You are on page 1of 32

‫بحوث ودراسات‬

‫«احل����روب ال�صليبية وال��ق��د���س م��ن خ�لال مناهج‬


‫ال��ت��اري��خ يف امل���دار����س الأج��ن��ب��ي��ة اخل��ا���ص��ة بدولة‬
‫الإمارات العربية املتحدة»‬

‫د‪ .‬مو�سى حتاملة •‬


‫‪33‬‬

‫مقدمة‪:‬‬
‫حتتل القد�س مكانة مرموقة يف قلوب امل�سلمني يف م�شارق الأر�ض ومغاربها‪ .‬وواجهت هذه املدينة‬
‫الكثري من الغزوات واحل��روب الدامية على مر التاريخ ‪ ،‬ومل تنعم بالراحة والرخاء �إال يف ظل‬
‫الإ�سالم وامل�سلمني‪ .‬فعا�ش اجلميع ب�أمان ‪ ،‬امل�سلم منهم وغري امل�سلم‪ .‬وي�شهد على ذلك ت�سليم‬
‫البطريرك �صفرونيو�س مفاتيح املدينة للخليفة عمر بن اخلطاب وذلك لعدله وورعه‪.‬‬
‫و�أ�صاب �أهل القد�س اخلري والرثاء وا�ستتب الأمن وازدهرت التجارة وتطورت ال�صناعة‪� .‬إال �أن‬
‫احلال مل تبق على ما هى عليه‪ ،‬فبعد فتح القد�س على يد امل�سلمني بثالثة ق��رون‪ ،‬ب��د�أت الدول‬
‫الغربية تعد العدة الحتالل القد�س وحتويلها �إىل مملكة م�سيحية‪ .‬واتخذت الدول الغربية ذرائع‬
‫متعددة يف �سبيل تربير حمالتها وهجماتها الرببرية على مدينة القد�س التي انتهت باملجازر‬
‫الوح�شية و�إبادة ع�شرات الألوف من �سكان املدينة املقد�سة‪� .‬إىل �أن قي�ض اهلل لهذه الأمة البطل‬
‫الكلية الإجنليزية ‪ -‬دبي‬ ‫•‬
‫�ش�ؤون اجتماعية | العدد ‪ ،105‬ربيع ‪ 2010‬ال�سنة ‪27‬‬

‫م�ؤمتر ال�شارقة العلمي الدويل الثالث الف�ضائيات العربية والهوية‬


‫الثقافية» ‪2008 /2007‬‬
‫د‪ .‬مو�سى حتاملة‬

‫�صالح الدين الأيوبي ‪ ،‬فوحد الأم��ة و�أزال الغّمة ‪ ،‬و�أع��اد القد�س لأ�صحابها ال�شرعيني‪ .‬ورحل‬
‫ال�صليبيون تاركني وراءهم العداوة والبغ�ضاء ‪ ،‬وقتل الألوف دون ذنب اقرتفوه‪.‬‬
‫هدف الدرا�سة‪:‬‬
‫تهدف هذه الدرا�سة �إىل الك�شف عن مدى الت�أثري الذي ترتكه مناهج مادة التاريخ باملدار�س‬
‫اخلا�صة على الطلبة عن طريق الدور الذي ت�ؤديه هذه املدار�س يف ت�شكيل الر�أي العام حول �أهمية‬
‫ ‬ ‫ومكانة املدينة املقد�سة ومكانتها الإ�سالمية‪.‬‬
‫حدود الدرا�سة‪:‬‬
‫‪1 .1‬تتعلق هذه الدرا�سة بعينة حمدودة من كتب التاريخ املقررة يف بع�ض املدار�س الأجنبية‬
‫ ‬ ‫اخلا�صة بدولة الإمارات العربية املتحدة‪.‬‬
‫‪2 .2‬تتعلق هذه الدرا�سة مبنطقة جغرافية معينة وهي الإمارات العربية املتحدة‪.‬‬
‫‪3 .3‬تتناول هذه الدرا�سة املقررات الدرا�سية ملادة التاريخ يف املرحلتني الإعدادية والثانوية يف‬
‫ ‬‫املدار�س الأجنبية‪.‬‬
‫‪4 .4‬تتعلق نتائج هذه الدرا�سة بعينة كتب التاريخ للمرحلتني الإعدادية والثانوية ‪ ،‬التي �أر�سلت‬
‫‪34‬‬
‫من قبل املدار�س الأجنبية اخلا�صة ‪ ،‬وال يُعلَم �إذا كانت هناك بع�ض الكتب مل تر�سل �إىل‬
‫ ‬ ‫الوزارة ومل يت�سلمها الباحث‪.‬‬
‫‪5 .5‬تتعلق هذه الدرا�سة باملدينة املقد�سة وال�صراع الذي دار حولها بني امل�سلمني وال�صليبيني‬
‫كما ورد يف مقررات مادة التاريخ التي تدر�س يف بع�ض املدار�س الأجنبية‪.‬‬
‫�أهمية هذه الدرا�سة‪:‬‬
‫‪1 .1‬معرفة الت�أثري الذي ترتكه هذه املواد على �أفكار التالميذ‪.‬‬
‫‪2 .2‬توعية امل�س�ؤوليني ب��وزارة الرتبية والتعليم بالت�أثري ال�سلبي الذي ترتكه هذه الكتب على‬
‫�أبنائنا ‪ ،‬وذلك من �أجل القيام بخطوات �إيجابية ميكن تبنيها يف �سبيل �ضبط مناهج‬
‫املدار�س الأجنبية اخلا�صة وتعديلها مبا يتنا�سب واحلقائق التاريخية‪.‬‬
‫‪3 .3‬يتوقع �أن توجه هذه الدرا�سة �أنظار الكفاءات الرتبوية يف وزارة الرتبية والتعليم ملمار�سة دورها‬
‫يف امل�شاركة يف تعديل املناهج ‪ ،‬وتبني طرق جديدة لبنائها ولتك�سب ثقة �أولياء الأمور والتالميذ‪.‬‬
‫‪4 .4‬يتوقع �أن توجه هذه الدرا�سة �إىل �أهمية الوعي بدرا�سة احلروب ال�صليبية من منظور‬
‫ ‬ ‫�سيا�سي ‪ ،‬وذلك خلدمة احلا�ضر وامل�ستقبل‪.‬‬

‫�ش�ؤون اجتماعية | العدد ‪ ،105‬ربيع ‪ 2010‬ال�سنة ‪27‬‬


‫«احلروب ال�صليبية والقد�س من خالل مناهج التاريخ يف املدار�س الأجنبية اخلا�صة بدولة الإمارات العربية املتحدة»‬

‫حتديد امل�صطلحات‪:‬‬
‫احلروب ال�صليبية‪:‬‬
‫ورد يف املو�سوعة الربيطانية تعريف ًا للحمالت ال�صليبية ب�أنها « �سل�سلة من احلمالت الع�سكرية‬
‫تبلغ ثماين حمالت �أو تزيد ‪ ،‬وهي موجهة �ضد امل�سلمني امل�سيطرين على القد�س والأ�ضرحة‬
‫امل�سيحية والأم��اك��ن املقد�سة‪ .‬وا�ستمرت ه��ذه احل�م�لات م��ن ‪1095‬م ‪1270 -‬م‪( .‬املو�سوعة‬
‫الربيطانية ‪ /‬جـ‪� / 3‬ص ‪)764‬‬
‫وهذا التعريف ال يوافق احلقيقة ‪ ،‬لأنه ميثل وجهة نظر امل�ستعمر‪ .‬لذلك �أرى �أن التعريف لهذه‬
‫احلمالت يجب �أن يالم�س احلقائق على �أر���ض الواقع‪ .‬فاحلروب ال�صليبية هي حروب ظاملة ‪،‬‬
‫ظاهرها حماية احلجاج امل�سيحيني الذين يزورون الأماكن املقد�سة من عدوان امل�سلمني عليهم‬
‫كما يدّعون ‪ ،‬وباطنها �أهداف اقت�صادية و�سيا�سية ودينية بحتة‪.‬‬
‫ ‬ ‫ال�صراع ال�صليبي – الإ�سالمي‬
‫هو ال�صراع الذي بد�أه ال�صليبيون يف القرون الو�سطى ‪ ،‬حيث �أدت الكني�سة الكاثوليكية دور ًا‬
‫رئي�سي ًا يف عملية الغزو ال�صليبي الأوروب��ي لفل�سطني وبالد امل�شرق الإ�سالمية ‪ ،‬وذلك يف الفرتة‬
‫‪35‬‬
‫ ‬ ‫املمتدة من �أواخر القرن احلادي ع�شر وحتى القرن الثالث ع�شر‪.‬‬
‫املدار�س اخلا�صة الأجنبية ‪:‬‬
‫هي املدار�س التي تتبع نظام ًا من �أنظمة التعليم التابعة للتعليم اخلا�ص بدولة الإم��ارات‬
‫املتحدة‪ .‬وهي تطبق املناهج املتبعة يف البلد الأم (بريطانيا‪ ،‬الواليات املتحدة‪ ،‬ا�سرتاليا‪ ،‬كندا)‬
‫م�ستويات خمتلفةٍ‪ .‬مثال ذلك يف املدار�س الربيطانية‪ ،‬وهي على الرتتيب‪ :‬م�ستوى الـ‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫وهي ت�شمل‬
‫ ‬ ‫(‪)GCSE‬والـ(‪ )O Level‬والـ(‪.)A Level‬‬
‫وهذه املدار�س �أن�شئت مبوجب قانون التعليم اخلا�ص بوزارة الرتبية والتعليم بدولة الإمارات‬
‫العربية املتحدة‪.‬‬
‫منهج الدرا�سة و�أدواتها‪:‬‬
‫اتبع الباحث طريقة حتليل املحتوى ‪ ،‬والذي يعرفه بد ودنهو (‪" )Budd and Donohew , 87‬ب�أنه �أ�سلوب‬
‫بحث منظم لتحليل املحتوى" والذي يهدف للو�صول �إىل ا�ستدالالت والربط بني النتائج وموازنتها ‪ ،‬من‬
‫�أجل الك�شف عن ال�سمات الكامنة ‪� ،‬أو اال�ستدالل على خ�صائ�ص معينة‪ .‬فباتباع هذه الطريقة ميكن لنا‬
‫معرفة كيفية �إنتاج ال�صورة كما ر�سمتها مناهج التاريخ يف املدار�س الأجنبية اخلا�صة‪.‬‬

‫العدد ‪ ،105‬ربيع ‪ 2010‬ال�سنة ‪� | 27‬ش�ؤون اجتماعية‬


‫د‪ .‬مو�سى حتاملة‬

‫وقد مت �إر�سال ر�سالة من ق�سم التعليم اخلا�ص �إىل جميع املدار�س اخلا�صة طُ لِبَ منها ‪ ،‬ب�أن‬
‫تر�سل مناذج من الكتب املقررة يف املرحلتني الثانوية والإعدادية ‪ ،‬وذلك بواقع ن�سخة من كل كتاب‬
‫وك��ان من �ضمنها كتب م��ادة التاريخ‪ .‬وعند تلقي هذه الكتب‪� ،‬أخ��ذ الباحث كتب التاريخ وقام‬
‫بدرا�ستها والرتكيز على كل ما يتعلق مبو�ضوع مدينة القد�س بدء ًا من احلروب ال�صليبية‪ ،‬وحتى‬
‫انتهائها‪.‬‬
‫و�سنعر�ض النتائج حتت عنوان‬
‫«احلروب ال�صليبية والقد�س من خالل مناهج التاريخ يف املدار�س الأجنبية اخلا�صة بدولة‬
‫ ‬ ‫الإمارات العربية املتحدة»‬
‫عينة الدرا�سة‪:‬‬
‫ت�شمل عينة الدرا�سة جمموعة من كتب التاريخ تدر�س يف املدار�س اخلا�صة الأجنبية بدولة‬
‫الإمارات العربية املتحدة ح�سب الك�شف امللحق بالدرا�سة‪.‬‬
‫�أ�سباب احلروب ال�صليبية‪:‬‬
‫�سيورد الباحث �أ�سباب هذه احل��روب كما وردت يف بع�ض كتب التاريخ املقررة يف املدار�س‬
‫‪36‬‬
‫اخلا�صة الأجنبية ‪ ،‬وذلك من وجهة نظر م�ؤلفي كتب التاريخ يف هذه املدار�س‪ .‬لقد �أورد م�ؤلفو‬
‫كتب التاريخ التي يدر�سها طالب املرحلتني الإعدادية والثانوية يف هذه املدار�س �أ�سباب ًا خمتلفة‬
‫تقف وراء هذه احلمالت ال�صليبية امل�سلحة‪ .‬ووجهات النظر هذه خمتلفة من كاتب �إىل �آخر ‪ ،‬مما‬
‫يدل على التخبط وعدم و�ضوح الر�ؤيا لديهم بخ�صو�ص هذه احلروب �أو احلمالت‪ .‬فهناك فريق‬
‫يرى �أن هذه احلمالت ما هي �إال حمالت دينيّة ‪ ،‬وي�ستند يف ذلك �إىل ر�أي ر�أ�س الكني�سة الغربية‬
‫البابا (�أوربان) الثاين املحر�ض عليها والذي يعترب �أنّ هدفها �سامٍ ‪ ،‬وهو تخلي�ص الأماكن املقد�سة‬
‫من �أيدي الكفار‪ .‬وما داموا كفارا – كما و�صفهم – لذلك يجب �أن يرفعوا �أيديهم ويتخلوا عن‬
‫حماية هذه الأماكن املقد�سة ويرتكوها لأ�صحابها‪ .‬ويرى البابا (�أورب��ان) “�أن امل�سيحيني ولي�س‬
‫امل�سلمني يجب �أن يحكموا الأرا�ضي املقد�سة” (‪)Chrisp, 1992‬‬
‫تعترب هذه الت�صريحات مبثابة فتوى من ر�أ�س الهرم يف الكني�سة �أو ال�سلطة الدينية وهو البابا‪.‬‬
‫ويف تلك الفرتة الزمنية يعترب البابا �صاحب الكلمه العليا ‪ ،‬فكالمه و�آرا�ؤه تخ�ضع لها الرقاب ‪،‬‬
‫وال يجر�ؤ �أح��د على معار�ضتها‪ .‬لذلك ا�ستجابت ح�شود اجلماهري يف كل مكان للبابا �أورب��ان ‪،‬‬
‫و�أعدوا العدّة لأول حرب �صليبية خارج حدود �أرا�ضيهم‪.‬‬

‫�ش�ؤون اجتماعية | العدد ‪ ،105‬ربيع ‪ 2010‬ال�سنة ‪27‬‬


‫«احلروب ال�صليبية والقد�س من خالل مناهج التاريخ يف املدار�س الأجنبية اخلا�صة بدولة الإمارات العربية املتحدة»‬

‫وي�ؤيد وجهة نظر البابا �أوربان كثري من م�ؤرخي الغرب ‪ ،‬ورد على ل�سان هيام�سون الذي يقول‪:‬‬
‫“�إن ال�صليبيني �أتوا �إىل ال�شرق ؛ لتحرير م�سيحييها من الظلم الإ�سالمي!!”‪Hyamson,( .‬‬
‫‪� )1917‬أما ليمو (‪ )Limmo, 1992‬فريى �أنّ �أحد �أهداف احلروب ال�صليبية‪� “ :‬أن يكون الن�صارى‬
‫يف �أوروبا الغربية قادرين على زيارة الأ�ضرحة املقد�سة يف القد�س”‪.‬‬
‫ ‬ ‫ويرى م�ؤرخ �آخر ما يراه �سابقه فيقول ‪ :‬كات�شبول بريان (‪: )Brian, 1993‬‬
‫“منذ ق��رون كان امل�سيحيون يحجون �إىل فل�سطني ‪ ،‬حيث كان يعي�ش امل�سيح‪ .‬ويف القرن‬
‫احل��ادي ع�شر ومن خالل الطرق اجلديدة التي فتحت من هنغاريا و�صقلية التي كان يحكمها‬
‫النورمان‪ .‬وبد�أ احلجاج يتزايدون تدريجي ًا ويقومون برحالت �إىل فل�سطني‪� .‬إنّ القد�س التي كانت‬
‫يف قب�ضة امل�سلمني الأتراك ‪� ،‬أ�صبحت املحطة التي يتطلع �إليها الفرجن والفر�سان النورمانديون‪.‬‬
‫وبعد عودة الفر�سان من جتوالهم يف فل�سطني ‪� ،‬أخذوا ين�شرون الأفكار التي ت�شجع على حتقّيق‬
‫انت�صار ع�سكري �سهل على الأرا�ضي يف ال�شرق‪ .‬وكان حجا ٌج �أوروبيون �آخ��رون غا�ضبني ب�سبب‬
‫�سيطرة امل�سلمني على الأر���ض التي عا�ش فيها امل�سيح‪ .‬وك��ان الأم��ل معقود ًا حلماية الأرا�ضي‬
‫اجلديدة وهذه امل�شاعر الدينية خل�صت �إىل تدبري خط ٍة لل�سيطرة على الأرا�ضي املقد�سة‪.‬‬
‫‪37‬‬
‫وهناك اختالف يف وجهات النظر حول مقا�صد ال�صليبيني من احلروب ال�صليبية‪ .‬هناك نفر‬
‫من ه�ؤالء امل�ؤرخني ‪ ،‬يرد مقا�صد هذه احلروب �إىل �أ�سباب اقت�صادية ‪ ،‬حيث كان االقطاع منت�شر ًا‬
‫يف �أوروبا وال�صراعات م�ستمرة بني العبيد والأ�سياد ‪ ،‬والكوارث واملجاعات م�ستمرة‪ .‬لذلك انطلقوا‬
‫مبغامرة كربى نحو ال�شرق الغني برثواته لعلهم يتخل�صون من الفقر والب�ؤ�س الذي هم فيه‪.‬‬
‫ويعزو عدد من امل�ؤرخني �أ�سباب احلروب ال�صليبية �إىل رغبة الإقطاعيني يف التو�سع و�إيجاد‬
‫ ‬ ‫�إقطاعيات جديدة وفتح �أ�سواق للتجارة‪.‬‬
‫يقول م�ؤر ُخ غربي معا�صر للحروب ال�صليبية فول�شر دي�شارتر(‪:)Fulcher De Charter,112o‬‬
‫“ت�أمل كيف �أنّه يف زماننا نقل الربّ الغرب �إىل ال�شرق ‪ ،‬فمن كانوا غربيني �أ�صبحوا الآن‬
‫�شرقيني ‪ ،‬ومن كانوا رومان ًا �أو فرجن �أ�صبحوا الآن جليليني �أو فل�سطينيني ‪ ...‬ومن كانوا فقراء يف‬
‫الغرب جعلهم اهلل �أغنياء يف هذه الأر�ض‪ ،‬ومن مل يكن ميلك بيتاً‪� ،‬أ�صبح (بف�ضل اهلل) ميلك‬
‫مدينةً‪� .‬إنها رغبة الربّ �أن يجعلنا جميع ًا �أغنياء ‪ ،‬والنّها م�شيئة الربّ فنحن ن�ستحقّ ذلك”‪.‬‬
‫وي�ؤكّد فريقُ من امل�ؤرخني على �أن ال�سبب احلقيقي لهذه احلملة كان رغبة الإقطاعيني يف‬
‫التو�سع و�إيجاد �إقطاعيات جديد ٍة وفتح �أ�سواقٍ للتجارة‪ ,‬وخا�ص ًة املدن �أو الدول التجارية الإيطالية‬

‫العدد ‪ ،105‬ربيع ‪ 2010‬ال�سنة ‪� | 27‬ش�ؤون اجتماعية‬


‫د‪ .‬مو�سى حتاملة‬

‫امل�شهورة يف ذلك الوقت مثل جنوى والبندقية وغريها من املدن الأخ��رى‪ .‬وود(‪)Wood, 1995‬‬
‫ومن خالل النظر يف هذه الآراء ووجهات النظر‪ ،‬نرى فريقا �آخر من امل�ؤرخني لديهم �أ�سباب �أو‬
‫مقا�صد �أخرى من هذه احلروب‪ .‬يقول امل�ؤرخ الربيطاين ال�سري هرني لوك (‪ :)Luke , 1934‬‬
‫«لقد ك��ان من�شطو ال�صليبية حتركهم عوامل ع��دة‪ ،‬من دينية ورومان�سية وعائلية (ملوكية)‬
‫وجتارية‪ .‬ثم يقول بو�ضوح‪� :‬إنّ غر�ض ال�صليبيني «كان زرع �إقطاعية غربية يف �أر�ض �شرقية»‬
‫ولقد جنحوا يف ت�أ�سي�س ممالك لهم يف قلب العامل الإ�سالمي ‪ ،‬بعد حروب دامت ما تقرب من‬
‫مائتي عام‪ .‬وقد جتاوزت حدود هذه املمالك مدينة القد�س والأرا�ضي املقد�سة ‪ ،‬مما يك�شف القناع‬
‫ ‬ ‫عن دوافعهم و�أكاذيبهم التي ن�شروها و�شحنوا بها الغوغاء من �شعوبهم‪.‬‬
‫ويقول كريك (‪: )Kirk, 1969‬‬
‫«ويف �أوروبا كانت القوانني االقطاعية للوراثة قد خلفت طبق ًة كثرية العد ِد من �أبناءٍ و�شبانٍ ال‬
‫اقطاعيات لهم يف بالد جديدة ؛‬
‫ٍ‬ ‫ميلكون الأر�ض ‪ ،‬وكانوا –مع مغامرين �آخرين‪ -‬تواقني �إىل �إن�شاء‬
‫وكانت املدن االيطالية وغريها من املدن التجارية النا�شئة على البحر الأبي�ض م�شتاقة �إىل تطوير‬
‫جتار ٍة كبري ٍة للمنتجات الكمالية يف ال�شرق الأدنى و�آ�سيا ال�صغرى‪.‬‬
‫‪38‬‬
‫وكل هذه العوامل الع�سكرية واملادية قد وجهها النفوذ القوي للكني�سة و�أجراها وركزها على ما‬
‫�أ�صبح يعرف باحلملة ال�صليبية الأوىل والتي غزت ال�شرق �سنة ‪1099‬م”‬
‫وينتقد كورب�شلي (‪ )Corbishly, 119‬امل��ل��ك ريت�شارد لذهابه بعيدا خ���ارج ح���دود بالده‬
‫فيقول‪:‬‬
‫ُح�ض ُر حلمل ٍة �صليبي ٍة �ضد امل�سلمني‪ .‬لكن ملاذا �سيذهب بعيد ًا �إىل‬ ‫�إنّ امللك ريت�شارد كان ي ِّ‬
‫الأرا�ضي املقد�سة ما دام يقتل غري الن�صارى يف اجنلرتا؟»‬
‫ي�شكك ه��ذا الكاتب يف املهمة التي �سيقوم بها امللك ريت�شارد ‪ ،‬فهو من وجهة نظره قاتل‬
‫ل�شريحة من �أبناء وطنه ‪ ،‬والأجدر به �أن ي�صلح حاله يف الداخل قبل الذهاب �إىل خارج بلده‪.‬‬
‫ويقول ال مونتيه (‪: )La Monte, 1990‬‬
‫«والأمر الذي ال ميكن �إنكاره �أن التب�شري للحملة ال�صليبية الأوىل خا�صة ‪ ،‬قد اعتمد على بُغ�ض‬
‫امل�سيحية الغربية للإ�سالم ‪ ،‬ف�ض ًال عن دوافع �أخرى ‪ ،‬منها �أن احلملة ال�صليبية الأوىل ا�شتملت‬
‫على نورمانديني وجنويني تواقني المتالك �أرا�ضي ال�شرق ‪ ،‬وا�ستثمار الفر�ص التجارية التي‬
‫�سَ تُ�سنَحُ لهم تبع ًا لذلك»‪ .‬على الرغم من �أنّ نفر ًا قلي ًال من امل�ؤرخني الغربيني �أ�شار �إىل الأ�سباب‬

‫�ش�ؤون اجتماعية | العدد ‪ ،105‬ربيع ‪ 2010‬ال�سنة ‪27‬‬


‫«احلروب ال�صليبية والقد�س من خالل مناهج التاريخ يف املدار�س الأجنبية اخلا�صة بدولة الإمارات العربية املتحدة»‬

‫املا ّديّة واالقت�صادية للحروب للحروب ال�صليبية ‪� ،‬إال �أنّ فريقا منهم توحي كتاباتهم للمتلقي ب�أن‬
‫هذه احلروب جميع ًا ما هي �إال حمالت دينية هدفها تخلي�ص مدينة القد�س وفك �أ�سرها من �أيدي‬
‫امل�سلمني الذين يذيقون احلجاج امل�سيحيني العذاب واملرارة‪ .‬وهناك فريق �آخر من امل�ؤرخني �آثر‬
‫�أ ّال يذكر الأهداف احلقيقية التي تقف وراء هذه احلمالت‪.‬‬
‫يرى روبرت جوين ونورتون (‪� )Robert Cowinn & Notn, 1992‬أن ال�سبب املبا�شر هو‪:‬‬
‫“بزوغ قوة ال�سالجقة الأتراك يف ال�شرق الأو�سط يف القرن احلادي ع�شر”‬
‫ويتابعان القول ب�أن‪“ :‬الرعب قد �أ�صاب الإمرباطورية البيزنطية من قبل ال�سالجقة ‪ ،‬لذلك‬
‫ا�ستغاث الإمرباطور بامل�سيحيني الغربيني ‪ ،‬طالب ًا امل�ساعدة �ضد الكفار الأتراك وامل�سلمني”‪.‬‬
‫لقد �أ�صيب الغرب بالهل ْع نتيجة تنامي قوة امل�سلمني وظهور قوة رادع��ة ق��ادرة على حتطيم‬
‫طموحاتهم‪ .‬عالوة على قدرتها على غزوهم يف عقر دارهم‪.‬‬
‫يقول اندر�سون جيم�س وكر�س بروك (‪: )Anderson, J & Brook, 1995‬‬
‫“�إنّ الرعب الذي �أ�صاب املمالك امل�سيحية الأوروبية ‪ ،‬بد�أ بال�صراع التاريخي مع امل�سلمني‬
‫العرب والأتراك العثمانيني ‪ ،‬حيث كان ترويعهم لأوروبا ح�ضاري ًا و�أيدلوجياً”‪.‬‬
‫‪39‬‬
‫�إنّ لهذا اخلوف ما يربرّه ‪ ،‬فقد كان الفتح العربي للأندل�س والو�صول �إىل حدود بالد الغال‬
‫(فرن�سا حالياً) ‪ ،‬حيث توقفت جيو�ش امل�سلمني بعد اجتيازها جبال الربان�س عند بواتييه هو‬
‫االحتكاك الأول ‪ ،‬واحلروب ال�صليبية هي االحتكاك الثاين‪.‬‬
‫وي ��رى �أح ��د كتابهم ب� ��أن خ��وف الأوروب� �ي�ي�ن م��ن امل�سلمني ي �ع��ود “�إىل م��ا ق�ب��ل احل��روب‬
‫ال�صليبية ‪ ،‬حيث ك��ان �شعور الأوروب� �ي�ي�ن �أنَّ الإ� �س�لام مناف�س للم�سيحية”‪ .‬بيرت كر�سب‬
‫(‪)Peter Chrisp, 1992‬‬
‫وهذا ما �أكده البابا �أورب��ان الثاين حينما �أح�س باخلوف من ظهور القوة امل�سلمة ال�ضاربة ‪،‬‬
‫وخاطب امللأ م�شجع ًا �إياهم على اال�ستعداد و�إيقاف هذا ال�شعب عند حده وت�أديبه يف عقر داره‬
‫حيث قال عندما ا�ستغاث طالب ًا الدعم وامل�ساعدة من الإمرباطورية البيزنطية‪:‬‬
‫«�إن الإمرباطورية الرومانية هوجمت من اجلهة ال�شرقية من قبل �شعب م�سلم �شر�س ‪ ،‬وهم‬
‫ال�سالجقة الأتراك»‪.‬‬
‫ويقول مايلز (‪: )Miles, 1995‬‬
‫«فل�سطني �أو الأرا� �ض��ي املقد�سة كانت حتكم من قبل امل�سلمني منذ القرن ال�سابع‪ .‬وكان‬

‫العدد ‪ ،105‬ربيع ‪ 2010‬ال�سنة ‪� | 27‬ش�ؤون اجتماعية‬


‫د‪ .‬مو�سى حتاملة‬

‫امل�سيحيون قادرين على الذهاب �إىل احلج لزيارة تلك املنطقة حيث ولد ال�سيد امل�سيح ‪ ،‬ولكن يف‬
‫القرن احلادي ع�شر �سيطر ال�سالجقة الأتراك على الأرا�ضي املقد�سة و�أ�صبح الأمر �صعب ًا وخطري ًا‬
‫بالن�سبة لدخول امل�سيحيني‪.‬‬
‫ويقول كورب�شلي (‪: )Corbishly‬‬
‫«ك��ان العرب امل�سلمون ي�سمحون للحجاج امل�سيحيني بزيارة القد�س‪ .‬ولكن عندما �سقطت‬
‫القد�س عام ‪1076‬م بيد ال�سالجقة الأتراك ع َّقدُوا الأمور وجعلوا احلج �أكرث �صعوب ًة وم�شقةً‪.‬‬
‫يرى الباحث �أنّ هناك عدة عوامل وقفت خلف هذه احلروب ‪ ،‬ومنها العامل االقت�صادي الذي‬
‫كان له دور ها ٌّم يف �إ�شعال هذه احلروب وتتابع �إر�سال احلمالت ‪� ،‬أم ًال يف حتقيق ما ي�صبون �إليه‪.‬‬
‫احلملة ال�صليبية الأوىل‪:‬‬
‫يف عام ‪� 1095‬ألقى البابا �أورب��ان الثاين موعظته يف كلريمونت بفرن�سا ‪ ،‬وحث الناّ�س على‬
‫امل�شاركة باحلملة ال�صليبية �أو احلرب املقد�سة ‪ ،‬لتخلي�ص الأرا�ضي املقد�سة من يد الأتراك‪ .‬قال‬
‫البابا �أوربان‪�« :‬أي فرد ميوت على الطريق ‪ ،‬ف�إن جميع خطاياه �ستم�سح ويذهب اىل ال�سماء»‪ .‬وقد‬
‫�شارك يف هذه احلملة عوام الناّ�س من جميع �أوروبا ‪ .‬وكانت نتيجة هذه احلملة �أنّهم وقعوا بني‬
‫‪40‬‬
‫مري�ض �أو جائعٍ ‪ ،‬ومل ي�صلوا �إىل بغيتهم‪ .‬لي�سا مايلز(‪)Lisa Miles, p.34‬‬
‫قتيلٍ �أو ٍ‬
‫وتقول �شوتر وري�س (‪: )Shuter and Rees, 1998‬‬
‫« �أما يف �أول حمل ٍة �صليبي ٍة من النبالء واجلنود فقد �أُعدِّ ت العدة لها يف عام ‪ ،1095‬لي�صلوا‬
‫�إىل القد�س‪� ،‬أخذت منهم ثالث �سنوات ‪ ،‬وا�ستطاعوا احتالل بع�ض احلاميات خارجها‪� ،‬إال �أن‬
‫الكثريين منهم عادوا �إىل �أوروبا بعد �أن تركوا عدد ًا قليال ًمن اجلنود حلمايتها‪ .‬وكان امل�سيحيون‬
‫قد تفرقوا؛ يف حني توحّ د امل�سلمون لطردهم منها‪.‬‬
‫ويف عام ‪1095‬م احتل ال�صليبيون القد�س وقتلوا عدد ًا هائال من �سكانها ‪ ،‬و�أ�صبحت فل�سطني واحد ًة‬
‫من املمالك امل�سيحية اخلم�س مبنطقة �شرق املتو�سط‪ .‬بروك و�آخرون (‪)Brook and Others , 1995‬‬
‫احلملة ال�صليبية الثانية ‪:‬‬
‫هذه احلملة كانت ما بني عامي (‪ ،)1149 - 1147‬وقد ف�شلت هذه احلملة ال�صليبية الثانية‪،‬‬
‫و�أ�صبح امل�سلمون �أقوى حتت قيادة قائدٍ قوي يدعى �صالح الدين الذي ا�سرت ّد القد�س يف معركة‬
‫حطّ ني ودحر ال�صليبيني‪ .‬لي�سا مايلز (‪ )Miles, p.33‬وبلغ من حدة التع�صب واحلما�س الديني‬
‫لدى الغرب‪� ،‬أن �أث��اروا م�شاعر الأطفال وعب�ؤوها باحلقد والث�أر لدماء امل�سيحيني التي تراق‬

‫�ش�ؤون اجتماعية | العدد ‪ ،105‬ربيع ‪ 2010‬ال�سنة ‪27‬‬


‫«احلروب ال�صليبية والقد�س من خالل مناهج التاريخ يف املدار�س الأجنبية اخلا�صة بدولة الإمارات العربية املتحدة»‬

‫جي�ش‬
‫وكرامتهم التي تهان من قبل امل�سلمني يف الأرا�ضي املقد�سة‪ .‬وكان من نتيجة ذلك �أن ت�أ�س�س ُ‬
‫من ال�شباب والفتيات املتحم�سني‪ .‬وانتقد �أحد امل�ؤرخني املعا�صرين هذه احلملة وانتقد �صليبية‬
‫الأطفال و�شدة تع�صبهم فقال‪:‬‬
‫“وكان من �أكرب امل�آ�سي �أن جهّز املهوو�سون الدينيون جي�ش ًا من ال�شبان والفتيات‪ ،‬بلغ عدده‬
‫خم�سون �ألف ًا ملحاربة امل�سلمني ‪ ،‬فقد اعتقدوا �أنّ ه�ؤالء الأبرياء �سينجحون حيث �أخفق �آبا�ؤهم‪.‬‬
‫وقد غرق معظمهم يف البحر الأبي�ض وقليل منهم و�صلوا �إىل فل�سطني‪ ،‬والقليل متكن من العودة‬
‫�إىل بالده”‪)Hyamson , p. 31( .‬‬
‫وتعترب هذه احلملة هي احلملة ال�صليبية الرابعة يف ترتيب احلمالت ال�صليبية‪ .‬وقام على‬
‫دفعها نحو الأرا�ضي املقد�سة املهوو�سون الدينيون ‪ ،‬والذين كانت �أطماعهم املادية الدنيوية تفوق‬
‫�أطماعهم الدينية الأخروية‪.‬‬
‫وي�شري كل من روزم��اري ري�س و�شوتر (‪� )Rose Mary Rees & Shuter, 1998‬إىل هذه‬
‫احلملة بقولهما‪:‬‬
‫�إن الن�صارى يف جميع �أوروبا �أ�صبحوا مرعوبني من �ضياع مدينة القد�س ‪ ،‬حتى قيل �إن البابا‬
‫‪41‬‬
‫�أورب��ان الثالث مات حزن ًا عندما �سمع بالأخبار‪ .‬كما �أنّ البابا اجلديد جريجوري‪ :‬اعرتف بتلك‬
‫امل�أ�ساة ودعا لإعادة ترتيب �صفوفهم و�أن يبد�ؤوا بتنظيم حملة جديدة‪ .‬ا�ستجاب ثالثة من احلكام‬
‫الأوروبيني لدعوة البابا‪“ :‬فريدريك بربرو�سا امرباطور �أملانيا‪ ،‬وريت�شارد الأول ملك اجنلرتا امللقب‬
‫بقلب الأ�سد وفيليب �أغ�سط�س ملك فرن�سا”‪ .‬وباءت احلملة بالف�شل‪� ،‬إال �أنّ املحاوالت مل تتوقّف‪.‬‬
‫لقد “حارب ال�صليبيون امل�سيحيون حرب ًا مقد�سة �ضد امل�سلمني‪ ،‬وذلك لل�سيطرة على مدينة‬
‫القد�س املقد�سة‪ .‬وذه��اب الأطفال ال�صليبيني �إىل القد�س كان حادث ًا من �أك�ثر احل��وادث غري‬
‫العادية يف ذلك الوقت”‪.‬‬
‫ويف �سياق هذا التناول يعمد امل�ؤلفون �إىل �إقناع املتلقي ب�أن هذه احلرب نابعة من دوافع دينية‬
‫بحتة ‪ ،‬خال�صة لوجه اهلل‪ ،‬وجعلهم ينحازون �إىل الطابع الديني لهذه احلمالت دون الإ�شارة �إىل‬
‫�أنها حمالت ع�سكرية تخفي وراءها �أهداف ًا بعيدة كل البعد عن الدين‪ .‬ولإ�ضفاء ال�صبغة الدينية‬
‫على هذه احلمالت ‪� ،‬شارك فيها حتى الأطفال وال�شباب من الذكور والإناث الذين �أثارتهم دعوات‬
‫املتع�صبني واملهوو�سني‪ .‬وعلى ذكر الأطفال واندفاعهم ملحاربة امل�سلمني بتحري�ض من جتار‬
‫مر�سيلية ‪ ،‬تقول لي�سا مايلز (‪: )Lisa Miles, 1998‬‬

‫العدد ‪ ،105‬ربيع ‪ 2010‬ال�سنة ‪� | 27‬ش�ؤون اجتماعية‬


‫د‪ .‬مو�سى حتاملة‬

‫“ويف عام ‪1212‬م �آالف من الأطفال الأوروبيني تبعوا ولد ًا يعمل راعي ًا يف حملة عرفت با�سم‬
‫حملة “الأطفال ال�صليبيون” ‪ ،‬وكانوا يعتقدون ب�أن اهلل �سيعمل املعجزات حتى ي�ستعيدوا القد�س‪.‬‬
‫ولكن جتار مر�سيليا بدال من �أن يقدموا مراكبهم لنقل الأطفال �إىل الأرا�ضي املقد�سة ‪� ،‬أُخِ ذُ وهم‬
‫�إىل الإ�سكندرية مب�ص َر وباعوهم كعبيد»‪.‬‬
‫ال�ضائعون «‪ »The Lost Children‬مل�ؤلفته ري�س (‪:)Ress, 1998‬‬ ‫ويف كتاب بعنوان الأطفال ّ‬
‫“ورد على ل�سان �أحدهم مدعي ًا �أنه ر�أى امل�سيح يف املنام وخاطبه قائالً‪ :‬يا �ستيفن يجب �أن‬
‫جتمع الأطفال وتخل�ص مدينة القد�س ‪ ،‬تعال معي ‪ ،‬تعال الآن! اهلل يريد منا �أن نذهب!”‬
‫وت�ستم ُّر �أح ��داث الق�صة؛ حتى و�صلوا وك��ان��وا مُن ّهكِني وف�شلت حملتهم ‪ ،‬فمن �أل�ق��ي القب�ض‬
‫عليه بيع كعبد‪ .‬ومن ح�سن حظ �ستيفن �أنه �أ�صبح عبد ًا ل�شخ�ص مغربي من امل�سلمني ‪� ،‬أحد الكفار الذي‬
‫دعانا ملحاربتهم ‪ ،‬ولكنه لي�س �شيطان ًا ولي�س �سيئ ًا ‪� ،‬إنه طبيبّ وكان لطيف ًا معي‪)31-Rees, p. 30 (.‬‬
‫ويتعمّد كثري من الكتاب عدم ذكر الأ�سباب احلقيقية للحمالت ال�صليبية فيدَّعون �أن الدافع املبا�شر‬
‫لها هو ‪”:‬اعتداءات امل�سلمني املتكررة على احلجاج امل�سيحيني يف الأرا�ضي املقد�سة”‪.‬‬
‫فهم يوحون للمتلقّي ب�أن االعتداءات كانت تقع من جانب امل�سلمني‪ .‬ولت�أمني امل�شاركة ال�شعبية‬
‫‪42‬‬
‫و�إثارة حما�س الر�أي العام وت�أمني املتطوعني الالزمني للحرب ‪ ،‬كانوا يحاولون �إقناع �شعوبهم ب�أن‬
‫هذه احلرب مقد�سة و�ستعود عليهم بخري كثري مثل “غفران اخلطايا و�إعالء كلمة الرّب”‪.‬‬
‫ت�صبُّ على �أن �أ�سباب هذه احلروب ودوافعها دينية ‪ ،‬ولكن احلقيقة �أن‬ ‫�إنّ حمور �آراء الكتاب َ‬
‫العداوة هي دنيوية �سيا�سية ال �صلة لها بالدين‪.‬‬
‫والدليل على ذلك كرثة التناق�ضات بني امل�ؤرخني يف مو�ضوع الأ�سباب التي تقف وراء احلروب‬
‫ال�صليبية والتي توزعت ما بني �أ�سباب دينية و�سيا�سية واقت�صادية‪.‬‬
‫وميكننا القول �إنّ خطبة البابا �أوربان الثاين �شكّلت �أول تعبئة معنوية و�إعداد نف�سي للحروب‬
‫ال�صليبية ‪ ،‬وحتى يثري امل�شاعر لدى النا�س ليهبوا هبة رجل واحد ملحاربة امل�سلمني ‪ ،‬عقد البابا‬
‫�أوربان اجتماع ًا خارج مدينة كلريمونت بفرن�سا ‪ ،‬وخطب باملجتمعني هناك ‪ ،‬فقد ن�صح املحاربني‬
‫ال�صليبيني ب�أن “يتوقفوا عن قتال بع�ضهم بع�ض ًا ‪ ،‬حيث �إنّ قتل امل�سيحي يعترب خطيئة‪ .‬ويعتقد ب�أن‬
‫اهلل �سيكون م�سرور ًا لو ُقتِل الكفار �أو غري امل�ؤمنني‪ .‬و�أن املحاربني الفر�سان �سَ يُحفظُ ون من نار‬
‫جهنم عندما يبذلون ق�صارى جهدهم يف القتال”‪. )Chrisp, 1992(.‬‬
‫وتابع خطابه للملأ مركز ًا على �أهمية القد�س و�ضرورة تخلي�صها بقوله‪�“ :‬إنّ القد�س هي مركز‬

‫�ش�ؤون اجتماعية | العدد ‪ ،105‬ربيع ‪ 2010‬ال�سنة ‪27‬‬


‫«احلروب ال�صليبية والقد�س من خالل مناهج التاريخ يف املدار�س الأجنبية اخلا�صة بدولة الإمارات العربية املتحدة»‬

‫العامل ‪ ،‬وعالوة على ذلك فهي �أر�ض خ�صيبة ‪� ،‬إنّها ج ّن ُة لل�سعداء‪ .‬يا خمّ ل�صنا جمِّ د هذه الأر�ض‬
‫بقربك ومبجيئك‪� .‬إن هذه املدينة امللكية تقع يف مركز العامل ‪ ،‬و�إنّها الآن �أ�سرية بيد الأع��داء ‪،‬‬
‫م�ستعبد ًة من قبل ه�ؤالء الذين ال يعرفون اهلل”‪.‬‬
‫ويتابع (�أوربان) الثاين القول‪:‬‬
‫“يجب �أن جت��روا ب�أق�صى �سرعة ممكنة لت�ساعدوا �إخوانكم الذين يعي�شون على تلك‬
‫ال�شواطيء‪ .‬لقد غلبهم الأتراك ‪ ،‬يذبحونهم ويلقون القب�ض عليهم ويدمرون الكنائ�س ‪ ،‬يبقرون‬
‫بطونهم وميزقون �أع�ضاءهم باخل�شب وي�سحلونهم ويجلدونهم بال�سياط”‪)Corbishly, 1995( .‬‬
‫ثمّ يتابع يقول‪:‬‬
‫“القد�س مركز العامل ‪� ،‬أر�ض خ�صبة �أكرث من �أي �أر�ض‪ .‬ت�شبه جنة ثانية من ال�سعادة ‪� ،‬إن‬
‫منقذ اجلن�س الب�شري جعلها م�شهورة مبيالده ‪� ،‬أ�س�سها بحياته وطهرها ب�آالمه ‪ ،‬و�أنقذها مبوته ‪،‬‬
‫وترك ب�صماته عليها بدفنه فيها”‪)Chrisp, 89( .‬‬
‫ويقول كري�ستوفر كبلن ولن�سل (‪:)Christopher Cuplin & Linsell, 1990‬‬
‫“لقد جاءنا تقرير�أنّ الأت��راك وهم جن�س غريب كل الغرابة عن اهلل ‪ ،‬قد غزا الأرا�ضي‬
‫‪43‬‬
‫امل�سيحية ‪ ،‬يذبحون فريق ًا وي�أ�سرون فريقا ‪ ،‬ويدمرون الكنائ�س ‪ ،‬وي�سوّونها مع الأر�ض‪� ..‬إنني �أنا‬
‫البابا �أحذركم ‪ ،‬ب�أن نهاية العامل قد قربت ‪ ،‬و�أن الأمور بيد ال�شيطان”‪.‬‬
‫وبهذه العبارات التي تثري امل�شاعر وتلهب احلما�س انطلقت �أبواق املهوو�سني تن�شر الدعاية يف‬
‫كل مكان حاملني معهم �أ�سلحتهم وكل ما يقدرون على حمله من �أ�سباب القتال ‪ ،‬ملبني دعوة‬
‫البابا‪ ،‬وحتركت اجليو�ش بعد �أن �أكملت ا�ستعدادها متجهة نحو ال�شرق‪.‬‬
‫�إنّ البابا نف�سه ينظر �إىل احلمالت ال�صليبية على �أنها حمالت دينية ‪ ،‬وال يت�ساءل عن الأ�سباب‬
‫العميقة للحروب ال�صليبية! وما زالت هذه النظرة للحروب ال�صليبية كما هي ومل تتغيرّ ‪� ،‬إما عن‬
‫ق�صد �أو غري ق�صد ‪ ،‬حتى يف املراجع املعتمدة واملنت�شرة يف اجلامعات واملعاهد العلمية وامل�ؤ�س�سات‬
‫واملدار�س‪ .‬والأمر الالفت للنظر �أن ال�شخ�صية الإ�سالمية عامة ‪ ،‬والعربية خا�صة كما جاءت يف‬
‫اخلطب التي �صاغها امل��ؤرخ��ون الأوروب�ي��ون على ل�سان البابا �أورب��ان الثاين يف كلريمونت �سنة‬
‫‪1095‬م‪� ،‬شخ�صية مثقلة بكل ال�شرور واخلطايا والآثام التي ميكن �أن يحملها الب�شر‪ .‬هذا الت�صوير‬
‫�أو الت�صور العدائي لل�شخ�صية العربية والإ�سالمية ‪� ،‬صاغه رج��ال الكني�سة الذين كتبوا هذه‬
‫اخلطبة على ل�سان البابا دون �أن يرى �أحدهم عربي ًا واحد ًا �أو م�سلم ًا على الطبيعة ؛ ولذا ف�إنهم‬

‫العدد ‪ ،105‬ربيع ‪ 2010‬ال�سنة ‪� | 27‬ش�ؤون اجتماعية‬


‫د‪ .‬مو�سى حتاملة‬

‫ا�ستخدموا كل براعتهم يف هذه ال�صياغة الكريهة‪.)Gasem , 1987(.‬‬


‫و�أورد وليام هال�سي وجون�ستون (‪: )William Halsey & Johnstoy, 1990‬‬
‫“�إن حماولة تخلي�ص الأرا�ضي املقد�سة من الكفار ‪ ،‬كان واحد ًا من �أعظم الأ�سباب املن�سيّة يف التاريخ”‪.‬‬
‫�إن �إطالق كلمة كفار على امل�سلمني �أمر �شائع يف كتابات الع�صور الو�سطى‪ .‬وورد يف خطبة‬
‫البابا �أورب��ان الثاين الكثري من مفردات ال�سباب وال�شتم واالتهامات للم�سلمني‪ .‬وكان وراء هذه‬
‫االتهامات الباطلة ال�صورة املغلوطة عن الإ�سالم وامل�سلمني والتي انت�شرت يف �أوروبا على نطاق‬
‫وا�سع يف القرن احلادي ع�شر ع�شية قيام احلملة ال�صليبية الأوىل من خالل ت�شان�سون دي جي�سته‬
‫(‪ .) Chanson de Gestey‬و�أ�شهر هذه املالحم هي ملحمة روالند‪ .‬وهي �أ�شهر و�أقدم امل�صادر‬
‫التي �ساهمت يف ن�شر �صورة الإ�سالم يف الغرب حيث �صور م�ؤلف امللحمة امل�سلمني كوثنيني يعبدون‬
‫�آلهة متعددة من بينهم ‪ ،‬حممد و�أبولو ‪)Tervagan, 1997, p.252( Apolo‬‬
‫ويرى �شو (‪: )Show, 1973‬‬
‫�إن �إطالق النعوت �أو التكفري �أمر جمانب للحقيقة واملو�ضوعية ‪ ،‬وعلى العك�س من ذلك فقد‬
‫حتدثت امل�صادر العربية عن �شجاعة املقاتل ال�صليبي ولكنها مقرونة “ب�صفتني متناق�ضتني ‪:‬‬
‫‪44‬‬
‫احلذر ال�شديد والغدر”‪.‬‬
‫و�أورد �أندر�سون (‪: )Anderson, 1995‬‬
‫“�إن القد�س تعترب مقد�سة لكل جانب وكذلك ال�صراع مقد�س‪ .‬فال�صليبيون دافعوا عن‬
‫ال�صليب وامل�سلمون �أعلنوا اجلهاد” �أي احلرب املقد�سة‪ .‬واحل��روب كانت حول ال�سيطرة على‬
‫الأماكن وامل�ساحات املقد�سة يف فل�سطني من قبل كل جانب”‪.‬‬
‫“فامل�سيحيون يعتربون �أنف�سهم مدافعني ولي�س “ق�صابني”… والقد�س هي الغنيمة التي‬
‫يدعيها كل طرف‪.‬‬
‫مل يفرق �أندر�سون بني املُِعتَدِ ي واملُعتدَ ى عليه ‪ ،‬فهو ي�ضع الفريقني مب�ستوىً واحدٍ من حيث‬
‫املطامع ‪ ،‬ال بلْ مييل �إىل تزييف احلقيقة‪ .‬فامل�سلمون من حقهم �إعالن اجلهاد وهو فر�ض على كل‬
‫م�سلم مُعتَدَ ى على وطنه‪� .‬أما دعوى الدفاع عن ال�صليب فهي دعوى باطلة ‪ ،‬نظر ًا النحياز الكاتب‬
‫�إىل الطابع الديني متجاه ًال العوامل احلقيقية الأخ��رى لهذه احلمالت‪ ،‬ومتنا�سي ًا الت�سامح‬
‫الإ�سالمي مع احلجاج الوافدين �إىل الأرا�ضي املقد�سة ‪ ،‬وامل�سيحيني املقيمني»‪.‬‬
‫�أم��ا الكني�سة فقد تبنت احل��روب ال�صليبية و�أثارتها بدعوى الدفاع عن العقيدة امل�سيحية‬

‫�ش�ؤون اجتماعية | العدد ‪ ،105‬ربيع ‪ 2010‬ال�سنة ‪27‬‬


‫«احلروب ال�صليبية والقد�س من خالل مناهج التاريخ يف املدار�س الأجنبية اخلا�صة بدولة الإمارات العربية املتحدة»‬

‫ون�شرها وا�ستعادة الإ�شراف على الأماكن املقد�سة من امل�سلمني‪ ،‬ويف هذه احلرب املقد�سة ‪ ،‬كانت‬
‫�إ�سبانيا �أول املمالك امل�سيحية التي تزعمت ال�صراع �ضد العرب امل�سلمني خالل ثمانية قرون �إىل‬
‫�أن ح�صلت على الن�صر النهائي احلا�سم بعد احتالل غرناطة عام ‪)Ahmed, 1984( .»1492‬‬
‫ويكرر اندر�سون القول‪:‬‬
‫“�إنّ احلرب املقد�سة تتطلب التزام ال�شعب قلب ًا وقالب ًا وموافقته املطلقة وقناعته العميقة ب�أن‬
‫هذه احلرب �ستعود عليه مبكاف�أة عظيمة ‪� ،‬أال وهي ‪:‬‬
‫“غفران اخلطايا و�إعالء كلمة الرب”‪.‬‬
‫وهذا رئي�س الرهبان ي�شجع اجلنود على القتال ‪:‬‬
‫“�أيها الفر�سان تقدموا �إىل الأمام‪ .‬ب�أرواح با�سلة ‪ ،‬اطردوا �أعداء �صليب امل�سيح‪..‬‬
‫كم هو فخر �أن تعودوا من القتال منت�صرين !‬
‫كتبت هذه الكلمات القوية يف عام ‪1135‬م من قبل رئي�س الرهبان بريناال كلريفو�س‪ .‬وكان‬
‫يتكلم �إىل فر�سان فرن�سا‪ ،‬ي�شجعهم �إىل الإنطالق مع احلمالت ال�صليبية‪ .‬و�أورد بيرت كر�سب‬
‫(‪ )Chrisp, 1992‬يف كتابه بعنوان‪“ :‬ال�صليبيون”‬
‫‪45‬‬
‫“بني عام ‪1095‬م وعام ‪1300‬م ‪ ،‬كانت هناك �سبع حمالت رئي�سية �إىل ال�شرق الأو�سط ‪،‬‬
‫بالإ�ضافة �إىل ع��دة حمالت �أخ��رى‪ .‬ك��ان ه��دف ه��ذه احلمالت بالن�سبة للم�سيحيني هو �إعادة‬
‫ال�سيطرة على فل�سطني �أو الأرا�ضي املقد�سة كما ي�سميها امل�سيحيون لأنهم يعتقدون �أن �سبب‬
‫قدا�سة �أر�ض فل�سطني ‪ ،‬لأن امل�سيح كان قد م�شى على �أر�ضها‪ .‬القد�س هي املدينة التي �صلب فيها‬
‫امل�سيح ‪ ،‬لها قدا�سة خا�صة (‪)Chrisp, p 4‬‬
‫ويجب �أن ن�شري �إىل �أنّ الأقوال �أو الأفعال ال�صادرة عن الكتاب �أو امل�ؤرخني كما وردت يف كتب‬
‫التاريخ التي يدر�سها منت�سبو املدار�س اخلا�صة الغربية منها على وجه اخل�صو�ص ال متثل الدين‬
‫امل�سيحي �أو تعاليمه ‪ ،‬بل هي �آراء �أو �أقوال �صادرة عن �أنا�س حاقدين يحملون �أفكار ًا متطرفة ‪ ،‬ال‬
‫تتنا�سب مع عقيدتهم‪.‬‬
‫حتليل النتائج ومناق�شتها والتو�صيات‬
‫تعتمد مناق�شة النتائج على املعلومات التي ح�صل عليها الباحث ‪ ،‬وذلك كما وردت يف كتب التاريخ‬
‫املقررة يف املرحلتني الإعدادية والثانوية باملدار�س اخلا�صة الأجنبية‪ .‬حيث �أ�سفرت هذه الدرا�سة عن‬
‫التعرّف على مدى الت�شويه املتعمد واملغالطات التاريخية التي تتعلق بامل�سلمني عامة و�سكان القد�س وما‬

‫العدد ‪ ،105‬ربيع ‪ 2010‬ال�سنة ‪� | 27‬ش�ؤون اجتماعية‬


‫د‪ .‬مو�سى حتاملة‬

‫حولها خا�صة‪ .‬وكذلك طال الت�شويه �أ�سباب هذه احلروب وما يقف وراءها وجمرياتها‪.‬‬
‫وقد تبينّ من خالل حتليل اجلمل ال��واردة يف الن�صو�ص‪� ,‬أو من خالل حتليل املفردات كما‬
‫وردت يف الكتب املقررة‪ ،‬عدم نزاهة معظم ه��ؤالء امل�ؤرخني �أو الكتاب‪ ،‬حيث �إنهم مل يلتزموا‬
‫احليادية يف كتاباتهم‪ ،‬ومن هنا خال حمتوى هذه الكتب من ال�صدق يف كث ٍري من الأحيان‪ ،‬خا�صة‬
‫فيما يتعلق بهذه احلروب و�أ�سبابها‪ ،‬وكذلك �سكان الأرا�ضي املقد�سة ومعاملتهم للحجاج و�أخالقهم‬
‫كما يظهر من اجلدول التايل‪.‬‬
‫جدول (‪)1‬‬
‫الأفعال املتبادلة بني امل�سلمني وال�صليبيني‬
‫من وجهة نظر امل�ؤرخني الغربيني‬
‫من عام ‪1300 - 1096‬‬

‫اجلانب امل�سيحي‬ ‫اجلانب الإ�سالمي والعربي‬

‫ب‪ -‬التع�صب الديني‬ ‫التع�صب الديني‬


‫ّ‬ ‫�أ ‪-‬‬
‫«�أتى»‪:‬‬ ‫�أعلن‪:‬‬ ‫‪46‬‬
‫«�أتو �إىل ال�شرق لتحرير م�سيحييها من الظلم الإ�سالمي»‪.‬‬ ‫�أعلن امل�سلمون اجلهاد يف احلرب املقد�سة‬
‫«حارب»‪:‬‬ ‫�أمر‪:‬‬
‫«حارب ال�صليبيون حرب ًا مقد�س ًة �ض ّد امل�سلمني»‬ ‫«�إنّ الأمور بيد ال�شيطان»(امل�سلمون)‬
‫ح ّذر ‪:‬‬ ‫«بقر»‬
‫« �إنني �أنا البابا احذركم ب�أن نهاية العامل قد اقرتبت «‬ ‫«يبقرون بطونهم ‪ ،‬وميزّقون �أع�ضاءهم»‬
‫«اجتمع»‪:‬‬ ‫احلج �أكرث �صعوبة وم�ش ّقة»‬
‫«جعل»‪« :‬جعلوا ّ‬
‫« اجتمعت جميع الدول للتعاون من �أجل ا�ستعادة الأرا�ضي‬ ‫د ّمر‪:‬‬
‫«ا�ستغاث»‪:‬‬ ‫« يدمرون الكنائ�س وي�سوونها بالأر�ض»‬
‫« ا�ستغاث الإمرباطور بامل�سيحيني الغربيني «‬ ‫ذاق‪:‬‬
‫«�ألقى»‪:‬‬ ‫« يذيقون احلجاج امل�سيحيني املرارة «‬
‫« �ألقى البابا �أوربان الثاين خطبته يف كلريمونت بفرن�سا‬ ‫«�سحل»‪:‬‬
‫«دعى»‪:‬‬ ‫«ي�سحلونهم ‪ ،‬ثم يجلدونهم بال�سياط»‬
‫«دعت الكني�سة �أتباعها من كل الطبقات»‬ ‫غرب‪:‬‬
‫«�شجع»‪:‬‬
‫ّ‬ ‫«الأتراك جن�س غريب عن اهلل»‬
‫�شجع رئي�س الرهبان كلريفو�س اجلنود على القتال»‬ ‫« ّ‬ ‫«قذف»‪:‬‬
‫«طرد»‪:‬‬ ‫«يقذفون الأعداء بالرماح وال�سهام»‬
‫«اطردوا �أعداء امل�سيح»‬ ‫«م�سح»‪:‬‬
‫« مي�سحون مملكة اهلل «‬
‫منع‪:‬‬
‫«مينعون احل�ج��اج امل�سيحيني م��ن زي��ارة الأماكن‬
‫املقد�سة»‬

‫�ش�ؤون اجتماعية | العدد ‪ ،105‬ربيع ‪ 2010‬ال�سنة ‪27‬‬


‫«احلروب ال�صليبية والقد�س من خالل مناهج التاريخ يف املدار�س الأجنبية اخلا�صة بدولة الإمارات العربية املتحدة»‬

‫الغزو الع�سكري‬ ‫الغزو الع�سكري‬


‫باع‪:‬‬ ‫برز‪:‬‬
‫«بيع معظم الأ�سرى كالعبيد �أو �ضربوا حتى املوت»‬ ‫«برزت جمموعة من القادة امل�سلمني الأقوياء»‬
‫بو�أ‪:‬‬ ‫حكم‪:‬‬
‫«باءت احلملة بالف�شل»‬ ‫«�أحكموا قب�ضتهم على ك ّل �آ�سيا ال�صغرى»‬
‫تبع‪:‬‬ ‫دحر‪:‬‬
‫«تتابعت احلمالت ال�صليبية»‬ ‫حطني»‬ ‫«د ُِح َر ال�صليبيون يف معركة ّ‬
‫جهز‪:‬‬ ‫دفع‪:‬‬
‫«ج ّهزوا جي�ش ًا من ال�شباب والفتيات»‬ ‫«دافعوا عنها دفاع الأبطال»‬
‫حاط‪:‬‬ ‫د ّمر‪:‬‬
‫«�أُ َ‬
‫حيط بهم وقتلوا �أعداد ًا كبرية»‬ ‫«د ّمر ال�سالجقة الأتراك العثمانيني»‬
‫حرب‪:‬‬ ‫ذبح‪:‬‬
‫«حارب فيها النبالء واجلنود»‬ ‫«يذبحون فريق ًا وي�أ�سرون فريق ًا �آخر»‬
‫ح ّل‪:‬‬ ‫رجل‪:‬‬
‫«احت ّلوا بع�ض احلاميات»‬ ‫«ترجل الأتراك عن خيولهم»‬ ‫ّ‬
‫دعم‪:‬‬ ‫ُ�س َّر‪:‬‬
‫«وجد البابا دعم ًا وم�ساعد ًة من البيزنطيني»‬ ‫«�سر البابا لقتل الكفار»‬
‫زرع‪:‬‬ ‫�صاب‪:‬‬
‫«زرعوا بع�ض الإقطاعيات الغربية يف ال�شرق»‬ ‫«�أ�صابهم احلزن العميق»‬
‫�شرك‪:‬‬ ‫ظهر‪:‬‬
‫«�شارك فيها النبالء واجلنود»‬ ‫«ظهور قوة رادعة قادرة على حتطيم طموحاتهم»‬
‫طرد‪:‬‬ ‫قدم‪:‬‬
‫‪47‬‬ ‫«ط ِر َد امل�سلمون �أينما وجدوا»‬ ‫ُ‬ ‫«تقدّم جي�ش الأتراك القوي»‬
‫عود‪:‬‬ ‫«تقدّموا نحو ال�صليبيني»‬
‫«عاد بع�ضهم �إىل بالده»‬ ‫قاد‪:‬‬
‫غا�ص‪:‬‬ ‫«قاد �صالح الدين جي�شه نحو مدينة طربيا امل�سيحية»‬
‫«كان الرجال يغو�صون بالدماء حتى ركبهم»‬ ‫هجم‪:‬‬
‫قتل‪:‬‬ ‫«هاجمواالإمرباطورية من اجلهة ال�شرقية‬
‫«قتلوا �سكان القد�س»‪« .‬قتلوا �سبعني �ألف ًا من �سكانها»‬ ‫و�سع‪:‬‬
‫حلق‪:‬‬ ‫«يو�سعون حدودهم»‬ ‫ّ‬
‫«تتبع فر�ساننا �آثارهم وحلقوا بهم»‬
‫هاج‪:‬‬
‫«اندفع رجالنا هائجني نحو ّ‬
‫اخلط الأمامي»‬

‫خال�صة هذه املقارنة �أن هناك كثري ًا من املفردات ذات االجتاه ال�سلبي فيما يخ�ص امل�سلمني‪،‬‬
‫وتكاد تكون جميعها ذات م�ضمون �سلبي متعمد ‪ ،‬مما يجعل ه��ؤالء الكتاب بعيدين عن الواقع‬
‫بالن�سبة للجانب العربي امل�سلم‪ .‬و�أنهم متحاملون يف كل ما يخ�ص العرب امل�سلمني واحلروب التي‬
‫خا�ضوها‪.‬‬
‫دخول ال�صليبني القد�س‪:‬‬
‫لقد طرح ال�صليبيون �أ�سباب ًا وذرائع كثرية من �أجل احتالل الأرا�ضي املقد�سة ‪ ،‬فهم َيدَّعُ ون‬

‫العدد ‪ ،105‬ربيع ‪ 2010‬ال�سنة ‪� | 27‬ش�ؤون اجتماعية‬


‫د‪ .‬مو�سى حتاملة‬

‫�أنهم يريدون حماية ه��ذه الأم��اك��ن ‪ ،‬وحماية طريق احل��ج ‪ .‬وجنحت حماوالتهم يف النهاية ‪،‬‬
‫و�شجعهم على ذلك تفرق كلمة امل�سلمني وكرثة خالفاتهم‪.‬‬
‫يقول وليام برايان (‪: )Brian, 1993‬‬
‫وعندما و�صلت طالئع اجليو�ش ال�صليبية �إىل القد�س ‪ ،‬كانت القد�س حتت حكم “افتخار‬
‫الدولة” الفاطمي‪ .‬وقد دافع عنها دفاع الأبطال �إال �أن كرثة عدد املهاجمني و�إ�صرارهم ‪� ،‬أدى �إىل‬
‫انهيار خط الدفاع عن املدينة وا�ست�سلمت حاميتها وجل�أ النا�س �إىل امل�سجد الأق�صى حيث رفعوا‬
‫راية ال�صليب وطلبوا الأمان مقابل فدية ‪� ،‬إال �أن تانكرد انق�ض عليهم وعاث ف�ساد ًا ودمر ونهب‬
‫وقتل النا�س بدمٍ باردٍ حتى بلغت الدماء �إىل الركب‪ .‬ورحل افتخار الدولة مبن معه �إىل احلامية‬
‫الإ�سالمية بع�سقالن‪)Williams Brian 1993( .‬‬
‫ويرى كر�سب ( ‪: )Chrisp, p. 17‬‬
‫�إن الفظائع التي ارتكبها ال�صليبيون ‪ ،‬يعجز الل�سان يف التعبري عنها لب�شاعتها وفظاعتها‪ .‬وب�شهادة‬
‫امل�ؤرخني الغربيني �أنف�سهم‪ ،‬يقول رميوند �ألأجويلري معرب ًا عن �سعادته‪)Al Aguilers, 1992(:‬‬
‫“�إنّه منظر رائع ت�شاهده يف معبد �سليمان ‪ ،‬كان الرجال يغو�صون �إىل ركبهم يف الدماء وحتى‬
‫‪48‬‬
‫حلق �أذان العرو�س‪ .‬حق ًا �إنّه ق�ضاء عظيم من اهلل �أن ميتليء هذا املكان بدماء غري امل�ؤمنني ‪ ،‬حيث‬
‫عانت هذه املدينة طوي ًال من قبل ه�ؤالء امللحدين‪ .‬لقد امتلأت املدينة بالدماء واجلثث”‪.‬‬
‫�إن الفظائع الرببرية والهجوم الوح�شي على الأبرياء من �شيوخ و�أطفال ون�ساء ‪ ،‬يعد من �أكرب‬
‫اخلطايا والآث��ام بحق الإن�سانية‪ .‬وهذا ما يدل على عدم �صدق ادعائهم ب�أنهم حماة للأرا�ضي‬
‫املقد�سة بل غزاة بربريون ومتوح�شون ‪ ،‬بعيدون كل البعد عن الدين والأخالق الإن�سانية‪ .‬فالبابا‬
‫نف�سه يربر القتل والفتك بدماء الأبرياء حني طلب من الكني�سة �أن ت�صدر �صك ًا بغفران اخلطايا‬
‫للمقاتلني و�أنهم �سيذهبون �إىل اجلنّة مبا�شرة بعد قتلهم يف املعارك‪.‬‬
‫ال�صليبيني‬
‫ويعلق فو�شيه دي �شارتر ب�سخرية عندما �سبيت بع�ض الن�سوة امل�سلمات �أثناء وجود ّ‬
‫يف انطاكية ‪ ،‬عام ‪ "،1098‬مل يفعلوا بهنّ �شر ًا ‪ ،‬و�إمنا بقروا بطونهنّ بالرّماح واحلراب‪"..‬‬
‫وي�ؤكد هذه الفظائع كاتب �آخر ‪ ،‬فيقول على ل�سان �شاهد عيان‪:‬‬
‫“دخل رجالنا املدينة ‪ ،‬وط��اردوا امل�سلمني ‪ ،‬يقتلونهم �أينما وج��دوا ‪ ،‬حتى يف داخ��ل هيكل‬
‫�سليمان‪ .‬وهناك قاتل الأع��داء قتا ًال �شر�س ًا ‪ ،‬حتى تدفقت دما�ؤهم وغطت جميع �أر�ض الهيكل‪.‬‬
‫�ألقى رجالنا القب�ض على كثري من الرجال والن�ساء وقتلوا كل من يريدون قتله‪ .‬وحا ًال �أحكم رجالنا‬

‫�ش�ؤون اجتماعية | العدد ‪ ،105‬ربيع ‪ 2010‬ال�سنة ‪27‬‬


‫«احلروب ال�صليبية والقد�س من خالل مناهج التاريخ يف املدار�س الأجنبية اخلا�صة بدولة الإمارات العربية املتحدة»‬

‫ال�سيطرة على املدينة ‪ ،‬باحثني عن الذهب والف�ضة ‪ ،‬وعن اخليول والبغال ‪ ،‬والبيوت امللأى‬
‫بالرثوات من كل نوع” (‪)Corbishley, 197‬‬
‫�إنّ ما ورد على ل�سان �شاهد عيان يثبت �أنّ ال�صليبيني كانوا يفكرون �أول ما يفكرون يف املكا�سب‬
‫املادية ‪ ،‬فهم ينهبون وي�سلبون كل ما وقع حتت �أيديهم‪ .‬حيث �إنهم تدافعوا نحو املدينة من �أجل‬
‫بع�ض املكا�سب الدنيوية ‪.‬‬
‫وي�ؤكد الفظائع املتوح�شة التي ارتكبها ال�صليبيون ما يرويه اندر�سون (‪:)Anderson, 1995‬‬
‫“يف عام ‪� 1099‬أحاط ال�صليبيون القادمون من �أوروب��ا بالقد�س ‪ ،‬فقتلوا �أع��داد ًا كبرية من‬
‫�سكانها ‪ ،‬و�أ�صبحت فل�سطني �إحدى املمالك ال�صليبية اخلم�س يف �شرق املتو�سط‪ .‬ويف عام ‪1187‬‬
‫�أعاد املدينة املقد�سة قائد م�سلم بارز‪ ،‬بدون وح�شية كالتي ارتكبتها اجليو�ش الغربية قبل قرن‬
‫�سابق‪ ..‬وبالن�سبة لكال اجلانبني كان ال�صراع مقد�س ًا ‪ ،‬فال�صليبيون كانوا يتنادو بال�صليب ‪،‬‬
‫وامل�سلمون تنادوا �إىل اجلهاد (احلرب املقد�سة)‪ ..‬فالفر�سان الأوروبيون يحاربون با�سم ال�صليب‬
‫امل�سيحي ‪ ،‬ومل يروا �أنف�سهم كالق�صابني بل كمدافعني عن امل�سيحية‪ .‬هل كان ال�صراع يف احلقيقة‬
‫�صراع ًا ديني ًا �أو �شعار ًا مقد�س ًا يختفي حتته �صراع �أو�سع للبحث عن الرثوة واحتالل �أرا�ضي تقف‬
‫‪49‬‬
‫حد ًا فا�ص ًال بني املمالك امل�سيحية والإ�سالمية‪.‬؟‪.‬‬
‫ومهما تكن الدوافع التي قيلت من قبل ال�صليبيني‪ ،‬فالنهاية �أنّهم احتلوا �أماكن و�أرا�ضي‪،‬‬
‫وكانت اجلائزة الرئي�سية “القد�س” ‪ ،‬والتي يدّعي كل طرف ملكيتها – “القد�س لنا”‪. -‬‬
‫ومل يتوقف م�سل�سل اجلرائم الب�شعة التي ارتكبها ال�صليبيون بحق امل�سلمني الأبرياء ‪ ،‬فقد كتب‬
‫كورب�شلي (‪)Corbishley, p. 203‬‬
‫“…وتقدم ريت�شارد وجي�شه �إىل �أوا��س��ط ال�سهول و�أح�ضر معه ثالثة �آالف �أ�سري م�سلم‬
‫مقيدين بال�سال�سل‪ .‬وهجموا عليهم هجمة رجل واحد‪ .‬وذبحوهم بكل برود م�ستعملني �سيوفهم‬
‫ورماحهم”‪ .‬ويتابع كورب�شلي فيقول ‪:‬‬
‫«وهناك �أ�سباب عديدة وراء ذبحهم‪ ،‬و�أحد الأ�سباب �أنهم ُق ِتلُوا انتقام ًا للم�سيحيني الذين قتلوا‬
‫من قبل امل�سلمني‪ .‬والثاين �أنّ ريت�شارد كان قد قرر �أن يتقدم �إىل ع�سقالن لكي اليبقى خلفه عدد ًا‬
‫كبري ًا من جنود الأعداء»‪.‬‬
‫ويربر الكاتب �أفظع ما مر بذاكرة النوع الب�شري من اجلرائم الوح�شية ‪ ،‬حيث �أهلكوا احلرث‬
‫والن�سل متنا�سي ًا الأمان الذي �أعطاه لهم عند ت�سليمهم �سالحهم‪.‬‬

‫العدد ‪ ،105‬ربيع ‪ 2010‬ال�سنة ‪� | 27‬ش�ؤون اجتماعية‬


‫د‪ .‬مو�سى حتاملة‬

‫و�أورد كاتب ال�سرية الذاتية للملك ريت�شارد الأول‪:‬‬


‫«ب�أن امللك ريت�شارد كان تواق ًا لتحطيم الأتراك امل�سلمني ‪ ،‬وكان لديه ‪� 2700‬أ�سري تركي �أخرجهم‬
‫فانق�ض عليهم �أتباعه ُم َنفِّذين �أمره ‪� ،‬شاكرين العناية الربانية التي منحتهم‬
‫ّ‬ ‫من املدينة لقتلهم ‪،‬‬
‫الفر�صة للث�أر للم�سيحيني الذين �ألقي القب�ض عليهم وقتلوا باملدي وال�سهام»‪)Chrisp, p.32( .‬‬
‫�إنّ كتاب التاريخ ال ينكرون اجلرائم الب�شعة التي ارتكبت على يد قادتهم �أو ب�أمر منهم ‪ ،‬على‬
‫�أ ّي��ة ح��الٍ يبقى الأم��ر �سيّان‪ .‬وه��ذا املوقف يذكرنا بالقائد �صالح الدين الأيوبي و�سعة �صدره‬
‫و�سماحته وعفوه ‪ ،‬حيث عامل �أعداءه و�أ�سراه معاملة ح�سنه ‪ ،‬تدل على جالل العقيدة الإ�سالمية‬
‫ومدى ت�أثريها على معتنقيها‪.‬‬
‫وانتقد بيرت كر�سب همجية ريت�شارد بقوله ‪:‬‬
‫املح�صنة‬
‫ّ‬ ‫« �إن امللك الإنكليزي ريت�شارد �أخلف بوعده للأ�سرى امل�سلمني ‪ ،‬حيث ت�سلّم املدينة‬
‫مقابل �سالمة �أرواحهم ‪ .‬لقد هجم ريت�شارد وجي�شه عليهم هجمة رجلٍ واحد ‪ ،‬يذبحونهم بدم باردٍ ‪.‬‬
‫ويف ال�صباح التايل �أراد امل�سلمون �أن يروا من �سقط ‪ ،‬فوجدوا �أ�صدقاءهم قد ا�ست�شهدوا وملقيني‬
‫مكانهم ‪ .‬ف�أ�صابهم احلزن العميق ‪ ،‬ومنذ ذلك الوقت يرف�ضون ت�سليم �أعداءهم �أيّ �سجني»‪.‬‬
‫‪50‬‬
‫وي�شري الكاتبان �آليت وكفن �أودونيل (‪� )Aylett & Kevin O’Donnell, 2000‬إىل ق�سوة‬
‫ريت�شارد قلب الأ�سد بالقول ‪:‬‬
‫«�إنّ ق�سوة ريت�شارد قلب الأ�سد ال حتتاج �إىل كالم ‪ ،‬وعلى �أية حال عندما احتل مدينة �صور ‪،‬‬
‫قتل �آالف امل�سلمني كانوا �أ�سرى لديه ‪ ،‬وذلك لأنه كان خائف ًا �أن يلتحقوا بجي�ش �صالح الدين‬
‫ويحاربوا �ضده‪ .‬وللأ�سف ‪ ،‬ف�إن هذه الأفعال الوح�شية ‪ ،‬قادت �إىل فقدان الثقة على مدى قرون بني‬
‫امل�سيحيني وامل�سلمني»‪.‬‬
‫ونقل كورب�شلي عن ابن الأثري يف كتابه املو�سوعي خرب هذه املذبحة فيقول‪:‬‬
‫«وبعد �أن انتزع ال�صليبيون بيت املقد�س من يد افتخار الدولة ‪« ،‬قتل الفرجن بامل�سجد الأق�صى‬
‫ما يزيد على �سبعني �ألف ًا منهم جماعة كثرية من �أئمة امل�سلمني وورد امل�ستنفرون من ال�شام يف‬
‫رم�ضان �إىل بغداد‪ .‬ف� ��أوردوا كالم ًا �أبكى العيون و�أوج��ع القلوب وقاموا باجلامع ي��وم اجلمعة‬
‫فا�ستغاثوا وبكوا و�أبكوا … فل�شدة ما �أ�صابهم �أفطروا ‪ ،‬ف�أمر اخلليفة �أن ي�سري القا�ضي �أبو حممد‬
‫الدامغاين �إىل حلوان ‪( ،‬ب�سبيل حتقيق نوع من الوفاق بني خالفة بغداد ‪ ،‬وخالفة القاهرة �ضد‬
‫العدو امل�شرتك) ‪ ،‬فبلغهم قتل جمد امللك البال�ساين على ما نذكره ‪ ،‬فعادوا من غري بلوغ �أرب ‪،‬‬

‫�ش�ؤون اجتماعية | العدد ‪ ،105‬ربيع ‪ 2010‬ال�سنة ‪27‬‬


‫«احلروب ال�صليبية والقد�س من خالل مناهج التاريخ يف املدار�س الأجنبية اخلا�صة بدولة الإمارات العربية املتحدة»‬

‫وال ق�ضاء حاجة ‪ ،‬واختلف ال�سالطني ‪ ،‬فتمكن الفرجن من البالد”‪( .‬اب��ن الأث�ير ‪ ،‬الكامل يف‬
‫التاريخ ‪ /‬جـ‪.)189 / 8‬‬
‫وكتب مت وود (‪ )Wood,1995‬بعنوان حترير القد�س ‪:‬‬
‫«�إنّ مدينة القد�س املقد�سة وقعت يف �أيدي امل�سيحيني مرة �أخرى‪ .‬فقط بعد مرور ثالثة �أعوام‬
‫من جلوء �أوربان الثاين �إىل اجلنود يدعوهم لتحرير مدينة القد�س من امل�سلمني‪� .‬أكمل الفر�سان‬
‫ال �ف��رن �� �س �ي��ون ج���ود ف���رى وب ��ول ��دوي ��ن وج�ي���ش�ه�م��ا ال���ص�ل�ي�ب��ي ال���واج���ب‪ .‬وحت � ��ررت القد�س‬
‫يف ‪1099/6/15‬م ‪ ،‬ولكن بعد �أن خا�ضوا عدة معارك‪ .‬وق�سمت فل�سطني الآن �إىل �أربع ممالك‬
‫م�سيحية ‪ ،‬كل واحدة حتكم من قبل بارون»‪.‬‬
‫�إن احل��روب وامل�ج��ازر التي ارتكبها ال�صليبيون ‪ ،‬تركت �أث��ره��ا امل ��ؤمل يف ال��وج��دان العربي‬
‫والإ�سالمي ‪ ،‬حيث داهم ال�صليبيون العرب امل�سلمني يف عقر دارهم ‪ ،‬و�أ�صبحت الأر�ض م�سرح ًا‬
‫لهذه احل��روب وواج��ه العرب امل�سلمون هزمية كربى وال غرابة يف ذلك ‪ ،‬نظر ًا لتفرق كلمتهم‬
‫و�شعورهم باخلذالن‪.‬‬
‫ومبا �أنّ احلرب ك ّر وف ّر ‪ ،‬فقد جمع العرب ح�شودهم على يد �صالح الدين الأيوبي وقبله �ساهم‬
‫‪51‬‬
‫املنا�ضالن الزنكيان عماد الدين ونور الدين ‪ ،‬وذلك عن طريق ح�شد وجمع كلمة امل�سلمني‪ .‬كتب‬
‫اهلل الن�صر و�أُعِ يدتِ القد�س لأ�صحابها ال�شرعيني‪ .‬ولكن دخولهم للقد�س كان خمتلف ًا عن دخول‬
‫ال�صليبيني ‪ ،‬فقد غلب الت�سامح واخللق الإ�سالمي على جي�ش �صالح الدين‪ .‬حيث عومل الأ�سرى‬
‫و�أهل القد�س معاملة ا�ستثنائية ‪ ،‬على الرغم من �أن دماء ال�سكان امل�سلمني يف القد�س مل جتف‬
‫بعد‪ .‬وهي ماثلة يف ذاكرة من تبقى من امل�سلمني يف كل الأر�ض العربية‪.‬‬
‫و�شهد �شاهد م��ن �أه��ل��ه على ع��دم مقابلة وح�شية ال�صليبيني بوح�شية مماثلة‪� ,‬إذ يكتب بروك‬
‫وجيم�س �أندر�سون والن كو�شرين (‪: )Brook & James Anderson and Cochrane, 1995‬‬
‫“ويف عام ‪1099‬م جاء ال�صليبيون من �أوروب��ا واحتلوا القد�س وقتلوا ال�سكان ‪ ،‬و�أ�صبحت‬
‫فل�سطني خام�س دولة م�سيحية يف �شرق املتو�سط‪ .‬ويف ‪1187‬م ‪ ،‬ظهر حاكم م�سلم بارز ا�سمه �صالح‬
‫الدين ‪ ،‬ا�ستعاد الأرا�ضي املقد�سة دون �أن ميار�س �أعما ًال وح�شية كالتي ارتكبتها من قب ُل اجليو�ش‬
‫الغربية قبل قرن‪ .‬وتعترب القد�س “مقد�سة” لكل جانب وكذلك ال�صراع “مقد�س”‪ .‬فال�صليبيون‬
‫دافعوا عن ال�صليب وامل�سلمون �أعلنوا “اجلهاد” �أي “احلرب املقد�سة”‪ .‬واحل��رب كانت حول‬
‫ال�سيطرة على الأماكن وامل�ساحات التي تعترب مقد�سة يف فل�سطني من قبل كل جانب‪.‬‬

‫العدد ‪ ،105‬ربيع ‪ 2010‬ال�سنة ‪� | 27‬ش�ؤون اجتماعية‬


‫د‪ .‬مو�سى حتاملة‬

‫وقد ك�شف م�ؤرخو احلملة ال�صليبية الأوىل ‪ ،‬ومنهم الفار�س املجهول ‪ ،‬وفو�شيه دي �شارتر ‪،‬‬
‫وجيوبرت النوجنتي ‪ ،‬وبلدريك الدوللي ورميون �ألأجويلري ‪ ،‬و�ألربت الأيك�سي عن عدائهم للعرب‬
‫امل�سلمني والأتراك دون مواربة”‪.‬‬
‫“بل �إن بع�ضهم كان يبدي �سروره يف عبارات بليغة ملا ارتكبه ال�صليبيون من �أعمال وح�شية‬
‫�ضد العرب يف بالد ال�شام ‪ ،‬ومل يخطر ببالهم قط �أن يكون له�ؤالء العرب حق يف بالدهم ؛ و�إنمّ ا‬
‫كانوا يرون فيهم جمموعة من الوثنيني الذين ي�ستحقون القتل‪ .‬و�أول ما يلفت النّظر لل�صورة التي‬
‫ر�سمها �أولئك امل�ؤرخون لل�شخ�صية العربية الإ�سالميّة عدا�ؤهم ال�شّ ديد للم�سلمني من جه ٍة ‪،‬‬
‫وجهلهم بحقيقة الدين الإ�سالمي والثقافة العربية من جه ٍة ثانيةٍ‪ .‬فهم ي�صمون امل�سلمني بالكفر‬
‫والوثنية �أحيان ًا وبالرببرية وال�ش ّر �أحيان ًا �أخرى‪)Gasem, p.17(”.‬‬
‫وجتدر الإ�شارة �إىل �أن جميع املجازر التي ارتكبت لي�ست يف �شيء من جوهر امل�سيحية ‪� ،‬إذا ما‬
‫قارنا ذلك بت�سامح امل�سلمني وح�سن معاملتهم لغري امل�سلمني‪ .‬وهناك من يزوِّر احلقائقَ ويعترب‬
‫ت�سامح امل�سلمني له �أ�سبابه الدنيوية‪.‬‬
‫وروى �آليت وكفن �أودونيل (‪: )Aylett & Kevin O’Donnell, 2000‬‬
‫‪52‬‬
‫ق�صة البطريرك �صفرونيو�س مع اخلليفة عمر بن اخلطاب عند جميئه �إىل القد�س لت�سلم‬
‫مفاتيحها و�أ�شار بقوله ‪:‬‬
‫«عندما �سيطر امل�سلمون على الأماكن املقد�سة ‪ ،‬كانت هذه الأماكن مفتوحة للم�سلمني واليهود‪.‬‬
‫ولكن �شتان ما بني حالها عندما كانت بيد امل�سلمني وبني حالها بعد �سيطرة �أول حملة �صليبية‬
‫عليها عام ‪1099‬م‪ .‬ال�صليبيون املتع�صبون ذبحوا جميع امل�سلمني واليهود �أينما وج��دوا‪ .‬وهذه‬
‫املذبحة �أرعبت العامل الإ�سالمي والكثري من امل�سيحيني يف �أوروبا �أي�ضاً»‪.‬‬
‫وي�شيد كاتب �آخر ب�سماحة امل�سلمني وخا�صة القائد �صالح الدين الأيوبي وذلك بعد انت�صاره‬
‫يف معركة حطني ‪:‬‬
‫«‪ ...‬وح��ارب الفر�سان ب�شجاع ٍة ‪ ،‬وكانت حالتهم مي�ؤو�س ًا منها ‪ ،‬وجي�ش القد�س قد حتطّ م‬
‫وكذلك ال�صليب �أقد�س �أثرٍ باقٍ قد انتُزِ عَ‪ .‬وبعد ثالثة �أ�شهرٍ ‪ ،‬دخل القائد امل�سلم العظيم املدينة‬
‫امل �ق � ّد� �س��ة ن�ف���س�ه��ا‪ .‬وع �ل��ى �أي� ��ة ح� ��الٍ مل ي �ك��ن ح��ال �ه��م ك �ح��ال ال� ّ���ص�ل�ي�ب�ي�ين ال��ذي��ن ا�ستولوا‬
‫على امل��دي�ن��ة يف ع��ام ‪� .1095‬إ ّن �ه��م –�أي امل�سلمني‪ -‬مل يقتلوا ف ��رد ًا واح� ��د ًا م��ن ال�سكان‪».‬‬
‫(‪)Peter,p.28‬‬

‫�ش�ؤون اجتماعية | العدد ‪ ،105‬ربيع ‪ 2010‬ال�سنة ‪27‬‬


‫«احلروب ال�صليبية والقد�س من خالل مناهج التاريخ يف املدار�س الأجنبية اخلا�صة بدولة الإمارات العربية املتحدة»‬

‫هذه حقيقة واقعة ال مراء فيها ‪ ،‬فجي�ش قائده ال�سلطان �صالح الدين الأيوبي القائد امل�ؤمن ‪،‬‬
‫مل ي�سجل عليه الأعداء �أي موقف �سلبي خا�صة يف حربه ال�ستعادة املدينة املقد�سة ‪ ،‬حيث كانت‬
‫املواجهة وجه ًا لوجه‪ .‬فالأفعال ال�صادرة عن كل فريق وثقها على حقيقتها نفر قلي ٌل من امل�ؤرخني‪.‬‬
‫و ُي َعلِّق روجر بيكون (‪ )Roger Bacon, 1268‬على احلروب ال�صليبية بقوله‪:‬‬
‫ال�صليبية ‪ ،‬وال‬ ‫"�إن احلرب غري فعّال ٍة �ض ّد الكفار ‪ ،‬طاملا �أنّ الكني�سة هزمت يف احلروب ّ‬
‫الكفار حتوّلوا �إىل ن�صارى‪ ،‬بل قتلوا وذهبوا �إىل جهنّم‪� .‬أولئك الذين بقوا على قيد احلياة مع‬
‫�أطفالهم بعد احلرب‪ ،‬هم الذين ي�شعرون باملرارة �أكرث و�أكرث �ضد العقيدة امل�سيحية ب�سبب هذا‬
‫العنف‪� .‬أ�ضف �إىل ذلك �أن الإميان اليدخل العامل بال�سالح بل باملوعظة احل�سنة"‪.‬‬
‫وكتب هامربت الراهب الروماين (‪ )Humbert of Romans, 1247‬تقرير ًا �إىل البابا حول‬
‫فتور حما�س ال�صليبيني نحو احلروب ال�صليبية فقال‪:‬‬
‫“هناك البع�ض يقول‪� :‬إن غري امل�سيحيني من ي�سفك الدماء بهذه الطريقة‪ ،‬وحتى �أنّ الكفار الأ�شرار‬
‫مل يفعلوا مثل ذلك �ض ّد امل�سيح ‪ ،‬ويقولون ومع ذلك يجب على الواحد منّا �أن ال يوفر ال�سرا�سنز (امل�سلمون)‬
‫بل يجب �أن يحفظ الدم النّ�صراين‪ ,‬وهل من احلكمة �أن نعرّ�ض الكثري من رجالنا العظام للخطر؟‬
‫‪53‬‬
‫الآخرون يرون �أنّها لي�ست رغبة الرب �أن يتقدّم الن�صارى �ضد ال�سرا�سنز (امل�سلمون) كيف‬
‫ي�سمح الرب ل�صالح الدين �أن ينت�صر وي�سرت ّد الأرا�ضي مع نزف كثري من دماء امل�سيحيني‪� .‬إنّ‬
‫االمرباطور فريدريك هلك يف ماءٍ �ضحلٍ ‪ ،‬وامللك لوي�س وقع �أ�سري ًا يف م�صر ‪� ،‬إال �إذا كان هذا ما‬
‫ي�سره؟»‪.‬‬
‫يظهر �أنّ ال�شائع يف كتابات كثري من امل�ؤرخني الغربيني ‪� ،‬أنهم يعتربون امل�سلمني كفارا غري‬
‫م�ؤمنني وينكرون جوهر الدين الإ�سالمي وه��و التوحيد‪ .‬وه��ذا اتها ٌم خطري وحتريف متعمّد‬
‫للحقيقة‪ ،‬فامل�سلمون �أ�صحاب ر�سالة �سماوية موجهة لكال الثقلني الإن�س واجلن‪.‬‬
‫وكتب �أحد الفال�سفة اليهود يف القرن التا�سع امليالدي ‪:‬‬
‫«من �أحد الأ�سباب التي دعت احرتام امل�سلمني للن�صارى‪� ،‬أن �أكرثهم كان يعمل يف خدمة امللك‬
‫ك��م��وظ��ف�ي�ن و�أط � � �ب� � ��اء‪ ،‬يف ح �ي�ن ك � ��ان ال� �ي� �ه ��ود دب� ��اغ �ي�ن �أو ق�����ص��اب�ي�ن �أو ���س��ب��اك�ي�ن»‪.‬‬
‫(‪)Corbishley, 189‬‬
‫�إن الت�سامح الإ�سالمي نابع من �صميم عقيدتنا ال�سمحاء ولي�س لأهداف �أو مطامع مادية �أو‬
‫معنوية‪� .‬إنها من تعاليم ديننا احلنيف �أن نح�سن معاملة الأعداء والأ�صدقاء وال ننتقم منهم يف‬

‫العدد ‪ ،105‬ربيع ‪ 2010‬ال�سنة ‪� | 27‬ش�ؤون اجتماعية‬


‫د‪ .‬مو�سى حتاملة‬

‫حالة �ضعفهم �أو انهيارهم‪ .‬و�أ�صدق الأمثلة على ذلك معاملة �صالح الدين الأيوبي لريت�شارد قلب‬
‫الأ�سد العدو الأول للم�سلمني ‪ ،‬حيث عاجله و�ساعد يف �شفائه‪.‬‬
‫وي�ؤكد ت�سامح امل�سلمني و�صفحهم عن �أعدائهم ما ورد على ل�سان كاتب غربي بعد انت�صار‬
‫امل�سلمني يف حطني ‪:‬‬
‫“وعندما دخل امل�سلمون املنت�صرون املدينة املقد�سة نف�سها ‪ ،‬مل يكونوا كما كان ال�صليبيون‬
‫عند احتاللهم للمدينة يف عام ‪1099‬م ‪� ،‬إنهم – �أي امل�سلمون – مل يقتلوا �شخ�ص ًا واح��د ًا من‬
‫ال�سكان”‪)Chrisp, 28( .‬‬
‫دخول الفريقني مدينة القد�س‪:‬‬
‫من خالل حتليل اجلمل واملفردات الواردة يف مناهج التاريخ واملقررة على الطالب يف املدار�س‬
‫الربيطانية اخلا�صة ‪ ،‬مت حتديد الأدوار التي قام بها كل فريق ‪ ،‬عند دخوله املدينة املقد�سة على‬
‫النحو املبني يف اجلدول التايل‪.‬‬
‫جدول (‪)2‬‬
‫الفاعل العربي وال�صليبي عند دخول القد�س‬
‫‪54‬‬

‫امل�سلمون‬ ‫ال�صليبيون‬
‫نادى‪:‬‬ ‫غا�ص‪:‬‬
‫« تنادوا �إىل اجلهاد �أو احلرب املقد�سة»‬ ‫«كان الرجال يغو�صون يف الدماء اىل ركبهم»‬
‫دخل‬ ‫امتلأ‬
‫« دخل امل�سلمون املدينة منت�صرين»‬ ‫«امتلأت املدينة بالدماء واجلي�ش»‬
‫كان‪:‬‬ ‫هجم‪:‬‬
‫«مل يكونوا كما ك��ان ال�صليبيون ‪ ،‬مل يقتلوا �شخ�ص ًا واح��د ًا من‬ ‫«هجموا على ال�شيوخ والأطفال والن�ساء»‬
‫ال�سكان»‬ ‫برر‪:‬‬
‫كتب»‬ ‫«البابا نف�سه يربر القتل والفتك بدماء الأبرياء»‬
‫«كتب اهلل الن�صر و�أُعِ يدت القد�س لأ�صحابها ال�شرعيني»‬ ‫قتل‪:‬‬
‫«دخل رجالنا املدينة ‪ ،‬وطاردوا امل�سلمني ‪ ،‬يقتلونهم �أينما وجدوا» مار�س‪:‬‬
‫«مار�س �أ�صحاب الديانات الثالث عباداتهم»‬ ‫دفق‪:‬‬
‫�سمح‬ ‫«تدفقت دما�ؤهم ‪ ،‬وغطت جميع �أر�ض الهيكل»‬
‫«�سمح امل�سلمون للحجاج امل�سيحيني بزيارة القد�س‪.‬‬ ‫�ألقى‪:‬‬
‫«�ألقى رجالنا القب�ض على كثري من الرجال والن�ساء وقتلوا كل من عفا‬
‫«عفا عن ع�شرة �آالف من فقراء ال�صليبيني مل يكن ب�أيديهم �شيء‬ ‫يريدون قتله»‬
‫يفكون �أ�سرهم»‬ ‫نهب‪:‬‬
‫مار�س‪:‬‬ ‫«ينهبون وي�سلبون كل ما وقع حتت �أيديهم»‬
‫« مار�س �أ�صحاب الديانات الثالث عباداتهم »‬
‫ردّ‪:‬‬
‫«رد �إىل �أم �صليبية ر�ضيعها يف احلال»‬

‫�ش�ؤون اجتماعية | العدد ‪ ،105‬ربيع ‪ 2010‬ال�سنة ‪27‬‬


‫«احلروب ال�صليبية والقد�س من خالل مناهج التاريخ يف املدار�س الأجنبية اخلا�صة بدولة الإمارات العربية املتحدة»‬

‫امل�سلمون‬ ‫ال�صليبيون‬
‫�أر�سل‬ ‫تاق‪:‬‬
‫«�أر�سل �صالح الدين االطباء والهدايا �إىل ملك اجنلرتا »‬ ‫« كان امللك ريت�شارد ت ّواق ًا لتحطيم الأتراك امل�سلمني»‬
‫�أعاد‪:‬‬ ‫ق�سا‪:‬‬
‫« �أعاد املدينة املقد�سة قائد م�سلم بارز ‪ ،‬وذلك بدون وح�شية»‬ ‫«�إنّ ق�سوة ريت�شارد قلب الأ�سد ال حتتاج �إىل كالم»‬
‫�س ّلم‪:‬‬ ‫قتل‪:‬‬
‫«ت���س�ل��م ع �م��ر ب��ن اخل �ط��اب م�ف��ات�ي��ح ال �ق��د���س م��ن البطريرك‬ ‫«قتل الأ�سرى الذين كانوا لديه»‬
‫�صفرونيو�س»‬ ‫امتلأ‪:‬‬
‫عمل‪:‬‬ ‫«امتلأت املدينة بجثث ودماء غري امل�ؤمنني »‬
‫«عومل الأ�سرى و�أهل القد�س معاملة ا�ستثنائية ‪ ،‬على الرغم من �أن‬ ‫ذبح‪:‬‬
‫دماء امل�سلمني مل ّ‬
‫جتف»‬ ‫«ذبح ريت�شارد ثالث �آالف �أ�سري م�سلم مقيدين بال�سال�سل»‬
‫�أطلق‪:‬‬ ‫قتل‪:‬‬
‫«�أطلق �سراح امللك جاي على �أن يعود لفرن�سا»‬ ‫«قتل الفرجن بامل�سجد الأق�صى ما يزيد على �سبعني �ألفا»ً‬

‫توحي هذه القراءة الأ�سباب الداعية للحمالت ال�صليبية حيث �إنّ دوافعها نابعة عن التع�صب‬
‫الديني ‪ ،‬واملحر�ض الرئي�سي لها – ح�سب ادّعاءاتهم ‪� -‬أعمال امل�سلمني الوح�شية التي ارتكبوها‬
‫‪55‬‬
‫�ضد احلجاج الأبرياء القادمني لأداء فري�ضة احلج والتربك بقرب ال�سيد امل�سيح‪ .‬وتهدف هذه‬
‫احلمالت �إىل �إيقاف تعديات امل�سلمني �أو «الأتراك» كما يطلق عليهم �أحيان ًا ‪ ،‬وتل�صق بهم �أ�سماء‬
‫�أو �صفات تدل على االحتقار والدونية والتع�صب الأعمى ‪ ،‬مثل ‪« :‬ال�سرا�سنز» و «اجلن�س الغريب ‪،‬‬
‫والغريب مطلق ًا عند اهلل»‪ .‬ف�إذا ما متّت مواجهتهم ‪« ،‬ف�ستزول امل�سيحية من ال�شرق» ‪ ،‬لذا يزرع يف‬
‫ذهن امللتقّي (التلميذ) �أنّ احلرب كانت �ضرورية ‪ ،‬وملزمة قبل �أن «مي�سحوا مملكة اهلل»‪.‬‬
‫فاحلملة ال�صليبية هي حق وواجب ‪� ،‬ضد �شعوب‪:‬‬
‫«يحاربون حرب ًا غري عادلة» ‪« ،‬يجب حفظ الدّم النّ�صراين»‬
‫«الكفار قلتوا وذهبوا �إىل جهنم» ‪« ،‬على الواحد منّا �أال يوفر ال�سرا�سنز»‬
‫«انق�ضوا عليهم �شاكرين العزة االلهية» ‪ ،‬وعلى ل�سان امل�سيح قيل‪:‬‬
‫ّ‬
‫«يجب �أن جتمع الأطفال وتذهب لتخل�ص مدينة القد�س»‬
‫لذلك يربر قتل امل�سلمني والفتك بهم لأنهم ‪« :‬يذهبون من �أجل ذلك �إىل جهنّم»‪.‬‬
‫يالحظ بعد حتليل الأفعال �أن دور ال�صليبني ‪ ،‬كما �أراد الكتاب موجه �إىل �إقناع املتلقي ب�أنّه‬
‫�إيجابي ‪ ،‬وجميع ردود الأفعال من ال�صليبني هي �أمر حمتّم ‪ ،‬نتيجة الأفعال ال�سلبية املتكررة من‬

‫العدد ‪ ،105‬ربيع ‪ 2010‬ال�سنة ‪� | 27‬ش�ؤون اجتماعية‬


‫د‪ .‬مو�سى حتاملة‬

‫طرف امل�سلمني‪ .‬كما �أنه جتاهل ما قام به ال�صليبيون من �أفعال �شائنة ومذابح جماعية بحق‬
‫امل�سلمني الآمنني من ال�شيوخ والأطفال والن�ساء‪ .‬فمعظم الأفعال الواردة تبدو وك�أنها ت�شري وقائع‬
‫الأحداث �إىل �أن ال�صليبني ا�ستعادوا الأرا�ضي املقد�سة‪ ,‬ولكن دون �أية �إ�شارة �إىل امل�آ�سي واخل�سائر‬
‫التي وقعت يف �صفوفهم نتيجة اجلوع واملر�ض والإرهاق لطول امل�سافة ‪ ،‬بالإ�ضافة �إىل قتلى احلروب‬
‫الذين جتاوزوا ع�شرات الألوف‪.‬‬
‫كاتب �إىل كيفية خ�سارتها وف�شلها ‪ ،‬ويتجاهل‬ ‫لقد ف�شلت احلمالت ال�صليبية ‪ ،‬ومل ي�شر �أيّ ٍ‬
‫متام ًا الفريق الآخر با�ستعمال �ضمري الغائب ‪ ،‬فقد ف�شلت احلملة ال�صليبية الأوىل التي قادها‬
‫بطر�س النا�سك ‪ ،‬تلتها حملة �صليبية ثانية بقيادة «لوي�س وكونراد»‪ .‬كذلك ف�شلت احلملة الثالثة‬
‫بقيادة «ريت�شارد قلب الأ�سد» يف ا�ستعادة مدينة القد�س‪:‬‬
‫«ف�شلوا يف الو�صول �إىل الأرا�ضي املقد�سة»‬
‫«الآالف بيعوا كالعبيد»‬
‫لقد توالت احلمالت ال�صليبية حتى جاءت حملة �صليبية �سابعة بقيادة «لوي�س التا�سع» حيث‬
‫�أ�سر معظم اجلي�ش وهو نف�سه قد وقع يف الأ�سر‪� .‬إن الكاتب يخفي جميع التفا�صيل املتعلقة بهذه‬
‫‪56‬‬
‫احلروب وال يذكر مقاومة و�صمود و�شجاعة امل�سلمني املدافعني عن �أرا�ضيهم ومقد�ساتهم وحتى‬
‫يتجاهل ذكر القادة الذين خا�ضوا هذه املعارك حمققني ن�صر ًا م�ؤزر ًا على ال�صليبيني‪.‬‬
‫�إنّ �أن�صار التف�سري الديني للحمالت ال�صليبية مل يذكروا الف�شل الذي حاق بهذه احلمالت‬
‫وانت�صار امل�سلمني يف النهاية بعد ا�سرتدادهم للقد�س‪.‬‬
‫ومل ي�ستخدموا تعبري «م�سيحي» للداللة على احلمالت ال�صليبية ‪ ،‬والن�صو�ص التي وردت ال‬
‫ت�شري بالدوافع العميقة الكامنة وراءها‪� .‬إنّ التاريخ من وجهة نظرهم متحور حول الذات وجتاهل‬
‫وجهة نظر اجلانب الآخر ‪ ،‬خا�صة عندما يتعلق الأمر بنزاع بني �شعبني �أو ح�ضارتني‪ .‬ومل يتعر�ض‬
‫�أحدهم للفرتة التي ا�ستغرقتها احلمالت ال�صليبية والتي ت�صل �إىل قرنني من الزمان تتابعت‬
‫خاللها �أمواج متتالية من الغزوات‪ .‬وكذلك مل يتعر�ض �أحدهم �أي�ض ًا للممالك والدول امل�سيحية‬
‫واالقطاعية التي �أقيمت بفل�سطني ‪ ،‬ومل يرد ذكر لفل�سطني‪� .‬إن الكتاب مل ي�سلكوا طريق احلياد بل‬
‫جت��اوزوا احل��دود‪ ،‬حني حمّلوا كامل امل�س�ؤولية لهذه احلمالت �إىل جانب واح��د‪ ،‬وا�صفني �إياه‬
‫بالوح�شية وحبه ل�سفك الدماء‪� .‬أما اجلانب ال�صليبي فهّو ي َُ�صوّر وك�أنّه مُعتدَ ىً عليه‪ ،‬و�أنّ ك ّل ما‬
‫يقوم به هو جمرد دفاع عن النّف�س وعن املقد�سات‪� .‬إنّ ال�شخ�صيات التي ت�سيطر على اخلطاب‬

‫�ش�ؤون اجتماعية | العدد ‪ ،105‬ربيع ‪ 2010‬ال�سنة ‪27‬‬


‫«احلروب ال�صليبية والقد�س من خالل مناهج التاريخ يف املدار�س الأجنبية اخلا�صة بدولة الإمارات العربية املتحدة»‬

‫املدر�سي هي �شخ�صيات �صليبية تقوم بدو ٍر رئي�سي وفعّال يف الأحداث التي وقعت بني الفريقني‬
‫با�ستثناء �شخ�صية �صالح الدين الأيوبي القائد امل�سلم‪.‬‬
‫يقول كر�س بروك و�آخرون (‪: )Brook & Others, 1995‬‬
‫«ويف عام ‪1187‬م ا�ستعاد حاكم م�سلم بارز ا�سمه �صالح الدين ‪ ،‬ا�ستعاد الأرا�ضي املقد�سة»‪� .‬إنّ‬
‫ذكر �صالح الدين هو �أمر فر�ضه الأمر الواقع ‪ ،‬لأنه ال ميكن التغا�ضي عنه حيث فر�ض نف�سه على‬
‫واقع الأحداث التي �أدارها وقادها‪.‬‬
‫و�سنعر�ض م�ضامني الر�سائل املتبادلة بني �صالح الدين وريت�شارد قلب الأ�سد ‪ ،‬وذلك لالطالع‬
‫على وجهات نظر ك ّل فريق‪ .‬ولأنها كانت م�شكلة م�صرييّة وحا�سمه بالنّ�سبة لك ّل فريق‪ .‬وهذه هي �أهمّ‬
‫البنود يف ك ّل ر�سالة ح�سب ورودها يف كتب التاريخ التي تُدرّ�س يف بع�ض املدار�س الأجنبية اخلا�صة‪:‬‬
‫جدول (‪)3‬‬
‫م�ضامني ر�سائل ريت�شارد و�صالح الدين‬
‫ر�سائل �صالح الدين �إىل ريت�شارد‬ ‫ر�سالة ريت�شارد �إىل �صالح الدين‬
‫‪57‬‬ ‫القد�س ‪:‬‬ ‫القد�س ‪:‬‬
‫‪ -‬القد�س مقد�سة لنا كما هي لكم ‪ ،‬بل هي لنا �أهم‬ ‫‪ -‬مكان عبادتنا‬
‫‪ -‬هي معراج الر�سول (�ص) �إىل ال�سماء‬ ‫‪ -‬ال نوافق �أبد ًا �أن نرب�أ منها‬
‫‪ -‬مكان توحد امل�سلمني يف اليوم الآخر‬ ‫‪� -‬سنحارب حتى �آخر رجل‬
‫‪ -‬هي خارج النقا�ش واملفاو�ضات‬ ‫‪ -‬نريد الأرا�ضي الواقعة غرب النهر‬
‫‪ -‬ال ميكن التنازل عنها‬ ‫‪ -‬ال قيمة للقد�س بالن�سبة للم�سلمني‬
‫‪ -‬القد�س لنا ‪ ،‬واحتاللكم لها م�ؤقت‬ ‫‪ -‬ال�صليب قطعة خ�شب بالن�سبة للم�سلمني‬
‫‪ -‬مادمتم حمتلون �سيدوم القتال‬ ‫‪ -‬ال�صليب ال يقدر بثمن بالن�سبة للم�سيحيني‬
‫‪� -‬أعطها لنا �أ ّيها ال�سلطان و�سنوقف القتال‬

‫يبدو من خالل حتليل حمتوى الر�سالتني �أنّ ر�سالة القائد �صالح الدين الأيوبي ‪� ،‬صادرة عن‬
‫�شخ�صية م�سلمة م�ؤمنة ‪ ،‬تعمل للدنيا كما تعمل للآخرة ؛ فهو ال ينكر يف رده على ريت�شارد قلب الأ�سد‬
‫�أهمية القد�س ومكانتها بالن�سبة للم�سيحيني‪ ،‬بل ي�ضع نف�سه على قدم امل�ساواة مع عدوه بخ�صو�ص‬
‫القد�س ‪ ،‬ويزيد على ذلك ب�أنها �أهم بالن�سبة للم�سلمني حيث عرج منها الر�سول (�صلى اهلل علي اهلل‬
‫عليه و�سلم) �إىل ال�سماوات العلى ‪ ،‬و�أنها مكان لقاء جميع امل�سلمني يف الدار الآخرة‪ .‬ومن قراءة ما‬
‫بني ال�سطور فالقد�س مفتوحة �أمام امل�سيحيني لزيارتها واحلج �إليها ‪ ،‬كما يعتقد بذلك �صالح الدين‬
‫حني قال «هي مقد�سة لنا كما هي مقد�سة لكم» يف حني ينكر ريت�شارد قلب الأ�سد ذلك‪.‬‬

‫العدد ‪ ،105‬ربيع ‪ 2010‬ال�سنة ‪� | 27‬ش�ؤون اجتماعية‬


‫د‪ .‬مو�سى حتاملة‬

‫ولتم�سك �صالح الدين بالقد�س ‪ ،‬ي�ص ّر على �أنها خارج نطاق املفاو�ضات وال ميكن التنازل‬
‫عنها لأي �سبب من الأ�سباب‪ .‬و�سن�ستمر يف �إعداد العدة للقتال ما دام فيها �صليبي واحد‪� .‬إنّ هناك‬
‫تناق�ض ًا وا�ضح ًا وم�ساف ًة �شا�سع ًة بني الفريقني وي�ستحيل �أن يلتقيا‪ .‬ف�صالح الدين ال يريد وجود‬
‫ال�صليبيني يف القد�س حتت �أيّ ظرف من الظروف وذل��ك كمقاتلني ال كحجاج‪ .‬وي�ؤمن القائد‬
‫مناق�شات ب�ش�أنها‪ ،‬لقد‬
‫ٍ‬ ‫امل�سلم �أنّ االحتالل ال يدوم و�أنّ القتال �سي�ستمر‪ .‬القد�س ال تفاو�ض وال‬
‫ح�سم �صالح الدين موقفه من القد�س‪.‬‬
‫ويالحظ الرتكيز املبالغ فيه على �شخ�صيات الفاعلني من امل�سيحيني والغربيني يف احلمالت‬
‫ال�صليبية يقابله �إغفال كامل ل�شخ�صيات الفاعلني من امل�سلمني �أو العرب‪ .‬ومل ي�شر الكتاب �إىل �أنّ‬
‫الن�صو�ص بت�سميتهم امل�سلمني‬ ‫ال�سكان الذين فُرِ �ضت عليهم املمالك ال�صليبية كانوا عرباً‪ ،‬وتكتفي ّ‬
‫«الأتراك» ومت حتديد �أغلب ر�ؤ�ساء احلمالت ب�أ�سمائهم ورتبهم يف حني نرى على اجلانب العربي‬
‫والإ�سالمي �إغفا ًال كام ًال لأ�سماء ال�شخ�صيات‪ ،‬حتى �أننا ال منيز ذك��ر ًا ل�صالح الدين الأيوبي‬
‫وق�ض م�ضاجع ال�صليبيني‪.‬‬
‫�صاحب ال�شهرة الوا�سعة والقائد الذي �أعاد فتح مدينة القد�س ّ‬
‫وعلى �أية حال فقد ك�شفت احلروب ال�صليبية عن اخل�صائ�ص التي يتميز بها كل من العرب‬
‫‪58‬‬
‫امل�سلمني يف القرون الو�سطى والغرب الكاثوليكي حيث كان التناق�ض مذهالً‪ .‬فامتاز الغرب‬
‫بالتع�صب الأعمى وال�سلوك الوح�شي والغدر واالنحطاط الأخالقي‪ ،‬يف حني امتاز العرب وامل�سلمون‬
‫بالفرو�سية وال�شجاعة ونبل الأخالق‪ .‬وعلى رغم ذلك فما زالت هذه احلمالت جت�سد حتى يومنا‬
‫هذا قيم البطولة وال�شجاعة يف الرتاث الأدبي الغربي ‪ ،‬يفخرون بها ‪ ،‬ويتذكرونها مبرارة‪ ،‬ولها‬
‫قيمة تاريخية حمفورة يف �أعماق وجدانهم‪.‬‬
‫�أما اجلانب الإ�سالمي فقد مزقته االختالفات الوا�سعة بني حكامه وت�شرذمهم وتفرقهم �شيع ًا‬
‫متعددة ‪ ،‬و�أ�صبح م�صاب ًا بالإنهاك والتعب ‪ ،‬وعندما فاج�أه ال�صليبيون بالغزو �أ�صيب بال�صدمة من‬
‫هول املفاج�أة‪ .‬فامل�سلمون يعتربون ال�صليبيني متوح�شني ال رحمة يف قلوبهم ودخالء على الأر�ض‬
‫العربية‪ .‬فكيف ميكن ال�سكوت عليهم �أو الر�ضا ببقائهم على �أر�ضنا املقد�سة! لذلك واجهوا مقاومة‬
‫عنيفة وبا�سلة‪ ،‬وعلى الرغم من �صعوبة الظروف وعدم مالءمتها للوقوف بوجه هذا العدو‪�« .‬إن‬
‫احلروب ال�صليبية مل تكن قتا ًال بني جيو�ش ‪ ،‬و�إمنا كانت �صراع ًا بني ح�ضارتني �إحداهما متقدمة‬
‫وهي احل�ضارة الإ�سالمية ‪ ،‬والأخرى متخلفة وهي احل�ضارة الغربية»‪)Gasem, 1987(.‬‬
‫ومع ذلك فهم ينظرون با�ستعالء �إىل كل ما هو �شرقي ويربرون نفيه من الوجود وحتى �إزالته‬

‫�ش�ؤون اجتماعية | العدد ‪ ،105‬ربيع ‪ 2010‬ال�سنة ‪27‬‬


‫«احلروب ال�صليبية والقد�س من خالل مناهج التاريخ يف املدار�س الأجنبية اخلا�صة بدولة الإمارات العربية املتحدة»‬

‫وم�سحه بكل الو�سائل املتاحة لهم‪� .‬إنّهم يريدون �أن يكونوا مركز الكون ويريدون �أن ينجذب �إليهم‬
‫كل العامل ‪ ،‬ولو �أدّى ذلك �إىل التنازل عن الثقافة واحل�ضارة والهويّة‪.‬‬
‫�أما الن�صر امل�ؤزّر الذي حققه امل�سلمون بدمائهم ‪ ،‬فمردّه �إىل الوعي العربي والإ�سالمي و�صدق‬
‫االنتماء ‪ ،‬و�إىل وجود قيادة خمل�صة ح�شدت الطّ اقات ووحدت الأمة وحددت الأهداف وامل�صري‬
‫“لقد كان هناك وعي عربي �إىل �آخر مدى ‪ ،‬وكان هناك وعي �إ�سالمي �إىل �آخر مدى‪ ,‬ومل‬
‫يحدث الت�صادم �أبد ًا بني الدائرتني ‪ ،‬وكان هناك وعي ح�ضاري �إىل�آخر مدى‪� ,‬شارك فيه الأخوة‬
‫النّ�صارى‪ .‬لقد حتوّل املجتمع الإ�سالمي �إىل جمتمع جهاد‪ ،‬وحتوّلت الإمارات �إىل �إمارات جهاد‪.‬‬
‫وهكذا �أ�سدل ال�ستار على احلروب ال�صليبية وعادت جميع حمالتهم خائبة‪.‬‬
‫وعلق بيرت كر�سب (‪ )Chrisp, 19921‬على ذلك قائ ًال ‪:‬‬
‫“ولكنّ الأمر الأكرث غرابة لي�س الف�شل الذريع لل�صليبيني ‪ ،‬ولكنهم مل يحققوا �أيّ انت�صار على‬
‫الإطالق ‪ ،‬وبقيت القد�س ب�أيدي امل�سلمني‪ .‬وحتى االنت�صار الذي حققوه كان ب�سبب ت�شرذم الدول‬
‫الإ�سالمية‪� ..‬إنّ احلروب ال�صليبية خلّفت وراءه��ا احلزن العميق لدى الكثري من النّا�س ‪ ،‬ومن‬
‫ال�ضحايا املدنيون يف القد�س‪ ،‬الذين طالتهم مذبحة عام ‪ .1099‬وعلى الرغم من هذه‬ ‫بينهم ّ‬
‫‪59‬‬
‫املذبحة العظيمة ف�إن روح احلما�س الديني مل تخب‪ .‬فال�صليبيون من �أمثال ريت�شارد قلب الأ�سد‬
‫وجودفري وبولدوين خلّدوا كقاد ٍة عظامٍ حيث تغنّى ب�أعمالهم املغنّون وال�شّ عراء‪ .‬كما �أنّ عبارة‬
‫“ال�صليبيون” �أخ��ذت معنىً جديد ًا عاماً‪ ،‬وه��و‪“ :‬كل جهدٍ يحدث يف اخل��ارج لتحطيم �شيءٍ‬
‫�شرّير”‬
‫ما �أ�شبه اليوم بالأم�س! �إنها مقولة قدمية جديدة!‬
‫ال�صليبية ملحمة م�ستمرة من املا�ضي وحتى احلا�ضر ومل تنته ف�صولها بعد!‬ ‫�إنّ احلروب ّ‬
‫النتائج‬
‫�أ�سفرت هذه الدرا�سة عن النتائج الآتية‪:‬‬
‫‪ 1 .1‬حتيّز الكتاب وامل�ؤرخني وزي��ف الروايات وكثري من �أح��داث التاريخ املتعلقة باحلروب‬
‫واحلمالت ال�صليبية ‪ ،‬والدور الذي تلعبه يف تغيري املفاهيم لدى الطالب‪.‬‬
‫‪2 .2‬عدم كفاية م�ؤلفي الكتب املقررة يف املدار�س الربيطانية اخلا�صة ‪ ،‬حيث جتاهلوا احلقائق‬
‫�إما عن عمدٍ �أو عن جهلٍ ‪.‬‬
‫‪3 .3‬ارتكاب ال�صليبيني املجازر اجلماعية بحق ال�سكان الآمنني وترويعهم‪.‬‬

‫العدد ‪ ،105‬ربيع ‪ 2010‬ال�سنة ‪� | 27‬ش�ؤون اجتماعية‬


‫د‪ .‬مو�سى حتاملة‬

‫‪4 .4‬متزق امل�سلمني وتفرّق كلمتهم ‪� ،‬شجع العدو على التمادي يف العدوان‪.‬‬
‫‪5 .5‬التع�صب الأعمى وال�سلوك الوح�شي لدى ال�صليبيني‪ ،‬حيث ارتكبوا جمازر جماعية تق�شع ّر‬
‫لها الأبدان وهذا ال يتوافق مع تعاليم امل�سيح عليه ال�سالم‪.‬‬
‫‪ 6 .6‬ح�سن تعامل امل�سلمني وت�ساحمهم مع �أعدائهم ‪ ،‬وذلك عندما كان النّ�صر حليفهم‪ .‬وهذا‬
‫مرده التم�سك بتعاليم الدين احلنيف‪.‬‬
‫‪7 .7‬وحدة الكلمة والت�آلف والقيادة امل�ؤمنة احلكيمة تقود �إىل النّ�صر‪.‬‬
‫‪8 .8‬حترير ال�سلطان �صالح الدين الأيوبي القد�س والتم�سك بها وعدم التخلّي عنها مهما‬
‫كانت ال�ضغوط �أو الأ�سباب‪.‬‬
‫‪9 .9‬خ�سر كل فريق �أعدادا هائلة من الب�شر ‪ ،‬وذلك دون وجه حق من اجلانب ال�صليبي‪.‬‬
‫‪ 10-1010‬ت�ضارب الآراء املتعلّقة بالأ�سباب احلقيقية التي تقف وراء احلروب ال�صليبية‪.‬‬
‫االقرتاحات‪:‬‬
‫‪1 .1‬تكثيف الإ�شراف على مناهج املدار�س اخلا�صة ‪ ،‬وعلى وجه التحديد مادة التاريخ ‪ ،‬وذلك‬
‫من قبل وزارة الرتبية والتعليم‪.‬‬
‫‪60‬‬
‫‪2 .2‬مراقبة الكتب من قبل وزارة الإعالم عند دخولها مطارات �أو موانئ الدولة‪.‬‬
‫‪3 .3‬القيام بزيارات ميدانية والك�شف على املواد التي تدر�س للتالميذ‪.‬‬
‫‪4 .4‬تعديل هذه الكتب مبا يتنا�سب واحلقائق التاريخية ‪ ،‬مع التزام بامل�صداقية عند التعديل‬
‫�أو الإلغاء‪.‬‬
‫‪5 .5‬الطلب من املدار�س اخلا�صة ذات العالقة �إيجاد البديل ال��ذي يتنا�سب مع ال�سيا�سة‬
‫الرتبوية بدولة الإمارات العربية املتحدة‪.‬‬
‫املراجع ‪:‬‬
‫‪11.‬‬ ‫‪Abdulkareem, Ahmed (Translator), Civilization War, Atlas Publishing Company, 1984.‬‬

‫‪22.‬‬ ‫‪Aashoor, Said. Al-Mostagbal Al-Arabi. The Crusade and The Future of The Arab Israeli-‬‬

‫‪Conflict, Issue No. 165, 1992.‬‬

‫‪33.‬‬ ‫‪Al-Aguilers, Raymond. History of the Franks Who Captured Jersalem. (in Chrisp Book,‬‬

‫)‪p.17‬‬

‫‪44.‬‬ ‫‪Al-Imad Al-Isfahani. Al-Fateh Al-Gussi fi Al-Fateh Al-Magdisi. Mohamad Soboh, Al-‬‬

‫�ش�ؤون اجتماعية | العدد ‪ ،105‬ربيع ‪ 2010‬ال�سنة ‪27‬‬


»‫«احلروب ال�صليبية والقد�س من خالل مناهج التاريخ يف املدار�س الأجنبية اخلا�صة بدولة الإمارات العربية املتحدة‬

Dar Al-gawmiah, 1965

55. Anderson, James, Christ Brook and Allan Co Chrane. A Global World. The Open University

: Oxford, 1995
66. Aylett, JF& Kevin O’Donnel. The Muslim Experience, Hodder & Stoughton : London, 2000

77. Brian, William, The Late Middle Ages, Cherry tree Press : Hong Kong, 1993

88. Catchpole, Brian, A Map History of the Modern World, “1890 to the Present Day”, 3rd Ed.,

Heinemann Educational Book, Ltd. London and Ports month, 1987

99. Chrisp, Peter. The Crusades. Wayland England, 1992

1010 Corbishley, Mike Alan, Large & Richard, Tames, Discovering The Past. John Murray

Publishers, Ltd. : London, 1997

1111 Cuplin, Christopher & David Linsell, Past into Present, Publishing Company, 1984

1212 Gasem, A. Gasem. Al-Mostagbal Al-Arabi. The crusade In Western, Euoropian, and Juish

Literature. Issue No. 102 Vol. 8, 1987


61
1313 Greenblatt, M. and Peter S. Lemmo. Human Herrit Age, “A World History”, Merrill

Publishing Company : London

1414 Hayamson, Albert.M. Palestine, The Rebirth of an Ancient Nation. Sidgwick Jakson & Co.,

London, 1917

1515 Ibn Al-Atheer. Al-Kamel fi Al-Tareekh. Vol. 8, p.189. (in Crisp study).

1616 Khan, Z, Al-Islam (1992). The History of Old Palistine. Dar Al-Nasfais : Lebanon.

1717 Kirck, George E., A Short History of the Middle East. Methuen & Co. London, 1964

1818 La-Monte, J. L. Feudal Monarachy. (in Nabih Amin Faris, ed., The Arab Haritage.
Prinishton, N.J. : Priniston University Press. (Ramadan Study, 1987)

1919 Lemmo, P. & Greenblatt , John, Human Heritage, “A World History”. Merrill Publishing

Company, London, 1992

2020 Luke, Sir Henry & Edward Keith. Handbook of Palestine & Trans-Jordan, 3 rd Ed.,

Macmillan & Co. Ltd., : London, 1934

‫ | �ش�ؤون اجتماعية‬27 ‫ ال�سنة‬2010 ‫ ربيع‬،105 ‫العدد‬


‫ مو�سى حتاملة‬.‫د‬

2121 Miles, Lisa, (1995) Atlas of World History, Usborne Publishing Company, London, 1995

2222 Ollier’s Encyclopedia, vol.7. William, D. Halsey & Bernard Johnston. Macmillan

Educational Company : New York, 1990, p.507.

2323 Rees, Rose Mary & Jane Shuter Medevil Times, John Hill Scotland, 1998, p31.

2424 Richard of the Holy Trinity. The Journey of King Richard(in Chrisp, 29).

2525 Roberson, B.A. Islam and Europe : an enigma or a myth? Middle East Journal, Vol. 48, No.

2, pp. 288308-

2626 Show, M.R. Joniville and Villehardouin, Chronicles of the Crusades. London Penguin

books, 1973. (in Mona Hammad Study, 1997).

2727 The New Encyclopaedia Britannica. (1992) vol. 3, Inc. Robert p. Gwinn, Chairman , Board

of Directors, Peter B. Norton, 1992

2828 Wood, Tim, The Historical Times, Macdonald Young Books, Hertfordshire : UK. 1995.

‫) كتب التاريخ التي متت درا�ستها والواردة من بع�ض املدار�س اخلا�صة‬1( ‫ملحق رقم‬
62
‫الأجنبية‬
11. Al-Aguilers, Raymond. History of the Franks Who Captured Jersalem. (in Chrisp Book,

p.17)

22. Anderson, James, Christ Brook and Allan Co Chrane. A Global World. The Open University

: Oxford, 1995
33. Aylett, JF& Kevin O’Donnel. The Muslim Experience, Hodder & Stoughton : London, 2000

44. Brian, William, The Late Middle Ages, Cherry tree Press : Hong Kong, 1993

55. Catchpole, Brian, A Map History of the Modern World, “1890 to the Present Day”, 3rd Ed.,

Heinemann Educational Book, Ltd. London and Ports month, 1987

66. Chrisp, Peter. The Crusades. Wayland England, 1992

77. Corbishley, Mike Alan, Large & Richard, Tames, Discovering The Past. John Murray

Publishers, Ltd. : London, 1997

88. Cuplin, Christopher & David Linsell, Past into Present, Publishing Company, 1984

27 ‫ ال�سنة‬2010 ‫ ربيع‬،105 ‫�ش�ؤون اجتماعية | العدد‬


»‫«احلروب ال�صليبية والقد�س من خالل مناهج التاريخ يف املدار�س الأجنبية اخلا�صة بدولة الإمارات العربية املتحدة‬

99. Greenblatt, M. and Peter S. Lemmo. Human Herrit Age, “A World History”, Merrill

Publishing Company : London.

1010 Hayamson, Albert.M. Palestine, The Rebirth of an Ancient Nation. Sidgwick Jakson & Co.,

London, 1917

1111 La-Monte, J. L. Feudal Monarachy. (in Nabih Amin Faris, ed., The Arab Haritage.
Prinishton, N.J. : Priniston University Press. (Ramadan Study, 1987)

1212 Lemmo, P. & Greenblatt , John, Human Heritage, “A World History”. Merrill Publishing

Company, London, 1992

1313 Miles, Lisa, (1995) Atlas of World History, Usborne Publishing Company, London, 1995

1414 Rees, Rose Mary & Jane Shuter Medevil Times, John Hill Scotland, 1998, p31.

1515 Wood, Tim, The Historical Times, Macdonald Young Books, Hertfordshire : UK

63
The Crusades Attack On Jerusalem As Men-
tioned in History
Books Tought in Foreign Private Schools
Dr. Moses Hatamleh

Abstract
The purpose of this study which was conducted at British
schools in UAE, is meant to invistigate the influence encoun-
tered by the history books writers to students in prapatory and
secondary level and it’s impact on their points of view.
The results of this study revealed the following points:
- Historians and writers prejudice to the crusaders side
against Muslems.
- Crusaders committing and murdering thousands of Mu-

‫ | �ش�ؤون اجتماعية‬27 ‫ ال�سنة‬2010 ‫ ربيع‬،105 ‫العدد‬


‫ مو�سى حتاملة‬.‫د‬

slems, most of them children, women and old.


- Disunity of Muslem states encourage the enemies of Islam
attack them.
- The conflict is not religious, it is mainly for wealth and ter-
ritory.
- The crusades see themselves as defenders of Christianity.
- Wize leadership and unity leads to victory.
- Both sides lose thousands of pepole in the struggle.
- Liberation of Jerusalem from the hands of the crusaders.

64

27 ‫ ال�سنة‬2010 ‫ ربيع‬،105 ‫�ش�ؤون اجتماعية | العدد‬

You might also like