You are on page 1of 176

‫صوص القصص َّي ُة‬

‫ُ‬ ‫ال ُّن‬


‫عشر‬
‫َ‬ ‫الصف ال ّثاين‬
‫ّ‬

‫جريبية) ‪1439-1438‬هـ ‪2018-2017 /‬م‬


‫ّ‬ ‫(الت‬ ‫ّ‬
‫الطبعة األولى ّ‬

‫حقوق الطبع محفوظة لوزارة التربية والتعليم بدولة اإلمارات العربية المتحدة‬

‫الصفوف العليا‬
‫إدارة مناهج ّ‬
‫ﻋﺮﺑﻲ‬
‫اﻗﺘﺮاح ‪ -‬اﺳﺘﻔﺴﺎر ‪ -‬ﺷﻜﻮى‬ ‫ﻣﺮﻛﺰ اﺗﺼﺎل وزارة اﻟﺘﺮﺑﻴﺔ واﻟﺘﻌﻠﻴﻢ‬

‫‪80051115‬‬ ‫‪04-2176855‬‬ ‫‪ccc.moe@moe.gov.ae‬‬ ‫‪www.moe.gov.ae‬‬

‫ﻣﺮﻛﺰ اﺗﺼﺎل وزارة اﻟﺘﺮﺑﻴﺔ واﻟﺘﻌﻠﻴﻢ‬


‫اﻗﺘﺮاح ‪ -‬اﺳﺘﻔﺴﺎر ‪ -‬ﺷﻜﻮى‬

‫‪80051115‬‬ ‫‪ccc.moe@moe.gov.ae‬‬

‫‪04-2176855‬‬ ‫‪www.moe.gov.ae‬‬

‫ﻣﺮﻛﺰ اﺗﺼﺎل وزارة اﻟﺘﺮﺑﻴﺔ واﻟﺘﻌﻠﻴﻢ‬


‫اﻗﺘﺮاح ‪ -‬اﺳﺘﻔﺴﺎر ‪ -‬ﺷﻜﻮى‬

‫‪80051115‬‬ ‫‪04-2176855‬‬ ‫‪ccc.moe@moe.gov.ae‬‬ ‫‪www.moe.gov.ae‬‬

‫‪English‬‬
‫‪Ministry of Education - Call Centre‬‬
‫رسالةٌ إىل الطالب‬

‫فأسا للبحر َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ ْ‬


‫المت َج ِّم ِد فينا»‬ ‫ِ‬
‫الكتاب ً‬ ‫«يجب أن يكون‬
‫(كافكا)‬ ‫ ‬

‫الطالب‪،‬‬
‫َعزيزي ّ‬
‫أ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫هــذا ِكتـ ٌ‬
‫ـاب ُص ِّمـ َـم ليكــون رفيقــا لــك وصديقــا؛ ســتجد فيــه النصــوص المقـ َّـررة فــي كتــاب النشــطة‬
‫ّ‬
‫اليوميــة‪،‬‬ ‫قســا مــن طقــوس حياتــك‬ ‫اءة َط ً‬
‫ُ‬ ‫ٌ‬
‫ونصوصــا أخــرى رديفــة‪ .‬وهــو دعــوة ّمنــا لتكــون القـر‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫اللغويــة‪،‬‬
‫تجــد لهــا ّمتسـ ًـعا مــن الوقــت‪ ،‬فتخلــو فيــه بكتــاب تقــرؤه ّ‬
‫بحريــة‪ ،‬وتبحــر فــي عوالمــه بهــدوء وســام‪.‬‬ ‫ٍ‬

‫ات إلــى الحيــاة المنفتحــة‬ ‫ّ‬ ‫الحيــاة ّ‬ ‫الت ّ‬‫ّإن ّ‬


‫المقــررة واالختبــار ِ‬ ‫بالــدروس‬
‫ِ‬ ‫ــدة‬
‫المقي ِ‬ ‫ِ‬ ‫نمــط‬
‫حــرر مــن ِ‬
‫ً‬ ‫ـكل أشــكا ِلها وألوا ِنهــا هــو ّالــذي سـ ُ‬ ‫ِّ‬
‫أدوات نجــاح ر ِاســخة وممتـ ّـدة‬
‫ِ‬ ‫ـيمنحك‬ ‫علــى الثقافــة والمعرفــة بـ‬
‫ٍّ‬
‫أكبـ َـر بكثيــر مــن مجـ ّـرد مدرســة وصــف ودرس‪.‬‬ ‫ومتناميـ ًـة وهــو ّالــذي ســينير بصيرتــك لتــرى الحيــاة َ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫نحثــك علــى أن تجعــل للقـراءة فــي هــذا الكتــاب وكتــب أخــرى ً‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫وقتــا تقتطعــه مــن يومــك‪ ،‬ولــو‬ ‫ٍ‬ ‫إننــا‬
‫أ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫كان قصيـ ًـرا‪ ،‬ونشـ ّـجعك علــى أن تجعــل لقراءاتــك فــي هــذا الكتــاب والكتــب الخــرى صــدى فــي‬
‫ـخصية فــي‬
‫ِ‬ ‫ـب عنهــا علــى صفحاتــك الشـ‬ ‫حيا ِتــك‪ ،‬فتتحـ ّـدث عنهــا مــع أصدقائــك وعائلتــك‪ ،‬وتكتـ ُ‬
‫ـاء شـ ّ‬ ‫ً‬ ‫ـهم إسـ ً‬
‫سيسـ ُ‬‫ـكل هــذا ُ‬ ‫ُّ‬
‫ثقتــك‬‫ـخصيتك‪ ،‬وتعزيــز ِ‬ ‫ملموســا فــي بنـ ِ‬ ‫ـهاما‬ ‫مواقــع التواصــل االجتماعـ ّـي؛ فـ‬‫ِ‬
‫بنفســك‪ ،‬وتزويــدك بمفاتيــح النجــاح الدائــم المســتمر‪.‬‬ ‫ِ‬

‫‪7‬‬
‫عشر‬
‫َ‬ ‫الصف الثّاين‬

‫الطالب‪،‬‬
‫َعزيزي ّ‬
‫َ‬
‫ـون أكثــر ً‬ ‫أ‬ ‫ّ‬
‫فهمــا للحيــاة‬ ‫إن القـراءة‪ ،‬وقـراءة الدب علــى وجــه الخصــوص‪ ،‬تســاعد المــرء علــى أن يكـ‬
‫ً‬
‫تواضعــا وتسـ ً‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ً‬
‫ـامحا‬ ‫والنــاس‪ ،‬وأوســع أفقــا‪ ،‬وإن هــذا النــوع مــن القـراءة هــو الــذي يجعــل إالنســان أكثــر‬
‫ُ‬ ‫ً ّ ّ‬
‫وذكاء‪ .‬إن كل قصــة أو روايــة تقرؤهــا هــي بمثابــة بوابــة تفتــح لــك ُلت ْب ِصـ َـر الحيــاة بتفاصيلهــا الصغيــرة‪،‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫اليوميــة‪ ،‬ونغــدو ونــروح مــع الغاديــن والرائحيــن‪.‬‬ ‫تلــك التــي قــد ال ننتبــه لهــا ونحــن نمــارس واجباتنــا‬
‫ـب‬‫ـتقر فــي قلــوب الكثيريــن مــن النــاس‪ ،‬أولئــك الذيــن ُتكتـ ُ‬ ‫البوابــة هــي ّالتــي تجعلــك تسـ ّ‬
‫ّإن هــذه ّ‬
‫ـات‪ ،‬فتعــرف مــا لــم تكــن تعــرف‪ ،‬وتــدرك مــا لــم يكــن‬ ‫ـص‪ ،‬وتحكــي حكاياتهــم الروايـ ُ‬ ‫عنهــم القصـ ُ‬
‫ِ‬
‫خطــر لــك علــى بــال‪.‬‬

‫الطالب‪،‬‬
‫َعزيزي ّ‬
‫ً‬ ‫ّ‬ ‫أ‬ ‫ّ‬
‫وجوهــا ال نهايــة لهــا‬ ‫ســحرية كبيــرة‪ ،‬تكشــف لــك‬ ‫إن قــراءة الدب تشــبه الدخــول فــي مــرآة‬
‫ّ‬
‫وقوتــه‪ ،‬فــي صدقــه وكذبــه‪ ،‬فــي عـ ّـزه وذلــه‪،‬‬
‫للحيــاة‪ ،‬لفعــل الزمــان فــي إالنســان‪ ،‬و إللنســان فــي ضعفــه ّ‬
‫ـاب بيــن‬‫أنانيتــه وظلمــه‪ ،‬فــي ّرقتــه وقســوته فــي أحزانــه وأفراحــه‪ ،‬وآالمــه وأحالمــه‪ .‬وكلمــا انفتــح كتـ ٌ‬
‫فــي ّ‬
‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫ْ‬
‫ـان مــا‪ ،‬اســتطالت مــرآة ســحرية أمامــه ليــرى مــا لــم يكــن يـ ُـرى‪،‬‬ ‫ـكان مــا‪ ،‬فــي زمـ ٍ‬
‫ـارئ فــي مـ ٍ‬
‫يــدي قـ ٍ‬
‫ً أ‬ ‫َ‬
‫مســك بيــن يديــه قصــة‬ ‫تبصـ ٍـر قادتــه إلــى أن ُي ِ‬
‫للبــد لــوال لحظــة ُّ‬ ‫ويكشــف مــا كان ســيبقى محجوبــا‬ ‫ِ‬
‫ّ‬ ‫ً ّ‬ ‫أ‬ ‫َ ّ ْ‬ ‫ُ‬ ‫ً‬
‫أو روايــة ســتجعله بعــد أن يقلــب الصفحــة الخيــرة فيهــا يــزداد يقينــا أن الخلــود ال يكــون إل للخيــر‬
‫والحــق والجمــال‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫اللغة العربية‪.‬‬
‫نرجو لك رحلة ممتعة ومفيدة مع ِ‬

‫‪8‬‬
‫الفهرس‬
‫‪11‬‬ ‫ ‪ِ -‬‬
‫الق َّص ُة القصير ُة‬

‫‪15‬‬ ‫ * ِ‬
‫الق َّص ُة القصير ُة‬
‫‪17‬‬ ‫◊نظر ٌة خارج الن ِ‬
‫ّافذة ‪ -‬ليندا فون كيزر‬ ‫َ‬
‫‪21‬‬ ‫ب ‪ -‬فاطمة الكعبي‬ ‫تعج ٍ‬ ‫◊عالم ُة ّ‬
‫‪23‬‬ ‫ّخل ‪ -‬رضوى عاشور‬ ‫◊رأ ْي ُت الن َ‬
‫‪29‬‬ ‫ُ‬
‫تشيخ ُ‬
‫وف‬ ‫وان‬ ‫◊ ِ‬
‫الحر َبا ُء ‪ُ -‬أ ْن ُط ُ‬
‫‪34‬‬ ‫الحارثي‬
‫ُّ ‬ ‫جوخ ُة‬
‫ذة ‪َ -‬‬ ‫◊ما َلن يأتي َعبر النَّافِ ِ‬
‫َ‬ ‫َ ْ‬
‫‪37‬‬ ‫ذات ٍ‬
‫ليل ‪ -‬آماليا رندايك‬ ‫وكلب‪َ ،‬‬ ‫ٌ‬ ‫◊ ٌ‬
‫طفل‬
‫‪42‬‬ ‫فائق‬
‫السماور ‪ -‬سعيدُ ُ‬
‫◊ َّ‬
‫‪47‬‬ ‫قصص رديف ٌة‬
‫ٌ‬ ‫»»‬
‫‪49‬‬ ‫ّحيف ‪ -‬أنطوان تشيخوف‬
‫◊البدي ُن والن ُ‬
‫‪51‬‬ ‫ّ‬
‫المعل‬ ‫بيت ‪ -‬ابتسام‬
‫◊ ٌ‬
‫‪55‬‬ ‫◊الجرح الخفي ‪ -‬كارولي كسفلودي‬
‫‪63‬‬ ‫◊الحلم األخير ‪ -‬هانس كريستيان أندرسن‬
‫‪69‬‬ ‫◊الشيخان‬
‫‪77‬‬ ‫◊الصقر ‪ -‬غوستاف هلستروم‬
‫‪81‬‬ ‫◊الطفل الجاسوس‬
‫‪89‬‬ ‫◊الفالحون في (باريس) ‪ -‬ألفونسو دوديه‬
‫‪93‬‬ ‫◊بثالثمائة ألف فرنك! ‪ -‬ألفونسو دوديه‬
‫‪97‬‬ ‫◊بغلة القاضي ‪ -‬ألفونسو دوديه‬

‫مالحظةٌ ‪:‬‬
‫الر ِّ‬ ‫ّ ً ّ‬
‫بالل ِون ّ‬ ‫َ‬ ‫(التطبيقات ّالل ّ‬
‫غوية) ُ‬ ‫ُ‬
‫المعالجة في كتاب ّ‬ ‫ّ‬
‫الن ُ‬
‫مادي‪.‬‬ ‫عناوينها مظللة‬ ‫تجد‬ ‫ِ‬ ‫صوص‬

‫‪9‬‬
‫عشر‬
‫َ‬ ‫الصف الثّاين‬

‫‪113‬‬ ‫◊حلم عصفور المطر ‪ -‬د‪ .‬ليلى الصقر‬


‫‪123‬‬ ‫◊زوجها ا ّلذي هرب ‪ -‬آرثر موريسون‬
‫‪131‬‬ ‫◊سر المعلم كورني‬
‫‪137‬‬ ‫◊عنزة السيد (سيجان)‬
‫‪145‬‬ ‫◊أسطورة الرجل ذي المخ الذهبي ‪ -‬ألفونسو دوديه‬
‫‪149‬‬ ‫◊وداعا يا كورديرا ‪ -‬ليوبولدو آالس‬
‫‪155‬‬ ‫◊كلمات‬
‫‪159‬‬ ‫◊منزل للبيع‬
‫‪165‬‬ ‫◊ينبوع الشباب ‪ -‬ناثانيل هوثورن‬

‫‪10‬‬
‫القصرية‬
‫ُ‬ ‫ص ُة‬ ‫ِ‬
‫الق َّ‬
‫ٌ‬
‫ـص فــان أثـ َـر فــان‪:‬‬ ‫ـص»‪ّ ،‬الــذي يأتــي بمعنــى َّ‬
‫الت ّتبــع‪ ،‬يقــال‪ :‬قـ َّ‬ ‫َ‬
‫«قـ َّ‬ ‫«الق ّصة"مشــتقة مــن الفعــل‬
‫ِ‬
‫تتبعــه‪ .‬ومنــه قولــه تعالــى‪( :‬ﮭ ﮮ ﮯﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ)‪.‬‬ ‫أي ّ‬
‫الق ّصــة‪ :‬أي‬‫ــص ِ‬‫حدثــه‪َ ،‬وق ّ‬‫ــص عليــه الخبــر‪ :‬أي ّ‬ ‫أيضــا بمعنــى إالخبــار والروايــة‪ ،‬يقــال‪َ :‬ق ّ‬
‫ويأتــي ً‬
‫ّ ُ‬
‫فالق ّصــة‪ :‬هــي الحكايــة التــي تحكــى‪.‬‬
‫حكاهــا‪ِ .‬‬
‫ّ‬
‫«الق ّصة"فــي االصطــاح فلهــا تعريفــات كثيــرة‪ ،‬لكـ ّـن معظــم هــذه التعريفــات يؤكــد علــى أن‬ ‫ّأمــا ِ‬
‫أ‬ ‫الق ّصــة ســرد ّ‬
‫متخيــل قصيــر نسـ ًّـبيا‪ ،‬يهــدف إلــى إحــداث تأثيــر معيــن‪ ،‬وفــي أغلــب الحــوال تركــز‬ ‫ِ‬
‫الق ّصــة القصيــرة علــى شــخصية واحــدة فــي موقــف واحــد‪ ،‬فــي لحظــة واحــدة‪ ،‬فــي مــكان بعينــه‪ .‬وقــد‬ ‫ِ‬
‫ً‬ ‫َ‬
‫الق ّصــة بقولــه «فـ ٌّـن أدبـ ٌّـي نثـ ٌّ‬
‫ـري يتنــاول بالســرد حدثــا وقــع‪ْ ،‬أو يمكــن أن‬ ‫اختصــر بعضهــم تعريــف ِ‬
‫يقــع»‪.‬‬
‫أ‬ ‫ّ‬
‫الق ّصــة (والروايــة كذلــك) إنهــا فـ ٌّـن غايتــه إالمتــاع فــي المقــام الول‪،‬‬
‫وأهــم مــا يمكــن أن يقــال عــن ِ‬
‫الق ّصــة (أو الروايــة) أن تقــدم معلومــات للقــارئ بصــورة مباشــرة‪ ،‬وليــس مــن‬ ‫فليــس مــن أهــداف ِ‬
‫ّ‬ ‫ْ ُ ّ‬
‫الق ّصــة فــن‪ ،‬والفــن ال يتخــذ مــن الخطــاب المباشــر وســيلة أو طريقــة‬ ‫أهدافهــا أن تعلــم أو تعــظ‪ .‬إن ِ‬
‫للتعبيــر والوصــول إلــى وجــدان القــارئ‪.‬‬

‫ّ‬
‫الق ّصــة تســتحث القــارئ علــى التفكيــر والتأمــل‪ ،‬وعلــى أن ينظــر إلــى الحيــاة من زوايــا مختلفة‪،‬‬ ‫إن ِ‬
‫ومــن خــال تفاصيــل صغيــرة جـ ًّـدا قــد ال ينتبــه إليهــا‪ ،‬لكنهــا تشــكل حيــاة النــاس وتؤثــر فيهــم‪ ،‬لذلــك‬
‫ّ‬
‫الق ّصــة الناجحــة هــي التــي تجعــل القـراء يفكرون‪ ،‬ويشــعرون‪.‬‬ ‫نقــول‪ :‬إن ِ‬
‫ّ‬
‫وهنــاك عناصــر أساســية تقــوم عليهــا ِالق ّصــة (أو الروايــة)‪ ،‬والكاتــب الناجــح هــو الــذي يشــكل مــن‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫هــذه العناصــر بنــاء ًّ‬
‫متجانســا متماســكا‪ ،‬يؤثــر فــي القــارئ‪ ،‬ويوصــل إليــه فكــرة مــا بشــكل غيــر‬ ‫فنيــا‬
‫مباشــر‪ ،‬ومــن أهــم عناصــر ِالق ّصــة‪:‬‬

‫فالق ّصــة تجــري فــي زمــان محــدد‪،‬‬


‫الق ّصــة القصيــرة علــى حــدث مفــرد؛ ِ‬
‫‪.1‬الحــدث‪ :‬عــادة مــا تقــوم ِ‬

‫‪11‬‬
‫عشر‬
‫َ‬ ‫الصف الثّاين‬

‫ً‬
‫موقفــا محـ ً‬
‫ـددا‪ ،‬أو شــريحة مــن الحيــاة بغيــة تســليط الضــوء عليهــا‪.‬‬ ‫ومــكان محــدد‪ ،‬وتتنــاول‬

‫ْ‬
‫الق ّصــة‪ ،‬فــا يمكــن أن‬
‫‪.2‬الشــخصيات‪ :‬عنصــر الشــخصية يعــد دعامــة أساســية مــن دعامــات ِ‬
‫أ‬ ‫ُ‬
‫تبنــى قصــة مــن دون وجــود شــخصية تحــرك الحــداث وتتأثــر بهــا‪ ،‬والشــخصية قــد تكــون‬
‫ًّ‬ ‫ً‬
‫حيوانــا أو ً‬ ‫ً‬
‫كائنــا متخيــا‪.‬‬ ‫إنســانا أو‬
‫أ‬
‫‪.3‬اإلطــار الزمانــي والمكانــي‪ :‬يحــدد هــذا العنصــر زمــن وقــوع الحــداث ومكانهــا‪ ،‬والكاتــب‬
‫ً‬
‫الق ّصــة‪ ،‬والفكــرة‪.‬‬
‫المتمكــن يوظــف عنصــر الزمــان والمــكان توظيفــا يناســب جـ ّـو ِ‬
‫ّ‬
‫الق ّصــة‪ ،‬وهــو ليــس الكاتــب‪ ،‬بــل‬ ‫‪.4‬الــراوي ووجهــة النظــر‪ :‬الــراوي هــو الــذي يــروي ِ‬
‫ُ‬
‫الق ّصــة‪ ،‬ويرويهــا ر ٍاو قــد يكــون شــخصية‬
‫الكاتــب يختــار وجهــة نظــر معينــة تــروى مــن خاللهــا ِ‬
‫ّ‬ ‫ًّ‬ ‫الق ّصــة‪ ،‬وقــد يكــون ر ً‬
‫خارجيــا‪ .‬ووجهــة النظــر التــي ينطلــق منهــا ال ـراوي‬ ‫اويــا‬ ‫مــن شــخصيات ِ‬
‫أ‬
‫تتقاطــع مــع فكــرة الروايــة‪ ،‬لنهــا ّ‬
‫تعبــر عنهــا‪.‬‬
‫ً‬ ‫‪.5‬الحبكــة‪ :‬الطريقــة ّالتــي يجمــع بهــا الكاتــب أحــداث ّ‬
‫قصتــه أو روايتــه ليصنــع منهــا عمــا‬
‫ـص مــن بدايتــه ّ‬
‫حتــى نهايتــه‪ ،‬وقــد يظهــر خــط‬ ‫فنيــا‪ ،‬يجــذب القــارئ‪ ،‬ويشـ ّـده فــي اتجــاه ّ‬
‫النـ ّ‬ ‫ًّ‬
‫الق ّصــة‪ ،‬وضيــق المســاحة المتاحــة‬
‫بســيط للحبكــة فــي بعــض القصــص‪ ،‬فعلــى الرغــم مــن قصــر ِ‬
‫أ‬ ‫ّ ّ‬
‫للكاتــب ليتحــرك فيهــا‪ ،‬إل أن بعــض القصــص يظهــر فيهــا تصاعــد للحــداث‪ ،‬ووصولهــا إلــى‬
‫ُ‬
‫نقطــة توتــر عليــا‪ ،‬ثـ َّـم انحــدار نحــو النهايــة‪.‬‬
‫ً‬ ‫الق ّصــة وعالمهــا‪ً ،‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫وغالبــا مــا يكــون مرتبطــا‬ ‫‪.6‬التشــويق‪ :‬هــو العنصــر الــذي يشــد القــارئ نحــو ِ‬
‫بشــيء تريــده الشــخصية الرئيســة‪ ،‬أو مشــكلة تواجههــا‪ .‬بعــض القصــص قــد تتحــرر مــن البنيــة‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫التقليديــة التــي تعتمــد علــى التشــويق وتــأزم الموقــف‪ ،‬خاصــة تلــك التــي تركــز علــى مشــهد‬
‫ّ ُ‬
‫وحيــد مضغــوط‪ ،‬أو التــي تبقــي القــارئ داخــل دائــرة تفكيــر الشــخصية وتأمالتهــا وأســئلتها‪،‬‬
‫ولذلــك يصنــف بعضهــم القصــص إلــى «قصــة شــخصية"و«قصة حبكــة أو حــدث»‪ّ .‬أمــا‬
‫أ‬ ‫ّ‬
‫الثانيــة‪ ،‬فــي الغالــب‪ ،‬هــي التــي قــد تحــوي عنصــر التشــويق القائــم علــى توتــر الحــداث‬
‫ّ‬
‫ووصولهــا إلــى نقطــة تــأزم ُعليــا‪.‬‬

‫‪12‬‬
‫الق ّصــة‪ ،‬والتــي يريــد الكاتــب مــن القــارئ‬
‫‪.7‬الفكــرة أو الموضــوع‪ :‬وهــي الرســالة المبطنــة فــي ِ‬
‫أن يصــل إليهــا‪.‬‬

‫الق ّصــة‪ ،‬ويجــب أن تكــون مكثفــة تعتمــد التلميــح بــدل التصريح؛‬ ‫‪.8‬اللغــة‪ :‬اللغــة ترتبــط بحجــم ِ‬
‫فــا مجــال للوصــف المســهب فيهــا‪ً ،‬‬
‫وغالبــا مــا يتـراوح عــدد كلماتهــا بيــن خمســمئة إلــى عشــرة‬
‫ّ‬
‫آالف كلمــة‪ ،‬وقــد تســتخدم الحــوار الــذي يجــب أن يناســب الشــخصية‪ ،‬ممــا يفتــح البــاب‬
‫للعبــارات العاميــة والشــعبية‪.‬‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫ويمكننــا أن نجمــل القــول فــي القصــة فنقــول‪ :‬إن القصــة ال تتنــاول ‪-‬خالفــا للروايــة‪ -‬شــخصية‬
‫كاملــة بــكل مــا يحيــط بهــا مــن حــوادث وظــروف ومالبســات‪ ،‬وإنمــا تكتفــي بتصويــر جانــب واحــد‬
‫مــن جوانــب حيــاة الفــرد‪ .‬وال تتعــدد الشــخصيات فــي القصــة القصيــرة‪ .‬ومــن الضــروري أن تتوافــر‬
‫ـدودا‪ ،‬وأن يكــون الزمــان قصيـ ًـرا‪ .‬وأن‬‫والزمــان والمــكان؛ فيجــب أن يكــون المــكان محـ ً‬ ‫وحــدة الفعــل ّ‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫الروائـ ّـي‪ -‬حدثــا مــن الحيــاة اليوميــة‪ ،‬ويحــاول أن يجعــل منــه موقفــا ّفن ًّيــا‪،‬‬
‫ـاص ‪-‬عكــس ّ‬ ‫ينتقــي القـ ّ‬
‫يوضــح بــه حقيقــة مــن الحقائــق‪.‬‬

‫ولــم تعــد بنيــة القصــة القصيــرة وعناصرهــا كمــا كانــت وقــت ظهورهــا‪ ،‬فقــد اختفــت بعض الشــروط‬
‫واختفــت بعــض العناصــر‪ ،‬حتــى تــكاد كل قصــة قصيــرة لهــا شــكلها الخاص‪.‬ولقــد تعــددت موضوعاتها‬
‫وأغراضهــا ومجاالتهــا وتباينــت فــي مــدى ارتباطهــا بالواقــع أو ابتعادهــا عنه‪.‬‬

‫ّإن إاللحــاح الســابق علــى ملحــظ التركيــز فــي القصــة القصيــرة‪ ،‬سـ ً‬
‫ـواء أكان فــي البنيــة الفنيــة أم‬
‫ّ‬
‫فــي اللغــة‪ ،‬يســوقنا إلــى الحديــث عــن أهــم خصائــص القصــة القصيــرة‪ ،‬التــي يمكــن حصرهــا‪ ،‬بشــكل‬
‫عــام‪ ،‬فــي ثــاث خصائــص‪:‬‬

‫ّ‬
‫‪.1‬الوحــدة‪ :‬وقــد أكــد عليهــا كبــار الكتــاب والتزمــوا بهــا‪ ،‬والمقصــود بالوحــدة هنــا‪ :‬الوحــدة‬
‫ّ‬
‫العضويــة التــي تــؤدي إلــى وحــدة االنطبــاع‪ ،‬والتأكيــد علــى أن تحمــل القصــة فكــرة واحــدة‪،‬‬
‫ً‬
‫انطباعــا‬ ‫ً‬
‫محكمــا يولــد فــي القــارئ‬ ‫وتركــز علــى شــخصية واحــدة فــي الغالــب‪ ،‬وأن تبنــى بنـ ً‬
‫ـاء‬
‫واحـ ًـدا‪.‬‬

‫‪13‬‬
‫عشر‬
‫َ‬ ‫الصف الثّاين‬

‫فنيــا‪ ،‬ولذلــك قــال عنهــا يوســف إدريــس‬ ‫‪.2‬التكثيــف‪ :‬وهــو مطلــب جوهــري لنجــاح القصــة ًّ‬
‫«القصــة القصيــرة رصاصة"انظــر كيــف تصيــب الرصاصــة الهــدف‪ ،‬فهــي ليســت حجـ ًـرا وال كرة‪،‬‬
‫بــل رصاصــة تنطلــق لتصيــب الهــدف بســرعة ودقــة تامتيــن‪ .‬ولذلــك فــإن كل كلمــة محســوبة فــي‬
‫القصــة‪ ،‬وكل جملــة لهــا دورهــا‪ ،‬وليــس هنــاك مــكان لالسترســال فــي الكلام لمجــرد أنــه الكم‬
‫جميــل أعجــب الكاتــب‪ .‬والتكثيــف يختلــف باختــاف القصــة‪ ،‬وطولهــا‪ ،‬وبنيتهــا الفنيــة‪.‬‬
‫ّ‬
‫‪.3‬الدراميــة‪ :‬ويقصــد بهــا التوتــر الــذي يجعــل القــارئ يتابــع القـراءة‪ ،‬ويرغــب فــي الوصــول إلــى‬
‫ّ‬
‫النهايــة‪ ،‬حتــى لــو خلــت القصــة مــن الصـراع‪ ،‬واعتمــدت علــى أفــكار الشــخصية الداخليــة فــإن‬
‫الكاتــب الناجــح يســتطيع أن يشـ ّـد خيــط القصــة‪ ،‬ويجــذب القــارئ إلــى عالمهــا‪ .‬وهنــاك تقنيات‬
‫كثيــرة تســاعد الكتــاب علــى تصعيــد درجــة التوتــر فــي القصــة‪ ،‬كالبدايــة المثيــرة للتســاؤل‪،‬‬
‫المحيــرة أو المحتــارة‪ ،‬أو الحــوار الداخلــي‪ ،‬أو حركــة الزمــان أو المفارقــات‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫أو الشــخصية‬
‫وغيرهــا كثيــر‪.‬‬

‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫النقــاد ّإن القصــة تأخــذ مــن المســرح در ّ‬


‫ّ‬
‫اميتــه‪ ،‬ومــن الشــعر توتــره‪ .‬إن القصــة القصيــرة‬ ‫وكمــا قــال‬
‫َ‬
‫تفتــح نافــذة صغيــرة للقــارئ ليطــل منهــا علــى مشــهد مــن مشــاهد الحيــاة لــم يكــن قــد ف ِطــن إليــه مــن‬
‫ّ‬ ‫ً‬
‫قبــل‪ ،‬وكلمــا زادت النوافــذ أتيــح لهــذا القــارئ أن تتوســع نظرتــه للحيــاة‪ ،‬وتــزداد عمقــا ومعرفــة‪ .‬إن‬
‫ً‬ ‫الدب هــو إنســان أكثــر تسـ ً‬ ‫أ‬
‫ـامحا وتقبــا للحيــاة بــكل تناقضاتهــا‪.‬‬ ‫قــارئ‬

‫‪14‬‬
‫القصرية‬
‫ُ‬ ‫ص ُة‬ ‫ِ‬
‫الق َّ‬

‫‪15‬‬
‫عشر‬
‫َ‬ ‫الصف الثّاين‬

‫‪16‬‬
‫ريصقلا ةَّصِقلا‬
‫ُ‬

‫قبل أن تشرع في القراءة‪،‬‬ ‫نظر ٌة خارجَ النّافذةِ‬


‫حاول أن تفكر في العنوان‪.‬‬
‫ليندا فون كيزر‬
‫نتجـ ْ‬
‫وزوجتـ ِـه‪َ ،‬‬ ‫ارة ّ‬
‫للسـ ّـي ِد (شــفارز)‬
‫ُ‬ ‫َ ْ‬ ‫ُ‬
‫ـت‬ ‫ِ‬ ‫ـدة حدثــت حادثــة سـ ّـي ٍ‬ ‫ـنوات عديـ ٍ‬ ‫منــذ سـ ٍ‬
‫الحين‬ ‫ـك‬
‫ْ َ‬
‫ـ‬ ‫ذل‬ ‫ـن‬
‫ـ‬ ‫وم‬ ‫‪،‬‬
‫ً‬
‫ـرة‬‫ـ‬ ‫خطي‬
‫ً‬
‫ـة‬‫ـ‬ ‫إصاب‬ ‫ـب هـ َ‬
‫ـو‬ ‫زوجتـ ِـه‪ ،‬كمــا ُأصيـ َ‬ ‫ُ‬
‫ـذه الحادثـ ِـة وفــاة ِ‬ ‫عـ ْـن هـ ِ‬
‫ِ‬
‫ُ آَ‬ ‫َ ُ‬ ‫ـس فــي ُكرسـ ٍّـي متحـ ّـر ٍك‪ ،‬ال يسـ ُ‬
‫ابنـ ِـه‬‫ـتطيع الحركــة‪ ،‬وهـ َـو يعيــش الن مـ َـع ِ‬ ‫وهـ َـو يجلـ ُ‬
‫أ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫ازداد ْت‬ ‫ـرة‪ ،‬وقـ ِـد َ‬ ‫ـرة وفقيـ ٍ‬ ‫الطفـ ِـل الوحيـ ِـد فــي شــق ٍة بالــد ِور الرضـ ِّـي فــي مدينـ ٍـة صغيـ ٍ‬
‫كيف توضح هذه الفقرة‬ ‫ـرب‪.1‬‬ ‫ـ‬ ‫الح‬ ‫ـد‬ ‫هــذه المدينـ ُـة فقـ ًـرا بعـ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫العنوان؟‪.‬‬
‫ّ َ ّ‬
‫مبكـ ًـرا بعـ َـد ليلـ ٍـة سـ ّـي ٍئة؛ لـ ْـم يسـ ْ‬ ‫َ‬
‫ـتطع‬ ‫السـ ّـي ُد (شــفارز) هــذا الصبــاح‬ ‫ـتيقظ ّ‬ ‫لقـ ْـد اسـ‬
‫َ‬ ‫أ‬ ‫ّ أ‬ ‫فيهــا ّ‬
‫النـ َ‬
‫السـ ّـي ِئة‪ ،‬ثـ َّـم تحـ ّـرك بكرسـ ِّـي ِه المتحـ ّـر ِك‬
‫ـام ّ‬ ‫ـوم؛ وذلــك مـ ْـن شــد ِة ال ِرق والحـ ِ‬
‫ً‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫تجـ َ‬
‫ـب بكرسـ ّـي ِه المتحـ ّـر ِك‬ ‫ـوة‪ ،‬وذهـ َ‬ ‫لنفسـ ِـه فنجانــا مـ َـن القهـ ِ‬
‫ـاه المطبـ ِـخ‪ ،‬حيــث أعــد ِ‬
‫ـارع‪.‬‬ ‫ـ‬
‫ّ‬
‫الش‬ ‫ـي‬
‫ـ‬ ‫ف‬ ‫ة‬‫ِ‬ ‫ـب حركـ َـة المـ ّ‬
‫ـار‬ ‫الشــارع؛ كــي يراقـ َ‬ ‫ّ‬
‫ـى‬
‫ـ‬ ‫عل‬ ‫ـة‬
‫ِ‬ ‫ـ‬
‫ُ ّ‬
‫طل‬ ‫ـذة الم‬ ‫تجـ َ ّ‬
‫ـاه النافـ ِ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َ ْ‬ ‫ـاد ْأن يــرى ّ‬ ‫لقـ ِـد اعتـ َ‬
‫ـاد أن يرى‬ ‫ـرعين مهروليـ َـن إلــى أعما ِل ِهـ ْـم‪ ،‬كمــا اعتـ‬
‫ـاس مسـ َ‬ ‫النـ َ‬
‫َ‬
‫ـترين الخبـ َـز مـ َـن المخبـ ِـز‪ ،‬كذلــك العصافيـ َـر‬ ‫ـوت وهـ َّـن يتسـ ّـو ْق َن‪ ،‬ويشـ َ‬‫ـات البيـ ِ‬ ‫ّربـ ِ‬
‫ـت ّ‬
‫تتربـ ُ‬ ‫َ‬
‫كانـ ْ‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ـت تصـ ُ‬ ‫ّالتــي ر َ‬
‫احـ ْ‬
‫ـص بهــا‬ ‫ـوات عاليـ ٍـة مبتعــدة عـ ِـن القطـ ِـط التــي‬
‫ـوص بأصـ ٍ‬
‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫ـب وقـ ْـد وضـ َـع الجريــدة‬ ‫الشــارع مسـ ً‬
‫ـرعا كلـ ٌ‬
‫ِ‬ ‫ـي‬‫ـ‬ ‫ف‬ ‫اقتناصهــا وافتر ِاســها‪ ،‬ثـ ّـم يجـ ُ‬
‫ـيء‬ ‫ِ‬ ‫ـة‬‫بغيـ‬
‫ـس‬ ‫يعطيهــا ّلسـ ّـي ِد ِه‪ ،‬كذلــك رأى حمامـ ًـة وهـ َـي بجــوار العصافيــر تأنـ ُ‬ ‫فــي ِفمـ ِـه؛ لكــي َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫وضجيجهــا‪.‬‬
‫ِ‬ ‫بصياحهــا‬
‫ِ‬
‫ـزل بـ ِـه العديـ ُـد مـ َ‬ ‫ٌ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫الخــرى مـ َ‬ ‫أ‬
‫حاول أن ترسم صورة عن‬ ‫ـب‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ـ‬ ‫المكات‬ ‫ـن‬ ‫ـ‬ ‫من‬ ‫ـاك‬‫ـ‬ ‫هن‬ ‫كان‬ ‫ـزل‬
‫ِ‬ ‫ـ‬ ‫المن‬ ‫ـن‬ ‫علــى الجهـ ِـة‬
‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫ٌ‬
‫ـوم عاملــة نظافـ ٍـة تقـ ُ‬ ‫وأمامـ ُـه رصيـ‬
‫َ‬
‫عاملة النظافة‪ :‬أسرتها‪ .‬بيتها‪،‬‬
‫ـارع‪ ،‬وكذلــك‬ ‫ِ‬ ‫ـ‬‫الش‬ ‫ـذا‬ ‫ـ‬ ‫ه‬ ‫ـف‬
‫ِ‬ ‫ـ‬ ‫بتنظي‬ ‫ـوم‬ ‫ٍ‬ ‫ـ‬ ‫ي‬ ‫كل‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫تأت‬ ‫‪،‬‬ ‫ـف‬
‫ـذه العاملـ ُـة ترتــدي ً‬
‫هل لديها أطفال؟ عمرها‪،‬‬ ‫ٌ َ‬
‫ـت فــي‬ ‫أكانـ ْ‬ ‫ـس خض ـر َاء‪ ،‬ســواء‬ ‫دومــا مالبـ َ‬ ‫َ ْ‬ ‫ّ‬
‫صحتها‪...‬‬ ‫ـف‪ .‬كانــت هـ ِ‬ ‫الرصيـ ِ‬
‫ُ ّ ُ َّ‬ ‫ْ َ‬ ‫ـتاء ْأم فــي ّ‬ ‫ّ‬
‫ـان‬
‫ـدة بإتقـ ٍ‬ ‫ـت العاملــة تنظــف كل بالطـ ٍـة علــى ِحـ ٍ‬ ‫ـف‪ ،‬لقــد كانـ ِ‬ ‫الصيـ ِ‬ ‫الشـ ِ‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫كانـ ْ‬ ‫وكأنهــا تقـ ُ‬ ‫َّ‬
‫بالطات‬ ‫ـت‬ ‫نبيل‪،‬‬
‫ـخص ٍ‬ ‫بيت شـ ٍ‬ ‫ـف غرفـ ِـة معيشـ ٍـة فــي ِ‬ ‫ـوم بتنظيـ ِ‬ ‫ـان‪،‬‬
‫وإمعـ ٍ‬
‫ُ‬ ‫ٌ‬
‫ذات ألــوان مختلفـ ٍـة؛ فواحــدة لونهــا أسـ ُ‬ ‫ـت َ‬ ‫َ‬
‫الشــارع مـ َـن الجرانيــت‪ ،‬وكانـ ْ‬ ‫ّ‬
‫ـود‪ ،‬تليهــا‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫‪ )1‬الحرب العالمية الثانية‪.‬‬
‫* من المجموعة القصصية "العالم من خالل قلوبهم"‪ ،‬للكاتبة ليندا فون كيزر‪ ،‬ترجمة أشرف أحمد‪ ،‬المركز القومي للترجمة‪.‬‬

‫‪17‬‬
‫عشر‬
‫َ‬ ‫الصف الثّاين‬

‫أ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬


‫ـود‪.‬‬ ‫ـون أحمـ َـر متقاطـ ٍـع مـ َـع اللـ ِ‬
‫ـون السـ ِ‬ ‫ـون أحمـ َـر‪ ،‬ثـ َّـم أخــرى ذات لـ ٍ‬
‫أخــرى ذات لـ ٍ‬
‫َ‬
‫كانـ ْ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫ـت‬ ‫ـب‪ .‬فــي البدايـ ِـة‬ ‫ِ‬ ‫ـ‬ ‫المكات‬ ‫ـى‬ ‫ـ‬ ‫عل‬ ‫ـوي‬‫ـ‬ ‫يحت‬ ‫ـذي‬ ‫ـ‬‫ال‬ ‫ـزل‬
‫وهكــذا حتــى نهايـ ِـة المنـ ِ‬
‫ً‬ ‫أصبحـ ْ‬
‫َ‬ ‫ـاء‪ ،‬ولكـ ْـن مـ َـع مــرور ّ‬ ‫ً‬
‫ـاوية وملسـ َ‬ ‫ُ ّ‬
‫ـت خشــنة وغيـ َـر‬ ‫الزمـ ِـن‬ ‫ِ‬ ‫ـارع متسـ‬‫ِ‬ ‫ـ‬ ‫الش‬ ‫بالطــات‬
‫ُ‬ ‫قامـ ْ‬ ‫ّ‬
‫النظافـ ِـة التــي َ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬
‫السـ ّـي ُد (شــفارز) أنــه َّربمــا كثــرة ّ‬ ‫ـاوية‪ ،‬واعتقــد ّ‬
‫ـت بهــا عاملــة‬ ‫متسـ ٍ‬
‫َ‬ ‫َ ْ ّ ُ َّ‬ ‫ْ ّ‬ ‫ْ‬ ‫َّ‬ ‫ْ‬ ‫ّ‬
‫النظافـ ِـة‪ ،‬قــد أدت إلــى هــذا؛ إذ إنهــا كانــت تنظــف كل حجـ ٍـر علــى ِحــد ٍة‪ ،‬كمــا‬
‫ٍّ‬ ‫ّ‬ ‫ُ َّ‬ ‫َ‬
‫السـ ّـي ُد‬
‫ـكل منهــا‪ .‬لقـ ْـد رأى ّ‬ ‫ـت تعــرف كل حجـ ٍـر‪ ،‬وكأنهــا علــى عالقـ ٍـة حميمـ ٍـة بـ‬ ‫كانـ ْ‬
‫تحركا ِتهــا فــي‬ ‫النظافـ ِـة‪ّ ،‬التــي ر َاح يتابـ ُـع َّكل ّ‬ ‫الشــارع بأعيــن عاملـ ِـة ّ‬
‫ِ‬
‫ّ‬
‫ـات‬
‫(شــفارز) بالطـ ِ‬
‫ِ‬ ‫ّ‬
‫ـعر بــه‪.‬‬‫الشــارع دون أن تشـ َ‬
‫ِ‬
‫ْ ُّ‬ ‫وكان علــى عاملـ ِـة ّ‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫كانــت البالطـ ُ‬
‫النظافـ ِـة أن تنظفهــا بحركـ ٍـة‬ ‫ـات مســتديرة وكبيــرة‪،‬‬ ‫ِ‬
‫َ ُّ‬ ‫َّ ُ‬ ‫َ‬ ‫دائريـ ٍـة‪ّ ،‬‬
‫بجاروفهــا‪ ،‬لقـ ِـد اســتغرق كل‬ ‫ِ‬ ‫حتــى تجمـ َـع القمامــة ِمـ ْـن حوِلهــا‪ ،‬ثــم تغرفهــا‬ ‫ّ‬
‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫ً‬
‫ـاعة ونصـ َـف ّ‬ ‫ـك مـ َ‬ ‫َ‬
‫ـاح‪ .‬ثـ َّـم ترحــل العاملــة حاملــة‬ ‫ـ‬ ‫صب‬
‫ً ّ ٍَ‬ ‫كل‬ ‫ـاعة‬
‫ِ‬ ‫ـ‬ ‫الس‬ ‫ـ‬ ‫س‬ ‫ـة‬
‫ِ‬ ‫ـ‬ ‫العامل‬ ‫ـن‬ ‫ذلـ‬
‫َ‬ ‫ً‬ ‫ّ ً‬ ‫َ‬ ‫ً‬
‫ات‪ .‬بعــد ذلــك‬ ‫جاروفــا وجــردل الميـ ِـاه ومقشــة وخرقــة باليــة لتنظــف بهــا القــاذور ِ‬
‫فطــار‪،‬‬ ‫ــه كــي ُيع َّــد َل ُ‬
‫ــه إال َ‬ ‫ابن ُ‬ ‫ُ‬
‫فيوقــظ َ‬ ‫مســكن ِه‪،‬‬
‫َ‬
‫الس ّــي ُد (شــفارز) داخــل‬ ‫يتحــر ُك ّ‬
‫ّ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ـب إلــى المدرسـ ِـة‪.‬‬ ‫ويذهـ َ‬
‫ُ‬ ‫كان البرنامـ ُـج اليومـ ُّـي ّ‬ ‫َ‬
‫ـاح‬
‫ٍ‬ ‫ـ‬ ‫صب‬ ‫ذات‬
‫ِ‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫وف‬ ‫‪.‬‬‫ـن‬
‫ِ‬ ‫ـ‬ ‫عامي‬ ‫ـذ‬ ‫للسـ ّـي ِد (شــفارز) منـ‬ ‫هكــذا‬ ‫ما المعنى والقيمة اللذين‬

‫النظافـ ِـة‪ّ ،‬‬ ‫َ‬


‫لكنــه لـ ْـم يـ َـر عاملــة ّ‬ ‫النافــذة كعادتــه‪ ،‬و ّ‬ ‫ـارج ّ‬
‫السـ ّـيد (شــفارز) خـ َ‬ ‫ُ‬ ‫نظـ َـر ّ‬ ‫أعطتهما عاملة النظافة لحياة‬
‫ممــا‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫ّ ّ َ َّ‬ ‫ْ‬ ‫السـ ّـي ُ‬
‫ـاد ّ‬‫بالذهــول؛ لقـ ِـد اعتـ َ‬ ‫َ ُ ّ‬ ‫السيد شفارز؟‬
‫ـاح‪،‬‬‫ً َ ٍ‬‫ـ‬ ‫صب‬ ‫كل‬ ‫دة‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬‫الس‬ ‫ـذه‬
‫ِ‬ ‫ـ‬ ‫ه‬ ‫ـرى‬ ‫ـ‬ ‫ي‬ ‫أن‬ ‫ـفارز)‬‫ـ‬ ‫(ش‬ ‫د‬ ‫ِ‬ ‫أصابــه‬
‫معنــى وقيمــة‪ ،‬كان يشـ ُ‬ ‫َ‬
‫ـت حياتـ ُـه ً‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ً‬
‫ـتاء ْأم صيفــا‪ ،‬لقــد أعطـ ْ‬ ‫َ‬
‫ـواء أكان ذلــك شـ ً‬ ‫َ‬ ‫سـ ٌ‬
‫ـعر‬
‫َ‬
‫بهمــا دون غيـ ِـر ِه‪.‬‬
‫ّ ُ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬
‫عامــل ّ‬ ‫شــيطة َ‬ ‫ّ‬ ‫هــذه ّ‬ ‫ً‬
‫ظافــة الــذي كان ينظــف‬ ‫الن ِ‬ ‫جــاء‬ ‫ِ‬ ‫الس ّــي ِ‬
‫دة الن‬ ‫وبــدل مــن ِ‬
‫ّ َ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫ـكب المـ َ‬‫ـس المحلـ َّـي‪ ،‬وسـ َ‬
‫المســاحة‪،‬‬ ‫ـارع مـ ّـرة واحــدة‪ ،‬ومـ ّـر َر عليــه‬
‫ِ‬ ‫ـ‬ ‫الش‬ ‫ـاء فــي‬ ‫المجلـ َ‬
‫ْ‬ ‫الشــارع‪ ،‬و ْ‬ ‫ّ‬ ‫دقيقــة انتهــى ْ‬ ‫ً‬ ‫َ‬
‫يعجــب هــذا‬ ‫لــم‬ ‫ِ‬ ‫نظافــة‬
‫ِ‬ ‫مــن‬ ‫عشــرة‬ ‫خــال اثنتــي‬
‫ِ‬ ‫وفــي‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫السـ ّـي َد (شــفارز)‪ ،‬ولــم تــأت عاملــة ّ‬ ‫ُ‬
‫العامــل المهمــل ّ‬ ‫ُ‬
‫النظافـ ِـة فــي الغـ ِـد‪ ،‬وكذلــك لـ ْـم‬ ‫ِ‬
‫ـأت بعـ َـد غـ ٍـد‪.‬‬‫تـ ِ‬

‫‪18‬‬
‫ريصقلا ةَّصِقلا‬
‫ُ‬

‫َ‬ ‫َ ْ‬ ‫ُ ْ‬ ‫ّ‬
‫يصوره لك اهتمام‬
‫ما الّذي ّ‬ ‫هذه ّ‬
‫السـ ّـي ِ‬
‫دة؟‬ ‫ـاه أن يكــون قــد حدث مـ َـع ِ‬ ‫السـ ّـي ُد (شــفارز) يفكـ ُـر‪ :‬مــاذا عسـ‬‫ور َاح ّ‬
‫َ‬ ‫أّ‬ ‫ُ‬ ‫َ ً‬ ‫َ‬ ‫ْ َ‬
‫كانـ ْ‬ ‫ـود مـ ّـرة أخــرى؟ هــل طـ ِـر َد ْت مــن العمـ ِـل؛ لنهــا‬
‫السيد شفارز بعاملة النظافة؟‬
‫ـت‬ ‫ـت العمــل‪ ،‬ولــن تعـ‬ ‫هــل تركـ ِ‬
‫هل األمر يستحق؟‪.‬‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬
‫ـذه ّ‬ ‫َ ُ‬ ‫ِّ‬ ‫ّ‬
‫دة‪.‬‬‫السـ ّـي ِ‬ ‫ـان زائـ ٍـد علــى الحــد؟ عنــد ذلــك رجــا ابنــه أن يســأل عــن هـ ِ‬ ‫تؤديـ ِـه بإتقـ ٍ‬
‫َ ّ‬
‫الطفـ ُـل إلــى بـ ّ‬
‫ـرة‪ ،‬فأخبـ َـر ُه‬
‫ـب الكثيـ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ـ‬ ‫المكات‬ ‫ذات‬
‫ِ‬ ‫ـة‬
‫ِ‬ ‫ـ‬ ‫قابل‬ ‫ـارة ُ‬
‫الم‬ ‫ِ‬ ‫ـ‬ ‫م‬ ‫الع‬
‫ِ‬ ‫اب‬‫ِ‬ ‫ـو‬ ‫فذهــب‬
‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ـاه عنوانهــا‪ .‬عنــد ذلــك قـ ّـر َر ّ‬ ‫ٌ‬ ‫َ‬
‫اب بــأن العاملــة مريضــة‪ ،‬وأعطـ ُ‬ ‫َّ‬ ‫البـ ّـو ُ‬
‫السـ ّـيد (شــفارز) أن‬
‫َ‬ ‫ّ‬ ‫يخبرهــا ّبأنــه ُ‬ ‫يرسـ َـل لهــا َ‬
‫يفتقدهــا فــي عم ِلهــا‪ ،‬وأنــه ُيقـ ّـد ُر عملهــا تقديـ ًـرا‬ ‫ابنـ ُـه؛ لكــي َ‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫كبيــرا‪ ،‬ثـ َّـم اشــترى ّ ُ‬
‫وبعضــا مــن الكعـ ِـك‬ ‫الســيد (شــفارز) عســا وقربــة ّللت ِ‬
‫دفئــة‬ ‫ً‬
‫النظافـ ِـة فــي‬ ‫يهديهــا إلــى عاملـ ِـة ّ‬ ‫جميعــا ال ِبنـ ِـه‪ ،‬كــي َ‬ ‫ً‬ ‫طبـ ٍّـي‪ ،‬وأعطاهــا‬ ‫ـب شــاي ّ‬ ‫َو ُعلـ َ‬
‫ً‬ ‫ٍ‬
‫َ‬ ‫َ ْ‬ ‫ّ‬
‫مكتوبــا عليهــا اسـ ُـم ُه‬
‫ً‬ ‫ـس أن يصنـ َـع بطاقــة داخــل هـ ِ‬
‫ـذه الهديـ ِـة‪،‬‬ ‫بيتهــا‪ ،‬كمــا أنـ ُـه لــم ينـ‬ ‫ِ‬
‫ّ‬ ‫ّ ُ ُ‬
‫ـفاء‪.‬‬
‫وتمنياتــه لهــا بالشـ ِ‬
‫بالهديــة إلــى منــزل سـ ٍّ ّ‬ ‫ـب االبـ ُـن‬
‫ذهـ َ‬
‫ـس؛ مقـ ِّـر سـ ِ‬
‫ـكن عاملـ ِـة‬ ‫ـكني بالــد ِور الخامـ ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ّ ِ‬
‫ً َّ‬ ‫ً‬ ‫فكان ْ‬‫َ‬ ‫ّ‬
‫العمــل‪،‬‬
‫ِ‬ ‫الحيــاة أو‬
‫ِ‬ ‫رغبــة فــي‬
‫ســريرها‪ ،‬فاقــدة كل ٍ‬‫ِ‬ ‫ــت راقــدة علــى‬ ‫ظافــة‪،‬‬
‫الن ِ‬
‫ّ ّ‬ ‫َ َ ْ ُ‬ ‫َ‬ ‫ّ َ‬ ‫ُ‬
‫ـس‬ ‫ارة‪ ،‬كذلــك كانــت تعانــي مــن صعوبـ ِـة التنفـ ِ‬
‫الســعال وارتفــاع درجـ ِـة الحـر ِ‬ ‫تعانــي‬
‫ـدر‪.‬‬ ‫ّ‬
‫وضيـ ٍـق فــي الصـ ِ‬
‫ـارب كــي يشــتروا لهــا‬ ‫طعامــا منـ ُـذ عـ ّـد ِة ّأيـ ٍـام‪ ،‬ولـ ْـم يكـ ْـن لهــا أقـ ُ‬ ‫ّإنهــا لـ ْـم تشــتر ً‬
‫ِ‬
‫ممــنْ‬ ‫ـرف ّ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ّ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫طعامــا‪ّ ،‬‬
‫ً‬
‫حتــى طــرق الصبـ ُّـي البــاب‪ ،‬وأحضــر لهــا الهديــة‪ ،‬ولــم تكــن تعـ‬
‫ّ َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬ ‫فتحـ ْ‬ ‫الهديـ ُـة‪ ،‬اعتقـ َـد ْت ّأنهــا فــي حلــم‪ ،‬ثـ َّـم َ‬ ‫هــذه ّ‬
‫الخاصــة‬ ‫ـت الكرتونــة‪ ،‬ورأ ِت البطاقــة‬ ‫ٍ‬
‫ّ‬ ‫أ‬ ‫مكتوبــا عليهــا ّ ُ ُ‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫داء الخضـ ِـر! إننــي‬ ‫"السـ ّـيدة ذات الـ ّـر ِ‬ ‫بالسـ ّـي ِد شــفارز‪ ،‬والــذي كان‬
‫َّ‬ ‫ّ‬ ‫أحـ ُـد ُ‬
‫ـب بإتقا ِنـ ِـك‬ ‫ـاط‪ ،‬وأعجـ ُ‬ ‫ـوم تعمليـ َـن بنشـ ٍ‬ ‫الصامتيـ َـن‪ ،‬إننــي أر ِاك كل يـ ٍ‬ ‫المعجبيـ َـن ّ‬
‫ال َ‬ ‫َ أ‬ ‫ً‬ ‫بالحجــار‪ّ ،‬إننــي ُم ِح ٌّ‬ ‫أ‬ ‫َ‬
‫حمــر‪،‬‬ ‫خصوصــا الجرانيــت‬ ‫ــب لهــا‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ــك‬
‫العمــل واعتنا ِئ ِ‬
‫كان ْ‬ ‫ْ َ‬ ‫الجنــاب‪ّ ،‬‬ ‫أ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ أ‬ ‫ال َ‬ ‫َ أ‬
‫ــت‬ ‫حتــى وإن‬ ‫ِ‬ ‫فــي‬ ‫المشــطوفة‬ ‫حجــار‬ ‫ال‬ ‫وكذلــك‬ ‫‪،‬‬ ‫ســود‬ ‫وكذ ِلــك‬
‫ّ‬ ‫ُ ّ َ ُ‬ ‫ّ‬ ‫ـير عليهــا‪ّ ،‬‬ ‫غيـ َـر ُمريحـ ٍـة فــي أثنـ ِ ّ‬
‫بالرغـ ِـم مــن أننــي ال أســتطيع الســير منــذ عــد ِة‬ ‫ـاء السـ ِ‬
‫ّ‬ ‫َ ّ‬ ‫أ‬ ‫ُ‬
‫ـارع‪ .‬إن‬ ‫ِ‬ ‫ـ‬ ‫الش‬ ‫ـن‬ ‫ـ‬ ‫م‬ ‫ـرى‬ ‫ـ‬ ‫خ‬ ‫ال‬ ‫ـة‬
‫ِ‬ ‫ـ‬ ‫الجه‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫ف‬ ‫ـث أسـ ُ‬
‫ـكن‬ ‫جيـ ًـدا‪ ،‬حيـ‬ ‫لكننــي أرى ّ‬ ‫ـوام‪ ،‬و ّ‬ ‫أعـ ٍ‬
‫ْ َ‬ ‫ُ‬
‫هــذه الحجـ ّـار تفتقــد ِك مثلــي ً‬ ‫أ‬
‫ـرعة‪ ،‬وتعــودي إلــى عم ِلـ ِـك‬ ‫تمامــا‪ ،‬أرجــو أن تشــفي بسـ ٍ‬
‫ـان مث ِلـ ِـك‪ .‬مـ َـع‬ ‫ـب وإتقـ ٍ‬ ‫ـرعة‪َّ ،‬إن عامـ َـل المجلــس المحلـ ّـي لـ ْـم َي ُقـ ْـم بعم ِلـ ِـه بحـ ٍّ‬ ‫بسـ ٍ‬
‫ِ‬

‫‪19‬‬
‫عشر‬
‫َ‬ ‫الصف الثّاين‬

‫ّ‬ ‫ّ‬
‫ـفاء العاجـ ِـل‪".‬‬
‫تمنياتــي لـ ِـك بالشـ ِ‬
‫احـ ْ‬
‫ـعور ُمريـ ٌـح‪ ،‬ور َ‬ ‫وغمرهــا شـ ٌ‬ ‫ـت بهــا‪َ ،‬‬ ‫فرحـ ْ‬ ‫ُ ّ َ‬
‫ـالة َ‬ ‫َ‬
‫ـت‬ ‫أت العاملــة الرسـ‬ ‫عندمــا ق ـر ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ ّ َّ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫أناســا ُيقـ ّـدرون عملــي‪،‬‬ ‫ـاك ً‬ ‫لنفســها‪َ :‬مـ ْـن كان يعتقـ ُـد هــذا؟ َمـ ْـن كان يفكـ ُـر أن هنـ‬ ‫تقــول ِ‬
‫َ‬ ‫ونهضـ ْ‬‫ويحترمونـ ُـه؟! َ‬ ‫َ‬
‫ـاء علــى (البوتوجــاز) كــي تصنـ َـع‬ ‫ـت المـ َ‬
‫ووضعـ ِ‬ ‫ـريرها‪،‬‬
‫ِ‬ ‫ـ‬ ‫س‬ ‫ـن‬ ‫ـ‬ ‫م‬ ‫ـت‬
‫ً‬
‫ـان كبيـ ٍـر بعضــا‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫منــه مـ ً‬
‫ـاء ســاخنا فــي قربـ ِـة التدفئـ ِـة‪ ،‬وكذلــك وضعــت منــه فــي فنجـ ٍ‬
‫ـاي‪،‬‬
‫ُ ّ‬
‫الشـ َ‬ ‫ـت تشــرب‬ ‫ـت بـ ِـه ملعقـ ًـة مـ َـن العســل‪ ،‬ور َ‬
‫احـ ْ‬ ‫ووضعـ ْ‬
‫َ‬ ‫‪،‬‬ ‫ِّ‬
‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫ب‬
‫ّ‬
‫الط ّ‬ ‫ـاي‬ ‫ـ‬
‫َ ّ‬
‫الش‬ ‫مــن‬
‫ِ‬
‫َ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬
‫نفســها قائلــة‪ :‬إننــي أرقــد هنــا مريضــة فاقــدة ّ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫وتستنشــق نكهتــه‪َ ،‬وتحــدث َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫الرغبـ ِـة فــي‬
‫رون مــا أقـ ُ‬‫ّ َ‬ ‫ـاس بجــواري ّ‬ ‫بينمــا يوجـ ُـد أنـ ٌ‬ ‫الحيــاة!! َ‬
‫ـوم بــه مــن عمـ ٍـل‪،‬‬ ‫يحبوننــي‪ ،‬ويقــد‬ ‫ِ‬
‫َ‬ ‫ُ َّ ْ ُ‬ ‫ّ‬ ‫ُّ ْ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬
‫ـذه الحيــاة تســتحق أن أحياهــا‪ ،‬إننــي ال بــد أن أشــفى‪ ،‬كــي أعــود إلــى عملــي‬ ‫إن هـ ِ‬
‫وأصدقائــي!!‪.‬‬ ‫ما الّذي فكرت به وأنت تقرأ‬
‫الفقرة األخيرة من القصة؟‪.‬‬

‫‪20‬‬
‫ريصقلا ةَّصِقلا‬
‫ُ‬

‫ب‬
‫تعج ٍ‬
‫ّ‬ ‫عالمة‬
‫ُ‬
‫فاطمة الكعبي‬
‫َ‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬
‫ـاؤب لحظــة‪ ،‬رغـ َـم رك ِت‬ ‫ـلحفاة تحبــو بكسـ ٍـل‪ ،‬وأنــا لــم أكــف عـ ِـن التثـ ِ‬ ‫الوقــت بــدا لــي كسـ ٍ‬
‫ـتلقاء علــى‬ ‫أتمنــى لــو باســتطاعتي االسـ ُ‬ ‫ـت يــدي علــى بطنــي‪ ،‬وأنــا ّ‬ ‫وضعـ ُ‬ ‫تذمـ َـر ُه‪َ ،‬‬
‫جنينــي وهـ َـو يعلـ ُـن ّ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫واء‪.‬‬
‫ـرف الــد ِ‬ ‫ظهــري حتــى يحيـ َـن موعــدي فــي صـ ِ‬
‫ً‬ ‫ّ‬ ‫اللمــع تسـ ُّ‬ ‫ّ‬ ‫أ‬ ‫ُ‬
‫ـتفزني‪ ،‬يبــدو أن منظــري ‪-‬هكــذا ‪ -‬كاشــفة عــن‬ ‫ِ‬ ‫ـر‬ ‫ِ‬ ‫ـ‬ ‫خض‬ ‫ال‬ ‫ذات البرقـ ِـع‬ ‫ـوز ِ‬ ‫نظـرات العجـ ِ‬
‫متزوجـ ًـة‪ْ ،‬‬ ‫خاصـ ًـة وبطنــي تفصـ ُـح عــن كونــي ّ‬ ‫ُ‬
‫أدر ُت وجهــي عنهــا‪ .‬ومــا‬ ‫ـروق لهــا كثيـ ًـرا‪ّ ،‬‬ ‫وجهــي ال يـ‬
‫وجلسـ ْ‬ ‫ّ‬ ‫ْ‬ ‫ْ ْ ُ ّ‬
‫ـت بجــواري‪.‬‬ ‫َ‬ ‫ـب َ‬
‫عمرهــا‪،‬‬ ‫مقعدهــا بخفـ ٍـة ال تناسـ ُ‬ ‫إن فعلــت حتــى قفـ َـزت مــن ِ‬
‫ساعة وأنا ُ‬ ‫ُ‬
‫أنتظر دوري‪.‬‬ ‫ربع ٍ‬ ‫ِ‬ ‫منذ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ـات بــدأ ِت الحديــث‪ ،‬وهـ َـي تحشـ ُـر جسـ َـدها فــي فـر ٍاغ صغيـ ٍـر بجانبــي علــى‬ ‫ّ‬
‫هكــذا‪ ،‬بــا مقدمـ ٍ‬
‫أ‬ ‫َ‬ ‫ِّ َّ َ‬
‫أردفـ ْ‬
‫ـتم إدارة المستشــفى‪ ،‬وتبــدي ر َأيهــا فــي نظـ ِـام الرقـ ِـام الجديـ ِـد‬ ‫ـت تشـ ُ‬ ‫الكرســي الخشــبي‪ ،‬ثــم‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ـاس كثيـ ًـرا‪ .‬ســاءني ر ُأيهــا‪ ،‬وأنــا ّ‬ ‫يؤخـ ُـر ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫أتخيــل نفســي أقــف لــدى شـ ّـب ِاك‬ ‫النـ َ‬ ‫فــي االنتظـ ِـار الــذي تـراه‬
‫ّ‬ ‫ّ ّ ْ َ‬
‫ـات‪.‬‬
‫ـاء بانتظـ ِـار حفنـ ِـة فيتامينـ ٍ‬ ‫ـوام مـ َـن النسـ ِ‬ ‫وســط أكـ ٍ‬ ‫الصيدليـ ِـة‬
‫القـ ِّـل لمــن مث ِلـ ِـك ومثلــي ّ‬‫أ‬ ‫ُ‬ ‫النظـ َ‬ ‫بالعكــس‪ ،‬أنــا أرى ّأن هــذا ّ‬
‫ممـ ْـن ال‬ ‫ـام أفضــل بكثيـ ٍـر‪ ،‬علــى‬ ‫ِ‬
‫ـوف والزحـ ِـام كثيـ ًـرا‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫يقو ْيـ َـن علــى الوقـ ِ‬ ‫َ‬
‫ـاود رفســي مــا ْإن سـ َ‬
‫ـمع‬ ‫تبر َمهــا كتعليــق‪ ،‬يبــدو ّأن طفلــي لــم يستسـ ْـغها مثلــي؛ فقـ ْـد عـ َ‬ ‫ُتبــدي ّ‬
‫ٍ‬
‫اكتفيـ ُ‬
‫ـث فارغـ ٍـة‪ْ .‬‬ ‫َ‬ ‫ـرة‪ّ ،‬‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫صوتهــا الحـ َّ‬ ‫َ‬
‫ـردود مقتضبـ ٍـة‬‫ـت بـ ٍ‬ ‫وتزجنــي فــي أحاديـ‬ ‫ـاد‪ ،‬وهـ َـي تســألني أســئلة ًكثيـ‬
‫ـون ً‬‫َ‬ ‫ـط َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ ّ‬ ‫حتــى بـ ْ‬ ‫ّ‬
‫ممتعــا‪،‬‬ ‫أنفاســها لــن يكـ‬ ‫ـعر أن الحديــث مـ َـع امـر ٍأة مكـ ّـو ٍرة مثلــي بالـ ِ‬
‫ـكاد تلتقـ‬ ‫ـدأت تشـ‬
‫ـت بمراقبـ ِـة ّ‬ ‫َ‬
‫واكتفـ ْ‬ ‫ـت ّ‬ ‫َ‬
‫فصمتـ ْ‬
‫ـات ال تخلــو فــي‬ ‫ـض تعليقـ ٍ‬ ‫َ‬
‫أمامنــا‪ .‬مــع بعـ ِ‬ ‫المار يـ َـن مــن ِ‬
‫النــاس ّ‬
‫ِ‬ ‫عنــي‪،‬‬
‫ُّ‬
‫أغلبهــا مــن تهكـ ٍـم‪.‬‬ ‫ِ‬
‫أبوك َ‬ ‫َ َ‬
‫معنا!‬ ‫ ـلو كان‬
‫الحمــل‪،‬‬ ‫فحوصــات‬
‫َ‬
‫افقــون زوجا ِت ْ‬
‫هــم فــي‬ ‫جــال ير‬ ‫عــددا َ‬
‫مــن ّ‬ ‫ــت جنينــي‪ ،‬وأنــا أرى ً‬ ‫حد ْث ُ‬
‫ّ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫الر ِ‬
‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ّ ُ‬ ‫ُ ْ‬ ‫شـ ْ ُ‬
‫ـهري ِة؛‬‫الشـ ّ‬ ‫ـية تشــبه ُاليتـ َـم‪ ،‬وتمن ْيــت لــو يرافقنــي مـ َّـرة فــي هــذه الفحوصـ ِ‬
‫ـات‬ ‫ـدة قاسـ ٍ‬ ‫ـعرت َبو ْحـ ٍ‬
‫ينتظرنــي عنـ َـد‬‫‪-‬حتــى‪ُ -‬‬ ‫ابنــه المتكـ ّـو َم فــي بطنــي‪ ،‬أو ّ‬ ‫يدخـ ُـل معــي إلــى غرفــة الكشــف‪ ،‬يشـ ُ‬
‫ـاهد َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬

‫‪21‬‬
‫عشر‬
‫َ‬ ‫الصف الثّاين‬

‫أ‬
‫ـرص ال ِب‪.‬‬ ‫البــاب بشــغف‪ ،‬ويسـ ُـألني بلهفـ ِـة الـ ّ‬
‫وج وحـ ِ‬
‫ِ‬ ‫ـز‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫الس ُ‬
‫لديك ّ‬
‫تريدين‪.‬‬ ‫ائق‪ ...‬يوصل ِك أينما‬ ‫ ـ ِ‬
‫وهي َ‬
‫بوقاحة َ‬ ‫ً َ‬
‫بيننا‪ُ ،‬‬ ‫ّ ُ‬ ‫َ‬
‫يديه‪.‬‬
‫بين ِ‬ ‫ٍ‬ ‫تطالعني‬ ‫الصحيفة حائطا‬ ‫كان ِت‬
‫الس ُ‬
‫ائق‪.‬‬ ‫ليس ّ‬
‫أنت زوجي‪ ،‬و َ‬‫ ـ َ‬

‫ُ‬ ‫المــار َة ُ‬
‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ ّ‬ ‫وتأف ُ‬‫ّ‬ ‫ّ ُ‬
‫تشــعرني‬ ‫تزيــد مــن ضيقــي‪ ،‬كمــا‬ ‫العجــوز ونظراتهــا التــي تنهــش‬
‫ِ‬ ‫فــات‬ ‫‪،‬‬ ‫ــف‬ ‫يتأف‬
‫ّ‬
‫تعليقاتهــا الل ِ ّ‬ ‫ُ‬
‫جــر‪.‬‬
‫ذعــة بالض ِ‬
‫وقت َّ‬
‫لدي‪..‬‬ ‫ ـال َ‬
‫َ‬ ‫ُّ َ‬ ‫َ َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫أنــا ّالتــي لـ ّ‬
‫يهمــك خاللهــا‬ ‫ابنــك بيـ َـن أحشــائي‪ ،‬ال‬ ‫ـهر أحمــل فيهــا‬ ‫ـدي مـ َـن الوقـ ِ‬
‫ـت تســعة أشـ ٍ‬
‫ـؤال واحـ ٍـد‪:‬‬
‫ســوى سـ ٍ‬
‫ ـو ٌلد أم ٌ‬
‫بنت؟‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫حرثـ ُ‬ ‫ْ‬ ‫ّ‬ ‫أ‬
‫ـاء ُه عــن‬
‫ـاول إقصـ َ‬ ‫ـت ذاكرتــي فــي مواقــف ال جــدوى منهــا‪ ،‬أحـ‬ ‫يداهمنــي الســى كلمــا‬‫ُ‬
‫ُ ّ َ‬ ‫َ‬ ‫ّْ ّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫تفكيــري وأنــا أعـ ُ‬
‫ـاود تقليـ َ‬
‫ـيء الشاشــة‬ ‫بالرقـ ِـم الــذي كان يضـ‬ ‫ـب الورقـ ِـة التــي تحمــل رقمــي‪ ،‬وأقارنهــا‬
‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫يدليـ ِـة‪ ،‬و ّلمــا ْ ُ ّ‬ ‫الص ّ‬‫ـوداء بجانــب ّ‬ ‫السـ َ‬
‫ّ‬
‫بيدهــا وهــي تشـ ُـير‪:‬‬
‫ـوض أعادتنــي العجــوز ِ‬ ‫هممــت بالنهـ ِ‬ ‫ِ‬
‫ ـانظري!‬
‫ـت امـر ًأة تسـ ُـير برفقــة زوجهــا‪ ،‬شـ ْ ُ‬ ‫ـث أشـ َـار ْت‪ ،‬فر ْأيـ ُ‬ ‫ُ‬
‫ـرة‪ ،‬ولــم أسـ ْ‬
‫ـتطع‬ ‫ـعرت بالغيـ ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫نظـ ْـر ُت إلــى حيـ‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫ـعر ُت ضيقهــا‪،‬‬‫لكنــي استشـ ْ‬ ‫أفهمهــا‪ ،‬و ّ‬
‫ـات متداخلـ ٍـة لــم ْ‬ ‫ـاد نظــري عنهمــا‪ ،‬والعجــوز تتمتـ ُـم بكلمـ ٍ‬ ‫إبعـ َ‬
‫َ‬ ‫ٌ َ‬ ‫ٌ‬ ‫َ‬ ‫َ ْ‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫َّ ْ‬
‫ـت‬‫ظلــت نظراتنــا معلقــة بهمــا حتــى اختفيــا‪ ،‬فلتــت مــن بيـ ِـن شــفت ْي تنهيــدة طويلــة‪ ،‬بينمــا نفثـ ِ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫وعل َقـ ْ‬ ‫ُ َ‬
‫ـت عليهمــا بتهكـ ٍـم‪:‬‬ ‫برقعهــا‪،‬‬
‫العجــوز غيظهــا فــي ِ‬
‫(وين احنا)؟ في (باريس)ْ!‬ ‫ ـ ْ‬
‫َ‬ ‫ـات وجههــا بدهشـ ٍـة‪ ،‬قبـ َـل ْأن َ‬
‫أغادرهــا بعجـ ٍـل دون أدنــى‬ ‫ـ‬ ‫ن‬ ‫فحد ْقـ ُ‬
‫ـت فــي ّ‬
‫تغض‬
‫ُ‬
‫عبارتهــا‪ّ ،‬‬ ‫شــنقتني‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫تعليق ‪.‬‬
‫ٍ‬

‫‪22‬‬
‫ريصقلا ةَّصِقلا‬
‫ُ‬

‫رأيْتُ النّخلَ‬
‫رضوى عاشور‬

‫ـت رأســي بمنديلي‬


‫ْ‬
‫وربطـ ُ‬ ‫ـت معطفــي القديـ َـم‪،‬‬ ‫ـادرة علــى االنتظــار‪ ،‬فلبسـ ُ‬ ‫ً‬
‫ـ‬ ‫ق‬ ‫ـد‬‫ـتاء فلـ ْـم َأ ُعـ ْ‬‫الشـ ُ‬ ‫َ ِّ‬
‫طــال‬
‫ِ‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫الصوفـ ِّـي‪ ،‬ونزلــت إلــى الشــوارع ُ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ّ‬
‫ـجر‪ ،‬أنظـ ُـر‪ ،‬وأتحقــق‪ ،‬وعندمــا تفشــل‬ ‫ـف عنــد الشـ ِ‬ ‫أقطعهــا‪ ،‬وأتوقـ‬ ‫ِ‬
‫ً َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬
‫ـت‬ ‫كانـ ْ‬ ‫ـس‪ ،‬وأحيانــا‬ ‫وأتحسـ ُ‬‫ّ‬ ‫ـس‪،‬‬‫الجافـ ِـة‪ ،‬أمـ ُّـد يــدي‪ ،‬أجـ ُّ‬ ‫ـروع‬ ‫ـيء علــى الفـ‬ ‫ـاي فــي رؤيـ ِـة شـ ٍ‬ ‫َعينـ َ‬
‫ِ‬
‫ـدة‬
‫َ ْ‬
‫ـود‪ ،‬بــل ُمجـ ّـر َد عقـ ٍ‬ ‫ـس هــو المنشـ‬ ‫ـان‪ ،‬ويخفــق قلبــي‪ُ ،‬ثـ َّـم أكتشـ ُـف َّأن مــا َو َجـ ْـد ُت ليـ َ‬ ‫َ ّ‬
‫ـداي تتوقفـ ِ‬ ‫يـ‬
‫ّ َ ّ َ ّ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ٍّ‬
‫ـات الصلبــة الدقيقــة التــي‬ ‫الكرويـ ِ‬ ‫ـرع جــاف‪ ،‬ولكننــي كنــت واثقــة أننــي ســأجدها‪ ،‬أقصــد‬ ‫علــى فـ َ ٍ‬
‫َ‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫ـيء‪ ،‬ولكنــك لـ ْـو دققــت النظـ َـر وجدتهــا ّ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ُّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫كرويــة‪َ ،‬ورمادهــا‬ ‫يخدعــك لونهــا فــي البدايـ ِـة فتظنهــا ال شـ َ‬
‫ُ َ‬ ‫وتنتظرهــا تكبـ ُـر‪ّ ،‬‬ ‫ـك ْأن َ‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫َ‬
‫وتتفتـ ُـح‪ ،‬وتكشــف لــك عـ ْـن‬ ‫َ‬ ‫تتابعهــا‪،‬‬ ‫رماديــا‪ ،‬وال جفافهــا جفافــأ‪ ،‬وعليـ‬ ‫ـس ًّ‬ ‫ليـ َ‬
‫أخضرهــا الكامـ ِـن‪.‬‬ ‫ِ‬
‫َ‬ ‫َ ّ ُ‬ ‫ُ‬
‫أبحث عنها َ‬ ‫ُ‬
‫الزميل‪ ،‬فقال‪:‬‬ ‫عندما رآني ذلك‬ ‫ك ْن ُت‬
‫ُ َ‬ ‫ّ‬
‫الشديد‪ُّ ،‬كل ّ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ُّ‬
‫تلزم بيوتها؟‬ ‫اس‬
‫ِ‬ ‫الن‬ ‫ِ‬ ‫البرد‬
‫ِ‬ ‫هذا‬ ‫في‬ ‫ارع‬
‫ِ‬ ‫الش‬ ‫في‬ ‫تفعلين‬ ‫ماذا‬ ‫‪،‬‬ ‫ة‬ ‫ ـفوزي‬
‫ُْ‬
‫قل ُت‪:‬‬
‫ُ‬
‫اعم!‬
‫ ـأبحث عن البر ِ‬
‫َ‬
‫فهتف‪:‬‬
‫ُّ‬ ‫ٌ‬ ‫ّ ّ‬
‫فوزية!‬ ‫ ـوالل ِه إن ِك مجنونة يا‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫َّ ّ َ‬ ‫ً‬ ‫َّ َ ُ َ‬ ‫َ‬
‫عينيه كان ْت دافئة وودودة‪.‬‬ ‫بوضوح أن صوته كان ضاحكا‪ ،‬وأن النظرة في ِ‬ ‫ٍ‬
‫يمزح‪ُ ،‬‬
‫أذكر‬ ‫كان ُ‬
‫ّ‬
‫ـاعتها تذكـ ْـر ُت‬ ‫ـاء ُل إلــى متــى؟ سـ َ‬ ‫ـث‪ُ ،‬عـ ْـد ُت إلــى بيتــي خائبـ ًـة‪ ،‬أتسـ َ‬ ‫ُ‬
‫قضي ُتـ ُـه أبحـ‬‫ـوم ْ‬ ‫وفــي نهايـ ِـة يـ ٍ‬
‫ُ‬ ‫ْ ُ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫ََ ْ‬ ‫َ ّّ ّ‬
‫ـاب‪،‬‬ ‫ـوار البـ ِ‬
‫زهــرة الصبـ ِـار التــي حملتهــا لــي عمتــي فاطمــة مــن البلـ ِـد‪ ،‬وكنــت قـ َـد وضعتهــا ُبجـ ِ‬
‫ّ‬ ‫ْ‬ ‫َ ْ‬ ‫ُ َّ ّ‬ ‫َّ ُ ُ ْ ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫ـهور‪،‬‬‫ونســيتها‪ .‬وعندمــا تذكـ ْـرت‪ ،‬قلــت لنفســي‪ :‬البــد أنهــا ماتــت‪ ،‬فأنــا لـ ْـم أسـ ِـقها منــذ عــد ِة شـ ٍ‬
‫الشــقر‪ُ ،‬‬ ‫ُ ِّ أ‬ ‫طينهــا قــد جـ َّـف‪ ،‬وتشـ ّـق َق‪ ،‬وأصبـ َ‬ ‫كان ُ‬ ‫َ‬ ‫ّ ُْ ُ أ‬
‫وعودهــا‬ ‫ِ‬ ‫ـن‬ ‫ـ‬ ‫الب‬ ‫ـون‬
‫ِ‬ ‫ـ‬ ‫ل‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫ف‬ ‫ـح‬ ‫ـا‪.‬‬‫ـ‬ ‫اه‬ ‫ر‬ ‫ل‬ ‫ولكننــي قمــت‬
‫ً‬ ‫ِّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫ـس‪ ،‬واصفـ َّـر‪ ،‬رغـ َـم أنــه نمــا‪ ،‬وطــال‪ ،‬وكانــت أوراقهــا ذات الحــواف إال ّ‬ ‫ّ‬ ‫يبـ َ‬
‫بريـ ِـة علــى حا ِلهــا ناهضــة‪،‬‬
‫ً َُ ّ ً َ ْ ّ ُ‬
‫ـارة ّ‬ ‫أ‬ ‫ّ ُ‬ ‫ً‬ ‫تتفـ ّـر ُع مــن ّ‬
‫عمتــي تســتوي‬ ‫ـفل رفيعــة ومدببــة‪ .‬كانــت صبـ‬ ‫ـاق عريضــة‪ ،‬وتتفتــح إلــى السـ ِ‬ ‫السـ ِ‬
‫القصصيةِ "ر ْأي ُت َّ‬
‫النخل"‪ ،‬دار الشروق‪ ،‬مصر‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫مجموعتها‬ ‫* من‬
‫ِ‬

‫‪23‬‬
‫عشر‬
‫َ‬ ‫الصف الثّاين‬

‫ـوقها خض ـر َاء‪َ ،‬ر َو ْي ُتهــا‪.‬‬ ‫علــى سـ ِ‬

‫ـيء‬ ‫ـ‬ ‫ش‬ ‫ِّ‬


‫أي‬ ‫ـي‬‫ـ‬ ‫ف‬ ‫‪،‬‬‫ـوب‬ ‫ـ‬ ‫ك‬ ‫ـي‬‫ـ‬ ‫ف‬ ‫‪،‬‬ ‫ـة‬
‫ٍ‬ ‫ـ‬ ‫فارغ‬ ‫ـة‬
‫ٍ‬ ‫ـ‬ ‫علب‬ ‫ـي‬
‫ـ‬ ‫ف‬ ‫‪،‬‬ ‫ـار‬ ‫ـ‬ ‫أزرع فــي آنيــة مـ ْـن ّ‬
‫فخ‬ ‫ٍ‬ ‫رع‪ ،‬وصـ ْـر ُت ُ‬ ‫ـت الـ ّـز َ‬‫َأ ْح َب ْبـ ُ‬
‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫ـرة‪ ،‬أو فرعــا أخضـ َـر‪ ،‬وأروي‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ـت فــي ُ‬ ‫بالطيــن‪ُ ،‬وأ ِّثبـ ُ‬ ‫ُُ ّ‬
‫يصلـ ُـح للـ ّـز ِرع‪ ،‬أملــؤه‬
‫العمـ ِـق الــا ِزم نــواة ثمـ ٍ‬ ‫ِ‬
‫ـوم حملــوا لــي خبـ َـر وفـ ِـاة‬ ‫ـك‪ ،‬يـ َ‬ ‫َ َ‬
‫لكن ُهـ ْـم قالوهــا بعــد ذلـ‬ ‫ّأي َامهــا‪َ ،‬لـ ْـم َي ُقـ ْـل لــي أحـ ٌـد ّإننــي مجنونـ ٌـة‪ ،‬و ّ‬
‫عمــي‪:‬‬ ‫ابــن ّ‬
‫ِ‬
‫ُّ‬ ‫ابن ِّ‬‫مات ُ‬ ‫ ـ َ‬
‫فوزية‪.‬‬ ‫عم ِك يا‬
‫مات؟‬ ‫ ـ َ‬
‫َ‬ ‫صحب ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ َ‬
‫طل ْبـ ُ‬ ‫ّ ّ‬
‫ـب الع ـز ِاء‪ .‬رأ ْونــي‬ ‫ِ‬ ‫ـ‬ ‫واج‬ ‫ـم‬
‫ُِ‬ ‫ـ‬ ‫لتقدي‬ ‫ْ‬
‫ـم‬ ‫ـ‬ ‫ه‬ ‫َ‬ ‫أ‬ ‫ـت منهــم أن ينتظــروا كــي‬ ‫فلمــا أكــدوا الخبــر‬
‫بالضغـ ِـط ُ‬‫ـود ريحــان‪ ،‬وأ ِّثب ُتـ ُـه ّ‬ ‫بالطيــن‪ ،‬وأرشـ ُـق فيـ ِـه عـ َ‬ ‫ً ّ‬ ‫أُ ً‬ ‫أمام ُهـ ْ‬
‫ـص َ‬ ‫أ َق ِرفـ ُ‬
‫ُ‬
‫المتكـ ّـر ِر‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ـة‬
‫ـ‬ ‫فارغ‬ ‫ـة‬‫ـ‬ ‫علب‬ ‫ـ�‬ ‫ـ‬ ‫وأم‬ ‫‪،‬‬ ‫ـم‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫َ َ ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫حتــى ُ‬ ‫الطيــن ّ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫ـاء‪،‬‬ ‫ـرع تمامــا‪ ،‬ويحتضنــه‪ ،‬ويتماســك‪ ،‬ثــم غمرتــه بالمـ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ـ‬ ‫بالف‬ ‫ـك‬ ‫ـ‬ ‫مس‬
‫ِ‬ ‫ي‬ ‫ِ‬ ‫ِبقبضتـ ّـي علــى‬
‫ـت‪:‬‬ ‫َو ُق ْلـ ُ‬

‫َ‬ ‫ْ‬ ‫آَ‬


‫نذهب‪.‬‬ ‫ ـالن بإمكا ِننا أن‬
‫ّ‬ ‫فوزيـ ُـة‪َ ،‬و َع ُ‬ ‫ـون‪َّ :‬‬ ‫َ‬ ‫ـون ًّكفــا بكـ ٍّـف‪ ،‬وسـ ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫وضنــا علــى اللـ ِـه"‪ ،‬ولـ ْـم أفهـ ْـم‬ ‫ـت ّ‬ ‫"جنـ ْ‬ ‫ـمعت ُه ْم يقولـ‬ ‫رأ ْي ُت ُهـ ْـم يضربـ‬
‫الغنيـ َ‬ ‫ّ ُ ُ ِّ ُ أ‬ ‫أحد ُهـ ْـم يهمـ ُ‬ ‫ـمع ُت َ‬ ‫عندمــا سـ ْ‬ ‫ـتغر ْب ُت أكثـ َـر َ‬ ‫ـك؟ واسـ َ‬ ‫َ‬
‫ـاء‬ ‫ـس‪" :‬فوزيــة تقلــد‬ ‫لمــاذا قالــوا ذلـ‬
‫َ‬ ‫ُ ّ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫أ‬
‫اســتغر ْب ُت؛ لن ُــه ِم ْ‬ ‫َ‬
‫نــون بيوت ُه ْ ّ‬ ‫ُ ّ َ‬ ‫ّ‬
‫ــن قري ِتنــا‪َ ،‬ويعــرف‪ ،‬فنحــن فلحــون‪،‬‬ ‫َ‬ ‫باتــات!"‪،‬‬
‫ــم بالن ِ‬ ‫الذيــن يزي‬
‫َ‬ ‫عيديـ ِـة ال ُ ْ َ‬ ‫ٌ َّ ِّ‬
‫ـول للفالحـ ِـة‪ ،‬ولكـ َّـن الفالحــة هــي‬ ‫يخرجــن إلــى الحقـ ِ‬
‫الص ّ‬ ‫عائلتنــا ّ‬
‫ـاء فــي ِ‬ ‫النسـ َ‬ ‫صحيــح أن‬
‫ً‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬
‫ـوت عيونهــن عليهــا أيضــا‪ .‬وأنــا أذكـ ُـر‬ ‫ُ‬ ‫حيات ُهـ َّـن التــي يفت ْحــن عيونهــن عليهــا‪َ ،‬ويغمضــن ســاعة المـ ِ‬
‫َ‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫َّ‬ ‫ٌ‬ ‫ّ ٌ َ‬ ‫ٌ‬ ‫كانـ ْ‬ ‫َ‬ ‫َّ َ‬
‫بابـ ِـه نخلــة‪ .‬وأذكـ ُـر أن أبــي‬ ‫قاعـ ِـه صبــارة‪ ،‬و ِب ِ‬ ‫ـطح ِه نعناعــة‪ ،‬وفــي ِ‬ ‫ـت علــى سـ ِ‬ ‫أن بيتنــا فــي القريـ ِـة‬
‫ّ ُ‬ ‫ٌ‬ ‫َ ُ ّ ُ َ ُ َّ ّ َ َ ٌ‬
‫ـاد ِه‪َ ،‬و ّكر َمهــا ِب ِذ ِكرهــا‬
‫‪-‬رحمــه اللــه‪ -‬كان يقــول‪ :‬إن النخلــة شــجرة ُمباركــة‪ ،‬أنعـ َـم اللــه بهــا علــى ِعبـ ِ‬
‫وإن ُــه ّ‬‫َ ّ ُ َّ َ ‪ّ 1‬‬ ‫َ‬ ‫ُ ّ‬ ‫َّ‬ ‫وإن ّ‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬
‫ســمى‬ ‫"أكرمــوا عما ِتكــم النخــل" ‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫‪:‬‬ ‫قــال‬ ‫‪-‬‬ ‫عليــه‬
‫ِ‬ ‫ــه‬
‫ِ‬ ‫الل‬ ‫صلــوات‬ ‫‪-‬‬ ‫بــي‬ ‫الن‬ ‫‪،‬‬‫ــرآن‬
‫ِ‬ ‫الق‬ ‫فــي‬
‫َ ُ َ ْ ْ َ َُ‬ ‫ُ‬ ‫َ ّ ُ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫أّ ُ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬
‫النخــل ع ّما ِتنــا؛ لنهــا خ ِلقــت ِمــن فضلـ ِـة طينـ ِـة آدم‪ ،‬وأنهــا تشـ ِـبه إالنســان‪ ،‬خ ِلقــت ِمــن ذ كـ ٍـر وأنثــى‪،‬‬
‫ْ ً َ ُ ٌ َ‬ ‫القـ ِّـد‪َ ،‬و ُ‬ ‫َ َ‬ ‫ً‬
‫ـوء هلــك‪.‬‬ ‫ـان فــي ر ِأسـ ِـه‪ ،‬إن أصابــه سـ‬ ‫جمارهــا علــى ر ِأســها‪ ،‬كعقـ ِـل إالنسـ ِ‬ ‫طويلــة ُمســتقيمة‬
‫ُ‬ ‫ُ َّ‬ ‫َ ْ ُ‬ ‫ـوي ّ‬ ‫كان أبــي يوصــي َأ َخـ َّ‬ ‫َ‬
‫ـت أ ّمــي توصينــي كل فجـ ٍـر‪ ،‬وهــي تلقــي تعليما ِتهــا‬ ‫بالنخـ ِـل‪ ،‬كمــا كانـ‬

‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫َ َّ َ ُ َّ َ‬ ‫ُ‬


‫النخلة"‪ ،‬وهو حديث ضعيف‪( .‬انظر "زاد المعاد"‪/‬الجزء الربع‪.)4/366 /‬‬ ‫"أكرموا عمتكم‬
‫بعبارة ِ‬
‫ِ‬ ‫‪ )1‬ورد الحديث‬

‫‪24‬‬
‫ريصقلا ةَّصِقلا‬
‫ُ‬

‫ـت أنســى ُ‪-‬ك ْنـ ُ‬ ‫وعندمــا ُك ْنـ ُ‬ ‫النعناعـ َـة‪َ ،‬‬ ‫وأن أســقي ّ‬ ‫ْ‬ ‫اليوميــة ب َك ْنــس الـ ّـدار‪ ،‬وإطعــام ّ‬
‫ـت ً‬
‫دائمــا‬ ‫ـاج‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ـ‬ ‫ج‬ ‫الد‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ّ ِ‬
‫ـت تغضـ ُ‬ ‫َ‬
‫كانـ ْ‬ ‫َ ّ‬ ‫َ‬ ‫علــى عجلـ ٍـة ِمـ ْـن أمــري‪ّ ،‬‬
‫ـب‪،‬‬ ‫ـاب إلــى المدرسـ ِـة‪-‬‬ ‫ـات قبــل الذهـ ِ‬ ‫أؤدي تلــك الواجبـ ِ‬
‫ٌ‬ ‫ِّ ً‬ ‫ُ‬
‫موب َخــة‪" :‬ح ـر ٌام عليـ ِـك يــا ُب ّنيتــي‪ ،‬هــذا فــأل سـ ّـي ٌئ‪َ ،‬ر ُّبنــا يمـ ُّـد فــي ُعمـ ِـر أبيـ ِـك‪،‬‬ ‫ويعلــو صوتهــا‬
‫ّ ََ َ ّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َّ ّ َ ْ َّ‬ ‫ً‬ ‫ّ َ‬ ‫َُ‬
‫ــواي ذهبــا‪،‬‬ ‫مرهــا‪ .‬حتــى أخ‬ ‫مــر ِه‪ ،‬وال فــي ع ِ‬ ‫ويبقــي الــدار عمــارا"‪َ ،‬ولكــن اللــه لــم يمــد فــي ع ِ‬
‫َ‬ ‫ـيت ّ‬ ‫ـت فــي القاهــرة‪ -‬كالمقطوعـ ِـة مـ ْـن شــجرة‪َ ،‬وبــدا ّأننــي نسـ ُ‬ ‫ـت أنــا ‪ -‬بعـ َـد ْأن أ َق ْمـ ُ‬ ‫فأصب ْحـ ُ‬‫َ‬
‫النعناعــة‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ّ َ ّ َ ُ َّ‬
‫والص ّبــارة والنخلــة‪َ ،‬وكل شـ ٍ‬
‫ـيء‪.‬‬
‫ّ‬
‫اب بي ِتنــا الــذي‬ ‫َ ْ‬ ‫َ َّ ْ‬ ‫ُ‬ ‫ـاء ْت ّ‬ ‫ُثـ َّـم جـ َ‬
‫صدرهــا‪ ،‬وبكــت علــى خـر ِ‬ ‫لزيارتــي‪ ،‬وضمتنــي إلــى ِ‬ ‫عمتــي فاطمــة‬
‫ـيوطي‪َ ،‬و َ‬ ‫السـ ِّ‬ ‫أ‬ ‫ترب َعـ ْ‬ ‫دمعهــا‪َ ،‬و َّ‬ ‫ـت َ‬ ‫فك َفـ ْ‬‫َ ْ ُ ُ َ َّ ْ َ ّ ُ ُ ُ َّ َ َ‬
‫فتحــت‬ ‫ـاط‬
‫ـت علــى البسـ ِ‬ ‫انطفــأت نــاره‪ ،‬وجفــت صبارتــه‪ ،‬ثــم ك‬
‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َْ‬ ‫ّ َّ ّ‬
‫ـارة‪ .‬قالــت‪" :‬أحضـ ْـرت لـ ِـك رغفانــا خ َبزتهــا‪َ ،‬وتمـ ًـرا ِمـ ْـن نخلـ ِـة أبيـ ِـك‪،‬‬ ‫الســلة التــي َح َملتهــا معهــا ّللز يـ ِ‬
‫ـارة‪ ،‬وهــي‬ ‫بالص ّبـ ِ‬‫عمتــي لــي َيدهــا ّ‬ ‫ـارة ّالتــي فــي دارنــا"‪ ،‬ومـ َّـد ْت ّ‬ ‫الص ّبـ ِ‬ ‫فرعــا ِمـ َـن ّ‬ ‫َو َك َسـ ْـر ُت لـ ِـك ً‬
‫ِ‬
‫ـوم‬‫ـارة ّالتــي فــي دارنــا َك َسـ َـر ْتها لــي ُأ ّمــي ِمـ ْـن َص ّبارِتهــا يـ َ‬ ‫ّّ ُ‬
‫ـت فــي َعينيهــا‪" :‬الصبـ‬ ‫ـوع ماز َالـ ْ‬ ‫والدمـ ُ‬ ‫ـول‪ّ ،‬‬ ‫ُ‬
‫تقـ‬
‫ِ‬
‫َ ُّ ُ ُ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫ْ ّ ُ‬ ‫ُ‬ ‫َْ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫ـت زوجــي‪ ،‬هـ ِـذ ِه إذن صبــارة جد ِتـ ِـك‪ ،‬وجــد ِة جد ِتـ ِـك‪ ،‬ر بنــا يبـ ِـارك‬ ‫ت ّزوجــت‪ ،‬وانتقلــت إلــى بيـ ِ‬
‫ُ‬ ‫ّ ُ‬
‫فوزيــة‪ ،‬يــا ُب ّنيتــي‪ ،‬ويحفــظ لـ ِـك الـ ّـد َار عمـ ًـارا"‪.‬‬ ‫فيـ ِـك يــا‬
‫ٌ‬ ‫َ‬ ‫َّ َ‬ ‫َذ ّك َر ْتني ّ‬
‫اس ّ‬
‫عني‪ :‬مجنونة‪.‬‬ ‫فقال ّ‬
‫الن ُ‬ ‫عمتي‪ ،‬و ّلما تذك ْر ُت ز َر ْع ُت‪،‬‬
‫َ‬ ‫يتهامسون ور َاء َظهري‪َ ،‬‬
‫َ‬ ‫في العمل ً‬
‫وذات ّمر ِة‪ ،‬قال ْت لي زميلتي‪:‬‬ ‫أيضا‪،‬‬ ‫ِ‬
‫ُّ‬
‫يديك‪.‬‬
‫فوزية إلى ِ‬ ‫ ـانظري يا‬
‫ً ّ‬
‫ـت وســاخة‪ ،‬إنـ ُـه‬
‫ليسـ ْ‬ ‫الظافــر‪َ ،‬ف ُق ْلـ ُ‬
‫ـت‪" :‬هـ ِـذ ِه َ‬ ‫َ أ‬
‫ـوداء تحــت‬ ‫ـوط ّ‬ ‫ََ ْ ُ ّ ُ‬
‫ـت أنهــا تشـ ُـير إلــى الخطـ ِ‬
‫ِ‬ ‫السـ ِ‬ ‫فف ِهمـ‬
‫ّ‬ ‫ٌ‬ ‫ّ‬
‫أزرعـ ُـه"‪.‬‬
‫طيـ ٌـن ُمتخلــف ِمـ َـن الـ ّـزرع الــذي ُ‬
‫ِ‬
‫ّ ٌ‬ ‫ُ ً‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ ُ‬ ‫َ ْ‬
‫وأنت موظفة!"‪.‬‬ ‫قالت لي‪ ،‬وهي ت َر ِّبت على كتفي‪" :‬ال يليق‪ ،‬ال يليق أبدا‪ِ ،‬‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ ّ‬ ‫عندمــا ُ‬ ‫ـيء ُزمالئــي َ‬ ‫ال أفهـ ُـم مــا ّالــذي يسـ ُ‬
‫أزرع‪ .‬المــكان الــذي نعمــل فيـ ِـه ُمعتـ ٌـم وقديـ ٌـم‪ ،‬تســاقط‬
‫ٌ ّ‬ ‫ـت فيــه الحشـر ُ‬ ‫ّ َ‬ ‫َ‬
‫خيوطـ ُـه فــي ّ‬ ‫ـاء ُجدرانــه‪َ ،‬ونسـ َـج العنكبـ ُ‬
‫ات‪ ،‬وأنــا واثقــة أن‬ ‫الزوايــا‪َ ،‬وعششـ ْ ِ‬ ‫ـوت‬ ‫ِ ِ‬ ‫طـ ُ‬
‫ُ َّ‬ ‫ُ َ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫الفئـر َان لهــا جحـ ٌ‬
‫ـوم‬‫ـب بــا ضابـ ٍـط‪َ ،‬وكل يـ ٍ‬ ‫ـاء والليـ ِـل‪ ،‬وتســرح بيــن المكاتـ ِ‬ ‫ـور فيـ ِـه تتركهــا فــي المسـ ِ‬
‫ّ ُ ّ ّ ُ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ُ ّ َ ّ‬
‫ماديــة‬ ‫ـات التــي فــي ُعهدتــي‪ :‬الملفــات الر‬ ‫أحمــد اللــه أنهــا لـ ْـم تقــرض بعــد ًّأيــا ِمـ ْـن أور ِاق الملفـ ِ‬
‫ُ‬ ‫الصلـ ِّـي‪ّ ،‬‬ ‫أ‬ ‫ُ‬ ‫ـوف خشـ ّـبي ٍة ُمتآكلـ ٍـة‪ ،‬يصعـ ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫وحتــى المســاحة‬ ‫ـب معرفــة لوِنهــا‬ ‫القديمــة المصفوفــة علــى رفـ ٍ‬

‫‪25‬‬
‫عشر‬
‫َ‬ ‫الصف الثّاين‬

‫غطيهــا طفـ ُـح المجاري‪ ،‬فال نسـ ُ‬ ‫ُ ّ‬ ‫ّ ُ‬ ‫ـتطيلة ّالتــي أمـ َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫ـتطيع‬ ‫"الحديقة"ي‬
‫ِ‬ ‫ـام المبنــى‪ ،‬والتــي نشـ ُـير إليهــا بـــ‬ ‫المسـ‬
‫ُ ِّ ُ‬
‫ـاورة تشــكل جسـ ًـرا‬ ‫الحـ ِـذ ِر علــى خمسـ ِـة أحجـ ٍـار ُمتجـ ٍ‬ ‫بالســير َ‬ ‫ـروج ِم ْنـ ُـه ّإل ّ‬ ‫ـول المبنــى أو الخـ َ‬ ‫َ‬
‫دخـ‬
‫ِ‬
‫ـاب‪.‬‬ ‫إلــى عتبـ ِـة البـ ِ‬
‫َ‬ ‫َ ُ‬ ‫ْ ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ ُ‬
‫ات مــن‬ ‫لـ ْـم أ ّصـ ْـر مـ َـع زمالئــي‪ ،‬وعندمــا وجــدت الوضـ َـع علــى مــا هــو عليـ ِـه ز ْرعــت ثــاث شــجر ٍ‬
‫ـت أور ُاقهــا َح َم ْل ُتهــا إلــى المكتــب‪َ ،‬‬
‫ووض ْع ُتهــا‬
‫َ‬
‫وتكاثفـ ْ‬ ‫ـت‪،‬‬‫فلمــا َن َمـ ْ‬ ‫تعه ْد ُتهــا‪ّ ،‬‬ ‫ـدي‪َ ،‬و ّ‬ ‫الياســمين الهنـ ِّ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ّ‬ ‫َّ ُ‬ ‫ّ‬ ‫ُّ‬ ‫ً‬
‫ـمين حتــى‬ ‫ـال الياسـ ِ‬
‫ْ‬
‫ـدة التــي بالمبنــى‪ ،‬ولكــن زمالئــي لــم يلتفتــوا لجمـ ِ‬ ‫َ‬ ‫ـرفة الوحيـ ِ‬ ‫ُمتجــاورة فــي الشـ ِ‬
‫للطيــن تحـ َ‬ ‫ّ‬ ‫عندمــا أزهـ َـر‪ ،‬مـ َـع ّأن ُهـ ْ‬ ‫َ‬
‫ـت أظافــري‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ـوا‬ ‫ـ‬ ‫التفت‬ ‫ـم‬
‫ُ ّ‬ ‫ّ ُ‬ ‫َ‬ ‫ِّ ً َ ُ ُ ُ‬
‫"فوزيــة المجنونــة التــي‬ ‫ـمعت ُه ْم ِبأذنــي يقولــون‪:‬‬ ‫فــي َعملــي‪ ،‬ال يفهموننــي‪ ،‬وال فــي الحــي أيضــا‪ .‬سـ‬
‫َ‬ ‫ُ ّ‬ ‫ّ‬ ‫ُتلقــي ب َنفســها علــى نــوى ّ‬
‫ـب‪َ ،‬و ُهـ ْـم يســتغربون ســلوكي‪ ،‬فالواحـ ُـد منهــم‬ ‫ِ‬ ‫ـ‬ ‫ه‬ ‫الذ‬ ‫التمـ ِـر كأنـ ُـه ُجنيهــات‬ ‫ِ ِ‬
‫يبصقهــا فــي َيــده‪ْ ،‬أو يرميهــا بعــدَ‬ ‫ُ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫ِِ‬ ‫يــأكل البلحــة‪ ،‬ويلفــظ النــواة‪ ،‬يبصقهــا ِمـ ْـن ِفمـ ِـه فتســقط بعيــدا‪ْ ،‬أو‬
‫خب َئهــا فــي جيبــي العميقــة‪َ ،‬‬ ‫ُ أ َ َُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫وعندمــا أرجـ ُـع‬ ‫ِ‬ ‫ِّ‬ ‫أ‬‫ـول ذر ِاعـ ِـه فتســقط أبعـ َـد‪ ..‬أركــض للتقطهــا‪ ،‬و‬ ‫ِ‬ ‫ذلــك بطـ‬
‫تابعهــا وهــي‬ ‫ـوم‪ُ ،‬وأ ُ‬ ‫ّ ُ ُ َّ‬
‫وأتعهدهــا كل يـ ٍ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬
‫أضعهــا فــي قطنـ ٍـة ُمبللـ ٍـة أربعــة ْأو خمســة ّأيـ ٍـام‪،‬‬ ‫ـت ُ‬ ‫إلــى البيـ ِ‬
‫ُ‬ ‫َ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ ّ‬ ‫َ‬ ‫تنتفـ ُـخ‪ ،‬وتليـ ُـن حتــى ألمـ َ‬
‫ّ‬
‫ـس بيــدي طراوتهــا‪ ،‬فأعــرف أن الوقــت قــد حــان‪ ،‬وبعــد ذلــك أدفنهــا فــي‬
‫ّ‬
‫ـاء‪ ..،‬وأنتظـ ُـر‪.‬‬ ‫وأغمرهــا بالمـ ِ‬ ‫ُ‬ ‫الطيـ ِـن‪،‬‬
‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ً ُ ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُْ ُ ّ‬
‫فأزرعهــا‪َ ،‬و ُيحزننــي أنـ ُـه يتكـ ّـون ِمـ ْـن‬ ‫ـط بـ ِـه أرضــي‪ُ ،‬‬
‫كنــت أتمنــى أن يكــون بيتــي فســيحا تحيـ ِ‬
‫ّ ُ ِّ‬ ‫َ ّ ٌ‬ ‫وأن ُشـ َ‬ ‫َّ‬
‫ـكل مــا ُ‬
‫أزرع‪.‬‬ ‫ضيقــة إلــى هــذا الحـ ِّـد‪ ،‬وال تتســع لـ‬ ‫ـرفت ُه الوحيــدة‬ ‫ـدة‪،‬‬
‫ـرة واحـ ٍ‬ ‫حجـ ٍ‬
‫َ‬ ‫عد ْل ُ‬ ‫لكننــي َ‬ ‫ــرفة‪ ،‬و ّ‬ ‫ُّ‬ ‫ــص ّ‬ ‫ُ ُ‬ ‫فــي الماضــي ُك ْن ُ‬
‫ــت عــن ذلــك؛‬ ‫ســور الش ِ‬ ‫علــى‬ ‫رع‬ ‫الــز‬ ‫أضــع أ ُص َ‬ ‫ــت‬
‫حط ًمــا‪ ،‬والعــودُ‬ ‫َ َْ ُ ّ‬ ‫ِ ْ ُ َ‬ ‫ِ ُّ‬ ‫َ‬ ‫أل ّن ِّ‬
‫ـارة‪ .‬أول مــر ٍة وجــدت أصيــص زر ٍع م‬ ‫ّ‬ ‫الصغـ َـار العابثيـ َـن كانــوا يرمونهــا بالحجـ ِ‬
‫َ ّ‬ ‫َّ‬ ‫لكننــي ُق ْلـ ُ‬ ‫فكـ ْـر ُت فيهــم‪ ،‬و ّ‬ ‫ّ‬ ‫َ أ‬ ‫المـ ُ‬
‫ـض الظـ ِّـن‬ ‫ـت لنفســي‪" :‬إن بعـ‬ ‫ـورا‪ ،‬ذابــل الور ِاق‪،‬‬ ‫ـزروع فيــه مكسـ ً‬
‫ٌ‬
‫الصغـ ُـار ُيضايقوننــي وأنــا عائــدة‬ ‫عندمــا أخـ َـذ ِّ‬ ‫وتأكـ ْـد ُت أكثـ َـر َ‬‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫أ‬
‫فلمــا تكـ ّـر َر المـ ُـر تأكـ ْـد ُت‪،‬‬ ‫إثـ ٌـم"‪ّ ،‬‬
‫ـتخدم فــي حفـ ِـظ‬ ‫ـرة ّالتــي ُتسـ ُ‬ ‫الصفائـ ِـح الكبيـ ِ‬ ‫ـك ّ‬ ‫َ‬ ‫ً‬
‫ـت‪ ،‬أحمــل صفيحــة ْأو صفيحتيـ ِـن مــن تلـ‬
‫ُ‬
‫إلــى البيـ ِ‬
‫وعندمــا وجــدَ‬ ‫أزرع فيهــا ‪َ -‬‬ ‫ـال ُيعطيهــا لــي لكــي َ‬ ‫ّ ُ‬ ‫َ َ ُّ ّ‬ ‫ّ‬ ‫أ‬
‫ـون‪ -‬كان العــم متولــي البقـ‬ ‫ـض‪ ،‬أو الز يتـ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ـ‬ ‫بي‬‫ال‬ ‫الجبـ ِـن‬
‫وذهبيـ ٍـة غضـ َ‬
‫ّ‬ ‫المغلــف بــأور ٍاق ّ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫المعطـ َـر والجبـ َـن المســتورد ُ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫الصابــون ُ‬ ‫ّأننــي ال أشــتري ِمنــه ّ‬
‫ُ‬ ‫ْ‬
‫ـب‪،‬‬ ‫فضيـ ٍـة‬
‫أ‬ ‫َ ّ‬ ‫َ‬ ‫ـتاء‪ ،‬ولـ ْـم َي ُعـ ْـد ُيعطينــي ّ‬
‫ـياء‪ ،‬ال‬ ‫الشـ َ‬ ‫الصفائـ َـح‪ ،‬ذلــك رغـ َـم تأكيــدي لـ ُـه أننــي ال أشــتري هـ ِـذ ِه‬ ‫واسـ َ‬
‫ــح‬ ‫الصفا ِئ َ‬‫العــم متوّلــي ُيعطينــي ّ‬ ‫كان ُّ‬ ‫َ‬
‫وعندمــا‬‫قليــل‪َ ،‬‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬
‫ســواه؛ لنهــا غاليــة‪ ،‬وراتبــي‬
‫ُ أّ‬ ‫ِم ْن ُــه‪ ،‬وال ِم ْ‬
‫ــن‬
‫ٌ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ّ َ‬ ‫َ‬ ‫ال ُ‬ ‫َ أ‬
‫والد يمشــون ورائــي‪ ،‬ويزفوننــي‪ ،‬ويقولــون‪ :‬المجنونــة‪ ...‬راجعــة‪ ،‬وماســكة فــي ِيدهــا صفيـ ٌـح‪،‬‬ ‫كان‬

‫‪26‬‬
‫ريصقلا ةَّصِقلا‬
‫ُ‬

‫(عقــل مــا فيــش‪َ ،‬مــخ مــا فيــش)‪(ُ ،‬مــخ فالصــو‪ ،‬وعقــل صفيــح)‪.‬‬
‫ّ ّ َ َُ‬ ‫ُُْ ُ ُ‬ ‫َ‬
‫ـكاء‪ ،‬إل أننــي لـ ْـم أ كـ ْـن أبكــي‪،‬‬ ‫البـ ِ‬ ‫بغصـ ٍـة فــي حلقــي‪ ،‬ورغبـ ٍـة فــي ُ‬ ‫ـعر ّ‬ ‫حزننــي‪ ،‬فأشـ ُ‬ ‫كان ســلوكهم ي‬
‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ُ َ‬ ‫ْ‬
‫َبــل أنحنــي‪ ،‬وألتقــط ّأول حجـ ٍـر فــي الطريـ ِـق‪َ ،‬وألقيـ ِـه عليهــم‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ـليمان المـر ُأة البدينـ ُـة ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫واعترض ْت‬‫َ‬ ‫السـ ِّـن الذهبـ ِّـي‪،‬‬‫ذات ِّ‬ ‫ات ظهـ َـر ْت لــي أ ُّم ُسـ‬ ‫وفــي َمـ ّـر ٍة ِمـ َـن المـ ّـر ِ‬
‫ً‬
‫ـت لهــا ُمعتذرة‪:‬‬ ‫طريقــي‪َ ،‬ف ُق ْلـ ُ‬

‫الخريـ َـن َسـ ّـبوني‪ً ،‬‬ ‫َ أ َ آ‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬ ‫ٌ ُ‬


‫وأيضــا يــا‬ ‫ ـأنــا آســفة يــا أ َّم ُســليمان‪ ،‬لـ ْـم أقصــد إالســاءة‪ ،‬لكـ َّـن ُســليمان والوالد‬
‫ـت‪.‬‬ ‫َ‬ ‫َ ُ‬ ‫ّ‬
‫ـس كســروا آنيــة الـ ّـز ِرع التــي وض ْعتهــا عنــد مدخـ ِـل البيـ ِ‬
‫َ‬
‫ـ‬ ‫م‬
‫َ أ‬
‫بال‬ ‫ـليمان‬ ‫ـ‬ ‫س‬ ‫ُأ َّم ُ‬
‫ِ‬
‫َْ‬ ‫ضحكتها‪ ،‬و ّ‬ ‫ُ‬ ‫َْ‬
‫واصل ُت‪:‬‬ ‫لكنني‬ ‫فاجأتني‬
‫ً ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫أيضــا أ ًّمــا‪ ،‬أنــا‬ ‫ـس كذلــك؟ اعتبرينــي أنــا‬ ‫ـت أ َّم ُســليمان تقوميـ َـن برعايـ ِـة ُســليمان َو ِ‬
‫حمايتـ ِـه أليـ َ‬ ‫ ـأنـ ِ‬
‫ُ‬
‫أ ُّم الـ ّـز ِرع!‬
‫َ‬
‫حلقها‪ ،‬وقال ْت‪:‬‬ ‫تحشرجا ِم ْن ِ‬‫ً‬ ‫ً‬
‫وأخرج ْت صوتا ُم‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ َّ ْ ُ ُّ‬
‫حاج َب ْيها‪،‬‬ ‫لع َبت أم ُسليمان ِ‬
‫ُ‬
‫عليك "زرع"يا "أ ّم زرع"تعيشي‪ ،‬وتجيبي!"‪.‬‬ ‫ ـ ُ"مبروك ِ‬
‫َ َ َ‬
‫المخيفــة‪َ ،‬ولـ ْـم أ ِجـ ْـد َمـ ْـن أشــكو‬ ‫تواصـ ُـل ضحكا ِتهــا العاليـ َـة ُ‬ ‫َْ‬
‫وأدارت ظ َهرهــا‪َ ،‬وتركتنــي‪ ،‬وهــي ِ‬
‫َ ْ َ‬
‫ـكن فــي كــوخ َخشـ ٍّ‬ ‫"أبويا"الــذي يعمـ ُـل أجيـ ًـرا فــي المشــتل‪ ،‬ويسـ ُ‬ ‫ّ‬ ‫َلـ ُ‬
‫ـكان عم ِلـ ِـه‪.‬‬ ‫ـبي فــي مـ ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ـوى‬ ‫ـ‬ ‫س‬ ‫ـه‬
‫َْ‬ ‫"السـ ّ‬ ‫ُْ ُ ُ‬
‫فوزيــة"‪ ،‬و ّلمــا تآلفنــا‪،‬‬ ‫ـت ّ‬ ‫محمــد"‪ ،‬وهــو ُينادينــي ّ‬ ‫ـت أناديـ ِـه بـــ َ"عــم ّ‬ ‫فــي بدايـ ِـة ُ‬
‫تعار ِفنــا كنـ‬ ‫ُِ‬
‫َ‬ ‫َ ُ ّ ُ ّ‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫صـ ُ‬
‫ـرت أســم ِيه "أبويــا محمــد"‪ ،‬وهــو يســميني "أم أحمد"نســبة إلــى أبــي ‪-‬رحمــه اللــه‪ -‬الــذي كان‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ِ‬
‫اسـ ُـم ُه "أحمــد"‪.‬‬
‫َ‬ ‫َ َ َ ُ‬ ‫عندمــا تضيـ ُـق بـ َـي ُّ‬
‫َ‬
‫ـذه المـ ّـر ِة شــك ْو ُت لـ ُـه أ َّم ُســليمان‪،‬‬
‫ـب إليـ ِـه‪ ،‬وأشــكو‪ ،‬وفــي هـ ِ‬ ‫الدنيــا أذهـ ُ‬
‫َْ َ‬
‫فنصحنــي أن أ ُسـ ّـبها كمــا َسـ ّـبتني‪.‬‬
‫َ‬
‫ُ أ َّ‬ ‫ً ّ‬ ‫ّ َ َُ‬ ‫ُْ ُ َ ُ ُ ُ‬
‫ـتطيع؛ لن هـ ِـذ ِه‬ ‫لكننــي لـ ْـم أ كـ ْـن واثقــة أننــي سأسـ‬‫حاول‪َ ،‬و ُعـ ْـد ُت إلــى بيتــي‪ ،‬و‬ ‫قلــت لــه ســأ ِ‬
‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ِّ ّ‬ ‫َ َ ْ ُ ُ‬
‫ــت تخيفنــي‪ ،‬إلــى حــد أننــي أراهــا فــي أحالمــي تضحــك‪ ،‬فتبــدو أســنانها طويلــة‪،‬‬ ‫المــرأة كان‬
‫لــم ً‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬
‫هبــي الل ِم ُــع‪ ،‬أراهــا تضحــك فيكــون ُ‬ ‫َّ‬ ‫الس ُّ‬ ‫َ‬ ‫أ‬ ‫ً‬
‫كابوســا‪.‬‬ ‫الح ُ‬ ‫ــن الذ ُّ‬ ‫خــص ذلــك ِّ‬ ‫خيفــة‪ ،‬وعلــى ال ِّ‬ ‫َو ُم‬

‫‪27‬‬
‫عشر‬
‫َ‬ ‫الصف الثّاين‬

‫ُ‬ ‫َ‬ ‫أ‬ ‫َ‬ ‫فليســت ُك ُّل أحالمــي كوابيـ َ‬ ‫ـك َ‬ ‫َ َ‬


‫ـام الحقــول‪ ،‬فتكــون‬ ‫ـس‪ ،‬عندمــا أصفــو أرى فــي الحـ ِ‬ ‫ومــع ذلـ‬
‫ُ ّ ً‬ ‫ً‬ ‫أ ُ‬
‫ـول‪ ...،‬وملونــة‪.‬‬ ‫الحــام جميلــة كالحقـ ِ‬
‫ـنابل‪ ،‬وتنحنــي‪ ،‬وتمـ ُ‬ ‫ّ ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ ّ‬ ‫ـون الحقـ ُـل ً‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫ـوج فــي‬ ‫ـص تميــل ِبـ ِـه السـ‬ ‫ـب الخالـ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ـ‬ ‫ه‬‫كالذ‬ ‫اه‬ ‫ر‬ ‫أ‬ ‫ـا‬ ‫ـ‬ ‫قمح‬ ‫عندمــا يكـ‬
‫َ‬
‫َبحـ ٍـر ِمـ ْـن زعفـر ٍان‪.‬‬
‫َ‬
‫ـتو ْت علــى عيدا ِنهــا‪َ ،‬وسـ َـر ْت فــي شواشــيها‬ ‫الحقـ ُـل ُذ ًرة‪ ،‬أرى الكي ـز َان وقــد اسـ َ‬ ‫ـون ُ‬ ‫ُ‬
‫وعندمــا يكـ‬ ‫َ‬
‫َ ً‬ ‫الشــهر ّ‬ ‫ّ‬ ‫الخضـ ُـر ُب ًّنيــا أحمـ َـر كمــاء ِّ‬ ‫َ أ‬ ‫ُ‬ ‫ّ ٌ‬ ‫ٌ‬
‫التاسـ ِـع‪ُ ،‬مثقــا‬ ‫ِ‬ ‫النيـ ِـل فــي‬ ‫ِ‬ ‫خمريــة‪ ،‬فيبــدو الحقــل وهــو‬ ‫ُحمــرة‬
‫َ‬ ‫ّ‬
‫ـان‪.‬‬ ‫بالطمــي قبــل الفيضـ ِ‬
‫ً َ ُ ّ ً َ ُ ّ ً ِّ‬ ‫ّ‬ ‫َُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫مــار‪،‬‬‫ات صغيــرة ومــدورة ومحملــة بالث ِ‬ ‫رتقــال‪ ،‬أرى الشــجر ِ‬ ‫وعندمــا يكــون الحقــل حديقــة ب ٍ‬
‫َّ‬ ‫والش ُ‬ ‫ّ‬ ‫الغصــون ُب ًّ‬ ‫ُ ُ ُ‬
‫العاليــة‪.‬‬
‫ِ‬ ‫رقــاء‬
‫ــمس كمث ِل ِــه فــي الز ِ‬ ‫رتقاليــا‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫أخضــر‬
‫ِ‬ ‫علــى‬ ‫رتقــال‬ ‫ويكــون الب‬

‫لكنهــا‬‫ـرق ْت بعـ ُـد‪ ،‬و ّ‬ ‫َ‬


‫ـمس قــد أشـ‬ ‫الشـ ُ‬ ‫ّ‬ ‫َ ُ‬
‫ـحر‪ ،‬ولـ ْـم تكـ ِـن‬ ‫ـ‬‫الس‬ ‫النخـ َـل غابـ ًـة فــي ّ‬ ‫ـت ّ‬ ‫ـدة ر ْأيـ ُ‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫مـ ّـرة واحـ‬
‫ِ‬ ‫أُ‬
‫َ َ‬ ‫ْ ُ ّ َ‬ ‫َ ْ‬
‫ســتقيم الق ِّــد‪،‬‬ ‫النخــل ُم‬ ‫ــاء‪ .‬رأيــت‬
‫الحن ِ‬
‫البنفســجي بلــون ِ ّ‬
‫ِ‬ ‫ُّ‬ ‫ال ُ‬
‫فــق‬ ‫ــب‬ ‫فتخض َ‬ ‫َّ‬ ‫شــك‪،‬‬‫كانــت علــى َو ٍ‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬
‫ــت‬ ‫كان ْ‬ ‫عمــي‪.‬‬ ‫عمتــي‪َ ،‬‬
‫وابــن ّ‬ ‫فيــه‪ ،‬أبــي‪َ ،‬وأ ّمــي‪َ ،‬و ّ‬ ‫ِ‬ ‫أهلــي‬ ‫َ‬
‫وجــوه‬ ‫ــت‬‫ُ‬ ‫ي‬‫ْ‬ ‫أ‬
‫ر‬ ‫عميمــا‪ ،‬و‬ ‫ــول‪َ ،‬و ً‬ ‫ِ‬ ‫شــاه َق الط‬ ‫ِ‬
‫ـون خلـ َـف الجــذوع َأمْ‬ ‫َ‬ ‫ْ ّ ْ ْ‬
‫ـعف‪ ،‬ولكننــي لــم أتحقــق إن كانــوا يقفـ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫ـون السـ ِ‬
‫ً‬
‫وجوههـ ْـم خضـراء شــاحبة بلـ ِ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫ِ‬ ‫ُ َ‬ ‫َ‬
‫ـذوع خلف ُهـ ْـم‪.‬‬ ‫كانــت الجـ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫آ‬ ‫ُ ُ‬ ‫صوتــا َر ً َ ً ّ ُ‬ ‫ً‬
‫أذان الفجـ ِـر‪ْ ،‬أو ســاعة‬ ‫ـات قبــل ِ‬ ‫ـرئ يتلــو اليـ ِ‬ ‫خيمــا ودافئــا كأنــه صــوت مقـ ٍ‬ ‫َو َسـ ِـم ْع ُت‬
‫ـوت‪َ ،‬وفتحـ ُ‬ ‫لكننــي َصحـ ُ‬ ‫العتــاب‪َ ،‬ف َت ّهيئــي"‪ ،‬و ّ‬ ‫أ‬ ‫ّ ُ‬ ‫َُْ ُ َ‬
‫ـت‬ ‫ِ‬ ‫فوزيــة علــى‬ ‫ـت يــا‬‫السـ َـح ِر‪ ،‬فقلــت ِلنفســي‪" :‬أنـ ِ‬ ‫َّ‬
‫َ ُ ّ ُ َ‬ ‫ُ َ َّ‬ ‫َ‬
‫َعينـ َّـي َف َلـ ْـم أ ِجـ ْـد ســوى ّ‬
‫ـكب ْت‬ ‫كان ُح ًلمــا‪ ،‬فانسـ َ‬ ‫ـدار القديـ ِـم‪ ،‬فعرفــت أنــه‬ ‫ـورة المعلقـ ِـة علــى الجـ ِ‬ ‫الصـ ِ‬
‫ـت‪.‬‬‫ـتجم ْع ُت نفســي‪َ ،‬و ُق ْمـ ُ‬ ‫ِمـ ْـن عينــي دمعـ ٌـة ُثـ َّـم اسـ َ‬
‫ّ‬ ‫ُّ‬ ‫َ ْ ْ ُ ُ‬ ‫ّ‬ ‫جاء ْتنــي امـر ٌأة تسـ ُ‬
‫ـرفة‪ ،‬إنهــا‬ ‫ـص الـ ّـز ِرع فــي الشـ ِ‬ ‫ـت أصـ َ‬ ‫نفسـ ِـه‪ ،‬وقالــت‪ :‬رأيـ‬ ‫ـارع ِ‬‫ِ‬ ‫ـ‬ ‫الش‬ ‫ـكن فــي‬ ‫ـوم َ‬ ‫اليـ َ‬
‫ـت َزر ْع ُتـ ُـه‪،‬‬‫ـود نعنــاع ُك ْنـ ُ‬ ‫ُ‬
‫وأهديتهــا عـ َ‬ ‫‪،‬‬
‫َ‬
‫ـف‬ ‫ـ‬ ‫كي‬ ‫ـا‬
‫ـ‬ ‫ه‬ ‫جميلـ ٌـة‪َ ،‬و َسـ َـأ َل ْتني علــى اســتحياء ْأن ُأ َع ِّل َمهــا‪َ ،‬ف َأ َر ُ‬
‫يت‬
‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫ُ َّ َ ْ َ َّ ْ‬
‫تحدثنــا‪.‬‬ ‫ثــم جلســنا‪ ،‬و‬

‫‪28‬‬
‫ريصقلا ةَّصِقلا‬
‫ُ‬

‫بم يوحي لك العنوان؟‬ ‫اء‬ ‫ِ‬


‫احلربَ ُ‬
‫‪----------------------------‬‬
‫تشيخ ُ‬
‫وف‬ ‫ُ‬ ‫وان‬
‫ط ُ‬ ‫أُنْ ُ‬
‫‪----------------------------‬‬
‫ُ‬ ‫َْ‬ ‫ِّ ُ ُّ‬ ‫َ‬
‫ـف جديـ ٍـد‪،‬‬ ‫ـوميلوف فــي ِمعطـ ٍ‬ ‫ـوق يسـ ُـير مفتــش الشـ ِ‬
‫ـرطة أتشـ ِ‬ ‫السـ ِ‬‫ـدان ُّ‬ ‫عبـ َـر َميـ ِ‬
‫ٌ‬ ‫َّ‬
‫ـرطي أحمـ ُـر الشـ ْـع ِر‪ ،‬ومعــه ِغربــال‬ ‫ويحمـ ُـل فــي يـ ِـد ِه ُل َف َافـ ًـة‪ ،‬ومـ ْـن خلفـ ِـه يسـ ُـير شـ ٌّ‬
‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫ٌ َّ‬
‫خيـ ٌـم‪ ،‬وال أحـ َـد فــي‬‫ـكون ُم ِّ‬ ‫ـاد ِرة‪ُّ .‬‬
‫والسـ‬ ‫المصـ َ‬‫الثعلــب ُ‬
‫ِ‬ ‫ـب‬‫ِ‬ ‫ـ‬ ‫ن‬ ‫ع‬‫ِ‬ ‫ـار‬
‫ِ ِ‬‫ـ‬ ‫ثم‬ ‫ب‬ ‫ـه‬ ‫ِ‬ ‫ـ‬ ‫ت‬ ‫لحاف‬ ‫مملــوء‬
‫أْ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫المفتوحــة علــى َ‬ ‫ُّ‬
‫الســوق‪ ،‬وتطــل أبـ ُ‬
‫ـرة ك ِاب َيـ ٍـة كالشـ ِ‬
‫ـداق‬ ‫العالـ ِـم بنظـ ٍ‬ ‫المتاجــر َ‬
‫ِ‬
‫ـواب َ‬ ‫ُّ ِ‬
‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ً َ ُ َْ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬
‫ـوميلوف صوتــا‬ ‫ـمع أتشـ ِ‬ ‫حتــى الشــحاذون‪ .‬وفجــأة يسـ‬ ‫َ‬
‫بجوارهــا َّ‬ ‫الجائعـ ِـة‪ .‬وال يوجـ ُـد‬ ‫َ‬
‫ُ‬
‫يقــول‪:‬‬
‫ال َن ممنـ ٌ‬ ‫ُّ آ‬ ‫ـكوه يــا ُ‬ ‫المتوحـ ُـش‪ ..‬أمسـ ُ‬ ‫ـت َت َعـ ُّ‬ ‫إذن فأنـ َ‬‫ْ ْ‬
‫ـوع!‬ ‫أوالد! العــض‬ ‫ّ‬ ‫ـض ُّأي َهــا‬ ‫آه‪،‬‬
‫ْ‬
‫أمســك! ْآه!‪..‬‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ ً ُ‬
‫يرك ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ َْ‬ ‫َّ ُ َ ُ َ‬
‫ارصد في هذه الفقرة‬ ‫خــزن‬
‫ِ‬ ‫م‬ ‫مــن‬ ‫ــض‬ ‫ــا‬ ‫لب‬ ‫ك‬ ‫فيــرى‬ ‫يلوف‬ ‫شــوم‬
‫لــب‪ .‬ويلتفــت أ ِ‬
‫ت‬ ‫ويتــردد عويــل ك ٍ‬
‫َّ‬
‫ويتلفـ ُ‬ ‫َّ‬ ‫الحطـ َّ‬
‫ـت‪ .‬ويطـ ُ‬ ‫ـب التابـ ِـع للتاجـ ِـر بتشــوجين وهــو يقفـ ُـز علــى ثـ ِ‬ ‫َ‬
‫المبالغات في الوصف‪.‬‬
‫ـارده‬ ‫ـاث أرجـ ٍـل‬ ‫ِ‬
‫ـب‪،‬‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫وص َديـ ٍّ‬ ‫الم َن َّشــى ُ‬
‫ـيت ُ‬ ‫ِّ‬ ‫ٌ‬
‫ـوح‪ .‬يركــض وراء الكلـ ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ـ‬ ‫مفت‬ ‫ـري‬ ‫ِ‬ ‫ـ‬ ‫الش‬ ‫ـص مــن‬ ‫شــخص فــي قميـ ٍ‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫أ‬ ‫َ ُ‬ ‫ًّ‬ ‫أ‬ ‫ُ‬
‫ـب‬ ‫رض مــادا ِجذعــه إلــى المـ ِـام‪ ،‬ويقبــض علــى ســاقي الكلـ ِ‬ ‫ثـ َّـم يســقط علــى ال ِ‬
‫ُّ‬ ‫وصيحتـ ُـه‪" :‬امسـ ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ ُ‬ ‫َّ ُ‬
‫ـكوه"‪ .‬وتطــل مـ َـن‬ ‫ـب‬ ‫الخلفيتيـ ِـن‪ ،‬ويتــردد مــن جديـ ٍـد عويــل الكلـ ِ‬
‫َّ‬
‫يتجمـ ُـع َّ‬ ‫َ‬ ‫ٌ‬
‫ـب‪،‬‬ ‫ـاس بالقــرب مــن مخـ ِ َ‬
‫ـزن الحطـ ِ‬ ‫ِ‬ ‫النـ ُ‬ ‫ـرعان مــا َّ‬ ‫المتاجـ ِـر ُسـ َـح ٌن ناعســة‪ ،‬وسـ‬
‫ُ ُّ‬ ‫َّ‬ ‫َّ أ َ‬
‫وكأن الرض انشــق ْت عنهـ ْـم‪ .‬ويقــول الشـ ِ‬
‫ـرط ُّي‪:‬‬
‫َ‬
‫صاحب المعالي!‬ ‫اب يا‬ ‫يبدو هنا اضطر ٌ‬

‫دورة إلــى اليســار َّمت ً‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ َْ‬


‫ارصد المبالغات في هذه‬ ‫بجوار‬
‫ِ‬ ‫ـرى‬ ‫ـ‬ ‫وي‬ ‫‪،‬‬‫الجمع‬
‫ِ‬ ‫ـى‬‫ـ‬ ‫إل‬ ‫ـا‬
‫ـ‬ ‫جه‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ـف‬ ‫ـ‬ ‫نص‬ ‫يلوف‬ ‫ـوم‬
‫ِ‬ ‫ـ‬ ‫ش‬‫ت‬ ‫ويســتدير أ‬
‫ـري المفتــوح‪ ،‬وهـ َـو يرفـ ُـع يـ ُ‬ ‫الصديـ ِّ‬ ‫ـور فــي ُّ‬
‫ـخص المذكـ َ‬ ‫َّ‬
‫ـرة الشـ َ‬ ‫ً‬
‫َّبوابـ ِـة المخـ ِ‬
‫الفقرة‪.‬‬
‫ـده‬ ‫ِ‬ ‫ـزن مباشـ‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ ُ ُ َ َّ‬
‫المدمــاة‪ .‬وكأنمــا كتــب علــى َسـ ْـح َن ِته‪" :‬ســوف أريــك‬ ‫اليمنــى؛ ليــرى الجمـ ُـع إصبعــه‬
‫ُ‬ ‫ُ َْ‬ ‫َ َّ‬ ‫ُ‬ ‫صبعـ ُـه ُ‬ ‫المتوحـ ُـش"‪ُ ،‬وأ ُ‬ ‫ّ‬
‫ـوميلوف فــي‬ ‫نفســها تشــبه عالمــة النصـ ِـر‪ .‬ويتعـ َّـرف أتشـ ِ‬ ‫ُّأيهــا‬
‫المتسـ ِّـب ُب فــي هـ ِ‬ ‫الصائـ َـغ َخريوكيـ َـن‪ .‬وفــي وسـ ِـط الجمــع يجلـ ُ‬
‫ـس ُ‬ ‫الر ُجــل َّ‬
‫ـذه‬ ‫ٌ ِ‬ ‫هــذا َّ ِ‬
‫ـره‪ ،‬مـ ًّ‬ ‫ـض ذو أنــف حـ ٍّ‬ ‫ـرو صيـ ٍـد أبيـ ُ‬ ‫َّ‬
‫الض َّج ِة‪-‬جـ ُ‬
‫ـاقيه‬
‫ـادا سـ ِ‬ ‫ـاد ُوبقعــة صفـر ُاء علــى ظهـ ِ‬ ‫ٍ‬

‫‪29‬‬
‫عشر‬
‫َ‬ ‫الصف الثّاين‬

‫ُ‬ ‫َّ َ‬ ‫َ َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ ُّ ُ‬ ‫أ‬


‫ـب‪.‬‬
‫ـزن ورعـ ٍ‬ ‫ماميتيـ ِـن‪ ،‬وجســد ُه كلــه ِ‬
‫يرتعــش‪ ،‬وفــي عينيـ ِـه الدامعتيـ ِـن نظــرة حـ ٍ‬ ‫ال َّ‬

‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ َْ‬


‫الحشد‪:‬‬ ‫يقتحم‬ ‫شوميلوف وهو‬ ‫ويسأل أت ِ‬
‫إصبع َك؟‪ ..‬من َّالذي َ‬
‫صاح؟‬ ‫أنتم هنا؟ لماذا هنا؟ َ‬
‫وأنت لماذا ُ‬ ‫مناسبة ْ‬
‫ٍ‬ ‫َّبأي ِة‬
‫ِ‬
‫َ‬ ‫الالكم َ َ َ َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ َ‬
‫وهو َيتن ْحن ُح في ق ِ‬
‫بضت ِه‪:‬‬ ‫ريوكين في ِ‬ ‫ويشرع خ‬
‫الحطــب َ‬
‫مــع‬ ‫أحــدا‪ ..‬بخصــوص َ‬ ‫ــس ً‬ ‫صاحــب المعالــي ال ُأم ُّ‬ ‫َ‬ ‫كنــت ً‬
‫ســائرا يــا‬ ‫ُ‬ ‫أين تجد المبالغة في كالم‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ُ‬ ‫ودون ِّ‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫خريوكين؟‬
‫ســبب ينهــش إصبعــي‪..‬‬ ‫ٍ‬ ‫أي‬ ‫الوغــد‪،‬‬
‫ِ‬ ‫ميتــري ميتريتــش‪ ..‬وفجــأة إذا بهــذا‬
‫ٌ‬ ‫َ‬
‫أرجــو المعــذرة‪ ،‬فأنــا رجــل‪ ،‬يعنــي‪ ،‬مــن العامليـ َـن‪ ..‬وعملــي دقيـ ٌـق‪ ..‬فليدفعــوا لــي؛‬
‫ُ‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫ُ ْ‬ ‫أ ِّ‬
‫ـذه إالصبـ َـع أســبوعا‪ ..‬وال يوجــد فــي القانـ ِ‬
‫ـون يــا‬ ‫ـتطيع أن أحـ ِّـرك هـ ِ‬ ‫لنــي َّربمــا ال أسـ‬
‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫ـص علــى ْأن َّ‬ ‫ـب المعالــي مــا َينـ ُّ‬ ‫صاحـ َ‬
‫ـات‪ ..‬فلــو أن‬‫ـذه المخلوقـ ِ‬ ‫يتحمــل إالنســان هـ ِ‬
‫رض‪.‬‬
‫أ‬
‫ال‬ ‫ـر‬ ‫ـ‬ ‫ظه‬ ‫ـى‬‫ـ‬ ‫عل‬ ‫ـان‬
‫ُ‬
‫ـ‬ ‫نس‬‫ال‬
‫إ‬ ‫ـش‬
‫َ‬
‫ـ‬ ‫يعي‬ ‫أل‬
‫أ ُ َّ‬
‫ـل‬ ‫ـ‬ ‫فض‬‫فال‬ ‫‪،‬‬ ‫َّكل واحـ ٍـد أخـ َـذ يعـ ُّ‬
‫ـض‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َ‬ ‫ِّ ُ‬ ‫ُ‬ ‫امة َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ َْ‬
‫حاجب ِيه‪:‬‬ ‫ويحرك‬ ‫وهو يسعل‬ ‫ٍ‬ ‫ر‬ ‫بص‬ ‫يلوف‬ ‫شوم‬
‫فيقول أ ِ‬
‫ت‬
‫ْ َ‬ ‫َ َ‬ ‫َهـ ّْـم! ً‬
‫حسنا‪..‬حسـ ًـنا‪ ..‬كلـ ُ‬
‫ـأريكم كيــف‬ ‫أدع ذلــك هكــذا! سـ‬ ‫ـب َمـ ْـن هــذا؟ أنــا لــن‬ ‫أين تجد المبالغة في حركات‬
‫َ‬
‫ذيــن ال ُيريــدون أن يمتثلــوا‬ ‫ــادة َّال َ‬
‫الس ِ‬
‫َ‬
‫لئــك َّ‬ ‫آن ْأن َ‬
‫أنتبــه إلــى أو‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫طلقــون َ‬
‫الكبكــم!‬
‫ُ‬
‫ت‬
‫أتشوميلوف وكالمه؟‬

‫ـيعرف مــا معنــى الكلاب وغيرهــا مــن الـ َّـد ِّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫للقوانيــن! َ‬
‫واب‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ـ‬ ‫س‬ ‫ـة‬ ‫عندمــا يدفـ ُـع الغرامـ‬ ‫ِ‬
‫َ ُّ َ‬ ‫َّ َّ‬
‫ـأريه العفاريــت الــزرق!‬ ‫الضالـ ِـة! سـ ِ‬
‫َ‬ ‫ُ ُّ‬
‫يلديرين‪:‬‬ ‫الش َّ‬
‫رطي‬ ‫ُويخاطب‬
‫إعدامـ ُـه فـ ً‬
‫ُ‬ ‫ـب محضـ ًـرا! َّأمــا الكلـ ُ‬‫ـب َمـ ْـن هــذا‪ ،‬واكتـ ْ‬ ‫ْ‬
‫ـرف كلـ َ‬
‫ـورا! ال‬ ‫ـب فينبغــي‬ ‫اعـ‬
‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫ُبـ َّـد َّأنـ ُـه مسـ ٌ‬
‫ـب مـ ْـن هــذا؟‬
‫كم‪ :‬كلـ ُ‬
‫ـعور‪ ..‬إننــي أســأل ْ‬

‫شخص من َ‬
‫ٌ‬ ‫ُ‬
‫الج ِمع‪:‬‬ ‫ويقول‬
‫ُ‬ ‫يبدو َّأن ُه ُ‬ ‫ِ‬
‫كلب الجنر ِال جيجالوف!‬ ‫أتشوميلوف؟‬
‫ُ‬ ‫ارتباك‬ ‫دالئل‬
‫ُ‬ ‫ما‬
‫تلون موقفه؟‬
‫وما دالئل ّ‬
‫َ‬ ‫ُ ٍّ‬ ‫َ‬ ‫ْ ِّ‬ ‫ُ َ ْ‬ ‫ُ‬
‫الجن ـرال جيجالــوف؟ هـ ّـم!! انــزع عنــي ِ‬
‫المعطــف يــا يلديريــن‪ ..‬أف‪ ،‬يــا للحـ ِّـر!‬

‫‪30‬‬
‫ريصقلا ةَّصِقلا‬
‫ُ‬

‫ُ‬ ‫َ ْ َ َّ َ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬


‫عضك‪-‬يقــول‬ ‫ـيء واحـ ٌـد ال أفهمـ ُـه‪ ،‬كيــف اســتطاع أن ي‬ ‫ـقط‪ ..‬شـ ٌ‬ ‫يبــدو أن المطـ َـر سيسـ‬
‫َ‬
‫ـك؟ َّإنـ ُـه صغيـ ٌـر! َّأمــا أنـ َ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬
‫ـت فانظـ ْـر‬ ‫ـول أنـ ُـه يطــال إصبعـ‬ ‫خريوكين ِ َ‬
‫‪-‬أمــن المعقـ ِ‬
‫َ‬ ‫ً‬
‫مخاطبــا‬
‫َ‬ ‫ُ ْ‬ ‫ْ َ‬ ‫َ َ‬ ‫َ‬ ‫َّ َ‬ ‫ُ َ‬
‫ـرت لــك فكــرة أن تحصــل‬ ‫ـمار‪ ،‬وخطـ‬ ‫مــا طولــك! يبــدو أنــك جرحــت إصبعــك بمسـ ٍ‬
‫الشـ ُ‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬
‫ـياطين!‬ ‫ـض‪ ..‬أنتـ ْـم هكــذا‪ ..‬أعرفكـ ْـم ُّأيهــا‬‫علــى تعويـ ٍ‬
‫َ َ‬ ‫كان يلسـ ُـع ُه ّ‬ ‫َ‬ ‫يــا صاحـ َ‬
‫ِ‬
‫العبارة؟‬ ‫قائل ِ‬
‫هذه‬ ‫َم ْن ُ‬ ‫ليضحــك عليـ ِـه‪ ،‬فلـ ْـم‬ ‫ـوز ِه‬
‫ـيجارة فــي بـ ِ‬
‫ِ‬ ‫بالسـ‬ ‫ـب المعالــي‪،‬‬
‫‪----------------------------‬‬
‫ـب المعالــي!‬‫ـاكس يــا صاحـ َ‬
‫ـخص مشـ ٌ‬ ‫وعضـ ُـه‪َّ ..‬إنـ ُـه شـ ٌ‬ ‫ُيكـ ِّـذب الكلـ ُ‬
‫ـب خبـ ًـرا َّ‬
‫‪----------------------------‬‬
‫ِ‬

‫ــن‬ ‫ُ َ‬ ‫ســي ٌد ٌّ‬


‫ــه ِّ‬ ‫تكــذب؟ َّإن َ‬
‫معالي ُ‬ ‫ُ‬ ‫ً‬ ‫َ‬
‫أنــت لــم َ‬
‫ذكــي‪ ،‬ويعــرف م ِ‬ ‫تــر شــيئا‪ ،‬فلمــاذا‬
‫ُ‬ ‫ـت أكـ ُ‬
‫ـذب فليحكـ ِـم‬ ‫ـام ّاللـ ِـه‪ ..‬وإذا كنـ ُ‬ ‫ـريف َّ‬
‫النقـ ُّـي َّ‬
‫الضميــر أمـ َ‬ ‫َّ ُ‬
‫اب‪َ ،‬ومـ ِـن الشـ‬‫الكـ َّـذ ُ‬
‫ِ‬
‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫آَ‬ ‫القاضــي‪ ..‬فلديـ ِـه مكتـ ٌ‬
‫ـوب فــي القوانيـ ِـن‪ ..‬الجميـ ُـع الن سواســية‪ ..‬وأنــا لــي أخ فــي‬
‫أردت ْأن َ‬
‫تعلــم‪..‬‬ ‫الــدرك إذا َ‬
‫ِ‬
‫َّ‬

‫ُ‬
‫الالكم!‬ ‫ٌ‬
‫ممنوع‬
‫رطي ِ ُّ‬ ‫ُ ُّ‬
‫الش ُّ‬
‫عميق‪:‬‬
‫بنبرة تأم ٍل ٍ‬ ‫ويقول‬

‫الكبـ ُـه ُ‬
‫أكثرهــا‬ ‫ـذه‪ُ ..‬‬ ‫ـس لـ َـدى الجنـرال ٌ‬
‫الكب كهـ ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّلك‪ ،‬هــذا ليـ َ‬
‫ـس كلـ َ‬
‫ـب الجنـر ِال‪ .‬ليـ َ‬
‫َّ ٌ‬
‫سلوقية ‪..‬‬
‫ِّ‬
‫أنت متأك ٌد؟‬
‫هل َ‬

‫ِّ‬
‫َ‬
‫صاحب المعالي‪..‬‬ ‫متأك ٌد يا‬
‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫ـك‪ُ ..‬‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫أين تجد المبالغات في كالم‬ ‫الكب الجن ـر ِال غاليــة‪ ،‬أصيلــة‪َّ ،‬أمــا هــذا‪ ..‬فالشــيطان‬ ‫أنــا نفســي أعــرف ذلـ‬
‫َ‬ ‫يعلـ ُـم مــا هـ َـو! ال َشـ َ‬
‫ـب ُيقتنــى؟! أيـ َـن‬ ‫ـعر‪ ،‬وال هيئــة‪ ..‬مجـ َّـر ُد حقـ ٍ‬
‫ـارة ال غيـ َـر‪ .‬أهــذا كلـ ٌ‬
‫أتشيمولوف؟ ماذا يعكس‬

‫عقوُلكـ ْـم؟ لــو َّأن ً‬


‫ذلك؟‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ـبرج أو موســكو‪ ،‬أتعلمــون مــاذا كان‬ ‫ـ‬ ‫بطرس‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫ف‬ ‫ـر‬‫ـ‬ ‫ظه‬ ‫ـذا‬ ‫ـ‬ ‫كه‬ ‫ـا‬‫ـ‬ ‫كلب‬
‫َ‬ ‫ِْ‬ ‫َ‬ ‫ٌ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫ـور‪ ..‬وال كلمــة! هــس!‬ ‫ِ‬ ‫ـ‬ ‫الف‬ ‫ـى‬ ‫ـ‬ ‫عل‬ ‫ـل‬ ‫ـون‪ ،‬بـ‬ ‫يحــدث؟ مــا كان أحــد ِليلتفــت إلــى القانـ ِ‬
‫أ‬
‫المـ َـر يمـ ُّـر هكــذا‪ ..‬ينبغــي ْأن ِّ‬ ‫ـت يــا خريوكيـ ُـن قــد تضـ َّـر َ‬ ‫أنـ َ‬
‫نؤد َبهـ ْـم‪..‬‬ ‫ـدع‬
‫ِ‬ ‫ـ‬ ‫ت‬ ‫وال‬ ‫‪،‬‬ ‫رت‬
‫َ أ ُ‬
‫آن الوان!‬

‫‪31‬‬
‫عشر‬
‫َ‬ ‫الصف الثّاين‬

‫ُ ُّ ُّ َ ِّ‬
‫يفك ُ‬
‫مسموع‪:‬‬
‫ٍ‬ ‫بصوت‬
‫ٍ‬ ‫ر‬ ‫ويقول الشرطي وهو‬
‫ـت مـ ْـن مـ َّـد ٍة ً‬
‫مكتوبــا علــى َســحنت ِه‪ ..‬رأيـ ُ‬
‫ً‬ ‫ـب الجنـر ِال‪ ..‬فليـ َ‬ ‫َ‬
‫كان كلـ َ‬ ‫َّ‬
‫كلبــا‬ ‫ِ‬ ‫ـس‬ ‫وربمــا‬
‫ـاء منزِلـ ِـه‪.‬‬ ‫َ ُ‬
‫مثلــه فــي ِفنـ ِ‬
‫ُ‬
‫ويقول ٌ‬
‫صوت َ‬
‫الحشد‪.‬‬
‫ِ‬ ‫من‬
‫واضح!‪ُ ..‬‬
‫كلب الجنر ِال‪.‬‬ ‫ٌ‬

‫ُ‬ ‫ــب‪ْ ..‬‬ ‫ســيم َي ُه ُّ‬


‫الن َ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬ ‫ــم! ْ‬ ‫َه َّ‬
‫بــردت‪..‬‬ ‫لقــد‬ ‫يلديريــن‪ ..‬يبــدو أن‬ ‫المعطــف يــا‬ ‫ألبس ِــني ِ‬ ‫الكالم هنا كله مبالغات‪،‬‬
‫َّ‬ ‫أيضــا َّأل ُيخرجـ ُ‬ ‫ـاك‪ ..‬قـ ْـل لهـ ْـم ً‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬
‫احملـ ُـه إلــى الجن ـر ِال‪ ،‬واســأل هنـ‬
‫ارصدها‪.‬‬
‫ـوه إلــى الشـ ِـار ِع‪..‬‬
‫ـهل‬ ‫ـ‬ ‫ـيجارة فــي وجهـ ِـه فمـ َـن َّ‬
‫الس‬ ‫ِ‬ ‫ـ‬ ‫ـال‪ ،‬وإذا أخـ َـذ ُّكل خنزيــر يلسـ ُـع ُه ّ‬
‫بالس‬ ‫ٌ‬
‫فهـ َـو كلــب غـ ٍ‬
‫ِ‬ ‫ٍ‬
‫ً‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ٌ‬
‫ـوان مهـ ٌّـم‪ ..‬وأنـ َ‬ ‫ُ‬
‫إتالفـ ُـه‪ ..‬الكلـ ُ‬
‫ـب أنــزل ذر َاعــك! كفــاك إب ـرازا‬ ‫ـت ُّأيهــا المذنـ ُ‬ ‫ـب حيـ‬
‫المذنـ ُ‬ ‫ـت ُ‬ ‫ـك الحمقــاء! أنـ َ‬ ‫َ‬
‫ـب!‬ ‫ِ‬ ‫صبعـ‬
‫إل ِ‬
‫َ‬ ‫ْ ْ‬ ‫َّ ُ‬
‫ُ‬
‫بروخور‪..‬تعــال هنا يــا عزيزي‪..‬‬ ‫ـاد ٌم‪ ،‬فلنســأل ُه‪ ..‬إي‪ ،‬يــا‬
‫طبــاخ الجنـر ِال قـ ِ‬ ‫هــا هـ َـو ذا‬
‫كم؟‬ ‫انظر‪..‬انظـ ْـر إلى الكلب‪..‬أهـ َـو ُ‬
‫كلب ْ‬ ‫ْ‬
‫ِ‬
‫ُ‬ ‫ُ َْ‬ ‫أبدا ٌ ُ ُ‬ ‫لدينا ً‬
‫يكن َ‬ ‫يا سالم! ْلم ْ‬
‫شوميلوف‪:‬‬
‫الكب مثله! فيقول أت ِ‬
‫كلام كثيـ ًـرا‪ ..‬إذا قلـ ُ‬ ‫ٌّ‬ ‫للســؤال‪ ..‬هــذا كلـ ٌ‬ ‫َ‬
‫ـت‬ ‫ـب ضــال! ال داعـ َـي لل ِ‬ ‫داع ُّ ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ـاك‬‫ـس هنـ‬ ‫ليـ َ‬
‫ُ َ‬ ‫ٌّ‬ ‫ٌّ‬ ‫َّ‬
‫إعدامـ ُـه وكفــى‪.‬‬ ‫إنـ ُـه ضــال فهــو ضــال‪ ..‬ينبغــي‬
‫َ َّ ُ‬
‫واستطرد الط َّباخ‪:‬‬
‫ُ‬ ‫مــن َّ‬
‫وصــل ْ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫كلبنــا‪َّ ..‬إن ُــه ُ‬‫ليــس َ‬ ‫َ‬
‫مــد ٍة‪ .‬جنرالنــا ال‬ ‫شــقيق الجنــر ِال الــذي‬ ‫ِ‬ ‫كلــب‬
‫أخــوه ُّ‬
‫فيحبهــا‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫يــد‪َّ .‬أمــا‬ ‫الكب َّ‬
‫الص ِ‬ ‫يحــب َ‬ ‫ُّ‬
‫ُّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ َْ‬
‫بابتسامة تأث ٍر‪:‬‬
‫ِ‬ ‫وجه ُه‬ ‫ُ‬
‫ويفيض ُ‬ ‫شوميلوف‪،‬‬ ‫ويسأل أت ِ‬

‫ـقيق الجن ـر ِال؟ فالديميـ ُـر إيفانتــش؟ ٍآه يــا ِّربــي! وأنــا ال أعلـ ُـم!‬ ‫أحقــا وصـ َـل شـ ُ‬ ‫ًّ‬ ‫هل تتخيل المشهد هنا؟‬

‫ـارة؟‬ ‫هـ ْـل جـ َ‬


‫ـاء ِّللز يـ ِ‬
‫ما الّذي يجعلك تفكر فيه؟‬

‫‪32‬‬
‫ريصقلا ةَّصِقلا‬
‫ُ‬

‫ِّللز ِ‬
‫يارة‪..‬‬
‫ســعيد ًّ‬
‫ٌ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫جــدا‪..‬‬ ‫كلب ُــه؟‪..‬‬
‫إذن فهــذا ُ‬ ‫ُ‬
‫أعلــم؟‬ ‫ٍآه يــا ِّربي‪..‬أوحش ُــه شــقيق ُه‪ ..‬وأنــا ال‬
‫َ‬
‫ـقي‪ ..‬هبــش هــذا مـ ْـن ِإ ْص َب ِعـ ِـه‪ ..‬هــا‪ ..‬هــا‪ ..‬هــا‪..‬‬ ‫ـب! شـ ٍّ‬ ‫ـ‬ ‫كل‬ ‫ُخـ ْـذ ُه‪ ..‬يــا لـ ُـه مـ ْ‬
‫ـن‬
‫ٍ‬
‫صغير!‬ ‫من‬ ‫لك‬
‫َ‬
‫يا‬ ‫‪..‬‬‫ر‬‫ُ‬ ‫الماك‬ ‫هذا‬ ‫ٌ‬
‫غاضب‬ ‫ه‬‫مالك ترتع ُش؟ َأ ّو ْه َّإن ُ‬ ‫َ‬
‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َ َ‬ ‫ً‬
‫ـب‪ُ ..‬ويقهقـ ُـه‬
‫ـزن الح ِ‬
‫ـ‬ ‫ط‬ ‫ـب‪ ،‬ويمضــي َ ُ‬
‫معــه مبتعــدا عــن مخـ ِ‬ ‫ـور الكلـ َ‬
‫ويدعــو بروخـ ُ‬
‫ً‬ ‫َ‬
‫الج ْمـ ُـع ُســخرية بخريوكيــن‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ُ ُ َْ‬
‫متوع ًدا‪:‬‬
‫يلوف ِّ‬ ‫شوم‬
‫ويقول له أت ِ‬
‫ُ َ‬ ‫َ‬ ‫ً‬
‫مهل‪ ،‬سوف أفرغ لك!‬
‫َ‬ ‫ِّ‬ ‫ميدان ُّ‬
‫الس ِوق متدث ًرا ِ‬
‫بالمعط ِف‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫طريق ِه َ‬
‫عبر‬ ‫ويمضي في ِ‬

‫‪33‬‬
‫عشر‬
‫َ‬ ‫الصف الثّاين‬

‫ما الّذي لن يأتي عبر الن ِ‬


‫رب ال َّن ِ‬
‫اف ِ‬
‫ذة‬ ‫ن يأتي َع َ‬
‫َما لَ ْ‬ ‫افذة‬ ‫َ ّ‬
‫في رأيك؟‬
‫احلارثي‬
‫ُّ‬ ‫جوخ ُة‬
‫َ‬
‫ٌ‬ ‫ُ ِّ‬ ‫َ‬
‫ـوم‪ُ ،‬مســتلقية أنــا علــى َســريري وحولــي دفاتـ ُـر‬ ‫َع ْصـ ُـر هــذا اليـ ِ‬
‫ـوم‪ ،‬ك َع ْصـ ِـر كل يـ ٍ‬ ‫الق َّص ِة‬ ‫إشارة ِ‬
‫بطلة ِ‬ ‫ِ‬ ‫ما داللةُ‬
‫َّ ُ‬ ‫ُ َّ‬ ‫أ‬ ‫َّ َّ ُ‬ ‫ِّ‬ ‫ِ‬
‫كعصر‬ ‫ِ‬ ‫الز ِ‬
‫من بقولها‪ :‬إنَّه‬ ‫إلى َّ‬
‫الســادة‪،‬‬ ‫ـوب الشــاي‬ ‫النظــارة والقلـ ُـم الحمـ ُـر وكـ‬ ‫تلميذاتــي‪ ،‬فــي الـ َّـرف علــى يمينــي‬
‫َّ ْ‬ ‫َ ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ك ُِّل يومٍ؟‬
‫الســق ِف‪.‬‬ ‫وأحـ ِّـدق فــي‬ ‫الو َسـ ِ‬
‫ـادة‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ـى‬
‫ـ‬ ‫عل‬ ‫ـي‬
‫ـ‬ ‫أس‬ ‫ر‬ ‫ـي‬
‫ـ‬ ‫رم‬‫وأ‬ ‫ـاح مـ َـن َّ‬
‫التصحيـ ِـح‪،‬‬ ‫أرتـ ُ ِ‬ ‫‪----------------------------‬‬

‫ُ ِّ ً‬ ‫ُ أ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ َ‬ ‫‪----------------------------‬‬


‫بأشــكال‬
‫ٍ‬ ‫تكس َــرة‬ ‫صيــل م‬ ‫والوحيــدة تدخــل شــمس ال ِ‬ ‫ِ‬ ‫بيــرة‬
‫ــن ِنافذتــي الك ِ‬ ‫ِم‬ ‫‪----------------------------‬‬
‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫ِّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫ــاث‬ ‫ــة الث ِ‬ ‫جــات الدر َاج ِ‬ ‫ِ‬ ‫احتــكاك َع‬‫ِ‬ ‫أصــوات‬ ‫ــة‪ ،‬وتدخــل ‪-‬ككل َع ْص ٍــر‪-‬‬ ‫رب َع ٍ‬ ‫ُم َّ‬ ‫خ َرى‬ ‫ِ‬
‫األصوات األٌ ْ‬ ‫ما َم ْص َد ُر‬

‫الجديدة‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫الدر َاجـ ِـة‬ ‫رحــا ب َق َفـزات َّ‬


‫ِ‬ ‫الصغيــر َف ً‬ ‫ـاح َأخــي َّ‬ ‫وصيـ ُ‬ ‫ـوش‪ِ ،‬‬ ‫(بالنترلــوك) فــي الحـ‬
‫أ‬ ‫ِ‬
‫الَّتي ذكر ْت َها بطلةُ الق َّصة؟‬
‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫أُ‬
‫َ َ‬ ‫ً‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ُ ُ ِّ َ‬ ‫ُ ُ َ‬ ‫وبيـ َـن َ‬ ‫‪----------------------------‬‬
‫الفينـ ِـة والخــرى تدخــل تحذي ـرات أمــي لــه ِمــن ِنافذ ِتــي أيضــا‪" :‬مالبســك‪..‬‬ ‫‪----------------------------‬‬
‫ـوات‬ ‫أصـ ٌ‬ ‫‪"..‬ت ْد ُخـ ُـل ْ‬ ‫ََْ ْ َ‬
‫الت ْمـ َـر‪ ..‬ال تنق ِلب‬ ‫ـك‪ ..‬انتبـ ْـه‪ ..‬ال َت َّتسـ ْـخ‪ ..‬ال ّت ْد َعــس َّ‬
‫ِ‬
‫َ َ‬
‫يديــك‪ ..‬ركبتـ‬
‫َ‬
‫‪----------------------------‬‬
‫ِ‬ ‫ُ‬
‫َّ ُ ِّ ُ‬ ‫َ َّ َ‬ ‫ٌ‬ ‫َ ٌ‬ ‫ِّ ٌ‬ ‫ٌ‬
‫السـ َـتارة‬ ‫الن ِافــذ ِة‪ .‬تتحــرك‬ ‫خافتــة‪َ ،‬مشــروخة‪ ،‬ال تأتــي مــن‬ ‫أخــرى غامضــة‪ ،‬متقطعــة‪،‬‬ ‫‪----------------------------‬‬

‫ــي‬ ‫الحــروف فــي َع َين َّ‬ ‫ِ‬ ‫ات‬ ‫نبــت تدويــر ُ‬ ‫الدفات َــر َبكســل‪َ ،‬و ُت ُ‬
‫ِ‬
‫ــب َّ‬ ‫بليلــة‪َ ،‬ف ُأ ِّقل ُ‬ ‫ٍ‬ ‫ِب َن َ‬
‫ســائم‬
‫‪----------------------------‬‬

‫ٌ ُ َ أُ‬ ‫ٍ‬ ‫‪----------------------------‬‬


‫َّ‬ ‫ً‬ ‫ُ ً‬
‫خطوطــا ُمضجــرة‪ ،‬غيـ َـر أنهــا قريبــة قــرب اللفـ ِـة‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ُ ُ ً‬ ‫ُ‬ ‫ُ ُ‬ ‫ُ‬
‫ـوت أ ِّمــي وهــي تدنـ ِـدن أغنيــة قديمــة‪ ،‬يتقطـ ُـع الصـ ّـو ُت‬ ‫ـذة صـ‬ ‫ّ‬
‫يدخــل ِمـ َـن النافـ ِ‬
‫كيف َت ِص ِ‬
‫ف ال َعالقَةَ األسر َّيةَ‬ ‫َ‬
‫ُ‬
‫ــم ِس‪ ،‬وتدخــل‬ ‫للش ْ‬ ‫ُّ ُّ َ َ َّ‬
‫مــر‪ ،‬تصــف الرطــب‬ ‫نحنيــة علــى َصوانــي َّ‬
‫الت‬
‫ٌ‬
‫م‬ ‫ــن َأ َّنهــا ُ‬ ‫فأخم ُ‬ ‫ِّ‬ ‫سائد ًة في ِ‬
‫بيت‬ ‫كانت َ‬ ‫ْ‬ ‫الَّتي‬
‫ِ‬ ‫القص ِة؟‬ ‫ِ‬
‫َ‬ ‫ً‬ ‫َّ‬ ‫أ‬ ‫ـزن‪ ،‬تصـ ُـل بعـ ُ‬ ‫َ‬ ‫بطلة َّ‬
‫ـروف الغنيـ ِـة مطحونــة‪ ،‬فأتصـ َّـو ُر تمــرة فــي فـ ِـم‬ ‫ـض حـ ِ‬ ‫ـس المخـ‬ ‫اليابـ َ‬
‫‪----------------------------‬‬
‫ُ‬
‫َ آ َ َ ِّ‬ ‫ُ ّ َ ّ‬ ‫َ‬ ‫ُ ُ ُ‬
‫ـرد الن‪ ،‬أفكـ ُـر فــي تلميذتــي "ســلوى‬ ‫ـاي الــذي بـ‬ ‫أ ِّمــي تخا ِلــط الحــروف‪ ،‬أرشــف الشـ‬ ‫‪----------------------------‬‬
‫ََ‬ ‫َ ّ ُ‬ ‫ً‬ ‫"التــي مـ َ‬ ‫ّ‬
‫طوقـ ِـة‬ ‫الم ّ‬ ‫قبتهــا ُ‬ ‫ـاءة َر ِ‬ ‫تخيــل انحنـ‬ ‫الرضيـ ُـع ملدوغــا ِمـ ْـن يوميـ ِـن‪ ،‬أ‬ ‫ـات أخوهــا ّ‬ ‫‪----------------------------‬‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫واجمــة‪ُ ،‬‬ ‫ً‬ ‫ُ ْ ُ‬ ‫‪----------------------------‬‬
‫أمنحهــا عالمــة مرتفعــة‪" ..‬فــووووب‪ ..‬فــووووب‪."..‬‬ ‫بتعويــذة وهــي تط ِــرق‬ ‫ٍ‬ ‫‪----------------------------‬‬
‫َ‬ ‫آ‬ ‫ُ‬
‫ات حــول َحـ ْـوش بي ِتنــا الواســع‪َ ،‬و ُيحــاول الن إيهـ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ َّ‬
‫ـام‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ر‬ ‫دو‬ ‫ة‬ ‫ـد‬ ‫ـ‬ ‫ع‬ ‫ـل‬ ‫ـ‬ ‫أكم‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫أخ‬ ‫ن‬ ‫يبــدو أ‬ ‫‪----------------------------‬‬
‫ُ‬
‫بدر َاج ِتـ ِـه‪" ،‬انتبـ ْـه‪ ..‬يــا و ُلد!‪"..‬أضحــك فــي ِسـ ّـري‬ ‫الت ْمــر َّ‬ ‫ـيمر علــى َصوانــي َّ‬ ‫ُّ‬ ‫ـ‬ ‫س‬ ‫ُأ ِّمــي بأنـ ُ‬
‫ـه‬
‫َّ‬ ‫‪----------------------------‬‬
‫ِ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫اليوميــة‪َ ،‬وأ ُهـ ُّـم ُ‬
‫أحمــل‬ ‫ـروج َم َع ُهمــا بــدل التملمـ ِـل فــي غرفتــي‪ِ ،‬‬ ‫ِ‬ ‫ـ‬ ‫بالخ‬ ‫ّ ِ‬ ‫ـاو َر ِة‬ ‫المنـ َ‬ ‫لهـ ِـذ ِه ُ‬
‫َ ً‬ ‫ـارغ‪ ،‬وأقفـ ُـل البـ َ‬ ‫َ‬ ‫َ ّ‬
‫ـت‪،‬‬ ‫المباغـ ِ‬ ‫ـوم أخــي ُ‬ ‫ـاح خ ْوفــا ِمـ ْـن هجـ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ـ‬ ‫بالمفت‬ ‫ـاب‬ ‫ـ‬ ‫الف‬ ‫ـاي‬‫ِ‬ ‫ـ‬ ‫الش‬ ‫كــوب‬
‫َ ُ‬ ‫ُ ّ‬ ‫الممـ ِّـر الفاصــل بيـ َـن ُغرفتــي ّ‬ ‫َ‬
‫‪-‬رغمــا‬ ‫طلـ ِـة علــى الحــوش‪ ،‬أق ـرأ ً‬ ‫الم‬ ‫ـة‬
‫ِ‬ ‫ـ‬ ‫ال‬ ‫والص‬ ‫أسـ ُـير فــي َ‬
‫َِ‬ ‫َ ّ َ َّ َِ ْ ُ‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ِّ‬ ‫ّ‬
‫ـذر‬‫ـذر الكريـ َـم إذا أهنتــه‪ ،‬واحـ ِ‬ ‫عنــي‪ -‬الحكمــة التــي علقتهــا أمــي فــي الممـ ِّـر‪" :‬احـ ِ‬

‫‪34‬‬
‫ريصقلا ةَّصِقلا‬
‫ُ‬

‫طابور ْيــن‪ُ :‬ك َرمـ َ‬


‫ـاء‬ ‫ـون فــي َ‬ ‫َ‬
‫ـ‬ ‫يقف‬ ‫ـر‬ ‫َ‬ ‫ـ‬ ‫البش‬ ‫ـت‬‫ـات َق َر ْأ ُتهــا‪َ ..‬ت َخ َّي ْلـ ُ‬ ‫ّاللئيـ َـم إذا َأ ْك َر ْم َتـ ُـه" ُك َّلمـ ٌ‬
‫ِ‬
‫ـال َ‬ ‫ُ أ ُ‬
‫حينهــا؟‬ ‫َولئـ ٍـام‪ ،‬فأيـ َـن ســيقف الطفـ‬
‫ُ أُ‬
‫ـب‪ ،‬فــي آخـ ِـر‬ ‫الغريـ َ‬ ‫َ‬
‫دائمــا أقــول ل ِّمــي‪ :‬إنــي ال أفهـ ُـم تصميـ َـم َب ْي ِتنــا‬
‫ِّ‬ ‫الم َمـ ُّـر طويـ ٌـل‪ً ،‬‬ ‫َ‬
‫ً‬
‫ـت نظــرة ســريعة علــى‬
‫ً‬ ‫ألقيـ ُ‬ ‫ـادة‪ْ ،‬‬ ‫فتوحــا علــى غيـ ِـر العـ ِ‬ ‫ـاب ُغرفـ ِـة ُأختــي َم ً‬ ‫كان بـ ُ‬ ‫ِّ َ‬
‫الممــر‬
‫تمامــا‪ ،‬وأشـ َـارتْ‬ ‫الداخــل ُمحاولــة أال أتوقــف‪ ،‬غيـ َـر أن أختــي كانــت بمواجهتــي ً‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ّ‬
‫قول‬
‫يشير إليه ُ‬
‫ُ‬ ‫ما الّذي‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ِ‬ ‫َّ ْ أُ َ َ َّ ُ ٌ َ َ َّ ْ ُ‬ ‫ََ‬ ‫ّ‬ ‫ً‬
‫ـاي‪ ،‬قل ْب ُتـ ُـه فــي الصحـ ِـن لريهــا أنــه فــارغ‪ ،‬فظلــت تشــير إليـ ِـه‬ ‫ُمباشـ‬
‫الشخصية "محاولةً أال‬ ‫ُ‬
‫ِ‬ ‫ـ‬ ‫الش‬ ‫ـوب‬ ‫ِ‬ ‫ـ‬ ‫ك‬ ‫ـى‬ ‫ـ‬ ‫إل‬ ‫ـرة‬
‫ـت فيهــا‪" :‬إ َّنـ ُـه فــار ٌغ‪ ..‬فــار ُغ"‪َ ،‬‬
‫أتوقف؟"‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫اقترب ْت من البــاب َح ْيث‬ ‫وهــي تزحـ ُـف ّباتجاهــي‪ ،‬ص ْحـ ُ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫ـاي‪ ،‬حيـ َـن ل َم َح ْتنــي‬
‫َ‬
‫ـ‬ ‫بالش‬
‫ّ‬
‫ه‬
‫أ‬ ‫أ‬
‫ـت إلــى المطبــخ لمــ� ُ‬ ‫هبـ ُ‬ ‫أ ِقـ ُـف‪َ ،‬ف ْأو َمــأ ُت َلهــا برأســي‪َ ،‬وذ ْ‬
‫َ‬
‫أَ ِ‬ ‫َِ‬
‫المــام‪َ ،‬وهــي َتســتندُ‬ ‫ـرعة‪َ ،‬مـ َّـد ْت َ‬ ‫َ‬ ‫ً َ ْ‬
‫ِ‬ ‫رقبتهــا َوظهرهــا إلــى‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫عائــدة كـ َّـو َرت َج َســدها بسـ ٍ‬
‫ـوت خشـ ٍـن‪َ ،‬و َمـ َّـد ْت ِإلـ َّـي َي َد ْيهــا‬
‫َ‬ ‫َ ْ‬ ‫َّ َ ْ َ‬ ‫َّ‬ ‫ّ‬
‫ـوس‪ ،‬فضحكــت بصـ ٍ‬ ‫بكفيهــا حتــى تمكنــت ِمــن الجلـ ِ‬
‫جافـ ٌـة يـ ُ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫َ َ ْ ُ‬ ‫َُْ‬ ‫َ‬
‫ـكاد‬ ‫أصاب ُعهــا‬ ‫َ‬
‫المرتجفتيـ ِـن‪ ،‬ناولتهــا الكــوب فرفعتــه بحركـ ٍـة خرقــاء إلــى ف ِمهــا‪ِ ،‬‬ ‫ُ‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫َ َّ‬ ‫ُ‬
‫ـوب‪ ،‬وأخــذ ْت تنظــر إلـ َّـي‬ ‫ـت الكـ َ‬ ‫احـ ِ‬ ‫ـاحبة‪ ،‬أز َ‬ ‫وأظافرهــا طويلــة شـ‬ ‫ُ‬ ‫جلدهــا َي َتقشـ ُـر‪،‬‬
‫َّ‬ ‫َ َّ ْ ُ َّ ّ‬ ‫وهــي ُتهمهـ ُ‬
‫ـاي بــا ُســك ٍر‪ ،‬فــي المطبـ ِـخ‬ ‫الشـ َ‬ ‫ـروخ‪" :‬آآآ‪،"..‬تذكــرت أن‬ ‫ـ‬ ‫ش‬ ‫م‬‫ـوت َ‬ ‫ٍ‬ ‫ـ‬ ‫بص‬ ‫ـم‬
‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ َ َّ ْ ُ َ ٍَّ َ‬ ‫َوأنــا ُأ َق ِّل ُبـ ُ‬
‫ـنتين فقــط‪ ،‬عــدت إليهــا فجثــوت علــى‬ ‫ِ‬ ‫ـ‬ ‫بس‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫ن‬ ‫صغر‬ ‫ت‬ ‫ـا‬
‫ـ‬ ‫ه‬‫ن‬ ‫أ‬ ‫ت‬ ‫ـر‬
‫ـ‬ ‫ك‬ ‫ذ‬ ‫ت‬ ‫ـة‬
‫ِ‬ ‫ـ‬ ‫بالملعق‬ ‫ـه‬
‫ُ ّ‬ ‫َ ُ ّ ُ َ َ َ ْ َ َّ ْ َ ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫ـوب‪،‬‬ ‫ر كبتــي بمواجه ِتهــا‪ ،‬أســقيتها إيــاه‪ ،‬فضحكــت‪ ،‬ظلــت أســنانها ترتطــم بحافـ ِـة الكـ ِ‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫وحيـ َـن ســال َب ْع ُضـ ُـه ِمـ ْـن َجا ِن َبـ ْـي ف ِمهــا َم َسـ ْـح ُت ُه ِبك ِّمــي‪ ،‬فاهتـ َّـز َج َسـ ُـدها فــي حركـ ٍـة‬
‫ُ أ‬ ‫َ‬ ‫َ ْ‬ ‫ـت بجذعهــا إلــى اليميــن ّ‬ ‫ومالـ ْ‬ ‫َ‬ ‫ال إر ّ‬
‫ـوات‬ ‫انبطحــت‪ ،‬وانطلــق ِلســانها بالصـ ِ‬ ‫حتــى‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫اديـ ٍـة‪،‬‬
‫غيرتــان‬ ‫الص‬ ‫أرقــد ُت ر َأســها فــي ِحجــري‪ ،‬قدماهــا ّ‬ ‫الســعيدة‪" :‬تــع‪ ..‬تع‪..‬تــع‪ ..‬تــع‪ْ ،"..‬‬ ‫ّ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫تين‬ ‫ْ َ ْ َْ ُ ّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ َ ْ‬ ‫ّ ّ َّ َ ْ َ‬ ‫َ‬
‫انخرطتــا فــي موجـ ٍـة تشــنجي ٍة‪ ،‬تقلصــت عضــات وج ِههــا ولــم تزحـ ِـزح عينيهــا الب ِني ِ‬
‫ْ ُ‬ ‫َ َ‬ ‫َ‬ ‫َعـ ْـن َوجهــي‪َ ،‬م َّسـ ْـد ُت شـ َ‬
‫القشــرة علــى ُر كبتــي‪ِ ،‬إصبعــي‬ ‫ـعرها المحلــوق فتســاقط ِت ِ‬
‫ـحبا‪،‬‬ ‫تمامــا‪َ ،‬خ ّداهــا َقـ ْـد شـ َ‬ ‫جههــا َجديـ ٌـد‪َ ،‬جديـ ٌـد ً‬ ‫النعومـ ِـة‪َ ،‬و ُ‬ ‫الشــديد ُّ‬
‫ِ‬
‫ّ‬ ‫َ‬
‫َمـ َّـر علــى خ ِّدهــا‬
‫الق َّص ِة‬
‫َلة ِ‬ ‫راك بط ِ‬
‫َعال َم َي ُد ُّل إ ْد ُ‬ ‫الداكنـ ُـة‪ ،‬لقــد َك ُبـ َـر ْت‪ُ ،‬م ْنـ ُـذ ِسـ َ‬
‫ـنين‬ ‫ـاالت ّ‬ ‫وأحاط ْت ُهمــا الهـ ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫َوعيناهــا تغ َّيـ َـر ْت نظرت ُهمــا‪،‬‬
‫ََ‬
‫خ ِتها ْ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫َ َ َّ ُ ُّ َ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬
‫أن مالم َِح أُ ْ‬
‫ـرس فيهــا‪ُ ،‬م ْنــذ ِســنين أتجنــب‬
‫رت‬
‫قد َت َغ َّي ْ‬ ‫َّ‬ ‫أتفـ ْ‬
‫الدخــول فــي الغرفـ ِـة التــي فــي آخـ ِـر الممـ ِّـر‪،‬‬ ‫لــم‬
‫كثيرا؟‬
‫ً‬ ‫َ َْ‬ ‫ـاء الخيــر رجـ ُ‬ ‫ـاء"أو "مسـ َ‬
‫َْ‬
‫ـاح الخيــر رجـ ُ‬ ‫َأ ِقـ ُـف علــى البــاب هاتفــة‪" :‬صبـ َ‬ ‫ً‬
‫‪----------------------------‬‬ ‫ـاء"‪ ،‬دون أن‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ُ‬ ‫ِّ‬ ‫َ‬ ‫َّ ُ ِّ ُ‬ ‫َ ْ َ ُ ْ ُ َ‬ ‫َ‬ ‫ُ َ َ َ َّ‬
‫‪----------------------------‬‬ ‫ـبح‬ ‫ِ‬ ‫ـ‬ ‫المس‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫ف‬ ‫ـا‬ ‫ـ‬ ‫ه‬ ‫م‬ ‫م‬ ‫ح‬ ‫ت‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫م‬ ‫أ‬ ‫ـل‬ ‫ـ‬ ‫لع‬ ‫‪،‬‬ ‫ـة‬‫ِ‬ ‫ـ‬‫رف‬ ‫بالغ‬ ‫ـن‬ ‫ـ‬ ‫ك‬ ‫ت‬ ‫ـم‬ ‫ـ‬ ‫ل‬ ‫ـرة‬
‫ٍ‬ ‫ـ‬ ‫ثي‬ ‫ك‬ ‫ـان‬ ‫ٍ‬ ‫ـ‬ ‫أحي‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫ف‬ ‫ـا‬ ‫ـ‬ ‫ه‬ ‫ل‬ ‫أنظــر‪ ،‬لع‬
‫‪----------------------------‬‬
‫ـنوات‪َ ،‬و َو ْج ُههــا َج ّديـ ٌـد‪،‬‬
‫ُ‬ ‫الصالـ ِـة‪ ،‬لـ ْـم َأر رجـ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫التلفــاز فــي َّ‬ ‫ـام ِّ‬ ‫قعدهــا أمـ َ‬ ‫َأ ْو ُت ُ‬
‫ـاء منــذ سـ ٍ‬ ‫ِ‬

‫‪35‬‬
‫عشر‬
‫َ‬ ‫الصف الثّاين‬

‫َ ُ‬ ‫ـال َو َن ُحـ َـف‪ ،‬نظـ َـر ْت إلـ َّـي رجـ ُ‬‫َ‬ ‫َّ ْ‬
‫ـاء ِب َت َم ُّعـ ٍـن‪ ،‬لـ ْـم ت َز ْحـ ِـز ْح‬ ‫ِ‬ ‫الم ُحــه‪َ ،‬و ِج ْسـ ُـمها طـ‬
‫تغيـ َـرت َم ِ‬
‫َ ْ ُ َ ُ‬ ‫َ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ـت‪ ،‬لـ ْـم َيكـ ْـن‬ ‫َع ْين ْيهــا‪َ ،‬ســك َت ْت‪َ ،‬مـ َّـد ْت ذر َاع ْيهــا المرتجفتيـ ِـن ِل ُتطـ ِّـوق َرقبتــي‪ ،‬فبكيـ‬
‫ُ ِّ‬ ‫َ‬
‫َع ْصـ ُـر هــذا اليـ ِ‬
‫ـوم ك َع ْصـ ِـر كل َيـ ْـو ٍم‪.‬‬

‫‪36‬‬
‫ريصقلا ةَّصِقلا‬
‫ُ‬

‫ليل‬
‫ذات ٍ‬
‫وكلب‪َ ،‬‬
‫ٌ‬ ‫طفل‬
‫ٌ‬
‫آماليا رندايك‬
‫ِ‬ ‫ذات ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫القص ِة‬ ‫ِ‬
‫"للكاتبة‬ ‫ليل‬ ‫كلب َ‬
‫"طفل و ٌ‬
‫ٌ‬ ‫كتاب األنشــطة‪ ،‬اقرأْ ّ‬
‫قصةَ‬ ‫القصيرة"في‬ ‫تعريف "ال ّنغمة في ّ‬‫َ‬ ‫أن تقرأَ‬‫بعد ْ‬
‫ • َ‬
‫ِ‬
‫والمشاعر الّتي خل َق ْتها‬
‫َ‬ ‫االنطباعات‬ ‫هامشيِ ال ّن ِّص‬
‫َ‬ ‫ثم اقرأْها قراء ًة ثانيةً ‪ِّ ،‬‬
‫وسج ْل على‬ ‫آماليا رندايك‪ ،‬قراء ًة أولى‪َّ ،‬‬
‫أن تســتنتج النغمةَ الســائد َة في القصة‪ِ.‬‬‫يمكن لك ْ‬ ‫ِ‬
‫مادي‪ .‬من مجموعها‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫َ ّ‬ ‫ُ‬ ‫بالر ِّ‬‫ور المظلّلةُ ّ‬ ‫والص ُ‬
‫والجمل ّ‬‫ُ‬ ‫الكلمات‬
‫ُ‬
‫ِ‬
‫تتبع خطَّها‪ ،‬وانعطافاتها‪.‬‬ ‫هي ثابتةٌ أ ْم متغ ّير ٌة‪ ،‬ويمك ُن َك ْ‬
‫أن َ‬ ‫وهل َ‬
‫ْ‬

‫ـت بصعوبـ ٍـة‬ ‫الشــارع الخافـ ُ‬ ‫ّ‬


‫ـح‬ ‫ـ‬ ‫مصابي‬ ‫تمكـ َـن َضـ ُ‬
‫ـوء‬
‫ّ‬
‫ـت‪.‬‬ ‫ـ‬ ‫هبيـ ِـة َ‬
‫وخب‬ ‫الذ ّ‬ ‫ّ‬
‫ها‬ ‫ت‬‫ـمس َبأشـ ِّ‬
‫ـع‬ ‫الشـ ُ‬ ‫ّ‬
‫ـت‬ ‫تراجعـ ِ‬
‫ٌ‬ ‫َِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ْ ْ‬
‫المنجــم‪ .‬وكان ْ‬ ‫بــاب‪ ،‬اللذيــن َ‬ ‫والض َ‬ ‫ــام ّ‬ ‫يكبــح الظ َ‬ ‫َ‬
‫ــت مجموعــة مــن‬ ‫معســكر َ ِ‬ ‫ِ‬ ‫غز يــا كل‬ ‫ِ‬ ‫مــن أن‬
‫ً‬
‫ارعــي ألغـ ٍـام‪ ،‬عائــدة إلــى بيو ِتهــا‪،‬‬ ‫ـال‪ ،‬وز ِ‬ ‫َ ُ‬
‫الركائـ ِـز؛ ميكانيكييــن أو ع ّمـ ٍ‬ ‫ـال ُمكونـ ًـة مــن ّدقاقــي ّ‬ ‫الرجـ ِ‬ ‫ّ‬
‫أّ‬ ‫ّ ّ‬ ‫َ‬
‫ـواء والفتيـ ِـل؛ لن منجـ َـم (شــكيكا ماتــا)‬ ‫ـبب الهـ ِ‬ ‫ـس بسـ ِ‬ ‫خــال رحلـ ٍـة بطيئـ ٍـة صامتـ ٍـة؛ لصعوبـ ِـة التنفـ ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫كان يقـ ُ‬ ‫َ‬
‫ـطح البحـ ِـر‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ـ‬ ‫س‬ ‫ـوق‬ ‫ـ‬ ‫ف‬ ‫ـر‬ ‫ٍ‬ ‫ـ‬ ‫مت‬ ‫ـمئة‬
‫ِ‬ ‫ـ‬ ‫وخمس‬ ‫ـن‬‫ِ‬ ‫ـ‬ ‫ألفي‬ ‫ـن‬ ‫ـ‬ ‫م‬ ‫ـر‬ ‫ـ‬ ‫أكث‬ ‫ـاع‬
‫ِ‬ ‫ـ‬ ‫ارتف‬ ‫ـى‬ ‫ـ‬ ‫عل‬ ‫ـع‬

‫ـوارع‬ ‫ـ‬ ‫ش‬ ‫ـات‬ ‫ـ‬ ‫جاه‬


‫ُّ َْ َ ّ‬
‫ات‬ ‫ـق‬ ‫ـ‬‫ف‬ ‫و‬ ‫ق‬ ‫ـر‬‫ـ‬ ‫تتف‬ ‫ت‬ ‫ـكنية‪ ،‬وبـ َـد َأ ْ‬ ‫السـ ّ‬ ‫ـاورة (لبنكروفــت) ّ‬ ‫ً‬
‫ـ‬ ‫مج‬
‫ُ‬
‫ـة‬ ‫ـت المجموعـ‬
‫أ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫أصبحـ ِ‬
‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬
‫ـواب‬ ‫ـوت منســابة مــن النوافـ ِـذ والبـ ِ‬ ‫ـواء البيـ ِ‬ ‫ـكر المختلفـ ِـة‪ .‬وكان يمكــن رؤيــة أضـ ِ‬ ‫ـال المعسـ ِ‬ ‫عمـ ِ‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ميكانيكيــا ًّ‬ ‫ًّ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬
‫مخلصــا‪،‬‬ ‫قويــا وصديقــا‬ ‫اســتمر العامــل جــوان البــرا‪ ،‬الــذي كان‬ ‫المفتوحــة‪.‬‬
‫ِ‬ ‫نصــف‬ ‫ِ‬
‫ات حـ ّ‬ ‫ّ‬ ‫فيهــا أصـ ُ‬ ‫ـرد ُد َ‬ ‫ضيقـ ٍـة‪ ،‬مات ـزال تتـ ّ‬ ‫ُ‬ ‫ـدة ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬
‫ـاد ٍة‬ ‫ـداء صفــار ٍ‬ ‫ـير عبـ َـر واحـ ٍـد مــن شــوارع عديـ ٍ‬ ‫فــي السـ ِ‬
‫و(ســارينات) مناطـ ِـق العمـ ِـل‪.‬‬

‫ـدات عميقـ ٍـة‬ ‫غضـ َـن ّ‬ ‫ـاب‪ّ ،‬الــذي َت َّ‬ ‫الشـ ِّ‬ ‫ّ‬ ‫جعـ ُ‬ ‫الت ُّ‬ ‫تالشــت ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫بتجعـ ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ـدات مــن وجـ ِـه الب ـرا‬ ‫ِ‬ ‫وســرعان مــا‬
‫َ ُ‬ ‫ٌ ّ ٌ َ َ ْ ََ َ َ‬ ‫َ أَ ْ َ‬ ‫الم ْعـ ْ َ‬
‫ـاوة اســتقبال أ ْسـ َـرِت ِه‬ ‫ـدن الخـ ِـام‪َ ،‬ومــات َع ْين ْيـ ِـه ُدفقــة ورقــة‪ ،‬بعــد أن تق ّبــل َبحفـ ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ـروق َ‬ ‫ِ‬ ‫مثـ ِـل ُعـ‬
‫ْ َ َ ْ ْ َ ُ َّ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ََ ْ َ ُ ُ ّ‬ ‫ُ‬
‫ـوم ِمـ ْـن‬ ‫ـاد أن يف َعــل كل َيـ ٍ‬ ‫ـت كمــا اعتـ‬ ‫ـاب البيـ ِ‬ ‫مح ّبـ ِـة‪ ،‬فقــد كان جــوان الص ِغيـ ُـر يقــف علــى بـ ِ‬ ‫ال ِ‬
‫َْ‬
‫الم َسـ ِ‬
‫ـاء‪.‬‬ ‫ـرة ْ‬ ‫فتـ ِ‬

‫ســب ِة ِل ُع ْم ِــر ِه‪،‬‬ ‫بالن َ‬ ‫ّ‬


‫قويــا َتم ًامــا‬ ‫وات‪ ،‬ب َعينيــن َح ّي َت ْيــن ُف ُضو َّلي َتيــن‪ًّ ،‬‬ ‫ٍ‬
‫تســع َس َ‬
‫ــن‬ ‫لــدا‪ُ ،‬ع ْم ُــر ُه ُ‬ ‫كان و ً‬ ‫َ‬
‫ِ‬ ‫َ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫كان يعــر ُف َّكل بوصـ ٍـة منــه‪ُ،‬‬ ‫َ‬
‫ـد‬ ‫ـ‬ ‫فق‬ ‫؛‬ ‫ـه‬‫ُ‬ ‫ـ‬ ‫ل‬ ‫ار‬ ‫ر‬ ‫ـ‬ ‫أس‬ ‫ـة‬‫ـ‬ ‫ّ‬
‫أي‬ ‫ُ‬
‫ـم‬ ‫ـ‬ ‫يمثــل َ‬
‫المنج‬
‫ْ ّ‬ ‫َّ‬ ‫َ َ‬
‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫وبقدميـ ِـن محبتيـ ِـن للمشـ ِـي‪ .‬لــم ِ‬
‫آَ‬ ‫ُ ُ َ ّ‬
‫كلام‪ ،‬ولـ ْـم تكـ ْـن ثرثرتـ ُـه تقاطـ ُـع إل باالبتسـ ِـام‪ .‬الن‬
‫ُ‬ ‫َ ً‬
‫ـض مــن أمـ ِـره‪ .‬كمــا كان طفــا كثيـ َـر ال ِ‬ ‫وكل مــا َغمـ َ‬ ‫َّ‬
‫أمريكيــا شـ ًّ‬
‫ـماليا‬ ‫ًّ‬ ‫َّ‬
‫الحديديـ ِـة‬ ‫الض ِاغـ ِـط علــى بوابـ ِـة الحديقـ ِـة‬ ‫ـب بفضــول‪ ،‬وبوجهـ ِـه ّ‬ ‫ر َاح الطفـ ُـل يراقـ ُ‬
‫ٍ‬
‫ـاك جرينجــو ُ َ ّ ُ‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫َ أ‬ ‫ً‬
‫ـاد ٌم إلــى‬ ‫يتبعــك‪ ،‬إنــه قـ ِ‬ ‫ـس لبيـ ِـه خائفــا‪" :‬أبــي‪ ،‬هنـ‬ ‫طويــا ِجـ ًّـدا يمشــي ور َاء أبيـ ِـه‪ .‬همـ‬
‫* آماليا رندايك‪ :‬كاتبة من التشيلي‪.‬‬

‫‪37‬‬
‫عشر‬
‫َ‬ ‫الصف الثّاين‬

‫بي ِتنــا!"‪.‬‬
‫الراعــي ّ‬ ‫ـب ّ‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫ُ ّ‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫َ َّ ُ‬
‫الضخـ ِـم‪،‬‬ ‫ـور بــاك‪ ،‬كلـ ِ‬ ‫كان الشـ ِـارع مهجــورا‪ ،‬وكان جــوان الصغيـ ُـر مســتثارا بحضـ ِ‬
‫ُ‬
‫ـياء قليلـ ٍـة قـ ِّـد َر لهــا أن تلـ َـج إلــى مشــاعر‬
‫واحـ ًـدا مــن أشـ َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ّالــذي يتبـ ُـع سـ ّـي َد ُه ّ َ‬
‫السـ ّـيد ديفيـ َـز‪ .‬كان بــاك ِ‬
‫ـود ّ‬
‫متوحـ ٍـد علــى أرض ّ‬
‫أجنبيـ ٍـة‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫ديفيـ َـز‪ ،‬كرفيـ ٍـق فريـ ٍـد لوجـ ِ‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫يمكننــي أن أفعــل مــن أج ِلك؟"قــال عامــل المنجـ ِـم‬ ‫ِ‬ ‫"تقـ ّـد ْم‪ ،‬مــن فض ِلــك‪ ،‬يــا سـ ِّـي ُد ديفيـ ُـز‪ .‬مــاذا‬
‫ْ ّ‬
‫الصغيـ ِـر‪ ،‬بعـ َـد أن تمكـ َـن‬
‫ـت ّ‬ ‫ـاب ّبوابـ ِـة البيـ ِ‬‫وفاتحــا بـ َ‬‫المعدنيـ َـة‪ً ،‬‬
‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫جــوان البـرا باحتـر ٍام ِناز ًعــا خوذتـ ُـه‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫ـركة عنـ َـد ِبابــه‪.‬‬‫ـاء دهشـ ِـت ِه لرؤيـ ِـة أحـ ِـد ُمــا ِك الشـ ِ‬ ‫بصعوبـ ٍـة مــن إخفـ ِ‬
‫ُ ْ‬ ‫َ أّ‬ ‫ً‬ ‫مختصـ ًـرا‪ ،‬يــا سـ ّـي ُد البـرا‪ّ .‬إننــي أحتـ ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫ـب أن‬ ‫ـاج معروفــا كبيـ ًـرا منــك؛ لننــي يجـ‬ ‫ِ‬ ‫"ســوف أكــون‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ ً‬
‫ضيافتــك لعـ ّـد ِة أيـ ٍـام صديقــي العزيـ َـز بــاك‪.‬‬‫ِ‬ ‫ـرم‬‫ـادر حــال إلــى أنتوفاجاســتا‪ ،‬وأن أتــرك فــي كـ ِ‬ ‫أغـ‬
‫ُ‬ ‫ُّ‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫ّْ‬ ‫ً أَ ّ َ‬ ‫ُ‬
‫ـرد يعــرف ذلــك"‪-‬‬ ‫ـات‪ ،‬وكل فـ ٍ‬ ‫ســتكون رؤومــا لنــك فــي "كالما"نظمــت جماعــة لحمايـ ِـة الحيوانـ ِ‬
‫كلبــه‪.‬‬‫قــال مســتر ديفيــز‪ ،‬وهــو ينظـ ُـر إلــى ِ‬
‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ َ‬
‫ـعيدا هنا‪ ،‬وســأتأك ُد‬
‫ـب سـ ً‬ ‫ـيكون الكلـ ُ‬ ‫ثقتــك بي‪ .‬سـ‬ ‫ـكرك علــى ِ‬ ‫"هــذا حسـ ٌـن‪ .‬يــا سـ ّـي ُد ديفيـ ُـز‪ ،‬وأشـ‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ّ ُ‬
‫غير"‪-‬هكــذا وعـ َـد البـرا‬ ‫ـوان ّ‬
‫الص ُ‬ ‫ابنــي فــي غيابــي‪ ،‬جـ‬ ‫دائمــا مــن أنــه ال يعانــي‪ ،‬ولســوف يعتنــي بــه ِ‬ ‫ً‬
‫ُ‬
‫ـب‪.‬‬ ‫ً‬
‫ـاع ًرا برضــا داخ ِلـ ٍّـي غريـ ٍ‬
‫جاكتتـ ِـه‪ ،‬شـ ِ‬
‫ِ‬ ‫السـ ِّـي َد‪ ،‬وهـ َـو ُي َعـ ّـدل مــن وضـ ِـع‬
‫ّ‬

‫ـريعا جـ ًّـدا‪ .‬بــاك‪..‬‬


‫ـأعود سـ ً‬ ‫ـك‪ ،‬وأشـ ُـك ُر َك كثيـ ًـرا‪ .‬أر َاك ً‬
‫قريبــا يــا سـ ّـي ُد البـرا‪ ،‬سـ ُ‬ ‫َ‬ ‫ـأتر ُ‬
‫كه بيـ َـن يديـ‬ ‫"سـ ُ‬
‫ُ ُ َُ ُ‬ ‫ّ ّ‬ ‫ُ‬ ‫آه‪ ،‬لقـ ْـد نسـ ُ‬
‫المف ّضــل"‪.‬‬ ‫ـوم معل ٍبة‪.‬إنهــا طعامــه‬ ‫ـأترك هنــا ّ‬
‫مخصصا ِتـ ِـه مــن لحـ ٍ‬ ‫ـيت‪ ،‬سـ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ُ ِّ َ‬ ‫َ‬ ‫وكلبـ ُـه َ‬ ‫السـ ّـي ُد ُ‬
‫بـ َـدا ّ‬
‫أس‬ ‫ده‪ ،‬وانحنــى ديفيــز لي َر بــت علــى ر ِ‬ ‫ـال سـ ّـي ِ‬ ‫تمسـ َـح بــاك ف َــي بنطـ ِ‬‫حزينيــن‪َّ .‬‬
‫ِ‬
‫َ‬ ‫ـادر الـ ّـد َار‪ ،‬فبــدأ الكلـ ُ‬
‫الصغيـ َـر ّقيدتـ ُ‬
‫ـاه‬ ‫ـوان ّ‬ ‫يتبعـ ُـه‪ ،‬لكـ ّـن ذر َاعــي جـ‬
‫ـب ُ‬ ‫الكلــب بخطمـ ِـه البــارز‪ ،‬ثــم غـ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ُّ‬ ‫أ‬ ‫ُ‬
‫ـواء‪ ،‬وكان لســانه الحمـ ُـر المبتــل ًّ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫كسلســلتين‪ .‬نبـ َـح بــاك مترنحــا‪ ،‬وهــو يتنشــق الهـ َ‬
‫متدليــا مــن فمـ ِـه‪،‬‬ ‫ِ‬
‫الم َت ّألــقُ‬ ‫كان ِفـر ُ‬‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ ّ َ َ‬ ‫َ‬ ‫ُ ً‬
‫اؤه ُ‬ ‫وهـ َـو يلهــث ق ِلقــا‪ .‬أغلــق الولــد البوابــة‪ .‬وقــف بــاك منتصبــا‪ ،‬شــاعرا بالوحـ ِ‬
‫ـدة‪.‬‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫َ‬ ‫كلبــا ً‬ ‫ـدث‪ُّ ،‬كلهــا دالئـ ُـل علــى أصــل كريـ ٍـم؛ فقـ ْـد كان ً‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫واحتمالـ ُـه ّ‬ ‫َ‬
‫ثمينــا‪ ،‬فــاز‬ ‫ٍ‬ ‫الرزيـ ُـن لمــا يحـ‬ ‫حولــه‪،‬‬
‫أ‬
‫كلاب بفضـ ِـل هــذا الصـ ِـل‪.‬‬ ‫ـروض ال ِ‬ ‫ـدد مــن عـ ِ‬ ‫فــي عـ ٍ‬
‫َ‬ ‫آ‬ ‫َ ُّ‬ ‫يتحـ ّـد ُث مـ َ‬ ‫ـدأ الولـ ُـد َ‬ ‫َ‬
‫ـب كل منهمــا الخـ َـر‪ ،‬دون أن‬ ‫ـرة طويلـ ٍـة راقـ‬ ‫كأخ أصغـ َـر‪ ،‬ولفتـ ٍ‬ ‫ـب‬
‫ََ ُ ِ ٍ‬ ‫ـ‬ ‫الكل‬ ‫ـع‬ ‫بـ‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫ْ‬
‫تطـ َـرف أعينهمــا‪ .‬كانــت َح ْملقــة الكلــب رزينــة‪ ،‬بينمــا انعكـ َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫ـاط‬ ‫ـس وجــه الولـ ِـد علــى عينيـ ِـه مثــل نقـ ٍ‬ ‫ِ‬

‫‪38‬‬
‫ريصقلا ةَّصِقلا‬
‫ُ‬

‫ً‬ ‫يتنشـ ُـق الهـ َ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ َ َ َ ُ َّ‬ ‫ِّ َ‬


‫ومجيبــا‬ ‫ـواء‪،‬‬ ‫ـب‪ ،‬الــذي كان‬ ‫مضيئـ ٍـة بالغـ ِـة الصغـ ِـر‪ .‬ربــت الولــد بخفـ ٍـة علــى ظهـ ِـر الكلـ ِ‬
‫أخيـ ًـرا بحركـ ِـة ممانعـ ٍـة مــن ذيلـ ِـه‪.‬‬
‫بالخــر‪ .‬ثـ ّـم ّ‬ ‫َْ َُ آ‬ ‫ّ ّ َ َ َ ٌّ‬ ‫ُ‬
‫تفتـ َـح‬ ‫ِ‬ ‫م‬ ‫ـر‬ ‫ـ‬‫غ‬ ‫ي‬ ‫ـا‬ ‫ـ‬ ‫منهم‬ ‫كل‬ ‫ـدأ‬ ‫ـ‬ ‫ب‬ ‫‪.‬‬‫ـاك‬ ‫ـ‬ ‫ب‬ ‫ـع‬‫ـ‬ ‫م‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫ات‬ ‫الذ‬ ‫ه‬ ‫ِ‬ ‫ـوار‬
‫ِ‬ ‫ـ‬ ‫ح‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫ف‬ ‫ـر‬‫ُ‬ ‫ـ‬ ‫غي‬ ‫الص‬‫ـوان ّ‬ ‫ـتمر جـ‬ ‫اسـ ّ‬
‫َ‬
‫ـاب ّالليــل‪ ،‬وبـ َـزغ ُ‬ ‫ّ‬ ‫ـوم جديـ ٌـد حيـ َـن جـ َ‬ ‫يـ ٌ‬
‫ـاد مــن بيـ ِـن‬ ‫كالمعتـ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ـاعات ضبـ ِ‬ ‫ـام وسـ ِ‬ ‫ـاء الفجـ ُـر عبـ َـر الظـ ِ‬
‫ًّ ّ‬ ‫ُّ‬ ‫َ‬ ‫ضخمتيــن ّ‬ ‫َ‬
‫ـون‬ ‫ـيء مبتــا باللـ ِ‬ ‫ـان بركانــي (ســان بيــدرو) و(ســان بابلــو)‪ ،‬فبــدا كل شـ ٍ‬ ‫تكونـ ِ‬ ‫ِ‬ ‫رابيتيـ ِـن‬
‫أ‬
‫زرق‪.‬‬ ‫ال ِ‬
‫َ ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ـوت ّأو ِل صافـ ٍ‬
‫ُ‬
‫ـال المناجـ ِـم‪،‬‬ ‫ـال‪ ،‬وراقــب حركــة ع ّمـ ِ‬ ‫ـزل الع ّمـ ِ‬ ‫ـاء منـ ِ‬ ‫ـرة فــي ِفنـ ِ‬ ‫صحــا بــاك علــى صـ ِ‬
‫ُ‬ ‫أيضــا‪ ،‬فـ ّ‬ ‫ـتيقظ فــي قلبـ ِـه ً‬ ‫َ‬ ‫وبــدا كمــا لــو ّأن شـ ًـيئا ً‬
‫ـاح‬ ‫ٍ‬ ‫ـ‬ ‫ب‬ ‫بن‬ ‫ـات‬ ‫ِ‬ ‫ـ‬ ‫االنطباع‬ ‫ـذه‬ ‫ِ‬ ‫ـ‬ ‫ه‬ ‫ـى‬ ‫ـ‬ ‫عل‬ ‫ـرد‬ ‫ـ‬ ‫اس‬ ‫ـد‬
‫ِ‬ ‫ـ‬ ‫ق‬ ‫ـا‬‫ـ‬‫عظيم‬
‫الصغيـ ُـر‪ ،‬فــي عالمـ ِـه المدهــش‪ ،‬هــو ْأن خـ َ‬ ‫ُ‬ ‫َ ُ‬ ‫ْ‬
‫ـرج ليــرى‬ ‫ِ‬
‫ـوان ّ‬ ‫ات‪ .‬وكان ّأول مــا فعلـ ُـه جـ‬ ‫بــدا كانفجــار ٍ‬
‫ركضــا عبـ َـر‬ ‫ـاح‪ً ،‬‬ ‫الر يـ َ‬‫تحديــا ّ‬ ‫ـوي ًة إلــى ِّكل مــكان؛ ّ‬ ‫ذهبــا سـ ّ‬ ‫اليـ ِـام التاليـ ِـة‪َ ،‬‬ ‫َ أ‬
‫صديقـ ُـه الجديـ َـد‪ .‬وخــال‬
‫َ‬
‫ٍ‬
‫َ‬
‫ـاع الهائــل‬ ‫االتسـ َ‬ ‫ّ‬
‫ـب‪،‬‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ ّ َ‬ ‫أرض شـ ِ ّ‬
‫ـاح‪ ،‬كان هــو الطريــق إلــى كاالمــا‪ ،‬مخترقيـ ِـن دون تعـ ٍ‬ ‫ـديدة الر يـ ِ‬ ‫زمـ ِـام ٍ‬
‫ئيل‪.‬‬ ‫ّ‬
‫ـواء الض ِ‬ ‫للهـ ِ‬
‫ٌ‬ ‫َ ْ َ‬ ‫ّ ّ‬ ‫ِلعبــا ً‬
‫ـكل‪ ،‬كتلــة‬ ‫ٍ‬ ‫ـ‬ ‫ش‬ ‫دون‬ ‫ـت‬ ‫ـ‬ ‫كان‬ ‫‪،‬‬ ‫ـاص‬‫ٍ‬ ‫ـ‬ ‫رص‬ ‫ـم‬
‫ِ‬ ‫ـ‬ ‫لمنج‬ ‫ـون‬ ‫ـ‬ ‫الل‬ ‫ـرة بقايــا رماديـ ِـة‬ ‫معــا‪ ،‬غاصــا فــي حفـ ِ‬
‫ِّ أ‬ ‫ّ َ أ‬ ‫ْ‬ ‫ّ‬ ‫ٌ‬
‫ـات المتألقــة للخضـ ِـر المــزرق والصفـ ِـر‪،‬‬ ‫معدنيـ ٍـة‪ .‬كمــا حــاوال أن يجمعــا االنعكاسـ ِ‬ ‫أرض‬ ‫ِمهيبــة مــن ٍ‬
‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ّ‬
‫ـمس‪.‬‬ ‫ـوء الشـ ِ‬ ‫التــي تصنـ ُـع ألوانــا براقــة فــي ضـ ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ً ّ‬
‫الصغيـ ِـر وبــاك بروابـ ِـط‬ ‫ـوان ّ‬ ‫ـت الليالــي بيـ َـن جـ‬ ‫ـاعات طويلــة حتــى ربطـ ِ‬ ‫وهكــذا‪ ،‬أمضيــا سـ ٍ‬
‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ً‬
‫ـحب قلــق متناميــة ظللـ ْ‬ ‫ـت أقــوى وأقــوى‪ .‬لكـ ّـن سـ َ‬ ‫أصبحـ ْ‬‫َ‬ ‫َ‬
‫ـت ســعادة الولـ ِـد‬ ‫ٍ‬ ‫ـا‬
‫ـ‬ ‫م‬ ‫ـرعان‬ ‫صداقـ ٍـة‪ ،‬سـ‬
‫ً َّ‬ ‫َ‬ ‫ً أ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ َ‬
‫الحيــة القصيــرة‪ ،‬فقــد كان يخشــى اليــوم الــذي ســينتهي فيـ ِـه وجودهمــا معــا‪ ،‬لنــه كان متأكــدا أن‬
‫ً‬ ‫السـ ّـي َد ديفيــز سـ ُ‬ ‫ّ‬
‫ـيعود ثانيــة‪.‬‬
‫ُ َ‬ ‫الس ّي ِد ْأن َ‬ ‫ُ َ ْ ُ‬
‫يمكنك شر ُاؤه؟"‬‫يعطينا بالك؟ ولماذا ال‬ ‫تطل َب َ‬
‫من ّ‬ ‫يمكنك أن‬
‫"بابا‪ ،‬أال ِ‬
‫َ‬ ‫ٌ‬ ‫َ‬
‫ـون لنــا أبـ ًـدا‪ّ .‬إنـ ُـه كلـ ٌ‬ ‫ـوان‪َّ ،‬إن الكلـ َ‬‫ُ‬
‫وزنــه ً‬
‫ذهبــا‪.‬‬ ‫ـب ممتــاز‪ ،‬يســاوي‬ ‫ـب لـ ْـن يكـ‬ ‫"ال‪ ،‬ياصغيــري جـ‬
‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ُّ‬ ‫رجــل ٍّ‬ ‫ُ‬ ‫ّ ُ‬
‫الكلــب‪ ،‬كمــا أنهــم‬
‫ِ‬ ‫مثــل هــذا‬
‫الكب ِ‬ ‫غنــي‪ ،‬يحــب الجرينجــو أن يمشــوا مــع ٍ‬ ‫إنــه كلــب ٍ‬
‫َ‬
‫"حيــن ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬
‫سأشــتريه"‪،‬‬
‫ِ‬ ‫أكب ُــر‬ ‫مريــرة‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫بابتســامة‬
‫ٍ‬ ‫أجــاب العامــل‬ ‫الكلاب"‪-‬‬
‫ِ‬ ‫عــروض‬
‫ِ‬ ‫يقدمونهــم فــي‬
‫ْ‬ ‫موض ًحــا ألبيــه مــا يريـ ُـد‪" :‬أنــا ال ُ‬
‫أريدهـ ْـم أن‬
‫َ ُ‬
‫صوتـ ُـه ِّ‬ ‫الصغيـ ُـر بإص ـر ٍار‪ ،‬ثـ َّـم ارتفــع‬
‫ُ‬
‫ـوان ّ‬ ‫أجـ َ‬
‫ـاب جـ‬
‫ِ‬
‫ُ ّ‬
‫يأخــذوه! إن ُــه صديقــي!"‪.‬‬

‫‪39‬‬
‫عشر‬
‫َ‬ ‫الصف الثّاين‬

‫ـب ريـ ٌ‬ ‫ـائر ْين علــى ضفــاف نهــر (لــوا)‪ ،‬بـ ْ‬


‫ـدأت تهـ ُّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ـاح‬ ‫ِ ِ‬ ‫نزهتهمــا‪ ،‬سـ َ ِ‬
‫ـوم‪ ،‬خــال عود ِتهمــا مــن ِ‬ ‫ذات يـ ٍ‬
‫ّ‬
‫ـت َتوقفــا‪ ،‬كمــا لــو‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫جبليـ ٌـة كريهـ ٌـة‪ّ ،‬‬
‫ّ‬
‫ـاب البيـ ِ‬
‫ـاب رقيـ ٍـق‪ .‬وحيــن وصــا إلــى بـ ِ‬
‫رذاذ ضبـ ٍ‬
‫حتــى ابتــا مــن ِ‬
‫َ َ‬
‫ـزع‪.‬‬
‫ـوف أو فـ ٍ‬
‫ـبب مــن خـ ٍ‬
‫كان ذلــك بسـ ٍ‬
‫الصغيـ ُـر ْأن يشـ َـر َح مــا يعنيـ ِـه الكلـ ُ‬ ‫َ‬
‫ـاول الولـ ُـد ّ‬ ‫"السـ ّـي ُد ديفيز"لقـ ْـد عـ َ‬
‫ـب‪ ،‬لكـ ّـن الكلمـ ِ‬
‫ـات‬ ‫ـاد‪ .‬حـ‬ ‫ّ‬
‫َ ً‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫َّ ّ‬
‫الظمــأ فــي حلقـ ِـه‪ .‬لقــد كانـ ْ‬ ‫غاصـ ْ‬
‫َ‬
‫حزينــة‪.‬‬ ‫ـت لحظــة‬ ‫ـت فــي قلبـ ِـه‪ ،‬وظــل‬
‫ّ‬ ‫ً‬ ‫تمتم الو ُلد ً‬
‫سعيدا"‪َ ،‬‬ ‫وحظا ً‬ ‫ًّ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬
‫بعصبي ٍة‪.‬‬ ‫يديه‬
‫عاصرا ِ‬ ‫باكيا‪،‬‬ ‫العزيز‪،‬‬ ‫قاء يا صديقي‬ ‫"إلى الل ِ‬
‫َ َ‬
‫ـض أن يقبــل ّأيــة‬ ‫الطفـ َـل‪ ،‬كرجــل مهـ ّـذب صغيــر‪ ،‬رفـ َ‬ ‫ّ ّ‬
‫ـاص‪ .‬لكــن‬ ‫َ ُ ّ ُّ‬
‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫شــكره الســيد ديفيــز بإخـ ٍ‬
‫مكافـ ٍـأة‪.‬‬
‫الطريــق‪ّ ،‬‬ ‫َ ّ‬ ‫متله ًفــا ّ‬ ‫ُ‬
‫ـاك كار ًهــا المشـ َـي ور َ‬
‫مود ًعــا‬ ‫ِ‬ ‫أركان‬ ‫يتفحـ ُ‬
‫ـص‬ ‫ـمي‪ ،‬ور َاح ّ‬ ‫ِّ‬ ‫ـ‬ ‫الرس‬ ‫ـه‬ ‫ِ‬ ‫ـ‬ ‫مالك‬ ‫اء‬ ‫ِ‬ ‫بــدا بـ‬
‫َ ُ‬ ‫آَ‬ ‫ْ‬ ‫ِّ َ‬ ‫أ‬ ‫ّ‬ ‫ّ َّ‬ ‫َ‬
‫ـاورة ّ‬
‫ـت الن مواجهة‬ ‫ـكر المريكــي‪ .‬كانــت قـ ِـد انتهـ ِ‬ ‫ـال الســكنية‪ ،‬فــي الطريـ ِـق إلــى المعسـ ِ‬ ‫العمـ ِ‬ ‫مجـ‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬
‫مليــا فــي حقيقـ ِـة أنــه ال يمكـ ُـن لــه أبــدا أن يمتلــك ً‬ ‫َّ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫جــوان الولــى مـ َـع اليــأس‪ ،‬بعــد أن تفكـ َـر ًّ‬ ‫أ‬ ‫َ‬
‫كلبــا‬ ‫ِ‬
‫ترســخَ‬‫ـجام فــي المشــاعر قــد ّ‬ ‫ـاك انسـ ٌ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ـت اسـ َّ‬ ‫ً‬
‫ِ‬ ‫ـيره‪ .‬كان هنـ‬‫ـتمر بــاك فــي مسـ ِ‬ ‫ذات الوقـ ِ‬‫ممتــازا‪ ،‬وفــي ِ‬
‫بينهمــا‪.‬‬
‫رواح فــي نفســها ّ‬ ‫َ ّ ُ أ‬ ‫ْ َ ُ ّ‬ ‫َ‬
‫حتــى آخــر شـ ّ‬
‫ـظي ٍة‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ال ُ‬ ‫ـر‬‫ـ‬ ‫تفك‬ ‫ـن‬ ‫ـ‬ ‫حي‬ ‫‪،‬‬ ‫ـل‬‫ِ‬ ‫ـ‬ ‫ي‬ ‫الل‬ ‫ـدة‬ ‫ـ‬ ‫ح‬ ‫و‬ ‫ـاءت‬ ‫ـ‬ ‫ج‬ ‫ـا‬
‫ـ‬ ‫م‬ ‫ـرعان‬ ‫لكـ ْـن سـ‬
‫ـوان ّ‬ ‫َ‬ ‫ـث ِّكل شــيء‪ .‬عندئــذ انهـ َـار ْت دفاعـ ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫الصغيـ ِـر‬ ‫ـات جـ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫فــي الحيـ ِـاة ذا ِتهــا‪ ،‬فــإذا هــي تكتشــف عبـ‬
‫أّ‬ ‫َ َْ َ ّ‬ ‫ً‬ ‫َّ‬ ‫َ‬
‫ـاء‪ ،‬لنـ ُـه فــي‬ ‫ـوان عبـ َـر الفضـ ِ‬
‫ِ‬ ‫ـ‬ ‫والحي‬ ‫ـد‬
‫ِ‬ ‫ـ‬ ‫ل‬‫و‬ ‫ال‬ ‫ـن‬‫َ‬ ‫ـ‬ ‫بي‬ ‫ـال‬
‫ِ‬ ‫ـ‬ ‫ص‬ ‫االت‬ ‫ـق‬ ‫ـ‬ ‫ف‬‫د‬ ‫ـار‬ ‫ـ‬ ‫أث‬ ‫ـا‬
‫ـ‬ ‫م‬ ‫ا‬ ‫ـيئ‬ ‫ـ‬ ‫ش‬ ‫ـل‬ ‫ـ‬ ‫لع‬ ‫و‬ ‫ـي‪.‬‬ ‫ـ‬ ‫يبك‬ ‫ـدأ‬ ‫وبـ‬
‫َ‬ ‫ـت ذكريـ ُ‬ ‫توهجـ ْ‬ ‫أ‬
‫ـب يعــوي فــي المعســكر المريكـ ِّـي‪ ،‬حيـ َـن ّ‬ ‫َ‬
‫نفســها بــدأ الكلـ ُ‬ ‫ّ‬
‫ـات بــاك ْ‬
‫عبـ َـر‬ ‫اللحظـ ِـة ِ‬
‫ِ‬
‫ْ‬ ‫ً‬
‫ـف َضـ ٍـار‪ ،‬ســائل الريـ َـح أن‬ ‫ـب ُبعنـ ٍ‬ ‫ـت مدفوعـ ًـة بقـ ّـوة سـ ّـر ّي ٍة‪ ،‬فنبـ َـح الكلـ ُ‬ ‫ذهــن الولــد‪ ،‬وكمــا لــو كانـ ْ‬
‫ِ‬
‫َ‬ ‫ِ‬
‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫أ‬ ‫ُ‬ ‫ُ َ‬
‫تنقــل رســالته إلــى الولـ ِـد‪ .‬بــدا المــر حفــا موســيقيا حزينــا‪ ،‬ســرعان مــا أصبــح يصيــب بالصمـ ِـم‬
‫ـاح‪.‬‬ ‫ـ‬ ‫ب‬ ‫مــن شـ ّـدة ُّ‬
‫الن‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ً‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫متوسـ ًـا ُّ‬
‫ـوال ّالليــل‪ِّ ،‬‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫ـواح‪ ،‬الــذي ســرعان مــا أصبـ َـح حفــا‬
‫ِ‬ ‫ـ‬ ‫بالن‬ ‫ِ‬ ‫ـ‬ ‫ط‬ ‫ـر‬ ‫ـوان ّ‬
‫الصغيـ ُ‬ ‫كمــا بكــى جـ‬
‫ـاكنة‪.‬‬
‫السـ ِ‬ ‫ـاد شـ َ‬
‫ـوارع مدينـ ِـة المناجـ ِـم ّ‬ ‫غريبــا‪ ،‬سـ َ‬ ‫موسـ ًّ‬
‫ـيقيا ً‬
‫َ‬
‫ـاك‪ .‬مــاذا يمكـ ُـن لرجــل ْأن يفعـ َـل حيـ َـن يواجـ ُـه ً‬ ‫ُّ‬ ‫ً‬ ‫السـ ّـي ُد ديفيـ ُ‬ ‫َ‬
‫كان ّ‬
‫كلبــا‬ ‫ٍ‬ ‫ـ‬ ‫ب‬ ‫ف‬‫ِ‬ ‫ـر‬ ‫ـ‬ ‫تص‬ ‫ـن‬
‫ـ‬ ‫م‬ ‫ـول‬‫ـ‬ ‫مذه‬ ‫ـز‬
‫ُّ ُ َ آ‬
‫ال َن؛ لقــدْ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ـدة ُ‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫َ‬ ‫تمل َكـ ْ‬ ‫ّ‬
‫مفادهــا أن بــاك لــم يعــد يخصــه بعــد‬ ‫ـت عقــل الجرينجــو حقيقــة جديـ‬ ‫يبكــي؟‬

‫‪40‬‬
‫ريصقلا ةَّصِقلا‬
‫ُ‬

‫فقـ َـد َّ‬


‫حبـ ُـه‪.‬‬
‫َ‬ ‫ْ‬
‫ـوم؛ لنــه مــاذا يمكـ ُـن لرجـ ٍـل أن يفعــل‬
‫َ أّ‬
‫الصغيـ َـر الباكـ َـي المحمـ‬ ‫يتمكـ ْـن البـرا ْأن ُيريـ َـح وَلـ َـد ُه ّ‬
‫ّ‬
‫لــم‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫ْ‬ ‫ُ ً‬
‫وأحــس‬ ‫َّ‬ ‫الســريعة الواثقــة‪،‬‬ ‫حيــن يواجــه ولــدا يبكــي؟ أر َاد البــرا أن يــرى ثانيــة ابتســامة ِ‬
‫ابنــه ّ‬ ‫َ‬
‫َ‬ ‫ْ ْ‬ ‫ـابقة لسـ َـع ُه الفقـ ُـر! ّ‬ ‫َ‬ ‫ـرورة ْأن يسـ َّ‬
‫ـتطع أن يحتمــل‬ ‫لكنــه لــم يسـ‬ ‫ـرة سـ ٍ‬ ‫ـترد تلــك االبتســامة‪ .‬كــم مـ ٍ‬ ‫بضـ ِ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ٍّ‬ ‫ٌ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫ـب‪.‬‬ ‫هــذه المـ ّـرة‪ .‬يجــب أن يحــدث شــيء غيـ ُـر عــادي فــي مدينـ ِـة المناجـ ِـم فــي هــذا الليـ ِـل الصعـ ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫الزمـ َـن قـ ْـد جعـ َـل مـ ْـن ِّكل ّ‬ ‫وكمــا لــو ّأن ّ‬
‫ـال إخــوة‪ ،‬رمــى الب ـرا عباءتـ ُـه علــى كتفيـ ِـه‪ ،‬أخــذ‬ ‫الرجـ ِ‬
‫ٌ‬
‫ممكنــا أن تتحقـ َـق معجــزة‪.‬‬
‫َّ‬ ‫ً ْ‬
‫العليــا؛ ليــرى إذا كان‬ ‫ـكني ِة ُ‬
‫ـاورة السـ ّ‬ ‫ّ َ ّ‬
‫ـوء‪ ،‬ومضــى إلــى المجـ ِ‬ ‫كشــاف الضـ ِ‬
‫ال َن يجـ ُ‬ ‫َّ آ‬ ‫دائمــا عامـ ًـا خجـ ًـول ً‬ ‫ـورا‪ .‬لقـ ْـد كان ً‬ ‫ـجاعا وجسـ ً‬ ‫ـون شـ ً‬ ‫َ‬ ‫ُ ْ‬
‫ـب‬ ‫صامتــا‪ ،‬لكنــه‬ ‫ـب أن يكـ‬ ‫نعــم‪ ،‬يجـ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ْأن يطلـ َ‬
‫ـركة بــاك العظيـ َـم‪ ،‬الجميــل‪ ،‬الفائــز بالجوائـ ِـز‪ .‬استنشــق ُبعمـ ٍـق‬ ‫ـب إلــى أحـ ِـد مــا ِك الشـ ِ‬
‫ً ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ ّ‬
‫هــواء الليـ ِـل البــارد‪ ِ،‬وارتعــش وهــو يفكـ ُـر فــي جرأتـ ِـه الخاصـ ِـة‪ ،‬ثــم مضــى صاعــدا باتجـ ِـاه المعسـ ِ‬
‫ـكر‬
‫أ‬
‫المريكـ ِّـي‪.‬‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ـت علــى َضــوء الفانــوس عينـ ّ‬ ‫ـأة‪ّ ،‬‬‫ً‬
‫تان‪ ،‬فجفــل الب ـرا‪ .‬ولكـ ْـن أوقف ْتـ ُـه‬ ‫ـان فسـ ّ‬
‫ـفوري ِ‬ ‫ـان بن ّيتـ ِ‬‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫توه َجـ ْ‬ ‫فجـ‬
‫ـرج ً‬ ‫السـ ّـي ُد ديفيـ ُـز قــد خـ َ‬ ‫َ‬
‫كان ّ‬ ‫ّ‬ ‫ٌ ٌ‬ ‫ُ‬
‫أيضــا كــي‬ ‫ذات اللحظـ ِـة‪،‬‬ ‫ـاح أليــف؛ ففــي ِ‬‫ـون تدخيـ ٍـن‪ ،‬ونبـ‬ ‫رائحــة غليـ ِ‬
‫ماضيــا ّباتجـ ِـاه منطقـ ِـة ســكن ّ‬
‫وكان ً‬‫َ‬
‫ـال!‬
‫العمـ ِ‬ ‫ِ‬ ‫يـراه‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫ْ‬
‫للكلمات ضرورة‪.‬‬
‫ِ‬ ‫جلين‪ ،‬فلم ُتعد‬ ‫قلبي ّ‬
‫الر ِ‬ ‫ِ‬
‫مس ٌ‬
‫شيء ما َ‬ ‫لقد َّ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ال َن"‪ ،‬تمتـ َـم ّ‬‫َ آ‬ ‫َّ‬
‫السـ ّـي ُد ديفيـ ُـز‪ُ ،‬م ِّقد ًمــا طــوق بــاك المعدنـ َّـي الثقيــل‬ ‫يخصنــي بعــد‬ ‫"إنــه لــم ُيعـ ْـد ُّ‬
‫إلــى يـ َـدي العامـ ِـل‪.‬‬
‫َ‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫الكلب َ‬ ‫َ‬
‫انقباض ُه‪.‬‬ ‫وأطفأت ابتسامة سعيدة‬ ‫ِ‬
‫َ‬
‫المرتعشت ِين‪،‬‬ ‫بيد ِيه‬ ‫َ‬ ‫أخذ البرا‬
‫َّ َ ّ ُ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ّ ٌ ْ‬ ‫ـاك (تشـ ّـكر ٌ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫الرجــل‪،‬‬ ‫ـت‪ .‬جــر بــاك‬ ‫ـادل صامـ ٍ‬ ‫مفصلــة‪ ،‬بــل فقــط مجـ ّـرد فهـ ٍـم متبـ ٍ‬ ‫ات)‬ ‫لــم تكـ ْـن هنـ‬
‫َ‬
‫ـوان ّ‬ ‫ً ُ ُ ّ‬ ‫ـره علــى ْأن يسـ َّ‬ ‫وأجبـ ُ‬
‫الصغيـ ِـر‪.‬‬ ‫ـاورة جـ‬
‫ـاه باتجـ ِـاه مجـ ِ‬ ‫ـتمر متابعــا خطـ‬
‫ٌ َ‬ ‫لط َف ٌ‬ ‫ّ‬ ‫حظة ُ‬ ‫َ ّ‬
‫منطقة شوكي‪.‬‬
‫ِ‬ ‫جديد ليل‬ ‫دفء‬ ‫زة‪،‬‬
‫عج ِ‬ ‫الم ِ‬ ‫في تلك الل ِ‬

‫‪41‬‬
‫عشر‬
‫َ‬ ‫الصف الثّاين‬

‫السماور‬
‫َّ‬
‫فائق‬
‫ُ‬ ‫سعيد‬
‫ُ‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫ستتأخر َع ْن عم ِلك‪.‬‬
‫ُ‬ ‫‪..‬انهض يا ُب َن َّي‪،‬‬
‫أذان الفجر ْ‬
‫ِ‬ ‫ُرفع‬ ‫من قراءة الفقرات األربع‬
‫األولى كيف تصف حياة علي‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ً‬
‫ــت‬ ‫كان ْ‬ ‫المصنــع‪.‬‬ ‫إلــى‬ ‫ُ‬
‫يذهــب‬ ‫وهــو‬ ‫أســبوع‬ ‫منــذ‬ ‫‪.‬‬‫عمــا‬ ‫أخيــرا‪َ ،‬و َج َــد ٌّ‬
‫علــي‬ ‫ً‬ ‫وأمه؟‬
‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ُ‬
‫ُ ّ‬
‫واليمــان باللـ ِـه‬ ‫ـت إ‬ ‫دخلـ ْ‬ ‫َ‬
‫عاءهــا‪.‬‬ ‫ـت ُد َ‬ ‫َ‬
‫وأكملـ ْ‬ ‫ـت صالتهــا‪،‬‬
‫َ‬ ‫أقامـ ْ‬ ‫ـعيدة وراضيـ ًـة‪َ .‬‬ ‫ً‬
‫أ ُّمـ ُـه سـ‬ ‫‪----------------------------‬‬

‫َ ً‬ ‫َّ‬ ‫َّ ِّ َّ‬ ‫ُ‬


‫‪----------------------------‬‬
‫ـض المنكبيـ ِـن الــذي كان غارقــا‬ ‫ابنهــا الشــاب الطويـ ِـل والعريـ ِ‬ ‫يغمرهــا‪ ،‬إلــى غرفـ ِـة ِ‬ ‫‪----------------------------‬‬
‫َّ‬ ‫والبط ّ‬ ‫ّ‬ ‫أحالمـ ُـه بيـ َـن ضجيــج ُ‬
‫ـات الكهربائيـ ِـة َومصابيـ ِـح إالنـ ِ‬
‫ـارة‬ ‫اريـ ِ‬ ‫كات‬ ‫المحـ ِّـر ِ‬ ‫ِ‬ ‫فــي ِ‬ ‫‪----------------------------‬‬
‫كأنــهُ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫ّ‬
‫الو ْجنتيـ ِـن‬ ‫العـ َـر ِق ُمتـ َـو ِّرد َ‬ ‫كات والديــزل‪ .‬كان علـ ٌّـي غارقــا فــي َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫الم َحـ ِّـر ِ‬ ‫ـوت ُ‬ ‫وزيـ ِ‬ ‫‪----------------------------‬‬

‫‪1‬‬ ‫ُ‬ ‫َ‬


‫ـارج للتـ ّـو مـ َـن المصنــع‪ .‬كانـ ْ‬ ‫خـ ٌ‬
‫ـت مدخنــة المصنـ ِـع الواقـ ِـع فــي "هاليجــي أوغلــو"‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ـتصيح كديــك مغــرور رافــع ر َأسـ ُـه ينتظـ ُـر طلـ َ‬ ‫َّ‬
‫ـاح‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ـ‬ ‫ب‬ ‫ـوع َّ‬
‫الص‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫وكأنهــا سـ ُ‬ ‫ترتفـ ُـع بوقـ ٍـار‪،‬‬
‫ُ‬ ‫َ ِّ َ َ ِّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫ـحب اللحــاف ِل ُيغطــي ر َأسـ ُـه كمــا يفعــل‬ ‫اســتيقظ علـ ٌّـي أخيـ ًـرا‪ .‬حضـ َـن أ ُّمـ ُـه‪ .‬سـ‬
‫ـاف‪.‬‬ ‫ـارج اللحـ ِ‬
‫َ ِّ‬
‫دم ْيـ ِـه اللتيـ ِـن َب ِق َيتــا خـ‬
‫ّ‬ ‫دغدغ ْتـ ُـه ُأ ُّمـ ُـه ِمـ ْـن َق َ‬ ‫َ‬
‫ـاح‪.‬‬ ‫ـ‬ ‫ب‬ ‫ص‬ ‫ُك َّل َ‬
‫ٍ‬
‫الف ـراش‪ُ ،‬ثـ َّـم عـ َ‬ ‫َ‬
‫ـت كفتــاة صغيــرة بســعادة بعـ َـد أ ْن َو َثـ َ ُ‬ ‫َض ِح َكـ ْ‬
‫ـاد‬ ‫ِ‬ ‫ـب ابنهــا ِمـ ْـن ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ما الّذي أوحى لك به‬
‫ُ أُ‬ ‫َ‬
‫ـعداء فــي هــذا الحـ ِّـي‪ .‬مــاذا تم ِلــك ال ُّم‬ ‫ـقط عليـ ِـه‪ .‬ليســوا كثيريــن َمـ ْـن ُهـ ْـم سـ ُ‬ ‫وسـ‬
‫استخدام االستفهام في هذه‬

‫ُ ُ ُّ‬ ‫َ َّ‬ ‫ُ ِّ َ َ‬ ‫ُ‬ ‫الفقرة؟‬


‫ابنهــا ومــاذا يم ِلــك االبـ ُـن ســوى أمـ ِـه؟ دخلــت غرفــة الطعـ ِـام يحتضــن كل‬ ‫ســوى ِ‬ ‫‪----------------------------‬‬
‫َّ ُ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫آ‬
‫ـص الز كيــة فــي الغرفـ ِـة‪.‬‬ ‫منهمــا الخـ َـر‪ .‬تفــوح رائحــة الخبـ ِـز المحمـ ِ‬ ‫‪----------------------------‬‬
‫‪----------------------------‬‬
‫ـماور بمصنـ ٍـع يخلــو‬ ‫السـ َ‬ ‫الســماور بشـ ّـد ٍة! كان علـ ٌّـي ُي َشـ ِّـب ُه َّ‬ ‫ـاء يغلــي فــي َّ‬ ‫كان المـ ُ‬ ‫َ‬
‫‪----------------------------‬‬
‫َّ‬
‫البخـ ِـار ورائحـ ِـة الشــاي‬ ‫ـوادث‪ ،‬فهــو ال ُي ْن ِتـ ُـج ســوى ُ‬ ‫ـات والحـ ِ‬ ‫والضرابـ ِ‬ ‫ـذاب إ‬ ‫ِمــن العـ ِ‬
‫َ َ‬ ‫‪----------------------------‬‬

‫ـماور وغاليـ ِـة بائـ ِـع‬ ‫َّ‬ ‫ـتمتع عنـ َـد ّ‬ ‫الصبــاح‪ .‬كان علـ ٌّـي يسـ ُ‬ ‫ـعادة َّ‬ ‫َّ‬
‫ـاح بالسـ ِ‬ ‫ـ‬ ‫ب‬ ‫الص‬ ‫ِ‬ ‫ـ‬ ‫وس‬ ‫ـق‬ ‫ِ‬ ‫ـ‬ ‫المعت‬ ‫ما معنى أن ينتج السماور‬
‫ُِ ُ‬ ‫أ‬ ‫َ‬
‫ُ ِ‬ ‫ّ‬ ‫َّ‬ ‫سعادة الصباح؟‬
‫ـاب المصنـ ِـع‪ .‬ثــم الصــوات‪ ،‬بــوق مدرسـ ِـة "هليجــي‬ ‫ِ‬ ‫ـحلب الــذي يقــف أمــام بـ‬ ‫ِ‬ ‫السـ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ــارة المصنــع ّالتــي ُّ‬ ‫ّ َ ّ ُ‬ ‫‪----------------------------‬‬
‫منيــات‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫حيــي أ‬ ‫ت‬ ‫‪،‬‬ ‫الخليــج‬ ‫َ‬
‫أرجــاء‬ ‫تهــز‬ ‫أوغلو"العســكري ِة‪ ،‬وصف‬
‫َّ ِ‬ ‫ًِ‬ ‫َ ِ‬ ‫‪----------------------------‬‬
‫ـيس‬ ‫مع أن الحاسـ َ‬ ‫أ‬ ‫روحــا شــاعرية‪َ ،‬‬ ‫ـات ُأخــرى‪ .‬ذلــك يعنــي أن ِل َعلـ ٍّـي ً‬
‫َّ‬ ‫َ‬
‫وتحبــط طموحـ ٍ‬
‫ُ‬
‫‪----------------------------‬‬
‫‪----------------------------‬‬
‫َ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬
‫الصناعيةِ ‪ ،‬ويقع على خليج القرن الذ ِّ‬ ‫‪ُ )1‬‬ ‫‪----------------------------‬‬
‫هبي وسط المدينةِ ‪.‬‬ ‫أحياء مدينةِ (إسطنبول)‬
‫ِ‬ ‫أحد‬

‫‪42‬‬
‫ريصقلا ةَّصِقلا‬
‫ُ‬

‫َ‬
‫ات المحيـ ِـط‬ ‫ـرة مــن عاب ـر ِ‬ ‫ـاج باخـ ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ـ‬ ‫كإي‬ ‫‪،‬‬ ‫ـع‬
‫ِ‬ ‫ـ‬ ‫المصن‬ ‫ـج‬‫ِ‬ ‫ـ‬ ‫بضجي‬ ‫ـاء‬
‫ٍ‬ ‫ـ‬ ‫كهرب‬ ‫ـل‬
‫ِ‬ ‫ـ‬ ‫لعام‬ ‫ـة‬‫المرهفـ‬
‫َ‬ ‫ٍّ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬
‫ـب كل ِم َّنــا يقبـ ُـع أ َسـ ٌـد‪.‬‬ ‫ّ‬
‫فــي الخليـ ِـج‪ ،‬إل أننــا ‪-‬علـ ّـي ومحمــد وحســن‪ -‬هكــذا‪ ،‬فــي قلـ ِ‬
‫ُ‬ ‫َ ُ َّ َ ْ ُ َ‬ ‫َ‬ ‫ٌّ َ َ ُ ِّ ُ ُ َّ َ َ َ َ َ َّ‬ ‫َ َ‬
‫ـت أ ُّمـ ُـه ت ْض َحــك‪،‬‬ ‫ـفت ْي ِه كأنـ ُـه أكل قطعــة ســك ٍر‪ .‬كانـ‬ ‫ق ّبــل علــي يــد أمــه‪ ،‬ثــم لعــق شـ‬
‫ُ‬
‫ـان‬ ‫ريحـ ٍ‬ ‫ـص َو ْ‬ ‫النحــو ُك َّلمــا َق َبـ َـل أ َّمـ ُـه‪ .‬كان يوجـ ُـد أصيـ ٌ‬ ‫التصـ ُّـرف علــى هــذا ّ‬ ‫ـاد ّ‬‫لقــد اعتـ َ‬
‫ِ‬
‫َ َّ‬ ‫َ َ‬ ‫ْ‬ ‫َ َ َ‬
‫ـان‪َ ،‬وف َركهــا بيـ َـن كف ْيـ ِـه‬ ‫ـات ريحـ ٍ‬ ‫ـرة‪ .‬قطــف علـ ٌّـي ِبضـ َـع َورقـ ِ‬ ‫ـت ّ‬
‫الصغيـ ِ‬ ‫فــي حديقـ ِـة البيـ ِ‬
‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ـادر ُمبتعـ ًـدا‪ ،‬وهــو يستنشــق رائحــة َّ‬
‫ـاح كان بـ ِـار ًدا‬ ‫ُ َّ‬
‫ـان فــي كفيـ ِـه‪ .‬هــواء الصبـ ِ‬ ‫الر يحـ ِ‬ ‫َوغـ َ‬
‫َ‬ ‫ُ َ‬ ‫ً‬
‫جميعهــم كانــوا‬ ‫ُ‬ ‫ـوارب‪،‬‬‫ـف القـ ِ‬ ‫ـاء ُه عنــد رصيـ ِ‬ ‫غائمــا‪ .‬التقــى أصدقـ َ‬ ‫كان ً‬ ‫قليــا‪ ،‬والخليــج‬
‫ُ‬ ‫ُ ً َ َّ‬
‫ـخاص إلــى "هاليجــي أوغلــو"‪.‬‬ ‫شـ ِـبانا أ ِشــد ِاء‪ .‬أبحـ َـر خمســة أشـ ٍ‬
‫ً‬ ‫ظهـ ُـر َعلـ ٌّـي فــي َعم ِلـ ِـه ُك َّل ِجـ ٍّـد واســتمتاع وحمــاس‪ ،‬لكـ ْـن ليـ َ‬ ‫ُ‬
‫ـس رغبــة بإظهـ ِـار‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ي ِ‬
‫َّ‬ ‫َ‬ ‫ـب االســتعر َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫اض‪َ ،‬مـ َـع أنـ ُـه كان ُيجيـ ُـد‬ ‫ـتقيما‪ ،‬وال يحـ ُّ‬ ‫كان ُمسـ ً‬ ‫تفو ِقـ ِـه علــى زمالئـ ِـه‪ ،‬فقــد‬ ‫ّ‬
‫َْ‬ ‫ْ َّ‬ ‫َ‬
‫يــن‬‫الكهربائي َ‬
‫ّ‬ ‫ــم علــى َي َــد ْي أش َــه ِر‬ ‫تعل َ‬ ‫ّ‬
‫المهني ِــة‪ ،‬إذ‬ ‫ــن‬‫رجــة ِم ْ‬ ‫عمل ُــه إلــى أقصــى َد ٍ‬
‫ُ َّ‬ ‫ـب َع ًّليــا كثيـ ًـرا‪ ،‬فأخلـ َ‬ ‫ـان فــي (إســطنول)‪ .‬كان ُي ِحـ ُّ‬ ‫أ‬
‫تعليمـ ِـه كل أس ـر ِار‬ ‫ـص فــي ِ‬ ‫اللمـ ِ‬
‫بارعــا ال ُيضاهيـ ِـه أحـ ٌـد‪.‬‬ ‫المهمـ ِـة؛ ليصبـ َـح ِم ْث َلـ ُـه ُم َع ِّل ًمــا ً‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ًّ‬ ‫ً‬ ‫َ‬
‫قديمـ ِـه أقصــى ُجهـ ِـد ِه فــي عم ِلـ ِـه‬ ‫بيتـ ِـه َســعيدا‪ُ ،‬مطمئنــا ِمـ ْـن ت ِ‬ ‫ـاء إلــى ِ‬ ‫عــاد فــي المسـ ِ‬
‫ُ‬ ‫فريقــا واحـ ًـدا مــع ُزمالئــه‪َ .‬‬ ‫ً‬
‫وبعدمــا حضـ َـن أ ُّمـ ُـه‪ ،‬ا ِتجـ َـه نحـ َـو المقهــى المقابـ ِـل ليلتقـ َـي‬ ‫ِ‬
‫ـض أمـ َ‬ ‫ـاة المغــرب‪ .‬ربـ َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ ُ ُّ ُ ُ‬ ‫ً‬ ‫ـاء ُه‪ُ .‬ثـ َّـم تـ َّ‬
‫ـام‬ ‫ِ‬ ‫ـ‬ ‫ص‬ ‫ـؤدي‬ ‫ـ‬‫ت‬ ‫بيتـ ِـه‪ .‬كانــت أمــه‬ ‫ـدر َج عائــدا إلــى ِ‬ ‫أصدقـ َ‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫أ ِّم ُــه‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫ّ ُ‬
‫سيغف ُر َلي الل ُه يا أ ِّمي‪.‬‬ ‫ ـ ِ‬
‫ً‬ ‫ُ‬ ‫َ ُ ُّ ُ َ‬ ‫َ أَ ْ َ َ‬
‫ـت تحيــك لـ ُـه كنــزة‬ ‫كانـ ْ‬ ‫اءة روايـ ٍـة بوليســي ٍة‪ .‬أمــه‬ ‫بعــد ال ك ِل‪ ،‬غـ ِـرق َعلـ ٌّـي فــي قـر ِ‬
‫الخزامــى‪.‬‬ ‫ـوح منهمــا ع ْطـ ُـر َزهــر ُ‬
‫ِ‬ ‫صوفيـ ًـة‪ُ ،‬ثـ َّـم تمـ َّـددا ونامــا علــى فر َاشـ ْـين يفـ ُ‬ ‫ّ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ـت رائحـ ُـة ُ‬ ‫كانـ ْ‬‫َ ُ َ ْ ُْ َ ُ َ‬ ‫أُ‬ ‫َ‬
‫ـص‬ ‫ـ‬‫م‬ ‫الم َح َّ‬
‫الخ ْبــز ُ‬ ‫‪.‬‬ ‫ـع‬ ‫ـ‬‫ف‬‫ر‬ ‫ي‬ ‫ـر‬ ‫ـ‬‫ج‬ ‫الف‬ ‫أذان‬ ‫كان‬ ‫ـا‬‫ـ‬ ‫بينم‬ ‫ـا‬‫ـ‬ ‫ال ُّم ًّ‬
‫علي‬ ‫ـت‬ ‫ـ‬ ‫أيقظ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫كان َعلـ ٌّـي ُي َشـ ِّـبهُ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ّ ُ‬
‫ـماور بشــد ٍة!‬ ‫الزكيــة تفــوح فــي الغرفـ ِـة‪ .‬كان المــاء يغلــي فــي السـ ِ‬
‫ـوادث‪ ،‬فهــو ال ينتـ ُـج ســوى‬ ‫ـات والحـ ِ‬ ‫والضرابـ ِ‬ ‫ـذاب إ‬ ‫الســماور بمصنـ ٍـع يخلــو مــن العـ ِ‬
‫ّ َ‬
‫ـعادة َّ‬ ‫الم َّ‬‫الشــاي ُ‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬
‫ـاح‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ـ‬ ‫ب‬ ‫الص‬ ‫ِ‬ ‫ـ‬ ‫وس‬ ‫ـق‬
‫ِ‬ ‫ـ‬‫عت‬ ‫البخـ ِـار ورائحـ ِـة‬

‫‪43‬‬
‫عشر‬
‫َ‬ ‫الصف الثّاين‬

‫ـاء َكأ َّنها تسـ ُّ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ُ أُ‬


‫ـتعد‬ ‫ـرة َتضـ ُـع علــى َرأســها غطـ ً‬‫ـارة زائـ ٍ‬
‫دة جـ ٍ‬ ‫ـاء المــوت ل ِّم َعلـ ٍّـي كسـ ِّـي ٍ‬ ‫جـ َ‬
‫ـاء ال ِبنهــا‪،‬‬ ‫ـاي ُك َّل َصبــاح‪َ ،‬و ُتمســي وهــي ُت ِعـ ُّـد طعـ َ‬
‫ـام العشـ ِ‬ ‫ـت ُت ِعـ ُّـد الشـ َ‬ ‫كانـ ْ‬‫َ‬
‫ـاة‪.‬‬
‫للصـ ِ‬ ‫ّ‬
‫ٍ‬ ‫َ‬
‫الم ِّ‬ ‫ـاء َجسـ ِـدها ُ‬ ‫َ َ‬ ‫كانـ ْ‬ ‫َ‬
‫تغضـ ِـن‬ ‫ـعر بوخـ ٍـز فــي قلبهــا‪َ ،‬وخــد ٍر‪َ ،‬وتعـ ّـر ٍق فــي أنحـ ِ‬ ‫ـت تشـ ُ‬ ‫لكنهــا‬
‫عة ُقبيـ َـل َ‬ ‫ً‬
‫ـاء‪.‬‬
‫المسـ ِ‬ ‫عندمــا تصعـ ُـد الـ َّـد َر َج ُمسـ ِـر‬

‫بدوار‪،‬‬ ‫ْ ُ ُّ َ َ َ َ ْ‬ ‫ذات َصبــاح‪ ،‬وقبـ َـل ْأن َ ًّ َ َ‬ ‫َ‬


‫توقــظ عليــا‪ ،‬وبينمــا كانــت ت ِعــد الســماور‪ ،‬شــعرت ٍ‬ ‫ِ‬
‫أ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ٍّ‬ ‫ُ‬ ‫َ ََ ْ ُ ٍ ً‬
‫جوارها‪ .‬ذلــك الجلــوس‪ ،‬كان جلوســها الخير‪.‬‬ ‫فجلســت متهالكــة علــى كرســي إلــى ِ‬
‫ُ ّ‬ ‫َ‬ ‫َ ُّ ُ‬
‫ـوت َصفـ َـار ِة المصنـ ِـع‬ ‫ـامع ِه صـ‬
‫بإيقاظـ ِـه‪ .‬وصــل إلــى مسـ ِ‬ ‫ـتغرب علـ ٌّـي تأخـ َـر أ ِّمـ ُـه ِ‬ ‫اسـ َ‬
‫وقــف َ‬ ‫َ‬ ‫وثــب ِم ْ‬
‫غلقــة‪َ .‬‬ ‫بنعومــة ُز َ ّ‬ ‫ً‬ ‫ُّ‬
‫أمــام‬ ‫ــن فر ِاش ِــه‪،‬‬ ‫الم ِ‬ ‫افــذة ُ‬
‫جــاج الن ِ‬ ‫ٍ‬ ‫الحــاد‪ُ .‬مخترقــا‬
‫المســتندين علــى‬ ‫ـت ر َأســها علــى ذراعيهــا ُ‬ ‫ـاهد ُأ ُّمـ ُـه وقــد َأ ْح َنـ ْ‬‫الطعــام‪ ،‬شـ َ‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬
‫ـاب غرفـ ِـة‬
‫ِ‬ ‫بـ ِ‬
‫ارتعــد َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫َ‬
‫الطاولــة‪ ،‬ظ َّنهــا نائمــة‪َّ .‬‬ ‫ّ‬
‫َّ‬
‫أحــس‬ ‫عندمــا‬ ‫بهــدوء‪ ،‬أمســكها ِم ْ‬
‫ــن ك ِت ْفيهــا‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫تقــد َم‬ ‫ِ‬
‫وج َن َتهــا‪.‬‬ ‫ـت َشـ ُ‬
‫ـفتاه ْ‬ ‫المسـ ْ‬
‫ـرودة حالمــا َ‬ ‫ببـ ٍ‬
‫ٌ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫ـوت ال يختلــف َع ّمــا يفعلـ ُـه ممثــل بـ ِـار ٌع‪ ،‬لكـ ْـن مــا َبـ َـد َر ِم ْنـ ُـه‬ ‫نفعلـ ُـه أمـ َ‬
‫ـام المـ ِ‬ ‫مــا‬
‫ًّ‬ ‫َ‬
‫حقيقيــا‪.‬‬ ‫كان‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ِّ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ـاف‪ ،‬وحــاول تدفئــة َج َسـ ِـدها البـ ِ‬
‫ـارد‪.‬‬ ‫عانقهــا‪َ ،‬وحملهــا إلــى فر ِاشــها‪ ،‬غطاهــا باللحـ ِ‬
‫اش إلــى‬ ‫ر‬ ‫ـ‬ ‫الف‬ ‫ـى‬‫ـ‬ ‫عل‬
‫ً‬
‫ـأة‬‫ـ‬ ‫فج‬ ‫ـارد‪ُ ،‬ثـ َّـم انهـ َ‬
‫ـار‬ ‫ِ‬ ‫ـ‬ ‫الب‬ ‫ـد‬
‫ِ‬ ‫ـ‬ ‫الجس‬ ‫ـذا‬ ‫ـ‬ ‫ه‬ ‫ـى‬ ‫ـ‬ ‫إل‬ ‫ـاة‬
‫ِ‬ ‫ـ‬ ‫الحي‬ ‫ـادة‬
‫ِ‬ ‫ـ‬ ‫بإع‬ ‫ث‬
‫َّ َ‬
‫تشــب‬
‫كاء‬
‫علي ال ُب َ‬
‫يستطع ٌّ‬
‫ْ‬ ‫َلماذا ْلم‬
‫ِ‬ ‫على أ ِّمه؟‬
‫َ‬ ‫ً‬
‫الجامحة‬
‫ِ‬ ‫الرغـ ِـم ِمـ ْـن َر ِ‬
‫غبتـ ِـه‬ ‫ـوم علــى ّ‬ ‫ـكاء فــي ذلــك اليـ ِ‬ ‫البـ َ‬
‫جوارهــا عاجــزا‪ .‬لــم يســتطع ُ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫‪----------------------------‬‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ ُ ّ ُ َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫فــي ُ‬
‫ـرئ‬‫ـرآة‪ ،‬كان محيــاه كوجـ ِـه امـ ٍ‬ ‫ـوع‪ ،‬نظـ َـر إلــى ِ‬
‫المـ ِ‬ ‫ت عينــاه دون دمـ ٍ‬ ‫ـكاء‪ .‬توقــد‬ ‫البـ ِ‬ ‫‪----------------------------‬‬
‫ْ‬ ‫قضــى ليلـ ًـة بيضـ َ‬
‫جابهتـ ِـه أعظـ َـم ُمصيبـ ٍـة فــي الحيـ ِـاة‪.‬‬
‫ـاء ِإثـ َـر ُم ِ‬ ‫‪----------------------------‬‬
‫‪----------------------------‬‬
‫غطــى َشـ ْـع َر ُه‪ً ،‬‬ ‫ّ‬ ‫َّ َّ‬ ‫َ ٌّ َّ‬
‫علي‬
‫ذهب ٌّ‬‫َ‬ ‫َلماذا‪ ،‬في رأيك‪،‬‬ ‫وألمــا‬ ‫ـاب جسـ َـد ُه‪َ ،‬وكأن الشـ ْـي َب قــد‬
‫هنــا قــد أصـ َ‬ ‫كأن َو ً‬ ‫شــعر علــي‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ َ‬ ‫َّ ُ‬ ‫َْ‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫ـخص تجــاوز المئــة ِمـ ْـن ُعمـ ِـر ِه‪.‬‬
‫إلى المصن ِع بعد إبالغِ الجارةِ‬
‫ِ‬
‫شــديدا وانحنــاءة فــي ظهـ ِـر ِه‪ ،‬وكأنــه قــد هـ ِـرم كشـ ٍ‬
‫بوفاة أ ِّمه؟‬
‫‪----------------------------‬‬ ‫كان ْ‬
‫ــت‬
‫َ‬
‫العكــس‪،‬‬
‫ً ْ‬
‫ــن ُمخيفــة‪َ ،‬بــل علــى‬ ‫الميــت‪ .‬لــم َت ُك ْ‬
‫ِ‬ ‫ســد‬
‫الج ِ‬ ‫ُث َّــم َن َظ َــر إلــى َ‬
‫ِ‬
‫‪----------------------------‬‬ ‫َ‬
‫ـض َع ْي َنــي الميتـ ِـة نصــف‬
‫الرقيــق‪ .‬أغمـ َ‬ ‫ّ‬ ‫ـون‬ ‫ـ‬ ‫ن‬ ‫حياهــا القديــم َ‬
‫الح‬ ‫دودة ب َن ْفــس ُم ّ‬
‫َ ً‬
‫‪----------------------------‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫تبــدو و ِ ِ‬
‫َ ََ ُ ُ َ‬ ‫َّ‬ ‫المفتوحتيــن بإحــدى َي َد ْيـ ِـه ّ‬
‫القويتيــن‪ .‬انطلـ َ‬
‫‪----------------------------‬‬ ‫الم ِسـ َّـنة‪،‬‬ ‫ـارع‪ ،‬أخبــر جارتــه‬
‫ِ‬ ‫ـ‬ ‫الش‬ ‫ـى‬
‫ـ‬ ‫إل‬ ‫ـق‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫‪----------------------------‬‬

‫‪44‬‬
‫ريصقلا ةَّصِقلا‬
‫ُ‬

‫َ‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬


‫ـات‪ ،‬واتجـ َـه إلــى المصنـ ِـع‪ ،‬وبينمــا كان علــى‬ ‫ـت ر ِاكضـ ٍ‬ ‫ـت الجــارات إلــى البيـ ِ‬ ‫هرعـ ِ‬‫َ‬
‫كأنـ ُـه قــد اعتـ َ‬ ‫َ َّ‬ ‫َّ‬
‫ـوت‪.‬‬ ‫ـاد علــى رؤيـ ِـة المـ ِ‬ ‫ـارب‪ ،‬بــدا و‬ ‫ِ‬ ‫ـ‬ ‫الق‬ ‫ـي‬ ‫ـ‬ ‫ف‬ ‫ـق‬ ‫ِ‬ ‫ـ‬ ‫ري‬ ‫الط‬
‫َ َ‬ ‫َْ‬ ‫ِّ‬
‫ـب َب ْع َض ْيهمــا‪َ .‬وكمــا أخــذ‬ ‫ـاف نف ِسـ ِـه إلــى جانـ ِ‬ ‫ـاف باللحـ ِ‬ ‫لقــد اعتــادا علــى االلتحـ ِ‬
‫َّ ُ َ‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ ُ‬
‫والعطــف‪ .‬لكنــه‪ ،‬كان‬ ‫ِ‬ ‫بالحنــان‬
‫ِ‬ ‫شــاعرها‬ ‫م‬‫أيضــا كل َ‬ ‫أخــذ ً‬ ‫‪،‬‬ ‫ؤنســة‬ ‫المــوت أ َّم ُــه ُ‬
‫الم‬
‫ِ‬
‫ُّ َّ ُ ٌ ً‬ ‫ً‬ ‫بــار ًدا قليـ ًـا‪ ،‬والمـ ُ‬
‫ـس ُمخيفــا كمــا نظــن‪ ،‬لكنــه بــارد قليــا‪...‬‬ ‫ـوت ليـ َ‬
‫ِ‬
‫ُ ً‬ ‫َّ‬ ‫ً َّ ُ ُ َ‬ ‫ظـ َّـل علـ ٌّـي ً‬
‫ـس ليــا دون‬ ‫ـت بــا َهـ َـد ٍف‪ .‬ظــل يجلـ‬ ‫أيامــا عديــدة‪ ،‬يتفقــد غـ َـرف البيـ ِ‬
‫البـ َ‬
‫ـكاء‪.‬‬ ‫لكنـ ُـه لــم يســتطع ُ‬ ‫النــور‪ُ ،‬يصغــي َّلل ْيــل‪ُ ،‬ي َف ِّكـ ُـر ُبأ ُّمــه‪َّ ،‬‬ ‫إضــاءة َّ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َْ‬ ‫َ ْ‬ ‫َّ‬ ‫ُ َ‬ ‫َ ًْ ْ‬ ‫َ‬ ‫ذات َ‬ ‫َ‬
‫ـدة‬
‫ـس مائـ ِ‬ ‫ـاح‪ ،‬تقابــا وجهــا لوجـ ٍـه فــي غ ْرفـ ِـة الطعـ ِـام‪ ،‬كانــت علــى نفـ ِ‬ ‫ـ‬ ‫ب‬ ‫ص‬
‫إنــاء َمعدنــي‪ٍّ.‬‬ ‫ُ َ ْ ُّ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ّ ُ َّ‬ ‫ً‬ ‫ًٍ‬ ‫َّ‬
‫عــام ُمشــرقة هادئــة‪ .‬أشــعة الشــم ِس كانــت تنعكــس عــن كل ٍ‬ ‫ْ‬ ‫الط ِ‬
‫الدمـ ُ‬ ‫وانهمــرت ُّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫أمسـ َـك ْت ُه مـ َـن َز َند ْيـ ِـه‪َ ،‬و َح َّد َقـ ْ‬
‫ـوع‬ ‫الكرسـ ِّـي‪َ ،‬‬ ‫ـت فــي َع ْين ْيـ ِـه‪ .‬انهـ َـار علــى‬ ‫ِ‬
‫ـك البيـ َ‬ ‫َ َ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬
‫ـت مــن غيـ ِـر رجعـ ٍـة‪.‬‬ ‫ـت‪ ،‬ثـ َّـم غــادر ذلـ‬ ‫ِمـ ْـن عين ْيـ ِـه بشــد ٍة كالمطـ ِـر بصمـ ٍ‬
‫ُ َّ‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬
‫ياة َع ٍّلي‪.‬‬ ‫حلب إلى َح ِ‬ ‫بعد ذلك دخل إبريق الس ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ـتاء فــي ُمحيــط َ‬ ‫ِّ‬
‫هل ما زال السماور يصنع‬ ‫ـطنبول)المدينة‪ .‬كان‬
‫ِ‬ ‫الخليـ ِـج أشـ ُّـد وأكثـ ُـر َض ًبابــا مــن (إسـ‬ ‫ِ‬ ‫الشـ ُ‬
‫سعادة الصباح؟‬
‫ظهور ُهم‬ ‫ـال‪ ،‬وقــد أداروا َ‬ ‫ُ َّ ُ‬
‫ـدارس والعمـ‬ ‫ـاب المـ‬ ‫ـون َو ُطـ ُ‬ ‫َ‬ ‫َ َّ‬
‫والســائقون واللحامـ‬ ‫ـون َّ‬ ‫ُ ِّ َ‬
‫المعلمـ‬
‫َ‬ ‫ِ‬
‫‪----------------------------‬‬ ‫َّ‬ ‫ِّ‬
‫الســحلب بأ كف ِهــم ُ‬ ‫ُ‬ ‫الضخـ ِـم‪ُ ،‬ي ْم ِســكون فناجيـ َـن َّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫لجــدار المصنــع َّ‬
‫‪----------------------------‬‬ ‫ات‬ ‫المغطـ ِـاة بالقفــاز ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫المتصاعـ ِـد ِمـ ْـن سـ َ‬ ‫ـاخنا كالبخــار ُ‬ ‫ً‬ ‫الراشــحة‪ ،‬تنفــث هـ ً‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫وأنوفهــم َّ‬ ‫الص َّ‬ ‫ُّ‬
‫‪----------------------------‬‬ ‫ـماور‬ ‫ِ‬ ‫ـواء سـ ِ‬ ‫وفيـ ِـة‪ِ ،‬‬
‫‪----------------------------‬‬ ‫ٌ‬
‫ـام بعيــدة‪.‬‬ ‫ـحلبا ُذ َّر ْت عليـ ِـه أحـ ٌ‬ ‫حزيــن‪ ،‬يحتســون ُج ْر َعـ ًـة ُجرعـ ًـة سـ ً‬
‫‪----------------------------‬‬
‫ٍ‬

‫علي‬
‫ذهب ٌّ‬‫َ‬ ‫ي رأيك‪،‬‬
‫صن ِع بعد إبالغِ الجارةِ‬

‫ه؟‬
‫‪--------------------‬‬
‫‪--------------------‬‬
‫‪--------------------‬‬
‫‪--------------------‬‬
‫‪--------------------‬‬

‫‪45‬‬
‫عشر‬
‫َ‬ ‫الصف الثّاين‬

‫‪46‬‬
‫رديفة‬
‫ٌ‬ ‫قصص‬
‫ٌ‬

‫‪47‬‬
‫عشر‬
‫َ‬ ‫الصف الثّاين‬

‫‪48‬‬
‫ٌةفيدر ٌصصق ‪ُ -‬فيحّنلاو ُ يندبلا‬

‫حيف‬
‫ُ‬ ‫البدين وال ّن‬
‫ُ‬
‫أنطوان تشيخوف‬
‫آ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫فــي محطــة ســكة حديــد (نيقــوالي) التقــا صاحبــان؛ أحدهمــا بديــن والخــر نحيــف‪ .‬كان‬
‫ّ‬
‫البديــن قــد تغـ ّـدى لتـ ّـوه فــي المحطــة‪ ،‬ولمعــت شــفتاه مــن الدهــن‪ ،‬كمــا تلمــع ثمــار الكــرز الناضجة‪.‬‬
‫ّ‬
‫المعطــرة‪ّ .‬أمــا النحيــل فــكان ً‬
‫خارجــا لتـ ّـوه مــن عربــة القطــار‬ ‫وفاحــت منــه رائحــة الحلويــات‬
‫الرخيصــة‪ .‬والحــت مــن‬ ‫محمـ ًـا بالحقائــب ُّ‬
‫والصـ َـرر وعلــب الكرتــون‪ .‬وفاحــت منــه رائحــة القهــوة ّ‬ ‫ّ‬
‫وراء ظهــره امــرأة نحيفــة طويلــة الذقــن‪ ..‬زوجتــه‪ ،‬وتلميــذ طويــل بعيــن مــزرورة‪ ..‬ابنــه‪ .‬وهتــف‬
‫البديــن عندمــا رأى النحيــف‪:‬‬
‫ ـ(بورفيري)! أهو أنت؟ يا عزيزي! كم ّمر من أعوام من أرك!‬
‫ُودهش ّ‬
‫النحيف‪:‬‬ ‫ِ‬
‫ ـيا سالم! (ميشا)! يا صديق الطفولة! من أين جئت؟‬
‫آ‬ ‫ً‬
‫وتبــادل الصاحبــان القبــات ثالثــا‪ ،‬وحـ ّـدث كل منهمــا فــي الخــر بعينيــن مغرورقتيــن بالدموع‪،‬‬
‫وكان الكهمــا فــي حالــة مــن الذهــول اللذيــذ‪.‬‬
‫وقال النحيف بعد القبالت‪:‬‬
‫ّ‬
‫جيـ ًـدا! جميــل كمــا كنــت!‬‫ـا نظــرت إلـ ّـي ّ‬ ‫ ـيــا عزيــزي! لــم أتوقــع أبـ ًـدا! يــا لهــا مــن مفاجــأة! هـ‬
‫غنيــا؟ تزوجــت؟ أنــا تزوجــت‬ ‫حبــوب كمــا كنــت! آه يــا إلهــي! كيــف أحوالــك؟ أصبحــت ًّ‬ ‫ّ‬
‫كمــا تــرى‪ ..‬وهــذه زوجتــي (لويـزا)‪ ،‬مــن عائلــة (فانســتباخ)‪ ..‬أمــا هــذا فابنــي (نفانائيــل)‪ ،‬تلميــذ‬
‫معــا فــي المدرســة‪.‬‬‫بالصــف الثالــث‪ .‬يــا (نفانيــا)‪ .‬هــذا صديــق طفولتــي‪ ،‬درســنا ً‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫وفكر (نفانائيل) قليل‪ ،‬ثم نزع ّقبعته‪.‬‬
‫ومضى النحيف يقول‪:‬‬
‫معــا فــي المدرســة! أتذكــر كيــف كانــوا يغيظونــك؟ بلقــب (هيروســتراتوس) أحرقــت‬ ‫ ـدرســنا ً‬
‫بالســيجارة كتــاب العهــدة‪ ،‬وكانــوا يغيظوننــي بلقــب (افيانتــوس) ألنــي كنــت أحـ ّ‬
‫ـب النميمــة‪.‬‬
‫ً‬
‫صغــارا! ال تخــف يــا (نفانيــا)‪ ..‬اقتــرب منــه‪ ..‬وهــذه زوجتــي‪ ،‬مــن عائلــة‬ ‫هــا هــا ‪ ..‬كــم ّكنــا‬
‫(فانســتباخ)‪.‬‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫وفكر (نفانائيل) قليل‪ ،‬ثم اختبأ خلف ظهر أبيه‪.‬‬
‫* ترجمة أبوبكر يوسف‪ ،‬دار رادوغا‪ ،‬موسكو‪.‬‬

‫‪49‬‬
‫عشر‬
‫َ‬ ‫الصف الثّاين‬

‫وسأل البدين وهو ينظر بإعجاب إلى صديقه‪:‬‬


‫ ـ كيف حالك يا صديقي؟ أين تخدم؟ وماذا بلغت في الخدمة؟‬
‫ّ‬
‫اخــدم يــا عزيــزي! بلغــت محكــم هيئــة ‪1‬منــذ ســنة‪ ،‬وأحمــل وســام (ستانســاف)‪ .‬الراتــب‬
‫دروســا فــي الموســيقى‪ ،‬وأنــا أصنــع علــب ســجائر مــن الخشــب‪،‬‬ ‫ســيء‪ ،‬فليكــن‪ .‬زوجتــي تعطــي ً‬
‫خصمــا ‪ّ .‬‬
‫ندبــر‬ ‫ً‬ ‫علــب ممتــازة! أبيعهــا الواحــدة بروبــل‪ .‬ومــن يشــتري عشــر علــب أو أكثــر أقــدم لــه‬
‫آ‬
‫أمورنــا كيفمــا كان‪ .‬أتــدري؟ كنــت أخــدم فــي إالدارة‪ ،‬وقــد نقلــت إلــى هنــا الن كرئيــس قســم فــي‬
‫الــوزارة نفســها‪ .‬ســوف أخــدم هنــا‪ .‬وأنــت‪ ،‬كيــف؟ أظنــك بلغــت مستشــار دولــة؟ هــه؟‬
‫فقال البدين‪:‬‬
‫السري" أحمل نجمتين‪.‬‬ ‫ ـال يا عزيزي‪ ،‬بل أعلى‪ ،‬لقد بلغت "المستشار ّ‬
‫وفجــأة امتقــع النحيــف‪ّ ،‬‬
‫وتجمــد‪ ،‬ولكــن ســرعان مــا التــوى فمــه فــي جميــع االتجاهــات ليصنــع‬
‫ابتســامة عريضــة للغايــة‪ .‬وبــدا وكأن الشــرار قــد تطايــر مــن وجهــه وعينيــه‪ .‬أمــا هــو فانكمــش‬
‫وتحـ ّـدب وضــاق‪ ،‬وانكمشــت حقائبــه وصــرره وعلبــه وتجعــدت‪ ..‬واســتطال ذقــن زوجتــه االطويــل‪.‬‬
‫وشـ ّـد (نفانائيــل) قامتــه ّ‬
‫وزرر جميــع أزرار ســترته‪.‬‬
‫ ـإننــي يــا صاحــب الســعادة مســرور جـ ًّـدا! صديــق الطفولــة‪ ،‬يعنــي‪ ،‬وإذا بــه يصبــح مــن الســادة‬
‫أ‬
‫ال كابــر! هــئ هــئ‪.‬‬
‫فامتعض البدين وقال‪:‬‬
‫أ‬
‫ ـدعك من هذا! ما هذه النبرة؟ إننا أصدقاء الطفولة‪ .‬فما معنى عبادة اللقاب هذه؟!‬
‫ّ‬
‫ ـالعفــو‪ ..‬مــاذا تقولــون‪ ..‬إن اهتمــام ســعادتكم الكريــم هــو كالبلســم الشــافي‪ ..‬هــذا هــو ابنــي‬
‫(نفانائيــل) يــا صاحــب الســعادة‪ ..‬وزوجتــي (لويــزا)‪.‬‬
‫وأراد البديــن أن يعــارض بشــيء مــا‪ ،‬ولكــن وجــه النحيــف كان يطفــح بالتبجيــل والتعبيــر‬
‫المعســول والخنــوع إلــى درجــة أثــارت الغثيــان فــي نفــس المستشــار السـ ّـري‪ .‬فأشــاح بوجهــه عــن‬
‫النحيــف‪ ،‬ومـ ّـد لــه يــده ّ‬
‫مود ًعــا‪.‬‬
‫ّ‬
‫وصافــح النحيــف ثــاث أصابــع وانحنــى بجســده كلــه‪ ،‬وضحــك كالصينــي‪" :‬هئ‪-‬هئ‪-‬هــئ"‬
‫أ‬
‫وابتســمت الزوجــة‪ ،‬ومســح (نفانائيــل) الرض بقدمــه وســقطت منــه القبعــة‪ .‬وكانــوا ثالثتهــم فــي‬
‫حالــة مــن الذهــول اللذيــذ‪.‬‬
‫‪  )1‬رتبة مدنية من الدرجة الثامنة في روسيا القيصرية‪.‬‬

‫‪50‬‬
‫ٌةفيدر ٌصصق ‪ٌ -‬تيب‬

‫بيت‬
‫ٌ‬
‫ابتسام املع ّلا‬
‫ُْ‬
‫عندمــا أغ ِلـ َـق البــاب الخارجـ ّـي بالمفتــاح‪ ،‬كانــت الســاعة تقتــرب مــن الرابعــة عصـ ًـرا‪ ،‬وكان‬
‫ٌ‬
‫الر ْيحــان المزروعــة فــي‬ ‫وهيــج ســيقان ّ‬‫رذاذ ناعـ ٌـم قــد بــدأ فــي نثــر لمعتــه علــى قبضــة البــاب ّ‬
‫الســور وبــاب المنــزل الداخلــي‪ ،‬ففاحــت رائحتهــا وطغــت‬ ‫الم ّبلطــة بيــن ّ‬
‫المســاحة الصغيــرة غبــر ُ‬
‫الســمك التــي كانــت َ‬
‫تفعــم البيــت الصغيــر‪.‬‬ ‫علــى بقايــا رائحــة ّ‬
‫َ‬ ‫ّ‬
‫يتدلــى ثـ ٌ‬ ‫علــى حبــل الغســيل الــذي كان يمتـ ّـد بيــن شـ ْ‬
‫ـوب برتقالـ ّـي مشـ َّـج ٌر‬ ‫ـجرتي لـ ْـوز كان‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬
‫ـروال أبيـ ٌ‬ ‫أ‬
‫ـض‪ ،‬ومنشــفة صغيــرة قانيــة الحمــرة‪ ،‬بــدا أنهــا كانــت علــى وشــك أن تجــف‬ ‫بالخضــر‪ ،‬وسـ‬
‫َ‬ ‫ّ‬
‫لــوال أن الـ ّـرذاذ عــاد فرطبهــا مــن جديــد‪.‬‬
‫أبــواب الغــرف كانــت مغلقــة‪ ،‬لكــن رائحــة الســمك المنبعثــة مــن بــاب المطبــخ المفتــوح‬
‫أ‬ ‫ّ‬
‫تســر بت مــن تحــت البــواب وتداخلــت مــع الهــواء‪.‬‬
‫ّ‬ ‫الســمك وانفــرد وحــده برائحــة ّ‬ ‫الحمــام وحــده نجــا مــن رائحــة ّ‬
‫ّ‬
‫الحنــاء الــذي ظلــت بقايــاه‬
‫الطاســة ّ‬ ‫ّ‬
‫الصغيــرة التــي اســتخدمتها صاحبتهــا لصبــغ شــعرها‪ّ ،‬ربمــا قبــل خروجهــا‬‫الفضيــة ّ‬ ‫فــي‬
‫ّ‬
‫بســاعات؛ إذ تبــدو الملعقــة المتروكــة فــي الطاســة وقــد يبــس عليهــا عجيــن ّ‬
‫الحنــاء دون أن تخبــو‬
‫الرائحــة‪.‬‬
‫لــوال الضــوء المنبعــث مــن إحــدى الغــرف الثــاث‪ ،‬وبالــذات مــن ذلــك الخيــط أســفل الباب‪،‬‬
‫ّ‬ ‫ً‬
‫غارقــا فــي ظلمــة ال ُت َ‬ ‫ّ‬
‫حتمــل‪ ،‬وال يبــدو أن الضــوء كان منسـ ًّـيا؛ فثمــة‬ ‫ومــن فتحــة القفــل لظــل البيــت‬
‫مــن تركــه‪ ،‬ربمــا لتبديــد وحشــة البيــت‪ ،‬ولكــي ال تشــعر تلــك الغرفــة وصالــة الضيــوف المطلــة‬
‫ـأي نــوع مــن أنــواع الغربــة لخلـ ّـو المــكان‪ّ .‬أمــا تلــك الغرفــة المضــاءة فهــي أكثــر غــرف‬ ‫عليهــا بـ ّ‬
‫البيــت امتــاء بالحيــاة‪ ،‬ففيهــا ســرير قديــم كبيــر الحجــم‪ ،‬بأرجــل أســطوانية قصيــرة‪ ،‬يأخــذ نصــف‬
‫ورديــة تطـ ّـل مــن تحــت غطــاء صوفـ ّـي ســميك‪ ،‬يوحــي مـ ُ‬ ‫مغطــى بمــاءة ّ‬ ‫ّ‬ ‫مســاحتها ً‬
‫ـرآه‬ ‫تقريبــا‪ ،‬وهــو‬
‫أ‬ ‫بالــدفء‪ُ ،‬بنـ ُّـي اللــون ومزخــرف بــورود كبيــرة ّ‬
‫متفتحــة‪ ،‬وقــد انســدل جانـ ٌ‬
‫ـب منــه علــى الرض‪،‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫المخدتــان اللتــان لهمــا نفــس لــون‬ ‫وأطلــت تلــك العالمــة التــي تقــول‪ّ . Made in China :‬أمــا‬
‫المــاءة الورديــة فتتوســط إحداهمــا بقعــة كبيــرة ِدبقــة‪ ،‬وبضــع شــعيرات بيضــاء خالــط لونهــا لــون‬
‫حنــاء قديــم‪.‬‬‫ّ‬

‫‪51‬‬
‫عشر‬
‫َ‬ ‫الصف الثّاين‬

‫ّ‬
‫علــى الكوميدينــو المالصــق للســرير مــن جهــة اليميــن تصطــف علــب وزجاجــات أدويــة‪،‬‬
‫وبخــاخ صغيــر ّللر بــو‪ ،‬والريمــوت كنتــرول الخــاص بالتلفزيــون وزجاجــة مــاء مقلــوب علــى رأســها‬ ‫ّ‬
‫اليســر ّ‬ ‫أ‬ ‫ّ‬
‫فتتكــئ عليــه ثــاث صــور‪ ،‬إحداهــا بإطــار فضـ ّـي‬ ‫كأس ذو حافــة ذهبيــة‪ّ .‬أمــا الكوميدينــو‬
‫وفيهــا صــورة شــاب علــى يخلــو مــن وســامة‪ ،‬يبــدو فــي الرابعــة أو الخامســة عشــرة‪ ،‬يرتــدي مالبــس‬
‫أ‬
‫المدرسة‪،‬ويبتســم‪ ،‬وقــد وضــع إحــدى يديــه فــي جيبــه‪ ،‬بينمــا احتضــن الكــرة باليــد الخــرى‪.‬‬
‫أ‬
‫الصــورة الثانيــة إطارهــا أســود حائــل اللــون‪ ،‬وفيهــا تجلــس امـرأة تبــدو فــي نهايــة الربعينــات‪،‬‬
‫ّ‬ ‫ترتــدي ً‬
‫ثوبــا ذا ألــوان صارخــة‪ ،‬كان يطــل مــن عباءتهــا المفتوحــة‪ ،‬وحــول رقبتهــا سلســلة عريضــة‬
‫أ‬ ‫ّ‬
‫مــن الذهــب تتدلــى مــن وســطها دائــرة ذات شــذرات تشــبه تلــك التــي فــي خالخيــل الطفــال‪.‬‬
‫تمامــا فــي الســيطرة علــى خجلهــا وابتســامتها‪.‬‬ ‫تنظــر الم ـرأة إلــى الكامي ـرا مباشــرة دون أن ُت ْف ِلـ َـح ً‬
‫تمامــا يجلــس رجــل أكبــر منهــا قليــا‪ ،‬يرتــدي دشداشــة بيضــاء ويضــع يديــه فــي‬ ‫إلــى جوارهــا ً‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫الصــورة يشــك فــي أن الرجــل كان ينظــر‬ ‫وثمــة َحـ َـو ٌل خفيــف فــي عينيــه يجعــل مــن يــرى ّ‬ ‫حضنــه‪ّ ،‬‬
‫إلــى الكامي ـرا لحظــة التصويــر‪ .‬خلفهمــا مباشــرة وفــي منتصــف الصــورة تقريبــا كان يقــف شــاب‬
‫ّ‬
‫بــدا نصفــه العلــوي فقــط‪ ،‬يرتــدي مالبــس رياضــة حمـراء اللــون‪ ،‬وقــد خــط وجهــه شــارب ناعــم‪،‬‬
‫وكانــت مالمحــه تشــى بعــدم رغبتــه فــي أن يكــون فــي الصــورة‪ .‬أمــا الصــورة الثالثــة فإطارهــا ذهبـ ّـي‬
‫مزخــرف وثقيــل وفــي أربعــة أطفــال‪ ،‬بنتــق وثالثــة أوالد‪ ،‬يجلســون علــى خلفيــة بنفســجية ذات‬
‫فقاعــات متفاوتــة الحجــم‪ ،‬يضحكــون للكامي ـرا‪ ،‬وقــد انكشــف فــم أوســطهم عــن سـ ّـن مفقــودة‪.‬‬
‫هنــاك فــي إحــدى زوايــا الغرفــة المواجهــة للســرير تنتصــب طاولة مــن الخيــزران عليهــا تلفزيون‬
‫متوســط الحجــم وراديــو وغرامفــون مغبـ ّـر‪ ،‬كأنــه موجــود للزينــة فحســب‪ ،‬ومسـ ّـجل متهالــك يبــدو‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬
‫الفضيــة التــي تغطيــه‪ ،‬تصطــف بالقــرب منــه‬ ‫خدم لســنوات طويلــة حتــى تقشــرت الطبقــة‬ ‫أنــه اســت ِ‬
‫أشــرطة كاســيت ذات أغلفــة باهتــة لعلــي بــن روغــة وجابــر جاســم وميحــد حمــد‪ ،‬وإلــى جانبهــا‬
‫منوعــة مــن العطــور التــي تحتــوي‬ ‫حجمــا تتكـ ّـدس عليهــا قواريــر صغيــرة ّ‬ ‫طاولــة أخــرى أصغــر ً‬
‫ّ‬
‫ســوائل ثخينــة‪ ،‬بعضهــا متخثــر بفعــل الزمــن‪ .‬أعلــى طاولــة العطــور تمامــا توجــد مــرآة مســتطيلة بهــا‬
‫شــرخ صغيــر لكنــه واضــح‪ّ .‬أمــا فــي الزاويــة المقابلــة فيقــف ِمشــجب جديــدن ال يتناســب وباقــي‬
‫ّ‬ ‫أ‬
‫الثــاث القديــم فــي الغرفــة‪ُ ،‬علـ َـق عليــه ثــوب ُ"م َخـ ّـور" جيبــه مند ِلــع‪ ،‬وشــيلة ســوداء معقــود أحــد‬
‫ّ‬
‫أطرافهــا علــى هيئــة ُصـ ّـر ٍة صغيــرة‪ ،‬وقماشــة أخــرى كالشــال تــكاد تنزلــق مــن ضلــع المشــجب‪،‬‬
‫ُ َ‬
‫بينمــا تـ ِـرك الضلــع الرابــع خاليــا‪.‬‬

‫‪52‬‬
‫ٌةفيدر ٌصصق ‪ٌ -‬تيب‬

‫أ‬ ‫أ‬
‫علــى الحائــط اليمــن يســتند دوالب مالبــس بثالثــة أبــواب مغلقــة‪ ،‬يقابلــه فــي الحائــط اليســر‬
‫صنــدوق فضـ ّـي َّ‬
‫منجــم‪ ،‬يمكــن أن يثيــر فضــول كل مــن تقــع عينــه عليــه‪ ،‬تســتند عليــه تكيــة قديمــة‬
‫بجانبهــا سـ ّـجادة صــاة ظاهــر مــن أد طرفيهــا خيــط مســبحة قديمــة بخــرزات خضـراء ناعمــة‪.‬‬
‫أ‬ ‫هنــاك لوحــة ورقيــة كبيــرة ّ‬
‫مثبتــة علــى الجــدار بأشــرطة الصقــة عنــد زواياهــا الربــع‪ ،‬وهــي رســم‬
‫أ‬
‫باللــوان المائيــة الم ـرأة ورجــل يقفــان كحارســين‪ ،‬بينمــا يتوســطهما طفــل يرتــدي ثيابــا مخططــة‪،‬‬
‫وطفلــة فــي مثــل طولــه ً‬
‫تقريبــا ‪ ،‬تضــع يدهــا فــي يــده‪ ،‬وترتــدي فســتانا أزرق اللــون علــى شــكل‬
‫مثلــث‪ .‬إلــى جــوار الرجــل تنتصــب شــجرة لهــا جــذع ســميك‪ ،‬لكـ ّـن أوراقهــا علــى شــكل ســعف‬
‫أ‬ ‫ّ‬
‫النخلــة‪ ،‬وخلــف العائلــة الصغيــرة تطــل شــمس هــي مزيــج مــن اللونيــن البرتقالــي والصفــر‪ ،‬كبيــرة‬
‫جـ ًّـدا‪ ،‬ولهــا أشــعة علــى هيئــة خطــوط صف ـراء عريضــة تمتــد إلــى حــدود الورقــة‪ ،‬وهنــاك‪ ،‬عنــد‬
‫أ‬
‫أســفل الزاويــة اليمنــى يتــوارى وراء اللــوان توقيــع باهــت بالرصــاص‪ ،‬مرســوم بأحــرف مضحكــة‬
‫وغيــر متناســقة "مريــم"‪.‬‬
‫خــارج ســور ذلــك البيــت كانــت ترتفــع نــداءات وضحــكات صبيــة كانــوا يلعبــون الكــرة‪،‬‬
‫ويتصايحــون "شــبير" ‪"..‬موهاميــد" ‪ ..‬أرشــد" ‪ .‬ثـ ّـم فجــأة‪ ،‬اهتـ ّـز ســكون البيــت بصــوت طرقــات علــى‬
‫البــاب‪ ،‬بــدأت متباعــدة ثــم تواصلــت‪.‬‬
‫ّ‬
‫جــاء صــوت طفــل مــن بعيــد يقــول إنــه رأى العجــوز تخــرج مــن البيــت قبــل فتــرة‪ ،‬وآخــر يقــول‬
‫ربمــا تكــون نائمــة‪ ،‬لكـ ّـن الصبـ ّـي الــذي كان يطــرق البــاب واصــل الطــرق بإلحــاح وهــو يصبــح علــى‬
‫رفاقــه بأنهــم لــن يتمكنــوا مــن مواصلــة اللعــب دون الكــرة‪.‬‬
‫ّ‬
‫أجابه آخر‪ :‬لماذا ال تتسلق السور وتجلبها ما دامت المرأة ليست في البيت؟‬
‫ال‪ .‬ال تفعل‪ .‬قد تكون موجودة‪.‬‬
‫ً‬
‫ال تكن جبانا‪ .‬اركب على ظهري‪.‬‬
‫سأجلب الدرج من بيتنا‪.‬‬
‫أي وقت‪ ،‬وستحدث مشكلة‪.‬‬ ‫ال‪ّ .‬إياكم أن تفعلوا‪ .‬قد تصل في ّ‬
‫ّ‬
‫وفي البيت رن جرس الهاتف طويال‪ ،‬ولم يرد أحد‪.‬‬

‫‪53‬‬
‫عشر‬
‫َ‬ ‫الصف الثّاين‬

‫‪54‬‬
‫ٌةفيدر ٌصصق ‪ -‬خلا حرجلا‬

‫اجلرح اخلفي‬
‫كارويل كسفلودي‬
‫ً‬
‫فــي الصبــاح المبكــر والطبيــب الج ـراح مــازال فــي فراشــه‪ ،‬خابــره خادمــه بالهاتــف قائــا‪ :‬إن‬
‫ً‬
‫هنــاك زائـ ًـرا مســتعجل يلــح علــى أن حالتــه خطــرة‪ ،‬وال يمكــن تأخيــره دقيقــة واحــدة‪ ،‬فســارع‬
‫الطبيــب إلــى لبــس ثيابــه‪ ،‬ثــم قــرع الجــرس مشـ ًـيرا إلــى خادمــه بإدخــال المريــض‪.‬‬
‫ً‬
‫كان الداخــل رجــا يظهــر عليــه مــن أول وهلــة أنــه ينتمــي إلــى خيــر الطبقــات االجتماعيــة‪،‬‬
‫كانــت يــده اليمنــى معلقــة فــي ربــاط عنقــه‪ ،‬ووجهــه الشــاحب وتصرفاتــه العصبيــة تنــم عــن عذاب‬
‫أ‬
‫جســمي يقاســيه‪ ،‬ومــع أنــه كان يســيطر علــى قســمات وجهــه كانــت آهــة مــن اللــم تنطلــق مــن بيــن‬
‫آ‬
‫شــفتيه بيــن الحيــن والخــر‪.‬‬
‫ ـتفضل اجلس‪ ،‬ماذا أستطيع أن أفعل من أجلك؟‬
‫ّ‬ ‫ً‬ ‫لــم أذق النــوم أسـ ً‬
‫ـبوعا كامــا؛ إن يــدي اليمنــى ليســت علــى مــا ي ـرام‪ ،‬وال أعــرف مــا الــذي‬
‫ً‬
‫ـرطانا‪ ،‬أو ً‬
‫مرضــا آخــر ً‬
‫رهيبــا‪ ،‬لــم تزعجنــي فــي البدايــة‪ ،‬ولكــن حالتهــا مؤخـ ًـرا‬ ‫أصابهــا‪ ،‬قــد يكــون سـ‬
‫ألمــا يشــتد ســاعة بعــد ســاعة حتــى بلــغ‬ ‫ســاءت كثيـ ًـرا‪ ،‬وأصبحــت وكأنهــا تحتــرق‪ ،‬إنهــا تؤلمنــي ً‬
‫حـ ًّـدا ال يطــاق؛ ولهــذا أتيــت الستشــارتك‪ ،‬إذا تحملتــه ســاعة أخــرى فإنــي صائــر إلــى الجنــون ال‬
‫أ‬
‫محالــة إنــي أطلــب إليــك أن تحــرق موضــع اللــم‪ ،‬أو أن تقطعــه‪ ،‬افعــل أي شــيء ترتئيــه‪ ،‬فطمأنــه‬
‫الجـراح بأنــه قــد ال يحتــاج إلــى عمليــة جراحيــة‪.‬‬
‫أ‬
‫ً‬
‫خصيصــا لقطــع‬ ‫غيــر أن الزائــر ألـ ّـح‪" :‬ال‪ ،‬ال‪ ،‬يجــب أن تجــري عمليــة جراحيــة لننــي أتيــت‬
‫الموضــع الممــروض‪ ،‬ولــن يســعفني شــيء آخــر"‪ ،‬ثــم ســحب يــده مــن الربــاط بمشــقة زائــدة‪،‬‬
‫وتابــع‪:‬‬
‫ ـأرجوك ال تندهش إذا لم تر على يدي أثر جرح ظاهر‪ ،‬إن قضيتي غير عادية ً‬
‫أبدا‪.‬‬
‫أ‬
‫فأكــد لــه الطبيــب أنــه ليــس مــن الذيــن يدهشــون فــي الحــوال غيــر االعتياديــة‪ ،‬ولكــن بعــد أن‬
‫ً ً‬
‫فحــص يــده جيـ ًـدا‪ ،‬أســقطها باســتغراب كبيــر‪ ،‬لــم يــر فيهــا أي شــيئا بتاتــا‪ ،‬ولــم يكــن لونهــا متغيـ ًـرا‪ .‬لقــد‬
‫ً‬ ‫كانــت كأي يــد عاديــة أخــرى‪ .‬ولكــن‪ ،‬مــع كل هــذا‪ ،‬كان مــن الظاهــر أن الرجــل يقاســي ً‬
‫ألمــا هائــا‪،‬‬

‫* كاتب مجري (‪.)1890-1954‬‬

‫‪55‬‬
‫عشر‬
‫َ‬ ‫الصف الثّاين‬

‫ً‬ ‫ّ‬
‫والطريقــة التــي أمســك بهــا يــده اليمنــى بيــده اليســرى عندمــا أســقطها الطبيــب كانــت برهانــا علــى‬
‫هــذه الحقيقــة‪.‬‬
‫قال الطبيب‪" :‬أين يؤلمك؟"‬
‫فأشــار المريــض إلــى بقعــة مســتديرة بيــن العرقيــن الكبيريــن‪ ،‬ولكنــه خطــف يــده بســرعة‬
‫عندمــا لمــس الطبيــب موضعهــا بحــذر بطــرف إصبعــه‪.‬‬
‫ ـهل هناك موضع ألمك؟‬
‫ ـنعم‪ .‬إنه ألم شديد‪.‬‬
‫ ـهل تشعر بالضغط عندما أضع إصبعي عليها؟‬
‫ّ‬
‫فلــم يســتطع الرجــل الكلام‪ ،‬ولكــن الدمــوع التــي اغرورقــت بهــا عينــاه أفصحــت عــن الجــواب‪،‬‬
‫فأخــذ الطبيــب مجهـ ًـرا‪ ،‬وفحصهــا مــرة أخــرى بعنايــة فائقــة‪ ،‬ثــم قــاس حرارتــه‪ ،‬وفــي النهايــة هــز رأســه‪،‬‬
‫وقال‪:‬‬
‫ ـإن الجلــد فــي حالــة صحيــة تامــة‪ ،‬والعــروق طبيعيــة‪ ،‬وال التهــاب هنــاك وال انتفــاخ‪ ،‬إن يــدك‬
‫طبيعيــة كأيــة يــد متعافيــة‪.‬‬
‫ً‬ ‫أ‬
‫ ـأظن أن موضع اللم أكثر احمر ًارا قليل‪.‬‬
‫ ـأين؟‬
‫فرسم المريض دائرة على ظهر يده في حجم الفلس وقال‪" :‬هنا"‪.‬‬
‫فنظــر الطبيــب إلــى الرجــل‪ ،‬وجعــل يتســاءل لعــل مريضــة ذاك معتــوه‪ ،‬ثــم قــال لــه‪" :‬عليــك‬
‫أ‬ ‫ً‬
‫أن تمكــث فــي المدينــة‪ ،‬وســأحاول أن أفعــل شــيئا لمســاعدتك فــي اليــام القليلــة القادمــة"‪.‬‬
‫ ـال أســتطيع االنتظــار ليلــة واحــدة‪ ،‬وال تفكــر‪ -‬يــا حضــرة الطبيــب‪ -‬بأنــي مختــل أو أســير وهــم مــن‬
‫أ‬
‫الوهــام‪ ،‬إن هــذا الجــرح الخفــي يؤلمنــي وبشــدة‪ ،‬وإنــي أطلــب إليــك أن تقطــع هــذا الموضــع‬
‫ً‬
‫المســتدير عميقــا حتــى العظــم‪.‬‬
‫عطبا في يدك‪.‬‬‫ ـلن أفعل ذلك يا سيدي‪ ،‬ألنني ال أرى ً‬

‫فقال المريض‪:‬‬

‫‪56‬‬
‫ٌةفيدر ٌصصق ‪ -‬خلا حرجلا‬

‫ً‬ ‫ً‬
‫ضخمــا‬ ‫ ـيظهــر أنــك تظننــي مــن المجاذيــب‪ ،‬أو أننــي أخادعــك‪ ...‬ثــم أخــرج مــن محفظتــه مبلغــا‬
‫مــن المــال ووضعــه علــى المكتبــة‪ ،‬وتابــع الكمــه‪" :‬هــل أنــت تــرى أن قضيتــي خطيــرة‪ ،‬حتــى‬
‫أننــي أدفــع ر ً‬
‫اضيــا مبلــغ ألــف مــن الدراهــم إلجـراء العمليــة‪ ،‬أرجــوك أن تقــوم بهــا‪...‬‬
‫ً أ‬
‫صحيحــا‪ ،‬لن ذلــك مخالــف لمبــادئ‬ ‫ ـلــو دفعــت لــي جميــع أمــوال الدنيــا لــن أمــس عضـ ًـوا‬
‫المهنــة‪ ،‬فســوف يدعــوك النــاس أحمــق‪ ،‬ويتهموننــي بأنــي غــررت بــك‪ ،‬واســتفدت مــن ضعفــك‪،‬‬
‫أو ســيفضحونني بأنــي لــم أســتطع تشــخيص جــرح ال وجــود لــه"‪.‬‬
‫ً‬
‫ ـحسـ ًـنا يــا ســيدي‪ ،‬أرجــو أن تســدي لــي معروفــا غيــر هــذا‪ ،‬أنــا ســأقوم بإجـراء العمليــة بنفســي‪،‬‬
‫مــع أن يــدي اليســرى أضعــف مــن أن تقــوم بعمــل كهــذا‪ ،‬فــكل مــا أطلبــه إليــك هــو أن تعتنــي‬
‫بالجــرح بعــد أن أقــوم بالعمليــة‪.‬‬
‫فـرأى الطبيــب والدهشــة تمتلكــه أن الرجــل كان جـ ً‬
‫ـادا فيمــا قالــه‪ ،‬إذ رآه ينــزع معطفــه‪ ،‬ويرفــع‬
‫أكمــام قميصــه‪ ،‬وبعــد هــذا أخــرج ســكينه الصغيــرة مــن جيبــه‪ ،‬وقبــل أن يســتطيع الطبيــب‬
‫ً‬ ‫االعت ـراض أحــدث ً‬
‫جرحــا عميقــا فــي يــده‪.‬‬
‫فصاح الطبيب‪" :‬قف! إن كنت ترى أن العملية ضرورية فسأجريها أنا"‪.‬‬
‫ً أ‬
‫جانبــا‪ ،‬لن المــرء عــادة يفــزع مــن رؤيــة دمــه‪،‬‬ ‫ثــم أمســك بيــده‪ ،‬وأشــار عليــه بــأن يديــر وجهــه‬
‫فقــال الزائــر‪" :‬الك يــا ســيدي يتحتــم علــى أن أقــود يــدك فــي إج ـراء العمليــة لكــي تعــرف أيــن‬
‫وكيــف تبضــع اللحــم"‪.‬‬
‫تحمــل الرجــل العمليــة بشــجاعة نــادرة‪ ،‬فلــم ترتعــش يــده قــط‪ ،‬ولمــا قطعــت البقعــة المســتديرة‬
‫مــن علــى ظهــر يــده تنهــد بارتيــاح وشــعر بالفــرج كأنمــا أزيــح حمــل ثقيــل عــن كاهلــه‪.‬‬
‫آ‬
‫قال الطبيب‪" :‬أال تشعر بأي ألم الن؟"‬
‫ّ‬ ‫ً‬
‫فابتســم الزائــر وقــال‪" :‬مطلقــا‪ ،‬كأنهــا قــد اجتثــت مــن الجــذور‪ ،‬ومــا الوجــع الطفيــف الــذي‬
‫ّ‬
‫ســببه التبضيــع إل كنســمة هــواء بــاردة بعــد نــار محرقــة‪ ،‬دع الــدم يســيل؛ إنــه يريحنــي"‬
‫ً‬
‫وبعــد أن ضمــد الطبيــب الجــرح الح علــى الرجــل أنــه قانــع وســعيد‪ ،‬لقــد أصبــح رجــا آخــر‪،‬‬
‫فضغــط بيسـراه علــى يــد الطبيــب بامتنــان وقــال لــه‪" :‬إنــي فــي الحــق مديــن لــك بشــكر عظيــم"‪.‬‬
‫زار الطبيــب مريضــه فــي فندقــه لعــدة أيــام بعــد إج ـراء العمليــة‪ ،‬فعــرف كيــف يحتــرم هــذا‬

‫‪57‬‬
‫عشر‬
‫َ‬ ‫الصف الثّاين‬

‫أ‬ ‫الرجــل ّالــذي يشــغل ً‬


‫منصبــا ًّ‬
‫هامــا فــي الريــاف‪ ،‬وهــو ذو ثقافــة عاليــة‪ ،‬وينتمــي إلــى عائلــة مــن‬
‫أبــرز العائــات هنــاك‪.‬‬
‫وبعــد أن شــفي الجــرح ً‬
‫تمامــا رجــع الرجــل إلــى بلدتــه فــي الريــف‪ ،‬ولكــن بعــد ثالثــة أســابيع‬
‫أ‬
‫ظهــر ثانيــة فــي عيــادة الطبيــب‪ ،‬ويــده معلقــة فــي الربــاط حــول عنقــه‪ ،‬يشــكو اللــم نفســه فــي تلك‬
‫البقعــة نفســها ّالتــي أجريــت عليهــا العمليــة‪ ،‬وكان وجهــه شـ ً‬
‫ـاحبا كالشــمع‪ ،‬والعــرق البــارد يلتمــع‬
‫علــى جبينــه‪ ،‬فجلــس ودون أن ينطــق بكلمــة واحــدة مــد يــده اليمنــى إلــى الطبيــب ليفحصهــا‪.‬‬
‫أ‬
‫قــال لــه وهــو يئــن‪" :‬إنــك لــم تتعمــق فــي تبضيــع البقعــة‪ ،‬ولذلــك عــاد اللــم ثانيــة‪ ،‬ال بــل‬
‫عــاد أســوأ بكثيــر ممــا كان‪ ،‬إننــي هالــك ال محالــة‪ ،‬لــم أشــأ فــي البدايــة أن أزعجــك مــرة أخــرى‪،‬‬
‫أ‬
‫فتحملــت اللــم بصبــر‪ ،‬ولكننــي لــم أعــد أطيقــه أبـ ًـدا‪ ،‬يجــب أن تجــري العمليــة ثانيــة"‪.‬‬
‫فحــص الطبيــب مــكان البقعــة فوجــد أنهــا قــد اكتســت بجلــد ناعــم جديــد وتعافــت ً‬
‫تمامــا‪.‬‬
‫ومــع أن النبــض كان ًّ‬
‫عاديــا‪ ،‬ولــم تكــن هنــاك أيــة حمــى‪ ،‬كان الرجــل يرتجــف فــي كل عضــو مــن‬
‫أعضائــه‪.‬‬
‫قال الطبيب‪" :‬غريب‪ ،‬إنني لم أسمع بشيء كهذا من قبل"‪.‬‬
‫لــم يكــن بـ ّـد مــن إجـراء العمليــة ثانيــة‪ ،‬فقــام بهــا الطبيــب‪ ،‬وانتهــت كالمــرة الســابقة‪ ،‬فتوقــف‬
‫ً‬ ‫أ‬
‫اللــم حــال‪ ،‬وشــعر المريــض بالفــرج‪ ،‬غيــر أنــه لــم يبتســم هــذه المــرة‪ ،‬شــكر الطبيــب وهــو‬
‫فــي حالــة مــن أشــد حــاالت البــؤس والتعاســة‪ ،‬وعندمــا اســتأذن باالنص ـراف قــال‪" :‬أرجــو أن ال‬
‫تســتغرب إذا مــا عــدت إليــك ثانيــة خــال شــهر"‪.‬‬
‫ ـيجب أال تفكر فيها‪.‬‬
‫ ـأنا متأكد من أنني راجع إليك‪ .‬إلى اللقاء‪.‬‬
‫ً آ‬
‫بحــث الطبيــب فــي هــذه الحالــة مــع عــدد مــن زمالئــه‪ ،‬فأبــدى كل منهــم ر ًأيــا مخالفــا للخــر‪،‬‬
‫إيضاحــا ً‬
‫مقنعــا‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ولكــن لــم يســتطع أحــد منهــم أن يقــدم‬
‫مــر شــهر ولــم يظهــر المريــض‪ ،‬وبعــد انص ـرام أســابيع أخــرى‪ ،‬لــم يــأت المريــض‪ ،‬بــل أتــت‬
‫منــه رســالة‪ ،‬فتحهــا الطبيــب ً‬
‫فرحــا وهــو يظــن أن مريضــه قــد شــفي‪ .‬وراح يق ـرأ‪:‬‬
‫{ســيدي الطبيــب‪ :‬أنــا ال أريــد أن أتــركك فــي شــك مــن أمــر شــقائي ومنشــئه‪ ،‬وكذلــك ال‬

‫‪58‬‬
‫ٌةفيدر ٌصصق ‪ -‬خلا حرجلا‬

‫يهمنــي أن أحمــل ســره معــي إلــى قبــري‪ ،‬أنــا فــي أشــد الشــوق إلــى اطالعــك علــى تاريــخ مرضــي‬
‫آ‬
‫الهائــل‪ ،‬لقــد عــاد علــي ثــاث م ـرات فــي هــذه الفتــرة‪ ،‬وال أريــد أن أقاومــه بعــد الن‪ .‬وهــا أنــا‬
‫آ‬
‫أكتــب إليــك الن بيــدي اليمنــى‪ ،‬ولكــن بعــد أن وضعــت علــى مــكان البقعــة جمــرة نــار كتريــاق‬
‫ّ‬
‫مســكن للنــار الجهنميــة التــي تحتــرق فيهــا‪.‬‬
‫ثريــا ً‬
‫وقانعــا‪ ،‬أجــد لــذة فــي كل مــا‬ ‫قبــل أشــهر ســتة كنــت أســعد رجــل فــي الدنيــا‪ ،‬كنــت ًّ‬
‫ينجــذب إليــه رجــل فــي الخامســة والثالثيــن مــن عمــره؛ تزوجــت قبــل ســنة‪ ،‬وكانــت زوجتــي فتــاة‬
‫لطيفــة مثقفــة وفــي غايــة الجمــال‪ ،‬وكانــت صديقــة لكونتيســة ال يبعــد قصرهــا كثيـ ًـرا عــن أمالكــي‪،‬‬
‫مـ ّـرت علــي ســتة أشــهر وأنــا أهنــأ مــا يكــون إنســان‪ ،‬وكل يــوم يأتينــي بســعادة أعظــم مــن ســابقه‪،‬‬
‫كانــت تســير مســافة أميــال علــى الطريــق لمالقاتــي كلمــا اضطــررت للنــزول إلــى المدينــة‪ ،‬ومــا‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫كانــت لتمكــث أكثــر مــن بضــع ســاعات عنــد مربيتهــا التــي كانــت تتــردد عليهــا أحيانــا‪ ،‬بــل إن‬
‫مجــرد ظهــور أحــد غيــري فــي أحالمهــا كان عندهــا جريمــة ال تغتفــر! وباالختصــار كانــت طفلــة‬
‫جميلــة بريئــة‪.‬‬
‫ّ‬
‫غيــر أننــي ال أدري مــا الــذي ســاقني إلــى االعتقــاد بــأن هــذا إنمــا هــو تظاهــر منهــا‪ .‬لقــد بلــغ‬
‫ً‬
‫إالنســان فــي الحماقــة مــا يجعلــه يســعى مفتشــا عــن الشــقاء وهــو فــي أوج ســعادته‪.‬‬
‫ً‬
‫مغلقــا ً‬
‫تمامــا‪ ،‬فأخــذ هــذا يعذبنــي‪ ،‬وقــد‬ ‫كانــت لديهــا آلــة خياطــة صغيــرة‪ ،‬تحتفــظ بدرجهــا‬
‫مفتوحــا أبـ ًـدا! فمــا هــو هــذا‬
‫ً‬ ‫الحظــت م ـر ًارا أنهــا ال تتــرك المفتــاح علــى الــدرج‪ ،‬وأنهــا ال تتركــه‬
‫ّ‬
‫الشــيء الــذي تخبئــه عنــي بهــذا الحــرص الشــديد؟ أخــذت الغيــرة تنهشــني‪ ،‬لــم أصــدق عينيهــا‬
‫ً‬
‫خداعــا ومكـ ًـرا؟‬ ‫البريئتيــن‪ ،‬أال يجــوز أن يكــون كل ذلــك‬
‫أ‬
‫وفــي يــوم مــن اليــام أتــت صديقتهــا الكونتيســة‪ ،‬وأغرتهــا بالذهــاب معهــا لتقضــي ذلــك اليــوم‬
‫فــي قصرهــا‪ ،‬ووعدتهــا بأنــي ســألحق بهمــا بعــد الظهــر‪.‬‬
‫ومــا كادت العربــة تتحــرك مــن فنــاء الــدار حتــى ابتــدأت فــي معالجــة فتــح ذلــك الــدرج‪،‬‬
‫ّ‬
‫وإذا بأحــد المفاتيــح التــي جربتهــا يفتحــه فــي النهايــة‪ ،‬وبعــد أن بعثــرت عــدة أشــياء نســوية مــن‬
‫محفظــة حريريــة وجــدت رزمــة مــن الرســائل‪ ،‬يســتطيع المــرء إدراك ماهيتهــا مــن أول نظــرة‪،‬‬
‫كانــت بالطبــع رســائل غراميــة مربــوط بشــريط قرنفلــي‪.‬‬
‫أ‬
‫لــم أقــف لتــروى بأنــه ليــس مــن الشــرف أن أفتــش عــن أس ـرار زوجتــي أيــام الصبــا! ولكــن‬

‫‪59‬‬
‫عشر‬
‫َ‬ ‫الصف الثّاين‬

‫ّ‬
‫الدافــع الــذي حثنــي علــى االســتمرار هــو أنهــا ربمــا كتبــت تلــك الرســائل بعــد أن حملت اســمي‪...‬‬
‫أ‬
‫فككــت الشــريط وقرأتهــا بأكملهــا‪ ،‬الواحــدة تلــو الخــرى‪.‬‬
‫كانت تلك الساعة أرهب ساعة في حياتي‪.‬‬
‫لقــد كشــفت الرســائل عــن أعظــم خيانــة اقترفهــا إنســان ضــد إنســان! كان كاتبهــا أعــز صديــق‬
‫لــدي‪ ...‬أمــا لهجتهــا فقــد كشــفت عــن ألفــة حميمــة عميقــة‪ ،‬وعبــرت عــن أرق المشــاعر والعواطــف‪.‬‬
‫كــم كان يحثهــا علــى التكتــم! ثــم يشــير عليهــا بمــاذا تفعــل لكــي تخــدع زوجهــا وتتركــه فــي غفلتــه!‬
‫لقــد كتبــت الرســائل كلهــا بعــد زواجنــا‪ ،‬وكنــت أظــن بأننــي ســعيد! ال أريــد أن أصــف مشــاعري‪.‬‬
‫لقــد شــربت الســم حتــى آخــر قطــرة‪.‬‬
‫طويت الرسائل‪ ،‬وأرجعتها إلى مخبئها ثانية‪ ،‬ثم أغلقت الدرج‪.‬‬
‫كنــت أعلــم أننــي إذا لــم أذهــب إلــى القصــر فســترجع فــي المســاء‪ ،‬وهــذا مــا حصــل بالفعــل‪،‬‬
‫قفــزت مــن العربــة بجــذل‪ ،‬وخفــت للقائــي فــي الــرواق بمنتهــى الرقــة‪ ،‬فتظاهــرت كأنمــا لــم يحدث‬
‫أي شــيء‪.‬‬
‫أعمتنــي الغيــرة‪ ،‬وســيطر علــي الغضــب‪ ،‬فخنقتهــا‪ ،‬وســقطت قطــرة دم علــى يــدي‪ ،‬لــم أالحظهــا‬
‫ّ‬
‫إل فــي الصبــاح‪.‬‬
‫ولمــا رجعــت إلــى البيــت كانــت الكونتيســة قــد وصلــت فــي الوقــت نفســه‪ ،‬لقــد أتــت متأخــرة‬
‫أ‬ ‫أ‬
‫فلــم تلحــق الجنــازة؛ لننــي كنــت قــد رتبــت هــذا عــن عمــد وقصــد‪ ،‬كانــت متوتــرة العصــاب‪،‬‬
‫ومضطربــة أشــد االضطـراب‪ ،‬لقــد كاد الهلــع وصدمــة الخبــر أن يفقداهــا رشــدها‪ ،‬فكانــت تتكلــم‬
‫بصــورة غريبــة فلــم أدرك مــا ّالــذي تعنيــه عندمــا حاولــت أن ّ‬
‫تعز ينــي‪ ،‬بــل إننــي لــم أصــغ إليهــا‬
‫أ‬
‫بانتبــاه؛ لننــي لــم أكــن فــي حاجــة إلــى تعزيــة‪ ،‬ثــم أمســكت بيــدي بيــن راحتيهــا‪ ،‬وقــال أنهــا‬
‫ترغــب بــأن تفضــي إلـ ّـي بســر‪ ،‬راجيــة أن ال أحــاول اســتغالله فــي المســتقبل‪.‬‬
‫قالــت إنهــا كانــت قــد أودعــت رزمــة مــن الرســائل عنــد زوجتــي المرحومــة‪ ،‬وأنهــا لــم تســتطع‬
‫أن تحتفــظ بهــا فــي بيتهــا لطابعهــا الخــاص‪ ،‬ولذلــك رجتنــي أن أعيدهــا إليهــا‪ ،‬وعندمــا ســمعت‬
‫منهــا هــذا شــعرت بقشــعريرة تســري فــي سلســلة ظهــري‪ ،‬وبهــدوء مصطنــع ســألتها‪" :‬مــاذا تحــوي‬
‫هــذه الرســائل؟" فارتعــدت لهــذا الســؤال وقالــت‪:‬‬

‫‪60‬‬
‫ٌةفيدر ٌصصق ‪ -‬خلا حرجلا‬

‫ ـكانــت زوجتــك أخلــص وأشــرف امـرأة صادفتهــا فــي حياتــي‪ ،‬إنهــا لــم تســألني عــن فحواهــا‪ ،‬بــل‬
‫أقســمت أنهــا لــن تنظــر فيهــا‪.‬‬
‫ ـأين كانت تحتفظ برسائلك؟‬
‫ ـقالــت أنهــا تحتفــظ بهــا فــي درج آلــة الخياطــة المغلــق بالقفــل‪ ،‬وهــي مربوطــة بشــريط قرنفلــي‪،‬‬
‫ســتعرفها للتــو مــن شــكلها‪ ،‬ثالثــون رســالة بالتمــام‪.‬‬
‫أخذتهــا للغرفــة حيــث كانــت آلــة الخياطــة موضوعــة وفتحــت الــدرج‪ ،‬وأخــذت رزمــة الرســائل‬
‫وناولتهــا إياهــا‪.‬‬
‫ ـهل هذه هي الرسائل؟‬
‫ً‬
‫فمــدت إليهــا يدهــا بلهفــة فلــم أجــرؤ علــى رفــع عينــي إليهــا لئــا تقـرأ فيهمــا شــيئا‪ .‬ثــم تركــت‬
‫الغرفــة‪.‬‬
‫وبعــد دفــن زوجتــي بأســبوع واحــد حــل ألــم بالــغ فــي تلــك البقعــة علــى يــدي حيــث ســقطت‬
‫نقطــة الــدم فــي تلــك الليلــة المخيفــة‪ ،‬أمــا مــا حــدث بعــد ذلــك فأنــت تعرفــه‪.‬‬

‫ذاتيــا‪ ،‬ولكننــي ال أســتطيع أن أتخلــص منــه‪ ،‬إنــه‬ ‫إنــي أعلــم ً‬


‫تمامــا أن هــذا ليــس إيحــاء ًّ‬
‫آ‬
‫الن‪ ،‬إنــي ســأنضم إليهــا ّ‬ ‫أ‬
‫عمــا‬ ‫القصــاص علــى تهــوري وقســوتي‪ ،‬لــن أحــاول مقاومــة اللــم بعــد‬
‫قريــب‪ ،‬وســأحاول أن أنــال غفرانهــا‪ ،‬ال شــك أنهــا ســتغفر لــي‪ ،‬وســتحبني كمــا كانــت تحبنــي وهي‬
‫علــى قيــد الحيــاة‪ .‬إننــي أشــكر لــك أيهــا الطبيــب كل مــا فعلتــه مــن أجلــي‪}.‬‬

‫‪61‬‬
‫عشر‬
‫َ‬ ‫الصف الثّاين‬

‫‪62‬‬
‫ٌةفيدر ٌصصق ‪ -‬ألا ملحلا‬

‫احللم األخري‬
‫هانس كريستيان أندرسن‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫فــي أعلــى منحــدرات الشــاطئ فــي الغابــة‪ ،‬وليــس بعيـ ًـدا عــن حافــة البحــر‪ ،‬وقفــت ســنديانة‬
‫وخمســا وســتين ســنة‪ ،‬ولكـ ّـن عــدد‬ ‫ً‬ ‫عجــوز فــي منتهــى الكبــر‪ ،‬كانــت قــد بلغــت مــن العمــر ثالثمئــة‬
‫الّيــام لدينــا‪ ،‬نحــن نســتيقظ فــي ّ‬ ‫أ‬ ‫ّ‬ ‫هــذه ّ‬
‫النهــار‪ ،‬وننــام فــي أثنــاء‬ ‫الســنين الطويلــة لديهــا كان كعــدد‬
‫َّ‬ ‫أ‬ ‫ّ‬
‫الليــل ونحلــم‪ ،‬ولكـ ّـن المــر ليــس كذلــك مــع الشـ َـج َرة؛ فهــي مضطـ ّـرة إلــى البقــاء مســتيقظة طــوال‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫َّ ّ‬
‫النــوم إل عندمــا يحــل فصــل الشــتاء‪،‬‬ ‫السـ َـنة‪ ،‬وال تحصــل علــى قســطها مــن‬ ‫ثالثــة فصــول مــن َّ‬
‫الر بيــع ّ‬ ‫الطويــل المتواصــل‪ّ :‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫والصيــف والخريــف‪.‬‬ ‫فالشــتاء هــو ليلهــا‪ ،‬ووقــت راحتهــا بعــد يومهــا‬
‫ُّ‬
‫الذ َبابــة َّالتــي تحيــا ً‬
‫يومــا واحـ ًـدا‪ ،‬وراحــت‬ ‫الصيــف القائظــة كثيـ ًـرا مــا طــارت (أفيميـرا)‬ ‫ففــي ّأيــام ّ‬
‫وتتمتــع بالحيــاة‪ ،‬وملؤهــا َّ‬ ‫الس ْــند َيانة الهرمــة ّ‬
‫الســعادة‪ .‬وإذا مــا اســتراحت هــذه‬ ‫تحــوم حــول ِّ ِ‬
‫َ‬
‫السـ ْـن ِديانة قائلــة‪:‬‬
‫الغضــة العريضــة هتفــت بهــا ِّ‬ ‫المخلوقــة لحظــة علــى وريقــة مــن وريقاتهــا ّ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫ ـ"يالــك مــن مخلوقــة صغيــرة مســكينة! حياتــك كلهــا مــا هــي إل يــوم واحــد‪ .‬فيالــه مــا أقصــره!‬
‫ًّ‬
‫شــيء مؤســف حقــا‪".‬‬
‫غيرة تجيب ً‬
‫دوما‪:‬‬ ‫وكانت المخلوقة َّ‬
‫الص َ‬
‫ّ ّ‬ ‫ً‬
‫ ـ"مؤســف مــاذا تعنيــن؟ إن كل مــا هــو حولــي بـ ّـراق ودافــئ وجميــل إلــى درجــة عجيبــة‪ ،‬وهــذا‬
‫ّ‬
‫ممــا يشــيع الفــرح فــي نفســي‪".‬‬
‫ ـ"ولكن ليوم واحد فقط‪َّ ،‬ثم ينقضي‪".‬‬
‫الذ َبابة‪" :‬ينقضي! ماذا تعنين‪ :‬ينقضي؟ هل لن ينقضي يومك أنت ً‬ ‫ُّ‬ ‫َّ‬
‫أيضا؟"‬ ‫فكرت‬
‫ّ‬ ‫أ‬ ‫ّ ّ‬
‫ ـ"لك‪ ،‬إننــي مــن المحتمــل جـ ًّـدا أن أعيــش آالف الّيــام مــن ّأيامــك‪ ،‬ومــا يومــي إل ثالثــة فصــول‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫السـ َـنة! وأيــم الحـ ّـق إنــه مــن الطــول بحيــث يصعــب عليــك جـ ًّـدا حســبانه‪".‬‬
‫كاملــة مــن َّ‬
‫ّ‬ ‫آ‬
‫ ـ"إذن أنــا ال أفهمــك‪ ،‬قــد يكــون لــك الالف مــن ّأيامــي‪ ،‬ولكــن أنــا لــي آالف اللحظــات‪ ،‬يمكننــي‬
‫ّ‬
‫أن أفــرح فيهــا وأســعد‪ ،‬هــل ســينتهي جمــال العالــم كلــه عندمــا تموتيــن؟"‬
‫َّ‬
‫فأجابت الش َج َرة‪:‬‬

‫* كاتب دانمركي (‪.)1805-1875‬‬

‫‪63‬‬
‫عشر‬
‫َ‬ ‫الصف الثّاين‬

‫ّ‬ ‫ّ‬
‫ ـ"لك بل إنه سيدوم أ كثر من هذا بكثير‪ ،‬إلى ما ال نهاية‪ ،‬تفوق عن تفكيري‪".‬‬
‫الص َ‬‫الذ َبابة َّ‬ ‫ُّ‬
‫غيرة‪:‬‬ ‫فقالت‬
‫ُ‬ ‫ ـ"حسـ ًـنا‪ّ ،‬إننــا نعيــش نفــس ّ‬
‫الزمــان إذن‪ ،‬و ّ‬
‫لكننــا نختلــف فــي الحســاب‪".‬ث َّم رقصــت المخلوقــة‬
‫َّ‬ ‫َ‬ ‫الصغيـ َـرة وانســابت فــي الهــواء جذلــة بجناحيهــا َّ‬ ‫َّ‬
‫المخملييــن‪ ،‬طروبــة فــي‬ ‫الرقيقيــن الشــفافين‬
‫آ‬ ‫البريــة‪ ،‬ونــور ّ‬‫النســام العطــرة المشـ َّـبعة بعبيــر الــورود ّ‬ ‫أ‬
‫السيســبان وزهــر العســل التيــة مــن‬
‫الرائحــة ّ‬
‫قويــة يــكاد‬ ‫والنعنــاع‪ .‬كانــت ّ‬ ‫الر بيــع ّ‬ ‫المحملــة بالعطــر البـ ّ‬
‫ـري وزهــر ّ‬ ‫ّ‬ ‫أســيجة الجنائــن‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫الذ َبابــة َّ‬‫ُّ‬
‫الصغيـ َـرة‪ .‬لقــد كان اليــوم طويــا جميــا مليئــا بالحبــور والمسـ ّـرات الحلــوة‬ ‫عطرهــا يســكر‬
‫ّ‬ ‫ـس ّ‬ ‫َّ‬ ‫ّ ُّ‬ ‫ّ‬
‫بالتعــب مــن كل‬ ‫ـكت الشـ ْـمس علــى المغيــب جعلــت تحـ ّ‬ ‫حتــى إن الذ َبابــة عندمــا أوشـ ِ‬
‫ّ‬
‫مــا ذاقتــه فيــه مــن ســعادة ومتعــة‪ ،‬ومــا عــاد جناحاهــا يقويــان علــى حملهــا؛ فانســابت بــكل‬
‫الصغيــر علــى قــدر مــا‬ ‫وحركــت رأســها ّ‬ ‫الناعمــة‪ّ ،‬‬ ‫ّرقــة وبــطء علــى أوراق العشــب المتماوجــة ّ‬
‫ُّ‬ ‫ُ‬
‫اســتطاعت‪ ،‬ثـ َّـم نامــت بســام وعذوبــة‪ ،‬وهكــذا ماتــت الذ َبابــة‪.‬‬
‫ِّ َ‬
‫الس ْن ِديانة‪:‬‬ ‫قالت‬
‫غيرة!"‬ ‫غيرة المسكينة! ويا لفظاعة حياتها َّ‬
‫الص َ‬ ‫الص َ‬ ‫ ـ"يا للمخلوقة َّ‬
‫أ‬
‫الصيــف‪ .‬وتطــرح الســئلة نفســها‪ ،‬وتعطــى‬ ‫الر ْقــص ُيعــاد فــي ّكل يــوم مــن ّأيــام ّ‬
‫وهكــذا كان َّ‬
‫ّ‬ ‫أ‬ ‫أ‬
‫الجوبــة نفســها‪ .‬ولقــد جــرى ذلــك لجيــال عديــدة متواليــة فــي حيــاة (أفيميـرا) وكل مخلوقــة منهــا‬
‫تشــعر بالحبــور نفســه‪َّ ،‬‬
‫والســعادة نفســها‪.‬‬
‫الر بيــع صبحــه‪ّ ،‬‬ ‫السـ ْـن ِد َيانة مســتيقظة طــوال نهــار ّ‬
‫ظلــت ِّ‬‫ّ‬
‫والصيــف ظهــره‪ ،‬والخريــف مســائه‪.‬‬
‫ّ‬
‫الشــتاء‪ ،‬وبــدأت ّ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬
‫الزوابــع تنشــد‪" :‬مســاء‬ ‫ثـ َّـم بــدأ الليــل يجـ ّـر أذيالــه‪ ،‬ودنــا وقــت راحتهــا‪ -‬لقــد أقبــل‬
‫الخيــر‪ ،‬مســاء الخيــر"‪ ،‬وســقطت ورقــة هنــا‪ ،‬ووريقــة هنــاك‪ ،‬وأخــذت ّ‬
‫الر ياح تنشــد لهــا‪ ،‬وتهدهدها‬
‫الطاعنــة طقطقــة مــن شـ ّـدة ّ‬ ‫ّ‬
‫الســرور‪ ،‬لقــد كانــت ليلتهــا الخامســة‬ ‫كــي تنــام‪ .‬فســمع لعســاليجها‬
‫آ‬
‫لكنهــا الن بموجــب تقويــم البشــر‪ ،‬فــي القــرن ّ‬ ‫ّ‬
‫الثالثمئــة‪ ،‬و ّ‬ ‫ّ‬
‫الرابــع مــن وجودهــا‪.‬‬ ‫والســتين بعــد‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫وقفــت البلوطــة هنــاك عاريــة مــن أوراقهــا؛ لتأخــذ راحتهــا فــي أثنــاء الشــتاء الطويــل‪ ،‬ولتحلــم‬
‫َّ‬ ‫أ‬ ‫أ‬ ‫ً‬
‫أحالمــا كثيــرة مــ�ى بالحــداث التــي وقعــت لهــا فــي مجــرى حياتهــا‪ ،‬كانــت أضخــم وأحســن‬
‫أ‬ ‫أ‬
‫شــجرة فــي الغابــة‪ ،‬تعالــت ّقمتهــا وعظمــت فــوق جميــع الشــجار الخــرى‪ ،‬وكانــت تــرى مــن بعيــد‬
‫َ‬
‫بخلدهــا ً‬ ‫للملحيــن ً‬‫ّ‬ ‫ّ ّ‬
‫يومــا كــم مــن العيــون‬ ‫علمــا‪ ،‬ولــم يــدر‬ ‫حتــى أنهــا كانــت‬ ‫مــن أقصــى البحــر‬

‫‪64‬‬
‫ٌةفيدر ٌصصق ‪ -‬ألا ملحلا‬

‫ّ ّ‬
‫البريــة عشــها بيــن الفــروع‪ ،‬وشــرع الوقــوق‬ ‫ترنــو بشــوق إليهــا‪ ،‬وفــي ســامق ّقمتهــا بنــت الحمامــة‬
‫أ‬ ‫فــي إحيــاء حفلتــه َّ‬
‫الص ّ‬
‫وتيــة المعتــادة فتجاوبــت أنغامــه المحبوبــة بيــن الغصــان‪ .‬وفــي الخريــف‬
‫ّ‬ ‫أ‬
‫عندمــا كانــت الوراق تبــدو وكأنهــا صفائــح نحــاس مطروقــة‪ ،‬كانــت العصافيــر العابــرة تأتــي لترتــاح‬
‫َّ‬ ‫آ‬
‫علــى أفنانهــا قبــل أن تطيــر وتجتــاز البحــر‪ ،‬ولكــن الن والفصــل شــتاء والشـ َـج َرة عاريــة‪ ،‬كان‬
‫ّ‬
‫وتمتــد مــن‬ ‫باســتطاعة ّكل امــرئ أن يــرى كــم كانــت أغصانهــا ملتويــة ومنحنيــة وهــي ّ‬
‫تتفــرع‬
‫أ‬ ‫بالتنــاوب وجلســت عليهــا‪ّ ،‬‬ ‫جذعهــا‪ .‬أتــت العقبــان والغربــان ّ‬
‫وتحدثــت عــن الوقــات العســيرة‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫َّ‬
‫التــي بــدأت‪ ،‬وعــن المشــقة فــي الحصــول علــى الطعــام فــي الشــتاء‪.‬‬
‫ّ‬ ‫الشـ َـج َرة ً‬ ‫َّ‬
‫حلمــا‪ .‬ال ريــب أنهــا كانــت لديهــا نــوع‬ ‫كان عيــد الميــاد قــد قــرب عندمــا حلمــت‬
‫ّ‬
‫وكأنــه مــن أيــام ّ‬ ‫ّ‬
‫الصيــف الجميلــة‪،‬‬ ‫مــن إالحســاس بــأن وقــت العيــد قــد حــان‪ .‬وبــدا لهــا اليــوم‬
‫َّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫متوجــة بــأوراق خضـراء يانعــة‪ ،‬وأشـ ّـعة الشـ ْـمس تلعــب بيــن‬ ‫لطيفــا‪ .‬كانــت هامتهــا العظيمــة ّ‬ ‫دافئــا‬
‫والنــوار‪ .‬وطــاردت فراشــات ّ‬ ‫العشــاب ّ‬ ‫أ‬ ‫أ‬
‫ملونــة بعضهــا‬ ‫الوريقــات والغصــان‪ ،‬والهــواء مثقــل بعطــر‬
‫ّ‬ ‫بعضــا‪ ،‬ورقــص ذبــاب ّ‬ ‫ً‬
‫الصيــف حولهــا كأنمــا خلــق العالــم لهــم وحدهــم ليرقصــوا فيــه ويفرحــوا‪.‬‬
‫َّ‬ ‫أ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫وبــدا للشــجرة أن جميــع الحــداث التــي وقعــت لهــا فــي ســني حياتهــا تمـ ّـر أمامهــا فــي موكــب‬
‫طويــل‪.‬‬
‫النســاء ّ‬ ‫ّ‬
‫النبيــات ممتطيــن صهــوات‬ ‫رأت فرســان العصــور القديمــة يجتــازون الغابــة مــع‬
‫والريــش يتمــاوج علــى ّقبعاتهــم‪ّ ،‬‬ ‫الصيلــة‪ّ ،‬‬ ‫أ‬
‫والصقــور جاثمــة علــى معاصمهــم‪.‬‬ ‫جيادهــم‬
‫الصيــد‪ ،‬ونبحــت الكلاب‪ .‬رأت محاربيــن ينصبــون خيامهــم وهــم فــي‬ ‫وعــا صــوت أبــواق ّ‬
‫توقــدت ني ـران الحراســة‪ّ ،‬‬
‫وغنــى ّ‬ ‫ّ ّ‬ ‫ثيــاب ّ‬
‫الرجــال‪،‬‬ ‫ملونــة ودروع ّبراقــة‪ ،‬مــع ح ـراب وبلطــات‪ .‬ثــم‬
‫ّ‬
‫ونامــوا تحــت أغصانهــا المضيافــة‪ ،‬ثـ ّـم رأت العشــاق يلتقــون قربهــا بهــدوء وســعادة علــى ضــوء‬
‫أ‬ ‫أ‬ ‫أ‬
‫القمــر‪ .‬ويحفــرون الحــرف الولــى مــن أســمائهم فــي لحائهــا وجذعهــا الخضــر الحائــل‪ .‬وحــدث‬
‫ّ‬ ‫َّ‬
‫مـ ّـرة‪ ،‬ولكــن ســنين انقضــت منــذ ذلــك الحيــن‪ ،‬إن بعــض المســافرين المرحيــن علقــوا علــى أحــد‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫أغصانهــا آالت الطــرب وقيثــارات‪ ،‬وبــدا لهــا أنهــا مازالــت معلقــة هنــاك‪ ،‬وأنهــا تســمع أنغامهــا‬
‫َّ‬ ‫ّ ّ‬ ‫ّ‬
‫تعبــر عــن مشــاعر الشـ َـج َرة‪ .‬وصــاح الوقــوق‬
‫كأنهــا تريــد أن ّ‬ ‫ـجية‪ .‬وهدلــت الحمامــات البريــة‬ ‫الشـ ّ‬
‫ّ‬ ‫يعلمهــا كــم بقــي لهــا مــن ّأيــام ّ‬
‫الصيــف لتحياهــا‪ ،‬ثـ ّـم شــعرت كأنمــا حيــاة جديــدة أخــذت تختلــج‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫فــي كل عــرق مــن عروقهــا وجذعهــا وأوراقهــا‪ ،‬وتنســاب صاعــدة إلــى فروعهــا الشــامخة‪ .‬شــعرت‬
‫الشـ َـج َرة ّأنهــا أخــذت تنبســط وتمتـ ّـد بينمــا كانــت قـ ّـوة الحيــاة ّ‬ ‫َّ‬
‫الدافقــة تســري فــي جذورهــا تحــت‬

‫‪65‬‬
‫عشر‬
‫َ‬ ‫الصف الثّاين‬

‫أ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬


‫التـراب‪ ،‬وفيمــا هــي تعلــو بقـ ّـوة متزايــدة اتســعت أغصانهــا العليــا وامتــ�ت أكثــر فأكثــر‪ ،‬وبتناســق‬
‫حتــى‬ ‫نموهــا ازداد رضاهــا عــن نفســها‪ ،‬ونشــأ عندهــا شــوق ُملـ ٌّـح فــي أن تتناهــى فــي العلـ ّـو ّ‬ ‫مــع ّ‬
‫ِ‬
‫وخ ِّيــل إليهــا َّأن فروعهــا ّ‬ ‫ُ‬ ‫الشـ ْـمس ّ‬ ‫َّ‬
‫الســامقة ّفرقــت الغيــوم حيــث تـراءت‬ ‫الدافئــة نفســها‪،‬‬ ‫تصــل إلــى‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫كأس ـراب عصافيــر راحلــة أو كإوزات كبيــرة بيضــاء تنســاب تحتهــا‪ .‬وبــدا كأنمــا كل وريقــة مــن‬
‫أ أ‬ ‫النجــوم فــي وضــح ّ‬ ‫أوراقهــا لهــا عينــان تبصـران‪ ،‬وظهــرت ّ‬
‫النهــار كبيــرة تتــ�ل كأعيــن وادعــة صافية‪،‬‬
‫َّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫أ‬
‫تعيــد للذهــان نظ ـرات الطفولــة البريئــة‪ ،‬أو أعيــن العشــاق الذيــن التقــوا مـ ّـرة تحــت أغصــان‬
‫أ‬
‫للسـ ْـن ِديانة لحظــات ســعادة مــ�ى بالفــرح‪.‬‬
‫َ‬ ‫البلوطــة الهرمــة‪ ،‬كانــت هــذه ّاللحظــات ِّ‬ ‫ّ‬
‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫ّ‬
‫ولكــن‪ ،‬مــع كل هــذا‪ ،‬شــعرت الشـ َـج َرة وهــي فــي أوج ســعادتها برغبــة ُم ِل َّحــة فــي أن تتمكــن‬
‫َّ‬ ‫والنباتــات ّ‬ ‫الشــجار والعليقــات ّ‬ ‫أ‬
‫والزهــور التــي تحتهــا مــن أن تنمــو وتتعالــى مثلمــا نمــت‬ ‫جميــع‬
‫َّ‬
‫وتعالــت؛ لتــرى هــذا البهــاء‪ ،‬وتختبــر ســعادة ُمما ِثلــة‪ ،‬لــم يكــن فــي وســع البلوطــة العظيمــة المهيبــة‬
‫أ‬ ‫وبقيــة ّ‬ ‫الســعادة كاملــة‪ّ ،‬‬ ‫ـذوق َّ‬ ‫أن تتـ ّ‬
‫النباتــات والشــجار عظيمهــا وحقيرهــا ال تشــاركها فيهــا‪ ،‬وســرى‬
‫ً َّ‬ ‫َّ‬ ‫أ‬ ‫أ‬ ‫ّ‬
‫هــذا الشــعور بالحنـ ّـو فــي جميــع الغصــان والوراق! تدفــق دافئــا كأنــه ســرى فــي أليــاف قلــب‬
‫َّ‬
‫الصعتــر‪ ،‬وتبعتهــا‬ ‫هبــت عليهــا نفحــة مــن عبيــر ّ‬ ‫الشـ َـج َرة هنــا وهنــاك‪ ،‬ثـ َّـم ّ‬ ‫ـري‪ .‬واهتـ ّـزت هامــة‬ ‫بشـ ّ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ـاذا‪ّ ،‬‬ ‫ً‬ ‫أ‬ ‫رائحــة زهــر العســل ّ‬
‫وخيــل إليهــا أنهــا ســمعت أنغام الوقــوق‪ .‬وأخيـ ًـرا تحقق‬ ‫والزنابــق ال كثــر نفـ‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ّ‬
‫مــا تصبــو إليــه‪ .‬رأت البلوطــة قمــم أشــجار الغابــة الخضـراء تشـ ّـق الغيــوم وهــي تنمــو شــيئا فشــيئا‬
‫ّ‬
‫حتــى أن بعضهــا انشـ ّـق‬ ‫النباتــات وأشــجار العليــق فــي العلـ ّـو ّ‬ ‫وتتعالــى تحتهــا‪ ،‬وكذلــك اندفعــت ّ‬
‫الرشــيق‬ ‫جميعــا‪ ،‬أطلقــت جذعهــا ّ‬ ‫الســندر أســرعها ً‬ ‫النمـ ّـو‪ .‬كانــت شــجرة ّ‬ ‫ـارعا فــي ّ‬ ‫عنــد الجــذور متسـ ً‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫إلــى العــا كوميــض البــرق فــي خــط منعــرج‪ ،‬وانتشــرت أغصانهــا حولهــا كأعــام خضـراء شــفافة‪،‬‬
‫الناعــم ّ‬ ‫الريــش ّ‬ ‫الســيل ذو ّ‬ ‫ّ أ‬ ‫ّكل مــا فــي الغابــة ّ‬
‫الدقيــق نمــا مــع البقيــة‪ ،‬بينمــا‬ ‫حتــى الخيــزران البنــي‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫حلقــت العصافيــر وهــي تصــدح بتغاريدهــا‪ .‬وجلــس جنــدب ينظــف جناحيــه برجليــه علــى وريقــة‬
‫والنحــل‬ ‫عشــب كانــت تتطايــر فــي الهــواء كشــريط أخضــر طويــل‪ .‬وأخــذت الخنافــس تدنــدن ّ‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫يطـ ّـن‪ ،‬والعصافيــر تزقــزق كل منهــا علــى طريقتــه‪ .‬لقــد كان الهــواء مليئــا بأصــوات الغنــاء والبهجــة‪.‬‬
‫أ‬ ‫َّ‬ ‫الزرقــاء َّ‬ ‫الزهــرة ّ‬ ‫الشـ َـج َرة تتســاءل‪" :‬أيــن ّ‬ ‫َّ‬
‫الصغيـ َـرة التــي قــرب المــاء؟ وأيــن القاحــي‬ ‫ثـ ّـم راحــت‬
‫َّ‬ ‫أ‬ ‫َّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫ـور فــي‬ ‫الصف ـراء الحلــوة؟ وصعتــر الصيــف الجميــل‪ ،‬أيــن هــو؟ والسوســن الــذي كســا الرض بالنـ ِ‬
‫ّ‬ ‫التفــاح ّ‬ ‫السـ َـنة المنصرمــة؟ وشــجرة ّ‬ ‫َّ‬
‫البريــة ونوارهــا الجميــل‪ ،‬وكل مــا تزهــو بــه الغابــة ســنة إثــر‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫ســنة؟"و ّلما رأت الــكل حولهــا‪ ،‬صاحــت البلوطــة بنغمــة كلهــا حبــور‪" :‬مــا أجمــل هــذا! أكاد ال‬

‫‪66‬‬
‫ٌةفيدر ٌصصق ‪ -‬ألا ملحلا‬

‫ً‬ ‫ّ أ‬ ‫ّ‬
‫أصدقــه! هــل فــي الحيــاة ســعادة كهذه؟"لقــد بــدا لهــا أن المــر يــكاد يكــون مســتحيل‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫َّ‬
‫وبينمــا الشـ َـج َرة الهرمــة تنمــو وتعلــو ســامقة فــي الفضــاء شــعرت أن جذورهــا تفــك عقالهــا مــن‬
‫آ ّ‬ ‫ّ‬ ‫أ‬
‫الرض‪ .‬وهتفــت‪" :‬لعمــري إن هــذا حســن وبديــع‪ ،‬ال قيــود هنــاك تأســرني بعــد الن‪ .‬إن بإمكانــي‬
‫الصغــار والكبــار‪".‬‬ ‫وكل َّالذيــن ّ‬
‫أحبهــم معــي‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫العالــي فــي ّ‬
‫النــور والمجــد‪.‬‬
‫أ‬
‫أن أطيــر إلــى أعلــى‬
‫ْ‬
‫ِّ َ‬
‫الس ْن ِديانة الهرمة‪.‬‬ ‫هذا كان حلم‬
‫أ‬ ‫وبينمــا هــي تحلــم ّ‬
‫هبــت عاصفــة شــديدة عبــر الرض والبحــر‪ ،‬وأخــذت أمــواج هائلــة تكتســح‬
‫أ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫خيــل إليهــا فــي الحلــم أنهــا تفــك إســارها مــن الرض ســمع صــوت‬ ‫الشــاطئ‪ ،‬وفــي ّاللحظــة َّالتــي ّ‬ ‫ّ‬
‫أ‬ ‫َّ‬
‫انســحاق وطرطقــة فــي قلــب الشـ َـج َرة‪ ،‬وانقلعــت جذورهــا مــن الرض‪ ،‬وســقطت‪ ...‬وهكــذا انقضت‬
‫ّ‬
‫أعوامهــا الثالثمئــة والخمســة والســتون كيــوم (أفيميـرا) الوحيــد‪.‬‬
‫َّ‬
‫وفــي صبــاح العيــد كانــت العاصفــة قــد هــدأت عنــد بــزوغ الشـ ْـمس‪ ،‬ثـ ّـم قرعــت أجـراس الفــرح‬
‫الزرقــاء‪ .‬هــدأ‬‫الســماء ّ‬ ‫ال كــواخ شـ ًّـاقا طريقــه فــي ّ‬ ‫أ‬
‫الدخــان مــن مواقــد‬ ‫مــن ّكل صــوب‪ ،‬وتعالــى ّ‬
‫العــام‪ ،‬وعرضــت علــى ظهــر باخــرة عظيمــة كانــت قــد قاومــت ّ‬ ‫أ‬
‫الزوبعــة فــي أثنــاء‬ ‫البحــر‪ ،‬ورفعــت‬
‫ّ‬
‫الليــل إشــارة فــرح وابتهــاج‪.‬‬
‫السـ ْـن ِد َيانة القديمــة‪ ،‬وهــي عالمتنــا ّ‬ ‫َّ‬
‫الشـ َـج َرة!‪ ...‬ســقطت ِّ‬ ‫وهتــف ّ‬
‫البريــة‬ ‫البحــارة‪" :‬لقــد ســقطت‬
‫َّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫علــى الشــاطئ! ال ريــب أنهــا اقتلعــت فــي عاصفــة الليلــة الماضيــة‪ .‬فمــن ذا الــذي يســتطيع أن‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ أ‬
‫يعيدهــا كمــا كانــت؟ إنــه لســف عظيــم أل يتمكــن أحــد مــن ذلــك‪".‬‬
‫الش َج َرة‪ .‬خطبة قصيرة‪ّ ،‬‬ ‫َّ‬ ‫هذه كانت خطبة ّ‬
‫لكنها بليغة‪.‬‬ ‫الرثاء على‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ِّ َ‬
‫الس ْن ِديانة الهرمة ملقاة هناك على الشاطئ تتراكم عليها الثلوج كلها‪.‬‬ ‫وبقيت‬

‫‪67‬‬
‫عشر‬
‫َ‬ ‫الصف الثّاين‬

‫‪68‬‬
‫ٌةفيدر ٌصصق ‪ -‬ناخيشلا‬

‫الشيخان‬
‫أ‬
‫رسالة‪ ،‬أيها الب أزان؟‬
‫نعم يا سيدي‪ ...‬هذا خطاب قادم من (باريس)‪.‬‬
‫أ‬ ‫لقــد كان مزهـ ًّـوا فخـ ً‬
‫ـورا بأنهــا رســالة قادمــة مــن (باريــس)‪ ،‬هــذا الب أزان الطيــب‪ ..‬ال أنــا‪ .‬فــإن‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫هاتفــا فــي نفســي أخــذ يحدثنــي قائــا إن هــذه ال(باريس)يــة مــن أهــل شــارع ســان جــاك ‪-‬وقــد‬
‫حكــت علــى مائدتــي ارتجـ ًـال‪ ،‬دون ســابق إنــذار‪ ،‬ومنــذ الصبــاح المبكــر‪ -‬سـ ّ‬
‫ـتضيع علـ ّـي نهــاري‪.‬‬
‫ولــم يخــب ظنــي‪ .‬انظــروا‪ ...‬هاهــي ذي‪:‬‬
‫يومــا واحـ ًـدا‪ ،‬وتحمــل نفســك فـ ً‬
‫ـورا‬ ‫ ـ"عليــك أن تــؤدي لــي خدمــة يــا صاحبــي‪ .‬فســتغلق طاحونتــك ً‬
‫إلــى (إيجوييــر)‪ ...‬إن (إيجوييــر) بلــدة محترمــة علــى بعــد ثمانيــة أو عشــرة أميــال مــن عنــدك‪.‬‬
‫أ‬
‫أي إنهــا نزهــة لــك‪ ،‬عندمــا تصــل‪ ،‬اســأل عــن ملجــأ اليتــام‪ .‬وأول بيــت بعــد ذلــك هــو بيــت‬
‫منخفــض ذو نوافــذ رماديــة وحديقــة صغيــرة وراءه‪ .‬ادخــل دون أن تطــرق البــاب‪ ،‬فالبــاب مفتــوح‬
‫ـعيد ‪ -‬أيهــا النــاس الطيبــون ‪ -‬إننــي صديــق‬ ‫ـوم سـ ٌ‬
‫وصـ ْـح ‪ -‬وأنــت داخــل ‪ -‬بأعلــى صوتــك‪ :‬يـ ٌ‬ ‫ً‬
‫دائمــا‪ِ .‬‬
‫موريــس)‪ ،‬وإذ ذاك ســترى شــيخين‪ ،‬أوه! ولكنهمــا عجــوزان‪ ،‬عجــوزان‪ ،‬عتيقــان جـ ًّـدا‪ ،‬يمــدان‬
‫ً‬
‫لــك أذرعهمــا وهمــا غارقــان فــي مقعديهمــا الكبيريــن‪ ،‬فعانقهمــا مــن قبلــي‪ ،‬عانقهمــا عناقــا حـ ًّـارا‬
‫ّ‬
‫مــن كل قلبــك‪ ،‬كمــا لــو كانــا جديــك‪ .‬ثــم ســتتحدثون‪ ،‬ســيكلمانك عنــي‪ ،‬لــن يكلمــاك إل عنــي‪،‬‬
‫وســيقصان عليــك ألــف عتاهــة تســمعها دون أن تضحــك‪ ..‬إيــاك أن تضحــك‪ .‬أســامع أنــت؟‪...‬‬
‫إنهمــا جــداي‪ ،‬كائنــان ســأظل صنيعتهمــا مــا حييــت‪ ،‬وهمــا لــم يريانــي منــذ عشــر ســنين‪ ...‬عشــر‬
‫ســنين‪ ،‬ذلــك وقــت طويــل! ولكــن مــاذا تريــد؟ أنــا (باريــس) ممســكة بــي‪ ،‬وهمــا الشــيخوخة‬
‫قعــدت بهمــا‪ ...‬إنهمــا شــيخان هرمــان لــو حــاوال أن يأتيــا لزيارتــي لتناث ـرا فــي الطريــق‪ ...‬مــن‬
‫ّ‬
‫حســن الحــظ أنــك هنــاك يــا عزيــزي الطحــان‪ .‬وإذا مــا عانقــك هــذان المســكينان الطيبــان‬
‫ظنــا أنهمــا يعانقاننــي أنــا بعــض الشــيء‪ ...‬لقــد طالمــا حدثتهمــا عنــا وعــن هــذه الصداقــة الكريمــة‬
‫التــي‪."...‬‬
‫ً‬ ‫عظيمــا ر ً‬
‫أال ًّتبــا للصداقــة! فقــد كان صبــاح ذلــك اليــوم ً‬
‫ائعــا‪ ،‬ولكنــه لــم يكــن يســاوي شــيئا‬
‫لمــن يقطــع الطرقــات‪ :‬كانــت (المســترال) عاصفــة‪ ،‬والشــمس متأججــة‪ ،‬والجــو جــو يــوم مــن أيــام‬
‫ً‬
‫(البروفانــس) حقــا‪ .‬وحيــن وصلتنــي هــذه الرســالة‪ .‬كنــت قــد اتخــذت مكمنــي بيــن صخرتيــن‪،‬‬

‫‪69‬‬
‫عشر‬
‫َ‬ ‫الصف الثّاين‬

‫وكنــت أمنــي نفســي بالقبــوع هنــاك طــول النهــار‪ ،‬كالضــب‪ ،‬أعــب مــن النــور وأنــا أتســمع نشــيد‬
‫أشــجار الصنوبــر‪ .‬وبعــد‪ ،‬فمــاذا تريدننــي أن أفعــل؟ أقفلــت طاحونتــي وأنا أســب وألعــن‪ ،‬ووضعت‬
‫ّ‬
‫المفتــاح تحــت الثغــرة التــي تمــر منهــا القطــط‪ ،‬وأخــذت عصــاي وغليونــي‪ ،‬وانطلقــت‪.‬‬
‫وبلغــت (إيجوييــر) نحــو الســاعة الثانيــة‪ .‬كانــت القريــة قفـ ًـرا‪ ،‬فقــد أهلهــا ً‬
‫جميعــا فــي الحقول‪...‬‬
‫وفــي شــجر الــدردار المغــروس علــى الطريــق‪ ،‬وقــد ابيضــت أغصانــه مــن القتــام‪ ،‬كانــت الجنــادب‬
‫تغنــي كأنهــا فــي قلــب (كــرو)‪.‬‬
‫والحــق أن حمـ ًـارا كان يتمتــع بالشــمس فــي الميــدان أمــام ديــوان العمــدة‪ ،‬وسـ ً‬
‫ـربا مــن الحمــام‬
‫أ‬
‫كان يحــوم حــول النافــورة‪ ،‬ولكــن لــم يكــن هنــاك أحــد ليدلنــي علــى ملجــأ اليتــام‪ .‬ومــن ســعد‬
‫ّ‬
‫طالعــي‪ ،‬ظهــرت لــي فجــأة عجــوز‪ ،‬مقعيــة فــي ركــن بابهــا تغــزل‪ ،‬فســألتها عــن ضالتــي‪ ،‬وفدلتنــي‬
‫دارا ضخمــة كالحــة الجــدران قابضــة المظهــر قاتمــة‪ .‬وجــوار هــذا البنــاء‪،‬‬ ‫علــى الملجــأ‪ ،‬وكان ً‬
‫لمحــت بنــاء آخــر أصغــر منــه‪ .‬نوافــذ رماديــة‪ ،‬وحديقــة خلفيــة‪ ...‬عرفــت الــدار بغيــر توهــم‪،‬‬
‫ودخلــت دون أن أخبــط‪.‬‬
‫دائمــا ذلــك الدهليــز الرطيــب الهــادئ‪،‬‬ ‫لــن انســى مــا حييــت مشــهد تلــك الــدار‪ .‬ســأتمثل ً‬
‫ّ‬
‫والحائــط الــوردي الطــاء‪ ،‬والحديقــة الصغيــرة التــي كانــت تهتــز فــي أفــق الصــورة مــن خــال‬
‫ســتارة‪ .‬علــى النافــذة وضيئــة اللــون‪ ،‬وصفائــح الجــدران تلــك الحاليــة بأزهــار وقياثيــر ذابلــة‪ .‬لقــد‬
‫أ‬
‫خيــل إلــي أننــي أدخــل بيــت قــاض مــن قضــاة الشـراف‪ ..‬وفــي آخــر الدهليــز علــى يــدي اليســرى‪،‬‬
‫مــن بــاب منفــرج‪ ،‬ســمعت نبــض ســاعة ضخمــة‪ ،‬وصــوت طفلــة صغيــرة‪ ،‬طفلــة مــن تلميــذات‬
‫المــدارس كانــت تق ـرأ‪ ،‬فاقتربــت فــي هــدوء مــن ذلــك البــاب ونظــرت‪...‬‬
‫ـورد الوجنتيــن‪ ،‬مغضــن الجلــد‬ ‫طيبــا متـ َ‬
‫ـيخا ً‬‫فــي ســكون غرفــة صغيــرة وضوئهــا الخافــت‪ ،‬كان شـ ً‬
‫حتــى أطـراف أصابعــه‪ً ،‬‬
‫ناعســا فــي قلــب كرســي وثيــر‪ ،‬وقــد انفتــح فــوه وظلــت يــداه علــى ركبتيــه‪.‬‬
‫ً‬
‫فضفاضــا وقلنســوة صغيــرة‪ .‬هــو زي الملجــأ‪-‬‬ ‫وعنــد قدميــه جلســت صبيــة ترتــدي الزرقــة ً‬
‫‪-‬ثوبــا أزرق‬
‫تق ـرأ ســيرة فــي كتــاب أكبــر منهــا‪ ..‬ولقــد فعلــت هــذه المطالعــة إالعجازيــة فعلهــا العجيــب فــي‬
‫البيــت كلــه‪ ،‬فنــام الشــيخ فــي مقعــده‪ .‬ونــام الذبــاب فــي الســقف‪ ،‬ونامــت (الكناريــا) فــي قفصهــا‬
‫هنــاك علــى النافــذة‪ ،‬بينمــا استرســلت الســاعة الغليظــة المســتندة إلــى الجــدار فــي غطيطهــا تــردد‬
‫ّ‬ ‫ً‬
‫تــك تلــك تــك تــاك‪ .‬لــم يكــن يقظــا فــي الغرفــة كلهــا إل عصابــة مــن النــور تســقط مســتقيمة ناصعــة‬
‫مــن بيــن مصراعــي النافــذة الموصــدة‪ ،‬زاخــرة بالشــرر الحــي‪.‬‬

‫‪70‬‬
‫ٌةفيدر ٌصصق ‪ -‬ناخيشلا‬

‫ـام‪ ،‬مضــت الطفلــة تواصــل قراءتهــا‬ ‫والرقصــات الذريــة الدقيقــة‪ ...‬وفــي وســط هــذا الســبات العـ ِّ‬
‫أ‬
‫اللفــاظ إلقــاء ًّ‬
‫جديــا ً‬
‫رهيبــا "وســر‪ ...‬عــان‪ ...‬ما‪ ...‬انقــض‪ ...‬عليه‪ ...‬أســدان‪ ...‬والتـــهـ‪ ...‬ـــماه‪."...‬‬ ‫وتلقــي‬
‫فــي تلــك اللحظــة دخلــت أنــا‪ ...‬ولــو اقتحــم الحجــرة أســد‪ ،‬لمــا أثــار فيهــا مــن الذهــول أكثــر‬
‫ً‬
‫ممــا أثــرت‪ .‬إنهــا لمفاجــأة مســرحية حقــا! نــدت عــن الطفلــة صيحــة‪ ،‬وهــوى الكتــاب الكبيــر‪،‬‬
‫وهبــت الكناريــا والذبــاب‪ ،‬ودقــت الســاعة‪ ،‬وقفــز الشــيخ واش ـرأب مشــدوها‪ ،‬ووقفــت أنــا علــى‬
‫أســكفة البــاب وبــي شــيء مــن اضط ـراب‪ ،‬أهتــف بأعلــى صوتــي‪:‬‬
‫ـعيد ‪-‬أيهــا النــاس الطيبــون‪ -‬أنــا صديــق موريــس‪ .‬أوه! إذ ذاك‪ ،‬يــا ليتكــم رأيتمــوه‪ ،‬هــذا‬ ‫ـوم سـ ٌ‬‫يـ ٌ‬
‫ـادا ذراعيــه يعانقنــي‪ ،‬ويصافحنــي‪،‬‬ ‫الشــيخ الطيــب المســكين‪ ،‬يــا ليتكــم رأيتمــوه يقبــل نحــوي مـ ًّ‬
‫ويهيــم فــي الغرفــة شـ ً‬
‫ـاردا يقــول‪:‬‬
‫ ـيا إلهي! يا إلهي!‬
‫لقد أشرقت جميع غضونه‪ ،‬وانبسطت أساريره‪ ،‬واحمر وجهه‪ ،‬وراح يتمتم‪:‬‬
‫ ـآه! يا سيدي‪ ...‬آه! يا سيدي‪...‬‬
‫ثم مضى إلى داخل البيت يدعو‪:‬‬
‫ ـ(ماتت)!‬
‫وإذا بــاب يفتــح‪ ،‬وأســمع وقــع أقــدار فــأر فــي الدهليــز‪ ...‬إنهــا (ماتــت) لــن يكــون أجمــل مــن‬
‫تلــك العجــوز الصغيــرة بقلنســوتها ذات الشــريط المعقــود‪ ،‬وثوبهــا البنــي الباهــت‪ ،‬ومنديلهــا‬
‫ّ‬
‫المطــرز الــذي حملتــه فــي يدهــا احتفــاء بــي‪ ،‬علــى طريقــة العصــر الماضــي‪ ..‬ويــا لــه مــن مشــهد‬
‫ـاحا وأشــرطة صف ـراء الســتطعت‬ ‫عاطفــي مؤثــر! لقــد كانــا متشــابهين‪ ،‬فلــو قــد ارتــدى الرجــل وشـ ً‬
‫أن تدعــوه ماتــت‪ ،‬هــو ً‬
‫أيضــا‪ .‬ولكــن ماتــت الحقيقــة ال بــد قــد بكــت كثيـ ًـرا فــي حياتهــا‪ ،‬فإنهــا‬
‫ً‬
‫أيضــا‪ ،‬كانــت لهــا طفلــة مــن بنــات الملجــأ بالقــرب‬ ‫وغضونــا‪ .‬وكصاحبهــا ً‬ ‫لتفــوق صاحبهــا تجعـ ًـدا‬
‫منهــا‪ ،‬حارســة صغيــرة فــي ثــوب أزرق فضفــاض‪ ،‬مــا كانــت تفتــرق عنهــا لحظــة‪ .‬وإن مشــهد هذيــن‬
‫الشــيخين تحرســهما هاتــان اليتيمتــان‪ ،‬لهــو أشــد مــا تســتطيع أن تتصــور تأثيـ ًـرا فــي قلبــك‪.‬‬
‫وأقبلــت مامــت فبــدأت تنحنــي انحنــاءة كبيــرة‪ ،‬تريــد بهــا أن تحيينــي كمــا كانــوا يفعلــون فــي‬
‫عهــد الفروســية‪ ،‬ولكــن الشــيخ بكلمــة منــه بتــر انحناءتهــا‪:‬‬
‫ ـأنه صديق موريس‪...‬‬

‫‪71‬‬
‫عشر‬
‫َ‬ ‫الصف الثّاين‬

‫وإذا هــي ترتجــف‪ ،‬وتبكــي‪ ،‬وتفقــد منديلهــا‪ ،‬وتحمــر‪ ،‬وتحمــر وتفوقــه احمـر ًارا‪ ...‬هؤالء الشــيوخ!‬
‫ّ‬
‫ليــس فــي عروقهــم إل قطــرة دم واحــدة‪ ،‬وعنــد أقــل انفعــال تثــب هــذه القطــرة إلــى وجوههم‪...‬‬
‫قالت العجوز لصغيرتها‪:‬‬
‫ ـأسرعي‪ ،‬أسرعي بكرسي‪...‬‬
‫وأهاب الشيخ بصغيرته‪:‬‬
‫ ـافتحي النافذة‪.‬‬
‫ثــم أخــذ كل منهمــا بإحــدى يــدي‪ ،‬واقتادانــي وهمــا يدبــان علــى أرض الغرفــة حتــى بلغــا بــي‬
‫ّ‬
‫النافــذة التــي فتحــت علــى مصراعيهــا ليريانــي فــي جــاء‪.‬‬
‫وتدانــت المقاعــد‪ ،‬وإذا أنــا جالــس بينهمــا علــى كرســي صغيــر والصغيرتــان الزرقــاوان وراءنــا‪،‬‬
‫وإذا االســتجواب يبــدأ‪:‬‬
‫ ـكيف حاله؟ ماذا يعمل؟ لماذا ال يأتي؟ أمسرور هو؟‬
‫ً‬ ‫وهكذا انهالت ّ‬
‫علي أسئلتها الثرثارة ساعات طوال‪.‬‬
‫أمــا أنــا‪ ،‬فكنــت أبــذل أقصــى مــا فــي وســعي أال أجيــب عــن جميــع أســئلتهما‪ ،‬أســرد عــن‬
‫ً‬
‫حريصــا قبــل كل شــيء‬ ‫صديقــي مــا أعــرف مــن تفاصيــل‪ ،‬وأختلــق دون حيــاء مــا ال أعــرف‪،‬‬
‫علــى أال أبــوح بأنــه مــا عـ َّـن لــي ً‬
‫يومــا أن أالحــظ هــل مصاريــع نوافــذه محكمــة القفــل إذا أراد أن‬
‫أي لــون قــد اتخــذ ورق غرفتــه‪.‬‬ ‫يوصدهــا أو مــن ِّ‬

‫ ـورق غرفته؟‪ ...‬إنه ازرق يا سيدتي‪ ،‬أزرق فاتح‪ ،‬تحليه زخارف من أكاليل الورد وورق الشجر‪...‬‬
‫فقالت العجوز المسكينة وقد فاض بها الحنان‪:‬‬
‫ًّ‬
‫ ـحقا؟‬
‫وأضافت وهي تلتفت إلى زوجها‪:‬‬
‫ ـياله من ولد طيب!‬
‫آ‬
‫فواصل الخر في حماسة‪:‬‬
‫ ـأوه! أجل ياله من ولد طيب!‬

‫‪72‬‬
‫ٌةفيدر ٌصصق ‪ -‬ناخيشلا‬

‫وظــا طيلــة الوقــت يتبــادالن فــي أثنــاء حديثــي إيمــاءات برأســيهما‪ ،‬وضحــكات صغيــرة ماكــرة‪،‬‬
‫وغمـزات بأعينهمــا‪ ،‬وإشــارات اصطلحــا عليهــا للتفاهــم بينهمــا‪ ،‬أو كان الشــيخ يدنــو منــي ليهمــس‬
‫لي ‪:‬‬
‫ ـارفع صوتك‪...‬إن أذنها ثقيلة بعض الشيء‪.‬‬
‫بينما تهمس لي هي من ناحيتها‪:‬‬
‫ ـبصوت أعلى قليال‪ ،‬أرجوك!‪ ...‬فإنه ال يكاد يسمع‪.‬‬
‫ّ‬
‫وإذ ذاك كنــت أرفــع صوتــي‪ ،‬فيشــكرني الكهمــا بابتســامة‪ ،‬وفــي هــذه البســمات الذابلــة التــي‬
‫كانــت تنحنــي علــي باحثــة فــي غــور عينــي عــن صــورة موريســها‪ ،‬كنــت أرى‪ ،‬وأنــا شــديد التأثــر‪،‬‬
‫صــورة صاحبــي المنشــودة غامضــة محجبــة ال يــكاد يدركهــا البصــر‪ .‬فكأنــي كنــت أرى صديقــي‬
‫يبتســم لــي‪ ،‬بعيـ ًـدا جـ ًّـدا فــي ضبــاب‪.‬‬
‫وفجأة انتصب الشيخ فوق مقعده‪:‬‬
‫أ‬ ‫أ‬
‫ ـإني لفكر في المر‪ ،‬ماتت‪ ...‬لعله لم يتناول غداءه!‬
‫فترفع ماتت ذراعيها نحو السماء مشدوهة مضطربة‪:‬‬
‫ّ‬
‫ ـلم يتناول غداءه! ياسبحان الله!‬
‫وكنــت أظــن أنهمــا مــا زاال يتحدثــان عــن موريــس‪ ،‬وهممــت أن أجيــب بــأن هــذا الولــد‬
‫الطيــب لــم يكــن يتأخــر قــط عــن الســاعة الثانيــة عشــرة ظهـ ًـرا لكــي يجلــس إلــى المائــدة‪ .‬ولكنهمــا‬
‫كانــا يتكلمــان عنــي أنــا‪ ،‬ويــا ليتكــم شــهدتم أي اســتعداد أقــام البيــت وأقعــده حيــن صرحــت‬
‫بأننــي مــا زلــت علــى الطــوى‪.‬‬
‫ ـأســرعا بــأدوات المائــدة أيتهــا الصغيرتــان الزرقــاوان! اجذبــا الخــوان إلــى وســط الغرفــة‪ ،‬وأبســط‬
‫ً‬ ‫أ‬ ‫أ‬ ‫أ‬
‫ســماط يــوم الحــد‪ ،‬وأخرجــا الطبــاق ذوات الزهــار‪ .‬كفانــا ضحــكا مــن فضلكمــا! ولنســرع‪...‬‬
‫ّ‬ ‫أ‬
‫وإنــي لعتقــد تمــام االعتقــاد أنهمــا كانتــا تســرعان‪ ،‬فلــم يكــد ينقضــي مــن الوقــت إل مــا يلــزم‬
‫لكســر ثالثــة أطبــاق‪ ،‬حتــى كان الغــداء معـ ًّـدا‪.‬‬
‫وقالت لي مامت وهي تقودني إلى الخوان‪:‬‬
‫ ـغــداء صغيــر طيــب!‪ . ...‬بيــد أنــك ســتكون وحــدك إلــى المائدة‪...‬أمــا نحــن فقــد أكلنــا صبــاح‬

‫‪73‬‬
‫عشر‬
‫َ‬ ‫الصف الثّاين‬

‫اليــوم‪.‬‬
‫يــا لهذيــن الشــيخين المســكينين! إن مــن يدخــل عليهمــا فــي أيــة ســاعة‪ ،‬يجدهمــا ً‬
‫دائمــا قــد‬
‫أالك فــي الصبــاح‪.‬‬
‫وبالغــداء مامــت الصغيــر الطيــب! كان يتألــف مــن إصبعيــن مــن اللــب‪ ،‬وبعــض التمــر‪،‬‬
‫وقطعــة (باركيــت) وهــي شــيء يشــبه الفطيــر‪ ،‬وتلــك مــادة تكفــي إلطعامهــا وإطعــام (كناريهــا) ً‬
‫أياما‬
‫ثمانيــة علــى أقــل تقديــر‪ ...‬فمــا قولكــم وقــد أتيــت وحــدي علــى كل هــذه المــؤن عــن آخرهــا!‪...‬‬
‫وبنــاء عليــه‪ ،‬أي اســتنكار حــول المائــدة! يــا لــي مــن الصغيرتيــن الزرقاويــن وقــد أخذتــا تتهامســان‬
‫وتتالم ـزان بمرفقيهمــا‪ ،‬ويــا لــي مــن أف ـراخ الكناريــا هنــاك فــي قــاع قفصهــا وقــد بــدا عليهــا أنهــا‬
‫ّ‬
‫تتقــاول‪" :‬أوه! هــذا الســيد الــذي يلتهــم الباركيــت كلهــا!"‪.‬‬
‫ً‬
‫وفــي الواقــع لقــد التهمهــا كلهــا‪ ،‬بــل ولــم أكــد أتنبــه إلــى ذلــك‪ ،‬إذ كنــت مشــغول يســتغرقني‬
‫ّ‬
‫النظــر حولــي فــي هــذه الحجــرة الوضيئــة الوادعــة التــي كان يتضــوع فيهــا لــون مــن أريــج الماضــي‬
‫أ‬
‫والشــياء القديمــة‪ ..‬كان هنــاك قبــل كل شــيء ســريران‪ ،‬وهمــا أشــبه بمهديــن‪ ،‬كنــت أتمثلهمــا فــي‬
‫أ‬
‫الصبــاح‪ ،‬قبــل شــروق الشــمس‪ ،‬ومــا زاال كامنيــن فــي ســتائرهما الفضفاضــة ذوات الهــداب‪ ،‬ثــم‬
‫تــدق الســاعة الثالثــة‪ ،‬وهــي اســتيقاظ جميــع العجائــز‪:‬‬
‫ ـأنائمة أنت يامامت؟‬
‫ ـال‪ ،‬ياصاحبي‪.‬‬
‫ ـأو ليس موريس و ًلدا ً‬
‫طيبا؟‬
‫ ـأوه! أجل‪ ،‬إنه ولد طيب‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ً‬
‫وكنــت أتخيــل علــى هــذا المنــوال حديثــا بأكملــه‪ ،‬ال لشــيء إل لرؤيتــي فراشــي الشــيخين‪،‬‬
‫وهذيــن الســريرين الصغيريــن القائميــن هــذا بجــوار هــذا‪...‬‬
‫كان موريــس كلفــا بالكــرز! ومــال الشــيخ علــى أذنــي يقــول فــي لهجــة شــرهة وهــو يقــدم لــي‬
‫القــدح‪:‬‬
‫ّ‬
‫ ـإنــك لمحظــوظ‪ ،‬أنــت‪ ،‬إذا أتيــح لــك أن تتنــاول منــه!‪ . ...‬إن زوجتــي هــي التــي صنعتــه‪ ...‬لســوف‬
‫تتــذوق شـ ًـيئا ً‬
‫جيدا‪.‬‬
‫ّ‬
‫واحســرتاه! إن زوجتــه هــي التــي صنعتــه‪ ،‬ولكنهــا نســيت أن تحليــه بالســكر‪ .‬مــاذا تريــدون؟‬

‫‪74‬‬
‫ٌةفيدر ٌصصق ‪ -‬ناخيشلا‬

‫فالمــرء يمشــي شــارد الذهــن حيــن يهــرم‪ .‬لقــد كان كــرزك الذعــا حــادا يــا مســكينتي مامــت‪....‬‬
‫غيــر أن ذلــك لــم يمنعنــي مــن أن أتجرعــه إلــى آخــره دون أن تطــرف لــي عيــن‪ .‬وعندمــا انتهــى‬
‫الطعــام‪ ،‬نهضــت أســتأذن مضيفــي فــي االنصـراف‪ .‬لقــد كانــا يــودان لــو اســتبقياني بعــد ذلــك قليــا‬
‫لنتحــدث عــن الولــد الطيــب‪ ،‬ولكــن نــور النهــار كان يخبــو‪ ،‬وكانــت الطاحونــة بعيــدة‪ ،‬فلــم يكــن‬
‫بــد مــن الرحيــل‪.‬‬
‫وكان الشيخ قد نهض حين هممت‪:‬‬
‫ ـمامت‪ ،‬معطفي‪ ..‬أريد أن أرافقه حتى الميدان‪.‬‬
‫ولــم يكــن شــك فــي أن ماتــت‪ ،‬فــي ق ـراره نفســها‪ ،‬كانــت تجــد أن بــرودة خفيــة ‪-‬منــذ ذلــك‬
‫الوقــت‪ -‬قــد انتشــرت فــي الجــو ال تــأذن لصاحبهــا أن يرافقنــي حتــى الميــدان‪ ،‬ولكنهمــا لــم تــدع‬
‫ّ‬
‫شــيئا مــن ذلــك يبــدو عليهــا‪ .‬إل أننــي ســمعت هــذه الشــيخة المســكينة بينمــا هــي تعينــه علــى‬
‫دخــول ردنــي معطفــه‪ ،‬معطــف أســباني بنــي قاتــم ذي أزرار صدفيــة‪ ،‬تقــول لــه فــي رقــة‪:‬‬
‫ً‬
‫ ـلن تتأخر طويل‪ ،‬أليس كذلك؟‬
‫أما هو فأجاب في لهجة متخابثة متمنعة‪:‬‬
‫ ـهئ! هئ!‪ ...‬لست أدري‪ ...‬ربما‪...‬‬
‫ً‬ ‫آ‬
‫وهنــا نظــر كل منهمــا فــي عينــي الخــر ضاحــكا إذ تريانهمــا يضحــكان‪ ،‬وأمســت أفــراخ‬
‫الكنــاري فــي ركنهــا تضحــك أيضــا علــى طريقتهــا الخاصــة‪.‬‬
‫أ‬
‫‪ ...‬وكان الظــام يهبــط الرض حيــن خرجنــا‪ ،‬أنــا والجــد‪ .‬وكانــت الزرقــاء تتبعنــا مــن بعيــد لكــي‬
‫تعيــده‪ ،‬ولكنــه لــم يكــن يراهــا‪ .‬بــل اســتبد بــه الفخــر إذ يتأبــط ذراعــي‪ ،‬كالرجــل‪ .‬وأشــرق وجــه‬
‫مامــت عندمــا رأت ذلــك‪ ،‬مــن أســكفة بيتهــا‪ .‬وكان لرأســها وهــي تنظــر إلينــا هـزات جميلــة‪ ،‬لعلهــا‬
‫كانــت تقــول‪" :‬علــى الرغــم مــن كل شــيء‪ ،‬زوجــي العزيــز!‪ . ...‬إنــه مــا زال قــادرا علــى المشــي‪").‬‬

‫‪75‬‬
‫عشر‬
‫َ‬ ‫الصف الثّاين‬

‫‪76‬‬
‫ٌةفيدر ٌصصق ‪ -‬رقصلا‬

‫الصقر‬
‫غوستاف هلسرتوم‬
‫أ‬
‫كان (الســر انغورانــد) يذهــب إلــى الصيــد كل يــوم ويــده فــي قفــاز أحمــر مطــرز بالذهــب‪ ،‬لنــه‬
‫آ‬
‫لــم يكــن ليوقــظ فــي حنايــاه الحاســة الموســيقية ســوى طيـران الصقــر اليســلندي ورنيــن أجراســه‬
‫أ‬
‫الصغيــرة‪ ،‬فتجعلــه يستنشــق نســيم الصبــح القريــر ببهجــة‪ .‬وفــي أحــد اليــام طــارد الصقــر بلتونــا‬
‫أ‬
‫داميــا إلــى مســتنقع وراء الجمــة حيــث وجــده الصيــاد ودق عنقــه‪ ،‬ولكــن الصقــر لــم يكــن ليعثــر‬
‫لــه علــى أثــر‪ .‬فهــل أغرتــه فريســة جديــدة‪ ،‬أم أنــه عــاف مــاء المســتنقع الكــدر‪ ،‬أم أن خيــاءه‬
‫ً‬ ‫أ‬
‫دفعــت بــه إلــى التحليــق فــي الجــواء حتــى شــطت بــه الريــح؟ ‪-‬عبثــا ذهبــت محاوالتهــم فــي‬
‫ً‬
‫العثــور عليــه‪ .‬وعبثــا نــادوه بأســماء محببــة‪ ،‬وكذلــك دوى صــوت البــوق مــن علــى كل رابيــة‪ .‬فصفــع‬
‫(الســر انغورانــد) بقفــازه كبيــر الصقاريــن علــى فمــه المرتعــش حتــى ســال منــه الــدم‪ ،‬ثــم راح‬
‫متجهــا صــوب القصــر وشــفتاه مزمومتــان بشــدة متناهيــة‪ ،‬وجفنــاه‬‫يرمــح علــى جــواده فــوق العشــب ً‬
‫مســدالن فــي كآبــة أشــد علــى عينيــه المتراخيتيــن‪ .‬أمــا الصقــر فلــم يجــدوه‪.‬‬
‫ولكــن (رينــود) وجــده وقــد تعلــق إزاره بشــجيرة عليــق وهــو دون حـراك ينتظــر المــوت ً‬
‫جوعــا‬
‫أ‬ ‫آ‬
‫فــي براثنهــا الثابتــة‪ ،‬أحــد جناحيــه معلــق والخــر مرتفــع بتحــد ورأســه المســتطيل ممتــد إلــى المام‬
‫ً‬
‫يتوعــد بعينيــن ثابتتيــن ومنقــار صــارم‪ .‬لقــد كان جميــا وهــو قابــع بيــن حبــات العليــق الحم ـراء‬
‫أ‬
‫كالــدم‪ ،‬وارتعشــت يــد (رينــود) لهفــة وهــو ينتــزع إزاره مــن بيــن الشــوك والجـراس الصغيــرة تــرن‬
‫بيــن أصابعــه علــى الحلقــة المرســومة بطابــع (الســر انغورانــد)‪ .‬وعــا صراخــه بالفــرح عندمــا شــقت‬
‫المخالــب الحــادة ذراعــه المفتولــة وأصبــح الصقــر ملكــه‪ ..‬صقــر يمتــاز بأعــرض صــدر وأطــول‬
‫جناحيــن وأنبــل عينيــن كالذهــب الملتهــب‪.‬‬
‫أ‬ ‫ً‬ ‫أ‬
‫لقــد غــدا ملكــه دونمــا ريــب‪ ،‬لنــه لــن يســتطيع مطلقــا أن يريــه لي إنســان‪ ،‬فهــو يعلــم بالقوانين‬
‫قفصــا فــي الغابــة‪ ،‬فيتســلل‬‫الصارمــة ّالتــي تحمــي هوايــات الفرســان الرياضيــة‪ ،‬إنــه ســيبتني لــه ً‬
‫فــي الصبــاح الباكــر إلــى هنــاك قبــل أن ينفــض الطيــر البــرد عــن نفســه ويجــوالن الحقــول ســوية‪،‬‬
‫آ‬
‫ويكتســحان بنظراتهمــا المناطــق البيضــاء الشــاهقة‪ ،‬ولســوف يغــرم الكهمــا بالخــر‪ ،‬وأشــعة الشــمس‬
‫تعلــو وتنســكب علــى رأســيهما وتحمــل الريــح أفكارهمــا‪ .‬أحكــم (رينــود) وثاقــه ثانيــة‪ ،‬وركــض‬

‫آ‬
‫* كاتب سويدي حائز على جائزة نوبل في الداب (‪.)1882-1953‬‬

‫‪77‬‬
‫عشر‬
‫َ‬ ‫الصف الثّاين‬

‫ـريعا ببطــة قتلهــا بحجــر وقدمهــا للصقــر‪ ،‬فأقبــل عليهــا‪ ،‬فتخــدر قلــب‬ ‫نحــو البركــة‪ ،‬ثــم رجــع سـ ً‬
‫أ‬
‫(رينــود) مــن النشــوة لن تلــك كانــت عالمــة مــن الصقــر بأنــه ال يحتقــره وأنــه ســيكون لــه‪.‬‬
‫ً‬
‫وأصبــح الصقــر ملــكا لــه‪ ،‬وكلمــا طقطقــت العســاليج المتجمــدة بالصقيــع تحــت خطواتــه فــي‬
‫ســكون الصبــاح كان الصقــر يحنــي رأســه ويصغــي‪ ،‬وعينــاه هادئتــان ترقبــان علــى حــذر‪ ،‬ثــم يقفــز‬
‫ـادا نفســه نحــو يــده وهــو يرفــرف بجناحيــه كأنمــا يريــد الطيـران ‪-‬أو يريــد أن‬ ‫بخفــة مــن قفصــه مـ ًّ‬
‫ً‬
‫يذكــره بذلــك‪ -‬ثــم يســرعان فــي الخــروج مــن الفلــوات الرحبــة حيــث كان الضــوء ينتشــر شــيئا‬
‫ً‬
‫فشــيئا‪.‬‬
‫قاتمــا‪ ،‬وترامــت التــال‬ ‫و ألقــت عيونهمــا نظــرات حــادة علــى الســماء المحمــرة احمــر ًارا ً‬
‫أ‬ ‫أ‬
‫ســوداء باليــكات المتناثــرة حيــث رقــدت الشــجار وأغصانهــا مثقلــة بالعصافيــر الصامتــة‪ .‬وغــدت‬
‫الســماء منبلجــة البهــاء تتوهــج بالذهــب واالحمـرار‪ ،‬وأصبحــت معالــم الحقــول زرقــاء‪ ،‬طــار البــوم‬
‫أ‬
‫يســف علــى الرض يلتمــس مخبــأ‪ ،‬ونشــرت عصافيــر الصبــاح أجنحتهــا مسقســقة بلطــف مــن‬
‫أ‬
‫البــرد‪ ،‬وظهــرت فــي طيرانهــا ســوداء علــى صفحــة الهــواء المتللئــة‪ .‬ولكــن (رينــود) وصقــره أســرعا‬
‫ً‬ ‫أ‬
‫فــي ســيرهما لن هــذه كانــت عصافيــر الــدوري والســمان ‪-‬وال يطمعــان فيهــا فريســة‪ .‬ولكــن نــزول‬
‫عنــد المســتنقعات كانــت البالتــن تزعــق وتطيــر بضربــات طويلــة مــن أجنحتهــا فــي دوائــر واســعة‪،‬‬
‫عاليــا وصــدره مصــوب كالقــدر وأجنحتــه مســتعدة‬ ‫فهنــاك كانــت الفريســة‪ .‬وهنــاك أطلــق الصقــر ّ‬
‫للقصــف‪ ،‬ورآه (رينــود) فــي أشــعة الشــمس وقــد انقلــب إلــى لــون الذهــب فوقــف معمـ َّـي العينيــن‬
‫مصابــا بالــدوار بينمــا غــدا الطيــر يصفــر علــى أديــم الســماء‪ .‬وبلغــت مســامعه ســخرية رنيــن‬ ‫ً‬
‫أجراســه مــن زعقــات البالتــن‪.‬‬
‫ً‬
‫أخــذت البالتــن تحــوم فــي دوائــر مــن خوفهــا‪ .‬وفكــرت آنــا فــي أن تحــط علــى الشــاطئ لكــي‬
‫أ‬
‫تخبــئ أعناقهــا الطويلــة ورؤوســها البلهــاء المرتعبــة وأعرافهــا المنحنيــة تحــت الشــجار القاتمــة‪،‬‬
‫ً‬
‫وآنــا آخــر حاولــت متــرددة أن تعلــو فــي شــكل حلزونــي متكئــة علــى أجنحتهــا العريضــة فــي‬
‫حملهــا إلــى أعلــى ممــا يســتطيع عدوهــم مطاردتهــا‪ ،‬وارتجفــت كالقصــب مــن الرعــب المســتولي‬
‫علــى قلوبهــا‪.‬‬
‫ولكــن الصقــر التقــط منــذ البدايــة واحـ ًـدا مــن أقواهــا‪ ،‬واحـ ًـدا مــن أولئــك الذيــن حلقــوا عاليــا‬
‫أ‬
‫لول وهلــة‪ .‬أحــب الصقــر أن يجــرب قوتــه وأن يشــعر بالهــواء الخفيــف القريــر تحــت جناحيــه‪،‬‬

‫‪78‬‬
‫ٌةفيدر ٌصصق ‪ -‬رقصلا‬

‫ورفــع نفســه بســرعة غيــر متلجلــج وكأنــه يحــوم حــول شــعاع مــن الشــمس‪ .‬وللحــال غــدا هــو‬
‫ً‬ ‫أ‬
‫العلــى‪ .‬وبــان للعيــان أصغــر مــن العصفــور الــدوري‪ ،‬ولكــن شــيئا مــن هيئــة جناحيــه وفــي قــوة‬
‫جســده المركــزة أعطــت فكــرة عــن إشــعاع عينيــه الوحشــيتين ومخالبــه الممتــدة‪ ،‬وانقــض بغتــة‬
‫أ‬ ‫أ‬ ‫ً‬
‫ثقيــا كالفــوالذ‪ ،‬علــى عنــق فريســته العــزل المتجــه نحــو العلــى‪ ،‬وســقط االثنــان كحجــر تــكاد‬
‫أجنحتهمــا ال تتحــرك‪ .‬وهــرول (رينــود) يخــوض البركــة بســرعة قبــل أن ينشــل البلتــون نفســه‬
‫ويســتعيد صوابــه مــن هــول الضربــة‪ ،‬فيجمــع قــواه ويســتعمل منقــاره الصــارم فــي وحشــية يائســة‪،‬‬
‫غيــر أن الصقــر عاجلــه بالضربــة المميتــة بحــدة وســرعة‪ ،‬والتفــت بعينيــه الواســعتين نحــو ســيده‬
‫أ‬
‫لنــه اســتنكف أن يلطــخ ريشــه بالــدم‪ ،‬وانتظــر كــي يوهــب لــه القلــب وهــو مــا ي ـزال حـ ًّـارا‪.‬‬
‫عاليــا وركــض وراءه ً‬
‫مناديــا‬ ‫لــم يطــر الصقــر ثانيــة فــي ذلــك اليــوم‪ ،‬وعندمــا أطلقــه رينــود‪ ،‬وطيــره ً‬
‫محر ًضــا‪ ،‬خبــط جناحيــه بضــع مـرات‪ ،‬ثــم جثــم علــى كتفــه مــرة أخــرى ببــرود وكبريــاء إزاء وجهــه‬ ‫ّ‬
‫الصبيانــي الضاحــك‪ ،‬وظهــر أنــه يحتقــر جميــع التوافــه‪ ،‬فأحجــم (رينــود) عــن تكـرار ذلــك بينمــا‬
‫ً‬
‫مخلصــا لــه أكثــر مــن أي شــيء‬ ‫اكتســبت نظراتــه ونظـرات الصقــر الجديــة البعيــدة المــدى‪ .‬وغــدا‬
‫آخــر امتلكــه فــي حياتــه‪ ،‬وخيــل إليــه أن الصقــر قــد قـ ّـد مــن روحــه وحنينــه بجناحيــه العريضيــن‬
‫ولمحتــه المنتصــرة‪ .‬ولكــن كان هنالــك ألــم فــي حبــه‪ ،‬وتشــاؤم كئيــب مــن بليــة منتظــرة‪ .‬وفــي‬
‫أحاييــن أخــرى يداهمــه الخــوف لئــا يفارقــه طيــره دون اكت ـراث‪ ،‬ويختفــي مــع رنيــن أجراســه‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫الســافر‪ .‬إن الفـراغ الــذي ســيتركه ســيكون بمثابــه المــوت لــه وال ريــب‪ ،‬أو خيــل إليــه أن الصقــر‬
‫آ‬ ‫ً‬
‫كان شــرفا يتألــق علــى صفحــة الهــواء الــازوردي يجثهــم الن علــى كتفيــه فــي انتظــار ســفرات‬
‫جديــدة‪.‬‬
‫وفــي أوج فرحــه شــعر باالنقبــاض مــن تفاهــة نفســه‪ ،‬وبالــكاد جــرؤ أن يلقــي نظــرة علــى الطيــر‪،‬‬
‫ً‬ ‫أ‬
‫وأحــس باللــم فــي قلبــه بأنــه لــن يســتطيع أن يشــاركه فــي أفراحــه مطلقــا‪ ،‬وأن نظرتــه لــن تليــن أبـ ًـدا‬
‫أ‬
‫عنــد رؤيــة ســيده‪ .‬وركــض إلــى أرض الحــام‪.‬‬
‫أ‬ ‫أ‬ ‫أ‬
‫اضطجــع علــى الرض المنثــورة بالعشــاب والخلنــج الحمــر تحــت رأســه‪ ،‬بينمــا انســابت‬
‫الغيــوم مجتــازة كمصيــر بنــي البشــر‪ ،‬خفيفــة وثقيلــة‪ ،‬مركــزة فــي معالــم ثابتــة‪ ،‬أو مبعثــرة فــي‬
‫الهــروب‪ .‬يــد الريــح الخفيفــة تخشــخش‪ ،‬وراح (رينــود) يقــص الحكايــات علــى صقــره‪.‬‬
‫أ‬
‫رجــع الملــك (آرثــر) ثانيــة مــن بحــر برياتــي‪ ،‬وتســلم مــرة أخــرى ســيفه (أكســكاليبر) الرزق‬

‫‪79‬‬
‫عشر‬
‫َ‬ ‫الصف الثّاين‬

‫كســماء الليــل فــي طقــس بــارد‪ .‬ورفــع فرســانه االثنــي عشــر رؤوســهم الثقيلــة عــن المائــدة الحجريــة‬
‫الرض مــن تحــت أقدامهــم وكان (رينــود) ً‬ ‫أ‬
‫أيضــا هنــاك‪،‬‬ ‫ونفضــوا الســبات عــن أنفســهم‪ ،‬وارتجــت‬
‫ً‬ ‫آ‬ ‫ّ‬
‫نبيــل المولــد وجــواده يتبختــر تحتــه‪ ،‬والصقــر الــذي كان ً‬
‫منتصبــا‬ ‫نائمــا الن منحنــي الـرأس‪ ،‬جثــم‬
‫أ‬
‫علــى يــده يصبــو إلــى نظراتــه بعينيــن متألقتــن بالفــرح وبالشــمس الذهبيــة فــي الســاطير البطوليــة‪.‬‬
‫ولكــن الغيــوم انســابت مجتــازة كأقــدار البشــر المحتومــة تطــارد بعضهــا البعــض قائمــة الواحــدة‬
‫ً‬ ‫الخــرى‪ ،‬وشــكلت ً‬ ‫أ‬
‫قوســا هائــا مــن الكتــل‪ ،‬حيــث نفــذت أشــعة الشــمس وانســكبت‬ ‫منهــا فــوق‬
‫أحالمــا حزينــة كئيبــة عــن الغضــب ّ‬
‫العنيــن‬ ‫ً‬ ‫مــن فجواتهــا صف ـراء حــادة كالســهام‪ ،‬وحلــم الصقــر‬
‫العاجــز واســتيقظ وهــو يزعــق‪.‬‬
‫لمــح الصبيــة المتجولــون طيــر (الســر انغورانــد) علــى يــد (رينــود)‪ .‬فقبــض حثــاالت الفــارس‬
‫ً‬
‫عليــه وســاقوه إلــى القصــر‪ .‬وانتابتــه رعشــة عندمــا أخــذ الصقــر منــه ال يبــدي حـراكا وكلــه كبريــاء‬
‫دائمــا دون أن يلفــت عنقــه المنحنــي ودون لمحــة مــن عينيــه الهادئتيــن الباردتيــن‪ .‬أخــذ‬ ‫كعهــده ً‬
‫أ‬
‫الطيــر إلــى ســيده‪ ،‬ولكــن الســيد لــم يبــد أي عطــف نحــو محبــوب فقــده‪ ،‬وذلــك لنــه ســمح‬
‫ً‬
‫لنفســه بــأن تلمســه أيــد دونــه شــرفا ومنزلــة‪.‬‬

‫‪80‬‬
‫ٌةفيدر ٌصصق ‪ -‬وساجلا لفطلا‬

‫الطفل اجلاسوس‬

‫كان يدعى (ستن)‪( ،‬ستن) الصغير‪.‬‬


‫ً‬
‫وكان طفــا مــن أطفــال (باريــس) مهــزول الجســم‪ ،‬شــاحب الوجــه‪ ،‬تســتطيع أن تقــدر لــه مــن‬
‫العمــر عشــر ســنين‪ ،‬أو ربمــا خمــس عشــرة ســنة‪ ،‬فأنــت لــن تعــرف لــه سـ ًـنا بعينهــا‪.‬‬
‫أمــا أمــه فقــد ماتــت‪ ،‬وأمــا أبــوه فقــد كان مــن جنــود البحريــة الفرنســية ثــم أصبــح ً‬
‫حارســا‬
‫أ‬
‫يشــرف علــى أحــد مياديــن حــي التمبــل‪ .‬هنــاك الطفــال والمربيــات‪ ،‬والســيدات المســنات‬
‫ّ‬ ‫أ‬
‫اللواتــي يحملــن كراســيهن الصغيــرة‪ ،‬والمهــات الفقيـرات‪ ،‬كل (باريــس) التــي تــدب وتــرد لتحــط‬
‫أ‬ ‫أ‬
‫فــي ظــل العربــات بتلــك الحدائــق المحوطــة بالفاريز‪...‬كلهــم كانــوا يعرفــون الب (ســتن) ويحبونه‬
‫جمــا‪ .‬وكانــوا يعلمــون أن تحــت شــاربه ذلــك الخشــن الصــارم مبعــث فــزع الكلاب ومصــدر‬ ‫ًّ‬
‫حبــا ًّ‬
‫أ‬
‫الرائــك‪ ،‬تكمــن ابتســامة حنــو عذبــة هــي ابتســامة ّأم ً‬
‫تقريبــا‪ ،‬وأنــه مــا عليــك‬ ‫خــوف ج ـراري‬
‫ّ‬
‫حتــى تحظــى بتلــك االبتســامة إل أن تســأل الرجــل‪:‬‬
‫‪-‬كيف أصبح ابنك الصغير؟‬
‫لكــم كان هــذا الوالــد يحــب ولــده! ومــا كان أســعده‪ ،‬فــي المســاء‪ ،‬إذ تنصــرف المدرســة‪ ،‬فيأتيــه‬
‫معــا فــي الطــواف بالمم ـرات‪ ،‬متوقفيــن بــكل مقعــد‪ ،‬يحييــان المختلفيــن إلــى‬ ‫صغيــره ويأخــذان ً‬
‫حديقــة الميــدان ويــردان لهــم عوائدهــم الحســنة‪....‬‬
‫أ‬ ‫أ‬
‫ثــم يحاصــر اللمــان (باريــس)‪ ،‬فينقلــب كل شــيء‪ .‬هــا هــي ذي الســوار تضــرب حــول ميــدان‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫أ‬
‫الب (ســتن)‪ ،‬الــذي صــار مخزنــا للبتــرول‪ ،‬وهــا هــو ذا الرجــل المســكين يغــدو مســؤول عنــه‪،‬‬
‫أ‬
‫مضطـ ًـرا إلــى مراقبــة ال تنقطــع‪ ،‬فــكان يقضــي ســحابة يومــه وحيـ ًـدا بيــن الرصفــة الخربــة‪ ،‬وال‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫يجتمــع بولــده اللهــم إل إذا تقــدم المســاء ورجــع إلــى بيتــه‪ .‬فلعلــك رأيــت شــاربه حيــن كان‬
‫يتحــدث عبــر الـ(بروســيين)‪...1‬‬
‫أمــا (ســتن) الصغيــر فلــم يكــن ليضيــق كثيـ ًـرا بتلــك الحيــاة الجديــدة‪ .‬حصــار!‪ ...‬أجــل! كــم‬
‫يــروق الغلمــان هــذا! فــا المدرســة تحــول دون لهوهــم‪ ،‬وال تدريــس أصحابهــم‪ ،‬إنهــا عطلــة دائمــة!‬
‫أ‬ ‫أ‬
‫‪ )1‬البروسيين‪ :‬اللمان‪ ،‬نسبة الرض التي أتوا منها (أرض البلطيق)‪ ،‬وكانت تسمى (بروسيا)‪.‬‬

‫‪81‬‬
‫عشر‬
‫َ‬ ‫الصف الثّاين‬

‫ً‬
‫متنقــا ً‬ ‫أ‬
‫جاريــا‪.‬‬ ‫والشــوارع كأنهــا الســواق المقامــة‪ .‬وفــي هــذه الشــوارع كان الولــد ينفــق يومــه‬
‫يصحــب كتائــب الحــي الماضيــة إلــى المتاريــس‪ ،‬متخيـ ًـرا أولئــك الذيــن يفضــل موســيقاهم ‪ -‬فلقــد‬
‫عليمــا‪ ،‬يقــول لــك إن موســيقا الكتيبــة السادســة والتســعين ال‬ ‫خبيــرا ً‬
‫ً‬ ‫كان فــي هــذا المضمــار‬
‫أ‬
‫تســاوي كثيـ ًـرا‪ ،‬أمــا الكتيبــة الخامســة والخمســين فيــا لفرقتهــا الموســيقية! وكان فــي بعــض اليــام‬
‫يشــاهد الفصائــل المتحركــة إلــى ميــدان القتــال وهــي تــؤدي التمرينــات العســكرية‪ ،‬ثــم يتبعهــا‬
‫أ‬
‫مــع الذيــال الح ـرارة‪...‬‬
‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫هــا هــو إذا‪ ،‬متأبطــا ســلته‪ ،‬يندمــج فــي تلــك الصفــوف الطويلــة التــي كانــت تتشــكل فــي غســق‬
‫الشــتاء المملــق مــن الغــاز‪ ،‬تــارة فــي زمــرة القصابيــن‪ ،‬وتــارة فــي حلقــة الخبازيــن‪ .‬فهنــاك كان أفـراد‬
‫بعضــا‪ .‬ثــم يعكفــون علــى الحديــث فــي‬ ‫الجماعــة يتركــون المــاء يغمــر أقدامهــم‪ ،‬وبتعــرف بعضهــم ً‬
‫أ‬
‫السياســة‪ ،‬ولمــا كان صاحبنــا هــو ولــد الب (ســتن)‪ ،‬فقــد كان كل امــرئ يســأله رأيــه‪.‬‬
‫علــى أنــه لــم يكــن فــي الشــوارع أطــرف مــن مباريــات (الجالــوش)‪ ،‬تلــك اللعبــة الشــهيرة‬
‫ّ‬
‫التــي أذاعهــا الجنــود البريطانيــون فــي أثنــاء الحصــار‪ .‬فــإن أنــت لــم تجــد (ســتن) الصغيــر فــي‬
‫أ‬
‫المتاريــس أو بيــن الخبازيــن‪ .‬ثــق لنــك البــد وأجــده فــي مبــاراة الجالــوش بميــدان الـ(شــتو دو)‪.‬‬
‫يومــا ليلعــب‪ ،‬بالطبــع‪ ،‬ألن دون اللعــب نقـ ً‬
‫ـودا كثيــرة‪ ،‬وإنمــا كان يقنــع بمشــاهدة‬ ‫ولكنــه لــم يكــن ً‬
‫المتباريــن والنظــر بعينيــه‪...‬‬
‫ّ‬
‫هنــاك بوجــه خــاص فتــى كبيــر ذو رداء أزرق‪ ،‬لــم يكــن يبــاري إل بقطــع مــن فئــة المائــة (ســو)‪.‬‬
‫ذلــك كان يثيــر إعجــاب صاحبنــا الصغيــر‪ .‬وإن للنقــود فــي أعمــاق ثوبــه لصلصلــة تــرن فــي ســمعك‬
‫حين يجــري‪...‬‬
‫وذات يــوم‪ ،‬إذ تدحرجــت قطعــة مــن نقــوده تحــت قدمــي (ســتن) فأعادهــا إليــه‪ .‬قــال لــه الكبيــر‬
‫فــي صــوت خفيض‪:‬‬
‫حسنا‪ ،‬إن شئت أخبرتك أين تجد مثله‪.‬‬ ‫ ـإن هذا يخطف بصرك؟‪ً ...‬‬

‫ركنــا مــن أركان البلــدان‪ ،‬وعــرض عليــه أن يصاحبــه فــي بيــع‬ ‫فلمــا انتهــت المبــاراة‪ ،‬انتبــذ بــه ً‬
‫ً‬
‫صحــف للـ(بروســيين)‪ ،‬فــإن الرحلــة الواحــدة تــدر ثالثيــن فرنــكا‪.‬‬
‫ً‬ ‫أ‬
‫رفــض (ســتن) فــي أول المــر‪ ،‬وأبــى حانقــا أن يثــري مــن يــد العــدو‪ .‬ولقــد كان مــن أثــر ذلــك‬
‫أن انقطــع ثالثــة أيــام عــن ارتيــاد حلقــة اللعــب‪ ،‬ثالثــة أيــام رهيبــة‪ ،‬لــم يكــن يــأكل فيهــا‪ ،‬ولــم يكــن‬

‫‪82‬‬
‫ٌةفيدر ٌصصق ‪ -‬وساجلا لفطلا‬

‫أ‬
‫ينــام‪ ،‬فــإذا جــن الليــل طافــت بــه الطيــاف ورأى أكــداس الجالــوش قائمــة تحــت ســريره‪ ،‬وطالعتــه‬
‫قطــع النقــود بأوجههــا البراقــة‪ .‬لقــد كان الغـراء شـ ً‬
‫ـديدا ال طاقــة للصغيــر علــى احتمالــه فعــاد فــي‬ ‫إ‬
‫اليــوم الرابــع إلــى الـ(شــاتو دو)‪ ،‬وقابــل الفتــى الكبيــر‪ ،‬واستســلم‪.‬‬
‫انطلقــا فــي صبــاح هطــل جليــده‪ ،‬وعلــى كتــف كل منهمــا كيــس مــن القمــاش‪ ،‬وتحــت ســترته‬
‫صحــف مخبــأة‪ .‬وعندمــا بلغــا بــاب الفالنــدر‪ ،‬وقــد أوشــك النهــار أن ينبلــج‪ ،‬أخــذ الكبيــر بيــد‬
‫أ‬ ‫ً‬
‫(ســتن)‪ ،‬ودنــا مــن الحــارس ‪-‬وكان رجــا محمــر النــف طيــب القلــب‪ -‬فخاطبــه بصــوت الــذل‬
‫ً‬
‫والمســكنة قائــا‪:‬‬
‫ ـاســمح لنــا أن نمــر يــا ســيدي الكريــم‪ ...‬فــإن أمنــا مريضــة وأبانــا قــد توفــى‪ ،‬وســأذهب أنــا وأخــي‬
‫ً‬
‫الصغيــر إلــى الحقــل لعلنــا نجمــع شــيئا مــن البطاطــس‪.‬‬
‫وكان يبكــي‪ .‬أمــا (ســتن) فقــد خفــض رأســه الصغيــر‪ ،‬وكان الخجــل يغمــره‪ .‬وتأملهمــا الحــارس‬
‫ً‬
‫لحظــة‪ .‬ثــم ألقــى نظــرة علــى الطريــق المقفــرة البيضــاء وقــال وهــو يفســح لهمــا ســبيل‪.‬‬
‫ ـمرا ً‬
‫سريعا‪.....‬‬
‫ها هما ذان في طريق أوبرفيليه وها هو ذا الكبير يضحك‪.‬‬
‫صــورا ينقصهــا الوضــوح‪ ،‬صــور مصانــع تحولــت إلــى‬ ‫ً‬ ‫ويــرى (ســتن)‪ ،‬كأنــه فــي حلــم‪،‬‬
‫معســكرات‪ ،‬وحصــون خاليــة قــد علقــت بهــا خــرق مبتلــة‪ ،‬ومداخــن باســقة قــد ثقبــت حجــاب‬
‫الضبــاب وارتفعــت فــي الســماء خاويــة محطمــة‪ ....‬ومــن بعيــد إلــى بعيــد‪ ،‬حــارس‪ ،‬وضبــاط قــد‬
‫دثــروا رؤوســهم يتطلعــون هنــاك بالمنظــار‪ ،‬وخيــام صغيــرة قــد بللهــا الجليــد المنصهــر أمــام نــار‬
‫خبيــرا بالســكك‪ ،‬فمضــى بيــن الحقــول ً‬
‫مجنبــا مواقــع الجنــود‪،‬‬ ‫ً‬ ‫تخبــو وتحتضــر‪ .‬وكان الكبيــر‬
‫ولكنهمــا يشــرفان علــى مركــز مــن مراكــز قــوة المدفعيــة‪ ،‬فــا يســتطيعان أن يجــدا إلــى المفــر‬
‫ً‬
‫ســبيل‪ .‬هنــاك جنــود المدفعيــة ببرداتهــم القصيــرة‪ ،‬قابعــون فــي جــوف الخنــدق‪.‬‬
‫ً‬
‫وعبثــا أخــذ الكبيــر يعيــد قصتــه ويعيدهــا‪ ،‬فلــم يســمح لهمــا أحــد بالمــرور‪ ....‬وبينمــا هــو‬
‫ينتحــب‪ ،‬خــرج مــن بيــت الحــرس إلــى الطريــق‪ ،‬جاويــش عجــوز‪ .‬أبيــض الـرأس مغضــن الوجــه‪،‬‬
‫أ‬
‫شــديد الشــبه بــالب (ســتن) فقــال للغالميــن‪:‬‬
‫ً‬
‫ ـهيــا أيهــا الصغيـران! حســبكما بــكاء! ســنأذن لكمــا بالذهــاب إلــى بطاطســكما‪ ،‬ولكــن أدخــا أول‬

‫‪83‬‬
‫عشر‬
‫َ‬ ‫الصف الثّاين‬

‫ً‬
‫فاصطليــا قليــا‪ ....‬لقــد تجمــد مــن البــرد هــذا الولــد!‬
‫يــا للــه! مــا كان مــن البــرد يرتعــد (ســتن) الصغيــر‪ ،‬وإنمــا كانــت تمكــو فرائصــه مــن الوجــل‪،‬‬
‫ّ‬
‫ومــن الخجل‪...‬ووجــدا فــي الــدار بعــض الجنــود قــد جلســوا القرفصــاء حــول نــار مهزولــة اللهــب‪،‬‬
‫ً‬
‫حزينــة الجــذوة‪ ،‬كانــوا يمجــون فيهــا علــى أطـراف حرابهــم شــيئا مــن البســكويت المثلــج يلتمســون‬
‫ً‬
‫تســخينه‪ .‬فانضــم بعضهــم إلــى بعــض وأفســحوا للغالميــن مكانــا‪ .‬وقدمــوا لهمــا جرعــات مــن القهــوة‪.‬‬
‫وفيمــا همــا يرتشــفان‪ ،‬إذا الضابــط يبــدو علــى البــاب‪ ،‬فيدعــو إليــه الجاويــش‪ ،‬ويحدثــه فــي صــوت‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫خفيــض‪ ،‬ثــم يمضــي مسـ ً‬
‫ـرعا ويعــود الجاويــش مشــرقا متهلــا يقــول‪:‬‬
‫أ‬
‫ ـآه أيهــا الوالد! هنــاك دخــان فــي هــذه الليلــة‪ ...‬لقــد فوجئــت كلمــة الـ(بروســيين)‪ ...‬وأعتقــد أننــا‬
‫سنســتعيدها منهــم فــي هــذه الكــرة‪ ،‬سنســتعيد (بورجيــه) المقدســة!‬
‫ويثيــر ذلــك عاصفــة مــن الصيــاح والمــرح‪ .‬وينهــض الجنــود للرقــص والغنــاء وتنظيــف الحراب‪،‬‬
‫وينتهــز الصبيــان فرصــة هــذا الهــرج‪ ،‬ويختفيان‪.‬‬
‫ّ‬
‫ويعب ـران الخنــدق‪ ،‬فــا يبقــى أمامهمــا بعــد ذلــك إل الســهل المنبســط‪ .‬وفــي نهايــة الســهل‬
‫جــدار قائــم‪ ،‬أبيــض اللــون‪ ،‬كثيــر الثغـرات‪ .‬لقــد كانــا يقصــدان إلــى هــذا الجــدار‪ .‬فســارا يتوقفــان‬
‫فــي كل خطــوة متظاهريــن بجمــع البطاطــس‪ ،‬وســتن الصغيــر يقــول لصاحبــه فــي كل لحظــة‪" :‬هيــا‬
‫نرجــع‪ ...‬ال نذهــب إلــى هنــاك"‪ .‬وصاحبــه يرفــع كتفيــه ويتقــدم ً‬
‫دائمــا‪ .‬وفجــأة ســمعا صــوت بندقيــة‬
‫أ‬
‫تحشــى‪ ،‬فصــاح الكبيــر‪" :‬انبطــح!"‪ ،‬واســتلقى هــو علــى الرض‪ .‬وأخــذ يصفــر‪ .‬وإذا صفيــر آخــر‬
‫أ‬
‫يجيبــه مــن فــوق الجليــد‪ .‬أم يتقدمــان زاحفين‪...‬وأمــام الجــدار‪ ،‬ظهــر علــى أديــم الرض شــارب‬
‫أصفــر تحــت قلنســوة وســخة‪ .‬فقفــز الكبيــر فــي الخنــدق إلــى جانــب البروســي‪ ،‬وقــال وهــو يريــد‬
‫صاحبــه‪:‬‬
‫ ـإنه أخي الصغير‪.‬‬
‫وكان (ســتن) صغيـ ًـرا إلــى حــد جعــل البروســي يضحــك مــلء فيــه‪ ،‬ويأخــذه فــي ذراعيــه‬
‫فيرفعــه حتــى الثغــرة‪.‬‬
‫أ‬ ‫آ‬
‫وفــي الجانــب الخــر للجــدار كانــت أكــداس كبيــرة مــن التـراب‪ ،‬وأشــجار ملقــاة علــى الرض‪،‬‬
‫أ‬
‫وثقــوب ســوداء فــي الجليــد‪ ،‬وفــي كل ثقــب منهــا تلــك القلنســوة الوســخة وذلــك الشــارب الصفــر‬
‫يضحــك إذ يــرى الغالميــن يمـران‪.‬‬

‫‪84‬‬
‫ٌةفيدر ٌصصق ‪ -‬وساجلا لفطلا‬

‫أ‬ ‫أ‬
‫وفــي ركــن مــن الركان‪ ،‬كان بيــت بســتاني مســقوف بجــذوع الشــجر‪ .‬وكان طابقــه الســفل‬
‫ّ‬
‫يغــص بجنــود يلعبــون الــورق‪ ،‬ويعــدون الحســاء علــى نــار متأججــة اللهــب صافيــة الجــذوة‪.‬‬
‫وللكرنــب والشــحم رائحــة تنبعــث لذيــذة شــهية‪ .‬مــا أبعــد الفــرق بيــن هــؤالء وبيــن معســكر الجنــود‬
‫ً‬ ‫أ‬
‫مخصصــا للضبــاط‪.‬‬ ‫الفرنســيين! وكان الطابــق العلــى‬
‫دخــل ال(باريس)يــان فاســتقبلتهما صيحــات البشــر والترحيــب‪ .‬وســلما مــا يحمــان مــن‬
‫الصحــف‪ ،‬ثــم صبــت لهمــا أكــواب الشــاي‪ ،‬واســتدرجهما أهــل الــدار إلــى الحديــث‪ .‬كانــت ســماء‬
‫جميعــا‪ ،‬ولكــن الفتــى الكبيــر قــد أخــذ يلهيهــم‬ ‫ً‬ ‫الكبريــاء والخبــث باديــة علــى هــؤالء الضبــاط‬
‫بلهجتــه العاميــة وحديثــه المتدفــق فــي ألفــاظ ســوقة‪ ،‬فكانــوا يضحكــون ويــرددون كلماتــه فــي‬
‫ّ‬
‫طــرب‪ ،‬ويتمرغــون متلذذيــن فــي طيــن (باريــس) الــذي جلــب إليهــم‪.‬‬
‫ً‬ ‫أيضــا‪ ،‬ليثبــت انــه لــم يكــن ً‬ ‫ورقــد كان (ســتن) الصغيــر يــود أن يتكلــم هــو ً‬
‫غبيــا‪ ،‬ولكــن شــيئا‬
‫الخريــن‪ ،‬بروســي يكبــر أصحابــه ً‬ ‫آ‬ ‫ً‬
‫ســنا‬ ‫منفــردا عــن‬ ‫كان يضايقــه‪ .‬ذلــك بروســي وقــف قبالتــه‬
‫وجـ ًـدا‪ ،‬وكان يقـرأ وكان يتصنــع القـراءة‪ ،‬فــإن عينيــه لــن تتحــوال عــن (ســتن)‪ ،‬وإن فــي نظرتــه تلــك‬
‫ً‬
‫شــيئا مــن العطــف والرثــاء وكثيـ ًـرا مــن التأنيــب واالنتهــار‪ ،‬فلعــل للرجــل فــي بــاده ولـ ًـدا يبلــغ عمــر‬
‫ً‬
‫(ســتن)‪ ،‬ولعلــه كان يقــول فــي نفســه‪" :‬إنــي أفضــل المــوت علــى أن أرى ولــدي يحتــرف عمــا‬
‫كهــذا‪."...‬‬
‫منــذ نلــك اللحظــة أحــس (ســتن) الصغيــر كأن يـ ًـدا قــد وضعــت علــى قلبــه تمنعــه أن يخفــق‪.‬‬
‫وليلــة شــنت عليهــم إحــدى الغــارات‪ .‬ثــم يخفــض الكبيــر مــن صوتــه‪ ،‬ويتقــارب الضبــاط‪ ،‬وتجــد‬
‫الوجــوه‪ .‬لقــد كان البائــس ينبئهــم بهجــوم المدفعيــة‪.‬‬
‫هنا أفاق (ستن) الصغير ونهض ً‬
‫ثائرا يقول‪:‬‬
‫ ـليس هذا أيها الكبير‪ ...‬إني ال أريد‪....‬‬
‫ّ‬
‫ولكــن صاحبــه ال يعيــره إل ضحكــة‪ ،‬ثــم يســتأنف حديثــه‪ .‬وقبــل أن يتمــه‪ ،‬كان الضبــاط‬
‫جميعــا واقفيــن‪ ،‬يشــير لهمــا أحدهــم نحــو البــاب ويأمرهمــا بالخــروج‪.‬‬ ‫ً‬
‫ً‬
‫حديثــا سـ ً‬
‫ـريعا‪ .‬وخــرج الكبيــر فخـ ً‬ ‫أ‬
‫ـورا كأنــه‬ ‫ومضــى الضبــاط يتحدثــون فيمــا بينهــم باللمانيــة‬
‫ّ‬
‫الــدوج وهــو يصلصــل بنقــوده‪ ،‬وتبعــه (ســتن) مطأطــئ ال ـرأس‪ ،‬فلمــا مــر بذلــك البروســي الــذي‬
‫ً‬ ‫صوتــا ً‬ ‫ً‬
‫حزينــا يقــول فــي لكنــة ألمانيــة‪" :‬ليــس جميــا هــذا‪ ...‬ليــس‬ ‫طالمــا ضايقــه بنظرتــه‪ ،‬ســمع‬

‫‪85‬‬
‫عشر‬
‫َ‬ ‫الصف الثّاين‬

‫أ‬ ‫ً‬
‫جميــا!" فمــ�ت الدمــوع عينيــه‪.‬‬
‫هــا همــا ذان فــي الســهل مــرة أخــرى يعــدوان ويؤوبــان مســرعين‪ .‬وكان كيســاهما زاخريــن‬
‫ّ‬
‫بالبطاطــس التــي أعطاهمــا إياهــا البروســيون‪ ،‬وبذلــك عبـرا بغيــر مشــقة خنــدق جنــود المدفعيــة‬
‫الفرنســية‪ .‬وقــد كان هــؤالء يســتعدون للهجــوم فــي ليلتهــم تلــك‪ .‬فالفــرق تــرد صامتــة وتحتشــد وراء‬
‫الجــدران‪ .‬والجاويــش الشــيخ هنــاك‪ ،‬منصــرف إلــى رجالــه يصفهــم وهــو مستبشــر ســعيد‪ .‬فلمــا مــر‬
‫الصبيــان عرفهمــا‪ ،‬وأرســل إليهمــا ابتســامة عذبــة‪...‬‬
‫آه مــن تلــك االبتســامة! كــم نغصــت عليــك أيهــا الصغيــر (ســتن)! لقــد اســتولى عليــه فــي‬
‫لحظــة نــزوع إلــى أن يصيــح بهــم‪" :‬ال تذهبــوا هنــاك‪ ..‬فقــد خناكــم" ولكــن صاحبــه قــد قــال لــه إنــك‬
‫إذا تكلمــت رمونــا بالرصــاص‪ ،‬فمنعــه الخــوف‪.‬‬
‫وفــي الكورنــوف دخــا ً‬
‫دارا مهجــورة يقتســمان فيهــا النقــود‪ .‬والحــق يضطرنــي إلــى أن أقــول إن‬
‫ّ‬
‫القســمة كانــت نزيهــة عادلــة‪ ،‬وإن الدراهــم التــي اســتقرت فــي جيــب (ســتن) الصغيــر‪ ،‬وتفكيــره‬
‫ّ‬
‫فــي مباريــات (الجالــوش) التــي كانــت نصــب عينيــه‪ ،‬قــد هونــا عليــه مــن هــول الجريمــة‪.‬‬
‫ولكــن‪ ،‬يــا للطفــل المســكين! حينمــا أضحــى وحيـ ًـدا‪ ،‬حينمــا فارقــه الكبيــر بعــد أن اجتــازا‬
‫ّ‬ ‫أ‬
‫البــواب‪ ،‬إذ ذاك بــدأت جيوبــه تثقــل‪ ،‬وتثقــل جـ ًـدا‪ ،‬وأخــذت اليــد التــي كانــت تقبــض علــى‬
‫قلبــه تشــتد فــي ضغطهــا‪ .‬وإذ (باريــس) تبــدو لــه غيــر (باريــس)‪ .‬وإذا المــارة ينظــرون إليــه نظـرات‬
‫قاســية‪ ،‬كأنهــم قــد علمــوا مــن أيــن أقبــل‪ .‬وإذا كلمــة "جاسوس"تســتولى علــى ســمعه‪ ،‬فهــو يســمعها‬
‫ّ‬
‫فــي ضجيــج العجــات‪ ،‬وفــي قــرع الطبــول التــي تتــدرب علــى ضفــة الترعــة‪ .‬وأخيـ ًـرا وصــل إلــى‬
‫البيــت‪ ،‬فســره أن أبــاه لــم يكــن قــد رجــع‪ ،‬وصعــد مــن تــوه إلــى غرفتــه يخبــئ تحــت وســادته النقــود‬
‫ّ‬
‫التــي كان ينــوء بهــا‪.‬‬
‫ً‬ ‫أ‬
‫اليــام ر ً‬ ‫أ‬
‫مبتهجــا مثلمــا كان فــي رواحــه ذلــك المســاء‪.‬‬ ‫اضيــا‬ ‫لــم يكــن الب (ســتن) فــي يــوم مــن‬
‫أ‬
‫فــإن أنبــاء قــد بلغتــه مــن القاليــم تبشــر بتحســن الموقــف‪ .‬وجلــس الجنــدي الســابق ينظــر إلــى‬
‫بندقيتــه المعلقــة علــى الحائــط‪ ،‬ويقــول لطفلــه وهــو يضحــك ضحكتــه العذبــة‪:‬‬
‫ ـآه يا ولدي‪ ،‬لو كنت ً‬
‫كبيرا النبريت للـ(بروسيين)‪.‬‬
‫ً‬
‫جميعا‪:‬‬ ‫ونحو الساعة الثامنة‪ ،‬دوت طلقات مدفع‪ ،‬فقال الرجل الخبير بحصونه‬

‫‪86‬‬
‫ٌةفيدر ٌصصق ‪ -‬وساجلا لفطلا‬

‫ ـهذه (أوبر فيليه)‪ .‬القتال دائر في (بورجيه)‪.‬‬


‫فشــحب وجــه (ســتن) الصغيــر‪ ،‬ونهــض ً‬
‫مدعيــا أنــه يشــعر بتعــب شــديد‪ ،‬ودخــل لينــام‪ ،‬ولكنــه‬
‫لــم ينم‪..‬وتتابعــت طلقــات المدفــع‪ ...‬ومثلــت أمــام الصغيــر صــورة جنــود المدفعيــة الفرنســيين وقــد‬
‫مضــوا تحــت جنــح الظــام ليفاجئــوا الـ(بروســيين) فــإذا هــم يقعــون فــي شــرك منصــوب‪ .‬وتذكــر‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ّ‬
‫صريعــا مجنــدل‪ ،‬ورأى كثيريــن معــه!‪ ...‬إن ثمــن‬ ‫الجاويــش الــذي ابتســم لــه‪ ،‬فــرآه وســط الجليــد‬
‫هــذه الدمــاء كانــت تحــت وســادته هــو‪ ،‬وهــو ابــن المســيو (ســتن)‪ ،‬ابــن الجنــدي الباســل‪...‬خنقته‬
‫العبـرات‪ .‬وفــي الغرفــة المجــاورة لــه كان يســمع صــوت أبيــه وهــو يذرعهــا جيئــة ً‬
‫وذهابــا‪ ،‬ثــم يفتــح‬
‫نافذتهــا‪ .‬وفــي الميــدان كان البــوق يهيــب‪ ،‬وفرقــة قــد اصطفــت لتتحــرك إلــى المعركــة‪ .‬أجــل! لقــد‬
‫ً‬
‫كانــت موقعــة حقــا! لــم يســتطع المســكين أن يكتــم شــهقته‪ .‬وســمعه أبــوه فأســرع إليــه يســأله‪:‬‬
‫ّ‬
‫ ـما الذي أصابك يا بني؟‬
‫ولــم يطــق الطفــل بعــد ذلــك صبـ ًـرا‪ ،‬فقفــز مــن ســريره يرتمــي عنــد قدمــي أبيــه‪ ،‬وفــي تلــك‬
‫أ‬
‫الحركــة ســقطت النقــود وجــرت علــى الرض‪ .‬فصــاح الشــيخ وهــو يرتعــد‪:‬‬
‫ ـما هذا؟‪ ...‬هل سرقت؟‬
‫وهنــا يقــص (ســتن) الصغيــر فــي زفــرة واحــدة كيــف ذهــب لــدى الـ(بروســيين)‪ ،‬ومــاذا كان‬
‫مــن أمــره هنــاك‪ .‬وكان كلمــا أفــاض فــي الكلام يحــس أن قلبــه يتحــرر وأن االعتـراف يســري عنــه‪...‬‬
‫أ‬
‫وكان الب (ســتن) يصغــي بوجــه رهيــب‪ .‬فلمــا انتهــى حديــث ولــده‪ ،‬أخفــى وجهــه فــي كفيــه‬
‫وبكــى‪ .‬وأراد الطفــل أن يقــول‪" :‬أبــي‪ ،‬أبي‪"...‬ولكــن الشــيخ دفعــه عنــه ولــم يجــب‪ .‬ثــم جمــع النقــود‪،‬‬
‫وسأله‪:‬‬
‫ ـأهذا كل ما بعت به بالدك؟‬
‫باليجــاب‪ .‬وأنــزل الشــيخ بندقيتــه المعلقــة علــى الحائــط‪ ،‬وأنــزل ذخيرتهــا‪ ،‬وقــال‬
‫فأشــار الطفــل إ‬
‫وهــو يضــع النقــود فــي جيبــه‪:‬‬
‫أ‬
‫ ـإني ذاهب أرد هذا المال لصحابه‪:‬‬
‫ّ‬
‫ودون أن يضيــف كلمــة أخــرى‪ ،‬بــل دون أن يلتفــت برأســه‪ ،‬نــزل ينضــم إلــى الفصائــل التــي‬
‫كانــت ذاهبــة فــي الليــل‪ .‬ومنــذ ذلــك الحيــن لــم يــره أحــد‪.‬‬

‫‪87‬‬
‫عشر‬
‫َ‬ ‫الصف الثّاين‬

‫‪88‬‬
‫ٌةفيدر ٌصصق ‪ -‬يراب( يف نوحالفلا‬

‫الفالحون يف (باريس)‬
‫ألفونسو دوديه‬

‫فــي (شــامبروزاي) كان هــؤالء النــاس ســعيدين هانئيــن‪ .‬كان يقــع وصيــد دواجنهــم تحــت‬
‫نوافــذي مباشــرة‪ ،‬وكانــت حياتهــم تختلــط بحياتــي بعــض االختــاط ســتة أشــهر مــن الســنة‪ .‬فكنــت‬
‫قبــل أن يطلــع النهــار بوقــت طويــل‪ ،‬أســمع الرجــل يدخــل الحظيــرة فيربــط الدابــة إلــى العربــة‪،‬‬
‫أ‬
‫وينطلــق إلــى (كوربــي) ليبيــع خضــرة هنــاك‪ ،‬ثــم تنهــض زوجتــه فتلبــس الوالد‪ ،‬وتدعــو الدجــاج‪،‬‬
‫ّ‬
‫وتحلــب البقــرة‪ ،‬ومــا ســاعات الصبــاح بعــد ذلــك إل وابــل مــن خبــط القباقيــب الغليظــة والصغيرة‬
‫أ‬ ‫أ‬
‫علــى الســلم الخشــبي‪ ...‬وبعــد الظهــر‪ ،‬كان يســكن كل شــيء‪ ،‬فــالب فــي الحقــل‪ ،‬والبنــاء فــي‬
‫أ‬
‫المدرســة‪ ،‬والم مشــغولة صامتــه تنشــر الغســيل فــي الفنــاء‪ ،‬أو تخيــط أمــام بابهــا وهــي تالحــظ‬
‫ً‬ ‫أ‬
‫الولــد الصغــر فــي الوقــت نفســه‪ ،‬ويعبــر الطريــق عابــر مــن حيــن إلــى آخــر‪ ،‬فيديــر اللســان حديثــا‬
‫أ‬
‫بينمــا تشــد النامــل إالبــرة‪..‬‬
‫وذات مرة ‪-‬وكان هذا في أواخر شهر أغسطس‪ -‬سمعت المرأة تقول لجارة لها‪:‬‬
‫ ـماذا عن الـ(بروسيين)‪1‬؟ هل هم في فرنسا‪ ،‬فقط؟‬
‫فصحت بها من نافذتي‪:‬‬
‫ ـإنهم في شالون‪ ،‬يا أم جان‪....‬‬
‫فأضحكهــا ذلــك كثيـ ًـرا‪ ...‬لقــد كان الفالحــون فــي هــذا الركــن الصغيــر مــن (ســين ‪ -‬أ ‪ -‬واز)‬
‫كافريــن بغــزوة الـ(بروســيين)‪.‬‬
‫أ‬
‫علــى أننــا كل يــوم كنــا نــرى عربــات تمــر محملــة بالمتعــة‪ .‬وكانــت بيــوت البورجوازييــن تغلــق‬
‫ّ‬ ‫أبوابهــا ً‬
‫تباعــا‪ .‬وفــي هــذا الشــهر الجميــل الــذي يطــول فيــه النهــار‪ ،‬أتمــت الحدائــق أزهارهــا وهــي‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫مهجــورة كالحــة كئيبــة وراء أســوارها الموصــدة‪ ...‬وبــدأ القلــق يســاور جيرانــي شــيئا فشــيئا‪ .‬كلمــا‬
‫نــزح مــن الحــي نــازح أخذتهــم غمــة‪ .‬لقــد باتــوا يشــعرون شــعور المهجوريــن المخذوليــن‪ ...‬ثــم ذات‬
‫أ‬
‫صبــاح‪ ،‬إذا الطبــول تقــرع فــي جهــات القريــة الربــع! أمــر مــن مكتــب العمــدة‪ .‬ينبغــي الســفر إلــى‬

‫أ‬ ‫أ‬
‫‪ )1‬البروسيين‪ :‬اللمان‪ ،‬نسبة الرض التي أتوا منها (أرض البلطيق)‪ ،‬وكانت تسمى (بروسيا)‪.‬‬

‫* كاتب فرنسي (‪.)1840-1897‬‬

‫‪89‬‬
‫عشر‬
‫َ‬ ‫الصف الثّاين‬

‫أ‬
‫(باريــس) لبيــع البقــرة‪ ،‬والعــاف‪ ،‬وعــدم إالبقــاء علــى شــيء للـ(بروســيين)‪.‬‬
‫رحــل الرجــل إلــى (باريــس)‪ ،‬وكانــت رحلــة حزينــة‪ ،‬فعلــى الجــزء الرصيــف مــن الطريــق‬
‫الكبيــر‪ ،‬مضــت مركبــات المهاجريــن الثقيلــة بنتائــج بعضهــا إثــر بعــض وقــد اختلطــت بقطعــان‬
‫مــن خ ـراف كانــت تتخبــط بيــن العجــات‪ ،‬وثي ـران كانــت تخــور فــوق العربــات‪ ،‬بينمــا مشــى‬
‫إلــى جانــب الطريــق بحــذاء الخنــادق مســاكين راجلــون وراء عربــات صغيــرة ذوات أذرع غاصــة‬
‫بأثــاث مــن ط ـراز العصــر الماضــي‪ ،‬أرائــك ذابلــة الوســائد‪ ،‬وموائــد عتيقــة‪ ،‬ومرايــا محــاة برســوم‬
‫ّ‬
‫فارســية‪ ،‬وإنــك لتحــس أي كــرب هــذا الــذي اســتطاع أن يدخــل البيــت فيزيــح كل ذلــك الغبــار‪،‬‬
‫الثــار المقدســة‪ ،‬ويجرهــا ً‬‫آ‬
‫أكوامــا ال حرمــة لهــا فــي الطرقــات العامــة‪.‬‬ ‫وينقــل كل تلــك‬
‫وعلــى أبــواب (باريــس)‪ ،‬كادوا يختنقــون‪ .‬ولــم يكــن بــد مــن االنتظــار ســاعتين‪ ،‬فظــل الرجــل‬
‫ّ‬ ‫المســكين طــوال هــذا الوقــت‪ ،‬وقــد ضغطــه الحشــد إلــى بقرتــه‪ ،‬ينظــر ً‬
‫هلوعــا إلــى الكــوى التــي‬
‫تطــل منهــا فوهــات المدافــع‪ ،‬وإلــى الخنــادق المترعــة بالمــاء‪ ،‬وإلــى الحصــون القائمــة مــدى‬
‫ً‬
‫مخبوطــا ً‬
‫ذاويــا علــى طــرف الطريــق‪ ...‬وفــي المســاء‬ ‫البصــر‪ ،‬وإلــى شــجر الحــور إاليطالــي الباســق‬
‫مرتاعــا يــروي لزوجتــه كل مــا رأى‪ ،‬فجزعــت الزوجــة‪ ،‬وأرادت أن ترحــل منــذ‬ ‫رجــع مــن هنــاك ً‬
‫الغــد ولكــن مــن غــد إلــى غــد كان يحــدث أن يرجــأ الســفر ً‬
‫دائمــا‪ ...‬فاليــوم حصــاد ينبغــي أن يتــم‪،‬‬
‫أ‬
‫واليــوم قطعــة مــن الرض مازالــوا يرغبــون فــي حرثهــا‪.‬‬
‫وذات ليلــة يوقظهــم انفجــار عنيــف‪ .‬لقــد نســف جســر (كوربــي)‪ .‬وإذا رجــال يطوفــون بالحــي‬
‫أ‬
‫يقرعــون البــواب مــن بيــت إلــى بيــت‪" :‬الفرســان! الفرســان! لــوذوا بالفـرار‪".‬‬
‫أ‬
‫فيهبــون فــي هــرع وعجلــة‪ ،‬ويربطــون الدابــة إلــى العربــة‪ ،‬ويلبســون الطفــال وهــم نصــف‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫قصيــرا‪.‬‬ ‫ناعســين‪ ،‬ويفــرون مــع بعــض الجي ـران متخذيــن مســلكا ضيقــا‬
‫وعندمــا تســنموا الســفح‪ ،‬دقــت الســاعة الثالثــة فــي البــرج‪ .‬هنــاك التفتــوا مــرة أخيــرة‪ .‬إن‬
‫ّ‬
‫مشــرب البهائــم‪ ،‬والميــدان‪ ،‬ودروبهــم المعتــادة‪ ،‬هــذا الطريــق الــذي يهبــط نحــو الســين‪ ،‬وذلــك‬
‫الطريــق ّالــذي ينســاب بيــن الكــروم‪ ،‬كل شــيء بــدا لهــم ً‬
‫غريبــا ولمــا ينــأوا عنــه! وفــي ضبــاب‬
‫ً‬ ‫أ‬
‫الســحر البيــض كانــت القريــة الصغيــرة المهجــورة تضــم بيوتــا بعضهــا إلــى بعــض كأنهــا ترتعــد مــن‬
‫هــول وشــيك‪.‬‬
‫آ‬
‫إنهــم الن فــي (باريــس)‪ .‬غرفتــان بالطابــق الرابــع فــي شــارع حزيــن‪ ...‬أمــا الرجــل فمبتئــس‬

‫‪90‬‬
‫ٌةفيدر ٌصصق ‪ -‬يراب( يف نوحالفلا‬

‫أ‬ ‫ً‬
‫ولكنــه الينــوء بشــقوته‪ .‬لقــد وجــدوا لــه عمــا‪ ،‬ثــم إنــه مــن الحــرس الهلــي‪ ،‬ولديــه المتاريــس‪،‬‬
‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ّ‬
‫والتدريــب‪ ،‬وإنــه ليتلهــى مــا اســتطاع إلــى اللهــو ســبيل ليتســنى مخزنــه الخــاوي ومروجــه التــي‬
‫تنتظــر البــذار‪ .‬وأمــا المـرأة فمستوحشــة مفجوعــة تضيــق بأمرهــا والتــدري مــا المصيــر‪ .‬لقــد وضعــت‬
‫بنتيهــا الكبيرتيــن فــي المدرســة‪ ،‬والصبيتــان فــي تلــك المدرســة الخارجيــة العاطلــة مــن حديقــة‬
‫ّ‬
‫تختنقــان إذ تتذك ـران بيتهمــا الريفــي الجميــل الصائــت المــرح كخليــة النحــل‪ ،‬والطريــق الــذي‬
‫أ‬
‫كانتــا تقطعانــه إليــه كل صبــاح خــال الغابــة‪ .‬وتتألــم الم إذ تراهمــا مكتئبتيــن واجمتيــن‪ ،‬ولكــن‬
‫ّ‬
‫الصغيــر هــو الــذي يقلقهــا فــوق كل شــيئ‪.‬‬
‫هنــاك كان يذهــب ويجيــئ‪ً ،‬‬
‫تابعــا إياهــا إلــى كل مــكان‪ ،‬إلــى الفنــاء‪ ،‬وإلــى البيــت ً‬
‫واثبــا وراءهــا‬
‫ً‬ ‫الســكفة كلمــا عبرتهــا هــي‪ً ،‬‬ ‫أ‬
‫وجالســا‬ ‫غامســا فــي دلــو الغســيل يديــه الصغيرتيــن المحمرتيــن‪،‬‬ ‫درجــة‬
‫بالبــرة لتســتريح‪ .‬إن هنــا طوابــق أربعــة عليــك أن تصعدهــا‪ ،‬وسـ ً‬
‫ـلما‬ ‫قــرب البــاب حيــن تشــتغل إ‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫مظلمــا تتعثــر فيــه قدمــاك‪ ،‬وجــذوات صغيــرة فــي مدفــآت ضيقــة‪ ،‬وأفقــا مــن الدخــان الرمــادي‬
‫أ‬
‫والردواز البليــل‪....‬‬
‫ومــن الحــق أن هنــا فنــاء فيــه يســتطيع الصغيــر أن يلعــب‪ ،‬ولكــن البوابــة ال تريــد‪ .‬هــو ذا‬
‫اخت ـراع آخــر مــن اختراعــات المدينــة‪ ،‬هــؤالء البوابــات! أمــا هنــاك فــي القريــة‪ ،‬فــكل امــرئ‬
‫ّ‬
‫ســيد بيتــه‪ ،‬ولــكل امــرئ ركنــه الصغيــر الــذي يحــرس نفســه بنفســه‪ .‬طــول النهــار‪ ،‬يظــل البيــت‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫مفتوحــا وفــي المســاء يدفــع المــرء متر ًاســا غليظــا مــن الخشــب فينغمــر البيــت كلــه بــا خــوف فــي‬
‫ً‬
‫عميقــا ً‬ ‫ّ‬ ‫أ‬
‫طيبــا‪ .‬وبيــن الحيــن والحيــن ينبــح‬ ‫ليــل الريــف هــذا الســود الــذي يجــد المــرء فيــه إغفــاء‬
‫الكلــب إلــى القمــر‪ ،‬ولكــن أحـ ًـدا ال يضطــرب‪ ...‬الحــق إن (البوابــة) فــي بيــوت (باريــس) الفقيــرة‬
‫هــي مالكــة البيــت‪ .‬والصغيــر ال يجــرؤ علــى النــزول بمفــرده‪ ،‬فيمــا شــد مــا يشــفق مــن هــذه المـرأة‬
‫ـوادا مــن القــش وقــاذورات بيــن‬‫الشــريرة ّالتــي اضطرتهــم إلــى بيــع عنزتهــم‪ ،‬متعللــة بأنهــا تجــرر أعـ ً‬
‫بــاط الفنــاء‪.‬‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫ولكــي تلهــي الطفــل الــذي أصبــح ضيقــا بحياتــه‪ ،‬لــم تعــد المـرأة المســكينة تــدري مــاذا عســاها‬
‫أن تبتكــر‪ ،‬فمــا يــكاد ينتهــي الطعــام حتــى تدثــره كمــا لــو كانــا خارجيــن إلــى الحقــول‪ ،‬وتنزهــه مــن‬
‫يــده فــي الشــوارع الصغيــرة والشــوارع الفســيحة‪ ،‬والطفــل مقبــوض عليــه‪ ،‬مصطــدم‪ ،‬تائــه ال يــكاد‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫ينظــر حولــه‪ ...‬هــو ال يعنيــه إل الجيــاد‪ ،‬فهــي الشــيء الوحيــد الــذي يتعرفــه والشــيء الوحيــد الــذي‬
‫أ‬
‫والم ً‬
‫أيضــا ال يروقهــا شــيء‪ ،‬فهــي تســير بطيئــة شــاردة الذهــن تفكــر فــي أرضهــا وبيتهــا‪.‬‬ ‫يضحكــه‪.‬‬

‫‪91‬‬
‫عشر‬
‫َ‬ ‫الصف الثّاين‬

‫معــا‪ ،‬هــي بمظهرهــا الكريــم‪ ،‬وزيهــا النظيــف‪ ،‬وشــعرها المرســل‪ ،‬والصغيــر‬ ‫وإذا رأيتهمــا يم ـران ً‬
‫بوجهــه المســتدير و(مركوبــه) الغليــظ‪ ،‬فستحســب أنهمــا مغتربــان‪ ،‬منفيــان وأنهمــا يفتقــدان فــي‬
‫حســرة هــواء طرقــات القريــة الالفــح وعزلتهــا الضافيــة‪.‬‬

‫‪92‬‬
‫ٌةفيدر ٌصصق ‪ -‬كنرف فلأ ةئامثالثب‬

‫بثالثمائة ألف فرنك!‬


‫ألفونسو دوديه‬
‫ألــم يحــدث لــك ً‬
‫يومــا أن خرجــت مــن بيتــك خفيــف الخطــى مبتهــج النفــس‪ ،‬ثــم عــدت بعــد‬
‫ً‬
‫مهمومــا قــد تكــدر صفــوك‪ ،‬وانقبــض صــدرك‪ ،‬وهبــط بنفســك هــم ال تــدري‬ ‫ســاعتين مــن المشــي‬
‫ّ‬
‫لــه علــة‪ ،‬ونغــص هنــاءك ضيــق ال تــدري كنهــه! تقــول لنفســك‪" :‬فمــا الــذي أصابنــي؟‪" ...‬وتجــد‬
‫ً‬
‫فــي البحــث‪ ،‬ولكنــك ال تجــد شــيئا‪ .‬لقــد كانــت كل جوالتــك طيبــة‪ ،‬فــوق إفريــز جــاف‪ ،‬وتحــت‬
‫ّ‬ ‫ً‬
‫قلقــا ً‬
‫ممضــا كشــعور بأســى مكتــوم يــأزك‪.‬‬ ‫شــمس دافئــة‪ ،‬ومــع ذلــك فأنــت تحــس فــي قلبــك‬
‫ذلــك أنــك فــي هــذه المدينــة الكبيــرة‪ ،‬حيــث يحــس الجمهــور أنــه حــر طليــق ال يرقبــه أحــد‪،‬‬
‫ال تســتطيع أت تخطــو خطــوة دون أن تصطــدم بغــم مجتــاح يصيبــك رشاشــه ويخلــف فيــك أثــره‬
‫ّ‬
‫ويمضــي‪ .‬ولســت أتحــدث عــن النكبــات التــي يعرفهــا النــاس‪ ،‬ويهتمــون بهــا‪ ،‬عــن شــقوة أصدقائنــا‬
‫ّ‬
‫التــي هــي شــقوتنا إلــى حـ ٍّـد مــا والتــي نقــف عليهــا فجــأة فتحــز فــي قلوبنــا حــز تأنيــب الضميــر؛ بــل‬
‫ّ‬ ‫أ‬
‫وال عــن هــذه الحـزان التــي ال نباليهــا‪ ،‬وال نعيرهــا غيــر أذن واحــدة‪ ،‬والتــي ال يشــك أصحابهــا فــي‬
‫ّ‬ ‫آ‬
‫أنهــا تفجعنــا؛ وإنمــا أتحــدث عــن هــذه الالم الغريبــة عنــا‪ ،‬ال تربطنــا بهــا وشــيجة‪ ،‬وال نلمحهــا إل‬
‫ً‬
‫ونحــن نعبــر مكانــا مــا‪ ،‬فــي دقيقــة‪ ،‬فــي أثنــاء ســعينا الحثيــث‪ ،‬وخــال زحمــة الشــارع‪.‬‬
‫تلــك أجــزاء مــن أحاديــث منقطعــة يتبادلهــا اثنــان بيــن اهتــزازات مركبــة‪ ،‬همــوم صمــاء‬
‫عميــاء تتكلــم وحدهــا وبصــوت مرتفــع‪ ،‬كتفــان مكدودتــان‪ ،‬حــركات مجنونــة‪ ،‬عيــون محمومــة‪،‬‬
‫وجــوه شــاحبة منتفخــة مــن الدمــوع‪ ،‬أو أحـزان حديثــة العهــد لــم يحســن أصحابهــا كفكفتهــا فــي‬
‫أ‬
‫طيــات مــا يتدثــرون بــه مــن ســواد‪ .‬ثــم هــذه الشــياء الصغيــرة‪ ،‬هــذه التفاصيــل الخاطفــة‪ ،‬ويــا‬
‫لهــا مــن توافــه! زيــق رداء أطالــت الفرشــاة حتــه‪ ،‬يلتمــس الظــل‪ ...‬صنــدوق مــن صناديــق الطــرب‬
‫ً‬
‫والموســيقا‪ ،‬تحــت بــاب مســقوف‪ ،‬تجيــره يــد متســول وال يخــرج صوتــا‪ ...‬شــريط مــن المخمــل فــي‬
‫عنــق حدبــاء‪ ،‬مشــدود فــي قســوة‪ ،‬محكــم العقــدة مســتقيمها بيــن الكتفيــن الشــائهتين‪ ...‬وتمــر بــك‬
‫جميــع هــذه المناظــر‪ ،‬مناظــر الباليــا المغمــورة المجهولــة‪ ،‬مـ ًّـرا سـ ً‬
‫ـريعا‪ ،‬وتنســاها وأنــت ســائر‪ ،‬ومــع‬
‫ّ‬
‫ذلــك فأنــت أحسســت مــن حزنهــا‪ ،‬وتشــبعت مالبســك بالهــم الــذي تجــرره وراءهــا‪ ،‬وفــي آخــر‬
‫النهــار تشــعر بدبيــب كل مــا فيــك مــن التأثــر والرثــاء والمضــض‪ ،‬دون أن تــدري‪ ،‬قــد علقــت‪ ،‬عنــد‬

‫* كاتب فرنسي (‪.)1840-1897‬‬

‫‪93‬‬
‫عشر‬
‫َ‬ ‫الصف الثّاين‬

‫معــا ويرجهــا‬ ‫منعــرج طريــق أو أســكفة بــاب‪ .‬بهــذا الخيــط غيــر المنظــور ّالــذي يربــط تلــك الباليــا ً‬
‫ً‬
‫جميعــا إذا اهتــز هــزة واحــدة‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫رجــا ً‬
‫بائســا يمشــي أمامــي‪ ،‬مقموطــا فــي‬ ‫كنــت أفكــر فــي هــذا ذات صبــاح‪ ،‬حيــن رأيــت‬
‫معطــف نحيــل جـ ًّـدا يظهــر خطــاه الطويلــة الواســعة أطــول وأوســع‪ ،‬ويكبــر جميــع حركاتــه تكبيـ ًـرا‬
‫ًّ‬ ‫وحشـ ًّـيا‪ .‬وكان الرجــل يســير سـ ً‬
‫ـريعا متعجــا وقــد انحنــى شــطرين‪ ،‬يعانــي عنــاء شــجرة فــي مهــب‬
‫الريــح‪ ،‬وكانــت يــده تمتــد بيــن حيــن وآخــر إلــى أحــد جيوبــه الخلفيــة تكســر فيــه كســرة مــن‬
‫رغيــف صغيــر كان يــزدرده خفيــة كأنــه خجــل مــن أن يــأكل فــي الشــارع‪...‬‬
‫أ‬
‫إن البنائيــن يفتحــون شــهيتي حيــن أراهــم جالســين علــى الفاريــز يقضمــون قلــب رغفانهــم‬
‫أيضــا يثيــرون غيرتــي عندمــا يهرعــون عائديــن مــن المخبــز‬ ‫الغليظــة الطازجــة‪ .‬وصغــار الموظفيــن ً‬
‫إلــى المكتــب‪ ،‬أقالمهــم فــي آذانهــم‪ ،‬وأفواهــم مليئــة‪ ،‬مغتبطيــن بوجبتهــم تلــك فــي الهــواء الطلــق‪.‬‬
‫ّ‬
‫ولكنــك هنــا كنــت تحــس عــار الجــوع الحقيقــي‪ ،‬وكنــت تــذوب شــفقة علــى هــذا البائــس الــذي‬
‫ّ‬
‫ال يجــرؤ علــى أكل رغيــف خبــز يســحقه فــي قعــر جيبــه‪ ،‬وال يتناولــه إل فتــات وراء فتــات‪.‬‬
‫وكنــت أتبعــه منــذ برهــة عندمــا غيــر فجــأة رأيــه واتجاهــه ‪ -‬كمــا يحــدث كثيـ ًـرا فــي حيــاة‬
‫أولئــك الخائبيــن ‪-‬واســتدار فوجدنــي أمامــه ً‬
‫وجهــا لوجــه‪.‬‬
‫ ـأهذا أنت!‪...‬‬
‫لقــد كنــت أعرفــه‪ ،‬فيمــن أعــرف مــن النــاس كان واحـ ًـدا مــن صنــاع المشــروعات وتجارهــا‪،‬‬
‫ً‬
‫رجــا صاحــب اختراعــات وابتــكارات‪ ،‬مؤســس صحــف عاجــزة عــن الظهــور‪ ،‬قــد ثــارت حولــه‬
‫ـت مــا عاصفــة مــن إالعــان والضوضــاء المطبوعــة ولكنــه تــوارى منــذ ثالثــة أشــهر فــي غــور‬
‫فــي وقـ ٍ‬
‫ّ‬
‫ســحيق‪ .‬وعلــى إثــر غطســته تلــك نجمــت فــورة دامــت بضعــة أيــام عنــد الموضــع الــذي ســقط فيــه‪،‬‬
‫ثــم قــر العبــاب واتصــل ســطحه وانبســط وجهــه‪ ،‬ولــم يذكــر صاحبنــا أحــد بعــد ذلــك‪.‬‬
‫ً أ‬
‫رآنــي المســكين فاضطــرب‪ ،‬ولكــي ال يــدع مجــال لي ســؤال ألقيــه عليــه‪ ،‬ولكــي يحــول نظــري‬
‫أيضــا ‪-‬بــا شــك‪ -‬عــن هيئتــه القــذرة وخبــزه الرخيــص‪ ،‬أخــذ يحدثنــي فــي لهجــة دافقــة وجــدل‬ ‫ً‬
‫كاذب‪ ...‬كانــت أعمالــه ســائرة‪ ،‬أحســن ســير‪ ...‬ومــا كانــت الحــال ســوى لحظــة توقــف ومهلــة‪...‬‬
‫آ‬
‫والن‪ ،‬هــو فــي يــده مشــروع رائــع‪ ...‬صحيفــة صناعيــة كبــرى‪ ،‬مصــورة‪ ...‬مــال كثيــر‪ ،‬واتفاقيــة‬
‫إعالنــات فخمــة!‪ ...‬ولقــد كانــت الحيــاة تتدفــق إلــى وجهــه وهــو يتكلــم‪ .‬ولــم يلبــث حتــى انتصبــت‬

‫‪94‬‬
‫ٌةفيدر ٌصصق ‪ -‬كنرف فلأ ةئامثالثب‬

‫ً‬ ‫ً‬
‫قامتــه‪ .‬واكتســب شــيئا فشــيئا لهجــة القيــادة والســطوة‪ ،‬كمــا لــو كان بالفعــل فــي مكتبــه‪ ،‬مكتــب‬
‫رئيــس التحريــر‪ ،‬بــل وطلــب إلــي مقــاالت‪ ،‬ثــم أضــاف فــي نشــوة الظافــر واعتــداد المنتصــر‪:‬‬
‫ ـوإنــك لتعلــم أنــه مشــروع مضمــون‪ ...‬إنــي أبــدأ بثالثمائــة ألــف فرنــك وعدنــي بهــا (جي ـراردان)‬
‫َ‬
‫‪ 1‬أ َجـ ْـل! فهــذا هــو االســم ّالــذي يأتــي ً‬
‫دائمــا علــى لســان هــؤالء الواهميــن‪ .‬حيــن ينطــق أمامــي‬
‫ً‬
‫ناطــق بهــذا االســم‪ ،‬يبــدو لــي أننــي أرى أحيــاء جديــدة‪ ،‬وعمــارات تشــيد‪ ،‬وصحفــا طازجــة الطبــع‬
‫بهــا قوائــم أســماء المســاهمين والمديريــن‪ .‬وكــم مــن مــرة ســمعت مــن يقــول‪ ،‬إذا طــرق الحديــث‬
‫ذكــر مشــروعات جنونيــة‪:‬‬
‫ ـعليك بمخاطبة (جيراردان) في هذا الشأن!‪..‬‬
‫وهــو ً‬
‫أيضــا‪ ،‬هــذا البائــس خطــرت لــه فكــرة مخاطبــة (جيـراردان) فــي هــذا الشــأن‪ .‬البــد أنــه‬
‫ســهر ليلتــه بعــد خطتــه يصــف ً‬
‫أرقامــا‪ ،‬ثــم خــرج‪ ،‬وفــي أثنــاء مشــيته‪ ،‬واضطرابــه‪ ،‬بلــغ المشــروع‬
‫مــن إالحــكام ســاعة لقائنــا مــا صــور لــه أن (جي ـراردان) ال محالــة مقرضــة آالفــه الثالثمائــة مــن‬
‫الفرنــكات‪ .‬ومــا كان البائــس يكــذب إذ يقــول إن الرجــل وعــده بالمبلــغ‪ ،‬بــل كان يتابــع حلمــه‬
‫ليــس غيــر‪.‬‬
‫وبينمــا كان يكلمنــي زحمتنــا المناكــب ودفعتنــا إلــى الجــدار‪ .‬وكان ذلــك علــى إفريــز شــارع‬
‫أ‬ ‫ّ‬
‫مــن الشــوارع المائجــة التــي تصــل ســوق الوراق الماليــة بالمصــرف‪ ،‬شــارع ملــيء بنــاس عجليــن‪،‬‬
‫شــاردين‪ ،‬منصرفيــن إلــى أعمالهــم‪ ،‬باعــة قلقيــن يســارعون إلــى ســحب بطاقاتهــم‪ ،‬ورجــال مــن‬
‫صغــار رواد الســوق الماليــة مطرقيــن‪ ،‬وجوههــم خفيضــة‪ ،‬يلقــي بعضهــم فــي آذان بعــض ً‬
‫أرقامــا‬
‫فــي أثنــاء ســعيهم‪ ،‬وســماعي حديــث تلــك المشــروعات الجميلــة وســط هــذا الجمهــور‪ ،‬وفــي هــذا‬
‫الحــي الصاخــب بالباحثيــن عــن الصفقــات‪ .‬كنــت أرى رأي الواقــع مــا كان يقولــه لــي هــذا الرجــل‪،‬‬
‫أرى باليــاه مرســومة علــى وجــوه قائمــة‪ ،‬وآمالــه تشــرق فــي عيــون زائغــة‪ ،‬وغادرنــي فجــأة‪ ،‬كمــا‬
‫ّ‬ ‫أ‬ ‫أ‬ ‫ً‬
‫لقينــي‪ ،‬قاذفــا نفســه بــكل قــواه فــي تلــك الدوامــة مــن الجنــون والحــام وال كاذيــب‪ ،‬هــذا الــذي‬
‫أ‬
‫يطلــق عليــه أولئــك النــاس فــي لهجــة جــادة كلمــة "العمــال"‪.‬‬
‫وفــي نهايــة خمــس دقائــق‪ ،‬كنــت قــد نســيته؛ ولكنــي فــي المســاء‪ ،‬حينمــا عــدت إلــى بيتــي‪،‬‬
‫وحيــن نفضــت معــه غبــار الشــوارع جميــع أحـزان النهــار‪ ،‬رأيــت مــن جديــد ذلــك الوجــه المتألــم‬
‫أ‬
‫‪  )1‬هــو إيميــل جيـراردان‪ ،‬رجــل مــن كبــار رجــال العمــال فــي القــرن ‪ ،)1806 - 1881( 19‬خلــق صحافــة فرنســية جديــدة اعتمــد فيهــا علــى نشــر‬
‫إالعالنــات لتخفيــض ثمــن الجريــدة وزيــادة عــدد مــا يــوزع منهــا‪.‬‬

‫‪95‬‬
‫عشر‬
‫َ‬ ‫الصف الثّاين‬

‫ّ‬
‫الشــاحب‪ ،‬ورغيــف الخبــز الرخيــص‪ ،‬والحركــة التــي صحبــت هــذه العبــارة الفاخــرة تزيدهــا‬
‫فخـ ًـرا‪" :‬ثالثمائــة ألــف فرنــك وعدنــي بنــا (جي ـراردان)!‪"..‬‬

‫‪96‬‬
‫ٌةفيدر ٌصصق ‪ -‬يضاقلا ةلغب‬

‫بغلة القاضي‬
‫ألفونسو دوديه‬

‫_‪_1‬‬
‫‪1‬أثنــاء إقامتــي فــي الجزائــر‪ ،‬وتعرفــت إلــى عربــي بعيــد الصــوت‪ ،‬هــو "ســيدي بــو علــم"‪ ،‬وقــد‬
‫أحضرتــه منــذ وقــت قصيــر مركبــة "بليــدة"‪.‬‬
‫وكان ســيدي بــو علــم شــخصية جديــرة بالتقديــر‪ ،‬إذ إنــه يحمــل لقــب "الباش‪-‬آغــا"‪ ،‬ورتبــة‬
‫‪2‬‬
‫القائممقــام‪ ،‬ووســام قائــد الفرقــة‪ ،‬ويملــك أراض شاســعة فــي "الشــليف" وكميــة مــن (الــدورو)‬
‫أ‬
‫ممتــازة‪ ،‬فهــو خيــر مثــل "للبــاش أغــا" الكريــم‪ ،‬ولــم يكــن أحــد يبــزه فــي ارتــداء البرنــس الســود‬
‫المنســوج مــن وبــر إالبــل‪ ،‬ولــم يكــن أحــد يفوقــه فــي جــال المشــية أو اتئــاد الحركــة‪ ،‬وكان قليــل‬
‫الكلام‪ ،‬يجهــل اللغــة الفرنســية تمــام الجهــل‪ .‬وكان بــو علــم يجهــل كــم عســاه قــد بلــغ مــن العمــر؛‬
‫ُ‬
‫فــإذا جــد فــي االســتقصاء خيــل إليــه‪ ،‬هــذا البــاش أغــا‪ ،‬إنــه يوفــي الســتين‪ ،‬ولكــن يلــوح لــي أنــه‬
‫ً‬ ‫أ‬
‫كان يضيــف إلــى ســنه خمســتين مــن العــوام أو ثالثــا‪ .‬ولقــد أحرقــت إهابــة شــمس الجنــوب‬
‫الحــارة‪ ،‬وأتربــة الجنــوب الثافيــة‪ ،‬وريــح الجنــوب الالفحــة؛ وكمنــت عينــاه الســوداوان البراقتــان‬
‫تحــت حاجبيــن رمادييــن كثيفيــن؛ وبــرز فــوه كأنــه الخطــم تحــت لحيــة شرســة قصيــرة؛ كان يبــدو‬
‫لــي أنــه متوحــش‪ ،‬فالتوحــش خلــق يناســب شــخصية البــاش أغــا‪.‬‬
‫وكنــت ألقــى بــو علــم كل مســاء‪ ،‬فــي ميــدان الحكومــة‪ ،‬ســاعة الط ـراوة والموســيقا؛ فيقــول‬
‫‪3‬‬
‫لــي‪ ،‬فــي جــال‪ ،‬بصوتــه الدفيــن‪" :‬بوجــور‪ ،‬كيــف حالــك؟"‪ ،‬وكانــت "بوجــور‪ ،‬مارســي‪ ،‬جافــي"‬
‫هــي أقصــى مــا اســتطاع الرجــل المســكين أن يحفــظ‪ ،‬وكنــت بــدوري أبــادره "بســام عليــك" علــى‬
‫طريقــة فرنســية جـ ًـدا‪ ،‬ونمشــي بخطــى وئيــدة فنــدور الميــدان عــدة دورات صامتــة‪ ،‬ثــم أتركــه يعــود‬
‫وحــده إلــى المدينــة العربيــة‪ ،‬ونفتــرق وكل منــا مبتهــج ســعيد بصاحبــه‪ ،‬وبعــد نزهــات ثمانيــة مــن‬
‫هــذا النــوع‪ ،‬صعــد بــو علــم فــي مركبــة بليــدة وأبلغنــي علــي ‪-‬علــي الصغيــر‪ ،‬غــام الســوق المغربــي‪-‬‬

‫‪ )1‬هــذه قصــة‪ ،‬أو مجموعــة لوحــات‪ ،‬مــن ريــف بــاد المغــرب‪ ،‬لــم تظهــر أثنــاء حيــاة دوديــه فــي كتابــه "رســائل مــن طاحونتــي"‪ ،‬وقــد نشــرتها‬
‫أ‬
‫(باريــس) للمــرة الولــى ســنة ‪ 1930‬أي بعــد وفــاة الكاتــب بثــاث وثالثيــن ســنة‪.‬‬
‫‪ )2‬الدورو‪ :‬عملة من النقود إالسبانية‪.‬‬
‫ً‬
‫‪ )3‬تحريف للكلمات الفرنسية‪" :‬طاب يومك‪ ،‬شكرا‪ ،‬قهوة"‪.‬‬

‫* كاتب فرنسي (‪.)1840-1897‬‬

‫‪97‬‬
‫عشر‬
‫َ‬ ‫الصف الثّاين‬

‫أ‬
‫أنــه ســينتظرني اليــام المقبلــة فــي قبيلتــه‪ ،‬قبيلــة "جنــدل"‪.‬‬
‫تقريبــا‪ُ ،‬دعيــت لتنــاول شـرائح ممتــازة مــن اللحــم علــى مائــدة "إيمانويــل‬
‫وفــي الوقــت نفســه ً‬
‫د‪ ".‬وهــو مواطــن مــن بلــدة "مليانــة" الصغيــرة الوادعــة‪ .‬وكان إيمانويــل يقــوم بتجــارة ضخمــة للغــال‬
‫الكمــا ال بــأس بــه‪ ،‬ويتمتــع بمكانــة شــعبية عظيمــة فــي أســواق‬‫مــع العــرب؛ وكان يتكلــم لغتهــم ً‬
‫جميــع أقاليــم الجزائــر‪ .‬ولمــا رويــت لــه أمــر صلتــي بســيدي بــو علــم ‪-‬أغنــى عمالئــه الوطنييــن‪-‬‬
‫اقتــرح علـ َّـي أن يصاحبنــي إلــى الجنــدل منــذ الغــد؛ فقــد كان بــو علــم يقطــن علــى بعــد اثنــي عشــر‬
‫فرسـ ًـخا فــي الســهل‪ ،‬وتلــك المســافة خليقــة بــأن تســتغرق ســبع ســاعات إذا قطعناهــا بجواديــن‬
‫والحمــرة تصبــغ وجهــي أننــي ال أركــب الجيــاد‪.‬‬‫قوييــن‪ ،‬وهنــا قاطعــت مضيفــي‪ ،‬واعترفــت لــه ُ‬

‫دفعه هذا االعتراف إلى االبتسام‪.‬‬


‫ ـكيــف‪ ،‬أيهــا "الرومي"؟‪..‬تريــد أن تجــوب أفريقيــا‪ ،‬وتجتــس بعــض الحيــاة العربيــة‪ ،‬وأنــت ال‬
‫تعــرف أن تمســك نفســك فــوق حصــان!‬
‫أ‬ ‫ ـعفـ ًـوا‪ ،‬أنــا لــم أطمــع ً‬
‫يومــا فــي دراســة الخــاق والحيــاة العربيــة؛ لقــد علمتنــي كتــب "أوجيــن‬
‫فرومنتان"مــن ذلــك مــا كنــت أريــد أن أعلــم‪ ،‬بــل وعرضتــه فــي أجمــل لغــة فــي الدنيــا إنمــا‬
‫أ‬
‫أتيــت لصطلــي فــي شمســكم فحســب!‬
‫وتركني إمانويل أقول‪.‬‬
‫فخطبت أسأل في حياء‪ :‬والمركبات؟‬
‫ ـصحيــح أن المركبــات تصــل بيــن بلــدة وأخــرى‪ ،‬شــر وصــل‪ ،‬ولكنهــا علــى ذلــك ال تذهــب مــن‬
‫كــوخ إلــى كــوخ‪.‬‬
‫أ‬
‫ ـإذن فلزهد في "كسكسي"سيدي بو علم!‬
‫ ـسنرى ذلك الصباح غد؛ نم ً‬
‫مبكرا على كل حال‪ ،‬وانهض مع الفجر‪.‬‬
‫وفــي الغــد‪ ،‬عندمــا نزلــت مــن مخدعــي‪ ،‬وجــدت إمانويــل فــي وســط الغرفــة‪ً ،‬‬
‫مرتديــا مالبــس‬
‫ركــوب الخيــل‪ ،‬فاخـ ًـرا ر ً‬
‫ائعــا‪.‬‬
‫ ـهيا إذن أيها الكسول!‬

‫‪98‬‬
‫ٌةفيدر ٌصصق ‪ -‬يضاقلا ةلغب‬

‫ً‬
‫مشدوها‪.‬‬ ‫فنظرت إليه‬
‫ ـبسرعة! إالفطار ثم نرحل!‬
‫ ـوأنا‪ ،‬كيف عساني أن أفعل؟‬
‫ ـال تنبس بكلمة أخرى‪ ،‬لنفطر‪.‬‬
‫آ‬
‫وحين غادرت المائدة‪ ،‬كان ينتظرني المشهد التي في الشارع‪.‬‬
‫_‪_2‬‬
‫كان جــواد صغيــر أســود المــع‪ ،‬يصهــل مــن الفــرح‪ ،‬ويديــر نحــو (عمانويــل) رأســه الجميــل‬
‫ّ‬
‫المريــد‪ .‬وكان عربيــان واقفــان فــي ناحيــة باحت ـرام‪ ،‬ال ينتظ ـران إل إشــارة منــا حتــى يســتنهضا‬
‫مطيتيهمــا المربوطتيــن إلــى ســياج الحديقــة‪ .‬وفــي وســط الشــارع كان الفتــى ميمــون‪ ،‬فــي ثوبــه‬
‫ً‬
‫القشــيب المخطــط خطوطــا ســوداء وبيضــاء‪ ،‬يمســك فــي عنانهــا بغلــة قويــة الشــكيمة‪ ،‬وقــد‬
‫أســرجت وأزينــت كأنمــا أعــدت لكــي يتبوأهــا البابــا‪ .‬فعلــى صهــوة الدابــة ارتفــع ســرج ضخــم‬
‫أصفــر وأحمــر أعلــى مــن بــرج؛ وإلــى كشــحيها تدلــى ركابــان عربيــان عريضــان مــن هــذه الركابات‬
‫ً‬
‫تتــوارى فيهــا القــدم‪ ،‬كانــا يتراقصــان ويوقعــان صوتــا مــن جــرس الحدائــد‪.‬‬
‫وقال لي مضيفي وهو يصطحبني إليها‪:‬‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫ ـهــي ذي مطيتــك؛ إنهــا بغلــة قاضــي "مليانــة" دابــة فاخــرة‪ ،‬لــم يركبهــا صاحبهــا إل قليــا‪ ،‬وديعــة‬
‫كالحمــل‪ .‬فــإن القاضــي يســتخدمها فــي الذهــاب إلــى حديقتــه المغروســة عنــد أبــواب المدينــة‬
‫ّ‬
‫أو فــي النــزول إلــى الضريــح الصغيــر الــذي تلمحــه هنــاك فــي الســهل؛ فهــي معــك إذن تقــوم‬
‫أ‬ ‫أ‬
‫برحلتهــا الولــى‪ .‬إن الســرج لوثيــر كمعقــد مــن مقاعــد الصفــوف الماميــة فــي المســرح‪ .‬للــه درك‬
‫حيــن تســتوي عليــه! هيــا!‪ ،‬هــوب! تســنم‪ ،‬ضــع قدمــك فــي الــركاب؛ قدمــك اليســرى ال هــذه‪...‬‬
‫أمســك يــا ميمــون البغلــة‪ ...‬أوف!‬
‫وهأنــذا إذن مرتبــك بعــض الشــيء إذ أحــس نفســي علــى هــذا االرتفــاع‪ ،‬فــوق قمــة هــذا البيــت‬
‫ّالــذي يمشــي‪ .‬ويمتطــي (عمانويــل) جـ ً‬
‫ـوادا‪ ،‬ويفعــل العربيــان مثله‪.‬‬
‫ويصيح بي ميمون‪:‬‬
‫ ـتماسك يا سيدي‪.‬‬

‫‪99‬‬
‫عشر‬
‫َ‬ ‫الصف الثّاين‬

‫أ‬ ‫آ‬
‫إننا الن في الطريق‪ ،‬السماء رمادية‪ ،‬والجو ثقيل‪ .‬نهار حار من أيام يناير الفريقي‪.‬‬
‫وســأصف‪ ،‬فــي غيــر هــذه النزهــة‪ ،‬مــا يلقــى المــرء مــن بــاد رائعــة تطالعــه إذا نــزل مــن مليانــه‪:‬‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫انهيــارا‪ ،‬تلــك الغابــات مــن الســرو والخــروب‬ ‫تلــك الوديــان الشاســعة وخضرتهــا التــي تنهــار‬
‫ّ‬
‫والزيتــون البــري التــي تنحــط إلــى أعمــاق فواحــة‪ ،‬كل هــذه الكســوة النباتيــة العاتيــة العجيبــة‬
‫ترويهــا فــي خريــر ســاحر مئــات الينابيــع الصغيــرة‪ .‬وأمــا اليــوم‪ ،‬ومثلــي مثــل (سانشــو)‪ :‬دابــة‬
‫وجبــان‪ ،‬فلســت أرى أبعــد مــن أذنــي بغلتــي‪ .‬والحيــوان الرهيــب‪ ،‬فــي عنــاد يخيفنــي‪ ،‬يتبــع بــكل‬
‫أ‬ ‫أ‬
‫تدقيــق شــفا الغــوار والمســتنقعات‪ ،‬مترسـ ًـما أصغــر عــروق الرض‪ ،‬دائـ ًـرا مــع أقــل ارتفــاع أو‬
‫ً‬
‫انخفــاض‪ .‬وعبثــا أجاهــد إلعادتــه إلــى وســط الطريــق ووضــع حــد لهــذه الرياضــة الخطــرة‪ ،‬فمــا‬
‫يفلــح فــي ردعــه شــيء‪ ،‬ال الدعــاء الهــادئ‪ ،‬وال الضــرب‪ .‬البــد إذن مــن إالذعــان‪ ،‬البــد مــن التشــبث‬
‫ـدرا شـ ًّ‬
‫ـذيا‪،‬‬ ‫بالســرج وإغمــاض العينيــن‪ ...‬وفجــأة تنحــرف بغلتــي‪ ،‬وتندفــع إلــى يميــن‪ ،‬وتتخــذ منحـ ً‬
‫تحــت مهــد صغيــر مــن أزهــار الغــار‪ ،‬وتخطفنــي راكضــة ال أدري إلــى أيــن‪ .‬وقسـ ًـما‪ ،‬لــو لــم يدركنــا‬
‫آ‬
‫أحــد العربييــن‪ ،‬ويأخذنــا مــن مقودنــا‪ ،‬ويردنــا إلــى ســواء الســبيل‪ ،‬لمــا زلنــا نركــض لــ�ن‪ .‬وأعــود‬
‫ّ‬
‫إلــى عمانويــل‪ ،‬فــإذا هــذا الرجــل الــذي ال قلــب لــه يتلــوى مــن الضحــك فــوق حصانــه الصغيــر‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫المــر‪ :‬إن هــذا ّالــذي ظننتــه ً‬ ‫أ‬
‫هروبــا لــم يكــن إل تحيــة مــن مطيتــي التــي‬ ‫وفــي كلمتيــن شــرح لــي‬
‫ً‬
‫كانــت تريدنــي أن أجتــس شــيئا مــن تيــن "الباربــاري" الممتــاز ولذلــك اقتادتنــي إلــى بســتان‬
‫القاضــي فــي أرشــق خطــو لهــا‪ .‬بيــد أنهــا‪ ،‬منــذ أن ســيرت علــى الطريــق الســوي‪ ،‬اســتأنفت فــي‬
‫هــدوء عملهــا أال وهــو تتبــع الخطــوط المشــرفة علــى الوديــان‪ ،‬حتــى بلغنــا الســهل‪.‬‬
‫أيضــا كان علينــا أن نعانــي بعــض المشــقة فــي منعهــا مــن أن تميــل نحــو ضريــح صغيــر‬ ‫وهنــا ً‬
‫أ‬
‫بــدت صــورة جانبيــة لقبتــه علــى الفــق‪ .‬وقــد نالنــي جزائــي مــن الرفــس‪ ،‬ولكــن البغلــة بعــد ذلــك‬
‫أ‬
‫مشــت مســتقيمة أمامهــا‪ ،‬هائمــة علــى وجههــا‪ ،‬وديعــة مستســلمة‪ ،‬خفيضــة الذن‪ ،‬يــا للبهيمــة‬
‫المســكينة! لقــد كانــت تظــن حتــى ذلــك اليــوم أن البغــال ال تمضــي إلــى أبعــد ممــا طرقــت مــن‬
‫أ‬
‫الرض‪ ،‬وأن العالــم ينتهــي عنــد المح ـراب القائــم هنــاك بجدرانــه البيضــاء‪.‬‬
‫_‪_3‬‬
‫ّ‬ ‫أ‬
‫لول وهلــة‪ ،‬ذكرنــي ســهل الشــليف الــذي دخلنــاه ببعــض مناظــر جنــوب فرنســا‪ .‬إلــى اليســار‪،‬‬
‫كانــت بعــض التــال الصلعــاء؛ وإلــى اليميــن‪ ،‬كانــت أراض شاســعة محترقــة‪ ،‬ومــن بعيــد إلــى‬

‫‪100‬‬
‫ٌةفيدر ٌصصق ‪ -‬يضاقلا ةلغب‬

‫بعيــد‪ ،‬خمائــل ممتقعــة مــن شــجر الزيتــون البــري؛ وفــي كل خطــوة‪ ،‬أقـزام مــن النخــل ترتفــع علــى‬
‫أ‬
‫أديــم الرض ســعفها المدبــب كأنهــا تقلــد الحيوانــات البريــة الشــائكة الظهــور‪ .‬وفــوق هــذا كلــه‬
‫ســماء رصاصيــة‪ ،‬رماديــة فــي ذلــك اليــوم‪ ،‬ولكنهــا زرقــاء فــي العــادة‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫وأحيانــا‪ ،‬عنــد أقــدام التــال الممتــدة إلــى اليســار‪ ،‬يلمــح الناظــر جيـ ً‬
‫ـادا عجافــا مربوطــة إلــى‬
‫ـورا‪ ،‬أو‬‫أوتادهــا أمــام خيمــة ســوداء صغيــرة مصنوعــة مــن وبــر إالبــل‪ ،‬وعلــى بعــد منهــا يــرى ثـ ً‬
‫حصانــا‪ ،‬أو بغلــة‪ ،‬أو حمـ ًـارا‪ ،‬فــي بعــض الربــوع‪ ،‬مجهــري الحجــم‪ ،‬يجــر محر ًاثــا ً‬
‫بدائيــا جـ ًـدا‪،‬‬
‫ً‬

‫تحــدوه دعــاءات حنجريــة تنــد عــن عربــي فــي زي فــاح مــن فالحــي فرجيــل‪ .‬ومــن حيــن إلــى‬
‫حيــن يمضــي فــرخ مــن طيــور الســلوى‪ ،‬وقــد أثقلــه الحــر‪ ،‬بيــن ســيقان دوابنــا‪ ...‬ولقــد ســارت‬
‫قافلتنــا الصغيــرة فــي ســكون مطبــق‪ ،‬تنــوء بمــا أبهظهــا بــه الجــو مــن ثقــل؛ ومضــى (عمانويــل)‬
‫وادعــا فــوق بغلــة القاضــي‪ ،‬أدع عقبــي ترقصــان علــى‬ ‫يلعــب بحصانــه‪ .‬وأمــا أنــا‪ ،‬فكنــت مزهـ ًّـوا ً‬
‫ّ‬ ‫أ‬ ‫ً‬ ‫بطنهــا انفر ً‬
‫وانضمامــا‪ ،‬وأنــا أتســمع مئــات الصــوات الغامضــة التــي تنســاب فــي الســهل‪،‬‬ ‫اجــا‬
‫أ‬
‫صــوت الرض تتشــقق مــن الحــر‪ ،‬صــوت قطيــع يثغــو بعيـ ًـدا‪ ،‬أو أغنيــة راع عجيبــة‪ ،‬فمــا أدري‬
‫أيــة نشــوى مجنونــة أخــذت تغشــيني بضبابهــا شـ ًـيئا فشـ ًـيئا‪ ...‬يــا للــذة؛ لقــد كنــت أحــس شـ ً‬
‫ـعورا‬
‫أ‬
‫ال يحويــه تعبيــر مــن حــب المانــة والعدالــة يولــد فــي نفســي؛ وأضحيــت فجــأة وبــي نفــور مــن‬
‫أ‬ ‫ً‬
‫الشــر ال أجــد لــه وصفــا‪ ،‬وطــاف أمــام عينــي موكــب مــن هفــوات المــس ونقائضــه‪ ،‬موكــب‬
‫ّ‬
‫خطايــاي التــي اقترفتهــا كل يــوم‪ ،‬المصافحــات اليســيرة‪ ،‬التحيــات الهينــة‪ ،‬بســمات المجاملــة‪،‬‬
‫ونافلــة الخبــث‪ ،‬والكبريــاء الحمقــاء‪ ،‬فحاســبت نفســي حسـ ًـابا عسـ ًـيرا وأدنتهــا‪ ،‬غيــر رحيــم بهــا‪.‬‬
‫ّ‬ ‫أ‬ ‫أ‬
‫ترانــي وقــد اســتويت علــى الســرج الصفــر الحمــر الــذي اعتــاد أن يســتوي عليــه القاضــي الطيــب‪،‬‬
‫ورثــت مــن قداســته ومــن حكمتــه‪ ،‬وكأنــي بلحيــة لــي تنمــو طويلــة بيضــاء‪ ،‬وكأنــي ببطنــي يســتدير‬
‫وأكاد أحــس قربــوس الســرج يضايقــه‪ ،‬آه! أيهــا الولــد الشــقي‪ ،‬كــم مــن مــرة جبنــت فــي الخيــر وكــم‬
‫مــن مــرة تجاســرت فــي الشــر! لــو دعــاك محمــد فــي هــذه الســاعة‪..‬‬
‫وإذا (عمانويل) يهيب بي فجأة‪:‬‬
‫ ـأال خذ حذرك‪ ،‬أيها المذهول!‬
‫ولقــد أدركنــي فــي الوقــت المناســب؛ فلــو قــد خطــت بغلتــي خطــوة واحــدة لتــم دخولهــا‬
‫ّ‬
‫الجليــل الوقــور علــى قهــوة مغربيــة قائمــة وســط الطريــق‪ .‬وال تثيــرن كلمــة القهــوة فــي نفوســكم‬

‫‪101‬‬
‫عشر‬
‫َ‬ ‫الصف الثّاين‬

‫أ‬
‫فكــرة المرايــا والزخــارف الذهبيــة‪ ،‬والرائــك القرمزيــة‪ ،‬والغلمــان فــي مآزرهــم البيضــاء‪ ،‬وقطــع‬
‫الســكر الغليظــة منصوبــة فــوق صينيــة نحاســية صغيــرة‪ ...‬ال شــيء مــن هــذا قــط! وإنمــا كــوخ‬
‫أ‬
‫قــذر مــن القــش قــد ســوده الدخــان؛ وفــي ركــن مــن الركان‪ ،‬أمــام تنــوره‪ ،‬صانــع القهــوة‪ ،‬واقــف‬
‫نصــف عــار‪ ،‬ولونــه كالبــن؛ وعلــى حصائــر ممزقــة‪ ،‬أربعــة خمســة مــن العــرب قــد جلســوا القرفصــاء‬
‫أ‬ ‫أ‬
‫يحتســون القهــوة فــي ســكون؛ وأمــام البــاب صبــي يرتــدي الســمال يغســل القــدام فــي مــاء آســن؛‬
‫ونحــو مــن عشــرة نعــال صفـراء ‪ -‬وعنــد العــرب يخلــع المــرء حــذاءه ً‬
‫تأدبــا‪ ،‬كمــا نخلــع نحــن القبعــة‬
‫‪ -‬وبعــض الجيــاد وبعــض الحميــر ترتــع كيــف شــاءت‪.‬‬
‫تلــك هــي الصــورة الصادقــة لقهــوة مغربيــة فــي ســهل الشــليف‪ .‬ويأمــر لنــا (عمانويــل) بالقهــوة‪،‬‬
‫أحســن قهــوة شــربتها فــي حياتــي‪ ،‬ثــم يالحــظ أننــي جوعــان‪ ،‬فيندهــش لذلــك ‪-‬فإنهــم ال يجوعــون‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫رغيفــا ًّ‬
‫طريــا صغيـ ًـرا‪ ،‬لــم يخبــز بخميــر‪ ،‬محفوظــا منــذ ثالثــة أشــهر‬ ‫أبـ ًـدا فــي أفريقيــا‪ -‬ويطلــب لــي‬
‫تحــت القــش ومعطـ ًـرا (باليانســون)‪ .‬وتــرد إلـ ّـي قــواي هــذه الوجبــة الممتــازة ثــم نســتأنف ســيرنا‪.‬‬
‫_‪_4‬‬
‫دائمــا‪ .‬ســحب ثقــال علــى ارتفــاع خفيــض جـ ًـدا‪ ،‬تــكاد‬ ‫دائمــا‪ ،‬والســماء مشــحونة ً‬ ‫الحــر شــديد ً‬
‫تجــري فــوق رؤوســنا؛ والــدواب تجــأر مــن العطــش‪ ...‬وأخيـ ًـرا هــا نحــن أوالء فــي أطـراف الشــليف‪،‬‬
‫ً‬
‫ولمــا كان منوطــا ببغلتــي أن تســتطلع الطريــق‪ ،‬فقــد فهمــت خطــر مهمتهــا‪ ،‬وإذا هــي تذهــب‬
‫وتجــيء‪ ،‬وتشــتم النهــر‪ ،‬وتتــردد‪ ،‬وتــدور دورتيــن‪ ،‬ثــم فليــك! فلــوك! تخــوض المــاء بــكل عظمــة‬
‫حتــى يغمرهــا إلــى منتصــف كعبهــا‪ .‬وهنــا‪ ،‬لشــدة فزعــي‪ ،‬تتوقــف‪ ،‬وتمــد عنقهــا‪ ،‬وتهــز جبينهــا‬
‫ً‬
‫فــي فتــوة ‪ -‬وأود أنــا أن أصيــح مســتغيثا ‪-‬وأخيـ ًـرا تأخــذ فــي الش ـراب‪ ،‬ومــا أدراك مــا الش ـراب‪...‬‬
‫ً‬
‫لنتحــدث قليــا عــن الشــليف‪ .‬ســينبئك الجغرافيــون أنــه أهــم مجــرى مــن المــاء فــي أفريقيــا‬
‫الفرنســية‪ ،‬وأن منبعــه فــي هــذا المــكان ومصبــه فــي ذلــك المــكان؛ أمــا أنــا‪ ،‬فحســبي أن أقــول‬
‫ً ً‬
‫لــك إننــي ال أعــرف شــيئا نزقــا مثــل هــذا النهــر‪ .‬شــيء يســير جـ ًـدا خليــق بــأن يثيــره‪ ،‬ولكنــه يقــر‬
‫أيامــا هادئــة كان ينســاب فيهــا علــى مهــل بيــن ضفتيــه‪ ،‬وغــدوات‬ ‫لشــيء أيســر‪ .‬لقــد عرفــت لــه ً‬
‫ً‬
‫مــن الغضــب كان يقلــب فيهــا بيــن عبابــه أطرافــا مــن غابــات وأج ـزاء مــن صخــور‪ ،‬وينحــر فــي‬
‫ّ‬
‫غيــر رحمــة المحاصيــل المســكينة التــي ال تــؤذي أحـ ًـدا‪ .‬أمــا اليــوم فالســيدة هادئــة الطبــع‪ ،‬رضيــة‬
‫أ‬ ‫أ‬
‫الخلــق‪ ،‬وإن بغلتــي لتســتطيع‪ ،‬وقــد ارتــوت آخــر المــر‪ ،‬أن تعبــر دون عائــق إلــى الضفــة الخــرى‪.‬‬

‫‪102‬‬
‫ٌةفيدر ٌصصق ‪ -‬يضاقلا ةلغب‬

‫عظيمــا‪ ،‬ينعقــد عليــه كل أســبوع ســوق الجنــدل‪ ،‬تحــت‬ ‫نحــن نختــرق فــي هــذه اللحظــة ً‬
‫مرتفعــا ً‬
‫إشـراف صديقــي بــو علــم؛ ويقــوم فــي أقصــاه محــط القوافــل بجدرانــه الطويلــة‪ .‬ومــرة ثانيــة نعبــر‬
‫ّ‬
‫الشــليف‪ ،‬وقــد هبــط النهــار‪ ،‬إل أنــه ال يصحبــه مــن الشــفق الــوردي الرائــع مثــل مــا رأيــت مـر ًارا‬
‫فــي أفريقيــا‪...‬‬
‫وإنمــا يحــول لــون الســماء الرمــادي إلــى أســود؛ ويبــرد الهــواء‪ ،‬ويتلــف المشــهد فــي الضبــاب؛‬
‫اض محروثــة؛ فلقــد مــر المح ـراث بــكل‬ ‫يــا لــه مــن نهــار ضائــع! وتســير جيادنــا الهوينــى فــي أر ٍ‬
‫موضــع‪ ،‬والطريــق نفســها قــد حرثــت عفـ ًـوا‪...‬‬
‫ويدلــف بالقــرب منــا فــي الظــام عــرب عائــدون مــن العمــل يطــاردون أمامهــم الحميــر‬
‫أ‬
‫والحصنــة‪ ،‬وكل زمــرة إذ تمــر تحيينــا بعبــارة جــرارة ال تتغيــر‪ ،‬تنغمهــا نغمــة واحــدة ال تتغيــر‪.‬‬
‫ً‬
‫وســرعان مــا نلقــى أدغــال كثيفــة مــن الصبــار شــاهرة الخناجــر؛ يســمو مــن ورائهــا عــود دخــان‪،‬‬
‫ونبــاح الكب‪ ،‬وصيــاح أطفــال‪ ،‬وحديــث نســوة‪ .‬هــا نحــن أوالء فــي وســط القبيلــة العربيــة‪ .‬وأخيـ ًـرا‪،‬‬
‫علــى بعــد مائــة خطــوة منــا‪ ،‬فــوق الربــوة إلــى ارتفــاع مــا‪ ،‬ألمــح عربــة عظيمــة ال نوافــذ لهــا؛ إنــه‬
‫قصــر ســيدي بــو علــم‪ ،‬وتتقــدم صوبنــا مجموعــة مــن البــدو؛ ويكتنفنــا القــوم‪ ،‬وينزلنــي مــن أعلــى‬
‫أ‬
‫بغلتــي رجــان‪ .‬ويقبــل علــي الصاحــب بــو علــم وهــو يبتســم فــي برنســه الســود‪:‬‬
‫ ـبونجرو‪ ،‬كيف الحال؟‬
‫فأجيبه‪ :‬سالم عليك‪ ،‬فيقنع بها ونتجه نحو الدار‪.‬‬
‫_‪_5‬‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫لــم يكــن الجنــاح الــذي أدخلنــي إليــه الرئيــس فاخـ ًـرا باذخــا كمــا وصفــوه لــي‪ ،‬وجــدت قاعــة‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫طويلــة قاتمــة جـ ًـدا‪ ،‬وبــدل مــن طنافــس أزميــر‪ ،‬وجــدت حيطانــا ظنينــة البيــاض؛ وبــدل مــن‬
‫ً‬ ‫أ‬
‫الرائــك والنمــارق المطــرزة‪ ،‬وجــدت حصائــر مــن القــش الغليــظ‪ .‬وجــدت ضابطــا فرنسـ ًّـيا جــاء‬
‫للصيــد ونــزل عنــد بــو علــم‪ .‬وكان أتبــاع الضابــط مــن الفرســان الجزائرييــن ينظفــون أســلحته فــي‬
‫أ‬
‫ركــن مــن الركان‪ ،‬وفــي ركــن آخــر‪ ،‬كانــت الكبــه تلعــق حســاءها فــي نهــم‪ ،‬وكان ســريره الســفر‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫منصوبــا فــي أقصــى القاعــة‪ ،‬وخرجــه معلقــا إلــى اليميــن‪ ،‬وبندقياتــه إلــى اليســار؛ وفــي الســقف‪،‬‬
‫مســبحة ال نهايــة لهــا مــن الســلوى والحجــان‪ ،‬هــي نتــاج صيــده فــي اليوميــن الســابقين؛ لقــد كان‬
‫أ‬
‫"نمــور" كمــا يــرى الناظــر‪ ،‬يحتــل فــي الــدار مكانــة بســعة وبحبوحــة‪ ...‬أقطــع مــن الرض إذن اثنــي‬

‫‪103‬‬
‫عشر‬
‫َ‬ ‫الصف الثّاين‬

‫أ‬ ‫عشــر فرسـ ًـخا دون توقــف لكــي تــزور ً‬


‫بيتــا ًّ‬
‫عربيــا! وشــهد (عمانويــل) عجبــي الليــم‪ .‬فقــال لــي‪:‬‬
‫ ـاطمئــن‪ .‬إننــا لــم نبلــغ بعــد محــات البــاش أغــا الصغيــرة‪ .‬وهــذه هــي دار الضيــوف‪ .‬إن ســيدي بــو‬
‫علــم يأســف الســتقبالك هــذا االســتقبال البــارد؛ ولكنــه لــو أدخلنــا بيتــه هــذا المســاء‪ ،‬الضطــر‬
‫ً‬
‫صباحــا‪ ،‬عقــب‬ ‫إلــى أن يدخــل فــي الوقــت نفســه مســيو نمــرو بفرســانه والكبــه وصيــده‪ .‬غـ ًـدا‬
‫خــروج الضابــط للصيــد‪ ،‬ســنذهب لتنــاول الشــاي فــي السـراي‪.‬‬
‫أ‬
‫يــا طالمــا الحظــت فــي أثنــاء جوالتــي فــي أفريقيــا أن الخويــذة ذات الشــرطة الذهبيــة تــروع‬
‫أهــل البــاد كثيـ ًـرا‪ ،‬وتوقــر فــي نفــوس الجميــع احتر ًامــا يتخللــه شــيء مــن الرهبــة‪ ،‬ولكنــي قلمــا‬
‫أ‬
‫رأيــت ضباطنــا البواســل ينزلــون بمنــزل اللفــة الحميمــة مــن قلــوب العــرب؛ ومــع ذلــك فمعظمهــم‬
‫يظهــرون أنهــم قليلــو الحــرص علــى هــذه الخطــوة‪.‬‬
‫وريثمــا يتــم إعــداد العشــاء‪ ،‬قــدم القــوم إلينــا القهــوة تحــت ســقيفة أمــام دار الضيــوف‪ ،‬ومــن‬
‫ً‬
‫هنــاك رأيــت بيــن الضبــاب الشــفقي‪ ،‬نحــو عشــرة مــن العــرب قــد ســاروا صفــا‪ ،‬يتقدمــون نحونــا‪،‬‬
‫أ‬
‫كموكــب مــن المذنبيــن فــي لباســهم الرمــادي‪ .‬كان المذنــب الول يحمــل‪ ،‬علــى طــرف خشــبة‬
‫ً‬
‫خروفــا مشـ ً‬
‫ـويا؛ يمشــي وراءه مذنــب ثــان معــه خــروف ثــان علــى رأس خشــبة طويلــة‬ ‫طويلــة‪،‬‬
‫ً‬
‫ثانيــة؛ وأمــا الذيــن يتبعونهمــا فقــد كانــوا رافعيــن فــوق رؤوســهم أطباقــا عريضــة ينبعــث منهــا البخار‪.‬‬
‫وعلــى الرغــم منــي‪ ،‬تذكــرت الفحــل "بوالــو" وبــذخ مآدبــه الجامعيــة‪.‬‬
‫منوعــا‪ :‬خــروف مشــوي‪ ،‬خــروف بالحســك‪ ،‬خــروف بالفــول‪ ،‬خــروف‬ ‫كان العشــاء غزيـ ًـرا ً‬
‫بالبــازالء الغليظــة‪ ،‬خــروف بكـرات اللحــم‪ ،‬والــكل متبــل كنــار الشــيطان‪ ،‬وفــي الختــام جفنــة مــن‬
‫ً‬ ‫الخيــر‪ ،‬وقــد أشــرب ً‬‫أ‬
‫لبنــا ومرقــا‪ ،‬ليــس‬ ‫الخــزف زاخــرة بالكسكســي المحلــى بالســكر‪ .‬وهــذا اللــون‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫بالغــذاء الممجــوج‪ .‬وأمــا غيــاب المالعــق والشــوك‪ ،‬فأعتــرف أنــه أمــر لــم أشــفق منــه إل قليــا‪،‬‬
‫أ‬
‫بالبهــام والســبابة بــدا لــي أيســر شــيء فــي الوجــود‪ .‬وقــد أداروا علينــا بــدل الشـراب‪،‬‬ ‫وأن ال كل إ‬
‫أ‬ ‫ً‬
‫قبــل الطعــام وبعــده‪ ،‬إبريقــا كبيـ ًـرا مــن لبــن البقــر‪ .‬وبينمــا كنــا نــأكل كان الغــا بــو علــم ‪-‬وشـرائع‬
‫ً‬
‫الضيافــة العربيــة تحــرم عليــه أن يقعــي إلــى مائدتنــا‪ -‬يتكـ ّـرم أحيانــا بــأن يغــرف لنــا هــو نفســه‬
‫بأصابعــه العظيمــة الســمراء‪ .‬ولقــد كانــت المأدبــة‪ ،‬بــا م ـراء‪ ،‬مأدبــة حزينــة؛ فمــا كاد الضابــط‬
‫الفرنســي يتكلــم؛ وكان (عمانويــل) وبــو علــم يتحادثــان بالعربيــة؛ والفرســان الجزائريــون يغطــون‬
‫آ‬
‫فــي طــرف القاعــة الخــر؛ وكنــت أنــا‪ ،‬وقــد أســكرني التعــب‪ ،‬أعشــو إلــى الكسكســي المحلــى‬

‫‪104‬‬
‫ٌةفيدر ٌصصق ‪ -‬يضاقلا ةلغب‬

‫والخ ـراف المحوطــة بالفــول‪ ،‬وكأنــي أرى بــوارج فــي البحــر وســط نــوء غليــظ‪.‬‬
‫_‪_6‬‬
‫ونحــو الســاعة الثامنــة‪ ،‬نهــض البــاش أغــا علــى قدميــه‪ ،‬وقادنــا خــال حدائــق شاســعة مليئــة‬
‫بكلاب يبــدو الشــر علــى وجوههــا‪ ،‬إلــى (كشــك) صغيــر مــن ط ـراز فرنســي‪-‬عربي‪ ،‬حيــث كان‬
‫ً‬
‫علينــا أن نقضــي الليــل‪ .‬غرفــة فســيحة مربعــة‪ ،‬عاليــة الســقف‪ ،‬وجــدران عاريــة مبيضــة حديثــا‪،‬‬
‫تنفتــح فيهــا خمــس أو ســت كــوى‪ ،‬وأربــع أرائــك‪ ،‬كل أريكــة منهــا فــي خــدر؛ وسـراج صغيــر مــن‬
‫أ‬ ‫أ‬
‫النحــاس الحمــر‪ ،‬موقــد علــى الرض يتوســط القاعــة‪ ،‬تلــك كانــت غرفــة نومنــا‪.‬‬
‫وبعــد أن شــرب مــن القهــوة ً‬
‫قدحــا أخيـ ًـرا‪ ،‬تمنــى لنــا بــو علــم ليلــة طيبــة‪ ،‬واســتعاد نعليــه عنــد‬
‫البــاب ومضــى يتعشــى‪ .‬وأمــا نحــن‪ ،‬وقــد انطوينــا فــي أغطيــة حمـراء كبيــرة‪ ،‬فقــد حاولنــا‪ ،‬ولكــن‬
‫دون جــدوى‪ ،‬أن نغمــض أعيننــا‪ ،‬كانــت الرحلــة والتوابــل والقهــوة المغربيــة قــد ألهبــت دمنــا‪ ،‬ومــا‬
‫انفكــت تطــرده بهيــاج فــي عروقنــا‪ ،‬وســرعان مــا اجتاحتنــا حكــة عاتيــة أخذتنــا مــن شــعر الـرأس‬
‫إلــى أخمــص القدميــن‪ ..‬وفــي الخــارج كانــت بنــات آوى تعــوي كأنهــا الكلاب الصغــار‪ ،‬وكانــت‬
‫الضبــاع تجعــر‪ .‬وباتــت "الســلوقي" (الكب عربيــة) تجيبهــا فــي ثــورة؛ ومــن حيــن إلــى حيــن‪ ،‬لســت‬
‫صوتــا‪ ،‬وأشــد ً‬‫ً‬
‫كظمــا‪ ،‬بــات يســود هــذه اللحــون مــن جوقــة‬ ‫أدري أي جعــر عجيــب‪ ،‬غامــض‪ ،‬أجــل‬
‫أ‬ ‫الشــياطين؛ ولســوف أذكــر ً‬
‫دائمــا تلــك الليلــة الليــاء‪ ،‬ليلــة مــن الحمــى والرق ال آخــر لهــا‪.‬‬
‫_‪_7‬‬
‫أ‬
‫وفــي الفجــر ‪-‬وقــد عجزنــا عــن الصمــود إلــى أبعــد مــن ذلــك المــد‪ -‬أردنــا أن نلــوذ بالمقهــى‬
‫المغربــي‪ ،‬ولكــن مــن نكــد الحــظ لــم يكــن صاحــب القهــوة قــد اســتيقظ إذ ذاك‪ ،‬فلــم يكــن بــد مــن‬
‫أن نــؤم ‪-‬علــى مســيرة نصــف فرســخ مــن هنــاك‪ -‬بيــت ســيدي بغدادي‪ ،‬شــقيق ســيدي بو علــم‪ ،‬لعل‬
‫أ‬ ‫أ‬ ‫ً‬
‫صنــاع القهــوة بــه أن يكونــوا أقــل كســا منهــم لــدى الغــا‪ .‬وقــد لقينــا‪ ،‬فــي الحدائــق‪ ،‬فــي الفنيــة‪،‬‬
‫أ‬
‫وتحــت الســقائف وتحــت الروقــة‪ ،‬الحشــم العــرب نائميــن فــي الهــواء الطلــق متدثريــن ببرانســهم‬
‫الصوفيــة‪ .‬وســرعان مــا أســفر الصبــح‪ ،‬ومــع الصبــح الطالــع هبــت نســائم صغيــرة طــردت كالقــش مــا‬
‫ّ‬
‫كان بنــا مــن حمــى الليــل الخبيثــة‪ .‬ومــن أقصــى بســتان البرتقــال الــذي يملكــه بغــدادي‪ ،‬بينمــا كان‬
‫جنيــة الفجــر "أورور" تضحــك‬ ‫القــوم يصبــون لنــا قهــوة عربيــة ممتــازة لذيــذة‪ ،‬كنــا نشــاهد فــي مقــة ّ‬
‫أ‬
‫وتلعــب أمامنــا‪ .‬وكان الفــق أخضــر تصبغــه خضــرة باهــرة يحوطهــا الشــفق الــوردي‪ ،‬وكنــا نــرى‬

‫‪105‬‬
‫عشر‬
‫َ‬ ‫الصف الثّاين‬

‫أ‬ ‫أ‬
‫فــي هــذا اللــون الخضــر الحلــو أشــجار البرتقــال ذوات الثمــار العقيقيــة‪ ،‬وبيــوت الغــا البيضــاء‪،‬‬
‫تســبح مختلطــة غيــر جليــة‪ ،‬علــى حيــن كان العــرب فــي مالبســهم الخضـراء يتســللون فــي صمــت‬
‫بحــذاء الجــدران‪ .‬وبالقــرب منــا‪ ،‬كانــت ترقــص فــي ريــح الفجــر البــاردة شــجرة زيتــون مقدســة‪،‬‬
‫ّ‬
‫تشــبه أشــجار "نويــل" عندنــا‪ ،‬هــازة أغصانهــا المحملــة بصفائــح براقــة مزركشــة‪ ،‬وبأذيــال برانــس‪،‬‬
‫ّ‬
‫وركابــات عريضــة‪ ،‬وأســورة حديديــة‪ ،‬وداليــات مــن المرجــان‪ ،‬وغيرهــا مــن معلقــات النــذور التــي‬
‫تشــهد بالــورع العربــي‪.‬‬
‫وحيــن رجعنــا متيمميــن دار الضيــوف‪ ،‬كانــت الــدار متألقــة نابضــة الحيــاة‪ .‬كان ســيدي بــو علــم‬
‫ً‬
‫جالســا علــى أســكفة البــاب يحســو قهوتــه الثامنــة‪ .‬وكان الخــدم يقبلــون مــن كل فــج يــؤدون لــه‬
‫أ‬ ‫آ‬
‫تحيــة الصبــاح‪ ،‬فيأخــذ الواحــد منهــم بعــد الخــر فــي كفيــه العريضتيــن رأس الغــا ويحــط قبلــة‬
‫أ‬
‫طويلــة علــى تاجــه المجــدول مــن حــل إالبــل‪ .‬وكان الغــا الطيــب يتلقــى هــذه التحيــات بعــدم‬
‫أ‬
‫اكتـراث هــو آيــة فــي الدب‪.‬‬
‫وفــي أثنــاء مراســم هــذا االحتفــال بتقبيــل ال ـرأس‪ ،‬اصطحبنــي (عمانويــل) لزيــارة الســجون‪،‬‬
‫ولــم تطــل زيارتنــا‪ .‬ال بوابيــن‪ ،‬وال ح ـراس‪ ،‬بــل مــا كان البــاب موصـ ًـدا‪ ...‬ولمحــت وجـ ًـارا ً‬
‫رهيبــا‬
‫قائمــا إزاء الحائــط‪ًّ ،‬‬
‫بدويــا َ‬ ‫عفنــا‪ ،‬حظيــرة حيوانــات أكثــر منــه سـ ً‬
‫ـجنا‪ ،‬وفــي هــذا الوجــار ً‬ ‫مظلمــا ً‬
‫ً‬
‫تــرك نفســه فــي فلســفة للهــوام تقرضــه‪.‬‬
‫سأل (عمانويل) بالعربية‪:‬‬
‫ ـلماذا أنت هنا؟‬
‫ّ‬
‫ ـلست أدري‪ ...‬إنه سيدي بو علم الذي قال بذلك‪.‬‬
‫ ـفأي ذنب جنيت؟‬
‫أ‬
‫ ـلست أدري‪ ..‬لقد رددت للباش أغا حصانه وبندقيته لني رغبت عن الخدمة‪.‬‬
‫ ـولماذا ترغب عن خدمة بو علم؟‬
‫ ـلست أدري‪.‬‬
‫ ـأنت تفضل إذن أن تعفن حياتك كلها هنا‪ ،‬في قعر هذا المكان؟‬
‫ّ‬
‫ ـالله وحده يعلم‪...‬‬

‫‪106‬‬
‫ٌةفيدر ٌصصق ‪ -‬يضاقلا ةلغب‬

‫ً‬ ‫ّ‬
‫لست أدري‪ ،‬الله وحده يعلم؛ لم نستطع أن نستخلص منه شيئا أكثر من ذلك‪.‬‬
‫قال لي عمانويل‪:‬‬
‫ّ‬ ‫ً‬
‫ ـلندعه هادئا‪ ،‬إن هو إل قاعد كسول سيرد الظالم والصوم إليه رشده عما قليل‪.‬‬
‫وسألت وأنا أبتسم‪:‬‬
‫دائما؟‬ ‫ً‬
‫مفتوحا ً‬ ‫ ـوهل يظل هذا الباب‬
‫أ‬ ‫ ـ ً‬
‫دائمــا علــى وجــه التقريــب‪ ،‬ولكــن هــذا الصعلــوك الغريــب الطــوار يحــذر كل الحــذر مــن‬
‫أ‬
‫اســتغالله‪ ،‬فــإن فارســين مــن فرســان الغــا قمينــان بــأن يلحقــاه‪ ،‬إذا هــو حــاول الفـرار‪ ،‬قبــل أن‬
‫يقطــع نصــف فرســخ فــي الســهل‪ ،‬وإنــه لهــروب خليــق بــأن يكلفــه ً‬
‫ثمنــا ً‬
‫فادحــا‪.‬‬
‫وفــي هــذه اللحظــة‪ ،‬مــر أمامنــا الضابــط بفرســانه وتــوارى‪ ،‬وهــو يصفــر لالكبــه‪ ،‬وراء خميلــة مــن‬
‫شــجر التيــن‪ .‬ومــا أدار عقبيــه حتــى نهــض بــو علــم‪ ،‬ونفــض غليونــه‪ ،‬وأشــار لنــا أن نتبعــه‪.‬‬
‫أ‬
‫عبرنــا فــي عجلــة وإهـراع سلســلة مــن الفنيــة الصامتــة‪ ،‬ولكنــي لســرعة ســعينا‪ ،‬لــم أســتطع أن‬
‫ألقــى إلــى يميــن وإلــى يســار ّإل نظــرة خاطفــة‪ .‬جدر ًانــا بيضــاء صفيقــة جـ ًـدا‪ً ،‬‬
‫وأبوابــا ســرية صدئــة‬
‫ً‬
‫جـ ًـدا‪ ،‬وكــوى يدججهــا الحديــد‪ ،‬أقســم لــك يــا صديقــي الممتــاز بــو علــم أنــي مــا رأيــت شــيئا‬
‫أ‬
‫ســواها‪ .‬ال شــيء‪ ،‬بــل وال ذر ًاعــا صغيــرة عاريــة فــي لــون العنبــر الصفــر قــد اتــكأت غيــر عامــدة‬
‫علــى طــرف النافــذة العتيقــة‪ ،‬بــل وال ظفـ ًـرا أحمــر قــد صبغتــه الحنــاء‪ ،‬وال ً‬
‫هدبــا‪.‬‬
‫أ‬
‫وفــي نهايــة هــذه الفنيــة‪ ،‬أدى بنــا ســلم عجيــب مؤلــف فــي غيــر انتظــام مــن درجــات ضخمــة‬
‫وأخــرى صغيــرة إلــى بــاب مكســو مــن أســفله إلــى أعــاه بــأزرار غليظــة بيضــاء وورديــة‪ .‬وكان‬
‫أ‬
‫ينبغــي لكــي ينفتــح البــاب‪ ،‬مــس أحدهــا‪ ،‬مــس ّزر واحــد مــن بيــن جميــع هــذه الزرار‪.‬‬
‫قال بو علم لعمانويل‪ :‬ابحث!‬
‫فجــرب هــذا أربعــة منهــا أو ً‬
‫خمســا؛ بيــد أنــه رفــض أن يواصــل التجربــة‪ ،‬فقــد كان مــن‬
‫أ‬ ‫أ‬
‫ســدادات الباريــق تلــك ســتون علــى القــل‪.‬‬
‫ً‬
‫ورفع بو علم كتفيه قائل‪:‬‬
‫فالمر بسيط ً‬ ‫أ‬
‫جدا‪ ،‬انظر!‬ ‫ ـومع ذلك‪،‬‬

‫‪107‬‬
‫عشر‬
‫َ‬ ‫الصف الثّاين‬

‫ولمــس فــي تــؤده‪ ،‬مزهـ ًـوا بــأن يصحــح للفرنســيين أخطاءهــم‪ ،‬الــزر الســري‪ ،‬المعــروف لديه منذ‬
‫تاريــخ طويــل‪ .‬وكان هــذا البــاب العجيــب ينفتــح علــى نحــو اثنــي عشــر غرفــة اســتقبال منمنمــة‪،‬‬
‫خفيضــة جـ ًـدا‪ ،‬ضيقــة جـ ًـدا‪ ،‬مظلمــة جـ ًـدا معطــرة عنيفــة العطــور‪ .‬وبــدرت جــدران وســقوف علــب‬
‫أ‬
‫الحلــوى هــذه الشــرقية‪ ،‬وقــد قســمت معينــات شــتيتة اللــوان‪ ،‬كأنهــا رقــع شــطرنج عريضــة لونــت‬
‫الرض طنافــس أزميــر وتونــس‪ً ،‬‬ ‫أ‬ ‫ً‬
‫مروجــا حريريــة ترصعهــا‬ ‫ألوانــا زاهيــة‪ .‬وكانــت مبســوطة علــى‬
‫أ‬
‫نمــارق حمـراء موشــاة بالذهــب؛ وكنــت تــرى فــي كل ناحيــة أوانــي الطيــب ذوات العنــاق الفضيــة‬
‫أ‬
‫تلتمــع‪ ،‬ومباخــر العــواد تتوهــج‪ ،‬والنرجيــات الطــوال تتلــوى فــي الظلمــة كالحيــات‪.‬‬
‫ّ‬
‫وقــد خلــع بــو علــم علــى "صالونــه" الثانــي عشــر‪ ،‬وهــو أصغرهــا وأفخرهــا‪ ،‬فــوق هــذا كلــه‪،‬‬
‫ســاعة حائــط ومدفــأة‪.‬‬
‫ ـمدفأة‪ ،‬أيها إالله العادل! وفيم المدفأة؟‬
‫الخيــر هــو ّالــذي كان ينتظرنــا فيــه شــاي بــاذخ‪ ،‬قــد صبتــه ّ‬
‫جنيــة خفيــة فــي‬
‫أ‬
‫وهــذا المخــدع‬
‫أقــداح مــن بلــور ســيفر الممتــاز‪.‬‬
‫ـورا؛ وكان‬‫وفــي الخــارج‪ ،‬مــن المنفــذ ّالــذي يقــوم مقــام الشــرفة‪ ،‬بــدا الســهل يترقــرق نــدى ونـ ً‬
‫أ أ‬
‫الشــنيف يتــ�ل مــن الرخــاء فــي الشــمس؛ وكانــت نســائم الصبــاح‪ ،‬عاطــرة أثقلتهــا العطــور‪ ،‬تصعــد‬
‫أ‬
‫إلينــا كأنمــا لتهــزأ بــكل متــرس مغلــق وكل ســياج مضــروب‪ .‬وفــوق طنفســتي الزميريــة‪ ،‬بيــن‬
‫ّ‬
‫ملعقتيــن مــن ألــوان المربــى التــي يشعشــعها المســك‪ ،‬عــاودت شــفتي أغنيــة فيكتــور هوجــو‬
‫العتيقــة‪:‬‬
‫أ‬
‫لحببت هذا البلد‪"....‬‬ ‫"لو لم أكن أسيرة‬
‫وفــي تلــك اللحظــة تجلــت ّ‬
‫الجنيــة الخفيــة‪ ،‬فــي مالمــح زنجيــة بشــعة‪ ،‬قــد كارت علــى رأســها‬
‫ً‬
‫عمامــة صفـراء وارتــدت أســمال المعــة‪ .‬دخلــت فوضعــت أمــام ســيدها قنينتيــن كبيرتيــن مــن روح‬
‫الــورد وانســحبت فــي غمــوض دون أن تفــرج شــفتيها الغليظتيــن‪ .‬وصــب بــو علــم فــي راحتــي يدينــا‬
‫قطرتيــن مــن الطيــب؛ وعلــى إثــر ذلــك نزلنــا نتأهــب للرحيــل‪.‬‬
‫وفــي أســفل الســلم‪ ،‬كانــت الزنجيــة المروعــة تنتظرنــا‪ ،‬مقعيــة علــى عقبيهــا‪ ،‬فقبلــت حذاءينــا‬
‫ـاد عليهــا‪ ،‬حتــى إذا أصبحنــا فــي الخــارج‪ ،‬أعــادت إغــاق البــاب محدثــة‬ ‫الكبيريــن والتأثــر بـ ٍ‬
‫بالقفــل صريـ ًـرا ً‬
‫رهيبــا‪.‬‬

‫‪108‬‬
‫ٌةفيدر ٌصصق ‪ -‬يضاقلا ةلغب‬

‫_‪_8‬‬
‫كانــت دوابنــا قــد قضــت الليــل فــي الهــواء الطلــق‪ ،‬معقــوالت القدميــن الخلفيتيــن كمــا هــي‬
‫العــادة‪ .‬لقــد وجدناهــا مبتهجــة بمعســكرها‪ ،‬مــادة مناخرهــا للريــح‪ ،‬رضيــة الطبــاع‪ ،‬تشــاطرها بغلــة‬
‫القاضــي هــذا كلــه‪.‬‬
‫الغــا قــد اســتقدم ً‬‫أ‬
‫فرســا رماديــة فخمــة‪،‬‬ ‫وبينمــا كان القــوم يرفعوننــي فــوق ســرجي‪ ،‬كان‬
‫أصبحــت الجيــاد تصهــل حولهــا مــن الولــه والحــب‪ .‬وامتطــى حفيــد بــو علــم‪ ،‬وهــو صبــي فــي‬
‫فرســا مثلهــا‪ .‬وكان (عمانويــل) يركــض علــى بعــد قليــل منــا فــوق شــيطانه‬ ‫الثامنــة‪ ،‬رزيــن وســيم‪ً ،‬‬
‫أ‬
‫الســود الطيــب‪ .‬واصطــف وراءنــا نحــو ثالثيــن مــن العــرب‪ ،‬وقــد تلببــوا كأنمــا ينبــرون للوغــى‪.‬‬
‫ّ‬
‫وفــي هــذا اليــوم بعينــه‪ ،‬كان الســوق منعقـ ًـدا فــي الجنــدل‪ ،‬فانتهــز ســيدي بــو علــم‪ ،‬الــذي كانــت‬
‫واجباتــه تســتدعيه أن يكــون فــي ســاحة الســوق‪ ،‬هــذه الفرصــة لكــي يخفرنــا برجالــه‪.‬‬
‫أ ّ‬ ‫المــر‪ً ،‬‬‫أ‬
‫تأدبــا‪ ،‬أتخــذ رأس الرهــط‪ ،‬المــر الــذي اســتحييت منــه بعــض‬ ‫وقــد تركونــي فــي أول‬
‫الحيــاء‪ ،‬ولكنــي بعــد خمســين خطــوة‪ ،‬توصلــت إلــى أن أندمــج فــي المؤخــرة‪ ،‬ومــن هنــاك‪،‬‬
‫ّ‬ ‫أ‬ ‫ّ‬
‫اســتطعت أن أتــذوق المشــهد الرائــع الــذي غــدا أمامــي تحــت الشــعة المائلــة التــي كانــت‬
‫ترســلها الشــمس المشــرقة‪ ،‬مضــى هــؤالء العــرب البهيــون‪ ،‬الجليلــون المهيبــون‪ ،‬يتــوارون الواحــد‬
‫آ‬
‫بعــد الخــر‪ ،‬خلــف الصبــار كبيــر الجــذوع‪ ،‬ومضــت الخيــل‪ ،‬حازمــة كســادتها‪ ،‬مشــرئبة الــرؤوس‬
‫أ‬
‫تهــز أعرافهــا‪ .‬وفجــأة‪ ،‬وقــد بلغنــا الريــف الجــرد‪ ،‬تناثــر الموكــب الطويــل‪ ،‬فقــد اشــتدت حماســة‬
‫ً‬ ‫أ‬
‫الفرســان‪ ،‬وانطلقــت الجيــاد المنتشــية بشــعير الصبــاح تثــب كالعنــز‪ ،‬وطــارت "الفانطازيــة" طيرانا‪.‬‬
‫انقــذف ســيدي بــو علــم أول الركــب يعــدو فــي الســهل بــا وعــي‪ ،‬واختطــف حفيــده فرســه مــن‬
‫أ‬
‫أقدامهــا الربــع وتــوارى فــي ســحابة مــن النقــع؛ وشــق العــرب الهــواء‪ ،‬رافديــن فــوق مطاياهــم‪،‬‬
‫وهــم يرســلون صيحــات وحشــية‪ ...‬ومــن بعيــد‪ ،‬كان الفالحــون المعتمــدون علــى أيــدي محاريثهــم‬
‫يقطعــون عملهــم ليشــاهدوا موكبنــا ويبعثــون‪ ،‬فــي أصــوات مدويــة‪ ،‬تحياتهــم لســيدي بــو علــم‪.‬‬
‫ونحــو الســاعة العاشــرة‪ ،‬لمحنــا هضبــة الجنــدل؛ وفــوق الهضبــة‪ ،‬كانــت زحمــة عجيبــة مــن‬
‫أ‬
‫البغــال والمعــزى والثيــران والخــراف والتــن والجمــال والقبائــل واليهــود والبــدو‪ ،‬خليــط مــن‬
‫البرانــس والقالنــس الحمـراء؛ نيـران توقــد‪ ،‬وخيــام تضــرب‪ ،‬ورائحــة جلــد عاتيــة‪ ،‬وغبــار‪ ،‬وصيــاح‪،‬‬
‫باليجــاز دوالب الســوق العربــي المعتــاد‪ .‬وكنــت علــى أحــر مــن الجمــر أتــوق لزيــارة هــذا كلــه‬
‫إ‬

‫‪109‬‬
‫عشر‬
‫َ‬ ‫الصف الثّاين‬

‫ّ‬
‫بالتفصيــل؛ ولكــن عمانويــل‪ ،‬الــذي كانــت مصالحــه تســتدعيه إلــى مليانــة فــي اليــوم نفســه‪ ،‬قــد‬
‫وعدنــي أن يرينــي قبــل انقضــاء قليــل مــن الوقــت لوحــات أخــرى مــن النــوع نفســه‪ .‬تركنــا بــو علــم‬
‫أ‬
‫إذن لعبائــه ينهــض بهــا‪ ،‬أعبــاء البــاش أغــا‪ ،‬وواصلنــا طريقنــا ظافريــن بمصافحــة قلبيــة وبعــض‬
‫أ‬
‫الحكــم والمثــال العربيــة عــن الصداقــة‪.‬‬
‫_‪_10‬‬
‫ومشــينا النهــار كلــه‪ ،‬مشــية واحــدة منتظمــة وئيــدة‪ ،‬تتخللهــا فتــرات الراحــة علــى أبــواب‬
‫المقاهــي المغربيــة؛ وفــي منتصــف الطريــق‪ ،‬أصــر المطــر علــى الهطــول فــي عنــاد مــا بقــي مــن‬
‫النهــار‪.‬‬
‫ً‬ ‫وكنــت ً‬
‫قابعــا فــي معطــف فضفــاض‪ًّ ،‬‬
‫مدليــا قبعتــي‪ ،‬مرهقــا مــن ليلــة بــا نعــاس ومــن إسـراف‬
‫فــي اســتخدام البغلــة‪ ،‬فمضيــت علــى هــوى دابتــي فــي حــال كاملــة مــن حــاالت داء المشــي فــي‬
‫النــوم‪ .‬ومــن حيــن إلــى حيــن‪ ،‬كنــت أفتــح عينــي نصــف فتحــة‪ :‬كانــت ســيول مــن المــاء تخطــط‬
‫أ‬
‫الفــق مــدى البصــر‪ ،‬وكانــت التــال غرقــى؛ وكان الســهل قــد اختفــى‪ .‬وعلــى الطريــق الموحــل‪،‬‬
‫وقــد انصرفــت عنــه الميــاه‪ ،‬كان عــرب عـراة الســيقان يبلغــون الســوق مستبســلين‪ ،‬ســائقين أمامهــم‬
‫ً‬
‫بغــال عليهــا خيــام وحميـ ًـرا محملــة بالســال‪.‬‬
‫وكان البــدو الصغــار يخاطبــون بغالهــم قائليــن لهــا فــي صــوت ملــق‪" :‬أرحــي! أرحــا!" وكنــت‬
‫أهيــب ببغلتــي‪" :‬هــو! هيــا! هــو!"‪ .‬وكان هــذا كلــه‪ ،‬وقــد اختلــط بعضــه ببعــض‪ ،‬يخــب فــي الطيــن‬
‫أ‬
‫وتحــت الزوبعــة‪ .‬وفــي الحقــول الممتــدة علــى جانــب الطريــق‪ ،‬كان الفالحــون يقلبــون الرض وهو‬
‫يرتلــون‪ ،‬كمــا يفعلــون فــي أيــام الشــمس‪ ،‬وكان رعــاة شــيوخ‪ ،‬وقــد ركعــوا نحــو الشــرق‪ ،‬يصكــون‬
‫ّ‬
‫صدورهــم فــي تقــوى مقبليــن بجباههــم أقـزام النخــل التــي تهطــل مطـ ًـرا‪.‬‬
‫وكنــا نســعى هكــذا منــذ عــدة ســاعات‪ ،‬وكانــت عينــاي قــد غمضتــا‪ ،‬حيــن وقفــت البغلــة فجــأة‪.‬‬
‫فتطلعــت حولــي‪ .‬كنــت وحــدي وســط ســهل شاســع‪ ،‬بعيـ ًـدا‪ ،‬بعيـ ًـدا جـ ًـدا‪ ،‬بعيـ ًـدا عــن عمانويــل‪،‬‬
‫بعيــدا مــن كل شــيء‪ ...‬وفــي أرق خلــق لهــا‪ ،‬كانــت بغلــة القاضــي تقضــم‬ ‫بعيــدا مــن العــرب‪ً ،‬‬
‫ً‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫حســكا غليظــا أمــام بنــاء صغيــر كــروي الســقف أبيــض الجــدران‪ ،‬رقــد أمــام بابــه نعــان قديمــان‬
‫أ‬ ‫أ‬
‫فــي مشــكاة‪...،‬هذا الســكون‪ ،‬وهــذا الســهل‪ ،‬وهــذا الثــر الغامــض‪ ،‬وهــذان النعــان الصف ـران‪،‬‬
‫أ‬ ‫ينســدل عليهــا ً‬
‫جميعــا ســتار كبيــر مــن المطــر والضبــاب‪ ،‬كان كل هــذا مــن قبيــل الحــام‪ .‬ولكنــي‬

‫‪110‬‬
‫ٌةفيدر ٌصصق ‪ -‬يضاقلا ةلغب‬

‫ســرعان مــا أدركــت‪ ،‬وقــد تذكــرت نــزوات بغلتــي‪ ،‬أننــي كنــت ً‬


‫قائمــا أمــام الضريــح المذكــور‬
‫أ‬ ‫ّ‬
‫الــذي يؤمــه القاضــي الطيــب ليحكــم بيــن النــاس بالعــدل ثــاث مـرات فــي الســبوع‪ .‬وباســتعانة‬
‫الذاكــرة‪ ،‬أفلحــت فــي أن أتجــه فــي الطريــق الســوي‪ ،‬وبعــد نحــو مــن مائــة خطــوة‪ ،‬لمحــت أخيـ ًـرا‬
‫مليانــة البيضــاء هنــاك عاليــة‪ ،‬هنــاك عاليــة‪ ،‬عنــد موطــئ جبــل "زكار"‪ ،‬يغلفهــا ضبــاب مضــروب‬
‫ً‬
‫حولها‪...‬وعندمــا دخلــت المدينــة كان الليــل حالــكا جـ ًّـدا‪ .‬والمطــر ينهمــر مــدر ًارا وخــال الشــوارع‬
‫ً‬
‫المقفــرة كان بــدوي قــرع طبــول بليلــة إيذانــا بالــرواح‪.‬‬

‫‪111‬‬
‫عشر‬
‫َ‬ ‫الصف الثّاين‬

‫‪112‬‬
‫ٌةفيدر ٌصصق ‪ -‬طملا روفصع ملح‬

‫حلم عصفور املطر‬


‫د‪ .‬ليلى الصقر‬
‫ً‬ ‫ِّ ْ َ‬
‫نامــت الطفلــة ذات ليلــة شــتوية ممطــرة‪ ،‬وحلمــت أن العاصفــة ســرقت ســاقيها وأعطتهــا بــدل‬
‫أّ‬ ‫ِّ ْ َ‬
‫منهــا جناحيــن‪ ...‬ســقطت الطفلــة‪ ،‬وبــدأت تنتحــب؛ لنهــا لــم تعــرف كيــف تتحـ ّـرك‪ ،‬فقــد اعتــادت‬
‫الرض‪ ..‬فجــأة جــاء ّ‬ ‫أ‬ ‫ّ‬
‫الر بيــع‪ ..‬تضمــخ المــكان بالعبيــر‪ ...‬جــاء عصفــور‪ ،‬وفــرد جناحيــه‬ ‫الســير علــى‬
‫ِّ ْ َ‬ ‫ّ‬
‫بنشــوة الفــرح وهــو ينفــض عنــه بقايــا المطــر وحــزن الشــتاء‪ ..‬مســحت الطفلــة دموعهــا المالحــة‪..‬‬
‫ِّ‬
‫الط ْف َلــة إلــى ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫الســماء‪ ..‬ولــم تعــد إلــى‬ ‫فــردت جناحيهــا كالعصفــور‪ ...‬حلــق العصفــور‪ ،‬وحلقــت معــه‬
‫أ‬
‫الرض‪!...‬‬
‫َْ‬
‫تأتــي‪ ...‬يفغــر ُج ْرحــي فمــه علــى مصراعيــه‪ ...‬تقتــرب منــي‪ ...‬أنفاســك تعذبنــي‪ ...‬تحملنــي مــن‬
‫علــى الســرير‪ ...‬أحــس برعشــتك‪ ...‬تهــرب منــي‪ ،‬وأنــا بيــن ذراعيــك‪ ...‬تســقط دمعــة ال تراهــا‪...‬‬
‫تضعنــي علــى كرســي متحــرك‪ ...‬كالعــادة عينــاك تلــوذان بالف ـرار ّمنــي‪ ...‬أغــص بشــوكة ُمـ ّـرة فــي‬
‫حلقــي‪ ...‬تســألني وعينــاك مغروزتــان فــي الجــدار‪ ...‬والجــدار إالســمنتي بيننــا يكبــر ويكبــر‪:‬‬
‫ ـكيف حالك؟‬
‫أرد وأنا أحاول أن ّ‬
‫أخبئ دموعي عنك‪" :‬بخير‪"...‬‬
‫تسقط بيننا الكلمات وتتهشم‪...‬‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫محموما في عينيك‪...‬‬ ‫تأتي والشوق يتدفق‬
‫كنــت ال تطيــق لحظــة تفــرق بيننــا‪ ...‬لهفتــك تفضحــك‪ ...‬وارتبــاكك يفضحــك‪ ...‬لقــد كان مــا‬
‫الر بيــع ّ‬
‫كالدهشــة فــي‬ ‫مفاجئــا ومربـ ًـكا وجميـ ًـا كمطــر الصيــف‪ ...‬كثلــج ّ‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫جمعنــا أكبــر بكثيــر‪ ،‬شــيئا‬
‫مآقــي طفــل‪ ....‬كنــت تســتعمر ضفافــي بنظــرة‪ ...‬كنــت أقــرؤك من ســكنات أجفــان‪ ،‬ورعشــة يديك‪...‬‬
‫أكنــت قــدري؟ كنــت أراك الرجــل الوحيــد فــي حياتــي مــع كل برعمــة ّ‬
‫تتفتــح فـ َّـي‪ ...‬أتذكــر؟ عندمــا‬
‫أ‬ ‫ً‬
‫كنــا أطفــال كنــت تحمينــي مــن الطفــال المشــاغبين‪ ...‬وتضربهــم حتــى ترضينــي‪ ...‬وتتحمــل كل‬
‫العلقــات الســاخنة مــن أجلــي‪ ...‬وعندمــا كبرنــا وصرنــا ال نلتقــي ســوى فــي االجتماعــات العائليــة‪،‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫ونجلــس متباعديــن‪ ،‬كان وجــودك يهبنــي دفئــا وأمانــا غيــر اعتيادييــن‪ ...‬خطبتنــي رغــم الخالفــات‬

‫* أستاذ مساعد بجامعة البحرين‪.‬‬

‫‪113‬‬
‫عشر‬
‫َ‬ ‫الصف الثّاين‬

‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ّ‬


‫التــي بــدأت بيــن أبــي وعمــي وانفصالهمــا فــي العمــل ظللــت متشــبثا بــي رغــم كل شــيء‪...‬‬
‫أ‬
‫هــل كان مــن الممكــن أن نفتــرق بعــد كل مــا جمعنــا؟ التقينــا لن قــدري أن أكــون لــك وتكــون‬
‫لــي‪ ...‬رضــخ أبــي وأبــوك الرتباطنــا علــى مضض‪...‬‬
‫وفي ليلة زفافنا عرفت معنى أن تلد عصفورة داخل الروح‪ ...‬وترفرف بجناحيها بفرح‪...‬‬
‫في عينيك وجدت سمائي وأنت تنظر َّ‬
‫إلي بحب العالم كله‪ :‬كيف حالك؟‬
‫أجيب هامسة بخفر‪" :‬بخير‪"...‬‬
‫أ‬
‫بخيــر؟؟؟؟ كلمــة عابــرة نقولهــا فــي اليــوم عشـرات المـرات‪ ...‬ولكــن مــا أبعــد اليــوم عــن المــس!‬
‫آ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫شـ ّـتان بيــن بخيــر التــي قلتهــا تلــك الليلــة‪ ،‬وبخيــر التــي أقولهــا لــك الن مـر ًارا وتكـر ًارا‪..‬‬
‫آ‬ ‫ّ‬
‫وعينــاك‪ ...‬أهمــا العينــان اللتــان كنــت أجــد وطنــي فيهمــا؟ لمــاذا ضاعتــا ّمنــي الن؟ لمــاذا‬
‫ّ‬
‫لــم يعــد قلبــي يرفــرف فيهمــا؟ لمــاذا صــرت تخــاف أن تنظــر إلـ َّـي؟ أعــرف أننــي قــد أضحيــت‬
‫دائمــا ضعيفــا أمــام ألمــي‪ ...‬عندمــا‬
‫ً‬ ‫اللــم الكبيــر فــي حياتــك ّالــذي ال تريــد مواجهتــه‪ ،‬كنــت ً‬ ‫أ‬
‫ً‬
‫مرعوبــا تحـ ّـدق‬
‫ً‬ ‫ّكنــا أطفــال‪ ..‬دخلــت شــوكة كبيــرة داخــل قدمــي ذات يــوم ونحــن نلعــب‪ ،‬وقفــت‬
‫ِفـ َّـي وأنــا أصــرخ‪ ،‬حاولــت أن تخرجهــا فــازداد صراخــي ونحيبــي‪ ،‬فخفــت وابتعـ ّـدت‪ ...‬كان ألمــي‬
‫تتحمــل تلــك‬ ‫جي ًــدا ّأنــك لــم تعــد ّ‬ ‫يجرحــك ويخيفــك‪ ،‬فكنــت تلــوذ بالفــرار‪ ....‬واليــوم أعــرف ِّ‬
‫ً‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫الشــوكة التــي تغــوص فــي قلبــي وقلبــك‪ ،‬كالعــادة تقــف عاجـ ًـزا‪ ،‬مرتبــكا‪ ،‬بينمــا لــم يبــق مــن حبــك‬
‫الســيخ الحامــي مــن العــذاب‪ ،‬أو تلــك الشــفقة ّالتــي تهــرب ّمنــي ّ‬
‫حتــى أراهــا‬ ‫لــي ســوى ذلــك ّ‬
‫فــي عينيــك‪...‬‬
‫أ‬
‫منــذ أن هاجمنــي مــرض الســكر بعــد إجهاضــي لطفلنــا الول‪ ،‬وأنــت معــي كمــا كنــت‬
‫أ‬ ‫َّ‬ ‫أ‬ ‫ّ‬
‫صغــارا‪ ،‬وعندمــا ْاس َــت َع َّر اللــم وزاد الصــراخ‪ ،‬واتفــق الطبــاء‬ ‫ً‬ ‫تحــاول نــزع الشــوكة عندمــا ّكنــا‬
‫ًّ‬ ‫ّ‬ ‫ـاقي انتشـ ًـارا سـ ً‬
‫ـريعا‪ ،‬ولــم يبــق إل البتــر حــا أخيـ ًـرا‪،‬‬ ‫أن (الغرغرينــا) قــد انتشــرت فــي كلتــا سـ ّ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫ولــم تســتطع المواجهــة‪ ،‬هربــت‪ ،‬وابتعــدت عــن هــذا كلــه‪ ...‬حتــى عمليــة البتــر رفضــت أن توقــع‬
‫بالموافقــة عليهــا‪ ...‬ومنــذ ذلــك اليــوم ضاعــت ّمنــي عينــاك‪ ،‬وضــاع الوطــن‪ ...‬كانــت أقســى لحظــة‬
‫ّ‬
‫فــي حياتــي‪ ،‬كان البتــر يتربــص بحياتــي كلهــا‪...‬‬
‫إنهــم لــن يبتــروا سـ ّ‬
‫ـاقي فقــط‪ ،‬بــل ســيبترون حياتــي كامـرأة‪ ،‬ســيبترون روحــي وشــبابي‪ ،‬وقبــل‬

‫‪114‬‬
‫ٌةفيدر ٌصصق ‪ -‬طملا روفصع ملح‬

‫أ‬
‫كل شــيء ســيبترون عالقتنــا إلــى البــد‪ ...‬تمنيــت أن أجــدك قربــي فــي تلــك اللحظــات المريعــة‪،‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫تضغــط علــى يــدي‪ ،‬تقبــل رأســي‪ ،‬تربــت علـ ّـي وتواســيني‪ ،‬تذكرنــي بأننــي حتــى لــو بتــروا كل‬
‫أ‬ ‫أ‬ ‫ّ‬
‫أعضائــي‪ ،‬ســأبقى إالنســانة التــي تحبهــا وستتمســك بــي إلــى البــد‪ ...‬البــد؟؟؟ آه يــا لهــا مــن كلمــة‬
‫ّ‬ ‫مط ّ‬‫ّ‬
‫اطيــة‪ ،‬هزليــة‪ ،‬كنــت تجيــد ترديدهــا‪ ،‬رغــم أنــك كنــت معــي فــي الغرفــة نفســها‪ ،‬ولكــن عينيــك‬
‫ّ‬
‫المكســورتين كانتــا تهربــان منــي‪ ...‬كــم كنــت أحتــاج أن أتلحــف بدفئهمــا فــي تلــك اللحظــة‪،‬‬
‫ِّ‬
‫لكنــك كنــت تخــاف أن تنهــار أمامــي إن نظــرت إلـ َّـي‪ ،‬ظللــت متخشـ ًـبا جامـ ًـدا كتمثــال مــن‬ ‫و ّ‬
‫ّ‬ ‫أ‬ ‫ّ‬
‫ســاقي بالبتــر‪ ،‬وكان‬ ‫الشــمع‪ ...‬لقــد حكمــت علــى قلبــي بالبتــر قبــل أن يحكــم الطبــاء علــى‬
‫حكمــك قاسـ ًـيا كحكمهــم دون أي فرصــة ّللنقــض أو االســتئناف‪...‬‬
‫أخرجوني من غرفة العمليات بال ساقين‪...‬‬
‫وبال روح!‬
‫البتر إحساس غريب‪...‬‬
‫ّ‬
‫فجأة تحس أنك لست أنت‪ ..‬إنهم بتروك‪...‬‬
‫ّ‬
‫كأننــي انتهيــت‪ ،‬الــكل يواســيني‪ ..‬لمــاذا ّ‬
‫يعزوننــي فــي نفســي؟‬ ‫الــكل ينظــرون إلـ ّـي بإشــفاق‬
‫لمــاذا يدفنونــي قبــل أن أمــوت؟‬
‫ ـوأنت لماذا تقف ّ‬
‫لتتقبل التعازي َّفي بصمتك المعهود؟‬
‫ســاقي‪ ،‬أتحســس الموضــع‬ ‫ّ‬ ‫وجــع مجنــون ينهشــني رغــم كل الحقــن المخــدرة‪ ،‬أبحــث عــن‬
‫ـس أننــي بتــرت من‬ ‫ـس ّأننــي فــي كابــوس وأنتظــر أن يوقظونــي منــه‪ ،‬أحـ ّ‬
‫الخالــي علــى الســرير‪ ...‬أحـ ّ‬
‫الداخــل‪ ،‬وأنــت ال تنظــر إلـ َّـي‪ ،‬أراك بيــن ّزوار كثيريــن‪ ،‬الــزوار الذيــن جــاؤوا بشــفقتهم وورودهــم‬ ‫ّ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫ونظراتهــم الحزينــة‪ ،‬وأســمع فــي همســاتهم شــفقتهم علـ ّـي‪ :‬مســكين عبــد اللــه‪ ،‬اللــه يعينــه‪ ،‬مــاذا‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫ســيفعل فــي هــذه المصيبــة؟! فجــأة أصبحــت مصيبــة فــي حياتــك‪ ،‬وعبئــا ثقيــا يشــفق عليــك‬
‫الجميــع مــن ّ‬
‫تحملــه!‬
‫منــذ شــهور عندمــا كان عليــك أن تجــري عمليــة خطيــرة فــي القلــب‪ ،‬كنــت أجــري وراءك في‬
‫أّ‬
‫المستشــفيات‪ ،‬وأســهر كل ليلــة قربــك‪ ،‬وأبتســم لــك رغــم تعبــي وألمــي؛ لننــي كنــت فــي الشــهور‬
‫أ‬ ‫أ‬
‫الولــى مــن الحمــل‪ ...‬بعــد شــهرين نجحــت عمليتــك‪ ،‬بينمــا أجهضــت جنينــي ال ّول بســبب‬

‫‪115‬‬
‫عشر‬
‫َ‬ ‫الصف الثّاين‬

‫ّ‬ ‫ّ‬
‫التعــب المتواصــل‪ ،‬لــم يشــفق علـ َّـي أحــد‪ ،‬كانــت العيــون كلهــا تقــول‪ :‬هــذا واجبــك كزوجــة‪،‬‬
‫أ‬ ‫تضحــي بــكل شــيء مــن أجــل زوجــك! ّ‬ ‫يجــب أن ّ‬
‫التضحيــة؟ شــيء غريــب لول مـ ّـرة أكتشــف‬
‫ّأن كلمــة ّ‬
‫التضحيــة مؤنثــة‪.‬‬
‫الرجــل ً‬
‫دائمــا هــو‬ ‫ّ‬
‫وتتحمــل وتصبــر فــي مجتمعنــا‪ ،‬وفــي المقابــل ّ‬ ‫المـرأة يجــب أن ّ‬
‫تضحــي‬
‫ّ‬ ‫الضحيــة‪ ...‬المســكين! أنــت ّ‬ ‫ّ‬
‫حتــى لــم تتعطــف علـ ّـي بنظــرة مواســية أو ابتســامة تلثــم بهــا آالمــي‪،‬‬
‫وبــدأت رحلــة العــذاب‪...‬‬
‫ّ‬
‫منــذ أن انتقلــت إلــى البيــت كســيحة علــى كرســي متحــرك ونحــن لــم نعــد نتكلــم‪ ،‬أحضــرت‬
‫خادمــة للعنايــة بــي‪ ،‬وانتقلــت ّللنــوم فــي غرفــة أخــرى‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫أ‬
‫كان عذابــي ال كبــر ليــس فــي عاهتــي وال فــي عجــزي وحياتــي التــي تحطمــت بيــن عشـ ّـية‬
‫ّ‬
‫وضحاهــا‪ ،‬بــل فــي عينيــك اللتيــن حكمتــا علـ ّـي إ‬
‫بالعــدام‪...‬‬
‫والدموع جمرات من العذاب ال تنتهي أو تجف‪...‬‬ ‫كنت أبكي وأبكي‪ّ ،‬‬

‫التوجيهــات‬ ‫وشــقائي بــك يتجــدد ّكل يــوم وأنــا أراك تدخــل الغرفــة لتعطــي الخادمــة بعــض ّ‬
‫أي احتمــال‪ ،‬فجــأة صــارت حياتــي‬ ‫عنــي‪ ،‬ألمــي فــوق ّ‬ ‫إلــي أو تســأل ّ‬
‫وتذهــب دون أن تنظــر ّ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫أ‬
‫وكرســيي المتحــرك والحمــام‪....‬‬ ‫مرهونــة بهــذه الخادمــة الجنبيــة التــي تنقلنــي بيــن ســريري‬
‫ولــم ينتــه عذابــي! بــدأت الحــرب الكبــرى فــي عائلتــك‪ ،‬وفــي عيــون ّ‬
‫النــاس‪ .‬كان الــكل‬
‫ّ‬
‫ينظــرون إليــك نظــرة الفدائـ ّـي المســكين الــذي عليــه أن يتحمــل زوجتــه الكســيحة‪ ،‬وكان الــكل‬
‫يعيــرك أن هــذه نتيجــة زواجــك ّمنــي رغــم‬ ‫عمــي ّالــذي بــدأ ّ‬ ‫بالــزواج‪ّ ،‬‬
‫خاصــة ّ‬ ‫يلحــون عليــك ّ‬ ‫ّ‬
‫ّ‬
‫معارضتــه‪ ....‬مــا الــذي يجبــرك وأنــت الشــاب الجامعــي الوســيم ذو المركــز المرمــوق أن تقضــي‬
‫حياتــك مــع بقايــا ام ـرأة كســيحة معطوبــة؟‬
‫الرفــض الحزيــن‪ ،‬روحــك المقاتلــة انكســرت ولــم يبــق فيــك ســوى الحــزن‪،‬‬ ‫كنــت ال تملــك ّإل ّ‬
‫ّ‬ ‫ولــم ّ‬
‫أتحمــل هــذا كلــه‪ ...‬كانــت عيــون أهلــك تلومنــي طيلــة الوقــت‪:‬‬
‫(أنت عالة على ابننا! لماذا تفعلين هذا بابننا؟ إننا نشفق عليك‪ ،‬ولكن ما ذنب ابننا؟)‬ ‫ِ‬
‫أتحمــل‪ ...‬بعــد ليلــة لــم تــذق فيهــا أجفانــي ّ‬
‫النــوم‪ ،‬قــررت‬ ‫كان الوجــع ّ‬
‫يعضنــي بشراســة‪ ،‬لــم أعــد ّ‬
‫أن أكلمــك‪ ،‬وأنهــي هــذا كلــه‪ ....‬طلبــت مــن الخادمــة أن تضعنــي علــى كرســيي المتحــرك‪ ،‬ذهبــت‬

‫‪116‬‬
‫ٌةفيدر ٌصصق ‪ -‬طملا روفصع ملح‬

‫إلــى غرفتــك‪ ،‬ارتبكــت عندمــا رأيتنــي‪ ..‬وســرت رعشــة واضحــة فــي مالمحــك‪ ،‬قلــت وأنــت تحــاول‬
‫أن تتحاشــاني كعادتــك‪:‬‬
‫ ـخير؟ هل حدث شيء؟‬
‫حتى ّ‬
‫أتحدث مع زوجي؟"‬ ‫رددت بألم‪" :‬وهل يجب أن يحدث شيء ّ‬

‫رأيت في عينيك دمعة خرساء‪ ،‬ولم ترد‪..‬‬


‫طلبــا واحـ ًـدا ّ‬
‫أتمنــى أن‬ ‫مســك بشــجاعتي‪" :‬لقــد جئــت أطلــب إليــك ً‬ ‫فقلــت وأنــا أحــاول َّ‬
‫الت ّ‬
‫ّ‬
‫تنفــذه لــي إن كانــت لــي بقايــا معــزة عنــدك"‪.‬‬
‫عينيك‪ ،‬لم تعد تستطيع إخفاءها أكثر‪.‬‬ ‫نكست رأسك‪ ،‬ومسحت دمعة سقطت من ّ‬
‫أ‬
‫الخيــرة‪" :‬يجــب أن تتـ ّ‬ ‫ّ‬
‫ـزوج‬ ‫لــم أعــد أتحمــل ضعفــك‪ ..‬واصلــت الكمــي كأننــي ألفــظ أنفاســي‬
‫ّ‬
‫يــا عبــد اللــه‪"..‬‬
‫أ‬
‫رفعت رأسك نحوي ل ّول ّمرة بألم مذهول‪" :‬ماذا؟"‬
‫ّ‬ ‫أ‬ ‫ـس ّأننــي أعـ ّ‬
‫ـض علــى لســاني وأن الـ ّـدم المالــح يمــ� فمــي ويتدفــق علــى صــدري‪:‬‬ ‫قلــت وأنــا أحـ ّ‬
‫ّ‬
‫"تزوج!"‬
‫ّ‬
‫قلت كأنك تبكي‪" :‬ال أصدق ما تقولين؟ هل جننت؟"‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫تستمر حياتنا هكذا‪ .‬أنا لم أعد المرأة التي تستطيع إسعادك‪.‬‬ ‫ ـبل الجنون بأن‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫نظــرت إلـ ّـي والكلمــات تتعثــر علــى شــفتيك‪" :‬أنــت تعرفيــن أننــي‪ "...‬وأحسســت أنــك ســتقول‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫لــي أنــك ســتعود إلــى عشــك الــذي بنيتــه فــي قلبــي منــذ دهــور‪.‬‬
‫ّ‬
‫لكنــك لــم تلبــث أن تمتمــت بحــزن‪" :‬تعرفيــن أننــي مســتحيل أن أتـ ّـزوج!" رددت بصــوت‬
‫نطــق بــكل عذاباتــي‪" :‬وأنــا مســتحيل أن أبقــى فــي هــذا البيــت إذا لــم تتـ ّ‬
‫ـزوج"‪.‬‬
‫ّ‬
‫لــم تــرد‪ ...‬وجــررت كرســيي خــارج غرفتــك قبــل أن أضعــف‪ ..‬كنــت أعــرف أنــك لــم تســتطع‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫أن تقــول لــي كــم تحبنــي وكــم تتعــذب مــن كل مــا حصــل‪ ،‬أنــت ال تســتطيع مواجهــة هــذا كلــه‪،‬‬
‫ُ‬
‫لــم ت ِر ْدنــي أن أرى دموعــك كنــت أدرك عذابــك‪ ،‬لذلــك لقــد اســتجمعت شــجاعتي وواصلــت‬
‫ـزوج لكــي تكــون سـ ً‬
‫ـعيدا‪.‬‬ ‫مهمتــي‪ ..‬رفعــت السـ ّـماعة وحادثــت والدتــك‪ ..‬أخبرتهــا أنــك يجــب أن تتـ ّ‬ ‫ّ‬

‫‪117‬‬
‫عشر‬
‫َ‬ ‫الصف الثّاين‬

‫ّ‬ ‫وعلــى ّ‬
‫الرغــم مــن ذهــول والدتــك وشــفقتها الواضحــة فــي صوتهــا‪ ،‬فإنهــا لــم تحــاول إخفــاء‬
‫طيبــة ومســالمة‪ ،‬وتقــوم بخدمتــك‬ ‫حماســها للفكــرة‪ ،‬ووعــدت بالبحــث عــن زوجــة ثانيــة تكــون ّ‬
‫ّ أ‬
‫وخدمتــي! وفــي أقــل مــن أســبوع وجــدت أمــك الفتــاة المناســبة! آه يــا عبــد اللــه الثيــر‪ ،‬لقــد‬
‫ً‬
‫أحببتــك دهـ ًـرا كامــا‪ ،‬وهــا هــم فــي أقــل مــن أســبوع يختــارون امـرأة جديــدة تســرق تاريخــي كلــه‬
‫ّ‬
‫معــك! وتحــول تضاريــس الفــرح فــي عمــري معــك إلــى الجحيــم مــن الشــقاء‪.‬‬
‫خاصــة بعــد تصريحــي بموافقتــي علــى زواجــك‪ ،‬ولــم‬ ‫الضغــوط تقــوى مــن عائلتــك‪ّ ،‬‬ ‫وبــدأت ّ‬
‫ّ‬
‫تملــك وســط هــذا كلــه ســوى أن تســتجيب لرغبــة أهلــك استســام‪( ...‬مازلــت أجيــد اســتعمال‬
‫عالمــات ّ‬
‫التعجــب فــي محاولــة يائســة الســتعادة إنســانيتي)‪.‬‬
‫ال أدري لمــاذا ال تكــف دموعــي عــن الهذيــان والص ـراخ المجنــون‪ ...‬علــى ّ‬
‫الرغــم مــن قيامــي‬
‫حتــى آخــر لحظــة أن ّ‬
‫تتمســك برفضــك‪.‬‬ ‫ـعيدا‪ ،‬كنــت ّ‬
‫أتمنــى ّ‬ ‫بهــذه المبــادرة ورغبتــي فــي رؤيتــك سـ ً‬
‫أ‬ ‫يتحدثون عن ّ‬ ‫لماذا ّ‬
‫الضحية والحب البدي؟‬
‫مازلت ّ‬
‫متمسكة بهذه المثالية ّ‬
‫الغبية بعد كل ما حصل!‬
‫أ‬
‫الجحيــم يفترســني بــا هــوادة‪ ،‬تنتابنــي نوبــة ألــم مســعورة فــي ليلتهــا الولــى فــي البيــت‪ ،‬أبحث‬
‫أ‬
‫اللــم أم ألــم ّ‬ ‫الحمــى‪ ...‬هــل هــذه ّ‬ ‫ـاقي فــا أجدهمــا‪ّ ،‬‬ ‫عــن سـ ّ‬
‫الحمــى‪ ...‬ســكاكين تنغــرز فــي‬ ‫حمــى‬
‫كل ذرة مــن جســدي‪ ،‬وتقطعنــي ً‬
‫إربــا‪.‬‬
‫يومــا؟ هــل مازلــت أؤمــن بهــذه الكلمــة الخرقــاء؟‬ ‫يــا لــي مــن حمقــاء غبيــة! تــرى هــل أحببتنــي ً‬
‫عنــي عنــد‬ ‫هــل الحــب كلمــة أم موقــف؟ لقــد قلــت كثيـ ًـرا مــن القصائــد‪ ،‬ولكــن هــا أنــت تتخلــى ّ‬
‫ّ‬ ‫أ‬ ‫أول موقــف حقيقـ ّـي‪َ ،‬ت ْن َقـ ُّ‬
‫ـض علـ ّـي الشــباح المرعبــة‪ ،‬تجلدنــي بســاط ذاكــرة الوجــع التــي ال تنــام‪،‬‬
‫يومــا جديـ ًـدا؟ ومــاذا بقــي لــي‬ ‫تعضنــي الهواجــس‪ ،‬أتمنــى ّأل يطلــع علـ ّـي ّ‬
‫الصبــاح‪ ...‬لمــاذا أحيــا ً‬ ‫ّ‬
‫أ‬
‫لعيــش مــن أجلــه؟‬
‫أ‬ ‫أراهــا فــي صبيحــة اليــوم التالــي متـ ّ‬
‫ـوردة‪ ،‬جميلــة‪ ،‬ســعيدة‪ ،‬مفعمــة بالعطــر والحيــاة والنوثــة‪...‬‬
‫أ‬ ‫ّ‬
‫ـاقي؟ تطــرق زوجتــك بــاب غرفتــي‪ .‬ال بـ ّـد أنــك قــد أرســلتها إلـ ّـي لنــك ال‬ ‫تســير بــدالل‪ ،‬أيــن سـ ّ‬
‫صحتــي‪ ،‬أرد كمــا اعتــدت أن أرد مــن بيــن جــدران‬ ‫تقــوى علــى مواجهتــي كالعــادة‪ ...‬تســأل عــن ّ‬
‫تابوتــي‪ ،‬وعلــى شــفتي طعــم المــوت‪ :‬بخيــر (آه يــا لكــذب الكلمــات!)‬

‫‪118‬‬
‫ٌةفيدر ٌصصق ‪ -‬طملا روفصع ملح‬

‫وطيبــة زوجتــك الجديــدة‪ ،‬كــم أنــت محظــوظ! ال‬ ‫آه يــا عبــد ّاللــه العزيــز‪ ،‬كــم هــي جميلــة ّ‬
‫ّ‬
‫بـ ّـد أنهــا قــد نفثــت فيــك الحيــاة مــن جديــد‪ ...‬الحيــاة! كلمــة ال يعــرف معناهــا إل إنســانة مثلــي‪،‬‬
‫ّ‬ ‫النــاس ّ‬ ‫تعلمــت أن ُتدفــن وهــي حيــة‪ ،‬وأن يتبــادل ّ‬ ‫ّ‬
‫ويشــيعون جنازتهــا أمامهــا‪،‬‬ ‫التعــازي فيهــا‪،‬‬
‫ّ‬
‫ويأتــون بامـرأة أخــرى تحــل مكانهــا فــي حيــاة زوجهــا‪ ...‬آه مــا أكبــر الفــرق بيــن زوجتــك الجديــدة‬
‫ّالتــي تبــدأ حياتهــا‪ ،‬وبينــي أنــا ّالتــي أبــدأ ّ‬
‫التعــود علــى موتــي‪ ...‬تخــرج مــن الغرفــة‪ ،‬ترتبــك عندمــا‬
‫تراهــا واقفــة معــي‪ ،‬تتحاشــاني كعادتــك‪ ..‬تناديهــا‪ ،‬فتســتأذنني وتذهــب إليــك‪..‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫أنهار‪ّ ،‬‬
‫أتمنى الموت في هذه اللحظة‪ ..‬لقد قتلتني يا عبد الله‪.‬‬
‫أســقط مــن علــى الكرسـ ّـي‪ ..‬أفاعــي هالميــة تخــرج مــن تحــت جلــدي‪ ،‬ومــن بيــن مســاماتي‪،‬‬
‫أ‬
‫اليســر مــن قلبــي‪ ..‬هنــا ً‬
‫تمامــا حيــث تســكن دهاليــز الـ ّـروح‪ ...‬أغــرق فــي عجــزي‬ ‫وتلــدغ الموضــع‬
‫ّ‬ ‫دموعــا ضاريــة‪ ،‬أذوب فــي لجــة مفترســة مــن ّ‬‫أنزفــك ً‬
‫النحيــب والشــهيق‪ ...‬تحــاول الخادمــة حملــي‬
‫أ‬
‫مــن علــى الرض‪ ....‬أدفعهــا عنــي وأنــا أصــرخ بهســتيرية‪ ...‬تخــرج مــن غرفتــك‪ ،‬تنظــر إلـ ّـي بألــم‪..‬‬
‫آ‬ ‫أ‬
‫لول مـ ّـرة منــذ أســابيع تقتـ ّـرب منـ ّـي وتحــاول حملــي وتهدئتــي‪ ...‬أصــرخ‪ :‬اتركونــي الن‪ ..‬أريــد أن‬
‫أبقــى وحــدي‪...‬‬
‫ًّ‬
‫عينــاك موجوعتــان‪ ،‬نادمتــان‪ ،‬يفقــس حزنــي ذل‪ ...‬أصــرخ‪ :‬تعبــت مــن شــفقتكم‪ ...‬أنــادي‬
‫الســرير‪ ،‬وأطلــب إليهــا أن تغلــق البــاب‪ ..‬تخــرج أنــت‬ ‫الخادمــة‪ ،‬أتركهــا هــذه المــرة تضعنــي علــى ّ‬
‫وزوجتــك‪ ،‬وأنــت عاجــز كعادتــك عــن ّ‬
‫التصــرف‪.‬‬
‫كم ّرددت على مسامعي أنك ستجلب لي القمر ّ‬
‫والنجوم‪...‬‬
‫بغصــة تخنقنــي‪ ،‬تتآمــر علـ ّـي كل ذكرياتــي‬‫أضحــك وأبكــي بمـرارة علــى هــذه النكتــة‪ ،‬أحــس ّ‬
‫حبــات الـ ّـدواء بالقــرب ّمنــي‪ ...‬كــم ً‬
‫قرصــا فيهــا؟ أكثــر‬ ‫معــك‪ ،‬أشــقى بفــرح كان لــي ً‬
‫يومــا‪ ،‬أنظــر إلــى ّ‬
‫ّ‬
‫مــن عشــرين‪ ...‬لمــاذا ال أبتلعهــا كلهــا وأنهــي شــقائي؟ أمســك العلبــة بأصابــع مرتجفــة‪ ،‬تتســاقط‬
‫عبراتــي العاجــزة وأنــا أبحــث عــن الخــاص‪ ..‬أفتــح العلبــة‪ ،‬تســترخي عضالتــي‪ ،‬أسـ ّ‬
‫ـتعد ّللراحــة‪...‬‬
‫أ‬
‫فجــأة أســمع صــوت الذان‪ ...‬رعشــة تتملــك الــروح الثكلــى‪..‬‬
‫ّ‬
‫الله أكبر‪ ...‬أ كبر من دموعي وعذاباتي‪...‬‬
‫ّ‬
‫الله أكبر‪ ....‬أكبر من عجزي وقنوطي‪..‬‬

‫‪119‬‬
‫عشر‬
‫َ‬ ‫الصف الثّاين‬

‫أ ّ‬ ‫ّ‬
‫الله أكبر‪ ...‬أكبر من زنزانة اللم التي حبست نفسي فيها‪..‬‬
‫أرمــي أق ـراص الـ ّـدواء‪ ،‬أســتغفر ّاللــه علــى لحظــة ضعفــي‪ ،‬ويســقط عذابــي ً‬
‫دموعــا‪ ..‬أصلــي‬
‫الفجــر‪ ..‬أبكــي بدمــوع تغســل قلبــي المكلــوم‪..‬‬
‫الشــباك‪ ،‬أرى عصفـ ً‬‫ّ‬
‫ـورا صغيـ ًـرا يتحــدى المطــر‬ ‫أســمع طرقــات المطــر علــى نافذتــي‪ ،‬أفتــح‬
‫عاليــا‪ ،‬أرى نفســي قــد تحــررت مــن كرســيي وعجــزي وطــرت‬ ‫والريــح ويفــرد جناحيــه ويحلــق ً‬
‫أ‬ ‫ّ‬
‫معــه‪ ...‬أمــل غامــض يتسـ ّـرب إلــى نفســي‪ ...‬أتذكــر رحمــة اللــه‪ ،‬وأبكــي لننــي استســلمت للمــوت‪...‬‬
‫أريد أن أحيا أكثر من أي وقت مضى‪...‬‬
‫أنام ألول مرة منذ أن ُبترت ساقاي وأنا في انتظار ّ‬
‫الصباح‪.‬‬
‫واقفــا عنــد ســريري تنظــر ّ‬‫ً‬
‫إلــي بألــم‪ ،‬أنــت ال تســتطيع‪ ،‬وأنــا ال أســتطيع أن‬ ‫أصحــو‪ ...‬أراك‬
‫ّ‬
‫أتحمــل أكثــر‪ ...‬تســألني عينــاك عــن أحوالــي‪ ..‬فأقــول لــك‪" :‬أنــت تعــرف يــا عبــد اللــه مكانتــك‬
‫عنــدي"‪.‬‬
‫أيضامكانتك عندي"‪.‬‬ ‫تجيب بحزن‪" :‬وأنت تعرفين ً‬
‫بالرغبة ّ‬
‫بالضحك‪.‬‬ ‫ال أدري لماذا بدت لي جملتك هزلية في هذه اللحظة‪ ،‬وأحسست ّ‬

‫تزوجــك‪ ،‬كنــت أرى طموحــي‬ ‫الخيــرة فــي المدرســة أل ّ‬ ‫أ‬ ‫ّ‬


‫أرد كأننــي لــم أســمع‪" :‬لقــد تركــت ســنتي‬
‫ّ‬ ‫فــي عينيــك‪ ،‬كان طموحــي الوحيــد حينــذاك أن ّ‬
‫أتزوجــك وأســعدك‪ ،‬وأعيــش معــك الحيــاة التــي‬
‫أتمناهــا‪ ،‬ولكننــي لــم أجــد معــك غيــر المــوت‪ّ .‬إننــي أريــد العــودة إلــى ّ‬
‫الدراســة"‪.‬‬ ‫طالمــا كنــت ّ‬

‫ترد بذهول متلعثم‪" :‬ولكن أنت ال تستطيعين! أنت‪"!.....‬‬


‫أواصــل‪" :‬أعــرف ّأننــي قــد فقــدت سـ ّ‬
‫ـاقي‪ ،‬ولكننــي لــم أمــت بعــد‪ ...‬أعــرف أنــك تعتبرنــي قــد‬
‫ّ‬ ‫أ‬ ‫ّ‬
‫مــت‪ ،‬وأنــك قــد أصبحــت تتعامــل معــي علــى هــذا الســاس‪ ....‬مجــرد جثــة مشـ ّـوهة تقــرف مــن‬
‫رؤيتهــا"‪.‬‬
‫تقــول وأنــت تخفــض عينيــك حتــى ال أرى دموعــك‪" :‬لمــاذا تقوليــن هــذا الكلام؟ إنــك‬
‫ّ‬
‫تعذبيننــي"‪.‬‬
‫حتــى ال تســتطيع ّ‬
‫النظــر إلـ ّـي وأنــت تكلمنــي‪ ...‬انظــر إلـ ّـي‪ ..‬انظــر إلــى آثــار‬ ‫أخاطبــك‪" :‬إنــك ّ‬

‫‪120‬‬
‫ٌةفيدر ٌصصق ‪ -‬طملا روفصع ملح‬

‫ّ‬
‫البتــر فــي جســدي‪ ،‬إنــك ال تســتطيع‪ ...‬وحتــى لــو اســتطعت فــإن الشــيء الوحيــد الــذي تســتطيع‬
‫ـاقي‪ّ ،‬‬
‫لكنــك بتــرت إنسـ ّ‬ ‫الطبــاء سـ ّ‬‫أ‬
‫ـانيتي‪ ،‬بتــرت‬ ‫أن تعطينــي إيــاه هــو دموعــك وشــفقتك‪ ..‬لقــد بتــر‬
‫ّأ‬
‫عالقتنــا‪ ...‬بتــرت كل شــيء جميــل جمعنــا فــي يــوم مــن اليــام"‪.‬‬
‫تســقط دموعــك هــذه المــرة‪ ،‬وتنظــر إلـ ّـي بعينيــن كســيرتين‪" :‬لكــن مــا حصــل كان أكبــر ّمنــي‪...‬‬
‫مــاذا بيــدي أن أفعــل بعــد كل ماحصــل؟"‬
‫أرد‪" :‬إن كنــت عاجـ ًـزا‪ ،‬فأنــا رغــم ّأننــي مبتــورة ّ‬
‫الســاقين فإننــي لســت عاجــزة‪ ،‬رغــم أن موتــي‬
‫لكنــي قـ ّـررت العــودة إلــى الحيــاة‪ ،‬ســأعود إلــى ّ‬
‫الدراســة باالنتســاب‪،‬‬ ‫قــد يكــون فيــه راحــة لــك‪ّ ،‬‬
‫التجويــد؛ ألحقــق حلمــي فــي إعطــاء دروس ّ‬
‫التجويــد"‪.‬‬ ‫ســأدرس ّ‬

‫تتلعثم‪" :‬ولكن‪."....‬‬
‫ّ‬
‫أقــول بقــوة ال أدري مــن أيــن جاءتنــي‪" :‬إذا كانــت عودتــي إلــى الحيــاة ال تعجبــك فطلقنــي‪،‬‬
‫فلــم يعــد يربطنــا ســوى الجـراح‪ ،‬لقــد تعبــت مــن شــفقتك ناحيتــي‪ ...‬متــى كانــت آخــر مــرة بـ ّ‬
‫ـت‬
‫ً‬ ‫أ‬ ‫ّ‬ ‫عنــدي أو ّ‬
‫حتــى تكلمــت معــي؟ أنــا اللــم الوحيــد فــي حياتــك‪ ،‬فلمــاذا ال تطلقنــي وتصبــح رجــا‬
‫سـ ً‬
‫ـعيدا تنعــم بحياتــك مــع زوجتــك الجديــدة دون زوجــة معاقــة كئيبــة"‪.‬‬
‫الدراســة‬‫تهــرب كالعــادة مــن المواجهــة‪" :‬لــن أطلقــك أنــت حــرة إن كانــت عودتــك إلــى ّ‬
‫ســتريحك فافعلــي مــا تريديــن"‪.‬‬
‫بأمــي وأخبرهــا برغبتــي فــي العــودة إلــى ّ‬ ‫ّ‬
‫تتملكنــي‪ّ ...‬أتصــل ّ‬ ‫أحـ ّ‬
‫الدراســة‪...‬‬ ‫ـس بطاقــة غريبــة‬
‫تثــور "هــل جننــت؟ إن مــن بمثــل حالتــك ال‪."...‬‬
‫ـس أنهــم قــد بتــروا سـ ّ‬
‫ـاقي مــرة أخــرى‪ ،‬ال أستســلم لعجــزي‪ ..‬أتذكــر صديقتــي‬ ‫أنهــي الحــوار‪ ،‬أحـ ّ‬
‫تزوجــت‪ّ ،‬أتصــل بهــا‪ ،‬أخبرهــا برغبتــي‪ّ ...‬‬
‫تتحمــس وتعدنــي أنهــا‬ ‫القديمــة ّالتــي لــم أكلمهــا منــذ ّ‬
‫بالجــراءات‪ ،‬تشــتري لــي الكتــب‪ ،‬تأخذنــي معهــا لــدروس‬ ‫ّ‬
‫ستســاعدني فــي الدراســة‪ ...‬تقــوم إ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫التجويــد والشــريعة‪...‬‬
‫ـس بالحيــاة وأنــا أقـرأ‪ ..‬كل كتــاب يأخذنــي إلــى عالــم جديــد مــن البعــث والحيــاة‪،‬‬ ‫ألول مــرة أحـ ّ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫أقــدم االمتحانــات‪ ،‬أنجــح فــي الشــهادة الثانويــة‪ ،‬أتفـ ّـوق فــي دروس الشــريعة‪ ...‬أبــدأ بإعطــاء دروس‬
‫ّ‬
‫الشــريعة فــي بيتــي‪ ...‬أسـ ّـجل للجامعة‪...‬‬

‫‪121‬‬
‫عشر‬
‫َ‬ ‫الصف الثّاين‬

‫ّ‬
‫صرت أرى نظرات إالعجاب في عيون من حولي بدل الشفقة‪...‬‬
‫حتــى قبــل أن يبتــروا سـ ّ‬
‫ـاقي‪ ،‬كنــت أســير‬ ‫ألول مــرة أحــس بذاتــي‪ ،‬لــم أشــعر بهــذه ّ‬
‫الســعادة ّ‬
‫النــاس فــي مدينتــي‪ ،‬ولكننــي اليــوم أحلــق ً‬
‫عاليــا‪..‬‬ ‫مثــل كل ّ‬
‫الشــباك‪ ،‬المطــر ّ‬
‫النــازل يغســل المدينــة‪ ،‬ويكركــر فــي المزاريــب‪ ،‬أرى العصفــور ّ‬ ‫ّ‬
‫الصغيــر‬ ‫أفتــح‬
‫ّ‬
‫مــازال يتحــدى المطــر والعاصفــة‪ ...‬يفــرد جناحيــه ويطيــر‪ ...‬أحــس بسـ ّ‬
‫ـاقي تعــودان لــي‪ ،‬أجــري‪،‬‬
‫أركــض‪ ،‬أقفــز‪ ...‬ينبــت لــي جناحــان‪ ...‬لــم أعــد محتاجــة إلــى سـ ّ‬
‫ـاقي‪ ،‬أرميهمــا أفــرد جناحــي وأحلق‬
‫فــي الفضــاء الفســيح‪.‬‬

‫‪122‬‬
‫ٌةفيدر ٌصصق ‪ -‬بره يذّلا اهجوز‬

‫زوجها الّذي هرب‬


‫آرثر موريسون‬

‫ال يـزال تصــرف ســيمونز المشــين نحــو زوجتــه موضــوع اســتغراب شــديد بيــن الجيـران‪ .‬كانــت‬
‫الخريــات يعتبرنــه ً‬
‫زوجــا ًّ‬ ‫أ‬
‫"مثاليــا" وكانــت الســيدة ســيمونز‪ ،‬وال ريــب‪ ،‬زوجــة ذات ضميــر‬ ‫النســاء‬
‫حســاس‪ .‬وكل امـرأة فــي ذلــك الحــي تشــهد بأنهــا تعبــت وشــقيت فــي ســبيل ذلــك الرجــل أكثــر‬
‫آ‬ ‫أ‬ ‫أ‬
‫بكثيــر مــن أن يكــون الحــق لي زوج مــن الزواج أن يطالــب بــه‪ .‬والن هــذا جزاؤهــا منــه‪ .‬لعلــه‬
‫جــن فجــأة؟‬
‫كانــت الســيدة ســيمونز قبــل أن تتــزوج مــن صاحبنــا ســيمونز‪ ،‬أرملــة الســيد فــورد‪ ،‬وكان هــذا‬
‫الخيــر ّ‬ ‫أ‬
‫حمــاال علــى ظهــر باخــرة غيــر تابعــة لخــط بحــري منتظــم‪ .‬ولكــن هــذه الباخــرة وجميــع مــن‬
‫ّ‬ ‫أ‬
‫علــى ظهرهــا غرقــت فــي البحــر ‪ -‬ودخــل فــي روع الرملــة أن هــذا قضــاء عــادل حــل بــه نتيجــة‬
‫تمــرد منــه دام ســنين طويلــة إلــى أن انتهــى بــه إثمــه إلــى مزاولــة العمــل علــى متــون البحــار‪ ،‬بــل‬
‫مزاولتــه كحمــال! وذلــك تدهــور مريــع لبـراد ميكانيكــي قديــر‪ ،‬وقــد بقيــت عاقـرا اثنتــي عشــرة ســنة‬
‫مــع الســيد فــورد‪ ،‬وبقيــت عاقـرا كذلــك مــع ســيمونز بعــد زواجهــا منــه‪.‬‬
‫ً‬
‫أمــا ســيمونز فالــكل يؤكــد أنــه كان محظوظــا بهــذه الزوجــة القديــرة‪ ،‬كان يمتهــن النجــارة‬
‫وكانــت معرفتــه فيهــا ال بــأس بهــا‪ ،‬ولكنــه لــم يكــن مــن الرجــال المقبليــن علــى الحيــاة‪ .‬مــا كان‬
‫ّ‬
‫أحــد ليســتطيع أن يتكهــن مــا الــذي ســيحل بتومــي ســيمونز لــو لــم تكــن هنــاك ام ـرأة اســمها‬
‫الســيدة ســيمونز تعتنــي بــه‪ .‬وهــو رجــل هــادئ وديــع‪ ،‬ذو وجــه صبيانــي فيــه شــعر هــش مبعثــر‬
‫َّ‬
‫علــى العارضيــن والشــاربين‪ .‬لــم تكــن لــه أيــة عــادات الزمــة‪ .‬غيــر أن الســيدة ســيمونز زرعــت فــي‬
‫نفســه فضائــل شــتى غريبــة‪ .‬فهــو يذهــب صبــاح كل أحــد إلــى الكنيســة بوقــار‪ ،‬وقبعــة عاليــة تعمــر‬
‫أ‬
‫بنســا واحـ ًـدا فــي الطبــق تعطيــه إيــاه لهــذا الغــرض مــن كســبه الســبوعي‪ ،‬وبعــد‬ ‫رأســه‪ ،‬ويضــع ً‬
‫رجوعــه وبإش ـراف الســيدة ســيمونز ينــزع أحســن ثيابــه وينظفهــا بفرشــاة بــكل اهتمــام ومشــقة‪.‬‬
‫أ‬
‫وفــي أيــام الســبت يبــدأ بعــد الظهــر بتنظيــف الســكاكين والشــوكات والحذيــة والقــدور والشــبابيك‬
‫بصبــر جميــل وضميــر مرتــاح‪ .‬وفــي أيــام الثالثــاء يأخــذ الثيــاب للكــي‪ ،‬وفــي ليالــي الســبت يرافــق‬
‫الســيدة ســيمونز إلــى الســوق ليحمــل الــرزم‪.‬‬

‫* كاتب إنكليزي (‪.)-1916‬‬

‫‪123‬‬
‫عشر‬
‫َ‬ ‫الصف الثّاين‬

‫أمــا فضائــل الســيدة ســيمونز الشــخصية فقــد كانــت أصيلــة بســيطة ومتعــددة‪ .‬لقــد كانــت مدبــرة‬
‫أ‬
‫ممتــازة‪ ،‬وكل بنــس مــن شــلنات تومــي الثمانيــة والثالثيــن الســبوعية كانــت تفيــد منــه أعظــم‬
‫ّ‬
‫فائــدة‪ .‬ولــم يكــن تومــي ليجــرؤ علــى التخميــن عــن المقــدار الــذي ادخرتــه منهــا‪ .‬ومجــرد النظــر‬
‫إلــى نظافتهــا فــي شــؤون البيــت الزوجيــة يبعــث علــى الذهــول‪ .‬لقــد كانــت تســتقبل ســيمونز عنــد‬
‫البــاب الخارجــي كلمــا أتــى إلــى البيــت‪ ،‬وهنــاك يســتبدل حــذاءه بنعــل وهــو يــوازن نفســه بمشــقة‬
‫أ َّ‬
‫وألــم مــن رجــل إلــى أخــرى علــى البــاط البــارد‪ .‬كان هــذا لنهــا غســلت الدهليــز والممــر بمســاعدة‬
‫أ َّ‬
‫زوجــة العائلــة القاطنــة فــي الطابــق الســفلي‪ ،‬ولن بســاط الــدرج كان بســاطها‪ .‬وبعــد الشــغل كانــت‬
‫تشــرف علــى زوجهــا حتــى نهايــة عمليــة "تنظيــف نفســه"بدقة وحــذر‪ ،‬فتضــع نفســها بيــن الجــدران‬
‫ّ‬
‫وبيــن الرشــاش الــذي قــد يتطايــر عليهــا‪ .‬وإذا حــدث‪ ،‬رغــم جهدهــا المبــذول‪ ،‬أن بقيــت بعــض‬
‫البقــع ظاهــرة فإنهــا تجهــد نفســها فــي طبــع تلــك الحقيقــة علــى ذاكــرة ســميونز‪ ،‬وتســرد لــه مطــوال‬
‫ّ‬ ‫أ‬
‫تفاصيــل المــور التــي تثبــت أنانيتــه الجحــود‪ .‬فــي البــدء كانــت ترافقــه دومــا مرافقــة الخفيــر إلــى‬
‫أ‬
‫حوانيــت المالبــس الجاهــزة‪ ،‬فتنتخــب لــه مــا يــروق لهــا ثــم تدفــع الثمــن بنفســها ‪-‬لن الرجــال ومــا‬
‫أشــبه بالحمقــى وأصحــاب الحوانيــت يتالعبــون بهــم كيفمــا شــاؤوا‪ -‬ولكــن ســرعان مــا تخطــت‬
‫هــذه العقبــة حيــن خطــر ببالهــا أن تصنــع ثيــاب ســيمونز بنفســها‪ .‬وكان التصميــم إحــدى فضائلهــا‪.‬‬
‫فابتــدأت بعــد ظهــر ذلــك اليــوم بخياطــة بدلــة مــن قمــاش صوفــي مضــرب صاخــب اللــون‬
‫ََ‬ ‫أ‬ ‫َ‬
‫ق َّصتــه علــى طـراز بدلــة قديمــة‪ ،‬وليــس ذلــك فحســب‪ ،‬بــل كانــت البدلــة جاهــزة يــوم الحــد! فغـ َـر‬
‫ســيمونز فــاه دهشــة لهــذا إالنجــاز الباهــر‪ ،‬أقحمتــه فيهــا ودفعتــه إلــى الكنيســة قبــل أن يســترجع‬
‫رشــده‪ ....‬غيــر أنــه وجــد أنهــا لــم تكــن مريحــة تمامــا‪ .‬فالســروال ضيــق تحــت ركبتيــه ولكنــه يتهــدل‬
‫بارتخــاء وراء عقبيــه‪ .‬وعندمــا جلــس وجــد أنــه يجلــس علــى متاهــة مــن الطيــات والــدروز القاســية‪.‬‬
‫أ‬
‫وكانــت ياقــة ســترته تشــد كتفــه بكتفــه الخــرى‪ ،‬بينمــا انتفــخ هيكلهــا بســخاء كالحقيبــة أســفل‬
‫خاصرتــه‪.‬‬
‫َّ‬
‫لقــد اعتــاد علــى المنغصــات يتقبلهــا كأمــر مســل ٍم بــه‪ ،‬ولكـ َّـن ذلــك لــم يكــن ليجعلــه علــى وئــام‬
‫مــع زمالئــه المســتهترين فــي المشــغل‪ .‬إذ بينمــا تخيــط الســيدة ســيمونز بــدالت محكمــة متتاليــة‪،‬‬
‫تخــاط كل منهــا بموجــب ســابقتها‪ ،‬كانــت هفــوات تصميمهــا تنمــو وتتوطــد حتــى تصبــح مبــادئ‪،‬‬
‫َّ‬
‫بــل إنهــا تشــتد بــروزا وبشــاعة‪ .‬وغمـزات ســيمونز كلهــا ذهبــت ســدى‪ .‬فقــد أشــار إليهــا مــن طــرف‬
‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫ّ‬
‫خفــي بــأل ترهــق نفســها بالعمــل وأن الخياطــة تلــف العينيــن‪ ،‬وأن هنــاك دكان خيــاط جديــدة‬

‫‪124‬‬
‫ٌةفيدر ٌصصق ‪ -‬بره يذّلا اهجوز‬

‫ّ‬ ‫َّ‬ ‫آ‬


‫فــي الطــرف الخــر مــن الطريــق‪ ،‬رخيــص جـ ًـدا‪ ،‬حيــث إن‪ ...‬فأســكتته بحــدة قائلــة‪" :‬إي واللــه‬
‫آ‬
‫صــح! إنــك دائــم التفكيــر بالخريــن‪ ،‬بينمــا رحــت تجلــس هنــاك وأنــت تمثــل الكــذب بعينيــه‬
‫َّ‬
‫أمــام زوجتــك! وكأننــي ال أســتطيع أن أقـرأك ككتــاب مفتــوح يــا تومــاس ســيمونز‪ .‬كثيـ ًـرا مــا تهتــم‬
‫بإجهــادي بعــد أن نلــت كل مــا تبتغيــه‪ .‬تبعثــر النقــود وتقــذف بهــا كالقــاذورات فــي الشــارع علــى‬
‫َ‬
‫حفنــة مــن الخياطيــن المختلســين‪ ،‬وأنــا هنــا أ ِكـ ُّـد وأشــقى كالعبيــد لكــي أوفــر الفلــس الواحــد‪،‬‬
‫ـكورا‪ .‬لعلــك تحســب أنــك تســتطيع أن تلتقــط النقــود مــن عــرض‬ ‫وهــذا مــا ألقــاه منــك جـز ًاء وشـ ً‬
‫الشــارع؟ ال شــك أننــي كنــت ســأحظى باهتمــام أكبــر لــو أنــي اســتلقيت علــى الســرير طيلــة اليــوم‪،‬‬
‫أ‬
‫كمــا تفعــل الخريــات"‪ .‬وهكــذا تجنــب تومــاس ســيمونز الموضــوع‪ ،‬فلــم يعــد يتذمــر حتــى عندمــا‬
‫صممــت أن تقــص لــه شــعره ً‬
‫أيضــا‪...‬‬
‫وهكــذا دام حظــه الــوادع لســنين عــدة‪ .‬ثــم حــل مســاء ذهبــي مــن أمســيات الصيــف حيــن‬
‫حملــت الســيدة ســيمونز ســلتها وذهبــت لكــي تتســوق وتركــت ســيمونز وحــده فــي البيــت‪ .‬فغســل‬
‫أوانــي الشــاي ووضعهــا جانبــا‪ ،‬ثــم انصــرف للتفكيــر فــي ســروال جديــد كان قــد أنجــز فــي ذلــك‬
‫اليــوم وعلــق وراء بــاب غرفــة الجلــوس‪ .‬علــق هنــاك بكامل شــكله‪ ...‬بــريء المقعــد‪ ،‬قصير الســاقين‪،‬‬
‫طويــل الخصــر‪ ،‬بزخــارف فاضحــة لــم يلبــس مثلهــا قــط مــن قبــل‪ .‬وإذ هــو يرمقــه اســتيقظ فيــه‬
‫أ‬
‫شــيطان الخطيئــة الصليــة الصغيــر‪ ،‬وعربــد فــي صــدره‪.‬‬
‫ّ‬ ‫أ‬
‫لقــد خجــل منــه بالطبــع لنــه يعــي الجميــل الــذي هــو مديــن بــه لزوجتــه لصنعهــا ذلــك‬
‫ّ‬ ‫أ‬ ‫الســروال عينــه‪ ،‬ناهيــك عــن ِّ‬
‫النعــم الخــرى التــي تمــن بهــا عليــه‪ .‬ومــع ذلــك فقــد كان الشــيطان‬
‫الصغيــر هنــاك‪ ،‬وكانــت اقتراحاتــه الدنيئــة كثيــرة جـ ًـدا‪ ،‬ال ســيما بشــأن ذلــك الســروال‪.‬‬
‫َّ‬ ‫قال له الشيطان الصغير ً‬
‫أخيرا‪" :‬اقذف به في برميل القمامة! إنه خير مكان يليق به"‪.‬‬
‫فأجفــل ســيمونز وهــو فــي أشــد مــا يكــون مــن الهــول مــن ذاتــه الشــريرة‪ ،‬وفكــر برهــة فــي‬
‫غســل أوانــي الشــاي مــرة أخــرى علــى ســبيل تأديــب النفــس‪ ،‬ثــم توجــه نحــو الغرفــة الخلفيــة‪،‬‬
‫ولكنــه رأى مــن صحــن الــدرج أن البــاب الخارجــي مفتــوح‪ ...‬لعــل ابــن القاطنيــن فــي الطابــق‬
‫َّ‬ ‫أ‬
‫الســفل هــو الســبب فــي ذلــك‪ .‬غيــر أن بقــاء البــاب الخارجــي مفتوحــا أمــر ال تقبــل بــه الســيدة‬
‫ســيمونز‪ .‬فنــزل إلغالقــه كــي ال تغضــب عليــه عنــد رجوعهــا‪ .‬وبينمــا هــو يغلــق البــاب ألقــى نظــرة‬
‫علــى الشــارع‪.‬‬

‫‪125‬‬
‫عشر‬
‫َ‬ ‫الصف الثّاين‬

‫كان هنــاك رجــل يتســكع علــى الرصيــف ويختلــس النظــر إلــى البــاب باســتطالع‪ .‬كان مدبــوغ‬
‫أ‬
‫الوجــه‪ ،‬ويــداه غائرتيــن فــي جيبــي ســرواله الزرق المترهــل‪ ،‬وعلــى مؤخــرة رأســه قبعــة مــن‬
‫القبعــات الســائدة بيــن ّ‬
‫حمالــي الموانــئ‪ .‬خطــا خطــوة فجائيــة نحــو البــاب وقــال‪" :‬الســيدة (فــورد)‬
‫هــل فــي البيــت؟"‬
‫فحملق فيه سيمونز نحوا من خمس ثوان ثم قال‪" :‬ها؟"‬
‫آ‬
‫ ـ"كانت من قبل السيدة (فورد) ‪ -‬والن السيدة سيمونز‪ ،‬أليس كذلك؟ "‬
‫قال الغريب هذا وهو يلقي نظرة مختلسة شريرة لم يهضمها سيمونز ولم يفهمها‪.‬‬
‫آ‬
‫قال سيمونز‪" :‬ال‪ ،‬إنها ليست في البيت الن‪".‬‬
‫ ـ"ألست أنت زوجها؟"‬
‫ ـ"بلى‪".‬‬
‫نــزع الرجــل غليونــه مــن فمــه وأظهــر أســنانه فــي شــبه ضحكــة مغتصبــة طويلــة‪ ،‬ثــم قــال‬
‫ّ‬
‫أخيـ ًـرا‪ :‬صدقنــي يظهــر أنــك مــن النــوع الــذي تحبــه الرجــال"‪ .‬ثــم أظهــر أســنانه فــي ضحكــة‬
‫خبيثــة مــرة أخــرى‪ .‬وعندمــا رأى أن ســيمونز قــد اســتعد لغلــق البــاب وضــع قدمــه علــى العتبــة‬
‫ً‬
‫ويــده علــى البــاب‪ ،‬وقــال‪" :‬ال تكــن عجــول يــا صديقــي‪ .‬لقــد أتيــت إلــى هنــا لكــي أتكلــم معــك‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫قليــا الكم رجــل يخاطــب رجــا‪ ،‬أال تــرى ذلــك؟"‬
‫فانزعــج تومــي ســيمونز ولكــن البــاب لــم يكــن ليغلــق‪ .‬وهكــذا أخــذ يناقشــه‪" :‬مــاذا تريــد؟ إنــي‬
‫ـأعرف نفســي"‪ .‬قــال هــذا ولمــس طاقيتــه بحركــة تواضــع‬ ‫ال أعرفــك" "إذن‪ ،‬إذا كنــت تســمح لــي‪ ،‬سـ ّ‬
‫ّ‬
‫ســاخرة‪ ،‬وأردف‪" :‬أنــا بــوب فــورد‪ ،‬قــادم مــن ملكــوت اللــه‪ ،‬إن صــح هــذا القــول‪ .‬غرقــت ومــت‬
‫آ أ‬
‫قبــل خمــس ســنوات‪ .‬وأتيــت الن لرى زوجتــي"‪.‬‬
‫ّ‬
‫وفــي أثنــاء هــذه الكلمــة كان فــكا تومــي ســيمونز ينفرجــان أكثــر فأكثــر‪ .‬وعنــد انتهائهــا غــرس‬
‫أصابعــه فــي شــعره وألقــى نظــره علــى الحصيــر‪ ،‬ثــم نظــر إلــى كــوة الضــوء فــوق البــاب وأجــال طرفــه‬
‫عبــر الشــارع‪ ،‬بعدهــا رمــق زائــره بنظــرة ثابتــة‪ ،‬ولكنــه لــم يجــد مــا يقولــه لــه‪.‬‬
‫آ‬ ‫أ‬
‫كرر الرجل‪" :‬أتيت لرى زوجتي وبوسعنا أن نصفي المسألة الن‪ ،‬رجال لرجل"‪.‬‬
‫أغلــق ســيمونز فمــه ببــطء واقتــاد الزائــر إلــى الطابــق العلــوي ًّ‬
‫آليــا‪ ،‬وأصابعــه مــا ت ـزال فــي‬

‫‪126‬‬
‫ٌةفيدر ٌصصق ‪ -‬بره يذّلا اهجوز‬

‫ً‬ ‫ً‬
‫شــعره‪ ،‬والشــعور بحقيقــة الوضــع ينغــرس شــيئا فشــيئا فــي دماغــه‪ .‬واســتيقط الشــيطان الصغيــر فيــه‬
‫مــرة أخــرى‪ .‬افــرض أن هــذا الرجــل هــو فــورد؟ افــرض أنــه ادعــى بزوجتــه؟ أتكــون ضربــة قاضيــة؟‬
‫هــل ســتزيحه مــن الطريــق أم ال؟ فكــر فــي الســروال‪ ،‬فــي أوانــي الشــاي‪ ،‬وفــي أوانــي الغســيل‬
‫والكــي‪ ،‬فــي الســكاكين‪ ،‬فــي القــدور‪ ،‬فــي الشــبابيك فكــر فيهــا كمــن اقتــرف خطيئــة عــن قصــد‪.‬‬
‫وعلــى صحــن الــدرج قبــض (فــورد) علــى ذراعــه وســأله فــي همــس مبحــوح‪" :‬كــم ســيطول‬
‫الوقــت بهــا قبــل أن ترجــع؟"‬
‫وقبــل أن يجيــب ســيمونز كــرر الســؤال عــدة م ـرات فــي دماغــه ثــم قــال‪" :‬نحــو ســاعة علــى‬
‫أ‬
‫الغلــب"‪.‬‬
‫قــال (فــورد) وهــو يجيــل الطــرف حولــه‪" :‬آه‪ ،‬لقــد قضيــت هنــا وقتــا مريحــا تنعمــت بــه‪ .‬هــذه‬
‫ً‬ ‫أ‬ ‫أ‬ ‫أ‬
‫الكراســي وهــذه الشــياء الخــرى كانــت ملكهــا‪ ،‬أعنــي ملكــي أنــا‪ ،‬ولقلهــا لــك بصراحــة‪ ،‬رجــا‬
‫ّ‬
‫لرجــل" ثــم جلــس وتابــع‪" :‬حسـ ًـنا هــا أنــا هنــا مــرة أخــرى بــوب فــورد‪ ،‬الهالــك الراحــل‪ ،‬الــذي‬
‫أ َّ‬
‫غــرق فــي البحــر! ولكــن هــا أنــا لــم أهلــك‪ ،‬كمــا تــرى؟ إنــي لــم أهلــك‪ .‬ولكــن لمــاذا؟ لن مالحــا‬
‫ألمانيــا التقطنــي‪ ،‬وتشــبثنا بالصــاري ً‬
‫معــا‪ ،‬ثــم بقيــت لبضــع ســنين وأنــا أهيــم منــذ ذلــك الحيــن على‬
‫آ‬
‫وجهــي‪ ،‬والن" ‪-‬ورمــق ســيمونز بثبــات‪" -‬لقــد رجعــت لكــي أرى زوجتــي"‪.‬‬
‫فقال سيمونز مشدوها‪" :‬إنها ال تحب التدخين هنا في البيت"‪.‬‬
‫فأجــاب (فــورد)‪" :‬الك‪ ،‬إنــي أراهــن علــى أنهــا ال تحــب ذلــك" ثــم نــزع غليونــه مــن فمــه وأخفضــه‬
‫بيــده علــى قــدر مــا اســتطاع ثــم أردف‪" :‬إنــي أعــرف زوجتــي حنــة‪ .‬كيــف تجدهــا أنــت؟ هــل‬
‫تجعلــك تنظــف الشــبابيك؟"‬
‫أ‬ ‫ّ‬
‫فأقــر ســيمونز بذلــك وقــال بعــدم ارتيــاح‪" :‬واللــه أنــا ‪-‬بالفعــل أســاعدها فــي بعــض الحيــان‪،‬‬
‫ً‬
‫طبعــا"‪.‬‬
‫ ـ"آه‪ ،‬والســكاكين ً‬
‫أيضــا‪ ،‬إنــي أراهــن‪ ،‬والقــدور البراقــة‪ .‬إنــي أعــرف ذلــك كلــه"‪ .‬ثــم نهــض وانحنــى‬
‫ليــرى قفــا ســيمونز‪.‬‬
‫تماما‪ ،‬هذا ً‬
‫أيضا مما يلذ لها أن تفعله!"‬ ‫ ـ"يا! أعتقد أنها تقص لك شعرك أنت ً‬
‫أيضا! ً‬

‫وأخــذ يرمــق ســيمونز الخجــل مــن نــواح متعــددة بتعــال‪ ،‬ثــم رفــع إحــدى ســاقي الســروال‬

‫‪127‬‬
‫عشر‬
‫َ‬ ‫الصف الثّاين‬

‫ّ‬
‫المعلــق وراء البــاب وقــال‪" :‬إنــي أراهــن أنهــا هــي التــي خاطــت لــك هــذا‪ .‬مــا مــن أحــد غيرهــا‬
‫آ‬ ‫ّ‬ ‫َّ‬
‫يســتطيع أن يصنعــه علــى هــذا الشــكل‪ .‬إنــه أردأ حتــى مــن هــذا الــذي تلبســه الن"‪.‬‬
‫وابتــدأ الشــيطان الصغيــر يأخــذ بزمــام النقــاش كمــا يشــتهي‪ .‬لــو اســترجع هــذا الرجــل زوجتــه‪،‬‬
‫لعلــه يضطــر إلــى لبــس الســروال‪...‬‬
‫ّ‬
‫و أردف (فورد)‪" :‬أي والله ما تغيرت وال تحسنت!"‬
‫ّ‬
‫وابتــدأ ســيمونز يشــعر بــأن ذلــك لــم يعــد مــن شــأنه‪ .‬مــن الواضــح أن حنــة كانــت زوجــة هــذا‬
‫ً‬ ‫آ‬
‫الرجــل الخــر‪ ،‬وعليــه إن كان شــريفا أن يقــر بالحقيقــة‪ .‬لقــد صورهــا لــه الشــيطان الصغيــر كقضيــة‬
‫واجــب ال بــد منــه‪.‬‬
‫ثــم قــال (فــورد) فجــأة طيــب! الوقــت قصيــر ولــم نصــل إلــى نتيجــة بعــد‪ .‬لــن أكــون شـ ً‬
‫ـديدا‬
‫معــك يــا صــاح‪ ،‬ولكــن علــى أن أتمســك بحقوقــي علــى أكمــل وجــه‪ .‬وأنــا إذ أراك شـ ًـابا تتفهــم‬
‫المــور وتعيــش مسـ ً‬ ‫أ‬
‫ـتقرا هنــا بطمأنينــة فــي عــش الزوجيــة" ‪-‬وبدفقــة مــن الســخاء أضــاف‪" :‬أنــا‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫ســوف واللــه‪ ،‬نعــم‪ ،‬ســوف أوجــز القضيــة ثــم أهــرب‪ .‬تعــال‪ ،‬ســأحدد لــك مبلغــا كرجــل أمــام‬
‫رجــل‪ .‬والمبلــغ مقطــوع ونهائــي‪ ،‬ال أكثــر وال أقــل‪ :‬خمســة دنانيــر تحــل المشــكلة"‪.‬‬
‫ّ‬
‫لــم يكــن لــدى ســيمونز خمســة دنانيــر ‪-‬وال حتــى خمســة بنســات‪ -‬فقــال‪" :‬معــاذ اللــه أن أقــف‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫عائقــا بيــن رجــل وزوجتــه‪ .‬ال واللــه أنــا الــذي ســأهرب"‪.‬‬
‫فقــال (فــورد) بســرعة وهــو يقبــض علــى ذراع ســيمونز "ال‪ ،‬ال تفعــل ذلــك‪ .‬ســأرخص المبلــغ‬
‫ً‬
‫قليــا ثالثــة دنانيــر ‪ -‬معقــول أليــس كذلــك؟ ثالثــة دنانيــر ليســت مكافــأة كبيــرة لكــي أذهــب عنــك‬
‫أ‬
‫وأتــركك إلــى البــد ‪ -‬إلــى حيــث تهــب الريــاح العاصفــة‪ ،‬كمــا يقولــون ‪ -‬ولــن أرى زوجتــي مــرة‬
‫أخــرى أبـ ًـدا‪ ،‬خيـ ًـرا كان ذلــك أم شـ ًـرا‪ .‬ثالثــة دنانيــر وأخلــي لــك الجــو‪ .‬والمبلــغ معقــول‪ ،‬أليــس‬
‫كذلــك؟"‬
‫فأجــاب ســيمونز بح ـراراة‪" :‬الكمــك معقــول وال شــك‪ ،‬بــل أنــه الكم رجــل شــريف ‪ -‬شــريف‬
‫للغايــة‪ .‬ولكننــي لــن أســتغل طيبــة قلبــك علــى هــذا النحــو الحقيــر يــا ســيد فــورد‪ .‬إنهــا زوجتــك‬
‫ّ‬
‫وعيــب علــي أن أقــف بينكمــا‪ .‬إنــي أعتــذر تريــث‪ .‬أنــت هنــا وخــذ حقوقــك كاملــة‪ .‬أنــا الــذي‬
‫ســأخلي لــك الطريــق‪ ،‬وســأفعل!"‪ ...‬خطــا خطــوة نحــو البــاب‪.‬‬

‫‪128‬‬
‫ٌةفيدر ٌصصق ‪ -‬بره يذّلا اهجوز‬

‫أ‬
‫فصــاح (فــورد) وهــو يقــف بيــن ســيمونز والبــاب‪" :‬قــف! ال تتســرع بالمــور‪ :‬فكــر بالخســارة‬
‫ّ‬
‫التــي ســتتكبدها عندمــا تــرى أنــه ال بيــت لديــك تــأوي إليــه‪ ،‬وال أحــد يهتــم بــك‪ ،‬وغيــر ذلــك مــن‬
‫أمــور الدنيــا‪ .‬إنــه لشــيء مريــع مــا رأيــك بديناريــن؟ ســأنهيها ولــن نتشــاجر‪ :‬دينـ ًـارا واحـ ًـدا ‪ -‬لقــد‬
‫كادت الســاعة تنتهــي ‪ -‬دينـ ًـارا واحـ ًـدا يكفــي‪ .‬أنــا ســوف ‪"-‬‬
‫وبغتــة تعالــت قرعتــان عاليتــان علــى البــاب الخارجــي‪ .‬قرعــة مزدوجــة فــي الحــي الشــرقي هــي‬
‫دائمــا لســكان الطوابــق العليــا‪.‬‬
‫ً‬
‫فسأل بوب (فورد) واجفا‪" :‬من ذلك؟"‬
‫فاندفع توماس سيمونز نحو الدرج وهو يجيب "سأرى من يكون"‪.‬‬
‫ســمعه بــوب (فــورد) وهــو يفتــح البــاب الخارجــي‪ ،‬تــم تســلل نحــو النافــذة ورأى ً‬
‫تمامــا تحتــه‬
‫قمــة قبعــة نســائية تختفــي‪ ،‬ثــم تطــرق إلــى أذنيــه مــن الداخــل صــوت نســائي لــم يغــب عــن ذاكرتــه‪.‬‬
‫قال الصوت بحدة‪" :‬أين أنت ذاهب حاسر الرأس في هذه الساعة؟"‬
‫ّ‬
‫فأجــاب ســيمونز‪" :‬واللــه يــا حنــة ‪-‬هنــاك‪ -‬هنــاك شــخص فــوق يريــد أن ي ـراك‪ ".‬وعلــى قــدر‬
‫مــا اســتطاع بــوب (فــورد) أن يــرى‪ ،‬رأى رجـ ًـا يهــرول ر ً‬
‫اكضــا فــي الشــارع فــي عتمــة الغســق‪ .‬يــا‬
‫للعجــب! لقــد كان تومــاس ســيمونز!‬
‫وصــل (فــورد) إلــى صحــن الــدرج فــي ثــاث خطــوات واســعة‪ .‬كانــت زوجتــه مــا تـزال واقفــة‬
‫أمــام البــاب الخارجــي تحملــق فــي أثــر ســيمونز‪ .‬فنكــص إلــى الغرفــة الخلفيــة وفتــح النافــذة‬
‫وتدلــى مــن ســقف بيــت الغســيل إلــى الفنــاء الخلفــي وتســلق مسـ ً‬
‫ـتميتا علــى الســياج‪ ،‬واختفــى‬
‫فــي العتمــة‪ ،‬ولــم يــره إنســان‪.‬‬

‫‪129‬‬
‫عشر‬
‫َ‬ ‫الصف الثّاين‬

‫‪130‬‬
‫ٌةفيدر ٌصصق ‪ -‬روك ملعملا رس‬

‫سر املعلم كورين‬

‫(فرانســيه مامــاي) عــازف مزمــار عجــوز‪ ،‬يقبــل إلـ ّـي بيــن حيــن وآخــر ليقضــي الســهرة عنــدي‪.‬‬
‫ً‬
‫وقــد قــص علـ ّـي ذات مســاء‪ ،‬حادثــا مــن أحــداث القــرى قــد شــهدته طاحونتــي منــذ نحــو مــن‬
‫عشــرين ســنة‪ .‬ولقــد أشــجتني قصــة هــذا الرجــل الطيــب‪ ،‬وســأحاول أن أرويهــا لكــم كمــا ســمعتها‪.‬‬
‫أ‬
‫تخيلوا لحظة‪ ،‬أيها القراء العزاء‪ ،‬أنكم جالسون‪ ،‬وأن المتحدث إليكم ّزمار عجوز‪.‬‬
‫أ‬
‫دائمــا كمــا هــو اليــوم بلـ ًـدا ّمي ًتــا ال يرجــح اللحــان‪.‬‬
‫إن بلدنــا‪ ،‬يــا ســيدي القاضــي‪ ،‬لــم يكــن ً‬
‫يحضــر إليــه أهــل العــزب المتراميــة حولنــا‬ ‫لقــد كان فــي الزمــن الماضــي ســوقا رائجــا للطحــن‪ّ ،‬‬
‫قمحهــم ليطحنــوه‪ ...‬وكانــت الطواحيــن الهوائيــة تكســو جميــع هــذه التــال المحيطــة بالقريــة‪ ،‬فــإذا‬ ‫َ‬
‫ّ‬
‫ســرحت بصــرك إلــى يميــن أو إلــى يســار لــم تكــن تــرى إل أجنحــة دائــرة مــع ريــح (المســترال)‬
‫أ‬
‫فــوق أشــجار الصنوبــر‪ ،‬وأس ـر ًابا مــن الحميــر الصغيــرة محملــة بال كيــاس تنســاب فــي الطريــق‬
‫أ‬
‫صاعــدة هابطــة‪ ،‬وكان يلــذ لــك أن تســمع طــوال الســبوع‪ ،‬فــوق الربــوة‪ ،‬فرقعــة الســياق وتمزيــق‬
‫أ‬
‫الكتــان وصيــاح أعــوان الطحانيــن‪ ..‬حتــى إذا حــل يــوم الحــد‪ ،‬ذهبنــا إلــى الطواحيــن زرافــات‪.‬‬
‫ً‬
‫بخاريــا علــى طريــق‬ ‫ً‬
‫مطحنــا‬ ‫غيــر أنــه خطــر لبعــض الفرنســيين مــن أهــل (باريــس) أن ينشــئوا‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫مطحنــا جميــا طريفــا‪ .‬فأخــذ النــاس يرســلون إليــه غاللهــم‪ ،‬وتعطلــت طواحيــن‬ ‫(تاراســكون)‪ .‬وكان‬
‫أ‬
‫الهــواء المســكينة‪ .‬حاولــت أن تجاهــد بعــض الوقــت‪ ،‬ولكــن البخــار كان القــوى‪ ،‬فاضطــرت‬
‫‪-‬واحســرتاه‪ -‬إلــى أن تقفــل أبوابهــا واحــدة بعــد واحــدة‪ ...‬إذ ذاك لــم نعــد نــرى الحميــر الصغيــرة‪...‬‬
‫وباعــت الطحانــات حليهـ ّـن الذهبيــة‪ ...‬وراحــت تهــب ريــح (المســترال)‪ ،‬ولكــن أجنحــة الطواحين‬
‫أ‬
‫ظلــت ســاكنة‪ ...‬ثــم جــاء يــوم هــدم فيــه "المجلــس المحلي"هــذه الطــال ودكهــا‪ ،‬وبــذرت القريــة‬
‫ً‬ ‫مكانهــا ً‬
‫كرمــا وزيتونــا‪.‬‬
‫إال أن طاحونــة ظلــت قائمــة فــي وســط هــذا االنقــاب‪ ،‬وظلــت تــدور فــي استبســال فــوق‬
‫أ‬
‫ال كمــة‪ ،‬علــى الرقــم مــن لحــي أصحــاب المطحــن البخــاري‪ .‬كانــت تلــك طاحونــة المعلــم‬
‫آ‬ ‫ّ‬
‫(كورنــي)‪ ،‬وهــي هــذه التــي نحــن آخــذون الن فــي قضــاء ســهرتنا بهــا‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫متحمســا لمهنتــه‪.‬‬ ‫كان المعلــم (كورنــي) طحانــا عجــوزا‪ ،‬يعيــش منــذ ســتين ســنة فــي الدقيــق‬

‫‪131‬‬
‫عشر‬
‫َ‬ ‫الصف الثّاين‬

‫أجنــه قيــام طواحيــن البخــار‪ .‬فرأينــاه ً‬


‫أيامــا ثمانيــة يعــدو خــال القريــة‪ ،‬يجمــع القــوم مــن حولــه‪،‬‬
‫ويصيــح فيهــم بأعلــى صوتــه أنهــم يريــدون أن يســموا (البروفانــس) بدقيــق مطحنهــم البخــاري‪ .‬كان‬
‫يقــول‪:‬‬
‫ّ‬
‫ال تذهبــوا هنــاك‪ ،‬فــإن هــؤالء اللصــوص‪ ،‬لصناعــة الخبــز‪ ،‬يســتخدمون البخــار‪ ،‬الــذي هــو‬
‫ّ‬
‫رجــس مــن عمــل الشــيطان‪ ،‬بينمــا أنــا أشــتغل بالمســترال وريــح الشــمال‪ ،‬اللذيــن همــا نســمة اللــه‬
‫الكريــم‪...‬‬
‫وكان يجــد كثيـ ًـرا مــن هــذا الكلام الجميــل فــي مــدح طواحيــن الهــواء‪ ،‬ولكــن أحـ ًـدا لــم يســتمع‬
‫إليه‪.‬‬
‫هنــاك غضــب الشــيخ غضبــة رجــل‪ ،‬فحبــس نفســه فــي طاحونتــه‪ ،‬وعــاش وحيـ ًـدا كالوحــش‬
‫الضــاري‪ .‬لــم يــرض حتــى بــأن يبقــى إلــى جــواره حفيدتــه (فيفــت)‪ ،‬وتلــك طفلــة فــي الخامســة‬
‫ّ‬
‫عشــرة لــم يكــن لهــا منــذ مــوت أبويهــا إل جدهــا هــذا‪ .‬فاضطــرت المســكينة إلــى أن تكســب‬
‫عيشــها أجيــرة فــي العــزب هنــا وهنــاك‪ ،‬تعمــل تــارة فــي الحصــاد‪ ،‬وتــارة فــي تربيــة دودة القــز‪،‬‬
‫وتــارة فــي عصــر الزيتــون‪ .‬ومــع ذلــك فقــط كان يبــدو علــى جــد هــذه الصغيــرة أنــه يحبهــا ً‬
‫حبــا‬
‫جمــا‪ .‬فكثيـ ًـرا مــا كان يقطــع المســافات الطــوال‪ ،‬علــى قدميــه تحــت الشــمس المحرقــة‪ ،‬لكــي‬ ‫ً‬
‫ّ‬
‫يزورهــا فــي العزبــة التــي تشــتغل فيهــا‪ ،‬حتــى إذا صــار إلــى جنبهــا أنفــق ســاعات كاملــة ينظــر‬
‫إليهــا ويبكــي‪...‬‬
‫وظــن أهــل البلــد أن الطحــان الشــيخ‪ ،‬حينمــا ســرح (فيفــت)‪ ،‬إنمــا فعــل ذلــك عــن بخــل؛‬
‫ومــا كان بالــذي يشــرفه أن تجــوب حفيدتــه العــزب‪ ،‬متعرضــة لغلظــة الخولييــن‪ ،‬متعرضــة لبــؤس‬
‫أيضــا أن يمضــي رجــل لــه صيــت‬ ‫فتــاة علــى مثــل حالهــا‪ .‬وكان أهــل البلــد يــرون بعيــن الســخط ً‬
‫آ‬ ‫ً‬
‫محترمــا نفســه إلــى تلــك الســن‪ ،‬فيمشــي الن فــي الطرقــات كأنــه متشــرد‬ ‫المعلــم (كورنــي)‪ ،‬وعــاش‬
‫حقيقــي‪ ،‬وحافــي القدميــن‪ ،‬مخــرق القلنســوة‪ ،‬ممــزق الثــوب‪ ...‬والحــق أننــا كنــا نخجــل منــه‪ ،‬نحــن‬
‫أ‬ ‫آ‬
‫الشــيوخ الخريــن إذا دخــل الكنيســة يــوم الحــد‪ ،‬وكان (كورنــي) يشــعر بذلــك فلــم يجــرؤ منــذ أن‬
‫بــدأ مســلكه هــذا الشــائن علــى أن يتقــدم إلــى مقعدنــا‪ ،‬وإنمــا كان ال يبــرح آخــر الكنيســة هنــاك‬
‫عنــد جــرن المــاء المقــدس‪ ،‬حيــث يجلــس مــع المســاكين‪.‬‬
‫لقــد كان فــي حيــاة المعلــم (كورنــي) شــيء غامــض‪ ...‬لــم يكــن أحــد فــي القريــة يحمــل إليــه‬

‫‪132‬‬
‫ٌةفيدر ٌصصق ‪ -‬روك ملعملا رس‬

‫قمحــا منــذ أمــد بعيــد‪ ،‬ومــع ذلــك فقــط ظلــت أجنحــة طاحونتــه تــدور بــا توقــف كمــا كانــت‬ ‫ً‬
‫ً‬
‫تــدور مــن قبــل‪ ..‬وفــي المســاء كان القــوم يلقــون الطحــان الشــيخ فــي الطرقــات ســائقا أمامــه حمــاره‬
‫المحمــل بجوالــق الدقيــق الضخمــة‪ ،‬فيهتــف بــه الفالحــون‪:‬‬
‫سيرا ً‬
‫حسنا؟‬ ‫ ـمساء الخير يا معلم (كورني)! أو يسير الطحن ً‬

‫فيجيبهم في جذل‪:‬‬
‫ّ‬
‫ ـدائما يا أوالدي‪ .‬الحمد لله‪ ،‬ليس العمل هو الذي يعوزنا‪.‬‬
‫فــإذا ســألوه مــن أي فــج عســى أن يأتيــه كل هــذا الشــغل‪ ،‬وضــع ً‬
‫إصبعــا علــى شــفتيه وأجــاب‬
‫فــي جــد‪:‬‬
‫أ‬
‫ ـال تقولوا لحد! إني أعمل للتصدير‪...‬‬
‫وما كان امرؤ يظفر منه بأكثر من ذلك‪.‬‬
‫يومــا أن تــزج بأنفــك فــي طاحونتــه‪ .‬فلــم تكــن لتدخلهــا حتــى‬ ‫ومــا كان ينبغــي أن تحــاول ً‬
‫الصغيــرة (فيفــت)‪. ...‬‬
‫أ‬ ‫ً‬
‫مغلقــا ً‬
‫دائمــا‪ ،‬والجنحــة الغليظــة دائــرة والحمــار‬ ‫وكنــت إذا مــررت بالطاحونــة‪ ،‬رأيــت البــاب‬
‫ً‬ ‫ًّ‬
‫العجــوز يقضــم عشــب الفنــاء‪ ،‬وقطــا مهــزول يصطلــي فــي الشــمس علــى طــرف النافــذة وينظــر‬
‫أ‬
‫إليــك نظــرة شــر‪ ...‬وإنــك لتحــس فــي ذلــك كلــه سـ ًّـرا مــن الس ـرار‪.‬‬
‫و أطلــق ســر المعلــم (كورنــي) ألســنة النــاس بالكلام والحديــث‪ .‬فـراح كل امــرئ يفســره علــى‬
‫ّ‬
‫طريقتــه‪ ،‬ولكــن الــذي شــاع بيــن أهــل القريــة هــو أنــه لــم يــزل فــي تلــك الطاحونــة مــن أكيــاس‬
‫النقــود مــا يربــو علــى أكيــاس الدقيــق‪.‬‬
‫أ‬
‫و على مر اليام ظهر كل شيء؛ وإليك كيف كان ذلك‪:‬‬
‫ذهبت ذات مرة إلى الشيخ‪ ،‬ليوافق على تزويج ابني من "فيفت"‪.‬‬
‫لــم يتــح لــي الشــيخ أن أتــم الكمــي‪ ،‬وإنمــا صــاح بــي فــي غيــر مراعــاة للــود أن أعــود إلــى‬
‫ً‬
‫مزمــاري‪ ،‬وأن أذهــب إذا كنــت عجــا إلــى تزويــج ابنــي فابحــث عــن البنــات فــي المطحــن‬
‫البخــاري‪ ...‬انظــر! لقــد صعــد بــي دمــي مــن ســماع هــذا الكلام الفــارغ‪ ،‬غيــر أنــي كنــت مــن‬

‫‪133‬‬
‫عشر‬
‫َ‬ ‫الصف الثّاين‬

‫أ‬
‫العقــل بحيــن كظمــت نفســي‪ ،‬فتركــت هــذا الشــيخ المجنــون لرحــاه‪ ،‬ورجعــت أعلــن لــ�والد عــدم‬
‫موافقتــي‪ ...‬لــم يســتطع الحمــان المســكينان أن يصدقــا‪ :‬واســتعطفاني ســائلين أن آذن لهمــا بــأن‬
‫يصعــدا معــا إلــى الطاحونــة ليكلمــا الجــد‪ ...‬فــإذا بــي ال أقــوى علــى أن أرفــض ســؤالهما‪ ،‬وهاهمــا‬
‫حبيبــاي ذان قــد انطلقــا خفيفيــن!‬
‫وحينمــا بلغــا الربــوة كان المعلــم كورنــي قــد خــرج منــذ لحظــة‪ .‬وكان البــاب مغلقــا بدورتــي‬
‫المفتــاح‪ .‬غيــر أن الشــيخ الطيــب القلــب كان قــد نســي فــي ذهابــه ســلمه خــارج الطاحونة‪ ،‬فســرعان‬
‫مــا خطــر للولديــن أن يدخــا مــن النافــذة‪ ،‬ليســتطلعا بعــض الشــيء مــا كان فــي تلــك الطاحونــة‬
‫العجيبــة‪...‬‬
‫شــيء غريــب! كانــت حجــرة الرحــى خاويــة‪ ...‬وال أثــر لجولــق وال لحبــة مــن القمــح‪ ،‬وال أدنــى‬
‫َ‬
‫أثــر للدقيــق علــى الجــدران أو علــى أنســجة العنكبــوت‪ ...‬ولــم تكــن تبلــغ شـ َّـمك تلــك الرائحــة‬
‫ّ‬
‫الطيبــة الحــارة‪ ،‬رائحــة القمــح المســحوق التــي تتضــوع فــي أرجــاء الطواحيــن‪ ...‬وكان مجثــم الطيــر‬
‫أ‬
‫يكســوه الغبــار‪ ،‬والقــط العجــف راقـ ًـدا فوقــه‪.‬‬
‫وكان علــى الغرفــة الســفلى نفــس المظهــر‪ ،‬مظهــر الشــيء البائــس المهجــور‪ :‬ســرير رديء‪،‬‬
‫أ‬
‫وبعــض الخــرق وقطعــة مــن الخبــز علــى إحــدى درجــات الســلم‪ ،‬ثــم فــي ركــن مــن الركان ثالثــة‬
‫أو أربعــة جوالــق مشــقوقة تنحــدر منهــا قطــع الجــص وينســاب منهــا ت ـراب أبيــض‪.‬‬
‫ّ‬
‫هنــا كان ســر المعلــم (كورنــي)! فإنــه هــو هــذا الجــص الــذي كان يــدور بــه فــي الطرقــات عنــد‬
‫ّ‬
‫المســاء‪ ،‬لكــي ينقــذ شــرف الطاحونــة ويوحــي إلــى القــوم بأنهــا مــا زالــت تصنــع الدقيــق‪ ...‬لــك اللــه‬
‫ّ‬
‫مــن طاحونــة مســكينة! ولــك اللــه يــا (كورنــي) المســكين! فمنــذ أمــد بعيــد قــد انتــزع أصحــاب‬
‫أ‬
‫المطحــن منهــا آخــر عمالئهمــا‪ .‬ومضــت الجنحــة تــدور دائمــا‪ ،‬وأمــا الرحــى فكانــت تــدور علــى‬
‫الفــارغ‪.‬‬
‫عــاد الولــدان دامعيــن يقصــان علـ َّـي مــا شــهدا فتمــزق قلبــي وأنــا أســمعهما‪ ...‬ومــن غيــر أن‬
‫أ‬
‫أضيــع دقيقــة‪ ،‬هرعــت إلــى الجي ـران وأخبرتهــم بالمــر فــي كلمتيــن‪ ،‬فاتفقنــا علــى أنــه ينبغــي فــي‬
‫الحــال‪ ،‬أن نحمــل إلــى طاحونــة (كورنــي) كل مــا فــي البيــوت مــن قمــح‪ ...‬ومــا كان ينتهــي الكمنــا‬
‫حتــى أخذنــا فــي تنفيــذه‪ ،‬وهــا هــي ذي القريــة كلهــا تســير فــي الطريــق‪ ،‬وهــا نحــن نبلــغ الربــوة‬
‫فــي موكــب مــن الحميــر المحملــة بالقمــح ‪-‬قمــح حقيقــي فــي هــذه المــرة!‬

‫‪134‬‬
‫ٌةفيدر ٌصصق ‪ -‬روك ملعملا رس‬

‫كانــت الطاحونــة مفتوحــة علــى مصراعيهــا‪ ...‬وأمــام البــاب‪ ،‬كان المعلم(كورنــي)‪ً ،‬‬
‫قابعــا علــى‬
‫كيــس مــن أكيــاس الجــص‪ ،‬يبكــي‪ ،‬ورأســه فــي كفيــه‪ .‬فلقــد الحــظ‪ ،‬حيــن عــاد منــذ قليــل‪ ،‬أن امـرأ‬
‫نفــذ إلــى حرمــه وهتــك ســره المحــزن‪.‬‬
‫ّ‬ ‫آ‬
‫ ـيا لي من شقي! الن لم يبق لي إل أن أموت‪ ..‬لقد ثلب شرف الطاحونة‪.‬‬
‫ً‬ ‫أ‬ ‫وكان يشــهق شــهقات تمــزق النفــس‪ً ،‬‬
‫مناجيــا إياهــا كأنهــا‬ ‫داعيــا طاحونتــه بشــتى الســماء‪،‬‬
‫شــخص حقيقــي‪.‬‬
‫وفــي هــذه اللحظــة تبلــغ الحميــر الفنــاء‪ ،‬ونأخــذ نحــن فــي الصيــاح ً‬
‫عاليــا كأننــا فــي أيــام عــز‬
‫الطحانيــن‪.‬‬
‫ ـهوي! طاحونة!‪ ...‬هوي! يا معلم (كورني)!‬
‫أ‬
‫و هــا هــي الجوالــق تتكــدس أمــام البــاب‪ ،‬وهــو هــو ذات الحــب الصهــب الجميــل ينســكب‬
‫أ‬
‫علــى الرض مــن كل جانــب‪...‬‬
‫فتــح المعلــم (كورنــي) عينيــن واســعتين‪ .‬وأخــذ مــن القمــح فــي راحــة يــده الباليــة‪ ،‬وجعــل‬
‫يقــول وهــو يضحــك ويبكــي ً‬
‫معــا‪:‬‬
‫ ـإنه قمح!‪ ...‬يارب يا موالي!‪ ...‬قمح حقيقي!‪ ...‬دعوني أنظر إليه‪.‬‬
‫ً‬
‫ثم يلتفت إلينا قائل‪:‬‬
‫ً‬
‫ ـآه! لقــد كنــت واثقــا مــن أنكــم ســوف ترجعــون إلـ َّـي‪ ...‬فــإن أصحــاب المطحــن البخــاري كلهــم‬
‫لصــوص‪.‬‬
‫و أردنا أن نحمله في مظاهرة إلى القرية‪:‬‬
‫ ـال ال يــا أوالدي؛ ينبغــي قبــل كل شــيء أن أعطــي طاحونتــي لتــأكل‪ ...‬أمــا تــرون! إنهــا لــم تضــع‬
‫شــيئا بيــن أســنانها منــذ أمــد بعيــد!‬
‫ً‬
‫جميعــا مشــهد هــذا الشــيخ‪ ،‬يضطــرب إلــى اليميــن وإلــى اليســار‪،‬‬ ‫و اســتدر الدمــع فــي أعيننــا‬
‫أ‬
‫فيبقــر ال كيــاس ويراقــب الرحــى‪ ،‬بينمــا ينســحق الحــب ويتطايــر قتــام القمــح الدقيــق إلى الســقف‪.‬‬
‫ومــن إالنصــاف لنــا أن نعلــم أننــا منــذ ذلــك اليــوم‪ ،‬لــم نــدع الطحــان الشــيخ ســاعة بــا عمــل‪.‬‬

‫‪135‬‬
‫عشر‬
‫َ‬ ‫الصف الثّاين‬

‫ثــم ذات صبــاح‪ ،‬مــات المعلــم (كورنــي)‪ ،‬فتوقفــت عــن الــدوران آخــر طاحونــة لنــا‪ ،‬وتوقفــت هــذه‬
‫أ‬ ‫أ‬
‫المــرة إلــى البــد‪ ...‬لنــه مــات (كورنــي)‪ ،‬لــم يخلفــه أحــد‪ .‬مــاذا تريــد يــا ســيدي!‪ ...‬فــإن لــكل‬
‫شــيء نهايــة فــي هــذه الدنيــا‪ ،‬وينبغــي أن نؤمــن بــأن عصــر طواحيــن الهــواء قــد انقضــى‪ ،‬كمــا‬
‫أ‬
‫انقضــى عصــر مراكــب المــاء علــى نهــر (الــرون)‪ ،‬وعصــر (البرلمانــات)‪ ،‬والســتر ذوات (الزهــار)‬
‫العريضــة‪.‬‬

‫‪136‬‬
‫ٌةفيدر ٌصصق ‪) -‬ناجيس( ديسلا ةزنع‬

‫عنزة السيد (سيجان)‬


‫أ‬
‫إلى الستاذ (بيير جرنجوار)‪ ،‬الشاعر الغنائي بـ(باريس)‪.‬‬
‫ستظل ً‬
‫دائما كما أنت يا صديقي البائس‪.‬‬
‫عجبــا! أتعــرض عليــك وظيفــة مخبــر إلحــدى صحــف (باريــس) الســيارة وتأنــف مــن أن تقبلها؟‬ ‫ً‬
‫ّ‬
‫المخــرق‪ ،‬وهذيــن النعليــن‬ ‫انظــر إذن إلــى نفســك أيهــا الولــد الشــقي! انظــر إلــى هــذا الــرداء‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫البالييــن‪ ،‬وهــذا الوجــه المهــزول الــذي يشــكو الطــوى‪ .‬فــإن ذلــك هــو المصيــر الــذي قــادك إليــه‬
‫ََُ‬
‫كلفــك بالقوافــي الحســان! وإن ذلــك مــا أجدتــه عليــك عشــر ســنين مــن الــوالء والخدمــة الصادقــة‬
‫أ‬
‫فــي صفحــات الســيد أبولــو‪ ...‬أو مــا تخجــل فــي آخــر المــر‪.‬‬
‫اجعــل مــن نفســك مخبـ ًـرا! اجعــل مــن نفســك مخبـ ًـرا! فستكســب نقـ ً‬
‫ـودا جميلــة‪ ،‬وتتنــاول‬
‫طعامــك علــى مائــدة "بربيان"وتســتطيع أن تظهــر فــي المناســبات وفــي قبعتــك ريشــة قشــيبة‪...‬‬
‫الك؟ ال تريــد؟ أتصــر علــى أن تبقــى حـ ًّـرا كمــا تشــاء إلــى النهايــة؟ أعــر بعــض ســمعك إذن‬
‫لقصــة "عنــزة الســيد (ســيجان)" لتــرى مــاذا يجنيــه المــرء مــن الرغبــة فــي حيــاة الحريــة‪.‬‬
‫لم يكن للسيد (سيجان) في حياته حظ مع معيزه‪.‬‬
‫كان يفقدهــن ً‬
‫دائمــا بالطريقــة نفســها‪ ،‬ذات صبــاح عتيــد‪ ،‬تقطــع العنــزة الجبــل‪ ،‬وتنطلــق إلــى‬
‫الجبــل‪ ،‬وهنــاك يأكلهــا الذئــب‪ .‬فــا رقــة الســيد‪ ،‬وال هــول الذئــب‪ ،‬وال شــيء مطلقــا أفلــح فــي‬
‫إالبقــاء عليهــن‪ .‬لقــد كــن كمــا يبــدو‪ ،‬معي ـزات مســتقالت‪ ،‬راغبــات بــأي ثمــن فــي الهــواء الطلــق‬
‫والحريــة‪.‬‬
‫ّ‬
‫وارتــاع الســيد ســيجان الطيــب القلــب‪ ،‬الــذي لــم يكــن يفهــم شــيئا مــن خلــق عجماواتــه‪ .‬فــكان‬
‫يقول‪:‬‬
‫أ‬
‫ ـلقد قضي المر‪ ،‬إن المعيز ضيقة بعشرتي؛ ولن أستطيع اقتناء وال واحدة‪.‬‬
‫أ‬
‫ولكنــه لــم يســتيئس‪ ،‬وبعــد أن فقــد ســت عن ـزات بالســلوب نفســه‪ ،‬اشــترى عنــزة ســابعة؛‬
‫غيــر أنــه حــرص فــي هــذه المــرة علــى اصطفائهــا حديثــة الســن لكــي تحســن إالقامــة لديــه ولكــي‬

‫‪137‬‬
‫عشر‬
‫َ‬ ‫الصف الثّاين‬

‫يربطهــا بــه ألفــة أوثــق‪.‬‬


‫آه! (جرنجــوار)‪ ،‬مــا كان أجملهــا عنــزة الســيد (ســيجان) الصغيــرة! مــا كان أجملهــا بعينيهــا‬
‫أ‬
‫الحلوتيــن ولحيتهــا القصيــرة‪ ،‬وحوافرهــا الســود البراقــة‪ ،‬وقرنيهــا الملفوفيــن‪ ،‬وشــعرها البيــض‬
‫ّ‬
‫الطويــل الــذي كان يتهــدل علــى جســمها! لقــد كادت تصيــح فــي روقــة جــدي (أزميرالــدا)‪ ،‬أتذكــره‬
‫يــا (جرنجــوار)؟ ثــم كانــت وديعــة‪ ،‬ملقــة‪ ،‬تــدع للحالبيــن أن يحلبوهــا مــن غيــر أن تتحــرك ومــن‬
‫َّ‬
‫غيــر أن تضــع قدمهــا فــي الط ْسـ ِ‬
‫ـت‪ .‬فمــا كان أحبهــا إلــى النفــس‪...‬‬
‫وكان للســيد (ســيجان) فــي ظاهــر داره حظيــرة يحوطهــا الشــجر‪ .‬هنــاك وضــع النازلــة الجديــدة‪،‬‬
‫وربطهــا إلــى وتــد فــي أجمــل بقعــة مــن المــرج مســتوصيا بــأن يمــد لهــا الحبــل طويــا‪ .‬وراح‬
‫يتفقدهــا بيــن حيــن وآخــر ليــرى إن كانــت حالهــا علــى مــا ي ـرام‪ .‬ولقــد وجــدت العنــزة نفســها‬
‫ســعيدة راضيــة‪ ،‬ومضــت تقضــم العشــب فرحــة مغتبطــة حتــى خلــب ذلــك الســيد (ســيجان)‪،‬‬
‫فقــال فــي نفســه‪:‬‬
‫ ـ ً‬
‫أخيرا ها هي ذي عنزة لن تسأم العيش عندي!‬
‫أخطأ (مسيو سيجان)‪ ،‬فقد سئمت العنزة‪.‬‬
‫ذات يوم حدثت نفسها‪ ،‬وهي تنظر إلى الجبل هذا الحديث‪:‬‬
‫ال بــد أن يكــون المقــام هنيئــا هنــاك فــي عــل! مــا أجملهــا مــن حيــاة! مــا ألــذ الوثــوب فــي‬
‫ّ‬
‫الجحيــم مــن غيــر هــذا الرســن البغيــض الــذي يســلخ الرقبــة!‪ ...‬إنــه لخليــق بالحمــار والعجــل أن‬
‫أ‬
‫يســوما فــي حظيــرة!‪ ...‬أمــا العنــز فينبغــي لهــن المرعــى العريــض‪.‬‬
‫ومنــذ هــذه اللحظــة بــدا لهــا عشــب الحظيــرة عديــم المــذاق‪ .‬واســتولى عليهــا الســأم فأنضاهــا‪،‬‬
‫وكاد يغيــض لبنهــا‪ .‬ولــو قــد رأيتهــا هــي تجــذب طيلــة اليــوم رســنها‪ ،‬ورأســها ميمــم صــوب الجبــل‪،‬‬
‫ومنخارهــا مفتــوح قائلــة "مــي‪ "...‬فــي حــزن لرثيــت لهــا‪ ،‬وأشــفقت عليهــا‪.‬‬
‫والحــظ الســيد (ســيجان) أن شــيئا قــد أصــاب عنزتــه‪ ،‬ولكنــه لــم يكــن يعرف مــا هذا الشــيء‪...‬‬
‫حتــى إذا انتهــى مــن حلبهــا ذات صبــاح‪ ،‬التفتــت العنــزة وقالــت له فــي لهجتهــا العامية‪:‬‬
‫ ـاسمع يا (مسيو سيجان)‪ ،‬إن السأم ينضيني لديك‪ ،‬دعني أذهب إلى الجبل‪.‬‬
‫ ـآه ياربي!‪ ...‬وهي أيضا؟‬

‫‪138‬‬
‫ٌةفيدر ٌصصق ‪) -‬ناجيس( ديسلا ةزنع‬

‫كذلــك صــاح الســيد (ســيجان) مشــدوها‪ ،‬ومــن هــول الصدمــة ســقط إالنــاء مــن بيــن يديــه‪،‬‬
‫ثــم جلــس الرجــل فــي العشــب إلــى جانــب عنزتــه يقــول لهــا‪:‬‬
‫ ـكيف يا (بالنكيت)؟ أتريدين أن تهجريني؟‬
‫فأجابت (بالنكيت)‪:‬‬
‫ ـنعم يا (مسيو سيجان)!‬
‫ ـأو ينقصك العشب هنا؟‬
‫ ـأوه الك يا (مسيو سيجان)‪.‬‬
‫ ـلعلك مشدودة إلى حبل قصير‪ ،‬أتريدين أن أمد لك الحبل؟‬
‫ ـوفر على نفسك هذا العناء يا (مسيو سيجان)‪.‬‬
‫ّ‬
‫ ـإذن فما الذي يلزمك؟ ماذا تريدين؟‬
‫ ـأريد أن أذهب إلى الجبل يا (مسيو سيجان)‪.‬‬
‫ ـأفال تعلمين أيتها الشقية أن الذئب هناك؟ فماذا أنت فاعلة إذا أتى‪.‬‬
‫ ـأقرعه بقرني يا (مسيو سيجان)‪.‬‬
‫إن الذئــب ليســخر مــن قرنيــك‪ .‬لقــد نهــش مــن معــزي ذوات قــرون ال يدانيهــا قرنــاك‪ .‬أتعرفيــن‬
‫ّ‬
‫المســكينة (رينــود) التــي كانــت هنــاك الســنة الماضيــة؟ عنــزة رائعــة مــن ســيدات الماعــز‪ ،‬قويــة‬
‫الشــكيمة‪ ،‬شــريرة كالتيــس‪ .‬لقــد باتــت تقــارع الذئــب الليــل كلــه‪ ،‬وفــي الصبــاح أكلهــا الذئــب‪.‬‬
‫ّ‬
‫واأســفاه علــى (رينــود) المســكينة! اللــه يرحمهــا! غيــر أنــه ال بــأس علـ ّـي يــا (مســيو ســيجان)‪،‬‬
‫دعنــي أذهــب إلــى الجبــل‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫قــال الســيد (ســيجان)‪" :‬يــا رحمــة اللــه!‪ ..‬فمــا هــذا الــذي كتبــه القــدر علــى أعنــزي؟ هــي ذي‬
‫أ‬
‫عنــز أخــرى ســيأكلها الذئــب منــي‪ .‬ال‪ ..‬ال‪ ..‬لنقذنــك علــى الرغــم منــك أيتهــا المتمــردة! وخشــية‬
‫أن تقطعــي رســنك سأحبســك فــي مربــط الماشــية‪ ،‬ولســوف تقيميــن فيــه أبـ ًـدا"‪.‬‬
‫وهنــا زج الســيد (ســيجان) بالعنــزة فــي مربــط حالــك الظلمــة؛ أغلــق عليهــا بابــه بدورتــي‬
‫المفتــاح‪ .‬بيــد أنــه مــن نكــد الحــظ نســي النافــذة‪ ،‬فمــا كاد يديــر ظهــره حتــى أفلتــت العنــزة‪.‬‬

‫‪139‬‬
‫عشر‬
‫َ‬ ‫الصف الثّاين‬

‫أتضحــك يــا (جرنجــوار)؟ أضحــك! فإنــي موقــن أنــك مــن حــزب المعيــز ومــن خصــوم الســيد‬
‫(ســيجان) الطيــب‪ .‬ولكنــا ســنرى إن كنــت ســتواصل الضحــك عمــا قليــل‪.‬‬
‫حينمــا بلغــت العنــزة البيضــاء الجبــل‪ ،‬طــرب الجبــل عــن بكــرة أبيه وانتشــى‪ .‬ما رأت شــجرات‬
‫الصنوبــر العتيقــة فــي حياتهــا شــيئا أرق مــن ذلــك فاســتقبلتها هنــاك اســتقبال ملكــة صغيــرة‪.‬‬
‫أ‬
‫وانحنــت أشــجار الكســتناء حتــى أديــم الرض لكــي تربــت عليهــا بذوائــب أغصانهــا‪ .‬وتفتحــت‬
‫أ‬
‫أزهــار الرتــم فــي طريقهــا‪ ،‬وفاحــت بالريــج جهدهــا؛ لقــد احتفــى بهــا الجبــل كلــه‪.‬‬
‫وإنــك لتقــدر يــا (جرنجــوار) كــم أضحــت عنزتنــا ســعيدة! ال رســن‪ ،‬وال وتــد‪ ،‬وال شــيء يعوقهــا‬
‫أ‬ ‫أ‬
‫عــن الوثــب كمــا تهــوى أو عــن الســوم كمــا تشــاء‪ ...‬فهنــاك كان الكل� حقــا! لك يغطــي القرنيــن يــا‬
‫أ‬ ‫أ‬
‫عزيــزي!‪ ...‬ويــا لــه مــن لك لذيــذ‪ ،‬مهفهــف‪ ،‬شــتيت اللــوان‪ ..‬فمــا أبعــد مــا كان الفــرق بينــه وبيــن‬
‫أ‬
‫عشــب الحظيــرة! وناهيــك بالزهــار!‪ ...‬زرقــاء عريضــة‪ ،‬وحم ـراء قانيــة طويلــة الكــؤوس‪ ،‬بــل قــل‬
‫غابــة بأكملهــا مــن الزهــر الطافــح بأصنــاف الرحيــق العاتيــة!‪...‬‬
‫ومضــت العنــزة البيضــاء نصــف ســكرى تتمــرغ فــي ذلــك النبــت‪ ،‬ســيقانها فــي الهــواء‪ ،‬محاذيــة‬
‫أ‬
‫تلــك المنحــدرات‪ ،‬مختلطــة بــالوراق الســاقطة والكســتناء‪ .‬ثــم تنهــض فجــأة فــي قفــزة واحــدة‬
‫أ‬ ‫أ‬
‫فتقــوم علــى أربــع‪ .‬انظــر‪ ،‬هــا هــي ذي قــد انطلقــت ورأســها ممــدود إلــى المــام خــال الح ـراش‬
‫أ‬
‫والدغــال‪ ،‬تــارة تتســنم ذروة‪ ،‬وتــارة تهبــط إلــى قــاع‪ ،‬فكنــت تراهــا فــي عــل وفــي أســفل وفــي كل‬
‫مــكان حتــى ليخيــل إليــك أن فــي الجبــل عش ـرات عن ـزات للســيد (ســيجان)‪.‬‬
‫ذلك أنها لم تكن خائفة من شيء‪ ،‬تلك (البالنكيت)‪.‬‬
‫ً‬
‫و جعلــت تقفــز ســيول كانــت تلطخهــا وهــي تعبرهــا بالغبــار البليــل والزبــد‪ ،‬ثــم تــروح تتمطــط‬
‫والمــاء يقطــر منهــا علــى صخــرة ملســاء تجفــف فوقهــا جســمها فــي الشــمس‪ ...‬وبينمــا هــي تتقــدم‬
‫علــى شــفا نجــد وبيــن أســنانها زهــرة مــن أزهــار القصــاص‪ ،‬أبصــرت تحتهــا فــي حضيــض الســهل‬
‫بيــن الســيد (ســيجان) ومــن خلفــه الحظيــرة فأضحكهــا ذلــك حتــى اســتدر الضحــك مــن عينيهــا‬
‫الدمــوع‪ .‬قالــت‪:‬‬
‫ ـما أصغر هذا! كيف صبرت على المكث فيه؟‬
‫يــا للصغيــرة المســكينة! لقــد ظنــت وهــي واقفــة تشــرف علــى الدنيــا مــن حالــق أنهــا كبيــرة‬
‫أ‬
‫حجــم الدنيــا علــى القــل‪...‬‬

‫‪140‬‬
‫ٌةفيدر ٌصصق ‪) -‬ناجيس( ديسلا ةزنع‬

‫جملــة القــول‪ ،‬لقــد طــاب يــوم عنــزة الســيد (ســيجان)‪ .‬ونحــو منتصــف النهــار‪ ،‬إذ كانــت‬
‫كرمــا ًّ‬
‫بريــا مــلء أســنانه‪.‬‬ ‫تعــدو ذات اليميــن وذات اليســار‪ ،‬التقــت بقطيــع مــن الوعــل كان يقضــم ً‬
‫أ‬
‫فأثــارت عداءاتنــا الصغيــرة ذات الثــوب البيــض مشــاعر القــوم‪ .‬ولقــد أفســح لهــا الجميــع أجمــل‬
‫ّ‬ ‫مــكان مــن الكــرم‪ ،‬وأظهــر أولئــك الســادة ً‬
‫أدبــا ًّ‬
‫جمــا‪ ...‬بــل ويبــدو ‪-‬وهــذا ينبغــي أن يظــل سـ ًّـرا‬
‫ً‬
‫بيننــا يــا (جرنجــوار)‪ -‬أن وعــا شـ ًّـابا أســود الجلــد أســعده الحــظ بــأن يقــع مــن قلــب (بالنكيــت)‬
‫موقعــا حسـ ًـنا‪ ،‬فهامــا بيــن الغابــة ســاعة أو ســاعتين‪ ،‬وإن أردت أن تعــرف مــاذا قــال كل لصاحبــه‬‫ً‬
‫ّ‬
‫فاذهــب وســل الينابيــع الالغيــة التــي تنســاب تحــت الخضــرة ال يلمحهــا أحــد‪.‬‬
‫ًّ‬ ‫ً‬
‫بنفسجيا‪ :‬لقد كان المساء‪ ...‬قالت العنزة الصغيرة‪:‬‬ ‫وفجأة برد الهواء‪ ،‬واكتسى الجبل لونا‬
‫آ‬
‫ ـمنذ الن!‬
‫ووقفت مشدوهة‪.‬‬
‫وفــي أســفل الجبــل‪ ،‬أمســت الحقــول يغمرهــا الضبــاب‪ .‬وتــوارت حظيــرة الســيد (ســيجان)‬
‫ّ‬
‫فــي هــذا الضبــاب ولــم يعــد يــرى الناظــر مــن الــدار إل ســقفها ينبعــث منــه شــيء مــن الدخــان‪.‬‬
‫وأصاخــت إلــى أج ـراس قطيــع كان الرعــاة عائديــن بــه‪ ،‬فاســتولى الحــزن علــى نفســها‪ ...‬ومســها‬
‫بجناحيــه طائــر هابــط إلــى وكــره فارتعشــت‪ ...‬ثــم انطلــق عــواء فــي الجبــل‪:‬‬
‫ ـهووو!هووو!‬
‫فتذكــرت الذئــب ولــم تكــن الطائشــة قــد فكــرت فيــه مــن يومهــا كلــه‪ ...‬وفــي تلــك اللحظــة هتــف‬
‫بــوق هنــاك فــي الــوادي بعيـ ًـدا‪ .‬أنــه (المســيو ســيجان) لقــد كان هــذا الرجــل الطيــب يحــاول‬
‫محاولــة أخيــرة‪.‬‬
‫وعوى الذئب‪ :‬هووو! هووو!‬
‫وصــاح البــوق‪ :‬ارجعــي! ارجعــي! وودت (بالنكيــت) أن ترجــع‪ ،‬لكنهــا إذ تذكــرت الوتــد‬
‫أ‬ ‫آ‬
‫والرســن وســياج الحظيــرة‪ ،‬رأت أنهــا الن لــن تســتطيع أن تعيــش ذلــك العيــش‪ ،‬وأن مــن الفضــل‬
‫لهــا أن تمكــث حيــث هــي‪.‬‬
‫وانقطع صوت البوق‪.‬‬
‫أ‬ ‫ً‬
‫وســمعت العنــزة وراءهــا حفيفــا مــن الوراق‪ ،‬فالتفتــت‪ ،‬وإذا هــي تــرى فــي الظــام أذنيــن‬

‫‪141‬‬
‫عشر‬
‫َ‬ ‫الصف الثّاين‬

‫قصيرتيــن‪ ،‬مســتقيمتين منتصبتيــن‪ ،‬ومقلتيــن براقتيــن‪ ...‬لقــد كان الذئــب‪.‬‬


‫مقيعــا هنــاك ينظــر إلــى العنــزة الصغيــرة البيضــاء ويتذوقهــا فــي‬ ‫ضخمــا‪ ،‬سـ ً‬
‫ـاكنا‪ ،‬كان ً‬ ‫ً‬ ‫جسـ ً‬
‫ـيما‪،‬‬
‫ً‬ ‫أ‬
‫شــهية قبــل أن يفترســها‪ .‬لــم يتعجــل الذئــب‪ ،‬لنــه كان واثقــا مــن أنــه البــد آكلهــا‪ ،‬وإنمــا ‪-‬حيــن‬
‫التفتــت‪ -‬أخــذ يضحــك فــي شــر‪:‬‬
‫ ـها‪..‬ها! يا عنزة السيد (سيجان) الصغيرة‪.‬‬
‫أ‬
‫ومر بلسانه الحمر الغليظ على شفتيها اللمياوين‪.‬‬
‫ّ‬
‫أحســت (بالنكيــت) أنهــا هالكــة‪ ...‬وتذكــرت فــي لحظــة قصــة المرحومــة (رينــود) التــي قارعــت‬
‫الذئــب طيلــة الليــل لكــي يلتهمهــا الذئــب فــي الصبــاح‪ ،‬ففضلــت االستســام فــي الحــال‪ ،‬ثــم‬
‫عدلــت عــن رأيهــا‪ ،‬ووقفــت موقــف الدفــاع‪ ،‬حانيــة رأســها‪ ،‬شــاهرة قرنيهــا‪ ،‬كمــا يجــدر بعنــزة الســيد‬
‫(ســيجان) أن تفعــل‪ .‬ال ترجــو مــن ذلــك أن تقتــل الذئــب ‪-‬فــإن المعــزة ال تقتــل الذئــب‪ -‬بــل لكــي‬
‫تــرى هــل تســتطيع أن تصمــد صمــود (رينــود)؟‬
‫إذ ذاك تقدم الوحش‪ ،‬وبدأ القرنان الصغيران يرقصان‪.‬‬
‫آه! يــا للعنيــزة الباســلة‪ ،‬مــا كان أروع إقدامهــا علــى القتــال! لقــد اضطــرت الذئــب أكثــر مــن‬
‫عشــر م ـرات‪ ،‬وال أكذبــك يــا (جرنجــوار)‪ ،‬إلــى التقهقــر حتــى يســتعيد أنفاســه‪ .‬وفــي كل هدنــة‬
‫كانــت الشــرهة تقتطــف فــي عجلــة عـ ً‬
‫ـودا مــن عشــبها الحبيــب‪ .‬ثــم تعــود إلــى القتــال مملــوءة‬
‫الفــم‪ ...‬واتصــل ذلــك ســواد الليــل‪ .‬وبيــن حيــن وآخــر كانــت عنــزة الســيد (ســيجان) تنظــر إلــى‬
‫النجــوم ترقــص فــي الســماء الصافيــة فتقــول فــي نفســها‪:‬‬
‫ ـأوه! ال بد أن أصمد حتى الفجر‪...‬‬
‫وراحــت تنطفــئ النجــوم‪ ...‬نجمــا بعــد نجــم‪ .‬فضاعفــت (بالنكيــت) مــن ضربــات قرنيهــا‪،‬‬
‫أ‬
‫وضاعــف الذئــب مــن ضربــات أســنانه‪ ...‬وبــدا فــي الفــق ضــوء شــاحب‪ ...‬وارتفــع مــن أحــد‬
‫الم ـزارع صيــاح ديــك أبــح‪.‬‬
‫ ـأخيرا!‬
‫أ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫قالتهــا العنــزة المســكينة التــي لــم تكــن تنتظــر إل الفجــر لكــي تمــوت‪ ،‬وتمــددت علــى الرض‬
‫ّ‬ ‫أ‬
‫فــي فرائهــا البيــض الــذي تلطــخ كلــه بالــدم‪.‬‬

‫‪142‬‬
‫ٌةفيدر ٌصصق ‪) -‬ناجيس( ديسلا ةزنع‬

‫هناك انقض الذئب على العنزة الصغيرة والتهمها‪.‬‬


‫ ـ ً‬
‫وداعا يا (جرنجوار)!‬
‫ّ‬
‫ليســت القصــة التــي ســمعتها حكايــة مــن إنشــائي‪ .‬فلــو قــد جئــت يومــا إلــى (البروفانــس)‬
‫ً‬
‫لحدثــك فالحونــا‪ ،‬أحيانــا كثيــرة‪ ،‬فــي لغتهــم الدارجــة الجميلــة‪ ،‬حديــث عنــزة الســيد (ســيجان)‬
‫"التــي قضــت الليــل كلــه تقــرع الذئــب ثــم أكلهــا الذئــب فــي الصبــاح"‪.‬‬
‫أفاهم أنت عني يا (جرنجوار)‪" :‬ثم أكلها الذئب في الصباح"‪.‬‬

‫‪143‬‬
‫عشر‬
‫َ‬ ‫الصف الثّاين‬

‫‪144‬‬
‫ٌةفيدر ٌصصق ‪ -‬بهذلا خملا يذ لجرلا ةروطسأ‬

‫أسطورة الرجل ذي املخ الذهبي‬


‫ألفونسو دوديه‬
‫إلى السيدة ّالتي تطلب ً‬
‫قصصا مرحة‪.‬‬
‫ــت نفســي علــى لــون‬ ‫كأنــي بضميــري قــد أنبنــي وأنــا أقــرأ رســالتك يــا ســيدتي‪ ،‬لقــد َل َح ْي ُ‬
‫أقاصيصــي هــذا الضــارب إلــى الســواد أكثــر ممــا ينبغــي‪ ،‬وقطعــت علــى نفســي عهـ ًـدا أن أقــدم‬
‫لــك اليــوم شـ ًـيئا ً‬
‫بهيجــا بجنــون‪.‬‬
‫جــدا مــن ضبــاب (باريــس)‬ ‫بعيــدا ًّ‬
‫و لمــاذا ينبغــي أن أحــزن بعــد هــذا كلــه؟ إنــي أقيــم ً‬
‫وقتامتهــا‪ ،‬فــوق تلــة مشــرقة بالنــور‪.‬‬
‫ّ‬
‫و ليــس حــول بيتــي إل الشــمس والموســيقا؛ فــإن عنــدي جوقــات مــن شــتى أنــواع الطيــر؛‬
‫عنــدي فــي الصبــح عصافيــر؛ وفــي الظهــر جنــادب؛ وبعــد ذلــك الرعــاة الذيــن يعزفــون علــى‬
‫أ‬ ‫أ‬
‫المزمــار‪ ،‬الحــق أن هــذا الربــع ال يالئــم الفــكار الســوداء؛ والحــرى بــي أن أبعــث للســيدات‬
‫أ‬ ‫أ‬
‫بقصائــد ورديــة اللــون وســال مــ�ى بالقصــص النيقــة‪.‬‬
‫بــل الك! فمــا زلــت شــديد القــرب مــن (باريــس)‪ .‬وإنهــا لترســل إلــي كل يــوم‪ ،‬حتــى وأنــا بيــن‬
‫آ‬ ‫ً‬
‫شــجرات صنوبــري‪ ،‬رشاشــا مــن حمــأة أحزانهــا‪ ،‬وهأنــذا وأنــا أكتــب الن هــذه الســطور أقــف علــى‬
‫ّ‬
‫الميتــة اليابســة التــي ماتهــا (شــارل بابــارا) المســكين؛ وإن طاحونتــي مــن هــذا النبــأ لفــي حــزن‬
‫وحــداد‪ً ،‬‬
‫وداعــا ّأيتهــا العصافيــر والجنــادب! لــن يميــل قلبــي إلــى شــيء مــرح‪ ...‬ولذلــك يــا ســيدتي‬
‫ّ‬
‫بــدال مــن القصــة الجميلــة العابثــة التــي عاهــدت نفســي علــى أن أكتبهــا لــك‪ ،‬لــن تصيبــي اليــوم‬
‫ً ّ‬
‫أيضــا إل أســطورة حزينــة‪.‬‬
‫كان فــي قديــم الزمــان رجــل لــه مــخ مــن الذهــب‪ ،‬نعــم يــا ســيدتي! مــخ كامــل مــن الذهــب!‬
‫أ‬ ‫أ‬
‫وحينمــا جــاء إلــى الدنيــا ظــن الطبــاء أن هــذا الطفــل لــن يعيــش‪ ،‬لنــه كان ثقيــل الـرأس ضخــم‬
‫الجمجمــة‪ .‬ولكنــه عــاش ونمــا فــي الشــمس‪ ،‬كمــا تترعــرع تحــت شــجرة جميلة مــن شــجر الزيتون‪،‬‬
‫ّإل أن رأســه الغليــظ كان يجــرره ً‬
‫دائمــا‪ ،‬فــكان يثيــر إشــفاق الناظــر إليــه أن ي ـراه يصطــدم وهــو‬
‫أ‬ ‫أ‬
‫يمشــي بجميــع قطــع الثــاث‪ ...‬وكثيـ ًـرا مــا كان يســقط علــى الرض‪ .‬وذات يــوم تدحــرج مــن أعلــى‬

‫* كاتب فرنسي (‪.)1840-1897‬‬

‫‪145‬‬
‫عشر‬
‫َ‬ ‫الصف الثّاين‬

‫درج‪ ،‬ونطــح بجبهتــه إحــدى درجــات الســلم المرمريــة حيــث رنــت جمجمتــه كأنهــا ســبيكة‪ ،‬وظــن‬
‫القــوم أنــه مــات؛ ولكنهــم إذ أنهضــوه لــم يجــدوا ســوى جــرح خفيــف‪ ،‬تصحبــه قطرتــان أو ثــاث‬
‫الشــقر‪ ،‬وهكــذا عــرف الوالــدان أن للغــام ًّ‬‫أ‬
‫مخــا‬ ‫قطـرات صغيــرة مــن الذهــب خاثــرة فــي شــعره‬
‫مــن الذهــب‪.‬‬
‫ً‬ ‫أ‬
‫وظــل الخبــر طــي الكتمــان؛ ولــم يــدر الصغيــر المســكين نفســه مــن المــر شــيئا كان يســأل‬
‫مــن حيــن إلــى حيــن‪ :‬لمــاذا ال يدعونــه يجــري أمــام البــاب مــع غلمــان الشــارع كمــا كان يفعــل‬
‫مــن قبــل‪ ،‬فكانــت تجيبــه أمــه‪:‬‬
‫ ـلئال يسرقوك‪ ،‬يا كنزي الجميل!‬
‫وهنــا كان الطفــل يخشــى أن يختطفــه أحــد؛ وكان يعــود فيســتأنف اللعــب وحــده‪ ،‬دون أن‬
‫ً‬
‫يقــول شــيئا‪ ،‬ويجــرر نفســه فــي ثقــل مــن غرفــة إلــى أخــرى‪...‬‬
‫ّ‬
‫وعندمــا بلــغ الثامنــة عشــرة‪ ،‬كشــف لــه والــداه ‪-‬إذ ذاك فقــط‪ -‬سـ َّـر الهبــة الجبــارة التــي خصــه‬
‫بهــا القــدر‪ ،‬ولمــا كان قــد ربيــاه وكفــاه حتــى ذلــك الوقــت‪ ،‬فقــد طالبــاه بشــيء مــن ذهبــه مقابــل‬
‫ولــم يتــردد الولــد‪ ،‬بــل انتــزع فــي الحــال مــن جمجمتــه ‪-‬كيــف‪..‬؟ بــأي الوســائل‪..‬؟‬ ‫هــذا‪.‬‬
‫أ‬
‫لــم تقــل الســطورة‪ -‬كتلــة مــن الذهــب‪ ،‬قطعــة غليظــة فــي حجــم الجــوزة‪ ،‬ألقاهــا بفخــر علــى ركبتــي‬
‫ّ‬
‫أمــه‪ ...‬ثــم وقــد بهرتــه مــوارد الثـراء التــي كان يحملهــا فــي رأســه‪ ،‬هجــر بيــت أبيــه ومضــى يجــوب‬
‫الدنيــا مبـ ً‬
‫ـذرا كنــزه‪.‬‬
‫ومــن أســلوبه المتــرف فــي الحيــاة‪ ،‬وإغراقــه فــي بــذخ الملــوك‪ ،‬ونثــره الذهــب بال حســاب‪ ،‬كان‬
‫مخــه زخــر ال ينضــب‪ ...‬ولكنــه نضــب مــع ذلــك‪ ،‬وكان الناظــر إليــه ً‬
‫يومــا بعــد‬ ‫يخيــل للجميــع أن ّ‬
‫َ‬
‫ـون‪ ،‬جلــس‬ ‫ـون مجنـ ٍ‬‫يــوم يســتطيع أن يــرى عينيــه تنطفئــان ووجنيتــه تغــوران‪ .‬وأخيـ ًـرا‪ ،‬غــداة مجـ ٍ‬
‫ّ‬
‫الفتــى البائــس وحــده بيــن فضــات الوليمــة والثريــات التــي أخــذ نورهــا يشــحب‪ ،‬فأفزعــه النقــب‬
‫ّ‬
‫الهائــل الــذي قــد أحدثــه فــي ســبيكته‪ ،‬يجــب إذن أن يتوقــف فــي الحــال‪.‬‬
‫ومنــذ ذلــك الوقــت بــدأ حيــاة جديــدة‪ .‬راح ذو المــخ الذهبــي يعيــش فــي عزلــة‪ ،‬مــن عمــل‬
‫ّ‬ ‫ً‬ ‫هيابــا كرجــل بخيــل‪ً ،‬‬
‫مرتابــا ً‬
‫يديــه‪ً ،‬‬
‫هاربــا مــن كل إغـراء‪ ،‬محــاول أن ينســى هــو هــذا الثـراء الــذي‬
‫لــم يعــد بعــد ذلــك أن يمســه‪ ....‬ولكــن مــن نكــد الحــظ كان صديــق لــه قــد تبعــه إلــى معتزلــه‪،‬‬
‫وكان هــذا الصديــق يعــرف ســره‪.‬‬

‫‪146‬‬
‫ٌةفيدر ٌصصق ‪ -‬بهذلا خملا يذ لجرلا ةروطسأ‬

‫ـب الرجــل المســكين ً‬


‫فزعــا وقــد أيقظــه ألــم فــي رأســه‪ ،‬ألــم هائــل؛ فنهــض مــوزع‬ ‫وذات ليلــة‪ ،‬هـ ّ‬
‫ً‬
‫النفــس‪ ،‬ورأى ‪-‬فــي شــعاعة مــن شــعاع القمــر‪ -‬ذلــك الصديــق وقــد الذ بالف ـرار وهــو يخفــي شــيئا‬
‫تحــت منعطفــه‪....‬‬
‫هو ذا جزء آخر من ّ‬
‫مخه ينتزعونه منه!‬
‫ً‬
‫و بعــد أن نجــا مــن هــذا الحــادث‪ ،‬أصبــح الرجــل ذو المــخ الذهبــي عاشــقا‪ ،‬وفــي هــذه‬
‫أحبتــه هــي ً‬
‫أيضــا‪،‬‬ ‫ـب مــن أعمــاق نفســه ام ـرأة صغيــرة‪ ،‬شــقراء‪ّ ،‬‬ ‫المــرة انتهــى كل شــيء‪ ...‬أحـ ّ‬
‫أ‬ ‫أ‬
‫ولكنهــا كانــت تؤثــر القبعــات المزينــة‪ ،‬والريــش البيــض‪ ،‬والهــداب البنيــة القانيــة الرشــيقة تهتــز‪،‬‬
‫فتضــرب جنــب حــذاء رقيــق‪.‬‬
‫ّ‬
‫وبيــن يــدي هــذه المخلوقــة اللطيفــة ‪-‬التــي كان نصفهــا طائـ ًـرا‪ ،‬ونصفهــا دميــة‪ -‬انهالــت قطــع‬
‫الذهــب الصغيــرة‪ ،‬ويــا لهــا مــن لــذة! كانــت فــي تلــك الغــادة جميــع ألــوان النــزق‪ ،‬وكان هــو ال‬
‫أ‬
‫يعــرف مــرة أن يقــول ال‪ ،‬بــل لقــد كتــم عنهــا حتــى آخــر المــر ‪-‬خشــية أن يؤلمهــا‪ -‬ســر ثروتــه‬
‫المحــزن‪.‬‬
‫كانت تقول له‪ :‬إننا إذن لغنيان؟‬
‫فكان الرجل المسكين يجيب‪ :‬أوه! أجل‪ ...‬غنيان ً‬
‫جدا!‬
‫ّ‬ ‫أ‬
‫وكان يبتســم فــي ثقــة للطائــر الزرق الــذي أضحــى يــأكل‪ ..‬يــأكل منــه الجمجمــة فــي ب ـراءة‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ً‬
‫علــى أن الخــوف كان يأخــذه أحيانــا فيهيــج بــه أن يبخــل ويقتــر؛ إل أن المـرأة الصغيــرة إذ ذاك‬
‫كانــت تقبــل عليــه قائلــة‪:‬‬
‫شيئا ً‬
‫ثمينا ً‬ ‫ً‬ ‫ّ‬
‫غاليا‪...‬‬ ‫ ـزوجي الذي أنت غني كل هذا الغنى! اشتر لي‬
‫شيئا ً‬
‫ثمينا ً‬ ‫ً‬
‫غاليا‪.‬‬ ‫فكان يشتري‬
‫واتصــل ذلــك مــدى ســنتين؛ ثــم ذات صبــاح‪ ،‬ماتــت الم ـرأة الصغيــرة‪ ،‬دون أن يــدري أحــد‬
‫أ‬
‫لمــاذا‪ ،‬كمــا يمــوت الطائــر‪ ...‬وأوشــك الكنــز أن ينضــب؛ وبالــذي بقــي لــه منــه‪ ،‬شــيع الرمــل‬
‫عزيزتــه الراحلــة أحســن تشــييع‪ .‬أج ـراس مــع هبيــب الريــح‪ ،‬ومركبــات ثقــال مجللــة بالســواد‪،‬‬
‫ً‬
‫وجيــاد مزدانــة بالريــش‪ ،‬ودمــوع مــن الفضــة فــي المخمــل‪ ...‬لــم يبــد لــه شــيء مــن ذلــك ممتــازا‪.‬‬
‫آ‬
‫ومــاذا يجديــه ذهبــه الن؟ لقــد أغــدق منــه علــى الجميــع‪ ،‬دون مســاومة‪ ...‬ولــذا حيــن خــرج مــن‬

‫‪147‬‬
‫عشر‬
‫َ‬ ‫الصف الثّاين‬

‫ّ ّ‬
‫المدافــن‪ ،‬لــم يكــد يبقــى لــه شــيء مــن ذلــك المــخ العجيــب‪ ،‬اللهــم إل جزئيــات عالقــة بعظــام‬
‫الجمجمــة‪.‬‬
‫ً‬
‫مترنحــا‪ ،‬وفــي المســاء‪ ،‬حيــن‬ ‫هنــاك رآه النــاس يهيــم فــي الشــوارع شــارد النفــس‪ ،‬مـ ًّ‬
‫ـادا يديــه‪،‬‬
‫أ أ‬ ‫أ‬ ‫أ‬
‫تألقــت الســواق‪ ،‬وقــف أمــام واجهــة متجــر عريضــة حافلــة بخليــط مــن القمشــة والحلــي يتــ�ل‬
‫أ‬ ‫ً‬ ‫أ‬
‫بيــن النــوار الموقــدة‪ ،‬وظــل هنــاك طويــا يرنــو إلــى حــذاء رقيــق مــن الديبــاج الزرق يعلــو حافتــه‬
‫ً‬
‫إطــار مــن زغــب البجعــة‪ .‬لقــد كان يقــول لنفســه وهــو يبتســم‪ :‬إنــي أعــرف ام ـرأ ُيدخــل الســرور‬
‫عليــه هــذا الحــذاء‪ ،‬وقــد أمســى ال يذكــر أن زوجتــه الصغيــرة قــد ماتــت‪ ،‬دخــل ليشــتري الحــذاء‪.‬‬

‫‪148‬‬
‫ٌةفيدر ٌصصق ‪ -‬اريدروك اي اعادو‬

‫وداعا يا كورديرا‬
‫ليوبولدو آالس‬
‫كانوا ثالثة ‪ً -‬‬
‫دائما نفس الثالثة‪( :‬روزا) و(بنيين) و(كورديرا)‪.‬‬
‫كان مــرج (ســومونتي) رقعــة مثلثــة مــن الخضــرة المخمليــة انتشــرت كســجادة عنــد ســفح‬
‫آ‬
‫التلــة‪ ،‬امتــد ضلعهــا الســفلي بعيـ ًـدا حتــى التقــى بخــط الســكة الحديديــة التــي مــن أفيــرو إلــى‬
‫جيجــون‪ ،‬ووقــف عامــود التلغ ـراف كســارية العلــم فــي زاويــة الحقــل‪ ،‬يمثــل بمنظــره لـــ(روزا)‬
‫مرهوبــا ومنسـ ًّـيا أبـ ًـدا‪.‬‬
‫ً‬ ‫و(بنييــن) العالــم البعيــد‪ :‬عالــم مجهــول غامــض يجــب أن يبقــى‬
‫جديــا‪ ،‬وهــو يرقــب العامــود الهــادئ المســالم ً‬ ‫المــر ً‬ ‫أ‬
‫يومــا بعــد يــوم‪،‬‬ ‫فبعــد أن قلــب (بنييــن)‬
‫ّ‬
‫توصــل نهائيــا إلــى االعتقــاد بأنــه ليــس إل شــجرة جافــة‪ ،‬وإن الكــؤوس الزجاجيــة المعلقــة فــي‬
‫ّ‬
‫أعــاه مــا هــي إل نــوع مــن الفاكهــة الغريبــة‪ .‬وبهــذا اكتســب مــن الثقــة مــا يكفيــه لكــي يتســلق‬
‫ً أ‬ ‫ّ‬ ‫أ‬
‫عليــه حتــى كاد يمــس الســاك‪ .‬إل أنــه فــي تســلقه لــم تــدرك يــده الكــؤوس مطلقــا‪ ،‬لنهــا ذكرتــه‬
‫ّ‬ ‫أ‬
‫بشــكلها ببعــض الوانــي‪ ،‬ولــم يســتطع أن ينفــض عنــه شــعور الرهبــة إل بعــد أن كان ينزلــق ويثبــت‬
‫أ‬
‫رجليــه ثانيــة علــى الرض الخض ـراء بأمــان‪.‬‬
‫ً‬ ‫أ‬
‫غيــر أن (روزا)‪ ،‬وهــي القــل جــرأة ولكنهــا أكثــر عشــقا للمجهــول‪ ،‬كانــت تقنــع بالجلــوس‬
‫أ‬
‫تحــت عمــود التغلـراف لســاعات طويلــة‪ ،‬تصغــي إلــى الريــح وهــي تجتــذب مــن الســاك أغنيــة‬
‫صافيــة ســاحرة وتمزجهــا بتنهــدات صــادرة مــن قلــب أشــجار الصنوبــر‪.‬‬
‫أ‬
‫ففــي بعــض الحيــان كانــت هــذه االهت ـزازات تســمع وكأنهــا موســيقا‪ ،‬وكانــت لـــ(روزا) أشــبه‬
‫أ‬
‫بهمســات ترحــل عبــر الســاك مــن مجهــول إلــى مجهــول‪ ،‬لــم يكــن لديهــا شــيء مــن حــب‬
‫آ‬
‫االســتطالع لتعــرف مــاذا يقــول النــاس مــن طرفــي الدنيــا المتقابليــن‪ ،‬الواحــد منهــم للخــر‪ ،‬لــم‬
‫يهمهــا ذلــك بكثيــر أو قليــل‪ .‬إنمــا هــي تصغــي إلــى الصــوت لنغمتــه الجميلــة وغموضــه الغريــب‪.‬‬
‫ولكــن (كورديـرا) وقــد بلغــت مــن العمــر أنضجــه‪ ،‬كانــت واقعيــة أكثــر مــن رفيقهــا‪ .‬لقــد انــزوت‬
‫عــن العالــم‪ ،‬وجعلــت تتأمــل عمــود التلغـراف مــن بعيــد‪ ،‬وتفكــر بأنــه شــيء عديــم الحيــاة ال يصلــح‬
‫ّ‬
‫لشــيء إل أن تحــك نفســها بــه‪.‬‬
‫كانــت (كورديـرا) بقــرة رأت مــن الدنيــا كثيـ ًـرا‪ ،‬كانــت تجثــم فــي الحقــل ســاعات طويلــة تقتــل‬

‫‪149‬‬
‫عشر‬
‫َ‬ ‫الصف الثّاين‬

‫وقتهــا بالتأمــل‪ً ،‬‬


‫عوضــا مــن أن تقيــت نفســها‪ ،‬وتتمتــع بهــدوء الحيــاة وزرقــة الســماء محاولــة طيلــة‬
‫الوقــت أن تحســن عقلهــا‪.‬‬
‫كانــت ً‬
‫دائمــا تشــارك الوالديــن اللذيــن عهــد إليهمــا بحراســتهما فــي أثنــاء ألعابهمــا‪ ،‬ولــو‬
‫اســتطاعت لضحكــت لتلــك الفكــرة! (روزا) و(بنييــن) مكلفــان باالعتنــاء بهــا ‪-‬هــي (كوردي ـرا)!‬
‫لحفظهــا داخــل المرعــى ومنعهــا مــن القفــز فــوق الســياج والشــرود بمحــاذاة الخــط الحديــدي كأنهــا‬
‫ّ‬
‫جــد ميالــة للقفــز والشــرود‪ ،‬ومــا الــذي يحــذو بهــا إلــى التدخــل بشــؤون الخــط الحديــدي؟‬
‫لقــد كان مــن دواعــي غبطتهــا أن ترعــى بهــدوء وتنتقــي بعنايــة أشــهى القضمــات دون أن ترفــع‬
‫رأســها لتنظــر حولهــا باســتطالع عديــم الفائــدة‪ ،‬وبعــد ذلــك تضطجــع إمــا للتأمــل أو لتتــذوق نعمــة‬
‫كثيــرا عندمــا دشــن الخــط الحديــدي وكاد‬ ‫عــدم المشــقة‪ .‬غيــر أن راحتهــا الفكريــة تنغصــت ً‬
‫ً أ‬
‫مجعجعــا لول مــرة؛ قفــزت فــوق‬ ‫يصيبهــا بالجنــون مــن الهلــع عندمــا رأت القطــار وهــو يجتــاز‬
‫الحائــط الحجــري إلــى الحقــل المجــاور‪ ،‬واشــتركت مــع بقيــة الماشــية بحركاتهــا الجنونيــة‪ ...‬ودام‬
‫آ‬ ‫ً‬
‫فزعهــا لعــدة أيــام متتاليــة‪ ،‬يتضــاءل قليــا ثــم يعــود عليهــا بشــدة كلمــا خرجــت اللــة المتحركــة مــن‬
‫فــم النفــق‪.‬‬
‫أ‬
‫دائمــا بســام‪ ،‬مصيبــة تتوعــد‬‫الذى‪ :‬خطــر يمــر ً‬ ‫رويـ ًـدا رويـ ًـدا أخــذت تتحقــق أن القطــار عديــم‬
‫أ‬
‫ولكنهــا ال تنــزل‪ ،‬وبذلــك أخــذت تقلــل مــن حيطتهــا‪ ،‬ومــا عــادت تدفــع برأســها إلــى الســفل فــي‬
‫موقــف الدفــاع عــن نفســها‪ .‬ثــم أخــذت تنظــر إلــى القطــار مــن دون أن تجشــم نفســها حتــى مشــقة‬
‫ً‬
‫النهــوض‪ ،‬وفــي النهايــة فقــدت نفورهــا منــه بالمــرة ولــم تعــد تنظــر إليــه إطالقــا‪.‬‬
‫ولكــن جــدة القطــار أحدثــت فــي نفســي (روزا) و(بنييــن) تأثي ـرات أشــد وأعمــق‪ .‬فقــد أخــذا‬
‫فــي البــدء ينفعــان بفــرح ممــزوج برهبــة غريبــة جعلتهمــا يرقصــان بوحشــية ويطلقــان صرخــات‬
‫عاليــة‪ .‬ثــم تحــول هــذا الشــيء إلــى أشــبه بملهــاة هادئــة تتكــرر عــدة مـرات فــي اليــوم كلمــا راقبــوا‬
‫الحيــة الحديديــة الهائلــة وهــي تنســاب بســرعة بحملهــا مــن النــاس الغربــاء‪.‬‬
‫ولكــن عمــود التلغ ـراف والســكة الحديديــة ومــا كان ينجــم عنهمــا مــن أحــداث إنمــا كانــت‬
‫ّ‬ ‫أ‬
‫قصيــرة المــد ســرعان مــا تتالشــى فــي بحــر تلــك الوحــدة التــي تحيــط بمــرج (ســومونتي) فــا يــرى‬
‫أ‬
‫أحــد مــن الحيــاء وال يســمع صــوت مــن العالــم الخارجــي‪.‬‬
‫وفــي الصبــاح تلــو الصبــاح كان الطفــان والبقــرة يترقبــون مجــيء الظهيــرة‪ ،‬تحــت أشــعة‬

‫‪150‬‬
‫ٌةفيدر ٌصصق ‪ -‬اريدروك اي اعادو‬

‫أ‬
‫الشــمس المحرقــة وبيــن طنيــن الحشـرات المتقاطــرة‪ ،‬يرجعــون إلــى البيــت‪ .‬وفــي المســاء الطويلة‬
‫الكئيبــة ينظــرون مجــيء الليــل مــرة أخــرى‪.‬‬
‫طالــت الظــال وهــدأت العصافيــر وبــزغ نجــم هنــاك فــي القســم المعتــم مــن الســماء‪،‬‬
‫وانعكســت فــي روحــي الطفليــن وداعــة الطبيعــة المســتكينة‪ ،‬وفــي أثنــاء جلوســهما قــرب (كورديرا)‬
‫ّ‬
‫كانــا يلــوذان بأذيــال صمــت حالــم‪ ،‬ال يشــوبه إل رنيــن ناعــم مــن جــرس البقــرة بيــن الحيــن والحين‪.‬‬
‫آ‬
‫كشــقي ثمــرة خضـراء‪ ،‬هكــذا كان الطفــان يــازم الكهمــا الخــر وال يفارقــه‪ .‬كانــا متحديــن بحنــان‬
‫قائــم علــى معرفتهمــا الضئيلــة عمــا كانــا غريزيــا فيهمــا وعمــا جعلهمــا شــخصين اثنيــن وامتــد هــذا‬
‫أ‬
‫الحنــان إلــى (كورديـرا) البقــرة الم‪ ،‬وهــي بدورهــا قابلــت علــى قــدر طاقتهــا حــب الولديــن اللذيــن‬
‫كانــا مكلفيــن بحراســتها بحــب مماثــل علــى طريقتهــا التلقائيــة‪.‬‬
‫وكثيـ ًـرا مــا كانــت تعامــل بخشــونة كلمــا اشــتركت معهمــا فــي ألعابهمــا الصبيانيــة‪ ،‬ولكنهــا فــي‬
‫ً‬ ‫كل مــرة تظهــر صبـ ًـرا وتسـ ً‬
‫ـامحا عجيبيــن وعطفــا تبديــه بكثيــر مــن التفكيــر والهــدوء‪.‬‬
‫ّ‬
‫غيــر أن (أنطــوان دي شــينتا)‪ ،‬والــد الطفليــن لــم يكــن قــد امتلــك (ســومونتي) إل منــذ أمــد‬
‫قريــب‪ ،‬فتمتعــت (كورديـرا) بامتيــاز هــذا المرعــى الخصيــب بعــد أن كانــت تضطــر إلــى التجــوال‬
‫ّ‬ ‫أ‬
‫فــي الطرقــات العامــة للحصــول علــى طعامهــا مــن العشــاب الزهيــدة التــي تنبــت علــى حواشــيها‪.‬‬
‫أ‬
‫ففــي تلــك اليــام العصيبــة مــن الفقــر والحرمــان كانــا (بنييــن) و(روزا) يبحثــان لهــا عــن‬
‫ّ‬
‫أحســن البقــع المالئمــة ويحميانهــا بوســائل شــتى مــن ســوء المعاملــة التــي تتعــرض لهــا الحيوانــات‬
‫أ‬
‫المضطــرة إلــى البحــث عــن قوتهــا فــي الراضــي العامــة‪.‬‬
‫ـادرا واللفــت مفقـ ً‬
‫ـودا‪ ،‬كانــت البقــرة مدينــة‬ ‫و فــي أيــام الزريبــة الهزيلــة عندمــا كان العلــف نـ ً‬
‫للطفليــن عــن ألــف لفتــة صغيــرة ســهلت عليهــا الحيــاة وجعلتهــا أمـ ًـرا يطــاق‪.‬‬
‫وفــي تلــك الفتــرة المليئــة بالبطولــة الواقعــة بيــن بطولــة عجولهــا وبيــن فطامهــا‪ ،‬عندمــا كان‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫ينبعــث ذلــك الســؤال الــذي ال مفــر منــه عــن كميــة الحليــب الــذي يجــب أن تحصــل عليهــا‬
‫عائلــة ديشــنيتا‪ ،‬ومــدى ضرورتــه بصغارهــا كنــت تجــد (بنييــن) و(روزا) يقفــان بجانــب (كورديـرا)‪.‬‬
‫كثيـ ًـرا مــا كانــا يطلقــان س ـراح العجــل الصغيــر لينطلــق بفــرح جنونــي متعثـ ًـرا بــكل مــا يصادفــه‬
‫ً‬
‫فــي طريقــه‪ ،‬بحثــا عــن الطعــام والحمايــة تحــت جســم والداتــه الرحــب‪ ،‬بينمــا كانــت هــذه تلتفــت‬
‫برأســها نحــو الطفليــن بنظــرة ملؤهــا حنــان وامتنــان‪.‬‬

‫‪151‬‬
‫عشر‬
‫َ‬ ‫الصف الثّاين‬

‫إن روابــط كهــذه ال يمكــن أن تفصــم وذكريــات كهــذه ال يمكــن أن تمحــى ولكــن (أنطــون دي‬
‫ّ‬
‫شــينتا) توصــل إلــى أن أحالمــه الذهبيــة بتوســيع زريبتــه تدريجيــا لــن تتحقــق‪ .‬إنــه باقتنائــه تلــك‬
‫البقــرة الوحيــدة بألــف اقتصــاد وحرمــان‪ ،‬لــم يجــد نفســه عاجـ ًـزا عــن اقتنــاء بقــرة أخــرى فحســب‪،‬‬
‫بــل وجــد نفســه فــي النهايــة عاجـ ًـزا عــن دفــع إاليجــار‪ ،‬لقــد رأي فــي (كوردي ـرا) ملكــه الوحيــد‬
‫يعتمــد عليــه‪ ،‬ولكنــه تحقــق مــن أنهــا يجــب أن تبــاع رغــم اعتبارهــا إحــدى أفـراد العائلــة‪ ،‬ورغــم‬
‫أ‬
‫وصيــة زوجتــه وهــي تلفــظ أنفاســها الخيــرة بــأن (تلــك البقــرة عمــاد حياتهــم فــي المســتقبل)‪،‬‬
‫أ‬
‫فبينمــا كانــت الم مضطجعــة علــى فـراش المــوت فــي غرفــة فصلــت عــن الزريبــة بحاجــز حيــك‬
‫مــن ســيقان الســنابل الجافــة‪ ،‬حولــت أنظارهــا المجهــدة نحــو (كورديـرا)‪ ،‬كأنهــا ترجوهــا بصمت أن‬
‫ّ‬
‫تكــون ًّأمــا ثانيــة للطفليــن‪ ،‬وأن تمنحهمــا مــن الحنــان الــذي ال يفهمــه أبوهمــا‪ ،‬فقــرر (أنطــوان دي‬
‫شــينتا) كل ذلــك ولــم يقــل للطفليــن عــن حاجتــه الملحــة لبيــع البقــرة‪.‬‬
‫أ‬
‫وفــي صبــاح أحــد اليــام‪ ،‬وكان يــوم ســبت‪ ،‬نهــض باكـ ًـرا وانتهــز فرصــة نــوم (روزا) و(بنييــن)‪،‬‬
‫ميم ًمــا وجهــة شــطر (جيجــون)‪.‬‬ ‫وشــرع بقلــب مثقــل يســوق (كورديـرا) أمامــه ّ‬

‫ولمــا نهــض الطفــان كانــا فــي حيــرة مــن أمــر غيــاب والداهمــا المفاجــئ‪ ،‬ولكنهمــا شــعرا‬
‫متيقنيــن بــأن البقــرة رافقتــه غيــر طائعــة‪.‬‬
‫ولمــا أرجــع والداهمــا الحيــوان فــي المســاء وهــو مرهــق مكســو بالغبــار ‪-‬ليعطيهمــا سـ ًـببا لغيابــه‪-‬‬
‫أحســا بوقــوع الخطر‪.‬‬
‫لــم تبــع البقــرة‪ ،‬إذ إنــه بمنطــق الحنــان والمــودة المصطنعيــن‪ .‬كانــا قــد وضــع الســعر ً‬
‫عاليــا لكــي‬
‫ّ‬ ‫ً‬
‫ال يســتطيع أحــد دفعــه‪ ،‬فــكان يتجهــم لــكل مشــتر منتظـ ًـرا واثقــا مــن أنــه ســيصل المبلــغ الــذي‬
‫قــرره بعنــاد‪ .‬وكان يهــدئ مــن اضطـراب ضميــره بقولــه لنفســه أنــه متأكــد مــن رغبتــه فــي البيــع‪ .‬إنمــا‬
‫ّ‬ ‫آ‬
‫الذنــب ذنــب الخريــن الذيــن ال يدفعــون الثمــن الــذي تســتحقه (كوردي ـرا) وهكــذا قفــل عائـ ًـدا‬
‫إلــى البيــت يرافقــه عــدد مــن جيرانــه المزراعيــن‪ ،‬الذيــن كانــوا يســوقون مواشــيهم أمامهــم بمشــقة‬
‫ّ‬
‫تتوقــف شــدتها علــى قصــر أو طــول العشــرة التــي بيــن الحيــوان وســيده‪.‬‬
‫ّ‬
‫إمــا (بنييــن) و(روزا) فمــن اليــوم الــذي بــدا يشــكان فيــه بــأن هنــاك أمـ ًـرا مؤ ًلمــا ينتظرهمــا‬
‫لــم يرتــح لهمــا فكــر‪ .‬وســرعان مــا تحققــت أســوأ مخاوفهمــا عنــد مــا ظهــر صاحــب البيــت وهــو‬
‫يتوعدهــم بإخــاء المــكان‪.‬‬

‫‪152‬‬
‫ٌةفيدر ٌصصق ‪ -‬اريدروك اي اعادو‬

‫ولذلك يجب أن تباع (كورديرا) ولربما بيعت بثمن فطور فقط‪.‬‬


‫وفــي يــوم الســبت التالــي رافــق (بنييــن) والــده إلــى ســوق بلــد مجــاور حيــث نظــر الولــد إلــى‬
‫القصابيــن المســلحين بأســلحة الذبــح بفــزع بالــغ‪ ،‬وبيــع الحيــوان إلــى أحــد هــؤالء‪ ،‬وبعــد أن‬
‫وســمت البقــرة بالحديــد والنــار أرجعــت إلــى زريبتهــا وجرســها يجلجــل طــول الطريــق بحــزن‪.‬‬
‫كان (أنطــون) ً‬
‫صامتــا وكانــت عينــا الولــد حمراويــن منتفختيــن‪ .‬وعنــد ســماع (روزا) خبــر البيــع‬
‫رمــت ذراعيهــا حــول عنــق (كورديـرا) وأجهشــت بالبــكاء‪.‬‬
‫أ‬ ‫أ‬
‫اليــام التاليــة ً‬
‫أيامــا مملــوءة بالحــزن والســى فــي مــرج (ســومونتي) بينمــا كانــت (كوردي ـرا)‬
‫ّ‬
‫‪-‬وهــي تجهــل المصيــر الــذي ينتظرهــا‪ -‬هادئــة وديعــة‪ ،‬كمــا حــا لهــا أن تبقــى كذلــك حتــى اللحظــة‬
‫ّ‬
‫التــي ســيهوي عليهــا الســاطور بضربتــه الوحشــية‪.‬‬
‫ً ّ‬
‫ولكــن (بنييــن) و(روزا) لــم يكــن فــي وســعهما أن يفعــا شــيئا إل االضطجــاع علــى العشــب فــي‬
‫صمــت متواصــل‪ ،‬ال أمــل لهمــا فــي أيــة تعزيــة فــي المســتقبل‪ ،‬وكانــا ينظ ـران نظــرة كراهيــة إلــى‬
‫أســاك التغل ـراف والقطــارات المــارة الموصولــة بذلــك العالــم البعيــد كل البعــد عــن إداركهمــا‪،‬‬
‫ّ‬
‫العالــم الــذي ســوف يســلبهما رفيقتهمــا وصديقتهمــا الوحيــدة‪.‬‬
‫ً‬
‫وبعــد بضعــة أيــام حصــل الفـراق‪ ،‬وأتــى القصــاب حامــا النقــود المتفــق عليهــا‪ .‬وســأله (أنطون)‬
‫هــل يرغــب فــي شــرب الشــاي‪ ،‬وأرغمــه علــى ســماع فضائــل البقــرة الممتازة‪.‬‬
‫أ‬
‫لــم يســتطع الب أن يصــدق أن (كورديــرا) ســتذهب إلــى ســيد آخــر لــن يعاملهــا معاملــة‬
‫آ‬
‫حســنة‪ ،‬فأخــذ يعــدد ميزاتهــا البيتيــة ومقدرتهــا علــى در الحليــب وصالبتهــا تحــت النيــر‪ ،‬والخــر‬
‫ّ‬
‫يبتســم وهــو يفكــر بالمصيــر الــذي ينتظرهــا‪.‬‬
‫ـدو مــن بعــد‪ ،‬ويفك ـران بحــزن‬ ‫وقــف (بنييــن) و(روزا) وأيديهمــا متشــابكة ينظ ـران إلــى العـ ّ‬
‫ـ�ى بـ(كورديـرا)‪ .‬وقبــل أن تســاق ًّ‬ ‫أ‬
‫نهائيــا بيــد القصــاب‪ ،‬ارتميــا علــى عنقهــا‬ ‫بالماضــي وذكرياتــه المـ‬
‫وغطيــاه بالقبــل‪ .‬ثــم تبعهــا الطفــان فــي الطريــق الضيقــة المنحــدرة‪ ،‬وشكلا مــع البقــرة المتأففــة‬
‫وســائقها غيــر المبالــي جماعــة كئيبــة وفــي النهايــة توقفــا عــن المســير وأخــذا يرقبــان البقــرة وهــي‬
‫تدريجيــا فــي ظــال شــجيرات العليــق المتاخمــة‪.‬‬ ‫ً‬ ‫تختفــي‬
‫أ‬
‫وهكذا اختفت (كورديرا) إلى البد‪.‬‬

‫‪153‬‬
‫عشر‬
‫َ‬ ‫الصف الثّاين‬

‫"وداعا يا (كورديرا)‪ً ،‬‬


‫وداعا يا (كورديرا)"‪.‬‬ ‫ً‬ ‫انفجرت (روزا) بالبكاء وهي تصرخ‪:‬‬
‫ً‬
‫"وداعــا" ثــم ضــاع ندبــه الحزيــن بيــن أصــوات الليــل‬ ‫وكــرر (بنييــن) وصوتــه يختنــق بالعاطفــة‬
‫أ‬
‫الخــرى‪.‬‬
‫وفــي صبــاح اليــوم التالــي الباكــر ذهــب (بنييــن) و(روزا) إلــى مــرج (ســومونتي) فلــم تكــن‬
‫أ‬
‫وحشــة فــي يــوم مــن اليــام شــديدة الوطــأة عليهمــا كذلــك اليــوم‪ ،‬وبــدا لهمــا كأنــه صحـراء قاحلــة‪.‬‬
‫أ‬ ‫وفجــأة ظهــر دخــان عنــد فــم النفــق‪ ،‬ثــم أتــى القطــار‪ ،‬فشــاهدا ً‬
‫قطيعــا مــن البقــار وقــد حشــد‬
‫ً‬
‫حشـ ًـدا مكتظــا فــي عربــة تشــبه الصنــدوق اخترقــت جوانبــه نوافــذ ضيقــة‪.‬‬
‫ً‬
‫فهــز الطفــان قبضتهمــا نحــو القطــار وهمــا أكثــر إيقانــا مــن أي وقــت مضــى بنهــم العالــم‬
‫وجشــعه "إنهــم يأخذونهــا إلــى الذبــح"‪" .‬الــوداع يــا (كورديــرا)"‪" .‬الــوداع يــا (كورديــرا)"‬
‫و ألقــى (بنييــن) و(روزا) نظــرة كراهيــة نحــو القطــار وعمــود التلغـراف‪ ،‬رمــزي العالــم القاســي‬
‫ّ‬
‫الــذي ســلبهما رفيقــة ســنوات عــدة لمجــرد إشــباع شــهواته الشــرهة‪.‬‬
‫ً‬
‫"وداعا يا (كورديرا)"‪.‬‬
‫ً‬
‫"وداعا يا (كورديرا)"‪.‬‬

‫‪154‬‬
‫ٌةفيدر ٌصصق ‪ -‬تاملك‬

‫كلمات‬

‫السادســة‬ ‫جامعــا للكلمــات‪ .‬لقــد بــدأ بفعــل ذلــك حيــن كان فــي ّ‬ ‫الس ّــيد (بلوشــال) ً‬ ‫كان َّ‬
‫الولــى‪ .‬كان ً‬ ‫ّ أ‬
‫كتابــا‬ ‫والخمســين مــن عمــره‪ ،‬بعــد قراءتــه لمجموعــة مختــارات مــن القصائــد للمــرة‬
‫َّ‬ ‫ـجية‪ ،‬رغــم ّأن ّ‬ ‫صغيـ ًـرا ذا غــاف ورقـ ّـي علــى غالفــه زهــرة بنفسـ ّ‬
‫الرائحــة التــي تفــوح مــن الكتــاب‬
‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬
‫ـورة‪ ،‬فقــد كان للكتــاب رائحــة كريهــة ن ِت َنــة كالتــي تتســلل إلــى الكتــب‬ ‫كانــت تتنافــى مــع هــذه ّ‬
‫الصـ َ‬
‫َ‬ ‫ً‬ ‫بعــد قضائهــا ً‬
‫وقتــا طويــا فــي ق ْبـ ِـو الكتــب المســتعملة‪.‬‬
‫ـعرية‪ .‬ورغــم ّأنــه كان يتـ ّ‬ ‫الشـ ّ‬ ‫ّ‬ ‫كان مــن الممكــن ّأل يشــتري َّ‬
‫ـردد‬ ‫السـ ّـيد (بلوشــال) المجموعــة‬
‫كتبــا مــن نمــط‬ ‫كتبــا‪ .‬وعندمــا يفعــل كانــت ً‬ ‫ـادرا مــا اشــترى ً‬ ‫بانتظــام علــى متاجــر الكتــب ّإل ّأنــه نـ ً‬
‫تتألــف بشــكل أساسـ ّـي مــن ّ‬ ‫ّ‬ ‫مختلــف ً‬
‫الكتيبــات‬ ‫تمامــا‪ .‬لقــد كان يمتلــك مكتبــة صغيــرة فــي منزلــه‪،‬‬
‫ّ‬ ‫المنزليــة مثـ ًـا‪ .‬لــم يكــن لديــه ّ‬
‫لكنــه يعـ ّـد نفســه مط ًلعــا كثيـ ًـرا‬ ‫أي نبتــة‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫بالنباتــات‬‫حــول االعتنــاء ّ‬
‫ّ أّ‬ ‫علــى الموضــوع‪ ،‬أو ّ‬
‫كتيــب عــن القطــط‪ ،‬لــم يكــن لديــه قطــة؛ لنــه يعانــي حساسـ ّـية مــن ِفرائهــا‪.‬‬
‫ـيتمكن مــن تقديــم نصائــح كثيــرة مفيــدة‪ ،‬كمــا كان لديــه ّ‬ ‫ّ‬ ‫ْ‬
‫كتيــب عــن‬ ‫ولكـ ْـن إن ســأله أحدهــم فسـ‬
‫مجمــدة‪ ،‬لكــن المعرفــة كانــت‬ ‫المجمــدات وإصالحهــا‪ ،‬فــي الحقيقــة لــم يكــن بحاجــة إلــى ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫صيانــة‬
‫ّ‬
‫أمـ ًـرا يســتحق َ‬
‫العنــاء‪.‬‬
‫الشـ ّ‬ ‫ّ‬
‫ـعرية مــن أجــل زهــرة الغــاف‪ ،‬فقــد كان يعــرف باعتبــاره خبيــر‬ ‫لقــد قـ ّـرر شـراء المجموعــة‬
‫ّ‬
‫نباتــات أن زهــرة كهــذه ليســت موجــودة‪ ،‬وكان هــذا سـ ّـر إغوائهــا لــه‪ .‬أخــذ الكتــاب إلــى المحاســب‬
‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ّ‬
‫اهتمامــا بالشــعر‬ ‫بشــيء مــن االضط ـراب‪ ،‬فقــد بــدا مــن غيــر اللئــق لرجــل فــي عمــره أن يظهــر‬
‫بالنظــر إلــى ّ‬ ‫حظــه ّأن البائعــة لــم تنظــر إلــى الغــاف‪ ،‬واكتفــت ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫الســعر‪،‬‬ ‫الرومانسـ ّـي‪ ،‬ومــن حســن‬
‫َّ‬ ‫وتناولــت ّ‬
‫النقــود التــي أعطاهــا لهــا‪.‬‬
‫الشـ ّ‬ ‫َّ‬ ‫ِّ َّ‬
‫ـخصية‪ ،‬لكــن‬ ‫ـب بالطبــع‪ ،‬ولــم يكــن ذلــك مــن واقــع خبرتــه‬ ‫كان يعــرف القليــل عــن الحـ‬
‫غالبــا بوعــي كهــذا‪ ،‬وال يمكــن للمــرء أن يكــون بغيــر هــذا‬ ‫النــاس ً‬ ‫ضروريــا؟ يولــد ّ‬ ‫ًّ‬ ‫هــل كان ذلــك‬
‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫الشــكل‪ ،‬حيــن بــدأ بقـراءة الكتــاب عــاوده إالحســاس بالتوتــر‪ ،‬رغــم أنــه كان يقــرؤه وحيــدا‪ ،‬حتــى‬
‫ـعرية يمكــن اعتبارهــا ِّ‬ ‫الشـ ّ‬ ‫ِّ‬ ‫َّ‬ ‫َّأنــه احمـ َّـر خجـ ًـا‪ ،‬وشــعر ّ‬
‫كتي ًبــا‬ ‫بالراحــة عندمــا وجــد أن المجموعــة‬
‫ّ‬ ‫عــن الحـ ِّ‬
‫ـب‪ ،‬وعندهــا أصبــح كل شــيء أكثــر ســهولة وبهجــة‪.‬‬

‫‪155‬‬
‫عشر‬
‫َ‬ ‫الصف الثّاين‬

‫أ‬ ‫َ َ‬ ‫ّ‬ ‫أصابتــه ّ‬


‫الدهشــة عندمــا وجــد أن الكلمــات فــي الكتــاب قــد ف َتن ْتـ ُـه أكثــر مــن الحاســيس‬
‫ً‬
‫أمــرا كان قــد فاتــه االنتبــاه إليــه قبــا‪ .‬الكلمــات الجديــدة‬‫ــم أدرك فجــأة ً‬ ‫الســامية‪ُ ،‬ث َّ‬
‫الناعمــة ّ‬‫ّ‬
‫بالضــرورة‪ ،‬بــل كانــت كلمــات ّ‬
‫عاديــة‪ ،‬يمكــن العثــور عليهــا‬ ‫خاصــة أو نــادرة ّ‬
‫موجــودة‪ ،‬لــم تكــن ّ‬
‫لكنهــا لســبب أو آلخــر لــم َت ْبـ ُـد جميلــة فــي ّ‬
‫الكتيبــات أو ربمــا لــم تلتقــط‬ ‫أيضــا‪ّ ،‬‬
‫فــي كتــب أخــرى ً‬
‫عينــاه جمالهــا‪.‬‬
‫كلما قرأ أكثر‪ ،‬كان الخوف يغمره أكثر من فقدان شيء ما‪.‬‬
‫يقلــب ّ‬‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫َّ‬
‫الصفحــة تشــحب وتختفــي‪ ،‬وتظهــر أخــرى‬ ‫كانــت الكلمــات التــي يخلفهــا وراءه عندمــا‬
‫كافيــا لــه‪ ،‬كان عليــه االحتفــاظ ّ‬ ‫ّ‬
‫محلهــا‪ .‬لكـ ّـن هــذا لــم يكــن عـزاء ً‬ ‫ّ‬
‫بالســابقة بطريقــة‬ ‫جديــدة لتحــل‬
‫طبعــا‪ّ ،‬‬
‫لكنــه لــن‬ ‫مــا‪ ،‬إذ ليــس مــن المعقــول أن يدعهــا تختفــي‪ .‬كان بإمكانــه العــودة مــن أجلهــا ً‬
‫ًّ‬ ‫ّ‬
‫يتمكــن مــن إنهــاء الكتــاب أبـ ًـدا‪ .‬ال‪ ،‬عليــه أن يجــد حــا أفضــل‪ ،‬فلمعــت فــي ذهنــه فكــرة ملهمــة‪.‬‬
‫ـدي‪ ،‬ال بـ ّـد أن يكــون دفتـ ًـرا ر ً‬
‫ـط ًرا ذا غــاف جلـ ّ‬ ‫َّ‬ ‫ً‬
‫ائعــا ليفــي بالغــرض‪،‬‬ ‫ضخمــا مسـ‬ ‫اشــترى دفتـ ًـرا‬
‫عــادي؟ ســيكون ذلــك‬‫ّ‬ ‫مســتودعا للكلمــات الجميلــة‪ ،‬كيــف يمكنــه كتابتهــا فــي دفتــر‬ ‫ً‬ ‫ويكــون‬
‫تدنيســا لهــا‪.‬‬‫ً‬
‫ّ‬ ‫ً‬ ‫عــاد إلــى ّأول المجموعــة وهــو يحمــل ّ‬
‫مفتوحــا أمامــه‪ ،‬وكلمــا صــادف كلمــة جميلــة‬ ‫الدفتــر‬
‫حقــا‪ ،‬لكــن مــن ّ‬ ‫ًّ‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ـريعا بقلــم الحبــر ّ‬‫ّدونهــا سـ ً‬
‫الصعــب بلــوغ‬ ‫مصنوعــا مــن الذهــب‬ ‫خاصتــه‪ ،‬لــم يكــن‬
‫الكمــال‪.‬‬
‫ً‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ّ‬
‫وصارمــا بعــض الشــيء‪ ،‬كان جميــا بطريقتــه‪،‬‬ ‫مدروســا‬ ‫كان خطــه أنيقــا‪ ،‬لــم يكــن مزخرفــا بــل‬
‫الزمــا فحســب لتدويــن الكلمــات الجميلــة‪ ،‬ليــس تظليلهــا بــل االنســجام معهــا‪ ،‬كان‬ ‫وهــو مــا كان ً‬
‫ً‬ ‫ّ‬ ‫ـط كبيــر‪ّ ،‬‬‫ّ‬
‫لكنــه جعــل خطــه أصغــر لهــذه المناســبة احتياطــا‪ ،‬فهــو ال يعــرف‬ ‫يكتــب عــادة بخـ‬
‫ً‬ ‫َّ‬
‫مقــدار الكلمــات الجميلــة التــي ســيعثر عليهــا‪ ،‬لقــد كان ّ‬
‫الدفتــر ســميكا‪ ،‬لكــن عليــه أن يكــون‬
‫حـ ً‬
‫ـذرا‪.‬‬
‫ّ‬ ‫النتيجــة ّ‬ ‫الشــجاعة لرؤيــة ّ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬
‫حتــى فــرغ مــن كتابــة كل الكلمــات الجميلــة فــي المجموعة‪،‬‬ ‫لــم توا ِتـ ِـه‬
‫تنفــس ّ‬ ‫ّ‬ ‫هــل ســتحتفظ بجمالهــا فــي دفتــره أم ســتفقده كمــا حــدث فــي ّ‬
‫الصعــداء وهــو‬ ‫الكتيــب؟‬
‫أ‬ ‫تأمــل عــن كثــب ّ‬ ‫الدفتــر إلــى مســافة قصيــرة‪ ،‬عندمــا ّ‬ ‫يحمــل ّ‬
‫الصفحــات الربــع المملــوءة‪ ،‬لــم‬
‫غالبــا بســبب وجــود الكلمــات‬ ‫أيضــا‪ ،‬وكان هــذا ً‬ ‫يكــن جمالهــا كامـ ًـا فحســب‪ ،‬بــل بــدا ّأنــه تعاظــم ً‬

‫‪156‬‬
‫ٌةفيدر ٌصصق ‪ -‬تاملك‬

‫مميــزة بـ ّ‬
‫ـأي‬ ‫لكنهــا ليســت َّ‬ ‫تمامــا‪ّ .‬‬ ‫الخــرى َّالتــي لــم تكــن قبيحــة ً‬ ‫أ‬ ‫ً‬
‫الجميلــة وحدهــا هنــاك‪ ،‬دونــا عــن‬
‫مركـ ًـزا‪ .‬تســاءل بعــد أن أنهــى المجموعــة‪ :‬مــا ّالــذي ســيفعله ً‬
‫تاليــا؟ لــم‬
‫ً َّ‬
‫الدفتــر جمــال‬ ‫شــكل‪ .‬كان ّ‬
‫أ‬
‫ـس‪ .‬هــل ســيتركه هكــذا؟ ســيبدو المــر‬ ‫كأنــه بالــكاد ُل ِمـ َ‬
‫َّ‬
‫قريبــا مــن االمتــاء‪ ،‬بــل بــدا‬ ‫الدفتــر ً‬ ‫يكــن َّ‬
‫ّ‬ ‫كمــا لــو َّأنــه اقتطــع جـ ً‬
‫ـزءا مــن الجمــال فقــط‪ .‬ال‪ ،‬عليــه المتابعــة‪ ،‬فالبـ ّـد أن هنالــك كلمــات جميلــة‪،‬‬
‫يتعيــن عليــه البحــث عنهــا؟‬ ‫ـتحق ّكلهــا أن تكــون فــي مــكان واحــد‪ ،‬لكــن أيــن ّ‬ ‫تسـ ّ‬
‫ً‬ ‫أول مــا يتبــادر إلــى ذهنــه ً‬ ‫ّ‬
‫طبعــا كان مجموعــة أخــرى مــن القصائــد‪ .‬ال يمكــن أن يكــون مخطئا‪.‬‬
‫ّ ْ‬ ‫َّ‬
‫لكنــه إن واصــل‬ ‫لقــد قــال فــي نفســه‪ :‬إن الكلمــات الجميلــة تحظــى بتعبيـرات رائعــة فــي القصائــد‪،‬‬
‫النــوع مــن الكتــب‪ ،‬فســرعان مــا ســيفتضح أمــره‪ ،‬يمكــن لمجموعتيــن أو ثــاث أن تمـ ّـر‬ ‫شـراء هــذا ّ‬
‫العامــة‪ -‬ســيثير‬ ‫دون انتبــاه‪ ،‬لكــن ثالثمئــة وخمســة وثالثيــن ‪-‬العــدد ّالــذي رآه فــي فهــرس المكتبــة ّ‬
‫ْ ّ‬ ‫ّ‬
‫الســخرية بــا شــك‪ .‬ال‪ ،‬عليــه أن يفكــر بأمــر آخــر‪ ،‬ولمعــت فــي ذهنــه فكــرة ملهمــة ثانيــة‪.‬‬
‫ّ‬
‫مــن قــال إن الكلمــات الجميلــة توجــد فــي القصائــد فقــط؟ ال بـ ّـد أنهــا توجــد فــي كتــب أخــرى‪،‬‬
‫ّ‬ ‫الكتيبــات ً‬ ‫وِلـ َـم ال تكــون فــي ِّ‬
‫أيضــا؟ لقــد صــار خبيـ ًـرا بمــا يكفــي إلدراك حقيقــة رائعــة؛ إن الكلمات‬
‫ّ‬
‫الجميلــة فــي كل مــكان‪ ،‬وليســت البراعــة فــي اختيــار الكتــب بــل فــي اكتشــاف الكلمــات‪ ،‬عليــك‬
‫تتمتــع بعيــن ثاقبــة تلتقطهــا‪.‬‬ ‫ْأن ّ‬
‫أ‬ ‫ّ‬
‫كان قــد ارتــاب فــي امتالكــه للمهــارة‪ ،‬وكانــت هنالــك طريقــة ســهلة للتحقــق مــن المــر‪ .‬جــذب‬
‫ّ‬ ‫ّأول ّ‬
‫كتيــب وقــع فــي متنــاول يــده وفتحــه‪ .‬فــي تلــك اللحظــة كان قــد أعمــاه وهــج الكلمــات‬
‫ظللهــا بقلــم مشـ ّـع‪ .‬لــم يســتطع مقاومــة ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫الرغبــة فــي فتــح دفتــره والبــدء‬ ‫الجميلــة كمــا لــو أن أحدهــم‬
‫التفكيــر هــو مــا أوقفــه‪ ،‬شــيء جعلــه يشــعر بالفخــر بحـ ّـق‪ .‬ال يمكــن للمــرء أن يكــون‬ ‫بتدوينهــا‪ .‬كان ّ‬
‫ّ‬
‫عفويــا جـ ًّـدا‪ ،‬فإلــى أيــن ســيأخذه ذلــك؟ ســرعان مــا اســتولى عليــه التشــويش‪ ،‬ال بـ ّـد أن يكــون‬ ‫ًّ‬
‫ّ ّ‬ ‫ّ‬ ‫ومنهجيــا‪ ،‬وبعــد ّ‬ ‫ًّ‬ ‫ً‬
‫التفكيــر فــي الظــروف‪ ،‬عثــر علــى الحــل الــذي هبــط عليــه مثــل الوحــي‪.‬‬ ‫حازمــا‬
‫ّ‬ ‫الدفتــر ّ‬ ‫الولــى مــن ّ‬‫أ‬ ‫أ‬ ‫نازعتــه قليـ ًـا فكــرة تمزيــق ّ‬
‫حتــى يتمكــن مــن البــدء مــن‬ ‫الصفحــات الربــع‬
‫تخلــى عنهــا‪ .‬ال يمكنــه بــدء مشــروع مهـ ّـم كهــذا فــي دفتــر ممســوخ؛ لــذا سـ ّ‬ ‫ّ‬ ‫جديــد‪ّ ،‬‬
‫ـيتعين‬ ‫لكنــه‬
‫مالئمــا‪ ،‬اختــار أكبــر دفتــر وجــده‪ ،‬لقــد كان ّ‬
‫يتمتــع بميــزة‬ ‫عليــه شـراء دفتــر جديــد‪ ،‬ســيكون هــذا ً‬
‫ّ‬ ‫ً‬
‫ـريطا ُم ْن َزِل ًقــا يتيــح لــه تعييــن ّ‬ ‫ّ‬
‫الصفحــة حيــث توقــف عــن الق ـراءة أو‬ ‫رائعــة‪ ،‬ذلــك أنــه حــوى شـ‬
‫الكتابــة‪.‬‬

‫‪157‬‬
‫عشر‬
‫َ‬ ‫الصف الثّاين‬

‫أ‬ ‫َّ‬ ‫ّ‬


‫الضخــم يتألــف مــن ســتة عشــر مجلـ ًـدا‪ ،‬وعندمــا فتــح ال ّول صافــح عينيــه ِسـ ْـر ٌب‬ ‫كان القامــوس ّ‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫مــن الكلمــات الجميلــة المتألقــة‪ ،‬ولــم يفــزع مــن حجــم مــا ينتظــره مســتقبل؛ فقــد كان ‪-‬علــى ّأيــة‬
‫أي طريــق مختصــرة‪ ،‬فمهمــا كان الوقــت‬ ‫تمامــا‪ ،‬لــم َيـ ُـد ْر ب َخ َلـ ِـد ِه ّأنــه ســيجد ّ‬ ‫حــال‪ِّ -‬‬
‫متأه ًبــا لذلــك ً‬
‫ِ‬
‫ً‬ ‫أّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫الــذي ســيحتاجه لكتابتهــا كلهــا‪ ،‬فإنــه ســيفعل ذلــك علــى نحــو متكافــئ؛ لن مــا ينتظــره مســتقبل‬
‫ّ‬ ‫ًّ‬ ‫كان ً‬
‫فرحــا وليــس معانــاة‪ .‬حقــا‪ ،‬مــا الــذي ســيكون أكثــر بهجــة مــن تدويــن الجمــال؟‬
‫السادســة والخمســين بكثيــر‪ ،‬لكـ ّـن‬ ‫السـ ّـيد (بلوشــال) عملــه أخيـ ًـرا كان قــد تجــاوز ّ‬ ‫عندمــا أنهــى َّ‬
‫يقلــل إحساســه ّ‬‫ّ‬
‫والنجــاز‪.‬‬ ‫بالرضــا إ‬ ‫ذلــك لــم‬
‫ً أّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫أ‬
‫فــي المقابــل مــا عــدد الشــخاص الذيــن يســتطيعون القــول إن حياتهــم لــم تكــن عبثــا؛ لنهــم‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫التقطــوا الجمــال؟ ظــل هنالــك أمــر واحــد عليــه القيــام بــه‪ ،‬فقــد كان هنــاك مســاحة متبقيــة تكفــي‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫الخيــرة مــن ّ‬ ‫أ‬ ‫لكلمتيــن أخرييــن فقــط فــي أســفل ّ‬
‫الدفتــر الممتلــئ عــن آخــره‪ ،‬فرقــق خطــه‬ ‫الصفحــة‬
‫ـخيا ً‬
‫ناعمــا وسـ ًّ‬
‫لكنــه كان ً‬‫صارمــا ّ‬
‫الولــى منــذ أن بــدأ الكتابــة‪ ،‬مــا زال ً‬ ‫ّ أ‬
‫أيضــا‪ ،‬كمــا يفتــرض‬ ‫للمــرة‬
‫ّ‬
‫الدفتــر وســحب الغــاف الخلفـ ّـي وراءه‪ ،‬كمــا لــو أنــه كان يرخــي ً‬ ‫بالتوقيــع أن يكــون‪ .‬دخــل ّ‬ ‫ّ‬
‫جفنــا‬
‫ً‬
‫ثقيــا‪.‬‬

‫‪158‬‬
‫ٌةفيدر ٌصصق ‪ -‬عيبلل لزنم‬

‫منزل للبيع‬

‫فــوق البــاب‪ ،‬بــاب خشــبي واهــي المفاصــل‪ ،‬يــدع رمــل الحديقــة الصغيــرة يختلــط بتربــة‬
‫أ‬
‫الطريــق علــى بســطة مــن الرض‪ .‬كانــت الفتــة معلقــة منــذ أمــد بعيــد‪ ،‬ســاكنة في شــمس الصيف‪،‬‬
‫أيضــا‪( :‬منــزل‬ ‫معذبــة تمكــو‪ 1‬فــي ريــح الخريــف‪ ،‬عليهــا‪( :‬منــزل للبيــع) ولعلهــا كانــت تقــول ً‬
‫مهجــور)‪ ،‬فقــد كان الصمــت يكتنــف الــدار‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ًّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫خفيضــا مزرقــا يصعــد مــن آجــر المدخنــة الــذي‬ ‫ولكــن ام ـرأ كان يقيــم هنــاك‪ .‬فــإن دخانــا‬
‫ّ‬ ‫ً‬
‫يعلــو الجــدار قليــا‪ ،‬كان ينـ ّـم عــن حيــاة خفيــة‪ ،‬متكتمــة‪ ،‬حزينــة كهــذا الدخــان الــذي ينبعــث‬
‫مــن نــار الفق ـراء‪ .‬ثــم مــن خــال ألــواح البــاب المزعزعــة‪ ،‬مــا كنــت تحــس إالهمــال والخــواء‪،‬‬
‫ً‬
‫بيعــا أو رحيــا‪ ،‬بــل كنــت تــرى مم ـرات مســتقيمة التخطيــط‬ ‫وهــذا الجــو ّالــذي يســبق ويعلــن ً‬
‫ّ‬ ‫ُ ً‬
‫وع ُرشــا مســتديرة مشــذبة‪ ،‬ومســاقي بجــوار الحــوض‪ ،‬وأدوات بســتاني مســندة إلــى البيــت الصغيــر‪.‬‬
‫أ‬
‫لــم يكــن ذلــك الربــع ســوى بيــت مــن بيــوت الفالحيــن‪ ،‬يتــوازن علــى هــذه الرض المنحــدرة‬
‫أ‬ ‫أ‬
‫بســلم صغيــر قــد نحــى الطابــق الول جهــة الظــل والطابــق الرضــي جهــة الجنــوب‪ .‬ومــن تلــك‬
‫الجهــة كان يخيــل إليــك أنــه معمــل مــن معامــل إالنبــات‪ ،‬فقــد رصــت علــى درجــات الســلم‬
‫أ‬
‫نواقيــس زجاجيــة‪ ،‬وأصــص فارغــة مقلوبــة‪ ،‬منضــودة علــى الرمــل البيــض الســاخن‪ ،‬وأخــرى قــد‬
‫نمــا فيهــا (الجيرانيــوم) و(الفرفيــن)‪ ،‬بيــد أن الحديقــة كلهــا‪ ،‬فيمــا عــدا شــجرتين أو ثالثــا مــن شــجر‬
‫الســرج الفــارع‪ ،‬كانــت تحــت وهــج الشــمس‪ .‬وكانــت تمتــد فــي النــور الســاطع مروحــة مــن أشــجار‬
‫الفاكهــة‪ ،‬قائمــة علــى أســاك حديديــة‪ ،‬أو معروشــة‪ ،‬وقــد انتزعــت بعــض أوراقهــا‪ ،‬إعـ ً‬
‫ـدادا للثمــرة‬
‫ً‬ ‫ليــس غيــر‪ ،‬كمــا اصطفــت ً‬
‫أيضــا أغـراس مــن الشــليك وأغـراس مــن البــازالء تتســلق قضبانــا طويلــة‬
‫أ‬
‫مثبتــة فــي الرض‪ .‬وفــي وســط هــذا كلــه‪ ،‬وســط هــذا النظــام وهــذا الهــدوء‪ ،‬كان رجــل عجــوز ذو‬
‫قبعــة مــن الخــوص يجــوس خــال المســالك طــول النهــار‪ ،‬يــروي فــي الســاعات الرطيبــة‪ ،‬ويقتطــع‪،‬‬
‫أ‬ ‫أ‬
‫ويشــذب الغصــان‪ ،‬ويســوي الفاريــز‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫هــذا الشــيخ لــم يكــن يعــرف أحـ ًـدا فــي البلــد‪ .‬لــم يكــن يطرقــه زائــر قــط ‪-‬اللهــم إل عربــة‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫الخبــاز التــي كانــت تقــف بــكل بــاب فــي شــارع القريــة الوحيــد‪ -‬وأحيانــا كان يــرى الالفتــة عابــر‬

‫‪ )1‬تمكو‪ :‬تصفر‪ ،‬تصدر ً‬


‫صفيرا‪.‬‬

‫‪159‬‬
‫عشر‬
‫َ‬ ‫الصف الثّاين‬

‫ّ‬
‫مــن النــاس يلتمــس قطعــة مــن أراضــي الســفح هــذه الغنيــة الخصبــة التــي تمنــح بســاتين جميلــة‪،‬‬
‫أ‬
‫المــر‪ ،‬فــإذا البيــت أصــم‪ .‬ثــم يقــرع ً‬
‫ثانيــا‪ ،‬فيدنــو مــن أقصــى الحديقــة وقــع‬ ‫فيتوقــف‪ .‬يقــرع أول‬
‫(قبقــاب) فــي بــطء وتــؤدة‪ ،‬ويــوارب الشــيخ بابــه متجهــم الوجــه‪:‬‬
‫ ـماذا تريد؟‬
‫ ـهل المنزل للبيع؟‬
‫فيجيب الرجل الطيب القلب في جهد‪:‬‬
‫غاليا ًّ‬
‫جدا‪...‬‬ ‫مقدما إنهم يطلبون عنه ً‬
‫ثمنا ً‬ ‫ ـنعم‪ ...‬ولكنني أقول لك ً‬

‫وكانــت يــده المتأهبــة إلغــاق البــاب تســده عليــك‪ .‬وكانــت عينــاه تطردانــك‪ ،‬فمــا أشــد مــا‬
‫قائمــا كالفــارس علــى حراســة أحواضــه وخضــره‬ ‫كانتــا تظه ـران مــن الســخط‪ ،‬وكان يظــل هنــاك ً‬
‫وفنائــه الصغيــر المفــروش بالرمــل‪ .‬وإذ ذلــك كان النــاس يتابعــون ســبيلهم وهــم يســائلون أنفســهم‪:‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫مــن ت ـراه يكــون هــذا المخبــول الــذي عرضــوا لــه؟ وأي جنــون هــذا الــذي يحملــه علــى إالعــان‬
‫عــن بيــع منزلــه بهــذه الرغبــة الملحــة فــي االحتفــاظ بــه؟‬
‫ً‬
‫وأخيـ ًـرا وضــح لــي هــذا الســر‪ .‬ذات يــوم‪ ،‬وأنــا مــار أمــام البيــت الصغيــر‪ ،‬ســمعت أصواتــا‬
‫ـب مناقشــة حاميــة‪:‬‬ ‫ثائــرة‪ ،‬صخـ َ‬

‫ ـيجب البيع يا أبتاه‪ ،‬يجب البيع‪ ...‬لقد وعدت بذلك‪...‬‬


‫ ـوصوت الشيخ متهدج مرتعش يقول‪:‬‬
‫ ـفإني يا أوالدي ال أطلب أفضل من البيع‪ ...‬أما ترون؟ لقد وضعت الالفتة‪.‬‬
‫وهكــذا علمــت أن هــؤالء هــم أبنــاؤه وكنائنــه‪ ،‬تجــار مــن صغــار أصحــاب الحوانيــت فــي‬
‫أ‬
‫(باريــس)‪ ،‬يحملونــه علــى أن يتخلــص مــن هــذا الركــن الحبيــب لي ســبب! هــذا مــا كنــت أجهلــه‪.‬‬
‫أ‬
‫أمــا المؤكــد فهــو أنهــم بــدؤوا يلمســون أن المــر قــد طــال‪ ،‬وأن الشــيخ يماطلهــم‪ ،‬ومنــذ ذلــك‬
‫أ‬ ‫أ‬
‫الوقــت‪ ،‬أقبلــوا بانتظــام‪ ،‬يــوم الحــد حيــن تســتريح الرض ذاتهــا مــن كونهــا قــد حرثــت وبــذرت‬
‫أ‬
‫طــوال الســبوع‪ ،‬كنــت أســمع ذلــك جليــا‪ .‬كان التجــار الصغــار يتحدثــون‪ ،‬ويتجادلــون فيمــا بينهــم‬
‫ّ‬ ‫أ‬ ‫ً‬ ‫وهــم يلعبــون لعبــة البرميــل‪ ،‬وكانــت كلمــة النقــود تــرن ً‬
‫رنينــا جافــا كهــذه القـراص التــي يقذفونهــا‪.‬‬
‫وفــي المســاء كان الجميــع يرحلــون‪ ،‬وكان الرجــل الطيــب القلــب‪ ،‬بعــد أن يرافقهــم فــي الطريــق‬

‫‪160‬‬
‫ٌةفيدر ٌصصق ‪ -‬عيبلل لزنم‬

‫ً‬
‫مبتهجــا وقــد ظفــر بمهلــة‬ ‫ـرعا فيغلــق مــن جديــد بابــه الغليــظ سـ ً‬
‫ـعيدا‬ ‫بضــع خطــوات يعــود مسـ ً‬
‫أمامــه لمــدة أســبوع‪ .‬ويســتعيد البيــت ســكونه‪ ،‬ويظــل ســاكنا ثمانيــة أيــام‪ ،‬فمــا تســمع فــي الحديقة‬
‫الصغيــرة ّالتــي تلفحهــا الشــمس ّإل صــوت الرمــل يســحقه ُ‬
‫وطء قــدم ثقيلــة أو تجرفــه المجرفــة‪.‬‬
‫علــى أنهــم مــن أســبوع إلــى أســبوع راحــوا يضيقــون الخنــاق علــى الشــيخ‪ .‬ولــم يدخــر التجــار‬
‫أ‬
‫الصغــار وســيلة مــن الوســائل‪ ،‬أحضــروا الحفــاد إلغرائــه‪( :‬أتــرى يــا جدنــا حيــن يبــاع البيــت‬
‫ً‬ ‫ســتأتي لتســكن معنــا‪ .‬وكــم ســنكون ســعيدين ً‬
‫معــا!) ثــم كانــت أحاديثــا متفرقــة يلقيهــا كل امــرئ‬
‫لنفســه فــي ركــن مــن أركان البيــت علــى حــدة‪ ،‬ومشــي خــال مم ـرات الحديقــة ال يقــف عنــد‬
‫حــد‪ ،‬ومســائل حســابية يجريهــا بصــوت مرتفــع‪ .‬ومــرة ســمعت إحــدى البنــات تصيــح‪:‬‬
‫ ـهذا الخص‪ 1‬ال يساوي مائة سو‪ ...2‬إنه خليق بأن يهدم‪.‬‬
‫ً‬
‫وكان الشــيخ يصغــي دون أن يقــول شــيئا‪ .‬كانــوا هــم يتكلمــون عنــه كأنــه قــد مــات‪ ،‬وعــن‬
‫داره كأنهــا قــد هدمــت بالفعــل‪ .‬فــكان يتجنبهــم ويمشــي‪ ،‬أحــدب الظهــر‪ ،‬والدمــوع مــلء عينيــه‪،‬‬
‫ّ‬ ‫ملتمســا كعادتــه ً‬
‫ً‬
‫غصنــا يشــذبه أو ثمــرة يعنــي بهــا فــي أثنــاء مــروره‪ ،‬وإنــك لتحــس أن حياتــه‬
‫ً‬ ‫أ‬
‫قــد تغلغلــت جذورهــا فــي هــذا الركــن الصغيــر مــن الرض تغلغــا لــن يبعــث فيــه القــدرة علــى‬
‫اجتثــاث نفســه منــه‪ .‬والحــق أنــه كان‪ -‬مهمــا تفننــوا فــي إغرائــه‪ -‬يرجــئ ً‬
‫دائمــا لحظــة الرحيــل‪ .‬فــي‬
‫ّ‬
‫الصيــف حيــن تنضــج هــذه الثمــار التــي يوحــي إليــك مذاقهــا الحمضــي بعــض الشــيء بــأن الســنة‬
‫مــا زالــت فــي نضرتهــا وريعانهــا‪ ،‬ثمــار الكــرز‪ ،‬والبرقــوق‪ ،‬والمشــمش‪ ،‬كان يقــول‪:‬‬
‫ ـلننتظر المحصول‪ ...‬سأبيع بعده مباشرة‪.‬‬
‫وبعــد المحصــول‪ ،‬بعــد انقضــاء موســم الكــرز‪ ،‬يأتــي موســم الخــوخ‪ ،‬ثــم العنــب‪ ،‬وبعــد العنــب‬
‫ّ‬
‫تأتــي ثمــار (النيفــل) الســمراء الجميلــة التــي يــكاد المــرء يجنيهــا تحــت الجليــد‪ .‬وحينئــذ يصــل‬
‫آ‬
‫الشــتاء فيســود الريــف‪ ،‬وتخلــو الحديقــة‪ .‬الن ال مــارة‪ ،‬وال ش ـراة‪ ،‬بــل وال التجــار الصغــار يــوم‬
‫أ‬
‫الحــد‪ ،‬وإنمــا ثالثــة أشــهر عريضــة مــن الراحــة إلعــداد البــذار‪ ،‬وتقليــم الفاكهــة‪ ،‬بينمــا تتأرجــح‬
‫علــى الطريــق الالفتــة الباطلــة‪ ،‬وقــد قلبهــا المطــر والريــح‪.‬‬
‫أ‬ ‫أ‬
‫وعلــى مــر اليــام‪ ،‬فــرغ صبــر البنــاء‪ ،‬واقتنعــوا بــأن الشــيخ كان يبــذل كل مــا فــي وســعه‬

‫أ‬ ‫ّ‬
‫الخص‪ :‬بيت من قصب أو من أغصان الشجار‪.‬‬ ‫‪ )1‬‬
‫‪  )2‬سو‪ :‬قطعة بازل‪.‬‬

‫‪161‬‬
‫عشر‬
‫َ‬ ‫الصف الثّاين‬

‫إلقصــاء المشــترين‪ ،‬فاتخــذوا ق ـر ًارا حاسـ ًـما‪ .‬قدمــت إحــدى الكنــات واســتقرت بجانبــه‪ ،‬وتلــك‬
‫امـرأة صغيــرة مــن نســاء الدكاكيــن حاليــة منــذ الصبــاح‪ ،‬بارعــة فــي إظهــار الحفــاوة وتكلــف الرقــة‬
‫والتلطــف فــي المجاملــة براعــة الذيــن اعتــادوا التجــارة‪ .‬وكأن الطريــق قــد أصبــح ملكهــا‪ .‬فقــد‬
‫كانــت تفتــح البــاب علــى مصراعيــه‪ ،‬تتحــدث وتلغــو‪ ،‬وتبتســم للمــارة كأنمــا تقــول لهــم‪:‬‬
‫ ـادخلوا‪ ...‬انظروا‪ ...‬إن المنزل للبيع!‬
‫ً‬
‫ولــم تعــد للشــيخ المســكين مهلــة بعــد ذلــك‪ .‬أحيانــا كان يحــاول أن ينســى أنها هنــاك‪ ،‬فينصرف‬
‫إلــى تقليــب حياضــه وبذرهــا مــن جديــد‪ ،‬كهــؤالء النــاس الذيــن يوشــكون علــى المــوت ويحبــون‬
‫القيــام بمشــروعات ليخدعــوا مخاوفهــم‪ .‬ولكــن البائعــة كانــت تتبعــه طيلــة الوقــت وتنغــص عليــه‪.‬‬
‫ ـدع! ما انتفاعك بهذا؟‪ ..‬أو من أجل سواك تجشم نفسك كل هذا التعب؟‬
‫فمــا كان يجيبهــا‪ ،‬وإنمــا كان ينكــب علــى عملــه فــي عنــاد غريــب‪ .‬إن تــرك حديقتــه لعيــن‬
‫إالهمــال‪ ،‬معنــاه فقدانهــا بعــض الفقــدان منــذ ذلــك الوقــت‪ ،‬وبــدء انفصالــه عنهــا‪ .‬ولهــذا مــا كنــت‬
‫غصنــا ًّ‬
‫طفيليــا‪.‬‬ ‫ـودا واحـ ًـدا مــن العشــب‪ ،‬وال فــي شــجيرات الــورد ً‬ ‫تجــد فــي المم ـرات عـ ً‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫معروضــا للبيــع‪ ،‬ولكــن الشـراة لــم يتقدمــوا‪ .‬ذلــك أن الحــرب قــد نشــبت‪ .‬وعبثــا‬ ‫وظــل البيــت‬
‫ثابــرت الم ـرأة علــى فتــح بابهــا‪ ،‬وإرســال النظ ـرات المعس ـولة إلــى الطريــق‪ ،‬فلــم يكــن يمــر غيــر‬
‫ّ‬ ‫أ‬
‫النازحيــن عــن الرض ولــم يكــن يدخــل إل الغبــار‪ .‬واشــتد غيــظ الســيدة مــن يــوم إلــى يــوم‪ ،‬وال‬
‫لومــا ً‬
‫وتأنيبــا‪،‬‬ ‫ســيما وقــد كانــت أعمالهــا فــي (باريــس) تســتدعيها‪ :‬كنــت أســمعها توســع حماهــا ً‬
‫ً‬ ‫أ‬
‫وتقســو فــي الهجــوم عليــه‪ ،‬وتخبــط البــواب‪ ،‬وأمــا الشــيخ فــكان يحنــي ظهــره دون أن يقــول شــيئا‪،‬‬
‫ويتعــزى إذ يبصــر بــازاله الصغيــرة تنمــو‪ ،‬والالفتــة معلقــة فــي مكانهــا ً‬
‫دائمــا‪( :‬منــزل للبيــع)‪.‬‬
‫وفــي هــذا العام‪،‬عندمــا وصلــت إلــى الريــف وجــدت المنــزل‪ ،‬وعرفتــه ولكــن واحســرتاه لــم‬
‫تكــن الالفتــة هنــاك! كانــت إعالنــات ممزقــة باليــة لــم تبــرح عالقــة بأوجــه الجــدران‪ .‬لقــد قضــي‬
‫أ‬
‫المــر‪ ،‬وباعــوه!‪ ..‬وفــي مــكان البوابــة الرماديــة الكبيــرة أصبــح ًبابــا أخضــر حديــث الطــاء‪ ،‬تعلــوه‬
‫عتبــة مســتديرة‪ ،‬وتنفتــح فيــه نافــذة ذات قضبــان تلــوح مــن ورائهــا الحديقــة‪ .‬ولــم تعــد الحديقــة‬
‫ً‬ ‫ذلــك البســتان ّالــذي كنــت أعهــده هنــاك ً‬
‫قديمــا‪ ،‬بــل غــدت خليطــا بورجوازيــا مــن الســال‪،‬‬
‫والخضــرة‪ ،‬ومســاقط المــاء وصــورة لهــذا كلــه تنعكــس علــى كــرة معدنيــة تتأرجــح أمــام الــدرج‪.‬‬
‫أ‬ ‫ً‬
‫وفــي هــذه الكــرة‪ ،‬بــدت المم ـرات صفوفــا مــن الزهــار الزاهيــة‪ ،‬وامتــد شكلان فــي كثيــر مــن‬

‫‪162‬‬
‫ٌةفيدر ٌصصق ‪ -‬عيبلل لزنم‬

‫المبالغــة والتهويــل‪ :‬رجــل ســمين أحمــر‪ ،‬غــارق فــي عــرق غزيــر‪ ،‬غائــص فــي كرســي مــن كراســي‬
‫أ‬
‫النزهــة الخاويــة‪ ،‬وســيدة ضخمــة الهثــة النفــاس‪ ،‬تصبــح وهــي تطــرح مســقاة بيدهــا‪:‬‬
‫ثمنا للبلسمين أربعة عشر؟‬‫ ـلقد دفعت ً‬
‫ّ‬ ‫ً‬
‫وكانــوا قــد شــيدوا طابقــا‪ ،‬وجــددوا الســياج‪ ،‬وفــي هــذا الركــن الصغيــر المســتطرف‪ ،‬الــذي‬
‫مازالــت تفــوح منــه رائحــة الطــاء‪ ،‬كان (بيانــو) يعــزف مــلء الريــح مقطوعــات صاخبــة شــائعة‬
‫ّ‬ ‫أ‬
‫وألحانــا جذلــى ممــا تــردده حلبــات الرقــص العامــة‪ .‬وهــذه النغــام الراقصــة التــي كانــت تنطلــق إلى‬
‫أ‬
‫الطريــق نابضــة حــارة مختلطــة بقتــام يوليــة الكثيــف‪ ،‬وعجيــج تلــك الزهــار الضخمــة‪ ،‬والســيدات‬
‫الضخمــات‪ ،‬هــذا المــرح الفيــاض الغامــر‪ ،‬هــذا المــرح الســوقي المبتــذل‪ ،‬كان يقبــض قلبــي‪..‬‬ ‫ْ‬
‫وادعــا سـ ً‬
‫ـعيدا‪ ،‬ثــم أتمثلــه فــي‬ ‫اضيــا ً‬‫كنــت أفكــر فــي الشــيخ المســكين ّالــذي كان يتمشــى هنــا ر ً‬
‫(باريــس)‪ ،‬وقبعــة الخــوض علــى رأســه‪ ،‬وحدبــة البســتاني العجــوز فــي ظهــره‪ً ،‬‬
‫هائمــا فــي أعمــاق‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫ضيقــا بأمــره‪ً ،‬‬
‫حييــا‪ ،‬مســحونا بالدمــوع‪ ،‬بينمــا تتبــوأ زوجــة ابنــه الظافــرة خزانــة جديــدة‪،‬‬ ‫دكان مــا‪،‬‬
‫تــرن فيهــا قطــع ذهبيــة هــي ثمــن البيــت الصغيــر‪.‬‬

‫‪163‬‬
‫عشر‬
‫َ‬ ‫الصف الثّاين‬

‫‪164‬‬
‫ٌةفيدر ٌصصق ‪ -‬بابشلا عوبني‬

‫ينبوع الشباب‬
‫ناثانيل هوثورن‬

‫دعــا رجــل فريــد فــي زمانــه يدعــى الدكتــور (هايديغــر) أربعــة مــن أصدقائــه المحترميــن‬
‫ً‬
‫ليجتمعــوا إليــه فــي مكتبــه؛ كان ثالثــة منهــم رجــال ذوي ًلحــى بيضــاء‪ ،‬هــم الســيد (مدبــورن)‪،‬‬
‫أ‬
‫والكولونيــل (كيليغــرو)‪ ،‬والســيد (غاســكون)‪ ،‬والرابعــة ســيدة مســنة ذاويــة تدعــى الرملــة‬
‫(ويشــرلي)‪.‬‬
‫كانــوا جميعهــم مســنين ذوي مــزاج ســوداوي‪ ،‬تعســاء فــي حياتهــم‪ ،‬مصيبتهــم الكبــرى فــي‬
‫الحيــاة أنهــم لــم يــواروا فــي قبورهــم منــذ زمــن طويــل؛ كان الســيد (مدبــورن) إبــان شــبابه تاجـ ًـرا‬
‫آ‬
‫ناج ًحــا‪ ،‬ولكنــه أضــاع كل مــا يملكــه فــي مضاربــة جنونيــة حيــث أصبــح الن ال يفضــل المتسـولين‬ ‫ِ‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫إل قليــا‪ .‬أمــا الكولونيــل (كيليغــرو) فقــد أتلــف أحســن ســنيه وصحتــه وكل مــا يعيــش عليــه فــي‬
‫آ‬
‫مطــاردة ملــذات الخطيئــة‪ ،‬حتــى ســببت لــه سلســلة مــن الالم كــداء النقــرس‪ ،‬ومــا إليــه مــن‬
‫ًّ‬ ‫ً‬ ‫أوجــاع تعــذب الجســد والــروح ً‬
‫مقضيــا عليــه‪،‬‬ ‫معــا‪ .‬ولكــن الســيد (غاســكون) كان سياسـ ًـيا فاشــا‬
‫أ‬ ‫ً‬
‫ورجــا ذا شــهرة ســيئة‪ ،‬أو علــى القــل كان ذلــك حتــى طمــره الزمــان مــن معرفــة الجيــل الحاضــر‪،‬‬
‫وجعلــه مغمـ ً‬
‫ـورا إضافــة إلــى أنــه ســيء الســمعة‪.‬‬
‫أ‬
‫أمــا الرملــة (ويشــرلي) فقــد أثــر عنهــا أنهــا كانــت ذات جمــال فتــان فــي شــبابها‪ ،‬ولكنهــا لزمــن‬
‫أ‬
‫طويــل مضــى عاشــت فــي عزلــة بســبب حكايــات مــ�ى بالفضائــح‪ ،‬ممــا جعــل الطبقــة النبيلــة‬
‫ً‬
‫فــي البلــدة تتحامــل عليهــا‪ .‬وممــا هــو جديــر بالذكــر أن لك مــن هــؤالء الثالثــة‪( :‬الســيد مدبــورن‪،‬‬
‫ً‬ ‫أ‬
‫والكولونيــل كيليغــرو‪ ،‬والســيد غاســكون) كان يتــودد للرملــة (ويشــرلي)‪ ،‬وأن لك منهــم كان مــرة‬
‫آ‬
‫علــى وشــك أن يفتــك بالخــر بســببها‪.‬‬
‫أ‬
‫وقبــل أن أتابــع قصتــي أود أن ألمــح أن الدكتــور (هايديفــر) وضيوفــه الربعــة قــد قيــل عنهــم‬
‫ـادرا مــع أنــاس مســنين‬ ‫جميعــا أن عقولهــم ليســت علــى مســتواها الطبيعــي ً‬
‫تمامــا‪ ،‬وهــذا ليــس نـ ً‬ ‫ً‬
‫مثقليــن إمــا بمنغصــات الحاضــر أو بذكريــات تعاســة ماضيــة‪.‬‬
‫قــال الدكتــور (هايديغــر) وهــو يشــير إليهــم بالجلــوس‪" :‬إنــي أرغــب يــا أصدقائــي القدامــى أن‬

‫* كاتب أمريكي (‪.)1804-1864‬‬

‫‪165‬‬
‫عشر‬
‫َ‬ ‫الصف الثّاين‬

‫ّ‬
‫تســاعدونني فــي تجربــة مــن تلــك التجــارب التــي امتــع نفســي بهــا هنــا فــي مكتبــي"‪.‬‬
‫إذا صدقــت كل الروايــات‪ ،‬فــإن مكتــب الدكتــور (هايديغــر) يجــب أن يدعــو إلــى االســتغراب‬
‫جـ ًّـدا‪ .‬فهــو غرفــة معتمــة علــى الطـراز القديــم‪ ،‬موشــاة بأنســجة العنكبــوت ومنثــورة بأغبــرة أثريــة‪.‬‬
‫وحــول الجــدران قامــت عــدة مكتبــات مــن خشــب البلــوط‪ ،‬اكتظــت رفوفهــا الســفلى بصفــوف‬
‫مــن مجلــدات ضخمــة بأحــرف ســوداء‪ .‬وفــوق المكتبــة الوســطى وقــف تمثــال نصفــي مــن البرونــز‬
‫أ‬
‫لبــي الطــب أبق ـراط الــذي ‪-‬بموجــب مصــادر يوثــق بهــا‪ -‬كان مــن دأب الدكتــور (هايديغــر) أن‬
‫يأخــذ بمشــورته فــي جميــع القضايــا الصعبــة مــن تجاربــه‪ ،‬وفــي أظلــم زاويــة مــن الغرفــة انتصبــت‬
‫خزانــة عاليــة ضيقــة مــن الســنديان‪ ،‬بابهــا مفتــوح نصــف فتحــة‪ ،‬يطــل مــن خاللهــا هيــكل عظمــي‪،‬‬
‫وبيــن المكتبتيــن علقــت مــرآة صفحتهــا الصقيلــة مغبــرة‪ ،‬وهــي فــي إطــار مذهــب متســخ‪ .‬ومــن‬
‫ّ‬
‫بيــن الحكايــات العجيبــة العديــدة التــي راجــت حــول هــذه المــرآة خرافــة تقــول‪ :‬إن أرواح جميــع‬
‫المرضــى الذيــن ماتــوا علــى يــد الدكتــور ســكنت فــي نطاقهــا‪ ،‬لتحملــق فــي جهــة كلمــا ألقــى نظــرة‬
‫عليهــا‪ ،‬وفــي الجهــة المقابلــة مــن الغرفــة انتصبــت صــورة مزخرفــة فــي الحجــم الطبيعــي لفتــاة فــي‬
‫أ‬
‫ريعــان الشــباب فــي حلــة مــن الحريــر والطلــس والقمــاش المشــجر‪ ،‬ذهــب بهاؤهــا كمــا ذهــب‬
‫بهــاء محياهــا‪.‬‬
‫قبــل أكثــر مــن نصــف قــرن كان الدكتــور (هايديغــر) علــى وشــك الــزواج مــن هــذه الفتــاة‬
‫آ‬
‫الشــابة‪ ،‬ولكنهــا ماتــت عشــية زفافهــا‪ .‬والن بقــي هنــاك شــيء واحــد ممــا يثيــر أشــد االســتغراب‪،‬‬
‫مجلــد ضخــم ثقيــل مغلــف بجلــد أســود مكســو بشــبكة فضيــة ضخمــة‪ ،‬لــم تكــن هنــاك أيــة كتابــة‬
‫علــى ظهــره‪ ،‬وال أحــد اســتطاع أن يتكهــن بعنــوان الكتــاب‪.‬‬
‫هكــذا كان مكتــب الدكتــور (هايديغــر)‪ .‬وفــي عصــر ذلــك اليــوم الصيفــي مــن قصتنــا هــذه‪،‬‬
‫أ‬
‫انتصبــت مائــدة صغيــرة مســتديرة‪ ،‬ســوداء كالبنــوس‪ ،‬فــي منتصــف الغرفــة‪ ،‬عليهــا إنــاء زجــاج‬
‫صخــري بديــع الشــكل والصنــع‪ ،‬ودخلــت أشــعة الشــمس مــن الشــباك مــن فرجــة ســتار مــن‬
‫الدمقــس حائــل اللــون مزركــش الحواشــي‪ ،‬ونفــذت مباشــرة خــال هــذا إالنــاء‪ ،‬فانعكــس منــه‬
‫أ‬
‫بهــاء لطيــف علــى محيــا الشــخاص الخمســة الرماديــة الجالســين حولــه‪ .‬وكانــت هنــاك أربــع‬
‫كــؤوس خاليــة‪ُ ،‬وضعــت ً‬
‫أيضــا علــى المائــدة‪.‬‬
‫ً‬
‫كــرر الدكتــور (هايديغــر) قائــا‪" :‬يــا أصدقائــي المســنين هــل لــي أن اعتمــد علــى مســاعدتكم‬

‫‪166‬‬
‫ٌةفيدر ٌصصق ‪ -‬بابشلا عوبني‬

‫فــي إنجــاز تجربــة فــي غايــة الغرابــة؟"‬


‫أ‬ ‫أ‬
‫متقدمــا فــي العمــر غريــب الطــوار جـ ًّـدا‪ ،‬حتــى أصبــح نــواة للــف‬ ‫ً‬ ‫كان الدكتــور (هايديغــر)‬
‫أ‬
‫حكايــة عجيبــة‪ ،‬وبعــض هــذه الســاطير‪ ،‬أقصهــا وكلــي خجــل‪ ،‬ترجــع إلــى طبيعتــي الصدوقــة‪،‬‬
‫وإذا كان فــي القصــة الحاليــة مــا يزعــزع إيمــان القــارئ‪ ،‬فحســبي أن أوصــم بأننــي مــروج خرافــات!‬
‫الربعــة عــن التجربــة المرتقبــة‪ ،‬لــم يتوقعــوا شـ ًـيئا ً‬ ‫أ‬
‫عجيبــا أكثــر‬ ‫عندمــا ســمع ضيــوف الدكتــور‬
‫مــن قتــل فــأر بمضخــة هوائيــة‪ ،‬أو فحــص نســيج عنكبــوت بالمجهــر‪ ،‬أو عبــث مشــابه كان ً‬
‫دومــا‬
‫ـادا أن يقدمــه إلــى أصدقائــه المقربيــن‪ ،‬ولكــن دون أن ينتظــر منهــم ً‬
‫جوابــا هــرول الدكتــور‬ ‫معتـ ً‬
‫فــي مشــيته المقلقــة عبــر الغرفــة‪ ،‬ثــم رجــع بذلــك المجلــد الثقيــل الضخــم المغلــف بجلــد أســود‪،‬‬
‫ّ‬
‫الــذي أكــدت التقاريــر الرائجــة أنــه كتــاب ســحر‪ ،‬وبعــد أن فــك المشــابك الفضيــة فتــح المجلــد‪،‬‬
‫أ‬
‫وأخــذ مــن بيــن ثنايــا صفحاتــه ذات الحــرف الســوداء وردة‪ ،‬أو مــا كان مــن قبــل يدعــى وردة‪،‬‬
‫ً‬
‫أخــذت أوراقهــا الخضـراء ووريقاتهــا القرمزيــة لونــا ًبنيــا‪ ،‬وبــدت الــوردة قديمــة وكأنهــا تتفتــت بيــن‬
‫يــدي الدكتــور‪.‬‬
‫قــال الدكتــور (هايديغــر) وهــو يتنهــد‪" :‬هــذه الــوردة هــذه الــوردة الذابلــة المتداعيــة أينعــت قبل‬
‫ّ‬
‫خمــس وخمســين ســنة‪ ،‬كانــت قــد أهديــت لــي مــن (ســلفيا) التــي تــرون صورتهــا معلقــة هنــاك‪،‬‬
‫وكنــت قــد نويــت أن أزيــن بهــا صــدري يــوم زواجنــا‪ ،‬ولقــد احتفظــت بهــا لخمــس وخمســين ســنة‬
‫آ‬
‫بيــن أوراق هــذا المجلــد العتيــق‪ ،‬والن‪ ،‬هــل تعتقــدون أن هــذه الــوردة‪ ،‬بعــد مــرور نصــف قــرن‬
‫عليهــا‪ ،‬مــن الممكــن أن تينــع مــرة أخــرى؟"‬
‫فأجاب الدكتور (هايديغر)‪" :‬انظروا!"‬
‫ّ‬
‫وكشــف إالنــاء ورمــى الــوردة المتيبســة فــي المــاء الــذي يحتويــه‪ ،‬طفــت الــوردة مــن البدايــة‬
‫ً‬
‫علــى وجــه الســائل‪ ،‬وبــدت كأنهــا تمتــص شــيئا مــن رطوبتــه‪ ،‬ولكــن لــم تمــض برهــة حتــى بــدا‬
‫ًّ‬ ‫ً‬
‫قرمزيــا‬ ‫عليهــا تغييــر عجيــب؛ لقــد تحركــت الوريقــات الجافــة المضغوطــة‪ ،‬وبــدأت تتخــذ لونــا‬
‫أ‬
‫يغمــق بالتدريــج‪ ،‬كأنمــا الــوردة تنتعــش مــن ســبات أشــبه بالموت‪ ،‬الســاق الرشــيق وعــروق الوراق‬
‫أصبحــت خضـراء‪ .‬وهنــاك بــدت وردة نصــف القــرن يانعــة‪ ...‬ولكنهــا لــم تكــن فــي كمــال التفتــح‪.‬‬
‫أ‬ ‫ً‬
‫فقــال أصدقــاء الدكتــور بعــدم اكت ـراث‪ :‬حقــا‪ ،‬إن هــذا لخــداع لطيــف جـ ًّـدا‪" .‬وذلــك لنهــم‬
‫ســبق أن شــاهدوا أعاجيــب أعظــم مــن هــذه فــي حفــات الحــواة‪ ،‬ولكنهــم أردفــوا قائليــن‪" :‬ولكــن‬

‫‪167‬‬
‫عشر‬
‫َ‬ ‫الصف الثّاين‬

‫بحقــك أخبرنــا كيــف أنجــزت هــذا؟"‬


‫ّ‬ ‫ً‬
‫فســألهم الدكتــور (هايديغــر)‪" :‬ألــم تســمعوا مطلقــا بينبــوع الشــباب الــذي بحــث عنــه (بونــس‬
‫أ‬
‫دي ليــون) المغامــر الســباني لقرنيــن أو ثالثــة قــرون خلــت؟"‬
‫أ‬
‫فقالت الرملة (ويشرلي)‪ :‬ولكن هل وجده (بونس دي ليون)؟‬
‫ً‬ ‫أ‬
‫قــال الدكتــور‪ :‬الك لنــه لــم يبحــث عنــه مطلقــا فــي المــكان الحقيقــي‪ ،‬وإذا كنــت علــى صــواب‬
‫فإنــي أعتقــد أن ينبــوع الشــباب يقــع فــي القســم الجنوبــي مــن شــبه جزيــرة فلوريــدا‪ ،‬ليــس بعيـ ًـدا‬
‫أ‬
‫مــن بحيــرة (ماكاكــو)‪ ،‬يكتنــف منبعــه ظــال بضــع أشــجار هائلــة مــن المنغوليــا‪ ،‬وهــذه الشــجار‬
‫رغــم أن عمرهــا قــرون ال تحصــى فإنهــا قــد احتفظــت بنضــارة البنفســج؛ وذلــك بمــا لهــذا المــاء‬
‫ّ‬
‫العجيــب مــن مزايــا‪ ،‬والمــاء الــذي ترونــه فــي إالنــاء أمامكــم أرســله إلــى أحــد أصدقائــي الذيــن‬
‫يعلمــون شــغفي بأمــور كهــذه"‪.‬‬
‫ّ‬
‫فقــال الكولونيــل (كيليغــرو) الــذي لــم يصــدق كلمــة واحــدة مــن حكايــة الدكتــور‪" :‬إحــم!‬
‫ولكــن مــا هــو تأثيــر هــذا الســائل علــى الجســم البشــري؟"‬
‫فأجــاب الدكتــور‪" :‬ســتحكمون علــى هــذا بأنفســكم‪ ،‬وإنــي أرحــب بجميعكــم يــا أصدقائــي‬
‫كافيــا يعيــد إليكــم ريعــان الشــباب‪ ،‬غيــر أننــي‪ ،‬نظـ ًـرا‬ ‫المبجليــن لتنهلــوا مــن هــذا الســائل قـ ً‬
‫ـدرا ً‬
‫لمــا تجشــمته مــن مشــاق عديــدة حتــى بلغــت هــذا العمــر‪ ،‬لســت علــى عجــل فــي رجوعــي إلــى‬
‫ـذرا‪ ،‬فإننــي ســأرقب ســير عمليــة التجربــة فقــط"‪.‬‬ ‫الشــباب ثانيــة‪ ،‬ولــذا أســتميحكم عـ ً‬
‫أ‬ ‫أ‬
‫وبينمــا كان الدكتــور (هايديغــر) يتكلــم كان يمــ� الكــؤوس الربعــة بمــاء ينبــوع الشــباب‪،‬‬
‫ً‬
‫ويبــدو أن المــاء كان مليئــا بغــاز فــوار‪ ،‬إذ كانــت فقاقيــع صغيــرة تصعــد باســتمرار مــن أعمــاق‬
‫ّ‬
‫الكــؤوس‪ ،‬وتنفجــر برشــاش فضــي علــى ســطحة‪ ،‬ونتيجــة للرائحــة الطيبــة التــي فاحــت لــم يشــك‬
‫الشــخاص المســنون فــي أن لــه خـ َّ‬ ‫أ‬
‫ـواص مريحــة تنعــش القلــب‪ ،‬ورغــم أنهــم كانــوا فــي منتهــى‬
‫الشــك مــن ناحيــة قوتــه علــى إرجــاع الشــباب‪ ،‬فقــد تشــوقوا إلــى َع ِّبــه مــرة واحــدة‪ .‬ولكــن الدكتــور‬
‫(هايديغــر) رجاهــم أن ينتظــروا لحظــة‪.‬‬
‫وقــال‪" :‬يــا أصدقائــي المحترميــن‪ ،‬إنــه لمــن المستحســن قبــل أن تشــربوا ‪-‬ولكــم خبــرة حيــاة‬
‫كاملــة ترشــدكم‪ -‬أن تأخــذوا ببضــع قواعــد عامــة تقودكــم في الســير مــرة ثانيــة عبر مخاطر الشــباب؛‬
‫ّ‬
‫ففكــروا فــي الخطيئــة والعــار اللذيــن ســيلحقان بكــم وقــد حزتــم علــى االمتيــازات الفريــدة التــي‬

‫‪168‬‬
‫ٌةفيدر ٌصصق ‪ -‬بابشلا عوبني‬

‫ستكتســبونها‪ ،‬إذا لــم تصبحــوا نمــاذج للفضيلــة والحكمــة لجميــع شــباب العصــر"‪.‬‬
‫ّ‬ ‫أ‬
‫لــم َي ِف ْــه أصدقــاء الدكتــور الربعــة بــأي جــواب‪ -‬اللهــم‪ -‬ســوى ضحكــة مرتعشــة ضعيفــة‪،‬‬
‫لقــد كانــت الفكــرة ســخيفة جـ ًـدا‪ ،‬إنهــم سيشــطون مــرة أخــرى وهــم يعرفــون مــا أقــرب خطــوات‬
‫الندامــة أثــر خطــوات الزلــل‪.‬‬
‫أ‬ ‫ِّ ْ‬
‫قــال الدكتــور وهــو ينحنــي‪" :‬اشــربوا إذن‪ ،‬وكــم يســرني أننــي وفقــت بانتقــاء الشــخاص‬
‫لتجربتــي هــذه"‪.‬‬
‫أ‬
‫وبأيــد مشــلولة رفــع الربعــة الكــؤوس إلــى شــفاههم‪ .‬فــإذا كان الش ـراب يمتلــك تلــك المزايــا‬
‫ّ‬
‫التــي أســبغها الدكتــور (هايديغــر)‪ ،‬لــم تكــن هنــاك مخلوقــات أربعــة بحاجــة إليــه أكثــر منهــم‪ ،‬كان‬
‫َ‬ ‫ً‬
‫مظهرهــم يــدل كأنهــم لــم يعرفــوا الشــباب مطلقــا‪ ،‬كأنهــم نتــاج مجتمــع خـ ِـر ٍف‪ ،‬أنــاس شـ ّـيب أبـ ًـدا‪،‬‬
‫آ‬ ‫ّ‬ ‫تعيســون ً‬
‫دائمــا‪ ،‬عاجــزون‪ ،‬جفــت عصــارة الحيــاة فــي عروقهــم‪ ،‬يجلســون الن منحنيــن حــول‬
‫مائــدة الدكتــور دون حيــاة كافيــة فــي أرواحهــم أو أجســامهم تنتعــش حتــى بفكــرة رجوعهــم إلــى‬
‫الشــباب‪ ،‬كرعــوا المــاء‪ ،‬وأرجعــوا كؤوســهم إلــى المائــدة‪.‬‬
‫ّ‬ ‫َ‬
‫ـان َت ُّ‬
‫مصحوبــا بتوهــج فجائــي كالــذي‬ ‫ً‬ ‫حسـ ٌـن فــوري ال شــك فيــه علــى ســيماء الجماعــة‪،‬‬ ‫لقــد بـ‬
‫تحدثــه أشــعة الشــمس؛ تألقــت وجوههــم مــرة واحــدة‪ ،‬وســرى فــي وجناتهــم احمــرار الصحــة‬
‫أ‬ ‫ّ‬ ‫والعافيــة‪ً ،‬‬
‫عوضــا عــن ذلــك اللــون الرمــادي الــذي كان يظهرهــم كالمــوات‪ ،‬ونظــر كل منهــم فــي‬
‫ّ‬ ‫أ‬ ‫ً‬
‫وجــه صاحبــه‪ ،‬وتخيــل أن هنــاك قــوة ســحرية قــد بــدأت فعــا فــي صقــل الخاديــد العميقــة التــي‬
‫أ‬
‫حفرهــا الزمــان مــن أمــد بعيــد علــى جباههــم‪ ،‬فأخــذت الرملــة (ويشــرلي) فــي إعــادة وضــع قبعتهــا‬
‫أ‬
‫مــن جديــد؛ لنهــا كادت تشــعر أنهــا امـرأة ثانيــة‪....‬‬
‫آ‬
‫وأخــذوا يهتفــون بلهفــة‪" :‬زدنــا مــن هــذا المــاء العجيــب! نحــن أصغــر الن‪ ،‬ولكننــا مازلنــا‬
‫ْ‬
‫أســرع وزدنــا!"‬ ‫َهر َ‬
‫ميــن!‬ ‫ِ‬
‫فقــال الدكتــور (هايديغــر) وهــو جالــس يرقــب التجربــة ببــرود فلســفي‪" :‬صبـ ًـرا‪ ..‬صبـ ًـرا‪ ،‬لقــد‬
‫طــال الزمــان بكــم حتــى هرمتــم‪ ،‬فمــن إالنصــاف أن تقنعــوا بــأن ترجعــوا إلــى الشــباب فــي نصــف‬
‫ســاعة فقــط! ولكــن المــاء تحــت تصرفكــم"‪.‬‬
‫أ‬
‫فمــ� كؤوســهم مــرة أخــرى بش ـراب الشــباب‪ ،‬وقــد بقــي منــه فــي إالنــاء مــا يكفــي إلرجــاع‬
‫أ‬
‫نصــف شــيبة المدينــة إلــى عمــر أحفادهــم‪ ،‬اختطــف ضيــوف الدكتــور الربعــة كؤوســهم مــن علــى‬

‫‪169‬‬
‫عشر‬
‫َ‬ ‫الصف الثّاين‬

‫ـ� أل علــى حوافهــا‪ ،‬أكان ذلــك ً‬


‫وهجــا؟ لقــد‬
‫أ‬
‫المائــدة‪ ،‬وعبــوا محتوياتهــا عبــة واحــدة‪ ،‬والفقاقيــع تتـ‬
‫َ‬
‫بــدا والغ َّبــة مات ـزال تجــري فــي حلوقهــم أنهــا فعلــت تغييـ ًـرا فــي كامــل أبدانهــم؛ غــدت عيونهــم‬
‫صافيــة براقــة‪ ،‬وأخــذ ظــل قاتــم فــي االســوداد بيــن خصــل شــعرهم الفضــي‪ ،‬وبــدا حــول المائــدة‬
‫ثالثــة رجــال فــي منتصــف العمــر‪ ،‬وســيدة لــم تكــد تتجــاوز عنفــوان شــبابها‪.‬‬
‫وصــاح الكونوليــل (كيليغــرو)‪" :‬يــا أرملتــي العزيــزة‪ ،‬إنــك لفاتنــة!" وبينمــا كانــت عينــاه مثبتتيــن‬
‫علــى وجههــا‪ ،‬كانــت ظــال الشــيخوخة تهــرب منــه كمــا تهــرب الظلمــة مــن احمـرار الفجــر‪.‬‬
‫الرملــة الجميلــة تعــرف مــن قديــم أن إطــراء الكولونيــل لــم يكــن ً‬ ‫أ‬
‫دائمــا يقــاس‬ ‫وكانــت‬
‫بالحقيقــة؛ ولهــذا نهضــت وركضــت إلــى المــرآة وهــي ال ت ـزال ترتعــب لئــا يلتقــي نظرهــا بوجــه‬
‫ً‬ ‫أ‬
‫دميــم‪ ،‬وفــي هــذه الثنــاء تصــرف الرجــال الثالثــة تصرفــا برهــن علــى أن مــاء ينبــوع الشــباب فيــه‬
‫أ‬ ‫ّ‬
‫بعــض الخــواص العجيبــة‪ ،‬ومــا خــا االبتهــاج الــذي مــ� نفوســهم هنــاك دوار بســيط ســببه زوال‬
‫وقــر الســنين الفجائــي‪ .‬وبــدا الســيد (غاســكون) أن عقلــه انصــرف إلــى موضوعــات سياســية‪،‬‬
‫أ‬
‫لكــن أبالماضــي كانــت تتعلــق أم بالحاضــر‪ ،‬أم بالمســتقبل؟ لــم يســتطع أن يعــرف بســهولة؛ لن‬
‫الفــكار والعبــارات هــي نفســها ً‬ ‫أ‬
‫دائمــا خــال هــذه الســنين الخمســين‪ ،‬فأخــذ يجمجــم بمــلء فيــه‬
‫ً‬
‫جمــا عــن البطولــة‪ ،‬والمجــد الوطنــي‪ ،‬وآخــر راح يتفـ َّـوه بأشــياء خطيــرة بهمــس ماكــر ملــؤه الشــك‬
‫والحــذر‪ ،‬حتــى كاد ضميــره ال يســتطيع معرفــة مــا فــي ســره‪ ،‬ثــم انقلــب ليتكلــم بنب ـرات موزونــة‬
‫ونغمــة مليئــة باالحت ـرام‪ ،‬كأنمــا كانــت هنــاك أذن ملكيــة تصغــي إلــى تقلبــات أحوالــه الحســنة‪،‬‬
‫أ‬ ‫الثنــاء كان الكونوليــل (كيليغــرو) يثرثــر‪ً ،‬‬ ‫أ‬
‫مغنيــا بمــرح‪ .‬وفــي الناحيــة الخــرى مــن‬ ‫وفــي هــذه‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫المائــدة كان الســيد (مدبــورن) منهمــكا فــي حســاب الــدوالرات والســنتات‪ ،‬وخلــط فيهــا خلطــا‬
‫ـروعا لتزويــد جزائــر الهنــد الشــرقية بالثلــج‪ ،‬وذلــك بســرج عــدد مــن الحيتــان إلــى كتــل‬ ‫غريبــا مشـ ً‬
‫ً‬
‫الجليــد القطبيــة‪...‬‬
‫أ‬
‫أمــا الرملــة (ويشــرلي) فإنهــا وقفــت أمــام المــرآة منحنيــة تتكلــف االبتســام لصورتهــا‪ ،‬وتحييهــا‬
‫كصديقــة أحبتهــا أكثــر مــن أي شــخص آخــر فــي الدنيــا‪ ،‬واقتربــت بوجههــا مــن صفحــة المــرآة؛‬
‫أ‬
‫لتــرى مــا إذا كانــت الخاديــد وغضــون مــا حــول عينيهــا قــد تالشــت بالفعــل‪ .‬وتفحصــت إذا كان‬
‫الثلــج قــد ذاب كلــه عــن شــعرها كــي تســتطيع أن تلقــي بقبعتهــا المحترمــة ً‬
‫جانبــا‪ .‬وأخيـ ًـرا التفتــت‬
‫برشــاقة‪ ،‬وراحــت تمشــي نحــو المائــدة وهتفــت‪" :‬بحقــك يــا عزيــزي الدكتــور‪ُ ،‬مـ َّـن علـ َّـي بــكأس‬
‫أخــرى"‪.‬‬

‫‪170‬‬
‫ٌةفيدر ٌصصق ‪ -‬بابشلا عوبني‬

‫فأجــاب الدكتــور المضيــاف‪" :‬بــكل تأكيــد يــا ســيدتي العزيــزة‪ ،‬بــكل تأكيــد! انظــري لقــد‬
‫ً‬ ‫أ‬
‫مــ�ت الكــؤوس ســلفا"‪.‬‬
‫أ‬
‫وأيــم الحــق لقــد انتصبــت هنــاك الكــؤوس الربعــة مترعــة مــن هــذا المــاء العجيــب‪ ،‬ورشاشــه‬
‫ّ‬
‫الــذي كان يتطايــر عنــد فورانــه يشــبه بريــق المــاس‪ .‬وكان قــد اقتــرب غــروب الشــمس‪ ،‬وأمســت‬
‫ً ً‬
‫ـاء رقيقــا أشــبه بضــوء القمــر شــع مــن داخــل‬
‫الغرفــة معتمــة أكثــر مــن أي وقــت مضــى‪ ،‬ولكــن بهـ‬
‫أ‬
‫إالنــاء‪ ،‬واســتقر علــى الضيــوف الربعــة‪ ،‬وعلــى قــوام الدكتــور المحتــرم‪ ،‬وقــد جلــس علــى كرســي‬
‫ّ‬
‫عالــي الظهــر متقــن الصنــع والحفــر‪ ،‬جليــل الهيئــة أشــيب الـرأس‪ ،‬يليــق شــكله بالرجــل الــذي لــم‬
‫يســتطع أحــد أن يناقــش ســطوته ســوى هــذه الجماعــة المحظوظــة‪ .‬وبينمــا هــم يكرعــون ثالــث‬
‫جرعــة مــن مــاء ينبــوع الشــباب كاد يرهبهــم تعبيــر محيــاه الغامــض‪ ،‬ولكــن فــي اللحظــة التاليــة‬
‫آ‬
‫انبثقــت فــي عروقهــم طفــرة لذيــذة مــن الحيــاة الجديــدة‪ ،‬لقــد أصبحــوا الن فــي أوج شــبابهم‬
‫الســعيد‪ ،‬أمــا الشــيخوخة‪ ،‬وبطانتهــا التعســة مــن همــوم وأح ـزان وأم ـراض‪ ،‬فقــد تذكروهــا كحلــم‬
‫مزعــج‪ ،‬اســتيقظوا منــه بفــرح‪ ،‬وأضفــى بريــق الــروح المشــع ّالــذي فقــدوه ً‬
‫باكــرا‪ ،‬والــذي مــن‬
‫دونــه تغــدو مشــاهدة الحيــاة المتتابعــة مجــرد معــرض صــور باهتــة‪ ،‬أضفــى بســحره علــى جميــع‬
‫مشــاريعهم المقبلــة‪ ،‬لقــد شــعروا وكأنهــم خلقــوا مــن جديــد فــي عالــم جديــد‪.‬‬
‫وراحوا يهتفون بنشوة‪" :‬نحن شباب! نحن شباب!"‬
‫والشــباب كالشــيخوخة يمحــو جميــع خصائــص الكهولــة المنطبعــة بقــوة‪ ،‬ويســتوعبها بتفاهــم‬
‫آ‬
‫مشــترك مــع الشــيخوخة‪ ،‬لقــد أضحــوا الن حلقــة مــن الشــباب اليافعيــن المرحيــن‪ ،‬وكادوا يجنــون‬
‫بخصــب ســنيهم النشــطة‪ ،‬ولكــن أكثــر مــا أحدثــه مرحهــم مــن تأثيــر فريــد هــو أنهــم أخــذوا‬
‫أ‬ ‫ّ‬
‫يهــزؤون مــن عجزهــم وعاهاتهــم التــي كانــوا ضحاياهــا لمــد قريــب؛ ضجــوا مــن الضحــك علــى‬
‫لباســهم ذي الطـراز القديــم‪ ،‬وعلــى معاطفهــم الواســعة الجوانــب وصداريهــم المهدلــة‪ ،‬وعلــى قبعــة‬
‫الفتــاة وفســتانها‪ ،‬وراح أحدهــم يعــرج ماشـ ًـيا فــي الغرفــة كجــد هــرم مصــاب بالنقــرس‪ ،‬ووضــع آخــر‬
‫أ‬
‫نظــارات علــى أنفــه‪ ،‬وتظاهــر بإمعــان النظــر فــي الحــرف الســوداء على صفحــات الكتــاب‪ ،‬وجلس‬
‫ثالــث علــى كرســي ذي مســاند وحــاول جاهـ ًـدا تقليــد الدكتــور (هايديغــر) بجلســته المبجلــة‪ ،‬ثــم‬
‫أ‬
‫راحــوا يزعقــون بحبــور‪ ،‬ويقفــزون حــول الغرفــة‪ .‬ومشــت الرملــة ‪ -‬هــذا إذا صــح لنــا تســمية فتــاة‬
‫غضــة كهــذه أرملــة‪ -‬بخفــة ورشــاقة إلــى كرســي الدكتــور ووجههــا الــوردي ينــم عــن مــرح ماكــر‪.‬‬

‫‪171‬‬
‫عشر‬
‫َ‬ ‫الصف الثّاين‬

‫دخــل الثالثــة فــي عـراك شــديد‪ ،‬وفيمــا هــم يتأرجحــون فــي صراعهــم انقلبــت المائــدة‪ ،‬وســقط‬
‫إالنــاء‪ ،‬وتحطــم إلــى ألــف شــظية‪ ،‬وانســاب مــاء الشــباب الثميــن يترقــرق علــى أرض الغرفــة‪،‬‬
‫وقــد أصــاب جناحــي فراشــة طعنــت فــي الســن فــي أواخــر الصيــف‪ ،‬وكانــت قــد حطــت هنــاك‬
‫لكــي تمــوت‪ ،‬فطــارت الحشــرة ترفــرف بخفــة فــي أجــواء الغرفــة واســتقرت علــى رأس الدكتــور‬
‫أ‬
‫(هايديغــر) الشــيب‪.‬‬
‫وهتــف الدكتــور‪ :‬يــا ســادة يــا ســادة! وأنــت يــا ســيدتي! يجــب أن أحتــج‪ ،‬وايــم الحــق علــى‬
‫أ‬
‫هــذا الشــغب‪ ،‬فتوقفــوا دون حـراك وهــم يرتعــدون‪ ،‬وخيــل إليهــم أن الزمــان الشــيب كان يناديهــم‬
‫ليرجعــوا مــن شــبابهم المشــرق إلــى وادي الســنين الســحيق القريــر المظلــم‪ ،‬ورمقــوا الدكتــور‬
‫ّ‬
‫الجالــس علــى كرســيه المنقــوش‪ ،‬وهــو ممســك بالــوردة ذات الخمســين مــن العمــر التــي أنقذهــا‬
‫مــن بيــن شــظايا إالنــاء المحطــم‪ ،‬وبإشــارة مــن يــده أخــذ المشــاغبون كل منهــم مقعــده باســتعداد‬
‫ّ‬ ‫زائــد؛ ألن جهدهــم العنيــف أنهكهــم ً‬
‫رغمــا عــن فتوتهــم التــي كانــوا عليهــا‪.‬‬
‫ّ‬
‫وصــاح الدكتــور (هايديغــر) وهــو ممســك بالــوردة علــى ضــوء شــمس الغــروب التــي حجبتهــا‬
‫الغيــوم‪ :‬يــا لــوردة (ســلفيا) المســكينة! يظهــر أنهــا أخــذت تذبــل ثانيــة‪.‬‬
‫وهكــذا كان‪ ،‬أخــذت الــوردة تــذوي وتتقلــص وهــم يرمقونهــا إلــى أن جفــت وغــدت قابلــة‬
‫للتفتيــت مثلمــا كانــت عندمــا ألقــى بهــا الدكتــور فــي إالنــاء‪ .‬ثــم نفــض عنهــا القطـرات القليلــة مــن‬
‫ّ‬
‫النــدى التــي تعلقــت بوريقاتهــا وأردف‪" :‬إنــي أعشــقها هكــذا‪ ،‬كأنهــا نضــرة غضــة"‪.‬‬
‫وضغــط بالــوردة الذابلــة علــى شــفتيه الذابلتيــن‪ ،‬وبينمــا هــو يتكلــم رفرفــت الفراشــة علــى رأس‬
‫أ‬ ‫أ‬
‫الدكتــور الشــيب وســقطت علــى الرض‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫ارتجــف الضيــوف ثانيــة‪ ،‬وســرت فيهــم شــيئا فشــيئا قشــعريرة غريبــة لــم يعرفــوا كنههــا أمــن‬
‫آ‬
‫الــروح أم الجســد؟ ورمــق كل منهــم الخــر‪ ،‬وتخيــل أن كل لحظــة هاربــة اختطفــت منهــم فتنــة‪،‬‬
‫ً‬
‫عميقــا لــم يكــن لــه وجــود مــن قبــل‪ .‬أكان هــذا ً‬ ‫وتركــت موضعهــا أخـ ً‬
‫وهمــا؟ أم أن تغي ـرات‬ ‫ـدودا‬
‫آ‬
‫حيــاة برمتهــا ازدحمــت فــي فســحة وجيــزة كهــذه‪ ،‬وأنهــم الن أربعــة أشــخاص مســنين جالســين‬
‫مــع صديقهــم القديــم الدكتــور (هايديغــر)؟‬
‫هتفوا بنغمة حزينة‪" :‬هل ِش ْخنا ثانية بسرعة كهذه؟"‬
‫أ‬ ‫ًّ‬
‫حقــا لقــد غــدوا هكــذا‪ ،‬أجــل لقــد شــاخوا ثانيــة‪ .‬أمــا الرملــة‪ ،‬بدافــع مشــحون بالقشــعريرة‬

‫‪172‬‬
‫ٌةفيدر ٌصصق ‪ -‬بابشلا عوبني‬

‫أظهرهــا أنهــا مازالــت ام ـرأة‪ ،‬فغطــت وجههــا بيدهــا المعروقتيــن‪ ،‬وتمنــت لــو أن غطــاء التابــوت‬
‫ً‬ ‫أ‬
‫فوقــه؛ لنــه لــن يعــود جميــا أبـ ًـدا‪.‬‬
‫قــال الدكتــور (هايديغــر)‪ :‬نعــم يــا أصدقائــي‪ ،‬إنكــم شــيوخ مــرة ثانيــة‪ ،‬وهــا هــو مــاء الشــباب‬
‫أ‬
‫مهــروق بســخاء علــى الرض‪ ،‬ولــن أحــزن عليــه‪ ،‬وحتــى لــو انبجــس ينبوعــه أمــام عتبــة بيتــي‪،‬‬
‫ً‬ ‫أ‬
‫فإننــي لــن أنحنــي لغمــس شــفتي فيــه‪ ،‬ال‪ ،‬حتــى ولــو دام هذيانــه المحمــوم ســنوات بــدل مــن‬
‫ّ‬
‫لحظــات‪ .‬هــذا هــو الــدرس الــذي علمتمونــي إيــاه!‬
‫الربعــة لــم يعلمــوا أنفســهم ً‬ ‫أ‬
‫درســا كهــذا‪ ،‬وصممــوا علــى أن يذهبــوا‬ ‫ولكــن أصدقــاء الدكتــور‬
‫ـاء‪ ،‬لعلهــم يشــربون مــن مــاء ينبــوع‬ ‫ً‬
‫صباحــا‪ ،‬وظهـ ًـرا‪ ،‬ومسـ ً‬ ‫فــي القريــب العاجــل إلــى فلوريــدا‬
‫الشــباب!!!‬

‫‪173‬‬
‫عشر‬
‫َ‬ ‫الصف الثّاين‬

‫‪174‬‬
175
‫عشر‬
‫َ‬ ‫الصف الثّاين‬

‫‪176‬‬

You might also like