ً‬
‫ميكن �أن ي�ساعد يف التخ ّل�ص من مراوحة املكان يف هذه‬
‫الق�ض ّية‪ .‬لذلك ميكن القول �إنّ كتاب (اللغة العرب ّية و�أبنا�ؤها)‬
‫اللغوي؛‬
‫ّ‬ ‫لنهاد املو�سى مي ّثل ُمنعط ًفا مه ًّما يف م�سرية الت�صحيح‬
‫�إذ جتاوز ما ُ�شغل به �أ�صحاب الت�صحيح من التنبيه على اخلط�أ‬
‫و�صوابه‪ ،‬وانتقل �إىل ما وراء اخلط�أ‪ ،‬حماو ًال تف�سريه والو�صول‬
‫�إىل ما ميكن �أن ُيطلق عليه (نظر ّية اخلط�أ)‪.‬‬
‫معيار ال�صواب واخلط�أ‪:‬‬

‫يح�سن بنا قبيل عر�ض (نظر ّية اخلط�أ) حماول ُة تل ّم�س‬


‫والت�صويب‪ ،‬وجمع الأخطاء اللغو ّية وت�صحيحها‪ ،‬كما ُعني‬ ‫يرجح نهاد املو�سى اعتماده‬ ‫معيار ال�صواب واخلط�أ الذي ّ‬
‫�أ�صحاب م�ؤ ّلفات الأخطاء ال�شائعة‪ ،‬و�إنمّ ا ان�ص ّبت جهوده على‬ ‫اللغوي‪ ،‬مع �أنّ املو�سى مل ُيعنَ ب�أمر التخطئة‬
‫ّ‬ ‫يف الت�صحيح‬

‫�أ�ستاذ الأدب العربي يف جامعة فيالدلفيا‪.‬‬


‫‪‬‬ ‫‪‬‬
‫‪83‬‬

‫وقد تو ّقف نهاد املو�سى عند �أهم ّية الرت ّيث والأناة يف �إطالق‬ ‫اللغوي‪ ،‬لبناء ما ميكن‬
‫ّ‬ ‫حماولة تف�سري �أ�سباب الوقوع يف اخلط�أ‬
‫مما وقع له‪ ،‬وم�ؤ ّكدً ا‬ ‫الأحكام‪ ،‬مم ّث ًال لذلك‪ ،‬بجر�أته املعهودة‪ّ ،‬‬ ‫اللغوي)؛ ولع ّله من الأهم ّية مبكان‬
‫ّ‬ ‫�أن ُيعرف بـ(نظر ّية اخلط�أ‬
‫ال�صواب‪،‬‬ ‫عال من ّ‬ ‫�ضرورة �أن يتجاوز اللغو ّيون ع ّما له وج ٌه ٍ‬ ‫الك�شف عن املعيار �أو املقيا�س الذي يعتمده اللغو ّيون للحكم‬
‫يوهم باخلط�أ‪.‬‬ ‫وعدم الركون �إىل اخلاطر الأ ّول الذي قد ِ‬ ‫اللغوي‪� ،‬إذ ال يخفى �أنّ كث ًريا من ا�ضطراب‬
‫ّ‬ ‫بال�صواب �أو اخلط�أ‬
‫ريا�ضي يقول‬‫ّ‬ ‫يوما عبار ٌة ملع ّل ٍق‬
‫علي ً‬‫ومن ذلك قوله‪« :‬ورد َّ‬ ‫اللغوي وا�ضطراب �أحكامهم‬ ‫ّ‬ ‫اللغو ّيني املعن ّيني ب�ش�أن الت�صحيح‬
‫فيها‪( :‬نحن نعلم ب�أنّ الفريق مل يخ�سر غري مباراة واحدة)‪،‬‬ ‫مر ّده �إىل اختالف املعايري التي يحتكمون �إليها يف �أمر ال�صواب‬
‫يل �أنّ (نعلم) تتع ّدى �إىل‬ ‫فابتدرتُ ذلك بالإنكار؛ لأ ّنه �سبق �إ ّ‬ ‫واخلط�أ‪ ،‬وقد �أ�شار نهاد املو�سى �إىل ذلك بقوله‪»:‬ولكنّ �سعة‬
‫مفعولني بنف�سها‪ ،‬فكيف ع ّداها بالباء؟ و�أقمتُ على ذلك‬ ‫العرب ّية وت�سل�سل مدارج ال�صواب واخلط�أ فيها قد جعل بع�ض‬
‫الإنكار حتّى ا�ستذكرتُ �آي ًة قريب ًة مل �أكن ا�ستح�ضرتُها �إذ‬ ‫رحب غري من�سجم‬ ‫املت�ص ّدرين للت�صحيح ي�ضطربون يف �أفق ٍ‬
‫ذاك (و�أ ّنى ل ٍّأي م ّنا �أن ي�ستح�ضر ك ّل ما عر�ض له من �أد ّلة‬ ‫ميل الهوى»(‪ .)3‬وهذا �إذا كان لدى‬ ‫مييل بهم مقيا�سهم فيه َ‬
‫و�شواهدَ حني يطلبها ب�صورة �آن ّية؟) وهي قوله تعاىل‪�( :‬أمل‬ ‫بع�ضهم معيار ينطلقون منه‪ ،‬ويحتكمون �إليه‪.‬‬
‫يعلم ب�أنّ اهلل يرى) ف�أق�صرتُ عن ذلك الإنكار»(‪ .)4‬وي�سوق‬
‫و�إذا كان الك�شف عن معيار اخلط�أ وال�صواب مه ًّما‪ ،‬ف�إنّ‬
‫مثا ًال �آخر من قول �أحد املذيعني‪( :‬وجائزته عبار ٌة عن �ساعة)‬
‫لغوي معينّ مه ّمة لي�ست بالي�سرية‪،‬‬ ‫القدرة على اكت�شافه لدى ّ‬
‫فيبتدره اخلاطر الأ ّول لتخطئة (عبارة عن) التي ر�أى �أ ّنها‬
‫لأمرين رئي�سني متعالقني؛ �أ ّولهما (اللغة)‪ ،‬و�أعني تلك املا ّدة‬
‫زائدة‪ ،‬وميكن االكتفاء بالقول (وجائزته �ساعة)‪ّ ،‬ثم يقول‪:‬‬
‫اللغو ّية الكربى املمت ّدة عرب زمن طويل؛ (نحو ‪3‬قرون) �إذا‬
‫«ولك ّني وجدتُ ابنَ ج ّني (وهو من هو يف الب�صر بالعرب ّية‬
‫وقفنا عند ع�صر االحتجاج‪ ،‬و(نحو ‪16‬قر ًنا) �إذا جتاوزنا‬
‫جل ّث ُة عبار ٌة عن‬
‫والتلطف يف �أداء معانيها) يقول يف ال ّل َمع‪( :‬وا ُ‬ ‫ُّ‬
‫ذلك الع�صر‪ ،‬وهي منت�شرة مكان ًّيا يف بيئات متع ّددة هي بيئات‬
‫اللغوي الكثري الكثري من‬ ‫ّ‬ ‫�شخ�ص)»(‪ .)5‬ويف كتب الت�صحيح‬
‫القبائل العرب ّية يف �شبه اجلزيرة العرب ّية قبل الإ�سالم‪ ،‬وفيها‬
‫�أمثلة هذا اخلاطر الأ ّول الذي ي�سيطر على م�ساحات وا�سعة‬
‫من�ضبط‬
‫ٍ‬ ‫فاللغوي ال يتعامل مع منتٍ‬
‫ّ‬ ‫وخارجها بعد الإ�سالم‪.‬‬
‫من م�ؤ ّلفاتهم فال يتجاوزونه �إىل ما بعده‪ ،‬حتّى �إنّ الناظر‬
‫مي ّكنه من حتديد معيار وا�ضح م�ستبني‪.‬‬
‫يف اال�ستدراكات التي �أُ ّلفت عليها‪ ،‬و�أبطلت كث ًريا من �أحكام‬
‫م�ؤ ّلفيها‪ ،‬ال يكاد يطمئنّ �إىل �سالمة � ٍّأي من �أحكامها‪.‬‬ ‫(اللغوي)‪ ،‬و�أعني به اللغو ّيني امل�شتغلني بالت�صحيح‬
‫ّ‬ ‫وثانيهما‬
‫اللغوي‪ ،‬قري ًبا من‬ ‫وقد يبدو نهاد املو�سى‪ ،‬يف معياره‬ ‫الطبيعي‬
‫ّ‬ ‫اللغوي‪ ،‬فهم وب�أثر من اتّ�ساع املا ّدة اللغو ّية وانفالتها‬
‫ّ‬
‫ّ‬
‫اللغوي‬ ‫ربرون اخلط�أ‬ ‫عن ال�ضوابط‪ ،‬وب�أثر من ا�ستحالة القدرة على الإحاطة‬
‫ّ‬ ‫املت�ساهلني امل�س ّوغني للخط�أ‪ ،‬الذين ي ّ‬
‫ا�ستنادًا �إىل ما �أطلق عليه املو�سى (معيار االئتالف)‪ ،‬وهو‬ ‫بالعرب ّية‪ ،‬عاجزون بطبيعة احلال عن ال�ضبط التا ّم املحكم‬
‫املعيار الذي �أقيم عليه و�صف العرب ّية؛ فهو يتف ّهم و�ض ًعا‬ ‫لو�ضع معيار ميكن بنا ًء عليه القول باخلط�أ وال�صواب‪ ،‬وهم‬
‫خا�صا ل ّلغة العرب ّية من بني اللغات‪� ،‬إذ �إ ّنها تت�أ ّلف من جمموع‬ ‫�إن كانوا معذورين يف عجزهم‪ ،‬غ ُري معذورين حينما يظ ّنون‬
‫ًّ‬
‫اللهجات التي كانت �شائع ًة يف اجلزيرة العرب ّية قبل الإ�سالم؛‬ ‫�أ ّنهم ميتلكون ذلك املعيار املحكم‪ ،‬ف ُيطلقون � ً‬
‫أحكاما بالتخطئة‬
‫تلتقي على قدر م�شرتك‪ ،‬وتفرتق يف مظاهر متباينة‪ ،‬وقد‬ ‫والت�صويب مت�س ّرعني ظا ّنني �أ ّنهم بفعلهم هذا ُي�سدون خدم ًة‬
‫�شك خمطئون يف ذلك‬ ‫للعرب ّية و ُيحافظون عليها‪ ،‬وهم بال ّ‬
‫ا�ستوعبت العرب ّية ك ّل تلك ال ُّن ُظم اللغو ّية (اللهجات) التي‬
‫كانت متغاير ًة و�سائد ًة يف بيئات مكان ّية متع ّددة‪ .‬ف�أ�صبحت‬ ‫�أ�ش ّد اخلط�أ؛ �إذ ين ّفرون من العرب ّية وي�ض ّيقونها على �أهلها‪.‬‬
‫‪‬‬ ‫‪‬‬
‫‪84‬‬

‫اجلملي‪ .‬وهو خط�أ ينعقد عليه الإجماع باالنطباع‬ ‫ّ‬ ‫الرتكيب‬ ‫اللغة العرب ّية املعيار ّية التي � ّأ�س�سها النحاة واللغو ّيون بنا ًء لغو ًّيا‬
‫املتح�صل لدى جمهور املتع ّلمني من �أبناء العرب ّية ‪ ...‬وهذا‬
‫ّ‬ ‫متع ّدد امل�ستويات؛ فيه الوجه الف�صيح الذي هو وجه (املثال)‬
‫اخلط�أ لي�س م�شكل ًة قائم ًة»(‪.)8‬‬ ‫مما اعتُرب ر� َأ�س الهرم يف الف�صاحة‪ ،‬وفيه ما هو يف املقام‬ ‫ّ‬
‫الثاين والثالث ‪ ...‬لدى النحاة واللغو ّيني‪ .‬على �أ ّنها قد ت�ستوي‬
‫ب ‪ -‬اخلط�أ الذي ي�ستند �إىل وجه من وجوه اللغة العرب ّية‬
‫ال�صواب و�إن كان‬ ‫يف م�ستوياتها املتع ّددة‪ ،‬فيكون له وجه من ّ‬
‫مقام واحد (ر�أ�س هرم �أو وا�سطة‬ ‫امل�ستوياتُ وتغدو ك ّلها يف ٍ‬
‫عقد) �إذا ما علمنا �أنّ القبائل التي �أُخذت عنها اللغة هي‬
‫ح�س ٍن �أو مقبول �أو قليل‬
‫مما يرجع �إىل وجه َ‬ ‫غري الوجه املثال‪ّ ،‬‬
‫الفارابي‪ ،‬و�إذا ما �أخذنا‬
‫ّ‬ ‫قبائل كثرية تتجاوز اخلم�س بح�سب‬
‫�أو نادر �أو �شا ّذ من �أوجه العرب ّية الف�صيحة يف بنائها االئتال ّيف‬
‫املتع ّدد الوجوه الذي �أ�شرنا �إليه عند احلديث عن املعيار‪.‬‬
‫حجة)(‪.)6‬‬ ‫بقولة ابن ج ّني (اختالف اللغات وك ّلها ّ‬

‫ومن طريف هذه النظر ّية �أ ّنها تُعنى بالنوع الثاين من اخلط�أ‬ ‫معني �أ�ش ّد العناية باالرتقاء‬
‫ولكنّ املو�سى‪ ،‬يف واقع الأمر‪ٌّ ،‬‬
‫وتهتم به‬ ‫اللغوي‪ ،‬وال‬
‫ّ‬ ‫باملتع ّلمني والكتّاب �إىل املراتب العليا من االختيار‬
‫الذي هو اخلط�أ امل�ستند �إىل وجه من وجوه العرب ّية‪ّ ،‬‬
‫�أكرث من اهتمامها بالنوع الأ ّول الذي هو اخلط�أ ال�صريح‪ ،‬مع‬ ‫اللغوي �إ ّال يف‬
‫ّ‬ ‫يركن �إىل املراتب الأخرى من وجوه اال�ستعمال‬
‫�أنّ املتو ّقع العك�س؛ ذلك �أنّ اخلط�أ ال�صريح‪ ،‬و�إن كان مي ّثل‬ ‫�إطار ّ‬
‫خط ٍة عالج ّي ٍة تد ّرج ّية‪ ،‬تقوم على تف ُّهم احلالة وتق ُّبلها‬
‫ظاهرة ت�ستحقّ التو ّقف والتحليل والتف�سري ملعرفة �أ�سبابها‬ ‫متهيدً ا لعالجها‪.‬‬
‫مما ي�سهل التعامل معه‬ ‫وو�ضع اخلطط العالج ّية لها‪ ،‬هو ّ‬ ‫نظر ّية اخلط�أ‪:‬‬
‫ل�سبب رئي�س ال يعود �إىل طبيعة اخلط�أ يف ذاته‪ ،‬و�إنمّ ا يرجع �إىل‬
‫اتّفاق اللغو ّيني على تخطئة هذا النوع‪ ،‬وح�سمهم �أمرهم معه‬ ‫أ�صحاب‬
‫ُ‬ ‫يرى نهاد املو�سى �أنّ الطريقة التي �سار عليها �‬
‫ب�أ ّنه واقع يف �صميم دائرة اخلط�أ‪ ،‬بخالف النوع الثاين الذي‬ ‫الت�صحيح من اللغو ّيني مل تعد مجُ دي ًة‪ ،‬و�أنّ الفوق ّية (قل كذا‪،‬‬
‫ال�صواب ولك ّنه دون الوجه النموذج �أو املثال؛‬ ‫وال تقل كذا) التي هي قوام هذه الطريقة ال توجد ح ًّال لتخلي�ص‬
‫يكون له وجه يف ّ‬
‫املعني بهذا‬ ‫اللغوي‪ ،‬لذلك ر�أى �أ ّنه ال ب ّد‬
‫ّ‬ ‫�أبناء العرب ّية من الوقوع يف اخلط�أ‬
‫اللغوي ّ‬ ‫ّ‬ ‫مما يخلق كث ًريا من الفو�ضى يف الت�صحيح‬ ‫ّ‬
‫النوع‪ ،‬و ُيف�ضي �إىل كث ٍري من التناق�ض واال�ضطراب بني اللغو ّيني‬ ‫من الت�أ�سي�س لنظر ّية �أو م�شروع «يكون حا�شي ًة على معرفتهم‬
‫�أ ّو ًال‪ّ ،‬ثم بني الكتّاب واملتع ّلمني و�أبناء اللغة يف املقام الثاين‪.‬‬ ‫بالعرب ّية‪ ،‬ي�س ّد ثغراتها ويرقى بارتكا�ساتها على ب ّينة»(‪.)7‬‬
‫وقد تو ّقف نهاد املو�سى عند هذه الفو�ضى وذلك اال�ضطراب يف‬ ‫اللغوي‬
‫ّ‬ ‫ومي ّيز �صاحب هذه النظر ّية بني نوعني من اخلط�أ‬
‫ج ّل كتابه الذي نتناوله‪ ،‬وميكن تل ّم�س ذلك يف كثري من عناوين‬ ‫ال بح�سب اخلط�أ نف�سه �أو درجة �شيوعه مث ًال‪ ،‬و�إنمّ ا بالنظر �إىل‬
‫ُ‬
‫اختالف‬ ‫مو�ضوعات الكتاب‪ ،‬من مثل (اختيا ٌر من متع ّدد‪،‬‬ ‫واملتخ�ص�صني من �أبناء العرب ّية‪.‬‬
‫ّ‬ ‫مرتبة اخلط�أ لدى اللغو ّيني‬
‫اختالف املحدثني‪ ،‬من م�سائل‬ ‫ُ‬ ‫القدماء‪ ،‬تنا ُق ُ�ض القدماء‪،‬‬ ‫وهذان النوعان هما‪:‬‬
‫ُ‬
‫تناق�ض املحدثني‪.)... ،‬‬ ‫اخلالف بني املحدثني‪،‬‬
‫ال�صريح الوا�ضح‬ ‫�أ‪( -‬اخلط�أ اخلاطئ)‪ ،‬وهو اخلط�أ ّ‬
‫وقد قام منهج نهاد املو�سى يف درا�سة �أخطاء (الطلبة‬ ‫الذي «ال مراء فيه‪ ،‬وهو خط�أ ينت�سب �إىل العام ّية املح�ضة؛ �إذ‬
‫وال َك َت َبة) على ت�صنيفها وتف�سريها �ضمن ر�ؤية كل ّية ت�أخذ‬ ‫متاما وتنحرف الأ�صوات والبنى ويختلف نظام‬ ‫يغيب الإعراب ً‬
‫‪‬‬ ‫‪‬‬
‫‪85‬‬

‫ك�أنمّ ا يحاولون �أن يرتّبوا �أو�ضاع اللغة على وفق عالئق املعنى‬ ‫باحل�سبان موقع اخلط�أ ومكانته من النموذج املثال (الأف�صح)‪،‬‬
‫اخلارجي‪ ،‬و�إذن ال يتم ّثلون �أن يكون البثّ فاع ًال‬
‫ّ‬ ‫يف العامل‬ ‫ُالحظ يف كتابات الطلبة والكتّاب تكاد تكون‬ ‫و�أنّ الأخطاء التي ت َ‬
‫ال�سعة يف نوامي�س‬ ‫على � ّأي نحو‪ ،‬وينتهي بهم الأمر �إىل مفارقة ّ‬ ‫م�شرتك ًة بينهم ال يخرجون عنها �إ ّال يف القليل النادر‪ ،‬وقد‬
‫العرب ّية التي ت�سمح بتال ُب�س الفاعل واملفعول على �أنحاء م� ّؤ�س�سة‬ ‫امل�ستحكمة التي ال ينفع معها التنبيه‬
‫ِ‬ ‫�أ�صبحت فيهم كالعادة‬
‫يف املجاز»(‪.)10‬‬ ‫حت�صل لديه من �إجابات الطلبة يف اجلامعة‬ ‫عليها‪ .‬ف�ص ّنف ما ّ‬
‫و�أبحاثهم‪ ،‬ولغة ال�صحافة وامل�ؤ ّلفات العا ّمة �إىل(‪:)9‬‬
‫‪� -‬أخطاء تنجم عن املبالغة يف الت�صحيح‪ ،‬كو�ضع النقطتني‬
‫على هاء ال�ضمري‪ ،‬وعلى لفظ اجلاللة‪ ،‬وعلى كلمة (هذه)‪،‬‬ ‫‪� -‬أخطاء لها وجود يف �أعاريب وتوجيهات ووجوه لهج ّية قدمية‪،‬‬
‫‪...‬‬ ‫مثل‪� :‬إلزام املث ّنى ال َ‬
‫ألف يف جميع حاالته الإعراب ّية‪ ،‬و�إجراء‬
‫نعت املجرور من املث ّنى بالألف‪ ،‬و�إثبات النون يف الأفعال‬
‫‪� -‬أخطاء من �أثر الت�صحيف‪ ،‬كـ(غذاء) بدال من (غداء)‪،‬‬
‫اخلم�سة وهي من�صوبة‪... ،‬‬
‫و(ينفذ) بدال من (ينفد)‪.‬‬
‫ال�صرف‪ ،‬ك�إثبات ياء املنقو�ص النكرة‬
‫‪� -‬أخطاء ت�سعها وجوه ّ‬
‫‪� -‬أخطاء من �أثر الرتجمة‪ ،‬كاالكتفاء بذكر حرف العطف قبل‬
‫يف حالتي اجل ّر والرفع‪ ،‬وتوهّ م �أ�صالة احلرف‪ ،‬والقيا�س على‬
‫املبني للمجهول‪... ،‬‬
‫املعطوف الأخري‪ ،‬و�إظهار الفاعل بعد ّ‬
‫التوهّ م‪.‬‬
‫‪� -‬أخطاء يف الر�سم ناجمة عن حماكاة املنطوق‪ ،‬مثل‪ :‬ذالك‪،‬‬
‫�شكلي‪ ،‬كاخلط�أ يف �إعراب ا�سم‬
‫‪� -‬أخطاء مر ّدها �إىل تقدير ّ‬
‫والكن‪... ،‬‬
‫(�إنّ ) �أو (كان) و�أخواتهما حينما يتق ّدم عليه اخلرب‪.‬‬
‫وبالرغم من �أنّ تف�سري كثري من هذه الأخطاء يف �ضوء‬
‫يف�سرها جن�س الكاتب‪� ،‬إذ يرى �أنّ و�ضع الرجل واملر�أة‬ ‫‪� -‬أخطاء ّ‬
‫اال�ستعماالت العرب ّية القدمية‪ ،‬ويف �ضوء الوجوه النحو ّية‬
‫العربي ربمّ ا انعك�س على ق�ضايا الت�أنيث والتذكري يف‬
‫ّ‬ ‫يف املجتمع‬
‫وال�صرف ّية املباحة لدى بع�ض النحاة واللغو ّيني‪ ،‬قد يوحي‬
‫اللغة‪ ،‬فكان �أن ر ّد �إىل ذلك �أخطا ًء من مثل �أن تكتب الطالبات‪:‬‬
‫ب�إمكانية ا�ست�ساغتها وقبولها على اعتبار �أ ّنها وجوه من‬
‫�أنا �آ�سف‪� ،‬أنا م�ص ّمم‪ ،‬ل�ست م�س�ؤو ًال ‪...‬‬
‫املهم هنا يتم ّثل‬
‫ربر ٌة وجائزة‪ ،‬ف�إنّ امللحظ ّ‬
‫اللغوي م ّ‬
‫ّ‬ ‫اال�ستعمال‬
‫يف �أنّ ل�صاحب هذه النظر ّية غاي ًة من ذلك خمتلف ًة ً‬
‫متاما‬ ‫يف�سرها العزوف عن تق�صري �أبنية الكلم‪ ،‬من مثل‪:‬‬‫‪� -‬أخطاء ّ‬
‫ف�سر به (تف�سريه و�إحاالته �إىل مرجع ّيات اخلط�أ)‪،‬‬ ‫ع ّما قد ُي َّ‬ ‫مل يتب ّقى‪ ،‬يف و�ضع مزري‪� ،‬أمل ت�ستغيث؟‬
‫وغاي ُت ُه جز ٌء من نظر ّيته القائمة من بع�ض زواياها على عدم‬
‫اللغوي بني الف�صحى والعام ّية‪،‬‬
‫ّ‬ ‫يف�سرها االزدواج‬
‫‪� -‬أخطاء ّ‬
‫تنفري �أبناء العرب ّية منها‪ ،‬وذلك ب�أن ُيف�سح لهم «جمال للأُ ْن�س‬
‫ومن �أبرز الأمثلة على ذلك‪ :‬الت�سكني‪ ،‬و�إلزام جمع املذ ّكر‬
‫واطراح اخلوف من �صعوبتها»(‪ ،)11‬لتوجيههم‬ ‫بالعرب ّية ّ‬
‫ال�سامل واملث ّنى الياء يف جميع احلاالت‪... ،‬‬
‫والأخذ ب�أيديهم نحو مراتب االختيار العليا‪.‬‬
‫‪� -‬أخطاء ترجع �إىل حت�صيل العرب ّية بالتع ّلم و�أدائها على وفق‬
‫لغوي يجري مع‬ ‫فاخلط�أ عند نهاد املو�سى (نامو�س ّ‬
‫اخلارجي‪ ،‬ومن ذلك‬
‫ّ‬ ‫الأ�صول املج ّردة ومنطق املعاين يف العامل‬
‫ُف�سر لتُمكننا‬ ‫م�سرية العرب ّية‪ ،‬وظاهرة ُم َ‬
‫نتظمة ينبغي �أن ت َّ‬ ‫املبا�شر) «لأ ّنهم‬
‫ِ‬ ‫املبا�شر) بد ًال من (البثّ‬
‫َ‬ ‫ا�ستعمال (البثُّ‬
‫‪‬‬ ‫‪‬‬
‫‪86‬‬

‫احلوا�شي‬ ‫ال�سيطرة عليها)‪ ،‬وال ميكن اال�ستمرار بقبول الو�ضع الراهن‬


‫الذي درج عليه اللغو ّيون من الت�ش ّدد �أحيا ًنا ح ّد �إخراج �أ ّية‬
‫‪ُ -1‬ينظر‪ :‬حم ّمد �ضاري ح ّمادي‪ :‬حركة الت�صحيح اللغويّ يف الع�صر احلديث‪.‬‬
‫و�إ�سماعيل الق ّيام‪�( :‬أخطاء الرتاكيب النحو ّية مادّة وحتليال؛ درا�سة يف كتب الت�صحيح‬ ‫ال�صواب‪� ،‬أو الت�ساهل الذي يبلغ‬ ‫خمالفة للف�صحى من دائرة ّ‬
‫اللغويّ يف الع�صر احلديث (ر�سالة ماج�ستري‪ ،‬جامعة الريموك‪. )1999 ،‬‬ ‫ح ّد ت�سويغ ما له وجه �ضعيف يف العرب ّية «حتّى كالم الأرمن‬
‫اخلوا�ص للحريري‬
‫ّ‬ ‫‪ُ -2‬ينظرعلى �سبيل التمثيل ال احل�صر‪ :‬د ّرة الغ ّوا�ص يف �أوهام‬ ‫املحدثني بالعرب ّية‪ ،‬وهو قائم على خمالفة فاقعة يف �أحكام‬
‫�ص ‪ 81‬؛ فقد ن ّبه على اخلط�أ يف تكرار الظرف (بني) مع اال�سم الظاهر‪ ،‬وما زالت‬ ‫اجلن�س‪ ،‬جتد له فيما ُ�سمع عن العرب م�س ّو ًغا وعذرا‪ .‬فقد‬
‫كتب الأخطاء ال�شائعة يف الع�صر احلديث تن ّبه على اخلط�أ نف�سه‪ .‬ومنها‪ :‬كتاب‬
‫حكى ابن ه�شام عن بع�ض العرب �أ ّنهم يقولون‪ :‬قال فالنة‪،‬‬
‫املنذر(�ص‪49‬و �ص‪ ،)51‬وكتاب الكتابة ال�صحيحة (�ص‪ ،)52‬ومعجم الأخطاء‬
‫ال�شائعة (�ص‪ ،)46‬وكتاب العرب ّية ال�صحيحة (�ص‪ ،)161‬وكتاب من الأخطاء‬ ‫بتذكري الفعل مع فاعله احلقيقي»(‪.)12‬‬
‫ال�شائعة يف النحو وال�صرف واللغة (�ص‪. )48‬‬
‫ومن �أُ ُطر (نظر ّية اخلط�أ) عند نهاد املو�سى �أن تُر�سم‬
‫‪ -3‬اللغة العرب ّية و�أبنا�ؤها‪� ،‬ص‪.88‬‬
‫اللغوي املن�شود‪ ،‬و ُتبينَّ معامله بو�ضوح‪ ،‬ابتدا ًء‬
‫ّ‬ ‫حدود امل�ستوى‬
‫‪ -4‬اللغة العرب ّية و�أبنا�ؤها‪� ،‬ص‪.14‬‬ ‫والنحوي‬
‫ّ‬ ‫من م�ستوى نطق الأ�صوات‪ ،‬ومرو ًرا بامل�ستوى ال�صر ّيف‬
‫‪ -5‬اللغة العرب ّية و�أبنا�ؤها‪� ،‬ص‪.15‬‬ ‫أ�سلوبي‪ ،‬ليته ّي�أ ل ّلغو ّيني �أن مي ّيزوا‬ ‫والدال ّ‬
‫يل‪ ،‬وانتها ًء بالت�شكيل ال ّ‬
‫‪ُ -6‬ينظر تف�صيل ر�أي نهاد املو�سى يف هذا املعيار‪ :‬اللغة العرب ّية و�أبنا�ؤها‪� ،‬ص ‪19‬‬
‫اللغوي‪ ،‬وما هو‬
‫ّ‬ ‫عن ب ّينة وب�صرية بني ما يقع يف دائرة ال�صواب‬
‫وما بعدها‪.‬‬ ‫ي�صح �أن ُين�سب �إىل اخلط�أ‪ ،‬و ُيبحث يف �أ�سبابه‬ ‫مما ّ‬ ‫خارجها ّ‬
‫‪ -7‬اللغة العرب ّية و�أبنا�ؤها‪� ،‬ص‪.17‬‬ ‫وعالجه‪.‬‬
‫‪ -8‬اللغة العرب ّية و�أبنا�ؤها‪� ،‬ص‪.151‬‬ ‫وميكن القول �أخ ًريا �إنّ تطوير هذه الأفكار التي ب ّثها نهاد‬
‫‪ -9‬اللغة العرب ّية و�أبنا�ؤها‪� ،‬ص‪ 121‬ـ ‪.150‬‬ ‫املو�سى يف كتابه (اللغة العرب ّية و�أبنا�ؤها)‪ ،‬وما � ّأ�س�سه عليها‬
‫اللغوي‪ ،‬مع حت ّرزه هو‬
‫ّ‬ ‫مما هو جدير ب�أن يك ّون نظر ّي ًة للخط�أ‬ ‫ّ‬
‫‪ -10‬اللغة العرب ّية و�أبنا�ؤها‪� ،‬ص‪.142‬‬
‫من �إطالق هذا امل�س ّمى على كتابه‪� ،‬أقول �إ ّنها خلليق ٌة ب�أن ُيبنى‬
‫‪ -11‬اللغة العرب ّية و�أبنا�ؤها‪� ،‬ص‪.155‬‬
‫أبحاث علم ّية‪ ،‬تهدف �أ ّو ًال �إىل حتديد معيار‬ ‫عليها درا�ساتٌ و� ٌ‬
‫‪ -12‬اللغة العرب ّية و�أبنا�ؤها‪� ،‬ص‪ .26‬و ُينظر مقالة لأ�سعد داغر يف كتاب �أغالط‬ ‫وا�ضح بينّ لل�صواب واخلط�أ يف اللغة‪ ،‬معيا ٍر يتّ�صف بقابل ّيته‬
‫اللغو ّيني الأقدمني‪ ،‬للأب �أن�ستا�س الكرملي‪ ،‬مطبعة الأيتام‪ ،‬بغداد‪،1932 ،‬‬
‫�ص‪ ،193‬فقد �ضاق �أ�سعد داغر ذات م ّرة بت�سويغات م�صطفى جواد‪ ،‬يف مقاالته‬
‫للتطبيق‪ ،‬و�سهولة تناوله من لدن الباحثني واللغويني‪ ،‬وتهدف‬
‫الكرملي‪ ،‬فقال داغر‪ « :‬ولكنّ احلكم (�أي‬ ‫ّ‬ ‫التي دافع فيها عن الأب �أن�ستا�س‬ ‫اللغوي‪،‬‬
‫ّ‬ ‫بعد ذلك �إىل ا�ستكمال بناء نظر ّية كربى للخط�أ‬
‫م�صطفى جواد) الذي اختاره الأب لي�س (باحلكم الترُ �ضى حكومته)‪ ،‬لأ ّنه � ٌّ‬
‫إباحي‬ ‫توظف فيها القدرات احلا�سوب ّية‪ ،‬واملنجزات الل�سان ّية‪ ،‬ليفيد‬ ‫َّ‬
‫ُيجيز ك ّل �شيء‪ ،‬فذ َّك َرنا قول �شاعر ظريف (ك ُّل �شيءٍ جائز يف العربي)‪ ،‬ف�إذا كتبتَ ‪:‬‬
‫كان زيد راكب‪ ،‬ا�ست�شهد مبن قال (�إذا متُّ كان النا�س �صنفان)‪ ،‬و�إذا كتبتَ ‪� :‬إنّ زيدً ا‬
‫التعليمي‪،‬‬
‫ّ‬ ‫منها وا�ضعو املناهج واللغو ّيون يف ت�صحيح امل�سار‬
‫ا�سنا ُ�أ�سدً ا)»‪.‬‬
‫�صحة ذلك بقول من قال (�إنّ ح ّر َ‬‫عاملًا‪ ،‬ا�ست�شهد على ّ‬ ‫وليتم ّكنوا من ا�ستبعاد اخلط�أ بالوقاية ال بالعالج‪.‬‬
‫‪‬‬ ‫‪‬‬
‫‪87‬‬

‫�آفـــاق الل�ســانيــــات‬
‫درا�سات – مراجعات – �شهادات‬
‫تكرمي ًا للأ�ستاذ الدكتور نهاد املو�سى‬

‫قراءة وحتليل‪ :‬د‪ .‬عبا�س عبد احلليم عبا�س‬

‫ال�ضرب من جتبيل العلماء‪ ،‬وح�سن �إكرامهم؛ فالعامل احلق‬


‫مل ي�سع يوم ًا‪ ،‬ولن‪ ..‬ملن�صب دنيوي‪� ،‬أو مك�س�سب ّ‬
‫مادي‪ ،‬فهو‬
‫يعلم حق العلم ب�أنّ هذا ك ّله عر�ض زائل‪« ،‬و�أما ما ينفع النا�س‬
‫فيمكث يف الأر�ض»‪.‬‬
‫�إنّ هذا ال�شرف الذي رامه جمموعة من الزمالء والأ�صدقاء‬
‫للحجة العالمة نهاد املو�سى يغبطهم عليه‬ ‫والتالميذ اخل َّل�ص ُ‬
‫كل من مل يتح له هذا الزمان فر�صة معرفة نهاد املو�سى عن كثب‬
‫�أو عن مقربة‪ ،‬وال �شك �أن كتاب (�آفاق الل�سانيات‪ :‬درا�سات –‬
‫مراجعات – �شهادات‪ :‬تكرمي ًا للأ�ستاذ الدكتور نهاد مو�سى)‬
‫ُيعرب بكل �صدق وو�ضوح‪ ،‬عن �أثر هذا الأ�ستاذ اجلليل يف �إعادة‬
‫االعتبار ملكانة العلم ‪ ،‬وت�سجيل �أروع الأمثلة و�أبهاها ل�صورة‬
‫الأكادميي العامل العامل‪ ،‬الذي ت�شد �إليه الرحال‪ ،‬فريومه طلبة‬
‫العلم من م�شارق هذا الوطن ومغاربه‪ ،‬لينهلوا من نبعه‪ ،‬علم ًا‬
‫عذب ًا فرات ًا‪ .‬وقد كان يل �شرف ذلك يوم ًا من الأيام‪.‬‬
‫لقد علت همة ه�ؤالء القوم ممن �شاركوا يف هذا ال�سفر‬
‫اجلليل نحو �أفق رحب‪ ،‬فراحوا يرودون جناح منجز معريف‬
‫خالد «تدركه املعرفة وال حتيط به ال�صفة»‪ ،‬فما كان من‬
‫الزميل هيثم �سرحان الذي �أ�شرف وحرر �إال �أن يلج�أ �إىل خطة‬
‫الت�صنيف والتق�سيم ملا ت�ضمنه هذا الكتاب الثمني‪ ،‬جاع ًال من‬ ‫حني ت�سمو الأمة بروحها‪ ،‬وتتدفق ينابيع �إرادتها‪ ،‬نحو همة‬
‫ر�ؤى و�أفكار لثمانية وع�شرين حمب ًا من حم ّبي نهاد املو�سى‪،‬‬ ‫ال تدانيها همة‪ ،‬فاعلم �أنها �أمة تجُ ّل علما َءها‪ ،‬وتفاخر بهم‪...‬‬
‫حماور مهمة لثالثة �أق�سام على النحو الآتي‪:‬‬ ‫واعلم �أنّ هذا الكتاب الذي بني �أيدينا �صورة م�شرقة لهذا‬

‫�أ�ستاذ الأدب العربي يف اجلامعة العربية املفتوحة ‪ -‬ع ّمان‪.‬‬


‫‪‬‬ ‫‪‬‬
‫‪88‬‬

‫حبرّ وا هذه البحوث لنجد �أنها تتفق يف ائتالفها واختالفها ؛‬ ‫الق�سم الأول‪ :‬الدرا�سات املُهداة (يف الل�سانيات ‪ ،‬ويف النقد‬
‫ففي االئتالف تربز مفردة ( اللغة ) رابط ًا مهيب ًا يربط الكون‬ ‫وحتليل اخلطاب)‪ ،‬وهي‪:‬‬
‫العام للطروحات الواردة يف الن�صو�ص امل�شار �إليها �سابق ًا ‪ ،‬وهي‬ ‫‪ -‬عودة �إىل مفهوم الكلمة‪ ،‬لعبد القادر املهريي‪.‬‬
‫�سبب ان�ضمامها هنا لتكرمي �أحد امل�شتغلني بها ممن �أم�ضوا‬
‫ب�ضعة عقود من �سنى عمرهم يف خدمتها ‪ ،‬وت�صور م�ساراتها‬ ‫‪ -‬املنحى الل�ساين الوظيفي يف الثقافة العربية‪ ،‬لأحمد‬
‫وم�آالتها ‪ ،‬وت�أمل حلول م�شكالتها ومع�ضالت التوا�صل بها‬ ‫املتوكل‪.‬‬
‫ومعها ‪ ...‬ول�ست �أدري كيف ميكن الولوج �إليها يف هذه العجالة‬ ‫‪ -‬تدري�س الل�سانيات باللغة العربية‪ ...‬مل�صطفى غلفان‪.‬‬
‫؟! �أ�أخل�صها ؟ �أم �أت�أملها ؟ �أو تراين �أختار مناذج منها ؟! رمبا‬
‫أف�ضل الإ�شارة لبع�ضها‬ ‫يكون ذا ‪ ...‬ولعله هذا وذاك ‪ .‬ولكني � ّ‬ ‫‪ -‬هند�سة التوازي النحوي وبنية الذهن املعرفية ‪ ،‬ملحمد‬
‫للداللة عليها كلها ‪ ،‬و�أح�سبكم تعذرون ‪.‬‬ ‫غاليم‪.‬‬

‫و�إن ما كتبه عي�سى برهومة عن ‪� ( :‬س�ؤال اللغة ‪ :‬الهوية‬ ‫‪ -‬الرتابط الذهني بني امل�ستويات اللغوية ‪ ،‬لتوفيق قريرة ‪.‬‬
‫وزمن التحوالت ) ليغري بالقول �إنّ هذه الدرا�سة مبثابة‬ ‫‪ -‬ت�أ�سي�س ًا للمعجم التاريخي العربي ‪ ،‬ملحمد ر�شاد احلمزاوي‪.‬‬
‫الهم الذي‬‫الب�ؤرة التي تنطلق منها بقية الدرا�سات ‪� ،‬أعني �أنّ ّ‬
‫‪� -‬س�ؤال اللغة ‪ :‬الهوية وزمن التحوالت ‪ ،‬لعي�سى برهومة ‪.‬‬
‫حتمله يحمل كل بحث �آخر يف هذا الكتاب طرف ًا منه ‪ ،‬ولقد‬
‫قال هيثم �سرحان يف تقدميه ‪ « :‬يتجاوز هذا الكتاب الت�أليف‬ ‫‪ -‬البناء الت�أريخي للغة العربية ‪ ،‬حليدر �سعيد ‪.‬‬
‫الفردي �إىل الت�أليف اجلماعي الهادف �إىل مقاربة هواج�س‬ ‫‪ -‬اللهجات العربية ‪ :‬حمددات و�سمات ‪ ،‬لرثيا خربو�ش ‪.‬‬
‫الباحثني يف الل�سانيات ‪ ،‬والبحث يف جدواها ووظائفها‬
‫املعرفية ومداراتها التطبيقية ‪ .‬وهذا ال ي�أتي بطبيعة احلال‬ ‫‪ -‬حول تلقي حممود دروي�ش يف اللغة الأملانية ‪ ،‬لإبراهيم �أبو‬
‫لفرد واحد‪� ،‬إنه بحاجة ملجموعة من الباحثني الذين يحاولون‪،‬‬ ‫ه�شه�ش ‪.‬‬
‫ك ّل من جهة اهتمامه ‪ ،‬البحث عن �آ�صرة ت�ش ّده بهذا البنيان‬ ‫‪� -‬إبداع الن�ص وقراءته ‪ :‬بني التفكيك والرتكيب ‪ ،‬خلالد‬
‫الكبري ‪ .‬ثم �إنّ الكتاب اجلماعي �أعمق �أثر ًا و�أ�ش ّد ت�أثر ًا يف‬ ‫اجلرب‪.‬‬
‫الإحاطة بهذه الهواج�س التي ينوء الفرد بحملها ‪ ،‬عالوة على‬
‫‪ -‬احلفلة العابرة للتاريخ ‪ ،‬لأحمد خري�س ‪.‬‬
‫�أنّ للكتاب اجلماعي ف�ضائل معرفية جليلة ‪ ،‬لع ّل �أبرزها التن ّوع‬
‫‪ ،‬واالختالف والإ�ضافة ‪ ،‬وهي عنا�صر تق�ضي بال�ضرورة ‪� ،‬إىل‬ ‫‪ -‬خطاب املر�أة ‪ :‬التاويل والت�أويل امل�ضاد ‪ ،‬ل�ضياء الكعبي ‪.‬‬
‫�س�ؤال الناظم املنهجي الذي يبدو كامن ًا كمون البيان يف التباين‬
‫‪� -‬سلطة الفقهاء على ال�شعر الأندل�سي ‪ ،‬لعي�سى الوادعي ‪.‬‬
‫« ‪ .‬وهو التباين املف�ضي �إىل لذة الل�سان بتذوق �ضروب �شتى‬
‫من ال�شراب والطعام ‪ ،‬والتطلع �إىل امتدادات الزمان واملكان ‪،‬‬ ‫‪ -‬خطاب الكدية ‪ :‬من الإقامة خارج اجلماعة �إىل نهاية التاريخ‬
‫وت�سخري الأكوان خلدمة الإن�سان ‪ .‬متو�سلني مبا يدعونه ( اللغة‬ ‫‪ ،‬لهيثم �سرحان ‪.‬‬
‫‪ /‬الل�سان ) ‪ « :‬فاللغة ت�ش ّكل ذواتنا وت�صوغ الآخر يف ذهننا‬ ‫بحوث ودرا�سات‪( :‬الر�أي قبل �شجاعة ال�شجعان ‪)...‬‬
‫املختزل ‪ ،‬وهي الوعاء احلا�ضن ملنجزات احل�ضارة ‪ ،‬وتعد‬
‫ال�شاهد الأمني على تاريخ الأمة ‪ ،‬وم�سار تطورها ‪ ،‬وعنوان‬ ‫ولننظر �إىل هذا الرثاء املعريف الذي تفي�ض به قرائح من‬
‫‪‬‬ ‫‪‬‬
‫‪89‬‬

‫�أ�سئلة و�أ�سئلة ‪� ،‬آالم و�آمال ‪ ...‬واحلديث ذو �شجون وحالنا‬ ‫وحدتها ‪ ،‬ورمز هويتها « كيف ؟ ومل ؟ وب�أي وجه من الوجوه‬
‫حالك يا من تقول ‪:‬‬ ‫ي�صاغ هذا الو�صل بني هاتني ال�شقيقتني ‪ :‬اللغة ‪ /‬الهوية ؟‬
‫ولعل برهومة يجد يف مقالة الفيل�سوف الأملاين هيدغر بع�ض‬
‫قد �س�ألنا ونحن �أدرى بنجد‬
‫�ضالته ‪� « :‬إنّ لغتي هي م�سكني ‪ ،‬هي موطني وم�ستقري ‪ ،‬هي‬
‫�أطويل طريقنا �أم يطول‬ ‫حدود عاملي احلميم ‪،‬ومعامله وت�ضاري�سه ‪ ،‬ومن نوافذها ومن‬
‫خالل عيونها �أنظر �إىل بقية �أرجاء الكون الوا�سع ‪ ،‬فاللغة هي‬
‫وكثيــر من ال�س ـ�ؤال ا�شــتياق‬
‫التي تدل على هوية الفرد وتك�شف عن ذاته ومن هو « ‪ .‬ولهذا‬
‫وكثي ــر مــن ر ّده تعليـ ـ ــل‬ ‫كان للهوية هذه العلقة باللغة ‪ ،‬وكان للفال�سفة و�أهل ال�سيا�سة‬
‫و�أخري ًا يردد مو�سى برهومة مع غاندي ‪ « :‬ال �أريد ملنزيل �أن‬ ‫والإعالم ‪ ،‬والأدب وغريهم ‪ ...‬هذا النظر �إىل اللغة ك ّل من‬
‫حتيط به اجلدران والأ�سوار من كل جانب ‪ ،‬وال �أريد لنوافذي‬ ‫زاويته ‪ :‬فمنهم من يعلي من �ش�أنها ‪ ،‬ويحرتمها ‪ ،‬ويحافظ‬
‫�أن تُ�س ّد وتو�صد ‪� ،‬إين �أريد لثقافة كل البقاع �أن تهب بن�سائمها‬ ‫عليها ‪ ،‬ومنهم من يجعلها هدف ًا م�ست�ساغ ًا ل�سموم �سهامه‪....‬‬
‫حول داري ب�أكرب درجة ممكنة من احلرية ‪ ،‬ولكنني �أرف�ض �أن‬ ‫وبني هذا وذاك نرى �إىل �أبنائنا بعيون احل�سرة والأمل ‪ ،‬وهم‬
‫تع�صف رياح الثقافة بقدمي ب�أي حال من الأحوال « ‪.‬‬ ‫يرحلون عن لغتهم وتراثهم وهويتهم ! بكثري من العبثية‬
‫والالمباالة ‪ ،‬وهم حق ًا غاية املتنبي ومبتغاه يف قوله ‪:‬‬
‫هكذا تكون اخلريية التي �أرادها اهلل لهذه الأمة « كنتم‬
‫خري �أمة �أخرجت للنا�س « فكيف تكون خرييتها �إن �أو�صدت‬ ‫�إذا ترحلت عن قوم وقد قدروا‬
‫�أبوابها بوجه النا�س ؟ !‬ ‫�أن ال تفارقهم فالراحلون هم‬
‫ال ي�سع املقام – بكل �أ�سف – لت�أمل �أفكار ما تب ّقى من‬ ‫فاللغة ‪ ،‬كما ي�ضيف برهومة « ت�ساوي الهيمنة وترتبط بها‬
‫بحوث ب�شيء من التف�صيل ؛ لكن الب�أ�س فيما قل ّودل‪ ...‬فعبد‬ ‫‪ ،‬وهذا يعني القوة ‪ ،‬لكن اللغة لي�ست هيمنة يف ح ّد ذاتها ‪،‬‬
‫القادر املهريي ‪ ،‬يعيدنا �إىل مفهوم ( الكلمة) �إىل «ما بني‬ ‫بل الهيمنة من يع ّليها �أو من مييتها ‪ ،‬ويعد ابن خلدون اللغة‬
‫ال�صلب والرتائب» ليحفزنا �إىل املزيد من النظر يف الوحدة‬ ‫امل�ستخدمة لغة املغالبني ‪ ،‬فكانت �آنذاك اللغة العربية ‪ ،‬وغدت‬
‫القابلة للتنا�سل �إىل وحدات مفيدة �أي�ض ًا ‪� .‬أما �أحمد املتوكل‬ ‫املهيمنة وامل�ستخدمة ‪ .‬كما �أنها اللغة ال�شرعية التي �أ�ضفت على‬
‫الذي ق ّدم خطاطة عن املنحى الل�ساين الوظيفي يف الثقافة‬ ‫ال�شخ�صية العربية خلود ًا وا�ستمرارية يف احلفاظ على الطابع‬
‫العربية ‪ ،‬ي�ؤكد على براغماتية اللغة ونفعيتها يف حياتنا الكلية‬ ‫العربي وهويته ‪ ،‬وال يجوز ا�ستخدام �أي لغة �أخرى خا�صة يف‬
‫ت�سخر اللغة لتحقيق التوا�صل ‪ ...‬لكن التوا�صل الذي‬ ‫‪ ،‬حيث ّ‬ ‫الن�ص املقد�س وال�صالة ‪ ....‬ويورد ر‪ .‬ل ‪ .‬ترا�سك مثا ًال على‬
‫يت�أتى بتدابري تراعى ‪ ،‬و�إجراءات تتخذ ‪ ،‬لإيجاد جيل واع‬ ‫احلفاظ على اللغة حفظ ًا للهوية ب�أنّ هناك �س ّباك ًا ي�ستخدم لغة‬
‫حلقيقة هذا التوا�صل ‪ ،‬يحياه بع�شق ‪ ،‬وميار�سه ب�إبداع ‪ ...‬و�إال‬ ‫خا�صة بطبقته ‪ ،‬وحني يتخلى عن هذه اللغة ويتعلق بلغة �أخرى‬
‫كان مثلنا مثل كي�سان مع �أ�ستاذه �أبي عبيدة ‪ ....‬ف�إن قيل لهذا‬ ‫لي�ست لغة طبقته ‪ ،‬يكون قد تخلى عن طبقته وعن هويته ‪،‬‬
‫الأول ‪ :‬بكر ‪� :‬سمعها ب�شر ‪ ،‬وكتبها عمرو ‪ ،‬وقر�أها زيد ‪...‬‬ ‫وك�أنه يقول ‪ :‬مل �أعد واحد ًا من جماعتكم ‪� « ...‬إذن ‪ ،‬ما بال‬
‫ف�صار كالمـنا رماد ًا (على ما روى نهاد املو�سى يف مقال له)‬ ‫هذه الأمة تن�أى بنف�سها عن جوهر وجودها ‪ ،‬وكينونة بقائها «‬
‫‪ .‬وهذه احلال التي �أ�شرت �إليها �شغلت م�صطفى غلفان الذي‬ ‫وحبة عينها « ؟!‬
‫‪‬‬ ‫‪‬‬
‫‪90‬‬

‫الذي يحيط مبكوناتها ‪ ،‬و�أ�صولها ‪ ،‬وتاريخها « ‪� .‬أمل َن ُقل مع «‬ ‫تناول مو�ضوع (تدري�س الل�سانيات ‪ ...‬بني الهاج�س الرتبوي‬
‫غاندي « ‪« :‬ال �أريد لنوافذي �أن تُ�سد وتو�صد ‪ « ...‬؟!‬ ‫واملتطلبات العلمية) فهو ‪ ،‬و�إن مل يخ�ش علينا من كي�سان ‪،‬‬
‫�إال �إنه يالحظ « �أن �إعادة النظر يف تراكيب اللغة و�صرفها‬
‫و�إذا يح ّلق بنا �إبراهيم �أبو ه�شه�ش يف عوامل ال�شعر ‪ ،‬عوامل‬
‫ودالالتها ومعجمها من منظور الل�سانيات احلديثة واملعا�صرة‬
‫حممود دروي�ش ‪ ،‬مثا ًال تطبيقي ًا على حوارية الذات والآخر‬
‫مل تت�أت لنا بعد « ! ‪.‬‬
‫يف �أكوان الإبداع ‪ ،‬واحلوارية ‪ ...‬واملثاقفة ‪ ...‬وهي نوع من‬
‫الإبداع �أي�ض ًا ‪ ،‬فكان ما كتبه �أبو ه�شه�ش عن ( تلقي دروي�ش‬ ‫ولكن حممد غاليم الذي در�س ( هند�سة التوازي النحوي)‬
‫يف الأملانية) برهان ًا �ساطع ًا على دور اللغة ‪ /‬ال�شعر يف �صناعة‬ ‫يعرب بنا �إىل �آفاق النظرية الذهنية واملعرفية ‪ ،‬ويعيد �إلينا �إرث‬
‫الهوية ‪ ،‬ترى ما الذي �سيقوله الأملان حني يقر�أون ‪:‬‬ ‫ت�شوم�سكي ‪ ،‬وهو �إرث قدمي يتجدد ‪ ،‬ليقف بنا على �أهمية درا�سة‬
‫املوقف الذهني والنف�سي يف درا�سة الظاهرة الل�سانية ‪ .‬وهو ما‬
‫كالمك كان �أغنية‬
‫يتجدد عند توفيــق قريرة �إذ يبحث يف ( الرتابط الذهني بني‬
‫وكنت �أحاول الإن�شاء‬ ‫امل�ستويات اللغوية ) ع ّلنا نفهم الكينونية التي يعمل بها الذهن‬
‫�أثناء �إنتاج الكالم « وما �أوتيتم من العلم �إال قليال «‪.‬‬
‫لكنّ ال�شقاء �أحاط بال�شفة ‪ /‬الربيعية‬
‫وحني يتحدث حممد ر�شاد احلمزاوي عن ( املعجم‬
‫كالمك كال�سنونو طار من بيتي‬
‫التاريخي العربي ) جندنا نتجه بالبحث وجهة �أخرى ‪ ،‬فيتخذ‬
‫فهاجر باب منزلنا‬ ‫احلمزاوي من درا�سة م�صطلح ( الت�ضمني ) منوذج ًا ومثا ًال ‪،‬‬
‫وعتبتنا اخلريفية‬ ‫�أخرجه يف هذا البحث من بيئته ال�شعرية �إىل بيئاته البيانية‬
‫والإبداعية املفتوحة على قراءات ثرية ومتعددة ‪ ،‬ت�شهد على‬
‫وراءك حيث �شاء ال�شوق وانك�سرت مرايانا‬ ‫ذهنية فيها من الت�أويل والتخريج ما من �ش�أنهما �أن مي ّكنا‬
‫ومللمنا �شظايا ال�صوت‬ ‫الدار�سني العرب املعا�صرين من اعتمادهما مفتاح ًا لق�ضية‬
‫التطوير ودعمه ‪ ...‬وعلى بناء ( �أ�سلوبية ) �إن مل تكن (‬
‫مل نتقن �سوى مرثية الوطن‬ ‫ت�ضمينية ) عربية دولية ‪ ،‬لها جذور �ضاربة يف تاريخ الفكر‬
‫�سنزرعها مع ًا يف �صدر قيثار‬ ‫الل�ساين العربي الإ�سالمي « ‪ .‬لي�س هذا فح�سب ‪� ،‬إمنا « بناء‬
‫ذاكرة ثقافية عربية تت�ضمن ر�سم املا�ضي ‪ ،‬و�إحياء كل ما‬
‫وفوق �سطوح نكبتنا‬ ‫ميكن �أن ميثل عن�صر ًا يف النظام الثقايف العربي « �أجمع ‪ ،‬على‬
‫�سنعزفها‬ ‫ما يقول حيدر �سعيد يف ( البناء الت�أريخي للغة العربية ) ‪.‬‬

‫لأقمار م�ش ّوهة و�أحجار‬ ‫�أما ثريا خربو�ش ‪ ،‬فقد دافعت عن ( اللهجات العربية)‬
‫عم عن غلط هذه اللهجات وف�سادها ‪� ،‬أن‬ ‫وحاولت برغم ما ّ‬
‫ومبا �أن الإبداع هو حمور الق�سم الآخر من الدرا�سات ‪،‬‬ ‫توجه الأنظار �إىل « ت�صورات �أخرى تقول ب�ضرورة ر�صد ُبنى‬
‫ف�إن خالد اجلرب يث ّني ببحث عن ( �إبداع الن�ص وقراءته بني‬ ‫هذه الأنواع اللغوية ر�صد ًا متطور ًا ‪ ،‬وحتديد خ�صائ�صها ‪،‬‬
‫التفكيك والرتكيب ) فيعمق مقالة �سابقة ‪ ،‬ليق ّدر « �أنّ الذات‬ ‫وحمدداتها �سعي ًا �إىل الك�شف عن �أ�سرارها ‪ ،‬وفك الغمو�ض‬
‫‪‬‬ ‫‪‬‬
‫‪91‬‬

‫انّ مكدي احلريري كان �صاحب بالغة و�أدوات حجاجية‬ ‫املبدعة تف ّكك املنظومة الرمزية املركبة لعامل الواقع وتعيد‬
‫مبدعة ‪ ،‬اما مكدي ع�صرنا و�أمتنا ‪ ،‬فلي�س �إال غ ّر ًا جاه ًال‬ ‫�صياغتها لغوي ًا يف الن�ص ‪ ،‬و�أن القاريء يف ّكك املنظومة‬
‫ومندفع ًا ‪ .‬لي�س كاندفاع الق�ضاة الذين كتب عي�سى الوادعي‬ ‫الرمزية املركبــة لغوي ـ ًا يف الن�ص ليعيد ر�سم الواقع الذي‬
‫عن ( �سلطتهم على ال�شعر يف ع�صر املرابطني ) ذلك �أنهم‬ ‫ّ‬
‫تن�ش�أ ال ّن�ص ( فيه ) �أو ( له ) ‪ ،‬وما �أجمل اختياره لدروي�ش‬
‫كانوا ميار�سون ما ميار�سون على �شعراء ع�صرهم ت�سلط ًا‬ ‫�إذ يقول‪:‬‬
‫وهيمنة ‪ ،‬يت�سا َءل الباحث عن طبيعتها وطبيعة �آثارها ‪ ،‬وما‬
‫�شـ ـ ــا َد بيـ ـ ــوتـ ـ ًا يف اللغـ ـ ْة‬ ‫كلما انها َر جدار حولنا‬
‫جلبته و�صايتهم من �ش ّر �أ�ضر بتاريخنا الإبداعي يف ذلك‬
‫الع�صر ‪.‬‬ ‫بجمل ْة‬
‫بنى اجلنة ‪ ،‬وامتد ُ‬ ‫كلما �ضـ ـ ــاق بن ــا ال َبـ ُّر‬
‫و�إن كان مكدو احلريري يقيمون خارج اجلماعة ‪ ،‬ويقيم‬ ‫و�إذا كانت اللغة و�أ�شجانها هي ( ليل النابغة ) على حد‬
‫الفقهاء خارج الإبداع ‪ ،‬فكيف �أقام خطاب املر�أة خارج‬ ‫تعبري نهاد املو�سى ‪ ،‬فيما كتب ون�شر من �أمرها ‪ ،‬فقد كان‬
‫امل�ألوف واملعروف ؟ هذا ما تناولته �ضياء الكعبي عرب مقاربة‬ ‫لأ�شكال الإبداع الأخرى ‪ ،‬غري ال�شعر ‪ ،‬مكان ًا ومكانة يف هذا‬
‫ال�سجايل يف عملني لنظرية زين‬ ‫ال�سرتاتيجيات اخلطاب ّ‬ ‫ال�سفر ‪ ،‬فكتب �أحمد خري�س عن رواية خريي �شلبي ( رحالت‬
‫الدين ( ال�سفور واحلجاب ‪ ( ) 1928‬والفتاة وال�شيوخ ‪1929‬‬ ‫الطر�شجي واحللوجي ) من خالل فكرة ( �آلة الزمن ) وهي‬
‫) ممثلني للخطاب التنويري العربي النه�ضوي ‪� ،‬صدرا عن‬ ‫زاوية تتغلغل يف التاريخ ‪ ،‬التاريخ الذي هو بد�ؤنا وجذرنا وتراثنا‬
‫مفكرة نه�ضوية رائدة ‪� ،‬أ ّكدت قدرة املر�أة ومتكنها من امتالك‬ ‫‪ ،‬ليق ــيم مقاربته خلطابها الروائي وفق ما ي�سمى (بالرحلة‬
‫نا�صية احلجاج و�آلياته الفكرية والفنية ‪ ...‬مبا يعرب عن‬ ‫العابرة للقارات) ‪ ...‬ونت�ساءل مع خري�س يف النهاية ‪� :‬إىل � ّأي‬
‫حاجتنا لأن تقف املر�أة العربية املعا�صرة يف كل ميادين الفكر‬ ‫حد نحن بحاجة �إىل هذا ال�شوق الفانتازي لنخلق عواملنا ‪،‬‬
‫والفن ت�شارك الرجل �صناعة ثقافة عربية معا�صرة ت�ستند �إىل‬ ‫بلغتنا ‪ ...‬بكالمنا ‪ ...‬بحروفنا ‪ ...‬بوقع (�أ�صواتنا) التي غدا‬
‫�ضوابط �إن�سانية و�أخالقية عربية �أ�صيلة ‪ ،‬وتنفتح على �آفاق‬ ‫كل واحد من �أ�صحابها ‪« :‬غريب الوجه واليد والل�سان «‪.‬‬
‫ال�شراكة العاملية والرتاث الإن�ساين الذي يحفظ كرامة االثنني‬
‫و�إذا كان �أحمد خري�س قد �أم�سك بهذا الدمار التاريخي عند‬
‫مع ًا ( رج ًال �أو مر�أة ) ويدفع بهما نحو تعمري الأر�ض والف�ضاء‬
‫�شلبي ‪ ،‬ف�إن هيثم �سرحان مي�سك بنهاية التاريخ عند احلريري‬
‫مبا ينفع النا�س ‪ ،‬وال �سيما ونحن نعي�ش م�ستجدات الدرا�سات‬
‫‪ ،‬عرب درا�سة يف (خطاب الكدية ‪ ...‬وبالغة احلجاج) ير�صد‬
‫الن�سوية واجلندرية ‪ ،‬وحتوالت العلم واملعرفة التي يجدر بنا �أن‬
‫الباحث بنياته وخ�صائ�صها الل�سانية للو�صول �إىل طروحات‬
‫ن�سهم يف �صياغتها وتوجيهها بعيد ًا عن منطلق النعامة ‪ ،‬ود�س‬
‫تف�سر جوانب الإبداع يف خطاب الكدية بو�صفه خطاب ًا‬ ‫نقدية ّ‬
‫الر�أ�س يف الرتاب !‬
‫مقيم ًا خارج اجلماعة ‪ ...‬ولعلني �أ�سرف قلي ًال يف ت�أويل مرامي‬
‫نهاد املو�سى‪ ...‬مراجعات‪ ( :‬لك يا منازل ‪)...‬‬ ‫هيثم �سرحان من �إعادة الأذهان �إىل (الكدية) حني نت�ساءل‬
‫‪ ،‬و�أمتنا على ما هي عليه من حال ‪� :‬أما �آن لنا �أن نخلع عباءة‬
‫لقد �أح�سن هيثم �سرحان �إذ جعل البحوث العلمية املتعلقة‬
‫الكدية ‪ ...‬العلمية ‪ ...‬وال�سيا�سية ‪ ...‬واالقت�صادية ‪ ،‬التي جعلت‬
‫مبنجز نهاد املو�سى و�سط الكتاب ‪ ،‬و�إنها لوا�سطة العقد ‪،‬‬
‫هذه الأمة – �إال من رحم ربي – تغادر جلدها لتتزيى بجلود‬
‫وكانت درا�سة حممد ر ّباع ( البنية االئتالفية يف منهج نهاد‬
‫الآخرين ؟؟! ‪.‬‬
‫املو�سى ) فاحتتها ‪ ،‬ع ّرج فيه على معظم ما �ألف نهاد ‪ ،‬مو�ضح ًا‬
‫‪‬‬ ‫‪‬‬
‫‪92‬‬

‫�شهادات‪( ...‬فليت �أنّا بقدر احلب ‪)...‬‬ ‫كيف اتخذ من �أ�صول النظرية النحوية وتفريعاتها بيان ًا عما‬
‫انطوت عليه من نظر معجب ‪ ...‬متجاوز ًا �أعمال الو�صفيني‬
‫ال�شهادة �أمانة ي�ؤديها �صاحبها ‪ ،‬وم�ضمونها يك�شف – كما‬
‫العرب ‪ ،‬مالقي ًا غري قليل من املناهج احلديثة ‪ .‬وم�شري ًا �إىل‬
‫يفرت�ض له – �صدق ًا معرفي ًا ‪ ،‬و�إن�ساني ًا ‪ ...‬وجدناه يف �شهادات‬
‫عناية نهاد املو�سى بدرا�سة التغري الذي يدهم بنية العربية ‪...‬‬
‫كل من ‪:‬‬ ‫بهم «تي�سريها» على نحو مو�صول ‪ ...‬مع احلذر كل‬ ‫م�أخوذ ًا ّ‬
‫‪ -‬علي حمافظة ( نهاد املو�سى ‪� :‬سيبوية الأردن )‬ ‫احلذر من كل تهديد لثبات العربية ومنائها ‪.‬‬
‫‪ -‬حممد �شاهني ( نهاد املو�سى ‪ :‬كما �أعرفه )‬ ‫وب�سبب الديدن العلمي واملنهجي الذي ات�سمت به �أعمال‬
‫نهاد املو�سى ‪ ،‬ت�أتي الدرا�سة الثانية لبحث (املنهج الل�ساين)‬
‫‪ -‬فهمي جدعان ( الأنا الآخر )‬
‫املعا�صر عنده ‪ ،‬يقدم من خاللها عبد اهلل اجلهاد ملحوظات‬
‫‪ -‬مو�سى الناظر ( مع �أبي �إياد يطيب امل�شوار )‬ ‫علمية متخ�ص�صة ‪ ،‬ت�ضع جهد نهاد املو�سى التطبيقي مو�ضعه‬
‫ع�صامي يف وجه الريح)‬ ‫‪� -‬إبراهيم ال�سعافني ( نهاد املو�سى ‪:‬‬ ‫ال�صحيح يف �سياق الدر�س الل�ساين املعا�صر ‪ ،‬وكذا يذهب‬
‫ّ‬
‫عطا مو�سى يف مناق�شته (للمالمح التداولية يف درا�سات نهاد‬
‫‪ -‬حممد ح ّور ( نهاد املو�سى ‪ :‬غزارة علم ‪ ،‬وتوا�ضع عامل )‬ ‫املو�سى) �إىل �أن الرجل �أ�سهم �إ�سهام ًا فعا ًال يف ت�شكيل النظرية‬
‫‪ -‬عودة �أبو عودة ( �ستكتب �شهاداتهم وي�س�ألون )‬ ‫اللغوية احلديثة ‪ ،‬وراح ير�صد معامل التداولية يف جهود املو�سى‬
‫من خالل حمورين ‪ :‬اللغة العربية ‪ ،‬والدر�س الل�ساين احلديث‬
‫‪� -‬إبراهيم عثمان ( ت�صورات حول نهاد املو�سى و�أفكاره )‬ ‫‪ ،‬ويف الدرا�سة ما ميكن �أن يجلو ما رمى �إليه الباحث من‬
‫فحني يعيدنا علي حمافظة لأربعني �سنة خلون يف كلية‬ ‫تف�صيالت ‪.‬‬
‫يح�س القاريء بفتوة العامل وامتداد‬
‫الآداب باجلامعة الأردنية ّ‬ ‫وال يقف وليد العناتي عند الل�ساين �إمنا ميتد به �إىل‬
‫حياته احلقيقي ‪ ،‬ومبا حتفظه �أذهان الزمالء من �شبكة‬ ‫الثقايف ‪ ،‬فيقدم يف حتليله لكتاب نهاد املو�سى (اللغة العربية‬
‫ذكريات يحلو لهم �سردها ‪ ،‬ويلذ لنا �سماعها ‪ ،‬حول مراحل‬ ‫يف الع�صر احلديث ‪ :‬قيم الثبوت وقوى التح ّول) قراءة متعمقة‬
‫طلب العلم ‪ ،‬والعمل ‪ ،‬وال�سفر ‪ ...‬وغري ذلك ‪ .‬وي�شري حممد‬ ‫تو�ضح كيف بدا الكتاب خطاب ًا ا�ستثنائي ًا يتجاوز اخلطاب‬
‫�شاهني �إىل اختالف النا�س وجدلهم حول نهاد املو�سى ‪ ..‬وهو‬ ‫الل�ساين االعتيادي من حيث املتلقني ‪ ...‬ويتحول من اخلا�ص‬
‫الذي ( ما ) نام ملء جفونه عن �شواردها ‪ ،‬بل �سهر مع من‬ ‫�إىل العام ‪ ،‬من الل�ساين املتخ�ص�ص �إىل املثقف العربي عموم ًا‬
‫�سهروا واخت�صموا‪ ...‬لكن �شاهني الذي عرف نهاد املو�سى‬ ‫‪ ،‬لر�ؤيته �أنّ اللغة العربية وق�ضاياها املعا�صرة ‪ ،‬وما تواجهه‬
‫حق املعرفة ‪ ،‬يقرر �أنّ املو�سى تراثي حداثي يتمتع بتقدير رفيع‬ ‫هم الل�ساين‬
‫هم الل�ساين وحده ‪� ،‬إمنا هي ّ‬ ‫من تهديدات مل تعد ّ‬
‫داخل الأردن وخارجه ‪ ،‬تراثه احلقيقي ( ما �أحبه ب�صدق )‬ ‫والإعالمي واملعلم والطبيب والناقد الأدبي ‪ ،‬والتاجر واملمثل‬
‫‪ ....‬مل ي�سع ملال �أو جاه ‪ .‬وها هو ذا فهمي جدعان يثني على‬ ‫هم ه�ؤالء جميع ًا ‪ .‬كما هي متام ًا ق�ضية ( التح ّول �إىل‬
‫‪� ...‬إنها ّ‬
‫ما قاله �شاهني ‪ ،‬من �أن نهاد املو�سى كان خري من يرجع �إليه‬ ‫الف�صحى ) تلك التي قاربها يو�سف ربابعة ‪ ،‬انطالق ًا من �س�ؤال‬
‫العامل والأكادميي واملفكر ناهيك عن التلميذ ‪ ،‬ومع ذلك فقد‬ ‫كبري لنهاد املو�سى حول ( �إمكانية التدخل يف عادات النا�س‬
‫كان املو�سى وفق �شهادة جدعان ‪ ،‬خري من يعرتف بجهود‬ ‫الكالمية ‪ ،‬والتحكم يف امل�ستوى اللغوي الذي ي�ستعملونه ) وهنا‬
‫الآخرين ويق ّدرها ‪.‬‬ ‫يحاول ربابعة جالء م�شروع نهاد املو�سى وقابليته للتطبيق‪.‬‬
‫‪‬‬ ‫‪‬‬
‫‪93‬‬

‫�أفرادها ‪ ،‬حام ًال �صخرته ك�سيزيف ‪ ،‬دون �شكوى �أو ت ّ‬


‫ربم �إىل‬ ‫وجميل ‪ ،‬بل طريف ذاك اجلمع بني ( اللغة والكيمياء )‬
‫�إن �أثمرت جهوده ‪ ،‬وح�صد نتاج غر�سه ‪ ..‬الذي م�ضى يحكي‬ ‫يف �شهادة مو�سى الناظر ‪ ،‬الذي نت�أول ر�ؤيته برغبة جاحمة يف‬
‫مالحمه ومعامله ب�شهادة �أ�شبه ببحث علمي يتّبع فيه منهج ًا‬ ‫ت�أكيد كيميائية هذا اللغوي الذي يح�سب لكل �شيء ح�سابه ‪،‬‬
‫فريد ًا جمع بني العلمية ‪ /‬والإن�سانية على نحو فريد ‪ .‬ويختم‬ ‫وك�أين به �أمام معادلة كي ــميائية « ت�ستع�صي على الوزن ‪ ،‬وي�أبى‬
‫�إبراهيم عثمان هذه ال�شهادات بـ ( ت�صورات حول نهاد املو�سى‬ ‫هو �إال �أن توزن ‪ ....‬يحر�ص على �أن يكون ما ير�صد من منهاج‬
‫و�أفكاره ) بحكم زمالة بد�أت عام ‪ 1964‬يف دار معلمي الوكالة‬ ‫العربية ‪ ،‬وما ين�ص يف كتبها جاذب ًا لدار�سيها ‪ ،‬مت�سل�س ًال يف‬
‫يف رام اهلل ‪ .‬مفادها �أن عامل ًا مثل نهاد تقوم نظرته ‪ /‬نظريته‬ ‫البناء ‪ ،‬متوا�ص ًال يف املراحل ‪ ،‬ال يقف عند هدف تدريب لغوي‬
‫على �أنّ النظام اللغوي نظام اجتماعي ي�ش ّكله الإن�سان ويط ّوره‬ ‫أ�صم ‪ ،‬بل علم وثقافة وتربية ومتعة ‪ ...‬فاللغة عند �أبي �إياد‬ ‫� ّ‬
‫بتطور حاجاته و�أوجه حياته ‪ ،‬ففي ذلك دعوة وا�ضحة لكي‬ ‫يف ت�شكلها وبناءاتها علم كالعلوم التجريبية الطبيعة ‪ ...‬فيها‬
‫يجتهد �أبناء اللغة يف احلفاظ على هويتهم اللغوية ‪ ،‬وتطوير‬ ‫يتفاعل الل�سان مع الإن�سان «‪.‬‬
‫كونهم اللغوي ‪ ،‬وت�سخري �أق�صى طاقاته احليوية ليعبرّ عن‬
‫وبرغم كل ما �سبق من حديث الوفاء والإخاء عن �شيخ‬
‫ذواتهم ‪ ،‬وي�صوغ ر�ؤاهم ‪� ،‬إن يف عوامل الواقع �أو التحليق يف‬
‫اجليل نهاد املو�سى ‪ ،‬ف�إن �إبراهيم ال�سعافني ي�أبى �إال �أن ينك�أ‬
‫�إبداعات اخليال ‪.‬‬
‫اجلرح ‪ ،‬ويثري الأ�شجان ‪ ،‬ب�أن يذ ّكرنا وهو يحكي عن ع�صامية‬
‫هذا الوفاء ما ي�ستحقه (بع�ض) نهاد املو�سى ‪� ،‬أما (كل)‬ ‫املو�سى مبا�ض �أليم عن �آالف الالجئني الذين �أُجربوا على‬
‫نهاد املو�سى ‪ ،‬فال طاقة لنا به ‪:‬‬ ‫النزوح من �أرا�ضيهم ‪ ،‬حتت وط�أة م�ؤامرة دنيئة ‪ ...‬وكان �أبو‬
‫هــذا الــذي �أب�صرت منه حا�ضــرا‬ ‫�إياد واحد من ه�ؤالء الالجئني ‪ ،‬وكانت رحلته �صعبة ‪ ،‬وطريقه‬
‫�شائكة تدمي الأقدام ‪...‬‬
‫مثل الذي �أب�صرت منه غائبا‬
‫حدثنا ال�سعافني عن نهاد العامل ‪ ،‬ولكنّ حديثه عن نهاد‬
‫كالبـ ــدر من حيث التف ـ ّـت ر�أيت ـ ــه‬ ‫الإن�سان ينبيء ب�سمو نف�س ‪ ،‬وعلو همة ‪ ،‬ونبل حمتد‪ .‬ولعل‬
‫يهدي �إىل عينيك نــورا ثاقبا‬ ‫حممد ح ّور قال ف�أوجز يف �شهادته عن نهاد املو�سى وو�سمه‬
‫بـ ( غزارة علم وتوا�ضع عامل ) فمن منا ميكنه احلديث عن‬
‫كالبحـ ــر يقـذف للقريب جواهــرا‬ ‫نهاد املو�سى ‪ ،‬وي�ستطيع �أن يتجاوز هاتني ال ّدرتني ؟! اللتني‬
‫ج ــودا ويبعث للبعيــد �سحائبا‬ ‫تولد منهما خ�صائل نبيلة هي ‪ :‬الأ�صالة ‪ ،‬املتابعة ‪ ،‬املثابرة ‪،‬‬
‫املواكبة‪ ،‬ات�ساع الأفق ‪ ،‬التوا�ضع وح�سن البيان ‪.‬‬
‫كال�شم�س يف كبد ال�سماء و�ضو�ؤها‬
‫هكذا تكون ال�شهادات التي يعي �أ�صحابها �أنْ ( �ستكتب‬
‫يغ�شى البالد م�شارقا ومغاربا‬
‫�شهاداتهم و ُي ْ�س�ألون ) على حد تعبري عودة �أبو عودة الذي قدم‬
‫�شهادة ( �سري ّية ) حتدث فيها عن حياة �شخ�ص مل يحب �أن‬
‫يتحدث عن نف�سه قط ‪ ،‬حتدث عن رحلة كفاح و�صراع مريرين‬
‫مع حياة التهجري والق�سوة ‪ ،‬وطلب العلم ‪ ،‬ورعاية �أ�سرة كرث‬
‫‪‬‬ ‫‪‬‬
‫‪94‬‬

‫نحو الرجال ولغة الأجيال‬


‫(نهاد املو�سى‪ ،‬واجتهاداته يف اللغة العربية)‬

‫د‪ .‬عبد احلق بلعابد‬

‫�سر‪،‬‬
‫يف وقفتهم ّ‬
‫ويف م�شيتهم علم‬
‫‪ -‬ابن عجيبة احل�سني‪-‬‬

‫مقدمة ‪:‬‬
‫يعد عامل اللغة نهاد املو�سى من البقية الباقية‪ ،‬ممن وهبهم‬
‫اهلل للحفاظ على لغة كتابه من حلن الالحنني‪ ،‬وحتريف‬
‫املحرفني‪ ،‬فما اعتلى منربا �إال ونافح عن اللغة العربية بخطاب‬
‫عامل‪ ،‬وقول فاهم‪ ،‬وما خط كتابا بيمينه �إال وراهن على وجود‬
‫حلول لها‪ ،‬وو�ضع خطط حلمايتها‪ ،‬وحماية �أبنائها وهم يلجون‬
‫عاملا متعوملا يجعل من لغة الأرقام بديال عن لغة الأ�صوات‬
‫واحلروف‪.‬‬
‫لهذا جند نهاد املو�سى يف كل ما كتبه يدفع ويدافع عن‬
‫اللغة العربية لتكون لغة الع�صر‪ ،‬ولغة امل�ستقبل الذي ال يتكلم‬
‫لغة الثقايف فقط‪،‬ولكن يتكلم لغة ال�سيا�سي والتكنولوجي‬
‫واالقت�صادي والإعالمي‪،‬هذه اللغة التي �سيبنيها الآباء‬
‫لي�سكنها الأبناء‪ ،‬لأن اللغة بناء وم�سكن لهذه الكينونة‪.‬‬
‫ق�ضية اخلط�أ و�ضعف الطلبة يف اللغة العربية)(‪ ،)1‬ا�ستنطاق‬ ‫وهذا ما دعنا لتدبر الأفكار التي طرحها يف كتبه خدمة‬
‫مبحث �شريف يف الدر�س اللغوي العربي وهو باب (ما تلحن‬ ‫للغة العربية تعليما وتعلما من جهة‪ ،‬وا�ستعماال وتداوال من جهة‬
‫فيه العامة)‪ ،‬وقد و�ضعه العلماء قدميا ق�صد �إ�صالح املنطق‪،‬‬ ‫�أخرى يف كل مناحي احلياة‪ ،‬فالإن�سان ل�سان واللغة بيان ‪:‬‬
‫والأداء ال�سليم ل�صورة اللغة العربية عند العامة‪ ،‬لهذا يرى‬
‫فيه الباحث طريقة تعليمية مفيدة ميكن اال�ستفادة منها‪،‬‬ ‫‪ -1‬نحو الآباء ولغة الأبناء‪:‬‬
‫مع مراعاة ما و�صلت �إليه الل�سانيات التطبيقية وتعليميات‬ ‫يتغ ّيا كتاب نهاد املو�سى (اللغة العربية و�أبنا�ؤها‪� ،‬أبحاث يف‬

‫�أ�ستاذ الل�سانيات يف جامعة الإمام حممد بن �سعود الإ�سالم ّية‪ -‬ال�سعودية‪.‬‬


‫‪‬‬ ‫‪‬‬
‫‪95‬‬

‫متثلها ومتثل �أحكامها و�ضوابطها واتخذناها معيارا لل�صواب و‬ ‫اللغات التي و�ضعت قواعد �ضابطة للأداء ال�سليم والف�صيح للغة‬
‫اخلط�أ ؟»(‪.)2‬‬ ‫العربية‪ ،‬وبهذا �سنعمل على احلد من هذا امل�شكل الذي انت�شر‬
‫بني العامة وزحف على اخلا�صة منهم‪� ،‬إذ يرى الباحث �أن �أ�صل‬
‫* هدفه ‪:‬‬
‫امل�شكل راجع �إىل الدوافع التالية ‪:‬‬
‫وجود طرائق تعليمية جديدة لك�شف الأخطاء‪ ،‬وعر�ضها على‬
‫ميزان الت�صويب النحوي ‪:‬‬ ‫‪ -‬دافع ح�ضاري‪ :‬هو احلر�ص على احلفاظ على متا�سك‬
‫الهوية العربية الإ�سالمية التي ترمز لها اللغة العربية‪.‬‬
‫« �إنني �أطمح �إىل �أن �أقدم‪،‬بهذا البحث‪،‬لأبناء العربية‬
‫م�شروعا يكون حا�شية على معرفتهم بالعربية‪،‬ي�سد ثغراتها‬ ‫‪ -‬دافع اجتماعي ‪ :‬وهو �شيوع اللحن من جديد بني الأبناء‪،‬مما‬
‫ويرقى بارتكا�ساتها على بينة‪.)3(»...‬‬ ‫�أدى بالآباء �إىل احلر�ص على تعليم �أبنائهم لغتهم الأ�صلية يف‬
‫�صورتها الأ�صيلة (الف�صيحة)‪.‬‬
‫* مدونة البحث ‪:‬‬
‫ولتحقيق و�ضع نظرية يف ك�شف اخلط�أ اللغوي وت�صويبه‪،‬عمل‬ ‫‪ -‬دافع �أكادميي علمي ‪� :‬أن زحف اللحن مل يقت�صر‬
‫الباحث على ر�صد مدونة متنوعة �شملت كتابات الطلبة يف‬ ‫على الطلبة يف املدار�س واجلامعات‪ ،‬بل لقد طال حتى‬
‫امتحاناتهم‪،‬وما يكتب يف ال�صحافة‪،‬وبع�ض الت�آليف ‪:‬‬ ‫الأ�ساتذة‪،‬واملتخ�ص�صني الذين يعدون منوذجا يحتذا به‪.‬‬

‫« �أن �أنظر يف مناذج من كتابات الطلبة(فيما كانوا ي�ؤدون‬ ‫‪ -‬دافع �سيا�سي ‪� :‬أن اللغة العربية هي اللغة الر�سمية للأمة‬
‫من امتحانات ويعدون من بحوث)‪,،‬مناذج من ال�صحافة املحلية‬ ‫فال بد من الرقي بها‪،‬واحلفاظ عليها بكل و�سيلة‪.‬‬
‫والعربية‪،‬وطائفة من الت�آليف التي تعالج امل�سائل العامة‪،‬ظنا مني‬ ‫‪ -2-1‬هكذا تكلم الكتاب (من الهدف �إىل امل�ستهدف) ‪:‬‬
‫�أن هذه العينة متثل امل�ستوى العام اجلاري من الأداء بالعربية‬
‫و�أنها متثل امل�ستوى الذي يقع فيه اخلط�أ‪.)4(».‬‬ ‫�سنعمل على ا�ستنطاق مناطق مهمة من هذا الكتاب ليك�شف‬
‫لنا عن هدفه وغاياته و�إ�سرتاتيجية عمله ‪:‬‬
‫* منهجه ‪:‬‬
‫* مو�ضوع الكتاب ‪:‬‬
‫جند �أن منهج البحث راوح بني الو�صفي والتف�سريي‪،‬ف�أوال‬
‫يقوم الباحث با�ستخراج الظاهرة (اخلط�أ) ثم يقوم‬ ‫يتمحور الكتاب على مو�ضوع مهم‪،‬وهو اخلط�أ يف اللغة العربية‬
‫بو�صفها‪،‬وبعد هذا الو�صف يعمد �إىل تف�سريها ‪:‬‬ ‫من قبل �أبنائها‪،‬وكيفية �إ�صالحه بوا�سطة اللغة ذاتها‪،‬وهذا‬
‫حفاظا على �سالمة لغة الأجيال‪،‬فهو يقول ‪:‬‬
‫« ور�أيت �أننا �إذا ا�ستخرجنا « نظرية « اخلط�أ و�أ�صبحنا‬
‫قادرين على �أن نقدم جلمهور الطلبة والكتبة تف�سريا يهيئ لهم‬ ‫« ينت�سب هذا البحث �إىل تراث مو�صول من املعاجلات‬
‫« وعيا نظريا مقنعا» على حالهم مع اللغة ف�إننا ن�ستطيع �أن ن�أخذ‬ ‫اللغوية �ساير الدر�س اللغوي يف العربية على امتداد تاريخها‪،‬‬
‫ب�أيديهم �إىل تدارك �أخطائهم يف اللغة على ب ّينة «(‪.)5‬‬ ‫وهل يختلف البحث يف اخلط�أ والتنبيه عليه هذه الأيام عن‬
‫ت�سجيل اللحن وتهجينه منذ عهود متقادمة تبلغ بنا ع�صر النبوة‬
‫* منهجيته ‪:‬‬ ‫؟‪،‬وهل كان اللحن يومذاك �إال ما ر�آه القوم خروج عن �صورة‬
‫تعتمد منهجية الباحث ل�ضبط نظرية اخلط�أ على ثالث‬ ‫العربية‪...‬وهل اخلط�أ يف هذه �ألأيام �إال ما يراه �أهل العربية‬
‫مراحل خادمة للمنهج وهي (‪:)6‬‬ ‫خارجا عن �صورتها التي ا�ستوت لها يف الكتب القوم وجهدنا يف‬
‫‪‬‬ ‫‪‬‬
‫‪96‬‬

‫لهذا ال بد من درا�سة تاريخية مقارنة تك�شف عن وجه‬ ‫‪ -1‬ا�ستخراج ما وقع يف النماذج �أو مدونة البحث من‬
‫االختالف �أو االئتالف بني هذين الر�أيني‪،‬ليقدم لنا نهاد املو�سى‬ ‫«�أخطاء»‪.‬‬
‫�أمثلة عن ذلك‪،‬من خالل تتبعه (لظاهرة الإ�ضافة‪،‬ثم باب‬ ‫‪ -2‬العمل على ت�صنيف تلك الأخطاء‪.‬‬
‫اال�ستثناء(‪،)9‬وهذا لدواعي البحث عن ماهية الف�صحى التي‬ ‫‪ -3‬ثم حماولة التما�س تف�سري لها‪.‬‬
‫طال العجز حتديدها‪،‬فهو يرى �أنه على اللغوي �أن يعرف قبل ما‬
‫القواعد ال�صوتية وال�صرفية والنحوية واملفردات التي يتق ّوم بها‬ ‫‪� -2‬صورة النحو‪� ...‬صريورة املنحى ‪:‬‬
‫البناء الأ�سا�سي للف�صحى ومبعرفتها تتحقق املعرفة بالف�صحى‬ ‫لقد اعتنى نهاد املو�سى ب�صورة النحو و�صريورته يف كتابه‬
‫يف �أو�سع مظاهرها ودورانا(‪،)10‬لنتمكن بذلك من و�ضع طرائق‬ ‫(ال�صورة وال�صريورة‪ ،‬ب�صائر يف �أحوال الظاهرة النحوية‬
‫لتعليمها وتعلمها‪.‬‬ ‫ونظرية النحو العربي)(‪،)7‬وما عرفته على م�ستوى التنظري‬
‫* ليخرج بنا نهاد املو�سى من عامل اجلملة �إىل عوامل‬ ‫والتطبيق حماوال ا�ستقراء الظاهرة النحوية يف تناولها العلمي‬
‫الن�ص‪،‬ليجتهد يف و�ضع �أ�صل جديد نحقق من خالله قراءة‬ ‫وتداولها العملي من خالل �أمثلة جزئية لتقعد لكليات ت�شمل‬
‫ال�شعر القدمي كما �صدر يف (�صورته التاريخية) من لدن‬ ‫الظاهرة‪،‬فكان ‪:‬‬
‫�أ�صحابه(‪�،) 11‬أو تقريب ذلك بتطوير هذا الأ�صل‪.‬‬ ‫* البحث عن ثبوت النحو العربي وحتوله‪،‬يف �صورته‬
‫و�صريورته‪� ،‬إذ ر�أى �أن �أبناء العربية وامل�شتغلني عليها انق�سموا‬
‫وبالتعاون والتعامل مع هذا الأ�صل اللغوي �سنقرتب من �صورة‬
‫على �أنف�سهم يف فهم �صورة العربية الف�صيحة �إىل ق�سمني(‪:)8‬‬
‫الن�ص التاريخية التي قيل بها �أول مرة‪،‬لأننا طاملا �أخرجنا هذا‬
‫الن�ص عن �صورته احلقيقية بقراءتنا التي ال حتتكم �إىل �أ�صله‬ ‫‪ -‬الق�سم الأول ‪ :‬يرى ب�أن �صورة العربية الف�صيحة التي‬
‫اللغوي‪،‬فلهذا وجب على كل حمقق للن�صو�ص ال�شعرية �أن يجعل‬ ‫نتكلمها هي تطابق �أو تكاد تطابق �صورة العربية الف�صحى التي‬
‫من بني �آلياته يف التحقيق (الأ�صل اللغوي)‪:‬‬ ‫دونها النحاة يف كتبهم و�أخرجها الو�صف التاريخي على �أ�سا�س‬
‫�أن النحو العربي من جهة بطيء اال�ستجابة لقوانني التطور‪،‬‬
‫« ويرتاوح هذا الأ�صل‪،‬يف �صورته االبتدائية اال�ستطالعية التي‬ ‫ومن جهة �أخرى �أنه ثبوتي لت�أثره بعوامل خارجية وح�ضارية‬
‫يحاول الباحث‪،‬بني التثبت يف معايري ال�صواب النحوي‪،‬واالحتكام‬ ‫�إيجابية‪،‬و�سمته باملعيارية املطلقة‪،‬لهذا ما يزال يتواتر كابرا عن‬
‫�إىل مبد�أ االت�ساق النحوي يف �شعر ال�شاعر الواحد‪ ،‬واطراد‬ ‫كابر ب�صفته التي و�ضع عليها �أول مرة‪.‬‬
‫الظواهر يف �شعر �شعراء القبيلة الواحدة‪،‬واال�ستب�صار‬
‫بالتقريرات التي يذكرها النحويون يف �صفة اللهجات العربية‬ ‫‪ -‬الق�سم الثاين ‪ :‬فريى عك�س ما يراه �أ�صحاب الق�سم‬
‫القدمية وما يعزى �إىل كل منها من ظواهر خا�صة»(‪.)12‬‬ ‫الأول‪�،‬أن �صورة العربية الف�صيحة يف �أيامنا تختلف اختالفا كبريا‬
‫عن العربية الف�صحى الأوىل‪،‬وهذا راجع لبعد ال�شقة‪،‬وتطاول‬
‫وعليه ف�إن هذا الأ�صل‪،‬يحتكم �ضرورة �إىل بعد زمني‬ ‫اال�ستعمال لتلك القواعد املو�ضوعة من قبل النحاة‪.‬‬
‫تاريخي‪،‬ويعالج م�ستويني متداخلني‪:‬‬
‫فهناك فرق بني اللغة املتداولة من قبل النحاة‪،‬واللغة‬
‫امل�ستوى الأول هو م�ستوى املادة ال�شعرية‪،‬والتي ت�ضم جممل‬ ‫املتداولة يف اليومي واملعي�ش‪ ،‬خا�صة ما هو م�ستعمل يف و�سائل‬
‫الن�صو�ص ال�شعرية املتقادمة الزمن التي قيلت قبل و�ضع‬ ‫الإعالم والإعالن املتو�سلة بالعربية الف�صحى املعا�صرة التي‬
‫النحو‪،‬وتخت�ص بال�شعر اجلاهلي (م�ستوى ال�شعر)‪،‬وامل�ستوى‬ ‫يداخلها العامي واللهجي‪.‬‬
‫‪‬‬ ‫‪‬‬
‫‪97‬‬

‫العربي والكوين يف الوقت احلايل‪ ،‬وهذا ال يتحقق �إال بـ (‪:)16‬‬ ‫الثاين وهو م�ستوى القواعد النحوية التي ت�صف تلك املادة‬
‫ال�شعرية (م�ستوى النحو)‪.‬‬
‫‪ -‬و�صف جتليات العربية يف جمال تداولها‪.‬‬
‫‪ -‬ا�ستقراء ما يكتنفها من �شروط ذات العالقة بـ(‬ ‫ولهذا وجب الوثوق بالقواعد التي ت�صف العربية عند النحاة‬
‫�سريورتها‪،‬و�صريورتها‪،‬و�صورتها)‬ ‫م�صورة العربية‪،‬ومنها املادة ال�شعرية كما تقرر‪.‬‬

‫‪ -‬ما يتجاذب اللغة العربية من عوامل �إيجابية( البقاء‬ ‫* لي�أتي نهاد املو�سى على �إ�ضافة مهمة للنظرية النحوية‬
‫واال�ستمرار واالنت�شار)‪،‬ومن عوامل �سلبية (النكو�ص والتن ّق�ص‬ ‫العربية‪،‬ب�إدخاله لل�سياق يف قلب ا�شتغال النظرية‪،‬وجعله (�أ�صال)‬
‫والتحول واالنح�سار)‪.‬‬ ‫�إ�ضافيا وهو يطرح هذا ال�س�ؤال(‪:)13‬‬

‫‪ -1-3‬مباحث الكتاب ومو�ضوعاته ‪:‬‬ ‫«هل جتاوز النحاة العرب يف و�صف العربية ور�سم معايري‬
‫النظام النحوي حدود «الن�ص» الذاتية ومادة العبارة «الكالمية»‬
‫لهذا جاءت مباحث الكتاب ومو�ضوعاته تنظر �إىل اللغة‬ ‫اخلال�صة ؟ و�إىل �أي مدى جعلوا «حميط» احلدث الكالمي‬
‫العربية يف عالقاته مع(‪: )17‬‬ ‫و»�سياقه» و»املتغريات اخلارجية» التي تكتنف مادة الكالم «�أ�صال»‬
‫‪ -‬الن�ص املقد�س‪.‬‬ ‫يف و�صف الظاهرة النحوية وتف�سريها ؟»(‪.)14‬‬

‫‪ -‬هوية الأمة‪.‬‬ ‫ليجعل منطلقه لفهم هذه الظاهرة النحوية‪،‬مرجعيات‬


‫بحثية ثالث ‪:‬‬
‫الظواهر املاثلة والعوامل املتفاعلة يف تداولها‪،‬ووجوه ت�أثريها‬
‫يف حياة العربية و�أحوالها �إيجابا و�سلبا‪.‬‬ ‫‪ -1‬الفهم الل�ساين املتطور لل�سانيات االجتماعية‪.‬‬
‫* �أما الظواهر املاثلة فرياها يف االزدواجية مب�ستوياتها‬ ‫‪ -2‬وظيفية اللغة‪/‬الل�سان يف �أبحاث مدر�سة براغ‪،‬وعلماء‬
‫( الف�صحى‪ ،‬والف�صيحة بالفعل‪،‬والف�صيحة بالقوة‪،‬و�شبه‬ ‫هارفارد‪.‬‬
‫الف�صيحة‪،‬والو�سطى‪،‬والعامية)‪.‬‬ ‫‪ -3‬الفتوحات اللغوية التي جاء بها علم الداللة ‪،‬بدرا�سته‬
‫* �أما العوامل املتفاعلة فمن �أهمها ( التعليم‪،‬والرتجمة‪،‬‬ ‫ل�سياق احلال مع مالينوف�سكي وفريث‪.‬‬
‫و�أو�سعها الإعالم والإعالن‪ ،‬و�أخطرها االقت�صاد والعوملة)‪.‬‬ ‫بهذا قد ا�ستطاع نهاد املو�سى �أن يقرتب من �صورة و�صريورة‬
‫‪ -2-3‬من �س�ؤال امل�صري �إىل �س�ؤال الأ�سئلة ‪:‬‬ ‫اللغة العربية‪،‬من خالل �إعادة التفكري يف �آليات النظرية النحوية‬
‫العربية‪،‬التي �أ�صبح من ال�ضروري �أن تنتقل من اجلملة �إىل‬
‫لقد تعددت الأ�سئلة يف هذا الكتاب لأهمية املو�ضوع املدرو�س‬ ‫الن�ص على م�ستوى املو�ضوع‪،‬ومن الو�صف �إىل التف�سري على‬
‫وهي اللغة العربية وطبيعتها التي متلي على الباحث النظر يف‬ ‫م�ستوى املنهج‪.‬‬
‫تعدد �أبعادها وتعدد وظائفها وتعدد �شروطها‪�،‬إذا توجهنا قبل‬
‫�س�ؤال امل�صريي وهو البحث عن حياة اللغات وموتها يف زمن‬ ‫‪ -3‬اللغة العربية وحتديات الع�صر احلديث ‪:‬‬
‫العامل املتعومل‪،‬هذا ال�س�ؤال دفع بالل�سانيني وغريهم للبحث عن‬ ‫‪ -1-3‬غاية الكتاب وهدفه ‪:‬‬
‫�إجابة له‪،‬خا�صة واللغات اليوم تنتقل ب�سرعة من ال�صوت ( �أي‬
‫من العالمة الل�سانية)‪�،‬إىل الرقم (�أي العالمة الرقمية)‪،‬واللغة‬ ‫�إن كتاب نهاد املو�سى (اللغة العربية يف الع�صر احلديث‪،‬قيم‬
‫العربية لي�ست ببعيدة عن هذه الأ�سئلة‪،‬التي تولدت عنها م�سائل‬ ‫ال ّثبوت وقوى التحول)(‪،)15‬ير�صد واقع اللغة العربية يف الف�ضاء‬
‫‪‬‬ ‫‪‬‬
‫‪98‬‬

‫‪ -‬وقد يكون تغريا جزئيا يف بنية اللغة ونظامها النحوي (ك�صور‬ ‫و�أ�سئلة �أخرى خا�صة ذلك ال�س�ؤل املركزي الذي يطرح على‬
‫اللحن والأخطاء ال�شائعة‪.)..‬‬ ‫(تقابل القيم بالقوى)(‪:)18‬‬
‫‪ -‬وقد يكون انتقاال من النقي�ض �إىل النقي�ض جزئيا (كانتقال‬ ‫فهل نبقى متح�صنني وراء مقولة �أن القر�آن الكرمي حافظ‬
‫حقل معريف مثل التكنولوجيا من العربية �إىل االجنليزية)‪.‬‬ ‫للغة العربية ؟‪،‬ونن�سى �أ�سئلة ال تقل �أهمية عنه‪،‬منها زحف‬
‫‪ -‬وقد يتعلق التحول مبنزلة اللغة جملة من االعتبار‪،‬باملقارنة‬ ‫الثنائية اللغوية‪،‬وم ّد االزدواجية اللغوية على اللغة الأم؟‪ ،‬وكذلك‬
‫مع اللغات الأخرى‪،‬وهو ال يتعلق باللغة يف ذاتها‪ ،‬بقدر ما يتعلق‬ ‫�إق�صاء اللغة العربية من جماالت العلوم‪،‬وتكنولوجيا‪،‬واالقت�صاد‬
‫مب�ستعمليها و�أهلها‪.‬‬ ‫؟‪،‬وهذه الأ�سئلة هي املحرك الأ�سا�سي جلدل العربية مع قيم‬
‫الثبوت وعوامله‪،‬وقوى التحول ودواعيها‪.‬‬
‫‪ -4-3‬يف منهج البحث ‪:‬‬
‫‪ -3-3‬يف م�صطلحات البحث ‪:‬‬
‫�أما املنهج الذي اختاره الباحث ال�ستنطاق هذا املو�ضوع هو‬
‫منهج الل�سانيات االجتماعية‪،‬مبفهومه العري�ض(‪،)20‬الذي‬ ‫جند امل�صطلحات الدائرة يف هذا البحث مل تخرج عن جمال‬
‫يجعل من �أ�سئلة اللغة العربية يف ع�صر العوملة‪،‬ب�أبعادها وما‬ ‫الأ�سئلة املطروحة فيه‪ ،‬فالباحث يقوم بعر�ض جهازه امل�صطلحي‬
‫تنطوي عليه يف �صريورة الزمان‪�،‬سريورة احلال‪،‬وهواج�س‬ ‫بدقة‪،‬والذي ظهر جليا يف عنوان الكتاب الرئي�سي‪،‬وكذا يف‬
‫امل�آل؟‪،‬لنجد �أن نهاد املو�سى يف جل �أبحاثه املت�أخرة يركن �إىل‬ ‫عنوانه الفرعي ال�شارح واملو�ضح للعنوان املركزي‪،‬فامل�صطلحات‬
‫هذا املنهج الذي مكنه من االنتقال ب�سهولة من داخل اللغة �إىل‬ ‫املتداولة هي(‪: )19‬‬
‫خارجها‪.‬‬ ‫‪ -‬العربية ‪ :‬وهي العربية التي و�ضعت �أو و�صفت منذ القدمي �إىل‬
‫‪ -5-3‬الر�ؤية املنهجية ‪:‬‬ ‫الآن جندها يف (القر�آن الكرمي‪،‬يف احلديث‪،‬يف ال�شعر قدميه‬
‫وحديثه‪،‬يف اخلطب القدمية واحلديثة‪،‬يف الق�صة والرواية‪،‬يف‬
‫�إن ر�ؤيته املنهجية لفهم اللغة العربية يف تناولها‬ ‫الإذاعة والتلفزيون‪،‬ويف حياتنا اليومية‪.)....‬‬
‫وتداولها‪،‬تقت�ضي تو�ضيح �أمرين مهمني وهما كيفية فهم اللغة يف‬
‫ذاتها‪،‬وفهمها يف غريها (‪: )21‬‬ ‫‪ -‬الع�صر احلديث ‪ :‬هو ما ا�صطلحنا عليه بع�صر النه�ضة عامة‬
‫ولكنه ع�صر العوملة يف ح ّده الزماين �أي�ضا‪.‬‬
‫‪ -‬اللغة يف ذاتها ‪ :‬فهم اللغة من حيث هي نظام منتظم من‬
‫�أ�صوات وتراكيب حتتكم‬ ‫‪ -‬الثبوت ‪ :‬وهو البقاء امل�ستمر الذي يج�سد التوا�صل املنفتح بني‬
‫ال�صور التي اتخذتها العربية على تعاقب الع�صور‪ ...‬وهو ثبوت‬
‫�إىل قواعد النحو‪،‬وانفتاح الداللة‪،‬مثل �سائر اللغات (العربي‬
‫�صورة العربية وهيكل بنيتها‪.‬‬
‫ة‪،‬الفرن�سية‪،‬االجنليزية‪.)....‬‬
‫‪ -‬التح ّول ‪ :‬ي�أتي على �أنواع بالنظر �إىل �أ�صل املراد به يف اللغة‪:‬‬
‫‪ -‬اللغة يف غريها ‪ :‬وهو فهم اللغة من حيث هي كينونة‬
‫مفتوحة يف تداولها وا�ستعمالها لدى املتكلمني بها‪�،‬إذ تعرف بهم‬ ‫‪ -‬فقد يكون انتقاال من مو�ضع �إىل �آخر (كانتقال العامية من‬
‫ويعرفون بها‪،‬لأنها ترمز لهويتهم‪.‬‬ ‫موقع ال�شفاهي �إىل موقع املكتوب)‪.‬‬
‫‪ -6-3‬مراجع البحث ومرجعياته ‪:‬‬ ‫‪ -‬وقد يكون تغريا يف العر�ض دون اجلوهر ل�سانيا ( كما وقع‬
‫لقد تعددت مراجع البحث عند نهاد املو�سى‪،‬وتنوعت‬ ‫ملعجم العربية بني اجلاهلية والإ�سالم‪.)..‬‬
‫‪‬‬ ‫‪‬‬
‫‪99‬‬

‫عمل فريق متكامل يجمع اللغوي كما يجمع عامل االجتماع وعامل‬ ‫مرجعياته‪،‬لطبيعة املو�ضوع املبحوث فيه‪،‬متجاوزة التخ�ص�ص‬
‫النف�س‪،‬وعامل االقت�صاد‪،‬وعامل الإعالم‪،‬وعامل الهند�سة‪...‬‬ ‫اللغوي ال�ضيق‪،‬لتنفتح على تخ�ص�صات �أخرى‪،‬التي جعلت من‬
‫ولي�س ذلك على االجتهاد بعزيز‪.‬‬ ‫اللغة مو�ضوعا لها مثل (الإعالم‪،‬الثقافة‪،‬ال�سيا�سة‪،‬االقت�صاد‪،‬‬
‫التكنولوجيا‪ ،)...‬لأن اللغة نحيا بها وحتيا بنا‪،‬نحيا بها تعلما‬
‫وتعامال‪،‬وحتيا بنا‪،‬تناوال وتداوال‪.‬‬
‫هوام�ش البحث‪:‬‬
‫‪ -1‬نهاد املو�سى‪،‬اللغة العربية و�أبنا�ؤها‪�،‬أبحاث يف ق�ضية اخلط�أ و�ضعف الطلبة يف‬ ‫* اخلامتة ‪:‬‬
‫اللغة العربية‪،‬دار العلوم للطباعة والن�شر‪�،‬سنة ‪،1985‬الريا�ض‪.‬‬ ‫تعرف كتابة نهاد املو�سى ن�سقية فكرية على �صعيد‬
‫* �أما الطبعة املعتمدة عندنا فهي عن ‪ :‬دار امل�سرية‪،‬ط‪�،1‬سنة ‪،2008‬عمان‬ ‫املو�ضوعات‪ ،‬وعلى �صعيد امل�صطلحات‪ ،‬كونها ت�صدر عن‬
‫الأردن‪.‬‬ ‫عقل منهجي وا�ضح املعامل‪ ،‬وبينّ املفاهيم‪ ،‬وهو ي�شتغل‬
‫‪ -2‬املرجع نف�سه‪�،‬ص ‪.17‬‬ ‫على �س�ؤال اللغة العربية يف كتبه ال�سابقة‪ ،‬جنده يحتكم �إىل‬
‫‪ -3‬املرجع نف�سه‪�،‬ص ‪.16‬‬ ‫مبد�أين معرفيني هما مبد�أ التعاون الفكري‪ ،‬ومبد�أ االن�سجام‬
‫‪ -4‬نف�سه‪�،‬ص ‪.13‬‬ ‫امل�صطلحي‪:‬‬
‫‪ -5‬نف�سه‪�،‬ص ‪.14‬‬
‫�أما مبد�أ التعاون الفكري‪ ،‬فقد ت�أتى له من تلك املرجعيات‬
‫‪ -6‬نف�سه‪�،‬ص ‪.13‬‬ ‫الل�سانية املختلفة امل�صادر‪ ،‬التي ط ّوعها للبحث عن بنيات اللغة‬
‫‪ -7‬نهاد املو�سى‪،‬ال�صورة وال�صريورة‪،‬ب�صائر يف �أحوال الظاهرة النحوية ونظرية‬ ‫العربية وانفتاحها‪ ،‬خا�صة وهو يط ّبق املنهج الل�ساين االجتماعي‬
‫النحو العربي‪،‬دار ال�شروق للن�شر والتوزيع‪،‬ط‪�،1‬سنة ‪،2003‬عمان الأردن‪.‬‬
‫عليها‪ ،‬وهذا ما برهن عليه من خالل �أمثلته الكثرية التي تعد‬
‫‪ -8‬املرجع نف�سه‪�،‬ص ‪.16-15‬‬ ‫�إ�ضافة للنظرية النحوية والل�سانية العربية عل حد �سواء‪.‬‬
‫‪ -9‬املرجع نف�سه‪�،‬ص ‪.96-63‬‬
‫‪ -10‬نف�سه‪�،‬ص ‪.67‬‬
‫�أما مبد�أ االن�سجام امل�صطلحي‪ ،‬فقد ظهر من خالل‬
‫ا�ستعادته مل�صطلحات مركزية يف كتبه الثالث‪،‬وهي( ال�ص‬
‫‪ -11‬نف�سه‪�،‬ص ‪.99‬‬
‫ورة‪،‬ال�صريورة‪،‬ال�سريورة‪،‬التداولناال�ستعمال‪،‬التداول‪،‬ال‬
‫‪ -12‬نف�سه‪.‬‬
‫قيم‪،‬القوى‪،‬الثبات‪،‬التحول)‪ ،‬وقد �ش ّغل هذه امل�صطلحات‬
‫‪ -13‬نف�سه‪�،‬ص ‪.121‬‬ ‫مبفاهيمها ق�صد الك�شف عن �صورة اللغة العربية الف�صيحة‬
‫‪ -14‬نف�سه‪.‬‬ ‫التي ميكننا ا�ستعادتها من جديد على الرغم من حتديات‬
‫‪ -15‬نهاد املو�سى‪،‬اللغة العربية يف الع�صر احلديث‪،‬قيم ال ّثبوت وقوى التحول‪،‬دار‬ ‫هذا العامل املتعومل‪،‬وهذا باملراهنة على ا�ستعمالها وتداولها‬
‫ال�شروق للن�شر والتوزيع‪،‬ط‪�،1‬سنة ‪،2007‬عمان الأردن‪.‬‬
‫من قبل املتكلمني بها يف جميع مناحي حياتهم الثقافية‬
‫‪ -16‬املرجع نف�سه‪�،‬ص ‪.11‬‬ ‫وال�سيا�سية‪،‬وخا�صة االقت�صادية منها والتكنولوجية‪،‬بذلك‬
‫‪ -17‬املرجع نف�سه‪.‬‬ ‫فقط �سي�أمن الآباء على م�ستقبل لغة الأبناء‪.‬‬
‫‪ -18‬نف�سه‪�،‬ص ‪.24-23‬‬
‫فما يقوم به العامل نهاد املو�سى عمل جبار ينوء به وحده‪،‬‬
‫‪ -19‬نف�سه‪�،‬ص ‪.30-29‬‬
‫لهذا البد من ت�ضافر جهود املتخ�ص�صني من �أبناء الأمة‬
‫‪ -20‬نف�سه‪�،‬ص ‪.31‬‬
‫العربية والإ�سالمية للم�ساهمة ق�صد احلفاظ لي�س على اللغة‬
‫‪ -21‬نف�سه‪�،‬ص ‪.28-25‬‬ ‫العربية يف ال�سطور فقط‪ ،‬ولكن يف التداول واال�ستعمال‪،‬وهذا‬
‫‪‬‬ ‫‪‬‬
‫‪100‬‬

‫حم ّددات التب�صـّر‬


‫اللغوي عند الدكتور نهاد املو�سى‬
‫ّ‬ ‫يف الرتاث‬
‫د‪ .‬عماد �أحمد الزبن‬

‫الرتاثي‪ :‬جدل القيمة‬


‫ّ‬ ‫اللغوي يف املقروء‬
‫ّ‬ ‫التب�صر‬
‫ّ‬ ‫(‪)1‬‬
‫بتب�صرات ت�سعى‬‫ين متق ّوم ّ‬ ‫يحتفظ الرتاث مبقروء �إن�سا ّ‬
‫يف �سبيل الك�شف املعر ّيف ب�آمر مناهج نظر متع ّددة‪� ،‬إنّ هذه‬
‫التب�صرات حالة ارتقاء يف معارج انك�شاف احلقائق املعرف ّية‪،‬‬ ‫ّ‬
‫التب�صرات‪،‬‬
‫لذلك فمن املقت�ضيات العلم ّية الإرعاء على هذه ّ‬
‫ومعاودة قراءتها بق�صد جمع هذه اجلهود‪ ،‬والوقوف على‬
‫الطبقة املعرف ّية التي بلغتها يف رحلة االرتقاء‪.‬‬
‫بحثي‪ ،‬تدفع �إىل‬ ‫وت�شبه القيمة هنا �أن تكون حالة اقت�صاد ّ‬
‫والوقوف على غاية النظر يف‬ ‫ِ‬ ‫ا�ستطالع تَ�سيار اجلهود الآنفة‪،‬‬
‫هذا املقروء املعر ّيف؛ فال ت�أتي بحوثنا ب�صائ َر مك ّرر ًة‪ ،‬وجهود ًا‬
‫معار ًة‪ ،‬وقد ا�ستق ّر يف العقول �أنّ الت�أ�سي�س �أوىل من الت�أكيد‪،‬‬
‫فال معدى هنا عن تَطالب املعرفة يف خمازن الرتاث؛ �إر�صاد ًا‬
‫لنم ّو �أنظار ال ترتك�س يف رقاع التقليد‪ ،‬ونفي ًا حلال ال َّن ْب َوة‬
‫املنهجية؛ بتكثري الأوراق ونزو ِر العوائد‪.‬‬
‫الرتاثي ُي ِعني على حماكمة املعرفة‬
‫ّ‬ ‫التب�صر يف املقروء‬
‫ّثم �إنّ ّ‬
‫املاثلة‪ ،‬ورمبا يكون ع ّلة �صحيحة يف تقدير عنا�صر الت�أ ّزم التي‬
‫ت�ستدعي تطوير الرباديغمات املعرفية املاثلة ( مب�صطلح‬
‫ميثل قنطرة االنطالق‪ ،‬وهذا ما �ص ّرح به روبنز ( ‪ )Robins‬يف‬ ‫توما�س كون) �أو تغريها‪ ،‬فنكون هنا �أمام حالة ك�شف معر ّيف‬
‫العلمي ‪ « :‬ك ّل علم من العلوم‪ ،‬ينمو من‬
‫ّ‬ ‫قالته التي ت�شبه ال�شعار‬ ‫ت�أتينا من املا�ضي‪ ،‬نعيد بها قراءة الرباديغم املعر ّيف الذي‬
‫خالل ما�ضيه»(‪. )1‬‬ ‫ا�ست�سلمنا ل�صحته‪.‬‬
‫واملتجه الثاين‪ ،‬حالة ك�شف يف الرباديغم املعر ّيف املاثل‪،‬‬
‫ّ‬ ‫فقراءة الرتاث ت�سلمنا �إىل ُمتّجهني يف الر�ؤية‪ُ :‬متّجه‬
‫الرتاثي‪ ،‬فنكون‬
‫ّ‬ ‫نبتني عليها تقومي من�آده ب ِثقاف مناهج النظر‬ ‫االئتناف والنم ّو اللذين ُي�ش ّدان َمب َر ِ�س املنهجية �إىل مقروء �آنف‬
‫ِ‬
‫�أ�ستاذ الأدب العربي يف جامعة الزيتونة‪.‬‬
‫‪‬‬ ‫‪‬‬
‫‪101‬‬

‫ويف �إطار التث ّبت املعر ّيف‪ ،‬يحر�ص الدكتور نهاد املو�سى يف‬ ‫�أمام حالة اجرتاح معرفة‪ ،‬و�أمام حالة حماكمة ذات اتجّ اهني‪:‬‬
‫ب�صائره على التث ّبت من �صحة املعلومة �أو اخلرب �أو الكتاب الذي‬ ‫الرتاثي ب�آلة النظر احلديثة‪ ،‬وحماكمة‬
‫ّ‬ ‫حماكمة املوجود‬
‫يعاجله‪ ،‬و�صحة ن�سبة هذا املوجود املعر ّيف �إىل الرقعة الرتاثية‪،‬‬ ‫الرتاثي‪ ،‬وهذه املحاكمة‬
‫ّ‬ ‫الرباديغم املعر ّيف احلديث ب�آلة النظر‬
‫ويبدو هذا الأمر من معاجلاته العلمية يف حتقيقاته‪ ،‬وحر�صه‬ ‫ت�ستدعي القبول �أو الرف�ض‪� ،‬أو التعديل والتطوير‪ .‬ويف هذا‬
‫العلمي من‬
‫ّ‬ ‫على الرجوع �إىل امل�صادر ثابتة الن�سبة(‪ ،)4‬فالتث ّبت‬ ‫ين هلم�سليف ( ‪ « : )Hjelmslev‬تاريخية‬ ‫املعنى يقول الل�سا ّ‬
‫اللغوي‪ ،‬و�صحة ن�سبته‪ ،‬درجة مركزية يف معارج‬ ‫ّ‬ ‫�صحة املوجود‬ ‫الأبحاث ته ّمنا ما دامت تفتح املجال لأعمال جديدة‪ ،‬ولت�سجيل‬
‫جوهري يف بناء الر�ؤية اللغوية التي‬‫ّ‬ ‫الك�شف املعر ّيف‪ ،‬ووار ٌد‬ ‫االت�صال �أو القطيعة؛ ف�سندر�سها لهدف مزدوج‪ :‬الفهم‬
‫العلمي‬
‫ّ‬ ‫يتع ّنى الباحث تقريرها‪ ،‬و�إال فلي�س من مقت�ضى النظر‬ ‫واملعار�ضة»(‪. )2‬‬
‫واملنهجي‪� ،‬أن يج َهد الباحث يف الرقم على املاء‪ ،‬والقفز يف‬ ‫ّ‬ ‫(‪ )2‬العلّة املادية‬
‫الف�ضاء‪.‬‬ ‫التب�صر يف املا ّدة اللغوية الرتاثية‪،‬‬
‫من املقت�ضيات العلمية يف ّ‬
‫(‪ )3‬العلّة ال�صورية‪ :‬املنهج والأدوات‬ ‫تقرير منهجي ال�شمولية والتث ّبت(‪ ،)3‬وهذان املنهجان اللذان‬
‫ميثالن مبد�أً مركزي ًا يف الك�شف عن املقوالت اللغوية يف الرتاث‪،‬‬
‫يف �إطار املنهج ّية‪ ،‬يحر�ص الدكتور نهاد املو�سى على علمية‬
‫اللغوي‬
‫ّ‬ ‫تب�صرات الدكتور نهاد املو�سى يف الرتاث‬ ‫ماثالن يف ّ‬
‫اللغوي‪ ،‬فيحر�ص على اجرتاح‬ ‫ّ‬ ‫العملية الك�شفية يف الرتاث‬
‫العربي‪ ،‬فهو يحر�ص على حتقيق �شمولية الر�ؤية الل�سانية‪،‬‬ ‫ّ‬
‫حالة فرز للعنا�صر العلمية املنتيمة‪ ،‬مبا ي�شبه اجلمع واملنع‬ ‫من خالل ال ّنقب الل�سا ّ‬
‫ين يف رقعة تراثية وا�سعة‪ ،‬لذلك فهو‬
‫املنطقي‪ّ ،‬ثم يق�صي العنا�صر املاورائية التي من �ش�أنها �أن‬ ‫ّ‬ ‫ُيح�سن ت�صنيف املقوالت الل�سانية يف ث َبت اجلهود الإن�سانية‪،‬‬
‫ّ‬
‫تتق ّوم بالإن�شائيات اللغوية‪� ،‬أو اخلطابيات التي ال حمل لها‬
‫بج ّدة املادة الل�سانية الوافدة‪ ،‬قبل فح�ص‬ ‫وال ي�ست�سلم للحكم ِ‬
‫املنهجي‪ ،‬ويبدو هذا املنهج يف‬ ‫ّ‬ ‫يف معر�ض التحقيق والك�شف‬
‫مقوال ِتها‪ ،‬وفر ِز عنا�صرها يف ث َبت اجلهود الإن�سانية ال�سابقة‪،‬‬
‫ب�صائره من خالل �إق�صاء العنا�صر املاورائية‪ ،‬وق ّلة م�ساحة‬ ‫ي�ساعده على هذا املنهج ّ‬
‫اطالع معر ّيف وا�سع يربطه ب�سبب وثيق‬
‫املنطقي يف �س ّلم الك�شف املعر ّيف‪،‬‬
‫ّ‬ ‫امل�س ّلمات املعرفية‪ ،‬والتد ّرج‬
‫بطريف املعرفة‪ :‬احلا�ضر والرتاث‪.‬‬
‫من درجة البداهة �إىل التحليل والرتكيب واال�ستق�صاء‪ .‬ويبدو‬
‫�أثر هذا املنهج يف �أعمال الدكتور املو�سى وا�ضح ًا جلي ًا‪ ،‬ال �س ّيما‬ ‫وهذا املنهج يف �شمولية الر�ؤية‪ ،‬الذي احتكمت �إليه عقلية‬
‫يف قدرته على اخرتاق حجب الإلف يف الظواهر التي يعاجلها‪،‬‬ ‫الرجل العلمية‪ ،‬نفى عن ب�صائره الل�سانية‪ ،‬عقدة الدوغماتية‬
‫فهو بهذا املنهج يلحظ �إىل عنا�صر كامنة يف الظاهرة اللغوية‪،‬‬ ‫الل�سانية‪ ،‬فعقليته الل�سان ّية عقلية فاح�صة مرنة‪ ،‬تخ�ضع‬
‫رمبا حتجب �سلط ُة الإلف كثري ًا من الناظرين عن ا�ستنباطها‪،‬‬ ‫ل�ست‬
‫لقانون العلم‪ ،‬وال حتكمها ِبنى الو�صاية وامل�صادرة‪ ،‬ف�إنك َ‬
‫وحراكها‪.‬‬
‫وقراءة قوانني انتظامها َ‬ ‫تع�صبات فكرية‪ ،‬حتمله على تقدي�س املقروء‬ ‫واجد ًا يف ب�صائره ّ‬
‫الرتاثي ك ّله‪ ،‬و�إق�صائه عن حكم التق�صري واخللل؛ مبخالفة‬
‫ّ‬
‫حلظ الدكتور‬ ‫العلمي املح�ض‪َ ،‬‬
‫ّ‬ ‫ومن ج ّراء هذا املنهج‬
‫املنط َلقات العلمية يف الر�ؤية‪ ،‬ول�ست واجد ًا يف ب�صائره‬
‫املو�سى �إىل حالة االنفكاك من املك ّونات الذاتية‪ ،‬التي تعتلق‬
‫ا�سرتخاء ذهني ًا‪ ،‬يحمله على ركوب حومة التقدي�س لك ّل ما ي ِفد‬
‫بنف�س الباحث؛ فت�ؤثر يف �سري عملية الك�شف املعر ّيف‪ ،‬ال �س ّيما‬ ‫تو�صل �إليه الفكر الإن�سا ّ‬
‫ين‪،‬‬ ‫من الآخر‪ ،‬بدعوى �أ ّنه �أن�ضج ما ّ‬
‫يف الدرا�سات التاريخية والرتاثية التي حتكمها �أن�ساق ذات ّية يف‬
‫فعقليته املعرفية والل�سانية‪ ،‬عقلية علمية حم�ضة‪ ،‬ال حتكمها‬
‫كثري من حاالتها‪ ،‬وقد تن ّبه الدكتور املو�سى �إىل ع�سر عملية‬
‫مقت�ضيات ماوراء العلم ‪.‬‬
‫‪‬‬ ‫‪‬‬
‫‪102‬‬

‫جمع عنا�صر الت�صحيح‪ ،‬ومنع عوائق القبول‪ ،‬مبا يق ّدم قناعة‬ ‫االنفكاك هذه يف مثل هذه الدرا�سات‪ ،‬الأمر الذي رمبا مي ّثل‬
‫بفاعل ّية هذه الأداة املنهج ّية يف الك�شف عن املقوالت اللغوية يف‬ ‫عائق ًا يجب االلتفات �إليه‪ .‬يقول الدكتور املو�سى‪ « :‬لي�س يف و�سع‬
‫الرتاثي(‪.)8‬‬
‫ّ‬ ‫املقروء‬ ‫الذاتي‪،‬‬
‫ّ‬ ‫من يت�ص ّدى للظواهر التاريخ ّية �أن ّ‬
‫ينفك عن تكوينه‬
‫ومنطلقات ع�صره‪ ،‬ومق ّومات نظرته �إىل الأمور‪ ،‬وي�شبه هذا �أن‬
‫(‪ )4‬العلّة الغائ ّية‬
‫يكون �أمر ًا الزم ًا لكتابة التاريخ على نحو ما»(‪.)5‬‬
‫املق ّرر يف تطبيقات الدكتور نهاد املو�سى‪� ،‬أ ّنه ال ي�سعى يف‬
‫ويف �إطار منهجية الك�شف يف الرتاث‪ ،‬يلحظ الدكتور نهاد‬
‫الرتاثي‪ ،‬يف �سبيل �إثبات اخلرب‬
‫ّ‬ ‫الع ّلة الغائية لعملية الك�شف‬
‫املو�سى �إىل �أهمية اعتبار العنا�صر امل�ؤثرة يف قراءة الن�صو�ص‪،‬‬
‫التاريخي‪� ،‬أو جمرد مقابالت تاريخية‪� ،‬أو �إثبات �سبق معر ّيف‬
‫ّ‬ ‫ويف عملية الك�شف عن �أحكامها‪ ،‬وقوانني انتظامها‪ ،‬كاعتبار‬
‫اللغوي احلديث يف الرقعة الرتاثية‪،‬‬‫ّ‬ ‫من خالل جتذير املوجود‬
‫إب�ستمولوجي(‪ ،)6‬وال�سياقات‬
‫ّ‬ ‫التاريخي‪ ،‬والو�ضع ال‬
‫ّ‬ ‫ال�شرط‬
‫لكنه ي�سعى يف �سبيل اجرتاح حالة علم ّية‪ ،‬تق ّدم كوا�شف‬
‫اخلارجية‪ ،‬الأمر الذي يق ّدم وعي ًا حقيقي ًا مبدلوالت الن�صو�ص‬
‫الرتاثي‪،‬‬
‫ّ‬ ‫اللغوي‬
‫ّ‬ ‫جديدة جت ّدد �إح�سا�سنا بقوانني املوجود‬ ‫و�أحكامها‪ ،‬وي�ضمن انتماء الأحكام اللغوية امل�ستنبطة �إىل‬
‫وب�أنظمته املح ّركة‪ ،‬ومبنطلقاته و�أبعاده‪ ،‬وت�أتي احلاجة �إىل‬ ‫الإرادة العلمية من �إنتاج تلك الن�صو�ص؛ كما يرتاح الباحث �إىل‬
‫هذه الكوا�شف امل�ستحدثة‪ ،‬من جراء ا�ستحكام الإلف‪ ،‬الذي‬ ‫�صحة ن�سبة املقوالت اللغوية امل�ستنبطة �إىل القدرة الإنتاجية‪،‬‬
‫من �ش�أنه �أن يق�صي ال�شعور عن كثري من الظواهر التي‬ ‫واحلالة الق�صدية لتلك الن�صو�ص؛ فال ت�أتي تلك املقوالت مبا‬
‫يحجبها ب�ستائره الكثيفة‪ .‬يقول الدكتور نهاد املو�سى‪ « :‬وال‬ ‫الن�صي‪ ،‬ورمبا تكون هذه‬ ‫الق�صدي‪� ،‬أو الإجبار‬
‫ّ‬ ‫ي�شبه الإ�سقاط‬
‫ّ‬
‫العربي يف �إطار جديد‪ ،‬يتقابل فيه القدمي‬
‫ّ‬ ‫ريب �أنّ و�ضع النحو‬ ‫املقوالت غري منتم ّية �إىل الإرادة العلمية �أو الق�صدية الن�صية‪.‬‬
‫الغربي‪ُ ،‬ي�سعف يف جتديد �إح�سا�سنا بالنحو‬‫ّ‬ ‫العربي واحلديث‬
‫ّ‬ ‫العلمي يف اعتبار ال�شروط‬ ‫وهذه الأداة الك�شفية‪ ،‬واملنهج‬
‫ّ‬
‫العربي يف مفهوماته ومنطلقاته و�أبعاده‪ ،‬بعد طول �إلف به يف‬ ‫ّ‬ ‫املركزية يف ا�ستنطاق الن�صو�ص الرتاثية‪ ،‬من �أبرز ما تق ّرر يف‬
‫الداخلي»(‪.)9‬‬
‫ّ‬ ‫اخلا�ص‪ ،‬ومنهجه‬
‫ّ‬ ‫اخلا�صة‪ ،‬وم�صطلحه‬
‫ّ‬ ‫لغته‬ ‫الرتاثي عند الدكتور نهاد املو�سى(‪. )7‬‬
‫ّ‬ ‫منهجية الك�شف‬
‫وال ريب يف �أنّ هذه الغاية ت�سلمنا �إىل تقرير حالة ك�شف‪،‬‬ ‫ويجدر التنبيه يف هذه الق�ضية على الد ّقة يف اختيار الأداة‬
‫ميكن معها �أن جن ّدد �أنظارنا احلديثة‪� ،‬أو نقيم من�آد ب�صائرنا‬ ‫اللغوي يف املقروء‬
‫ّ‬ ‫املنهجية التي تُعني على عملية الك�شف‬
‫انعكا�سي‪ ،‬ي�ضيء فيه املا�ضي‬
‫ّ‬ ‫املتجه ذا ب ْعد‬
‫احلا�ضرة‪ ،‬فيكون ّ‬ ‫الرتاثي‪ ،‬وهذه �سمة منهجية ماثلة يف تطبيقات الدكتور نهاد‬‫ّ‬
‫ويوجه الأنظار ِوجاه احلقائق اللغو ّية‪،‬‬
‫التب�صر احلديث‪ّ ،‬‬ ‫َ‬
‫�سبيل ّ‬ ‫املنهجي يف �أثناء معاجلة‬
‫ّ‬ ‫املو�سى العلمية‪ ،‬فهو ي�ستح�ضر ال�شرط‬
‫اللغوي يف ق�ضايا رمبا كانت‬
‫ّ‬ ‫�أو يفتح الأبواب �أمام التحقيق‬ ‫الق�ضايا اللغوية الرتاثية‪ ،‬ويحاكم الأداة املنهجية التي ي�ستعني‬
‫غائبة عن ف�ضاء ال�شعور املعر ّيف احلا�ضر(‪.)10‬‬ ‫م�صححات هذه الأداة‪ ،‬ويجمع عنا�صر الت�صحيح‪،‬‬ ‫بها‪ ،‬ويق ّرر ّ‬
‫ويف الع ّلة الغائية‪ ،‬ي�شري الدكتور نهاد املو�سى �إىل فائدة‬ ‫ومينع عوائق القبول‪ ،‬ويحاور عنا�صر اال�شرتاك واملال َءمة بني‬
‫اللغوي‪ ،‬تتق ّوم بتحديد‬
‫ّ‬ ‫املنهجي يف الرتاث‬ ‫ُمرتتّبة على الك�شف‬ ‫املادة والأداة املنهجية‪ ،‬ف�إذا نظرنا يف درا�سته (نظرية النحو‬
‫ّ‬
‫املنط َلق الذي ت�ستند �إليه الب�صائر احلديثة‪ ،‬مبا ي� ّؤ�س�س حال َة‬ ‫اللغوي احلديث)‪ ،‬وجدناه‬ ‫ّ‬ ‫العربي يف �ضوء مناهج النظر‬
‫تعاقب معر ّيف تتو ّفر فيه اجلهود على ا�ستنباط معرفة جديدة‬ ‫ي�ستح�ضر ما ِيرد على �أدواته الك�شفية‪ ،‬يف املقابلة بني منهج‬
‫مبنية على ت�أ�سي�س �آنف‪ ،‬فينتفي عنها التكرار‪ ،‬واجلهود املعارة‪،‬‬ ‫اللغوي احلديث‪،‬‬
‫ّ‬ ‫النحوي عند العرب‪ ،‬ومناهج النظر‬
‫ّ‬ ‫النظر‬
‫م�صححات اختيار الأداة املنهجية‪ ،‬من خالل‬‫ويج َهد يف تقرير ّ‬
‫‪‬‬ ‫‪‬‬
‫‪103‬‬

‫الهوام�ش‪:‬‬ ‫العلمي ُم َعادا ُة املعادات‪ُ ،‬‬


‫وترك‬ ‫ّ‬ ‫ال �س ّيما �أ ّنه قد ا�ستق ّر يف املنهج‬
‫بذل اجلهد يف حت�صيل احلا�صل من غري قيود زائدة‪ .‬يقول‬
‫‪ -1‬روبنز‪ ،‬موجز تاريخ علم اللغة يف الغرب‪ ،‬ترجمة‪� :‬أحمد عو�ض‪� ،‬سل�سلة عامل‬
‫املعرفة‪ ،‬العدد ( ‪� )227‬ص ‪18‬‬ ‫اللغوي‬
‫ّ‬ ‫الدكتور نهاد املو�سى‪ « :‬وهذه احلال ت�شري �إىل �أنّ البحث‬
‫‪ -2‬ينظر‪ :‬علوي‪ ،‬الل�سانيات يف الثقافة العربية املعا�صرة‪� ،‬ص ‪ .405‬وينظر‪ :‬عماد‬
‫ري من �أنظاره اتّفاق ًا‪ ،‬يف حركة عك�س ّية �أو دائر ّية؛ �إذ ال‬
‫يتك ّرر كث ٌ‬
‫الزبن‪ ،‬التفكري الل�ساين عند علماء العقليات امل�سلمني‪� ،‬أطروحة دكتوراه‪� ،‬ص ‪-15‬‬ ‫نبد�أ من حيث انتهى الآخرون فيكون جهدنا ا�ستدراك ًا وتكملة‪،‬‬
‫‪17‬‬ ‫بل نبد�أ من النقطة ال�ض ّيقة احلرجة مزه ّوين مبوقعنا‪ ،‬وموقع‬
‫‪ -3‬راجع يف هذا‪ :‬عبد الرحمن احلاج �صالح‪ ،‬بحوث ودرا�سات يف الل�سانيات العربية‪،‬‬ ‫اللحظة التي نعي�ش‪ّ ،‬ثم نتبينّ �أننا مل نكن �سابقني �سبق ًا مطلق ًا‪،‬‬
‫ج‪� ،1‬ص ‪14-12‬‬ ‫اللغوي مل يبد�أ بنا‪ ،‬و�أنّ كثري ًا من �أنظارنا قد‬ ‫و�أنّ البحث‬
‫ّ‬
‫النبي (‬
‫‪ -4‬ميكن النظر يف هذا الإطار يف بع�ض حتقيقاته العلمية‪ ،‬كت�سمية �أزواج ّ‬ ‫تقدمنا �إليها قوم �آخرون»(‪.)11‬‬
‫�صلى اهلل عليه و�سلم) لأبي عبيدة‪� ،‬ص ‪ .230 -227‬والنظر يف ت�آليف الدكتور نهاد‬
‫العلمي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫تب�صره‬
‫املو�سى‪ ،‬يقفك على هذا املنهج يف ّ‬
‫(‪َ )5‬ق َرا َرة النظر‬
‫العربي‪� ،‬ص ‪ .15‬ويف هذا ال�سياق يقول روبنز‪ « :‬و�إذا ما كان‬ ‫ّ‬ ‫‪ -5‬نظرية النحو‬
‫يل للما�ضي‪ ،‬ف�إنّ حكم ًا ذات ّي ًا مع ّين ًا يكون حتم ّي ًا يف‬
‫التاريخ �أكرث من جم ّرد تدوين حو ّ‬ ‫لقد ظهر �أنّ �أ�ستاذنا الدكتور نهاد املو�سى ي�سعى يف �سبيل‬
‫ترتيب احلوادث وتف�سريها‪ ،‬من هنا ن�ش�أت املقولة الكال�سيكية القائلة ب�أ ّنه ال ميكن �أن‬ ‫اللغوي‪ ،‬من خالل ا�ستح�ضار‬ ‫تقرير علمية الك�شف يف الرتاث‬
‫يكون هناك تاريخ غري متح ّيز» موجز تاريخ علم اللغة‪� ،‬ص‪ .18‬والقول بحتمية عدم‬
‫ّ‬
‫منهجي للك�شف املعر ّيف عن‬ ‫ّ‬ ‫االنفكاك فيه نظر عندي‪ ،‬وهو مغاالة يف �إحالة �شرط‬ ‫�شروط هذه احلالة العلمية ومقوالتها احلاكمة‪ ،‬كما يج َهد يف‬
‫رقعة التطبيق‪ ،‬وهذا الأمر ي�شبه حالة ن�سبانية حتيل وجود حقيقة تاريخية حم�ضة‪،‬‬ ‫جتريد هذا الك�شف من العنا�صر الغريبة التي تقطع �سبيل‬
‫وهو حكم فيه نقا�ش طويل وال ي�س ّلم ب�شمولية ر�ؤيته‪ ،‬نعم قد َيثبت ع�س ُر الأمر و�صعوبته‬
‫بوارد العادة و�سلطة الإلف‪� ،‬أ ّما �أن نحيل عدم االنفكاك‪ ،‬ف�أمر يع�سر قبوله منهجي ًا‬
‫تب�صره‪ ،‬ي�سعى يف‬ ‫البحث‪� ،‬أو ت�ضلل وجهته‪ ،‬وهو يف الغاية من ّ‬
‫وعلمي ًا ‪.‬‬ ‫�سبيل �إ�ضافة كوا�شف ت�ستخرج الكوامن املعرفية املخزونة يف‬
‫‪ -6‬ينظر ‪ :‬علوي ‪ ،‬الل�سانيات يف الثقافة العربية املعا�صرة ‪� ،‬ص ‪190‬‬ ‫�أح�شاء هذا الرتاث‪ ،‬من خالل التث ّيت من �صحة مالءمة هذه‬
‫ومقوالت‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫الكوا�شف امل�ستحدثة لهذا الرتاث‪� :‬سياق ًا وظرف ًا‬
‫العربي‪� ،‬ص‪ .20-19‬واقر�أ قوله‪ « :‬و�أنا عارف‬
‫ّ‬ ‫‪ -7‬ينظر لذلك مث ًال‪ :‬نظرية النحو‬
‫باملفارقة امل�ستهجنة الناجمة عن املقابلة بني منهج النظر النحوي عند العرب‪،‬‬ ‫الك�شفي بني احلا�ضر‬
‫ّ‬ ‫وهو بهذا يبتني حالة من التبادل‬
‫ومناهج النظر اللغويّ احلديث ؛ ملا يكتنف ك ًال منهما من ظروف مغايرة و�سياق‬ ‫والرتاث‪ ،‬في�ضيء مبناهج النظر احلديثة خبايا الرتاث‬
‫تاريخي ثقا ّيف ّ‬
‫خا�ص «‬ ‫ّ‬
‫خل ْبء الثرَّ ّ الذي رمبا تق�صيه عوامل‬‫اللغوي‪ ،‬وي�ستطلع هذا ا َ‬
‫ّ‬
‫‪ -8‬ينظر‪ :‬نظرية النحو العربي يف �ضوء مناهج النظر اللغويّ احلديث‪� ،‬ص‪.20 -19‬‬ ‫الإلف والعادة عن مطالع النظر؛ في�ضعف الإهداف عليه يف‬
‫ين عند علماء العقل ّيات امل�سلمني‪� ،‬ص‪20 -19‬‬
‫وينظر‪ :‬عماد الزبن‪ ،‬التفكري الل�سا ّ‬
‫تب�صر الباحث‪ ،‬وهو �أي�ض ًا ُي�شرف على الب�صائر احلديثة‬ ‫ّ‬
‫‪ -9‬نظرية النحو العربي‪� ،‬ص‪21‬‬ ‫بوارد النظر يف الرتاث‪ ،‬ف ُيقيم من�آد املوجود ب ِثقاف النظر يف‬
‫الطرح م�صداق ًا لقالة باوند عن الرتاث ‪ « :‬ا�ستخرج من‬ ‫‪ -10‬ورمبا ي�صلح هذا ّ‬ ‫الرتاث‪� ،‬أو ي�شرف على ف�ضاء من النظر م�ستحدث‪ ،‬يدفع �إليه‬
‫الرتاث جديد ًا» ‪ .‬ا�ستفدته من �شهادة الدكتور حممد �شاهني يف الدكتور نهاد املو�سى‪،‬‬
‫يف ‪� :‬آفاق الل�سانيات‪ ،‬حترير‪ :‬هيثم �سرحان‪� ،‬ص ‪501‬‬
‫نظ ٌر قد �سبق يف الرتاث‪ ،‬وهكذا تتق ّرر حالة مقابلة معرفية بني‬
‫احلا�ضر والرتاث‪ ،‬ال تقف عند احلدود الت�سجيلية الإخبارية‪.‬‬
‫‪ -11‬نظرية النحو العربي‪� ،‬ص‪ . 13‬وقد �أ�شار الدكتور نهاد املو�سى �إىل �أنّ الغربيني‬
‫�أنف�سهم‪ ،‬يق ّررون �أن بع�ض ك�شوفهم امل�ستحدثة‪ ،‬قد تكون معادات وتكرار ًا لأنظار‬
‫�سبقت‪ ،‬وهم ال يعلمون‪ .‬نظرية النحو العربي‪� ،‬ص ‪14‬‬
‫‪‬‬ ‫‪‬‬
‫‪104‬‬

‫�أ�سئلة اللغة العربية يف ع�صـر العولـمة‬


‫قيم الثـُّبوت وقوى التـَّح ُّول‬
‫ُ‬
‫د‪ .‬هيثم �سرحان‬

‫والباحثني بحوث ًا وكتب ًا عديدة يف حقل العرب ّية الف�سيح‪ .‬عالوة‬


‫على جهوده يف حتقيق املخطوطات وت�أليف املقررات النحوية‬
‫واخلطط الدرا�سية يف غري دولة عربية �إ�ضافة �إىل �إ�شرافه‬
‫على الر�سائل والأطاريح الأكادميية‪ .‬ولع ّل �أبرز ما تت�سم به‬
‫جتربة نهاد املو�سى خ�صو�صيتها املنهجية ومتيزها الوا�ضح‬
‫تج�سدة يف الدعوة �إىل وجوب انفتاح‬ ‫وخطاها الفارقة املُ ّ‬
‫الل�سان على احلاجات والغايات واملقا�صد الإن�سان ّية‪ .‬وبهذا‬
‫املعنى ميكن القول‪� :‬إنّ �أهم �صفة يف م�شروع نهاد املو�سى‬
‫تتم ّثل يف ُم�ساءلة مقوالت الل�سان ومراجعتها يف �ضوء ربطها‬
‫الب�شري وال ُبنيان‬
‫ّ‬ ‫بحاجات الإن�سان ودورها يف �صناعة العمران‬
‫حي ال ميكن‬ ‫احل�ضاري‪ .‬فاللغة‪ ،‬ب�أبنيتها ومعجمها‪ ،‬كائن ٌّ‬
‫ّ‬
‫عزله عن امل�ؤثرات والعوامل التي حتيط بالل�سان وهو ي�صوغ‬
‫منظومته الرمزية‪.‬‬
‫و�ضمن هذا الت�صور �سنم�ضي يف قراءة كتاب الدكتور‬
‫نهاد املو�سى املو�سوم بـ «اللغة العربية يف الع�صر احلديث‪ :‬قيم‬
‫الثبوت وقوى التحول»‪ ،‬الذي �صدر �سنة ‪ 2007‬عن دار ال�شروق‬
‫يف ع ّمان‪ .‬ولع ّل �أبرز مالحظة ميكن ا�ستح�ضارها �أنّ هذا‬ ‫منذ ما يزيد على ن�صف قرن من الزمان د�أب نهاد‬
‫الكتاب من �أوائل الكتب اللغو ّية التي �صدرت يف ُمفتتح الألفية‬ ‫املو�سى على ا�ستقراء املدونة اللغو ّية العربية يف �سياقاتها‬
‫الثالثة؛ فقد عكف امل�ؤلف علي كتابته منذ مطلع �سنة ‪.2004‬‬ ‫املت�شابكة‪ ،‬وا�ستخال�ص �صورتها التاريخية و�سريورتها يف‬
‫وبهذا املعنى ف�إنّ هناك وع ًيا معرف ًّيا ي�صدر عنه امل�ؤلف؛ �إذ‬ ‫الزمن واال�ستعمال‪ ،‬والبحث عن موقعها يف خارطة الل�سانيات‬
‫�إنه يت�صدى لتقدمي مراجعة جذرية لظواهر اللغة العربية يف‬ ‫الكونية‪ .‬وا�ستطاع يف هذه املرحلة �أنْ يز ّود املكتبة العرب ّية‬

‫�أ�ستاذ الل�سانيات يف جامعة الإمام حممد بن �سعود الإ�سالم ّية ‪ -‬ال�سعودية‪.‬‬


‫‪‬‬ ‫‪‬‬
‫‪105‬‬

‫إحاالت �ضمني ًة‬


‫ؤالت و� ٍ‬ ‫كما تت�ضمـَّنُ �أطروحة الكتاب ت�سا� ٍ‬ ‫�سياق التح ّوالت املت�سارعة التي بد�أت تخ ِّلف �آثارها يف نظام‬
‫ُمفادها‪ :‬ما الدفاعات التي متلكها العربية يف املواجهة املرتقبة؟‬ ‫اللغة العربية وبراجمها املختلفة‪.‬‬
‫وما احللول واال�سرتاتيجيات التي ينبغي على الل�سانني العرب‬ ‫ُ‬
‫يهدف �إىل فح�ص التغيـُّرات‬ ‫العمل م�شروع ًا‬
‫ُ‬ ‫وميثل هذا‬
‫تقدميها؟ وما مكامن ال�ضعف يف برامج اللغة العربية؟ وما عالقة‬
‫التي طر�أت على اللغة يف جدلها احلاد مع العوامل وامل�ستجدات‬
‫اللغة العربية بالإ�صالح والدميقراطية واملجتمع املدين؟‬
‫اللغوية‪ .‬و�سوف تكون «قيم الثبوت وقوى التحول» حلظتني‬
‫وح�سب نهاد املو�سى ف�إنَّ اللغة العربية تواجه م�صري ًا غام�ض ًا‬ ‫معرفيتني ت�شتبكان عرب جدل ال ُمتنا ٍه يحدد هوية اللغة العربية‬
‫نتيجة توقـّعات بع�ض الل�سانيني بانقرا�ض عدد كبري من اللغات‬ ‫ويعمل على جتلية �أبعادها ووجوه ت�أثريها املتنوعة‪.‬‬
‫يف نهاية القرن احلادي والع�شرين نتيجة الثورة االت�صالية ذات‬
‫�إنَّ اللغة العربية تعي�ش �صراع ًا قا�سي ًا تتنازعه قوتان‬
‫الطبيعة الرقمية‪ ،‬ونتيجة تقدم ال�صورة وحلولها حمل اللغة‬
‫كبريتان هما‪ :‬قيم الثبوت وقوى التح ّول‪ ،‬و�إذا كانت قيم الثبوت‬
‫�إ�ضافة �إىل زوال احلواجز �أمام قنوات االت�صال حيث �ألغيت‬
‫تف�ضي �إىل عالقة العربية بالن�ص املقد�س‪ ،‬والرتاث‪ ،‬والهوية‬
‫حدود املكان واختـُ ِزلت �أبعاد الزمان‪.‬‬
‫ف�إنَّ قوى التح ّول حتيل �إىل �أبعاد اللغة العربية التداولية املك ّونة‬
‫ويرى نهاد املو�سى �أنّ الركون �إىل م�س�ألة خلود اللغة العربية‬ ‫من م�ستويني متوا�شجني يطلق عليهما املو�سى‪ :‬الظواهر املاثلة‬
‫نتيجة ارتباطها بالن�ص القر�آين‪ ،‬و�أنَّ ر�صيد دورانها و�سريورتها‬ ‫فواعل حقيقي ًة يف و�صف‬ ‫َ‬ ‫والعوامل املتفاعلة اللذين ُي�ش ِّكالن‬
‫املمتدة �ستة ع�شر قرن ًا‪ ،‬و�أنّ الناطقني بها وعددهم مئتان و�سبعون‬ ‫اللغة العربية وتو�صيف براجمها تو�صيف ًا متكام ًال‪.‬‬
‫مليون ًا من الب�شر‪ ،‬و�أنّ املليار ُم�سلم الذين يتطلعون لتعلمها ُمعطياتٌ‬
‫وانطالق ًا من هذه الـ ُموا�شجة يت�شكل عنوان الأطروحة‬
‫ال تُ�شكـِّ ُل �ضمانات كافية حلماية اللغة ووقايتها من االندثار‪ .‬لذلك‬
‫التي ي�سعى الدكتور نهاد املو�سى �إىل �صوغها و ُمفادها؛ �أنَّ اللغة‬
‫ال ب َّد من نهو�ض م�شروع عربي ي�ستنفر فيه الل�سانيون والباحثون يف‬
‫العربية تقيم بني نظامني متعار�ضني من حيث انتما�ؤهما‪� :‬إذ‬
‫احلقول املجاورة �أدواتهم لت�شخي�ص الواقع اللغوي العربي و�إقامة‬
‫ي�ستند نظام قيم الثبوت �إىل مرجع تاريخي وتراثي يرى يف‬
‫الفر�ضيات الكفيلة ب�إنتاج احللول‪ ،‬والربامج‪ ،‬واال�سرتاتيجيات‬
‫ال�صفاء اللغوي عام ًال حا�سم ًا يف ت�أ�صيل اللغة وو�صف �أبنيتها‬
‫القادرة على خلق �آفاق علمية ت�ستند �إىل حمددات دقيقة ت�ضمن‬
‫نظام قوى التحول �إىل نوامي�س اللغة القادرة‬ ‫يف حني يحتكم ُ‬
‫الو�صول لنتائج مو�ضوعية متكـّن من �إيجاد خطط عملية وممكنة‬
‫على اال�ستجابة حلاجات الإن�سان ورغباته امل�ستجدة‪.‬‬
‫قادرة على احلفاظ على العربية والت�صدي ملا تواجهه من خماطر‬
‫حمدقة‪.‬‬ ‫دوافع البحث‬

‫�أما مفاهيم الأطروحة املركزية فهي‪ :‬اللغة العربية‪ ،‬والثبوت‪،‬‬ ‫يرى الدكتور نهاد املو�سى �أنَّ اللغة العربية حتتاج �إىل‬
‫والتحول‪ ،‬والع�صر احلديث‪ .‬و�إذا كانت اللغة العربية‪ ،‬يف قيم‬ ‫مراجعة م�ستمرة تهدف �إىل اكت�شاف التح ّوالت التي تطر�أ على‬
‫اللغوي الـ ُم�ستم ُد �شرعيتـَه من لغة القر�آن‪،‬‬
‫ّ‬ ‫ثبوتها‪ ،‬هي النظام‬ ‫براجمها و�أنظمتها املختلفة بهدف ر�صد ا�ستجاباتها‪ ،‬واتخاذ‬
‫واحلديث النبوي‪ ،‬وال�شعر العربي‪ ،‬واخلطب‪ ،‬وكالم العرب‬ ‫التدابري الل�سانية الكفيلة مبواجهة املخاطر التي جتابهها‪ .‬بيد‬
‫و�أمثالهم‪ ،‬ولغة املتكلمني‪ ،‬واملف�سرين‪ ،‬والفال�سفة‪ ،‬وعلماء‬ ‫�أنَّ الداف َع املركزي الذي ت�صد ُر عنه �أطروحة هذا الكتاب هو‪:‬‬
‫االجتماع‪ ،‬والتاريخ‪ ،‬ون�صو�ص الق�صة والرواية وامل�سرح واملقالة‪،‬‬ ‫َ‬
‫يحدث لللغة العربية �إذا ما تعر�ضت ملواجهة‬ ‫التنب�ؤ مبا ميكن �أنْ‬
‫والأفالم‪ ،‬والدراما‪ ،‬ولغة الر�سائل الإلكرتونية ف�إ َّنها‪ ،‬يف قوى‬ ‫�شاملة محُ تملة من قبل العوملة‪.‬‬
‫‪‬‬ ‫‪‬‬
‫‪106‬‬

‫لوك�سنربغ �أنَّ القر�آنَ و�إن كان م�صدره �إلهي ًا �إال �أنّ تغيري ًا قد م�سـَّه‬ ‫حت ّولها‪ ،‬ترتبط مب�شروع تظهر مالحمه يف ظاهرتني ماثلتني هما‪:‬‬
‫ب�سبب القراءات اخلاطئة وعملية التنقيط‪ ،‬وي�ستند لوك�سنربغ‬ ‫َ‬
‫وعوامل متفاعل ٍة تتج�س ُد يف‬ ‫االزدواجية اللغوية‪ ،‬والثنائية اللغوية‪،‬‬
‫على �أدلـَّة عقلية م�ستم َّدة من املقررات الل�سانية و�أدلة نقلية ترجع‬ ‫ق�ضايا التعليم‪ ،‬والرتجمة‪ ،‬والإعالم‪ ،‬والإعالن‪ ،‬واالقت�صاد‪،‬‬
‫ف�سرين‪.‬‬ ‫�إىل ما ورد يف ُمد ّونات الق َّراء والنحاة والـ ُم ِّ‬ ‫والعوملة‪.‬‬
‫جوهري يف حياة العربية‬
‫ٌّ‬ ‫الن�ص القر�آين‬
‫ويرى نهاد املو�سى �أنَّ ّ‬ ‫و�أما الع�صر احلديث فهو ع�صر العوملة بكل ما يحمله من وعود‬
‫وقيم ُثبوتها؛ �إذ مثـَّل حافز ًا كبري ًا لإجناز الإ�صالحات اللغوية‬ ‫وتهديد ل�صورة العربية النقية القادرة على منح القارئ �شعور ًا‬
‫وتطوير برامج اللغة وم�أ�س�سة �أنظمتها حيث ّمت ّ‬
‫التو�صل �إىل �صيغة‬ ‫بانتماء الن�صو�ص العربية‪ ،‬على اختالف �أنواعها وع�صورها‪� ،‬إىل‬
‫ائتالفية �أف�ضت �إىل توحيد اللهجات وهو م�شروع يك�شف عن‬ ‫بنية لغوية واحدة حتتكم �إىل نواظم م�شرتكة من القواعد؛ �إنه‬
‫عالقة ُمثمرة بني العربية والقر�آن ّمت مبوجبها جتاوز العراقيل‬ ‫ف�سح لبنية اللغة تط ّور املعجم وجتدد الأ�ساليب مع‬
‫الثبوت الذي ُي ُ‬
‫املتمثلة يف وحدة القبيلة‪ ،‬وعلى العك�س من ذلك متاما فقد مت‬ ‫احلفاظ على املنظومة ال�صوتية وال�صرفية والنحوية‪.‬‬
‫و�صم هذه العراقيل بكونها من مخُ لـَّفات اجلاهلية التي ا�ستعي�ض‬
‫و�إزاء هذا الثبوت ثمة حت ُّو ٌل يهدد الواقع اللغوي ويتمظهر يف‬
‫مفهوم العروبة وفكرة الأمة‪.‬‬
‫َ‬ ‫عنها مبنظومة قومية تتبنـَّى‬
‫التحول املكاين‪ ،‬والتحول يف النظام اللغوي حيث امل�سافة القائمة‬
‫و�ضمن هذا الو�صف الإنرثوبولوجي كانت العربية تتبنـَّى يف‬ ‫بني امل�شافهة والتدوين‪ ،‬وقد ُيحيل التحول �إىل التحول الثقايف‬
‫براجمها ال�شاملة «غري العرب ممن دخلوا الإ�سالم‪ ،‬فكانت لغة‬ ‫كما حدث يف حتول العربية من مفاهيم اجلاهلية �إىل مفاهيم‬
‫ُ‬
‫و�صف‬ ‫الدين والدولة ف�أقبلوا (غري العرب) على تعلمها واتـّ�سقَ‬ ‫الإ�سالم ثم انتقالها �إىل �سياق املثاقفة مع الآخر (الفر�س‬
‫العربية بذلك مع غاية الر�سالة التي جتاوزت «العرب» �إىل‬ ‫والروم) وما رافقه من انفتاح ثقايف �شامل على معارف (الآخر)‬
‫و�سع‬
‫«العاملني»»‪ .‬لقد جنحت العربية‪ ،‬لقيام القر�آن عليها‪ ،‬يف التـَّ ّ‬ ‫وعلومه‪ ،‬وقد يقرتن بالتحول الزماين حيث ترتاجع منزلة اللغة‬
‫أمم لغاتها ولهجاتها‬ ‫بفعل انت�شار الإ�سالم فكان �أن هجرت ال ُ‬ ‫وتفقد بريقها وي�صبح وجودها مهددا‪ ،‬وقد يرتبط التحول بتحول‬
‫واتـَّخذت العربي َة بدي ًال ل�ساني ًا‪ ،‬كما ا�ستطاعت الدولة الإ�سالمية‬ ‫الأنظمة النحوية وهو الذي ينجم بفعل تف�شي اللحن و�شيوع‬
‫التي تتبنى برامج العربية حتقيقَ الغلبة على الأمم‪.‬‬ ‫الأخطاء وا�ستفحال الرتجمة‪.‬‬
‫وي�ستعني نهاد املو�سى ب�أفكار ابن خلدون التي ُتقدِّ ُم تف�سري ًا‬ ‫�أ ّو ًال‪ُ :‬‬
‫قيم الثـُّبوت‬
‫ماديـ ّ ًا ومو�ضوعي ًا لتهافت الأمم وخراب عمرانها ول�سانها‪� ،‬إذ يرى‬ ‫تكمنُ قوى ثبوت اللغة العربية يف ثالثة مك ِّونات ُمت�ضافرة‬
‫�أنَّ ف�ساد العربية قد حتقق بعد �أنْ �سيطر على الدولة الإ�سالمية‬ ‫�ص املقد�س‬ ‫الن�ص املق َّد�س‪ ،‬والترّ اث‪ ،‬والهوية‪ِّ .‬‬
‫ويج�س ُد النـَّ ُّ‬ ‫هي‪ُّ :‬‬
‫العجم والرببر والترت واملغول‪ .‬لذلك‪ ،‬وح�سب نهاد املو�سى‪ ،‬ال‬ ‫ُ‬ ‫ين ا�ستطاع‬‫الـ ُمتمثـِّل يف القر�آن عنوانَ البقاء حيث �إنَّ النـَّ َ�ص القر�آ ّ‬
‫ميكن �إجناز الإ�صالحات اللغوية دون و�ضع العالقة االقرتانية‬ ‫�أنْ يحققَ متاهي ًا مع العربية من خالل �سريورته زمني ًا ب�ضعة‬
‫بني العربية والن�ص القر�آين يف �سلـّم الأولويات‪ ،‬لأنَّ هذا االقرتان‬ ‫ُ‬
‫التحريف‪� ،‬أو التـَّبديل‪� ،‬أو احلذف‪� ،‬أو‬ ‫ع�شر قرن ًا دون �أنْ يعرتيه‬
‫�سيكونُ دافع ًا قوي ًا ووحيد ًا لإعادة هيكلة الربامج اللغوية‪.‬‬ ‫الإ�ضافة‪.‬‬
‫حفظ اللغة العربية باقرتانها بالن�ص القر�آين ال ميثـِّ ُل‬
‫بيد �أنَّ َ‬ ‫ويف هذا ال�سياق يحاجج نهاد املو�سى �أطروحة امل�ست�شرق‬
‫عائق ًا �أمام تط ّور اللغة العربية القادرة على الإفادة من املنجزات‬ ‫الأملاين كري�ستوفر لوك�سنربغ املو�سومة بـ»القراءة ال�سريانية‬
‫املعا�صرة وتبيئتها ل�ساني ًا‪ .‬فالعربية قادرة على ولوج ف�ضاءات‬ ‫الآرامية للقر�آن‪ :‬م�ساهمة يف تف�سري لغة القر�آن» التي يرى فيها‬
‫‪‬‬ ‫‪‬‬
‫‪107‬‬

‫فالذت بالدين واعت�صمت بحبله وجعلته �إطار ًا �شام ًال للأعراق‬ ‫تعبريية و�آفاق جمالية وعوامل جديدة تتباين فيما بينها ت�شكي ًال‬
‫والأُمم‪ ،‬عالو ًة على فاعلية العربية يف توطيد الأمن الثقايف الذي‬ ‫ور�ؤي ًة‪.‬‬
‫ن�ش�أ بني ثنائية العربية والإ�سالم‪ ،‬والعربية وامل�سلمني �إذ تغدو‬ ‫ويع ُّد الرتاث املكون الثاين يف قيم الثبوت و ُيق�ص ُد بالرتاث‬
‫يحول دون وقوع املواجهات‬‫�صمام �أمان ُ‬ ‫َ‬ ‫العربية‪ ،‬يف هذه احلالة‪،‬‬ ‫ما و�صل �إلينا من مد ّونات وعلوم متن ّوعة ُ‬
‫تنه�ض على العربية‬
‫االجتماعية غري املتجان�سة ديني ًا وعرقيا‪ً.‬‬
‫ن�ص الوحي وثابت ال�سنة ال�شريفة‪ .‬فالرتاث هو ُمنج ٌز‬ ‫با�ستثناء ّ‬
‫ثورات وطفرات يف العلوم واملعارف‬
‫�إنَّ ما �أجنزته العربية من ٍ‬ ‫تاريخي �إن�سا ٌّ‬
‫ين يتـَّ�سم بالتفاوت الن�سبي يف قيمه الثبوتية يف حني‬
‫وامتداد وانت�شا ٍر‬
‫ٍ‬ ‫والفنون والآداب‪ ،‬وما حققته «الأمة» من فتوحات‬ ‫ن�ص الوحي وثابت ال�سنة يتجاوزان التاريخ‪ .‬وقد ظ َّل الرتاث‬ ‫�أنَّ َّ‬
‫ميثـِّ ُل دوافع �إ�ضافية يف اكت�شاف حيوية اللغة العربية ومكامن‬ ‫ً‬
‫مبا هو ماد ٌة معرفية قادرا على التعاي�ش مع املعا�صرة رغم امتداده‬
‫�إبداعها ور�صيد ح�ضورها‪.‬‬ ‫التاريخي ورغم كونه متفاوت ًا يف قيمه البقائية فبع�ض ن�صو�صه‬
‫ا�ستجابات عميق ًة يف الوعي‬
‫ٍ‬ ‫يزال ُ‬
‫يفر�ض‬ ‫متوا ٍر وبع�ضها الآخر ال ُ‬
‫ثاني ًا‪ :‬قوى التـّحول‬
‫العربي املعا�صر‪ ،‬مما يعني �أنَّ مناذج الرتاث الن�صية ا�ستطاعت‬
‫وتتج�سد يف التعليم‪ ،‬والرتجمة‪ ،‬والإعالم‪ ،‬واالقت�صاد‪،‬‬‫َّ‬ ‫تخطـّي حاجز الزمن عرب اللغة وظلـّت ُمتجدد ًة على الدوام وبقي‬
‫و�سلطة الإعالن‪ ،‬واالزدواجية‪ ،‬والثنائية‪ ،‬والعوملة‪.‬‬ ‫معجمها ونظامها الداليل فاعلني يف اال�ستعمال والتداول‪.‬‬
‫فيك�شف عدة جوانب �أهمها؛ العالقة امللتب�سة‬ ‫ُ‬ ‫ف�أمـَّا التعليم‬ ‫�أما الهوية فتمثـِّ ُل املُك ِّون الأخري لثالوث قيم الثبوت الذي‬
‫التقليدي للمادة اللغوية‪،‬‬
‫ّ‬ ‫بني العربية الف�صيحة عالو ًة على الإطار‬ ‫دال الهوية الذي‬ ‫ينطلق نهاد املو�سى يف بلورته من خالل تفكيك ّ‬
‫وغياب بعد الإمتاع واجلانب الوظيفي يف الكتاب املدر�سي �إ�ضاف ًة‬ ‫يفرتق مبناه عن معناه؛ فالهوية تقوم‬ ‫ُ‬ ‫تقابل ثنائي‬
‫يك�شف عن ٍ‬ ‫ُ‬
‫�إىل ق�صور املعلم نظر ًا لعدم وجود برامج تطوير حقيقية ت�سعى‬ ‫ين مادته (هو) ومعناه كينونة الآخر‪ ،‬يف حني‬ ‫على جذر ل�سا ّ‬
‫لإدامة تنميته وت�أهيله و�إ�صالح �أحواله االجتماعية واملعي�شية‪،‬‬ ‫تقرتن داللة الهوية مبعنى خمتلف هو كينونة الذات‪ .‬وبذلك ف�إنَّ‬
‫وهذا كله ي�ؤدي �إىل تراجع العربية وربطها بالعجز والق�صور‪.‬‬ ‫الهوية ح�سب نهاد املو�سى تت�ضمن انق�سام ًا داللي ًا يجعل الذات‬
‫وي�ش ُري نهاد املو�سى يف هذا ال�سياق �إىل تخبـّط اخلطط التعليمية‬ ‫يف مواجهة م�ستمرة مع الآخر حتى �إنَّ الـمرء ليكون ُم�ضطر ًا‬
‫املرتبطة بتعليم العربية وعدم كفاية برامج التعليم العام وافتقار‬ ‫ليكت�سب تعريف ًا وح�ضور ًا بعد‬
‫َ‬ ‫للإف�صاح عن هويته �أمام الآخر‬
‫مناهج اللغة العربية �إىل االتـِّ�ساق والتـَّ�سل�سل �إ�ضاف ًة �إىل تراجع‬ ‫�أنْ كان جمهو ًال وغائب ًا‪.‬‬
‫موقع تخ�ص�ص اللغة العربية يف اجلامعات‪.‬‬ ‫ُقيم‬
‫وهكذا ارتبطت الهوية العربية باللغة التي ا�ستطاعت �أنْ ت َ‬
‫و�أمـَّا الرتجم ُة فتمثـِّ ُل مك ِّون ًا مهم ًا يف قوى التح ّول حيث جتعل‬ ‫رابط ًا بني الأقانيم الثالثة‪ :‬العرق‪ ،‬والدين‪ ،‬والهوية وتختزلـَها‬
‫م�ستمر مع برامج الرتجمة و�أدواتها‬
‫ٍ‬ ‫اللغة العربية يف حالة اختبار‬ ‫من�شعب الدالالت ومتعدد الإحاالت الأمر الذي‬ ‫َ‬ ‫�صبح دا َّال‬
‫لتـُ َ‬
‫َ‬
‫ومعارف جديدة متنحها‬ ‫�إ�ضاف ًة �إىل ما تز ّوده لها من حمموالت‬ ‫ب ّو�أها منزل ًة رفيع ًة راح ُ‬
‫النا�س ي�سارعون يف االن�ضمام لها؛ للظفر‬
‫حيوية ُمتجدد ًة وتطوير ًا م�ستمر ًا‪ .‬وي�شري نهاد املو�سى �إىل جتربتني‬ ‫بامتيازاتها املتعددة فنجم عن ذلك تر�سيخُ الهوية العربية‬
‫رائدتني يف البالد العربية هما‪ :‬التجربة امل�صرية يف عهد حممد‬ ‫وامتدادها لت�صبح �أمة‪.‬‬
‫علي الذي طمح يف حتقيق ا�ستقالل م�صر بتحديث جي�شها فكانت‬ ‫وجنحت اللغة العربية يف جتاوز املحنة التي تع ّر�ضت لها‬
‫حركة الرتجمة التي نه�ض بها رفاعة الطهطاوي الذي ترجم مع‬ ‫ال�صراعات العرقية بني العرب والعجم‬‫«الأمة» عندما ن�شبت ّ‬
‫‪‬‬ ‫‪‬‬
‫‪108‬‬

‫بع�ضها الآخر يف ترويج الفنت و�إثارة النعرات والق�ضايا امل�سكوت‬ ‫تالمذته �أكرث من ‪ 2000‬كتاب من كتب العلم وال�صنائع‪ .‬والتجربة‬
‫ُ�سهم يف التوا�صل‬
‫عنها‪ .‬وهكذا �أ�صبح الإعالم و�سيلة بلبل ٍة ال ت ُ‬ ‫الفل�سطينية التي بد�أت يف نهاية القرن التا�سع ع�شر وغلب عليها‬
‫قدر �إ�سهامها يف الت�شتت والبلبلة واالنق�سام‪.‬‬ ‫الطابع الأدبي ثم الطابع ال�سيا�سي‪ .‬ويندرج يف هذا ال�سياق حرك ُة‬
‫التعريب التي �أ�صبحت ح ًّال مو�ضوعي ًا لرتجمة املعارف احلديثة‬
‫و�أما �آم ُر االقت�صاد فيـُمثـِّ ُل والي ًا خفيـَّ ًا يف توجيه اللغة التي‬
‫والإجنازات املعا�صرة‪ .‬فم�شروع الرتجمة‪،‬ح�سب نهاد املو�سى‪،‬‬
‫تخ�ضع ل�شروط الت�سويق و�أحوال الرتويج والإ�شهار والإعالن‬
‫ح�ضاري ير�صد رغبة الأمة يف االطـَِّالع على ُمنجزات‬
‫ٌّ‬ ‫م�ؤ�ش ٌر‬
‫والعر�ض والطلب والإنتاج واال�ستهالك ويف هذا ال�سياق تكونُ‬
‫احل�ضاري‪.‬‬
‫ّ‬ ‫احل�ضارات الأخرى والإفادة من م�شروعها‬
‫تخاطب فاعلة وم�ؤثرة يف بثِّ الإ�شارات‬
‫ٍ‬ ‫اللغة جما ًال حيوي ًا وو�سيل َة‬
‫وا�ستدراج الزبائن وا�ستمالة قناعاتهم‪.‬‬ ‫�إنَّ املعاينة الإح�صائية لواقع الرتجمة يف العامل العربي‬
‫تبعث على اال�ستياء نظر ًا لفقرها وتوا�ضعها‪ ،‬ويف املقابل يقع‬
‫يذهب �إىل عجز العربية عن‬
‫ُ‬ ‫�إنَّ الر�أي االقت�صادي الذي‬
‫الناظر يف ترجمة امل�سل�سالت املدبلجة والربامج املتلفزة على‬
‫�إبرام العقود وال�صفقات والإ�شهارات الرتويجية لينطوي على‬
‫هائل من التجاوزات واملحظورات املتناق�ضة مع قيم العرب‬ ‫كم ٍ‬ ‫ٍّ‬
‫مغالطات فادحة؛ ذلك �أنّ انحياز االقت�صاد املطلق للإجنليزية‬ ‫الثقافية وبراجمهم اللغوية الأمر الذي يجعلها تت�ضمـَّن تهديداً‬
‫بو�صفها لغ ًة تداولي ًة و�إق�صاء العربية موقف يت�ضمن تبعية �شاملة‬
‫ت�ؤذن باال�ستالب ِّ‬ ‫حقيقي ًا للخ�صو�صيات الثقافية وانتهاك ًا �صارخ ًا ملبادئ الرتبية‬
‫وتب�ش ُر باالغرتاب‪ .‬فعندما تتقدم الإجنليزية‪،‬‬
‫واالجتماع‪.‬‬
‫للوعود التي حتملها‪ ،‬ف�إنّ ذلك ي�شكل تهديدا للعربية وهو ما بدا‬
‫وا�ضح ًا حيث ت�شه ُد اجلامعات العربية �إعرا�ض ًا عن التخ�ص�ص‬ ‫و�أما ف�ضاء الإعالم فقد باتت الف�ضائيات مكون ًا من مك ِّونات‬
‫يف العربية بفعل تراجع التخ�ص�ص وظيفي ًا وعدم وجود حوافز‬ ‫قوى التح ّول اللغوية التي متلك القدرة على فر�ض ا�ستجابات‬
‫غريات لدار�سيها‪.‬‬
‫و ُم ٍ‬ ‫وتوجـّهات يف عقول امل�شاهدين و�سلوكهم ومواقفهم‪ .‬كما �أنّ لها‬
‫دور ًا تخريبي ًا يكمن يف ما تفر�ضه على برامج امل�شاهدين اللغوية‬
‫�إنّ حتكم القيم االقت�صادية يف فر�ض الواقع اللغوي �أدى �إىل‬
‫والفكرية من �أمناط لغوية‪ .‬ويتجلى ذلك يف جانبني كبريين‪:‬‬
‫التقليل من �ش�أن العربية وفقدان هيبتها ووقارها يف حني تتق ّدم‬
‫الإجنليزية بثقة ُمطلقة لتغز َو الالفتات الإعالنية واللوحات‬ ‫الأول‪ :‬تر�سيخ املحكيات املحلية واللهجات اجلهوية الأمر‬
‫الإ�شهارية‪.‬‬ ‫الذي يعني �أنها ت�ستهدف قطاع ًا ب�شري ًا حمدد ًا وفئة حمددة‬
‫متوافقة اجتماعي ًا وعقائدي ًا وثقافي ًا‪.‬‬
‫ويقرتح نهاد املو�سى حلو ًال ملعاجلة واقع اللغة االقت�صادي منها‬
‫«اتخاذ العربية الف�صيحة ل�سان ًا لرتويج املنتجات وتخ�صي�ص‬ ‫الثاين‪ :‬املواد املعرو�ضة‪ ،‬وهي تُ�شددُ‪ ،‬يف �أغلبها‪ ،‬على ُمنتجات‬
‫قنوات ف�ضائية لهذه الغاية»‪� .‬إ�ضافة �إىل ت�شديده على �ضرورة‬ ‫ٍ‬ ‫الغرائز املدمـِّرة لقواعد العقل والعلم واملعرفة‪.‬‬
‫اقتحام العربية املنا�شط الإن�سانية كلها؛ لأنّ اقت�صار العربية‬
‫لي�س هذا فح�سب‪ ،‬بل �إنَّ قنوات التوا�صل واالت�صال‬
‫على اجلوانب التعليمية والثقافية ُيعطـِّ ُل قوى الإبداع الكامنة‬
‫الإعالمية‪ ،‬كما يرى نهاد املو�سى‪ ،‬باتت تهد ُد ال�سكينة الثقافية‬
‫فيها ويحجـِّ ُم ح�ضورها وفاعليتها‪ .‬لذلك ال ب َّد من نهو�ض العربية‬
‫وتق�ض م�ضجع العقائد‪ ،‬والإثنيات‪ ،‬ولع ّل هذا الو�صف ينطبقُ على‬
‫ُّ‬
‫مبناحي احلياة املختلفة الأمر الذي مينحها القدرة على التنمية‬
‫جممل و�سائط االت�صال التي تعزز االنق�سامات وتذكي اخلالف‬
‫والتغيري ذلك «�أنَّ انغالق اخلطاب اللغوي على املرجع الثقايف‬
‫يف املواقف‪� .‬إ�ضاف ًة �إىل �شمولية بع�ضها وانحياز بع�ضها وتواطئ‬
‫‪‬‬ ‫‪‬‬
‫‪109‬‬

‫و�أمـَّا العومل ُة فغدت خطر ًا داهم ًا ي�ستهدف العربية كما‬ ‫وحده‪ ،‬و�إغفاله ل�سائر العوامل يف هذا ال�ش�أن و�أ�ضرابه قد �آل‬
‫ي�ستهدف اللغات الأخرى‪َّ ،‬‬
‫ولعل اقرتانَ الإجنليزية بالعوملة‬ ‫به �إىل �أنْ يكون خطاب ًا حمدود ًا يف دائرته اخلا�صة»‪.‬‬
‫بو�صفها لغة امل�شروع الأمريكي الإمرباطوري ال�ساعي �إىل‬
‫لت�صبح لغ ًة عاملي ًة تهدد‬ ‫فر�ض الهيمنة والتمركز ِّ‬
‫ير�شحها‬ ‫و�أما االزدواجي ُة الل�سانية فعـُقْد ٌة تعرت�ض �سبيل اللغة‬
‫َ‬
‫الثقافات الوطنية حيث اال�ستالب والنفي‪.‬‬ ‫العربية حيث ُي�ستعمل م�ستويان �أحدهما‪ :‬الف�صحى‪ ،‬والآخر‪:‬‬
‫اللهجة العامية املحكية‪ .‬وهكذا تعي�ش العربية تنازع ًا بني‬
‫واحلقَّ �أنّ الإعالم العربي يك ِّر ُ�س حال ًة من الهيام‬ ‫منوذجني خمتلفني يف الوظائف واملواقف والقواعد‪ ،‬ويظهر‬
‫ال�شباب لإجادتها وتعلمها؛ بحث ًا عما‬
‫ُ‬ ‫بالإجنليزية � ْإذ تتطلـَّ ُع‬ ‫مدى التنازع يف حجم التباينات اللهجية التي ال ينظمها‬
‫تخاطب الغرائز وتناغي املخيلة‪ .‬وهكذا‬
‫ُ‬ ‫تتو�سـَّ ُل به من برامج‬ ‫ببع�ضها ناظ ٌم وال ترتبط بالف�صحى ب�أية روابط ُم�شرتكة‪.‬‬
‫ي�سقط قطا ٌع وا�سع من ال�شباب يف فخّ الإجنليزية حيث‬
‫وهنا ي�شري نهاد املو�سى �إىل �أنّ التباين اللهجي يف العربية‬
‫االنبهار بالإجنليزية الذي يخفي حنين ًا �إىل الرغائب والعوامل‬
‫حالي ًا يختلف عنه يف ع�صر اجلاهلية حيث كانت هناك قوا�سم‬
‫لة‪.‬ولعل ثورة االت�صاالت التي بلغت �أوجها يف �شبكة‬ ‫َّ‬ ‫الـ ُمتخيـَّ‬
‫م�شرتكة بني اللهجات �إ�ضافة �إىل جوانب ف�صاحتها و�صحتها‬
‫الإنرتنت متثل دافعا وعامال مركزي ًا لتبني اللغة الإجنليزية يف‬
‫التوا�صل وبناء املعارف‪.‬‬ ‫مما بو�أها �صفة ال�صواب حيث التقت اللهجات لت�شكل «العربية‬
‫الف�صحى التاريخية»‪.‬‬
‫ختام ًا تنبغي الإ�شارة �إىل �أنَّ هذا الكتاب ُ‬
‫يتخذ �أهمي ًة خا�صة‬
‫عربي يف مطلع‬ ‫ين ٍّ‬‫ل�سببني؛ الأول‪� :‬أنه يع ُّد �أول م�شروع ل�سا ٍّ‬ ‫متنح العربية دور‬‫و�أ َّما الثنائية الل�سانية فعلـَّ ٌة فا�شي ٌة ُ‬
‫الألفية الثالثة يت�ص ّدى ملراجعة ق�ضايا اللغة العربية املعا�صرة‬ ‫اخلا�سر والإجنليزية (�أو الفرن�سية) دور الظافر‪ ،‬وهكذا‬
‫ويك�شف عن �إ�شكاالتها املختلفة �ضمن �سياق امل�ستجدات‬ ‫ت�صبح الثنائياتُ الل�سانية معط ًال يحول دون نهو�ض برامج‬ ‫ُ‬
‫اجلذرية والتفاعالت املتوا�صلة‪ .‬والثاين‪� :‬أنَّ الكتاب ي�ستن ُد �إىل‬ ‫تهدف لالرتقاء بالعربية تداو ًال وتنظري ًا؛ لأنَّ اللغة الثانية ال‬
‫ُم�صادرات منهجية و�أدوات �إجرائية وتدابري حتليلية دقيقة‬ ‫ُدر�س خلدمة املفاهيم العربية بقدر ما تكون و�سيلة للطعن يف‬ ‫ت ُ‬
‫�أثبتت فاعليتها يف �سرب الق�ضايا املتناولة وجتلية �أبعادها من‬ ‫العربية والتعايل عليها‪.‬‬
‫اجلوانب كافة‪.‬‬
‫لقد َّمت فر�ض الثنائية يف مرحلة تاريخية تع�صف باالنك�سار‬
‫وبذلك تت�ضح ر�ؤية �أطروحة الكتاب املنهجية فالباحث نهاد‬ ‫والهزمية‪ ،‬فقد زحفت �إ َّبان احلكم العثماين حيث برامج الترتيك‬
‫املو�سى يدفع �أدواته املعرفية �إىل اختبار حا ٍّد ومواجهة م�ستمرة‬ ‫وحمو الهوية العربية و�سحق الثقافة العربية‪ ،‬و�إبـَّان مرحلة‬
‫وحادة تقطع مع الثوابت ليعلن جد ًال متوا�ص ًال مع املنهج الذي‬ ‫اال�ستعمار احلديث حيث اقرتنت العربية بالديني والرتاثي يف‬
‫يتخذ من الل�سانيات االجتماعية منطلق ًا رئي�س ًا يف املقاربة‬ ‫حني اقرتنت الإجنليزية والفرن�سية بالتطور وال�صنائع والعلوم‬
‫اال�ستقرائية الت�أويلية ف�ضال عما ت�ستدعيه مدونة البحث من‬ ‫والتقدم املادي والنهو�ض احل�ضاري‪ .‬وح�سب نهاد املو�سى ف�إنه‬
‫ق�ضايا ومو�ضوعات تالم�س كينونة الل�سان والإن�سان العربيني‬ ‫ال ب َّد من مراجعة جتربة الثنائية الل�سانية الق�سرية اال�ستالبية‬
‫يف حتوالت الزمان والعمران الب�شريني‪.‬‬
‫التي �أ�صبحت تتعار�ض مع �أهداف تعلم اللغات الثانية التي تد ُّر‬
‫على العربية �أ�سباب القوة واملعرفة‪.‬‬
‫‪‬‬ ‫‪‬‬
‫‪110‬‬

‫*‬ ‫حوار مع الدكتور نهاد املو�سى‬


‫حاوره‪ :‬د‪ .‬وليد العناتي‬

‫الذي يجعل الل�سانيات ت�شغل �صدارة العلوم الإن�سانية وت�ست�أثر‬


‫بهذا االهتمام كله؟‬
‫‪ -‬ت�شبه هذه املقولة �أن تكون م�ستقرة يف الأعراف الل�سانية‬
‫املعا�صرة؛ ذلك �أن الل�سانيات تعالقت مع كثري من العلوم‬
‫الإن�سانية والطبيعية والطبية‪ ،‬وانتهى هذا التعالق �إىل انبثاق‬
‫ل�سانيات بينية ت�ستقي مادتها من الل�سانيات مبا هي و�صف‬
‫اللغة ودرا�ستها �شكلي ًا ووظيفي ًا‪ ،‬وت�ستقي مناهجها من العلوم‬
‫املختلفة؛ فقد �صار لدينا ل�سانيات اجتماعية و�أخرى حا�سوبية‬
‫وثالثة نف�سية ورابعة �أدبية‪�...‬إلخ‪ .‬و�إمنا ت�ستمد الل�سانيات‬
‫موقعها هذا من طبيعة مو�ضوعها و�أداتها البحثية؛ فهي العلم‬
‫الوحيد الذي تلتقي فيه مادته و�أداته الوا�صفة؛ حق ًا �أنها تدر�س‬
‫اللغة باللغة ولكنها يف ذاتها ومناهج در�سها متثل املنظومة‬
‫ال�سيميائية ومرجع التف�سري اللذين ينتظمان احلقول املعرفية‬
‫الإن�سانية جميع ًا‪ ....‬حقا �أن الل�سانيات الآن باتت ت�شغل موقع‬
‫الفل�سفة!‬
‫* ال ميكن �إنكار التناف�س بني املناهج الل�سانية‪ ،‬وهو‬
‫تناف�س ال جند له مثي ًال �إال يف ثقافتنا‪ ،‬فهل امل�شكل م�شكل‬ ‫* لقد �أ�شار الأنرثوبولوجي كلود ليفي �شرتاو�س �إىل �أن‬
‫مناهج حق ًا؟‬ ‫الل�سانيات بف�ضل توجهها العلمي �ست�صبح ج�سر ًا َتعْبرُ ُ ُه العلوم‬
‫‪-‬لعل املقدمة ال�سليمة للإجابة عن هذا ال�س�ؤال تقدمي‬ ‫الإن�سانية كلها �إن هي �أرادت �أن حتقق ن�صيب ًا من العلم‪ .‬وال‬
‫َ‬
‫اكت�شاف‬ ‫الغربي؛ فقد �أعقب‬
‫ّ‬ ‫�إطاللة �سريعة على امل�شهد الل�ساين‬ ‫�أحد ي�ستطيع اليوم �أن ي�شكك يف حتقق ر�ؤية �شرتاو�س؛ فما‬

‫�أ�ستاذ الل�سانيات يف جامعة البرتا‪.‬‬


‫‪‬‬ ‫‪‬‬
‫‪111‬‬

‫الل�سانيني العرب قد تدربوا يف مدار�س الغرب‪ .‬ورجع كل‬ ‫ال�سن�سكريتية دور ٌة م�ست�أنفة يف در�س الظاهرة اللغوية‪ .‬و�أف�ضت‬
‫جيل معتنق ًا مذهب املدر�سة التي تخرج فيها‪ ،‬ويكون يف هذه‬ ‫يف بادئ الأمر �إىل در�س اللغات در�س ًا تاريخي ًا مقارِن ًا‪ .‬وتوالدت‬
‫ال�سامي املقارِن‪� ،‬أو َي ْ�ص ُد ُر عن‬
‫ّ‬ ‫الأجيال من يعتنق املنهج‬ ‫الحق منها يت�شكل‬ ‫املذاهب الل�سانية‪ ،‬بعد ذلك‪ ،‬ترتى‪ .‬وكان كل ِ‬
‫املذهب الو�صفي ابتدا ًء‪� ،‬أو ينحاز للمنهج التحويلي التفريعي‬ ‫بتدارك ما فاتَ ال�سابقَ ‪� ،‬أو يت�شكل على نحو مقابل‪ .‬وقد جاء‬
‫�أو ينزع منزع ًا وظيفي ًا تداولي ًا‪� ،‬أو يتمثل ر�ؤى ذهنية حتاكي‬ ‫املذهب «التزامني» الذي يتجه �إىل در�س اللغة در�س ًا و�صفي ًا يف‬
‫ما يعمله العقل الإن�ساين حني ينتج اللغة وي�ستقبلها متهيد ًا‬ ‫حقبة �آنية ر َّد فعل للمذهب «التعاقبي» الذي اتبع نهج الدر�س‬
‫لنمذجتها ومتثيلها للحا�سوب‪.‬‬ ‫التاريخي للغة يف �أطوارها املتعاقبة‪ ،‬وجاء املذهب التحويلي‬
‫التفريعي ا�ستدراك ًا حا�سم ًا على املذهب البنيوي القائم على‬
‫ويعلن الل�سانيون العرب‪ ،‬على هذا ال�صعيد‪� ،‬صراحة‪،‬‬
‫مبد�أ ال�سلوك اللفظي املنطلق من مقولة املثري واال�ستجابة؛ �إذ‬
‫جدوى املناهج يف �إعادة و�صف العربية وتف�سريها‪ .‬وقد‬
‫قام املذهب التحويلي التفريعي على �أن اللغة بنية عقلية و�أنها‬
‫�أجنزت‪ ،‬يف هدي هذه املناهج‪ ،‬درا�سات يف العربية �أفادت‬
‫تتجاوز �آلية املثري واال�ستجابة �إذ �إن �أمثلة الكالم مفتوحة غري‬
‫من كل منهج مببلغ ما انتهى �إليه اجتهاد �أتباعه‪ .‬و�أ�صبح �شعار‬ ‫متناهية‪ .‬وجاء املذهب الوظيفي ي�أخذ على املذهب التحويلي‬
‫امل�ؤمترات اللغوية يف العامل العربي وخارجه توظيف الل�سانيات‬ ‫املوقف الذي‬ ‫التفريعي انح�صاره يف مادة الكالم دون اعتبار‬
‫ِ‬
‫احلديثة وتطبيقها على العربية‪.‬‬ ‫الكالم يف عملية «االت�صال» بني‬ ‫يجري فيه الكالم ودو ِر‬
‫ِ‬
‫ولعل �أبرز �سمات هذه الظاهرة �أن اجلانب العربي يتخذ‬ ‫�أطراف املوقف الكالمي‪.‬‬
‫موقف ًا اتّباعي ًا يكاد ينح�صر يف ا�ستثمار املعطيات النظرية‬ ‫وهذا حديث معاد مكرور‪ .‬ويعنينا منه‪ ،‬هنا‪ ،‬الآن‪� ،‬أنَّ‬
‫املتاحة يف قراءة جديدة لظواهر يف العربية! وهذا �أمر طبيعي‬ ‫الغرب عمل بد�أب على تطوير علم الل�سان الب�شري يف نظريات‬
‫يق�صر بالبحث الل�ساين العربي عن �أن يكون رافد ًا �أو‬ ‫ولكنه ِّ‬ ‫متتابعة تتعار�ض وتتباين لتتكامل‪ .‬وت�صبح عناوين‪ :‬الل�سانيات‬
‫مناف�س ًا يف حلبة الدر�س الل�ساين العام‪� .‬إنه يقدم نحو ًا عربي ًا‬ ‫التاريخية‪ ،‬واملقارنة‪ ،‬والو�صفية‪ ،‬واالجتماعية والنف�سية‪،‬‬
‫و�صفي ًا �أو نحو ًا عربي ًا حتويلي ًا �أو نحو ًا عربي ًا وظيفي ًا‪ ،‬و�إذن‬ ‫والوظيفية‪ ،‬واحلا�سوبية‪.....‬مناذج لآفاق من التب�صر يف‬
‫يزاوج بني «املادة» وهي العربية و»املنهج» وهو غربي‪ .‬ولي�س‬ ‫الظاهرة اللغوية َّ‬
‫تطرد وال تتوقف‪.‬‬
‫وا�ضح ًا �أن جدل املادة واملنهج قد �أف�ضى �إىل «�إ�ضافة» عربية‬ ‫وكان موقف العرب من هذا ال ِع ْل ِم الذي كان الغرب‬
‫�إىل النظرية الل�سانية العامة‪.‬‬ ‫اخلا�ص‪ ،‬على اجلملة‪ ،‬موقف ًا‬
‫ّ‬ ‫يطوره لنف�سه ويف �سياقه الثقايف‬
‫ولكن موقف اجلانب الغربي كان خمتلف ًا؛ فحني ازدهرت‬ ‫مو�سوم ًا بالقبول والإقبال‪ .‬بل ميكننا �أن نعدو يف و�صفه �إىل‬
‫نظرية النحو التحويلي التوليدي ثم قيل يف �سياق مراجعتها‬ ‫مثل القول باالنبهار بالولع واملحاكاة‪ .‬و يندغم هنا �أمران‪� :‬أمر‬
‫�إنها متثل عودة �إىل النحو التقليدي مل يجد ت�شوم�سكي ب�أ�س ًا يف‬ ‫انتفاء التحيز الثقايف من جهة الغرب‪ ،‬و�أمر تقليد «الغالب» يف‬
‫�أن يلتم�س لها �أ�ص ًال لدى ( فون همبولت) يف مقولته‪� :‬إن اللغة‬ ‫املقولة اخللدونية‪« ،‬الغائب» يف نظرية الأثر الثقايف للم�ستعمر‬
‫خالقة‪ ،‬و�إنها ت�ستعمل قواعد حمدودة ا�ستعما ًال غري حمدود‪،‬‬ ‫بعد رحيله‪ ،‬من جهة العرب‪.‬‬
‫بل �إن ت�شوم�سكي اعت َّد نح َو «بانيني» لل�سن�سكريتية قطعة من‬ ‫وت�شبه �سل�سلة الل�سانيني العرب �أن تكون انعكا�س ًا ل�سل�سلة‬
‫النحو التحويلي‪ .‬ولكن املوقف ات�سم بتجاهل �شبه تام لنظرية‬ ‫املذاهب الل�سانية املتعاقبة يف الغرب؛ وذلك �أنَّ �أجيا ًال من‬
‫‪‬‬ ‫‪‬‬
‫‪112‬‬

‫امل�ستعار واملو�ضوع العربي‪ ،‬واجته �إىل �إعادة و�صف العربية‬ ‫النحاة العرب وما �صدروا عنه يف م�ؤلفاتهم‪� ،‬صنيع �سيبويه وابن‬
‫وا�ستئناف النظر يف ق�ضاياها وظواهرها يف �ضوء تلك‬ ‫جني وعبد القاهر‪ ،‬وما �صرحوا به يف تلك امل�ؤلفات وج َّردوه‬
‫النظريات‪ ،‬فكان تيار ًا تطبيقي ًا خال�ص ًا �إىل حد بعيد‪.‬‬ ‫�أ�صو ًال كلية على نحو غري ملتب�س كالذي ا�ست�صفاه ابن ه�شام‬
‫يف املغني من ( ذكر اجلهات التي يدخل االعرتا�ض على املُ ْع ِرب‬
‫وثالثهما يتمثل يف مقارنة البحث اللغوي العربي ونظريته‬
‫من جهتها)‪ ،‬ومنها (�أن يراعي ما يقت�ضيه ظاهر ال�صناعة وال‬
‫اخلا�صة مبقوالت املناهج الل�سانية املتعاقبة‪ ،‬وقد جنم يف �سياق‬
‫يراعي املعنى)‪ ،‬ومنها ما عقد من ذلك الباب يف (�أمور كلية‬
‫ازدهار النظرية التحويلية التفريعية حني ملأت الدنيا و�شغلت‬
‫يتخرج عليها ما ال ينح�صر من ال�صور اجلزئية)‪.‬‬
‫النا�س‪ ،‬و�أخذت كل نظرية تلتم�س لنف�سها موقع ًا بالن�سبة �إىل‬
‫تلك النظرية‪ .‬ومت َّثل هذا التيار‪ ،‬يف اجلانب العربي‪ ،‬بال�سعي‬ ‫وخال�صة الأمر �أن التناف�س يف الل�سانيات الغربية واملجادالت‬
‫�إىل �إيجاد موقع للنظرية اللغوية العربية يقرنها �أو يقارنها‬ ‫واملحاورات يف ق�ضايا اللغة كانت تدور يف �سياق علمي يدفع �إىل‬
‫بالنظرية التحويلية خا�صة من خالل البحث عن َم�شا ِب َه بني‬ ‫التناف�س‪ ،‬ويبحث عن الكفاية الوفية يف التف�سري مما مثل �إ�ضافة‬
‫املقوالت الرئي�سية الكربى يف النظريتني‪.‬‬ ‫�أو ا�ستدراكا وتبقى الأنظار يف جدل مفتوح !‬
‫و رابعها يتمثل يف ا�ستثمار ح�صيلة هذه اجلهود املرتاكمة‬ ‫و�أما التناف�س يف ال�سياق الل�ساين العربي ف�إنه تناف�س يف‬
‫لت�شكيل وعي علمي بالعربية‪ ،‬وت�شكيل وعي ل�ساين عام‪ ،‬و�إقامة‬ ‫�سياق االتباع ال الإبداع‪ ،‬وهو يف�ضي ب�أ�صحابه �إىل ِم ْثل القطيعة‬
‫جدل بني املو�ضوع واملنهج ت َْط َر ُح فيه العربية �أ�سئلتها اخلا�صة‬ ‫�أو اخلطوط املتوازية‪.‬‬
‫يف �ضوء الوعي الل�ساين العام‪ ،‬وتتقدم يف مبا�شرة تلك الأ�سئلة‬ ‫* ما �أهم تيارات الدر�س الل�ساين العربي؟‬
‫والق�ضايا على قاعدة وعي ل�ساين عام ميكن العربية من‬
‫العربي يف «العا ّم» الل�ساين‪ ،‬والإ�سهام‬ ‫«اخلا�ص»‬
‫ّ‬ ‫حتقيق اندغام‬ ‫‪ -‬رغم �أن امل�شهد على التعميم �سدميي �إال �أننا ن�ستطيع‬
‫ّ‬
‫يف النظرية الل�سانية من هذا املدخل‪ .‬وما يزال هذا التيار‬ ‫متييز تيارات �أربعة عامة هي‪:‬‬
‫يت�شكل ليمنح « فرادة» العربية دور ًا وموقع ًا يف �سياق النظريات‬ ‫�أولها يتمثل يف در�س ق�ضايا من ق�ضايا العربية‪ .‬وقد وقع يف‬
‫الل�سانية « الك ّل ّية» واللغات احلديثة «الكون َّية»‪.‬‬ ‫بدايات القرن الع�شرين خا�صة ويف �سياق مواجهة مبا�شرة مع‬
‫�أطروحات جاء بها الغرب يف �سياق َمدِّ ه اال�ستعماري يف املنطقة‪.‬‬
‫* كيف ترى منزلة الل�سانيات يف الدرا�سات العليا يف‬
‫وهو در�س مبا�شر يلوذ مبرجع ثقايف يتمثل يف املحافظة وحماية‬
‫الأردن؟‬
‫العربية من الدعوات «املُغ ِْر َ�ضة»‪ .‬ولكنه ي�ستبطن �أ�صو ًال ل�سانية‬
‫لي�س ثمة اختالف كبري بني مو�ضوعات الأطروحات‬ ‫�صدر عنها �أهل العربية دون �أن ي�ص ِّرحوا بها‪ ،‬و�إمنا ن�ست�شفها‬
‫اجلامعية يف الأردن وغريها من البالد العربية الأخرى‪ .‬على‬ ‫ين من �أنظار‪.‬‬ ‫ون�ستخرجها نحن يف هَ دي ما ج َّرده البحث الل�سا ّ‬
‫مطرد ًا نحو الأطروحات ذات‬ ‫�أنه ميكن القول �إن هناك اجتاه ًا َّ‬ ‫ومثل ذلك ما تداوله �أهل العربية من وجوه االحتجاج واال�ستدالل‬
‫الطابع الل�ساين اخلال�ص؛ وبيان ذلك �أن الطلبة‪ُ ،‬جلُّهم‪ ،‬بد�أوا‬ ‫يف مواجهة الدعوة �إىل العامية‪ ،‬وكتابة العربية باحلرف‬
‫ين�صرفون عن درا�سات النحو التقليدي ب�صورته اجلامدة‪،‬‬ ‫الالتيني‪.‬‬
‫و�صاروا ي�ستبدلون به مو�ضوعات حديثة كالل�سانيات احلا�سوبية‬ ‫وثانيهما يتمثل يف «اتباع» النظريات الل�سانية التي طورها‬
‫والل�سانيات االجتماعية‪ ،‬ونحو الن�ص‪ ،‬حتى الل�سانيات‬ ‫الغرب يف �سياقه اخلا�ص‪ .‬وقد قام على املزاوجة بني املنهج‬
‫‪‬‬ ‫‪‬‬
‫‪113‬‬

‫* على الرغم من �أنك عاجلت معظم ق�ضايا اللغة العربية‬ ‫الع�صبية‪� ،‬أما الل�سانيات التقابلية فما تزال مقت�صرة‪ ،‬على‬
‫معاجلات م�ستقلة يف م�شروعات م�ستقلة �إال �أنك عدت ملعاجلة‬ ‫التعميم‪ ،‬على الطلبة الأجانب من املاليزيني والكوريني الذين‬
‫هذه الق�ضايا جمتمعة يف كتابك الأخري «اللغة العربية يف‬ ‫ين�شدون الوقوف على ما يواجههم من �صعوبات يف تعلم العربية‪.‬‬
‫الع�صر احلديث‪....‬قيم الثبوت وقوى التحول»‪ ...‬فما وجه‬ ‫ولعل اجتاه ًا بارز ًا بد�أ ين�شط بني الطلبة يتمثل يف الإقبال على‬
‫افرتاق املعاجلة هنا وهناك؟‬ ‫درا�سة «لغة الإعالم» وحتليل خطابها على توجهاته ومقا�صده‬
‫االفرتاق هنا من وجوه عدة؛ �أولها �أن املعاجلة هنا معاجلة‬ ‫املختلفة‪.‬‬
‫كلية تتناول العربية وق�ضاياها يف �سياقها الثقايف واالجتماعي‬ ‫و�أحتفل هنا مبا َط َمحت �إليه جامعة الريموك الأردنية من‬
‫واالقت�صادي وال�سيا�سي‪ ،‬وهي عوامل تتداخل الآن‪ ،‬بت�أثري‬ ‫افتتاح برنامج «الل�سانيات التطبيقية» لطلبة الدكتوراه‪ ،‬وما‬
‫العوملة‪ ،‬على نحو ال يقبل الق�سمة وال االنف�صال‪ ،‬بل �إن �أي‬ ‫�شرعته اجلامعة الأردنية من افتتاح برنامج ماج�ستري تعليم‬
‫معاجلة لق�ضايا العربية مبعزل عن هذه العوامل �ستكون‬ ‫العربية للناطقني بغريها‪ .‬وهما عالمتان ينبغي �أن تكونا‬
‫منقو�صة ‪� ،‬أما املعاجلات امل�ستقلة فقد كانت ت َْ�ص ِر ُف عنايتها‬ ‫دا َّلتني على «الوعي» مبنزلة الل�سانيات و�أهميتها‪.‬‬
‫�إىل ق�ضية واحدة دون االن�صراف كثري ًا �إىل ما يتعالق بها من‬
‫ق�ضايا‪�....‬إنني هنا �أعالج العربية وق�ضاياها من حيث هي‬ ‫ا�شتغلت كثري ًا بق�ضايا اللغة العربية املعا�صرة‪ :‬االزدواجية‪،‬‬
‫َ‬
‫كينونة خا�صة تتجاذبها قيم الثبوت وقوى التحول يف م�شهد‬ ‫فبم اختلف‬
‫والكتابة‪ ،‬وتعليم العربية‪ ،‬واحلو�سبة‪�.....‬إلخ‪َ ،‬‬
‫ين �أ�صبح فيه هاج�س موت اللغات هاج�س ًا مقيم ًا‪.‬‬ ‫كو ّ‬ ‫تناولك هذه الق�ضايا عن تناول الآخرين �إياها؟‬
‫وثاين هذه االفرتاقات ما يحمله هذا الكتاب من معاجلة‬ ‫لعل وجه االختالف الرئي�س يتمثل يف �أن معاجلتي تنطلق‬
‫م�ستحدثة ت�ستجيب لل�شرط التاريخي؛ التطور‪ ،‬وما حمله‬ ‫من ت�شخي�ص واقع الظاهرة والعوامل الثاوية خلفها‪ ،‬انتها ًء‬
‫معه من تعقيدات �أفرزتها العوملة ومنتجاتها؛ ف�إذا َن َظ ْرتَ‬ ‫�إىل اال�ستفادة من الل�سانيات التطبيقية ومرئيات التخطيط‬
‫�إىل معاجلة االزدواجية قبل ع�شرين عام ًا وجدتَ �أنه ال ذكر‬ ‫م�شكالت حت ُّد من‬‫ٍ‬ ‫اللغوي‪ .‬فالق�ضايا املعاجلة �إمنا مت ِّثل‬
‫‪ ،‬تقريب ًا‪ ،‬لق�ضية الثنائية ‪� ،‬أما الآن ف�إن الثنائية (العربية‬ ‫تفوق العربية و�إ�سهامها يف منا�شط احلياة العربية على‬
‫ؤالت جديد ًة تفا�ضل بني العامية‬ ‫والإجنليزية) تطرح ت�سا� ٍ‬ ‫الوجه امل�ؤ َّمل؛ ولذلك ف�إن منتهى ق�صدي �أن �أ�ضع ر�ؤى �أراها‬
‫والإجنليزية ولي�س الف�صحى والإجنليزية‪ .‬و �إنْ ت�أملت �ضعف‬ ‫�ضرورية حلل هذه امل�شكالت (الق�ضايا) �أو احل ّد من ت�أثرياتها‬
‫الطلبة يف العربية قدمي ًا‪ ،‬قبل ع�شرين عام ًا مث ًال‪ ،‬وجدت‬
‫ال�سلبية املعيقة للعربية‪ .‬ف�إذا َن َظ ْرتَ ‪ ،‬مث ًال‪ ،‬يف كتابي « ق�ضية‬
‫�أن �أ�ساليب التدري�س تتحمل الوزر الأكرب يف ذلك‪� ،‬أما الآن‬
‫التحول �إىل الف�صحى يف العامل العربي احلديث» َو َج ْدتَ �أنه‬
‫ف�إن االن�صراف �إىل التعليم باللغات الأجنبية (الإجنليزية‬
‫يتوجه �إىل ظاهرة م�ؤ ِّرقة هي ظاهرة االزدواجية‪ ،‬وهو تناول‬
‫خ�صو�ص ًا) �سبب رئي�س يف �ضعف الطلبة يف العربية؛ لأنهم‬
‫و�أهلهم ين�صرفون �إىل املدار�س التي تعلم باللغات الأجنبية‬ ‫ينتهي �إىل تداب َري منهجية و�إجرائية تنفَّذ يف التعليم والإعالم‬
‫ابتدا ًء!‬ ‫و�أدب الطفل‪ ....‬وينتهي �أمر هذه التدابري‪� ،‬إنْ ُ�أ ِخ َذ ْت بحقها‬
‫يف التطبيق‪� ،‬إىل تحَ َ ّو ٍل تدريجي من العامية �إىل الف�صحى‬
‫و ثالث هذه االفرتاقات �أن هذا الكتاب ميثل خطاب ًا‬
‫الر�شيقة املعا�صرة‪ .‬وكذا القول يف الق�ضايا الأخرى‪.‬‬
‫ا�ستثنائي ًا يتجاوز خطابي الل�ساين االعتيادي من حيث‬
‫‪‬‬ ‫‪‬‬
‫‪114‬‬

‫تتناول �أطراف العملية التعليمية برمتها‪ ،‬وقد كانت لك جتربة‬ ‫املتلقون؛ �إذ مل �أتق�صد �أن �أخاطب الل�سانيني املتخ�ص�صني‬
‫خا�صة يف تلم�س �ضعف الطلبة يف العربية‪ .‬كيف ت�شخ�ص هذا‬ ‫يف الل�سانيات العربية وق�ضايا اللغة العربية‪ ،‬ولكني يف هذا‬
‫ال�ضعف؟‬ ‫اخلا�ص‬
‫ّ‬ ‫املخاطبني وحتولت بخطابي من‬ ‫َ‬ ‫الكتاب َع ِّممت قاعدة‬
‫�إىل العا ّم‪ ،‬من الل�ساين املتخ�ص�ص �إىل املثقَّف العربي عموم ًا‪،‬‬
‫‪ -‬ي�شبه �ضعف الطلبة يف اللغة العربية �أن يكون الرتبة‬
‫و�إمنا كان ذلك لر�ؤيتي �أنَّ اللغة العربية و ق�ضاياها املعا�صرة‬
‫اخل�صبة لنمو امل�شكالت اللغوية الأخرى؛ ذلك �أنها متثل دورة‬
‫وما تواجهه من تهديدات مل تعد هَ َّم الل�ساين العربي وحده‪،‬‬
‫م�ستمرة من ال�ضعف و�إنتاجه و�إعادة �إنتاجه‪ .‬وت�شخي�ص ذلك‬
‫�إنها هَ ُّم الل�ساين والإعالمي والطبيب والناقد الأدبي والتاجر‬
‫ماثل يف �أن جمهرة الطلبة ما يزالون يقعون دون م�ستوى‬ ‫واملمثل‪� ......‬إنها هَ ُّم ه�ؤالء جميع ًا‪ ،‬فالق�ضايا التي يطرحها‬
‫الكفاية؛ وذلك �أن ُج َّلهم يعرثون يف حتقيق النطق ببع�ض‬ ‫مت�س جميع �أبناء الوطن العربي على اختالف بلدانهم‬ ‫الكتاب ُّ‬
‫�أ�صوات العربية‪ ،‬كما يخطئون يف �ضبط كثري من �أبنية الكلم‪،‬‬ ‫واهتماماتهم واخت�صا�صاتهم‪ ،‬والق�ضية اللغوية �صارت‬
‫ويخت ُّل لديهم تركيب اجلملة �أو يلتوي‪ ،‬وتكرث �أخطا�ؤهم يف‬ ‫ق�ضية �أ�سرية واجتماعية �أكرث منها لغوية خال�صة خا�صة‬
‫الإعراب‪ ،‬وي�ستعملون الألفاظ ا�ستعما ًال قلق ًا بعيد ًا عن حتقيق‬ ‫باملتخ�ص�صني! َمنْ ِم َّنا ال يعاين م�شكلة االزدواجية؟ ومن منا‬
‫داللتها‪ ،‬وال يكادون ي�ستعملون عالمات الرتقيم‪ ،‬كما يقعون يف‬ ‫ال ُي�ؤَ ِّرقه َ�ض ْع ُف �أبنائنا يف القراءة والكتابة؟ ومن ِم َّنا ال ي�شغله‬
‫كثري من �أخطاء الإمالء‪ .‬وهذا على امل�ستوى املو�ضوعي‪.‬‬ ‫هَ ُّم الإجنليزية وهيمنتها والتفكري يف جدواها االقت�صادية؟‬
‫�أما على م�ستوى الأداء ف�إن الطالب العربي املتخرج يف‬ ‫ولذلك كله وجدتني �أ�ستقرئ جمع ًا من ه�ؤالء امل�ؤَ َّرقني‬
‫املدر�سة ال يقر�أ كما ينبغي له �أن يقر�أ‪� :‬إمنا ُي َج ْم ِج ُم ب�أ�صوات‬ ‫بهواج�س اللغة وق�ضاياها‪ :‬فمنهم ل�ساين متخ�ص�ص‪ ،‬ومنهم‬
‫متعرثة ترتجم �صورة املكتوب‪ ،‬فال هو يقر�أ قراءة جهرية‬ ‫ناقد �أدبي مرموق‪ ،‬ومنهم كيميائي حاذق‪ ،‬ومنهم طبيب‬
‫معربة‪ ،‬وال هو ي�سرع يف القراءة ال�صامتة‪ ،‬وال هو يح�سن‬ ‫بارع‪�....‬إلخ‪.‬‬
‫ا�ستخال�ص معاين ما يقر�أ‪ ،‬وال هو يح�سن التغلغل فيما وراء‬
‫و�أخري ًا ف�إن الكتاب يعر�ض �صورة العربية املتدا َفعة بني‬
‫ال�سطور‪.‬‬
‫قيم الثبوت وقوى التحول واملجاالت التي يظهر فيها هذا‬
‫وهو ال ي�ستمع كما ينبغي له �أن ي�ستمع؛ �إذ �إنه ال يح�سن‬ ‫التجاذب‪� .‬أما عوامل الثبوت فهي التي حتفظ للعربية �صورتها‪،‬‬
‫ا�ستخال�ص م�ضمون ما ي�سمع‪ ،‬وقد ي�ستمع �إىل حما�ضرة فال‬ ‫الن�ص املقد�س‪ ،‬والرتاث‪،‬‬ ‫على التعميم‪ ،‬وهذه العوامل هي ُّ‬
‫يتمكن من ا�ست�صفاء املو�ضوع الذي تدور عليه يف تلخي�ص �آ ّ‬
‫ين‬ ‫والهوية‪ .‬وهي قيم ثبوت متثل للعربية َمدد ًا وم�صدر ًا للقوة‬
‫دال‪� ،‬أو جتده منكب ًا على ن�سخ ما ي�سمع ح�سب!‬
‫بارع ّ‬ ‫واال�ستمرارية والدميومة‪ .‬و�أما قوى التحول فهي قوى العوملة‬
‫و�أدواتها احلوا�سيب والإنرتنت والف�ضائيات‪ .‬و�أما ملتقى‬
‫ال�شفوي ويتلجلج لأنه يرتدد بني م�ستوى‬
‫ّ‬ ‫وهو يعرث يف التعبري‬ ‫التجاذب بينهما فهو يف جماالت التعليم والرتجمة والإعالم‬
‫امل�شافهة املكت�سب يف لهجته وم�ستوى الكتابة املتعلم‪ ،‬ومل تط ِّور‬ ‫والإعالن واالقت�صاد‪ ،‬و�أما �أبرز ظواهر هذا التجاذب اللغوية‬
‫املدر�سة العربية منوذج ًا ناجع ًا للتعبري ال�شفوي‪.‬‬ ‫فهي االزدواجية والثنائية‪.‬‬
‫وهو ال يعرب تعبري ًا كتابي ًا موافق ًا للحاجة؛ �إذ يته َّيب من‬ ‫امل�شخ�صة على �أن ثمة �ضعف ًا وا�ضح ًا يف‬
‫* تدل الوقائع َّ‬
‫مواجهة مطالب التعبري الوظيفي‪ ،‬ف�إذا عبرَّ عر�ضت يف تعبريه‬ ‫م�ستويات الطلبة يف اللغة العربية‪ ،‬ما يطرح �أ�سئلة كثرية‬
‫‪‬‬ ‫‪‬‬
‫‪115‬‬

‫خمت�ص بالعربية؛ لأن ن�صابه التدري�سي مل يكتمل‪ .‬ولعل �أولئك‬ ‫�أخطاء �أولية يف النحو والكتابة‪ ،‬وكتابته‪ ،‬على العموم‪ ،‬ال تنبئ‬
‫ي�صدرون عن مقولة �أو ي�ص ِّرحون بها‪� :‬أنّ هذه لغتنا‪ ،‬ول�سنا‬ ‫عن �إحاطة باملعاين وال تت�سل�سل ت�سل�س ًال منطقي ًا‪.‬‬
‫علم لتعليمها‪ ،‬فال َ�ضيرْ �أن يتوىل ذلك‬ ‫حمتاجني �إىل كثري ٍ‬ ‫ويفتقر الطلبة‪ ،‬مع الأ�سى‪� ،‬إىل احليلة املنهجية الالزمة‬
‫مد ِّر�س الرتبية الفنية‪ ،‬مث ًال!‬
‫ذات العالقة مبو�ضوعات الكفاية اللغوية ال�ضرورية‪� ،‬إذا‬
‫وهكذا يفرز هذا الو�ضع اللغوي املختلط �أو�ضاع ًا قلقة‬ ‫اعرت�ضهم ال�س�ؤال عن معنى كلمة‪� ،‬أو �ضبطها‪� ،‬أو �أ�صلها ( �إن‬
‫تنعك�س يف م�ستويات الأداء اللغوي كلها‪ ،‬مبا يك�شف عن �ضعف‬ ‫ِ‬ ‫كان لها �أ�صل يف الف�صحى)‪� ،‬أو معنى ا�سم من �أ�سماء الأعالم‪،‬‬
‫وا�ضح يف حت�صيل ال َق ْدر الأدنى من املعرفة باللغة وكيفية‬ ‫�أو ترجمة �أحد الأعالم‪�........‬إلخ‪.‬‬
‫حتقيقها على وجوهها ال�صوتية وال�صرفية والنحوية والداللية‬
‫و�أما �أ�سباب ِّاطراد دائرة ال�ضعف هذه فيمكن �إجمالها يف‬
‫والهجائية والأ�سلوبية‪.‬‬
‫الأ�سباب التالية‪:‬‬
‫* كيف ال�سبيل‪� ،‬إذ ًا‪ ،‬للخروج من دوامة هذا ال�ضعف؟‬
‫�أوال ‪ :‬اخللل البنائي الذي يعتور املناهج املدر�سية يف‬
‫‪ -‬كنتُ و�ضعت قبل ما يقرب من ع�شرين عام ًا ر�ؤية لتطوير‬ ‫العربية؛ وذلك �أنها مل ُتبنْ َ على ن�سق علمي م�ضبوط َّ‬
‫يتفطن‬
‫تعليم اللغة العربية ت�ستفيد من منجزات الدر�س الل�ساين‬ ‫�إىل االعتبارات اللغوية‪ ،‬فرتى مو�ضوعات الكتاب تتداخل‬
‫وتتجاوز ما وقف عنده الرتبويون من االقت�صار على ال�شكل‬ ‫تداخ ًال م�شتت ًا ي�صعب على املعلم �أن يجد لها �سلك ًا ناظم ًا �أو‬
‫وطريقة التعليم دون النظر يف طبيعة اللغة ومادتها‪ ،‬ولعله‬ ‫رباط ًا جامع ًا �سوى الرتاكم‪.‬‬
‫يح�سن هنا �أن �أورد تلك الر�ؤية على ما كانت عليه يومذاك؛‬
‫ثم �إن هذه املناهج ال ت�أخذ نف�سها بالت�سل�سل البنائي‬
‫لأنها ‪ -‬فيما �أرى‪ -‬ما تزال �صاحلة ونافعة‪ .‬وتنطلق هذه الر�ؤية‬
‫املحكم‪ ،‬مبا ينبئ عن خطة مر�سومة تتغيا بناء م�ستوى من‬
‫من طبيعة اللغة يف حتديد حمتوى املنهاج والكتاب‪ .‬وهي ت�صدر‬
‫�صف‪ ،‬مبا يف�ضي �إىل‬‫�صف �إىل ّ‬
‫املعرفة اللغوية يتفاوت من ّ‬
‫�صدور ًا ل�ساني ًا خال�ص ًا يط َّبق على ثالثة م�ستويات هي‪:‬‬
‫بناء كفاية لغوية مالئمة؛ �إذ �إنه من ال�صعب تبينُّ الفروق بني‬
‫مو�ضوعي ‪:‬‬
‫ّ‬ ‫م�ستوى‬ ‫م�ستوى كتاب ال�صف الرابع وم�ستوى كتاب ال�صف ال�ساد�س‬
‫مث ًال ‪.‬‬
‫ُيقْ�صد منه ا�ست�صفاء �صورة العربية الف�صحى يف‬
‫م�ستوياتها ال�صوتية وال�صرفية والنحوية واملفردات الداللية‬ ‫ثاني ًا ‪ :‬وهو مرتتب على الأول‪ ،‬ومفاد ذلك �أن الذين ر�سموا‬
‫والأداءات الأ�سلوبية واالعتبارات ال�سياقية التي �إنْ �أخذ املتعلم‬ ‫املنهاج �أخذوا �أنف�سهم ب�أ�س�س تربوية ونف�سية وح�سب‪ ،‬و�أغفلوا‬
‫نف�سه بها �أمن العامية والرتدد واللعثمة ‪.‬‬ ‫جوهر املادة وهو العن�صر اللغوي‪ ،‬لذلك «مل يكن املعلم‪ ،‬وهو‬
‫يعالج تعليم اللغة من خالل تلك املناهج والكتب القائمة على‬
‫يتح�صل لنا ذلك �إ ّال �إذا انتحينا منحى �إح�صائي ًا‪،‬‬
‫َّ‬ ‫وال‬
‫االختالط والرتاكم‪ِ ،‬ل َي ْ�ص ُد َر‪ ،‬على م�ستوى املو�ضوع‪� ،‬صدور ًا‬
‫نتو َّفر فيه على مادة ت�صدق �أن تكون ممثلة للعربية يف‬
‫لغوي ًا منظم ًا وحم�سوب ًا» ‪.‬‬
‫م�ستوياتها املختلفة وع�صورها املتعددة‪ .‬ف�إذا تهي�أ لنا ذلك‪،‬‬
‫�ص َّنفنا القواعد امل�ستنبطة َو ْفق مدى ال�شيوع والتكرار‪ ،‬فن�أخذ‬ ‫ثالث ًا ‪ :‬اال�ستخفاف باللغة العربية‪ ،‬و�إنمَّ ا يكون ذلك عندما‬
‫بال�شائع املتداول كثري الدوران و َن َذ ُر النادر والقليل ال�شاذ‪.‬‬ ‫يعهد امل�س�ؤولون مهمة تدري�س اللغة العربية �إىل �أ�ستاذ غري‬
‫‪‬‬ ‫‪‬‬
‫‪116‬‬

‫متييز ا�ستجابة ذاتية للن�ص (من قبل القارئ) ‪.‬‬ ‫وهكذا نتخل�ص من حرج عظيم؛ �أن ن�ساوي قاعدة عامة تدور‬
‫ن�ص‬
‫يف كل �سطر �أو يف كل �صفحة بقاعدة ال تكاد تعر�ض يف ّ‬
‫ال�سرعة يف القراءة ‪.‬‬
‫كامل �أو كتاب كامل �إ ّال نادر ًا ‪.‬‬
‫‪ .....‬الخ ‪.‬‬
‫ف�إذا مت لنا فرز عينة ممثلة لال�ستعمال اجلاري يف‬
‫ومن ذلك �أن ي�صبح التعبري الكتابي‪ ،‬كذلك‪ ،‬باب ًا وظيفي ًا‬ ‫العربية على امل�ستويات‪ :‬ال�صوتي وال�صريف والنحوي واملعجمي‬
‫مقرر ًا‪ ،‬له نهج مر�سوم ينتظم فروع ًا �أو ف�صو ًال ُيعا َل ُج كل منها‬ ‫والأ�سلوبي جميع ًا‪� ،‬أمكن لنا �أن ن�س ِّوي للعربية �صورة ر�شيقة‪،‬‬
‫يف در�س خم�صو�ص‪ ،‬وتغدو مثل هذه العناوين التالية درو�س ًا‬ ‫حمددة املالمح‪ ،‬متدرجة العنا�صر وفق ًا لن�سبة دورانها يف‬
‫يف كتاب اللغة الذي يتعاطاه النا�شئة ‪:‬‬ ‫اال�ستعمال ووفق ًا ملقا�صدنا العلمية من در�س العربية وتدري�سها‪،‬‬
‫و�إذن لوجد �أبناء العربية َومنْ َي ْ�س َع ْون يف تعلمها كتاب ًا قا�صد ًا‬
‫متييز الأفكار املرتابطة ‪.‬‬
‫يو�ضع يف هدي ذلك‪ُ ،‬ي َب ِّلغهم الغاية العملية املحورية من در�س‬
‫متييز الكلي من اجلزئي ‪.‬‬ ‫اللغة بال ف�ضول وال التفاف‪.‬‬
‫الت�سل�سل ‪.‬‬ ‫وظيفي ‪:‬‬
‫ّ‬ ‫م�ستوى‬

‫و�ضع الألفاظ موا�ضعها ‪.‬‬ ‫نتغ َّيا فيه الوقوف على �أوجه ا�ستعمالنا اللغة وحتققاتها‬
‫الوظيفية يف �أمثلة ناجزة‪ ،‬وهذا ما درج الرتبويون على ت�سميته‬
‫�إحكام اال�ست�شهاد بامل�أثور ‪.‬‬ ‫باملهارات الدرا�سية (القراءة اجلهرية والقراءة ال�صامتة‬
‫م�ستوى الطريقة يف الت�أليف والتعليم ‪:‬‬ ‫والتعبري ال�شفوي والتعبري الكتابي واخلط)‪ .‬وينبغي �أن تنطلق‬
‫املعاجلة هنا من التحقق من الأهداف املرج َّوة‪ ،‬و�ضبطها‬
‫وميثل هذا امل�ستوى الوجهة التطبيقية التي ينبغي �أن ينتهي‬
‫�ضبط ًا حمكم ًا ي�سهل معه االنطالق بخطى �إجرائية حتقق‬
‫�إليها امل�ستويان الأوالن‪ ،‬ويتوزع م�س�ؤولي َة هذه الوجهة هيئتان‪:‬‬
‫امل�ساعي املن�شودة‪ .‬وهكذا ن�صري �إىل �ضبط الأهداف اخلا�صة‬
‫هيئة امل�ؤلفني وهيئة املدر�سني‪ .‬وي�ضبط هذا امل�ستوى مبقولتني‬
‫من الأول بعيد ًا عن الأهداف العامة العائمة‪ .‬و�إذن يتعني علينا‬
‫ل�سانيتني تنبثقان من ر�ؤية كلية �شمولية‪ ،‬هاتان املقولتان هما‪:‬‬
‫�أن منيز �ضمن كل وحدة من هذه الوظائف خطوات حمددة‬
‫املقولة الأوىل ‪ :‬وحدة ال�شكل وامل�ضمون ‪.‬‬ ‫متدرجة متكاملة تف�صيلية ت�ؤدي �إىل القيام بها قيام ًا �صحيح ًا‬
‫يف نهاية الأمر ‪.‬‬
‫و�إمنا يكون ذلك باعتبار ال�شكل وامل�ضمون حني الت�أليف‪� ،‬أو‬
‫حني يبتدع املدر�س �أمثلته التي يهدف منها �إىل تدريب الطلبة‬ ‫ومن تطبيقات ذلك �أننا يف القراءة ال�صامتة ُن َ�ض ِّمنُ‬
‫على ن�سق لغوي ما‪ .‬وذلك �أنَّ اعتبار هذه امل�س�ألة‪ ،‬م�س�ألة‬ ‫العنوان الرئي�س (الهدف العام) عناوين فرعية مثل ‪:‬‬
‫يوجهنا �إىل وجوب‬ ‫العالقة الع�ضوية بني ال�شكل وامل�ضمون‪ِّ ،‬‬ ‫و�ضع عنوان ّ‬
‫دال على مو�ضوع الن�ص ‪.‬‬
‫ح�ضور هذين العن�صرين مع ًا يف كل موقف من مواقف تعليم‬
‫اللغة والت�أليف فيها‪ .‬و�إ َّال بطل �أن يكون املوقف لغوي ًا‪ .‬وبطل �أن‬ ‫ا�ستخراج الأفكار التف�صيلية التي ي�أتلف منها مو�ضوع الن�ص‪.‬‬
‫يكون �إطار ًا طبيعي ًا لتح�صيل اللغة واكت�سابها ‪.‬‬ ‫حتري فكرة حمددة يف ن�ص كامل على وجه الفرز والبحث‪.‬‬
‫‪‬‬ ‫‪‬‬
‫‪117‬‬

‫الريا�ضي مث ًال) من�ضبط الطريقة على امل�ستوى الكلي (�إذ‬ ‫وهكذا يف�ضي عدم التن ُّبه �إىل مثل هذه امل�س�ألة �إىل �أمثلة‬
‫ُي َتخ ُذ لتدري�س كل جزئية مظه ٌر ُكلي مكتمل ) وي�صبح تدري�س‬ ‫�صارخة‪ ،‬ومن �أمثلة ذلك يف النحو �أنْ ال َي ْ�س َت ْه ِجنَ املعلم‪،‬‬
‫اللغة العربية‪ ،‬يف هذا الأفق من الأمل‪ ،‬علم ًا ب�أ�صول وف�صول‪،‬‬ ‫مث ًال‪ ،‬قول الطالب‪� ،‬أكلت ت�سعة �أرغفة‪ ،‬يف �سياق تعليمه قواعد‬
‫وينتفي عنه ما يالب�سه من فرط الرتاكم والف�ضول‪.‬‬ ‫العدد‪.‬‬
‫و�إذن ننتقل بهذه التدابري و�أمثالها �إىل مداخل �سليمة‬ ‫ومن ذلك يف الر�سم �أن ت�سوق �إحدى املعلمات مثا ًال‪ :‬ر�أى‬
‫لتعليم العربية من منطلق الكفاية ال من منطلق الذاكرة‬ ‫ليلى �أعمى‪ .‬يف �سياق تعليم طالباتها الألف املق�صورة (الياء‬
‫الرتاكمية والتلقني‪ ،‬وي�ستقيم معه �أن يكون تعليم العربية تعليم ًا‬ ‫املهملة) ‪.‬‬
‫عقلي ًا ذهني ًا ال تعليم ًا يقا�س مبقدار ما يعرف من معلومات‬
‫وهكذا ف�إن طريقة الف�صل هذه تورث الطلبة حت�صي ًال لغوي ًا‬
‫«عن اللغة» فت�صري اللغة لدى املتعلم جهاز ًا معرفي ًا و�أدائي ًا ال‬
‫�شكلي ًا يقف من اللغة عند حدود ال�سطح اخلارجي‪ ،‬و ُي َخ ِّلف يف‬
‫معلومات متثل عبئ ًا على الذاكرة فح�سب‪.‬‬
‫كثري ممن ي�ستعملون العربية لفظية جوفاء مهزوزة ‪.‬‬
‫* انتهى تعالق الل�سانيات بالعلوم احلديثة �إىل ظهور‬
‫املقولة الثانية ‪ :‬وحدة م�ستويات اللغة‪.‬‬
‫الل�سانيات احلا�سوبية التي �صارت �أبرز فروع الل�سانيات و�أرقاها‪.‬‬
‫ما غاية الل�سانيات احلا�سوبية؟ وما وجوه ا�ستثمارها؟‬ ‫ومفاد هذه املقولة �أن اللغة بنية واحدة متما�سكة‪� ،‬أما‬
‫تق�سيماتها الفرعية ف�إمنا هي و�سيلة يتخذها الل�سانيون لدر�س‬
‫اللغوي للحا�سوب متكي َنه من ُم�ضاهاة‬ ‫ّ‬ ‫‪َ -‬ي َت َغ ّيا تمَ ُ‬
‫ثيل ال ّنظام‬
‫اللغة يف م�ستوياتها املتعددة‪ ،‬من َث َّم علينا �أنْ نقدم اللغة – عند‬
‫الإن�سان يف ِكفايته و�أدائه اللغو ّيني؛ في�صبح قادرا على تركيب‬
‫التعليم – بنية متما�سكة حتكمها قواعد وقوانني م�ضبوطة‪،‬‬
‫الكتابي بالأ�صوات املنطوقة‬ ‫ّ‬ ‫اللغة وحتليلها‪ ،‬مي ِّثل ال ّر�سم‬
‫تهيئ مل�ستوياتها الفرعية االن�سجام واالت�ساق ‪..‬‬
‫َف َي ْق َر�أ‪ ،‬و ُي َح ِّول الأ�صوات املنطوقة �إىل ال ّر�سم الكتابي بالإمالء‬
‫الكتابي ما َظ َهر منها وما‬ ‫ّ‬ ‫ال�صحيح‪ ،‬و َي ْع ِرف قواعد ال ّنظام‬ ‫ّ‬ ‫التفطن �إليه يف هذا ال�سياق ا�ستعمال‬ ‫ُّ‬ ‫و�أكرث ما ينبغي‬
‫ال�ص َيغ ال�صرف ّية‬ ‫َب َطن فيكت�شف الأخطاء الإمالئ ّية‪ ،‬و َي ْب ِني ِّ‬ ‫املفردات؛ �إذ ال ينبغي �أن ت ُْ�ست ََّل املفردات من �صدر املعجم‬
‫ال�صحيحة‪ ،‬وال‬ ‫ويتع َّرفها يف ِ�سياق الكالم ‪ُ ...‬ي ْن ِ�شئ اجلمل ّ‬ ‫وتقدم عائمة يف الهواء‪ ،‬و�إمنا ُت َه َّي�أ لها �سياقات دالة ت�ستغني‬
‫ين�شئ ُج َمال غري �صحيحة‪ُ ،‬ي ْع ِرب كما ُيعرب الإن�سان ‪...‬‬ ‫عن �أن تكون من�سوقة على هيئة عمودين من املرتادفات‪ .‬وليت‬
‫وهكذا‪ .‬ذلك �أنّ َمن يعرف اللغة معرفة كافية ي�ستطيع �أن‬ ‫م�ؤلفي الكتب املدر�سية ومعلمي العربية يلتفتون �إىل َم ْنهج ّ‬
‫لغوي‬
‫بدل ُمزْ ِعج‪،‬‬ ‫ي�صحح ال ُّنطق �إذا عثرَ الل�سان فقال‪� :‬صوت مجُ ْ ِع ٌز َ‬ ‫ِّ‬ ‫ُم َتقدِّ م يف هذه ال�سبيل‪ ،‬هو الزخم�شري‪ .‬ف�إنه – يف معجمه‬
‫ال�صوت من مخَ ْ َر ِجه‬ ‫وي�ستطيع �أن يكت�شف الإخالل ب�إخراج ّ‬ ‫�أ�سا�س البالغة – ال يكاد ي�شرح اللفظة مبرادفها‪ ،‬بل ي�أتي بها‬
‫�أو تغيري ِ�ص َفته �إذا �سمِ ع قائال يقول‪�َ :‬س َباح اخلري بدَ َل َ�صباح‬ ‫يف �سياقات حية متعددة تجُ ّلي داللتها وطريقة ا�ستعمالها يف‬
‫ي�صحح �أداء الأ�صوات جمتمعة �إذا �سمع‬ ‫اخلري‪ ،‬وي�ستطيع �أن ّ‬ ‫�آن مع ًا‪.‬‬
‫قائال يقول‪ :‬اجلامعة (بلفظ الالم ِجي ًما)‪ ،‬وي�ستطيع �أن يتبينَّ‬ ‫حت�صل لنا ذلك �أ�صبح تعليم العربية عم ًال منهجي ًا‬
‫ف�إذا َّ‬
‫�ضم امليم‬ ‫ال�صرف �إذا قال قائل‪ُ :‬مفْتاح ِب ِّ‬ ‫اخلروج على قواعد ّ‬ ‫من�ضبط املادة على امل�ستوى اجلزئي التف�صيلي (�إذ ي�صبح‬
‫بدل َ�ض ِّمها‪،‬‬ ‫َبدَ َل ِمفْتاح ِب َك ْ�سرها‪� ،‬أو قال‪َ :‬م ْع َجم ِب َفتح ِ‬
‫امليم َ‬
‫لكل موقف ت�أليفي تعليمي مو�ضوع جزئي حمدد كما يف النظام‬
‫‪‬‬ ‫‪‬‬
‫‪118‬‬

‫االقت�صادي؟‬
‫ّ‬ ‫‪ -‬هل نعلمها لأغرا�ض التوا�صل‬ ‫وي�ستطيع �أن يتبينّ اخلط�أ يف ال َّن ْظم �إذا �سمع قائلة تقول‪:‬‬
‫ال�سيا�سي؟‬
‫ّ‬ ‫‪ -‬هل نعلمها لأغرا�ض التوا�صل‬ ‫احلفلة متى؟ واخلط�أ يف الإعراب �إذا �سمع مذيعا �أو مذيعة‬
‫مفاو�ضات مك َّث َف ٍة (بتنوين الك�سر يف‬
‫ٍ‬ ‫يقر�آن‪ْ � :‬أجرى الوفدان‬
‫‪ -‬هل نعلمها لأغرا�ض علمية حمددة؟‬ ‫مك ّثفة بدال من تنوين الفتح)‪� .‬إ ّنه يكون قادرا على القيام بِدَ ْو ِر‬
‫فر�ض‬‫‪ -‬ملاذا ال يكون تعلم اللغة الإجنليزية والفرن�سية َ‬ ‫ال�صورة‬ ‫(�س َعا) على هذه ّ‬ ‫إمالئي فيعرف‪ ،‬م َث ًال‪� ،‬أنّ َ‬
‫امل�صحح ال ّ‬ ‫ِّ‬
‫كفاية ي َو َّج ُه له عدد من �أفراد الأمة لغايات مقررة مق َّدرة ت�س ُّد‬ ‫ال�صورة خط�أ ‪�...‬إلخ‪.‬‬‫خط�أ‪ ،‬و�أنّ ( َن ْر ُجوا) على هذه ّ‬
‫حاجة الأمة يف �سياق م�شروعها القومي؟‬ ‫إمالئي» و»املُ ْع ِرب» و»املح ِّلل‬
‫«امل�صحح ال ّ‬
‫ِّ‬ ‫وما م�شاريع‬
‫‪ -‬هل �أدى تعليم العلوم بالإجنليزية والفرن�سية يف العامل‬ ‫ال�صر ّيف» ‪� ...‬إ ّال نمَ اذج ملحاكاة ما يختزنه الإن�سان من �أد ّلة‬
‫ّ‬
‫العربي �إىل نه�ضة علمية عربية؟‬
‫ّ‬ ‫الكفاية اللغو ّية ومناذج من تطبيقات متثيل اللغة للحا�سوب‪.‬‬

‫ولكنني �أحرت�س هنا ب�أنني ال �أدعو �إىل مقاطعة «تعليم»‬ ‫* يعاين املجتمع العربي من الثنائية اللغوية‪ ،‬مبا هي‬
‫اللغات الأجنبية‪ ،‬و�إمنا �أدعو �إىل « تر�شيده»؛ �أن يبنى على‬ ‫ا�ستعمال العربية والإجنليزية �أو الفرن�سية معا‪ ،‬وهذه الثنائية‬
‫خطط ر�شيدة تتلم�س فائدتنا وم�صاحلنا‪ ،‬و�إمنا يكون ذلك‬ ‫تتحمل ب�أخطار كثرية‪ .‬كيف ت�شخ�ص لنا هذه احلال التي �سميتها‬
‫املوجهة التي ت�أخذ من «‬‫ب�أن ن�ستبدل بالثنائي ِة التعددي َة َّ‬ ‫ثنائية الهدر؟ وكيف ال�سبيل �إىل تقنني هذه الظاهرة؟‬
‫اجلميع» ما �أفادنا هذا الأخذ‪ ،‬من اليابان �أو من ال�صني‪ ،‬من‬ ‫‪ -‬لعل هذه الظاهرة يف املجتمع العربي حتمل هاج�سني‪:‬‬
‫�أملانيا �أو هولندا‪ ،‬من ماليزيا �أو كوريا ال�شمالية»!‬
‫الأول هاج�س اخلطر‪ :‬ويتمثل يف النوم على الظن الذي‬
‫ومنتهى القول يف الثنائية اللغوية �أنها « مل ُت ْع ِق ْب فينا �إ َّال‬ ‫هو �إثم‪� :‬أنَّ اللغات الأجنبية هي و�سيلتنا لالنفتاح على الآخر‪،‬‬
‫حرية عطلت فعالية اللغة العربية يف �شطر رئي�س من مقومات‬ ‫ح�سب!‬
‫ح�صله من العلم واملعرفة‪ْ ،‬‬‫و�إدراك ما َّ‬
‫حياتها هو �شطر العلم والتكنولوجيا واالقت�صاد‪ .‬بل �إن الثنائية‬
‫العربي مبا �أدخلته على بع�ض‬ ‫ّ‬ ‫قد �أخ َّلت باالت�ساق يف املجتمع‬ ‫والثاين هاج�س الهدر‪ :‬ومفاده �أنه لي�ست لدينا ر�ؤية وا�ضحة‬
‫النا�شئة من هذه االجتاهات ال�سلبية نحو لغتهم‪ ،‬وما �أدخلته‬ ‫للأهداف والغايات من تعليم اللغات الأجنبية‪ ،‬وما انتهى �إليه‬
‫على بع�ضهم من الزهو واال�ستعالء باللغة الأخرى‪ ،‬كما‬ ‫ذلك من هدر للمال والوقت واجلهد؛ �إذ �إن نتائج تعليم اللغات‬
‫�أف�ضت �إىل تهجني العربية على �أل�سنة الناطقني بها يف امل�شرق‬ ‫الأجنبية ال توازي مقدار املال واجلهد املبذول‪ ،‬وذلك على‬
‫واملغرب‪.‬‬ ‫امل�ستوى الفردي ال�ضيق‪ ،‬وامل�ستوى ال ُق ْط ّ‬
‫ري الأو�سع‪ ،‬وامل�ستوى‬
‫القومي الأرحب!‬
‫ّ‬
‫* مل تعد الق�ضايا اللغوية منعزلة عن ت�أثريات االقت�صاد‬
‫وتطرح الثنائية يف املجتمع العربي �أ�سئلة خطرية منها‪:‬‬
‫ومبادئه و�إجراءاته‪ .‬هال و�صفت لنا تفاعل اللغة مع االقت�صاد‬
‫و�أثر العوامل االقت�صادية يف اللغة عموم ًا والعربية خ�صو�ص ًا‪.‬‬ ‫‪ -‬ملاذا فر�ض امل�ستعمر لغته علينا ابتدا ًء؟‬

‫‪ -‬لعله يح�سن �أن ا�ستذكر ما كتبته يف كتاب «اللغة العربية‬ ‫‪ -‬ما جدوى تعليم هذه اللغة الآن؟‬
‫يف الع�صر احلديث»‪ ،‬ويومذاك تناولت جدل عالقة العربية‬ ‫‪ -‬هل نعلمها لن�ست�أنف م�شروع ًا �شام ًال للرتجمة‪ ،‬مث ًال؟‬
‫‪‬‬ ‫‪‬‬
‫‪119‬‬

‫عمدت �إىل ت�شخي�ص عالقة العربية باالقت�صاد‪ ،‬وقد جعلت‬ ‫م�شخ�ص واقعي؛ وهو حوار يدور بني‬ ‫باالقت�صاد مبتدئ ًا بحوار َّ‬
‫تفكيك بنية هذه العالقة يف �أمثلة ثالثة هي‪:‬‬ ‫موظف ٍة طالب ٍة تخ�ص�صت يف اللغة العربية ومديرها‪ ،‬وينتهي‬
‫هذا احلوار �إىل ت�سا�ؤل املدير املغ َّلف بالده�شة واال�ستغراب‪:‬‬
‫الأول‪ :‬وهو من الواقع الراهن‪ .‬ومفاده �أن اللغة العربية‬
‫وماذا تعملني باللغة العربية؟ وهو ت�سا�ؤل ينبئ عن ر�ؤية �أهل‬
‫باتت «لغة ُم ْ�س َت ْه ِلكة» تغزوها املفردات الإجنليزية ترتى‪،‬‬
‫االقت�صاد‪ ،‬غالب ًا‪ ،‬للغة العربية؛ �أنها لغة غري �صاحلة للأعمال‬
‫و�إمنا يحدث ذلك لأن �أهلها م�ستهلكون غري منتجني‪ ،‬واللغة‬
‫واالقت�صاد‪ ،‬وهو موقف ينطوي على بنية عميقة مفادها �أن‬
‫�إمنا ت�ستجيب ملنجزات الناطقني بها فتعرب عن �أفكارهم‬ ‫الإجنليزية هي لغة االقت�صاد والأعمال‪ ،‬هي وحدها ح�سب!‬
‫ومبتكراتهم خري تعبري‪� ،‬أما و�أنهم ي�ستهلكون منتجات الآخر‪،‬‬
‫ف�إن لغتهم ت�ستهلك لغة الآخر! و�أما الآخر ف�إنه ي�ستثمر العربية‬ ‫وقد فككت‪ ،‬هناك‪ ،‬وجوه تغليب «النا�س» اللغة الإجنليزية‬
‫يف التنمية االقت�صادية‪ ،‬فهو ي�ستثمرها ترويج ًا لب�ضائعهم يف‬ ‫يف املجاالت االقت�صادية‪ ،‬مبين ًا العوامل التي م َّكنت لها على‬
‫العامل العربي‪ ،‬وهم يتخذون الف�صحى ل�سان ًا لهم طلب ًا لل�شيوع‬ ‫ح�ساب اللغات الأخرى‪ ،‬وهي عوامل اقت�صادية ذات �أبعاد «‬
‫الذي ال ميكن حت�صيله ب�أي عامية كانت‪ .‬و الثاين‪:‬ا�ستثمار‬ ‫ا�ستيطانية وا�ستغاللية» ت�ستقوي بالقوة الع�سكرية املبا�شرة‪.‬‬
‫العربية يف جمال الإنتاج يف امل�صانع وال�شركات‪ .‬ويتجاوز ذلك‬ ‫و�إمنا اتخذتُ هذا احلوار مدخ ًال لتفكيك عالقة اللغة‬
‫�إىل طموحات حو�سبة العربية والرتجمة الآلية‪ ،‬ف�إنها مهمة‬ ‫العربية باالقت�صاد‪ ،‬وهي عالقة تنطوي على مفارقات كثرية‬
‫و�ضرورية يف ت�أ�سي�س جمتمع املعرفة العربي‪� ،‬إذ �إن تعريب‬ ‫ومتعددة‪ .‬ومن هذه املفارقات �إعرا�ض االقت�صاديني العرب‪،‬‬
‫احلا�سوب وملحقاته متطلب رئي�س لتحقيق ذلك‪ ،‬وال �ضري ان‬ ‫ومنهم كثري من مد ِّر�سي علوم االقت�صاد يف اجلامعات‪ ،‬عن‬
‫تت�أ�س�س مثل هذه امل�شروعات على �أهداف اقت�صادية خال�صة!‬ ‫ا�ستثمار العربية يف الأعمال وجماالتها املختلفة‪ ،‬يف الوقت‬
‫الثاين‪ :‬من املا�ضي البعيد‪ ،‬وهو بيان عن دور العامل‬ ‫الذي ت�ستعمل ال�شركات الأجنبية اللغة العربية الف�صحى‬
‫االقت�صادي «التجارة» يف انت�شار الإ�سالم يف ماليزيا قدمي ًا‪،‬‬ ‫لرتويج ب�ضائعها يف قنوات جتارية معروفة‪ .‬وثانية هذه‬
‫مث ًال‪ ،‬وامتداد هذا العامل مدعوم ًا بعامل ديني خال�ص يتمثل‬ ‫املفارقات �إعرا�ض الطلبة عن التخ�ص�ص يف اللغة العربية‬
‫والإقبال على التخ�ص�ص يف اللغة الإجنليزية‪ ،‬يف الوقت الذي‬
‫يف �إ�سالم املاليزيني‪ .‬و�أما الآن ف�إنهم ي�صرحون ب�إقبالهم‬
‫يتزايد فيه �إقبال الإعالميني ومعدِّ ي برامج الأطفال على اللغة‬
‫على تعلم العربية ملثل هذا العامل‪ ،‬م�ضاف ًا �إىل العامل الديني‬
‫العربية!‬
‫بالتزام خال�ص؛ ذلك �أنهم ين�شدون االنفتاح على الأ�سواق‬
‫العربية يف ظل طموح ماليزيا �إىل �أن تكون قوة اقت�صادية‬ ‫ويف ال�سياق ذاته دللتُ على بع�ض مالمح هيمنة الإجنليزية‬
‫كربى يف العامل! وتظهر العربية يف حياة املاليزيني اليومية‪:‬‬ ‫يف اجلوانب االقت�صادية يف املجتمع العربي‪ ،‬فال�شباب العربي‬
‫يف الفتات الرتحيب بال�سياح‪ ،‬والتحايا اليومية‪ ،‬وا�ستخدام‬ ‫يرى يف الإجنليزية م�صدر ًا للرقي الوظيفي واالقت�صادي‪،‬‬
‫اجلاوي الذي هو احلرف العربي مع ّد ًال تعدي ًال طفيف ًا‬
‫ّ‬ ‫احلرف‬ ‫و�أ�صحاب املحال التجارية يرون فيها م�صدر ًا للدخل املرتفع‪.‬‬
‫ليوافق خ�صو�صية اللغة املاليوية‪ .‬بل �إن ماليزيا قـ ــد �ش ـ ــرعت‬ ‫وانت�شارها يف الفتات املحال التجارية و�إعالنات ال�صحف‬
‫نهج ًا يخت�صر بـِ (‪ ،)J QAF‬وهو ي�أتلف من �أركان �أربعة يرمز‬ ‫جلي!‬
‫اليومية ظاهر ّ‬
‫اجلاوي‪ ،‬و‬
‫ّ‬ ‫كل حرف �إىل واحد منها؛ فـ ( ‪ )J‬يرمز �إىل احلرف‬ ‫فلما فرغتُ من هذه املقدِّ مات العامة واحلقائق املبا�شرة‬
‫‪‬‬ ‫‪‬‬
‫‪120‬‬

‫ابتكر احلا�سوب �أو ًال بها‪ ،‬تعاين من ت�أثريات الإنرتنت ال�سلبية‬ ‫(‪ ) Q‬يرمز �إىل القر�آن‪ ،‬و ‪ A‬يرمز �إىل العربية‪ ،‬و ‪ F‬يرمز �إىل‬
‫متمثلة يف‪ :‬البنية اللغوية املهلهلة‪ ،‬وا�ستعمال االخت�صارات التي‬ ‫(فر�ض عني) وهو م�شروع �ساطع الداللة ال يحتاج �إىل ت�أويل‪.‬‬
‫تزاوج بني الكتابة باحلروف والأرقام‪ ،‬والكتابة بالعامية‪....‬‬
‫العربي‪ ،‬ومفاده �أن‬
‫ّ‬ ‫و�أما املثال الثالث فهو من احلا�ضر‬
‫�إلخ‪ .‬وال �شك �أن هذه الت�أثريات قد انتقلت �إىل العربية وغريها‬
‫دور االقت�صاد يف حال العربية مرتهن باجلدوى‪ ،‬وعلى هذا‬
‫من اللغات‪ ،‬و�إن اخت�صت العربية بالكتابة باحلرف الالتيني!‬
‫ف�إن النا�س يقبلون على �أي لغة ما دام ا�ستعمالها جمدي ًا مادي ًا‪،‬‬
‫وحق ًا �أن التداول العربي بالإنرتنت قد يتخذ اللهجة‬ ‫يف�سر ن�شر الإعالنات يف ال�صحافة اليومية بالعامية‪،‬‬ ‫ولعل ذلك ِّ‬
‫املحكية باحلروف الالتينية‪ ،‬ولكن هذا املنحى ميكن �أن يكون‬ ‫وقبول الر�سائل املبثوثة يف حوا�شي الف�ضائيات بعامية �سوقية‪،‬‬
‫م�ؤقت ًا وخا�صة �إذا ما تعهد تطوي ُر الربجميات ونظم الت�شغيل‬ ‫و�سعادة مدير ال�شركة بعقد �صفقة رابحة بالإجنليزية �أو‬
‫َ‬
‫ا�ستعمال العربية الف�صحى وح َّول �أ�شرعته �ض ّد م ّد‬ ‫بالعربية‬ ‫الرو�سية �أو الالتينية!‬
‫التوا�صل املبا�شر بالإجنليزية واللهجات العربية املكتوبة‬
‫و�أما الآثار ال�سلبية لالقت�صاد يف اللغة العربية فتتمثل يف‬
‫باحلروف الالتينية‪.‬‬
‫جانبني‪:‬‬
‫* كيف ترى منزلة املجامع اللغوية يف املجتمع العربي؟‬
‫‪ -1‬معجمي؛ يتمثل يف الإخالل بنقاء العربية و�أ�صالة‬
‫وكيف تقيم جهودها؟‬
‫�ألفاظها؛ �إذ كَثرُ َ ِت الأ�سماء والرموز والعالمات التجارية‬
‫‪ -‬تراجعت منزلة املجامع يف احلياة العربية هذه الأيام‬ ‫الإجنليزية‪.‬‬
‫عما كانت عليه يف بدايات ن�ش�أتها‪ .‬ولعل مرجع ذلك �إىل ت�سارع‬
‫مي) متثل يف انحرافات تركيبة تخالف‬ ‫تركيبي ْ‬
‫(نظ ّ‬ ‫ّ‬ ‫‪-2‬‬
‫املتغريات التي تقت�ضي الر�أي فعالية مقنعة‪ ،‬و ين�ضاف �إىل‬
‫عن قوانني الرتكيب العربي‪ ،‬وال �سيما تركيب الإ�ضافة الذي‬
‫هذا انكفاء املجامع على �أوهام �سلطتها القائمة على «ثوابت»‬
‫�صار يجري على ن�سق الإجنليزية‪ ،‬كما يف ‪( :‬موبايل �سيتي)‬
‫وجيهة ال ريب ولكنها لي�ست كافية لتمكني املجامع من �إنفاذها؛‬
‫و (مكة مول) ‪.‬‬
‫�إذ �إن ال�سيا�سة اللغوية لي�ست مبعزل عن � ِآم ِر الواقع والعوامل‬
‫وال�شروط التي مت ِّكن للغة من ال�سريورة واالنت�شار وعلى ر�أ�سها‬ ‫وم�ست�صفى القول �أن ثمة �ضرورة لدفع احلوار بني‬
‫العامل االقت�صادي مبعناه الوا�سع‪� .‬إن تعريب العلوم وتعليم‬ ‫االقت�صادي والل�ساين‪ ،‬و�إقناع االقت�صادي بجدوى العربية‬
‫العلوم بالعربية مث ًال ال يكفي يف حتقيق املقولة ال�سائدة وهي‬ ‫الف�صحى يف الرتويج والربح‪ .‬و�أنه ينبغي ا�ستثمار اللغة العربية‬
‫�أن اللغة الأم هي �سبيل الإبداع –وهي مقولة �سديدة ال ريب_‬ ‫يف م�شاريع التنمية العربية‪.‬‬
‫ولكن تعليم العلوم بالعربية يقت�ضي مطالب تتجاوز املجامع؛‬
‫* ع َّد «ديفيد كري�ستال» يف كتابه «اللغة والإنرتنت» الإنرتنت‬
‫�إنها َمطالب تتعلق بحاجة الأمة جملة وم�شروعها احل�ضاري‬
‫ثورة لغوية حقيقية! ما مدى ت�أثري الإنرتنت يف العربية؟‬
‫وبناء قاعدة علمية باللغة العربية وما يقت�ضيه ذلك من تدابري‬
‫�سيا�سية‪.‬‬ ‫‪ -‬يقرتب كالم كري�ستال كثري ًا من ال�صحة؛ و�إمنا يتمثل‬
‫ذلك يف ت�أثري الإنرتنت يف طرق التوا�صل والتعبري‪ ،‬ويتجاوز‬
‫وحقا �أن املجامع‪ :‬اجتهدت يف جوانب متعددة من الن�شاط‬
‫ذلك �إىل بنية اللغة ذاتها؛ فاللغة الإجنليزية نف�سها‪ ،‬وهي التي‬
‫العلمي‪ ،‬كتحقيق الرتاث‪ ،‬وتعريب العلوم‪ ،‬وتعريب امل�صطلحات‪،‬‬
‫‪‬‬ ‫‪‬‬
‫‪121‬‬

‫عدم ا�ستثمار منجزات الل�سانيات احلا�سوبية والربامج‬ ‫والرتجمة‪ ،‬وا�ستجابة العربية للعلوم احلديثة‪� ،‬إ�ضافة �إىل‬
‫التعليمية املطورة لت�سريع تعليم العربية وتطويره‪.‬‬ ‫املحا�ضرات التنويرية والتثقيفية التي تتناول ق�ضايا العربية‬
‫املعا�صرة‪ .‬ولكن فعالياتها ُت َق ِّ�صر عن مواكبة �إيقاع احلياة‬
‫* كيف ال�سبيل �إىل حت�سني جدوى هذا التعليم؟‬
‫املت�سارع ودورة اللغة يف �سياق التجدد والتحديث‪.‬‬
‫‪ -‬ميكن �أن ن�ضيف �إىل امل�شروعات القائمة �أبعاد ًا جديدة ‪،‬‬
‫* كيف تقيم جهود تعليم العربية للناطقني بغريها؟‬
‫ون�ستدرك ما فاتها من نق�ص باال�ستفادة من الر�ؤى الل�سانية‬
‫التالية ‪:‬‬ ‫تق�صر‬
‫‪ -‬ما تزال جهود تعليم العربية للناطقني بغريها ِّ‬
‫عن امل�ؤ َّمل واملرجو رغم �أن هذا املجال ميتد �إىل زمن بعيد‪،‬‬
‫‪ -1‬ا�ستبانة الأهداف ‪:‬‬
‫و�أح�سب �أن العوامل التالية ت�سهم يف ت�أخره‪:‬‬
‫وذلك ب�أن ن�ستطلع الأهداف التي ينطوي عليها الدار�سون؛‬
‫عدم ا�ستثمار منجزات الل�سانيات التطبيقية ور�ؤاها‬
‫ب�إعداد ا�ستبانة مدرو�سة‪ ،‬يكون م�ست�صفاها جرد ًا لأهداف‬
‫النظرية يف و�ضع املناهج وتطوير طرائق التدري�س؛ ف�إذا‬
‫الدار�سني‪ .‬و�أما غاية ذلك فتتمثل يف �ضبط العملية من الأول‪،‬‬
‫نظرت �إىل ما ينجز من بحوث يف الل�سانيات التقابلية وجدتها‬
‫فيو�ضع املنهاج وفق ًا ل�صيغة �إئتالفية متوازنة من اهدافهم‬
‫�شتى متفرقة مل تنته �إىل حلول منا�سبة ملعاجلة م�شكالت‬
‫التي ين�شدونها من جانبهم و�أهدافنا التي نتمثلها من جانبنا‪.‬‬
‫تعليم العربية للناطقني بالإجنليزية �أو الفرن�سية �أو املاليزية‪،‬‬
‫�أما تف�صيالت هذه اال�ستبانة فقد عر�ضتها يف �سياق بحث‬
‫رغم �أن ما �أجنز يف ال�سياق الأكادميي والر�سائل اجلامعية‬
‫�سابق هو «الت�س�آل عن الهدف» ‪.‬‬
‫ي�صلح للبناء عليه‪ .‬ثم �إن نتائج هذه الدرا�سات مل تت�شخ�ص‬
‫‪ -2‬عيار الكفاية ‪:‬‬ ‫يف مناهج درا�سية تقوم على تعليم العربية لأغرا�ض خا�صة‬
‫�أو لفئات خا�صة‪.‬‬
‫�أن نط ِّور اختبارات مقننة لقيا�س الكفاية اللغوية متكننا‬
‫من حتديد م�ستويات الدار�سني على بينة‪ ،‬وت�صنيفهم على َو ْفق‬ ‫�أن كثري ًا من مدر�سي العربية للناطقني بغريها يفتقرون‬
‫ذلك‪.‬‬ ‫�إىل الكفايات اللغوية والثقافية املطلوبة لإجناز التعليم على‬
‫الوجه امل�ؤمل‪ .‬بل لعلك جتد من «ميتهن» هذا العمل من‬
‫‪ -3‬التحليل التقابلي ‪:‬‬
‫غري املتخ�ص�صني يف الل�سانيات العربية و�أ�ساليب تدري�سها‬
‫�أن ن�ستفيد م�ستخل�صات الل�سانيات التقابلية يف حتديد‬ ‫للأجانب اتكا ًء على �أنهم « متحدثون �أ�صليون» بالعربية‪.‬‬
‫وجوه االتفاق بني العربية ولغات الدار�سني‪ ،‬ثم التنب�ؤ‬
‫عدم �إقامة الفرق بني تعليم العربية لأبنائها وتعليمها‬
‫بال�صعوبات اخلا�صة التي �ستن�ش�أ من اختالف العربية عن‬
‫للناطقني بغريها؛ فقد يد ِّر�س بع�ضهم كتاب ًا بني ملتعلمي‬
‫لغاتهم‪ ،‬ثم �صرف اهتمام ممدود �إىل تلك ال�صعوبات‪،‬‬
‫العربية من �أبنائها الأطفال لبالغني من الأجانب! وقد يتبع‬
‫واعتبارها يف املناهج الدرا�سية ‪.‬‬
‫�أحدهم طريقة متبعة يف تعليم املفردات لأبنائها‪!....‬‬
‫‪ -4‬م�ستحدثات الو�سائل ‪:‬‬
‫عدم االعتناء ب�إعداد الكتب واملواد التعليمية �إعداد ًا جيد ًا‬
‫�أن ن�ستثمر ا�ستثمار ًا منهجي ًا م�ضبوط ًا م�ستحدثات الو�سائل‬ ‫ومعجب ًا ي�ضارع يف �شكله و�إخراجه كتب اللغات الأجنبية‪.‬‬
‫يف خمترب اللغات واحلا�سوب خا�صة‪.‬‬
‫ان�صراف امل�ؤ�س�سات الر�سمية‪ ،‬غالب ًا‪ ،‬عن دعم هذه‬
‫‪ -5‬م�شروع احلي العربي ‪:‬‬ ‫الربامج وتطويرها‪.‬‬
‫‪‬‬ ‫‪‬‬
‫‪122‬‬

‫‪ -8‬العربية لأغرا�ض حم َّددة ‪:‬‬ ‫�أن نهيئ الدار�سني الكت�ساب العربية باملران والدربة يف‬
‫�أن من ِّيز غايات الدار�سني واخت�صا�صاتهم ؛ لن�ضع ‪ ،‬يف‬ ‫و�سطها الطبيعي احلي‪ ،‬بابتداع �صورة م�صغرة لدورة اللغة‬
‫هدي ذلك ‪ ،‬مناهج تق�صد �إىل حتقيق تلك الأهداف ق�صد ًا‪،‬‬ ‫العربية يف حياة الإن�سان العربي اليومية (يف البيت ‪ ،‬والعمل‪،‬‬
‫فتكون مناهج باللغة العربية لل�سيا�سيني واالقت�صاديني‬ ‫واملدر�سة‪ ،‬واجلامعة ‪ ،‬واملطعم واحلافلة‪. ) ..‬‬
‫والأطباء واملهند�سني‪.‬‬ ‫وقد يكون هذا احلي مبنى ‪ ،‬يبد�أ الدار�س مبدخله يلقي‬
‫* هل ميكن �أن تطل لنا �إطاللة �سريعة على امل�شهد الل�ساين‬ ‫ويطلع على دليل املبنى‪ ،‬وقد ينتقل �إىل حديث �شرب‬ ‫التحية َّ‬
‫العربي يف منتهى القرن الع�شرين ومبتد�إ القرن احلادي‬ ‫القهوة يف ال�صباح ‪ ،‬وقراءة ال�صحيفة يلتم�س فيها الن�شرة‬
‫والع�شرين؟‬ ‫اجلوية ‪ ،‬مث ًال ‪ ،‬وي�ستمع �إىل ن�شرة الأخبار ‪ .‬ثم يتحول �إىل‬
‫منوذج لبنك‪ ،‬ومنوذج ملكتب بريد‪ ،‬ومنوذج ملكتب طريان‬
‫‪� -‬أ�سدل القرن الع�شرون �ستاره على م�شهد لغوي ميكننا‬ ‫ومنوذج ملطبعة ومنوذج ملكتبة ‪ ،‬ميار�س يف كل ذلك وغري ذلك‬
‫تكثيف �صفته باملقوالت الإجمالية التالية‪:‬‬ ‫م�ستلزمات حاجته �إىل ا�ستعمال اللغة يف �سياقها ‪ .‬وقد ينتقل‬ ‫ْ‬
‫ق�ضايا معلقة كق�ضية الكتابة‪ ،‬واالزدواجية‪ ،‬والتي�سري‪،‬‬ ‫بعد ذلك �إىل ح�ضور ندوة يف �ش�أن عام �أو متخ�ص�ص ‪ ،‬ومتابعة‬
‫وتعريب العلوم‪.‬‬ ‫م�سل�سل ناطق بالف�صحى �أو م�سرحية �أو ق�صيدة ُم َغ َّناة ‪ ،‬وكل‬
‫هذا يتم على نحو مربمج توزع فيه الأدوار �سلف ًا ‪.‬‬
‫ق�ضايا يف املنهج تعك�س خالف ًا «اتباعي ًا» بني �أتباع املناهج‬
‫الل�سانية الغربية؛ كما تعك�س �شكوك ًا متبادلة بينهم وبني‬ ‫‪ُ -6‬عقْدة االزدواجية ‪:‬‬
‫املحافظني من اتباع املنهج التقليدي الذين يقفون عند حدِّ ما‬ ‫ولعل فكرة احلي العربي تكون تدبري ًا ناجع ًا يف حل هذه‬
‫�أجنزه الأوائل‪ .‬وك ٌّل يلوذ باملنهج الذي ارت�ضى على انه غاية‬ ‫امل�شكلة ‪ ،‬التي ت�صيب الدار�س الأجنبي مبا ي�شبه االنف�صام ‪،‬‬
‫املنتهى‪.‬‬ ‫حني يجتهد �أن يتعلم الف�صحى على نحو مدرو�س ‪ ،‬لكنه يرى‬
‫جهود يف ت�أ�سي�س موقع للنظرية الل�سانية العربية «القدمية»‬ ‫النا�س يتوا�صلون بالعامية ! !‬
‫يف �إطار م�ستحدَ ثات الأنظار يف الل�سانيات الغربية‪.‬‬ ‫‪ -7‬منوذج ف�صيح للخطاب العامي ‪:‬‬
‫تطلعات �إىل ت�أ�سي�س نظرية ل�سانية عربية تقوم على‬ ‫ويكون من م�ستلزمات هذا التدبري ‪ ،‬على امل�ستوى اللغوي‪،‬‬
‫(خ�صو�صي العربية) واملنهج (كليات‬
‫ّ‬ ‫امل�شاكلة بني املو�ضوع‬ ‫�أن نطور منوذج ًا ف�صيح ًا للخطاب العامي يقوم على ا�ستثمار‬
‫النظريات الل�سانية) مل تتبلور حتى الآن على نحو متما�سك‬ ‫قواعد الف�صحى املنطوقة‪ .‬وهو منوذج ف�صيح ولكنه يت�صف‬
‫من�سجم‪.‬‬ ‫بالواقعية والعفوية ‪ ،‬وي�ستثمر ما ي�سمح به ال�سياق �أو املقام‬
‫جهود يف حو�سبة العربية تن�شد ا�ستثمار �إمكانات احلا�سوب‬ ‫من ُر َخ�ص احلذف واالجتزاء‪ ،‬ومينح التعبري طابع ًا طبيعي ًا‬
‫والتطبيقات التي تتيحها يف تعليم العربية وتعميميها وت�أ�سي�س‬ ‫غري متكلف‪ ،‬ف�إن اخلطاب ال�شفوي بالف�صحى يف واقع احلياة‬
‫موقع لها يف ع�صر االت�صال‪ .‬وغاية النهاية من هذه التطبيقات‬ ‫اليومية‪ ،‬عندنا‪ ،‬ما يزال يجري على ر�سوم لغة الكتابة‪ ،‬واللغة‬
‫بلوغ الرتجمة الآلية ومتكني الإن�سان العربي من التخاطب مع‬ ‫املكتوبة ت�شبه �أن تكون بنية مغْلقة ويف�ضي بنا هذا �إىل �أطروحة‬
‫الآلة‪.‬‬ ‫ُم ْ�ستق َّلة ‪.‬‬
‫‪‬‬ ‫‪‬‬
‫‪123‬‬

‫الق�صة ال�شعرية‪ ،‬فينقلون مقوالت الغربيني يف حتليل اخلطاب‬ ‫* كيف تقيم حركة الرتجمة العربية ومدى �إ�سهامها يف‬
‫�أو نحو الن�ص نق ًال‪ ...‬ويجعلونه �شطر الر�سالة‪ .‬ف�إذا انتقلوا‬ ‫ن�شر املعرفة؟‬
‫�إىل مادة الدرا�سة تناولوها مبعزل عن تلك املقوالت‪ ،‬فجاءت‬
‫حتليالتهم �أ�شتات ًا غري متما�سكة يف ذاتها وال مندغمة مبقوالتها!‬ ‫‪ -‬لعل خري ما ميكن �أن ن�صف به الرتجمة العربية القول‬
‫وهذا مثال واحد وح�سب‪ ،‬ونظائره كثرية ت�شبه �أن تكون ظاهرة‬ ‫�إنها يف الع�صر احلديث كانت مر�آة حلال الأمة يف الرتدد بني‬
‫يف الر�سائل اجلامعية ذات املنحى الل�ساين‪� .‬إن هذا املطلب يف‬ ‫النهو�ض وال ِعثار‪ ،‬واالنف�صام بني الفكرة والإجناز‪ .‬وكان دورها‬
‫االندغام الع�ضوي بني �أنظار الغربيني وتطبيقات �أبناء العربية‬ ‫يف رفد اللغة على وفق ذلك‪ .‬بل �إنه ميكننا �أن ن�ستعري للعربية‬
‫ما يزال معلق ًا‪.‬‬ ‫والأمة والرتجمة و�صف ًا متعا َرف ًا حلال املري�ض حيث يقال �إنها‬
‫م�ستقرة!»‬
‫تف�ضلت بتقدمي ر�ؤيتك اخلا�صة يف ت�شخي�ص عالقة‬
‫َ‬ ‫* هال‬
‫العربية بالعوملة يف نواحيها املختلفة؟‬ ‫* هل ثمة ن�صائح توجهها لل�سانيني ال�شبان؟‬
‫‪ -‬ينبغي �أن ينطلق ه�ؤالء ال�شبان من معرفة جيدة مبنجز‬
‫‪ -‬لي�س خافي ًا على احد �أن العوملة اجتاحت � ّ‬
‫أخ�ص‬
‫خ�صائ�ص ال�شعوب؛ ثقافتها وهويتها ودينها ولغتها‪ .‬ولي�س‬ ‫الرتاث اللغوي العربي‪ ،‬و�أن يتب�صروا الأنظار الل�سانية احلديثة‬
‫املجتمع العربي وهويته الثقافية واللغوية يف منجى من رياح‬ ‫(خا�ص) العربية وما هو (عا ّم)‬‫ّ‬ ‫لإقامة توازن فكري بني ما هو‬
‫العوملة و�أح�سب �أن مو�ضوع (العربية والعوملة) لقي عناية يف‬ ‫الل�سانيات الغربية احلديثة‪ ،‬و�أال يق�صدوا من ذلك �إىل اجلزم‬
‫الل�سانيات االجتماعية العربية احلديثة‪ ،‬ف�أجريت الدرا�سات‬ ‫بتف�ضيل �أحدهما على الآخر‪� .‬إن االهتداء بهدي الر�ؤى الل�سانية‬
‫وعقدت الندوات وامل�ؤمترات‪ ،‬ق�صد ًا �إىل ت�شخي�ص ت�أثرياتها‬ ‫احلديثة مطلب منهجي خال�ص ال تنبني الر�ؤية الكلية �إال به‪.‬‬
‫و�أخطارها على العربية‪ ،‬وو�صو ًال �إىل �إجراءات وتدابري‬ ‫ثم �إن ا�ستيعاب جممل الأنظار الل�سانية الغربية‪ ،‬وهو عمل‬
‫احرتازية حلماية العربية وحت�صينها‪ .‬وقد انتهيت يف كتابي «‬ ‫لي�س �سه ًال‪ ،‬مطلب منهجي وعملي له�ؤالء ال�شبان �إن �أرادوا �أن‬
‫اللغة العربية يف الع�صر احلديث‪....‬قيم الثبوت وقوى التحول‬ ‫ي�سهموا ‪ ،‬وي�سهم العرب‪ ،‬يف النظرية الل�سانية العامة‪ ،‬و�إن‬
‫�إىل‪:‬‬ ‫�أردنا �أن ننتقل بجهودنا من « ل�سانيات العربية» �إىل «الل�سانيات‬
‫‪� -‬أن العوملة على امل�ستوى الثقايف تواجه مدافعة عنيدة‬ ‫الكلية»‪.‬‬
‫باملرجع الديني يف الثقافة العربية و�إن تغلغلت ب�إغرائها‬ ‫ولعل ما ورد يف كتابنا « اللغة العربية يف مر�آة الآخر‪......‬‬
‫اال�ستهالكي والغرزي يف �أو�ساط النا�شئة‪.‬‬ ‫مثل من �صورة العربية يف الل�سانيات الأمريكية» من ت�شخي�ص‬
‫‪� -‬أن العربية على امل�ستوى اللغوي اخلال�ص تواجه حتديات‬ ‫حال بع�ض طلبة الدرا�سات العليا يكون مفيد ًا هنا؛ ذلك �أن‬
‫من جهة النقاء‪ ،‬و�أنها م�ستهدفة يف حمموالتها‪ ،‬ولكنها لي�ست‬ ‫كثري ًا من ه�ؤالء الطلبة يتخذون طريق ًا توفيقي ًا يعتمد منهج ًا‬
‫مهددة يف عمود �صورتها على اجلملة‪� ،‬إنها_ يف ت�شكيلها‬ ‫غربي ًا ومادة عربية يف التطبيق يعانون ازدواج ًا وانف�صام ًا؛‬
‫اللغوي اخلال�ص بتجلياته وم�شكالته_ قد �أ�صبحت «غر�ض ًا»‬ ‫ف�إنهم مث ًال قد ي�ستهويهم منهج حتليل اخلطاب‪ ،‬فيحاولون‬
‫ّ‬
‫ل�سهام الدول املتقدمة يف ركب العوملة‪ ،‬وذلك يف دعواتهم‬ ‫تطبيقه على ظاهرة لغوية عربية كاحلوار اجلديل يف القر�آن �أو‬
‫‪‬‬ ‫‪‬‬
‫‪124‬‬

‫اال�صطالحية ‪� -‬ضرب ًا من الفعالية الل�سانية ميكننا �أن نن�سبه‬ ‫ال�سافرة �إىل « حتديثها» من جهة‪ ،‬والتوجيه املربمج لتمويل‬
‫�إىل حقل التخطيط اللغوي كما عرف يف الل�سانيات الغربية من‬ ‫تعليمها للآخر‪ ،‬وحو�سبة لهجاتها ( من اجلانب الأمريكي) من‬
‫بعد‪.‬‬ ‫جهة �أخرى‪.‬‬
‫ويتبني �أهل العربية ذلك‪ ،‬الآن‪ ،‬على نطاق وا�سع يف �ضوء‬ ‫‪� -‬أن العربية على م�ستوى العلوم والتكنولوجيا تواجه‬
‫منو الوعي الل�ساين‪ ،‬وهو مما جنده مقرر ًا يف �سياق الل�سانيات‬ ‫نكو�ص ًا ظاهر ًا �إال �أنْ حتفزه وتتداركه دوافع جدوى بالرتجمة‬
‫احلديثة‪ ،‬وهو �سياق غربي حمايد؛ �إذ هو مما يطوره الغرب‬ ‫الآلية‪.‬‬
‫لنف�سه يف �إطار علمي ال ي�صدر عن حتيز �أو خ�صو�صية للغة‬
‫‪� -‬أن كتابة العامية باحلرف الالتيني يف ر�سائل الربيد‬
‫�أو ثقافة وخا�صة يف الل�سانيات التوليدية التحويلية‪ .‬ويكفي �أن‬
‫الإلكرتوين وغرف الدرد�شة متثل « ِر َّد ًة» مزدوجة �إىل دعوة‬
‫نورد هنا ما يورده �أحد كتب الل�سانيات العامة‪ ،‬بالإجنليزية‪،‬‬
‫قدمية دعا بها الغرب كما مت ِّثل متكين ًا للعامية من جهة وغربة‬
‫من �أنه لي�س من �شيء ميكن التعبري عنه يف �إحدى اللغات‬
‫لر�سم العربية (نظام كتابتها) من جهة �أخرى‪.‬‬
‫وال ي�ستطاع التعبري عنه يف لغة �أخرى‪ ،‬ويالحظ م�ؤلفو ذاك‬
‫الكتاب �أنه وا�ضح �أن لغة ما ميكن �أن حتتوي �ألفاظ ًا َّ‬
‫دوال على‬ ‫باطراد نحو ك�سر احتكار‬ ‫‪� -‬أنَّ حو�سبة العربية تتقدم ّ‬
‫معان ال جندها يف لغة �أخرى‪ ،‬ولكنه ممكن دائم ًا �أن ن�ضع‬ ‫ٍ‬ ‫اللغة الإجنليزية للإنرتنت وتفتح للقارئ العربي والعربية �آفاق‬
‫�ألفاظ ًا جديدة تعرب عما نعني‪ ،‬ف�أميا �شيء ن�ستطيع �أن نتخيله‬ ‫التوا�صل واالمتداد يف الف�ضاء الكو ّ‬
‫ين‪.‬‬
‫�أو نت�صوره ف�إنه ميكننا �أن نعرب عنه يف �أي لغة �إن�سانية‪.‬‬ ‫* تعد ق�ضية «اللغة العربية واحل�ضارة»؛ قدرة العربية على‬
‫وقد كنت تناولت هذه امل�س�ألة بالتف�صيل يف بحث « اللغة‬ ‫التعبري عن متطلبات احل�ضارة احلديثة �إحدى ق�ضايا العربية‬
‫العربية واحل�ضارة» ‪ ،‬وقد بينت فيه �أن اللغة العربية اجتازت‬ ‫املعا�صرة‪ ،‬وهي ق�ضية متجددة وما تزال �أ�سئلتها مطروحة‪.‬‬
‫بتفوق م�شهود جتربة ح�ضارية فذة حني ات�سعت للتعبري عن‬ ‫لعلك تعر�ض لنا منزلة هذه الق�ضية يف الفكر الل�ساين احلديث‪،‬‬
‫دعوة الإ�سالم وما �أعقبها من نه�ضة ح�ضارية �شاملة؛ �إذ‬ ‫وكيف عاجلتها‪.‬‬
‫ا�ستوعبت علوم الأوائل و�أ�ضافت �إليها �إ�ضافات م�شهودة يف‬ ‫‪� -‬إن ق�ضية الف�صحى يف عجزها عن حتقيق الإبداع‬
‫ميادين العلم واحل�ضارة‪.‬‬ ‫والوفاء مبطالب العلوم والفنون قد دافعها العرب با�ستح�ضار‬
‫�إن النظر �إىل هذه امل�س�ألة يطرح ت�سا�ؤ ًال عري�ض ًا يربط‬ ‫الدليل على جتربتهم املا�ضية يف التاريخ‪ ،‬والعمل احلثيث‬
‫القدرة اللغوية الذاتية للعربية بالفعالية احل�ضارية لأهل‬ ‫�أفراد ًا وم�ؤ�س�سات على و�ضع «معجمات» ا�صطالحية يف �شتى‬
‫العربية؛ فقد تفوقت اللغة حني تفوق �أهلها و�أجنزوا‪ ،‬وتخلفت‬ ‫فروع املعرفة‪ ،‬وكانت‪ ،‬و�إن بقيت معطلة على الرفوف مل‬
‫عندما تخلفوا وتقهقروا!‬ ‫ت�ستثمر كما قدر لها‪ ،‬دلي ًال كافي ًا عندهم على �إثبات قدرة‬
‫العربية‪ .‬و�إذا كانت هذه ال�شبهة غري واردة �أ�ص ًال‪ ،‬وكان العمل‬
‫* كيف ترى ال�سبيل املنا�سب لتي�سري النحو؟‬
‫يف الربهنة على بطالنها من لزوم ما ال يلزم فقد مثلت‪-‬‬
‫‪ -‬ميكن �أن �أ�ست�صفي القول يف تي�سري النحو ب�أننا �إذا‬ ‫املوجه لو�ضع املعجمات‬ ‫يف ق�صدها املبا�شر بالعمل اللغوي َّ‬
‫‪‬‬ ‫‪‬‬
‫‪125‬‬

‫‪ -‬ما موقفهم من العربية من حيث هي ظاهرة لغوية؟‬ ‫ا�ست�صفينا يف منت النحو قواعده املحورية املتواترة ال�ضرورية‪،‬‬
‫‪ -‬ما موقفهم من العربية من حيث هي وعاء ملحمول ثقا ّيف‬ ‫ون�سقناها يف بنية من�سجمة نظمية �إعرابية �صرفية‪ ،‬واتخذنا‬
‫ح�ضاري ؟‬
‫ّ‬ ‫لتعليمه مواقف وظيفية‪ ،‬وربطنا القواعد بن�صو�ص م�شرقة‬
‫ت�شف عنها �شفافية جلية‪ ،‬وعززنا ذلك بالتدريبات القيا�سية‬ ‫ّ‬
‫وهي �أ�سئلة تنطوي على مقاربة �ضمنية ال�ستجالء ر�ؤية‬
‫الغنية ومواقف الأداء اليومية احليوية‪ ،‬ب َلغْنا بالنا�شئة تلك‬
‫« الآخر» للغتنا التي تعرب عن ثقافتنا وهويتنا‪ ،‬وهي ت�ستبطن‬ ‫الغاية الق�ص َّية‪ ،‬وحققنا فيهم �أحالمهم الع�صية‪.‬‬
‫�أبعاد تناوله للعربية يف �سياقه الثقايف والعلمي اخلال�ص فيما‬
‫ي�شبه �أن يكون �صدور ًا ومتث ًال واعيني ل�صدور القوم عن مقوالت‬ ‫ولعله يح�سن يف البدء ‪-‬يف تدريب الطلبة على الإعراب‪-‬‬
‫من مثل « �صراع احل�ضارات وحوار احل�ضارات» وال �سيما حني‬ ‫�أن نبد�أ با�ست�شراف الرتكيب الذي نت�صدى لإعرابه ا�ست�شراف ًا‬
‫تقرتن مواقفهم بايديلوجيات متطرفة �أو منحازة‪.‬‬ ‫كلي ًا ثم نحاول �أن منيز عنا�صره الرئي�سة (م�ؤلفاته املبا�شرة)‬
‫حمتكمني �إىل فهمنا العام و�سليقة اللغة فينا‪ ،‬ف�إذا ا�ستقام‬
‫�أما من�ش�أ هذا ال�س�ؤال ف�إنه يعود �إىل عام �ستة و�سبعني من‬ ‫لنا ذلك م�ضينا �إىل تف�صيالت الإعراب وفق ًا ملعطيات النحو‬
‫القرن الع�شرين ‪ ،‬حني كنت م�شارك ًا يف حلقة الدرا�سات اللغوية‬ ‫وقواعده املعروفة‪.‬‬
‫يف نيويورك‪ ،‬وهي حلقة لغوية �سنوية تتخذ يف كل عام مو�ضوع ًا‬
‫خا�ص ًا وي�أتيها الل�سانيون من �أنحاء العامل كله وهم ينطوون‬ ‫* تطرقت �إىل مو�ضوع نادر يف الل�سانيات العربية وهو‬
‫على ر�ؤى خا�صة بلغاتهم �أو اللغات التي كانوا يتقنونها‪ ،‬ومن‬ ‫«�صورة العربية عند الآخر»‪ .‬فما الذي دفعك �إىل هذا‬
‫املو�ضوع؟‬
‫هذه اللغات اللغة العربية‪ .‬واتفق �أن يكون عنوان حلقة ذاك‬
‫العام « الكونيات اللغوية وت�صنيف اللغات»‪ .‬فكان �أن هي�أت‬ ‫‪ -‬كان ق�صد هذا الكتاب �أن يجيب عن ال�س�ؤال العري�ض‬
‫يل هذه امل�شاركة فر�صة اللتقاء عدد من الل�سانيني امل�شهورين‬ ‫التايل ‪:‬‬
‫الذين تناولوا العربية يف بع�ض درا�ساتهم و�أبرزهم‪ :‬فرغ�سون‬
‫ما �صورة العربية يف الل�سانيات الأمريكية؟‬
‫�صاحب املقال امل�شهور « االزدواجية «‪.‬‬
‫وهو �س�ؤال كبري ين�شعب �إىل �أ�سئلة فرعية هي‪:‬‬
‫و�سوزمو كونو ( الل�ساين الوظيفي)‪ ،‬وميت�شل وغريهم‪ .‬لقد‬
‫هي�أت يل هذه اللقاءات فر�صة مناق�شة القوم يف بع�ض �ش�ؤون‬ ‫‪ -‬ما مالمح « العربية» يف « مر�آة» علماء الل�سانيات يف‬
‫اللغة العربية وت�صحيح بع�ض املفاهيم اخلاطئة عنها وعن‬ ‫�أمريكا؟‬
‫جهود العرب الأوائل يف النظرية الل�سانية العربية‪ .‬وكانت هذه‬ ‫‪ -‬ما موارد العربية يف م�ؤلفاتهم الل�سانية الأ�صول‬
‫النقا�شات مبعث ًا له على �إظهار ما َ�صدَ َر عنه اللغويون العرب‬ ‫مبناهجها املتعاقبة؟‬
‫من ر�ؤى َ�ض َّمنتها كتابي « نظرية النحو العربي يف �ضوء مناهج‬
‫النظر اللغوي احلديث‪.‬‬ ‫‪ -‬ما مقدار « اطالعهم» على « �أنظار» علماء العربية؟‬
‫‪ -‬ما مقدار االنتفاع ب�أنظارهم هم يف مقاربة العربية‬
‫وقد تناولت يف هذا الكتاب « اللغة العربية يف مر�آة الآخر»‬
‫بر�ؤية « �إ�ضافية»؟‬
‫كيفية ظهور اللغة العربية يف م�ؤلفات الل�سانيني الأمريكيني‬
‫‪‬‬ ‫‪‬‬
‫‪126‬‬

‫يف م�شروع لإجناز املعجم التاريخي للغة العربية و هو م�شروع‬ ‫على اختالف ع�صورهم ور�ؤاهم ومدار�سهم واجتاهات الدر�س‬
‫الأمة امل�أمول منذ عقود ‪.‬‬ ‫الل�ساين املختلفة؛ وخا�صة �أن ال�سائد يف الل�سانيات العربية من‬
‫اجلانب العربي �أنها تقدم لنا �صورة العربية يف �ضوء الل�سانيات‬
‫و �أما يف �أبو ظبي فلتقدمي حما�ضرة ‪ ‬عن اللغة العربية‬
‫كما نراها نحن مبر�آتهم ال كما يرونها هم‪ .‬وع�سى �أن يكون‬
‫و �س�ؤال امل�صري يف مركز الإمارات للبحوث و الدرا�سات‬
‫ذلك مدخ ًال منا�سب ًا للدرا�سات الل�سانية الثقافية التقابلية‬
‫الإ�سرتاجتية ‪.‬‬
‫التي تتناول �صورة اللغة عند «الآخر» مبنظور النقد الل�ساين‬
‫* لعل �أهم التحديات التي تواجهها العربية الآن ما ي�سمى‬ ‫�صحت العبارة!‬‫املقارن‪� ،‬إن َّ‬
‫« الهجني اللغوي» �أو « العربيزي» يف و�سائل التوا�صل الإلكرتوين‬
‫املختلفة‪ .‬ما مدى خطر هذه الظاهرة على العربية الف�صحى؟‬ ‫* قد جرى اختيارك لع�ضوية جمل�س �أمناء مركز امللك‬
‫وكيف ال�سبيل �إىل درء خماطرها عن العربية؟‬ ‫عبد اهلل بن عبد العزيز خلدمة اللغة العربية‪ . .‬ما طبيعة عمل‬
‫هذا املركز؟ وما �أهدافه بعيدة املدى؟‬
‫‪ -‬الهجني اللغوي منط من اخلطاب �أعقبه فينا امتداد‬
‫اللغة الإجنليزية (ل�سان العوملة) و ا�ستهوا�ؤها لقطاع من‬ ‫‪ -‬طبيعة عمل املركز من�سجمة مع الهدف الذي ي�صرح به‬
‫النا�س يرونها �سمة للحداثة و التفوق ‪.‬‬ ‫عنوانه ب�أنه (دويل) (خلدمة اللغة العربية) و ميثل ا�ستجابة‬
‫للتحديات التي تواجهها اللغة العربية‬
‫و لعل ت�شخي�صها يف �أمثلتها املتداولة و نزعات املتحدثني‬
‫بها ميثل �أوىل �سبل مواجهتها و معاجلتها ‪.‬‬ ‫و ينتظم عمله يف جوانب منه م�شروعات مناظرة مل�شروعات‬
‫املجامع و امل�ؤ�س�سات اللغوية يف التمكني للعربية و املحافظة‬
‫* �أنت على اطالع تام بامل�شهد اللغوي العربي؛ كيف ت�صف‬ ‫عليها و لكنه ينتحي �إىل ذلك منحى‬
‫هذا امل�شهد يف امل�ستوى التداويل والعلمي؟‬
‫يحتفي بال�سانيات و �أ�سئلة العربية املبا�شرة كما يتميز ب�أنه‬
‫امل�شهد اللغوي العربي على م�ستوى التداول ي�شبه برج بابل‬ ‫ميد ج�سور التعاون مع امل�ؤ�س�سات و اجلامعات املعنية باللغة‬
‫�أما على امل�ستوى العلمي اللغوي فهو يفيئ اىل مثل برج عاجي‪.‬‬ ‫العربية من ال�شرق الأق�صى اىل ال�شمال الأوروبي و العمق‬
‫الإفريقي و غريها‪ ‬‬
‫* ان�شغلت يف الأيام املا�ضية بزيارات مكوكية بني الريا�ض‬
‫ن�شرت بع�ض فقرات هذه املقابلة يف كتاب حافظ �إ�سماعيلي ووليد العناتي «�أ�سئلة‬ ‫والدوحة وابو ظبي؛ فهل كانت هذه ال�سفارات يف �ش�ؤون‬
‫اللغة‪� ..‬أ�سئلة الل�سانيات»‪.‬‬ ‫م�ستجدة من �ش�ؤون العربية؟‬
‫‪� -‬أما يف الريا�ض فلتقدمي امل�شورة يف التطوير املهني‬
‫ملعلمي العربية لعل املعلم ي�صبح قادرا على �أن يقدم اللغة كما‬
‫يقدم الدكتور حممد �أوز الطب و �أما يف الدوحة فللم�شاركة‬
‫مـ ـت ـ ـ ـ ـ ـ ــاب ـ ـ ـع ـ ـ ـ ـ ـ ــات‪:‬‬
‫‪�" -‬شــــــرفــة الـــعـــــــار" �صرخة �أخرى لن�صرة املر�أة‬
‫‪ -‬رحــلـــــــــة فــــي �أدغــــــــال‪ :‬قـــــــــــارع الأجـــــرا�س‬
‫التجــــــربة و�شـــــــــــرارتها‬
‫ِ‬ ‫ــــــــــر‬
‫‪ -‬بيــــــــــروت‪َ :‬ح َج ُ‬
‫‪ -‬القا�صة ب�سمة النمري والدوران يف �شرنقة الذات‬
‫‪ -‬قــيـــــــــــــــم الأدواء فــــــــــي "ذات مـــ�ســــــــــــــــــاء"‬
‫‪ -‬هــــــــــــــــــــــزاع الــبــــــــــــــــــــراري روائــيـــــــــــــــــــــ ًا‬
‫‪ -‬ا�ســـرتاتيجية التــــ�أويل الداللـــي عنـــد املعتـــزلة‬
‫‪ -‬ثقــــــــافة املعـــــــرفة والتفكيـــــــر اال�ســــرتاتيجي‬
‫‪‬‬
‫‪128‬‬

‫«�شـرفة العار» �صـرخة �أخرى لن�صـرة املر�أة‬


‫د‪� .‬سليمان الأزرعي‬

‫ال�شاعر باجتاه الرواية عام‬‫انعطف �إبراهيم ن�صراهلل ّ‬


‫‪ ،1985‬حني �أ�صدر �أول عمل روائي له‪ ،‬وهو «براري ا ُ‬
‫حل ّمى»‪.‬‬
‫وكان عم ًال روائي ًا ملفت ًا من حيث بنائه وم�ضمونه‪ .‬كان عم ًال‬
‫حمل معاناة املغرتب ال�شاب الذي �ألقى بنف�سه يف براري النفط‬
‫و�أحوا�ض الزيت ال�ساخن‪� ،‬ش�أ ُنه �ش�أن العديد من �أبناء جيله‬
‫�أم ًال يف حت�سني �شروط احلياة لتـلك العائالت التي كانت‬
‫تكتوي بنار الفقر والعوز وكذلك التَّ�ش ّرد‪.‬‬
‫وكان �إبراهيم ن�صراهلل قد �أ�صدر العديد من الأعمال‬
‫ال�شعرية التي ك ّر�سته �شاعر ًا منذ �صهلت «خيوله على م�شارف‬
‫املدينة» ‪ ،1980‬وما تبعها من �أعمال �شعرية ملفتة �صدرت يف‬
‫جمموعات متالحقة حتى عام ‪ ،1985‬تخلل تلك الفرتة �أعمال‬
‫نرثية على ر�أ�سها روايته «براري ا ُ‬
‫حل ّمى» التي تبعتها �أعمال‬
‫�أخرى «كحار�س املدينة ال�ضائعة» و»عـ ّو» و»جمرد اثنني فقط»‪.‬‬
‫ثم �أ�صدر �إبراهيم �سل�سلة امللهاة الفل�سطينية التي ت�ضمنت‬
‫عدد ًا من الأعمال الروائية التي ر�صدت حمطات املعاناة‬
‫والكفاح الفل�سطيني‪ ،‬وق ّلبت الق�ضية الفل�سطينية ب�أبعادها‬
‫الإن�سانية‪..‬‬

‫ناقد �أردين‪.‬‬
‫‪‬‬
‫‪129‬‬

‫�إن �إبراهيم ن�صراهلل ي�س ّلمك على غري ما عادة – مفتاح‬ ‫ويبدو �أن اهتمامات �إبراهيم ن�صراهلل الروائية قد بد�أت‬
‫روايته حيث يث ّبت يف مقدمة روايته – كتوطئ ِة ‪ -‬تقرير التنمية‬ ‫ترتاد �آفاق ًا �أكرث رحابة‪ ،‬فانعقد بني عينيه ويف مدى الر�ؤية‬
‫الب�شرية للأمم املتحدة للعام ‪ 2009‬الذي ي�ؤكد �أن عدد �ضحايا‬ ‫ال�شاعرية التي مل يربحها ومل تربحه‪ ،‬انعقد م�شهد ال�شرفة‬
‫ال�شرف يف العامل �سنوي ًا ال تقل عن خم�سة �آالف امر�أة‬
‫جرائم ّ‬ ‫الأكرث �إن�سانية والأقل ا�ستغراق ًا يف عنوان اهتماماته الكبري‬
‫«ويف الأردن‪ ،‬حيث كتبت هذه الرواية ‪-‬هكذا يقول‪ -‬ت�شري‬ ‫(الق�ضية الفل�سطينية)‪� ،‬إنه عنوان «ال�شرفات» الذي �أطل من‬
‫الأرقام الر�سمية �إىل وقوع من ‪ 20-15‬جرمية قتل �سنوي ًا‪ .‬كما‬ ‫خاللها بر�ؤية ال�شاعر والروائي املبدع على عدد من املو�ضوعات‬
‫أرقام و ِن َ�سب �أخرى يف دول اجلوار‬
‫ي�شري التقرير املذكور �إىل � ٍ‬ ‫امل�ؤرقة‪ ،‬فجاء منها �شرفة الهذيان و�شرفة رجل الثلج و�أخري ًا –‬
‫من �شرقنا العربي املنافح – بامتياز‪ -‬عن ال�شرف‪ ،‬والتفوق‬ ‫ورمبا‪ -‬لي�س �آخر ًا «�شرفة العار» الرواية التي تت�ضمن مو�ضوع ًا‬
‫الذكوري البغي�ض‪..‬‬ ‫ح�سا�س ًا يف بالدنا‪ .‬جرى الرتكيز العربي عليه بو�صفه ُ�س ّب ًة يف‬
‫ال�شرف تناق�ش على كافة‬ ‫وجه �شرقنا العربي‪ .‬وال زالت جرائم ّ‬
‫رواية ن�صراهلل مليئة بال�ضحايا من الن�ساء‪ ،‬ومليئة‬
‫بال�ضحايا املجرمني‪ -‬يف �آن‪ -‬من الرجال‪.‬‬ ‫امل�ستويات وتق ّلبها �سائر الأنواع الأدبية وخمتلف الفنون من‬
‫�سينما وم�سرح وغريها‪..‬‬
‫واحلقيقة �أن الفقر والتخ ّلف –يف جميع احلاالت‪ -‬ي�شكل‬
‫ً‬
‫والعقل والثقاف ًة الغربي ًة ي�ستقبلون‬ ‫الغرب‪،‬‬
‫َ‬ ‫و�صحيح �أن‬
‫احلا�ضنة التي حتت�ضن اجلميع جمرمني و�ضحايا‪ ..‬وكلهم‬
‫مربوطون تقريب ًا بخيط واحد ا�سمه جرمية ّ‬
‫ال�شرف وغ�سل‬ ‫معاجلات تلك املو�ضوعة بحما�س بالغ بو�صفها �إحدى مظاهر‬ ‫ِ‬
‫العار‪.‬‬ ‫التخ ّلف يف �شرقنا العربي‪ .‬وهي – بال �شك‪ -‬موطنٌ هام من‬
‫مواطن الإدانة لبنية ال�شرق احل�ضارية والثقافية‪� ،‬إال �أ ّنها –‬
‫(متام) ال�ضحية رقم واحد‪ .‬امر�أة منف�صلة عن زوجها‪.‬‬ ‫وبرغم احلفاوة الغربية واجلوائز والأعطيات واحلوافز التي‬
‫ي�ستطيع (�أمني) �أن ي�صل �إليها‪ .‬ولكنه (ي�صلح الأمر)‬ ‫يلوح ّون بها يف وجوه املبدعني املهتمني‪ ،‬تظل ق�ضي ًة عادل ًة‬
‫فيتزوجها على زوجته الأوىل (نبيلة)‪ .‬لكن هذا الإجراء ال‬ ‫وجدان ثقايف نبيل‪ ..‬ت�ؤرق ال�شاعر والروائي‬
‫ٍ‬ ‫وم�ؤرقة لكل حامل‬
‫ي�ضع حد ًا لإح�سا�س �شقيقها يون�س بو�صمة العار التي �أحلقها‬ ‫وامل�سرحي وال�سينمائي‪ ..‬ومثل ذلك ال ّرياء الغربي �أو الوظائفية‬
‫�أمني ب�شقيقته متام‪ .‬فثمة دين‪ .‬وال ي�ضيع دين وراءه مطالب‪.‬‬ ‫غري احليادية – �أحيان ًا‪ -‬لتلك املو�ضوعات‪ ،‬ال يعني �أن يدفع‬
‫وهكذا يختطف (منار) اخلريجة اجلامعية واملعلمة �شقيقة‬ ‫الأمر املبدعني احلقيقيني لتج ّنب اخلو�ض يف تلك املوا�ضع‬
‫�أمني ويغت�صبها وحتمل منه ويفت�ضح �أمر احلمل‪ ،‬في�أتي العم‬ ‫الهبات واملنح‪.‬‬
‫ِ‬ ‫امل�ؤرقة كتعبري عن زهدهم وترفعهم عن تلك‬
‫�سامل كبري العائلة ويثبت على مدخل بيت �أخيه (�أبو الأمني)‬ ‫وعلى املبدع �أن ميار�س وهو مقبل على ترجمة هذه الق�ضايا‬
‫والد منار راية العار ال�سوداء التي تختلط بالرايات ال�سوداء‬ ‫هاج�س‬ ‫الفني‪ ،‬و�أن يجانب ما �أمكن –‬
‫َ‬ ‫�أق�صى درجات ال�صدق ّ‬
‫التي انت�شرت على مداخل البيوت واملباين حداد ًا على �شهداء‬ ‫�إر�ضا ِء الذوق الغربي واملزاج الثقايف له‪ ,‬بل ينبغي �أن يخل�ص‬
‫احلرب الإ�سرائيلية على غزة‪..‬‬ ‫النية الإبداعية لوجه الق�ضية العادلة‪ ،‬حيث يف مثل ذلك‬
‫ويتم احتجاز منار خيفة قتلها وحتال �إىل ال�سجن حيث‬ ‫الإخال�ص يتحقق التّف ُّوق الفني الذي حققه �إبراهيم ن�صراهلل‬
‫تعي�ش �سائر �أ�شكال اال�ضطهاد واالعتداءات مبا فيها اجلن�سية‬ ‫يف روايته الأخرية «�شرفة العار»‪� ،‬آخر �إ�صدارات �إبراهيم‬
‫من الذكور والإناث‪.‬‬ ‫ن�صراهلل الروائية‪.‬‬
‫‪‬‬
‫‪130‬‬

‫عموم ًا‪ .‬ال بل �أريد �أن �أ�ؤكد هنا �أن هذه الظاهرة الفنية يف‬ ‫ويف �سجن الن�ساء تطالعنا العديد من ال�ضحايا ومن‬
‫حقيقي‪ .‬وخا�صة‬
‫ٌّ‬ ‫كتابة ن�صراهلل الروائية هي تف ُّو ٌق و�صدق ٌّ‬
‫فني‬ ‫ال�ضحايا املجرمات يف �آن‪ :‬فثمة ( �شامة) التي فوجئت ب�صراخ‬
‫يف �أعمال كهذا العمل الروائي‪ ..‬وقد جت ّلت هذه الظاهرة يف‬ ‫ابنتها العذراء و�إذا بها يف حالة و�ضع‪ ،‬لرتتكب الأم اجلرمية‪..‬‬
‫غري موقع‪ ،‬وبخا�صة يف فرتة �إقامة البطلة يف �سجن الن�ساء‪،‬‬ ‫وهناك (وداد) املحكومة بالإعدام وال�شاذة التي تنتقي كل ليلة‬
‫ويف تب ّدل مواقف ال�سجينات ال�ضحايا ‪/‬املجرمات وانقالبهن‬ ‫فري�ستها من ال�سجينات وتقوم باغت�صابها وممار�سة ال�شذوذ‬
‫من مواقع ّ‬
‫ال�شر واجلرمية �إىل �أكرث ال�سلوكيات �إن�سانية وب�شرية‬ ‫معها‪..‬‬
‫حر�ص ًا على اجلنني وحاملته‪� ..‬إ�ضافة �إىل تلك الراية ال�سواء‪،‬‬
‫�إن ف�صول معاناة (منار) يف �سجن الن�ساء وحدها ت�شكل‬
‫راية العار التي جت ّلت �شاعرية �إبراهيم ن�صراهلل ب�شكل غري‬
‫�سفر ًا كبري ًا من �أ�سفار معاناة املر�أة يف املجتمع ال�شرقي‬
‫م�سبوق يف التعامل معها حني تداخلت مع رايات احلداد‬
‫الذكوري البغي�ض‪.‬‬
‫املنت�شرة يف الأحياء وعلى مداخل البيوت حداد ًا على �شهداء‬
‫غزة‪ ..‬يف تعبري عميق عن فهم الروائي ملو�ضوعة العار الوطني‬ ‫وهناك يف الرواية �ضحية ال �أبلغ وال �أب�شع وهي( تغريد)‬
‫الأ�شد وط�أة من راية العار احلافزة على غ�سل العار وا�ستعادة‬ ‫ابنة اخلم�سة ع�شر ربيع ًا التي تلقت ت�سع طعنات على عتبة‬
‫ال�شرف الكاذب‪..‬‬‫ّ‬ ‫الباب وهي ت�ستغيث‪ .‬حيث – كما ورد يف خرب اجلريدة‪-‬‬
‫�أقدم املدعو (م‪�.‬س‪.‬خ) �شقيقها على قتلها بعد �أن افت�ضح‬
‫خلط‬‫�إن تداخل ال�شعر بالنرث‪ ,‬واقتحام ال�شعر واعرتا�ضه ّ‬
‫�أمر حملها‪ .‬وعندما �أجريت الفحو�صات للجنني تبني �أن والد‬
‫�أحداث الرواية‪ ,‬لهو مو�ضوع نقدي غاية يف الغنى وجدير‬
‫اجلنني هو �شقيقها الذي قتلها كي ال يف�ضح �أمره‪ ،‬وبعد �أن‬
‫بالدرا�سة امل�ستقلة وحده‪ ..‬ذلك �أن هذه الظاهرة ال تتكرر يف‬
‫طلبت �إليه التوقف عن موا�صلة اغت�صابها‪ ،‬و�إال ف�ضحت �أمره‬
‫الكتابة الروائية العربية ؟! واملالحظة االولية لهذه الظاهرة‪,‬‬
‫لأمها و�أبيها‪..‬‬
‫�إن من حق الناقد �أن يت�ساءل‪ :‬هل كان الروائي ي�ستنجد بال�شعر‬
‫يف �سبيل رفع درجة حرارة ال�سرد؟ �أم �أن ال�شاعر ومع كل‬ ‫‪ ..‬ويف جميع احلاالت قد ال تتجاوز فرتة �سجن القاتل‬
‫ذلك الت�صعيد قد فقد الثقة بالنرث كو�سيلة للتعبري عن تلك‬ ‫(دفاع ًا عن ال�شرف) ال�ستَة �أ�شهر‪ ,‬كما هو موثق يف �سجالت‬
‫امل�ضامني احلارة؟؟ �أ�سئلة و�أ�سئلة‪ ..‬الإجابة عليها تفتح باب ًا‬ ‫املجرمني‪..‬‬
‫م�ستق ًال للنقد – كما �أ�شرت‪..‬‬ ‫�إبراهيم ن�صراهلل يف هذه الرواية ال ي�ستطيع كبح �شاعريته‬
‫التي ظلت ترتبع يف وجدان املبدع‪ ،‬ف�إذا بها تظهر يف كل منا�سبة‬
‫يتاح فيها لها الظهور‪ .‬وال ي�ستطيع ن�صراهلل كبحها ومنعها من‬
‫�أن ترتبع يف ال�سياق الروائي‪ ..‬و�أنا هنا ال �أ�شري �إىل �إ�صابة‬
‫بائنة يف كتابة �إبراهيم ن�صراهلل الروائية‪ .‬بل �أ�شري �إىل طبيعة‬
‫�أدبية يف الكاتب بو�صفه �شاعر ًا يف املقام الأول‪ ..‬وقد برزت‬
‫هذه الظاهرة (ال�شاعرية) من قبل يف عمله الروائي الأول‬
‫حلـ ّمـى)‪ .‬وكذلك يف �سائر �أعماله النرثية الأخرى‬ ‫(براري ا ُ‬
‫‪‬‬
‫‪131‬‬

‫رحـلــــــة فـي �أدغـــــال‬


‫«قـــــارع الأجــــرا�س»‬
‫د‪ .‬ح�سني جمعة‬

‫كانت يل وقفة مع ق�ص�ص العدد ‪ 180‬من جملة «�أفكار»‪،‬‬


‫ال�صادر عام ‪ ،2003‬الذي احتوى على عدد من الق�ص�ص‪ ،‬من‬
‫بينها ثالث �أقا�صي�ص للأديبة �سامية عطعوط حتت عنوان‬
‫«متاثيل»‪ ،‬وهي‪« :‬عالقات �شائكة» و»التمثال» و»ا�ستكانة»‪ ،‬و ُن�شرت‬
‫هذه الكلمة يف كتابي «ب�صائر ال�سرد» ال�صادر عن دار الينابيع‬
‫عام ‪ .2008‬وهذه الق�ص�ص �أو الأ�صح الأقا�صي�ص وجدت لها‬
‫مكان ًا يف جمموعتها الأخرية التي �صدرت عام ‪ 2008‬بعنوان‪:‬‬
‫«قارع الأجرا�س»‪ ،‬وعنوان فرعي «�أنثى العنكبوت»‪ ،‬ولكن حتت‬
‫م�سمى �آخر «عالقات �شائكة»‪ .‬وحول هذه الأقا�صي�ص كتبت‬
‫يف حينه ما يلي‪�« :‬سامية عطعوط ا�سم فارع يف عامل الق�صة‬
‫الق�صرية‪ ،‬يغمرك من كل اجلهات‪ ،‬وي�ستبد بذكائك‪ ،‬حيث‬
‫ت�شعل ق�ص�صها يف النف�س ما ي�سمى مبو�سيقى املزاج‪ ،‬وهذا‬
‫يف�سح املجال لأهم ملمح من مالمح الق�صة الناجحة �أن يتبلور‬
‫و�أن ينت�صب �أمام القارئ‪.‬‬
‫قطعت الق�صة �شوط ًا طوي ًال على م�سار النهو�ض بوظائفها‬
‫الرئي�سية يف اال�شتباك بالواقع وف�ض �أ�سراره‪ ،‬و�شقّ كل كاتب‬
‫الأدبي مبختلف �ألوانها وخطوطها العري�ضة‪َّ ،‬‬
‫وتع�شقَ النوع‬ ‫دربه ح�سب كفاءته وفرادته الإبداعية لإ�شادة موزاييك متنوع‬
‫ب�شتى التيارات اجلارفة التي فجرها الزمن وتبدل احلال‪،‬‬ ‫من الق�ص�ص احلديثة تتبدى فيه املالمح العامة خلريطة النوع‬

‫ناقد �أردين‪.‬‬
‫‪‬‬
‫‪132‬‬

‫املعلومات‪ ،‬وعدم �أخذ كل ما ي�شاع وين�شر كم�سلمات‪� ،‬إذ قد‬ ‫و�أخذت التنويعات املتناغمة تتوالد من رحم النوع الذي عرفته‬
‫تكون احلقيقة هاجعة هناك يف ذهن �شاعر مفلق‪� ،‬أو كاتب‬ ‫عقود ال�ستينيات وال�سبعينيات من القرن املا�ضي‪ ،‬بعدما‬
‫مبدع‪ ،‬بعيد ًا عن ادعاءات الإعالم وال�صحافة‪ ،‬وتكون عادة‬ ‫جرت حتويرات مهمة عليه‪ ،‬و�أخذنا نحظى بالق�صة‪ /‬الفكرة‪،‬‬
‫�أكرث وقع ًا و�إيالم ًا مما تراه �أعيننا املب�صرة‪ ،‬وعني الكامريا‬ ‫والق�صة‪ /‬الت�أملية‪ ،‬والق�صة‪ /‬الق�صيدة وما �شابه ذلك‪ ،‬وبد�أ‬
‫ال�ضاجة بكل‬
‫َّ‬ ‫الدقيقة‪ .‬وهكذا‪ ،‬يكتمل امل�شهد العام يف لوحته‬ ‫يت�ضاءل االهتمام بالتفا�صيل احلياتية الزائدة‪ ،‬والأحداث‬
‫�أ�سباب النفور مما يجري يف الراهن‪ ،‬وقد ط ّوعت امل�ؤلفة هذه‬ ‫قليلة ال�ش�أن‪ ،‬مع �أن ذلك مل يحرم الكتاب من التحديق ملي ًا يف‬
‫اللوحة لقواعد النوع الأدبي ومتطلبات ال�شكل الثابتة‪ ،‬ومل‬ ‫الواقع امل�أزوم ودروب احلياة املت�شعبة‪.‬‬
‫تنزاح عن هذه القواعد مبا امتلكته من غنى فكري ماثل‪ ،‬ولغة‬
‫ولعل «متاثيل» �سامية العطعوط غري �شاهد على ذلك‪ .‬وهي‬
‫ب�سيطة معربة‪ ،‬ال ي�شوبها �أي �إطناب �أو ترهل‪ ،‬وال يعيبها الوهم‬
‫عبارة عن ثالثة م�شاهد على الع�صر تنت�صب عالي ًا‪ ،‬لتعك�س‬
‫الذي وقعت فيه امل�ؤلفة‪ ،‬والذي �أ َّنثت فيه كلمة «حم�ض»»‪.‬‬
‫للمارة لوحة الزمن الذي يعي�شون‪ ،‬وهو زمن اال�ستخذاء‬
‫ال ترت�سم جميع ن�صو�ص جمموعة «قارع الأجرا�س» ال�سبيل‬ ‫والدجل والنفاق واال�ستكانة‪ ،‬وتزييف احلقائق وتزويرها‪.‬‬
‫املوم�أ �إليه �أعاله‪ ،‬فالق�ص�ص ال ينتظمها نف�س واحد �أو م�سلك‬ ‫الكل‪ ،‬احلاكم واملحكوم‪ ،‬يعي�ش هذا الزمن بروحه و�إدراكه‪،‬‬
‫واحد‪ ،‬و�إمنا تتزيا ب�أ�ساليب متنوعة‪ ،‬وتتخفى ب�أقنعة م�ض ّللة‪،‬‬ ‫ويعي مدى ه�شا�شة �أهله وتعا�ستهم‪ ،‬ووهن امل�سوغات التي‬
‫تت�أبى �أحيان ًا على االنك�شاف والظهور‪ ،‬ويتم ّوه بع�ضها ب�ستائر‬ ‫يعتمدونها لتق ّبل م�صائرهم الفاجعة‪.‬‬
‫ال�شعر و�أوزانه لتتجلى �أنغام ًا �شعرية موحية‪ ،‬تفي�ض بينابيعه‬
‫م�ؤْثر ًة االرتداد عن روح النرث‪ ،‬لإدها�ش القارئ مبا تبث من‬ ‫توميء «عالقات �شائكة» �إىل مدى القرف الذي ينتاب‬
‫تقييمات متباينة حلقائق احلياة وظواهرها العنيدة‪ ،‬التي تنبو‬ ‫احلاكم من نفاق رعيته وزيف و ّدهم؛ مما يثري تقززه‬
‫وت�ستغلق على الإدراك والفهم‪� ،‬إذا مل ت�ؤازرها ر�ؤية فكرية ت�ستمد‬ ‫وا�شمئزازه؛ في�سعى �إىل املزيد من اال�ستهانة بهذه الرعية‪،‬‬
‫�أفقها من جدلية الواقع وخ�صوبة �أ�سراره وتعقد خفاياه‪ ،‬وتن ّمي‬ ‫ويعترب حتقريهم �ضرب ًا من الدميقراطية الفعلية‪ ،‬بعد �أن‬
‫يف املبدع روح الفرا�سة املت�أنية الدقيقة‪ ،‬وتقي فنه من الوقوع‬ ‫�سئم من تقبيل يديه‪� ،‬أ�صدر �أمره اجلديد القا�ضي ب�أن «ال‬
‫يف براثن الن�ص التائه املقنع بالألغاز والأحاجي‪ ،‬التي ي�ستحيل‬ ‫يق ّبل �أحد يده بعد اليوم‪ ،‬و�أما حذا�ؤه فامل�س�ألة دميقراطية‪،‬‬
‫ف�ض مكنوناتها‪� .‬صاحبة (قارع الأجرا�س) التي تتوق (للكتابة‬ ‫حم�ضة!»‪ .‬هكذا‪ ،‬وبتكثيف �شديد واكتناز م�ضموين معمق تنهي‬
‫امل�ستحيلة بتلك الرغبة امل�ستع�صية يف التعبري الفني عن‬ ‫العطعوط �إ�ضاءتها للإ�شكالية املعقدة‪ ،‬القائمة بني احلاكم‬
‫مكنونات النف�س وانثياالتها‪ ،‬و�شبق اجل�سد يف انزياحاته عن‬ ‫واملحكومني يف البالد‪ ،‬التي تعاين من الديكتاتورية‪ ،‬والنظم‬
‫الوجود ال�سابق للعدم‪ ،‬نحن وجود حتتويه التفا�صيل الدقيقة)‬ ‫الالدميقراطية‪ ،‬وهي بذلك ال تلوم املحكومني ح�سب‪ ،‬و�إمنا‬
‫ـ كما جاء على ل�سانها‪ ،‬ت�سعى �إىل �إ�شهار الدقائق والتفا�صيل‬ ‫تلوم احلكام الذين يفر�ضون هذه الدميقراطية‪ ،‬وي�ستبدون‬
‫الناحلة التي تعمر قلب عامل الواقع‪ ،‬جلالء املفارقات الغريبة‬ ‫ب�شعوبهم‪ ،‬وال يجدون فيها �سوى متاثيل �ضئيلة ال قيمة لها‬
‫التي ت�سرح يف حناياه‪ ،‬و�إبراز �سبل تنوع معرفة احلياة بو�سائل‬ ‫�أمام التمثال الأكرب‪ ،‬كما يقول م�شهد «التمثال»‪� .‬أما امل�شهد‬
‫الفن املتنوعة والفريدة؛ فالفن ال ينف�صم عن احلياة‪ ،‬والفنان‬ ‫الثالث والأخري‪ ،‬فينادي ب�ضرورة عدم االن�سياق وراء ع�صر‬
‫‪‬‬
‫‪133‬‬

‫�أ�سباب احلياة يف ملمو�سيتها النا�صعة‪ ،‬ويف �أ�شكالها الفعلية‬ ‫الأ�صيل يعرتف مبحدودية �إمكانياته مهما تعاظم �إبداعه‪،‬‬
‫احلية؛ مما يف�ضي �إىل �إعتام ال�صورة وعدم تبلور ال�شكل‬ ‫وبلغت �سطوته‪ .‬لكن‪ ،‬ما هي الكتابة امل�ستحيلة التي تتوق‬
‫ال�شعري‪ ،‬والإح�سا�س بالالتنا�سق املنطقي والذبذبة الداخلية‪،‬‬ ‫�إىل اقرتافها مبدعة (قارع الأجرا�س)‪ ،‬و(�سروال الفتنة)‪،‬‬
‫وهذا بدوره ي�ؤدي �إىل غمو�ض الفكرة‪ ،‬وا�ستغالق حمموالتها‪،‬‬ ‫و(طربو�ش موزارت)‪ ،‬و(طقو�س �أنثى)‪� ،‬أهي الكتابة التي ال‬
‫و�إىل �ضرب من الالقناعة يف متا�سك الأثر الفني‪ .‬فالعمل الفني‬ ‫جدوى منها‪� ..‬أي ابتداع خرائب �شكلية‪� ،‬أو تعمري جتاريب‬
‫الذي يخلو من ترجمة التناق�ضات املجتمعية �إىل لغة الأفعال‬ ‫معملية واهنة القيمة واملحتوى‪ ،‬ودومنا حاجة �إليها �أو جدوى‬
‫الإن�سانية وامل�صائر الإن�سانية يف انعطافاتها وحتوالتها‪ ،‬ويحيد‬ ‫من ن�صبها وتد�شينها؟! �إذا كان الأمر كذلك فلمن تكتب �إذن!‬
‫عن ك�شف التعالقات االجتماعية يف �إطار مالب�سات ملمو�سة‬ ‫�سامية عطعوط تكتب وتن�شر وتقر�أ ق�ص�صها و ُيقام ملجموعاتها‬
‫يكتنز بها امل�ضمون املبا�شر للأثر الفني‪ ،‬ال يحظى مثل هذا‬ ‫حفالت توقيع‪� ،‬أولي�س هذا كافي ًا لدح�ض مقولتها ب�أن الكتابة‬
‫العمل بالقناعة الفنية املطلوبة‪ .‬فالفن ما هو �إال طائرة الزمن‬ ‫بال جدوى؛ وهل جدوى الكتابة من اخرتاع نظام اجتماعي‬
‫التي اخرتعها الإن�سان للتحليق بفكره وخياله وتخييله يف �آفاق‬ ‫معني‪ ،‬تزول بزواله وحتيا بوجوده! �إن تاريخ الأدب العاملي‬
‫املا�ضي وا�ستح�ضار امل�ستقبل ا�ستناد ًا �إىل احلا�ضر‪ ،‬الذي ينبغي‬ ‫وم�سريته العامرة من بواكري ظهوره حتى الآن تدح�ض هذا‬
‫افرتا�سه لت�سهل على الكاتب مهمته يف ا�ستكناه �أ�سرار الوجود‬ ‫الطرح الذي ال ي�ستقيم والدر�س املو�ضوعي لآثار كبار الكتاب‬
‫الإن�ساين‪ ،‬وتر�سيخ ت�أمالته ونقل �إرها�صاته �إىل املتلقي‪ ،‬الذي‬ ‫والفنانني على مر الزمن‪ ،‬و�أبلغ من ذلك ال ي�ستقيم مع ما‬
‫ي�ستقري بدوره مدى امتالك امل�ؤلف ملو�ضوعه وم�صداقيته يف‬ ‫تن�شيء الكاتبة نف�سها من ن�صو�ص هادفة ومغ ّياة‪.‬‬
‫الإحاطة به‪ ،‬ونزاهته يف ا�ست�شراف �أبعاده‪ ،‬ومن ثم تقييمه‬
‫ال تروم كلمتي االندفاع يف احلديث عن جدوى الكتابة‬
‫�إذا كان ُمع ّد ًا �إعداد ًا كافي ًا لذلك‪ ،‬واحلكم على �أهلية العمل‬
‫وغايتها‪ ،‬لكنني �أرى �أن وهم ال جدوى الكتابة يعود يف الأ�سا�س‬
‫وقدرته على ال�صمود واال�ستمرار‪.‬‬
‫�إىل �ضبابية املوقف الفكري للكاتب‪ .‬ولهذا دواعي متنوعة‪،‬‬
‫تتنا�سل من جمموعة «قارع الأجرا�س» جمهرة من‬ ‫منها‪ :‬ما هو �صادر عن ارتباكات داخلية لها حوافز اجتماعية‬
‫الت�سا�ؤالت‪ ،‬التي تدفع بعدد من الإ�شكاليات التي �أيقظتها ـ كما‬ ‫ونف�سية وفكرية‪ ،‬ومنها ما هو خارج وعي الفنان �أو الكاتب‪،‬‬
‫تقول امل�ؤلفة ـ من رمال‪� ..‬أي من �سكونها وعمائها‪ ،‬وب َّثت فيها‬ ‫فلي�س �سه ًال على كاتب حر ينزع �إىل ب�سط احلقيقة‪ ،‬وك�شف‬
‫الروح من جديد‪ ،‬بعد مكابدات عنيدة وقا�سية‪ .‬وهنا‪ ،‬ال بد‬ ‫�آل ّيات ت�سيري الأمور يف وطنه‪ ،‬والتعبري عن �أماين �شعبه وغ�ضبه‬
‫من تعقب بع�ض الق�ضايا القائمة يف املجموعة‪ ،‬وا�ستدراجها‬ ‫وطموحه وجلم فاعليته �أن يخاطر بالإف�صاح عن نواياه‬
‫من الن�صو�ص لإنارة �أبعادها‪ ،‬والتقاط ما خفي عن الآخرين‪،‬‬ ‫وخواطره بو�سائل مبا�شرة وطرائق ممهدة ومعروفة‪ .‬لذا‪ ،‬يلج�أ‬
‫الذي �أزالت امل�ؤلفة عنه مكامن الغمو�ض‪ ،‬ورفعته �إىل من�صة‬ ‫لبلوغ لب احلقائق وجوهر الكينونة �إىل اال�ستعانة بالتلميح‬
‫التوهج واحل�ضور‪ .‬متهد الكاتبة لن�صو�ص جمموعتها بت�صدير‬ ‫والإيحاء والرتميز‪ ،‬املتخفية يف �شبح الأ�شياء واملوجودات‪،‬‬
‫موح حتت م�س ّمى «�أنثى العنكبوت»‪ ،‬كانت ثبتته على غالف‬ ‫ٍ‬ ‫وذلك ب�إق�صاء ما هو �أي�سر و�أبلغ‪ ،‬واال�ستناد �إىل ما هو ذهني �أو‬
‫الكتاب‪ ،‬لي�شكل مع العنوان الأ�صلي «قارع الأجرا�س» ك ًال‬ ‫مفرت�ض؛ فيتك ّلف ويتع�سف‪ ،‬ويحتمي بذاتيته املفرطة‪ ،‬ويتهرب‬
‫موحد ًا‪ ،‬وم�ؤ�شر ًا على حمموالت املنت وا�ستنبات �أغرا�ضه‬ ‫من تر�سيخ �سياق وا�ضح كتعوي�ض عن عدم تد�شني �أركان‬
‫‪‬‬
‫‪134‬‬

‫من م�سرحة فكاهية» يف ثالثة خيوط تقتن�ص مادتها من‬ ‫وا�ست�شفاف مراميه البعيدة‪�« .‬أنثى العنكبوت» ن�ص ذاتي مغلق‬
‫تر�سانة الت�صورات احلداثوية للواقع‪ ،‬التي تتناول م�سائل‬ ‫ي�س ّوغ للقارئ عبث الت�أويل الأحادي‪ ،‬لأنه يقوم على الرتميز‬
‫الوجود اللعينة‪ ،‬القائلة مبوت الإن�سان واملجتمع روحي ًا وفكري ًا‪،‬‬ ‫املجرد‪ ،‬الذي جنم عن ر�ؤية العطعوط ال�شخ�صية للأ�شياء‪،‬‬
‫وتبني من تناق�ضات املجتمع مفارقات فاجعة‪ ،‬تتخذ من‬ ‫للتعبري عن مكابدتها الفردية وانطباعاتها عن نف�سها يف حدود‬
‫الغروت�سك �إطار ًا �شكلي ًا لبلوغ �أهدافها‪ .‬فالرجل الذي يرى‬ ‫ذاتيتها املغلقة‪ ،‬ولي�س من منطق ال�سريورة املعرفية و�سنن عامل‬
‫�أح�شاء �أمه (يف امل�شهد الأول) تخرج من بطنها‪ ،‬وهي ت�سعى‬ ‫ير�سخ الرمز‬
‫املاديات وجواهرها املو�ضوعية املخ�صو�صة؛ مما ِّ‬
‫لعبور ال�شارع‪ ،‬يتل ّهى عن م�أ�ساتها بالعبث بجهاز املوبايل الذي‬ ‫يف ذاته ولذاته‪ ،‬ويحرمه من وظائفه التوا�صلية‪ ،‬ويقطع �صلته‬
‫يبعث له بلقطة عن (القرد العط�شان)‪ ،‬لي�ستقبلها �ضاحك ًا‪،‬‬ ‫بوعي الآخر و�أحا�سي�سه‪ .‬وع ّلة ذلك‪� ،‬أن هذا التجريد امل�شوه بال‬
‫وي�شرع يف �إر�سالها �إىل �أ�صدقائه على عجل‪ ،‬وين�سى والدته‬ ‫م�ضمون حقيقي‪ ،‬ومع �أنه متعدد الدالالت الوهمية �إال �أنه يخلو‬
‫يف وحل ال�شارع بقايا �أح�شاء �آدمية تبعث على الغثيان‪ .‬وتتكرر‬ ‫من املعنى املو�ضوعي‪� ..‬إنه وهم حم�ض‪� ،‬شيفرة بال مفاتيح‪،‬‬
‫امل�أ�ساة املهزلة ثانية يف امل�شهد الثاين بعد انفجار احلافلة‬ ‫ت�ستع�صي على القبول العقلي‪.‬‬
‫الذي قد يكون من �صنع الرجلني امللتحيني‪ ،‬حيث يبت�سم الرجل‬
‫يف �سره‪ ،‬ويدير ظهره للم�شهد كله وك�أنّ �شيئ ًا ال يعنيه‪ ،‬بينما‬ ‫يبدو �أن امل�ؤلفة بهذا الت�صدير �أرادت �أن توحي ب�أن‬
‫كان هو نف�سه جزء ًا من احلدث‪ .‬وال يختلف امل�شهد الأخري‬ ‫ن�صو�ص جمموعتها حتتمل �شتى القراءات واال�ستنتاجات‪،‬‬
‫كثري ًا عن امل�شهدين ال�سابقني �سوى خفوت ح�ضور املفارقة‬ ‫وفيها يعرث املتلقي على ما هو قريب من مداركه ووعيه وقابل‬
‫الوا�ضحة‪ ،‬واالقرتاب من معمار اخلاطرة �أو اللفتة الذكية‪ ،‬مع‬ ‫للت�أويل والتقييم‪ ،‬ومنها ما ينبو على الفهم وي�ستغلق على‬
‫تابل خفيف من املبالغة‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫الإدراك‪ ،‬قابل للت�أويل وال يخ�ضع للتقييم‪ ،‬ا�ستناد ًا �إىل غمو�ض‬
‫املوقف الفكري للكاتبة‪ ،‬وعدم النظر �إىل العامل والواقع من‬
‫وهنا‪ ،‬ال بد من الت�سا�ؤل حول جلوء الكاتبة �إىل �أ�سلوب‬
‫مثال اجتماعي حمدد‪ ،‬مينح املرئيات والظواهر مغزى‬ ‫موقع ٍ‬
‫الغروت�سك‪ ،‬هل هو وليد الت�صادمات احلياتية احلادة‪ ،‬وجالء‬
‫متعين ًا يف ن�شاط الإن�سان وممار�ساته العملية‪ ،‬ويحررها من‬
‫تناق�ضاتها وتنافراتها الكوميدية وال�شاذة من منطلق �إدانتها‬
‫قتام الي�أ�س والت�شا�ؤم‪ ،‬فتعزف �أحلان ًا �شجية لعنفوان الإن�سان‬
‫وال�سخرية من مفارقات الواقع احلادة‪ ،‬التي يعي�ش يف ظاللها‬
‫وعظمة احلياة‪.‬‬
‫وحتت رحمتها الإن�سان املعا�صر‪� ،‬أم ح�ضر يف الن�صو�ص‬
‫لإبراز �سخف العامل ودمامته‪ ،‬وعبث الطبيعة الإن�سانية‬ ‫*‬ ‫*‬ ‫*‬
‫وخطاياها الأزلية املنكرة‪ .‬هنا امل�ؤلفة تقف وراء �شارل بودلري‬
‫ترتاكب جمموعة «قارع الأجرا�س» يف خم�س دوائر كربى‪،‬‬
‫يف �إ�سقاطها ملفهوم الغروت�سك يف الإبداع الفني للتعبري عن‬
‫كل دائرة ت�شتمل على جمهرة من احللقات غري املت�ساوية‪،‬‬
‫البداية «ال�شيطانية» يف احلياة ويف �صميم الكائن الب�شري‪،‬‬
‫وكل حلقة تتوزع يف عدد من امل�شاهد املتقاربة يف حمموالتها‬
‫املحب لذاته واملقيم فيها‪ ،‬باعتبار �أن الإفراط يف ال�ضحك‬
‫وال�سخرية والت�شنيع معادل لطبيعة الإن�سان الأنانية‪ ،‬كما ي�ؤكد‬ ‫للت�أ�شري �إىل فكرة حمددة �أو غر�ض معني‪ ،‬بينما تتباين يف‬
‫بودلري يف مقالته‪« :‬عن طبيعة ال�ضحك وعما هو كوميدي يف‬ ‫مقا�صدها وغاياتها‪.‬‬
‫فن النحت»‪.‬‬ ‫تتكون الدائرة الأوىل من �أربع حلقات‪ ،‬تت�صدرها «م�شاهد‬
‫‪‬‬
‫‪135‬‬

‫وتراجع �أو�ضاعه االقت�صادية‪ ،‬وفقدان الأمان يف امل�ستقبل‪،‬‬ ‫يف احللقة الثانية من الدائرة الأوىل‪ ،‬التي �ص ّدرنا كلمتنا‬
‫والأهم من ذلك عدم م�شاركته يف التخطيط حلياته وم�صريه‪،‬‬ ‫بها‪ ،‬جند �أن ثمة حتو ًال يف اختيار مادة التج�سيد الفني �أملته‬
‫وعدم �إ�سهامه يف زرع بذور الثورة العلمية‪ /‬التقنية ومفاعيلها‪،‬‬ ‫احلاجة �إىل ر�صد التغريات املجتمعية وتبدل املالب�سات‬
‫واالقت�صار على التمتع ببع�ض نتائجها الهام�شية‪.‬‬ ‫االجتماعية‪ ،‬وا�ستجابة حلوافز الكاتبة الإبداعية وظروف‬
‫احلياة امل�ستجدة؛ فاختيار املادة ال ينح�صر يف مر�آة الوعي‬
‫تعود امل�ؤلفة يف الدائرة الثانية �إىل انتزاع وهج املفارقة ال‬
‫ب�شكل ثابت ال يتغري‪ ،‬لأنه يخ�ضع لالنعطافات يف الواقع‬
‫توحد‬
‫عن طريق الغروت�سك‪ ،‬و�إمنا ت�ستعني باملونتاج كمنظومة ّ‬ ‫االجتماعي‪ .‬لكن ما يجمع ن�صو�ص احللقتني‪ ،‬هو التعميم‬
‫يف حراكها العام لقطات مبعرثة ـ غريبة ومتفارقة بحدة يف‬ ‫القائم على التجريد املُقْ�صى عن فح�ص دقائق احلياة‬
‫الواقع‪ ،‬وجتمع �شملها لفح�ص الروابط العلية‪ /‬ال�سببية التي‬ ‫اجلارية وتف�صيالتها املت�شعبة‪ ،‬واملرتكز �إىل ف�ضول الذهنية‬
‫تخيم على �أذهان الفل�سطينيني والعرب املفجوعني بالبالء‬ ‫الإطالقية‪.‬‬
‫ال�صهيوين‪ ،‬ودمج املفاهيم التي ترتاءى يف مر�آة وعيهم عن‬
‫املجازر ال�شنيعة واللئيمة التي يقرتفها �أوبا�ش ال�صهاينة‪،‬‬ ‫وط�أة الذهنية الإطالقية تهيمن على غالبية الن�صو�ص‪،‬‬
‫الذين تتملكهم �شهوة القتل واال�ستمتاع مبنظر الدم الفل�سطيني‬ ‫فعندما ت�سكت �شهرزاد عن الكالم‪ ،‬فال بد و�أن ي�سكن املوت‬
‫امل�سفوك‪ ،‬وك�أن �أ�صحاب الأر�ض الأ�صالء طرائد �سائبة يتحتم‬ ‫يف جميع الزوايا‪ ،‬و�أن تنت�شر رائحته يف كل ركن ويف كل نف�س‪،‬‬
‫الولوغ يف حلومهم ودمائهم يف كرنفال اجلنون‪ ،‬الذي �أحياه‬ ‫بحيث لن ي�شعر �أحد ال بال�ضجر وال بامللل‪� ،‬إذ يجد الإن�سان‬
‫�شذاذ الآفاق يف الأر�ض الفل�سطينية منذ �أكرث من قرن من‬ ‫راحته يف املوت هروب ًا من منعطفات احلياة وتعار�ضاتها املقيتة‬
‫والالمعقولة‪ ،‬كما ي�ستنتج من احللقة الثالثة «حني �سكتت‬
‫الزمان‪ .‬فراحيل (منوذج الإ�سرائيلي املغت�صب) ت�ستمتع يف‬
‫�شهرزاد»‪.‬‬
‫«قارع الأجرا�س» بالطريقة التي يتم فيها قتل الراهب قبل‬
‫�أن يتمكن من �شد حبل جر�س الكني�سة يف بيت حلم‪ ،‬ودو�س‬ ‫هذا القلق الوجودي‪ ،‬وهذا ال�ضيق من �أ�سباب العي�ش له‬
‫جثته من قبل ع�ساكر كيان البغي واالغت�صاب‪ ،‬وتتلهى مبطالعة‬ ‫دوافع مو�ضوعية يف الواقع االجتماعي القائم‪ ،‬لكن انعكا�ساته‬
‫اخلرب يف اجلريدة وك�أنه خرب مفرح‪ ،‬وت�ستعذب �أفانني الإفناء‬ ‫يف الأدب م�ستمدة من تر�سانة املدر�سة احلداثوية الغربية‪،‬‬
‫لل�شعب الفل�سطيني و�إبادة كل �أثر له‪ ،‬وحتويل املدينة �إىل بيت‬ ‫التي جاءت نتيجة خليبة الأمل يف �إ�صالح النظام الربجوازي‬
‫من حلم‪ .‬ويف امل�شهد الثاين تتلذذ راحيل وهي تربد �أظافرها‬ ‫�أو ال�سعي �إىل تغريه‪ ،‬ومل يكن هذا التوجه وليد ظروف حملية‬
‫بق�صف الطائرات لل�سوق التجاري يف املدينة املزدحمة بالنا�س‬ ‫خم�صو�صة‪ ،‬لها �سمات معينة ومالمح مميزة ي�سعى الكاتب‬
‫�أثناء الت�سوق يف فرتة رفع منع التجول‪ ،‬وقد �شعرت باالنتعا�ش‬ ‫�إىل جتليتها و�إبراز خ�صو�صيتها املغايرة‪ ،‬حيث يتم تغييب لوحة‬
‫واحليوية بعد �أن �أنهت مهمتها بنجاح‪ .‬ومياثل ذلك ما تخيله‬ ‫الواقع الراهن‪ ،‬وا�ستبدالها بهواج�س الإحباط والرعب‪ .‬وال‬
‫الراوية يف امل�شهد الثالث من مناظر القتل اجلماعي‪ ،‬التي‬ ‫تخرج ن�صو�ص احللقة الأخرية (�أقفا�ص) عن �إطار �أحا�سي�س‬
‫ت�ستمتع بها راحيل‪ ،‬والتي حفزته �إىل تناول ر�شا�شه‪ ،‬والتوجه‬ ‫انهيار الواقع وتردي احلالة النف�سية للإن�سان الذي يعي�ش‬
‫نحو راحيل‪ ،‬التي ا�شتد ذعرها عند م�شاهدته‪ ،‬وهو يبت�سم‬ ‫يف كنف ثورة املعلومات وثورة التقنية واالت�صال‪ ،‬ونفوره من‬
‫لها قبل �أن ي�صب ر�صا�ص ر�شا�شه يف �صدرها؛ فتنهال عليه‬ ‫�أ�سباب حياته جراء ا�شتداد الت�ضييق على حريته ال�شخ�صية‪،‬‬
‫‪‬‬
‫‪136‬‬

‫�أراكم الآن بال ثقب‪� .‬أنا ال �أرى �شيئ ًا‪ .‬ال �أرى �سوى ثقبي الذي‬ ‫نريان �أ�سلحة العدو من كل جانب‪ ،‬لكنه يتمكن من رواية ق�صته‬
‫يت�سع‪ ،‬ونف�سي التي ت�صغر كثري ًا يف هذا العامل‪.‬‬ ‫الدامية التي ال تنتهي بنهاية ح�ضوره اجل�سدي‪ ،‬لأن ق�ضيته �أقوى‬
‫من املوت العابر‪ .‬ويف امل�شهد الأخري تتعر�ض املمثلة التي تلعب‬
‫�أنقذوين‪.»!....‬‬
‫دور الفتاة املخطئة لر�صا�صة عوزي بعد خروجها من امل�سرح‬
‫ت�ستكمل امل�ؤلفة ثيمة �أزمة ال�شخ�صية يف ظل مالب�سات‬ ‫مبا�شرة‪ ،‬ليتحول التمثيل �إىل حقيقة ماثلة‪ .‬ويف مقابل م�شاهد‬
‫الثورة التقنية واملعلوماتية يف ن�صو�ص الدائرة الرابعة‪،‬‬ ‫املوت والإفناء التي يتعر�ض لها �شعب فل�سطني ال�صابر‪ ،‬وهو‬
‫املزحومة باخلوف على م�صري الفرد يف جمتمع ما بعد الثورة‬ ‫ينوء حتت نري الطغاة املحتلني‪ ،‬قدمت الكاتبة م�شهد ًا موازي ًا‬
‫ال�صناعية‪ ،‬حيث �أف�ضى حتديث و�سائل العمل و�أمتتتها حتت‬ ‫ومفارق ًا لأحد ع�شر �شخ�ص ًا يف ليلة احلادي ع�شر من �أيلول‪،‬‬
‫ت�أثري الثورة التقنية �إىل عواقب وخيمة �إىل جانب تعميق �أ�شكال‬ ‫وهم يتداولون الأحاديث فيما بينهم‪ ،‬ويدلون باعرتافاتهم‬
‫االغرتاب املتنوعة‪ ،‬وم�ضاعفة �صنوف اال�ستغالل القا�سية‬ ‫قبل موتهم‪ ،‬وك�أنهم يرتلونها ترتي ًال‪ ،‬وتف�صح هذه االعرتافات‬
‫القدمية وامل�ستحدثة‪.‬‬ ‫عن مدى �إميانهم مبا يزمعون القيام به‪ ،‬وك�أنه حاجة داخلية‬
‫موجه‬ ‫ووازع �أخالقي �أ�صيل يف كياناتهم جلالء املفارقة القائمة بني‬
‫عنوان الدائرة «طقو�س �أفعى»‪ ،‬وهو عنوان ا�ستعاري‪ّ ،‬‬
‫لك�شف مقا�صد امل�ؤلفة مببالغات فظة تت�صاعد �إىل م�ستوى‬ ‫الطرفني‪.‬‬
‫الأليغوريا‪ ،‬لت�ؤ�شر �إىل ب�ؤ�س ال�شخ�صية الإن�سانية وعمق م�أ�ساتها‬ ‫الإ�شكالية التي تطرحها بحدة حلقات الدائرة الثالثة‬
‫واغرتابها عن واقعها الفعلي‪ ،‬والعي�ش حتت رحمة الهذيانات‬ ‫املو�سومة‪« :‬مدونات» هي مدى �أثر التقدم العلمي والتطور‬
‫والتخيالت والأحالم التعي�سة القاتلة‪ .‬ذكرت �أعاله �أن امل�ؤلفة‬ ‫التقني على �إن�سان القرن احلايل‪ ،‬وكيفية ا�ستيعاء الفن لثيمة‬
‫تلميذة ذكية يف املدر�سة احلداثوية‪ ،‬ت�ستمد من تر�سانتها لي�س‬ ‫الإن�سان يف توا�صله مع الآخرين يف ظل مالب�سات ثورة االت�صال‬
‫الأدوات ح�سب‪ ،‬و�إمنا الثيمات واملو�ضوعات �أي�ض ًا‪ ،‬وخري دليل‬ ‫واملعلوماتية‪ .‬ويبدو من ن�صو�ص هذا الف�صل �أن امل�ؤلفة �أرادت‬
‫على ذلك م�شاهد هذه الدائرة‪ ،‬التي ال تتفق وواقع الإن�سان‬ ‫�أن ت�ضع ت�صورها حول الآثار التي تخلفها ثورة االت�صاالت‬
‫العربي‪ ،‬الذي مل ي�صل �إىل حد اجلنون يف ا�شتباكه مع منتجات‬ ‫على �إن�سان العامل الذي مل ي�شارك يف �صناعتها وابتكاراتها؛‬
‫الثورة الرقمية و�سبل املعلومات التي ترد �إىل دماغه‪ ،‬ويفقد‬ ‫فكانت �شدة وط�أتها قا�سية عليه‪ ،‬فهي �إىل جانب كونها ظاهرة‬
‫�أعز ما ميلك‪ ،‬وهو التوا�صل احلي ون�سج قواعد للفهم امل�شرتك‬ ‫حيوية ت�سعف الإن�سان يف ا�ستعادة دقة الفكر و�صياغته بعمق‬
‫مع الآخرين‪ .‬حق ًا‪ ،‬لقد كان �أثر الثورة العلمية‪ /‬التقنية جل ّي ًا‬ ‫واختزال‪ ،‬وتدربه على التعامل مع اخلطاب احلي املبا�شر‪،‬‬
‫على �شتى ن�شاطات الإن�سان املعا�صر‪ ،‬وعلى تكوينه الداخلي‬ ‫وتوحد بني النا�س‪� ،‬إال �أنها غالب ًا ما‬
‫و�ضبط اللحن ال�صايف‪ّ ،‬‬
‫وبنيته ال�شخ�صية‪� ،‬إال �أن ثمة تفاوت ًا بني �إح�سا�س الفرد بهذا‬ ‫تبعث على الفرقة وال�شحناء‪ ،‬وتدمر �أوا�صر الفهم امل�شرتك‪.‬‬
‫الأثر يف البلدان املتطورة �صناعي ًا‪ ،‬التي تعي�ش يف �إطار عالقات‬ ‫هذا التناق�ض احلاد لفورة املعلوماتية هو ما �سعت الكاتبة �إىل‬
‫اجتماعية و�إنتاجية حمددة‪ ،‬والإح�سا�س به يف البلدان الأخرى‬ ‫تبيانه من خالل ن�صو�ص هذه الدائرة‪ ،‬التي تنتهي ب�صرخة‬
‫التي ما تزال وتريات تطورها التقني والعلمي يف طور التابع‬ ‫ا�ستغاثة‪�« :‬أنا تعب لأنهم �أخذوا مني كل جرائدي‪ ،‬ومل يرتكوا‬
‫الذي يعتا�ش على موائد الغرب ال�صناعي‪.‬‬ ‫يل �سوى َثقْب وحيد هنا‪ ،‬حيث �أنظر منه ال �أرى �سواي‪ .‬مل �أعد‬
‫‪‬‬
‫‪137‬‬

‫و�أخري ًا ال بد من طرح الت�سا�ؤل التايل‪ :‬هل قر�أت امل�ؤلفة‬ ‫تتجلى يف هذه الدائرة مالمح االغرتاب وفقدان ال�شخ�صية‬
‫�أعمال كولن ويل�سون‪ ،‬ال�سيما كتابه «حجر الفال�سفة»‪،‬‬ ‫و�ضياعها �أظهر ما يكون‪ ،‬ففي الن�ص املو�سوم «طقو�س �أفعى»‪،‬‬
‫وا�ستنطقت بع�ض ت�أمالته وت�صوراته؟!‬ ‫يبلغ االغرتاب حد تدمري ال�شخ�صية‪ ،‬ولي�س االقت�صار على‬
‫ازدواجيتها ح�سب‪ ،‬حيث تتبادل ال�شخ�صية الأدوار مع قرينها‬
‫تت�شكل الدائرة اخلام�سة من عدد من الن�صو�ص النرثية‬
‫ال�سرباين‪ ،‬مما يف�ضي �إىل ا�ستالبها وتخريب حياتها ودفعها‬
‫التي حتمل نكهة ال�شعر وموا�صفاته‪ ،‬للتعبري عن حتوالت الواقع‬
‫�إىل حافة اجلنون‪ .‬وهذا الت�صور الذي طرحته امل�ؤلفة يف‬
‫املجتمعية التي ال ميكن القب�ض عليها‪ ،‬وال تخ�ضع يف نهاية‬
‫املطاف للمعرفة العقلية‪ ،‬ومن ال�صعوبة مبكان ا�ستك�شاف‬ ‫ن�صها م�ستمد �إما من قراءاتها لأدب االغرتاب يف الغرب‪،‬‬
‫عامل الإن�سان وطبيعة �شخ�صيته من خالل الأفعال ودرامية‬ ‫و�إما نتيجة ا�ست�شعارها مبدى ال�ضياع والت�شتت الذي يعي�شه‬
‫الأحداث والوقائع؛ فجاءت هذه الن�صو�ص كتعميمات مطلقة‬ ‫بع�ض املثقفني يف ال�ساحات العربية‪ ،‬الذي يولد لديهم‬
‫جلالء موقف الكاتبة مما يجري يف واقع احلياة اليوم‪.‬‬ ‫ازدواجية ال�شخ�صية‪ ،‬التي ينتج عنها حاالت ذعر مفزعة‬
‫ترتاءى كبدايات للهذيان والتهومي‪ .‬ويف ن�ص «�سوق احل ّمام»‬
‫واملالحظة التي ال بد من ذكرها هنا‪� ،‬أن الكتاب ال يخلو من‬ ‫والن�صو�ص التي تليه ت�ستدرج امل�ؤلفة ما ي�سمى بفر�ضية «ذاكرة‬
‫�أخطاء نحوية ال ينبغي �أن تقع فيها كاتبة متمر�سة يف الكتابة‪،‬‬ ‫الأجداد»‪ ،‬التي ترتكز �إىل نظرية الأ�سا�س اجلزيئي للذاكرة‪،‬‬
‫ال�سيما �أن الكتاب‪ ،‬وعدد كلماته حمدود‪ ،‬هو من من�شورات‬ ‫وهذه الذاكرة لي�ست تخيي ًال حم�ض‪ ،‬و�إمنا هي �إىل جانب ذلك‬
‫�أمانة عمان‪ ،‬وقد حظي مبوافقة جلنة الن�شر فيها‪ ،‬التي مل‬ ‫فر�ضية علمية‪ ،‬تقول ب�أن الذاكرة ت�ستجمع اجلينات احلية التي‬
‫تقم ب�أداء وظيفتها التي لي�ست بدون مقابل‪ .‬فهل بلغ الأمر مبن‬ ‫تت�شكل خالل حياة الفرد ال�شخ�صية‪ ،‬وما ينتقل �إليها جيني ًا‬
‫قر�أ الكتاب وح�صل على مكاف�أة �أن ال ينبه امل�ؤلفة �إىل اخلط�أ‬ ‫عن طريق الأجداد و�آباء الأجداد‪ .‬وبهذا الت�صور تنهي الكاتبة‬
‫ال�شنيع التايل‪« :‬دون �أن يكون هناك قادمني �أو مغادرين»‪ .‬وهذا‬ ‫ن�صها الذي ي�ستعيد فيه ال�سارد ما�ضي �أجداده القدمي يف ملحة‬
‫على �سبيل التمثيل ال احل�صر‪.‬‬ ‫ب�صر‪ ،‬بقولها‪:‬‬

‫�أيقظ املوتى بع�صاه‬

‫الواحد تلو الآخر‬

‫هيا ا�ستفيقوا‪ ،‬قد وهن العظم مني‬

‫قال ذلك‪،‬‬

‫وم�ضى‪...‬‬
‫هذا الن�ص در�س يف تن�شيط الدماغ الإلكرتوين‪ ،‬نعرث فيه‬
‫على تفكك احلبكة‪ ،‬وت�شتت الن�سيج ال�سردي‪ ،‬وتهافت املغزى‪.‬‬
‫‪‬‬
‫‪138‬‬

‫ِ‬
‫التجربة و�شـرارتهـا‬ ‫بريوت‪َ :‬ح َجرُ‬
‫�إليا�س فركوح‬

‫ُ‬
‫بطولة الأخالق‪:‬‬

‫كتاب �أجمد‬‫ثالثون �سن ًة َم َّرت على ِح�صار بريوت‪ ،‬وها ُ‬


‫لي�سج َل‬
‫احل�صا َر من داخله ُي ْن َ�شر‪ِّ ،‬‬ ‫نا�صر*‪� ،‬أحد الذين عا�شوا ِ‬
‫احلقَّة‪ ،‬طازجة‪ ،‬بال تزويق‬ ‫ما جرى كما هي اليوميات بوقائعها َ‬
‫�أو تزوير‪ .‬لي�س ك ّل ما جرى – فهو ال َي ّدعي هذا �أبد ًا‪ ،‬كما ال‬
‫َي ّدعي ُبطول ًة من � ّأي َن ٍوع ُيتباهى بها‪� ،‬أو يبت ُّز بحكاياتها ِ�سواه‪،‬‬
‫يعمل مبوجبها على �إ�ضفاء «�شرع ّي ٍة» ما على م�سلكياته‬ ‫�أو ُ‬
‫ولعل هذا‪ ،‬من وجهة‬ ‫الالحقة‪� ،‬أو ُي َ�س ِّخ ُرها �أدا َة ت�شه ٍري ب�آخرين‪َّ .‬‬
‫َن َظري‪ ،‬ي�ش ّك ُل بطول ًة يف ذاتها‪ .‬بطول ًة �أخالق ّي ًة يف املقام الأ ّول‪.‬‬
‫بطول ًة وموقف ًا يتوازيان مع ُك ّل �أ�شكال «ا�ستنفاد ر�صيد املا�ضي‬
‫وع ْ�صره حتّى َر َمق الإعالم والإعالن الأخريين»‪،‬‬ ‫باجرتاره َ‬
‫طوالت و�أو�سم ٍة وتيجان‬ ‫وا�ستثماره من جديد يف دور ِة َت َك ُّ�س ِب ُب ٍ‬
‫�شك وريبة‪ .‬بطول ًة وموقف ًا يتوازيان ويناق�ضان‬ ‫باتت مو�ضع ٍّ‬
‫ك َّل ما �سبق‪ ،‬بل وينق�ضه �أي�ض ًا‪ .‬ففي غري �سياقٍ �ألمْ َ َح �أحيان ًا‪،‬‬
‫نقي�ض البطولة ‪-‬؛‬ ‫اخلوف – �إذا ما كان َ‬ ‫َ‬ ‫و�ص َّر َح �أحيان ًا‪ ،‬ب�أنَّ‬
‫َ‬
‫ف�إنّ اجلمي َع لي�سوا �أبطا ًال بهذا املعنى‪.‬‬

‫روائي وقا�ص �أردين‪.‬‬


‫‪‬‬
‫‪139‬‬

‫(من لديه َف ْل َي ُق ْل)! غري �أنّ «�أفعال البطولة»‪ ،‬مثلما‬ ‫� ْأط َمئنُّ �إليه َ‬ ‫«كثري من املثقفني يخ�شون �أن تظه َر عليهم �آثا ُر اخلوف‬
‫«ذوات‬
‫ٍ‬ ‫تُروى يف احلكايات من خارجها‪� ،‬إمنا هي �صادر ٌة عن‬ ‫والتوتر‪ ،‬يبدو الأمر معيب ًا‪ ،‬مع �أن اخلوف �شعو ٌر �إن�سا ٌّ‬
‫ين‬
‫متلك قلوب ًا من فوالذ‪ .‬ولكن‪ ،‬يبقى‬ ‫تخاف» لأنها‪ ،‬بب�ساطة‪ ،‬ال ُ‬ ‫طبيعي‪� ».‬ص‪ .76‬ومع ذلك‪ ،‬ث ّمة اال�ستثناء‪ ،‬لكنه الذي َي ِر ُد‬
‫هناك ِمعيا ٌر �أراه الزم ًا‪ ،‬مهما كانت الظروف ب�شعة يف ق�سوتها؛‬ ‫«عجيب ًا» لي�ؤكدَ القاعدة‪:‬‬
‫�أ ْال وهو الرجو ُع �إىل مبد�أ الأخالق املتم ِّثل يف «ال�صدق» نقي�ض ًا‬ ‫«الكالم يتكاثر‪ ،‬على ِّ‬
‫كل حال‪ ،‬عن اخلوف الذي �أ�صاب‬
‫�أو ًال و�أخري ًا لـ»الكذب» و»التدلي�س» – ِح ْر َف ُة الذين يريدون َج ْم َع‬
‫مثقفني فل�سطينيني ولبنانيني وعرب ًا هذه الأيام‪ .‬هناك َمن‬
‫وحوريات الآخرة!‬
‫ِ‬ ‫وخ ْم ِر‬ ‫أموال الدنيا و�أجما ِدها‪ ،‬و َلبنَ ِ َ‬
‫وع َ�س ِل َ‬ ‫� ِ‬
‫يظهر بعد توقف الق�صف ليحاول �أن ُيبعد الكالم عنه‪ .‬هناك‬
‫ي�ستقيم هذا مع ذاك دون خ�سارة �أحدهما؟‬ ‫ُ‬ ‫فهل‬
‫َمن اختفى ومل يظهر حتّى الآن‪ .‬ولكنَّ اخلوف حقيقي‪َ .‬من ال‬
‫�أجمد نا�صر مل َي ُخ�ض هذا امل�ضمار‪ ،‬ومل َي ْ�س َع للفوز يف‬ ‫يخاف؟ رمباغالب هل�سا‪� .‬إنه رج ٌل بال �أع�صاب‪ .‬بارد �إىل ح ّد‬
‫ال�صدق جوهر ًا‬
‫ُ‬ ‫ال�سباق؛ ولهذا كان رابح ًا لنف�سه‪�ِ ،‬شعا ُره‬
‫هذا ِّ‬ ‫توتر عليه حتّى‬ ‫الإزعاج‪ .‬لع ّله الوحيد الذي مل �أ َر عالم َة ٍ‬
‫خوف �أو ٍ‬
‫أخالق وجوهر ًة لكتابه‪.‬‬
‫لل ِ‬ ‫يف �أ�سو�أ حلظات الق�صف‪� ».‬ص‪َ .45‬‬
‫و»قال غ�سان (زقطان) �إنّ‬
‫غالب �شخ�ص عجيب‪� ».‬ص‪ .59‬جا َء هذا �إثر حكاية عدم تراجع‬
‫التجربة؟ َف ْل َي ُكن!‬
‫ِ‬ ‫�إىل‬
‫غالب هل�سا عن البقاء رغم اخلطر‪ ،‬تلبي ًة لدعوة موقع مقاتل‬
‫قبل ثالث َني �سنة حا�ص َر �شارون بريوت مدجج ًا بكامل �آلته‬ ‫َ‬ ‫يف اخلطوط الأمام ّية له «لأكلة ملوخ ّية»!‬
‫احلرب ّية‪ ،‬فكانت �أ ّول عا�صمة عرب ّية تتعر�ض لقب�ضة االفرتا�س‬
‫�أكرث من و�صف حلالة اخلوف ت َِرد يف اليوميات‪ ،‬فمث ًال‪:‬‬
‫عربي عميم!‬‫موت ٍّ‬ ‫ال�صهيوين و�شرا�سة نريان جحيمه‪ ،‬و�سط ٍ‬
‫«مكثتُ فرتة من الوقت عند غ�سان لألتقط �أنفا�سي وال�سيطرة‬
‫حو�ص َرت بريوت‪ ،‬فا�ستحالت �صغري ًة بحجم راحة اليد‪ .‬بذلك‪،‬‬
‫على �أعماقي التي تنتف�ض‪� ».‬ص‪ ،39‬و»لكنّ الوعي بدورنا ال يعني‬
‫و�سعي ًا مني لقراءة راحة تلك اليد التي َب َ�س َطها �أجمد نا�صر‬
‫تنق�ض الطائرات على ر�ؤو�سنا‪.‬‬ ‫ُّ‬ ‫القلب ال يرجتف عندما‬
‫َ‬ ‫�أنّ‬
‫عرب كتابة يومياته فيها‪ ،‬بخطوطها املتوازية واملتقاطعة‪ ،‬كان �أن‬
‫وت�شرئب الغريزة‪� ».‬ص‪.40‬‬
‫ُّ‬ ‫الوعي‪ ،‬حلظتها‪ ،‬يفق ُد وعيه‬
‫�شرعتُ بقراءته هو‪ :‬الفتى الذي عرفته وقتذاك با�سم «يحيى‬
‫النمريي»‪ ،‬و�أجمد نا�صر احلا�ضر الآن – �شخ�ص ًا‪ ،‬وكتاب ًة‪:‬‬ ‫إعمال التفكري بجوهر «البطولة» ومعناها‬ ‫ما �أريدُه‪ ،‬هنا‪ ،‬هو � ُ‬
‫«جفاف» بلده املو�صوف من‬ ‫الفتى ال�شاعر ال َت َّواق املنفلت من َ‬ ‫الأعمق‪� .‬أهي التح ّلي بال�شجاعة الفائقة‪ ،‬باجلر�أة الكا�سحة‪،‬‬
‫ِق َبل مواطنه غالب هل�سا «‪� ..‬إنّ الأردن مكان طارد للإبداع!»‬ ‫ان�سجام الذات الإن�سان ّية مع �شروط‬ ‫ُ‬ ‫باقتحام املوت؟ �أم هي‬
‫�ص‪ ،45‬فكان عليه‪ ،‬واحلال هذا‪� ،‬أن يذهب �إىل «هناك»‪:‬‬ ‫تكوينها الأ�سا�س ّية‪ ،‬و�إيقاظ كامل ِقواها الروح ّية واجل�سد ّية‬
‫أحالم العرب ّية على اختالف َ�صباباتها‪:‬‬ ‫بريوت‪ ،‬مدين ُة ال ِ‬ ‫من �أجل الدفاع عن كينونتها‪ ،‬دون التخ ّلي عن �شرط احرتام‬
‫الثقاف ُة واحتدام ِنقا�شاتها �إىل جوار ال�سالح وقعقعاته‪ ،‬مقاهي‬ ‫هذه الذات لذاتها �أ ّو ًال‪ ،‬وذلك بحفط «كرامتها»؟ وكيف ي�صري‬
‫يتداخل يف �ألياف‬ ‫ُ‬ ‫الأر�صفة ومع�سكرات الفدائيني‪ِّ ،‬‬
‫ال�شع ُر‬ ‫لهذين ال ُبعدَ ين �أن يتجليا يف امل�سلكيات وردود الأفعال؟ هل‬
‫ب�سبائك‬
‫ِ‬ ‫الأفكار وتالفيف الأيديولوجيات‪ ،‬الذاتُ تن�صه ُر‬ ‫ث ّمة «قواعد» و»�أُ�صول» ِ‬
‫و»�ص َيغ» قا ّرة ُمتف ٌق عليها‪� ،‬أم �أنّ امل�س�ألة‬
‫التناق�ضات اجلماع ّية لتتخ ّلقَ كينون ًة �أُخرى‪ ،‬كامريا ال�سينما‬ ‫جواب حا�سم‬‫لدي � ّأي ٍ‬ ‫برمتها مفتوح ٌة على احتماالت �شتّى؟ لي�س ّ‬
‫‪‬‬
‫‪140‬‬

‫«لي�س وعيي باملكان كافي ًا ليوجد‪ ،‬ولي�س وجودي فيه كافي ًا‬ ‫املقاتلة فوق الكتف متام ًا مثلما هو الآر بي جيه‪ ،‬ا ُ‬
‫حلر َّي ُة رِئ ٌة‬
‫لأكون‪ .‬ك�أنني جم ّرد طيف يجل�س على طاولة يف �شم�س ال�صباح‬ ‫خرج الفتى باحث ًا‬ ‫بو�سع الأبي�ض املتو�سط و�أكرث‪� .‬إىل «هناك» َ‬
‫يحاول �أن يتلم�س �أطرا َفه الأثري ّية‪ .‬ال طعم القهوة ير ّدين �إىل‬ ‫وت ي�ست�شع ُر وجودَه يف داخله‪ ،‬لك ّنه مل يكن قادر ًا على‬ ‫عن َ�ص ٍ‬
‫ما ُكنته وال ديكورات املقهى وال وجوه ر ّواده وال املا ّرة وال‬ ‫التنب�ؤ مباهيته‪َ � .‬إذن؛ فلت َكنْ التجرب ُة هي ال ِّرهان‪ ،‬وعلى َح َجرها‬
‫يدي املب�سوطتني يف حياد‬ ‫ال�شم�س الطفيفة التي ت�سقط على َّ‬ ‫تنقدح ال�شرارة‪.‬‬
‫ُ‬
‫على الطاولة‪ ..‬تُق ِّر ُب الذكرى من الواقع‪� .‬إنني ما �أزال‪ ،‬على ما‬
‫وربح الفتى الرهانَ ‪ ،‬و�إين �أراهنُ بدوري على هذا م�ستند ًا‬ ‫َ‬
‫ن�ص املكان‪ ،‬يف تخ ّيله‪ ،‬يف ذكراه‪ ،‬ال يف املكان نف�سه‪».‬‬‫يبدو‪ ،‬يف ّ‬
‫�ص ‪.197-196‬‬ ‫�إىل كيف ّية قراءتي ل�شخ�صه ولكتابته يف �آن‪ .‬فقراءة �أجمد‬
‫نا�صر‪�ِ ،‬شعر ًا ونرث ًا و�سرد ًا ُح ّر ًا ورواي ًة‪ ،‬تقودين لأن �أ�شهدَ على‬
‫واقع ركيك‬
‫والتما�سك يف ٍ‬
‫ُ‬ ‫«‪ ..‬فال معنى وال موقع للف�صاح ِة‬ ‫�صوب اجرتاحه‬ ‫قالقل �أ�سا�س ّية حالت دون �أن يرتقي َ‬ ‫َ‬ ‫�أنْ ال‬
‫مف ّكك‪� ».‬ص‪.219‬‬ ‫اخلا�ص‪ .‬وئيد ًة كانت ُخطاه‪ ،‬لكنها ت ََ�س َّل َحت مبراكم ٍة‬‫ّ‬ ‫ِل َن ِّ�صه‬
‫ديوان‬
‫غاد َر ال�شاعر املارك�سي يحيى النمريي ع ّمانَ ‪ ،‬بال ٍ‬ ‫وج َ�سار ٍة يف َخ ْلع‬
‫وا�ستدراكات واعية للمكتوب‪َ ،‬‬
‫ٍ‬ ‫ثقاف ّية د�ؤوبة‪،‬‬
‫�أ ّول‪� ،‬إىل بريوت‪� ،‬إىل �ساحات التجربة‪ ،‬مبتدئ ًا رحل َة التح ُّول‬ ‫التَّكلُّف عن اللغة‪ ،‬وتنظيف ال�صور ِة من الزخرفة اخلادعة‪،‬‬
‫فيه با�ستبدال ا�سمه‪ ،‬خمتار ًا لهويته التي �شر َع بخلقها عنوان ًا‬ ‫ونبذ املبالغة يف ر�سم امل�شهد‪ .‬بحجم املُعطى‪ ،‬كما يراه‪ُ ،‬يكتب‬
‫خا�ض التجرب َة لأعماقٍ �أرته‬ ‫هو «�أجمد نا�صر‪ ».‬وهكذا كان‪َ :‬‬ ‫الن�ص ليكون هكذا‪ ..‬ورمبا‪ ،‬لغري املكتفني بالظاهر والبائن‪،‬‬ ‫ُّ‬
‫ال�شاعر املتمدد يف‬
‫ِ‬ ‫َ‬
‫الفارق ب َني‬ ‫ني فيه‪ .‬و�أرته‪� ،‬أي�ض ًا‪،‬‬ ‫ما هو دف ٌ‬ ‫�صبح مدعا ًة للتف ُّكر وتقليب الأوجه‪.‬‬ ‫ل ُي َ‬
‫الروح‪ ،‬والأيديولوجيا املتخندقة يف الر�أ�س‪ .‬بني َنزْ ف الدم‬ ‫ذلك ُكلُّ ُه ميكن �أن ُيقْر�أ يف يوميات ِح�صار بريوت ‪1982‬‬
‫وتناثر الأ�شالء يف ال�شوارع‪ ،‬واندالعات الأخيلة وحرائق الق َلق‬
‫كا�ستهالل تا َب َع ُه �أجمد نا�صر‪ ،‬يف ما بعد‪ ،‬يف توايل كتاباته‪،‬‬‫ٍ‬
‫وجوب لهذا «الفارق» الذي �أ ّدعيه �أنا؟‬ ‫ٌ‬ ‫على الورق‪ .‬فهل ث ّم َة‬
‫ُم ْن ِ�ضج ًا �إ ّيا ُه عرب �سنوات «التجربة»‪ .‬ففي «العودة �إىل الفردو�س‬
‫�شوائب الـ»هنا»‬
‫َ‬ ‫أقرتب من الت�أ ُّكد وال ًا ِ�ص ُل َح ْ�س َم اليقني؛ �إذ �أنّ‬
‫� ُ‬
‫املفقود! �أو‪ :‬ل�ستُ راعي الذكرى وال ُمد ِّبر احلنني»‪ ،‬اجلزء الثالث‬
‫والـ»هناك» تبقى عالق ًة بتالبيب امل�س�ألة و�س�ؤالها‪ .‬ورمبا لهذا‬
‫من الكتاب‪ ،‬املخ�ص�ص للكتابة عن �أ َثر املكان على العائد �إليه‬
‫كان ت�سجيلي النتباهة �أجمد املكتوبة كالتايل‪« :‬لع ّلني مل‬
‫التماعات تجُ ربنا‬
‫ٍ‬ ‫بعد �أربعة ع�شر عام ًا‪ ،‬كثري ًا ما نقع على‬
‫�أف ّكر‪� ،‬آنذاك‪ ،‬ب�أنني �أ�ؤلف بني ح َّدين‪ :‬ح ّد القلق وح ّد اليقني‪.‬‬
‫على التوقف و�إعادة القراءة وا�ستخراج ال�صور ِة من الداللة‬
‫و� اّإل كيف كنتُ مارك�سي ًا مت�صلب ًا ومل ُي�شجني التغ ّني بالثورة‬
‫واملعنى‪ ،‬مبا يعاك�س امل�ألوف القائل با�ستخراج الداللة واملعنى‬
‫والطبقات الكادحة يف الق�صيدة؟» �ص‪.186‬‬
‫ال�شعر للنرث على نح ٍو تباديل)‪.‬‬ ‫من ال�صورة (�إنها خماتل ُة ِّ‬
‫ُ‬
‫واللحظة ا�ستثناء‪:‬‬ ‫�أُ ٌ‬
‫نا�س عاد ّيون‬ ‫و�إين‪ ،‬الندها�شي بقدرة اللغة وتركيبها على َل ْظم َط َر ْيف‬
‫يف تدوينه لأحداث يوم ‪ 27‬متوز‪ ،‬حيث كانت الطائرات‬ ‫ال�صورة ومعناها وداللتها يف �صياغ ٍة ك�أنها �صدى الأعماق‪،‬‬
‫وجتول يف �سماء املدينة قا�صف ًة وحارق ًة‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫ت�صول‬ ‫الإ�سرائيل ّية‬ ‫فل�سوف �أُو ِر ُد اقتبا�سني‪َ /‬ق َب َ�سينْ مما �أرى فيهما ومي�ض ًا َ�شقَّ‬
‫ومُدَ ِّمر ًة ونا�شر ًة املوتَ �أينما كان‪ ،‬كتب �أجمد نا�صر‪« :‬كيف للغة‬ ‫�صفح َة ال�سماء لكنه مل ينطفئ‪:‬‬
‫‪‬‬
‫‪141‬‬

‫َمن يوزع جريدة‪َ ،‬من يبيع خ�ضار ًا‪ ،‬بل َمن بقي يف بيته ومل‬ ‫تكتب املوتَ ال كلمة املوت‪� ،‬أعني املوت نف�سه‪ ،‬بل الرعب الذي‬ ‫�أن َ‬
‫يغادر‪� ».‬ص‪.91‬‬ ‫ي�سبق املوت؟ لغتي قا�صرة‪ .‬لغتي كلمات‪ .‬والكلمات لي�ست حياة‬
‫ولي�ست واقع ًا ولي�ست حقيقة‪� ».‬ص‪ .86‬ولحِ ال ِة اخلروج اجلماعي‬
‫«للن�ساء اللواتي يظهرن يف ال�شرفات ويتح َّركن يف دواخل‬
‫للمقاتلني (الأقرب �إىل ملحم ٍة �إغريق ّية) من بريوت حممولني‬
‫الغرف بثياب النوم رائحة �أُلفة �أفتقدها‪ .‬هنَّ اللواتي يعطني‬
‫و�صف تفاعالت‬ ‫على ال�س ُفن الأمريك ّية‪ ،‬ولليوم الثاين ‪� 22‬آب‪َ ،‬‬
‫للحياة معنى‪ .‬جمرد وجودهن �إ�شارة �إىل �أنّ احلياة ال تزال‬
‫امل�شهد كالتايل‪« :‬يف تاريخنا العربي مل نعرف مثل هذه اللحظة‬
‫متوا�صلة رغم ك ّل �شيء‪� ».‬ص ‪.30‬‬
‫ُ‬
‫االرتباك‬ ‫امللتب�سة‪ :‬ن�ص ٌر وهزمي ٌة وخذال ٌن مع ًا‪� ».‬ص ‪� .127‬إنه‬
‫«كثريون حتدثوا بعد ذلك عن البطولة و�أنا العائ ُد �إىل‬ ‫ي�ضرب‬
‫ُ‬ ‫وا�ش االلتبا�س‬‫و�ش ُ‬‫ال�شال يتج ّلى يف الكلمات العاجزة‪َ ،‬‬ ‫ّ‬
‫م�سرح املوت ال �أتذ ّكر‪ ،‬الآن‪� ،‬سوى اخلوف‪� .‬أتذ ّكر اللحظات التي‬ ‫وغيرَّ َ‬ ‫يوم َ‬
‫احل ْ�شر َ�س َبقَ ميقا َت ُه َ‬ ‫والعقل بال متييز! ك�أنه ُ‬ ‫َ‬ ‫الروح‬
‫َ‬
‫أرج َحت فيها الروح بني القذيفة وال�صاروخ‪ ،‬بني انق�ضا�ضتني‬ ‫ت� َ‬ ‫مكا َنه! ال �أحد‪� ،‬سوى دهاة ال�سيا�سة ودهاقنة �أالعيبها ( ُمريدو‬
‫يل تلك اللحظة التي �أُفر َغ فيها القلب‬
‫للكوا�سر املعدن ّية‪ .‬تعود �إ َّ‬ ‫وجنان الآخرة)‪ ،‬بو�سعه ا�ستيعاب ما جرى‪ُ :‬ك ّل ما‬ ‫�أموال الدنيا ِ‬
‫من اخلفقان عندما اندفع �إلينا يف قبو «املجل�س الثوري حلركة‬ ‫جرى واختالق مربراته؛ و� اّإل ف�إنَ ال ُك ْف َر َحال ٌل جلميع النا�س‬
‫فتح» ُغبار بناية �أبو �إياد املجاورة‪ .‬رغم مارك�سيتي وجدتني‬ ‫ين النبيل‪� ،‬سوى‬ ‫العاديني الذين مل يجنوا‪ ،‬ب�صمودهم الإن�سا ّ‬
‫الرب وديعته ع َّما قليل‪� ».‬ص‪.214‬‬
‫أخذ ُّ‬‫�أنطقُ بال�شهادتني! �سي� ُ‬ ‫تلك اخلامتة‪« .‬ث ّمة �شعو ٌر يجو�س يف �أعماقنا �أنّ حيا ًة ب�أكملها‬
‫تاب بني �أيدينا‬ ‫الكاتب مل يحن ميقاتُ َق ْطفه بعد‪ِ ،‬‬
‫والك ُ‬ ‫َ‬ ‫لكنَّ‬ ‫نا�س‪ ،‬مهما حت َّلوا باملعرفة والثقافة‬ ‫تنتهي الآن‪� ».‬ص ‪� .110‬أُ ٌ‬
‫ْ�ض غبا ِر ذاكرتنا‪� .‬أو لرتميمها وت�صويب بو�صلتها‪.‬‬‫يدف ُعنا ِل َنف ِ‬ ‫وال�شعر‪� ،‬أو حت�صنوا بالفكر والأيديولوجيات‪ � ،‬اّإل �أنهم‪ ،‬يف‬ ‫ِّ‬
‫�أو لت�أ�سي�سها من جديد‪ِ ،‬ب َو ْع ٍي جديد‪.‬‬ ‫جوهرهم‪ ،‬عالقون (ونحن معهم) بحروف ال�س�ؤال‪ :‬ملاذا هذا‬
‫املوتُ ‪ ،‬كانَ ومل يزل ويبقى ما بقيت ُد َو ٌل ال نتفي�أ ِظلاّ ً لها لأنها‪،‬‬
‫خرج بريوتَ من ح�صارنا نحن لها‪ .‬هكذا نعو ُد �إليها‬ ‫هكذا ُن ُ‬ ‫تفوق احلقيق َة‪،‬‬ ‫الكذ َب َة فيها ُ‬ ‫مهما كانت �شعاراتها َب َّراق ًة‪ ،‬ف�إنَّ ِ‬
‫وادع َني بغري ُ�س ُف ٍن تظ ُّل �أمريك ّي ًة �أمريك ّي ًة و�إنْ رفرفت فوقها‬ ‫فالكذب ُة‪،‬‬
‫�أو حقيقتها الكاذبة باتت تتع ّرى ‪ -‬وهذا َق ْو ٌل �صحيح‪ِ .‬‬
‫�سيوف لي�ست م�سلول ًة ولي�ست باتر ًة �أبد ًا‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫راياتٌ ُخ ْ�ضر‪ ،‬تُز ّينها‬ ‫كما نعرف‪ ،‬ال ِظ َّل لها‪.‬‬
‫البطول ُة‪ ،‬يف ح�صار بريوت‪ ،‬رمز ّي ٌة بك ّل معاين الكلمات‬
‫ودالالتها‪ ،‬ال بالكلمات نف�سها‪.‬‬
‫* بريوت �صغرية بحجم راحة اليد‪ :‬يوميات من ح�صار عام ‪ ،1982‬الأهلية للن�شر‬
‫والتوزيع‪ ،‬ع ّمان‪.2013 ،‬‬ ‫نا�س عا ّديني عا�شوا‬ ‫و�أبطالها �أبطا ٌل‪ ،‬لأنهم ما كانوا �سوى �أُ ٍ‬
‫حلظ ًة ا�ستثنائ ّي ًة وما َخ ِر َبت �أرواحهم ‪ -‬و�إنْ َعفَّرتها الريح‪ � ..‬اّإل‬
‫َمن ارت�ضى لنف�سه �أن يكونَ كاذب ًا‪.‬‬
‫«النا�س املغمورون هم �أبطال احلروب‪ ،‬وهذه احلرب‬
‫ي�شارك فيها اجلميع‪َ .‬من يقاتل‪َ ،‬من يكتب‪َ ،‬من يفتح ُفرن ًا‪،‬‬
‫‪‬‬
‫‪142‬‬

‫القا�صة ب�سمة النمري والدوران يف �شـرنقة الذات‬


‫�سمري �أحمد ال�شريف‬

‫مل تعد الق�صة كما العهد بها‪ ،‬تغريت خ�صائ�صها وطرائقها‬


‫و�أ�شكالها‪ ،‬وت�شظت �إىل �أمناط و�أنواع جديدة‪ ،‬فاخرتقت حدود‬
‫الأجنا�س الأدبية‪ ،‬وغلب فن التجريب عليها لدرجة �أحدثت‬
‫حتوالت يف كتابتها‪.‬‬
‫�شاعت الق�صة الق�صرية جد ًا ب�صفتها ذلك الفن‬
‫امل�ستحدث الذي ما يزال على طاولة النحت والتقعيد وو�ضع‬
‫لبنات التنظري له‪ ،‬لت�أ�سي�س نوع �سردي جديد‪ ،‬لت�صبح ال�شكل‬
‫الأكرث منا�سبة للحياة ال�سريعة‪ ،‬ملا تتطلبه من �إيجاز واخت�صار‬
‫وقدرة على اختزال العامل وتكثيف الفهم‪.‬‬
‫تبدو الق�صة الق�صرية جد ًا للوهلة الأوىل �سهلة ط ّيعة‪،‬‬
‫لكنها من ذلك الأدب الذي يو�سم بـ «ال�سهل املمتنع»‪ ،‬الذي‬
‫يحتاج ملهارات فنية خا�صة‪ ،‬على م�ستوى ال�شكل والبناء‬
‫وال�سبك اللغوي والتكثيف‪.‬‬
‫مما متتاز به الق�صة الق�صرية جد ًا �إ�شباع املعنى �إيحاء‬
‫وتلميح ًا‪ ،‬ب�شرط �أن يكون ف�ضا�ؤها مفتوح ًا على تعددية الت�أويل‪،‬‬
‫بالدالالت‪ ،‬ومن خاللها ينظر املبدع للعامل عرب منظور جزئي‪،‬‬ ‫مبهر ًا وم�صبوغ ًا بالتجربة اخلا�صة‪ ،‬ال�سارد لها ينظر للخارج‬
‫فراغات ميل�ؤها‪.‬‬
‫ْ‬ ‫تارك ًا لوعي املتلقي‬ ‫من �أغوار �شعوره النف�سي لكي ينجح بتقدمي مقطع حم ّمل‬

‫كاتب �أردين‪.‬‬
‫‪‬‬
‫‪143‬‬

‫كنوز التذوق ومتعة الفكرالذي ي�ضيء عتمات الت�أويل وتقليب‬ ‫الق�صة الق�صرية جد ًا‪ ،‬ذلك الفن ال�صعب الذي يحتاج‬
‫وجوه املعاين‪.‬‬ ‫لكفاءة عالية من اقتنا�ص اللحظات العابرة‪ ..‬هي فن الت�أمل‬
‫والدالالت املُ�شعة‪.‬‬
‫النهايات املفتوحة وت�شفريالن�صو�ص وحذف الكثري من‬
‫تفا�صيلها‪ ،‬مي�سم ا�شرتكت فيه النماذج التي تركت لعقل‬ ‫«من مل يقف على �إ�شارتنا مل تغنه عبارتنا»‪ ،‬مقولة ميكن‬
‫املتلقي وذوقه �أن يكمل ما ميليه عليه وعيه‪.‬‬ ‫اعتمادها مفتاح ًا لدخول ف�ضاءات ن�صو�ص املبدعة «ب�سمة‬
‫النمري»‪.‬‬
‫يحملنا ما ذكرنا على لذة ت�سوقها ده�شة التعاطي مع‬
‫من مل ُ يتح له االطالع على جتربة القا�صة والفنانة‬
‫الن�صو�ص التي ُ حتيلك لف�ضاءات غريبة‪ ،‬تالم�س حدود‬
‫الت�شكيلية يكفيه كتابها الأخري الذي يلخ�ص ر�ؤاها ويرتجم‬
‫الالمعقول‪ ،‬فتحملنا على حمفات ال�سرد وال�شعر‪ ،‬وتقف‬
‫جتربتها‪.‬‬
‫بنا �أمام حوار وجداين مع مفردات الكون‪ ،‬موظفة احلرف‬
‫وال�صورة يف لوحات ت�شكيلية �آ�سرة ملعامل املاورائيات‪ ،‬بدفق‬ ‫«وما ال يرى» ق�ص�ص الكاتبة الأخرية‪ ،‬حتتاج لوقفة‬
‫�صو ّيف رقراق يرتك �آثاره على �أرواحنا‪.‬‬ ‫ومراجعة‪ ،‬ذلك �أن الن�صو�ص التي تر�سم بالكلمات‪ ،‬وت�شتبك‬
‫حروفها ب�ألوان الت�شكيل‪ ،‬ال متنح ثمارها لقراءة يتيمة بل مبتعة‬
‫الأ�ضمامة التي حتتويها جمموعة «ما ال يرى» لي�ست حمط‬ ‫الإغرتاف من معني الإبداع الذي انعجن ال�سرد فيه بالت�شكيل‬
‫فن ق�ص�صي‪ ،‬بل جديلة فنون‪� ،‬إنها رحلة الك�شف ب�آلة غري‬ ‫وال�شعر والفل�سفة واحللم والفنتازيا‪.‬‬
‫ب�صرية‪ ،‬ووم�ض الروح يف عامل �آخاذ �ساحر‪ ،‬تكتب بها ال�ساردة‬
‫هذه املتتاليات الق�ص�صية التي ت�أخذنا لرحيق اللذة كلما‬
‫ت�ضاري�س روحها فتتوحد مع الأ�شياء ب�صوفية يختلط فيها‬
‫عاودنا ت�شربها‪ ،‬وتختلط بذائقتنا تالوين متعة الب�صر وال�سمع‬
‫احللم‪ ،‬فتطل على �شرفة �أمل يبعث روحه من بعيد‪.‬‬ ‫واملو�سيقى‪ ،‬تقودنا لف�ضاءات �أ�سئلة وجودية بوقوفها على تخوم‬
‫هذا احلفر اللغوي‪ ،‬وتلك الرموز امل�شبعة بالإيحاء‪ ،‬وذلك‬ ‫احلب واملوت والفناء «حتى احلب يق ّرب من املوت»‪« ..‬متيل‬
‫الت�أنق يف توظيف العبارة‪ :‬هل تكون و�سيلة للبحث عن مفهوم‬ ‫واحلي �أي�ض ًا‬
‫ّ‬ ‫العمياء نحو العيناء‪ ،‬تهم�س �إليها‪ :‬ال امليت ميوت‪،‬‬
‫للأنوثة‪ ،‬خا�صة‪ ،‬و�أن البطولة يف ن�صو�ص املجموعة جميعها‬ ‫ال ميوت‪ ،‬فمن الذي ميوت �إذا؟‬
‫(�أنثى)‪ ،‬وت�شرتك يف ثيمة مت ّثلت يف �أن�سنة مفردات الكون‪،‬‬ ‫‪ : -‬من؟ تهز العيناء ر�أ�سها حمتارة‪.‬‬
‫حيوانات �أو نبات‪ ،‬كما يف (دمنا‪ /‬ا�شتهاء‪ /‬وقت ‪/‬م�سار‪/‬‬
‫‪� :-‬أي�صاب الأعمى بالعمى؟ ال‪ ،‬وكذا الذي حق ًا يرى‪� ،‬ألي�س‬
‫يقني‪� /‬س ّلم‪/‬عون) على �سبيل التدليل‪ ،‬وبدا تبادل الأدوار بني‬
‫كذلك؟‬
‫�أ�شخا�ص الن�صو�ص كما يف ن�صها (ا�شتهاء)‪.‬‬
‫‪ :-‬نعم‪ ...‬نعم‪ ،‬ترد العيناء وت�سلم يدها �إىل العمياء لتعرب‬
‫خمالفة ال�سائد واخلروج على قوانينه بحث ًا عن حرية‬ ‫بها الطريق‪.‬‬
‫مفقودة �أو خروج ًا من دائرة البوح جندها ماثلة يف (ما ال يرى‬
‫‪ /‬منلة‪ /‬جندة ‪/‬عالقة‪ /‬قيد)‪ ...‬يتعاىل ن�شيجي يف ف�ضاء‬ ‫ي�شدك التكثيف يف ن�ص�ص «النمري» وي�ستوقفك الإيحاء‬
‫الطرق املوح�شة اجلرداء‪� ..‬أرك�ض‪� ..‬أتوقف‪ ،‬التقط �أنفا�سي‪،‬‬ ‫واالنزياح واال�ستدراك‪ ،‬ليمنحك فر�صة الإمعان واحلفر عن‬
‫‪‬‬
‫‪144‬‬

‫احلديقة التي ال يرتادها �أحد‪ ،‬يجل�سني الأرنب‪� ...‬أتراها خطة‬ ‫�أ�س�أل نف�سي‪� :‬إىل �أين؟‪ ...‬لو ت�ستطيع مرة �أن تطلق الفرا�شة‬
‫احلياة الذكية �أم حم�ض تخبط �أحمق يفوق تلك البالهة ؟‪..‬‬ ‫احلبي�سة داخلها‪...‬‬
‫يزورنا املوت بال دعوة‪ ،‬يت�صدر جمل�سنا دون ترحيب‪� ..‬أراها‬
‫ويتجلى التوحد والت�صوف يف ن�ص «نحن مرة»‪ ...‬ن�سيج‬
‫ت�ستحق كل ذلك؟ نعم احلياة‪ ،‬هل ت�ستحق كل هذا ال�شقاء‬
‫ق�ص�صي حتكيني‪� ،‬أبحث عمن وراء كل ذلك‪ ...‬ليتبدى يل �أنا‬
‫واجلهد والقلق؟‬
‫�أخرى وال غريي يف كل هذا الكون‪ »...‬عند ر�أ�س املفرق �أتوقف‬
‫ليظل ال�س�ؤال معلق ًا مفتوح ًا على �إجابات تختلف باختالف‬ ‫حائرة‪� ...‬أت�شظى‪ »...‬هل هو ال�ضياع لفقدان التوا�صل؟‪..‬‬
‫عمق ووعي القارئني‪.‬‬ ‫«�أتقلب يف فرا�شي لي ًال‪ /‬حممومة �أهذي‪ ،‬تنتاب �أحالمي‬
‫كوابي�س مرعبة‪� ...‬أ�صحو فزعة �أتلفت �إىل ما حويل ف�أراين‬
‫ميكن للقارىء احل�صيف ملجمل ن�صو�ص جمموعة «ب�سمة‬
‫حبي�سة �صندوقك البلوري‪« ...‬لهذا جتد �ضالتها يف الت�صوف‪»..‬‬
‫النمري» �أن يقف على متحور �شخ�صيتها‪ /‬بطلتها الرئي�سة حول‬
‫وحدي وال �أ�شعر بالوحدة‪ ،‬والوحدة نق�صان فال نق�صان �إذا �أو‬
‫هم عام يجري يف املحيط والعامل‪ ،‬لدرجة‬
‫الذات‪ ،‬دون �أن ي�شغلها ّ‬
‫اكتمال‪ ،»..‬وليحدث التنا�ص مع عوامل املعري‪ :‬بذور القهوة‬
‫ميكن الت�أ�شري معها �أن بطلة الن�صو�ص متيل لالنطوائية وتقلب‬
‫من الأر�ض‪ ،‬ما�ؤها من الأر�ض‪� ،‬س ّكرها من الأر�ض‪ ،‬زجاج‬
‫املزاج واالنفعال‪ ،‬والنزوع الوا�ضح للحزن والعي�ش يف حياة‬
‫فناجينها من الأر�ض‪ ،‬ن�شربها‪ ،‬نحن الذين من الأر�ض‪ ،‬نقلب‬
‫�أقرب لأحالم اليقظة‪ ،‬والركون لل�صمت واالنعزال‪ ،‬لتنتهي �إىل‬
‫الفنجان فتكتب اجلاذبية يف بطن الأر�ض خطوطنا و�أقر�أ فيها‬
‫الغربة واالن�سحاب عن الذات واملجتمع واملحيط ح�سبما يرى‬
‫ماذا �ستفعل بنا الأر�ض بعد‪.»...‬‬
‫عامل النف�س (يونغ) يف تعريفه لل�شخ�صية االنطوائية‪ ،‬لي�صل‬
‫بنا �إىل ما يفيد بعدم ت�صالح البطلة مع ما يحيط بها‪.‬‬ ‫هل لذلك عالئق بارتباط ال�ساردة بحلم الطفولة وحلم‬
‫العودة لها ؟‪ »..‬وحيدة‪ ،‬وحيدة متام ًا‪ ،‬والوحدة غواية‪ ،‬لأفعل‬
‫�إذا ما �أريد‪ ،‬فال رقيب وال خوف هناك من العواقب‪ ،‬ماذا‬
‫�أريد؟‬
‫�أريد طفلة و�أراين �أ�ستيقظ مبكرة قبل طلوع ال�شم�س‪،‬‬
‫كي �أزرع قطعة الأر�ض ال�صغرية التي اتخذتها حديقة �أمام‬
‫منزلنا‪ ...‬لأزرع الآن و�أ�سرت ّد بذلك بع�ض ًا من ذاك الفرح‬
‫الطفويل املعتق املفقود‪ ..‬تعلو الأرجوحة‪ ،‬يطري من الفرحة‬
‫قلبها‪ ،‬وحني تهتم ب�أن ترتد يعاندها قلبها ويبقى عالق ًا هناك‬
‫وتهبط وحيدة‪.‬‬
‫�إنه الفقد و�ضياع حميمية التوا�صل‪ ،‬لهذا جتد ال�ساردة‬
‫�ضالتها يف االلت�صاق ب�أ�شيائها ال�صغرية‪ ،‬هاربة �إىل الفنتازيا‬
‫واحللم والإكثار من ذكر املوت وطرح الأ�سئلة الفل�سفية‪ »...‬يف‬
‫‪‬‬
‫‪145‬‬

‫قيم الأدواء يف «ذات م�ساء»‬


‫علي دروي�ش‬
‫د‪� .‬شوكت ّ‬

‫�صدر عن وزارة ال ّثقافة يف اململكة الأردن ّية الها�شم ّية‪ ،‬ويف‬


‫م�شروع مكتبة الأ�سرة «القراءة للجميع للعام ‪ ،2011‬جمموعة‬
‫و�سي‪� :‬أركادي �أفري‬
‫ق�ص�صة حتت عنوان‪« :‬ذات م�ساء»(‪ )1‬لل ّر ّ‬
‫ّعبي‪.‬‬
‫ت�شينكو‪ ،‬ترجمها عن ال ّرو�س ّية‪ :‬د‪ .‬با�سم �إبراهيم الز ّ‬
‫وو�صفها بق�ص�ص ق�صرية �ساخرة‪.‬‬
‫ال�ساخر عادة ما يلتقط دا ًء جمتمع ّي ًا ي�س ّلط ّ‬
‫ال�ضوء‬ ‫والأدب ّ‬
‫الكا�شف عليه فيدمغه‪.‬‬
‫ق�صته‪�« :‬سرية ذات ّية‪ :‬ير�سم لنا �صورة جمتمع ّية‬ ‫ففي ّ‬
‫الطفل يف‬‫نعي�شها �إىل يومنا هذا‪ ،‬وهي االنحراف وراء رغبة ّ‬
‫كراهية التّعليم‪ ،‬والتّ�سرب من املدار�س‪ ،‬وترى بع�ض الآباء‬
‫يح ّققون هذه ال َّرغبة ويقولون «�أماله ب�ش ّربه �صنعة» �أي‪ :‬ليتعلم‬
‫�صنعة منذ نعومة �أطفاره‪ ،‬وهذا عائد جلهل الآباء واالمهات‪،‬‬
‫وعدم تع ّلمهم‪ ،‬وباملقابل ميكن �أن جتد يف الأ�سرة نف�سها‬
‫ال�سعي‬
‫الطفل ويح ّببه يف ال ّدرا�سة‪ ،‬كما �أنّ قيمة ّ‬ ‫من ُي َر ِّغب ّ‬
‫رب‬
‫وبخا�صة ِت ٌ‬
‫ّ‬ ‫الطفل قدوة له‪،‬‬ ‫لتحقيق رغبات الأباء باتخاذ ّ‬
‫له «�سرييوجاز يل�سرت» بحيث يقول‪« :‬وطوال الوقت كنت �أربط‬
‫خمز بذيل �سرييوجاز يل�سرت»‪)2(.‬‬ ‫ب�شكل ٍ‬

‫باحث �أردين‪.‬‬
‫‪‬‬
‫‪146‬‬

‫و�أين �سار‪ ،‬و�أين وقف‪ ،‬و�أين جل�س‪ ،‬يعرف �أنّ اجلميع يعرفون‬ ‫وم�شكلة جمتمع ّية �أخرى وهي الإدمان والإرادة‪« ،‬وهكذا‬
‫�أ ّنه ا�ستعار معطف تروباكني‪ ،‬مع �أ ّنه عندما كان يح ّدث‬ ‫مررنا �أمام اكدا�س كاملة من رجال ُ�سكارى حتّى املوت‪ ،‬كانوا‬
‫الآخرين يذكر ويع ّد ما فعله من اخلري لوجه اهلل تعاىل‪ ،‬ف�شعر‬ ‫ميتلكون على يبدو �إرادة �ضعيفة جدًّا‪ ،‬لدرجة �أ ّنهم مل يتم ّكنوا‬
‫«زوفيلوف» �أنّ امل ّنة تكدير وتعيري تنك�سر منه القلوب‪ ،‬وملّا مل‬ ‫من الو�صول �إىل منازلهم‪)3(».‬‬
‫يحتمل «قفز زوفيلوف من مكانه – بني �صحبه الذين ا�ستقبلوه‬ ‫ق�صته‪ّ :‬‬
‫«ال�شاعر» جند قيمة الإحلاح بارزة وا�ضحة عند‬ ‫ويف ّ‬
‫الكر�سي على الأر�ض‪ ،‬وقال‬
‫ّ‬ ‫بحرارة‪ -‬ب�شكل عا�صف م�سقط ًا‬ ‫ّ‬
‫ال�شاعر‪ :‬ملا يف نف�سه من �أنّ ق�صيدته �صاحلة لل ّن�شر‪ ،‬فيطارد‬
‫�صائح ًا‪ :‬توقفوا! ال ميكنني ّ‬
‫ال�صرب �أكرث!! ائتوين بترتي! �ألي�س‬
‫م�س�ؤول التّحرير من مكان �إىل مكان‪� ،‬إىل مكان؛ لي�ض ّيق عليه‬
‫لديكم هنا ترتي؟ وباع املعطف‪.‬‬
‫اخلناق‪ ،‬حتّى ا�ضط ّره لتقدمي ا�ستقالته «من م�س�ؤولية التّحرير‬
‫«ال�صنو» يخلق من ّ‬
‫ال�شبه �أربعني‪ -‬وفيها ما‬ ‫ق�صته‪ّ :‬‬ ‫ويف ّ‬ ‫لل ّنا�شر»‪)4(.‬‬
‫ال�صنو من الآالم‪.‬‬
‫يالقيه من املرح‪ ،‬وما يالقيه ّ‬ ‫ولع ّل فيها قيمة �أخرى‪ ،‬قيمة البحث عن ّ‬
‫ال�شهرة ب�أي‬
‫ق�صته‪« :‬فطنة على خ�شبة امل�سرح» اخلروج من م�أزق‪،‬‬ ‫ويف ّ‬ ‫طريقة‪ ،‬و�أي �أ�سلوب؛ لأنّ فيها حتقي ًقا لل ّذات‪ ،‬وتبقى ّ‬
‫ال�شهرة‬
‫با�ستكمال ال ّدور ابتكار ًا‪ ،‬من نقطة انتهاء ال ّدور املكتوب‪.‬‬ ‫ع�ص ّية على من ال ي�ستح ّقها‪.‬‬
‫ق�صته‪ « :‬غري قابل ّ‬
‫لل�شفاء» يحب�س الإن�سان نف�سه يف‬ ‫ويف ّ‬ ‫ال�شهرة‬‫ذهبي»‪ ،‬تتج ّلي قيمة البحث عن ّ‬ ‫ق�صته‪« :‬قرن ّ‬ ‫ويف ّ‬
‫فكرة ما‪ ،‬ي�صعب اخلال�ص منها‪ ،‬مهما تغريت العنوانات‪.‬‬ ‫ال�سطر الأول فيها» فور و�صويل �إىل بطر �سبورغ جئت‬ ‫من ّ‬
‫وال�سري مع التّيار‬
‫حفي �سرت ميغالفوف‪ ،‬وقلت‬ ‫ال�ص ّ‬ ‫�صديق ًا قدمي ًا‪ ،‬وهو املرا�سل ّ‬
‫ويف ق�صته‪« :‬املنك ّيون»‪ .‬قيمة االنتهاز ّية ّ‬
‫القا�ص‬
‫ّ‬ ‫له‪� :‬أريد �أن �أكون م�شهور ًا‪ ،‬يا�سرتميغالفوف!» ويبينّ‬
‫ربرات ولو كانت غري مقنعة‪ ،‬ومن املمكن مل�سايرة ما هو‬ ‫مب ّ‬
‫ل�ست �شاعر ًا‪،‬‬
‫�أنّ هذا الأمر ممكن‪ ،‬حتّى لو كنت ال �شيء‪َ ،‬‬
‫�سائد ومنت�شر �أن تكتب عن معر�ض ر�سم دون �أن تراه خوف ًا من‬
‫احل�س‬
‫ّ‬ ‫ر�سام ًا‪ ،‬وال مو�سيق ًّيا‪ ،‬وال‪� ،..‬إذا ملكت‬
‫قا�صا‪ ،‬وال ّ‬
‫وال ًّ‬
‫�أن تو�صف باملحافظة �أو املتخلف‪.‬‬
‫ال�صحيح لتقدمي ال ّدعاية بقلم من يتقنها‪ ،‬ويعلم يقين ًا كيف‬ ‫ّ‬
‫ق�صته‪« :‬بيتوخوف» قيمة اخليانة واال�سقاط‪ :‬وي�صدق‬ ‫ويف ّ‬ ‫ي�س ّربها �إىل اجلماهري وعلى جرعات‪ ،‬ل ُيقال لك‪« :‬لقد ح ّيوك‬
‫عبي‪« :‬يا‪ ...‬يا ُز َط َية‪ ،‬ال ّلي فيكي ُحطي ّيف» زوج‬ ‫عليها املثل ّ‬
‫ال�ش ّ‬ ‫وكمن�شد لأحزاننا وفقرنا‪ ،‬و�أقول‬
‫ٍ‬ ‫كحامل ملُثل جيل ّ‬
‫ال�شباب‪،‬‬
‫يخون زوجته م�سقط ًا ك ّل ت�صرفاته عليها‪.‬‬ ‫�أنا لك كلمتني‪ ،‬لك ّنهما تخرجان من �أعماق �أرواحنا‪ :‬حت ّية يا‬
‫ّل�ص�ص‬ ‫كاند يبني!! «�أجبت بتح ّية فيها مت ّلق‪� :‬أح ّييك‪ .‬كيف حالك �أنت؟‬
‫ال�سيد فوبياغني» قيمة الت ّ‬ ‫ق�صته‪« :‬جرميتا ّ‬ ‫ويف ّ‬
‫وراح اجلميع يق ّبلني»‪)5(.‬‬
‫فتيات ثالث‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫والتّحديق بج ّد ّية واهتمام‪� .‬ص ّياد يراقب‬
‫ي�ستحممن يف ال ّنهر‪ ،‬وا�صف ًا �إ ّياهنّ ب� ّ‬
‫أدق التّفا�صيل‪ ،‬و�أجمل‬ ‫ق�صته‪« :‬معطف الفراء» قيمة» امل ّنة»‪.‬‬
‫يف ّ‬
‫عبارات املح ّلل جلزئيات �أج�سادهنّ ‪.‬‬
‫ا�ستعار عازف البيانو «زوفيلوف» معطف فراء ال ّذئب من‬
‫ق�صته‪« :‬عيد الف�صح لدى عائلته كينديكوف» «العي�ش‬
‫ويف ّ‬ ‫املوظف «تروباكني» وكان «زوفيلوف» �أينما ح ّل و�أينما ارحتل‪،‬‬
‫‪‬‬
‫‪147‬‬

‫الهوام�ش‪:‬‬ ‫القا�ص على من يحتقره‬


‫ّ‬ ‫باملالطفة‪ ،‬وال ّر�شوة‪ ،‬والإهانة؛ ويع ّرج‬
‫ال ّنا�س ب�سبب فقره وخيالئه‪« ،‬و�سرعان ما اختفت بقايا �أجواء‬
‫‪ -1‬ذات م�ساء‪� ،‬أركادي �أفريت�شينكو‪ ،‬ترجمة عن ال ّرو�س ّية‪ :‬د‪ .‬با�سم �إبراهيم‬
‫ّعبي؛ وزارة ال ّثقافة؛ اململكة الأردن ّية الها�شم ّية‪ ،‬مكتبة الأ�سرة الأردن ّية‪ ،‬القراءة‬
‫الز ّ‬
‫العيد‪ ،‬وح ّلت مكانها م�شاكل واهتمامات الأيام العاد ّية»‪.)7(.‬‬
‫للجميع‪.2011 ،‬‬
‫ق�صته‪ »:‬قالو�ش دوبل�س املفقود «الك�شف عن اجلرائم‬
‫ويف ّ‬
‫‪ -2‬املرجع نف�سه؛ �ص ‪.15‬‬ ‫عادة ما تكون م�ش ّوقة‪.‬‬
‫‪ -3‬املرجع نف�سه؛ �ص‪.17‬‬
‫ق�صته‪ « :‬ذات م�ساء» قيمة القدوة‪ ،‬و�شغف الأطفال‬‫ويف ّ‬
‫‪ -4‬املرجع نف�سه؛ �ص‪.31‬‬ ‫ب�سماع احلكايات‪ ،‬وحماولة ت�أليف حكاية ت�شبهة حكاية ُق�صت‬
‫‪ -5‬املرجع نف�سه؛ �ص �ص ‪.40-39‬‬ ‫عليه – وبذكاء يحور ولو كلمة واحدة ين�سبها لنف�سه‪ ،‬مع‬
‫‪ -6‬املرجع نف�سه؛ �ص ‪.48‬‬ ‫مداعبات م�شابهة‪.‬‬
‫‪ -7‬املرجع نف�سه؛ �ص‪.111‬‬ ‫تخ�ص املح ّلل‬
‫ّ‬ ‫ق�صته‪« :‬عن الأطفال؛ مو�ضوعات‬ ‫ويف ّ‬
‫‪ -8‬املرجع نف�سه؛ �ص ‪130‬‬ ‫النف�سي‪ ».‬م�شاهد من براءة الأطفال‪ ،‬وح ّبهم‪« ،‬هل ميكنك �أن‬
‫ّ‬
‫حتب الأطفال»‪)8(.‬‬
‫ال ّ‬
‫‪ -9‬الدّ�ستور؛ �شرفات ثقاف ّية‪ ،‬وال ّر�أي‪ ،‬ال ّر�أي الثقا ّيف‪ ،‬اجلمعة ‪ 14‬ت�شرين الأ ّول‬
‫‪ ، 2011‬حوار مع الكاتب �ألبريتو ما نغويل‪ ،‬ترجم ال ّلقاء عن الفرن�س ّية‪ ،‬د‪ .‬وليد‬ ‫ق�صته‪« :‬بناية على ال ّرمال» ت�سري الأمور جمانبة‬ ‫ويف ّ‬
‫ويركي‪.‬‬
‫ال�س ّ‬‫ّ‬
‫ح�ساباتنا‪ ،‬وت�أتي الأيام مبا ال نتوقع‪.‬‬
‫ال�صناعة»‪ .‬قيمة التّ�سويق‪ ،‬وال ّدعاية‪،‬‬
‫ق�صته‪« :‬فار�س ّ‬
‫ويف ّ‬
‫واالنتقال من ت�سويق مادة �إىل �أخرى ح�سب دوران احلديث‪.‬‬
‫يل‪ّ ،‬‬
‫بالطبع‪ ،‬هو‬ ‫يقول البريتو ما نغويل‪�« :‬إنّ القارئ املثا ّ‬
‫املرتجم»(‪)9‬‬

‫ّعبي هو كاتب‬
‫وقارئ «ذات م�ساء» ي�شعر �أنّ ال ّدكتور الز ّ‬
‫اخلا�ص‪ ،‬ولغته يف جمموعاته الأخرى‪،‬‬
‫ّ‬ ‫هذه املجموعة ب�أ�سلوبه‬
‫عاملي م�ستها �أدواء حمل ّية‪ ،‬تن�سحب‬
‫ين ّ‬ ‫و�أنّ املجموعة �أدب �أن�سا ّ‬
‫على معظم بقاع الكون‪.‬‬
‫ف�إذا وعى القارئ هذه القيم و�أجال فيها الفكر‪ ،‬بامعان‬
‫نظر‪ ،‬تر�سخت يف عقله‪ ،‬وا�صبحت معلومات ومعارف‪ ،‬قادته‬
‫– �إن وجدت يف �سلوكاته – �إىل التّغيري واملقاومة‪ ،‬وانعك�ست‬
‫على ممار�ساته احليات ّية فرد ًا‪ ،‬وقدوة‪ ،‬وت�س ّربت �إىل قيم‬
‫اجلماعة‪ ،‬وانعك�ست �سلوكات متار�س‪.‬‬
‫‪‬‬
‫‪148‬‬

‫هــزاع البــراري روائيــا ً‬


‫ت�أليف‪ :‬د‪� .‬إبهارة قا�سم الطراونة‬

‫قراءة‪ :‬فوزي اخلطبا‬

‫وخازنة �أ�سرارهم و�أفكارهم‪ ،‬و�أرقى ما تو�صل �إليه العقل يف‬


‫�سجلت �أدق التفا�صيل و�أخطر املراحل‪،‬‬‫الكتابة الإبداعية‪ ،‬فقد ّ‬
‫حلقب التاريخية‪،‬‬ ‫�أ�سرع التحويالت ال�سريعة‪ ،‬ووثقت ا ُ‬
‫و�أوجزت املفا�صل التاريخية والبيئات ال�سيا�سة واالجتماعية‬
‫واالقت�صادية‪ ،‬وك�شفت عن مكنونات النف�س الإن�سانية‪،‬‬
‫وج�سدت الزمان واملكان روح ًا وج�سد ًا‪.‬‬
‫ّ‬
‫�سجلت الرواية الأردنية ح�ضور ًا مميز ًا على خارطة‬
‫لقد ّ‬
‫الرواية العربية والعاملية‪ ،‬وتُرجمت العديد من الروايات �إىل‬
‫لغات عاملية‪ ،‬وح�صلت على جوائز ذات قيمة ووزن‪ ،‬ولهذا‬
‫جاءت درا�سة الدكتورة �إبهارة قا�سم الطراونة عن الروائي‬
‫والأديب هزاع الرباري‪ ،‬لتك�شف عن جتربته الروائية اخل�صبة‬
‫وعن م�ضامينها وتقنياتها الفنية‪.‬‬
‫يقع الكتاب يف ‪� 255‬صفحة من القطع الكبري‪ ،‬وي�ضم‬
‫مقدمة وخم�سة ف�صول وقائمة م�صادر ومراجع وفهر�س‬
‫املو�ضوعات‪ ،‬ك�شفت الباحثة الطراونه من خالله عن �أ�سباب‬
‫اختيارها جتربة الروائي هزاع الرباري الروائية‪ ،‬لأن هذه‬
‫�سجلت ح�ضور ًا مميز ًا على امتداد احلركة الإبداعية‬
‫التجربة ّ‬ ‫�إذا كان ال�شعر ديوان العرب‪ ،‬كما يقول الن ّقاد‪ّ ،‬‬
‫�سجل‬
‫الأردنية والعربية‪ ،‬وحملت الهم الوطني والقومي بر�ؤية‬ ‫م�آثرهم و�أفراحهم و�أتراحهم �أيامهم‪ ،‬ف�إن الرواية احلديثة‬
‫ممتدة‪ ،‬وك�شفت عن واقعنا وما مي ّر به من �أحداث ووقائع‬ ‫�أ�صبحت ديوان العرب يف الع�صر احلديث‪ ،‬و�سج ّلهم اخلا�ص‪،‬‬

‫كاتب �أردين‪.‬‬
‫‪‬‬
‫‪149‬‬

‫ودالالتها‪ ،‬من ت�صويرية ورمزية و�شعرية‪ ،‬وا�ستخدامه للغة‬ ‫وجمريات‪ ،‬ثم �أن �أعماله الروائية والإبداعية مل تُدر�س درا�س ًة‬
‫املحكية واليومية والف�صحى ولغة التخاطب واحلوار‪ ،‬مبا يخدم‬ ‫نقدي ًة حتليلي ًة م�ستفي�ض ًة تك�شف عن موهبته وموقعه يف م�سرية‬
‫الن�ص الروائي وما يتنا�سب مع واقع ال�شخ�صية‪.‬‬ ‫احلركة الإبداعية الأردنية‪.‬‬
‫ولعل ما ي�ستوقفك يف هذه الدرا�سة‪� ،‬س�ؤال الباحثة للروائي‬ ‫تناولت الباحثة يف الف�صل الأول جتربة هزاع الرباري‬
‫الرباري حول الكتابة ال�شمولية‪ ،‬و�إجابة الروائي بقوله‪�« :‬أرى �أن‬ ‫الإبداعية منذ البدايات‪ ،‬وعطا�ؤها يف امل�سرح والرواية‬
‫كتابتي يف �أكرث من جن�س �أدبي والإم�ساك بكل م�ساحة متاحة‬ ‫والق�صة واملقالة والكتابة الدرامية‪ ،‬ون�شاطه الثقايف وم�سرية‬
‫للبوح الآخر‪ ،‬هو انتاج احلالة االن�شطارية لذاتي‪� ،‬إنه ان�شطار‬ ‫حياته والعوامل التي �أ�سهمت يف ت�شكيل ثقافته وانعكا�سها على‬
‫ت�صاعدي‪ ،‬و�أعترب �أن الكتابة هي اجلن�س الأو�سع الذي ي�ضم‬ ‫�إبداعه‪.‬‬
‫كل مفردات الإبداع الأدبي‪ ،‬ومل �أق�صد �أن �أكون كاتب ًا عابر ًا‬
‫وجاء الف�صل الثاين ليبحث عن امل�ضامني الرئي�سة يف‬
‫للأجنا�س‪ ،‬بقدر ما كنت معني ًا بقذف الكتابة اجلارحة من‬
‫�أعماله الروائية‪ ،‬من اجتماعية و�سيا�سية ووطنية وقومية‪،‬‬
‫داخلي بعد �أن تعاظمت كنهر عنيف‪ ،‬ولعل النهر قبيل الدخول‬
‫حرمان واغرتاب‪ ،‬وعن ق�ضايا احلرية‬
‫ٍ‬ ‫فقر‬
‫وما يتف ّرع مها من ٍ‬
‫يف م�صبه يتف ّرع على �شكل �شرايني كثرية �صانع ًا �أخ�صب تربة‬
‫والعدالة والكرامة واملقاومة والأحزاب‪ ،‬وعن واقع الإن�سان‬
‫يف العامل‪� ،‬أنا متخ�ص�ص يف الكتابة الإبداعية‪ ،‬وعندما �أ�شرع‬
‫العربي من هذه الق�ضايا وما مي�س حياته وفكره و�إن�سانيته‪.‬‬
‫جن�س �آخر‪ ،‬وهكذا‬ ‫بكتابة رواية ال �أعتقد �أنني قادر على كتابة ٍ‬
‫حقل‬‫جن�س �آخر‪ ،‬ورمبا ي�ساعد التخ�ص�ص يف ٍ‬ ‫�أ�شعر �إذا كتبت ً‬ ‫وجاء الف�صل الثالث‪ :‬يبحث عن توظيف الروائي للأبعاد‬
‫واحد على املراكمة يف ذات احلقل‪ ،‬وكثري ًا ما رغبت يف ذلك‪،‬‬ ‫الدينية والفل�سفية واملثيولوجيا والرموز التاريخية‪ ،‬وما يكمن‬
‫لكن هل �أ�ستطيع �أن �أكون غري ذاتي‪� ،‬إنّ الكتابة هي اتزان‬ ‫يف هذه امل�ضامني من �أبعاد ودالالت و�إيحاءات‪،‬كاملوروث‬
‫داخلي‪ ،‬وهذا التعدد هو ال�ضمانة الوحيدة لبقائي قيد الكتابة‬ ‫ال�شعبي واحلكايات واخلرافات واملعتقدات والأعراف والقيم‬
‫والبوح الفني»‪.‬‬ ‫والتقاليد‪ ،‬وق�ص�ص الأنبياء التي ت�ستند �إىل القر�آن الكرمي‬
‫والكتب ال�سماوية‪.‬‬
‫هذه هي ال�صورة العامة لهذه الدرا�سة الق ّيمة التي ك�شفت‬
‫فيها الباحثة عن �أعمال الروائي هزاع الرباري‪ ،‬وعن �أبعادها‬ ‫وتق ّدم الباحثة يف الف�صل الرابع درا�سة م�ستفي�ضة‬
‫وم�ضامينها وتقنياتها الفنية و�شخو�صها ومكانها ولغتها‬ ‫للجوانب الفنية التي ا�شتملت عليها التقنيات ال�سردية‬
‫ورموزها و�أحداثها ووقائعها‪ ،‬وموقعها من احلركة الإبداعية‬ ‫وانعكا�سها على املكان مبفهومه و�أنواعه والأحداث ومبفهومها‬
‫الأردنية‪ ،‬وتو�صلت �إىل ما مل يتو�صل �إليه الدار�سون والن ّقاد‬ ‫�أمناطها‪ ،‬ومالمح البطل و�صوره‪ ،‬لتلقي ال�ضوء على التقنيات‬
‫الذين تناولوا �أعماله بالدرا�سة والتحليل‪ ،‬وك�شفت عن ر�ؤى‬ ‫احلديثة التي مت ّثلت يف الرواية الأردنية و�أ�سهمت يف �إدخالها‬
‫جديدة يف كتاباته التجريبية اجلديدة بعني الناقد املن�صفة‪.‬‬ ‫غي خريطة الرواية العربية‪.‬‬
‫ويجيب الروائي هزاع الرباري على �س�ؤال للباحثة يف غاية‬ ‫�أما الف�صل اخلام�س‪ ،‬فقد ك�شفت فيه الباحثة عن‬
‫الأهمية عن مغامراته يف الكتابة اجلديدة بقوله‪�« :‬إن الكثري‬ ‫مهارات وقدرات الروائي اللغوية املده�شة واملتعددة يف �صورها‬
‫‪‬‬
‫‪150‬‬

‫ا�ستخدمت الباحثة هذا املنهج يف حتليلها ونقدها لأعمال‬ ‫يعترب الكتابة اجلديدة هي الدخول �إىل املناطق الغائرة يف‬
‫الرباري املتعددة ا�ستخدام ًا موفق ًا وب�إتقان‪ ،‬وتعاملت معها‬ ‫الذات كمرحلة ا�ستنباط ل�س�ؤال جديد ينتج مفعم ًا بالتوا�صل‬
‫مبهارة الناقدة الواثقة املتمكنة مب�صطلحها وحرفية الن�ص‪،‬‬ ‫الداخلي املغلق خارجي ًا‪ ،‬و�أعتقد �أن الذات املفعمة تتفخم‬
‫و�أك�سبت ُجملها دما ًء وروح ًا‪ ،‬فخرجت ُجملها و�ألفاظها من‬ ‫بح�سب قانون اال�ستعمال والإهمال‪ ،‬وتتعاظم لت�ش ّكل كل هذا‬
‫ذاتها وروحها‪ ،‬فد ّبت يف الكلمات احلياة‪� ،‬أ�ضافت ُبعد ًا جديد ًا‬ ‫التناق�ض العاملي وت�صبح ذاتي ًا كونية جمرات ونظم ًا وكواكب‬
‫على الن�ص املعالج زادته �ألق ًا وبهجة‪.‬‬ ‫م�أمولة‪ ،‬و�أنا هذا الفرد بهذه الذات املمتدة �أقود �سفينة املعنى‬
‫والده�شة الكت�شاف بالد الأ�سئلة املختلفة‪ ،‬فلو ملكت الإجابة‬
‫لقد �أح�سنت الباحثة االختيار �أن تتناول واحد ًا من �أدبائنا‬
‫خل�سرت الكتابة ومات الن�ص»‪.‬‬
‫وكتّابنا الذين �أغنوا و�أثروا حركتنا الأدبية ب�أعمال �إبداعية‬
‫متميزة‪ ،‬وتك�شف عن جوانب عديدة يف م�سرية الرباري‬ ‫فاملتتبع �إىل جتربة هزاع الرباري يجد �أنه يف كل عمل‬
‫الروائية والإبداعية التي ال تقل عن �أعمال الروائيني العرب‬ ‫إبداعي يتطور تطور ًا ملحوظ ًا‪ ،‬و�أن معماره الفني‬ ‫روائي �أو � ٍ‬
‫ٍ‬
‫بحق �أو بغري حق‪،‬‬ ‫الذين تر ّبعوا على عر�ش الرواية العربية ٍ‬ ‫الفتٌ للنظر وراءه ثقاف ٌة عميق ٌة‪ ،‬ون�صه الروائي جواني ًا م�سكون ًا‬
‫لأنهم وجدوا من الدار�سني والباحثني من يجلوا �أعمالهم‬ ‫باللحظة الهاربة من الزمان والواقع امل ّر ال�صعب جاع ًال من‬
‫بالبحث والدرا�سة والتحليل‪ ،‬وك�أن على املبدع الأردين �أن يدفع‬ ‫م�شاهد رواياته لوحات فنية ت�صويرية �صاخبة �ضاجة باحلركة‬
‫�ضريبة باهظة فعليه �أن يفوز بجائزة خارجية عربية حتى‬ ‫تتعاطف معها‪ ،‬وتقيم معها عالقة ان�سجام وود بلغة �شفافة‬
‫ُيعرتف به داخلي ًا‪.‬‬ ‫تغري باملتابعة والقراءة واملحاورة طرح الأ�سئلة‪ ،‬فهو �شاهد‬
‫على مرحلة التغيريات والتطورات التي اجتاحت املنطقة‬
‫هذه الدرا�سة تك�شف عن مولد ناقدة متمكنة من �أدواتها‬
‫م�س احلياة االجتماعية وال�سيا�سية‬ ‫العربية والأردنية‪ ،‬وما ّ‬
‫النقدية‪ ،‬و�إذا ا�ستمرت يف الكتابة واالطالع ومواكبة �أعمال‬
‫واالقت�صادية من تغريات‪ ،‬وانتقلت �سريعة ومتالحقة قلبت‬
‫املبدعني و�إبداعاتهم‪ ،‬فبذلك تكون قد اكت�سبت ثقافة وا�سعة‬
‫و�ضج فيها النا�س مبا تركته من �شظايا‬ ‫املوازين واملعايري ّ‬
‫وت�ستخدم م�صطلحها النقدي بدقة ولغتها �آ�سرة م�شرقة‪،‬‬
‫وبراكني وخملفات‪ ،‬ف�أ�صبحت احلياة بال لون وال طعم وال‬
‫و�ألفاظها عميقة يف الداللة والبيان‪ ،‬وكانت �أمينة يف مقابالتها‬
‫رائحة‪ ،‬والكل يجري وال يعرف‪ .‬فجاءت رواياته م�ص ّور ًة هذه‬
‫وا�ست�شهاداتها وو�ضوح يف الطرح والأ�سلوب‪ ،‬فالدرا�سة �إ�ضافة‬
‫الأو�ضاع وم�شاهد هذه احلركة بر�ؤية الروائي املتيقظ بالهموم‪،‬‬
‫طيبة للمكتبات الأردنية التي هي بحاجة ملثل هذه الدرا�سات‬
‫وال�شاب املتّقد حما�س ًا بالإ�صالح والتغيري‪.‬‬
‫املخت�صة عن مبدعينا وكتّابنا‪ ،‬تك�شف عن م�ساهماتهم‬
‫الإبداعية وتن�صفهم يف عطائهم وت�ضعهم يف مكانهم الذي‬ ‫لقد اتك�أت الباحثة على املنهج التكاملي املتعدد يف‬
‫ي�ستحقونه يف ف�ضاء م�سرية احلركة الأدبية العربية‪ ،‬فهم كرث‬ ‫التقنيات‪ ،‬املنفتح يف الو�سائل‪ ،‬فهو �أ�شمل املدار�س النقدية‬
‫متفجرة‪،‬‬
‫وحقوقهم خ�صبة معطاءة وقلوبهم خ�ضراء وينابيعهم ّ‬ ‫احلديثة يف معاجلة الن�صو�ص الإبداعية ودرا�ستها من كافة‬
‫ولكن بحاجة �إىل �أ�س ّنة �أقالم الن ّقاد والدار�سني املن�صفني‪.‬‬ ‫جوانبها‪ ،‬و�أثبت هذا املنهج فاعليته وحيويته ومرونته وات�ساع‬
‫ف�ضاءاته‪ ،‬ومنحه الن�صو�ص الإبداعية ثرا ًء وغنا ًء‪ ،‬فهو‬
‫كالبحر الزاخر يف عطائه ويكمن فيه �أغلى النفائ�س‪ .‬لقد‬
‫‪‬‬
‫‪151‬‬

‫ا�سرتاتيجية الت�أويل الداليل عند املعتزلة‬


‫جعفر العقيلي‬

‫ُيعرف «الت�أويل» يف اللغة ب�أنه �إرجاع التعبري �إىل �أ�صل �أبعد‬


‫من املعنى احل ْريف له‪ .‬ورمبا �أن ال مفردة يف العربية �أثارت‬
‫خالف ًا وجد ًال بني العلماء واملف�سرين والباحثني مثل «الت�أويل»‪،‬‬
‫هذه املفردة التي اخت�صت عن �سواها بفتح �آفاق جديدة للن�ص‬
‫واكت�شاف مكامن غمو�ضه ومواطن التجديد والإثارة فيه‪ ،‬كما‬
‫ُ‬
‫اجلدل ب�ش�أنها الطوائف املختلفة‪،‬‬ ‫�أنها هي نف�سها التي �أوجد‬
‫التي و�صل الأمر بينها �أحيان ًا �إىل االقتتال واالحرتاب‪.‬‬
‫كما �أن «الت�أويل» كان وراء ظهور املدار�س الفكرية والنقدية‬
‫والفنية‪ ،‬وهو الذي �أو�صل احل�ضارة العربية �إىل �أوج انفتاحها‪،‬‬
‫كما �أنه هو الذي دفع باجتاه تراجع بهذه احل�ضارة �إىل حدودها‬
‫الدنيا‪ ،‬وذلك حينما انح�صر «الت�أويل» بيد املفكرين يف زماننا‪،‬‬
‫ومل يعد الأديب �أو الفقيه قادر ًا على التعامل معه يف تف�سري‬
‫الن�صو�ص لتكون من�سجمة مع روح الع�صر‪.‬‬
‫أم�س‬
‫لذا ف�إن احل�ضارة الإ�سالمية العربية اليوم‪ ،‬تبدو ب� ّ‬
‫احلاجة �إىل فتح باب الت�أويل على م�صراعيه‪ ،‬و�إعماله يف‬
‫النظر �إىل الن�صو�ص على اختالفها‪ ،‬مبا فيها الن�ص القر�آين‪،‬‬
‫الذي يجب �أن ينظر �إليه امل�ؤ ِّول �ضمن نهج مرتابط ال يخرج‬
‫احلا�ضر‪ ،‬فالت�أويل يعني؛ ال تغيري الداللة الوا�ضحة للن�ص‪ ،‬بل‬ ‫عن ال�سياق العام لن�صو�ص القر�آن‪ ،‬وال يح�صرها يف التف�سري‬
‫ترقيته ليكون �صاحل ًا لكل زمان ومكان‪.‬‬ ‫ال�شكلي الذي ي�ؤدي �إىل جمود الن�ص وعدم �صالحيته للع�صر‬

‫كاتب �أردين‪.‬‬
‫‪‬‬
‫‪152‬‬

‫على املمار�سة الت�أويلية الو�صول �إليه‪ .‬ومن ثم ف�إن مهمة‬ ‫من هنا ت�أتي �أهمية كتاب «ا�سرتاتيجية الت�أويل الداليل‬
‫الت�أويل تكمن يف بلورة الدالالت التي تطابق الثوابت اجلوهرية‪،‬‬ ‫عند املعتزلة» للباحث هيثم �سرحان (من�شورات نادي تراث‬
‫و�إق�صاء القيم الداللية التي تخالفها‪ ،‬منتهج ًا الباحث يف ذلك‬ ‫الإمارات‪� ،‬أبو ظبي‪ ،)2012 ،‬الذي يتناول بالدر�س والتحليل‬
‫نهج ًا ا�ستداللي ًا وت�سويغي ًا‪ ،‬لأن احلقيقة يف �أنظار املعتزلة ال‬ ‫مفاهيم وممار�سات الت�أويل الداليل عند املعتزلة؛ وهي من‬
‫تت�شكل �إال من خالل �إدراك القيم املخالفة لها‪.‬‬ ‫�أبرز الفرق الإ�سالمية التي اعتمدت على العقل يف تف�سري‬
‫الن�ص‪ ،‬بخا�صة القر�آين‪ ،‬حيث بنى املعتزلة موقفهم ال�ض ّدي‬
‫هذا يف ما يخ�ص م�ستوى املنطلقات املعرفية واملنهجية‪،‬‬
‫من فكرة �أن الإن�سان م�سيرَّ ال خميرَّ ‪ ،‬على فكرة العدل الإلهي‬
‫�أما ما ُيعنى مب�ستوى الت�صورات الل�سانية‪ ،‬فقد �سعى الكتاب‬
‫التي تع ّد من الأ�صول اخلم�سة للمعتزلة‪ .‬والعدل الإلهي كما‬
‫�إىل الك�شف عن اجلوانب الإجرائية املتعلقة بالأ�س�س النظرية‬
‫فعل ما ثم يحا�سبه على‬‫يرون يتطلب �أ ّال يجرب اهلل �إن�سان ًا على ٍ‬
‫لعملية الكالم وما ينبني عليها من م�سائل‪ ،‬م�ستعين ًا يف ذلك‬
‫ما فعل‪ ،‬وقد �شكلت هذه الفكرة منطلق ًا ونظرية عامة للمعتزلة‬
‫كله بامل�صطلحات واملفاهيم التي تنطوي عليها‪.‬‬
‫ط ّبقتها على الن�صو�ص القر�آنية والنبوية على ال�سواء‪.‬‬
‫تت�أ�س�س نظرية الت�أويل االعتزالية‪ ،‬بح�سب �سرحان‪ ،‬على‬
‫�إىل جانب ذلك‪ ،‬ظلت م�س�ألة نظرية الت�أويل عند املعتزلة‬
‫جمموعة من املرتكزات النظرية وامل�س ّلمات العقائدية التي‬
‫�إ�شكالية ومثار خالف‪ ،‬ومن هنا يت�ساءل الباحث عن الثوابت‬
‫ت�شكل يف ما بينها �أر�ضية �صلبة ترتكز عليها �آليات الت�أويل‬
‫الرئي�سية التي اعتمدها املعتزلة يف تر�سيخ نظريتهم الت�أويلية‪،‬‬
‫و�أن�ساقه الداللية‪.‬‬
‫وما املزية التي متتعت بها هذه الثوابت؟‬
‫�أما املرتكزات النظرية‪ ،‬فتلك املنعقدة على قوانني املوا�ضعة‬
‫وبداية‪ ،‬افرت�ض الباحث �أن املعتزلة عولوا يف ت�أ�سي�س‬
‫والأنظمة الل�سانية التي �صاغتها اجلماعة تعبري ًا عن حاجاتها‬
‫منطلقاتهم و�أ�صولهم اخلم�سة على جمموعة ثوابت ينبغي على‬
‫ومواقفها من الوجود‪ .‬وبذا ف�إنه املعتزلة كان لهم موقف من‬
‫�أي ممار�سة ت�أويلية �أن ت�ستند عليها‪ ،‬ومبوجب هذا ف�إن العمل‬
‫الإرث الل�ساين الذي ظلت �آلياته وطرائقه ونظمه الداللية‬
‫يبحث يف العالقة القائمة بني هذه الثوابت والن�ص املدرو�س‪.‬‬
‫متثل ح�ضور ًا و�سلطة يف اال�ستدالل على امل�ؤ�شرات الداللية يف‬
‫كما جتيب الدرا�سة على �أ�سئلة مرتبطة بالل�سانيات وما يتعلق‬
‫ت�أويلهم للن�ص القر�آين ولن�صو�ص احلديث النبوي وللن�صو�ص‬
‫بها من ت�صورات‪ ،‬وتتبع الطرق التي يتم بوا�سطتها ا�ستخراج‬
‫ال�شعرية على ال�سواء‪ .‬ومل َي ْع ِن االنتما ُء �إىل منظومة اجلماعة‬
‫دالالت الكالم وحتديد املقا�صد؛ �أي كيف �أ�سهمت الدعائم‬
‫الل�سانية ا�ستحال َة تطور الأداءات التعبريية و�إحداث �إ�ضافة‬
‫الت�أويلية والثوابت العقائدية يف تعني البنية الداللية؟ وما هو‬
‫نوعية يف بناء الكالم‪.‬‬
‫الدور الذي حتققه الثوابت وامل�سلمات يف املنهج الت�أويلي؟‬
‫�إذ �أكد املعتزلة يف معظم مدوناتهم �إمكانية �إقامة‬
‫لقد حاول الباحث �إدراك القدرة الت�أويلية التي متتع بها‬
‫موا�ضعات المتناهية تتنا�سب مع التناهي احلاجات التي تمُ ْ ليها‬
‫اخلطاب االعتزايل‪ ،‬ومعرفة الأ�سرار الكامنة وراء نظرية‬
‫�سل�سلة التجارب الهائلة‪ ،‬وبذلك ف�إن املوا�ضعة هي القانون‬
‫املعتزلة وت�صورهم للحقيقة الداللية‪ ،‬متو�ص ًال �إىل �أن القيم‬
‫الذي يحكم اللغة‪ ،‬لأنها تنم على حالة االختالف التي تهيمن‬
‫وامل�س ّلمات التي تمَ ثلها املعتزلة �شكلت ن�سق ًا جوهري ًا ينبغي‬
‫على �إدراك الإن�سان للوجود‪ ،‬وتدل على �شقاء الوعي الإن�ساين‬
‫‪‬‬
‫‪153‬‬

‫بيد �أن االعتماد يف الت�أويل على اللغة‪ ،‬بو�صفها و�سط ًا مادي ًا‬ ‫وحجم القلق الذي ينتاب نظامه‪ ،‬فمهما حاول الإن�سان �أن يبلور‬
‫�شمولي ًا‪ ،‬كما ي�ؤكد الباحث‪ ،‬يجعل من عملية الفهم عم ًال ي�سعى‬ ‫موقف ًا ل�ساني ًا من الوجود‪ ،‬ف�إنه �سرعان ما ينقلب عليه ناق�ض ًا‬
‫�إىل بلوغ حالة التفاهم واالتفاق على احلقائق التي ينطوي‬ ‫غزْ َل ُه ومت�سائ ًال عن �شرعيته‪ .‬وقد �أ�س�س املعتزلة ت�صور ًا للكالم‬
‫عليها الكالم‪ .‬وهنا تظهر اللغة يف نظرية الت�أويل بو�صفها‬ ‫مفاده �أن الكالم واقع بح�سب ق�صد املتكلم و�إرادته ودواعيه‪.‬‬
‫احلقل الذي تدور يف فلكه املمار�سة الت�أويلية‪ ،‬فالفهم يعتمد يف‬ ‫�أما امل�س ّلمات العقائدية‪ ،‬فتلك املنح�صرة يف تعايل العقل‬
‫�إر�ساء تف�سريه على اللغة جاع ًال منها قناة متر فيها الدالالت‬ ‫وقدرته على معرفة اهلل قبل ورود الن�ص‪ ،‬الأمر الذي يعني �أن‬
‫احلقيقة‪ ،‬مبعنى �أن الفهم ي�ستبعد بع�ض القيم الل�سانية التي‬ ‫دالالت الق�صد ال بد �أن متر عرب قنوات العقل‪ ،‬فالعقل مز َّود‬
‫تعرت�ض طريقه‪ ،‬بحيث تت�ساوى كلية اللغة مع كلية العقل‪.‬‬ ‫بقوانني‪ ،‬والتي هي جملة ا�ستدالالت ت�سمح ب�إدراك احلقائق‬
‫املطلقة‪.‬‬
‫جاء الكتاب يف تالثة ف�صول‪ ،‬يتناول الف�صل الأول «مبادئ‬
‫النظام العقلي عند املعتزلة»‪ ،‬كا�شف ًا عن ت�صور املعتزلة للعقل‬ ‫بناء على ذلك‪ ،‬بح�سب الباحث‪ ،‬قرر املعتزلة �أنّ معرفة‬
‫ونظامه الداليل وعالقته بالأنظمة الداللية الأخرى من حيث‬ ‫اهلل واجبة عق ًال‪ ،‬ومتى ا�ستطاع الإن�سان اال�ستدالل على معرفة‬
‫انف�صاله معها �أو ات�صاله بها‪ .‬كما يتناول داللة العقل بو�صفها‬ ‫اهلل عق ًال‪ ،‬مت ّكن من فهم دالالت الن�ص القر�آين‪ ،‬ومن ثم‬
‫لغ ًة وعالقتها بعقل اللغة‪ ،‬ويقف على العالقة بني العقل والن�ص‬ ‫�إدراك مقا�صد اهلل تعاىل‪ .‬ويرى املعتزلة �أي�ض ًا �أن الإن�سان‬
‫واللحظة التي ي�صبح فيها العقل ن�ص ًا‪.‬‬ ‫مطا َلب باال�ستدالل والتما�س الدليل‪ ،‬وهذه الق�ضية حمورية يف‬
‫مدوناتهم‪.‬‬
‫وي�ؤكد الباحث �أن احلديث عن موقف املعتزلة من العقل‬
‫ومفهومهم له يجب �أن يتخذ منطلقات عدة‪ ،‬و�أن يحدد‬ ‫وميكن �إدراك القدرة الت�أويلية يف خطاب املعتزلة من خالل‬
‫املرتكزات التي يقوم عليها العقل‪ ،‬بو�صفه منطلق ًا �شمولي ًا‬ ‫احل َيل الل�سانية التي ينبغي �إجنازها للك�شف عن‬
‫حديثهم عن ِ‬
‫الداللة التي هي عميقة ومتوارية وذات طابع �سيميائي غالب ًا‪،‬‬
‫يتعلق باجلانب املعريف‪ ..‬وتتداعى على هذا املفتتح �أ�سئلة كربى‬
‫و�إق�صاء جميع القيم التي تعرقل الك�شف الداليل وذلك‬
‫ترتبط يف جمملها بعالقة الوحي �أو ال�شرع �أو الن�ص‪ ،‬ومبهمة‬
‫ن�صت عليه �أد ّلة‬
‫بت�سويغها و�إدراجها و�إحلاقها بالأ�صل الذي ّ‬
‫العقل ومنزلته و�أنظمته الداللية وعالقته باللغة والدالالت‬
‫العقل‪.‬‬
‫الأخرى‪ ،‬و�أخري ًا عالقة العقل بالفهم والتكليف‪.‬‬
‫وتتمثل مهمة الت�أويل عند املعتزلة يف ا�سرتداد الكالم من‬
‫إدراك ينطلقان‬
‫فهم و� ٍ‬
‫�إن قدرة الإن�سان على التو�صل �إىل ٍ‬ ‫الن�ص‪ ،‬ويتطلب ذلك امتثا ًال ملقا�صد املتكلم وحتييد ًا للعنا�صر‬
‫من وعيه‪ ،‬هي ما يوجه انحياز املعتزلة �إىل العقل‪ ،‬وي�سوغ‬ ‫الل�سانية التي تناق�ض املقا�صد‪ ،‬وهذه امل�سائل تتم بالفهم الذي‬
‫ثقتهم بتفوقه ومركزيته‪� ،‬إذ يتنا�سب هذا االنحيا ُز وال ِ‬
‫أ�صل‬ ‫هو جماع النظر وطلب الدليل‪ .‬و�إذا كان الفهم غاية يروم‬
‫املعريف الذي قرروه ودافعوا عنه يف مدوناتهم متمث ًال يف العدل‬ ‫املخاطب عندما يفهم‬ ‫َ‬ ‫الن�ص حتقيقها‪ ،‬ف�إن هذا يعني �أن‬
‫الإلهي‪ ،‬ويعني هذا الأ�ص ُل مت ُّت َع الإن�سان بقد ٍر من اال�ستقالل‬ ‫دالالت الن�ص يكون قد ا�ستوىل �ضمن ًا على منزلة املتكلم‪ ،‬لأن‬
‫واحلرية يف القيام ب�أفعاله‪ ،‬ومن ثم ف�إن احل�ساب يجب �أن‬ ‫الفهم معناه �أنّ ب�إمكان ال�شخ�ص �أن يقيم يف مكان �شخ�ص‬
‫ين�سجم مع الأفعال بو�صفها مرتبطة بالإرادة‪ .‬وبذلك فقد‬ ‫�آخر ل ُيعَبرّ عن فهمه وما ميكنه قوله بهذا ال�ش�أن‪.‬‬
‫‪‬‬
‫‪154‬‬

‫مقررات جماعية ذات‬


‫ٍ‬ ‫املوا�ضعة‪ ،‬ما يعني �أن للنظام اللغوي‬ ‫خالفوا اجلربيني الذين انطلقوا من مبادئ احلتمية والق�سر‬
‫وظائف نفعية‪ ،‬ومن ثم ف�إن الت�أويل هو اال�ستجابة لقوانني‬ ‫على اعتبار �أن الإ�سالم يح�صر املعرفة مب�صدر واحد هو‬
‫يكف عن‬ ‫املوا�ضعة‪ ،‬لأن الكالم ّ‬
‫دال على نح ٍو متع ّدد‪ ،‬وهو ال ّ‬ ‫امل�صدر الإلهي‪� ،‬أي �إلغاء العقل �أو �أي م�صدر ب�شري على‬
‫الإحالة على ال�سياقات الل�سانية التي قررتها اجلماعة‪.‬‬ ‫حت�صيل املعرفة‪.‬‬
‫وي�شري الباحث هنا �إىل �أن الت�سليم بهذه احلقائق الل�سانية‬ ‫وقد ح�سم املعتزلة هذه الق�ضية‪ ،‬كما يو�ضح الباحث‪،‬‬
‫عند املعتزلة يوجب ت�أوي ًال يعتمد على �إدراك الروابط ال�ضمنية‬ ‫بتق�سيمهم املعرفة �إىل ق�سمني‪ :‬الأول؛ املعرفة احلا�صلة‬
‫التي تتيحها الدالالت‪ ،‬ويرتتب على ذلك ت�صور املعتزلة للمعنى‬ ‫باال�ضطرار واملت�سمة بطابع بدهي‪ ،‬وهي ال ت�ستوجب الدليل‬
‫و�أجنا�سه وكيفية ت�شكلها‪.‬‬ ‫لأنها مدركة بنف�سها‪ .‬والق�سم الثاين؛ املعرفة احلا�صلة‬
‫الكالم � ُ‬ ‫واملح َّق َقة بالنظر والتي ُت ْع َلم بالدليل‪ ،‬وهذا الدليل‬
‫باالكت�ساب َ‬
‫أ�شمل‬ ‫َ‬ ‫لقد �أدرك املعتزلة‪ ،‬كما يرى الباحث‪� ،‬أن‬
‫قد يكون عقلي ًا فقط‪� ،‬أو ن�صي ًا �شرعي ًا فقط‪� ،‬أو عقلي ًا ون�صي ًا‬
‫الأنظمة التي مت التوا�ضع عليها‪ ،‬وذلك ل�شموليته وت�شعبه‬
‫مع ًا‪.‬‬
‫وع ُّدوا الكالم نظام ًا توا�صلي ًا مبني ًا على‬
‫وقدرته على التدليل‪َ ..‬‬
‫املوا�ضعة وا�شرتاطاتها‪ ،‬ومدى ح�ضور هذا الكالم يف الإجماع‬ ‫لقد �أكد املعتزلة �أن للعقل نظم ًا ومبادئ تعمل كمفهومات‬
‫التوا�صلي‪.‬‬ ‫و�ضوابط ن�صية تُقا�س بها معقولية الن�ص‪ ،‬و�أن قدرة العقل‬
‫على حتليل الن�ص والتغلب على عوائقه تدل على قيمة الوعي‬
‫�إذ �إن هناك �أنظمة توا�صلية ال حتظى بالإجماع لأن‬
‫الإن�ساين مقابل الن�ص‪ ،‬وهكذا تتبني املواءمة بني احلكمة‬
‫املجموعة الإن�سانية ال ت�ستطيع االتفاق ب�ش�أنها‪ ،‬الأمر الذي‬
‫الإلهية والعقل الإن�ساين‪ ،‬وهي ت�ستند يف النهاية �إىل مبد�أ عقلي‬
‫يدل على عمق الروابط الرمزية التي ي�ؤديها الكالم‪ ،‬ويتح�صل‬
‫يناق�ش قدر َة العقل و�شرعية خو�ضه يف فهم ال�سمع فهم ًا يتفق‬
‫الرتابط الرمزي ب�إدراك القيم الوظيفية والقواعد التوا�صلية‪،‬‬
‫وقوانينه وقيمه‪.‬‬
‫ف�إذا كان الق�صد هو منتهى الت�أويل وغايته‪ ،‬ف�إن حتديد داللته‬
‫يكون باالعتماد على اجلانب الإ�شاري‪ ،‬فمتى ق�صد املرء م�سمى‬ ‫لقد وعى املعتزل ُة دو َر العقل يف تقرير املعرفة‪ ،‬كما ي�شري‬
‫منح ُه داللة‪ .‬ويكون الكالم دا ًّال متى‬‫خم�صو�ص ًا ف�إنه يكون قد َ‬ ‫الباحث‪ ،‬فاملعرفة ال�صحيحة بال�سمع �أو الن�ص ال بد من‬
‫�أدت عالماته �إىل حتقق مادي يف �أذهان اجلماعة‪ ،‬وهذا يعني‬ ‫اقرتانها بالعقل انطالق ًا من �أ�سبقية العقل وتقدمه على الن�ص‬
‫التفاف حول‬
‫ٍ‬ ‫�أن منظومة الكالم ت�سعى لتكون دا ّلة �إىل �إحرا ِز‬ ‫من ناحية‪ ،‬ومركزية العقل وتفوقه من ناحية �أخرى‪� ،‬إذ �إن‬
‫ر�صيد رمزي وتوا�صلي مع َّي َنني‪ ،‬الأمر الذي يك�شف �أن الكالم‬ ‫العقل حمور خطاب التكليف‪ ،‬ولوال تقدم العقل على الن�ص‬
‫مرتبط يف وجوده بعالقات خطابية تنتظم يف عقْد مق َّدر‬ ‫لبط َل التكليف وا�ستحال عبث ًا‪.‬‬
‫ُ‬
‫�ضمن ًا‪ ،‬هو عقْد املوا�ضعة والتفاهم‪.‬‬
‫�أما الف�صل الثاين الذي يحمل عنوان «مفهوم الت�أويل يف‬
‫ينطوي الن�ص وفق ت�صورات املعتزلة‪ ،‬على عنا�صر �ضمنية‬ ‫الفكر االعتزايل»‪ ،‬فيناق�ش امل�سوغات الل�سانية التي جتعل من‬
‫وكامنة يتم �إخراجها �إىل حيز التمثيل الداليل باال�ستناد �إىل‬ ‫ملحة‪ .‬وجوهر هذا االفرتا�ض ت�ص ُّور املعتزلة‬
‫الت�أويل حاجة ّ‬
‫ال�سياق الذي ينتمي الن�ص‪ ،‬وهذا يعني �أن الن�ص لي�س معزو ًال‬ ‫لأ�صل اللغة‪� ،‬إذ �أجمعوا على �أن اللغة قائمة على قوانني‬
‫‪‬‬
‫‪155‬‬

‫�إدراكي ًا تندرج ل�ساني ًا وحتتل مراكز معنوية‪ ،‬وبذلك فالل�سان‬ ‫عن �سياقه وف�ضائه املرجعي‪ ،‬لكنه حا�ضر يف ن�سيج اللغة‪،‬‬
‫لي�س الع�ضو املخ�صو�ص والآلة املعهودة‪� ..‬إنه نظام الإدراك‬ ‫فالن�ص يف وجوده الفعلي هو وجود يف العامل‪.‬‬
‫والقانون الذي ي�سمح بفرز قيم معرفة وم�صادرة قيم �أخرى‪.‬‬
‫وي�ؤكد �سرحان �أن املعتزلة �أ�س�سوا ت�صورهم ملقا�صد الكالم‬
‫وحجب‪ ،‬فعندما ت�سمح بانك�شاف عالقة‬ ‫ٌ‬ ‫�إن الداللة هنا ٌ‬
‫ك�شف‬
‫على الأ�صول العقائدية‪ ،‬فقد كان تقرير الق�صد مرتكز ًا على‬
‫داللية ما ف�إنها �ستدرج يف اخلطاب يف �سياق خمتلف‪ ،‬ومن ثم‬
‫ثنائية املحكم واملت�شابه‪ ،‬ومن ثم ف�إن � ّأي ت�أويل مطا َلب ب�أن‬
‫ف�إنها تنجدل على نح ٍو معقَّد ال ميكن �إيقاف اندفاعه �إال ببنية‬
‫يراعي هذه الثنائية‪� .‬إنّ فهم الق�صد وداللة الن�ص عند املعتزلة‬
‫الق�صد التي هي وحدها القادرة على تعيني املدار الذي ينبغي‬
‫ي�ستندان �إىل معرفة �صفات اهلل تعاىل وما يجوز عليه منها وما‬
‫تو�صيفه داللي ًا‪.‬‬
‫ال يجوز‪ ،‬وهذه املعرفة عندهم معرفة عقلية �سابقة يف الرتتيب‬
‫ويرى الباحث يف كتابه �أن قوانني اال�ستدالل التي يحتكم‬ ‫على املعرفة ال�شرعية‪ ،‬وهكذا ينتهي املعتزلة يف ق�ضية الداللة‬
‫�إليها امل�ؤ ِّول هي اخلطوات املادية الكا�شفة عن الدالالت وطرق‬ ‫اللغوية بو�صفها تابعة للداللة العقلية ومرتتبة عليها‪.‬‬
‫ت�شكلها‪ ،‬و�أن على عملية الت�أويل �أن تَرجع �إىل الن�ص بو�صفه‬
‫�أما الف�صل الثالث‪ ،‬فيحلل منهج الت�أويل الداليل عند‬
‫لغة �إذ ال َمو ِر َد �إال هو‪ .‬وي�ست�شهد على ذلك بت�أويل الزخم�شري‬
‫املعتزلة‪ ،‬وهو املحور الإجرائي يف الكتاب‪ ،‬وقد ت�ضمن ثالثة‬
‫لتعبري «و�أنتم ظاملون» يف قول اهلل تعاىل يف الآية ‪ 92‬من �سورة‬
‫مباحث ومتهيد ًا‪ ،‬يعر�ض التمهيد ملفهوم الداللة وطبيعتها‬
‫البقرة‪« :‬ولقد جاءكم مو�سى بالبينات ثم اتخذمت العجل من‬
‫ال�سيميائية‪ ،‬ويتناول املبحث الأول نظام اال�ستدالل عند‬
‫بعده و�أنتم ظاملون»‪ .‬فيقول «و�أنتم ظاملون» يجوز �أن تكون حا ًال‪،‬‬
‫املعتزلة‪ ،‬ويعر�ض الثاين لآليات الت�أويل الداليل من خالل‬
‫�أي عبدمت العجل و�أنتم وا�ضعون العبادة غري مو�ضعها‪ ..‬ويجوز‬
‫منطلقني‪ :‬الأول الت�أويل بو�صفه داللة الن�ص على اعتبار �أن‬
‫�أن تكون اعرتا�ض ًا‪ ،‬مبعنى‪« :‬و�أنتم قوم عادتكم الظلم»‪.‬‬
‫للن�ص بنية م�ستقلة بنف�سها‪ ،‬والثاين الت�أويل باعتبار داللة‬
‫ويف ا�ستعر�ضه مل�ستويات الت�أويل الداليل‪ ،‬ي�ؤكد الباحث �أن‬ ‫اخلطاب‪ ،‬انطالق ًا من �أن الن�ص بنية مفتوحة على املمار�سة‬
‫الت�أويل الداليل عليه �أن يلتزم بالبنية الرتكيبية يف الأحوال‬ ‫الل�سانية وناجتة عن �أفق املخاطبة والتوا�صل‪� .‬أما املبحث الثالث‬
‫كلها‪ .‬وهو يتوقف عند الت�أويل باعتبار الدالالت العقلية‪،‬‬ ‫فمحوره م�ستويات الت�أويل الداليل‪ ،‬وت�ضم‪ :‬الداللة العقلية‪،‬‬
‫والت�أويل باعتبار الدالالت اللغوية‪ ،‬والت�أويل باعتبار الدالالت‬ ‫والداللة اللغوية‪ ،‬والداللة النحويةن والداللة املجازية‪.‬‬
‫النحوية‪ ،‬والت�أويل باعتبار الدالالت املجازية‪� ،‬إذ �إن �إمكانية‬
‫�إن املحور الداليل‪ ،‬كما يو�ضح الباحث‪ ،‬ال يتوقف عند‬
‫اللغة املرتبطة بالطاقة املجازية تدل على �أن اللغة ابتكار دائم‬
‫حدود الكالم‪ ،‬بل يتعداه ال�سرتجاع العالقات التي يت�ضمنها‬
‫وحت ُّول م�ستمر‪.‬‬
‫ويحيل عليها‪ .‬فاملعقوالت وكل ما يدركه الإن�سان ويحد�سه‬
‫متلك قيم ًا داللية‪ ،‬فقد يتحدث املرء عند الدالالت التي‬
‫ي�ست�شعرها يف احلجارة ال�ص ّماء‪ ،‬وعن الدالالت الإيجائية التي‬
‫متنحه �إياها ر�ؤية �أمواج البحر‪ .‬هذه العالمات لي�ست ل�سانية‪،‬‬
‫مبعنى �أنها ال تنطلق من الكالم‪� ،‬إال �أنها ومبجرد انتظامها‬
‫‪‬‬
‫‪156‬‬

‫قراءة يف كتاب‪:‬‬
‫«ثقافة املعرفة والتفكري اال�سرتاتيجي»‬
‫د‪.‬في�صل غرايبه‬

‫الأول‪ :‬يرقب متغريات احلياة‪ ،‬ويبحث عن مناذج �سلوكية حتث‬ ‫يبحث عبد املجيد جرادات يف ماهية العمل الثقايف يف ظل‬
‫اجلميع على التعلم واكت�ساب املهارات واالبتكارات‪� ،‬أما الثاين‪:‬‬ ‫التحوالت االجتماعية البنيوية‪ ،‬التي جاءت بدون احتياطات‬
‫فيبلور ال�سيا�سات الرتبوية ال�ساعية �إىل �إيجاد فكر م�شرتك‬ ‫ح�س التناغم �أو التوازن بني النا�س‪ ،‬بكتابه اجلديد‬‫ت�صون ّ‬
‫واجتاهات موحدة تعزز �أ�سلوب امل�شاركة والتعاون‪.‬‬ ‫املعنون بـ «ثقافة املعرفة والتفكري اال�سرتاتيجي» بدعم من‬
‫وزارة الثقافة ‪ ،2011‬معتمد ًا على منظومة القيم‪ ،‬وم�ستعين ًا‬
‫�أين تقف احلرية‪:‬‬
‫على ذلك باحلديث عن مفهومي الإبداع والنقد‪� ،‬سعي ًا لتحقيق‬
‫ينتقل الباحث جردات �إىل مفهوم احلرية‪ ،‬ف�أين تقف‬ ‫معادلة الرتاكم املعريف‪.‬‬
‫احلرية التي متنح الإن�سان القدرة على اال�ستنباط والتحليل‪.‬‬
‫ت�سا�ؤالت‪:‬‬
‫مفهوم املعرفة و�صنوفه‪:‬‬ ‫يبد�أ مقدمته بت�سا�ؤالت تثار على الدوام عن �أين يقف‬
‫�أما مفهوم املعرفة فريبطه بحجم اخلربات املكت�سبة‪،‬‬ ‫املبدع العربي من ق�ضايا �أمته؟ وهل ميتلك هذا املبدع �إرادة‬
‫ومق�سم ًا املعرفة �إىل ثالثة �أ�صناف هي‪ :‬املعرفة املعلنة‪:‬‬
‫ّ‬ ‫وقوة؟ �أم يتمركز حول ذاته؟‬
‫وتت�ضمن ال�سيا�سات والتعليمات واملعايري‪ ،‬واملعرفة ال�ضمنية‪:‬‬ ‫يف�صح امل�ؤلف من البداية عن ر�صد حماوالت الربط بني‬
‫وتت�ضمن القيم واالجتاهات الفكرية واملعرفة الثقافية‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫عنا�صر الإبداع وم�صادر التعلم التي ترثي املعرفة‪.‬‬
‫وتت�ضمن االفرتا�ضات والأعراف‪.‬‬ ‫ّ‬
‫ال بدّ من مناق�شة تطورات التن�شئة‪:‬‬
‫الإبداع العربي وظروفه‪:‬‬
‫يجد �صاحب الكتاب �أنه ال ب ّد من مناق�شة تطورات التن�شئة‬
‫ي�سمح هذا الطرح للم�ؤلف �أن ينتقل �إىل ظروف الإبداع يف‬ ‫االجتماعية‪ ،‬عند تفح�ص عنا�صر الإبداع وم�صادر التعلم التي‬
‫املجتمع العربي‪ ،‬ليك�شف عن م�ؤثرات الثقافة واللغة والرتاث‬ ‫ترثي املعرف‪ ،‬وذلك حري �أن ينظر �إليه من خالل بعدين هما‪:‬‬

‫باحث �أردين‪.‬‬
‫‪‬‬
‫‪157‬‬

‫االجتماعية التي متثل الوعاء الفكري الذي يج�سد ال�شخ�صية‬ ‫الأدبي يف تعزيز مقومات الإبداع مبفهومه الوا�سع‪ .‬ويخل�ص‪:‬‬
‫االعتبارية لهذه الأمة‪� .‬أما املنتج الثقايف الذي تنه�ض به‬ ‫�إن التحديات املاثلة يف جمتمعنا العربي تقت�ضي روح املواكبة‬
‫اللغة العربية في�أخذ بعد ًا تنموي ًا كونه يرتبط ب�إبراز ال�صورة‬ ‫مع التحوالت الداخلية والتطور املعريف‪ ،‬يف هذا الع�صر الذي‬
‫احل�ضارية للأمة‪ ،‬وحتدث الكتاب عن الرحالت ك�أكرث‬ ‫ميتاز بالكفاءة الإنتاجية والتنوع‪ ،‬وي�ؤكد على �ضرورة اجلمع‬
‫املدار�س تثقيف ًا للإن�سان‪ ،‬ت�سهم باال�ستفادة من امل�ستجدات‬ ‫بني الر�ؤية العلمية واجلهد الفكري‪.‬‬
‫العلمية والفكرية‪ ،‬وهو ما ا�صطلح عليه مبفهوم املثاقفة �أو‬
‫امل�شرتك بني ثقافة املعرفة والتنمية‪:‬‬
‫التثاقف‪ .‬هذا الذي ي�شكل مهارة من مهارة االت�صال‪ ،‬يتوقف‬
‫جناحها على الثقة بني املبادر بالفكرة واملتلقني لها‪.‬‬ ‫ثمة �س�ؤال يراه الباحث يطرح نف�سه م�ؤداه ما القوا�سم‬
‫امل�شرتكة بني ثقافة املعرفة والتنمية؟ وحتدد �إجابة امل�ؤلف‬
‫الإن�سان بني ن�سق التكامل ون�سق رغبة‪:‬‬ ‫عليه تلك القوا�سم مبحورين هما‪ :‬حالة النمو الإن�ساين‪ ،‬والدور‬
‫ولكن الباحث ينعي ن�سق التكامل الذي نفرت�ض �أنه يقوي‬ ‫الريادي للمثقفني‪.‬‬
‫البنيان‪ ،‬ومي ّد اجلميع باحلركة االن�سيابية نحو الإنتاج املعريف‪،‬‬
‫قيمة املعرفة وفن اال�ست�شراف‪:‬‬
‫والذي �أطاحت به التحوالت االجتماعية البنيوية‪ ،‬لتحل ن�سق ًا‬
‫ي�سوق رغبة الإن�سان للتمركز حول ذاته‪ ،‬مما ي�شو�ش على‬ ‫ينتقل امل�ؤلف بعد ذلك �إىل احلديث عن قيمة املعرفة وفن‬
‫مفهوم ثقافة املعرفة‪.‬‬ ‫اال�ست�شراف‪ ،‬مما يقت�ضي �أمور ًا ثالثة هي‪ :‬الإبداع اخلالق‪،‬‬
‫العمل اجلاد‪ ،‬والتفا�ؤل احلذر‪ ،‬حيث تربز مهمة اال�ست�شراف‬
‫ي�سمح الطرح ال�سابق والعر�ض امل�صاحب له للباحث‪ ،‬الذي‬ ‫مبا ت�ستند عليه من ر�ؤية وقدرة على املثابرة واملتابعة‪ .‬وهذه‬
‫كان �ضابط ًا يف اجلي�ش وبرتبة عالية‪� ،‬أن ينتقل �إىل التفكري‬ ‫الفكرة املحورية يف الكتاب جعلت �صاحبها يعنون بها كتابه‪:‬‬
‫اال�سرتاتيجي يف �إنتاج املعرفة‪ ،‬يورد_ فكرة ابن نبي‪�« :‬إن‬ ‫«ثقافة املعرفة والتفكري اال�سرتاتيجي»‪.‬‬
‫م�شكلة كل �شعب هي يف جوهره ًا م�شكلة ح�ضارته‪ ،‬وال ميكن‬
‫الربط بني الثقافة والتحديث والتنمية‪:‬‬
‫ل�شعب �أن يفهم �أو يحل م�شكلته ما مل يرتفع بفكره �إىل م�ستوى‬
‫الأحداث الإن�سانية»‪.‬‬ ‫وعند حماولته الربط بني الثقافة والتحديث والتنمية يتجه‬
‫�إىل �إجابة �أ�سئلة يطرحها بنف�سه مثل‪ :‬ماذا عن متطلبات‬
‫املعركة املفرو�ضة معركة الثقافات‪:‬‬ ‫احلداثة؟ �أين تقف الثقافة من التنمية ؟ فيقدم الإجابة عليها‬
‫�إن املعركة املفرو�ضة علينا‪ ،‬معركة الثقافات يف عامل‬ ‫على حماور ثالثة تتمثل بالفعل الثقايف الهادف‪ ،‬والدرا�سات‬
‫االت�صاالت والعوملة‪ ،‬يف الوقت الذي حتاول فيه الثقافة الأقوى‬ ‫التنموية‪ ،‬وتقلي�ص الفجوة بني احلالة الثقافية وا�ستحقاقات‬
‫�أي الثقافة الغربية‪� ،‬أن تكون ثقافة العوملة التي ت�سود العامل‬ ‫التنمية‪ ،‬الفت ًا �إىل �أن العوملة �أحدثت تباينا بني الثقافة والتنمية‪،‬‬
‫ب�أ�سره‪ ،‬وت�سري الب�شرية عليها‪ ،‬مقابل التخلي عن ثقافتها‬ ‫مما ي�ستدعي تفعيل دور الإدارة الإ�سرتاتيجية للموارد الب�شرية‪،‬‬
‫الأ�صلية ومتنكرة لرتاثها الأ�صيل‪.‬‬ ‫و تركيزها على احرتام الوقت وقيمة الإن�سان‪.‬‬

‫املعركة مفرو�ضة على جميع الأمم‪ ،‬مبختلف ثقافاتها‪،‬‬ ‫الوعاء الفكري الذي يج�سد ال�شخ�صية االعتبارية‪:‬‬
‫ف�إما ت�صمد �أو تتهاوى �أمام الثقافة القوية‪ ،‬تلك الثقافة التي ال‬ ‫وعندما يتناول الكتاب اللغة العربية‪ ،‬ي�صفها بالظاهرة‬
‫‪‬‬
‫‪158‬‬

‫* حت�صيل ثقافة �إ�ضافية انفتاحية على العامل لدى اجليل‬ ‫حترتم �أ�صول املثاقفة املتبادلة‪ .‬يف الوقت الذي يحاول الغرب‬
‫اجلديد‪.‬‬ ‫فيه �أن يجعل من العامل �سوق ًا واحدة ال قت�صادياته وميدان ًا‬
‫وحيد ًا لثقافته‪.‬‬
‫* املحافظة على التوازن بني الثقافة القومية والثقافة‬
‫الوافدة عرب و�سائل االت�صال العاملية احلديثة‪ ،‬لكي ال تذوب‬ ‫فكيف نقوى من �صمود الثقافة العربية‪ ،‬وكيف ميكن‬
‫الأوىل وال تطغى الثانية‪.‬‬ ‫�أن تكون �شريك ًا فاع ًال‪ ،‬ال متلقي ًا م�ستلم ًا يف م�ضمار الثقافة‬
‫العاملية‪.‬‬
‫معادلة �صعبة تتطلب دراية‪:‬‬
‫جهد عربي مكثف مطلوب‪:‬‬
‫تلك هي املعادلة ال�صعبة التي ينبغي على العرب �أن‬
‫خ�ضم هذه املعركة احل�ضارية املتداخلة‪،‬‬
‫ّ‬ ‫يحافظوا عليها‪ ،‬يف‬ ‫ثمة جهد عربي مكثف مطلوب لري�سم �إ�سرتاتيجية قومية‬
‫والتي تتطلب الدراية واحلكمة‪.‬‬ ‫للدخول العربي اجلاد‪ ،‬يف �صناعة ثقافة امل�ستقبل‪ ،‬ويف م ّد �شبكة‬
‫االت�صاالت العاملية املقبلة‪ ،‬كي ال تبهت ال�صورة العربية‪ ،‬بل‬
‫لت�صري جزء ًا من مدركات اجليل العربي اجلديد و�أحا�سي�سه‪،‬‬
‫حتى ال تغيبه ال�صور الثقافية املبهرة‪ ،‬التي تعر�ضها الثقافة‬
‫الغربية املتفوقة بالتقنية واملتقدمة بالأ�ساليب‪.‬‬
‫وال�شباب هم ال�شريحة الأكرب التي ت�ستهدفها هذه‬
‫الإ�سرتاتيجية‪ ،‬حيث ي�شكل الكمبيوتر (احلا�سوب) م�صدر ًا‬
‫ح�سا�س ًا من م�صادر املعرفة لديها‪ ،‬ولي�ست للمعرفة وحدها بل‬
‫جتاوز ذلك �إىل التعامل مع الآخرين‪.‬‬
‫الواقع العربي ي�ضم جيلني‪:‬‬

‫ي�ضم جيلني‪:‬‬
‫�إال �أن الواقع العربي يك�شف عن �أنه ّ‬
‫‪ -‬جيل قدمي تقليدي لي�س لديه اال�ستعداد التقني والنف�سي‬
‫ال�ستخدام و�سائل االت�صال لال�ستفادة من الثقافة العاملية‪.‬‬
‫‪ -‬جيل جديد جتديدي ينفتح على و�سائل االت�صال للثقافة‬
‫العاملية ولديه اال�ستعداد التقني والنف�سي ال�ستخدام هذه‬
‫الو�سائل‪.‬‬
‫مما يحدو الإ�سرتاتيجية املن�شودة �أن تنطوي على هدفني‪:‬‬
‫‪‬‬
‫‪159‬‬

‫حني يخون املبدع نف�سه‬


‫جمال القي�سي‬

‫الأخالق الرفيعة ويف غرتها خ�صلة التوا�ضع‪ ،‬و�إن كانت متوخاة يف اجلميع‪ ،‬وهذا حمال بطبيعة الب�شر‪،‬‬
‫�إال �أنها الأكرث توخي ًا وافرتا�ض ًا يف املبدع‪ ،‬على اعتبار �أنه قد وعى فل�سفة احلياة و�شروطها الرئي�سة‪،‬‬
‫وبدهياتها �سوا�سية النا�س‪ ،‬و�أن مكانتهم حتددت بكونهم «�إخوانه يف الإن�سانية‪� ،‬أو �إخوانه يف العقيدة» كما‬
‫يقول ال�شاطبي‪.‬‬
‫قبل عام ظل يجل�س الروائي الكبري باولو كويلو �أمام �شا�شة الكمبيوتر‪ ،‬متفرغ ًا على �صفحته على موقع‬
‫التوا�صل االجتماعي «تويرت»؛ للوقوف مع قرائه على �آرائهم وردود �أفعالهم حول روايته الأخرية «الألف»‬
‫التي جمع مادتها يف �أربع �سنوات وكتبها يف �أقل من �شهر‪ ،‬ون�شرها �إلكرتوني ًا؛ لتكون متاحة ملن ال ميلك‬
‫ثمن �شرائها‪.‬‬
‫�إن جلو�س كويلو مع قرائه ال�ساعات الطويلة‪ ،‬وفتحه لقلبه وروحه �إىل هذا املدى‪ ،‬ما يجعلنا نوجه ال�س�ؤال‬
‫الكبري �إىل «مبدعينا» ‪-‬املوغلني يف اجل ّدية املتكلفة‪ -‬عن ر�أيهم يف هذا االنفتاح بني الكاتب و»العامة»‪ ،‬و�إىل‬
‫�أي مدى يريق ماء وجه النبوغ والعبقرية!‪ ،‬وكيف �صار «ي�سيء بع�ض كتاب اليوم» مثل كويلو �إىل ال�صورة‬
‫املهيبة للمبدع‪.‬‬
‫�إن ما يقوم به كويلو هو ان�سجام حقيقي‪ ،‬بني الأنا التي �أفرغها من ذاتها و�سكبها ر�ؤية وموقف ًا وقب�س ًا‬
‫من نور احلقيقة يف ثنايا �سطوره‪ ،‬وبني الأنا املندغمة يف جموع النا�س الذين يت�شوقون لر�ؤية ما يحدثهم به‬
‫«الأنبياء» فيجيء كما �شهقة ال�صبح و�ضوح ًا و�سطوع ًا وانفعا ًال متوازن ًا وتفاع ًال بني الكلمة وال�سلوك ‪.‬‬
‫لن يقبل �أو يتقبل املتقوقعون على ذواتهم اله�شة �أن ي�صري ن�شر كويلو لروايته الأخرية �إلكرتوني ًا وبدون‬
‫مقابل �س ّنة يف عامل الكتاب؛ ذلك �أن هذا �سيهدد جمودهم ويلقي بظالل االندثار على نتاجاتهم التي‬
‫عافها النا�س‪ ،‬وهم من كانوا يدفعون ثمنها من قوت عيالهم واحتياجاتهم‪ ،‬فيخربون بيوتهم ب�أيديهم‬
‫و�أيدي «املبدعني» الأفذاذ‪.‬‬
‫ال تقلل لفتة كويلو الإن�سانية‪ ،‬التي هي مراكمة وموا�صلة مل�سرية التوا�ضع من عظيم �ش�أنه‪� ،‬أو تخبي‬
‫�شيئ ًا من بريق �شهرته‪ ،‬ولن يقول قارئ يف اي بقعة يف الأر�ض �إنه «كاتب عادي»؛ لأنه كان معه يف �صندوق‬

‫قا�ص �أردين‪.‬‬
‫‪‬‬
‫‪160‬‬

‫الدرد�شة قبل قليل‪ ،‬ذلك �أن �ضوء ال�شم�س ال يحجبه غربال‪ ،‬و�أن املر�ضى بهالة غري حقيقية �إمنا يراوحون‬
‫املوات البواح‪ ،‬ليل نهار لو كانوا يعلمون‪ ،‬فما تزال روايات كويلو الأكرث مبيع ًا رغم الطبعات املتتالية لها‪.‬‬
‫مل تكن �صراحة كويلو �أي�ض ًا لتزيده �إال علو ًا يف نظر قرائه‪ ،‬وهو يف�صح لهم عن مكوثه الطويل يف‬
‫امل�صحات النف�سية‪ ،‬يف فرتات خمتلفة من حياته‪ ،‬وهو الذي مل يدفعه �أحد لك�شف هذه احلقيقة‪ ،‬والتي‬
‫تقابل «مبدعني» لدينا يخجلون من الإف�صاح عن تعر�ضهم للزكام كالآخرين من «العوام»!‬
‫يثري هذا لدي‪ ،‬تذكر موقف الفتى الذي طلب من حممود دروي�ش �أن يقر�أ له ق�صيدة «مديح الظل‬
‫العايل»‪ ،‬وكان دروي�ش منهمك ًا يف توقيع ديوانه لعدد كبري من القراء‪ ،‬فما كان من دروي�ش �إال �أن �ضحك‬
‫وطلب �إليه ت�أجيل الطلب‪ ،‬ومداعب ًا‪�« :‬أن يعود اىل الكا�سيت» فهو نف�سه الذي يقر�أ فيه ال �أحد �آخر‪.‬‬
‫ومن عرف جنيب حمفوظ مث ًال‪ ،‬يتيقن ب�أن املبدع الكبري �إمنا يزداد توا�ضع ًا وب�ساطة بعالقة عك�سية مع‬
‫ازياد متيزه وجنوميته؛ فلم تكن ال�شهرة التي �أ�صابها �أو �أ�صابته لتثنيه عن لقاءات الأ�صدقاء القدامى من‬
‫غري الكتاب‪ ،‬وممن ال يعرفهم النا�س؛ يف حني بات بع�ض «املبدعني» ال ي�ستطيع �أقرب النا�س �إليه التوا�صل‬
‫معه بدون متاعب نف�سية ج�سيمة؛ مردها املر�ض النف�سي املعروف بـ»الالتوازن االنفعايل» الذي قد وقع‬
‫فيه املبدع‪.‬‬
‫�إن نظرة حزينة يف حال ه�ؤالء «املبدعني» الذين �أرهقوا �أنف�سهم يف التقوقع على �أنف�سهم‪ ،‬وك�أن النا�س‬
‫م�شغولة بهم �أكرث من همومها‪ ،‬لتثري ال�شفقة على حال الب�ؤ�س النف�سي‪ ،‬والرتدي املروع الذي هم فيه‪،‬‬
‫ور�ضوخهم لقرارات داخلية متوهمة �ضخمت لهم �أناهم بطريقة متعبة وم�ضحكة يف �آن مع ًا‪.‬‬
‫مل يكن حال املبدع احلقيقي يوم ًا يقع يف �شبهة التعايل على النا�س‪� ،‬أو االنعزالية املتكلفة‪� ،‬أو و�ضع‬
‫احلواجز مهما كانت وب�أي �صورة مع القراء‪� ،‬أو التعامل املت�صنع معهم‪� ،‬أو احلديث املتق�صد عند لقائهم‪،‬‬
‫�أو االن�سالخ عن عاديات الب�شر‪ ،‬ومل يكن حال املبدع احلقيقي‪ ،‬ذات يوم‪ ،‬الن�أي عن التوا�صل مع النا�س‬
‫بحجة التبتل يف حمراب الإبداع‪ ،‬والرهبنة يف دير الكتابة‪� ،‬أو االعتكاف يف �صومعة الإلهام‪ .‬‬
‫النا�س مادة الإبداع الأوىل والأخرية‪ ،‬والقراء هم وقود نار الإبداع‪ ،‬يلذ لهم االحرتاق ليحيوا من جديد‬
‫عنقاء ال متوت‪ ،‬والقراء يحرتمون من يحرتمهم من املبدعني‪ ،‬وينظر اليهم كطرف �أ�سا�س يف املعادلة‬
‫الإبداعية كمر�سل وم�ستقبل‪ ،‬ويحرتمون من ال يعتربهم «عامة» �أو «دهماء»‪ ،‬يلقي عليها بدرر الكالم من‬
‫عل‪ ،‬وال �سبيل �سوى تلقي هذه احلكم ب�ضراعة وابتهال‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫وكم من «الكتّاب» من تراجع الإميان بهم‪ ،‬وخ�سروا جذوة التوا�صل مع قرائهم‪ ،‬والتي هي اليوم �أهم‬
‫رافد و�أغنى منجم لإح�سا�س الكاتب ب�أن �صناعته هي «الأدب» ولي�س «الطرب»‪ ،‬والأمر يف النهاية �أنه‬
‫«مبدع» ت�شتغل طاقاته الروحية على �سحر احلياة واملذاق الالذع للأ�شياء‪ ،‬وهو ي�شكل الده�شة والنار‬
‫املتوهجة التي ال حترق واملجتباة من نور املوهبة‪ ،‬ف�أ ّنى له من بعد ذلك �أن يتنكر للنا�س !‬

You might also like