Professional Documents
Culture Documents
النصوص القصصية الثاني عشر PDF
النصوص القصصية الثاني عشر PDF
حقوق الطبع محفوظة لوزارة التربية والتعليم بدولة اإلمارات العربية المتحدة
الصفوف العليا
إدارة مناهج ّ
ﻋﺮﺑﻲ
اﻗﺘﺮاح -اﺳﺘﻔﺴﺎر -ﺷﻜﻮى ﻣﺮﻛﺰ اﺗﺼﺎل وزارة اﻟﺘﺮﺑﻴﺔ واﻟﺘﻌﻠﻴﻢ
80051115 ccc.moe@moe.gov.ae
04-2176855 www.moe.gov.ae
English
Ministry of Education - Call Centre
رسالةٌ إىل الطالب
الطالب،
َعزيزي ّ
أ ً ً هــذا ِكتـ ٌ
ـاب ُص ِّمـ َـم ليكــون رفيقــا لــك وصديقــا؛ ســتجد فيــه النصــوص المقـ َّـررة فــي كتــاب النشــطة
ّ
اليوميــة، قســا مــن طقــوس حياتــك اءة َط ً
ُ ٌ
ونصوصــا أخــرى رديفــة .وهــو دعــوة ّمنــا لتكــون القـر
ً ّ
اللغويــة،
تجــد لهــا ّمتسـ ًـعا مــن الوقــت ،فتخلــو فيــه بكتــاب تقــرؤه ّ
بحريــة ،وتبحــر فــي عوالمــه بهــدوء وســام. ٍ
7
عشر
َ الصف الثّاين
الطالب،
َعزيزي ّ
َ
ـون أكثــر ً أ ّ
فهمــا للحيــاة إن القـراءة ،وقـراءة الدب علــى وجــه الخصــوص ،تســاعد المــرء علــى أن يكـ
ً
تواضعــا وتسـ ً ّ ّ ً
ـامحا والنــاس ،وأوســع أفقــا ،وإن هــذا النــوع مــن القـراءة هــو الــذي يجعــل إالنســان أكثــر
ُ ً ّ ّ
وذكاء .إن كل قصــة أو روايــة تقرؤهــا هــي بمثابــة بوابــة تفتــح لــك ُلت ْب ِصـ َـر الحيــاة بتفاصيلهــا الصغيــرة،
ّ ّ
اليوميــة ،ونغــدو ونــروح مــع الغاديــن والرائحيــن. تلــك التــي قــد ال ننتبــه لهــا ونحــن نمــارس واجباتنــا
ـبـتقر فــي قلــوب الكثيريــن مــن النــاس ،أولئــك الذيــن ُتكتـ ُ البوابــة هــي ّالتــي تجعلــك تسـ ّ
ّإن هــذه ّ
ـات ،فتعــرف مــا لــم تكــن تعــرف ،وتــدرك مــا لــم يكــن ـص ،وتحكــي حكاياتهــم الروايـ ُ عنهــم القصـ ُ
ِ
خطــر لــك علــى بــال.
الطالب،
َعزيزي ّ
ً ّ أ ّ
وجوهــا ال نهايــة لهــا ســحرية كبيــرة ،تكشــف لــك إن قــراءة الدب تشــبه الدخــول فــي مــرآة
ّ
وقوتــه ،فــي صدقــه وكذبــه ،فــي عـ ّـزه وذلــه،
للحيــاة ،لفعــل الزمــان فــي إالنســان ،و إللنســان فــي ضعفــه ّ
ـاب بيــنأنانيتــه وظلمــه ،فــي ّرقتــه وقســوته فــي أحزانــه وأفراحــه ،وآالمــه وأحالمــه .وكلمــا انفتــح كتـ ٌ
فــي ّ
ٌ ٌ ْ
ـان مــا ،اســتطالت مــرآة ســحرية أمامــه ليــرى مــا لــم يكــن يـ ُـرى، ـكان مــا ،فــي زمـ ٍ
ـارئ فــي مـ ٍ
يــدي قـ ٍ
ً أ َ
مســك بيــن يديــه قصــة تبصـ ٍـر قادتــه إلــى أن ُي ِ
للبــد لــوال لحظــة ُّ ويكشــف مــا كان ســيبقى محجوبــا ِ
ّ ً ّ أ َ ّ ْ ُ ً
أو روايــة ســتجعله بعــد أن يقلــب الصفحــة الخيــرة فيهــا يــزداد يقينــا أن الخلــود ال يكــون إل للخيــر
والحــق والجمــال.
ً ً ً
اللغة العربية.
نرجو لك رحلة ممتعة ومفيدة مع ِ
8
الفهرس
11 ِ -
الق َّص ُة القصير ُة
15 * ِ
الق َّص ُة القصير ُة
17 ◊نظر ٌة خارج الن ِ
ّافذة -ليندا فون كيزر َ
21 ب -فاطمة الكعبي تعج ٍ ◊عالم ُة ّ
23 ّخل -رضوى عاشور ◊رأ ْي ُت الن َ
29 ُ
تشيخ ُ
وف وان ◊ ِ
الحر َبا ُء ُ -أ ْن ُط ُ
34 الحارثي
ُّ جوخ ُة
ذة َ - ◊ما َلن يأتي َعبر النَّافِ ِ
َ َ ْ
37 ذات ٍ
ليل -آماليا رندايك وكلبَ ، ٌ ◊ ٌ
طفل
42 فائق
السماور -سعيدُ ُ
◊ َّ
47 قصص رديف ٌة
ٌ »»
49 ّحيف -أنطوان تشيخوف
◊البدي ُن والن ُ
51 ّ
المعل بيت -ابتسام
◊ ٌ
55 ◊الجرح الخفي -كارولي كسفلودي
63 ◊الحلم األخير -هانس كريستيان أندرسن
69 ◊الشيخان
77 ◊الصقر -غوستاف هلستروم
81 ◊الطفل الجاسوس
89 ◊الفالحون في (باريس) -ألفونسو دوديه
93 ◊بثالثمائة ألف فرنك! -ألفونسو دوديه
97 ◊بغلة القاضي -ألفونسو دوديه
مالحظةٌ :
الر ِّ ّ ً ّ
بالل ِون ّ َ (التطبيقات ّالل ّ
غوية) ُ ُ
المعالجة في كتاب ّ ّ
الن ُ
مادي. عناوينها مظللة تجد ِ صوص
9
عشر
َ الصف الثّاين
10
القصرية
ُ ص ُة ِ
الق َّ
ٌ
ـص فــان أثـ َـر فــان: ـص»ّ ،الــذي يأتــي بمعنــى َّ
الت ّتبــع ،يقــال :قـ َّ َ
«قـ َّ «الق ّصة"مشــتقة مــن الفعــل
ِ
تتبعــه .ومنــه قولــه تعالــى( :ﮭ ﮮ ﮯﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ). أي ّ
الق ّصــة :أيــص ِحدثــهَ ،وق ّــص عليــه الخبــر :أي ّ أيضــا بمعنــى إالخبــار والروايــة ،يقــالَ :ق ّ
ويأتــي ً
ّ ُ
فالق ّصــة :هــي الحكايــة التــي تحكــى.
حكاهــاِ .
ّ
«الق ّصة"فــي االصطــاح فلهــا تعريفــات كثيــرة ،لكـ ّـن معظــم هــذه التعريفــات يؤكــد علــى أن ّأمــا ِ
أ الق ّصــة ســرد ّ
متخيــل قصيــر نسـ ًّـبيا ،يهــدف إلــى إحــداث تأثيــر معيــن ،وفــي أغلــب الحــوال تركــز ِ
الق ّصــة القصيــرة علــى شــخصية واحــدة فــي موقــف واحــد ،فــي لحظــة واحــدة ،فــي مــكان بعينــه .وقــد ِ
ً َ
الق ّصــة بقولــه «فـ ٌّـن أدبـ ٌّـي نثـ ٌّ
ـري يتنــاول بالســرد حدثــا وقــعْ ،أو يمكــن أن اختصــر بعضهــم تعريــف ِ
يقــع».
أ ّ
الق ّصــة (والروايــة كذلــك) إنهــا فـ ٌّـن غايتــه إالمتــاع فــي المقــام الول،
وأهــم مــا يمكــن أن يقــال عــن ِ
الق ّصــة (أو الروايــة) أن تقــدم معلومــات للقــارئ بصــورة مباشــرة ،وليــس مــن فليــس مــن أهــداف ِ
ّ ْ ُ ّ
الق ّصــة فــن ،والفــن ال يتخــذ مــن الخطــاب المباشــر وســيلة أو طريقــة أهدافهــا أن تعلــم أو تعــظ .إن ِ
للتعبيــر والوصــول إلــى وجــدان القــارئ.
ّ
الق ّصــة تســتحث القــارئ علــى التفكيــر والتأمــل ،وعلــى أن ينظــر إلــى الحيــاة من زوايــا مختلفة، إن ِ
ومــن خــال تفاصيــل صغيــرة جـ ًّـدا قــد ال ينتبــه إليهــا ،لكنهــا تشــكل حيــاة النــاس وتؤثــر فيهــم ،لذلــك
ّ
الق ّصــة الناجحــة هــي التــي تجعــل القـراء يفكرون ،ويشــعرون. نقــول :إن ِ
ّ
وهنــاك عناصــر أساســية تقــوم عليهــا ِالق ّصــة (أو الروايــة) ،والكاتــب الناجــح هــو الــذي يشــكل مــن
ً ً هــذه العناصــر بنــاء ًّ
متجانســا متماســكا ،يؤثــر فــي القــارئ ،ويوصــل إليــه فكــرة مــا بشــكل غيــر فنيــا
مباشــر ،ومــن أهــم عناصــر ِالق ّصــة:
11
عشر
َ الصف الثّاين
ً
موقفــا محـ ً
ـددا ،أو شــريحة مــن الحيــاة بغيــة تســليط الضــوء عليهــا. ومــكان محــدد ،وتتنــاول
ْ
الق ّصــة ،فــا يمكــن أن
.2الشــخصيات :عنصــر الشــخصية يعــد دعامــة أساســية مــن دعامــات ِ
أ ُ
تبنــى قصــة مــن دون وجــود شــخصية تحــرك الحــداث وتتأثــر بهــا ،والشــخصية قــد تكــون
ًّ ً
حيوانــا أو ً ً
كائنــا متخيــا. إنســانا أو
أ
.3اإلطــار الزمانــي والمكانــي :يحــدد هــذا العنصــر زمــن وقــوع الحــداث ومكانهــا ،والكاتــب
ً
الق ّصــة ،والفكــرة.
المتمكــن يوظــف عنصــر الزمــان والمــكان توظيفــا يناســب جـ ّـو ِ
ّ
الق ّصــة ،وهــو ليــس الكاتــب ،بــل .4الــراوي ووجهــة النظــر :الــراوي هــو الــذي يــروي ِ
ُ
الق ّصــة ،ويرويهــا ر ٍاو قــد يكــون شــخصية
الكاتــب يختــار وجهــة نظــر معينــة تــروى مــن خاللهــا ِ
ّ ًّ الق ّصــة ،وقــد يكــون ر ً
خارجيــا .ووجهــة النظــر التــي ينطلــق منهــا ال ـراوي اويــا مــن شــخصيات ِ
أ
تتقاطــع مــع فكــرة الروايــة ،لنهــا ّ
تعبــر عنهــا.
ً .5الحبكــة :الطريقــة ّالتــي يجمــع بهــا الكاتــب أحــداث ّ
قصتــه أو روايتــه ليصنــع منهــا عمــا
ـص مــن بدايتــه ّ
حتــى نهايتــه ،وقــد يظهــر خــط فنيــا ،يجــذب القــارئ ،ويشـ ّـده فــي اتجــاه ّ
النـ ّ ًّ
الق ّصــة ،وضيــق المســاحة المتاحــة
بســيط للحبكــة فــي بعــض القصــص ،فعلــى الرغــم مــن قصــر ِ
أ ّ ّ
للكاتــب ليتحــرك فيهــا ،إل أن بعــض القصــص يظهــر فيهــا تصاعــد للحــداث ،ووصولهــا إلــى
ُ
نقطــة توتــر عليــا ،ثـ َّـم انحــدار نحــو النهايــة.
ً الق ّصــة وعالمهــاً ، ّ ّ
وغالبــا مــا يكــون مرتبطــا .6التشــويق :هــو العنصــر الــذي يشــد القــارئ نحــو ِ
بشــيء تريــده الشــخصية الرئيســة ،أو مشــكلة تواجههــا .بعــض القصــص قــد تتحــرر مــن البنيــة
ّ ّ
التقليديــة التــي تعتمــد علــى التشــويق وتــأزم الموقــف ،خاصــة تلــك التــي تركــز علــى مشــهد
ّ ُ
وحيــد مضغــوط ،أو التــي تبقــي القــارئ داخــل دائــرة تفكيــر الشــخصية وتأمالتهــا وأســئلتها،
ولذلــك يصنــف بعضهــم القصــص إلــى «قصــة شــخصية"و«قصة حبكــة أو حــدث»ّ .أمــا
أ ّ
الثانيــة ،فــي الغالــب ،هــي التــي قــد تحــوي عنصــر التشــويق القائــم علــى توتــر الحــداث
ّ
ووصولهــا إلــى نقطــة تــأزم ُعليــا.
12
الق ّصــة ،والتــي يريــد الكاتــب مــن القــارئ
.7الفكــرة أو الموضــوع :وهــي الرســالة المبطنــة فــي ِ
أن يصــل إليهــا.
الق ّصــة ،ويجــب أن تكــون مكثفــة تعتمــد التلميــح بــدل التصريح؛ .8اللغــة :اللغــة ترتبــط بحجــم ِ
فــا مجــال للوصــف المســهب فيهــاً ،
وغالبــا مــا يتـراوح عــدد كلماتهــا بيــن خمســمئة إلــى عشــرة
ّ
آالف كلمــة ،وقــد تســتخدم الحــوار الــذي يجــب أن يناســب الشــخصية ،ممــا يفتــح البــاب
للعبــارات العاميــة والشــعبية.
ً ّ
ويمكننــا أن نجمــل القــول فــي القصــة فنقــول :إن القصــة ال تتنــاول -خالفــا للروايــة -شــخصية
كاملــة بــكل مــا يحيــط بهــا مــن حــوادث وظــروف ومالبســات ،وإنمــا تكتفــي بتصويــر جانــب واحــد
مــن جوانــب حيــاة الفــرد .وال تتعــدد الشــخصيات فــي القصــة القصيــرة .ومــن الضــروري أن تتوافــر
ـدودا ،وأن يكــون الزمــان قصيـ ًـرا .وأنوالزمــان والمــكان؛ فيجــب أن يكــون المــكان محـ ً وحــدة الفعــل ّ
ً ً
الروائـ ّـي -حدثــا مــن الحيــاة اليوميــة ،ويحــاول أن يجعــل منــه موقفــا ّفن ًّيــا،
ـاص -عكــس ّ ينتقــي القـ ّ
يوضــح بــه حقيقــة مــن الحقائــق.
ولــم تعــد بنيــة القصــة القصيــرة وعناصرهــا كمــا كانــت وقــت ظهورهــا ،فقــد اختفــت بعض الشــروط
واختفــت بعــض العناصــر ،حتــى تــكاد كل قصــة قصيــرة لهــا شــكلها الخاص.ولقــد تعــددت موضوعاتها
وأغراضهــا ومجاالتهــا وتباينــت فــي مــدى ارتباطهــا بالواقــع أو ابتعادهــا عنه.
ّإن إاللحــاح الســابق علــى ملحــظ التركيــز فــي القصــة القصيــرة ،سـ ً
ـواء أكان فــي البنيــة الفنيــة أم
ّ
فــي اللغــة ،يســوقنا إلــى الحديــث عــن أهــم خصائــص القصــة القصيــرة ،التــي يمكــن حصرهــا ،بشــكل
عــام ،فــي ثــاث خصائــص:
ّ
.1الوحــدة :وقــد أكــد عليهــا كبــار الكتــاب والتزمــوا بهــا ،والمقصــود بالوحــدة هنــا :الوحــدة
ّ
العضويــة التــي تــؤدي إلــى وحــدة االنطبــاع ،والتأكيــد علــى أن تحمــل القصــة فكــرة واحــدة،
ً
انطباعــا ً
محكمــا يولــد فــي القــارئ وتركــز علــى شــخصية واحــدة فــي الغالــب ،وأن تبنــى بنـ ً
ـاء
واحـ ًـدا.
13
عشر
َ الصف الثّاين
فنيــا ،ولذلــك قــال عنهــا يوســف إدريــس .2التكثيــف :وهــو مطلــب جوهــري لنجــاح القصــة ًّ
«القصــة القصيــرة رصاصة"انظــر كيــف تصيــب الرصاصــة الهــدف ،فهــي ليســت حجـ ًـرا وال كرة،
بــل رصاصــة تنطلــق لتصيــب الهــدف بســرعة ودقــة تامتيــن .ولذلــك فــإن كل كلمــة محســوبة فــي
القصــة ،وكل جملــة لهــا دورهــا ،وليــس هنــاك مــكان لالسترســال فــي الكلام لمجــرد أنــه الكم
جميــل أعجــب الكاتــب .والتكثيــف يختلــف باختــاف القصــة ،وطولهــا ،وبنيتهــا الفنيــة.
ّ
.3الدراميــة :ويقصــد بهــا التوتــر الــذي يجعــل القــارئ يتابــع القـراءة ،ويرغــب فــي الوصــول إلــى
ّ
النهايــة ،حتــى لــو خلــت القصــة مــن الصـراع ،واعتمــدت علــى أفــكار الشــخصية الداخليــة فــإن
الكاتــب الناجــح يســتطيع أن يشـ ّـد خيــط القصــة ،ويجــذب القــارئ إلــى عالمهــا .وهنــاك تقنيات
كثيــرة تســاعد الكتــاب علــى تصعيــد درجــة التوتــر فــي القصــة ،كالبدايــة المثيــرة للتســاؤل،
المحيــرة أو المحتــارة ،أو الحــوار الداخلــي ،أو حركــة الزمــان أو المفارقــات، ّ أو الشــخصية
وغيرهــا كثيــر.
14
القصرية
ُ ص ُة ِ
الق َّ
15
عشر
َ الصف الثّاين
16
ريصقلا ةَّصِقلا
ُ
17
عشر
َ الصف الثّاين
18
ريصقلا ةَّصِقلا
ُ
َ َ ْ ُ ْ ّ
يصوره لك اهتمام
ما الّذي ّ هذه ّ
السـ ّـي ِ
دة؟ ـاه أن يكــون قــد حدث مـ َـع ِ السـ ّـي ُد (شــفارز) يفكـ ُـر :مــاذا عسـور َاح ّ
َ أّ ُ َ ً َ ْ َ
كانـ ْ ـود مـ ّـرة أخــرى؟ هــل طـ ِـر َد ْت مــن العمـ ِـل؛ لنهــا
السيد شفارز بعاملة النظافة؟
ـت ـت العمــل ،ولــن تعـ هــل تركـ ِ
هل األمر يستحق؟. َ َ َ
ـذه ّ َ ُ ِّ ّ
دة.السـ ّـي ِ ـان زائـ ٍـد علــى الحــد؟ عنــد ذلــك رجــا ابنــه أن يســأل عــن هـ ِ تؤديـ ِـه بإتقـ ٍ
َ ّ
الطفـ ُـل إلــى بـ ّ
ـرة ،فأخبـ َـر ُه
ـب الكثيـ ِ ِ ـ المكات ذات
ِ ـة
ِ ـ قابل ـارة ُ
الم ِ ـ م الع
ِ ابِ ـو فذهــب
ْ ُ َ َ َ
ـاه عنوانهــا .عنــد ذلــك قـ ّـر َر ّ ٌ َ
اب بــأن العاملــة مريضــة ،وأعطـ ُ َّ البـ ّـو ُ
السـ ّـيد (شــفارز) أن
َ ّ يخبرهــا ّبأنــه ُ يرسـ َـل لهــا َ
يفتقدهــا فــي عم ِلهــا ،وأنــه ُيقـ ّـد ُر عملهــا تقديـ ًـرا ابنـ ُـه؛ لكــي َ
ً ً ً كبيــرا ،ثـ َّـم اشــترى ّ ُ
وبعضــا مــن الكعـ ِـك الســيد (شــفارز) عســا وقربــة ّللت ِ
دفئــة ً
النظافـ ِـة فــي يهديهــا إلــى عاملـ ِـة ّ جميعــا ال ِبنـ ِـه ،كــي َ ً طبـ ٍّـي ،وأعطاهــا ـب شــاي ّ َو ُعلـ َ
ً ٍ
َ َ ْ ّ
مكتوبــا عليهــا اسـ ُـم ُه
ً ـس أن يصنـ َـع بطاقــة داخــل هـ ِ
ـذه الهديـ ِـة، بيتهــا ،كمــا أنـ ُـه لــم ينـ ِ
ّ ّ ُ ُ
ـفاء.
وتمنياتــه لهــا بالشـ ِ
بالهديــة إلــى منــزل سـ ٍّ ّ ـب االبـ ُـن
ذهـ َ
ـس؛ مقـ ِّـر سـ ِ
ـكن عاملـ ِـة ـكني بالــد ِور الخامـ ِ ٍ ّ ِ
ً َّ ً فكان َْ ّ
العمــل،
ِ الحيــاة أو
ِ رغبــة فــي
ســريرها ،فاقــدة كل ٍِ ــت راقــدة علــى ظافــة،
الن ِ
ّ ّ َ َ ْ ُ َ ّ َ ُ
ـس ارة ،كذلــك كانــت تعانــي مــن صعوبـ ِـة التنفـ ِ
الســعال وارتفــاع درجـ ِـة الحـر ِ تعانــي
ـدر. ّ
وضيـ ٍـق فــي الصـ ِ
ـارب كــي يشــتروا لهــا طعامــا منـ ُـذ عـ ّـد ِة ّأيـ ٍـام ،ولـ ْـم يكـ ْـن لهــا أقـ ُ ّإنهــا لـ ْـم تشــتر ً
ِ
ممــنْ ـرف ّ ُ ْ ّ َ َ َ ّ َ طعامــاّ ،
ً
حتــى طــرق الصبـ ُّـي البــاب ،وأحضــر لهــا الهديــة ،ولــم تكــن تعـ
ّ َ َ َ َ فتحـ ْ الهديـ ُـة ،اعتقـ َـد ْت ّأنهــا فــي حلــم ،ثـ َّـم َ هــذه ّ
الخاصــة ـت الكرتونــة ،ورأ ِت البطاقــة ٍ
ّ أ مكتوبــا عليهــا ّ ُ ُ ً َ ّ ّ
داء الخضـ ِـر! إننــي "السـ ّـيدة ذات الـ ّـر ِ بالسـ ّـي ِد شــفارز ،والــذي كان
َّ ّ أحـ ُـد ُ
ـب بإتقا ِنـ ِـك ـاط ،وأعجـ ُ ـوم تعمليـ َـن بنشـ ٍ الصامتيـ َـن ،إننــي أر ِاك كل يـ ٍ المعجبيـ َـن ّ
ال َ َ أ ً بالحجــارّ ،إننــي ُم ِح ٌّ أ َ
حمــر، خصوصــا الجرانيــت ــب لهــا، ِ ــك
العمــل واعتنا ِئ ِ
كان ْ ْ َ الجنــابّ ، أ َ َ َ أ ال َ َ أ
ــت حتــى وإن ِ فــي المشــطوفة حجــار ال وكذلــك ، ســود وكذ ِلــك
ّ ُ ّ َ ُ ّ ـير عليهــاّ ، غيـ َـر ُمريحـ ٍـة فــي أثنـ ِ ّ
بالرغـ ِـم مــن أننــي ال أســتطيع الســير منــذ عــد ِة ـاء السـ ِ
ّ َ ّ أ ُ
ـارع .إن ِ ـ الش ـن ـ م ـرى ـ خ ال ـة
ِ ـ الجه ـي ـ ف ـث أسـ ُ
ـكن جيـ ًـدا ،حيـ لكننــي أرى ّ ـوام ،و ّ أعـ ٍ
ْ َ ُ
هــذه الحجـ ّـار تفتقــد ِك مثلــي ً أ
ـرعة ،وتعــودي إلــى عم ِلـ ِـك تمامــا ،أرجــو أن تشــفي بسـ ٍ
ـان مث ِلـ ِـك .مـ َـع ـب وإتقـ ٍ ـرعةَّ ،إن عامـ َـل المجلــس المحلـ ّـي لـ ْـم َي ُقـ ْـم بعم ِلـ ِـه بحـ ٍّ بسـ ٍ
ِ
19
عشر
َ الصف الثّاين
ّ ّ
ـفاء العاجـ ِـل".
تمنياتــي لـ ِـك بالشـ ِ
احـ ْ
ـعور ُمريـ ٌـح ،ور َ وغمرهــا شـ ٌ ـت بهــاَ ، فرحـ ْ ُ ّ َ
ـالة َ َ
ـت أت العاملــة الرسـ عندمــا ق ـر ِ
َ َ َ ّ َّ َ ُ
أناســا ُيقـ ّـدرون عملــي، ـاك ً لنفســهاَ :مـ ْـن كان يعتقـ ُـد هــذا؟ َمـ ْـن كان يفكـ ُـر أن هنـ تقــول ِ
َ ونهضـ ْويحترمونـ ُـه؟! َ َ
ـاء علــى (البوتوجــاز) كــي تصنـ َـع ـت المـ َ
ووضعـ ِ ـريرها،
ِ ـ س ـن ـ م ـت
ً
ـان كبيـ ٍـر بعضــا ْ َ ّ ً منــه مـ ً
ـاء ســاخنا فــي قربـ ِـة التدفئـ ِـة ،وكذلــك وضعــت منــه فــي فنجـ ٍ
ـاي،
ُ ّ
الشـ َ ـت تشــرب ـت بـ ِـه ملعقـ ًـة مـ َـن العســل ،ور َ
احـ ْ ووضعـ ْ
َ ، ِّ
ـي ـ ب
ّ
الط ّ ـاي ـ
َ ّ
الش مــن
ِ
َ ً ُ ُ ّ
نفســها قائلــة :إننــي أرقــد هنــا مريضــة فاقــدة ّ ً ُ ّ ُ ُ
وتستنشــق نكهتــهَ ،وتحــدث َ َ ُ
الرغبـ ِـة فــي
رون مــا أقـ ُّ َ ـاس بجــواري ّ بينمــا يوجـ ُـد أنـ ٌ الحيــاة!! َ
ـوم بــه مــن عمـ ٍـل، يحبوننــي ،ويقــد ِ
َ ُ َّ ْ ُ ّ ُّ ْ َ ّ
ـذه الحيــاة تســتحق أن أحياهــا ،إننــي ال بــد أن أشــفى ،كــي أعــود إلــى عملــي إن هـ ِ
وأصدقائــي!!. ما الّذي فكرت به وأنت تقرأ
الفقرة األخيرة من القصة؟.
20
ريصقلا ةَّصِقلا
ُ
ب
تعج ٍ
ّ عالمة
ُ
فاطمة الكعبي
َ ً ّ َّ ُ
ـاؤب لحظــة ،رغـ َـم رك ِت ـلحفاة تحبــو بكسـ ٍـل ،وأنــا لــم أكــف عـ ِـن التثـ ِ الوقــت بــدا لــي كسـ ٍ
ـتلقاء علــى أتمنــى لــو باســتطاعتي االسـ ُ ـت يــدي علــى بطنــي ،وأنــا ّ وضعـ ُ تذمـ َـر ُهَ ،
جنينــي وهـ َـو يعلـ ُـن ّ
ّ ّ
واء.
ـرف الــد ِ ظهــري حتــى يحيـ َـن موعــدي فــي صـ ِ
ً ّ اللمــع تسـ ُّ ّ أ ُ
ـتفزني ،يبــدو أن منظــري -هكــذا -كاشــفة عــن ِ ـر ِ ـ خض ال ذات البرقـ ِـع ـوز ِ نظـرات العجـ ِ
متزوجـ ًـةْ ، خاصـ ًـة وبطنــي تفصـ ُـح عــن كونــي ّ ُ
أدر ُت وجهــي عنهــا .ومــا ـروق لهــا كثيـ ًـراّ ، وجهــي ال يـ
وجلسـ ْ ّ ْ ْ ْ ُ ّ
ـت بجــواري. َ ـب َ
عمرهــا، مقعدهــا بخفـ ٍـة ال تناسـ ُ إن فعلــت حتــى قفـ َـزت مــن ِ
ساعة وأنا ُ ُ
أنتظر دوري. ربع ٍ ِ منذ
َ َ
ـات بــدأ ِت الحديــث ،وهـ َـي تحشـ ُـر جسـ َـدها فــي فـر ٍاغ صغيـ ٍـر بجانبــي علــى ّ
هكــذا ،بــا مقدمـ ٍ
أ َ ِّ َّ َ
أردفـ ْ
ـتم إدارة المستشــفى ،وتبــدي ر َأيهــا فــي نظـ ِـام الرقـ ِـام الجديـ ِـد ـت تشـ ُ الكرســي الخشــبي ،ثــم
ُ ُ ـاس كثيـ ًـرا .ســاءني ر ُأيهــا ،وأنــا ّ يؤخـ ُـر ّ ّ ّ
أتخيــل نفســي أقــف لــدى شـ ّـب ِاك النـ َ فــي االنتظـ ِـار الــذي تـراه
ّ ّ ّ ْ َ
ـات.
ـاء بانتظـ ِـار حفنـ ِـة فيتامينـ ٍ ـوام مـ َـن النسـ ِ وســط أكـ ٍ الصيدليـ ِـة
القـ ِّـل لمــن مث ِلـ ِـك ومثلــي ّأ ُ النظـ َ بالعكــس ،أنــا أرى ّأن هــذا ّ
ممـ ْـن ال ـام أفضــل بكثيـ ٍـر ،علــى ِ
ـوف والزحـ ِـام كثيـ ًـرا. ّ يقو ْيـ َـن علــى الوقـ ِ َ
ـاود رفســي مــا ْإن سـ َ
ـمع تبر َمهــا كتعليــق ،يبــدو ّأن طفلــي لــم يستسـ ْـغها مثلــي؛ فقـ ْـد عـ َ ُتبــدي ّ
ٍ
اكتفيـ ُ
ـث فارغـ ٍـةْ . َ ـرةّ ، ً ُ صوتهــا الحـ َّ َ
ـردود مقتضبـ ٍـةـت بـ ٍ وتزجنــي فــي أحاديـ ـاد ،وهـ َـي تســألني أســئلة ًكثيـ
ـون ًَ ـط َ ُ َ ُ ّ حتــى بـ ْ ّ
ممتعــا، أنفاســها لــن يكـ ـعر أن الحديــث مـ َـع امـر ٍأة مكـ ّـو ٍرة مثلــي بالـ ِ
ـكاد تلتقـ ـدأت تشـ
ـت بمراقبـ ِـة ّ َ
واكتفـ ْ ـت ّ َ
فصمتـ ْ
ـات ال تخلــو فــي ـض تعليقـ ٍ َ
أمامنــا .مــع بعـ ِ المار يـ َـن مــن ِ
النــاس ّ
ِ عنــي،
ُّ
أغلبهــا مــن تهكـ ٍـم. ِ
أبوك َ َ َ
معنا! ـلو كان
الحمــل، فحوصــات
َ
افقــون زوجا ِت ْ
هــم فــي جــال ير عــددا َ
مــن ّ ــت جنينــي ،وأنــا أرى ً حد ْث ُ
ّ
ِ ِ الر ِ
ّ ً ُ ّ ُ ُ ْ شـ ْ ُ
ـهري ِة؛الشـ ّ ـية تشــبه ُاليتـ َـم ،وتمن ْيــت لــو يرافقنــي مـ َّـرة فــي هــذه الفحوصـ ِ
ـات ـدة قاسـ ٍ ـعرت َبو ْحـ ٍ
ينتظرنــي عنـ َـد-حتــىُ - ابنــه المتكـ ّـو َم فــي بطنــي ،أو ّ يدخـ ُـل معــي إلــى غرفــة الكشــف ،يشـ ُ
ـاهد َ
ِ ِ
21
عشر
َ الصف الثّاين
أ
ـرص ال ِب. البــاب بشــغف ،ويسـ ُـألني بلهفـ ِـة الـ ّ
وج وحـ ِ
ِ ـز ٍ ِ
َ ُ الس ُ
لديك ّ
تريدين. ائق ...يوصل ِك أينما ـ ِ
وهي َ
بوقاحة َ ً َ
بينناُ ، ّ ُ َ
يديه.
بين ِ ٍ تطالعني الصحيفة حائطا كان ِت
الس ُ
ائق. ليس ّ
أنت زوجي ،و َ ـ َ
ُ المــار َة ُ
ّ ُ ُ ّ وتأف ُّ ّ ُ
تشــعرني تزيــد مــن ضيقــي ،كمــا العجــوز ونظراتهــا التــي تنهــش
ِ فــات ، ــف يتأف
ّ
تعليقاتهــا الل ِ ّ ُ
جــر.
ذعــة بالض ِ
وقت َّ
لدي.. ـال َ
َ ُّ َ َ َ ُ ُ أنــا ّالتــي لـ ّ
يهمــك خاللهــا ابنــك بيـ َـن أحشــائي ،ال ـهر أحمــل فيهــا ـدي مـ َـن الوقـ ِ
ـت تســعة أشـ ٍ
ـؤال واحـ ٍـد:
ســوى سـ ٍ
ـو ٌلد أم ٌ
بنت؟
ُ َ حرثـ ُ ْ ّ أ
ـاء ُه عــن
ـاول إقصـ َ ـت ذاكرتــي فــي مواقــف ال جــدوى منهــا ،أحـ يداهمنــي الســى كلمــاُ
ُ ّ َ َ ّْ ّ ُ ُ ّ تفكيــري وأنــا أعـ ُ
ـاود تقليـ َ
ـيء الشاشــة بالرقـ ِـم الــذي كان يضـ ـب الورقـ ِـة التــي تحمــل رقمــي ،وأقارنهــا
ُ ْ يدليـ ِـة ،و ّلمــا ْ ُ ّ الص ّـوداء بجانــب ّ السـ َ
ّ
بيدهــا وهــي تشـ ُـير:
ـوض أعادتنــي العجــوز ِ هممــت بالنهـ ِ ِ
ـانظري!
ـت امـر ًأة تسـ ُـير برفقــة زوجهــا ،شـ ْ ُ ـث أشـ َـار ْت ،فر ْأيـ ُ ُ
ـرة ،ولــم أسـ ْ
ـتطع ـعرت بالغيـ ِ ِ ِ نظـ ْـر ُت إلــى حيـ
َ ُ
ـعر ُت ضيقهــا،لكنــي استشـ ْ أفهمهــا ،و ّ
ـات متداخلـ ٍـة لــم ْ ـاد نظــري عنهمــا ،والعجــوز تتمتـ ُـم بكلمـ ٍ إبعـ َ
َ ٌ َ ٌ َ َ ْ ّ ً ُ َّ ْ
ـتظلــت نظراتنــا معلقــة بهمــا حتــى اختفيــا ،فلتــت مــن بيـ ِـن شــفت ْي تنهيــدة طويلــة ،بينمــا نفثـ ِ
ّ ّ
وعل َقـ ْ ُ َ
ـت عليهمــا بتهكـ ٍـم: برقعهــا،
العجــوز غيظهــا فــي ِ
(وين احنا)؟ في (باريس)ْ! ـ ْ
َ ـات وجههــا بدهشـ ٍـة ،قبـ َـل ْأن َ
أغادرهــا بعجـ ٍـل دون أدنــى ـ ن فحد ْقـ ُ
ـت فــي ّ
تغض
ُ
عبارتهــاّ ، شــنقتني
ِ ِ
تعليق .
ٍ
22
ريصقلا ةَّصِقلا
ُ
رأيْتُ النّخلَ
رضوى عاشور
23
عشر
َ الصف الثّاين
24
ريصقلا ةَّصِقلا
ُ
ـت أنســى ُ-ك ْنـ ُ وعندمــا ُك ْنـ ُ النعناعـ َـةَ ، وأن أســقي ّ ْ اليوميــة ب َك ْنــس الـ ّـدار ،وإطعــام ّ
ـت ً
دائمــا ـاج، ِ ـ ج الد ِ ِ ِ ِ ّ ِ
ـت تغضـ ُ َ
كانـ ْ َ ّ َ علــى عجلـ ٍـة ِمـ ْـن أمــريّ ،
ـب، ـاب إلــى المدرسـ ِـة- ـات قبــل الذهـ ِ أؤدي تلــك الواجبـ ِ
ٌ ِّ ً ُ
موب َخــة" :ح ـر ٌام عليـ ِـك يــا ُب ّنيتــي ،هــذا فــأل سـ ّـي ٌئَ ،ر ُّبنــا يمـ ُّـد فــي ُعمـ ِـر أبيـ ِـك، ويعلــو صوتهــا
ّ ََ َ ّ ُ ُ َّ ّ َ ْ َّ ً ّ َ َُ
ــواي ذهبــا، مرهــا .حتــى أخ مــر ِه ،وال فــي ع ِ ويبقــي الــدار عمــارا"َ ،ولكــن اللــه لــم يمــد فــي ع ِ
َ ـيت ّ ـت فــي القاهــرة -كالمقطوعـ ِـة مـ ْـن شــجرةَ ،وبــدا ّأننــي نسـ ُ ـت أنــا -بعـ َـد ْأن أ َق ْمـ ُ فأصب ْحـ َُ
النعناعــة ٍ ِ ِ
ّ َ ّ َ ُ َّ
والص ّبــارة والنخلــةَ ،وكل شـ ٍ
ـيء.
ّ
اب بي ِتنــا الــذي َ ْ َ َّ ْ ُ ـاء ْت ّ ُثـ َّـم جـ َ
صدرهــا ،وبكــت علــى خـر ِ لزيارتــي ،وضمتنــي إلــى ِ عمتــي فاطمــة
ـيوطيَ ،و َ السـ ِّ أ ترب َعـ ْ دمعهــاَ ،و َّ ـت َ فك َفـ َْ ْ ُ ُ َ َّ ْ َ ّ ُ ُ ُ َّ َ َ
فتحــت ـاط
ـت علــى البسـ ِ انطفــأت نــاره ،وجفــت صبارتــه ،ثــم ك
ُ ْ َ ً َ ُ َ َ ْ َ َْ ّ َّ ّ
ـارة .قالــت" :أحضـ ْـرت لـ ِـك رغفانــا خ َبزتهــاَ ،وتمـ ًـرا ِمـ ْـن نخلـ ِـة أبيـ ِـك، الســلة التــي َح َملتهــا معهــا ّللز يـ ِ
ـارة ،وهــي بالص ّبـ ِعمتــي لــي َيدهــا ّ ـارة ّالتــي فــي دارنــا" ،ومـ َّـد ْت ّ الص ّبـ ِ فرعــا ِمـ َـن ّ َو َك َسـ ْـر ُت لـ ِـك ً
ِ
ـومـارة ّالتــي فــي دارنــا َك َسـ َـر ْتها لــي ُأ ّمــي ِمـ ْـن َص ّبارِتهــا يـ َ ّّ ُ
ـت فــي َعينيهــا" :الصبـ ـوع ماز َالـ ْ والدمـ ُ ـولّ ، ُ
تقـ
ِ
َ ُّ ُ ُ َّ َ ّ َّ َ ْ ّ ُ ُ َْ ُ ْ َ
ـت زوجــي ،هـ ِـذ ِه إذن صبــارة جد ِتـ ِـك ،وجــد ِة جد ِتـ ِـك ،ر بنــا يبـ ِـارك ت ّزوجــت ،وانتقلــت إلــى بيـ ِ
ُ ّ ُ
فوزيــة ،يــا ُب ّنيتــي ،ويحفــظ لـ ِـك الـ ّـد َار عمـ ًـارا". فيـ ِـك يــا
ٌ َ َّ َ َذ ّك َر ْتني ّ
اس ّ
عني :مجنونة. فقال ّ
الن ُ عمتي ،و ّلما تذك ْر ُت ز َر ْع ُت،
َ يتهامسون ور َاء َظهريَ ،
َ في العمل ً
وذات ّمر ِة ،قال ْت لي زميلتي: أيضا، ِ
ُّ
يديك.
فوزية إلى ِ ـانظري يا
ً ّ
ـت وســاخة ،إنـ ُـه
ليسـ ْ الظافــرَ ،ف ُق ْلـ ُ
ـت" :هـ ِـذ ِه َ َ أ
ـوداء تحــت ـوط ّ ََ ْ ُ ّ ُ
ـت أنهــا تشـ ُـير إلــى الخطـ ِ
ِ السـ ِ فف ِهمـ
ّ ٌ ّ
أزرعـ ُـه".
طيـ ٌـن ُمتخلــف ِمـ َـن الـ ّـزرع الــذي ُ
ِ
ّ ٌ ُ ً ُ َ ُ ُ َ ْ
وأنت موظفة!". قالت لي ،وهي ت َر ِّبت على كتفي" :ال يليق ،ال يليق أبداِ ،
َ ُ ُ ّ عندمــا ُ ـيء ُزمالئــي َ ال أفهـ ُـم مــا ّالــذي يسـ ُ
أزرع .المــكان الــذي نعمــل فيـ ِـه ُمعتـ ٌـم وقديـ ٌـم ،تســاقط
ٌ ّ ـت فيــه الحشـر ُ ّ َ َ
خيوطـ ُـه فــي ّ ـاء ُجدرانــهَ ،ونسـ َـج العنكبـ ُ
ات ،وأنــا واثقــة أن الزوايــاَ ،وعششـ ْ ِ ـوت ِ ِ طـ ُ
ُ َّ ُ َ ّ ُ الفئـر َان لهــا جحـ ٌ
ـومـب بــا ضابـ ٍـطَ ،وكل يـ ٍ ـاء والليـ ِـل ،وتســرح بيــن المكاتـ ِ ـور فيـ ِـه تتركهــا فــي المسـ ِ
ّ ُ ّ ّ ُ ّ ّ ُ ْ ُ ّ َ ّ
ماديــة ـات التــي فــي ُعهدتــي :الملفــات الر أحمــد اللــه أنهــا لـ ْـم تقــرض بعــد ًّأيــا ِمـ ْـن أور ِاق الملفـ ِ
ُ الصلـ ِّـيّ ، أ ُ ـوف خشـ ّـبي ٍة ُمتآكلـ ٍـة ،يصعـ ُ ُ ُ
وحتــى المســاحة ـب معرفــة لوِنهــا القديمــة المصفوفــة علــى رفـ ٍ
25
عشر
َ الصف الثّاين
غطيهــا طفـ ُـح المجاري ،فال نسـ ُ ُ ّ ّ ُ ـتطيلة ّالتــي أمـ َ ُ ُ
ـتطيع "الحديقة"ي
ِ ـام المبنــى ،والتــي نشـ ُـير إليهــا بـــ المسـ
ُ ِّ ُ
ـاورة تشــكل جسـ ًـرا الحـ ِـذ ِر علــى خمسـ ِـة أحجـ ٍـار ُمتجـ ٍ بالســير َ ـروج ِم ْنـ ُـه ّإل ّ ـول المبنــى أو الخـ َ َ
دخـ
ِ
ـاب. إلــى عتبـ ِـة البـ ِ
َ َ ُ ْ ُ َ ُ َ ُ
ات مــن لـ ْـم أ ّصـ ْـر مـ َـع زمالئــي ،وعندمــا وجــدت الوضـ َـع علــى مــا هــو عليـ ِـه ز ْرعــت ثــاث شــجر ٍ
ـت أور ُاقهــا َح َم ْل ُتهــا إلــى المكتــبَ ،
ووض ْع ُتهــا
َ
وتكاثفـ ْ ـت،فلمــا َن َمـ ْ تعه ْد ُتهــاّ ، ـديَ ،و ّ الياســمين الهنـ ِّ
ِ ِ
ّ َّ ُ ّ ُّ ً
ـمين حتــى ـال الياسـ ِ
ْ
ـدة التــي بالمبنــى ،ولكــن زمالئــي لــم يلتفتــوا لجمـ ِ َ ـرفة الوحيـ ِ ُمتجــاورة فــي الشـ ِ
للطيــن تحـ َ ّ عندمــا أزهـ َـر ،مـ َـع ّأن ُهـ ْ َ
ـت أظافــري. ِ ـوا ـ التفت ـم
ُ ّ ّ ُ َ ِّ ً َ ُ ُ ُ
"فوزيــة المجنونــة التــي ـمعت ُه ْم ِبأذنــي يقولــون: فــي َعملــي ،ال يفهموننــي ،وال فــي الحــي أيضــا .سـ
َ ُ ّ ّ ُتلقــي ب َنفســها علــى نــوى ّ
ـبَ ،و ُهـ ْـم يســتغربون ســلوكي ،فالواحـ ُـد منهــم ِ ـ ه الذ التمـ ِـر كأنـ ُـه ُجنيهــات ِ ِ
يبصقهــا فــي َيــدهْ ،أو يرميهــا بعــدَ ُ ً ُ ُ َ ّ ُ َ ُ
ِِ يــأكل البلحــة ،ويلفــظ النــواة ،يبصقهــا ِمـ ْـن ِفمـ ِـه فتســقط بعيــداْ ،أو
خب َئهــا فــي جيبــي العميقــةَ ، ُ أ َ َُ ُ َ
وعندمــا أرجـ ُـع ِ ِّ أـول ذر ِاعـ ِـه فتســقط أبعـ َـد ..أركــض للتقطهــا ،و ِ ذلــك بطـ
تابعهــا وهــي ـومُ ،وأ ُ ّ ُ ُ َّ
وأتعهدهــا كل يـ ٍ
َ َ ّ
أضعهــا فــي قطنـ ٍـة ُمبللـ ٍـة أربعــة ْأو خمســة ّأيـ ٍـام، ـت ُ إلــى البيـ ِ
ُ َ َ َ َ َ ّ َ تنتفـ ُـخ ،وتليـ ُـن حتــى ألمـ َ
ّ
ـس بيــدي طراوتهــا ،فأعــرف أن الوقــت قــد حــان ،وبعــد ذلــك أدفنهــا فــي
ّ
ـاء ..،وأنتظـ ُـر. وأغمرهــا بالمـ ِ ُ الطيـ ِـن،
ُ ّ ُ ً ُ ُ َ ْ ُْ ُ ّ
فأزرعهــاَ ،و ُيحزننــي أنـ ُـه يتكـ ّـون ِمـ ْـن ـط بـ ِـه أرضــيُ ،
كنــت أتمنــى أن يكــون بيتــي فســيحا تحيـ ِ
ّ ُ ِّ َ ّ ٌ وأن ُشـ َ َّ
ـكل مــا ُ
أزرع. ضيقــة إلــى هــذا الحـ ِّـد ،وال تتســع لـ ـرفت ُه الوحيــدة ـدة،
ـرة واحـ ٍ حجـ ٍ
َ عد ْل ُ لكننــي َ ــرفة ،و ّ ُّ ــص ّ ُ ُ فــي الماضــي ُك ْن ُ
ــت عــن ذلــك؛ ســور الش ِ علــى رع الــز أضــع أ ُص َ ــت
حط ًمــا ،والعــودُ َ َْ ُ ّ ِ ْ ُ َ ِ ُّ َ أل ّن ِّ
ـارة .أول مــر ٍة وجــدت أصيــص زر ٍع م ّ الصغـ َـار العابثيـ َـن كانــوا يرمونهــا بالحجـ ِ
َ ّ َّ لكننــي ُق ْلـ ُ فكـ ْـر ُت فيهــم ،و ّ ّ َ أ المـ ُ
ـض الظـ ِّـن ـت لنفســي" :إن بعـ ـورا ،ذابــل الور ِاق، ـزروع فيــه مكسـ ً
ٌ
الصغـ ُـار ُيضايقوننــي وأنــا عائــدة عندمــا أخـ َـذ ِّ وتأكـ ْـد ُت أكثـ َـر َّ ّ أ
فلمــا تكـ ّـر َر المـ ُـر تأكـ ْـد ُت، إثـ ٌـم"ّ ،
ـتخدم فــي حفـ ِـظ ـرة ّالتــي ُتسـ ُ الصفائـ ِـح الكبيـ ِ ـك ّ َ ً
ـت ،أحمــل صفيحــة ْأو صفيحتيـ ِـن مــن تلـ
ُ
إلــى البيـ ِ
وعندمــا وجــدَ أزرع فيهــا َ - ـال ُيعطيهــا لــي لكــي َ ّ ُ َ َ ُّ ّ ّ أ
ـون -كان العــم متولــي البقـ ـض ،أو الز يتـ ِ ِ ـ بيال الجبـ ِـن
وذهبيـ ٍـة غضـ َ
ّ المغلــف بــأور ٍاق ّ َ ّ َ
المعطـ َـر والجبـ َـن المســتورد ُ ّ َ
الصابــون ُ ّأننــي ال أشــتري ِمنــه ّ
ُ ْ
ـب، فضيـ ٍـة
أ َ ّ َ ـتاء ،ولـ ْـم َي ُعـ ْـد ُيعطينــي ّ
ـياء ،ال الشـ َ الصفائـ َـح ،ذلــك رغـ َـم تأكيــدي لـ ُـه أننــي ال أشــتري هـ ِـذ ِه واسـ َ
ــح الصفا ِئ َالعــم متوّلــي ُيعطينــي ّ كان ُّ َ
وعندمــاقليــلَ ، ٌ ٌ
ســواه؛ لنهــا غاليــة ،وراتبــي
ُ أّ ِم ْن ُــه ،وال ِم ْ
ــن
ٌ ُ ُ َ ّ َ َ ال ُ َ أ
والد يمشــون ورائــي ،ويزفوننــي ،ويقولــون :المجنونــة ...راجعــة ،وماســكة فــي ِيدهــا صفيـ ٌـح، كان
26
ريصقلا ةَّصِقلا
ُ
(عقــل مــا فيــشَ ،مــخ مــا فيــش)(ُ ،مــخ فالصــو ،وعقــل صفيــح).
ّ ّ َ َُ ُُْ ُ ُ َ
ـكاء ،إل أننــي لـ ْـم أ كـ ْـن أبكــي، البـ ِ بغصـ ٍـة فــي حلقــي ،ورغبـ ٍـة فــي ُ ـعر ّ حزننــي ،فأشـ ُ كان ســلوكهم ي
ُ ّ ُ َ ْ
َبــل أنحنــي ،وألتقــط ّأول حجـ ٍـر فــي الطريـ ِـقَ ،وألقيـ ِـه عليهــم.
ّ ـليمان المـر ُأة البدينـ ُـة ُ َ ُ
واعترض ْتَ السـ ِّـن الذهبـ ِّـي،ذات ِّ ات ظهـ َـر ْت لــي أ ُّم ُسـ وفــي َمـ ّـر ٍة ِمـ َـن المـ ّـر ِ
ً
ـت لهــا ُمعتذرة: طريقــيَ ،ف ُق ْلـ ُ
27
عشر
َ الصف الثّاين
28
ريصقلا ةَّصِقلا
ُ
29
عشر
َ الصف الثّاين
ـيعرف مــا معنــى الكلاب وغيرهــا مــن الـ َّـد ِّ ُ َ للقوانيــن! َ
واب ِ ِ ـ س ـة عندمــا يدفـ ُـع الغرامـ ِ
َ ُّ َ َّ َّ
ـأريه العفاريــت الــزرق! الضالـ ِـة! سـ ِ
َ ُ ُّ
يلديرين: الش َّ
رطي ُويخاطب
إعدامـ ُـه فـ ً
ُ ـب محضـ ًـرا! َّأمــا الكلـ ُـب َمـ ْـن هــذا ،واكتـ ْ ْ
ـرف كلـ َ
ـورا! ال ـب فينبغــي اعـ
ُ َّ ُبـ َّـد َّأنـ ُـه مسـ ٌ
ـب مـ ْـن هــذا؟
كم :كلـ ُ
ـعور ..إننــي أســأل ْ
شخص من َ
ٌ ُ
الج ِمع: ويقول
ُ يبدو َّأن ُه ُ ِ
كلب الجنر ِال جيجالوف! أتشوميلوف؟
ُ ارتباك دالئل
ُ ما
تلون موقفه؟
وما دالئل ّ
َ ُ ٍّ َ ْ ِّ ُ َ ْ ُ
الجن ـرال جيجالــوف؟ هـ ّـم!! انــزع عنــي ِ
المعطــف يــا يلديريــن ..أف ،يــا للحـ ِّـر!
30
ريصقلا ةَّصِقلا
ُ
ُ
الالكم! ٌ
ممنوع
رطي ِ ُّ ُ ُّ
الش ُّ
عميق:
بنبرة تأم ٍل ٍ ويقول
الكبـ ُـه ُ
أكثرهــا ـذهُ .. ـس لـ َـدى الجنـرال ٌ
الكب كهـ ِ ِ َّلك ،هــذا ليـ َ
ـس كلـ َ
ـب الجنـر ِال .ليـ َ
َّ ٌ
سلوقية ..
ِّ
أنت متأك ٌد؟
هل َ
ِّ
َ
صاحب المعالي.. متأك ٌد يا
ُ َّ ٌ ٌ ـكُ .. َ ُ
أين تجد المبالغات في كالم الكب الجن ـر ِال غاليــة ،أصيلــةَّ ،أمــا هــذا ..فالشــيطان أنــا نفســي أعــرف ذلـ
َ يعلـ ُـم مــا هـ َـو! ال َشـ َ
ـب ُيقتنــى؟! أيـ َـن ـعر ،وال هيئــة ..مجـ َّـر ُد حقـ ٍ
ـارة ال غيـ َـر .أهــذا كلـ ٌ
أتشيمولوف؟ ماذا يعكس
31
عشر
َ الصف الثّاين
ُ ُّ ُّ َ ِّ
يفك ُ
مسموع:
ٍ بصوت
ٍ ر ويقول الشرطي وهو
ـت مـ ْـن مـ َّـد ٍة ً
مكتوبــا علــى َســحنت ِه ..رأيـ ُ
ً ـب الجنـر ِال ..فليـ َ َ
كان كلـ َ َّ
كلبــا ِ ـس وربمــا
ـاء منزِلـ ِـه. َ ُ
مثلــه فــي ِفنـ ِ
ُ
ويقول ٌ
صوت َ
الحشد.
ِ من
واضح!ُ ..
كلب الجنر ِال. ٌ
ـقيق الجن ـر ِال؟ فالديميـ ُـر إيفانتــش؟ ٍآه يــا ِّربــي! وأنــا ال أعلـ ُـم! أحقــا وصـ َـل شـ ُ ًّ هل تتخيل المشهد هنا؟
32
ريصقلا ةَّصِقلا
ُ
ِّللز ِ
يارة..
ســعيد ًّ
ٌ ْ ُ َ
جــدا.. كلب ُــه؟..
إذن فهــذا ُ ُ
أعلــم؟ ٍآه يــا ِّربي..أوحش ُــه شــقيق ُه ..وأنــا ال
َ
ـقي ..هبــش هــذا مـ ْـن ِإ ْص َب ِعـ ِـه ..هــا ..هــا ..هــا.. ـب! شـ ٍّ ـ كل ُخـ ْـذ ُه ..يــا لـ ُـه مـ ْ
ـن
ٍ
صغير! من لك
َ
يا ..رُ الماك هذا ٌ
غاضب همالك ترتع ُش؟ َأ ّو ْه َّإن ُ َ
ٍ ِ ِ
َ َ ً
ـبُ ..ويقهقـ ُـه
ـزن الح ِ
ـ ط ـب ،ويمضــي َ ُ
معــه مبتعــدا عــن مخـ ِ ـور الكلـ َ
ويدعــو بروخـ ُ
ً َ
الج ْمـ ُـع ُســخرية بخريوكيــن.
ُ ُ ُ َْ
متوع ًدا:
يلوف ِّ شوم
ويقول له أت ِ
ُ َ َ ً
مهل ،سوف أفرغ لك!
َ ِّ ميدان ُّ
الس ِوق متدث ًرا ِ
بالمعط ِف. ِ طريق ِه َ
عبر ويمضي في ِ
33
عشر
َ الصف الثّاين
ــي الحــروف فــي َع َين َّ ِ ات نبــت تدويــر ُ الدفات َــر َبكســلَ ،و ُت ُ
ِ
ــب َّ بليلــةَ ،ف ُأ ِّقل ُ ٍ ِب َن َ
ســائم
----------------------------
34
ريصقلا ةَّصِقلا
ُ
35
عشر
َ الصف الثّاين
َ ُ ـال َو َن ُحـ َـف ،نظـ َـر ْت إلـ َّـي رجـ َُ َّ ْ
ـاء ِب َت َم ُّعـ ٍـن ،لـ ْـم ت َز ْحـ ِـز ْح ِ الم ُحــهَ ،و ِج ْسـ ُـمها طـ
تغيـ َـرت َم ِ
َ ْ ُ َ ُ َ َ َ َ
ـت ،لـ ْـم َيكـ ْـن َع ْين ْيهــاَ ،ســك َت ْتَ ،مـ َّـد ْت ذر َاع ْيهــا المرتجفتيـ ِـن ِل ُتطـ ِّـوق َرقبتــي ،فبكيـ
ُ ِّ َ
َع ْصـ ُـر هــذا اليـ ِ
ـوم ك َع ْصـ ِـر كل َيـ ْـو ٍم.
36
ريصقلا ةَّصِقلا
ُ
ليل
ذات ٍ
وكلبَ ،
ٌ طفل
ٌ
آماليا رندايك
ِ ذات ٍ ِ ِ ِ القص ِة ِ
"للكاتبة ليل كلب َ
"طفل و ٌ
ٌ كتاب األنشــطة ،اقرأْ ّ
قصةَ القصيرة"في تعريف "ال ّنغمة في َّ أن تقرأَبعد ْ
• َ
ِ
والمشاعر الّتي خل َق ْتها
َ االنطباعات هامشيِ ال ّن ِّص
َ ثم اقرأْها قراء ًة ثانيةً ِّ ،
وسج ْل على آماليا رندايك ،قراء ًة أولىَّ ،
أن تســتنتج النغمةَ الســائد َة في القصةِ.يمكن لك ْ ِ
مادي .من مجموعها
ّ ّ َ ّ ُ بالر ِّور المظلّلةُ ّ والص ُ
والجمل ُّ الكلمات
ُ
ِ
تتبع خطَّها ،وانعطافاتها. هي ثابتةٌ أ ْم متغ ّير ٌة ،ويمك ُن َك ْ
أن َ وهل َ
ْ
ـدات عميقـ ٍـة غضـ َـن ّ ـابّ ،الــذي َت َّ الشـ ِّ ّ جعـ ُ الت ُّ تالشــت ّ َ َ
بتجعـ ٍ ِ ـدات مــن وجـ ِـه الب ـرا ِ وســرعان مــا
َ ُ ٌ ّ ٌ َ َ ْ ََ َ َ َ أَ ْ َ الم ْعـ ْ َ
ـاوة اســتقبال أ ْسـ َـرِت ِه ـدن الخـ ِـامَ ،ومــات َع ْين ْيـ ِـه ُدفقــة ورقــة ،بعــد أن تق ّبــل َبحفـ ٍ ِ ـروق َ ِ مثـ ِـل ُعـ
ْ َ َ ْ ْ َ ُ َّ َ ُ ََ ْ َ ُ ُ ّ ُ
ـوم ِمـ ْـن ـاد أن يف َعــل كل َيـ ٍ ـت كمــا اعتـ ـاب البيـ ِ مح ّبـ ِـة ،فقــد كان جــوان الص ِغيـ ُـر يقــف علــى بـ ِ ال ِ
َْ
الم َسـ ِ
ـاء. ـرة ْ فتـ ِ
37
عشر
َ الصف الثّاين
بي ِتنــا!".
الراعــي ّ ـب ّ َ ً ُ ّ َ ً َ َّ ُ
الضخـ ِـم، ـور بــاك ،كلـ ِ كان الشـ ِـارع مهجــورا ،وكان جــوان الصغيـ ُـر مســتثارا بحضـ ِ
ُ
ـياء قليلـ ٍـة قـ ِّـد َر لهــا أن تلـ َـج إلــى مشــاعر
واحـ ًـدا مــن أشـ َ ُ َ ّالــذي يتبـ ُـع سـ ّـي َد ُه ّ َ
السـ ّـيد ديفيـ َـز .كان بــاك ِ
ـود ّ
متوحـ ٍـد علــى أرض ّ
أجنبيـ ٍـة. ٍ ديفيـ َـز ،كرفيـ ٍـق فريـ ٍـد لوجـ ِ
ُ َ َ َ ْ َ
يمكننــي أن أفعــل مــن أج ِلك؟"قــال عامــل المنجـ ِـم ِ "تقـ ّـد ْم ،مــن فض ِلــك ،يــا سـ ِّـي ُد ديفيـ ُـز .مــاذا
ْ ّ
الصغيـ ِـر ،بعـ َـد أن تمكـ َـن
ـت ّ ـاب ّبوابـ ِـة البيـ ِوفاتحــا بـ َالمعدنيـ َـةً ،
ّ َ ُ
جــوان البـرا باحتـر ٍام ِناز ًعــا خوذتـ ُـه
ّ ّ َ
ـركة عنـ َـد ِبابــه.ـاء دهشـ ِـت ِه لرؤيـ ِـة أحـ ِـد ُمــا ِك الشـ ِ بصعوبـ ٍـة مــن إخفـ ِ
ُ ْ َ أّ ً مختصـ ًـرا ،يــا سـ ّـي ُد البـراّ .إننــي أحتـ ُ ُ َ
ـب أن ـاج معروفــا كبيـ ًـرا منــك؛ لننــي يجـ ِ "ســوف أكــون
َ َ ْ َ ً
ضيافتــك لعـ ّـد ِة أيـ ٍـام صديقــي العزيـ َـز بــاك.ِ ـرمـادر حــال إلــى أنتوفاجاســتا ،وأن أتــرك فــي كـ ِ أغـ
ُ ُّ ً َ ّْ ً أَ ّ َ ُ
ـرد يعــرف ذلــك"- ـات ،وكل فـ ٍ ســتكون رؤومــا لنــك فــي "كالما"نظمــت جماعــة لحمايـ ِـة الحيوانـ ِ
كلبــه.قــال مســتر ديفيــز ،وهــو ينظـ ُـر إلــى ِ
َّ ُ َ ُ َ
ـعيدا هنا ،وســأتأك ُد
ـب سـ ً ـيكون الكلـ ُ ثقتــك بي .سـ ـكرك علــى ِ "هــذا حسـ ٌـن .يــا سـ ّـي ُد ديفيـ ُـز ،وأشـ
َ ُ َ ّ ُ
غير"-هكــذا وعـ َـد البـرا ـوان ّ
الص ُ ابنــي فــي غيابــي ،جـ دائمــا مــن أنــه ال يعانــي ،ولســوف يعتنــي بــه ِ ً
ُ
ـب. ً
ـاع ًرا برضــا داخ ِلـ ٍّـي غريـ ٍ
جاكتتـ ِـه ،شـ ِ
ِ السـ ِّـي َد ،وهـ َـو ُي َعـ ّـدل مــن وضـ ِـع
ّ
38
ريصقلا ةَّصِقلا
ُ
39
عشر
َ الصف الثّاين
40
ريصقلا ةَّصِقلا
ُ
41
عشر
َ الصف الثّاين
السماور
َّ
فائق
ُ سعيد
ُ
َ ُ
ستتأخر َع ْن عم ِلك.
ُ ..انهض يا ُب َن َّي،
أذان الفجر ْ
ِ ُرفع من قراءة الفقرات األربع
األولى كيف تصف حياة علي
َ ُ ً
ــت كان ْ المصنــع. إلــى ُ
يذهــب وهــو أســبوع منــذ .عمــا أخيــراَ ،و َج َــد ٌّ
علــي ً وأمه؟
ِ ٍ ُ
ُ ّ
واليمــان باللـ ِـه ـت إ دخلـ ْ َ
عاءهــا. ـت ُد َ َ
وأكملـ ْ ـت صالتهــا،
َ أقامـ ْ ـعيدة وراضيـ ًـةَ . ً
أ ُّمـ ُـه سـ ----------------------------
ـماور وغاليـ ِـة بائـ ِـع َّ ـتمتع عنـ َـد ّ الصبــاح .كان علـ ٌّـي يسـ ُ ـعادة َّ َّ
ـاح بالسـ ِ ـ ب الص ِ ـ وس ـق ِ ـ المعت ما معنى أن ينتج السماور
ُِ ُ أ َ
ُ ِ ّ َّ سعادة الصباح؟
ـاب المصنـ ِـع .ثــم الصــوات ،بــوق مدرسـ ِـة "هليجــي ِ ـحلب الــذي يقــف أمــام بـ ِ السـ
ُ ُ ــارة المصنــع ّالتــي ُّ ّ َ ّ ُ ----------------------------
منيــات، ٍ حيــي أ ت ، الخليــج َ
أرجــاء تهــز أوغلو"العســكري ِة ،وصف
َّ ِ ًِ َ ِ ----------------------------
ـيس مع أن الحاسـ َ أ روحــا شــاعريةَ ، ـات ُأخــرى .ذلــك يعنــي أن ِل َعلـ ٍّـي ً
َّ َ
وتحبــط طموحـ ٍ
ُ
----------------------------
----------------------------
َ َّ َّ
الصناعيةِ ،ويقع على خليج القرن الذ ِّ ُ )1 ----------------------------
هبي وسط المدينةِ . أحياء مدينةِ (إسطنبول)
ِ أحد
42
ريصقلا ةَّصِقلا
ُ
َ
ات المحيـ ِـط ـرة مــن عاب ـر ِ ـاج باخـ ٍ ِ ـ كإي ، ـع
ِ ـ المصن ـجِ ـ بضجي ـاء
ٍ ـ كهرب ـل
ِ ـ لعام ـةالمرهفـ
َ ٍّ ُ ْ َ َ ّ
ـب كل ِم َّنــا يقبـ ُـع أ َسـ ٌـد. ّ
فــي الخليـ ِـج ،إل أننــا -علـ ّـي ومحمــد وحســن -هكــذا ،فــي قلـ ِ
ُ َ ُ َّ َ ْ ُ َ َ ٌّ َ َ ُ ِّ ُ ُ َّ َ َ َ َ َ َّ َ َ
ـت أ ُّمـ ُـه ت ْض َحــك، ـفت ْي ِه كأنـ ُـه أكل قطعــة ســك ٍر .كانـ ق ّبــل علــي يــد أمــه ،ثــم لعــق شـ
ُ
ـان ريحـ ٍ ـص َو ْ النحــو ُك َّلمــا َق َبـ َـل أ َّمـ ُـه .كان يوجـ ُـد أصيـ ٌ التصـ ُّـرف علــى هــذا ّ ـاد ّلقــد اعتـ َ
ِ
َ َّ َ َ ْ َ َ َ
ـانَ ،وف َركهــا بيـ َـن كف ْيـ ِـه ـات ريحـ ٍ ـرة .قطــف علـ ٌّـي ِبضـ َـع َورقـ ِ ـت ّ
الصغيـ ِ فــي حديقـ ِـة البيـ ِ
َ ّ َ َ
ـادر ُمبتعـ ًـدا ،وهــو يستنشــق رائحــة َّ
ـاح كان بـ ِـار ًدا ُ َّ
ـان فــي كفيـ ِـه .هــواء الصبـ ِ الر يحـ ِ َوغـ َ
َ ُ َ ً
جميعهــم كانــوا ُ ـوارب،ـف القـ ِ ـاء ُه عنــد رصيـ ِ غائمــا .التقــى أصدقـ َ كان ً قليــا ،والخليــج
ُ ُ ً َ َّ
ـخاص إلــى "هاليجــي أوغلــو". شـ ِـبانا أ ِشــد ِاء .أبحـ َـر خمســة أشـ ٍ
ً ظهـ ُـر َعلـ ٌّـي فــي َعم ِلـ ِـه ُك َّل ِجـ ٍّـد واســتمتاع وحمــاس ،لكـ ْـن ليـ َ ُ
ـس رغبــة بإظهـ ِـار ٍ ٍ ي ِ
َّ َ ـب االســتعر َ َ ُ
اضَ ،مـ َـع أنـ ُـه كان ُيجيـ ُـد ـتقيما ،وال يحـ ُّ كان ُمسـ ً تفو ِقـ ِـه علــى زمالئـ ِـه ،فقــد ّ
َْ ْ َّ َ
يــنالكهربائي َ
ّ ــم علــى َي َــد ْي أش َــه ِر تعل َ ّ
المهني ِــة ،إذ ــنرجــة ِم ْ عمل ُــه إلــى أقصــى َد ٍ
ُ َّ ـب َع ًّليــا كثيـ ًـرا ،فأخلـ َ ـان فــي (إســطنول) .كان ُي ِحـ ُّ أ
تعليمـ ِـه كل أس ـر ِار ـص فــي ِ اللمـ ِ
بارعــا ال ُيضاهيـ ِـه أحـ ٌـد. المهمـ ِـة؛ ليصبـ َـح ِم ْث َلـ ُـه ُم َع ِّل ًمــا ً
َ َ ًّ ً َ
قديمـ ِـه أقصــى ُجهـ ِـد ِه فــي عم ِلـ ِـه بيتـ ِـه َســعيداُ ،مطمئنــا ِمـ ْـن ت ِ ـاء إلــى ِ عــاد فــي المسـ ِ
ُ فريقــا واحـ ًـدا مــع ُزمالئــهَ . ً
وبعدمــا حضـ َـن أ ُّمـ ُـه ،ا ِتجـ َـه نحـ َـو المقهــى المقابـ ِـل ليلتقـ َـي ِ
ـض أمـ َ ـاة المغــرب .ربـ َ َ َ َ ُ ُّ ُ ُ ً ـاء ُهُ .ثـ َّـم تـ َّ
ـام ِ ـ ص ـؤدي ـت بيتـ ِـه .كانــت أمــه ـدر َج عائــدا إلــى ِ أصدقـ َ
َ ُ
أ ِّم ُــه ،وقال:
ّ ُ
سيغف ُر َلي الل ُه يا أ ِّمي. ـ ِ
ً ُ َ ُ ُّ ُ َ َ أَ ْ َ َ
ـت تحيــك لـ ُـه كنــزة كانـ ْ اءة روايـ ٍـة بوليســي ٍة .أمــه بعــد ال ك ِل ،غـ ِـرق َعلـ ٌّـي فــي قـر ِ
الخزامــى. ـوح منهمــا ع ْطـ ُـر َزهــر ُ
ِ صوفيـ ًـةُ ،ثـ َّـم تمـ َّـددا ونامــا علــى فر َاشـ ْـين يفـ ُ ّ
ِ ِ
ـت رائحـ ُـة ُ كانـ َْ ُ َ ْ ُْ َ ُ َ أُ َ
ـص ـم الم َح َّ
الخ ْبــز ُ . ـع ـفر ي ـر ـج الف أذان كان ـاـ بينم ـاـ ال ُّم ًّ
علي ـت ـ أيقظ
ِ ِ ِ
كان َعلـ ٌّـي ُي َشـ ِّـبهُ َ ّ َّ ُ َ ُ ّ ُ
ـماور بشــد ٍة! الزكيــة تفــوح فــي الغرفـ ِـة .كان المــاء يغلــي فــي السـ ِ
ـوادث ،فهــو ال ينتـ ُـج ســوى ـات والحـ ِ والضرابـ ِ ـذاب إ الســماور بمصنـ ٍـع يخلــو مــن العـ ِ
ّ َ
ـعادة َّ الم َّالشــاي ُ َّ ُ
ـاح. ِ ـ ب الص ِ ـ وس ـق
ِ ـعت البخـ ِـار ورائحـ ِـة
43
عشر
َ الصف الثّاين
44
ريصقلا ةَّصِقلا
ُ
علي
ذهب ٌَّ ي رأيك،
صن ِع بعد إبالغِ الجارةِ
ه؟
--------------------
--------------------
--------------------
--------------------
--------------------
45
عشر
َ الصف الثّاين
46
رديفة
ٌ قصص
ٌ
47
عشر
َ الصف الثّاين
48
ٌةفيدر ٌصصق ُ -فيحّنلاو ُ يندبلا
حيف
ُ البدين وال ّن
ُ
أنطوان تشيخوف
آ ّ ّ
فــي محطــة ســكة حديــد (نيقــوالي) التقــا صاحبــان؛ أحدهمــا بديــن والخــر نحيــف .كان
ّ
البديــن قــد تغـ ّـدى لتـ ّـوه فــي المحطــة ،ولمعــت شــفتاه مــن الدهــن ،كمــا تلمــع ثمــار الكــرز الناضجة.
ّ
المعطــرةّ .أمــا النحيــل فــكان ً
خارجــا لتـ ّـوه مــن عربــة القطــار وفاحــت منــه رائحــة الحلويــات
الرخيصــة .والحــت مــن محمـ ًـا بالحقائــب ُّ
والصـ َـرر وعلــب الكرتــون .وفاحــت منــه رائحــة القهــوة ّ ّ
وراء ظهــره امــرأة نحيفــة طويلــة الذقــن ..زوجتــه ،وتلميــذ طويــل بعيــن مــزرورة ..ابنــه .وهتــف
البديــن عندمــا رأى النحيــف:
ـ(بورفيري)! أهو أنت؟ يا عزيزي! كم ّمر من أعوام من أرك!
ُودهش ّ
النحيف: ِ
ـيا سالم! (ميشا)! يا صديق الطفولة! من أين جئت؟
آ ً
وتبــادل الصاحبــان القبــات ثالثــا ،وحـ ّـدث كل منهمــا فــي الخــر بعينيــن مغرورقتيــن بالدموع،
وكان الكهمــا فــي حالــة مــن الذهــول اللذيــذ.
وقال النحيف بعد القبالت:
ّ
جيـ ًـدا! جميــل كمــا كنــت!ـا نظــرت إلـ ّـي ّ ـيــا عزيــزي! لــم أتوقــع أبـ ًـدا! يــا لهــا مــن مفاجــأة! هـ
غنيــا؟ تزوجــت؟ أنــا تزوجــت حبــوب كمــا كنــت! آه يــا إلهــي! كيــف أحوالــك؟ أصبحــت ًّ ّ
كمــا تــرى ..وهــذه زوجتــي (لويـزا) ،مــن عائلــة (فانســتباخ) ..أمــا هــذا فابنــي (نفانائيــل) ،تلميــذ
معــا فــي المدرســة.بالصــف الثالــث .يــا (نفانيــا) .هــذا صديــق طفولتــي ،درســنا ً
ً ّ
وفكر (نفانائيل) قليل ،ثم نزع ّقبعته.
ومضى النحيف يقول:
معــا فــي المدرســة! أتذكــر كيــف كانــوا يغيظونــك؟ بلقــب (هيروســتراتوس) أحرقــت ـدرســنا ً
بالســيجارة كتــاب العهــدة ،وكانــوا يغيظوننــي بلقــب (افيانتــوس) ألنــي كنــت أحـ ّ
ـب النميمــة.
ً
صغــارا! ال تخــف يــا (نفانيــا) ..اقتــرب منــه ..وهــذه زوجتــي ،مــن عائلــة هــا هــا ..كــم ّكنــا
(فانســتباخ).
ً ّ
وفكر (نفانائيل) قليل ،ثم اختبأ خلف ظهر أبيه.
* ترجمة أبوبكر يوسف ،دار رادوغا ،موسكو.
49
عشر
َ الصف الثّاين
50
ٌةفيدر ٌصصق ٌ -تيب
بيت
ٌ
ابتسام املع ّلا
ُْ
عندمــا أغ ِلـ َـق البــاب الخارجـ ّـي بالمفتــاح ،كانــت الســاعة تقتــرب مــن الرابعــة عصـ ًـرا ،وكان
ٌ
الر ْيحــان المزروعــة فــي وهيــج ســيقان ّرذاذ ناعـ ٌـم قــد بــدأ فــي نثــر لمعتــه علــى قبضــة البــاب ّ
الســور وبــاب المنــزل الداخلــي ،ففاحــت رائحتهــا وطغــت الم ّبلطــة بيــن ّ
المســاحة الصغيــرة غبــر ُ
الســمك التــي كانــت َ
تفعــم البيــت الصغيــر. علــى بقايــا رائحــة ّ
َ ّ
يتدلــى ثـ ٌ علــى حبــل الغســيل الــذي كان يمتـ ّـد بيــن شـ ْ
ـوب برتقالـ ّـي مشـ َّـج ٌر ـجرتي لـ ْـوز كان
ّ ّ ٌ ٌ ٌ
ـروال أبيـ ٌ أ
ـض ،ومنشــفة صغيــرة قانيــة الحمــرة ،بــدا أنهــا كانــت علــى وشــك أن تجــف بالخضــر ،وسـ
َ ّ
لــوال أن الـ ّـرذاذ عــاد فرطبهــا مــن جديــد.
أبــواب الغــرف كانــت مغلقــة ،لكــن رائحــة الســمك المنبعثــة مــن بــاب المطبــخ المفتــوح
أ ّ
تســر بت مــن تحــت البــواب وتداخلــت مــع الهــواء.
ّ الســمك وانفــرد وحــده برائحــة ّ الحمــام وحــده نجــا مــن رائحــة ّ
ّ
الحنــاء الــذي ظلــت بقايــاه
الطاســة ّ ّ
الصغيــرة التــي اســتخدمتها صاحبتهــا لصبــغ شــعرهاّ ،ربمــا قبــل خروجهــاالفضيــة ّ فــي
ّ
بســاعات؛ إذ تبــدو الملعقــة المتروكــة فــي الطاســة وقــد يبــس عليهــا عجيــن ّ
الحنــاء دون أن تخبــو
الرائحــة.
لــوال الضــوء المنبعــث مــن إحــدى الغــرف الثــاث ،وبالــذات مــن ذلــك الخيــط أســفل الباب،
ّ ً
غارقــا فــي ظلمــة ال ُت َ ّ
حتمــل ،وال يبــدو أن الضــوء كان منسـ ًّـيا؛ فثمــة ومــن فتحــة القفــل لظــل البيــت
مــن تركــه ،ربمــا لتبديــد وحشــة البيــت ،ولكــي ال تشــعر تلــك الغرفــة وصالــة الضيــوف المطلــة
ـأي نــوع مــن أنــواع الغربــة لخلـ ّـو المــكانّ .أمــا تلــك الغرفــة المضــاءة فهــي أكثــر غــرف عليهــا بـ ّ
البيــت امتــاء بالحيــاة ،ففيهــا ســرير قديــم كبيــر الحجــم ،بأرجــل أســطوانية قصيــرة ،يأخــذ نصــف
ورديــة تطـ ّـل مــن تحــت غطــاء صوفـ ّـي ســميك ،يوحــي مـ ُ مغطــى بمــاءة ّ ّ مســاحتها ً
ـرآه تقريبــا ،وهــو
أ بالــدفءُ ،بنـ ُّـي اللــون ومزخــرف بــورود كبيــرة ّ
متفتحــة ،وقــد انســدل جانـ ٌ
ـب منــه علــى الرض،
ّ ّ
المخدتــان اللتــان لهمــا نفــس لــون وأطلــت تلــك العالمــة التــي تقــولّ . Made in China :أمــا
المــاءة الورديــة فتتوســط إحداهمــا بقعــة كبيــرة ِدبقــة ،وبضــع شــعيرات بيضــاء خالــط لونهــا لــون
حنــاء قديــم.ّ
51
عشر
َ الصف الثّاين
ّ
علــى الكوميدينــو المالصــق للســرير مــن جهــة اليميــن تصطــف علــب وزجاجــات أدويــة،
وبخــاخ صغيــر ّللر بــو ،والريمــوت كنتــرول الخــاص بالتلفزيــون وزجاجــة مــاء مقلــوب علــى رأســها ّ
اليســر ّ أ ّ
فتتكــئ عليــه ثــاث صــور ،إحداهــا بإطــار فضـ ّـي كأس ذو حافــة ذهبيــةّ .أمــا الكوميدينــو
وفيهــا صــورة شــاب علــى يخلــو مــن وســامة ،يبــدو فــي الرابعــة أو الخامســة عشــرة ،يرتــدي مالبــس
أ
المدرسة،ويبتســم ،وقــد وضــع إحــدى يديــه فــي جيبــه ،بينمــا احتضــن الكــرة باليــد الخــرى.
أ
الصــورة الثانيــة إطارهــا أســود حائــل اللــون ،وفيهــا تجلــس امـرأة تبــدو فــي نهايــة الربعينــات،
ّ ترتــدي ً
ثوبــا ذا ألــوان صارخــة ،كان يطــل مــن عباءتهــا المفتوحــة ،وحــول رقبتهــا سلســلة عريضــة
أ ّ
مــن الذهــب تتدلــى مــن وســطها دائــرة ذات شــذرات تشــبه تلــك التــي فــي خالخيــل الطفــال.
تمامــا فــي الســيطرة علــى خجلهــا وابتســامتها. تنظــر الم ـرأة إلــى الكامي ـرا مباشــرة دون أن ُت ْف ِلـ َـح ً
تمامــا يجلــس رجــل أكبــر منهــا قليــا ،يرتــدي دشداشــة بيضــاء ويضــع يديــه فــي إلــى جوارهــا ً
ّ ّ
الصــورة يشــك فــي أن الرجــل كان ينظــر وثمــة َحـ َـو ٌل خفيــف فــي عينيــه يجعــل مــن يــرى ّ حضنــهّ ،
إلــى الكامي ـرا لحظــة التصويــر .خلفهمــا مباشــرة وفــي منتصــف الصــورة تقريبــا كان يقــف شــاب
ّ
بــدا نصفــه العلــوي فقــط ،يرتــدي مالبــس رياضــة حمـراء اللــون ،وقــد خــط وجهــه شــارب ناعــم،
وكانــت مالمحــه تشــى بعــدم رغبتــه فــي أن يكــون فــي الصــورة .أمــا الصــورة الثالثــة فإطارهــا ذهبـ ّـي
مزخــرف وثقيــل وفــي أربعــة أطفــال ،بنتــق وثالثــة أوالد ،يجلســون علــى خلفيــة بنفســجية ذات
فقاعــات متفاوتــة الحجــم ،يضحكــون للكامي ـرا ،وقــد انكشــف فــم أوســطهم عــن سـ ّـن مفقــودة.
هنــاك فــي إحــدى زوايــا الغرفــة المواجهــة للســرير تنتصــب طاولة مــن الخيــزران عليهــا تلفزيون
متوســط الحجــم وراديــو وغرامفــون مغبـ ّـر ،كأنــه موجــود للزينــة فحســب ،ومسـ ّـجل متهالــك يبــدو
ّ ّ ّ ّ ُ ّ
الفضيــة التــي تغطيــه ،تصطــف بالقــرب منــه خدم لســنوات طويلــة حتــى تقشــرت الطبقــة أنــه اســت ِ
أشــرطة كاســيت ذات أغلفــة باهتــة لعلــي بــن روغــة وجابــر جاســم وميحــد حمــد ،وإلــى جانبهــا
منوعــة مــن العطــور التــي تحتــوي حجمــا تتكـ ّـدس عليهــا قواريــر صغيــرة ّ طاولــة أخــرى أصغــر ً
ّ
ســوائل ثخينــة ،بعضهــا متخثــر بفعــل الزمــن .أعلــى طاولــة العطــور تمامــا توجــد مــرآة مســتطيلة بهــا
شــرخ صغيــر لكنــه واضــحّ .أمــا فــي الزاويــة المقابلــة فيقــف ِمشــجب جديــدن ال يتناســب وباقــي
ّ أ
الثــاث القديــم فــي الغرفــةُ ،علـ َـق عليــه ثــوب ُ"م َخـ ّـور" جيبــه مند ِلــع ،وشــيلة ســوداء معقــود أحــد
ّ
أطرافهــا علــى هيئــة ُصـ ّـر ٍة صغيــرة ،وقماشــة أخــرى كالشــال تــكاد تنزلــق مــن ضلــع المشــجب،
ُ َ
بينمــا تـ ِـرك الضلــع الرابــع خاليــا.
52
ٌةفيدر ٌصصق ٌ -تيب
أ أ
علــى الحائــط اليمــن يســتند دوالب مالبــس بثالثــة أبــواب مغلقــة ،يقابلــه فــي الحائــط اليســر
صنــدوق فضـ ّـي َّ
منجــم ،يمكــن أن يثيــر فضــول كل مــن تقــع عينــه عليــه ،تســتند عليــه تكيــة قديمــة
بجانبهــا سـ ّـجادة صــاة ظاهــر مــن أد طرفيهــا خيــط مســبحة قديمــة بخــرزات خضـراء ناعمــة.
أ هنــاك لوحــة ورقيــة كبيــرة ّ
مثبتــة علــى الجــدار بأشــرطة الصقــة عنــد زواياهــا الربــع ،وهــي رســم
أ
باللــوان المائيــة الم ـرأة ورجــل يقفــان كحارســين ،بينمــا يتوســطهما طفــل يرتــدي ثيابــا مخططــة،
وطفلــة فــي مثــل طولــه ً
تقريبــا ،تضــع يدهــا فــي يــده ،وترتــدي فســتانا أزرق اللــون علــى شــكل
مثلــث .إلــى جــوار الرجــل تنتصــب شــجرة لهــا جــذع ســميك ،لكـ ّـن أوراقهــا علــى شــكل ســعف
أ ّ
النخلــة ،وخلــف العائلــة الصغيــرة تطــل شــمس هــي مزيــج مــن اللونيــن البرتقالــي والصفــر ،كبيــرة
جـ ًّـدا ،ولهــا أشــعة علــى هيئــة خطــوط صف ـراء عريضــة تمتــد إلــى حــدود الورقــة ،وهنــاك ،عنــد
أ
أســفل الزاويــة اليمنــى يتــوارى وراء اللــوان توقيــع باهــت بالرصــاص ،مرســوم بأحــرف مضحكــة
وغيــر متناســقة "مريــم".
خــارج ســور ذلــك البيــت كانــت ترتفــع نــداءات وضحــكات صبيــة كانــوا يلعبــون الكــرة،
ويتصايحــون "شــبير" "..موهاميــد" ..أرشــد" .ثـ ّـم فجــأة ،اهتـ ّـز ســكون البيــت بصــوت طرقــات علــى
البــاب ،بــدأت متباعــدة ثــم تواصلــت.
ّ
جــاء صــوت طفــل مــن بعيــد يقــول إنــه رأى العجــوز تخــرج مــن البيــت قبــل فتــرة ،وآخــر يقــول
ربمــا تكــون نائمــة ،لكـ ّـن الصبـ ّـي الــذي كان يطــرق البــاب واصــل الطــرق بإلحــاح وهــو يصبــح علــى
رفاقــه بأنهــم لــن يتمكنــوا مــن مواصلــة اللعــب دون الكــرة.
ّ
أجابه آخر :لماذا ال تتسلق السور وتجلبها ما دامت المرأة ليست في البيت؟
ال .ال تفعل .قد تكون موجودة.
ً
ال تكن جبانا .اركب على ظهري.
سأجلب الدرج من بيتنا.
أي وقت ،وستحدث مشكلة. الّ .إياكم أن تفعلوا .قد تصل في ّ
ّ
وفي البيت رن جرس الهاتف طويال ،ولم يرد أحد.
53
عشر
َ الصف الثّاين
54
ٌةفيدر ٌصصق -خلا حرجلا
اجلرح اخلفي
كارويل كسفلودي
ً
فــي الصبــاح المبكــر والطبيــب الج ـراح مــازال فــي فراشــه ،خابــره خادمــه بالهاتــف قائــا :إن
ً
هنــاك زائـ ًـرا مســتعجل يلــح علــى أن حالتــه خطــرة ،وال يمكــن تأخيــره دقيقــة واحــدة ،فســارع
الطبيــب إلــى لبــس ثيابــه ،ثــم قــرع الجــرس مشـ ًـيرا إلــى خادمــه بإدخــال المريــض.
ً
كان الداخــل رجــا يظهــر عليــه مــن أول وهلــة أنــه ينتمــي إلــى خيــر الطبقــات االجتماعيــة،
كانــت يــده اليمنــى معلقــة فــي ربــاط عنقــه ،ووجهــه الشــاحب وتصرفاتــه العصبيــة تنــم عــن عذاب
أ
جســمي يقاســيه ،ومــع أنــه كان يســيطر علــى قســمات وجهــه كانــت آهــة مــن اللــم تنطلــق مــن بيــن
آ
شــفتيه بيــن الحيــن والخــر.
ـتفضل اجلس ،ماذا أستطيع أن أفعل من أجلك؟
ّ ً لــم أذق النــوم أسـ ً
ـبوعا كامــا؛ إن يــدي اليمنــى ليســت علــى مــا ي ـرام ،وال أعــرف مــا الــذي
ً
ـرطانا ،أو ً
مرضــا آخــر ً
رهيبــا ،لــم تزعجنــي فــي البدايــة ،ولكــن حالتهــا مؤخـ ًـرا أصابهــا ،قــد يكــون سـ
ألمــا يشــتد ســاعة بعــد ســاعة حتــى بلــغ ســاءت كثيـ ًـرا ،وأصبحــت وكأنهــا تحتــرق ،إنهــا تؤلمنــي ً
حـ ًّـدا ال يطــاق؛ ولهــذا أتيــت الستشــارتك ،إذا تحملتــه ســاعة أخــرى فإنــي صائــر إلــى الجنــون ال
أ
محالــة إنــي أطلــب إليــك أن تحــرق موضــع اللــم ،أو أن تقطعــه ،افعــل أي شــيء ترتئيــه ،فطمأنــه
الجـراح بأنــه قــد ال يحتــاج إلــى عمليــة جراحيــة.
أ
ً
خصيصــا لقطــع غيــر أن الزائــر ألـ ّـح" :ال ،ال ،يجــب أن تجــري عمليــة جراحيــة لننــي أتيــت
الموضــع الممــروض ،ولــن يســعفني شــيء آخــر" ،ثــم ســحب يــده مــن الربــاط بمشــقة زائــدة،
وتابــع:
ـأرجوك ال تندهش إذا لم تر على يدي أثر جرح ظاهر ،إن قضيتي غير عادية ً
أبدا.
أ
فأكــد لــه الطبيــب أنــه ليــس مــن الذيــن يدهشــون فــي الحــوال غيــر االعتياديــة ،ولكــن بعــد أن
ً ً
فحــص يــده جيـ ًـدا ،أســقطها باســتغراب كبيــر ،لــم يــر فيهــا أي شــيئا بتاتــا ،ولــم يكــن لونهــا متغيـ ًـرا .لقــد
ً كانــت كأي يــد عاديــة أخــرى .ولكــن ،مــع كل هــذا ،كان مــن الظاهــر أن الرجــل يقاســي ً
ألمــا هائــا،
55
عشر
َ الصف الثّاين
ً ّ
والطريقــة التــي أمســك بهــا يــده اليمنــى بيــده اليســرى عندمــا أســقطها الطبيــب كانــت برهانــا علــى
هــذه الحقيقــة.
قال الطبيب" :أين يؤلمك؟"
فأشــار المريــض إلــى بقعــة مســتديرة بيــن العرقيــن الكبيريــن ،ولكنــه خطــف يــده بســرعة
عندمــا لمــس الطبيــب موضعهــا بحــذر بطــرف إصبعــه.
ـهل هناك موضع ألمك؟
ـنعم .إنه ألم شديد.
ـهل تشعر بالضغط عندما أضع إصبعي عليها؟
ّ
فلــم يســتطع الرجــل الكلام ،ولكــن الدمــوع التــي اغرورقــت بهــا عينــاه أفصحــت عــن الجــواب،
فأخــذ الطبيــب مجهـ ًـرا ،وفحصهــا مــرة أخــرى بعنايــة فائقــة ،ثــم قــاس حرارتــه ،وفــي النهايــة هــز رأســه،
وقال:
ـإن الجلــد فــي حالــة صحيــة تامــة ،والعــروق طبيعيــة ،وال التهــاب هنــاك وال انتفــاخ ،إن يــدك
طبيعيــة كأيــة يــد متعافيــة.
ً أ
ـأظن أن موضع اللم أكثر احمر ًارا قليل.
ـأين؟
فرسم المريض دائرة على ظهر يده في حجم الفلس وقال" :هنا".
فنظــر الطبيــب إلــى الرجــل ،وجعــل يتســاءل لعــل مريضــة ذاك معتــوه ،ثــم قــال لــه" :عليــك
أ ً
أن تمكــث فــي المدينــة ،وســأحاول أن أفعــل شــيئا لمســاعدتك فــي اليــام القليلــة القادمــة".
ـال أســتطيع االنتظــار ليلــة واحــدة ،وال تفكــر -يــا حضــرة الطبيــب -بأنــي مختــل أو أســير وهــم مــن
أ
الوهــام ،إن هــذا الجــرح الخفــي يؤلمنــي وبشــدة ،وإنــي أطلــب إليــك أن تقطــع هــذا الموضــع
ً
المســتدير عميقــا حتــى العظــم.
عطبا في يدك. ـلن أفعل ذلك يا سيدي ،ألنني ال أرى ً
فقال المريض:
56
ٌةفيدر ٌصصق -خلا حرجلا
ً ً
ضخمــا ـيظهــر أنــك تظننــي مــن المجاذيــب ،أو أننــي أخادعــك ...ثــم أخــرج مــن محفظتــه مبلغــا
مــن المــال ووضعــه علــى المكتبــة ،وتابــع الكمــه" :هــل أنــت تــرى أن قضيتــي خطيــرة ،حتــى
أننــي أدفــع ر ً
اضيــا مبلــغ ألــف مــن الدراهــم إلجـراء العمليــة ،أرجــوك أن تقــوم بهــا...
ً أ
صحيحــا ،لن ذلــك مخالــف لمبــادئ ـلــو دفعــت لــي جميــع أمــوال الدنيــا لــن أمــس عضـ ًـوا
المهنــة ،فســوف يدعــوك النــاس أحمــق ،ويتهموننــي بأنــي غــررت بــك ،واســتفدت مــن ضعفــك،
أو ســيفضحونني بأنــي لــم أســتطع تشــخيص جــرح ال وجــود لــه".
ً
ـحسـ ًـنا يــا ســيدي ،أرجــو أن تســدي لــي معروفــا غيــر هــذا ،أنــا ســأقوم بإجـراء العمليــة بنفســي،
مــع أن يــدي اليســرى أضعــف مــن أن تقــوم بعمــل كهــذا ،فــكل مــا أطلبــه إليــك هــو أن تعتنــي
بالجــرح بعــد أن أقــوم بالعمليــة.
فـرأى الطبيــب والدهشــة تمتلكــه أن الرجــل كان جـ ً
ـادا فيمــا قالــه ،إذ رآه ينــزع معطفــه ،ويرفــع
أكمــام قميصــه ،وبعــد هــذا أخــرج ســكينه الصغيــرة مــن جيبــه ،وقبــل أن يســتطيع الطبيــب
ً االعت ـراض أحــدث ً
جرحــا عميقــا فــي يــده.
فصاح الطبيب" :قف! إن كنت ترى أن العملية ضرورية فسأجريها أنا".
ً أ
جانبــا ،لن المــرء عــادة يفــزع مــن رؤيــة دمــه، ثــم أمســك بيــده ،وأشــار عليــه بــأن يديــر وجهــه
فقــال الزائــر" :الك يــا ســيدي يتحتــم علــى أن أقــود يــدك فــي إج ـراء العمليــة لكــي تعــرف أيــن
وكيــف تبضــع اللحــم".
تحمــل الرجــل العمليــة بشــجاعة نــادرة ،فلــم ترتعــش يــده قــط ،ولمــا قطعــت البقعــة المســتديرة
مــن علــى ظهــر يــده تنهــد بارتيــاح وشــعر بالفــرج كأنمــا أزيــح حمــل ثقيــل عــن كاهلــه.
آ
قال الطبيب" :أال تشعر بأي ألم الن؟"
ّ ً
فابتســم الزائــر وقــال" :مطلقــا ،كأنهــا قــد اجتثــت مــن الجــذور ،ومــا الوجــع الطفيــف الــذي
ّ
ســببه التبضيــع إل كنســمة هــواء بــاردة بعــد نــار محرقــة ،دع الــدم يســيل؛ إنــه يريحنــي"
ً
وبعــد أن ضمــد الطبيــب الجــرح الح علــى الرجــل أنــه قانــع وســعيد ،لقــد أصبــح رجــا آخــر،
فضغــط بيسـراه علــى يــد الطبيــب بامتنــان وقــال لــه" :إنــي فــي الحــق مديــن لــك بشــكر عظيــم".
زار الطبيــب مريضــه فــي فندقــه لعــدة أيــام بعــد إج ـراء العمليــة ،فعــرف كيــف يحتــرم هــذا
57
عشر
َ الصف الثّاين
58
ٌةفيدر ٌصصق -خلا حرجلا
يهمنــي أن أحمــل ســره معــي إلــى قبــري ،أنــا فــي أشــد الشــوق إلــى اطالعــك علــى تاريــخ مرضــي
آ
الهائــل ،لقــد عــاد علــي ثــاث م ـرات فــي هــذه الفتــرة ،وال أريــد أن أقاومــه بعــد الن .وهــا أنــا
آ
أكتــب إليــك الن بيــدي اليمنــى ،ولكــن بعــد أن وضعــت علــى مــكان البقعــة جمــرة نــار كتريــاق
ّ
مســكن للنــار الجهنميــة التــي تحتــرق فيهــا.
ثريــا ً
وقانعــا ،أجــد لــذة فــي كل مــا قبــل أشــهر ســتة كنــت أســعد رجــل فــي الدنيــا ،كنــت ًّ
ينجــذب إليــه رجــل فــي الخامســة والثالثيــن مــن عمــره؛ تزوجــت قبــل ســنة ،وكانــت زوجتــي فتــاة
لطيفــة مثقفــة وفــي غايــة الجمــال ،وكانــت صديقــة لكونتيســة ال يبعــد قصرهــا كثيـ ًـرا عــن أمالكــي،
مـ ّـرت علــي ســتة أشــهر وأنــا أهنــأ مــا يكــون إنســان ،وكل يــوم يأتينــي بســعادة أعظــم مــن ســابقه،
كانــت تســير مســافة أميــال علــى الطريــق لمالقاتــي كلمــا اضطــررت للنــزول إلــى المدينــة ،ومــا
ً ّ
كانــت لتمكــث أكثــر مــن بضــع ســاعات عنــد مربيتهــا التــي كانــت تتــردد عليهــا أحيانــا ،بــل إن
مجــرد ظهــور أحــد غيــري فــي أحالمهــا كان عندهــا جريمــة ال تغتفــر! وباالختصــار كانــت طفلــة
جميلــة بريئــة.
ّ
غيــر أننــي ال أدري مــا الــذي ســاقني إلــى االعتقــاد بــأن هــذا إنمــا هــو تظاهــر منهــا .لقــد بلــغ
ً
إالنســان فــي الحماقــة مــا يجعلــه يســعى مفتشــا عــن الشــقاء وهــو فــي أوج ســعادته.
ً
مغلقــا ً
تمامــا ،فأخــذ هــذا يعذبنــي ،وقــد كانــت لديهــا آلــة خياطــة صغيــرة ،تحتفــظ بدرجهــا
مفتوحــا أبـ ًـدا! فمــا هــو هــذا
ً الحظــت م ـر ًارا أنهــا ال تتــرك المفتــاح علــى الــدرج ،وأنهــا ال تتركــه
ّ
الشــيء الــذي تخبئــه عنــي بهــذا الحــرص الشــديد؟ أخــذت الغيــرة تنهشــني ،لــم أصــدق عينيهــا
ً
خداعــا ومكـ ًـرا؟ البريئتيــن ،أال يجــوز أن يكــون كل ذلــك
أ
وفــي يــوم مــن اليــام أتــت صديقتهــا الكونتيســة ،وأغرتهــا بالذهــاب معهــا لتقضــي ذلــك اليــوم
فــي قصرهــا ،ووعدتهــا بأنــي ســألحق بهمــا بعــد الظهــر.
ومــا كادت العربــة تتحــرك مــن فنــاء الــدار حتــى ابتــدأت فــي معالجــة فتــح ذلــك الــدرج،
ّ
وإذا بأحــد المفاتيــح التــي جربتهــا يفتحــه فــي النهايــة ،وبعــد أن بعثــرت عــدة أشــياء نســوية مــن
محفظــة حريريــة وجــدت رزمــة مــن الرســائل ،يســتطيع المــرء إدراك ماهيتهــا مــن أول نظــرة،
كانــت بالطبــع رســائل غراميــة مربــوط بشــريط قرنفلــي.
أ
لــم أقــف لتــروى بأنــه ليــس مــن الشــرف أن أفتــش عــن أس ـرار زوجتــي أيــام الصبــا! ولكــن
59
عشر
َ الصف الثّاين
ّ
الدافــع الــذي حثنــي علــى االســتمرار هــو أنهــا ربمــا كتبــت تلــك الرســائل بعــد أن حملت اســمي...
أ
فككــت الشــريط وقرأتهــا بأكملهــا ،الواحــدة تلــو الخــرى.
كانت تلك الساعة أرهب ساعة في حياتي.
لقــد كشــفت الرســائل عــن أعظــم خيانــة اقترفهــا إنســان ضــد إنســان! كان كاتبهــا أعــز صديــق
لــدي ...أمــا لهجتهــا فقــد كشــفت عــن ألفــة حميمــة عميقــة ،وعبــرت عــن أرق المشــاعر والعواطــف.
كــم كان يحثهــا علــى التكتــم! ثــم يشــير عليهــا بمــاذا تفعــل لكــي تخــدع زوجهــا وتتركــه فــي غفلتــه!
لقــد كتبــت الرســائل كلهــا بعــد زواجنــا ،وكنــت أظــن بأننــي ســعيد! ال أريــد أن أصــف مشــاعري.
لقــد شــربت الســم حتــى آخــر قطــرة.
طويت الرسائل ،وأرجعتها إلى مخبئها ثانية ،ثم أغلقت الدرج.
كنــت أعلــم أننــي إذا لــم أذهــب إلــى القصــر فســترجع فــي المســاء ،وهــذا مــا حصــل بالفعــل،
قفــزت مــن العربــة بجــذل ،وخفــت للقائــي فــي الــرواق بمنتهــى الرقــة ،فتظاهــرت كأنمــا لــم يحدث
أي شــيء.
أعمتنــي الغيــرة ،وســيطر علــي الغضــب ،فخنقتهــا ،وســقطت قطــرة دم علــى يــدي ،لــم أالحظهــا
ّ
إل فــي الصبــاح.
ولمــا رجعــت إلــى البيــت كانــت الكونتيســة قــد وصلــت فــي الوقــت نفســه ،لقــد أتــت متأخــرة
أ أ
فلــم تلحــق الجنــازة؛ لننــي كنــت قــد رتبــت هــذا عــن عمــد وقصــد ،كانــت متوتــرة العصــاب،
ومضطربــة أشــد االضطـراب ،لقــد كاد الهلــع وصدمــة الخبــر أن يفقداهــا رشــدها ،فكانــت تتكلــم
بصــورة غريبــة فلــم أدرك مــا ّالــذي تعنيــه عندمــا حاولــت أن ّ
تعز ينــي ،بــل إننــي لــم أصــغ إليهــا
أ
بانتبــاه؛ لننــي لــم أكــن فــي حاجــة إلــى تعزيــة ،ثــم أمســكت بيــدي بيــن راحتيهــا ،وقــال أنهــا
ترغــب بــأن تفضــي إلـ ّـي بســر ،راجيــة أن ال أحــاول اســتغالله فــي المســتقبل.
قالــت إنهــا كانــت قــد أودعــت رزمــة مــن الرســائل عنــد زوجتــي المرحومــة ،وأنهــا لــم تســتطع
أن تحتفــظ بهــا فــي بيتهــا لطابعهــا الخــاص ،ولذلــك رجتنــي أن أعيدهــا إليهــا ،وعندمــا ســمعت
منهــا هــذا شــعرت بقشــعريرة تســري فــي سلســلة ظهــري ،وبهــدوء مصطنــع ســألتها" :مــاذا تحــوي
هــذه الرســائل؟" فارتعــدت لهــذا الســؤال وقالــت:
60
ٌةفيدر ٌصصق -خلا حرجلا
ـكانــت زوجتــك أخلــص وأشــرف امـرأة صادفتهــا فــي حياتــي ،إنهــا لــم تســألني عــن فحواهــا ،بــل
أقســمت أنهــا لــن تنظــر فيهــا.
ـأين كانت تحتفظ برسائلك؟
ـقالــت أنهــا تحتفــظ بهــا فــي درج آلــة الخياطــة المغلــق بالقفــل ،وهــي مربوطــة بشــريط قرنفلــي،
ســتعرفها للتــو مــن شــكلها ،ثالثــون رســالة بالتمــام.
أخذتهــا للغرفــة حيــث كانــت آلــة الخياطــة موضوعــة وفتحــت الــدرج ،وأخــذت رزمــة الرســائل
وناولتهــا إياهــا.
ـهل هذه هي الرسائل؟
ً
فمــدت إليهــا يدهــا بلهفــة فلــم أجــرؤ علــى رفــع عينــي إليهــا لئــا تقـرأ فيهمــا شــيئا .ثــم تركــت
الغرفــة.
وبعــد دفــن زوجتــي بأســبوع واحــد حــل ألــم بالــغ فــي تلــك البقعــة علــى يــدي حيــث ســقطت
نقطــة الــدم فــي تلــك الليلــة المخيفــة ،أمــا مــا حــدث بعــد ذلــك فأنــت تعرفــه.
61
عشر
َ الصف الثّاين
62
ٌةفيدر ٌصصق -ألا ملحلا
احللم األخري
هانس كريستيان أندرسن
ّ ّ
فــي أعلــى منحــدرات الشــاطئ فــي الغابــة ،وليــس بعيـ ًـدا عــن حافــة البحــر ،وقفــت ســنديانة
وخمســا وســتين ســنة ،ولكـ ّـن عــدد ً عجــوز فــي منتهــى الكبــر ،كانــت قــد بلغــت مــن العمــر ثالثمئــة
الّيــام لدينــا ،نحــن نســتيقظ فــي ّ أ ّ هــذه ّ
النهــار ،وننــام فــي أثنــاء الســنين الطويلــة لديهــا كان كعــدد
َّ أ ّ
الليــل ونحلــم ،ولكـ ّـن المــر ليــس كذلــك مــع الشـ َـج َرة؛ فهــي مضطـ ّـرة إلــى البقــاء مســتيقظة طــوال
ّ ّ َّ ّ
النــوم إل عندمــا يحــل فصــل الشــتاء، السـ َـنة ،وال تحصــل علــى قســطها مــن ثالثــة فصــول مــن َّ
الر بيــع ّ الطويــل المتواصــلّ : ّ ّ
والصيــف والخريــف. فالشــتاء هــو ليلهــا ،ووقــت راحتهــا بعــد يومهــا
ُّ
الذ َبابــة َّالتــي تحيــا ً
يومــا واحـ ًـدا ،وراحــت الصيــف القائظــة كثيـ ًـرا مــا طــارت (أفيميـرا) ففــي ّأيــام ّ
وتتمتــع بالحيــاة ،وملؤهــا َّ الس ْــند َيانة الهرمــة ّ
الســعادة .وإذا مــا اســتراحت هــذه تحــوم حــول ِّ ِ
َ
السـ ْـن ِديانة قائلــة:
الغضــة العريضــة هتفــت بهــا ِّ المخلوقــة لحظــة علــى وريقــة مــن وريقاتهــا ّ
ّ ّ
ـ"يالــك مــن مخلوقــة صغيــرة مســكينة! حياتــك كلهــا مــا هــي إل يــوم واحــد .فيالــه مــا أقصــره!
ًّ
شــيء مؤســف حقــا".
غيرة تجيب ً
دوما: وكانت المخلوقة َّ
الص َ
ّ ّ ً
ـ"مؤســف مــاذا تعنيــن؟ إن كل مــا هــو حولــي بـ ّـراق ودافــئ وجميــل إلــى درجــة عجيبــة ،وهــذا
ّ
ممــا يشــيع الفــرح فــي نفســي".
ـ"ولكن ليوم واحد فقطَّ ،ثم ينقضي".
الذ َبابة" :ينقضي! ماذا تعنين :ينقضي؟ هل لن ينقضي يومك أنت ً ُّ َّ
أيضا؟" فكرت
ّ أ ّ ّ
ـ"لك ،إننــي مــن المحتمــل جـ ًّـدا أن أعيــش آالف الّيــام مــن ّأيامــك ،ومــا يومــي إل ثالثــة فصــول
ّ ّ
السـ َـنة! وأيــم الحـ ّـق إنــه مــن الطــول بحيــث يصعــب عليــك جـ ًّـدا حســبانه".
كاملــة مــن َّ
ّ آ
ـ"إذن أنــا ال أفهمــك ،قــد يكــون لــك الالف مــن ّأيامــي ،ولكــن أنــا لــي آالف اللحظــات ،يمكننــي
ّ
أن أفــرح فيهــا وأســعد ،هــل ســينتهي جمــال العالــم كلــه عندمــا تموتيــن؟"
َّ
فأجابت الش َج َرة:
63
عشر
َ الصف الثّاين
ّ ّ
ـ"لك بل إنه سيدوم أ كثر من هذا بكثير ،إلى ما ال نهاية ،تفوق عن تفكيري".
الص َالذ َبابة َّ ُّ
غيرة: فقالت
ُ ـ"حسـ ًـناّ ،إننــا نعيــش نفــس ّ
الزمــان إذن ،و ّ
لكننــا نختلــف فــي الحســاب".ث َّم رقصــت المخلوقــة
َّ َ الصغيـ َـرة وانســابت فــي الهــواء جذلــة بجناحيهــا َّ َّ
المخملييــن ،طروبــة فــي الرقيقيــن الشــفافين
آ البريــة ،ونــور ّالنســام العطــرة المشـ َّـبعة بعبيــر الــورود ّ أ
السيســبان وزهــر العســل التيــة مــن
الرائحــة ّ
قويــة يــكاد والنعنــاع .كانــت ّ الر بيــع ّ المحملــة بالعطــر البـ ّ
ـري وزهــر ّ ّ أســيجة الجنائــن
ً ً ً الذ َبابــة َُّّ
الصغيـ َـرة .لقــد كان اليــوم طويــا جميــا مليئــا بالحبــور والمسـ ّـرات الحلــوة عطرهــا يســكر
ّ ـس ّ َّ ّ ُّ ّ
بالتعــب مــن كل ـكت الشـ ْـمس علــى المغيــب جعلــت تحـ ّ حتــى إن الذ َبابــة عندمــا أوشـ ِ
ّ
مــا ذاقتــه فيــه مــن ســعادة ومتعــة ،ومــا عــاد جناحاهــا يقويــان علــى حملهــا؛ فانســابت بــكل
الصغيــر علــى قــدر مــا وحركــت رأســها ّ الناعمــةّ ، ّرقــة وبــطء علــى أوراق العشــب المتماوجــة ّ
ُّ ُ
اســتطاعت ،ثـ َّـم نامــت بســام وعذوبــة ،وهكــذا ماتــت الذ َبابــة.
ِّ َ
الس ْن ِديانة: قالت
غيرة!" غيرة المسكينة! ويا لفظاعة حياتها َّ
الص َ الص َ ـ"يا للمخلوقة َّ
أ
الصيــف .وتطــرح الســئلة نفســها ،وتعطــى الر ْقــص ُيعــاد فــي ّكل يــوم مــن ّأيــام ّ
وهكــذا كان َّ
ّ أ أ
الجوبــة نفســها .ولقــد جــرى ذلــك لجيــال عديــدة متواليــة فــي حيــاة (أفيميـرا) وكل مخلوقــة منهــا
تشــعر بالحبــور نفســهَّ ،
والســعادة نفســها.
الر بيــع صبحــهّ ، السـ ْـن ِد َيانة مســتيقظة طــوال نهــار ّ
ظلــت ِّّ
والصيــف ظهــره ،والخريــف مســائه.
ّ
الشــتاء ،وبــدأت ّ ّ ُ
الزوابــع تنشــد" :مســاء ثـ َّـم بــدأ الليــل يجـ ّـر أذيالــه ،ودنــا وقــت راحتهــا -لقــد أقبــل
الخيــر ،مســاء الخيــر" ،وســقطت ورقــة هنــا ،ووريقــة هنــاك ،وأخــذت ّ
الر ياح تنشــد لهــا ،وتهدهدها
الطاعنــة طقطقــة مــن شـ ّـدة ّ ّ
الســرور ،لقــد كانــت ليلتهــا الخامســة كــي تنــام .فســمع لعســاليجها
آ
لكنهــا الن بموجــب تقويــم البشــر ،فــي القــرن ّ ّ
الثالثمئــة ،و ّ ّ
الرابــع مــن وجودهــا. والســتين بعــد
ّ ّ
وقفــت البلوطــة هنــاك عاريــة مــن أوراقهــا؛ لتأخــذ راحتهــا فــي أثنــاء الشــتاء الطويــل ،ولتحلــم
َّ أ أ ً
أحالمــا كثيــرة مــ�ى بالحــداث التــي وقعــت لهــا فــي مجــرى حياتهــا ،كانــت أضخــم وأحســن
أ أ
شــجرة فــي الغابــة ،تعالــت ّقمتهــا وعظمــت فــوق جميــع الشــجار الخــرى ،وكانــت تــرى مــن بعيــد
َ
بخلدهــا ً للملحيــن ًّ ّ ّ
يومــا كــم مــن العيــون علمــا ،ولــم يــدر حتــى أنهــا كانــت مــن أقصــى البحــر
64
ٌةفيدر ٌصصق -ألا ملحلا
ّ ّ
البريــة عشــها بيــن الفــروع ،وشــرع الوقــوق ترنــو بشــوق إليهــا ،وفــي ســامق ّقمتهــا بنــت الحمامــة
أ فــي إحيــاء حفلتــه َّ
الص ّ
وتيــة المعتــادة فتجاوبــت أنغامــه المحبوبــة بيــن الغصــان .وفــي الخريــف
ّ أ
عندمــا كانــت الوراق تبــدو وكأنهــا صفائــح نحــاس مطروقــة ،كانــت العصافيــر العابــرة تأتــي لترتــاح
َّ آ
علــى أفنانهــا قبــل أن تطيــر وتجتــاز البحــر ،ولكــن الن والفصــل شــتاء والشـ َـج َرة عاريــة ،كان
ّ
وتمتــد مــن باســتطاعة ّكل امــرئ أن يــرى كــم كانــت أغصانهــا ملتويــة ومنحنيــة وهــي ّ
تتفــرع
أ بالتنــاوب وجلســت عليهــاّ ، جذعهــا .أتــت العقبــان والغربــان ّ
وتحدثــت عــن الوقــات العســيرة
ّ ّ ّ َّ
التــي بــدأت ،وعــن المشــقة فــي الحصــول علــى الطعــام فــي الشــتاء.
ّ الشـ َـج َرة ً َّ
حلمــا .ال ريــب أنهــا كانــت لديهــا نــوع كان عيــد الميــاد قــد قــرب عندمــا حلمــت
ّ
وكأنــه مــن أيــام ّ ّ
الصيــف الجميلــة، مــن إالحســاس بــأن وقــت العيــد قــد حــان .وبــدا لهــا اليــوم
َّ ً ً
متوجــة بــأوراق خضـراء يانعــة ،وأشـ ّـعة الشـ ْـمس تلعــب بيــن لطيفــا .كانــت هامتهــا العظيمــة ّ دافئــا
والنــوار .وطــاردت فراشــات ّ العشــاب ّ أ أ
ملونــة بعضهــا الوريقــات والغصــان ،والهــواء مثقــل بعطــر
ّ بعضــا ،ورقــص ذبــاب ّ ً
الصيــف حولهــا كأنمــا خلــق العالــم لهــم وحدهــم ليرقصــوا فيــه ويفرحــوا.
َّ أ ّ ّ
وبــدا للشــجرة أن جميــع الحــداث التــي وقعــت لهــا فــي ســني حياتهــا تمـ ّـر أمامهــا فــي موكــب
طويــل.
النســاء ّ ّ
النبيــات ممتطيــن صهــوات رأت فرســان العصــور القديمــة يجتــازون الغابــة مــع
والريــش يتمــاوج علــى ّقبعاتهــمّ ، الصيلــةّ ، أ
والصقــور جاثمــة علــى معاصمهــم. جيادهــم
الصيــد ،ونبحــت الكلاب .رأت محاربيــن ينصبــون خيامهــم وهــم فــي وعــا صــوت أبــواق ّ
توقــدت ني ـران الحراســةّ ،
وغنــى ّ ّ ّ ثيــاب ّ
الرجــال، ملونــة ودروع ّبراقــة ،مــع ح ـراب وبلطــات .ثــم
ّ
ونامــوا تحــت أغصانهــا المضيافــة ،ثـ ّـم رأت العشــاق يلتقــون قربهــا بهــدوء وســعادة علــى ضــوء
أ أ أ
القمــر .ويحفــرون الحــرف الولــى مــن أســمائهم فــي لحائهــا وجذعهــا الخضــر الحائــل .وحــدث
ّ َّ
مـ ّـرة ،ولكــن ســنين انقضــت منــذ ذلــك الحيــن ،إن بعــض المســافرين المرحيــن علقــوا علــى أحــد
ّ ّ ّ ّ
أغصانهــا آالت الطــرب وقيثــارات ،وبــدا لهــا أنهــا مازالــت معلقــة هنــاك ،وأنهــا تســمع أنغامهــا
َّ ّ ّ ّ
تعبــر عــن مشــاعر الشـ َـج َرة .وصــاح الوقــوق
كأنهــا تريــد أن ّ ـجية .وهدلــت الحمامــات البريــة الشـ ّ
ّ يعلمهــا كــم بقــي لهــا مــن ّأيــام ّ
الصيــف لتحياهــا ،ثـ ّـم شــعرت كأنمــا حيــاة جديــدة أخــذت تختلــج
ّ ّ
فــي كل عــرق مــن عروقهــا وجذعهــا وأوراقهــا ،وتنســاب صاعــدة إلــى فروعهــا الشــامخة .شــعرت
الشـ َـج َرة ّأنهــا أخــذت تنبســط وتمتـ ّـد بينمــا كانــت قـ ّـوة الحيــاة ّ َّ
الدافقــة تســري فــي جذورهــا تحــت
65
عشر
َ الصف الثّاين
66
ٌةفيدر ٌصصق -ألا ملحلا
ً ّ أ ّ
أصدقــه! هــل فــي الحيــاة ســعادة كهذه؟"لقــد بــدا لهــا أن المــر يــكاد يكــون مســتحيل.
ّ ّ َّ
وبينمــا الشـ َـج َرة الهرمــة تنمــو وتعلــو ســامقة فــي الفضــاء شــعرت أن جذورهــا تفــك عقالهــا مــن
آ ّ ّ أ
الرض .وهتفــت" :لعمــري إن هــذا حســن وبديــع ،ال قيــود هنــاك تأســرني بعــد الن .إن بإمكانــي
الصغــار والكبــار". وكل َّالذيــن ّ
أحبهــم معــيّ ، ّ العالــي فــي ّ
النــور والمجــد.
أ
أن أطيــر إلــى أعلــى
ْ
ِّ َ
الس ْن ِديانة الهرمة. هذا كان حلم
أ وبينمــا هــي تحلــم ّ
هبــت عاصفــة شــديدة عبــر الرض والبحــر ،وأخــذت أمــواج هائلــة تكتســح
أ ّ ّ
خيــل إليهــا فــي الحلــم أنهــا تفــك إســارها مــن الرض ســمع صــوت الشــاطئ ،وفــي ّاللحظــة َّالتــي ّ ّ
أ َّ
انســحاق وطرطقــة فــي قلــب الشـ َـج َرة ،وانقلعــت جذورهــا مــن الرض ،وســقطت ...وهكــذا انقضت
ّ
أعوامهــا الثالثمئــة والخمســة والســتون كيــوم (أفيميـرا) الوحيــد.
َّ
وفــي صبــاح العيــد كانــت العاصفــة قــد هــدأت عنــد بــزوغ الشـ ْـمس ،ثـ ّـم قرعــت أجـراس الفــرح
الزرقــاء .هــدأالســماء ّ ال كــواخ شـ ًّـاقا طريقــه فــي ّ أ
الدخــان مــن مواقــد مــن ّكل صــوب ،وتعالــى ّ
العــام ،وعرضــت علــى ظهــر باخــرة عظيمــة كانــت قــد قاومــت ّ أ
الزوبعــة فــي أثنــاء البحــر ،ورفعــت
ّ
الليــل إشــارة فــرح وابتهــاج.
السـ ْـن ِد َيانة القديمــة ،وهــي عالمتنــا ّ َّ
الشـ َـج َرة! ...ســقطت ِّ وهتــف ّ
البريــة البحــارة" :لقــد ســقطت
َّ ّ ّ ّ
علــى الشــاطئ! ال ريــب أنهــا اقتلعــت فــي عاصفــة الليلــة الماضيــة .فمــن ذا الــذي يســتطيع أن
ّ ّ ّ أ
يعيدهــا كمــا كانــت؟ إنــه لســف عظيــم أل يتمكــن أحــد مــن ذلــك".
الش َج َرة .خطبة قصيرةّ ، َّ هذه كانت خطبة ّ
لكنها بليغة. الرثاء على
ّ ّ ّ ِّ َ
الس ْن ِديانة الهرمة ملقاة هناك على الشاطئ تتراكم عليها الثلوج كلها. وبقيت
67
عشر
َ الصف الثّاين
68
ٌةفيدر ٌصصق -ناخيشلا
الشيخان
أ
رسالة ،أيها الب أزان؟
نعم يا سيدي ...هذا خطاب قادم من (باريس).
أ لقــد كان مزهـ ًّـوا فخـ ً
ـورا بأنهــا رســالة قادمــة مــن (باريــس) ،هــذا الب أزان الطيــب ..ال أنــا .فــإن
ً ً
هاتفــا فــي نفســي أخــذ يحدثنــي قائــا إن هــذه ال(باريس)يــة مــن أهــل شــارع ســان جــاك -وقــد
حكــت علــى مائدتــي ارتجـ ًـال ،دون ســابق إنــذار ،ومنــذ الصبــاح المبكــر -سـ ّ
ـتضيع علـ ّـي نهــاري.
ولــم يخــب ظنــي .انظــروا ...هاهــي ذي:
يومــا واحـ ًـدا ،وتحمــل نفســك فـ ً
ـورا ـ"عليــك أن تــؤدي لــي خدمــة يــا صاحبــي .فســتغلق طاحونتــك ً
إلــى (إيجوييــر) ...إن (إيجوييــر) بلــدة محترمــة علــى بعــد ثمانيــة أو عشــرة أميــال مــن عنــدك.
أ
أي إنهــا نزهــة لــك ،عندمــا تصــل ،اســأل عــن ملجــأ اليتــام .وأول بيــت بعــد ذلــك هــو بيــت
منخفــض ذو نوافــذ رماديــة وحديقــة صغيــرة وراءه .ادخــل دون أن تطــرق البــاب ،فالبــاب مفتــوح
ـعيد -أيهــا النــاس الطيبــون -إننــي صديــق ـوم سـ ٌ
وصـ ْـح -وأنــت داخــل -بأعلــى صوتــك :يـ ٌ ً
دائمــاِ .
موريــس) ،وإذ ذاك ســترى شــيخين ،أوه! ولكنهمــا عجــوزان ،عجــوزان ،عتيقــان جـ ًّـدا ،يمــدان
ً
لــك أذرعهمــا وهمــا غارقــان فــي مقعديهمــا الكبيريــن ،فعانقهمــا مــن قبلــي ،عانقهمــا عناقــا حـ ًّـارا
ّ
مــن كل قلبــك ،كمــا لــو كانــا جديــك .ثــم ســتتحدثون ،ســيكلمانك عنــي ،لــن يكلمــاك إل عنــي،
وســيقصان عليــك ألــف عتاهــة تســمعها دون أن تضحــك ..إيــاك أن تضحــك .أســامع أنــت؟...
إنهمــا جــداي ،كائنــان ســأظل صنيعتهمــا مــا حييــت ،وهمــا لــم يريانــي منــذ عشــر ســنين ...عشــر
ســنين ،ذلــك وقــت طويــل! ولكــن مــاذا تريــد؟ أنــا (باريــس) ممســكة بــي ،وهمــا الشــيخوخة
قعــدت بهمــا ...إنهمــا شــيخان هرمــان لــو حــاوال أن يأتيــا لزيارتــي لتناث ـرا فــي الطريــق ...مــن
ّ
حســن الحــظ أنــك هنــاك يــا عزيــزي الطحــان .وإذا مــا عانقــك هــذان المســكينان الطيبــان
ظنــا أنهمــا يعانقاننــي أنــا بعــض الشــيء ...لقــد طالمــا حدثتهمــا عنــا وعــن هــذه الصداقــة الكريمــة
التــي."...
ً عظيمــا ر ً
أال ًّتبــا للصداقــة! فقــد كان صبــاح ذلــك اليــوم ً
ائعــا ،ولكنــه لــم يكــن يســاوي شــيئا
لمــن يقطــع الطرقــات :كانــت (المســترال) عاصفــة ،والشــمس متأججــة ،والجــو جــو يــوم مــن أيــام
ً
(البروفانــس) حقــا .وحيــن وصلتنــي هــذه الرســالة .كنــت قــد اتخــذت مكمنــي بيــن صخرتيــن،
69
عشر
َ الصف الثّاين
وكنــت أمنــي نفســي بالقبــوع هنــاك طــول النهــار ،كالضــب ،أعــب مــن النــور وأنــا أتســمع نشــيد
أشــجار الصنوبــر .وبعــد ،فمــاذا تريدننــي أن أفعــل؟ أقفلــت طاحونتــي وأنا أســب وألعــن ،ووضعت
ّ
المفتــاح تحــت الثغــرة التــي تمــر منهــا القطــط ،وأخــذت عصــاي وغليونــي ،وانطلقــت.
وبلغــت (إيجوييــر) نحــو الســاعة الثانيــة .كانــت القريــة قفـ ًـرا ،فقــد أهلهــا ً
جميعــا فــي الحقول...
وفــي شــجر الــدردار المغــروس علــى الطريــق ،وقــد ابيضــت أغصانــه مــن القتــام ،كانــت الجنــادب
تغنــي كأنهــا فــي قلــب (كــرو).
والحــق أن حمـ ًـارا كان يتمتــع بالشــمس فــي الميــدان أمــام ديــوان العمــدة ،وسـ ً
ـربا مــن الحمــام
أ
كان يحــوم حــول النافــورة ،ولكــن لــم يكــن هنــاك أحــد ليدلنــي علــى ملجــأ اليتــام .ومــن ســعد
ّ
طالعــي ،ظهــرت لــي فجــأة عجــوز ،مقعيــة فــي ركــن بابهــا تغــزل ،فســألتها عــن ضالتــي ،وفدلتنــي
دارا ضخمــة كالحــة الجــدران قابضــة المظهــر قاتمــة .وجــوار هــذا البنــاء، علــى الملجــأ ،وكان ً
لمحــت بنــاء آخــر أصغــر منــه .نوافــذ رماديــة ،وحديقــة خلفيــة ...عرفــت الــدار بغيــر توهــم،
ودخلــت دون أن أخبــط.
دائمــا ذلــك الدهليــز الرطيــب الهــادئ، لــن انســى مــا حييــت مشــهد تلــك الــدار .ســأتمثل ً
ّ
والحائــط الــوردي الطــاء ،والحديقــة الصغيــرة التــي كانــت تهتــز فــي أفــق الصــورة مــن خــال
ســتارة .علــى النافــذة وضيئــة اللــون ،وصفائــح الجــدران تلــك الحاليــة بأزهــار وقياثيــر ذابلــة .لقــد
أ
خيــل إلــي أننــي أدخــل بيــت قــاض مــن قضــاة الشـراف ..وفــي آخــر الدهليــز علــى يــدي اليســرى،
مــن بــاب منفــرج ،ســمعت نبــض ســاعة ضخمــة ،وصــوت طفلــة صغيــرة ،طفلــة مــن تلميــذات
المــدارس كانــت تق ـرأ ،فاقتربــت فــي هــدوء مــن ذلــك البــاب ونظــرت...
ـورد الوجنتيــن ،مغضــن الجلــد طيبــا متـ َ
ـيخا ًفــي ســكون غرفــة صغيــرة وضوئهــا الخافــت ،كان شـ ً
حتــى أطـراف أصابعــهً ،
ناعســا فــي قلــب كرســي وثيــر ،وقــد انفتــح فــوه وظلــت يــداه علــى ركبتيــه.
ً
فضفاضــا وقلنســوة صغيــرة .هــو زي الملجــأ- وعنــد قدميــه جلســت صبيــة ترتــدي الزرقــة ً
-ثوبــا أزرق
تق ـرأ ســيرة فــي كتــاب أكبــر منهــا ..ولقــد فعلــت هــذه المطالعــة إالعجازيــة فعلهــا العجيــب فــي
البيــت كلــه ،فنــام الشــيخ فــي مقعــده .ونــام الذبــاب فــي الســقف ،ونامــت (الكناريــا) فــي قفصهــا
هنــاك علــى النافــذة ،بينمــا استرســلت الســاعة الغليظــة المســتندة إلــى الجــدار فــي غطيطهــا تــردد
ّ ً
تــك تلــك تــك تــاك .لــم يكــن يقظــا فــي الغرفــة كلهــا إل عصابــة مــن النــور تســقط مســتقيمة ناصعــة
مــن بيــن مصراعــي النافــذة الموصــدة ،زاخــرة بالشــرر الحــي.
70
ٌةفيدر ٌصصق -ناخيشلا
ـام ،مضــت الطفلــة تواصــل قراءتهــا والرقصــات الذريــة الدقيقــة ...وفــي وســط هــذا الســبات العـ ِّ
أ
اللفــاظ إلقــاء ًّ
جديــا ً
رهيبــا "وســر ...عــان ...ما ...انقــض ...عليه ...أســدان ...والتـــهـ ...ـــماه."... وتلقــي
فــي تلــك اللحظــة دخلــت أنــا ...ولــو اقتحــم الحجــرة أســد ،لمــا أثــار فيهــا مــن الذهــول أكثــر
ً
ممــا أثــرت .إنهــا لمفاجــأة مســرحية حقــا! نــدت عــن الطفلــة صيحــة ،وهــوى الكتــاب الكبيــر،
وهبــت الكناريــا والذبــاب ،ودقــت الســاعة ،وقفــز الشــيخ واش ـرأب مشــدوها ،ووقفــت أنــا علــى
أســكفة البــاب وبــي شــيء مــن اضط ـراب ،أهتــف بأعلــى صوتــي:
ـعيد -أيهــا النــاس الطيبــون -أنــا صديــق موريــس .أوه! إذ ذاك ،يــا ليتكــم رأيتمــوه ،هــذا ـوم سـ ٌيـ ٌ
ـادا ذراعيــه يعانقنــي ،ويصافحنــي، الشــيخ الطيــب المســكين ،يــا ليتكــم رأيتمــوه يقبــل نحــوي مـ ًّ
ويهيــم فــي الغرفــة شـ ً
ـاردا يقــول:
ـيا إلهي! يا إلهي!
لقد أشرقت جميع غضونه ،وانبسطت أساريره ،واحمر وجهه ،وراح يتمتم:
ـآه! يا سيدي ...آه! يا سيدي...
ثم مضى إلى داخل البيت يدعو:
ـ(ماتت)!
وإذا بــاب يفتــح ،وأســمع وقــع أقــدار فــأر فــي الدهليــز ...إنهــا (ماتــت) لــن يكــون أجمــل مــن
تلــك العجــوز الصغيــرة بقلنســوتها ذات الشــريط المعقــود ،وثوبهــا البنــي الباهــت ،ومنديلهــا
ّ
المطــرز الــذي حملتــه فــي يدهــا احتفــاء بــي ،علــى طريقــة العصــر الماضــي ..ويــا لــه مــن مشــهد
ـاحا وأشــرطة صف ـراء الســتطعت عاطفــي مؤثــر! لقــد كانــا متشــابهين ،فلــو قــد ارتــدى الرجــل وشـ ً
أن تدعــوه ماتــت ،هــو ً
أيضــا .ولكــن ماتــت الحقيقــة ال بــد قــد بكــت كثيـ ًـرا فــي حياتهــا ،فإنهــا
ً
أيضــا ،كانــت لهــا طفلــة مــن بنــات الملجــأ بالقــرب وغضونــا .وكصاحبهــا ً لتفــوق صاحبهــا تجعـ ًـدا
منهــا ،حارســة صغيــرة فــي ثــوب أزرق فضفــاض ،مــا كانــت تفتــرق عنهــا لحظــة .وإن مشــهد هذيــن
الشــيخين تحرســهما هاتــان اليتيمتــان ،لهــو أشــد مــا تســتطيع أن تتصــور تأثيـ ًـرا فــي قلبــك.
وأقبلــت مامــت فبــدأت تنحنــي انحنــاءة كبيــرة ،تريــد بهــا أن تحيينــي كمــا كانــوا يفعلــون فــي
عهــد الفروســية ،ولكــن الشــيخ بكلمــة منــه بتــر انحناءتهــا:
ـأنه صديق موريس...
71
عشر
َ الصف الثّاين
وإذا هــي ترتجــف ،وتبكــي ،وتفقــد منديلهــا ،وتحمــر ،وتحمــر وتفوقــه احمـر ًارا ...هؤالء الشــيوخ!
ّ
ليــس فــي عروقهــم إل قطــرة دم واحــدة ،وعنــد أقــل انفعــال تثــب هــذه القطــرة إلــى وجوههم...
قالت العجوز لصغيرتها:
ـأسرعي ،أسرعي بكرسي...
وأهاب الشيخ بصغيرته:
ـافتحي النافذة.
ثــم أخــذ كل منهمــا بإحــدى يــدي ،واقتادانــي وهمــا يدبــان علــى أرض الغرفــة حتــى بلغــا بــي
ّ
النافــذة التــي فتحــت علــى مصراعيهــا ليريانــي فــي جــاء.
وتدانــت المقاعــد ،وإذا أنــا جالــس بينهمــا علــى كرســي صغيــر والصغيرتــان الزرقــاوان وراءنــا،
وإذا االســتجواب يبــدأ:
ـكيف حاله؟ ماذا يعمل؟ لماذا ال يأتي؟ أمسرور هو؟
ً وهكذا انهالت ّ
علي أسئلتها الثرثارة ساعات طوال.
أمــا أنــا ،فكنــت أبــذل أقصــى مــا فــي وســعي أال أجيــب عــن جميــع أســئلتهما ،أســرد عــن
ً
حريصــا قبــل كل شــيء صديقــي مــا أعــرف مــن تفاصيــل ،وأختلــق دون حيــاء مــا ال أعــرف،
علــى أال أبــوح بأنــه مــا عـ َّـن لــي ً
يومــا أن أالحــظ هــل مصاريــع نوافــذه محكمــة القفــل إذا أراد أن
أي لــون قــد اتخــذ ورق غرفتــه. يوصدهــا أو مــن ِّ
ـورق غرفته؟ ...إنه ازرق يا سيدتي ،أزرق فاتح ،تحليه زخارف من أكاليل الورد وورق الشجر...
فقالت العجوز المسكينة وقد فاض بها الحنان:
ًّ
ـحقا؟
وأضافت وهي تلتفت إلى زوجها:
ـياله من ولد طيب!
آ
فواصل الخر في حماسة:
ـأوه! أجل ياله من ولد طيب!
72
ٌةفيدر ٌصصق -ناخيشلا
وظــا طيلــة الوقــت يتبــادالن فــي أثنــاء حديثــي إيمــاءات برأســيهما ،وضحــكات صغيــرة ماكــرة،
وغمـزات بأعينهمــا ،وإشــارات اصطلحــا عليهــا للتفاهــم بينهمــا ،أو كان الشــيخ يدنــو منــي ليهمــس
لي :
ـارفع صوتك...إن أذنها ثقيلة بعض الشيء.
بينما تهمس لي هي من ناحيتها:
ـبصوت أعلى قليال ،أرجوك! ...فإنه ال يكاد يسمع.
ّ
وإذ ذاك كنــت أرفــع صوتــي ،فيشــكرني الكهمــا بابتســامة ،وفــي هــذه البســمات الذابلــة التــي
كانــت تنحنــي علــي باحثــة فــي غــور عينــي عــن صــورة موريســها ،كنــت أرى ،وأنــا شــديد التأثــر،
صــورة صاحبــي المنشــودة غامضــة محجبــة ال يــكاد يدركهــا البصــر .فكأنــي كنــت أرى صديقــي
يبتســم لــي ،بعيـ ًـدا جـ ًّـدا فــي ضبــاب.
وفجأة انتصب الشيخ فوق مقعده:
أ أ
ـإني لفكر في المر ،ماتت ...لعله لم يتناول غداءه!
فترفع ماتت ذراعيها نحو السماء مشدوهة مضطربة:
ّ
ـلم يتناول غداءه! ياسبحان الله!
وكنــت أظــن أنهمــا مــا زاال يتحدثــان عــن موريــس ،وهممــت أن أجيــب بــأن هــذا الولــد
الطيــب لــم يكــن يتأخــر قــط عــن الســاعة الثانيــة عشــرة ظهـ ًـرا لكــي يجلــس إلــى المائــدة .ولكنهمــا
كانــا يتكلمــان عنــي أنــا ،ويــا ليتكــم شــهدتم أي اســتعداد أقــام البيــت وأقعــده حيــن صرحــت
بأننــي مــا زلــت علــى الطــوى.
ـأســرعا بــأدوات المائــدة أيتهــا الصغيرتــان الزرقــاوان! اجذبــا الخــوان إلــى وســط الغرفــة ،وأبســط
ً أ أ أ
ســماط يــوم الحــد ،وأخرجــا الطبــاق ذوات الزهــار .كفانــا ضحــكا مــن فضلكمــا! ولنســرع...
ّ أ
وإنــي لعتقــد تمــام االعتقــاد أنهمــا كانتــا تســرعان ،فلــم يكــد ينقضــي مــن الوقــت إل مــا يلــزم
لكســر ثالثــة أطبــاق ،حتــى كان الغــداء معـ ًّـدا.
وقالت لي مامت وهي تقودني إلى الخوان:
ـغــداء صغيــر طيــب! . ...بيــد أنــك ســتكون وحــدك إلــى المائدة...أمــا نحــن فقــد أكلنــا صبــاح
73
عشر
َ الصف الثّاين
اليــوم.
يــا لهذيــن الشــيخين المســكينين! إن مــن يدخــل عليهمــا فــي أيــة ســاعة ،يجدهمــا ً
دائمــا قــد
أالك فــي الصبــاح.
وبالغــداء مامــت الصغيــر الطيــب! كان يتألــف مــن إصبعيــن مــن اللــب ،وبعــض التمــر،
وقطعــة (باركيــت) وهــي شــيء يشــبه الفطيــر ،وتلــك مــادة تكفــي إلطعامهــا وإطعــام (كناريهــا) ً
أياما
ثمانيــة علــى أقــل تقديــر ...فمــا قولكــم وقــد أتيــت وحــدي علــى كل هــذه المــؤن عــن آخرهــا!...
وبنــاء عليــه ،أي اســتنكار حــول المائــدة! يــا لــي مــن الصغيرتيــن الزرقاويــن وقــد أخذتــا تتهامســان
وتتالم ـزان بمرفقيهمــا ،ويــا لــي مــن أف ـراخ الكناريــا هنــاك فــي قــاع قفصهــا وقــد بــدا عليهــا أنهــا
ّ
تتقــاول" :أوه! هــذا الســيد الــذي يلتهــم الباركيــت كلهــا!".
ً
وفــي الواقــع لقــد التهمهــا كلهــا ،بــل ولــم أكــد أتنبــه إلــى ذلــك ،إذ كنــت مشــغول يســتغرقني
ّ
النظــر حولــي فــي هــذه الحجــرة الوضيئــة الوادعــة التــي كان يتضــوع فيهــا لــون مــن أريــج الماضــي
أ
والشــياء القديمــة ..كان هنــاك قبــل كل شــيء ســريران ،وهمــا أشــبه بمهديــن ،كنــت أتمثلهمــا فــي
أ
الصبــاح ،قبــل شــروق الشــمس ،ومــا زاال كامنيــن فــي ســتائرهما الفضفاضــة ذوات الهــداب ،ثــم
تــدق الســاعة الثالثــة ،وهــي اســتيقاظ جميــع العجائــز:
ـأنائمة أنت يامامت؟
ـال ،ياصاحبي.
ـأو ليس موريس و ًلدا ً
طيبا؟
ـأوه! أجل ،إنه ولد طيب.
ّ ً
وكنــت أتخيــل علــى هــذا المنــوال حديثــا بأكملــه ،ال لشــيء إل لرؤيتــي فراشــي الشــيخين،
وهذيــن الســريرين الصغيريــن القائميــن هــذا بجــوار هــذا...
كان موريــس كلفــا بالكــرز! ومــال الشــيخ علــى أذنــي يقــول فــي لهجــة شــرهة وهــو يقــدم لــي
القــدح:
ّ
ـإنــك لمحظــوظ ،أنــت ،إذا أتيــح لــك أن تتنــاول منــه! . ...إن زوجتــي هــي التــي صنعتــه ...لســوف
تتــذوق شـ ًـيئا ً
جيدا.
ّ
واحســرتاه! إن زوجتــه هــي التــي صنعتــه ،ولكنهــا نســيت أن تحليــه بالســكر .مــاذا تريــدون؟
74
ٌةفيدر ٌصصق -ناخيشلا
فالمــرء يمشــي شــارد الذهــن حيــن يهــرم .لقــد كان كــرزك الذعــا حــادا يــا مســكينتي مامــت....
غيــر أن ذلــك لــم يمنعنــي مــن أن أتجرعــه إلــى آخــره دون أن تطــرف لــي عيــن .وعندمــا انتهــى
الطعــام ،نهضــت أســتأذن مضيفــي فــي االنصـراف .لقــد كانــا يــودان لــو اســتبقياني بعــد ذلــك قليــا
لنتحــدث عــن الولــد الطيــب ،ولكــن نــور النهــار كان يخبــو ،وكانــت الطاحونــة بعيــدة ،فلــم يكــن
بــد مــن الرحيــل.
وكان الشيخ قد نهض حين هممت:
ـمامت ،معطفي ..أريد أن أرافقه حتى الميدان.
ولــم يكــن شــك فــي أن ماتــت ،فــي ق ـراره نفســها ،كانــت تجــد أن بــرودة خفيــة -منــذ ذلــك
الوقــت -قــد انتشــرت فــي الجــو ال تــأذن لصاحبهــا أن يرافقنــي حتــى الميــدان ،ولكنهمــا لــم تــدع
ّ
شــيئا مــن ذلــك يبــدو عليهــا .إل أننــي ســمعت هــذه الشــيخة المســكينة بينمــا هــي تعينــه علــى
دخــول ردنــي معطفــه ،معطــف أســباني بنــي قاتــم ذي أزرار صدفيــة ،تقــول لــه فــي رقــة:
ً
ـلن تتأخر طويل ،أليس كذلك؟
أما هو فأجاب في لهجة متخابثة متمنعة:
ـهئ! هئ! ...لست أدري ...ربما...
ً آ
وهنــا نظــر كل منهمــا فــي عينــي الخــر ضاحــكا إذ تريانهمــا يضحــكان ،وأمســت أفــراخ
الكنــاري فــي ركنهــا تضحــك أيضــا علــى طريقتهــا الخاصــة.
أ
...وكان الظــام يهبــط الرض حيــن خرجنــا ،أنــا والجــد .وكانــت الزرقــاء تتبعنــا مــن بعيــد لكــي
تعيــده ،ولكنــه لــم يكــن يراهــا .بــل اســتبد بــه الفخــر إذ يتأبــط ذراعــي ،كالرجــل .وأشــرق وجــه
مامــت عندمــا رأت ذلــك ،مــن أســكفة بيتهــا .وكان لرأســها وهــي تنظــر إلينــا هـزات جميلــة ،لعلهــا
كانــت تقــول" :علــى الرغــم مــن كل شــيء ،زوجــي العزيــز! . ...إنــه مــا زال قــادرا علــى المشــي").
75
عشر
َ الصف الثّاين
76
ٌةفيدر ٌصصق -رقصلا
الصقر
غوستاف هلسرتوم
أ
كان (الســر انغورانــد) يذهــب إلــى الصيــد كل يــوم ويــده فــي قفــاز أحمــر مطــرز بالذهــب ،لنــه
آ
لــم يكــن ليوقــظ فــي حنايــاه الحاســة الموســيقية ســوى طيـران الصقــر اليســلندي ورنيــن أجراســه
أ
الصغيــرة ،فتجعلــه يستنشــق نســيم الصبــح القريــر ببهجــة .وفــي أحــد اليــام طــارد الصقــر بلتونــا
أ
داميــا إلــى مســتنقع وراء الجمــة حيــث وجــده الصيــاد ودق عنقــه ،ولكــن الصقــر لــم يكــن ليعثــر
لــه علــى أثــر .فهــل أغرتــه فريســة جديــدة ،أم أنــه عــاف مــاء المســتنقع الكــدر ،أم أن خيــاءه
ً أ
دفعــت بــه إلــى التحليــق فــي الجــواء حتــى شــطت بــه الريــح؟ -عبثــا ذهبــت محاوالتهــم فــي
ً
العثــور عليــه .وعبثــا نــادوه بأســماء محببــة ،وكذلــك دوى صــوت البــوق مــن علــى كل رابيــة .فصفــع
(الســر انغورانــد) بقفــازه كبيــر الصقاريــن علــى فمــه المرتعــش حتــى ســال منــه الــدم ،ثــم راح
متجهــا صــوب القصــر وشــفتاه مزمومتــان بشــدة متناهيــة ،وجفنــاهيرمــح علــى جــواده فــوق العشــب ً
مســدالن فــي كآبــة أشــد علــى عينيــه المتراخيتيــن .أمــا الصقــر فلــم يجــدوه.
ولكــن (رينــود) وجــده وقــد تعلــق إزاره بشــجيرة عليــق وهــو دون حـراك ينتظــر المــوت ً
جوعــا
أ آ
فــي براثنهــا الثابتــة ،أحــد جناحيــه معلــق والخــر مرتفــع بتحــد ورأســه المســتطيل ممتــد إلــى المام
ً
يتوعــد بعينيــن ثابتتيــن ومنقــار صــارم .لقــد كان جميــا وهــو قابــع بيــن حبــات العليــق الحم ـراء
أ
كالــدم ،وارتعشــت يــد (رينــود) لهفــة وهــو ينتــزع إزاره مــن بيــن الشــوك والجـراس الصغيــرة تــرن
بيــن أصابعــه علــى الحلقــة المرســومة بطابــع (الســر انغورانــد) .وعــا صراخــه بالفــرح عندمــا شــقت
المخالــب الحــادة ذراعــه المفتولــة وأصبــح الصقــر ملكــه ..صقــر يمتــاز بأعــرض صــدر وأطــول
جناحيــن وأنبــل عينيــن كالذهــب الملتهــب.
أ ً أ
لقــد غــدا ملكــه دونمــا ريــب ،لنــه لــن يســتطيع مطلقــا أن يريــه لي إنســان ،فهــو يعلــم بالقوانين
قفصــا فــي الغابــة ،فيتســللالصارمــة ّالتــي تحمــي هوايــات الفرســان الرياضيــة ،إنــه ســيبتني لــه ً
فــي الصبــاح الباكــر إلــى هنــاك قبــل أن ينفــض الطيــر البــرد عــن نفســه ويجــوالن الحقــول ســوية،
آ
ويكتســحان بنظراتهمــا المناطــق البيضــاء الشــاهقة ،ولســوف يغــرم الكهمــا بالخــر ،وأشــعة الشــمس
تعلــو وتنســكب علــى رأســيهما وتحمــل الريــح أفكارهمــا .أحكــم (رينــود) وثاقــه ثانيــة ،وركــض
آ
* كاتب سويدي حائز على جائزة نوبل في الداب (.)1882-1953
77
عشر
َ الصف الثّاين
ـريعا ببطــة قتلهــا بحجــر وقدمهــا للصقــر ،فأقبــل عليهــا ،فتخــدر قلــب نحــو البركــة ،ثــم رجــع سـ ً
أ
(رينــود) مــن النشــوة لن تلــك كانــت عالمــة مــن الصقــر بأنــه ال يحتقــره وأنــه ســيكون لــه.
ً
وأصبــح الصقــر ملــكا لــه ،وكلمــا طقطقــت العســاليج المتجمــدة بالصقيــع تحــت خطواتــه فــي
ســكون الصبــاح كان الصقــر يحنــي رأســه ويصغــي ،وعينــاه هادئتــان ترقبــان علــى حــذر ،ثــم يقفــز
ـادا نفســه نحــو يــده وهــو يرفــرف بجناحيــه كأنمــا يريــد الطيـران -أو يريــد أن بخفــة مــن قفصــه مـ ًّ
ً
يذكــره بذلــك -ثــم يســرعان فــي الخــروج مــن الفلــوات الرحبــة حيــث كان الضــوء ينتشــر شــيئا
ً
فشــيئا.
قاتمــا ،وترامــت التــال و ألقــت عيونهمــا نظــرات حــادة علــى الســماء المحمــرة احمــر ًارا ً
أ أ
ســوداء باليــكات المتناثــرة حيــث رقــدت الشــجار وأغصانهــا مثقلــة بالعصافيــر الصامتــة .وغــدت
الســماء منبلجــة البهــاء تتوهــج بالذهــب واالحمـرار ،وأصبحــت معالــم الحقــول زرقــاء ،طــار البــوم
أ
يســف علــى الرض يلتمــس مخبــأ ،ونشــرت عصافيــر الصبــاح أجنحتهــا مسقســقة بلطــف مــن
أ
البــرد ،وظهــرت فــي طيرانهــا ســوداء علــى صفحــة الهــواء المتللئــة .ولكــن (رينــود) وصقــره أســرعا
ً أ
فــي ســيرهما لن هــذه كانــت عصافيــر الــدوري والســمان -وال يطمعــان فيهــا فريســة .ولكــن نــزول
عنــد المســتنقعات كانــت البالتــن تزعــق وتطيــر بضربــات طويلــة مــن أجنحتهــا فــي دوائــر واســعة،
عاليــا وصــدره مصــوب كالقــدر وأجنحتــه مســتعدة فهنــاك كانــت الفريســة .وهنــاك أطلــق الصقــر ّ
للقصــف ،ورآه (رينــود) فــي أشــعة الشــمس وقــد انقلــب إلــى لــون الذهــب فوقــف معمـ َّـي العينيــن
مصابــا بالــدوار بينمــا غــدا الطيــر يصفــر علــى أديــم الســماء .وبلغــت مســامعه ســخرية رنيــن ً
أجراســه مــن زعقــات البالتــن.
ً
أخــذت البالتــن تحــوم فــي دوائــر مــن خوفهــا .وفكــرت آنــا فــي أن تحــط علــى الشــاطئ لكــي
أ
تخبــئ أعناقهــا الطويلــة ورؤوســها البلهــاء المرتعبــة وأعرافهــا المنحنيــة تحــت الشــجار القاتمــة،
ً
وآنــا آخــر حاولــت متــرددة أن تعلــو فــي شــكل حلزونــي متكئــة علــى أجنحتهــا العريضــة فــي
حملهــا إلــى أعلــى ممــا يســتطيع عدوهــم مطاردتهــا ،وارتجفــت كالقصــب مــن الرعــب المســتولي
علــى قلوبهــا.
ولكــن الصقــر التقــط منــذ البدايــة واحـ ًـدا مــن أقواهــا ،واحـ ًـدا مــن أولئــك الذيــن حلقــوا عاليــا
أ
لول وهلــة .أحــب الصقــر أن يجــرب قوتــه وأن يشــعر بالهــواء الخفيــف القريــر تحــت جناحيــه،
78
ٌةفيدر ٌصصق -رقصلا
ورفــع نفســه بســرعة غيــر متلجلــج وكأنــه يحــوم حــول شــعاع مــن الشــمس .وللحــال غــدا هــو
ً أ
العلــى .وبــان للعيــان أصغــر مــن العصفــور الــدوري ،ولكــن شــيئا مــن هيئــة جناحيــه وفــي قــوة
جســده المركــزة أعطــت فكــرة عــن إشــعاع عينيــه الوحشــيتين ومخالبــه الممتــدة ،وانقــض بغتــة
أ أ ً
ثقيــا كالفــوالذ ،علــى عنــق فريســته العــزل المتجــه نحــو العلــى ،وســقط االثنــان كحجــر تــكاد
أجنحتهمــا ال تتحــرك .وهــرول (رينــود) يخــوض البركــة بســرعة قبــل أن ينشــل البلتــون نفســه
ويســتعيد صوابــه مــن هــول الضربــة ،فيجمــع قــواه ويســتعمل منقــاره الصــارم فــي وحشــية يائســة،
غيــر أن الصقــر عاجلــه بالضربــة المميتــة بحــدة وســرعة ،والتفــت بعينيــه الواســعتين نحــو ســيده
أ
لنــه اســتنكف أن يلطــخ ريشــه بالــدم ،وانتظــر كــي يوهــب لــه القلــب وهــو مــا ي ـزال حـ ًّـارا.
عاليــا وركــض وراءه ً
مناديــا لــم يطــر الصقــر ثانيــة فــي ذلــك اليــوم ،وعندمــا أطلقــه رينــود ،وطيــره ً
محر ًضــا ،خبــط جناحيــه بضــع مـرات ،ثــم جثــم علــى كتفــه مــرة أخــرى ببــرود وكبريــاء إزاء وجهــه ّ
الصبيانــي الضاحــك ،وظهــر أنــه يحتقــر جميــع التوافــه ،فأحجــم (رينــود) عــن تكـرار ذلــك بينمــا
ً
مخلصــا لــه أكثــر مــن أي شــيء اكتســبت نظراتــه ونظـرات الصقــر الجديــة البعيــدة المــدى .وغــدا
آخــر امتلكــه فــي حياتــه ،وخيــل إليــه أن الصقــر قــد قـ ّـد مــن روحــه وحنينــه بجناحيــه العريضيــن
ولمحتــه المنتصــرة .ولكــن كان هنالــك ألــم فــي حبــه ،وتشــاؤم كئيــب مــن بليــة منتظــرة .وفــي
أحاييــن أخــرى يداهمــه الخــوف لئــا يفارقــه طيــره دون اكت ـراث ،ويختفــي مــع رنيــن أجراســه
ّ ّ
الســافر .إن الفـراغ الــذي ســيتركه ســيكون بمثابــه المــوت لــه وال ريــب ،أو خيــل إليــه أن الصقــر
آ ً
كان شــرفا يتألــق علــى صفحــة الهــواء الــازوردي يجثهــم الن علــى كتفيــه فــي انتظــار ســفرات
جديــدة.
وفــي أوج فرحــه شــعر باالنقبــاض مــن تفاهــة نفســه ،وبالــكاد جــرؤ أن يلقــي نظــرة علــى الطيــر،
ً أ
وأحــس باللــم فــي قلبــه بأنــه لــن يســتطيع أن يشــاركه فــي أفراحــه مطلقــا ،وأن نظرتــه لــن تليــن أبـ ًـدا
أ
عنــد رؤيــة ســيده .وركــض إلــى أرض الحــام.
أ أ أ
اضطجــع علــى الرض المنثــورة بالعشــاب والخلنــج الحمــر تحــت رأســه ،بينمــا انســابت
الغيــوم مجتــازة كمصيــر بنــي البشــر ،خفيفــة وثقيلــة ،مركــزة فــي معالــم ثابتــة ،أو مبعثــرة فــي
الهــروب .يــد الريــح الخفيفــة تخشــخش ،وراح (رينــود) يقــص الحكايــات علــى صقــره.
أ
رجــع الملــك (آرثــر) ثانيــة مــن بحــر برياتــي ،وتســلم مــرة أخــرى ســيفه (أكســكاليبر) الرزق
79
عشر
َ الصف الثّاين
كســماء الليــل فــي طقــس بــارد .ورفــع فرســانه االثنــي عشــر رؤوســهم الثقيلــة عــن المائــدة الحجريــة
الرض مــن تحــت أقدامهــم وكان (رينــود) ً أ
أيضــا هنــاك، ونفضــوا الســبات عــن أنفســهم ،وارتجــت
ً آ ّ
نبيــل المولــد وجــواده يتبختــر تحتــه ،والصقــر الــذي كان ً
منتصبــا نائمــا الن منحنــي الـرأس ،جثــم
أ
علــى يــده يصبــو إلــى نظراتــه بعينيــن متألقتــن بالفــرح وبالشــمس الذهبيــة فــي الســاطير البطوليــة.
ولكــن الغيــوم انســابت مجتــازة كأقــدار البشــر المحتومــة تطــارد بعضهــا البعــض قائمــة الواحــدة
ً الخــرى ،وشــكلت ً أ
قوســا هائــا مــن الكتــل ،حيــث نفــذت أشــعة الشــمس وانســكبت منهــا فــوق
أحالمــا حزينــة كئيبــة عــن الغضــب ّ
العنيــن ً مــن فجواتهــا صف ـراء حــادة كالســهام ،وحلــم الصقــر
العاجــز واســتيقظ وهــو يزعــق.
لمــح الصبيــة المتجولــون طيــر (الســر انغورانــد) علــى يــد (رينــود) .فقبــض حثــاالت الفــارس
ً
عليــه وســاقوه إلــى القصــر .وانتابتــه رعشــة عندمــا أخــذ الصقــر منــه ال يبــدي حـراكا وكلــه كبريــاء
دائمــا دون أن يلفــت عنقــه المنحنــي ودون لمحــة مــن عينيــه الهادئتيــن الباردتيــن .أخــذ كعهــده ً
أ
الطيــر إلــى ســيده ،ولكــن الســيد لــم يبــد أي عطــف نحــو محبــوب فقــده ،وذلــك لنــه ســمح
ً
لنفســه بــأن تلمســه أيــد دونــه شــرفا ومنزلــة.
80
ٌةفيدر ٌصصق -وساجلا لفطلا
الطفل اجلاسوس
81
عشر
َ الصف الثّاين
ً
متنقــا ً أ
جاريــا. والشــوارع كأنهــا الســواق المقامــة .وفــي هــذه الشــوارع كان الولــد ينفــق يومــه
يصحــب كتائــب الحــي الماضيــة إلــى المتاريــس ،متخيـ ًـرا أولئــك الذيــن يفضــل موســيقاهم -فلقــد
عليمــا ،يقــول لــك إن موســيقا الكتيبــة السادســة والتســعين ال خبيــرا ً
ً كان فــي هــذا المضمــار
أ
تســاوي كثيـ ًـرا ،أمــا الكتيبــة الخامســة والخمســين فيــا لفرقتهــا الموســيقية! وكان فــي بعــض اليــام
يشــاهد الفصائــل المتحركــة إلــى ميــدان القتــال وهــي تــؤدي التمرينــات العســكرية ،ثــم يتبعهــا
أ
مــع الذيــال الح ـرارة...
ّ ً ً
هــا هــو إذا ،متأبطــا ســلته ،يندمــج فــي تلــك الصفــوف الطويلــة التــي كانــت تتشــكل فــي غســق
الشــتاء المملــق مــن الغــاز ،تــارة فــي زمــرة القصابيــن ،وتــارة فــي حلقــة الخبازيــن .فهنــاك كان أفـراد
بعضــا .ثــم يعكفــون علــى الحديــث فــي الجماعــة يتركــون المــاء يغمــر أقدامهــم ،وبتعــرف بعضهــم ً
أ
السياســة ،ولمــا كان صاحبنــا هــو ولــد الب (ســتن) ،فقــد كان كل امــرئ يســأله رأيــه.
علــى أنــه لــم يكــن فــي الشــوارع أطــرف مــن مباريــات (الجالــوش) ،تلــك اللعبــة الشــهيرة
ّ
التــي أذاعهــا الجنــود البريطانيــون فــي أثنــاء الحصــار .فــإن أنــت لــم تجــد (ســتن) الصغيــر فــي
أ
المتاريــس أو بيــن الخبازيــن .ثــق لنــك البــد وأجــده فــي مبــاراة الجالــوش بميــدان الـ(شــتو دو).
يومــا ليلعــب ،بالطبــع ،ألن دون اللعــب نقـ ً
ـودا كثيــرة ،وإنمــا كان يقنــع بمشــاهدة ولكنــه لــم يكــن ً
المتباريــن والنظــر بعينيــه...
ّ
هنــاك بوجــه خــاص فتــى كبيــر ذو رداء أزرق ،لــم يكــن يبــاري إل بقطــع مــن فئــة المائــة (ســو).
ذلــك كان يثيــر إعجــاب صاحبنــا الصغيــر .وإن للنقــود فــي أعمــاق ثوبــه لصلصلــة تــرن فــي ســمعك
حين يجــري...
وذات يــوم ،إذ تدحرجــت قطعــة مــن نقــوده تحــت قدمــي (ســتن) فأعادهــا إليــه .قــال لــه الكبيــر
فــي صــوت خفيض:
حسنا ،إن شئت أخبرتك أين تجد مثله. ـإن هذا يخطف بصرك؟ً ...
ركنــا مــن أركان البلــدان ،وعــرض عليــه أن يصاحبــه فــي بيــع فلمــا انتهــت المبــاراة ،انتبــذ بــه ً
ً
صحــف للـ(بروســيين) ،فــإن الرحلــة الواحــدة تــدر ثالثيــن فرنــكا.
ً أ
رفــض (ســتن) فــي أول المــر ،وأبــى حانقــا أن يثــري مــن يــد العــدو .ولقــد كان مــن أثــر ذلــك
أن انقطــع ثالثــة أيــام عــن ارتيــاد حلقــة اللعــب ،ثالثــة أيــام رهيبــة ،لــم يكــن يــأكل فيهــا ،ولــم يكــن
82
ٌةفيدر ٌصصق -وساجلا لفطلا
أ
ينــام ،فــإذا جــن الليــل طافــت بــه الطيــاف ورأى أكــداس الجالــوش قائمــة تحــت ســريره ،وطالعتــه
قطــع النقــود بأوجههــا البراقــة .لقــد كان الغـراء شـ ً
ـديدا ال طاقــة للصغيــر علــى احتمالــه فعــاد فــي إ
اليــوم الرابــع إلــى الـ(شــاتو دو) ،وقابــل الفتــى الكبيــر ،واستســلم.
انطلقــا فــي صبــاح هطــل جليــده ،وعلــى كتــف كل منهمــا كيــس مــن القمــاش ،وتحــت ســترته
صحــف مخبــأة .وعندمــا بلغــا بــاب الفالنــدر ،وقــد أوشــك النهــار أن ينبلــج ،أخــذ الكبيــر بيــد
أ ً
(ســتن) ،ودنــا مــن الحــارس -وكان رجــا محمــر النــف طيــب القلــب -فخاطبــه بصــوت الــذل
ً
والمســكنة قائــا:
ـاســمح لنــا أن نمــر يــا ســيدي الكريــم ...فــإن أمنــا مريضــة وأبانــا قــد توفــى ،وســأذهب أنــا وأخــي
ً
الصغيــر إلــى الحقــل لعلنــا نجمــع شــيئا مــن البطاطــس.
وكان يبكــي .أمــا (ســتن) فقــد خفــض رأســه الصغيــر ،وكان الخجــل يغمــره .وتأملهمــا الحــارس
ً
لحظــة .ثــم ألقــى نظــرة علــى الطريــق المقفــرة البيضــاء وقــال وهــو يفســح لهمــا ســبيل.
ـمرا ً
سريعا.....
ها هما ذان في طريق أوبرفيليه وها هو ذا الكبير يضحك.
صــورا ينقصهــا الوضــوح ،صــور مصانــع تحولــت إلــى ً ويــرى (ســتن) ،كأنــه فــي حلــم،
معســكرات ،وحصــون خاليــة قــد علقــت بهــا خــرق مبتلــة ،ومداخــن باســقة قــد ثقبــت حجــاب
الضبــاب وارتفعــت فــي الســماء خاويــة محطمــة ....ومــن بعيــد إلــى بعيــد ،حــارس ،وضبــاط قــد
دثــروا رؤوســهم يتطلعــون هنــاك بالمنظــار ،وخيــام صغيــرة قــد بللهــا الجليــد المنصهــر أمــام نــار
خبيــرا بالســكك ،فمضــى بيــن الحقــول ً
مجنبــا مواقــع الجنــود، ً تخبــو وتحتضــر .وكان الكبيــر
ولكنهمــا يشــرفان علــى مركــز مــن مراكــز قــوة المدفعيــة ،فــا يســتطيعان أن يجــدا إلــى المفــر
ً
ســبيل .هنــاك جنــود المدفعيــة ببرداتهــم القصيــرة ،قابعــون فــي جــوف الخنــدق.
ً
وعبثــا أخــذ الكبيــر يعيــد قصتــه ويعيدهــا ،فلــم يســمح لهمــا أحــد بالمــرور ....وبينمــا هــو
ينتحــب ،خــرج مــن بيــت الحــرس إلــى الطريــق ،جاويــش عجــوز .أبيــض الـرأس مغضــن الوجــه،
أ
شــديد الشــبه بــالب (ســتن) فقــال للغالميــن:
ً
ـهيــا أيهــا الصغيـران! حســبكما بــكاء! ســنأذن لكمــا بالذهــاب إلــى بطاطســكما ،ولكــن أدخــا أول
83
عشر
َ الصف الثّاين
ً
فاصطليــا قليــا ....لقــد تجمــد مــن البــرد هــذا الولــد!
يــا للــه! مــا كان مــن البــرد يرتعــد (ســتن) الصغيــر ،وإنمــا كانــت تمكــو فرائصــه مــن الوجــل،
ّ
ومــن الخجل...ووجــدا فــي الــدار بعــض الجنــود قــد جلســوا القرفصــاء حــول نــار مهزولــة اللهــب،
ً
حزينــة الجــذوة ،كانــوا يمجــون فيهــا علــى أطـراف حرابهــم شــيئا مــن البســكويت المثلــج يلتمســون
ً
تســخينه .فانضــم بعضهــم إلــى بعــض وأفســحوا للغالميــن مكانــا .وقدمــوا لهمــا جرعــات مــن القهــوة.
وفيمــا همــا يرتشــفان ،إذا الضابــط يبــدو علــى البــاب ،فيدعــو إليــه الجاويــش ،ويحدثــه فــي صــوت
ً ً خفيــض ،ثــم يمضــي مسـ ً
ـرعا ويعــود الجاويــش مشــرقا متهلــا يقــول:
أ
ـآه أيهــا الوالد! هنــاك دخــان فــي هــذه الليلــة ...لقــد فوجئــت كلمــة الـ(بروســيين) ...وأعتقــد أننــا
سنســتعيدها منهــم فــي هــذه الكــرة ،سنســتعيد (بورجيــه) المقدســة!
ويثيــر ذلــك عاصفــة مــن الصيــاح والمــرح .وينهــض الجنــود للرقــص والغنــاء وتنظيــف الحراب،
وينتهــز الصبيــان فرصــة هــذا الهــرج ،ويختفيان.
ّ
ويعب ـران الخنــدق ،فــا يبقــى أمامهمــا بعــد ذلــك إل الســهل المنبســط .وفــي نهايــة الســهل
جــدار قائــم ،أبيــض اللــون ،كثيــر الثغـرات .لقــد كانــا يقصــدان إلــى هــذا الجــدار .فســارا يتوقفــان
فــي كل خطــوة متظاهريــن بجمــع البطاطــس ،وســتن الصغيــر يقــول لصاحبــه فــي كل لحظــة" :هيــا
نرجــع ...ال نذهــب إلــى هنــاك" .وصاحبــه يرفــع كتفيــه ويتقــدم ً
دائمــا .وفجــأة ســمعا صــوت بندقيــة
أ
تحشــى ،فصــاح الكبيــر" :انبطــح!" ،واســتلقى هــو علــى الرض .وأخــذ يصفــر .وإذا صفيــر آخــر
أ
يجيبــه مــن فــوق الجليــد .أم يتقدمــان زاحفين...وأمــام الجــدار ،ظهــر علــى أديــم الرض شــارب
أصفــر تحــت قلنســوة وســخة .فقفــز الكبيــر فــي الخنــدق إلــى جانــب البروســي ،وقــال وهــو يريــد
صاحبــه:
ـإنه أخي الصغير.
وكان (ســتن) صغيـ ًـرا إلــى حــد جعــل البروســي يضحــك مــلء فيــه ،ويأخــذه فــي ذراعيــه
فيرفعــه حتــى الثغــرة.
أ آ
وفــي الجانــب الخــر للجــدار كانــت أكــداس كبيــرة مــن التـراب ،وأشــجار ملقــاة علــى الرض،
أ
وثقــوب ســوداء فــي الجليــد ،وفــي كل ثقــب منهــا تلــك القلنســوة الوســخة وذلــك الشــارب الصفــر
يضحــك إذ يــرى الغالميــن يمـران.
84
ٌةفيدر ٌصصق -وساجلا لفطلا
أ أ
وفــي ركــن مــن الركان ،كان بيــت بســتاني مســقوف بجــذوع الشــجر .وكان طابقــه الســفل
ّ
يغــص بجنــود يلعبــون الــورق ،ويعــدون الحســاء علــى نــار متأججــة اللهــب صافيــة الجــذوة.
وللكرنــب والشــحم رائحــة تنبعــث لذيــذة شــهية .مــا أبعــد الفــرق بيــن هــؤالء وبيــن معســكر الجنــود
ً أ
مخصصــا للضبــاط. الفرنســيين! وكان الطابــق العلــى
دخــل ال(باريس)يــان فاســتقبلتهما صيحــات البشــر والترحيــب .وســلما مــا يحمــان مــن
الصحــف ،ثــم صبــت لهمــا أكــواب الشــاي ،واســتدرجهما أهــل الــدار إلــى الحديــث .كانــت ســماء
جميعــا ،ولكــن الفتــى الكبيــر قــد أخــذ يلهيهــم ً الكبريــاء والخبــث باديــة علــى هــؤالء الضبــاط
بلهجتــه العاميــة وحديثــه المتدفــق فــي ألفــاظ ســوقة ،فكانــوا يضحكــون ويــرددون كلماتــه فــي
ّ
طــرب ،ويتمرغــون متلذذيــن فــي طيــن (باريــس) الــذي جلــب إليهــم.
ً أيضــا ،ليثبــت انــه لــم يكــن ً ورقــد كان (ســتن) الصغيــر يــود أن يتكلــم هــو ً
غبيــا ،ولكــن شــيئا
الخريــن ،بروســي يكبــر أصحابــه ً آ ً
ســنا منفــردا عــن كان يضايقــه .ذلــك بروســي وقــف قبالتــه
وجـ ًـدا ،وكان يقـرأ وكان يتصنــع القـراءة ،فــإن عينيــه لــن تتحــوال عــن (ســتن) ،وإن فــي نظرتــه تلــك
ً
شــيئا مــن العطــف والرثــاء وكثيـ ًـرا مــن التأنيــب واالنتهــار ،فلعــل للرجــل فــي بــاده ولـ ًـدا يبلــغ عمــر
ً
(ســتن) ،ولعلــه كان يقــول فــي نفســه" :إنــي أفضــل المــوت علــى أن أرى ولــدي يحتــرف عمــا
كهــذا."...
منــذ نلــك اللحظــة أحــس (ســتن) الصغيــر كأن يـ ًـدا قــد وضعــت علــى قلبــه تمنعــه أن يخفــق.
وليلــة شــنت عليهــم إحــدى الغــارات .ثــم يخفــض الكبيــر مــن صوتــه ،ويتقــارب الضبــاط ،وتجــد
الوجــوه .لقــد كان البائــس ينبئهــم بهجــوم المدفعيــة.
هنا أفاق (ستن) الصغير ونهض ً
ثائرا يقول:
ـليس هذا أيها الكبير ...إني ال أريد....
ّ
ولكــن صاحبــه ال يعيــره إل ضحكــة ،ثــم يســتأنف حديثــه .وقبــل أن يتمــه ،كان الضبــاط
جميعــا واقفيــن ،يشــير لهمــا أحدهــم نحــو البــاب ويأمرهمــا بالخــروج. ً
ً
حديثــا سـ ً
ـريعا .وخــرج الكبيــر فخـ ً أ
ـورا كأنــه ومضــى الضبــاط يتحدثــون فيمــا بينهــم باللمانيــة
ّ
الــدوج وهــو يصلصــل بنقــوده ،وتبعــه (ســتن) مطأطــئ ال ـرأس ،فلمــا مــر بذلــك البروســي الــذي
ً صوتــا ً ً
حزينــا يقــول فــي لكنــة ألمانيــة" :ليــس جميــا هــذا ...ليــس طالمــا ضايقــه بنظرتــه ،ســمع
85
عشر
َ الصف الثّاين
أ ً
جميــا!" فمــ�ت الدمــوع عينيــه.
هــا همــا ذان فــي الســهل مــرة أخــرى يعــدوان ويؤوبــان مســرعين .وكان كيســاهما زاخريــن
ّ
بالبطاطــس التــي أعطاهمــا إياهــا البروســيون ،وبذلــك عبـرا بغيــر مشــقة خنــدق جنــود المدفعيــة
الفرنســية .وقــد كان هــؤالء يســتعدون للهجــوم فــي ليلتهــم تلــك .فالفــرق تــرد صامتــة وتحتشــد وراء
الجــدران .والجاويــش الشــيخ هنــاك ،منصــرف إلــى رجالــه يصفهــم وهــو مستبشــر ســعيد .فلمــا مــر
الصبيــان عرفهمــا ،وأرســل إليهمــا ابتســامة عذبــة...
آه مــن تلــك االبتســامة! كــم نغصــت عليــك أيهــا الصغيــر (ســتن)! لقــد اســتولى عليــه فــي
لحظــة نــزوع إلــى أن يصيــح بهــم" :ال تذهبــوا هنــاك ..فقــد خناكــم" ولكــن صاحبــه قــد قــال لــه إنــك
إذا تكلمــت رمونــا بالرصــاص ،فمنعــه الخــوف.
وفــي الكورنــوف دخــا ً
دارا مهجــورة يقتســمان فيهــا النقــود .والحــق يضطرنــي إلــى أن أقــول إن
ّ
القســمة كانــت نزيهــة عادلــة ،وإن الدراهــم التــي اســتقرت فــي جيــب (ســتن) الصغيــر ،وتفكيــره
ّ
فــي مباريــات (الجالــوش) التــي كانــت نصــب عينيــه ،قــد هونــا عليــه مــن هــول الجريمــة.
ولكــن ،يــا للطفــل المســكين! حينمــا أضحــى وحيـ ًـدا ،حينمــا فارقــه الكبيــر بعــد أن اجتــازا
ّ أ
البــواب ،إذ ذاك بــدأت جيوبــه تثقــل ،وتثقــل جـ ًـدا ،وأخــذت اليــد التــي كانــت تقبــض علــى
قلبــه تشــتد فــي ضغطهــا .وإذ (باريــس) تبــدو لــه غيــر (باريــس) .وإذا المــارة ينظــرون إليــه نظـرات
قاســية ،كأنهــم قــد علمــوا مــن أيــن أقبــل .وإذا كلمــة "جاسوس"تســتولى علــى ســمعه ،فهــو يســمعها
ّ
فــي ضجيــج العجــات ،وفــي قــرع الطبــول التــي تتــدرب علــى ضفــة الترعــة .وأخيـ ًـرا وصــل إلــى
البيــت ،فســره أن أبــاه لــم يكــن قــد رجــع ،وصعــد مــن تــوه إلــى غرفتــه يخبــئ تحــت وســادته النقــود
ّ
التــي كان ينــوء بهــا.
ً أ
اليــام ر ً أ
مبتهجــا مثلمــا كان فــي رواحــه ذلــك المســاء. اضيــا لــم يكــن الب (ســتن) فــي يــوم مــن
أ
فــإن أنبــاء قــد بلغتــه مــن القاليــم تبشــر بتحســن الموقــف .وجلــس الجنــدي الســابق ينظــر إلــى
بندقيتــه المعلقــة علــى الحائــط ،ويقــول لطفلــه وهــو يضحــك ضحكتــه العذبــة:
ـآه يا ولدي ،لو كنت ً
كبيرا النبريت للـ(بروسيين).
ً
جميعا: ونحو الساعة الثامنة ،دوت طلقات مدفع ،فقال الرجل الخبير بحصونه
86
ٌةفيدر ٌصصق -وساجلا لفطلا
87
عشر
َ الصف الثّاين
88
ٌةفيدر ٌصصق -يراب( يف نوحالفلا
الفالحون يف (باريس)
ألفونسو دوديه
فــي (شــامبروزاي) كان هــؤالء النــاس ســعيدين هانئيــن .كان يقــع وصيــد دواجنهــم تحــت
نوافــذي مباشــرة ،وكانــت حياتهــم تختلــط بحياتــي بعــض االختــاط ســتة أشــهر مــن الســنة .فكنــت
قبــل أن يطلــع النهــار بوقــت طويــل ،أســمع الرجــل يدخــل الحظيــرة فيربــط الدابــة إلــى العربــة،
أ
وينطلــق إلــى (كوربــي) ليبيــع خضــرة هنــاك ،ثــم تنهــض زوجتــه فتلبــس الوالد ،وتدعــو الدجــاج،
ّ
وتحلــب البقــرة ،ومــا ســاعات الصبــاح بعــد ذلــك إل وابــل مــن خبــط القباقيــب الغليظــة والصغيرة
أ أ
علــى الســلم الخشــبي ...وبعــد الظهــر ،كان يســكن كل شــيء ،فــالب فــي الحقــل ،والبنــاء فــي
أ
المدرســة ،والم مشــغولة صامتــه تنشــر الغســيل فــي الفنــاء ،أو تخيــط أمــام بابهــا وهــي تالحــظ
ً أ
الولــد الصغــر فــي الوقــت نفســه ،ويعبــر الطريــق عابــر مــن حيــن إلــى آخــر ،فيديــر اللســان حديثــا
أ
بينمــا تشــد النامــل إالبــرة..
وذات مرة -وكان هذا في أواخر شهر أغسطس -سمعت المرأة تقول لجارة لها:
ـماذا عن الـ(بروسيين)1؟ هل هم في فرنسا ،فقط؟
فصحت بها من نافذتي:
ـإنهم في شالون ،يا أم جان....
فأضحكهــا ذلــك كثيـ ًـرا ...لقــد كان الفالحــون فــي هــذا الركــن الصغيــر مــن (ســين -أ -واز)
كافريــن بغــزوة الـ(بروســيين).
أ
علــى أننــا كل يــوم كنــا نــرى عربــات تمــر محملــة بالمتعــة .وكانــت بيــوت البورجوازييــن تغلــق
ّ أبوابهــا ً
تباعــا .وفــي هــذا الشــهر الجميــل الــذي يطــول فيــه النهــار ،أتمــت الحدائــق أزهارهــا وهــي
ً ً
مهجــورة كالحــة كئيبــة وراء أســوارها الموصــدة ...وبــدأ القلــق يســاور جيرانــي شــيئا فشــيئا .كلمــا
نــزح مــن الحــي نــازح أخذتهــم غمــة .لقــد باتــوا يشــعرون شــعور المهجوريــن المخذوليــن ...ثــم ذات
أ
صبــاح ،إذا الطبــول تقــرع فــي جهــات القريــة الربــع! أمــر مــن مكتــب العمــدة .ينبغــي الســفر إلــى
أ أ
)1البروسيين :اللمان ،نسبة الرض التي أتوا منها (أرض البلطيق) ،وكانت تسمى (بروسيا).
89
عشر
َ الصف الثّاين
أ
(باريــس) لبيــع البقــرة ،والعــاف ،وعــدم إالبقــاء علــى شــيء للـ(بروســيين).
رحــل الرجــل إلــى (باريــس) ،وكانــت رحلــة حزينــة ،فعلــى الجــزء الرصيــف مــن الطريــق
الكبيــر ،مضــت مركبــات المهاجريــن الثقيلــة بنتائــج بعضهــا إثــر بعــض وقــد اختلطــت بقطعــان
مــن خ ـراف كانــت تتخبــط بيــن العجــات ،وثي ـران كانــت تخــور فــوق العربــات ،بينمــا مشــى
إلــى جانــب الطريــق بحــذاء الخنــادق مســاكين راجلــون وراء عربــات صغيــرة ذوات أذرع غاصــة
بأثــاث مــن ط ـراز العصــر الماضــي ،أرائــك ذابلــة الوســائد ،وموائــد عتيقــة ،ومرايــا محــاة برســوم
ّ
فارســية ،وإنــك لتحــس أي كــرب هــذا الــذي اســتطاع أن يدخــل البيــت فيزيــح كل ذلــك الغبــار،
الثــار المقدســة ،ويجرهــا ًآ
أكوامــا ال حرمــة لهــا فــي الطرقــات العامــة. وينقــل كل تلــك
وعلــى أبــواب (باريــس) ،كادوا يختنقــون .ولــم يكــن بــد مــن االنتظــار ســاعتين ،فظــل الرجــل
ّ المســكين طــوال هــذا الوقــت ،وقــد ضغطــه الحشــد إلــى بقرتــه ،ينظــر ً
هلوعــا إلــى الكــوى التــي
تطــل منهــا فوهــات المدافــع ،وإلــى الخنــادق المترعــة بالمــاء ،وإلــى الحصــون القائمــة مــدى
ً
مخبوطــا ً
ذاويــا علــى طــرف الطريــق ...وفــي المســاء البصــر ،وإلــى شــجر الحــور إاليطالــي الباســق
مرتاعــا يــروي لزوجتــه كل مــا رأى ،فجزعــت الزوجــة ،وأرادت أن ترحــل منــذ رجــع مــن هنــاك ً
الغــد ولكــن مــن غــد إلــى غــد كان يحــدث أن يرجــأ الســفر ً
دائمــا ...فاليــوم حصــاد ينبغــي أن يتــم،
أ
واليــوم قطعــة مــن الرض مازالــوا يرغبــون فــي حرثهــا.
وذات ليلــة يوقظهــم انفجــار عنيــف .لقــد نســف جســر (كوربــي) .وإذا رجــال يطوفــون بالحــي
أ
يقرعــون البــواب مــن بيــت إلــى بيــت" :الفرســان! الفرســان! لــوذوا بالفـرار".
أ
فيهبــون فــي هــرع وعجلــة ،ويربطــون الدابــة إلــى العربــة ،ويلبســون الطفــال وهــم نصــف
ً ً ً
قصيــرا. ناعســين ،ويفــرون مــع بعــض الجي ـران متخذيــن مســلكا ضيقــا
وعندمــا تســنموا الســفح ،دقــت الســاعة الثالثــة فــي البــرج .هنــاك التفتــوا مــرة أخيــرة .إن
ّ
مشــرب البهائــم ،والميــدان ،ودروبهــم المعتــادة ،هــذا الطريــق الــذي يهبــط نحــو الســين ،وذلــك
الطريــق ّالــذي ينســاب بيــن الكــروم ،كل شــيء بــدا لهــم ً
غريبــا ولمــا ينــأوا عنــه! وفــي ضبــاب
ً أ
الســحر البيــض كانــت القريــة الصغيــرة المهجــورة تضــم بيوتــا بعضهــا إلــى بعــض كأنهــا ترتعــد مــن
هــول وشــيك.
آ
إنهــم الن فــي (باريــس) .غرفتــان بالطابــق الرابــع فــي شــارع حزيــن ...أمــا الرجــل فمبتئــس
90
ٌةفيدر ٌصصق -يراب( يف نوحالفلا
أ ً
ولكنــه الينــوء بشــقوته .لقــد وجــدوا لــه عمــا ،ثــم إنــه مــن الحــرس الهلــي ،ولديــه المتاريــس،
ّ ً ّ
والتدريــب ،وإنــه ليتلهــى مــا اســتطاع إلــى اللهــو ســبيل ليتســنى مخزنــه الخــاوي ومروجــه التــي
تنتظــر البــذار .وأمــا المـرأة فمستوحشــة مفجوعــة تضيــق بأمرهــا والتــدري مــا المصيــر .لقــد وضعــت
بنتيهــا الكبيرتيــن فــي المدرســة ،والصبيتــان فــي تلــك المدرســة الخارجيــة العاطلــة مــن حديقــة
ّ
تختنقــان إذ تتذك ـران بيتهمــا الريفــي الجميــل الصائــت المــرح كخليــة النحــل ،والطريــق الــذي
أ
كانتــا تقطعانــه إليــه كل صبــاح خــال الغابــة .وتتألــم الم إذ تراهمــا مكتئبتيــن واجمتيــن ،ولكــن
ّ
الصغيــر هــو الــذي يقلقهــا فــوق كل شــيئ.
هنــاك كان يذهــب ويجيــئً ،
تابعــا إياهــا إلــى كل مــكان ،إلــى الفنــاء ،وإلــى البيــت ً
واثبــا وراءهــا
ً الســكفة كلمــا عبرتهــا هــيً ، أ
وجالســا غامســا فــي دلــو الغســيل يديــه الصغيرتيــن المحمرتيــن، درجــة
بالبــرة لتســتريح .إن هنــا طوابــق أربعــة عليــك أن تصعدهــا ،وسـ ً
ـلما قــرب البــاب حيــن تشــتغل إ
ً ً
مظلمــا تتعثــر فيــه قدمــاك ،وجــذوات صغيــرة فــي مدفــآت ضيقــة ،وأفقــا مــن الدخــان الرمــادي
أ
والردواز البليــل....
ومــن الحــق أن هنــا فنــاء فيــه يســتطيع الصغيــر أن يلعــب ،ولكــن البوابــة ال تريــد .هــو ذا
اخت ـراع آخــر مــن اختراعــات المدينــة ،هــؤالء البوابــات! أمــا هنــاك فــي القريــة ،فــكل امــرئ
ّ
ســيد بيتــه ،ولــكل امــرئ ركنــه الصغيــر الــذي يحــرس نفســه بنفســه .طــول النهــار ،يظــل البيــت
ً ً
مفتوحــا وفــي المســاء يدفــع المــرء متر ًاســا غليظــا مــن الخشــب فينغمــر البيــت كلــه بــا خــوف فــي
ً
عميقــا ً ّ أ
طيبــا .وبيــن الحيــن والحيــن ينبــح ليــل الريــف هــذا الســود الــذي يجــد المــرء فيــه إغفــاء
الكلــب إلــى القمــر ،ولكــن أحـ ًـدا ال يضطــرب ...الحــق إن (البوابــة) فــي بيــوت (باريــس) الفقيــرة
هــي مالكــة البيــت .والصغيــر ال يجــرؤ علــى النــزول بمفــرده ،فيمــا شــد مــا يشــفق مــن هــذه المـرأة
ـوادا مــن القــش وقــاذورات بيــنالشــريرة ّالتــي اضطرتهــم إلــى بيــع عنزتهــم ،متعللــة بأنهــا تجــرر أعـ ً
بــاط الفنــاء.
ً ّ
ولكــي تلهــي الطفــل الــذي أصبــح ضيقــا بحياتــه ،لــم تعــد المـرأة المســكينة تــدري مــاذا عســاها
أن تبتكــر ،فمــا يــكاد ينتهــي الطعــام حتــى تدثــره كمــا لــو كانــا خارجيــن إلــى الحقــول ،وتنزهــه مــن
يــده فــي الشــوارع الصغيــرة والشــوارع الفســيحة ،والطفــل مقبــوض عليــه ،مصطــدم ،تائــه ال يــكاد
ّ ّ ّ
ينظــر حولــه ...هــو ال يعنيــه إل الجيــاد ،فهــي الشــيء الوحيــد الــذي يتعرفــه والشــيء الوحيــد الــذي
أ
والم ً
أيضــا ال يروقهــا شــيء ،فهــي تســير بطيئــة شــاردة الذهــن تفكــر فــي أرضهــا وبيتهــا. يضحكــه.
91
عشر
َ الصف الثّاين
معــا ،هــي بمظهرهــا الكريــم ،وزيهــا النظيــف ،وشــعرها المرســل ،والصغيــر وإذا رأيتهمــا يم ـران ً
بوجهــه المســتدير و(مركوبــه) الغليــظ ،فستحســب أنهمــا مغتربــان ،منفيــان وأنهمــا يفتقــدان فــي
حســرة هــواء طرقــات القريــة الالفــح وعزلتهــا الضافيــة.
92
ٌةفيدر ٌصصق -كنرف فلأ ةئامثالثب
93
عشر
َ الصف الثّاين
معــا ويرجهــا منعــرج طريــق أو أســكفة بــاب .بهــذا الخيــط غيــر المنظــور ّالــذي يربــط تلــك الباليــا ً
ً
جميعــا إذا اهتــز هــزة واحــدة.
ً ً
رجــا ً
بائســا يمشــي أمامــي ،مقموطــا فــي كنــت أفكــر فــي هــذا ذات صبــاح ،حيــن رأيــت
معطــف نحيــل جـ ًّـدا يظهــر خطــاه الطويلــة الواســعة أطــول وأوســع ،ويكبــر جميــع حركاتــه تكبيـ ًـرا
ًّ وحشـ ًّـيا .وكان الرجــل يســير سـ ً
ـريعا متعجــا وقــد انحنــى شــطرين ،يعانــي عنــاء شــجرة فــي مهــب
الريــح ،وكانــت يــده تمتــد بيــن حيــن وآخــر إلــى أحــد جيوبــه الخلفيــة تكســر فيــه كســرة مــن
رغيــف صغيــر كان يــزدرده خفيــة كأنــه خجــل مــن أن يــأكل فــي الشــارع...
أ
إن البنائيــن يفتحــون شــهيتي حيــن أراهــم جالســين علــى الفاريــز يقضمــون قلــب رغفانهــم
أيضــا يثيــرون غيرتــي عندمــا يهرعــون عائديــن مــن المخبــز الغليظــة الطازجــة .وصغــار الموظفيــن ً
إلــى المكتــب ،أقالمهــم فــي آذانهــم ،وأفواهــم مليئــة ،مغتبطيــن بوجبتهــم تلــك فــي الهــواء الطلــق.
ّ
ولكنــك هنــا كنــت تحــس عــار الجــوع الحقيقــي ،وكنــت تــذوب شــفقة علــى هــذا البائــس الــذي
ّ
ال يجــرؤ علــى أكل رغيــف خبــز يســحقه فــي قعــر جيبــه ،وال يتناولــه إل فتــات وراء فتــات.
وكنــت أتبعــه منــذ برهــة عندمــا غيــر فجــأة رأيــه واتجاهــه -كمــا يحــدث كثيـ ًـرا فــي حيــاة
أولئــك الخائبيــن -واســتدار فوجدنــي أمامــه ً
وجهــا لوجــه.
ـأهذا أنت!...
لقــد كنــت أعرفــه ،فيمــن أعــرف مــن النــاس كان واحـ ًـدا مــن صنــاع المشــروعات وتجارهــا،
ً
رجــا صاحــب اختراعــات وابتــكارات ،مؤســس صحــف عاجــزة عــن الظهــور ،قــد ثــارت حولــه
ـت مــا عاصفــة مــن إالعــان والضوضــاء المطبوعــة ولكنــه تــوارى منــذ ثالثــة أشــهر فــي غــور
فــي وقـ ٍ
ّ
ســحيق .وعلــى إثــر غطســته تلــك نجمــت فــورة دامــت بضعــة أيــام عنــد الموضــع الــذي ســقط فيــه،
ثــم قــر العبــاب واتصــل ســطحه وانبســط وجهــه ،ولــم يذكــر صاحبنــا أحــد بعــد ذلــك.
ً أ
رآنــي المســكين فاضطــرب ،ولكــي ال يــدع مجــال لي ســؤال ألقيــه عليــه ،ولكــي يحــول نظــري
أيضــا -بــا شــك -عــن هيئتــه القــذرة وخبــزه الرخيــص ،أخــذ يحدثنــي فــي لهجــة دافقــة وجــدل ً
كاذب ...كانــت أعمالــه ســائرة ،أحســن ســير ...ومــا كانــت الحــال ســوى لحظــة توقــف ومهلــة...
آ
والن ،هــو فــي يــده مشــروع رائــع ...صحيفــة صناعيــة كبــرى ،مصــورة ...مــال كثيــر ،واتفاقيــة
إعالنــات فخمــة! ...ولقــد كانــت الحيــاة تتدفــق إلــى وجهــه وهــو يتكلــم .ولــم يلبــث حتــى انتصبــت
94
ٌةفيدر ٌصصق -كنرف فلأ ةئامثالثب
ً ً
قامتــه .واكتســب شــيئا فشــيئا لهجــة القيــادة والســطوة ،كمــا لــو كان بالفعــل فــي مكتبــه ،مكتــب
رئيــس التحريــر ،بــل وطلــب إلــي مقــاالت ،ثــم أضــاف فــي نشــوة الظافــر واعتــداد المنتصــر:
ـوإنــك لتعلــم أنــه مشــروع مضمــون ...إنــي أبــدأ بثالثمائــة ألــف فرنــك وعدنــي بهــا (جي ـراردان)
َ
1أ َجـ ْـل! فهــذا هــو االســم ّالــذي يأتــي ً
دائمــا علــى لســان هــؤالء الواهميــن .حيــن ينطــق أمامــي
ً
ناطــق بهــذا االســم ،يبــدو لــي أننــي أرى أحيــاء جديــدة ،وعمــارات تشــيد ،وصحفــا طازجــة الطبــع
بهــا قوائــم أســماء المســاهمين والمديريــن .وكــم مــن مــرة ســمعت مــن يقــول ،إذا طــرق الحديــث
ذكــر مشــروعات جنونيــة:
ـعليك بمخاطبة (جيراردان) في هذا الشأن!..
وهــو ً
أيضــا ،هــذا البائــس خطــرت لــه فكــرة مخاطبــة (جيـراردان) فــي هــذا الشــأن .البــد أنــه
ســهر ليلتــه بعــد خطتــه يصــف ً
أرقامــا ،ثــم خــرج ،وفــي أثنــاء مشــيته ،واضطرابــه ،بلــغ المشــروع
مــن إالحــكام ســاعة لقائنــا مــا صــور لــه أن (جي ـراردان) ال محالــة مقرضــة آالفــه الثالثمائــة مــن
الفرنــكات .ومــا كان البائــس يكــذب إذ يقــول إن الرجــل وعــده بالمبلــغ ،بــل كان يتابــع حلمــه
ليــس غيــر.
وبينمــا كان يكلمنــي زحمتنــا المناكــب ودفعتنــا إلــى الجــدار .وكان ذلــك علــى إفريــز شــارع
أ ّ
مــن الشــوارع المائجــة التــي تصــل ســوق الوراق الماليــة بالمصــرف ،شــارع ملــيء بنــاس عجليــن،
شــاردين ،منصرفيــن إلــى أعمالهــم ،باعــة قلقيــن يســارعون إلــى ســحب بطاقاتهــم ،ورجــال مــن
صغــار رواد الســوق الماليــة مطرقيــن ،وجوههــم خفيضــة ،يلقــي بعضهــم فــي آذان بعــض ً
أرقامــا
فــي أثنــاء ســعيهم ،وســماعي حديــث تلــك المشــروعات الجميلــة وســط هــذا الجمهــور ،وفــي هــذا
الحــي الصاخــب بالباحثيــن عــن الصفقــات .كنــت أرى رأي الواقــع مــا كان يقولــه لــي هــذا الرجــل،
أرى باليــاه مرســومة علــى وجــوه قائمــة ،وآمالــه تشــرق فــي عيــون زائغــة ،وغادرنــي فجــأة ،كمــا
ّ أ أ ً
لقينــي ،قاذفــا نفســه بــكل قــواه فــي تلــك الدوامــة مــن الجنــون والحــام وال كاذيــب ،هــذا الــذي
أ
يطلــق عليــه أولئــك النــاس فــي لهجــة جــادة كلمــة "العمــال".
وفــي نهايــة خمــس دقائــق ،كنــت قــد نســيته؛ ولكنــي فــي المســاء ،حينمــا عــدت إلــى بيتــي،
وحيــن نفضــت معــه غبــار الشــوارع جميــع أحـزان النهــار ،رأيــت مــن جديــد ذلــك الوجــه المتألــم
أ
)1هــو إيميــل جيـراردان ،رجــل مــن كبــار رجــال العمــال فــي القــرن ،)1806 - 1881( 19خلــق صحافــة فرنســية جديــدة اعتمــد فيهــا علــى نشــر
إالعالنــات لتخفيــض ثمــن الجريــدة وزيــادة عــدد مــا يــوزع منهــا.
95
عشر
َ الصف الثّاين
ّ
الشــاحب ،ورغيــف الخبــز الرخيــص ،والحركــة التــي صحبــت هــذه العبــارة الفاخــرة تزيدهــا
فخـ ًـرا" :ثالثمائــة ألــف فرنــك وعدنــي بنــا (جي ـراردان)!"..
96
ٌةفيدر ٌصصق -يضاقلا ةلغب
بغلة القاضي
ألفونسو دوديه
__1
1أثنــاء إقامتــي فــي الجزائــر ،وتعرفــت إلــى عربــي بعيــد الصــوت ،هــو "ســيدي بــو علــم" ،وقــد
أحضرتــه منــذ وقــت قصيــر مركبــة "بليــدة".
وكان ســيدي بــو علــم شــخصية جديــرة بالتقديــر ،إذ إنــه يحمــل لقــب "الباش-آغــا" ،ورتبــة
2
القائممقــام ،ووســام قائــد الفرقــة ،ويملــك أراض شاســعة فــي "الشــليف" وكميــة مــن (الــدورو)
أ
ممتــازة ،فهــو خيــر مثــل "للبــاش أغــا" الكريــم ،ولــم يكــن أحــد يبــزه فــي ارتــداء البرنــس الســود
المنســوج مــن وبــر إالبــل ،ولــم يكــن أحــد يفوقــه فــي جــال المشــية أو اتئــاد الحركــة ،وكان قليــل
الكلام ،يجهــل اللغــة الفرنســية تمــام الجهــل .وكان بــو علــم يجهــل كــم عســاه قــد بلــغ مــن العمــر؛
ُ
فــإذا جــد فــي االســتقصاء خيــل إليــه ،هــذا البــاش أغــا ،إنــه يوفــي الســتين ،ولكــن يلــوح لــي أنــه
ً أ
كان يضيــف إلــى ســنه خمســتين مــن العــوام أو ثالثــا .ولقــد أحرقــت إهابــة شــمس الجنــوب
الحــارة ،وأتربــة الجنــوب الثافيــة ،وريــح الجنــوب الالفحــة؛ وكمنــت عينــاه الســوداوان البراقتــان
تحــت حاجبيــن رمادييــن كثيفيــن؛ وبــرز فــوه كأنــه الخطــم تحــت لحيــة شرســة قصيــرة؛ كان يبــدو
لــي أنــه متوحــش ،فالتوحــش خلــق يناســب شــخصية البــاش أغــا.
وكنــت ألقــى بــو علــم كل مســاء ،فــي ميــدان الحكومــة ،ســاعة الط ـراوة والموســيقا؛ فيقــول
3
لــي ،فــي جــال ،بصوتــه الدفيــن" :بوجــور ،كيــف حالــك؟" ،وكانــت "بوجــور ،مارســي ،جافــي"
هــي أقصــى مــا اســتطاع الرجــل المســكين أن يحفــظ ،وكنــت بــدوري أبــادره "بســام عليــك" علــى
طريقــة فرنســية جـ ًـدا ،ونمشــي بخطــى وئيــدة فنــدور الميــدان عــدة دورات صامتــة ،ثــم أتركــه يعــود
وحــده إلــى المدينــة العربيــة ،ونفتــرق وكل منــا مبتهــج ســعيد بصاحبــه ،وبعــد نزهــات ثمانيــة مــن
هــذا النــوع ،صعــد بــو علــم فــي مركبــة بليــدة وأبلغنــي علــي -علــي الصغيــر ،غــام الســوق المغربــي-
)1هــذه قصــة ،أو مجموعــة لوحــات ،مــن ريــف بــاد المغــرب ،لــم تظهــر أثنــاء حيــاة دوديــه فــي كتابــه "رســائل مــن طاحونتــي" ،وقــد نشــرتها
أ
(باريــس) للمــرة الولــى ســنة 1930أي بعــد وفــاة الكاتــب بثــاث وثالثيــن ســنة.
)2الدورو :عملة من النقود إالسبانية.
ً
)3تحريف للكلمات الفرنسية" :طاب يومك ،شكرا ،قهوة".
97
عشر
َ الصف الثّاين
أ
أنــه ســينتظرني اليــام المقبلــة فــي قبيلتــه ،قبيلــة "جنــدل".
تقريبــاُ ،دعيــت لتنــاول شـرائح ممتــازة مــن اللحــم علــى مائــدة "إيمانويــل
وفــي الوقــت نفســه ً
د ".وهــو مواطــن مــن بلــدة "مليانــة" الصغيــرة الوادعــة .وكان إيمانويــل يقــوم بتجــارة ضخمــة للغــال
الكمــا ال بــأس بــه ،ويتمتــع بمكانــة شــعبية عظيمــة فــي أســواقمــع العــرب؛ وكان يتكلــم لغتهــم ً
جميــع أقاليــم الجزائــر .ولمــا رويــت لــه أمــر صلتــي بســيدي بــو علــم -أغنــى عمالئــه الوطنييــن-
اقتــرح علـ َّـي أن يصاحبنــي إلــى الجنــدل منــذ الغــد؛ فقــد كان بــو علــم يقطــن علــى بعــد اثنــي عشــر
فرسـ ًـخا فــي الســهل ،وتلــك المســافة خليقــة بــأن تســتغرق ســبع ســاعات إذا قطعناهــا بجواديــن
والحمــرة تصبــغ وجهــي أننــي ال أركــب الجيــاد.قوييــن ،وهنــا قاطعــت مضيفــي ،واعترفــت لــه ُ
98
ٌةفيدر ٌصصق -يضاقلا ةلغب
ً
مشدوها. فنظرت إليه
ـبسرعة! إالفطار ثم نرحل!
ـوأنا ،كيف عساني أن أفعل؟
ـال تنبس بكلمة أخرى ،لنفطر.
آ
وحين غادرت المائدة ،كان ينتظرني المشهد التي في الشارع.
__2
كان جــواد صغيــر أســود المــع ،يصهــل مــن الفــرح ،ويديــر نحــو (عمانويــل) رأســه الجميــل
ّ
المريــد .وكان عربيــان واقفــان فــي ناحيــة باحت ـرام ،ال ينتظ ـران إل إشــارة منــا حتــى يســتنهضا
مطيتيهمــا المربوطتيــن إلــى ســياج الحديقــة .وفــي وســط الشــارع كان الفتــى ميمــون ،فــي ثوبــه
ً
القشــيب المخطــط خطوطــا ســوداء وبيضــاء ،يمســك فــي عنانهــا بغلــة قويــة الشــكيمة ،وقــد
أســرجت وأزينــت كأنمــا أعــدت لكــي يتبوأهــا البابــا .فعلــى صهــوة الدابــة ارتفــع ســرج ضخــم
أصفــر وأحمــر أعلــى مــن بــرج؛ وإلــى كشــحيها تدلــى ركابــان عربيــان عريضــان مــن هــذه الركابات
ً
تتــوارى فيهــا القــدم ،كانــا يتراقصــان ويوقعــان صوتــا مــن جــرس الحدائــد.
وقال لي مضيفي وهو يصطحبني إليها:
ً ّ
ـهــي ذي مطيتــك؛ إنهــا بغلــة قاضــي "مليانــة" دابــة فاخــرة ،لــم يركبهــا صاحبهــا إل قليــا ،وديعــة
كالحمــل .فــإن القاضــي يســتخدمها فــي الذهــاب إلــى حديقتــه المغروســة عنــد أبــواب المدينــة
ّ
أو فــي النــزول إلــى الضريــح الصغيــر الــذي تلمحــه هنــاك فــي الســهل؛ فهــي معــك إذن تقــوم
أ أ
برحلتهــا الولــى .إن الســرج لوثيــر كمعقــد مــن مقاعــد الصفــوف الماميــة فــي المســرح .للــه درك
حيــن تســتوي عليــه! هيــا! ،هــوب! تســنم ،ضــع قدمــك فــي الــركاب؛ قدمــك اليســرى ال هــذه...
أمســك يــا ميمــون البغلــة ...أوف!
وهأنــذا إذن مرتبــك بعــض الشــيء إذ أحــس نفســي علــى هــذا االرتفــاع ،فــوق قمــة هــذا البيــت
ّالــذي يمشــي .ويمتطــي (عمانويــل) جـ ً
ـوادا ،ويفعــل العربيــان مثله.
ويصيح بي ميمون:
ـتماسك يا سيدي.
99
عشر
َ الصف الثّاين
أ آ
إننا الن في الطريق ،السماء رمادية ،والجو ثقيل .نهار حار من أيام يناير الفريقي.
وســأصف ،فــي غيــر هــذه النزهــة ،مــا يلقــى المــرء مــن بــاد رائعــة تطالعــه إذا نــزل مــن مليانــه:
ً ّ
انهيــارا ،تلــك الغابــات مــن الســرو والخــروب تلــك الوديــان الشاســعة وخضرتهــا التــي تنهــار
ّ
والزيتــون البــري التــي تنحــط إلــى أعمــاق فواحــة ،كل هــذه الكســوة النباتيــة العاتيــة العجيبــة
ترويهــا فــي خريــر ســاحر مئــات الينابيــع الصغيــرة .وأمــا اليــوم ،ومثلــي مثــل (سانشــو) :دابــة
وجبــان ،فلســت أرى أبعــد مــن أذنــي بغلتــي .والحيــوان الرهيــب ،فــي عنــاد يخيفنــي ،يتبــع بــكل
أ أ
تدقيــق شــفا الغــوار والمســتنقعات ،مترسـ ًـما أصغــر عــروق الرض ،دائـ ًـرا مــع أقــل ارتفــاع أو
ً
انخفــاض .وعبثــا أجاهــد إلعادتــه إلــى وســط الطريــق ووضــع حــد لهــذه الرياضــة الخطــرة ،فمــا
يفلــح فــي ردعــه شــيء ،ال الدعــاء الهــادئ ،وال الضــرب .البــد إذن مــن إالذعــان ،البــد مــن التشــبث
ـدرا شـ ًّ
ـذيا، بالســرج وإغمــاض العينيــن ...وفجــأة تنحــرف بغلتــي ،وتندفــع إلــى يميــن ،وتتخــذ منحـ ً
تحــت مهــد صغيــر مــن أزهــار الغــار ،وتخطفنــي راكضــة ال أدري إلــى أيــن .وقسـ ًـما ،لــو لــم يدركنــا
آ
أحــد العربييــن ،ويأخذنــا مــن مقودنــا ،ويردنــا إلــى ســواء الســبيل ،لمــا زلنــا نركــض لــ�ن .وأعــود
ّ
إلــى عمانويــل ،فــإذا هــذا الرجــل الــذي ال قلــب لــه يتلــوى مــن الضحــك فــوق حصانــه الصغيــر.
ّ ّ المــر :إن هــذا ّالــذي ظننتــه ً أ
هروبــا لــم يكــن إل تحيــة مــن مطيتــي التــي وفــي كلمتيــن شــرح لــي
ً
كانــت تريدنــي أن أجتــس شــيئا مــن تيــن "الباربــاري" الممتــاز ولذلــك اقتادتنــي إلــى بســتان
القاضــي فــي أرشــق خطــو لهــا .بيــد أنهــا ،منــذ أن ســيرت علــى الطريــق الســوي ،اســتأنفت فــي
هــدوء عملهــا أال وهــو تتبــع الخطــوط المشــرفة علــى الوديــان ،حتــى بلغنــا الســهل.
أيضــا كان علينــا أن نعانــي بعــض المشــقة فــي منعهــا مــن أن تميــل نحــو ضريــح صغيــر وهنــا ً
أ
بــدت صــورة جانبيــة لقبتــه علــى الفــق .وقــد نالنــي جزائــي مــن الرفــس ،ولكــن البغلــة بعــد ذلــك
أ
مشــت مســتقيمة أمامهــا ،هائمــة علــى وجههــا ،وديعــة مستســلمة ،خفيضــة الذن ،يــا للبهيمــة
المســكينة! لقــد كانــت تظــن حتــى ذلــك اليــوم أن البغــال ال تمضــي إلــى أبعــد ممــا طرقــت مــن
أ
الرض ،وأن العالــم ينتهــي عنــد المح ـراب القائــم هنــاك بجدرانــه البيضــاء.
__3
ّ أ
لول وهلــة ،ذكرنــي ســهل الشــليف الــذي دخلنــاه ببعــض مناظــر جنــوب فرنســا .إلــى اليســار،
كانــت بعــض التــال الصلعــاء؛ وإلــى اليميــن ،كانــت أراض شاســعة محترقــة ،ومــن بعيــد إلــى
100
ٌةفيدر ٌصصق -يضاقلا ةلغب
بعيــد ،خمائــل ممتقعــة مــن شــجر الزيتــون البــري؛ وفــي كل خطــوة ،أقـزام مــن النخــل ترتفــع علــى
أ
أديــم الرض ســعفها المدبــب كأنهــا تقلــد الحيوانــات البريــة الشــائكة الظهــور .وفــوق هــذا كلــه
ســماء رصاصيــة ،رماديــة فــي ذلــك اليــوم ،ولكنهــا زرقــاء فــي العــادة.
ً ً
وأحيانــا ،عنــد أقــدام التــال الممتــدة إلــى اليســار ،يلمــح الناظــر جيـ ً
ـادا عجافــا مربوطــة إلــى
ـورا ،أوأوتادهــا أمــام خيمــة ســوداء صغيــرة مصنوعــة مــن وبــر إالبــل ،وعلــى بعــد منهــا يــرى ثـ ً
حصانــا ،أو بغلــة ،أو حمـ ًـارا ،فــي بعــض الربــوع ،مجهــري الحجــم ،يجــر محر ًاثــا ً
بدائيــا جـ ًـدا،
ً
تحــدوه دعــاءات حنجريــة تنــد عــن عربــي فــي زي فــاح مــن فالحــي فرجيــل .ومــن حيــن إلــى
حيــن يمضــي فــرخ مــن طيــور الســلوى ،وقــد أثقلــه الحــر ،بيــن ســيقان دوابنــا ...ولقــد ســارت
قافلتنــا الصغيــرة فــي ســكون مطبــق ،تنــوء بمــا أبهظهــا بــه الجــو مــن ثقــل؛ ومضــى (عمانويــل)
وادعــا فــوق بغلــة القاضــي ،أدع عقبــي ترقصــان علــى يلعــب بحصانــه .وأمــا أنــا ،فكنــت مزهـ ًّـوا ً
ّ أ ً بطنهــا انفر ً
وانضمامــا ،وأنــا أتســمع مئــات الصــوات الغامضــة التــي تنســاب فــي الســهل، اجــا
أ
صــوت الرض تتشــقق مــن الحــر ،صــوت قطيــع يثغــو بعيـ ًـدا ،أو أغنيــة راع عجيبــة ،فمــا أدري
أيــة نشــوى مجنونــة أخــذت تغشــيني بضبابهــا شـ ًـيئا فشـ ًـيئا ...يــا للــذة؛ لقــد كنــت أحــس شـ ً
ـعورا
أ
ال يحويــه تعبيــر مــن حــب المانــة والعدالــة يولــد فــي نفســي؛ وأضحيــت فجــأة وبــي نفــور مــن
أ ً
الشــر ال أجــد لــه وصفــا ،وطــاف أمــام عينــي موكــب مــن هفــوات المــس ونقائضــه ،موكــب
ّ
خطايــاي التــي اقترفتهــا كل يــوم ،المصافحــات اليســيرة ،التحيــات الهينــة ،بســمات المجاملــة،
ونافلــة الخبــث ،والكبريــاء الحمقــاء ،فحاســبت نفســي حسـ ًـابا عسـ ًـيرا وأدنتهــا ،غيــر رحيــم بهــا.
ّ أ أ
ترانــي وقــد اســتويت علــى الســرج الصفــر الحمــر الــذي اعتــاد أن يســتوي عليــه القاضــي الطيــب،
ورثــت مــن قداســته ومــن حكمتــه ،وكأنــي بلحيــة لــي تنمــو طويلــة بيضــاء ،وكأنــي ببطنــي يســتدير
وأكاد أحــس قربــوس الســرج يضايقــه ،آه! أيهــا الولــد الشــقي ،كــم مــن مــرة جبنــت فــي الخيــر وكــم
مــن مــرة تجاســرت فــي الشــر! لــو دعــاك محمــد فــي هــذه الســاعة..
وإذا (عمانويل) يهيب بي فجأة:
ـأال خذ حذرك ،أيها المذهول!
ولقــد أدركنــي فــي الوقــت المناســب؛ فلــو قــد خطــت بغلتــي خطــوة واحــدة لتــم دخولهــا
ّ
الجليــل الوقــور علــى قهــوة مغربيــة قائمــة وســط الطريــق .وال تثيــرن كلمــة القهــوة فــي نفوســكم
101
عشر
َ الصف الثّاين
أ
فكــرة المرايــا والزخــارف الذهبيــة ،والرائــك القرمزيــة ،والغلمــان فــي مآزرهــم البيضــاء ،وقطــع
الســكر الغليظــة منصوبــة فــوق صينيــة نحاســية صغيــرة ...ال شــيء مــن هــذا قــط! وإنمــا كــوخ
أ
قــذر مــن القــش قــد ســوده الدخــان؛ وفــي ركــن مــن الركان ،أمــام تنــوره ،صانــع القهــوة ،واقــف
نصــف عــار ،ولونــه كالبــن؛ وعلــى حصائــر ممزقــة ،أربعــة خمســة مــن العــرب قــد جلســوا القرفصــاء
أ أ
يحتســون القهــوة فــي ســكون؛ وأمــام البــاب صبــي يرتــدي الســمال يغســل القــدام فــي مــاء آســن؛
ونحــو مــن عشــرة نعــال صفـراء -وعنــد العــرب يخلــع المــرء حــذاءه ً
تأدبــا ،كمــا نخلــع نحــن القبعــة
-وبعــض الجيــاد وبعــض الحميــر ترتــع كيــف شــاءت.
تلــك هــي الصــورة الصادقــة لقهــوة مغربيــة فــي ســهل الشــليف .ويأمــر لنــا (عمانويــل) بالقهــوة،
أحســن قهــوة شــربتها فــي حياتــي ،ثــم يالحــظ أننــي جوعــان ،فيندهــش لذلــك -فإنهــم ال يجوعــون
ً ً
رغيفــا ًّ
طريــا صغيـ ًـرا ،لــم يخبــز بخميــر ،محفوظــا منــذ ثالثــة أشــهر أبـ ًـدا فــي أفريقيــا -ويطلــب لــي
تحــت القــش ومعطـ ًـرا (باليانســون) .وتــرد إلـ ّـي قــواي هــذه الوجبــة الممتــازة ثــم نســتأنف ســيرنا.
__4
دائمــا .ســحب ثقــال علــى ارتفــاع خفيــض جـ ًـدا ،تــكاد دائمــا ،والســماء مشــحونة ً الحــر شــديد ً
تجــري فــوق رؤوســنا؛ والــدواب تجــأر مــن العطــش ...وأخيـ ًـرا هــا نحــن أوالء فــي أطـراف الشــليف،
ً
ولمــا كان منوطــا ببغلتــي أن تســتطلع الطريــق ،فقــد فهمــت خطــر مهمتهــا ،وإذا هــي تذهــب
وتجــيء ،وتشــتم النهــر ،وتتــردد ،وتــدور دورتيــن ،ثــم فليــك! فلــوك! تخــوض المــاء بــكل عظمــة
حتــى يغمرهــا إلــى منتصــف كعبهــا .وهنــا ،لشــدة فزعــي ،تتوقــف ،وتمــد عنقهــا ،وتهــز جبينهــا
ً
فــي فتــوة -وأود أنــا أن أصيــح مســتغيثا -وأخيـ ًـرا تأخــذ فــي الش ـراب ،ومــا أدراك مــا الش ـراب...
ً
لنتحــدث قليــا عــن الشــليف .ســينبئك الجغرافيــون أنــه أهــم مجــرى مــن المــاء فــي أفريقيــا
الفرنســية ،وأن منبعــه فــي هــذا المــكان ومصبــه فــي ذلــك المــكان؛ أمــا أنــا ،فحســبي أن أقــول
ً ً
لــك إننــي ال أعــرف شــيئا نزقــا مثــل هــذا النهــر .شــيء يســير جـ ًـدا خليــق بــأن يثيــره ،ولكنــه يقــر
أيامــا هادئــة كان ينســاب فيهــا علــى مهــل بيــن ضفتيــه ،وغــدوات لشــيء أيســر .لقــد عرفــت لــه ً
ً
مــن الغضــب كان يقلــب فيهــا بيــن عبابــه أطرافــا مــن غابــات وأج ـزاء مــن صخــور ،وينحــر فــي
ّ
غيــر رحمــة المحاصيــل المســكينة التــي ال تــؤذي أحـ ًـدا .أمــا اليــوم فالســيدة هادئــة الطبــع ،رضيــة
أ أ
الخلــق ،وإن بغلتــي لتســتطيع ،وقــد ارتــوت آخــر المــر ،أن تعبــر دون عائــق إلــى الضفــة الخــرى.
102
ٌةفيدر ٌصصق -يضاقلا ةلغب
عظيمــا ،ينعقــد عليــه كل أســبوع ســوق الجنــدل ،تحــت نحــن نختــرق فــي هــذه اللحظــة ً
مرتفعــا ً
إشـراف صديقــي بــو علــم؛ ويقــوم فــي أقصــاه محــط القوافــل بجدرانــه الطويلــة .ومــرة ثانيــة نعبــر
ّ
الشــليف ،وقــد هبــط النهــار ،إل أنــه ال يصحبــه مــن الشــفق الــوردي الرائــع مثــل مــا رأيــت مـر ًارا
فــي أفريقيــا...
وإنمــا يحــول لــون الســماء الرمــادي إلــى أســود؛ ويبــرد الهــواء ،ويتلــف المشــهد فــي الضبــاب؛
اض محروثــة؛ فلقــد مــر المح ـراث بــكل يــا لــه مــن نهــار ضائــع! وتســير جيادنــا الهوينــى فــي أر ٍ
موضــع ،والطريــق نفســها قــد حرثــت عفـ ًـوا...
ويدلــف بالقــرب منــا فــي الظــام عــرب عائــدون مــن العمــل يطــاردون أمامهــم الحميــر
أ
والحصنــة ،وكل زمــرة إذ تمــر تحيينــا بعبــارة جــرارة ال تتغيــر ،تنغمهــا نغمــة واحــدة ال تتغيــر.
ً
وســرعان مــا نلقــى أدغــال كثيفــة مــن الصبــار شــاهرة الخناجــر؛ يســمو مــن ورائهــا عــود دخــان،
ونبــاح الكب ،وصيــاح أطفــال ،وحديــث نســوة .هــا نحــن أوالء فــي وســط القبيلــة العربيــة .وأخيـ ًـرا،
علــى بعــد مائــة خطــوة منــا ،فــوق الربــوة إلــى ارتفــاع مــا ،ألمــح عربــة عظيمــة ال نوافــذ لهــا؛ إنــه
قصــر ســيدي بــو علــم ،وتتقــدم صوبنــا مجموعــة مــن البــدو؛ ويكتنفنــا القــوم ،وينزلنــي مــن أعلــى
أ
بغلتــي رجــان .ويقبــل علــي الصاحــب بــو علــم وهــو يبتســم فــي برنســه الســود:
ـبونجرو ،كيف الحال؟
فأجيبه :سالم عليك ،فيقنع بها ونتجه نحو الدار.
__5
ً ّ
لــم يكــن الجنــاح الــذي أدخلنــي إليــه الرئيــس فاخـ ًـرا باذخــا كمــا وصفــوه لــي ،وجــدت قاعــة
ً ً ً
طويلــة قاتمــة جـ ًـدا ،وبــدل مــن طنافــس أزميــر ،وجــدت حيطانــا ظنينــة البيــاض؛ وبــدل مــن
ً أ
الرائــك والنمــارق المطــرزة ،وجــدت حصائــر مــن القــش الغليــظ .وجــدت ضابطــا فرنسـ ًّـيا جــاء
للصيــد ونــزل عنــد بــو علــم .وكان أتبــاع الضابــط مــن الفرســان الجزائرييــن ينظفــون أســلحته فــي
أ
ركــن مــن الركان ،وفــي ركــن آخــر ،كانــت الكبــه تلعــق حســاءها فــي نهــم ،وكان ســريره الســفر
ً ً
منصوبــا فــي أقصــى القاعــة ،وخرجــه معلقــا إلــى اليميــن ،وبندقياتــه إلــى اليســار؛ وفــي الســقف،
مســبحة ال نهايــة لهــا مــن الســلوى والحجــان ،هــي نتــاج صيــده فــي اليوميــن الســابقين؛ لقــد كان
أ
"نمــور" كمــا يــرى الناظــر ،يحتــل فــي الــدار مكانــة بســعة وبحبوحــة ...أقطــع مــن الرض إذن اثنــي
103
عشر
َ الصف الثّاين
104
ٌةفيدر ٌصصق -يضاقلا ةلغب
والخ ـراف المحوطــة بالفــول ،وكأنــي أرى بــوارج فــي البحــر وســط نــوء غليــظ.
__6
ونحــو الســاعة الثامنــة ،نهــض البــاش أغــا علــى قدميــه ،وقادنــا خــال حدائــق شاســعة مليئــة
بكلاب يبــدو الشــر علــى وجوههــا ،إلــى (كشــك) صغيــر مــن ط ـراز فرنســي-عربي ،حيــث كان
ً
علينــا أن نقضــي الليــل .غرفــة فســيحة مربعــة ،عاليــة الســقف ،وجــدران عاريــة مبيضــة حديثــا،
تنفتــح فيهــا خمــس أو ســت كــوى ،وأربــع أرائــك ،كل أريكــة منهــا فــي خــدر؛ وسـراج صغيــر مــن
أ أ
النحــاس الحمــر ،موقــد علــى الرض يتوســط القاعــة ،تلــك كانــت غرفــة نومنــا.
وبعــد أن شــرب مــن القهــوة ً
قدحــا أخيـ ًـرا ،تمنــى لنــا بــو علــم ليلــة طيبــة ،واســتعاد نعليــه عنــد
البــاب ومضــى يتعشــى .وأمــا نحــن ،وقــد انطوينــا فــي أغطيــة حمـراء كبيــرة ،فقــد حاولنــا ،ولكــن
دون جــدوى ،أن نغمــض أعيننــا ،كانــت الرحلــة والتوابــل والقهــوة المغربيــة قــد ألهبــت دمنــا ،ومــا
انفكــت تطــرده بهيــاج فــي عروقنــا ،وســرعان مــا اجتاحتنــا حكــة عاتيــة أخذتنــا مــن شــعر الـرأس
إلــى أخمــص القدميــن ..وفــي الخــارج كانــت بنــات آوى تعــوي كأنهــا الكلاب الصغــار ،وكانــت
الضبــاع تجعــر .وباتــت "الســلوقي" (الكب عربيــة) تجيبهــا فــي ثــورة؛ ومــن حيــن إلــى حيــن ،لســت
صوتــا ،وأشــد ًً
كظمــا ،بــات يســود هــذه اللحــون مــن جوقــة أدري أي جعــر عجيــب ،غامــض ،أجــل
أ الشــياطين؛ ولســوف أذكــر ً
دائمــا تلــك الليلــة الليــاء ،ليلــة مــن الحمــى والرق ال آخــر لهــا.
__7
أ
وفــي الفجــر -وقــد عجزنــا عــن الصمــود إلــى أبعــد مــن ذلــك المــد -أردنــا أن نلــوذ بالمقهــى
المغربــي ،ولكــن مــن نكــد الحــظ لــم يكــن صاحــب القهــوة قــد اســتيقظ إذ ذاك ،فلــم يكــن بــد مــن
أن نــؤم -علــى مســيرة نصــف فرســخ مــن هنــاك -بيــت ســيدي بغدادي ،شــقيق ســيدي بو علــم ،لعل
أ أ ً
صنــاع القهــوة بــه أن يكونــوا أقــل كســا منهــم لــدى الغــا .وقــد لقينــا ،فــي الحدائــق ،فــي الفنيــة،
أ
وتحــت الســقائف وتحــت الروقــة ،الحشــم العــرب نائميــن فــي الهــواء الطلــق متدثريــن ببرانســهم
الصوفيــة .وســرعان مــا أســفر الصبــح ،ومــع الصبــح الطالــع هبــت نســائم صغيــرة طــردت كالقــش مــا
ّ
كان بنــا مــن حمــى الليــل الخبيثــة .ومــن أقصــى بســتان البرتقــال الــذي يملكــه بغــدادي ،بينمــا كان
جنيــة الفجــر "أورور" تضحــك القــوم يصبــون لنــا قهــوة عربيــة ممتــازة لذيــذة ،كنــا نشــاهد فــي مقــة ّ
أ
وتلعــب أمامنــا .وكان الفــق أخضــر تصبغــه خضــرة باهــرة يحوطهــا الشــفق الــوردي ،وكنــا نــرى
105
عشر
َ الصف الثّاين
أ أ
فــي هــذا اللــون الخضــر الحلــو أشــجار البرتقــال ذوات الثمــار العقيقيــة ،وبيــوت الغــا البيضــاء،
تســبح مختلطــة غيــر جليــة ،علــى حيــن كان العــرب فــي مالبســهم الخضـراء يتســللون فــي صمــت
بحــذاء الجــدران .وبالقــرب منــا ،كانــت ترقــص فــي ريــح الفجــر البــاردة شــجرة زيتــون مقدســة،
ّ
تشــبه أشــجار "نويــل" عندنــا ،هــازة أغصانهــا المحملــة بصفائــح براقــة مزركشــة ،وبأذيــال برانــس،
ّ
وركابــات عريضــة ،وأســورة حديديــة ،وداليــات مــن المرجــان ،وغيرهــا مــن معلقــات النــذور التــي
تشــهد بالــورع العربــي.
وحيــن رجعنــا متيمميــن دار الضيــوف ،كانــت الــدار متألقــة نابضــة الحيــاة .كان ســيدي بــو علــم
ً
جالســا علــى أســكفة البــاب يحســو قهوتــه الثامنــة .وكان الخــدم يقبلــون مــن كل فــج يــؤدون لــه
أ آ
تحيــة الصبــاح ،فيأخــذ الواحــد منهــم بعــد الخــر فــي كفيــه العريضتيــن رأس الغــا ويحــط قبلــة
أ
طويلــة علــى تاجــه المجــدول مــن حــل إالبــل .وكان الغــا الطيــب يتلقــى هــذه التحيــات بعــدم
أ
اكتـراث هــو آيــة فــي الدب.
وفــي أثنــاء مراســم هــذا االحتفــال بتقبيــل ال ـرأس ،اصطحبنــي (عمانويــل) لزيــارة الســجون،
ولــم تطــل زيارتنــا .ال بوابيــن ،وال ح ـراس ،بــل مــا كان البــاب موصـ ًـدا ...ولمحــت وجـ ًـارا ً
رهيبــا
قائمــا إزاء الحائــطًّ ،
بدويــا َ عفنــا ،حظيــرة حيوانــات أكثــر منــه سـ ً
ـجنا ،وفــي هــذا الوجــار ً مظلمــا ً
ً
تــرك نفســه فــي فلســفة للهــوام تقرضــه.
سأل (عمانويل) بالعربية:
ـلماذا أنت هنا؟
ّ
ـلست أدري ...إنه سيدي بو علم الذي قال بذلك.
ـفأي ذنب جنيت؟
أ
ـلست أدري ..لقد رددت للباش أغا حصانه وبندقيته لني رغبت عن الخدمة.
ـولماذا ترغب عن خدمة بو علم؟
ـلست أدري.
ـأنت تفضل إذن أن تعفن حياتك كلها هنا ،في قعر هذا المكان؟
ّ
ـالله وحده يعلم...
106
ٌةفيدر ٌصصق -يضاقلا ةلغب
ً ّ
لست أدري ،الله وحده يعلم؛ لم نستطع أن نستخلص منه شيئا أكثر من ذلك.
قال لي عمانويل:
ّ ً
ـلندعه هادئا ،إن هو إل قاعد كسول سيرد الظالم والصوم إليه رشده عما قليل.
وسألت وأنا أبتسم:
دائما؟ ً
مفتوحا ً ـوهل يظل هذا الباب
أ ـ ً
دائمــا علــى وجــه التقريــب ،ولكــن هــذا الصعلــوك الغريــب الطــوار يحــذر كل الحــذر مــن
أ
اســتغالله ،فــإن فارســين مــن فرســان الغــا قمينــان بــأن يلحقــاه ،إذا هــو حــاول الفـرار ،قبــل أن
يقطــع نصــف فرســخ فــي الســهل ،وإنــه لهــروب خليــق بــأن يكلفــه ً
ثمنــا ً
فادحــا.
وفــي هــذه اللحظــة ،مــر أمامنــا الضابــط بفرســانه وتــوارى ،وهــو يصفــر لالكبــه ،وراء خميلــة مــن
شــجر التيــن .ومــا أدار عقبيــه حتــى نهــض بــو علــم ،ونفــض غليونــه ،وأشــار لنــا أن نتبعــه.
أ
عبرنــا فــي عجلــة وإهـراع سلســلة مــن الفنيــة الصامتــة ،ولكنــي لســرعة ســعينا ،لــم أســتطع أن
ألقــى إلــى يميــن وإلــى يســار ّإل نظــرة خاطفــة .جدر ًانــا بيضــاء صفيقــة جـ ًـداً ،
وأبوابــا ســرية صدئــة
ً
جـ ًـدا ،وكــوى يدججهــا الحديــد ،أقســم لــك يــا صديقــي الممتــاز بــو علــم أنــي مــا رأيــت شــيئا
أ
ســواها .ال شــيء ،بــل وال ذر ًاعــا صغيــرة عاريــة فــي لــون العنبــر الصفــر قــد اتــكأت غيــر عامــدة
علــى طــرف النافــذة العتيقــة ،بــل وال ظفـ ًـرا أحمــر قــد صبغتــه الحنــاء ،وال ً
هدبــا.
أ
وفــي نهايــة هــذه الفنيــة ،أدى بنــا ســلم عجيــب مؤلــف فــي غيــر انتظــام مــن درجــات ضخمــة
وأخــرى صغيــرة إلــى بــاب مكســو مــن أســفله إلــى أعــاه بــأزرار غليظــة بيضــاء وورديــة .وكان
أ
ينبغــي لكــي ينفتــح البــاب ،مــس أحدهــا ،مــس ّزر واحــد مــن بيــن جميــع هــذه الزرار.
قال بو علم لعمانويل :ابحث!
فجــرب هــذا أربعــة منهــا أو ً
خمســا؛ بيــد أنــه رفــض أن يواصــل التجربــة ،فقــد كان مــن
أ أ
ســدادات الباريــق تلــك ســتون علــى القــل.
ً
ورفع بو علم كتفيه قائل:
فالمر بسيط ً أ
جدا ،انظر! ـومع ذلك،
107
عشر
َ الصف الثّاين
ولمــس فــي تــؤده ،مزهـ ًـوا بــأن يصحــح للفرنســيين أخطاءهــم ،الــزر الســري ،المعــروف لديه منذ
تاريــخ طويــل .وكان هــذا البــاب العجيــب ينفتــح علــى نحــو اثنــي عشــر غرفــة اســتقبال منمنمــة،
خفيضــة جـ ًـدا ،ضيقــة جـ ًـدا ،مظلمــة جـ ًـدا معطــرة عنيفــة العطــور .وبــدرت جــدران وســقوف علــب
أ
الحلــوى هــذه الشــرقية ،وقــد قســمت معينــات شــتيتة اللــوان ،كأنهــا رقــع شــطرنج عريضــة لونــت
الرض طنافــس أزميــر وتونــسً ، أ ً
مروجــا حريريــة ترصعهــا ألوانــا زاهيــة .وكانــت مبســوطة علــى
أ
نمــارق حمـراء موشــاة بالذهــب؛ وكنــت تــرى فــي كل ناحيــة أوانــي الطيــب ذوات العنــاق الفضيــة
أ
تلتمــع ،ومباخــر العــواد تتوهــج ،والنرجيــات الطــوال تتلــوى فــي الظلمــة كالحيــات.
ّ
وقــد خلــع بــو علــم علــى "صالونــه" الثانــي عشــر ،وهــو أصغرهــا وأفخرهــا ،فــوق هــذا كلــه،
ســاعة حائــط ومدفــأة.
ـمدفأة ،أيها إالله العادل! وفيم المدفأة؟
الخيــر هــو ّالــذي كان ينتظرنــا فيــه شــاي بــاذخ ،قــد صبتــه ّ
جنيــة خفيــة فــي
أ
وهــذا المخــدع
أقــداح مــن بلــور ســيفر الممتــاز.
ـورا؛ وكانوفــي الخــارج ،مــن المنفــذ ّالــذي يقــوم مقــام الشــرفة ،بــدا الســهل يترقــرق نــدى ونـ ً
أ أ
الشــنيف يتــ�ل مــن الرخــاء فــي الشــمس؛ وكانــت نســائم الصبــاح ،عاطــرة أثقلتهــا العطــور ،تصعــد
أ
إلينــا كأنمــا لتهــزأ بــكل متــرس مغلــق وكل ســياج مضــروب .وفــوق طنفســتي الزميريــة ،بيــن
ّ
ملعقتيــن مــن ألــوان المربــى التــي يشعشــعها المســك ،عــاودت شــفتي أغنيــة فيكتــور هوجــو
العتيقــة:
أ
لحببت هذا البلد".... "لو لم أكن أسيرة
وفــي تلــك اللحظــة تجلــت ّ
الجنيــة الخفيــة ،فــي مالمــح زنجيــة بشــعة ،قــد كارت علــى رأســها
ً
عمامــة صفـراء وارتــدت أســمال المعــة .دخلــت فوضعــت أمــام ســيدها قنينتيــن كبيرتيــن مــن روح
الــورد وانســحبت فــي غمــوض دون أن تفــرج شــفتيها الغليظتيــن .وصــب بــو علــم فــي راحتــي يدينــا
قطرتيــن مــن الطيــب؛ وعلــى إثــر ذلــك نزلنــا نتأهــب للرحيــل.
وفــي أســفل الســلم ،كانــت الزنجيــة المروعــة تنتظرنــا ،مقعيــة علــى عقبيهــا ،فقبلــت حذاءينــا
ـاد عليهــا ،حتــى إذا أصبحنــا فــي الخــارج ،أعــادت إغــاق البــاب محدثــة الكبيريــن والتأثــر بـ ٍ
بالقفــل صريـ ًـرا ً
رهيبــا.
108
ٌةفيدر ٌصصق -يضاقلا ةلغب
__8
كانــت دوابنــا قــد قضــت الليــل فــي الهــواء الطلــق ،معقــوالت القدميــن الخلفيتيــن كمــا هــي
العــادة .لقــد وجدناهــا مبتهجــة بمعســكرها ،مــادة مناخرهــا للريــح ،رضيــة الطبــاع ،تشــاطرها بغلــة
القاضــي هــذا كلــه.
الغــا قــد اســتقدم ًأ
فرســا رماديــة فخمــة، وبينمــا كان القــوم يرفعوننــي فــوق ســرجي ،كان
أصبحــت الجيــاد تصهــل حولهــا مــن الولــه والحــب .وامتطــى حفيــد بــو علــم ،وهــو صبــي فــي
فرســا مثلهــا .وكان (عمانويــل) يركــض علــى بعــد قليــل منــا فــوق شــيطانه الثامنــة ،رزيــن وســيمً ،
أ
الســود الطيــب .واصطــف وراءنــا نحــو ثالثيــن مــن العــرب ،وقــد تلببــوا كأنمــا ينبــرون للوغــى.
ّ
وفــي هــذا اليــوم بعينــه ،كان الســوق منعقـ ًـدا فــي الجنــدل ،فانتهــز ســيدي بــو علــم ،الــذي كانــت
واجباتــه تســتدعيه أن يكــون فــي ســاحة الســوق ،هــذه الفرصــة لكــي يخفرنــا برجالــه.
أ ّ المــرً ،أ
تأدبــا ،أتخــذ رأس الرهــط ،المــر الــذي اســتحييت منــه بعــض وقــد تركونــي فــي أول
الحيــاء ،ولكنــي بعــد خمســين خطــوة ،توصلــت إلــى أن أندمــج فــي المؤخــرة ،ومــن هنــاك،
ّ أ ّ
اســتطعت أن أتــذوق المشــهد الرائــع الــذي غــدا أمامــي تحــت الشــعة المائلــة التــي كانــت
ترســلها الشــمس المشــرقة ،مضــى هــؤالء العــرب البهيــون ،الجليلــون المهيبــون ،يتــوارون الواحــد
آ
بعــد الخــر ،خلــف الصبــار كبيــر الجــذوع ،ومضــت الخيــل ،حازمــة كســادتها ،مشــرئبة الــرؤوس
أ
تهــز أعرافهــا .وفجــأة ،وقــد بلغنــا الريــف الجــرد ،تناثــر الموكــب الطويــل ،فقــد اشــتدت حماســة
ً أ
الفرســان ،وانطلقــت الجيــاد المنتشــية بشــعير الصبــاح تثــب كالعنــز ،وطــارت "الفانطازيــة" طيرانا.
انقــذف ســيدي بــو علــم أول الركــب يعــدو فــي الســهل بــا وعــي ،واختطــف حفيــده فرســه مــن
أ
أقدامهــا الربــع وتــوارى فــي ســحابة مــن النقــع؛ وشــق العــرب الهــواء ،رافديــن فــوق مطاياهــم،
وهــم يرســلون صيحــات وحشــية ...ومــن بعيــد ،كان الفالحــون المعتمــدون علــى أيــدي محاريثهــم
يقطعــون عملهــم ليشــاهدوا موكبنــا ويبعثــون ،فــي أصــوات مدويــة ،تحياتهــم لســيدي بــو علــم.
ونحــو الســاعة العاشــرة ،لمحنــا هضبــة الجنــدل؛ وفــوق الهضبــة ،كانــت زحمــة عجيبــة مــن
أ
البغــال والمعــزى والثيــران والخــراف والتــن والجمــال والقبائــل واليهــود والبــدو ،خليــط مــن
البرانــس والقالنــس الحمـراء؛ نيـران توقــد ،وخيــام تضــرب ،ورائحــة جلــد عاتيــة ،وغبــار ،وصيــاح،
باليجــاز دوالب الســوق العربــي المعتــاد .وكنــت علــى أحــر مــن الجمــر أتــوق لزيــارة هــذا كلــه
إ
109
عشر
َ الصف الثّاين
ّ
بالتفصيــل؛ ولكــن عمانويــل ،الــذي كانــت مصالحــه تســتدعيه إلــى مليانــة فــي اليــوم نفســه ،قــد
وعدنــي أن يرينــي قبــل انقضــاء قليــل مــن الوقــت لوحــات أخــرى مــن النــوع نفســه .تركنــا بــو علــم
أ
إذن لعبائــه ينهــض بهــا ،أعبــاء البــاش أغــا ،وواصلنــا طريقنــا ظافريــن بمصافحــة قلبيــة وبعــض
أ
الحكــم والمثــال العربيــة عــن الصداقــة.
__10
ومشــينا النهــار كلــه ،مشــية واحــدة منتظمــة وئيــدة ،تتخللهــا فتــرات الراحــة علــى أبــواب
المقاهــي المغربيــة؛ وفــي منتصــف الطريــق ،أصــر المطــر علــى الهطــول فــي عنــاد مــا بقــي مــن
النهــار.
ً وكنــت ً
قابعــا فــي معطــف فضفــاضًّ ،
مدليــا قبعتــي ،مرهقــا مــن ليلــة بــا نعــاس ومــن إسـراف
فــي اســتخدام البغلــة ،فمضيــت علــى هــوى دابتــي فــي حــال كاملــة مــن حــاالت داء المشــي فــي
النــوم .ومــن حيــن إلــى حيــن ،كنــت أفتــح عينــي نصــف فتحــة :كانــت ســيول مــن المــاء تخطــط
أ
الفــق مــدى البصــر ،وكانــت التــال غرقــى؛ وكان الســهل قــد اختفــى .وعلــى الطريــق الموحــل،
وقــد انصرفــت عنــه الميــاه ،كان عــرب عـراة الســيقان يبلغــون الســوق مستبســلين ،ســائقين أمامهــم
ً
بغــال عليهــا خيــام وحميـ ًـرا محملــة بالســال.
وكان البــدو الصغــار يخاطبــون بغالهــم قائليــن لهــا فــي صــوت ملــق" :أرحــي! أرحــا!" وكنــت
أهيــب ببغلتــي" :هــو! هيــا! هــو!" .وكان هــذا كلــه ،وقــد اختلــط بعضــه ببعــض ،يخــب فــي الطيــن
أ
وتحــت الزوبعــة .وفــي الحقــول الممتــدة علــى جانــب الطريــق ،كان الفالحــون يقلبــون الرض وهو
يرتلــون ،كمــا يفعلــون فــي أيــام الشــمس ،وكان رعــاة شــيوخ ،وقــد ركعــوا نحــو الشــرق ،يصكــون
ّ
صدورهــم فــي تقــوى مقبليــن بجباههــم أقـزام النخــل التــي تهطــل مطـ ًـرا.
وكنــا نســعى هكــذا منــذ عــدة ســاعات ،وكانــت عينــاي قــد غمضتــا ،حيــن وقفــت البغلــة فجــأة.
فتطلعــت حولــي .كنــت وحــدي وســط ســهل شاســع ،بعيـ ًـدا ،بعيـ ًـدا جـ ًـدا ،بعيـ ًـدا عــن عمانويــل،
بعيــدا مــن كل شــيء ...وفــي أرق خلــق لهــا ،كانــت بغلــة القاضــي تقضــم بعيــدا مــن العــربً ،
ً
ً ً
حســكا غليظــا أمــام بنــاء صغيــر كــروي الســقف أبيــض الجــدران ،رقــد أمــام بابــه نعــان قديمــان
أ أ
فــي مشــكاة...،هذا الســكون ،وهــذا الســهل ،وهــذا الثــر الغامــض ،وهــذان النعــان الصف ـران،
أ ينســدل عليهــا ً
جميعــا ســتار كبيــر مــن المطــر والضبــاب ،كان كل هــذا مــن قبيــل الحــام .ولكنــي
110
ٌةفيدر ٌصصق -يضاقلا ةلغب
111
عشر
َ الصف الثّاين
112
ٌةفيدر ٌصصق -طملا روفصع ملح
113
عشر
َ الصف الثّاين
114
ٌةفيدر ٌصصق -طملا روفصع ملح
أ
كل شــيء ســيبترون عالقتنــا إلــى البــد ...تمنيــت أن أجــدك قربــي فــي تلــك اللحظــات المريعــة،
ّ ّ ّ
تضغــط علــى يــدي ،تقبــل رأســي ،تربــت علـ ّـي وتواســيني ،تذكرنــي بأننــي حتــى لــو بتــروا كل
أ أ ّ
أعضائــي ،ســأبقى إالنســانة التــي تحبهــا وستتمســك بــي إلــى البــد ...البــد؟؟؟ آه يــا لهــا مــن كلمــة
ّ مط ّّ
اطيــة ،هزليــة ،كنــت تجيــد ترديدهــا ،رغــم أنــك كنــت معــي فــي الغرفــة نفســها ،ولكــن عينيــك
ّ
المكســورتين كانتــا تهربــان منــي ...كــم كنــت أحتــاج أن أتلحــف بدفئهمــا فــي تلــك اللحظــة،
ِّ
لكنــك كنــت تخــاف أن تنهــار أمامــي إن نظــرت إلـ َّـي ،ظللــت متخشـ ًـبا جامـ ًـدا كتمثــال مــن و ّ
ّ أ ّ
ســاقي بالبتــر ،وكان الشــمع ...لقــد حكمــت علــى قلبــي بالبتــر قبــل أن يحكــم الطبــاء علــى
حكمــك قاسـ ًـيا كحكمهــم دون أي فرصــة ّللنقــض أو االســتئناف...
أخرجوني من غرفة العمليات بال ساقين...
وبال روح!
البتر إحساس غريب...
ّ
فجأة تحس أنك لست أنت ..إنهم بتروك...
ّ
كأننــي انتهيــت ،الــكل يواســيني ..لمــاذا ّ
يعزوننــي فــي نفســي؟ الــكل ينظــرون إلـ ّـي بإشــفاق
لمــاذا يدفنونــي قبــل أن أمــوت؟
ـوأنت لماذا تقف ّ
لتتقبل التعازي َّفي بصمتك المعهود؟
ســاقي ،أتحســس الموضــع ّ وجــع مجنــون ينهشــني رغــم كل الحقــن المخــدرة ،أبحــث عــن
ـس أننــي بتــرت من ـس ّأننــي فــي كابــوس وأنتظــر أن يوقظونــي منــه ،أحـ ّ
الخالــي علــى الســرير ...أحـ ّ
الداخــل ،وأنــت ال تنظــر إلـ َّـي ،أراك بيــن ّزوار كثيريــن ،الــزوار الذيــن جــاؤوا بشــفقتهم وورودهــم ّ
ّ ّ
ونظراتهــم الحزينــة ،وأســمع فــي همســاتهم شــفقتهم علـ ّـي :مســكين عبــد اللــه ،اللــه يعينــه ،مــاذا
ً ً
ســيفعل فــي هــذه المصيبــة؟! فجــأة أصبحــت مصيبــة فــي حياتــك ،وعبئــا ثقيــا يشــفق عليــك
الجميــع مــن ّ
تحملــه!
منــذ شــهور عندمــا كان عليــك أن تجــري عمليــة خطيــرة فــي القلــب ،كنــت أجــري وراءك في
أّ
المستشــفيات ،وأســهر كل ليلــة قربــك ،وأبتســم لــك رغــم تعبــي وألمــي؛ لننــي كنــت فــي الشــهور
أ أ
الولــى مــن الحمــل ...بعــد شــهرين نجحــت عمليتــك ،بينمــا أجهضــت جنينــي ال ّول بســبب
115
عشر
َ الصف الثّاين
ّ ّ
التعــب المتواصــل ،لــم يشــفق علـ َّـي أحــد ،كانــت العيــون كلهــا تقــول :هــذا واجبــك كزوجــة،
أ تضحــي بــكل شــيء مــن أجــل زوجــك! ّ يجــب أن ّ
التضحيــة؟ شــيء غريــب لول مـ ّـرة أكتشــف
ّأن كلمــة ّ
التضحيــة مؤنثــة.
الرجــل ً
دائمــا هــو ّ
وتتحمــل وتصبــر فــي مجتمعنــا ،وفــي المقابــل ّ المـرأة يجــب أن ّ
تضحــي
ّ الضحيــة ...المســكين! أنــت ّ ّ
حتــى لــم تتعطــف علـ ّـي بنظــرة مواســية أو ابتســامة تلثــم بهــا آالمــي،
وبــدأت رحلــة العــذاب...
ّ
منــذ أن انتقلــت إلــى البيــت كســيحة علــى كرســي متحــرك ونحــن لــم نعــد نتكلــم ،أحضــرت
خادمــة للعنايــة بــي ،وانتقلــت ّللنــوم فــي غرفــة أخــرى.
ّ ّ أ
كان عذابــي ال كبــر ليــس فــي عاهتــي وال فــي عجــزي وحياتــي التــي تحطمــت بيــن عشـ ّـية
ّ
وضحاهــا ،بــل فــي عينيــك اللتيــن حكمتــا علـ ّـي إ
بالعــدام...
والدموع جمرات من العذاب ال تنتهي أو تجف... كنت أبكي وأبكيّ ،
التوجيهــات وشــقائي بــك يتجــدد ّكل يــوم وأنــا أراك تدخــل الغرفــة لتعطــي الخادمــة بعــض ّ
أي احتمــال ،فجــأة صــارت حياتــي عنــي ،ألمــي فــوق ّ إلــي أو تســأل ّ
وتذهــب دون أن تنظــر ّ
ّ ّ أ
وكرســيي المتحــرك والحمــام.... مرهونــة بهــذه الخادمــة الجنبيــة التــي تنقلنــي بيــن ســريري
ولــم ينتــه عذابــي! بــدأت الحــرب الكبــرى فــي عائلتــك ،وفــي عيــون ّ
النــاس .كان الــكل
ّ
ينظــرون إليــك نظــرة الفدائـ ّـي المســكين الــذي عليــه أن يتحمــل زوجتــه الكســيحة ،وكان الــكل
يعيــرك أن هــذه نتيجــة زواجــك ّمنــي رغــم عمــي ّالــذي بــدأ ّ بالــزواجّ ،
خاصــة ّ يلحــون عليــك ّ ّ
ّ
معارضتــه ....مــا الــذي يجبــرك وأنــت الشــاب الجامعــي الوســيم ذو المركــز المرمــوق أن تقضــي
حياتــك مــع بقايــا ام ـرأة كســيحة معطوبــة؟
الرفــض الحزيــن ،روحــك المقاتلــة انكســرت ولــم يبــق فيــك ســوى الحــزن، كنــت ال تملــك ّإل ّ
ّ ولــم ّ
أتحمــل هــذا كلــه ...كانــت عيــون أهلــك تلومنــي طيلــة الوقــت:
(أنت عالة على ابننا! لماذا تفعلين هذا بابننا؟ إننا نشفق عليك ،ولكن ما ذنب ابننا؟) ِ
أتحمــل ...بعــد ليلــة لــم تــذق فيهــا أجفانــي ّ
النــوم ،قــررت كان الوجــع ّ
يعضنــي بشراســة ،لــم أعــد ّ
أن أكلمــك ،وأنهــي هــذا كلــه ....طلبــت مــن الخادمــة أن تضعنــي علــى كرســيي المتحــرك ،ذهبــت
116
ٌةفيدر ٌصصق -طملا روفصع ملح
إلــى غرفتــك ،ارتبكــت عندمــا رأيتنــي ..وســرت رعشــة واضحــة فــي مالمحــك ،قلــت وأنــت تحــاول
أن تتحاشــاني كعادتــك:
ـخير؟ هل حدث شيء؟
حتى ّ
أتحدث مع زوجي؟" رددت بألم" :وهل يجب أن يحدث شيء ّ
117
عشر
َ الصف الثّاين
ّ وعلــى ّ
الرغــم مــن ذهــول والدتــك وشــفقتها الواضحــة فــي صوتهــا ،فإنهــا لــم تحــاول إخفــاء
طيبــة ومســالمة ،وتقــوم بخدمتــك حماســها للفكــرة ،ووعــدت بالبحــث عــن زوجــة ثانيــة تكــون ّ
ّ أ
وخدمتــي! وفــي أقــل مــن أســبوع وجــدت أمــك الفتــاة المناســبة! آه يــا عبــد اللــه الثيــر ،لقــد
ً
أحببتــك دهـ ًـرا كامــا ،وهــا هــم فــي أقــل مــن أســبوع يختــارون امـرأة جديــدة تســرق تاريخــي كلــه
ّ
معــك! وتحــول تضاريــس الفــرح فــي عمــري معــك إلــى الجحيــم مــن الشــقاء.
خاصــة بعــد تصريحــي بموافقتــي علــى زواجــك ،ولــم الضغــوط تقــوى مــن عائلتــكّ ، وبــدأت ّ
ّ
تملــك وســط هــذا كلــه ســوى أن تســتجيب لرغبــة أهلــك استســام( ...مازلــت أجيــد اســتعمال
عالمــات ّ
التعجــب فــي محاولــة يائســة الســتعادة إنســانيتي).
ال أدري لمــاذا ال تكــف دموعــي عــن الهذيــان والص ـراخ المجنــون ...علــى ّ
الرغــم مــن قيامــي
حتــى آخــر لحظــة أن ّ
تتمســك برفضــك. ـعيدا ،كنــت ّ
أتمنــى ّ بهــذه المبــادرة ورغبتــي فــي رؤيتــك سـ ً
أ يتحدثون عن ّ لماذا ّ
الضحية والحب البدي؟
مازلت ّ
متمسكة بهذه المثالية ّ
الغبية بعد كل ما حصل!
أ
الجحيــم يفترســني بــا هــوادة ،تنتابنــي نوبــة ألــم مســعورة فــي ليلتهــا الولــى فــي البيــت ،أبحث
أ
اللــم أم ألــم ّ الحمــى ...هــل هــذه ّ ـاقي فــا أجدهمــاّ ، عــن سـ ّ
الحمــى ...ســكاكين تنغــرز فــي حمــى
كل ذرة مــن جســدي ،وتقطعنــي ً
إربــا.
يومــا؟ هــل مازلــت أؤمــن بهــذه الكلمــة الخرقــاء؟ يــا لــي مــن حمقــاء غبيــة! تــرى هــل أحببتنــي ً
عنــي عنــد هــل الحــب كلمــة أم موقــف؟ لقــد قلــت كثيـ ًـرا مــن القصائــد ،ولكــن هــا أنــت تتخلــى ّ
ّ أ أول موقــف حقيقـ ّـيَ ،ت ْن َقـ ُّ
ـض علـ ّـي الشــباح المرعبــة ،تجلدنــي بســاط ذاكــرة الوجــع التــي ال تنــام،
يومــا جديـ ًـدا؟ ومــاذا بقــي لــي تعضنــي الهواجــس ،أتمنــى ّأل يطلــع علـ ّـي ّ
الصبــاح ...لمــاذا أحيــا ً ّ
أ
لعيــش مــن أجلــه؟
أ أراهــا فــي صبيحــة اليــوم التالــي متـ ّ
ـوردة ،جميلــة ،ســعيدة ،مفعمــة بالعطــر والحيــاة والنوثــة...
أ ّ
ـاقي؟ تطــرق زوجتــك بــاب غرفتــي .ال بـ ّـد أنــك قــد أرســلتها إلـ ّـي لنــك ال تســير بــدالل ،أيــن سـ ّ
صحتــي ،أرد كمــا اعتــدت أن أرد مــن بيــن جــدران تقــوى علــى مواجهتــي كالعــادة ...تســأل عــن ّ
تابوتــي ،وعلــى شــفتي طعــم المــوت :بخيــر (آه يــا لكــذب الكلمــات!)
118
ٌةفيدر ٌصصق -طملا روفصع ملح
وطيبــة زوجتــك الجديــدة ،كــم أنــت محظــوظ! ال آه يــا عبــد ّاللــه العزيــز ،كــم هــي جميلــة ّ
ّ
بـ ّـد أنهــا قــد نفثــت فيــك الحيــاة مــن جديــد ...الحيــاة! كلمــة ال يعــرف معناهــا إل إنســانة مثلــي،
ّ النــاس ّ تعلمــت أن ُتدفــن وهــي حيــة ،وأن يتبــادل ّ ّ
ويشــيعون جنازتهــا أمامهــا، التعــازي فيهــا،
ّ
ويأتــون بامـرأة أخــرى تحــل مكانهــا فــي حيــاة زوجهــا ...آه مــا أكبــر الفــرق بيــن زوجتــك الجديــدة
ّالتــي تبــدأ حياتهــا ،وبينــي أنــا ّالتــي أبــدأ ّ
التعــود علــى موتــي ...تخــرج مــن الغرفــة ،ترتبــك عندمــا
تراهــا واقفــة معــي ،تتحاشــاني كعادتــك ..تناديهــا ،فتســتأذنني وتذهــب إليــك..
ّ ّ أنهارّ ،
أتمنى الموت في هذه اللحظة ..لقد قتلتني يا عبد الله.
أســقط مــن علــى الكرسـ ّـي ..أفاعــي هالميــة تخــرج مــن تحــت جلــدي ،ومــن بيــن مســاماتي،
أ
اليســر مــن قلبــي ..هنــا ً
تمامــا حيــث تســكن دهاليــز الـ ّـروح ...أغــرق فــي عجــزي وتلــدغ الموضــع
ّ دموعــا ضاريــة ،أذوب فــي لجــة مفترســة مــن ّأنزفــك ً
النحيــب والشــهيق ...تحــاول الخادمــة حملــي
أ
مــن علــى الرض ....أدفعهــا عنــي وأنــا أصــرخ بهســتيرية ...تخــرج مــن غرفتــك ،تنظــر إلـ ّـي بألــم..
آ أ
لول مـ ّـرة منــذ أســابيع تقتـ ّـرب منـ ّـي وتحــاول حملــي وتهدئتــي ...أصــرخ :اتركونــي الن ..أريــد أن
أبقــى وحــدي...
ًّ
عينــاك موجوعتــان ،نادمتــان ،يفقــس حزنــي ذل ...أصــرخ :تعبــت مــن شــفقتكم ...أنــادي
الســرير ،وأطلــب إليهــا أن تغلــق البــاب ..تخــرج أنــت الخادمــة ،أتركهــا هــذه المــرة تضعنــي علــى ّ
وزوجتــك ،وأنــت عاجــز كعادتــك عــن ّ
التصــرف.
كم ّرددت على مسامعي أنك ستجلب لي القمر ّ
والنجوم...
بغصــة تخنقنــي ،تتآمــر علـ ّـي كل ذكرياتــيأضحــك وأبكــي بمـرارة علــى هــذه النكتــة ،أحــس ّ
حبــات الـ ّـدواء بالقــرب ّمنــي ...كــم ً
قرصــا فيهــا؟ أكثــر معــك ،أشــقى بفــرح كان لــي ً
يومــا ،أنظــر إلــى ّ
ّ
مــن عشــرين ...لمــاذا ال أبتلعهــا كلهــا وأنهــي شــقائي؟ أمســك العلبــة بأصابــع مرتجفــة ،تتســاقط
عبراتــي العاجــزة وأنــا أبحــث عــن الخــاص ..أفتــح العلبــة ،تســترخي عضالتــي ،أسـ ّ
ـتعد ّللراحــة...
أ
فجــأة أســمع صــوت الذان ...رعشــة تتملــك الــروح الثكلــى..
ّ
الله أكبر ...أ كبر من دموعي وعذاباتي...
ّ
الله أكبر ....أكبر من عجزي وقنوطي..
119
عشر
َ الصف الثّاين
أ ّ ّ
الله أكبر ...أكبر من زنزانة اللم التي حبست نفسي فيها..
أرمــي أق ـراص الـ ّـدواء ،أســتغفر ّاللــه علــى لحظــة ضعفــي ،ويســقط عذابــي ً
دموعــا ..أصلــي
الفجــر ..أبكــي بدمــوع تغســل قلبــي المكلــوم..
الشــباك ،أرى عصفـ ًّ
ـورا صغيـ ًـرا يتحــدى المطــر أســمع طرقــات المطــر علــى نافذتــي ،أفتــح
عاليــا ،أرى نفســي قــد تحــررت مــن كرســيي وعجــزي وطــرت والريــح ويفــرد جناحيــه ويحلــق ً
أ ّ
معــه ...أمــل غامــض يتسـ ّـرب إلــى نفســي ...أتذكــر رحمــة اللــه ،وأبكــي لننــي استســلمت للمــوت...
أريد أن أحيا أكثر من أي وقت مضى...
أنام ألول مرة منذ أن ُبترت ساقاي وأنا في انتظار ّ
الصباح.
واقفــا عنــد ســريري تنظــر ًّ
إلــي بألــم ،أنــت ال تســتطيع ،وأنــا ال أســتطيع أن أصحــو ...أراك
ّ
أتحمــل أكثــر ...تســألني عينــاك عــن أحوالــي ..فأقــول لــك" :أنــت تعــرف يــا عبــد اللــه مكانتــك
عنــدي".
أيضامكانتك عندي". تجيب بحزن" :وأنت تعرفين ً
بالرغبة ّ
بالضحك. ال أدري لماذا بدت لي جملتك هزلية في هذه اللحظة ،وأحسست ّ
120
ٌةفيدر ٌصصق -طملا روفصع ملح
ّ
البتــر فــي جســدي ،إنــك ال تســتطيع ...وحتــى لــو اســتطعت فــإن الشــيء الوحيــد الــذي تســتطيع
ـاقيّ ،
لكنــك بتــرت إنسـ ّ الطبــاء سـ ّأ
ـانيتي ،بتــرت أن تعطينــي إيــاه هــو دموعــك وشــفقتك ..لقــد بتــر
ّأ
عالقتنــا ...بتــرت كل شــيء جميــل جمعنــا فــي يــوم مــن اليــام".
تســقط دموعــك هــذه المــرة ،وتنظــر إلـ ّـي بعينيــن كســيرتين" :لكــن مــا حصــل كان أكبــر ّمنــي...
مــاذا بيــدي أن أفعــل بعــد كل ماحصــل؟"
أرد" :إن كنــت عاجـ ًـزا ،فأنــا رغــم ّأننــي مبتــورة ّ
الســاقين فإننــي لســت عاجــزة ،رغــم أن موتــي
لكنــي قـ ّـررت العــودة إلــى الحيــاة ،ســأعود إلــى ّ
الدراســة باالنتســاب، قــد يكــون فيــه راحــة لــكّ ،
التجويــد؛ ألحقــق حلمــي فــي إعطــاء دروس ّ
التجويــد". ســأدرس ّ
تتلعثم" :ولكن."....
ّ
أقــول بقــوة ال أدري مــن أيــن جاءتنــي" :إذا كانــت عودتــي إلــى الحيــاة ال تعجبــك فطلقنــي،
فلــم يعــد يربطنــا ســوى الجـراح ،لقــد تعبــت مــن شــفقتك ناحيتــي ...متــى كانــت آخــر مــرة بـ ّ
ـت
ً أ ّ عنــدي أو ّ
حتــى تكلمــت معــي؟ أنــا اللــم الوحيــد فــي حياتــك ،فلمــاذا ال تطلقنــي وتصبــح رجــا
سـ ً
ـعيدا تنعــم بحياتــك مــع زوجتــك الجديــدة دون زوجــة معاقــة كئيبــة".
الدراســةتهــرب كالعــادة مــن المواجهــة" :لــن أطلقــك أنــت حــرة إن كانــت عودتــك إلــى ّ
ســتريحك فافعلــي مــا تريديــن".
بأمــي وأخبرهــا برغبتــي فــي العــودة إلــى ّ ّ
تتملكنــيّ ...أتصــل ّ أحـ ّ
الدراســة... ـس بطاقــة غريبــة
تثــور "هــل جننــت؟ إن مــن بمثــل حالتــك ال."...
ـس أنهــم قــد بتــروا سـ ّ
ـاقي مــرة أخــرى ،ال أستســلم لعجــزي ..أتذكــر صديقتــي أنهــي الحــوار ،أحـ ّ
تزوجــتّ ،أتصــل بهــا ،أخبرهــا برغبتــيّ ...
تتحمــس وتعدنــي أنهــا القديمــة ّالتــي لــم أكلمهــا منــذ ّ
بالجــراءات ،تشــتري لــي الكتــب ،تأخذنــي معهــا لــدروس ّ
ستســاعدني فــي الدراســة ...تقــوم إ
ّ ّ
التجويــد والشــريعة...
ـس بالحيــاة وأنــا أقـرأ ..كل كتــاب يأخذنــي إلــى عالــم جديــد مــن البعــث والحيــاة، ألول مــرة أحـ ّ
ّ ّ ّ
أقــدم االمتحانــات ،أنجــح فــي الشــهادة الثانويــة ،أتفـ ّـوق فــي دروس الشــريعة ...أبــدأ بإعطــاء دروس
ّ
الشــريعة فــي بيتــي ...أسـ ّـجل للجامعة...
121
عشر
َ الصف الثّاين
ّ
صرت أرى نظرات إالعجاب في عيون من حولي بدل الشفقة...
حتــى قبــل أن يبتــروا سـ ّ
ـاقي ،كنــت أســير ألول مــرة أحــس بذاتــي ،لــم أشــعر بهــذه ّ
الســعادة ّ
النــاس فــي مدينتــي ،ولكننــي اليــوم أحلــق ً
عاليــا.. مثــل كل ّ
الشــباك ،المطــر ّ
النــازل يغســل المدينــة ،ويكركــر فــي المزاريــب ،أرى العصفــور ّ ّ
الصغيــر أفتــح
ّ
مــازال يتحــدى المطــر والعاصفــة ...يفــرد جناحيــه ويطيــر ...أحــس بسـ ّ
ـاقي تعــودان لــي ،أجــري،
أركــض ،أقفــز ...ينبــت لــي جناحــان ...لــم أعــد محتاجــة إلــى سـ ّ
ـاقي ،أرميهمــا أفــرد جناحــي وأحلق
فــي الفضــاء الفســيح.
122
ٌةفيدر ٌصصق -بره يذّلا اهجوز
ال يـزال تصــرف ســيمونز المشــين نحــو زوجتــه موضــوع اســتغراب شــديد بيــن الجيـران .كانــت
الخريــات يعتبرنــه ً
زوجــا ًّ أ
"مثاليــا" وكانــت الســيدة ســيمونز ،وال ريــب ،زوجــة ذات ضميــر النســاء
حســاس .وكل امـرأة فــي ذلــك الحــي تشــهد بأنهــا تعبــت وشــقيت فــي ســبيل ذلــك الرجــل أكثــر
آ أ أ
بكثيــر مــن أن يكــون الحــق لي زوج مــن الزواج أن يطالــب بــه .والن هــذا جزاؤهــا منــه .لعلــه
جــن فجــأة؟
كانــت الســيدة ســيمونز قبــل أن تتــزوج مــن صاحبنــا ســيمونز ،أرملــة الســيد فــورد ،وكان هــذا
الخيــر ّ أ
حمــاال علــى ظهــر باخــرة غيــر تابعــة لخــط بحــري منتظــم .ولكــن هــذه الباخــرة وجميــع مــن
ّ أ
علــى ظهرهــا غرقــت فــي البحــر -ودخــل فــي روع الرملــة أن هــذا قضــاء عــادل حــل بــه نتيجــة
تمــرد منــه دام ســنين طويلــة إلــى أن انتهــى بــه إثمــه إلــى مزاولــة العمــل علــى متــون البحــار ،بــل
مزاولتــه كحمــال! وذلــك تدهــور مريــع لبـراد ميكانيكــي قديــر ،وقــد بقيــت عاقـرا اثنتــي عشــرة ســنة
مــع الســيد فــورد ،وبقيــت عاقـرا كذلــك مــع ســيمونز بعــد زواجهــا منــه.
ً
أمــا ســيمونز فالــكل يؤكــد أنــه كان محظوظــا بهــذه الزوجــة القديــرة ،كان يمتهــن النجــارة
وكانــت معرفتــه فيهــا ال بــأس بهــا ،ولكنــه لــم يكــن مــن الرجــال المقبليــن علــى الحيــاة .مــا كان
ّ
أحــد ليســتطيع أن يتكهــن مــا الــذي ســيحل بتومــي ســيمونز لــو لــم تكــن هنــاك ام ـرأة اســمها
الســيدة ســيمونز تعتنــي بــه .وهــو رجــل هــادئ وديــع ،ذو وجــه صبيانــي فيــه شــعر هــش مبعثــر
َّ
علــى العارضيــن والشــاربين .لــم تكــن لــه أيــة عــادات الزمــة .غيــر أن الســيدة ســيمونز زرعــت فــي
نفســه فضائــل شــتى غريبــة .فهــو يذهــب صبــاح كل أحــد إلــى الكنيســة بوقــار ،وقبعــة عاليــة تعمــر
أ
بنســا واحـ ًـدا فــي الطبــق تعطيــه إيــاه لهــذا الغــرض مــن كســبه الســبوعي ،وبعــد رأســه ،ويضــع ً
رجوعــه وبإش ـراف الســيدة ســيمونز ينــزع أحســن ثيابــه وينظفهــا بفرشــاة بــكل اهتمــام ومشــقة.
أ
وفــي أيــام الســبت يبــدأ بعــد الظهــر بتنظيــف الســكاكين والشــوكات والحذيــة والقــدور والشــبابيك
بصبــر جميــل وضميــر مرتــاح .وفــي أيــام الثالثــاء يأخــذ الثيــاب للكــي ،وفــي ليالــي الســبت يرافــق
الســيدة ســيمونز إلــى الســوق ليحمــل الــرزم.
123
عشر
َ الصف الثّاين
أمــا فضائــل الســيدة ســيمونز الشــخصية فقــد كانــت أصيلــة بســيطة ومتعــددة .لقــد كانــت مدبــرة
أ
ممتــازة ،وكل بنــس مــن شــلنات تومــي الثمانيــة والثالثيــن الســبوعية كانــت تفيــد منــه أعظــم
ّ
فائــدة .ولــم يكــن تومــي ليجــرؤ علــى التخميــن عــن المقــدار الــذي ادخرتــه منهــا .ومجــرد النظــر
إلــى نظافتهــا فــي شــؤون البيــت الزوجيــة يبعــث علــى الذهــول .لقــد كانــت تســتقبل ســيمونز عنــد
البــاب الخارجــي كلمــا أتــى إلــى البيــت ،وهنــاك يســتبدل حــذاءه بنعــل وهــو يــوازن نفســه بمشــقة
أ َّ
وألــم مــن رجــل إلــى أخــرى علــى البــاط البــارد .كان هــذا لنهــا غســلت الدهليــز والممــر بمســاعدة
أ َّ
زوجــة العائلــة القاطنــة فــي الطابــق الســفلي ،ولن بســاط الــدرج كان بســاطها .وبعــد الشــغل كانــت
تشــرف علــى زوجهــا حتــى نهايــة عمليــة "تنظيــف نفســه"بدقة وحــذر ،فتضــع نفســها بيــن الجــدران
ّ
وبيــن الرشــاش الــذي قــد يتطايــر عليهــا .وإذا حــدث ،رغــم جهدهــا المبــذول ،أن بقيــت بعــض
البقــع ظاهــرة فإنهــا تجهــد نفســها فــي طبــع تلــك الحقيقــة علــى ذاكــرة ســميونز ،وتســرد لــه مطــوال
ّ أ
تفاصيــل المــور التــي تثبــت أنانيتــه الجحــود .فــي البــدء كانــت ترافقــه دومــا مرافقــة الخفيــر إلــى
أ
حوانيــت المالبــس الجاهــزة ،فتنتخــب لــه مــا يــروق لهــا ثــم تدفــع الثمــن بنفســها -لن الرجــال ومــا
أشــبه بالحمقــى وأصحــاب الحوانيــت يتالعبــون بهــم كيفمــا شــاؤوا -ولكــن ســرعان مــا تخطــت
هــذه العقبــة حيــن خطــر ببالهــا أن تصنــع ثيــاب ســيمونز بنفســها .وكان التصميــم إحــدى فضائلهــا.
فابتــدأت بعــد ظهــر ذلــك اليــوم بخياطــة بدلــة مــن قمــاش صوفــي مضــرب صاخــب اللــون
ََ أ َ
ق َّصتــه علــى طـراز بدلــة قديمــة ،وليــس ذلــك فحســب ،بــل كانــت البدلــة جاهــزة يــوم الحــد! فغـ َـر
ســيمونز فــاه دهشــة لهــذا إالنجــاز الباهــر ،أقحمتــه فيهــا ودفعتــه إلــى الكنيســة قبــل أن يســترجع
رشــده ....غيــر أنــه وجــد أنهــا لــم تكــن مريحــة تمامــا .فالســروال ضيــق تحــت ركبتيــه ولكنــه يتهــدل
بارتخــاء وراء عقبيــه .وعندمــا جلــس وجــد أنــه يجلــس علــى متاهــة مــن الطيــات والــدروز القاســية.
أ
وكانــت ياقــة ســترته تشــد كتفــه بكتفــه الخــرى ،بينمــا انتفــخ هيكلهــا بســخاء كالحقيبــة أســفل
خاصرتــه.
َّ
لقــد اعتــاد علــى المنغصــات يتقبلهــا كأمــر مســل ٍم بــه ،ولكـ َّـن ذلــك لــم يكــن ليجعلــه علــى وئــام
مــع زمالئــه المســتهترين فــي المشــغل .إذ بينمــا تخيــط الســيدة ســيمونز بــدالت محكمــة متتاليــة،
تخــاط كل منهــا بموجــب ســابقتها ،كانــت هفــوات تصميمهــا تنمــو وتتوطــد حتــى تصبــح مبــادئ،
َّ
بــل إنهــا تشــتد بــروزا وبشــاعة .وغمـزات ســيمونز كلهــا ذهبــت ســدى .فقــد أشــار إليهــا مــن طــرف
َّ َّ ّ
خفــي بــأل ترهــق نفســها بالعمــل وأن الخياطــة تلــف العينيــن ،وأن هنــاك دكان خيــاط جديــدة
124
ٌةفيدر ٌصصق -بره يذّلا اهجوز
125
عشر
َ الصف الثّاين
كان هنــاك رجــل يتســكع علــى الرصيــف ويختلــس النظــر إلــى البــاب باســتطالع .كان مدبــوغ
أ
الوجــه ،ويــداه غائرتيــن فــي جيبــي ســرواله الزرق المترهــل ،وعلــى مؤخــرة رأســه قبعــة مــن
القبعــات الســائدة بيــن ّ
حمالــي الموانــئ .خطــا خطــوة فجائيــة نحــو البــاب وقــال" :الســيدة (فــورد)
هــل فــي البيــت؟"
فحملق فيه سيمونز نحوا من خمس ثوان ثم قال" :ها؟"
آ
ـ"كانت من قبل السيدة (فورد) -والن السيدة سيمونز ،أليس كذلك؟ "
قال الغريب هذا وهو يلقي نظرة مختلسة شريرة لم يهضمها سيمونز ولم يفهمها.
آ
قال سيمونز" :ال ،إنها ليست في البيت الن".
ـ"ألست أنت زوجها؟"
ـ"بلى".
نــزع الرجــل غليونــه مــن فمــه وأظهــر أســنانه فــي شــبه ضحكــة مغتصبــة طويلــة ،ثــم قــال
ّ
أخيـ ًـرا :صدقنــي يظهــر أنــك مــن النــوع الــذي تحبــه الرجــال" .ثــم أظهــر أســنانه فــي ضحكــة
خبيثــة مــرة أخــرى .وعندمــا رأى أن ســيمونز قــد اســتعد لغلــق البــاب وضــع قدمــه علــى العتبــة
ً
ويــده علــى البــاب ،وقــال" :ال تكــن عجــول يــا صديقــي .لقــد أتيــت إلــى هنــا لكــي أتكلــم معــك
ً ً
قليــا الكم رجــل يخاطــب رجــا ،أال تــرى ذلــك؟"
فانزعــج تومــي ســيمونز ولكــن البــاب لــم يكــن ليغلــق .وهكــذا أخــذ يناقشــه" :مــاذا تريــد؟ إنــي
ـأعرف نفســي" .قــال هــذا ولمــس طاقيتــه بحركــة تواضــع ال أعرفــك" "إذن ،إذا كنــت تســمح لــي ،سـ ّ
ّ
ســاخرة ،وأردف" :أنــا بــوب فــورد ،قــادم مــن ملكــوت اللــه ،إن صــح هــذا القــول .غرقــت ومــت
آ أ
قبــل خمــس ســنوات .وأتيــت الن لرى زوجتــي".
ّ
وفــي أثنــاء هــذه الكلمــة كان فــكا تومــي ســيمونز ينفرجــان أكثــر فأكثــر .وعنــد انتهائهــا غــرس
أصابعــه فــي شــعره وألقــى نظــره علــى الحصيــر ،ثــم نظــر إلــى كــوة الضــوء فــوق البــاب وأجــال طرفــه
عبــر الشــارع ،بعدهــا رمــق زائــره بنظــرة ثابتــة ،ولكنــه لــم يجــد مــا يقولــه لــه.
آ أ
كرر الرجل" :أتيت لرى زوجتي وبوسعنا أن نصفي المسألة الن ،رجال لرجل".
أغلــق ســيمونز فمــه ببــطء واقتــاد الزائــر إلــى الطابــق العلــوي ًّ
آليــا ،وأصابعــه مــا ت ـزال فــي
126
ٌةفيدر ٌصصق -بره يذّلا اهجوز
ً ً
شــعره ،والشــعور بحقيقــة الوضــع ينغــرس شــيئا فشــيئا فــي دماغــه .واســتيقط الشــيطان الصغيــر فيــه
مــرة أخــرى .افــرض أن هــذا الرجــل هــو فــورد؟ افــرض أنــه ادعــى بزوجتــه؟ أتكــون ضربــة قاضيــة؟
هــل ســتزيحه مــن الطريــق أم ال؟ فكــر فــي الســروال ،فــي أوانــي الشــاي ،وفــي أوانــي الغســيل
والكــي ،فــي الســكاكين ،فــي القــدور ،فــي الشــبابيك فكــر فيهــا كمــن اقتــرف خطيئــة عــن قصــد.
وعلــى صحــن الــدرج قبــض (فــورد) علــى ذراعــه وســأله فــي همــس مبحــوح" :كــم ســيطول
الوقــت بهــا قبــل أن ترجــع؟"
وقبــل أن يجيــب ســيمونز كــرر الســؤال عــدة م ـرات فــي دماغــه ثــم قــال" :نحــو ســاعة علــى
أ
الغلــب".
قــال (فــورد) وهــو يجيــل الطــرف حولــه" :آه ،لقــد قضيــت هنــا وقتــا مريحــا تنعمــت بــه .هــذه
ً أ أ أ
الكراســي وهــذه الشــياء الخــرى كانــت ملكهــا ،أعنــي ملكــي أنــا ،ولقلهــا لــك بصراحــة ،رجــا
ّ
لرجــل" ثــم جلــس وتابــع" :حسـ ًـنا هــا أنــا هنــا مــرة أخــرى بــوب فــورد ،الهالــك الراحــل ،الــذي
أ َّ
غــرق فــي البحــر! ولكــن هــا أنــا لــم أهلــك ،كمــا تــرى؟ إنــي لــم أهلــك .ولكــن لمــاذا؟ لن مالحــا
ألمانيــا التقطنــي ،وتشــبثنا بالصــاري ً
معــا ،ثــم بقيــت لبضــع ســنين وأنــا أهيــم منــذ ذلــك الحيــن على
آ
وجهــي ،والن" -ورمــق ســيمونز بثبــات" -لقــد رجعــت لكــي أرى زوجتــي".
فقال سيمونز مشدوها" :إنها ال تحب التدخين هنا في البيت".
فأجــاب (فــورد)" :الك ،إنــي أراهــن علــى أنهــا ال تحــب ذلــك" ثــم نــزع غليونــه مــن فمــه وأخفضــه
بيــده علــى قــدر مــا اســتطاع ثــم أردف" :إنــي أعــرف زوجتــي حنــة .كيــف تجدهــا أنــت؟ هــل
تجعلــك تنظــف الشــبابيك؟"
أ ّ
فأقــر ســيمونز بذلــك وقــال بعــدم ارتيــاح" :واللــه أنــا -بالفعــل أســاعدها فــي بعــض الحيــان،
ً
طبعــا".
ـ"آه ،والســكاكين ً
أيضــا ،إنــي أراهــن ،والقــدور البراقــة .إنــي أعــرف ذلــك كلــه" .ثــم نهــض وانحنــى
ليــرى قفــا ســيمونز.
تماما ،هذا ً
أيضا مما يلذ لها أن تفعله!" ـ"يا! أعتقد أنها تقص لك شعرك أنت ً
أيضا! ً
وأخــذ يرمــق ســيمونز الخجــل مــن نــواح متعــددة بتعــال ،ثــم رفــع إحــدى ســاقي الســروال
127
عشر
َ الصف الثّاين
ّ
المعلــق وراء البــاب وقــال" :إنــي أراهــن أنهــا هــي التــي خاطــت لــك هــذا .مــا مــن أحــد غيرهــا
آ ّ َّ
يســتطيع أن يصنعــه علــى هــذا الشــكل .إنــه أردأ حتــى مــن هــذا الــذي تلبســه الن".
وابتــدأ الشــيطان الصغيــر يأخــذ بزمــام النقــاش كمــا يشــتهي .لــو اســترجع هــذا الرجــل زوجتــه،
لعلــه يضطــر إلــى لبــس الســروال...
ّ
و أردف (فورد)" :أي والله ما تغيرت وال تحسنت!"
ّ
وابتــدأ ســيمونز يشــعر بــأن ذلــك لــم يعــد مــن شــأنه .مــن الواضــح أن حنــة كانــت زوجــة هــذا
ً آ
الرجــل الخــر ،وعليــه إن كان شــريفا أن يقــر بالحقيقــة .لقــد صورهــا لــه الشــيطان الصغيــر كقضيــة
واجــب ال بــد منــه.
ثــم قــال (فــورد) فجــأة طيــب! الوقــت قصيــر ولــم نصــل إلــى نتيجــة بعــد .لــن أكــون شـ ً
ـديدا
معــك يــا صــاح ،ولكــن علــى أن أتمســك بحقوقــي علــى أكمــل وجــه .وأنــا إذ أراك شـ ًـابا تتفهــم
المــور وتعيــش مسـ ً أ
ـتقرا هنــا بطمأنينــة فــي عــش الزوجيــة" -وبدفقــة مــن الســخاء أضــاف" :أنــا
ً ّ
ســوف واللــه ،نعــم ،ســوف أوجــز القضيــة ثــم أهــرب .تعــال ،ســأحدد لــك مبلغــا كرجــل أمــام
رجــل .والمبلــغ مقطــوع ونهائــي ،ال أكثــر وال أقــل :خمســة دنانيــر تحــل المشــكلة".
ّ
لــم يكــن لــدى ســيمونز خمســة دنانيــر -وال حتــى خمســة بنســات -فقــال" :معــاذ اللــه أن أقــف
ّ ّ
عائقــا بيــن رجــل وزوجتــه .ال واللــه أنــا الــذي ســأهرب".
فقــال (فــورد) بســرعة وهــو يقبــض علــى ذراع ســيمونز "ال ،ال تفعــل ذلــك .ســأرخص المبلــغ
ً
قليــا ثالثــة دنانيــر -معقــول أليــس كذلــك؟ ثالثــة دنانيــر ليســت مكافــأة كبيــرة لكــي أذهــب عنــك
أ
وأتــركك إلــى البــد -إلــى حيــث تهــب الريــاح العاصفــة ،كمــا يقولــون -ولــن أرى زوجتــي مــرة
أخــرى أبـ ًـدا ،خيـ ًـرا كان ذلــك أم شـ ًـرا .ثالثــة دنانيــر وأخلــي لــك الجــو .والمبلــغ معقــول ،أليــس
كذلــك؟"
فأجــاب ســيمونز بح ـراراة" :الكمــك معقــول وال شــك ،بــل أنــه الكم رجــل شــريف -شــريف
للغايــة .ولكننــي لــن أســتغل طيبــة قلبــك علــى هــذا النحــو الحقيــر يــا ســيد فــورد .إنهــا زوجتــك
ّ
وعيــب علــي أن أقــف بينكمــا .إنــي أعتــذر تريــث .أنــت هنــا وخــذ حقوقــك كاملــة .أنــا الــذي
ســأخلي لــك الطريــق ،وســأفعل!" ...خطــا خطــوة نحــو البــاب.
128
ٌةفيدر ٌصصق -بره يذّلا اهجوز
أ
فصــاح (فــورد) وهــو يقــف بيــن ســيمونز والبــاب" :قــف! ال تتســرع بالمــور :فكــر بالخســارة
ّ
التــي ســتتكبدها عندمــا تــرى أنــه ال بيــت لديــك تــأوي إليــه ،وال أحــد يهتــم بــك ،وغيــر ذلــك مــن
أمــور الدنيــا .إنــه لشــيء مريــع مــا رأيــك بديناريــن؟ ســأنهيها ولــن نتشــاجر :دينـ ًـارا واحـ ًـدا -لقــد
كادت الســاعة تنتهــي -دينـ ًـارا واحـ ًـدا يكفــي .أنــا ســوف "-
وبغتــة تعالــت قرعتــان عاليتــان علــى البــاب الخارجــي .قرعــة مزدوجــة فــي الحــي الشــرقي هــي
دائمــا لســكان الطوابــق العليــا.
ً
فسأل بوب (فورد) واجفا" :من ذلك؟"
فاندفع توماس سيمونز نحو الدرج وهو يجيب "سأرى من يكون".
ســمعه بــوب (فــورد) وهــو يفتــح البــاب الخارجــي ،تــم تســلل نحــو النافــذة ورأى ً
تمامــا تحتــه
قمــة قبعــة نســائية تختفــي ،ثــم تطــرق إلــى أذنيــه مــن الداخــل صــوت نســائي لــم يغــب عــن ذاكرتــه.
قال الصوت بحدة" :أين أنت ذاهب حاسر الرأس في هذه الساعة؟"
ّ
فأجــاب ســيمونز" :واللــه يــا حنــة -هنــاك -هنــاك شــخص فــوق يريــد أن ي ـراك ".وعلــى قــدر
مــا اســتطاع بــوب (فــورد) أن يــرى ،رأى رجـ ًـا يهــرول ر ً
اكضــا فــي الشــارع فــي عتمــة الغســق .يــا
للعجــب! لقــد كان تومــاس ســيمونز!
وصــل (فــورد) إلــى صحــن الــدرج فــي ثــاث خطــوات واســعة .كانــت زوجتــه مــا تـزال واقفــة
أمــام البــاب الخارجــي تحملــق فــي أثــر ســيمونز .فنكــص إلــى الغرفــة الخلفيــة وفتــح النافــذة
وتدلــى مــن ســقف بيــت الغســيل إلــى الفنــاء الخلفــي وتســلق مسـ ً
ـتميتا علــى الســياج ،واختفــى
فــي العتمــة ،ولــم يــره إنســان.
129
عشر
َ الصف الثّاين
130
ٌةفيدر ٌصصق -روك ملعملا رس
(فرانســيه مامــاي) عــازف مزمــار عجــوز ،يقبــل إلـ ّـي بيــن حيــن وآخــر ليقضــي الســهرة عنــدي.
ً
وقــد قــص علـ ّـي ذات مســاء ،حادثــا مــن أحــداث القــرى قــد شــهدته طاحونتــي منــذ نحــو مــن
عشــرين ســنة .ولقــد أشــجتني قصــة هــذا الرجــل الطيــب ،وســأحاول أن أرويهــا لكــم كمــا ســمعتها.
أ
تخيلوا لحظة ،أيها القراء العزاء ،أنكم جالسون ،وأن المتحدث إليكم ّزمار عجوز.
أ
دائمــا كمــا هــو اليــوم بلـ ًـدا ّمي ًتــا ال يرجــح اللحــان.
إن بلدنــا ،يــا ســيدي القاضــي ،لــم يكــن ً
يحضــر إليــه أهــل العــزب المتراميــة حولنــا لقــد كان فــي الزمــن الماضــي ســوقا رائجــا للطحــنّ ،
قمحهــم ليطحنــوه ...وكانــت الطواحيــن الهوائيــة تكســو جميــع هــذه التــال المحيطــة بالقريــة ،فــإذا َ
ّ
ســرحت بصــرك إلــى يميــن أو إلــى يســار لــم تكــن تــرى إل أجنحــة دائــرة مــع ريــح (المســترال)
أ
فــوق أشــجار الصنوبــر ،وأس ـر ًابا مــن الحميــر الصغيــرة محملــة بال كيــاس تنســاب فــي الطريــق
أ
صاعــدة هابطــة ،وكان يلــذ لــك أن تســمع طــوال الســبوع ،فــوق الربــوة ،فرقعــة الســياق وتمزيــق
أ
الكتــان وصيــاح أعــوان الطحانيــن ..حتــى إذا حــل يــوم الحــد ،ذهبنــا إلــى الطواحيــن زرافــات.
ً
بخاريــا علــى طريــق ً
مطحنــا غيــر أنــه خطــر لبعــض الفرنســيين مــن أهــل (باريــس) أن ينشــئوا
ً ً ً
مطحنــا جميــا طريفــا .فأخــذ النــاس يرســلون إليــه غاللهــم ،وتعطلــت طواحيــن (تاراســكون) .وكان
أ
الهــواء المســكينة .حاولــت أن تجاهــد بعــض الوقــت ،ولكــن البخــار كان القــوى ،فاضطــرت
-واحســرتاه -إلــى أن تقفــل أبوابهــا واحــدة بعــد واحــدة ...إذ ذاك لــم نعــد نــرى الحميــر الصغيــرة...
وباعــت الطحانــات حليهـ ّـن الذهبيــة ...وراحــت تهــب ريــح (المســترال) ،ولكــن أجنحــة الطواحين
أ
ظلــت ســاكنة ...ثــم جــاء يــوم هــدم فيــه "المجلــس المحلي"هــذه الطــال ودكهــا ،وبــذرت القريــة
ً مكانهــا ً
كرمــا وزيتونــا.
إال أن طاحونــة ظلــت قائمــة فــي وســط هــذا االنقــاب ،وظلــت تــدور فــي استبســال فــوق
أ
ال كمــة ،علــى الرقــم مــن لحــي أصحــاب المطحــن البخــاري .كانــت تلــك طاحونــة المعلــم
آ ّ
(كورنــي) ،وهــي هــذه التــي نحــن آخــذون الن فــي قضــاء ســهرتنا بهــا.
ً ً ً
متحمســا لمهنتــه. كان المعلــم (كورنــي) طحانــا عجــوزا ،يعيــش منــذ ســتين ســنة فــي الدقيــق
131
عشر
َ الصف الثّاين
132
ٌةفيدر ٌصصق -روك ملعملا رس
قمحــا منــذ أمــد بعيــد ،ومــع ذلــك فقــط ظلــت أجنحــة طاحونتــه تــدور بــا توقــف كمــا كانــت ً
ً
تــدور مــن قبــل ..وفــي المســاء كان القــوم يلقــون الطحــان الشــيخ فــي الطرقــات ســائقا أمامــه حمــاره
المحمــل بجوالــق الدقيــق الضخمــة ،فيهتــف بــه الفالحــون:
سيرا ً
حسنا؟ ـمساء الخير يا معلم (كورني)! أو يسير الطحن ً
فيجيبهم في جذل:
ّ
ـدائما يا أوالدي .الحمد لله ،ليس العمل هو الذي يعوزنا.
فــإذا ســألوه مــن أي فــج عســى أن يأتيــه كل هــذا الشــغل ،وضــع ً
إصبعــا علــى شــفتيه وأجــاب
فــي جــد:
أ
ـال تقولوا لحد! إني أعمل للتصدير...
وما كان امرؤ يظفر منه بأكثر من ذلك.
يومــا أن تــزج بأنفــك فــي طاحونتــه .فلــم تكــن لتدخلهــا حتــى ومــا كان ينبغــي أن تحــاول ً
الصغيــرة (فيفــت). ...
أ ً
مغلقــا ً
دائمــا ،والجنحــة الغليظــة دائــرة والحمــار وكنــت إذا مــررت بالطاحونــة ،رأيــت البــاب
ً ًّ
العجــوز يقضــم عشــب الفنــاء ،وقطــا مهــزول يصطلــي فــي الشــمس علــى طــرف النافــذة وينظــر
أ
إليــك نظــرة شــر ...وإنــك لتحــس فــي ذلــك كلــه سـ ًّـرا مــن الس ـرار.
و أطلــق ســر المعلــم (كورنــي) ألســنة النــاس بالكلام والحديــث .فـراح كل امــرئ يفســره علــى
ّ
طريقتــه ،ولكــن الــذي شــاع بيــن أهــل القريــة هــو أنــه لــم يــزل فــي تلــك الطاحونــة مــن أكيــاس
النقــود مــا يربــو علــى أكيــاس الدقيــق.
أ
و على مر اليام ظهر كل شيء؛ وإليك كيف كان ذلك:
ذهبت ذات مرة إلى الشيخ ،ليوافق على تزويج ابني من "فيفت".
لــم يتــح لــي الشــيخ أن أتــم الكمــي ،وإنمــا صــاح بــي فــي غيــر مراعــاة للــود أن أعــود إلــى
ً
مزمــاري ،وأن أذهــب إذا كنــت عجــا إلــى تزويــج ابنــي فابحــث عــن البنــات فــي المطحــن
البخــاري ...انظــر! لقــد صعــد بــي دمــي مــن ســماع هــذا الكلام الفــارغ ،غيــر أنــي كنــت مــن
133
عشر
َ الصف الثّاين
أ
العقــل بحيــن كظمــت نفســي ،فتركــت هــذا الشــيخ المجنــون لرحــاه ،ورجعــت أعلــن لــ�والد عــدم
موافقتــي ...لــم يســتطع الحمــان المســكينان أن يصدقــا :واســتعطفاني ســائلين أن آذن لهمــا بــأن
يصعــدا معــا إلــى الطاحونــة ليكلمــا الجــد ...فــإذا بــي ال أقــوى علــى أن أرفــض ســؤالهما ،وهاهمــا
حبيبــاي ذان قــد انطلقــا خفيفيــن!
وحينمــا بلغــا الربــوة كان المعلــم كورنــي قــد خــرج منــذ لحظــة .وكان البــاب مغلقــا بدورتــي
المفتــاح .غيــر أن الشــيخ الطيــب القلــب كان قــد نســي فــي ذهابــه ســلمه خــارج الطاحونة ،فســرعان
مــا خطــر للولديــن أن يدخــا مــن النافــذة ،ليســتطلعا بعــض الشــيء مــا كان فــي تلــك الطاحونــة
العجيبــة...
شــيء غريــب! كانــت حجــرة الرحــى خاويــة ...وال أثــر لجولــق وال لحبــة مــن القمــح ،وال أدنــى
َ
أثــر للدقيــق علــى الجــدران أو علــى أنســجة العنكبــوت ...ولــم تكــن تبلــغ شـ َّـمك تلــك الرائحــة
ّ
الطيبــة الحــارة ،رائحــة القمــح المســحوق التــي تتضــوع فــي أرجــاء الطواحيــن ...وكان مجثــم الطيــر
أ
يكســوه الغبــار ،والقــط العجــف راقـ ًـدا فوقــه.
وكان علــى الغرفــة الســفلى نفــس المظهــر ،مظهــر الشــيء البائــس المهجــور :ســرير رديء،
أ
وبعــض الخــرق وقطعــة مــن الخبــز علــى إحــدى درجــات الســلم ،ثــم فــي ركــن مــن الركان ثالثــة
أو أربعــة جوالــق مشــقوقة تنحــدر منهــا قطــع الجــص وينســاب منهــا ت ـراب أبيــض.
ّ
هنــا كان ســر المعلــم (كورنــي)! فإنــه هــو هــذا الجــص الــذي كان يــدور بــه فــي الطرقــات عنــد
ّ
المســاء ،لكــي ينقــذ شــرف الطاحونــة ويوحــي إلــى القــوم بأنهــا مــا زالــت تصنــع الدقيــق ...لــك اللــه
ّ
مــن طاحونــة مســكينة! ولــك اللــه يــا (كورنــي) المســكين! فمنــذ أمــد بعيــد قــد انتــزع أصحــاب
أ
المطحــن منهــا آخــر عمالئهمــا .ومضــت الجنحــة تــدور دائمــا ،وأمــا الرحــى فكانــت تــدور علــى
الفــارغ.
عــاد الولــدان دامعيــن يقصــان علـ َّـي مــا شــهدا فتمــزق قلبــي وأنــا أســمعهما ...ومــن غيــر أن
أ
أضيــع دقيقــة ،هرعــت إلــى الجي ـران وأخبرتهــم بالمــر فــي كلمتيــن ،فاتفقنــا علــى أنــه ينبغــي فــي
الحــال ،أن نحمــل إلــى طاحونــة (كورنــي) كل مــا فــي البيــوت مــن قمــح ...ومــا كان ينتهــي الكمنــا
حتــى أخذنــا فــي تنفيــذه ،وهــا هــي ذي القريــة كلهــا تســير فــي الطريــق ،وهــا نحــن نبلــغ الربــوة
فــي موكــب مــن الحميــر المحملــة بالقمــح -قمــح حقيقــي فــي هــذه المــرة!
134
ٌةفيدر ٌصصق -روك ملعملا رس
كانــت الطاحونــة مفتوحــة علــى مصراعيهــا ...وأمــام البــاب ،كان المعلم(كورنــي)ً ،
قابعــا علــى
كيــس مــن أكيــاس الجــص ،يبكــي ،ورأســه فــي كفيــه .فلقــد الحــظ ،حيــن عــاد منــذ قليــل ،أن امـرأ
نفــذ إلــى حرمــه وهتــك ســره المحــزن.
ّ آ
ـيا لي من شقي! الن لم يبق لي إل أن أموت ..لقد ثلب شرف الطاحونة.
ً أ وكان يشــهق شــهقات تمــزق النفــسً ،
مناجيــا إياهــا كأنهــا داعيــا طاحونتــه بشــتى الســماء،
شــخص حقيقــي.
وفــي هــذه اللحظــة تبلــغ الحميــر الفنــاء ،ونأخــذ نحــن فــي الصيــاح ً
عاليــا كأننــا فــي أيــام عــز
الطحانيــن.
ـهوي! طاحونة! ...هوي! يا معلم (كورني)!
أ
و هــا هــي الجوالــق تتكــدس أمــام البــاب ،وهــو هــو ذات الحــب الصهــب الجميــل ينســكب
أ
علــى الرض مــن كل جانــب...
فتــح المعلــم (كورنــي) عينيــن واســعتين .وأخــذ مــن القمــح فــي راحــة يــده الباليــة ،وجعــل
يقــول وهــو يضحــك ويبكــي ً
معــا:
ـإنه قمح! ...يارب يا موالي! ...قمح حقيقي! ...دعوني أنظر إليه.
ً
ثم يلتفت إلينا قائل:
ً
ـآه! لقــد كنــت واثقــا مــن أنكــم ســوف ترجعــون إلـ َّـي ...فــإن أصحــاب المطحــن البخــاري كلهــم
لصــوص.
و أردنا أن نحمله في مظاهرة إلى القرية:
ـال ال يــا أوالدي؛ ينبغــي قبــل كل شــيء أن أعطــي طاحونتــي لتــأكل ...أمــا تــرون! إنهــا لــم تضــع
شــيئا بيــن أســنانها منــذ أمــد بعيــد!
ً
جميعــا مشــهد هــذا الشــيخ ،يضطــرب إلــى اليميــن وإلــى اليســار، و اســتدر الدمــع فــي أعيننــا
أ
فيبقــر ال كيــاس ويراقــب الرحــى ،بينمــا ينســحق الحــب ويتطايــر قتــام القمــح الدقيــق إلى الســقف.
ومــن إالنصــاف لنــا أن نعلــم أننــا منــذ ذلــك اليــوم ،لــم نــدع الطحــان الشــيخ ســاعة بــا عمــل.
135
عشر
َ الصف الثّاين
ثــم ذات صبــاح ،مــات المعلــم (كورنــي) ،فتوقفــت عــن الــدوران آخــر طاحونــة لنــا ،وتوقفــت هــذه
أ أ
المــرة إلــى البــد ...لنــه مــات (كورنــي) ،لــم يخلفــه أحــد .مــاذا تريــد يــا ســيدي! ...فــإن لــكل
شــيء نهايــة فــي هــذه الدنيــا ،وينبغــي أن نؤمــن بــأن عصــر طواحيــن الهــواء قــد انقضــى ،كمــا
أ
انقضــى عصــر مراكــب المــاء علــى نهــر (الــرون) ،وعصــر (البرلمانــات) ،والســتر ذوات (الزهــار)
العريضــة.
136
ٌةفيدر ٌصصق ) -ناجيس( ديسلا ةزنع
137
عشر
َ الصف الثّاين
138
ٌةفيدر ٌصصق ) -ناجيس( ديسلا ةزنع
كذلــك صــاح الســيد (ســيجان) مشــدوها ،ومــن هــول الصدمــة ســقط إالنــاء مــن بيــن يديــه،
ثــم جلــس الرجــل فــي العشــب إلــى جانــب عنزتــه يقــول لهــا:
ـكيف يا (بالنكيت)؟ أتريدين أن تهجريني؟
فأجابت (بالنكيت):
ـنعم يا (مسيو سيجان)!
ـأو ينقصك العشب هنا؟
ـأوه الك يا (مسيو سيجان).
ـلعلك مشدودة إلى حبل قصير ،أتريدين أن أمد لك الحبل؟
ـوفر على نفسك هذا العناء يا (مسيو سيجان).
ّ
ـإذن فما الذي يلزمك؟ ماذا تريدين؟
ـأريد أن أذهب إلى الجبل يا (مسيو سيجان).
ـأفال تعلمين أيتها الشقية أن الذئب هناك؟ فماذا أنت فاعلة إذا أتى.
ـأقرعه بقرني يا (مسيو سيجان).
إن الذئــب ليســخر مــن قرنيــك .لقــد نهــش مــن معــزي ذوات قــرون ال يدانيهــا قرنــاك .أتعرفيــن
ّ
المســكينة (رينــود) التــي كانــت هنــاك الســنة الماضيــة؟ عنــزة رائعــة مــن ســيدات الماعــز ،قويــة
الشــكيمة ،شــريرة كالتيــس .لقــد باتــت تقــارع الذئــب الليــل كلــه ،وفــي الصبــاح أكلهــا الذئــب.
ّ
واأســفاه علــى (رينــود) المســكينة! اللــه يرحمهــا! غيــر أنــه ال بــأس علـ ّـي يــا (مســيو ســيجان)،
دعنــي أذهــب إلــى الجبــل.
ّ ّ
قــال الســيد (ســيجان)" :يــا رحمــة اللــه! ..فمــا هــذا الــذي كتبــه القــدر علــى أعنــزي؟ هــي ذي
أ
عنــز أخــرى ســيأكلها الذئــب منــي .ال ..ال ..لنقذنــك علــى الرغــم منــك أيتهــا المتمــردة! وخشــية
أن تقطعــي رســنك سأحبســك فــي مربــط الماشــية ،ولســوف تقيميــن فيــه أبـ ًـدا".
وهنــا زج الســيد (ســيجان) بالعنــزة فــي مربــط حالــك الظلمــة؛ أغلــق عليهــا بابــه بدورتــي
المفتــاح .بيــد أنــه مــن نكــد الحــظ نســي النافــذة ،فمــا كاد يديــر ظهــره حتــى أفلتــت العنــزة.
139
عشر
َ الصف الثّاين
أتضحــك يــا (جرنجــوار)؟ أضحــك! فإنــي موقــن أنــك مــن حــزب المعيــز ومــن خصــوم الســيد
(ســيجان) الطيــب .ولكنــا ســنرى إن كنــت ســتواصل الضحــك عمــا قليــل.
حينمــا بلغــت العنــزة البيضــاء الجبــل ،طــرب الجبــل عــن بكــرة أبيه وانتشــى .ما رأت شــجرات
الصنوبــر العتيقــة فــي حياتهــا شــيئا أرق مــن ذلــك فاســتقبلتها هنــاك اســتقبال ملكــة صغيــرة.
أ
وانحنــت أشــجار الكســتناء حتــى أديــم الرض لكــي تربــت عليهــا بذوائــب أغصانهــا .وتفتحــت
أ
أزهــار الرتــم فــي طريقهــا ،وفاحــت بالريــج جهدهــا؛ لقــد احتفــى بهــا الجبــل كلــه.
وإنــك لتقــدر يــا (جرنجــوار) كــم أضحــت عنزتنــا ســعيدة! ال رســن ،وال وتــد ،وال شــيء يعوقهــا
أ أ
عــن الوثــب كمــا تهــوى أو عــن الســوم كمــا تشــاء ...فهنــاك كان الكل� حقــا! لك يغطــي القرنيــن يــا
أ أ
عزيــزي! ...ويــا لــه مــن لك لذيــذ ،مهفهــف ،شــتيت اللــوان ..فمــا أبعــد مــا كان الفــرق بينــه وبيــن
أ
عشــب الحظيــرة! وناهيــك بالزهــار! ...زرقــاء عريضــة ،وحم ـراء قانيــة طويلــة الكــؤوس ،بــل قــل
غابــة بأكملهــا مــن الزهــر الطافــح بأصنــاف الرحيــق العاتيــة!...
ومضــت العنــزة البيضــاء نصــف ســكرى تتمــرغ فــي ذلــك النبــت ،ســيقانها فــي الهــواء ،محاذيــة
أ
تلــك المنحــدرات ،مختلطــة بــالوراق الســاقطة والكســتناء .ثــم تنهــض فجــأة فــي قفــزة واحــدة
أ أ
فتقــوم علــى أربــع .انظــر ،هــا هــي ذي قــد انطلقــت ورأســها ممــدود إلــى المــام خــال الح ـراش
أ
والدغــال ،تــارة تتســنم ذروة ،وتــارة تهبــط إلــى قــاع ،فكنــت تراهــا فــي عــل وفــي أســفل وفــي كل
مــكان حتــى ليخيــل إليــك أن فــي الجبــل عش ـرات عن ـزات للســيد (ســيجان).
ذلك أنها لم تكن خائفة من شيء ،تلك (البالنكيت).
ً
و جعلــت تقفــز ســيول كانــت تلطخهــا وهــي تعبرهــا بالغبــار البليــل والزبــد ،ثــم تــروح تتمطــط
والمــاء يقطــر منهــا علــى صخــرة ملســاء تجفــف فوقهــا جســمها فــي الشــمس ...وبينمــا هــي تتقــدم
علــى شــفا نجــد وبيــن أســنانها زهــرة مــن أزهــار القصــاص ،أبصــرت تحتهــا فــي حضيــض الســهل
بيــن الســيد (ســيجان) ومــن خلفــه الحظيــرة فأضحكهــا ذلــك حتــى اســتدر الضحــك مــن عينيهــا
الدمــوع .قالــت:
ـما أصغر هذا! كيف صبرت على المكث فيه؟
يــا للصغيــرة المســكينة! لقــد ظنــت وهــي واقفــة تشــرف علــى الدنيــا مــن حالــق أنهــا كبيــرة
أ
حجــم الدنيــا علــى القــل...
140
ٌةفيدر ٌصصق ) -ناجيس( ديسلا ةزنع
جملــة القــول ،لقــد طــاب يــوم عنــزة الســيد (ســيجان) .ونحــو منتصــف النهــار ،إذ كانــت
كرمــا ًّ
بريــا مــلء أســنانه. تعــدو ذات اليميــن وذات اليســار ،التقــت بقطيــع مــن الوعــل كان يقضــم ً
أ
فأثــارت عداءاتنــا الصغيــرة ذات الثــوب البيــض مشــاعر القــوم .ولقــد أفســح لهــا الجميــع أجمــل
ّ مــكان مــن الكــرم ،وأظهــر أولئــك الســادة ً
أدبــا ًّ
جمــا ...بــل ويبــدو -وهــذا ينبغــي أن يظــل سـ ًّـرا
ً
بيننــا يــا (جرنجــوار) -أن وعــا شـ ًّـابا أســود الجلــد أســعده الحــظ بــأن يقــع مــن قلــب (بالنكيــت)
موقعــا حسـ ًـنا ،فهامــا بيــن الغابــة ســاعة أو ســاعتين ،وإن أردت أن تعــرف مــاذا قــال كل لصاحبــهً
ّ
فاذهــب وســل الينابيــع الالغيــة التــي تنســاب تحــت الخضــرة ال يلمحهــا أحــد.
ًّ ً
بنفسجيا :لقد كان المساء ...قالت العنزة الصغيرة: وفجأة برد الهواء ،واكتسى الجبل لونا
آ
ـمنذ الن!
ووقفت مشدوهة.
وفــي أســفل الجبــل ،أمســت الحقــول يغمرهــا الضبــاب .وتــوارت حظيــرة الســيد (ســيجان)
ّ
فــي هــذا الضبــاب ولــم يعــد يــرى الناظــر مــن الــدار إل ســقفها ينبعــث منــه شــيء مــن الدخــان.
وأصاخــت إلــى أج ـراس قطيــع كان الرعــاة عائديــن بــه ،فاســتولى الحــزن علــى نفســها ...ومســها
بجناحيــه طائــر هابــط إلــى وكــره فارتعشــت ...ثــم انطلــق عــواء فــي الجبــل:
ـهووو!هووو!
فتذكــرت الذئــب ولــم تكــن الطائشــة قــد فكــرت فيــه مــن يومهــا كلــه ...وفــي تلــك اللحظــة هتــف
بــوق هنــاك فــي الــوادي بعيـ ًـدا .أنــه (المســيو ســيجان) لقــد كان هــذا الرجــل الطيــب يحــاول
محاولــة أخيــرة.
وعوى الذئب :هووو! هووو!
وصــاح البــوق :ارجعــي! ارجعــي! وودت (بالنكيــت) أن ترجــع ،لكنهــا إذ تذكــرت الوتــد
أ آ
والرســن وســياج الحظيــرة ،رأت أنهــا الن لــن تســتطيع أن تعيــش ذلــك العيــش ،وأن مــن الفضــل
لهــا أن تمكــث حيــث هــي.
وانقطع صوت البوق.
أ ً
وســمعت العنــزة وراءهــا حفيفــا مــن الوراق ،فالتفتــت ،وإذا هــي تــرى فــي الظــام أذنيــن
141
عشر
َ الصف الثّاين
142
ٌةفيدر ٌصصق ) -ناجيس( ديسلا ةزنع
143
عشر
َ الصف الثّاين
144
ٌةفيدر ٌصصق -بهذلا خملا يذ لجرلا ةروطسأ
145
عشر
َ الصف الثّاين
درج ،ونطــح بجبهتــه إحــدى درجــات الســلم المرمريــة حيــث رنــت جمجمتــه كأنهــا ســبيكة ،وظــن
القــوم أنــه مــات؛ ولكنهــم إذ أنهضــوه لــم يجــدوا ســوى جــرح خفيــف ،تصحبــه قطرتــان أو ثــاث
الشــقر ،وهكــذا عــرف الوالــدان أن للغــام ًّأ
مخــا قطـرات صغيــرة مــن الذهــب خاثــرة فــي شــعره
مــن الذهــب.
ً أ
وظــل الخبــر طــي الكتمــان؛ ولــم يــدر الصغيــر المســكين نفســه مــن المــر شــيئا كان يســأل
مــن حيــن إلــى حيــن :لمــاذا ال يدعونــه يجــري أمــام البــاب مــع غلمــان الشــارع كمــا كان يفعــل
مــن قبــل ،فكانــت تجيبــه أمــه:
ـلئال يسرقوك ،يا كنزي الجميل!
وهنــا كان الطفــل يخشــى أن يختطفــه أحــد؛ وكان يعــود فيســتأنف اللعــب وحــده ،دون أن
ً
يقــول شــيئا ،ويجــرر نفســه فــي ثقــل مــن غرفــة إلــى أخــرى...
ّ
وعندمــا بلــغ الثامنــة عشــرة ،كشــف لــه والــداه -إذ ذاك فقــط -سـ َّـر الهبــة الجبــارة التــي خصــه
بهــا القــدر ،ولمــا كان قــد ربيــاه وكفــاه حتــى ذلــك الوقــت ،فقــد طالبــاه بشــيء مــن ذهبــه مقابــل
ولــم يتــردد الولــد ،بــل انتــزع فــي الحــال مــن جمجمتــه -كيــف..؟ بــأي الوســائل..؟ هــذا.
أ
لــم تقــل الســطورة -كتلــة مــن الذهــب ،قطعــة غليظــة فــي حجــم الجــوزة ،ألقاهــا بفخــر علــى ركبتــي
ّ
أمــه ...ثــم وقــد بهرتــه مــوارد الثـراء التــي كان يحملهــا فــي رأســه ،هجــر بيــت أبيــه ومضــى يجــوب
الدنيــا مبـ ً
ـذرا كنــزه.
ومــن أســلوبه المتــرف فــي الحيــاة ،وإغراقــه فــي بــذخ الملــوك ،ونثــره الذهــب بال حســاب ،كان
مخــه زخــر ال ينضــب ...ولكنــه نضــب مــع ذلــك ،وكان الناظــر إليــه ً
يومــا بعــد يخيــل للجميــع أن ّ
َ
ـون ،جلــس ـون مجنـ ٍيــوم يســتطيع أن يــرى عينيــه تنطفئــان ووجنيتــه تغــوران .وأخيـ ًـرا ،غــداة مجـ ٍ
ّ
الفتــى البائــس وحــده بيــن فضــات الوليمــة والثريــات التــي أخــذ نورهــا يشــحب ،فأفزعــه النقــب
ّ
الهائــل الــذي قــد أحدثــه فــي ســبيكته ،يجــب إذن أن يتوقــف فــي الحــال.
ومنــذ ذلــك الوقــت بــدأ حيــاة جديــدة .راح ذو المــخ الذهبــي يعيــش فــي عزلــة ،مــن عمــل
ّ ً هيابــا كرجــل بخيــلً ،
مرتابــا ً
يديــهً ،
هاربــا مــن كل إغـراء ،محــاول أن ينســى هــو هــذا الثـراء الــذي
لــم يعــد بعــد ذلــك أن يمســه ....ولكــن مــن نكــد الحــظ كان صديــق لــه قــد تبعــه إلــى معتزلــه،
وكان هــذا الصديــق يعــرف ســره.
146
ٌةفيدر ٌصصق -بهذلا خملا يذ لجرلا ةروطسأ
147
عشر
َ الصف الثّاين
ّ ّ
المدافــن ،لــم يكــد يبقــى لــه شــيء مــن ذلــك المــخ العجيــب ،اللهــم إل جزئيــات عالقــة بعظــام
الجمجمــة.
ً
مترنحــا ،وفــي المســاء ،حيــن هنــاك رآه النــاس يهيــم فــي الشــوارع شــارد النفــس ،مـ ًّ
ـادا يديــه،
أ أ أ أ
تألقــت الســواق ،وقــف أمــام واجهــة متجــر عريضــة حافلــة بخليــط مــن القمشــة والحلــي يتــ�ل
أ ً أ
بيــن النــوار الموقــدة ،وظــل هنــاك طويــا يرنــو إلــى حــذاء رقيــق مــن الديبــاج الزرق يعلــو حافتــه
ً
إطــار مــن زغــب البجعــة .لقــد كان يقــول لنفســه وهــو يبتســم :إنــي أعــرف ام ـرأ ُيدخــل الســرور
عليــه هــذا الحــذاء ،وقــد أمســى ال يذكــر أن زوجتــه الصغيــرة قــد ماتــت ،دخــل ليشــتري الحــذاء.
148
ٌةفيدر ٌصصق -اريدروك اي اعادو
وداعا يا كورديرا
ليوبولدو آالس
كانوا ثالثة ً -
دائما نفس الثالثة( :روزا) و(بنيين) و(كورديرا).
كان مــرج (ســومونتي) رقعــة مثلثــة مــن الخضــرة المخمليــة انتشــرت كســجادة عنــد ســفح
آ
التلــة ،امتــد ضلعهــا الســفلي بعيـ ًـدا حتــى التقــى بخــط الســكة الحديديــة التــي مــن أفيــرو إلــى
جيجــون ،ووقــف عامــود التلغ ـراف كســارية العلــم فــي زاويــة الحقــل ،يمثــل بمنظــره لـــ(روزا)
مرهوبــا ومنسـ ًّـيا أبـ ًـدا.
ً و(بنييــن) العالــم البعيــد :عالــم مجهــول غامــض يجــب أن يبقــى
جديــا ،وهــو يرقــب العامــود الهــادئ المســالم ً المــر ً أ
يومــا بعــد يــوم، فبعــد أن قلــب (بنييــن)
ّ
توصــل نهائيــا إلــى االعتقــاد بأنــه ليــس إل شــجرة جافــة ،وإن الكــؤوس الزجاجيــة المعلقــة فــي
ّ
أعــاه مــا هــي إل نــوع مــن الفاكهــة الغريبــة .وبهــذا اكتســب مــن الثقــة مــا يكفيــه لكــي يتســلق
ً أ ّ أ
عليــه حتــى كاد يمــس الســاك .إل أنــه فــي تســلقه لــم تــدرك يــده الكــؤوس مطلقــا ،لنهــا ذكرتــه
ّ أ
بشــكلها ببعــض الوانــي ،ولــم يســتطع أن ينفــض عنــه شــعور الرهبــة إل بعــد أن كان ينزلــق ويثبــت
أ
رجليــه ثانيــة علــى الرض الخض ـراء بأمــان.
ً أ
غيــر أن (روزا) ،وهــي القــل جــرأة ولكنهــا أكثــر عشــقا للمجهــول ،كانــت تقنــع بالجلــوس
أ
تحــت عمــود التغلـراف لســاعات طويلــة ،تصغــي إلــى الريــح وهــي تجتــذب مــن الســاك أغنيــة
صافيــة ســاحرة وتمزجهــا بتنهــدات صــادرة مــن قلــب أشــجار الصنوبــر.
أ
ففــي بعــض الحيــان كانــت هــذه االهت ـزازات تســمع وكأنهــا موســيقا ،وكانــت لـــ(روزا) أشــبه
أ
بهمســات ترحــل عبــر الســاك مــن مجهــول إلــى مجهــول ،لــم يكــن لديهــا شــيء مــن حــب
آ
االســتطالع لتعــرف مــاذا يقــول النــاس مــن طرفــي الدنيــا المتقابليــن ،الواحــد منهــم للخــر ،لــم
يهمهــا ذلــك بكثيــر أو قليــل .إنمــا هــي تصغــي إلــى الصــوت لنغمتــه الجميلــة وغموضــه الغريــب.
ولكــن (كورديـرا) وقــد بلغــت مــن العمــر أنضجــه ،كانــت واقعيــة أكثــر مــن رفيقهــا .لقــد انــزوت
عــن العالــم ،وجعلــت تتأمــل عمــود التلغـراف مــن بعيــد ،وتفكــر بأنــه شــيء عديــم الحيــاة ال يصلــح
ّ
لشــيء إل أن تحــك نفســها بــه.
كانــت (كورديـرا) بقــرة رأت مــن الدنيــا كثيـ ًـرا ،كانــت تجثــم فــي الحقــل ســاعات طويلــة تقتــل
149
عشر
َ الصف الثّاين
150
ٌةفيدر ٌصصق -اريدروك اي اعادو
أ
الشــمس المحرقــة وبيــن طنيــن الحشـرات المتقاطــرة ،يرجعــون إلــى البيــت .وفــي المســاء الطويلة
الكئيبــة ينظــرون مجــيء الليــل مــرة أخــرى.
طالــت الظــال وهــدأت العصافيــر وبــزغ نجــم هنــاك فــي القســم المعتــم مــن الســماء،
وانعكســت فــي روحــي الطفليــن وداعــة الطبيعــة المســتكينة ،وفــي أثنــاء جلوســهما قــرب (كورديرا)
ّ
كانــا يلــوذان بأذيــال صمــت حالــم ،ال يشــوبه إل رنيــن ناعــم مــن جــرس البقــرة بيــن الحيــن والحين.
آ
كشــقي ثمــرة خضـراء ،هكــذا كان الطفــان يــازم الكهمــا الخــر وال يفارقــه .كانــا متحديــن بحنــان
قائــم علــى معرفتهمــا الضئيلــة عمــا كانــا غريزيــا فيهمــا وعمــا جعلهمــا شــخصين اثنيــن وامتــد هــذا
أ
الحنــان إلــى (كورديـرا) البقــرة الم ،وهــي بدورهــا قابلــت علــى قــدر طاقتهــا حــب الولديــن اللذيــن
كانــا مكلفيــن بحراســتها بحــب مماثــل علــى طريقتهــا التلقائيــة.
وكثيـ ًـرا مــا كانــت تعامــل بخشــونة كلمــا اشــتركت معهمــا فــي ألعابهمــا الصبيانيــة ،ولكنهــا فــي
ً كل مــرة تظهــر صبـ ًـرا وتسـ ً
ـامحا عجيبيــن وعطفــا تبديــه بكثيــر مــن التفكيــر والهــدوء.
ّ
غيــر أن (أنطــوان دي شــينتا) ،والــد الطفليــن لــم يكــن قــد امتلــك (ســومونتي) إل منــذ أمــد
قريــب ،فتمتعــت (كورديـرا) بامتيــاز هــذا المرعــى الخصيــب بعــد أن كانــت تضطــر إلــى التجــوال
ّ أ
فــي الطرقــات العامــة للحصــول علــى طعامهــا مــن العشــاب الزهيــدة التــي تنبــت علــى حواشــيها.
أ
ففــي تلــك اليــام العصيبــة مــن الفقــر والحرمــان كانــا (بنييــن) و(روزا) يبحثــان لهــا عــن
ّ
أحســن البقــع المالئمــة ويحميانهــا بوســائل شــتى مــن ســوء المعاملــة التــي تتعــرض لهــا الحيوانــات
أ
المضطــرة إلــى البحــث عــن قوتهــا فــي الراضــي العامــة.
ـادرا واللفــت مفقـ ً
ـودا ،كانــت البقــرة مدينــة و فــي أيــام الزريبــة الهزيلــة عندمــا كان العلــف نـ ً
للطفليــن عــن ألــف لفتــة صغيــرة ســهلت عليهــا الحيــاة وجعلتهــا أمـ ًـرا يطــاق.
وفــي تلــك الفتــرة المليئــة بالبطولــة الواقعــة بيــن بطولــة عجولهــا وبيــن فطامهــا ،عندمــا كان
ّ ّ
ينبعــث ذلــك الســؤال الــذي ال مفــر منــه عــن كميــة الحليــب الــذي يجــب أن تحصــل عليهــا
عائلــة ديشــنيتا ،ومــدى ضرورتــه بصغارهــا كنــت تجــد (بنييــن) و(روزا) يقفــان بجانــب (كورديـرا).
كثيـ ًـرا مــا كانــا يطلقــان س ـراح العجــل الصغيــر لينطلــق بفــرح جنونــي متعثـ ًـرا بــكل مــا يصادفــه
ً
فــي طريقــه ،بحثــا عــن الطعــام والحمايــة تحــت جســم والداتــه الرحــب ،بينمــا كانــت هــذه تلتفــت
برأســها نحــو الطفليــن بنظــرة ملؤهــا حنــان وامتنــان.
151
عشر
َ الصف الثّاين
إن روابــط كهــذه ال يمكــن أن تفصــم وذكريــات كهــذه ال يمكــن أن تمحــى ولكــن (أنطــون دي
ّ
شــينتا) توصــل إلــى أن أحالمــه الذهبيــة بتوســيع زريبتــه تدريجيــا لــن تتحقــق .إنــه باقتنائــه تلــك
البقــرة الوحيــدة بألــف اقتصــاد وحرمــان ،لــم يجــد نفســه عاجـ ًـزا عــن اقتنــاء بقــرة أخــرى فحســب،
بــل وجــد نفســه فــي النهايــة عاجـ ًـزا عــن دفــع إاليجــار ،لقــد رأي فــي (كوردي ـرا) ملكــه الوحيــد
يعتمــد عليــه ،ولكنــه تحقــق مــن أنهــا يجــب أن تبــاع رغــم اعتبارهــا إحــدى أفـراد العائلــة ،ورغــم
أ
وصيــة زوجتــه وهــي تلفــظ أنفاســها الخيــرة بــأن (تلــك البقــرة عمــاد حياتهــم فــي المســتقبل)،
أ
فبينمــا كانــت الم مضطجعــة علــى فـراش المــوت فــي غرفــة فصلــت عــن الزريبــة بحاجــز حيــك
مــن ســيقان الســنابل الجافــة ،حولــت أنظارهــا المجهــدة نحــو (كورديـرا) ،كأنهــا ترجوهــا بصمت أن
ّ
تكــون ًّأمــا ثانيــة للطفليــن ،وأن تمنحهمــا مــن الحنــان الــذي ال يفهمــه أبوهمــا ،فقــرر (أنطــوان دي
شــينتا) كل ذلــك ولــم يقــل للطفليــن عــن حاجتــه الملحــة لبيــع البقــرة.
أ
وفــي صبــاح أحــد اليــام ،وكان يــوم ســبت ،نهــض باكـ ًـرا وانتهــز فرصــة نــوم (روزا) و(بنييــن)،
ميم ًمــا وجهــة شــطر (جيجــون). وشــرع بقلــب مثقــل يســوق (كورديـرا) أمامــه ّ
ولمــا نهــض الطفــان كانــا فــي حيــرة مــن أمــر غيــاب والداهمــا المفاجــئ ،ولكنهمــا شــعرا
متيقنيــن بــأن البقــرة رافقتــه غيــر طائعــة.
ولمــا أرجــع والداهمــا الحيــوان فــي المســاء وهــو مرهــق مكســو بالغبــار -ليعطيهمــا سـ ًـببا لغيابــه-
أحســا بوقــوع الخطر.
لــم تبــع البقــرة ،إذ إنــه بمنطــق الحنــان والمــودة المصطنعيــن .كانــا قــد وضــع الســعر ً
عاليــا لكــي
ّ ً
ال يســتطيع أحــد دفعــه ،فــكان يتجهــم لــكل مشــتر منتظـ ًـرا واثقــا مــن أنــه ســيصل المبلــغ الــذي
قــرره بعنــاد .وكان يهــدئ مــن اضطـراب ضميــره بقولــه لنفســه أنــه متأكــد مــن رغبتــه فــي البيــع .إنمــا
ّ آ
الذنــب ذنــب الخريــن الذيــن ال يدفعــون الثمــن الــذي تســتحقه (كوردي ـرا) وهكــذا قفــل عائـ ًـدا
إلــى البيــت يرافقــه عــدد مــن جيرانــه المزراعيــن ،الذيــن كانــوا يســوقون مواشــيهم أمامهــم بمشــقة
ّ
تتوقــف شــدتها علــى قصــر أو طــول العشــرة التــي بيــن الحيــوان وســيده.
ّ
إمــا (بنييــن) و(روزا) فمــن اليــوم الــذي بــدا يشــكان فيــه بــأن هنــاك أمـ ًـرا مؤ ًلمــا ينتظرهمــا
لــم يرتــح لهمــا فكــر .وســرعان مــا تحققــت أســوأ مخاوفهمــا عنــد مــا ظهــر صاحــب البيــت وهــو
يتوعدهــم بإخــاء المــكان.
152
ٌةفيدر ٌصصق -اريدروك اي اعادو
153
عشر
َ الصف الثّاين
154
ٌةفيدر ٌصصق -تاملك
كلمات
السادســة جامعــا للكلمــات .لقــد بــدأ بفعــل ذلــك حيــن كان فــي ّ الس ّــيد (بلوشــال) ً كان َّ
الولــى .كان ً ّ أ
كتابــا والخمســين مــن عمــره ،بعــد قراءتــه لمجموعــة مختــارات مــن القصائــد للمــرة
َّ ـجية ،رغــم ّأن ّ صغيـ ًـرا ذا غــاف ورقـ ّـي علــى غالفــه زهــرة بنفسـ ّ
الرائحــة التــي تفــوح مــن الكتــاب
َّ َّ َ
ـورة ،فقــد كان للكتــاب رائحــة كريهــة ن ِت َنــة كالتــي تتســلل إلــى الكتــب كانــت تتنافــى مــع هــذه ّ
الصـ َ
َ ً بعــد قضائهــا ً
وقتــا طويــا فــي ق ْبـ ِـو الكتــب المســتعملة.
ـعرية .ورغــم ّأنــه كان يتـ ّ الشـ ّ ّ كان مــن الممكــن ّأل يشــتري َّ
ـردد السـ ّـيد (بلوشــال) المجموعــة
كتبــا مــن نمــط كتبــا .وعندمــا يفعــل كانــت ً ـادرا مــا اشــترى ً بانتظــام علــى متاجــر الكتــب ّإل ّأنــه نـ ً
تتألــف بشــكل أساسـ ّـي مــن ّ ّ مختلــف ً
الكتيبــات تمامــا .لقــد كان يمتلــك مكتبــة صغيــرة فــي منزلــه،
ّ المنزليــة مثـ ًـا .لــم يكــن لديــه ّ
لكنــه يعـ ّـد نفســه مط ًلعــا كثيـ ًـرا أي نبتــةّ ، ّ بالنباتــاتحــول االعتنــاء ّ
ّ أّ علــى الموضــوع ،أو ّ
كتيــب عــن القطــط ،لــم يكــن لديــه قطــة؛ لنــه يعانــي حساسـ ّـية مــن ِفرائهــا.
ـيتمكن مــن تقديــم نصائــح كثيــرة مفيــدة ،كمــا كان لديــه ّ ّ ْ
كتيــب عــن ولكـ ْـن إن ســأله أحدهــم فسـ
مجمــدة ،لكــن المعرفــة كانــت المجمــدات وإصالحهــا ،فــي الحقيقــة لــم يكــن بحاجــة إلــى ِّ ِّ صيانــة
ّ
أمـ ًـرا يســتحق َ
العنــاء.
الشـ ّ ّ
ـعرية مــن أجــل زهــرة الغــاف ،فقــد كان يعــرف باعتبــاره خبيــر لقــد قـ ّـرر شـراء المجموعــة
ّ
نباتــات أن زهــرة كهــذه ليســت موجــودة ،وكان هــذا سـ ّـر إغوائهــا لــه .أخــذ الكتــاب إلــى المحاســب
ّ ً ّ
اهتمامــا بالشــعر بشــيء مــن االضط ـراب ،فقــد بــدا مــن غيــر اللئــق لرجــل فــي عمــره أن يظهــر
بالنظــر إلــى ّ حظــه ّأن البائعــة لــم تنظــر إلــى الغــاف ،واكتفــت ّ ّ ّ
الســعر، الرومانسـ ّـي ،ومــن حســن
َّ وتناولــت ّ
النقــود التــي أعطاهــا لهــا.
الشـ ّ َّ ِّ َّ
ـخصية ،لكــن ـب بالطبــع ،ولــم يكــن ذلــك مــن واقــع خبرتــه كان يعــرف القليــل عــن الحـ
غالبــا بوعــي كهــذا ،وال يمكــن للمــرء أن يكــون بغيــر هــذا النــاس ً ضروريــا؟ يولــد ّ ًّ هــل كان ذلــك
ّ ً ّ ّ ّ
الشــكل ،حيــن بــدأ بقـراءة الكتــاب عــاوده إالحســاس بالتوتــر ،رغــم أنــه كان يقــرؤه وحيــدا ،حتــى
ـعرية يمكــن اعتبارهــا ِّ الشـ ّ ِّ َّ َّأنــه احمـ َّـر خجـ ًـا ،وشــعر ّ
كتي ًبــا بالراحــة عندمــا وجــد أن المجموعــة
ّ عــن الحـ ِّ
ـب ،وعندهــا أصبــح كل شــيء أكثــر ســهولة وبهجــة.
155
عشر
َ الصف الثّاين
156
ٌةفيدر ٌصصق -تاملك
مميــزة بـ ّ
ـأي لكنهــا ليســت َّ تمامــاّ . الخــرى َّالتــي لــم تكــن قبيحــة ً أ ً
الجميلــة وحدهــا هنــاك ،دونــا عــن
مركـ ًـزا .تســاءل بعــد أن أنهــى المجموعــة :مــا ّالــذي ســيفعله ً
تاليــا؟ لــم
ً َّ
الدفتــر جمــال شــكل .كان ّ
أ
ـس .هــل ســيتركه هكــذا؟ ســيبدو المــر كأنــه بالــكاد ُل ِمـ َ
َّ
قريبــا مــن االمتــاء ،بــل بــدا الدفتــر ً يكــن َّ
ّ كمــا لــو َّأنــه اقتطــع جـ ً
ـزءا مــن الجمــال فقــط .ال ،عليــه المتابعــة ،فالبـ ّـد أن هنالــك كلمــات جميلــة،
يتعيــن عليــه البحــث عنهــا؟ ـتحق ّكلهــا أن تكــون فــي مــكان واحــد ،لكــن أيــن ّ تسـ ّ
ً أول مــا يتبــادر إلــى ذهنــه ً ّ
طبعــا كان مجموعــة أخــرى مــن القصائــد .ال يمكــن أن يكــون مخطئا.
ّ ْ َّ
لكنــه إن واصــل لقــد قــال فــي نفســه :إن الكلمــات الجميلــة تحظــى بتعبيـرات رائعــة فــي القصائــد،
النــوع مــن الكتــب ،فســرعان مــا ســيفتضح أمــره ،يمكــن لمجموعتيــن أو ثــاث أن تمـ ّـر شـراء هــذا ّ
العامــة -ســيثير دون انتبــاه ،لكــن ثالثمئــة وخمســة وثالثيــن -العــدد ّالــذي رآه فــي فهــرس المكتبــة ّ
ْ ّ ّ
الســخرية بــا شــك .ال ،عليــه أن يفكــر بأمــر آخــر ،ولمعــت فــي ذهنــه فكــرة ملهمــة ثانيــة.
ّ
مــن قــال إن الكلمــات الجميلــة توجــد فــي القصائــد فقــط؟ ال بـ ّـد أنهــا توجــد فــي كتــب أخــرى،
ّ الكتيبــات ً وِلـ َـم ال تكــون فــي ِّ
أيضــا؟ لقــد صــار خبيـ ًـرا بمــا يكفــي إلدراك حقيقــة رائعــة؛ إن الكلمات
ّ
الجميلــة فــي كل مــكان ،وليســت البراعــة فــي اختيــار الكتــب بــل فــي اكتشــاف الكلمــات ،عليــك
تتمتــع بعيــن ثاقبــة تلتقطهــا. ْأن ّ
أ ّ
كان قــد ارتــاب فــي امتالكــه للمهــارة ،وكانــت هنالــك طريقــة ســهلة للتحقــق مــن المــر .جــذب
ّ ّأول ّ
كتيــب وقــع فــي متنــاول يــده وفتحــه .فــي تلــك اللحظــة كان قــد أعمــاه وهــج الكلمــات
ظللهــا بقلــم مشـ ّـع .لــم يســتطع مقاومــة ّ ّ ّ
الرغبــة فــي فتــح دفتــره والبــدء الجميلــة كمــا لــو أن أحدهــم
التفكيــر هــو مــا أوقفــه ،شــيء جعلــه يشــعر بالفخــر بحـ ّـق .ال يمكــن للمــرء أن يكــون بتدوينهــا .كان ّ
ّ
عفويــا جـ ًّـدا ،فإلــى أيــن ســيأخذه ذلــك؟ ســرعان مــا اســتولى عليــه التشــويش ،ال بـ ّـد أن يكــون ًّ
ّ ّ ّ ومنهجيــا ،وبعــد ّ ًّ ً
التفكيــر فــي الظــروف ،عثــر علــى الحــل الــذي هبــط عليــه مثــل الوحــي. حازمــا
ّ الدفتــر ّ الولــى مــن ّأ أ نازعتــه قليـ ًـا فكــرة تمزيــق ّ
حتــى يتمكــن مــن البــدء مــن الصفحــات الربــع
تخلــى عنهــا .ال يمكنــه بــدء مشــروع مهـ ّـم كهــذا فــي دفتــر ممســوخ؛ لــذا سـ ّ ّ جديــدّ ،
ـيتعين لكنــه
مالئمــا ،اختــار أكبــر دفتــر وجــده ،لقــد كان ّ
يتمتــع بميــزة عليــه شـراء دفتــر جديــد ،ســيكون هــذا ً
ّ ً
ـريطا ُم ْن َزِل ًقــا يتيــح لــه تعييــن ّ ّ
الصفحــة حيــث توقــف عــن الق ـراءة أو رائعــة ،ذلــك أنــه حــوى شـ
الكتابــة.
157
عشر
َ الصف الثّاين
158
ٌةفيدر ٌصصق -عيبلل لزنم
منزل للبيع
فــوق البــاب ،بــاب خشــبي واهــي المفاصــل ،يــدع رمــل الحديقــة الصغيــرة يختلــط بتربــة
أ
الطريــق علــى بســطة مــن الرض .كانــت الفتــة معلقــة منــذ أمــد بعيــد ،ســاكنة في شــمس الصيف،
أيضــا( :منــزل معذبــة تمكــو 1فــي ريــح الخريــف ،عليهــا( :منــزل للبيــع) ولعلهــا كانــت تقــول ً
مهجــور) ،فقــد كان الصمــت يكتنــف الــدار.
ّ ًّ ً ً ً
خفيضــا مزرقــا يصعــد مــن آجــر المدخنــة الــذي ولكــن ام ـرأ كان يقيــم هنــاك .فــإن دخانــا
ّ ً
يعلــو الجــدار قليــا ،كان ينـ ّـم عــن حيــاة خفيــة ،متكتمــة ،حزينــة كهــذا الدخــان الــذي ينبعــث
مــن نــار الفق ـراء .ثــم مــن خــال ألــواح البــاب المزعزعــة ،مــا كنــت تحــس إالهمــال والخــواء،
ً
بيعــا أو رحيــا ،بــل كنــت تــرى مم ـرات مســتقيمة التخطيــط وهــذا الجــو ّالــذي يســبق ويعلــن ً
ّ ُ ً
وع ُرشــا مســتديرة مشــذبة ،ومســاقي بجــوار الحــوض ،وأدوات بســتاني مســندة إلــى البيــت الصغيــر.
أ
لــم يكــن ذلــك الربــع ســوى بيــت مــن بيــوت الفالحيــن ،يتــوازن علــى هــذه الرض المنحــدرة
أ أ
بســلم صغيــر قــد نحــى الطابــق الول جهــة الظــل والطابــق الرضــي جهــة الجنــوب .ومــن تلــك
الجهــة كان يخيــل إليــك أنــه معمــل مــن معامــل إالنبــات ،فقــد رصــت علــى درجــات الســلم
أ
نواقيــس زجاجيــة ،وأصــص فارغــة مقلوبــة ،منضــودة علــى الرمــل البيــض الســاخن ،وأخــرى قــد
نمــا فيهــا (الجيرانيــوم) و(الفرفيــن) ،بيــد أن الحديقــة كلهــا ،فيمــا عــدا شــجرتين أو ثالثــا مــن شــجر
الســرج الفــارع ،كانــت تحــت وهــج الشــمس .وكانــت تمتــد فــي النــور الســاطع مروحــة مــن أشــجار
الفاكهــة ،قائمــة علــى أســاك حديديــة ،أو معروشــة ،وقــد انتزعــت بعــض أوراقهــا ،إعـ ً
ـدادا للثمــرة
ً ليــس غيــر ،كمــا اصطفــت ً
أيضــا أغـراس مــن الشــليك وأغـراس مــن البــازالء تتســلق قضبانــا طويلــة
أ
مثبتــة فــي الرض .وفــي وســط هــذا كلــه ،وســط هــذا النظــام وهــذا الهــدوء ،كان رجــل عجــوز ذو
قبعــة مــن الخــوص يجــوس خــال المســالك طــول النهــار ،يــروي فــي الســاعات الرطيبــة ،ويقتطــع،
أ أ
ويشــذب الغصــان ،ويســوي الفاريــز.
ّ ّ
هــذا الشــيخ لــم يكــن يعــرف أحـ ًـدا فــي البلــد .لــم يكــن يطرقــه زائــر قــط -اللهــم إل عربــة
ً ّ
الخبــاز التــي كانــت تقــف بــكل بــاب فــي شــارع القريــة الوحيــد -وأحيانــا كان يــرى الالفتــة عابــر
159
عشر
َ الصف الثّاين
ّ
مــن النــاس يلتمــس قطعــة مــن أراضــي الســفح هــذه الغنيــة الخصبــة التــي تمنــح بســاتين جميلــة،
أ
المــر ،فــإذا البيــت أصــم .ثــم يقــرع ً
ثانيــا ،فيدنــو مــن أقصــى الحديقــة وقــع فيتوقــف .يقــرع أول
(قبقــاب) فــي بــطء وتــؤدة ،ويــوارب الشــيخ بابــه متجهــم الوجــه:
ـماذا تريد؟
ـهل المنزل للبيع؟
فيجيب الرجل الطيب القلب في جهد:
غاليا ًّ
جدا... مقدما إنهم يطلبون عنه ً
ثمنا ً ـنعم ...ولكنني أقول لك ً
وكانــت يــده المتأهبــة إلغــاق البــاب تســده عليــك .وكانــت عينــاه تطردانــك ،فمــا أشــد مــا
قائمــا كالفــارس علــى حراســة أحواضــه وخضــره كانتــا تظه ـران مــن الســخط ،وكان يظــل هنــاك ً
وفنائــه الصغيــر المفــروش بالرمــل .وإذ ذلــك كان النــاس يتابعــون ســبيلهم وهــم يســائلون أنفســهم:
ّ ّ
مــن ت ـراه يكــون هــذا المخبــول الــذي عرضــوا لــه؟ وأي جنــون هــذا الــذي يحملــه علــى إالعــان
عــن بيــع منزلــه بهــذه الرغبــة الملحــة فــي االحتفــاظ بــه؟
ً
وأخيـ ًـرا وضــح لــي هــذا الســر .ذات يــوم ،وأنــا مــار أمــام البيــت الصغيــر ،ســمعت أصواتــا
ـب مناقشــة حاميــة: ثائــرة ،صخـ َ
160
ٌةفيدر ٌصصق -عيبلل لزنم
ً
مبتهجــا وقــد ظفــر بمهلــة ـرعا فيغلــق مــن جديــد بابــه الغليــظ سـ ً
ـعيدا بضــع خطــوات يعــود مسـ ً
أمامــه لمــدة أســبوع .ويســتعيد البيــت ســكونه ،ويظــل ســاكنا ثمانيــة أيــام ،فمــا تســمع فــي الحديقة
الصغيــرة ّالتــي تلفحهــا الشــمس ّإل صــوت الرمــل يســحقه ُ
وطء قــدم ثقيلــة أو تجرفــه المجرفــة.
علــى أنهــم مــن أســبوع إلــى أســبوع راحــوا يضيقــون الخنــاق علــى الشــيخ .ولــم يدخــر التجــار
أ
الصغــار وســيلة مــن الوســائل ،أحضــروا الحفــاد إلغرائــه( :أتــرى يــا جدنــا حيــن يبــاع البيــت
ً ســتأتي لتســكن معنــا .وكــم ســنكون ســعيدين ً
معــا!) ثــم كانــت أحاديثــا متفرقــة يلقيهــا كل امــرئ
لنفســه فــي ركــن مــن أركان البيــت علــى حــدة ،ومشــي خــال مم ـرات الحديقــة ال يقــف عنــد
حــد ،ومســائل حســابية يجريهــا بصــوت مرتفــع .ومــرة ســمعت إحــدى البنــات تصيــح:
ـهذا الخص 1ال يساوي مائة سو ...2إنه خليق بأن يهدم.
ً
وكان الشــيخ يصغــي دون أن يقــول شــيئا .كانــوا هــم يتكلمــون عنــه كأنــه قــد مــات ،وعــن
داره كأنهــا قــد هدمــت بالفعــل .فــكان يتجنبهــم ويمشــي ،أحــدب الظهــر ،والدمــوع مــلء عينيــه،
ّ ملتمســا كعادتــه ً
ً
غصنــا يشــذبه أو ثمــرة يعنــي بهــا فــي أثنــاء مــروره ،وإنــك لتحــس أن حياتــه
ً أ
قــد تغلغلــت جذورهــا فــي هــذا الركــن الصغيــر مــن الرض تغلغــا لــن يبعــث فيــه القــدرة علــى
اجتثــاث نفســه منــه .والحــق أنــه كان -مهمــا تفننــوا فــي إغرائــه -يرجــئ ً
دائمــا لحظــة الرحيــل .فــي
ّ
الصيــف حيــن تنضــج هــذه الثمــار التــي يوحــي إليــك مذاقهــا الحمضــي بعــض الشــيء بــأن الســنة
مــا زالــت فــي نضرتهــا وريعانهــا ،ثمــار الكــرز ،والبرقــوق ،والمشــمش ،كان يقــول:
ـلننتظر المحصول ...سأبيع بعده مباشرة.
وبعــد المحصــول ،بعــد انقضــاء موســم الكــرز ،يأتــي موســم الخــوخ ،ثــم العنــب ،وبعــد العنــب
ّ
تأتــي ثمــار (النيفــل) الســمراء الجميلــة التــي يــكاد المــرء يجنيهــا تحــت الجليــد .وحينئــذ يصــل
آ
الشــتاء فيســود الريــف ،وتخلــو الحديقــة .الن ال مــارة ،وال ش ـراة ،بــل وال التجــار الصغــار يــوم
أ
الحــد ،وإنمــا ثالثــة أشــهر عريضــة مــن الراحــة إلعــداد البــذار ،وتقليــم الفاكهــة ،بينمــا تتأرجــح
علــى الطريــق الالفتــة الباطلــة ،وقــد قلبهــا المطــر والريــح.
أ أ
وعلــى مــر اليــام ،فــرغ صبــر البنــاء ،واقتنعــوا بــأن الشــيخ كان يبــذل كل مــا فــي وســعه
أ ّ
الخص :بيت من قصب أو من أغصان الشجار. )1
)2سو :قطعة بازل.
161
عشر
َ الصف الثّاين
إلقصــاء المشــترين ،فاتخــذوا ق ـر ًارا حاسـ ًـما .قدمــت إحــدى الكنــات واســتقرت بجانبــه ،وتلــك
امـرأة صغيــرة مــن نســاء الدكاكيــن حاليــة منــذ الصبــاح ،بارعــة فــي إظهــار الحفــاوة وتكلــف الرقــة
والتلطــف فــي المجاملــة براعــة الذيــن اعتــادوا التجــارة .وكأن الطريــق قــد أصبــح ملكهــا .فقــد
كانــت تفتــح البــاب علــى مصراعيــه ،تتحــدث وتلغــو ،وتبتســم للمــارة كأنمــا تقــول لهــم:
ـادخلوا ...انظروا ...إن المنزل للبيع!
ً
ولــم تعــد للشــيخ المســكين مهلــة بعــد ذلــك .أحيانــا كان يحــاول أن ينســى أنها هنــاك ،فينصرف
إلــى تقليــب حياضــه وبذرهــا مــن جديــد ،كهــؤالء النــاس الذيــن يوشــكون علــى المــوت ويحبــون
القيــام بمشــروعات ليخدعــوا مخاوفهــم .ولكــن البائعــة كانــت تتبعــه طيلــة الوقــت وتنغــص عليــه.
ـدع! ما انتفاعك بهذا؟ ..أو من أجل سواك تجشم نفسك كل هذا التعب؟
فمــا كان يجيبهــا ،وإنمــا كان ينكــب علــى عملــه فــي عنــاد غريــب .إن تــرك حديقتــه لعيــن
إالهمــال ،معنــاه فقدانهــا بعــض الفقــدان منــذ ذلــك الوقــت ،وبــدء انفصالــه عنهــا .ولهــذا مــا كنــت
غصنــا ًّ
طفيليــا. ـودا واحـ ًـدا مــن العشــب ،وال فــي شــجيرات الــورد ً تجــد فــي المم ـرات عـ ً
ً ً
معروضــا للبيــع ،ولكــن الشـراة لــم يتقدمــوا .ذلــك أن الحــرب قــد نشــبت .وعبثــا وظــل البيــت
ثابــرت الم ـرأة علــى فتــح بابهــا ،وإرســال النظ ـرات المعس ـولة إلــى الطريــق ،فلــم يكــن يمــر غيــر
ّ أ
النازحيــن عــن الرض ولــم يكــن يدخــل إل الغبــار .واشــتد غيــظ الســيدة مــن يــوم إلــى يــوم ،وال
لومــا ً
وتأنيبــا، ســيما وقــد كانــت أعمالهــا فــي (باريــس) تســتدعيها :كنــت أســمعها توســع حماهــا ً
ً أ
وتقســو فــي الهجــوم عليــه ،وتخبــط البــواب ،وأمــا الشــيخ فــكان يحنــي ظهــره دون أن يقــول شــيئا،
ويتعــزى إذ يبصــر بــازاله الصغيــرة تنمــو ،والالفتــة معلقــة فــي مكانهــا ً
دائمــا( :منــزل للبيــع).
وفــي هــذا العام،عندمــا وصلــت إلــى الريــف وجــدت المنــزل ،وعرفتــه ولكــن واحســرتاه لــم
تكــن الالفتــة هنــاك! كانــت إعالنــات ممزقــة باليــة لــم تبــرح عالقــة بأوجــه الجــدران .لقــد قضــي
أ
المــر ،وباعــوه! ..وفــي مــكان البوابــة الرماديــة الكبيــرة أصبــح ًبابــا أخضــر حديــث الطــاء ،تعلــوه
عتبــة مســتديرة ،وتنفتــح فيــه نافــذة ذات قضبــان تلــوح مــن ورائهــا الحديقــة .ولــم تعــد الحديقــة
ً ذلــك البســتان ّالــذي كنــت أعهــده هنــاك ً
قديمــا ،بــل غــدت خليطــا بورجوازيــا مــن الســال،
والخضــرة ،ومســاقط المــاء وصــورة لهــذا كلــه تنعكــس علــى كــرة معدنيــة تتأرجــح أمــام الــدرج.
أ ً
وفــي هــذه الكــرة ،بــدت المم ـرات صفوفــا مــن الزهــار الزاهيــة ،وامتــد شكلان فــي كثيــر مــن
162
ٌةفيدر ٌصصق -عيبلل لزنم
المبالغــة والتهويــل :رجــل ســمين أحمــر ،غــارق فــي عــرق غزيــر ،غائــص فــي كرســي مــن كراســي
أ
النزهــة الخاويــة ،وســيدة ضخمــة الهثــة النفــاس ،تصبــح وهــي تطــرح مســقاة بيدهــا:
ثمنا للبلسمين أربعة عشر؟ ـلقد دفعت ً
ّ ً
وكانــوا قــد شــيدوا طابقــا ،وجــددوا الســياج ،وفــي هــذا الركــن الصغيــر المســتطرف ،الــذي
مازالــت تفــوح منــه رائحــة الطــاء ،كان (بيانــو) يعــزف مــلء الريــح مقطوعــات صاخبــة شــائعة
ّ أ
وألحانــا جذلــى ممــا تــردده حلبــات الرقــص العامــة .وهــذه النغــام الراقصــة التــي كانــت تنطلــق إلى
أ
الطريــق نابضــة حــارة مختلطــة بقتــام يوليــة الكثيــف ،وعجيــج تلــك الزهــار الضخمــة ،والســيدات
الضخمــات ،هــذا المــرح الفيــاض الغامــر ،هــذا المــرح الســوقي المبتــذل ،كان يقبــض قلبــي.. ْ
وادعــا سـ ً
ـعيدا ،ثــم أتمثلــه فــي اضيــا ًكنــت أفكــر فــي الشــيخ المســكين ّالــذي كان يتمشــى هنــا ر ً
(باريــس) ،وقبعــة الخــوض علــى رأســه ،وحدبــة البســتاني العجــوز فــي ظهــرهً ،
هائمــا فــي أعمــاق
ً ً
ضيقــا بأمــرهً ،
حييــا ،مســحونا بالدمــوع ،بينمــا تتبــوأ زوجــة ابنــه الظافــرة خزانــة جديــدة، دكان مــا،
تــرن فيهــا قطــع ذهبيــة هــي ثمــن البيــت الصغيــر.
163
عشر
َ الصف الثّاين
164
ٌةفيدر ٌصصق -بابشلا عوبني
ينبوع الشباب
ناثانيل هوثورن
دعــا رجــل فريــد فــي زمانــه يدعــى الدكتــور (هايديغــر) أربعــة مــن أصدقائــه المحترميــن
ً
ليجتمعــوا إليــه فــي مكتبــه؛ كان ثالثــة منهــم رجــال ذوي ًلحــى بيضــاء ،هــم الســيد (مدبــورن)،
أ
والكولونيــل (كيليغــرو) ،والســيد (غاســكون) ،والرابعــة ســيدة مســنة ذاويــة تدعــى الرملــة
(ويشــرلي).
كانــوا جميعهــم مســنين ذوي مــزاج ســوداوي ،تعســاء فــي حياتهــم ،مصيبتهــم الكبــرى فــي
الحيــاة أنهــم لــم يــواروا فــي قبورهــم منــذ زمــن طويــل؛ كان الســيد (مدبــورن) إبــان شــبابه تاجـ ًـرا
آ
ناج ًحــا ،ولكنــه أضــاع كل مــا يملكــه فــي مضاربــة جنونيــة حيــث أصبــح الن ال يفضــل المتسـولين ِ
ً ّ
إل قليــا .أمــا الكولونيــل (كيليغــرو) فقــد أتلــف أحســن ســنيه وصحتــه وكل مــا يعيــش عليــه فــي
آ
مطــاردة ملــذات الخطيئــة ،حتــى ســببت لــه سلســلة مــن الالم كــداء النقــرس ،ومــا إليــه مــن
ًّ ً أوجــاع تعــذب الجســد والــروح ً
مقضيــا عليــه، معــا .ولكــن الســيد (غاســكون) كان سياسـ ًـيا فاشــا
أ ً
ورجــا ذا شــهرة ســيئة ،أو علــى القــل كان ذلــك حتــى طمــره الزمــان مــن معرفــة الجيــل الحاضــر،
وجعلــه مغمـ ً
ـورا إضافــة إلــى أنــه ســيء الســمعة.
أ
أمــا الرملــة (ويشــرلي) فقــد أثــر عنهــا أنهــا كانــت ذات جمــال فتــان فــي شــبابها ،ولكنهــا لزمــن
أ
طويــل مضــى عاشــت فــي عزلــة بســبب حكايــات مــ�ى بالفضائــح ،ممــا جعــل الطبقــة النبيلــة
ً
فــي البلــدة تتحامــل عليهــا .وممــا هــو جديــر بالذكــر أن لك مــن هــؤالء الثالثــة( :الســيد مدبــورن،
ً أ
والكولونيــل كيليغــرو ،والســيد غاســكون) كان يتــودد للرملــة (ويشــرلي) ،وأن لك منهــم كان مــرة
آ
علــى وشــك أن يفتــك بالخــر بســببها.
أ
وقبــل أن أتابــع قصتــي أود أن ألمــح أن الدكتــور (هايديفــر) وضيوفــه الربعــة قــد قيــل عنهــم
ـادرا مــع أنــاس مســنين جميعــا أن عقولهــم ليســت علــى مســتواها الطبيعــي ً
تمامــا ،وهــذا ليــس نـ ً ً
مثقليــن إمــا بمنغصــات الحاضــر أو بذكريــات تعاســة ماضيــة.
قــال الدكتــور (هايديغــر) وهــو يشــير إليهــم بالجلــوس" :إنــي أرغــب يــا أصدقائــي القدامــى أن
165
عشر
َ الصف الثّاين
ّ
تســاعدونني فــي تجربــة مــن تلــك التجــارب التــي امتــع نفســي بهــا هنــا فــي مكتبــي".
إذا صدقــت كل الروايــات ،فــإن مكتــب الدكتــور (هايديغــر) يجــب أن يدعــو إلــى االســتغراب
جـ ًّـدا .فهــو غرفــة معتمــة علــى الطـراز القديــم ،موشــاة بأنســجة العنكبــوت ومنثــورة بأغبــرة أثريــة.
وحــول الجــدران قامــت عــدة مكتبــات مــن خشــب البلــوط ،اكتظــت رفوفهــا الســفلى بصفــوف
مــن مجلــدات ضخمــة بأحــرف ســوداء .وفــوق المكتبــة الوســطى وقــف تمثــال نصفــي مــن البرونــز
أ
لبــي الطــب أبق ـراط الــذي -بموجــب مصــادر يوثــق بهــا -كان مــن دأب الدكتــور (هايديغــر) أن
يأخــذ بمشــورته فــي جميــع القضايــا الصعبــة مــن تجاربــه ،وفــي أظلــم زاويــة مــن الغرفــة انتصبــت
خزانــة عاليــة ضيقــة مــن الســنديان ،بابهــا مفتــوح نصــف فتحــة ،يطــل مــن خاللهــا هيــكل عظمــي،
وبيــن المكتبتيــن علقــت مــرآة صفحتهــا الصقيلــة مغبــرة ،وهــي فــي إطــار مذهــب متســخ .ومــن
ّ
بيــن الحكايــات العجيبــة العديــدة التــي راجــت حــول هــذه المــرآة خرافــة تقــول :إن أرواح جميــع
المرضــى الذيــن ماتــوا علــى يــد الدكتــور ســكنت فــي نطاقهــا ،لتحملــق فــي جهــة كلمــا ألقــى نظــرة
عليهــا ،وفــي الجهــة المقابلــة مــن الغرفــة انتصبــت صــورة مزخرفــة فــي الحجــم الطبيعــي لفتــاة فــي
أ
ريعــان الشــباب فــي حلــة مــن الحريــر والطلــس والقمــاش المشــجر ،ذهــب بهاؤهــا كمــا ذهــب
بهــاء محياهــا.
قبــل أكثــر مــن نصــف قــرن كان الدكتــور (هايديغــر) علــى وشــك الــزواج مــن هــذه الفتــاة
آ
الشــابة ،ولكنهــا ماتــت عشــية زفافهــا .والن بقــي هنــاك شــيء واحــد ممــا يثيــر أشــد االســتغراب،
مجلــد ضخــم ثقيــل مغلــف بجلــد أســود مكســو بشــبكة فضيــة ضخمــة ،لــم تكــن هنــاك أيــة كتابــة
علــى ظهــره ،وال أحــد اســتطاع أن يتكهــن بعنــوان الكتــاب.
هكــذا كان مكتــب الدكتــور (هايديغــر) .وفــي عصــر ذلــك اليــوم الصيفــي مــن قصتنــا هــذه،
أ
انتصبــت مائــدة صغيــرة مســتديرة ،ســوداء كالبنــوس ،فــي منتصــف الغرفــة ،عليهــا إنــاء زجــاج
صخــري بديــع الشــكل والصنــع ،ودخلــت أشــعة الشــمس مــن الشــباك مــن فرجــة ســتار مــن
الدمقــس حائــل اللــون مزركــش الحواشــي ،ونفــذت مباشــرة خــال هــذا إالنــاء ،فانعكــس منــه
أ
بهــاء لطيــف علــى محيــا الشــخاص الخمســة الرماديــة الجالســين حولــه .وكانــت هنــاك أربــع
كــؤوس خاليــةُ ،وضعــت ً
أيضــا علــى المائــدة.
ً
كــرر الدكتــور (هايديغــر) قائــا" :يــا أصدقائــي المســنين هــل لــي أن اعتمــد علــى مســاعدتكم
166
ٌةفيدر ٌصصق -بابشلا عوبني
167
عشر
َ الصف الثّاين
168
ٌةفيدر ٌصصق -بابشلا عوبني
ستكتســبونها ،إذا لــم تصبحــوا نمــاذج للفضيلــة والحكمــة لجميــع شــباب العصــر".
ّ أ
لــم َي ِف ْــه أصدقــاء الدكتــور الربعــة بــأي جــواب -اللهــم -ســوى ضحكــة مرتعشــة ضعيفــة،
لقــد كانــت الفكــرة ســخيفة جـ ًـدا ،إنهــم سيشــطون مــرة أخــرى وهــم يعرفــون مــا أقــرب خطــوات
الندامــة أثــر خطــوات الزلــل.
أ ِّ ْ
قــال الدكتــور وهــو ينحنــي" :اشــربوا إذن ،وكــم يســرني أننــي وفقــت بانتقــاء الشــخاص
لتجربتــي هــذه".
أ
وبأيــد مشــلولة رفــع الربعــة الكــؤوس إلــى شــفاههم .فــإذا كان الش ـراب يمتلــك تلــك المزايــا
ّ
التــي أســبغها الدكتــور (هايديغــر) ،لــم تكــن هنــاك مخلوقــات أربعــة بحاجــة إليــه أكثــر منهــم ،كان
َ ً
مظهرهــم يــدل كأنهــم لــم يعرفــوا الشــباب مطلقــا ،كأنهــم نتــاج مجتمــع خـ ِـر ٍف ،أنــاس شـ ّـيب أبـ ًـدا،
آ ّ تعيســون ً
دائمــا ،عاجــزون ،جفــت عصــارة الحيــاة فــي عروقهــم ،يجلســون الن منحنيــن حــول
مائــدة الدكتــور دون حيــاة كافيــة فــي أرواحهــم أو أجســامهم تنتعــش حتــى بفكــرة رجوعهــم إلــى
الشــباب ،كرعــوا المــاء ،وأرجعــوا كؤوســهم إلــى المائــدة.
ّ َ
ـان َت ُّ
مصحوبــا بتوهــج فجائــي كالــذي ً حسـ ٌـن فــوري ال شــك فيــه علــى ســيماء الجماعــة، لقــد بـ
تحدثــه أشــعة الشــمس؛ تألقــت وجوههــم مــرة واحــدة ،وســرى فــي وجناتهــم احمــرار الصحــة
أ ّ والعافيــةً ،
عوضــا عــن ذلــك اللــون الرمــادي الــذي كان يظهرهــم كالمــوات ،ونظــر كل منهــم فــي
ّ أ ً
وجــه صاحبــه ،وتخيــل أن هنــاك قــوة ســحرية قــد بــدأت فعــا فــي صقــل الخاديــد العميقــة التــي
أ
حفرهــا الزمــان مــن أمــد بعيــد علــى جباههــم ،فأخــذت الرملــة (ويشــرلي) فــي إعــادة وضــع قبعتهــا
أ
مــن جديــد؛ لنهــا كادت تشــعر أنهــا امـرأة ثانيــة....
آ
وأخــذوا يهتفــون بلهفــة" :زدنــا مــن هــذا المــاء العجيــب! نحــن أصغــر الن ،ولكننــا مازلنــا
ْ
أســرع وزدنــا!" َهر َ
ميــن! ِ
فقــال الدكتــور (هايديغــر) وهــو جالــس يرقــب التجربــة ببــرود فلســفي" :صبـ ًـرا ..صبـ ًـرا ،لقــد
طــال الزمــان بكــم حتــى هرمتــم ،فمــن إالنصــاف أن تقنعــوا بــأن ترجعــوا إلــى الشــباب فــي نصــف
ســاعة فقــط! ولكــن المــاء تحــت تصرفكــم".
أ
فمــ� كؤوســهم مــرة أخــرى بش ـراب الشــباب ،وقــد بقــي منــه فــي إالنــاء مــا يكفــي إلرجــاع
أ
نصــف شــيبة المدينــة إلــى عمــر أحفادهــم ،اختطــف ضيــوف الدكتــور الربعــة كؤوســهم مــن علــى
169
عشر
َ الصف الثّاين
170
ٌةفيدر ٌصصق -بابشلا عوبني
فأجــاب الدكتــور المضيــاف" :بــكل تأكيــد يــا ســيدتي العزيــزة ،بــكل تأكيــد! انظــري لقــد
ً أ
مــ�ت الكــؤوس ســلفا".
أ
وأيــم الحــق لقــد انتصبــت هنــاك الكــؤوس الربعــة مترعــة مــن هــذا المــاء العجيــب ،ورشاشــه
ّ
الــذي كان يتطايــر عنــد فورانــه يشــبه بريــق المــاس .وكان قــد اقتــرب غــروب الشــمس ،وأمســت
ً ً
ـاء رقيقــا أشــبه بضــوء القمــر شــع مــن داخــل
الغرفــة معتمــة أكثــر مــن أي وقــت مضــى ،ولكــن بهـ
أ
إالنــاء ،واســتقر علــى الضيــوف الربعــة ،وعلــى قــوام الدكتــور المحتــرم ،وقــد جلــس علــى كرســي
ّ
عالــي الظهــر متقــن الصنــع والحفــر ،جليــل الهيئــة أشــيب الـرأس ،يليــق شــكله بالرجــل الــذي لــم
يســتطع أحــد أن يناقــش ســطوته ســوى هــذه الجماعــة المحظوظــة .وبينمــا هــم يكرعــون ثالــث
جرعــة مــن مــاء ينبــوع الشــباب كاد يرهبهــم تعبيــر محيــاه الغامــض ،ولكــن فــي اللحظــة التاليــة
آ
انبثقــت فــي عروقهــم طفــرة لذيــذة مــن الحيــاة الجديــدة ،لقــد أصبحــوا الن فــي أوج شــبابهم
الســعيد ،أمــا الشــيخوخة ،وبطانتهــا التعســة مــن همــوم وأح ـزان وأم ـراض ،فقــد تذكروهــا كحلــم
مزعــج ،اســتيقظوا منــه بفــرح ،وأضفــى بريــق الــروح المشــع ّالــذي فقــدوه ً
باكــرا ،والــذي مــن
دونــه تغــدو مشــاهدة الحيــاة المتتابعــة مجــرد معــرض صــور باهتــة ،أضفــى بســحره علــى جميــع
مشــاريعهم المقبلــة ،لقــد شــعروا وكأنهــم خلقــوا مــن جديــد فــي عالــم جديــد.
وراحوا يهتفون بنشوة" :نحن شباب! نحن شباب!"
والشــباب كالشــيخوخة يمحــو جميــع خصائــص الكهولــة المنطبعــة بقــوة ،ويســتوعبها بتفاهــم
آ
مشــترك مــع الشــيخوخة ،لقــد أضحــوا الن حلقــة مــن الشــباب اليافعيــن المرحيــن ،وكادوا يجنــون
بخصــب ســنيهم النشــطة ،ولكــن أكثــر مــا أحدثــه مرحهــم مــن تأثيــر فريــد هــو أنهــم أخــذوا
أ ّ
يهــزؤون مــن عجزهــم وعاهاتهــم التــي كانــوا ضحاياهــا لمــد قريــب؛ ضجــوا مــن الضحــك علــى
لباســهم ذي الطـراز القديــم ،وعلــى معاطفهــم الواســعة الجوانــب وصداريهــم المهدلــة ،وعلــى قبعــة
الفتــاة وفســتانها ،وراح أحدهــم يعــرج ماشـ ًـيا فــي الغرفــة كجــد هــرم مصــاب بالنقــرس ،ووضــع آخــر
أ
نظــارات علــى أنفــه ،وتظاهــر بإمعــان النظــر فــي الحــرف الســوداء على صفحــات الكتــاب ،وجلس
ثالــث علــى كرســي ذي مســاند وحــاول جاهـ ًـدا تقليــد الدكتــور (هايديغــر) بجلســته المبجلــة ،ثــم
أ
راحــوا يزعقــون بحبــور ،ويقفــزون حــول الغرفــة .ومشــت الرملــة -هــذا إذا صــح لنــا تســمية فتــاة
غضــة كهــذه أرملــة -بخفــة ورشــاقة إلــى كرســي الدكتــور ووجههــا الــوردي ينــم عــن مــرح ماكــر.
171
عشر
َ الصف الثّاين
دخــل الثالثــة فــي عـراك شــديد ،وفيمــا هــم يتأرجحــون فــي صراعهــم انقلبــت المائــدة ،وســقط
إالنــاء ،وتحطــم إلــى ألــف شــظية ،وانســاب مــاء الشــباب الثميــن يترقــرق علــى أرض الغرفــة،
وقــد أصــاب جناحــي فراشــة طعنــت فــي الســن فــي أواخــر الصيــف ،وكانــت قــد حطــت هنــاك
لكــي تمــوت ،فطــارت الحشــرة ترفــرف بخفــة فــي أجــواء الغرفــة واســتقرت علــى رأس الدكتــور
أ
(هايديغــر) الشــيب.
وهتــف الدكتــور :يــا ســادة يــا ســادة! وأنــت يــا ســيدتي! يجــب أن أحتــج ،وايــم الحــق علــى
أ
هــذا الشــغب ،فتوقفــوا دون حـراك وهــم يرتعــدون ،وخيــل إليهــم أن الزمــان الشــيب كان يناديهــم
ليرجعــوا مــن شــبابهم المشــرق إلــى وادي الســنين الســحيق القريــر المظلــم ،ورمقــوا الدكتــور
ّ
الجالــس علــى كرســيه المنقــوش ،وهــو ممســك بالــوردة ذات الخمســين مــن العمــر التــي أنقذهــا
مــن بيــن شــظايا إالنــاء المحطــم ،وبإشــارة مــن يــده أخــذ المشــاغبون كل منهــم مقعــده باســتعداد
ّ زائــد؛ ألن جهدهــم العنيــف أنهكهــم ً
رغمــا عــن فتوتهــم التــي كانــوا عليهــا.
ّ
وصــاح الدكتــور (هايديغــر) وهــو ممســك بالــوردة علــى ضــوء شــمس الغــروب التــي حجبتهــا
الغيــوم :يــا لــوردة (ســلفيا) المســكينة! يظهــر أنهــا أخــذت تذبــل ثانيــة.
وهكــذا كان ،أخــذت الــوردة تــذوي وتتقلــص وهــم يرمقونهــا إلــى أن جفــت وغــدت قابلــة
للتفتيــت مثلمــا كانــت عندمــا ألقــى بهــا الدكتــور فــي إالنــاء .ثــم نفــض عنهــا القطـرات القليلــة مــن
ّ
النــدى التــي تعلقــت بوريقاتهــا وأردف" :إنــي أعشــقها هكــذا ،كأنهــا نضــرة غضــة".
وضغــط بالــوردة الذابلــة علــى شــفتيه الذابلتيــن ،وبينمــا هــو يتكلــم رفرفــت الفراشــة علــى رأس
أ أ
الدكتــور الشــيب وســقطت علــى الرض.
ً ً
ارتجــف الضيــوف ثانيــة ،وســرت فيهــم شــيئا فشــيئا قشــعريرة غريبــة لــم يعرفــوا كنههــا أمــن
آ
الــروح أم الجســد؟ ورمــق كل منهــم الخــر ،وتخيــل أن كل لحظــة هاربــة اختطفــت منهــم فتنــة،
ً
عميقــا لــم يكــن لــه وجــود مــن قبــل .أكان هــذا ً وتركــت موضعهــا أخـ ً
وهمــا؟ أم أن تغي ـرات ـدودا
آ
حيــاة برمتهــا ازدحمــت فــي فســحة وجيــزة كهــذه ،وأنهــم الن أربعــة أشــخاص مســنين جالســين
مــع صديقهــم القديــم الدكتــور (هايديغــر)؟
هتفوا بنغمة حزينة" :هل ِش ْخنا ثانية بسرعة كهذه؟"
أ ًّ
حقــا لقــد غــدوا هكــذا ،أجــل لقــد شــاخوا ثانيــة .أمــا الرملــة ،بدافــع مشــحون بالقشــعريرة
172
ٌةفيدر ٌصصق -بابشلا عوبني
أظهرهــا أنهــا مازالــت ام ـرأة ،فغطــت وجههــا بيدهــا المعروقتيــن ،وتمنــت لــو أن غطــاء التابــوت
ً أ
فوقــه؛ لنــه لــن يعــود جميــا أبـ ًـدا.
قــال الدكتــور (هايديغــر) :نعــم يــا أصدقائــي ،إنكــم شــيوخ مــرة ثانيــة ،وهــا هــو مــاء الشــباب
أ
مهــروق بســخاء علــى الرض ،ولــن أحــزن عليــه ،وحتــى لــو انبجــس ينبوعــه أمــام عتبــة بيتــي،
ً أ
فإننــي لــن أنحنــي لغمــس شــفتي فيــه ،ال ،حتــى ولــو دام هذيانــه المحمــوم ســنوات بــدل مــن
ّ
لحظــات .هــذا هــو الــدرس الــذي علمتمونــي إيــاه!
الربعــة لــم يعلمــوا أنفســهم ً أ
درســا كهــذا ،وصممــوا علــى أن يذهبــوا ولكــن أصدقــاء الدكتــور
ـاء ،لعلهــم يشــربون مــن مــاء ينبــوع ً
صباحــا ،وظهـ ًـرا ،ومسـ ً فــي القريــب العاجــل إلــى فلوريــدا
الشــباب!!!
173
عشر
َ الصف الثّاين
174
175
عشر
َ الصف الثّاين
176