Professional Documents
Culture Documents
الحب في أوسلو
الحب في أوسلو
الحب في أوسلو
قصص
بيروت 4102
1
المحتويات
الصفحة القص ة
29 الحج
ّ ــ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
2
3
الجريمة الكاملة
0
مت
صم ُ
شر قتلةَّ .
رت أن أقتلها َّ
قر ُ
عزمت على االنتقام من هذه المرأةَّ .
ُ وفي ثورة غضبي العارمة،
على تصفيتها جسديًا والغاء حياتها ،انتقامًا لأللم الذي سبَّبتْه لي ،واإلهانة التي ألحقـتْها بي ،ظلماً وعدواناً.
سأرتكب الجريمة الكاملة التي يحلم بها عتاة المجرمين وأفذاذ المخطِّطين االستراتيجيِّين؛ يساعدني
في ذلك مخزون قراءاتي ألكثر من ألف رو ٍ
اية بوليسيَّة ،ودراساتي الجامعية العليا في القانون الجنائي ،وما
بكل تواضع ـ من ٍ
ذكاء متوقِّد ،وكتاباتي عن القصة البوليسيَّة وقواعدها وطريقة بنائها ،وكيفيَّة ُع ِرف عني ـ ِّ
عمل المخبرين البوليسيِّين للكشف عن دروب الجريمة ودهاليزها المظلمة واحدًا واحداً ،وتصنيف الوقائع
4
ثم تُمحيصها كيما تقود إلى الواقعة التي تليها ،دون إهمال أي ِ
َّة كل و ٍ
اقعة في مكانهاَّ ، واحدةً واحدة ،ووضع ِّ
لكل جر ٍ
ألن ِّ
يمة دافع، لن يعثر جهابذة المخبرين وال عباقرة المحقِّقين على الفاعل في جريمتي مطلقًاّ ،
كل جر ٍ
يمة مستفيد ،وتقوم بين القاتل مادة سامة ،إلخ ،.ووراء ِّ
مسدسَّ ، يمة تنفّذ بسالح :سكينّ ، وكل جر ٍ
َّ
والمقتول عالقة ما .وهذه العناصر كلُّها يصعب ُّ
التأكد منها ،أو حتى الوصول إليها ،في حالة جريمتي.
4
بيد َّ
أن الدولة كانت تطمح إلى شيء من التغيير البطيء والتطوير اليسير .ففتحت جامعةً في َ
اء من البالد العربية والغربية .وكانت من الذكاء بحيث سمحت للجاليات
العاصمة ،واستقدمت أساتذةً وخبر َ
5
خاصة بها ،كيما تخفِّف من رتابة الحياة على أبناء تلك الجاليات .فكان لألمر ّ
يكيين َّ الغربية بفتح نو ٍاد
نسيين مثله ،ولأللمان ناديهم .ويرتاد الخبراء الغربيون وعائالتهم هذه النوادي والبريطانيين ٍ
خاص بهم ،وللفر ّ
ٌّ ناد ّ
َّ
السينمائية اليوميَّة، في األماسي بعد انتهاء العمل ،حيث يجدون المشروبات الكحولية وغيرها ،والعروض
عادة
ً والمسبح المختلط ،وغيرها من وسائل الترفيه التي اعتادوا عليها في بلدانهم .وهذه النوادي ال يرتادها
محرم ًة على أبناء البالد.
ّ غير أبناء تلك الجاليات .وطبعًا كانت
3
ـ ال شيء ،لماذا؟
ـ ُّ
أود أن أدعوك للذهاب معي إلى النادي حيث سيعرض اليوم فيلم " كازبالنكا" .واذا لم ت ُكن قد شاهدته من
ُّ
يستحق المشاهدة. فإنه
قبلّ ،
الهندية الجميلة؟
ّ ـ َمن هي تلك
ـ وهي عزباء.
ـ كيف؟
ـ سأشرح لك الحقاً.
كنت سأسأله عن الكيفية التي تعمل فيها تلك الشابة العزبة في البالدَّ ،
ألن السلطات ال تسمح بقدوم ّأية امرأة ُ
عادة ،بل ال تسمح بسفر المواطنات داخل البالد
ً إلى البالد مالم يرافقها ُم ِ
حرم ،أي زوجها أو أبوها أو أخوها
ال:
وقدمني إلى تلك الهندية قائ ً
ولكن زميلي واصل السير نحو نضد المشروباتّ ،حرمَّ . دون أن يرافقهن ُم ِ
أقدم ِ
لك الدكتور سمير ،رئيس قسمنا. ـ دكتورة مادهو ،يسعدني أن ّ
شفتيها.
تسمت على ْ ٍ
فرحة خفيفة ار ْ ِ
وبابتسامة رحبت بي به ٍزة خفيفة من رأسها الجميل،
ّ
إلي وقال:
التفت ّ
َ ثم
َّ
فأضافت مبتسمة:
ْ
ذت.
فت وتل ّذ ُ
تشر ُ
ـ ّ
كنت أعرف الرجال المحيطين بها فقد كانوا من زمالئي في الجامعة ،فاكتفيت بهزة رأس وابتسامة ،لئال أقطع
ُ
أنصت إليهم دون أن أشارك فيه.
ُ وبقيت
ُ حديثهم َّ
مدةً طويلة .واصلوا الحديث
ُّ
التوج ه إلى صالة العرض السينمائي التي كانت في الهواء الطلق. سرعان ما قُ ِرع ٌ
جرس داعياً الحاضرين إلى
فقلت لزميلي الدكتور روبرتسن:
بالتوجه إلى دورة المياهُ .
ّ أهم فيها
كنت ُّ
دق ذلك الجرس في اللحظة التي ُ
ّ
7
ـ سألتحق بكم بعد لحظات ،أرجو أن تحجز لي مقعداً بينك وبين الدكتورة مادهو.
وجدت الدكتورة مادهو واآلخرين قد جلسوا في الصفوف األمامية ُ عدت إلى مكان العرض،
ُ َّ
ولكنني عندما
شاغر بجانب الدكتورة مادهو .ال ُب َّد أن زميلي قد ترك كرسيًا فارغًا بينه وبينها
ٍ أي ٍ
مقعد ُّ
يوجد ُّ األربعة ،وال
جلست
ُ ولكن أحدهم جلس عليه ،ولم يجرؤ زميلي على الكالم معه لمنعه َّ
ألن عرض الفيلم قد بدأ .ولهذا فقد َّ
في الصف الخامس وحدي تقريباً.
ت واقف ًة،
هب ْ
علي ،حتّى ّ
إن وقع بصرها َّ ِ
التفتت الدكتورة مادهو إلى الخلف ،وما ْ ٍ
لحظات قليلة، بعد
ذت بجرأتها .فلم أقُل شيئاً ،بل واتَّجهت نحوي ،وجلست في المقعد الشاغر بجانبي ،دون أن تقول شيئًا .أ ِ
ُخ ُ
ٍ
خفيفة عن شكري وعرفاني .بتلك الجرأة العجيبة ،وضعت الدكتورة مادهو نهايةً للمطاردة ٍ
بابتسامة رت
عب ُ
ّ
ِّ
الحب .وبعد ذلك تبدأ عادة بين الرجل والمرأة ،قبل أن يتأ ّكدا أنهما قد وقعا في
ً التقليديَّة اللذيذة التي تجري
مطاردةٌ من نوع آخر.
2
كل ٍ
يوم بعد العمل تقريباً .لم ن ُكن نلتقي في حميمين .كنا نلتقي مساء ِّ
ْ صديقين
ْ أصبحت ومادهو
ُ
إما في شقَّتي أو في الفيال التي تسكن ثمة ٍ ٍ
عامة ،بل كنا نلتقي ّ
مقاه وال حدائق َّ عامة ،فليس َّ
مقهى أو حديقة ّ
ً
وعينت حارسًا يجلس أمام باب الفيال،حرمّ ،فيها .كانت الجامعة قد اكترت فيال لسكنى أربع أُستاذات بدون ُم ِ
أي رجل من الدخول .والظاهر َّ
أن الجامعة كانت من الغباء بحيث اختارت لشغل هذه الوظيفة طبعاً لمنع ِّ
مليًاَّ ،
تأكد لي َّ
أن شيخاً ضعيف البصر ،أو ربَّما فقد بصره منذ ُم َّد ٍة طويلة .ولكن بعد أن ف ّك ُ
رت في األمر ّ
الجامعة كانت تتمتع بالذكاء والدهاء ،فاختارت الحارس ضعيف البصر ثقيل السمع عن قصد وتدبير ،كيال
َّ
خدماتهن تشدد الخناق على األستاذات األجنبيات األربع فتن ّفر َّ
هن من البقاء في البالد ،وهي التي بحاجة إلى ّ
لتدريس قسم البنات في الكلية الطبية ،فسمحت لهن بالقدوم إلى البالد من غير أن يرافقهن ُم ِ
حرم.
8
كنت اتَّفق مع مادهو على موعد زيارتي ،وتحرص هي على ترك باب الفيال مواربا غير موصد
لهذاُ ،
مكونة من ٍ ِّ
ألدخل بكل هدوء عند وصولي ،دون أن أسّلم على الحارس القاعد أمام الباب .كانت الفيال ّ
جناح منهما على غرفتَي نوم وبقية المرافق .وكانت زميلتها في الجناح أستاذةٌ إنكليزيَّة
ٍ جناحين يشتمل ُّ
كل ْ
اسمها مورين غالباً ما تشارك هي واألُستاذتان األخريان في االحتفاالت التي تنظّمها الدكتورة مادهو بمناسبة
بعض األعياد الهندية .والهنود من أكثر الشعوب عناية باألعياد والمهرجانات ،فهم يغتنمون جميع المناسبات،
غناء ورقصًا .فهناك أعياد كثيرة بمناسبة ميالد آلهتهم وما أكثرهم،
ً أو يخلقون المناسبات ،لالحتفال بها
بأول أيام
وبمناسبة زفافهم ،وبمناسبة سفرهم ،وبمناسبة حروبهم ،وبمناسبة انتصاراتهم .والهنود ال يحتفلون ّ
كل ٍ
شهر ،وببزوغ القمر ،واكتمال القمر ،وأفول القمر ،وبمولد األطفال ،وبلوغ بأول ِّ
السنة فقط ،بل يحتفلون َّ
زرت مادهو في ِفلّتها ،ألفيتُها وزميلتَها مورين قد أعدتا بعض
حب والزواج .فكلّما ُ
األطفال سن البلوغ ،وبال ّ
تؤديها
وكنت استمتع بسماع الموسيقى الهنديَّة مع رقصات ّ
ُ األطباق الهندية واإلنكليزية لالحتفال بمناسبة ما.
مادهو الجميلة.
خاصًا
ّ أنمي ذوقاً
أتعرف على األكالت الهندية اللذيذة ،و ّ
أخذت ّ
ُ طباخة ماهرة .ومعها
كانت مادهو ّ
بها .كانت مادهو تجيد إعداد األكالت الهنديَّة الشهيرة مثل برياني الدجاج مع الروب ،ودجاج تكا مساال،
والدجاج بالكاري ،والكباب التندوري ،واألرز البسمتي بالجمبري .وطبعًا مع السلطات الهنديَّة اللذيذة وخبز
النان الطازج .واألطباق الهنديَّة حافلةٌ بالتوابل والبهارات ،عابقةٌ بالروائح الزكية ،مزركشةٌ باأللوان الزاهية.
9
أخذت أعرف الكثير عن مادهو وحياتها السابقة .والدها ،بهاراتا جاكهاري ،من أُسرٍة
ُ وشيئًا فشيئًا،
كبيرٍة من طبقة البراهمة في الهند .والطبقات االجتماعيَّة من مخلفات العقائد الهندوسيَّة القديمة التي اخترعها
الغزاة اآلريون إلحكام سيطرتهم على البالد واالحتفاظ بالمزايا االقتصاديَّة والسياسيَّة لهم .وتزعم هذه
المعتقدات َّ
أن اإلله براهما قد خلق أربع طبقات من البشر :خلق من فمه البراهمة وهم رجال الدين ،وخلق من
المهنيون ،وخلق من
التجار والزراع و ّ
ذراعه الشاترية وهم رجال السلطة والجيش ،وخلق من بطنه الويشية وهم ّ
قدمه الشودرية وهم يمارسون األعمال الوضيعة .وهناك طبقة المنبوذين (الشانتالة) الذين ال يمسهم اآلخرون
أن ٍ
طبقة إلى أخرى .وعلى الرغم من َّ وال يختلطون بهم .وهذه الطبقات متوارثة وال يمكن لإلنسان أن ينتقل من
ويقر بالمساواة بين جميع المواطنينَّ ،
فإن كثي ًار من الهنود يمارسون دستور الهند حاليًا ال يعترف بالطبقات ُّ
كثير من العرب في الدولاالقتصادي بها ،كما يمارس ٌ
ّ االجتماعي و
ّ هذه الطقوس الطبقيَّة ،ويتأثَّر وضع الفرد
تؤكد دساتيرها المساواة وحقوق اإلنسان ،انتماءاتهم العشائريَّة وتقاليدها البالية أو والءاتهم العربيَّة التي ِّ
افية .درس والدها القانون في جامعة لندن وعاد إلى الهند ليعمل في السياسة واإلدارة
الطائفيَّة وطقوسها الخر ّ
حتّى أصبح حاكمًا لوالية إندور وسط الهند .ولمادهو خمسة إخوة أكبرهم عضو في البرلمان الهندي ،وهي
جت في
تخر ْ َّ
اللذين تتسم بهما .وبعد أن ّ
ولعل هذا أحد أسرار الدالل والغنج ْ األصغر والوحيدة في العائلة،
للتخصص في الجراحة الباطنية.
ُّ ٍ
زميلة لها اسمها ،نيليما ،إلى إنكلترة، سافرت مع
ْ الطب في إندور،
ّ كلِّية
عمل في أحد المستشفيات البريطانية في مدينة كولتشستر ،في حصلت زميلتُها على ٍ
ْ وبعد أن نالتا الشهادة،
حين لم يحالفها الحظُّ في ذلك ،على الرغم من حرصها على البقاء في بريطانيا وعدم العودة إلى الهند .ولهذا
طلبها للعمل فيها على
وقبلت تلك الكّليةُ َ
ْ ِّ
الطب. قبلت المجيئ إلى تلك الدولة الخليجيَّة للتدريس في كلِّية
عدد ٍ
كاف من األستاذات ألن تلك الكلِّية لم تحصل على ٍ الرغم من قلّة خبرتها وعدم وجود ُم ِ
حرم معهاَّ ،
للتدريس في قسم البنات ،فالكلِّية تفصل اإلناث عن الذكور في الدراسة ،طبقاً لقاعدة :ما اختلى رجل بامرأة
إال وكان الشيطان ثالثهما .والكلية حريصةٌ على مطاردة هذا الشيطان الرجيم ،وحماية الناس منه ومن أحابيله
اللعينة.
كانت مادهو في ربيعها الثالثين من العمر ،جميلة ،جذابة ،طليقة اللسان ،حاضرة البديهة ،مثقَّفة،
وتحب ِّ
الشعر وتكتبه أحيانًا .وكانت لقاءاتنا ممتعة ،استمتع فيها ُّ تمارس هواية الرسم ،وتهوى القراءة،
باالستماع إلى أحاديثها التي غالبًا ما تد ور حول أيام دراستها في الهند وبريطانيا؛ وكانت تكثر من الحديث
10
عن صديقتها الهنديَّة ،نيليما ،فلم تخ ُل رحلةٌ لها من نيليما ،ولم تفعل شيئاً ممتعاً إال ونيليما تشاركها المتعة
والهناء.
5
كنت أفضل الزواج ،في الوقت لم أ ُكن أفكر في الزواج في تلك ِّ
السن المبكرة من العمر .وفي أعماقي ُ
وقفت على كثير من الزيجات
ُ المناسب ،من امرٍأة عربيَّة تنتمي إلى الثقافة نفسها ليسهل التفاهم بيننا .فقد
بلغة أجنبي ٍ
َّة في المنزل فال التحدث ٍ
ُّ المختلطة التي باءت بالفشلَّ ،
ألن الزوج أو الزوجة أو كالهما يضطر إلى
لكل منهما. الخلفيات الفكريَّة والنفسيَّة و ِ
القيميَّة ٍّ يشعر َّأنه في بيته ،إضافة إلى اختالف
ّ
11
حاججتني مادهو في َّأنها أعرف بمشاعرها ،و َّأنها ستكون سعيدةً معي حيثما ُ
كنت .ولكي تقنعني
الحسن ميسورة الحال كانت تساعد
فتاة رائع َة ُ
أن ً الهندي ،مفادها َّ
ِّ َّ
حكمي ًة من الت ارث برأيها ،سردت لي حكاي ًة
ثم عرضت عليه الزواج منها .فأخبرها َّأنه يحبُّها ح ّقاً ولهذا فهو ال يريد لها
رجالً أعمى بين الحين واالخرَّ ،
عيني ذلك
ِّ طبيب أن يعيد البصر إلى
ٌ مدة ،استطاع أن تمضي حياتها كلَّها مع ٍ
رجل أعمى .فافترقا .وبعد َّ
ِ
تستطع مادهو أن تقنعني بحججها المستقاة من الثقافة الهنديَّة .ولم أستطع إقناعها بحججي لم
وظل األمل يراودها
المقتبسة من الثقافة العربيَّة .فبقينا أصدقاء نستمتع بالصحبة والعواطف الدافئة المتبادلةّ .
سأغير رأيي ذات ٍ
يوم وأطلب يدها للزواج. ّ في َّأنني
6
12
وكنت أمارس رياضة
ُ تقع تلك الشقّة في أحد أحياء لندن الراقية الهادئة ُيسمى " َهمستِد ڤيليج".
المشي في أرجاء مدينة لندن .فأخرج حوالي الظهر من الش ّقة ،وأسير في شارع "فتزجونز أڤنيو" في اتجاه "
أتوجه إلى شارع "أكسفورد ستريت" الذي
سويس كوتيج" .ومن هناك أسير إلى منتزه " ريجنت بارك" ومنه ّ
ينتهي بحي السوهو الشهير الزاخر بالمسارح ودور السينما ومحالت الترفيه والمطاعم المختلفة من ِّ
كل نوع:
الصينيَّة والهنديَّة واإليطاليَّة والفرنسيَّة وغيرها َّ
(ألنه ال توجد مطاعم بريطانيَّة ذات خصوصية مميزة ،فاألكلة
اإلنكليزيَّة الشعبيَّة هي ِ"فش أند تشبس" أي السمك المقلي والبطاطس المقلية).
اح أفضل.
ـ إال إذا كان لديك اقتر ٌ
عند ذاك ،أخبرتها عن احتمال تمضيتي العطلة في لندن في الشقَّة التي يعيرني إياها صديقي رجل األعمال،
اقترحت عليها أن تمضي عطلتها معي في لندن.
ُ و
ُّ
أحب لندن ومتاحفها ومسارحها .والسفر من كولتشستر إلى لندن أفضل أن أكون معك .وأنا
ـ طبعًا ،فأنا ّ
يستغرق أكثر من ساعة بالقطار ،وأجور السفر باهظة.
7
13
كنت سأسافر إلى لندن قبل مادهو بعشرة أيام .فأعطيتها رقم هاتف الشقّة في حي " همستيد فيليج"
ُ
ُّ
تستقل حافل ًة إلى حي في لندن ،واتَّفقنا على َّأنها ستهاتفني حال صولها إلى مطار هيثرو في لندنَّ ،
ثم
همستيد ڤيلج ،حيث ستجدني في انتظارها في الشقَّة.
يرن ُّ
ويرن ،وال من مرات ،وكان هاتفك ُّ هاتفتك حال وصولي إلى المطار َّ
عدة ّ َ كنت بعد الظهر؟ لقد
ـ أين َ
ُمجيب.
قلت:
ُ
أن طائر ِ
تك قد خرجت بعد الظهر لتناول طعام الغداء ،ولم أعلم َّ
ُ ثم
انتظرت طوال الصباحَّ ،
ُ ـ آسف جداً ،فقد
تأخرت .أين ِ
أنت اآلن؟ في المطار؟ استقلي الحافلة إلى همستيد ڤيلج. ّ
قلت بلطف:
ُ
بد َّأن ِك متعب ٌة من السفر هذا اليوم .أقترح أن تستريحي هذه الليلة هناك ،وفي الصباح سأكون في انتظارك
ـ ال َّ
في محطة قطار فيكتوريا.
قالت:
أعدك بذلك.
َ ـ ال أستطيع أن
قلت باستغراب:
ُ
14
ـ لماذا؟
الليلية .وسأتحدث إليها في األمر غداً صباحاً عندما تعود من ـ َّ
ألن نيليما اآلن في المستشفى تقوم بنوبتها ّ
عملها.
ٍ
شيء فعلته في فطلبت منها رقم هاتف شقَّة نيليما .و َّأول علي أن أنتظر حتّى صباح اليوم التالي.
ُ كان ّ
الصباح هو مهاتفة مادهو:
أي قطار ستستقلين هذا الصباح ،كي أنتظرك في المحطة عند وصولك؟
ـ صباح الخير ،مادهوُّ .
قلت باندهاش:
ُ
ـ لماذا؟
ـ َّ
ألن نيليما تريدني أن أبقى معها طوال العطلة الصيفيَّة.
ـ ال أفهم .هل ِ
أنت مضطرةٌ لالنصياع ألوامرها ورغباتها.
15
أغلقت الهاتف .فعندما يضع
فآثرت إنهاء المكالمة و ُ
ُ حارةً إلى رأسي،
شعرت بدماء الغضب تتصاعد َّ ُ
ٍ
شديدة، فإنه ُيصاب بخيبة أن الخطَّة ال تُنفَّذ و َّ
أن األمل ينهارَّ ، ثم يجد فجأةً َّ اإلنسان خطَّة أو يبني أم ً
الَّ ،
نفسي عميق .فمنذ أسابيع وأنا أحلم أن أمضي هذه العطلة الصيفيَّة مع صديقة جميلة ٍّ ألم ٍ
وبإحباط كبير ،و ٍ
يشتد
ّ ترافقني في نزهاتي في الحدائق ،ومشاهداتي في المسارح ،ووجباتي في المطاعم .والشعور بالوحدة
بالشبان والشابات ،وهم يتعانقون في األسواق ،ويتبادلون القُبل
ّ حينما يلفي اإلنسان نفسه وحيدًا في مكان ُّ
يعج
الحب ينتشر في لندن انتشار العصافير على أشجارها في الصيفَّ ،
كأنه بإشراقته ودفئه ّ في المنتزهات.
نؤم لندن وباريس وغيرهما من العواصم األوربية اليعوض عن سماء لندن الغائمة دوماً ،المعتمة أبدًا .ونحن ُّ
ّ
بحثًا عن الشمس ،فشمسنا أكثر إشراقا من شمسهم ،واَّنما انجذابًا لثقافتها وفنونها وجمالها والشعور فيها
بالحرية واالنعتاق من القيود.
ِّ
ِّ
ألذكرها بوعودها ،وأحاول إقناعها مرة أُخرى،
رت أن أهاتف مادهو َّ
قر ُ
في صباح اليوم التاليَّ ،
االلتحاق بي في لندن.
ـ نعم.
قلت بلطف:
ُ
ِ
فضلك. أود أن أتكلَّم مع الدكتورة مادهو ،من
ـ صباح الخير سيدتي .أنا الدكتور سميرّ ،
و ِ
أغلقت الهاتف في وجهي.
أنت ِّ
تنغص سعادتناّ ،أيها الحقير... ـ اتركناّ ،أيها الكلب ،ال تزعجناَ .
ٍ
سلطة كبيرٍة قوٍة جسمي ٍ
َّة أتحّلى بها ،أو إلي .ال ل َّ
على شتمي أو اإلساءة ّ أحد
طوال حياتي ،لم يجرؤ ٌ
ٍ
بأدب ٍ
بأدب ولطف ،فيبادلونني أدباً ٍ
وتعليم ،أحترم اآلخرين ،وأخاطبهم رجل تعلٍُّم أتمتَّع بهيبتها ،بل ّ
ألني ُ
ت في أعماق نفسي وسبَّبت
حز ْ ٍ
بلطف .ولهذا جاءت شتائم هذه الزرقاء المسمومة مفاجئ ًة مؤلمةً لي ّ ولطفاً
ألول مرة في حياتي ،شعرت بالحقد يجتاح ذاتي ،وبرغبة عارمة في االنتقام.
اضطراب ًا في صميم وجداني .و ّ
ممض ،ولحرمانها لي من صحبة مادهو ،بحيث ٍّ سأنتقم منها شر انتقام ،لما ألحقتْه بي من ٍ
ألم ّ
ٍ
أوهام .سأف ّكر مليًا في أفضل طريقة حطام و ِ
أشالء ٍ ائعة إلى ِ
فتات صيفية ر ٍ
ٍ ٍ
بعطلة لت قصور أحالمي تحو ْ
ّ
لالنتقام.
األهم
السر في عدوانيَّة هذه المرأة اتجاهي ،و ُّ
بد لي من أن أتحدث مع مادهو ّأوالً ،ألعرف َّ بيد ّأني ال َّ
َ
أتين ،بحيث تستطيع نيليما أن تملي إرادتها على مادهو ِّ
بكل سهولة. من ذلك ألعرف ماهيَّة العالقة بين المر ْ
عدة مر ٍ
يوميًا بشقة نيليما في األوقات التي أحسب َّ
أن نيليما ستكون في ات ّ أخذت اتَّصل هاتفيًا ّ ّ
ُ ولهذا
وكنت أغلق الهاتف سرعان ما أسمع صوت نيليما.
ُ احدة.
مرة و ً
المستشفى ،لعّلي أقع على مادهو َّ
فقلت بل ٍ
طف بالغ. مرةُ . ٍ
عديدة من محاوالت فاشلة ،رفعت مادهو السماعة ذات َّ وأخي ًار ،وبعد ٍ
أيام
17
ٍ
عصبية ،وأُغمي عليها، ٍ
بنوبة مرة كلمتك فيها ،أصيبت نيليما
أتحدث معك .وآخر ّ
ـ آسفة ،نيليما ال تريدني أن ّ
َّ
ولكنها اآلن في المستشفى.
قلت:
ُ
ٍ
شتائية غائمة .سأقتل هذه الحقيرة نيليما لمعت في ذهني فكرةُ الجريمة الكاملة ،كما يلمع البرق في ٍ
ليلة ْ وهنا
عن ُب ْعد .ولم استوعب الشرح المطول الذي أدلت به مادهو حول عالقتهما ،فقد كان ذهني شاردًا يضع
تصو اًر كامالً لخطّة الجريمة.
ُّ
قلت:
ُ
سمعتُها تقول:
ـ صحيح؟!
لكَّ ،
وعذبني الشوق إليك ،خالل أيام حبي ِ ـ طبعًا صحيح ،فأنا أتعلَّم من األيام والتجارب .لقد
أدركت مدى ّ
ُ
الديك
الفراق .سأذهب هذا الصباح إلى وكالة األسفار ألحجز لنا تذكر ْتين إلى الهند ،ألتشرف بمقابلة و ْ
هندي .فأنا ـ كما تعلمين ـ تسحرني االحتفاالت
ّ العزيزْين ،وأطلب يدك منهما .ولنعقد قراننا هناك في احتفال
وصحتنا ،فالحياة قصيرة ال تحتمل الغضب والحزن والنكد ،ولنرفل
ّ الهندية .نعم ،يا مادهو ،لنفرح بشبابنا
بأثواب السعادة.
18
8
اتَّفقنا أنا ومادهو على أن تأتي إلى لندن بالقطار صباح اليوم التالي عندما تكون نيليما في نوبتها في
عت من ناحيتي المستشفى ،ودون أن تخبرها بعزمنا على الزواج ،لئال تعرقل مجيئها بطر ٍ
يقة أو بأخرى .وأسر ُ
طلبت تذكر ْتين (لندن ـ بومبي ـ
ُ التوجه إلى وكالة أسفار قريبة من شقتي في حي "همستيد فيليج" ،حيث
ّ إلى
وطلبت
ُ مدة 42ساعة على األقل. بعروسين ،على أن نستريح في بومبي ّ
ْ إندور) بالدرجة األولى التي تليق
َّ
الموظف أن يحجز لي جناحًا في فندق خمسة نجوم على شاطئ البحر ،فقال في الحال: من
حجزت فيه من قبل أجنح ًة لرجال أعمال فحاز رضاهم ،ونال ثناءهم.
ُ ـ فندق "أميرة البحر" .هو األفضل .فقد
ووصلت في
ْ في اليوم التالي ظه ًار ،كنت أنتظر مادهو في محطَّة قطارات فيكتوريا في وسط لندن.
ٍ
ثمينة هدي ٍة
لهفة عريس ،وضممتُها إلى صدري مثل ّ ق عاشق ،وعانقتُها ب ِ
الموعد المتَّفق عليهّ .قبلتُها بشو ِ
حملت حقيبتها
ُ العسليتان بريقًا.
ّ محياها ،وازدادت عيناها
هبطت من السماء ،فبدت ابتسامة رضى على ّ
ْ
هندي فاخر قرب المحطَّة حيث تناولنا طعام الغداء ممزوجاً بعبارات
ٍّ ٍ
مطعم وسرت معها إلى
ُ الصغيرة،
ٍ
بكلمة تنم عن ألمي وغضبي لبقائها في كولتشستر وتفضيلها اهر ،ولم أفُه ٍ
مستقبل ز ٍ السعادة باللقاء واألمل في
سيارةً إلى مطار هيثرو.
لنستقل ّ
ّ سيارات األُجرة،
علي .وبعد الغداء ،تم ّشينا إلى موقف ّ
الحقيرة نيليما َّ
رحت أُمطرها بكلمات الغزل ،ولمسات الحنان ،وقُبالت الشوق .فأراحت رأسها
ُ سيارة األجرة،
وفي ّ
جو لندن الغائم الممطر.
كأنها تبحث عن دفء جسدي في ِّ
على صدري ويدها تحيط بخصريّ ،
ِ
تركت رسال ًة لصديقتك الدكتورة نيليما تخبرينها فيها عن سبب غيابك. ـ حبيبتي ،هل
ـ ال.
قلت:
ُ
19
ـ حبيبتي ،أخشى أن ِ
تفتقدك صديقتك ،فينتابها القلق .أقترح أن تبلّغيها بسفرنا هذا .وأنا ِّ
متأكد من َّأنها ستطير
فرحًا بمناسبة زفافنا...
قالت مادهو:
قلت:
ُ
دونت ما يلي:
استل خنج اًر مسموماً ،وبعد هنيهة من التفكيرّ ،
كنت ّاستللت قلمي كما لو ُ
ُ
ِ
أخبرك عن عزمنا أنا وسمير على الزواج .نحن اآلن في مطار هيثرو لنسافر " عزيزتي نيليما ،بغامر الفرحة،
ثم نسافر إلى إندور حيث سيقام حفل قراننا بعد أسبوع .تحياتي بعد قليل على متن طائرٍة ِّ
متوجهة إلى بومبيَّ ،
ومودتي .مادهو".
20
ِّ
وبكل الثقة الواجب توافرها بين عروس وعريسهاَّ ،
هزت رأسها كتبت.
ُ القت مادهو نظرةً سريع ًة على ما
البرقيتين.
ْ فتوجهت إلى مكتب البريد إلرسال
موافق ًةّ ،
حرصت على أن تكون صياغة البرقية هادئة محايدة ،ولكن في الوقت نفسه صادمة مفاجئة،
ُ في ذات نفسي،
فجائية الخبر العابق بنغمة الفرح المبالغ
ّ فتؤدي
أمالً في أن تفعل مفعولها المأمول في تهييج الحقيرة نيليماّ ،
ٍ
مأسوف عليها .وأكون بذلك قد نف ّذت جريمتي الكاملة ،دون َّة َّ
حادة ،فتُزَهق روحها غير نوبة عصبي ٍ
فيه إلى ٍ
ٍ
خارجية للوفاة. ٍ
أسباب شك في وجود فرد ٌّأي ٍ
أن يخامر َّ
9
ِّ
المطل على بحر العرب .وفي الصباح في بومبي ،أمضينا بقية تلك الليلة في فندق " أميرة البحر"
كنت ومادهو نتناول الفطور في حديقة الفندق المحاذية لشاطئ البحر ،ما فتح شهيتي ورغبتي في الحياة.
ُ
كنت
سر وجودي وسعادتي ،وملهمي ،وباعث انفعاالتي بجميع أطيافها وأشكالها .فطوال حياتي ُ
فالماء هو ّ
وتموجاته هور أو بحيرٍة أو ٍ
بحر أو محيط .فانسياب الماء ودفقه وزرده ّ نهر أو ٍ
مطر أو ٍ
أبحث عن الماء ،في ٍ
قلت لمادهو : وكل ر ٍ
عشة فيه تمثّل لي نبض الحياة وحركتهاُ . ومده وجزره ُّ
ّ
ٍّ
محب: ِ
بإخالص قلت
ُ
ـ َّ
إن بومبي تمثّل طيب العالقة بين العرب والهند .فهي عاصمة الهند التجارية وفي الوقت ذاته فهي تقع على
شاطئ بح ر العرب .فمنذ أقدم العصور ،يا عزيزتي ،كانت التجارة البحرية مزدهرة بين العرب والهنود .وكان
السومريون ،في األلف الثالث قبل الميالد ،يصنعون السفن العمالقة في ميناء الفاو وفي موانئ الساحل
الشرقي لجزيرة العرب ،لتنقل بضائعهم إلى الهند ،وتعود محمل ًة بالتوابل والبخور والعطور والسيوف .وقد َّ
أحب
أما اليومَّ ،
فإن بومبي هي العرب الهند منذ القدم حتّى ّإنهم أطلقوا اسمها " هند" على الجميالت من بناتهمّ .
كذلك حاضرة صناعة السينما الهنديَّة التي تجد إقباالً من المشاهدين العرب.
21
ٍ
مندمجة وتأوي أكثر من هة قصيرة في مدينة بومبي التي تتألَّف من ِ
سبع ُج ٍ
زر بعد الفطور خرجنا لنز ٍ
أن الحقيرة السيارة .وفي تلك اللحظة حلّق فكري عائدًا إلى انكلترة ،وأنا أقول في ذات نفسي :ال َّ
بد َّ انطلقت بنا ّ
ْ
فعلت
ْ أؤمل نفسي في َّ
أن تلك البرقية ورحت ِّ
ُ بعثت بها مادهو من مطار هيثرو.
ْ نيليما قد استلمت البرقيَّة التي
مفعولها ،فصعقت الحقيرة نيليما بحيث سبَّبت لها صدم ًة وكمدًا يودي بحياتها .ولكن اآلمال ال تتحقَّق دائماً،
واألحالم ال تصدق كثي ًار.
ِ
بقدومك إلى الهند؟ أنت مسرور
ـ هل َ
ٍ
بابتسامة عريضة: قلت
ُ
22
ابتسمت مادهو بانشراح وقالت:
قلت :
ُ
قلت:
ُ
ـ هذا من حسن حظي .ولكن ماذا تعنين بإعالن والدك عن استعدادك للزواج؟
ـ العادة لدى الطبقات الموسرة في الهند أن ُيعلِن األب في الصحف عن استعداد ابنته للزواجِّ ،
محدداً في
اإلعالن طبقته االجتماعية ،وعمر الفتاة ،ومهنتها ،ومقدار المهر الذي ِّ
يقدمه للعريس ،وبعض المعلومات
ثم يتل ّقى عروضًا من الخاطبين ،وتختار العائلة الخطيب األنسب ،وترتب لقاءه مع
األخرى ذات العالقة؛ َّ
الفتاة.
قلت:
ُ
23
ـ ما فهمتَه هو الصحيح .ففي الثقافة الهنديَّة والثقافات اآلسيوية التي تأثرت بها ،كما في تايلند والفلبين ،أهل
الفتاة هم الذين ِّ
يقدمون المهر للعريس .وعندما ال يفي أهلها بدفع المهر الذي وعدوا بدفعه بعد الزواج ،تقوم
خاصة في الطبقات الفقيرة ،إلى إحراق العروس في المطبخ ،كما لو كان األمر حادثًا
َّ أم العريس أحيانًا،
مؤسفاً .وعلى ٍّ
كل ،فهذه الطبقات ما زالت تمارس طقوساً هندوسيَّة قديمة .والمحزن َّ
أن بعض هذه الطقوس
ويسمى هذا الطقس بـ (الساتي) ،على الرغم من َّ
أن حي ًة مع جثة زوجها المتوفىُ ،
يقضي بإحراق الزوجة ّ
كرم المرأة وساواها
اإلسالمي الذي ّ
ِّ وتجرمه .أال ترى لماذا أنا منجذبة للدين
ِّ تحرمه
القوانين الهندية الحديثة ِّ
الخلق والحقوق ،و َّأنني في طريقي إلى اإلسالم.
بالرجل في َ
قلت لها:
ُ
بخاطبيك.
ْ حل
صة زواجك المفترض .ماذا ّ
لنعد إلى ق َّ
ـ ُ
قالت:
وحددت العائلة له موعدًا الستقباله لالتِّفاق على تفاصيل الزواج .واقترح والدي أن أذهب
ـ كان أحدهم طبيبًاَّ ،
بسيارتي إلى المطار الصطحابه كي تتاح لنا فرصة التعارف .وعندما كنا ،أنا والخاطب ،في منتصف
ّ
السيارة ،ربما ليريني رجولته
الطريق إلى ضيعة أهلي ،أبدى الدكتور الخاطب مالحظةً سلبيَّة حول قيادتي ّ
يصدق ما سمع،
ال من فضلك ." .لم ّ
انزل حا ً
وقلت لهْ " :
ُ السيارة،
أوقفت ّ
ُ ويظ ِهر مهارته .فما كان ّ
مني إال أن ُ
أعدته العائلة للخطيب المحترم.
وعدت إلى المنزل لتناول طعام العشاء الذي ّ
ُ ولكني أنزلته،
ّ
ـ ِ
أنت عجيبة يا مادهو .وماذا عن الخاطب اآلخر؟
24
أعد ركبت سيارتي وذهبت لتمضية األمسية مع صديقتي .فأنت تعرف َّ
أن لدي حساسية من الدخان ،وال ّ ُ
إن مادهو هي التي تأتينا بعريسها. المدخنين من المثقَّفين .وبعد ذلك توّقف والدي عن اإلعالن ّ
عني ،وقال ّ ِّ
اتيت بك ،فما مقدار المهر الذي تريده ،يا سميري؟
وها أنا ُ
الجدية والوقار:
قلت بنوٍع من ّ
ضحكت لنكتتها ،ثم ُ
ُ
01
في صالة االستقبال الواسعة المشرعة األبواب على الجهات األربع في إقامة العائلة ،استقبلني والداها
ولكنهم
إليّ .
لمحت شيئًا من الدهشة على وجوه أهلها عند رؤيتهم لي ،أو هكذا خيل ّ
ُ وثالثةٌ من إخوتها .وقد
َّ
رحبو بي وأكثروا من الترحاب .
ٍ
وعدد من وبعد ٍ
وقت قصير من االستراحة في غرفتي ،جاءت مادهو تدعوني لتناول العشاء مع أهلها
الضيوف .اصطحبتني إلى باحة المنزل .وفي الطريق إلى المائدة الطويلة المقامة في الهواء الطلق ،رأينا في
إن أهلها فهموا من
الحديقة سري ًار واسعًا تعلوه ناموسية (أو ُكلّة ،بالهندية) .فأشارت مادهو إلى السرير ،وقالت ّ
أعدوا سري ًار مزدوجًا مع ناموسية في الهواء
البرقية التي أخبرتهم بمجيئها مع " “ FRIENDأنها فتاة ،ولهذا ّ
جداً في الصيف والناس ينامون في الحدائق وعلى السطوح .وعندها فهمت أمارات
حار ّ
الجو ٌّ الطلق َّ
ألن َّ
الدهشة التي علت وجوه أهلها عندما اكتشفوا أن من يرافق ابنتهم "صديق" وليس "صديقة".
رجل
جلس والدها وسط المائدة ،فأجلسني إلى يمينه ،وجلست مادهو إلى يميني .وعلى يساره جلس ٌ
إلي أبوها باسم الدكتور كاظم ،طبيب العائلة ومعه زوجته والى جانبها ُّأم مادهو .وجلس إخوتها الثالثة
قدمه ّ
ّ
الندل ،كان أحدهم يقف مباشرًة خلف السيد جاكهاري .وأمام على الجانبين .ووقف خلف المدعويين ثالثةٌ من ُّ
ٍ
صغير يديه على ٍ
طبل المائدة ،جلس رجالن يمسك أحدهما بآلة السيتار الموسيقية الهندية ،واآلخر يضع ْ
أمامه .وجل ست معهما ثالث راقصات .وبعد أن انتظمت المائدة واكتملت ،أعطى السيد جاكهاري إشارة من
إلي وقال:
ثم التفت ّ
رأسه لتبدأ الموسيقى والرقص .وانهالت األطباق المتنوعة على المائدةَّ .
25
هام في وسط الهندَّ ،
فإنها ليست مدين ًة سياحية ،أضف إلى مالي وصناعي ّ
مركز ٌّ
ـ على الرغم من أن إندور ٌ
ّأنني ال أعيش في قصر حاكم الوالية باستمرار ،بل أفضل أن أعيش مع العائلة في ضيعتي هذه ،وهي بعيدة
الفنانين من
ّ طلبت هؤالء
ُ ولكني
فرق موسيقيةٌ بالقرب مناّ . عن المدينة نوعاً ما .ولذلك ال توجد ٍ
ماله أو ٌ
المعبد الهندوسي المجاور ،إكرامًا لك.
استمعت إليهما،
ُ ال أدري لماذا تسحرني موسيقى آلة السيتار الهندية وآلة الكورة اإلفريقية ،فكلما
نسب بآلة
ٌ أألنهما آلتان وتريَّتان لهما
ّ كأني على وشك النوم.وثقل في جفوني ّ ٍ
باسترخاء في بدني ٍ شعرت
أدمنت على سماعها ف ي طفولتي حينما كان أخي
ُ العود التي ابتكرها السومريون قبل آالف السنين والتي
األكبر يعزفها باستمرار وأنا في فراشي على وشك النوم؟
فقلت: ُّ
التحدث معي على انفرادُ ، ففهمت ّأنه يروم
ُ ولم يدعُ أي شخص آخر من الحاضرين،
ـ ِّ
بكل سرور.
وأحيانا يغطّي أصابعه بِ ُكم سترته قبل أن يضعها على الحذاءّ ،
فخمنت َّأنهم من طبقة المنبوذين الذين ال
سي ٍد مثل حاكم الوالية من طبقة البراهما.
يجوز لهم لمس حذاء ّ
تحدث
كانت المزرعة واسعةً جداً فذ ّكرتني بمزارع تكساس الشهيرة باتساعها ( .)Ranchesوبعد أن ّ
إلي عن محصوالت مزرعته التي ورثها عن أبيه ،وعن ذكرياته في لندن خالل سنوات دراسته
السيد جاكهاري ّ
26
في جامعتها ،وعن مسيرته السياسية واإلدارية إلى حين توليه منصب حاكم والية إندور ،سألني بصورٍة تكاد
تكون مفاجئة:
كأنه ِّ
يفكر فيما سيقول ،وقال: صمت لحظةً ّ
َ
قلت:
ُ
فأنت والدها.
ـ طبعًاَ ،
قال:
ٍ
شخصية قوية ،وتفعل ما تحسبه صوابًا. ـ ّإنها ذات
قال:
أنت.
لدي نصيحة أسديها إليك َ ـ ولهذا فإني ال َّ
أتدخل في مسألة زواجها .ولكن َّ
قال:
27
ـ أعلم ذلك.
الحب هو ُّ
كل شيء بالنسبة إليكما .ولكن بعد بضعة شهور أنت والدكتورة مادهو اآلن في ريعان الشباب ،و ُّ
ـ َ
من الزواج ،ستخمد جذوة اللهفة والرغبة ،وستواجهان الحياة سافرة الوجه بواقعها المؤلم .وبما َّ
أن الثقافة
فإنها ستجد
الدمويةّ ،
ّ الهندوسية تسري عميقًا في كيان الدكتورة مادهو وشرايينها حتّى أخر ُشعيرة من ُشعيراتها
مجتمع ال تنتمي إليه وال تنسجم تقاليده وعاداته مع منظومتها الفكرية .وحينذاك ستشعر
ٍ نفسها غريب ًة في
وشقاء ،بدل وهما
نفسيتها وسلوكها .وستمسي تعيس ًة بائسة ،وتسبِّب لك قلقًا ًّ ٍ
ً بغربة تلقي بظاللها القاتمة على ّ
السعادة التي تحلمان بها اليوم.
قلت:
ُ
تمنيت لو ِ
كنت معنا. ُ ـ رائعة جداً.
ٍ
بابتسامة ودود: سألتُها
قالت:
28
صلت بها هذا الصباح ولم ت ُكن في الشقّة.
ـ ال ،اتّ ُ
قالت:
ـ سأفعل.
يسرني.
عيني تنظر إلى حيث الهاتف لعّلني ألمح ما ّ كنت َّ
أتحدث إلى أخيها ،كانت إحدى وفيما ُ
ّ
بعد بضع دقائق عادت مادهو وهي تسير الهوينى ،مطرق ًة ،وأمارات األسى بادية على وجهها.
وقلت لمادهو:
ُ نهضت من مقعدي،
ُ
ـ عزيزتي ،ما ِ
بك؟
حزن: ٍ
بصوت فيه رَّنة ٍ قالت
ـ نيليما..
ـ ماذا؟
29
ـ نزيف في الدماغ؟!
ـ نعم.
ال.
ـ آمل أن يكون عاب اًر ،وتتماثل للشفاء عاج ً
قالت:
الدموية لديها ،أو الرتفاع مفاجئ في ضغط الدم خرج عن السيطرة ،فسبَّب ٍ
لضعف في جدران األوعية إما
ّ ـ ّ
ال في إمداد ِّ
المخ بالدم وعدم وصول األوكسجين الالزم ألنسجته. خل ً
إن الحقيرة نيليما قد نالت العقاب الذي تستحقُّه جزاء وقاحتها وعدوانها
قلت في ذات نفسي ّفي تلك اللحظةُ ،
التحقت بي في
ْ ٍ
معقولة طبيعيَّة ،و تصرفت بطر ٍ
يقة أن مادهو َّ إلي لو َّ
ولكنها لم ي ُكن في إمكانها اإلساءة َّ
عليّ .
ّ
فإن مادهو ،هي األخرى ،مذنبة ،ويجب أن تنال العقاب العادل. ش ّقتي في لندن بدون ّأية تعقيدات .ولهذا ّ
ال:
التفت إلى مادهو قائ ً
ُ وهنا
قلت:
ُ
ـ أعني هل يوجد أحد من عائلتها أو أصدقائها هناك يقف إلى جانبها في محنتها ويعودها بانتظام.
ـ ال.
قلت:
ُ
30
ـ عزيزتي مادهو ،ينبغي أن تكوني ِ
أنت إلى جانبها اآلن .ليس من المعقول أن تكون صديقتك الحبيبة ترقد
في غرفة العناية المركزة في المستشفى هناك ،وأنت هنا في فرح واحتفال .الوفاء يتطلَّب أن تكوني إلى
جانبها.
ال:
قاطعتُها قائ ً
ـ ال تقلقي من ناحيتي .سنؤجل احتفال زفافنا ،حتّى تتعافى صديقتك العزيزة .ال َّ
تترددي في العودة إلى لندن
ومساعدتها ،فواجب الصداقة يفرض ذلك .ووفاؤك لها اآلن ِّ
يؤكد لي أنك ستكوني وفية لي كذلك في
المستقبل ،و َّأن ِك ستكونين بجانبي في السراء والضراء.
أنت؟
ـ وماذا ستفعل َ
كان قصدي طبع ًا االبتعاد عن مكان نيليما وما يتعّلق بها ،ليكون انتقامي منها جريم ًة كاملة .ومن ناحية
ألتعمق في دراسة القانون الجنائي لمعرفة ما إذا كان فعلي تنطبق عليه أوصاف الجريمة.
ّ أخرى
31
السباح
قلت أل ُّمي في ٍ
يوم من أيام العطلة المدرسيَّة الصيفيَّة: يوم ُ
كان عمري اثني عشر عاماًَ ،
وكان أخي حسن في السادسة من عمره وأنهى السنة األولى االبتدائية .والنهر ال يبعد كثي ًار عن دارنا
في البلدة.
ال:
أطرقت قلي ً
ْ ُمي ،بعد أن
قالت أ ّ
ـ يا ُبنيَّ ،
إن أباك مسافر .وأ ِّ
فضل أن تنتظر ،حتّى يعود من سفره قريبًا ،ويصطحبكما معه.
قلت:
ُ
قالت:
ـ َّ
ولكن أخاك حسن ال يعرف السباحة ،وأَخشى أن يقع له مكروه.
ٍ
مناسبات عديدة: الفائتين ،كثي ًار ما تقول لي في العامين ُمي ،خالل
ْ ْ وكانت أ ّ
تعدى العاشرة.
ال ،فعمرك قد ّ
تعد طف ً ـ ال ِ
ال .لم ُ
أصبحت رج ً
َ تبك ،فقد
32
أو تقول:
ولكثرة ما َّ
رددت مقولتها هذه ،دخل في روعي أََّنني لم أعد طفالً ،وأن الفرد يبلغ مرحلة الرجولة بعد
العاشرة من العمر.
قال مستغرباً:
ـ َّ
ولكنني ال أعرف السباحة.
ال.
أصبحت رج ً
ُ يهم .سأعلِّ َ
مك .فقد ـ ال ّ
جر.
أجره ًّا
اح يجرجر رجليه ،وأنا أقوده من يده ،بل ُّ
ولكنه ر َ ربَّما لم ي ْفقه أخي حسن َّ
كل ما قلتُه عن الرجولةَّ ،
وصلنا النهر ،لم ي ُكن غيرنا على ذلك الشاطئ القري ب من دارنا .خلعنا مالبسنا ما عدا السروال
فرحين ،نأخذ حفنة من
التحتي .وضعنا مالبسنا على الشاطئ .نزلنا إلى النهر بالقرب من الحافة .رحنا نلعب ْ
حاولت أن أعلّمه السباحة ،بوضع يدي تحت
ُ ثم
الماء ونرميها إلى األعلى ،أو يرميها أحدنا على اآلخرّ .
أن الماء يخفِّف من
أظن ،على الرغم من َّ اكتشفت َّأنه أثقل مما ُ
كنت ّ ُ بطنه والطلب منه بتحريك يديه ورجليه.
رحت
ُ ِ
كلمات التشجيع .بعد ذلك تركته يلعب وحده في الماء بالقرب من الجرف ،على حين أكثرت من
ُ ثقله.
ثم أعود إليه ،وهكذا.
الَّ ،
أسبح في النهر مبتعداً عنه قلي ً
33
كنت عائداً إلى الجرف ،فلم يقع ناظري عليه .هل
أقل ،حين ُ ٍ
ساعة أو ّ نصف
ُ مضى على ذلك نحو
جار في النهر ،وال مخلوق ت في ِّ
كل االتجاهات .الماء ٍ رحت َّ
أتلف ُ ُ خرج إلى الشاطئ؟ ال أحد على الشاطئ.
فيه .أصابني هلعٌ شديد.
وفي اللحظة نفسها ،تمثَّ َل لي أبي وهو يفسِّر لي سورة يوسف في القرآن .يعقوب ّ
يحب كثي ًار أصغر
يتوهمون .يتآمرون على يوسف.حب أبيهم ،أو هكذا ّ أوالده ،يوسف .إخوة يوسف يغارون منهَّ ،
ألنه يستأثر ب ّ
يأخذونه معهم إلى البادية للَّعب ،على الرغم من اعتراض أبيهم .يذهبون به بعيداً عن القرية .يلقون به في
بئر للتخلُّص منه.
ٍ
َّ
ولكن قلبه أغرقت أخي حسن عمداً .قد ال يفعل شيئًا ،تماماً مثل يعقوب.
ُ َّ
سيتأكد ألبي َّأنني إذن
ُّ
سيظل حزينًا مكلومًا ،وال مكان لي فيه.
أمد يدي
قوتي ،وأنا ّ ِّ
اندفعت نحوه بكل ّ
ُ الح لي رأس حسن ينبثق من الماء ليس بعيداً عني.
فجأةًَ ،
بقوة خارج الماء.
قبضت على رأسه .سحبتُه َّ
ُ مددت كلتا يدي.
ُ فلت مني.
لمست شعره .جذبته من شعرهَ .
ُ إليه.
أوتيت من عزم رافعاً رأسه إلى األعلى
ُ اصلت المشي ِّ
بكل ما المست قدماي قعر النهر .و ُ
ْ غطست أنا بدوري.
ُ
إن بلغنا ات ٍ
قليلة ،ظهر رأسي في الهواء وأنا أسعل .ما ْ كدت أختنق تحت الماء .بعد خطو ٍ
ليستنشق الهواءُ ..
34
وضعت حسن على األرض ،ورجاله ما زالتا في الماء .اخذ يتنفّس بصعوبة .ويسعل .عندما
ُ الشاطئ حتّى
بصوت ُمنهَ ٍك الهث:
ٍ ٍ
عتاب أو هكذا بدت لي وقال إلي نظرَة
استطاع أن يتكّلم ،نظر َّ
غرقت.
ُ غرقت .لقد
ُ ـ لقد
قلت له:
ُ
قال:
ُذني َّ
انسدتا. دخل الماء من فمي وأنفي .وحتّى أ َ
امتألت معدتي بالماءَ .
ْ ـ
محتجًا:
ّ قال
اختنقت!
ُ ـ َّ
ولكنني
35
إلي باستغراب:
سأل وهو ينظر ّ
بجد:
قلت ّ
ُ
ـ ما معنى المانش؟
مرة.
بحر بين فرنسا وبريطانيا .وهو أعرض من هذا النهر بألف ألف ّ
ـ المانش ٌ
ط ٍ
سة رائعة. ـ سأشتري لك الحلوى اليوم بمناسبة تعلُّمك السباحة ،وقيامك بِغ ْ
ت له:
أقبل على أكل الحلوى بشهية ملحوظة .فقل ُ
مصدق ،ألنني لم أ ِ
ُعطه أي شيء من قبل: ِّ قال وهو غير
ـ صحيح؟ شك ًار.
ال؟
أنت أصبحنا رجا ً
ـ أتعرف ،يا حسن ،أنا و َ
36
ـ صحيح؟
أجبت بنبرٍة ّ
حادة جازمة: ُ
سأل :
ـ لماذا؟
قلت:
ُ
قال:
ـ ال أدري.
قلت:
ُ
فرحةً بعودتنا ،حتّى صرخ حسن بأعلى صوته قائالً: إن دخلنا المنزل ،واستقبلتنا أُمنا ِ
باسم ًة ِ ما ْ
37
غرقت.
ُ غرقت في النهر .أتعرفين؟ أنا
ُ ـ ماما ،أنا
ُغرق نفسي معه ،ولن أعود إليك. رت إذا غرق حسنَّ ،
فإنني سأ ِ ُميَّ ،أنني َّ
قر ُ صدقيني ،يا أ ّ
ـ ّ
أمي:
قالت ّ
ال من ٍ
ولد واحد. ي كليهما ،بد ً
بولد َِ َّ ـ يا لِخيبتي! يا لِ َّ
لذكاء ! لكي تنكبني َ
ــــــــــــــ ـ
38
اللُّغز !
ب وهج هذه
يخ ُ ِّ
المحيرة .لم ْ حدًا لتساؤالتي المتناسلة ٍ
معقول ،أو أجد تفسي ًار منطقيًا مقبوالً لما وقع ،يضع ّ
أهمَّية،
الحادثة بمرور السنوات الطوال ،ولم يسلبها الزمن بريقها ،كما فعل مع غيرها من الحوادث األكثر ِّ
واألبعد مغزى ،واألقوى تأثي ًار في مسيرتي.
39
علي :انجذب إليها ،أتلهف
حلول العطلة الصيفية الكتشاف أوسلو وجامعتها .فاألماكن الجديدة تمارس سح اًر َّ
ال صغي ًار في السنوات األولى
كنت طف ً حب ٍ
عارم بيني وبينها ،منذ أن ُ إلى االرتماء في ربوعها ،تنشأ عالقة ٍّ
حب االستطالع ملونًا .كانت النرويج بالذات تثير َّ
إلي أخي الكبير أطلساً ّ
من المدرسة االبتدائية ،حينما أهدى ّ
يتجمد معه شعر الرأس ،وجبالها المكلَّلة بالثلوج التي
أتخيل َبردها الذي َّ
كنت ّ ألنها في أقصى الشمالُ . لديّ ،
أتصور أهلها الفايكنغ طوال ال تذوب ،والخضرة التي ال تذبل ،والشمس التي ال تغيب ،في ِّ
عز الصيف؛ و َّ
كث الشعر ،وهم يحملون فؤوسهم في أيديهم ،ويركبون سفنهم العمالقة
القامة ،شقر الوجوه ،زرق العيونّ ،
لغزو البحار .لع َّل هذه الصورة التي هيمنت على مخيلتي هي نتيجةً للقصة التي رواها لي أبي عن سفير
عربي اسمه ابن فضالن ابتعثه الخليفة المقتدر العباسي إلى ملك الصقالبة قبل حوالي ألف عام ،فاختطفه
وظل أسي اًر لديهم أربع سنين كاملة ،حتّى استطاع أن يفلت
رجال الفايكنغ بالقرب من نهر الدانوب في أورباّ ،
تأخره. منهم ،ويعود إلى بغدادِّ ،
ويقدم تقريره إلى الخليفة العباسي عن أسباب ُ
ولجت مكتب
ُ عت إلى السفارة النرويجية في بيروت للحصول على تأشيرة الدخول .وعندماأسر ُ
الدبلوماسية
ّ بت بي كثي ًار بلغتها
رح ْ ٍ
جميل صبو ٍح بشوشَّ . ألفيت شاب ًة طويلة القوام ،ذات ٍ
وجه ُ القنصل،
أهدت لي ُكتُبًا وأدل ًة عن النرويج.
وختمت جواز سفري و ْ
ْ بالمودة،
ّ األنيقة ،فأشعرتني
قالت لي َّ
إن ثمن اغتنمت مقابلتها ورحابة صدرها ألسألها عن أرخص الطرق للسفر إلى النرويجْ . ُ
اقترحت
ْ حالة ٍ
جيدة في ألمانيا .و مستعملة في ٍ
ٍ سيا ٍرة
تذكرة السفر بالطائرة إلى أوسلو ذهاباً واياباً أغلى من ثمن ّ
علي أن أسافر بالطائرة إلى اسطنبول ثم أستقل قطار الشرق إلى أقرب مدينة ألمانية ،ميونيخ ،وهناك أشتري
ّ
أضافت ِْ
ْ شئت .و
ُ إن
بح ،أو أحتفظ بها ْ سيارًة أواصل السفر بها إلى أوسلو ،وأعود إلى بيروت ،وأبيعها بر ٍ
ّ
قائلةً:
جلست في إحدى
ُ ال إلى محطَّة القطار .وعندما
وتوجهت حا ً
هبطت من الطائرة في مطار إسطنبولّ ،
ُ
مقصورات القطار العريق األنيق الذي أدمن الترحال منذ سنة ،0883جال في خاطري جميع األدباء الذين
40
أنتجوا بعض أدبهم في هذا القطار :گراهام گرين الذي أبدع رواية عنوانها " قطار الشرق السريع" ،والشاعر
الفرنسي أپولونير الذي نظم بعض قصائده فيه .وبعد أن تحرك القطار و ِ
أخذت المشاهد الطبيعية تجري ُمقبِل ًة ّ
خطرت ببالي ْ ٍ
خاطفة ،وراح القطار يدخل في بعض األنفاق الطويلة المظلمة المخيفة، عة متز ٍ
ايدة علي بسر ٍ
َّ
ُّ
التوجس ،حتّى شيء من
ٌ رواية أگاثا كريستي البوليسية " جريمة قتل في قطار الشرق السريع" ،وداخلني
ات زائغةٌ ،ظننتُه،
ثعلبي وشاربان معقوفان إلى األعلى ونظر ٌ
ٌّ وجه
رجل له ٌ
أطل على مقصورتي ٌ إنني ،عندما َّ
ِ
أخذت المشاهد تخبو شيئًا ٍ
قصير، مسيو بوارو ،مفتش البوليس السري ،يبحث عن القاتل بيننا .وبعد ٍ
وقت
قصتي.
أفقت من غفوتي بدأت َّ
فشيئاً وغلب النعاس جفوني .وعندما ُ
ٍ
متناغمة مع تفتُّح ٍ
ابتسامة حلوٍة انفرجت شفتاها المكتنزتان عن
ْ عين ّي،
كنت أفتح فيه َ
في الوقت الذي ُ
مد ٍة ليست بالقصيرة ،كما لو كنا نعرف بعضنا منذ األزل وقد التقينا
عين ّي ،كما لو كانت تنتظر صحوتي منذ ّ َ
اآلن بعد ف ار ٍ
ق طويل ،كما لو كانت روحانا روحًا واحدة قبل أن تنفتق السماء ،وتولد الكواكب ،وتبزغ النجوم.
41
أقربه من وجهي ،وأُشبعه لثماً وعناقاً ،كما فعل بي ذلك الوجه
في أللمسه بيدي ،و ِّ
الفرحَ ،ب ْرَع َم الرغبةَ الشديدة َّ
ومن حولها بالنشوة والنشاط َّ
المالئكي .كان الشعور نفسه يفيض من مالمح تلك الفتاة ،ويغمر كل ما حولها َ
والهناء.
متقابلتين
ْ مال جسمها اللَّ ِدن الرشيق نحوي ،ومال جسدي نحوها ،مثلما يميل غصنان من شجر ْتين
وتساءلت في نفسي َمن الذي
ُ ِ
تجمعت الكلمات على الشفاه. ي غير مرئي .اقترب وجهانا ،وقد بفعل ٍ
نسيم سحر ٍّ
اهن ِّ
متردد وأنا بين النوم واليقظة: ٍ
بصوت و ٍ سيتكلَّم أ َّو ً
ال .وبدون أن أدري ،سمعتني أقول
ـ أأنا في ُحلم؟
قلت :
ُ
ِ
كلحن قصيدة ،حلوةٌ كموسيقى موزارت. كالحلم ،جميلةٌ
ولكنها حياةٌ ُ
ـ ّ
همست قائلة:
ْ
اسمك؟
َ ـ اسمي جسيكا ،وما
قلت:
ُ
ِ
بلقائك .اسمي نبيل. انتشيت
ُ ـ
قالت:
أنت مسافر؟
ـ إلى أين َ
قلت:
ُ
42
ـ إلى أوسلو.
قالت:
قلت:
ُ
ـ لماذا سالزبورغ؟
قالت:
ٍ
وبصوت خفيض: بابتسامة حيي ٍ
َّة ٍ أضافت قائل ًة
ْ ت من بصرها ،و
وغض ْ
ّ صمتت وهلة،
ْ ثم
َّ
ـ و َّ
ألنني من سالزبورغ .وأتمنى أن تأتي معي.
43
وتم له ذلك بعد أن َّ
أدوا فقرر الهرب مع عائلته إلى سويسرة عبر جبال األلب َّ ،
معارض لهمَّ ،
ٌ حين َّأنه
ال.
أغنيتهم في المهرجان لي ً
وقلت لها:
ُ العسليتين،
ْ عين ّي جسيكا
نظرت في َ
ُ
ُّ
فصمت .وراحت عيوننا تتواصل ونحن سكوت .لم ن ُكن نحتاج إلى كلمات ،الكلمات لم ِ
أجد ما أقوله،
وكنت في غاية الهناء والفرح ،كمن وجد ضالته بعد ٍ
بحث ُ العينين بصمت.
ْ تفسد صفاء الهناء المنساب من
كنت في غاية الرضا والسرور أو في
ال :إذا َ مرة قائ ً ٍ
طويلين .لم أ ُق ْل شيئًا ،فقد أوصاني أبي ذات ّ
ْ وعناء
يضر أكثر مما ينفع. منتهى الغضب والسخط ،فال تتكلَّم ،فالكالم أحياناً ُّ
َّ
ألتأكد ثم فتحتُهما،
عين َّي وهلةً َّ
أغمضت َ
ُ عثرت على السعادة الكاملة بهذه البساطة.
ُ أصدق َّأنني
لم ِّ
نهضت واقفاً بدوري ،وجهي الدهشة
ُ َّأنني في كامل وعيي ،فألفيتُها واقفةً تحمل حقيب ًة صغيرًة بيدها اليسرى.
وعيناي التساؤل .قالت:
بيد مر ٍ
تجفة وعدت ثانية إلى مقعدي ألكتب العنوان ٍ
ُ أخذت الدفتر،
ُ وناولتني دفت ًار صغي ًار أخرجتْه من حقيبتها.
ٍ
وبحركة مفاجئة مرًة أخرى ألعطيها الدفتر ،فإذا بها تلقي الحقيبة من يدها
وقفت َّ
ُ على نضد المقصورة.
ثم تستدير إلى الخلف وتغادر المقصورة
اعيها ،وتضع رأسها على كتفي دون أن تنطق بحرفَّ .
تطوقني بذر ْ
ّ
مسرعةً.
حت بيدها
مددت عنقي عبرها .وجدتها واقفة على الرصيف .رأتنيّ .لو ْ
ُ فتحت النافذة.
ُ ف القطار.
توّق َ
شفتيها .لم تُثِر دموعها استغرابي ،فقد كانت
العسليتين ،وابتسامتها لم تفارق ْ
ْ عينيها
إلي .الدموع تنهمر من ْ
ّ
44
كنت أصارع غوالً بأجفاني ،ويداي
عين ّي ،أنا اآلخر ،وأنا أحبسها بصعوبة ،كما لو ُ
الدموع تترقرق في مآقي َ
طلعت متوهج ًة في
ْ تحرك القطار وغابت عن ناظري حتى
إن ّ
مصوبتان إليها .وما ْ
َّ مقيَّدتان .وظّلت عيناي
فؤادي.
عت
نهضت من مكاني ،أسر ُ
ُ لجة األفكار المتالطمة ص ّفارةُ القطار وهو يغادر المحطة.
انتشلتني من ّ
وكأنها
مهروالً نحو باب العربة .الباب موصد .لمحتها من زجاج النافذة وهي تهرول في اتجاه باب العربةّ ،
طفقت أهرول نحو
ُ هي األخرى اتخذت ق ار اًر في اللحظة األخيرة ،أو بعد فوات األوان .تزايدت سرعة القطار.
العربة الجنوبية األخيرة .وصلتُها .بابها الذي ُّ
يطل على الس ّكة كان موصدًا كذلك .لمحتُها عبر زجاج نافذة
أن سرعة القطار قد تفاقمت، يد َّ
لمحتنيَ .ب َ
ْ إلي َّأنها هي األخرى
الباب وهي تجري بسرعة وراء القطارُ .خيِّل ّ
ساقي ،مثقالً بالخيبة ،مثخنًا بالحسرة.
َّ أجر
فعدت إلى مقصورتي ُّ ُ وغابت جيسيكا عن ناظري خلف المنحنى.
45
أن السرعة قضيةٌ نسبيةٌ تتعلَّق بذات اإلنسان ،وأحواله ،وحاجاته ،وأحاسيسه؛ وتتعلّق بسرعة المعيار الذي
و َّ
متحرك بالمقارنة ِ
به. ِّ نقيس ما هو
قلت:
ُ
قال:
العبارة سيستغرق ساعة ونصف .عليهم إفراغ ألن ركوبنا ّ ـ " أنصحك أن تغتنم هذه الفرصة لمشاهدتهاَّ ،
َّ
نستقلها ،".وأشار بيده في اتّجاه المكان الذي تستلقي فيه حوريِّة البحر. حمولتها وتنظيفها قبل أن
46
أكملت الكاتبة في إدارة جامعة أوسلو تسجيل اسمي ،وسلَّمتني بعض المطبوعات عن البرنامج
ِ ما إن
قالت لي:
الصيفي والئحة المراجع ،ومفاتيح غرفتي ،حتّى ْ
ِّ
وناولتني إياها.
ورحت ُّ
أفض ظروف الرسائل الثالثة. ُ رميت حقيبتي الصغيرة،
ُ عت إلى غرفتي.
أسر ُ
عدت إلى
ُ أنهيت قراءة الرسالة الثالثة
ُ أخذت ألتهم الحروف والكلمات والعبارات .وعندما
ُ ٍ
رسالة أبداً؟ بأي
ِّ
لت جيسيكا وهي جالسة
تخي ُ
وكرًة أُخرى راجعًا لتالوة الرسالة األولىّ .
األولى أُعيد تالوتها ،فالثانية فالثالثة؛ َّ
عينيها.
شفتيها ،والدمعة في ْ
تحرر تلك الرسائل ،البسمة على ْ
إلى منضدتها ،ممسكة قلمها بأناملها الرقيقةِّ ،
حدثتْني قليالً عن نفسها ،فهي طالبةٌ في الصباح ،تدرس المسرح في جامعة سالزبورغ،
وفي رسالتها الثانيةّ ،
ٍ
ساعات في مكتبة المدينة السينمائي بعد تخرجها .وبعد الظهر تعمل َّ
عدة َّ المسرحي أو
َّ وقد تمتهن التمثيل
الكائنة في حديقة ماربيال.
وصفت لي بعض المعالم الخالبة في مدينة سالزبورغ وما حولها ،وكيف َّ
أعدت ْ وفي رسالتها الثالثة،
لي برنامجاً حافالً لزيارتي التي تريدها أن تدوم أطول ٍ
وقت ُممكن ،وأن تكون أمتع ما ُيمكن .ستأخذني في
األول ،وفي اليوم الثاني ستصطحبني لزيارة بعض أشهر متاحف ٍ
جولة في أحياء سالزبورغ التاريخيَّة في اليوم َّ
بمجافين،
ْ مزود ٍ
صغير َّ ي المدينة ،وفي اليوم الرابع سنقوم بجولة في بحيرة سالزبورغ الشهيرة في ٍ
قارب بخار ٍّ
كل ٍ
ليلة ،سنشاهد إحدى فعاليات مهرجان سالزبورغ الموسيقيَّة أو الغنائيَّة أو المسرحيَّة أو وفي ،وفي .في ِّ
47
ِ
بانتقاء هذه المسرحيات ،والعروض األخرى، خاص ًة المسرحيَّة منهاَّ ،
ألنها تعشق التمثيل ...وستبدأ َّ الراقصة،
ابتداء من الغد ،لتضمن أفضل المقاعد ،فاإلقبال شديد على المهرجان.
ً واقتناء تذاكرها،
ُّ
أستل قلمي وورقةً من دفتر الرسائل واذا لم يهرب ذهني من قاعة الدرس طائ ًار إلى سالزبورغَّ ،
فإنني
الوقت
َ ألدبج رسال ًة غرامي ًة إلى جيسيكا ،أغتا ُل بكتابتها َّ
الموشى بالورد والزنبق والياسمينّ ، الملو ِن األوراق
َّ
الذي تطاول ،حتى أصبح عمالقاً يفوق عوج بن عنق طوالً.
أشدَّ ،
أن حصيلتي من الدراسة في جامعة أوسلو لم وبندم و ٍ
أسف ّ ٍ ٍ
بخجل شديد، اليوم
علي أن أعترف َ ّ
أتحرج من ذكر جامعة أوسلو
أحرر خالصةَ سيرتي العلميةَّ ، مشرفة وال ُيعتَّد بها .ولهذاَّ ،
فإنني عندما ِّ ت ُكن ِّ
48
يت فيها دراساتي العليا .فحتّى ترجمتي لمسرحية " يبه الساكن على التل" ألبي المسرح
بين الجامعات التي تلقّ ُ
اإلسكندنافي لودفيغ هولبرغ ،لم ت ُكن بفضل المحاضرة القيمة التي ألقاها أستاذ األدب اإلسكندنافي ،الدكتور
داغ غندرسون ،حول هذه المسرحية ونقده إياها ،واَّنما كان نتيجة قراءتي تلك المسرحية بعد عودتي إلى بغداد
أن مؤلِّفها اقتبس فكرتها من حكاية ملِ ٍك ليوم وليلة التي وردت في كتاب " ألف ليلة
خاصةً َّ
َّ واعجابي بها،
وليلة".
49
مقر اًر ،بل لقراءة
ت ُكن إقامتي في جامعة أوسلو لدراسة األدب اإلسكندنافي والنظام التربوي النرويجي ،كما كان َّ
رسائل جيسيكا ،وكتابة اإلجابات.
أذكر َّأننا كنا نتناول وجباتنا في مطعم الجامعة .وكانت بعض الطالبات النرويجيات يعملن فيه
خاصةً ،فتقترب مني
َّ األول متّى ،توليني عنايةً َّ
عطلتهن الصيفيَّة .وراحت إحداهن ،واسمها ّ نادالت خالل
بيد ٍ
بكلمات رقيقةَ . ثم أخذت تدريجيًا تالطفني وتداعبني
مكونات بعض األُكالت النرويجيةَّ ،
أحيانًا لتشرح لي ِّ
المودةَّ ،
ألن قلبي ،ببساطة ،لم ي ُكن معي ،فقد غادرني ،بال إرادة مني ،ونزل في ّ أَّني ،كما تتوقع ،لم أبادلها
محطة سالزبورغ.
ٍ
رحالت إلى بعض المناطق النرويجية أثناء عطل نهاية أن إدارة الجامعة رتَّبت لنا
أذكر كذلك َّ
ولكني ال أذكر منها اآلن سوى رحلتنا إلى مدينة برغن،
شاركت في جميع تلك الرحالتّ ،
ُ األسبوع ،وأنني
حيث استضافنا عمدة المدينة في منزله المطل على البحر وأشبعنا في وجبة الغداء من السمك السومون
والجمبري الملكي العمالق.
50
أعد أتذ ّكر منها سوى عبارتين هما" :
واللغة النرويجية التي علّمونا شيئًا منها في مختبر اللغة ،لم ُ
فوردن ستور ده تيل؟ " أي كيف حالك؟ ،و " تك تك بور ماتن" أي شك ًار للطعام.
أما غير هذه النتف القليلة الباهتة من الذكريات ،فأنا ال أستحضر شيئًا .لو سألتني عن المحاضرات
ّ
أي ٍ
أثر ،أو اء خالي ًة من ِّ ٍ التي أُلقيت علينا أو المعارف التي اكتسبتهاَّ ،
سيتحول إلى صفحة صفر َ
َّ فإن وجهي
إلى عالمة استفهام فارغة.
وضعت
ُ مؤجل حتى سالزبورغ .كال، بسيارتي ،ولم أحمل فيها شيئًا من أوسلوُّ .
كل شيء َّ انطلقت ّ
ُ
وكنت في أوقات االستراحة من
ُ إلي.
كل رسائل جيسيكا الغرامية ّ
جمعت فيها ّ
ُ على المقعد الخلفي علبة حريرية
في شيئًا من النشاط ،كما لو كانت ُّ
القيادة أو تناول الطعام ،استل إحدى تلك الرسائل ،أعيد قراءتها ،فتبعث ّ
ِّ
المركز القادم من بلدة موخا في اليمن. الب ِّن
إكسي اًر للفرح أو فنجاناً من ُ
أضعت بعض
ُ بيد ّأني
ال في الخامسة والنصف من مساء اليوم الموعودَ ،
وصلت مدينة سالزبورغ فع ً
ُ
السيارة بالقرب من المكتبة.
دقائق إليقاف ّ
َ وهدرت
ُ الوقت لالهتداء إلى حديقة ميرابال في وسط المدينة،
ِ
مدخل المكتبة وأنا أنظر إلى الساعة الجداريَّة الكبيرة المنصوبة في برج المكتبة ،وكانت تشير توجهُت إلى
ّ
51
بأن جيسيكا ستكون واقفةً هناك في المدخل ،تنتظر وصولي
إلى الدقيقة الخامسة بعد السادسة ،وكّلي ثقة ّ
ٍ
بلهفة ،وذراعاها متأهبتان لعناقي.
لم ت ُكن جيسيكا في مدخل المكتبة .ال ُب َّد ّأنها هناك في باب مكتبها ،أو في مكان ما تنتظرني على
أحر من الجمر .لم َأر جيسكا في بهو االستقبال الفسيح .كانت هناك فتيات غيرها ،ولكن ليس َّ
لهن حسنها ّ
ٍ توجهت إلى َّ
موظ ِ
بلطف عن جيسيكا ،جيسيكا باومان. فة االستقبال ،وسألتُها وبريقهاُ َّ .
َّ
الموظفة بابتسامة: قالت
انتبهت إلى َّأنني لم أ ُكن أتوّفر على عنوان منزلها ،فقد كانت جميع مراسالتها تحمل
ُ في تلك اللحظة،
فقلت بنوٍع من االنكسار:
عنوان مكتبة ميرابالُ .
ـ َّ
ولكني ال أعرف عنوان منزلها.
دونت موظَّفة االستقبال العنوان على ورقة ،وناولتني إياها وهي ِّ
تزودني ببعض الشروح لمساعدتي َّ
أركز فكري ِ
أستطع أن ِّ مرةَّ ،
ألنني لم في الوصول إلى المنزل ِب ُيسر .ومع ذلك فقد
أضعت الطريق أكثر من ّ
ُ
وال نظري على الطريق.
52
أن خطًأ ما قد كنت قد شكرت الموظَّفة ،فقد كان الذهول يسيطر َّ
علي .ال مراء في َّ ال أذكر ما إذا ُ
لدقائق معدودات؟؟
َ حصل ،واال كيف تستطيع جيسيكا أن تغادر المكتبة في هذا اليوم بالذات ،وال تنتظرني
شيء غير معقول مطلقاً.
ٌ
ٍ
انتظار عصيبةٌ بدت لي طويلة. لحظات
ُ ومرتين .وأنا أسمع الجرس.
مرًةَّ ،
عت جرس باب المنزلّ ،
قر ُ
انفتح الباب .ظهرت فتاةٌ أُخرى .ليست جيسيكا ،وال تشبهها.
ِ
بدت الفتاة َّ
كأنها لم تسمع باسمي من قبل .قالت:
ِ
بلهجة انكسار ورجاء: ال
أضفت قائ ً يهمها من قريب أو بعيد .لذلك تقل الفتاة شيئًاَّ ،
ُ كأن األمر ال ّ لم ُ
قالت:
بالدراجة.
ـ ّ
53
فنسيت أمري .ولكن هذا
ْ حبًا كبي اًر،
أحبته ّ داهمت فكري الظنونَّ .
لعل جيسيكا التقت شخصاً ّ ْ
سألت أُختها:
ُ مستحيل ،فآخر رسالة منها كانت قبل أربعة أيام فقط .ومع ذلك
ٍ
بلهجة باردة: أجابت
ـ ال صديق لها.
اع َّي ،وهي على ُبعد خطوات عديدة مني وأنا أقول
مادًا ذر َ
مت نحوها ّ
تقد ُ
علي وحدهاّ .
أقبلت ّ
ْ وأخي ًار
بلهفة:
ٍ
ابتسامة من إلي يدها اليمنى فقط لتصافحني ،دون أن تظهر على وجهها َّأيةُمدت ّ غير أن جيسيكا ّ
ٍ
رسمية وهي عبير .صافحتني بطر ٍ
يقة أي ت ٍ
مرة .كان وجهها جامدًا خاليًا من ِّ
أي نوٍع ،كما لو كنا نلتقي َّأول ّ
ِّ
أشد برودةً من وجهها.
صامتة ،لم تنطق كلمةً وال حرفًا واحداً .وكانت يدها ّ
ركبت إلى
ْ السيارة.
فتحت لها باب ّ
ُ وقالت ألختها أن تعود إلى المنزل بدراجتها.
ْ هزت رأسها موافقة،
ّ
عدت إلى وسط المدينة العتيقة .كانت المقاهي منتشرة في الهواء الطلق تحت أقواس البنايات
ُ جانبي.
قلت لها:
فطلبت مثلها .لم تفُه بشيءُ .
ُ طلبت فنجان قهوة،
ْ التاريخية وأروقتها .جلسنا في أحد المقاهي.
54
ـ هل حدث ما يحزنك؟ هل هناك ما يزعجك؟
وقت ونحن صامتان .الهواء ثقيل ،والسكون يرين ،برغم الموسيقى الكالسيكية المنبعثة من داخل
مر ٌَّ
ٍ
بابتسامة مضيفاً شيئًا من المرح إلى صوتي: فقلت
أردت أن أشيع شيئًا من البهجةُ ،
ُ المقهى.
تودين أن نذهب؟
ـ واآلن أين ّ
ٍ
خفيض: ٍ
وصوت ٍ
حازمة ٍ
بلهجة قالت
ـ إلى المنزل.
ـ وبعد ذلك؟
مساء.
ً ـ ال أستطيع الخروج
ونهضت واقفة.
ْ
ـ وغداً؟
أي ٍ
أمل بلقاء. لغيةً َّ
هزت رأسهاُ ،م ّ
ّ
التقطت علبة
ُ السيارة.
الخلفي في ّ
َّ ُّ
التفت إلى المقعد شديدين.
ْ غضب وخيبةٌ
ٌ لم ِ
أدر ما أفعل .اجتاحني
وصرخت بها قبل أن تدخل المنزل:
ُ رسائلها،
55
ـ انتظريُ .خذي هذه.
ــــــ
ب في أوسلو
الح ّ
قصةٌ واقعيةٌ أغرب من الخيال ظّلت نابضةً في قلبي ووجداني أكثر من أربعين عاماً ،أضعها اليوم
على الورق لعّلي أتخّلص منها ولو إلى حين.
سافرت إلى الواليات المتحدة األمريكية ،لمواصلة دراستي العالية للحصول على الدكتوراه في
ُ بعد أن
اتصلت هاتفيًا بصدي ٍق ٍ
قديم لي ُ استقر بي الحال وانتظمت دراستي،
َّ جامعة تكساس في أوستن ،وبعد أن
يقطن في والية مينيسوتا في شمال البالد:
56
إلي منذ أكثر من شهرْين؟
وصلت؟ لماذا لم تكتب ّ
َ سارة ،هل
ـ سليم ،هذه مفاجأةٌ َّ
ُّ
ستحل عطلة عيد الميالد التي تدوم ثالثة أسابيع ،وأنا أدعوك لتأتي إلينا هنا في طيب ،بعد حوالي شهر،
ـ ّ
مينيسوتا مع عائلتك العزيزة ،فأُمي كذلك مشتاقة لمقابلتكم .سيعجبكم الجو والمناظر الطبيعيةُّ ،
فكل شيء ّ
عما اعتدتم عليه في الصحاري العربية ،وفي تكساس الصحراوية.
مدثّر بالثلوج ،وهو يختلف تمامًا ّ
ـ تكساس ليست صحراء .ويسعدني قبول دعوتك ،يا ستيف ،فقد اشتقت إليك ،وسأوافيك بموعد وصولي ،إن
شاء اهلل.
ـ إلى اللقاء.
ويتكون من
َّ حي ار ٍ
ق، مساء إلى مينابولس ،عاصمة منيسوتا ،واهتدينا إلى المنزل ،فألفيناه في ٍّ
ً وصلنا
فيال كبيرة تحيط بها الجنائن الفسيحة من نواحيها األربع ،وحديقة المنزل األمامية غير مسيَّجة مثل بقية
تسر الناظر وتشيع البهجة في الفضاء كلِّه. ُّ
حدائق البيوت التي تطل على الشارع ،فيصبح الطريق حديقة ّ
التغيب عن
ُمه لعدم وجود زوجها ،فهو كثير ّ
أمه بنا ترحيباً بالغًا ،واعتذرت السيدة أ ُّ
رحب ستيف و ّ
ّ
المنزل بسبب ارتباطاته الكثيرة لكونه عضوًا في الكونغرس عن والية منيسوتا ،ويمضي أوقاتًا طويلة في
واشنطن دي سي العاصمة ،وأضافت قائلة:
57
شكرنا السيدة على حسن استقبالها لنا وجميل حفاوتها بنا .وبعد أن أرشدتنا إلى جناح الضيوف،
أخبرت
ْ وتركنا حقائبنا فيه ،ورجعنا إلى صالة االستقبال ،جلبت لنا الخادمة بعض المشروبات ،وبعد قليل
معدة ،فقالت السيدة:
أن مائدة العشاء ّ
سيدةَ المنزل ّ
ّ
ـ تفضلوا ،ال ُب َّد أنكم تشعرون بالجوع بعد هذه الرحلة الطويلة.
قالت زوجتي:
بكرسي ٍ
عال لولدي سامي ووضعته بين مقعدي ومقعد زوجتي التي ٍّ في صالة الطعام ،أتت الخادمة
كانت على يمين سيدة المنزل ،على حين كان ستيف يجلس في المقعد المقابل لي.
المؤثَّثة بأرائك مريحة .وحملت السيِّدة بعض ُدمى األطفال ووضعتها أمام ولدي سامي ،وهي ّ
تشجعه على
اللعب بها ،وتقول:
اللتين
السيدتين ْ
ْ حملنا أنا وستيف فنجاني قهوتنا ،وانتبذنا ركناً في صالة الجلوس مبتعدين قليالً عن
راحتا تتجاذبان أطراف الحديث ،وسامي يستكشف اللُّ َعب و ُّ
الدمى الكثيرة واحدة بعد أُخرى.
58
أمعنت النظر في وجه ستيف َّ
أتفحصه .كان أشقر كما عهدته، ُ وعندما أمسينا أنا وستيف وحدنا،
تخيم عليه وتحجب بريق الفرحة واألمل الذي عهدتُه ُّ
يطل من قسماته الوسيمة. ٍ
أسى شفيف ّ ً
ولكن غالل ًة من
وقلت :
ُ تشفت شيئًا من القهوة،
ار ُ
ذكرت لك
ُ ـ ال بأس .كما أخبرتك في رسائلي ،أزاول المحاماة في مكتب والدي ،وأحقِّق نجاحًا ملحوظًا .وكما
تخصصي هو القانون المدني ،مثل والدي تماماً ،فنحن ال نميل إلى الدفاع عن مجرمين
ُّ من قبلَّ ،
فإن
محتملين ،على الرغم من َّ
أن أجدادنا الفايكنغ كانوا يقترفون أنواعاً عديدة من اإلجرام. َ
وقلت:
ُ ضحكت
ُ
ـ ـ نعم ال أنسى ّأنهَم اختطفوا أحد سفرائنا العباسيِّين العرب في أوربا وسجنوه أربع سنوات في كهوفهم الكئيبة
ومنافح عن قضايا العرب
ٌ ٍ
محام ناجح، ولكننا نسامحهم اآلنَّ ،
ألن سليلهم ستيف تمكن من الهربَّ . حتى َّ
ال:
أضفت قائ ً
ُ يثت هنيه ًة و
تر ُ
حب ٍ
فتاة تكون شريكة حياتك. نجاح آخر .ألم تنجح في ِّ
ٍ ولكني أسأل عن
لنجاحك المهنيّ ،
َ ـ طبعًا أنا مسرور
ألن الزواج في ثقافتنا العربية ليست مسألة شخصية ،بل كنت أ ُّ
ُلح في هذا الموضوع الشخصيّ ، واعذرني إذا ُ
أعد نفسي صديقك فحسب ،بل أخاك كذلك.
تهم جميع أفراد العائلة بل العشيرة كلّها ،وأنا ال ّ
عائلية أو ّ
ٍ
فتيات افقت
وحاولت كثي ًار ،ور ُ
ُ حاولت
ُ صدقني ،سليم ،لقد
ـ وأنا ،يا سليم ،أعتبرك أخي الوحيد ،كما تعلم .ولكن ّ
إلحداهنّ .إنني لم
ّ مرة واحدة
كثيرات لوجبات في المطاعم ،ونزهات في الحدائق ،ولكن قلبي لم يخفق وال َّ
ِ
أستعد إيماني بنفسي ،وال ثقتي بأيَّة فتاة ،بعد ما فعلته (غابي) بي.
وسيطرت على
ُ ضبطت أعصابي،
ُ ولكني
ال " :ال تذكر اسمها أماميّ ". كدت أصرخ في وجهه قائ ً ُ
وجدت عقارب الزمن تعود عشر
ُ ألفيت ذاكرتي تعود بي إلى أيام الصبا.
ُ نفسي بصعوبة .وبغير إر ٍ
ادة مني،
كنت طالباً في الجامعة
يوم ُ
سنوات إلى الوراء يوم كان عمري عشرين عامًا تقريباً في أواسط الستينياتَ ،
59
أن جامعة أوسلو تعلن عن
أت إعالناً في لوحة اإلعالنات بالجامعة ،مفاده ّ
األمريكية في بيروت .ذات يوم ،قر ُ
وبعثت بترشيحي دون أن يخامرني األمل في
ُ مدة ستة أسابيع.
بي في دورتها الصيفية ّ ٍ
لطالب عر ٍّ منحة در ٍ
اسية ٍ
ٍ
استبانة من القسم الداخلي في الجامعة ولشد دهشتي وفرحتي َّأنني تلقَّ ُ
يت جواباً بالقبول مع َّ الحصول عليها.
طالبين.
ْ ألن َّ
كل غرفة في القسم الداخلي تأوي جنسية الزميل الذي أرغب في السكنى معهّ ، ّ تستمزج رأيي في
بأني أرغب في
أجبت ّ
ُ فإنني
كنت آمل أن أواصل دراستي العالية في أمريكا عندما تسنح لي الفرصةّ ، ولما ُ
أتعرف على عادات ٍ
أحسن من لغتي اإلنكليزية و ّ
إن أمكن .طبعاً كان قصدي أن ّ يكي ْ
طالب أمر ٍّ السكنى مع
يكيين وعقليتهم .فالمعرفة الجيدة للغة وبيئتها تساعد على استيعاب المعلومات التي تُصاغ بها .ولم ِ
أدر األمر ّ
أن االستجابة لرغبتي في السكنى مع طالب أمريكي ميسورة جدًاَّ ،
ألن معظم المشاركين في تلك الدورة آنذاك َّ
التعرف على البالد التي ِ
قدم يكيين ذوي األصول االسكندنافية ،ال لرغبتهم في ُّ
الصيفية كانوا من الطالب األمر ّ
ألن الجامعات األمريكية تقبل منهم النقاط التي
منها آباؤهم أو أجدادهم إلى أمريكا فحسب ،بل كذلك ّ
وكثير من هؤالء الطالب األمريكان
ٌ يحصلون عليها من الجامعات األجنبيةُّ ،
ويعدونها خبرًة ومعرف ًة مضافة.
المتخصصين في الدراسات اإلسكندنافية أو القانون والعالقات
ِّ الذي يأتون للدراسة في جامعة أوسلو ،من
جذب ٍ
كبير لهم. فإن الدورة الصيفية لجامعة أوسلو ذات ٍ
الدولية أو اللسانيات أو ما أشبه ذلك ،ولهذا َّ
وبناء على نصيحة من القنصلة النرويجية في بيروت حول أفضل وأرخص السبل للسفر إلى
مستعمل ًة من ميونيخ ،وواصلت
َ سيارةً
يت ّ
أوسلو ،سافرت بقطار الشرق السريع إلى ألمانيا واشتر ُ
ثم العودة بها إلى بيروت ليتاح لي زيارةُ ٍ
عدد من سفري بها إلى أوسلو لتمضية العطلة الصيفيةَّ ،
ُ
الدول األوربية في طريق العودة.
علمت َّ
أن زميلي في غرفة السكن هو ُ لت في الجامعة،
وسج ُ
ّ وصلت إلى أوسلو،
ُ عندما
يكي في العشرين من عمره كذلك يدعى ستيف سندرسون.
طالب أمر ٌّ
ٌ
من الوهلة األولى شعرنا أنا وستيف بمحبَّة متبادلة ،فقد كانت روحه ش ّفافة الصفاء ،فيها
حب الحياة،
وتنم عن ّ
براءة األطفال ،ورقّة الخلجان .وله ابتسامةٌ وادعةٌ تُشرق في وجهه األشقرُّ ،
ٍ
مستقبل رائع. ونبض األمل الطاغي في
60
ال لي في السكن ،بل صديقًا عزي ًاز ،أو بأنني ال ُّ
أعده زمي ً أخبرت ستيف ّ
ُ ٍ
محادثة لنا، في َّأول
أمي.
باألحرى أخًا لم تلده ّ
ابتسم ستيف لهذا الخطاب العاطفي الذي لم يعتَد عليه ،وقال :
أنك العربي
طلبت من الجامعة أن يكون زميلي في السكن طالباً عر ّبيًا ،ولم أعلم َ
ُ ـ وأنا كذلك ،فقد
تزوجت
ْ الوحيد في الدورة الصيفية .ولي صهر عربي أو أخ ، an Arab brother in lawفقد
ألتعرف
َّ طلبت أن يكون زميلي في السكن عربيًا،
ُ أُختي روث زميالً سوريا لها في الجامعة .ولهذا
أت كثي اًر عن تاريخ العرب وديانتهم وتقاليدهم ،إضافة إلى ما أخبرتني به
على عاداتكم أكثر .فقد قر ُ
وتمسكهم باألسرة وأواصر
ُّ أُختي عن طيبة أهل زوجها ،وكرمهم ،ودماثة طبعهم ،وسمو خلقهم،
المحبَّة والتكافل بين أفرادها.
كأخوين
ْ كصديقين فقط ،بل
ْ األول ،أخذنا أنا وستيف ،نعامل أحدنا اآلخر ،ال
ومنذ اليوم ّ
متالزمين في معظم األوقات :في المطعم والمقهى والنزهات القصيرة في الغابة
ْ ورفيقين
ْ متضامنين،
ْ
اخترت أن أدرس
ُ المحيطة بالجامعة ،على الرغم من ّأننا لم نتابع المسارات الدراسية نفسها ،فقد
أما ستيف
األدب االسكندنافي ،والنظام التربوي النرويجي ،والمستوى االبتدائي من اللغة النرويجية؛ ّ
فقد كان يتابع المستوى العالي من اللغة النرويجية ،والعالقات الدولية ،واالقتصاد المختلط .فقد كانت
آنذاك ثالث مدارس اقتصادية في العالَم :االقتصاد الرأسمالي المطبَّق في أمريكا والدول الغربية،
واالقتصاد االشتراكي في االتحاد السوفيتي ودول الكتلة الشرقية األُخرى ،واالقتصاد المختلط المتَّبع
في الدول اإلسكندنافية.
األخوة في الثقافة
ّ شرحت له أن مفهوم
ُ ف ستيف معي كما لو كان أخي فعالً .فقد تصر َ
َّ
العربية أوسع منه بكثير عما هو عليه في الواليات المتحدة األمريكية .فكلمة (األخ) باللغة العربية
لفظي ي عني " الشقيق" ،و"األخ من األب أو من األم" و "الصديق المخلص"؛ على حين َّ
أن ٌّ مشترك
ٌ
معنى ضيقًا واحداً هو " الشقيق" أما "األخ من األب أو لكلمة ( ) Brotherوحدها باللغة اإلنكليزية
ً
المسلِم يكتسب أخًا إذا رضع مع
أن َُّنت له كيف َّمن األم" فهو "نصف أخ = ." Half brotherوبي ُ
61
ٍ
رضعة أُخرى .ولهذا فقدألم أحدهما أو لم
ثدي واحد ،سواء أكان هذا الثدي ِّ
معينة من ٍ ٍ
طفل آخر َّ
مدةً َّ
أخ
تبرر وجود إخوة لك من غير األشقاء ،مثل " رب ٍ
كثرت األمثال واألقوال في الثقافة العربية التي ّ
لك لم تلده أ ّمك".
كنت على وشك أن أسوق له أدلَّ ًة أخرى على رأيي مثل مؤاخاة الرسول (ص) بين
ُ
لي إلى مالك األشتر ،واليه على مصر ،الذي كان
المهاجرين واألنصار في المدينة ،وعهد اإلمام ع ّ
معظم أهلها من األقباط ،وفيه يقول اإلمام لألشتر :إن الناس إما أخ لك في الدين أو نظير لك في
ولكنني
لألخوة في الحضارة العربيةَ .
ّ الخلق (أي أخ لك في اإلنسانية) ،وهذا يدل على المعنى الواسع
خشيت
ُ لم أسرد هذه األدلة ،ال ألنني لمحت أمارات االقتناع برأيي على مالمح وجه ستيف ،بل َّ
ألنني
أن يقول لي ستيف :ولماذا ما تزال دولكم العربية تتصرف من منطق عشائري أو طائفي وال تنظر
اكتفيت بأدلتي السابقة.
ُ إلى الناس بوصفهم مواطنين ،عليهم واجبات ولهم حقوق على الدولة .ولهذا
ِ
أعلنت الجامعة عن إتاحة الفرصة اإلخوة .ولهذا عندما المهم أن ستيف اقتنع بنظريتي عن
ّ ّ
ٍ
أمسية ترفيهية ،يعرضون فيها شيئًا من موسيقاهم وأغانيهم ،وحضارتهم، ٍ
قومية لتنظيم لطالب ِّ
كل ّ
قلت لستيف:
وبعض قضاياهم االجتماعية والوطنيةُ ،
قال لي ستيف:
ـ أنا أخوك وسأساعدك في تنظيم األمسية على أحسن وجه ،وفي وسعك أن تطلب من السفارات
العربية في أوسلو إمدادك بأفالم سياحية وترفيهية.
قلت:
62
ِ
يكتف ستيف بمساعدتي في تنظيم القاعة وتشغيل جهاز عرض األفالم فحسب ،بل شارك كذلك لم
في عرض القضية الفلسطينية ،وتناولها من الناحية القانونية وفي ضوء حقوق اإلنسان ،وجرائم
الفلسطينيين حين تقتلعهم من
ّ ِّ
بحق السكان الحرب والجرائم ضد اإلنسانية التي تقترفها إسرائيل
مساكنهم وتصادر أراضيهم.
كنت َّ
ممدداً على السرير في غرفة السكن األول من الدورة ،و ُ
وفي يوم من أيام األسبوع ّ
الجامعي ،طُ ِرق الباب وفُتِ ح باب الغرفة ،ودخل ستيف مشرق الوجه باسم الثغر ،وحالما رآني صرخ
قائالً:
ـ هل هي أمريكية؟
تصورتُها في أحالمي.
ـ ال ،هولندية ،رائعة ،رائعة ،تمامًا كما ّ
63
قلت له مازحًا:
ُ
ضحك وقال:
ستحبها كذلك .ولكن ّإياك أن تنافسني في غرامها ،واال ستصيبك آالم فيرتر .وأنا
ّ أنت
ـ عندما تراها َ
بي الوسيم، أخشى منافستك ،ففتيات أوربا ما زلن مفتونات برومانسية القرن التاسع عشر ،و ُّ
الشاب العر ُّ
مثلك ،عملةٌ نادرةٌ يتهافتن عليها.
قال ستيف:
المهمَّ ،أنني دعوتها للعشاء معي غدا ،ليس في مطعم الجامعة ،بل في
ُّ ـ أنا مخلص في ما أقول.
مطعم الملكة في خليج أوسلو ،وأنا أدعوك كذلك ليكون سروري مضاعفًا.
ٍ
موعد غرامي .ألم تسمع بالمثل ـ ال ،شك ًار ستيف .ليس من الالئق أن تصطحب شخصًا ثالثًا في
العربي " :كل سر جاوز االثنين شاع"؟
قال ستيف:
جيدًا.
ال حتى تعرفها ّ أنت مندفع ،ترَّي ْ
ث قلي ً ـ ستيف َ ،
64
وقعت في حبِّها
ُ ـ أشعر أني أعرفها منذ زمن طويل ،منذ أن أبصرت النور في هذا العالم ،بل ّإني
قبل مجيئي إلى هذا العالم.
وجداني شديد:
ٍّ ٍ
بانفعال سكت لحظة وقال
َ
كل قلبك .ما ِمن رجل يراها ّإال ويقع أسير سحرها
ستحبها من ّ
ّ أنت كذلك ،يا سليم،
ستحبها َ
ّ ــ
وفتنتها.
قلت:
ُ
قلت:
ُ
استنشقت
ُ كنت أبحث عنه ،منذ أن
ـ لقد توثقت عالقتنا من النظرة األولىّ .إنها نصف روحي الذي ُ
َّأول نسمة في هذه الدنيا.
65
ٍ
خميلة في الغابة التي تحيط بالجامعة وأخي اًر رتّب ستيف لقاءنا ـ نحن الثالثة ـ تحت
وتحتضنها ،كما تحتضن األم وليدتها الصغيرة ،لتحميها من برودة الليل ،ووهج شمس ضعيفة الح اررة
تتحرك. َّ
واهنة ،معلقة في كبد السماء ال ّ
أحسست
ُ وضمتني إلى صدرها الرّيان.
ّ ولكنها فتحت ذراعيها وعانقتني
مددت يدي إليها لمصافحتهاّ ،
ُ
به ناهداً مثل وسادة صغيرة لينة يغمرني بدفئه اللذيذ ،فيوقظ حواسي مثل مغطس ملئ بماء دافئ
عيني بعد أن أستيقظ من النوم ويسّلمني إلى يوم عمل جديد بنشاط متوثّب.
ّ يغسل آثار النوم في
َّ
ممتدة .ومنذ تلك ٍ
صيفية تحدثنا باسترخاء أشبه ما يكون باسترخاء شمس أوسلو في ٍ
ليلة ّ
متغيب،
ّ نصفين :نصف يمضيه مع غابي في غرفتنا وأنا
ْ قسم ستيف أوقات فراغه إلى
الليلةّ ،
ونصف يقضيه معها بحضوري في تناول الوجبات اليومية في مطعم الجامعة ،ومشاهدة المسرحيات
في المسرح البلدي ،واالستمتاع بالحفالت الموسيقية في األوبرا ،واالستماع إلى المحاضرات الجامعية
العامة ،والمشاركة في األنشطة الالمدرسية ،وكنا نشارك في هذه األنشطة جالسين أو واقفين جنبًا
ّ
إلى جنب :غابي في الوسط وستيف على يمينها وأنا على يسارها .وكثي اًر ما تفرد غابي ذراعيها مثل
جناحي حمامة وتضعهما حول خصرينا ،وي ُّ
مد ستيف ذراعه اليسرى على كتف غابي ،ويطلب مني َ
أن َّ
أمد ذراعي اليمنى على كتف ها كذلك لتصافح يده يدي على عنقها العاجي الطويل فيشعر بدفء
َّ
المودة الذي سيربطنا إلى األبد .وشيئًا األخوة ،كما قال لي .فتالزم أيدينا نحن الثالثة رمز لوثاق
فشيئاً ،أخذ يراودني شعور قلِق َّ
بأن غابي هي أختي أو كما يقولون باإلنكليزية. a sister in law :
66
وكنت أقول في نفسي إذا كانت أذرعنا كثي ًار ما تتعانق وأيدينا غالبًا ما تتشابك بصورة ملتبسة
ُ
غامضة غموض الغابة الشاسعة الداكنة التي تحيط بجامعة أوسلوَّ ،
فإن األمور لعقلي كانت واضحة
وضوح الشمس في سماء بابل نها اًر .فستيف هو أخي وهي حليلته .وسارت األمور بحالوة على هذا
النحو.
في منتصف شهر آب /غشت ،انقضت األيام الجميلة التي سحرْتنا خالل الدورة الصيفية
كنا نتشبث بالبقاء سوي ًة أطول
بيد ّأنا ـ نحن الثالثة ـ ّ
لجامعة أوسلو .وكان علينا أن نغادر النرويجَ .
مد ٍة ممكنة ،كما يتشبث الحالم بالنوم بعد أن يستيقظ ،أمالً في استمرار حلمه الجميل.
َّ
ـ غابي ،أقترح أن ال أعود بالطائرة من أوسلو إلى نيويورك .سأغير مسار تذكرتي .سأرافق سليم
بالسيارة حتّى ميونيخ
ّ ُّ
سأستقل الطائرة إلى نيويورك .وأقترح أن ترافقينا بسيارته إلى ميونخ ومن هناك
ّ
ومن هناك تستقلّين القطار إلى أمستردام.
ـ طبعًا ،هذا رائع .سنكسب بعض الوقت سوية .وسنمضي ليل ًة معاً في كوبنهاغن.
كنا ـ نحن الثالثة ـ بال تجربة حياتية ،فلم نخطِّط لإلنفاق طبقًا لما لدينا من مال .وقد أنفقنا معظم ما
عندنا من نقود أثناء الدورة الصيفية في جامعة أوسلو .وأخذ رصيدنا يتضاءل بسرعة ،كما يتناقص
الماء في قربة مثقوبة يحملها بدوي في هجير الصحراء .وما إن وصلنا إلى كوبنهاغن ،حتى وجدنا
ٍ
رخيص نكتري فيه يمكننا من تمضية ليلة في فندق ،فأخذنا نبحث عن ُن ٍ
زل أن ما لدينا من مال ال ِّ
َّ
غرفةً واحدةً فقط .وعثرنا على النزل المنشود ،فقالت صاحبته باستغراب:
ولكني ِّ
أصدق ما تقول. خوةٌ بالرضاعةَّ ، ٍ
بشيء اسمه أُ َّ ـ بصر ٍ
احة ،أنا لم أسمع
68
قلت وأنا أجاهد في منع نفسي من الضحك عاليًا:
ُ
المسميات ،واَّن ما الذوات والوقائع .فستيف صديقي ،وهو خطيبها ،وال يمكن أن يكون
َّ يهم
سيدتي ال ُّ
ـ ّ
لها أكثر من صديق أو خطيب أو زوج في آن واحد .أليس كذلك ،يا غابي.
َّ
هزت غابي رأسها وهي تتناول مفتاح الغرفة من السيدة ،وتقول:
السيارة ،رجاء.
ـ ستيف ،سليم ،اجلبا الحقائب من ّ
فقلت:
شخصينُ ،
ً كان السرير الوحيد في الغرفة صغي ًار ال يكفي ألكثر من
قائلين:
اعترض ستيف وغابي في آن واحد ْ
َ
دت ووجهي إلى شباك الغرفة .وقفزت غابي مرحةً إلى وسط انتبذت أقصى طرف من الفراش َّ
وتمد ُ ُ
ثم أخذت ذراعي بلطف ووضعتها على صدرها
ثم سحبت ذراع ستيف بقوة ووضعتها حولهاَّ ،
السرير َّ
وهي تقول لي:
قلت: في صباح اليوم التالي ،ونحن نتناول الفطور الذي َّ
أعدته السيدة صاحبة النزلُ ،
ـ ما رأيكما في زيارة قلعة (هملت) المشهورة ،على مدخل بحر البلطيق .فمشاهدة األماكن التي جرت
ستعمق من إدراكنا كيف أن َّأم هملت خانت زوجها وشاركت في
ّ فيها وقائع مأساة شكسبير الرائعة،
اغتيال زوجها الطيب ،وتسببت فيما بعد بتعاسة ابنها ومقتله.
قال ستيف:
69
ـ أحسب أن شكسبير بالغ في تصوير ذلك ،فاألدب ال يكون أدباً إال إذا أقلع من أرض الواقع وحلّق
في فضاء الخيال الرائع.
قلت معترضًا:
ُ
أنت تعلم أن شكسبير اعتمد على وثائق ومستندات حقيقية في كتابة مسرحياته التاريخية.
ـ ولكنَ ،
يسمونها قلعة (هملت) ،هي قلعة عاديةّ صدقني ،سليم ،إن قلعة كرونبورغ في مدينة هلسنغور التي
ـ ّ
بية أخرى .أُضف إلى ذلك إن ما تبقَّ ى لنا من نقود ال يسمح لنا بهذهقلعة أور ٍ
ال تختلف عن أيَّة ٍ
ٍ
نقدية ـ سأشتري بما تبقى لنا من نقود تذكرَة سفر بالقطار إلى هولندة .ومن هناك سأبعث لكما بحو ٍ
الة
أما أنتما ،فعليكما أن ت قيما في فندق صغير إلى حين تصل حوالتي على ٍ
كافية لمواصلة سفركماّ .
عنوان الفندق.
بأننا ال نملك
ثم نخبرهم ّ
جيد ،ونطلب وجب ًة فاخرًة ،ونأكل حتّى نشبعَّ ،
لدي فكرة .نذهب إلى مطعم ّ
ـ َّ
النقود .ولن يفعلوا شيئًا إذا عرفوا ّأنني أمريكي.
ـ الوقائع تقول إ َّن قواعدنا العسكرية منتشرةٌ في هذه البالد .هذا واقع .وهم وحلفاؤنا اليوم ويعاملون
األمريكان بلطف .هذه حقيقة.
أن حوالة غابي قد وصلتك .واذا كان األمر كذلك ،فأنا أقبل دعوتك لي للغداء ِّ
بكل رحابة ـ ال ُب َّد َّ
صدر.
في ذلك اليوم بعد الغداء ،ركبنا السيارة وواصلنا سفرنا إلى ميونيخ ،حيث ذهبنا إلى المطار ،وقبل أن
يستقل ستيف الطائرة المتَّجهة إلى نيويورك ،أعطاني معظم النقود التي كانت معه ،وهو يقول :
ّ
71
وجدت رسالة من ستيف في انتظاري .كلماتها تفيض عاطف ًة وحناناً ،وعباراتها ُ وصلت بيروت،
ُ حالما
األخوة الدائمة.
َّ المحبة بيننا ،وتمتِّن روابط
َّ تتدفق شوقًا وحنينًاُّ .
وكل نقطة فيها توثّق أواصر
لم أجد رسال ًة من غابي .ولم ُي ِثر ذلك استغرابي .فأنا أفترض ّأنها تكتب إلى حبيبها المتيَّم ،أخي
ولو َّجهتها بالكتابة َّ
إلي ،ألجبتها بأنني بخير ما دام أخي ستيف سعيداً بحبِّهاَ ،
كتبت َّ
ْ ستيف .وحتى لو
إليه أكثر وأكثر.
تحل بيد أن المفاجأة أصابتني أنا ،مفاجأة غير سارة ،بل حزينة أليمة .و ُّ
أشد النكبات إيالماً تلك التي ّ َ
بنا ونحن ن سبح في غمرة الفرح نحو مرافئ السعادة واألمل .ال أريد أن أخبرك ـ عزيزي القارئ ـ بتلك
طعتني سكاكين الغضب
المفاجأة الحزينة ،ألنني كلما تذ ّكرتها أو ذكرتها ،تناوشتني نصال الخيبة ،وق ّ
األعمى.
72
ٍ
رسالة وصلتني من ستيف ،يقول فيها َّ
إن غابي رفضت دعوته تمثّلت تلك المفاجأة األليمة في صورِة
لتمضية عطلة عيد الميالد مع عائلته ،وأبلغته بقطع عالقتها معه قطعًا باتًّا.
شككت في فهمي لمضمون الرسالة القصيرة .ال ُب َّد أن عائقًا ما حال دون استيعاب مضمون الرسالة
ُ
التي تلقّيتها .كثي ًار ما نفهم عكس مضمون الرسالة لخلل في واسطتها أو لغته ا ،أو لخلل في فهمنا
أعدت قراءة الرسالةّ .إنها واضحة ،لغتها
ُ بتأثير من توقُّعاتنا المخالفة.
ٍ نحن لقواعد التواصل ،أو
معوق وال خلل :غابي ترفض دعوة ستيف لتمضية عطلة عيد الميالد معه .غابي
سليمة ،ال يشوبها ّ
تنهي عالفتها العاطفية مع ستيف تماماً.
ولكنها غير مفهومة داخل سياق كلمات واضح ٌة وضو َح الشمس في شهر تموز في بالد سومرَّ . ٌ
القصة ،وال تنتمي إليها ،وال تتفق مع توقُّ عات القارئ النبيه وال استنتاجاته المنطقية .فهذه النتيجة
َّ
مرت بنا .ولهذا لم أفهم الرسالة على قصرها، ِّ
المقدمات السعيدة التي ّ المؤلمة ال َّ
تتمخض أبداً عن
وبساطة كلماتها ،وسهولة تراكيبها.
كنت أتلهَّف لمعرفة السبب ،وال أستطيع أن أنتظر ألتخلَّص من مارد ِّ
حب ُ وكما تتوقَّعَّ ،
فإنني
االستطالع الذي استيقظ في أعماقي وسيطر على حواسي ووجداني .ليت لي هدهد سليمان ليأتيني
إلي طرفي .ولكن هذا الهدهد العجيب لم يخترعه ِ
العلم إال بعد عشرين بالخبر اليقين قبل أن يرتد َّ
عاماً من فعلة غابي النكراء الشنعاء ،على صورة بريد إلكتروني.
"أسأل .فالجهل
ْ عزمت على إرسال برقية أخرى إليه أقول فيها:
ُ وفي فورة غضبيُّ ،
وتأزمي النفسي،
قلت في نفسي :إن
ولكنني وأنا في طريقي إلى مكتب البريد والتلغراف ُ دواؤه السؤالّ ،أيها الجاهل"َّ .
رت له غابي سوء تصرفها وخطل قولهاَّ ،
فإنه لن ستيف اآلن في ٍ
حالة ُيرثى لها ح ّقاً .وحتّى إذا َّبر ْ
يفهم كالمها .ال فائدة من تبادل البرقيات بيني وبين ستيف ،وال حتّى بيني وبين غابي ذاتها .ينبغي
73
عيني ها ،وأقذف في وجهها السؤال " :لماذا" ،مثل
ْ عيني في
َّ أن أجابه غابي وجهًا لوجه ،وأغرز
رصاصة قاتلة.
ٍ
وسيلة ممكنة وهي الطائرة ،مهما كّلفني ذلك .أال رت في ذات نفسي أن أسافر إلى هولندة بأسرع قر ُ
َّ
موضع
ِ يشد الرحال أسالفنا من أجل ُّ
التأكد من تستحق المعرفةُ وعثاء السفر والتضحية بالمال؟ ألم َّ
ُّ
ال من مواص لة السير إلى مكتب البريد والتلغراف ،وجدتني ألج وكالة سفريات في ٍ
كلمة في عبارة؟ وبد ً
سفر في ّأول طائرة متَّجهة إلى أمستردام .تذكرة ذهاب واياب،
ساحة الشهداء ،وأطلب حجز تذك ِرة ٍ
لدوامة التساؤالت والهواجس والشكوك التي اجتاحتني .لم ليوم واحد .هذا ُّ
كل ما أحتاجه لوضع ٍّ ٍ
حد ّ
أفكر في ثمن التذكرة التي سترهق ميزانيتي للعام الدراسي بأجمعهُّ .
كل ما أحتاجه وأنشده في هذه ِّ
اللحظة هو أن أرى هذه اللعينة المسماة (غابي) وأسمع منها الحقيقة عاري ًة ،بعبار ٍ
ات ال لبس فيها،
ألضحي ِّ
بكل ميزانيتي لمج ِّرد أن أقف ّ كنت على استعداد
الحجابُ . لف الخمار ودوران ِ
وتخلو من ِّ
الود والغرام التي قطعتها لستيف على على أسباب نقضها لجميع مواثيق المحبة والهيامِّ ،
وكل عهود ّ
لمجرد أن أعرف ،أن أطلع على السبب الحقيقي ،أن أتعلَّم؛ فقد يكون هذا الدرس الذي
ّ مني،
مسمع ّ
ٍ
ال يتجاوز دقائق معدودة ،أبلغ من جميع الدروس والمحاضرات والمسارات العلمية التي تلقيتُها في
جامعة أوسلو ،وأكثر منها التصاقًا بالحياة.
تتضم ن عودة مؤكدة في اليوم التالي ،وفي نيتي أن أذهب إلى مكتب الفنادق في
َّ كانت تذكرة سفري
وصلت الى مطار أمستردام،
ُ مطار أمستردام ألحجز في أحد الفنادق في لليلة واحدةَّ .
ولكنني عندما
وجدت نفسي أمام منضدة اقتناء تذاكر الحافالت،
ُ لم أبحث عن مكتب الحجز في الفنادق ،بل
ألشتري تذكرة حافلة تقلّني من المطار إلى مدينة اليدن التي ال تبعد عن مطار أمستردام إال بخمسة
وعشرين كيلومت ًار.
سيارات األجرة
وقفت في خط انتظار ّ
ُ هبطت من الحافلة في موقف الحافالت في اليدن،
ُ حينما
وركبت ّأول سيارة أجرة متاحة ،وأنا أناول
ُ الصغيرة التي كانت منتظم ًة منتظرًة أمام موقف الحافالت،
ب عليها عنوان منزل غابي. ِ
سائقها ورقة صغيرة ُكت َ
74
أعدت الطرق ثانية وثالثة قبل أن تفتح
ُ طرقت باب المنزل ،ولم أُتِح الوقت الكافي لالستجابة بل
ُ
نصف تلوح على وجهها أمارات الدهشة التي ازدادت بعد أن رأت وجه الطارق األسمر
ٌ سيدة
الباب ّ
الغريب .عاجلتُها بالقول:
كنت صديق غابي في جامعة أوسلو هذا الصيف المنصرم .و ُّ
أود أن أراها ـ صباح الخير ،سيدتيُ .
بضع دقائق فقط.
لست ستيف؟!
أنت َ
ـ َ
قالت المرأة:
أهم بالجلوس:
قلت وأنا ُّ
ُ
ـ وأين غابي؟
ـ ّإنها مع زوجها.
75
ـ زوجها؟ وماذا عن ستيف؟
تود أن تشرب؟ القهوة أم الشاي؟ سأتصل بغابي هاتفياً لتوافيك هنا وتشرح لك َّ
كل شيء. ـ أوالً ،ماذا ّ
قالت غابي:
ال سليم.
ـ أه ً
ِ
اقترفت هذه الجريمة البشعة َّ
بحق ستيف .ألم ي ُكن ال ،غابي .أريد فقط أن أفهم لماذا
ال وال سه ً
ـ ال أه ً
مخلصاً صادقاً معك؟
76
الحب والغرام ،تهبط من األعالي لتدخل في جلدي القديم ،ألعود إلى بيئتي القديمة،
الخيال و ّ
ومدرستي القديمة ،وصحبتي وشلتي القديمة .ألم تسمع بأولئك الذين َّ
تتوقف قلوبهم عن النبض،
فيبعثون إلى الحياة ثانية ،وعندما
ثم يقوم الطبيب بتدليك القلب ليعود إلى النبضُ ،
فيفارقوا الحياةَّ ،
ُيسألون عما أروا أثناء وفاتهم ،يقول معظمهم أن أرواحهم قد حلّقت في أجواء سماوية نورانية سعيدة،
َّ
ولكنهم فجأةً رأوها تهبط إلى األسفل لتدخل في أجسادهم القديمة ،فيعودون إلى حياتهم السابقة؟ هذا
جن ة أوسلو الصيفية إلى خريف اليدن الغائم القاتم .وعندما جاء
ما حصل لي :عادت روحي من ّ
خطيبي إلي في منزل والدي ،واقترح موعداً إلتمام الزواج في الكنيسة ،وجدتني بغير إر ٍ
ادة مني ال ّ ّ
فيتم الزواج واالنتقال معه إلى المنزل الذي أمضينا سن ًة في تأثيثه واعداده
أعترض على شيءُّ .
ليكون منزل الزوجية لنا.
وبصوت غاضب ٍ
عال: ٍ وفيما هي تتكلَّم كانت عيناي تقدحان شر ًار وحقدًا وازدراءًا .وفجأة ُ
قلت باشمئزٍاز
مجرد ِّ ِّ ِ
ـ أنت معلّمة؟ ! أيَّة أخالق ،وأيَّة ُمثُل ،وأيَّة قيم تعلمين صغار تالميذك؟ أتعلمينهم الكذب؟ الكذب ليس ّ
ٍ
صيفية أثناء فترة الخطوبة في مدينة ٍ
عطلة بالقول بل كذلك بالصمت ،وبإخفاء الحقائق .أتعلِّمينهم تمضية
أخرى لممارسة الجنس مع شخص آخر ،وفي نهاية العطلة يرجعون ليتزوجوا الخطيب المخدوع؟ ما هذا
ألقيت بستيف على درب اآلالمِ أخالقك الدنيئة؟ أتعلمين ِ
أنك ِ ِ
لتالميذك .أكاد أتقيًا من العبث؟ إنني أرثي
ِ
نشأت بها ،وال أريد أن أرى والمعاناة دون أن يقترف ذنبًا؟؟ ال ،ال أريد أن أراك ،وال أريد أن أرى الدار التي
البالد التي تعّل ِ
مت فيها.
و ُّ
انفلت خارجًا إلى الشارع ،وأنا أصرخ:
سيارة أجرة ...إلى المطار .
ـ ّ
77
التّخاطر
وتجمد
َّ وجحظت عيناه،
ْ لون وجهه،
شحب َُ ياضية ،صعقتْ ُه المفاجأة،
عندما رآها في صالة األلعاب الر ّ
أما هي فكانت في تلك اللحظة الدم في عروقهَّ ،
الدراجة الثابتة التي كان يمتطيهاّ .
فت ساقاه عن تحريك ّوتوق ْ
الحديدي بكلتا يديها. بائي ،وهي تُمسك المقبض ٍ
ّ تسير بسرعة على جهاز الجري الكهر ّ
تكتف بإرسال طيفها ،بين ٍ
آونة وأُخرى ،عبر الحدود ،ليداهمه عندما يأوي إلى فراشه بعد منتصف ِ لم
ِ
جنبات ويجسد نذالته ،ويصرخ في
ِّ يقض مضجعه ،يحرمه النوم ،يسهّده بقسوة ،يذ ّكره بخساسته،
ّ الليل،
بعهدكّ ،أيها الخائن.
َ نكثت
َ ضميره ،لقد
المرة
حضرت هذه َّ
ْ ِ
تكتف بإنابة طيفها عنها ،رغم جبروت هذا الطيف القاسي وعنفوانه؛ واّنما لم
وعينيها الواسعتَْين الناعستَْين؛
ْ بنفسها ،بلحمها ودمها ،بجسدها الناحل الرشيق ،ووجهها األسمر الشاحب،
ُذن ْيها حلقتين كبير ْتين متدلِّ ْ
يتين من أ َ ْ المصنوعين من الذهب على شكل
ْ وقرطيها
ْ الغالمية،
ّ صة شعرها
وَق َّ
بائي ،كما لو
الناحلتين ،لتقف قبالته بكامل قامتها على جهاز الجري الكهر ّ
ْ يضتين
وكتفيها العر ْ
ْ الصغيرتَْين،
بقوة الكهرباء ،وسرعة البرق ،على جناح الريح ،من ميناء اإلسكندرّية في مصر .ثالثون
وصلت إليه ّ
ْ كانت قد
يبدل من ابتسامتها الباهتة ،وال ِ
قسمات وجهها الحزين ،أو ّ يغير الزمن من أن ّ
دون ْ
ت على فراقهماَ ، مر ْ
عاماً ّ
عما يخبِّؤه لها الدهر في مقبل األيام. ِّ
من نظراتها التائهة المتطلعة بتساؤل ّ
78
صيفي ٍة كان يشارك
ّ
إّنها رابحة المصرية التي التقى بها ذات يوم من سنة 0978أثناء دورٍة دراسي ٍ
َّة
فيها أستاذًا وكانت تشارك فيها طالب ًة ،هناك في جامعة اإلسكندرية .كانت هي بريئ ًة ،بلورّي َة النقاء ،في
وجدا الحادية والعشرين من عمرها ،وهو في الخامسة والثالثين .فجأةً وبال ِّ
مقدمات ،ومن النظرة األولىَ ،
هائل ٍ
عات من جذورهما في إعصار ٌ نفسيهما محلِّقَين في أجو ٍ
اء ساحرٍة طاهرٍة ،مثل نبتتَْين صغير ْتين اقتلعهما
ٌ ْ
األرض ،وقذف بهما إلى األعالي؛ لم يمهلهما فرص َة التفكير واالختيار ،واّنما هكذا دون سابق إنذار ،قذف
ٍ
رحلة أثيرّية ،ال يعرفان ِوجهتها ،وال يدركان بهما هذا اإلعصار الغامض المجهول إلى أعالي السماء ،في
ٍ
مخمور ،وعدها بالزواج. ٍ
مسحور أو ٍ
وكرجل أبعادها وغايتها .وهناك في األعالي،
وما إن غادر أجواء اإلسكندريَّة الساحرة ،وهبط إلى األرض التي ُيقيم عليها بعيدًا عن أرض مصر،
قت بها بعيدًا بعيدًا ،ثم ألقت
ألن عصفورًة غريب ًة ماكرًة التقطت نبتته ،وحّل ْ
ألفى نفسه عاج ًاز عن الوفاء بوعدهّ ،
كالحة اللون .وأثارت تلك الزوبعة غيومًا تهاطلت دموعًا ،وحسرة ،وحزنًا، ِ ٍ
زوبعة بها في أغوار المحيط وسط
في عيون رابحة المصرية .وخسرت رابحة أحالمها ،وخسر هو رابحة وراحةَ ضميره إلى األبد.
ِ
التأنيب ِ
صليب فعلِّق ضميره على
خستهُ ،
قبح فعلته ،وأبعاد نذالته ،ومدى ّ عندما عاد إلى وعيه أدرك َ
جفنيه .وعندما بلغه ،بعد سبع سنين، ت حتّى لو أغمض ْ بعينيه آثار جريمته أينما تلفَّ َ
ْ أمداً طويالً ،وهو يرى
مرةً وسريعًا ِ
سهاده وأرِقه وكآبته إال قلي ً أن رابحة قد تزوجت ،لم ُي َِّّ
ال .وواصل الزمن سيره ،وئيدًا ّ خفف ذلك من ّ
الزمن
ُ اصل
بائي ،على هواه ال على هوى راكبيه من العابرين .و َ مرةً أُخرى ،مثل بساط جهاز الجري الكهر ّ ّ
يومياً ،بل من ٍ
حين إلى آخر. يعد طيف رابحة يزوره ّ
سيره بأيامه ولياليه ،وشهوره وسنينه ،ولم ُ
أما اليوم ،فالذي يعوده ليس طيف رابحة ،واّنما رابحة بنفسها ،بلحمها ودمها .ها هي تأتي من بعيد،
ّ
مصرًة على
ّ ياضية،
بائي ،في صالة األلعاب الر ّ
لتنتصب أمامه على جهاز الجري الكهر ّ
َ تعبر الحدود والسدود،
مو ِ
اصلة تعذيبه ،دون أن تترك له فرص ًة للنسيان ،مهما كانت ضئيلة.
ال ،ال يمكن أن تكون هي .فالزمن الذي يطمس اآلثار من جميع األصناف ،ال ُب َّد أن يكون قد
شيخ بائس .والفتاة التي تقف أمامه،
طمس شباب رابحة ونضارتها ،كما أتى على عنفوانه هو وأحاله إلى ٍ
السرمدي ،كما
ّ يطفح وجهها بالشباب والنضارة .ال ،ال يمكن ذلك .فنحن ليس في مقدورنا إيقاف جريان الزمن
79
ٌّ
مختل بالحمى ،لعلّه مصاب يتوهم ما يرى ،لعلّه زر واحدةَّ .
لعله َّ ِ
بضغطة ٍّ بائي
ّ ٌ نوقف جهاز الجري الكهر ّ
أن هذه الفتاة الواقفة أمامه على جهاز الجري الكهربائي ،شبيه ٌة بر ٍ
ابحة تجتاحه الهلوسة .ال يمكن ذلك .ال ُب َّد َّ
ّ
مجرد تشابه في الشكل .هكذا يقول له عقلُه
ّإبان شبابها ،فاهلل يخلق من الشبه أربعين ،كما يقولون .إذن َّ
المتحركة
ِّ ليخفِّف من اضطراب نفسه ،ويحافظ على رباطة جأشه ،ليحافظ على توازنه وهو على ّ
الدراجة
عينيه عن تلك الفتاة الماثلة أمامه ،المنتصبة على جهاز الجري
فإنه ال يستطيع أن ُيبعد ْ
الثابتة .ومع ذلكّ ،
وخير له أن يغادر صالة األلعاب الكهربائي؛ وال َّ
كمن رأى شبحًا؛ ٌ يحدق فيها َ
شك في ّأنها ستفطن إليه ،وهو ّ ّ
ياضية.
حال ،فهو ال يستطيع أن يواصل تمارينه الر ّكل ِّ
في الحال ،ويعود إلى مسكنه القريب منها .وعلى ِّ
ٍ
بلهجة صوت نسائي
ٌ رن جرس الهاتف .رفع السماعة إلى أُذنه .تناهى إليه
حالما عاد إلى شقّتهّ ،
ِّ
ويشخص صاحبتها ،ومع ذلك قال مصرّية .أصابه نوعٌ من الرعب؛ فقد استطاع أن يتبيَّن تلك النغمة الحزينة
بصوت مخنوق:
ـ أنا رابحة.
ـ شك ًار ...و ِ
أنت كذلك ...مع السالمة.
مرت،
يصدق أُذنيه .ثالثون عامًا ّ
ّ أعاد سماع َة الهاتف إلى موضعها بتمهّل ،وهو شارد الذهن ،ال
مرة ،ولم ِّ
تهنئه بعيد أضحى .لماذا اليوم ،يا إلهي؟ أال يمكن أن يكون ثالثون عيد أضحى وقعت ،ولم تهاتفه َّ
هذا الصوت الهاتفي ،هو اآلخر ،وهمًا ،خياالً ،هلوس َة حمى ،تماماً كالفتاة التي رآها في صالة األلعاب
ال .وتتراءى لنا أشياء ال وجود لها
ياضية .فنحن نسمع أحيانًا صوتًا بشريًا لم يصدر من إنسان ،الصدى مث ً
الر ّ
ال.
حقيقية ،السراب في الصحراء مث ً
في الحقيقة ال ّ
80
ِ
يستطع أن يقتنص النوم مهما طال تصيُّده له .وفي الظالم ،كان يشاهد ضميره في تلك الليلة لم
ال الليل.
معّلقًا من جديد على صليب التأنيب والتبكيت طو َ
ثم
إن تناول العصا في صالة األلعاب الرياضية للشروع في تمارينه ،ورفعها بكلتا يديه فوق رأسهَّ ،
ما ْ
دخلت تلك الفتاة الرشيقة ،الشاحبة الوجه ،ذات
ْ الناحلتين ،حتّى
ْ ليمرن ذراعيه
فخذيه ِّ
ْ أعادها إلى مستوى
بائي ،تمامًا بنفس الطريقة التي كانت
الناعستين ،وهي تخطر بمشيتها متمهِّلةً نحو جهاز الجري الكهر ّ
ْ العينين
ْ
وجد رأسه يستدير في
رابحة المصرية تسير بها إلى قاعة الدرس في جامعة اإلسكندرّية قبل ثالثين عامًاَ .
االعتيادي من
ّ ادي ٍة ،دون أن يعود إلى موضعه
العنق ،بل بصو ٍرة الإر ّ ٍ
تؤدة نحو الفتاة ،ال كجزٍء من تمارين ُ
فخذيه ،دون أن يستطيع رفع
ْ محملقتين في الفتاة ،وبقيت ذراعاه الماسكتان بالعصا على
ْ وبقيت عيناه
ْ الجسد.
مرًة أُخرى يطارده بضراوة ،يفقأ
شبح رابحة المصريَّة ّ
ت ،فقد عاد ُ مرًة ثانيةُ .ب ِه َ
العصا إلى ما فوق رأسه َّ
ويحير َّلب ه ،ويسلبه راحة الضمير .وتأ ّكد له َّأنه لن يستطيع أن يواصل تمارينه الر ّ
ياضية .فأعاد العصا عينيهّ ،
ْ
شقته. إلى موضعها في الصالة ،ورجع إلى َّ
ـ نعم.
81
تسمر ضميره طوال الليل على صليب التأنيب والتبكيت.
في تلك الليلة ،لم يستطع النوم ،فقد َّ
ِ
شبيهة ياضية بضعة أيام ،ليستريح من رؤية تلك الفتاة،
انقطع عن الذهاب إلى صالة األلعاب الر ّ
ال من الذهاب إلى
ياضية ،اختار وقتًا مختلفًا من أوقات اليوم .فبد ً
رابحة المصرّية .وعندما استأنف تمارينه الر ّ
المرة في منتصف النهار ،الساعة الثانية
الصالة في آخر النهار حوالي الساعة السادسة مساء ،ذهب هذه ّ
عشرة والنصف تقريباً.
شعر بنوٍع من االرتياح واالطمئنان ،عندما لم يجد تلك الفتاة في الصالة .وفي أعماق نفسه ،أثنى
حل المشكالت التي تواجه
بأنه القدرة على ّ
عرف الذكاء لتالميذه ّ
على ذكائه وحسن تدبيره .كان دائمًا ُي ِّ
حال لهذه المشكلة التي َّأرقتْه أكثر من عشرة َّ
المستجدة .وها هو يجد ًّ اإلنسان ،أو القدرة على التكيُّف للظروف
الذاتي لنفسه في سريرته ،واذا بالفتاة شبيهة رابحة المصرّية تلج
ّ أيام بنهاراتها ولياليها .وفيما هو يكيل المديح
ثم واصلت سيرها نحو عة خاطفةَّ ، التفتت صوبه بسر ٍ
ْ القاعة مسرعةً ،كما لو عادت لتستعيد شيئاً نسيتْه.
لتوهه من قبره ،وهو ملفوف في كفنه .تناول
حملق فيها كمن رأى ميِّتًا نهض ِّ
َ جهاز الجري الكهربائي لتعتليه.
قنينةَ مائه ،وغادر القاعة.
ميالدي الجديد.
ّ مجرد السالم عليك وتهنئتك بالعام ال
ـ ّ
العاطفية السابقة
ّ انفصلت عن زوجها ،فعاودها الحنين إلى أيام الشباب وعالقتها
ْ أن رابحة قد
تبادر إلى ذهنه ّ
فتوجه إليها بسؤال مباشر:
المرة؛ ّ
قرَر أن يضع النقاط على الحروف ،كما يقولون ،هذه ّ
بهّ .
ِ
زوجك؟ وأوالدك بخير؟ شخصيًا :أما زل ِت مع ال
ـ رابحة ،اسمحي لي أن أسألك سؤا ً
ّ
مؤخ ًار.
غيب الردى أختي وأَخي ّ
أنت ،أنا التي تخشى الموت قريبًا ،فقد ّ
أقصدك َ
َ ـ ال ،لم
تتمرن
المرة التالية .وقع نظره على الفتاة شبيهة رابحة المصرّية ،وهي َّ
ذهب إلى القاعة في ّ
َ عندما
لت عن
ترج ْ
ات َمن رأى شبحاً .حالما أبصرته داخالًّ ،
بائي .فبدت على وجهه أمار ُ
على جهاز الجري الكهر ّ
وتوجهت إليه وقالت له بلطف:
الجهازّ ،
أكرر أسفي.
يب عجيب ِّ . حد غر ٍ ِ
تشبهك إلى ٍّ فتاة
أحببت في شبابي ًُ ـ آسف جدًا ،وأعتذر ِ
إليك.
ِ
اسمك الكريم ،يا آنستي الصغيرة؟ ألقدم إليك نفسي .اسمي الدكتور سليم .وما
وأغتنم هذه الفرصة ّ
ـ اسمي رابحة.
ـــــــــ
83
الساحر
84
مؤخرها شعري الطويل على يتهدل من َّ ٍ
معتمة ،وأنا أعتمر خوذةً غريبةً َّ ٍ
غرفة ال يكفي أن استقبلهم في
ٍ
غامضة ٍ
بكلمات أتمتم ٍ ٍ
ظهري ،وألتحي لحي ًة عظيم ًة تغفو على صدري مثل مخالة معلقة على رقبة حمار ،و ُ
منقوصة غير مفهومة .يجب أن أغرس في نفس الزبون ووجدانه الثقة بقدراتي الخارقةٍ ٍ
بجمل همهم ٍ
غريبة ،وأُ ُ
المقربين منه .فالثقة أساس النجاح،
تف من المعلومات الحميمة التي ال يعرفها إال هو و َّ كشف ُن ٍ
ِ عن طريق
فطالب
ُ تماماً مثل ثقة المريض بقدرة الطبيب المداوي على شفائه ،عندما يخبره ببعض أعراض مرضه.
يض.السحر ،هو اآلخر ،مر ٌ
قلت لتلميذتي التي أخبرتني عن صاحبتها:
ُ
ـ أتدرين أََّنني أمارس السحر ،يا سميرة؟
قالت منبهرة:
ـ صحيح؟
ِّ
الكف، ِ
بتحضير األرواح ومحاورتها ،وقراءة المغناطيسي ،وأقوم
َّ علمي ،فأنا أزاول التنويم
ٌّ سحر
ولكنه ٌـ نعمَّ ،
واستطالع المستقبل.
مهتمةٌ جدًا.
ـ أنا َّ
ٍ
مهنة أربابها وزبائنها ،ووسطاؤها الذين ِّ
ولكل فالسحر مهنة. أنت كذلك.شخصياًِ ،
ّ يمكنك أن تستفيديِ ـ
ُ
لقاء خدماتهم. ٍ
يتقاضون عموالت محترمةً َ
ات االهتمام والتطلُّع:
بدت على وجهها المليح أمار ُ قالت وقد ْ
شخصيًا؟
ّ ـ وكيف أستطيع أن أستفيد
ِ
اصطحبت إحدى زميالتك سخي ٍة ،كلما ٍ
عمولة ّ تقنيات السحر ،كما ستحصلين على
تتعلمين مني بعض ّ ـ قد َّ
ِ
لجلسة سحر.
ـ سأفعل ذلك ِّ
بكل سرور.
ال ينبغي أن تكون من الموسرات اللواتي َّ
يؤمن بالسحر؛ وثانيًا ـ عل ِ
يك ،يا سميرة ،أن تختاري الزميلة بعنايةَّ .أو ً
َّأنها تواجه مشكل ًة ما كالحب ،فالحب في بالدنا مشكلة؛ وثالثًا ،أن ِّ
تحدثيها عن قدراتي الخارقة دون أن تذكري
تام ة عن اسمها ،واسم والديها ،وظروفها اسمي .وقبل أن تصطحبيها إلي ،عليك أن تخبريني بسر ٍ
ية َّ ّ ّ
االجتماعية ،ونوع مشكلتها العاطفية ،واسم المحبوب ومهنته ،وجميع المعلومات الالزمة لتحضير السحر
مبلغ أحصل عليه منها.
كل ٍ المطلوب .وستتقاضين عشرين بالمائة من ِّ
ـ أنا موافقةٌ تماماً .ولدي صديقات كثيرات يرغبن في ذلك.
ـ اتفقنا.
85
أت المكان المناسب .غرفتان .األولى لالنتظار؛ تسمح أضواؤها برؤية الصور العلمية المعلَّقة على هي ُّ
الجدران :صورةٌ للفضاء الخارجي ويبدو فيها عدد من الكواكب ،وصورةٌ تشريحيةٌ لجسم اإلنسان وخاصة
ٍ
مركبة أجساد حيوانيةٌ ،وتبدو قريب ًة من
دميةٌ و ٌ لكائنات غر ٍ
يبة لها وجوهٌ آ َّ ٍ دماغه وجهازه العصبي ،وصورةٌ
فضائي ٍ
َّة َّ
كأنها قادمة من العوالم األخرى ،ولوحةٌ زيتيةٌ عنوانها " الساحر" للرسام العراقي الراحل خالد الجادر
عبتين .وتصدح في هذه الغرفة اسعتين المر ْ
عينيه الو ْ يغرز فيها ْ
ساحر ٍُ سيدةٌ تجلس مذعورًة أمام
وتبدو فيها ّ
ٍ
بصمم دائم .والغرفة الثانية أن فقَ َد السمع وأُصيب
موسيقى سيمفونيةٌ صاخبةٌ من سيمفونيات بيتهوفن بعد ْ
ٍ
خافتة تنبعث من شموع ،ويعبق فيها حيث أستقب ُل الزبائن ،أو باألحرى الطالبات الجامعيات ،ذات أضو ٍ
اء ّ
يتعود
يؤدي الخليط إلى تدويخ َمن لم َّ
خليطٌ من روائح البخور والمسك والعنبر والصندل والفانيال ،بحيث ّ
عليه.
اتصلت بي سميرة لتخبرني عن ٍ
فتاة اسمها (أمل) ترغب في االستفادة من ْ مد ٍة قصيرة
فعالً ،بعد َّ
خدماتي .وأخبرتني أن مشكلتها تكمن في وجود ٍ
فتاة منافسة لها على قلب الحبيب ،المسمى (جواد) ،فهو
ٍ
كافية عن أمل. ٍ
بمعلومات وزودتني سميرة
ّ الفتاتين ،فتراه تارًة في ِ
رفقة أمل وتارة في رفقة غريمتها. ْ ِّ
متردد بين
فحددت لها موعدًا الستقبالها.
ُ
كنت أغلق النوافذ في غرفة َّ
المحدد كانت سميرة ورفيقتها أمل في غرفة االنتظار في حين ُ في الموعد
جو ِّ
المتعددة والروائح المختلفة ،لخلق ٍّ االستقبال ،وأوقد الشموع ،و ُّ
أعد البخور والعطور ،لتتصاعد األبخرة
هالمي.
كنت
أرد عليها التحية ،بل ُ ألقت التحية ،لم َّ
دخلت أمل وحدها بعد نصف ساعة من االنتظار ،و ْ ْ حينما
الجن الذين أستعين بهم ،وعيناي غائرتان في سقف الغرفة ،و َّ
الزبد يتدّلى من عدد من ّ همهمة أسماء ِ
ِ غارقًا في
ي متالح ٍق ال ُك رة البلورية أمامي :حبزبوز ،غمزبوز ،قمرموز ،بزبوز بزبوز، ٍ
بشكل دائر ٍّ فمي ،وك ّفاي تالمسان
حاجب ّي عينيها ،وبإشارٍة من ٍ
َ عين َّي في ْ
غرزت َ
ُ طويلة دقائق
َ حبزبوز ،غمزبوز ،قمرموز ،بزبوز ،بزبوز ...وبعد
طلبت منها أن تتكلّم.
ُ
ٍ
وبصوت و ٍ
اهن: ترد ٍد
قالت بعد ِّ
أتيت لمعرفة طالعي ومستقبلي. ـ ُ
عين َّي وراح رأسي يترّنح يميناً وشماالً ،وأنا
أغمضت َ
ُ يدي حول ال ُكرة البلوريَّة أمامي ،و
عت حرك ُة ّتسار ْ
عين ّي المتَّ ْ
سعتين وغرزت َ
ُ ال،
خفضت رأسي قلي ً
ُ ثم
بجنيي وأناديه ،وأناشده ،وأناغيه ،وأتوسَّل إليه؛ َّ أستنجد ِّ
وقلت لها:
ُ بعينيها،
ْ
آك ،وعقله منشغل بهو ِ
اك. رجل يخفق لمر ِ
قلب ٍثمة ُ ـ َّ
86
قالت ِ
وجل َة:
ـ هل لي أن أعرف َمن هو:
بصر ٍ
عليل: ٍ
طويل ،وزيغ ٍ ترد ٍد
قلت بعد ّ
ُ
ِ
بحرف الجيم. إنسان فهيم ،واسمه اسم حيو ٍ
ان وسيم ،ولفظه يبتدئ ٍ ـ شكله شك ُل
وكأني أتهجى الغيب:
أضفت ُّ و
ـ َجَ ،ج َ ،ج َمل ،ال ،الَ ،جَ ،جَ ،جو َ ،جو ،جواد ،نعم جواد.
ال:
وهنا تهّلل وجهها بانبهار ،وعلته ابتسام ُة انتظار .فعاجلتُها قائ ً
شبح امرٍأة تقتفي خطاه ،وتبتغي أن تكون ُمناه.
بيد ّأني أرى َـ َ
علت وجهَها غمامةٌ وكآبةٌ ،وقالت:
وهنا ْ
ـ نعم ،نعم ،أعرفها ،وكيف أتخلّص منها؟
قلت:
ُ
أمر في ُحكم المتمانع ،ويستلزم أكثر من قراءة الطالع .ويتطّلب مني جهدًا في المختبر
ـ هذا ٌ
والمصانع.
قالت:
ْ
افعل ،وأنا ِّ
أسدد التكاليف. أرجوك ْ
َ ـ
قلت :
ُ
ِ
بهاتفك المحمول صورتَْين لها ،ولو من بعيد :إحداهما من الخلف واألخرى من األمام، ـ إذن التقطي
ُهي ئ
هاتفك في غالف ملصق ،واتركيه في صندوق البريد في باب منزلي ،وبعد أن أ ّ ِ وضعيهما مع رقم
المعمول في المختبر ،سأتصل ِ
بك هاتفيًا أل ِّ
ُحدد لك موعداً.
قالت بحماسة:
ـ سأفعل.
وسألت:
ْ وأخرجت محفظتها
ـ كم تريد؟
ِ
فسأخبرك بها في حينه. أما تكاليف المعمول
لقاء هذه الجلسةّ .
قلت :خمسمائة درهم َ
ُ
ودفعت لها عمولتها ومقدارها مائة درهم ،أي عشرين بالمائة
ُ في اليوم الثاني جاءتني سميرة،
بالضبط .فنجاح المهنة يستلزم اإلتقان في العمل ،والصدق في المعاملة ،لتحتفظ بالزبائن واألصدقاء
87
والوسطاء .أو كما يقول المثل الفرنسي " " Les bons comptes font les bons amisبالحسابات
الطيبين ".
الصحيحة تكسب األصدقاء ّ
نت في قوام المرأة ،غريمة أمل .فوجدتها تميل إلى الطول،
تمع ُ
وصلتني الصورتان بعد أيام قليلةّ .
صغير من
اً أخذت أصنع لها تمثاالً
أسميه بمختبري الصغير ،و ُودخلت في ما ّ
ُ ممتلئة الجسم ،طويلة الشعر.
ِ
تقنيات هوايتي في الرسم والنحت. ِّ
الكف المبسوط ،مستفيداً من الشمع بطول
اتصلت هاتفياً باآلنسة أمل .لتوافيني في منزلي،
ُ ٍ
تمثال يضاهي الصورة واألصل .و انتهيت من صنع
ُ
أسميه.
أو عيادتي كما يحلو لي أن ّ
طويل في غرفة االنتظار ،و ٍ
انتظار في غرفة االستقبال ٍ ٍ
جلوس ت أمل بطقوس مقابلتي من
مر ْ
بعد أن ّ
أخرجت من
ُ المزبد ورأسي المترنح يمينًا وشماالً،
المرعد ُ
المربد ُ
وهي تستمع إلى هلوساتي ،وتنظر إلى وجهي ُ
أس
أخرجت بيدي اليمنى دبوسًا له ر ٌ
ُ تمثال غريمتها ،وأمسكتُه بيدي اليسرى .ومن الكيس األسود،َ أسود
َ ٍ
كيس
وفززت وأنا أصرخ متألمًا " :آخ".
ُ أسود ،وغرزتُه في رأس التمثال،
ستحس غر ِ
يمتك ٍ
بألم في ذلك ُّ طرف من أطراف التمثال، ٍ ِ
غرزت هذا الدبوس في وقلت ألمل :كّلما
ُ
كل ليلة و ِ
أنت غرس الدبوس في طرف واحد فقط َّ
ِ الطرف من جسدهاَّ .إنه السحر األسود .احرصي على
ِ
وبمرور الزمن ستزداد آالمها الجسديَّة، وحيدة في الظالم ،دون أن يعلم أحد بذلك لئال يفسد مفعول السحر.
حاولت إخفاءها عن اآلخرين ،فيؤثِّر ذلك في صفاء روحها وجمال وجههاُّ ،
ويقل اهتمام جواد بها، ْ حتى إن
وكنت استهدي في ذلك
ُ تعززي.
كليًا .وكلّما يطلب منك جواد موعداً ،حاولي أن تمانعي قليالًّ .
فينصرف إليك ّ
بالمثل العربي المشهور " :تمنعي أشهى لك"
ِ
أودعت الكيس في ٍ
بتؤدة في الكيس األسود .و تناولت أمل التمثال والدبوس ُّ
بتوجس ،ووضعتْهما ْ
ثم قالت:
حقيبتها اليدويَّة الجلديَّةَّ .
ـ شك ًار ...كم؟
قلت:
ُ
ـ ألفا درهم فقط .وبعد شهرْين أخبريني عن مفعول المعمول ،وسنرى.
هاتفيًا ،فوافتني في المنزل وأنقدتُها أربعمائة درهم ،عمولتها مما دفعتْه أمل
ّ اتصلت بسميرة
ُ وفي اليوم التالي
في زيارتها الثانية ،أي عشرين بالمائة بالضبط.
ازدهرت مهنتنا أو تجارتنا يومًا بعد آخر ،وازداد دخلنا شيئاً فشيئًا ،ولم تواجه سميرة أيَّة صعوبة في
ْ و
سرت بين كثير من الطالبات الجامعيات أنباء مهاراتي العجيبة ْ إيجاد زبونات جديدات ،بل على العكس
88
فتهافتت الطالبات على سميرة ُي ِردن االستفادة من خدماتي ،فقد ُ
كنت أرفض استقبال أيَّة ْ وقدراتي الخارقة،
طالبة تأتيني وحدها.
عيني صديقها ،وأُخرى تبحث ال في َاستقبلت كثيرات ،إحداهن تريدني أن أصنع لها تميم ًة تزيدها جما ً
ُ
سحر يجعلها تنجح في َّ
مادة العلوم الطبيعيَّة ،أو باألحرى يجعل أستاذها يستحسن كالمها ويهَبها عالم ًة عن ٍ
بأن جميع زميالتها يغرن من جمالها وذكائها ،وأََّن َّ
هن يسحرن عاليةً ،وثالثة مغرورة أو مصابة بالفصام ،تؤمن َّ
جنياً وقع في غرامها فهو يسكنها وال يفارقها. لها وتريد إبطال سحر َّ
هن ،وأُخرى تتوهم أن ّ
عملت السحر المطلوب ،وأستخدم الطريقة اإليحائية ُ أوهمهن َّ
بأنني َّ كنت
في جميع تلك الحاالتُ ،
فمن تريد ٍ َّ التي وضعها العالِم البلغاري جورجي لوزانوف ،و
أزودهن بتعليمات ضروريَّة ليفعل السحر مفعولهَ .
ماد ٍة ما أنصحها
ومن تطلب النجاح في َّ الجمال ،أنصحها بالرشاقة واألناقة واللياقة في السلوك والحديثَ .
التقرب من
وحسدهن ،أنصحها بالتواضع و َُّّ ومن تخشى غيرة األخريات وقت ٍ
بتخصيص ٍ
ِ
المادةَ .
ّ كاف لتلك
صاحباتها ،ليفعل سحري مفعوله.
ذات يوم ،أخبرتني وسيطتي (سميرة) َّ
أن طالب ًة تُدعى (وصال) تروم االستفادة من خدماتي .أعطتني
بعض المعلومات عنها وأضافت قائلة:
تام.
بنجاح ٍّ
ٍ ـ َّ
إن مشكلتها بسيطة تستطيع أن تتعامل معها
دخلت غرفة االستقبال
ْ ثم
وصلت وصال في الموعد المضروب ،وأخضعتُها لطقوس االنتظارَّ ، ْ
وضعت ساقاً على
ْ وجلست مقابلي وقد
ْ بقوامها الرشيق الفارع الطول الذي بسط سلطانه على المكان كلِّه،
طتهما.
يتين فغ ّ
يضتين العار ْ
كتفيها العر ْ
خصالت شعرها الذهب على ْ ُ انسدلت
ْ ساق ،و
أحسست في أعماقي بر ٍ
عشة تسري في أوصالي ،كما لو َّأنها ُ في اللحظة التي التقت فيها عيوننا،
خرجت مرتجف ًة
ْ يد َّ
أن كلماتي حاولت أن أتمالك نفسي وأنا ِّ
أوجه الكالم إليهاَ ،ب َ ُ بعينيها النجالوين.
ْ سحرتني
ٍ
بالغة ،سألتُها عن حاجتها .قالت: ٍ
بصعوبة كأن فكري قد ُش َّل عن الحركة.
متقطعةً متهافت ًة ال معنى لهاَّ ،
ولكني ال أدري ما الذي ينبغي أن ـ َّإنني ال أعرف ما أريد .هذه هي مشكلتي .سأتخرج هذا العام في ِّ
الكليَّةِّ ، ّ
أفعل.
يتين ،أسكرتني بحالوة لهجتها ،كانت َّ
تتحدث بلثغة محبَّبة. شفتيها الخمر ْ
فتحت ْ
ْ حالما
قلت:
ُ
ِ
أمامك؟ ـ وما هي البدائل المطروحة
قالت:
ْ
89
تقد َم ألهلي يطلب يدي؟ هل ٍ
محترم ّ ٍّ
شاب ـ كثيرة .هل أذهب إلى أمريكا لمواصلة دراستي؟ هل أتزوج من
طيبًا .وهذا ما يحيرني. ٍ
ال ّ
علي عم ً
بشركة عرضت َّ اشتغل
قلت:
ُ
مني:
ـ وماذا تريدين ّ
قالت:
ـ لعلَّ َك تستطيع مساعدتي ،فقد ترى طالعي وترشدني إلى األفضل.
ِ
أكتف بالمعلومات التي ٍ
شيء عنها وعن أهلها .ولم أردت أن أعرف َّ
كل ُ أثارت َّ
حب االستطالع لدي.
المفضل لديها واأللوان المحبَّبة في
ّ زودتني بها سميرة عنها .فسألتُها عن عاداتها وهواياتها وأنواع الطعام
الشيء منجذب نحوها وأريد أن أمتلكها .فعندما تعرف
ٌ أحسست َّأنني
ُ ٍ
بصلة إليها. كل شيء ُّ
يمت نظرها ،وعن ِّ
َ
فأنت تمتلكه ،ألنه يصبح جزءًا من كيانك .أليس كذلك؟
تمامًاَ ،
أن حبَّها سيطر علىوقعت في غرامها من َّأول نظرة ،و َّ
ُ أحسست َّ
بأنني ُ ال أدري ما الذي دهاني ،فقد
ِّ
الحب من َّأول نظرة. تحبني هي األُخرى .لم ِّ
أصدق مقولة ٍ
حاجة إلى أن َّ عقلي وروحي ووجداني ،و َّأنني في
ٍ
طرف واحد .كيف ُّ
تحبني وأنا أعتمر هذه الطاقيَّة ولكن هذا ما وقع لي .المشكلة هنا تكمن في َّأنه ٌّ
حب من
الغريبة السخيفة ،وألتحي هذه اللحية المخيفة؟
ٍ
تعليمات َبعديَّة .وهذا النوع من التنويم مغناطيسي ،واعطائها
ٍّ ٍ
تنويم أن أخضعها لجلسة قررت ْ
ُ لهذا
ٍ
تعليمات للنائم ،ال لينفِّذها في المغناطيسي
ُّ المنوم
تطو ًار وأصعبها .إذ يعطي فيه ِّ
المغناطيسي هو أكثر األنواع َّ
الحال ،بل لينفذها بعد أن تنتهي جلسة التنويم ويخرج الفرد من تأثيره ويعود إلى حالته الطبيعيَّة .ففي التنويم
كنت آمل
بشكل كبيرُ . ٍ ويتقبل االقتراحات واإليحاءات ٍ
استرخاء ّ المغناطيسي يكون ذهن النائم في حالة هدوٍء و
تحبني ،و َّأنها متعلِّقةٌ بي ،وأن اختيارها في الحياة سيقع َّ
علي واالرتباط بي أن أوحي إليها ،وهي نائمةَّ ،
بأنها ّ
ُّ
فالحب ٍ
طويلة أو حليق الذقن. ٍ
بلحية طاقي ًة غريبةً أو حاسر الرأس، دون غيري ،مهما كان شكلي ،معتم ًار َّ
َّ
الصحة والمرض، أن َّ
تحب اإلنسان مهما تغيَّر مظهره بمرور األيام والزمان ،في الحقيقي الذي أحلم به هو ْ
ُّ
وتشد أزره. يجدك هناك قريبًا منه ،واقفًا إلى جانبه ،تعضده
َ كل ٍ
حال، في الغنى والفقر ،في الفرح والحزن .في ِّ
قلت لها:
المنوم .ولهذا ُ
المنوم و َّ
يتوقف على التعاون بين ِّالمغناطيسي َّ
ِّ َّ
ولكن نجاح التنويم
ق ِ
قلبك .إذ ـ ـ لكي نعرف ما تريدين أن تفعليه حقيق ًة ،يجب أن نستمع إلى ر ِ
غباتك الكامنة في أعما ِ
ب َّ
ينبغي أن يستمع اإلنسان إلى نبض قلبه ورغبات روحه ،ال إلى ما يشير به عليه اآلخرون .وهذا يتطل ُ
استخدام التنويم المغناطيس ِّي ،إذا ِ
كنت راغبةً في ذلك.
قالت:
ْ
90
لدي ،إذا كان ذلك هو ما تراه.
ـ ال مانع َّ
بأي أجر ،بل على العكس،يومين .وعلى غير عادتي ،لم أطالبها ِّ إلي بعد ْ
طلبت إليها أن تعود ُّ
ٍ
ذهبية ُعّلق في وسطها تمثال ٍ
قالدة يت هدي ًة لها ،عبارةً عن
ذهبت حال مغادرتها إلى سوق الذهب ،واشتر ُ
ُ
كنت أزمع أن استخدمها في عملية
الحب والخصب لدى البابليِّينُ ، ذهبي صغير لإللهة عشتار ،ربَّة الجمال و ِّ
التنويم المغناطيسي.
ٍ
حديث مغناطيسياً .وبعد كرسي وثير بقصد تنويمها يومين ،فأجلستها على
ّ ٍّ إلي وصال بعد ّْ عادت
وطلبت منها أن تركز بصرها على ُ الذهبية،
ّ أخرجت القالدة
ُ نفسي ًا،
ّ منه أن تكون مرتاح َة قصدت
ُ ٍ
قصير
ال
ال وشما ً
ببطء من أعلى السلسلة ،تمامًا مثل حركة البندول ،يمينًا وشما ً ٍ أحركه
كنت ِّ
الذي ُ التمثال الذهبي
ٍ
بالثقة وبنبرٍة هادئة: ٍ
بصوت يوحي ويمينًا ،وأنا أخاطبها
عينيك ،ها هو النعاس
شيء .رّكزي نظرك على التمثال ،استرخي تماماً ،أغمضي ْ ٍ ـ ال تفكري في
عينيك ،ها ِ
أنت تنامين ،نعم ،نعم ،تنامين ،تستغرقين في النوم ،تنامين. ْ يغشى
تنم عن تفكير وذكاء ،وليست عفوية.
أخذت أطرح عليها األسئلة ،جاءت إجاباتها مدروس ًةّ ،
ُ عندما
خذت أتساءل ما إذا كانت (وصال) من ضمن العشرة بالمائة فخامرني ٌّ
شك في ّأنها كانت تتظاهر بالنوم ،وأ ُ
مغناطيسيًا ،كما تقول الدراسات العلميَّة .ومع ذلك فقد أخبرتُها وهي نائمة
ّ من الناس الذين ال يمكن تنويمهم
وطلبت منها أن تزداد غراماً بي.
ُ تحبني بال ريب،
أحبها ،وهي ّ َّ
بأنني ّ
وضعت القالدة الذهبية في العلبة المخملية الصغيرة َّ
وقدمتها ُ لم أطالبها بأيَّة أجرة .بل على العكس،
أيت فيها نوعًا من االستخفاف بتلك الهديَّة ،بل ازدرائها. ٍ
بابتسامة ر ُ فتقبلتها
إليهاّ .
أهملت استقبال ز ٍ
بونات ُ أهملت دروسي الجامعية مثلما انصرفت ب ُكلِّيتي إليها ،و ُ
ُ توالت هداياي لها ،و
ازددت انجذاباً إليها،
ُ ازدادت ُّ
تمنعاً، ْ جديدات .أصبح عالمي يدور في فلكها ،وكانت متقلِّب ًة ِّ
متمنعة .وكّلما
َّ
تتصيد وتعلُّقًا بهاُ .
كنت أدرك في ق اررة وجداني َّأنها ال تصلح لي ،وأعي في صميم عقلي َّأنها فتاةٌ لعوب،
القلوب ،لتحرقها على مشواة االنتظار ،وسفود الصدود .فها هي راحت تخلف مواعيدها بعد أن طلعت شمس
قررت أن ال أفكر فيهاَّ ،
ولكنني أجد نفسي منساقًا ُ عيني .كم م ٍرة
ّ أت محرَار اللهفة في
الشوق في قسماتي ،وقر ْ
ٍ
جاذبية ال خالص وقعت تحت تأثير
ُ طعت بين عقلي وارادتي ،أو َّ
كأنني لمهاتفتها ،كأن خيوط االتصال قد تق ّ
ت أتساءل ما إذا كان السحر قد انقلب على الساحر ،كما يقولون. منها .وأخذ ُ
وتضاءلت
ْ تضاعفت قيمتها ،وصارت أغلى فأغلى.
ْ أخذت أشتري ابتساماتها ورضاها بالهدايا التي
ُ
ُّ
ستحبني. أمل َّ
بأنها سيارةً صغيرةً لهاِّ ،
وكلي ٌ ُمدخراتي حتّى أمست صف اًر .وذات يوم ،وجدتني أشتري ّ
اضطررت أن أسحب شيكًا على المكشوف ،أي َّ
أن الشيك بدون رصيد. ُ و
91
ثم ضرب ًة َّ
قويةً انفتح الباب بعدها؛ ودخل رجال الشرطة، وذات ٍ
ليلة ،سمعت طرقًا عنيفاً على البابَّ ،
عر رأسي االصطناعي ولحيتي الكثة والشموع ،وجميع األشياء في غرفة العتقالي وحجز ومصادرة َش ِ
لجلسات مر ٍ
هقة مع ٍ عت
ُخض ُاد ثبوتية .وبعد أن أمضيت أيامًا طويل ًة في المعتقل ،وأ ِ االستقبال بوصفها مو ّ
ّ
للمادة المائة والسابعة
ّ على طبقًا
قاضي التحقيق ،اقتادوني ذات يوم إلى المحكمة ،ليصدر القاضي حكمه َّ
والعشرين من قانون العقوبات الجنائية ،التي تجرم االحتيال والشعوذة بثالث سنوات سجناً نافذاً وبغر ٍ
امة ّ
ٍ
شيكات المادة الثامنة والخمسين من القانون نفسه التي تعاقب َمن يصدرمقدارها عشرون ألف درهم ،وكذلك ّ
بسنتين سجنًا نافذًا ،على أن أمضي فترتَي العقوبة بالتعاقب. ٍ
رصيد بدون
ْ
ـــــــــــــــــ
92
الحج
ّ
93
وجدت هناك
ُ ِّ
المتوجهة إلى منى. مشيت إلى موقف الحافالت ُ في صباح الثامن من ذي الحجة،
الحجاج الذين جاءوا ب ًار .وكانت تلك ِ
مجموعات ِ
حافالت ات من الحافالت ،بل مئات ،باإلضافة إلى عشر ٍ
ّ
ٍ
حافلة كانت ،وبعد دقائق تمتلئ الحافلة بالركاب لحجاج يركبون أيَّة
الحافالت تنطلق بال انتظام وال ترتيب .فا ّ
حاج ذلك العام.فينطلق السائق بها نحو منى .فهناك أكثر من مليون ٍّ
ٍ
شاغر في الحافلة .واذا بالرجل الجالس في المقعد ست في أقرب ٍ
مقعد إليَ ،و َجلَ ُ ٍ
حافلة َّ أقرب ركبت
ُ
َ
المجاور يقول لي:
برؤيتك".
َ الَّ ،
ولكني سعيد رت قلي ً ـ " َّ
تأخ َ
ووجنتيه.
ْ لت جبينه
وقب ُ
يديهّ ،
ولثمت ْ
ُ أخ َرستني المفاجأة والفرحة ،فعانقتُه
كان ذلك الرجل والديْ .
موقع يمكن الوصول إليه في جبل عرفات لنمضي بقية ٍ في تلك الليلة ،اصطحبني والدي إلى أعلى
التأمل .بدا المنظر تحتنا رهيبًا :عشرات اآلالف من الخيام البيضاء المضاءة ،تنتشر على
الليل في التعبُّد و ُّ
سفح الجبل وعلى التالل المحيطة به .والقمر يضيء المشهد الجلل.
قلت لوالدي:
ُ
صح ٍة جيِّدة. مسرور أكثر َّ
ألنك تبدو في َّ ٌ مسرور بلقائك ،يا أبي؛ و
ٌ ـ أنا
قال والدي:
َنت سعيد؟
َنت؟ هل أ َ
ـ وأ َ
قلت بنوٍع من ُّ
التردد: ُ
دخل جيد .ولي كتابان.
امتلك شق ًة ،ولي ٌ
ُ ـ الحمد هلل.
قال:
أنت سعيد؟ ال أدري ،فطموحك أكبر من
يعتمل في قلبك؟ هل َُ عما تملك .واِّنما ّ
عما أسألك ّ
َ ـ لم
لك أخوك هديةً:
أنت تضع أصبعك على أبعد األماكن في األطلس الذي جلبه َكنت صغي اًر ،و َ
الالزم .فمنذ أن َ
"سأدرس هنا في أوسلو ،أبعد نقطة في الشمال ،وهنا في سدني في أستراليا ،وهنا في أوستن ،أمريكا"ِ .
اقتل
فإخوتك الذين بقوا يعملون في مزرعة القرية ،ال
َ قلبك بالقناعة ،تنل بعض السعادة وراحة البال.
الطمع في َ
يمتلكون كثي اًرَّ ،
ولكنهم سعداء في أعماقهم ،يبذرون الحنطة والشعير ،ويرّبون أطفالهم.
ودعت
بعد العودة من منى الى مكة وقيامنا معًا بطواف اإلفاضة حول الكعبة وانتهاء موسم الحجّ ،
اتصلت هاتفيًا بمنزلنا في العراق ،لالطمئنان
ُ يومين
وعدت إلى مقر إقامتي وعملي في الرياض .وبعد ْ
ُ والدي،
94
أحسست برَّنة ٍ
حزن ُ فرحت بسماع صوتي؛ ومع ذلك،
ْ رفعت سماع َة الهاتف والدتي .
ْ على عودة والدي سالماً.
ٍ
خفية في صوتها .قلت لها:
ٍ
شيء على ما يرام؟ أنت بخير ،هل ُّ
كل ـ أُمي ،هل ِ
ّ
ـ نعم ،الحمد هلل.
ـ هل عاد والدي من الحج سالماً معافى؟
ٍ
بشيء من الدهشة: قالت والدتي
َّ
ولكن مرضه المفاجئ حال دون تحقيق ـ لم يذهب أبوك إلى الحج هذا العام .كان ينوي ذلك،
أُمنيته.
ـ ولكن ،يا أُ ّمي...
وقلت :
ُ َحجمت عن إتمام جملتي،
ُ ثم أ
َّ
ُمي ،أين هو اآلن ؟
ـ ولكن ،يا أ ّ
إخوتك معه.
َ أسبوعين .طبيب البلدة يزوره يوميًّا ،وجميع
ْ ـ ّإنه هنا طريح الفراش منذ
ـ هل أستطيع أن أكلِّمه؟
ـ نعم ،تفضل.
يرد تحيتي .وقال:
وصلني صوت أبي واهناً ،وهو ّ
برفقتك ،يا ُبني.
َ سعدت ح ّقاً
ُ ـ لقد
.................................................. ...
وتعلمت الكثير
ُ جدًا بأدعيتك وصلواتك.
استمتعت ّ
ُ لك ،يا أبي ،على هذه الحجة الرائعة...،
ـ شك ًار َ
خاصة ما قلتَه لي ونحن على جبل عرفات ُبعيد صالة الفجر.َّ منك،
هنا تهلَّل صوت والدي ،وهو يقول لي:
مسرور كذلك ..
ٌ ـ وأنا
السر وراء
أدركت َّ
ُ مد ٍة قصي ٍرة ،وصلتني برقيةٌ من أخي األكبر ِّ
يعزيني فيها بوفاته .عند ذلك بعد ّ
نت حزناً مضاعفاً ،ال َّ
ألنني لم أ ُكن ِّ
الحج ذاك .فقد كان لقاؤنا وداعًا .فحز ُ أن أوافيه في موسم طلبه مني ْ
ألنه لم ي ُكن في استطاعتي دخول العراق ألشارك في تشييع جنازته، بجانبه ساعة رحيله فحسب ،بل كذلك َّ
ُمي.
والتخفيف من أحزان أ ّ
95
أمنا تريد أن تزورني وهي في طريقها إلى م ّكة ألداء ال َّ
إن َّ إلي أحد إخوتي قائ ً
كتب َّ
في العام التاليَ ،
إخوتك َّأنني أوصيهم ببذل أقصى الرعاية وغاية اللطف بأ ّ
ُمنا. َ اخبر
الْ :كتبت إليه قائ ً
ُ العمرة ،واّنه سيرافقها.
َسعدوها ما أمكن.
أْ
ــــــ
96
البحث عن قبر الشاعر البياتي *
َّ
فاستقل حافلةً من بغداد إلى دمشق وعلِم أحد أشقائي األصغر ّ
مني ًّ
سنا بسفرتي هذه،
عاما من الفراق .جاءني إلى الفندق ضحى يوم الجمعة ،وبعد سالم
ليراني بعد أكثر من ثالثين ً
أتهيئ للخروج؟
وعناق وحديث طويل عن األهل واألصحاب ،سألني وقد رآني ّ
ـ أين ستأخذني؟
قلت" :سنذهب إ لى ضريح الشيخ محي الدين بن عربي للبحث عن قبر المرحوم عبد
ُ
اد بعد وفاة البياتي من
ردده الن ّق ُ
أت ما ّ
وكنت قد قر ُ
ُ الوهاب البياتي ،ألتلو الفاتحة على روحه( ".
صوفي ـ الشيخ ابن
ٍّ ود ِفن بالقرب منصوفي ـ الشيخ عبد القادر الجيالني ـ ُ
ٍّ ّأنه ُولِد بالقرب من
عربي ـ ).
فاخر ٍ
مطعم ٍ قلت " :هذا قَ َد ُرنا ( ".وتبادر إلى ذهني ّأنه كان يرغب في اصطحابه إلى
ُ
الجبلية الرائعة).
ّ في أحد المصايف
القيِّم
اهتديت إلى َ
ُ أدينا صالة الجمعة في مسجد الشيخ محي الدين بن عربي،
بعد أن ّ
أظنه بجوار الضريح أو في فناء
كنت ّ
ُ على ضريح الشيخ ،وسألتُه عن قبر البياتي الذي
المسجد .فقال القيِّم:
97
ي وقد
أي قبر بجوار الضريح ،ما عدا قبر األمير عبد القادر الجزائر ّ
ـ " ال يوجد ُّ
(فتساءلت في نفسي :ومتى يستعيد العراق رفات
ُ استعادته الدولة الجزائرّية بعد االستقالل".
فات ٍ
مئات من نوابغه األحياء واألموات؟) البياتي والجواهري ور ِ
ُ
بحي الشورى
إن البياتي مدفون في مقبرة اإلمام زين العابدين ّ
وتابع القيِّم جوابه قائالًّ " :
في جبل قاسيون".
تغدوا معنا".
فضلوا ّ
ـ " اإلخوة من العراق ،أرجوكم ت ّ
بعيدا
لحقها وهو ليس ً ـ " نعم ،ال ،قبر المرحوم البياتي ليس في هذه المقبرة ،واَّنما في ُم َ
من هنا .وقد اختارت و ازرة الثقافة السورّية ذلك المكان له ،بناء على وصيته .وسيرافقكم ولدي
ليدّلكم عليه".
99
يديها /فهذه األرض التي تحدها
ل َقب ا
بعد الموت /أحمل قاسيون /أعيده إليها /م ّ
دمشق َ
َ " عدت إلى
باب القبر" .
السماء والصحراء /والبحر والسماء /طاردني أمواتها وأغلقوا علي َ
عددا من
ولكنني سأخبر ً
كثير عن الشعرّ ،
متخصص في التكنولوجيا ،وال أعرف ًا
ِّ ـ " ّإنني
شعراء باكستان الالمعين بطلبك ،وسأدعوهم من جميع المقاطعات لتناول العشاء معنا في آخر
ليلة من زيارتك".
قصدت
ُ عمان ،وأنا في طريقي إلى إندونيسيا ،وعندما
توقفت ذات مرة في ّ
ُ رت كيف
تذ ّك ُ
أن البياتي انتقل إلى دمشق قبل أيام لإلقامة فيها .فتبادر إلى فكري
البواب ّ َّ
شقة البياتي ،أخبرني ّ
ست في نفسي خيفة .وبعد أشهر قليلة وتوج ُ
ي الرهيب ،وتصاعد وجيب قلبيّ ، ذلك المقطع الشعر ّ
رحل عنا البياتي إلى األبد.
100
رت غربة الشيخ محي الدين
رت غربة البياتي ،وتذ ّك ُ
أشياء كثيرةً أُخرى .تذ ّك ُ
رت هذا و َ
تذ ّك ُ
رت
وتذكرت غربة العراقيِّين في بالدهم ،وتذ ّك ُ
ُ بن عربي الذي لم تطالب األندلس باستعادة رفاته،
استدرت خارًجا من المقبرة صامتًا
ُ قرقت دمعةٌ في عيني ،وعندها
غربتي ،وبدون أن أدري تر ْ
اجما ،وأخي يتبعني من غير أن يتكلَّم.
و ً
ـ ـ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ـ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ـــ
أُضيفت هذه القصة من مجموعة " أوان الرحيل" القصصية ،بناء على رغبة الناشر األستاذ خالد العاني ،صاحب
وفاء منه لذكرى صديقه الراحل الشاعر عبد الوهاب البياتي.
دار الموسوعات العربية في بيروتً ،
ا
101
لحلم
حينما أنهى دراسته في الواليات المتَّحدة األمريكية ،رأى في نومه ُحلمًا غريباً .رأى نفسه يقف على رأس تمثال
وتمر به الدالفين سابح ًة في جميع االتجاهات،
ثم ُيلقي بنفسه في البحر ،ويسبح شرقًاُّ ،
الحرية في نيويوركَّ ،
ِّ
ولكنه يواصل سباحته شرقًا حتّى يصل الشواطئ المغربية.سفن محملة بالناس وهي تتَّجه غرباًَّ ،
وتمر به ٌ
ُّ
المتنوعة واألصداف اللؤلؤية .تطفو إحدى
ِّ وهناك يعوم بين الشعاب المرجانية ،تخلب لَُّبه أشكال األسماك
لؤلؤة
ً المتموجة ،فيجد في داخلها
ّ األصداف نحوه ،تلتصق بجسده العاري ،يفتحها وهو ما زال في المياه
بيضاء مشرب ًة بحمرة ،كبيرة الحجم ،رائعة الشكل ،لم َير مثلها من قبل .فيخرج بها من الماء الى الشاطئ،
َ
ينظر إلى اللؤلؤة النادرة ،فتبتسم له الدنيا ،ويشعر بأنه أغنى الناس وأسعدهم.
ظل َّ
يتذكر جميع تفاصيله ،بعكس معظم الحلم في الصباح ،على الرغم من َّأنه َّ لم ُي ِعر با ً
ال لهذا ُ
الخاصة في
َّ فسره بطريقته يتذكرها في صحوه ،أو َّ
يتذكر شيئًا باهتًا منهاَّ . األحالم التي تراوده في نومه وال َّ
تفسير األحالم ،فهي في نظره شواغل النهار التي تظهر في الليل عندما يغفو الوعي ويفسح الطريق لالوعي.
الحلم.
تسبب في ذلك ُ
مجز هو الذي ّ أن انشغاله أثناء تلك األيام في الحصول على ٍ
عمل ٍ ال َّ
شك في َّ
عرضت عليه
ْ كان في تلك األيام قد دخل في مراسالت مع جامعة أريزونا في مدينة توسون التي
العمل أستاذًا فيها .واتَّفق مع الجامعة ،من حيث المبدأ ،على االلتحاق بها ،وعلى القسم الذي سيعمل فيه،
والمواد التي سيتوّلى تدريسها ،ولم َّ
يتبق ّإال االتّفاق على مقدار الراتب الذي سيتقاضاه ،والمزايا اإلضافية التي
سيتمتّع بها.
مدر ٌس من تلك
فس َر الحلم في ضوء رغبته في الحصول على أعلى مرتب يمكن أن يتقاضاه ِّ
ولهذا َّ
الحرة هي السائدة في جميع مرافق الحياة األمريكية ،حتّى في الجامعة له مثل َّ
مؤهالته .ففلسفة السوق ّ
الجامعات األكاديمية أثناء استخدام األساتذة ،فرواتبهم تخضع لمبدأ العرض والطلب في االقتصاد ،وكذلك
لألخذ و ِّ
الردب والمساومة.
الحلم نفسه بذات التفاصيل التي كانت ماثلة في ذهنه بعد أن استيقظ في
في الليلة التالية ،رأى ُ
ثم يلقي بنفسه في البحر ،ويسبح شرقًا حتّى يصل الشواطئ
الحريةَّ ،
الصباح :رأى نفسه واقفًا على رأس تمثال ِّ
102
ٍ
صدفة يخرج بها إلى الشاطئ ،ويفتحها ،فيجد في داخلها المغربية ،وهناك يعثر بين الشعاب المرجانية على
بيضاء مشرب ًة بحمرة .
َ لؤلؤته النادرة،
الحلم ،يشعر في الصباح بشيء من الحنين إلى الوطن .وأخذ هذا الحنين
مرة يرى فيها ذلك ُ وفي ِّ
كل َّ ٍ
يتصاعد شيئًا فشيئاً .وبدون أن يدري ،أخذ ي فتقد مآذن المساجد وقبابها ،أشجار النخيل وسعفها المتطاير في
األعالي ،شناشيل المباني القديمة ،منظر العباءات التي تتلفع بها النسوة في الطُّرقات ،أزياء الرجال العربية.
وأخذ يتلفَّت يمنة ويسرة في سيره َّ ،
كأنه يبحث عن أهله الذين فارقهم منذ سنين .تُرى ،هل هنالك عالقةٌ بين
الحلم الغريب هو وليد ذلك الحنين الثاوي بين الضلوع ،أم
الحلم العنود والحنين الذي داهمه؟ تُرى هل هذا ُ
هذا ُ
الحلم الغريب؟ َّ
أن شعلة الحنين قد أوقدها ذلك ُ
المتكرر لذلك الحلم ذاته بنفس تفاصيله ليس عبثًا ،بل هو رسالةٌ مقصودةٌ من ٍ
جهة ِّ أحس أن القدوم
َّ
ُ
يفكر فيها من قبل ٍ
وجهة لم ِّ َّ
يتحكم هو في مشيئتها وصيرورة إرادتها .أهو قدره الذي يلفت نظره إلى ُعليا ال
يزر الشواطئ المغربية سابقًاُّ ،
وكل ما يعرفه عنها أنه رآها ذات مرة في خريطة ولم ِ
ترد على باله قط؟ لم ُ
اللتين ذكرهما معلِّ ُمه في درس
األطلس الذي تصفحه في طفولته وهو يبحث عن مدينتي فاس ومكناس ْ
َّ
يتحدث عن المغرب .كان يحسب َّأنهما تقعان على شاطئ البحر ،غير أنه لم جغرافية البالد العربية وهو
يجدهما هناك فنسي أمرهما.
في تلك األثناء وفيما هو يتناول طعام الغداء في مطعم جامعته ،اقترب من طاولته زمي ٌل مغربي لم
صيني َة طعامه ،واتَّخذ مكانه في الطاولة ذاتها .وراحا َّ
يتحدثان .سأله َّ التخرج ،وهو يحمل
ُّ ي ُكن قد رآه منذ حفل
زميله المغربي:
103
ـ نعم فقد وصلتني هذا الصباح رسالة من جامعة أريزونا في توسون ،توافق فيها الجامعة على مقدار الراتب
الذي طلبته والعالوات الثانوية.
مناصب
َ ِ
وجود كنت أبحث عنك ألخبرك َّ
أن كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية في الرباط أعلنت عن ـ تهانينا ،فقد ُ
ٍ
جامعية شاغ ٍرة في مجال اختصاصك.
ليلة منذ َّ ٍ
كل ٍ
مدة ،وتتمثَّل أمام ْ
عينيه تلك اللؤلؤةُ التي يعثر الحلم الذي يراه في ِّ وهنا َّ
يتذكر صاحبنا ُ
بكل لمعانها وجمالها ورونقها .وفجأةً يجد نفسه يمطر زميله المغربي باألسئلة عن الرباط ِّ
وكليتها عليها ِّ
ثم يحصل منه على عنوان الكلِّية ليبعث إليها بطلب العمل فيها.
والمعيشة فيهاَّ ،
ُّ
المطل على الحرية
ِّ استقل الطائرة من نيويورك إلى الدار البيضاء ،تراءى لعينيه تمثال
ّ عندما
ولكنه لم يلمح َّأيةَ دالفين .وبعد ٍ
وهلة حين أخذت الطائرة في االرتفاع أثقل النعاس المحيط ،والمياه الغزيرةَّ ،
عينيه وغفا.
ْ
ـ علي بن الحاج محمد بن الحاج عيسى بن الحاج حسين القاسمي ،ولد في بلدة الحمزة الشرقي في محافظة
القادسية في العراق سنة .2491
ـ كاتب وباحث عراقي مقيم في المغرب منذ سنة .2491
ٍ
جامعات في العراق (جامعة بغداد) ،ولبنان (الجامعة األمريكية في بيروت ،وجامعة ـ تلقّى تعليمه العالي في
بيروت العربية) ،والنرويج (جامعة أوسلو) ،وبريطانيا (أكسفورد) ،وفرنسا (السوربون) ،والواليات المتحدة
األمريكية (جامعة تكساس في أوستن).
ـ حصل على اإلجازة (مرتبة الشرف) في اآلداب ،وليسانس في الحقوق ،وماجستير في التربية ،ودكتوراه
الفلسفة في علم اللغة التطبيقي.
ـ مارس التعليم في جامعة بغداد ،وجامعة تكساس في أوستن ،وجامعة الملك سعود بالرياض ،وجامعة محمد
ٍ
جامعات أُخرى مثل جامعة أكستر في بريطانيا ،وجامعة تمبرة في فنلندة، الخامس بالرباط .وحاضر في
وجامعة مراوي ستي في الفلبين.
ـ عمل مدي ًار إلدارة التربية في المنظَّمة اإلسالمية للتربية والعلوم والثقافة بالرباط؛ ثم مدي ًار إلدارة الثقافة ومدي ًار
ألمانة المجلس التنفيذي والمؤتمر العام في المنظَّمة نفسها ،ثم مدي اًر لألمانة العامة التحاد جامعات العالم
اإلسالمي.
ـ يعمل حالياً مستشا ًار لمكتب تنسيق التعريب بالرباط .
ـ عضو مراسل في مجمع اللغة العربية بالقاهرة وفي مجمع اللغة العربية بدمشق.
ـ عضو المجلس العلمي لهيئة المعجم التاريخي للغة العربية في اتحاد المجامع اللغوية والعلمية العربية،
وعضو المجلس العلمي لمشروع الدوحة للمعجم التاريخي للغة العربية.
105
ـ عضو الهيئة االستشارية للمركز الكوري للغة العربية والثقافة اإلسالمية في سيول.
ـ عضو المجلس االستشاري لألمم المتحدة حول تقرير " التكامل الحضاري بين البلدان العربية".
مجاالت اال هتمام :التربية والتعليم العالي ،تعليم العربية ومناهجها ،علم المصطلح ،صناعة المعجم ،الترجمة
ونظرياتها ،التنمية البشرية وحقوق اإلنسان ،القصة القصيرة ،الرواية ،النقد األدبي المعاصر .التاريخ الفكري.
ـ عبد المالك أشهبون (الدكتور) ،علي القاسمي :مختارات قصصية ،مع دراسة تحليلية (بيروت/
الجزائر/الرباط :دار ضفاف ودار االختالف ودار األمان)1122 ،
ـ سوسن البياتي (الدكتورة) ،بنية النص القصصي :رؤية سردية في مجموعة " دوائر األحزان" لعلي
القاسمي (القاهرة :دار رؤية)1122 ،
ـ الحسن الغشتول (الدكتور) ،بين الفكر والنقد ( القاهرة :دار الكلمة)1122 ،
حساسية النص القصصي :قراءة في مجموعة " حياة سابقة" لعلي ـ فيصل غازي النعيمي (الدكتور)ّ ،
القاسمي ( بيروت /الرباط :الدار العربية للعلوم ناشرون ودار األمان)1121 ،
ـ إبراهيم أولحيان ،الكتابة والفقدان :قراءة في التجربة القصصية عند علي القاسمي ( الدار البيضاء :دار
الثقافة)1122 ،
عمان:
ـ محمد صابر عبيد (الدكتور) ،التجربة والعلمة :قراءة في مجموعة " أوان الرحيل" لعلي القاسمي ( ّ
عالم الكتب الحديث)1122 ،
ـ إدريس الكريوي ،جماليات الق صة القصيرة :دراسات في اإلبداع القصصي لدى علي القاسمي (الدار
البيضاء :دار الثقافة)1121 ،
ـ عبد المالك أشهبون (الدكتور) ،من خطاب السيرة المحدود إلى عوالم التخييل الذاتي الرحبة (فاس:
.)1111
ـ عبد الرحيم العالم ،سيرة الفقدان ( الدار البيضاء :دار الثقافة)1119 ،
ـ إحسان التميمي (الدكتور) ،المعادل البصري في السرد العربي (الشارقة :جائزة الشارقة لإلبداع.)1119 ،
106
ـ شرف الدين ماجدولين (الدكتور) ،الصورة السردية في الرواية والقصة والسينما ( القاهرة :دار رؤية للنشر
والتوزيع.)1112 ،
ـ لحسن حمامة ،القارئ وسياقات النص (الدار البيضاء :دار الثقافة.)1112 ،
ـ مصطفى شقيب ،دراسة سايكولوجية عن " حياة سابقة" لعلي القاسمي (كتاب معد للطبع)
ـ صيّاد الآللئ :في الفكر واإلبداع المغربي المعاصر ( الدار البيضاء :دار الثقافة)1121 ،
ـ العراق في القلب :دراسات في حضارة العراق ،الطبعة الثانية( :بيروت :الدار العربية للموسوعات)1121 ،
921صفحة .الطبعة األولى ( :بيروت :المركز الثقافي العربي.)1119 ،
ـ أوان الرحيل ،مجموعة قصصية ،الطبعة الثانية ( :الدار البيضاء :دار الثقافة ، )1121 ،الطبعة االولى (
القاهرة :دار ميريت.)1119 ،
ـ لغة الطفل العربي :دراسات في السياسة اللغوية وعلم اللغة النفسي ( بيروت :مكتبة لبنان ناشرون،
.)1114
ـ الترجمة وأدواتها :دراسات في النظرية والتطبيق ( بيروت :مكتبة لبنان ناشرون.)1114 ،
ـ النور والعتمة :إشكالية الحرية في األدب العربي (الدار البيضاء :دار الثقافة. )1114 ،
ـ إرنست همنغواي ،الوليمة المتنقلة ـ ترجمة .الطبعة السادسة ( :القاهرة :دار رؤية ،)1122 ،الطبعة
الخامسة (الرباط :منشورات الزمن ،) 1122 ،الطبعة الرابعة( :القاهرة :مكتبة األسرة ، )1114 ،الطبعة
107
الثالثة( :القاهرة :دار ميريت .)1112 ،الطبعة الثانية( :الرباط ،منشورات الزمن ،) 1111 ،الطبعة األولى:
( دمشق :دار المدى.)1112 ،
ـ معجم االستشهادات الموسّع ( بيروت :مكتبة لبنان ناشرون 2124 ،)1111 ،صفحة
ـ علم المصطلح :أسسه النظرية وتطبيقاته العملية (بيروت :مكتبة لبنان ناشرون 112،)1111 ،صفحة
ـ إرنست همنغواي ،الشيخ والبحر ـ ترجمة ـ الطبعة الرابعة( :الرباط :منشورات الزمن ،)1122 ،الطبعة
الثالثة( :القاهرة :دار رؤية ،) 1122 ،الطبعة الثانية (:القاهرة :دار ميريت ، )1111 ،الطبعة األولى:
(الرباط :منشورات الزمن.)1111 ،
ـ دوائر األحزان ،مجموعة قصصية ،الطبعة الثانية( :الدار البيضاء :دار الثقافة .)1111 ،الطبعة
األولى(:القاهرة :دار ميريت)1112 ،
ـ حقوق اإلنسان بين الشريعة اإلسلمية واإلعلن العالمي ،الطبعة الثانية(:القاهرة :دار األديب كامل
الكيالني ، )1111 ،الطبعة األولى (:الرباط :المعرفة للجميع)1112 ،
ـ الحب واإلبد اع والجنون :دراسات في طبيعة الكتابة األدبية (الدار البيضاء :دار الثقافة)1112 ،
ـ عصفورة األمير :قصة عاطفية من طي النسيان لألذكياء من الفتيات والفتيان (بيروت :مكتبة
لبنان) 1112،
ـ علم اللغة وصناعة المعجم ،الطبعة الثالثة( :بيروت :مكتبة لبنان ناشرون . )1119 ،الطبعتان األولى
والثانية ( :الرياض :جامعة الرياض.)2442 ،2492 ،
108
ـ المعجمية العربية بين النظرية والتطبيق ( بيروت :مكتبة لبنان)1112 ،
ـ رسالة إلى حبيبتي ـ مجموعة قصصية ـ (الدار البيضاء :دار الثقافة)1112 ،
ـ مرافئ على الشاطئ اآلخر :روائع القصص األمريكية المعاصرة .الطبعة الثانية( :القاهرة :دار رؤية،
،) 1122الطبعة األولى ( :بيروت/الدار البيضاء :أفريقيا الشرق)1112 ،
ـ التقنيات التربوية في تعليم العربية لغير الناطقين بها ( الرباط :اإليسيسكو)2442 ،
عدة
المنسق ـ 2299صفحة( .طُبع بعد ذلك ّ
ِّ ـ المعجم العربي األساسي (باريس :األلكسو/الروس )2414 ،ـ
طبعات مقرصنة).
ـ مقدمة في علم المصطلح ،الطبعة الثانية ( :القاهرة :مكتبة النهضة ،)2411 ،الطبعة األولى ( :بغداد:
الموسوعة الصغيرة.)2412 ،
ـ القصة البوليسية (بغداد :الموسوعة الصغيرة )2419 ،ـ مترجمة عن جوليان سيمونزـ
ـ معجم مصطلحات علم اللغة الحديث (بيروت :مكتبة لبنان )2412 ،ـ مع آخرين ـ
ـ اتجاهات حديثة في تعليم العربية للناطقين باللغات األخرى (الرياض :جامعة الرياض)2494،
109
ـ مختبر اللغة (الكويت :دار القلم)2491 ،
ـ لودفيغ هولبرغ ،مسرحية الفلح البائس :يبّه الساكن على الت ّل .ترجمة .الطبعة الثانية( :الرباط:
منشورات الزمن ،)1122 ،الطبعة األولى(:بغداد :مكتبة األعظمي )2424 ،ـ مترجمة عن هولبرغ ـ
ـ تنظيم المكتبة المدرسية ( دمشق :دار الفكر )2441 ،2441 ،2411 ، 2492 ،2491 ،2424 ،ـ مع د.
ماهر حمادة ـ
- )Linguistics and Bilingual Dictionaries ( Leiden: E. J. Brill, 1977, 1981, 1983
-
- )Modern Iraqi Short Stories (Baghdad: Ministry of Culture, 1969
العنوان:
عنوان البريد اإللكترونيalkasimi@gmail.com :
110
111