You are on page 1of 111

‫علي القاسمي‬

‫الحب في أوسلو‬

‫قصص‬

‫الدار العربية للموسوعات‬

‫بيروت ‪4102‬‬

‫‪1‬‬
‫المحتويات‬

‫الصفحة‬ ‫القص ة‬

‫‪3‬‬ ‫ــ الجريمة الكاملة‬

‫‪92‬‬ ‫ــ الس ّباح‬

‫‪33‬‬ ‫ــ الل غز‬

‫‪65‬‬ ‫ــ الحب في أوسلو‬

‫‪83‬‬ ‫ــ الت خاطر‬

‫‪38‬‬ ‫ــ الساحر‬

‫‪29‬‬ ‫الحج‬
‫ّ‬ ‫ــ‬

‫‪28‬‬ ‫ــ البحث عن قبر الشاعر البياتي‬

‫‪129‬‬ ‫ــ الحلم‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫‪125‬‬ ‫ــ الكاتب في سطور‬

‫‪2‬‬
3
‫الجريمة الكاملة‬

‫‪0‬‬

‫مت‬
‫صم ُ‬
‫شر قتلة‪َّ .‬‬
‫رت أن أقتلها َّ‬
‫قر ُ‬
‫عزمت على االنتقام من هذه المرأة‪َّ .‬‬
‫ُ‬ ‫وفي ثورة غضبي العارمة‪،‬‬
‫على تصفيتها جسديًا والغاء حياتها‪ ،‬انتقامًا لأللم الذي سبَّبتْه لي‪ ،‬واإلهانة التي ألحقـتْها بي‪ ،‬ظلماً وعدواناً‪.‬‬

‫مصر على قتلها‪ .‬ولكن‪،‬‬


‫ًّا‬ ‫بت األمر بروي ٍ‬
‫َّة وأناة‪ ،‬وجدتُني‬ ‫هدأت أعصابي بعض الشيء‪ ،‬وقلَّ ُ‬
‫ْ‬ ‫وبعد أن‬
‫يقة عبقري ٍ‬
‫َّة ال أدفع معها الثمن‪ .‬سأرتكب الجريمة الكاملة التي تمنحني الرضا واالرتياح‪،‬‬ ‫ولكن سأقتلها بطر ٍ‬
‫ِّ‬
‫الشك واالتهام من قريب أو‬ ‫أثر ُّ‬
‫يدل على الفاعل‪ ،‬أو حتى يضعني في دائرة‬ ‫أي ِّ‬
‫مؤش ٍر أو ٍ‬ ‫دون أن أترك َّ‬
‫بعيد‪.‬‬

‫أويت إلى فراشي الوثير‪،‬‬‫ُ‬ ‫ثم‬


‫مدةً طويل ًة َّ‬
‫أخذت حمامًا ساخنًا في المغطس ّ‬ ‫ُ‬ ‫في تلك الليلة‪ ،‬بعد أن‬
‫ومضت في ذهني فكرةٌ َّ‬
‫فذة‪ ،‬تأ ّكد لي‬ ‫ْ‬ ‫يقة قتلها والخطَّة التي أتَّبعها في تنفيذها‪ .‬وسرعان ما‬
‫رحت أف ّكر في طر ِ‬
‫ُ‬
‫حل طالسمها‪ ،‬بل وال حتّى المخبر البوليسي‬
‫خبر في العالم‪ ،‬حتّى (شارلوك هولمز)‪ ،‬يستطيع ّ‬ ‫َّ‬
‫أن ال ُم َ‬
‫البلجيكي اللوذعي (بوارو) الذي استعانت به الكاتبة البريطانية الشهيرة (أغاثا كريستي) ِّ‬
‫لحل ألغاز جميع‬
‫الجرائم الخطيرة في رواياتها التي يربو عددها على مائة وعشرين رواية‪ .‬لن يستطيع شارلوك هولمز وال بوارو‬
‫المخبرين وعظام المفتِّشين البوليسيِّين‪ ،‬العثور على َّأول الخيط في عقدة جريمتي‪ ،‬حتّى‬
‫وال غيرهما من كبار ُ‬
‫َّة في التحقيق‪.‬‬‫يقة منهجي ٍ‬
‫بذكاء خارق‪ ،‬واتَّبعوا أفضل طر ٍ‬
‫ٍ‬ ‫لو تمتَّعوا‬

‫سأرتكب الجريمة الكاملة التي يحلم بها عتاة المجرمين وأفذاذ المخطِّطين االستراتيجيِّين؛ يساعدني‬
‫في ذلك مخزون قراءاتي ألكثر من ألف رو ٍ‬
‫اية بوليسيَّة‪ ،‬ودراساتي الجامعية العليا في القانون الجنائي‪ ،‬وما‬
‫بكل تواضع ـ من ٍ‬
‫ذكاء متوقِّد‪ ،‬وكتاباتي عن القصة البوليسيَّة وقواعدها وطريقة بنائها‪ ،‬وكيفيَّة‬ ‫ُع ِرف عني ـ ِّ‬

‫عمل المخبرين البوليسيِّين للكشف عن دروب الجريمة ودهاليزها المظلمة واحدًا واحداً‪ ،‬وتصنيف الوقائع‬

‫‪4‬‬
‫ثم تُمحيصها كيما تقود إلى الواقعة التي تليها‪ ،‬دون إهمال أي ِ‬
‫َّة‬ ‫كل و ٍ‬
‫اقعة في مكانها‪َّ ،‬‬ ‫واحدةً واحدة‪ ،‬ووضع ِّ‬

‫أهمية لها‪ ،‬لتقودهم الوقائع في آخر األمر إلى مرتكب الجريمة‬ ‫و ٍ‬


‫اقعة مهما كانت صغيرة أو بدت تافهة ال ِّ‬
‫الحقيقي‪.‬‬
‫ِّ‬

‫لكل جر ٍ‬
‫ألن ِّ‬
‫يمة دافع‪،‬‬ ‫لن يعثر جهابذة المخبرين وال عباقرة المحقِّقين على الفاعل في جريمتي مطلقًا‪ّ ،‬‬
‫كل جر ٍ‬
‫يمة مستفيد‪ ،‬وتقوم بين القاتل‬ ‫مادة سامة‪ ،‬إلخ‪ ،.‬ووراء ِّ‬
‫مسدس‪َّ ،‬‬ ‫يمة تنفّذ بسالح‪ :‬سكين‪ّ ،‬‬ ‫وكل جر ٍ‬
‫َّ‬
‫والمقتول عالقة ما‪ .‬وهذه العناصر كلُّها يصعب ُّ‬
‫التأكد منها‪ ،‬أو حتى الوصول إليها‪ ،‬في حالة جريمتي‪.‬‬

‫رت تصفيتها جسدياً بأبشع طريقة؟ سأضع التفاصيل كلَّها‬


‫وقر ُ‬
‫عزمت على قتل تلك المرأة َّ‬
‫ُ‬ ‫ولكن لماذا‬
‫أمامك ِّ‬
‫أنت‬
‫إن لم تبادر َ‬ ‫عزمت عليه‪ ،‬بل ستساعدني على قتلها ْ‬
‫ُ‬ ‫اثق من َّأنك ّ‬
‫ستقرني على ما‬ ‫بكل أمانة‪ .‬وأنا و ٌ‬
‫بشيء من االختصار حرصًا على‬ ‫ٍ‬ ‫ق‪ ،‬ولكن‬ ‫ٍ‬
‫أمانة وصد ٍ‬ ‫القصة ِّ‬
‫بكل‬ ‫َّ‬ ‫يمتين‪ .‬إليك‬
‫يديك الكر ْ‬
‫إلى قتلها بكلتا ْ‬
‫وقتك الثمين‪:‬‬

‫‪4‬‬

‫كنت رئيساً ألحد األقسام الجامعية في إحدى دول الخليج‬


‫ُ‬ ‫السبعينيات من القرن الماضي‪،‬‬
‫ّ‬ ‫في مطلع‬
‫التي كانت ما زالت تعاني الفقر والعوز قبل الطفرة البتروليَّة‪ .‬فأبنية عاصمتها ما زالت آنذاك من الطين‪،‬‬
‫موروث من عصور االنحطاط‪.‬‬‫ٍ‬ ‫متزم ٍت‬ ‫وشوارعها تنتشر فيها األزبال‪ .‬وترزح الدولة تحت ٍ‬
‫ظالمي ّ‬
‫ٍّ‬ ‫ديني‬
‫فكر ٍّ‬
‫عامة‪ ،‬بل ال أشجار في الشوارع‪ُّ ،‬‬
‫فكل ما تراه‬ ‫حدائق َّ‬
‫َ‬ ‫فالترفيه محرم‪ ،‬فال وجود لتلفزيون وال سينما وال ٍ‬
‫مقاه وال‬ ‫ّ‬
‫العين بلون الرمل الشاحب الذي يغطّي الشوارع ويحيط بالمدينة في صحاريها الشاسعة‪ .‬وطبعًا كانت‬
‫المشروبات والسجائر من المحرمات التي يعا َقب مستهلكها بأقسى العقوبات‪ .‬ومن حسن حظَّي َّأنني لم أكن‬
‫أقرهما بتاتاً للضرر الذي يلحقانه باإلنسان‪.‬‬ ‫من متناولي المشروبات الكحولية وال من ِّ‬
‫مدخني السكائر‪ ،‬وال ّ‬
‫ولم ي ُكن في وسع النساء السير في الشوارع ما لم َّ‬
‫يكن مبرقعات ومتلفعات بالعباءات السوداء‪ .‬ويشعر الوافد‬
‫من خارج هذه الدولة َّأنه دخل سجنًا كبي ًار‪.‬‬

‫بيد َّ‬
‫أن الدولة كانت تطمح إلى شيء من التغيير البطيء والتطوير اليسير‪ .‬ففتحت جامعةً في‬ ‫َ‬
‫اء من البالد العربية والغربية‪ .‬وكانت من الذكاء بحيث سمحت للجاليات‬
‫العاصمة‪ ،‬واستقدمت أساتذةً وخبر َ‬

‫‪5‬‬
‫خاصة بها‪ ،‬كيما تخفِّف من رتابة الحياة على أبناء تلك الجاليات‪ .‬فكان لألمر ّ‬
‫يكيين‬ ‫َّ‬ ‫الغربية بفتح نو ٍاد‬
‫نسيين مثله‪ ،‬ولأللمان ناديهم‪ .‬ويرتاد الخبراء الغربيون وعائالتهم هذه النوادي‬ ‫والبريطانيين ٍ‬
‫خاص بهم‪ ،‬وللفر ّ‬
‫ٌّ‬ ‫ناد‬ ‫ّ‬
‫َّ‬
‫السينمائية اليوميَّة‪،‬‬ ‫في األماسي بعد انتهاء العمل‪ ،‬حيث يجدون المشروبات الكحولية وغيرها‪ ،‬والعروض‬
‫عادة‬
‫ً‬ ‫والمسبح المختلط‪ ،‬وغيرها من وسائل الترفيه التي اعتادوا عليها في بلدانهم‪ .‬وهذه النوادي ال يرتادها‬
‫محرم ًة على أبناء البالد‪.‬‬
‫ّ‬ ‫غير أبناء تلك الجاليات‪ .‬وطبعًا كانت‬

‫‪3‬‬

‫ذات يوم‪ ،‬قال لي أحد زمالئي األمريكيِّين‪ ،‬الدكتور روبرتسون‪:‬‬

‫ـ ماذا ستفعل هذا المساء؟‬

‫ـ ال شيء‪ ،‬لماذا؟‬

‫ـ ُّ‬
‫أود أن أدعوك للذهاب معي إلى النادي حيث سيعرض اليوم فيلم " كازبالنكا" ‪ .‬واذا لم ت ُكن قد شاهدته من‬
‫ُّ‬
‫يستحق المشاهدة‪.‬‬ ‫فإنه‬
‫قبل‪ّ ،‬‬

‫بسيارته إلى النادي‪ .‬حالما دخلنا النادي‪ ،‬وقعت عيناي‬


‫قبلت الدعوة شاك اًر‪ .‬وفي المساء‪ ،‬اصطحبني معه ّ‬
‫ُ‬
‫هنديًا أخضر اللون‪،‬‬
‫على فتاة هندية رشيقة القوام‪ ،‬أنيقة الهندام‪ ،‬سمراء هيفاء‪ ،‬رائعة الجمال‪ ،‬ترتدي ساريًا ّ‬
‫ُذنيها الصغير ْتين تدّلى قرطان أخضران على جيدها العاجي الطويل‪.‬‬
‫وقد تركت بطنها الضامرة عاري ًة‪ ،‬ومن أ ْ‬
‫رواد النادي معظمهم من الرجال‪ .‬التقت عيناي‬
‫كانت تقف عند نضد المشروبات‪ ،‬ويحيط بها مجموعة من ّ‬
‫أحسست في أعماقي َّ‬
‫أن‬ ‫ُ‬ ‫فشعرت بر ٍ‬
‫عشة تسري في جميع أوصالي‪ .‬و‬ ‫ُ‬ ‫يئتين‪.‬‬
‫الكحالوين الجر ْ‬
‫ْ‬ ‫اسعتين‬
‫بعينيها الو ْ‬
‫ْ‬
‫ال قد خالجها ‪ ،‬وبدا ذلك جليًا من االضطراب الذي بدا عليها وعكسته عيناها النجالوان اللتان‬
‫شعو ًار مماث ً‬
‫رمش متسارع‪.‬‬
‫اعتراهما ٌ‬

‫أوقفت زميلي األمريكي‪ ،‬قبل أن نصل إلى ُّ‬


‫النضد‪ ،‬وسألته‪:‬‬ ‫ُ‬
‫ّ‬

‫الهندية الجميلة؟‬
‫ّ‬ ‫ـ َمن هي تلك‬

‫الطب هنا‪.‬‬ ‫مدرسةٌ بريطانيةُ الجنسية تعمل في َّ‬


‫كلية‬ ‫ـ ِّ‬
‫ّ‬
‫‪6‬‬
‫وأضاف بابتسامة ٍّ‬
‫تحد‪:‬‬

‫ـ وهي عزباء‪.‬‬

‫ـ كيف؟‬

‫ـ سأشرح لك الحقاً‪.‬‬

‫كنت سأسأله عن الكيفية التي تعمل فيها تلك الشابة العزبة في البالد‪َّ ،‬‬
‫ألن السلطات ال تسمح بقدوم ّأية امرأة‬ ‫ُ‬
‫عادة‪ ،‬بل ال تسمح بسفر المواطنات داخل البالد‬
‫ً‬ ‫إلى البالد مالم يرافقها ُم ِ‬
‫حرم‪ ،‬أي زوجها أو أبوها أو أخوها‬
‫ال‪:‬‬
‫وقدمني إلى تلك الهندية قائ ً‬
‫ولكن زميلي واصل السير نحو نضد المشروبات‪ّ ،‬‬‫حرم‪َّ .‬‬ ‫دون أن يرافقهن ُم ِ‬

‫أقدم ِ‬
‫لك الدكتور سمير‪ ،‬رئيس قسمنا‪.‬‬ ‫ـ دكتورة مادهو‪ ،‬يسعدني أن ّ‬

‫شفتيها‪.‬‬
‫تسمت على ْ‬ ‫ٍ‬
‫فرحة خفيفة ار ْ‬ ‫ِ‬
‫وبابتسامة‬ ‫رحبت بي به ٍزة خفيفة من رأسها الجميل‪،‬‬
‫ّ‬

‫إلي وقال‪:‬‬
‫التفت ّ‬
‫َ‬ ‫ثم‬
‫َّ‬

‫ـ الدكتورة مادهو ‪.‬‬

‫فأضافت مبتسمة‪:‬‬
‫ْ‬

‫ـ ويعني االسم باللغة الهندية‪ :‬العسل‪.‬‬

‫أمد يدي لمصافحتها‪:‬‬


‫قلت‪ ،‬وأنا ّ‬
‫ُ‬

‫ذت‪.‬‬
‫فت وتل ّذ ُ‬
‫تشر ُ‬
‫ـ ّ‬

‫كنت أعرف الرجال المحيطين بها فقد كانوا من زمالئي في الجامعة‪ ،‬فاكتفيت بهزة رأس وابتسامة‪ ،‬لئال أقطع‬
‫ُ‬
‫أنصت إليهم دون أن أشارك فيه‪.‬‬
‫ُ‬ ‫وبقيت‬
‫ُ‬ ‫حديثهم َّ‬
‫مدةً طويلة‪ .‬واصلوا الحديث‬

‫ُّ‬
‫التوج ه إلى صالة العرض السينمائي التي كانت في الهواء الطلق‪.‬‬ ‫سرعان ما قُ ِرع ٌ‬
‫جرس داعياً الحاضرين إلى‬
‫فقلت لزميلي الدكتور روبرتسن‪:‬‬
‫بالتوجه إلى دورة المياه‪ُ .‬‬
‫ّ‬ ‫أهم فيها‬
‫كنت ُّ‬
‫دق ذلك الجرس في اللحظة التي ُ‬
‫ّ‬
‫‪7‬‬
‫ـ سألتحق بكم بعد لحظات‪ ،‬أرجو أن تحجز لي مقعداً بينك وبين الدكتورة مادهو‪.‬‬

‫فقال َّإنه سيفعل‪.‬‬

‫وجدت الدكتورة مادهو واآلخرين قد جلسوا في الصفوف األمامية‬ ‫ُ‬ ‫عدت إلى مكان العرض‪،‬‬
‫ُ‬ ‫َّ‬
‫ولكنني عندما‬
‫شاغر بجانب الدكتورة مادهو‪ .‬ال ُب َّد أن زميلي قد ترك كرسيًا فارغًا بينه وبينها‬
‫ٍ‬ ‫أي ٍ‬
‫مقعد‬ ‫ُّ‬
‫يوجد ُّ‬ ‫األربعة‪ ،‬وال‬
‫جلست‬
‫ُ‬ ‫ولكن أحدهم جلس عليه‪ ،‬ولم يجرؤ زميلي على الكالم معه لمنعه َّ‬
‫ألن عرض الفيلم قد بدأ‪ .‬ولهذا فقد‬ ‫َّ‬
‫في الصف الخامس وحدي تقريباً‪.‬‬

‫ت واقف ًة‪،‬‬
‫هب ْ‬
‫علي‪ ،‬حتّى ّ‬
‫إن وقع بصرها َّ‬ ‫ِ‬
‫التفتت الدكتورة مادهو إلى الخلف‪ ،‬وما ْ‬ ‫ٍ‬
‫لحظات قليلة‪،‬‬ ‫بعد‬
‫ذت بجرأتها‪ .‬فلم أقُل شيئاً‪ ،‬بل‬ ‫واتَّجهت نحوي‪ ،‬وجلست في المقعد الشاغر بجانبي‪ ،‬دون أن تقول شيئًا‪ .‬أ ِ‬
‫ُخ ُ‬
‫ٍ‬
‫خفيفة عن شكري وعرفاني‪ .‬بتلك الجرأة العجيبة‪ ،‬وضعت الدكتورة مادهو نهايةً للمطاردة‬ ‫ٍ‬
‫بابتسامة‬ ‫رت‬
‫عب ُ‬
‫ّ‬
‫ِّ‬
‫الحب‪ .‬وبعد ذلك تبدأ‬ ‫عادة بين الرجل والمرأة‪ ،‬قبل أن يتأ ّكدا أنهما قد وقعا في‬
‫ً‬ ‫التقليديَّة اللذيذة التي تجري‬
‫مطاردةٌ من نوع آخر‪.‬‬

‫بشجاعة أدبيَّة‪ ،‬بل بجرٍأة كبيرة‪ٍ ،‬‬


‫وثقة بالنفس ال َّ‬
‫حد لها‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫بأنها تتمتَّع‬
‫دت لي حركتها الفريدة تلك ّ‬
‫أ ّك ْ‬
‫ٍ‬
‫بشيء من الوجل‪.‬‬ ‫فشعرت‬
‫ُ‬ ‫عسليتين‪.‬‬
‫ْ‬ ‫عينيها مند البداية مثل جمر ْتين‬ ‫جرأة كانت َّ‬
‫تتوهج في ْ‬

‫‪2‬‬

‫كل ٍ‬
‫يوم بعد العمل تقريباً‪ .‬لم ن ُكن نلتقي في‬ ‫حميمين‪ .‬كنا نلتقي مساء ِّ‬
‫ْ‬ ‫صديقين‬
‫ْ‬ ‫أصبحت ومادهو‬
‫ُ‬
‫إما في شقَّتي أو في الفيال التي تسكن‬ ‫ثمة ٍ‬ ‫ٍ‬
‫عامة‪ ،‬بل كنا نلتقي ّ‬
‫مقاه وال حدائق َّ‬ ‫عامة‪ ،‬فليس َّ‬
‫مقهى أو حديقة ّ‬
‫ً‬
‫وعينت حارسًا يجلس أمام باب الفيال‪،‬‬‫حرم‪ّ ،‬‬‫فيها‪ .‬كانت الجامعة قد اكترت فيال لسكنى أربع أُستاذات بدون ُم ِ‬
‫أي رجل من الدخول‪ .‬والظاهر َّ‬
‫أن الجامعة كانت من الغباء بحيث اختارت لشغل هذه الوظيفة‬ ‫طبعاً لمنع ِّ‬
‫مليًا‪َّ ،‬‬
‫تأكد لي َّ‬
‫أن‬ ‫شيخاً ضعيف البصر‪ ،‬أو ربَّما فقد بصره منذ ُم َّد ٍة طويلة‪ .‬ولكن بعد أن ف ّك ُ‬
‫رت في األمر ّ‬
‫الجامعة كانت تتمتع بالذكاء والدهاء‪ ،‬فاختارت الحارس ضعيف البصر ثقيل السمع عن قصد وتدبير‪ ،‬كيال‬
‫َّ‬
‫خدماتهن‬ ‫تشدد الخناق على األستاذات األجنبيات األربع فتن ّفر َّ‬
‫هن من البقاء في البالد‪ ،‬وهي التي بحاجة إلى‬ ‫ّ‬
‫لتدريس قسم البنات في الكلية الطبية‪ ،‬فسمحت لهن بالقدوم إلى البالد من غير أن يرافقهن ُم ِ‬
‫حرم‪.‬‬

‫‪8‬‬
‫كنت اتَّفق مع مادهو على موعد زيارتي‪ ،‬وتحرص هي على ترك باب الفيال مواربا غير موصد‬
‫لهذا‪ُ ،‬‬
‫مكونة من‬ ‫ٍ‬ ‫ِّ‬
‫ألدخل بكل هدوء عند وصولي‪ ،‬دون أن أسّلم على الحارس القاعد أمام الباب‪ .‬كانت الفيال ّ‬
‫جناح منهما على غرفتَي نوم وبقية المرافق‪ .‬وكانت زميلتها في الجناح أستاذةٌ إنكليزيَّة‬
‫ٍ‬ ‫جناحين يشتمل ُّ‬
‫كل‬ ‫ْ‬
‫اسمها مورين غالباً ما تشارك هي واألُستاذتان األخريان في االحتفاالت التي تنظّمها الدكتورة مادهو بمناسبة‬
‫بعض األعياد الهندية‪ .‬والهنود من أكثر الشعوب عناية باألعياد والمهرجانات‪ ،‬فهم يغتنمون جميع المناسبات‪،‬‬
‫غناء ورقصًا‪ .‬فهناك أعياد كثيرة بمناسبة ميالد آلهتهم وما أكثرهم‪،‬‬
‫ً‬ ‫أو يخلقون المناسبات‪ ،‬لالحتفال بها‬
‫بأول أيام‬
‫وبمناسبة زفافهم‪ ،‬وبمناسبة سفرهم‪ ،‬وبمناسبة حروبهم‪ ،‬وبمناسبة انتصاراتهم‪ .‬والهنود ال يحتفلون ّ‬
‫كل ٍ‬
‫شهر‪ ،‬وببزوغ القمر‪ ،‬واكتمال القمر‪ ،‬وأفول القمر‪ ،‬وبمولد األطفال‪ ،‬وبلوغ‬ ‫بأول ِّ‬
‫السنة فقط‪ ،‬بل يحتفلون َّ‬
‫زرت مادهو في ِفلّتها‪ ،‬ألفيتُها وزميلتَها مورين قد أعدتا بعض‬
‫حب والزواج‪ .‬فكلّما ُ‬
‫األطفال سن البلوغ‪ ،‬وبال ّ‬
‫تؤديها‬
‫وكنت استمتع بسماع الموسيقى الهنديَّة مع رقصات ّ‬
‫ُ‬ ‫األطباق الهندية واإلنكليزية لالحتفال بمناسبة ما‪.‬‬
‫مادهو الجميلة‪.‬‬

‫خاصًا‬
‫ّ‬ ‫أنمي ذوقاً‬
‫أتعرف على األكالت الهندية اللذيذة‪ ،‬و ّ‬
‫أخذت ّ‬
‫ُ‬ ‫طباخة ماهرة‪ .‬ومعها‬
‫كانت مادهو ّ‬
‫بها‪ .‬كانت مادهو تجيد إعداد األكالت الهنديَّة الشهيرة مثل برياني الدجاج مع الروب‪ ،‬ودجاج تكا مساال‪،‬‬
‫والدجاج بالكاري‪ ،‬والكباب التندوري‪ ،‬واألرز البسمتي بالجمبري‪ .‬وطبعًا مع السلطات الهنديَّة اللذيذة وخبز‬
‫النان الطازج‪ .‬واألطباق الهنديَّة حافلةٌ بالتوابل والبهارات‪ ،‬عابقةٌ بالروائح الزكية‪ ،‬مزركشةٌ باأللوان الزاهية‪.‬‬

‫تعدها مادهو‪َّ ،‬‬


‫فإنها لم ت ُكن تأكل شيئًا ُيذ َكر‪ .‬كانت تمضي معظم‬ ‫وبالرغم من كثرة األطباق التي ّ‬
‫ظننت ّأنها‬
‫ُ‬ ‫المسلية والمضحكة‪ .‬في بداية األمر‪،‬‬
‫ّ‬ ‫الوقت على المائدة ال بتناول الطعام‪ ،‬بل بسرد الحكايات‬
‫تكتفي بالقليل من الطعام للمحافظة على قوامها الرشيق وخصرها الناحل الذي تُ ِ‬
‫برز جاذبيتَه فتحةُ الساري عند‬
‫الصيني‬
‫ِّ‬ ‫َّ‬
‫الطب الهندي يختلف عن‬ ‫الطب وتدريسه‪َّ ،‬‬
‫أن‬ ‫ِّ‬ ‫المتمرسة بدراسة‬
‫ِّ‬ ‫البطن‪َّ ،‬‬
‫ولكنها أوضحت لي‪ ،‬وهي‬
‫بي يعزو األمراض أساسًا إلى دخول الجراثيم إلى عضو من أعضاء الجسم‬ ‫ُّ‬
‫الطب الغر ُّ‬ ‫بي‪ .‬فإذا كان‬
‫والغر ِّ‬
‫الصيني يعزوها إلى عدم وصول الطاقة (الدم) إلى أحد أعضاء الجسم فيمرض‬
‫ُّ‬ ‫فتصيبه بالمرض‪ ،‬و ُّ‬
‫الطب‬
‫َّ‬
‫الصحة يكمن في‬ ‫سر‬ ‫الهندي يعزو األمراض إلى دخول الطعام إلى الجسم‪ ،‬و َّ‬
‫أن َّ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬
‫الطب‬ ‫ذلك العضو؛ َّ‬
‫فإن‬
‫التقليل من الطعام ما أمكن‪.‬‬

‫‪9‬‬
‫أخذت أعرف الكثير عن مادهو وحياتها السابقة‪ .‬والدها‪ ،‬بهاراتا جاكهاري‪ ،‬من أُسرٍة‬
‫ُ‬ ‫وشيئًا فشيئًا‪،‬‬
‫كبيرٍة من طبقة البراهمة في الهند‪ .‬والطبقات االجتماعيَّة من مخلفات العقائد الهندوسيَّة القديمة التي اخترعها‬
‫الغزاة اآلريون إلحكام سيطرتهم على البالد واالحتفاظ بالمزايا االقتصاديَّة والسياسيَّة لهم‪ .‬وتزعم هذه‬
‫المعتقدات َّ‬
‫أن اإلله براهما قد خلق أربع طبقات من البشر‪ :‬خلق من فمه البراهمة وهم رجال الدين‪ ،‬وخلق من‬
‫المهنيون‪ ،‬وخلق من‬
‫التجار والزراع و ّ‬
‫ذراعه الشاترية وهم رجال السلطة والجيش‪ ،‬وخلق من بطنه الويشية وهم ّ‬
‫قدمه الشودرية وهم يمارسون األعمال الوضيعة‪ .‬وهناك طبقة المنبوذين (الشانتالة) الذين ال يمسهم اآلخرون‬
‫أن‬ ‫ٍ‬
‫طبقة إلى أخرى‪ .‬وعلى الرغم من َّ‬ ‫وال يختلطون بهم‪ .‬وهذه الطبقات متوارثة وال يمكن لإلنسان أن ينتقل من‬
‫ويقر بالمساواة بين جميع المواطنين‪َّ ،‬‬
‫فإن كثي ًار من الهنود يمارسون‬ ‫دستور الهند حاليًا ال يعترف بالطبقات ُّ‬
‫كثير من العرب في الدول‬‫االقتصادي بها‪ ،‬كما يمارس ٌ‬
‫ّ‬ ‫االجتماعي و‬
‫ّ‬ ‫هذه الطقوس الطبقيَّة‪ ،‬ويتأثَّر وضع الفرد‬
‫تؤكد دساتيرها المساواة وحقوق اإلنسان‪ ،‬انتماءاتهم العشائريَّة وتقاليدها البالية أو والءاتهم‬ ‫العربيَّة التي ِّ‬

‫افية‪ .‬درس والدها القانون في جامعة لندن وعاد إلى الهند ليعمل في السياسة واإلدارة‬
‫الطائفيَّة وطقوسها الخر ّ‬
‫حتّى أصبح حاكمًا لوالية إندور وسط الهند‪ .‬ولمادهو خمسة إخوة أكبرهم عضو في البرلمان الهندي‪ ،‬وهي‬
‫جت في‬
‫تخر ْ‬ ‫َّ‬
‫اللذين تتسم بهما‪ .‬وبعد أن ّ‬
‫ولعل هذا أحد أسرار الدالل والغنج ْ‬ ‫األصغر والوحيدة في العائلة‪،‬‬
‫للتخصص في الجراحة الباطنية‪.‬‬
‫ُّ‬ ‫ٍ‬
‫زميلة لها اسمها‪ ،‬نيليما‪ ،‬إلى إنكلترة‪،‬‬ ‫سافرت مع‬
‫ْ‬ ‫الطب في إندور‪،‬‬
‫ّ‬ ‫كلِّية‬
‫عمل في أحد المستشفيات البريطانية في مدينة كولتشستر‪ ،‬في‬ ‫حصلت زميلتُها على ٍ‬
‫ْ‬ ‫وبعد أن نالتا الشهادة‪،‬‬
‫حين لم يحالفها الحظُّ في ذلك‪ ،‬على الرغم من حرصها على البقاء في بريطانيا وعدم العودة إلى الهند‪ .‬ولهذا‬
‫طلبها للعمل فيها على‬
‫وقبلت تلك الكّليةُ َ‬
‫ْ‬ ‫ِّ‬
‫الطب‪.‬‬ ‫قبلت المجيئ إلى تلك الدولة الخليجيَّة للتدريس في كلِّية‬
‫عدد ٍ‬
‫كاف من األستاذات‬ ‫ألن تلك الكلِّية لم تحصل على ٍ‬ ‫الرغم من قلّة خبرتها وعدم وجود ُم ِ‬
‫حرم معها‪َّ ،‬‬
‫للتدريس في قسم البنات‪ ،‬فالكلِّية تفصل اإلناث عن الذكور في الدراسة‪ ،‬طبقاً لقاعدة‪ :‬ما اختلى رجل بامرأة‬
‫إال وكان الشيطان ثالثهما‪ .‬والكلية حريصةٌ على مطاردة هذا الشيطان الرجيم‪ ،‬وحماية الناس منه ومن أحابيله‬
‫اللعينة‪.‬‬

‫كانت مادهو في ربيعها الثالثين من العمر‪ ،‬جميلة‪ ،‬جذابة‪ ،‬طليقة اللسان‪ ،‬حاضرة البديهة‪ ،‬مثقَّفة‪،‬‬
‫وتحب ِّ‬
‫الشعر وتكتبه أحيانًا‪ .‬وكانت لقاءاتنا ممتعة‪ ،‬استمتع فيها‬ ‫ُّ‬ ‫تمارس هواية الرسم‪ ،‬وتهوى القراءة‪،‬‬
‫باالستماع إلى أحاديثها التي غالبًا ما تد ور حول أيام دراستها في الهند وبريطانيا؛ وكانت تكثر من الحديث‬
‫‪10‬‬
‫عن صديقتها الهنديَّة‪ ،‬نيليما‪ ،‬فلم تخ ُل رحلةٌ لها من نيليما‪ ،‬ولم تفعل شيئاً ممتعاً إال ونيليما تشاركها المتعة‬
‫والهناء‪.‬‬

‫أظهرت هي عاطف ًة نبيل ًة حارًة بل متأججة‪ .‬ولم‬


‫ْ‬ ‫حميمين‪ ،‬و‬
‫ْ‬ ‫صديقين‬
‫ْ‬ ‫غدوت ومادهو‬
‫ُ‬ ‫وبمرور الشهور‪،‬‬
‫أعلم أن الهنود يتحّلون برومانسية ومحبة عارمة تضاهي ما نشاهده في األفالم الهندية‪ .‬وبادلتها بدوري‬
‫المحبَّة واالحترام‪.‬‬

‫‪5‬‬

‫بعد أن توثَّقت أواصر المحبَّة بيننا‪ ،‬أخبرتني مادهو بطر ٍ‬


‫يقة لبقة َّ‬
‫أن أمنيتها أن تقترن بي‪ ،‬ولن يكون‬
‫حد تعبيرها‪،‬‬ ‫اختالف الدين عائقًا في طريق سعادتنا؛ َّ‬
‫ألنها على استعداد العتناق اإلسالم‪ ،‬فالهندوسية‪ ،‬على ّ‬
‫متعددة بعضها يروم الخير لإلنسان وبعضها اآلخر يبغي‬‫ِّ‬ ‫مجرد أساطير عن ٍ‬
‫آلهة‬ ‫ليست دينًا سماوياً‪ ،‬بل َّ‬
‫إلحاق الضرر بالناس‪ ،‬ولهذا تندلع المعارك بين اآللهة باستمرار‪ .‬وهؤالء اآللهة ال حصر لهم حتّى َّ‬
‫إن الهند‬
‫سمى بأرض اآللهة‪ ،‬أو أرض البقرة المقدسة‪ ،‬ألن كثي اًر من الهنود يعبد بعض الحيوانات‪ ،‬ومنهم َمن يعبد‬
‫تُ ّ‬
‫دت لي مادهو‬ ‫مقدسة تغسل أدرانهم وذنوبهم‪ .‬و َّ‬
‫أك ْ‬ ‫بأن مياهها َّ‬
‫بعض األشجار‪ ،‬أو بعض األنهار‪ ،‬العتقادهم َّ‬
‫َّأنها من خالل قراءة الكتب التي قرأتْها عن اإلسالم والعرب قبل التحاقها بعملها في الكّلية‪ ،‬أخذت تفهم مبادئ‬
‫ٍ‬
‫بانجذاب نحوه‪.‬‬ ‫اإلسالم وتشعر‬

‫كنت أفضل الزواج‪ ،‬في الوقت‬ ‫لم أ ُكن أفكر في الزواج في تلك ِّ‬
‫السن المبكرة من العمر‪ .‬وفي أعماقي ُ‬
‫وقفت على كثير من الزيجات‬
‫ُ‬ ‫المناسب‪ ،‬من امرٍأة عربيَّة تنتمي إلى الثقافة نفسها ليسهل التفاهم بيننا‪ .‬فقد‬
‫بلغة أجنبي ٍ‬
‫َّة في المنزل فال‬ ‫التحدث ٍ‬
‫ُّ‬ ‫المختلطة التي باءت بالفشل‪َّ ،‬‬
‫ألن الزوج أو الزوجة أو كالهما يضطر إلى‬
‫لكل منهما‪.‬‬ ‫الخلفيات الفكريَّة والنفسيَّة و ِ‬
‫القيميَّة ٍّ‬ ‫يشعر َّأنه في بيته‪ ،‬إضافة إلى اختالف‬
‫ّ‬

‫أنهيت دراستي العليا في الواليات المتَّحدة األمريكية‪ ،‬أ ِ‬


‫ُصبت بمرض "‬ ‫ُ‬ ‫قلت لمادهو َّإنني بعد أن‬
‫ُ‬
‫وعزمت على أن أعود إلى البالد العربية وأخدم البالد العربية وأتزوج من البالد العربية‪،‬‬
‫ُ‬ ‫الحنين إلى الوطن"‪،‬‬
‫محبةً خالصة‪ ،‬فأنا ال أريد لها أن تقاسي‬ ‫ألني أ ِ‬
‫َك ُّن لها َّ‬ ‫مرةً أُخرى‪ .‬و ّ‬ ‫َّ‬
‫ألنني ال أريد أن أعاني الغربة واالغتراب َّ‬
‫الغربة بالعيش أبدًا في رحاب ثقافة ال تنتمي إليها‪ ،‬مع ٍ‬
‫رجل ال ينتمي إلى ثقافتها‪.‬‬

‫‪11‬‬
‫حاججتني مادهو في َّأنها أعرف بمشاعرها‪ ،‬و َّأنها ستكون سعيدةً معي حيثما ُ‬
‫كنت‪ .‬ولكي تقنعني‬
‫الحسن ميسورة الحال كانت تساعد‬
‫فتاة رائع َة ُ‬
‫أن ً‬ ‫الهندي‪ ،‬مفادها َّ‬
‫ِّ‬ ‫َّ‬
‫حكمي ًة من الت ارث‬ ‫برأيها‪ ،‬سردت لي حكاي ًة‬
‫ثم عرضت عليه الزواج منها‪ .‬فأخبرها َّأنه يحبُّها ح ّقاً ولهذا فهو ال يريد لها‬
‫رجالً أعمى بين الحين واالخر‪َّ ،‬‬
‫عيني ذلك‬
‫ِّ‬ ‫طبيب أن يعيد البصر إلى‬
‫ٌ‬ ‫مدة‪ ،‬استطاع‬ ‫أن تمضي حياتها كلَّها مع ٍ‬
‫رجل أعمى‪ .‬فافترقا‪ .‬وبعد َّ‬

‫ويتزوج منها‪ .‬فذهب يبحث عنها‪ ،‬فقيل له ّإنها‬


‫َّ‬ ‫فقرر أن يعود إلى تلك الفتاة التي أحبَّته‬
‫الرجل األعمى‪ّ .‬‬
‫بلدة أُخرى‪ ،‬وحصل على عنوانها‪ .‬ولما طرق باب دارها‪ ،‬فتحه رج ٌل أعمى‪ ،‬واكتشف صاحبنا أن‬ ‫انتقلت إلى ٍ‬

‫تزوجت بذلك الرجل األعمى‪.‬‬


‫حبيبته المنشودة قد َّ‬

‫ِ‬
‫تستطع مادهو أن تقنعني بحججها المستقاة من الثقافة الهنديَّة‪ .‬ولم أستطع إقناعها بحججي‬ ‫لم‬
‫وظل األمل يراودها‬
‫المقتبسة من الثقافة العربيَّة‪ .‬فبقينا أصدقاء نستمتع بالصحبة والعواطف الدافئة المتبادلة‪ّ .‬‬
‫سأغير رأيي ذات ٍ‬
‫يوم وأطلب يدها للزواج‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫في َّأنني‬

‫‪6‬‬

‫وكنت في تلك السنوات أمضي عطلتي الصيفيَّة التي تناهز ثالثة‬


‫ُ‬ ‫اقتر ِ‬
‫بت السنة الدراسيَّة من نهايتها‪.‬‬
‫كنت التحق عادةً بإحدى الدورات الصيفية التي تنظّمها جامعة‬
‫إما في باريس أو في لندن‪ .‬في باريس‪ُ ،‬‬
‫أشهر ّ‬
‫باريس األولى (السوربون) وأقيم في المدينة الجامعية بشارع جوردان وأُمضي أوقات الفراغ في حضور‬
‫َستِڤال دي پاري)‪ .‬وكانت‬ ‫ِ‬
‫الحفالت الموسيقية التي تقيمها مدينة باريس في إطار ما ُيسمى بـ (فَ ْستڤال أ ْ‬
‫الحي الالتيني‬
‫ِّ‬ ‫جامعة باريس قد أعلنت ذلك العام أن كلية الحقوق التابعة لها والواقعة في ساحة البانتيون في‬
‫فكنت أقيم في شقَّ ٍة يمتلكها أحد‬
‫ُ‬ ‫أما في لندن‪،‬‬
‫الجنائي‪ّ .‬‬
‫ّ‬
‫بباريس ستنظم دورًة صيفيةً َّ‬
‫لمدة شهر حول القانون‬
‫ولكنه ال يجد الوقت الكافي لإلقامة فيها أو في غيرها من شققه‬ ‫الخليجيين من رجال األعمال‪َّ ،‬‬
‫ّ‬ ‫أصدقائي‬
‫األخرى في بيروت والقاهرة ومراكش‪ .‬ولهذا كان يعيرني شقَّته اللندنيَّة برحابة صدر خالل العطلة الصيفيَّة‪.‬‬
‫وكنت أميل‬
‫ُ‬ ‫التنزه‪.‬‬
‫وفي لندن أمضي الوقت في البحث في مكتبات جامعة لندن والمتحف البريطاني‪ ،‬وفي ّ‬
‫الخليجي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ذلك العام إلى تمضية العطلة في لندن في شقَّة صديقي‬

‫‪12‬‬
‫وكنت أمارس رياضة‬
‫ُ‬ ‫تقع تلك الشقّة في أحد أحياء لندن الراقية الهادئة ُيسمى " َهمستِد ڤيليج"‪.‬‬
‫المشي في أرجاء مدينة لندن‪ .‬فأخرج حوالي الظهر من الش ّقة‪ ،‬وأسير في شارع "فتزجونز أڤنيو" في اتجاه "‬
‫أتوجه إلى شارع "أكسفورد ستريت" الذي‬
‫سويس كوتيج"‪ .‬ومن هناك أسير إلى منتزه " ريجنت بارك" ومنه ّ‬
‫ينتهي بحي السوهو الشهير الزاخر بالمسارح ودور السينما ومحالت الترفيه والمطاعم المختلفة من ِّ‬
‫كل نوع‪:‬‬
‫الصينيَّة والهنديَّة واإليطاليَّة والفرنسيَّة وغيرها َّ‬
‫(ألنه ال توجد مطاعم بريطانيَّة ذات خصوصية مميزة‪ ،‬فاألكلة‬
‫اإلنكليزيَّة الشعبيَّة هي ِ"فش أند تشبس" أي السمك المقلي والبطاطس المقلية)‪.‬‬

‫كنت في غاية السعادة وأنا أتناول َّ‬


‫ألذ الواجبات‪ .‬في حقيقة األمر‪ ،‬لم ي ُكن حي السوهو يشبع نهمي‬ ‫ُ‬
‫المتنوعة‪ ،‬بقدر ما كان يشبع نهمي المعرفي بمسارحه ودور األوب ار والفرق الموسيقية‬
‫ِّ‬ ‫إلى األكل في مطاعمه‬
‫يعوضني في أشهُر الصيف عن‬
‫المنبثّة في أرجاء حدائقه والمتاحف المتنوعة القريبة منه‪ .‬كان حي السوهو ِّ‬
‫كنت سعيدًا في لندن‪ .‬ولكن ال توجد سعادة كاملة‪.‬‬
‫اسي‪ُ .‬‬
‫جفاف الصحراء الذي أقاسيه طوال شهور العام الدر ّ‬
‫أتمنى أن‬ ‫ٍ‬
‫مطعم فاخر‪ ،‬و ّ‬ ‫كنت أجلس وحيداً إلى طاولة األكل في‬
‫الطيبة‪ُ .‬‬
‫ما كان ينقصني في لندن‪ ،‬الرفقة ّ‬
‫تكون معي رفيق ٌة تشاركني الطعام والحديث‪.‬‬

‫بأنها ستمضيها في بلدة كولتشستر في إنكلترة‬


‫ت مع مادهو عن العطلة الصيفية فأخبرتني ّ‬ ‫تحدث ُ‬
‫ّ‬
‫حيث تسكن مع صديقتها نيليما في َّ‬
‫شقتها‪ ،‬وأنهت حديثها بابتسامة وهي تقول‪:‬‬

‫اح أفضل‪.‬‬
‫ـ إال إذا كان لديك اقتر ٌ‬

‫عند ذاك‪ ،‬أخبرتها عن احتمال تمضيتي العطلة في لندن في الشقَّة التي يعيرني إياها صديقي رجل األعمال‪،‬‬
‫اقترحت عليها أن تمضي عطلتها معي في لندن‪.‬‬
‫ُ‬ ‫و‬

‫قفزت مادهو فرحاً وهي تقول‪:‬‬


‫ْ‬

‫ُّ‬
‫أحب لندن ومتاحفها ومسارحها‪ .‬والسفر من كولتشستر إلى لندن‬ ‫أفضل أن أكون معك‪ .‬وأنا‬
‫ـ طبعًا‪ ،‬فأنا ّ‬
‫يستغرق أكثر من ساعة بالقطار‪ ،‬وأجور السفر باهظة‪.‬‬

‫‪7‬‬

‫‪13‬‬
‫كنت سأسافر إلى لندن قبل مادهو بعشرة أيام‪ .‬فأعطيتها رقم هاتف الشقّة في حي " همستيد فيليج"‬
‫ُ‬
‫ُّ‬
‫تستقل حافل ًة إلى حي‬ ‫في لندن‪ ،‬واتَّفقنا على َّأنها ستهاتفني حال صولها إلى مطار هيثرو في لندن‪َّ ،‬‬
‫ثم‬
‫همستيد ڤيلج‪ ،‬حيث ستجدني في انتظارها في الشقَّة‪.‬‬

‫وخرجت بعد الظهر من الشقَّة‬


‫ُ‬ ‫بقيت انتظر مهاتفتها طوال الصباح‪.‬‬
‫في يوم وصول مادهو إلى لندن‪ُ ،‬‬
‫شيء من القلق‪ .‬وفي العصر‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫عدت إلى الشقَّة وقد انتابني‬
‫ُ‬ ‫ثم‬
‫لتناول طعام الغداء في أحد المطاعم القريبة‪ُّ .‬‬
‫أن الطائرة قد وصلت بعد الظهر‪ِّ ،‬‬
‫متأخرة بضع‬ ‫ال عن الطائرة‪ ،‬فأخبروني َّ‬
‫هاتفت استعالمات مطار هيثرو سائ ً‬
‫ُ‬
‫ٍ‬
‫بلهفة‪ ،‬فسمعت مادهو‬ ‫رن جرس الهاتف‪ .‬التقطتُه‬
‫وضعت سماعة الهاتف حتى ّ‬‫ُ‬ ‫ساعات عن موعدها‪ .‬وما إن‬
‫ٍ‬
‫بشيء من االمتعاض‪:‬‬ ‫تقول‬

‫يرن ُّ‬
‫ويرن‪ ،‬وال من‬ ‫مرات‪ ،‬وكان هاتفك ُّ‬ ‫هاتفتك حال وصولي إلى المطار َّ‬
‫عدة ّ‬ ‫َ‬ ‫كنت بعد الظهر؟ لقد‬
‫ـ أين َ‬
‫ُمجيب‪.‬‬

‫قلت‪:‬‬
‫ُ‬

‫أن طائر ِ‬
‫تك قد‬ ‫خرجت بعد الظهر لتناول طعام الغداء‪ ،‬ولم أعلم َّ‬
‫ُ‬ ‫ثم‬
‫انتظرت طوال الصباح‪َّ ،‬‬
‫ُ‬ ‫ـ آسف جداً‪ ،‬فقد‬
‫تأخرت‪ .‬أين ِ‬
‫أنت اآلن؟ في المطار؟ استقلي الحافلة إلى همستيد ڤيلج‪.‬‬ ‫ّ‬

‫فركبت القطار إلى كولتشستر‪ .‬وأنا اآلن في شقَّة نيليما‪.‬‬


‫ُ‬ ‫سئمت االنتظار في المطار‪،‬‬
‫ُ‬ ‫ـ ال‪ ،‬لقد‬

‫قلت بلطف‪:‬‬
‫ُ‬

‫بد َّأن ِك متعب ٌة من السفر هذا اليوم‪ .‬أقترح أن تستريحي هذه الليلة هناك‪ ،‬وفي الصباح سأكون في انتظارك‬
‫ـ ال َّ‬
‫في محطة قطار فيكتوريا‪.‬‬

‫قالت‪:‬‬

‫أعدك بذلك‪.‬‬
‫َ‬ ‫ـ ال أستطيع أن‬

‫قلت باستغراب‪:‬‬
‫ُ‬

‫‪14‬‬
‫ـ لماذا؟‬

‫الليلية‪ .‬وسأتحدث إليها في األمر غداً صباحاً عندما تعود من‬ ‫ـ َّ‬
‫ألن نيليما اآلن في المستشفى تقوم بنوبتها ّ‬
‫عملها‪.‬‬

‫ٍ‬
‫شيء فعلته في‬ ‫فطلبت منها رقم هاتف شقَّة نيليما‪ .‬و َّأول‬ ‫علي أن أنتظر حتّى صباح اليوم التالي‪.‬‬
‫ُ‬ ‫كان ّ‬
‫الصباح هو مهاتفة مادهو‪:‬‬

‫أي قطار ستستقلين هذا الصباح‪ ،‬كي أنتظرك في المحطة عند وصولك؟‬
‫ـ صباح الخير‪ ،‬مادهو‪ُّ .‬‬

‫قالت مادهو بانكسار‪:‬‬

‫ـ آسفة‪ ،‬سمير‪ .‬ال أستطيع المجيئ اليوم‪.‬‬

‫ـ ومتى تتمكنين من المجيئ؟‬

‫ـ لن أستطيع زيارتك هذا الصيف مطلقاً؟‬

‫قلت باندهاش‪:‬‬
‫ُ‬

‫ـ لماذا؟‬

‫ـ َّ‬
‫ألن نيليما تريدني أن أبقى معها طوال العطلة الصيفيَّة‪.‬‬

‫ـ ال أفهم‪ .‬هل ِ‬
‫أنت مضطرةٌ لالنصياع ألوامرها ورغباتها‪.‬‬

‫ـ نعم‪ ،‬ألَّنها صديقتي الحميمة‪.‬‬

‫ولكني أنا أيضًا صديقك‪.‬‬


‫ـ ّ‬

‫الذت مادهو بالصمت‪.‬‬


‫ْ‬ ‫وهنا‬

‫‪15‬‬
‫أغلقت الهاتف‪ .‬فعندما يضع‬
‫فآثرت إنهاء المكالمة و ُ‬
‫ُ‬ ‫حارةً إلى رأسي‪،‬‬
‫شعرت بدماء الغضب تتصاعد َّ‬ ‫ُ‬
‫ٍ‬
‫شديدة‪،‬‬ ‫فإنه ُيصاب بخيبة‬ ‫أن الخطَّة ال تُنفَّذ و َّ‬
‫أن األمل ينهار‪َّ ،‬‬ ‫ثم يجد فجأةً َّ‬ ‫اإلنسان خطَّة أو يبني أم ً‬
‫ال‪َّ ،‬‬
‫نفسي عميق‪ .‬فمنذ أسابيع وأنا أحلم أن أمضي هذه العطلة الصيفيَّة مع صديقة جميلة‬ ‫ٍّ‬ ‫ألم‬ ‫ٍ‬
‫وبإحباط كبير‪ ،‬و ٍ‬

‫يشتد‬
‫ّ‬ ‫ترافقني في نزهاتي في الحدائق‪ ،‬ومشاهداتي في المسارح‪ ،‬ووجباتي في المطاعم‪ .‬والشعور بالوحدة‬
‫بالشبان والشابات‪ ،‬وهم يتعانقون في األسواق‪ ،‬ويتبادلون القُبل‬
‫ّ‬ ‫حينما يلفي اإلنسان نفسه وحيدًا في مكان ُّ‬
‫يعج‬
‫الحب ينتشر في لندن انتشار العصافير على أشجارها في الصيف‪َّ ،‬‬
‫كأنه بإشراقته ودفئه‬ ‫ّ‬ ‫في المنتزهات‪.‬‬
‫نؤم لندن وباريس وغيرهما من العواصم األوربية ال‬‫يعوض عن سماء لندن الغائمة دوماً‪ ،‬المعتمة أبدًا‪ .‬ونحن ُّ‬
‫ّ‬
‫بحثًا عن الشمس‪ ،‬فشمسنا أكثر إشراقا من شمسهم‪ ،‬واَّنما انجذابًا لثقافتها وفنونها وجمالها والشعور فيها‬
‫بالحرية واالنعتاق من القيود‪.‬‬
‫ِّ‬

‫ِّ‬
‫ألذكرها بوعودها‪ ،‬وأحاول إقناعها‬ ‫مرة أُخرى‪،‬‬
‫رت أن أهاتف مادهو َّ‬
‫قر ُ‬
‫في صباح اليوم التالي‪َّ ،‬‬
‫االلتحاق بي في لندن‪.‬‬

‫رَّن جرس الهاتف في ش ّقة نيليما‪ .‬و ُ‬


‫أملت أن ترفع مادهو سماعة الهاتف‪ .‬ولكن الصوت الذي صدم‬
‫صوت ٍ‬
‫رجل لئيم‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫خشن ٌّ‬
‫جاف مثل‬ ‫ٌ‬ ‫صوت‬
‫ٌ‬ ‫أُذني‬

‫ـ نعم‪.‬‬

‫قلت بلطف‪:‬‬
‫ُ‬

‫ِ‬
‫فضلك‪.‬‬ ‫أود أن أتكلَّم مع الدكتورة مادهو‪ ،‬من‬
‫ـ صباح الخير سيدتي‪ .‬أنا الدكتور سمير‪ّ ،‬‬

‫عال أقرب إلى الصراخ‪:‬‬ ‫ٍ‬


‫بصوت متوتِّ ٍر ٍ‬ ‫أجابت‬

‫ـ مادهو ال تريد أن تكلِّمك‪.‬‬

‫و ِ‬
‫أغلقت الهاتف في وجهي‪.‬‬

‫مرًة أُخرى َّ‬


‫لعل مادهو (العسل)‬ ‫رت أن أحاول َّ‬
‫قر ُ‬
‫استشطت غضبًا‪ ،‬وبعد فترةٍ من التفكير المضطرب‪َّ ،‬‬
‫ُ‬
‫اتصلت هاتفياً في الليل‪ ،‬ستكون نيليما في‬
‫ُ‬ ‫نت َّأنني إذا‬
‫وخم ُ‬
‫ترفع السماعة‪ ،‬وليس نيليما (الزرقاء) المسمومة‪ّ .‬‬
‫‪16‬‬
‫عاودت االتّصال‪.‬‬
‫ُ‬ ‫مساء‪،‬‬
‫ً‬ ‫وسترد مادهو على الهاتف‪ .‬ولهذا حوالي الساعة التاسعة‬
‫ّ‬ ‫نوبتها في المستشفى‪،‬‬
‫مدوي ًة‬
‫قلت " هلو"‪ ،‬جاءني صوت نيليما مرعدًا مزبدًا تنطلق منه الكلمات ِّ‬
‫أدرت الرقم‪ .‬وحالما ُ‬
‫رفعت السماعة و ُ‬
‫ُ‬
‫مدفع رشاش‪:‬‬
‫مثل ٍ‬

‫أنت ِّ‬
‫تنغص سعادتنا‪ّ ،‬أيها الحقير‪...‬‬ ‫ـ اتركنا‪ّ ،‬أيها الكلب‪ ،‬ال تزعجنا‪َ .‬‬

‫بقيت استمع بغير إرادة مني إلى أصناف الشتائم‬


‫ُ‬ ‫ٍ‬
‫بشيء من الذهول‪ ،‬فلم أغلق الهاتف بسرعة‪ ،‬بل‬ ‫بت‬ ‫أ ِ‬
‫ُص ُ‬
‫ِّ‬
‫المنحط‪ ،‬وسيل اإلهانات المتالحقة‪.‬‬ ‫البذيئة وأنواع السباب‬

‫ٍ‬
‫سلطة كبيرٍة‬ ‫قوٍة جسمي ٍ‬
‫َّة أتحّلى بها‪ ،‬أو‬ ‫إلي‪ .‬ال ل َّ‬
‫على شتمي أو اإلساءة ّ‬ ‫أحد‬
‫طوال حياتي‪ ،‬لم يجرؤ ٌ‬
‫ٍ‬
‫بأدب‬ ‫ٍ‬
‫بأدب ولطف‪ ،‬فيبادلونني أدباً‬ ‫ٍ‬
‫وتعليم‪ ،‬أحترم اآلخرين‪ ،‬وأخاطبهم‬ ‫رجل تعلٍُّم‬ ‫أتمتَّع بهيبتها‪ ،‬بل ّ‬
‫ألني ُ‬
‫ت في أعماق نفسي وسبَّبت‬
‫حز ْ‬ ‫ٍ‬
‫بلطف‪ .‬ولهذا جاءت شتائم هذه الزرقاء المسمومة مفاجئ ًة مؤلمةً لي ّ‬ ‫ولطفاً‬
‫ألول مرة في حياتي‪ ،‬شعرت بالحقد يجتاح ذاتي‪ ،‬وبرغبة عارمة في االنتقام‪.‬‬
‫اضطراب ًا في صميم وجداني‪ .‬و ّ‬

‫ممض‪ ،‬ولحرمانها لي من صحبة مادهو‪ ،‬بحيث‬ ‫ٍّ‬ ‫سأنتقم منها شر انتقام‪ ،‬لما ألحقتْه بي من ٍ‬
‫ألم‬ ‫ّ‬
‫ٍ‬
‫أوهام‪ .‬سأف ّكر مليًا في أفضل طريقة‬ ‫حطام و ِ‬
‫أشالء‬ ‫ٍ‬ ‫ائعة إلى ِ‬
‫فتات‬ ‫صيفية ر ٍ‬
‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫بعطلة‬ ‫لت قصور أحالمي‬ ‫تحو ْ‬
‫ّ‬
‫لالنتقام‪.‬‬

‫األهم‬
‫السر في عدوانيَّة هذه المرأة اتجاهي‪ ،‬و ُّ‬
‫بد لي من أن أتحدث مع مادهو ّأوالً‪ ،‬ألعرف َّ‬ ‫بيد ّأني ال َّ‬
‫َ‬
‫أتين‪ ،‬بحيث تستطيع نيليما أن تملي إرادتها على مادهو ِّ‬
‫بكل سهولة‪.‬‬ ‫من ذلك ألعرف ماهيَّة العالقة بين المر ْ‬

‫عدة مر ٍ‬
‫يوميًا بشقة نيليما في األوقات التي أحسب َّ‬
‫أن نيليما ستكون في‬ ‫ات ّ‬ ‫أخذت اتَّصل هاتفيًا ّ ّ‬
‫ُ‬ ‫ولهذا‬
‫وكنت أغلق الهاتف سرعان ما أسمع صوت نيليما‪.‬‬
‫ُ‬ ‫احدة‪.‬‬
‫مرة و ً‬
‫المستشفى‪ ،‬لعّلي أقع على مادهو َّ‬

‫فقلت بل ٍ‬
‫طف بالغ‪.‬‬ ‫مرة‪ُ .‬‬ ‫ٍ‬
‫عديدة من محاوالت فاشلة‪ ،‬رفعت مادهو السماعة ذات َّ‬ ‫وأخي ًار‪ ،‬وبعد ٍ‬
‫أيام‬

‫ـ صباح الخير‪ ،‬حبيبتي الرائعة‪ .‬لماذا ال تتكلّمين معي هاتفيًا‪.‬‬

‫قالت بنبرة اعتذار ‪:‬‬

‫‪17‬‬
‫ٍ‬
‫عصبية‪ ،‬وأُغمي عليها‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫بنوبة‬ ‫مرة كلمتك فيها‪ ،‬أصيبت نيليما‬
‫أتحدث معك‪ .‬وآخر ّ‬
‫ـ آسفة‪ ،‬نيليما ال تريدني أن ّ‬
‫َّ‬
‫ولكنها اآلن في المستشفى‪.‬‬

‫قلت‪:‬‬
‫ُ‬

‫ـ أُغمي عليها؟ لماذا؟ وما هي طبيعة عالقتكما؟‬

‫ٍ‬
‫شتائية غائمة‪ .‬سأقتل هذه الحقيرة نيليما‬ ‫لمعت في ذهني فكرةُ الجريمة الكاملة‪ ،‬كما يلمع البرق في ٍ‬
‫ليلة‬ ‫ْ‬ ‫وهنا‬
‫عن ُب ْعد‪ .‬ولم استوعب الشرح المطول الذي أدلت به مادهو حول عالقتهما‪ ،‬فقد كان ذهني شاردًا يضع‬
‫تصو اًر كامالً لخطّة الجريمة‪.‬‬
‫ُّ‬

‫قلت‪:‬‬
‫ُ‬

‫أحبك حتّى الموت‪.‬‬


‫ولكني أُحبُّك‪ ،‬يا مادهو‪ّ .‬‬
‫بت لكما اإلزعاج عن غير قصد‪ّ .‬‬
‫سب ُ‬ ‫ـ مادهو‪ ،‬أنا آسف َّ‬
‫ألنني ّ‬
‫منجذب إليك‪ ،‬كما‬
‫ٌ‬ ‫مغرم بك‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫أدركت كم أنا‬
‫ُ‬ ‫رمت فيها منك‪،‬‬
‫فبعد فراقنا وخالل هذه األيام القليلة التي ُح ُ‬
‫أتصور العي ش بدونك‪ .‬فالحياة ال مذاق وال طعم لها بغير‬
‫َّ‬ ‫ينجذب النحل إلى العسل‪ّ .‬إنني ال أستطيع اآلن أن‬
‫وجودك إلى جانبي‪ّ .‬إنني أريد ان أتزوج منك‪ ،‬وبعد ذلك لن نفترق أبدًا‪.‬‬

‫سمعتُها تقول‪:‬‬

‫ـ صحيح؟!‬

‫قلت بح اررٍة وحرقة‪:‬‬


‫ُ‬

‫لك‪َّ ،‬‬
‫وعذبني الشوق إليك‪ ،‬خالل أيام‬ ‫حبي ِ‬ ‫ـ طبعًا صحيح‪ ،‬فأنا أتعلَّم من األيام والتجارب‪ .‬لقد‬
‫أدركت مدى ّ‬
‫ُ‬
‫الديك‬
‫الفراق‪ .‬سأذهب هذا الصباح إلى وكالة األسفار ألحجز لنا تذكر ْتين إلى الهند‪ ،‬ألتشرف بمقابلة و ْ‬
‫هندي‪ .‬فأنا ـ كما تعلمين ـ تسحرني االحتفاالت‬
‫ّ‬ ‫العزيزْين‪ ،‬وأطلب يدك منهما‪ .‬ولنعقد قراننا هناك في احتفال‬
‫وصحتنا‪ ،‬فالحياة قصيرة ال تحتمل الغضب والحزن والنكد‪ ،‬ولنرفل‬
‫ّ‬ ‫الهندية‪ .‬نعم‪ ،‬يا مادهو‪ ،‬لنفرح بشبابنا‬
‫بأثواب السعادة‪.‬‬

‫‪18‬‬
‫‪8‬‬

‫اتَّفقنا أنا ومادهو على أن تأتي إلى لندن بالقطار صباح اليوم التالي عندما تكون نيليما في نوبتها في‬
‫عت من ناحيتي‬ ‫المستشفى‪ ،‬ودون أن تخبرها بعزمنا على الزواج‪ ،‬لئال تعرقل مجيئها بطر ٍ‬
‫يقة أو بأخرى‪ .‬وأسر ُ‬
‫طلبت تذكر ْتين (لندن ـ بومبي ـ‬
‫ُ‬ ‫التوجه إلى وكالة أسفار قريبة من شقتي في حي "همستيد فيليج"‪ ،‬حيث‬
‫ّ‬ ‫إلى‬
‫وطلبت‬
‫ُ‬ ‫مدة ‪ 42‬ساعة على األقل‪.‬‬ ‫بعروسين‪ ،‬على أن نستريح في بومبي ّ‬
‫ْ‬ ‫إندور) بالدرجة األولى التي تليق‬
‫َّ‬
‫الموظف أن يحجز لي جناحًا في فندق خمسة نجوم على شاطئ البحر‪ ،‬فقال في الحال‪:‬‬ ‫من‬

‫حجزت فيه من قبل أجنح ًة لرجال أعمال فحاز رضاهم‪ ،‬ونال ثناءهم‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ـ فندق "أميرة البحر"‪ .‬هو األفضل‪ .‬فقد‬

‫ووصلت في‬
‫ْ‬ ‫في اليوم التالي ظه ًار‪ ،‬كنت أنتظر مادهو في محطَّة قطارات فيكتوريا في وسط لندن‪.‬‬
‫ٍ‬
‫ثمينة‬ ‫هدي ٍة‬
‫لهفة عريس‪ ،‬وضممتُها إلى صدري مثل ّ‬ ‫ق عاشق‪ ،‬وعانقتُها ب ِ‬
‫الموعد المتَّفق عليه‪ّ .‬قبلتُها بشو ِ‬

‫حملت حقيبتها‬
‫ُ‬ ‫العسليتان بريقًا‪.‬‬
‫ّ‬ ‫محياها‪ ،‬وازدادت عيناها‬
‫هبطت من السماء‪ ،‬فبدت ابتسامة رضى على ّ‬
‫ْ‬
‫هندي فاخر قرب المحطَّة حيث تناولنا طعام الغداء ممزوجاً بعبارات‬
‫ٍّ‬ ‫ٍ‬
‫مطعم‬ ‫وسرت معها إلى‬
‫ُ‬ ‫الصغيرة‪،‬‬
‫ٍ‬
‫بكلمة تنم عن ألمي وغضبي لبقائها في كولتشستر وتفضيلها‬ ‫اهر‪ ،‬ولم أفُه‬ ‫ٍ‬
‫مستقبل ز ٍ‬ ‫السعادة باللقاء واألمل في‬
‫سيارةً إلى مطار هيثرو‪.‬‬
‫لنستقل ّ‬
‫ّ‬ ‫سيارات األُجرة‪،‬‬
‫علي‪ .‬وبعد الغداء‪ ،‬تم ّشينا إلى موقف ّ‬
‫الحقيرة نيليما َّ‬

‫رحت أُمطرها بكلمات الغزل‪ ،‬ولمسات الحنان‪ ،‬وقُبالت الشوق‪ .‬فأراحت رأسها‬
‫ُ‬ ‫سيارة األجرة‪،‬‬
‫وفي ّ‬
‫جو لندن الغائم الممطر‪.‬‬
‫كأنها تبحث عن دفء جسدي في ِّ‬
‫على صدري ويدها تحيط بخصري‪ّ ،‬‬

‫قلت لمادهو ونحن نتناول كعكة الجبن اللذيذة والقهوة في أحد‬


‫بعد إتمام إجراءات السفر في المطار‪ُ ،‬‬
‫مطاعم المطار‪:‬‬

‫ِ‬
‫تركت رسال ًة لصديقتك الدكتورة نيليما تخبرينها فيها عن سبب غيابك‪.‬‬ ‫ـ حبيبتي‪ ،‬هل‬

‫ـ ال‪.‬‬

‫قلت‪:‬‬
‫ُ‬

‫‪19‬‬
‫ـ حبيبتي‪ ،‬أخشى أن ِ‬
‫تفتقدك صديقتك‪ ،‬فينتابها القلق‪ .‬أقترح أن تبلّغيها بسفرنا هذا‪ .‬وأنا ِّ‬
‫متأكد من َّأنها ستطير‬
‫فرحًا بمناسبة زفافنا‪...‬‬

‫قالت مادهو‪:‬‬

‫ولكني أتَّفق معك على ضرورة إبالغها‬


‫أظن َّأنها ستطير فرحًا‪ ،‬بل على العكس‪ ،‬فقد تموت كمداً‪ّ .‬‬
‫ـ ال ُّ‬
‫بسفري‪.‬‬

‫قلت‪:‬‬
‫ُ‬

‫ـ إذن سآتي إليك باستمارة برقيَّة من مكتب بريد المطار‪.‬‬

‫ألتوجه إلى مكتب البريد‪ ،‬فسمعتها تقول‪:‬‬


‫ّ‬ ‫ونهضت‬
‫ُ‬

‫الدي أعلمهما بقدومنا‪.‬‬


‫ببرقية كذلك إلى و ّ‬
‫ـ أرجوك اجلب استمار ْتين‪ ،‬ألبعث ّ‬

‫رسل إليه باسم‬


‫الم َ‬
‫ومألت خانة عنوان ُ‬
‫ْ‬ ‫وضعت االستمار ْتين على المنضدة أمام مادهو‪ .‬تناولت مادهو قلمًا‬
‫ُ‬
‫فقلت لها‪:‬‬
‫ترددت بعض الوقت‪ُ .‬‬ ‫ثم َّ‬ ‫الدكتورة نيليما‪َّ .‬‬

‫ولكنه مجرد واقع ال ُب َّد من أن تحيط به صديقتك الدكتورة نيليما‪.‬‬


‫ـ عزيزتي مادهو‪ ،‬أنا أفهم شعورك تمامًا‪َّ .‬‬
‫الديك العزيزْين‪.‬‬ ‫البرقية‪ ،‬وخذي ِ‬
‫أنت البرقية األُخرى واملئيها إلى و ْ‬ ‫ّ‬ ‫دعيني أمأل هذه‬

‫أعطتني استمارة البرقية‪ ،‬وتناولت هي البرقية الثانية‪.‬‬

‫دونت ما يلي‪:‬‬
‫استل خنج اًر مسموماً‪ ،‬وبعد هنيهة من التفكير‪ّ ،‬‬
‫كنت ّ‬‫استللت قلمي كما لو ُ‬
‫ُ‬

‫ِ‬
‫أخبرك عن عزمنا أنا وسمير على الزواج‪ .‬نحن اآلن في مطار هيثرو لنسافر‬ ‫" عزيزتي نيليما‪ ،‬بغامر الفرحة‪،‬‬
‫ثم نسافر إلى إندور حيث سيقام حفل قراننا بعد أسبوع‪ .‬تحياتي‬ ‫بعد قليل على متن طائرٍة ِّ‬
‫متوجهة إلى بومبي‪َّ ،‬‬
‫ومودتي‪ .‬مادهو‪".‬‬

‫‪20‬‬
‫ِّ‬
‫وبكل الثقة الواجب توافرها بين عروس وعريسها‪َّ ،‬‬
‫هزت رأسها‬ ‫كتبت‪.‬‬
‫ُ‬ ‫القت مادهو نظرةً سريع ًة على ما‬
‫البرقيتين‪.‬‬
‫ْ‬ ‫فتوجهت إلى مكتب البريد إلرسال‬
‫موافق ًة‪ّ ،‬‬

‫حرصت على أن تكون صياغة البرقية هادئة محايدة‪ ،‬ولكن في الوقت نفسه صادمة مفاجئة‪،‬‬
‫ُ‬ ‫في ذات نفسي‪،‬‬
‫فجائية الخبر العابق بنغمة الفرح المبالغ‬
‫ّ‬ ‫فتؤدي‬
‫أمالً في أن تفعل مفعولها المأمول في تهييج الحقيرة نيليما‪ّ ،‬‬
‫ٍ‬
‫مأسوف عليها‪ .‬وأكون بذلك قد نف ّذت جريمتي الكاملة‪ ،‬دون‬ ‫َّة َّ‬
‫حادة‪ ،‬فتُزَهق روحها غير‬ ‫نوبة عصبي ٍ‬
‫فيه إلى ٍ‬
‫ٍ‬
‫خارجية للوفاة‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫أسباب‬ ‫شك في وجود‬ ‫فرد ٌّ‬‫أي ٍ‬
‫أن يخامر َّ‬

‫‪9‬‬

‫ِّ‬
‫المطل على بحر العرب‪ .‬وفي الصباح‬ ‫في بومبي‪ ،‬أمضينا بقية تلك الليلة في فندق " أميرة البحر"‬
‫كنت ومادهو نتناول الفطور في حديقة الفندق المحاذية لشاطئ البحر‪ ،‬ما فتح شهيتي ورغبتي في الحياة‪.‬‬
‫ُ‬
‫كنت‬
‫سر وجودي وسعادتي‪ ،‬وملهمي‪ ،‬وباعث انفعاالتي بجميع أطيافها وأشكالها‪ .‬فطوال حياتي ُ‬
‫فالماء هو ّ‬
‫وتموجاته‬ ‫هور أو بحيرٍة أو ٍ‬
‫بحر أو محيط‪ .‬فانسياب الماء ودفقه وزرده ّ‬ ‫نهر أو ٍ‬
‫مطر أو ٍ‬
‫أبحث عن الماء‪ ،‬في ٍ‬
‫قلت لمادهو ‪:‬‬ ‫وكل ر ٍ‬
‫عشة فيه تمثّل لي نبض الحياة وحركتها‪ُ .‬‬ ‫ومده وجزره ُّ‬
‫ّ‬

‫ـ آمل أن الفندق قد أعجبك؟‬

‫ـ جداً‪ .‬شك اًر الختيارك‪.‬‬

‫ٍّ‬
‫محب‪:‬‬ ‫ِ‬
‫بإخالص‬ ‫قلت‬
‫ُ‬

‫ـ َّ‬
‫إن بومبي تمثّل طيب العالقة بين العرب والهند‪ .‬فهي عاصمة الهند التجارية وفي الوقت ذاته فهي تقع على‬
‫شاطئ بح ر العرب‪ .‬فمنذ أقدم العصور‪ ،‬يا عزيزتي‪ ،‬كانت التجارة البحرية مزدهرة بين العرب والهنود‪ .‬وكان‬
‫السومريون‪ ،‬في األلف الثالث قبل الميالد‪ ،‬يصنعون السفن العمالقة في ميناء الفاو وفي موانئ الساحل‬
‫الشرقي لجزيرة العرب‪ ،‬لتنقل بضائعهم إلى الهند‪ ،‬وتعود محمل ًة بالتوابل والبخور والعطور والسيوف‪ .‬وقد َّ‬
‫أحب‬
‫أما اليوم‪َّ ،‬‬
‫فإن بومبي هي‬ ‫العرب الهند منذ القدم حتّى ّإنهم أطلقوا اسمها " هند" على الجميالت من بناتهم‪ّ .‬‬
‫كذلك حاضرة صناعة السينما الهنديَّة التي تجد إقباالً من المشاهدين العرب‪.‬‬

‫‪21‬‬
‫ٍ‬
‫مندمجة وتأوي أكثر من‬ ‫هة قصيرة في مدينة بومبي التي تتألَّف من ِ‬
‫سبع ُج ٍ‬
‫زر‬ ‫بعد الفطور خرجنا لنز ٍ‬

‫سمى " بوابة الهند"‪ ،‬وهي بوابة‬


‫ي ُي َّ‬
‫نصب تذكار ٌّ‬
‫ٌ‬ ‫أس َر عيوننا‬
‫عشرين مليون نسمة‪ .‬وعند خروجنا من الفندق َ‬
‫ي‬
‫حجرية فخمة ُبنيت سنة ‪ 0900‬احتفاء بزيارة ملك بريطانيا جورج السادس للهند‪ ،‬درة التاج االستعمار ّ‬
‫ي وسوق التوابل‬ ‫َّ‬
‫وتمشينا في السوق المركز ّ‬ ‫تنزهنا في منتزه "سنجاي غاندي الوطني"‪،‬‬
‫يطاني آنذاك‪ّ .‬‬
‫البر ّ‬
‫قسط من الراحة قبل‬‫ٍ‬ ‫والبهارات الكبير في بومبي‪ .‬وعدنا بعد الظهر إلى الفندق لتناول طعام الغداء ونيل‬
‫ٍ‬
‫هندية إلى إندور‪.‬‬ ‫التوجه إلى المطار لنسافر على متن طائ ٍرة‬
‫ُّ‬

‫األول من صفوف‬ ‫ِّ‬


‫الصف َّ‬ ‫في مطار إندور‪ ،‬كانت إحدى سيارات العائلة في انتظارنا‪ ،‬وقد وقف السائق في‬
‫وخف هو نحوها ليسلّم عليها ويتناول‬
‫ّ‬ ‫المنتظرين في بوابة الوصول في المطار‪ .‬عرفته الدكتورة مادهو‪،‬‬
‫الحقائب من أيدينا‪.‬‬

‫أن الحقيرة‬ ‫السيارة‪ .‬وفي تلك اللحظة حلّق فكري عائدًا إلى انكلترة‪ ،‬وأنا أقول في ذات نفسي‪ :‬ال َّ‬
‫بد َّ‬ ‫انطلقت بنا ّ‬
‫ْ‬
‫فعلت‬
‫ْ‬ ‫أؤمل نفسي في َّ‬
‫أن تلك البرقية‬ ‫ورحت ِّ‬
‫ُ‬ ‫بعثت بها مادهو من مطار هيثرو‪.‬‬
‫ْ‬ ‫نيليما قد استلمت البرقيَّة التي‬
‫مفعولها‪ ،‬فصعقت الحقيرة نيليما بحيث سبَّبت لها صدم ًة وكمدًا يودي بحياتها‪ .‬ولكن اآلمال ال تتحقَّق دائماً‪،‬‬
‫واألحالم ال تصدق كثي ًار‪.‬‬

‫فمدت يدها لتغلق النافذة الزجاجية التي تفصل المقعد الخلفي‬


‫أن مادهو الحظت صمتي وشرود ذهني‪ّ ،‬‬ ‫يبدو َّ‬
‫ٍ‬
‫حميمة‪ ،‬فالمطار يبعد عن ضيعة أهلها حوالي‬ ‫التحدث معي بصورٍة‬
‫ُّ‬ ‫عن السائق‪ ،‬في إشارة منها لرغبتها في‬
‫ساعة ونصف الساعة‪ .‬قالت‪:‬‬

‫ِ‬
‫بقدومك إلى الهند؟‬ ‫أنت مسرور‬
‫ـ هل َ‬

‫ٍ‬
‫بابتسامة عريضة‪:‬‬ ‫قلت‬
‫ُ‬

‫وكنت أتساءل في نفسي‬


‫ُ‬ ‫ٍ‬
‫بزوجة مثلك‪.‬‬ ‫كنت قبل لحظات ِّ‬
‫أفكر في َّأنني محظوظٌ جداً‪ ،‬ألحظى‬ ‫ـ أتعلمين ّأنني ُ‬
‫ظي أن يعمي الهنود واإلنكليز من قبل عن رؤية حسنك الباهر وجمالك الفتّان وشخصيتك‬
‫كيف استطاع ح ّ‬
‫العذبة‪ ،‬إلى حين أن ألتقيك لتكوني من نصيبي‪.‬‬

‫‪22‬‬
‫ابتسمت مادهو بانشراح وقالت‪:‬‬

‫عاشقين كذلك‪.‬‬ ‫ثم التقينا في هذه الحياة‬ ‫كنا عاشقين في ٍ‬


‫حياة سابقة‪َّ ،‬‬ ‫ـ لعلّنا ّ‬
‫ْ‬ ‫ْ‬

‫المتكررة‪ ،‬عندما يفنى‬


‫ّ‬ ‫وكأنها بذلك تشير إلى عقيدة (الكارما) الهندوسية التي تنظّم تناسخ الروح في دوراتها‬
‫ّ‬
‫ان أو حشرة‪ ،‬تبعًا لعمل صاحبها السابق في الحياة‪،‬‬ ‫بشر أو حيو ٍ‬
‫الجسم وتعود الروح إلى الحياة في صورة ٍ‬
‫كنوع من الثواب والعقاب‪.‬‬

‫قلت ‪:‬‬
‫ُ‬

‫ـ ولكن ألم َّ‬


‫يتقدم أحد لخطبتك طوال هذه السنوات؟‬

‫كنت ما أزال في الكلِّية الطبيَّة‪ ،‬أعلن والدي في الصحف َّ‬


‫مر ْتين عن استعدادي‬ ‫ـ أتعلم‪ ،‬يا سمير‪ ،‬عندما ُ‬
‫مرة‬
‫كل َّ‬
‫اختارت العائلة خطيبًا لي في ّ‬
‫ْ‬ ‫تعبر عن رغبتهم في الزواج مني‪ ،‬و‬
‫للزواج‪ ،‬وبعث إلينا كثيرون برسائل ّ‬
‫‪َّ ،‬‬
‫ولكن الزيجة لم تتم‪..‬‬

‫قلت‪:‬‬
‫ُ‬

‫ـ هذا من حسن حظي‪ .‬ولكن ماذا تعنين بإعالن والدك عن استعدادك للزواج؟‬

‫ـ العادة لدى الطبقات الموسرة في الهند أن ُيعلِن األب في الصحف عن استعداد ابنته للزواج‪ِّ ،‬‬
‫محدداً في‬
‫اإلعالن طبقته االجتماعية‪ ،‬وعمر الفتاة‪ ،‬ومهنتها‪ ،‬ومقدار المهر الذي ِّ‬
‫يقدمه للعريس‪ ،‬وبعض المعلومات‬
‫ثم يتل ّقى عروضًا من الخاطبين‪ ،‬وتختار العائلة الخطيب األنسب‪ ،‬وترتب لقاءه مع‬
‫األخرى ذات العالقة؛ َّ‬
‫الفتاة‪.‬‬

‫قلت‪:‬‬
‫ُ‬

‫الد الفتاة المهر للعريس؟ َّ‬


‫لعلني فهمت العكس‪.‬‬ ‫يقدم و ُ‬
‫ـ كيف ّ‬
‫َ‬

‫ابتسمت مادهو وقالت‪:‬‬

‫‪23‬‬
‫ـ ما فهمتَه هو الصحيح‪ .‬ففي الثقافة الهنديَّة والثقافات اآلسيوية التي تأثرت بها‪ ،‬كما في تايلند والفلبين‪ ،‬أهل‬
‫الفتاة هم الذين ِّ‬
‫يقدمون المهر للعريس‪ .‬وعندما ال يفي أهلها بدفع المهر الذي وعدوا بدفعه بعد الزواج‪ ،‬تقوم‬
‫خاصة في الطبقات الفقيرة‪ ،‬إلى إحراق العروس في المطبخ‪ ،‬كما لو كان األمر حادثًا‬
‫َّ‬ ‫أم العريس أحيانًا‪،‬‬
‫مؤسفاً‪ .‬وعلى ٍّ‬
‫كل‪ ،‬فهذه الطبقات ما زالت تمارس طقوساً هندوسيَّة قديمة‪ .‬والمحزن َّ‬
‫أن بعض هذه الطقوس‬
‫ويسمى هذا الطقس بـ (الساتي)‪ ،‬على الرغم من َّ‬
‫أن‬ ‫حي ًة مع جثة زوجها المتوفى‪ُ ،‬‬
‫يقضي بإحراق الزوجة ّ‬
‫كرم المرأة وساواها‬
‫اإلسالمي الذي ّ‬
‫ِّ‬ ‫وتجرمه‪ .‬أال ترى لماذا أنا منجذبة للدين‬
‫ِّ‬ ‫تحرمه‬
‫القوانين الهندية الحديثة ِّ‬
‫الخلق والحقوق‪ ،‬و َّأنني في طريقي إلى اإلسالم‪.‬‬
‫بالرجل في َ‬

‫قلت لها‪:‬‬
‫ُ‬

‫بخاطبيك‪.‬‬
‫ْ‬ ‫حل‬
‫صة زواجك المفترض‪ .‬ماذا ّ‬
‫لنعد إلى ق َّ‬
‫ـ ُ‬

‫قالت‪:‬‬

‫وحددت العائلة له موعدًا الستقباله لالتِّفاق على تفاصيل الزواج‪ .‬واقترح والدي أن أذهب‬
‫ـ كان أحدهم طبيبًا‪َّ ،‬‬

‫بسيارتي إلى المطار الصطحابه كي تتاح لنا فرصة التعارف‪ .‬وعندما كنا‪ ،‬أنا والخاطب‪ ،‬في منتصف‬
‫ّ‬
‫السيارة‪ ،‬ربما ليريني رجولته‬
‫الطريق إلى ضيعة أهلي‪ ،‬أبدى الدكتور الخاطب مالحظةً سلبيَّة حول قيادتي ّ‬
‫يصدق ما سمع‪،‬‬
‫ال من فضلك‪ ." .‬لم ّ‬
‫انزل حا ً‬
‫وقلت له‪ْ " :‬‬
‫ُ‬ ‫السيارة‪،‬‬
‫أوقفت ّ‬
‫ُ‬ ‫ويظ ِهر مهارته‪ .‬فما كان ّ‬
‫مني إال أن‬ ‫ُ‬
‫أعدته العائلة للخطيب المحترم‪.‬‬
‫وعدت إلى المنزل لتناول طعام العشاء الذي ّ‬
‫ُ‬ ‫ولكني أنزلته‪،‬‬
‫ّ‬

‫قلت لها وأنا أضحك‪:‬‬


‫ُ‬

‫ـ ِ‬
‫أنت عجيبة يا مادهو‪ .‬وماذا عن الخاطب اآلخر؟‬

‫شاباً‪ ،‬وقال والدي ليذهب أحد إخوتي الستقباله‬


‫ـ بعد اإلعالن الثاني اختارت العائلة من بين الرسائل مهندساً ّ‬
‫في المطار واصطحابه إلى المنزل‪ ،‬لئال تُنزله مادهو في منتصف الطريق‪ .‬وهكذا كان‪ .‬واستدعوني من‬
‫غرفتي لاللتقاء به في صالة االستقبال في إقامتنا‪ ،‬حيث كان أفراد العائلة والضيف الخاطب يتناولون‬
‫أن الضيف ِّ‬
‫يدخن سيكا اًر‪ ،‬فلم أدخل الصالة‪ ،‬واّنما‬ ‫الحظت َّ‬
‫ُ‬ ‫المشروبات قبل العشاء‪ .‬وقبل أن أدخل الصالة‬

‫‪24‬‬
‫أعد‬ ‫ركبت سيارتي وذهبت لتمضية األمسية مع صديقتي‪ .‬فأنت تعرف َّ‬
‫أن لدي حساسية من الدخان‪ ،‬وال ّ‬ ‫ُ‬
‫إن مادهو هي التي تأتينا بعريسها‪.‬‬ ‫المدخنين من المثقَّفين‪ .‬وبعد ذلك توّقف والدي عن اإلعالن ّ‬
‫عني‪ ،‬وقال ّ‬ ‫ِّ‬
‫اتيت بك‪ ،‬فما مقدار المهر الذي تريده‪ ،‬يا سميري؟‬
‫وها أنا ُ‬

‫الجدية والوقار‪:‬‬
‫قلت بنوٍع من ّ‬
‫ضحكت لنكتتها‪ ،‬ثم ُ‬
‫ُ‬

‫أنت‪ ،‬يا عزيزتي مادهو‪ ،‬أغلى مهر في العالم‪ِ ،‬‬


‫أنت جوهرةٌ نادرةُ الوجود‪.‬‬ ‫ـ ِ‬

‫‪01‬‬

‫في صالة االستقبال الواسعة المشرعة األبواب على الجهات األربع في إقامة العائلة‪ ،‬استقبلني والداها‬
‫ولكنهم‬
‫إلي‪ّ .‬‬
‫لمحت شيئًا من الدهشة على وجوه أهلها عند رؤيتهم لي‪ ،‬أو هكذا خيل ّ‬
‫ُ‬ ‫وثالثةٌ من إخوتها ‪ .‬وقد‬
‫َّ‬
‫رحبو بي وأكثروا من الترحاب ‪.‬‬

‫ٍ‬
‫وعدد من‬ ‫وبعد ٍ‬
‫وقت قصير من االستراحة في غرفتي‪ ،‬جاءت مادهو تدعوني لتناول العشاء مع أهلها‬
‫الضيوف‪ .‬اصطحبتني إلى باحة المنزل‪ .‬وفي الطريق إلى المائدة الطويلة المقامة في الهواء الطلق‪ ،‬رأينا في‬
‫إن أهلها فهموا من‬
‫الحديقة سري ًار واسعًا تعلوه ناموسية (أو ُكلّة‪ ،‬بالهندية)‪ .‬فأشارت مادهو إلى السرير‪ ،‬وقالت ّ‬
‫أعدوا سري ًار مزدوجًا مع ناموسية في الهواء‬
‫البرقية التي أخبرتهم بمجيئها مع " ‪ “ FRIEND‬أنها فتاة‪ ،‬ولهذا ّ‬
‫جداً في الصيف والناس ينامون في الحدائق وعلى السطوح‪ .‬وعندها فهمت أمارات‬
‫حار ّ‬
‫الجو ٌّ‬ ‫الطلق َّ‬
‫ألن َّ‬
‫الدهشة التي علت وجوه أهلها عندما اكتشفوا أن من يرافق ابنتهم "صديق" وليس "صديقة"‪.‬‬

‫رجل‬
‫جلس والدها وسط المائدة‪ ،‬فأجلسني إلى يمينه‪ ،‬وجلست مادهو إلى يميني‪ .‬وعلى يساره جلس ٌ‬
‫إلي أبوها باسم الدكتور كاظم‪ ،‬طبيب العائلة ومعه زوجته والى جانبها ُّأم مادهو‪ .‬وجلس إخوتها الثالثة‬
‫قدمه ّ‬
‫ّ‬
‫الندل‪ ،‬كان أحدهم يقف مباشرًة خلف السيد جاكهاري‪ .‬وأمام‬ ‫على الجانبين‪ .‬ووقف خلف المدعويين ثالثةٌ من ُّ‬
‫ٍ‬
‫صغير‬ ‫يديه على ٍ‬
‫طبل‬ ‫المائدة‪ ،‬جلس رجالن يمسك أحدهما بآلة السيتار الموسيقية الهندية‪ ،‬واآلخر يضع ْ‬
‫أمامه‪ .‬وجل ست معهما ثالث راقصات‪ .‬وبعد أن انتظمت المائدة واكتملت‪ ،‬أعطى السيد جاكهاري إشارة من‬
‫إلي وقال‪:‬‬
‫ثم التفت ّ‬
‫رأسه لتبدأ الموسيقى والرقص‪ .‬وانهالت األطباق المتنوعة على المائدة‪َّ .‬‬

‫‪25‬‬
‫هام في وسط الهند‪َّ ،‬‬
‫فإنها ليست مدين ًة سياحية‪ ،‬أضف إلى‬ ‫مالي وصناعي ّ‬
‫مركز ٌّ‬
‫ـ على الرغم من أن إندور ٌ‬
‫ّأنني ال أعيش في قصر حاكم الوالية باستمرار‪ ،‬بل أفضل أن أعيش مع العائلة في ضيعتي هذه‪ ،‬وهي بعيدة‬
‫الفنانين من‬
‫ّ‬ ‫طلبت هؤالء‬
‫ُ‬ ‫ولكني‬
‫فرق موسيقيةٌ بالقرب منا‪ّ .‬‬ ‫عن المدينة نوعاً ما‪ .‬ولذلك ال توجد ٍ‬
‫ماله أو ٌ‬
‫المعبد الهندوسي المجاور‪ ،‬إكرامًا لك‪.‬‬

‫استمعت إليهما‪،‬‬
‫ُ‬ ‫ال أدري لماذا تسحرني موسيقى آلة السيتار الهندية وآلة الكورة اإلفريقية‪ ،‬فكلما‬
‫نسب بآلة‬
‫ٌ‬ ‫أألنهما آلتان وتريَّتان لهما‬
‫ّ‬ ‫كأني على وشك النوم‪.‬‬‫وثقل في جفوني ّ‬ ‫ٍ‬
‫باسترخاء في بدني ٍ‬ ‫شعرت‬
‫أدمنت على سماعها ف ي طفولتي حينما كان أخي‬
‫ُ‬ ‫العود التي ابتكرها السومريون قبل آالف السنين والتي‬
‫األكبر يعزفها باستمرار وأنا في فراشي على وشك النوم؟‬

‫ثمة ضيوف‪ ،‬وكان ذلك‬ ‫ٍ‬


‫تناولت الفطور مع العائلة على مائدة داخل الصالة‪ ،‬ولم ي ُكن ّ‬
‫ُ‬ ‫في الصباح‬
‫ال‪:‬‬
‫إلي قائ ً‬
‫وجه السيد جاكهاري كالمه َّ‬
‫اليوم عطلة نهاية األسبوع‪ّ .‬‬

‫تود مرافقتي للنزهة؟‬


‫ـ سأقوم بجولتي األسبوعيَّة في مزرعتي‪ ،‬هل ّ‬

‫فقلت‪:‬‬ ‫ُّ‬
‫التحدث معي على انفراد‪ُ ،‬‬ ‫ففهمت ّأنه يروم‬
‫ُ‬ ‫ولم يدعُ أي شخص آخر من الحاضرين‪،‬‬

‫ـ ِّ‬
‫بكل سرور‪.‬‬

‫الحوذي واقف عند بابها كما لو كان في حالة‬


‫ّ‬ ‫ٍ‬
‫بحصان واحد جاهزًة‪ ،‬و‬ ‫ثمة عربة "حنطور"‬
‫كانت ّ‬
‫وقبلها بنوع من‬
‫استعداد‪ ،‬فحالما خرج السيد جاكهاري من الصالة‪ ،‬أسرع الحوذي إليه وتناول يده اليمنى ّ‬
‫ليقبل يد السيد‬
‫الحظت أن بعضهم يجري إلى العربة ّ‬
‫ُ‬ ‫بالفالحين والمساعدين‪،‬‬
‫الخشوع‪ .‬وعند مرور العربة ّ‬
‫حذاءه‪،‬‬
‫َ‬ ‫يقبل يده‪ ،‬بل يلمس‬
‫جيكهاري الذي يتبادل معه كلمة أو كلمتين" تيكا‪ ،‬تيكا"‪ ،‬وبعضهم اآلخر ال ّ‬

‫وأحيانا يغطّي أصابعه بِ ُكم سترته قبل أن يضعها على الحذاء‪ّ ،‬‬
‫فخمنت َّأنهم من طبقة المنبوذين الذين ال‬
‫سي ٍد مثل حاكم الوالية من طبقة البراهما‪.‬‬
‫يجوز لهم لمس حذاء ّ‬

‫تحدث‬
‫كانت المزرعة واسعةً جداً فذ ّكرتني بمزارع تكساس الشهيرة باتساعها (‪ .)Ranches‬وبعد أن ّ‬
‫إلي عن محصوالت مزرعته التي ورثها عن أبيه‪ ،‬وعن ذكرياته في لندن خالل سنوات دراسته‬
‫السيد جاكهاري ّ‬

‫‪26‬‬
‫في جامعتها‪ ،‬وعن مسيرته السياسية واإلدارية إلى حين توليه منصب حاكم والية إندور‪ ،‬سألني بصورٍة تكاد‬
‫تكون مفاجئة‪:‬‬

‫ـ منذ متى وأنت تعرف الدكتورة مادهو؟‬

‫ـ منذ سنة تقريباً‪.‬‬

‫كأنه ِّ‬
‫يفكر فيما سيقول‪ ،‬وقال‪:‬‬ ‫صمت لحظةً ّ‬
‫َ‬

‫جيداً منذ والدتها قبل حوالي ثالثين سنة‪.‬‬


‫ـ أنا أعرفها ّ‬

‫قلت‪:‬‬
‫ُ‬

‫فأنت والدها‪.‬‬
‫ـ طبعًا‪َ ،‬‬

‫قال‪:‬‬

‫ٍ‬
‫شخصية قوية‪ ،‬وتفعل ما تحسبه صوابًا‪.‬‬ ‫ـ ّإنها ذات‬

‫ـ لعلَّها ورثت بعض صفاتك الحميدة‪.‬‬

‫قال‪:‬‬

‫أنت‪.‬‬
‫لدي نصيحة أسديها إليك َ‬ ‫ـ ولهذا فإني ال َّ‬
‫أتدخل في مسألة زواجها‪ .‬ولكن َّ‬

‫تفضل‪ ،‬سأستمع إليك ِّ‬


‫بكل سرور‪.‬‬ ‫ـ ّ‬

‫قال‪:‬‬

‫الحظت على مائدة العشاء الليلة الماضية‪ ،‬طبيب‬


‫َ‬ ‫لدي‪ .‬فكما‬ ‫ـ قبل ِّ‬
‫كل شيء‪ ،‬أنا ال تمييز ديني أو طائفي ّ‬
‫ولكني اخترته لكفاءته‪ .‬وما‬ ‫العائلة‪ ،‬الدكتور كاظم وزوجته مسلمان‪ ،‬مع َّ‬
‫أن كثي ًار من أقاربي الهندوس أطباء‪ّ ،‬‬
‫الديني بيننا‪.‬‬
‫ّ‬ ‫سأقوله لك ال عالقة له باالختالف‬

‫‪27‬‬
‫ـ أعلم ذلك‪.‬‬

‫الحب هو ُّ‬
‫كل شيء بالنسبة إليكما‪ .‬ولكن بعد بضعة شهور‬ ‫أنت والدكتورة مادهو اآلن في ريعان الشباب‪ ،‬و ُّ‬
‫ـ َ‬
‫من الزواج‪ ،‬ستخمد جذوة اللهفة والرغبة‪ ،‬وستواجهان الحياة سافرة الوجه بواقعها المؤلم‪ .‬وبما َّ‬
‫أن الثقافة‬
‫فإنها ستجد‬
‫الدموية‪ّ ،‬‬
‫ّ‬ ‫الهندوسية تسري عميقًا في كيان الدكتورة مادهو وشرايينها حتّى أخر ُشعيرة من ُشعيراتها‬
‫مجتمع ال تنتمي إليه وال تنسجم تقاليده وعاداته مع منظومتها الفكرية‪ .‬وحينذاك ستشعر‬
‫ٍ‬ ‫نفسها غريب ًة في‬
‫وشقاء‪ ،‬بدل‬ ‫وهما‬
‫نفسيتها وسلوكها‪ .‬وستمسي تعيس ًة بائسة‪ ،‬وتسبِّب لك قلقًا ًّ‬ ‫ٍ‬
‫ً‬ ‫بغربة تلقي بظاللها القاتمة على ّ‬
‫السعادة التي تحلمان بها اليوم‪.‬‬

‫وختم كالمه بقوله‪:‬‬

‫كل ما أرجوه هو أن تتمهل بعض الوقت‪ِّ ،‬‬


‫وتفكر في‬ ‫ـ أنا ال أريد جواباً منك اآلن‪ ،‬وال أتوقَّع ق ار اًر تتَّخذه‪ .‬ولكن ّ‬
‫ّ‬
‫النصيحة التي أسديتُها إليك‪.‬‬

‫قلت‪:‬‬
‫ُ‬

‫ـ سأفعل‪ ،‬وشك ًار الهتمامك‪.‬‬

‫بعد أن عدنا من المزرعة استقبلتني مادهو باشةً وهي تقول‪:‬‬

‫ـ كيف كانت جولتك في المزرعة؟‬

‫تمنيت لو ِ‬
‫كنت معنا‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫ـ رائعة جداً‪.‬‬

‫ـ نساء العائلة قلما يذهبن إلى المزرعة‪.‬‬

‫ٍ‬
‫بابتسامة ودود‪:‬‬ ‫سألتُها‬

‫ـ هل وصلتك برقيَّة تهنئة من صديقتك العزيزة الدكتورة نيليما‪.‬‬

‫قالت‪:‬‬

‫‪28‬‬
‫صلت بها هذا الصباح ولم ت ُكن في الشقّة‪.‬‬
‫ـ ال‪ ،‬اتّ ُ‬

‫تتوصل ببرقيتك بعد‪ .‬لماذا ال تتَّصلي بها اآلن في ِّ‬


‫مقر عملها فيما أسعد أنا‬ ‫َّ‬ ‫ـ لعلّها في المستشفى‪ ،‬أو لم‬
‫ُّ‬
‫بالتحدث مع أخيك‪.‬‬

‫قالت‪:‬‬

‫ـ سأفعل‪.‬‬

‫هت إلى آخر الصالة حيث الهاتف‪.‬‬ ‫َّ‬


‫وتوج ْ‬

‫يسرني‪.‬‬
‫عيني تنظر إلى حيث الهاتف لعّلني ألمح ما ّ‬ ‫كنت َّ‬
‫أتحدث إلى أخيها‪ ،‬كانت إحدى‬ ‫وفيما ُ‬
‫ّ‬

‫بعد بضع دقائق عادت مادهو وهي تسير الهوينى‪ ،‬مطرق ًة‪ ،‬وأمارات األسى بادية على وجهها‪.‬‬

‫وقلت لمادهو‪:‬‬
‫ُ‬ ‫نهضت من مقعدي‪،‬‬
‫ُ‬

‫ـ عزيزتي‪ ،‬ما ِ‬
‫بك؟‬

‫حزن‪:‬‬ ‫ٍ‬
‫بصوت فيه رَّنة ٍ‬ ‫قالت‬

‫ـ نيليما‪..‬‬

‫ثم استأنفت قائلة‪:‬‬


‫وصمتت لحظة‪َّ ،‬‬

‫ـ نيليما في غرفة العناية المركزة في المستشفى‪.‬‬

‫قلت باندهاش ظاهر‪:‬‬


‫ُ‬

‫ـ ماذا؟‬

‫األول وقد‬ ‫ـ نعم‪ .‬شرحت لي الممرضة في مكتب استقبال المستشفى َّ‬


‫أن نيليما ُنقلت إلى المستشفى أمس َّ‬
‫أُصيبت بنز ٍ‬
‫يف في الدماغ‪.‬‬

‫‪29‬‬
‫ـ نزيف في الدماغ؟!‬

‫ـ نعم‪.‬‬

‫ال‪.‬‬
‫ـ آمل أن يكون عاب اًر‪ ،‬وتتماثل للشفاء عاج ً‬

‫قالت‪:‬‬

‫يؤدي إلى سكتة دماغيَّة‪.‬‬


‫يتسبب النزيف بالشلل أو ّ‬ ‫ـ ال ُّ‬
‫أظن ذلك‪ .‬يستغرق العالج بعض الوقت‪ ،‬وقد ّ‬

‫تظاهرت باألسف وسألتها بصوت حزين ‪:‬‬


‫ُ‬ ‫ولكني‬
‫شيطاني‪ّ ،‬‬
‫ّ‬ ‫شعرت في أعماقي بفرٍح‬
‫ُ‬ ‫وهنا‬

‫ـ ولكن لماذا أُصيبت الدكتورة نيليما بنزيف في الدماغ؟‬

‫الدموية لديها‪ ،‬أو الرتفاع مفاجئ في ضغط الدم خرج عن السيطرة‪ ،‬فسبَّب‬ ‫ٍ‬
‫لضعف في جدران األوعية‬ ‫إما‬
‫ّ‬ ‫ـ ّ‬
‫ال في إمداد ِّ‬
‫المخ بالدم وعدم وصول األوكسجين الالزم ألنسجته‪.‬‬ ‫خل ً‬

‫إن الحقيرة نيليما قد نالت العقاب الذي تستحقُّه جزاء وقاحتها وعدوانها‬
‫قلت في ذات نفسي ّ‬‫في تلك اللحظة‪ُ ،‬‬
‫التحقت بي في‬
‫ْ‬ ‫ٍ‬
‫معقولة طبيعيَّة‪ ،‬و‬ ‫تصرفت بطر ٍ‬
‫يقة‬ ‫أن مادهو َّ‬ ‫إلي لو َّ‬
‫ولكنها لم ي ُكن في إمكانها اإلساءة َّ‬
‫علي‪ّ .‬‬
‫ّ‬
‫فإن مادهو‪ ،‬هي األخرى‪ ،‬مذنبة‪ ،‬ويجب أن تنال العقاب العادل‪.‬‬ ‫ش ّقتي في لندن بدون ّأية تعقيدات‪ .‬ولهذا ّ‬
‫ال‪:‬‬
‫التفت إلى مادهو قائ ً‬
‫ُ‬ ‫وهنا‬

‫ومن الذي يعتني بالدكتورة نيليما حالياً؟‬


‫ـ َ‬

‫ـ أطباء المستشفى وممرضاته‪.‬‬

‫قلت‪:‬‬
‫ُ‬

‫ـ أعني هل يوجد أحد من عائلتها أو أصدقائها هناك يقف إلى جانبها في محنتها ويعودها بانتظام‪.‬‬

‫ـ ال‪.‬‬

‫قلت‪:‬‬
‫ُ‬
‫‪30‬‬
‫ـ عزيزتي مادهو‪ ،‬ينبغي أن تكوني ِ‬
‫أنت إلى جانبها اآلن‪ .‬ليس من المعقول أن تكون صديقتك الحبيبة ترقد‬
‫في غرفة العناية المركزة في المستشفى هناك‪ ،‬وأنت هنا في فرح واحتفال‪ .‬الوفاء يتطلَّب أن تكوني إلى‬
‫جانبها‪.‬‬

‫كنت أف ّكر فيه‪ ،‬ولكن ‪...‬‬


‫ـ هذا ما ُ‬

‫ال‪:‬‬
‫قاطعتُها قائ ً‬

‫ـ ال تقلقي من ناحيتي‪ .‬سنؤجل احتفال زفافنا‪ ،‬حتّى تتعافى صديقتك العزيزة‪ .‬ال َّ‬
‫تترددي في العودة إلى لندن‬
‫ومساعدتها‪ ،‬فواجب الصداقة يفرض ذلك‪ .‬ووفاؤك لها اآلن ِّ‬
‫يؤكد لي أنك ستكوني وفية لي كذلك في‬
‫المستقبل‪ ،‬و َّأن ِك ستكونين بجانبي في السراء والضراء‪.‬‬

‫أنت؟‬
‫ـ وماذا ستفعل َ‬

‫ـ سأذهب إلى باريس لاللتحاق في الدورة الصيفية لجامعة السوربون‪.‬‬

‫كان قصدي طبع ًا االبتعاد عن مكان نيليما وما يتعّلق بها‪ ،‬ليكون انتقامي منها جريم ًة كاملة‪ .‬ومن ناحية‬
‫ألتعمق في دراسة القانون الجنائي لمعرفة ما إذا كان فعلي تنطبق عليه أوصاف الجريمة‪.‬‬
‫ّ‬ ‫أخرى‬

‫‪31‬‬
‫السباح‬

‫قلت أل ُّمي في ٍ‬
‫يوم من أيام العطلة المدرسيَّة الصيفيَّة‪:‬‬ ‫يوم ُ‬
‫كان عمري اثني عشر عاماً‪َ ،‬‬

‫أستحم في النهر‪ ،‬و ُّ‬


‫أحب أن آخذ معي أخي حسن‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫ـ ماما‪ ،‬أريد أن‬

‫وكان أخي حسن في السادسة من عمره وأنهى السنة األولى االبتدائية‪ .‬والنهر ال يبعد كثي ًار عن دارنا‬
‫في البلدة‪.‬‬

‫ال‪:‬‬
‫أطرقت قلي ً‬
‫ْ‬ ‫ُمي‪ ،‬بعد أن‬
‫قالت أ ّ‬

‫ـ يا ُبني‪َّ ،‬‬
‫إن أباك مسافر‪ .‬وأ ِّ‬
‫فضل أن تنتظر‪ ،‬حتّى يعود من سفره قريبًا‪ ،‬ويصطحبكما معه‪.‬‬

‫قلت‪:‬‬
‫ُ‬

‫خاصةً إذا كان معي رفيق‪.‬‬


‫َّ‬ ‫حار جداً‪ ،‬والسباحة في النهر متعةٌ كبيرة‪،‬‬ ‫ـ َّ‬
‫ولكن اليوم ٌّ‬

‫قالت‪:‬‬

‫ـ َّ‬
‫ولكن أخاك حسن ال يعرف السباحة‪ ،‬وأَخشى أن يقع له مكروه‪.‬‬

‫رفعت من نبرة صوتي‪:‬‬


‫ُ‬ ‫ًّ‬
‫محتجا وقد‬ ‫قلت‬
‫ُ‬

‫ال‪ .‬فعمري أثنتا عشرة سنة‪ .‬سأعلِّمه السباحة‪ ،‬و َّ‬


‫أتأكد من‬ ‫َعد طف ً‬
‫ال ولم أ ُ‬
‫أصبحت رج ً‬ ‫ُماه‪،‬‬ ‫ـ َّ‬
‫ُ‬ ‫ولكنني‪ ،‬يا أ ّ‬
‫سالمته‪.‬‬

‫ٍ‬
‫مناسبات عديدة‪:‬‬ ‫الفائتين‪ ،‬كثي ًار ما تقول لي في‬ ‫العامين‬ ‫ُمي‪ ،‬خالل‬
‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫وكانت أ ّ‬

‫تعدى العاشرة‪.‬‬
‫ال‪ ،‬فعمرك قد ّ‬
‫تعد طف ً‬ ‫ـ ال ِ‬
‫ال‪ .‬لم ُ‬
‫أصبحت رج ً‬
‫َ‬ ‫تبك‪ ،‬فقد‬

‫‪32‬‬
‫أو تقول‪:‬‬

‫فعمرك أكثر من عشر سنوات‪.‬‬


‫ال‪ُ ،‬‬
‫أصبحت رج ً‬
‫َ‬ ‫ـ افعل هذا بنفسك‪ .‬اعتمد على نفسك‪ ،‬فقد‬

‫ولكثرة ما َّ‬
‫رددت مقولتها هذه‪ ،‬دخل في روعي أََّنني لم أعد طفالً‪ ،‬وأن الفرد يبلغ مرحلة الرجولة بعد‬
‫العاشرة من العمر‪.‬‬

‫ووقعت في حيرٍة من‬


‫ْ‬ ‫المكررة‪ ،‬لم تست ِطع مناقضة نفسها‪،‬‬
‫َّ‬ ‫ُمي مقولتها‬
‫أشهرت في وجه أ ّ‬
‫ُ‬ ‫ولهذا‪ ،‬فعندما‬
‫افقت على مضض‪ ،‬وهي تقول‪:‬‬
‫أمرها‪ .‬وو ْ‬

‫انتبه ألخيك‪ .‬وال تبتعدا عن جرف النهر‪.‬‬


‫ـ ولكن‪ْ ،‬‬

‫المصورة‪ .‬سحبتُه من يده‬


‫َّ‬ ‫يت إلى غرفة أخي حسن‪ ،‬فوجدته يتصفّح كتابًا من ُكتب األطفال‬ ‫قفزت ِ‬
‫فرحًا‪ ،‬وجر ُ‬ ‫ُ‬
‫ال‪:‬‬
‫قائ ً‬

‫ـ تعال معي إلى النهر‪ .‬سنسبح ونمرح كثي اًر‪.‬‬

‫قال مستغرباً‪:‬‬

‫ـ َّ‬
‫ولكنني ال أعرف السباحة‪.‬‬

‫ال‪.‬‬
‫أصبحت رج ً‬
‫ُ‬ ‫يهم‪ .‬سأعلِّ َ‬
‫مك‪ .‬فقد‬ ‫ـ ال ّ‬

‫جر‪.‬‬
‫أجره ًّا‬
‫اح يجرجر رجليه‪ ،‬وأنا أقوده من يده‪ ،‬بل ُّ‬
‫ولكنه ر َ‬ ‫ربَّما لم ي ْفقه أخي حسن َّ‬
‫كل ما قلتُه عن الرجولة‪َّ ،‬‬

‫وصلنا النهر‪ ،‬لم ي ُكن غيرنا على ذلك الشاطئ القري ب من دارنا‪ .‬خلعنا مالبسنا ما عدا السروال‬
‫فرحين‪ ،‬نأخذ حفنة من‬
‫التحتي‪ .‬وضعنا مالبسنا على الشاطئ‪ .‬نزلنا إلى النهر بالقرب من الحافة‪ .‬رحنا نلعب ْ‬
‫حاولت أن أعلّمه السباحة‪ ،‬بوضع يدي تحت‬
‫ُ‬ ‫ثم‬
‫الماء ونرميها إلى األعلى‪ ،‬أو يرميها أحدنا على اآلخر‪ّ .‬‬
‫أن الماء يخفِّف من‬
‫أظن‪ ،‬على الرغم من َّ‬ ‫اكتشفت َّأنه أثقل مما ُ‬
‫كنت ّ‬ ‫ُ‬ ‫بطنه والطلب منه بتحريك يديه ورجليه‪.‬‬
‫رحت‬
‫ُ‬ ‫ِ‬
‫كلمات التشجيع‪ .‬بعد ذلك تركته يلعب وحده في الماء بالقرب من الجرف‪ ،‬على حين‬ ‫أكثرت من‬
‫ُ‬ ‫ثقله‪.‬‬
‫ثم أعود إليه‪ ،‬وهكذا‪.‬‬
‫ال‪َّ ،‬‬
‫أسبح في النهر مبتعداً عنه قلي ً‬

‫‪33‬‬
‫كنت عائداً إلى الجرف‪ ،‬فلم يقع ناظري عليه‪ .‬هل‬
‫أقل‪ ،‬حين ُ‬ ‫ٍ‬
‫ساعة أو ّ‬ ‫نصف‬
‫ُ‬ ‫مضى على ذلك نحو‬
‫جار في النهر‪ ،‬وال مخلوق‬ ‫ت في ِّ‬
‫كل االتجاهات‪ .‬الماء ٍ‬ ‫رحت َّ‬
‫أتلف ُ‬ ‫ُ‬ ‫خرج إلى الشاطئ؟ ال أحد على الشاطئ‪.‬‬
‫فيه‪ .‬أصابني هلعٌ شديد‪.‬‬

‫أن أخي حسن قد غرق‪ .‬ففي ِّ‬


‫كل عام نسمع أنهم عثروا على أحد أبناء‬ ‫في تلك اللحظة‪َّ ،‬‬
‫تأكد لي َّ‬
‫بلدتنا غريقاً في النهر‪ ،‬أو وجدوا غريقاً طافياً انحدر مع مجرى النهر من األعالي‪ .‬في تلك اللحظة‪ ،‬وأنا‬
‫ُمي الحزين وهي تلومني قائل ًة‪:‬‬ ‫َّ‬ ‫أتلفَّ ُ‬
‫ت يمن ًة ويسرة‪ ،‬تمثل لي وجه أ ّ‬

‫لك َّإنني أخشى عليه من الغرق؟ ألم أقُل َ‬


‫لك َّ‬
‫إن أباك غائب؟ ألم‬ ‫لك َّإنه ال يعرف السباحة؟ ألم أقُل َ‬
‫ـ ألم أقُل َ‬
‫أرجوك أن تنتظر حتّى يعود أبوك؟ ألم‪...‬‬
‫َ‬

‫وفي اللحظة نفسها‪ ،‬تمثَّ َل لي أبي وهو يفسِّر لي سورة يوسف في القرآن‪ .‬يعقوب ّ‬
‫يحب كثي ًار أصغر‬
‫يتوهمون‪ .‬يتآمرون على يوسف‪.‬‬‫حب أبيهم‪ ،‬أو هكذا ّ‬ ‫أوالده‪ ،‬يوسف‪ .‬إخوة يوسف يغارون منه‪َّ ،‬‬
‫ألنه يستأثر ب ّ‬
‫يأخذونه معهم إلى البادية للَّعب‪ ،‬على الرغم من اعتراض أبيهم‪ .‬يذهبون به بعيداً عن القرية‪ .‬يلقون به في‬
‫بئر للتخلُّص منه‪.‬‬
‫ٍ‬

‫َّ‬
‫ولكن قلبه‬ ‫أغرقت أخي حسن عمداً‪ .‬قد ال يفعل شيئًا‪ ،‬تماماً مثل يعقوب‪.‬‬
‫ُ‬ ‫َّ‬
‫سيتأكد ألبي َّأنني‬ ‫إذن‬
‫ُّ‬
‫سيظل حزينًا مكلومًا‪ ،‬وال مكان لي فيه‪.‬‬

‫علي اليأس‪ ،‬فال من أحد استنجد به‪،‬‬ ‫ًا ِّ‬


‫ويسار محدقًا في سطح النهر الخالي‪ .‬سيطر ّ‬ ‫يمينا‬
‫ت ً‬ ‫أخذت أتلفَّ ُ‬
‫ُ‬
‫اتخذت ق ار ًار جازمًا‪َّ :‬إنني لن‬
‫ُ‬ ‫دعوت اهلل‪ ،‬في قلبي‪ ،‬أن يساعدني والدمع ينحدر من عيني‪ .‬في تلك اللحظة‪،‬‬ ‫ُ‬
‫ورحت‪ ،‬يائسًا بائسًا‪،‬‬
‫ُ‬ ‫أعود إلى ُّأم ِِي إذا غرق حسن‪ .‬لن أعود إليها مطلقًا‪ ،‬واَّنما سأ ِ‬
‫ُغرق نفسي أنا اآلخر‪.‬‬
‫أحدق في سطح النهر في جميع االتجاهات‪.‬‬
‫ّ‬

‫أمد يدي‬
‫قوتي‪ ،‬وأنا ّ‬ ‫ِّ‬
‫اندفعت نحوه بكل ّ‬
‫ُ‬ ‫الح لي رأس حسن ينبثق من الماء ليس بعيداً عني‪.‬‬
‫فجأةً‪َ ،‬‬
‫بقوة خارج الماء‪.‬‬
‫قبضت على رأسه‪ .‬سحبتُه َّ‬
‫ُ‬ ‫مددت كلتا يدي‪.‬‬
‫ُ‬ ‫فلت مني‪.‬‬
‫لمست شعره‪ .‬جذبته من شعره‪َ .‬‬
‫ُ‬ ‫إليه‪.‬‬
‫أوتيت من عزم رافعاً رأسه إلى األعلى‬
‫ُ‬ ‫اصلت المشي ِّ‬
‫بكل ما‬ ‫المست قدماي قعر النهر‪ .‬و ُ‬
‫ْ‬ ‫غطست أنا بدوري‪.‬‬
‫ُ‬
‫إن بلغنا‬ ‫ات ٍ‬
‫قليلة‪ ،‬ظهر رأسي في الهواء وأنا أسعل‪ .‬ما ْ‬ ‫كدت أختنق تحت الماء‪ .‬بعد خطو ٍ‬
‫ليستنشق الهواء‪ُ ..‬‬
‫‪34‬‬
‫وضعت حسن على األرض‪ ،‬ورجاله ما زالتا في الماء‪ .‬اخذ يتنفّس بصعوبة‪ .‬ويسعل‪ .‬عندما‬
‫ُ‬ ‫الشاطئ حتّى‬
‫بصوت ُمنهَ ٍك الهث‪:‬‬
‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫عتاب أو هكذا بدت لي وقال‬ ‫إلي نظرَة‬
‫استطاع أن يتكّلم‪ ،‬نظر َّ‬

‫غرقت‪.‬‬
‫ُ‬ ‫غرقت‪ .‬لقد‬
‫ُ‬ ‫ـ لقد‬

‫قلت له‪:‬‬
‫ُ‬

‫تعلمت السباحة‪ .‬كلُّنا نغطس في الماء‪ ،‬ولهذا نأتي للسباحة‬


‫َ‬ ‫غطست في الماء بعد أن‬
‫َ‬ ‫ـ ال‪َّ ،‬إن َك لم تغرق‪َ .‬‬
‫أنت‬
‫في النهر‪.‬‬

‫قال‪:‬‬

‫"غطست في الماء" ؟! أنا غرقت‪.‬‬


‫َ‬ ‫ـ ما معنى‬

‫ثم أضاف‪:‬‬ ‫توقَّ َ‬


‫ف عن الكالم وهو يلهث‪َّ ،‬‬

‫ُذني َّ‬
‫انسدتا‪.‬‬ ‫دخل الماء من فمي وأنفي‪ .‬وحتّى أ َ‬
‫امتألت معدتي بالماء‪َ .‬‬
‫ْ‬ ‫ـ‬

‫ثم تقيَّأ شيئًا من الماء‪.‬‬


‫َّ‬

‫قلت له وأنا أُ ِّ‬


‫نشف جسمه بالمنشفة‪:‬‬ ‫ُ‬

‫ـ هكذا يحصل لي عندما أغطس في الماء‪.‬‬

‫محتجًا‪:‬‬
‫ّ‬ ‫قال‬

‫اختنقت!‬
‫ُ‬ ‫ـ َّ‬
‫ولكنني‬

‫أتصنع ابتسام ًة‪:‬‬


‫ّ‬ ‫قلت له وأنا‬
‫ُ‬

‫ولكن َن َف َس َك انقطع‪ .‬وهذا هو التعبير الصحيح‪ .‬وهو ما يحصل دائمًا حتَّى‬


‫َّ‬ ‫ـ في الحقيقة‪َّ ،‬إنك لم تختنق‪،‬‬
‫مرات‪.‬‬
‫عدة ّ‬
‫السباحين وأمهر الغطّاسين‪ .‬أبو هيف انقطع َن َف َسه ّ‬
‫ألشهر ّ‬

‫‪35‬‬
‫إلي باستغراب‪:‬‬
‫سأل وهو ينظر ّ‬

‫ـ َمن هو أبو هيف‪ ،‬وما عالقتي به؟‬

‫بجد‪:‬‬
‫قلت ّ‬
‫ُ‬

‫سباح عربي‪ ،‬وقد‬ ‫أصبحت رجالً وتعلَّ َ‬


‫مت السباحة‪ ،‬فمن الالزم أن تعرف أن أبا هيف هو أعظم ّ‬ ‫َ‬ ‫دمت قد‬
‫ـ ما َ‬
‫استطاع أن يعبر المانش سباح ًة‪.‬‬

‫ـ ما معنى المانش؟‬

‫مرة‪.‬‬
‫بحر بين فرنسا وبريطانيا‪ .‬وهو أعرض من هذا النهر بألف ألف ّ‬
‫ـ المانش ٌ‬

‫وسرت به نحو سوق البلدة الصغير‪ ،‬وأنا أقول له‪:‬‬


‫ُ‬ ‫ألبسته ثوبه‪ ،‬وأخذتُه من يده‪،‬‬

‫ط ٍ‬
‫سة رائعة‪.‬‬ ‫ـ سأشتري لك الحلوى اليوم بمناسبة تعلُّمك السباحة‪ ،‬وقيامك بِغ ْ‬

‫ت له‪:‬‬
‫أقبل على أكل الحلوى بشهية ملحوظة‪ .‬فقل ُ‬

‫ال‪ ،‬يا حسن‪ ،‬ولهذا سأعطيك درهمًا َّ‬


‫كل ٍ‬
‫يوم من مصروف جيبي‪ .‬كما سأشتري لك الحلوى‬ ‫أصبحت اليوم رج ً‬
‫َ‬ ‫ـ‬
‫التي تحبُّها َّ‬
‫كل يوم‪.‬‬

‫مصدق‪ ،‬ألنني لم أ ِ‬
‫ُعطه أي شيء من قبل‪:‬‬ ‫ِّ‬ ‫قال وهو غير‬

‫ـ صحيح؟ شك ًار‪.‬‬

‫قلت له ونحن في طريقنا إلى المنزل‪:‬‬


‫ُ‬

‫ال؟‬
‫أنت أصبحنا رجا ً‬
‫ـ أتعرف‪ ،‬يا حسن‪ ،‬أنا و َ‬

‫سأل وهو غير مصدق‪:‬‬

‫‪36‬‬
‫ـ صحيح؟‬

‫أجبت بنبرٍة ّ‬
‫حادة جازمة‪:‬‬ ‫ُ‬

‫مت السباحة‪ .‬وتذ ّكر َّ‬


‫أن الرجال لهم أسرارهم التي ال يبوحون‬ ‫ال مثلي‪َّ ،‬‬
‫ألنك تعلّ َ‬ ‫أصبحت رج ً‬
‫َ‬ ‫ـ نعم‪ِّ ،‬‬
‫بكل تأكيد‪.‬‬
‫بها للنساء‪ ،‬وال أل َُّمهاتهم‪ ،‬وال ألَخواتهم‪.‬‬

‫سأل ‪:‬‬

‫ـ لماذا؟‬

‫قلت‪:‬‬
‫ُ‬

‫وهن ال يخبرونهم بأسرار َّ‬


‫هن‪.‬‬ ‫يخبرونهن بأسرارهم‪َّ ،‬‬
‫َّ‬ ‫ألنهم رجال‪ .‬فالرجال رجال والنساء نساء‪ .‬وهم ال‬
‫ـ ّ‬

‫قال‪:‬‬

‫ـ ال أدري‪.‬‬

‫قلت‪:‬‬
‫ُ‬

‫ـ أنا أدري‪ .‬أنا ِّ‬


‫أن ال تُخبِر أ ّ‬
‫ُمنا وال أُختنا الصغيرة عن غطستك الرائعة في النهر هذا‬ ‫متأكد‪ .‬ولهذا أرجوك ْ‬
‫إياك أن تخبرهما‬
‫أصبحت رجالً‪ ،‬مثلي‪ .‬ولكن‪َ ،‬‬
‫َ‬ ‫أنك‬
‫مت السباحة‪ ،‬و َ‬ ‫اليوم‪ .‬طبعًا‪ ،‬يمكنك أن تخبرهما َّ‬
‫بأن َك تعل َ‬
‫فإنني لن اشتري لك الحلوى َّ‬
‫كل يوم‪ ،‬ولن‬ ‫بحت به‪ّ ،‬‬
‫َ‬ ‫سر بيننا فقط‪ .‬واذا‬
‫عن غطستك الجميلة تلك‪ .‬فهذا ٌّ‬
‫أعطيك درهمًا َّ‬
‫كل يوم‪ .‬اتفقنا؟‬ ‫َ‬

‫لم ُي ِجب َّ‬


‫ولكنه التهم آخر قطعة من الحلوى‪.‬‬

‫ال له وأنا أفتح باب المنزل‪:‬‬


‫ودسستُه في يده‪ ،‬قائ ً‬
‫أخرجت آخر درهم لدي َ‬
‫ُ‬ ‫ولكي أبرهن له على صدق وعدي‪.‬‬

‫أختك بتلك الغطسة‪.‬‬


‫َ‬ ‫ـ على شرط أن ال تُخ ِبر أ ّ‬
‫ُم َك وال‬

‫فرحةً بعودتنا‪ ،‬حتّى صرخ حسن بأعلى صوته قائالً‪:‬‬ ‫إن دخلنا المنزل‪ ،‬واستقبلتنا أُمنا ِ‬
‫باسم ًة ِ‬ ‫ما ْ‬
‫‪37‬‬
‫غرقت‪.‬‬
‫ُ‬ ‫غرقت في النهر‪ .‬أتعرفين؟ أنا‬
‫ُ‬ ‫ـ ماما‪ ،‬أنا‬

‫بعينين ُمنكسرتَْين وبنبرِة اعتذار‪:‬‬


‫وقلت أل ُّمي ْ‬
‫ُ‬ ‫أكثر اصف ار اًر‪،‬‬
‫عند ذلك أمسى وجهي َ‬

‫ُغرق نفسي معه‪ ،‬ولن أعود إليك‪.‬‬ ‫رت إذا غرق حسن‪َّ ،‬‬
‫فإنني سأ ِ‬ ‫ُمي‪َّ ،‬أنني َّ‬
‫قر ُ‬ ‫صدقيني‪ ،‬يا أ ّ‬
‫ـ ّ‬

‫أمي‪:‬‬
‫قالت ّ‬

‫ال من ٍ‬
‫ولد واحد‪.‬‬ ‫ي كليهما‪ ،‬بد ً‬
‫بولد َِ َّ‬ ‫ـ يا لِخيبتي! يا لِ َّ‬
‫لذكاء ! لكي تنكبني َ‬

‫ــــــــــــــ ـ‬

‫‪38‬‬
‫اللُّغز !‬

‫حل اللُّغز الذي‬


‫أتمكن من ِّ‬ ‫ِ‬
‫أستطع نسيانها‪ ،‬ولم َّ‬ ‫مرت على الحادثة التي سأرويها‪ ،‬ولم‬
‫أربعون عامًا َّ‬
‫حيرني طوال عمري‪.‬‬
‫ّ‬

‫تطرق ذاكرتي في وحدتي‪ ،‬تحاصرني في األماكن الموحشة‪ُّ ،‬‬


‫تقض فراشي عندما‬ ‫ٍ‬
‫بين آونة وأخرى‪ُ ،‬‬
‫أظل أقلِّب األمر على جميع وجوهه‪ :‬الممكنة والمحتملة والمستحيلة؛ َّ‬
‫لعلني أعثر على جو ٍ‬
‫اب‬ ‫آوي إليه وحيدًا‪ُّ :‬‬

‫ب وهج هذه‬
‫يخ ُ‬ ‫ِّ‬
‫المحيرة‪ .‬لم ْ‬ ‫حدًا لتساؤالتي المتناسلة‬ ‫ٍ‬
‫معقول‪ ،‬أو أجد تفسي ًار منطقيًا مقبوالً لما وقع‪ ،‬يضع ّ‬
‫أهمَّية‪،‬‬
‫الحادثة بمرور السنوات الطوال‪ ،‬ولم يسلبها الزمن بريقها‪ ،‬كما فعل مع غيرها من الحوادث األكثر ِّ‬
‫واألبعد مغزى‪ ،‬واألقوى تأثي ًار في مسيرتي‪.‬‬

‫ينيات من عمري‪ ،‬أدرس في الجامعة األمريكية في بيروت؛ المعرفة‬


‫كنت شاباً يافعاً في أوائل العشر ّ‬
‫ُ‬
‫األمل‬
‫ُ‬ ‫ال ‪ ،‬كبقية أبناء جيلي في الجامعة‪ ،‬يمأل أعطافنا‬
‫همي ومطلبي؛ متفائ ً‬
‫هي منيتي‪ ،‬واكتساب العلم هو ّ‬
‫جناحيها‬
‫ْ‬ ‫في َّأننا سنستنزل من أعالي السماء عنقاء الوحدة العربية في القريب العاجل‪ ،‬وهي تحمل على‬
‫الستينيات‪ ،‬في‬
‫ّ‬ ‫ونحرر فلسطين السليبة؛ وأزهار بيروت‪ ،‬آنذاك في أواسط‬
‫ِّ‬ ‫التنمية والديمقراطية والرفاهية‪،‬‬
‫الفن‬ ‫المياسة‪ ،‬تعبق بالشذى‪ ،‬وتفوح بالعطر و ِّ‬
‫الحب و ّ‬ ‫طف بعد‪ ،‬وهي على أغصانها ّ‬
‫عمرها الذهبي‪ ،‬لم تُق َ‬
‫الحرّية‪.‬‬
‫و ِّ‬

‫تقدمها جامعة أوسلو في النرويج‬ ‫منحة در ٍ‬


‫اسية ِّ‬ ‫ٍ‬ ‫أت إعالنًا في لوحة إعالنات الجامعة عن‬ ‫ذات يوم‪ ،‬قر ُ‬
‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫لواحد من الطالب العرب‪ ،‬للمشاركة في دورٍة صيفية ُم َّدتها ستة أسابيع‪ ،‬وال ّ‬
‫يتحمل الفائز بالمنحة سوى نفقات‬
‫المرة‪ِ ،‬ل ِعلمي‬ ‫َّ‬ ‫ِّ‬
‫مصدق َّ‬
‫أن الحظ سينعطف إلى دربي هذه ّ‬ ‫بعثت بترشيحي إلى جامعة أوسلو‪ ،‬غير‬ ‫ُ‬ ‫السفر‪.‬‬
‫تضم آالف الطالب الذين هم أفضل مني‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫بوجود جامعات كثيرة في وطننا العربي ّ‬

‫ت في صندوق بريدي الصغير رسال ُة القبول من جامعة أوسلو‪.‬‬


‫طْ‬‫مفاجأة سارًة لي عندما ح ّ‬
‫ً‬ ‫كانت‬
‫ال‬
‫أخذت أضع الخطط لهذه الرحلة‪ ،‬مستعج ً‬
‫ُ‬ ‫المدرجات‪ ،‬فقد‬
‫َّ‬ ‫ومع َّ‬
‫أن امتحانات آخر العام كانت على أبواب‬

‫‪39‬‬
‫علي‪ :‬انجذب إليها‪ ،‬أتلهف‬
‫حلول العطلة الصيفية الكتشاف أوسلو وجامعتها‪ .‬فاألماكن الجديدة تمارس سح اًر َّ‬
‫ال صغي ًار في السنوات األولى‬
‫كنت طف ً‬ ‫حب ٍ‬
‫عارم بيني وبينها‪ ،‬منذ أن ُ‬ ‫إلى االرتماء في ربوعها‪ ،‬تنشأ عالقة ٍّ‬
‫حب االستطالع‬ ‫ملونًا‪ .‬كانت النرويج بالذات تثير َّ‬
‫إلي أخي الكبير أطلساً ّ‬
‫من المدرسة االبتدائية‪ ،‬حينما أهدى ّ‬
‫يتجمد معه شعر الرأس‪ ،‬وجبالها المكلَّلة بالثلوج التي‬
‫أتخيل َبردها الذي َّ‬
‫كنت ّ‬ ‫ألنها في أقصى الشمال‪ُ .‬‬ ‫لدي‪ّ ،‬‬
‫أتصور أهلها الفايكنغ طوال‬ ‫ال تذوب‪ ،‬والخضرة التي ال تذبل‪ ،‬والشمس التي ال تغيب‪ ،‬في ِّ‬
‫عز الصيف؛ و َّ‬
‫كث الشعر‪ ،‬وهم يحملون فؤوسهم في أيديهم‪ ،‬ويركبون سفنهم العمالقة‬
‫القامة‪ ،‬شقر الوجوه‪ ،‬زرق العيون‪ّ ،‬‬
‫لغزو البحار‪ .‬لع َّل هذه الصورة التي هيمنت على مخيلتي هي نتيجةً للقصة التي رواها لي أبي عن سفير‬
‫عربي اسمه ابن فضالن ابتعثه الخليفة المقتدر العباسي إلى ملك الصقالبة قبل حوالي ألف عام‪ ،‬فاختطفه‬
‫وظل أسي اًر لديهم أربع سنين كاملة‪ ،‬حتّى استطاع أن يفلت‬
‫رجال الفايكنغ بالقرب من نهر الدانوب في أوربا‪ّ ،‬‬
‫تأخره‪.‬‬ ‫منهم‪ ،‬ويعود إلى بغداد‪ِّ ،‬‬
‫ويقدم تقريره إلى الخليفة العباسي عن أسباب ُ‬

‫ولجت مكتب‬
‫ُ‬ ‫عت إلى السفارة النرويجية في بيروت للحصول على تأشيرة الدخول‪ .‬وعندما‬‫أسر ُ‬
‫الدبلوماسية‬
‫ّ‬ ‫بت بي كثي ًار بلغتها‬
‫رح ْ‬ ‫ٍ‬
‫جميل صبو ٍح بشوش‪َّ .‬‬ ‫ألفيت شاب ًة طويلة القوام‪ ،‬ذات ٍ‬
‫وجه‬ ‫ُ‬ ‫القنصل‪،‬‬
‫أهدت لي ُكتُبًا وأدل ًة عن النرويج‪.‬‬
‫وختمت جواز سفري و ْ‬
‫ْ‬ ‫بالمودة‪،‬‬
‫ّ‬ ‫األنيقة‪ ،‬فأشعرتني‬

‫قالت لي َّ‬
‫إن ثمن‬ ‫اغتنمت مقابلتها ورحابة صدرها ألسألها عن أرخص الطرق للسفر إلى النرويج‪ْ .‬‬ ‫ُ‬
‫اقترحت‬
‫ْ‬ ‫حالة ٍ‬
‫جيدة في ألمانيا‪ .‬و‬ ‫مستعملة في ٍ‬
‫ٍ‬ ‫سيا ٍرة‬
‫تذكرة السفر بالطائرة إلى أوسلو ذهاباً واياباً أغلى من ثمن ّ‬
‫علي أن أسافر بالطائرة إلى اسطنبول ثم أستقل قطار الشرق إلى أقرب مدينة ألمانية‪ ،‬ميونيخ‪ ،‬وهناك أشتري‬
‫ّ‬
‫أضافت ِْ‬
‫ْ‬ ‫شئت‪ .‬و‬
‫ُ‬ ‫إن‬
‫بح‪ ،‬أو أحتفظ بها ْ‬ ‫سيارًة أواصل السفر بها إلى أوسلو‪ ،‬وأعود إلى بيروت‪ ،‬وأبيعها بر ٍ‬
‫ّ‬
‫قائلةً‪:‬‬

‫التجول بسيَّارٍة في أوربا‪".‬‬


‫ُّ‬ ‫إن الربح الحقيقي يكمن في الخبرة والمتعة اللَّ ْتين تجنيهما من‬
‫ـ " َّ‬

‫قلت في نفسي‪َّ :‬إنهم يستخدمون دماغهم في التفكير والتدبير؛ و ُ‬


‫أخذت بنصيحتها‪.‬‬ ‫ُ‬

‫جلست في إحدى‬
‫ُ‬ ‫ال إلى محطَّة القطار‪ .‬وعندما‬
‫وتوجهت حا ً‬
‫هبطت من الطائرة في مطار إسطنبول‪ّ ،‬‬
‫ُ‬
‫مقصورات القطار العريق األنيق الذي أدمن الترحال منذ سنة ‪ ،0883‬جال في خاطري جميع األدباء الذين‬

‫‪40‬‬
‫أنتجوا بعض أدبهم في هذا القطار‪ :‬گراهام گرين الذي أبدع رواية عنوانها " قطار الشرق السريع"‪ ،‬والشاعر‬
‫الفرنسي أپولونير الذي نظم بعض قصائده فيه‪ .‬وبعد أن تحرك القطار و ِ‬
‫أخذت المشاهد الطبيعية تجري ُمقبِل ًة‬ ‫ّ‬
‫خطرت ببالي‬ ‫ْ‬ ‫ٍ‬
‫خاطفة‪ ،‬وراح القطار يدخل في بعض األنفاق الطويلة المظلمة المخيفة‪،‬‬ ‫عة متز ٍ‬
‫ايدة‬ ‫علي بسر ٍ‬
‫َّ‬
‫ُّ‬
‫التوجس‪ ،‬حتّى‬ ‫شيء من‬
‫ٌ‬ ‫رواية أگاثا كريستي البوليسية " جريمة قتل في قطار الشرق السريع"‪ ،‬وداخلني‬
‫ات زائغةٌ‪ ،‬ظننتُه‪،‬‬
‫ثعلبي وشاربان معقوفان إلى األعلى ونظر ٌ‬
‫ٌّ‬ ‫وجه‬
‫رجل له ٌ‬
‫أطل على مقصورتي ٌ‬ ‫إنني‪ ،‬عندما َّ‬
‫ِ‬
‫أخذت المشاهد تخبو شيئًا‬ ‫ٍ‬
‫قصير‪،‬‬ ‫مسيو بوارو‪ ،‬مفتش البوليس السري‪ ،‬يبحث عن القاتل بيننا‪ .‬وبعد ٍ‬
‫وقت‬
‫قصتي‪.‬‬
‫أفقت من غفوتي بدأت َّ‬
‫فشيئاً وغلب النعاس جفوني‪ .‬وعندما ُ‬

‫مالئكي‬ ‫فتاة تجلس أمامي‪ .‬وجهٌ بهرني وأسكرني في ٍ‬


‫آن‪ ،‬وجهٌ‬ ‫عيني فوقع نظري على وجه ٍ‬
‫ٌّ‬ ‫فتحت َ ّ‬
‫ُ‬
‫تتوج غصنًا‬ ‫هور ر ٍ‬
‫بيعية ِّ‬ ‫الحسن كلُّه‪ :‬عينان نرجسيتان‪ّ ،‬‬
‫خدان ورديان‪ ،‬شفتان َزنبقيتان؛ سلّةُ ز ٍ‬ ‫اجتمع فيه‬
‫ُ‬
‫ركبت القطار‬
‫ُ‬ ‫أهيف‪ ،‬يميل نحوي‪ ،‬فتنبعث الفرحة عارم ًة في القلب والروح والوجدان‪ .‬لم ت ُكن هناك عندما‬
‫وقبل أن يغلبني النوم‪.‬‬

‫ٍ‬
‫متناغمة مع تفتُّح‬ ‫ٍ‬
‫ابتسامة حلوٍة‬ ‫انفرجت شفتاها المكتنزتان عن‬
‫ْ‬ ‫عين ّي‪،‬‬
‫كنت أفتح فيه َ‬
‫في الوقت الذي ُ‬
‫مد ٍة ليست بالقصيرة‪ ،‬كما لو كنا نعرف بعضنا منذ األزل وقد التقينا‬
‫عين ّي‪ ،‬كما لو كانت تنتظر صحوتي منذ ّ‬ ‫َ‬
‫اآلن بعد ف ار ٍ‬
‫ق طويل‪ ،‬كما لو كانت روحانا روحًا واحدة قبل أن تنفتق السماء‪ ،‬وتولد الكواكب‪ ،‬وتبزغ النجوم‪.‬‬

‫سكتَْين متوازيتَْين في‬ ‫محطة و ٍ‬


‫احدة وهما على َّ‬ ‫ٍ‬ ‫قطارْين في‬ ‫عين ْينا مثي ًار‪ .‬لم ي ُكن مثل لقاء‬
‫لقاء َ‬
‫َ‬ ‫كان ُ‬
‫كل منهما في أحضان األُخرى‪ ،‬تندمج‬ ‫مختلف ْين‪ ،‬واَّنما كان لقاء بحيرتَْين في و ٍاد و ٍ‬
‫احد حيث تنساب ُّ‬ ‫َ‬ ‫اتِّ َ‬
‫جاه ْين‬
‫َ‬
‫وتمو ٍج و ٍ‬
‫احد‪َ .‬من‬ ‫وطعم و ٍ‬
‫احد‪ُّ ،‬‬ ‫ٍ‬ ‫وتتوحد بها‪ ،‬فتغدو مياههما مياهاً واحدةً ذات لون و ٍ‬
‫احد‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫فيها‪ ،‬وتتماها معها‪،‬‬
‫ومذاق ورائحة؛ تمامًا مثل لقائنا الذي كان‬
‫ٌ‬ ‫لون‬
‫شيء في الوجود له ٌ‬ ‫ٍ‬ ‫إن الماء ال طعم له وال لون؟! ُّ‬
‫كل‬ ‫قال َّ‬
‫الخزامى‪.‬‬
‫بالزْبد‪ ،‬ورائحة ُ‬ ‫بلون قوس قزح‪ ،‬ومذاق َّ‬
‫الش ْهد ُّ‬

‫ضرب من الخرافة‪ ،‬أو نوعٌ من الخيال‪.‬‬


‫ٌ‬ ‫إلي‬ ‫ِ‬
‫بالنسبة َّ‬ ‫ِّ‬
‫بالحب من النظرة األولى‪ .‬فذلك‬ ‫لم أكن أؤمن‬
‫ُسعد برؤية نوع منها؛ ولكن لم‬
‫كنت أرى الوجوه حولي‪ ،‬فأستحسن بعضها‪ ،‬وأرتاح إلى بعضها اآلخر‪ ،‬وأ َ‬ ‫ُ‬
‫أن وجهاً من الوجوه بعث في أوصالي رعش ًة عنيفة‪ ،‬اقتلعني من األعماق‪ ،‬حلَّق بي في سماوات‬
‫يحدث أبداً َّ‬

‫‪41‬‬
‫أقربه من وجهي‪ ،‬وأُشبعه لثماً وعناقاً‪ ،‬كما فعل بي ذلك الوجه‬
‫في أللمسه بيدي‪ ،‬و ِّ‬
‫الفرح‪َ ،‬ب ْرَع َم الرغبةَ الشديدة َّ‬
‫ومن حولها بالنشوة والنشاط‬ ‫َّ‬
‫المالئكي‪ .‬كان الشعور نفسه يفيض من مالمح تلك الفتاة‪ ،‬ويغمر كل ما حولها َ‬
‫والهناء‪.‬‬

‫متقابلتين‬
‫ْ‬ ‫مال جسمها اللَّ ِدن الرشيق نحوي‪ ،‬ومال جسدي نحوها‪ ،‬مثلما يميل غصنان من شجر ْتين‬
‫وتساءلت في نفسي َمن الذي‬
‫ُ‬ ‫ِ‬
‫تجمعت الكلمات على الشفاه‪.‬‬ ‫ي غير مرئي‪ .‬اقترب وجهانا‪ ،‬وقد‬ ‫بفعل ٍ‬
‫نسيم سحر ٍّ‬
‫اهن ِّ‬
‫متردد وأنا بين النوم واليقظة‪:‬‬ ‫ٍ‬
‫بصوت و ٍ‬ ‫سيتكلَّم أ َّو ً‬
‫ال‪ .‬وبدون أن أدري‪ ،‬سمعتني أقول‬

‫ـ أأنا في ُحلم؟‬

‫ُذني‪ ،‬وهي تجيب‪:‬‬


‫ازدادت ابتسامتها إشراقاً‪ ،‬وانساب صوتها الدافئ إلى قلبي دون المرور على أ ّ‬

‫أنت في واقع الحياة‪.‬‬


‫ـ َ‬

‫قلت ‪:‬‬
‫ُ‬

‫ِ‬
‫كلحن قصيدة‪ ،‬حلوةٌ كموسيقى موزارت‪.‬‬ ‫كالحلم‪ ،‬جميلةٌ‬
‫ولكنها حياةٌ ُ‬
‫ـ ّ‬

‫أنت الحياة‪ِ ،‬‬


‫أنت الدنيا‪.‬‬ ‫ال ‪ِ :‬‬
‫أضفت في ق اررة نفسي قائ ً‬
‫ُ‬ ‫و‬

‫همست قائلة‪:‬‬
‫ْ‬

‫اسمك؟‬
‫َ‬ ‫ـ اسمي جسيكا‪ ،‬وما‬

‫قلت‪:‬‬
‫ُ‬

‫ِ‬
‫بلقائك‪ .‬اسمي نبيل‪.‬‬ ‫انتشيت‬
‫ُ‬ ‫ـ‬

‫قالت‪:‬‬

‫أنت مسافر؟‬
‫ـ إلى أين َ‬

‫قلت‪:‬‬
‫ُ‬
‫‪42‬‬
‫ـ إلى أوسلو‪.‬‬

‫قالت‪:‬‬

‫ظننتك مساف ًار إلى سالزبورغ‪.‬‬


‫َ‬ ‫ـ‬

‫قلت‪:‬‬
‫ُ‬

‫ـ لماذا سالزبورغ؟‬

‫قالت‪:‬‬

‫خاصةً أولئك الذين يحبُّون موزارت‪،‬‬


‫ّ‬ ‫يؤمون المدينة‪،‬‬
‫وكثير من الناس ُّ‬
‫ٌ‬ ‫ـ َّ‬
‫ألن مهرجان سالزبورغ سيبدأ قريباً‪،‬‬
‫ابن مدينة سالزبورغ‪.‬‬

‫ٍ‬
‫وبصوت خفيض‪:‬‬ ‫بابتسامة حيي ٍ‬
‫َّة‬ ‫ٍ‬ ‫أضافت قائل ًة‬
‫ْ‬ ‫ت من بصرها‪ ،‬و‬
‫وغض ْ‬
‫ّ‬ ‫صمتت وهلة‪،‬‬
‫ْ‬ ‫ثم‬
‫َّ‬

‫ـ و َّ‬
‫ألنني من سالزبورغ‪ .‬وأتمنى أن تأتي معي‪.‬‬

‫أن سالزبورغ نالت شهرة واسعة ذلك العام‪،‬‬ ‫بيد َّ‬


‫بية أُخرى من قبل‪َ ،‬‬‫مدينة أور ٍ‬
‫ٍ‬ ‫لم َأر سالزبورغ وال أيَّة‬
‫ذهب مع‬
‫َ‬ ‫بفضل فيلم غنائي رائع اسمه " صوت الموسيقى" ُي ُّ‬
‫عد ثالث أشهر األفالم األمريكية بعد فيلم "‬
‫ِّ‬
‫المغنية الكاتبة‬ ‫الريح" وفيلم " حرب الكواكب"‪ .‬وهو من بطولة جولي أندروز‪ ،‬الممثلة المسرحية السينمائية‬
‫األخاذ‪ .‬لقد جرى تصوير ذلك الفيلم في مدينة سالزبورغ‪ ،‬فأظهر جمال المدينة‬
‫الحسن ّ‬
‫البريطانية ذات ُ‬
‫وبحيرتها الخالبة‪ ،‬المحاطة بالتالل‪ ،‬المكسوة باألشجار الغافية في ظالل جبال األلب‪.‬‬

‫نمساوي من النبالء توفّيت زوجته المحبوبة مخلّفةً له سبعة أطفال‪،‬‬


‫ٍّ‬ ‫ي‬ ‫ٍ‬
‫قبطان عسكر ٍّ‬ ‫ويدور الفيلم حول‬
‫فحرم سماع الموسيقى والغناء في القصر‪ ،‬لئال يتذ ّكر زوجته الراحلة فيزداد حزنًا‪.‬‬ ‫وكان صارمًا في تربيتهم‪ّ ،‬‬
‫مت األطفال أحلى األغاني واأللحان‪.‬‬ ‫يدر ّأنها مولعةٌ بالموسيقى والغناء‪ ،‬فعّل ِ‬ ‫وعندما استعان بمر ٍ‬
‫بية شابة‪ ،‬لم ِ‬
‫وقرروا تقديم أُغنية في إحدى أمسيات مهرجان‬
‫وعندما وقع في غرامها أخذ هو نفسه يشاركهم الغناء‪ّ ،‬‬
‫مرةً أُخرى‪ ،‬على‬
‫ضم النازيون األلمان النمسا إلى ألمانيا‪ ،‬واستدعوه إلى الجيش َّ‬
‫سالزبورغ‪ .‬وفي تلك األثناء‪َّ ،‬‬

‫‪43‬‬
‫وتم له ذلك بعد أن َّ‬
‫أدوا‬ ‫فقرر الهرب مع عائلته إلى سويسرة عبر جبال األلب ‪َّ ،‬‬
‫معارض لهم‪َّ ،‬‬
‫ٌ‬ ‫حين َّأنه‬
‫ال‪.‬‬
‫أغنيتهم في المهرجان لي ً‬

‫وقلت لها‪:‬‬
‫ُ‬ ‫العسليتين‪،‬‬
‫ْ‬ ‫عين ّي جسيكا‬
‫نظرت في َ‬
‫ُ‬

‫مدة ستة أسابيع‪ .‬واذا ِ‬


‫كنت ترغبين في مجيئي‪َّ ،‬‬
‫فإنني‬ ‫ـ أنا ذاهب إلى النرويج للدراسة في جامعة أوسلو َّ‬
‫سأعود إلى سالزبورغ بعد ذلك‪ .‬هل يمكنك االنتظار؟‬

‫قالت بنبرٍة جازمة‪:‬‬

‫سأنتظرك حتّى ست سنوات‪ ،‬سأنتظرك العمر كلَّه‪.‬‬


‫َ‬ ‫ـ‬

‫ُّ‬
‫فصمت‪ .‬وراحت عيوننا تتواصل ونحن سكوت‪ .‬لم ن ُكن نحتاج إلى كلمات‪ ،‬الكلمات‬ ‫لم ِ‬
‫أجد ما أقوله‪،‬‬
‫وكنت في غاية الهناء والفرح‪ ،‬كمن وجد ضالته بعد ٍ‬
‫بحث‬ ‫ُ‬ ‫العينين بصمت‪.‬‬
‫ْ‬ ‫تفسد صفاء الهناء المنساب من‬
‫كنت في غاية الرضا والسرور أو في‬
‫ال‪ :‬إذا َ‬ ‫مرة قائ ً‬ ‫ٍ‬
‫طويلين‪ .‬لم أ ُق ْل شيئًا‪ ،‬فقد أوصاني أبي ذات ّ‬
‫ْ‬ ‫وعناء‬
‫يضر أكثر مما ينفع‪.‬‬ ‫منتهى الغضب والسخط‪ ،‬فال تتكلَّم‪ ،‬فالكالم أحياناً ُّ‬

‫َّ‬
‫ألتأكد‬ ‫ثم فتحتُهما‪،‬‬
‫عين َّي وهلةً َّ‬
‫أغمضت َ‬
‫ُ‬ ‫عثرت على السعادة الكاملة بهذه البساطة‪.‬‬
‫ُ‬ ‫أصدق َّأنني‬
‫لم ِّ‬
‫نهضت واقفاً بدوري‪ ،‬وجهي الدهشة‬
‫ُ‬ ‫َّأنني في كامل وعيي‪ ،‬فألفيتُها واقفةً تحمل حقيب ًة صغيرًة بيدها اليسرى‪.‬‬
‫وعيناي التساؤل‪ .‬قالت‪:‬‬

‫ـ يقترب القطار من محطَّة سالزبورغ‪ .‬اكتب لي عنوانك ‪.‬‬

‫بيد مر ٍ‬
‫تجفة‬ ‫وعدت ثانية إلى مقعدي ألكتب العنوان ٍ‬
‫ُ‬ ‫أخذت الدفتر‪،‬‬
‫ُ‬ ‫وناولتني دفت ًار صغي ًار أخرجتْه من حقيبتها‪.‬‬
‫ٍ‬
‫وبحركة مفاجئة‬ ‫مرًة أخرى ألعطيها الدفتر‪ ،‬فإذا بها تلقي الحقيبة من يدها‬
‫وقفت َّ‬
‫ُ‬ ‫على نضد المقصورة‪.‬‬
‫ثم تستدير إلى الخلف وتغادر المقصورة‬
‫اعيها‪ ،‬وتضع رأسها على كتفي دون أن تنطق بحرف‪َّ .‬‬
‫تطوقني بذر ْ‬
‫ّ‬
‫مسرعةً‪.‬‬

‫حت بيدها‬
‫مددت عنقي عبرها‪ .‬وجدتها واقفة على الرصيف‪ .‬رأتني‪ّ .‬لو ْ‬
‫ُ‬ ‫فتحت النافذة‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ف القطار‪.‬‬
‫توّق َ‬
‫شفتيها‪ .‬لم تُثِر دموعها استغرابي‪ ،‬فقد كانت‬
‫العسليتين‪ ،‬وابتسامتها لم تفارق ْ‬
‫ْ‬ ‫عينيها‬
‫إلي‪ .‬الدموع تنهمر من ْ‬
‫ّ‬
‫‪44‬‬
‫كنت أصارع غوالً بأجفاني‪ ،‬ويداي‬
‫عين ّي‪ ،‬أنا اآلخر‪ ،‬وأنا أحبسها بصعوبة‪ ،‬كما لو ُ‬
‫الدموع تترقرق في مآقي َ‬
‫طلعت متوهج ًة في‬
‫ْ‬ ‫تحرك القطار وغابت عن ناظري حتى‬
‫إن ّ‬
‫مصوبتان إليها‪ .‬وما ْ‬
‫َّ‬ ‫مقيَّدتان‪ .‬وظّلت عيناي‬
‫فؤادي‪.‬‬

‫شيء في طريقها‪ .‬لِ َم‬


‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫كعاصفة هوجاء تكتسح َّ‬
‫كل‬ ‫ٍ‬
‫شديد يجتاح أعماقي وروحي ووجداني‬ ‫شعرت ٍ‬
‫بندم‬ ‫ُ‬
‫تتكرر‪ ،‬مثل‬
‫يدة قد ال ّ‬
‫ت فرصةً فر ً‬
‫أفو ُ‬
‫ألم ّ‬
‫الحب والفرح؟ ْ‬
‫لَ ْم أغادر القطار وأنزل مع جيسيكا في محطة الجمال و ّ‬
‫ولمت نفسي لبطئي في اتّخاذ القرار المناسب في الوقت المناسب‪.‬‬
‫ُ‬ ‫تمر علينا وال تعود بتاتًا‪.‬‬
‫مياه النهر التي ّ‬
‫تمكن بعضهم من التفكير بسرعة واتخاذ الموقف‬‫كان والدي كثي اًر ما يقول لي‪ " :‬يكمن الفرق بين الرجال في ُّ‬
‫المناسب‪ ،‬وهذا ما يسمونه بسرعة البديهة‪ ،‬وما الرجل إال موقف‪ ".‬كان لدي الوقت الكافي ِّ‬
‫ألفكر بعد أن‬
‫حبي‬
‫حبي للمعرفة على ّ‬
‫ب ّ‬‫تجمد ولم اتّخذ القرار‪ .‬هل تغّل َ‬
‫دعتني جيسكا لمرافقتها إلى سالزبورغ‪ ،‬ولكن عقلي َّ‬
‫الحب أساس المعرفة؟ أم َّ‬
‫أن العكس هو الصحيح؟‬ ‫ُّ‬ ‫لجيسكا؟ أليس‬

‫عت‬
‫نهضت من مكاني‪ ،‬أسر ُ‬
‫ُ‬ ‫لجة األفكار المتالطمة ص ّفارةُ القطار وهو يغادر المحطة‪.‬‬
‫انتشلتني من ّ‬
‫وكأنها‬
‫مهروالً نحو باب العربة‪ .‬الباب موصد‪ .‬لمحتها من زجاج النافذة وهي تهرول في اتجاه باب العربة‪ّ ،‬‬
‫طفقت أهرول نحو‬
‫ُ‬ ‫هي األخرى اتخذت ق ار اًر في اللحظة األخيرة‪ ،‬أو بعد فوات األوان‪ .‬تزايدت سرعة القطار‪.‬‬
‫العربة الجنوبية األخيرة‪ .‬وصلتُها‪ .‬بابها الذي ُّ‬
‫يطل على الس ّكة كان موصدًا كذلك‪ .‬لمحتُها عبر زجاج نافذة‬
‫أن سرعة القطار قد تفاقمت‪،‬‬ ‫يد َّ‬
‫لمحتني‪َ .‬ب َ‬
‫ْ‬ ‫إلي َّأنها هي األخرى‬
‫الباب وهي تجري بسرعة وراء القطار‪ُ .‬خيِّل ّ‬
‫ساقي‪ ،‬مثقالً بالخيبة‪ ،‬مثخنًا بالحسرة‪.‬‬
‫َّ‬ ‫أجر‬
‫فعدت إلى مقصورتي ُّ‬ ‫ُ‬ ‫وغابت جيسيكا عن ناظري خلف المنحنى‪.‬‬

‫أن القطار سار بسر ٍ‬


‫عة أكبر‪ ،‬كي‬ ‫أتمنى لو َّ‬
‫رحت ّ‬‫ُ‬ ‫أخذت استعجل األشياء والزمن‪.‬‬
‫ُ‬ ‫من تلك اللحظة‪،‬‬
‫ٍ‬
‫شيء بسرعة‪ :‬شراء السيارة‪ ،‬الرحلة إلى‬ ‫كنت أريد أن يمر ُّ‬
‫كل‬ ‫أعود إلى سالزبورغ وجيسيكا بسرعة كذلك‪ُ .‬‬
‫ّ‬
‫أوسلو‪ ،‬الدورة الصيفية في جامعة أوسلو‪ ،‬رحلة العودة إلى سالزيورغ‪ .‬صارت السرعة هي الشعار المهيمن‬
‫السيارة واستخ ارج الوثائق‬ ‫اءات شر ِ‬
‫بطء إجر ِ‬
‫تذمرت من ِ‬
‫اء ّ‬ ‫على فكري وأقوالي وأفعالي‪ .‬ففي ميونيخ‪ ،‬مثالً‪َّ ،‬‬
‫ونسيت َّ‬
‫أن دورة الزمن ثابتة وقياس‬ ‫ُ‬ ‫أن ذلك لم يستغرق أكثر من ‪ 42‬ساعة فقط‪.‬‬ ‫الالزمة‪ ،‬على الرغم من َّ‬
‫الزمن على األرض ثابت‪ ،‬فاألسابيع الستة التي سأمضيها في جامعة أوسلو هي ستة أسابيع ال أكثر وال َّ‬
‫أقل‪،‬‬ ‫َ‬

‫‪45‬‬
‫أن السرعة قضيةٌ نسبيةٌ تتعلَّق بذات اإلنسان‪ ،‬وأحواله‪ ،‬وحاجاته‪ ،‬وأحاسيسه؛ وتتعلّق بسرعة المعيار الذي‬
‫و َّ‬
‫متحرك بالمقارنة ِ‬
‫به‪.‬‬ ‫ِّ‬ ‫نقيس ما هو‬

‫وسيارتي إلى األراضي النرويجية وهي‬


‫العبارة التي ستقّلني ّ‬
‫وقفت أراقب ّ‬
‫ُ‬ ‫ال‪،‬‬
‫في ميناء كوبنهاكن‪ ،‬مث ً‬
‫شكوت‬ ‫دنماركي يقف إلى جانبي‪،‬‬ ‫ألتفت إلى ٍ‬
‫رجل‬ ‫تتحرك‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ٍّ‬ ‫ُ‬ ‫فبدت لي ثابت ًة في وسط البحر ال ّ‬
‫ْ‬ ‫قادمةٌ من بعيد‪.‬‬
‫ٍ‬
‫بابتسامة حسبتها ساخرة‪:‬‬ ‫العبارة‪ .‬قال لي‬
‫له بطء ّ‬

‫شاهدت حوريَّة البحر في الميناء؟"‬


‫َ‬ ‫ـ " هل‬

‫قلت‪:‬‬
‫ُ‬

‫ـ " ال‪" .‬‬

‫قال‪:‬‬

‫العبارة سيستغرق ساعة ونصف‪ .‬عليهم إفراغ‬ ‫ألن ركوبنا ّ‬ ‫ـ " أنصحك أن تغتنم هذه الفرصة لمشاهدتها‪َّ ،‬‬
‫َّ‬
‫نستقلها‪ ،".‬وأشار بيده في اتّجاه المكان الذي تستلقي فيه حوريِّة البحر‪.‬‬ ‫حمولتها وتنظيفها قبل أن‬

‫تحول‬ ‫ٍ‬ ‫َّ‬


‫بدت لي جيسيكا مستلقيةً على صخرة في البحر‪ ،‬وقد ّ‬
‫نظرت إليها‪ْ .‬‬
‫ُ‬ ‫هت إلى حوريَّة البحر‪.‬‬
‫توج ُ‬
‫التصقت‬
‫ْ‬ ‫غادرت جيسيكا القطار في محطَّة سالزبورغ‪،‬‬
‫ْ‬ ‫أن‬ ‫ٍ‬
‫جميلة‪ .‬فمنذ ْ‬ ‫ٍ‬
‫سمكة‬ ‫ساقاها الرشيقتان إلى زعانف‬
‫عيني في الفراش‪،‬‬
‫َّ‬ ‫أغمضت‬
‫ُ‬ ‫نظرت‪ ،‬واذا‬
‫ُ‬ ‫صورتها الحلوة في بؤبؤ العين وعلى شغاف القلب‪ :‬أراها حيث‬
‫صرت أرى األشياء من خالل‬
‫ُ‬ ‫واصل قلبي رؤيتها‪ ،‬وتمثَّ ْ‬
‫لت لي في أحالمي التي ال تنقطع‪ .‬باختصار‪،‬‬
‫صورتها‪ ،‬وأسمع صوتها في ِّ‬
‫كل ما يصل إلى مسمعي‪.‬‬

‫خلجان بحر الشمال بمياهها الباردة المنعشة‪،‬‬


‫ُ‬ ‫كانت أوسلو عروس أوربا المدلَّلة‪ ،‬تغسل قدميها‬
‫وتتوارى بنايات جامعتها خلف أشجار غابة كثيفة‪ ،‬وهي تتسربل شجيرات اللبالب‪ ،‬ال تغيب الشمس عنها في‬
‫الليل وال في النهار‪ ،‬بل تبقى معلَّقةً في سمائها الوردية طوال الليل‪ ،‬كعاشقة شاحبة الطلع ة تسهر الليل في‬
‫توردًا فاحم ار ًار‪.‬‬
‫يتحول شحوبها ُّ‬
‫انتظار الصباح‪ ،‬وعندها َّ‬

‫‪46‬‬
‫أكملت الكاتبة في إدارة جامعة أوسلو تسجيل اسمي‪ ،‬وسلَّمتني بعض المطبوعات عن البرنامج‬
‫ِ‬ ‫ما إن‬
‫قالت لي‪:‬‬
‫الصيفي والئحة المراجع‪ ،‬ومفاتيح غرفتي‪ ،‬حتّى ْ‬
‫ِّ‬

‫ـ "هناك ثالث رسائل تنتظرك‪".‬‬

‫وناولتني إياها‪.‬‬

‫أن أختام البريد تحمل تاريخاً واحداً‪ .‬يا إلهي‪َّ ،‬إنها َك ْ‬


‫تبت هذه‬ ‫الحظت َّ‬
‫ُ‬ ‫ألقيت نظرة عليها‪.‬‬
‫ُ‬ ‫خفق فؤادي‪.‬‬
‫أشد لهفتها وما َّ‬
‫أشد لهفتي!‬ ‫يوم واحد‪ .‬ما َّ‬
‫الرسائل في ٍ‬

‫ورحت ُّ‬
‫أفض ظروف الرسائل الثالثة‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫رميت حقيبتي الصغيرة‪،‬‬
‫ُ‬ ‫عت إلى غرفتي‪.‬‬
‫أسر ُ‬

‫عدت إلى‬
‫ُ‬ ‫أنهيت قراءة الرسالة الثالثة‬
‫ُ‬ ‫أخذت ألتهم الحروف والكلمات والعبارات‪ .‬وعندما‬
‫ُ‬ ‫ٍ‬
‫رسالة أبداً؟‬ ‫بأي‬
‫ِّ‬
‫لت جيسيكا وهي جالسة‬
‫تخي ُ‬
‫وكرًة أُخرى راجعًا لتالوة الرسالة األولى‪ّ .‬‬
‫األولى أُعيد تالوتها‪ ،‬فالثانية فالثالثة؛ َّ‬
‫عينيها‪.‬‬
‫شفتيها‪ ،‬والدمعة في ْ‬
‫تحرر تلك الرسائل‪ ،‬البسمة على ْ‬
‫إلى منضدتها‪ ،‬ممسكة قلمها بأناملها الرقيقة‪ِّ ،‬‬

‫أعلنت لي فرحتها الطاغية بلقائي‪ ،‬أو على ِّ‬


‫حد قولها كيف التقت روحها بنصفها الذي‬ ‫ْ‬ ‫في رسالتها األولى‪،‬‬

‫ْ‬ ‫أن ُو ِجدت على هذه األرض‪ .‬و‬


‫استشهدت بقصيدة عاطفية متأججة من ديوان " آنيت "‬ ‫كانت تبحث عنه منذ ْ‬
‫لشاعر ألمانيا العظيم غوته‪.‬‬

‫حدثتْني قليالً عن نفسها‪ ،‬فهي طالبةٌ في الصباح‪ ،‬تدرس المسرح في جامعة سالزبورغ‪،‬‬
‫وفي رسالتها الثانية‪ّ ،‬‬
‫ٍ‬
‫ساعات في مكتبة المدينة‬ ‫السينمائي بعد تخرجها‪ .‬وبعد الظهر تعمل َّ‬
‫عدة‬ ‫َّ‬ ‫المسرحي أو‬
‫َّ‬ ‫وقد تمتهن التمثيل‬
‫الكائنة في حديقة ماربيال‪.‬‬

‫وصفت لي بعض المعالم الخالبة في مدينة سالزبورغ وما حولها‪ ،‬وكيف َّ‬
‫أعدت‬ ‫ْ‬ ‫وفي رسالتها الثالثة‪،‬‬
‫لي برنامجاً حافالً لزيارتي التي تريدها أن تدوم أطول ٍ‬
‫وقت ُممكن ‪ ،‬وأن تكون أمتع ما ُيمكن‪ .‬ستأخذني في‬
‫األول‪ ،‬وفي اليوم الثاني ستصطحبني لزيارة بعض أشهر متاحف‬ ‫ٍ‬
‫جولة في أحياء سالزبورغ التاريخيَّة في اليوم َّ‬
‫بمجافين‪،‬‬
‫ْ‬ ‫مزود‬ ‫ٍ‬
‫صغير َّ‬ ‫ي‬ ‫المدينة‪ ،‬وفي اليوم الرابع سنقوم بجولة في بحيرة سالزبورغ الشهيرة في ٍ‬
‫قارب بخار ٍّ‬
‫كل ٍ‬
‫ليلة‪ ،‬سنشاهد إحدى فعاليات مهرجان سالزبورغ الموسيقيَّة أو الغنائيَّة أو المسرحيَّة أو‬ ‫وفي‪ ،‬وفي‪ .‬في ِّ‬

‫‪47‬‬
‫ِ‬
‫بانتقاء هذه المسرحيات‪ ،‬والعروض األخرى‪،‬‬ ‫خاص ًة المسرحيَّة منها‪َّ ،‬‬
‫ألنها تعشق التمثيل‪ ...‬وستبدأ‬ ‫َّ‬ ‫الراقصة‪،‬‬
‫ابتداء من الغد‪ ،‬لتضمن أفضل المقاعد‪ ،‬فاإلقبال شديد على المهرجان‪.‬‬
‫ً‬ ‫واقتناء تذاكرها‪،‬‬

‫الحمام‪ ،‬وقبل أن ألقي نظرة على‬


‫َّ‬ ‫وقبل أن أفتح حقيبتي الصغيرة لوضع حاجياتي الضرورية في‬
‫وب َرمي‬ ‫ُّ‬
‫ألحرر رسال ًة إلى جيسكا‪ ،‬أبثها ضيقي َ‬
‫ّ‬ ‫مطبوعات الجامعة وبرنامجها‪ ،‬وجدتني أجلس إلى المنضدة‬
‫بأوسلو وجامعتها‪ ،‬وهيامي بسالزبورغ ومسارحها‪.‬‬

‫طعم حلو أل ّذ من الرطب العمراني‬


‫اءة جهرّية‪ ،‬فيعلق بلساني وشفتَ َّي ٌ‬
‫عدت إلى قراءة رسائلها قر ً‬
‫ُ‬ ‫ثم‬
‫َّ‬
‫كل صباح‪،‬‬ ‫أدمنت على أكل ه منذ أن كان جدي يطعمني إياه مع اللبن الرائب في طفولتي َّ‬‫ُ‬ ‫المنصف الذي‬
‫ِّ‬
‫َّ‬
‫الغضة‪.‬‬ ‫اعتقادًا منه َّ‬
‫بأن التمر والحليب هو أنفع األغذية لنمو األطفال‪ ،‬وتقوية أجسامهم‬

‫أدمنت عليها؛ فقد كانت تصلني منها رسالة على‬


‫ُ‬ ‫كانت ل ّذة رسائل جيسيكا‪ ،‬هي األخرى‪ ،‬يوميَّة حتّى‬
‫أدمنت على كتابة اإلجابات عليها كذلك‪.‬‬
‫كل يوم‪ .‬و ُ‬ ‫األقل َّ‬
‫ّ‬

‫أشد‪َّ ،‬أنني لم أتابع دراستي الصيفيَّة في جامعة‬


‫وندم ّ‬ ‫شديد‪ ،‬و ٍ‬
‫أسف ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫بخجل‬ ‫علي أن أعترف اليوم‬
‫َّ‬
‫ٍ‬
‫استعداد لالختبارات األسبوعية‪ ،‬ولالمتحان‬ ‫اجعة وا ِ‬
‫عداد مذكرات‪ ،‬و‬ ‫وتركيز ومر ٍ‬
‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫اهتمام‬ ‫تستحق من‬
‫ّ‬ ‫أوسلو‪ ،‬بما‬
‫رسمت لها‬
‫ُ‬ ‫النهائي في آخر الدورة الصيفية‪ .‬كان ذهني يشرد من غرفة الدرس‪ ،‬محلِّقاً إلى سالزبورغ التي‬
‫ذهب خالص ‪ ،‬تجري في وديانها مياه من عسجد‪ ،‬وأهلها مالئك ٌة‬ ‫صورة متخيَّلة في ذهني‪ :‬مدينة مبنيَّة من ٍ‬

‫ويحيي بعضهم بعضًا‬


‫ّ‬ ‫ملونة ش ّفافة مثل أجنحة الفراشة‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫بأجنحة َّ‬ ‫من نور‪ ،‬يطيرون في شوارعها وطرقاتها‪،‬‬
‫بلمس أطراف األجنحة لمسًا خفيفًا طفيفًا‪ ،‬كما ُيسلِّم أعمامنا البدو بعضهم على بعض بتالمس أرنبات األنوف‬
‫عند اللقاء‪.‬‬

‫ُّ‬
‫أستل قلمي وورقةً من دفتر الرسائل‬ ‫واذا لم يهرب ذهني من قاعة الدرس طائ ًار إلى سالزبورغ‪َّ ،‬‬
‫فإنني‬
‫الوقت‬
‫َ‬ ‫ألدبج رسال ًة غرامي ًة إلى جيسيكا‪ ،‬أغتا ُل بكتابتها‬ ‫َّ‬
‫الموشى بالورد والزنبق والياسمين‪ّ ،‬‬ ‫الملو ِن األوراق‬
‫َّ‬
‫الذي تطاول‪ ،‬حتى أصبح عمالقاً يفوق عوج بن عنق طوالً‪.‬‬

‫أشد‪َّ ،‬‬
‫أن حصيلتي من الدراسة في جامعة أوسلو لم‬ ‫وبندم و ٍ‬
‫أسف ّ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫بخجل شديد‪،‬‬ ‫اليوم‬
‫علي أن أعترف َ‬ ‫ّ‬
‫أتحرج من ذكر جامعة أوسلو‬
‫أحرر خالصةَ سيرتي العلمية‪َّ ،‬‬ ‫مشرفة وال ُيعتَّد بها‪ .‬ولهذا‪َّ ،‬‬
‫فإنني عندما ِّ‬ ‫ت ُكن ِّ‬

‫‪48‬‬
‫يت فيها دراساتي العليا‪ .‬فحتّى ترجمتي لمسرحية " يبه الساكن على التل" ألبي المسرح‬
‫بين الجامعات التي تلقّ ُ‬
‫اإلسكندنافي لودفيغ هولبرغ‪ ،‬لم ت ُكن بفضل المحاضرة القيمة التي ألقاها أستاذ األدب اإلسكندنافي‪ ،‬الدكتور‬
‫داغ غندرسون‪ ،‬حول هذه المسرحية ونقده إياها‪ ،‬واَّنما كان نتيجة قراءتي تلك المسرحية بعد عودتي إلى بغداد‬
‫أن مؤلِّفها اقتبس فكرتها من حكاية ملِ ٍك ليوم وليلة التي وردت في كتاب " ألف ليلة‬
‫خاصةً َّ‬
‫َّ‬ ‫واعجابي بها‪،‬‬
‫وليلة"‪.‬‬

‫أن المعرفة كانت دانية القطوف في جامعة أوسلو‪،‬‬‫أشد‪َّ ،‬‬


‫وندم ّ‬ ‫ٍ‬
‫وبأسف ٍ‬ ‫ٍ‬
‫شديد‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫بخجل‬ ‫علي أن أعترف‬
‫ّ‬
‫ِّ‬
‫وبكل‬ ‫ٍ‬
‫ببساطة‪،‬‬ ‫بألذ المعلومات وأشهاها‪َّ .‬‬
‫ولكنني‪،‬‬ ‫أمد فكري‪ ،‬وأفتح عقلي‪ ،‬وأمأله ِّ‬ ‫بمجرد أن ّ‬
‫َّ‬ ‫وكنت سأجنيها‬
‫ُ‬
‫ُمي في صغري‪ ،‬وهي تحثّني على‬ ‫ٍ‬
‫كسول َّ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫حدثتني عنه أ ّ‬ ‫كنت مثل‬
‫تكاسلت‪ُ .‬‬
‫ُ‬ ‫تخاذلت‪،‬‬
‫ُ‬ ‫تقاعست‪،‬‬
‫ُ‬ ‫وبالدة‪،‬‬ ‫بالهة‬
‫يسمون بالتنابلة‪،‬‬
‫الجد‪ .‬فقد كان ذلك الكسول الذي أسمتْه (تمبل) وينتمي إلى قبيلة من الكسالى َّ‬
‫الدرس و ّ‬
‫يمض به الجوع‪ ،‬ال ُّ‬
‫يمد يده إلى الت ّفاحات‬ ‫ُّ‬ ‫تفاح في بستان‪ ،‬وعندما‬ ‫ُيمضي النهار كلَّه َّ‬
‫ممددًا تحت شجرة ٍ‬
‫يمر به أحدهم‪ ،‬ليرجوه رم اًز أن يضع‬
‫الناضجة الشهية التي سقطت من الشجرة بالقرب منه‪ ،‬بل ينتظر أن َّ‬
‫إحدى تلك التفّاحات في فمه الذي ال يفتحه إال بمقدار‪ .‬يا للعار! يا للشنار!‬

‫رسالتين وأحياناً ثالثة رسائل‪.‬‬


‫ْ‬ ‫َّ‬
‫بمعدل رسالة في اليوم بل‬ ‫يوميًا‪ ،‬ليس‬
‫كانت رسائل جيسيكا تصلني ّ‬
‫صفحة واحدة فقط بل من بضع صفحات‪ .‬ولم أتساءل في نفسي أبدًا كيف‬ ‫ٍ‬ ‫ولم ت ُكن الرسال ة الواحدة تتألَّف من‬
‫مساء في المكتبة‪ .‬ال َّ‬
‫بد‬ ‫ً‬ ‫يتسنى لها أن تكتب جميع تلك الرسائل إذا كانت تدرس صباحًا في الجامعة وتعمل‬ ‫ّ‬
‫ٍ‬
‫مكتب ما في‬ ‫وتبادر إلى ذهني َّأنها تجلس في‬
‫َ‬
‫ٍ‬
‫بعمل معيَّن‪.‬‬ ‫أن وظيفتها في المكتبة‪ ،‬ال تتطلَّب منها القيام‬
‫َّ‬
‫المكتبة‪ ،‬وال تفعل شيئًا سوى كتابة الرسائل لي‪.‬‬

‫أتحرى الدقَّة َّ‬


‫فإنني لم أ ُكن‬ ‫كنت ّ‬
‫الرد على رسائلها معظم وقتي‪ ،‬بعد مغادرة قاعة الدرس‪ .‬واذا ُ‬
‫استغرق ّ‬
‫منهمكًا بقراءة رسائلها فحسب‪ ،‬بل كذلك بقراءة المطبوعات التي تبعث بها رفقة رسائلها‪ ،‬معظمها مطبوعات‬
‫سنتجول فيها أو‬
‫َّ‬ ‫سياحية َّ‬
‫تتحدث عن تاريخ مدينة سالزبورغ ومتاحفها التي سنزورها معاً طبعاً‪ ،‬وحدائقها التي‬
‫نخترقها‪ ،‬معًا طبعًا‪ ،‬ونحن في طريقنا إلى مقاهيها الجميلة‪ ،‬ومسارحها الرائعة التي سنشاهد فيها العروض‪،‬‬
‫معًا طبعًا‪ ،‬وبحيراتها الخالبة التي سنقف على ضفافها لمشاهدة غروب الشمس‪ ،‬معًا طبعًا‪ .‬باختصار‪ ،‬لم‬

‫‪49‬‬
‫مقر اًر‪ ،‬بل لقراءة‬
‫ت ُكن إقامتي في جامعة أوسلو لدراسة األدب اإلسكندنافي والنظام التربوي النرويجي‪ ،‬كما كان َّ‬
‫رسائل جيسيكا‪ ،‬وكتابة اإلجابات‪.‬‬

‫الصيفية في جامعة أوسلو سنة‬


‫ّ‬ ‫مرت األسابيع الستة التي استغرقتها الدورة‬
‫ال أتذكر تمامًا كيف ّ‬
‫‪ . 0965‬فغبار السنين الطويلة يعفي على جميع األقوال واألفعال‪ ،‬بل يغطي زجاج الذاكرة ذاتها‪ ،‬فال تستطيع‬
‫كل ما في وسعي أن َّ‬
‫أتذكره اآلن بصورة شبه أكيدة‪َّ ،‬أنني ُ‬
‫كنت أواظب على‬ ‫تتبين ما فيها بسهولة‪ُّ .‬‬
‫أن ّ‬
‫ال أو‬ ‫ولكني لم أستوعب شيئًا ُيذ َكر منها‪َّ ،‬‬
‫ألن أداة االستيعاب‪ ،‬وأعني بها الفكر‪ ،‬كان منشغ ً‬ ‫حضور الدروس‪ّ ،‬‬
‫المتحركة الراقصة على مساحة الذاكرة كلِّها‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫ٍ‬
‫بشيء آخر‪ ،‬أعني صورة جيسكا الكبيرة‬ ‫ممتلئاً‬

‫أذكر َّأننا كنا نتناول وجباتنا في مطعم الجامعة‪ .‬وكانت بعض الطالبات النرويجيات يعملن فيه‬
‫خاصةً‪ ،‬فتقترب مني‬
‫َّ‬ ‫األول متّى‪ ،‬توليني عنايةً‬ ‫َّ‬
‫عطلتهن الصيفيَّة‪ .‬وراحت إحداهن‪ ،‬واسمها ّ‬ ‫نادالت خالل‬
‫بيد‬ ‫ٍ‬
‫بكلمات رقيقة‪َ .‬‬ ‫ثم أخذت تدريجيًا تالطفني وتداعبني‬
‫مكونات بعض األُكالت النرويجية‪َّ ،‬‬
‫أحيانًا لتشرح لي ِّ‬
‫المودة‪َّ ،‬‬
‫ألن قلبي‪ ،‬ببساطة‪ ،‬لم ي ُكن معي‪ ،‬فقد غادرني‪ ،‬بال إرادة مني‪ ،‬ونزل في‬ ‫ّ‬ ‫أَّني‪ ،‬كما تتوقع‪ ،‬لم أبادلها‬
‫محطة سالزبورغ‪.‬‬

‫ونظرت إلى ساعتي‬


‫ُ‬ ‫ال‪،‬‬ ‫كنت َّ‬
‫أتنزه مع بعض الطلبة في الغابة المحيطة بالجامعة لي ً‬ ‫َّ‬
‫أتذكر كذلك َّأنني ُ‬
‫اء باهت َة اللون دون أن‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬
‫ولكن الشمس كانت معلقة في كبد السماء صفر َ‬ ‫فوجدتها تشير إلى منتصف الليل‪،‬‬
‫تغيب‪ .‬وأنني ال استطيع النوم في غرفتي ما لم أسدل الستائر السوداء السميكة لحجب ضياء الشمس‪.‬‬

‫ٍ‬
‫رحالت إلى بعض المناطق النرويجية أثناء عطل نهاية‬ ‫أن إدارة الجامعة رتَّبت لنا‬
‫أذكر كذلك َّ‬
‫ولكني ال أذكر منها اآلن سوى رحلتنا إلى مدينة برغن‪،‬‬
‫شاركت في جميع تلك الرحالت‪ّ ،‬‬
‫ُ‬ ‫األسبوع‪ ،‬وأنني‬
‫حيث استضافنا عمدة المدينة في منزله المطل على البحر وأشبعنا في وجبة الغداء من السمك السومون‬
‫والجمبري الملكي العمالق‪.‬‬

‫كنديًا متقاعداً يربو عمره على الخامسة‬


‫تفوق علينا جميعاً كان رجالً ّ‬
‫أذكر أيضاً أن الطالب الذي َّ‬
‫والستين‪ .‬كان ضعيف البنية‪ ،‬ضعيف البصر‪ ،‬ولكنه قوي العزيمة شديد الرغبة في ُّ‬
‫التعلم‪.‬‬

‫‪50‬‬
‫أعد أتذ ّكر منها سوى عبارتين هما‪" :‬‬
‫واللغة النرويجية التي علّمونا شيئًا منها في مختبر اللغة‪ ،‬لم ُ‬
‫فوردن ستور ده تيل؟ " أي كيف حالك؟‪ ،‬و " تك تك بور ماتن" أي شك ًار للطعام‪.‬‬

‫أما غير هذه النتف القليلة الباهتة من الذكريات‪ ،‬فأنا ال أستحضر شيئًا‪ .‬لو سألتني عن المحاضرات‬
‫ّ‬
‫أي ٍ‬
‫أثر‪ ،‬أو‬ ‫اء خالي ًة من ِّ‬ ‫ٍ‬ ‫التي أُلقيت علينا أو المعارف التي اكتسبتها‪َّ ،‬‬
‫سيتحول إلى صفحة صفر َ‬
‫َّ‬ ‫فإن وجهي‬
‫إلى عالمة استفهام فارغة‪.‬‬

‫وأخي اًر‪ ،‬حان موعد االنصراف من أوسلو‪ ،‬وهو موعد ترقَّبتُه بل ٍ‬


‫هفة طوال األيام األربعة واألربعين‬
‫شعور باألسى‪ ،‬وهو شعور يجتاحني بعد مغادرة األماكن التي‬‫ٌ‬ ‫سرمدياً‪ .‬لم ينتابني‬
‫ّ‬ ‫السابقة التي بدت لي ده ًار‬
‫بأنني ِّ‬
‫أخلف شيئًا من ذاتي ورائي‪ ،‬أو َّ‬
‫أن شيئًا من تلك األماكن يعلق بي‬ ‫ُحس َّ‬ ‫استقر فيها َّ‬
‫مدة من الزمن‪ ،‬إذ أ ُّ‬ ‫ُّ‬
‫وال يفارقني إلى األبد‪ .‬فقد ُخلِق قلبي ألوفاً حنونًا‪.‬‬

‫محددًا ساعات االنطالق‪ ،‬وساعات التوقُّف‬


‫تبت جداول السفر‪ِّ ،‬‬
‫أعددت خرائط العودة‪ ،‬ور ُ‬
‫ُ‬ ‫كنت قد‬
‫ُ‬
‫للراحة وتناول الوجبات‪ ،‬وأوقات النوم‪ ،‬مع حساب الوقت الضائع المحتمل بسبب اختناقات المرور أو غير‬
‫ذلك‪ ،‬بحيث أصل إلى حديقة مي رابال في سالزبورغ حيث تعمل جيسيكا في مكتبتها‪ ،‬حوالي الساعة الخامسة‬
‫يتبق لنهاية عمل جيسيكا في المكتبة‬
‫والنصف من بعد ظهر اليوم الثامن عشر من شهر آب‪/‬أغسطس‪ ،‬ولم َ‬
‫سوى نصف ساعة فتنصرف‪ ،‬وأنا بصحبتها طبعاً لنستمتع بليل سالزبوغ‪.‬‬

‫وضعت‬
‫ُ‬ ‫مؤجل حتى سالزبورغ‪ .‬كال‪،‬‬ ‫بسيارتي‪ ،‬ولم أحمل فيها شيئًا من أوسلو‪ُّ .‬‬
‫كل شيء َّ‬ ‫انطلقت ّ‬
‫ُ‬
‫وكنت في أوقات االستراحة من‬
‫ُ‬ ‫إلي‪.‬‬
‫كل رسائل جيسيكا الغرامية ّ‬
‫جمعت فيها ّ‬
‫ُ‬ ‫على المقعد الخلفي علبة حريرية‬
‫في شيئًا من النشاط‪ ،‬كما لو كانت‬ ‫ُّ‬
‫القيادة أو تناول الطعام‪ ،‬استل إحدى تلك الرسائل‪ ،‬أعيد قراءتها‪ ،‬فتبعث ّ‬
‫ِّ‬
‫المركز القادم من بلدة موخا في اليمن‪.‬‬ ‫الب ِّن‬
‫إكسي اًر للفرح أو فنجاناً من ُ‬

‫أضعت بعض‬
‫ُ‬ ‫بيد ّأني‬
‫ال في الخامسة والنصف من مساء اليوم الموعود‪َ ،‬‬
‫وصلت مدينة سالزبورغ فع ً‬
‫ُ‬
‫السيارة بالقرب من المكتبة‪.‬‬
‫دقائق إليقاف ّ‬
‫َ‬ ‫وهدرت‬
‫ُ‬ ‫الوقت لالهتداء إلى حديقة ميرابال في وسط المدينة‪،‬‬
‫ِ‬
‫مدخل المكتبة وأنا أنظر إلى الساعة الجداريَّة الكبيرة المنصوبة في برج المكتبة‪ ،‬وكانت تشير‬ ‫توجهُت إلى‬
‫ّ‬

‫‪51‬‬
‫بأن جيسيكا ستكون واقفةً هناك في المدخل‪ ،‬تنتظر وصولي‬
‫إلى الدقيقة الخامسة بعد السادسة‪ ،‬وكّلي ثقة ّ‬
‫ٍ‬
‫بلهفة‪ ،‬وذراعاها متأهبتان لعناقي‪.‬‬

‫لم ت ُكن جيسيكا في مدخل المكتبة‪ .‬ال ُب َّد ّأنها هناك في باب مكتبها‪ ،‬أو في مكان ما تنتظرني على‬
‫أحر من الجمر‪ .‬لم َأر جيسكا في بهو االستقبال الفسيح‪ .‬كانت هناك فتيات غيرها‪ ،‬ولكن ليس َّ‬
‫لهن حسنها‬ ‫ّ‬
‫ٍ‬ ‫توجهت إلى َّ‬
‫موظ ِ‬
‫بلطف عن جيسيكا‪ ،‬جيسيكا باومان‪.‬‬ ‫فة االستقبال‪ ،‬وسألتُها‬ ‫وبريقها‪ُ َّ .‬‬

‫َّ‬
‫الموظفة بابتسامة‪:‬‬ ‫قالت‬

‫ـ غادرت المكتبة عند انتهاء عملها قبل دقائق؟‬

‫قلت وقد دهمتني الدهشة العارمة‪:‬‬


‫ُ‬

‫أتيت من أوسلو ألجلها‪.‬‬ ‫ـ قبل دقائق؟! قبل دقائق فقط ولم ِ‬


‫تنتظرني؟! أنا على موعد معها وقد ُ‬

‫رت بالعطف على هذا‬ ‫َّ‬ ‫ال َّ‬


‫شك في َّ‬
‫أن موظفة االستقبال قد الحظت الصدمة التي أصابتني‪ ،‬وشع ْ‬
‫بدافع من روح المساعدة التي تتحّلى بها لمساعدة قراء المكتبة‬
‫ٍ‬ ‫ِّ‬
‫الشاب غريب الوجه غريب الكالم‪ .‬قالت‬
‫وارشادهم إلى ما يبتغون من مطبوعات‪:‬‬

‫عادة إلى منزلها بعد العمل‪ ،‬وقد تجدها هناك‪.‬‬


‫ً‬ ‫ـ ّإنها تذهب‬

‫انتبهت إلى َّأنني لم أ ُكن أتوّفر على عنوان منزلها‪ ،‬فقد كانت جميع مراسالتها تحمل‬
‫ُ‬ ‫في تلك اللحظة‪،‬‬
‫فقلت بنوٍع من االنكسار‪:‬‬
‫عنوان مكتبة ميرابال‪ُ .‬‬

‫ـ َّ‬
‫ولكني ال أعرف عنوان منزلها‪.‬‬

‫دونت موظَّفة االستقبال العنوان على ورقة‪ ،‬وناولتني إياها وهي ِّ‬
‫تزودني ببعض الشروح لمساعدتي‬ ‫َّ‬
‫أركز فكري‬ ‫ِ‬
‫أستطع أن ِّ‬ ‫مرة‪َّ ،‬‬
‫ألنني لم‬ ‫في الوصول إلى المنزل ِب ُيسر‪ .‬ومع ذلك فقد‬
‫أضعت الطريق أكثر من ّ‬
‫ُ‬
‫وال نظري على الطريق‪.‬‬

‫‪52‬‬
‫أن خطًأ ما قد‬ ‫كنت قد شكرت الموظَّفة‪ ،‬فقد كان الذهول يسيطر َّ‬
‫علي‪ .‬ال مراء في َّ‬ ‫ال أذكر ما إذا ُ‬
‫لدقائق معدودات؟؟‬
‫َ‬ ‫حصل‪ ،‬واال كيف تستطيع جيسيكا أن تغادر المكتبة في هذا اليوم بالذات‪ ،‬وال تنتظرني‬
‫شيء غير معقول مطلقاً‪.‬‬
‫ٌ‬

‫ٍ‬
‫انتظار عصيبةٌ بدت لي طويلة‪.‬‬ ‫لحظات‬
‫ُ‬ ‫ومرتين‪ .‬وأنا أسمع الجرس‪.‬‬
‫مرًة‪َّ ،‬‬
‫عت جرس باب المنزل‪ّ ،‬‬
‫قر ُ‬
‫انفتح الباب‪ .‬ظهرت فتاةٌ أُخرى‪ .‬ليست جيسيكا‪ ،‬وال تشبهها‪.‬‬

‫قلت بلهفة دون أن ألقي التحية‪:‬‬


‫ُ‬

‫ـ أنا نبيل‪ ،‬صديق جيسيكا؟ هل جيسيكا موجودة؟‬

‫ِ‬
‫بدت الفتاة َّ‬
‫كأنها لم تسمع باسمي من قبل‪ .‬قالت‪:‬‬

‫ذهبت إلى النادي‪ .‬أنا أختها لينا‪.‬‬


‫ْ‬ ‫ـ ال‪،‬‬

‫سيارتي من أوسلو ألصل في الموعد‪.‬‬


‫أتيت أقود ّ‬ ‫ٍ‬
‫موعد معها‪ُ .‬‬ ‫ذهبت إلى النادي؟ كيف؟ أنا على‬
‫ْ‬ ‫ـ‬
‫هي تعلم ذلك‪.‬‬

‫ِ‬
‫بلهجة انكسار ورجاء‪:‬‬ ‫ال‬
‫أضفت قائ ً‬ ‫يهمها من قريب أو بعيد‪ .‬لذلك‬ ‫تقل الفتاة شيئًا‪َّ ،‬‬
‫ُ‬ ‫كأن األمر ال ّ‬ ‫لم ُ‬

‫ـ أرجوك أن ترشديني إلى النادي‪.‬‬

‫قالت‪:‬‬

‫طيب‪ ،‬سأصطحبك إليه‪.‬‬


‫ـ ّ‬

‫كت في االتجاه الذي أشارت إليه‪ .‬سألتُها‪:‬‬


‫تحر ُ‬
‫جلست إلى جانبي في السيَّارة‪َّ .‬‬
‫ْ‬

‫ذهبت إلى النادي؟‬


‫ْ‬ ‫ـ كيف‬

‫بالدراجة‪.‬‬
‫ـ ّ‬

‫‪53‬‬
‫فنسيت أمري‪ .‬ولكن هذا‬
‫ْ‬ ‫حبًا كبي اًر‪،‬‬
‫أحبته ّ‬ ‫داهمت فكري الظنون‪َّ .‬‬
‫لعل جيسيكا التقت شخصاً ّ‬ ‫ْ‬
‫سألت أُختها‪:‬‬
‫ُ‬ ‫مستحيل‪ ،‬فآخر رسالة منها كانت قبل أربعة أيام فقط‪ .‬ومع ذلك‬

‫ذهبت جيسيكا مع صديقها؟‬


‫ْ‬ ‫ـ هل‬

‫ٍ‬
‫بلهجة باردة‪:‬‬ ‫أجابت‬

‫ـ ال صديق لها‪.‬‬

‫طلبت مني أُختُها أن أنتظر هناك‪.‬‬


‫ْ‬ ‫وصلنا النادي ودخلنا فيه‪ .‬عند المدخل‪ ،‬هناك بعض المقاعد‪.‬‬
‫لمحت جيسيكا تخرج من الماء وهي‬
‫ُ‬ ‫وسارت نحو المسبح الذي يقع على ُبعد خمسين مت اًر تقريباً‪ .‬بعد دقائق‪،‬‬
‫الدش‪ ،‬ثم تتناول منشف ًة لتنشف جسمها‪ ،‬وتدخل غرفة المالبس‪.‬‬ ‫بلباس السباحة‪ ،‬تقف تحت ُّ‬

‫اع َّي‪ ،‬وهي على ُبعد خطوات عديدة مني وأنا أقول‬
‫مادًا ذر َ‬
‫مت نحوها ّ‬
‫تقد ُ‬
‫علي وحدها‪ّ .‬‬
‫أقبلت ّ‬
‫ْ‬ ‫وأخي ًار‬
‫بلهفة‪:‬‬

‫ـ جيسيكا‪ ،‬وأخي ًار أسعد باللقاء‪ ،‬يا إلهي‪ ،‬كم ‪...‬‬

‫ٍ‬
‫ابتسامة من‬ ‫إلي يدها اليمنى فقط لتصافحني‪ ،‬دون أن تظهر على وجهها َّأيةُ‬‫مدت ّ‬ ‫غير أن جيسيكا ّ‬
‫ٍ‬
‫رسمية وهي‬ ‫عبير‪ .‬صافحتني بطر ٍ‬
‫يقة‬ ‫أي ت ٍ‬
‫مرة‪ .‬كان وجهها جامدًا خاليًا من ِّ‬
‫أي نوٍع‪ ،‬كما لو كنا نلتقي َّأول ّ‬
‫ِّ‬
‫أشد برودةً من وجهها‪.‬‬
‫صامتة‪ ،‬لم تنطق كلمةً وال حرفًا واحداً‪ .‬وكانت يدها ّ‬

‫وحسبت أننا إذا جلسنا في المقهى‪ ،‬وأمضينا بعض الوقت‪ ،‬قبل‬


‫ُ‬ ‫وخطر لي ّأنها حزينةٌ ٍ‬
‫ألمر ما‪،‬‬
‫قلت لها بحماسة بادية‪:‬‬
‫فإنها ستخبرني بما هناك‪ُ .‬‬ ‫ٍ‬
‫مطعم من المطاعم حين يحين وقت العشاء‪َّ ،‬‬ ‫الذهاب إلى‬

‫تودين أن نذهب إلى إحدى المقاهي؟‬


‫ـ هل ّ‬

‫ركبت إلى‬
‫ْ‬ ‫السيارة‪.‬‬
‫فتحت لها باب ّ‬
‫ُ‬ ‫وقالت ألختها أن تعود إلى المنزل بدراجتها‪.‬‬
‫ْ‬ ‫هزت رأسها موافقة‪،‬‬
‫ّ‬
‫عدت إلى وسط المدينة العتيقة‪ .‬كانت المقاهي منتشرة في الهواء الطلق تحت أقواس البنايات‬
‫ُ‬ ‫جانبي‪.‬‬
‫قلت لها‪:‬‬
‫فطلبت مثلها‪ .‬لم تفُه بشيء‪ُ .‬‬
‫ُ‬ ‫طلبت فنجان قهوة‪،‬‬
‫ْ‬ ‫التاريخية وأروقتها‪ .‬جلسنا في أحد المقاهي‪.‬‬

‫‪54‬‬
‫ـ هل حدث ما يحزنك؟ هل هناك ما يزعجك؟‬

‫هزت رأسها بالنفي‪.‬‬


‫ت شفتيها‪ .‬لم تقُل شيئًا‪ ،‬بل ّ‬
‫ضم ْ‬
‫َّ‬

‫لجة من األفكار والظنون‪ .‬لم ِ‬


‫أهتد إلى تفسير‪.‬‬ ‫وغرقت في ٍ‬
‫ُ‬ ‫لم ِ‬
‫أدر ما أقول‪.‬‬

‫وقت ونحن صامتان‪ .‬الهواء ثقيل‪ ،‬والسكون يرين‪ ،‬برغم الموسيقى الكالسيكية المنبعثة من داخل‬
‫مر ٌ‬‫َّ‬
‫ٍ‬
‫بابتسامة مضيفاً شيئًا من المرح إلى صوتي‪:‬‬ ‫فقلت‬
‫أردت أن أشيع شيئًا من البهجة‪ُ ،‬‬
‫ُ‬ ‫المقهى‪.‬‬

‫تودين أن نذهب؟‬
‫ـ واآلن أين ّ‬

‫ٍ‬
‫خفيض‪:‬‬ ‫ٍ‬
‫وصوت‬ ‫ٍ‬
‫حازمة‬ ‫ٍ‬
‫بلهجة‬ ‫قالت‬

‫ـ إلى المنزل‪.‬‬

‫ـ وبعد ذلك؟‬

‫قالت بلهجة قاطعة‪:‬‬

‫مساء‪.‬‬
‫ً‬ ‫ـ ال أستطيع الخروج‬

‫ونهضت واقفة‪.‬‬
‫ْ‬

‫السيارة واتَّجهت نحو باب المنزل‪.‬‬


‫لت من ّ‬
‫بالسيارة إلى منزلها‪ .‬نز ْ‬
‫ّ‬ ‫اصطحبتًها‬

‫قلت مستفس ًار‪:‬‬ ‫دون أن ِّ‬


‫تودعني أو تفُه بشيء‪ُ .‬‬

‫ـ وغداً؟‬

‫أي ٍ‬
‫أمل بلقاء‪.‬‬ ‫لغيةً َّ‬
‫هزت رأسها‪ُ ،‬م ّ‬
‫ّ‬

‫التقطت علبة‬
‫ُ‬ ‫السيارة‪.‬‬
‫الخلفي في ّ‬
‫َّ‬ ‫ُّ‬
‫التفت إلى المقعد‬ ‫شديدين‪.‬‬
‫ْ‬ ‫غضب وخيبةٌ‬
‫ٌ‬ ‫لم ِ‬
‫أدر ما أفعل‪ .‬اجتاحني‬
‫وصرخت بها قبل أن تدخل المنزل‪:‬‬
‫ُ‬ ‫رسائلها‪،‬‬

‫‪55‬‬
‫ـ انتظري‪ُ .‬خذي هذه‪.‬‬

‫بسيارتي خارجاً من مدينة سالزبورغ كلِّها‪.‬‬


‫انطلقت ّ‬
‫ُ‬ ‫وقذفت بالعلبة عليها أو إليها‪ ،‬و‬
‫ُ‬

‫ــــــ‬

‫ب في أوسلو‬
‫الح ّ‬

‫قصةٌ واقعيةٌ أغرب من الخيال ظّلت نابضةً في قلبي ووجداني أكثر من أربعين عاماً‪ ،‬أضعها اليوم‬
‫على الورق لعّلي أتخّلص منها ولو إلى حين‪.‬‬

‫سافرت إلى الواليات المتحدة األمريكية‪ ،‬لمواصلة دراستي العالية للحصول على الدكتوراه في‬
‫ُ‬ ‫بعد أن‬
‫اتصلت هاتفيًا بصدي ٍق ٍ‬
‫قديم لي‬ ‫ُ‬ ‫استقر بي الحال وانتظمت دراستي‪،‬‬
‫َّ‬ ‫جامعة تكساس في أوستن‪ ،‬وبعد أن‬
‫يقطن في والية مينيسوتا في شمال البالد‪:‬‬

‫ـ ستيف‪ ،‬كيف حالك؟‬

‫‪56‬‬
‫إلي منذ أكثر من شهرْين؟‬
‫وصلت؟ لماذا لم تكتب ّ‬
‫َ‬ ‫سارة‪ ،‬هل‬
‫ـ سليم‪ ،‬هذه مفاجأةٌ َّ‬

‫ال في ترتيب أموري‪ ،‬واستقرار عائلتي الصغيرة في محيطها الجديد‪.‬‬


‫كنت منشغ ً‬
‫ـ آسف‪ ،‬ستيف‪ُ ،‬‬

‫ُّ‬
‫ستحل عطلة عيد الميالد التي تدوم ثالثة أسابيع‪ ،‬وأنا أدعوك لتأتي إلينا هنا في‬ ‫طيب‪ ،‬بعد حوالي شهر‪،‬‬
‫ـ ّ‬
‫مينيسوتا مع عائلتك العزيزة‪ ،‬فأُمي كذلك مشتاقة لمقابلتكم‪ .‬سيعجبكم الجو والمناظر الطبيعية‪ُّ ،‬‬
‫فكل شيء‬ ‫ّ‬
‫عما اعتدتم عليه في الصحاري العربية‪ ،‬وفي تكساس الصحراوية‪.‬‬
‫مدثّر بالثلوج‪ ،‬وهو يختلف تمامًا ّ‬

‫ـ تكساس ليست صحراء‪ .‬ويسعدني قبول دعوتك‪ ،‬يا ستيف‪ ،‬فقد اشتقت إليك‪ ،‬وسأوافيك بموعد وصولي‪ ،‬إن‬
‫شاء اهلل‪.‬‬

‫ـ إلى اللقاء‪.‬‬

‫ت عائلتي الصغيرة‬ ‫ِّ‬


‫مشجعة فيه‪ ،‬حمل ُ‬ ‫وحصلت على نتائج‬
‫ُ‬ ‫ما إن انقضى فصل الخريف الدراسي‪،‬‬
‫ال مسترشدًا بالخارطة‬
‫بسيارتي من نوع شوفرليه كميرو‪ ،‬واتجهنا شما ً‬
‫المكونة من زوجتي وولدي سامي‪ّ ،‬‬
‫السيارات األمريكية" ‪.AAA‬‬ ‫َّ‬
‫جمعية ّ‬ ‫زودتني بها "‬
‫التفصيلية التي َّ‬

‫ويتكون من‬
‫َّ‬ ‫حي ار ٍ‬
‫ق‪،‬‬ ‫مساء إلى مينابولس‪ ،‬عاصمة منيسوتا‪ ،‬واهتدينا إلى المنزل‪ ،‬فألفيناه في ٍّ‬
‫ً‬ ‫وصلنا‬
‫فيال كبيرة تحيط بها الجنائن الفسيحة من نواحيها األربع‪ ،‬وحديقة المنزل األمامية غير مسيَّجة مثل بقية‬
‫تسر الناظر وتشيع البهجة في الفضاء كلِّه‪.‬‬ ‫ُّ‬
‫حدائق البيوت التي تطل على الشارع‪ ،‬فيصبح الطريق حديقة ّ‬

‫التغيب عن‬
‫ُمه لعدم وجود زوجها‪ ،‬فهو كثير ّ‬
‫أمه بنا ترحيباً بالغًا‪ ،‬واعتذرت السيدة أ ُّ‬
‫رحب ستيف و ّ‬
‫ّ‬
‫المنزل بسبب ارتباطاته الكثيرة لكونه عضوًا في الكونغرس عن والية منيسوتا‪ ،‬ويمضي أوقاتًا طويلة في‬
‫واشنطن دي سي العاصمة‪ ،‬وأضافت قائلة‪:‬‬

‫الحارة وترحيبه البالغ‪ ،‬فهو يعلم َّ‬


‫أن سليم هو‬ ‫َّ‬ ‫أبلغكم تحياته‬
‫جداً بوجودكم معنا‪ ،‬وطلب مني أن ّ‬
‫ولكنه مسرور ّ‬
‫ـ ّ‬
‫أنجبت أختاً له‪ ،‬روث‪ ،‬ولم أنجب‬
‫ُ‬ ‫أعز أصدقاء ستيف‪ ،‬وستيف يحبُّه كما لو كان أخاه‪ ،‬بل هو أخوه‪َّ ،‬‬
‫ألنني‬
‫ولدًا آخر‪.‬‬

‫‪57‬‬
‫شكرنا السيدة على حسن استقبالها لنا وجميل حفاوتها بنا‪ .‬وبعد أن أرشدتنا إلى جناح الضيوف‪،‬‬
‫أخبرت‬
‫ْ‬ ‫وتركنا حقائبنا فيه‪ ،‬ورجعنا إلى صالة االستقبال‪ ،‬جلبت لنا الخادمة بعض المشروبات‪ ،‬وبعد قليل‬
‫معدة‪ ،‬فقالت السيدة‪:‬‬
‫أن مائدة العشاء ّ‬
‫سيدةَ المنزل ّ‬
‫ّ‬

‫ـ تفضلوا‪ ،‬ال ُب َّد أنكم تشعرون بالجوع بعد هذه الرحلة الطويلة‪.‬‬

‫قالت زوجتي‪:‬‬

‫كنا كثي ًار ما نستريح في الطريق‪ ،‬ونتناول وجباتنا االعتيادية‪.‬‬ ‫ـ َّ‬


‫ولكننا ّ‬

‫بكرسي ٍ‬
‫عال لولدي سامي ووضعته بين مقعدي ومقعد زوجتي التي‬ ‫ٍّ‬ ‫في صالة الطعام‪ ،‬أتت الخادمة‬
‫كانت على يمين سيدة المنزل‪ ،‬على حين كان ستيف يجلس في المقعد المقابل لي‪.‬‬

‫تحدثنا عن األنشطة االجتماعية الخيرية التي اعتزلت مهنتها‬


‫أثناء العشاء‪ ،‬أخذت سيدة المنزل ّ‬
‫للتفرغ لها‪ ،‬بعد أن انتُ ِخب زوجها عضوًا في الكونغرس‪ .‬وبعد العشاء‪ ،‬انتقلنا إلى صالة الجلوس‬
‫التعليمية ُّ‬

‫المؤثَّثة بأرائك مريحة‪ .‬وحملت السيِّدة بعض ُدمى األطفال ووضعتها أمام ولدي سامي‪ ،‬وهي ّ‬
‫تشجعه على‬
‫اللعب بها‪ ،‬وتقول‪:‬‬

‫ـ أحتفظُ بهذه ُّ‬


‫الدمى في غرفة ستيف وأخته روث منذ أن كانا صغيرْين‪ ،‬فرؤيتها تذ ّكرني بطفولتهما وتمنحني‬
‫سعادة غامرة‪.‬‬

‫صمتت لحظةً ثم أضافت قائلة‪:‬‬

‫نسر به أنا وزوجي‪.‬‬


‫يتزوج ستيف وينجب لنا حفيداً‪ ،‬مثل سامي‪ّ ،‬‬
‫ـ كم أتمنى أن َّ‬

‫وصحنًا مليئًا بقطع الشكوالتة البيضاء‪.‬‬


‫وجاءت الخادمة بفناجين القهوة َ‬

‫اللتين‬
‫السيدتين ْ‬
‫ْ‬ ‫حملنا أنا وستيف فنجاني قهوتنا‪ ،‬وانتبذنا ركناً في صالة الجلوس مبتعدين قليالً عن‬
‫راحتا تتجاذبان أطراف الحديث‪ ،‬وسامي يستكشف اللُّ َعب و ُّ‬
‫الدمى الكثيرة واحدة بعد أُخرى‪.‬‬

‫‪58‬‬
‫أمعنت النظر في وجه ستيف َّ‬
‫أتفحصه‪ .‬كان أشقر كما عهدته‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫وعندما أمسينا أنا وستيف وحدنا‪،‬‬
‫تخيم عليه وتحجب بريق الفرحة واألمل الذي عهدتُه ُّ‬
‫يطل من قسماته الوسيمة‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫أسى شفيف ّ‬ ‫ً‬
‫ولكن غالل ًة من‬
‫وقلت ‪:‬‬
‫ُ‬ ‫تشفت شيئًا من القهوة‪،‬‬
‫ار ُ‬

‫ـ ستيف‪ ،‬كيف حالك؟‬

‫ذكرت لك‬
‫ُ‬ ‫ـ ال بأس‪ .‬كما أخبرتك في رسائلي‪ ،‬أزاول المحاماة في مكتب والدي‪ ،‬وأحقِّق نجاحًا ملحوظًا‪ .‬وكما‬
‫تخصصي هو القانون المدني‪ ،‬مثل والدي تماماً‪ ،‬فنحن ال نميل إلى الدفاع عن مجرمين‬
‫ُّ‬ ‫من قبل‪َّ ،‬‬
‫فإن‬
‫محتملين‪ ،‬على الرغم من َّ‬
‫أن أجدادنا الفايكنغ كانوا يقترفون أنواعاً عديدة من اإلجرام‪.‬‬ ‫َ‬

‫وقلت‪:‬‬
‫ُ‬ ‫ضحكت‬
‫ُ‬

‫ـ ـ نعم ال أنسى ّأنهَم اختطفوا أحد سفرائنا العباسيِّين العرب في أوربا وسجنوه أربع سنوات في كهوفهم الكئيبة‬
‫ومنافح عن قضايا العرب‬
‫ٌ‬ ‫ٍ‬
‫محام ناجح‪،‬‬ ‫ولكننا نسامحهم اآلن‪َّ ،‬‬
‫ألن سليلهم ستيف‬ ‫تمكن من الهرب‪َّ .‬‬ ‫حتى َّ‬

‫العادلة‪ ،‬وهو صديقي‪.‬‬

‫ال‪:‬‬
‫أضفت قائ ً‬
‫ُ‬ ‫يثت هنيه ًة و‬
‫تر ُ‬

‫حب ٍ‬
‫فتاة تكون شريكة حياتك‪.‬‬ ‫نجاح آخر‪ .‬ألم تنجح في ِّ‬
‫ٍ‬ ‫ولكني أسأل عن‬
‫لنجاحك المهني‪ّ ،‬‬
‫َ‬ ‫ـ طبعًا أنا مسرور‬
‫ألن الزواج في ثقافتنا العربية ليست مسألة شخصية‪ ،‬بل‬ ‫كنت أ ُّ‬
‫ُلح في هذا الموضوع الشخصي‪ّ ،‬‬ ‫واعذرني إذا ُ‬
‫أعد نفسي صديقك فحسب‪ ،‬بل أخاك كذلك‪.‬‬
‫تهم جميع أفراد العائلة بل العشيرة كلّها‪ ،‬وأنا ال ّ‬
‫عائلية أو ّ‬

‫ٍ‬
‫فتيات‬ ‫افقت‬
‫وحاولت كثي ًار‪ ،‬ور ُ‬
‫ُ‬ ‫حاولت‬
‫ُ‬ ‫صدقني‪ ،‬سليم‪ ،‬لقد‬
‫ـ وأنا‪ ،‬يا سليم‪ ،‬أعتبرك أخي الوحيد‪ ،‬كما تعلم‪ .‬ولكن ّ‬
‫إلحداهن‪ّ .‬إنني لم‬
‫ّ‬ ‫مرة واحدة‬
‫كثيرات لوجبات في المطاعم‪ ،‬ونزهات في الحدائق‪ ،‬ولكن قلبي لم يخفق وال َّ‬
‫ِ‬
‫أستعد إيماني بنفسي‪ ،‬وال ثقتي بأيَّة فتاة‪ ،‬بعد ما فعلته (غابي) بي‪.‬‬

‫وسيطرت على‬
‫ُ‬ ‫ضبطت أعصابي‪،‬‬
‫ُ‬ ‫ولكني‬
‫ال‪ " :‬ال تذكر اسمها أمامي‪ّ ".‬‬ ‫كدت أصرخ في وجهه قائ ً‬ ‫ُ‬
‫وجدت عقارب الزمن تعود عشر‬
‫ُ‬ ‫ألفيت ذاكرتي تعود بي إلى أيام الصبا‪.‬‬
‫ُ‬ ‫نفسي بصعوبة‪ .‬وبغير إر ٍ‬
‫ادة مني‪،‬‬
‫كنت طالباً في الجامعة‬
‫يوم ُ‬
‫سنوات إلى الوراء يوم كان عمري عشرين عامًا تقريباً في أواسط الستينيات‪َ ،‬‬

‫‪59‬‬
‫أن جامعة أوسلو تعلن عن‬
‫أت إعالناً في لوحة اإلعالنات بالجامعة‪ ،‬مفاده ّ‬
‫األمريكية في بيروت‪ .‬ذات يوم‪ ،‬قر ُ‬
‫وبعثت بترشيحي دون أن يخامرني األمل في‬
‫ُ‬ ‫مدة ستة أسابيع‪.‬‬
‫بي في دورتها الصيفية ّ‬ ‫ٍ‬
‫لطالب عر ٍّ‬ ‫منحة در ٍ‬
‫اسية‬ ‫ٍ‬
‫ٍ‬
‫استبانة من القسم الداخلي في الجامعة‬ ‫ولشد دهشتي وفرحتي َّأنني تلقَّ ُ‬
‫يت جواباً بالقبول مع‬ ‫َّ‬ ‫الحصول عليها‪.‬‬
‫طالبين‪.‬‬
‫ْ‬ ‫ألن َّ‬
‫كل غرفة في القسم الداخلي تأوي‬ ‫جنسية الزميل الذي أرغب في السكنى معه‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫تستمزج رأيي في‬
‫بأني أرغب في‬
‫أجبت ّ‬
‫ُ‬ ‫فإنني‬
‫كنت آمل أن أواصل دراستي العالية في أمريكا عندما تسنح لي الفرصة‪ّ ،‬‬ ‫ولما ُ‬
‫أتعرف على عادات‬ ‫ٍ‬
‫أحسن من لغتي اإلنكليزية و ّ‬
‫إن أمكن‪ .‬طبعاً كان قصدي أن ّ‬ ‫يكي ْ‬
‫طالب أمر ٍّ‬ ‫السكنى مع‬
‫يكيين وعقليتهم‪ .‬فالمعرفة الجيدة للغة وبيئتها تساعد على استيعاب المعلومات التي تُصاغ بها‪ .‬ولم ِ‬
‫أدر‬ ‫األمر ّ‬
‫أن االستجابة لرغبتي في السكنى مع طالب أمريكي ميسورة جدًا‪َّ ،‬‬
‫ألن معظم المشاركين في تلك الدورة‬ ‫آنذاك َّ‬
‫التعرف على البالد التي ِ‬
‫قدم‬ ‫يكيين ذوي األصول االسكندنافية‪ ،‬ال لرغبتهم في ُّ‬
‫الصيفية كانوا من الطالب األمر ّ‬
‫ألن الجامعات األمريكية تقبل منهم النقاط التي‬
‫منها آباؤهم أو أجدادهم إلى أمريكا فحسب‪ ،‬بل كذلك ّ‬
‫وكثير من هؤالء الطالب األمريكان‬
‫ٌ‬ ‫يحصلون عليها من الجامعات األجنبية‪ُّ ،‬‬
‫ويعدونها خبرًة ومعرف ًة مضافة‪.‬‬
‫المتخصصين في الدراسات اإلسكندنافية أو القانون والعالقات‬
‫ِّ‬ ‫الذي يأتون للدراسة في جامعة أوسلو‪ ،‬من‬
‫جذب ٍ‬
‫كبير لهم‪.‬‬ ‫فإن الدورة الصيفية لجامعة أوسلو ذات ٍ‬
‫الدولية أو اللسانيات أو ما أشبه ذلك‪ ،‬ولهذا َّ‬

‫وبناء على نصيحة من القنصلة النرويجية في بيروت حول أفضل وأرخص السبل للسفر إلى‬
‫مستعمل ًة من ميونيخ‪ ،‬وواصلت‬
‫َ‬ ‫سيارةً‬
‫يت ّ‬
‫أوسلو‪ ،‬سافرت بقطار الشرق السريع إلى ألمانيا واشتر ُ‬
‫ثم العودة بها إلى بيروت ليتاح لي زيارةُ ٍ‬
‫عدد من‬ ‫سفري بها إلى أوسلو لتمضية العطلة الصيفية‪َّ ،‬‬
‫ُ‬
‫الدول األوربية في طريق العودة‪.‬‬

‫علمت َّ‬
‫أن زميلي في غرفة السكن هو‬ ‫ُ‬ ‫لت في الجامعة‪،‬‬
‫وسج ُ‬
‫ّ‬ ‫وصلت إلى أوسلو‪،‬‬
‫ُ‬ ‫عندما‬
‫يكي في العشرين من عمره كذلك يدعى ستيف سندرسون‪.‬‬
‫طالب أمر ٌّ‬
‫ٌ‬

‫من الوهلة األولى شعرنا أنا وستيف بمحبَّة متبادلة‪ ،‬فقد كانت روحه ش ّفافة الصفاء‪ ،‬فيها‬
‫حب الحياة‪،‬‬
‫وتنم عن ّ‬
‫براءة األطفال‪ ،‬ورقّة الخلجان‪ .‬وله ابتسامةٌ وادعةٌ تُشرق في وجهه األشقر‪ُّ ،‬‬
‫ٍ‬
‫مستقبل رائع‪.‬‬ ‫ونبض األمل الطاغي في‬

‫‪60‬‬
‫ال لي في السكن‪ ،‬بل صديقًا عزي ًاز‪ ،‬أو‬ ‫بأنني ال ُّ‬
‫أعده زمي ً‬ ‫أخبرت ستيف ّ‬
‫ُ‬ ‫ٍ‬
‫محادثة لنا‪،‬‬ ‫في َّأول‬
‫أمي‪.‬‬
‫باألحرى أخًا لم تلده ّ‬

‫ابتسم ستيف لهذا الخطاب العاطفي الذي لم يعتَد عليه‪ ،‬وقال ‪:‬‬

‫أنك العربي‬
‫طلبت من الجامعة أن يكون زميلي في السكن طالباً عر ّبيًا‪ ،‬ولم أعلم َ‬
‫ُ‬ ‫ـ وأنا كذلك‪ ،‬فقد‬
‫تزوجت‬
‫ْ‬ ‫الوحيد في الدورة الصيفية‪ .‬ولي صهر عربي أو أخ ‪ ، an Arab brother in law‬فقد‬
‫ألتعرف‬
‫َّ‬ ‫طلبت أن يكون زميلي في السكن عربيًا‪،‬‬
‫ُ‬ ‫أُختي روث زميالً سوريا لها في الجامعة‪ .‬ولهذا‬
‫أت كثي اًر عن تاريخ العرب وديانتهم وتقاليدهم‪ ،‬إضافة إلى ما أخبرتني به‬
‫على عاداتكم أكثر‪ .‬فقد قر ُ‬
‫وتمسكهم باألسرة وأواصر‬
‫ُّ‬ ‫أُختي عن طيبة أهل زوجها‪ ،‬وكرمهم‪ ،‬ودماثة طبعهم‪ ،‬وسمو خلقهم‪،‬‬
‫المحبَّة والتكافل بين أفرادها‪.‬‬

‫كأخوين‬
‫ْ‬ ‫كصديقين فقط‪ ،‬بل‬
‫ْ‬ ‫األول‪ ،‬أخذنا أنا وستيف‪ ،‬نعامل أحدنا اآلخر‪ ،‬ال‬
‫ومنذ اليوم ّ‬
‫متالزمين في معظم األوقات‪ :‬في المطعم والمقهى والنزهات القصيرة في الغابة‬
‫ْ‬ ‫ورفيقين‬
‫ْ‬ ‫متضامنين‪،‬‬
‫ْ‬
‫اخترت أن أدرس‬
‫ُ‬ ‫المحيطة بالجامعة‪ ،‬على الرغم من ّأننا لم نتابع المسارات الدراسية نفسها‪ ،‬فقد‬
‫أما ستيف‬
‫األدب االسكندنافي‪ ،‬والنظام التربوي النرويجي‪ ،‬والمستوى االبتدائي من اللغة النرويجية؛ ّ‬
‫فقد كان يتابع المستوى العالي من اللغة النرويجية‪ ،‬والعالقات الدولية‪ ،‬واالقتصاد المختلط‪ .‬فقد كانت‬
‫آنذاك ثالث مدارس اقتصادية في العالَم‪ :‬االقتصاد الرأسمالي المطبَّق في أمريكا والدول الغربية‪،‬‬
‫واالقتصاد االشتراكي في االتحاد السوفيتي ودول الكتلة الشرقية األُخرى‪ ،‬واالقتصاد المختلط المتَّبع‬
‫في الدول اإلسكندنافية‪.‬‬

‫األخوة في الثقافة‬
‫ّ‬ ‫شرحت له أن مفهوم‬
‫ُ‬ ‫ف ستيف معي كما لو كان أخي فعالً‪ .‬فقد‬ ‫تصر َ‬
‫َّ‬
‫العربية أوسع منه بكثير عما هو عليه في الواليات المتحدة األمريكية‪ .‬فكلمة (األخ) باللغة العربية‬
‫لفظي ي عني " الشقيق"‪ ،‬و"األخ من األب أو من األم" و "الصديق المخلص"؛ على حين َّ‬
‫أن‬ ‫ٌّ‬ ‫مشترك‬
‫ٌ‬
‫معنى ضيقًا واحداً هو " الشقيق" أما "األخ من األب أو‬ ‫لكلمة (‪ ) Brother‬وحدها باللغة اإلنكليزية‬
‫ً‬
‫المسلِم يكتسب أخًا إذا رضع مع‬
‫أن ُ‬‫َّنت له كيف َّ‬‫من األم" فهو "نصف أخ = ‪ ." Half brother‬وبي ُ‬

‫‪61‬‬
‫ٍ‬
‫رضعة أُخرى‪ .‬ولهذا فقد‬‫ألم أحدهما أو لم‬
‫ثدي واحد‪ ،‬سواء أكان هذا الثدي ِّ‬
‫معينة من ٍ‬ ‫ٍ‬
‫طفل آخر َّ‬
‫مدةً َّ‬
‫أخ‬
‫تبرر وجود إخوة لك من غير األشقاء‪ ،‬مثل " رب ٍ‬
‫كثرت األمثال واألقوال في الثقافة العربية التي ّ‬
‫لك لم تلده أ ّمك‪".‬‬

‫كنت على وشك أن أسوق له أدلَّ ًة أخرى على رأيي مثل مؤاخاة الرسول (ص) بين‬
‫ُ‬
‫لي إلى مالك األشتر‪ ،‬واليه على مصر‪ ،‬الذي كان‬
‫المهاجرين واألنصار في المدينة‪ ،‬وعهد اإلمام ع ّ‬
‫معظم أهلها من األقباط‪ ،‬وفيه يقول اإلمام لألشتر‪ :‬إن الناس إما أخ لك في الدين أو نظير لك في‬
‫ولكنني‬
‫لألخوة في الحضارة العربية‪َ .‬‬
‫ّ‬ ‫الخلق (أي أخ لك في اإلنسانية)‪ ،‬وهذا يدل على المعنى الواسع‬
‫خشيت‬
‫ُ‬ ‫لم أسرد هذه األدلة‪ ،‬ال ألنني لمحت أمارات االقتناع برأيي على مالمح وجه ستيف‪ ،‬بل َّ‬
‫ألنني‬
‫أن يقول لي ستيف‪ :‬ولماذا ما تزال دولكم العربية تتصرف من منطق عشائري أو طائفي وال تنظر‬
‫اكتفيت بأدلتي السابقة‪.‬‬
‫ُ‬ ‫إلى الناس بوصفهم مواطنين‪ ،‬عليهم واجبات ولهم حقوق على الدولة‪ .‬ولهذا‬

‫ِ‬
‫أعلنت الجامعة عن إتاحة الفرصة‬ ‫اإلخوة‪ .‬ولهذا عندما‬ ‫المهم أن ستيف اقتنع بنظريتي عن‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫ٍ‬
‫أمسية ترفيهية‪ ،‬يعرضون فيها شيئًا من موسيقاهم وأغانيهم‪ ،‬وحضارتهم‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫قومية لتنظيم‬ ‫لطالب ِّ‬
‫كل‬ ‫ّ‬
‫قلت لستيف‪:‬‬
‫وبعض قضاياهم االجتماعية والوطنية‪ُ ،‬‬

‫تمنيت لو أستطيع تنظيم سهرٍة عربية‪ ،‬و ّ‬


‫أتحدث فيها عن القضية الفلسطينية ومشكلة الالجئين‬ ‫ُ‬ ‫ـ‬
‫الفلسطينيين‪َّ .‬‬
‫ولكنني هنا العربي الوحيد‪ ،‬كما أني ال أملك أيَّة أفالم للعرض أو اسطوانات غنائية‪.‬‬

‫قال لي ستيف‪:‬‬

‫ـ أنا أخوك وسأساعدك في تنظيم األمسية على أحسن وجه‪ ،‬وفي وسعك أن تطلب من السفارات‬
‫العربية في أوسلو إمدادك بأفالم سياحية وترفيهية‪.‬‬

‫قلت‪:‬‬

‫ـ ال توجد في أوسلو من السفارات العربية إال المصرية‪ .‬سأتَّصل بها وأرى‪.‬‬

‫‪62‬‬
‫ِ‬
‫يكتف ستيف بمساعدتي في تنظيم القاعة وتشغيل جهاز عرض األفالم فحسب‪ ،‬بل شارك كذلك‬ ‫لم‬
‫في عرض القضية الفلسطينية‪ ،‬وتناولها من الناحية القانونية وفي ضوء حقوق اإلنسان‪ ،‬وجرائم‬
‫الفلسطينيين حين تقتلعهم من‬
‫ّ‬ ‫ِّ‬
‫بحق السكان‬ ‫الحرب والجرائم ضد اإلنسانية التي تقترفها إسرائيل‬
‫مساكنهم وتصادر أراضيهم‪.‬‬

‫يكيين ونقدهم الشديد آلرائه في تلك األمسية‪،‬‬


‫وتعرض ستيف الستهجان بعض زمالئه الطلبة األمر ّ‬
‫ّ‬
‫ال‪:‬‬
‫يرد عليهم بهدوء قائ ً‬
‫فكان ّ‬

‫التعصب ونتَّصف بالروح الموضوعية‪ ،‬وأن ننظر إلى‬


‫ّ‬ ‫ـ علينا نحن‪ ،‬طالب المعرفة ‪ ،‬أن نرتفع عن‬
‫نتحدث بوصفنا‬
‫ّ‬ ‫حقوق اإلنسان واحترامها بغض النظر عن عرقه ولونه ودينه‪ .‬واذا أردنا أن‬
‫أمريكيِّين‪ ،‬فعلينا أن نعلم أن أمريكا ليست إسرائيل‪ ،‬و َّ‬
‫أن مصالح بالدنا مع البلدان العربية أكبر من‬
‫سيؤدي إلى اإلضرار بمصالحنا مع البلدان اإلسالمية‪.‬‬
‫ّ‬ ‫وتحيزنا لهذه الدولة‬
‫مصالحها مع إسرائيل‪ّ ،‬‬

‫كنت َّ‬
‫ممدداً على السرير في غرفة السكن‬ ‫األول من الدورة‪ ،‬و ُ‬
‫وفي يوم من أيام األسبوع ّ‬
‫الجامعي‪ ،‬طُ ِرق الباب وفُتِ ح باب الغرفة‪ ،‬ودخل ستيف مشرق الوجه باسم الثغر‪ ،‬وحالما رآني صرخ‬
‫قائالً‪:‬‬

‫ـ ـ سليم‪ ،‬سليم‪ ،‬وجدتها‪ ،‬وجدتها‪.‬‬

‫وجدت؟ الحقيقة؟ تفاحة نيوتن؟‬


‫َ‬ ‫ـ ماذا‬

‫علي أن آتي من أمريكا إلى النرويج ألعثر عليها؟ َّإنه‬


‫ـ ـ ال‪ ،‬بل فتاة أحالمي‪ ،‬شريكة عمري‪ .‬أكان ّ‬
‫القدر‪ ،‬أو المكتوب‪ ،‬كما تقولون‪.‬‬

‫سألته بشيء من االستغراب‪:‬‬

‫ـ هل هي أمريكية؟‬

‫تصورتُها في أحالمي‪.‬‬
‫ـ ال‪ ،‬هولندية‪ ،‬رائعة‪ ،‬رائعة‪ ،‬تمامًا كما ّ‬

‫‪63‬‬
‫قلت له مازحًا‪:‬‬
‫ُ‬

‫ـ ال بد أنها سمينة غليظة كاألبقار الهولندية‪.‬‬

‫ضحك وقال‪:‬‬

‫هيفاء كظباء جزيرتكم العربية‪.‬‬


‫ُ‬ ‫اطمئن‪ّ .‬إنها رشيقةٌ‬
‫ْ‬ ‫ـ ـ ال‪،‬‬

‫صمت لحظ ًة وقال‪:‬‬


‫َ‬

‫ستحبها كذلك‪ .‬ولكن ّإياك أن تنافسني في غرامها‪ ،‬واال ستصيبك آالم فيرتر‪ .‬وأنا‬
‫ّ‬ ‫أنت‬
‫ـ عندما تراها َ‬
‫بي الوسيم‪،‬‬ ‫أخشى منافستك‪ ،‬ففتيات أوربا ما زلن مفتونات برومانسية القرن التاسع عشر‪ ،‬و ُّ‬
‫الشاب العر ُّ‬
‫مثلك‪ ،‬عملةٌ نادرةٌ يتهافتن عليها‪.‬‬

‫علي‪ ،‬فإنا لست ممن يطربني المديح المصطنع‪.‬‬


‫ـ ال تكيل الثناء َّ‬

‫قال ستيف‪:‬‬

‫المهم‪َّ ،‬أنني دعوتها للعشاء معي غدا‪ ،‬ليس في مطعم الجامعة‪ ،‬بل في‬
‫ُّ‬ ‫ـ أنا مخلص في ما أقول‪.‬‬
‫مطعم الملكة في خليج أوسلو‪ ،‬وأنا أدعوك كذلك ليكون سروري مضاعفًا‪.‬‬

‫ٍ‬
‫موعد غرامي‪ .‬ألم تسمع بالمثل‬ ‫ـ ال‪ ،‬شك ًار ستيف‪ .‬ليس من الالئق أن تصطحب شخصًا ثالثًا في‬
‫العربي‪ " :‬كل سر جاوز االثنين شاع"؟‬

‫قال ستيف‪:‬‬

‫سر‪ ،‬يل أريد العالم كلَّه أن‬


‫حبي ًّا‬ ‫ـ ال‪َّ ،‬‬
‫ولكنك أخي ولست شخصًا ثالثًا‪ .‬كما أني ال أريد أن يبقى ّ‬
‫يعرف ّأني أحبُّها‪ ،‬فأنا فخور بها‪.‬‬

‫جيدًا‪.‬‬
‫ال حتى تعرفها ّ‬ ‫أنت مندفع‪ ،‬ترَّي ْ‬
‫ث قلي ً‬ ‫ـ ستيف ‪َ ،‬‬

‫‪64‬‬
‫وقعت في حبِّها‬
‫ُ‬ ‫ـ أشعر أني أعرفها منذ زمن طويل‪ ،‬منذ أن أبصرت النور في هذا العالم‪ ،‬بل ّإني‬
‫قبل مجيئي إلى هذا العالم‪.‬‬

‫وجداني شديد‪:‬‬
‫ٍّ‬ ‫ٍ‬
‫بانفعال‬ ‫سكت لحظة وقال‬
‫َ‬

‫كل قلبك‪ .‬ما ِمن رجل يراها ّإال ويقع أسير سحرها‬
‫ستحبها من ّ‬
‫ّ‬ ‫أنت كذلك‪ ،‬يا سليم‪،‬‬
‫ستحبها َ‬
‫ّ‬ ‫ــ‬
‫وفتنتها‪.‬‬

‫قلت‪:‬‬
‫ُ‬

‫حبيب إلى قلبي‪.‬‬


‫ٌ‬ ‫تحب‪،‬‬
‫تحب وما ّ‬ ‫وتحبها‪ُّ .‬‬
‫وكل َمن ّ‬ ‫ـ ـ ستيف‪ ،‬طبعًا ستعجبني‪َّ ،‬‬
‫ألنها تحبُّك ّ‬

‫قال ستيف بحماسة ظاهرة‪:‬‬

‫ـ متى تريد أن تلتقيها‪ ،‬ألرتّب موعداً آخر لنا؟‬

‫قلت‪:‬‬
‫ُ‬

‫ال‪ ،‬لننتظر حتى تتوثَّق عالقتكما‪ ،‬وتعرفها بصورٍة أفضل‪.‬‬


‫ـ ستيف‪َّ ،‬تريث قلي ً‬

‫قال باندفاع كبير‪:‬‬

‫استنشقت‬
‫ُ‬ ‫كنت أبحث عنه‪ ،‬منذ أن‬
‫ـ لقد توثقت عالقتنا من النظرة األولى‪ّ .‬إنها نصف روحي الذي ُ‬
‫َّأول نسمة في هذه الدنيا‪.‬‬

‫عجبت الندفاعه العارم‪ ،‬وحماسته المنقطعة النظير‪،‬‬


‫ُ‬ ‫وعلى الرغم من ّأننا ـ كلينا ـ في ميعة الصبا‪ ،‬فقد‬
‫وهيمنت على روحه‬
‫ْ‬ ‫خلبت لبه‪،‬‬
‫ْ‬ ‫وقلت في نفسي‪ :‬ال ُب ّد َّأنها ساحرة الحسن رائعة‪،‬‬
‫ُ‬ ‫وثقته المطلقة بها‪.‬‬
‫وسقتْه جرعةً من السعادة فانتشى وحلّق في أجواء الخيال العليا‪.‬‬
‫ووجدانه‪َ ،‬‬

‫‪65‬‬
‫ٍ‬
‫خميلة في الغابة التي تحيط بالجامعة‬ ‫وأخي اًر رتّب ستيف لقاءنا ـ نحن الثالثة ـ تحت‬
‫وتحتضنها‪ ،‬كما تحتضن األم وليدتها الصغيرة‪ ،‬لتحميها من برودة الليل‪ ،‬ووهج شمس ضعيفة الح اررة‬
‫تتحرك‪.‬‬ ‫َّ‬
‫واهنة‪ ،‬معلقة في كبد السماء ال ّ‬

‫كنت في انتظارهما تحت الخميلة‪،‬‬


‫مساء بعد وجبة العشاء‪ُ .‬‬
‫ً‬ ‫التقينا حوالي الساعة العاشرة‬
‫أقبلت معه بجسمها متوسط الطول الرشيق اللدن مثل ِّ‬
‫قد الغزال‬ ‫ْ‬ ‫والشمس باهتة الضوء في السماء‪.‬‬
‫أما وجهها‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫الساقين؛ ّ‬
‫ْ‬ ‫ممشوقة القوام عاجيَّة‬ ‫عارضة أزياء‬ ‫كمشية‬ ‫األهيف‪ ،‬ومشيتها مموسقة موّقعة‬
‫ٍ‬
‫منظومة كاللؤلؤ شديد البياض‪.‬‬ ‫األشقر فكان مشرقًا صبوحًا قبل األوان؛ وتكشف ابتسامتها عن أسنان‬
‫وقفت مرحباً بهما‪ .‬قال ستيف يخاطبها‪:‬‬
‫ُ‬

‫ـ ـ غابي‪ ،‬هذا أخي سليم‪.‬‬

‫أحسست‬
‫ُ‬ ‫وضمتني إلى صدرها الرّيان‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ولكنها فتحت ذراعيها وعانقتني‬
‫مددت يدي إليها لمصافحتها‪ّ ،‬‬
‫ُ‬
‫به ناهداً مثل وسادة صغيرة لينة يغمرني بدفئه اللذيذ‪ ،‬فيوقظ حواسي مثل مغطس ملئ بماء دافئ‬
‫عيني بعد أن أستيقظ من النوم ويسّلمني إلى يوم عمل جديد بنشاط متوثّب‪.‬‬
‫ّ‬ ‫يغسل آثار النوم في‬

‫َّ‬
‫ممتدة‪ .‬ومنذ تلك‬ ‫ٍ‬
‫صيفية‬ ‫تحدثنا باسترخاء أشبه ما يكون باسترخاء شمس أوسلو في ٍ‬
‫ليلة‬ ‫ّ‬
‫متغيب‪،‬‬
‫ّ‬ ‫نصفين‪ :‬نصف يمضيه مع غابي في غرفتنا وأنا‬
‫ْ‬ ‫قسم ستيف أوقات فراغه إلى‬
‫الليلة‪ّ ،‬‬
‫ونصف يقضيه معها بحضوري في تناول الوجبات اليومية في مطعم الجامعة‪ ،‬ومشاهدة المسرحيات‬
‫في المسرح البلدي‪ ،‬واالستمتاع بالحفالت الموسيقية في األوبرا‪ ،‬واالستماع إلى المحاضرات الجامعية‬
‫العامة‪ ،‬والمشاركة في األنشطة الالمدرسية‪ ،‬وكنا نشارك في هذه األنشطة جالسين أو واقفين جنبًا‬
‫ّ‬
‫إلى جنب‪ :‬غابي في الوسط وستيف على يمينها وأنا على يسارها‪ .‬وكثي اًر ما تفرد غابي ذراعيها مثل‬
‫جناحي حمامة وتضعهما حول خصرينا‪ ،‬وي ُّ‬
‫مد ستيف ذراعه اليسرى على كتف غابي‪ ،‬ويطلب مني‬ ‫َ‬
‫أن َّ‬
‫أمد ذراعي اليمنى على كتف ها كذلك لتصافح يده يدي على عنقها العاجي الطويل فيشعر بدفء‬
‫َّ‬
‫المودة الذي سيربطنا إلى األبد‪ .‬وشيئًا‬ ‫األخوة‪ ،‬كما قال لي‪ .‬فتالزم أيدينا نحن الثالثة رمز لوثاق‬
‫فشيئاً‪ ،‬أخذ يراودني شعور قلِق َّ‬
‫بأن غابي هي أختي أو كما يقولون باإلنكليزية‪. a sister in law :‬‬

‫‪66‬‬
‫وكنت أقول في نفسي إذا كانت أذرعنا كثي ًار ما تتعانق وأيدينا غالبًا ما تتشابك بصورة ملتبسة‬
‫ُ‬
‫غامضة غموض الغابة الشاسعة الداكنة التي تحيط بجامعة أوسلو‪َّ ،‬‬
‫فإن األمور لعقلي كانت واضحة‬
‫وضوح الشمس في سماء بابل نها اًر‪ .‬فستيف هو أخي وهي حليلته‪ .‬وسارت األمور بحالوة على هذا‬
‫النحو‪.‬‬

‫في منتصف شهر آب‪ /‬غشت‪ ،‬انقضت األيام الجميلة التي سحرْتنا خالل الدورة الصيفية‬
‫كنا نتشبث بالبقاء سوي ًة أطول‬
‫بيد ّأنا ـ نحن الثالثة ـ ّ‬
‫لجامعة أوسلو‪ .‬وكان علينا أن نغادر النرويج‪َ .‬‬
‫مد ٍة ممكنة‪ ،‬كما يتشبث الحالم بالنوم بعد أن يستيقظ‪ ،‬أمالً في استمرار حلمه الجميل‪.‬‬
‫َّ‬

‫قال ستيف مخاطبًا غابي‪:‬‬

‫ـ غابي‪ ،‬أقترح أن ال أعود بالطائرة من أوسلو إلى نيويورك‪ .‬سأغير مسار تذكرتي‪ .‬سأرافق سليم‬
‫بالسيارة حتّى ميونيخ‬
‫ّ‬ ‫ُّ‬
‫سأستقل الطائرة إلى نيويورك‪ .‬وأقترح أن ترافقينا‬ ‫بسيارته إلى ميونخ ومن هناك‬
‫ّ‬
‫ومن هناك تستقلّين القطار إلى أمستردام‪.‬‬

‫أجابت غابي بال تردد‪:‬‬

‫ـ طبعًا‪ ،‬هذا رائع‪ .‬سنكسب بعض الوقت سوية‪ .‬وسنمضي ليل ًة معاً في كوبنهاغن‪.‬‬

‫كنا ـ نحن الثالثة ـ بال تجربة حياتية‪ ،‬فلم نخطِّط لإلنفاق طبقًا لما لدينا من مال‪ .‬وقد أنفقنا معظم ما‬
‫عندنا من نقود أثناء الدورة الصيفية في جامعة أوسلو‪ .‬وأخذ رصيدنا يتضاءل بسرعة‪ ،‬كما يتناقص‬
‫الماء في قربة مثقوبة يحملها بدوي في هجير الصحراء‪ .‬وما إن وصلنا إلى كوبنهاغن‪ ،‬حتى وجدنا‬
‫ٍ‬
‫رخيص نكتري فيه‬ ‫يمكننا من تمضية ليلة في فندق‪ ،‬فأخذنا نبحث عن ُن ٍ‬
‫زل‬ ‫أن ما لدينا من مال ال ِّ‬
‫َّ‬
‫غرفةً واحدةً فقط‪ .‬وعثرنا على النزل المنشود‪ ،‬فقالت صاحبته باستغراب‪:‬‬

‫ـ ثالثتكم في غرفة واحدة؟!‬

‫أجاب ستيف مبتسمًا‪:‬‬

‫نعم‪ ،‬نحن طالب‪ ،‬وهذه خطيبتي وهذا أخوها‪.‬‬


‫‪67‬‬
‫محياها‪:‬‬
‫الشك على ّ‬
‫ّ‬ ‫قالت السيدة وقد بدت أمارات‬

‫طيب‪ .‬اسمحوا لي بجوازات سفركم لتسجيلها في سجل الضيوف‪.‬‬


‫ـ ّ‬

‫ناولناها جوازات سفرنا‪ ،‬فقّلبتها‪ ،‬وقالت ٍ‬


‫بأدب واستحياء‪:‬‬

‫أن أمريكيا يتَّخذ له خطيب ًة أو زوجة هولندية‪ّ .‬‬


‫ولكني ال أفهم كيف يكون لهذه‬ ‫ـ أستطيع أن أفهم َّ‬
‫أخ عربي‪.‬‬
‫الهولندية ٌ‬

‫قال ستيف بابتسامة‪:‬‬

‫ـ هذا أمر بسيط‪ّ .‬إنه أخوها بالرضاعة‪.‬‬

‫قالت السيدة باستحياء‪:‬‬

‫فانقطعت عن الدراسة‪ .‬وبعدها ساءت‬


‫ُ‬ ‫ـ أنا لم أكمل دراستي الجامعية‪ .‬وقعت الحرب العالمية الثانية‬
‫فاضطررت إلى العمل‪ .‬فاعذرني إذا لم أعرف مصطلحات مثل "أخوها بالرضاعة"‪.‬‬
‫ُ‬ ‫أحوالنا‬

‫قال ستيف مستأنفًا عبارته‪:‬‬

‫جف ثديا أُ ِّمه‪ ،‬وج ّفت أضرع النوق‪،‬‬


‫ـ هذا أمر بسيط‪ .‬عندما كان رضيعًا في صحاري بالد العرب‪ّ ،‬‬
‫فاضطروا إلى أن يسقوه حليب نيدو الهولندي‪ ،‬وهو نفس الحليب الذي كانت أمها تسقيها إياه عندما‬
‫نهديها‪ .‬وطبقاً لقوانين‬
‫ألن أمها كانت تخشى أن تؤثر الرضاعة الطبيعية على شكل ْ‬
‫كانت رضيعة‪ّ ،‬‬
‫األخوة شيء‬
‫ّ‬ ‫يحق لهما الزواج أو ممارسة الجنس معاً‪.‬‬
‫بالد العرب أصبحا أخاً وأختًا بالرضاعة‪ .‬وال ّ‬
‫صدقيني‪.‬‬
‫جميل‪ ،‬سيدتي‪ّ ،‬‬

‫وكأنها تخجل من جهلها بهذه المصطلحات المعقَّدة‪ ،‬وهي تناولنا‬


‫قالت السيدة الدنماركية باستحياء‪ّ ،‬‬
‫جوازات السفر ومعها مفتاح الغرفة ‪:‬‬

‫ولكني ِّ‬
‫أصدق ما تقول‪.‬‬ ‫خوةٌ بالرضاعة‪َّ ،‬‬ ‫ٍ‬
‫بشيء اسمه أُ َّ‬ ‫ـ بصر ٍ‬
‫احة‪ ،‬أنا لم أسمع‬

‫‪68‬‬
‫قلت وأنا أجاهد في منع نفسي من الضحك عاليًا‪:‬‬
‫ُ‬

‫المسميات‪ ،‬واَّن ما الذوات والوقائع‪ .‬فستيف صديقي‪ ،‬وهو خطيبها‪ ،‬وال يمكن أن يكون‬
‫َّ‬ ‫يهم‬
‫سيدتي ال ُّ‬
‫ـ ّ‬
‫لها أكثر من صديق أو خطيب أو زوج في آن واحد‪ .‬أليس كذلك‪ ،‬يا غابي‪.‬‬

‫َّ‬
‫هزت غابي رأسها وهي تتناول مفتاح الغرفة من السيدة‪ ،‬وتقول‪:‬‬

‫السيارة‪ ،‬رجاء‪.‬‬
‫ـ ستيف‪ ،‬سليم‪ ،‬اجلبا الحقائب من ّ‬

‫فقلت‪:‬‬
‫شخصين‪ُ ،‬‬
‫ً‬ ‫كان السرير الوحيد في الغرفة صغي ًار ال يكفي ألكثر من‬

‫ـ سأنام على بطانية على األرض‪.‬‬

‫قائلين‪:‬‬
‫اعترض ستيف وغابي في آن واحد ْ‬
‫َ‬

‫ـ مستحيل‪ ،‬سننام جميعًا على السرير‪.‬‬

‫دت ووجهي إلى شباك الغرفة‪ .‬وقفزت غابي مرحةً إلى وسط‬ ‫انتبذت أقصى طرف من الفراش َّ‬
‫وتمد ُ‬ ‫ُ‬
‫ثم أخذت ذراعي بلطف ووضعتها على صدرها‬
‫ثم سحبت ذراع ستيف بقوة ووضعتها حولها‪َّ ،‬‬
‫السرير َّ‬
‫وهي تقول لي‪:‬‬

‫ـ عانقني‪ ،‬يا أخي الحبيب‪.‬‬

‫قلت‪:‬‬ ‫في صباح اليوم التالي‪ ،‬ونحن نتناول الفطور الذي َّ‬
‫أعدته السيدة صاحبة النزل‪ُ ،‬‬

‫ـ ما رأيكما في زيارة قلعة (هملت) المشهورة‪ ،‬على مدخل بحر البلطيق‪ .‬فمشاهدة األماكن التي جرت‬
‫ستعمق من إدراكنا كيف أن َّأم هملت خانت زوجها وشاركت في‬
‫ّ‬ ‫فيها وقائع مأساة شكسبير الرائعة‪،‬‬
‫اغتيال زوجها الطيب‪ ،‬وتسببت فيما بعد بتعاسة ابنها ومقتله‪.‬‬

‫قال ستيف‪:‬‬

‫‪69‬‬
‫ـ أحسب أن شكسبير بالغ في تصوير ذلك‪ ،‬فاألدب ال يكون أدباً إال إذا أقلع من أرض الواقع وحلّق‬
‫في فضاء الخيال الرائع‪.‬‬

‫قلت معترضًا‪:‬‬
‫ُ‬

‫أنت تعلم أن شكسبير اعتمد على وثائق ومستندات حقيقية في كتابة مسرحياته التاريخية‪.‬‬
‫ـ ولكن‪َ ،‬‬

‫حداً لهذه المناقشة‪:‬‬ ‫ٍ‬


‫بشيء من الضيق وبنبرة تضع ّ‬ ‫قالت غابي‬

‫يسمونها قلعة (هملت)‪ ،‬هي قلعة عادية‬‫ّ‬ ‫صدقني‪ ،‬سليم‪ ،‬إن قلعة كرونبورغ في مدينة هلسنغور التي‬
‫ـ ّ‬
‫بية أخرى‪ .‬أُضف إلى ذلك إن ما تبقَّ ى لنا من نقود ال يسمح لنا بهذه‬‫قلعة أور ٍ‬
‫ال تختلف عن أيَّة ٍ‬

‫الرحلة‪ .‬األفضل االحتفاظ به لتكاليف رحلة العودة‪.‬‬

‫السي ارة لنواصل سفرنا إلى ألمانيا‪ .‬وعند وصولنا‬


‫ّ‬ ‫وهكذا‪ ،‬حملنا حقائبنا من الغرفة‪ ،‬واتّجهنا بها إلى‬
‫السيارة‪ .‬جلسنا في حديقة‬
‫إلى مدينة هانوفر‪ ،‬كانت نقودنا على وشك أن تنفذ‪ ،‬وال وقود ُيذ َكر في ّ‬
‫عامة نتدارس األمر وكيف نخرج من ذلك المأزق‪ .‬وأخي ًار قالت غابي‪:‬‬
‫َّ‬

‫ٍ‬
‫نقدية‬ ‫ـ سأشتري بما تبقى لنا من نقود تذكرَة سفر بالقطار إلى هولندة‪ .‬ومن هناك سأبعث لكما بحو ٍ‬
‫الة‬
‫أما أنتما‪ ،‬فعليكما أن ت قيما في فندق صغير إلى حين تصل حوالتي على‬ ‫ٍ‬
‫كافية لمواصلة سفركما‪ّ .‬‬
‫عنوان الفندق‪.‬‬

‫صمتنا‪ ،‬فأضافت قائلة‪:‬‬

‫يومين‪.‬‬ ‫ـ حوالةٌ برقيةٌ ال تستغرق أكثر من ٍ‬


‫يوم أو ْ‬

‫لشخصين في فندق صغير‪ .‬وكان ذلك الفندق ِّ‬


‫يقد م وجبة الفطور فقط‬ ‫ْ‬ ‫وهكذا فعلنا‪ .‬استأجرنا غرفةً‬
‫صائمين حتى المساء فنشتري‬
‫ْ‬ ‫َّ‬
‫ونظل شبه‬ ‫للنزالء‪ .‬ولهذا كنا نأكل أكثر ما يمكننا في وجبة الفطور‪،‬‬
‫كنت أغالب الجوع بالقراءة‪ ،‬بقراءة رواية " جين‬
‫قطعتَي سجق فرانكفورتي مشوية من عربة متجولة‪ُ .‬‬
‫يوهج أحاسيسي‬
‫أير" للكاتبة البريطانية شارلوت برونتي وهي رواية مغرقة بالرومانسية‪ .‬فكان الجوع ّ‬
‫فتبدو المشاعر أكثر رومانسية‪ ،‬واألحداث أعظم درامية‪.‬‬
‫‪70‬‬
‫ضرنا الجوع‪ ،‬قال لي ستيف‪:‬‬
‫بعد يومين أو ثالثة‪ ،‬وقد ّ‬

‫بأننا ال نملك‬
‫ثم نخبرهم ّ‬
‫جيد‪ ،‬ونطلب وجب ًة فاخرًة‪ ،‬ونأكل حتّى نشبع‪َّ ،‬‬
‫لدي فكرة‪ .‬نذهب إلى مطعم ّ‬
‫ـ َّ‬
‫النقود‪ .‬ولن يفعلوا شيئًا إذا عرفوا ّأنني أمريكي‪.‬‬

‫نسيت أن الناس هنا في ألمانيا‬


‫َ‬ ‫أنت واهم‪ ،‬يا ستيف‪ .‬وقد أعماك غرورك عن الوقائع والحقائق‪ .‬لقد‬
‫ـ َ‬
‫األم َّرين بقصفكم الجوي حتّى بعد استسالم‬
‫يكرهون األمريكان‪ ،‬فقبل عشرين عامًا فقط أذقتموهم َ‬
‫بعدة أيام‪.‬‬
‫ألمانيا وانتهاء الحرب ّ‬

‫ـ الوقائع تقول إ َّن قواعدنا العسكرية منتشرةٌ في هذه البالد‪ .‬هذا واقع‪ .‬وهم وحلفاؤنا اليوم ويعاملون‬
‫األمريكان بلطف‪ .‬هذه حقيقة‪.‬‬

‫وقلت له‪:‬‬ ‫فاخر‪ ،‬فخامرني ٌّ‬


‫شك بشيء‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫مطعم ٍ‬ ‫ٍ‬
‫دسمة في‬ ‫ٍ‬
‫وجبة‬ ‫علي لتناول‬
‫ُ‬ ‫واصل ستيف إلحاحه ّ‬

‫أن حوالة غابي قد وصلتك‪ .‬واذا كان األمر كذلك‪ ،‬فأنا أقبل دعوتك لي للغداء ِّ‬
‫بكل رحابة‬ ‫ـ ال ُب َّد َّ‬
‫صدر‪.‬‬

‫في ذلك اليوم بعد الغداء‪ ،‬ركبنا السيارة وواصلنا سفرنا إلى ميونيخ‪ ،‬حيث ذهبنا إلى المطار‪ ،‬وقبل أن‬
‫يستقل ستيف الطائرة المتَّجهة إلى نيويورك‪ ،‬أعطاني معظم النقود التي كانت معه‪ ،‬وهو يقول ‪:‬‬
‫ّ‬

‫أنت فتحتاجها لشراء‬


‫ـ أنا ال أحتاج إلى هذه النقود‪ ،‬فلدي تذكرة السفر من نيويورك إلى مينابولس‪ .‬أما َ‬
‫الوقود لسيارتك حتى بيروت‪.‬‬

‫أخ لي شاركني السراء والضراء خالل‬


‫بأنه ٌ‬
‫وشعرت ح ّقاً ّ‬
‫ُ‬ ‫عت ستيف في مطار ميونيخ بقل ٍب حزين‪.‬‬
‫ود ُ‬
‫ّ‬
‫السيارة في ربوع‬
‫تمر أمام ناظري‪ ،‬وأنا أقود ّ‬
‫المدة التي لن تُنسى‪ .‬وظّلت ذكريات ذلك الصيف ّ‬‫هذه ّ‬
‫أمر بها‪ .‬كانت تلك الذكريات والمشاعر‬ ‫أوربا‪ ،‬فتشغلني عن التمتُّع بالمناظر الطبيعية ّ‬
‫الخالبة التي ُّ‬
‫التي خالجتني أحلى من جميع الربوع الجميلة التي مررت بها‪ :‬أحلى من مرتفعات بادن بادن في‬
‫النمسا‪ ،‬وأحلى من الغابة السوداء في ألمانيا‪ ،‬بل أكثر إثارة للمشاعر واألحاسيس اإلنسانية من‬
‫الجبال الوعرة ذات الطرق الخطيرة في تركيا‪.‬‬

‫‪71‬‬
‫وجدت رسالة من ستيف في انتظاري‪ .‬كلماتها تفيض عاطف ًة وحناناً‪ ،‬وعباراتها‬ ‫ُ‬ ‫وصلت بيروت‪،‬‬
‫ُ‬ ‫حالما‬
‫األخوة الدائمة‪.‬‬
‫َّ‬ ‫المحبة بيننا‪ ،‬وتمتِّن روابط‬
‫َّ‬ ‫تتدفق شوقًا وحنينًا‪ُّ .‬‬
‫وكل نقطة فيها توثّق أواصر‬

‫لم أجد رسال ًة من غابي‪ .‬ولم ُي ِثر ذلك استغرابي‪ .‬فأنا أفترض ّأنها تكتب إلى حبيبها المتيَّم‪ ،‬أخي‬
‫ولو َّجهتها بالكتابة‬ ‫َّ‬
‫إلي‪ ،‬ألجبتها بأنني بخير ما دام أخي ستيف سعيداً بحبِّها‪َ ،‬‬
‫كتبت َّ‬
‫ْ‬ ‫ستيف‪ .‬وحتى لو‬
‫إليه أكثر وأكثر‪.‬‬

‫حبه العظيم لغابي وغرامه الكبير بها‪ ،‬وكيف َّ‬


‫أن الفراق‬ ‫إلي ستيف عن ّ‬‫تحدث ّ‬ ‫إلي ّ‬‫في رسالته الثانية ّ‬
‫بأنه كتب إليها يدعوها لتمضية عطلة عيد الميالد‬ ‫أجج مشاعره اإلنسانية النبيلة تلك‪ .‬وأخبرني َّ‬‫قد َّ‬
‫سارة‪ ،‬هي‬ ‫ٍ‬ ‫أسرني َّ‬
‫بأنه يحتفظ لها بمفاجئة ّ‬ ‫خالل شهر ديسمبر معه ومع عائلته في مينابولس‪ .‬و ّ‬
‫إعالن خطوبتهما‪ .‬وأخبرني كيف َّأن ه اشترى خاتم خطوبة غالي الثمن َّ‬
‫تتوسطه قطعة ألماس جميلة‬
‫تتوافر فيها مواصفات الصفاء الشفاف‪ ،‬والقطع الدقيق‪ ،‬والحجم المناسب؛ وكيف أنه سيجثو على‬
‫عينيه أن تقبل به زوجًا‪ .‬وعندما تصدر منها أية نأمة‬
‫ْ‬ ‫ركبتي ه أمامها ويسألها والدموع تتألأل في‬
‫ْ‬
‫بالموافقه سيفتح كفَّه المضمومة لتطير منها فراشة بيضاء مخلِّفةً خاتم الخطوبة ّ‬
‫الخالب‪" ،‬وبعدها لن‬
‫مرةً أُخرى"‪.‬‬
‫أدعها تعود إلى أوربا‪ ،‬ولن نفترق حتّى يشتتنا الموت‪ ،‬لنلتقي في العالم اآلخر َّ‬

‫حبه تذيب وجدانه دمعًا‪ .‬ومن غير‬


‫أحسست وأنا أق أر رسالته بلظى أشواقه تحرق أعماقه‪ ،‬وح اررة ّ‬
‫ُ‬
‫ملونة‪ ،‬وجملها عصافير مزقزقة‪،‬‬ ‫ُّ‬
‫استل قلمي ألسطّر رسالة إلى غابي مفرداتها أزاهير َّ‬ ‫تفكير‪ ،‬وجدتني‬
‫َّ‬
‫مستعدة لجميع المفاجاءات السارة واالحتماالت السعيدة أثناء سفرتها القادمة‬ ‫أنصحها فيها أن تكون‬
‫إلى الواليات المتحدة األمريكية لتمضية عطلة عيد الميالد مع ستيف‪.‬‬

‫تحل‬ ‫بيد أن المفاجأة أصابتني أنا‪ ،‬مفاجأة غير سارة‪ ،‬بل حزينة أليمة‪ .‬و ُّ‬
‫أشد النكبات إيالماً تلك التي ّ‬ ‫َ‬
‫بنا ونحن ن سبح في غمرة الفرح نحو مرافئ السعادة واألمل‪ .‬ال أريد أن أخبرك ـ عزيزي القارئ ـ بتلك‬
‫طعتني سكاكين الغضب‬
‫المفاجأة الحزينة‪ ،‬ألنني كلما تذ ّكرتها أو ذكرتها‪ ،‬تناوشتني نصال الخيبة‪ ،‬وق ّ‬
‫األعمى‪.‬‬

‫‪72‬‬
‫ٍ‬
‫رسالة وصلتني من ستيف‪ ،‬يقول فيها َّ‬
‫إن غابي رفضت دعوته‬ ‫تمثّلت تلك المفاجأة األليمة في صورِة‬
‫لتمضية عطلة عيد الميالد مع عائلته‪ ،‬وأبلغته بقطع عالقتها معه قطعًا باتًّا‪.‬‬

‫شككت في فهمي لمضمون الرسالة القصيرة‪ .‬ال ُب َّد أن عائقًا ما حال دون استيعاب مضمون الرسالة‬
‫ُ‬
‫التي تلقّيتها‪ .‬كثي ًار ما نفهم عكس مضمون الرسالة لخلل في واسطتها أو لغته ا‪ ،‬أو لخلل في فهمنا‬
‫أعدت قراءة الرسالة‪ّ .‬إنها واضحة‪ ،‬لغتها‬
‫ُ‬ ‫بتأثير من توقُّعاتنا المخالفة‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫نحن لقواعد التواصل‪ ،‬أو‬
‫معوق وال خلل‪ :‬غابي ترفض دعوة ستيف لتمضية عطلة عيد الميالد معه‪ .‬غابي‬
‫سليمة‪ ،‬ال يشوبها ّ‬
‫تنهي عالفتها العاطفية مع ستيف تماماً‪.‬‬

‫ولكنها غير مفهومة داخل سياق‬ ‫كلمات واضح ٌة وضو َح الشمس في شهر تموز في بالد سومر‪َّ .‬‬ ‫ٌ‬
‫القصة‪ ،‬وال تنتمي إليها‪ ،‬وال تتفق مع توقُّ عات القارئ النبيه وال استنتاجاته المنطقية‪ .‬فهذه النتيجة‬
‫َّ‬
‫مرت بنا‪ .‬ولهذا لم أفهم الرسالة على قصرها‪،‬‬ ‫ِّ‬
‫المقدمات السعيدة التي ّ‬ ‫المؤلمة ال َّ‬
‫تتمخض أبداً عن‬
‫وبساطة كلماتها‪ ،‬وسهولة تراكيبها‪.‬‬

‫كنت أتلهَّف لمعرفة السبب‪ ،‬وال أستطيع أن أنتظر ألتخلَّص من مارد ِّ‬
‫حب‬ ‫ُ‬ ‫وكما تتوقَّع‪َّ ،‬‬
‫فإنني‬
‫االستطالع الذي استيقظ في أعماقي وسيطر على حواسي ووجداني‪ .‬ليت لي هدهد سليمان ليأتيني‬
‫إلي طرفي‪ .‬ولكن هذا الهدهد العجيب لم يخترعه ِ‬
‫العلم إال بعد عشرين‬ ‫بالخبر اليقين قبل أن يرتد َّ‬
‫عاماً من فعلة غابي النكراء الشنعاء‪ ،‬على صورة بريد إلكتروني‪.‬‬

‫ذهبت إلى مكتب البريد والتلغراف في ساحة‬


‫ُ‬ ‫لجأت إلى الوسيلة العلمية المتاحة لي آنذاك‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ولهذا‬
‫ٍ‬
‫كلمة واحدة‪ :‬لماذا؟! وجاءني الجواب في‬ ‫أرسلت برقي ًة إلى ستيف تتألَّف من‬
‫الشهداء في بيروت‪ ،‬و ُ‬
‫كلمتين‪ :‬ال أدري‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫ببرقية من‬ ‫اليوم التالي‬
‫ْ‬

‫"أسأل‪ .‬فالجهل‬
‫ْ‬ ‫عزمت على إرسال برقية أخرى إليه أقول فيها‪:‬‬
‫ُ‬ ‫وفي فورة غضبي‪ُّ ،‬‬
‫وتأزمي النفسي‪،‬‬
‫قلت في نفسي‪ :‬إن‬
‫ولكنني وأنا في طريقي إلى مكتب البريد والتلغراف ُ‬ ‫دواؤه السؤال‪ّ ،‬أيها الجاهل"‪َّ .‬‬
‫رت له غابي سوء تصرفها وخطل قولها‪َّ ،‬‬
‫فإنه لن‬ ‫ستيف اآلن في ٍ‬
‫حالة ُيرثى لها ح ّقاً‪ .‬وحتّى إذا َّبر ْ‬
‫يفهم كالمها‪ .‬ال فائدة من تبادل البرقيات بيني وبين ستيف‪ ،‬وال حتّى بيني وبين غابي ذاتها‪ .‬ينبغي‬

‫‪73‬‬
‫عيني ها‪ ،‬وأقذف في وجهها السؤال‪ " :‬لماذا"‪ ،‬مثل‬
‫ْ‬ ‫عيني في‬
‫َّ‬ ‫أن أجابه غابي وجهًا لوجه‪ ،‬وأغرز‬
‫رصاصة قاتلة‪.‬‬

‫ٍ‬
‫وسيلة ممكنة وهي الطائرة‪ ،‬مهما كّلفني ذلك‪ .‬أال‬ ‫رت في ذات نفسي أن أسافر إلى هولندة بأسرع‬ ‫قر ُ‬
‫َّ‬
‫موضع‬
‫ِ‬ ‫يشد الرحال أسالفنا من أجل ُّ‬
‫التأكد من‬ ‫تستحق المعرفةُ وعثاء السفر والتضحية بالمال؟ ألم َّ‬
‫ُّ‬

‫ال من مواص لة السير إلى مكتب البريد والتلغراف‪ ،‬وجدتني ألج وكالة سفريات في‬ ‫ٍ‬
‫كلمة في عبارة؟ وبد ً‬
‫سفر في ّأول طائرة متَّجهة إلى أمستردام‪ .‬تذكرة ذهاب واياب‪،‬‬
‫ساحة الشهداء‪ ،‬وأطلب حجز تذك ِرة ٍ‬
‫لدوامة التساؤالت والهواجس والشكوك التي اجتاحتني‪ .‬لم‬ ‫ليوم واحد‪ .‬هذا ُّ‬
‫كل ما أحتاجه لوضع ٍّ‬ ‫ٍ‬
‫حد ّ‬
‫أفكر في ثمن التذكرة التي سترهق ميزانيتي للعام الدراسي بأجمعه‪ُّ .‬‬
‫كل ما أحتاجه وأنشده في هذه‬ ‫ِّ‬
‫اللحظة هو أن أرى هذه اللعينة المسماة (غابي) وأسمع منها الحقيقة عاري ًة‪ ،‬بعبار ٍ‬
‫ات ال لبس فيها‪،‬‬
‫ألضحي ِّ‬
‫بكل ميزانيتي لمج ِّرد أن أقف‬ ‫ّ‬ ‫كنت على استعداد‬
‫الحجاب‪ُ .‬‬ ‫لف الخمار ودوران ِ‬
‫وتخلو من ِّ‬
‫الود والغرام التي قطعتها لستيف على‬ ‫على أسباب نقضها لجميع مواثيق المحبة والهيام‪ِّ ،‬‬
‫وكل عهود ّ‬
‫لمجرد أن أعرف‪ ،‬أن أطلع على السبب الحقيقي‪ ،‬أن أتعلَّم؛ فقد يكون هذا الدرس الذي‬
‫ّ‬ ‫مني‪،‬‬
‫مسمع ّ‬
‫ٍ‬
‫ال يتجاوز دقائق معدودة‪ ،‬أبلغ من جميع الدروس والمحاضرات والمسارات العلمية التي تلقيتُها في‬
‫جامعة أوسلو‪ ،‬وأكثر منها التصاقًا بالحياة‪.‬‬

‫تتضم ن عودة مؤكدة في اليوم التالي‪ ،‬وفي نيتي أن أذهب إلى مكتب الفنادق في‬
‫َّ‬ ‫كانت تذكرة سفري‬
‫وصلت الى مطار أمستردام‪،‬‬
‫ُ‬ ‫مطار أمستردام ألحجز في أحد الفنادق في لليلة واحدة‪َّ .‬‬
‫ولكنني عندما‬
‫وجدت نفسي أمام منضدة اقتناء تذاكر الحافالت‪،‬‬
‫ُ‬ ‫لم أبحث عن مكتب الحجز في الفنادق‪ ،‬بل‬
‫ألشتري تذكرة حافلة تقلّني من المطار إلى مدينة اليدن التي ال تبعد عن مطار أمستردام إال بخمسة‬
‫وعشرين كيلومت ًار‪.‬‬

‫سيارات األجرة‬
‫وقفت في خط انتظار ّ‬
‫ُ‬ ‫هبطت من الحافلة في موقف الحافالت في اليدن‪،‬‬
‫ُ‬ ‫حينما‬
‫وركبت ّأول سيارة أجرة متاحة‪ ،‬وأنا أناول‬
‫ُ‬ ‫الصغيرة التي كانت منتظم ًة منتظرًة أمام موقف الحافالت‪،‬‬
‫ب عليها عنوان منزل غابي‪.‬‬ ‫ِ‬
‫سائقها ورقة صغيرة ُكت َ‬

‫‪74‬‬
‫أعدت الطرق ثانية وثالثة قبل أن تفتح‬
‫ُ‬ ‫طرقت باب المنزل‪ ،‬ولم أُتِح الوقت الكافي لالستجابة بل‬
‫ُ‬
‫نصف تلوح على وجهها أمارات الدهشة التي ازدادت بعد أن رأت وجه الطارق األسمر‬
‫ٌ‬ ‫سيدة‬
‫الباب ّ‬
‫الغريب‪ .‬عاجلتُها بالقول‪:‬‬

‫كنت صديق غابي في جامعة أوسلو هذا الصيف المنصرم‪ .‬و ُّ‬
‫أود أن أراها‬ ‫ـ صباح الخير‪ ،‬سيدتي‪ُ .‬‬
‫بضع دقائق فقط‪.‬‬

‫لست ستيف؟!‬
‫أنت َ‬
‫ـ َ‬

‫ـ ال‪ ،‬أنا أخوه‪ ،...‬أقصد صديقه الحميم سليم‪.‬‬

‫قالت المرأة‪:‬‬

‫تفضل‪ ،‬أدخل أرجوك‪.‬‬


‫ّ‬

‫ـ ال‪ ،‬شك ًار‪ ،‬ال داعي لإلزعاج‪ُّ .‬‬


‫كل ما أريده أن أرى غابي بضع دقائق فقط‪ ،‬هنا عند الباب‪.‬‬

‫قالت السيدة بلطف‪:‬‬

‫ـ أرجوك‪ ،‬ادخل‪ ،‬وسأشرح لك‪.‬‬

‫قدمته السيد بوصفه زوجها‪ ،‬والد‬


‫دخلت في غرفة االنتظار‪ ،‬وكان فيها شيخ يطالع كتابًا وهو بمنامته‪ّ ،‬‬
‫ُ‬
‫غابي‪.‬‬

‫أهم بالجلوس‪:‬‬
‫قلت وأنا ُّ‬
‫ُ‬

‫ـ وأين غابي؟‬

‫ـ ّإنها مع زوجها‪.‬‬

‫وهنا وجدتني أصرخ في وجه المرأة‪:‬‬

‫‪75‬‬
‫ـ زوجها؟ وماذا عن ستيف؟‬

‫قالت السيدة بلباقة‪:‬‬

‫تود أن تشرب؟ القهوة أم الشاي؟ سأتصل بغابي هاتفياً لتوافيك هنا وتشرح لك َّ‬
‫كل شيء‪.‬‬ ‫ـ أوالً ‪ ،‬ماذا ّ‬

‫ولكني يقيناً أريد أن أرى غابي‪.‬‬


‫ـ شك ًار ال أريد أن أشرب شيئًا‪ّ .‬‬

‫عيني غضبًا وحقدًا‪ .‬ولو كان بإمكان‬


‫َّ‬ ‫بعد دقائق حسبتها ده ًار‪ ،‬دخلت غابي‪ .‬كان الشرر يتطاير من‬
‫الحادة أن تقتل إنسانًا‪ ،‬لقُتِلت غابي م ار اًر بنظراتي الشزرة تلك‪.‬‬
‫َّ‬ ‫النظرات‬

‫قالت غابي‪:‬‬

‫ال سليم‪.‬‬
‫ـ أه ً‬

‫ِ‬
‫اقترفت هذه الجريمة البشعة َّ‬
‫بحق ستيف‪ .‬ألم ي ُكن‬ ‫ال‪ ،‬غابي‪ .‬أريد فقط أن أفهم لماذا‬
‫ال وال سه ً‬
‫ـ ال أه ً‬
‫مخلصاً صادقاً معك؟‬

‫ذهبت إلى أوسلو في شهر‬


‫ُ‬ ‫لك َّ‬
‫كل شيء‪ .‬عندما‬ ‫بدقيقتين فقط ألشرح َ‬
‫ْ‬ ‫ـ سليم‪ ،‬أرجوك أن تسمح لي‬
‫المقرر أن‬
‫َّ‬ ‫سنتين ألحد زمالئي في الجامعة‪ .‬وكان من‬
‫ْ‬ ‫كنت مخطوب ًة منذ‬
‫يوليو‪/‬تموز الماضي‪ُ ،‬‬
‫وبدأت العمل معلِّم ًة في مدرسة‬
‫ُ‬ ‫جت قبله‬
‫تخر ُ‬
‫وكنت قد ّ‬
‫ُ‬ ‫تخرج خطيبي‪.‬‬‫نتزوج هذا العام بعد أن ُّ‬
‫التقيت ستيف في جامعة أوسلو‪ ،‬وجدتني أقع في حبِّه من النظرة األولى‪،‬‬
‫ُ‬ ‫ابتدائية في اليدن‪ .‬عندما‬
‫أغرم به‪ ،‬أهيم به‪ ،‬وأنسى نفسي وأنسى ذاتي‪ .‬أنسى تاريخي وأنسى وطني وأنسى عائلتي ومدرستي‬
‫فقدت السيطرة على نفسي‪ ،‬على عقلي‪،‬‬
‫ُ‬ ‫تعد عيناي تريان إال ستيف‪.‬‬
‫وخطيبي وجميع شؤوني‪ .‬لم ُ‬
‫على أحاسيسي‪.‬‬

‫وكنت مخلص ًة في‬


‫ُ‬ ‫ِّ‬
‫وبكل صدق‪.‬‬ ‫ِّ‬
‫وبكل أمانة‪،‬‬ ‫أحببت ستيف ِّ‬
‫بكل جوارحي‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫صدقني‪ ،‬سليم‪َّ ،‬أنني‬
‫ِّ‬

‫عدت إلى اليدن في نهاية الدراسة الصيفية في أوسلو‪،‬‬


‫ُ‬ ‫جميع عهودي ووعودي‪َّ .‬‬
‫ولكنني عندما‬
‫وجدت روحي التي كانت ِّ‬
‫محلقة في سماوات‬ ‫ُ‬ ‫ألفيتني أرجع إلى غابي التي كنتُها‪ ،‬إلى ذاتي القديمة‪.‬‬

‫‪76‬‬
‫الحب والغرام‪ ،‬تهبط من األعالي لتدخل في جلدي القديم‪ ،‬ألعود إلى بيئتي القديمة‪،‬‬
‫الخيال و ّ‬
‫ومدرستي القديمة‪ ،‬وصحبتي وشلتي القديمة‪ .‬ألم تسمع بأولئك الذين َّ‬
‫تتوقف قلوبهم عن النبض‪،‬‬
‫فيبعثون إلى الحياة ثانية‪ ،‬وعندما‬
‫ثم يقوم الطبيب بتدليك القلب ليعود إلى النبض‪ُ ،‬‬
‫فيفارقوا الحياة‪َّ ،‬‬
‫ُيسألون عما أروا أثناء وفاتهم‪ ،‬يقول معظمهم أن أرواحهم قد حلّقت في أجواء سماوية نورانية سعيدة‪،‬‬
‫َّ‬
‫ولكنهم فجأةً رأوها تهبط إلى األسفل لتدخل في أجسادهم القديمة‪ ،‬فيعودون إلى حياتهم السابقة؟ هذا‬
‫جن ة أوسلو الصيفية إلى خريف اليدن الغائم القاتم‪ .‬وعندما جاء‬
‫ما حصل لي‪ :‬عادت روحي من ّ‬
‫خطيبي إلي في منزل والدي‪ ،‬واقترح موعداً إلتمام الزواج في الكنيسة‪ ،‬وجدتني بغير إر ٍ‬
‫ادة مني ال‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫فيتم الزواج واالنتقال معه إلى المنزل الذي أمضينا سن ًة في تأثيثه واعداده‬
‫أعترض على شيء‪ُّ .‬‬
‫ليكون منزل الزوجية لنا‪.‬‬

‫وبصوت غاضب ٍ‬
‫عال‪:‬‬ ‫ٍ‬ ‫وفيما هي تتكلَّم كانت عيناي تقدحان شر ًار وحقدًا وازدراءًا‪ .‬وفجأة ُ‬
‫قلت باشمئزٍاز‬
‫مجرد‬ ‫ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫ِ‬
‫ـ أنت معلّمة؟ ! أيَّة أخالق ‪ ،‬وأيَّة ُمثُل‪ ،‬وأيَّة قيم تعلمين صغار تالميذك؟ أتعلمينهم الكذب؟ الكذب ليس ّ‬
‫ٍ‬
‫صيفية أثناء فترة الخطوبة في مدينة‬ ‫ٍ‬
‫عطلة‬ ‫بالقول بل كذلك بالصمت‪ ،‬وبإخفاء الحقائق‪ .‬أتعلِّمينهم تمضية‬
‫أخرى لممارسة الجنس مع شخص آخر‪ ،‬وفي نهاية العطلة يرجعون ليتزوجوا الخطيب المخدوع؟ ما هذا‬
‫ألقيت بستيف على درب اآلالم‬‫ِ‬ ‫أخالقك الدنيئة؟ أتعلمين ِ‬
‫أنك‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫لتالميذك‪ .‬أكاد أتقيًا من‬ ‫العبث؟ إنني أرثي‬
‫ِ‬
‫نشأت بها‪ ،‬وال أريد أن أرى‬ ‫والمعاناة دون أن يقترف ذنبًا؟؟ ال‪ ،‬ال أريد أن أراك‪ ،‬وال أريد أن أرى الدار التي‬
‫البالد التي تعّل ِ‬
‫مت فيها‪.‬‬
‫و ُّ‬
‫انفلت خارجًا إلى الشارع‪ ،‬وأنا أصرخ‪:‬‬
‫سيارة أجرة‪ ...‬إلى المطار ‪.‬‬
‫ـ ّ‬

‫‪77‬‬
‫التّخاطر‬

‫وتجمد‬
‫َّ‬ ‫وجحظت عيناه‪،‬‬
‫ْ‬ ‫لون وجهه‪،‬‬
‫شحب ُ‬‫َ‬ ‫ياضية‪ ،‬صعقتْ ُه المفاجأة‪،‬‬
‫عندما رآها في صالة األلعاب الر ّ‬
‫أما هي فكانت في تلك اللحظة‬ ‫الدم في عروقه‪َّ ،‬‬
‫الدراجة الثابتة التي كان يمتطيها‪ّ .‬‬
‫فت ساقاه عن تحريك ّ‬‫وتوق ْ‬
‫الحديدي بكلتا يديها‪.‬‬ ‫بائي‪ ،‬وهي تُمسك المقبض‬ ‫ٍ‬
‫ّ‬ ‫تسير بسرعة على جهاز الجري الكهر ّ‬
‫تكتف بإرسال طيفها‪ ،‬بين ٍ‬
‫آونة وأُخرى‪ ،‬عبر الحدود‪ ،‬ليداهمه عندما يأوي إلى فراشه بعد منتصف‬ ‫ِ‬ ‫لم‬
‫ِ‬
‫جنبات‬ ‫ويجسد نذالته‪ ،‬ويصرخ في‬
‫ِّ‬ ‫يقض مضجعه‪ ،‬يحرمه النوم‪ ،‬يسهّده بقسوة‪ ،‬يذ ّكره بخساسته‪،‬‬
‫ّ‬ ‫الليل‪،‬‬
‫بعهدك‪ّ ،‬أيها الخائن‪.‬‬
‫َ‬ ‫نكثت‬
‫َ‬ ‫ضميره‪ ،‬لقد‬

‫المرة‬
‫حضرت هذه َّ‬
‫ْ‬ ‫ِ‬
‫تكتف بإنابة طيفها عنها‪ ،‬رغم جبروت هذا الطيف القاسي وعنفوانه؛ واّنما‬ ‫لم‬
‫وعينيها الواسعتَْين الناعستَْين؛‬
‫ْ‬ ‫بنفسها‪ ،‬بلحمها ودمها‪ ،‬بجسدها الناحل الرشيق‪ ،‬ووجهها األسمر الشاحب‪،‬‬
‫ُذن ْيها‬ ‫حلقتين كبير ْتين متدلِّ ْ‬
‫يتين من أ َ‬ ‫ْ‬ ‫المصنوعين من الذهب على شكل‬
‫ْ‬ ‫وقرطيها‬
‫ْ‬ ‫الغالمية‪،‬‬
‫ّ‬ ‫صة شعرها‬
‫وَق َّ‬
‫بائي‪ ،‬كما لو‬
‫الناحلتين‪ ،‬لتقف قبالته بكامل قامتها على جهاز الجري الكهر ّ‬
‫ْ‬ ‫يضتين‬
‫وكتفيها العر ْ‬
‫ْ‬ ‫الصغيرتَْين‪،‬‬
‫بقوة الكهرباء‪ ،‬وسرعة البرق‪ ،‬على جناح الريح‪ ،‬من ميناء اإلسكندرّية في مصر‪ .‬ثالثون‬
‫وصلت إليه ّ‬
‫ْ‬ ‫كانت قد‬
‫يبدل من ابتسامتها الباهتة‪ ،‬وال‬ ‫ِ‬
‫قسمات وجهها الحزين‪ ،‬أو ّ‬ ‫يغير الزمن من‬ ‫أن ّ‬
‫دون ْ‬
‫ت على فراقهما‪َ ،‬‬ ‫مر ْ‬
‫عاماً ّ‬
‫عما يخبِّؤه لها الدهر في مقبل األيام‪.‬‬ ‫ِّ‬
‫من نظراتها التائهة المتطلعة بتساؤل ّ‬

‫‪78‬‬
‫صيفي ٍة كان يشارك‬
‫ّ‬
‫إّنها رابحة المصرية التي التقى بها ذات يوم من سنة ‪ 0978‬أثناء دورٍة دراسي ٍ‬
‫َّة‬
‫فيها أستاذًا وكانت تشارك فيها طالب ًة‪ ،‬هناك في جامعة اإلسكندرية‪ .‬كانت هي بريئ ًة‪ ،‬بلورّي َة النقاء‪ ،‬في‬
‫وجدا‬ ‫الحادية والعشرين من عمرها‪ ،‬وهو في الخامسة والثالثين‪ .‬فجأةً وبال ِّ‬
‫مقدمات‪ ،‬ومن النظرة األولى‪َ ،‬‬
‫هائل ٍ‬
‫عات من جذورهما في‬ ‫إعصار ٌ‬ ‫نفسيهما محلِّقَين في أجو ٍ‬
‫اء ساحرٍة طاهرٍة‪ ،‬مثل نبتتَْين صغير ْتين اقتلعهما‬
‫ٌ‬ ‫ْ‬
‫األرض‪ ،‬وقذف بهما إلى األعالي؛ لم يمهلهما فرص َة التفكير واالختيار‪ ،‬واّنما هكذا دون سابق إنذار‪ ،‬قذف‬
‫ٍ‬
‫رحلة أثيرّية‪ ،‬ال يعرفان ِوجهتها‪ ،‬وال يدركان‬ ‫بهما هذا اإلعصار الغامض المجهول إلى أعالي السماء‪ ،‬في‬
‫ٍ‬
‫مخمور‪ ،‬وعدها بالزواج‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫مسحور أو‬ ‫ٍ‬
‫وكرجل‬ ‫أبعادها وغايتها‪ .‬وهناك في األعالي‪،‬‬

‫وما إن غادر أجواء اإلسكندريَّة الساحرة‪ ،‬وهبط إلى األرض التي ُيقيم عليها بعيدًا عن أرض مصر‪،‬‬
‫قت بها بعيدًا بعيدًا‪ ،‬ثم ألقت‬
‫ألن عصفورًة غريب ًة ماكرًة التقطت نبتته‪ ،‬وحّل ْ‬
‫ألفى نفسه عاج ًاز عن الوفاء بوعده‪ّ ،‬‬
‫كالحة اللون‪ .‬وأثارت تلك الزوبعة غيومًا تهاطلت دموعًا‪ ،‬وحسرة‪ ،‬وحزنًا‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬
‫زوبعة‬ ‫بها في أغوار المحيط وسط‬
‫في عيون رابحة المصرية‪ .‬وخسرت رابحة أحالمها‪ ،‬وخسر هو رابحة وراحةَ ضميره إلى األبد‪.‬‬

‫ِ‬
‫التأنيب‬ ‫ِ‬
‫صليب‬ ‫فعلِّق ضميره على‬
‫خسته‪ُ ،‬‬
‫قبح فعلته‪ ،‬وأبعاد نذالته‪ ،‬ومدى ّ‬ ‫عندما عاد إلى وعيه أدرك َ‬
‫جفنيه‪ .‬وعندما بلغه‪ ،‬بعد سبع سنين‪،‬‬ ‫ت حتّى لو أغمض ْ‬ ‫بعينيه آثار جريمته أينما تلفَّ َ‬
‫ْ‬ ‫أمداً طويالً‪ ،‬وهو يرى‬
‫مرةً وسريعًا‬ ‫ِ‬
‫سهاده وأرِقه وكآبته إال قلي ً‬ ‫أن رابحة قد تزوجت‪ ،‬لم ُي ِّ‬‫َّ‬
‫ال‪ .‬وواصل الزمن سيره‪ ،‬وئيدًا ّ‬ ‫خفف ذلك من‬ ‫ّ‬
‫الزمن‬
‫ُ‬ ‫اصل‬
‫بائي‪ ،‬على هواه ال على هوى راكبيه من العابرين‪ .‬و َ‬ ‫مرةً أُخرى‪ ،‬مثل بساط جهاز الجري الكهر ّ‬ ‫ّ‬
‫يومياً‪ ،‬بل من ٍ‬
‫حين إلى آخر‪.‬‬ ‫يعد طيف رابحة يزوره ّ‬
‫سيره بأيامه ولياليه‪ ،‬وشهوره وسنينه‪ ،‬ولم ُ‬

‫أما اليوم‪ ،‬فالذي يعوده ليس طيف رابحة‪ ،‬واّنما رابحة بنفسها‪ ،‬بلحمها ودمها‪ .‬ها هي تأتي من بعيد‪،‬‬
‫ّ‬
‫مصرًة على‬
‫ّ‬ ‫ياضية‪،‬‬
‫بائي‪ ،‬في صالة األلعاب الر ّ‬
‫لتنتصب أمامه على جهاز الجري الكهر ّ‬
‫َ‬ ‫تعبر الحدود والسدود‪،‬‬
‫مو ِ‬
‫اصلة تعذيبه‪ ،‬دون أن تترك له فرص ًة للنسيان‪ ،‬مهما كانت ضئيلة‪.‬‬

‫ال‪ ،‬ال يمكن أن تكون هي‪ .‬فالزمن الذي يطمس اآلثار من جميع األصناف‪ ،‬ال ُب َّد أن يكون قد‬
‫شيخ بائس‪ .‬والفتاة التي تقف أمامه‪،‬‬
‫طمس شباب رابحة ونضارتها‪ ،‬كما أتى على عنفوانه هو وأحاله إلى ٍ‬
‫السرمدي‪ ،‬كما‬
‫ّ‬ ‫يطفح وجهها بالشباب والنضارة‪ .‬ال‪ ،‬ال يمكن ذلك‪ .‬فنحن ليس في مقدورنا إيقاف جريان الزمن‬

‫‪79‬‬
‫ٌّ‬
‫مختل‬ ‫بالحمى‪ ،‬لعلّه‬ ‫مصاب‬ ‫يتوهم ما يرى‪ ،‬لعلّه‬ ‫زر واحدة‪َّ .‬‬
‫لعله َّ‬ ‫ِ‬
‫بضغطة ٍّ‬ ‫بائي‬
‫ّ‬ ‫ٌ‬ ‫نوقف جهاز الجري الكهر ّ‬
‫أن هذه الفتاة الواقفة أمامه على جهاز الجري الكهربائي‪ ،‬شبيه ٌة بر ٍ‬
‫ابحة‬ ‫تجتاحه الهلوسة‪ .‬ال يمكن ذلك‪ .‬ال ُب َّد َّ‬
‫ّ‬
‫مجرد تشابه في الشكل‪ .‬هكذا يقول له عقلُه‬
‫ّإبان شبابها‪ ،‬فاهلل يخلق من الشبه أربعين‪ ،‬كما يقولون‪ .‬إذن َّ‬
‫المتحركة‬
‫ِّ‬ ‫ليخفِّف من اضطراب نفسه‪ ،‬ويحافظ على رباطة جأشه‪ ،‬ليحافظ على توازنه وهو على ّ‬
‫الدراجة‬
‫عينيه عن تلك الفتاة الماثلة أمامه‪ ،‬المنتصبة على جهاز الجري‬
‫فإنه ال يستطيع أن ُيبعد ْ‬
‫الثابتة‪ .‬ومع ذلك‪ّ ،‬‬
‫وخير له أن يغادر صالة األلعاب‬ ‫الكهربائي؛ وال َّ‬
‫كمن رأى شبحًا؛ ٌ‬ ‫يحدق فيها َ‬
‫شك في ّأنها ستفطن إليه‪ ،‬وهو ّ‬ ‫ّ‬
‫ياضية‪.‬‬
‫حال‪ ،‬فهو ال يستطيع أن يواصل تمارينه الر ّ‬‫كل ِّ‬
‫في الحال‪ ،‬ويعود إلى مسكنه القريب منها‪ .‬وعلى ِّ‬

‫ٍ‬
‫بلهجة‬ ‫صوت نسائي‬
‫ٌ‬ ‫رن جرس الهاتف‪ .‬رفع السماعة إلى أُذنه‪ .‬تناهى إليه‬
‫حالما عاد إلى شقّته‪ّ ،‬‬
‫ِّ‬
‫ويشخص صاحبتها‪ ،‬ومع ذلك قال‬ ‫مصرّية‪ .‬أصابه نوعٌ من الرعب؛ فقد استطاع أن يتبيَّن تلك النغمة الحزينة‬
‫بصوت مخنوق‪:‬‬

‫ـ نعم‪َ ،‬من المتكّلمة؟‬

‫ـ أنا رابحة‪.‬‬

‫ـ رابحة‪ ...‬أهالً‪ ...‬تفضلي؟‬

‫أنت بخير‪.‬‬ ‫كل ٍ‬


‫عام و َ‬ ‫ـ أتّص ُل بك لمجرد السالم عليك‪ ،‬وتهنئتك بعيد األضحى‪ُّ ...‬‬
‫ّ‬

‫ـ شك ًار‪ ...‬و ِ‬
‫أنت كذلك‪ ...‬مع السالمة‪.‬‬

‫مرت‪،‬‬
‫يصدق أُذنيه‪ .‬ثالثون عامًا ّ‬
‫ّ‬ ‫أعاد سماع َة الهاتف إلى موضعها بتمهّل‪ ،‬وهو شارد الذهن‪ ،‬ال‬
‫مرة‪ ،‬ولم ِّ‬
‫تهنئه بعيد أضحى‪ .‬لماذا اليوم‪ ،‬يا إلهي؟ أال يمكن أن يكون‬ ‫ثالثون عيد أضحى وقعت‪ ،‬ولم تهاتفه َّ‬
‫هذا الصوت الهاتفي‪ ،‬هو اآلخر‪ ،‬وهمًا‪ ،‬خياالً‪ ،‬هلوس َة حمى‪ ،‬تماماً كالفتاة التي رآها في صالة األلعاب‬
‫ال‪ .‬وتتراءى لنا أشياء ال وجود لها‬
‫ياضية‪ .‬فنحن نسمع أحيانًا صوتًا بشريًا لم يصدر من إنسان‪ ،‬الصدى مث ً‬
‫الر ّ‬
‫ال‪.‬‬
‫حقيقية‪ ،‬السراب في الصحراء مث ً‬
‫في الحقيقة ال ّ‬

‫‪80‬‬
‫ِ‬
‫يستطع أن يقتنص النوم مهما طال تصيُّده له‪ .‬وفي الظالم‪ ،‬كان يشاهد ضميره‬ ‫في تلك الليلة لم‬
‫ال الليل‪.‬‬
‫معّلقًا من جديد على صليب التأنيب والتبكيت طو َ‬

‫مرات في األسبوع‪ ،‬حريصًا على تحسين‬‫يتمرن فيها ثالث ّ‬


‫يومين‪ ،‬عاد إلى صالة األلعاب التي ّ‬
‫بعد ْ‬
‫النفسية‪ ،‬طبقاً لمقولة " العقل السليم في الجسم السليم"‪ ،‬على‬
‫ّ‬ ‫يحسن من صحته‬
‫لعل ذلك ّ‬‫البدنية‪َّ ،‬‬
‫ّ‬ ‫َّ‬
‫صحته‬
‫ٍ‬
‫استثناءات كثيرةً لهذه القاعدة‪ ،‬كثيرة لدرجة يكاد يكون االستثناء هو‬ ‫الرغم من ّأنه شاهد خالل حياته الطويلة‬
‫مرة رأى آخرين يتمتَّعون‬
‫ال لهم أجسام البغال وأحالم العصافير‪ ،‬وكم من ّ‬
‫مرة شاهد رجا ً‬
‫القاعدة‪ .‬فكم من ّ‬
‫معوقة أحيانًا‪.‬‬ ‫بعقول جيدة َّ‬
‫ولكن أجسامهم هزيلةٌ ضعيفةٌ‪ ،‬بل ّ‬

‫ثم‬
‫إن تناول العصا في صالة األلعاب الرياضية للشروع في تمارينه‪ ،‬ورفعها بكلتا يديه فوق رأسه‪َّ ،‬‬
‫ما ْ‬
‫دخلت تلك الفتاة الرشيقة‪ ،‬الشاحبة الوجه‪ ،‬ذات‬
‫ْ‬ ‫الناحلتين‪ ،‬حتّى‬
‫ْ‬ ‫ليمرن ذراعيه‬
‫فخذيه ِّ‬
‫ْ‬ ‫أعادها إلى مستوى‬
‫بائي‪ ،‬تمامًا بنفس الطريقة التي كانت‬
‫الناعستين‪ ،‬وهي تخطر بمشيتها متمهِّلةً نحو جهاز الجري الكهر ّ‬
‫ْ‬ ‫العينين‬
‫ْ‬
‫وجد رأسه يستدير في‬
‫رابحة المصرية تسير بها إلى قاعة الدرس في جامعة اإلسكندرّية قبل ثالثين عامًا‪َ .‬‬
‫االعتيادي من‬
‫ّ‬ ‫ادي ٍة‪ ،‬دون أن يعود إلى موضعه‬
‫العنق‪ ،‬بل بصو ٍرة الإر ّ‬ ‫ٍ‬
‫تؤدة نحو الفتاة‪ ،‬ال كجزٍء من تمارين ُ‬
‫فخذيه‪ ،‬دون أن يستطيع رفع‬
‫ْ‬ ‫محملقتين في الفتاة‪ ،‬وبقيت ذراعاه الماسكتان بالعصا على‬
‫ْ‬ ‫وبقيت عيناه‬
‫ْ‬ ‫الجسد‪.‬‬
‫مرًة أُخرى يطارده بضراوة‪ ،‬يفقأ‬
‫شبح رابحة المصريَّة ّ‬
‫ت‪ ،‬فقد عاد ُ‬ ‫مرًة ثانية‪ُ .‬ب ِه َ‬
‫العصا إلى ما فوق رأسه َّ‬

‫ويحير َّلب ه‪ ،‬ويسلبه راحة الضمير‪ .‬وتأ ّكد له َّأنه لن يستطيع أن يواصل تمارينه الر ّ‬
‫ياضية‪ .‬فأعاد العصا‬ ‫عينيه‪ّ ،‬‬
‫ْ‬
‫شقته‪.‬‬ ‫إلى موضعها في الصالة‪ ،‬ورجع إلى َّ‬

‫إن دخل الش ّقة‪ ،‬حتّى َّ‬


‫رن جرس الهاتف‪.‬‬ ‫وما ْ‬

‫ـ نعم‪.‬‬

‫أردت أن أهنئك بعيد الميالد المجيد‪..‬‬


‫ُ‬ ‫ـ أنا رابحة‪.‬‬

‫يومين من عيد األضحى‪ ،‬هذا العام‪ .‬أهي المصادفة‬


‫يا إلهي‪ ،‬لماذا يصادف وقوع عيد الميالد بعد ْ‬
‫التي جعلت رابحة تهاتفه‪ .‬أهو عيد الميالد المجيد الذي جعلها تهاتفه‪ .‬ومنذ متى كانت تهنئه أو يهنئها بعيد‬
‫الميالد؟!‬

‫‪81‬‬
‫تسمر ضميره طوال الليل على صليب التأنيب والتبكيت‪.‬‬
‫في تلك الليلة‪ ،‬لم يستطع النوم‪ ،‬فقد َّ‬

‫ِ‬
‫شبيهة‬ ‫ياضية بضعة أيام‪ ،‬ليستريح من رؤية تلك الفتاة‪،‬‬
‫انقطع عن الذهاب إلى صالة األلعاب الر ّ‬
‫ال من الذهاب إلى‬
‫ياضية‪ ،‬اختار وقتًا مختلفًا من أوقات اليوم‪ .‬فبد ً‬
‫رابحة المصرّية‪ .‬وعندما استأنف تمارينه الر ّ‬
‫المرة في منتصف النهار‪ ،‬الساعة الثانية‬
‫الصالة في آخر النهار حوالي الساعة السادسة مساء‪ ،‬ذهب هذه ّ‬
‫عشرة والنصف تقريباً‪.‬‬

‫شعر بنوٍع من االرتياح واالطمئنان‪ ،‬عندما لم يجد تلك الفتاة في الصالة‪ .‬وفي أعماق نفسه‪ ،‬أثنى‬
‫حل المشكالت التي تواجه‬
‫بأنه القدرة على ّ‬
‫عرف الذكاء لتالميذه ّ‬
‫على ذكائه وحسن تدبيره‪ .‬كان دائمًا ُي ِّ‬
‫حال لهذه المشكلة التي َّأرقتْه أكثر من عشرة‬ ‫َّ‬
‫المستجدة‪ .‬وها هو يجد ًّ‬ ‫اإلنسان‪ ،‬أو القدرة على التكيُّف للظروف‬
‫الذاتي لنفسه في سريرته‪ ،‬واذا بالفتاة شبيهة رابحة المصرّية تلج‬
‫ّ‬ ‫أيام بنهاراتها ولياليها‪ .‬وفيما هو يكيل المديح‬
‫ثم واصلت سيرها نحو‬ ‫عة خاطفة‪َّ ،‬‬ ‫التفتت صوبه بسر ٍ‬
‫ْ‬ ‫القاعة مسرعةً‪ ،‬كما لو عادت لتستعيد شيئاً نسيتْه‪.‬‬
‫لتوهه من قبره‪ ،‬وهو ملفوف في كفنه‪ .‬تناول‬
‫حملق فيها كمن رأى ميِّتًا نهض ِّ‬
‫َ‬ ‫جهاز الجري الكهربائي لتعتليه‪.‬‬
‫قنينةَ مائه‪ ،‬وغادر القاعة‪.‬‬

‫يرن‬ ‫عاد إلى شقَّته القريبة من صالة األلعاب الر ّ‬


‫ياضية‪ ،‬وعندما فتح الباب‪ ،‬كان جرس الهاتف الثابت ّ‬
‫ويرن بإلحاح‪ .‬تناول السماعة ليتناهى إليه صوت رابحة المصرّية بغنجه ونبراته الحزينة الكسلى‪:‬‬
‫ّ‬

‫ـ نعم‪ ،‬يا رابحة‪ ،‬ماذا هناك؟‬

‫ميالدي الجديد‪.‬‬
‫ّ‬ ‫مجرد السالم عليك وتهنئتك بالعام ال‬
‫ـ ّ‬

‫العاطفية السابقة‬
‫ّ‬ ‫انفصلت عن زوجها‪ ،‬فعاودها الحنين إلى أيام الشباب وعالقتها‬
‫ْ‬ ‫أن رابحة قد‬
‫تبادر إلى ذهنه ّ‬
‫فتوجه إليها بسؤال مباشر‪:‬‬
‫المرة؛ ّ‬
‫قرَر أن يضع النقاط على الحروف‪ ،‬كما يقولون‪ ،‬هذه ّ‬
‫به‪ّ .‬‬

‫ِ‬
‫زوجك؟ وأوالدك بخير؟‬ ‫شخصيًا‪ :‬أما زل ِت مع‬ ‫ال‬
‫ـ رابحة‪ ،‬اسمحي لي أن أسألك سؤا ً‬
‫ّ‬

‫ـ طبعًا‪ ،‬الحمد هلل‪.‬‬

‫ـ إذن‪ ،‬لماذا تتّصلين بي بكثرة هذه األيام؟‬


‫‪82‬‬
‫ـ تعرف‪ ،‬يا سليم‪َّ ،‬‬
‫أن في هذه الدنيا الحياة والموت‪.‬‬

‫بأنني سأموت قريباً؟‬ ‫السن‪ ،‬ولكن من ِ‬


‫أنبأك َّ‬ ‫ـ صحيح أنا ِّ‬
‫متقدم في ِّ‬
‫َ‬

‫مؤخ ًار‪.‬‬
‫غيب الردى أختي وأَخي ّ‬
‫أنت‪ ،‬أنا التي تخشى الموت قريبًا‪ ،‬فقد ّ‬
‫أقصدك َ‬
‫َ‬ ‫ـ ال‪ ،‬لم‬

‫ـ إلى رحمة اهلل‪.‬‬

‫تتمرن‬
‫المرة التالية‪ .‬وقع نظره على الفتاة شبيهة رابحة المصرّية‪ ،‬وهي َّ‬
‫ذهب إلى القاعة في ّ‬
‫َ‬ ‫عندما‬
‫لت عن‬
‫ترج ْ‬
‫ات َمن رأى شبحاً‪ .‬حالما أبصرته داخالً‪ّ ،‬‬
‫بائي‪ .‬فبدت على وجهه أمار ُ‬
‫على جهاز الجري الكهر ّ‬
‫وتوجهت إليه وقالت له بلطف‪:‬‬
‫الجهاز‪ّ ،‬‬

‫عدة أيام‪ .‬هل أستطيع أن أعرف السبب؟‬


‫في منذ ّ‬ ‫ُ َّ‬
‫الحظت أن َك تحملق ّ‬ ‫ـ‬

‫أكرر أسفي‪.‬‬
‫يب عجيب ‪ِّ .‬‬ ‫حد غر ٍ‬ ‫ِ‬
‫تشبهك إلى ٍّ‬ ‫فتاة‬
‫أحببت في شبابي ً‬‫ُ‬ ‫ـ آسف جدًا‪ ،‬وأعتذر ِ‬
‫إليك‪.‬‬
‫ِ‬
‫اسمك الكريم‪ ،‬يا آنستي الصغيرة؟‬ ‫ألقدم إليك نفسي‪ .‬اسمي الدكتور سليم‪ .‬وما‬
‫وأغتنم هذه الفرصة ّ‬

‫ـ اسمي رابحة‪.‬‬

‫ـــــــــ‬

‫‪83‬‬
‫الساحر‬

‫اليسرى‪ ،‬حتّى انقدحت الفكرة في‬‫األخاذة وغمزة من عينها ُ‬


‫ت عبارتها المصحوبة بابتسامتها ّ‬
‫أتم ْ‬
‫إن َّ‬
‫ما ْ‬
‫ط لحن القصيدة على جبهة شاعر‪ .‬فكرةٌ ت َّ‬
‫ملكتني تمامًا‬ ‫القداحة أو مثلما يح ّ‬
‫ذهني‪ ،‬مثلما ينقدح اللهب في ّ‬
‫ألُغيِّر من نمط حياتي‪ ،‬وأنتقل من ضيق الحال وعسره إلى ملذات الغنى ومباهج المال‪ .‬ستتهافت الحسناوات‬
‫علي حتى تغطيني بالدفء والسرور‪.‬‬ ‫على بابي‪ ،‬وستهبط الدنانير الذهبيَّة ّ‬
‫منذ عشرين عاماً‪ ،‬وأنا أمارس التعليم الجامعي‪ :‬أبحث‪ ،‬وأ ِ‬
‫ُع ّد الدروس‪ ،‬وألقي المحاضرات‪ ،‬و ِّ‬
‫أصحح‬
‫دفاتر الطالب‪ ،‬وأناقش رسائلهم وأطروحاتهم‪ ،‬وأشارك في اللجان الجامعية لوضع الخطط وتطوير المناهج‬
‫شعبي‪،‬‬
‫ٍّ‬ ‫حي‬
‫لت أسكن ش ّق ًة صغيرةً مستأَجرًة في ٍّ‬
‫التربوية‪ ،‬وأكتب الدراسات والبحوث بعشرات الصفحات؛ وما ز ُ‬
‫أن إحدى زميالتها من بنات‬ ‫ٍ‬
‫بعطلة خارج مدينتي‪ .‬وها هي تلميذتي تخبرني ضاحك ًة َّ‬ ‫وال أتمكن من التمتُّع‬
‫لساحر من أجل أن يكتب لها تميم ًة تجعل‬ ‫ٍ‬ ‫ألفي دوالر بالعملة الصعبة‪،‬‬
‫دفعت حتّى اآلن أكثر من َ‬ ‫ْ‬ ‫األغنياء‪،‬‬
‫مجرد تميمة في أقل من صفحة لقاء ألفي دوالر‪ .‬يا للحيف‪.‬‬ ‫زميلها يقع في غرامها‪ّ .‬‬
‫ومؤهالت علمي ٍ‬
‫َّة‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫ات ذهني ٍ‬
‫َّة‪،‬‬ ‫أن هذا الساحر‪ ،‬كائنًا من كان‪ ،‬ليس له مثل ما لي من قدر ٍ‬ ‫شك في َّ‬ ‫ال َّ‬
‫َ‬
‫قصر جميل في‬‫ٍ‬ ‫َّة‪ ،‬واطِّ ٍ‬
‫الع على البحوث النفسيَّة والتربويَّة‪ .‬وها هو يتربَّع في‬ ‫وملكات لغوي ٍ‬
‫ٍ‬ ‫وشهادات جامعي ٍ‬
‫َّة‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫الملونة الالمعة‬
‫أطلق عليه اسم " قصر النجوم" لكثرة المصابيح الكهربائية الصغيرة َّ‬
‫َ‬ ‫أرقى أحياء العاصمة‬
‫الغناء‪ ،‬كما ُيفهم من‬
‫المنتشرة كالنجوم‪ ،‬على السور الخارجي‪ ،‬وعلى األشجار الباسقة في حديقة القصر ّ‬
‫يلمح إلى "التنجيم" أو إلى األبراج التي يزعم هذا الساحر َّأن ه‬
‫التسمية في الظاهر‪ .‬ولكن باطن التسمية ِّ‬
‫وقلت في نفسي إذا كان قد اغتنى بفضل معرفته بالنجوم والسحر‪َّ ،‬‬
‫فإن‬ ‫ُ‬ ‫يستطيع كشف المخبوء من أسرارها‪.‬‬
‫َّأول َمن درس النجوم وحركة الكواكب هم أجدادي السومريُّون‪ ،‬وا َّن السحر ترعرع على يد أعمامي البابليِّين ‪،‬‬
‫وأنا‪ ،‬أنا ابن سومر‪ ،‬وربيب بابل‪.‬‬
‫مجتمع‬
‫ٍ‬ ‫أعملت الفكر في األمر‪ ،‬فتبيَّن لي َّ‬
‫أن نجاح الساحر يقوم على ثالثة أركان‪َّ :‬أولها‪ ،‬وجود‬ ‫ُ‬
‫الدين بصو ٍرة أو بأُخرى‪ ،‬وثانيها اعتقاد المريض أو الضحية بقدر ِ‬
‫ات الساحر‬ ‫يؤمن بالسحر‪ ،‬ويربط بينه وبين ِّ‬
‫الخارقة‪ ،‬وثالثها فراسة الساحر وبراعته في اإلقناع‪.‬‬
‫بدا لي َّ‬
‫أن جميع الشروط متوافرة‪ .‬فالجميع هنا يعتقد بالسحر ويؤمن بالخوارق والكرامات‪ ،‬وأنا واثق‬
‫أما كيف أكسب ثقة المراجعين بي‪ ،‬فهذا هو‬
‫من ملكاتي ونجوع تقنياتي وقدراتي على بيع األمل لمرضاي‪ّ ،‬‬
‫لمعت في ذهني‪.‬‬
‫ْ‬ ‫موضوع الفكرة التي‬

‫‪84‬‬
‫مؤخرها شعري الطويل على‬ ‫يتهدل من َّ‬ ‫ٍ‬
‫معتمة‪ ،‬وأنا أعتمر خوذةً غريبةً َّ‬ ‫ٍ‬
‫غرفة‬ ‫ال يكفي أن استقبلهم في‬
‫ٍ‬
‫غامضة‬ ‫ٍ‬
‫بكلمات‬ ‫أتمتم‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫ظهري‪ ،‬وألتحي لحي ًة عظيم ًة تغفو على صدري مثل مخالة معلقة على رقبة حمار‪ ،‬و ُ‬
‫منقوصة غير مفهومة‪ .‬يجب أن أغرس في نفس الزبون ووجدانه الثقة بقدراتي الخارقة‬‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫بجمل‬ ‫همهم‬ ‫ٍ‬
‫غريبة‪ ،‬وأُ ُ‬
‫المقربين منه‪ .‬فالثقة أساس النجاح‪،‬‬
‫تف من المعلومات الحميمة التي ال يعرفها إال هو و َّ‬ ‫كشف ُن ٍ‬
‫ِ‬ ‫عن طريق‬
‫فطالب‬
‫ُ‬ ‫تماماً مثل ثقة المريض بقدرة الطبيب المداوي على شفائه‪ ،‬عندما يخبره ببعض أعراض مرضه‪.‬‬
‫يض‪.‬‬‫السحر‪ ،‬هو اآلخر‪ ،‬مر ٌ‬
‫قلت لتلميذتي التي أخبرتني عن صاحبتها‪:‬‬
‫ُ‬
‫ـ أتدرين أََّنني أمارس السحر‪ ،‬يا سميرة؟‬
‫قالت منبهرة‪:‬‬
‫ـ صحيح؟‬
‫ِّ‬
‫الكف‪،‬‬ ‫ِ‬
‫بتحضير األرواح ومحاورتها‪ ،‬وقراءة‬ ‫المغناطيسي‪ ،‬وأقوم‬
‫َّ‬ ‫علمي‪ ،‬فأنا أزاول التنويم‬
‫ٌّ‬ ‫سحر‬
‫ولكنه ٌ‬‫ـ نعم‪َّ ،‬‬
‫واستطالع المستقبل‪.‬‬
‫مهتمةٌ جدًا‪.‬‬
‫ـ أنا َّ‬
‫ٍ‬
‫مهنة أربابها وزبائنها‪ ،‬ووسطاؤها الذين‬ ‫ِّ‬
‫ولكل‬ ‫فالسحر مهنة‪.‬‬ ‫أنت كذلك‪.‬‬‫شخصياً‪ِ ،‬‬
‫ّ‬ ‫يمكنك أن تستفيدي‬‫ِ‬ ‫ـ‬
‫ُ‬
‫لقاء خدماتهم‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫يتقاضون عموالت محترمةً َ‬
‫ات االهتمام والتطلُّع‪:‬‬
‫بدت على وجهها المليح أمار ُ‬ ‫قالت وقد ْ‬
‫شخصيًا؟‬
‫ّ‬ ‫ـ وكيف أستطيع أن أستفيد‬
‫ِ‬
‫اصطحبت إحدى زميالتك‬ ‫سخي ٍة‪ ،‬كلما‬ ‫ٍ‬
‫عمولة ّ‬ ‫تقنيات السحر‪ ،‬كما ستحصلين على‬
‫تتعلمين مني بعض ّ‬ ‫ـ قد َّ‬
‫ِ‬
‫لجلسة سحر‪.‬‬
‫ـ سأفعل ذلك ِّ‬
‫بكل سرور‪.‬‬
‫ال ينبغي أن تكون من الموسرات اللواتي َّ‬
‫يؤمن بالسحر؛ وثانيًا‬ ‫ـ عل ِ‬
‫يك‪ ،‬يا سميرة‪ ،‬أن تختاري الزميلة بعناية‪َّ .‬أو ً‬
‫َّأنها تواجه مشكل ًة ما كالحب‪ ،‬فالحب في بالدنا مشكلة؛ وثالثًا‪ ،‬أن ِّ‬
‫تحدثيها عن قدراتي الخارقة دون أن تذكري‬
‫تام ة عن اسمها‪ ،‬واسم والديها‪ ،‬وظروفها‬ ‫اسمي‪ .‬وقبل أن تصطحبيها إلي‪ ،‬عليك أن تخبريني بسر ٍ‬
‫ية َّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫االجتماعية‪ ،‬ونوع مشكلتها العاطفية‪ ،‬واسم المحبوب ومهنته‪ ،‬وجميع المعلومات الالزمة لتحضير السحر‬
‫مبلغ أحصل عليه منها‪.‬‬
‫كل ٍ‬ ‫المطلوب‪ .‬وستتقاضين عشرين بالمائة من ِّ‬
‫ـ أنا موافقةٌ تماماً‪ .‬ولدي صديقات كثيرات يرغبن في ذلك‪.‬‬
‫ـ اتفقنا‪.‬‬

‫‪85‬‬
‫أت المكان المناسب‪ .‬غرفتان‪ .‬األولى لالنتظار؛ تسمح أضواؤها برؤية الصور العلمية المعلَّقة على‬ ‫هي ُ‬‫ّ‬
‫الجدران‪ :‬صورةٌ للفضاء الخارجي ويبدو فيها عدد من الكواكب‪ ،‬وصورةٌ تشريحيةٌ لجسم اإلنسان وخاصة‬
‫ٍ‬
‫مركبة‬ ‫أجساد حيوانيةٌ‪ ،‬وتبدو قريب ًة من‬
‫دميةٌ و ٌ‬ ‫لكائنات غر ٍ‬
‫يبة لها وجوهٌ آ َّ‬ ‫ٍ‬ ‫دماغه وجهازه العصبي‪ ،‬وصورةٌ‬
‫فضائي ٍ‬
‫َّة َّ‬
‫كأنها قادمة من العوالم األخرى‪ ،‬ولوحةٌ زيتيةٌ عنوانها " الساحر" للرسام العراقي الراحل خالد الجادر‬
‫عبتين‪ .‬وتصدح في هذه الغرفة‬ ‫اسعتين المر ْ‬
‫عينيه الو ْ‬ ‫يغرز فيها ْ‬
‫ساحر ُ‬‫ٍ‬ ‫سيدةٌ تجلس مذعورًة أمام‬
‫وتبدو فيها ّ‬
‫ٍ‬
‫بصمم دائم‪ .‬والغرفة الثانية‬ ‫أن فقَ َد السمع وأُصيب‬
‫موسيقى سيمفونيةٌ صاخبةٌ من سيمفونيات بيتهوفن بعد ْ‬
‫ٍ‬
‫خافتة تنبعث من شموع‪ ،‬ويعبق فيها‬ ‫حيث أستقب ُل الزبائن‪ ،‬أو باألحرى الطالبات الجامعيات‪ ،‬ذات أضو ٍ‬
‫اء‬ ‫ّ‬
‫يتعود‬
‫يؤدي الخليط إلى تدويخ َمن لم َّ‬
‫خليطٌ من روائح البخور والمسك والعنبر والصندل والفانيال‪ ،‬بحيث ّ‬
‫عليه‪.‬‬
‫اتصلت بي سميرة لتخبرني عن ٍ‬
‫فتاة اسمها (أمل) ترغب في االستفادة من‬ ‫ْ‬ ‫مد ٍة قصيرة‬
‫فعالً‪ ،‬بعد َّ‬
‫خدماتي‪ .‬وأخبرتني أن مشكلتها تكمن في وجود ٍ‬
‫فتاة منافسة لها على قلب الحبيب‪ ،‬المسمى (جواد)‪ ،‬فهو‬
‫ٍ‬
‫كافية عن أمل‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫بمعلومات‬ ‫وزودتني سميرة‬
‫ّ‬ ‫الفتاتين‪ ،‬فتراه تارًة في ِ‬
‫رفقة أمل وتارة في رفقة غريمتها‪.‬‬ ‫ْ‬ ‫ِّ‬
‫متردد بين‬
‫فحددت لها موعدًا الستقبالها‪.‬‬
‫ُ‬
‫كنت أغلق النوافذ في غرفة‬ ‫َّ‬
‫المحدد كانت سميرة ورفيقتها أمل في غرفة االنتظار في حين ُ‬ ‫في الموعد‬
‫جو‬ ‫ِّ‬
‫المتعددة والروائح المختلفة‪ ،‬لخلق ٍّ‬ ‫االستقبال‪ ،‬وأوقد الشموع‪ ،‬و ُّ‬
‫أعد البخور والعطور‪ ،‬لتتصاعد األبخرة‬
‫هالمي‪.‬‬
‫كنت‬
‫أرد عليها التحية‪ ،‬بل ُ‬ ‫ألقت التحية‪ ،‬لم َّ‬
‫دخلت أمل وحدها بعد نصف ساعة من االنتظار‪ ،‬و ْ‬ ‫ْ‬ ‫حينما‬
‫الجن الذين أستعين بهم‪ ،‬وعيناي غائرتان في سقف الغرفة‪ ،‬و َّ‬
‫الزبد يتدّلى من‬ ‫عدد من ّ‬ ‫همهمة أسماء ِ‬
‫ِ‬ ‫غارقًا في‬
‫ي متالح ٍق ال ُك رة البلورية أمامي‪ :‬حبزبوز‪ ،‬غمزبوز‪ ،‬قمرموز‪ ،‬بزبوز بزبوز‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫بشكل دائر ٍّ‬ ‫فمي‪ ،‬وك ّفاي تالمسان‬
‫حاجب ّي‬ ‫عينيها‪ ،‬وبإشارٍة من‬ ‫ٍ‬
‫َ‬ ‫عين َّي في ْ‬
‫غرزت َ‬
‫ُ‬ ‫طويلة‬ ‫دقائق‬
‫َ‬ ‫حبزبوز‪ ،‬غمزبوز‪ ،‬قمرموز‪ ،‬بزبوز‪ ،‬بزبوز‪ ...‬وبعد‬
‫طلبت منها أن تتكلّم‪.‬‬
‫ُ‬
‫ٍ‬
‫وبصوت و ٍ‬
‫اهن‪:‬‬ ‫ترد ٍد‬
‫قالت بعد ِّ‬
‫أتيت لمعرفة طالعي ومستقبلي‪.‬‬ ‫ـ ُ‬
‫عين َّي وراح رأسي يترّنح يميناً وشماالً‪ ،‬وأنا‬
‫أغمضت َ‬
‫ُ‬ ‫يدي حول ال ُكرة البلوريَّة أمامي‪ ،‬و‬
‫عت حرك ُة ّ‬‫تسار ْ‬
‫عين ّي المتَّ ْ‬
‫سعتين‬ ‫وغرزت َ‬
‫ُ‬ ‫ال‪،‬‬
‫خفضت رأسي قلي ً‬
‫ُ‬ ‫ثم‬
‫بجنيي وأناديه‪ ،‬وأناشده‪ ،‬وأناغيه‪ ،‬وأتوسَّل إليه؛ َّ‬ ‫أستنجد ِّ‬
‫وقلت لها‪:‬‬
‫ُ‬ ‫بعينيها‪،‬‬
‫ْ‬
‫آك‪ ،‬وعقله منشغل بهو ِ‬
‫اك‪.‬‬ ‫رجل يخفق لمر ِ‬
‫قلب ٍ‬‫ثمة ُ‬ ‫ـ َّ‬

‫‪86‬‬
‫قالت ِ‬
‫وجل َة‪:‬‬
‫ـ هل لي أن أعرف َمن هو‪:‬‬
‫بصر ٍ‬
‫عليل‪:‬‬ ‫ٍ‬
‫طويل‪ ،‬وزيغ ٍ‬ ‫ترد ٍد‬
‫قلت بعد ّ‬
‫ُ‬
‫ِ‬
‫بحرف الجيم‪.‬‬ ‫إنسان فهيم‪ ،‬واسمه اسم حيو ٍ‬
‫ان وسيم‪ ،‬ولفظه يبتدئ‬ ‫ٍ‬ ‫ـ شكله شك ُل‬
‫وكأني أتهجى الغيب‪:‬‬
‫أضفت ّ‬‫ُ‬ ‫و‬
‫ـ َج‪َ ،‬ج ‪َ ،‬ج َمل‪ ،‬ال ‪ ،‬ال‪َ ،‬ج‪َ ،‬ج‪َ ،‬جو ‪َ ،‬جو‪ ،‬جواد‪ ،‬نعم جواد‪.‬‬
‫ال‪:‬‬
‫وهنا تهّلل وجهها بانبهار‪ ،‬وعلته ابتسام ُة انتظار‪ .‬فعاجلتُها قائ ً‬
‫شبح امرٍأة تقتفي خطاه‪ ،‬وتبتغي أن تكون ُمناه‪.‬‬
‫بيد ّأني أرى َ‬‫ـ َ‬
‫علت وجهَها غمامةٌ وكآبةٌ‪ ،‬وقالت‪:‬‬
‫وهنا ْ‬
‫ـ نعم‪ ،‬نعم‪ ،‬أعرفها‪ ،‬وكيف أتخلّص منها؟‬
‫قلت‪:‬‬
‫ُ‬
‫أمر في ُحكم المتمانع‪ ،‬ويستلزم أكثر من قراءة الطالع‪ .‬ويتطّلب مني جهدًا في المختبر‬
‫ـ هذا ٌ‬
‫والمصانع‪.‬‬
‫قالت‪:‬‬
‫ْ‬
‫افعل‪ ،‬وأنا ِّ‬
‫أسدد التكاليف‪.‬‬ ‫أرجوك ْ‬
‫َ‬ ‫ـ‬
‫قلت ‪:‬‬
‫ُ‬
‫ِ‬
‫بهاتفك المحمول صورتَْين لها‪ ،‬ولو من بعيد‪ :‬إحداهما من الخلف واألخرى من األمام‪،‬‬ ‫ـ إذن التقطي‬
‫ُهي ئ‬
‫هاتفك في غالف ملصق‪ ،‬واتركيه في صندوق البريد في باب منزلي‪ ،‬وبعد أن أ ّ‬ ‫ِ‬ ‫وضعيهما مع رقم‬
‫المعمول في المختبر‪ ،‬سأتصل ِ‬
‫بك هاتفيًا أل ِّ‬
‫ُحدد لك موعداً‪.‬‬
‫قالت بحماسة‪:‬‬
‫ـ سأفعل‪.‬‬
‫وسألت‪:‬‬
‫ْ‬ ‫وأخرجت محفظتها‬
‫ـ كم تريد؟‬
‫ِ‬
‫فسأخبرك بها في حينه‪.‬‬ ‫أما تكاليف المعمول‬
‫لقاء هذه الجلسة‪ّ .‬‬
‫قلت‪ :‬خمسمائة درهم َ‬
‫ُ‬
‫ودفعت لها عمولتها ومقدارها مائة درهم‪ ،‬أي عشرين بالمائة‬
‫ُ‬ ‫في اليوم الثاني جاءتني سميرة‪،‬‬
‫بالضبط‪ .‬فنجاح المهنة يستلزم اإلتقان في العمل‪ ،‬والصدق في المعاملة‪ ،‬لتحتفظ بالزبائن واألصدقاء‬

‫‪87‬‬
‫والوسطاء‪ .‬أو كما يقول المثل الفرنسي " ‪ " Les bons comptes font les bons amis‬بالحسابات‬
‫الطيبين "‪.‬‬
‫الصحيحة تكسب األصدقاء ّ‬
‫نت في قوام المرأة‪ ،‬غريمة أمل‪ .‬فوجدتها تميل إلى الطول‪،‬‬
‫تمع ُ‬
‫وصلتني الصورتان بعد أيام قليلة‪ّ .‬‬
‫صغير من‬
‫اً‬ ‫أخذت أصنع لها تمثاالً‬
‫أسميه بمختبري الصغير‪ ،‬و ُ‬‫ودخلت في ما ّ‬
‫ُ‬ ‫ممتلئة الجسم‪ ،‬طويلة الشعر‪.‬‬
‫ِ‬
‫تقنيات هوايتي في الرسم والنحت‪.‬‬ ‫ِّ‬
‫الكف المبسوط‪ ،‬مستفيداً من‬ ‫الشمع بطول‬
‫اتصلت هاتفياً باآلنسة أمل‪ .‬لتوافيني في منزلي‪،‬‬
‫ُ‬ ‫ٍ‬
‫تمثال يضاهي الصورة واألصل‪ .‬و‬ ‫انتهيت من صنع‬
‫ُ‬
‫أسميه‪.‬‬
‫أو عيادتي كما يحلو لي أن ّ‬
‫طويل في غرفة االنتظار‪ ،‬و ٍ‬
‫انتظار في غرفة االستقبال‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫جلوس‬ ‫ت أمل بطقوس مقابلتي من‬
‫مر ْ‬
‫بعد أن ّ‬
‫أخرجت من‬
‫ُ‬ ‫المزبد ورأسي المترنح يمينًا وشماالً‪،‬‬
‫المرعد ُ‬
‫المربد ُ‬
‫وهي تستمع إلى هلوساتي‪ ،‬وتنظر إلى وجهي ُ‬
‫أس‬
‫أخرجت بيدي اليمنى دبوسًا له ر ٌ‬
‫ُ‬ ‫تمثال غريمتها‪ ،‬وأمسكتُه بيدي اليسرى‪ .‬ومن الكيس األسود‪،‬‬‫َ‬ ‫أسود‬
‫َ‬ ‫ٍ‬
‫كيس‬
‫وفززت وأنا أصرخ متألمًا‪ " :‬آخ"‪.‬‬
‫ُ‬ ‫أسود‪ ،‬وغرزتُه في رأس التمثال‪،‬‬
‫ستحس غر ِ‬
‫يمتك ٍ‬
‫بألم في ذلك‬ ‫ُّ‬ ‫طرف من أطراف التمثال‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫غرزت هذا الدبوس في‬ ‫وقلت ألمل‪ :‬كّلما‬
‫ُ‬
‫كل ليلة و ِ‬
‫أنت‬ ‫غرس الدبوس في طرف واحد فقط َّ‬
‫ِ‬ ‫الطرف من جسدها‪َّ .‬إنه السحر األسود‪ .‬احرصي على‬
‫ِ‬
‫وبمرور الزمن ستزداد آالمها الجسديَّة‪،‬‬ ‫وحيدة في الظالم‪ ،‬دون أن يعلم أحد بذلك لئال يفسد مفعول السحر‪.‬‬
‫حاولت إخفاءها عن اآلخرين‪ ،‬فيؤثِّر ذلك في صفاء روحها وجمال وجهها‪ُّ ،‬‬
‫ويقل اهتمام جواد بها‪،‬‬ ‫ْ‬ ‫حتى إن‬
‫وكنت استهدي في ذلك‬
‫ُ‬ ‫تعززي‪.‬‬
‫كليًا‪ .‬وكلّما يطلب منك جواد موعداً‪ ،‬حاولي أن تمانعي قليالً‪ّ .‬‬
‫فينصرف إليك ّ‬
‫بالمثل العربي المشهور‪ " :‬تمنعي أشهى لك"‬
‫ِ‬
‫أودعت الكيس في‬ ‫ٍ‬
‫بتؤدة في الكيس األسود‪ .‬و‬ ‫تناولت أمل التمثال والدبوس ُّ‬
‫بتوجس‪ ،‬ووضعتْهما‬ ‫ْ‬
‫ثم قالت‪:‬‬
‫حقيبتها اليدويَّة الجلديَّة‪َّ .‬‬
‫ـ شك ًار‪ ...‬كم؟‬
‫قلت‪:‬‬
‫ُ‬
‫ـ ألفا درهم فقط‪ .‬وبعد شهرْين أخبريني عن مفعول المعمول‪ ،‬وسنرى‪.‬‬
‫هاتفيًا‪ ،‬فوافتني في المنزل وأنقدتُها أربعمائة درهم‪ ،‬عمولتها مما دفعتْه أمل‬
‫ّ‬ ‫اتصلت بسميرة‬
‫ُ‬ ‫وفي اليوم التالي‬
‫في زيارتها الثانية‪ ،‬أي عشرين بالمائة بالضبط‪.‬‬
‫ازدهرت مهنتنا أو تجارتنا يومًا بعد آخر‪ ،‬وازداد دخلنا شيئاً فشيئًا‪ ،‬ولم تواجه سميرة أيَّة صعوبة في‬
‫ْ‬ ‫و‬
‫سرت بين كثير من الطالبات الجامعيات أنباء مهاراتي العجيبة‬ ‫ْ‬ ‫إيجاد زبونات جديدات‪ ،‬بل على العكس‬

‫‪88‬‬
‫فتهافتت الطالبات على سميرة ُي ِردن االستفادة من خدماتي‪ ،‬فقد ُ‬
‫كنت أرفض استقبال أيَّة‬ ‫ْ‬ ‫وقدراتي الخارقة‪،‬‬
‫طالبة تأتيني وحدها‪.‬‬
‫عيني صديقها‪ ،‬وأُخرى تبحث‬ ‫ال في َ‬‫استقبلت كثيرات‪ ،‬إحداهن تريدني أن أصنع لها تميم ًة تزيدها جما ً‬
‫ُ‬
‫سحر يجعلها تنجح في َّ‬
‫مادة العلوم الطبيعيَّة‪ ،‬أو باألحرى يجعل أستاذها يستحسن كالمها ويهَبها عالم ًة‬ ‫عن ٍ‬
‫بأن جميع زميالتها يغرن من جمالها وذكائها‪ ،‬وأََّن َّ‬
‫هن يسحرن‬ ‫عاليةً‪ ،‬وثالثة مغرورة أو مصابة بالفصام‪ ،‬تؤمن َّ‬
‫جنياً وقع في غرامها فهو يسكنها وال يفارقها‪.‬‬ ‫لها وتريد إبطال سحر َّ‬
‫هن‪ ،‬وأُخرى تتوهم أن ّ‬
‫عملت السحر المطلوب‪ ،‬وأستخدم الطريقة اإليحائية‬ ‫ُ‬ ‫أوهمهن َّ‬
‫بأنني‬ ‫َّ‬ ‫كنت‬
‫في جميع تلك الحاالت‪ُ ،‬‬
‫فمن تريد‬ ‫ٍ‬ ‫َّ‬ ‫التي وضعها العالِم البلغاري جورجي لوزانوف‪ ،‬و‬
‫أزودهن بتعليمات ضروريَّة ليفعل السحر مفعوله‪َ .‬‬
‫ماد ٍة ما أنصحها‬
‫ومن تطلب النجاح في َّ‬ ‫الجمال‪ ،‬أنصحها بالرشاقة واألناقة واللياقة في السلوك والحديث‪َ .‬‬
‫التقرب من‬
‫وحسدهن‪ ،‬أنصحها بالتواضع و ُّ‬‫َّ‬ ‫ومن تخشى غيرة األخريات‬ ‫وقت ٍ‬
‫بتخصيص ٍ‬
‫ِ‬
‫المادة‪َ .‬‬
‫ّ‬ ‫كاف لتلك‬
‫صاحباتها‪ ،‬ليفعل سحري مفعوله‪.‬‬
‫ذات يوم‪ ،‬أخبرتني وسيطتي (سميرة) َّ‬
‫أن طالب ًة تُدعى (وصال) تروم االستفادة من خدماتي‪ .‬أعطتني‬
‫بعض المعلومات عنها وأضافت قائلة‪:‬‬
‫تام‪.‬‬
‫بنجاح ٍّ‬
‫ٍ‬ ‫ـ َّ‬
‫إن مشكلتها بسيطة تستطيع أن تتعامل معها‬
‫دخلت غرفة االستقبال‬
‫ْ‬ ‫ثم‬
‫وصلت وصال في الموعد المضروب‪ ،‬وأخضعتُها لطقوس االنتظار‪َّ ،‬‬ ‫ْ‬
‫وضعت ساقاً على‬
‫ْ‬ ‫وجلست مقابلي وقد‬
‫ْ‬ ‫بقوامها الرشيق الفارع الطول الذي بسط سلطانه على المكان كلِّه‪،‬‬
‫طتهما‪.‬‬
‫يتين فغ ّ‬
‫يضتين العار ْ‬
‫كتفيها العر ْ‬
‫خصالت شعرها الذهب على ْ‬ ‫ُ‬ ‫انسدلت‬
‫ْ‬ ‫ساق‪ ،‬و‬
‫أحسست في أعماقي بر ٍ‬
‫عشة تسري في أوصالي‪ ،‬كما لو َّأنها‬ ‫ُ‬ ‫في اللحظة التي التقت فيها عيوننا‪،‬‬
‫خرجت مرتجف ًة‬
‫ْ‬ ‫يد َّ‬
‫أن كلماتي‬ ‫حاولت أن أتمالك نفسي وأنا ِّ‬
‫أوجه الكالم إليها‪َ ،‬ب َ‬ ‫ُ‬ ‫بعينيها النجالوين‪.‬‬
‫ْ‬ ‫سحرتني‬
‫ٍ‬
‫بالغة‪ ،‬سألتُها عن حاجتها‪ .‬قالت‪:‬‬ ‫ٍ‬
‫بصعوبة‬ ‫كأن فكري قد ُش َّل عن الحركة‪.‬‬
‫متقطعةً متهافت ًة ال معنى لها‪َّ ،‬‬
‫ولكني ال أدري ما الذي ينبغي أن‬ ‫ـ َّإنني ال أعرف ما أريد‪ .‬هذه هي مشكلتي‪ .‬سأتخرج هذا العام في ِّ‬
‫الكليَّة‪ِّ ،‬‬ ‫ّ‬
‫أفعل‪.‬‬
‫يتين‪ ،‬أسكرتني بحالوة لهجتها‪ ،‬كانت َّ‬
‫تتحدث بلثغة محبَّبة‪.‬‬ ‫شفتيها الخمر ْ‬
‫فتحت ْ‬
‫ْ‬ ‫حالما‬
‫قلت‪:‬‬
‫ُ‬
‫ِ‬
‫أمامك؟‬ ‫ـ وما هي البدائل المطروحة‬
‫قالت‪:‬‬
‫ْ‬

‫‪89‬‬
‫تقد َم ألهلي يطلب يدي؟ هل‬ ‫ٍ‬
‫محترم ّ‬ ‫ٍّ‬
‫شاب‬ ‫ـ كثيرة‪ .‬هل أذهب إلى أمريكا لمواصلة دراستي؟ هل أتزوج من‬
‫طيبًا‪ .‬وهذا ما يحيرني‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫ال ّ‬
‫علي عم ً‬
‫بشركة عرضت َّ‬ ‫اشتغل‬
‫قلت‪:‬‬
‫ُ‬
‫مني‪:‬‬
‫ـ وماذا تريدين ّ‬
‫قالت‪:‬‬
‫ـ لعلَّ َك تستطيع مساعدتي‪ ،‬فقد ترى طالعي وترشدني إلى األفضل‪.‬‬
‫ِ‬
‫أكتف بالمعلومات التي‬ ‫ٍ‬
‫شيء عنها وعن أهلها‪ .‬ولم‬ ‫أردت أن أعرف َّ‬
‫كل‬ ‫ُ‬ ‫أثارت َّ‬
‫حب االستطالع لدي‪.‬‬
‫المفضل لديها واأللوان المحبَّبة في‬
‫ّ‬ ‫زودتني بها سميرة عنها‪ .‬فسألتُها عن عاداتها وهواياتها وأنواع الطعام‬
‫الشيء‬ ‫منجذب نحوها وأريد أن أمتلكها‪ .‬فعندما تعرف‬
‫ٌ‬ ‫أحسست َّأنني‬
‫ُ‬ ‫ٍ‬
‫بصلة إليها‪.‬‬ ‫كل شيء ُّ‬
‫يمت‬ ‫نظرها‪ ،‬وعن ِّ‬
‫َ‬
‫فأنت تمتلكه‪ ،‬ألنه يصبح جزءًا من كيانك‪ .‬أليس كذلك؟‬
‫تمامًا‪َ ،‬‬
‫أن حبَّها سيطر على‬‫وقعت في غرامها من َّأول نظرة‪ ،‬و َّ‬
‫ُ‬ ‫أحسست َّ‬
‫بأنني‬ ‫ُ‬ ‫ال أدري ما الذي دهاني‪ ،‬فقد‬
‫ِّ‬
‫الحب من َّأول نظرة‪.‬‬ ‫تحبني هي األُخرى‪ .‬لم ِّ‬
‫أصدق مقولة‬ ‫ٍ‬
‫حاجة إلى أن َّ‬ ‫عقلي وروحي ووجداني‪ ،‬و َّأنني في‬
‫ٍ‬
‫طرف واحد‪ .‬كيف ُّ‬
‫تحبني وأنا أعتمر هذه الطاقيَّة‬ ‫ولكن هذا ما وقع لي‪ .‬المشكلة هنا تكمن في َّأنه ٌّ‬
‫حب من‬
‫الغريبة السخيفة‪ ،‬وألتحي هذه اللحية المخيفة؟‬
‫ٍ‬
‫تعليمات َبعديَّة‪ .‬وهذا النوع من التنويم‬ ‫مغناطيسي‪ ،‬واعطائها‬
‫ٍّ‬ ‫ٍ‬
‫تنويم‬ ‫أن أخضعها لجلسة‬ ‫قررت ْ‬
‫ُ‬ ‫لهذا‬
‫ٍ‬
‫تعليمات للنائم‪ ،‬ال لينفِّذها في‬ ‫المغناطيسي‬
‫ُّ‬ ‫المنوم‬
‫تطو ًار وأصعبها‪ .‬إذ يعطي فيه ِّ‬
‫المغناطيسي هو أكثر األنواع َّ‬
‫الحال‪ ،‬بل لينفذها بعد أن تنتهي جلسة التنويم ويخرج الفرد من تأثيره ويعود إلى حالته الطبيعيَّة‪ .‬ففي التنويم‬
‫كنت آمل‬
‫بشكل كبير‪ُ .‬‬ ‫ٍ‬ ‫ويتقبل االقتراحات واإليحاءات‬ ‫ٍ‬
‫استرخاء ّ‬ ‫المغناطيسي يكون ذهن النائم في حالة هدوٍء و‬
‫تحبني‪ ،‬و َّأنها متعلِّقةٌ بي‪ ،‬وأن اختيارها في الحياة سيقع َّ‬
‫علي واالرتباط بي‬ ‫أن أوحي إليها‪ ،‬وهي نائمة‪َّ ،‬‬
‫بأنها ّ‬
‫ُّ‬
‫فالحب‬ ‫ٍ‬
‫طويلة أو حليق الذقن‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫بلحية‬ ‫طاقي ًة غريبةً أو حاسر الرأس‪،‬‬ ‫دون غيري‪ ،‬مهما كان شكلي‪ ،‬معتم ًار َّ‬
‫َّ‬
‫الصحة والمرض‪،‬‬ ‫أن َّ‬
‫تحب اإلنسان مهما تغيَّر مظهره بمرور األيام والزمان‪ ،‬في‬ ‫الحقيقي الذي أحلم به هو ْ‬
‫ُّ‬
‫وتشد أزره‪.‬‬ ‫يجدك هناك قريبًا منه‪ ،‬واقفًا إلى جانبه‪ ،‬تعضده‬
‫َ‬ ‫كل ٍ‬
‫حال‪،‬‬ ‫في الغنى والفقر‪ ،‬في الفرح والحزن‪ .‬في ِّ‬
‫قلت لها‪:‬‬
‫المنوم‪ .‬ولهذا ُ‬
‫المنوم و َّ‬
‫يتوقف على التعاون بين ِّ‬‫المغناطيسي َّ‬
‫ِّ‬ ‫َّ‬
‫ولكن نجاح التنويم‬
‫ق ِ‬
‫قلبك‪ .‬إذ‬ ‫ـ ـ لكي نعرف ما تريدين أن تفعليه حقيق ًة‪ ،‬يجب أن نستمع إلى ر ِ‬
‫غباتك الكامنة في أعما ِ‬
‫ب‬ ‫َّ‬
‫ينبغي أن يستمع اإلنسان إلى نبض قلبه ورغبات روحه‪ ،‬ال إلى ما يشير به عليه اآلخرون‪ .‬وهذا يتطل ُ‬
‫استخدام التنويم المغناطيس ِّي‪ ،‬إذا ِ‬
‫كنت راغبةً في ذلك‪.‬‬
‫قالت‪:‬‬
‫ْ‬

‫‪90‬‬
‫لدي‪ ،‬إذا كان ذلك هو ما تراه‪.‬‬
‫ـ ال مانع َّ‬
‫بأي أجر‪ ،‬بل على العكس‪،‬‬‫يومين‪ .‬وعلى غير عادتي‪ ،‬لم أطالبها ِّ‬ ‫إلي بعد ْ‬
‫طلبت إليها أن تعود ّ‬‫ُ‬
‫ٍ‬
‫ذهبية ُعّلق في وسطها تمثال‬ ‫ٍ‬
‫قالدة‬ ‫يت هدي ًة لها‪ ،‬عبارةً عن‬
‫ذهبت حال مغادرتها إلى سوق الذهب‪ ،‬واشتر ُ‬
‫ُ‬
‫كنت أزمع أن استخدمها في عملية‬
‫الحب والخصب لدى البابليِّين‪ُ ،‬‬ ‫ذهبي صغير لإللهة عشتار‪ ،‬ربَّة الجمال و ِّ‬
‫التنويم المغناطيسي‪.‬‬
‫ٍ‬
‫حديث‬ ‫مغناطيسياً‪ .‬وبعد‬ ‫كرسي وثير بقصد تنويمها‬ ‫يومين‪ ،‬فأجلستها على‬
‫ّ‬ ‫ٍّ‬ ‫إلي وصال بعد ْ‬‫ّ‬ ‫عادت‬
‫وطلبت منها أن تركز بصرها على‬ ‫ُ‬ ‫الذهبية‪،‬‬
‫ّ‬ ‫أخرجت القالدة‬
‫ُ‬ ‫نفسي ًا‪،‬‬
‫ّ‬ ‫منه أن تكون مرتاح َة‬ ‫قصدت‬
‫ُ‬ ‫ٍ‬
‫قصير‬
‫ال‬
‫ال وشما ً‬
‫ببطء من أعلى السلسلة‪ ،‬تمامًا مثل حركة البندول‪ ،‬يمينًا وشما ً‬ ‫ٍ‬ ‫أحركه‬
‫كنت ِّ‬
‫الذي ُ‬ ‫التمثال الذهبي‬
‫ٍ‬
‫بالثقة وبنبرٍة هادئة‪:‬‬ ‫ٍ‬
‫بصوت يوحي‬ ‫ويمينًا‪ ،‬وأنا أخاطبها‬
‫عينيك‪ ،‬ها هو النعاس‬
‫شيء‪ .‬رّكزي نظرك على التمثال‪ ،‬استرخي تماماً‪ ،‬أغمضي ْ‬ ‫ٍ‬ ‫ـ ال تفكري في‬
‫عينيك‪ ،‬ها ِ‬
‫أنت تنامين‪ ،‬نعم‪ ،‬نعم‪ ،‬تنامين‪ ،‬تستغرقين في النوم‪ ،‬تنامين‪.‬‬ ‫ْ‬ ‫يغشى‬
‫تنم عن تفكير وذكاء‪ ،‬وليست عفوية‪.‬‬
‫أخذت أطرح عليها األسئلة‪ ،‬جاءت إجاباتها مدروس ًة‪ّ ،‬‬
‫ُ‬ ‫عندما‬
‫خذت أتساءل ما إذا كانت (وصال) من ضمن العشرة بالمائة‬ ‫فخامرني ٌّ‬
‫شك في ّأنها كانت تتظاهر بالنوم‪ ،‬وأ ُ‬
‫مغناطيسيًا‪ ،‬كما تقول الدراسات العلميَّة‪ .‬ومع ذلك فقد أخبرتُها وهي نائمة‬
‫ّ‬ ‫من الناس الذين ال يمكن تنويمهم‬
‫وطلبت منها أن تزداد غراماً بي‪.‬‬
‫ُ‬ ‫تحبني بال ريب‪،‬‬
‫أحبها‪ ،‬وهي ّ‬ ‫َّ‬
‫بأنني ّ‬
‫وضعت القالدة الذهبية في العلبة المخملية الصغيرة َّ‬
‫وقدمتها‬ ‫ُ‬ ‫لم أطالبها بأيَّة أجرة‪ .‬بل على العكس‪،‬‬
‫أيت فيها نوعًا من االستخفاف بتلك الهديَّة‪ ،‬بل ازدرائها‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫بابتسامة ر ُ‬ ‫فتقبلتها‬
‫إليها‪ّ .‬‬
‫أهملت استقبال ز ٍ‬
‫بونات‬ ‫ُ‬ ‫أهملت دروسي الجامعية مثلما‬ ‫انصرفت ب ُكلِّيتي إليها‪ ،‬و ُ‬
‫ُ‬ ‫توالت هداياي لها‪ ،‬و‬
‫ازددت انجذاباً إليها‪،‬‬
‫ُ‬ ‫ازدادت ُّ‬
‫تمنعاً‪،‬‬ ‫ْ‬ ‫جديدات‪ .‬أصبح عالمي يدور في فلكها‪ ،‬وكانت متقلِّب ًة ِّ‬
‫متمنعة‪ .‬وكّلما‬
‫َّ‬
‫تتصيد‬ ‫وتعلُّقًا بها‪ُ .‬‬
‫كنت أدرك في ق اررة وجداني َّأنها ال تصلح لي‪ ،‬وأعي في صميم عقلي َّأنها فتاةٌ لعوب‪،‬‬
‫القلوب‪ ،‬لتحرقها على مشواة االنتظار‪ ،‬وسفود الصدود‪ .‬فها هي راحت تخلف مواعيدها بعد أن طلعت شمس‬
‫قررت أن ال أفكر فيها‪َّ ،‬‬
‫ولكنني أجد نفسي منساقًا‬ ‫ُ‬ ‫عيني‪ .‬كم م ٍرة‬
‫ّ‬ ‫أت محرَار اللهفة في‬
‫الشوق في قسماتي‪ ،‬وقر ْ‬
‫ٍ‬
‫جاذبية ال خالص‬ ‫وقعت تحت تأثير‬
‫ُ‬ ‫طعت بين عقلي وارادتي‪ ،‬أو َّ‬
‫كأنني‬ ‫لمهاتفتها‪ ،‬كأن خيوط االتصال قد تق ّ‬
‫ت أتساءل ما إذا كان السحر قد انقلب على الساحر‪ ،‬كما يقولون‪.‬‬ ‫منها‪ .‬وأخذ ُ‬
‫وتضاءلت‬
‫ْ‬ ‫تضاعفت قيمتها‪ ،‬وصارت أغلى فأغلى‪.‬‬
‫ْ‬ ‫أخذت أشتري ابتساماتها ورضاها بالهدايا التي‬
‫ُ‬
‫ُّ‬
‫ستحبني‪.‬‬ ‫أمل َّ‬
‫بأنها‬ ‫سيارةً صغيرةً لها‪ِّ ،‬‬
‫وكلي ٌ‬ ‫ُمدخراتي حتّى أمست صف اًر‪ .‬وذات يوم‪ ،‬وجدتني أشتري ّ‬
‫اضطررت أن أسحب شيكًا على المكشوف‪ ،‬أي َّ‬
‫أن الشيك بدون رصيد‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫و‬

‫‪91‬‬
‫ثم ضرب ًة َّ‬
‫قويةً انفتح الباب بعدها؛ ودخل رجال الشرطة‪،‬‬ ‫وذات ٍ‬
‫ليلة‪ ،‬سمعت طرقًا عنيفاً على الباب‪َّ ،‬‬
‫عر رأسي االصطناعي ولحيتي الكثة والشموع‪ ،‬وجميع األشياء في غرفة‬ ‫العتقالي وحجز ومصادرة َش ِ‬
‫لجلسات مر ٍ‬
‫هقة مع‬ ‫ٍ‬ ‫عت‬
‫ُخض ُ‬‫اد ثبوتية‪ .‬وبعد أن أمضيت أيامًا طويل ًة في المعتقل‪ ،‬وأ ِ‬ ‫االستقبال بوصفها مو ّ‬
‫ّ‬
‫للمادة المائة والسابعة‬
‫ّ‬ ‫على طبقًا‬
‫قاضي التحقيق‪ ،‬اقتادوني ذات يوم إلى المحكمة‪ ،‬ليصدر القاضي حكمه َّ‬
‫والعشرين من قانون العقوبات الجنائية‪ ،‬التي تجرم االحتيال والشعوذة بثالث سنوات سجناً نافذاً وبغر ٍ‬
‫امة‬ ‫ّ‬
‫ٍ‬
‫شيكات‬ ‫المادة الثامنة والخمسين من القانون نفسه التي تعاقب َمن يصدر‬‫مقدارها عشرون ألف درهم‪ ،‬وكذلك ّ‬
‫بسنتين سجنًا نافذًا‪ ،‬على أن أمضي فترتَي العقوبة بالتعاقب‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫رصيد‬ ‫بدون‬
‫ْ‬
‫ـــــــــــــــــ‬

‫‪92‬‬
‫الحج‬
‫ّ‬

‫كنت أُستاذًا في جامعة الرياض‪ .‬وصلتني‪ ،‬ذات يوم‪َّ ،‬‬


‫برقيةٌ مقتضبةٌ من‬ ‫السبعينيات‪ُ ،‬‬
‫ّ‬ ‫في أواسط‬
‫أن أراه‪ ،‬بعد ِّ‬
‫كل سنين‬ ‫سعدني ْ‬ ‫ِّ‬
‫الحج معه‪ .‬كان ُي ُ‬ ‫المكرمة ألداء فريضة‬
‫َّ‬ ‫وجه إلى َّ‬
‫مكة‬ ‫والدي َيطلب مني التّ ُّ‬
‫الفراق الطويلة‪ ،‬بسبب خوفي من دخول وطني‪.‬‬
‫كل‬ ‫ِّ‬
‫الحج ّ‬ ‫أن والدي دأب على أَداء فريضة‬ ‫األول‪َّ ،‬‬
‫لسببين‪َّ :‬‬
‫ْ‬ ‫البرقية أثارت استغرابي وحيرتي‬
‫ّ‬ ‫بيد َّ‬
‫أن‬ ‫َ‬
‫عامين أو ثالثة تقريبًا دون أن يطلب مني لقاءه‪ ،‬فلِماذا هذا العام؟ والثاني َّأنه لم يذكر عنوانه في َّ‬
‫مكة‪ ،‬فكيف‬ ‫ْ‬
‫َ‬
‫حاج؟‬ ‫سأجده في جموع الحجيج الذين بلغ عددهم ذلك العام أكثر من مليون ّ‬
‫ألن برقيَّته وصلتني في‬
‫لم ي ُكن في وسعي إرسال برقية جوابيَّة‪ ،‬أرجوه فيها تعيين مكان اللقاء‪ّ ،‬‬
‫الحج تنطلق في السابع من ذي الحجة‪ .‬لم َّ‬
‫يتبق لي إال يومان‪.‬‬ ‫الخامس من ذي الحجة‪ ،‬ومناسك ِّ‬
‫بسيارته إلى‬
‫لي كان متوجهاً ّ‬ ‫صديق‬
‫ً‬ ‫على اهلل‪ .‬في صباح اليوم التالي‪ ،‬أ َقلّني‬ ‫لت‬ ‫حزمت أمري‪َّ ،‬‬
‫وتوك ُ‬ ‫ُ‬
‫لت في‬
‫إلى مكة مساء‪ ،‬ونز ُ‬ ‫وصلت‬
‫ُ‬ ‫يقة للعثور على والدي‪.‬‬ ‫في أَفضل طر ٍ‬ ‫كنت ِّ‬
‫أفكر‬ ‫جدة‪ .‬وفي الطريق ُ‬
‫ّ‬
‫ضيافة صدي ٍق لي من أساتذة الجامعة هناك‪ .‬ورجوته مساعدتي في البحث عن والدي‪.‬‬
‫ٍ‬
‫جموعات حسب‬ ‫كانت خطتنا تتمحور حول االتِّصال بالحجاج العراقيِّين‪ ،‬وهم عادة َّ‬
‫موزعون في م‬
‫قلت في‬
‫يأت معهم‪ُ .‬‬‫أن والدي لم ِ‬ ‫عثرت على بعض الحجاج من بلدتي‪َّ ،‬‬
‫فأكدوا لي َّ‬ ‫ُ‬ ‫ُم ُدنهم أو محافظاتهم‪.‬‬
‫فبحث‬
‫َ‬ ‫استطعت أن أعثر على المسؤول‪،‬‬
‫ُ‬ ‫نفسي لعلَّه جاء مع ّ‬
‫حجاج بغداد بعد أن زار أخي األكبر هناك‪ .‬و‬
‫حجاج البصرة الذين كان من الممكن‬
‫في قوائمه دون أن يعثر على اسم والدي بين الحجاج‪ .‬وهكذا األمر مع ّ‬
‫أن يأتي أبي معهم‪ ،‬بعد تمضية بعض الوقت مع أخي الصغير الذي يعمل في البصرة‪.‬‬
‫عت في أداء مناسك الحجِّ‪ :‬طواف القدوم حول الكعبة‪ ،‬صالة‬ ‫في صباح السابع من ذي الحجة‪ ،‬شر ُ‬
‫كنت أدعو بالخير‬
‫كل مكان‪ُ ،‬‬ ‫ركعتي الطواف‪ ،‬بئر زمزم‪ ،‬السعي سبعة أشواط بين الصفا والمروة‪ .‬وفي ِّ‬
‫أمضيت بقيَّة النهار وشط ًار واف اًر من َّ‬
‫الليل في البحث‬ ‫ُ‬ ‫ثم‬
‫الديَّ‪ ،‬وأسأل اهلل أن يساعدني في العثور على أبي‪َّ .‬‬
‫لو َ‬
‫كبير دون أي نجاح‪.‬‬ ‫فعدت إلى منزل صديقي الذي أخبرني َّ‬
‫بأنه بذل جهداً ً‬ ‫ُ‬ ‫عن والدي دون جدوى‪،‬‬
‫أفعله في صباح اليوم التالي‪ ،‬الثامن من‬ ‫كنت ِّ‬ ‫ِ‬
‫أفكر فيما ينبغي أن َ‬ ‫أستطع النوم تلك الليلة‪ .‬فقد ُ‬ ‫لم‬
‫ذي الحجة‪ .‬ففي هذا اليوم ينطلق الحجاج إلى منى‪ .‬ماذا ينبغي أن أفعل؟ ال فائدة من البقاء في م ّكة‪ ،‬ما دام‬
‫بد لي أن أواصل هذه المناسك‬ ‫الحج في مكة‪ ،‬ال َّ‬
‫ِّ‬ ‫بدأت مناسك‬
‫ُ‬ ‫دمت قد‬
‫الحجاج سينصرفون إلى منى‪ .‬وما ُ‬ ‫ّ‬
‫بالذهاب إلى منى‪.‬‬

‫‪93‬‬
‫وجدت هناك‬
‫ُ‬ ‫ِّ‬
‫المتوجهة إلى منى‪.‬‬ ‫مشيت إلى موقف الحافالت‬ ‫ُ‬ ‫في صباح الثامن من ذي الحجة‪،‬‬
‫الحجاج الذين جاءوا ب ًار‪ .‬وكانت تلك‬ ‫ِ‬
‫مجموعات‬ ‫ِ‬
‫حافالت‬ ‫ات من الحافالت‪ ،‬بل مئات‪ ،‬باإلضافة إلى‬ ‫عشر ٍ‬
‫ّ‬
‫ٍ‬
‫حافلة كانت‪ ،‬وبعد دقائق تمتلئ الحافلة بالركاب‬ ‫لحجاج يركبون أيَّة‬
‫الحافالت تنطلق بال انتظام وال ترتيب‪ .‬فا ّ‬
‫حاج ذلك العام‪.‬‬‫فينطلق السائق بها نحو منى‪ .‬فهناك أكثر من مليون ٍّ‬

‫ٍ‬
‫شاغر في الحافلة‪ .‬واذا بالرجل الجالس في المقعد‬ ‫ست في أقرب ٍ‬
‫مقعد‬ ‫إلي‪َ ،‬و َجلَ ُ‬ ‫ٍ‬
‫حافلة َّ‬ ‫أقرب‬ ‫ركبت‬
‫ُ‬
‫َ‬
‫المجاور يقول لي‪:‬‬
‫برؤيتك"‪.‬‬
‫َ‬ ‫ال‪َّ ،‬‬
‫ولكني سعيد‬ ‫رت قلي ً‬ ‫ـ " َّ‬
‫تأخ َ‬
‫ووجنتيه‪.‬‬
‫ْ‬ ‫لت جبينه‬
‫وقب ُ‬
‫يديه‪ّ ،‬‬
‫ولثمت ْ‬
‫ُ‬ ‫أخ َرستني المفاجأة والفرحة‪ ،‬فعانقتُه‬
‫كان ذلك الرجل والدي‪ْ .‬‬
‫موقع يمكن الوصول إليه في جبل عرفات لنمضي بقية‬ ‫ٍ‬ ‫في تلك الليلة‪ ،‬اصطحبني والدي إلى أعلى‬
‫التأمل‪ .‬بدا المنظر تحتنا رهيبًا‪ :‬عشرات اآلالف من الخيام البيضاء المضاءة‪ ،‬تنتشر على‬
‫الليل في التعبُّد و ُّ‬
‫سفح الجبل وعلى التالل المحيطة به‪ .‬والقمر يضيء المشهد الجلل‪.‬‬
‫قلت لوالدي‪:‬‬
‫ُ‬
‫صح ٍة جيِّدة‪.‬‬ ‫مسرور أكثر َّ‬
‫ألنك تبدو في َّ‬ ‫ٌ‬ ‫مسرور بلقائك‪ ،‬يا أبي؛ و‬
‫ٌ‬ ‫ـ أنا‬
‫قال والدي‪:‬‬
‫َنت سعيد؟‬
‫َنت؟ هل أ َ‬
‫ـ وأ َ‬
‫قلت بنوٍع من ُّ‬
‫التردد‪:‬‬ ‫ُ‬
‫دخل جيد‪ .‬ولي كتابان‪.‬‬
‫امتلك شق ًة‪ ،‬ولي ٌ‬
‫ُ‬ ‫ـ الحمد هلل‪.‬‬
‫قال‪:‬‬
‫أنت سعيد؟ ال أدري‪ ،‬فطموحك أكبر من‬
‫يعتمل في قلبك؟ هل َ‬‫ُ‬ ‫عما تملك‪ .‬واِّنما ّ‬
‫عما‬ ‫أسألك ّ‬
‫َ‬ ‫ـ لم‬
‫لك أخوك هديةً‪:‬‬
‫أنت تضع أصبعك على أبعد األماكن في األطلس الذي جلبه َ‬‫كنت صغي اًر‪ ،‬و َ‬
‫الالزم‪ .‬فمنذ أن َ‬
‫"سأدرس هنا في أوسلو‪ ،‬أبعد نقطة في الشمال‪ ،‬وهنا في سدني في أستراليا‪ ،‬وهنا في أوستن‪ ،‬أمريكا"‪ِ .‬‬
‫اقتل‬
‫فإخوتك الذين بقوا يعملون في مزرعة القرية‪ ،‬ال‬
‫َ‬ ‫قلبك بالقناعة‪ ،‬تنل بعض السعادة وراحة البال‪.‬‬
‫الطمع في َ‬
‫يمتلكون كثي اًر‪َّ ،‬‬
‫ولكنهم سعداء في أعماقهم‪ ،‬يبذرون الحنطة والشعير‪ ،‬ويرّبون أطفالهم‪.‬‬
‫ودعت‬
‫بعد العودة من منى الى مكة وقيامنا معًا بطواف اإلفاضة حول الكعبة وانتهاء موسم الحج‪ّ ،‬‬
‫اتصلت هاتفيًا بمنزلنا في العراق‪ ،‬لالطمئنان‬
‫ُ‬ ‫يومين‬
‫وعدت إلى مقر إقامتي وعملي في الرياض‪ .‬وبعد ْ‬
‫ُ‬ ‫والدي‪،‬‬

‫‪94‬‬
‫أحسست برَّنة ٍ‬
‫حزن‬ ‫ُ‬ ‫فرحت بسماع صوتي؛ ومع ذلك‪،‬‬
‫ْ‬ ‫رفعت سماع َة الهاتف والدتي ‪.‬‬
‫ْ‬ ‫على عودة والدي سالماً‪.‬‬
‫ٍ‬
‫خفية في صوتها‪ .‬قلت لها‪:‬‬
‫ٍ‬
‫شيء على ما يرام؟‬ ‫أنت بخير ‪ ،‬هل ُّ‬
‫كل‬ ‫ـ أُمي‪ ،‬هل ِ‬
‫ّ‬
‫ـ نعم‪ ،‬الحمد هلل‪.‬‬
‫ـ هل عاد والدي من الحج سالماً معافى؟‬
‫ٍ‬
‫بشيء من الدهشة‪:‬‬ ‫قالت والدتي‬
‫َّ‬
‫ولكن مرضه المفاجئ حال دون تحقيق‬ ‫ـ لم يذهب أبوك إلى الحج هذا العام‪ .‬كان ينوي ذلك‪،‬‬
‫أُمنيته‪.‬‬
‫ـ ولكن ‪ ،‬يا أُ ّمي‪...‬‬
‫وقلت ‪:‬‬
‫ُ‬ ‫َحجمت عن إتمام جملتي‪،‬‬
‫ُ‬ ‫ثم أ‬
‫َّ‬
‫ُمي‪ ،‬أين هو اآلن ؟‬
‫ـ ولكن‪ ،‬يا أ ّ‬
‫إخوتك معه‪.‬‬
‫َ‬ ‫أسبوعين‪ .‬طبيب البلدة يزوره يوميًّا‪ ،‬وجميع‬
‫ْ‬ ‫ـ ّإنه هنا طريح الفراش منذ‬
‫ـ هل أستطيع أن أكلِّمه؟‬
‫ـ نعم‪ ،‬تفضل‪.‬‬
‫يرد تحيتي‪ .‬وقال‪:‬‬
‫وصلني صوت أبي واهناً‪ ،‬وهو ّ‬
‫برفقتك‪ ،‬يا ُبني‪.‬‬
‫َ‬ ‫سعدت ح ّقاً‬
‫ُ‬ ‫ـ لقد‬
‫‪.................................................. ...‬‬
‫وتعلمت الكثير‬
‫ُ‬ ‫جدًا بأدعيتك وصلواتك‪.‬‬
‫استمتعت ّ‬
‫ُ‬ ‫لك‪ ،‬يا أبي‪ ،‬على هذه الحجة الرائعة‪...،‬‬
‫ـ شك ًار َ‬
‫خاصة ما قلتَه لي ونحن على جبل عرفات ُبعيد صالة الفجر‪.‬‬‫َّ‬ ‫منك‪،‬‬
‫هنا تهلَّل صوت والدي ‪ ،‬وهو يقول لي‪:‬‬
‫مسرور كذلك ‪..‬‬
‫ٌ‬ ‫ـ وأنا‬

‫السر وراء‬
‫أدركت َّ‬
‫ُ‬ ‫مد ٍة قصي ٍرة ‪ ،‬وصلتني برقيةٌ من أخي األكبر ِّ‬
‫يعزيني فيها بوفاته‪ .‬عند ذلك‬ ‫بعد ّ‬
‫نت حزناً مضاعفاً‪ ،‬ال َّ‬
‫ألنني لم أ ُكن‬ ‫ِّ‬
‫الحج ذاك‪ .‬فقد كان لقاؤنا وداعًا‪ .‬فحز ُ‬ ‫أن أوافيه في موسم‬ ‫طلبه مني ْ‬
‫ألنه لم ي ُكن في استطاعتي دخول العراق ألشارك في تشييع جنازته‪،‬‬ ‫بجانبه ساعة رحيله فحسب‪ ،‬بل كذلك َّ‬
‫ُمي‪.‬‬
‫والتخفيف من أحزان أ ّ‬

‫‪95‬‬
‫أمنا تريد أن تزورني وهي في طريقها إلى م ّكة ألداء‬ ‫ال َّ‬
‫إن َّ‬ ‫إلي أحد إخوتي قائ ً‬
‫كتب َّ‬
‫في العام التالي‪َ ،‬‬
‫إخوتك َّأنني أوصيهم ببذل أقصى الرعاية وغاية اللطف بأ ّ‬
‫ُمنا‪.‬‬ ‫َ‬ ‫اخبر‬
‫ال‪ْ :‬‬‫كتبت إليه قائ ً‬
‫ُ‬ ‫العمرة‪ ،‬واّنه سيرافقها‪.‬‬
‫َسعدوها ما أمكن‪.‬‬
‫أْ‬
‫ــــــ‬

‫‪96‬‬
‫البحث عن قبر الشاعر البياتي *‬

‫قر عملي في المغرب إلى سورية‬


‫سافرت من م ّ‬
‫ُ‬ ‫في أوائل شهر تشرين الثاني‪ /‬أكتوبر‪،‬‬
‫للمشاركة في مؤتمر مجمع اللغة العر ّبية في دمشق وتقديم دراسة تتناول بنوك المصطلحات‬
‫اللفظية والمفاضلة بينهما‪ .‬كان المؤتمر سيبدأ يوم األحد‪َّ ،‬‬
‫ولكنني‬ ‫ّ‬ ‫المفهومية وبنوك المصطلحات‬
‫ّ‬
‫الجوية‪.‬‬
‫ّ‬ ‫يومْين بسبب مواعيد الرحالت‬
‫وصلت قبل َ‬
‫ُ‬

‫َّ‬
‫فاستقل حافلةً من بغداد إلى دمشق‬ ‫وعلِم أحد أشقائي األصغر ّ‬
‫مني ًّ‬
‫سنا بسفرتي هذه‪،‬‬
‫عاما من الفراق‪ .‬جاءني إلى الفندق ضحى يوم الجمعة‪ ،‬وبعد سالم‬
‫ليراني بعد أكثر من ثالثين ً‬
‫أتهيئ للخروج؟‬
‫وعناق وحديث طويل عن األهل واألصحاب‪ ،‬سألني وقد رآني ّ‬

‫ـ أين ستأخذني؟‬

‫قلت‪" :‬سنذهب إ لى ضريح الشيخ محي الدين بن عربي للبحث عن قبر المرحوم عبد‬
‫ُ‬
‫اد بعد وفاة البياتي من‬
‫ردده الن ّق ُ‬
‫أت ما ّ‬
‫وكنت قد قر ُ‬
‫ُ‬ ‫الوهاب البياتي‪ ،‬ألتلو الفاتحة على روحه‪( ".‬‬
‫صوفي ـ الشيخ ابن‬
‫ٍّ‬ ‫ود ِفن بالقرب من‬‫صوفي ـ الشيخ عبد القادر الجيالني ـ ُ‬
‫ٍّ‬ ‫ّأنه ُولِد بالقرب من‬
‫عربي ـ )‪.‬‬

‫قال أخي مازًحا‪ " :‬أَل ْم نشبع من القبور والمقابر في العراق؟"‬

‫فاخر‬ ‫ٍ‬
‫مطعم ٍ‬ ‫قلت ‪ " :‬هذا قَ َد ُرنا‪ ( ".‬وتبادر إلى ذهني ّأنه كان يرغب في اصطحابه إلى‬
‫ُ‬
‫الجبلية الرائعة‪).‬‬
‫ّ‬ ‫في أحد المصايف‬

‫القيِّم‬
‫اهتديت إلى َ‬
‫ُ‬ ‫أدينا صالة الجمعة في مسجد الشيخ محي الدين بن عربي‪،‬‬
‫بعد أن ّ‬
‫أظنه بجوار الضريح أو في فناء‬
‫كنت ّ‬
‫ُ‬ ‫على ضريح الشيخ‪ ،‬وسألتُه عن قبر البياتي الذي‬
‫المسجد‪ .‬فقال القيِّم‪:‬‬

‫‪97‬‬
‫ي وقد‬
‫أي قبر بجوار الضريح‪ ،‬ما عدا قبر األمير عبد القادر الجزائر ّ‬
‫ـ " ال يوجد ُّ‬
‫(فتساءلت في نفسي‪ :‬ومتى يستعيد العراق رفات‬
‫ُ‬ ‫استعادته الدولة الجزائرّية بعد االستقالل‪".‬‬
‫فات ٍ‬
‫مئات من نوابغه األحياء واألموات؟)‬ ‫البياتي والجواهري ور ِ‬
‫ُ‬

‫بحي الشورى‬
‫إن البياتي مدفون في مقبرة اإلمام زين العابدين ّ‬
‫وتابع القيِّم جوابه قائالً‪ّ " :‬‬
‫في جبل قاسيون‪".‬‬

‫السيارة التي وضعها مجمع اللغة العر ّبية‬ ‫َّ‬


‫نستقل ّ‬ ‫لت أن ال‬
‫وفض ُ‬
‫ّ‬ ‫جت وأخي‪،‬‬
‫شكرتُه وخر ُ‬
‫أن المقبرة في اتّجاه قمة الجبل‪،‬‬
‫اما للبياتي‪ ،‬ولم أعلم ّ‬
‫تصرفي‪ ،‬بل نسير على األقدام إكر ً‬
‫تحت ُّ‬
‫وكان علينا التسلُّق صاعدين‪ ،‬فما وصلنا إال واإلجهاد ٍ‬
‫باد علينا‪.‬‬

‫مقر محافظ‬ ‫ٍ‬


‫نت ّأنها ّ‬
‫خم ُ‬
‫اتجهت إلى بناية بين القبور ّ‬
‫ُ‬ ‫ولجت مقبرة اإلمام زين العابدين و‬
‫ُ‬
‫مت عليهم‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫بساط على األرض‪ ،‬فسّل ُ‬ ‫وجدت جماعة يتناولون طعام الغداء على‬
‫ُ‬ ‫ال‪،‬‬
‫المقبرة‪ .‬فع ً‬
‫عاما على فراق العراق‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫فعرفنا المحافظ من لهجتي التي لم يندثر لحنها بعد خمسة وثالثين ً‬
‫ِّبا وخارقاً قاعدة ( ال قيام على طعام )‪ ،‬وهو يقول بإصرار‪:‬‬
‫فنهض مرحً‬

‫تغدوا معنا‪".‬‬
‫فضلوا ّ‬
‫ـ " اإلخوة من العراق‪ ،‬أرجوكم ت ّ‬

‫نت له قصدي‪ ،‬قال‪:‬‬


‫وبي ُ‬ ‫وعندما شكرتُه ِ‬
‫معتذ ًرا‪َّ ،‬‬

‫بعيدا‬
‫لحقها وهو ليس ً‬ ‫ـ " نعم‪ ،‬ال‪ ،‬قبر المرحوم البياتي ليس في هذه المقبرة‪ ،‬واَّنما في ُم َ‬
‫من هنا‪ .‬وقد اختارت و ازرة الثقافة السورّية ذلك المكان له‪ ،‬بناء على وصيته‪ .‬وسيرافقكم ولدي‬
‫ليدّلكم عليه‪".‬‬

‫مفتاحا من على الجدار‪ ،‬وقادنا إلى نهاية الشارع‪ ،‬ثم‬


‫ً‬ ‫فنهض أحدهم من المائدة‪ ،‬وتناول‬
‫حديدي ٍة ودخلنا‪ .‬وأشار بيده إلى قبر عند يسار المدخل مباشرة‪ ،‬تظلِّله أغصان‬
‫ّ‬ ‫قفل بو ٍ‬
‫ابة‬ ‫فتح َ‬
‫‪98‬‬
‫وحيدا على ربوٍة صغيرٍة‬
‫ً‬ ‫شجرة صفصاف وارفة ينبعث منها نوح حمامة محزونة‪ .‬ويربض القبر‬
‫معالم ضريح الشيخ محي الدين بن‬ ‫ُّ‬
‫تطل على بقية القبور وعلى سفح جبل قاسيون حيث تلوح‬
‫ُ‬
‫ومئات من منائر المساجد ونواقيس الكنائس المشرعة‬
‫ٌ‬ ‫عربي‪ ،‬وأحياء كثيرة من مدينة دمشق‪،‬‬
‫نوعا ما ُكتب عليه ‪ " :‬قبر‬
‫شاهد مرتفعٌ ً‬
‫ٌ‬ ‫إلى السماء ذات الزرقة الصافية الالمتناهية‪ .‬للقبر‬
‫المرحوم الشاعر عبد الوهاب البياتي‪ ،‬تولّد العراق ‪ ،6291‬توفي ‪ 96‬ربيع آخر ‪ 6291‬الموافق‬

‫كل تلك اآلالف المؤلَّفة من العبارات الشعرّية ّ‬


‫األخاذة التي أبدعها البياتي‬ ‫‪ 3‬آب ‪ ( "6222‬بعد ّ‬

‫ونحوا ودالل ًة‪ُ ،‬كتِ ْ‬


‫بت على قبره عبارةٌ واحدةٌ فقط‪ ،‬مبتسرة ركيكة‬ ‫ً‬ ‫وأغنى بها اللغة العر ّبية لفظًا‬
‫التركيب!)‬

‫ولكن ذهني حلّق بعيداً في فضاء حزين من‬


‫ّ‬ ‫يدي ألق أر الفاتحة‪،‬‬
‫ورفعت ّ‬
‫ُ‬ ‫وقفت ُم ِ‬
‫طرقًا‪،‬‬ ‫ُ‬
‫الذكريات‪ ،‬عندما كان البياتي يقيم في مدريد بإسبانيا‪ ،‬وكان يأتيني إلى المغرب في بعض‬
‫وكنت أعلم ّأنه كان يأتي إلى المغرب ليرى مالمح‬
‫ُ‬ ‫الثقافية‪ ،‬وأحيانًا بال مناسبة‪.‬‬
‫ّ‬ ‫المناسبات‬
‫الوجوه العر ّبية وليسمع اللغة العر ّبية في الطرقات‪ ،‬وليتناهى األذان من المنائر إلى أذنيه‪،‬‬
‫ويروي عينيه باألزياء العر ّبية التي‬
‫المشيدة بالعمارة والريازة العر ّبيتين‪ّ ،‬‬
‫ّ‬ ‫وليشاهد المنازل والبنايات‬
‫قرائه العرب وهم في بيئتهم‬ ‫يرتديها الناس؛ وبعبارة أخرى كان الشاعر بحاجة لرؤية جمهور ّ‬
‫العر ّبية ليتم ّكن من قول الشعر باللغة العر ّبية‪.‬‬

‫كنت أغتنم رحالت عملي إلى الدول‬


‫الثمانينيات‪ُ ،‬‬
‫ّ‬ ‫عمان في‬
‫وعندما انتقل البياتي إلى ّ‬
‫يومْين قبل تغيير الطائرة‪ ،‬من أجل أن أستمتع‬ ‫عمان وتمضية ٍ‬
‫يوم أو َ‬ ‫اآلسيوية‪ ،‬للتوّقف في ّ‬
‫ّ‬
‫كثير ما أسأله عن تأويل بعض أشعاره‪َّ ،‬‬
‫ولكنني لم أجرؤ على استفساره عن‬ ‫كنت ًا‬‫بلقاء البياتي‪ُ .‬‬
‫أحسست َّأنه يتنبأ فيه بمكان‬
‫ُ‬ ‫مقطع ورد في ديوانه " قصائد حب على بوابات العالم السبع "‪،‬‬
‫موته ودفنه‪ ،‬وهو‪:‬‬

‫‪99‬‬
‫يديها‪ /‬فهذه األرض التي تحدها‬
‫ل َ‬‫قب ا‬
‫بعد الموت‪ /‬أحمل قاسيون‪ /‬أعيده إليها‪ /‬م ّ‬
‫دمشق َ‬
‫َ‬ ‫" عدت إلى‬
‫باب القبر‪" .‬‬
‫السماء والصحراء‪ /‬والبحر والسماء‪ /‬طاردني أمواتها وأغلقوا علي َ‬

‫وكنت في طريقي إلى باكستان ـ‬


‫ُ‬ ‫مرة ـ‬
‫رت في وقفتي الصامتة تلك كيف ّأنه ذات َّ‬
‫تذ ّك ُ‬
‫المترَجم إلى اإلنكليزّية ليطّلع‬
‫الباكستاني المعاصر ُ‬
‫ّ‬ ‫طلب إليّ أن أجلب له بعض كتب الشعر‬
‫الباكستاني الدكتور محمد سيد في آخر المقابلة ما إذا‬ ‫على ُّ‬
‫توجهاته‪ .‬وعندما سألني وزير التربية‬
‫ّ‬
‫شخصية‪ ،‬أخبرتُه عن رغبة البياتي‪ ،‬فقال بتواضع‪:‬‬
‫ّ‬ ‫كنت بحاجة إلى ّأية خدمة‬
‫ُ‬

‫عددا من‬
‫ولكنني سأخبر ً‬
‫كثير عن الشعر‪ّ ،‬‬
‫متخصص في التكنولوجيا‪ ،‬وال أعرف ًا‬
‫ِّ‬ ‫ـ " ّإنني‬
‫شعراء باكستان الالمعين بطلبك‪ ،‬وسأدعوهم من جميع المقاطعات لتناول العشاء معنا في آخر‬
‫ليلة من زيارتك‪".‬‬

‫مت ما حملتُه من مطبوعات إلى البياتي‪،‬‬‫وقد ُ‬


‫بعمان‪ّ ،‬‬
‫لت في طريق عودتي ّ‬ ‫وعندما نز ُ‬
‫عينيه‬
‫تتجمع في ْ‬ ‫شاهدت الدموع َّ‬
‫ُ‬ ‫ثم‬
‫تتغير‪َّ ،‬‬ ‫ثم توقَّف عند أحدها‪ ،‬ور ُ‬
‫أيت مالمح وجهه َّ‬ ‫تصفَّحها َّ‬
‫مثل غيوم تسوقها الريح‪ .‬سألتُه عن السبب‪ ،‬فقال‪ّ :‬إنها قصائد الشاعر المرحوم أنصاري الذي‬
‫كان زميلي في المنفى بموسكو‪.‬‬

‫قصدت‬
‫ُ‬ ‫عمان‪ ،‬وأنا في طريقي إلى إندونيسيا‪ ،‬وعندما‬
‫توقفت ذات مرة في ّ‬
‫ُ‬ ‫رت كيف‬
‫تذ ّك ُ‬
‫أن البياتي انتقل إلى دمشق قبل أيام لإلقامة فيها‪ .‬فتبادر إلى فكري‬
‫البواب ّ‬ ‫َّ‬
‫شقة البياتي‪ ،‬أخبرني ّ‬
‫ست في نفسي خيفة‪ .‬وبعد أشهر قليلة‬ ‫وتوج ُ‬
‫ي الرهيب‪ ،‬وتصاعد وجيب قلبي‪ّ ،‬‬ ‫ذلك المقطع الشعر ّ‬
‫رحل عنا البياتي إلى األبد‪.‬‬

‫‪100‬‬
‫رت غربة الشيخ محي الدين‬
‫رت غربة البياتي‪ ،‬وتذ ّك ُ‬
‫أشياء كثيرةً أُخرى‪ .‬تذ ّك ُ‬
‫رت هذا و َ‬
‫تذ ّك ُ‬
‫رت‬
‫وتذكرت غربة العراقيِّين في بالدهم‪ ،‬وتذ ّك ُ‬
‫ُ‬ ‫بن عربي الذي لم تطالب األندلس باستعادة رفاته‪،‬‬
‫استدرت خارًجا من المقبرة صامتًا‬
‫ُ‬ ‫قرقت دمعةٌ في عيني‪ ،‬وعندها‬
‫غربتي‪ ،‬وبدون أن أدري تر ْ‬
‫اجما‪ ،‬وأخي يتبعني من غير أن يتكلَّم‪.‬‬
‫و ً‬

‫ـ ـ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ـ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ـــ‬

‫أُضيفت هذه القصة من مجموعة " أوان الرحيل" القصصية‪ ،‬بناء على رغبة الناشر األستاذ خالد العاني‪ ،‬صاحب‬ ‫‪‬‬
‫وفاء منه لذكرى صديقه الراحل الشاعر عبد الوهاب البياتي‪.‬‬
‫دار الموسوعات العربية في بيروت‪ً ،‬‬

‫ا‬
‫‪101‬‬
‫لحلم‬

‫حينما أنهى دراسته في الواليات المتَّحدة األمريكية‪ ،‬رأى في نومه ُحلمًا غريباً‪ .‬رأى نفسه يقف على رأس تمثال‬
‫وتمر به الدالفين سابح ًة في جميع االتجاهات‪،‬‬
‫ثم ُيلقي بنفسه في البحر‪ ،‬ويسبح شرقًا‪ُّ ،‬‬
‫الحرية في نيويورك‪َّ ،‬‬
‫ِّ‬
‫ولكنه يواصل سباحته شرقًا حتّى يصل الشواطئ المغربية‪.‬‬‫سفن محملة بالناس وهي تتَّجه غرباً‪َّ ،‬‬
‫وتمر به ٌ‬
‫ُّ‬
‫المتنوعة واألصداف اللؤلؤية‪ .‬تطفو إحدى‬
‫ِّ‬ ‫وهناك يعوم بين الشعاب المرجانية‪ ،‬تخلب لَُّبه أشكال األسماك‬
‫لؤلؤة‬
‫ً‬ ‫المتموجة‪ ،‬فيجد في داخلها‬
‫ّ‬ ‫األصداف نحوه‪ ،‬تلتصق بجسده العاري‪ ،‬يفتحها وهو ما زال في المياه‬
‫بيضاء مشرب ًة بحمرة‪ ،‬كبيرة الحجم‪ ،‬رائعة الشكل‪ ،‬لم َير مثلها من قبل‪ .‬فيخرج بها من الماء الى الشاطئ‪،‬‬
‫َ‬
‫ينظر إلى اللؤلؤة النادرة‪ ،‬فتبتسم له الدنيا‪ ،‬ويشعر بأنه أغنى الناس وأسعدهم‪.‬‬

‫ظل َّ‬
‫يتذكر جميع تفاصيله‪ ،‬بعكس معظم‬ ‫الحلم في الصباح‪ ،‬على الرغم من َّأنه َّ‬ ‫لم ُي ِعر با ً‬
‫ال لهذا ُ‬
‫الخاصة في‬
‫َّ‬ ‫فسره بطريقته‬ ‫يتذكرها في صحوه‪ ،‬أو َّ‬
‫يتذكر شيئًا باهتًا منها‪َّ .‬‬ ‫األحالم التي تراوده في نومه وال َّ‬

‫تفسير األحالم‪ ،‬فهي في نظره شواغل النهار التي تظهر في الليل عندما يغفو الوعي ويفسح الطريق لالوعي‪.‬‬
‫الحلم‪.‬‬
‫تسبب في ذلك ُ‬
‫مجز هو الذي ّ‬ ‫أن انشغاله أثناء تلك األيام في الحصول على ٍ‬
‫عمل ٍ‬ ‫ال َّ‬
‫شك في َّ‬

‫عرضت عليه‬
‫ْ‬ ‫كان في تلك األيام قد دخل في مراسالت مع جامعة أريزونا في مدينة توسون التي‬
‫العمل أستاذًا فيها‪ .‬واتَّفق مع الجامعة‪ ،‬من حيث المبدأ‪ ،‬على االلتحاق بها‪ ،‬وعلى القسم الذي سيعمل فيه‪،‬‬
‫والمواد التي سيتوّلى تدريسها‪ ،‬ولم َّ‬
‫يتبق ّإال االتّفاق على مقدار الراتب الذي سيتقاضاه‪ ،‬والمزايا اإلضافية التي‬
‫سيتمتّع بها‪.‬‬

‫مدر ٌس من تلك‬
‫فس َر الحلم في ضوء رغبته في الحصول على أعلى مرتب يمكن أن يتقاضاه ِّ‬
‫ولهذا َّ‬
‫الحرة هي السائدة في جميع مرافق الحياة األمريكية‪ ،‬حتّى في‬ ‫الجامعة له مثل َّ‬
‫مؤهالته‪ .‬ففلسفة السوق ّ‬
‫الجامعات األكاديمية أثناء استخدام األساتذة‪ ،‬فرواتبهم تخضع لمبدأ العرض والطلب في االقتصاد‪ ،‬وكذلك‬
‫لألخذ و ِّ‬
‫الردب والمساومة‪.‬‬

‫الحلم نفسه بذات التفاصيل التي كانت ماثلة في ذهنه بعد أن استيقظ في‬
‫في الليلة التالية‪ ،‬رأى ُ‬
‫ثم يلقي بنفسه في البحر‪ ،‬ويسبح شرقًا حتّى يصل الشواطئ‬
‫الحرية‪َّ ،‬‬
‫الصباح‪ :‬رأى نفسه واقفًا على رأس تمثال ِّ‬

‫‪102‬‬
‫ٍ‬
‫صدفة يخرج بها إلى الشاطئ‪ ،‬ويفتحها‪ ،‬فيجد في داخلها‬ ‫المغربية‪ ،‬وهناك يعثر بين الشعاب المرجانية على‬
‫بيضاء مشرب ًة بحمرة ‪.‬‬
‫َ‬ ‫لؤلؤته النادرة‪،‬‬

‫مد ٍة وجيزٍة من‬


‫متتاليتين‪ .‬بعد َّ‬
‫ْ‬ ‫الحلم الذي يطرق باب غرفة نومه مر ْتين‬ ‫ٍ‬
‫شعر بشيء من غرابة هذا ُ‬
‫للمرة الثالثة‬
‫الحلم ذاته عاوده َّ‬
‫أن ُ‬‫الحلم‪ .‬ولكن الذي أقلقه ح ّقًا َّ‬
‫النهار وانغماسه في بحر مشاغله‪ ،‬نسي أمر ُ‬
‫ليلة ٍ‬
‫تالية طوال أكثر من أسبوع‪.‬‬ ‫كل ٍ‬ ‫تلك الليلة‪َّ .‬‬
‫وظل زائ ًار يعوده في ِّ‬

‫الحلم‪ ،‬يشعر في الصباح بشيء من الحنين إلى الوطن‪ .‬وأخذ هذا الحنين‬
‫مرة يرى فيها ذلك ُ‬ ‫وفي ِّ‬
‫كل َّ ٍ‬

‫يتصاعد شيئًا فشيئاً‪ .‬وبدون أن يدري‪ ،‬أخذ ي فتقد مآذن المساجد وقبابها‪ ،‬أشجار النخيل وسعفها المتطاير في‬
‫األعالي‪ ،‬شناشيل المباني القديمة‪ ،‬منظر العباءات التي تتلفع بها النسوة في الطُّرقات‪ ،‬أزياء الرجال العربية‪.‬‬
‫وأخذ يتلفَّت يمنة ويسرة في سيره ‪َّ ،‬‬
‫كأنه يبحث عن أهله الذين فارقهم منذ سنين‪ .‬تُرى‪ ،‬هل هنالك عالقةٌ بين‬
‫الحلم الغريب هو وليد ذلك الحنين الثاوي بين الضلوع‪ ،‬أم‬
‫الحلم العنود والحنين الذي داهمه؟ تُرى هل هذا ُ‬
‫هذا ُ‬
‫الحلم الغريب؟‬ ‫َّ‬
‫أن شعلة الحنين قد أوقدها ذلك ُ‬

‫المتكرر لذلك الحلم ذاته بنفس تفاصيله ليس عبثًا‪ ،‬بل هو رسالةٌ مقصودةٌ من ٍ‬
‫جهة‬ ‫ِّ‬ ‫أحس أن القدوم‬
‫َّ‬
‫ُ‬
‫يفكر فيها من قبل‬ ‫ٍ‬
‫وجهة لم ِّ‬ ‫َّ‬
‫يتحكم هو في مشيئتها وصيرورة إرادتها‪ .‬أهو قدره الذي يلفت نظره إلى‬ ‫ُعليا ال‬
‫يزر الشواطئ المغربية سابقًا‪ُّ ،‬‬
‫وكل ما يعرفه عنها أنه رآها ذات مرة في خريطة‬ ‫ولم ِ‬
‫ترد على باله قط؟ لم ُ‬
‫اللتين ذكرهما معلِّ ُمه في درس‬
‫األطلس الذي تصفحه في طفولته وهو يبحث عن مدينتي فاس ومكناس ْ‬
‫َّ‬
‫يتحدث عن المغرب‪ .‬كان يحسب َّأنهما تقعان على شاطئ البحر‪ ،‬غير أنه لم‬ ‫جغرافية البالد العربية وهو‬
‫يجدهما هناك فنسي أمرهما‪.‬‬

‫في تلك األثناء وفيما هو يتناول طعام الغداء في مطعم جامعته‪ ،‬اقترب من طاولته زمي ٌل مغربي لم‬
‫صيني َة طعامه‪ ،‬واتَّخذ مكانه في الطاولة ذاتها‪ .‬وراحا َّ‬
‫يتحدثان‪ .‬سأله‬ ‫َّ‬ ‫التخرج‪ ،‬وهو يحمل‬
‫ُّ‬ ‫ي ُكن قد رآه منذ حفل‬
‫زميله المغربي‪:‬‬

‫حصلت على عمل‪.‬‬


‫َ‬ ‫ـ هل‬

‫‪103‬‬
‫ـ نعم فقد وصلتني هذا الصباح رسالة من جامعة أريزونا في توسون‪ ،‬توافق فيها الجامعة على مقدار الراتب‬
‫الذي طلبته والعالوات الثانوية‪.‬‬

‫مناصب‬
‫َ‬ ‫ِ‬
‫وجود‬ ‫كنت أبحث عنك ألخبرك َّ‬
‫أن كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية في الرباط أعلنت عن‬ ‫ـ تهانينا‪ ،‬فقد ُ‬
‫ٍ‬
‫جامعية شاغ ٍرة في مجال اختصاصك‪.‬‬

‫ليلة منذ َّ ٍ‬
‫كل ٍ‬
‫مدة‪ ،‬وتتمثَّل أمام ْ‬
‫عينيه تلك اللؤلؤةُ التي يعثر‬ ‫الحلم الذي يراه في ِّ‬ ‫وهنا َّ‬
‫يتذكر صاحبنا ُ‬
‫بكل لمعانها وجمالها ورونقها‪ .‬وفجأةً يجد نفسه يمطر زميله المغربي باألسئلة عن الرباط ِّ‬
‫وكليتها‬ ‫عليها ِّ‬

‫ثم يحصل منه على عنوان الكلِّية ليبعث إليها بطلب العمل فيها‪.‬‬
‫والمعيشة فيها‪َّ ،‬‬

‫ُّ‬
‫المطل على‬ ‫الحرية‬
‫ِّ‬ ‫استقل الطائرة من نيويورك إلى الدار البيضاء‪ ،‬تراءى لعينيه تمثال‬
‫ّ‬ ‫عندما‬
‫ولكنه لم يلمح َّأيةَ دالفين‪ .‬وبعد ٍ‬
‫وهلة حين أخذت الطائرة في االرتفاع أثقل النعاس‬ ‫المحيط‪ ،‬والمياه الغزيرة‪َّ ،‬‬
‫عينيه وغفا‪.‬‬
‫ْ‬

‫ويحل الحاضر بثقل الواقع َّ‬


‫محل الماضي‬ ‫ُّ‬ ‫في الرباط‪ ،‬ينغمس في التدريس والبحث العلمي في ُكّليته‪،‬‬
‫مد ٍة يجد نفسه قد‬
‫الحلم الغريب‪ .‬وبعد َّ‬ ‫الذي يتوارى خلف ضباب األيام ِّ‬
‫بكل أحداثه وأحالمه‪ .‬وينسى ذلك ُ‬
‫بجنين غير َّأنه يجهض مبك ًار‪ ،‬فيخبرها الطبيب َّ‬
‫بأنها‬ ‫ٍ‬ ‫تخرجها‪ .‬تحمل زوجته‬
‫تزوج من إحدى طالباته بعد ُّ‬ ‫ّ‬
‫ٍ‬
‫بشيء من األسى‪.‬‬ ‫مرة ثاني ًة وتجهض كذلك فتفقد جنينًا ذك ًار كذلك‪ .‬ويشعر هو‬
‫فقدت جنينًا ذك ًار‪ .‬وتحمل َّ‬
‫قرر الزوجة أن تتَّبع إرشادات الطبيب في ضرورة مالزمة السرير خالل األشهر األولى‬
‫وفي الحمل الثالث‪ ،‬تُ ِّ‬
‫من الحمل‪ .‬وبعد حوالي تسعة شهور‪ ،‬يرى في نومه حلمه القديم الذي كان قد نسي أمره‪ .‬وفيما هو يسبح‪ ،‬في‬
‫تحس‬ ‫حلمه‪ ،‬نحو الشواطئ المغربية‪ ،‬توقظه زوجته في الفجر‪ ،‬وتطلب منه أن يأخذها إلى المستشفى ُّ‬
‫ألنها ُّ‬
‫بالمخاض‪.‬‬

‫مولودة مع بزوغ الشمس‪.‬‬


‫ً‬ ‫في المستشفى تضع الزوجة‬

‫بحمرة‪ ،‬تبتسم له ابتسام ًة‬


‫يحدق في وجهها األبيض المشرب ُ‬
‫يأخذ الطفلة بين يديه‪ .‬ينظر إليها‪ّ .‬‬
‫عجيب ًة‪ .‬يشعر بالسعادة تغمر كيانه‪ ،‬وتتغلغل في أعما ق وجدانه‪ ،‬وتسري في جميع عروقه‪ .‬فيدرك تفسير‬
‫الحلم‪.‬‬
‫ُ‬
‫‪104‬‬
‫الدكتور علي القاسمي‬
‫سيرة علمية مختصرة‬

‫ـ علي بن الحاج محمد بن الحاج عيسى بن الحاج حسين القاسمي‪ ،‬ولد في بلدة الحمزة الشرقي في محافظة‬
‫القادسية في العراق سنة ‪.2491‬‬
‫ـ كاتب وباحث عراقي مقيم في المغرب منذ سنة ‪.2491‬‬
‫ٍ‬
‫جامعات في العراق (جامعة بغداد)‪ ،‬ولبنان (الجامعة األمريكية في بيروت‪ ،‬وجامعة‬ ‫ـ تلقّى تعليمه العالي في‬
‫بيروت العربية)‪ ،‬والنرويج (جامعة أوسلو)‪ ،‬وبريطانيا (أكسفورد)‪ ،‬وفرنسا (السوربون)‪ ،‬والواليات المتحدة‬
‫األمريكية (جامعة تكساس في أوستن)‪.‬‬
‫ـ حصل على اإلجازة (مرتبة الشرف) في اآلداب‪ ،‬وليسانس في الحقوق‪ ،‬وماجستير في التربية‪ ،‬ودكتوراه‬
‫الفلسفة في علم اللغة التطبيقي‪.‬‬
‫ـ مارس التعليم في جامعة بغداد‪ ،‬وجامعة تكساس في أوستن‪ ،‬وجامعة الملك سعود بالرياض‪ ،‬وجامعة محمد‬
‫ٍ‬
‫جامعات أُخرى مثل جامعة أكستر في بريطانيا‪ ،‬وجامعة تمبرة في فنلندة‪،‬‬ ‫الخامس بالرباط‪ .‬وحاضر في‬
‫وجامعة مراوي ستي في الفلبين‪.‬‬
‫ـ عمل مدي ًار إلدارة التربية في المنظَّمة اإلسالمية للتربية والعلوم والثقافة بالرباط؛ ثم مدي ًار إلدارة الثقافة ومدي ًار‬
‫ألمانة المجلس التنفيذي والمؤتمر العام في المنظَّمة نفسها‪ ،‬ثم مدي اًر لألمانة العامة التحاد جامعات العالم‬
‫اإلسالمي‪.‬‬
‫ـ يعمل حالياً مستشا ًار لمكتب تنسيق التعريب بالرباط ‪.‬‬
‫ـ عضو مراسل في مجمع اللغة العربية بالقاهرة وفي مجمع اللغة العربية بدمشق‪.‬‬
‫ـ عضو المجلس العلمي لهيئة المعجم التاريخي للغة العربية في اتحاد المجامع اللغوية والعلمية العربية‪،‬‬
‫وعضو المجلس العلمي لمشروع الدوحة للمعجم التاريخي للغة العربية‪.‬‬

‫‪105‬‬
‫ـ عضو الهيئة االستشارية للمركز الكوري للغة العربية والثقافة اإلسالمية في سيول‪.‬‬
‫ـ عضو المجلس االستشاري لألمم المتحدة حول تقرير " التكامل الحضاري بين البلدان العربية"‪.‬‬

‫مجاالت اال هتمام‪ :‬التربية والتعليم العالي‪ ،‬تعليم العربية ومناهجها‪ ،‬علم المصطلح‪ ،‬صناعة المعجم‪ ،‬الترجمة‬
‫ونظرياتها‪ ،‬التنمية البشرية وحقوق اإلنسان‪ ،‬القصة القصيرة‪ ،‬الرواية‪ ،‬النقد األدبي المعاصر‪ .‬التاريخ الفكري‪.‬‬

‫اسات عديدة منها الكتب التالية‪:‬‬


‫ـ تناولت أعماله القصصية در ٌ‬

‫ـ عبد المالك أشهبون (الدكتور)‪ ،‬علي القاسمي‪ :‬مختارات قصصية‪ ،‬مع دراسة تحليلية (بيروت‪/‬‬
‫الجزائر‪/‬الرباط ‪ :‬دار ضفاف ودار االختالف ودار األمان‪)1122 ،‬‬
‫ـ سوسن البياتي (الدكتورة)‪ ،‬بنية النص القصصي ‪ :‬رؤية سردية في مجموعة " دوائر األحزان" لعلي‬
‫القاسمي (القاهرة ‪ :‬دار رؤية‪)1122 ،‬‬
‫ـ الحسن الغشتول (الدكتور)‪ ،‬بين الفكر والنقد ( القاهرة‪ :‬دار الكلمة‪)1122 ،‬‬
‫حساسية النص القصصي‪ :‬قراءة في مجموعة " حياة سابقة" لعلي‬ ‫ـ فيصل غازي النعيمي (الدكتور)‪ّ ،‬‬
‫القاسمي ( بيروت‪ /‬الرباط‪ :‬الدار العربية للعلوم ناشرون ودار األمان‪)1121 ،‬‬
‫ـ إبراهيم أولحيان‪ ،‬الكتابة والفقدان‪ :‬قراءة في التجربة القصصية عند علي القاسمي ( الدار البيضاء‪ :‬دار‬
‫الثقافة‪)1122 ،‬‬
‫عمان‪:‬‬
‫ـ محمد صابر عبيد (الدكتور)‪ ،‬التجربة والعلمة‪ :‬قراءة في مجموعة " أوان الرحيل" لعلي القاسمي ( ّ‬
‫عالم الكتب الحديث‪)1122 ،‬‬
‫ـ إدريس الكريوي‪ ،‬جماليات الق صة القصيرة‪ :‬دراسات في اإلبداع القصصي لدى علي القاسمي (الدار‬
‫البيضاء‪ :‬دار الثقافة‪)1121 ،‬‬
‫ـ عبد المالك أشهبون (الدكتور)‪ ،‬من خطاب السيرة المحدود إلى عوالم التخييل الذاتي الرحبة (فاس‪:‬‬
‫‪.)1111‬‬
‫ـ عبد الرحيم العالم‪ ،‬سيرة الفقدان ( الدار البيضاء‪ :‬دار الثقافة‪)1119 ،‬‬
‫ـ إحسان التميمي (الدكتور)‪ ،‬المعادل البصري في السرد العربي (الشارقة‪ :‬جائزة الشارقة لإلبداع‪.)1119 ،‬‬

‫‪106‬‬
‫ـ شرف الدين ماجدولين (الدكتور)‪ ،‬الصورة السردية في الرواية والقصة والسينما ( القاهرة‪ :‬دار رؤية للنشر‬
‫والتوزيع‪.)1112 ،‬‬
‫ـ لحسن حمامة‪ ،‬القارئ وسياقات النص (الدار البيضاء‪ :‬دار الثقافة‪.)1112 ،‬‬
‫ـ مصطفى شقيب‪ ،‬دراسة سايكولوجية عن " حياة سابقة" لعلي القاسمي (كتاب معد للطبع)‬

‫له مؤلَّفات بالعربية واإلنجليزية منها‪:‬‬


‫ـ األعمال القصصية الكاملة ( بيروت‪ :‬مكتبة لبنان ناشرون‪)1122 ،‬‬
‫ب السبعة ـ ـ رواية ـ ـ ( الدار البيضاء‪/‬بيروت‪ :‬المركز الثقافي العربي‪)1121 ،‬‬
‫ـ مرافئ الح ّ‬
‫ـ ـ معجم االستشهادات الوجيز للطلب ( بيروت‪ :‬مكتبة لبنان ناشرون‪)1121 ،‬‬

‫ـ السياسة الثقافية في العالم العربي ( بيروت‪ :‬مكتبة لبنان ناشرون‪)1121 ،‬‬

‫ـ صيّاد الآللئ‪ :‬في الفكر واإلبداع المغربي المعاصر ( الدار البيضاء‪ :‬دار الثقافة‪)1121 ،‬‬

‫اليتمن ـ ترجمةـ الطبعة الثانية‪( :‬الرباط‪ :‬منشورات الزمن‪ ، )1122 ،‬الطبعة‬


‫َ‬ ‫ـ أحلم أنشتاين‪ ،‬رواية ألَن‬
‫األولى‪ ( :‬القاهرة ‪ :‬مجلة إبداع‪. )1122 ،‬‬

‫ـ العراق في القلب‪ :‬دراسات في حضارة العراق ‪ ،‬الطبعة الثانية‪( :‬بيروت‪ :‬الدار العربية للموسوعات‪)1121 ،‬‬
‫‪ 921‬صفحة‪ .‬الطبعة األولى‪ ( :‬بيروت‪ :‬المركز الثقافي العربي‪.)1119 ،‬‬
‫ـ أوان الرحيل ‪ ،‬مجموعة قصصية ‪ ،‬الطبعة الثانية‪ ( :‬الدار البيضاء‪ :‬دار الثقافة‪ ، )1121 ،‬الطبعة االولى (‬
‫القاهرة‪ :‬دار ميريت‪.)1119 ،‬‬
‫ـ لغة الطفل العربي‪ :‬دراسات في السياسة اللغوية وعلم اللغة النفسي ( بيروت‪ :‬مكتبة لبنان ناشرون‪،‬‬
‫‪.)1114‬‬
‫ـ الترجمة وأدواتها‪ :‬دراسات في النظرية والتطبيق ( بيروت‪ :‬مكتبة لبنان ناشرون‪.)1114 ،‬‬
‫ـ النور والعتمة‪ :‬إشكالية الحرية في األدب العربي (الدار البيضاء‪ :‬دار الثقافة‪. )1114 ،‬‬
‫ـ إرنست همنغواي‪ ،‬الوليمة المتنقلة ـ ترجمة ‪ .‬الطبعة السادسة ‪( :‬القاهرة ‪ :‬دار رؤية‪ ،)1122 ،‬الطبعة‬
‫الخامسة (الرباط‪ :‬منشورات الزمن‪ ،) 1122 ،‬الطبعة الرابعة‪( :‬القاهرة‪ :‬مكتبة األسرة‪ ، )1114 ،‬الطبعة‬

‫‪107‬‬
‫الثالثة‪( :‬القاهرة‪ :‬دار ميريت‪ .)1112 ،‬الطبعة الثانية‪( :‬الرباط‪ ،‬منشورات الزمن‪ ،) 1111 ،‬الطبعة األولى‪:‬‬
‫( دمشق‪ :‬دار المدى‪.)1112 ،‬‬
‫ـ معجم االستشهادات الموسّع ( بيروت‪ :‬مكتبة لبنان ناشرون‪ 2124 ،)1111 ،‬صفحة‬

‫ـ علم المصطلح‪ :‬أسسه النظرية وتطبيقاته العملية (بيروت‪ :‬مكتبة لبنان ناشرون‪ 112،)1111 ،‬صفحة‬

‫ـ إرنست همنغواي‪ ،‬الشيخ والبحر ـ ترجمة ـ الطبعة الرابعة‪( :‬الرباط ‪ :‬منشورات الزمن‪ ،)1122 ،‬الطبعة‬
‫الثالثة‪( :‬القاهرة‪ :‬دار رؤية‪ ،) 1122 ،‬الطبعة الثانية‪ (:‬القاهرة‪ :‬دار ميريت‪ ، )1111 ،‬الطبعة األولى‪:‬‬
‫(الرباط‪ :‬منشورات الزمن‪.)1111 ،‬‬

‫ـ حياة سابقة‪ ،‬مجموعة قصصية (الدار البيضاء‪ :‬دار الثقافة‪)1111 ،‬‬

‫ـ دوائر األحزان‪ ،‬مجموعة قصصية‪ ،‬الطبعة الثانية‪( :‬الدار البيضاء‪ :‬دار الثقافة‪ .)1111 ،‬الطبعة‬
‫األولى‪(:‬القاهرة‪ :‬دار ميريت‪)1112 ،‬‬

‫ـ حقوق اإلنسان بين الشريعة اإلسلمية واإلعلن العالمي ‪ ،‬الطبعة الثانية‪(:‬القاهرة‪ :‬دار األديب كامل‬
‫الكيالني‪ ، )1111 ،‬الطبعة األولى‪ (:‬الرباط‪ :‬المعرفة للجميع‪)1112 ،‬‬

‫ـ الحب واإلبد اع والجنون‪ :‬دراسات في طبيعة الكتابة األدبية (الدار البيضاء‪ :‬دار الثقافة‪)1112 ،‬‬

‫ـ عصفورة األمير‪ :‬قصة عاطفية من طي النسيان لألذكياء من الفتيات والفتيان (بيروت‪ :‬مكتبة‬
‫لبنان‪) 1112،‬‬

‫ـ مفاهيم العقل العربي ( الدار البيضاء‪ :‬دار الثقافة‪)1119 ،‬‬

‫ـ علم اللغة وصناعة المعجم ‪ ،‬الطبعة الثالثة‪( :‬بيروت‪ :‬مكتبة لبنان ناشرون‪ . )1119 ،‬الطبعتان األولى‬
‫والثانية‪ ( :‬الرياض‪ :‬جامعة الرياض‪.)2442 ،2492 ،‬‬

‫‪108‬‬
‫ـ المعجمية العربية بين النظرية والتطبيق ( بيروت ‪ :‬مكتبة لبنان‪)1112 ،‬‬

‫ـ صمت البحر ـ مجموعة قصصية ـ ( الدار البيضاء‪ :‬دار الثقافة‪)1112 ،‬‬

‫ـ رسالة إلى حبيبتي ـ مجموعة قصصية ـ (الدار البيضاء‪ :‬دار الثقافة‪)1112 ،‬‬

‫ـ مرافئ على الشاطئ اآلخر‪ :‬روائع القصص األمريكية المعاصرة‪ .‬الطبعة الثانية‪( :‬القاهرة‪ :‬دار رؤية‪،‬‬
‫‪ ،) 1122‬الطبعة األولى‪ ( :‬بيروت‪/‬الدار البيضاء‪ :‬أفريقيا الشرق‪)1112 ،‬‬

‫ـ الجامعة والتنمية ( الرباط‪ :‬المعرفة للجميع‪)1111 ،‬‬

‫ـ من روائع األدب المغربي‪ :‬قراءات ( الرباط‪ :‬منشورات الزمن‪)1111 ،‬‬

‫ـ معجم االستشهادات ( بيروت‪ :‬مكتبة لبنان ناشرون‪)1112 ،‬‬

‫ـ التقنيات التربوية في تعليم العربية لغير الناطقين بها ( الرباط‪ :‬اإليسيسكو‪)2442 ،‬‬

‫عدة‬
‫المنسق ـ ‪ 2299‬صفحة‪( .‬طُبع بعد ذلك ّ‬
‫ِّ‬ ‫ـ المعجم العربي األساسي (باريس‪ :‬األلكسو‪/‬الروس‪ )2414 ،‬ـ‬
‫طبعات مقرصنة)‪.‬‬

‫ـ مقدمة في علم المصطلح‪ ،‬الطبعة الثانية‪ ( :‬القاهرة‪ :‬مكتبة النهضة‪ ،)2411 ،‬الطبعة األولى‪ ( :‬بغداد‪:‬‬
‫الموسوعة الصغيرة‪.)2412 ،‬‬

‫ـ القصة البوليسية (بغداد‪ :‬الموسوعة الصغيرة‪ )2419 ،‬ـ مترجمة عن جوليان سيمونزـ‬

‫ـ معجم مصطلحات علم اللغة الحديث (بيروت‪ :‬مكتبة لبنان‪ )2412 ،‬ـ مع آخرين ـ‬

‫ـ اتجاهات حديثة في تعليم العربية للناطقين باللغات األخرى (الرياض‪ :‬جامعة الرياض‪)2494،‬‬

‫‪109‬‬
‫ـ مختبر اللغة (الكويت‪ :‬دار القلم‪)2491 ،‬‬
‫ـ لودفيغ هولبرغ‪ ،‬مسرحية الفلح البائس‪ :‬يبّه الساكن على الت ّل‪ .‬ترجمة ‪ .‬الطبعة الثانية‪( :‬الرباط‪:‬‬
‫منشورات الزمن‪ ،)1122 ،‬الطبعة األولى‪(:‬بغداد‪ :‬مكتبة األعظمي‪ )2424 ،‬ـ مترجمة عن هولبرغ ـ‬

‫ـ تنظيم المكتبة المدرسية ( دمشق‪ :‬دار الفكر‪ )2441 ،2441 ،2411 ، 2492 ،2491 ،2424 ،‬ـ مع د‪.‬‬
‫ماهر حمادة ـ‬

‫‪-‬‬ ‫)‪Linguistics and Bilingual Dictionaries ( Leiden: E. J. Brill, 1977, 1981, 1983‬‬
‫‪-‬‬
‫‪-‬‬ ‫)‪Modern Iraqi Short Stories (Baghdad: Ministry of Culture, 1969‬‬

‫العنوان‪:‬‬
‫عنوان البريد اإللكتروني‪alkasimi@gmail.com :‬‬

‫‪110‬‬
111

You might also like