Professional Documents
Culture Documents
هات ــف مبـا�ش ـ ـ ـ ــر ميكن ت�صفح املجلة على موقع الوزارة www.culture.gov.jo
( رئي�س التحريـر )5672136 : رق ــم الإي ــداع لـ ـ ــدى دائـ ــرة املكتبـ ــة الــوطنيـ ــة ( / 2010 )1090د
املــرا�سـ ــالت :با�س ــم رئي ــ�س التح ــري ـ ــر
العنوان الربيدي :الأردن – عمان �ص.ب 6140 :الرمز الربيدي - 11118 :عمان
E-mail: afkar@culture.gov.jo
املـحــتـــويــــــــــــــات حــزيــران 2013 293
درا�س ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــات:
7 د .حمم ــد �صــابر عبيــد النقدي اخل ّالق
ّ الن�ص
� -صوت الناقد احلديث� :س�ؤال املنهج ودينام ّية ّ
17 د� .سـ ـ ــمية ال�شــوابك ـ ـ ــة -رحـلـ ــة الـوجـ ــع و�سـ ـ ـفــر الــحي ـ ـ ـ ــاة :ق ـ ـ ـ ــراءة ن�صي ـ ــة تنـ ــا�صيـ ـ ــة
17
26 ن�ضـ ـ ـ ـ ـ ــال القا�س ـ ـ ـ ـ ـ ــم -تــجليـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــات الــنب ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــوءات :الـمـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــا�ضـ ـ ـ ـ ـ ـ ــي ،الآن� ،ألآت
75 د .عبا�س عبد احلليم عبا�س -تـ ـ ـ ـقـ ـ ـ ـ ــديـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــم ..و�سـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـيـ ـ ــرة فـ ـ ـ ـ ـ ــي ح ـكـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــايـ ـ ــة
82 د� .إ�سـ ـ ــماعيل القي ـ ـ ــام -نظ ـ ــر ّية اخلط ـ ـ ـ�أ يف كتـ ــاب (اللغــة العرب ّيــة و�أبنا�ؤها) لنهاد املو�سى
� -آفـ ـ ـ ـ ــاق الل�س ـ ـ ـ ـ ــانيـ ـ ـ ـ ـ ــات :درا�س ــات – مراجع ــات – �شـ ـ ــهادات
87 د .عبا�س عبد احلليم عبا�س (تكرمي ًا للأ�ستاذ الدكتور نهاد املو�سـى)
94 د .عبـ ــداحل ــق بلع ـ ــابد -نحو الرجال ولغة الأجيال (نهاد املو�سى واجتهاداته يف اللغة العربية) 128
100 د .عمـ ــاد �أحم ــد الــزبن ـوي عنــد الدكتور نهاد املو�سى
التب�ص ــر يف الت ـ ــراث اللغ ـ ـ ّ
-حمـ ـ ـدّدات ّ
104 د .هيثـ ـ ـ ـ ــم �س ـ ـ ــرحــان � -أ�س ــئلة اللغة العــربية يف ع�صــر العومل ــة :قي ـ ُـم الثـُّبــوت وقوى التـَّح ُّول
110 حـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــاوره :د .ولي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــد العنـ ـ ــاتي -حـ ـ ـ ـ ــوار مـ ـ ـ ـ ــع الـ ـ ــدك ـ ـت ـ ـ ـ ـ ــور ن ـه ـ ـ ـ ـ ـ ــاد الـمـ ـ ــو�سـ ـ ــى
148
افتتــاحـي ـ ـ ـ ـ ــة
تن�ضم على بع�ضها النظرية بطبيعة احلال نظريات ،لكنها ّ احلقيقي واحلا�سم بني �صوت ّ ومن هنا يت�أكد الفرق
نظري ،والنظرية تتك�شفّ يف �إطار واحد ميكن و�صفه ب�إطار الناقد و�صوت معلم النقد ،حيث ال يكتفي �صوت الناقد بعر�ض
عن جمموعة ر�ؤيات ميكن �أن تُربط بن�سيج م�شرتك ،كما �أنّ النظريات النقدية �أ�صو ًال ومقوالت وتلخي�صها ،مكتفي ًا مبوقعة
تتمخ�ض عن �شبكة مناهج خمتلفة ت�أخذ اختالفها الر�ؤية ّ العملية النقدية نظر ّي ًا كما هي احلال لدى معلم النقد ،بل
ومتايزها من منتهجيها وحملة لوائها ،وك ّل منهج بدوره يق ّدم يتع ّدى ذلك �إىل ت�سخري الآليات والتقانات التي تتيحها هذه
جمموعة قراءات تت�س ّلح بجهاز م�ستقل ونا�ضج من امل�صطلحات النظريات لغر�س الروح النقدية يف عقل الناقد ل�سان ًا وذوق ًا
النقدي.
ّ واملفاهيم يف ال�سبيل �إىل ت�شكيل ال�صوت وج�سد ًا وح�سا�سية.
مبعنى �أنّ النظرية ت�صل تخوم ال�صوت عرب �سل�سلة تتابعات تلك الروح التي تطلق رغبته غري املحدودة يف �إحياء
وفكري خا�ص ،تعبرّ �ضرورة يف كيفية ما
ّ فل�سفي
ّ ذات ن�شاط
متظهرات اخلطاب وجت�سيدها يف لغة الن�صو�ص الإبداعية
ين ،على النحو الذي تخ�ضع فيه التجربة عن ال�شرط الإن�سا ّ
احلقيقي والوا�ضح يف تطوير �إن�سانية
ّ �إىل درجة الإ�سهام
والفكري
ّ الفل�سفي
ّ النقدية ب�أكملها ملفرزات الن�شاط بطابعه
ول�ضرورات ال�شرط الإن�سا ّ
ين وموحياته وانعكا�ساته.
النقدي
ّ الن�ص
إبداعي عرب ّ
الن�ص ال ّ املتل ّقي ،وهو يتفاعل مع ّ
تفاع ًال روحي ًا وج�سدي ًا ي ّن�شط خاليا احلياة ويع ّمق الإح�سا�س
نقدي خلاّ ق ي�ستوعب
ن�ص ّ ال ّ
�شك يف �أنّ الو�صول �إىل ّ إيجابي بها.
ال ّ
�س�ؤال املنهج ومي ّثل على نحو عميق و�أ�صيل �صوت الناقد
احلديث ،يتط ّلب ح�سا�سية دينامية ّ
تتدخل يف ك�شف امل�ضمون لكنّ هذه املهمة التي كما تبدو على قدر غري قليل من
اجلوهري للثقافة وت�أهيله يف �سياق �إعادة �صياغته
ّ الإن�سا ّ
ين ال�صعوبة والتعقيد ال ينبغي لها �أن تكون مكتفية مبنطق الرغبة
نقدي ًا. والطموح يف الإجناز ،اعتماد ًا على الذائقة املجردة وتعوي ًال
على �إمكاناتها التي قد يعتقد البع�ض �أنها حمدودة وغري
ـ �ضرورة النظر ّية:
كافية ،بل النظر �إىل الأداة املنهجية امل�ستندة �إىل النظرية،
ال نح�سب �أنّ �أحد ًا اليوم من �أولئك امل�شتغلني يف حقل بو�صفها العامل الأ�سا�س يف االنتقال بالذائقة من حدودها
واحل�سا�س من حقول املعرفةّ املعرفة النقد ّية لهذا احلقل املهم الفني املعزّز بروح علمية،
ّ الذاتوية ال�صرف �إىل الف�ضاء
الإن�سانية احلديثة ال يق ّر ب�ضرورة النظرية� ،إذ اندفع خيال العاطفي و�شطحاتها الإن�شائية.
ّ يخ ّل�ص الذائقة من ان�سياحها
النظرية لي�ضرب بظ ّله �آفاق النقد من «مغربه �إىل م�شرقه!»،
وات�سعت قا ّرتها ل ُتظهِ ر مرجع ّية ال منا�ص من الركون �إليها منطقة النظرية منطقة �ضرورية ومركزية وف ّعالة
ال�ستلهام روح النظام املعر ّيف ،من �أجل تر�صني العمل ّية النقد ّية يف العملية النقدية ،لكنها لي�ست تلك النظرية التي تبقى
وم�ضاعفة متا�سكها وتعزيز قدرتها على الك�شف والإجناز حمتفلة برماديتها ويبا�سها وجترديتها وك�آبتها ،بل النظرية
املبدع اخل ّالق. القابلة لأن ّ
تتك�شف عن حياة ح ّية بو�سعها �أن ترفد الفعاليات
النقدية مبزيد من الر�صانة والد ّقة واحلرفية ،امل�ستندة �إىل
يل للنظر ّية ا�ستناد ًا �إىل معطيات
يتح ّدد املفهوم ال�شمو ّ
نظم وتقاليد ومعايري تعمل على �إنتاج دينامية خال ّقة ّ
للن�ص
النقدي بكونها «�سل�سلة
ّ قابليتها الإجرائية يف م�ساحة العمل
العمليات ّ النقدي.
ّ
املنظمة التي يهتدي بها الناقد م�ستخ َل�صة من �آفاق
9
تف ّرده وخ�صو�ص ّيته ،و�صوت الناقد الآخر (بقيم ِه الفرد ّية الر�ؤ ّية لالقرتاب �إىل الأهداف التي تنطوي عليها الف ّعالية
واجلمع ّية) وبر�ؤاه التطابق ّية �أو االختالفية ،لتحقيق قدر كبري الإبداعية»(.)1
أدبي
من الدينام ّية والكفاءة يف طبيعة هذا الن�شاط ،وفتح ال ّ النقدي املعا�صر ت�شتغل على الظاهرة
ّ غري �أنها يف حمتواها
ين على ين وحتري�ض الثقا ّيف والإن�سا ّ فيه على الثقا ّيف والإن�سا ّ
الأدبية « ال�شعر ّية وال�سرد ّية « يف جهد خ ّالق ُيعلي خ�صائ�صها
أدبي بو�صفه جذوة حياة م�شتعلة بالتجديد والتحديث، قبول ال ّ
ين،احليوي مع اجلوهر الإن�سا ّ
ّ ذات القابلية على التداخل
النقدي بو�صفه و�سيط ًاّ ومبا يعك�س قيمة توا�صل ّية لل�صوت
واحل�ضاري. م�شارك ًا يف هذا املهرجان الثقا ّيف نقدي متميز وف ّعال ومنتج ،ينتمي �إىل �أ�صال ٍة
لت�شكيل �صوت ّ
ّ
مرجعي ٍة وي�سري بخطوات م�شحونة باخل�صب والرثاء والعمق
ـ �س�ؤال احلداثة :من الر�ؤية �إىل املنهج والو�ضوح واملنهجية واجل ّدة يف �آن.
ح�سا�سة
يتمخ�ض �صوت الناقد احلديث عن جملة �أ�سئلة ّ ّ �إذ ت�ؤكد النظرية النقدية املعا�صرة يف هذا ال�سياق ب�أ�شكالها
النقدي ،ومبا
ّ الدينامي واخل ّالق ّ
للن�ص ّ تعمل يف الف�ضاء كافة على «اخل�صائ�ص النوعية للأدب باعتباره ن�شاط ًا تخيلي ًا
مركزي
ّ تتلخ�ص يف �س�ؤال احلداثة وهو يتح ّرك يف حمور متميز ًا يف طبيعته عن غريه من الأن�شطة الإن�سانية .وانطالق ًا
من حماوره على واحدة من �أهم احللقات امل�ؤ�س�سة لل�صوت من هذا الت�أكيد يحاول النقد املعا�صر النفاذ يف ن�سيج العمل
النقدي ،املركزّة يف املنطقة الأكرث ثراء بني �أفق الر�ؤية و�آل ّيات
ّ ال�شعري ،وت�أ ّمله باعتباره بنية من العالقات يك�شف تفاعلها
ّ
املنهج. عن معنى الق�صيدة ،كما ي�شري �إىل طريقتهما املتميزة يف �إثراء
العربي احلديث يف هذا امل�ضمار ّ تو ّزع �صوت الناقد املتلقي ،وتعميق وعيه بنف�سه ،وخرباته بالواقع»(.)2
على �إيقاعات �شتّى عك�ست تنوع ًا كبري ًا و�صل �إىل ح ّد اللب�س ويف الوقت الذي يبدو فيه اال�شتغال يف منطقة النظرية
والتداخل واملفارقة ،و�أ�صبح من ال�صعب فح�صها على وفق �شائك ًا بع�ض ال�شيء ،ب�سبب من طبيعتها التجريدية ذات البعد
إيقاعي يف ال�صوت معايري �أكادميية دقيقة ،لأنّ ال�شطط ال ّ الفل�سفي التي ت�ستلزم فح�ص ًا وتدقيق ًا ومتحي�ص ًا املنطقي
ّ ّ
العربي احلديث مل يحدث على �صعيد الن ّقاد ح�سب ،بل ّ النقدي
ّ ومرونة عالية يف التفكري والتعامل مع الفرو�ض ال�ستخال�ص
على �صعيد الناقد الواحد حيث �أخذت قراءاته النقدية تقرتح النتائج ،ف�إ ّنه ال ينبغي �أن يقف ذلك حائ ًال دون التم�سك بها
جمموعة مناهج ال منهج ًا واحد ًا �أو ف�ضاء منهج ّيا م�ستق ًال. وا�ستئنا�س �أجوائها والتع ّرف اجلاد واملجتهد �إىل فقهها ،و�صو ًال
ولع ّلنا لو �شئنا الربهنة على هذه املقولة لك ّلفنا ذلك النقدي الفاعل واملبدع ل�صوت الناقد ،فمنّ �إىل تر�سيخ الوجود
الإحاطة بك ّل املزاعم النقد ّية التي ي�ضعها الن ّقاد عادة يف دون «النظر ّية مهما كانت غري وا�ضحة ،ومفاهيمها �ضمنية
مو�ضحني فيها ر�ؤيتهم ومنهجهم، مق ّدمات كتبهم النقديةّ ، أدبي �أ�سا�س ًا وكيفية وجوب
ف�إننا لن نتع ّرف �إىل ماه ّية العمل ال ّ
وقد اندفع بع�ضهم �أكرث من ذلك حيث ع ّدوها بيانات نقد ّية. قراءته� .إنّ معاداة النظر ّية تعني عادة ،معار�ضة لنظر ّيات
الآخرين ون�سيان الفرد لنظر ّيته»(.)3
�سنعاين على �سبيل املثال بع�ض ًا من ذلك على النحو الذي
ينا�سب مقرتح املداخلة يف �س�ؤال احلداثة ،من الر�ؤية �إىل �إنّ الت�أكيد على �ضرورة النظر ّية هنا من �ش�أنه �أن ينقذ
املنهج� ،إذ ع ّد �أحدهم الر�ؤية مثابة ينطلق منها الناقد نحو النقدي من تخ ّبطه وفو�ضاه وال جدواه ،ويقوده �إىل
ّ الن�شاط
املنهج ،وقد ينطلق من املثابة نف�سها جمموعة من الن ّقاد حالة دقيقة وف ّعالة من التوازن بني �صوت الناقد الفرد ب�أجلى
10
هذا الو�صف «هي غياب ي�ستح�ضره املتلقي لأنه �صانع اخلطاب /االجتماعي يبلغ �أق�صى
ّ الكتابي/الثقا ّيف
ّ بحيث �إنّ الف�ضاء
فيه»( .)11ومن ّثم ف�إنّ القراءة /القارئ /الت�أويل ينقل القرائي املنتج.
ّ متا�سكه على يد الفعل
فعاليات الواقعة الن�صية من الكمون �إىل الظهور /من الغياب
إبداعي ي�ستكمل
بهذا املعنى تتح ّول القراءة �إىل ن�شاط � ّ
الن�ص ممكن ًا وقاب ًال للحياة بكفاءة
�إىل احل�ضور ،ويجعل ّ
الن�ص ّي اخل ّالق ،وميلأ
احللقة الأخطر من حلقات الإنتاج ّ
�إن�سانية تتنا�سب طردي ًا مع قيمته الفنية� ،إذ ك ّلما كان ّ
الفني
الن�ص ّي ليحر ّره من �أ�سره
الفراغات املنت�شرة يف اجل�سد ّ
يل �أعلى قدر ًا يف ّ
الن�ص ،ف�إنه يتمتع بقابلية �أكرب على واجلما ّ
الكتابي ويبعث فيه روح الأن�سنة و�أ�سباب احلياة.
ّ
الثوري.
ّ تو�سيع م�ساحة النزعة الإن�سانية وتعميق حمتواها
ال�سيميائي تختزل الزمن
ّ �إنّ القراءة الت�أويلية يف منحاها
أدبي �إىل الثقا ّ
يف: ـ الكتابة النقد ّية :كتابة احلياة/من ال ّ
الن�ص ،بحيث متنحنا «القدرة على �إ�ضاءة املعهودعلى �أر�ض ّ
الكتابة النقدية كتابة من طراز خا�ص ،تتو�سط يف �آل ّياتها والك�شف عنه وفق ج�سر يربط املا�ضي باحلا�ضر على �ضوء ما
الكتابية وتقاناتها بني الكتابة الإبداعية بطابعها الوجدا ّ
ين يقت�ضيه الراهن للتعبري عن جتليات احلياة اال�ست�شرافية ،هذه
النظري
ّ يل ،والكتابة الفل�سفية والفكرية بطابعها واجلما ّ هي �أهداف القراءة الت�أويلية»(.)8
الكتابي من وهج
ّ والر�ؤيوي� ،ساعية يف ذلك �إىل تقريب وعيها غري �أنّ للت�أويل حدود ًا لي�س بالإمكان �إغفالها تك�شف عن
يتم
ين ور�ؤيتها الدينامية احليوية .وال ّ احلياة بطابعها الإن�سا ّ الفل�سفي وامل�ضمون الإن�سا ّ
ين للم�صطلح ،وال�س ّيما يف ّ اجلوهر
البنائي الذي يربط بنيّ ذلك �إال من خالل �إدراك �س ّر التوا�صل ال�شعري الذي ال ينبغي للت�أويل �أن يكون �إ�سقاط ًا
ّ ميدان العمل
هذه الأمناط املتنوعة واملتعددة من الكتابة ،ويخ�ضعها لن�سيج عليه« ،و�إ ّال ف�إنه ال يكون مكون ًا من �أهم مكونات �شعرية ال�شعر،
يل املح ّرك لأدوات الكتابة م�شرتك ينه�ض به الوعي اجلما ّ �إن مل يكن املك ّون الأم .ولكن ما هو وا�ضح �أي�ض ًا هو قابلية العمل
وفعالياتها� ،إذ ال �سبيل �إىل مقاربة هذا الوعي «على النحو ال�شعري بال�ضرورة ذو
ّ ال�شعري للت�أويل لي�ست بال حدود ،العمل
ّ
الأمثل ،من خالل مقاربة ال�شكل الذي هو الوعي متمظهر ًا� ،أو طابع مفتوح من الوجهة الت�أويلية ،ولكن هذا ال يجوز �أن يعني
يل»(.)12الفني هو �شكل الوعي اجلما ّ لنقل �إنّ ال�شكل ّ �أنه قابل ل ّأي ت�أويل على الإطالق ،ثمة �إذن ت�أويل على الأرجح
وال ميكن للكتابة النقدية �إذا ما �شاءت �أن تكون كتابتها ،يتطابق مع املعاين املخبوءة يف العمل ال�شعري ،وما عدا ذلك
كتابة حياة تعك�س ر�ؤية �إن�سانية مبدعة� ،أن تتفادى الوعي ال�شعري من قبل امل�ؤ ّول»(.)9
ّ ف�إنه �سيكون �إ�سقاط ًا على العمل
الن�صي ،كما �أنّ عليها �أن
ّ يل متدخ ًال يف �صياغة ال�شكل
اجلما ّ وي�سري هذا الأمر على الأنواع الأدبية كافة لكن ذروة
النقدي بو�صفه «فنّ درا�سة الأ�ساليب
ّ تُخل�ص ملفهومية الن�شاط ال�شعري ،بو�صفه �أكرث الأنواع قابلية
ّ داللته تتم ّثل يف النوع
اللغوية وا�ستنباط مطارح اجلمال يف طرائق التعبري»(،)13 لتعدد القراءة و�سيميائية الت�أويل.
ف�ض ًال عن ا�ستخال�ص العن�صر الإن�سا ّ
ين البارز فيها.
أويلي ي�ستق�صي طبقات الواقعة قرائي ت� ّ
ّ �إذن ثمة منطق
باحليوي
ّ النقدي على وفق هذه املعطيات املرتهنة
ّ �إنّ العمل الن�صية وي�ستجلي مكامنها وب�ؤرها ،ويلتقط �إ�شاراتها اخلف ّية
وح�ضاري ال يقل �أهمية
ّ إبداعي
واملنهجي هو «عمل � ّ
ّ والإن�سا ّ
ين املكتنزة بالدالالت والقيم واملعرفة اجلمالية ذات الكيفية
عن عملية �إبداع الن�صو�ص الأدبية»( ،)14ويذهب يف وظائفه االنفعالية والعاطفية ،وينتج قارئ ًا خا�ص ًا يو�صف ب�أنه «�صاحب
أدبي والثقا ّيف �أبعد من حدود الن�صو�ص ،ويتح ّمل يف
بني ال ّ الن�ص»( ،)10لأنّ �شبكة الدالالت ّ
املتك�شفة عن قراءته يف �إطار ّ
12
ويف ظ ّل جت ّلي كتابة احلياة يف الكتابة النقدية ف�إنّ الفعل ذلك م�س�ؤولية ذلك ح�ضاري ًا و�إن�ساني ًا .لذلك ف�إنّ ثمة من ين ّبه
النقدي ي�ستم ّد اجلزء الأكرب من قواه الفاعلة املتدخ ّلة يف ّ �إىل �إ�شكالية العالقة بني املد ّونة النقدية واملد ّونة الأدبية يف
النقدي مبحتواه الإن�سا ّ
ين ال ّ ت�ش ّكل �صوته من منطقة الفكر عملية �صراع القوى واملواقع بالن�سبة للقراءة والقارئ ،معتقد ًا
النقدي
ّ التجريدي ،عرب قناعة را�سخة مت�أتية من «�أنّ التفكري
ّ �أنّ «للنقد على الأدب من اخلطر �أحيان ًا ما له عليه من الف�ضل
قابل للتطور والتجديد يف ك ّل االجتاهات وامل�سارب العقلية، واملزية ،ي�أخذ بع�ضه من بع�ض فيرتاكم حتى يحتجب القول
ين دائم املغامرة ،والدخول �إىل عوامل ذلك لأنّ العقل الإن�سا ّ النقدي»(.)15
ّ أدبي وراء القول
ال ّ
جمهولة ،فك ّلما عرف �شيئ ًا انطلق �إىل ما بعده يرود ويكت�شف
النقدي �إال جزء من هذه املغامرة التي يك�سب
ّ غريه ،وما الفكر لكنّ ذلك يتوقف على درجة مت ّثل احلياة وتوكيد النزعة
بها معارف جديدة ،ويجتهد يف بلورة جتارب �إن�سانية ما كانت الإن�سانية يف ك ّل من املدونتني ،وقابلية املد ّون �أ ّي ًا كانت هويته
تعلم �آفاقها لواله»(.)17 على تفعيل �شروط احلياة يف ج�سد التلقي و�إطالق فتنته
اخلطي� ،إىل
ّ الكتابي من
ّ الإن�سانية� ،إمعان ًا يف �إنتاج ل ّذة تنقل
ورمبا كان تعدد القراءات وتن ّوعها يف مواجهة التعدد ّية أدبي �إىل الثقا ّيف.
الف�ضائي املتخ ّيل ،من ال ّ
ّ املد ّون� ،إىل
الن�ص ّية من �ش�أنه �أن يح ّمل �صوت الناقد احلديث م�س�ؤولية
الن�ص ومنطقة التل ّقي،
تطوير العالقة الإن�سانية بني منطقة ّ تلك الل ّذة املعرفية العميقة التي تنتج �أ�سئلتها معها ،الأ�سئلة
فهو «مدع ّو الآن �أكرث من � ّأي وقت م�ضى �إىل �أن يبذل جهد ًا املتنوعة واملتعددة التي تتمظهر على هذا النحو« :ما حدود
حقيقي ًا ،يف �سبيل �إزالة الفجوة بني القارئ والق�صيدة العربية الكتابة النق ّية ،وما حدود غريها من الكتابات ؟ وما العالقة
احلديثة ،وبينه وبني الأ�شكال الأدبية احلديثة ب�شكل عام ،قبل بني الكتابة واحلياة ؟ هل نحيا لكي نكتب �أم نكتب لكي نحيا
�أن تبلغ حد ًا من االتّ�ساع يتع ّذر معه �إقامة ج�سر فوقها ي�صل ؟ وبني الوهم والواقع :هل نتوهم ما نكتبه �أم نكتب ما نتوهمه
العربي بالأ�شكال الأدبية احلديثة ،فت�ضمحل هذه ّ القارئ ؟ وهل ثمة حدود فا�صلة بني هذه الأمور كلها؟ �ألي�س م�شروع ًا
الأ�شكال يف عزلتها القا�سية ،وهذه ما تلوح بوادره املخيفة �أن نلغي احلدود بينها ونخلق ف�ضاءات متنا�سجة ،متواجلة،
بالفعل»(.)18 يلغي الوهم فيها احلقيقة ،واحلياة الكتابة ،وال�شعر النقد؟
وت�ؤدي �إذا ما ات�سعت حدودها �إىل االنتقا�ص من ح�ضور على تبادل بني الفاعل واملفعول يف ك ّل هذه اجلمل؟ فتنت َُج
النزعة الإن�سانية يف بناء �إ�شكالية العالقة النقدية بني القارئ ن�صو�ص جديدة ك ّل اجل ّدة ،خمتلفة ك ّل االختالف ،وميرئي
والن�ص ،و�إىل �إ�ضعاف �صفاء �صوت الناقد وانح�سار دوره ّ اخليال املنتهك نف�سه مراياه املتواجلات ،ثم نحتفي يف ذلك
وتقليل �أهميته يف جعل الكتابة النقدية �شك ًال من �أ�شكال كتابة كله باالختالف واالنتهاك؟»(.)16
احلياة. بحيث تت�ضمن كتابة احلياة بنزعتها الإن�سان ّية �آفاق الكتابة
�إنّ نقدنا املعا�صر مل يكتف ب َق�صر �إ�شكاليته على موقع النقد ّية ،ومت�ضي بها يف ا�ستلهام راقٍ ل�شروطها ومعطياتها
إبداعي نف�سه� ،إذ مل ي�ش ّكل
الن�ص ال ّ
القراءة ،بل تع ّداه �إىل موقع ّ نحو جر�أة االختالف واالنتهاك ،وهي تعيد �صوغ �س�ؤال�/أ�سئلة
يف نظر البع�ض «حركة فاعلةّ � ،أي �أنه مل يقم عالقة �إيجابية املنهج ،وتفتح �صوت الناقد احلديث على �إ�شكال ّيات مر�آو ّية
الن�ص ،ي�ستخرج مقايي�سه من خ�صو�صية هذا الأخري ،ثم مع ّ ت�ش ّدد على اخل�صو�ص ّية ال�صوت ّية ،التي ت�ستنه�ض يف روح
ميتلك القدرة على و�ضعه يف حقل للأ�سئلة الكا�شفة»( ،)19توفر مكرها و�س ّريتها وعنفوانها.
الكتابة �أعلى درجات ِ
13
لكنه ما يلبث يف بيانه املت�ض ّمن �إعالن ًا عن املوت النقد له فر�صة دعم خ�صو�صيته ال�صوتية وتف ّردها ،وت�سهم �إ�سهام ًا
أدبي �أن يرتاجع بع�ض ال�شيء فيما يتع ّلق مبنجزه الكبري، ال ّ حقيقي ًا يف بلورة قيم جمالية ميكن �أن تط ّور ر�ؤاها و�آل ّياتها
النقدي
ّ �إذ لي�س الق�صد عنده ـ كما يقول« :هو �إلغاء املنجز حت�ض الن�صو�ص على كلما حت�ص ّنت بنزعة �إن�سانية مبنينةّ ،
أدبي ،و�إمنا الهدف هو يف حتويل الأداة النقدية من �أداة يف ال ّ حت�ض احلياة على �أن�سنة الن�صو�ص .ممار�سة احلياة مثلما ّ
يل اخلال�ص وتربيره (وت�سويقه) بغ�ض النظر عن قراءة اجلما ّ
عيوبه الن�سق ّية� ،إىل �أداة يف نقد اخلطاب وك�شف �أن�ساقه ،وهذا أدبي يف
ؤن�سن حلركة النقد ال ّ وا�ستناد ًا �إىل هذا املعيار امل� ِ
يقت�ضي �إجراء حتويل يف املنظومة اال�صطالحية»(.)22 ظ ّل �إقامته الإ�شكالية املقرتحة للكتابة النقدية/كتابة احلياة،
ميكننا ا�ستقبال املغامرة املنهجية من العيار الثقيل الداعية �إىل
أدبي �أوقع نف�سه
ويف ذلك تناق�ض ما بني �إقراره ب�أنّ النقد ال ّ النقدي ،واقرتاح البيعة أدبي من �ساحة العمل
ّ ت�سريح النقد ال ّ
و�أوقعنا يف حالة من العمى الثقا ّيف التام عن العيوب الن�سق ّية لنقد جديد دُعي عند ّ
منظريه وم�ش ّيعيه بـ «النقد الثقا ّيف»، ٍ
يل ،وب�أنه غري م�ؤهل لك�شف هذا املختبئة حتت عباءة اجلما ّ
اخللل الثقا ّيف من جهة ،و�أبعاد ق�صده عن فكرة �إلغاء املنجز
منهجي بالغ الق�سوة ميكن
ّ حيث �أُخ�ضع النقد ال ّ
أدبي لت�شريح
ؤيوي
�أن يجر ّده حتى من حقوقه التقاعدية ،يف �ضوء ا�ستقراء ر� ّ
أدبي من جهة �أخرى ،لأنّ فكرة الإلغاء والتدمري ماثلة
النقدي ال ّ
ّ
وحا�ضرة وق�صدية متام ًا يف مداخلته ،وال ميكن لهذه الإملاحة أدبي علىذاتوي يف الأن�ساق الثقافية العربية ،و�ضع النقد ال ّ ّ
الرتاجعية �أن تخ ّفف من �صرامة الفكرة وحد ّيتها وق�سوتها . الئحة املتّهمني ب�إف�ساد الثقافة العربية وتدمري م�ضمونها.
فهل يقرتح النقد الثقا ّيف يف ال�س�ؤال املنهجي اخلطري �صوت ًا �أ�صحاب النقد الثقا ّيف الذين ينادون بقفزة نقدية جا ّدة
جديد ًا للناقد احلديث ،يجعل �صلته بالنزعة الإن�سانية وقابليته نحو �أن�سنة النقد ثقافي ًا ،يرون �أنّ النقد ال ّ
أدبي �أ ّدى «دور ًا
أدبي على
على متثيلها �أكرث حيوية وحرارة ومعنى من النقد ال ّ مهما يف الوقوف على (جماليات) الن�صو�ص ،ويف تدريبنا
الرغم من غمو�ض ال�س�ؤال وعدم و�ضوح الدعوة؟. الن�صو�صي ،ولكنّ النقد
ّ على التذ ّوق اجلما ّ
يل وتق ّبل اجلميل
أدبي ،مع هذا ،وعلى الرغم من هذا� ،أو ب�سببه� ،أوقع نف�سه ال ّ
�شك يف �أنّ مداخلة الغذامي امل�ستفي�ضة يف كتابة (النقد ال ّ
و�أوقعنا يف حالة من العمى الثقا ّيف التام عن العيوب الن�سق ّية
الثقا ّيف) ال جتيب على هذا الت�سا�ؤل �إجابة �شافية ،مكتفية
يل ،وظ ّلت العيوب الن�سق ّية تتنامىاملختبئة حتت عباءة اجلما ّ
بالدعوة �إىل توحيد الأداة النقدية نحو نقد اخلطاب و�إىل
والبالغي ،وحتى �صارت مناذجنا
ّ ال�شعري
ّ متو�س ّلة باجلما ّ
يل،
�إجراء حتويل يف املنظومة اال�صطالحية ،من دون تزويد دعوته
بالإجراءات والآل ّيات والو�سائل التي ت�ضعها مو�ضع التنفيذ الن�سقي»(.)20
ّ الراقية بالغي ًا هي م�صدر اخللل
الفعلي والوا�ضح يف امليدان ،ولنا �أن نت�ساءل �أي�ض ًا ملاذا ال
ّ وح�سب الدكتور عبداهلل الغذامي �أحد �أهم املنادين
ّ
ميكن �أن يكون للنقد الثقايف وجود ت�ضامني و�ساند بجانب ّ
واملنظرين لهذا النقد الثقا ّيف ف�إنه «ومبا �أنّ النقد ال ّ
أدبي غري
�صحت دعوة أدبي ت�صحيح ًا وتوجيه ًا وتقومي ًا� ،إذا ما ّالنقد ال ّ م�ؤهّ ل لك�شف هذا اخللل الثقا ّيف فقد كانت دعوتي ب�إعالن موت
الغذامي �إجرائي ًا؟. أدبي ،و�إحالل النقد الثقا ّيف مكانه»( ،)21ولع ّل نزعة
النقد ال ّ
�صوت الناقد وف�ضاء املنهج ّية: التدمري التي تخ ّللت دعوة الغذامي هذه ال تنجو هي نف�سها من
أدبي .
الن�سقي نف�سه الذي نعاه على النقد ال ّ
ّ اخللل
العربي احلديث ال�ستك�شاف
ّ البحث يف �صوت الناقد
14
ال�شعراء من جهة �أخرى ،وقد حاولت �أن �أتبينّ التط ّور احلا�صل املنهجي �س�ؤا ًال وحمتوىً ،يتط ّلب يف نظرنا جهد ًا ج ّبار ًا
ّ ف�ضائه
لدى ال�شاعر يف توظيفه لأ�سطورة �أورفيو�س والفكر الأور ّيف، ال�ستنطاق تلك الر�ؤى التي يجتهد الن ّقاد يف ب ّثها بني ثنايا
وقد �ساقتني هذه املنهج ّية للوقوف على الكثري من م�شاكل مقد ّمات كتبهم النقد ّية.
العربي املعا�صر وق�ضاياه الفن ّية والفكر ّية”(.)23
ّ ال�شعر
وهو ما تعجز مقاربتنا هذه عن النهو�ض به لأ�سباب
ولنا �أن نرتّب ر�ؤيته املنهج ّية على وفق العالمات الواردة ذات ّية ومو�ضوع ّية كثرية ،ميكن �أن تع ّو�ض هنا على نحو
ن�ص املداخلة املنهجية� ،إذ و�ضع قراءته و�ضع ًا بنيويا بالغ يف ّ ينا�سب الطبيعة املركزّة لأهداف املقاربة ،يف حوار بع�ض
اال�ستقالل ّية والرتكيز بو�صفها “ن�ص ّية دقيقة” ،لكنّ املنت الر�ؤى التي حملتها مقدمات كتب نقد ّية ا�شتغلت على ظواهر
النقدي يف الكتاب يت�ساهل على نحو ما مع هذه الن�ص ّية ّ العربي احلديث يف
ّ ون�صو�ص متعددة ،عك�ست �صوت الناقد
والد ّقة ،وال يبقى متم�سك ًا بها ك ّلما وجد ذلك منا�سب ًا و�ضروري ًا متنوعة ك�شفت عن ت�ص ّورات واجتهادات تتباين يف قيم مرايا ّ
املنهجي املعبرّ عنه يف عنوان الكتاب.
ّ وم�ستجيب ًا للهدف احلقيقي يف ت�ش ّكل هذا ال�صوت،
ّ �إجنازاتها وحدود �إ�سهامها
كما ب�سط الظاهرة على م�ساحة الن�صو�ص بتتبعه ولب�س جعله يتخ ّلف كثري ًا عنبعد �أن تع ّر�ض الهتزاز وت�شويه ٍ
“الظاهرة الأورفية يف جمموعة ن�صو�ص ال�شعراء” ،وهو ما العاملي على
ّ الإجنازات الباهرة التي ح ّققها �صوت الناقد
حت�سبت للخ�صو�صيات اجتهد يف ا�ستق�صائه بر�ؤية �شمول ّية ّ والتطبيقي ،يف قابليته الف ّذة على متثيل
ّ النظري
ّ ال�صعيدين
يف حماولته تبيان “التط ّور احلا�صل لدى ال�شاعر يف توظيفه أدبي.
النقدي وال ّ
ّ الإن�سا ّ
ين يف
املنهجي
ّ لأ�سطورة �أورفيو�س والفكر الأور ّيف” ،منفتح ًا يف �أفقه وال ّ
�شك يف �أنّ الع ّينات املختارة ال تهدف �إىل متثيل �صوت
على النظر يف الظاهرة بو�صفها ن�شاطا �إبداع ّيا خ ّالقا داخل
العربي احلديثّ ب�إ�شكاالته و�ألوانه وطبقاته ،كما �أ ّنها ال
ّ الناقد
ظاهرة �أدب ّية �أعم و�أ�شمل ،م ّكنته من “الوقوف على الكثري من
العربي،
ّ النقدي
ّ تق�صد متييزها نوع ّيا �أو و�ضعها يف ق ّمة املنجز
العربي املعا�صر وق�ضاياه الفكر ّية والفن ّية” .على
ّ م�شاكل ال�شعر
ف�ض ًال على �أنها قد ال تطابق بال�ضرورة ر�ؤيتنا �أو تنهج منهجنا،
النحو الذي متّع املنهج مبرونة كبرية ،ووعي خ�صب ،وخيال
�صح التعبري قابلة للمناق�شة �إمنا هي عي ّنات “تو�ضيحية” �إن ّ
ين ال يقفل الأدوات ومنظومة العمل على طاقة �إنتاج ّية �إن�سا ّ
واحلوار يف �ضوء �شروط املقاربة و�أهدافها.
ريا�ض ّية م�سبقة ،تط ّوق �صوت الناقد وحترمه من مبادراته
اخل ّالقة يف الفح�ص واملعاينة واال�ستقراء. العربي املعا�صر” ينتخب
ّ يف كتابه “الأورفية وال�شعر
الناقد الدكتور علي ال�شرع الظاهرة الأورفية التي عك�ست
ويقرتح الناقد الدكتور وجيه فانو�س لر�ؤيته املنهج ّية �ضمن
اهتمام ًا مبكر ًا با�ستلهام تقانات الأ�سطورة و�آل ّياتها لدى
�سياق �آخر� ،شبكة مناهج متداخلة ومتعا�ضدة ومتوا�شجة يف
�شعراء احلداثة العربية ،وتباينت ظروف التوظيف و�سياقاته
أدبي”،
مقدمة كتابه “خماطبات يف ال�ضفة الأخرى للنقد ال ّ و�أهدافه باختالف الأمناط احلداثية لدى ه�ؤالء ال�شعراء .
تعمل جميعها بروح االندفاع امل�شرتك نحو متثيل ر�ؤيته
وجت�سيدها منهجي ًا يف قراءة الن�صو�ص والظواهر واملفا�صل �سعى الدكتور علي ال�شرع �إىل حتليلها وتقومي جتربتها
النقد ّية الأخرى ،را�سم ًا �صورة ذلك بقوله“ :ولئن �سعيت، بر�ؤية حداثية معلنة ،اقرتحت منهج ًا و�صفه الناقد على النحو
ها هنا� ،إىل كثري من الواقع ّية التحليلية واال�ستنتاج ّية ،فلقد الآتي�“ :إنّ منهجيتي يف هذه الدرا�سة تقوم على قراءة ن�ص ّية
تو�سلت يف �سعيي هذا مناهج عمل ت�ستند �إىل مفاهيم تق ّدمها من جهة ،وعلى تت ّبع الظاهرة الأورفية يف جمموعة ن�صو�ص
15
أيوبي يجتهد يف ذلك �أي�ض ًا �أن ال يبتعدلكنّ الناقد ال ّ نظر ّية التل ّقي ،و�إىل معاجلات تقوم على كثري من التحليل
عن تلك الأهداف املنهج ّية يف ر�ؤيتها العا ّمة التي نادى بها البنائي ،واعتمدت يف هذا جميعه قراءة تقوم على املعطى ّ
أيوبي
منهجي �آخر� ،إذ ي�ص ّرح ال ّ ّ الدكتور فانو�س يف �سياق أدبي ،و�إعادة تركيبه مبا يتّفق على هذه احلقيقة
الفكري �أو ال ّ
ّ
باتخاذ درا�سات كتابه “منحى نقد ّي ًا ع ّول كثري ًا على اجلانب نظرة املجتمع الذي نحن فيه ومنه”(.)24
وال�شخ�صي ،امل�ستند �إىل نظرة مو�ضوع ّية حمايدة
ّ الذوقي
ّ
قدر امل�ستطاع ،متوخني ال�صدق فيما نقول ،والعدل فيما ويالحظ متام ًا زخم التع ّددية املنهج ّية يف احت�شاد مفاهيم
نحكم ،والنزاهة فيما نرى ،واجلر�أة الأدبية يف �إبداء الر�أي ؤيوي
وم�صطلحات وقيم منهج ّية كثرية داخل لوحة املقرتح الر� ّ
واملالحظة”(.)25 املنهجي للدكتور فانو�س ،ابتدا ًء من “الواقع ّية التحليليةّ
البنائي”
ّ واال�ستنتاج ّية”“ ,نظر ّية التل ّقي” و”التحليل
جلي ال�صورة املنهجية التقليدية التي ويتّ�ضح على نحو ّ أدبي” و”�إعادة تركيبه”،الفكري �أو ال ّ
ّ و”تفكيك املعطى
ر�سمها لر�ؤيته وال�س ّيما يف حتا�شيه ذكر مفردة “منهج” ،ويف
منهجي يف التفاعل مع الواقع والتوافق
ّ و�صو ًال �إىل ما هو خارج
العربي
ّ اعتماد تعبريات ترتد �إىل مواقع املناهج ال�سياقية والنقد
مع نظرة املجتمع.
املنهجي نحو مناهج احلداثة وما بعدها)، ّ (ما قبل التحول
ال�شخ�صي”
ّ الذوقي
ّ نقدي” و”اجلانب وتبتدئ بـ “منحى ّ ورمبا تراءى نوع من اللب�س واخللط والتداخل يف �شبكة
و”نظرة مو�ضوعية حمايدة” ومنتهية بـ “ال�صدق” و”العدل” املفاهيم وامل�صطلحات التي تنحدر من مرجع ّيات منهج ّية
و”النزاهة” و”اجلر�أة الأدبية” و”�إبداء الر�أي واملالحظة”. خمتلفة ،لكننا نعتقد وب�صرف النظر عن تقومي مدى التوازن
ال�شخ�صي
ّ ؤيوي يخلط
ح�س ر� ّ وهي تعبريات تك�شف عن ّ املنهجي يف جت ّمع كل هذه احللقات املنهج ّية يف خط �شروع ّ
باملنهجي ،لكنه يهدف �إىل متثيل �أكرث حظ ًا ّ أخالقي
ّ وال منهجي يف متثيل
ّ منهجي واحد ،وما يثريه ذلك من �إ�شكال ّ
النقدي� ،إذ جرى يف معظم الدرا�سات التي ّ ين يفللإن�سا ّ �سخر ك ّل ما ميكن ت�سخريه
ؤيوي للناقد� ،أنّ الناقد ّ
الأمنوذج الر� ّ
النقدي ،ب�سبب
ّ ق ّدمها الكاتب بني د ّفتي الكتاب على ح�ساب للتو�صل �إىل حقيقة تفاعل الر�ؤية
من �إمكانات منهج ّية متاحةّ ،
منهجي �ضروري يحقق له كفاءة ّ عدم االرتفاع به �إىل م�ستوى مع الواقع وا�ستلهامها لنظرة املجتمع يف حالته الفاعلة ،تعزيز ًا
احلداثي.
ّ النقدي بت�ش ّكله
ّ االنتماء �إىل ف�ضاء ال�صوت تتج�سد وتتمظهريل وهي ّ للنزعة الإن�سان ّية يف حمتواها اجلما ّ
ميكن لقراءتنا التي اقت�صرت على مقاربة ثالث جتارب النقدي.
ّ يف املنجز
النقدي فيها� ،أن
ّ منهج ّية لنقاد عرب ال�ستك�شاف قيمة ال�صوت النقدي و�إملاحاته مبتعدة
ّ يف حني تتغيرّ نربات ال�صوت
تنفتح ومتت ّد �إىل جتارب �أخرى ت�سعى �إىل حتليل ف�ضاء ال�صوت املنهجي الكثيف وال�ضاغط لدى الدكتور
ّ احل�س
ّ عن هذا
العربي احلديث ،ومدى �إ�سهامها يف بناء ّ النقدي يف النقد
ّ أيوبي يف مقدمة كتابه“ :ف�صول يف نقد ال�شعر يا�سني ال ّ
نقدي خ ّالق بدينام ّية �إبداعية تتفاعل مع �س�ؤال� /أ�سئلة
ن�ص ّّ العربي احلديث” ،ومقرتبة من ب�سط ر�ؤية تقليد ّية تتوخىّ
املنهج من جهة ،وتنقل الفعال ّية النقد ّية �إىل املجال الإن�سا ّ
ين الب�ساطة وعدم الدخول يف متاهة ال�شبكة ال�شائكة للمنظومة
ورقي ذوقه،
بحركته احل�ضار ّية القائمة على تط ّور الإن�سانّ ، اال�صطالح ّية واملفهوم ّية التي �أنتجتها الثورة املنهج ّية
وح�سا�س ّيته ،ونظرته �إىل الأ�شياء من جهة �أخرى.
احلديثة.
16
� -16صدمة /هزة اال�ستعارة ،كمال �أبو ديب ،جملة ثقافات ،البحرين ،العدد ،1
.43 :2002
الهوام�ش والإحاالت:
-1اللغة الثانية يف �إ�شكال ّية املنهج والنظر ّية وامل�صطلح يف اخلطاب النقدي العربي
-17يف ت�شكيل اخلطاب النقدي مقاربات منهجية معا�صرة ،د .عبد القادر الرباعي،
احلديث ،فا�ضل ثامر ،املركز الثقايف العربي ،الدار البي�ضاء ،بريوت ،ط1994 ،1
الأهلية للن�شر والتوزيع ،عمان ،ط.7 :1998 ، 1
.23 :
-18عن بناء الق�صيدة العربية احلديثة ،د .علي ع�شري زايد ،القاهرة.6 :1978 ،
-2ال�صورة الفنية يف الرتاث النقدي والبالغي ،د .جابر ع�صفور ،دار املعارف،
-19الإيقاع والزمان ،جودت فخر الدين ،دار احلرف العربي دار املناهل ،بريوت، القاهرة.5 :
ط.28 :1995 ،1
-3مقدمة يف النظرية الأدبية ،تريي �إيغلنت ،ترجمة �إبراهيم جا�سم العلي ،دار
-20النقد الثقايف قراءة يف الأن�ساق الثقافية العربية ،عبداهلل الغذامي ،املركز ال�ش�ؤون الثقافية العامة ،بغداد.5 :1992 ،
الثقايف العربي ،الدار البي�ضاء ،بريوت ،ط.78 :2000 ،1
-4ما ال ت�ؤديه ال�صفة املقرتحات الل�سانية والأ�سلوبية وال�شعرية ،حامت ال�صكر ،دار
-21م .ن.8 : كتابات ،بريوت ،ط.6 :1993 ، 1
-22م .ن.8 : -5املنهج ال�سيميائي بني التهذيب والتوليد ،بو جمعة بو يعيو ،جملة املوقف الأدبي،
احتاد الكتاب العرب ،دم�شق ،العدد (.11 :2002 ، )173
-23الأورفية وال�شعر العربي املعا�صر ،د .علي ال�شرع ،من�شورات وزارة الثقافة،
عمان ،ط. 9 : 1999 ، 1 � -6إ�شكالية املناهج يف النقد الأدبي ،د .حممد خرما�ش ،فا�س ،ط.2 :2001 ،1
-24خماطبات يف ال�ضفة الأخرى للنقد الأدبي ،وجيه فانو�س ،احتاد الكتاب � -7شعرية الن�ص بني املبدع واملتلقي ،د .ال�سعيد بو�سقطة ،جملة املوقف الأدبي،
اللبنانيني ،بريوت ،ط.7 :2001 ،1 م� .س.20 :
-25ف�صول يف نقد ال�شعر العربي احلديث ،د .يا�سني الأيوبي ،احتاد الكتاب العرب، -8دالئلية الن�ص الأدبي ،عبد القادر فيدوح ،ديوان املطبوعات اجلامعية ،وهران،
دم�شق.6 :1989 ، ط.25-24 ،1993 ،1
-9ال�شعر والوجود درا�سة فل�سفية يف �شعر �أدوني�س ،عادل ظاهر ،دار املدى للثقافة
والن�شر ،دم�شق ،ط.85 :2002 ،1
-10ت�شريح الن�ص مقاربات ت�شريحية لن�صو�ص �شعرية معا�صرة ،د .عبد اهلل
الغذامي ،دار الطليعة للطباعة والن�شر ،بريوت ،ط.65 :1987 ،1
-12وعي احلداثة درا�سات جمالية يف احلداثة ال�شعرية ،د� .سعد الدين كليب،
احتاد الكتاب العرب ،دم�شق.56 :1997 ،
-13النقد والدرا�سة الأدبية ،د .حلمي مرزوق ،دار النه�ضة العربية للطباعة
والن�شر ،بريوت ،ط.7 :1982 ،1
-14بنية اخلطاب النقدي ،د .ح�سني خمري ،دار ال�ش�ؤون الثقافية العامة ،بغداد،
ط.6 :1990 ،1
-15قراءات مع ال�شابي واملتنبي واجلاحظ وابن خلدون ،د .عبد ال�سالم امل�سدي،
ال�شركة التون�سية للتوزيع ،تون�س.31 ،1984 :
17
يحرق كاجلمر»( )9يف مفارقة عجيبة الأ�ضداد ،حيث تتقاطع وتغيب العيون ،وتتدلىّ ال�شفاه ،وتنزف الوجوه ع�صري التوت
ال�شهوة والثورة لتمطر على الأعداء جمر ًا ،وتفي�ض على بنيها الربي دم ًا ،وتتع ّرى الأ�شجار ،وت�سقط املدن بحث ًا عن خارطة
ّ
حب ًا. الوطن.
وي�ستدعي �سيف ملمح ال�صلب يف عادات النوم على امل�سمار «حني ي�صري البحر قريب ًا من كفيه
وقد تقا�سمها مع �أهل معان ووادي الأردن يف قوله»:فبني معان حني ي�صري العامل باب ًا مفتوح ًا بني يديه
وبيني الآن �سوء التغذية وعادات النوم على امل�سمار»(،)10
وعلى ملمح ال�صلب «�أ�سقطت الآالم التي كان يتح ّملها ال�شاعر تن�سرب املر�أة يف تلك اللحظة
املعا�صر� ،سواء �أكانت تلك الآالم ماد ّية �أم معنو ّية»(.)11 ترتك يف العامل واحللم امل�شبوب ثقوب ًا فارغة
وي�ستلهم �سيف �أ�سطورة عرو�س النيل التي كانت تُقدم وحريق ًا وبقايا جممرة
مبحبة و�إجالل زمن الفراعنة �إىل نهر النيل العظيم ابتهاج ًا ترتك يف الأر�ض �شقوق ًا تتحرق للماء»(.)5
بفي�ضانه ،ويوظفها توظيف ًا عك�سي ًا �أي على غري داللتها؛ فنيل
م�صر وحني يغدو العامل مقفر ًا �إال من الدم ،ير�سم زيد اليا�سني
خل�ضرة بعد القحط، حلم العط�شى للخ�صب بعد اجلدب ،وا ُ
«كان �إذا فا�ضت فيه ال�شهوات ال�سحر ّية فيم ّد كفيه �إىل البحر( َك َب ِا�س ِط َك َّف ْي ِه �إِلىَ المْ َاء ِل َي ْب ُل َغ َفا ُه َو َما هُ َو
ال�سري
ّ ي�سرق واحدة منهن �إىل عامله ِب َبا ِل ِغ ِه َو َما د َُعاء ا ْل َكا ِف ِرينَ ِ�إ َّال فيِ َ�ض َال ٍل )( ،)6ويبقى الباب
موارب ًا للمر�أة الآلهة التي قد متلأ معه �شقوق الأر�ض املتحرقة
ف�إذا جاء ال�صيف تفتّح نهداها من حتت الطمي
ما ًء بعد �أن ارتوت دما ًء على �أيدي زبانية احلر�س والبولي�س
�سنابل قمح ال�سري؛ فـ
و�سهو ًال من زهر اللوت�س والقطن الدموي
ّ «يتال�شى احللم
�سبحان اخلالق من دور ذاك النهد»(.)12 والعامل ي�سرتجع ك ّل �شظاياه وتلتئم الأ�شالء»(.)7
فهو ذات النهد الذي تفي�ض فيه ال�شهوة والثورة واحلرقة �إنّ يف هذه املر�أة التي تن�سرب يف حلظة �إلوه ّية �صورة
واجلمر يف ت�أكيد �شبه �إلوهي للخ�صب واخل�ضرة واحلياة ،وقد لإيزي�س التي جمعت �أ�شالء �أوزوري�س املتناثرة ،ونفخت فيها
انتقلت من َبعد �سيناء �إىل �شط النيل ،و�صارت كنانة م�صر احلياة فعاد النهد «يقطر بال�شهد وبال�ضوء والأنداء»(،)8
فارغة. و�أكمل العامل دورته حني تراجعت ال�صحراء �أمام عينيها،
ّ
وتك�شفت عن نافورة ماء وك�أنها �أم العرب (هاجر) يف رحلتها
و ُيلب�س �سيف الرئي�س امل�صري الراحل �أنور ال�سادات لبو�س
وتفجر املاء من حتت�إىل �صحراء مكة ،ومعاناتها وولدهاُّ ،
كافور الإخ�شيدي الذي كان عبد ًا خم�صي ًا ف�صار يف غفلة من
قدميه زمزم ًا.
الزمن حاكم الف�سطاط ،يف �إ�شارة دالة على رف�ضه ما �سمي
مبفاو�ضات ال�سالم العادل ال�شامل ،وقد ُق ِ�سم الوطن وبيع على وما زالت هذه املر�أة الآلهة رغم جحيم كوابي�س ال�شرطة
طاولة املفاو�ضات؛ فاحلل ال�سلمي �أخطر من احلرب نف�سها، «تع�صر من نهديها لنب الثورة وال�شهوة والقهر ،مطر ًا يل�سع،
19
وما زالت رحلة تغريبة زيد اليا�سني م�ضنية طويلة ،ف�صولها وقد �س ّودت اتفاقية كامب ديفيد -حيث ال�صلح املنفرد مع
املطاردة وفوا�صلها احلزن ؛ فالنا�س ميوجون ،ويتحدثون عن العربي فوق �سواده ب�أجماد احلل
ّ �إ�سرائيل� -صفحات التاريخ
«الزبد املنفي على ال�سطح»( ،)18ولع ّل يف هذا �إ�شارة �إىل الزبد ال�سلمي وال ّن�صر ال�صائم عن �سيناء.
الذي ال يغني وال ي�سمن من جوع ،فيذهب ُجفاء بعك�س ما ينفع إخ�شيدي
ّ «ور�أيت هنالك كافور ال
النا�س فيمكث يف الأر�ض يف قوله تعاىل� (:أَ َّما ال َّز َب ُد َف َي ْذهَ ُب
ا�س َف َي ْم ُكثُ فيِ الأَ ْر ِ�ض َك َذ ِل َك َي ْ�ض ِر ُب اللهَّ ُ
ُج َفا ًء َو�أَ َّما َما َي ْن َف ُع ال َّن َ ال�سلمي
ّ ي�س ّود �صفحات التاريخ ب�أجماد احلل
الأَ ْم َث َال )(.)19 ال�سلمي
ّ وهجوم احلل
ولأنّ زيد اليا�سني ما زال مطارد ًا منكوب ًا ،ومق�صي ًا ملفوظ ًا جمهوري
ّ يتمدد فوق الف�سطاط ويعلن يف مر�سوم
ترت�صده عيون ال�شرطة وكالب البولي�س ،وترتب�ص به الوجوه �أنّ الإن�سان
ال�شائهة مل يجد �أمامه غري ال�صراخ يف وجه هذا العامل الذي»
يغرق يف النوم ويف الن�سيان»( )20ليوقظه بعد �أن �أ�صبح �أ�شال ًء يولد يف الأ�صل خ�صي ًا»()13
ويف رحلة التغريبة امل�ضنية يقطع زيد اليا�سني عر�ض البحر كبري ًا وهم ما زالوا يقلون» وك ّل زنازين الليل تقل»»( )22وهو
الأبي�ض متخفي ًا عن �أعني الع�س�س الرقباء ؛ لي�صل ال�صحراء لي�س ب�أقل.
العرب ّية/الربع اخلايل ،فلع ّل موعده مع القد�س ورايات الفتح
«انظر يا عامل كفيك ونعليك
اخل�ضراء فيلتقي –هناك -بـ»ت�أبط خريا»( ،)27وهنا ال يوظف
�سيف �شخ�صية �صعلوك اجلاهلية على ما جاءت ا�سم ًا �شائع ًا ترى ُمزقا من حلمي ال تنحل»(.)23
لها فما يراه �إ ّال وقد ت�أبط خري ًا فهو» مقطوع الن�سب طريد، ومي�ضي زيد اليا�سني ال�ضحية املقهور يف رحلته طلب ًا
�صعلوك تقذفه البيداء �إىل البيداء»(.)28 للن�صرة والعون ف ُييمم طريق املغرب؛ فت�سلخه فجيعته ب�أمري
بل ي�صبح ت�أبط خري ًا وجه زيد اليا�سني نف�سه ،الطريد الكفار -ال امل�ؤمنني -الذي كان يع ّد الع ّدة بعيد ًا عن القد�س،
الذي ل ّوحه التّغريب :طريدان حزينان خلعتهما القبيلة ،وتن ّكر وقد ولىّ وجهه �شطر الع�سل ال�صايف والرز ال ّ
أمريكي ،فيبكي
لهما الأهل ،وجدا ذاتيهما فتجاذبا «�أطرف ال�شعر و�أخبار �آنذاك ت�شتّته وت�شرذمه يف العوا�صم العرب ّية بعد ما بكى �إرث
ال�سلمي»( ،)29وم�ضيا يتقا�سمان همومّ املوت و�أوجاع احلل الفاحت طارق بن زياد ،وتاريخ �أمته ال�ضائع يف عرو�س الأندل�س
الداخل واخلارج يف «عر�صات التاريخ و�أزمنة القحط»()30 (غرناطة) �آخر معاقل امل�سلمني ،فما بني بني فل�سطني وبني
فمرا مبحطات �سقوط الأ�صنام وارتفاع رايات نور اليقني. الأحمر تاريخ من الفرقة وال�ضياع.
ومي ّر الطريد زيد اليا�سني بوجع الذاكرة العرب ّية التي تن ّز «قلت :وماذا ظ ّل يف ج�سمي حتى ُي�سلخ..
تاريخ ًا �صعب ًا ،وتقطر هم ًا وموت ًا وهو ي�ستذكر» داح�س والغرباء» خ ّلفت �شظايا منه بعمان وبغداد وم�صر..
�أطول حروب اجلاهلية التي ما زالت خالدة يف �ضمري التاريخ
العربي»(.)24
ّ وب ّر ال�شام وبريوت وك ّل عوا�صم هذا الوطن
اجلمعي تنذر بقرب الثورة القيامة ،فكما للقيامة ّ العربي
ّ
عالمات كذلك للثورة عالمات: وي�ستثمر �سيف لغة القر�آن الكرمي على ل�سان زيد اليا�سني
الذي ما يفت�أ �أنْ يعود حي ًا رغم حماوالت رجال ال�شرطة
«�إذ يطلع قرن ال�شيطان من ال�صحراء النجد ّية
تغييبه ،وطم�س وجوده؛ ففي ج�سده املمزق»�أ�سرار ا ُ
خل�ضرة
يقطر باملوت والنفط وبالدم وبال�سم ت�صويري خلق
ّ و�صفي
ّ والتكوين»( ،)25حيث ن�شهد يف م�شهد
ال�ضحية يف ك ّل م ّرة خلق ًا جديد ًا رغم �سطوة جربوت اجلالد.
وتخطر يف �أثواب العمرة
« حلمي ينمو الآن على اجلدران
يا ولدي فت�أهب تلك عالمات الثورة!!» ()31
وفوق هروات البولي�س
وي�سرتجع �سيف يف تغريبة بطله خروج الر�سول الكرمي
� -ص ّلى اهلل عليه و�س ّلم� -إىل الطائف؛ طلب ًا للن�صرة والعون الوح�شي
ّ وكرا�سي التّحقيق كما ينمو الع�شب
من �سادة ثقيف وكربائها بعد تعر�ضه �إىل �شتى �ألوان العذاب ويحاول رجل ال�شرطة �أنْ يك�شطه عن كفيه
بني �أهله ونا�سه يف مكة ،وما ناله من �أذى غلمانها و�سفهائها،
وغلظة و�سماجة �سادتها الذين �أغروا به �سفهاءهم وعبيدهم، النف�سي
ّ بح ّد ال�سكني و�أدوية التنظيف و�أنواع الطب
ي�سبونه وي�صيحون به ،ويرمونه باحلجارة. ف�إذا جن الليل* يعود كما كان»(.)26
21
وي�سيل النور ،وي�شرق يف عني الر�سول الكرمي –�صلى اهلل ويتماهى زيد اليا�سني املعذب املطارد احلزين يف �شخ�صية
علية و�سلم:- زيد بن حارثة الذي كان مع الر�سول الكرمي يقيه بنف�سه حتى
�شج يف ر�أ�سه عدة �شجاج في�صري يف التغريبة وجه ًا نا�صر ًاّ
« نور ًا يتفتح من م�شكاة
ون�صري ًا قائالً:
يف م�صباح
«وفتحت ذراعي
يف قلب زجاجة
النبوي ال�شوك و�أحجار ال�سفهاء
ّ تلقيت عن الوجه
الدري املتوقد من �شجرة زيتون
تت�ألق كالنجم ّ �صرخت ب�أعلى �صوتي :يا �أبناء الطائف ،يا فقراء الطائف
تخرتق الأر�ض وتورق فوق الغرب وفوق ال�شرق ذاك نبي اهلل ،وتلك عباءته
ومت ّد الظل لك ّل ال�ضعفاء املقهورين تت�ساقط فيها الأجنم
و�أبناء �سبيل احلق»(.)35 قد جاء �إليكم من غار حراء ومن وجع الأيتام
وهذا يذكر مبا ورد يف �سورة النور يف قوله تعاىل ( :اللهَّ ُ ُنو ُر و�أحزان املنبوذين مبكة وال�شعب»)32(.
ماوات َوالأَْ ْر ِ�ض َم َث ُل ُنو ِر ِه َكمِ ْ�شكا ٍة ِفيها ِم ْ�صبا ٌح المْ ِْ�ص ُ
باح فيِ ال�س ِ َّ
َ
ُّجاج ُة َك�أ َّنها َك ْو َك ٌب ُد ِّر ٌّي ُيو َق ُد ِمنْ َ�ش َج َر ٍة ُمبا َر َك ٍة وح ّذر زيد اليا�سني من مغبات اتباع �أبي جهل املعا�صر الذي
جاج ٍة الز َ ُز َ
َز ْيتُو َن ٍة ال َ�ش ْر ِق َّي ٍة َوال َغ ْر ِب َّي ٍة َيكا ُد َز ْيتُها ُي ِ�ضي ُء َو َل ْو لمَ ْ تمَ ْ َ�س ْ�س ُه «ي�أك ّل بالباطل و�أموال النفط و�أوراق الأيتام
نا ٌر ُنو ٌر َعلى ُنو ٍر َي ْه ِدي اللهَّ ُ ِل ُنو ِر ِه َمنْ َي�شا ُء َو َي ْ�ض ِر ُب اللهَّ ُ الأَْ ْم َ
ثال ويركب يف الليل ح�صان ًا بجناحني
ا�س َواللهَّ ُ ِب ُك ِّل َ�ش ْيءٍ َع ِلي ٌم )(.)36 ِلل َّن ِ
�إىل �أر�ض الروم
وعندما ي�ضيء النور القلب يب�سم وجه اخلري ،وي�صري
�صاحب الدم املهدور زيد اليا�سني فار�س ًا جواد ًا ليخ�سر �أموال الوقف على �صدر مغنية
من ن�سل بني الأ�صفر»)33(.
«يقفز من �أ�سوار القد�س العرب ّية
يف �إ�شارة زاعقة �إىل ال�سالطني الطغاة الذين يبيعون
ويثري النقع ويعرب كال�سهم املارق
البالد والعباد يف جنح الليل ،ويقدمون الوالء والطاعة على
كي ي�شرب قطرة ماء من طربية»(.)37 الفردي اخلا�ص.
ّ موائد الغرب �إيثار ًا ّ
لل�سالمة واخلال�ص
وقد دا�س على ر�أ�س ابن �أُبي كبري املنافقني الذي «باع ويوظف �سيف القر�آن الكرمي في�ستلهمه �أم ًال ونور ًا وب�شارة
ّ
مفاتيح القد�س لأبناء قريظة»(.)38 موقن ًا ب�أنّ ال�صبح قريب ،و�سيتفتق عن نوره نور ًا يغيرّ وجه
الأ�شياء الراكدة:
ويظل زيد اليا�سني مطارد ًا يف ح ّله وترحاله من ال�شرطة
ورجالها الذين يرت�صدونه وال يكفون عن مالحقته ،فر�أ�س «يا �أهل الطائف موعدنا ال�صبح
الواحد منهم كان «يط ّل كحبة زقوم ّ
ناري»( )39كتلك التي �ألي�س ال�صبح قريب ًا؟»(.)34
22
كاملخرز والكف يف والت�ضحية ،فـ»الكف تالطم �شربية»()44 تخرج من �أ�صل اجلحيم (طلعها ك�أ ّنه ر�ؤو�س ال�شياطني)
جدلية عالقتهما. ( )40قبح ًا وغلظ ًة و�سماج ًة �إ ّال �أنّ ك ّل حماوالتهم يف م�صادرة
ومنتلئ على امتداد �صفحات ال�سرية برائحة املوت ح ّد �صوته ووجهه وروحه ،وانتزاع حلمه ال ت�ستطيع �أن تثنيه عن
تقي�ؤها؛ �إذ تت�سرب �إلينا من حيث ندري وال ندري كاحلزن امل�ضي �إىل وطنه؛ فهو �صديق اخل�ضرة والتكوين ،وهو من
متام ًا يف تغريبة زيد اليا�سني؛ فك ّل الأ�شياء تت�صدع وتت�شقق ال تقدر �سكاكينهم �أن تك�شط عن جلده لون الأر�ض وبارود
وتفوح منها رائحة املوت� :ضوء ال�شم�س ،ورائحة البحر، الرف�ض( ،)41وهو الذي ما زال يكرب ويكرب ووطنه يكرب،
والذاكرة الأوىل ،والنهر والنجم» ميوت ..يغرق يف بحر الدم.. و�أعدا�ؤه يقلون ،وك ّل زنازين الليل تقل وهولي�س ب�أقل.
ميوت وميوت وميوت»»( ،)45فـ»تغيب الألوان عن الكون، * �سرية عبداهلل بن �صف ّية
وت�صبح ك ّل الأ�شياء �سدميية»(.)46
تق�ص حكاية الغربة امل ّرة ،والت�شظي الرهيب
�سرية �شعب ّية ّ
�أما الع�صفور فـ»ي�سقط يف فخ ال�صيد و�آخر ينقر يف الأر�ض بحث ًا عن ال ُهو ّية الوطن ،والوطن العنوان يف عامل ال ي�أبه بحجم
ليدفن �صاحبه»( )47يف جرمية يكون ال�شاهد عليها طرف ًا فيها، الفل�سطينيُ ،ي ّتم بها ال�شاعر التغريبة
ّ �سني العذاب والقهر
وهنا ينتزع �سيف من الق�صة القر�آنية ما يت�صل بق�ضيته يف التي انتهت بال�صرخة ؛ لإيقاظ العامل الذي يف يد جالديه بقية
تذكري ير�سخ دور الع�صفور /الغراب الذي �أدى دوره يف جرمية ُمزق زيد اليا�سني املتناثرة يف العوا�صم املمتدة �شرق ًا وغرب ًا
قتل الأخ �أخيه يف ق�صة قابيل وهابيل؛» فوجود هابيل �أقوى ِمن و�شما ًال وجنوب ًا.
الع�صري �أ�ش ّد ِمن �أنْ تخفى»)48( .
ّ �أنْ يوارى ،وجرمية قابيل
تبد�أ �سرية عبداهلل بعادة تلقني الأموات؛ تذكري ًا مبا عا�شه
يوظف الغراب الذي ع ّلم الإن�سان الأول و�سيف هنا ّ وكانه يف �صورة مغايرة ،فعلى عك�س ما ينبغي تلقينه به عند
كيف يخفي جرميته ،وقد كان �شاهد ًا على قتل قابيل لأخيه �س�ؤال امللكني املوك ّلني بال�س�ؤال بعد النداءُ ،يلقن عبداهلل بن
هابيل يف ثنائية اجلالد وال�ضحية ،وقد ورد ذلك يف كتاب �صف ّية مبا ينبغي �أنْ يقوله حني يجيء �إليه ال�شرطيان للتحقيق
اهلل العزيزَ ( :وات ُْل َع َل ْيهِ ْم َن َب�أَ ا ْب َن ْي �آد ََم ِبالحْ َ ِّق �إِ ْذ َق َّر َبا ُق ْر َبا ًنا معه ،وك�أنّ م�سل�سل الترّ ّب�ص والترّ �صد واملالحقة واملطاردة ال
َف ُت ُق ِّب َل ِمن �أَ َح ِد ِه َما َولمَ ْ ُي َت َق َّب ْل ِمنَ ال َآخ ِر َق َال َ ألَ ْق ُت َل َّن َك َق َال �إِ َمّ َنا ينتهي بنهاية احلياة ،بل متت ّد حلقاته �إىل ما بعد املوت ح�ساب ًا
طت �إِليَ َّ يَدَ َك ِل َت ْق ُت َل ِني َما �أَ َن ْا َي َت َق َّب ُل اللهّ ُ ِمنَ المْ ُ َّت ِقنيََ * ل ِئن َب َ�س َ وعقاب ًا ،فمن �سجن �إىل �سجن ،ومن عذاب �إىل �آخر ،ومن
اف اللهّ َ َر َّب ا ْل َعالمَ ِنيَ� * إِ ِيّن ِب َب ِا�س ٍط َي ِد َي �إِ َل ْي َك َ ألَ ْق ُت َل َك ِ�إ ِيّن َ �أ َخ ُ موت �إىل موت ،و»حدود العامل مغلقة يف وجه الراحل من غري
اب ال َّنا ِر َو َذ ِل َك �أُرِي ُد �أَن َت ُبو َء ِب ِ�إ ْثمِ ي َو ِ�إ ْثمِ َك َف َت ُكونَ ِمنْ َ�أ ْ�ص َح ِ هُ و ّية»(.)42
الظالمِ ِنيََ * ف َط َّو َع ْت َل ُه َنف ُْ�س ُه َقت َْل �أَ ِخي ِه َف َق َت َل ُه َف�أَ ْ�ص َب َح َجزَ اء َّ وكما تبد�أ ال�سرية بال�س�ؤال تنتهي بال�س�ؤال ،والو�صية التي
ِمنَ الخْ َ ِا�س ِرينَ َ * ف َب َعثَ اللهّ ُ ُغ َرا ًبا َي ْب َحثُ فيِ الأَ ْر ِ�ض ِليرُ ِ َي ُه مل يجد عبداهلل ف�سحة ليرتكها لأخيه الأ�صغر� :آخر َمن تبقى
َك ْي َف ُي َوارِي َ�س ْوء َة �أَ ِخي ِه َق َال َيا َو ْي َلتَا �أَ َع َجزْ تُ �أَنْ �أَ ُكونَ ِم ْث َل هَ َـذا و�سجنت وطوردت و�شظيت ُمن عائلة عبداهلل التي ُ�شردت ُ
اب َف�أُ َوار َِي َ�س ْوء َة َ�أ ِخي َف�أَ ْ�ص َب َح ِمنَ ال َّنا ِد ِمنيَ.)49( * ا ْل ُغ َر ِ وماتت حتت الب�ساطري والهروات ،ويف الغرف ال�سر ّية بال زاد
�أو ماء� ،سيرتك له عظام يديه؛ «لكي ي�صنع منها �شربية»(،)43
ال�شعري غري م ّرة(� )50إ ّال ت�أكيد
ّ وما تكرار هذا املقطع
داللة حر�صه على �أن ُيورثه راية املقاومة واملجاهدة والفداء
لتناق�ض معادلة املوت واحلياة يف �آن؛ فواحد ي�سقط يف الفخ
23
-2كان وليد �سيف قد �س ّمى الديوان “تغريبة زيد اليا�سني” غري �أنّ حممد القي�سي رغم رائحة املوت ،وق�سوة القادم؛ لأنّ :
– رحمه اهلل -كان قد اقرتح عليه ت�سميته بـ”تغريبة بني فل�سطني”؛ لت�صوير ملحمة
الفل�سطيني ،حيث التغريبة هُ و ّية الوطن ال�ضائع ال�سليب ،وعنوان امل�سحوقني
ّ التاريخ «حما�س ال�شهداء
املفجوعني من �أبناء اخليبة وال�شتات املقهورين.انظر:عادل الأ�سطة ،تغريبتنا
الفل�سطين ّية ،جريدة الأيام ،ع .2005/1/30 ،3241 لن يفرت يوم ًا
-3التكرار الزمة من لوازم ديوان التغريبة ي�أتي مرة ومرتني و�أكرث كلمة �أو جملة �أو وعلى الوطن اخلالد حيث تقوم جيو�ش الأعداء
مقطع ًا �أو حرف ًا.
-4يذهب �إح�سان الديك �إىل �أن زيد اليا�سني ا�سم مركب� :أوله داللة الزيادة والنماء،
و�سرتات رجال ال�شرطة
�أما الثاين ف ُمك ّون من حرف النداء (يا) و(�سني) وهو كبري �آلهة ح�ضرموت� ،أما
ينبعث طموح يتفجر كالأ�سطورة
الفل�سطيني ،لها مزارات وكرامات ،ولع ّل
ّ خ�ضرة فقدي�سة ولية يف املوروث ال�شعبي
يف امتزاج الرمزين ما يوحي مبحاولة �أ�سطرة الواقع بحث ًا عن كوة �أمل وطوق جناة. �أن يغم�س ك ّل النا�س طعامهم باحلب
انظر�،إح�سان الديك� ،أ�سطرة الواقع يف �شعر وليد �سيف :حكاية خ�ضرة وزيد اليا�سني
منوذج ًا ،جملة جامعة النجاح ،مج.2008 ،22 الليلي
�إذ ت�سرتجع خ�ضرة يف يوم ما ا�سما �صادره احلر�س ّ
-5وليد �سيف ،ديوان تغريبة بني فل�سطني ،دار العودة� ،1980 ،ص.9
ا�سم ًا حمفور ًا يف قلب القلب»(.)66
� -6سورة الرعد � ،آية رقم14
احلب يف القلب ،ومتثله الفرد م ّنا �سلوك ًا ،ونظر
�إذا وقر ّ
-7الديوان � ،ص.12 عم اخلري الأر�ض، �إىل الأخر نظرة احرتام على �أ ّنه �أهل لذاك ّ
-8الديوان � ،ص.12 ونعم الإن�سان باحلياة.
-9الديوان � ،ص .
-10الديوان � ،ص.20
العربي املعا�صر،
ّ -11علي ع�شري زايد ،ا�ستدعاء ال�شخ�صيات الرتاثية يف ال�شعر
دار غريب للطباعة والن�شر والتوزيع ،ط� ،2006 ،1ص.82
الهوام�ش والإحاالت:
-12الديوان � ،ص.21 -1وليد �سيف :ولد يف باقة الغربية /طولكرم عام ،1948ح�صل على �شهادة
-13الديوان � ،ص.23 البكالوريو�س يف اللغة العرب ّية و�آدابها من اجلامعة الأردنية ،وح�صل على دكتوراه
يف علم الل�سانيات يف جامعة لندن عام ،1975عمل �أ�ستاذ ًا لعلم ال�صوتيات يف
-14الديوان � ،ص.24 اجلامعة الأردنية ،ويف جامعة القد�س املفتوحة ،وعدد من اجلامعات العرب ّية ،عمل
يف حمطة �إذاعة و تلفزيون العرب ، A.R.Tح�صل من رابطة الكتاب الأردنيني
� -15سورة احلج � ،آية .5
على جائزة عرار الأدبية ،وعلى جائزة غالب هل�سا للإبداع الثقايف وغريهما ،وهو
-16الديوان � ،ص.21 ع�ضو احتاد الكتاب الأردنيني ،واالحتاد العام للأدباء والكتاب العرب.من م�ؤلفاته
ال�شعر ّية :ق�صائد يف زمن الفتح ،1969و�شم على ذراع خ�ضرة ،1971وتغريبة
-17الديوان � ،ص.27 بني فل�سطني .1980تفرغ منذ �سنوات للكتابة الدرامية ،وطغت �شهرته بها على
�شاعريته.من �أبرز �أعماله الدرامية :م�سل�سل عمر الفاروق ،اخلن�ساء� ،شجرة الدر،
-18الديوان � ،ص.29
عروة بن الورد ،املعتمد بن عباد ،ملوك الطوائف� ،صقر قري�ش ،ربيع قرطبة،
� -19سورة الرعد � ،آية رقم . 17 والتغريبة الفل�سطين ّية.
25
-48ابت�سام �شرار ،التنا�ص الديني والتاريخي يف �شعر حممود دروي�ش ،ر�سالة -24الديوان � ،ص 40وانظر �ص .43
ماج�ستري ،جامعة اخلليل� ،2007 ،ص.35
-25الديوان � ،ص.41
� -49سورة املائدة ،الآيات . 31-27
-26الديوان � ،ص 41وانظر تكرار التعبري �ص *،47وهنا ثمة �إ�شارة �إىل قوله
-50الديوان � ،ص 86و.99 تعاىل َ :ف َل َّما َجنَّ َع َل ْي ِه ال َّل ْي ُل َر�أَى َك ْو َك ًبا َق َال هَ َذا َر ِّبي �سورة الأنعام �آية.76
-51الديوان � ،ص .90 -27هو ثابت بن جابر �أحد �شعراء اجلاهلية عرف بـ ت�أبط �شر ًا.
-58الديوان � ،ص .100 -34الديوان � ،ص .52واهلل تعاىل يقول�:إن موعدهم ال�صبح� ،ألي�س ال�صبح
بقريب�سورة هود� ،آية .81
-59الديوان � ،ص .109
-35الديوان � ،ص .52
-60الديوان � ،ص .114
� -36سورة النور � ،آية .35
-61الديوان � ،ص .122
-37الديوان � ،ص .55
-62الديوان � ،ص .126
-38الديوان � ،ص .53
-63الديوان � ،ص .130
-39الديوان � ،ص .57
-64الديوان � ،ص .130
� -40سورة ال�صافات � ،آية. 65
-65الديوان � ،ص .134
-41انظر:الديوان � ،ص .62
-66الديوان � ،ص .138
-42الديوان � ،ص .76
ن�ضال القا�سم
كاتب �أردين.
27
�ضجر يف تنائي البعيد ...البعيد عن طريق �أملانيا وم�ضيق الق�سطنطينية و�آ�سيا ال�صغرى ،بحيث
ينازعني الوقت والطق�س يحيط بالبحر الأبي�ض من كل جانب وي�صبح بحرية �إ�سالمية
ُ
توفر طرق املوا�صالت بني خمتلف الواليات الإ�سالمية «.
ما �أن �أ�ض ُّج ب َنفْ�سي
� -أقول �شهدناه يقف على واقع الأمة املعا�صر� ،إذ غزا
بيح ال�س�ؤال املُريب�أُ ُ النظام العراقي دولة الكويت ،وما �آلت �إليه احلال يف �شرط
علي
فماذا ّ وا�ستحقاق تاريخي وجدت الأمة نف�سها فيه.
ويف عا ٍمل يتعامى يقول نادر يف ق�صيدة «كوامن احلجب» التي ي�ؤرخها يف
� ٌّ � ،1990/4/2أي قبل غزو العراق للكويت يف :1990/9/2
النواقي�س وحدي
َ أدق
وال من جميب! لعلك �أيها الآتي
و�أ�صرخ-: ُّ
تف�ض كوامن احلجب
والوعد
ِ القلب
�أينك يا فتنة َ ِ ت�ضيء عوامل الإح�سا�س
ترينا َ
ثواكل يف الريح ... لعلك تو ِق�ض احلرا�س
حل ُلم بو�صل ًة ومتاه
يو�سدُنا ا ُ
ترينا ِّ ف�آتي ال ِّريح
ثكل الدوائر واال�شتباه
لنحيا على وق ِع ِ لن ترتك لنا ح ًال
يد ّثرنا الي�أ�س والوقت واحلرف وال حرم ًا
حفا ًة ...عراة ولن ترتك لنا ع ّمة وال خالة
�أينك يا امل�صطفاة؟!!!()2 ل ُي ْ�س َلب �أرث ما�ضينا
نعم قال نادر كل ذلك م�ستع�صم ًا بر�ؤاه الفكرية والإبداعية: ويلقينا بعمق متاهة الظلمات
ما�ض ،و�آن ،و�آت ،فكانت نبوءات كفلق ال�صبح« ،وك�أنه ينظر ٍ
للغيب من �سرت رقيق». ت�أكلنا م�آ�سينا()1
ولعل يف الوقوف على داللة العنوان وتاريخ الق�صائد ،ما َّ ويقول يف ق�صيدة «ثكل الدوائر» التي ي�ؤرخها يف ت�شرين
ي�شكل عتبة �سيميائية مهمة لفهم الن�ص ،و�سرب �شبكة العالقات أخ�ضع
أخرجت القوات العراقية من الكويت ،و� ِ
ثاين ،1992وقد � ِ
الداللية والت�شكيلية لبنيته الفنية والإيحائية. العراق حل�صا ٍر وح�ضر لطريانه الوطني يف بع�ض �أجوائه ،بعد
�أن وقع يف خيمة (�صفوان) �شروط ا�ست�سالمه – يقول:
* * *
28
ال�شاعر طفل دائم ،وغريب دائم ،وكذا �شاعرنا يف دنيا كل هذا ا�ستدعاين للتوقف عند نبوءات ال�شاعر نادر هدى
«من الأ�شباح ومن تغريبة ال�صور» ،وما بني هذين املعطيني يف ديوان «ماء الغواية» ،وقد جاء طافح ًا بغري واحدة منها،
يلتب�س الأمر ،حتى ك�أنه يرى يف طوفان نوح طهره وخال�صه؛ وك ُّل يف �إطار �سياقها الذي ال يخرج عن عنت الواقع ،هذا الذي
طهر وخال�ص الواقع ،وهنا ي�ستح�ضر ال�شاعر الرائي �شخ�صية يرف�ضه ال�شاعر ويتمرد عليه ،معلنا ثورته بحث ًا عن العامل
نبي اهلل نوح ًا ،ففي كال العاملني ما ي�ستوجب الطوفان: الأجمل ،عامل مثل احلق واخلري واجلمال ،وكافة الف�ضائل
ف�إنِّ الظلم َّ
عم الإن�سانية ،فهو يف هذا الواقع مغدور بالطعنات والن�أي� ،أنها
غربة ال�شعراء والفال�سفة واحلكماء وقب ًال الأنبياء؛ غربة
كذلك الظلماتُ تفرت�س الطبيع َة الذات يف واقعها االجتماعي ،وقد عبرَّ عنها طرفة بن العبد
وال َّندى � ْأعمى ال�شاعر ،قوله:
وما ُء ال�ضو ِء َّ
جف وظلم ذوي القربى �أ�شد م�ضا�ض ًة
يجري.
فلم ي ُع ْد ْ على املرء من وقع احل�سام املهند
عامل يف غاية الب�شاعة – ال �شك – ذلك �أن ال�شاعر من وغربة الذات يف �أوطانها ،وقد عبرَّ عنها �أبو العالء املعري
خالل التقم�ص واال�ستدعاء مل يجد ال�شك َّية يف ال�س�ؤال ،فحري قوله:
�أن «يتعب من حرفه» وقد �أتعبه فع ًال ،فرناه يبحث عن خال�ص
و�آخر يف حرية من ال�شك مريب ،يف عامل الأحياء ،ورمبا يف �أولو الف�ضل يف �أوطانهم غرباء
عامل الأموات ،وكالهما يف واقع ال�شاعر واحد ،فالن�صغي �إليه تن ُّد وتن�أى عنهم القربــاء
يف �صراعه هذا قوله:
أ�سائل؛ ما � ُ
� ُ وغربة الغربات :الذات والروح والر�ؤى وقد عبرَّ عنها �أبو
أ�سائل؟
حيان التوحيدي يف الإ�شارات الإلهية قوله« :قد قيل :الغريب
ْع َيل �صبرْ ي! من جفاه احلبيب ،و�أنا �أقول :بل الغريب من وا�صله احلبيب،
ال�شك ْي َة يف ال�س� ِؤال
أجد َّ
ومل � ِ بل الغريب من هو يف غربته غريب ،بل الغريب من لي�س له
تعبتُ من ح ْريف ن�سيب ،بل الغريب من لي�س له يف احلق ن�صيب ...يا هذا !
..الغريب الذي ال ا�سم له فيذكر ،وال ر�سم له في�شهر ،وال
وال تجُ دي النبوءاتُ طي له فين�شر ،وال عذر له فيعذر ،وال ذنب له فيغفر ،وال عيب َّ
بال�س ْيف
تت�شح َّ
التي مل ْ عنده في�سرت ،هذا غريب مل يتزحزح عن م�سقط ر�أ�سه ،ومل
ال جتدي ي ٌد بي�ضا ُء يتزعزع عن مهب �أنفا�سه ،و�أغرب الغرباء من �صار غريب ًا يف
حمل قربه ،لأن غاية وطنه ،و�أبعد البعداء من كان بعيد ًا يف ِّ
آويل الأخري ُة ُم ْ�سرتاح ًا
تجد الت� ُ
ف ْل ِ ويق�ص عن
املجهود �أن ي�سلو عن املوجود ،ويغم�ض عن امل�شهودُّ ،
تريح دمي من الإ�صغا ِء للموتى
كي َ املعهود ...يا هذا! الغريب من �إذا ذكر احلق هُ ِج َر ،و�إذا دعا
ي�سري �إىل احلق ُز ِج َر ...يا رحمتاه للغريب؟.
وللما ِء الذي ْ
29
جلدُر» ففي جوفها �أن ي�أتي هذا الفار�س الأبي «ما«البئر ...ا ُ هنا ،ومن كبد كل هذا تت�أتى نبوءة ال�شاعر املغدور،
ُيريح» �أن ميتح املاء منها ،وهنا مكمن الر�ؤيا عنده ،يف مكمن والنائي ،املنذور واملرئي والرائي وب�صيغة تعيدنا �إىل خطاب
�س ّر احلياة: الأنبياء ،على ما نرى يف الكتب املقد�سة ،وب�صورة احلزم
أبي ُّ
يف�ض الظالم �أما من � ٌّ واجلزم قوله:
فريوي العطا�ش �أنا املغدور َّ
بالطعنات والنائي
فقد بلغ ال�سيل حنق الف�ؤاد اجلريح واملرئي والرائي
ُّ �أنا املنذور
ويف البئر من عتقها ما ُيريح � ُ
أقول لكم :
فمن ميتح املاء من جوفها هو ُّ
الطوفان والهلكوتُ
ماء معنى احلياة ال�صديح؟!()5 فاتع�ضوا()3
متتزج الذات احلبيبة امل�ضيئة ،بعنت الغربة /الواقع وبهذه ال�صيغة تت�أتى الر�ؤيا� ،صيغة ال�س�ؤال الدائب الدائم،
املنك�سر املظلم ،ومن هذه املفارقة املده�شة ب�إنزياحاتها تت�أتى املوغل يف اللظى.
الر�ؤيا ،و�صو ًال �إىل اخلال�ص (املطر) ،ويف �آنا كل ذلك و�أطرافه * * *
(هدى) الزاد واملتك�أ وامل�أوى� ،س ّر البعث والإحياء ،ويرت�آى
الواقع ب�أ�شيائه عرب �أبعاد الزمن ،وب�صورة �أخاذة ناب�ضة هذه ثانية و�أخرى ،من ق�صيدة «املُرتقى» ن�أخذها� ،إذ يف
باحلميمة ،حتى لنكاد ن�شتم من كلماته ونحن نتلوها ذلك البدء ي�ستدعي �إ�شراقة الوعد (هداه) لت�سمو املعاين هيام ًا
احلميمي العتيق «البئر ...النبع ...ال�ساقية...
ِّ العطر الأثريي تداع من اخلطابات ،هي �إىل الرتاتيل واملزامري �أقرب: عرب ٍ
الراعي ...القطيع ...املطر» يف مفارقات دالة ،فلم تعد البئر �أيا جمر َة اخل�صب هُ ِّلي
والنبع وال�ساقية مورد ًا ملاء نق�صده حلاجاتنا ،ومل تعد النار
(نار ال ِقرى) والذام -املروءة ومنظومات القيم -مل يعد �سوى ف�إين �أرى البئ َر تن�ضب
�أ�سطورة من رماد ! والراعي �ضال و « كلكم راع ،وكلكم م�سئول والنب َع وال�ساقية
عن رعيته « فحالنا والأمر هذا حال التمزق وال�شتات والغربة،
�أرى النا َر تخمِ ُد
�إنه عامل الغربان التي ال تنذر �إال بال�ش ِّر امل�ستطري ،هنا يبحث
عن اخلال�ص ،من املخل�ص (هداه) ،وهنا تت�أتى الر�ؤية �أمنية: والذام �أ�سطور ٌة من رماد
ُ
إيقاعهُ، أخذ َ
�شكل الق�صيد ِة � َ لي� َ راع ي�ض ُّل
�أرى ك َّل ٍ
جنم ًة يف ال�سماء وين�أى القطيع
ويهمي ا متز ُق كبدَ ال َّر�ضيع
مناف ِ
ٍ
ل وال �شي َء �إ ّال الغراب
م الغراب
ط الغراب
ر )8( ... ف� َ
أينك ؟
وملَّا كان الن�ص ال�شعري ي�ؤخذ بوحدته الق�صيدة الع�ضوية هبات
�أين ا�صطفاء امل�شارب وال َّر ْ
ف�إن يف جو الق�صيدة التفا�صيل ،ولكن ح�سبنا الإملاح هنا، اخلراب
َ ُنع ِلل هذا
وللم�ستزيد ج ُّده وجهده.
ايقاعهُ، أخذ َ
�شكل الق�صيد ِة َ لي� َ
* * *
جنم ًة يف ال�سماء
هذه ثالثة ،و�أخرى ،تكون فيها مع (هداه)� ،أن تزف الفجر
ويهمي املطر)7(...
يف ق�صيدة (زيف الفجر هداي) تلك التي:
31
َ
املدارك ت�صادي
َّّ مايل �أُر ِّق ُم يف احلرف
ِ حتف ُر �صورتَها يف
طاعن ًا يف الن�أيِّ الكلمات
ْ ويف
والن� ُّأي ُعراي؟! وت�ش ِّكلني �صل�صا ًال تنفخُ فيه
مت�سائ ًال: احليوات
ْ ف�إذا روحي ت�سكن ك َّل
فلمن �أُ ِ�س ّر �أنا ِ�س ْف ُر �س� ٍ
ؤال يف املر�آة()9
أبيح
ملن � ُ كذا ير�سم �صورتها ليبث �شكيته ،ويف ال�شكية نبوءة ما
ملن حرويف �أن ُرث الإيحا َء فيها يرى :الطارق والهاتف وال�س�ؤال� ،أو قل الأ�سئلة حيث ال�شك
والتيه والنزف والنزق واخلواء.
َ
واجلوى ُج َّواي- /...
لكن هل �أ�سلم ال�شاعر النبي ع�صاه ؟! بالت�أكيد ال ،وهنا
وكانني ملك م�ضاع يا �أناي !! ي�ستح�ضر امل�سيح عليه ال�سالم ،قوله�« :أطلبوا جتدوا ،اقرعوا
وك�أنني ٌ
ملك م�ضا ٌع يا �أناي!! يفتح لكم»( )10ويبقى الأمل ،احللم فهو يدرك وهداه �أن عملية
التغيري والبناء دائمة دائبة ،ويف هذا �سنة احلياة ،ي�سوقه يف
وقد: ا�ستح�ضار ،يو�شيه ب�سياق الن�ص القر�آين ( �إِنْ َت ْن ُ�ص ُروا اللهَّ َ
بلغت جراحي مبتغى احلرف املُ َعب َي ْن ُ�ص ْر ُك ْم َو ُي َث ِّب ْت �أَ ْقدَ َام ُك ْم)( ،)11فالن�صر بحدِّ ذاته ال يكفي
بل يعوزه ال�سهر واجلد واجلهد حلمايته وتع�ضيده وحت�صينه،
�أ�سلمت �أعنا َقها لعبار ِة ال ُّر�ؤيا
والبناء عليه ،ويف كل ذلك الأخذ بالأ�سباب والن�أي عن املعيقات
الكالم !
ْ وما نف َع واملحبطات وتطويعها ،وهذا هو �أفقه وعمقه ومداه مع (هداه)،
�آه ،فماذا بع ُد �أنتظ ُر و�صو ًال �إىل الر�ؤيا ،اخلال�ص ...الفجر:
هاتف ي�أتي
وهل من ٍ مداك ...مداي
�صوب ِ
كوين ال ُّر�ؤية َ
(مبا ي�أتي وال ي�أتي ) زيف الفج َر هداي()12
املقام ؟!()14
لينتظم ْ
َ * * *
هذا رابعة ،و�أخرى ،فيها يخاطب �إمامه �أن (�أرفق بنا يا
هذا ر�صد لواقع حال ،وك�أنه معطيات ،و�صو ًال �إىل نتيجة
�إمام) :فـ
علمية ح�سب منطق العلوم الطبيعية ،ويف ثناياه مكمن النبوءة
يرتك لنا �أن ن�ست�شفها� ،إذ ح�سب ال�شاعر الإ�شارة والإيحاء، الكوائن
ِ التي ُه ُ
ينه�ش يف
وقيل�« :أن اللبيب من الإ�شارة يفهم» وقال ال�شاعر: واخلوا ْء)13( ....
والعبد يقرع بالع�صا احل ُّر تكفيه الإ�شارة �سائ ًال:
32
ال�شرع الدينية واملواثيق العاملية ،ووفق حل العدوان ،وفق ِ َّ وهذه �أحد ال�صيغ يف نبوءات �شاعرنا ،بعد �سوق هذه
نهجنا الإ�سالمي احلنيف ح�سب فتوى ابن تيمية ال�شهرية: املعطيات وك�أنها �سرد حماججة قانونية ،ليقف على املق�صد
«�إذا احتلت ار�ض امل�سلمني ،بات اجلهاد فر�ض عني على كل – احلجة الدامغة – يف واقع امل ِّر واملرارات ،واحلق والعدالة
م�سلم وم�سلمة» .ومن مياري يف ذلك لي�س �إال �ضا ٌل م�ض َّلل امل�ضيعان با�سم دولة القانون وامل�ؤ�س�سات امل َّدعاة ،حيث ي�ست�أثر
م�ض ِّلل حتت �ستار املعقولية التي هي معادل مو�ضوعي للخنوع من ي�ست�أثر فيها مبكت�سبات التنمية ،تارك ًا عامة اجلمهور
واال�ست�سالم ،وقد �أثبتت حرب � 2006إذ مرغت املقاومة �أنفة نهب ًا ،وهنا تت�صيرّ (�أنا) ال�شاعر (�أنا) جمعية كونية ،لت�أت
«اجلي�ش الذي ال يقهر» يف الرتاب ،وعاد من لبنان يجر �أذيال ال�صرخة ...ال�س�ؤال املد ّوي ،تارك ًا لنا ح�سن اعتباره:
اخليبة واخلزي والعار يف مواجهة املقاومة البا�سلة ،وهذا ما
ِم نَ ُن ال�س�ؤال (بدولة القانون)
�أثبته العدوان على غزة ( ،)2009/1 /17– 2008/12/27و�إذ
ن�شهد ما ن�شهد مما ي�سمى باملفاو�ضات ،ليت�أكد لنا بجالء: زا ُد ال ُّذل ،ما ُء الوجه
�أن املقاومة هي ال�سبيل الوحيد والأوحد ال�ستعادة الأر�ض ماذا بع ُد
واملقد�سات ،و�شرف الأمة بالعي�ش الكرمي ،و�أقوال ال�شاعر نادر
هدى فائ�ضة جلية يف حواراته الأدبية (حوارات نادر هدى- ماذا يا �إمام؟!
الر�ؤية والإبداع )-ويف �سريته الإبداعية (م�شارب الرهبة)، * * *
فنحيل عليها غاية للإيجاز وعدم الإكثار. هذه خام�سة ،و�أخرى ،بها نكون مع ق�صيدة «�أجنم تكن�س
و�إذ يح ُّل نادر ق�صيدته في�ض م�شاعره للمقاومة و�سيدها اجلرذ» ول�سيد املقاومة يهديها ،ق�صيدة تعبرِّ عن متا�س
يف ا�ستح�ضار لكربالء «�أمانات حلم بالر�ؤى املحكمات» ي�أين ال�شاعر املبا�شر مع املقاومة التي يرى فيها اجلدار الأخري
�س�ؤاله�« :أهو الدم ماء ؟ « بالت�أكيد نقول مع ال�شاعر� :أن ال، ل�شرف الأمة ،واملعنى الوفري ال�ستنها�ض الكامن فيها – روح
ومع ًا للمقاومة و�سيدها نهتف ِّ
ونحذر: اجلهاد – و� ُّأ�س البالء الغا�صب املحتل املتغطر�س املدعوم ،من
كل قوى الت�أمر وال�ش ِّر التي تكيل لهذه الأمة العداء ،وهي تعي
ف�أُ َّم اجلموع الغفري َة الكامن فيها ،وقد ت�صيرَّ فتح ًا ،ومنارات �إ�شعاع ع ّمرت الدنيا
واحلمام
احلمى ِ
خذ بنوا�صي ِ وكانت اجلذوة حل�ضارته ،والكامن ذاته مل يتغري يف انتظار
باعثه املنتظر القريب – �أن �شاء اهلل – هنا خمت�صر نبوءة
فولىَّ زمان ،وهذا زمان ال�شاعر:
�سي�ؤ َّرخ فيه الزَّمان()16
ف�إين �أرى ...ما �أرى؟!
..... �أجن ٌم تَك ُن ُ�س ا ُ
جل َ
رذ
�أيا �س َّيدَ اال�سم والفعل واحلرف ونا ٌر ِ�ضرام()15
دونك �ضيقُ العبارة واملومياء وما اجلرذ �إال دولة �إ�سرائيل املغت�صبة ،وما الأجنم والنار
فك ُّل املدائن تغ ِّلق �أبوابها وال�ضرام �إال جذوة املقاومة �أ َّنى كانت ،وهي حق مقد�س �أنى
33
لعلي من ثنايا ال�صمت �أ�ست�سقي نداءاتي وكل احلواري ت�ؤ ِّبد نوامها
عود من البخور وال َّند
على ٍ �أهو ال َّد ُم ماء!
�سري املكنونَ من وجع
ف�أف�ضي ما ي�ؤبد َ فمن يبعث النور والنار يف كربالء
وقد �أوزعت لل�صخر م�س ّراتي لم والبعث والكربياء()17 وينطق با ُ
حل ِ
برحت ت�ؤان�سني على قدرٍ :لك ال ُّر�ؤيا
فما ْ * * *
لك ال ُّر�ؤيا ..لك ال ُّر�ؤيا هذه �ساد�سة ،و�أخرى ،لنا فيها مع «ق�صيدة غزة» وقفة يف
فهل من قارئٍ كفي نبوءة لل�شاعر نقر�أها – وهي واحدة من غري نبوءة ت�ضمنتها
الق�صيدة /امللحمة التي هي الق�صيدة الأطول يف م�سار جتربته
مبا يخفى وي َّدخ ُر ؟! ال�شعرية ،بعد مرثاته لأمه يف ديوان «�س�أع ُّد �أيامي مبو ِت ِك».
ونبد�أ من مر�آة كفه لنخل�ص �إىل ما ُيخفي و ُيدخر ،يف نادر هدى يف ق�صيدة غزة م َّكننا من وثيقة ح ّية لأيام
انتظار «الذي ي�أتي وال ي�أتي» يف غو�ص خلوابي الذات والر�ؤيا، العدوان منذ بدءه يف 2008/12/27وحتى توقفه يف
ع َّلنا معه ن�ست�سقي نداءاته ،ونف�ضي �إىل ما ي�ؤبد املكنون من را�صد ،راءٍ ،
،2009/1/17معربة ب�أحا�سي�س وم�شاعر �شاعرٍ :
وجع ،ولنخل�ص �إىل �أن« :خراب كله املعنى» فهل غري �أ�سطورة
دقيق ،ملجريات ما حدث يف بعده النف�سي واملعنوي على ال�شعب
الفينيق يخفي ال�شاعر وي َّد ِخ ُر؟!
املحا�صر الأعزل.
تتداعى هنا الأ�سطورة م�سلحة بالفكر ال َّنام عن ر�صد
لقد �أبان ال�شاعر لنا بق�صيدته حقيقة ال�صراع العربي
الواقع وقراءاته ،وهذه �إحدى �أ�شكال النبوءة عند نادرّ ،
ت�شف
الإ�سرائيلي ،مبا بثه من �أفكار وت�أمالت ان�سربت لواقع اليهود
وتعذب ،وت�ستدعيك للحفر يف طبقات الن�ص وخلفية م�أتاه، ّ
يف احل�ضارة العربية الإ�سالمية ،واقع الت�سامح والعي�ش
مبا تك ّنه من الألفاظ واملعانى وال ُّر�ؤى ،ولع ّل يف حماكاة ق�ضية
ال�صلب امل�سيحي مع الإ�سالمي تكمن الداللة والإ�شارة: الكرمي يف حرية املعتقد والذات �إىل �أن فتك داء ال�صهيونية
وت�صيرَّ دولة �سرطانية يف اجل�سم العربي ،بزرع دولة �إ�سرائيل
/ املغت�صبة ،والتي �ستل َف�ض يوم ًا ال حمالة ،ويف ِعبرَ التاريخ ال�س ُّر
ُ
اخليال امل�ضطرب أنت ال ال�شرق �شر ُق َكٌ ،
نازف � َ واخلرب اليقني.
-وما �صلبوه ر�صد نادر العدوان وعاي�شه م�سلح ًا بخلفيته الثقافية
-بل �صلبوه ،وكلُّنا ن�صلب الوا�سعة ،فلنكن مع الن�ص لنحاكيه:
ق�صيدة غزة� ،شاهدة على ا�ستح�ضارات جتعل من وثيقتها أحادث ال َّر َيح املعتق َة
وقلت � ُ
وحدة ع�ضوية نخل�ص من خاللها على نبوءات و�أخرى ،لها يف الذات وال ُّر�ؤيا
خوابي ِ
مكنه ال�شاعر املاهر امل�سلح بثقافة الوا�سعة قراءاتها املتعددة،
بعيد ًا عن �أحادية املعنى لت�أتي �أكلها. مبا ي�أتي وال ي�أتي
مبا ي�أتي و�أنتظر
* * *
34
�أنها حرية الإرادة والفكر يف ر�أي اخلليفة ومزاجه – هذه �سابعة ،و�أخرى تكون فيها مع ق�صيدة «كن�س اخلراب»
ُق ِد�س �سره – �أي يكون �صاحب ال�سلطان ال�سيا�سي ،وهو يف وما �أدراك ما كن�س اخلراب!:
الوقت نف�سه �صاحب الر�أي وال�سيف ،ويف م�سار الفكر العربي فهيئوا املائدة
وقراءات جتديده()18اخلرب اليقني .ير�سم لنا ال�شاعر معادلة
�إنه ر�أ�س احل�سني
�آية من الأحكام عرب احت�شادات دينية وتراثية وتاريخية،
متخذ ًا من الت�شكيل الب�صري و�سيلةَّ ،
ليدل وي�ؤكد على حقيقة �إنها كربالء التي مل تنت ِه ...
�سالح الذاكرة التي تراهن عليه �إ�سرائيل الغا�صبة: قال اخلليفة � :أعطوه �ألف دينا ٍر
وعلى زيتونة – ال �شرقية وال غربية – قال اخلليفة :اقطعو ر�أ�سه
يكاد �سنا برقها ي�ضيء فعلمت �أن للكلمات جنود جمندة
�أع ِّلق قلبي يف قد�س �سره
هذه ثامنة ،و�أخرى� ،س�أقول فيها لقلمي�« :أ�سكت يا قال اخلليفة� :أقطعوا ر�أ�سه
قلم ،وانطلق يا ر�صا�ص» لكن ر�صا�ص املعنى والر�ؤية ممث ًال ملاذا وكيف ؟!
35
وهنا ممكن من يخدع نف�سه ،ويكذب عليها ،فيكون �أول باحتالل العراق ،وم�شهد اعتقال رئي�سه و�إعدامه ،ما يعني
امل�صدقني ،و�آخر املكذبني ،لكن بعد ماذا: ا�ستهتارا بالقيم الإن�سانية واحل�ضارية والأعراف الب�شرية
للنيل من ثوابت الأمة يف عقيدتها وح�ضارتها كحلقة من
لقد ن�سينا متاثيلنا العرجاء
حلقات ت�آمرية خللق عراق ممزق مهان ،يغ ّله العنف الطائفي
ف�أن�ستنا �أنف�سنا واالنق�سام الداخلي غ ًال ،ويوغل يف الوجدان جرح ًا ال يندمل،
لكن باملقابل ملاذا مت غزو العراق و�صو ًال لواقعة املهني ؟! �ألي�ست
وكانت حت�سبنا جميع ًا
ال�سيا�سة اخلرقاء؛ �سيا�سة:
وقلوبنا �شتى
ما �شئت ،ال ما �شاءت الأقدار
بعد ذلك؛ ماذا ينتظر ال�شاعر من هدى ،وملاذا؟!: فاحكم ،ف�أنت الواحد القهار !
يا هدى تلك التي هيئت للأعداء كل م�شروعية لبغي ت�آمرهم،
�ألهمي الرائي يقين ًا وغي م�آربهم ،لع ّل هذا ومثله ،وغريه ،لكن �أين تكمن الر�ؤيا ّ
النبوءة هنا ،وب� ّأي �صيغة ت�أتّت ؟:
لع َّل البوح يف ال�صمت يندى
(متاثيلنا العرجاء)
�إن ممكن ال ُّر�ؤيا النبوءة يف الإ�شارة الرا�صدة الواعظة
وقد: نن�صبها على العتبات
والقلب ُم ْد َمى()21
.....
ما � َ
أجمل الفاكه َة الطازج َة
هو ذا ال�شعر عندما يتجلى �أبعاد الزمن ،وينك�شف �أمام
�ضربات الواقع ،وها هو ال�شاعر الذي يفتق بالكلمات ِعبرَّ عندنا تكون ال�شم�س �ساطع ًة!()20
الر�ؤيا؛ وي�صيرّ ها م�سالت نازفة !!!
هذه واحدة وفيها تكمن املكابرة واخلنوع واال�ست�سالم� ،أو
قل خداع النف�س ،لكن ما هي النتيجة واخلال�صة:
* * *
و�آح َر غدي
هذه تا�سعة ،و�أخرى يف (ربيع الثورات العربية) لنا �سرية
�أخرى. الكف �أ�سئل ٌة « !!! ُ
والكف تلو ِ
يف اللوحة الثانية (عرائ�ش العزّ) من ديوان (ماء الغواية) �إذ من دم احلي�ض ن�ستلهم الكربياء
الذي �ضم (ق�صيدة غزة) ،تلك امللحمة الرا�صدة الدقيقة ون�سفح الدم الطهور ماء !!!
36
يف ربيع الثورات هذه وجدنا �أ�صداء وقر�أنا مالحم را�صدة للعدوان الإ�سرائيلي على غزة (،)12009/17 – 2008/12/27
ح�س �شاعرنا من خالل عنوانات هي :فاحتة للع�شق والثورة/ يف ِّ �إ�ضافة لق�صيد ٍة (�أجنم تكن�س اجلرذ) وهي تعبري عن تراكم
ُن ُذر ال ِّريح /حبيبتي اخل�ضراء /عزم الأباة /الثورة امل�شتهاة املواقف للمقاومة و�سيدها والتي تلقى احتفاء و�صدى يف وجدان
/مباذا نكتب تاريخك /ماذا �سنقول /كـم؟!� /سطع القمر. ال�شاعر نادر هدى.
وما بني 2012/4/8– 2011/1/15كان مدى كتابتها ،ق�صائد
تد ُّل عناوينها على م�ضامينها. وهذا ما ي�ؤكد حقيقة ر�ؤيته من خالل �إجابته على �س�ؤال
عن اقرتاحه اجلمايل ،قوله� »:أن اقرتاحي اجلمايل الذي
كلُّها تعبرِّ عن �أمل حم َرق يعي�شه ال�شاعر ،نظر ًا ملا يحيق �أ�سعى �إليه هو احلوار لكي يكون ج�سر ًا من �أجل التوا�صل لكل
بواقع الأمة والوطن ،وك�أنها �أ�إرها�صات ملا هو كائن و�آت .وكل ما هو م�ؤثر يف �صالح الإن�سانية بعيد ًا عن م�صطلحات الت�شنج
هذا ميثل بعد ًا نوعي ًا ملا هو كائن عرب حقب وقرون ،و�أ�صبح
والعبث والفو�ضى يف هذا العامل الذي مل يعد يحتمل �إال تعزيز
واقع ًا بف�ضل (عزم الأباة) بالربيع العربي الذي ن�شهد .هكذا
قيم اجلمال والتوا�صل الإن�ساين»(.)22
مت�ضي الق�صيدة متماهية يف املر�أة الثورة ،ف�إذا هي حبيبته
اخل�ضراء التي ي�أتي �إليها حمم ًال بزهر ًة من ماء: وبالواقع املنبت الذي �أ�صبح عليه حال الأمة والوطن يعلن
من �أجلها حبيبتي اخل�ضراء ثورته( .)23ويرى�« :إن االنبتات الذي ن�شهده ما بني الأنظمة
و�شعوبها لدليل على خوائها ،وانعدام م�شروعيتها يف البقاء
�آتي حم َّم ًال بزهرة من ماء حلظة واحدة ،فليعط الأمر لأهله �صدق ًا وحق ًا� ...إن واقع
�أقول يا حبيبتي النظام العربي ب�شكله وت�شكيله الراهن يف امتحان ،وهو مه َّدد
باالنهيار(...ويرى)�...أن م�شروعية البقاء لأي نظام هو
جتملي بال�صرب؛
احلوار ال القوة ،الت�صالح مع ال�شعب بحيث يكون النظام يف
�إن الفجر �آت حدِّ ذاته مكت�سب ًا وطني ًا »(.)24
�ستلفظ الأموات يرف�ض نادر الإيديولوجيات ال�سائدة يف النظام العربي،
املجد للحياة ي�صب يف وئد ال�شعوب ُّ ويرى �أن كلها تنهل من معني واحد
وقهرها لتخل�ص �إىل �أثنيات من الفقر والف�ساد والطائفية،
/
والبديل هو �أن تعي ال�شعوب �أن احلرية والكرامة لي�ست م ّنة
ال وقت بعد الآن للرفاة احلاكم :امل�سلح ،املُل َهم ،وال�ضرورة ،وعليه ال ب ّد من اخللود �إىل
ال وقت للحانات الذات �أمام الأ�سئلة اجلوهرية يف الوجود واحلياة :ماذا نريد؛
و�إىل �أين؟ »(.)25
ال وقت للذئاب يف الغابات
وبناء ًا على هذا الو�صف والتو�صيف يخل�ص �إىل�« :أن النظام
فلتبعث الأرواح من رمادها
العربي �أمام �س�ؤال �صعب ،و�أن �س ِّول له كعادته �سوق احلجج
ومن ف�ضاء الذات ()27 ومربرات الأ�سباب فـ (حديث خرافة يا �أم عمرو)»(.)26
37
موات
والأر�ض ْ لذا ي�ضع للواقع �شرائط ا�ستحقاقه يف �أن امل�صاحلة مع
الواقع بح َّلته التي يراها ال�شاعر بربيع الثورات هي اال�ستجابة
و�أراين يف ُح ُجب الغيب �أجنم يف ال ْآت
احلقيقية لإن�سانية الإن�سان يف احلرية والعدالة والكرامة،
(�أهو الزمن الفائ�ض يف غول الإنرتنت مبادئ جاءت بها كل الأديان؛ و�أكدتها ال�شرائع واملذاهب
الأخالقية والفل�سفية ،فلماذا نبقى يف من�أى عن املعاي�شة
اجلينات ؟!)()29
ْ وح َّمى
والتفاعل .نرى بع�ض الدول ا�ستجابت لواقع الثورات فالتفتت
وا�صف ًا احلال التي �صارت عليه الأمة و�صار عليه الوطن: �إىل د�ساتريها املعطلة املركونة باحث ًة يف تعديلها وجتديدها
ما ت ُ وك�أن العبء يف الن�صو�ص ال يف النفو�س ،لقد كانت الن�صو�ص
ُنبئ فيه ال ِّريح
! فما كان مدى �أثرها على واقع املواطن العربي الذي عا�ش
�إ َّنا �أ�شالء خاوية تتقاذفها ال ِعقبان يف جور حاكمة ،لت�صل الأمور �إىل اال�ستعانة بالأجنبي()28
ليخل�صنا من ح�صار عدونا وجور حاكمنا ،وقد حاول تف�صيل
يف ُ�س ُر ٍر يت�س َّيدها (ال ِقعدان)
د�ستور بالده على مقا�سه و�أبناءه ورمبا �أحفاده فقط ،ناهيك
�إ َّنا اال�سم املا�ضي عن تعطيل الد�ستور ،وتعطيل كافة امل�ؤ�س�سات الوطنية وفقا
والفعل املا�ضي لغلواء �أهوائه ،وبالتايل �سجن الوطن واال�ستئثار مبكت�سباته ،ال
بل خولت له النف�س الأمارة �أن الدولة مل تت�صيرّ �إال له ،و�إنه مل
والأثر املا�ضي يخلق �إال لها ،و�أن الوطن رهينة له ،فميزانية الدولة جيبه ،فهو
والعني املفقوءة ويل ال ِّنعم ،وال�شعوب رعايا رعاع.
�إ َّنا التاريخ الواطي لقد تغ ّول اال�ستبداد يف عرف احلاكم العربي حتى ك�أنه
جزء من �أعمال ال�سيادة ،و�أ�سبغ على نف�سه القيم ال�شرعية
يف جثث املا�ضي ببقائه وخلوده باحلكم ،وبلغ حد ًا �أ�صبح معه جمرد التذمر
و (امللل ....النحل) امل�أجورة �سر ًا مما نرى ون�شهد خيانة عظمى بحق �شخ�صه املقد�س
الذي ال ي�أتيه الباطل ،فهو ال�صالح و�أن �أجمع ال�شعب على �أنه
�إ َّنا �أقنعه عبيد الذات اخل�صيان مل يعد �صاحل ًا ،وهو املبارك ،والزين ،واملُع َّمر ،والأ�سد ،مهما
يف نعمة موالنا ال�سلطان كان البون �شا�سع ًا بني �صفات ي�صبغها على نف�سه ،و�أخرى
يراها �شعبه .لقد انعدمت �أرادت ال�شعوب حتى �س ّول للحاكم
فبماذا وطغمته م�سخها وجتريدها من فطرتها التي خلقها اهلل عليها.
أبيح؟!()30
ومباذا يا ُجدُر التيه � ْ حت�س�س نادر �آالم �أمته وعذابات �أوطانه ف�أنذر:
بهذا َّ
ويف �سياق كل ذلك ير�صد الآالم والآمال والأحالم ،عرب وج ٌع � ْآت
توقيعات ووم�ضات �شعرية ،عربت عنها ق�صائد اللوحة ،وهي فات
يت�أبط ما قد ْ
38
وتاريخ الأ�سفار ع�صارة وجدانه الذي :يرى وي�شهد وير�صد ،من خالله الواقع،
بعني على املا�ضي ،و�أخرى على امل�ستقبل.
هي �سحر ال ُّر�ؤيا
ماء القلب لقد كان ال�شاعر نادر هدى ل�سان حال املواطن العربي،
ول�سان حال الوطن ،الذي �أن�سنه ف�أنطقه ق�صائد كلها نبوءات
ف�ضاء ال ُّروح واعدة :بالغد الآتي ،والفجر الآتي ،واحللم الآتي:
املعنى والإيثار -هل �أنبئ بالآت؟
.......... -ني ًال وفرات
/
متطر يف تون�س ع�شق ًا
كانت يف البدء حمامة قلبي� ،صارت �أطيا ْر
تتفجر يف م�صر الأنهار
مطر ًا �أجمعه� ،صارت �أنها ْر
يف (برقة)
كانت يف البدء املنفى� ،صارت وطن ًا ع�شق ًا
يف �صنعاء الأنوار
�أبنيه املجد �صروح ًا
تنداح الأ�ستار
�أودعه احل�ضرة والأنوار(.)32
ك ّنا يف جوف البئر
وك�أين به اطمئن على �أن الثورة امل�شروع والهدف قد �أتت
�أكلها ،داعي ًا �إىل املحافظة على مكت�سباتها ومنجزاتها ،وال�سهر الطمي ،نقتات البهتان
ُّ وي�أكلنا
على الإعالء من �ش�أنها وا�ستثمارها ،ف�أن�شد: ال نحلم بالإمطار
�سطع القمر وها قد جاء ُّ
الطوفان ()31
فا�شتدي زمي»()33 « هذا �أوان ال�شدِّ و�إذ بدئت طالئع الثورة هلل ،فك�أنا �أمام (�سمفونية)
اليوم غري الأم�س، لهدى� ،إن �أخذنا الق�صيدة غفال عن �سياقها ،وما هدى هنا
اال (الثورة امل�شتهاة):
قد وىل بال كفن
فليعرب الآتون من كل البالد احلب
وارفة �أ�شجار ِ
«املواطنون �أمام القانون �سواء ،مبا لهم من حقوق ،وما عليهم كال�ؤل�ؤ املنثور من زهو امليادين
من واجبات» ،وهذا ما يجدر �أن يتج�سد �صدق ًا وحق ًا ....،وقد
القناطر
بلغ ال�سيل الزُّبى»(.)35
واجل�سور ،هو القمر
وبعـــد:
ال ترتكوه يف العراء يغلُّه الربد ال�س�أم
يل �شائك ،ترتكب �أ�ضالعه يف مثلث هذا مو�ضوع �أ�شكا ٌّ
مت�ساوي الأ�ضالع ،لكل من �أر�ؤ�سه :الكلمة ،هدى ،النبوءة، ال ترتكوه للأفاعي والأمل
املنك�سر الأليم ،ير�صده ال�شاعر
ويف داخله الواقع امل ُّر القا�سي ِ كونوا له �أم ًا� ...أب ًا
الرائي فيهتف لهداه ،زاده الكلمات ،وكالهما املتكئ وامل�أوى
خر ٌب؛ ر�سالته �أن يجعل والزاد يف غربة هو فيها ،ودونه عامل ِ وتعمدوا من في�ضه الوهاب �أحالم الندى
منه �أكرث جما ًال ،بتجاوزه وتخطيه ،ويف ِّ
كل ذلك ال ي�ألو ال�شاعر قولو له� :أنت ال�سالم املرجتى
جهدا يف �أن يعزَّز رواه بالإ�ستح�ضارات :الدينية ،والرتاثية،
والتاريخية ،والواقعية ،والأ�سطورية ،و�صو ًال �إىل الر�ؤيا �أيقونة املعنى وينبوع الهدى
النبوءة ،التي هي خال�صة املبدع للخال�ص؛ التي هي الإ�شارة ها قد بد�أنا الدرب �صوب ال�شم�س
من خالل العبارة ،و�إذا قال (النفري) «كلما ات�سعت الر�ؤيا
�ضاقت العبارة» �أرى نادر يقول :كلما غال الواقع عتو ًا� ،ضاقت فالنم�ض �سرا ًة ن�صطفي �آياتنا
ِ
العبارة ،فت�أتت الر�ؤيا ،وقد وجدناها عند �شاعرنا يف �صيغ عدة وجنمل املعنى املعبرَّ باملباهج وال ُّر�ؤى
بارزة للعيان حين ًا ،وت�ست�شف ا�ست�شفاف ًا ،وغاية الق�صيدة كما
ال وقت للما�ضي نعبئه
يقول (بودلري) �أن « تخفي �أكرث مما تعطي» ،وح�سب (�أيكو)
« ف�إن امل�ؤلف يقدم ن�ص ًا ناق�ص ًا ،وعلى املتلقي �أن ِّ
يتم َمه وميلأ بت�أويل املتون اخلاوية
فراغاته» ،وقد �أ�شرنا �إىل (لومتان) قوله�« :إن اللفظ يف ال�شعر
ال وقت للنا�ؤون ي�صطرعون ح َّمى الهاوية
يكتب دالالت �إ�ضافية لأنه ذو طبيعة ازدواجية».
الفجر �آت والقمر
الفجر �آت والقمر.)34( ...
ولي�س هذا بعيد ًا عن ر�ؤية نادر وفكره �إذ جنده يف (م�شارب
الهوام�ش: الرهبة) يقول:
-1نادر هدى ،ثالثية( :حرب العتمة ،مزامري الريح ،عامل ل�ست فيه...؟!) ،وزارة
الثقافة الأردنية2010 ،م.
«لقد و ّلت �إىل غري رجعة ثقافة االحتواء وال�شمولية ،ثقافة
ال�شعارات والتنظريات ،ثقافة «كل �شيء على ما يرام» ،ثقافة
-2نف�سه.
«ما �شئت ال ما �شاءت الأقدار» ،لتحل مكانها ثقافة احلوار
-3ماء الغواية ،ق�صيدة :رهبة احلرف. والعي�ش امل�شرتك ،ثقافة واقعية تن�ص عليها عامة الد�ساتري
40
-24حوارات � ،ص � .176 – 175أجري احلوار من قبل الأ�ستاذ الدكتور :عبد -4ماء الغواية ،ق�صيدة� :أنا من ر�أى.
الرحمن ترب ما�سني ،ون�شر يف العددين التا�سع والعا�شر تباعا ،يف جملة ف�سيف�ساء
-5نف�سه.
التون�سية.
-6نف�سه.
-25حوارات� ،ص .179
-7نف�سه.
-26حوارات� ،ص .180
-8نف�سه.
-27ماء الغواية� ،ص. 147
-9ماء الغواية ،ق�صيدة :زيف الفجر هداي.
-28ن�شري هنا �إىل جورج غلوي (غري امل�سلم) رئي�س قافلة �شريان احلياة 3لقطاع
غزة املحا�صرة ،وهو رئي�س حزب االحرتام الربيطاين ونائب يف الربملان الربيطاين، -10الأناجيل املقد�سة
مدافع ومنا�ضل من �أجل الق�ضية الفل�سطينية ،ومن �أجل الق�ضايا الإن�سانية .منذ
خم�سة وثالثون عاما ،حال نظام حممد ح�سني مبارك (امل�سلم) دون م�ساعيه ،لأنه � -11سورة حممد� ،آية 7
يف احلقيقة هو من يحا�صر القطاع .ثم �أعلمته اخلارجية امل�صرية ب�أنه �شخ�ص غري -12ماء الغواية ،ق�صيدة :زيف الفجر هداي.
مرغوب فيه مب�صر م�ستقب ًال ،انظر و�سائل الإعالم ( ،)2010/5/6ثم �أن هذا
النظام -قام ببناء جدار فوالذي عازل بني م�صر وقطاع غزة املحا�صر حتت الأر�ض، -13ماء الغواية ،ق�صيدة� :أرفق بنا يا �أمام.
ويربر مبقت�ضيات ال�سيادة الوطنية ،والعهد بكل اجلدر �أنها فوق الأر�ض ،وقد ق�ضى
-14نف�سه.
الواقع ب�إزالتها� ،أيها التاريخ كم �أ�شفق عليك ،لك�أنك عزيز قوم ذل ،ف�صرب جميل
واهلل امل�ستعان. -15ماء الغواية ،ق�صيدة� :أجنم تكن�س اجلرذ.
-29ماء الغواية ،ق�صيدة :نذر الريح. -16نف�سه.
-30ماء الغواية ،ق�صيدة :نذر الريح. -17نف�سه.
-31ماء الغواية ،ق�صيدة :فاحتة للع�شق والثورة. -18ينظر على �سبيل املثال زكي جنيب حممود :جتديد الفكر العربي ،وخا�صة
موقف اخلليفة املهدي من ب�شار بن برد ال�شاعر ،وق�صة احلالج بعده ،ثم ابن املقفع
-32ماء الغواية ،ق�صيدة :هل �أنبئ بالآت.
الأديب احلكيم ،ثم ق�صة الإمام �أحمد بن حنبل ورفاق �سربه مع اخلليفة امل�أمون:
-33هذا مما امتثل به احلجاج يف العراق على منرب الكوفة ،وهو يف كتب التاريخ على �أثر حمنة القر�آن� :أقدمي هو �أم حادث ،حيث �أخذ اخلليفة بالر�أي (احلادث)
والأدب مب�سوط :مروج الذهب ،154/2الطربي ،210/7الكامل البن الأثري فجعل من نف�سه اخل�صم واحلكم ،فحكم على الإمام بال�سجن على ثبات ر�أيه املخالف
،374/4الكامل للمربد ،493/2البيان والتبني ... 223/2 مما ي�شعرنا بالزهو �أن كان لأ�سالفنا مثل هذا الوقوف عند الر�أي والعقيدة �ص 46
من�شورات وزارة الثقافة الأردنية ،مكتبة اال�سرة.2009
-34ماء الغواية ،ق�صيدة � :سطع القمر.
-19ماء الغواية ،ق�صيدة :كن�س اخلراب.
-35م�شارب الرهبة /منازل الوجد ،حرائق الروح ،جمرة الذاكرة ،دار
البريوين،الأردن� 2009،ص .79 -20ماء الغواية ،ق�صيدة :و�آحر غدي.
-21نف�سه.
( -22حوارات نادر هدى-الر�ؤية والإبداع ،)-دار الكتاب الثقايف ،ودار املتنبي،
الأردن� ،2007،ص .139
نــــــ�ص:
ّ
�أ�سماك زينة!!!
د .را�شد عي�سى
ع�شاق احلرية �أعمارهم ق�صرية و�آثارهم خالدة مديدة، العبودية �سجية جمبولة بدماء بع�ض الكائنات نبات ًا �أم
وع�شاق العبودية ميتون يف احلياة .احلزيون �أيائل على قيم حيوان ًا طري ًا �أم ب�شر ًا ،فالنبات الذي نر ِّبيه داخل �صالونات
اجلبال مت ّد �أعناقها النافرة لتق�ضم ال�شم�س ،والعبود ُّيون بغال البيوت يع�شق الظل والرطوبة وميوت �إن تعر�ض لل�شم�س،
حراثة �أو �ضفادع� ،أو نعاج تثغو يف حظرية الذل. وحمام املنازل يكره العي�ش يف الغابات لأنه يخاف ال�صقور،
واخلروف ال يفارق ظل الراعي حتى ال ي�أكله الذئب .وال ّ
�شك
الإبداع هو الناطق الإعالمي الأول با�سم احلرية .الأدباء �أن من الب�شر �أ�صناف ًا ت�شبه الكائنات املذكورة� .إذ ًا ثمة �أنا�س
العظماء �سالطني احلرية لأنهم ي�سرحون �أفكارهم يف مراعي دواجن يت�ضررون �إذا منحوا احلرية لأنهم ال يعرفون كيف
النور الإن�ساين ،هم عرابو املجاز و�أ�سياد الكتابة وهم عقبان ي�ستثمرونها ،ومل ي�سبق لهم �أن تدربوا على تذوق لذتها فتكون
يزيحون مبناقريهم �ستائر ال�ضباب الذي يحجب ال�شم�س احلرية نقمة عليهم.
ثمن النا�س .الأدباء املوهوبون لي�سوا عبدن ًا حتى يف البيئات
اال�ستعمارية املتغطر�سة يقول �أحد الكتاب الأمريكان يف ق�صة احلرية ال تليق باجلبناء وال�ضعفاء لأنهم يخذلون معانيها
الإن�سانية املقد�سية� ،إمنا تليق بكل نف�س ج�سورة برية حتب
ق�صرية جد ًا (�أهدى طوين �صديقه جوين �أرنب ًا .يف �صباح
ال�شم�س وال�سماء بكربياء عالية تزاحم جمرات النجوم احلرية
و�ضع جوين الأرنب يف قف�ص بابه مفتوح .يف امل�ساء تفقد جوين
ملن ي�ستحقها كرامة لذة ،وملن ال ي�ستحقها عتمة ذ َّلة.
الأرنب فوجده متم�سك ًا ب�أ�سالك القف�ص بقوة ،وهو يرتعد خوف ًا
حتى احلرية) الأرنب الأ�صيل يولد ويف دمه جني احلرية . حق وخري وجمال والعبودية باطل و�شر وقبح، احلرية ٍ
احلرية باهظة الثمن ال ي�شرتيها �إال �أغنياء النفو�س وع�شاق
ومع ذلك فاحلرية ك�أي ثنائية جندية ال يعي�ش دون نق�ضها النور ،والعبودية �أرخ�ص من الباذجنان ي�ستطيع �أن يحتازها
العبودية .ال�سمكة التي ت�سبح يف حو�ض زجاج لن تن�سى البحر, فقراء النفو�س .احلرية نحلة والعبودية ذبابة .احلرية قرية
وقع ذلك ثمنه �أدباء �أ�سماك زينة!!.. فلفل حار ،والعبودية قرية ب�إمياء.
�صانعوا الإدارة �أول اخللق بربح احلرية والنهارات
ال�شم�سية� ،أما املن ّوخون املليون ف�أوىل الب�شر بربح املهانة
والو�ضاعة.
�شاعر �أردين.
43
جتليات املاء
حميد �سعيد
�شاعر عراقي.
44
الفجر
ِ ...وظاه ُر
ما ّ
ابي�ض ْت خواطر ُه
ل ُه الأيادي �إذا ما َ
ارتاح يف خد ٍر
�شاعر �أردين.
46
تزاحمِ ها
املدائن تُف�ضي يف ُ
ِ ك ُّل الغيب من�شغ ًال
يعو ُد من �سور ٍة يف ِ
ال�صحفا
بعزف يجمع ّ
ٍ قام ُمت َِّكئ ًا
ك�أنَّ هذا اجلفا �إنْ َ
بدم
ك�أنني الآنَ �أرفو حقلها ٍ نف�سي،
ْ
القلب من �أقالمهِ ا �شرفا
ويع ِق ُد ُ �أقام ل ُه يف العالمَ َني َ�صفا
أ�شباح
وال َ يحتاجني ُنتفا
وال�س ُجفا
ُّ البيت َم ْر َود ًة لكي �أُ َ
قيم ل ُه يف ِ
لكي َ
مييل �إىل الدنيا ،في�شرحها كح ُل َّ
الظل، ُي ِّ
َ
العزف لو �أبقي ُت ُه خلفا ويو ِق ُف �أو يرمي ل ُه َط َر َفا
إيقاع ُه ان�صرفا
وط ّوعي املا َء لو � ُ �أرى يف الطاعن َني دفا
البيات،
ِ �إىل بب املُ ْرخي �سرائ َر ُه
ال�س َ
و�أتب ُع ّ
حرفت...
ْ و�إذ حني �أع ِت ُق ُه
ل ُه الأما ُّ
ين، ال�ضباب،
ِ من
ال�صدفا
� ...أنا من �أبد َع َّ ِومنْ حتود ُِب َمنْ �أخفى
ل ُه ُّ
ال�صحفا
48
حــــادي العيـــ�س
د .حيدر الب�ستنجي
مل يزل الغناء طري ًا وحاف ًال ،وقا�شو�ش يقود م�آذن دم�شق
الع�صية بحنجرته النازفة.
�شمعة للربيع
�شمعة للربيع الذي يت�سلق وجه املكان
ي�ضيء م�صابيحه
يهدهد �أحالمنا العائدة
الغيوم انتهت من حرا�سه ليلكها يف حقول امل�سرة واليا�سمني
و�أطلت على �شارع مالح يف طلول الكالم.
لعلي �أ�سوي على باب روح الأغاين بني ال�صدفني يدي
و�أترك �صوتي ...مي�سح يف وله غيمة بال�شام
ومي�سح يف ال�شام هوى لل�شام
لأظل �صدى للبيوت التي تتما�سك باليا�سمني
فتنه�ض هذه النوافد و�سط ر�سائلنا الراجعة
رمبا ...كنت �أرتب هذا امل�ساء الذي فر من لوعة ال�شعر
رمبا...كنت �أكتبه بالدم احلر
ا�سكت�ش للفنان حممد �أبو عزيز
�شاعر �أردين.
49
يراقب �صحو ال�صهيل الذي يلب�س الأر�ض �أعيد امل�ساء على الورق الأبي�ض املتهدج
لي�ضحي عليها املدى و�شعاع القلق. لتنتف�ض الأغنيات على الطاولة الواجفة
مل يعد حار�س احللم والأغنيات وت�سيل ال�شوارع بالنا�س
نام مثل رماد عتيق ي�سيل دم يف ورق تت�سطر فيه الق�صائد
وعاد كما الريح يغ�سل وجه املدينه وال�شهداء
ينظم �أجواءها ووقع الن�ساء اللواتي ن�سني مقام الأغاين اجلميلة
وين�شرها بني يديه من خ�شيه الطلقة اخلائنة
�إىل حالة من �ألق. ها هنا
يا عبري اجلهات وحامل �أوجاعها
قاد قا�شو�ش دهر الغناء الأ�سري
يا �شفيع الرتاب وناظم ذراته يف جفون التعب
كغيمة يف �أعايل الف�ضا
من �سيحمل روحي �إىل زهوة ال�صبح
واحرتق
كي �أ�سري وحيد ًا �إىل وجه �أمي
كان في�ض الف�صول عليه �شفيفا
من �سريفع �أ�سماءنا كاملالئكة الطيبني حينما نلتقي بحدو�س
ف�أرخ نب�ض الربيع على عطرنا
ال�شظايا
مر دون انتظار
ونذوي معا ...يف نثار القبور
ومن �سي�ضم املرايا مع ًا يف �صباح جديد تعملق يف دفرت الدهر
�أرخي على �سور جارتنا ندهة اليا�سمني ويلتقي بنا ...يف ثنايا اخلدر
وتنقر خد الرتاب...
51
ليلـــة �صيـــف
د .عبداهلل من�صور
َو ِددْتُ ل ــو �أَ َّنـ ـ ـهـ ــا تدنــو لأَ ْفهمته ـ ــا و�شو�ش ًة
ح�سبت فيها ارتعا�ش الوم�ض ْ
َف َحنَّ ب ـ ــد ٌر فح ّياه ـ ـ ــا وك َّلمتـ ـ ـهـ ـ ــا ووح ــد ِت ــها
الذت ِبعـ ــزلتهـ ـ ـ ــا مثـ ــلي ْ
ْ
عبـ ـ ـ ــاء ًة َج َّملـ ْـت كـ ـ ْون ـ ـ ًا فك َّرم ـ ـه ــا تبـ ـ ـ ــدو ال�س ـ ــما ُء لــعيني يف ت�أَ ٌّن ِقـ ـ ــها
ملا جعلتُ عظي ـ ــم الوج ـ ِـد ُ�سلـ ـ ـ ـَّمها فيا لهـ ــا �أُنثـى جـ ٍ
ـالل ك ـ ــم رقيتُ لـهـا
ري�سـ ــمها
و َّد الو�ص ـ ــول لها فجري ِل ُ كلـ ـ ــوح ٍة من غـمــو�ض الع ْت ـ ــم رائ ــع ٍة
ع�ص َّي ـ ـ ًة ل ـ ــم يكن فهمي ليقْحمـ ــها ظ َّل ْت غوام ــ�ض هـ ـ ــذا ال ـكــون نــائيـ ًة
�شاعر �أردين.
53
قـ�صـــة:
مطلق ،ونحن بعده بحداثتنا� ،أعدنا البدائية احليوانية ،وقذفنا تدوزن الكالم فيخرج ممو�سق ًا ،ال يهم املعنى مبا �أن العزف
باحلجارة كل ح�سنات بدائيته ،وزرعنا يف �أ�ص�ص احلياة حداثة يخرج الأفعى من جحرها �أو ي�سقطنا يف اجلحر ،حيدت قلبها
منزوعة احلياة. وعزفت با�سمه ،فخرج احلرف دون حاجة لطلق مفتعل.
-ذكرتني مبجتمع القرود ،يقال وعلى ذمة الرواة ب�أن القرود كحجر يف ماءٍ راكد ،فيثري زوبعة ،تبعد امل�صطافنيٍ �أرمي ِه
�أول من طبق �شريعة «رجم الزناة» ،ونحن ما زلنا ال نطيق عن �أطراف البحرية ،خ�شية البلل و�أ�شياءٍ �أخرى �أ�شد فتك ًا،
االعرتاف ب�أن الرجم يطهر الروح ،ويفني مكمن اخلطيئة. طفل يف �شهره ح ّيدت عقلي ،فخرج احلرف متع�سر ًا كوالدة ٍ
ال�سابع ،ولد من نطفة ال تهوى الظهور وتخ�شى احلبلى من
-هذا خروج �سافر عن الن�ص ،نحن ال منلك حكمة القرود ،وال ف�ضيحة تعقر ب�شرفها ،فتخفي احلمل واملحمول.
قدرتها على �صياغة قوانني جمتمعاتها ،ماذا لو تُركنا لنمار�س
احلياة ب�شكلها البهيمي؟ هل كنا �سنجد هذا العدد الهائل من وهي على هذا احلبل كثري ًا ،نتوقف لأخذ
تلعب ...نلعب �أنا ّ
ُ
املخالفات احلياتية التي تتنافى مع العقل واملنطق؟ نف�س طويل ،قبل �أن نعيد الكرة يف كل مرة ُنخرج فيها ن�ص ًا
ٍ
للعلن ،عقلها وقلبي و�سل�سلة الن�صو�ص املولودة من رحميهما .
-مل �أخرج عن الن�ص ولكنه عقلك موقع العلة وب�ؤرة الف�ساد ،لو
أنك ترتكينه قلي ًال ،خلرجت الن�صو�ص �أجمل ،ما عيب احلرف � ِ هذا خداج مل تخالطه حياة :قال عقلها لقلبي ،وهو يحاول
القلبي؟ �ألي�س هو من يجذب القراء ،ويحث القلوب على تتبع الوالدة.
النب�ض؟ ال ت�سجني قلبك بق�ضبان العقل ،فالقلب مناط احلياة � -أريده مبتور ًا ليزرع له �أحدهم �أطراف ًا وقلب ًا �صناعي ًا رمبا!
واحلب ،والعقل مناط اخلطوة التي ير�سمها القلب. � -ستتهمني باجلنون وقلبك باجلنوح �صوب البدائية!
-توقفي عن �إدخايل يف دهاليز وم�صائد ،تتنقلني بخفة من -هذه تهمة �أتعاي�ش معها منذ خططت احلرف الأول ،احلداثة
مو�ضوع ملو�ضوع ،هذا توهان ال �أو ّد �أن �أغرق فيه ،امل�شكلة �أنني
ٍ وليدة البدائية ،والإن�سان البدائي عرف احلياة وخربها بانفتاح
قا�صة �أردنية.
54
قـ�صـــة:
�ســـاعـي البــريـد
فتحي ال�ضمور
الفرحة التي ملأت قلب زوجته كانت بحجم ال�سماء، ا�ست�سلم للف�شل واحل�سرة ،بعد �أن ا�ستنفذ ك ّل املحاوالت
راحت تك�شف عن عندما ا�ستق ّر نب�ض الطفلة يف �أح�ضانهاْ ، التي ت�ساعده على الإجناب .م�ضت ال�سنوات اخلم�س وال �أحد
�س ّر الطبيعة ،و�سحر الأنثى على الأر�ض ،بينما كان الزوج �أق ّل �سواهما يف البيت ،ال �شيء �سوى الكالم والأمنيات� .أدمن
فرح ًا منهاْ � ،إذ مل يكن يعنيه يف ذلك �سوى �أ ّنها لي�ست ابنته. وزوجته على م�شاهدة الأفالم الأجنب ّية ،والأغنيات ،والوحدة.
هو ال يعرف �أنّ الأنثى بطبيعتها تولد �أ ّم ًا ،حتر�ص منذ �أن الكالم العذب وحده يب ّدد احللم الذي مل يتح ّقق ،ويخ ّف ُف
تن�ض َج عيناها على امتالك دمية �صغرية ،تكون هذه اللعبة ُ عنهما وط�أة الوحدة وجنون الرغبة يف الإجناب؛ لك ّنها اللعنة
«عرو�س ًا» ،وال تخلد لل ّنوم �إال معها ،ت�ض ّمها بيديها ،تنام قريرة دائم ًا تلحق باملهزومني �أينما كانوا.
العني دافئة ال�صدر.
كالعادة جل�سا �أمام التلفاز ،وقد وقع اختيارهما هذه امل ّرة
هو ال يعرف �س ّر الأنثى ،و�أ ّنها تولد �أ ّم ًا بالفطرة ،قبل �أن على م�شاهدة فيلم « .»The Postmanتابعاه ب�شغف ،و ما �أن
تكون �أخت ًا �أو ابنة �أو زوجة ،ال يعرف �س ّر الدمية العرو�س يف يد انتهيا من م�شاهدته ،حتّى ق ّرر الرجل �أن يذهب �صباح ًا �إىل
الطفلة ،و�س ّر الأ ّم ،يف ّكر فقط بالفيلم ،وب�ساعي الربيد ،ك ّل ما مركز رعاية الأيتام ،ليتب ّنى طفلة لزوجته املغرمة بالفتيات.
بريد �آخر!
يخ�شاه �أن يظهر يف حياة زوجته �ساعي ٍ
مركز الأيتام الذي ال يبعد عن بيتهما �إال قلي ًال ،كان قد
«هبة» التي كربت ،و�أ�صبح عمرها ثالثة وع�شرين عام ًا، ا�ستقبل �أيتام ًا من خمتلف الأعمار ،منهم من مات �أبواه،
كانت من اجلمال والبهاء ما يجعلها ت�أمن على نف�سها خماوف ومنهم من كان لقيط ًا ،ال �أحد يعرف �أ ّية نطفة �ألقت به �إىل
فتيات هذه الأيام من العنو�سة .لك ّنها تهوي بج�سدها على زج به القدر يف رحم اخلطيئة �إىل هذه الدنيا .كان �آخر من ّ
�سرير ال�س�ؤال والقلق ،تعرف حقيقة �أمرها ،وتداري مرارة هذا املركز ،طفلة تبلغ من العمر �سنتني ،ينادونها با�سم «هبة»،
احت�ضنت وجعها.
ْ الوجود مبن فكانت الهبة التي انتظرتها الزوجة طوي ًال.
قا�ص �أردين.
56
�سنوات ،و�أ ّنها مل ترزق بعد بطفل يك�سر �إيقاع امللل وال�ضجر كان �أكرث املتقدمني خلطبتها ،من �أ�صحاب املكانة املرموقة
يف حياتها. يف املجتمع ،لك ّنهم �سرعان ما ينقلبون على �أعقابهم عندما
تخربهم ب�أمرها .ومبج ّرد �أنْ يعرف �أحدهم �أنْ ال ح�سب وال
انحب�ست �أنفا�س «هبة» ،وارجتف قلبها عندما ر�أت زوج
ن�سب لها يذهب من غري رجعة ،و�إذا عاد �إليها ف�إنمّ ا يعود
ال�س ّيدة ،حتى �أ ّنها مل تقدر على الوقوف لل�سالم على حبيبها
لغايات ج�سدها املتج ّمد يف القطب املهجور.
بحجة القدر .وب�أجواء م�شحونة ،وبتوتر املحرومني الذي تركها ّ
�أخذ زوجته وم�ضى كالهارب من املوت ،ال�س ّيدة ق ّبلتها على «هبة» مل تع�شق �سوى لون عينيها ،ومل ت�ؤمن �إال بنب�ض
خديها الباردين ،وذهبت مع زوجها .وقبل �أن ي�ستقلاّ ال�سيارة، قلبها ،وقعت يف الغرام ،الغرام الذي ي�أتي وال ي�ؤتى عليه� .أح ّبت
نادت «هبة» على ال�س ّيدة ب�صوت مهزوز ول�سان يرجتف :يا �شاب ًا وحر�صت يف بداية عالقتها معه على كتمان �س ّرها عنه.
منك.
ن�سيت �أن ت�أخذي القر�ص الذي �سقط ِ ِ «مدام» ،لقد هي ال تريد �أن تف�سد على قلبها الفرحة يف ممار�سة طقو�س
عادت ال�س ّيدة وق ّبلتها م ّرة �أخرى ،وهم�ست يف �أذنها قائلة :يا احلب ،لك ّنها حتم ًا لن تقدر على اال�ستمرار يف �إخفاء
و�شعائر ّ
�إلهي ،كدّتُ �أن�ساه� ،إ ّنه فيلم �ساعي الربيد ،كان قد �أ�شا َر ّ
علي ذلك طوي ًال.
مب�شاهدته �صدي ٌق قدمي.
ا�ستقامت لهما �أ�سباب الزواج ،واتّفقا على تفا�صيل
ْ بعد �أنْ
حفل الزفاف� ،أر�سلت له لي ًال بر�سالة على هاتفه اجل ّوال
عرفت �أنيّ لقيطة ،وال � ُ
أعرف من َ جاء فيها« :حبيبي ،ماذا لو
�أنت�سب �إليهم ،و�أنّ �أبي الذي تعرفه ،ما هو ب�أبي ،و�أ ّمي لي�ست
ب�أ ّمي ؟».
هاتفها بعد �أنْ قر�أ ر�سالتها مت�سائ ًال ع ّما تهذي به� .أخربته
بك ّل �شيء ،وقالت قبل �أن تنتهي املكاملة ،وتنتهي معها عالقتهما:
«ما ذنبي يف خطيئة مل �أقرتفها ،ولي�ست من فعل يدي ؟».
أيقنت �أنّ زواجها من �آخر
م�ضت �سنوات على فراقهما ،و� ْ ْ
بات �أمر ًا م�ستحي ًال ،وهي تعرف �أنّ من �ألقى بها يف ّ
جلة
أبدي ،والوجع الذي
ال�ضياع ،جعلها امر�أة غارقة يف العذاب ال ّ
ال ينتهي ،فال تكرتث بعد ذلك ملن يخد�ش قلبها الذي ما يزال
ي�شهق �شوق ًا لع�شيقها.
ال�صدفة وحدها جعلتها تلتقط قر�ص ًا �إلكرتون ّي ًا ،كان قد
�سقط من حقيبة �س ّيدة بدا عليها التعب يف حمل لبيع الأفالم
الأجنب ّية� ،أم�سكت بيد ال�س ّيدة قبل �أن يتهاوى ج�سدها على
الأر�ض ،و�أجل�ستها على مقعد يف مقهى قريب ،وملّا ا�ستعادت
ا�سكت�ش للفنان حممد �أبو عزيز
ال�س ّيدة توازنها وعافيتها اتّ�صلت بزوجها ت�ستعجله باحل�ضور.
�أثناء تلك الفرتة �أخربتها ال�س ّيدة� ،أ ّنها متزوجة منذ خم�س
57
قـ�صـــة:
امل�سمـــار
عمر �ضمرة
كان �أبي بعيد ًا عني يف البيت ،وبعيد ًا عني يف املنجرة... تفتح وعيي على �صورة �أبي الغارق يف عمله باملنجرة ،وكنت
حاولت �أن �أقرتب منه و�أن �أفهمه ...باءت حماوالتي �أعلم �أين �س�ألج هذا العامل عن قريب ،بالرغم من اجتهادي
بالف�شل... على مقاعد الدرا�سة� ،إذ بدا الأمر وك�أنه حتمي بالن�سبة �إ ّ
يل.
يف املنجرة �أم�سك ب�آلة الفارة بيدي اللتني اعتادتا الآن بعد �أن �أنهيت املرحلة الإعدادية� ،أعلنت للعائلة �أين
على العمل ،و�أبد�أ بتنعيم اخل�شب اخل�شن� ،أ�صبحت معتاد ًا �س�أ�صبح جنار ًا ،و�س�أبا�شر العمل مع �أبي .تبادل والداي
على العمل ،كنت �أعمل برتكيز قليل ،مما يتيح يل ا�ستطلالع النظرات ...ومل يعلقا ب�أي �شيء ،فاعتربت ذلك موافقة على
ال�شارع بعيني. قراري ،وهكذا بد�أت حياتي مع عامل اخل�شب.
�سمعت ال�صوت �أو ًال ،طق طق طق� ،صوت بعيد يقرتب كان �أبي �صارم ًا يف العمل ،ال يحب اللف والدوران ،كان
رويد ًا رويد ًا ،جرفني طوفان من الف�ضول ،حتى �أن ّ
يدي توقفتا م�ستقيم ًا و�صريح ًا ،حيث كانت كلمته ال تعاد ،وخا�صة يف
عن العمل ،مل يطل الأمر كثري ًا� ،إذ �سرعان ما اقرتب ال�صوت �صفقاته مع الزبائن ،فحينما يقول للزبون ب�أن ال�سرير الذي
�أكرث وملحت فتاة يف الع�شرينيات من العمر ،ترتدي �سروا ًال من طلبه �سينتهي بعد �أ�سبوع ،فع ًال �سينتهي بعد �أ�سبوع ال يزيد وال
اجلينز وقمي�ص ًا �أبي�ض يغطي جزء ًا من ال�سروال ،وحذاء �أ�سود ينق�ص ،وحينما كان الزبون ي�ستعجل والدي المتامه قبل ذلك،
ذي كعب عال. كان �أبي يرف�ض ،حتى لو ا�ضطره الأمر �إىل خ�سارة ال�صفقة.
كنت م�شدود ًا نحوها ،مل �أكن لوحدي ،حتى �أن الوالد يف البداية كلفني �أبي ب�أعمال ب�سيطة ،كنت �أم�سك بيدي
توقف قلي ًال عن عمله وتوجه بب�صره ناحيتها .مل تلتفت �إلينا، االثنتني ب�آلة «الفارة» و�أن ّعم �أ�سطح اخل�شب ،بدا يل الأمر
ووا�صلت تقدمها ..طق طق طق ،وم�ضت .ملحني الوالد متوقف ًا �صعب ًا وجمهد ًا ،ب�سبب عدم اعتيادي العمل من قبل ،تق ّرحت
عن العمل ،حيث لفظ ا�سمي ليعيدين �إىل واقعي الذي غفلت
يداي ،ونزف الدم منهما ،لأن طريقة ام�ساكي كانت خاطئة
عنه.
بح�سب والدي.
تكرر مرورها يومي ًا بنف�س الوقت ،الثامنة والن�صف
كنا نذهب �أبي و�أنا �إىل العمل يف متام ال�ساعة ال�سابعة
�صباح ًا ...طق طق طق .مل �أعد �أتوقف عن العمل كما يف املرات
�صباح ًا ،حيث كان �أول عمل ي�ؤديه والدي هو �إعداد ال�شاي ،ثم
الأوىل.
نتناول فطورنا الب�سيط من اخلبز واجلبنة البي�ضاء� ،إذ تقارب
كانت تغري مالب�سها با�ستمرار� ،إال حذاءها الأ�سود ذي ال�ساعة الثامنة ،ون�شرع بالعمل ،وهو نظام دقيق ال يخرقه �أبي
الكعب العايل� .أ�صبحت �أكرث �ألفة بالن�سبة يل مبرورها اليومي، �إال يف احلاالت الطارئة.
قا�ص �أردين.
58
قـ�صـــة:
نهاية اللعبة
منال حمدي
فتحت لها الباب ،ويف يديها ق ّفازات وحول خ�صرها مريول كانت تفتعل ال�شجار لفراق لي�س بالق�صري .وملزيد من
املطبخ .تراجعت �إىل اخللف دون �أن ت�سمح لأي منهما احلديث املناكفات ،ذهبت برفقة �صديق م�شرتك �إىل املقهى ذاته الذي
�إليها .ورغم كل حماوالته االت�صال بها� ،إال �أنها مل ت�ستجب. اعتاد �أن يلتقيا فيه .وكما توقعت كان هناك؛ ولكن ما مل تتوقعه
هو وجود �أخرى معه!
مت�ض ب�ضعة �شهور حتى علم بزواجها من �صديقهما مل ِ
امل�شرتك الذي كانت تخرج و�إياه .قرر �أن يذهب والفتاة ت�صافح ال�صديقان ،ثم جل�ست ورفيقها �إىل الطاولة املقابلة
لزيارتهما دون موعد م�سبق .فوجيء ال�صديق بالزيارة� .أما حتبه .ظ ّلت طوال الوقت ت�سرتق النظر �إليهما ،ويف
لطاولة َمن ّ
الزائر؛ فلم ي�أبه بنظرات ال�صديق �صاحب البيت ،لكنه ح ّدق كل مرة تخفي رجفة �أ�صابعها ب�إ�شعال ال�سيجارة الواحدة تلو
�إليها مم ّددة على الأريكة! ا�ستقامت بدورها منده�شة ،فاقرتب الأخرى ،وهي تطفئها بحركة متوترة يف املنف�ضة.
منها مم�سك ًا بيد الفتاة وقال لها:
راهنت ب�أنه يلعب معها اللعبة نف�سها التي تلعبها معه يف
حاولت لأكرث من مرة �أن �أخربك �أنّ هذه الفتاة �أختي، كل ِ�شجا ٍر يحدث بينهما .عادت �إىل البيت وما تزال عالقة
و�صديقنا انتهز الفر�صة فدخل اللعبة ليتزوج منك ،فهو يف ذهنها �صورته ،وهو مي�سك بيد الفتاة الأخرى ويق ّبلها،
يعرفها حقّ املعرفة� .أنا و�أنت مل نكن نعلم �أنها �ستكون لعبة دون االكرتاث بوجودها .بعد حماوالت ات�صاالت ع ّدة ،ر َّد
طويلة الأمد!!. عليها ليخربها �أنه جال�س ،الآن ،وخطيبته يف املقهى ،ودعاها
ليع ّرفها �إليها.
هم باملغادرة ،فا�ستوقفه �صديقه قائ ًال:
ّ
يكف عن العبث معها، �ضحكت با�ستهزاء ،وطلبت منه �أنّ ّ
يا �صديقي ،زوجتي �أي�ض ًا كانت تعرف �أنّ َمن ج َل َ�ست �إىل
�إال �أنه �أنهى احلديث بربود كبري .مل حت�سب وال م ّرة �أنّ هذه
الطاولة معك هي �أختك!
ا ّللعبة �ستطول كل هذه امل ّدة .وبعد تفكري طويل ق ّررت الذهاب
�إىل بيته ،وكانت تلك �أ ّول مرة� .أذهلها منظر الفتاة حينما
قا�صة �أردنية.
60
قـ�صـــة:
الثانية ع�شــرة
منرية �صالح
�شفتيه على �شاكلة� :صحة يا (مدام) ،ت�أمري ب�شيء يا (مدام) جئنا من موت بليد ،وب�سرعة انتحلنا �صفة متزوجينْ ،بيدينا
عفو ًا؛ احل ّمام من هنا يا (مدام) .والفتاتان الكبريتان و�ضع ك ّل منا خامت ًا بيده الي�سرى ،وجل�سنا متقابلني على طاولة
املتقابلتان تبكيان ح�سد ًا. �صغرية يف مطعم القد�س .مل يكن املكان هادئ ًا يليق بع�شاق،
لكن تناولنا طعام ًا ،و�صفه ب�أنه م�شبع ورخي�ص ،ن�صحني �أثناء
اللعنة� :إنها العقارب ،ت�سري متال�صقة الذراعني �إىل الثانية
أكف عن �إطعامه بيدي ،قال :ذلك ال يليق بزوجني ذلك ب�أن � َّ
ع�شرة .تركنا مطعم القد�س .لتحملنا حافلتان؛ هو نحو معتقل
عتيقني ن�سبي ًا ،و�أ�شار �إىل جتاعيد ب�شرته اجلافة.
�س ّري لالجئني يقع �شرق احلدود ،و�أنا �إىل �إ�صالحية الوالدين
�إياها.. � -سيك�شفوننا.
من ي�صدق! ان�صعتُ لن�صف حذره .رمقت فتاتني كبريتني جتل�سان غري
بعيد ،تنظران �إىل يدي الي�سرى بح�سد .املكان ال�شعبي �صار
الئق ًا ملا منلكه من بقية نقود� .إثر كذبتني ،عن خالة له حتت�ضر.
وعن ادعاء مر�ضي ملديرة املدر�سة ،ف�أ�سعفتني بنموذج طبي
مزور .تالقينا على طرف جممع رغدان .كانت اخلوامت
جاهزة .وذهبنا حل�صد مكاف�أة يل� ،إثر كذبة �أطلقتها يف ملحق
الأدب .انطلقنا بالنقود حا ًال نحو قهوة زجاجية عمالقة ،تقع
�أول �شارع ال�صحافة .كنا فوق ال�شارع متام ُا ،وفوقهم .نرفع
�ساق ًا فوق �ساق .وندليّ �أل�سنتنا لهم .فهذا ال�شارع رف�ض �أن
تق ّل ن�سبة العنو�سة يف البلد العتبارات تتعلق ب�أوهام؛ مث ًال عدم
مالئمة الأوراق الثبوتية التي يحملها العري�س� ،أنا وهو رف�ضنا
�أن ننحني للقرار ،فجئنا لنحتال عليهم ب�صفاقة.
منحنا القهوة الفخمة جزء ًا لي�س ي�سري ًا من �أموال املكاف�أة.
ومبا تبقى لنا ،ركبنا التاك�سي �إىل منت�صف البلد.
قدمي نادل ر�أى
نحن الآن يف مطعم القد�س ،يقبع عند ّ
ا�سكت�ش للفنان حممد �أبو عزيز اخلامت يف ي�سراي ،فظل يزوم حين ًا بعد حني ب�أ�شياء من بني
قا�صة �أردنية.
�آداب �أجـ ـنـ ـبـ ـي ـ ـ ـ ـ ـ ــة:
-جـــــولـــــــــــي -ق�صة :هـيـــــــرمـــــــــــــان هــي�ســــــــه
-النهاية املر ّوعة لل�سيد جونز بقلم� :ستيفن ليكوك
62
جــــولـــي
ق�صة :هريمان هي�سه*
من ذي قبل .كانت يداها �صغريتني وجميلتني ،وجهها نظيف ًا، باب املنزل الثقيل ببطء ،وظهر من فتحته وج ُه خادم ٍة ُف َتح ُ
لكنه ممتلئ و�صارم وال زال مرتفع ًا ،قا�سي ًا يفتقد التوهج. �شابة� .س�ألتُ عن �س ّيد املنزل ،و�صعدتُ ِ�سلم ًا ،و�سط ظلمة
ولكن ثمة �أثر جمال دار�س ،تبدو ملحاته على الأ�صداغ وحركات زيتي م�ضا ًء ،وبينما كنتُ �أنز ُع
حالكة .يف املمر كان م�صباح ٌّ
الأذرع. نظارتي ،خرج (هري�شل) وح ّياين.
«كيف و�صلت �إىل �إللغينبريغ؟». قال ب�صوت خفي�ض« :عرفتُ � ،أنك �ست�أتي».
«�سري ًا على الأقدام يا عزيزتي». «كيف َ
لك �أنْ َ
تعرف هذا؟».
«لق�ضاء �أعمال هنا؟» «من خالل زوجتي� .إنني �أعرف َمنْ تكون� .أرجوك ،تف�ضل،
خفف عنك� ..أرجو ،نعم ،هكذا»..
«كال� ،أريد فقط ر�ؤية املدينة مرة �أخرى».
يبدو �أنه مل يكن على ما يرام ،و�أنا كذلك.
«متى كنت هنا �آخر مرة؟».
دلفنا �إىل حجرة �صغرية ،حيث توجد فيها من�ضدة عليها
علم بهذا� ،إ�ضافة �إىل �أنني مل
إنك على ٍ
«قبل ع�شر �سنواتِ � .
مالءة بي�ضاء وم�صباح م�شتعل ،وقد ُجهزت للع�شاء.
�أجد تغيري ًا كبري ًا يف املدينة».
�إنه ال�شخ�ص الذي تعرفت عليه اليوم �صباح ًا ،جويل،
«حقيقة؟ �إنني بالكاد تعرفتُ عليك ثاني ًة».
ا�سمحي يل �أن �أقدم ال�س ّيد.»..
«�أ ّما �أنا ،فعرفتك فور ًا يا عزيزتي».
« �إنني �أعرفه» ،ردت جويل بانحناءة من عنقها ،دون �أن
�أخذ ال�س ّيد هري�شل بال�سعال. مت ّد يل يدها.
«�أال ترغب بتناول الع�شاء معنا؟». « تف�ضل باجللو�س».
« �إنْ كان هذا ال يزعجك». جل�ست على كر�سي اخليزران بينما جل�ست هي على
الكنبة .نظرتُ �إليها .كانت قوية البنية ،لكن بدا حجمها �أ�صغر
« ال �أبد ًا تف�ضل ،فقط �شرائح بالزبدة».
« كما تريدين .ت�سرين �أن تكوين على ما ُيرام .هل �أنت يف الم و�سلطة
ا�شتمل الع�شاء على حلم حممر بارد مع هُ ٍ
�صحة وعافية؟». الفا�صوليا والأرز والكمرثى املطبوخة .كما احت�سوا ال�شاي
واحلليب.
«�أجل مبقدورنا �أن نكون �سعداء».
رب البيت على خدمتي وحتادثنا قلي ًال� .أما جويل قام ُ
«وتلك الأيام ،حدثيني جويل� ،أال تفكرين بتلك الأيام؟». فبالكاد َن َب َ�س ْت بكلمة واحدة ،كانت تنظر �إ ّ
يل برتفع وريبة،
«ماذا تبغي مني؟ ليذهب التاريخ القدمي �إىل غري رجعة! وك�أنها ترغب بح ّل لغز جميء .وليتني �أعرف هذا �شخ�صي ًا!
لقد حدث بال�شكل الذي حدث عليه� ،أعني� ،أنه جميل لنا �س�ألت« :هل لديك �أطفال؟» ،وقد �أ�صبحت الآن �أكرث مي ًال
جميع ًا .فيما م�ضى مل يكن لديك احلق لدخول (�إللغينبريغ)، للحديث.
رغم كل �أفكارك ،وقد يكون هذا الإجراء غري عادل».
هموم املدر�سه ،الأمرا�ض� ،ش�ؤون الرتبية ،جميعها على
«�أكيد ،جويل .ال �أريد �أن �أمتنى �أحداث ًا مل تقع .ومل يتوجب ما يرام.
عليك �أن تُفكري بي ،بالت�أكيد ال ،ولكن بكل الأ�شياء اجلميلة
واملحببة التي حدثت �آنذاك� .أيام �شبابنا ،تلك التي �أق�صدها «ومع هذا فاملدر�سة كاملن�شار» ،قال هري�شل ُمقاطع ًا.
و�أريد �أن �أراها ب�أ ّم عيني». «حقيقة؟ كنت �أعتقد دوم ًا� ،أنه ينبغي على الطفل دون
غريه �أن يحظى برتبية والديه».
«�أرجوك ،حتدث عن �شيء �آخر .رمبا يكون هذا بالن�سبة
لك خمتلف ًا ،ولكن بالن�سبة يل تخلله الكثري». «ها �أنت لي�س لديك �أطفال».
�أنظر �إليك ف�أرى �أنّ كل جمال ذاك الزمان قد تخلى عنك، «لذلك ل�ستُ �سعيد ًا».
كنت فقط جمرد ال�س ّيدة هري�شل.
«لكنك متزوج؟»
«بال �شك» ،قلت بفظاظة ،لي�س لدي �شيء �ضد هذا، «كال� ،سيد هري�شل� ،أعي�ش وحيد ًا».
عندما عاد الرجل الآن حام ًال زجاجتي نبيذ.
تخنقني حبات الفا�صوليا ،لقد ُق ْ
�شرت ب�شكل �سيء .بعد
امل�شروب فرن�سي ًا ،وهري�شل ،الذي مل يكن على ما يبدو
ُ كان �أن ُرفع الطعام ،عر�ض الرجل زجاجة نبيذ ،فلم �أرف�ض.
�سكري ًا ،اختلف و�ضعه عند الك�أ�س الثانية .وبد�أ يدفع زوجته وكما متنيت ،ذهب بنف�سه �إىل القبو ،وبقيت لربهة وحيد ًا مع
ملعاك�ستي .وملّا مل ت�ستجب له� ،ضحك وقرع ك�أ�سه بك�أ�سي. املر�أة.
«يف البداية مل تود زوجتي جميئك �إىل املنزل»� ،أ�س ّر �إ ّ
يل. قلت« :جويل».
نه�ضت جويل. ردت« :ماذا تحُ ب؟».
«�أرجو املعذرة ،ينبغي �إلقاء نظرة على الأطفال ،اخلادمة «�أال تالحظني �أنني مل �أمل�س يدك �أبد�أً».
لي�ست ب�صحة جيدة».
« �أعتقد �أن هذا هو عني ال�صواب».
64
* هريمان هي�سه :كاتب �أملاين ،كتب يف بداية حياته ال�شعر ،ف�أ�صدر جمموعته الأوىل خرجت ،و�أنا �أعرف �أنها لن تعود .فتح الزوج الزجاجة
بعنوان�« :أغاين رومان�سية» ،وذلك يف عام ،1898ثم ن�شر يف العام التايل ن�صو�ص ًا الثانية وهو يغمز بعينه.
نرثية حتت عنوان�« :ساعة بعد منت�صف الليل».
«مل يكن بو�سعك قول �شيء قبل هذا» ،خاطبته ُمتهما.
�أول �إجناز �أدبي حققه هي�سه كان مع ن�شر روايته الناقدة للتطور احل�ضاري عام
« 1904بيرت كامن ت�سد» ،وهو ذات العام الذي تزوج فيه من امل�صورة ماريا برينو �ضحك فقط.
و�أجنب منها ثالثة �أوالد.
من �أهم �أعماله :روية �سدهارتا عام ،1922رواية ذئب البوادي عام ،1927رواية
«يا �إلهي� ،إنها يف النهاية �س ّيدة طيبة ،لن ت�ستاء من
لعبة الكرات الزجاجية عام ،1943وكان هي�سه اتخذ موقف ًا راف�ض ًا لنظام احلكم مالحظتي .ا�شرب� ،أم �أنك ال ت�ست�سيغ النبيذ؟».
النازي �آنذاك.
النبيذ طيب املذاق.
«�ألي�س كذلك؟ �أجل ،قل كيف كانت العالقة �آنذاك بينك
وبني زوجتي؟ عابثة ،ماذا؟».
«عابثة! اعمل معروف ًا ال تتحدث حول ذلك».
«�أكيد – بال �شك – وال �أريد �أن �أبوح بال�س ّر ،م�ضت ع�شر
�سنوات على هذا».
«�أرجو املعذرة� ،أف�ضل املغادرة الآن».
«ملاذا؟».
«�أف�ضل هذا ،رمبا نرى بع�ضنا غد ًا �صباح ًا».
«ها� ،إن كنت م�صر ًا على املغادرة ،انتظر� ،س�أ�ضيء
امل�صابيح .متى �ستح�ضر غد ًا؟».
«ح�سن ًا ،الحت�ساء القهوة ال�سمراء� .س�أرافقك �إىل الفندق.
كال� ،أ�ص ّر على ذلك .ب�إمكاننا �أن نتناول هناك �شيئ ًا».
«�أ�شكرك� ،أريد النوم� ،أ�شعر بالتعب .ب ّلغ حتياتي �إىل
زوجتك� .إىل اللقاء».
تخل�صتُ منه �أمام الباب وان�صرفت وحيد ًا عرب �ساحة ال�سوق
الوا�سعة وخالل ظلمة ال�شوارع الهادئة .جتولت قلي ًال يف املدينة
ال�صغرية ،ولو �سقطت قطعة قرميد من �سطح قدمي ل�صرعتني،
ا�سكت�ش للفنان حممد �أبو عزيز
رمبا �أكون محُ ق ًا فيما م�ضى� ،أنني جمنون� ،أنني جمنون!!
65
�« -إذنْ رجا ًء ال تذهب». بع�ض النا�س غريك وغريي بالت�أكيد – فنحن رابطو
بقي جونز فع ًال ..و�شرب �أحد ع�شر كوب ًا من ال�شاي ..و�أخذ اجل�أ�ش �إىل �أبعد احلدود ,يجدون �صعوبة بالغة يف �أنْ يقولوا
الليل ب�إ�سدال �ستاره ,فنه�ض ال�ضيف امل�سكني من مقعده ثانية, «�إىل اللقاء» عند قيامهم بزيارة �أو مت�ضية �سهرة .فعندما
وقال با�ستحياء« :ح�سنا! الآن �أعتقد �أنني فع ًال يجب �أنْ »... تقرتب اللحظة التي ي�شعر الزائر فيها �أنّ عليه املغادرة,
ينه�ض ويقول بغتة« :ح�سن ًا! �أظنّ �أنني »...وعندها يقول له
�»-أيجب �أنْ تذهب؟» قالت ال�سيدة ب�أدب« .ظننتُ �أنك �أ�صحاب املكان�« :آه .هل يتوجب عليك الذهاب الآن؟ الوقت
�ستمكث معنا للع�شاء». مبكر بالت�أكيد ».ويتبع ذلك �صراع يدعو للرثاء.
«يف الواقع� ..أ�ستطيع البقاء ..لو �أنني»..
�أ�سو�أ حالة من هذا النوع �صادفتني هي ما حدث ل�صديقي
�»-أرجوك �أنْ متكث �إذن� .أنا واثقة من �أنّ زوجي �سيكون امل�سكني «ملبومين�س جونز» – راعي �أبر�شية لطيف املع�شر ,مل
م�سرور ًا». يتجاوز عمره الثالثة والع�شرين� .إنه بب�ساطة مل يكن قادر ًا على
«ح�سنا� .س�أمكث� ».أجاب جونز ب َوهَ ن ,وهو يرمي بنف�سه الته ّرب من النا�س ,وع ّفة ل�سانه كانت متنعه من �أنْ يكذب,
ثانية اىل مقعده ويغو�ص فيه ,ممتلئ ًا بال�شاي.. وورعه كان يثنيه عن �أنْ يكون فظ ًا .وما حدث هو �أنه ذهب
لزيارة بع�ض �أ�صدقائه بعد ظهر �أول يوم من �أيام �إجازته
وبالتعا�سة. ال�صيفية� .أما الأ�سابيع ال�ستة التالية ،ف�ستكون له بالكامل ولن
عاد زوج ال�سيدة اىل منزله و�أخذوا جميع ًا بتناول الع�شاء. يكون لديه �شيء يفعله .تبادل �صديقي الأحاديث لفرتة من
و�أثناء ذلك كان جونز يخطط ملغادرة البيت يف الثامنة الزمن ,واحت�سى كوبني من ال�شاي ,ثم ا�ستجمع �شجاعته وقال
والن�صف .وت�ساءل جميع �أفراد العائلة يف داخلهم فيما �إنْ كان فج�أة« :ح�سنا! �أعتقد �أنني»...
ال�سيد جونز غبي ًا ونكد ًا �أم غبي ًا فقط. لكن �سيدة البيت قالت�« :آه ,ال! �أال ت�ستطيع يا �سيد جونز
1 �أن تطيل بقاءك قلي ًال؟»
بعد الع�شاء قررت ال�سيدة �أنْ تُخرج ال�سيد جونز من خجله, كان جونز دائم ًا �صادق ًا ,مما دفعه �أنْ يقول« :نعم..
فو�ضعت �أمامه مئات من �صور العائلة «الرتاثية» ..واحدة بالطبع� ..أ�ستطيع البقاء».
مرتجم �أردين.
66
ال�شاب البائ�س عينيه على و�سعهما با�ستغراب للحظات ,ثم لعم �صاحب البيت وزوجته ..وثانية لأخ �صاحبة البيت وابنه
قام و�ش ّد على يد حم ّدثه ودفع له �أجرة �شهر مق ّدم ًا ,ودخل يف ال�صغري ..وثالثة مثرية لالهتمام ل�صديق عم الزوج بلبا�سه
نوبة بكاء حا ّدة وهو ي�شهق كالطفل. الع�سكري ..و �أخرى فظيعة ج ّد ًا للزوج وقد بدا فيها كال�شيطان
يف حفلة تنكرية .يف الثامنة والن�صف كان جونز قد انتهى من
يف الأيام التي تلت ذلك اعرتت جونز ك�آبة �شديدة ,و�أ�صبح
فح�ص احدى و�سبعني �صورة ,وبقي �أمامه ت�سع و�ستون �أخرى مل
متقلب املزاج ومنغلق ًا على نف�سه .ونظر ًا لأنه كان يعي�ش يف
ي�شاهدها بعد.
غرفة اال�ستقبال كان يفتقر �إىل الهواء املتج ّدد و ممار�سة
التمارين البدنية ,مما كان له �أ�سو�أ الأثر على �صحته .و�أم�ضى بتو�سل.
« -يجب �أنْ �أودعكم الآن ».قال جونز ّ
جونز وقته يف �شرب ال�شاي والنظر �إىل ال�صور .وكان يق�ضي
�»-أ�ستغادرنا الآن؟! �إنها الثامنة والن�صف فقط .هل لديك
�ساعات طويلة وهو يح ّدق يف �صورة �صديق عم �صاحب البيت
�شيء تو ّد عمله؟»
يوجه �شتائم مريرةبلبا�سه الع�سكري ,ويتحدث �إليها ..و�أحيان ًا ّ
�إليها .كان من الوا�ضح �أنّ قواه العقلية �آخذة بالرت ّدي. « -ال �شيء ».اعرتف الزائر ,ومتتم بكلمات حول �إجازته
التي �ستمتد ل�ستة �أ�سابيع ..ثم �ضحك بتعا�سة.
�أخري ًا ..جاء اليوم الذي انهار فيه ال�سيد جونز متام ًا,
فحملوه اىل ال ّدور العلوي وهو يف حالة هذيان ناجم عن احلمى. عندها فقط ات�ضح �أنّ الطفل الأثري لدى العائلة قد اخفى
وا�شت ّد مر�ضه ,ومل يعد قادر ًا على متييز الوجوه ..حتى و�إن كان قبعة ال�سيد جونز ,مما جعل زوج ال�سيدة ي�ص ّر على بقائه ,ودعاه
الوجه ل�صديق عم الزوج بلبا�سه الع�سكري .وبني فينة و�أخرى وجتاذب �أطراف احلديث معه� .إحتفظ الزوج ُ اىل �شرب الغليون
فزع ًا ,وي�صرخ�« :أعتقد �أنني »...ثم كان ينه�ض من فرا�شه ِ ً
بالغليون لنف�سه وترك جلونز ,الذي ما زال قابعا يف مكانه ,مهمة
يرمتي ثانية على و�سادته وهو يطلق �ضحكة خميفة ..مع كلمات الكالم .ويف كل حلظة كان جونز يحاول جاهد ًا انْ يحزم �أمره
كهذه« :كوب ًا �آخر من ال�شاي ..ومزيد ًا مزيد ًا من ال�صور.».. كان يعجز عن ذلك .بعد ذلك بد�أ �صاحب البيت ي�ضيق ذرع ًا
بال�سيد جونز ,و�أخذ يتململ ,و�أخري ًا قال بنربة هازئة�« :ألي�س من
بعد �شهر من املعاناة والأمل ,ويف اليوم الأخري من �أيام
الأف�ضل لك �أنْ تبيت معنا الليلة؟! �إننا �سنع ّد لك فرا�شا للنوم».
�إجازته ,رحل ال�سيد جونز عن هذا العامل .ويقولون �أنه عندما
وجه – والدموع ترتقرق يف مل يدرك جونز ُك ْنه هذا الكالم ,و ّ
حانت حلظته الأخرية ,جل�س على �سريره وقد ارت�سمت على
عينيه – ال�شكر �إىل الرجل الذي �أر�شده �إىل فرا�شه يف الغرفة
حمياه ابت�سامة جميلة متل�ؤها الثقة ,وقال« :املالئكة تناديني!
االحتياطية وهو يلعنه �س ّر ًا من كل قلبه.
�أخ�شى �أنه يجب علي حق ًا �أنْ �أذهب الآنْ ..طاب م�سا�ؤكم.
بعد تناول الفطور يف اليوم التايل ذهب �سيد البيت �إىل عمله
وكان اندفاع روحه من �سجنها كاندفاع قطة ُمطا َردَة قفزت
يف املدينة ,تارك ًا جونز يلعب مع الطفل وهو م�سحوق الف�ؤاد.
فوق �سور حديقة.
فقد ال�ضيف التّع�س �أع�صابه بالكامل ,وعزم على املغادرة طوال
اليوم ,ولكنه مل ي�ستطع التلفظ بكلمات الوداع .يف امل�ساء عاد زوج
ح�س
* �ستيفن ليكوك :كاتب كندي متعدد املواهب .تويف عام ,1944وكان ذا ٍ ّ ال�سيدة من عمله ,و�أ�صابه الذهول والغ�ضب الكت�شاف �أنّ جونز
فكاهي وا�ضح يف كثريمن ق�ص�صه العديدة .عنوان هذه الق�صة باللغة الإجنليزية ما زال يف منزله .وف ّكر بالتخل�ص منه بنكتة ,فقال�« :أعتقد ب�أنه
,The Awful Fate of Melpomenus Jonesوقد �أخذت من
موقع .www.online-literature.com
علي �أن �أطالبك ب�أجرة مقابل مكوثك يف بيتنا ».فتح يتوجب ّّ
67
كاتب �أردين.
68
ال�صراع بني اال�شرتاكية والر�أ�سمالية ل�صالح هذه الأخرية التي النهاية �إىل الفرح ،خا�صة عندما يخرج املولود يف ال�صورة
�أ�صبحت النظام االقت�صادي الأوحد الذي يفر�ض نف�سه كنموذج املنتظرة .لذلك ،ف�إن �أمل الكتابة على عك�س الأمل النف�سي ،لي�س
للتقدم والرقي والرفاه االجتماعي. �أمل ًا مدمر ًا ،و�إمنا �أمل ًا حمرر ًا� ،إذ ي�شفي اجلراح ،ويطهر دواخل
النف�س من �أدرانها ،ومينحها جرعة جديدة من الأوك�سجني،
هذا الواقع الدوين يفر�ض على املثقف العربي� ،أن يت�سلح
ملوا�صلة الطريق.
بالوعي ،و�أن يتعامل بعقالنية مع احل�ضارة الغربية بحيث ينتقي
منها ما يفيد جمتمعه ويدفع به للخروج من واقع التخلف .و�أن ومن هنا ،ميكن القول ب�أن الأمل له �آثار �إيجابية على
يتعامل مع الأفكار والنظريات الغربية تعام ًال نقدي ًَا ،يحول دون الكتابة كما على الكاتب .فهو من جهة ،مييز العمل الإبداعي
�سقوطه يف اتخاذ مواقف متطرفة من الغرب ،بحيث ينظر بال�صدق الفني الذي مينحه العمق ،ويجعله ي�صل ب�سهولة� ،إىل
�إليه �إما على �أنه ال�شيطان الذي يتوجب حماربته ورف�ض كل وجدان املتلقي ،لأن الأمل هو املادة احلقيقية التي �صنع منها
�أفكاره وقيمه� ،أو �أنه النموذج الأمثل الذي يجب تبني كل �أفكاره الإن�سان الذي «يولد ،فيتعذب ،فيموت» ح�سب احلكيم ال�صيني
ونظرياته دون غربلتها و�إخ�ضاعها ملحك الواقع وخ�صو�صياته. القدمي .ولذلك ،ميتلك قوة الت�أثري يف النفو�س ،والقدرة على
توحيدها �أكرث من الفرح .ومن جهة �أخرى ،ي�ؤدي �إىل تطهري
وللخروج من هذا الواقع ،ينبغي على املثقف يف اعتقادي� ،أن
نف�س الكاتب ،وبالتايل �إىل والدته من جديد ،و�إىل جتدد �أفكاره
يكون طالئعي ًا ،و�أن يعود لالنخراط يف ق�ضايا وطنه وجمتمعه،
ور�ؤاه .هذا ما ا�ستخل�صته من جتربتي ،ووجدته يتوافق مع
و�أن ي�سعى لفهم واقعه اجلديد ،وال�شروط التي حتكمه .ففهم
ر�ؤية نيت�شه للإبداع عندما قال على ل�سان زراد�شت« :الإبداع
الذات هو الكفيل بطرح الأ�سئلة احلقيقية التي تهم املجتمع،
هو اخلال�ص الأكرب من الأمل ،وهو ما يجعل احلياة خفيفة».
وبالتايل بلورة ر�ؤية م�ستقبلية قادرة على �إيجاد احللول
ال�صحيحة للم�شاكل التي تعوق تطورها .وعلى املبدع العربي -من منظور �إدوارد �سعيد لال�ست�شراق باملعنى الثقايف
بوجه خا�ص� ،أن يكون ابن واقعه ال ابن واقع غريه� .أن ال يبحث واالجتماعي جندنا يف حالة من التعاطي مع واقعنا الثقايف
عن العاملية مبغازلة الغرب ،واعتناق الق�ضايا التي �أفرزها واقعه املحكوم عليه �سلف ًا بالفوقية من قبل الغرب ،فما هو دور
الذي حتققت فيه �شروط احلياة الكرمية للمواطن عن طريق املثقف العربي يف هذا ،وكيف لنا اخلروج من هذا احل�صر؟
�سيادة الدميقراطية وحقوق الإن�سان ،بينما ال تزال جمتمعاتنا
* �إن الغرب الذي ينظر �إىل باقي ال�شعوب نظرة دونية،
تعاين من الأنظمة ديكتاتورية ،ومن هذا الغرب نف�سه الذي ما �إن
ويتخذ من بلدان العامل الثالث �أ�سواق ًا لرتويج منتوجاته،
يتجاوز حدوده اجلغرافية حتى ي�ضرب بقيم الدميقراطية عر�ض
مل يعد ي�ستعمل القوة الع�سكرية ،و�إمنا القوة االقت�صادية
احلائط ،لأن ال�شعوب التي ال تفهم نف�سها ،وال تعرف ما�ضيها
والثقافية الناعمة ليجعل من هذه املجتمعات طاقات
وحا�ضرها ،وال ت�ستثمر قدراتها وطاقاتها الفكرية والب�شرية،
ا�ستهالكية اقت�صادي ًا وثقافي ًا .وهذا يتجلى بو�ضوح ،يف انت�شار
وت�سلم زمام مقاليدها للآخر ،هي �شعوب ال ت�ستحق االحرتام
النمط الغربي للعي�ش .فقد �أ�صبحت ال�شعوب العربية ،ت�ستهلك
واملعاملة باملثل.
كل ما ينتجه الغرب مبا يف ذلك املنتوجات التي ال تتالءم مع
�إن جتاوز نظرة الغرب الدونية ال يكون �إال بالت�سلح بالوعي احتياجاتها ،والأفكار والنظريات التي ال تتالءم مع واقعها،
امل�ضاد لثقافة الهيمنة الذي ميكن من مقاومة اال�ستالب والتبعية وتتبنى ق�ضايا �أفرزها الواقع الغربي ال الواقع العربي .هذه
والعدمية ،وكل �أ�شكال الظلم والقهر وامليز العن�صري �سواء �أكان التبعية االقت�صادية والثقافية للغرب ،جعلت العامل العربي
م�صدرها خارجي ًا� ،أم داخلي ًا. يعي�ش ا�ستالب ًا ا�ستعماري ًا من نوع جديد ،خا�صة بعدما ح�سم
70
عالقته باملكان ،وبالطبيعة واحليوان� .إن االحتفاء بالتفا�صيل ويف زمن الثورات العربية ،على املثقف �أن ينخرط �أكرث،
ال�صغرية يف الرواية العربية �أمر مهم لكون هذه التفا�صيل تلعب و�أن ي�ستفيد من الواقع اجلديد لطرح الأ�سئلة اجلوهرية ،و�أن
دور ًا مزدوج ًا .من جهة ،جتعلنا ك�شعوب عربية نتعرف على يجعل معركته الأ�سا�سية هي ن�شر الوعي بني اجلماهري ،وحماربة
ذواتنا ونقف على مواطن اختالفنا والتقائنا ،ومتكننا من فهم انت�شار الفهم ال�سطحي للدين الذي يجعل الدميقراطية حتيد عن
خ�صو�صيات كل منطقة من عاملنا العربي من �أجل توا�صل �أكرث هدفها ،لت�صبح �أداة لتكري�س التخلف ،ومن ثم �أداة ال�ستمرار
فعالية و�إيجابية؛ �إذ �أننا ك�شعوب عربية ال زلنا حلد الآن ،نحمل الهيمنة الغربية.
�أفكار ًا خاطئة عن بع�ضنا بع�ضا .ومن جهة �أخرى ،تنقل �صورة واملثقف املبدع مطالب �أكرث من غريه ،بالت�سلح بالوعي امل�ضاد
�صادقة عن الواقع العربي ككل ،وعن ح�ضارته املختلفة عن لثقافة الهيمنة ،لأن الإبداع يف جوهره مقاومة للقبح ،والرداءة،
ح�ضارات باقي ال�شعوب ،وبالتايل ت�ساهم يف حوار احل�ضارات، والن�سيان .وقد كان ادوارد �سعيد حمق ًا عندما و�صفه بكونه �أ�ش ّد
وتفاهم ال�شعوب واحلد من مظاهر امليز العن�صري والتطرف الأ�شكال الثقافية مقاومة وممانعة.
بكل �أ�شكاله� ،أي �أنها ت�ؤدي �إىل الت�سامح ،وقبول الآخر املختلف،
والتعاي�ش معه .ذلك �أين �أومن �أن فن الرواية يعرب عن حقيقة -ال�سرد لديكم به �سمات خا�صة تتمثل يف تداعي التفا�صيل
املجتمعات� ،أكرث من علم االجتماع والتاريخ وال�سيا�سة ،لكونه ب�شكل كبري ،وجتلى ذلك يف روايتك الثانية «عزوزة» فما هي
حتديد ًا ،يتغذى على تفا�صيلها الدقيقة ومعطياتها اخلفية ر�ؤية الزهرة رميج لل�سرد عامة يف الرواية العربية؟
* �إن توظيف التفا�صيل بكرثة يف هذه الرواية ،يرتبط بر�ؤيتي
ال�سردية .ففي زمن هيمنة ثقافة العوملة التي تقوم على حمو
خ�صو�صية املجتمعات ،وبناء عامل ك ّلي بال جزئيات وال تفا�صيل
يتم فيه �إلغاء الفوارق بني املكونات الب�شرية ،وطم�س هويات
ال�شعوب من �أجل تعميم النموذج احل�ضاري للأقوى اقت�صادي ًا،
ي�صبح االحتفاء بالتفا�صيل ال�صغرية التي متيز املجتمعات
عن بع�ضها ،وتنقل ال�صورة احلقيقية لواقعها� ،أمر �ضروري
للحفاظ على الهوية ،وعلى االختالف الذي تتميز به الإن�سانية
حتى ال ن�سقط يف اال�ستن�ساخ احل�ضاري .يف رواية «عزوزة»
حاولت نقل �صورة املجتمع املغربي الأ�صيل ،مبا فيه من �سلبيات
و�إيجابيات ،و�إبراز الكثري من القيم التي بد�أت تنقر�ض و�أهمها
قيم املقاومة واحلب واجلمال .كما �أين �سعيت �إىل ر ّد االعتبار
للبادية .ذلك �أنها يف الأعمال الإبداعية املغربية مل حت�ض يف
اعتقادي ،باالهتمام الالئق بها� ،إذ يقت�صر ت�صويرها يف الغالب
ت�صوير ًا �سطحي ًا يتعامل معها على �أنها جمرد ف�ضاء للعنف
والب�ؤ�س والقبح .لذلك عملت يف رواية «عزوزة» على �إبراز جانبها
اجلمايل املغيب ،وذلك من خالل االحتفاء بالتفا�صيل ال�صغرية
املرتبطة بكل مكوناتها ،وبعالقة الإن�سان ب�أخيه الإن�سان ،وكذلك
71
املتطلعة �إىل العدالة االجتماعية والكرامة الإن�سانية ،عن طريق �إىل اخلارج �أكرث من الداخل ،وحيث حتظى الروايات امل�شرقية
التنظيم املحكم ،والعمل املتوا�صل ،واالحتكاك باجلماهري باالهتمام �أكرث من الروايات املغربية ،وذلك خالف ًا ملا كان عليه
ال�شعبية ،وخدمتها بكل الو�سائل ،ومتكنت بذلك ،من ك�سب النقد املغربي يف القرن املا�ضي.
ثقتها ،وهو ما عجز الي�سار عن حتقيقه .وهذا ما جعلها تقطف
لكن وحل�سن احلظ ،هناك فئة من النقاد املغاربة والعرب
ثمار الثورات العربية ،رغم كونها مل تكن حمركها الفعلي� .إن
ت�سري يف الطريق ال�صحيح �إىل جانب قلة من النقاد الكبار الذين
املبادئ اال�شرتاكية التي ي�ؤمن بها الي�سار العربي ال تزال لها
ما يزالون يتحملون م�س�ؤوليتهم جتاه الرواية العربية ويتعاملون
جاذبيتها لأنها يف عمقها مبادئ كانت و�ستظل مطلب الإن�سانية
معها كفن له �شروطه ومقوماته اجلمالية التي ينبغي التعامل
التي حتلم بعامل تتحقق فيه العدالة االجتماعية والكرامة
معه على �أ�سا�سها ،بغ�ض النظر عن �أي ت�صنيف ،ذكوري ًا كان
الإن�سانية .فهذه املبادئ وبغ�ض النظر عن ت�سمية الإطار الذي
�أم ن�سائي ًا ،كال�سيكي ًا �أم حداثي ًا ،اجتماعي ًا �أم ذاتي ًا ،فن ًا �سردي ًا
تندرج فيه ،هي نف�سها التي حركت ال�شباب العربي الذي مل يجد
خال�ص ًا� ،أم مزيج ًا من الأجنا�س .فه�ؤالء النقاد -و�أنت واحد
�ضالته ال يف الي�سار وال يف الإ�سالميني ،وقادته للثورة على الظلم
منهم -يواكبون الإ�صدارات ،ويعرفون بالأعمال اجلديدة بغ�ض
والطغيان .لذلك� ،أعتقد �أنه يف ظل الأو�ضاع احلالية ،وبعدما
النظر ع ّما �إذا كان �أ�صحابها مكر�سني يف عامل الرواية� ،أم يف
خيبت الأحزاب الإ�سالمية الآمال بعدم التزامها بتعهداتها،
بداية الطريق .ذلك �أن ما يهمهم هو الن�ص ،وال �شيء غريه.
وعدم حتقيقها ملنجزات ملمو�سة ل�صالح اجلماهري ال�شعبية التي
وهذه هي مهمة النقد احلقيقي.
�أو�صلتها �إىل �سدة احلكم ،ي�ستطيع الي�سار �أن يلعب دور ًا مهم ًا
يف التغيري� ،إذا ما وحد �صفوفه ،وو�ضع م�صلحة الوطن فوق كل -روايتك الأخرية «الناجون»� ،أ ّرخت لتجربة الي�سار املغربي
اعتبار ،و�أ�سا�س ًا �إذا نزل من برجه والتحم باجلماهري ال�شعبية. وال�صراع بني القيمة االجتماعية وال�سلوك النقي�ض لهذه
عليه �أن ي�ستفيد من الدر�س .فالنوايا الطيبة وحدها ال تكفي. القيمة ،بر�أيك ما زال هناك ي�سار مغربي وعربي ب�شكل عام؟
واجلماهري ال�شعبية هي الفي�صل يف عامل الدميقراطية.
* بعد ال�ضربة القا�ضية التي تلقاها الي�سار املغربي من
-بر�أيك ،هل �أخرجت الثورات العربية مبدعات ثوريات؟ النظام ،والتي زجت بقياداته �إىل ال�سجن ،وع�صفت بحلمه
يف التغيري اجلذري ،وبعد انهيار االحتاد ال�سوفياتي ،وهيمنة
* يف احلقيقة ،لي�س يل علم ب�أ�سماء مبدعات عربيات
خرجن من رحم الثورة ،وخا�صة يف جمال الأدب .لكني �أعرف الر�أ�سمالية على العامل� ،أ�صبح الي�سار املغربي يعانى من الت�شتت
�أن الثورات العربية �أخرجت ن�ساء ثوريات �ساهمن ب�شكل فعال يف والتمزق واالنق�سام ،مما �أ ّدى به �إىل تكوين جمموعات وتيارات
�إجناح الثورة ،منهن من ا�شتهرن ،وح�صلن على جوائز عاملية، �سيا�سية ي�سارية عديدة .ورغم كون هذه التنظيمات حاولت
ومنهن من بقني خلف ال�ستار� .أعتقد �أن هذه الفئة الأخرية، اخلروج من هذا الو�ضع �إما باالندماج يف الأحزاب اال�شرتاكية
�ستفرز م�ستقب ًال ،مبدعات ثوريات ي�ستلهمن بالت�أكيد ،جتربتهن التي كانت قد انف�صلت عنها يف ال�سابق� ،أو بتكتل بع�ضها الآخر،
الثورية .فالثورة لي�ست حدث ًا عادي ًا ،ونادر ًا ما تعا�ش �أكرث من �إال �أنها مع ذلك ،تظل �ضعيفة ،وتعي�ش بعيد ًا عن اجلماهري
مرة واحدة يف العمر .واملحظوظون هم الذين يتفاعلون معها ال�شعبية .و�أعتقد �أن الي�سار العربي لي�س �أح�سن حا ًال من الي�سار
ويعي�شون �أحداثها بعمق ،مما �سيطبع حياتهم ويدفعهم للتعبري املغربي .ف�ضعف هذا الي�سار ،وغيابه عن ال�ساحة ،وعدم ارتباطه
ع ّما عا�شوه واقتنعوا به� .أعتقد �أن هذه الثورات ال ب ّد لها �أن تفرز باجلماهري ال�شعبية ،وح�صر ن�شاطه داخل ال�صالونات� ،ساهم
مبدعات عربيات كثريات ويف كل جماالت الإبداع ،لأن م�ساهمة يف انت�شار املد اال�سالمي الذي عم الدول العربية كلها .لقد
املر�أة كانت كبرية وفعالة .ذلك �أن الذين يكونون منخرطني كلية ا�ستطاعت الأحزاب الإ�سالمية ا�ستقطاب اجلماهري ال�شعبية
73
�سرية يف حكاية: من �أفق احلرف �إىل ف�ضاء الوجود ،ومن ت�ش ّكل الكلمات
وكثري ًا ما يت�صف �أ�سلوب النحاة بالكزازة واجلفاف� ،أما �إىل حركة الن�ص ..وجتدد العامل ..من هنا �إىل هناك،
نهاد املو�سى ف�إنه ين�أى عن ذلك بل ي�شبه �أن تكون له فرادة ترحتل الر�ؤى والأمنيات ،من زمن �إىل زمن ..يعرب بنا الوقت،
�أ�سلوبية يتميز بها؛ ف�إذا قر�أت ما يكتبه يف مو�ضوع نحوي �أو فنجرتح الذاكرة ،واقفني عند حدود النظر وم�سارات الت�أمل،
لغوي مل تخطئ �أن تقول �إن الكاتب هو نهاد املو�سى دون �سواه. نت�شبث مبا ينفع النا�س وميكث يف الأر�ض ،تاركني الكثري من
الزبد ..باحثني ع ّنا فينا ،يف ن�سغ احلرف ،ورهافة الكلمة ،يف
يقول الدكتور علي احلمد الأ�ستاذ بجامعة الريموك يف هذه
ال�سبيل :الأ�ستاذ نهاد املو�سى ذو �أ�سلوب متميز مميز ،فال تكاد عبق اجلملة ،واكتمال الن�ص ..لتبد�أ كينونة اللغة ،يف رحلة
تقر�أ �سطر ًا �أو �سطرين من مقالة �أو كتاب حتى تتيقن �أنك تقر�أ وله ووجد و�شوق �أبدي لكائنات تر�سم كونها ،و�أل�سنة تنطقها
ٍ
لنهاد املو�سى ،و�إن �سمعته يتحدث عن ُب ْعد �أو من وراء حجاب «بل�سان عربي مبني» ل�سان ع�شاقها ..وهم يراودونها ..تعدهم
عرفته من �أ�سلوبه وف�صاحته ونغمة �صوته� ،إنه ،حق ًا� ،أ�سلوب ،فت�سقيهم من رحيقها املختوم ،في�سكرون وال ي�سكرون.
متف ِّرد حمبب �إىل النف�س خفيف على ال�سمع ،وهبه اهلل �إياه، نهاد املو�سى واحد من ه�ؤالء ،ممن اكتتوا بنارها ،
وحباه واخت�صه به� .إنه �أ�سلوب يجدر �أن نطلق عليه الأ�سلوب واعرتاهم نورها ،وما �أدراك ما نورها ..نور النطق ،والإف�صاح،
النهادي. والتبيني ..هذا النور الذي �شق الزمان واملكان
�أقول هذا وقد عرفته وخربته متحدث ًا حماور ًا مناق�ش ًا وقد
لتغ�سل جداوله �شغاف القلب ،وت�سبح يف رحابة الروح..
قر�أت جل ما كتب تقريب ًا� ،إنه ذو �أ�سلوب جذاب ر�شيق مغدق
لتتقد بذلك كله جذوة البيان ،ف�إذا بك �أمام عامل� ..شاعر..
و�شائق.
مرت�سل ..بحنو الأب ،ونداوة الأخ ،وروعة ال�صديق ،ونبل
ومن الظواهر الالفتة �أن هذه الأناقة الأ�سلوبية املائزة قد الإن�سان.
ت�أثرها كثري ممن تلمذ له من الدار�سني؛ ف�إنك واجد طابعه
التنا�ص الالفت.
ِّ الأ�سلوبي ماث ًال يف كتاباتهم على نحو من * * * *
76
�سبت ،ويوم ال�سبت كانت تقام يف العبا�سية �سوق جامعة يتوافد ولعل هذا ما جعل مبدع ًا هو الدكتور وليد �سيف يتمثله
�إليها النا�س من �أهل القرى املجاورة. نحوي ،وما جعل مفكر ًا هو �إبراهيم العجلوين
�شاعر ًا يف زي ّ
�أح�س�ست يومذاك �أن �شيئ ًا ما يحدث� ،أيقنت باخلطر،نظرت يرى �أن نهاد املو�سى «يحقق معادلة �صعبة يندر �أن تتهي�أ لها
�إىل بوابة الدار ذات الفناء الف�سيح ،كانت البوابة م�شرعة، الأ�سباب �إال يف منعطفات الأزمنة وعلى مفارق القرون.
�أح�س�ست �أن البوابة امل�شرعة هي م�صدر اخلطر الآتي من ولعل ذلك يكون نوع ًا من التفرد الذي �أوتيه معلم النحو
اخلارج ،لكنني قدرت �أن التقدم نحوها لإغالقها �سيكون اجلميل على فرتة من املعلمني ذوي الطبائع القوية� ،أولئك
�أخطر .لزمت باب �إحدى الغرف امل�صفوفة حول الفناء، الذين ال حتول قواعد النحو و�إ�شاراته احلمراء دون �أن يرت�سلوا
ت�شاغلت مب�شاهدة الر�صا�ص الفارغ املت�ساقط من على �أغ�صان عن �سجية �سمحة ويف بيان مبني».
ا�شجار اليوكالبتو�س يف فناء الدار.
ومي�ضي �إبراهيم العجلوين قائ ًال :لقد �أمكن لأ�ستاذ النحو،
ثم زايلني اخلوف حني ر�أيت نا�س ًا من �أهل القرية يدخلون
ممث ًال بنهاد املو�سى� ،أن يجعل ال�ضرورة �شرط ًا للحرية ،و�أن
�سراع ًا ،ويخلون بع�ض اجلرحى �إىل غرفة يف �إحدى زوايا الدار،
يك�سر املعهود يف النحاة من �أنهم يف الغالب ال يفح�صون ،و�أن
ويحكون عن غارة قام بها اليهود من امل�ستعمرة املجاورة.
�شعرهم خملع ،ونرثهم ممزع ،فكان لنا منه الأديب املرت�سل
وما يزال يوم ال�سبت على �صفحة الذاكرة يوم ًا داكن ًا �إىل جانب العامل املتمهل ،وكان لنا منه الأمنوذج الف ّذ يف مكان
�سدميي ًا ،ودخلت فل�سطني و�أهلها يف �أهوال و�أحوال ،وكانت �سوى بني «البياين» و «املحقق» ،وما �أراين ذاكر ًا �إياه �إال و�أنا
النكبة ،وينت�صب يف ذاكرة الطفولة مني م�شاهد وحكايات... على ذكر مما ذهب �إليه ابن خلدون من �أن حت�صيل ملكة
ومل يكن املخيم دار �إقامة ،وك�أن قوى خفية كانت حتر�ض الل�سان ال يكون بحفظ قواعد النحو و�إجراء �أقي�سته وب�سط
على مبارحته ،وكانت �أوىل خطواتي يف الرحيل عن املخيم علله ،ولكنها تكون بالقراءة احلاذقة لكتب الأدب ودواوينه،
مغامرة فردية يف حرق املراحل؛ �إذ عملت على �أن �أ�ستبق وبتكوين ذائقة �صناع جراء ذلك ،وكالهما �أمران متح�صالن
التقدم المتحان ال�شهادة الثانوية �سنتني ،وكان ظهور النتائج لدى �أخينا الدكتور نهاد ،ومتجليان يف كثري مما يكتب ويقول.
مفاج�أة ملن كان حويل؛ �إذ �إن �أحد ًا مل يكن يعلم بذلك و» كنت ولعل ما كتبه نهاد املو�سى عن نف�سه ،يف �سياق �آخر� ،أن
وحدي» . يكون مثا ًال م�شخ�ص ًا ميثل بيان ًا عن جانبه البياين ،كما ميثل
كان املخيم منوذج ًا ا�ستثنائي ًا للظلم ال�شامل؛ �إذ �إنه �صفحة من �سريته الذاتية ت�شبه �أن تكون « بيان ًا « عن الرجل
ينتظم جموع ًا من النا�س الذين �أخرجوا من ديارهم بغري حق. والأ�سلوب يف �آن مع ًا ؛ �إذ كتب يقول:
ولكن هذا النموذج امل�شخ�ص للظلم قد �أنبت َّيف مثل اليقني
كان ذاك يوم �سبت ،يف العبا�سية ،يوم ا�ستيقظ َّيف فج�أة
ب�أن « العدل « �ضرورة ،وان�ضاف �إىل هذه القيمة امل�ستفادة
�أول �إح�سا�س باخلوف .ونظرت حويل ،وانداح من حويل فراغ
من نقي�ضها منظومة من املثل يف ا�ستقامة الق�صد ،و�صراحة
ووح�شة ،ووقفت وحدي .وكنت يومذاك على �أبواب ال�ساد�سة،
الإف�ضاء بالر�أي وجمانبة الهوى « �أعرف الرجال باحلق وال
وكانت فل�سطني على �أبواب الزلزال العظيم .كان ذاك يوم
�أعرف احلق بالرجال».
77
جذاب ًا واعد ًا بالب�صائر الإ�ضافية يف و�صف الظاهرة �أفق ًا َ يف تلك الأثناء -يف امل�شهد املحلي وبع�ض امل�شهد العربي
النحوية وحتليلها .وهناك جعل برناجمه قائم ًا على املزاوجة ال�سجال
-ي�ستهجن ما كان الأوائل �أنف�سهم يتعاطونه من ِّ
بني عمله يف تدري�س النحو ومتابعة الأنظار املتداولة يف امل�شهد وا�ستدراك بع�ضهم على بع�ض.
الل�ساين ،ويف هذا ال�سبيل �شارك يف حلقة الدرا�سات اللغوية وتتابعت درا�ساته النحوية على �أنحاء �شتى:
يف جامعة القاهرة التي امتدت ف�ص ًال �صيفي ًا كام ًال (.)1973
و�شهد حما�ضرات ديفيد دي كامب يف الل�سانيات االجتماعية فقد وجد �أن �أبناء العربية يتنازعون خمتلفني يف بع�ض
خا�صة ،وهو منهج يتجاوز النظر الذاتي يف اللغة وير�صد امل�سائل حتى �أخذ بع�ضهم يتف َّكه بتعدد وجوه املو�ضع الواحد
ما يكون من تفاعل اللغة وحميطها ،وقد قر�أ يف �ضوء ذلك مع ِّلق ًا عند ذكر كل م�س�ألة خالفية بقوله :فيها قوالن �أو
كتاب �سيبويه يتلم�س فيه ما تنبه �إليه �سيبويه من َد ْور ال�سياق َق َوالن .فو�ضع د .نهاد بحثه «فيها قوالن �أو �أ�ضواء على م�س�ألة
يف ا�ستكمال و�صف الظاهرة النحوية وو�ضع بحثه :الوجهة التعدد يف وجوه العربية (جملة �أفكار ،متوز )1975ملتم�س ًا
االجتماعية يف منهج �سيبويه يف كتابه ،و�أ�سهم به يف م�ؤمتر لهذه الظاهرة تف�سري ًا يف بناء العربية على لهجات خمتلفة
ذكرى القرن الثاين ع�شر لوفاة �سيبويه الذي عقد يف �شرياز وا�ستيعابه ملراحل من عمرها متعاقبة ،واختالف مناهج
النحاة يف التقعيد والتف�سري ،ونامو�س اللب�س النافذ يف اللغات
عام .1974
الب�شرية جميع ًا.
وتابع �سريته يف هذه ال�سبيل فحر�ص على �أن ي�شارك يف
وماراه �أحد امل�ست�شرقني يف وقوع احلال يف العربية منفية،
احللقة الدرا�سية الل�سانية التي عقدت يف جامعة نيويورك يف
ف�أن�ش�أ يف ذلك بحث ًا كتيب ًا و�سمه « حا�شية على اال�ست�شراق
او�سويجد ( )1976وامتدت ف�ص ًال �صيفي ًا كام ًال ،وقد هي�أت له
املعا�صر :حتقيق يف احلال :هل تقع احلال يف العربية نفي ًا؟»،
تلك امل�شاركة االت�صال بالل�سانيات ات�صا ًال مبا�شر ًا ،و�أن يطلع
وقد ُن�شر بدعم من اجلامعة الأردنية و�صدر عن امل�ؤ�س�سة
على �أنظارهم ومقارباتهم للظاهرة اللغوية ،وحني رجع النظ َر
العربية للدرا�سات والن�شر عام .1980
فيما كانوا يتداولونه وا�ستح�ضر ما كان مت َّر�س به من قراءة
�أعمال النحاة الأوائل ووجد «ا َمل�شابه» بني هذا وذاك كثرية وملا وجد يف ا�ستعمال املعا�صرين للإ�ضافة وجوه ًا خالفية
�أن�ش�أ كتابه «نظرية النحو العربي يف �ضوء مناهج النظر اللغوي حادثة كتعدد امل�ضافات �إىل م�ضاف �إليه واحد .......ح�صر
احلديث» الذي �صدر يف طبعته الأوىل بدعم من اجلامعة هذه الوجوه وراجعها يف �أ�صول النحو والن�صو�ص العربية
الأردنية عن امل�ؤ�س�سة العربية للدرا�سات والن�شر والتوزيع وتتبعها يف اال�ستعمال اجلاري يف العربية على الزمان و�أن�ش�أ
(بريوت .)1980 بحثه :اللغة العربية بني الثبوت والتحولَ :م َث ٌل من ظاهرة
الإ�ضافة ،وقد ن�شر يف حوليات اجلامعة التون�سية عام .1976
ويف العام التايل �شهد احللقة الدرا�سية اللغوية التي ُع ِقدت
يف جامعة هاواي وكان حمورها التخطيط اللغوي مبا هو جملة النحوي والل�سا ّ
ين ّ اندغام
من التدابري وال�شروط التي متكن لنا من توجيه م�سار اللغة، على �أنه يف �أثناء ا�شتغاله بالنحو مل ينح�صر يف �أفقه
وكان �أمر االزدواجية اللغوية يف العربية هاج�س ًا م�ؤ ِّرق ًا ،ف�أن�ش�أ الذاتي ،وكانت الل�سانيات مبا هي درا�سة اللغة درا�سة علمية
79
ولكنه التفت ،يف هذا ال�سياق الل�ساين� ،إىل ُب ْعد ثالث؛ �إذ كتابه « ق�ضية التحول �إىل الف�صحى يف العامل العربي احلديث»
الحظ �أن ا�ستح�ضار النماذج الل�سانية وتطبيقها على العربية مقدم ًا م�شروعه جلعل العربية الف�صحى لغ ًة للمحادثة والكتابة
كانت ر�ؤية �إ�ضافية للعربية مبر�آة الآخر ،فا�ستثار لديه هذا ووظائف اللغة يف احلياة العربية جميع ًا .وقد ُن ِ�شر الكتاب
خمتلف يتلم�س فيه العربية يف مر�آة ٍ لبحث
ٍ التيار حافز ًا بدعم من اجلامعة الأردنية ،و�صدر عن دار الفكر يف عمان
الآخر. عام .1987
وقد تتبع ،لذلك ،موارد العربية يف كتب الرواد الأوائل يف وتتخذ ت�صانيفه الل�سانية ثالثة �أبعاد؛ يتمثل �أحدها يف
الل�سانيات الأمريكية ( بلومفيلد و�سابري وهياكاوا وهاري�س)، تطبيق املقوالت الل�سانية على مو�ضوعات نحوية �أو ظواهر
ومواردها يف الكتب الل�سانية اخلال�صة التي و�ضعها القوم لغوية التما�س ًا لتف�سري �إ�ضايف كما يف بحثه « الأعراف �أو نحو
هناك يف الل�سانيات الأنرثوبولوجية ،والو�صفية ،واالجتماعية،
الل�سانيات االجتماعية يف العربية» الذي ا�ست�ضاء فيه مبقوالت
والتحويلية ،واحلا�سوبية ،وقد ب�سط ذلك يف كتابه :العربية يف
النحو الوظيفي و�سياق احلال والل�سانيات االجتماعية وقر�أ يف
الل�سانيات الأمريكية ،الذي �صدر عام .2005
�ضوئها �أعمال النحاة العرب ،وقد قدمه يف امللتقى الدويل
�أما كتابه « اللغة العربية يف الع�صر احلديث ....قيم الثالث لل�سانيات الذي انعقد يف اجلامعة التون�سية (.)1983
الثبوت وقوى التحول» ،الذي �صدر عام 2006،ف�إنه ي�ست�شرف ويف كتابه « ق�ضية التحول �إىل الف�صحى» الذي ا�ست�ضاء فيه
فيه �صورة العربية املتدافعة بني قيم الثبوت وقوى التحول باملقوالت والتدابري الإجرائية امل�ستفادة بالل�سانيات التطبيقية
واملجاالت التي يظهر فيها هذا التجاذب� .أما عوامل الثبوت وال �سيما التخطيط اللغوي .ولعل �أبرز �إجنازاته يف هذه
فهي التي حتفظ للعربية �صورتها ،على التعميم ،وهذه العوامل ال�سبيل كتابه « العربية :نحو تو�صيف جديد يف �ضوء الل�سانيات
الن�ص املقد�س ،والرتاث ،والهوية .وهي قيم ثبوت متثل هي ُّ احلا�سوبية» الذي قدم فيه �أطروحته حول متثيل العربية
للعربية َمدد ًا وم�صدر ًا للقوة واال�ستمرارية والدميومة .و�أما
للمعاجلة احلا�سوبية على مقت�ضى الفرق بني و�صف العربية
قوى التحول فهي قوى العوملة و�أدواتها احلوا�سيب والإنرتنت
للإن�سان وتو�صيفها للحا�سوب .وقد �صدر عن امل�ؤ�س�سة العربية
والف�ضائيات .و�أما ملتقى التجاذب بينهما فهو يف جماالت
التعليم والرتجمة والإعالم والإعالن واالقت�صاد ،و�أما �أبرز للدرا�سات والن�شر (.)2000
ظواهر هذا التجاذب اللغوية فهي االزدواجية والثنائية. �أما البعد الثاين فيتمثل يف مقابلته بني �أنظار ا�ستخرجها
�أما �أ�سئلة الكتاب فهي �أ�سئلة العربية يف ع�صر العوملة، من �أعمال نحاة العربية ومثيالتها من الأنظار التي وجدها
�أ�سئلة العربية يف امتدادها التاريخي واجلغرايف� ،أ�سئلة العربية لدى الل�سانيني املحدثني ،وذلك يف كتابه املتقدم ذكره « نظرية
يف بعدها اللغوي والثقايف واالقت�صادي ،هي �أ�سئلة العربية يف النحو العربي يف �ضوء مناهج النظر اللغوي احلديث» .
عالقتها بنا وعالقتها بالأخر. وهذان البعدان الأوالن مما ا�شتغل به �آخرون؛ �إذ �أن�ش�أ
بوي النحوي رَّ
والت ّ ّ اندغام كثريون درا�سات يف العربية يف �ضوء املنهج الو�صفي �أو الوظيفي
�أو التحويلي ،كما �أن�ش�أ �آخرون مقاالت �أو بع�ض م�ؤلفات يف
وحنب ُعهِ د �إليه ب�أن يُدَ ِّر َ�س طلبة املاج�ستري يف ق�سم اللغة
املقابلة بني نحاة العربية و�أنظار الل�سانيني املحدثني.
العربية و�آدابها « باب ًا من الكتب النحوية الأ�سا�سية « عام1975
80
واال�ستعمالَ :م َث ٌل من باب اال�ستثناء،املن�شور يف جملة درا�سات ور�أى �أن هذا ال�ضرب من الدر�س ينبغي �أن ُيتنا َو َل مب�ستوى
(اجلامعة الأردنية.)1976 يليق بالدار�سني املتخ�ص�صني وعلى نحو ي�شوقهم اتخذ لذلك
باب اال�ستثناء ،ور�سم لنف�سه وطلبته �أن يقر�أوه قراءة حتليلية
ويف هذه ال�سبيل من َو ْ�صل اللغوي بالرتبوي تناول ق�ضية
يف �سبعة من كتب النحو الأ�صول هي كتاب �سيبويه وكتاب
اخلط�أ متتبع ًا �إياها يف �سياقها التاريخي ومواقف القدماء
املقت�ضب للمربد وكتاب الأ�صول البن ال�سراج وكتاب اجلمل
واملحدثني منها ،وعمد �إىل م�سح ميداين لأخطاء الطلبة
املف�صل للزخم�شري وكتاب �أ�سرار العربيةللزجاجي وكتاب َّ
والكتبة ،ور�سم منهج ًا ملعاجلتها ،وذلك يف كتابه :اللغة
البن الأنباري وكتاب �أو�ضح امل�سالك البن ه�شام .وكانت تلك
العربية و�أبنا�ؤها� :أبحاث يف ق�ضية اخلط�أ و�ضعف الطلبة يف
القراءة التحليلية جتربة �شائقة يف التعمق من جهة ويف املقارنة
اللغة العربية ،الذي �صدر يف طبعته الأوىل عن دار العلوم
بني كتب النحاة يف تناول الظاهرة النحوية الواحدة من جهة
بالريا�ض(.)1984
�أخرى.
بوي :مدخل. رَّ
الت ّ
ولكنه مل يكتف بذلك؛ �إذ ر�سم لنف�سه وللطلبة �أن َي ْ�ستَقروا
يف ال�شباب الأول دخل �أوىل جتاربه يف املجال الرتبوي؛ �إذ �أمثلة اال�ستثناء يف ن�صو�ص ع�صر االحتجاج :القر�آن الكرمي،
كان عليه �أن يُدَ ِّر�س العربية و�أ�ساليب تدري�سها يف معهد تدريب تنخل يف احلديث ال�شريف هو التجريد ال�صريح وكتاب ُم َّ
املعلمات يف رام اهلل ،ووقف ،لهذه الغاية ،على الكتب املتداولة لأحاديث اجلامع ال�صحيح ،و�أحد ع�شر ديوان ًا جاهلي ًا و�إ�سالمي ًا
يومذاك يف �أ�ساليب تعليم العربية :كتاب « املوجه الفني و�أموي ًا .وق�صد من ذلك �إىل املقارنة بني �صورة الباب لدى
ملدر�سي اللغة العربية « لعبد العليم �إبراهيم ،وكتاب «اللغة النحاة وما قد تكون « النظرية « �أدخلته عليها و�صورة الباب
العربية وطرائق تدري�سها لعبد العزيز عبد املجيد ،وغريهما، يف الن�صو�ص املبا�شرة التي �أُقيمت عليها �صفة الباب .وكانت
واتخذها عدة له يف توجيه الطالبات و�إعداد الدرو�س املقابلة �شائقة ملا تبني من تقاطع النظرية واال�ستعمال.
النموذجية ،ويومذاك �أيقن ب�أهمية «الطريقة» يف التعليم �إىل
جانب التمكن من « املو�ضوع «. ثم اتخذ لهذه الدرا�سة جانب ًا �إح�صائي ًا يتمثل يف ح�ساب
تواتر قواعد الباب يف كتب النحاة وتواترها يف اال�ستعمال،
ولكنه ر�أى �أن هذه الكتب ت�صدر عن منطلق تربوي نف�سي ور�أى لذلك قيمة عملية يف متييز القواعد املحورية الأكرث
فح�سب .ولكن ا�شتغاله بفقه اللغة وات�صاله باملدار�س الل�سانية تواتر ًا ،وفت�ش لهذا البحث الإح�صائي عن دور تربوي يف
( الو�صفية خا�صة) التي تنظر �إىل اللغة من حيث هي نظام تي�سري النحو .وقد قارن بني قواعد الباب الأكرث تواتر ًا كما
جعله يتخذ موقف ًا �إ�ضافي ًا يف هذه ال�سبيل .وينبني هذا املوقف ا�ستخرجها باال�ستقراء والإح�صاء وقواعد الباب كما وردت
لديه على �أن اعتبار طبيعة املو�ضوع « وهو اللغة « ال يقل �ش�أن ًا يف كتاب يق�صد �إىل التي�سري باالنطباع وهو كتاب حترير
النف�سي».
ّ عن اعتبار «طبيعة املتعلم يف ُبعدها الرتبوي النحو العربي مع التي�سري الذي �أقره جممع اللغة العربية يف
و�أ�صبح هذا املنظور الل�ساين مرجع ًا ثابت ًا لديه يف تعليم القاهرة ،ووجد باملقارنة �أن منهج اال�ستقراء امل�ست�أنف القائم
ر�سم املحتوى،
اللغة العربية؛ �إذ يف �ضوئه تتحدد الأهداف ،و ُي َ على الإح�صاء �أدنى �إىل التي�سري و�أكرث وظيفية و�أهدى �سبي ًال.
و�أ�ساليب التقومي. وذلك كلُّه مب�سوط يف بحثه :النحو العربي بني النظرية
81
-رئي�س جلنة خرباء اللغة العربية ،امل�ؤمتر الوطني للتطوير وحني دخلت وزارة الرتبية والتعليم يف الأردن يف جتربة
الرتبوي ،ع ّمان.1987 ، ت�أليف كتب اللغة العربية بطريق الوحدة ان�ش�أ بحثه املو�سوم ب
« تعليم اللغة العربية بطريقة الوحدة « متخذ ًا له �أ�سا�س ًا لغوي ًا
-امل�شاركة يف و�ضع مناهج كلية ت�أهيل املعلمني ،وزارة التعليم
نظري ًا ،وطبقه تطبيق ًا عملي ًا من�سجم ًا على �إحدى الوحدات
العايل ،ع ّمان.1988 ،
التعليمية.
-امل�شاركة يف و�ضع مناهج اللغة العربية لكليات املجتمع ،وزارة
وكان هذا املنظور الل�ساين دليله �إىل نقد مناهج اللغة
التعليم العايل،ع ّمان.1988،
العربية ،وت�أليف كتبها ،وطرق تعليمها ،ور�أى فيها �سبي ًال �إىل
-خبري (العربية) يف برنامج التطوير الرتبوي ،اليمن-1990 ، تعليم اللغة العربية مبنهج علمي م�ضبوط ،وقد ب�سط م�شروعه
.1993و.2000-1999 هذا يف بحثه الذي �ألقاه يف م�ؤمتر « الل�سانيات يف خدمة اللغة
العربية « يف اجلامعة التون�سية ( )1981وجعل عنوانه «مقدمة
-خبري (العربية) يف برنامج التقومي الت�شخي�صي ،وزارة
يف علم تعليم العربية» .
الرتبية ،ع ّمان.1996،
وقد و�سم هذا املنحى م�ساهماته املتعددة يف تطوير
-خبري(العربية) يف الدورة التدريبية ملوجهي املدار�س
املناهج وت�أليف كتب اللغة العربية يف الأردن ( 1987، 1973
القر�آنية والعربية والإ�سالمية ،املالديف.1997 ،
وعمان ( ) 1984، 1976واليمن ُ 2005 ،1993،2004، 1991،
-م�ست�شار ت�أليف كتب اللغة العربية يف �إطار تطوير املناهج ( ،)2000-1999 ، 1993-1990كما و�سمت م�ساهمته يف و�ضع
نحو االقت�صاد املعريف ،وزارة الرتبية والتعليم ،عمان -2004 ، منهاج اللغة العربية اللغة العربية لغري الناطقني بها (اجلامعة
.2005 الأردنية ،)1983ويف ت�صميم « معيار للكفاية اللغوية يف
-خبري تطوير معايري كفايات اللغة العربية يف مكتب الرتبية العربية « الذي قدمه يف م�ؤمتر « التدري�س الفعال ملهارات اللغة
العربي لدول اخلليج .2007-2006 العربية يف التعليم اجلامعي « الذي عقد يف جامعة الإمارات
العربية املتحدة ( .)1998وعلى هدي هذا املنحى �سار يف
-خبري تطوير برنامج الدرا�سات العليا يف اللغة العربية و�آدابها تدري�سه لأ�ساليب اللغة العربية يف اجلامعة الأردنية (.)1975
يف عدد من اجلامعات املاليزية .2007-2006
الرتبوي :وقائع وم�ساهمات
ّ
وكل ما تقدم مدخل كلي واحد �إىل تف�سري طابعه الرتبوي
اخلا�ص� ،أما الوقائع والتجارب املذكورة قب ًال ف�إمنا هي « �إطار» -خبري م�شارك للغة العربية يف م�شروع املناهج الوطنية،
و�س ِجل للتوثيق والتذكار؛ ذلك �أن تف�صيل القول يف «الرتبوي» ِ الإمارات العربية املتحدة.1977 ،
وما انطوت عليه هذه الوقائع والتجارب من «ر�ؤى منهجية» فهو -م�ست�شار اليون�سكو لتعليم اللغة العربية يف معهد اللغات
مو�ضوع هذا الكتاب. الأجنبية ،بكني.1983 ،
-مقرر جلنة مناهج اللغة العربية يف برنامج الرتبية بجامعة
القد�س املفتوحة.1988 /1987 ،
* ز ّودنا الزميل الكرمي الدكتور وليد العناتي م�شكور ًا بهذه ال�سرية ّ
املف�صلة.
82
نظرية اخلط�أ
ّ
يف كتاب (اللغة العرب ّية و�أبنا�ؤها) لنهاد املو�سى
وقد تو ّقف نهاد املو�سى عند �أهم ّية الرت ّيث والأناة يف �إطالق اللغوي ،لبناء ما ميكن
ّ حماولة تف�سري �أ�سباب الوقوع يف اخلط�أ
مما وقع له ،وم�ؤ ّكدً ا الأحكام ،مم ّث ًال لذلك ،بجر�أته املعهودةّ ، اللغوي)؛ ولع ّله من الأهم ّية مبكان
ّ �أن ُيعرف بـ(نظر ّية اخلط�أ
ال�صواب، عال من ّ �ضرورة �أن يتجاوز اللغو ّيون ع ّما له وج ٌه ٍ الك�شف عن املعيار �أو املقيا�س الذي يعتمده اللغو ّيون للحكم
يوهم باخلط�أ. وعدم الركون �إىل اخلاطر الأ ّول الذي قد ِ اللغوي� ،إذ ال يخفى �أنّ كث ًريا من ا�ضطراب
ّ بال�صواب �أو اخلط�أ
ريا�ضي يقولّ يوما عبار ٌة ملع ّل ٍق
علي ًومن ذلك قوله« :ورد َّ اللغوي وا�ضطراب �أحكامهم ّ اللغو ّيني املعن ّيني ب�ش�أن الت�صحيح
فيها( :نحن نعلم ب�أنّ الفريق مل يخ�سر غري مباراة واحدة)، مر ّده �إىل اختالف املعايري التي يحتكمون �إليها يف �أمر ال�صواب
يل �أنّ (نعلم) تتع ّدى �إىل فابتدرتُ ذلك بالإنكار؛ لأ ّنه �سبق �إ ّ واخلط�أ ،وقد �أ�شار نهاد املو�سى �إىل ذلك بقوله»:ولكنّ �سعة
مفعولني بنف�سها ،فكيف ع ّداها بالباء؟ و�أقمتُ على ذلك العرب ّية وت�سل�سل مدارج ال�صواب واخلط�أ فيها قد جعل بع�ض
الإنكار حتّى ا�ستذكرتُ �آي ًة قريب ًة مل �أكن ا�ستح�ضرتُها �إذ رحب غري من�سجم املت�ص ّدرين للت�صحيح ي�ضطربون يف �أفق ٍ
ذاك (و�أ ّنى ل ٍّأي م ّنا �أن ي�ستح�ضر ك ّل ما عر�ض له من �أد ّلة ميل الهوى»( .)3وهذا �إذا كان لدى مييل بهم مقيا�سهم فيه َ
و�شواهدَ حني يطلبها ب�صورة �آن ّية؟) وهي قوله تعاىل�( :أمل بع�ضهم معيار ينطلقون منه ،ويحتكمون �إليه.
يعلم ب�أنّ اهلل يرى) ف�أق�صرتُ عن ذلك الإنكار»( .)4وي�سوق
و�إذا كان الك�شف عن معيار اخلط�أ وال�صواب مه ًّما ،ف�إنّ
مثا ًال �آخر من قول �أحد املذيعني( :وجائزته عبار ٌة عن �ساعة)
لغوي معينّ مه ّمة لي�ست بالي�سرية، القدرة على اكت�شافه لدى ّ
فيبتدره اخلاطر الأ ّول لتخطئة (عبارة عن) التي ر�أى �أ ّنها
لأمرين رئي�سني متعالقني؛ �أ ّولهما (اللغة) ،و�أعني تلك املا ّدة
زائدة ،وميكن االكتفاء بالقول (وجائزته �ساعة)ّ ،ثم يقول:
اللغو ّية الكربى املمت ّدة عرب زمن طويل؛ (نحو 3قرون) �إذا
«ولك ّني وجدتُ ابنَ ج ّني (وهو من هو يف الب�صر بالعرب ّية
وقفنا عند ع�صر االحتجاج ،و(نحو 16قر ًنا) �إذا جتاوزنا
جل ّث ُة عبار ٌة عن
والتلطف يف �أداء معانيها) يقول يف ال ّل َمع( :وا ُ ُّ
ذلك الع�صر ،وهي منت�شرة مكان ًّيا يف بيئات متع ّددة هي بيئات
اللغوي الكثري الكثري من ّ �شخ�ص)»( .)5ويف كتب الت�صحيح
القبائل العرب ّية يف �شبه اجلزيرة العرب ّية قبل الإ�سالم ،وفيها
�أمثلة هذا اخلاطر الأ ّول الذي ي�سيطر على م�ساحات وا�سعة
من�ضبط
ٍ فاللغوي ال يتعامل مع منتٍ
ّ وخارجها بعد الإ�سالم.
من م�ؤ ّلفاتهم فال يتجاوزونه �إىل ما بعده ،حتّى �إنّ الناظر
مي ّكنه من حتديد معيار وا�ضح م�ستبني.
يف اال�ستدراكات التي �أُ ّلفت عليها ،و�أبطلت كث ًريا من �أحكام
م�ؤ ّلفيها ،ال يكاد يطمئنّ �إىل �سالمة � ٍّأي من �أحكامها. (اللغوي) ،و�أعني به اللغو ّيني امل�شتغلني بالت�صحيح
ّ وثانيهما
اللغوي ،قري ًبا من وقد يبدو نهاد املو�سى ،يف معياره الطبيعي
ّ اللغوي ،فهم وب�أثر من اتّ�ساع املا ّدة اللغو ّية وانفالتها
ّ
ّ
اللغوي ربرون اخلط�أ عن ال�ضوابط ،وب�أثر من ا�ستحالة القدرة على الإحاطة
ّ املت�ساهلني امل�س ّوغني للخط�أ ،الذين ي ّ
ا�ستنادًا �إىل ما �أطلق عليه املو�سى (معيار االئتالف) ،وهو بالعرب ّية ،عاجزون بطبيعة احلال عن ال�ضبط التا ّم املحكم
املعيار الذي �أقيم عليه و�صف العرب ّية؛ فهو يتف ّهم و�ض ًعا لو�ضع معيار ميكن بنا ًء عليه القول باخلط�أ وال�صواب ،وهم
خا�صا ل ّلغة العرب ّية من بني اللغات� ،إذ �إ ّنها تت�أ ّلف من جمموع �إن كانوا معذورين يف عجزهم ،غ ُري معذورين حينما يظ ّنون
ًّ
اللهجات التي كانت �شائع ًة يف اجلزيرة العرب ّية قبل الإ�سالم؛ �أ ّنهم ميتلكون ذلك املعيار املحكم ،ف ُيطلقون � ً
أحكاما بالتخطئة
تلتقي على قدر م�شرتك ،وتفرتق يف مظاهر متباينة ،وقد والت�صويب مت�س ّرعني ظا ّنني �أ ّنهم بفعلهم هذا ُي�سدون خدم ًة
�شك خمطئون يف ذلك للعرب ّية و ُيحافظون عليها ،وهم بال ّ
ا�ستوعبت العرب ّية ك ّل تلك ال ُّن ُظم اللغو ّية (اللهجات) التي
كانت متغاير ًة و�سائد ًة يف بيئات مكان ّية متع ّددة .ف�أ�صبحت �أ�ش ّد اخلط�أ؛ �إذ ين ّفرون من العرب ّية وي�ض ّيقونها على �أهلها.
84
اجلملي .وهو خط�أ ينعقد عليه الإجماع باالنطباع ّ الرتكيب اللغة العرب ّية املعيار ّية التي � ّأ�س�سها النحاة واللغو ّيون بنا ًء لغو ًّيا
املتح�صل لدى جمهور املتع ّلمني من �أبناء العرب ّية ...وهذا
ّ متع ّدد امل�ستويات؛ فيه الوجه الف�صيح الذي هو وجه (املثال)
اخلط�أ لي�س م�شكل ًة قائم ًة»(.)8 مما اعتُرب ر� َأ�س الهرم يف الف�صاحة ،وفيه ما هو يف املقام ّ
الثاين والثالث ...لدى النحاة واللغو ّيني .على �أ ّنها قد ت�ستوي
ب -اخلط�أ الذي ي�ستند �إىل وجه من وجوه اللغة العرب ّية
ال�صواب و�إن كان يف م�ستوياتها املتع ّددة ،فيكون له وجه من ّ
مقام واحد (ر�أ�س هرم �أو وا�سطة امل�ستوياتُ وتغدو ك ّلها يف ٍ
عقد) �إذا ما علمنا �أنّ القبائل التي �أُخذت عنها اللغة هي
ح�س ٍن �أو مقبول �أو قليل
مما يرجع �إىل وجه َ غري الوجه املثالّ ،
الفارابي ،و�إذا ما �أخذنا
ّ قبائل كثرية تتجاوز اخلم�س بح�سب
�أو نادر �أو �شا ّذ من �أوجه العرب ّية الف�صيحة يف بنائها االئتال ّيف
املتع ّدد الوجوه الذي �أ�شرنا �إليه عند احلديث عن املعيار.
حجة)(.)6 بقولة ابن ج ّني (اختالف اللغات وك ّلها ّ
ومن طريف هذه النظر ّية �أ ّنها تُعنى بالنوع الثاين من اخلط�أ معني �أ�ش ّد العناية باالرتقاء
ولكنّ املو�سى ،يف واقع الأمرٌّ ،
وتهتم به اللغوي ،وال
ّ باملتع ّلمني والكتّاب �إىل املراتب العليا من االختيار
الذي هو اخلط�أ امل�ستند �إىل وجه من وجوه العرب ّيةّ ،
�أكرث من اهتمامها بالنوع الأ ّول الذي هو اخلط�أ ال�صريح ،مع اللغوي �إ ّال يف
ّ يركن �إىل املراتب الأخرى من وجوه اال�ستعمال
�أنّ املتو ّقع العك�س؛ ذلك �أنّ اخلط�أ ال�صريح ،و�إن كان مي ّثل �إطار ّ
خط ٍة عالج ّي ٍة تد ّرج ّية ،تقوم على تف ُّهم احلالة وتق ُّبلها
ظاهرة ت�ستحقّ التو ّقف والتحليل والتف�سري ملعرفة �أ�سبابها متهيدً ا لعالجها.
مما ي�سهل التعامل معه وو�ضع اخلطط العالج ّية لها ،هو ّ نظر ّية اخلط�أ:
ل�سبب رئي�س ال يعود �إىل طبيعة اخلط�أ يف ذاته ،و�إنمّ ا يرجع �إىل
اتّفاق اللغو ّيني على تخطئة هذا النوع ،وح�سمهم �أمرهم معه أ�صحاب
ُ يرى نهاد املو�سى �أنّ الطريقة التي �سار عليها �
ب�أ ّنه واقع يف �صميم دائرة اخلط�أ ،بخالف النوع الثاين الذي الت�صحيح من اللغو ّيني مل تعد مجُ دي ًة ،و�أنّ الفوق ّية (قل كذا،
ال�صواب ولك ّنه دون الوجه النموذج �أو املثال؛ وال تقل كذا) التي هي قوام هذه الطريقة ال توجد ح ًّال لتخلي�ص
يكون له وجه يف ّ
املعني بهذا اللغوي ،لذلك ر�أى �أ ّنه ال ب ّد
ّ �أبناء العرب ّية من الوقوع يف اخلط�أ
اللغوي ّ ّ مما يخلق كث ًريا من الفو�ضى يف الت�صحيح ّ
النوع ،و ُيف�ضي �إىل كث ٍري من التناق�ض واال�ضطراب بني اللغو ّيني من الت�أ�سي�س لنظر ّية �أو م�شروع «يكون حا�شي ًة على معرفتهم
�أ ّو ًالّ ،ثم بني الكتّاب واملتع ّلمني و�أبناء اللغة يف املقام الثاين. بالعرب ّية ،ي�س ّد ثغراتها ويرقى بارتكا�ساتها على ب ّينة»(.)7
وقد تو ّقف نهاد املو�سى عند هذه الفو�ضى وذلك اال�ضطراب يف اللغوي
ّ ومي ّيز �صاحب هذه النظر ّية بني نوعني من اخلط�أ
ج ّل كتابه الذي نتناوله ،وميكن تل ّم�س ذلك يف كثري من عناوين ال بح�سب اخلط�أ نف�سه �أو درجة �شيوعه مث ًال ،و�إنمّ ا بالنظر �إىل
ُ
اختالف مو�ضوعات الكتاب ،من مثل (اختيا ٌر من متع ّدد، واملتخ�ص�صني من �أبناء العرب ّية.
ّ مرتبة اخلط�أ لدى اللغو ّيني
اختالف املحدثني ،من م�سائل ُ القدماء ،تنا ُق ُ�ض القدماء، وهذان النوعان هما:
ُ
تناق�ض املحدثني.)... ، اخلالف بني املحدثني،
ال�صريح الوا�ضح �أ( -اخلط�أ اخلاطئ) ،وهو اخلط�أ ّ
وقد قام منهج نهاد املو�سى يف درا�سة �أخطاء (الطلبة الذي «ال مراء فيه ،وهو خط�أ ينت�سب �إىل العام ّية املح�ضة؛ �إذ
وال َك َت َبة) على ت�صنيفها وتف�سريها �ضمن ر�ؤية كل ّية ت�أخذ متاما وتنحرف الأ�صوات والبنى ويختلف نظام يغيب الإعراب ً
85
ك�أنمّ ا يحاولون �أن يرتّبوا �أو�ضاع اللغة على وفق عالئق املعنى باحل�سبان موقع اخلط�أ ومكانته من النموذج املثال (الأف�صح)،
اخلارجي ،و�إذن ال يتم ّثلون �أن يكون البثّ فاع ًال
ّ يف العامل ُالحظ يف كتابات الطلبة والكتّاب تكاد تكون و�أنّ الأخطاء التي ت َ
ال�سعة يف نوامي�س على � ّأي نحو ،وينتهي بهم الأمر �إىل مفارقة ّ م�شرتك ًة بينهم ال يخرجون عنها �إ ّال يف القليل النادر ،وقد
العرب ّية التي ت�سمح بتال ُب�س الفاعل واملفعول على �أنحاء م� ّؤ�س�سة امل�ستحكمة التي ال ينفع معها التنبيه
ِ �أ�صبحت فيهم كالعادة
يف املجاز»(.)10 حت�صل لديه من �إجابات الطلبة يف اجلامعة عليها .ف�ص ّنف ما ّ
و�أبحاثهم ،ولغة ال�صحافة وامل�ؤ ّلفات العا ّمة �إىل(:)9
� -أخطاء تنجم عن املبالغة يف الت�صحيح ،كو�ضع النقطتني
على هاء ال�ضمري ،وعلى لفظ اجلاللة ،وعلى كلمة (هذه)، � -أخطاء لها وجود يف �أعاريب وتوجيهات ووجوه لهج ّية قدمية،
... مثل� :إلزام املث ّنى ال َ
ألف يف جميع حاالته الإعراب ّية ،و�إجراء
نعت املجرور من املث ّنى بالألف ،و�إثبات النون يف الأفعال
� -أخطاء من �أثر الت�صحيف ،كـ(غذاء) بدال من (غداء)،
اخلم�سة وهي من�صوبة... ،
و(ينفذ) بدال من (ينفد).
ال�صرف ،ك�إثبات ياء املنقو�ص النكرة
� -أخطاء ت�سعها وجوه ّ
� -أخطاء من �أثر الرتجمة ،كاالكتفاء بذكر حرف العطف قبل
يف حالتي اجل ّر والرفع ،وتوهّ م �أ�صالة احلرف ،والقيا�س على
املبني للمجهول... ،
املعطوف الأخري ،و�إظهار الفاعل بعد ّ
التوهّ م.
� -أخطاء يف الر�سم ناجمة عن حماكاة املنطوق ،مثل :ذالك،
�شكلي ،كاخلط�أ يف �إعراب ا�سم
� -أخطاء مر ّدها �إىل تقدير ّ
والكن... ،
(�إنّ ) �أو (كان) و�أخواتهما حينما يتق ّدم عليه اخلرب.
وبالرغم من �أنّ تف�سري كثري من هذه الأخطاء يف �ضوء
يف�سرها جن�س الكاتب� ،إذ يرى �أنّ و�ضع الرجل واملر�أة � -أخطاء ّ
اال�ستعماالت العرب ّية القدمية ،ويف �ضوء الوجوه النحو ّية
العربي ربمّ ا انعك�س على ق�ضايا الت�أنيث والتذكري يف
ّ يف املجتمع
وال�صرف ّية املباحة لدى بع�ض النحاة واللغو ّيني ،قد يوحي
اللغة ،فكان �أن ر ّد �إىل ذلك �أخطا ًء من مثل �أن تكتب الطالبات:
ب�إمكانية ا�ست�ساغتها وقبولها على اعتبار �أ ّنها وجوه من
�أنا �آ�سف� ،أنا م�ص ّمم ،ل�ست م�س�ؤو ًال ...
املهم هنا يتم ّثل
ربر ٌة وجائزة ،ف�إنّ امللحظ ّ
اللغوي م ّ
ّ اال�ستعمال
يف �أنّ ل�صاحب هذه النظر ّية غاي ًة من ذلك خمتلف ًة ً
متاما يف�سرها العزوف عن تق�صري �أبنية الكلم ،من مثل:� -أخطاء ّ
ف�سر به (تف�سريه و�إحاالته �إىل مرجع ّيات اخلط�أ)، ع ّما قد ُي َّ مل يتب ّقى ،يف و�ضع مزري� ،أمل ت�ستغيث؟
وغاي ُت ُه جز ٌء من نظر ّيته القائمة من بع�ض زواياها على عدم
اللغوي بني الف�صحى والعام ّية،
ّ يف�سرها االزدواج
� -أخطاء ّ
تنفري �أبناء العرب ّية منها ،وذلك ب�أن ُيف�سح لهم «جمال للأُ ْن�س
ومن �أبرز الأمثلة على ذلك :الت�سكني ،و�إلزام جمع املذ ّكر
واطراح اخلوف من �صعوبتها»( ،)11لتوجيههم بالعرب ّية ّ
ال�سامل واملث ّنى الياء يف جميع احلاالت... ،
والأخذ ب�أيديهم نحو مراتب االختيار العليا.
� -أخطاء ترجع �إىل حت�صيل العرب ّية بالتع ّلم و�أدائها على وفق
لغوي يجري مع فاخلط�أ عند نهاد املو�سى (نامو�س ّ
اخلارجي ،ومن ذلك
ّ الأ�صول املج ّردة ومنطق املعاين يف العامل
ُف�سر لتُمكننا م�سرية العرب ّية ،وظاهرة ُم َ
نتظمة ينبغي �أن ت َّ املبا�شر) «لأ ّنهم
ِ املبا�شر) بد ًال من (البثّ
َ ا�ستعمال (البثُّ
86
�آفـــاق الل�ســانيــــات
درا�سات – مراجعات – �شهادات
تكرمي ًا للأ�ستاذ الدكتور نهاد املو�سى
حبرّ وا هذه البحوث لنجد �أنها تتفق يف ائتالفها واختالفها ؛ الق�سم الأول :الدرا�سات املُهداة (يف الل�سانيات ،ويف النقد
ففي االئتالف تربز مفردة ( اللغة ) رابط ًا مهيب ًا يربط الكون وحتليل اخلطاب) ،وهي:
العام للطروحات الواردة يف الن�صو�ص امل�شار �إليها �سابق ًا ،وهي -عودة �إىل مفهوم الكلمة ،لعبد القادر املهريي.
�سبب ان�ضمامها هنا لتكرمي �أحد امل�شتغلني بها ممن �أم�ضوا
ب�ضعة عقود من �سنى عمرهم يف خدمتها ،وت�صور م�ساراتها -املنحى الل�ساين الوظيفي يف الثقافة العربية ،لأحمد
وم�آالتها ،وت�أمل حلول م�شكالتها ومع�ضالت التوا�صل بها املتوكل.
ومعها ...ول�ست �أدري كيف ميكن الولوج �إليها يف هذه العجالة -تدري�س الل�سانيات باللغة العربية ...مل�صطفى غلفان.
؟! �أ�أخل�صها ؟ �أم �أت�أملها ؟ �أو تراين �أختار مناذج منها ؟! رمبا
أف�ضل الإ�شارة لبع�ضها يكون ذا ...ولعله هذا وذاك .ولكني � ّ -هند�سة التوازي النحوي وبنية الذهن املعرفية ،ملحمد
للداللة عليها كلها ،و�أح�سبكم تعذرون . غاليم.
و�إن ما كتبه عي�سى برهومة عن � ( :س�ؤال اللغة :الهوية -الرتابط الذهني بني امل�ستويات اللغوية ،لتوفيق قريرة .
وزمن التحوالت ) ليغري بالقول �إنّ هذه الدرا�سة مبثابة -ت�أ�سي�س ًا للمعجم التاريخي العربي ،ملحمد ر�شاد احلمزاوي.
الهم الذيالب�ؤرة التي تنطلق منها بقية الدرا�سات � ،أعني �أنّ ّ
� -س�ؤال اللغة :الهوية وزمن التحوالت ،لعي�سى برهومة .
حتمله يحمل كل بحث �آخر يف هذا الكتاب طرف ًا منه ،ولقد
قال هيثم �سرحان يف تقدميه « :يتجاوز هذا الكتاب الت�أليف -البناء الت�أريخي للغة العربية ،حليدر �سعيد .
الفردي �إىل الت�أليف اجلماعي الهادف �إىل مقاربة هواج�س -اللهجات العربية :حمددات و�سمات ،لرثيا خربو�ش .
الباحثني يف الل�سانيات ،والبحث يف جدواها ووظائفها
املعرفية ومداراتها التطبيقية .وهذا ال ي�أتي بطبيعة احلال -حول تلقي حممود دروي�ش يف اللغة الأملانية ،لإبراهيم �أبو
لفرد واحد� ،إنه بحاجة ملجموعة من الباحثني الذين يحاولون، ه�شه�ش .
ك ّل من جهة اهتمامه ،البحث عن �آ�صرة ت�ش ّده بهذا البنيان � -إبداع الن�ص وقراءته :بني التفكيك والرتكيب ،خلالد
الكبري .ثم �إنّ الكتاب اجلماعي �أعمق �أثر ًا و�أ�ش ّد ت�أثر ًا يف اجلرب.
الإحاطة بهذه الهواج�س التي ينوء الفرد بحملها ،عالوة على
-احلفلة العابرة للتاريخ ،لأحمد خري�س .
�أنّ للكتاب اجلماعي ف�ضائل معرفية جليلة ،لع ّل �أبرزها التن ّوع
،واالختالف والإ�ضافة ،وهي عنا�صر تق�ضي بال�ضرورة � ،إىل -خطاب املر�أة :التاويل والت�أويل امل�ضاد ،ل�ضياء الكعبي .
�س�ؤال الناظم املنهجي الذي يبدو كامن ًا كمون البيان يف التباين
� -سلطة الفقهاء على ال�شعر الأندل�سي ،لعي�سى الوادعي .
« .وهو التباين املف�ضي �إىل لذة الل�سان بتذوق �ضروب �شتى
من ال�شراب والطعام ،والتطلع �إىل امتدادات الزمان واملكان ، -خطاب الكدية :من الإقامة خارج اجلماعة �إىل نهاية التاريخ
وت�سخري الأكوان خلدمة الإن�سان .متو�سلني مبا يدعونه ( اللغة ،لهيثم �سرحان .
/الل�سان ) « :فاللغة ت�ش ّكل ذواتنا وت�صوغ الآخر يف ذهننا بحوث ودرا�سات( :الر�أي قبل �شجاعة ال�شجعان )...
املختزل ،وهي الوعاء احلا�ضن ملنجزات احل�ضارة ،وتعد
ال�شاهد الأمني على تاريخ الأمة ،وم�سار تطورها ،وعنوان ولننظر �إىل هذا الرثاء املعريف الذي تفي�ض به قرائح من
89
�أ�سئلة و�أ�سئلة � ،آالم و�آمال ...واحلديث ذو �شجون وحالنا وحدتها ،ورمز هويتها « كيف ؟ ومل ؟ وب�أي وجه من الوجوه
حالك يا من تقول : ي�صاغ هذا الو�صل بني هاتني ال�شقيقتني :اللغة /الهوية ؟
ولعل برهومة يجد يف مقالة الفيل�سوف الأملاين هيدغر بع�ض
قد �س�ألنا ونحن �أدرى بنجد
�ضالته � « :إنّ لغتي هي م�سكني ،هي موطني وم�ستقري ،هي
�أطويل طريقنا �أم يطول حدود عاملي احلميم ،ومعامله وت�ضاري�سه ،ومن نوافذها ومن
خالل عيونها �أنظر �إىل بقية �أرجاء الكون الوا�سع ،فاللغة هي
وكثيــر من ال�س ـ�ؤال ا�شــتياق
التي تدل على هوية الفرد وتك�شف عن ذاته ومن هو « .ولهذا
وكثي ــر مــن ر ّده تعليـ ـ ــل كان للهوية هذه العلقة باللغة ،وكان للفال�سفة و�أهل ال�سيا�سة
و�أخري ًا يردد مو�سى برهومة مع غاندي « :ال �أريد ملنزيل �أن والإعالم ،والأدب وغريهم ...هذا النظر �إىل اللغة ك ّل من
حتيط به اجلدران والأ�سوار من كل جانب ،وال �أريد لنوافذي زاويته :فمنهم من يعلي من �ش�أنها ،ويحرتمها ،ويحافظ
�أن تُ�س ّد وتو�صد � ،إين �أريد لثقافة كل البقاع �أن تهب بن�سائمها عليها ،ومنهم من يجعلها هدف ًا م�ست�ساغ ًا ل�سموم �سهامه....
حول داري ب�أكرب درجة ممكنة من احلرية ،ولكنني �أرف�ض �أن وبني هذا وذاك نرى �إىل �أبنائنا بعيون احل�سرة والأمل ،وهم
تع�صف رياح الثقافة بقدمي ب�أي حال من الأحوال « . يرحلون عن لغتهم وتراثهم وهويتهم ! بكثري من العبثية
والالمباالة ،وهم حق ًا غاية املتنبي ومبتغاه يف قوله :
هكذا تكون اخلريية التي �أرادها اهلل لهذه الأمة « كنتم
خري �أمة �أخرجت للنا�س « فكيف تكون خرييتها �إن �أو�صدت �إذا ترحلت عن قوم وقد قدروا
�أبوابها بوجه النا�س ؟ ! �أن ال تفارقهم فالراحلون هم
ال ي�سع املقام – بكل �أ�سف – لت�أمل �أفكار ما تب ّقى من فاللغة ،كما ي�ضيف برهومة « ت�ساوي الهيمنة وترتبط بها
بحوث ب�شيء من التف�صيل ؛ لكن الب�أ�س فيما قل ّودل ...فعبد ،وهذا يعني القوة ،لكن اللغة لي�ست هيمنة يف ح ّد ذاتها ،
القادر املهريي ،يعيدنا �إىل مفهوم ( الكلمة) �إىل «ما بني بل الهيمنة من يع ّليها �أو من مييتها ،ويعد ابن خلدون اللغة
ال�صلب والرتائب» ليحفزنا �إىل املزيد من النظر يف الوحدة امل�ستخدمة لغة املغالبني ،فكانت �آنذاك اللغة العربية ،وغدت
القابلة للتنا�سل �إىل وحدات مفيدة �أي�ض ًا � .أما �أحمد املتوكل املهيمنة وامل�ستخدمة .كما �أنها اللغة ال�شرعية التي �أ�ضفت على
الذي ق ّدم خطاطة عن املنحى الل�ساين الوظيفي يف الثقافة ال�شخ�صية العربية خلود ًا وا�ستمرارية يف احلفاظ على الطابع
العربية ،ي�ؤكد على براغماتية اللغة ونفعيتها يف حياتنا الكلية العربي وهويته ،وال يجوز ا�ستخدام �أي لغة �أخرى خا�صة يف
ت�سخر اللغة لتحقيق التوا�صل ...لكن التوا�صل الذي ،حيث ّ الن�ص املقد�س وال�صالة ....ويورد ر .ل .ترا�سك مثا ًال على
يت�أتى بتدابري تراعى ،و�إجراءات تتخذ ،لإيجاد جيل واع احلفاظ على اللغة حفظ ًا للهوية ب�أنّ هناك �س ّباك ًا ي�ستخدم لغة
حلقيقة هذا التوا�صل ،يحياه بع�شق ،وميار�سه ب�إبداع ...و�إال خا�صة بطبقته ،وحني يتخلى عن هذه اللغة ويتعلق بلغة �أخرى
كان مثلنا مثل كي�سان مع �أ�ستاذه �أبي عبيدة ....ف�إن قيل لهذا لي�ست لغة طبقته ،يكون قد تخلى عن طبقته وعن هويته ،
الأول :بكر � :سمعها ب�شر ،وكتبها عمرو ،وقر�أها زيد ... وك�أنه يقول :مل �أعد واحد ًا من جماعتكم � « ...إذن ،ما بال
ف�صار كالمـنا رماد ًا (على ما روى نهاد املو�سى يف مقال له) هذه الأمة تن�أى بنف�سها عن جوهر وجودها ،وكينونة بقائها «
.وهذه احلال التي �أ�شرت �إليها �شغلت م�صطفى غلفان الذي وحبة عينها « ؟!
90
الذي يحيط مبكوناتها ،و�أ�صولها ،وتاريخها « � .أمل َن ُقل مع « تناول مو�ضوع (تدري�س الل�سانيات ...بني الهاج�س الرتبوي
غاندي « « :ال �أريد لنوافذي �أن تُ�سد وتو�صد « ...؟! واملتطلبات العلمية) فهو ،و�إن مل يخ�ش علينا من كي�سان ،
�إال �إنه يالحظ « �أن �إعادة النظر يف تراكيب اللغة و�صرفها
و�إذا يح ّلق بنا �إبراهيم �أبو ه�شه�ش يف عوامل ال�شعر ،عوامل
ودالالتها ومعجمها من منظور الل�سانيات احلديثة واملعا�صرة
حممود دروي�ش ،مثا ًال تطبيقي ًا على حوارية الذات والآخر
مل تت�أت لنا بعد « ! .
يف �أكوان الإبداع ،واحلوارية ...واملثاقفة ...وهي نوع من
الإبداع �أي�ض ًا ،فكان ما كتبه �أبو ه�شه�ش عن ( تلقي دروي�ش ولكن حممد غاليم الذي در�س ( هند�سة التوازي النحوي)
يف الأملانية) برهان ًا �ساطع ًا على دور اللغة /ال�شعر يف �صناعة يعرب بنا �إىل �آفاق النظرية الذهنية واملعرفية ،ويعيد �إلينا �إرث
الهوية ،ترى ما الذي �سيقوله الأملان حني يقر�أون : ت�شوم�سكي ،وهو �إرث قدمي يتجدد ،ليقف بنا على �أهمية درا�سة
املوقف الذهني والنف�سي يف درا�سة الظاهرة الل�سانية .وهو ما
كالمك كان �أغنية
يتجدد عند توفيــق قريرة �إذ يبحث يف ( الرتابط الذهني بني
وكنت �أحاول الإن�شاء امل�ستويات اللغوية ) ع ّلنا نفهم الكينونية التي يعمل بها الذهن
�أثناء �إنتاج الكالم « وما �أوتيتم من العلم �إال قليال «.
لكنّ ال�شقاء �أحاط بال�شفة /الربيعية
وحني يتحدث حممد ر�شاد احلمزاوي عن ( املعجم
كالمك كال�سنونو طار من بيتي
التاريخي العربي ) جندنا نتجه بالبحث وجهة �أخرى ،فيتخذ
فهاجر باب منزلنا احلمزاوي من درا�سة م�صطلح ( الت�ضمني ) منوذج ًا ومثا ًال ،
وعتبتنا اخلريفية �أخرجه يف هذا البحث من بيئته ال�شعرية �إىل بيئاته البيانية
والإبداعية املفتوحة على قراءات ثرية ومتعددة ،ت�شهد على
وراءك حيث �شاء ال�شوق وانك�سرت مرايانا ذهنية فيها من الت�أويل والتخريج ما من �ش�أنهما �أن مي ّكنا
ومللمنا �شظايا ال�صوت الدار�سني العرب املعا�صرين من اعتمادهما مفتاح ًا لق�ضية
التطوير ودعمه ...وعلى بناء ( �أ�سلوبية ) �إن مل تكن (
مل نتقن �سوى مرثية الوطن ت�ضمينية ) عربية دولية ،لها جذور �ضاربة يف تاريخ الفكر
�سنزرعها مع ًا يف �صدر قيثار الل�ساين العربي الإ�سالمي « .لي�س هذا فح�سب � ،إمنا « بناء
ذاكرة ثقافية عربية تت�ضمن ر�سم املا�ضي ،و�إحياء كل ما
وفوق �سطوح نكبتنا ميكن �أن ميثل عن�صر ًا يف النظام الثقايف العربي « �أجمع ،على
�سنعزفها ما يقول حيدر �سعيد يف ( البناء الت�أريخي للغة العربية ) .
لأقمار م�ش ّوهة و�أحجار �أما ثريا خربو�ش ،فقد دافعت عن ( اللهجات العربية)
عم عن غلط هذه اللهجات وف�سادها � ،أن وحاولت برغم ما ّ
ومبا �أن الإبداع هو حمور الق�سم الآخر من الدرا�سات ، توجه الأنظار �إىل « ت�صورات �أخرى تقول ب�ضرورة ر�صد ُبنى
ف�إن خالد اجلرب يث ّني ببحث عن ( �إبداع الن�ص وقراءته بني هذه الأنواع اللغوية ر�صد ًا متطور ًا ،وحتديد خ�صائ�صها ،
التفكيك والرتكيب ) فيعمق مقالة �سابقة ،ليق ّدر « �أنّ الذات وحمدداتها �سعي ًا �إىل الك�شف عن �أ�سرارها ،وفك الغمو�ض
91
انّ مكدي احلريري كان �صاحب بالغة و�أدوات حجاجية املبدعة تف ّكك املنظومة الرمزية املركبة لعامل الواقع وتعيد
مبدعة ،اما مكدي ع�صرنا و�أمتنا ،فلي�س �إال غ ّر ًا جاه ًال �صياغتها لغوي ًا يف الن�ص ،و�أن القاريء يف ّكك املنظومة
ومندفع ًا .لي�س كاندفاع الق�ضاة الذين كتب عي�سى الوادعي الرمزية املركبــة لغوي ـ ًا يف الن�ص ليعيد ر�سم الواقع الذي
عن ( �سلطتهم على ال�شعر يف ع�صر املرابطني ) ذلك �أنهم ّ
تن�ش�أ ال ّن�ص ( فيه ) �أو ( له ) ،وما �أجمل اختياره لدروي�ش
كانوا ميار�سون ما ميار�سون على �شعراء ع�صرهم ت�سلط ًا �إذ يقول:
وهيمنة ،يت�سا َءل الباحث عن طبيعتها وطبيعة �آثارها ،وما
�شـ ـ ــا َد بيـ ـ ــوتـ ـ ًا يف اللغـ ـ ْة كلما انها َر جدار حولنا
جلبته و�صايتهم من �ش ّر �أ�ضر بتاريخنا الإبداعي يف ذلك
الع�صر . بجمل ْة
بنى اجلنة ،وامتد ُ كلما �ضـ ـ ــاق بن ــا ال َبـ ُّر
و�إن كان مكدو احلريري يقيمون خارج اجلماعة ،ويقيم و�إذا كانت اللغة و�أ�شجانها هي ( ليل النابغة ) على حد
الفقهاء خارج الإبداع ،فكيف �أقام خطاب املر�أة خارج تعبري نهاد املو�سى ،فيما كتب ون�شر من �أمرها ،فقد كان
امل�ألوف واملعروف ؟ هذا ما تناولته �ضياء الكعبي عرب مقاربة لأ�شكال الإبداع الأخرى ،غري ال�شعر ،مكان ًا ومكانة يف هذا
ال�سجايل يف عملني لنظرية زين ال�سرتاتيجيات اخلطاب ّ ال�سفر ،فكتب �أحمد خري�س عن رواية خريي �شلبي ( رحالت
الدين ( ال�سفور واحلجاب ( ) 1928والفتاة وال�شيوخ 1929 الطر�شجي واحللوجي ) من خالل فكرة ( �آلة الزمن ) وهي
) ممثلني للخطاب التنويري العربي النه�ضوي � ،صدرا عن زاوية تتغلغل يف التاريخ ،التاريخ الذي هو بد�ؤنا وجذرنا وتراثنا
مفكرة نه�ضوية رائدة � ،أ ّكدت قدرة املر�أة ومتكنها من امتالك ،ليق ــيم مقاربته خلطابها الروائي وفق ما ي�سمى (بالرحلة
نا�صية احلجاج و�آلياته الفكرية والفنية ...مبا يعرب عن العابرة للقارات) ...ونت�ساءل مع خري�س يف النهاية � :إىل � ّأي
حاجتنا لأن تقف املر�أة العربية املعا�صرة يف كل ميادين الفكر حد نحن بحاجة �إىل هذا ال�شوق الفانتازي لنخلق عواملنا ،
والفن ت�شارك الرجل �صناعة ثقافة عربية معا�صرة ت�ستند �إىل بلغتنا ...بكالمنا ...بحروفنا ...بوقع (�أ�صواتنا) التي غدا
�ضوابط �إن�سانية و�أخالقية عربية �أ�صيلة ،وتنفتح على �آفاق كل واحد من �أ�صحابها « :غريب الوجه واليد والل�سان «.
ال�شراكة العاملية والرتاث الإن�ساين الذي يحفظ كرامة االثنني
و�إذا كان �أحمد خري�س قد �أم�سك بهذا الدمار التاريخي عند
مع ًا ( رج ًال �أو مر�أة ) ويدفع بهما نحو تعمري الأر�ض والف�ضاء
�شلبي ،ف�إن هيثم �سرحان مي�سك بنهاية التاريخ عند احلريري
مبا ينفع النا�س ،وال �سيما ونحن نعي�ش م�ستجدات الدرا�سات
،عرب درا�سة يف (خطاب الكدية ...وبالغة احلجاج) ير�صد
الن�سوية واجلندرية ،وحتوالت العلم واملعرفة التي يجدر بنا �أن
الباحث بنياته وخ�صائ�صها الل�سانية للو�صول �إىل طروحات
ن�سهم يف �صياغتها وتوجيهها بعيد ًا عن منطلق النعامة ،ود�س
تف�سر جوانب الإبداع يف خطاب الكدية بو�صفه خطاب ًا نقدية ّ
الر�أ�س يف الرتاب !
مقيم ًا خارج اجلماعة ...ولعلني �أ�سرف قلي ًال يف ت�أويل مرامي
نهاد املو�سى ...مراجعات ( :لك يا منازل )... هيثم �سرحان من �إعادة الأذهان �إىل (الكدية) حني نت�ساءل
،و�أمتنا على ما هي عليه من حال � :أما �آن لنا �أن نخلع عباءة
لقد �أح�سن هيثم �سرحان �إذ جعل البحوث العلمية املتعلقة
الكدية ...العلمية ...وال�سيا�سية ...واالقت�صادية ،التي جعلت
مبنجز نهاد املو�سى و�سط الكتاب ،و�إنها لوا�سطة العقد ،
هذه الأمة – �إال من رحم ربي – تغادر جلدها لتتزيى بجلود
وكانت درا�سة حممد ر ّباع ( البنية االئتالفية يف منهج نهاد
الآخرين ؟؟! .
املو�سى ) فاحتتها ،ع ّرج فيه على معظم ما �ألف نهاد ،مو�ضح ًا
92
�شهادات( ...فليت �أنّا بقدر احلب )... كيف اتخذ من �أ�صول النظرية النحوية وتفريعاتها بيان ًا عما
انطوت عليه من نظر معجب ...متجاوز ًا �أعمال الو�صفيني
ال�شهادة �أمانة ي�ؤديها �صاحبها ،وم�ضمونها يك�شف – كما
العرب ،مالقي ًا غري قليل من املناهج احلديثة .وم�شري ًا �إىل
يفرت�ض له – �صدق ًا معرفي ًا ،و�إن�ساني ًا ...وجدناه يف �شهادات
عناية نهاد املو�سى بدرا�سة التغري الذي يدهم بنية العربية ...
كل من : بهم «تي�سريها» على نحو مو�صول ...مع احلذر كل م�أخوذ ًا ّ
-علي حمافظة ( نهاد املو�سى � :سيبوية الأردن ) احلذر من كل تهديد لثبات العربية ومنائها .
-حممد �شاهني ( نهاد املو�سى :كما �أعرفه ) وب�سبب الديدن العلمي واملنهجي الذي ات�سمت به �أعمال
نهاد املو�سى ،ت�أتي الدرا�سة الثانية لبحث (املنهج الل�ساين)
-فهمي جدعان ( الأنا الآخر )
املعا�صر عنده ،يقدم من خاللها عبد اهلل اجلهاد ملحوظات
-مو�سى الناظر ( مع �أبي �إياد يطيب امل�شوار ) علمية متخ�ص�صة ،ت�ضع جهد نهاد املو�سى التطبيقي مو�ضعه
ع�صامي يف وجه الريح) � -إبراهيم ال�سعافني ( نهاد املو�سى : ال�صحيح يف �سياق الدر�س الل�ساين املعا�صر ،وكذا يذهب
ّ
عطا مو�سى يف مناق�شته (للمالمح التداولية يف درا�سات نهاد
-حممد ح ّور ( نهاد املو�سى :غزارة علم ،وتوا�ضع عامل ) املو�سى) �إىل �أن الرجل �أ�سهم �إ�سهام ًا فعا ًال يف ت�شكيل النظرية
-عودة �أبو عودة ( �ستكتب �شهاداتهم وي�س�ألون ) اللغوية احلديثة ،وراح ير�صد معامل التداولية يف جهود املو�سى
من خالل حمورين :اللغة العربية ،والدر�س الل�ساين احلديث
� -إبراهيم عثمان ( ت�صورات حول نهاد املو�سى و�أفكاره ) ،ويف الدرا�سة ما ميكن �أن يجلو ما رمى �إليه الباحث من
فحني يعيدنا علي حمافظة لأربعني �سنة خلون يف كلية تف�صيالت .
يح�س القاريء بفتوة العامل وامتداد
الآداب باجلامعة الأردنية ّ وال يقف وليد العناتي عند الل�ساين �إمنا ميتد به �إىل
حياته احلقيقي ،ومبا حتفظه �أذهان الزمالء من �شبكة الثقايف ،فيقدم يف حتليله لكتاب نهاد املو�سى (اللغة العربية
ذكريات يحلو لهم �سردها ،ويلذ لنا �سماعها ،حول مراحل يف الع�صر احلديث :قيم الثبوت وقوى التح ّول) قراءة متعمقة
طلب العلم ،والعمل ،وال�سفر ...وغري ذلك .وي�شري حممد تو�ضح كيف بدا الكتاب خطاب ًا ا�ستثنائي ًا يتجاوز اخلطاب
�شاهني �إىل اختالف النا�س وجدلهم حول نهاد املو�سى ..وهو الل�ساين االعتيادي من حيث املتلقني ...ويتحول من اخلا�ص
الذي ( ما ) نام ملء جفونه عن �شواردها ،بل �سهر مع من �إىل العام ،من الل�ساين املتخ�ص�ص �إىل املثقف العربي عموم ًا
�سهروا واخت�صموا ...لكن �شاهني الذي عرف نهاد املو�سى ،لر�ؤيته �أنّ اللغة العربية وق�ضاياها املعا�صرة ،وما تواجهه
حق املعرفة ،يقرر �أنّ املو�سى تراثي حداثي يتمتع بتقدير رفيع هم الل�ساين
هم الل�ساين وحده � ،إمنا هي ّ من تهديدات مل تعد ّ
داخل الأردن وخارجه ،تراثه احلقيقي ( ما �أحبه ب�صدق ) والإعالمي واملعلم والطبيب والناقد الأدبي ،والتاجر واملمثل
....مل ي�سع ملال �أو جاه .وها هو ذا فهمي جدعان يثني على هم ه�ؤالء جميع ًا .كما هي متام ًا ق�ضية ( التح ّول �إىل
� ...إنها ّ
ما قاله �شاهني ،من �أن نهاد املو�سى كان خري من يرجع �إليه الف�صحى ) تلك التي قاربها يو�سف ربابعة ،انطالق ًا من �س�ؤال
العامل والأكادميي واملفكر ناهيك عن التلميذ ،ومع ذلك فقد كبري لنهاد املو�سى حول ( �إمكانية التدخل يف عادات النا�س
كان املو�سى وفق �شهادة جدعان ،خري من يعرتف بجهود الكالمية ،والتحكم يف امل�ستوى اللغوي الذي ي�ستعملونه ) وهنا
الآخرين ويق ّدرها . يحاول ربابعة جالء م�شروع نهاد املو�سى وقابليته للتطبيق.
93
�سر،
يف وقفتهم ّ
ويف م�شيتهم علم
-ابن عجيبة احل�سني-
مقدمة :
يعد عامل اللغة نهاد املو�سى من البقية الباقية ،ممن وهبهم
اهلل للحفاظ على لغة كتابه من حلن الالحنني ،وحتريف
املحرفني ،فما اعتلى منربا �إال ونافح عن اللغة العربية بخطاب
عامل ،وقول فاهم ،وما خط كتابا بيمينه �إال وراهن على وجود
حلول لها ،وو�ضع خطط حلمايتها ،وحماية �أبنائها وهم يلجون
عاملا متعوملا يجعل من لغة الأرقام بديال عن لغة الأ�صوات
واحلروف.
لهذا جند نهاد املو�سى يف كل ما كتبه يدفع ويدافع عن
اللغة العربية لتكون لغة الع�صر ،ولغة امل�ستقبل الذي ال يتكلم
لغة الثقايف فقط،ولكن يتكلم لغة ال�سيا�سي والتكنولوجي
واالقت�صادي والإعالمي،هذه اللغة التي �سيبنيها الآباء
لي�سكنها الأبناء ،لأن اللغة بناء وم�سكن لهذه الكينونة.
ق�ضية اخلط�أ و�ضعف الطلبة يف اللغة العربية)( ،)1ا�ستنطاق وهذا ما دعنا لتدبر الأفكار التي طرحها يف كتبه خدمة
مبحث �شريف يف الدر�س اللغوي العربي وهو باب (ما تلحن للغة العربية تعليما وتعلما من جهة ،وا�ستعماال وتداوال من جهة
فيه العامة) ،وقد و�ضعه العلماء قدميا ق�صد �إ�صالح املنطق، �أخرى يف كل مناحي احلياة ،فالإن�سان ل�سان واللغة بيان :
والأداء ال�سليم ل�صورة اللغة العربية عند العامة ،لهذا يرى
فيه الباحث طريقة تعليمية مفيدة ميكن اال�ستفادة منها، -1نحو الآباء ولغة الأبناء:
مع مراعاة ما و�صلت �إليه الل�سانيات التطبيقية وتعليميات يتغ ّيا كتاب نهاد املو�سى (اللغة العربية و�أبنا�ؤها� ،أبحاث يف
متثلها ومتثل �أحكامها و�ضوابطها واتخذناها معيارا لل�صواب و اللغات التي و�ضعت قواعد �ضابطة للأداء ال�سليم والف�صيح للغة
اخلط�أ ؟»(.)2 العربية ،وبهذا �سنعمل على احلد من هذا امل�شكل الذي انت�شر
بني العامة وزحف على اخلا�صة منهم� ،إذ يرى الباحث �أن �أ�صل
* هدفه :
امل�شكل راجع �إىل الدوافع التالية :
وجود طرائق تعليمية جديدة لك�شف الأخطاء ،وعر�ضها على
ميزان الت�صويب النحوي : -دافع ح�ضاري :هو احلر�ص على احلفاظ على متا�سك
الهوية العربية الإ�سالمية التي ترمز لها اللغة العربية.
« �إنني �أطمح �إىل �أن �أقدم،بهذا البحث،لأبناء العربية
م�شروعا يكون حا�شية على معرفتهم بالعربية،ي�سد ثغراتها -دافع اجتماعي :وهو �شيوع اللحن من جديد بني الأبناء،مما
ويرقى بارتكا�ساتها على بينة.)3(»... �أدى بالآباء �إىل احلر�ص على تعليم �أبنائهم لغتهم الأ�صلية يف
�صورتها الأ�صيلة (الف�صيحة).
* مدونة البحث :
ولتحقيق و�ضع نظرية يف ك�شف اخلط�أ اللغوي وت�صويبه،عمل -دافع �أكادميي علمي � :أن زحف اللحن مل يقت�صر
الباحث على ر�صد مدونة متنوعة �شملت كتابات الطلبة يف على الطلبة يف املدار�س واجلامعات ،بل لقد طال حتى
امتحاناتهم،وما يكتب يف ال�صحافة،وبع�ض الت�آليف : الأ�ساتذة،واملتخ�ص�صني الذين يعدون منوذجا يحتذا به.
« �أن �أنظر يف مناذج من كتابات الطلبة(فيما كانوا ي�ؤدون -دافع �سيا�سي � :أن اللغة العربية هي اللغة الر�سمية للأمة
من امتحانات ويعدون من بحوث),،مناذج من ال�صحافة املحلية فال بد من الرقي بها،واحلفاظ عليها بكل و�سيلة.
والعربية،وطائفة من الت�آليف التي تعالج امل�سائل العامة،ظنا مني -2-1هكذا تكلم الكتاب (من الهدف �إىل امل�ستهدف) :
�أن هذه العينة متثل امل�ستوى العام اجلاري من الأداء بالعربية
و�أنها متثل امل�ستوى الذي يقع فيه اخلط�أ.)4(». �سنعمل على ا�ستنطاق مناطق مهمة من هذا الكتاب ليك�شف
لنا عن هدفه وغاياته و�إ�سرتاتيجية عمله :
* منهجه :
* مو�ضوع الكتاب :
جند �أن منهج البحث راوح بني الو�صفي والتف�سريي،ف�أوال
يقوم الباحث با�ستخراج الظاهرة (اخلط�أ) ثم يقوم يتمحور الكتاب على مو�ضوع مهم،وهو اخلط�أ يف اللغة العربية
بو�صفها،وبعد هذا الو�صف يعمد �إىل تف�سريها : من قبل �أبنائها،وكيفية �إ�صالحه بوا�سطة اللغة ذاتها،وهذا
حفاظا على �سالمة لغة الأجيال،فهو يقول :
« ور�أيت �أننا �إذا ا�ستخرجنا « نظرية « اخلط�أ و�أ�صبحنا
قادرين على �أن نقدم جلمهور الطلبة والكتبة تف�سريا يهيئ لهم « ينت�سب هذا البحث �إىل تراث مو�صول من املعاجلات
« وعيا نظريا مقنعا» على حالهم مع اللغة ف�إننا ن�ستطيع �أن ن�أخذ اللغوية �ساير الدر�س اللغوي يف العربية على امتداد تاريخها،
ب�أيديهم �إىل تدارك �أخطائهم يف اللغة على ب ّينة «(.)5 وهل يختلف البحث يف اخلط�أ والتنبيه عليه هذه الأيام عن
ت�سجيل اللحن وتهجينه منذ عهود متقادمة تبلغ بنا ع�صر النبوة
* منهجيته : ؟،وهل كان اللحن يومذاك �إال ما ر�آه القوم خروج عن �صورة
تعتمد منهجية الباحث ل�ضبط نظرية اخلط�أ على ثالث العربية...وهل اخلط�أ يف هذه �ألأيام �إال ما يراه �أهل العربية
مراحل خادمة للمنهج وهي (:)6 خارجا عن �صورتها التي ا�ستوت لها يف الكتب القوم وجهدنا يف
96
لهذا ال بد من درا�سة تاريخية مقارنة تك�شف عن وجه -1ا�ستخراج ما وقع يف النماذج �أو مدونة البحث من
االختالف �أو االئتالف بني هذين الر�أيني،ليقدم لنا نهاد املو�سى «�أخطاء».
�أمثلة عن ذلك،من خالل تتبعه (لظاهرة الإ�ضافة،ثم باب -2العمل على ت�صنيف تلك الأخطاء.
اال�ستثناء(،)9وهذا لدواعي البحث عن ماهية الف�صحى التي -3ثم حماولة التما�س تف�سري لها.
طال العجز حتديدها،فهو يرى �أنه على اللغوي �أن يعرف قبل ما
القواعد ال�صوتية وال�صرفية والنحوية واملفردات التي يتق ّوم بها � -2صورة النحو� ...صريورة املنحى :
البناء الأ�سا�سي للف�صحى ومبعرفتها تتحقق املعرفة بالف�صحى لقد اعتنى نهاد املو�سى ب�صورة النحو و�صريورته يف كتابه
يف �أو�سع مظاهرها ودورانا(،)10لنتمكن بذلك من و�ضع طرائق (ال�صورة وال�صريورة ،ب�صائر يف �أحوال الظاهرة النحوية
لتعليمها وتعلمها. ونظرية النحو العربي)(،)7وما عرفته على م�ستوى التنظري
* ليخرج بنا نهاد املو�سى من عامل اجلملة �إىل عوامل والتطبيق حماوال ا�ستقراء الظاهرة النحوية يف تناولها العلمي
الن�ص،ليجتهد يف و�ضع �أ�صل جديد نحقق من خالله قراءة وتداولها العملي من خالل �أمثلة جزئية لتقعد لكليات ت�شمل
ال�شعر القدمي كما �صدر يف (�صورته التاريخية) من لدن الظاهرة،فكان :
�أ�صحابه(�،) 11أو تقريب ذلك بتطوير هذا الأ�صل. * البحث عن ثبوت النحو العربي وحتوله،يف �صورته
و�صريورته� ،إذ ر�أى �أن �أبناء العربية وامل�شتغلني عليها انق�سموا
وبالتعاون والتعامل مع هذا الأ�صل اللغوي �سنقرتب من �صورة
على �أنف�سهم يف فهم �صورة العربية الف�صيحة �إىل ق�سمني(:)8
الن�ص التاريخية التي قيل بها �أول مرة،لأننا طاملا �أخرجنا هذا
الن�ص عن �صورته احلقيقية بقراءتنا التي ال حتتكم �إىل �أ�صله -الق�سم الأول :يرى ب�أن �صورة العربية الف�صيحة التي
اللغوي،فلهذا وجب على كل حمقق للن�صو�ص ال�شعرية �أن يجعل نتكلمها هي تطابق �أو تكاد تطابق �صورة العربية الف�صحى التي
من بني �آلياته يف التحقيق (الأ�صل اللغوي): دونها النحاة يف كتبهم و�أخرجها الو�صف التاريخي على �أ�سا�س
�أن النحو العربي من جهة بطيء اال�ستجابة لقوانني التطور،
« ويرتاوح هذا الأ�صل،يف �صورته االبتدائية اال�ستطالعية التي ومن جهة �أخرى �أنه ثبوتي لت�أثره بعوامل خارجية وح�ضارية
يحاول الباحث،بني التثبت يف معايري ال�صواب النحوي،واالحتكام �إيجابية،و�سمته باملعيارية املطلقة،لهذا ما يزال يتواتر كابرا عن
�إىل مبد�أ االت�ساق النحوي يف �شعر ال�شاعر الواحد ،واطراد كابر ب�صفته التي و�ضع عليها �أول مرة.
الظواهر يف �شعر �شعراء القبيلة الواحدة،واال�ستب�صار
بالتقريرات التي يذكرها النحويون يف �صفة اللهجات العربية -الق�سم الثاين :فريى عك�س ما يراه �أ�صحاب الق�سم
القدمية وما يعزى �إىل كل منها من ظواهر خا�صة»(.)12 الأول�،أن �صورة العربية الف�صيحة يف �أيامنا تختلف اختالفا كبريا
عن العربية الف�صحى الأوىل،وهذا راجع لبعد ال�شقة،وتطاول
وعليه ف�إن هذا الأ�صل،يحتكم �ضرورة �إىل بعد زمني اال�ستعمال لتلك القواعد املو�ضوعة من قبل النحاة.
تاريخي،ويعالج م�ستويني متداخلني:
فهناك فرق بني اللغة املتداولة من قبل النحاة،واللغة
امل�ستوى الأول هو م�ستوى املادة ال�شعرية،والتي ت�ضم جممل املتداولة يف اليومي واملعي�ش ،خا�صة ما هو م�ستعمل يف و�سائل
الن�صو�ص ال�شعرية املتقادمة الزمن التي قيلت قبل و�ضع الإعالم والإعالن املتو�سلة بالعربية الف�صحى املعا�صرة التي
النحو،وتخت�ص بال�شعر اجلاهلي (م�ستوى ال�شعر)،وامل�ستوى يداخلها العامي واللهجي.
97
العربي والكوين يف الوقت احلايل ،وهذا ال يتحقق �إال بـ (:)16 الثاين وهو م�ستوى القواعد النحوية التي ت�صف تلك املادة
ال�شعرية (م�ستوى النحو).
-و�صف جتليات العربية يف جمال تداولها.
-ا�ستقراء ما يكتنفها من �شروط ذات العالقة بـ( ولهذا وجب الوثوق بالقواعد التي ت�صف العربية عند النحاة
�سريورتها،و�صريورتها،و�صورتها) م�صورة العربية،ومنها املادة ال�شعرية كما تقرر.
-ما يتجاذب اللغة العربية من عوامل �إيجابية( البقاء * لي�أتي نهاد املو�سى على �إ�ضافة مهمة للنظرية النحوية
واال�ستمرار واالنت�شار)،ومن عوامل �سلبية (النكو�ص والتن ّق�ص العربية،ب�إدخاله لل�سياق يف قلب ا�شتغال النظرية،وجعله (�أ�صال)
والتحول واالنح�سار). �إ�ضافيا وهو يطرح هذا ال�س�ؤال(:)13
-1-3مباحث الكتاب ومو�ضوعاته : «هل جتاوز النحاة العرب يف و�صف العربية ور�سم معايري
النظام النحوي حدود «الن�ص» الذاتية ومادة العبارة «الكالمية»
لهذا جاءت مباحث الكتاب ومو�ضوعاته تنظر �إىل اللغة اخلال�صة ؟ و�إىل �أي مدى جعلوا «حميط» احلدث الكالمي
العربية يف عالقاته مع(: )17 و»�سياقه» و»املتغريات اخلارجية» التي تكتنف مادة الكالم «�أ�صال»
-الن�ص املقد�س. يف و�صف الظاهرة النحوية وتف�سريها ؟»(.)14
-وقد يكون تغريا جزئيا يف بنية اللغة ونظامها النحوي (ك�صور و�أ�سئلة �أخرى خا�صة ذلك ال�س�ؤل املركزي الذي يطرح على
اللحن والأخطاء ال�شائعة.).. (تقابل القيم بالقوى)(:)18
-وقد يكون انتقاال من النقي�ض �إىل النقي�ض جزئيا (كانتقال فهل نبقى متح�صنني وراء مقولة �أن القر�آن الكرمي حافظ
حقل معريف مثل التكنولوجيا من العربية �إىل االجنليزية). للغة العربية ؟،ونن�سى �أ�سئلة ال تقل �أهمية عنه،منها زحف
-وقد يتعلق التحول مبنزلة اللغة جملة من االعتبار،باملقارنة الثنائية اللغوية،وم ّد االزدواجية اللغوية على اللغة الأم؟ ،وكذلك
مع اللغات الأخرى،وهو ال يتعلق باللغة يف ذاتها ،بقدر ما يتعلق �إق�صاء اللغة العربية من جماالت العلوم،وتكنولوجيا،واالقت�صاد
مب�ستعمليها و�أهلها. ؟،وهذه الأ�سئلة هي املحرك الأ�سا�سي جلدل العربية مع قيم
الثبوت وعوامله،وقوى التحول ودواعيها.
-4-3يف منهج البحث :
-3-3يف م�صطلحات البحث :
�أما املنهج الذي اختاره الباحث ال�ستنطاق هذا املو�ضوع هو
منهج الل�سانيات االجتماعية،مبفهومه العري�ض(،)20الذي جند امل�صطلحات الدائرة يف هذا البحث مل تخرج عن جمال
يجعل من �أ�سئلة اللغة العربية يف ع�صر العوملة،ب�أبعادها وما الأ�سئلة املطروحة فيه ،فالباحث يقوم بعر�ض جهازه امل�صطلحي
تنطوي عليه يف �صريورة الزمان�،سريورة احلال،وهواج�س بدقة،والذي ظهر جليا يف عنوان الكتاب الرئي�سي،وكذا يف
امل�آل؟،لنجد �أن نهاد املو�سى يف جل �أبحاثه املت�أخرة يركن �إىل عنوانه الفرعي ال�شارح واملو�ضح للعنوان املركزي،فامل�صطلحات
هذا املنهج الذي مكنه من االنتقال ب�سهولة من داخل اللغة �إىل املتداولة هي(: )19
خارجها. -العربية :وهي العربية التي و�ضعت �أو و�صفت منذ القدمي �إىل
-5-3الر�ؤية املنهجية : الآن جندها يف (القر�آن الكرمي،يف احلديث،يف ال�شعر قدميه
وحديثه،يف اخلطب القدمية واحلديثة،يف الق�صة والرواية،يف
�إن ر�ؤيته املنهجية لفهم اللغة العربية يف تناولها الإذاعة والتلفزيون،ويف حياتنا اليومية.)....
وتداولها،تقت�ضي تو�ضيح �أمرين مهمني وهما كيفية فهم اللغة يف
ذاتها،وفهمها يف غريها (: )21 -الع�صر احلديث :هو ما ا�صطلحنا عليه بع�صر النه�ضة عامة
ولكنه ع�صر العوملة يف ح ّده الزماين �أي�ضا.
-اللغة يف ذاتها :فهم اللغة من حيث هي نظام منتظم من
�أ�صوات وتراكيب حتتكم -الثبوت :وهو البقاء امل�ستمر الذي يج�سد التوا�صل املنفتح بني
ال�صور التي اتخذتها العربية على تعاقب الع�صور ...وهو ثبوت
�إىل قواعد النحو،وانفتاح الداللة،مثل �سائر اللغات (العربي
�صورة العربية وهيكل بنيتها.
ة،الفرن�سية،االجنليزية.)....
-التح ّول :ي�أتي على �أنواع بالنظر �إىل �أ�صل املراد به يف اللغة:
-اللغة يف غريها :وهو فهم اللغة من حيث هي كينونة
مفتوحة يف تداولها وا�ستعمالها لدى املتكلمني بها�،إذ تعرف بهم -فقد يكون انتقاال من مو�ضع �إىل �آخر (كانتقال العامية من
ويعرفون بها،لأنها ترمز لهويتهم. موقع ال�شفاهي �إىل موقع املكتوب).
-6-3مراجع البحث ومرجعياته : -وقد يكون تغريا يف العر�ض دون اجلوهر ل�سانيا ( كما وقع
لقد تعددت مراجع البحث عند نهاد املو�سى،وتنوعت ملعجم العربية بني اجلاهلية والإ�سالم.)..
99
عمل فريق متكامل يجمع اللغوي كما يجمع عامل االجتماع وعامل مرجعياته،لطبيعة املو�ضوع املبحوث فيه،متجاوزة التخ�ص�ص
النف�س،وعامل االقت�صاد،وعامل الإعالم،وعامل الهند�سة... اللغوي ال�ضيق،لتنفتح على تخ�ص�صات �أخرى،التي جعلت من
ولي�س ذلك على االجتهاد بعزيز. اللغة مو�ضوعا لها مثل (الإعالم،الثقافة،ال�سيا�سة،االقت�صاد،
التكنولوجيا ،)...لأن اللغة نحيا بها وحتيا بنا،نحيا بها تعلما
وتعامال،وحتيا بنا،تناوال وتداوال.
هوام�ش البحث:
-1نهاد املو�سى،اللغة العربية و�أبنا�ؤها�،أبحاث يف ق�ضية اخلط�أ و�ضعف الطلبة يف * اخلامتة :
اللغة العربية،دار العلوم للطباعة والن�شر�،سنة ،1985الريا�ض. تعرف كتابة نهاد املو�سى ن�سقية فكرية على �صعيد
* �أما الطبعة املعتمدة عندنا فهي عن :دار امل�سرية،ط�،1سنة ،2008عمان املو�ضوعات ،وعلى �صعيد امل�صطلحات ،كونها ت�صدر عن
الأردن. عقل منهجي وا�ضح املعامل ،وبينّ املفاهيم ،وهو ي�شتغل
-2املرجع نف�سه�،ص .17 على �س�ؤال اللغة العربية يف كتبه ال�سابقة ،جنده يحتكم �إىل
-3املرجع نف�سه�،ص .16 مبد�أين معرفيني هما مبد�أ التعاون الفكري ،ومبد�أ االن�سجام
-4نف�سه�،ص .13 امل�صطلحي:
-5نف�سه�،ص .14
�أما مبد�أ التعاون الفكري ،فقد ت�أتى له من تلك املرجعيات
-6نف�سه�،ص .13 الل�سانية املختلفة امل�صادر ،التي ط ّوعها للبحث عن بنيات اللغة
-7نهاد املو�سى،ال�صورة وال�صريورة،ب�صائر يف �أحوال الظاهرة النحوية ونظرية العربية وانفتاحها ،خا�صة وهو يط ّبق املنهج الل�ساين االجتماعي
النحو العربي،دار ال�شروق للن�شر والتوزيع،ط�،1سنة ،2003عمان الأردن.
عليها ،وهذا ما برهن عليه من خالل �أمثلته الكثرية التي تعد
-8املرجع نف�سه�،ص .16-15 �إ�ضافة للنظرية النحوية والل�سانية العربية عل حد �سواء.
-9املرجع نف�سه�،ص .96-63
-10نف�سه�،ص .67
�أما مبد�أ االن�سجام امل�صطلحي ،فقد ظهر من خالل
ا�ستعادته مل�صطلحات مركزية يف كتبه الثالث،وهي( ال�ص
-11نف�سه�،ص .99
ورة،ال�صريورة،ال�سريورة،التداولناال�ستعمال،التداول،ال
-12نف�سه.
قيم،القوى،الثبات،التحول) ،وقد �ش ّغل هذه امل�صطلحات
-13نف�سه�،ص .121 مبفاهيمها ق�صد الك�شف عن �صورة اللغة العربية الف�صيحة
-14نف�سه. التي ميكننا ا�ستعادتها من جديد على الرغم من حتديات
-15نهاد املو�سى،اللغة العربية يف الع�صر احلديث،قيم ال ّثبوت وقوى التحول،دار هذا العامل املتعومل،وهذا باملراهنة على ا�ستعمالها وتداولها
ال�شروق للن�شر والتوزيع،ط�،1سنة ،2007عمان الأردن.
من قبل املتكلمني بها يف جميع مناحي حياتهم الثقافية
-16املرجع نف�سه�،ص .11 وال�سيا�سية،وخا�صة االقت�صادية منها والتكنولوجية،بذلك
-17املرجع نف�سه. فقط �سي�أمن الآباء على م�ستقبل لغة الأبناء.
-18نف�سه�،ص .24-23
فما يقوم به العامل نهاد املو�سى عمل جبار ينوء به وحده،
-19نف�سه�،ص .30-29
لهذا البد من ت�ضافر جهود املتخ�ص�صني من �أبناء الأمة
-20نف�سه�،ص .31
العربية والإ�سالمية للم�ساهمة ق�صد احلفاظ لي�س على اللغة
-21نف�سه�،ص .28-25 العربية يف ال�سطور فقط ،ولكن يف التداول واال�ستعمال،وهذا
100
ويف �إطار التث ّبت املعر ّيف ،يحر�ص الدكتور نهاد املو�سى يف �أمام حالة اجرتاح معرفة ،و�أمام حالة حماكمة ذات اتجّ اهني:
ب�صائره على التث ّبت من �صحة املعلومة �أو اخلرب �أو الكتاب الذي الرتاثي ب�آلة النظر احلديثة ،وحماكمة
ّ حماكمة املوجود
يعاجله ،و�صحة ن�سبة هذا املوجود املعر ّيف �إىل الرقعة الرتاثية، الرتاثي ،وهذه املحاكمة
ّ الرباديغم املعر ّيف احلديث ب�آلة النظر
ويبدو هذا الأمر من معاجلاته العلمية يف حتقيقاته ،وحر�صه ت�ستدعي القبول �أو الرف�ض� ،أو التعديل والتطوير .ويف هذا
العلمي من
ّ على الرجوع �إىل امل�صادر ثابتة الن�سبة( ،)4فالتث ّبت ين هلم�سليف ( « : )Hjelmslevتاريخية املعنى يقول الل�سا ّ
اللغوي ،و�صحة ن�سبته ،درجة مركزية يف معارج ّ �صحة املوجود الأبحاث ته ّمنا ما دامت تفتح املجال لأعمال جديدة ،ولت�سجيل
جوهري يف بناء الر�ؤية اللغوية التيّ الك�شف املعر ّيف ،ووار ٌد االت�صال �أو القطيعة؛ ف�سندر�سها لهدف مزدوج :الفهم
العلمي
ّ يتع ّنى الباحث تقريرها ،و�إال فلي�س من مقت�ضى النظر واملعار�ضة»(. )2
واملنهجي� ،أن يج َهد الباحث يف الرقم على املاء ،والقفز يف ّ ( )2العلّة املادية
الف�ضاء. التب�صر يف املا ّدة اللغوية الرتاثية،
من املقت�ضيات العلمية يف ّ
( )3العلّة ال�صورية :املنهج والأدوات تقرير منهجي ال�شمولية والتث ّبت( ،)3وهذان املنهجان اللذان
ميثالن مبد�أً مركزي ًا يف الك�شف عن املقوالت اللغوية يف الرتاث،
يف �إطار املنهج ّية ،يحر�ص الدكتور نهاد املو�سى على علمية
اللغوي
ّ تب�صرات الدكتور نهاد املو�سى يف الرتاث ماثالن يف ّ
اللغوي ،فيحر�ص على اجرتاح ّ العملية الك�شفية يف الرتاث
العربي ،فهو يحر�ص على حتقيق �شمولية الر�ؤية الل�سانية، ّ
حالة فرز للعنا�صر العلمية املنتيمة ،مبا ي�شبه اجلمع واملنع من خالل ال ّنقب الل�سا ّ
ين يف رقعة تراثية وا�سعة ،لذلك فهو
املنطقيّ ،ثم يق�صي العنا�صر املاورائية التي من �ش�أنها �أن ّ ُيح�سن ت�صنيف املقوالت الل�سانية يف ث َبت اجلهود الإن�سانية،
ّ
تتق ّوم بالإن�شائيات اللغوية� ،أو اخلطابيات التي ال حمل لها
بج ّدة املادة الل�سانية الوافدة ،قبل فح�ص وال ي�ست�سلم للحكم ِ
املنهجي ،ويبدو هذا املنهج يف ّ يف معر�ض التحقيق والك�شف
مقوال ِتها ،وفر ِز عنا�صرها يف ث َبت اجلهود الإن�سانية ال�سابقة،
ب�صائره من خالل �إق�صاء العنا�صر املاورائية ،وق ّلة م�ساحة ي�ساعده على هذا املنهج ّ
اطالع معر ّيف وا�سع يربطه ب�سبب وثيق
املنطقي يف �س ّلم الك�شف املعر ّيف،
ّ امل�س ّلمات املعرفية ،والتد ّرج
بطريف املعرفة :احلا�ضر والرتاث.
من درجة البداهة �إىل التحليل والرتكيب واال�ستق�صاء .ويبدو
�أثر هذا املنهج يف �أعمال الدكتور املو�سى وا�ضح ًا جلي ًا ،ال �س ّيما وهذا املنهج يف �شمولية الر�ؤية ،الذي احتكمت �إليه عقلية
يف قدرته على اخرتاق حجب الإلف يف الظواهر التي يعاجلها، الرجل العلمية ،نفى عن ب�صائره الل�سانية ،عقدة الدوغماتية
فهو بهذا املنهج يلحظ �إىل عنا�صر كامنة يف الظاهرة اللغوية، الل�سانية ،فعقليته الل�سان ّية عقلية فاح�صة مرنة ،تخ�ضع
رمبا حتجب �سلط ُة الإلف كثري ًا من الناظرين عن ا�ستنباطها، ل�ست
لقانون العلم ،وال حتكمها ِبنى الو�صاية وامل�صادرة ،ف�إنك َ
وحراكها.
وقراءة قوانني انتظامها َ تع�صبات فكرية ،حتمله على تقدي�س املقروء واجد ًا يف ب�صائره ّ
الرتاثي ك ّله ،و�إق�صائه عن حكم التق�صري واخللل؛ مبخالفة
ّ
حلظ الدكتور العلمي املح�ضَ ،
ّ ومن ج ّراء هذا املنهج
املنط َلقات العلمية يف الر�ؤية ،ول�ست واجد ًا يف ب�صائره
املو�سى �إىل حالة االنفكاك من املك ّونات الذاتية ،التي تعتلق
ا�سرتخاء ذهني ًا ،يحمله على ركوب حومة التقدي�س لك ّل ما ي ِفد
بنف�س الباحث؛ فت�ؤثر يف �سري عملية الك�شف املعر ّيف ،ال �س ّيما تو�صل �إليه الفكر الإن�سا ّ
ين، من الآخر ،بدعوى �أ ّنه �أن�ضج ما ّ
يف الدرا�سات التاريخية والرتاثية التي حتكمها �أن�ساق ذات ّية يف
فعقليته املعرفية والل�سانية ،عقلية علمية حم�ضة ،ال حتكمها
كثري من حاالتها ،وقد تن ّبه الدكتور املو�سى �إىل ع�سر عملية
مقت�ضيات ماوراء العلم .
102
جمع عنا�صر الت�صحيح ،ومنع عوائق القبول ،مبا يق ّدم قناعة االنفكاك هذه يف مثل هذه الدرا�سات ،الأمر الذي رمبا مي ّثل
بفاعل ّية هذه الأداة املنهج ّية يف الك�شف عن املقوالت اللغوية يف عائق ًا يجب االلتفات �إليه .يقول الدكتور املو�سى « :لي�س يف و�سع
الرتاثي(.)8
ّ املقروء الذاتي،
ّ من يت�ص ّدى للظواهر التاريخ ّية �أن ّ
ينفك عن تكوينه
ومنطلقات ع�صره ،ومق ّومات نظرته �إىل الأمور ،وي�شبه هذا �أن
( )4العلّة الغائ ّية
يكون �أمر ًا الزم ًا لكتابة التاريخ على نحو ما»(.)5
املق ّرر يف تطبيقات الدكتور نهاد املو�سى� ،أ ّنه ال ي�سعى يف
ويف �إطار منهجية الك�شف يف الرتاث ،يلحظ الدكتور نهاد
الرتاثي ،يف �سبيل �إثبات اخلرب
ّ الع ّلة الغائية لعملية الك�شف
املو�سى �إىل �أهمية اعتبار العنا�صر امل�ؤثرة يف قراءة الن�صو�ص،
التاريخي� ،أو جمرد مقابالت تاريخية� ،أو �إثبات �سبق معر ّيف
ّ ويف عملية الك�شف عن �أحكامها ،وقوانني انتظامها ،كاعتبار
اللغوي احلديث يف الرقعة الرتاثية،ّ من خالل جتذير املوجود
إب�ستمولوجي( ،)6وال�سياقات
ّ التاريخي ،والو�ضع ال
ّ ال�شرط
لكنه ي�سعى يف �سبيل اجرتاح حالة علم ّية ،تق ّدم كوا�شف
اخلارجية ،الأمر الذي يق ّدم وعي ًا حقيقي ًا مبدلوالت الن�صو�ص
الرتاثي،
ّ اللغوي
ّ جديدة جت ّدد �إح�سا�سنا بقوانني املوجود و�أحكامها ،وي�ضمن انتماء الأحكام اللغوية امل�ستنبطة �إىل
وب�أنظمته املح ّركة ،ومبنطلقاته و�أبعاده ،وت�أتي احلاجة �إىل الإرادة العلمية من �إنتاج تلك الن�صو�ص؛ كما يرتاح الباحث �إىل
هذه الكوا�شف امل�ستحدثة ،من جراء ا�ستحكام الإلف ،الذي �صحة ن�سبة املقوالت اللغوية امل�ستنبطة �إىل القدرة الإنتاجية،
من �ش�أنه �أن يق�صي ال�شعور عن كثري من الظواهر التي واحلالة الق�صدية لتلك الن�صو�ص؛ فال ت�أتي تلك املقوالت مبا
يحجبها ب�ستائره الكثيفة .يقول الدكتور نهاد املو�سى « :وال الن�صي ،ورمبا تكون هذه الق�صدي� ،أو الإجبار
ّ ي�شبه الإ�سقاط
ّ
العربي يف �إطار جديد ،يتقابل فيه القدمي
ّ ريب �أنّ و�ضع النحو املقوالت غري منتم ّية �إىل الإرادة العلمية �أو الق�صدية الن�صية.
الغربيُ ،ي�سعف يف جتديد �إح�سا�سنا بالنحوّ العربي واحلديث
ّ العلمي يف اعتبار ال�شروط وهذه الأداة الك�شفية ،واملنهج
ّ
العربي يف مفهوماته ومنطلقاته و�أبعاده ،بعد طول �إلف به يف ّ املركزية يف ا�ستنطاق الن�صو�ص الرتاثية ،من �أبرز ما تق ّرر يف
الداخلي»(.)9
ّ اخلا�ص ،ومنهجه
ّ اخلا�صة ،وم�صطلحه
ّ لغته الرتاثي عند الدكتور نهاد املو�سى(. )7
ّ منهجية الك�شف
وال ريب يف �أنّ هذه الغاية ت�سلمنا �إىل تقرير حالة ك�شف، ويجدر التنبيه يف هذه الق�ضية على الد ّقة يف اختيار الأداة
ميكن معها �أن جن ّدد �أنظارنا احلديثة� ،أو نقيم من�آد ب�صائرنا اللغوي يف املقروء
ّ املنهجية التي تُعني على عملية الك�شف
انعكا�سي ،ي�ضيء فيه املا�ضي
ّ املتجه ذا ب ْعد
احلا�ضرة ،فيكون ّ الرتاثي ،وهذه �سمة منهجية ماثلة يف تطبيقات الدكتور نهادّ
ويوجه الأنظار ِوجاه احلقائق اللغو ّية،
التب�صر احلديثّ ، َ
�سبيل ّ املنهجي يف �أثناء معاجلة
ّ املو�سى العلمية ،فهو ي�ستح�ضر ال�شرط
اللغوي يف ق�ضايا رمبا كانت
ّ �أو يفتح الأبواب �أمام التحقيق الق�ضايا اللغوية الرتاثية ،ويحاكم الأداة املنهجية التي ي�ستعني
غائبة عن ف�ضاء ال�شعور املعر ّيف احلا�ضر(.)10 م�صححات هذه الأداة ،ويجمع عنا�صر الت�صحيح، بها ،ويق ّرر ّ
ويف الع ّلة الغائية ،ي�شري الدكتور نهاد املو�سى �إىل فائدة ومينع عوائق القبول ،ويحاور عنا�صر اال�شرتاك واملال َءمة بني
اللغوي ،تتق ّوم بتحديد
ّ املنهجي يف الرتاث ُمرتتّبة على الك�شف املادة والأداة املنهجية ،ف�إذا نظرنا يف درا�سته (نظرية النحو
ّ
املنط َلق الذي ت�ستند �إليه الب�صائر احلديثة ،مبا ي� ّؤ�س�س حال َة اللغوي احلديث) ،وجدناه ّ العربي يف �ضوء مناهج النظر
تعاقب معر ّيف تتو ّفر فيه اجلهود على ا�ستنباط معرفة جديدة ي�ستح�ضر ما ِيرد على �أدواته الك�شفية ،يف املقابلة بني منهج
مبنية على ت�أ�سي�س �آنف ،فينتفي عنها التكرار ،واجلهود املعارة، اللغوي احلديث،
ّ النحوي عند العرب ،ومناهج النظر
ّ النظر
م�صححات اختيار الأداة املنهجية ،من خاللويج َهد يف تقرير ّ
103
�أما مفاهيم الأطروحة املركزية فهي :اللغة العربية ،والثبوت، يرى الدكتور نهاد املو�سى �أنَّ اللغة العربية حتتاج �إىل
والتحول ،والع�صر احلديث .و�إذا كانت اللغة العربية ،يف قيم مراجعة م�ستمرة تهدف �إىل اكت�شاف التح ّوالت التي تطر�أ على
اللغوي الـ ُم�ستم ُد �شرعيتـَه من لغة القر�آن،
ّ ثبوتها ،هي النظام براجمها و�أنظمتها املختلفة بهدف ر�صد ا�ستجاباتها ،واتخاذ
واحلديث النبوي ،وال�شعر العربي ،واخلطب ،وكالم العرب التدابري الل�سانية الكفيلة مبواجهة املخاطر التي جتابهها .بيد
و�أمثالهم ،ولغة املتكلمني ،واملف�سرين ،والفال�سفة ،وعلماء �أنَّ الداف َع املركزي الذي ت�صد ُر عنه �أطروحة هذا الكتاب هو:
االجتماع ،والتاريخ ،ون�صو�ص الق�صة والرواية وامل�سرح واملقالة، َ
يحدث لللغة العربية �إذا ما تعر�ضت ملواجهة التنب�ؤ مبا ميكن �أنْ
والأفالم ،والدراما ،ولغة الر�سائل الإلكرتونية ف�إ َّنها ،يف قوى �شاملة محُ تملة من قبل العوملة.
106
لوك�سنربغ �أنَّ القر�آنَ و�إن كان م�صدره �إلهي ًا �إال �أنّ تغيري ًا قد م�سـَّه حت ّولها ،ترتبط مب�شروع تظهر مالحمه يف ظاهرتني ماثلتني هما:
ب�سبب القراءات اخلاطئة وعملية التنقيط ،وي�ستند لوك�سنربغ َ
وعوامل متفاعل ٍة تتج�س ُد يف االزدواجية اللغوية ،والثنائية اللغوية،
على �أدلـَّة عقلية م�ستم َّدة من املقررات الل�سانية و�أدلة نقلية ترجع ق�ضايا التعليم ،والرتجمة ،والإعالم ،والإعالن ،واالقت�صاد،
ف�سرين. �إىل ما ورد يف ُمد ّونات الق َّراء والنحاة والـ ُم ِّ والعوملة.
جوهري يف حياة العربية
ٌّ الن�ص القر�آين
ويرى نهاد املو�سى �أنَّ ّ و�أما الع�صر احلديث فهو ع�صر العوملة بكل ما يحمله من وعود
وقيم ُثبوتها؛ �إذ مثـَّل حافز ًا كبري ًا لإجناز الإ�صالحات اللغوية وتهديد ل�صورة العربية النقية القادرة على منح القارئ �شعور ًا
وتطوير برامج اللغة وم�أ�س�سة �أنظمتها حيث ّمت ّ
التو�صل �إىل �صيغة بانتماء الن�صو�ص العربية ،على اختالف �أنواعها وع�صورها� ،إىل
ائتالفية �أف�ضت �إىل توحيد اللهجات وهو م�شروع يك�شف عن بنية لغوية واحدة حتتكم �إىل نواظم م�شرتكة من القواعد؛ �إنه
عالقة ُمثمرة بني العربية والقر�آن ّمت مبوجبها جتاوز العراقيل ف�سح لبنية اللغة تط ّور املعجم وجتدد الأ�ساليب مع
الثبوت الذي ُي ُ
املتمثلة يف وحدة القبيلة ،وعلى العك�س من ذلك متاما فقد مت احلفاظ على املنظومة ال�صوتية وال�صرفية والنحوية.
و�صم هذه العراقيل بكونها من مخُ لـَّفات اجلاهلية التي ا�ستعي�ض
و�إزاء هذا الثبوت ثمة حت ُّو ٌل يهدد الواقع اللغوي ويتمظهر يف
مفهوم العروبة وفكرة الأمة.
َ عنها مبنظومة قومية تتبنـَّى
التحول املكاين ،والتحول يف النظام اللغوي حيث امل�سافة القائمة
و�ضمن هذا الو�صف الإنرثوبولوجي كانت العربية تتبنـَّى يف بني امل�شافهة والتدوين ،وقد ُيحيل التحول �إىل التحول الثقايف
براجمها ال�شاملة «غري العرب ممن دخلوا الإ�سالم ،فكانت لغة كما حدث يف حتول العربية من مفاهيم اجلاهلية �إىل مفاهيم
ُ
و�صف الدين والدولة ف�أقبلوا (غري العرب) على تعلمها واتـّ�سقَ الإ�سالم ثم انتقالها �إىل �سياق املثاقفة مع الآخر (الفر�س
العربية بذلك مع غاية الر�سالة التي جتاوزت «العرب» �إىل والروم) وما رافقه من انفتاح ثقايف �شامل على معارف (الآخر)
و�سع
«العاملني»» .لقد جنحت العربية ،لقيام القر�آن عليها ،يف التـَّ ّ وعلومه ،وقد يقرتن بالتحول الزماين حيث ترتاجع منزلة اللغة
أمم لغاتها ولهجاتها بفعل انت�شار الإ�سالم فكان �أن هجرت ال ُ وتفقد بريقها وي�صبح وجودها مهددا ،وقد يرتبط التحول بتحول
واتـَّخذت العربي َة بدي ًال ل�ساني ًا ،كما ا�ستطاعت الدولة الإ�سالمية الأنظمة النحوية وهو الذي ينجم بفعل تف�شي اللحن و�شيوع
التي تتبنى برامج العربية حتقيقَ الغلبة على الأمم. الأخطاء وا�ستفحال الرتجمة.
وي�ستعني نهاد املو�سى ب�أفكار ابن خلدون التي ُتقدِّ ُم تف�سري ًا �أ ّو ًالُ :
قيم الثـُّبوت
ماديـ ّ ًا ومو�ضوعي ًا لتهافت الأمم وخراب عمرانها ول�سانها� ،إذ يرى تكمنُ قوى ثبوت اللغة العربية يف ثالثة مك ِّونات ُمت�ضافرة
�أنَّ ف�ساد العربية قد حتقق بعد �أنْ �سيطر على الدولة الإ�سالمية �ص املقد�س الن�ص املق َّد�س ،والترّ اث ،والهويةِّ .
ويج�س ُد النـَّ ُّ هيُّ :
العجم والرببر والترت واملغول .لذلك ،وح�سب نهاد املو�سى ،ال ُ ين ا�ستطاعالـ ُمتمثـِّل يف القر�آن عنوانَ البقاء حيث �إنَّ النـَّ َ�ص القر�آ ّ
ميكن �إجناز الإ�صالحات اللغوية دون و�ضع العالقة االقرتانية �أنْ يحققَ متاهي ًا مع العربية من خالل �سريورته زمني ًا ب�ضعة
بني العربية والن�ص القر�آين يف �سلـّم الأولويات ،لأنَّ هذا االقرتان ُ
التحريف� ،أو التـَّبديل� ،أو احلذف� ،أو ع�شر قرن ًا دون �أنْ يعرتيه
�سيكونُ دافع ًا قوي ًا ووحيد ًا لإعادة هيكلة الربامج اللغوية. الإ�ضافة.
حفظ اللغة العربية باقرتانها بالن�ص القر�آين ال ميثـِّ ُل
بيد �أنَّ َ ويف هذا ال�سياق يحاجج نهاد املو�سى �أطروحة امل�ست�شرق
عائق ًا �أمام تط ّور اللغة العربية القادرة على الإفادة من املنجزات الأملاين كري�ستوفر لوك�سنربغ املو�سومة بـ»القراءة ال�سريانية
املعا�صرة وتبيئتها ل�ساني ًا .فالعربية قادرة على ولوج ف�ضاءات الآرامية للقر�آن :م�ساهمة يف تف�سري لغة القر�آن» التي يرى فيها
107
فالذت بالدين واعت�صمت بحبله وجعلته �إطار ًا �شام ًال للأعراق تعبريية و�آفاق جمالية وعوامل جديدة تتباين فيما بينها ت�شكي ًال
والأُمم ،عالو ًة على فاعلية العربية يف توطيد الأمن الثقايف الذي ور�ؤي ًة.
ن�ش�أ بني ثنائية العربية والإ�سالم ،والعربية وامل�سلمني �إذ تغدو ويع ُّد الرتاث املكون الثاين يف قيم الثبوت و ُيق�ص ُد بالرتاث
يحول دون وقوع املواجهات�صمام �أمان ُ َ العربية ،يف هذه احلالة، ما و�صل �إلينا من مد ّونات وعلوم متن ّوعة ُ
تنه�ض على العربية
االجتماعية غري املتجان�سة ديني ًا وعرقياً.
ن�ص الوحي وثابت ال�سنة ال�شريفة .فالرتاث هو ُمنج ٌز با�ستثناء ّ
ثورات وطفرات يف العلوم واملعارف
�إنَّ ما �أجنزته العربية من ٍ تاريخي �إن�سا ٌّ
ين يتـَّ�سم بالتفاوت الن�سبي يف قيمه الثبوتية يف حني
وامتداد وانت�شا ٍر
ٍ والفنون والآداب ،وما حققته «الأمة» من فتوحات ن�ص الوحي وثابت ال�سنة يتجاوزان التاريخ .وقد ظ َّل الرتاث �أنَّ َّ
ميثـِّ ُل دوافع �إ�ضافية يف اكت�شاف حيوية اللغة العربية ومكامن ً
مبا هو ماد ٌة معرفية قادرا على التعاي�ش مع املعا�صرة رغم امتداده
�إبداعها ور�صيد ح�ضورها. التاريخي ورغم كونه متفاوت ًا يف قيمه البقائية فبع�ض ن�صو�صه
ا�ستجابات عميق ًة يف الوعي
ٍ يزال ُ
يفر�ض متوا ٍر وبع�ضها الآخر ال ُ
ثاني ًا :قوى التـّحول
العربي املعا�صر ،مما يعني �أنَّ مناذج الرتاث الن�صية ا�ستطاعت
وتتج�سد يف التعليم ،والرتجمة ،والإعالم ،واالقت�صاد،َّ تخطـّي حاجز الزمن عرب اللغة وظلـّت ُمتجدد ًة على الدوام وبقي
و�سلطة الإعالن ،واالزدواجية ،والثنائية ،والعوملة. معجمها ونظامها الداليل فاعلني يف اال�ستعمال والتداول.
فيك�شف عدة جوانب �أهمها؛ العالقة امللتب�سة ُ ف�أمـَّا التعليم �أما الهوية فتمثـِّ ُل املُك ِّون الأخري لثالوث قيم الثبوت الذي
التقليدي للمادة اللغوية،
ّ بني العربية الف�صيحة عالو ًة على الإطار دال الهوية الذي ينطلق نهاد املو�سى يف بلورته من خالل تفكيك ّ
وغياب بعد الإمتاع واجلانب الوظيفي يف الكتاب املدر�سي �إ�ضاف ًة يفرتق مبناه عن معناه؛ فالهوية تقوم ُ تقابل ثنائي
يك�شف عن ٍ ُ
�إىل ق�صور املعلم نظر ًا لعدم وجود برامج تطوير حقيقية ت�سعى ين مادته (هو) ومعناه كينونة الآخر ،يف حني على جذر ل�سا ّ
لإدامة تنميته وت�أهيله و�إ�صالح �أحواله االجتماعية واملعي�شية، تقرتن داللة الهوية مبعنى خمتلف هو كينونة الذات .وبذلك ف�إنَّ
وهذا كله ي�ؤدي �إىل تراجع العربية وربطها بالعجز والق�صور. الهوية ح�سب نهاد املو�سى تت�ضمن انق�سام ًا داللي ًا يجعل الذات
وي�ش ُري نهاد املو�سى يف هذا ال�سياق �إىل تخبـّط اخلطط التعليمية يف مواجهة م�ستمرة مع الآخر حتى �إنَّ الـمرء ليكون ُم�ضطر ًا
املرتبطة بتعليم العربية وعدم كفاية برامج التعليم العام وافتقار ليكت�سب تعريف ًا وح�ضور ًا بعد
َ للإف�صاح عن هويته �أمام الآخر
مناهج اللغة العربية �إىل االتـِّ�ساق والتـَّ�سل�سل �إ�ضاف ًة �إىل تراجع �أنْ كان جمهو ًال وغائب ًا.
موقع تخ�ص�ص اللغة العربية يف اجلامعات. ُقيم
وهكذا ارتبطت الهوية العربية باللغة التي ا�ستطاعت �أنْ ت َ
و�أمـَّا الرتجم ُة فتمثـِّ ُل مك ِّون ًا مهم ًا يف قوى التح ّول حيث جتعل رابط ًا بني الأقانيم الثالثة :العرق ،والدين ،والهوية وتختزلـَها
م�ستمر مع برامج الرتجمة و�أدواتها
ٍ اللغة العربية يف حالة اختبار من�شعب الدالالت ومتعدد الإحاالت الأمر الذي َ �صبح دا َّال
لتـُ َ
َ
ومعارف جديدة متنحها �إ�ضاف ًة �إىل ما تز ّوده لها من حمموالت ب ّو�أها منزل ًة رفيع ًة راح ُ
النا�س ي�سارعون يف االن�ضمام لها؛ للظفر
حيوية ُمتجدد ًة وتطوير ًا م�ستمر ًا .وي�شري نهاد املو�سى �إىل جتربتني بامتيازاتها املتعددة فنجم عن ذلك تر�سيخُ الهوية العربية
رائدتني يف البالد العربية هما :التجربة امل�صرية يف عهد حممد وامتدادها لت�صبح �أمة.
علي الذي طمح يف حتقيق ا�ستقالل م�صر بتحديث جي�شها فكانت وجنحت اللغة العربية يف جتاوز املحنة التي تع ّر�ضت لها
حركة الرتجمة التي نه�ض بها رفاعة الطهطاوي الذي ترجم مع ال�صراعات العرقية بني العرب والعجم«الأمة» عندما ن�شبت ّ
108
بع�ضها الآخر يف ترويج الفنت و�إثارة النعرات والق�ضايا امل�سكوت تالمذته �أكرث من 2000كتاب من كتب العلم وال�صنائع .والتجربة
ُ�سهم يف التوا�صل
عنها .وهكذا �أ�صبح الإعالم و�سيلة بلبل ٍة ال ت ُ الفل�سطينية التي بد�أت يف نهاية القرن التا�سع ع�شر وغلب عليها
قدر �إ�سهامها يف الت�شتت والبلبلة واالنق�سام. الطابع الأدبي ثم الطابع ال�سيا�سي .ويندرج يف هذا ال�سياق حرك ُة
التعريب التي �أ�صبحت ح ًّال مو�ضوعي ًا لرتجمة املعارف احلديثة
و�أما �آم ُر االقت�صاد فيـُمثـِّ ُل والي ًا خفيـَّ ًا يف توجيه اللغة التي
والإجنازات املعا�صرة .فم�شروع الرتجمة،ح�سب نهاد املو�سى،
تخ�ضع ل�شروط الت�سويق و�أحوال الرتويج والإ�شهار والإعالن
ح�ضاري ير�صد رغبة الأمة يف االطـَِّالع على ُمنجزات
ٌّ م�ؤ�ش ٌر
والعر�ض والطلب والإنتاج واال�ستهالك ويف هذا ال�سياق تكونُ
احل�ضاري.
ّ احل�ضارات الأخرى والإفادة من م�شروعها
تخاطب فاعلة وم�ؤثرة يف بثِّ الإ�شارات
ٍ اللغة جما ًال حيوي ًا وو�سيل َة
وا�ستدراج الزبائن وا�ستمالة قناعاتهم. �إنَّ املعاينة الإح�صائية لواقع الرتجمة يف العامل العربي
تبعث على اال�ستياء نظر ًا لفقرها وتوا�ضعها ،ويف املقابل يقع
يذهب �إىل عجز العربية عن
ُ �إنَّ الر�أي االقت�صادي الذي
الناظر يف ترجمة امل�سل�سالت املدبلجة والربامج املتلفزة على
�إبرام العقود وال�صفقات والإ�شهارات الرتويجية لينطوي على
هائل من التجاوزات واملحظورات املتناق�ضة مع قيم العرب كم ٍ ٍّ
مغالطات فادحة؛ ذلك �أنّ انحياز االقت�صاد املطلق للإجنليزية الثقافية وبراجمهم اللغوية الأمر الذي يجعلها تت�ضمـَّن تهديداً
بو�صفها لغ ًة تداولي ًة و�إق�صاء العربية موقف يت�ضمن تبعية �شاملة
ت�ؤذن باال�ستالب ِّ حقيقي ًا للخ�صو�صيات الثقافية وانتهاك ًا �صارخ ًا ملبادئ الرتبية
وتب�ش ُر باالغرتاب .فعندما تتقدم الإجنليزية،
واالجتماع.
للوعود التي حتملها ،ف�إنّ ذلك ي�شكل تهديدا للعربية وهو ما بدا
وا�ضح ًا حيث ت�شه ُد اجلامعات العربية �إعرا�ض ًا عن التخ�ص�ص و�أما ف�ضاء الإعالم فقد باتت الف�ضائيات مكون ًا من مك ِّونات
يف العربية بفعل تراجع التخ�ص�ص وظيفي ًا وعدم وجود حوافز قوى التح ّول اللغوية التي متلك القدرة على فر�ض ا�ستجابات
غريات لدار�سيها.
و ُم ٍ وتوجـّهات يف عقول امل�شاهدين و�سلوكهم ومواقفهم .كما �أنّ لها
دور ًا تخريبي ًا يكمن يف ما تفر�ضه على برامج امل�شاهدين اللغوية
�إنّ حتكم القيم االقت�صادية يف فر�ض الواقع اللغوي �أدى �إىل
والفكرية من �أمناط لغوية .ويتجلى ذلك يف جانبني كبريين:
التقليل من �ش�أن العربية وفقدان هيبتها ووقارها يف حني تتق ّدم
الإجنليزية بثقة ُمطلقة لتغز َو الالفتات الإعالنية واللوحات الأول :تر�سيخ املحكيات املحلية واللهجات اجلهوية الأمر
الإ�شهارية. الذي يعني �أنها ت�ستهدف قطاع ًا ب�شري ًا حمدد ًا وفئة حمددة
متوافقة اجتماعي ًا وعقائدي ًا وثقافي ًا.
ويقرتح نهاد املو�سى حلو ًال ملعاجلة واقع اللغة االقت�صادي منها
«اتخاذ العربية الف�صيحة ل�سان ًا لرتويج املنتجات وتخ�صي�ص الثاين :املواد املعرو�ضة ،وهي تُ�شددُ ،يف �أغلبها ،على ُمنتجات
قنوات ف�ضائية لهذه الغاية»� .إ�ضافة �إىل ت�شديده على �ضرورة ٍ الغرائز املدمـِّرة لقواعد العقل والعلم واملعرفة.
اقتحام العربية املنا�شط الإن�سانية كلها؛ لأنّ اقت�صار العربية
لي�س هذا فح�سب ،بل �إنَّ قنوات التوا�صل واالت�صال
على اجلوانب التعليمية والثقافية ُيعطـِّ ُل قوى الإبداع الكامنة
الإعالمية ،كما يرى نهاد املو�سى ،باتت تهد ُد ال�سكينة الثقافية
فيها ويحجـِّ ُم ح�ضورها وفاعليتها .لذلك ال ب َّد من نهو�ض العربية
وتق�ض م�ضجع العقائد ،والإثنيات ،ولع ّل هذا الو�صف ينطبقُ على
ُّ
مبناحي احلياة املختلفة الأمر الذي مينحها القدرة على التنمية
جممل و�سائط االت�صال التي تعزز االنق�سامات وتذكي اخلالف
والتغيري ذلك «�أنَّ انغالق اخلطاب اللغوي على املرجع الثقايف
يف املواقف� .إ�ضاف ًة �إىل �شمولية بع�ضها وانحياز بع�ضها وتواطئ
109
و�أمـَّا العومل ُة فغدت خطر ًا داهم ًا ي�ستهدف العربية كما وحده ،و�إغفاله ل�سائر العوامل يف هذا ال�ش�أن و�أ�ضرابه قد �آل
ي�ستهدف اللغات الأخرىَّ ،
ولعل اقرتانَ الإجنليزية بالعوملة به �إىل �أنْ يكون خطاب ًا حمدود ًا يف دائرته اخلا�صة».
بو�صفها لغة امل�شروع الأمريكي الإمرباطوري ال�ساعي �إىل
لت�صبح لغ ًة عاملي ًة تهدد فر�ض الهيمنة والتمركز ِّ
ير�شحها و�أما االزدواجي ُة الل�سانية فعـُقْد ٌة تعرت�ض �سبيل اللغة
َ
الثقافات الوطنية حيث اال�ستالب والنفي. العربية حيث ُي�ستعمل م�ستويان �أحدهما :الف�صحى ،والآخر:
اللهجة العامية املحكية .وهكذا تعي�ش العربية تنازع ًا بني
واحلقَّ �أنّ الإعالم العربي يك ِّر ُ�س حال ًة من الهيام منوذجني خمتلفني يف الوظائف واملواقف والقواعد ،ويظهر
ال�شباب لإجادتها وتعلمها؛ بحث ًا عما
ُ بالإجنليزية � ْإذ تتطلـَّ ُع مدى التنازع يف حجم التباينات اللهجية التي ال ينظمها
تخاطب الغرائز وتناغي املخيلة .وهكذا
ُ تتو�سـَّ ُل به من برامج ببع�ضها ناظ ٌم وال ترتبط بالف�صحى ب�أية روابط ُم�شرتكة.
ي�سقط قطا ٌع وا�سع من ال�شباب يف فخّ الإجنليزية حيث
وهنا ي�شري نهاد املو�سى �إىل �أنّ التباين اللهجي يف العربية
االنبهار بالإجنليزية الذي يخفي حنين ًا �إىل الرغائب والعوامل
حالي ًا يختلف عنه يف ع�صر اجلاهلية حيث كانت هناك قوا�سم
لة.ولعل ثورة االت�صاالت التي بلغت �أوجها يف �شبكة َّ الـ ُمتخيـَّ
م�شرتكة بني اللهجات �إ�ضافة �إىل جوانب ف�صاحتها و�صحتها
الإنرتنت متثل دافعا وعامال مركزي ًا لتبني اللغة الإجنليزية يف
التوا�صل وبناء املعارف. مما بو�أها �صفة ال�صواب حيث التقت اللهجات لت�شكل «العربية
الف�صحى التاريخية».
ختام ًا تنبغي الإ�شارة �إىل �أنَّ هذا الكتاب ُ
يتخذ �أهمي ًة خا�صة
عربي يف مطلع ين ٍّل�سببني؛ الأول� :أنه يع ُّد �أول م�شروع ل�سا ٍّ متنح العربية دورو�أ َّما الثنائية الل�سانية فعلـَّ ٌة فا�شي ٌة ُ
الألفية الثالثة يت�ص ّدى ملراجعة ق�ضايا اللغة العربية املعا�صرة اخلا�سر والإجنليزية (�أو الفرن�سية) دور الظافر ،وهكذا
ويك�شف عن �إ�شكاالتها املختلفة �ضمن �سياق امل�ستجدات ت�صبح الثنائياتُ الل�سانية معط ًال يحول دون نهو�ض برامج ُ
اجلذرية والتفاعالت املتوا�صلة .والثاين� :أنَّ الكتاب ي�ستن ُد �إىل تهدف لالرتقاء بالعربية تداو ًال وتنظري ًا؛ لأنَّ اللغة الثانية ال
ُم�صادرات منهجية و�أدوات �إجرائية وتدابري حتليلية دقيقة ُدر�س خلدمة املفاهيم العربية بقدر ما تكون و�سيلة للطعن يف ت ُ
�أثبتت فاعليتها يف �سرب الق�ضايا املتناولة وجتلية �أبعادها من العربية والتعايل عليها.
اجلوانب كافة.
لقد َّمت فر�ض الثنائية يف مرحلة تاريخية تع�صف باالنك�سار
وبذلك تت�ضح ر�ؤية �أطروحة الكتاب املنهجية فالباحث نهاد والهزمية ،فقد زحفت �إ َّبان احلكم العثماين حيث برامج الترتيك
املو�سى يدفع �أدواته املعرفية �إىل اختبار حا ٍّد ومواجهة م�ستمرة وحمو الهوية العربية و�سحق الثقافة العربية ،و�إبـَّان مرحلة
وحادة تقطع مع الثوابت ليعلن جد ًال متوا�ص ًال مع املنهج الذي اال�ستعمار احلديث حيث اقرتنت العربية بالديني والرتاثي يف
يتخذ من الل�سانيات االجتماعية منطلق ًا رئي�س ًا يف املقاربة حني اقرتنت الإجنليزية والفرن�سية بالتطور وال�صنائع والعلوم
اال�ستقرائية الت�أويلية ف�ضال عما ت�ستدعيه مدونة البحث من والتقدم املادي والنهو�ض احل�ضاري .وح�سب نهاد املو�سى ف�إنه
ق�ضايا ومو�ضوعات تالم�س كينونة الل�سان والإن�سان العربيني ال ب َّد من مراجعة جتربة الثنائية الل�سانية الق�سرية اال�ستالبية
يف حتوالت الزمان والعمران الب�شريني.
التي �أ�صبحت تتعار�ض مع �أهداف تعلم اللغات الثانية التي تد ُّر
على العربية �أ�سباب القوة واملعرفة.
110
الل�سانيني العرب قد تدربوا يف مدار�س الغرب .ورجع كل ال�سن�سكريتية دور ٌة م�ست�أنفة يف در�س الظاهرة اللغوية .و�أف�ضت
جيل معتنق ًا مذهب املدر�سة التي تخرج فيها ،ويكون يف هذه يف بادئ الأمر �إىل در�س اللغات در�س ًا تاريخي ًا مقارِن ًا .وتوالدت
ال�سامي املقارِن� ،أو َي ْ�ص ُد ُر عن
ّ الأجيال من يعتنق املنهج الحق منها يت�شكل املذاهب الل�سانية ،بعد ذلك ،ترتى .وكان كل ِ
املذهب الو�صفي ابتدا ًء� ،أو ينحاز للمنهج التحويلي التفريعي بتدارك ما فاتَ ال�سابقَ � ،أو يت�شكل على نحو مقابل .وقد جاء
�أو ينزع منزع ًا وظيفي ًا تداولي ًا� ،أو يتمثل ر�ؤى ذهنية حتاكي املذهب «التزامني» الذي يتجه �إىل در�س اللغة در�س ًا و�صفي ًا يف
ما يعمله العقل الإن�ساين حني ينتج اللغة وي�ستقبلها متهيد ًا حقبة �آنية ر َّد فعل للمذهب «التعاقبي» الذي اتبع نهج الدر�س
لنمذجتها ومتثيلها للحا�سوب. التاريخي للغة يف �أطوارها املتعاقبة ،وجاء املذهب التحويلي
التفريعي ا�ستدراك ًا حا�سم ًا على املذهب البنيوي القائم على
ويعلن الل�سانيون العرب ،على هذا ال�صعيد� ،صراحة،
مبد�أ ال�سلوك اللفظي املنطلق من مقولة املثري واال�ستجابة؛ �إذ
جدوى املناهج يف �إعادة و�صف العربية وتف�سريها .وقد
قام املذهب التحويلي التفريعي على �أن اللغة بنية عقلية و�أنها
�أجنزت ،يف هدي هذه املناهج ،درا�سات يف العربية �أفادت
تتجاوز �آلية املثري واال�ستجابة �إذ �إن �أمثلة الكالم مفتوحة غري
من كل منهج مببلغ ما انتهى �إليه اجتهاد �أتباعه .و�أ�صبح �شعار متناهية .وجاء املذهب الوظيفي ي�أخذ على املذهب التحويلي
امل�ؤمترات اللغوية يف العامل العربي وخارجه توظيف الل�سانيات املوقف الذي التفريعي انح�صاره يف مادة الكالم دون اعتبار
ِ
احلديثة وتطبيقها على العربية. الكالم يف عملية «االت�صال» بني يجري فيه الكالم ودو ِر
ِ
ولعل �أبرز �سمات هذه الظاهرة �أن اجلانب العربي يتخذ �أطراف املوقف الكالمي.
موقف ًا اتّباعي ًا يكاد ينح�صر يف ا�ستثمار املعطيات النظرية وهذا حديث معاد مكرور .ويعنينا منه ،هنا ،الآن� ،أنَّ
املتاحة يف قراءة جديدة لظواهر يف العربية! وهذا �أمر طبيعي الغرب عمل بد�أب على تطوير علم الل�سان الب�شري يف نظريات
يق�صر بالبحث الل�ساين العربي عن �أن يكون رافد ًا �أو ولكنه ِّ متتابعة تتعار�ض وتتباين لتتكامل .وت�صبح عناوين :الل�سانيات
مناف�س ًا يف حلبة الدر�س الل�ساين العام� .إنه يقدم نحو ًا عربي ًا التاريخية ،واملقارنة ،والو�صفية ،واالجتماعية والنف�سية،
و�صفي ًا �أو نحو ًا عربي ًا حتويلي ًا �أو نحو ًا عربي ًا وظيفي ًا ،و�إذن والوظيفية ،واحلا�سوبية.....مناذج لآفاق من التب�صر يف
يزاوج بني «املادة» وهي العربية و»املنهج» وهو غربي .ولي�س الظاهرة اللغوية َّ
تطرد وال تتوقف.
وا�ضح ًا �أن جدل املادة واملنهج قد �أف�ضى �إىل «�إ�ضافة» عربية وكان موقف العرب من هذا ال ِع ْل ِم الذي كان الغرب
�إىل النظرية الل�سانية العامة. اخلا�ص ،على اجلملة ،موقف ًا
ّ يطوره لنف�سه ويف �سياقه الثقايف
ولكن موقف اجلانب الغربي كان خمتلف ًا؛ فحني ازدهرت مو�سوم ًا بالقبول والإقبال .بل ميكننا �أن نعدو يف و�صفه �إىل
نظرية النحو التحويلي التوليدي ثم قيل يف �سياق مراجعتها مثل القول باالنبهار بالولع واملحاكاة .و يندغم هنا �أمران� :أمر
�إنها متثل عودة �إىل النحو التقليدي مل يجد ت�شوم�سكي ب�أ�س ًا يف انتفاء التحيز الثقايف من جهة الغرب ،و�أمر تقليد «الغالب» يف
�أن يلتم�س لها �أ�ص ًال لدى ( فون همبولت) يف مقولته� :إن اللغة املقولة اخللدونية« ،الغائب» يف نظرية الأثر الثقايف للم�ستعمر
خالقة ،و�إنها ت�ستعمل قواعد حمدودة ا�ستعما ًال غري حمدود، بعد رحيله ،من جهة العرب.
بل �إن ت�شوم�سكي اعت َّد نح َو «بانيني» لل�سن�سكريتية قطعة من وت�شبه �سل�سلة الل�سانيني العرب �أن تكون انعكا�س ًا ل�سل�سلة
النحو التحويلي .ولكن املوقف ات�سم بتجاهل �شبه تام لنظرية املذاهب الل�سانية املتعاقبة يف الغرب؛ وذلك �أنَّ �أجيا ًال من
112
امل�ستعار واملو�ضوع العربي ،واجته �إىل �إعادة و�صف العربية النحاة العرب وما �صدروا عنه يف م�ؤلفاتهم� ،صنيع �سيبويه وابن
وا�ستئناف النظر يف ق�ضاياها وظواهرها يف �ضوء تلك جني وعبد القاهر ،وما �صرحوا به يف تلك امل�ؤلفات وج َّردوه
النظريات ،فكان تيار ًا تطبيقي ًا خال�ص ًا �إىل حد بعيد. �أ�صو ًال كلية على نحو غري ملتب�س كالذي ا�ست�صفاه ابن ه�شام
يف املغني من ( ذكر اجلهات التي يدخل االعرتا�ض على املُ ْع ِرب
وثالثهما يتمثل يف مقارنة البحث اللغوي العربي ونظريته
من جهتها) ،ومنها (�أن يراعي ما يقت�ضيه ظاهر ال�صناعة وال
اخلا�صة مبقوالت املناهج الل�سانية املتعاقبة ،وقد جنم يف �سياق
يراعي املعنى) ،ومنها ما عقد من ذلك الباب يف (�أمور كلية
ازدهار النظرية التحويلية التفريعية حني ملأت الدنيا و�شغلت
يتخرج عليها ما ال ينح�صر من ال�صور اجلزئية).
النا�س ،و�أخذت كل نظرية تلتم�س لنف�سها موقع ًا بالن�سبة �إىل
تلك النظرية .ومت َّثل هذا التيار ،يف اجلانب العربي ،بال�سعي وخال�صة الأمر �أن التناف�س يف الل�سانيات الغربية واملجادالت
�إىل �إيجاد موقع للنظرية اللغوية العربية يقرنها �أو يقارنها واملحاورات يف ق�ضايا اللغة كانت تدور يف �سياق علمي يدفع �إىل
بالنظرية التحويلية خا�صة من خالل البحث عن َم�شا ِب َه بني التناف�س ،ويبحث عن الكفاية الوفية يف التف�سري مما مثل �إ�ضافة
املقوالت الرئي�سية الكربى يف النظريتني. �أو ا�ستدراكا وتبقى الأنظار يف جدل مفتوح !
و رابعها يتمثل يف ا�ستثمار ح�صيلة هذه اجلهود املرتاكمة و�أما التناف�س يف ال�سياق الل�ساين العربي ف�إنه تناف�س يف
لت�شكيل وعي علمي بالعربية ،وت�شكيل وعي ل�ساين عام ،و�إقامة �سياق االتباع ال الإبداع ،وهو يف�ضي ب�أ�صحابه �إىل ِم ْثل القطيعة
جدل بني املو�ضوع واملنهج ت َْط َر ُح فيه العربية �أ�سئلتها اخلا�صة �أو اخلطوط املتوازية.
يف �ضوء الوعي الل�ساين العام ،وتتقدم يف مبا�شرة تلك الأ�سئلة * ما �أهم تيارات الدر�س الل�ساين العربي؟
والق�ضايا على قاعدة وعي ل�ساين عام ميكن العربية من
العربي يف «العا ّم» الل�ساين ،والإ�سهام «اخلا�ص»
ّ حتقيق اندغام -رغم �أن امل�شهد على التعميم �سدميي �إال �أننا ن�ستطيع
ّ
يف النظرية الل�سانية من هذا املدخل .وما يزال هذا التيار متييز تيارات �أربعة عامة هي:
يت�شكل ليمنح « فرادة» العربية دور ًا وموقع ًا يف �سياق النظريات �أولها يتمثل يف در�س ق�ضايا من ق�ضايا العربية .وقد وقع يف
الل�سانية « الك ّل ّية» واللغات احلديثة «الكون َّية». بدايات القرن الع�شرين خا�صة ويف �سياق مواجهة مبا�شرة مع
�أطروحات جاء بها الغرب يف �سياق َمدِّ ه اال�ستعماري يف املنطقة.
* كيف ترى منزلة الل�سانيات يف الدرا�سات العليا يف
وهو در�س مبا�شر يلوذ مبرجع ثقايف يتمثل يف املحافظة وحماية
الأردن؟
العربية من الدعوات «املُغ ِْر َ�ضة» .ولكنه ي�ستبطن �أ�صو ًال ل�سانية
لي�س ثمة اختالف كبري بني مو�ضوعات الأطروحات �صدر عنها �أهل العربية دون �أن ي�ص ِّرحوا بها ،و�إمنا ن�ست�شفها
اجلامعية يف الأردن وغريها من البالد العربية الأخرى .على ين من �أنظار. ون�ستخرجها نحن يف هَ دي ما ج َّرده البحث الل�سا ّ
مطرد ًا نحو الأطروحات ذات �أنه ميكن القول �إن هناك اجتاه ًا َّ ومثل ذلك ما تداوله �أهل العربية من وجوه االحتجاج واال�ستدالل
الطابع الل�ساين اخلال�ص؛ وبيان ذلك �أن الطلبةُ ،جلُّهم ،بد�أوا يف مواجهة الدعوة �إىل العامية ،وكتابة العربية باحلرف
ين�صرفون عن درا�سات النحو التقليدي ب�صورته اجلامدة، الالتيني.
و�صاروا ي�ستبدلون به مو�ضوعات حديثة كالل�سانيات احلا�سوبية وثانيهما يتمثل يف «اتباع» النظريات الل�سانية التي طورها
والل�سانيات االجتماعية ،ونحو الن�ص ،حتى الل�سانيات الغرب يف �سياقه اخلا�ص .وقد قام على املزاوجة بني املنهج
113
* على الرغم من �أنك عاجلت معظم ق�ضايا اللغة العربية الع�صبية� ،أما الل�سانيات التقابلية فما تزال مقت�صرة ،على
معاجلات م�ستقلة يف م�شروعات م�ستقلة �إال �أنك عدت ملعاجلة التعميم ،على الطلبة الأجانب من املاليزيني والكوريني الذين
هذه الق�ضايا جمتمعة يف كتابك الأخري «اللغة العربية يف ين�شدون الوقوف على ما يواجههم من �صعوبات يف تعلم العربية.
الع�صر احلديث....قيم الثبوت وقوى التحول» ...فما وجه ولعل اجتاه ًا بارز ًا بد�أ ين�شط بني الطلبة يتمثل يف الإقبال على
افرتاق املعاجلة هنا وهناك؟ درا�سة «لغة الإعالم» وحتليل خطابها على توجهاته ومقا�صده
االفرتاق هنا من وجوه عدة؛ �أولها �أن املعاجلة هنا معاجلة املختلفة.
كلية تتناول العربية وق�ضاياها يف �سياقها الثقايف واالجتماعي و�أحتفل هنا مبا َط َمحت �إليه جامعة الريموك الأردنية من
واالقت�صادي وال�سيا�سي ،وهي عوامل تتداخل الآن ،بت�أثري افتتاح برنامج «الل�سانيات التطبيقية» لطلبة الدكتوراه ،وما
العوملة ،على نحو ال يقبل الق�سمة وال االنف�صال ،بل �إن �أي �شرعته اجلامعة الأردنية من افتتاح برنامج ماج�ستري تعليم
معاجلة لق�ضايا العربية مبعزل عن هذه العوامل �ستكون العربية للناطقني بغريها .وهما عالمتان ينبغي �أن تكونا
منقو�صة � ،أما املعاجلات امل�ستقلة فقد كانت ت َْ�ص ِر ُف عنايتها دا َّلتني على «الوعي» مبنزلة الل�سانيات و�أهميتها.
�إىل ق�ضية واحدة دون االن�صراف كثري ًا �إىل ما يتعالق بها من
ق�ضايا�....إنني هنا �أعالج العربية وق�ضاياها من حيث هي ا�شتغلت كثري ًا بق�ضايا اللغة العربية املعا�صرة :االزدواجية،
َ
كينونة خا�صة تتجاذبها قيم الثبوت وقوى التحول يف م�شهد فبم اختلف
والكتابة ،وتعليم العربية ،واحلو�سبة�.....إلخَ ،
ين �أ�صبح فيه هاج�س موت اللغات هاج�س ًا مقيم ًا. كو ّ تناولك هذه الق�ضايا عن تناول الآخرين �إياها؟
وثاين هذه االفرتاقات ما يحمله هذا الكتاب من معاجلة لعل وجه االختالف الرئي�س يتمثل يف �أن معاجلتي تنطلق
م�ستحدثة ت�ستجيب لل�شرط التاريخي؛ التطور ،وما حمله من ت�شخي�ص واقع الظاهرة والعوامل الثاوية خلفها ،انتها ًء
معه من تعقيدات �أفرزتها العوملة ومنتجاتها؛ ف�إذا َن َظ ْرتَ �إىل اال�ستفادة من الل�سانيات التطبيقية ومرئيات التخطيط
�إىل معاجلة االزدواجية قبل ع�شرين عام ًا وجدتَ �أنه ال ذكر م�شكالت حت ُّد منٍ اللغوي .فالق�ضايا املعاجلة �إمنا مت ِّثل
،تقريب ًا ،لق�ضية الثنائية � ،أما الآن ف�إن الثنائية (العربية تفوق العربية و�إ�سهامها يف منا�شط احلياة العربية على
ؤالت جديد ًة تفا�ضل بني العامية والإجنليزية) تطرح ت�سا� ٍ الوجه امل�ؤ َّمل؛ ولذلك ف�إن منتهى ق�صدي �أن �أ�ضع ر�ؤى �أراها
والإجنليزية ولي�س الف�صحى والإجنليزية .و �إنْ ت�أملت �ضعف �ضرورية حلل هذه امل�شكالت (الق�ضايا) �أو احل ّد من ت�أثرياتها
الطلبة يف العربية قدمي ًا ،قبل ع�شرين عام ًا مث ًال ،وجدت
ال�سلبية املعيقة للعربية .ف�إذا َن َظ ْرتَ ،مث ًال ،يف كتابي « ق�ضية
�أن �أ�ساليب التدري�س تتحمل الوزر الأكرب يف ذلك� ،أما الآن
التحول �إىل الف�صحى يف العامل العربي احلديث» َو َج ْدتَ �أنه
ف�إن االن�صراف �إىل التعليم باللغات الأجنبية (الإجنليزية
يتوجه �إىل ظاهرة م�ؤ ِّرقة هي ظاهرة االزدواجية ،وهو تناول
خ�صو�ص ًا) �سبب رئي�س يف �ضعف الطلبة يف العربية؛ لأنهم
و�أهلهم ين�صرفون �إىل املدار�س التي تعلم باللغات الأجنبية ينتهي �إىل تداب َري منهجية و�إجرائية تنفَّذ يف التعليم والإعالم
ابتدا ًء! و�أدب الطفل ....وينتهي �أمر هذه التدابري� ،إنْ ُ�أ ِخ َذ ْت بحقها
يف التطبيق� ،إىل تحَ َ ّو ٍل تدريجي من العامية �إىل الف�صحى
و ثالث هذه االفرتاقات �أن هذا الكتاب ميثل خطاب ًا
الر�شيقة املعا�صرة .وكذا القول يف الق�ضايا الأخرى.
ا�ستثنائي ًا يتجاوز خطابي الل�ساين االعتيادي من حيث
114
تتناول �أطراف العملية التعليمية برمتها ،وقد كانت لك جتربة املتلقون؛ �إذ مل �أتق�صد �أن �أخاطب الل�سانيني املتخ�ص�صني
خا�صة يف تلم�س �ضعف الطلبة يف العربية .كيف ت�شخ�ص هذا يف الل�سانيات العربية وق�ضايا اللغة العربية ،ولكني يف هذا
ال�ضعف؟ اخلا�ص
ّ املخاطبني وحتولت بخطابي من َ الكتاب َع ِّممت قاعدة
�إىل العا ّم ،من الل�ساين املتخ�ص�ص �إىل املثقَّف العربي عموم ًا،
-ي�شبه �ضعف الطلبة يف اللغة العربية �أن يكون الرتبة
و�إمنا كان ذلك لر�ؤيتي �أنَّ اللغة العربية و ق�ضاياها املعا�صرة
اخل�صبة لنمو امل�شكالت اللغوية الأخرى؛ ذلك �أنها متثل دورة
وما تواجهه من تهديدات مل تعد هَ َّم الل�ساين العربي وحده،
م�ستمرة من ال�ضعف و�إنتاجه و�إعادة �إنتاجه .وت�شخي�ص ذلك
�إنها هَ ُّم الل�ساين والإعالمي والطبيب والناقد الأدبي والتاجر
ماثل يف �أن جمهرة الطلبة ما يزالون يقعون دون م�ستوى واملمثل� ......إنها هَ ُّم ه�ؤالء جميع ًا ،فالق�ضايا التي يطرحها
الكفاية؛ وذلك �أن ُج َّلهم يعرثون يف حتقيق النطق ببع�ض مت�س جميع �أبناء الوطن العربي على اختالف بلدانهم الكتاب ُّ
�أ�صوات العربية ،كما يخطئون يف �ضبط كثري من �أبنية الكلم، واهتماماتهم واخت�صا�صاتهم ،والق�ضية اللغوية �صارت
ويخت ُّل لديهم تركيب اجلملة �أو يلتوي ،وتكرث �أخطا�ؤهم يف ق�ضية �أ�سرية واجتماعية �أكرث منها لغوية خال�صة خا�صة
الإعراب ،وي�ستعملون الألفاظ ا�ستعما ًال قلق ًا بعيد ًا عن حتقيق باملتخ�ص�صني! َمنْ ِم َّنا ال يعاين م�شكلة االزدواجية؟ ومن منا
داللتها ،وال يكادون ي�ستعملون عالمات الرتقيم ،كما يقعون يف ال ُي�ؤَ ِّرقه َ�ض ْع ُف �أبنائنا يف القراءة والكتابة؟ ومن ِم َّنا ال ي�شغله
كثري من �أخطاء الإمالء .وهذا على امل�ستوى املو�ضوعي. هَ ُّم الإجنليزية وهيمنتها والتفكري يف جدواها االقت�صادية؟
�أما على م�ستوى الأداء ف�إن الطالب العربي املتخرج يف ولذلك كله وجدتني �أ�ستقرئ جمع ًا من ه�ؤالء امل�ؤَ َّرقني
املدر�سة ال يقر�أ كما ينبغي له �أن يقر�أ� :إمنا ُي َج ْم ِج ُم ب�أ�صوات بهواج�س اللغة وق�ضاياها :فمنهم ل�ساين متخ�ص�ص ،ومنهم
متعرثة ترتجم �صورة املكتوب ،فال هو يقر�أ قراءة جهرية ناقد �أدبي مرموق ،ومنهم كيميائي حاذق ،ومنهم طبيب
معربة ،وال هو ي�سرع يف القراءة ال�صامتة ،وال هو يح�سن بارع�....إلخ.
ا�ستخال�ص معاين ما يقر�أ ،وال هو يح�سن التغلغل فيما وراء
و�أخري ًا ف�إن الكتاب يعر�ض �صورة العربية املتدا َفعة بني
ال�سطور.
قيم الثبوت وقوى التحول واملجاالت التي يظهر فيها هذا
وهو ال ي�ستمع كما ينبغي له �أن ي�ستمع؛ �إذ �إنه ال يح�سن التجاذب� .أما عوامل الثبوت فهي التي حتفظ للعربية �صورتها،
ا�ستخال�ص م�ضمون ما ي�سمع ،وقد ي�ستمع �إىل حما�ضرة فال الن�ص املقد�س ،والرتاث، على التعميم ،وهذه العوامل هي ُّ
يتمكن من ا�ست�صفاء املو�ضوع الذي تدور عليه يف تلخي�ص �آ ّ
ين والهوية .وهي قيم ثبوت متثل للعربية َمدد ًا وم�صدر ًا للقوة
دال� ،أو جتده منكب ًا على ن�سخ ما ي�سمع ح�سب!
بارع ّ واال�ستمرارية والدميومة .و�أما قوى التحول فهي قوى العوملة
و�أدواتها احلوا�سيب والإنرتنت والف�ضائيات .و�أما ملتقى
ال�شفوي ويتلجلج لأنه يرتدد بني م�ستوى
ّ وهو يعرث يف التعبري التجاذب بينهما فهو يف جماالت التعليم والرتجمة والإعالم
امل�شافهة املكت�سب يف لهجته وم�ستوى الكتابة املتعلم ،ومل تط ِّور والإعالن واالقت�صاد ،و�أما �أبرز ظواهر هذا التجاذب اللغوية
املدر�سة العربية منوذج ًا ناجع ًا للتعبري ال�شفوي. فهي االزدواجية والثنائية.
وهو ال يعرب تعبري ًا كتابي ًا موافق ًا للحاجة؛ �إذ يته َّيب من امل�شخ�صة على �أن ثمة �ضعف ًا وا�ضح ًا يف
* تدل الوقائع َّ
مواجهة مطالب التعبري الوظيفي ،ف�إذا عبرَّ عر�ضت يف تعبريه م�ستويات الطلبة يف اللغة العربية ،ما يطرح �أ�سئلة كثرية
115
خمت�ص بالعربية؛ لأن ن�صابه التدري�سي مل يكتمل .ولعل �أولئك �أخطاء �أولية يف النحو والكتابة ،وكتابته ،على العموم ،ال تنبئ
ي�صدرون عن مقولة �أو ي�ص ِّرحون بها� :أنّ هذه لغتنا ،ول�سنا عن �إحاطة باملعاين وال تت�سل�سل ت�سل�س ًال منطقي ًا.
علم لتعليمها ،فال َ�ضيرْ �أن يتوىل ذلك حمتاجني �إىل كثري ٍ ويفتقر الطلبة ،مع الأ�سى� ،إىل احليلة املنهجية الالزمة
مد ِّر�س الرتبية الفنية ،مث ًال!
ذات العالقة مبو�ضوعات الكفاية اللغوية ال�ضرورية� ،إذا
وهكذا يفرز هذا الو�ضع اللغوي املختلط �أو�ضاع ًا قلقة اعرت�ضهم ال�س�ؤال عن معنى كلمة� ،أو �ضبطها� ،أو �أ�صلها ( �إن
تنعك�س يف م�ستويات الأداء اللغوي كلها ،مبا يك�شف عن �ضعف ِ كان لها �أ�صل يف الف�صحى)� ،أو معنى ا�سم من �أ�سماء الأعالم،
وا�ضح يف حت�صيل ال َق ْدر الأدنى من املعرفة باللغة وكيفية �أو ترجمة �أحد الأعالم�........إلخ.
حتقيقها على وجوهها ال�صوتية وال�صرفية والنحوية والداللية
و�أما �أ�سباب ِّاطراد دائرة ال�ضعف هذه فيمكن �إجمالها يف
والهجائية والأ�سلوبية.
الأ�سباب التالية:
* كيف ال�سبيل� ،إذ ًا ،للخروج من دوامة هذا ال�ضعف؟
�أوال :اخللل البنائي الذي يعتور املناهج املدر�سية يف
-كنتُ و�ضعت قبل ما يقرب من ع�شرين عام ًا ر�ؤية لتطوير العربية؛ وذلك �أنها مل ُتبنْ َ على ن�سق علمي م�ضبوط َّ
يتفطن
تعليم اللغة العربية ت�ستفيد من منجزات الدر�س الل�ساين �إىل االعتبارات اللغوية ،فرتى مو�ضوعات الكتاب تتداخل
وتتجاوز ما وقف عنده الرتبويون من االقت�صار على ال�شكل تداخ ًال م�شتت ًا ي�صعب على املعلم �أن يجد لها �سلك ًا ناظم ًا �أو
وطريقة التعليم دون النظر يف طبيعة اللغة ومادتها ،ولعله رباط ًا جامع ًا �سوى الرتاكم.
يح�سن هنا �أن �أورد تلك الر�ؤية على ما كانت عليه يومذاك؛
ثم �إن هذه املناهج ال ت�أخذ نف�سها بالت�سل�سل البنائي
لأنها -فيما �أرى -ما تزال �صاحلة ونافعة .وتنطلق هذه الر�ؤية
املحكم ،مبا ينبئ عن خطة مر�سومة تتغيا بناء م�ستوى من
من طبيعة اللغة يف حتديد حمتوى املنهاج والكتاب .وهي ت�صدر
�صف ،مبا يف�ضي �إىل�صف �إىل ّ
املعرفة اللغوية يتفاوت من ّ
�صدور ًا ل�ساني ًا خال�ص ًا يط َّبق على ثالثة م�ستويات هي:
بناء كفاية لغوية مالئمة؛ �إذ �إنه من ال�صعب تبينُّ الفروق بني
مو�ضوعي :
ّ م�ستوى م�ستوى كتاب ال�صف الرابع وم�ستوى كتاب ال�صف ال�ساد�س
مث ًال .
ُيقْ�صد منه ا�ست�صفاء �صورة العربية الف�صحى يف
م�ستوياتها ال�صوتية وال�صرفية والنحوية واملفردات الداللية ثاني ًا :وهو مرتتب على الأول ،ومفاد ذلك �أن الذين ر�سموا
والأداءات الأ�سلوبية واالعتبارات ال�سياقية التي �إنْ �أخذ املتعلم املنهاج �أخذوا �أنف�سهم ب�أ�س�س تربوية ونف�سية وح�سب ،و�أغفلوا
نف�سه بها �أمن العامية والرتدد واللعثمة . جوهر املادة وهو العن�صر اللغوي ،لذلك «مل يكن املعلم ،وهو
يعالج تعليم اللغة من خالل تلك املناهج والكتب القائمة على
يتح�صل لنا ذلك �إ ّال �إذا انتحينا منحى �إح�صائي ًا،
َّ وال
االختالط والرتاكمِ ،ل َي ْ�ص ُد َر ،على م�ستوى املو�ضوع� ،صدور ًا
نتو َّفر فيه على مادة ت�صدق �أن تكون ممثلة للعربية يف
لغوي ًا منظم ًا وحم�سوب ًا» .
م�ستوياتها املختلفة وع�صورها املتعددة .ف�إذا تهي�أ لنا ذلك،
�ص َّنفنا القواعد امل�ستنبطة َو ْفق مدى ال�شيوع والتكرار ،فن�أخذ ثالث ًا :اال�ستخفاف باللغة العربية ،و�إنمَّ ا يكون ذلك عندما
بال�شائع املتداول كثري الدوران و َن َذ ُر النادر والقليل ال�شاذ. يعهد امل�س�ؤولون مهمة تدري�س اللغة العربية �إىل �أ�ستاذ غري
116
متييز ا�ستجابة ذاتية للن�ص (من قبل القارئ) . وهكذا نتخل�ص من حرج عظيم؛ �أن ن�ساوي قاعدة عامة تدور
ن�ص
يف كل �سطر �أو يف كل �صفحة بقاعدة ال تكاد تعر�ض يف ّ
ال�سرعة يف القراءة .
كامل �أو كتاب كامل �إ ّال نادر ًا .
.....الخ .
ف�إذا مت لنا فرز عينة ممثلة لال�ستعمال اجلاري يف
ومن ذلك �أن ي�صبح التعبري الكتابي ،كذلك ،باب ًا وظيفي ًا العربية على امل�ستويات :ال�صوتي وال�صريف والنحوي واملعجمي
مقرر ًا ،له نهج مر�سوم ينتظم فروع ًا �أو ف�صو ًال ُيعا َل ُج كل منها والأ�سلوبي جميع ًا� ،أمكن لنا �أن ن�س ِّوي للعربية �صورة ر�شيقة،
يف در�س خم�صو�ص ،وتغدو مثل هذه العناوين التالية درو�س ًا حمددة املالمح ،متدرجة العنا�صر وفق ًا لن�سبة دورانها يف
يف كتاب اللغة الذي يتعاطاه النا�شئة : اال�ستعمال ووفق ًا ملقا�صدنا العلمية من در�س العربية وتدري�سها،
و�إذن لوجد �أبناء العربية َومنْ َي ْ�س َع ْون يف تعلمها كتاب ًا قا�صد ًا
متييز الأفكار املرتابطة .
يو�ضع يف هدي ذلكُ ،ي َب ِّلغهم الغاية العملية املحورية من در�س
متييز الكلي من اجلزئي . اللغة بال ف�ضول وال التفاف.
الت�سل�سل . وظيفي :
ّ م�ستوى
و�ضع الألفاظ موا�ضعها . نتغ َّيا فيه الوقوف على �أوجه ا�ستعمالنا اللغة وحتققاتها
الوظيفية يف �أمثلة ناجزة ،وهذا ما درج الرتبويون على ت�سميته
�إحكام اال�ست�شهاد بامل�أثور . باملهارات الدرا�سية (القراءة اجلهرية والقراءة ال�صامتة
م�ستوى الطريقة يف الت�أليف والتعليم : والتعبري ال�شفوي والتعبري الكتابي واخلط) .وينبغي �أن تنطلق
املعاجلة هنا من التحقق من الأهداف املرج َّوة ،و�ضبطها
وميثل هذا امل�ستوى الوجهة التطبيقية التي ينبغي �أن ينتهي
�ضبط ًا حمكم ًا ي�سهل معه االنطالق بخطى �إجرائية حتقق
�إليها امل�ستويان الأوالن ،ويتوزع م�س�ؤولي َة هذه الوجهة هيئتان:
امل�ساعي املن�شودة .وهكذا ن�صري �إىل �ضبط الأهداف اخلا�صة
هيئة امل�ؤلفني وهيئة املدر�سني .وي�ضبط هذا امل�ستوى مبقولتني
من الأول بعيد ًا عن الأهداف العامة العائمة .و�إذن يتعني علينا
ل�سانيتني تنبثقان من ر�ؤية كلية �شمولية ،هاتان املقولتان هما:
�أن منيز �ضمن كل وحدة من هذه الوظائف خطوات حمددة
املقولة الأوىل :وحدة ال�شكل وامل�ضمون . متدرجة متكاملة تف�صيلية ت�ؤدي �إىل القيام بها قيام ًا �صحيح ًا
يف نهاية الأمر .
و�إمنا يكون ذلك باعتبار ال�شكل وامل�ضمون حني الت�أليف� ،أو
حني يبتدع املدر�س �أمثلته التي يهدف منها �إىل تدريب الطلبة ومن تطبيقات ذلك �أننا يف القراءة ال�صامتة ُن َ�ض ِّمنُ
على ن�سق لغوي ما .وذلك �أنَّ اعتبار هذه امل�س�ألة ،م�س�ألة العنوان الرئي�س (الهدف العام) عناوين فرعية مثل :
يوجهنا �إىل وجوب العالقة الع�ضوية بني ال�شكل وامل�ضمونِّ ، و�ضع عنوان ّ
دال على مو�ضوع الن�ص .
ح�ضور هذين العن�صرين مع ًا يف كل موقف من مواقف تعليم
اللغة والت�أليف فيها .و�إ َّال بطل �أن يكون املوقف لغوي ًا .وبطل �أن ا�ستخراج الأفكار التف�صيلية التي ي�أتلف منها مو�ضوع الن�ص.
يكون �إطار ًا طبيعي ًا لتح�صيل اللغة واكت�سابها . حتري فكرة حمددة يف ن�ص كامل على وجه الفرز والبحث.
117
الريا�ضي مث ًال) من�ضبط الطريقة على امل�ستوى الكلي (�إذ وهكذا يف�ضي عدم التن ُّبه �إىل مثل هذه امل�س�ألة �إىل �أمثلة
ُي َتخ ُذ لتدري�س كل جزئية مظه ٌر ُكلي مكتمل ) وي�صبح تدري�س �صارخة ،ومن �أمثلة ذلك يف النحو �أنْ ال َي ْ�س َت ْه ِجنَ املعلم،
اللغة العربية ،يف هذا الأفق من الأمل ،علم ًا ب�أ�صول وف�صول، مث ًال ،قول الطالب� ،أكلت ت�سعة �أرغفة ،يف �سياق تعليمه قواعد
وينتفي عنه ما يالب�سه من فرط الرتاكم والف�ضول. العدد.
و�إذن ننتقل بهذه التدابري و�أمثالها �إىل مداخل �سليمة ومن ذلك يف الر�سم �أن ت�سوق �إحدى املعلمات مثا ًال :ر�أى
لتعليم العربية من منطلق الكفاية ال من منطلق الذاكرة ليلى �أعمى .يف �سياق تعليم طالباتها الألف املق�صورة (الياء
الرتاكمية والتلقني ،وي�ستقيم معه �أن يكون تعليم العربية تعليم ًا املهملة) .
عقلي ًا ذهني ًا ال تعليم ًا يقا�س مبقدار ما يعرف من معلومات
وهكذا ف�إن طريقة الف�صل هذه تورث الطلبة حت�صي ًال لغوي ًا
«عن اللغة» فت�صري اللغة لدى املتعلم جهاز ًا معرفي ًا و�أدائي ًا ال
�شكلي ًا يقف من اللغة عند حدود ال�سطح اخلارجي ،و ُي َخ ِّلف يف
معلومات متثل عبئ ًا على الذاكرة فح�سب.
كثري ممن ي�ستعملون العربية لفظية جوفاء مهزوزة .
* انتهى تعالق الل�سانيات بالعلوم احلديثة �إىل ظهور
املقولة الثانية :وحدة م�ستويات اللغة.
الل�سانيات احلا�سوبية التي �صارت �أبرز فروع الل�سانيات و�أرقاها.
ما غاية الل�سانيات احلا�سوبية؟ وما وجوه ا�ستثمارها؟ ومفاد هذه املقولة �أن اللغة بنية واحدة متما�سكة� ،أما
تق�سيماتها الفرعية ف�إمنا هي و�سيلة يتخذها الل�سانيون لدر�س
اللغوي للحا�سوب متكي َنه من ُم�ضاهاة ّ َ -ي َت َغ ّيا تمَ ُ
ثيل ال ّنظام
اللغة يف م�ستوياتها املتعددة ،من َث َّم علينا �أنْ نقدم اللغة – عند
الإن�سان يف ِكفايته و�أدائه اللغو ّيني؛ في�صبح قادرا على تركيب
التعليم – بنية متما�سكة حتكمها قواعد وقوانني م�ضبوطة،
الكتابي بالأ�صوات املنطوقة ّ اللغة وحتليلها ،مي ِّثل ال ّر�سم
تهيئ مل�ستوياتها الفرعية االن�سجام واالت�ساق ..
َف َي ْق َر�أ ،و ُي َح ِّول الأ�صوات املنطوقة �إىل ال ّر�سم الكتابي بالإمالء
الكتابي ما َظ َهر منها وما ّ ال�صحيح ،و َي ْع ِرف قواعد ال ّنظام ّ التفطن �إليه يف هذا ال�سياق ا�ستعمال ُّ و�أكرث ما ينبغي
ال�ص َيغ ال�صرف ّية َب َطن فيكت�شف الأخطاء الإمالئ ّية ،و َي ْب ِني ِّ املفردات؛ �إذ ال ينبغي �أن ت ُْ�ست ََّل املفردات من �صدر املعجم
ال�صحيحة ،وال ويتع َّرفها يف ِ�سياق الكالم ُ ...ي ْن ِ�شئ اجلمل ّ وتقدم عائمة يف الهواء ،و�إمنا ُت َه َّي�أ لها �سياقات دالة ت�ستغني
ين�شئ ُج َمال غري �صحيحةُ ،ي ْع ِرب كما ُيعرب الإن�سان ... عن �أن تكون من�سوقة على هيئة عمودين من املرتادفات .وليت
وهكذا .ذلك �أنّ َمن يعرف اللغة معرفة كافية ي�ستطيع �أن م�ؤلفي الكتب املدر�سية ومعلمي العربية يلتفتون �إىل َم ْنهج ّ
لغوي
بدل ُمزْ ِعج، ي�صحح ال ُّنطق �إذا عثرَ الل�سان فقال� :صوت مجُ ْ ِع ٌز َ ِّ ُم َتقدِّ م يف هذه ال�سبيل ،هو الزخم�شري .ف�إنه – يف معجمه
ال�صوت من مخَ ْ َر ِجه وي�ستطيع �أن يكت�شف الإخالل ب�إخراج ّ �أ�سا�س البالغة – ال يكاد ي�شرح اللفظة مبرادفها ،بل ي�أتي بها
�أو تغيري ِ�ص َفته �إذا �سمِ ع قائال يقول�َ :س َباح اخلري بدَ َل َ�صباح يف �سياقات حية متعددة تجُ ّلي داللتها وطريقة ا�ستعمالها يف
ي�صحح �أداء الأ�صوات جمتمعة �إذا �سمع اخلري ،وي�ستطيع �أن ّ �آن مع ًا.
قائال يقول :اجلامعة (بلفظ الالم ِجي ًما) ،وي�ستطيع �أن يتبينَّ حت�صل لنا ذلك �أ�صبح تعليم العربية عم ًال منهجي ًا
ف�إذا َّ
�ضم امليم ال�صرف �إذا قال قائلُ :مفْتاح ِب ِّ اخلروج على قواعد ّ من�ضبط املادة على امل�ستوى اجلزئي التف�صيلي (�إذ ي�صبح
بدل َ�ض ِّمها، َبدَ َل ِمفْتاح ِب َك ْ�سرها� ،أو قالَ :م ْع َجم ِب َفتح ِ
امليم َ
لكل موقف ت�أليفي تعليمي مو�ضوع جزئي حمدد كما يف النظام
118
االقت�صادي؟
ّ -هل نعلمها لأغرا�ض التوا�صل وي�ستطيع �أن يتبينّ اخلط�أ يف ال َّن ْظم �إذا �سمع قائلة تقول:
ال�سيا�سي؟
ّ -هل نعلمها لأغرا�ض التوا�صل احلفلة متى؟ واخلط�أ يف الإعراب �إذا �سمع مذيعا �أو مذيعة
مفاو�ضات مك َّث َف ٍة (بتنوين الك�سر يف
ٍ يقر�آنْ � :أجرى الوفدان
-هل نعلمها لأغرا�ض علمية حمددة؟ مك ّثفة بدال من تنوين الفتح)� .إ ّنه يكون قادرا على القيام بِدَ ْو ِر
فر�ض -ملاذا ال يكون تعلم اللغة الإجنليزية والفرن�سية َ ال�صورة (�س َعا) على هذه ّ إمالئي فيعرف ،م َث ًال� ،أنّ َ
امل�صحح ال ّ ِّ
كفاية ي َو َّج ُه له عدد من �أفراد الأمة لغايات مقررة مق َّدرة ت�س ُّد ال�صورة خط�أ �...إلخ.خط�أ ،و�أنّ ( َن ْر ُجوا) على هذه ّ
حاجة الأمة يف �سياق م�شروعها القومي؟ إمالئي» و»املُ ْع ِرب» و»املح ِّلل
«امل�صحح ال ّ
ِّ وما م�شاريع
-هل �أدى تعليم العلوم بالإجنليزية والفرن�سية يف العامل ال�صر ّيف» � ...إ ّال نمَ اذج ملحاكاة ما يختزنه الإن�سان من �أد ّلة
ّ
العربي �إىل نه�ضة علمية عربية؟
ّ الكفاية اللغو ّية ومناذج من تطبيقات متثيل اللغة للحا�سوب.
ولكنني �أحرت�س هنا ب�أنني ال �أدعو �إىل مقاطعة «تعليم» * يعاين املجتمع العربي من الثنائية اللغوية ،مبا هي
اللغات الأجنبية ،و�إمنا �أدعو �إىل « تر�شيده»؛ �أن يبنى على ا�ستعمال العربية والإجنليزية �أو الفرن�سية معا ،وهذه الثنائية
خطط ر�شيدة تتلم�س فائدتنا وم�صاحلنا ،و�إمنا يكون ذلك تتحمل ب�أخطار كثرية .كيف ت�شخ�ص لنا هذه احلال التي �سميتها
املوجهة التي ت�أخذ من «ب�أن ن�ستبدل بالثنائي ِة التعددي َة َّ ثنائية الهدر؟ وكيف ال�سبيل �إىل تقنني هذه الظاهرة؟
اجلميع» ما �أفادنا هذا الأخذ ،من اليابان �أو من ال�صني ،من -لعل هذه الظاهرة يف املجتمع العربي حتمل هاج�سني:
�أملانيا �أو هولندا ،من ماليزيا �أو كوريا ال�شمالية»!
الأول هاج�س اخلطر :ويتمثل يف النوم على الظن الذي
ومنتهى القول يف الثنائية اللغوية �أنها « مل ُت ْع ِق ْب فينا �إ َّال هو �إثم� :أنَّ اللغات الأجنبية هي و�سيلتنا لالنفتاح على الآخر،
حرية عطلت فعالية اللغة العربية يف �شطر رئي�س من مقومات ح�سب!
ح�صله من العلم واملعرفةْ ،و�إدراك ما َّ
حياتها هو �شطر العلم والتكنولوجيا واالقت�صاد .بل �إن الثنائية
العربي مبا �أدخلته على بع�ض ّ قد �أخ َّلت باالت�ساق يف املجتمع والثاين هاج�س الهدر :ومفاده �أنه لي�ست لدينا ر�ؤية وا�ضحة
النا�شئة من هذه االجتاهات ال�سلبية نحو لغتهم ،وما �أدخلته للأهداف والغايات من تعليم اللغات الأجنبية ،وما انتهى �إليه
على بع�ضهم من الزهو واال�ستعالء باللغة الأخرى ،كما ذلك من هدر للمال والوقت واجلهد؛ �إذ �إن نتائج تعليم اللغات
�أف�ضت �إىل تهجني العربية على �أل�سنة الناطقني بها يف امل�شرق الأجنبية ال توازي مقدار املال واجلهد املبذول ،وذلك على
واملغرب. امل�ستوى الفردي ال�ضيق ،وامل�ستوى ال ُق ْط ّ
ري الأو�سع ،وامل�ستوى
القومي الأرحب!
ّ
* مل تعد الق�ضايا اللغوية منعزلة عن ت�أثريات االقت�صاد
وتطرح الثنائية يف املجتمع العربي �أ�سئلة خطرية منها:
ومبادئه و�إجراءاته .هال و�صفت لنا تفاعل اللغة مع االقت�صاد
و�أثر العوامل االقت�صادية يف اللغة عموم ًا والعربية خ�صو�ص ًا. -ملاذا فر�ض امل�ستعمر لغته علينا ابتدا ًء؟
-لعله يح�سن �أن ا�ستذكر ما كتبته يف كتاب «اللغة العربية -ما جدوى تعليم هذه اللغة الآن؟
يف الع�صر احلديث» ،ويومذاك تناولت جدل عالقة العربية -هل نعلمها لن�ست�أنف م�شروع ًا �شام ًال للرتجمة ،مث ًال؟
119
عمدت �إىل ت�شخي�ص عالقة العربية باالقت�صاد ،وقد جعلت م�شخ�ص واقعي؛ وهو حوار يدور بني باالقت�صاد مبتدئ ًا بحوار َّ
تفكيك بنية هذه العالقة يف �أمثلة ثالثة هي: موظف ٍة طالب ٍة تخ�ص�صت يف اللغة العربية ومديرها ،وينتهي
هذا احلوار �إىل ت�سا�ؤل املدير املغ َّلف بالده�شة واال�ستغراب:
الأول :وهو من الواقع الراهن .ومفاده �أن اللغة العربية
وماذا تعملني باللغة العربية؟ وهو ت�سا�ؤل ينبئ عن ر�ؤية �أهل
باتت «لغة ُم ْ�س َت ْه ِلكة» تغزوها املفردات الإجنليزية ترتى،
االقت�صاد ،غالب ًا ،للغة العربية؛ �أنها لغة غري �صاحلة للأعمال
و�إمنا يحدث ذلك لأن �أهلها م�ستهلكون غري منتجني ،واللغة
واالقت�صاد ،وهو موقف ينطوي على بنية عميقة مفادها �أن
�إمنا ت�ستجيب ملنجزات الناطقني بها فتعرب عن �أفكارهم الإجنليزية هي لغة االقت�صاد والأعمال ،هي وحدها ح�سب!
ومبتكراتهم خري تعبري� ،أما و�أنهم ي�ستهلكون منتجات الآخر،
ف�إن لغتهم ت�ستهلك لغة الآخر! و�أما الآخر ف�إنه ي�ستثمر العربية وقد فككت ،هناك ،وجوه تغليب «النا�س» اللغة الإجنليزية
يف التنمية االقت�صادية ،فهو ي�ستثمرها ترويج ًا لب�ضائعهم يف يف املجاالت االقت�صادية ،مبين ًا العوامل التي م َّكنت لها على
العامل العربي ،وهم يتخذون الف�صحى ل�سان ًا لهم طلب ًا لل�شيوع ح�ساب اللغات الأخرى ،وهي عوامل اقت�صادية ذات �أبعاد «
الذي ال ميكن حت�صيله ب�أي عامية كانت .و الثاين:ا�ستثمار ا�ستيطانية وا�ستغاللية» ت�ستقوي بالقوة الع�سكرية املبا�شرة.
العربية يف جمال الإنتاج يف امل�صانع وال�شركات .ويتجاوز ذلك و�إمنا اتخذتُ هذا احلوار مدخ ًال لتفكيك عالقة اللغة
�إىل طموحات حو�سبة العربية والرتجمة الآلية ،ف�إنها مهمة العربية باالقت�صاد ،وهي عالقة تنطوي على مفارقات كثرية
و�ضرورية يف ت�أ�سي�س جمتمع املعرفة العربي� ،إذ �إن تعريب ومتعددة .ومن هذه املفارقات �إعرا�ض االقت�صاديني العرب،
احلا�سوب وملحقاته متطلب رئي�س لتحقيق ذلك ،وال �ضري ان ومنهم كثري من مد ِّر�سي علوم االقت�صاد يف اجلامعات ،عن
تت�أ�س�س مثل هذه امل�شروعات على �أهداف اقت�صادية خال�صة! ا�ستثمار العربية يف الأعمال وجماالتها املختلفة ،يف الوقت
الثاين :من املا�ضي البعيد ،وهو بيان عن دور العامل الذي ت�ستعمل ال�شركات الأجنبية اللغة العربية الف�صحى
االقت�صادي «التجارة» يف انت�شار الإ�سالم يف ماليزيا قدمي ًا، لرتويج ب�ضائعها يف قنوات جتارية معروفة .وثانية هذه
مث ًال ،وامتداد هذا العامل مدعوم ًا بعامل ديني خال�ص يتمثل املفارقات �إعرا�ض الطلبة عن التخ�ص�ص يف اللغة العربية
والإقبال على التخ�ص�ص يف اللغة الإجنليزية ،يف الوقت الذي
يف �إ�سالم املاليزيني .و�أما الآن ف�إنهم ي�صرحون ب�إقبالهم
يتزايد فيه �إقبال الإعالميني ومعدِّ ي برامج الأطفال على اللغة
على تعلم العربية ملثل هذا العامل ،م�ضاف ًا �إىل العامل الديني
العربية!
بالتزام خال�ص؛ ذلك �أنهم ين�شدون االنفتاح على الأ�سواق
العربية يف ظل طموح ماليزيا �إىل �أن تكون قوة اقت�صادية ويف ال�سياق ذاته دللتُ على بع�ض مالمح هيمنة الإجنليزية
كربى يف العامل! وتظهر العربية يف حياة املاليزيني اليومية: يف اجلوانب االقت�صادية يف املجتمع العربي ،فال�شباب العربي
يف الفتات الرتحيب بال�سياح ،والتحايا اليومية ،وا�ستخدام يرى يف الإجنليزية م�صدر ًا للرقي الوظيفي واالقت�صادي،
اجلاوي الذي هو احلرف العربي مع ّد ًال تعدي ًال طفيف ًا
ّ احلرف و�أ�صحاب املحال التجارية يرون فيها م�صدر ًا للدخل املرتفع.
ليوافق خ�صو�صية اللغة املاليوية .بل �إن ماليزيا قـ ــد �ش ـ ــرعت وانت�شارها يف الفتات املحال التجارية و�إعالنات ال�صحف
نهج ًا يخت�صر بـِ ( ،)J QAFوهو ي�أتلف من �أركان �أربعة يرمز جلي!
اليومية ظاهر ّ
اجلاوي ،و
ّ كل حرف �إىل واحد منها؛ فـ ( )Jيرمز �إىل احلرف فلما فرغتُ من هذه املقدِّ مات العامة واحلقائق املبا�شرة
120
ابتكر احلا�سوب �أو ًال بها ،تعاين من ت�أثريات الإنرتنت ال�سلبية ( ) Qيرمز �إىل القر�آن ،و Aيرمز �إىل العربية ،و Fيرمز �إىل
متمثلة يف :البنية اللغوية املهلهلة ،وا�ستعمال االخت�صارات التي (فر�ض عني) وهو م�شروع �ساطع الداللة ال يحتاج �إىل ت�أويل.
تزاوج بني الكتابة باحلروف والأرقام ،والكتابة بالعامية....
العربي ،ومفاده �أن
ّ و�أما املثال الثالث فهو من احلا�ضر
�إلخ .وال �شك �أن هذه الت�أثريات قد انتقلت �إىل العربية وغريها
دور االقت�صاد يف حال العربية مرتهن باجلدوى ،وعلى هذا
من اللغات ،و�إن اخت�صت العربية بالكتابة باحلرف الالتيني!
ف�إن النا�س يقبلون على �أي لغة ما دام ا�ستعمالها جمدي ًا مادي ًا،
وحق ًا �أن التداول العربي بالإنرتنت قد يتخذ اللهجة يف�سر ن�شر الإعالنات يف ال�صحافة اليومية بالعامية، ولعل ذلك ِّ
املحكية باحلروف الالتينية ،ولكن هذا املنحى ميكن �أن يكون وقبول الر�سائل املبثوثة يف حوا�شي الف�ضائيات بعامية �سوقية،
م�ؤقت ًا وخا�صة �إذا ما تعهد تطوي ُر الربجميات ونظم الت�شغيل و�سعادة مدير ال�شركة بعقد �صفقة رابحة بالإجنليزية �أو
َ
ا�ستعمال العربية الف�صحى وح َّول �أ�شرعته �ض ّد م ّد بالعربية الرو�سية �أو الالتينية!
التوا�صل املبا�شر بالإجنليزية واللهجات العربية املكتوبة
و�أما الآثار ال�سلبية لالقت�صاد يف اللغة العربية فتتمثل يف
باحلروف الالتينية.
جانبني:
* كيف ترى منزلة املجامع اللغوية يف املجتمع العربي؟
-1معجمي؛ يتمثل يف الإخالل بنقاء العربية و�أ�صالة
وكيف تقيم جهودها؟
�ألفاظها؛ �إذ كَثرُ َ ِت الأ�سماء والرموز والعالمات التجارية
-تراجعت منزلة املجامع يف احلياة العربية هذه الأيام الإجنليزية.
عما كانت عليه يف بدايات ن�ش�أتها .ولعل مرجع ذلك �إىل ت�سارع
مي) متثل يف انحرافات تركيبة تخالف تركيبي ْ
(نظ ّ ّ -2
املتغريات التي تقت�ضي الر�أي فعالية مقنعة ،و ين�ضاف �إىل
عن قوانني الرتكيب العربي ،وال �سيما تركيب الإ�ضافة الذي
هذا انكفاء املجامع على �أوهام �سلطتها القائمة على «ثوابت»
�صار يجري على ن�سق الإجنليزية ،كما يف ( :موبايل �سيتي)
وجيهة ال ريب ولكنها لي�ست كافية لتمكني املجامع من �إنفاذها؛
و (مكة مول) .
�إذ �إن ال�سيا�سة اللغوية لي�ست مبعزل عن � ِآم ِر الواقع والعوامل
وال�شروط التي مت ِّكن للغة من ال�سريورة واالنت�شار وعلى ر�أ�سها وم�ست�صفى القول �أن ثمة �ضرورة لدفع احلوار بني
العامل االقت�صادي مبعناه الوا�سع� .إن تعريب العلوم وتعليم االقت�صادي والل�ساين ،و�إقناع االقت�صادي بجدوى العربية
العلوم بالعربية مث ًال ال يكفي يف حتقيق املقولة ال�سائدة وهي الف�صحى يف الرتويج والربح .و�أنه ينبغي ا�ستثمار اللغة العربية
�أن اللغة الأم هي �سبيل الإبداع –وهي مقولة �سديدة ال ريب_ يف م�شاريع التنمية العربية.
ولكن تعليم العلوم بالعربية يقت�ضي مطالب تتجاوز املجامع؛
* ع َّد «ديفيد كري�ستال» يف كتابه «اللغة والإنرتنت» الإنرتنت
�إنها َمطالب تتعلق بحاجة الأمة جملة وم�شروعها احل�ضاري
ثورة لغوية حقيقية! ما مدى ت�أثري الإنرتنت يف العربية؟
وبناء قاعدة علمية باللغة العربية وما يقت�ضيه ذلك من تدابري
�سيا�سية. -يقرتب كالم كري�ستال كثري ًا من ال�صحة؛ و�إمنا يتمثل
ذلك يف ت�أثري الإنرتنت يف طرق التوا�صل والتعبري ،ويتجاوز
وحقا �أن املجامع :اجتهدت يف جوانب متعددة من الن�شاط
ذلك �إىل بنية اللغة ذاتها؛ فاللغة الإجنليزية نف�سها ،وهي التي
العلمي ،كتحقيق الرتاث ،وتعريب العلوم ،وتعريب امل�صطلحات،
121
عدم ا�ستثمار منجزات الل�سانيات احلا�سوبية والربامج والرتجمة ،وا�ستجابة العربية للعلوم احلديثة� ،إ�ضافة �إىل
التعليمية املطورة لت�سريع تعليم العربية وتطويره. املحا�ضرات التنويرية والتثقيفية التي تتناول ق�ضايا العربية
املعا�صرة .ولكن فعالياتها ُت َق ِّ�صر عن مواكبة �إيقاع احلياة
* كيف ال�سبيل �إىل حت�سني جدوى هذا التعليم؟
املت�سارع ودورة اللغة يف �سياق التجدد والتحديث.
-ميكن �أن ن�ضيف �إىل امل�شروعات القائمة �أبعاد ًا جديدة ،
* كيف تقيم جهود تعليم العربية للناطقني بغريها؟
ون�ستدرك ما فاتها من نق�ص باال�ستفادة من الر�ؤى الل�سانية
التالية : تق�صر
-ما تزال جهود تعليم العربية للناطقني بغريها ِّ
عن امل�ؤ َّمل واملرجو رغم �أن هذا املجال ميتد �إىل زمن بعيد،
-1ا�ستبانة الأهداف :
و�أح�سب �أن العوامل التالية ت�سهم يف ت�أخره:
وذلك ب�أن ن�ستطلع الأهداف التي ينطوي عليها الدار�سون؛
عدم ا�ستثمار منجزات الل�سانيات التطبيقية ور�ؤاها
ب�إعداد ا�ستبانة مدرو�سة ،يكون م�ست�صفاها جرد ًا لأهداف
النظرية يف و�ضع املناهج وتطوير طرائق التدري�س؛ ف�إذا
الدار�سني .و�أما غاية ذلك فتتمثل يف �ضبط العملية من الأول،
نظرت �إىل ما ينجز من بحوث يف الل�سانيات التقابلية وجدتها
فيو�ضع املنهاج وفق ًا ل�صيغة �إئتالفية متوازنة من اهدافهم
�شتى متفرقة مل تنته �إىل حلول منا�سبة ملعاجلة م�شكالت
التي ين�شدونها من جانبهم و�أهدافنا التي نتمثلها من جانبنا.
تعليم العربية للناطقني بالإجنليزية �أو الفرن�سية �أو املاليزية،
�أما تف�صيالت هذه اال�ستبانة فقد عر�ضتها يف �سياق بحث
رغم �أن ما �أجنز يف ال�سياق الأكادميي والر�سائل اجلامعية
�سابق هو «الت�س�آل عن الهدف» .
ي�صلح للبناء عليه .ثم �إن نتائج هذه الدرا�سات مل تت�شخ�ص
-2عيار الكفاية : يف مناهج درا�سية تقوم على تعليم العربية لأغرا�ض خا�صة
�أو لفئات خا�صة.
�أن نط ِّور اختبارات مقننة لقيا�س الكفاية اللغوية متكننا
من حتديد م�ستويات الدار�سني على بينة ،وت�صنيفهم على َو ْفق �أن كثري ًا من مدر�سي العربية للناطقني بغريها يفتقرون
ذلك. �إىل الكفايات اللغوية والثقافية املطلوبة لإجناز التعليم على
الوجه امل�ؤمل .بل لعلك جتد من «ميتهن» هذا العمل من
-3التحليل التقابلي :
غري املتخ�ص�صني يف الل�سانيات العربية و�أ�ساليب تدري�سها
�أن ن�ستفيد م�ستخل�صات الل�سانيات التقابلية يف حتديد للأجانب اتكا ًء على �أنهم « متحدثون �أ�صليون» بالعربية.
وجوه االتفاق بني العربية ولغات الدار�سني ،ثم التنب�ؤ
عدم �إقامة الفرق بني تعليم العربية لأبنائها وتعليمها
بال�صعوبات اخلا�صة التي �ستن�ش�أ من اختالف العربية عن
للناطقني بغريها؛ فقد يد ِّر�س بع�ضهم كتاب ًا بني ملتعلمي
لغاتهم ،ثم �صرف اهتمام ممدود �إىل تلك ال�صعوبات،
العربية من �أبنائها الأطفال لبالغني من الأجانب! وقد يتبع
واعتبارها يف املناهج الدرا�سية .
�أحدهم طريقة متبعة يف تعليم املفردات لأبنائها!....
-4م�ستحدثات الو�سائل :
عدم االعتناء ب�إعداد الكتب واملواد التعليمية �إعداد ًا جيد ًا
�أن ن�ستثمر ا�ستثمار ًا منهجي ًا م�ضبوط ًا م�ستحدثات الو�سائل ومعجب ًا ي�ضارع يف �شكله و�إخراجه كتب اللغات الأجنبية.
يف خمترب اللغات واحلا�سوب خا�صة.
ان�صراف امل�ؤ�س�سات الر�سمية ،غالب ًا ،عن دعم هذه
-5م�شروع احلي العربي : الربامج وتطويرها.
122
-8العربية لأغرا�ض حم َّددة : �أن نهيئ الدار�سني الكت�ساب العربية باملران والدربة يف
�أن من ِّيز غايات الدار�سني واخت�صا�صاتهم ؛ لن�ضع ،يف و�سطها الطبيعي احلي ،بابتداع �صورة م�صغرة لدورة اللغة
هدي ذلك ،مناهج تق�صد �إىل حتقيق تلك الأهداف ق�صد ًا، العربية يف حياة الإن�سان العربي اليومية (يف البيت ،والعمل،
فتكون مناهج باللغة العربية لل�سيا�سيني واالقت�صاديني واملدر�سة ،واجلامعة ،واملطعم واحلافلة. ) ..
والأطباء واملهند�سني. وقد يكون هذا احلي مبنى ،يبد�أ الدار�س مبدخله يلقي
* هل ميكن �أن تطل لنا �إطاللة �سريعة على امل�شهد الل�ساين ويطلع على دليل املبنى ،وقد ينتقل �إىل حديث �شرب التحية َّ
العربي يف منتهى القرن الع�شرين ومبتد�إ القرن احلادي القهوة يف ال�صباح ،وقراءة ال�صحيفة يلتم�س فيها الن�شرة
والع�شرين؟ اجلوية ،مث ًال ،وي�ستمع �إىل ن�شرة الأخبار .ثم يتحول �إىل
منوذج لبنك ،ومنوذج ملكتب بريد ،ومنوذج ملكتب طريان
� -أ�سدل القرن الع�شرون �ستاره على م�شهد لغوي ميكننا ومنوذج ملطبعة ومنوذج ملكتبة ،ميار�س يف كل ذلك وغري ذلك
تكثيف �صفته باملقوالت الإجمالية التالية: م�ستلزمات حاجته �إىل ا�ستعمال اللغة يف �سياقها .وقد ينتقل ْ
ق�ضايا معلقة كق�ضية الكتابة ،واالزدواجية ،والتي�سري، بعد ذلك �إىل ح�ضور ندوة يف �ش�أن عام �أو متخ�ص�ص ،ومتابعة
وتعريب العلوم. م�سل�سل ناطق بالف�صحى �أو م�سرحية �أو ق�صيدة ُم َغ َّناة ،وكل
هذا يتم على نحو مربمج توزع فيه الأدوار �سلف ًا .
ق�ضايا يف املنهج تعك�س خالف ًا «اتباعي ًا» بني �أتباع املناهج
الل�سانية الغربية؛ كما تعك�س �شكوك ًا متبادلة بينهم وبني ُ -6عقْدة االزدواجية :
املحافظني من اتباع املنهج التقليدي الذين يقفون عند حدِّ ما ولعل فكرة احلي العربي تكون تدبري ًا ناجع ًا يف حل هذه
�أجنزه الأوائل .وك ٌّل يلوذ باملنهج الذي ارت�ضى على انه غاية امل�شكلة ،التي ت�صيب الدار�س الأجنبي مبا ي�شبه االنف�صام ،
املنتهى. حني يجتهد �أن يتعلم الف�صحى على نحو مدرو�س ،لكنه يرى
جهود يف ت�أ�سي�س موقع للنظرية الل�سانية العربية «القدمية» النا�س يتوا�صلون بالعامية ! !
يف �إطار م�ستحدَ ثات الأنظار يف الل�سانيات الغربية. -7منوذج ف�صيح للخطاب العامي :
تطلعات �إىل ت�أ�سي�س نظرية ل�سانية عربية تقوم على ويكون من م�ستلزمات هذا التدبري ،على امل�ستوى اللغوي،
(خ�صو�صي العربية) واملنهج (كليات
ّ امل�شاكلة بني املو�ضوع �أن نطور منوذج ًا ف�صيح ًا للخطاب العامي يقوم على ا�ستثمار
النظريات الل�سانية) مل تتبلور حتى الآن على نحو متما�سك قواعد الف�صحى املنطوقة .وهو منوذج ف�صيح ولكنه يت�صف
من�سجم. بالواقعية والعفوية ،وي�ستثمر ما ي�سمح به ال�سياق �أو املقام
جهود يف حو�سبة العربية تن�شد ا�ستثمار �إمكانات احلا�سوب من ُر َخ�ص احلذف واالجتزاء ،ومينح التعبري طابع ًا طبيعي ًا
والتطبيقات التي تتيحها يف تعليم العربية وتعميميها وت�أ�سي�س غري متكلف ،ف�إن اخلطاب ال�شفوي بالف�صحى يف واقع احلياة
موقع لها يف ع�صر االت�صال .وغاية النهاية من هذه التطبيقات اليومية ،عندنا ،ما يزال يجري على ر�سوم لغة الكتابة ،واللغة
بلوغ الرتجمة الآلية ومتكني الإن�سان العربي من التخاطب مع املكتوبة ت�شبه �أن تكون بنية مغْلقة ويف�ضي بنا هذا �إىل �أطروحة
الآلة. ُم ْ�ستق َّلة .
123
الق�صة ال�شعرية ،فينقلون مقوالت الغربيني يف حتليل اخلطاب * كيف تقيم حركة الرتجمة العربية ومدى �إ�سهامها يف
�أو نحو الن�ص نق ًال ...ويجعلونه �شطر الر�سالة .ف�إذا انتقلوا ن�شر املعرفة؟
�إىل مادة الدرا�سة تناولوها مبعزل عن تلك املقوالت ،فجاءت
حتليالتهم �أ�شتات ًا غري متما�سكة يف ذاتها وال مندغمة مبقوالتها! -لعل خري ما ميكن �أن ن�صف به الرتجمة العربية القول
وهذا مثال واحد وح�سب ،ونظائره كثرية ت�شبه �أن تكون ظاهرة �إنها يف الع�صر احلديث كانت مر�آة حلال الأمة يف الرتدد بني
يف الر�سائل اجلامعية ذات املنحى الل�ساين� .إن هذا املطلب يف النهو�ض وال ِعثار ،واالنف�صام بني الفكرة والإجناز .وكان دورها
االندغام الع�ضوي بني �أنظار الغربيني وتطبيقات �أبناء العربية يف رفد اللغة على وفق ذلك .بل �إنه ميكننا �أن ن�ستعري للعربية
ما يزال معلق ًا. والأمة والرتجمة و�صف ًا متعا َرف ًا حلال املري�ض حيث يقال �إنها
م�ستقرة!»
تف�ضلت بتقدمي ر�ؤيتك اخلا�صة يف ت�شخي�ص عالقة
َ * هال
العربية بالعوملة يف نواحيها املختلفة؟ * هل ثمة ن�صائح توجهها لل�سانيني ال�شبان؟
-ينبغي �أن ينطلق ه�ؤالء ال�شبان من معرفة جيدة مبنجز
-لي�س خافي ًا على احد �أن العوملة اجتاحت � ّ
أخ�ص
خ�صائ�ص ال�شعوب؛ ثقافتها وهويتها ودينها ولغتها .ولي�س الرتاث اللغوي العربي ،و�أن يتب�صروا الأنظار الل�سانية احلديثة
املجتمع العربي وهويته الثقافية واللغوية يف منجى من رياح (خا�ص) العربية وما هو (عا ّم)ّ لإقامة توازن فكري بني ما هو
العوملة و�أح�سب �أن مو�ضوع (العربية والعوملة) لقي عناية يف الل�سانيات الغربية احلديثة ،و�أال يق�صدوا من ذلك �إىل اجلزم
الل�سانيات االجتماعية العربية احلديثة ،ف�أجريت الدرا�سات بتف�ضيل �أحدهما على الآخر� .إن االهتداء بهدي الر�ؤى الل�سانية
وعقدت الندوات وامل�ؤمترات ،ق�صد ًا �إىل ت�شخي�ص ت�أثرياتها احلديثة مطلب منهجي خال�ص ال تنبني الر�ؤية الكلية �إال به.
و�أخطارها على العربية ،وو�صو ًال �إىل �إجراءات وتدابري ثم �إن ا�ستيعاب جممل الأنظار الل�سانية الغربية ،وهو عمل
احرتازية حلماية العربية وحت�صينها .وقد انتهيت يف كتابي « لي�س �سه ًال ،مطلب منهجي وعملي له�ؤالء ال�شبان �إن �أرادوا �أن
اللغة العربية يف الع�صر احلديث....قيم الثبوت وقوى التحول ي�سهموا ،وي�سهم العرب ،يف النظرية الل�سانية العامة ،و�إن
�إىل: �أردنا �أن ننتقل بجهودنا من « ل�سانيات العربية» �إىل «الل�سانيات
� -أن العوملة على امل�ستوى الثقايف تواجه مدافعة عنيدة الكلية».
باملرجع الديني يف الثقافة العربية و�إن تغلغلت ب�إغرائها ولعل ما ورد يف كتابنا « اللغة العربية يف مر�آة الآخر......
اال�ستهالكي والغرزي يف �أو�ساط النا�شئة. مثل من �صورة العربية يف الل�سانيات الأمريكية» من ت�شخي�ص
� -أن العربية على امل�ستوى اللغوي اخلال�ص تواجه حتديات حال بع�ض طلبة الدرا�سات العليا يكون مفيد ًا هنا؛ ذلك �أن
من جهة النقاء ،و�أنها م�ستهدفة يف حمموالتها ،ولكنها لي�ست كثري ًا من ه�ؤالء الطلبة يتخذون طريق ًا توفيقي ًا يعتمد منهج ًا
مهددة يف عمود �صورتها على اجلملة� ،إنها_ يف ت�شكيلها غربي ًا ومادة عربية يف التطبيق يعانون ازدواج ًا وانف�صام ًا؛
اللغوي اخلال�ص بتجلياته وم�شكالته_ قد �أ�صبحت «غر�ض ًا» ف�إنهم مث ًال قد ي�ستهويهم منهج حتليل اخلطاب ،فيحاولون
ّ
ل�سهام الدول املتقدمة يف ركب العوملة ،وذلك يف دعواتهم تطبيقه على ظاهرة لغوية عربية كاحلوار اجلديل يف القر�آن �أو
124
اال�صطالحية � -ضرب ًا من الفعالية الل�سانية ميكننا �أن نن�سبه ال�سافرة �إىل « حتديثها» من جهة ،والتوجيه املربمج لتمويل
�إىل حقل التخطيط اللغوي كما عرف يف الل�سانيات الغربية من تعليمها للآخر ،وحو�سبة لهجاتها ( من اجلانب الأمريكي) من
بعد. جهة �أخرى.
ويتبني �أهل العربية ذلك ،الآن ،على نطاق وا�سع يف �ضوء � -أن العربية على م�ستوى العلوم والتكنولوجيا تواجه
منو الوعي الل�ساين ،وهو مما جنده مقرر ًا يف �سياق الل�سانيات نكو�ص ًا ظاهر ًا �إال �أنْ حتفزه وتتداركه دوافع جدوى بالرتجمة
احلديثة ،وهو �سياق غربي حمايد؛ �إذ هو مما يطوره الغرب الآلية.
لنف�سه يف �إطار علمي ال ي�صدر عن حتيز �أو خ�صو�صية للغة
� -أن كتابة العامية باحلرف الالتيني يف ر�سائل الربيد
�أو ثقافة وخا�صة يف الل�سانيات التوليدية التحويلية .ويكفي �أن
الإلكرتوين وغرف الدرد�شة متثل « ِر َّد ًة» مزدوجة �إىل دعوة
نورد هنا ما يورده �أحد كتب الل�سانيات العامة ،بالإجنليزية،
قدمية دعا بها الغرب كما مت ِّثل متكين ًا للعامية من جهة وغربة
من �أنه لي�س من �شيء ميكن التعبري عنه يف �إحدى اللغات
لر�سم العربية (نظام كتابتها) من جهة �أخرى.
وال ي�ستطاع التعبري عنه يف لغة �أخرى ،ويالحظ م�ؤلفو ذاك
الكتاب �أنه وا�ضح �أن لغة ما ميكن �أن حتتوي �ألفاظ ًا َّ
دوال على باطراد نحو ك�سر احتكار � -أنَّ حو�سبة العربية تتقدم ّ
معان ال جندها يف لغة �أخرى ،ولكنه ممكن دائم ًا �أن ن�ضع ٍ اللغة الإجنليزية للإنرتنت وتفتح للقارئ العربي والعربية �آفاق
�ألفاظ ًا جديدة تعرب عما نعني ،ف�أميا �شيء ن�ستطيع �أن نتخيله التوا�صل واالمتداد يف الف�ضاء الكو ّ
ين.
�أو نت�صوره ف�إنه ميكننا �أن نعرب عنه يف �أي لغة �إن�سانية. * تعد ق�ضية «اللغة العربية واحل�ضارة»؛ قدرة العربية على
وقد كنت تناولت هذه امل�س�ألة بالتف�صيل يف بحث « اللغة التعبري عن متطلبات احل�ضارة احلديثة �إحدى ق�ضايا العربية
العربية واحل�ضارة» ،وقد بينت فيه �أن اللغة العربية اجتازت املعا�صرة ،وهي ق�ضية متجددة وما تزال �أ�سئلتها مطروحة.
بتفوق م�شهود جتربة ح�ضارية فذة حني ات�سعت للتعبري عن لعلك تعر�ض لنا منزلة هذه الق�ضية يف الفكر الل�ساين احلديث،
دعوة الإ�سالم وما �أعقبها من نه�ضة ح�ضارية �شاملة؛ �إذ وكيف عاجلتها.
ا�ستوعبت علوم الأوائل و�أ�ضافت �إليها �إ�ضافات م�شهودة يف � -إن ق�ضية الف�صحى يف عجزها عن حتقيق الإبداع
ميادين العلم واحل�ضارة. والوفاء مبطالب العلوم والفنون قد دافعها العرب با�ستح�ضار
�إن النظر �إىل هذه امل�س�ألة يطرح ت�سا�ؤ ًال عري�ض ًا يربط الدليل على جتربتهم املا�ضية يف التاريخ ،والعمل احلثيث
القدرة اللغوية الذاتية للعربية بالفعالية احل�ضارية لأهل �أفراد ًا وم�ؤ�س�سات على و�ضع «معجمات» ا�صطالحية يف �شتى
العربية؛ فقد تفوقت اللغة حني تفوق �أهلها و�أجنزوا ،وتخلفت فروع املعرفة ،وكانت ،و�إن بقيت معطلة على الرفوف مل
عندما تخلفوا وتقهقروا! ت�ستثمر كما قدر لها ،دلي ًال كافي ًا عندهم على �إثبات قدرة
العربية .و�إذا كانت هذه ال�شبهة غري واردة �أ�ص ًال ،وكان العمل
* كيف ترى ال�سبيل املنا�سب لتي�سري النحو؟
يف الربهنة على بطالنها من لزوم ما ال يلزم فقد مثلت-
-ميكن �أن �أ�ست�صفي القول يف تي�سري النحو ب�أننا �إذا املوجه لو�ضع املعجمات يف ق�صدها املبا�شر بالعمل اللغوي َّ
125
-ما موقفهم من العربية من حيث هي ظاهرة لغوية؟ ا�ست�صفينا يف منت النحو قواعده املحورية املتواترة ال�ضرورية،
-ما موقفهم من العربية من حيث هي وعاء ملحمول ثقا ّيف ون�سقناها يف بنية من�سجمة نظمية �إعرابية �صرفية ،واتخذنا
ح�ضاري ؟
ّ لتعليمه مواقف وظيفية ،وربطنا القواعد بن�صو�ص م�شرقة
ت�شف عنها �شفافية جلية ،وعززنا ذلك بالتدريبات القيا�سية ّ
وهي �أ�سئلة تنطوي على مقاربة �ضمنية ال�ستجالء ر�ؤية
الغنية ومواقف الأداء اليومية احليوية ،ب َلغْنا بالنا�شئة تلك
« الآخر» للغتنا التي تعرب عن ثقافتنا وهويتنا ،وهي ت�ستبطن الغاية الق�ص َّية ،وحققنا فيهم �أحالمهم الع�صية.
�أبعاد تناوله للعربية يف �سياقه الثقايف والعلمي اخلال�ص فيما
ي�شبه �أن يكون �صدور ًا ومتث ًال واعيني ل�صدور القوم عن مقوالت ولعله يح�سن يف البدء -يف تدريب الطلبة على الإعراب-
من مثل « �صراع احل�ضارات وحوار احل�ضارات» وال �سيما حني �أن نبد�أ با�ست�شراف الرتكيب الذي نت�صدى لإعرابه ا�ست�شراف ًا
تقرتن مواقفهم بايديلوجيات متطرفة �أو منحازة. كلي ًا ثم نحاول �أن منيز عنا�صره الرئي�سة (م�ؤلفاته املبا�شرة)
حمتكمني �إىل فهمنا العام و�سليقة اللغة فينا ،ف�إذا ا�ستقام
�أما من�ش�أ هذا ال�س�ؤال ف�إنه يعود �إىل عام �ستة و�سبعني من لنا ذلك م�ضينا �إىل تف�صيالت الإعراب وفق ًا ملعطيات النحو
القرن الع�شرين ،حني كنت م�شارك ًا يف حلقة الدرا�سات اللغوية وقواعده املعروفة.
يف نيويورك ،وهي حلقة لغوية �سنوية تتخذ يف كل عام مو�ضوع ًا
خا�ص ًا وي�أتيها الل�سانيون من �أنحاء العامل كله وهم ينطوون * تطرقت �إىل مو�ضوع نادر يف الل�سانيات العربية وهو
على ر�ؤى خا�صة بلغاتهم �أو اللغات التي كانوا يتقنونها ،ومن «�صورة العربية عند الآخر» .فما الذي دفعك �إىل هذا
املو�ضوع؟
هذه اللغات اللغة العربية .واتفق �أن يكون عنوان حلقة ذاك
العام « الكونيات اللغوية وت�صنيف اللغات» .فكان �أن هي�أت -كان ق�صد هذا الكتاب �أن يجيب عن ال�س�ؤال العري�ض
يل هذه امل�شاركة فر�صة اللتقاء عدد من الل�سانيني امل�شهورين التايل :
الذين تناولوا العربية يف بع�ض درا�ساتهم و�أبرزهم :فرغ�سون
ما �صورة العربية يف الل�سانيات الأمريكية؟
�صاحب املقال امل�شهور « االزدواجية «.
وهو �س�ؤال كبري ين�شعب �إىل �أ�سئلة فرعية هي:
و�سوزمو كونو ( الل�ساين الوظيفي) ،وميت�شل وغريهم .لقد
هي�أت يل هذه اللقاءات فر�صة مناق�شة القوم يف بع�ض �ش�ؤون -ما مالمح « العربية» يف « مر�آة» علماء الل�سانيات يف
اللغة العربية وت�صحيح بع�ض املفاهيم اخلاطئة عنها وعن �أمريكا؟
جهود العرب الأوائل يف النظرية الل�سانية العربية .وكانت هذه -ما موارد العربية يف م�ؤلفاتهم الل�سانية الأ�صول
النقا�شات مبعث ًا له على �إظهار ما َ�صدَ َر عنه اللغويون العرب مبناهجها املتعاقبة؟
من ر�ؤى َ�ض َّمنتها كتابي « نظرية النحو العربي يف �ضوء مناهج
النظر اللغوي احلديث. -ما مقدار « اطالعهم» على « �أنظار» علماء العربية؟
-ما مقدار االنتفاع ب�أنظارهم هم يف مقاربة العربية
وقد تناولت يف هذا الكتاب « اللغة العربية يف مر�آة الآخر»
بر�ؤية « �إ�ضافية»؟
كيفية ظهور اللغة العربية يف م�ؤلفات الل�سانيني الأمريكيني
126
يف م�شروع لإجناز املعجم التاريخي للغة العربية و هو م�شروع على اختالف ع�صورهم ور�ؤاهم ومدار�سهم واجتاهات الدر�س
الأمة امل�أمول منذ عقود . الل�ساين املختلفة؛ وخا�صة �أن ال�سائد يف الل�سانيات العربية من
اجلانب العربي �أنها تقدم لنا �صورة العربية يف �ضوء الل�سانيات
و �أما يف �أبو ظبي فلتقدمي حما�ضرة عن اللغة العربية
كما نراها نحن مبر�آتهم ال كما يرونها هم .وع�سى �أن يكون
و �س�ؤال امل�صري يف مركز الإمارات للبحوث و الدرا�سات
ذلك مدخ ًال منا�سب ًا للدرا�سات الل�سانية الثقافية التقابلية
الإ�سرتاجتية .
التي تتناول �صورة اللغة عند «الآخر» مبنظور النقد الل�ساين
* لعل �أهم التحديات التي تواجهها العربية الآن ما ي�سمى �صحت العبارة!املقارن� ،إن َّ
« الهجني اللغوي» �أو « العربيزي» يف و�سائل التوا�صل الإلكرتوين
املختلفة .ما مدى خطر هذه الظاهرة على العربية الف�صحى؟ * قد جرى اختيارك لع�ضوية جمل�س �أمناء مركز امللك
وكيف ال�سبيل �إىل درء خماطرها عن العربية؟ عبد اهلل بن عبد العزيز خلدمة اللغة العربية . .ما طبيعة عمل
هذا املركز؟ وما �أهدافه بعيدة املدى؟
-الهجني اللغوي منط من اخلطاب �أعقبه فينا امتداد
اللغة الإجنليزية (ل�سان العوملة) و ا�ستهوا�ؤها لقطاع من -طبيعة عمل املركز من�سجمة مع الهدف الذي ي�صرح به
النا�س يرونها �سمة للحداثة و التفوق . عنوانه ب�أنه (دويل) (خلدمة اللغة العربية) و ميثل ا�ستجابة
للتحديات التي تواجهها اللغة العربية
و لعل ت�شخي�صها يف �أمثلتها املتداولة و نزعات املتحدثني
بها ميثل �أوىل �سبل مواجهتها و معاجلتها . و ينتظم عمله يف جوانب منه م�شروعات مناظرة مل�شروعات
املجامع و امل�ؤ�س�سات اللغوية يف التمكني للعربية و املحافظة
* �أنت على اطالع تام بامل�شهد اللغوي العربي؛ كيف ت�صف عليها و لكنه ينتحي �إىل ذلك منحى
هذا امل�شهد يف امل�ستوى التداويل والعلمي؟
يحتفي بال�سانيات و �أ�سئلة العربية املبا�شرة كما يتميز ب�أنه
امل�شهد اللغوي العربي على م�ستوى التداول ي�شبه برج بابل ميد ج�سور التعاون مع امل�ؤ�س�سات و اجلامعات املعنية باللغة
�أما على امل�ستوى العلمي اللغوي فهو يفيئ اىل مثل برج عاجي. العربية من ال�شرق الأق�صى اىل ال�شمال الأوروبي و العمق
الإفريقي و غريها
* ان�شغلت يف الأيام املا�ضية بزيارات مكوكية بني الريا�ض
ن�شرت بع�ض فقرات هذه املقابلة يف كتاب حافظ �إ�سماعيلي ووليد العناتي «�أ�سئلة والدوحة وابو ظبي؛ فهل كانت هذه ال�سفارات يف �ش�ؤون
اللغة� ..أ�سئلة الل�سانيات». م�ستجدة من �ش�ؤون العربية؟
� -أما يف الريا�ض فلتقدمي امل�شورة يف التطوير املهني
ملعلمي العربية لعل املعلم ي�صبح قادرا على �أن يقدم اللغة كما
يقدم الدكتور حممد �أوز الطب و �أما يف الدوحة فللم�شاركة
مـ ـت ـ ـ ـ ـ ـ ــاب ـ ـ ـع ـ ـ ـ ـ ـ ــات:
�" -شــــــرفــة الـــعـــــــار" �صرخة �أخرى لن�صرة املر�أة
-رحــلـــــــــة فــــي �أدغــــــــال :قـــــــــــارع الأجـــــرا�س
التجــــــربة و�شـــــــــــرارتها
ِ ــــــــــر
-بيــــــــــروتَ :ح َج ُ
-القا�صة ب�سمة النمري والدوران يف �شرنقة الذات
-قــيـــــــــــــــم الأدواء فــــــــــي "ذات مـــ�ســــــــــــــــــاء"
-هــــــــــــــــــــــزاع الــبــــــــــــــــــــراري روائــيـــــــــــــــــــــ ًا
-ا�ســـرتاتيجية التــــ�أويل الداللـــي عنـــد املعتـــزلة
-ثقــــــــافة املعـــــــرفة والتفكيـــــــر اال�ســــرتاتيجي
128
ناقد �أردين.
129
�إن �إبراهيم ن�صراهلل ي�س ّلمك على غري ما عادة – مفتاح ويبدو �أن اهتمامات �إبراهيم ن�صراهلل الروائية قد بد�أت
روايته حيث يث ّبت يف مقدمة روايته – كتوطئ ِة -تقرير التنمية ترتاد �آفاق ًا �أكرث رحابة ،فانعقد بني عينيه ويف مدى الر�ؤية
الب�شرية للأمم املتحدة للعام 2009الذي ي�ؤكد �أن عدد �ضحايا ال�شاعرية التي مل يربحها ومل تربحه ،انعقد م�شهد ال�شرفة
ال�شرف يف العامل �سنوي ًا ال تقل عن خم�سة �آالف امر�أة
جرائم ّ الأكرث �إن�سانية والأقل ا�ستغراق ًا يف عنوان اهتماماته الكبري
«ويف الأردن ،حيث كتبت هذه الرواية -هكذا يقول -ت�شري (الق�ضية الفل�سطينية)� ،إنه عنوان «ال�شرفات» الذي �أطل من
الأرقام الر�سمية �إىل وقوع من 20-15جرمية قتل �سنوي ًا .كما خاللها بر�ؤية ال�شاعر والروائي املبدع على عدد من املو�ضوعات
أرقام و ِن َ�سب �أخرى يف دول اجلوار
ي�شري التقرير املذكور �إىل � ٍ امل�ؤرقة ،فجاء منها �شرفة الهذيان و�شرفة رجل الثلج و�أخري ًا –
من �شرقنا العربي املنافح – بامتياز -عن ال�شرف ،والتفوق ورمبا -لي�س �آخر ًا «�شرفة العار» الرواية التي تت�ضمن مو�ضوع ًا
الذكوري البغي�ض.. ح�سا�س ًا يف بالدنا .جرى الرتكيز العربي عليه بو�صفه ُ�س ّب ًة يف
ال�شرف تناق�ش على كافة وجه �شرقنا العربي .وال زالت جرائم ّ
رواية ن�صراهلل مليئة بال�ضحايا من الن�ساء ،ومليئة
بال�ضحايا املجرمني -يف �آن -من الرجال. امل�ستويات وتق ّلبها �سائر الأنواع الأدبية وخمتلف الفنون من
�سينما وم�سرح وغريها..
واحلقيقة �أن الفقر والتخ ّلف –يف جميع احلاالت -ي�شكل
ً
والعقل والثقاف ًة الغربي ًة ي�ستقبلون الغرب،
َ و�صحيح �أن
احلا�ضنة التي حتت�ضن اجلميع جمرمني و�ضحايا ..وكلهم
مربوطون تقريب ًا بخيط واحد ا�سمه جرمية ّ
ال�شرف وغ�سل معاجلات تلك املو�ضوعة بحما�س بالغ بو�صفها �إحدى مظاهر ِ
العار. التخ ّلف يف �شرقنا العربي .وهي – بال �شك -موطنٌ هام من
مواطن الإدانة لبنية ال�شرق احل�ضارية والثقافية� ،إال �أ ّنها –
(متام) ال�ضحية رقم واحد .امر�أة منف�صلة عن زوجها. وبرغم احلفاوة الغربية واجلوائز والأعطيات واحلوافز التي
ي�ستطيع (�أمني) �أن ي�صل �إليها .ولكنه (ي�صلح الأمر) يلوح ّون بها يف وجوه املبدعني املهتمني ،تظل ق�ضي ًة عادل ًة
فيتزوجها على زوجته الأوىل (نبيلة) .لكن هذا الإجراء ال وجدان ثقايف نبيل ..ت�ؤرق ال�شاعر والروائي
ٍ وم�ؤرقة لكل حامل
ي�ضع حد ًا لإح�سا�س �شقيقها يون�س بو�صمة العار التي �أحلقها وامل�سرحي وال�سينمائي ..ومثل ذلك ال ّرياء الغربي �أو الوظائفية
�أمني ب�شقيقته متام .فثمة دين .وال ي�ضيع دين وراءه مطالب. غري احليادية – �أحيان ًا -لتلك املو�ضوعات ،ال يعني �أن يدفع
وهكذا يختطف (منار) اخلريجة اجلامعية واملعلمة �شقيقة الأمر املبدعني احلقيقيني لتج ّنب اخلو�ض يف تلك املوا�ضع
�أمني ويغت�صبها وحتمل منه ويفت�ضح �أمر احلمل ،في�أتي العم الهبات واملنح.
ِ امل�ؤرقة كتعبري عن زهدهم وترفعهم عن تلك
�سامل كبري العائلة ويثبت على مدخل بيت �أخيه (�أبو الأمني) وعلى املبدع �أن ميار�س وهو مقبل على ترجمة هذه الق�ضايا
والد منار راية العار ال�سوداء التي تختلط بالرايات ال�سوداء هاج�س الفني ،و�أن يجانب ما �أمكن –
َ �أق�صى درجات ال�صدق ّ
التي انت�شرت على مداخل البيوت واملباين حداد ًا على �شهداء �إر�ضا ِء الذوق الغربي واملزاج الثقايف له ,بل ينبغي �أن يخل�ص
احلرب الإ�سرائيلية على غزة.. النية الإبداعية لوجه الق�ضية العادلة ،حيث يف مثل ذلك
ويتم احتجاز منار خيفة قتلها وحتال �إىل ال�سجن حيث الإخال�ص يتحقق التّف ُّوق الفني الذي حققه �إبراهيم ن�صراهلل
تعي�ش �سائر �أ�شكال اال�ضطهاد واالعتداءات مبا فيها اجلن�سية يف روايته الأخرية «�شرفة العار»� ،آخر �إ�صدارات �إبراهيم
من الذكور والإناث. ن�صراهلل الروائية.
130
عموم ًا .ال بل �أريد �أن �أ�ؤكد هنا �أن هذه الظاهرة الفنية يف ويف �سجن الن�ساء تطالعنا العديد من ال�ضحايا ومن
حقيقي .وخا�صة
ٌّ كتابة ن�صراهلل الروائية هي تف ُّو ٌق و�صدق ٌّ
فني ال�ضحايا املجرمات يف �آن :فثمة ( �شامة) التي فوجئت ب�صراخ
يف �أعمال كهذا العمل الروائي ..وقد جت ّلت هذه الظاهرة يف ابنتها العذراء و�إذا بها يف حالة و�ضع ،لرتتكب الأم اجلرمية..
غري موقع ،وبخا�صة يف فرتة �إقامة البطلة يف �سجن الن�ساء، وهناك (وداد) املحكومة بالإعدام وال�شاذة التي تنتقي كل ليلة
ويف تب ّدل مواقف ال�سجينات ال�ضحايا /املجرمات وانقالبهن فري�ستها من ال�سجينات وتقوم باغت�صابها وممار�سة ال�شذوذ
من مواقع ّ
ال�شر واجلرمية �إىل �أكرث ال�سلوكيات �إن�سانية وب�شرية معها..
حر�ص ًا على اجلنني وحاملته� ..إ�ضافة �إىل تلك الراية ال�سواء،
�إن ف�صول معاناة (منار) يف �سجن الن�ساء وحدها ت�شكل
راية العار التي جت ّلت �شاعرية �إبراهيم ن�صراهلل ب�شكل غري
�سفر ًا كبري ًا من �أ�سفار معاناة املر�أة يف املجتمع ال�شرقي
م�سبوق يف التعامل معها حني تداخلت مع رايات احلداد
الذكوري البغي�ض.
املنت�شرة يف الأحياء وعلى مداخل البيوت حداد ًا على �شهداء
غزة ..يف تعبري عميق عن فهم الروائي ملو�ضوعة العار الوطني وهناك يف الرواية �ضحية ال �أبلغ وال �أب�شع وهي( تغريد)
الأ�شد وط�أة من راية العار احلافزة على غ�سل العار وا�ستعادة ابنة اخلم�سة ع�شر ربيع ًا التي تلقت ت�سع طعنات على عتبة
ال�شرف الكاذب..ّ الباب وهي ت�ستغيث .حيث – كما ورد يف خرب اجلريدة-
�أقدم املدعو (م�.س.خ) �شقيقها على قتلها بعد �أن افت�ضح
خلط�إن تداخل ال�شعر بالنرث ,واقتحام ال�شعر واعرتا�ضه ّ
�أمر حملها .وعندما �أجريت الفحو�صات للجنني تبني �أن والد
�أحداث الرواية ,لهو مو�ضوع نقدي غاية يف الغنى وجدير
اجلنني هو �شقيقها الذي قتلها كي ال يف�ضح �أمره ،وبعد �أن
بالدرا�سة امل�ستقلة وحده ..ذلك �أن هذه الظاهرة ال تتكرر يف
طلبت �إليه التوقف عن موا�صلة اغت�صابها ،و�إال ف�ضحت �أمره
الكتابة الروائية العربية ؟! واملالحظة االولية لهذه الظاهرة,
لأمها و�أبيها..
�إن من حق الناقد �أن يت�ساءل :هل كان الروائي ي�ستنجد بال�شعر
يف �سبيل رفع درجة حرارة ال�سرد؟ �أم �أن ال�شاعر ومع كل ..ويف جميع احلاالت قد ال تتجاوز فرتة �سجن القاتل
ذلك الت�صعيد قد فقد الثقة بالنرث كو�سيلة للتعبري عن تلك (دفاع ًا عن ال�شرف) ال�ستَة �أ�شهر ,كما هو موثق يف �سجالت
امل�ضامني احلارة؟؟ �أ�سئلة و�أ�سئلة ..الإجابة عليها تفتح باب ًا املجرمني..
م�ستق ًال للنقد – كما �أ�شرت.. �إبراهيم ن�صراهلل يف هذه الرواية ال ي�ستطيع كبح �شاعريته
التي ظلت ترتبع يف وجدان املبدع ،ف�إذا بها تظهر يف كل منا�سبة
يتاح فيها لها الظهور .وال ي�ستطيع ن�صراهلل كبحها ومنعها من
�أن ترتبع يف ال�سياق الروائي ..و�أنا هنا ال �أ�شري �إىل �إ�صابة
بائنة يف كتابة �إبراهيم ن�صراهلل الروائية .بل �أ�شري �إىل طبيعة
�أدبية يف الكاتب بو�صفه �شاعر ًا يف املقام الأول ..وقد برزت
هذه الظاهرة (ال�شاعرية) من قبل يف عمله الروائي الأول
حلـ ّمـى) .وكذلك يف �سائر �أعماله النرثية الأخرى (براري ا ُ
131
ناقد �أردين.
132
املعلومات ،وعدم �أخذ كل ما ي�شاع وين�شر كم�سلمات� ،إذ قد و�أخذت التنويعات املتناغمة تتوالد من رحم النوع الذي عرفته
تكون احلقيقة هاجعة هناك يف ذهن �شاعر مفلق� ،أو كاتب عقود ال�ستينيات وال�سبعينيات من القرن املا�ضي ،بعدما
مبدع ،بعيد ًا عن ادعاءات الإعالم وال�صحافة ،وتكون عادة جرت حتويرات مهمة عليه ،و�أخذنا نحظى بالق�صة /الفكرة،
�أكرث وقع ًا و�إيالم ًا مما تراه �أعيننا املب�صرة ،وعني الكامريا والق�صة /الت�أملية ،والق�صة /الق�صيدة وما �شابه ذلك ،وبد�أ
ال�ضاجة بكل
َّ الدقيقة .وهكذا ،يكتمل امل�شهد العام يف لوحته يت�ضاءل االهتمام بالتفا�صيل احلياتية الزائدة ،والأحداث
�أ�سباب النفور مما يجري يف الراهن ،وقد ط ّوعت امل�ؤلفة هذه قليلة ال�ش�أن ،مع �أن ذلك مل يحرم الكتاب من التحديق ملي ًا يف
اللوحة لقواعد النوع الأدبي ومتطلبات ال�شكل الثابتة ،ومل الواقع امل�أزوم ودروب احلياة املت�شعبة.
تنزاح عن هذه القواعد مبا امتلكته من غنى فكري ماثل ،ولغة
ولعل «متاثيل» �سامية العطعوط غري �شاهد على ذلك .وهي
ب�سيطة معربة ،ال ي�شوبها �أي �إطناب �أو ترهل ،وال يعيبها الوهم
عبارة عن ثالثة م�شاهد على الع�صر تنت�صب عالي ًا ،لتعك�س
الذي وقعت فيه امل�ؤلفة ،والذي �أ َّنثت فيه كلمة «حم�ض»».
للمارة لوحة الزمن الذي يعي�شون ،وهو زمن اال�ستخذاء
ال ترت�سم جميع ن�صو�ص جمموعة «قارع الأجرا�س» ال�سبيل والدجل والنفاق واال�ستكانة ،وتزييف احلقائق وتزويرها.
املوم�أ �إليه �أعاله ،فالق�ص�ص ال ينتظمها نف�س واحد �أو م�سلك الكل ،احلاكم واملحكوم ،يعي�ش هذا الزمن بروحه و�إدراكه،
واحد ،و�إمنا تتزيا ب�أ�ساليب متنوعة ،وتتخفى ب�أقنعة م�ض ّللة، ويعي مدى ه�شا�شة �أهله وتعا�ستهم ،ووهن امل�سوغات التي
تت�أبى �أحيان ًا على االنك�شاف والظهور ،ويتم ّوه بع�ضها ب�ستائر يعتمدونها لتق ّبل م�صائرهم الفاجعة.
ال�شعر و�أوزانه لتتجلى �أنغام ًا �شعرية موحية ،تفي�ض بينابيعه
م�ؤْثر ًة االرتداد عن روح النرث ،لإدها�ش القارئ مبا تبث من توميء «عالقات �شائكة» �إىل مدى القرف الذي ينتاب
تقييمات متباينة حلقائق احلياة وظواهرها العنيدة ،التي تنبو احلاكم من نفاق رعيته وزيف و ّدهم؛ مما يثري تقززه
وت�ستغلق على الإدراك والفهم� ،إذا مل ت�ؤازرها ر�ؤية فكرية ت�ستمد وا�شمئزازه؛ في�سعى �إىل املزيد من اال�ستهانة بهذه الرعية،
�أفقها من جدلية الواقع وخ�صوبة �أ�سراره وتعقد خفاياه ،وتن ّمي ويعترب حتقريهم �ضرب ًا من الدميقراطية الفعلية ،بعد �أن
يف املبدع روح الفرا�سة املت�أنية الدقيقة ،وتقي فنه من الوقوع �سئم من تقبيل يديه� ،أ�صدر �أمره اجلديد القا�ضي ب�أن «ال
يف براثن الن�ص التائه املقنع بالألغاز والأحاجي ،التي ي�ستحيل يق ّبل �أحد يده بعد اليوم ،و�أما حذا�ؤه فامل�س�ألة دميقراطية،
ف�ض مكنوناتها� .صاحبة (قارع الأجرا�س) التي تتوق (للكتابة حم�ضة!» .هكذا ،وبتكثيف �شديد واكتناز م�ضموين معمق تنهي
امل�ستحيلة بتلك الرغبة امل�ستع�صية يف التعبري الفني عن العطعوط �إ�ضاءتها للإ�شكالية املعقدة ،القائمة بني احلاكم
مكنونات النف�س وانثياالتها ،و�شبق اجل�سد يف انزياحاته عن واملحكومني يف البالد ،التي تعاين من الديكتاتورية ،والنظم
الوجود ال�سابق للعدم ،نحن وجود حتتويه التفا�صيل الدقيقة) الالدميقراطية ،وهي بذلك ال تلوم املحكومني ح�سب ،و�إمنا
ـ كما جاء على ل�سانها ،ت�سعى �إىل �إ�شهار الدقائق والتفا�صيل تلوم احلكام الذين يفر�ضون هذه الدميقراطية ،وي�ستبدون
الناحلة التي تعمر قلب عامل الواقع ،جلالء املفارقات الغريبة ب�شعوبهم ،وال يجدون فيها �سوى متاثيل �ضئيلة ال قيمة لها
التي ت�سرح يف حناياه ،و�إبراز �سبل تنوع معرفة احلياة بو�سائل �أمام التمثال الأكرب ،كما يقول م�شهد «التمثال»� .أما امل�شهد
الفن املتنوعة والفريدة؛ فالفن ال ينف�صم عن احلياة ،والفنان الثالث والأخري ،فينادي ب�ضرورة عدم االن�سياق وراء ع�صر
133
�أ�سباب احلياة يف ملمو�سيتها النا�صعة ،ويف �أ�شكالها الفعلية الأ�صيل يعرتف مبحدودية �إمكانياته مهما تعاظم �إبداعه،
احلية؛ مما يف�ضي �إىل �إعتام ال�صورة وعدم تبلور ال�شكل وبلغت �سطوته .لكن ،ما هي الكتابة امل�ستحيلة التي تتوق
ال�شعري ،والإح�سا�س بالالتنا�سق املنطقي والذبذبة الداخلية، �إىل اقرتافها مبدعة (قارع الأجرا�س) ،و(�سروال الفتنة)،
وهذا بدوره ي�ؤدي �إىل غمو�ض الفكرة ،وا�ستغالق حمموالتها، و(طربو�ش موزارت) ،و(طقو�س �أنثى)� ،أهي الكتابة التي ال
و�إىل �ضرب من الالقناعة يف متا�سك الأثر الفني .فالعمل الفني جدوى منها� ..أي ابتداع خرائب �شكلية� ،أو تعمري جتاريب
الذي يخلو من ترجمة التناق�ضات املجتمعية �إىل لغة الأفعال معملية واهنة القيمة واملحتوى ،ودومنا حاجة �إليها �أو جدوى
الإن�سانية وامل�صائر الإن�سانية يف انعطافاتها وحتوالتها ،ويحيد من ن�صبها وتد�شينها؟! �إذا كان الأمر كذلك فلمن تكتب �إذن!
عن ك�شف التعالقات االجتماعية يف �إطار مالب�سات ملمو�سة �سامية عطعوط تكتب وتن�شر وتقر�أ ق�ص�صها و ُيقام ملجموعاتها
يكتنز بها امل�ضمون املبا�شر للأثر الفني ،ال يحظى مثل هذا حفالت توقيع� ،أولي�س هذا كافي ًا لدح�ض مقولتها ب�أن الكتابة
العمل بالقناعة الفنية املطلوبة .فالفن ما هو �إال طائرة الزمن بال جدوى؛ وهل جدوى الكتابة من اخرتاع نظام اجتماعي
التي اخرتعها الإن�سان للتحليق بفكره وخياله وتخييله يف �آفاق معني ،تزول بزواله وحتيا بوجوده! �إن تاريخ الأدب العاملي
املا�ضي وا�ستح�ضار امل�ستقبل ا�ستناد ًا �إىل احلا�ضر ،الذي ينبغي وم�سريته العامرة من بواكري ظهوره حتى الآن تدح�ض هذا
افرتا�سه لت�سهل على الكاتب مهمته يف ا�ستكناه �أ�سرار الوجود الطرح الذي ال ي�ستقيم والدر�س املو�ضوعي لآثار كبار الكتاب
الإن�ساين ،وتر�سيخ ت�أمالته ونقل �إرها�صاته �إىل املتلقي ،الذي والفنانني على مر الزمن ،و�أبلغ من ذلك ال ي�ستقيم مع ما
ي�ستقري بدوره مدى امتالك امل�ؤلف ملو�ضوعه وم�صداقيته يف تن�شيء الكاتبة نف�سها من ن�صو�ص هادفة ومغ ّياة.
الإحاطة به ،ونزاهته يف ا�ست�شراف �أبعاده ،ومن ثم تقييمه
ال تروم كلمتي االندفاع يف احلديث عن جدوى الكتابة
�إذا كان ُمع ّد ًا �إعداد ًا كافي ًا لذلك ،واحلكم على �أهلية العمل
وغايتها ،لكنني �أرى �أن وهم ال جدوى الكتابة يعود يف الأ�سا�س
وقدرته على ال�صمود واال�ستمرار.
�إىل �ضبابية املوقف الفكري للكاتب .ولهذا دواعي متنوعة،
تتنا�سل من جمموعة «قارع الأجرا�س» جمهرة من منها :ما هو �صادر عن ارتباكات داخلية لها حوافز اجتماعية
الت�سا�ؤالت ،التي تدفع بعدد من الإ�شكاليات التي �أيقظتها ـ كما ونف�سية وفكرية ،ومنها ما هو خارج وعي الفنان �أو الكاتب،
تقول امل�ؤلفة ـ من رمال� ..أي من �سكونها وعمائها ،وب َّثت فيها فلي�س �سه ًال على كاتب حر ينزع �إىل ب�سط احلقيقة ،وك�شف
الروح من جديد ،بعد مكابدات عنيدة وقا�سية .وهنا ،ال بد �آل ّيات ت�سيري الأمور يف وطنه ،والتعبري عن �أماين �شعبه وغ�ضبه
من تعقب بع�ض الق�ضايا القائمة يف املجموعة ،وا�ستدراجها وطموحه وجلم فاعليته �أن يخاطر بالإف�صاح عن نواياه
من الن�صو�ص لإنارة �أبعادها ،والتقاط ما خفي عن الآخرين، وخواطره بو�سائل مبا�شرة وطرائق ممهدة ومعروفة .لذا ،يلج�أ
الذي �أزالت امل�ؤلفة عنه مكامن الغمو�ض ،ورفعته �إىل من�صة لبلوغ لب احلقائق وجوهر الكينونة �إىل اال�ستعانة بالتلميح
التوهج واحل�ضور .متهد الكاتبة لن�صو�ص جمموعتها بت�صدير والإيحاء والرتميز ،املتخفية يف �شبح الأ�شياء واملوجودات،
موح حتت م�س ّمى «�أنثى العنكبوت» ،كانت ثبتته على غالف ٍ وذلك ب�إق�صاء ما هو �أي�سر و�أبلغ ،واال�ستناد �إىل ما هو ذهني �أو
الكتاب ،لي�شكل مع العنوان الأ�صلي «قارع الأجرا�س» ك ًال مفرت�ض؛ فيتك ّلف ويتع�سف ،ويحتمي بذاتيته املفرطة ،ويتهرب
موحد ًا ،وم�ؤ�شر ًا على حمموالت املنت وا�ستنبات �أغرا�ضه من تر�سيخ �سياق وا�ضح كتعوي�ض عن عدم تد�شني �أركان
134
من م�سرحة فكاهية» يف ثالثة خيوط تقتن�ص مادتها من وا�ست�شفاف مراميه البعيدة�« .أنثى العنكبوت» ن�ص ذاتي مغلق
تر�سانة الت�صورات احلداثوية للواقع ،التي تتناول م�سائل ي�س ّوغ للقارئ عبث الت�أويل الأحادي ،لأنه يقوم على الرتميز
الوجود اللعينة ،القائلة مبوت الإن�سان واملجتمع روحي ًا وفكري ًا، املجرد ،الذي جنم عن ر�ؤية العطعوط ال�شخ�صية للأ�شياء،
وتبني من تناق�ضات املجتمع مفارقات فاجعة ،تتخذ من للتعبري عن مكابدتها الفردية وانطباعاتها عن نف�سها يف حدود
الغروت�سك �إطار ًا �شكلي ًا لبلوغ �أهدافها .فالرجل الذي يرى ذاتيتها املغلقة ،ولي�س من منطق ال�سريورة املعرفية و�سنن عامل
�أح�شاء �أمه (يف امل�شهد الأول) تخرج من بطنها ،وهي ت�سعى ير�سخ الرمز
املاديات وجواهرها املو�ضوعية املخ�صو�صة؛ مما ِّ
لعبور ال�شارع ،يتل ّهى عن م�أ�ساتها بالعبث بجهاز املوبايل الذي يف ذاته ولذاته ،ويحرمه من وظائفه التوا�صلية ،ويقطع �صلته
يبعث له بلقطة عن (القرد العط�شان) ،لي�ستقبلها �ضاحك ًا، بوعي الآخر و�أحا�سي�سه .وع ّلة ذلك� ،أن هذا التجريد امل�شوه بال
وي�شرع يف �إر�سالها �إىل �أ�صدقائه على عجل ،وين�سى والدته م�ضمون حقيقي ،ومع �أنه متعدد الدالالت الوهمية �إال �أنه يخلو
يف وحل ال�شارع بقايا �أح�شاء �آدمية تبعث على الغثيان .وتتكرر من املعنى املو�ضوعي� ..إنه وهم حم�ض� ،شيفرة بال مفاتيح،
امل�أ�ساة املهزلة ثانية يف امل�شهد الثاين بعد انفجار احلافلة ت�ستع�صي على القبول العقلي.
الذي قد يكون من �صنع الرجلني امللتحيني ،حيث يبت�سم الرجل
يف �سره ،ويدير ظهره للم�شهد كله وك�أنّ �شيئ ًا ال يعنيه ،بينما يبدو �أن امل�ؤلفة بهذا الت�صدير �أرادت �أن توحي ب�أن
كان هو نف�سه جزء ًا من احلدث .وال يختلف امل�شهد الأخري ن�صو�ص جمموعتها حتتمل �شتى القراءات واال�ستنتاجات،
كثري ًا عن امل�شهدين ال�سابقني �سوى خفوت ح�ضور املفارقة وفيها يعرث املتلقي على ما هو قريب من مداركه ووعيه وقابل
الوا�ضحة ،واالقرتاب من معمار اخلاطرة �أو اللفتة الذكية ،مع للت�أويل والتقييم ،ومنها ما ينبو على الفهم وي�ستغلق على
تابل خفيف من املبالغة.
ٍ الإدراك ،قابل للت�أويل وال يخ�ضع للتقييم ،ا�ستناد ًا �إىل غمو�ض
املوقف الفكري للكاتبة ،وعدم النظر �إىل العامل والواقع من
وهنا ،ال بد من الت�سا�ؤل حول جلوء الكاتبة �إىل �أ�سلوب
مثال اجتماعي حمدد ،مينح املرئيات والظواهر مغزى موقع ٍ
الغروت�سك ،هل هو وليد الت�صادمات احلياتية احلادة ،وجالء
متعين ًا يف ن�شاط الإن�سان وممار�ساته العملية ،ويحررها من
تناق�ضاتها وتنافراتها الكوميدية وال�شاذة من منطلق �إدانتها
قتام الي�أ�س والت�شا�ؤم ،فتعزف �أحلان ًا �شجية لعنفوان الإن�سان
وال�سخرية من مفارقات الواقع احلادة ،التي يعي�ش يف ظاللها
وعظمة احلياة.
وحتت رحمتها الإن�سان املعا�صر� ،أم ح�ضر يف الن�صو�ص
لإبراز �سخف العامل ودمامته ،وعبث الطبيعة الإن�سانية * * *
وخطاياها الأزلية املنكرة .هنا امل�ؤلفة تقف وراء �شارل بودلري
ترتاكب جمموعة «قارع الأجرا�س» يف خم�س دوائر كربى،
يف �إ�سقاطها ملفهوم الغروت�سك يف الإبداع الفني للتعبري عن
كل دائرة ت�شتمل على جمهرة من احللقات غري املت�ساوية،
البداية «ال�شيطانية» يف احلياة ويف �صميم الكائن الب�شري،
وكل حلقة تتوزع يف عدد من امل�شاهد املتقاربة يف حمموالتها
املحب لذاته واملقيم فيها ،باعتبار �أن الإفراط يف ال�ضحك
وال�سخرية والت�شنيع معادل لطبيعة الإن�سان الأنانية ،كما ي�ؤكد للت�أ�شري �إىل فكرة حمددة �أو غر�ض معني ،بينما تتباين يف
بودلري يف مقالته« :عن طبيعة ال�ضحك وعما هو كوميدي يف مقا�صدها وغاياتها.
فن النحت». تتكون الدائرة الأوىل من �أربع حلقات ،تت�صدرها «م�شاهد
135
وتراجع �أو�ضاعه االقت�صادية ،وفقدان الأمان يف امل�ستقبل، يف احللقة الثانية من الدائرة الأوىل ،التي �ص ّدرنا كلمتنا
والأهم من ذلك عدم م�شاركته يف التخطيط حلياته وم�صريه، بها ،جند �أن ثمة حتو ًال يف اختيار مادة التج�سيد الفني �أملته
وعدم �إ�سهامه يف زرع بذور الثورة العلمية /التقنية ومفاعيلها، احلاجة �إىل ر�صد التغريات املجتمعية وتبدل املالب�سات
واالقت�صار على التمتع ببع�ض نتائجها الهام�شية. االجتماعية ،وا�ستجابة حلوافز الكاتبة الإبداعية وظروف
احلياة امل�ستجدة؛ فاختيار املادة ال ينح�صر يف مر�آة الوعي
تعود امل�ؤلفة يف الدائرة الثانية �إىل انتزاع وهج املفارقة ال
ب�شكل ثابت ال يتغري ،لأنه يخ�ضع لالنعطافات يف الواقع
توحد
عن طريق الغروت�سك ،و�إمنا ت�ستعني باملونتاج كمنظومة ّ االجتماعي .لكن ما يجمع ن�صو�ص احللقتني ،هو التعميم
يف حراكها العام لقطات مبعرثة ـ غريبة ومتفارقة بحدة يف القائم على التجريد املُقْ�صى عن فح�ص دقائق احلياة
الواقع ،وجتمع �شملها لفح�ص الروابط العلية /ال�سببية التي اجلارية وتف�صيالتها املت�شعبة ،واملرتكز �إىل ف�ضول الذهنية
تخيم على �أذهان الفل�سطينيني والعرب املفجوعني بالبالء الإطالقية.
ال�صهيوين ،ودمج املفاهيم التي ترتاءى يف مر�آة وعيهم عن
املجازر ال�شنيعة واللئيمة التي يقرتفها �أوبا�ش ال�صهاينة، وط�أة الذهنية الإطالقية تهيمن على غالبية الن�صو�ص،
الذين تتملكهم �شهوة القتل واال�ستمتاع مبنظر الدم الفل�سطيني فعندما ت�سكت �شهرزاد عن الكالم ،فال بد و�أن ي�سكن املوت
امل�سفوك ،وك�أن �أ�صحاب الأر�ض الأ�صالء طرائد �سائبة يتحتم يف جميع الزوايا ،و�أن تنت�شر رائحته يف كل ركن ويف كل نف�س،
الولوغ يف حلومهم ودمائهم يف كرنفال اجلنون ،الذي �أحياه بحيث لن ي�شعر �أحد ال بال�ضجر وال بامللل� ،إذ يجد الإن�سان
�شذاذ الآفاق يف الأر�ض الفل�سطينية منذ �أكرث من قرن من راحته يف املوت هروب ًا من منعطفات احلياة وتعار�ضاتها املقيتة
والالمعقولة ،كما ي�ستنتج من احللقة الثالثة «حني �سكتت
الزمان .فراحيل (منوذج الإ�سرائيلي املغت�صب) ت�ستمتع يف
�شهرزاد».
«قارع الأجرا�س» بالطريقة التي يتم فيها قتل الراهب قبل
�أن يتمكن من �شد حبل جر�س الكني�سة يف بيت حلم ،ودو�س هذا القلق الوجودي ،وهذا ال�ضيق من �أ�سباب العي�ش له
جثته من قبل ع�ساكر كيان البغي واالغت�صاب ،وتتلهى مبطالعة دوافع مو�ضوعية يف الواقع االجتماعي القائم ،لكن انعكا�ساته
اخلرب يف اجلريدة وك�أنه خرب مفرح ،وت�ستعذب �أفانني الإفناء يف الأدب م�ستمدة من تر�سانة املدر�سة احلداثوية الغربية،
لل�شعب الفل�سطيني و�إبادة كل �أثر له ،وحتويل املدينة �إىل بيت التي جاءت نتيجة خليبة الأمل يف �إ�صالح النظام الربجوازي
من حلم .ويف امل�شهد الثاين تتلذذ راحيل وهي تربد �أظافرها �أو ال�سعي �إىل تغريه ،ومل يكن هذا التوجه وليد ظروف حملية
بق�صف الطائرات لل�سوق التجاري يف املدينة املزدحمة بالنا�س خم�صو�صة ،لها �سمات معينة ومالمح مميزة ي�سعى الكاتب
�أثناء الت�سوق يف فرتة رفع منع التجول ،وقد �شعرت باالنتعا�ش �إىل جتليتها و�إبراز خ�صو�صيتها املغايرة ،حيث يتم تغييب لوحة
واحليوية بعد �أن �أنهت مهمتها بنجاح .ومياثل ذلك ما تخيله الواقع الراهن ،وا�ستبدالها بهواج�س الإحباط والرعب .وال
الراوية يف امل�شهد الثالث من مناظر القتل اجلماعي ،التي تخرج ن�صو�ص احللقة الأخرية (�أقفا�ص) عن �إطار �أحا�سي�س
ت�ستمتع بها راحيل ،والتي حفزته �إىل تناول ر�شا�شه ،والتوجه انهيار الواقع وتردي احلالة النف�سية للإن�سان الذي يعي�ش
نحو راحيل ،التي ا�شتد ذعرها عند م�شاهدته ،وهو يبت�سم يف كنف ثورة املعلومات وثورة التقنية واالت�صال ،ونفوره من
لها قبل �أن ي�صب ر�صا�ص ر�شا�شه يف �صدرها؛ فتنهال عليه �أ�سباب حياته جراء ا�شتداد الت�ضييق على حريته ال�شخ�صية،
136
�أراكم الآن بال ثقب� .أنا ال �أرى �شيئ ًا .ال �أرى �سوى ثقبي الذي نريان �أ�سلحة العدو من كل جانب ،لكنه يتمكن من رواية ق�صته
يت�سع ،ونف�سي التي ت�صغر كثري ًا يف هذا العامل. الدامية التي ال تنتهي بنهاية ح�ضوره اجل�سدي ،لأن ق�ضيته �أقوى
من املوت العابر .ويف امل�شهد الأخري تتعر�ض املمثلة التي تلعب
�أنقذوين.»!....
دور الفتاة املخطئة لر�صا�صة عوزي بعد خروجها من امل�سرح
ت�ستكمل امل�ؤلفة ثيمة �أزمة ال�شخ�صية يف ظل مالب�سات مبا�شرة ،ليتحول التمثيل �إىل حقيقة ماثلة .ويف مقابل م�شاهد
الثورة التقنية واملعلوماتية يف ن�صو�ص الدائرة الرابعة، املوت والإفناء التي يتعر�ض لها �شعب فل�سطني ال�صابر ،وهو
املزحومة باخلوف على م�صري الفرد يف جمتمع ما بعد الثورة ينوء حتت نري الطغاة املحتلني ،قدمت الكاتبة م�شهد ًا موازي ًا
ال�صناعية ،حيث �أف�ضى حتديث و�سائل العمل و�أمتتتها حتت ومفارق ًا لأحد ع�شر �شخ�ص ًا يف ليلة احلادي ع�شر من �أيلول،
ت�أثري الثورة التقنية �إىل عواقب وخيمة �إىل جانب تعميق �أ�شكال وهم يتداولون الأحاديث فيما بينهم ،ويدلون باعرتافاتهم
االغرتاب املتنوعة ،وم�ضاعفة �صنوف اال�ستغالل القا�سية قبل موتهم ،وك�أنهم يرتلونها ترتي ًال ،وتف�صح هذه االعرتافات
القدمية وامل�ستحدثة. عن مدى �إميانهم مبا يزمعون القيام به ،وك�أنه حاجة داخلية
موجه ووازع �أخالقي �أ�صيل يف كياناتهم جلالء املفارقة القائمة بني
عنوان الدائرة «طقو�س �أفعى» ،وهو عنوان ا�ستعاريّ ،
لك�شف مقا�صد امل�ؤلفة مببالغات فظة تت�صاعد �إىل م�ستوى الطرفني.
الأليغوريا ،لت�ؤ�شر �إىل ب�ؤ�س ال�شخ�صية الإن�سانية وعمق م�أ�ساتها الإ�شكالية التي تطرحها بحدة حلقات الدائرة الثالثة
واغرتابها عن واقعها الفعلي ،والعي�ش حتت رحمة الهذيانات املو�سومة« :مدونات» هي مدى �أثر التقدم العلمي والتطور
والتخيالت والأحالم التعي�سة القاتلة .ذكرت �أعاله �أن امل�ؤلفة التقني على �إن�سان القرن احلايل ،وكيفية ا�ستيعاء الفن لثيمة
تلميذة ذكية يف املدر�سة احلداثوية ،ت�ستمد من تر�سانتها لي�س الإن�سان يف توا�صله مع الآخرين يف ظل مالب�سات ثورة االت�صال
الأدوات ح�سب ،و�إمنا الثيمات واملو�ضوعات �أي�ض ًا ،وخري دليل واملعلوماتية .ويبدو من ن�صو�ص هذا الف�صل �أن امل�ؤلفة �أرادت
على ذلك م�شاهد هذه الدائرة ،التي ال تتفق وواقع الإن�سان �أن ت�ضع ت�صورها حول الآثار التي تخلفها ثورة االت�صاالت
العربي ،الذي مل ي�صل �إىل حد اجلنون يف ا�شتباكه مع منتجات على �إن�سان العامل الذي مل ي�شارك يف �صناعتها وابتكاراتها؛
الثورة الرقمية و�سبل املعلومات التي ترد �إىل دماغه ،ويفقد فكانت �شدة وط�أتها قا�سية عليه ،فهي �إىل جانب كونها ظاهرة
�أعز ما ميلك ،وهو التوا�صل احلي ون�سج قواعد للفهم امل�شرتك حيوية ت�سعف الإن�سان يف ا�ستعادة دقة الفكر و�صياغته بعمق
مع الآخرين .حق ًا ،لقد كان �أثر الثورة العلمية /التقنية جل ّي ًا واختزال ،وتدربه على التعامل مع اخلطاب احلي املبا�شر،
على �شتى ن�شاطات الإن�سان املعا�صر ،وعلى تكوينه الداخلي وتوحد بني النا�س� ،إال �أنها غالب ًا ما
و�ضبط اللحن ال�صايفّ ،
وبنيته ال�شخ�صية� ،إال �أن ثمة تفاوت ًا بني �إح�سا�س الفرد بهذا تبعث على الفرقة وال�شحناء ،وتدمر �أوا�صر الفهم امل�شرتك.
الأثر يف البلدان املتطورة �صناعي ًا ،التي تعي�ش يف �إطار عالقات هذا التناق�ض احلاد لفورة املعلوماتية هو ما �سعت الكاتبة �إىل
اجتماعية و�إنتاجية حمددة ،والإح�سا�س به يف البلدان الأخرى تبيانه من خالل ن�صو�ص هذه الدائرة ،التي تنتهي ب�صرخة
التي ما تزال وتريات تطورها التقني والعلمي يف طور التابع ا�ستغاثة�« :أنا تعب لأنهم �أخذوا مني كل جرائدي ،ومل يرتكوا
الذي يعتا�ش على موائد الغرب ال�صناعي. يل �سوى َثقْب وحيد هنا ،حيث �أنظر منه ال �أرى �سواي .مل �أعد
137
و�أخري ًا ال بد من طرح الت�سا�ؤل التايل :هل قر�أت امل�ؤلفة تتجلى يف هذه الدائرة مالمح االغرتاب وفقدان ال�شخ�صية
�أعمال كولن ويل�سون ،ال�سيما كتابه «حجر الفال�سفة»، و�ضياعها �أظهر ما يكون ،ففي الن�ص املو�سوم «طقو�س �أفعى»،
وا�ستنطقت بع�ض ت�أمالته وت�صوراته؟! يبلغ االغرتاب حد تدمري ال�شخ�صية ،ولي�س االقت�صار على
ازدواجيتها ح�سب ،حيث تتبادل ال�شخ�صية الأدوار مع قرينها
تت�شكل الدائرة اخلام�سة من عدد من الن�صو�ص النرثية
ال�سرباين ،مما يف�ضي �إىل ا�ستالبها وتخريب حياتها ودفعها
التي حتمل نكهة ال�شعر وموا�صفاته ،للتعبري عن حتوالت الواقع
�إىل حافة اجلنون .وهذا الت�صور الذي طرحته امل�ؤلفة يف
املجتمعية التي ال ميكن القب�ض عليها ،وال تخ�ضع يف نهاية
املطاف للمعرفة العقلية ،ومن ال�صعوبة مبكان ا�ستك�شاف ن�صها م�ستمد �إما من قراءاتها لأدب االغرتاب يف الغرب،
عامل الإن�سان وطبيعة �شخ�صيته من خالل الأفعال ودرامية و�إما نتيجة ا�ست�شعارها مبدى ال�ضياع والت�شتت الذي يعي�شه
الأحداث والوقائع؛ فجاءت هذه الن�صو�ص كتعميمات مطلقة بع�ض املثقفني يف ال�ساحات العربية ،الذي يولد لديهم
جلالء موقف الكاتبة مما يجري يف واقع احلياة اليوم. ازدواجية ال�شخ�صية ،التي ينتج عنها حاالت ذعر مفزعة
ترتاءى كبدايات للهذيان والتهومي .ويف ن�ص «�سوق احل ّمام»
واملالحظة التي ال بد من ذكرها هنا� ،أن الكتاب ال يخلو من والن�صو�ص التي تليه ت�ستدرج امل�ؤلفة ما ي�سمى بفر�ضية «ذاكرة
�أخطاء نحوية ال ينبغي �أن تقع فيها كاتبة متمر�سة يف الكتابة، الأجداد» ،التي ترتكز �إىل نظرية الأ�سا�س اجلزيئي للذاكرة،
ال�سيما �أن الكتاب ،وعدد كلماته حمدود ،هو من من�شورات وهذه الذاكرة لي�ست تخيي ًال حم�ض ،و�إمنا هي �إىل جانب ذلك
�أمانة عمان ،وقد حظي مبوافقة جلنة الن�شر فيها ،التي مل فر�ضية علمية ،تقول ب�أن الذاكرة ت�ستجمع اجلينات احلية التي
تقم ب�أداء وظيفتها التي لي�ست بدون مقابل .فهل بلغ الأمر مبن تت�شكل خالل حياة الفرد ال�شخ�صية ،وما ينتقل �إليها جيني ًا
قر�أ الكتاب وح�صل على مكاف�أة �أن ال ينبه امل�ؤلفة �إىل اخلط�أ عن طريق الأجداد و�آباء الأجداد .وبهذا الت�صور تنهي الكاتبة
ال�شنيع التايل« :دون �أن يكون هناك قادمني �أو مغادرين» .وهذا ن�صها الذي ي�ستعيد فيه ال�سارد ما�ضي �أجداده القدمي يف ملحة
على �سبيل التمثيل ال احل�صر. ب�صر ،بقولها:
قال ذلك،
وم�ضى...
هذا الن�ص در�س يف تن�شيط الدماغ الإلكرتوين ،نعرث فيه
على تفكك احلبكة ،وت�شتت الن�سيج ال�سردي ،وتهافت املغزى.
138
ِ
التجربة و�شـرارتهـا بريوتَ :ح َجرُ
�إليا�س فركوح
ُ
بطولة الأخالق:
(من لديه َف ْل َي ُق ْل)! غري �أنّ «�أفعال البطولة» ،مثلما � ْأط َمئنُّ �إليه َ «كثري من املثقفني يخ�شون �أن تظه َر عليهم �آثا ُر اخلوف
«ذوات
ٍ تُروى يف احلكايات من خارجها� ،إمنا هي �صادر ٌة عن والتوتر ،يبدو الأمر معيب ًا ،مع �أن اخلوف �شعو ٌر �إن�سا ٌّ
ين
متلك قلوب ًا من فوالذ .ولكن ،يبقى تخاف» لأنها ،بب�ساطة ،ال ُ طبيعي� ».ص .76ومع ذلك ،ث ّمة اال�ستثناء ،لكنه الذي َي ِر ُد
هناك ِمعيا ٌر �أراه الزم ًا ،مهما كانت الظروف ب�شعة يف ق�سوتها؛ «عجيب ًا» لي�ؤكدَ القاعدة:
�أ ْال وهو الرجو ُع �إىل مبد�أ الأخالق املتم ِّثل يف «ال�صدق» نقي�ض ًا «الكالم يتكاثر ،على ِّ
كل حال ،عن اخلوف الذي �أ�صاب
�أو ًال و�أخري ًا لـ»الكذب» و»التدلي�س» – ِح ْر َف ُة الذين يريدون َج ْم َع
مثقفني فل�سطينيني ولبنانيني وعرب ًا هذه الأيام .هناك َمن
وحوريات الآخرة!
ِ وخ ْم ِر أموال الدنيا و�أجما ِدها ،و َلبنَ ِ َ
وع َ�س ِل َ � ِ
يظهر بعد توقف الق�صف ليحاول �أن ُيبعد الكالم عنه .هناك
ي�ستقيم هذا مع ذاك دون خ�سارة �أحدهما؟ ُ فهل
َمن اختفى ومل يظهر حتّى الآن .ولكنَّ اخلوف حقيقيَ .من ال
�أجمد نا�صر مل َي ُخ�ض هذا امل�ضمار ،ومل َي ْ�س َع للفوز يف يخاف؟ رمباغالب هل�سا� .إنه رج ٌل بال �أع�صاب .بارد �إىل ح ّد
ال�صدق جوهر ًا
ُ ال�سباق؛ ولهذا كان رابح ًا لنف�سه�ِ ،شعا ُره
هذا ِّ توتر عليه حتّى الإزعاج .لع ّله الوحيد الذي مل �أ َر عالم َة ٍ
خوف �أو ٍ
أخالق وجوهر ًة لكتابه.
لل ِ يف �أ�سو�أ حلظات الق�صف� ».صَ .45
و»قال غ�سان (زقطان) �إنّ
غالب �شخ�ص عجيب� ».ص .59جا َء هذا �إثر حكاية عدم تراجع
التجربة؟ َف ْل َي ُكن!
ِ �إىل
غالب هل�سا عن البقاء رغم اخلطر ،تلبي ًة لدعوة موقع مقاتل
قبل ثالث َني �سنة حا�ص َر �شارون بريوت مدجج ًا بكامل �آلته َ يف اخلطوط الأمام ّية له «لأكلة ملوخ ّية»!
احلرب ّية ،فكانت �أ ّول عا�صمة عرب ّية تتعر�ض لقب�ضة االفرتا�س
�أكرث من و�صف حلالة اخلوف ت َِرد يف اليوميات ،فمث ًال:
عربي عميم!موت ٍّ ال�صهيوين و�شرا�سة نريان جحيمه ،و�سط ٍ
«مكثتُ فرتة من الوقت عند غ�سان لألتقط �أنفا�سي وال�سيطرة
حو�ص َرت بريوت ،فا�ستحالت �صغري ًة بحجم راحة اليد .بذلك،
على �أعماقي التي تنتف�ض� ».ص ،39و»لكنّ الوعي بدورنا ال يعني
و�سعي ًا مني لقراءة راحة تلك اليد التي َب َ�س َطها �أجمد نا�صر
تنق�ض الطائرات على ر�ؤو�سنا. ُّ القلب ال يرجتف عندما
َ �أنّ
عرب كتابة يومياته فيها ،بخطوطها املتوازية واملتقاطعة ،كان �أن
وت�شرئب الغريزة� ».ص.40
ُّ الوعي ،حلظتها ،يفق ُد وعيه
�شرعتُ بقراءته هو :الفتى الذي عرفته وقتذاك با�سم «يحيى
النمريي» ،و�أجمد نا�صر احلا�ضر الآن – �شخ�ص ًا ،وكتاب ًة: إعمال التفكري بجوهر «البطولة» ومعناها ما �أريدُه ،هنا ،هو � ُ
«جفاف» بلده املو�صوف من الفتى ال�شاعر ال َت َّواق املنفلت من َ الأعمق� .أهي التح ّلي بال�شجاعة الفائقة ،باجلر�أة الكا�سحة،
ِق َبل مواطنه غالب هل�سا «� ..إنّ الأردن مكان طارد للإبداع!» ان�سجام الذات الإن�سان ّية مع �شروط ُ باقتحام املوت؟ �أم هي
�ص ،45فكان عليه ،واحلال هذا� ،أن يذهب �إىل «هناك»: تكوينها الأ�سا�س ّية ،و�إيقاظ كامل ِقواها الروح ّية واجل�سد ّية
أحالم العرب ّية على اختالف َ�صباباتها: بريوت ،مدين ُة ال ِ من �أجل الدفاع عن كينونتها ،دون التخ ّلي عن �شرط احرتام
الثقاف ُة واحتدام ِنقا�شاتها �إىل جوار ال�سالح وقعقعاته ،مقاهي هذه الذات لذاتها �أ ّو ًال ،وذلك بحفط «كرامتها»؟ وكيف ي�صري
يتداخل يف �ألياف ُ الأر�صفة ومع�سكرات الفدائينيِّ ،
ال�شع ُر لهذين ال ُبعدَ ين �أن يتجليا يف امل�سلكيات وردود الأفعال؟ هل
ب�سبائك
ِ الأفكار وتالفيف الأيديولوجيات ،الذاتُ تن�صه ُر ث ّمة «قواعد» و»�أُ�صول» ِ
و»�ص َيغ» قا ّرة ُمتف ٌق عليها� ،أم �أنّ امل�س�ألة
التناق�ضات اجلماع ّية لتتخ ّلقَ كينون ًة �أُخرى ،كامريا ال�سينما جواب حا�سملدي � ّأي ٍ برمتها مفتوح ٌة على احتماالت �شتّى؟ لي�س ّ
140
«لي�س وعيي باملكان كافي ًا ليوجد ،ولي�س وجودي فيه كافي ًا املقاتلة فوق الكتف متام ًا مثلما هو الآر بي جيه ،ا ُ
حلر َّي ُة رِئ ٌة
لأكون .ك�أنني جم ّرد طيف يجل�س على طاولة يف �شم�س ال�صباح خرج الفتى باحث ًا بو�سع الأبي�ض املتو�سط و�أكرث� .إىل «هناك» َ
يحاول �أن يتلم�س �أطرا َفه الأثري ّية .ال طعم القهوة ير ّدين �إىل وت ي�ست�شع ُر وجودَه يف داخله ،لك ّنه مل يكن قادر ًا على عن َ�ص ٍ
ما ُكنته وال ديكورات املقهى وال وجوه ر ّواده وال املا ّرة وال التنب�ؤ مباهيتهَ � .إذن؛ فلت َكنْ التجرب ُة هي ال ِّرهان ،وعلى َح َجرها
يدي املب�سوطتني يف حياد ال�شم�س الطفيفة التي ت�سقط على َّ تنقدح ال�شرارة.
ُ
على الطاولة ..تُق ِّر ُب الذكرى من الواقع� .إنني ما �أزال ،على ما
وربح الفتى الرهانَ ،و�إين �أراهنُ بدوري على هذا م�ستند ًا َ
ن�ص املكان ،يف تخ ّيله ،يف ذكراه ،ال يف املكان نف�سه».يبدو ،يف ّ
�ص .197-196 �إىل كيف ّية قراءتي ل�شخ�صه ولكتابته يف �آن .فقراءة �أجمد
نا�صر�ِ ،شعر ًا ونرث ًا و�سرد ًا ُح ّر ًا ورواي ًة ،تقودين لأن �أ�شهدَ على
واقع ركيك
والتما�سك يف ٍ
ُ « ..فال معنى وال موقع للف�صاح ِة �صوب اجرتاحه قالقل �أ�سا�س ّية حالت دون �أن يرتقي َ َ �أنْ ال
مف ّكك� ».ص.219 اخلا�ص .وئيد ًة كانت ُخطاه ،لكنها ت ََ�س َّل َحت مبراكم ٍةّ ِل َن ِّ�صه
ديوان
غاد َر ال�شاعر املارك�سي يحيى النمريي ع ّمانَ ،بال ٍ وج َ�سار ٍة يف َخ ْلع
وا�ستدراكات واعية للمكتوبَ ،
ٍ ثقاف ّية د�ؤوبة،
�أ ّول� ،إىل بريوت� ،إىل �ساحات التجربة ،مبتدئ ًا رحل َة التح ُّول التَّكلُّف عن اللغة ،وتنظيف ال�صور ِة من الزخرفة اخلادعة،
فيه با�ستبدال ا�سمه ،خمتار ًا لهويته التي �شر َع بخلقها عنوان ًا ونبذ املبالغة يف ر�سم امل�شهد .بحجم املُعطى ،كما يراهُ ،يكتب
خا�ض التجرب َة لأعماقٍ �أرته هو «�أجمد نا�صر ».وهكذا كانَ : الن�ص ليكون هكذا ..ورمبا ،لغري املكتفني بالظاهر والبائن، ُّ
ال�شاعر املتمدد يف
ِ َ
الفارق ب َني ني فيه .و�أرته� ،أي�ض ًا، ما هو دف ٌ �صبح مدعا ًة للتف ُّكر وتقليب الأوجه. ل ُي َ
الروح ،والأيديولوجيا املتخندقة يف الر�أ�س .بني َنزْ ف الدم ذلك ُكلُّ ُه ميكن �أن ُيقْر�أ يف يوميات ِح�صار بريوت 1982
وتناثر الأ�شالء يف ال�شوارع ،واندالعات الأخيلة وحرائق الق َلق
كا�ستهالل تا َب َع ُه �أجمد نا�صر ،يف ما بعد ،يف توايل كتاباته،ٍ
وجوب لهذا «الفارق» الذي �أ ّدعيه �أنا؟ ٌ على الورق .فهل ث ّم َة
ُم ْن ِ�ضج ًا �إ ّيا ُه عرب �سنوات «التجربة» .ففي «العودة �إىل الفردو�س
�شوائب الـ»هنا»
َ أقرتب من الت�أ ُّكد وال ًا ِ�ص ُل َح ْ�س َم اليقني؛ �إذ �أنّ
� ُ
املفقود! �أو :ل�ستُ راعي الذكرى وال ُمد ِّبر احلنني» ،اجلزء الثالث
والـ»هناك» تبقى عالق ًة بتالبيب امل�س�ألة و�س�ؤالها .ورمبا لهذا
من الكتاب ،املخ�ص�ص للكتابة عن �أ َثر املكان على العائد �إليه
كان ت�سجيلي النتباهة �أجمد املكتوبة كالتايل« :لع ّلني مل
التماعات تجُ ربنا
ٍ بعد �أربعة ع�شر عام ًا ،كثري ًا ما نقع على
�أف ّكر� ،آنذاك ،ب�أنني �أ�ؤلف بني ح َّدين :ح ّد القلق وح ّد اليقني.
على التوقف و�إعادة القراءة وا�ستخراج ال�صور ِة من الداللة
و� اّإل كيف كنتُ مارك�سي ًا مت�صلب ًا ومل ُي�شجني التغ ّني بالثورة
واملعنى ،مبا يعاك�س امل�ألوف القائل با�ستخراج الداللة واملعنى
والطبقات الكادحة يف الق�صيدة؟» �ص.186
ال�شعر للنرث على نح ٍو تباديل). من ال�صورة (�إنها خماتل ُة ِّ
ُ
واللحظة ا�ستثناء: �أُ ٌ
نا�س عاد ّيون و�إين ،الندها�شي بقدرة اللغة وتركيبها على َل ْظم َط َر ْيف
يف تدوينه لأحداث يوم 27متوز ،حيث كانت الطائرات ال�صورة ومعناها وداللتها يف �صياغ ٍة ك�أنها �صدى الأعماق،
وجتول يف �سماء املدينة قا�صف ًة وحارق ًة
ُ ُ
ت�صول الإ�سرائيل ّية فل�سوف �أُو ِر ُد اقتبا�سنيَ /ق َب َ�سينْ مما �أرى فيهما ومي�ض ًا َ�شقَّ
ومُدَ ِّمر ًة ونا�شر ًة املوتَ �أينما كان ،كتب �أجمد نا�صر« :كيف للغة �صفح َة ال�سماء لكنه مل ينطفئ:
141
َمن يوزع جريدةَ ،من يبيع خ�ضار ًا ،بل َمن بقي يف بيته ومل تكتب املوتَ ال كلمة املوت� ،أعني املوت نف�سه ،بل الرعب الذي �أن َ
يغادر� ».ص.91 ي�سبق املوت؟ لغتي قا�صرة .لغتي كلمات .والكلمات لي�ست حياة
ولي�ست واقع ًا ولي�ست حقيقة� ».ص .86ولحِ ال ِة اخلروج اجلماعي
«للن�ساء اللواتي يظهرن يف ال�شرفات ويتح َّركن يف دواخل
للمقاتلني (الأقرب �إىل ملحم ٍة �إغريق ّية) من بريوت حممولني
الغرف بثياب النوم رائحة �أُلفة �أفتقدها .هنَّ اللواتي يعطني
و�صف تفاعالت على ال�س ُفن الأمريك ّية ،ولليوم الثاين � 22آبَ ،
للحياة معنى .جمرد وجودهن �إ�شارة �إىل �أنّ احلياة ال تزال
امل�شهد كالتايل« :يف تاريخنا العربي مل نعرف مثل هذه اللحظة
متوا�صلة رغم ك ّل �شيء� ».ص .30
ُ
االرتباك امللتب�سة :ن�ص ٌر وهزمي ٌة وخذال ٌن مع ًا� ».ص � .127إنه
«كثريون حتدثوا بعد ذلك عن البطولة و�أنا العائ ُد �إىل ي�ضرب
ُ وا�ش االلتبا�سو�ش ُال�شال يتج ّلى يف الكلمات العاجزةَ ، ّ
م�سرح املوت ال �أتذ ّكر ،الآن� ،سوى اخلوف� .أتذ ّكر اللحظات التي وغيرَّ َ يوم َ
احل ْ�شر َ�س َبقَ ميقا َت ُه َ والعقل بال متييز! ك�أنه ُ َ الروح
َ
أرج َحت فيها الروح بني القذيفة وال�صاروخ ،بني انق�ضا�ضتني ت� َ مكا َنه! ال �أحد� ،سوى دهاة ال�سيا�سة ودهاقنة �أالعيبها ( ُمريدو
يل تلك اللحظة التي �أُفر َغ فيها القلب
للكوا�سر املعدن ّية .تعود �إ َّ وجنان الآخرة) ،بو�سعه ا�ستيعاب ما جرىُ :ك ّل ما �أموال الدنيا ِ
من اخلفقان عندما اندفع �إلينا يف قبو «املجل�س الثوري حلركة جرى واختالق مربراته؛ و� اّإل ف�إنَ ال ُك ْف َر َحال ٌل جلميع النا�س
فتح» ُغبار بناية �أبو �إياد املجاورة .رغم مارك�سيتي وجدتني ين النبيل� ،سوى العاديني الذين مل يجنوا ،ب�صمودهم الإن�سا ّ
الرب وديعته ع َّما قليل� ».ص.214
أخذ ُّ�أنطقُ بال�شهادتني! �سي� ُ تلك اخلامتة« .ث ّمة �شعو ٌر يجو�س يف �أعماقنا �أنّ حيا ًة ب�أكملها
تاب بني �أيدينا الكاتب مل يحن ميقاتُ َق ْطفه بعدِ ،
والك ُ َ لكنَّ نا�س ،مهما حت َّلوا باملعرفة والثقافة تنتهي الآن� ».ص � .110أُ ٌ
ْ�ض غبا ِر ذاكرتنا� .أو لرتميمها وت�صويب بو�صلتها.يدف ُعنا ِل َنف ِ وال�شعر� ،أو حت�صنوا بالفكر والأيديولوجيات � ،اّإل �أنهم ،يف ِّ
�أو لت�أ�سي�سها من جديدِ ،ب َو ْع ٍي جديد. جوهرهم ،عالقون (ونحن معهم) بحروف ال�س�ؤال :ملاذا هذا
املوتُ ،كانَ ومل يزل ويبقى ما بقيت ُد َو ٌل ال نتفي�أ ِظلاّ ً لها لأنها،
خرج بريوتَ من ح�صارنا نحن لها .هكذا نعو ُد �إليها هكذا ُن ُ تفوق احلقيق َة، الكذ َب َة فيها ُ مهما كانت �شعاراتها َب َّراق ًة ،ف�إنَّ ِ
وادع َني بغري ُ�س ُف ٍن تظ ُّل �أمريك ّي ًة �أمريك ّي ًة و�إنْ رفرفت فوقها فالكذب ُة،
�أو حقيقتها الكاذبة باتت تتع ّرى -وهذا َق ْو ٌل �صحيحِ .
�سيوف لي�ست م�سلول ًة ولي�ست باتر ًة �أبد ًا.
ٌ راياتٌ ُخ ْ�ضر ،تُز ّينها كما نعرف ،ال ِظ َّل لها.
البطول ُة ،يف ح�صار بريوت ،رمز ّي ٌة بك ّل معاين الكلمات
ودالالتها ،ال بالكلمات نف�سها.
* بريوت �صغرية بحجم راحة اليد :يوميات من ح�صار عام ،1982الأهلية للن�شر
والتوزيع ،ع ّمان.2013 ، نا�س عا ّديني عا�شوا و�أبطالها �أبطا ٌل ،لأنهم ما كانوا �سوى �أُ ٍ
حلظ ًة ا�ستثنائ ّي ًة وما َخ ِر َبت �أرواحهم -و�إنْ َعفَّرتها الريح � ..اّإل
َمن ارت�ضى لنف�سه �أن يكونَ كاذب ًا.
«النا�س املغمورون هم �أبطال احلروب ،وهذه احلرب
ي�شارك فيها اجلميعَ .من يقاتلَ ،من يكتبَ ،من يفتح ُفرن ًا،
142
كاتب �أردين.
143
كنوز التذوق ومتعة الفكرالذي ي�ضيء عتمات الت�أويل وتقليب الق�صة الق�صرية جد ًا ،ذلك الفن ال�صعب الذي يحتاج
وجوه املعاين. لكفاءة عالية من اقتنا�ص اللحظات العابرة ..هي فن الت�أمل
والدالالت املُ�شعة.
النهايات املفتوحة وت�شفريالن�صو�ص وحذف الكثري من
تفا�صيلها ،مي�سم ا�شرتكت فيه النماذج التي تركت لعقل «من مل يقف على �إ�شارتنا مل تغنه عبارتنا» ،مقولة ميكن
املتلقي وذوقه �أن يكمل ما ميليه عليه وعيه. اعتمادها مفتاح ًا لدخول ف�ضاءات ن�صو�ص املبدعة «ب�سمة
النمري».
يحملنا ما ذكرنا على لذة ت�سوقها ده�شة التعاطي مع
من مل ُ يتح له االطالع على جتربة القا�صة والفنانة
الن�صو�ص التي ُ حتيلك لف�ضاءات غريبة ،تالم�س حدود
الت�شكيلية يكفيه كتابها الأخري الذي يلخ�ص ر�ؤاها ويرتجم
الالمعقول ،فتحملنا على حمفات ال�سرد وال�شعر ،وتقف
جتربتها.
بنا �أمام حوار وجداين مع مفردات الكون ،موظفة احلرف
وال�صورة يف لوحات ت�شكيلية �آ�سرة ملعامل املاورائيات ،بدفق «وما ال يرى» ق�ص�ص الكاتبة الأخرية ،حتتاج لوقفة
�صو ّيف رقراق يرتك �آثاره على �أرواحنا. ومراجعة ،ذلك �أن الن�صو�ص التي تر�سم بالكلمات ،وت�شتبك
حروفها ب�ألوان الت�شكيل ،ال متنح ثمارها لقراءة يتيمة بل مبتعة
الأ�ضمامة التي حتتويها جمموعة «ما ال يرى» لي�ست حمط الإغرتاف من معني الإبداع الذي انعجن ال�سرد فيه بالت�شكيل
فن ق�ص�صي ،بل جديلة فنون� ،إنها رحلة الك�شف ب�آلة غري وال�شعر والفل�سفة واحللم والفنتازيا.
ب�صرية ،ووم�ض الروح يف عامل �آخاذ �ساحر ،تكتب بها ال�ساردة
هذه املتتاليات الق�ص�صية التي ت�أخذنا لرحيق اللذة كلما
ت�ضاري�س روحها فتتوحد مع الأ�شياء ب�صوفية يختلط فيها
عاودنا ت�شربها ،وتختلط بذائقتنا تالوين متعة الب�صر وال�سمع
احللم ،فتطل على �شرفة �أمل يبعث روحه من بعيد. واملو�سيقى ،تقودنا لف�ضاءات �أ�سئلة وجودية بوقوفها على تخوم
هذا احلفر اللغوي ،وتلك الرموز امل�شبعة بالإيحاء ،وذلك احلب واملوت والفناء «حتى احلب يق ّرب من املوت»« ..متيل
الت�أنق يف توظيف العبارة :هل تكون و�سيلة للبحث عن مفهوم واحلي �أي�ض ًا
ّ العمياء نحو العيناء ،تهم�س �إليها :ال امليت ميوت،
للأنوثة ،خا�صة ،و�أن البطولة يف ن�صو�ص املجموعة جميعها ال ميوت ،فمن الذي ميوت �إذا؟
(�أنثى) ،وت�شرتك يف ثيمة مت ّثلت يف �أن�سنة مفردات الكون، : -من؟ تهز العيناء ر�أ�سها حمتارة.
حيوانات �أو نبات ،كما يف (دمنا /ا�شتهاء /وقت /م�سار/
� :-أي�صاب الأعمى بالعمى؟ ال ،وكذا الذي حق ًا يرى� ،ألي�س
يقني� /س ّلم/عون) على �سبيل التدليل ،وبدا تبادل الأدوار بني
كذلك؟
�أ�شخا�ص الن�صو�ص كما يف ن�صها (ا�شتهاء).
:-نعم ...نعم ،ترد العيناء وت�سلم يدها �إىل العمياء لتعرب
خمالفة ال�سائد واخلروج على قوانينه بحث ًا عن حرية بها الطريق.
مفقودة �أو خروج ًا من دائرة البوح جندها ماثلة يف (ما ال يرى
/منلة /جندة /عالقة /قيد) ...يتعاىل ن�شيجي يف ف�ضاء ي�شدك التكثيف يف ن�ص�ص «النمري» وي�ستوقفك الإيحاء
الطرق املوح�شة اجلرداء� ..أرك�ض� ..أتوقف ،التقط �أنفا�سي، واالنزياح واال�ستدراك ،ليمنحك فر�صة الإمعان واحلفر عن
144
احلديقة التي ال يرتادها �أحد ،يجل�سني الأرنب� ...أتراها خطة �أ�س�أل نف�سي� :إىل �أين؟ ...لو ت�ستطيع مرة �أن تطلق الفرا�شة
احلياة الذكية �أم حم�ض تخبط �أحمق يفوق تلك البالهة ؟.. احلبي�سة داخلها...
يزورنا املوت بال دعوة ،يت�صدر جمل�سنا دون ترحيب� ..أراها
ويتجلى التوحد والت�صوف يف ن�ص «نحن مرة» ...ن�سيج
ت�ستحق كل ذلك؟ نعم احلياة ،هل ت�ستحق كل هذا ال�شقاء
ق�ص�صي حتكيني� ،أبحث عمن وراء كل ذلك ...ليتبدى يل �أنا
واجلهد والقلق؟
�أخرى وال غريي يف كل هذا الكون »...عند ر�أ�س املفرق �أتوقف
ليظل ال�س�ؤال معلق ًا مفتوح ًا على �إجابات تختلف باختالف حائرة� ...أت�شظى »...هل هو ال�ضياع لفقدان التوا�صل؟..
عمق ووعي القارئني. «�أتقلب يف فرا�شي لي ًال /حممومة �أهذي ،تنتاب �أحالمي
كوابي�س مرعبة� ...أ�صحو فزعة �أتلفت �إىل ما حويل ف�أراين
ميكن للقارىء احل�صيف ملجمل ن�صو�ص جمموعة «ب�سمة
حبي�سة �صندوقك البلوري« ...لهذا جتد �ضالتها يف الت�صوف»..
النمري» �أن يقف على متحور �شخ�صيتها /بطلتها الرئي�سة حول
وحدي وال �أ�شعر بالوحدة ،والوحدة نق�صان فال نق�صان �إذا �أو
هم عام يجري يف املحيط والعامل ،لدرجة
الذات ،دون �أن ي�شغلها ّ
اكتمال ،»..وليحدث التنا�ص مع عوامل املعري :بذور القهوة
ميكن الت�أ�شري معها �أن بطلة الن�صو�ص متيل لالنطوائية وتقلب
من الأر�ض ،ما�ؤها من الأر�ض� ،س ّكرها من الأر�ض ،زجاج
املزاج واالنفعال ،والنزوع الوا�ضح للحزن والعي�ش يف حياة
فناجينها من الأر�ض ،ن�شربها ،نحن الذين من الأر�ض ،نقلب
�أقرب لأحالم اليقظة ،والركون لل�صمت واالنعزال ،لتنتهي �إىل
الفنجان فتكتب اجلاذبية يف بطن الأر�ض خطوطنا و�أقر�أ فيها
الغربة واالن�سحاب عن الذات واملجتمع واملحيط ح�سبما يرى
ماذا �ستفعل بنا الأر�ض بعد.»...
عامل النف�س (يونغ) يف تعريفه لل�شخ�صية االنطوائية ،لي�صل
بنا �إىل ما يفيد بعدم ت�صالح البطلة مع ما يحيط بها. هل لذلك عالئق بارتباط ال�ساردة بحلم الطفولة وحلم
العودة لها ؟ »..وحيدة ،وحيدة متام ًا ،والوحدة غواية ،لأفعل
�إذا ما �أريد ،فال رقيب وال خوف هناك من العواقب ،ماذا
�أريد؟
�أريد طفلة و�أراين �أ�ستيقظ مبكرة قبل طلوع ال�شم�س،
كي �أزرع قطعة الأر�ض ال�صغرية التي اتخذتها حديقة �أمام
منزلنا ...لأزرع الآن و�أ�سرت ّد بذلك بع�ض ًا من ذاك الفرح
الطفويل املعتق املفقود ..تعلو الأرجوحة ،يطري من الفرحة
قلبها ،وحني تهتم ب�أن ترتد يعاندها قلبها ويبقى عالق ًا هناك
وتهبط وحيدة.
�إنه الفقد و�ضياع حميمية التوا�صل ،لهذا جتد ال�ساردة
�ضالتها يف االلت�صاق ب�أ�شيائها ال�صغرية ،هاربة �إىل الفنتازيا
واحللم والإكثار من ذكر املوت وطرح الأ�سئلة الفل�سفية »...يف
145
باحث �أردين.
146
و�أين �سار ،و�أين وقف ،و�أين جل�س ،يعرف �أنّ اجلميع يعرفون وم�شكلة جمتمع ّية �أخرى وهي الإدمان والإرادة« ،وهكذا
�أ ّنه ا�ستعار معطف تروباكني ،مع �أ ّنه عندما كان يح ّدث مررنا �أمام اكدا�س كاملة من رجال ُ�سكارى حتّى املوت ،كانوا
الآخرين يذكر ويع ّد ما فعله من اخلري لوجه اهلل تعاىل ،ف�شعر ميتلكون على يبدو �إرادة �ضعيفة جدًّا ،لدرجة �أ ّنهم مل يتم ّكنوا
«زوفيلوف» �أنّ امل ّنة تكدير وتعيري تنك�سر منه القلوب ،وملّا مل من الو�صول �إىل منازلهم)3(».
يحتمل «قفز زوفيلوف من مكانه – بني �صحبه الذين ا�ستقبلوه ق�صتهّ :
«ال�شاعر» جند قيمة الإحلاح بارزة وا�ضحة عند ويف ّ
الكر�سي على الأر�ض ،وقال
ّ بحرارة -ب�شكل عا�صف م�سقط ًا ّ
ال�شاعر :ملا يف نف�سه من �أنّ ق�صيدته �صاحلة لل ّن�شر ،فيطارد
�صائح ًا :توقفوا! ال ميكنني ّ
ال�صرب �أكرث!! ائتوين بترتي! �ألي�س
م�س�ؤول التّحرير من مكان �إىل مكان� ،إىل مكان؛ لي�ض ّيق عليه
لديكم هنا ترتي؟ وباع املعطف.
اخلناق ،حتّى ا�ضط ّره لتقدمي ا�ستقالته «من م�س�ؤولية التّحرير
«ال�صنو» يخلق من ّ
ال�شبه �أربعني -وفيها ما ق�صتهّ : ويف ّ لل ّنا�شر»)4(.
ال�صنو من الآالم.
يالقيه من املرح ،وما يالقيه ّ ولع ّل فيها قيمة �أخرى ،قيمة البحث عن ّ
ال�شهرة ب�أي
ق�صته« :فطنة على خ�شبة امل�سرح» اخلروج من م�أزق، ويف ّ طريقة ،و�أي �أ�سلوب؛ لأنّ فيها حتقي ًقا لل ّذات ،وتبقى ّ
ال�شهرة
با�ستكمال ال ّدور ابتكار ًا ،من نقطة انتهاء ال ّدور املكتوب. ع�ص ّية على من ال ي�ستح ّقها.
ق�صته « :غري قابل ّ
لل�شفاء» يحب�س الإن�سان نف�سه يف ويف ّ ال�شهرةذهبي» ،تتج ّلي قيمة البحث عن ّ ق�صته« :قرن ّ ويف ّ
فكرة ما ،ي�صعب اخلال�ص منها ،مهما تغريت العنوانات. ال�سطر الأول فيها» فور و�صويل �إىل بطر �سبورغ جئت من ّ
وال�سري مع التّيار
حفي �سرت ميغالفوف ،وقلت ال�ص ّ �صديق ًا قدمي ًا ،وهو املرا�سل ّ
ويف ق�صته« :املنك ّيون» .قيمة االنتهاز ّية ّ
القا�ص
ّ له� :أريد �أن �أكون م�شهور ًا ،يا�سرتميغالفوف!» ويبينّ
ربرات ولو كانت غري مقنعة ،ومن املمكن مل�سايرة ما هو مب ّ
ل�ست �شاعر ًا،
�أنّ هذا الأمر ممكن ،حتّى لو كنت ال �شيءَ ،
�سائد ومنت�شر �أن تكتب عن معر�ض ر�سم دون �أن تراه خوف ًا من
احل�س
ّ ر�سام ًا ،وال مو�سيق ًّيا ،وال� ،..إذا ملكت
قا�صا ،وال ّ
وال ًّ
�أن تو�صف باملحافظة �أو املتخلف.
ال�صحيح لتقدمي ال ّدعاية بقلم من يتقنها ،ويعلم يقين ًا كيف ّ
ق�صته« :بيتوخوف» قيمة اخليانة واال�سقاط :وي�صدق ويف ّ ي�س ّربها �إىل اجلماهري وعلى جرعات ،ل ُيقال لك« :لقد ح ّيوك
عبي« :يا ...يا ُز َط َية ،ال ّلي فيكي ُحطي ّيف» زوج عليها املثل ّ
ال�ش ّ وكمن�شد لأحزاننا وفقرنا ،و�أقول
ٍ كحامل ملُثل جيل ّ
ال�شباب،
يخون زوجته م�سقط ًا ك ّل ت�صرفاته عليها. �أنا لك كلمتني ،لك ّنهما تخرجان من �أعماق �أرواحنا :حت ّية يا
ّل�ص�ص كاند يبني!! «�أجبت بتح ّية فيها مت ّلق� :أح ّييك .كيف حالك �أنت؟
ال�سيد فوبياغني» قيمة الت ّ ق�صته« :جرميتا ّ ويف ّ
وراح اجلميع يق ّبلني»)5(.
فتيات ثالث،
ٍ والتّحديق بج ّد ّية واهتمام� .ص ّياد يراقب
ي�ستحممن يف ال ّنهر ،وا�صف ًا �إ ّياهنّ ب� ّ
أدق التّفا�صيل ،و�أجمل ق�صته« :معطف الفراء» قيمة» امل ّنة».
يف ّ
عبارات املح ّلل جلزئيات �أج�سادهنّ .
ا�ستعار عازف البيانو «زوفيلوف» معطف فراء ال ّذئب من
ق�صته« :عيد الف�صح لدى عائلته كينديكوف» «العي�ش
ويف ّ املوظف «تروباكني» وكان «زوفيلوف» �أينما ح ّل و�أينما ارحتل،
147
ّعبي هو كاتب
وقارئ «ذات م�ساء» ي�شعر �أنّ ال ّدكتور الز ّ
اخلا�ص ،ولغته يف جمموعاته الأخرى،
ّ هذه املجموعة ب�أ�سلوبه
عاملي م�ستها �أدواء حمل ّية ،تن�سحب
ين ّ و�أنّ املجموعة �أدب �أن�سا ّ
على معظم بقاع الكون.
ف�إذا وعى القارئ هذه القيم و�أجال فيها الفكر ،بامعان
نظر ،تر�سخت يف عقله ،وا�صبحت معلومات ومعارف ،قادته
– �إن وجدت يف �سلوكاته – �إىل التّغيري واملقاومة ،وانعك�ست
على ممار�ساته احليات ّية فرد ًا ،وقدوة ،وت�س ّربت �إىل قيم
اجلماعة ،وانعك�ست �سلوكات متار�س.
148
كاتب �أردين.
149
ودالالتها ،من ت�صويرية ورمزية و�شعرية ،وا�ستخدامه للغة وجمريات ،ثم �أن �أعماله الروائية والإبداعية مل تُدر�س درا�س ًة
املحكية واليومية والف�صحى ولغة التخاطب واحلوار ،مبا يخدم نقدي ًة حتليلي ًة م�ستفي�ض ًة تك�شف عن موهبته وموقعه يف م�سرية
الن�ص الروائي وما يتنا�سب مع واقع ال�شخ�صية. احلركة الإبداعية الأردنية.
ولعل ما ي�ستوقفك يف هذه الدرا�سة� ،س�ؤال الباحثة للروائي تناولت الباحثة يف الف�صل الأول جتربة هزاع الرباري
الرباري حول الكتابة ال�شمولية ،و�إجابة الروائي بقوله�« :أرى �أن الإبداعية منذ البدايات ،وعطا�ؤها يف امل�سرح والرواية
كتابتي يف �أكرث من جن�س �أدبي والإم�ساك بكل م�ساحة متاحة والق�صة واملقالة والكتابة الدرامية ،ون�شاطه الثقايف وم�سرية
للبوح الآخر ،هو انتاج احلالة االن�شطارية لذاتي� ،إنه ان�شطار حياته والعوامل التي �أ�سهمت يف ت�شكيل ثقافته وانعكا�سها على
ت�صاعدي ،و�أعترب �أن الكتابة هي اجلن�س الأو�سع الذي ي�ضم �إبداعه.
كل مفردات الإبداع الأدبي ،ومل �أق�صد �أن �أكون كاتب ًا عابر ًا
وجاء الف�صل الثاين ليبحث عن امل�ضامني الرئي�سة يف
للأجنا�س ،بقدر ما كنت معني ًا بقذف الكتابة اجلارحة من
�أعماله الروائية ،من اجتماعية و�سيا�سية ووطنية وقومية،
داخلي بعد �أن تعاظمت كنهر عنيف ،ولعل النهر قبيل الدخول
حرمان واغرتاب ،وعن ق�ضايا احلرية
ٍ فقر
وما يتف ّرع مها من ٍ
يف م�صبه يتف ّرع على �شكل �شرايني كثرية �صانع ًا �أخ�صب تربة
والعدالة والكرامة واملقاومة والأحزاب ،وعن واقع الإن�سان
يف العامل� ،أنا متخ�ص�ص يف الكتابة الإبداعية ،وعندما �أ�شرع
العربي من هذه الق�ضايا وما مي�س حياته وفكره و�إن�سانيته.
جن�س �آخر ،وهكذا بكتابة رواية ال �أعتقد �أنني قادر على كتابة ٍ
حقلجن�س �آخر ،ورمبا ي�ساعد التخ�ص�ص يف ٍ �أ�شعر �إذا كتبت ً وجاء الف�صل الثالث :يبحث عن توظيف الروائي للأبعاد
واحد على املراكمة يف ذات احلقل ،وكثري ًا ما رغبت يف ذلك، الدينية والفل�سفية واملثيولوجيا والرموز التاريخية ،وما يكمن
لكن هل �أ�ستطيع �أن �أكون غري ذاتي� ،إنّ الكتابة هي اتزان يف هذه امل�ضامني من �أبعاد ودالالت و�إيحاءات،كاملوروث
داخلي ،وهذا التعدد هو ال�ضمانة الوحيدة لبقائي قيد الكتابة ال�شعبي واحلكايات واخلرافات واملعتقدات والأعراف والقيم
والبوح الفني». والتقاليد ،وق�ص�ص الأنبياء التي ت�ستند �إىل القر�آن الكرمي
والكتب ال�سماوية.
هذه هي ال�صورة العامة لهذه الدرا�سة الق ّيمة التي ك�شفت
فيها الباحثة عن �أعمال الروائي هزاع الرباري ،وعن �أبعادها وتق ّدم الباحثة يف الف�صل الرابع درا�سة م�ستفي�ضة
وم�ضامينها وتقنياتها الفنية و�شخو�صها ومكانها ولغتها للجوانب الفنية التي ا�شتملت عليها التقنيات ال�سردية
ورموزها و�أحداثها ووقائعها ،وموقعها من احلركة الإبداعية وانعكا�سها على املكان مبفهومه و�أنواعه والأحداث ومبفهومها
الأردنية ،وتو�صلت �إىل ما مل يتو�صل �إليه الدار�سون والن ّقاد �أمناطها ،ومالمح البطل و�صوره ،لتلقي ال�ضوء على التقنيات
الذين تناولوا �أعماله بالدرا�سة والتحليل ،وك�شفت عن ر�ؤى احلديثة التي مت ّثلت يف الرواية الأردنية و�أ�سهمت يف �إدخالها
جديدة يف كتاباته التجريبية اجلديدة بعني الناقد املن�صفة. غي خريطة الرواية العربية.
ويجيب الروائي هزاع الرباري على �س�ؤال للباحثة يف غاية �أما الف�صل اخلام�س ،فقد ك�شفت فيه الباحثة عن
الأهمية عن مغامراته يف الكتابة اجلديدة بقوله�« :إن الكثري مهارات وقدرات الروائي اللغوية املده�شة واملتعددة يف �صورها
150
ا�ستخدمت الباحثة هذا املنهج يف حتليلها ونقدها لأعمال يعترب الكتابة اجلديدة هي الدخول �إىل املناطق الغائرة يف
الرباري املتعددة ا�ستخدام ًا موفق ًا وب�إتقان ،وتعاملت معها الذات كمرحلة ا�ستنباط ل�س�ؤال جديد ينتج مفعم ًا بالتوا�صل
مبهارة الناقدة الواثقة املتمكنة مب�صطلحها وحرفية الن�ص، الداخلي املغلق خارجي ًا ،و�أعتقد �أن الذات املفعمة تتفخم
و�أك�سبت ُجملها دما ًء وروح ًا ،فخرجت ُجملها و�ألفاظها من بح�سب قانون اال�ستعمال والإهمال ،وتتعاظم لت�ش ّكل كل هذا
ذاتها وروحها ،فد ّبت يف الكلمات احلياة� ،أ�ضافت ُبعد ًا جديد ًا التناق�ض العاملي وت�صبح ذاتي ًا كونية جمرات ونظم ًا وكواكب
على الن�ص املعالج زادته �ألق ًا وبهجة. م�أمولة ،و�أنا هذا الفرد بهذه الذات املمتدة �أقود �سفينة املعنى
والده�شة الكت�شاف بالد الأ�سئلة املختلفة ،فلو ملكت الإجابة
لقد �أح�سنت الباحثة االختيار �أن تتناول واحد ًا من �أدبائنا
خل�سرت الكتابة ومات الن�ص».
وكتّابنا الذين �أغنوا و�أثروا حركتنا الأدبية ب�أعمال �إبداعية
متميزة ،وتك�شف عن جوانب عديدة يف م�سرية الرباري فاملتتبع �إىل جتربة هزاع الرباري يجد �أنه يف كل عمل
الروائية والإبداعية التي ال تقل عن �أعمال الروائيني العرب إبداعي يتطور تطور ًا ملحوظ ًا ،و�أن معماره الفني روائي �أو � ٍ
ٍ
بحق �أو بغري حق، الذين تر ّبعوا على عر�ش الرواية العربية ٍ الفتٌ للنظر وراءه ثقاف ٌة عميق ٌة ،ون�صه الروائي جواني ًا م�سكون ًا
لأنهم وجدوا من الدار�سني والباحثني من يجلوا �أعمالهم باللحظة الهاربة من الزمان والواقع امل ّر ال�صعب جاع ًال من
بالبحث والدرا�سة والتحليل ،وك�أن على املبدع الأردين �أن يدفع م�شاهد رواياته لوحات فنية ت�صويرية �صاخبة �ضاجة باحلركة
�ضريبة باهظة فعليه �أن يفوز بجائزة خارجية عربية حتى تتعاطف معها ،وتقيم معها عالقة ان�سجام وود بلغة �شفافة
ُيعرتف به داخلي ًا. تغري باملتابعة والقراءة واملحاورة طرح الأ�سئلة ،فهو �شاهد
على مرحلة التغيريات والتطورات التي اجتاحت املنطقة
هذه الدرا�سة تك�شف عن مولد ناقدة متمكنة من �أدواتها
م�س احلياة االجتماعية وال�سيا�سية العربية والأردنية ،وما ّ
النقدية ،و�إذا ا�ستمرت يف الكتابة واالطالع ومواكبة �أعمال
واالقت�صادية من تغريات ،وانتقلت �سريعة ومتالحقة قلبت
املبدعني و�إبداعاتهم ،فبذلك تكون قد اكت�سبت ثقافة وا�سعة
و�ضج فيها النا�س مبا تركته من �شظايا املوازين واملعايري ّ
وت�ستخدم م�صطلحها النقدي بدقة ولغتها �آ�سرة م�شرقة،
وبراكني وخملفات ،ف�أ�صبحت احلياة بال لون وال طعم وال
و�ألفاظها عميقة يف الداللة والبيان ،وكانت �أمينة يف مقابالتها
رائحة ،والكل يجري وال يعرف .فجاءت رواياته م�ص ّور ًة هذه
وا�ست�شهاداتها وو�ضوح يف الطرح والأ�سلوب ،فالدرا�سة �إ�ضافة
الأو�ضاع وم�شاهد هذه احلركة بر�ؤية الروائي املتيقظ بالهموم،
طيبة للمكتبات الأردنية التي هي بحاجة ملثل هذه الدرا�سات
وال�شاب املتّقد حما�س ًا بالإ�صالح والتغيري.
املخت�صة عن مبدعينا وكتّابنا ،تك�شف عن م�ساهماتهم
الإبداعية وتن�صفهم يف عطائهم وت�ضعهم يف مكانهم الذي لقد اتك�أت الباحثة على املنهج التكاملي املتعدد يف
ي�ستحقونه يف ف�ضاء م�سرية احلركة الأدبية العربية ،فهم كرث التقنيات ،املنفتح يف الو�سائل ،فهو �أ�شمل املدار�س النقدية
متفجرة،
وحقوقهم خ�صبة معطاءة وقلوبهم خ�ضراء وينابيعهم ّ احلديثة يف معاجلة الن�صو�ص الإبداعية ودرا�ستها من كافة
ولكن بحاجة �إىل �أ�س ّنة �أقالم الن ّقاد والدار�سني املن�صفني. جوانبها ،و�أثبت هذا املنهج فاعليته وحيويته ومرونته وات�ساع
ف�ضاءاته ،ومنحه الن�صو�ص الإبداعية ثرا ًء وغنا ًء ،فهو
كالبحر الزاخر يف عطائه ويكمن فيه �أغلى النفائ�س .لقد
151
كاتب �أردين.
152
على املمار�سة الت�أويلية الو�صول �إليه .ومن ثم ف�إن مهمة من هنا ت�أتي �أهمية كتاب «ا�سرتاتيجية الت�أويل الداليل
الت�أويل تكمن يف بلورة الدالالت التي تطابق الثوابت اجلوهرية، عند املعتزلة» للباحث هيثم �سرحان (من�شورات نادي تراث
و�إق�صاء القيم الداللية التي تخالفها ،منتهج ًا الباحث يف ذلك الإمارات� ،أبو ظبي ،)2012 ،الذي يتناول بالدر�س والتحليل
نهج ًا ا�ستداللي ًا وت�سويغي ًا ،لأن احلقيقة يف �أنظار املعتزلة ال مفاهيم وممار�سات الت�أويل الداليل عند املعتزلة؛ وهي من
تت�شكل �إال من خالل �إدراك القيم املخالفة لها. �أبرز الفرق الإ�سالمية التي اعتمدت على العقل يف تف�سري
الن�ص ،بخا�صة القر�آين ،حيث بنى املعتزلة موقفهم ال�ض ّدي
هذا يف ما يخ�ص م�ستوى املنطلقات املعرفية واملنهجية،
من فكرة �أن الإن�سان م�سيرَّ ال خميرَّ ،على فكرة العدل الإلهي
�أما ما ُيعنى مب�ستوى الت�صورات الل�سانية ،فقد �سعى الكتاب
التي تع ّد من الأ�صول اخلم�سة للمعتزلة .والعدل الإلهي كما
�إىل الك�شف عن اجلوانب الإجرائية املتعلقة بالأ�س�س النظرية
فعل ما ثم يحا�سبه علىيرون يتطلب �أ ّال يجرب اهلل �إن�سان ًا على ٍ
لعملية الكالم وما ينبني عليها من م�سائل ،م�ستعين ًا يف ذلك
ما فعل ،وقد �شكلت هذه الفكرة منطلق ًا ونظرية عامة للمعتزلة
كله بامل�صطلحات واملفاهيم التي تنطوي عليها.
ط ّبقتها على الن�صو�ص القر�آنية والنبوية على ال�سواء.
تت�أ�س�س نظرية الت�أويل االعتزالية ،بح�سب �سرحان ،على
�إىل جانب ذلك ،ظلت م�س�ألة نظرية الت�أويل عند املعتزلة
جمموعة من املرتكزات النظرية وامل�س ّلمات العقائدية التي
�إ�شكالية ومثار خالف ،ومن هنا يت�ساءل الباحث عن الثوابت
ت�شكل يف ما بينها �أر�ضية �صلبة ترتكز عليها �آليات الت�أويل
الرئي�سية التي اعتمدها املعتزلة يف تر�سيخ نظريتهم الت�أويلية،
و�أن�ساقه الداللية.
وما املزية التي متتعت بها هذه الثوابت؟
�أما املرتكزات النظرية ،فتلك املنعقدة على قوانني املوا�ضعة
وبداية ،افرت�ض الباحث �أن املعتزلة عولوا يف ت�أ�سي�س
والأنظمة الل�سانية التي �صاغتها اجلماعة تعبري ًا عن حاجاتها
منطلقاتهم و�أ�صولهم اخلم�سة على جمموعة ثوابت ينبغي على
ومواقفها من الوجود .وبذا ف�إنه املعتزلة كان لهم موقف من
�أي ممار�سة ت�أويلية �أن ت�ستند عليها ،ومبوجب هذا ف�إن العمل
الإرث الل�ساين الذي ظلت �آلياته وطرائقه ونظمه الداللية
يبحث يف العالقة القائمة بني هذه الثوابت والن�ص املدرو�س.
متثل ح�ضور ًا و�سلطة يف اال�ستدالل على امل�ؤ�شرات الداللية يف
كما جتيب الدرا�سة على �أ�سئلة مرتبطة بالل�سانيات وما يتعلق
ت�أويلهم للن�ص القر�آين ولن�صو�ص احلديث النبوي وللن�صو�ص
بها من ت�صورات ،وتتبع الطرق التي يتم بوا�سطتها ا�ستخراج
ال�شعرية على ال�سواء .ومل َي ْع ِن االنتما ُء �إىل منظومة اجلماعة
دالالت الكالم وحتديد املقا�صد؛ �أي كيف �أ�سهمت الدعائم
الل�سانية ا�ستحال َة تطور الأداءات التعبريية و�إحداث �إ�ضافة
الت�أويلية والثوابت العقائدية يف تعني البنية الداللية؟ وما هو
نوعية يف بناء الكالم.
الدور الذي حتققه الثوابت وامل�سلمات يف املنهج الت�أويلي؟
�إذ �أكد املعتزلة يف معظم مدوناتهم �إمكانية �إقامة
لقد حاول الباحث �إدراك القدرة الت�أويلية التي متتع بها
موا�ضعات المتناهية تتنا�سب مع التناهي احلاجات التي تمُ ْ ليها
اخلطاب االعتزايل ،ومعرفة الأ�سرار الكامنة وراء نظرية
�سل�سلة التجارب الهائلة ،وبذلك ف�إن املوا�ضعة هي القانون
املعتزلة وت�صورهم للحقيقة الداللية ،متو�ص ًال �إىل �أن القيم
الذي يحكم اللغة ،لأنها تنم على حالة االختالف التي تهيمن
وامل�س ّلمات التي تمَ ثلها املعتزلة �شكلت ن�سق ًا جوهري ًا ينبغي
على �إدراك الإن�سان للوجود ،وتدل على �شقاء الوعي الإن�ساين
153
بيد �أن االعتماد يف الت�أويل على اللغة ،بو�صفها و�سط ًا مادي ًا وحجم القلق الذي ينتاب نظامه ،فمهما حاول الإن�سان �أن يبلور
�شمولي ًا ،كما ي�ؤكد الباحث ،يجعل من عملية الفهم عم ًال ي�سعى موقف ًا ل�ساني ًا من الوجود ،ف�إنه �سرعان ما ينقلب عليه ناق�ض ًا
�إىل بلوغ حالة التفاهم واالتفاق على احلقائق التي ينطوي غزْ َل ُه ومت�سائ ًال عن �شرعيته .وقد �أ�س�س املعتزلة ت�صور ًا للكالم
عليها الكالم .وهنا تظهر اللغة يف نظرية الت�أويل بو�صفها مفاده �أن الكالم واقع بح�سب ق�صد املتكلم و�إرادته ودواعيه.
احلقل الذي تدور يف فلكه املمار�سة الت�أويلية ،فالفهم يعتمد يف �أما امل�س ّلمات العقائدية ،فتلك املنح�صرة يف تعايل العقل
�إر�ساء تف�سريه على اللغة جاع ًال منها قناة متر فيها الدالالت وقدرته على معرفة اهلل قبل ورود الن�ص ،الأمر الذي يعني �أن
احلقيقة ،مبعنى �أن الفهم ي�ستبعد بع�ض القيم الل�سانية التي دالالت الق�صد ال بد �أن متر عرب قنوات العقل ،فالعقل مز َّود
تعرت�ض طريقه ،بحيث تت�ساوى كلية اللغة مع كلية العقل. بقوانني ،والتي هي جملة ا�ستدالالت ت�سمح ب�إدراك احلقائق
املطلقة.
جاء الكتاب يف تالثة ف�صول ،يتناول الف�صل الأول «مبادئ
النظام العقلي عند املعتزلة» ،كا�شف ًا عن ت�صور املعتزلة للعقل بناء على ذلك ،بح�سب الباحث ،قرر املعتزلة �أنّ معرفة
ونظامه الداليل وعالقته بالأنظمة الداللية الأخرى من حيث اهلل واجبة عق ًال ،ومتى ا�ستطاع الإن�سان اال�ستدالل على معرفة
انف�صاله معها �أو ات�صاله بها .كما يتناول داللة العقل بو�صفها اهلل عق ًال ،مت ّكن من فهم دالالت الن�ص القر�آين ،ومن ثم
لغ ًة وعالقتها بعقل اللغة ،ويقف على العالقة بني العقل والن�ص �إدراك مقا�صد اهلل تعاىل .ويرى املعتزلة �أي�ض ًا �أن الإن�سان
واللحظة التي ي�صبح فيها العقل ن�ص ًا. مطا َلب باال�ستدالل والتما�س الدليل ،وهذه الق�ضية حمورية يف
مدوناتهم.
وي�ؤكد الباحث �أن احلديث عن موقف املعتزلة من العقل
ومفهومهم له يجب �أن يتخذ منطلقات عدة ،و�أن يحدد وميكن �إدراك القدرة الت�أويلية يف خطاب املعتزلة من خالل
املرتكزات التي يقوم عليها العقل ،بو�صفه منطلق ًا �شمولي ًا احل َيل الل�سانية التي ينبغي �إجنازها للك�شف عن
حديثهم عن ِ
الداللة التي هي عميقة ومتوارية وذات طابع �سيميائي غالب ًا،
يتعلق باجلانب املعريف ..وتتداعى على هذا املفتتح �أ�سئلة كربى
و�إق�صاء جميع القيم التي تعرقل الك�شف الداليل وذلك
ترتبط يف جمملها بعالقة الوحي �أو ال�شرع �أو الن�ص ،ومبهمة
ن�صت عليه �أد ّلة
بت�سويغها و�إدراجها و�إحلاقها بالأ�صل الذي ّ
العقل ومنزلته و�أنظمته الداللية وعالقته باللغة والدالالت
العقل.
الأخرى ،و�أخري ًا عالقة العقل بالفهم والتكليف.
وتتمثل مهمة الت�أويل عند املعتزلة يف ا�سرتداد الكالم من
إدراك ينطلقان
فهم و� ٍ
�إن قدرة الإن�سان على التو�صل �إىل ٍ الن�ص ،ويتطلب ذلك امتثا ًال ملقا�صد املتكلم وحتييد ًا للعنا�صر
من وعيه ،هي ما يوجه انحياز املعتزلة �إىل العقل ،وي�سوغ الل�سانية التي تناق�ض املقا�صد ،وهذه امل�سائل تتم بالفهم الذي
ثقتهم بتفوقه ومركزيته� ،إذ يتنا�سب هذا االنحيا ُز وال ِ
أ�صل هو جماع النظر وطلب الدليل .و�إذا كان الفهم غاية يروم
املعريف الذي قرروه ودافعوا عنه يف مدوناتهم متمث ًال يف العدل املخاطب عندما يفهم َ الن�ص حتقيقها ،ف�إن هذا يعني �أن
الإلهي ،ويعني هذا الأ�ص ُل مت ُّت َع الإن�سان بقد ٍر من اال�ستقالل دالالت الن�ص يكون قد ا�ستوىل �ضمن ًا على منزلة املتكلم ،لأن
واحلرية يف القيام ب�أفعاله ،ومن ثم ف�إن احل�ساب يجب �أن الفهم معناه �أنّ ب�إمكان ال�شخ�ص �أن يقيم يف مكان �شخ�ص
ين�سجم مع الأفعال بو�صفها مرتبطة بالإرادة .وبذلك فقد �آخر ل ُيعَبرّ عن فهمه وما ميكنه قوله بهذا ال�ش�أن.
154
�إدراكي ًا تندرج ل�ساني ًا وحتتل مراكز معنوية ،وبذلك فالل�سان عن �سياقه وف�ضائه املرجعي ،لكنه حا�ضر يف ن�سيج اللغة،
لي�س الع�ضو املخ�صو�ص والآلة املعهودة� ..إنه نظام الإدراك فالن�ص يف وجوده الفعلي هو وجود يف العامل.
والقانون الذي ي�سمح بفرز قيم معرفة وم�صادرة قيم �أخرى.
وي�ؤكد �سرحان �أن املعتزلة �أ�س�سوا ت�صورهم ملقا�صد الكالم
وحجب ،فعندما ت�سمح بانك�شاف عالقة ٌ �إن الداللة هنا ٌ
ك�شف
على الأ�صول العقائدية ،فقد كان تقرير الق�صد مرتكز ًا على
داللية ما ف�إنها �ستدرج يف اخلطاب يف �سياق خمتلف ،ومن ثم
ثنائية املحكم واملت�شابه ،ومن ثم ف�إن � ّأي ت�أويل مطا َلب ب�أن
ف�إنها تنجدل على نح ٍو معقَّد ال ميكن �إيقاف اندفاعه �إال ببنية
يراعي هذه الثنائية� .إنّ فهم الق�صد وداللة الن�ص عند املعتزلة
الق�صد التي هي وحدها القادرة على تعيني املدار الذي ينبغي
ي�ستندان �إىل معرفة �صفات اهلل تعاىل وما يجوز عليه منها وما
تو�صيفه داللي ًا.
ال يجوز ،وهذه املعرفة عندهم معرفة عقلية �سابقة يف الرتتيب
ويرى الباحث يف كتابه �أن قوانني اال�ستدالل التي يحتكم على املعرفة ال�شرعية ،وهكذا ينتهي املعتزلة يف ق�ضية الداللة
�إليها امل�ؤ ِّول هي اخلطوات املادية الكا�شفة عن الدالالت وطرق اللغوية بو�صفها تابعة للداللة العقلية ومرتتبة عليها.
ت�شكلها ،و�أن على عملية الت�أويل �أن تَرجع �إىل الن�ص بو�صفه
�أما الف�صل الثالث ،فيحلل منهج الت�أويل الداليل عند
لغة �إذ ال َمو ِر َد �إال هو .وي�ست�شهد على ذلك بت�أويل الزخم�شري
املعتزلة ،وهو املحور الإجرائي يف الكتاب ،وقد ت�ضمن ثالثة
لتعبري «و�أنتم ظاملون» يف قول اهلل تعاىل يف الآية 92من �سورة
مباحث ومتهيد ًا ،يعر�ض التمهيد ملفهوم الداللة وطبيعتها
البقرة« :ولقد جاءكم مو�سى بالبينات ثم اتخذمت العجل من
ال�سيميائية ،ويتناول املبحث الأول نظام اال�ستدالل عند
بعده و�أنتم ظاملون» .فيقول «و�أنتم ظاملون» يجوز �أن تكون حا ًال،
املعتزلة ،ويعر�ض الثاين لآليات الت�أويل الداليل من خالل
�أي عبدمت العجل و�أنتم وا�ضعون العبادة غري مو�ضعها ..ويجوز
منطلقني :الأول الت�أويل بو�صفه داللة الن�ص على اعتبار �أن
�أن تكون اعرتا�ض ًا ،مبعنى« :و�أنتم قوم عادتكم الظلم».
للن�ص بنية م�ستقلة بنف�سها ،والثاين الت�أويل باعتبار داللة
ويف ا�ستعر�ضه مل�ستويات الت�أويل الداليل ،ي�ؤكد الباحث �أن اخلطاب ،انطالق ًا من �أن الن�ص بنية مفتوحة على املمار�سة
الت�أويل الداليل عليه �أن يلتزم بالبنية الرتكيبية يف الأحوال الل�سانية وناجتة عن �أفق املخاطبة والتوا�صل� .أما املبحث الثالث
كلها .وهو يتوقف عند الت�أويل باعتبار الدالالت العقلية، فمحوره م�ستويات الت�أويل الداليل ،وت�ضم :الداللة العقلية،
والت�أويل باعتبار الدالالت اللغوية ،والت�أويل باعتبار الدالالت والداللة اللغوية ،والداللة النحويةن والداللة املجازية.
النحوية ،والت�أويل باعتبار الدالالت املجازية� ،إذ �إن �إمكانية
�إن املحور الداليل ،كما يو�ضح الباحث ،ال يتوقف عند
اللغة املرتبطة بالطاقة املجازية تدل على �أن اللغة ابتكار دائم
حدود الكالم ،بل يتعداه ال�سرتجاع العالقات التي يت�ضمنها
وحت ُّول م�ستمر.
ويحيل عليها .فاملعقوالت وكل ما يدركه الإن�سان ويحد�سه
متلك قيم ًا داللية ،فقد يتحدث املرء عند الدالالت التي
ي�ست�شعرها يف احلجارة ال�ص ّماء ،وعن الدالالت الإيجائية التي
متنحه �إياها ر�ؤية �أمواج البحر .هذه العالمات لي�ست ل�سانية،
مبعنى �أنها ال تنطلق من الكالم� ،إال �أنها ومبجرد انتظامها
156
قراءة يف كتاب:
«ثقافة املعرفة والتفكري اال�سرتاتيجي»
د.في�صل غرايبه
الأول :يرقب متغريات احلياة ،ويبحث عن مناذج �سلوكية حتث يبحث عبد املجيد جرادات يف ماهية العمل الثقايف يف ظل
اجلميع على التعلم واكت�ساب املهارات واالبتكارات� ،أما الثاين: التحوالت االجتماعية البنيوية ،التي جاءت بدون احتياطات
فيبلور ال�سيا�سات الرتبوية ال�ساعية �إىل �إيجاد فكر م�شرتك ح�س التناغم �أو التوازن بني النا�س ،بكتابه اجلديدت�صون ّ
واجتاهات موحدة تعزز �أ�سلوب امل�شاركة والتعاون. املعنون بـ «ثقافة املعرفة والتفكري اال�سرتاتيجي» بدعم من
وزارة الثقافة ،2011معتمد ًا على منظومة القيم ،وم�ستعين ًا
�أين تقف احلرية:
على ذلك باحلديث عن مفهومي الإبداع والنقد� ،سعي ًا لتحقيق
ينتقل الباحث جردات �إىل مفهوم احلرية ،ف�أين تقف معادلة الرتاكم املعريف.
احلرية التي متنح الإن�سان القدرة على اال�ستنباط والتحليل.
ت�سا�ؤالت:
مفهوم املعرفة و�صنوفه: يبد�أ مقدمته بت�سا�ؤالت تثار على الدوام عن �أين يقف
�أما مفهوم املعرفة فريبطه بحجم اخلربات املكت�سبة، املبدع العربي من ق�ضايا �أمته؟ وهل ميتلك هذا املبدع �إرادة
ومق�سم ًا املعرفة �إىل ثالثة �أ�صناف هي :املعرفة املعلنة:
ّ وقوة؟ �أم يتمركز حول ذاته؟
وتت�ضمن ال�سيا�سات والتعليمات واملعايري ،واملعرفة ال�ضمنية: يف�صح امل�ؤلف من البداية عن ر�صد حماوالت الربط بني
وتت�ضمن القيم واالجتاهات الفكرية واملعرفة الثقافية: ّ عنا�صر الإبداع وم�صادر التعلم التي ترثي املعرفة.
وتت�ضمن االفرتا�ضات والأعراف. ّ
ال بدّ من مناق�شة تطورات التن�شئة:
الإبداع العربي وظروفه:
يجد �صاحب الكتاب �أنه ال ب ّد من مناق�شة تطورات التن�شئة
ي�سمح هذا الطرح للم�ؤلف �أن ينتقل �إىل ظروف الإبداع يف االجتماعية ،عند تفح�ص عنا�صر الإبداع وم�صادر التعلم التي
املجتمع العربي ،ليك�شف عن م�ؤثرات الثقافة واللغة والرتاث ترثي املعرف ،وذلك حري �أن ينظر �إليه من خالل بعدين هما:
باحث �أردين.
157
االجتماعية التي متثل الوعاء الفكري الذي يج�سد ال�شخ�صية الأدبي يف تعزيز مقومات الإبداع مبفهومه الوا�سع .ويخل�ص:
االعتبارية لهذه الأمة� .أما املنتج الثقايف الذي تنه�ض به �إن التحديات املاثلة يف جمتمعنا العربي تقت�ضي روح املواكبة
اللغة العربية في�أخذ بعد ًا تنموي ًا كونه يرتبط ب�إبراز ال�صورة مع التحوالت الداخلية والتطور املعريف ،يف هذا الع�صر الذي
احل�ضارية للأمة ،وحتدث الكتاب عن الرحالت ك�أكرث ميتاز بالكفاءة الإنتاجية والتنوع ،وي�ؤكد على �ضرورة اجلمع
املدار�س تثقيف ًا للإن�سان ،ت�سهم باال�ستفادة من امل�ستجدات بني الر�ؤية العلمية واجلهد الفكري.
العلمية والفكرية ،وهو ما ا�صطلح عليه مبفهوم املثاقفة �أو
امل�شرتك بني ثقافة املعرفة والتنمية:
التثاقف .هذا الذي ي�شكل مهارة من مهارة االت�صال ،يتوقف
جناحها على الثقة بني املبادر بالفكرة واملتلقني لها. ثمة �س�ؤال يراه الباحث يطرح نف�سه م�ؤداه ما القوا�سم
امل�شرتكة بني ثقافة املعرفة والتنمية؟ وحتدد �إجابة امل�ؤلف
الإن�سان بني ن�سق التكامل ون�سق رغبة: عليه تلك القوا�سم مبحورين هما :حالة النمو الإن�ساين ،والدور
ولكن الباحث ينعي ن�سق التكامل الذي نفرت�ض �أنه يقوي الريادي للمثقفني.
البنيان ،ومي ّد اجلميع باحلركة االن�سيابية نحو الإنتاج املعريف،
قيمة املعرفة وفن اال�ست�شراف:
والذي �أطاحت به التحوالت االجتماعية البنيوية ،لتحل ن�سق ًا
ي�سوق رغبة الإن�سان للتمركز حول ذاته ،مما ي�شو�ش على ينتقل امل�ؤلف بعد ذلك �إىل احلديث عن قيمة املعرفة وفن
مفهوم ثقافة املعرفة. اال�ست�شراف ،مما يقت�ضي �أمور ًا ثالثة هي :الإبداع اخلالق،
العمل اجلاد ،والتفا�ؤل احلذر ،حيث تربز مهمة اال�ست�شراف
ي�سمح الطرح ال�سابق والعر�ض امل�صاحب له للباحث ،الذي مبا ت�ستند عليه من ر�ؤية وقدرة على املثابرة واملتابعة .وهذه
كان �ضابط ًا يف اجلي�ش وبرتبة عالية� ،أن ينتقل �إىل التفكري الفكرة املحورية يف الكتاب جعلت �صاحبها يعنون بها كتابه:
اال�سرتاتيجي يف �إنتاج املعرفة ،يورد_ فكرة ابن نبي�« :إن «ثقافة املعرفة والتفكري اال�سرتاتيجي».
م�شكلة كل �شعب هي يف جوهره ًا م�شكلة ح�ضارته ،وال ميكن
الربط بني الثقافة والتحديث والتنمية:
ل�شعب �أن يفهم �أو يحل م�شكلته ما مل يرتفع بفكره �إىل م�ستوى
الأحداث الإن�سانية». وعند حماولته الربط بني الثقافة والتحديث والتنمية يتجه
�إىل �إجابة �أ�سئلة يطرحها بنف�سه مثل :ماذا عن متطلبات
املعركة املفرو�ضة معركة الثقافات: احلداثة؟ �أين تقف الثقافة من التنمية ؟ فيقدم الإجابة عليها
�إن املعركة املفرو�ضة علينا ،معركة الثقافات يف عامل على حماور ثالثة تتمثل بالفعل الثقايف الهادف ،والدرا�سات
االت�صاالت والعوملة ،يف الوقت الذي حتاول فيه الثقافة الأقوى التنموية ،وتقلي�ص الفجوة بني احلالة الثقافية وا�ستحقاقات
�أي الثقافة الغربية� ،أن تكون ثقافة العوملة التي ت�سود العامل التنمية ،الفت ًا �إىل �أن العوملة �أحدثت تباينا بني الثقافة والتنمية،
ب�أ�سره ،وت�سري الب�شرية عليها ،مقابل التخلي عن ثقافتها مما ي�ستدعي تفعيل دور الإدارة الإ�سرتاتيجية للموارد الب�شرية،
الأ�صلية ومتنكرة لرتاثها الأ�صيل. و تركيزها على احرتام الوقت وقيمة الإن�سان.
املعركة مفرو�ضة على جميع الأمم ،مبختلف ثقافاتها، الوعاء الفكري الذي يج�سد ال�شخ�صية االعتبارية:
ف�إما ت�صمد �أو تتهاوى �أمام الثقافة القوية ،تلك الثقافة التي ال وعندما يتناول الكتاب اللغة العربية ،ي�صفها بالظاهرة
158
* حت�صيل ثقافة �إ�ضافية انفتاحية على العامل لدى اجليل حترتم �أ�صول املثاقفة املتبادلة .يف الوقت الذي يحاول الغرب
اجلديد. فيه �أن يجعل من العامل �سوق ًا واحدة ال قت�صادياته وميدان ًا
وحيد ًا لثقافته.
* املحافظة على التوازن بني الثقافة القومية والثقافة
الوافدة عرب و�سائل االت�صال العاملية احلديثة ،لكي ال تذوب فكيف نقوى من �صمود الثقافة العربية ،وكيف ميكن
الأوىل وال تطغى الثانية. �أن تكون �شريك ًا فاع ًال ،ال متلقي ًا م�ستلم ًا يف م�ضمار الثقافة
العاملية.
معادلة �صعبة تتطلب دراية:
جهد عربي مكثف مطلوب:
تلك هي املعادلة ال�صعبة التي ينبغي على العرب �أن
خ�ضم هذه املعركة احل�ضارية املتداخلة،
ّ يحافظوا عليها ،يف ثمة جهد عربي مكثف مطلوب لري�سم �إ�سرتاتيجية قومية
والتي تتطلب الدراية واحلكمة. للدخول العربي اجلاد ،يف �صناعة ثقافة امل�ستقبل ،ويف م ّد �شبكة
االت�صاالت العاملية املقبلة ،كي ال تبهت ال�صورة العربية ،بل
لت�صري جزء ًا من مدركات اجليل العربي اجلديد و�أحا�سي�سه،
حتى ال تغيبه ال�صور الثقافية املبهرة ،التي تعر�ضها الثقافة
الغربية املتفوقة بالتقنية واملتقدمة بالأ�ساليب.
وال�شباب هم ال�شريحة الأكرب التي ت�ستهدفها هذه
الإ�سرتاتيجية ،حيث ي�شكل الكمبيوتر (احلا�سوب) م�صدر ًا
ح�سا�س ًا من م�صادر املعرفة لديها ،ولي�ست للمعرفة وحدها بل
جتاوز ذلك �إىل التعامل مع الآخرين.
الواقع العربي ي�ضم جيلني:
ي�ضم جيلني:
�إال �أن الواقع العربي يك�شف عن �أنه ّ
-جيل قدمي تقليدي لي�س لديه اال�ستعداد التقني والنف�سي
ال�ستخدام و�سائل االت�صال لال�ستفادة من الثقافة العاملية.
-جيل جديد جتديدي ينفتح على و�سائل االت�صال للثقافة
العاملية ولديه اال�ستعداد التقني والنف�سي ال�ستخدام هذه
الو�سائل.
مما يحدو الإ�سرتاتيجية املن�شودة �أن تنطوي على هدفني:
159
الأخالق الرفيعة ويف غرتها خ�صلة التوا�ضع ،و�إن كانت متوخاة يف اجلميع ،وهذا حمال بطبيعة الب�شر،
�إال �أنها الأكرث توخي ًا وافرتا�ض ًا يف املبدع ،على اعتبار �أنه قد وعى فل�سفة احلياة و�شروطها الرئي�سة،
وبدهياتها �سوا�سية النا�س ،و�أن مكانتهم حتددت بكونهم «�إخوانه يف الإن�سانية� ،أو �إخوانه يف العقيدة» كما
يقول ال�شاطبي.
قبل عام ظل يجل�س الروائي الكبري باولو كويلو �أمام �شا�شة الكمبيوتر ،متفرغ ًا على �صفحته على موقع
التوا�صل االجتماعي «تويرت»؛ للوقوف مع قرائه على �آرائهم وردود �أفعالهم حول روايته الأخرية «الألف»
التي جمع مادتها يف �أربع �سنوات وكتبها يف �أقل من �شهر ،ون�شرها �إلكرتوني ًا؛ لتكون متاحة ملن ال ميلك
ثمن �شرائها.
�إن جلو�س كويلو مع قرائه ال�ساعات الطويلة ،وفتحه لقلبه وروحه �إىل هذا املدى ،ما يجعلنا نوجه ال�س�ؤال
الكبري �إىل «مبدعينا» -املوغلني يف اجل ّدية املتكلفة -عن ر�أيهم يف هذا االنفتاح بني الكاتب و»العامة» ،و�إىل
�أي مدى يريق ماء وجه النبوغ والعبقرية! ،وكيف �صار «ي�سيء بع�ض كتاب اليوم» مثل كويلو �إىل ال�صورة
املهيبة للمبدع.
�إن ما يقوم به كويلو هو ان�سجام حقيقي ،بني الأنا التي �أفرغها من ذاتها و�سكبها ر�ؤية وموقف ًا وقب�س ًا
من نور احلقيقة يف ثنايا �سطوره ،وبني الأنا املندغمة يف جموع النا�س الذين يت�شوقون لر�ؤية ما يحدثهم به
«الأنبياء» فيجيء كما �شهقة ال�صبح و�ضوح ًا و�سطوع ًا وانفعا ًال متوازن ًا وتفاع ًال بني الكلمة وال�سلوك .
لن يقبل �أو يتقبل املتقوقعون على ذواتهم اله�شة �أن ي�صري ن�شر كويلو لروايته الأخرية �إلكرتوني ًا وبدون
مقابل �س ّنة يف عامل الكتاب؛ ذلك �أن هذا �سيهدد جمودهم ويلقي بظالل االندثار على نتاجاتهم التي
عافها النا�س ،وهم من كانوا يدفعون ثمنها من قوت عيالهم واحتياجاتهم ،فيخربون بيوتهم ب�أيديهم
و�أيدي «املبدعني» الأفذاذ.
ال تقلل لفتة كويلو الإن�سانية ،التي هي مراكمة وموا�صلة مل�سرية التوا�ضع من عظيم �ش�أنه� ،أو تخبي
�شيئ ًا من بريق �شهرته ،ولن يقول قارئ يف اي بقعة يف الأر�ض �إنه «كاتب عادي»؛ لأنه كان معه يف �صندوق
قا�ص �أردين.
160
الدرد�شة قبل قليل ،ذلك �أن �ضوء ال�شم�س ال يحجبه غربال ،و�أن املر�ضى بهالة غري حقيقية �إمنا يراوحون
املوات البواح ،ليل نهار لو كانوا يعلمون ،فما تزال روايات كويلو الأكرث مبيع ًا رغم الطبعات املتتالية لها.
مل تكن �صراحة كويلو �أي�ض ًا لتزيده �إال علو ًا يف نظر قرائه ،وهو يف�صح لهم عن مكوثه الطويل يف
امل�صحات النف�سية ،يف فرتات خمتلفة من حياته ،وهو الذي مل يدفعه �أحد لك�شف هذه احلقيقة ،والتي
تقابل «مبدعني» لدينا يخجلون من الإف�صاح عن تعر�ضهم للزكام كالآخرين من «العوام»!
يثري هذا لدي ،تذكر موقف الفتى الذي طلب من حممود دروي�ش �أن يقر�أ له ق�صيدة «مديح الظل
العايل» ،وكان دروي�ش منهمك ًا يف توقيع ديوانه لعدد كبري من القراء ،فما كان من دروي�ش �إال �أن �ضحك
وطلب �إليه ت�أجيل الطلب ،ومداعب ًا�« :أن يعود اىل الكا�سيت» فهو نف�سه الذي يقر�أ فيه ال �أحد �آخر.
ومن عرف جنيب حمفوظ مث ًال ،يتيقن ب�أن املبدع الكبري �إمنا يزداد توا�ضع ًا وب�ساطة بعالقة عك�سية مع
ازياد متيزه وجنوميته؛ فلم تكن ال�شهرة التي �أ�صابها �أو �أ�صابته لتثنيه عن لقاءات الأ�صدقاء القدامى من
غري الكتاب ،وممن ال يعرفهم النا�س؛ يف حني بات بع�ض «املبدعني» ال ي�ستطيع �أقرب النا�س �إليه التوا�صل
معه بدون متاعب نف�سية ج�سيمة؛ مردها املر�ض النف�سي املعروف بـ»الالتوازن االنفعايل» الذي قد وقع
فيه املبدع.
�إن نظرة حزينة يف حال ه�ؤالء «املبدعني» الذين �أرهقوا �أنف�سهم يف التقوقع على �أنف�سهم ،وك�أن النا�س
م�شغولة بهم �أكرث من همومها ،لتثري ال�شفقة على حال الب�ؤ�س النف�سي ،والرتدي املروع الذي هم فيه،
ور�ضوخهم لقرارات داخلية متوهمة �ضخمت لهم �أناهم بطريقة متعبة وم�ضحكة يف �آن مع ًا.
مل يكن حال املبدع احلقيقي يوم ًا يقع يف �شبهة التعايل على النا�س� ،أو االنعزالية املتكلفة� ،أو و�ضع
احلواجز مهما كانت وب�أي �صورة مع القراء� ،أو التعامل املت�صنع معهم� ،أو احلديث املتق�صد عند لقائهم،
�أو االن�سالخ عن عاديات الب�شر ،ومل يكن حال املبدع احلقيقي ،ذات يوم ،الن�أي عن التوا�صل مع النا�س
بحجة التبتل يف حمراب الإبداع ،والرهبنة يف دير الكتابة� ،أو االعتكاف يف �صومعة الإلهام .
النا�س مادة الإبداع الأوىل والأخرية ،والقراء هم وقود نار الإبداع ،يلذ لهم االحرتاق ليحيوا من جديد
عنقاء ال متوت ،والقراء يحرتمون من يحرتمهم من املبدعني ،وينظر اليهم كطرف �أ�سا�س يف املعادلة
الإبداعية كمر�سل وم�ستقبل ،ويحرتمون من ال يعتربهم «عامة» �أو «دهماء» ،يلقي عليها بدرر الكالم من
عل ،وال �سبيل �سوى تلقي هذه احلكم ب�ضراعة وابتهال. ٍ
وكم من «الكتّاب» من تراجع الإميان بهم ،وخ�سروا جذوة التوا�صل مع قرائهم ،والتي هي اليوم �أهم
رافد و�أغنى منجم لإح�سا�س الكاتب ب�أن �صناعته هي «الأدب» ولي�س «الطرب» ،والأمر يف النهاية �أنه
«مبدع» ت�شتغل طاقاته الروحية على �سحر احلياة واملذاق الالذع للأ�شياء ،وهو ي�شكل الده�شة والنار
املتوهجة التي ال حترق واملجتباة من نور املوهبة ،ف�أ ّنى له من بعد ذلك �أن يتنكر للنا�س !