You are on page 1of 13

‫شـــجــرة الكـون‬

‫الشيخ األكبر محي الدين ابن عربي‬

‫بسم هللا الرحمن الرحيم‬

‫ت وفَ ْر ُع َها في ال َّ‬


‫س َما ِء}‬ ‫ب هللاُ َمثَال َكلِ َمةً طَيِّبَةً َكش ََج َر ٍة طَيِّبَ ٍة أَ ْ‬
‫صلُ َهاـ ثَابِ ٌـ‬ ‫ض َر َ‬
‫{ َ‬
‫صدق هللا العلي العظيم‬

‫بسم هللا الرحمن الرحيم‬


‫الحمد هللِ األحدي الذات‪ ،‬الفردي الصفات‪ ،‬الذي تقدس وجهه عن الجهات‪ ،‬وقدسه عن المحدثات‪ ،‬وقدم ه عن الجه ات‪،‬‬
‫ويده عن الحركات‪ ،‬وعينه عن اللحظ ات‪ ،‬واس تواؤه عن االتص االت‪ ،‬وقدرت ه عن الهف وات‪ ،‬وإرادت ه عن الش هوات‪،‬‬
‫الذي ال تعدد لصفاته بتعدد الموصوفات‪ ،‬وال تختلف إرادته باختالف الم رادات‪ ،‬وك ون بكلم ة "كن" جمي ع الكائن ات‪،‬‬
‫وأوج د به ا جمي ع الموج ودات‪ ،‬فال موج ود إال مس تخرج من كنهه ا المكن ون‪ ،‬وال مكن ون إال مس تخرج من س رِّها‬
‫المصون‪ ،‬قال هللا تعالى‪{ :‬إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون }‪.‬‬

‫وبعد‪،‬‬
‫فإني نظرت إلى الكون وتكوينه‪ ،‬وإلى المكنون وتدوينه‪ ،‬فرأيت الكون كله ش جرة‪ ،‬وأص ل نَوْ ِره ا من حب ة "كن"‪ ،‬ق د‬
‫در}‪ ،‬وظه ر من ه ذا‬ ‫لقحت كاف الكنتية بلقاح حبة {نحن خلقناكم}‪ ،‬فانعقد من ذلك البزر ثمرة {إنا كل شيء خلقناه بق ٍ‬
‫غصنان مختلفان أصلهما واح ٌد‪ ،‬وهو اإلرادة‪ ،‬وفرعها القدرة‪ ،‬فظهر عن جوهر الكاف معنيان مختلف ان ك اف الكمالي ة‬
‫{اليوم أكملت لكم دينكم}‪ ،‬وكاف الكفرية {فمنهم من آمن ومنهم من كفر}‪ ،‬وظه ر ج وهر الن ون؛ ن ون النك رة ون ون‬
‫المعرفة‪ ،‬فلما أبرزهم من "كن" العدم على حكم مراد القدم رش عليهم من نوره‪ ،‬فأما من أصابه ذلك الن ور فح دق إلى‬
‫تمثال {كنتم خير أمة}‪ ،‬واتضح له في شرح نونها {أفمن شرح هللا صدره لإلسالم فهو على نور من ربه}‪.‬‬
‫وأما من أخطأه ذلك النور فطولب بكشف المعنى المقصود من حرف "كن" فإن ه غل ط في هجائ ه‪ ،‬وخ اب في رجائ ه‪،‬‬
‫فنظر إلى مثال "كن" فظن أنها كاف كفرية بنون نكرة‪ ،‬فكان من الكافرين‪ ،‬وكان حظ ك ل مخل وق من كلم ة "كن" م ا‬
‫علم من هجاء حروفها‪ ،‬وما شهد من سرائر خفائها‪ ،‬دليله قوله ص لى هللا علي ه وس لم‪( :‬إن هللا خل ق خلق ه في ظلم ة ثم‬
‫رش عليهم من نوره فمن أصابه ذلك النور اهتدى‪ ،‬ومن أخطأه ذلك النور ضل وغوى )‪.‬‬
‫فلما نظر آدم إلى دائرة الوجود فوجد كل موجود دائرا في دائ رة الك ون‪ ،‬واح د من ن ار وواح د من طين‪ ،‬ثم رأى ه ذه‬
‫الدائرة على سرائر (كن)‪ ،‬فكيفما دار واستدار‪ ،‬وحيثما طار واستطار‪ ،‬فإليها يؤول‪ ،‬وعليها يجول‪ ،‬وال يزول عنها وال‬
‫يحول‪.‬‬
‫فواحد شهد كاف الكمالية ونون المعرفة‪ ،‬وواحد شهد ك اف الكفري ة ون ون النك رة‪ ،‬فه و على حكم م ا ش هد راج ع إلى‬
‫نقطة دائرة (كن) وليس للمك َّون أن يجاوز ما أراده المك ِّون‪.‬‬
‫فإذا نظرت إلى اختالف أغصان شجرة الكون ونوع ثمارها علمت أن أصل ذلك ناشئ من حبة (كن) ب ائن عنه ا‪ ،‬فلم ا‬
‫المكون من المك َّون‪ ،‬فشهد المعلَّم‬
‫ِّ‬ ‫أدخل آدم في مكتب التعليم‪ ،‬و ُعلِّم األسماء كلها‪ ،‬نظر إلى مثال (كن)‪ ،‬ونظر إلى مراد‬
‫من كاف (كن) كاف الكنزية (كنت كنزا مختفيا ال أُعرف فأحببت أن أُعرف)‪ ،‬فنظر من سر النون نون األناني ة {إن ني‬
‫أنا هللا ال إله إال أنا}‪ ...‬اآلية‪ ،‬فلما صح الهجا ُء‪ ،‬وحقق الرجا ُء‪ ،‬استنبط له من كاف الكنـزية كافَ التكريم {ولق د كرمن ا‬
‫بني آدم}‪ ،‬وكاف الكنتية {كنت له سمعا وبصرا ويدا}‪ ،‬واستخرج له من نون األنانية نونَ النورية {وجعلنا له ن ورا}‪،‬‬
‫واتصلت بها نونُ النعمة {وإن تع ُّدوا نعمة هللا ال تحصوها}‪.‬‬
‫وأما إبليس لعنه هللا فإن ه مكث في مكتب التعليم أربعين أل ف ع ام يتص فح ح روف (كن)‪ ،‬وق د وكل ه المعلِّم إلى نفس ه‪،‬‬
‫وأحاله على حوله وقوته‪ ،‬فكان ينظر إلى تمثال (كن) ليشهد من تمثالها كافَ كفره‪ ،‬فكبر {فأبى واستكبر}‪ ،‬ويش هد من‬
‫نونها نون ناريته {خلقتني من نار}‪ ،‬فاتصلت كاف كفريته بنون ناريته {فكبكبوا فيها}‪.‬‬
‫فلما نظر آدم إلى اختالف هذه الشجرة‪ ،‬وتنوع أزهارها وثمارها‪ ،‬فتثبت بغص ن {إني أن ا هللا}‪ ،‬فن ودي‪ :‬ك ل من ثم ار‬
‫التوحيد‪ ،‬واستظل بظل التفريد‪{ ،‬وال تقربا}‪ ،‬فأراد إبليس أن يوصله بغصن {فوسوس لهم ا‪ ..‬ف أكال منه ا}‪ ،‬فزلق ا في‬
‫مزالق {وعصى}‪ ،‬واستمسك بغصن {ربنا ظلمنا أنفسنا}‪ ،‬فتدلت عليه ثمار {فتلقى}‪.‬‬
‫فلما نودي يوم اإلشهاد‪ ،‬على رؤوس األشهاد‪{ ،‬ألست بربكم} فشهد كلٌّ على مقدار م ا ش هد وس مع‪ ،‬ثم اتف ق الك ل في‬
‫اإليجاب‪ ،‬فقالوا‪{ :‬بلى}‪ ،‬لكن االختالف وقع من حيث اإلشهاد‪ ،‬فمن أشهده جمالية ذاته شهد أن ه {ليس كمثل ه ش يء}‪،‬‬
‫ومن أشهده جمالية صفاته شهد أنه {ال إله إال ه و المل ك الق دوس}‪ ،‬ومن أش هده ع رائس مخلوقات ه اختلفت ش هاداتهم‬
‫الختالف المشهود‪ ،‬فقوم جعلوه محدودا‪ ،‬وقوم جعلوه معدوما‪ ،‬وقوم جعل وه حج را جلم ودا‪ ،‬والك ل في ذل ك على حكم‬
‫{قل لن يصيبنا}‪ ،‬وهو مستبطن في سر كلمة (كن)‪ ،‬دائر على نقطة دائرتها‪ ،‬ثابت على أصل حبتها‪.‬‬
‫ُ‬
‫أحببت أن أجع ل للمك َّون مث اال‪ ،‬وللموج ود‬ ‫فلما كانت هذه الحبة بزر شجرة الكون‪ ،‬وبزر ثمرته ا‪ ،‬ومع نى ص ورتها‪،‬‬
‫تمثاال‪ ،‬ولما ينتج من األقوال واألفعال واألحوال منواال‪ ،‬فمثلت شجرة نبتت عن أصل حب ة (كن)‪ ،‬وك ل م ا يح دث في‬
‫الكون من الحوادث كالنقص والزيادة‪ ،‬والغيب والشهادة‪ ،‬والكفر واإليمان‪ ،‬وما تثمر من األعمال وزكاة األحوال‪ ،‬وم ا‬
‫يطهر من قربات المقربين‪ ،‬ومقامات المتقين‪ ،‬ومنازالت الصديقين‪ ،‬ومناجاة العارفين‪ ،‬ومشاهدات المح بين‪ ،‬ك ل ذل ك‬
‫من ثمرها الذي أثمرته‪ ،‬وطلعها الذي أطلعته‪.‬‬
‫فأول ما أنبتت هذه الشجرة التي هي حبة (كن) ثالثةُ أغصان‪ ،‬أخذ غصن منها ذات اليمين‪ ،‬فهم أصحاب اليمين‪ ،‬وأخ ذ‬
‫غصن منها ذات الشمال‪ ،‬ونبت غصن منها معتدل القامة على سبيل االستقامة‪ ،‬فكان منه السابقون المقربون‪ ،‬فلما ثبت‬
‫واستعلى ج اء من فرعه ا األعلى وج اء من فرعه ا األدنى ع الم الص ورة والمع نى‪ ،‬فم ا ك ان من قش ورها الظ اهرة‪،‬‬
‫وستورها البارزة‪ ،‬فهو عالم الملك‪ ،‬وما كان من قلوبها الباطنة‪ ،‬ولباب معانيها الخافية‪ ،‬فه و ع الم الملك وت‪ ،‬وم ا ك ان‬
‫من الماء الجاري في شريانات عروقها الذي حصل به نموها‪ ،‬وحياتها وسموها‪ ،‬وبه طلعت أزهارها‪ ،‬وأينعت ثماره ا‬
‫فهو عالم الجبروت الذي هو سر كلمة (كن)‪.‬‬
‫ثم أحاط بالشجرة حائطٌ‪ ،‬و ُح َّد لها حدود‪ ،‬ورس م له ا رس وم‪ ،‬فح دودها الجه ات وهن‪ :‬العل و والس فل واليمين والش مال‬
‫ووراء وأمام‪ ،‬فما كان أعلى فهو حدها األعلى‪ ،‬وما كان أسفل فهو حدها األسفل‪.‬‬
‫وأما رسومها وما فيها من األفالك واألجرام‪ ،‬واألمالك واألحكام‪ ،‬واآلثار واألعالم‪ ،‬فجعل الس بع الطب اق‪ ،‬بمنزل ة م ا‬
‫يستظل به من األوراق‪ ،‬وجعل الكواكب في اإلشراق‪ ،‬بمنزلة األزهار في اآلفاق‪ ،‬وجعل الليل والنهار‪ ،‬بمنزلة رداءين‬
‫مختلفين‪ :‬أحدهما أسود يُرتدى به ليحتجب عن األبصار‪ ،‬واآلخر أبيض يُرتدى به ليتجلى على ذوات االستبصار‪.‬‬
‫وجعل العرش بمنزلة بيت مال هذه الشجرة وخزانة سالحها‪ ،‬فمنه يستمد ما في ه ص الحها‪ ،‬وفي ه ُس وَّاسُ ه ذه الش جرة‬
‫يعول ون‪ ،‬وحول ه يحوم ون‪ ،‬وب ه يطوف ون‪،‬‬ ‫وخدمها {وترى المالئكة حافِّين من حول العرش} إليه يتوجه ون‪ ،‬وعلي ه ِّ‬
‫وحيثما كانوا فإليه يشيرون‪.‬‬
‫فمتى حدث في هذه الشجرة حادثة‪ ،‬أو نزل بشيء منها نازلةٌ‪ ،‬رفعوا أيدي المسألة والتضرع إلى جهة عرشه‪ ،‬يطلب ون‬
‫الش فا‪ ،‬ويس تعفون عن الخط ا‪ ،‬ألن موج د ه ذه الش جرة ال جه ة إلي ه يش ار إليه ا‪ ،‬وال أيني ة يقص دونها‪ ،‬وال كيفي ة ل ه‬
‫يعرفونها‪ ،‬فلو لم يكن العرش جهةً يتوجهون إليه للقي ام بخدمت ه‪ ،‬وألداء طاعت ه‪ ،‬لض لوا في طلبهم‪ ،‬فه و س بحانه إنم ا‬
‫أوجد العرش إظهارا لقدرته ال محال لذاته‪ ،‬وأوجد الوجود ال لحاجة له به ‪ ،‬وإنما هو إظهار ألسمائه وصفاته‪ ،‬ف إن من‬
‫أسمائه الغفور‪ ،‬ومن صفاته المغف رة‪ ،‬ومن أس مائه ال رحيم‪ ،‬ومن ص فاته الرحم ة‪ ،‬ومن أس مائه الك ريم‪ ،‬ومن ص فاته‬
‫الكرم‪ ،‬فاختلفت أغصانُ هذه الشجرة‪ ،‬وتنوعت ثمارها ليظهر سر مغفرته للمذنب‪ ،‬ورحمته للمحسن‪ ،‬وفض له للط ائع‪،‬‬
‫وعدله للعاصي‪ ،‬ونعمته للمؤمن‪ ،‬ونقمته على الكافر‪.‬‬
‫فهو مقدس في وجوده عن مالمسة ما أوجده ومجانبته ومواصلته ومفاصلته‪ ،‬ألنه كان وال كون‪ ،‬وهو اآلن كما ك ان ال‬
‫يتص ل بك ون‪ ،‬وال ينفص ل عن ك ون‪ ،‬ألن الوص ل والفص ل من ص فات الح دوث ال من ص فات الق دم‪ ،‬ألن االتص ال‬
‫واالنفصال‪ ،‬يلزم منه االنتقال واالرتحال‪ ،‬ويلزم من االنتقال واالرتحال التح ول وال زوال والتغي ير واالس تبدال‪ ،‬وه ذا‬
‫كله من صفات النقص ال من صفات الكمال‪ ،‬فسبحانه سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون والجاحدون علوا كبيرا‪.‬‬
‫ثم جعل اللوح والقلم بمنزلة كتاب ال ُملك وما يسطر فيه من أحكامه‪ ،‬وما حكم بنقضه وإبرام ه‪ ،‬وإيج اده وإعدام ه‪ ،‬وم ا‬
‫يخرج من بره وإنعامه‪ ،‬وما يكون من ثوابه وانتقامه‪.‬‬
‫ثم جعل سدرة المنتهى بمنزلة غصن من أغصان هذه الشجرة‪ ،‬يقوم تحتها َم ْن يقوم بخدمته وينفذ أحكام ه‪ ،‬ويرف ع إلي ه‬
‫ما يحمل من ثمرة هذه الشجرة وما يدانيها‪ ،‬ثم يتلقى هناك من نسخة كتاب ال ُملك الذي هو اللوح المحفوظ‪.‬‬
‫وما يحدث في هذه الشجرة من محو وإثبات ونقص وزي ادة فال يتج اوز تل ك الش جرة‪ ،‬إذ لك ل واح د منهم ح د مفه وم‪،‬‬
‫وحظ مقسوم‪ ،‬ورسم مرسوم { وما منا إال له مقام معلوم}‪.‬‬
‫سني‪ ،‬أو صغير أو كبير‪ ،‬أو جليل أو حقير‪ ،‬أو قليل أو كث ير‪ ،‬إال ختم‬ ‫ٍّ‬ ‫وال يرفع شيء من ثمرة هذه الشجرة من دني أو‬
‫ُ‬
‫عليه في كتاب ال يغادر صغيرة وال كبيرة إال أحصاها‪ ،‬ثم يأمرهم ال َملِك أن يدفعوا إلى إحدى خزانتيه الل تين ادخرهم ا‬
‫لثمرة هذه الشجرة‪ ،‬وهما الجنة والنار‪ ،‬فما كان من ثمر طيب ففي خزانة الجنة " كال إن كت اب األب رار لفي عل يين "‪،‬‬
‫وما كان من ثمر خبيث ففي خزانة النار {كال إن كتاب الفجار لفي سجين}‪ ،‬فأما الجنة فدار أصحاب اليمين من ج انب‬
‫الطور األيمن من الشجرة المباركة الطيبة‪ ،‬وأما النار فدار أصحاب الشمال من الشجرة الملعونة في القرآن‪.‬‬
‫ثم جعل الدنيا مستودع زهرتها‪ ،‬واآلخرة مستقر ثمرتها‪ ،‬وأحاط على هذه الشجرة حائط إحاطة القدرة {وهللا بكل شيء‬
‫محيط}‪ ،‬وأدار عليها دائرة اإلرادة {يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد}‪.‬‬
‫فلما ثبت أصل هذه الشجرة وثبت فرعها‪ ،‬التقى طرفاها‪ ،‬ولحق أخراها بأوالها إلى ربك منتهاه ا إلى مبت داها‪ ،‬ألن من‬
‫كان أوله (كن) كان آخره (يكون)‪ ،‬فهي وإن تعددت فروعها‪ ،‬وتنوعت زروعها‪ ،‬فأصلها واحد‪ ،‬فهي حبة كلم ة (كن)‪،‬‬
‫وسيكون آخرها واحدا وهي كلمة (كن)‪.‬‬
‫فلو أحدقت ببصر بصيرتك لرأيت أغصان شجرة طوبى معلقةً بأغصان شجرة الزقوم‪ ،‬وبرد نسيم الق رب يم ازج ح ر‬
‫السموم‪ ،‬وظل سماء الوصل متصال بظل من يحموم‪ ،‬وقد تن اول ك ل حظ ه المقس وم‪ ،‬فواح د يش رب بكأس ه المخت وم‪،‬‬
‫وواحد يشرب بكأسه المحتوم‪ ،‬وواحد من بينهم محروم‪.‬‬
‫فلما برزت أطفال الوجود من حضرة العدم هبت عليهم نس مات الق درة‪ ،‬وغ ذتها لط ائف الحكم ة‪ ،‬وأمطرته ا س حائب‬
‫اإلرادة بعجائب الصنع‪ ،‬فأنبت كل غصن منها ما سبق له في الق دم‪ ،‬و ُر ِّكب في عنص ره من الص حة والس قم‪ ،‬والك ون‬
‫كله من عنصرين مستخرجين من جزأين من كلمة (كن)‪ ،‬وهما‪ :‬الظلمة والنور‪ ،‬فالخير كله من النور‪ ،‬والش ر كل ه من‬
‫الظلمة‪ ،‬فمأل المالئكة موجود من عنصر الن ور‪ ،‬فك ان منهم الخ ير {ال يعص ون هللا م ا أم رهم}‪ ،‬ومأل الش ياطين من‬
‫عنصر الظلمة‪ ،‬فكان منهم الشر‪.‬‬
‫وأما آدم وبنوه فإنهم جعلت طينتهم من الظلمة والنور‪ ،‬وركب عنصره من الخير والشر‪ ،‬والنفع والض ر‪ ،‬وجعلت ذات ه‬
‫قابلةً للنكرة والمعرفة‪ ،‬فأي جوهر غلب عليه نسب إليه‪ ،‬فإن عال جوهر نوره على جوهر الظلمة‪ ،‬وظه رت روحانيت ه‬
‫ك‪ ،‬وإن غلب ج وهر ظلمت ه على ج وهر ن وره‪ ،‬وظه رت‬ ‫على جس مانيته‪ ،‬فق د فض ل على ال َملَ ك‪ ،‬واس توى على الفَلَ ِ‬
‫جسمانيته على روحانيته‪ ،‬فقد فضل على الشيطان‪.‬‬
‫فلما قبض هللا آدم من قبضة تراب (كن) مسح على ظهره {حتى يم يز الخ بيث من الطيب}‪ ،‬فاس تخرج من ظه ره َم ْن‬
‫كان من أصحاب اليمين‪ ،‬فأخذوا ذات اليمين‪ ،‬واستخرج من ظهره َم ْن كان من أصحاب الشمال‪ ،‬فأخذوا ذات الش مال‪،‬‬
‫وما زاغ أحد عن المراد وما مال‪ ،‬ومن قال‪ :‬لِ َم؟ فقد أخطأ في السؤال‪.‬‬
‫ض هَا ح تى ب دت ُز ْب َدتُهَا‪ ،‬ثم‬
‫فأول من عمل حوالي هذه الشجرة إلى أصل حبة (كن) فاعتص ر ص فوة عنص رها‪ ،‬و َمخَ َ‬
‫صفاها بمصفاة الص فوة ح تى زال َوخَ ُمهَ ا‪ ،‬ثم ألقى عليه ا من ن ور هدايت ه ح تى ظه ر جوهره ا‪ ،‬ثم غمس ها في بح ر‬
‫الرحمة حتى عمت بركتها‪ ،‬ثم خلق منها نور نبينا محمد صلى هللا عليه وس لم‪ ،‬ثم زين بن ور المأل األعلى ح تى أض اء‬
‫وعال‪ ،‬ثم جع ل ذل ك الن ور أص ال لك ل ن ور‪ ،‬فه و أولهم في المس طور‪ ،‬وآخ رهم في الظه ور‪ ،‬وقائ دهم في النش ور‪،‬‬
‫و ُمبَ َّش ُرهُ ْم بالسرور‪ ،‬ومتَ َّو ُجهُ ْم بالحبور‪ ،‬فه و مس تودع في دي وان اإلنس‪ ،‬مس تقر في ري اض األنس‪ ،‬وحض رة األنس‪،‬‬
‫تخ َر ٌج في الك ون‪ ،‬مس تنبَطٌ ألجل ه‬ ‫ستر معنى روحانيته بستر جس مانيته‪ ،‬وغطى ع الم ش هوده بع الم وج وده‪ ،‬فه و مس ْ‬
‫الكون‪.‬‬
‫وذلك أن هللا تعالى كون األكوان اقتدارا عليها ال افتقارا إليها‪ ،‬وكمال حكمته في التكوين‪ ،‬إلظهار شرف الماء والطين‪،‬‬
‫فإنه أوجد ما أوجد ولم يقل في شيء من ذلك‪{ :‬إني جاعل في األرض خليفةً}‪ ،‬وكان وجود اآلدمي‪ ،‬فكانت حكمت ه في‬
‫وجود اآلدمي إلظهار شرف النبي صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬ألنه حكمة األجساد الستخراج كاف الكنزية (كنت كنزا مخفي ا‬
‫ال أعرف)‪ ،‬فكان المقصود في الوجود معرفة موجدهم س بحانه‪ ،‬وك ان المخص وص ب أتم المع ارف قلب س يدنا محم د‬
‫صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬ألم معارف الكل كانت تصديقا وإيمانا‪ ،‬ومعرفت ه ص لى هللا علي ه وس لم مش اهدة وعيان ا‪ ،‬وبن ور‬
‫معرفته صلى هللا عليه وسلم تعرفوا‪ ،‬وبفضله عليهم اعترفوا‪ ،‬فاس تخرجه من لب اب حب ة (كن) {ك زرع أخ رج ش طأه‬
‫فآزره} بصحابته {استغلظ} بقرابته {فاستوى على سوقه} بصحة ذوقه‪ ،‬وقوة توقه وشوقه‪.‬‬
‫فلما ظهر هذا الغصن المحمدي وسما‪ ،‬أورق عوده ونما‪ ،‬وانهل عليه سحاب القبول وهمى‪ ،‬وتباشر بظهوره الح دثان‪،‬‬
‫وبشر بوجوده الثقالن‪ ،‬وتعطرت بقدومه األكوان‪ ،‬وانتكست بمولده األوثان‪ ،‬ونسخت بمبعثه األدي ان‪ ،‬ون زل بتص ديقه‬
‫القرآن‪ ،‬واهتزت طربا شجرة األكوان‪ ،‬وتحرك ما فيها من األلوان والعيدان‪ ،‬وكان من أغص ان ه ذه الش جرة من أخ ذ‬
‫ذات الشمال‪ ،‬ومال يهوى الضالل‪ ،‬فلما أرسلت رياح اإلرسال‪ ،‬برسالة {وما أرسلناك إال رحمة للع المين}‪ ،‬استنش قها‬
‫من سبقت لهم منا الحس نى‪ ،‬فم ال إليه ا متعطف ا‪ ،‬وأم ا من ك ان مزكوم ا‪ ،‬أو خل ع القب ول محروم ا‪ ،‬فإن ه عص فت ب ه‬
‫عواصف القدرة فأصبح بعد نضارته يابسا‪ ،‬ووجه سعادته عابسا‪ ،‬وراح من رجاء فالحه قانطا آيسا‪.‬‬
‫وكان سر هذا الغصن لق اح ش جرة الج ود‪ ،‬ودرة ص دفة الوج ود‪ ،‬وك ان من روح روحانيت ه روح {ي ا أيه ا الن بي إن ا‬
‫أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا *وداعيا إلى هللا بإذنه وسراجا منيرا}‪ ،‬فهو مصباح ظلمة الكون‪ ،‬وروح جسد الوج ود‪،‬‬
‫ألن هللا تعالى لما خاطب السموات واألرض وقال لهم ا‪{ :‬ائتي ا طوع ا أو كره ا قالت ا أتين ا ط ائعين}‪ ،‬فأجاب ه موض ع‬
‫الكعبة من األرض ومن السماء ما يحاذيه‪ ،‬فكانت تربة بقعة الكعبة‪ ،‬وكان محل اإليمان من األرض‪.‬‬
‫فلما أمر هللا بالقبضة التي قبضت من األرض لخلق آدم عليه السالم‪ ،‬فقبض ت من س ائر األرض‪ ،‬من طيبه ا وخبيثه ا‪،‬‬
‫فكانت طينة نبينا محمد صلى هللا عليه وسلم مخلوقة من موض ع الكعب ة ال تي هي مح ل اإليم ان باهلل تع الى‪ ،‬ثم عجنت‬
‫تلك الطينة بطينة آدم عليه السالم‪ ،‬فكانت تلك الطينة بمنزلة الخميرة‪ ،‬ولوال ذلك لما أطاقوا اإلجابة يوم اإلش هاد‪ ،‬وه و‬
‫معنى قوله صلى هللا عليه وسلم‪( :‬كنت نبيا وآدم بين الماء والطين)‪.‬‬
‫فكانت ذوات الوجود وبركته من ذرة وجوده‪ ،‬فلما أشهدهم على أنفس هم في حض رة ش هوده ق ال‪{ :‬ألس ت ب ربكم ق الوا‬
‫بلى}‪ ،‬فسرت في أجزاء ذراتهم تلك الخميرة النبوية‪ ،‬فانطلقت بإذن هللا تعالى ألسنتهم بالتلبي ة قائل ة‪ ،‬فمن ك انت طينت ه‬
‫قابلة للتخمير‪ ،‬بما سبق في التقدير‪ ،‬بقي معه ذلك التخمير‪ ،‬باقيا فيه مستصحبا‪ ،‬حتى ظه ر إلى الحس‪ ،‬وظه ر في تل ك‬
‫الصورة‪ ،‬فبرز ذلك المعنى‪ ،‬محقق ا لتل ك ال دعوى‪ ،‬فأش رق ن ور ذل ك المع نى الروح اني‪ ،‬على م ا يحاذي ه من الجس د‬
‫الجسماني‪ ،‬فأشرق الجسد بعد ظلمته‪ ،‬فاستنارت الجوارح لرشدها فعملت بالطاعة‪.‬‬
‫وأما من كانت طينته خبيثة غير قابلة للتخمير‪ ،‬وإنما أثرت تلك الخميرة مقدار ما اعترف عند اإلش هاد‪ ،‬وأفص حت في‬
‫ذلك اإلقرار‪ ،‬في حال االستقرار‪ ،‬ثم طال عليها األمد‪ ،‬ففسدت تل ك الخم يرة بفس اد تل ك الطين ة‪ ،‬فكأن ه ك ان مس تودعا‬
‫فاسترجع منه ما استو ِد ع‪ ،‬إذ لم يكن لحفظها أهال‪ ،‬فهو مستودع ‪ -‬أعني اإليمان – في قلوب الكافرين‪ ،‬مستقر في قلوب‬
‫المؤمنين‪ ،‬وهو معنى قوله ص لى هللا علي ه وس لم‪( :‬ك ل مول ود يول د على الفط رة) ال تي فط ر هللا الن اس عليه ا‪ ،‬وه و‬
‫تساويهم في اإليمان في قول‪{ :‬الست بربكم قالوا بلى}‪ ،‬واستووا في التلبية‪ ،‬ونطقوا باإلجابة‪ ،‬لسريان تلك الخم يرة في‬
‫أجزاء ذراتهم‪ ،‬وقد سبق في علم هللا تعالى ونفذ تقديره‪ ،‬فمن تبقى على ذلك اإلقرار‪ ،‬ال يستحيل إلى الجحود واإلنكار‪.‬‬
‫وكل ما يحدث في شجرة الكون من نمو وزيادة‪ ،‬وأزهار وإثمار أفكار‪ ،‬ومتشابه شوق‪ ،‬ومحكم ذوق‪ ،‬وص فاء أس رار‪،‬‬
‫ونسيم استغفار‪ ،‬وما ينمو به من األعمال‪ ،‬وتزكو به األحوال‪ ،‬وما تورق ب ه من رياض ات النف وس‪ ،‬ومناج اة القل وب‪،‬‬
‫ومنازالت األسرار‪ ،‬ومشاهدات األرواح‪ ،‬وم ا ينبت ب ه من أزاه ير الحكم‪ ،‬ولط ائف المع ارف‪ ،‬وم ا يص عد من طيب‬
‫األنفاس‪ ،‬وما يعقد من ورق اإليناس‪ ،‬وما ينشأ من رياح االرتياح‪ ،‬وما يبنى على أصلها من مراتب أهل االختص اص‪،‬‬
‫ومقامات الخواص‪ ،‬ومنازالت الصديقين‪ ،‬ومناجاة المقربين‪ ،‬ومشاهدات المحبين‪ ،‬كل ذلك من لقاح الغصن المحم دي‪،‬‬
‫متوقد من نوره‪ ،‬مستمد من نماء نهر كوثره‪ ،‬مغ َّذى بلباب بره‪ ،‬مربَّى في مهد هدايته‪ ،‬فل ذلك عمت بركت ه‪ ،‬وتمت على‬
‫الخالئق رحمته {وما أرسلناك إال رحمة للعالمين}‪.‬‬
‫فلما مهَّد ألجله ال دار‪ ،‬وس خر من أجل ه اللي ل والنه ار‪ ،‬ورس م الرس وم وح َّدد األقط ار‪ ،‬وأخ ذ الميث اق على تص ديقه‪،‬‬
‫والتمسك بحبل تحقيقه‪ ،‬جال عروس شريعته‪ ،‬على أتباع ه وش يعته‪ ،‬ثم ختم بنبوت ه األنبي اء‪ ،‬وبكتاب ه الكتب‪ ،‬وبرس الته‬
‫الرسل‪ ،‬فمن احتمى بحمى شريعته سلم‪ ،‬ومن استمسك بحبل ملته ُع ِ‬
‫صم‪.‬‬
‫لم توسل به آدم عليه السالم‪ ،‬سلم من المالم‪ ،‬ولما انتقل إلى صلب إب راهيم الخلي ل ص ارت الن ار علي ه ب ردا وس الما‪،‬‬
‫ي بذبح عظيم‪ ،‬فثمرة غصن أصحاب اليمين {يحبهم ويحبونه}‪ ،‬وثمرة غصن أصحاب‬ ‫ولما أودعته صدفة إسماعيل فُ ِد َ‬
‫الشمال {وما كان هللا ليعذبهم وأنت فيهم}‪ ،‬وثمرة غصن السابقين المقربين {محمد رسول هللا وال ذين مع ه أش داء على‬
‫الكفار رحماء بينهم}‪ ،‬فبركته على اآلفاق قد عمت‪ ،‬وكلمته قد تمت‪.‬‬
‫خلق آدم على صورة اسمه‪ ،‬ألن اسمه محمد‪ ،‬فرأس آدم دائرة بت دويره‪ ،‬على ص ورة الميم األولى من اس مه‪ ،‬وإرس ال‬
‫يده مع جنبه على صورة الحاء‪ ،‬وبطنه على صورة الميم الثانية‪ ،‬ورجاله في انفتاحهما على صورة الدال‪ ،‬فكم ل خل ق‬
‫آدم على صورة اسم محمد صلى هللا عليه وسلم‪.‬‬
‫وقولنا ك َّون األكوان على هيئة رسمه ألن العالم عالم ان‪ :‬ع الم المل ك وع الم الملك وت‪ ،‬فع الم المل ك كع الم جس مانيته‪،‬‬
‫وعالم الملكوت كعالم روحانيته‪ ،‬فكثيف العالم السفلي ككثيف جسمانيته‪ ،‬ولطيف العالم العلوي كلطي ف روحانيت ه‪ ،‬فم ا‬
‫في األرض من الجبال التي جعلت في األرض أوتادا‪ ،‬فهي بمنزلة جبال عظامه التي جعلت أوتاد جسمه‪.‬‬
‫وما فيها من بحار مسجورة جارية وغ ير جاري ة‪ ،‬عذب ة وغ ير عذب ة فهي بمنزل ة م ا في جس ده من دم ج ار في تي ار‬
‫وساكن في جداول األعضاء‪ ،‬واختالف أذواقها‪ ،‬فمنها ما هو ع ذب وه و م اء الري ق‪ ،‬يطيب بعجين ه المآك ل‬‫ٍ‬ ‫العروق‪،‬‬
‫والمشارب‪ ،‬ومنها ما هو مالح‪ ،‬وهو ماء العين‪ ،‬بحفظه شحمة العين‪ ،‬ومنها ما هو مر‪ ،‬وهو م اء األذن‪ ،‬لص يانة األذن‬
‫من حيوان ودبيب يصل إليها فيقتله ذلك الماء‪.‬‬
‫ثم في أرض جسده م ا ينبت ك األرض الج رز‪ ،‬واألرض الس بخة ال تي ال تنبت ويس تحيل النبت فيه ا‪ ،‬ثم لم ا ك ان في‬
‫ق لنفع الناس بها‪ ،‬كذلك في أرض جسده عروق غالظ كالوتين ال ذي يبث‬ ‫األرض بحار عظيمة تتفرع منها أنهار وسوا ٍ‬
‫الدم‪ ،‬وتستمد العروق منه إلى سائر الجسد‪.‬‬
‫ثم العالم العلوي‪ ،‬وهو عالم السماء‪ ،‬جعل هللا فيه شمسا كالسراج يستض يء ب ه أه ل األرض‪ ،‬ك ذلك جعلت ال روح في‬
‫الجسد يستضيء بها الجسد‪ ،‬فلو غابت بالموت ألظلم الجسد كظلمة األرض إذا غابت عنها الشمس‪.‬‬
‫ثم جعل العقل بمنزلة القمر يستنير في فلك السماء‪ ،‬تارة يزيد وت ارة ينقص‪ ،‬فابت داؤه ص غير وه و هالل كابت داء عق ل‬
‫الصغير في صغره‪ ،‬ثم يزيد كزيادة القمر ليلة تمامه‪ ،‬ثم يبدو بالنقص‪ ،‬فهو بمنزلة بل وغ األج ل إلى تم ام األربعين‪ ،‬ثم‬
‫يعود في النقص في تركيبه وقوته‪.‬‬
‫ثم جع ل في الس ماء ك واكب خمس ا‪ ،‬وهي الخمس الخنس {الج واري الكنس}‪ ،‬وهي بمنزل ة الح واس الخمس‪ ،‬وهي‪:‬‬
‫الذوق والشم واللمس والسمع والبصر‪.‬‬
‫ثم جعل في عالم السماء عرشا وكرسيا‪ ،‬فالعرش أوجده وجعل وجه ة قل وب عب اده إلي ه‪ ،‬ومح ل رف ع األي دي إلي ه‪ ،‬ال‬
‫محال لذاته‪ ،‬وال مجانسا لصفاته‪ ،‬ألن الرحمن ‪ -‬تعالى اسمه – االس تواء نعت ه وص فته‪ ،‬ونعت ه وص فته متص لة بذات ه‪،‬‬
‫والعرش خلق من خلقه‪ ،‬ال متصل به‪ ،‬وال مالمس ل ه‪ ،‬وال محم ول علي ه‪ ،‬وال مفتق ر إلي ه‪ ،‬وأم ا الكرس ي فه و وع اء‬
‫أسراره‪ ،‬وكنانة أنواره‪ ،‬ومستودع ما في دائرة {وسع كرسيه السموات واألرض}‪.‬‬
‫فجعل الصدر بمنزلة الكرسي‪ ،‬ألن فيه تحصيل العلوم الص ادرة بمنزل ة الس احة على ب اب القلب‪ ،‬والنفس يش رع من ه‬
‫بابان إليهما‪ ،‬فما صدر عن القلب من خير‪ ،‬أو عن النفس من شر‪ ،‬فهو محصل في الصدر‪ ،‬وعنه يصدر إلى الجوارح‪،‬‬
‫وهو معنى قوله تعالى‪{:‬وحصل ما في الصدور}‪.‬‬
‫وجعل القلب بمنزلة العرش‪ ،‬ألن عرشه في السماء معروف‪ ،‬وعرشه في األرض مسكون‪ ،‬ألن ع رش القل وب أفض ل‬
‫من عرش السماء‪ ،‬ألن ذلك الع رش ال يس عه‪ ،‬وال يحمل ه‪ ،‬وال يدرك ه‪ ،‬وه ذا ع رش في ك ل حين ينظ ر إلي ه‪ ،‬ويتجلى‬
‫عليه‪ ،‬وينزل من سماء كرمه إليه (ما وسعني سمواتي وال أرضي ووسعني قلب عبدي المؤمن)‪.‬‬
‫ولما جعل في عالم اآلخرة جنة ونارا للنعيم والعذاب‪ ،‬هذه خزانة الخير وهذه خزانة الشر‪ ،‬كذلك جعل الخير ال ذي ه و‬
‫مكان سويداء القلب جعله جنة عبده المؤمن‪ ،‬ألنه محل المشاهدة والتجلي والمناجاة والمنازالت ومنبع األن وار‪ ،‬وجع ل‬
‫النفس بمنزلة النار‪ ،‬ألنها منبع الشر‪ ،‬ومحل الوسواس‪ ،‬وربع الشيطان‪ ،‬ومحل الظلمة‪.‬‬
‫ثم جعل اللوح والقلم نسخة كتاب الكون والتك وين‪ ،‬وم ا ك ان وم ا يك ون إلى ي وم ال دين‪ ،‬وجع ل المالئك ة تستنس خ م ا‬
‫يؤمرون بنسخه‪ ،‬من محو وإثبات‪ ،‬وموت وحياة‪ ،‬ونقص وزيادة‪ ،‬فكذلك اللسان بمنزل ة القلم‪ ،‬والص در بمنزل ة الل وح‪،‬‬
‫فما نطق به اللسان‪ ،‬رقمته األذهان في ألواح الصدور‪ ،‬وما أرخته إرادة القلب إلى الصدر عبر عنه اللسان كالترجمان‪.‬‬
‫ثم جعل الحواس رسل القلب يستنسخ ما حصل فيها‪ ،‬فالسمع رسول‪ ،‬وهو جاسوس ه‪ ،‬والبص ر رس ول‪ ،‬وه و حارس ه‪،‬‬
‫واللسان رسول‪ ،‬وهو ترجمانه‪.‬‬
‫ثم جعل في اإلنسان ما هو داللة على الربوبية‪ ،‬وتصديق الرسالة المحمدية‪ ،‬وذلك الهيكل اإلنساني لما افتق ر إلى م دبر‬
‫وهو الروح‪ ،‬وكان مدبره واحدا‪ ،‬وكانت الروح غير مرئية‪ ،‬وال مكيفة‪ ،‬وال متحيزة في ش يء من الجس د‪ ،‬وال يتح رك‬
‫شيء من الجسد إال بشعورها به‪ ،‬وإرادتها له‪ ،‬ال يحس وال يمس إال بها‪ ،‬وكان ذلك كله داللة على أن العوالم ال ب د لهم‬
‫من مدبر ومحرك‪ ،‬ويلزم منه أن يكون واحدا عالما بم ا يح دث في ملك ه‪ ،‬ق ادرا على حدوث ه‪ ،‬وأن ه غ ير مكي ف‪ ،‬وال‬
‫متمثل‪ ،‬وال م رئي‪ ،‬وال متح يز‪ ،‬وال متبعِّض‪ ،‬وال محس وس‪ ،‬وال ملم وس‪ ،‬وال مقب وس‪ ،‬ب ل {ليس كمثل ه ش يء وه و‬
‫السميع البصير}‪.‬‬
‫ولما كان رسوله إلى خلقه اثنين‪ :‬ظاهرا وباطنا‪ ،‬فرسوله الظاهر محمد رسول هللا‪ ،‬ورس وله الب اطن جبري ل‪ ،‬فجبري ل‬
‫يأتيه بالوحي بين قومه وال يحسونه وال يعرفونه‪ ،‬فكذلك كان لمدبر هذا الهيكل اإلنساني‪ ،‬وهو الروح‪ ،‬رسوالن‪ :‬ب اطن‬
‫وظاهر‪ ،‬فالرسول الباطن هي اإلرادة‪ ،‬بمنزلة جبريل يوحي إلى اللسان‪ ،‬واللسان يعبر عن اإلرادة‪ ،‬وهو بمنزل ة س يدنا‬
‫محمد صلى هللا عليه وسلم‪.‬‬
‫ثم لما جعل فيك داللة على صحة نبوته‪ ،‬وصدق رسالته‪ ،‬جعل فيك أيض ا دالل ة على م ا ج اء ب ه من تحقي ق ش ريعته‪،‬‬
‫واتباع سنته‪ ،‬فكان أصل األيدي خمسة أشياء‪ ،‬كل منها خمسة‪ ،‬فاألصل األول ما ب ني علي ه فق ال رس ول هللا ص لى هللا‬
‫عليه وسلم‪( :‬بني اإلسالم على خمس‪ :‬شهادة أن ال إله إال هللا‪ ،‬وإقام الص الة‪ ،‬وإيت اء الزك اة‪ ،‬وص وم رمض ان‪ ،‬والحج‬
‫إلى بيت هللا الحرام )‪.‬‬
‫األصل الثاني‪ :‬وكانت الص الة المفترض ة خمس ا‪ ،‬والث الث‪ :‬الزك اة المفروض ة في النص اب خمس‪ ،‬والراب ع‪{ :‬محم د‬
‫رسول هللا والذين معه}؛ أبو بكر وعمر وعثم ان وعلي‪ .‬فهم خمس ة برس ول هللا ص لى هللا علي ه وس لم الخ امس‪ .‬أه ل‬
‫البيت خمسة‪ :‬محمد صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬وعلي وفاطمة والحسن والحسين‪.‬‬
‫فلما كان أركان الدين إقامة أركان شريعته‪ ،‬ومحبة صحابته‪ ،‬ومودة قرابت ه‪ ،‬جع ل في أعض ائك منه ا دالل ة على ذل ك‬
‫خمسة‪ ،‬فالخمسة التي بني اإلسالم عليها بمنزلة الحواس الخمس من ك‪ ،‬وهي الس مع والبص ر واللمس والش م وال ذوق‪،‬‬
‫ألنك تجد بهذه الحواس مذاق كل شيء‪ ،‬ومعرفة كل شيء‪ ،‬وكذلك تجد بإقام ة تل ك األرك ان الخمس ة ذوق ك ل ش يء‪،‬‬
‫وإدراك العرفان‪ ،‬ومعرفة الرحمن‪ ،‬وعلم اإليقان‪.‬‬
‫فحاسة البصر تدعوك إلى إقامة أركان الصالة‪ ،‬ق ال ص لى هللا علي ه وس لم‪" :‬جعلت ق رة عي ني في الص الة"‪ ،‬وحاس ة‬
‫اللمس تدعوك ألداء الزكاة‪ ،‬قال هللا تعالى‪{ :‬خذ من أموالهم}‪ ،‬وحاس ة ال ذوق ت دعوك إلى ت رك ذوق الطع ام‪ ،‬إلقام ة‬
‫ركن الصيام‪ ،‬وحاسة السمع تدعوك إلى اس تماع األذان {وأذن في الن اس ب الحج}‪ ،‬وحاس ة الش م ت دعوك إلى انتش اق‬
‫أنفاس التوحيد {إني ألجد نفس الرحمن من قبل اليمن}‪ ،‬فهذه الحواس تدعوك إلى إقامة األركان الخمسة‪.‬‬
‫وجعل أصابعك الخمسة في يمينك بمنزلة محمد صلى هللا عليه وسلم وال ذين مع ه هم أب و بك ر وعم ر وعثم ان وعلي‪،‬‬
‫وإن آدم عليه السالم لما خلق نور سيدنا محمد صلى هللا عليه وسلم في جبينه ك انت المالئك ة تس تقبله وتس لم على ن ور‬
‫محمد صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬وآدم عليه السالم لم يره‪ ،‬فقال‪ :‬يا رب‪ ،‬أحب أن أنظر إلى نور ولدي محمد صلى هللا علي ه‬
‫فحوله إلى عضو من أعضائي ألراه‪ ،‬فح َّولَهُ إلى سبابته في ي ده اليم نى‪ ،‬فنظ ر إلي ه يتألأل في مس بحته‪ ،‬فرفعه ا‬
‫وسلم‪ِّ ،‬‬
‫فقال‪ :‬أشهد أن ال إله إال هللا‪ ،‬وأن محمدا رسول هللا‪ ،‬فلذلك سميت المسبحة‪ ،‬فقال‪ :‬ي ا رب‪ ،‬ه ل بقي في ص لبي من ه ذا‬
‫النور شيء؟ قال‪ :‬نعم‪ ،‬نور أصحابه‪ ،‬وهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي‪ ،‬فجعل ن ور علي في إبهام ه‪ ،‬ون ور أبي بك ر‬
‫في الوسطى‪ ،‬ونور عمر في البنصر‪ ،‬ونور عثم ان في الخنص ر‪ ،‬وقي ل‪ :‬إنم ا جعلت في ي دك لتقبض برؤوس هن على‬
‫حب هؤالء الخمسة‪ ،‬وال تفرق بينهم وبين محمد صلى هللا علي ه وس لم‪ ،‬ف إن هللا جم ع بينهم بقول ه‪{ :‬محم د رس ول هللا‬
‫والذين معه}‪.‬‬
‫ثم جعل أصابعك الخمسة في اليد اليمنى مذكرة بالخمسة أشباح‪ ،‬وهم أهل ال بيت ال ذين أذهب هللا عنهم ال رجس بقول ه‪:‬‬
‫{إنما يريد هللا ليذهب عنكم الرجس أهل البيت}‪ ،‬قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪( :‬أنزلت هذه اآلية فينا أهل ال بيت‬
‫أنا وعلي وفاطمة والحسن والحسين)‪.‬‬
‫ثم جعل أصابع قدميك الخمسة مشيرة لك مذكرة بالخمس صلوات التي افترضها هللا عليك‪ ،‬فتقوم بها على قدميك ألنه ا‬
‫خدمة هللا تعالى في األرض‪ ،‬والخدمة إنما تك ون من الق دمين‪ ،‬فل ذلك جعلت ق دمك اليم نى م ذكرة بالص لوات الخمس‪،‬‬
‫وأصابع قدمك اليمنى تذكرك بما يجب من نصاب الزكاة‪ ،‬وهي خمسة دراهم‪ ،‬فالزك اة مقرون ة بالص الة‪ ،‬فل ذلك جع ل‬
‫أصابع القدمين إشارة إلى الصالة والزكاة‪.‬‬
‫ثم جعل فيك ما يدل على الموت والبعث‪ ،‬وما يدل على نعيم القبر وعذابه‪ ،‬وهو النوم‪ ،‬وم ا ي راه الن ائم من من ام س يء‬
‫فيتعذب به فيصير بالنوم ك الميت‪ ،‬فاق د الحس فال س مع ل ه‪ ،‬وال بص ر ل ه‪ ،‬وال إدراك ل ه‪ ،‬ثم جع ل ل ه س معا وبص را‬
‫وإدراكا فيسمع ويبصر بسمع وبصر عن سمعه وبصره‪ ،‬ويرى نفسه تذهب حيث تشاء ويأكل ويشرب‪ ،‬فهي بمنزلة ما‬
‫يراه الميت في قبره من النعيم والعذاب في مدة البرزخ بين الموت والبعث‪ ،‬ثم يوقظك هللا من نومك ال عن م رادك وال‬
‫عن اختيارك‪ ،‬فلو أردت أن ال تنتبه من ذلك فأنت تطيق أن ال تبعث‪ ،‬وهذا تكذيب من أنكر البعث بع د الم وت وجهل ه‪،‬‬
‫وهم الزنادقة‪ ،‬والدهرية‪ ،‬والفالسفة‪ ،‬ور ٌّد على من أنكر عذاب القبر ونعيمه ومسألته‪ ،‬وهم المعتزلة‪.‬‬
‫ثم اعلم أن هللا تعالى خلق خلقه على ثالثة أصناف‪ ،‬فق ال تع الى‪ " :‬وهللا خل ق ك ل داب ة من م اء فمنهم من يمش ي على‬
‫بطنه كالحي ات والدي دان ومنهم من يمش ي على رجلين ك الطير واآلدمي ومنهم من يمش ي على أرب ع كال دواب‪ ،‬فمنهم‬
‫صنف كالساجد‪ ،‬وصنف كالراكع‪ ،‬وصنف كالقائم‪ ،‬فالقائم كاألشجار والجدران ال يطيقون ركوع ا‪ ،‬والراك ع كال دواب‬
‫ال يطيقون سجودا وال قياما‪ ،‬والساجد كالحشرات ال يطيقون رفعا‪ ،‬وكلهم مخلوقون لطاعته وتقديسه وتنزيهه {وإن من‬
‫شيء إال يسبح بحمده}‪ ،‬فجمع سبحانه لك سائر عبادات خلقه وطاعتهم‪ ،‬وبسط ل ك في خلق ه‪ ،‬إن ش ئت أن تعب ده قائم ا‬
‫وراكعا وساجدا فعلت‪ ،‬ليجمع لك فضيلة جميع خلقه‪ ،‬فكذلك ف رض علي ك الص الة‪ ،‬وجعله ا تش تمل على س ائر عب ادة‬
‫خلقه‪ ،‬فكذلك فضيلة الق َّوم والر َّكع والسجَّد‪.‬‬
‫وأنت المقصود من كل الوجود‪ ،‬وأنت خاصة العبيد لمراد المعبود‪ ،‬فهذا معنى قولنا متق دما‪ :‬خل ق هللا آدم علي ه الس الم‬
‫على صورة اسم محمد صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬وخلق الكون على هيئة رسمه‪.‬‬
‫واعلم أن المأل األعلى مسخرون في نفع شجرة الكون‪ ،‬مستعملون لمصالحها‪ ،‬ق ائمون بحقوقه ا‪ ،‬لم ا فيه ا من خاص ية‬
‫هذا الغصن المحمدي والنور األحمدي‪ ،‬فأول ما انسلخ نهار الوج ود‪ ،‬من ظلم ة لي ل الع دم‪ ،‬شعش عت أن وار الش موس‬
‫المحمدية‪ ،‬في أفق جبين آدم علي ه الس الم‪ ،‬فخ رت المالئك ة س جدا‪ ،‬وق الوا‪ :‬ملي ك الع رش أب دا‪ ،‬فلم ا أم روا بالس جود‬
‫فسجدوا‪ ،‬وخصوا بالشهود فشهدوا‪ ،‬وقيل لهم‪ :‬شكران هذه المشاهدة‪ ،‬أن تقوموا على ق دم المجاه دة‪ ،‬في خدم ة ش جرة‬
‫هو أصلها‪ ،‬ودولة هو عقدها وحله ا‪ ،‬فليكن منكم الس فرة‪ ،‬يس عون بالص حف المطه رة‪ ،‬وليكن منكم ال بررة‪ ،‬يطوف ون‬
‫حول حمى هذه الشجرة‪ ،‬وليكن منكم الحملة‪ ،‬يحملون لكل عامل عمله‪ ،‬وليكن منكم الكتاب‪ ،‬يقومون على أعتاب من قد‬
‫تاب‪ ،‬وليكن منكم من يغسل وج وههم من غب ار األوزار‪ ،‬بم اء االس تغفار‪ ،‬ويس تغفرون لمن في األرض‪ ،‬وليكن منكم‬
‫الحفظة‪ ،‬يحفظون عليهم أعمالهم‪ ،‬ويحصون م ا عليهم وم ا لهم‪ ،‬وليكن منكم من يس عى في أرزاقهم‪ ،‬ليتفرغ وا لطاع ة‬
‫رازقهم‪.‬‬
‫فقوم يرسلون الرياح‪ ،‬وقوم يسيرون السحاب‪ ،‬وق وم يس جرون البح ار‪ ،‬وق وم ي نزلون م اء األمط ار‪ ،‬وق وم يحفظ ون‬
‫األقطار‪ ،‬وقوم يغشون الليل‪ ،‬وقوم يسبحون النهار‪ ،‬وق وم معقب ات‪ ،‬يحفظ ون الج وارح من الموبق ات‪ ،‬وق وم يرفع ون‬
‫اآلفات‪ ،‬وقوم يزخرفون الجنان‪ ،‬وقوم يسعرون النيران‪.‬‬
‫ض ر‪ ،‬إلى ذل ك المحض ر‪ ،‬إبليس‪ ،‬وه و يرف ل في ثي اب‬ ‫فلما تمهدت الدار‪ ،‬ودار كأس إرادته فاس تدار‪ ،‬ف أول م ا استُحْ ِ‬
‫التسبيح والتقديس‪ ،‬لكنها محشوة بأدغال التدليس‪ ،‬فلما حضر إلى ذل ك المحض ر‪ ،‬وش اهد جم ال ذل ك المنظ ر‪ ،‬ووق ف‬
‫على عرفات المعرفة‪ ،‬فأنكر وأصر على العصيان‪ ،‬وأضمر واستصغر حق هذا الماء والطين واستحقر‪ ،‬فلم ا قي ل ل ه‪:‬‬
‫اسجد في صفاء كاساتك‪ ،‬فأبى واس تكبر‪ ،‬فتج اوز الك اس‪ ،‬وفاتت ه ص حبة األكي اس‪ ،‬وبقي في ظلم ة الغم والوس واس‪،‬‬
‫وفتش أكياس علمه وعمله‪ ،‬فإذا هي فلوس أكياس‪ ،‬فبقي منقطعا في مفازة القطيعة‪ ،‬قاطعا للشيعة والشريعة‪ ،‬كلما تزايد‬
‫كربه‪ ،‬وتعاظم عليه ضربه‪ ،‬يستغيث بلسان "فألضلنهم وألمنينهم وآلمرنهم"‪ ،‬والقدر يقول‪ :‬ألكتبن لهم منش ور األم ان‬
‫{إن عبادي ليس لك عليهم سلطان}‪.‬‬
‫ف َسأ َل المالك اإلنظار‪ ،‬فأنظر ليكون قائد الكفار إلى النار‪ ،‬عكازة يعتم د عليه ا ذوو ال ذنوب واألوزار‪ ،‬ف إذا زل أح دهم‬
‫قال‪{ :‬إنما استزلهم الشيطان}‪ ،‬وإن عمل قال‪{ :‬هذا من عمل الشيطان}‪.‬‬
‫فلما اقتحم آدم وإبليس عقبة المعصية‪ ،‬هذا يترك ما أمر به‪ ،‬وذاك يفعل ما نهي عن ه‪ ،‬جم ع بينهم ا الق در إذ ق در‪ ،‬ألن ه‬
‫تعالى أمر وأراد خالف ما أمر‪ ،‬فما وهبه األمر سلبته اإلرادة‪.‬‬
‫فلما تعدياها حكم إلبليس أن ال يتعداها‪ ،‬وطنب الشقي فيها خيام ه‪ ،‬وجع ل في عرص تها مقام ه‪ ،‬وأم ا آدم فإن ه حن إلى‬
‫دار المقامة‪ ،‬وتذكر لياليه وأيامه‪ ،‬فعاد على نفسه بالمالمة‪ ،‬فنادى بين ندماء الندامة‪{ :‬ربنا ظلمنا أنفس نا}‪ ،‬فتلقى بش ير‬
‫قربته‪ ،‬بتفريج كربته {فتلقى آدم من ربه كلمات}‪.‬‬
‫وأما الشقي إبليس فانطلقت إليه خيول اللعنة‪ ،‬مطلقة األعنة‪ ،‬تبشره بطرده وبعده‪ ،‬فأخرج منها مأمورا {قلن ا اهبط وا}‪،‬‬
‫فتقلقل آدم قلقا‪ ،‬وكاد أن يتمزق حرقا‪ ،‬وقال‪ :‬سيدي‪ ،‬جرعت مرارة الصدود في الصعود‪ ،‬فأعذني من مرارة القنوط في‬
‫الهبوط‪ ،‬فقيل له‪ :‬ال بأس عليك ح تى تص ل إلى مف رق ف ريقين {فري ق في الجن ة وفري ق في الس عير}‪ ،‬فأخ ذ آدم ذات‬
‫اليمين‪ ،‬وأخذ إبليس ذات الشمال‪ ،‬فكان أصال ألصحاب الشمال‪ ،‬لكنهما لما اصطحبا واجتمعا فكان للصحبة أثر‪ ،‬فك ان‬
‫محله من آدم وسيره معه مما يلي شماله‪ ،‬فأثر ذلك على ما كان في أص له من الص فح األيس ر‪ ،‬ف برحوا في ظ ل ظلم ة‬
‫مخالفته‪ ،‬فكفروا بقربهم منه‪ ،‬ومحاذاتهم ل ه‪ ،‬وبقي من ك ان في الص فح األيمن في ن ور معرف ة آدم‪ ،‬فس لموا من ظلم ة‬
‫إبليس لبع دهم عن ه‪ ،‬وأث ر عليهم ج وار من كف ر‪ ،‬واس تظل بظلم ة ض الله‪ ،‬وهم أه ل الص فح األيس ر‪ ،‬وأث ر ذل ك في‬
‫صفاتهم‪ ،‬وسلمت لهم أنوار ذواتهم ومعارفهم‪ ،‬فما يرتكبه أهل الصفح األيمن من المعاصي واألوزار‪ ،‬هو من أثر ذل ك‬
‫الجوار‪ ،‬وأشعة ذلك العذار‪.‬‬
‫واعلم أنه كان لذلك األثر أصل آخر وسبب آخر‪ ،‬وهو أنه لما أم ر هللا تع الى بقبض القبض ة ال تي خل ق منه ا آدم علي ه‬
‫السالم‪ ،‬فهبط ملك الموت لذلك‪ ،‬وكان إبليس يومئذ في األرض قد استخلفه هللا تعالى فيها م ع جمل ة من المالئك ة‪ ،‬وق د‬
‫مكث زمانا طويال يعبد هللا‪ ،‬فقبض ملك الموت القبضة من سائر األرض‪ ،‬وكان إبليس يطؤها بقدمه‪ ،‬فلما عجنت طين ة‬
‫آدم‪ ،‬وصورت صورته من تلك الطينة‪ ،‬جاء خلق النفس من التراب الذي وطئه إبليس بقدم ه‪ ،‬وخل ق القلب من ال تراب‬
‫الذي لم يطأه إبليس بقدمه‪ ،‬فاكتسبت النفس ما فيها من الخبث واألوصاف المذمومة من مالمس ة وطء إبليس‪ ،‬ومن هن ا‬
‫جعلت النفس مأوى الشهوات‪ ،‬وعيشه وسلطانه عليها لوطئه لها‪ ،‬ومن هن ا جع ل إبليس التك بر على آدم‪ ،‬حيث وج دها‬
‫من تراب قدمه‪ ،‬ونظر إلى جوهر عنصره‪ ،‬وهو النار‪ ،‬فادعى الفخار‪ ،‬حينئذ‪ ،‬ومال إلى االس تكبار‪ ،‬وه ذا مع نى ق ول‬
‫هللا سبحانه وتعالى‪{ :‬يا أيها الذين آمنوا ال تتبعوا خطوات الشيطان}‪ ،‬التي خلقت من تحت خطواته‪.‬‬
‫اعلم أنه لما نشأت شجرة الكون أنبتت أغصانا ثالثة‪ ،‬غصن ذات اليمين‪ ،‬وغصن ذات الش مال‪ ،‬وغص ن نبت مس تقيما‬
‫قويما‪ ،‬وهو غصن السابقين‪ ،‬فكانت روحانية محم د ص لى هللا علي ه وس لم قائم ة بالثالث ة أغص ان‪ ،‬س ارية فيه ا‪ ،‬لك ل‬
‫غصن نصيب على مقدار قابليته لتلك الروحانية‪ ،‬قال هللا تعالى‪{ :‬وما أرسلناك إال رحمة للعالمين}‪.‬‬
‫فكان حظ غصن أصحاب اليمين روحانية الهداية‪ ،‬والمتابعة له‪ ،‬والعمل بسنته وشريعته‪ ،‬قال هللا تعالى‪{ :‬الذين يتبعون‬
‫الرسول النبي األمي}‪ ...‬اآلية‪ ،‬وكان حظ السابقين روحانية القربى منه‪ ،‬والزلفى لديه‪ ،‬والصحبة له {فأولئك مع ال ذين‬
‫أنعم هللا عليهم من النبيين}‪ ...‬اآلية‪ ،‬وكان ح ظ أص حاب الش مال من روحاني ة حم ايتهم في ال دنيا‪ ،‬وأمنهم من العقوب ة‬
‫المعجلة {وما كان هللا ليعذبهم وأنت فيهم}‪ ...‬اآلية‪.‬‬
‫فلما آن أوان ظهور جسمانيته صلى هللا عليه وس لم إلى الوج ود نبت غص ن وج وده مس تقيما قويم ا‪ ،‬فلم ا ثبت أص له‪،‬‬
‫ونبت فرعه‪ ،‬ناداه متولي سياسته‪{ :‬فاستقم كما أم رت}‪ ،‬فك انت ص فته ص لى هللا علي ه وس لم االس تقامة‪ ،‬ومقام ه دار‬
‫المقامة‪ ،‬فلما استقام رحل عن الكونين‪ ،‬ولما أقام نقل من مقام إلى مقام‪ ،‬حتى استقر به المنزل فأقام‪.‬‬
‫فالمقام األول‪ :‬مقام الوجود في الدنيا‪ ،‬وهو قوله تعالى‪{ :‬يا أيها المدثر * قم فأنذر}‪ ،‬والمقام الثاني‪ :‬المقام المحم ود في‬
‫اآلخرة‪ ،‬وهو قوله تعالى‪{ :‬عسى أن يبعثك ربك مقاما محم ودا}‪ ،‬والمق ام الث الث‪ :‬مق ام الخل ود في الجن ة‪ ،‬وه و قول ه‬
‫تعالى‪{ :‬الذي أحلنا دار المقامة من فضله}‪ ،‬والمقام الرابع‪ :‬المقام المشهود‪ ،‬مقام ق اب قوس ين لرؤي ة المعب ود {ثم دن ا‬
‫فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى}‪ ...‬اآلية‪.‬‬
‫فهو المخصوص بالدنو والعلو والشهود‪ ،‬إذ كان هو المقصود من ك ل الوج ود‪ ،‬ألن الوج ود لم ا ك ان ش جرة ك ان ه و‬
‫ثمرتها‪ ،‬وكان هو جوهرتها‪ ،‬فالشجرة المثمرة إنما تثمر بالحبة التي ينبت بها أصلها‪ ،‬فإذا غرس ت تل ك الحب ة و ُغ ذيت‬
‫وربيت حتى نبتت وفرعت وأورقت واهتزت وأثمرت‪ ،‬فإذا نظرت تلك الشجرة رأيته ا في تل ك الحب ة ال تي نبت منه ا‬
‫هذه الشجرة‪ ،‬فالحبة في البداية نطفة حتى أظهرت صورة الشجرة‪ ،‬والشجرة في النهاية بها ظهرت‪ ،‬ف أظهرت ص ورة‬
‫تلك الحبة‪.‬‬
‫فكذلك بطونه صلى هللا عليه وسلم في المعنى في السابق‪ ،‬واختفاؤه وظهوره في الصورة في الالح ق واش تهاره‪ ،‬وه و‬
‫معنى قوله صلى هللا عليه وسلم‪( :‬كنت نبيا وآدم بين الماء والطين)‪ ،‬فكان هو مظهر معنى ه ذه الش جرة‪ ،‬وه و مظه ر‬
‫صورته صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬فما برح بلسان القدم مذكورا‪ ،‬وفي طي العدم منشورا‪.‬‬
‫اش ِه وبَ ِّز ِه‪ ،‬فطواه في خزانة ملكه‪ ،‬وعباه أثوابا بعضها فوق بعض‪ ،‬فأول ث وب‬
‫وما مثال ذلك إال مثال تاجر عمد إلى فِ َر ِ‬
‫دمجه وطواه‪ ،‬هو آخر ثوب أظهره وأبداه‪ ،‬كذلك س يدنا محم د ص لى هللا علي ه وس لم ك ان أوال لك ل وج ودا‪ ،‬وآخ رهم‬
‫ظهورا وخروجا‪.‬‬
‫فلما تولى مقصار القدر سياسة هذا الغصن النبوي‪ ،‬فغذاه بلباب بره وسقاه بكأس محبت ه‪ ،‬وحم اه في قل ة حم اه‪ ،‬ورب اه‬
‫حتى اهتزت ُر باه‪ ،‬وتفرعت نفحات شذاه‪ ،‬فكانت تلك النفحات غذاء أرواح العارفين‪ ،‬ونر بص ائر المؤم نين‪ ،‬وريحان ة‬
‫حضرة المحبين‪ ،‬وعرصة مجم ع العاص ين‪ ،‬وغي اث مستس قي الم ذنبين‪ ،‬ف إن هب من تلق اء أص حاب الش مال س موم‬
‫خطيئة أو عاصف معصية‪ ،‬فأمال غصنا قد أنبته هللا نباتاـ فمال ب ه إلى عم ل من أعم ال أه ل الش مال تالعب بفرع ه‪،‬‬
‫وأثر ذلك في خضرة زرعه‪ ،‬لكن أصله في أرض اإليم ان ث ابت‪ ،‬فم ا يض ره م ا ح دث في فرع ه الن ابت‪ ،‬إذا تدارك ه‬
‫صاحب سيئاته فحماه من ذلك الهوى‪ ،‬وأماله إلى طريق االستقامة بعد الط وى‪ ،‬وس قاه بم اء االس تغفار ح تى ارت وى‪،‬‬
‫فهنالك يقبل منه ما نوى‪ ،‬وي ورق غص ن إيمان ه بع د م ا زوى‪ ،‬ويق وم خطيب االعت ذار عن ه وه و الص ادق فيم ا نق ل‬
‫وروى‪ ،‬ويقسم بالنجم إذا هوى‪ ،‬ما ضل صاحبكم وما غوى‪.‬‬
‫ثم اعلم أن الغصن المحمدي قد حصل من روحانية ما هو مادة األرواح‪ ،‬ومن جسمانية ما هو مادة األشباح‪ ،‬فأم ا م ادة‬
‫روحانيته جوده في سر قوله تعالى‪{ :‬هللا ن ور الس موات واألرض}‪ ،‬إلى قول ه‪{ :‬مص باح}‪ ،‬يع ني مص باح ن ور نبين ا‬
‫محمد صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬فقد جعله مصباح مشكاة الوجود‪ ،‬فشبه الكون بالمشكاة‪ ،‬وسيدنا محمدا صلى هللا عليه وسلم‬
‫بالزجاجة‪ ،‬والنور الذي هو قلبه بالمصباح‪ ،‬فأشرق نور باطنه على ظ اهره‪ ،‬كإش راق المص باح في الزجاج ة‪ ،‬فص ار‬
‫نور المصباح نارا‪ ،‬والزجاجة نورا لصفائها‪ ،‬فصار نورا‪ ،‬وكان حظ كل مخلوق من ذل ك بحس ب قرب ه من ه‪ ،‬واتباع ه‬
‫له‪ ،‬والدخول في شيعته‪ ،‬والعمل بشريعته وهو معنى قوله تعالى‪{ :‬انزل من السماء ماء بقدر}‪ ،‬فش به هللا تع الى حبيب ه‬
‫محمدا صلى هللا عليه وسلم بالماء النازل من السماء بقدر‪ ،‬ألن الماء حياة كل شيء‪ ،‬وكذلك كان ن وره ص لى هللا علي ه‬
‫وسلم حياة كل قلب‪ ،‬ووجوده رحمة لكل شيء‪.‬‬
‫ثم بيَّن انتفاع الناس بن وره‪ ،‬وم ا ن الهم من بركت ه ص لى هللا علي ه وس لم باألودي ة‪ ،‬فجع ل القل وب أودي ة‪ ،‬منه ا الكب ير‬
‫والصغير‪ ،‬والجليل والحقير‪ ،‬فاحتمل كل قلب على قدر وسعه‪ ،‬ومقدار مادته من الماء‪ ،‬وتطرق السيل إليه {قد علم كل‬
‫أناس مشربهم}‪ ،‬ثم شبه جسمانيته بالزب د ال رابي المحتم ل على وج ه الم اء الص افي‪ ،‬وه و مرب اه الظ اهر من األك ل‬
‫والشرب والنكاح‪ ،‬ومشاركة الناس في أفعالهم وأحوالهم فذلك كل ه ي ذهب ويتالش ى {وأم ا م ا ينف ع الن اس} من نبوت ه‬
‫ورسالته وحكمته وعلمه ومعرفته وشفاعته {فيمكث في األرض}‪.‬‬
‫واعلم أنه إنما كانت حكمة خلقه كذلك أنه خلق من لطيف وكثيف‪ ،‬ليكون كامل الخلق‪ ،‬كامل الوص ف‪ ،‬خلق ه هللا تع الى‬
‫من ضدين‪ :‬جسماني وروحاني‪ ،‬فجعل جسمانيته وبشريته لمالقاة البشر‪ ،‬ومقايسات الصور‪ ،‬فجع ل ل ه ق وة يالقي به ا‬
‫البشر فيمدهم بمادة بشريته‪ ،‬فيكون معهم بهم‪ ،‬فيكون هم لهم (إنما أنا بش ر مثلكم)‪ ،‬يجانس هم ويش اكلهم‪ ،‬ألن ه ل و ب رز‬
‫إليهم في هيئة روحانية ملكية نورانية لم ا أط اقوا مقابلت ه‪ ،‬وم ا اس تطاعوا مقاومت ه‪ ،‬فل ذلك َّ‬
‫من هللا تع الى بقول ه‪{ :‬لق د‬
‫جاءكم رسول من أنفسكم}‪ ،‬ثم جعل له قوة وروحانية يقابل بها عالم الروحانيين‪ ،‬وملكوت العلويين‪ ،‬ليكون تام البركة‪،‬‬
‫تام الرحمة‪ ،‬الروحانيون يشهدون جسمانيته‪.‬‬
‫ثم جعل له وصفا ثالثا خاصا خارجا عن هذين الوصفين‪ ،‬وهو أنه جعل فيه وصفا ربانيا وسرا إلهيا يثبت به عند تجلي‬
‫صفات الربوبية‪ ،‬ويطيق به مشاهدة الحضرة اإللهية‪ ،‬ويتلقى به أسرار أنوار الفرداني ة‪ ،‬ويس مع ب ه خط اب اإلش ارات‬
‫القدسية‪ ،‬وينشق به عطر النفحات الرحمانية‪ ،‬ويعرج به إلى المقامات العذبة البهي ة‪ ،‬وه و مع نى قول ه ص لى هللا علي ه‬
‫وسلم‪( :‬لست كأحد منكم)‪ ،‬وقوله صلى هللا عليه وس لم‪( :‬لي وقت ال يس عني في ه غ ير ربي س بحانه)‪ ،‬فه ذا المق ام ليس‬
‫نبي مرسل‪ ،‬كأس لم يتناوله سواه‪ ،‬عروس ما جليت إال عليه‪ ،‬وهو ه ذا المق ام المخص وص‬ ‫ك مقرب وال ٌّ‬ ‫يختص به َملَ ٌ‬
‫به‪ ،‬وهو أحد المقامات األربعة التي ذكرناها‪ ،‬وأما الثالثة األخر فإنها كرامات لسائر الخلق‪ ،‬ليتناول ك لٌّ منهم م ا قس م‬
‫له من النصيب‪.‬‬
‫فأما المقام المحمود فمخصوص بعالم الصورة‪ ،‬وهو ع الم المل ك في ال دنيا‪ ،‬فيتن اولهم وج ود طمأنينت ه‪ ،‬وبرك ة نبوت ه‬
‫ورسالته {وما أرسلناك إال رحمةً للعالمين} أقيم على منبر {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من رب ك}‪ ...‬اآلي ة‪ ،‬فه و‬
‫في الدعوة مجيبهم‪ ،‬وفي النصيحة خطيبهم‪ ،‬ومن الزلزلة طبيبهم‪ ،‬ومن المحبة نصيبهم‪ ،‬فهذا مخصوص بأهل الدنيا‪.‬‬
‫وأما المقام الثاني فهو المقام المحمود في القيامة‪ ،‬وذلك نصيب المأل األعلى‪ ،‬فينالهم من بركة مقامه‪ ،‬ومشاهدة جمال ه‪،‬‬
‫وسماع كالمه {يوم يقوم الروح والمالئكة}‪ ...‬اآلية‪ ،‬يؤذن له في الخطاب‪ ،‬فيقوم خطيبا والمالئك ة ص فوفا‪ ،‬والخالئ ق‬
‫وقوفا‪ ،‬فيفتتح خطبته بالشفاعة ألمته‪ ،‬ينادي‪{ :‬أمتي أمتي} فيجيبه‪{ :‬رحمتي رحمتي}‪.‬‬
‫وأما المقام الثالث فالشهود‪ ،‬وذلك في دار الخلود‪ ،‬لينال أه ل الجن ة من ه نص يبهم‪ ،‬تتمت ع بمش اهدته الح ور‪ ،‬وتتش رف‬
‫بحلوله القصور‪ ،‬ويقدم لقدومه السرور‪ ،‬وتزداد الجنة نورا‪ ،‬وترفع بقدومه الحجب وتزول الشرور‪.‬‬
‫المقام الرابع هو المقام الذي ُخصَّ به صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬وهو مقام رؤية المعبود جل وعال‪ ،‬وه و مق ام ق اب قوس ين‬
‫أو أدنى‪.‬‬
‫وذلك أنه لما كان ثمرةَ شجرة الكون‪ ،‬ودرةَ صدفة الوجود وسره‪ ،‬ومعنى كلم ة (كن)‪ ،‬ولم تكن الش جرة م رادة ل ذاتها‪،‬‬
‫وإنما كانت مرادة لثمرتها‪ ،‬فهي محمية محروسة الجتناء ثمرتها‪ ،‬واستجالء زهرتها‪.‬‬
‫فلما كان المراد عرض هذه الثمرة بين يدي مثمرها‪ ،‬وزفها إلى حضرة قربه‪ ،‬والطواف بها على ندمان حض رته‪ ،‬قي ل‬
‫له‪ :‬يا يتيم أبي طالب‪ ،‬قم فإن لك طالبًا‪ ،‬قد ادخر لك مطالب‪ ،‬فأرسل إليه أخص خدام الملك‪ ،‬فلما ورد عليه قادما‪ ،‬واف اه‬
‫على فراشه نائما‪ ،‬فقال له‪ :‬يا جبريل؛ إلى أين؟ فقال‪ :‬يا محمد؛ ارتف ع األين من ال بين‪ ،‬ف إني ال أع رف في ه ذه النوب ة‬
‫أين؟ لكني رسول القدم‪ ،‬أرسلت إليك من جملة الخدم " وما نتنزل إال بأمر ربك " قال‪ :‬يا جبريل‪ ،‬فما الذي مراد م ني؟‬
‫قال‪ :‬أنت مراد اإلرادة‪ ،‬ومقصود المشيئة‪ ،‬فالكل مرا ٌد ألجلك‪ ،‬وأنت مراد ألجله‪ ،‬وأنت مختار الكون‪ ،‬أنت صفوة كأس‬
‫الحب‪ ،‬أنت درة هذه الصدفة‪ ،‬أنت ثمرة ه ذه الش جرة‪ ،‬أنت ش مس المع ارف‪ ،‬أنت ب در اللط ائف‪ ،‬م ا مه دت ال دار إال‬
‫لرفعة محلك‪ ،‬ما هيئ هذا الجمال إال لوصلك‪ ،‬م ا روق ك أس المحب ة إال لش ربك‪ ،‬فقم ف إن الموائ د لكرامت ك مم دودة‪،‬‬
‫والمأل األعلى يتباشرون بقدومك عليهم‪ ،‬والكروبيون يتهللون بورودك إليهم‪ ،‬وق د ن الهم ش رف روحانيت ك‪ ،‬فال ب د لهم‬
‫من نصيب جسمانيتك‪ ،‬فش ّرف عالم الملكوت كما شرفت عالم الملك‪ ،‬وش رف ب وطء ق دميك قم ة الس ماء‪ ،‬كم ا ش رفت‬
‫بهما أديم البطحاء‪.‬‬
‫قال‪ :‬يا جبريل؛ الكريم يدعوني فماذا يفعل بي؟ قال‪ :‬ليغفر لك ما تقدم من ذنب ك وم ا ت أخر‪ ،‬ق ال‪ :‬ه ذا لي؛ فم ا لعي الي‬
‫وأطفالي؟ فإن شر الناس من أكل وحده‪ ،‬قال‪{ :‬ولسوف يعطيك ربُّك فترضى}‪ ،‬قال‪ :‬يا جبريل؛ اآلن طاب قلبي‪ ،‬ها أنا‬
‫ذاهبٌ إلى ربي‪ ،‬فقرب له البراق‪ ،‬فقال‪ :‬مالي بهذا؟ قال‪ :‬مركب العشاق‪ ،‬قال‪ :‬أنا مركبي شوقي‪ ،‬وزادي توقي‪ ،‬ودليلي‬
‫وان ض عيف أن يحم ل من يحم ل أثق ال محبت ه؟‬ ‫ليلي‪ ،‬أنا ال أصل إليه إال به‪ ،‬وال يدلني عليه إال هو‪ ،‬وكيف يطي ق حي ٌ‬
‫ورواسي معرفته؟ وأسرار أمانته التي عجزت عن حملها السموات واألرض والجبال؟‪.‬‬
‫وكيف تطبق أن تدل بي و أنت الحائر عند س درة المنتهى ‪ ,‬و ق د انتهى إلى حض رة ليس له ا منتهى ‪ ,‬ي ا جبري ل ‪ :‬أين‬
‫أنت م نى‪ ،‬ولي وقت ال يس عني في ه غ ير ربي؟ ي ا جبري ل إذا ك ان محب وبي ليس كمثل ه ش يء‪ ،‬فأن ا لس ت كأح دكم‪،‬‬
‫المركوب يقطع به المس افات‪ ،‬وال دليل يس تدل ب ه إلى الجه ات‪ ،‬وإنم ا ذل ك مح ل المح دثات‪ ،‬وأن ا حبي بي مق دس عن‬
‫الجهات‪ ،‬منزه عن المحدثات‪ ،‬ال يوصل إليه بالحركات‪ ،‬وال يس تدل علي ه باإلش ارات‪ ،‬فمن ع رف المع اني ع رف م ا‬
‫أعاني‪ ،‬هلم إن قربي منه مثل قاب قوسين أو أدنى‪.‬‬
‫فوقعت هيئة الوقت على جبريل؛ فقال‪ :‬يا محمد إنما جيء بي ألكون خادم دولتك‪ ،‬وصاحب حاشيتك‪ ،‬وجيء ب المركب‬
‫إلي ك إلظه ار كرامت ك‪ ،‬ألن المل وك من ع اداتهم إذا اس تزاروا حبيب ا‪ ،‬أو اس تدعوا قريب ا‪ ،‬وأرادوا ظه ور ك رامتهم‬
‫واحترامهم أرسلوا أخص خدامهم‪ ،‬وأعز دوابهم لنقل أقدامهم‪ ،‬فجئن اك على رس م ع ادة المل وك‪ ،‬وآداب الس لوك‪ ،‬ومن‬
‫اعتقد أنه سبحانه وتعالى يوصل إليه بال ُخطا وقع في الخَ طا‪ ،‬ومن ظن أنه محجوبٌ بالغطاء‪ ،‬فقد حرم العطاء‪.‬‬
‫يا محمد إن المأل األعلى في انتظارك‪ ،‬والجنان قد فتحت أبوابها‪ ،‬وزخرفت رحابها‪ ،‬وتزينت أترابه ا‪ ،‬وروق ش رابها‪،‬‬
‫كل ذلك فرحا بقدومك‪ ،‬وسرورا بورودك‪ ،‬والليلة ليلتك‪ ،‬والدولة دولتك‪ ،‬وأنا منذ خلقت منتظر هذه الليلة‪ ،‬وق د جعلت ك‬
‫الوسيلة في حاجة‪ ،‬قلَّت فيها حيلتي‪ ،‬وانقطعت وسيلتي‪ ،‬فأنا فيها حائر العقل‪ ،‬ذاهل الفكر‪ ،‬داهش السر‪ ،‬مش غول الب ال‪،‬‬
‫زائد البلبال‪ ،‬يا محمد؛ حيرتي أوقفتني في ميادين أزله وأب ده‪ ،‬فجلت في المي دان األول فم ا وج دت ل ه أول‪ ،‬وملت إلى‬
‫الميدان اآلخر‪ ،‬فإذا هو في اآلخر أول‪ ،‬فطلبت رفيقا إلى ذلك الرفيق‪ ،‬فتلقاني ميكائي ل في الطري ق‪ ،‬فق ال لي‪ :‬إلى أين؟‬
‫الطريق مسدودة‪ ،‬واألبواب دونه مردودة‪ ،‬ال يوصل إليه باألزمان المعدودة‪ ،‬وال يوجد في األماكن المحدودة‪ ،‬قلت‪ :‬فما‬
‫وقوفك في هذا المقام؟ قال‪ :‬شغلني بمكاييل البحار‪ ،‬وإنزال األمطار‪ ،‬وإرسالها في سائر األقط ار‪ ،‬ف أعرف كم أجاجه ا‬
‫مددا‪ ،‬وكم تقذف أمواجها زبدا‪ ،‬وال أعرف لألحدية أمدا‪ ،‬وال للفردية عددا‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فأين إسرافيل؟ قال‪ :‬أدخل في مكتب التعليم‪ ،‬يصافح بصفحة وجهه اللوح المحفوظ‪ ،‬ويستنسخ منه م ا ه و م بروم‬
‫ومنقوض‪ ،‬ثم يقرأ على صبيان التعليم في مثال‪{ :‬ذلك تقدير العزيز العليم}‪.‬‬
‫ثم هو في زمن تعلمه ال يرفع رأسه حيا ًء من معلمه‪ ،‬فطرفه عن النظر مقصور‪ ،‬وقلبه عن الفكر محصور‪ ،‬فهو ك ذلك‬
‫إلى يوم ينفخ في الصور‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فهلم نسأل العرش ونستهديه‪ ،‬ونستنسخ منه ما علمه ونستمليه‪ ،‬فلما سمع العرش ما نحن فيه‪ ،‬اهتز طرب ا‪ ،‬وق ال‪:‬‬
‫وستر ال يفتح دونه باب‪ ،‬وس ؤال ليس ل ه ج واب‪،‬‬
‫التحرك به لسانك‪ ،‬وال تحدث به َجنانَك‪ ،‬فهذا سر ال يكشفه حجاب‪ِ ،‬‬
‫ومن أنا في البين حتى أعرف له أين؟ وما أنا إال مخلوق من حرفين‪ ،‬وباألمس كنت الأثر وال عين‪.‬‬
‫من كان باألمس عدما مفقودا‪ ،‬كيف يعرف رؤية من لم يزل موج ودا‪ ،‬وال وال دا وال مول ودا‪ ،‬وه و س بقني باالس تواء‪،‬‬
‫وقهرني باالستيالء‪ ،‬فلوال استواؤه لما استويت‪ ،‬ولوال استيالؤه لما اهتديت‪.‬‬
‫استوى إلى السماء وهي دخان‪ ،‬واستوى على العرش لقيام البرهان‪ ،‬فوعزته لقد استوى‪ ،‬وال علم لي بما اس توى‪ ،‬وأن ا‬
‫والثرى بالقرب منه على حد سوى‪ ،‬فال أحيط بما حوى‪ ،‬وال أعرف ما زوى‪ ،‬ولكني عبد له؛ ولكل عبد ما نوى‪.‬‬
‫ثم إني أخبرك بقصتي‪ ،‬وأبث إليك شكوى غص تي‪ ،‬أقس م بعلي عزت ه‪ ،‬وق وي قدرت ه‪ ،‬لق د خلق ني‪ ،‬وفي بح ار أحديت ه‬
‫غرقني‪ ،‬وفي بيداء أبديته حيرني‪ ،‬تارة يطلع من مطالع أبديته فينعشني‪ ،‬وتارة يدنيني من مواقف قربه فيؤنسني‪ ،‬وتارة‬
‫يحتجب بحجاب عزته فيوحشني‪ ،‬وتارة ين اجيني بمناج اة لطف ه فيطرب ني‪ ،‬وت ارة يواص لني بكاس ات حب ه فيس كرني‪،‬‬
‫وكلما استعذبت من عربدة سكري قال لس ان أحديت ه‪{ :‬لن ت راني}‪ ،‬ف ذبت من هيبت ه فرق ا‪ ،‬وتم زقت من محبت ه قلق ا‪،‬‬
‫وصعقت عن تجلي عظمته كما خر موسى صعقا‪.‬‬
‫فلما أفقت من سكرة وجدي به قيل لي‪ :‬أيها العاشق هذا جمال ق د ص ناه‪ ،‬وحس ن ق د حجبن اه‪ ،‬فال ينظ ره إال ح بيب ق د‬
‫اصطفيناه‪ ،‬ويتيم قد ربيناه‪ ،‬فإذا سمعت‪{ :‬سبحان الذي أسرى بعبده} فقف على طري ق عروج ه إلين ا‪ ،‬وقدوم ه علين ا‪،‬‬
‫لعلك ترى من يرانا‪ ،‬وتفوز بمشاهدة من لم ينظر إلى سوانا‪.‬‬
‫يا محمد إذا كان العرش مشوقا إليك‪ ،‬فكيف ال أكون خادم يديك؟ قدم إليه مركبه األول‪ :‬وهو ال براق إلى بيت المق دس؛‬
‫ثم المركب الثاني‪ :‬وهو المعراج إلى سماء الدنيا‪ ،‬ثم المركب الثالث‪ :‬وهو أجنحة المالئكة من سماء إلى س ماء‪ ،‬وهك ذا‬
‫إلى السماء السابعة‪ ،‬ثم المركب الرابع‪ :‬وهو جناح جبريل عليه السالم إلى سدرة المنتهى‪ ،‬فتخلف جبريل علي ه الس الم‬
‫عندها‪ ،‬فقال‪ :‬يا جبريل‪ ،‬نحن الليلة أضيافك‪ ،‬فكيف يتخلف المض يف عن ض يفه؟ أههن ا ي ترك الخلي ل خليل ه؟ ق ال‪ :‬ي ا‬
‫ُ‬
‫تقدمت اآلن بقدر أنمل ة الح ترقت (وم ا من ا إال ل ه مق ا ٌم معل وم) ق ال‪ :‬ي ا‬ ‫محمد؛ أنت ضيف الكريم‪ ،‬ومدعو القديم‪ ،‬لو‬
‫جبريل؛ إذا كان ك ذلك أل ك حاج ة؟ ق ال‪ :‬نعم؛ إذا انتهى ب ك إلى الح بيب حيث ال منتهى‪ ،‬وقي ل ل ك‪ :‬ه ا أنت وه ا أن ا‪،‬‬
‫فاذكرني عند ربك‪ ،‬ثم زج به جبريل عليه السالم زجة فخرق به سبعين ألف حجاب من نور‪.‬‬
‫ثم تلقاه المركب الخامس‪ :‬وهو الرفرف من نور أخضر‪ ،‬قد سد م ا بين الخ افقين‪ ،‬فركب ه ح تى انتهى ب ه إلى الع رش‪،‬‬
‫فتمسك العرش بأذياله‪ ،‬وناداه بلسان حاله‪ ،‬وقال‪ :‬يا محم د‪ ،‬إلى م تى تش رب من ص فاء وقت ك آمن ا من معتك ره؟ ت ارة‬
‫يتشوق إليك حبيبك وينزل إلى سماء الدنيا‪ ،‬وتارة يطوف بك على ندمان حضرته‪ ،‬ويحملك على رفرف رأفته {سبحان‬
‫الذي أسرى بعبده} وتارة يشهدك جمال أحاديثه {ما كذب الفؤاد م ا رأى}‪ ،‬وت ارة يش هدك جم ال ص مدانيته {م ا زاغ‬
‫البصر وما طغى} وتارة يطلعك على سرائر ملكوتيته {فأوحى إلى عبده م ا أوحى} ‪ ،‬وت ارة ي دنيك من حض رة قرب ه‬
‫{فكان قاب قوسين أو أدنى}‪.‬‬
‫يا محمد‪ ،‬هذا أوان الظمآن إليه‪ ،‬واللهفان عليه‪ ،‬والمتح ير في ه‪ ،‬ال أدري من أي جه ة آتي ه‪ ،‬جعل ني أعظم خلق ه‪ ،‬فكنت‬
‫أعظمهم وأشدهم خوفا منه‪ ،‬يا محمد‪ ،‬خلقني يوم خلقني فكنت أرعد من هيبة جالله‪ ،‬فكتب على ق ائمتي‪ :‬ال إل ه إال هللا‪،‬‬
‫فازددت لهيبة اسمه ارتعادا وارتعاشا‪ ،‬فلما كتب علي‪ :‬محمد رس ول هللا س كن ل ذلك قلقي‪ ،‬وه دأ روعي‪ ،‬فك ان اس مك‬
‫أمانا لقلبي‪ ،‬وطمأنينة لسري‪ ،‬ورقية لقلقي‪ ،‬فهذه بركة وضع اسمك علي‪ ،‬فكيف إذا وقع جميل نظرك إلي؟‪.‬‬
‫يا محمد‪ ،‬أنت المرسل رحمة للعالمين‪ ،‬وال بد لي من نصيب في هذه الليلة‪ ،‬ونصيبي من ذلك أن تشهد لي ب البراءة من‬
‫النار‪ ،‬مما نسبه إلي أهل الزور‪ ،‬وتقوله علي أهل الغرور‪ ،‬فإنه أخط أ في ق وم فض لّوا وظن وا أني أس ع من ال ح د ل ه‪،‬‬
‫وأحمل من ال هيئة له‪ ،‬وأحيط بمن ال كيفية له‪.‬‬
‫يا محمد‪ ،‬من ال حد لذاته‪ ،‬وال عد لصفاته‪ ،‬فكيف يكون مفتقرا إلي أو محموال علي؟ فإذا كان الرحمن اسمه‪ ،‬واالستواء‬
‫صفته ونعته‪ ،‬وصفته ونعته متصالن بذاته‪ ،‬فكيف يتصل بي أو ينفصل عني؟ وال أنا منه وال هو مني؟!!‬
‫يا محمد‪ ،‬وعزته لست بالقرب منه وصال‪ ،‬وال بالبعد عن ه فص ال‪ ،‬وال ب المطيق ل ه حمال‪ ،‬وال بالج امع ل ه ش مال‪ ،‬وال‬
‫بالواجد له مثال‪ ،‬بل أوجدني من رحمته منة وفضال‪ ،‬ولو محقني لكان فضال منه وعدال‪.‬‬
‫يا محمد‪ ،‬أنا محمول قدرته‪ ،‬ومعمول حكمته‪ ،‬فكيف يصح أن يكون الحامل محموال؟ {فال تقف م ا ليس ل ك ب ه علم إن‬
‫السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئوال}‪.‬‬
‫فأجابه لسان حاله صلى هللا عليه وسلم‪ :‬أيها العرش‪ ،‬إليك عني؛ فأنا مشغول عنك‪ ،‬فال تكدر علي صفوتي‪ ،‬وال تش وش‬
‫علي خلوتي‪ ،‬فما في الوقت سعة لعتابك‪ ،‬وال محل لخطابك‪ ،‬فما أعاره صلى هللا عليه وسلم طرفا‪ ،‬وال قرأ من مسطور‬
‫ما أوحى إليه حرفا {ما زاغ البصر}‪.‬‬
‫ثم قدم المركب السادس‪ :‬وهو التأييد‪ ،‬فنودي من فوقه‪ ،‬ولم ير حافظك قدامك‪ ،‬ه ا أنت ورب ك‪ ،‬ق ال‪ :‬فبقيت متح يرا‪ ،‬ال‬
‫أعرف ما أقول‪ ،‬وال أدري م ا أفع ل‪ ،‬إذ وقعت على ش فتي قط رة أحلى من العس ل‪ ،‬وأب رد من الثلج‪ ،‬وألين من الزب د‪،‬‬
‫وأطيب ريحا من المسك‪ ،‬فصرت بذلك أعلم من جميع األنبياء والرس ل‪ ،‬فج رى على لس اني‪ :‬التحي ات المبارك ات هلل‪،‬‬
‫الصلوات الطيبات هلل‪ ،‬فأجبت‪ :‬السالم عليك أيها النبي ورحمة هللا وبركاته‪ ،‬فأشركت إخواني األنبياء فيم ا اختصص ت‬
‫به‪ ،‬فقلت‪ :‬السالم علينا وعلى عباد هللا الصالحين‪ ،‬أراد بهم األنبياء عليهم الصالة والسالم‪ ،‬ولهذا قيل ألبي بك ر رض ي‬
‫هللا عنه ليلة أسري برسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪ :‬إنه رأى ربه‪ ،‬قال‪ :‬صدق‪ ،‬وكنت معه متمسكا بأذياله‪ ،‬مشاركه في‬
‫مقاله‪ ،‬قيل‪ :‬كيف؟ ق ال‪ :‬في قول ه‪ :‬الس الم علين ا‪ ،‬فأجاب ه المالئك ة‪ :‬أش هد أال إل ه إال هللا‪ ،‬وأن محم دا رس وله‪ ،‬ق ال‪ :‬ثم‬
‫نوديت‪ :‬ادْنُ يا محمدُ‪ ،‬فدنوت‪ ،‬ثم وقفت‪ ،‬وهو معنى عز وجل‪{ :‬ثم دنا فتدلى}‪ ،‬وقي ل‪ :‬دن ا محم د في الس ؤال‪ ،‬فت دلى‪،‬‬
‫فتقدم للرب عز وجل‪ ،‬قيل‪ :‬دنا بالشفاعة‪ ،‬وتقرب إلى الرب باإلجابة‪ ،‬وقيل‪ :‬دنا بالخدم ة‪ ،‬وتق رب لل رب بالرحم ة {ثم‬
‫دنا فتدلى} معناه‪ :‬دنا محمد من ربه فتدلى عليه الوحي من ربه‪ ،‬دنا لطافة‪ ،‬فتدلى عليه رأفة ورحمة‪ ،‬ال يوصف بقط ع‬
‫مفازة وال مسافة‪ ،‬قد ذهب األين من البين‪ ،‬وتالشى الكيف واضمحل األين‪ ،‬فكان ق اب قوس ين‪ ،‬فل و اقتص ر على ق اب‬
‫قوسين الحتمل أن يكون للرب مكان‪ ،‬وإنما قوله‪{ :‬أو أدنى} لنفي المكان‪ ،‬وكان معه حيث ال مكان وال زمان وال أوان‬
‫وال أكوان‪.‬‬
‫فنودي‪ :‬يا محمد‪ ،‬تقدم‪ ،‬فقال‪ :‬يا رب‪ ،‬إذا انتفى األين فأين أضع القدم؟ قال‪ :‬ضع الق دم على الق دم‪ ،‬ح تى يعلم الك ل أني‬
‫منزه عن الزمان والمكان واألكوان‪ ،‬وعن الليل وعن النهار‪ ،‬وعن الحدود واألقطار‪ ،‬وعن الحد والمقدار‪.‬‬
‫يا محمد‪ ،‬انظر‪ ،‬فنظر‪ ،‬فرأى نورا ساطعا‪ ،‬فقال‪ :‬م ا ه ذا الن ور؟ قي ل‪ :‬ليس ه ذا ن ورا‪ ،‬ب ل ه و جن ات الف ردوس‪ ،‬لم ا‬
‫ارتقيت صارت في مقابل قدميك‪ ،‬وما تحت قدميك فداء لقدميك‪ ،‬يا محمد‪ ،‬مبدأ قدمك منقطع أوهام الخالئق‪ ،‬ي ا محم د‪،‬‬
‫ما دمت في سير األين‪ ،‬جبريل دليلك‪ ،‬والبراق مركبك‪ ،‬فإذا ذهب المك ان‪ ،‬وغبت عن األك وان‪ ،‬وانتفى األين‪ ،‬وارتف ع‬
‫البين من البين‪ ،‬ولم يبق إال قاب قوسين‪ ،‬فأنا اآلن دليلك‪.‬‬
‫يا محمد‪ ،‬أفتح لك الباب‪ ،‬وأرفع لك الحجاب‪ ،‬وأسمعك طيب الخطاب‪ ،‬في عالم الغيب وحدتني تحقيقا وإيمانا‪ ،‬فوح دني‬
‫اآلن في عالم الشهود مشاهدة وعيانا‪ ،‬فقال‪ :‬أعوذ بعفوك من عقوبتك‪ ،‬فقيل‪ :‬هذا لعصاة أمت ك‪ ،‬ليس ه ذا حقيق ة م دعي‬
‫وحدتي‪ ،‬فقال‪( :‬ال أحصي ثناء عليك‪ ،‬أنت كما أثنيت على نفسك)‪ .‬فقال‪ :‬يا محمد‪ ،‬إذا ك ّل لسانك عن العبارة‪ ،‬فألكسونه‬
‫لسان الصدق‪{،‬وما ينطق عن الهوى} فإذا ضل عيانك عن اإلشارة فألجعلن عليك خلعة الهداية {م ا زاغ البص ر وم ا‬
‫طغى} ثم ألعيرنك نورا تنظر به جم الي‪ ،‬وس معا تس مع ب ه كالمي‪ ،‬ثم أعرف ك بلس ان الح ال مع نى ع ز وج ل علي‪،‬‬
‫وحكمة نظرك إلي‪ ،‬فكأنه يقول مشيرا‪ :‬يا محمد؛ {إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا} والشاهد مطالب بحقيقة ما ش هد‬
‫به‪ ،‬وال يجوز ل ه الش هادة على غ ائب‪ ،‬فأري ك جن تي لتش اهد م ا أعددت ه ألولي ائي‪ ،‬وأري ك ن اري لتش اهد م ا أعددت ه‬
‫ألعدائي‪ ،‬ثم أشهدك جاللي‪ ،‬وأكشف لك عن جمالي‪ ،‬لتعلم أني منزه عن المثيل والشبيه والبديل والنظير والمشير وعن‬
‫الحد و القد‪ ،‬وعن الحصر والعد‪ ،‬وعن الجوز والف رد‪ ،‬وعن المواص لة والمفاص لة‪ ،‬والمماثل ة والمش اكلة‪ ،‬والمجالس ة‬
‫والمالمسة‪ ،‬والمباينة والممازحة‪.‬‬
‫يا محمد‪ ،‬إني خلقت خلقي‪ ،‬ودعوتهم إلي‪ ،‬فاختلفوا علي‪ ،‬فقوم جعلوا العزير ابني‪ ،‬وأن يدي مغلولة‪ ،‬وهم اليهود‪ ،‬وقوم‬
‫زعموا أن المسيح ابني‪ ،‬وأن لي زوجة وول دا‪ ،‬وهم النص ارى‪ ،‬وق وم جعل وا لي ش ركاء وهم الوثني ة‪ ،‬وق وم جعل وني‬
‫صورة‪ ،‬وهم المجسمة‪ ،‬وقوم جعلوني محدودا‪ ،‬وهم المشبهة‪ ،‬وقوم جعلوني معدوما‪ ،‬وهم المعطلة‪ ،‬وق وم زعم وا أني‬
‫ال أرى في اآلخرة‪ ،‬وهم المعتزلة‪ ،‬وها أنا قد فتحت لك بابي‪ ،‬ورفعت لك حجابي‪ ،‬فانظر يا حبيبي ي ا محم د‪ ،‬ه ل تج د‬
‫في شيئا مما نسبوني إليه؟‪ ،‬فرآه صلى هللا عليه وسلم بالنور الذي ق واه ب ه‪ ،‬وأي ده ب ه من غ ير إدراك وال إحاط ة ف ردا‬
‫ص مدا‪ ،‬ال في ش يء‪ ،‬وال على ش يء‪ ،‬وال قائم ا بش يء‪ ،‬وال مفتق را إلى ش يء‪ ،‬وال هيكال وال ش بحا‪ ،‬وال ص ورة وال‬
‫جسما‪ ،‬وال محيزا وال مكيفا‪ ،‬وال مركبا {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير}‪.‬‬
‫فلما كلمه شفاها‪ ،‬وشاهده كفاحا‪ ،‬فقال‪ :‬يا حبيبي يا محمد‪ ،‬ال بد لهذا الخل ق من س ر ال ي ذاع‪ ،‬وزمن ال يش اع {ف أوحى‬
‫إلى عبده ما أوحى} فكان سر من سر في سر‪.‬‬
‫وص ّل هللا وسلم وبارك على أشرف مخلوقاتك‪ ،‬سيدنا وموالنا محمد‪ ،‬بحر أنوارك‪ ،‬ومع دن أس رارك‪ ،‬ولس ان حجت ك‪،‬‬
‫وإمام حضرتك‪ ،‬وعروس مملكتك‪ ،‬وطراز ملكك‪ ،‬وخزائن رحمتك‪ ،‬وطريق شريعتك‪ ،‬وسراج جنتك‪ ،‬وعين حقيقت ك‪،‬‬
‫المتلذذ بمشاهدتك‪ ،‬عين أعيان خلقك‪ ،‬المقتبس من نور ضيائك‪ ،‬صالة تحل بها عقدتي‪ ،‬وتفرج بها كربتي‪ ،‬وتقضي بها‬
‫أربي‪ ،‬وتبلغني بها طلبي‪ ،‬صالة دائمة بدوامك‪ ،‬باقية ببقائك‪ ،‬قائمة بذاتك‪ ،‬صالة ترضيك وترضيه‪ ،‬وترض ى به ا عن ا‬
‫يا رب العالمين‪ .‬وحسبنا هللا ونعم الوكيل‪ ،‬وال حول وال قوة إال باهلل العلي العظيم‪ ،‬وص لى هللا على س يدنا محم د وعلى‬
‫آله وصحبه وسلم‪ ،‬والحمد هلل رب العالمين‪.‬‬
‫تمت شجرة الكون‬

You might also like