Professional Documents
Culture Documents
وبعد،
فإني نظرت إلى الكون وتكوينه ،وإلى المكنون وتدوينه ،فرأيت الكون كله ش جرة ،وأص ل نَوْ ِره ا من حب ة "كن" ،ق د
در} ،وظه ر من ه ذا لقحت كاف الكنتية بلقاح حبة {نحن خلقناكم} ،فانعقد من ذلك البزر ثمرة {إنا كل شيء خلقناه بق ٍ
غصنان مختلفان أصلهما واح ٌد ،وهو اإلرادة ،وفرعها القدرة ،فظهر عن جوهر الكاف معنيان مختلف ان ك اف الكمالي ة
{اليوم أكملت لكم دينكم} ،وكاف الكفرية {فمنهم من آمن ومنهم من كفر} ،وظه ر ج وهر الن ون؛ ن ون النك رة ون ون
المعرفة ،فلما أبرزهم من "كن" العدم على حكم مراد القدم رش عليهم من نوره ،فأما من أصابه ذلك الن ور فح دق إلى
تمثال {كنتم خير أمة} ،واتضح له في شرح نونها {أفمن شرح هللا صدره لإلسالم فهو على نور من ربه}.
وأما من أخطأه ذلك النور فطولب بكشف المعنى المقصود من حرف "كن" فإن ه غل ط في هجائ ه ،وخ اب في رجائ ه،
فنظر إلى مثال "كن" فظن أنها كاف كفرية بنون نكرة ،فكان من الكافرين ،وكان حظ ك ل مخل وق من كلم ة "كن" م ا
علم من هجاء حروفها ،وما شهد من سرائر خفائها ،دليله قوله ص لى هللا علي ه وس لم( :إن هللا خل ق خلق ه في ظلم ة ثم
رش عليهم من نوره فمن أصابه ذلك النور اهتدى ،ومن أخطأه ذلك النور ضل وغوى ).
فلما نظر آدم إلى دائرة الوجود فوجد كل موجود دائرا في دائ رة الك ون ،واح د من ن ار وواح د من طين ،ثم رأى ه ذه
الدائرة على سرائر (كن) ،فكيفما دار واستدار ،وحيثما طار واستطار ،فإليها يؤول ،وعليها يجول ،وال يزول عنها وال
يحول.
فواحد شهد كاف الكمالية ونون المعرفة ،وواحد شهد ك اف الكفري ة ون ون النك رة ،فه و على حكم م ا ش هد راج ع إلى
نقطة دائرة (كن) وليس للمك َّون أن يجاوز ما أراده المك ِّون.
فإذا نظرت إلى اختالف أغصان شجرة الكون ونوع ثمارها علمت أن أصل ذلك ناشئ من حبة (كن) ب ائن عنه ا ،فلم ا
المكون من المك َّون ،فشهد المعلَّم
ِّ أدخل آدم في مكتب التعليم ،و ُعلِّم األسماء كلها ،نظر إلى مثال (كن) ،ونظر إلى مراد
من كاف (كن) كاف الكنزية (كنت كنزا مختفيا ال أُعرف فأحببت أن أُعرف) ،فنظر من سر النون نون األناني ة {إن ني
أنا هللا ال إله إال أنا} ...اآلية ،فلما صح الهجا ُء ،وحقق الرجا ُء ،استنبط له من كاف الكنـزية كافَ التكريم {ولق د كرمن ا
بني آدم} ،وكاف الكنتية {كنت له سمعا وبصرا ويدا} ،واستخرج له من نون األنانية نونَ النورية {وجعلنا له ن ورا}،
واتصلت بها نونُ النعمة {وإن تع ُّدوا نعمة هللا ال تحصوها}.
وأما إبليس لعنه هللا فإن ه مكث في مكتب التعليم أربعين أل ف ع ام يتص فح ح روف (كن) ،وق د وكل ه المعلِّم إلى نفس ه،
وأحاله على حوله وقوته ،فكان ينظر إلى تمثال (كن) ليشهد من تمثالها كافَ كفره ،فكبر {فأبى واستكبر} ،ويش هد من
نونها نون ناريته {خلقتني من نار} ،فاتصلت كاف كفريته بنون ناريته {فكبكبوا فيها}.
فلما نظر آدم إلى اختالف هذه الشجرة ،وتنوع أزهارها وثمارها ،فتثبت بغص ن {إني أن ا هللا} ،فن ودي :ك ل من ثم ار
التوحيد ،واستظل بظل التفريد{ ،وال تقربا} ،فأراد إبليس أن يوصله بغصن {فوسوس لهم ا ..ف أكال منه ا} ،فزلق ا في
مزالق {وعصى} ،واستمسك بغصن {ربنا ظلمنا أنفسنا} ،فتدلت عليه ثمار {فتلقى}.
فلما نودي يوم اإلشهاد ،على رؤوس األشهاد{ ،ألست بربكم} فشهد كلٌّ على مقدار م ا ش هد وس مع ،ثم اتف ق الك ل في
اإليجاب ،فقالوا{ :بلى} ،لكن االختالف وقع من حيث اإلشهاد ،فمن أشهده جمالية ذاته شهد أن ه {ليس كمثل ه ش يء}،
ومن أشهده جمالية صفاته شهد أنه {ال إله إال ه و المل ك الق دوس} ،ومن أش هده ع رائس مخلوقات ه اختلفت ش هاداتهم
الختالف المشهود ،فقوم جعلوه محدودا ،وقوم جعلوه معدوما ،وقوم جعل وه حج را جلم ودا ،والك ل في ذل ك على حكم
{قل لن يصيبنا} ،وهو مستبطن في سر كلمة (كن) ،دائر على نقطة دائرتها ،ثابت على أصل حبتها.
ُ
أحببت أن أجع ل للمك َّون مث اال ،وللموج ود فلما كانت هذه الحبة بزر شجرة الكون ،وبزر ثمرته ا ،ومع نى ص ورتها،
تمثاال ،ولما ينتج من األقوال واألفعال واألحوال منواال ،فمثلت شجرة نبتت عن أصل حب ة (كن) ،وك ل م ا يح دث في
الكون من الحوادث كالنقص والزيادة ،والغيب والشهادة ،والكفر واإليمان ،وما تثمر من األعمال وزكاة األحوال ،وم ا
يطهر من قربات المقربين ،ومقامات المتقين ،ومنازالت الصديقين ،ومناجاة العارفين ،ومشاهدات المح بين ،ك ل ذل ك
من ثمرها الذي أثمرته ،وطلعها الذي أطلعته.
فأول ما أنبتت هذه الشجرة التي هي حبة (كن) ثالثةُ أغصان ،أخذ غصن منها ذات اليمين ،فهم أصحاب اليمين ،وأخ ذ
غصن منها ذات الشمال ،ونبت غصن منها معتدل القامة على سبيل االستقامة ،فكان منه السابقون المقربون ،فلما ثبت
واستعلى ج اء من فرعه ا األعلى وج اء من فرعه ا األدنى ع الم الص ورة والمع نى ،فم ا ك ان من قش ورها الظ اهرة،
وستورها البارزة ،فهو عالم الملك ،وما كان من قلوبها الباطنة ،ولباب معانيها الخافية ،فه و ع الم الملك وت ،وم ا ك ان
من الماء الجاري في شريانات عروقها الذي حصل به نموها ،وحياتها وسموها ،وبه طلعت أزهارها ،وأينعت ثماره ا
فهو عالم الجبروت الذي هو سر كلمة (كن).
ثم أحاط بالشجرة حائطٌ ،و ُح َّد لها حدود ،ورس م له ا رس وم ،فح دودها الجه ات وهن :العل و والس فل واليمين والش مال
ووراء وأمام ،فما كان أعلى فهو حدها األعلى ،وما كان أسفل فهو حدها األسفل.
وأما رسومها وما فيها من األفالك واألجرام ،واألمالك واألحكام ،واآلثار واألعالم ،فجعل الس بع الطب اق ،بمنزل ة م ا
يستظل به من األوراق ،وجعل الكواكب في اإلشراق ،بمنزلة األزهار في اآلفاق ،وجعل الليل والنهار ،بمنزلة رداءين
مختلفين :أحدهما أسود يُرتدى به ليحتجب عن األبصار ،واآلخر أبيض يُرتدى به ليتجلى على ذوات االستبصار.
وجعل العرش بمنزلة بيت مال هذه الشجرة وخزانة سالحها ،فمنه يستمد ما في ه ص الحها ،وفي ه ُس وَّاسُ ه ذه الش جرة
يعول ون ،وحول ه يحوم ون ،وب ه يطوف ون، وخدمها {وترى المالئكة حافِّين من حول العرش} إليه يتوجه ون ،وعلي ه ِّ
وحيثما كانوا فإليه يشيرون.
فمتى حدث في هذه الشجرة حادثة ،أو نزل بشيء منها نازلةٌ ،رفعوا أيدي المسألة والتضرع إلى جهة عرشه ،يطلب ون
الش فا ،ويس تعفون عن الخط ا ،ألن موج د ه ذه الش جرة ال جه ة إلي ه يش ار إليه ا ،وال أيني ة يقص دونها ،وال كيفي ة ل ه
يعرفونها ،فلو لم يكن العرش جهةً يتوجهون إليه للقي ام بخدمت ه ،وألداء طاعت ه ،لض لوا في طلبهم ،فه و س بحانه إنم ا
أوجد العرش إظهارا لقدرته ال محال لذاته ،وأوجد الوجود ال لحاجة له به ،وإنما هو إظهار ألسمائه وصفاته ،ف إن من
أسمائه الغفور ،ومن صفاته المغف رة ،ومن أس مائه ال رحيم ،ومن ص فاته الرحم ة ،ومن أس مائه الك ريم ،ومن ص فاته
الكرم ،فاختلفت أغصانُ هذه الشجرة ،وتنوعت ثمارها ليظهر سر مغفرته للمذنب ،ورحمته للمحسن ،وفض له للط ائع،
وعدله للعاصي ،ونعمته للمؤمن ،ونقمته على الكافر.
فهو مقدس في وجوده عن مالمسة ما أوجده ومجانبته ومواصلته ومفاصلته ،ألنه كان وال كون ،وهو اآلن كما ك ان ال
يتص ل بك ون ،وال ينفص ل عن ك ون ،ألن الوص ل والفص ل من ص فات الح دوث ال من ص فات الق دم ،ألن االتص ال
واالنفصال ،يلزم منه االنتقال واالرتحال ،ويلزم من االنتقال واالرتحال التح ول وال زوال والتغي ير واالس تبدال ،وه ذا
كله من صفات النقص ال من صفات الكمال ،فسبحانه سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون والجاحدون علوا كبيرا.
ثم جعل اللوح والقلم بمنزلة كتاب ال ُملك وما يسطر فيه من أحكامه ،وما حكم بنقضه وإبرام ه ،وإيج اده وإعدام ه ،وم ا
يخرج من بره وإنعامه ،وما يكون من ثوابه وانتقامه.
ثم جعل سدرة المنتهى بمنزلة غصن من أغصان هذه الشجرة ،يقوم تحتها َم ْن يقوم بخدمته وينفذ أحكام ه ،ويرف ع إلي ه
ما يحمل من ثمرة هذه الشجرة وما يدانيها ،ثم يتلقى هناك من نسخة كتاب ال ُملك الذي هو اللوح المحفوظ.
وما يحدث في هذه الشجرة من محو وإثبات ونقص وزي ادة فال يتج اوز تل ك الش جرة ،إذ لك ل واح د منهم ح د مفه وم،
وحظ مقسوم ،ورسم مرسوم { وما منا إال له مقام معلوم}.
سني ،أو صغير أو كبير ،أو جليل أو حقير ،أو قليل أو كث ير ،إال ختم ٍّ وال يرفع شيء من ثمرة هذه الشجرة من دني أو
ُ
عليه في كتاب ال يغادر صغيرة وال كبيرة إال أحصاها ،ثم يأمرهم ال َملِك أن يدفعوا إلى إحدى خزانتيه الل تين ادخرهم ا
لثمرة هذه الشجرة ،وهما الجنة والنار ،فما كان من ثمر طيب ففي خزانة الجنة " كال إن كت اب األب رار لفي عل يين "،
وما كان من ثمر خبيث ففي خزانة النار {كال إن كتاب الفجار لفي سجين} ،فأما الجنة فدار أصحاب اليمين من ج انب
الطور األيمن من الشجرة المباركة الطيبة ،وأما النار فدار أصحاب الشمال من الشجرة الملعونة في القرآن.
ثم جعل الدنيا مستودع زهرتها ،واآلخرة مستقر ثمرتها ،وأحاط على هذه الشجرة حائط إحاطة القدرة {وهللا بكل شيء
محيط} ،وأدار عليها دائرة اإلرادة {يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد}.
فلما ثبت أصل هذه الشجرة وثبت فرعها ،التقى طرفاها ،ولحق أخراها بأوالها إلى ربك منتهاه ا إلى مبت داها ،ألن من
كان أوله (كن) كان آخره (يكون) ،فهي وإن تعددت فروعها ،وتنوعت زروعها ،فأصلها واحد ،فهي حبة كلم ة (كن)،
وسيكون آخرها واحدا وهي كلمة (كن).
فلو أحدقت ببصر بصيرتك لرأيت أغصان شجرة طوبى معلقةً بأغصان شجرة الزقوم ،وبرد نسيم الق رب يم ازج ح ر
السموم ،وظل سماء الوصل متصال بظل من يحموم ،وقد تن اول ك ل حظ ه المقس وم ،فواح د يش رب بكأس ه المخت وم،
وواحد يشرب بكأسه المحتوم ،وواحد من بينهم محروم.
فلما برزت أطفال الوجود من حضرة العدم هبت عليهم نس مات الق درة ،وغ ذتها لط ائف الحكم ة ،وأمطرته ا س حائب
اإلرادة بعجائب الصنع ،فأنبت كل غصن منها ما سبق له في الق دم ،و ُر ِّكب في عنص ره من الص حة والس قم ،والك ون
كله من عنصرين مستخرجين من جزأين من كلمة (كن) ،وهما :الظلمة والنور ،فالخير كله من النور ،والش ر كل ه من
الظلمة ،فمأل المالئكة موجود من عنصر الن ور ،فك ان منهم الخ ير {ال يعص ون هللا م ا أم رهم} ،ومأل الش ياطين من
عنصر الظلمة ،فكان منهم الشر.
وأما آدم وبنوه فإنهم جعلت طينتهم من الظلمة والنور ،وركب عنصره من الخير والشر ،والنفع والض ر ،وجعلت ذات ه
قابلةً للنكرة والمعرفة ،فأي جوهر غلب عليه نسب إليه ،فإن عال جوهر نوره على جوهر الظلمة ،وظه رت روحانيت ه
ك ،وإن غلب ج وهر ظلمت ه على ج وهر ن وره ،وظه رت على جس مانيته ،فق د فض ل على ال َملَ ك ،واس توى على الفَلَ ِ
جسمانيته على روحانيته ،فقد فضل على الشيطان.
فلما قبض هللا آدم من قبضة تراب (كن) مسح على ظهره {حتى يم يز الخ بيث من الطيب} ،فاس تخرج من ظه ره َم ْن
كان من أصحاب اليمين ،فأخذوا ذات اليمين ،واستخرج من ظهره َم ْن كان من أصحاب الشمال ،فأخذوا ذات الش مال،
وما زاغ أحد عن المراد وما مال ،ومن قال :لِ َم؟ فقد أخطأ في السؤال.
ض هَا ح تى ب دت ُز ْب َدتُهَا ،ثم
فأول من عمل حوالي هذه الشجرة إلى أصل حبة (كن) فاعتص ر ص فوة عنص رها ،و َمخَ َ
صفاها بمصفاة الص فوة ح تى زال َوخَ ُمهَ ا ،ثم ألقى عليه ا من ن ور هدايت ه ح تى ظه ر جوهره ا ،ثم غمس ها في بح ر
الرحمة حتى عمت بركتها ،ثم خلق منها نور نبينا محمد صلى هللا عليه وس لم ،ثم زين بن ور المأل األعلى ح تى أض اء
وعال ،ثم جع ل ذل ك الن ور أص ال لك ل ن ور ،فه و أولهم في المس طور ،وآخ رهم في الظه ور ،وقائ دهم في النش ور،
و ُمبَ َّش ُرهُ ْم بالسرور ،ومتَ َّو ُجهُ ْم بالحبور ،فه و مس تودع في دي وان اإلنس ،مس تقر في ري اض األنس ،وحض رة األنس،
تخ َر ٌج في الك ون ،مس تنبَطٌ ألجل ه ستر معنى روحانيته بستر جس مانيته ،وغطى ع الم ش هوده بع الم وج وده ،فه و مس ْ
الكون.
وذلك أن هللا تعالى كون األكوان اقتدارا عليها ال افتقارا إليها ،وكمال حكمته في التكوين ،إلظهار شرف الماء والطين،
فإنه أوجد ما أوجد ولم يقل في شيء من ذلك{ :إني جاعل في األرض خليفةً} ،وكان وجود اآلدمي ،فكانت حكمت ه في
وجود اآلدمي إلظهار شرف النبي صلى هللا عليه وسلم ،ألنه حكمة األجساد الستخراج كاف الكنزية (كنت كنزا مخفي ا
ال أعرف) ،فكان المقصود في الوجود معرفة موجدهم س بحانه ،وك ان المخص وص ب أتم المع ارف قلب س يدنا محم د
صلى هللا عليه وسلم ،ألم معارف الكل كانت تصديقا وإيمانا ،ومعرفت ه ص لى هللا علي ه وس لم مش اهدة وعيان ا ،وبن ور
معرفته صلى هللا عليه وسلم تعرفوا ،وبفضله عليهم اعترفوا ،فاس تخرجه من لب اب حب ة (كن) {ك زرع أخ رج ش طأه
فآزره} بصحابته {استغلظ} بقرابته {فاستوى على سوقه} بصحة ذوقه ،وقوة توقه وشوقه.
فلما ظهر هذا الغصن المحمدي وسما ،أورق عوده ونما ،وانهل عليه سحاب القبول وهمى ،وتباشر بظهوره الح دثان،
وبشر بوجوده الثقالن ،وتعطرت بقدومه األكوان ،وانتكست بمولده األوثان ،ونسخت بمبعثه األدي ان ،ون زل بتص ديقه
القرآن ،واهتزت طربا شجرة األكوان ،وتحرك ما فيها من األلوان والعيدان ،وكان من أغص ان ه ذه الش جرة من أخ ذ
ذات الشمال ،ومال يهوى الضالل ،فلما أرسلت رياح اإلرسال ،برسالة {وما أرسلناك إال رحمة للع المين} ،استنش قها
من سبقت لهم منا الحس نى ،فم ال إليه ا متعطف ا ،وأم ا من ك ان مزكوم ا ،أو خل ع القب ول محروم ا ،فإن ه عص فت ب ه
عواصف القدرة فأصبح بعد نضارته يابسا ،ووجه سعادته عابسا ،وراح من رجاء فالحه قانطا آيسا.
وكان سر هذا الغصن لق اح ش جرة الج ود ،ودرة ص دفة الوج ود ،وك ان من روح روحانيت ه روح {ي ا أيه ا الن بي إن ا
أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا *وداعيا إلى هللا بإذنه وسراجا منيرا} ،فهو مصباح ظلمة الكون ،وروح جسد الوج ود،
ألن هللا تعالى لما خاطب السموات واألرض وقال لهم ا{ :ائتي ا طوع ا أو كره ا قالت ا أتين ا ط ائعين} ،فأجاب ه موض ع
الكعبة من األرض ومن السماء ما يحاذيه ،فكانت تربة بقعة الكعبة ،وكان محل اإليمان من األرض.
فلما أمر هللا بالقبضة التي قبضت من األرض لخلق آدم عليه السالم ،فقبض ت من س ائر األرض ،من طيبه ا وخبيثه ا،
فكانت طينة نبينا محمد صلى هللا عليه وسلم مخلوقة من موض ع الكعب ة ال تي هي مح ل اإليم ان باهلل تع الى ،ثم عجنت
تلك الطينة بطينة آدم عليه السالم ،فكانت تلك الطينة بمنزلة الخميرة ،ولوال ذلك لما أطاقوا اإلجابة يوم اإلش هاد ،وه و
معنى قوله صلى هللا عليه وسلم( :كنت نبيا وآدم بين الماء والطين).
فكانت ذوات الوجود وبركته من ذرة وجوده ،فلما أشهدهم على أنفس هم في حض رة ش هوده ق ال{ :ألس ت ب ربكم ق الوا
بلى} ،فسرت في أجزاء ذراتهم تلك الخميرة النبوية ،فانطلقت بإذن هللا تعالى ألسنتهم بالتلبي ة قائل ة ،فمن ك انت طينت ه
قابلة للتخمير ،بما سبق في التقدير ،بقي معه ذلك التخمير ،باقيا فيه مستصحبا ،حتى ظه ر إلى الحس ،وظه ر في تل ك
الصورة ،فبرز ذلك المعنى ،محقق ا لتل ك ال دعوى ،فأش رق ن ور ذل ك المع نى الروح اني ،على م ا يحاذي ه من الجس د
الجسماني ،فأشرق الجسد بعد ظلمته ،فاستنارت الجوارح لرشدها فعملت بالطاعة.
وأما من كانت طينته خبيثة غير قابلة للتخمير ،وإنما أثرت تلك الخميرة مقدار ما اعترف عند اإلش هاد ،وأفص حت في
ذلك اإلقرار ،في حال االستقرار ،ثم طال عليها األمد ،ففسدت تل ك الخم يرة بفس اد تل ك الطين ة ،فكأن ه ك ان مس تودعا
فاسترجع منه ما استو ِد ع ،إذ لم يكن لحفظها أهال ،فهو مستودع -أعني اإليمان – في قلوب الكافرين ،مستقر في قلوب
المؤمنين ،وهو معنى قوله ص لى هللا علي ه وس لم( :ك ل مول ود يول د على الفط رة) ال تي فط ر هللا الن اس عليه ا ،وه و
تساويهم في اإليمان في قول{ :الست بربكم قالوا بلى} ،واستووا في التلبية ،ونطقوا باإلجابة ،لسريان تلك الخم يرة في
أجزاء ذراتهم ،وقد سبق في علم هللا تعالى ونفذ تقديره ،فمن تبقى على ذلك اإلقرار ،ال يستحيل إلى الجحود واإلنكار.
وكل ما يحدث في شجرة الكون من نمو وزيادة ،وأزهار وإثمار أفكار ،ومتشابه شوق ،ومحكم ذوق ،وص فاء أس رار،
ونسيم استغفار ،وما ينمو به من األعمال ،وتزكو به األحوال ،وما تورق ب ه من رياض ات النف وس ،ومناج اة القل وب،
ومنازالت األسرار ،ومشاهدات األرواح ،وم ا ينبت ب ه من أزاه ير الحكم ،ولط ائف المع ارف ،وم ا يص عد من طيب
األنفاس ،وما يعقد من ورق اإليناس ،وما ينشأ من رياح االرتياح ،وما يبنى على أصلها من مراتب أهل االختص اص،
ومقامات الخواص ،ومنازالت الصديقين ،ومناجاة المقربين ،ومشاهدات المحبين ،كل ذلك من لقاح الغصن المحم دي،
متوقد من نوره ،مستمد من نماء نهر كوثره ،مغ َّذى بلباب بره ،مربَّى في مهد هدايته ،فل ذلك عمت بركت ه ،وتمت على
الخالئق رحمته {وما أرسلناك إال رحمة للعالمين}.
فلما مهَّد ألجله ال دار ،وس خر من أجل ه اللي ل والنه ار ،ورس م الرس وم وح َّدد األقط ار ،وأخ ذ الميث اق على تص ديقه،
والتمسك بحبل تحقيقه ،جال عروس شريعته ،على أتباع ه وش يعته ،ثم ختم بنبوت ه األنبي اء ،وبكتاب ه الكتب ،وبرس الته
الرسل ،فمن احتمى بحمى شريعته سلم ،ومن استمسك بحبل ملته ُع ِ
صم.
لم توسل به آدم عليه السالم ،سلم من المالم ،ولما انتقل إلى صلب إب راهيم الخلي ل ص ارت الن ار علي ه ب ردا وس الما،
ي بذبح عظيم ،فثمرة غصن أصحاب اليمين {يحبهم ويحبونه} ،وثمرة غصن أصحاب ولما أودعته صدفة إسماعيل فُ ِد َ
الشمال {وما كان هللا ليعذبهم وأنت فيهم} ،وثمرة غصن السابقين المقربين {محمد رسول هللا وال ذين مع ه أش داء على
الكفار رحماء بينهم} ،فبركته على اآلفاق قد عمت ،وكلمته قد تمت.
خلق آدم على صورة اسمه ،ألن اسمه محمد ،فرأس آدم دائرة بت دويره ،على ص ورة الميم األولى من اس مه ،وإرس ال
يده مع جنبه على صورة الحاء ،وبطنه على صورة الميم الثانية ،ورجاله في انفتاحهما على صورة الدال ،فكم ل خل ق
آدم على صورة اسم محمد صلى هللا عليه وسلم.
وقولنا ك َّون األكوان على هيئة رسمه ألن العالم عالم ان :ع الم المل ك وع الم الملك وت ،فع الم المل ك كع الم جس مانيته،
وعالم الملكوت كعالم روحانيته ،فكثيف العالم السفلي ككثيف جسمانيته ،ولطيف العالم العلوي كلطي ف روحانيت ه ،فم ا
في األرض من الجبال التي جعلت في األرض أوتادا ،فهي بمنزلة جبال عظامه التي جعلت أوتاد جسمه.
وما فيها من بحار مسجورة جارية وغ ير جاري ة ،عذب ة وغ ير عذب ة فهي بمنزل ة م ا في جس ده من دم ج ار في تي ار
وساكن في جداول األعضاء ،واختالف أذواقها ،فمنها ما هو ع ذب وه و م اء الري ق ،يطيب بعجين ه المآك لٍ العروق،
والمشارب ،ومنها ما هو مالح ،وهو ماء العين ،بحفظه شحمة العين ،ومنها ما هو مر ،وهو م اء األذن ،لص يانة األذن
من حيوان ودبيب يصل إليها فيقتله ذلك الماء.
ثم في أرض جسده م ا ينبت ك األرض الج رز ،واألرض الس بخة ال تي ال تنبت ويس تحيل النبت فيه ا ،ثم لم ا ك ان في
ق لنفع الناس بها ،كذلك في أرض جسده عروق غالظ كالوتين ال ذي يبث األرض بحار عظيمة تتفرع منها أنهار وسوا ٍ
الدم ،وتستمد العروق منه إلى سائر الجسد.
ثم العالم العلوي ،وهو عالم السماء ،جعل هللا فيه شمسا كالسراج يستض يء ب ه أه ل األرض ،ك ذلك جعلت ال روح في
الجسد يستضيء بها الجسد ،فلو غابت بالموت ألظلم الجسد كظلمة األرض إذا غابت عنها الشمس.
ثم جعل العقل بمنزلة القمر يستنير في فلك السماء ،تارة يزيد وت ارة ينقص ،فابت داؤه ص غير وه و هالل كابت داء عق ل
الصغير في صغره ،ثم يزيد كزيادة القمر ليلة تمامه ،ثم يبدو بالنقص ،فهو بمنزلة بل وغ األج ل إلى تم ام األربعين ،ثم
يعود في النقص في تركيبه وقوته.
ثم جع ل في الس ماء ك واكب خمس ا ،وهي الخمس الخنس {الج واري الكنس} ،وهي بمنزل ة الح واس الخمس ،وهي:
الذوق والشم واللمس والسمع والبصر.
ثم جعل في عالم السماء عرشا وكرسيا ،فالعرش أوجده وجعل وجه ة قل وب عب اده إلي ه ،ومح ل رف ع األي دي إلي ه ،ال
محال لذاته ،وال مجانسا لصفاته ،ألن الرحمن -تعالى اسمه – االس تواء نعت ه وص فته ،ونعت ه وص فته متص لة بذات ه،
والعرش خلق من خلقه ،ال متصل به ،وال مالمس ل ه ،وال محم ول علي ه ،وال مفتق ر إلي ه ،وأم ا الكرس ي فه و وع اء
أسراره ،وكنانة أنواره ،ومستودع ما في دائرة {وسع كرسيه السموات واألرض}.
فجعل الصدر بمنزلة الكرسي ،ألن فيه تحصيل العلوم الص ادرة بمنزل ة الس احة على ب اب القلب ،والنفس يش رع من ه
بابان إليهما ،فما صدر عن القلب من خير ،أو عن النفس من شر ،فهو محصل في الصدر ،وعنه يصدر إلى الجوارح،
وهو معنى قوله تعالى{:وحصل ما في الصدور}.
وجعل القلب بمنزلة العرش ،ألن عرشه في السماء معروف ،وعرشه في األرض مسكون ،ألن ع رش القل وب أفض ل
من عرش السماء ،ألن ذلك الع رش ال يس عه ،وال يحمل ه ،وال يدرك ه ،وه ذا ع رش في ك ل حين ينظ ر إلي ه ،ويتجلى
عليه ،وينزل من سماء كرمه إليه (ما وسعني سمواتي وال أرضي ووسعني قلب عبدي المؤمن).
ولما جعل في عالم اآلخرة جنة ونارا للنعيم والعذاب ،هذه خزانة الخير وهذه خزانة الشر ،كذلك جعل الخير ال ذي ه و
مكان سويداء القلب جعله جنة عبده المؤمن ،ألنه محل المشاهدة والتجلي والمناجاة والمنازالت ومنبع األن وار ،وجع ل
النفس بمنزلة النار ،ألنها منبع الشر ،ومحل الوسواس ،وربع الشيطان ،ومحل الظلمة.
ثم جعل اللوح والقلم نسخة كتاب الكون والتك وين ،وم ا ك ان وم ا يك ون إلى ي وم ال دين ،وجع ل المالئك ة تستنس خ م ا
يؤمرون بنسخه ،من محو وإثبات ،وموت وحياة ،ونقص وزيادة ،فكذلك اللسان بمنزل ة القلم ،والص در بمنزل ة الل وح،
فما نطق به اللسان ،رقمته األذهان في ألواح الصدور ،وما أرخته إرادة القلب إلى الصدر عبر عنه اللسان كالترجمان.
ثم جعل الحواس رسل القلب يستنسخ ما حصل فيها ،فالسمع رسول ،وهو جاسوس ه ،والبص ر رس ول ،وه و حارس ه،
واللسان رسول ،وهو ترجمانه.
ثم جعل في اإلنسان ما هو داللة على الربوبية ،وتصديق الرسالة المحمدية ،وذلك الهيكل اإلنساني لما افتق ر إلى م دبر
وهو الروح ،وكان مدبره واحدا ،وكانت الروح غير مرئية ،وال مكيفة ،وال متحيزة في ش يء من الجس د ،وال يتح رك
شيء من الجسد إال بشعورها به ،وإرادتها له ،ال يحس وال يمس إال بها ،وكان ذلك كله داللة على أن العوالم ال ب د لهم
من مدبر ومحرك ،ويلزم منه أن يكون واحدا عالما بم ا يح دث في ملك ه ،ق ادرا على حدوث ه ،وأن ه غ ير مكي ف ،وال
متمثل ،وال م رئي ،وال متح يز ،وال متبعِّض ،وال محس وس ،وال ملم وس ،وال مقب وس ،ب ل {ليس كمثل ه ش يء وه و
السميع البصير}.
ولما كان رسوله إلى خلقه اثنين :ظاهرا وباطنا ،فرسوله الظاهر محمد رسول هللا ،ورس وله الب اطن جبري ل ،فجبري ل
يأتيه بالوحي بين قومه وال يحسونه وال يعرفونه ،فكذلك كان لمدبر هذا الهيكل اإلنساني ،وهو الروح ،رسوالن :ب اطن
وظاهر ،فالرسول الباطن هي اإلرادة ،بمنزلة جبريل يوحي إلى اللسان ،واللسان يعبر عن اإلرادة ،وهو بمنزل ة س يدنا
محمد صلى هللا عليه وسلم.
ثم لما جعل فيك داللة على صحة نبوته ،وصدق رسالته ،جعل فيك أيض ا دالل ة على م ا ج اء ب ه من تحقي ق ش ريعته،
واتباع سنته ،فكان أصل األيدي خمسة أشياء ،كل منها خمسة ،فاألصل األول ما ب ني علي ه فق ال رس ول هللا ص لى هللا
عليه وسلم( :بني اإلسالم على خمس :شهادة أن ال إله إال هللا ،وإقام الص الة ،وإيت اء الزك اة ،وص وم رمض ان ،والحج
إلى بيت هللا الحرام ).
األصل الثاني :وكانت الص الة المفترض ة خمس ا ،والث الث :الزك اة المفروض ة في النص اب خمس ،والراب ع{ :محم د
رسول هللا والذين معه}؛ أبو بكر وعمر وعثم ان وعلي .فهم خمس ة برس ول هللا ص لى هللا علي ه وس لم الخ امس .أه ل
البيت خمسة :محمد صلى هللا عليه وسلم ،وعلي وفاطمة والحسن والحسين.
فلما كان أركان الدين إقامة أركان شريعته ،ومحبة صحابته ،ومودة قرابت ه ،جع ل في أعض ائك منه ا دالل ة على ذل ك
خمسة ،فالخمسة التي بني اإلسالم عليها بمنزلة الحواس الخمس من ك ،وهي الس مع والبص ر واللمس والش م وال ذوق،
ألنك تجد بهذه الحواس مذاق كل شيء ،ومعرفة كل شيء ،وكذلك تجد بإقام ة تل ك األرك ان الخمس ة ذوق ك ل ش يء،
وإدراك العرفان ،ومعرفة الرحمن ،وعلم اإليقان.
فحاسة البصر تدعوك إلى إقامة أركان الصالة ،ق ال ص لى هللا علي ه وس لم" :جعلت ق رة عي ني في الص الة" ،وحاس ة
اللمس تدعوك ألداء الزكاة ،قال هللا تعالى{ :خذ من أموالهم} ،وحاس ة ال ذوق ت دعوك إلى ت رك ذوق الطع ام ،إلقام ة
ركن الصيام ،وحاسة السمع تدعوك إلى اس تماع األذان {وأذن في الن اس ب الحج} ،وحاس ة الش م ت دعوك إلى انتش اق
أنفاس التوحيد {إني ألجد نفس الرحمن من قبل اليمن} ،فهذه الحواس تدعوك إلى إقامة األركان الخمسة.
وجعل أصابعك الخمسة في يمينك بمنزلة محمد صلى هللا عليه وسلم وال ذين مع ه هم أب و بك ر وعم ر وعثم ان وعلي،
وإن آدم عليه السالم لما خلق نور سيدنا محمد صلى هللا عليه وسلم في جبينه ك انت المالئك ة تس تقبله وتس لم على ن ور
محمد صلى هللا عليه وسلم ،وآدم عليه السالم لم يره ،فقال :يا رب ،أحب أن أنظر إلى نور ولدي محمد صلى هللا علي ه
فحوله إلى عضو من أعضائي ألراه ،فح َّولَهُ إلى سبابته في ي ده اليم نى ،فنظ ر إلي ه يتألأل في مس بحته ،فرفعه ا
وسلمِّ ،
فقال :أشهد أن ال إله إال هللا ،وأن محمدا رسول هللا ،فلذلك سميت المسبحة ،فقال :ي ا رب ،ه ل بقي في ص لبي من ه ذا
النور شيء؟ قال :نعم ،نور أصحابه ،وهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي ،فجعل ن ور علي في إبهام ه ،ون ور أبي بك ر
في الوسطى ،ونور عمر في البنصر ،ونور عثم ان في الخنص ر ،وقي ل :إنم ا جعلت في ي دك لتقبض برؤوس هن على
حب هؤالء الخمسة ،وال تفرق بينهم وبين محمد صلى هللا علي ه وس لم ،ف إن هللا جم ع بينهم بقول ه{ :محم د رس ول هللا
والذين معه}.
ثم جعل أصابعك الخمسة في اليد اليمنى مذكرة بالخمسة أشباح ،وهم أهل ال بيت ال ذين أذهب هللا عنهم ال رجس بقول ه:
{إنما يريد هللا ليذهب عنكم الرجس أهل البيت} ،قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم( :أنزلت هذه اآلية فينا أهل ال بيت
أنا وعلي وفاطمة والحسن والحسين).
ثم جعل أصابع قدميك الخمسة مشيرة لك مذكرة بالخمس صلوات التي افترضها هللا عليك ،فتقوم بها على قدميك ألنه ا
خدمة هللا تعالى في األرض ،والخدمة إنما تك ون من الق دمين ،فل ذلك جعلت ق دمك اليم نى م ذكرة بالص لوات الخمس،
وأصابع قدمك اليمنى تذكرك بما يجب من نصاب الزكاة ،وهي خمسة دراهم ،فالزك اة مقرون ة بالص الة ،فل ذلك جع ل
أصابع القدمين إشارة إلى الصالة والزكاة.
ثم جعل فيك ما يدل على الموت والبعث ،وما يدل على نعيم القبر وعذابه ،وهو النوم ،وم ا ي راه الن ائم من من ام س يء
فيتعذب به فيصير بالنوم ك الميت ،فاق د الحس فال س مع ل ه ،وال بص ر ل ه ،وال إدراك ل ه ،ثم جع ل ل ه س معا وبص را
وإدراكا فيسمع ويبصر بسمع وبصر عن سمعه وبصره ،ويرى نفسه تذهب حيث تشاء ويأكل ويشرب ،فهي بمنزلة ما
يراه الميت في قبره من النعيم والعذاب في مدة البرزخ بين الموت والبعث ،ثم يوقظك هللا من نومك ال عن م رادك وال
عن اختيارك ،فلو أردت أن ال تنتبه من ذلك فأنت تطيق أن ال تبعث ،وهذا تكذيب من أنكر البعث بع د الم وت وجهل ه،
وهم الزنادقة ،والدهرية ،والفالسفة ،ور ٌّد على من أنكر عذاب القبر ونعيمه ومسألته ،وهم المعتزلة.
ثم اعلم أن هللا تعالى خلق خلقه على ثالثة أصناف ،فق ال تع الى " :وهللا خل ق ك ل داب ة من م اء فمنهم من يمش ي على
بطنه كالحي ات والدي دان ومنهم من يمش ي على رجلين ك الطير واآلدمي ومنهم من يمش ي على أرب ع كال دواب ،فمنهم
صنف كالساجد ،وصنف كالراكع ،وصنف كالقائم ،فالقائم كاألشجار والجدران ال يطيقون ركوع ا ،والراك ع كال دواب
ال يطيقون سجودا وال قياما ،والساجد كالحشرات ال يطيقون رفعا ،وكلهم مخلوقون لطاعته وتقديسه وتنزيهه {وإن من
شيء إال يسبح بحمده} ،فجمع سبحانه لك سائر عبادات خلقه وطاعتهم ،وبسط ل ك في خلق ه ،إن ش ئت أن تعب ده قائم ا
وراكعا وساجدا فعلت ،ليجمع لك فضيلة جميع خلقه ،فكذلك ف رض علي ك الص الة ،وجعله ا تش تمل على س ائر عب ادة
خلقه ،فكذلك فضيلة الق َّوم والر َّكع والسجَّد.
وأنت المقصود من كل الوجود ،وأنت خاصة العبيد لمراد المعبود ،فهذا معنى قولنا متق دما :خل ق هللا آدم علي ه الس الم
على صورة اسم محمد صلى هللا عليه وسلم ،وخلق الكون على هيئة رسمه.
واعلم أن المأل األعلى مسخرون في نفع شجرة الكون ،مستعملون لمصالحها ،ق ائمون بحقوقه ا ،لم ا فيه ا من خاص ية
هذا الغصن المحمدي والنور األحمدي ،فأول ما انسلخ نهار الوج ود ،من ظلم ة لي ل الع دم ،شعش عت أن وار الش موس
المحمدية ،في أفق جبين آدم علي ه الس الم ،فخ رت المالئك ة س جدا ،وق الوا :ملي ك الع رش أب دا ،فلم ا أم روا بالس جود
فسجدوا ،وخصوا بالشهود فشهدوا ،وقيل لهم :شكران هذه المشاهدة ،أن تقوموا على ق دم المجاه دة ،في خدم ة ش جرة
هو أصلها ،ودولة هو عقدها وحله ا ،فليكن منكم الس فرة ،يس عون بالص حف المطه رة ،وليكن منكم ال بررة ،يطوف ون
حول حمى هذه الشجرة ،وليكن منكم الحملة ،يحملون لكل عامل عمله ،وليكن منكم الكتاب ،يقومون على أعتاب من قد
تاب ،وليكن منكم من يغسل وج وههم من غب ار األوزار ،بم اء االس تغفار ،ويس تغفرون لمن في األرض ،وليكن منكم
الحفظة ،يحفظون عليهم أعمالهم ،ويحصون م ا عليهم وم ا لهم ،وليكن منكم من يس عى في أرزاقهم ،ليتفرغ وا لطاع ة
رازقهم.
فقوم يرسلون الرياح ،وقوم يسيرون السحاب ،وق وم يس جرون البح ار ،وق وم ي نزلون م اء األمط ار ،وق وم يحفظ ون
األقطار ،وقوم يغشون الليل ،وقوم يسبحون النهار ،وق وم معقب ات ،يحفظ ون الج وارح من الموبق ات ،وق وم يرفع ون
اآلفات ،وقوم يزخرفون الجنان ،وقوم يسعرون النيران.
ض ر ،إلى ذل ك المحض ر ،إبليس ،وه و يرف ل في ثي اب فلما تمهدت الدار ،ودار كأس إرادته فاس تدار ،ف أول م ا استُحْ ِ
التسبيح والتقديس ،لكنها محشوة بأدغال التدليس ،فلما حضر إلى ذل ك المحض ر ،وش اهد جم ال ذل ك المنظ ر ،ووق ف
على عرفات المعرفة ،فأنكر وأصر على العصيان ،وأضمر واستصغر حق هذا الماء والطين واستحقر ،فلم ا قي ل ل ه:
اسجد في صفاء كاساتك ،فأبى واس تكبر ،فتج اوز الك اس ،وفاتت ه ص حبة األكي اس ،وبقي في ظلم ة الغم والوس واس،
وفتش أكياس علمه وعمله ،فإذا هي فلوس أكياس ،فبقي منقطعا في مفازة القطيعة ،قاطعا للشيعة والشريعة ،كلما تزايد
كربه ،وتعاظم عليه ضربه ،يستغيث بلسان "فألضلنهم وألمنينهم وآلمرنهم" ،والقدر يقول :ألكتبن لهم منش ور األم ان
{إن عبادي ليس لك عليهم سلطان}.
ف َسأ َل المالك اإلنظار ،فأنظر ليكون قائد الكفار إلى النار ،عكازة يعتم د عليه ا ذوو ال ذنوب واألوزار ،ف إذا زل أح دهم
قال{ :إنما استزلهم الشيطان} ،وإن عمل قال{ :هذا من عمل الشيطان}.
فلما اقتحم آدم وإبليس عقبة المعصية ،هذا يترك ما أمر به ،وذاك يفعل ما نهي عن ه ،جم ع بينهم ا الق در إذ ق در ،ألن ه
تعالى أمر وأراد خالف ما أمر ،فما وهبه األمر سلبته اإلرادة.
فلما تعدياها حكم إلبليس أن ال يتعداها ،وطنب الشقي فيها خيام ه ،وجع ل في عرص تها مقام ه ،وأم ا آدم فإن ه حن إلى
دار المقامة ،وتذكر لياليه وأيامه ،فعاد على نفسه بالمالمة ،فنادى بين ندماء الندامة{ :ربنا ظلمنا أنفس نا} ،فتلقى بش ير
قربته ،بتفريج كربته {فتلقى آدم من ربه كلمات}.
وأما الشقي إبليس فانطلقت إليه خيول اللعنة ،مطلقة األعنة ،تبشره بطرده وبعده ،فأخرج منها مأمورا {قلن ا اهبط وا}،
فتقلقل آدم قلقا ،وكاد أن يتمزق حرقا ،وقال :سيدي ،جرعت مرارة الصدود في الصعود ،فأعذني من مرارة القنوط في
الهبوط ،فقيل له :ال بأس عليك ح تى تص ل إلى مف رق ف ريقين {فري ق في الجن ة وفري ق في الس عير} ،فأخ ذ آدم ذات
اليمين ،وأخذ إبليس ذات الشمال ،فكان أصال ألصحاب الشمال ،لكنهما لما اصطحبا واجتمعا فكان للصحبة أثر ،فك ان
محله من آدم وسيره معه مما يلي شماله ،فأثر ذلك على ما كان في أص له من الص فح األيس ر ،ف برحوا في ظ ل ظلم ة
مخالفته ،فكفروا بقربهم منه ،ومحاذاتهم ل ه ،وبقي من ك ان في الص فح األيمن في ن ور معرف ة آدم ،فس لموا من ظلم ة
إبليس لبع دهم عن ه ،وأث ر عليهم ج وار من كف ر ،واس تظل بظلم ة ض الله ،وهم أه ل الص فح األيس ر ،وأث ر ذل ك في
صفاتهم ،وسلمت لهم أنوار ذواتهم ومعارفهم ،فما يرتكبه أهل الصفح األيمن من المعاصي واألوزار ،هو من أثر ذل ك
الجوار ،وأشعة ذلك العذار.
واعلم أنه كان لذلك األثر أصل آخر وسبب آخر ،وهو أنه لما أم ر هللا تع الى بقبض القبض ة ال تي خل ق منه ا آدم علي ه
السالم ،فهبط ملك الموت لذلك ،وكان إبليس يومئذ في األرض قد استخلفه هللا تعالى فيها م ع جمل ة من المالئك ة ،وق د
مكث زمانا طويال يعبد هللا ،فقبض ملك الموت القبضة من سائر األرض ،وكان إبليس يطؤها بقدمه ،فلما عجنت طين ة
آدم ،وصورت صورته من تلك الطينة ،جاء خلق النفس من التراب الذي وطئه إبليس بقدم ه ،وخل ق القلب من ال تراب
الذي لم يطأه إبليس بقدمه ،فاكتسبت النفس ما فيها من الخبث واألوصاف المذمومة من مالمس ة وطء إبليس ،ومن هن ا
جعلت النفس مأوى الشهوات ،وعيشه وسلطانه عليها لوطئه لها ،ومن هن ا جع ل إبليس التك بر على آدم ،حيث وج دها
من تراب قدمه ،ونظر إلى جوهر عنصره ،وهو النار ،فادعى الفخار ،حينئذ ،ومال إلى االس تكبار ،وه ذا مع نى ق ول
هللا سبحانه وتعالى{ :يا أيها الذين آمنوا ال تتبعوا خطوات الشيطان} ،التي خلقت من تحت خطواته.
اعلم أنه لما نشأت شجرة الكون أنبتت أغصانا ثالثة ،غصن ذات اليمين ،وغصن ذات الش مال ،وغص ن نبت مس تقيما
قويما ،وهو غصن السابقين ،فكانت روحانية محم د ص لى هللا علي ه وس لم قائم ة بالثالث ة أغص ان ،س ارية فيه ا ،لك ل
غصن نصيب على مقدار قابليته لتلك الروحانية ،قال هللا تعالى{ :وما أرسلناك إال رحمة للعالمين}.
فكان حظ غصن أصحاب اليمين روحانية الهداية ،والمتابعة له ،والعمل بسنته وشريعته ،قال هللا تعالى{ :الذين يتبعون
الرسول النبي األمي} ...اآلية ،وكان حظ السابقين روحانية القربى منه ،والزلفى لديه ،والصحبة له {فأولئك مع ال ذين
أنعم هللا عليهم من النبيين} ...اآلية ،وكان ح ظ أص حاب الش مال من روحاني ة حم ايتهم في ال دنيا ،وأمنهم من العقوب ة
المعجلة {وما كان هللا ليعذبهم وأنت فيهم} ...اآلية.
فلما آن أوان ظهور جسمانيته صلى هللا عليه وس لم إلى الوج ود نبت غص ن وج وده مس تقيما قويم ا ،فلم ا ثبت أص له،
ونبت فرعه ،ناداه متولي سياسته{ :فاستقم كما أم رت} ،فك انت ص فته ص لى هللا علي ه وس لم االس تقامة ،ومقام ه دار
المقامة ،فلما استقام رحل عن الكونين ،ولما أقام نقل من مقام إلى مقام ،حتى استقر به المنزل فأقام.
فالمقام األول :مقام الوجود في الدنيا ،وهو قوله تعالى{ :يا أيها المدثر * قم فأنذر} ،والمقام الثاني :المقام المحم ود في
اآلخرة ،وهو قوله تعالى{ :عسى أن يبعثك ربك مقاما محم ودا} ،والمق ام الث الث :مق ام الخل ود في الجن ة ،وه و قول ه
تعالى{ :الذي أحلنا دار المقامة من فضله} ،والمقام الرابع :المقام المشهود ،مقام ق اب قوس ين لرؤي ة المعب ود {ثم دن ا
فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى} ...اآلية.
فهو المخصوص بالدنو والعلو والشهود ،إذ كان هو المقصود من ك ل الوج ود ،ألن الوج ود لم ا ك ان ش جرة ك ان ه و
ثمرتها ،وكان هو جوهرتها ،فالشجرة المثمرة إنما تثمر بالحبة التي ينبت بها أصلها ،فإذا غرس ت تل ك الحب ة و ُغ ذيت
وربيت حتى نبتت وفرعت وأورقت واهتزت وأثمرت ،فإذا نظرت تلك الشجرة رأيته ا في تل ك الحب ة ال تي نبت منه ا
هذه الشجرة ،فالحبة في البداية نطفة حتى أظهرت صورة الشجرة ،والشجرة في النهاية بها ظهرت ،ف أظهرت ص ورة
تلك الحبة.
فكذلك بطونه صلى هللا عليه وسلم في المعنى في السابق ،واختفاؤه وظهوره في الصورة في الالح ق واش تهاره ،وه و
معنى قوله صلى هللا عليه وسلم( :كنت نبيا وآدم بين الماء والطين) ،فكان هو مظهر معنى ه ذه الش جرة ،وه و مظه ر
صورته صلى هللا عليه وسلم ،فما برح بلسان القدم مذكورا ،وفي طي العدم منشورا.
اش ِه وبَ ِّز ِه ،فطواه في خزانة ملكه ،وعباه أثوابا بعضها فوق بعض ،فأول ث وب
وما مثال ذلك إال مثال تاجر عمد إلى فِ َر ِ
دمجه وطواه ،هو آخر ثوب أظهره وأبداه ،كذلك س يدنا محم د ص لى هللا علي ه وس لم ك ان أوال لك ل وج ودا ،وآخ رهم
ظهورا وخروجا.
فلما تولى مقصار القدر سياسة هذا الغصن النبوي ،فغذاه بلباب بره وسقاه بكأس محبت ه ،وحم اه في قل ة حم اه ،ورب اه
حتى اهتزت ُر باه ،وتفرعت نفحات شذاه ،فكانت تلك النفحات غذاء أرواح العارفين ،ونر بص ائر المؤم نين ،وريحان ة
حضرة المحبين ،وعرصة مجم ع العاص ين ،وغي اث مستس قي الم ذنبين ،ف إن هب من تلق اء أص حاب الش مال س موم
خطيئة أو عاصف معصية ،فأمال غصنا قد أنبته هللا نباتاـ فمال ب ه إلى عم ل من أعم ال أه ل الش مال تالعب بفرع ه،
وأثر ذلك في خضرة زرعه ،لكن أصله في أرض اإليم ان ث ابت ،فم ا يض ره م ا ح دث في فرع ه الن ابت ،إذا تدارك ه
صاحب سيئاته فحماه من ذلك الهوى ،وأماله إلى طريق االستقامة بعد الط وى ،وس قاه بم اء االس تغفار ح تى ارت وى،
فهنالك يقبل منه ما نوى ،وي ورق غص ن إيمان ه بع د م ا زوى ،ويق وم خطيب االعت ذار عن ه وه و الص ادق فيم ا نق ل
وروى ،ويقسم بالنجم إذا هوى ،ما ضل صاحبكم وما غوى.
ثم اعلم أن الغصن المحمدي قد حصل من روحانية ما هو مادة األرواح ،ومن جسمانية ما هو مادة األشباح ،فأم ا م ادة
روحانيته جوده في سر قوله تعالى{ :هللا ن ور الس موات واألرض} ،إلى قول ه{ :مص باح} ،يع ني مص باح ن ور نبين ا
محمد صلى هللا عليه وسلم ،فقد جعله مصباح مشكاة الوجود ،فشبه الكون بالمشكاة ،وسيدنا محمدا صلى هللا عليه وسلم
بالزجاجة ،والنور الذي هو قلبه بالمصباح ،فأشرق نور باطنه على ظ اهره ،كإش راق المص باح في الزجاج ة ،فص ار
نور المصباح نارا ،والزجاجة نورا لصفائها ،فصار نورا ،وكان حظ كل مخلوق من ذل ك بحس ب قرب ه من ه ،واتباع ه
له ،والدخول في شيعته ،والعمل بشريعته وهو معنى قوله تعالى{ :انزل من السماء ماء بقدر} ،فش به هللا تع الى حبيب ه
محمدا صلى هللا عليه وسلم بالماء النازل من السماء بقدر ،ألن الماء حياة كل شيء ،وكذلك كان ن وره ص لى هللا علي ه
وسلم حياة كل قلب ،ووجوده رحمة لكل شيء.
ثم بيَّن انتفاع الناس بن وره ،وم ا ن الهم من بركت ه ص لى هللا علي ه وس لم باألودي ة ،فجع ل القل وب أودي ة ،منه ا الكب ير
والصغير ،والجليل والحقير ،فاحتمل كل قلب على قدر وسعه ،ومقدار مادته من الماء ،وتطرق السيل إليه {قد علم كل
أناس مشربهم} ،ثم شبه جسمانيته بالزب د ال رابي المحتم ل على وج ه الم اء الص افي ،وه و مرب اه الظ اهر من األك ل
والشرب والنكاح ،ومشاركة الناس في أفعالهم وأحوالهم فذلك كل ه ي ذهب ويتالش ى {وأم ا م ا ينف ع الن اس} من نبوت ه
ورسالته وحكمته وعلمه ومعرفته وشفاعته {فيمكث في األرض}.
واعلم أنه إنما كانت حكمة خلقه كذلك أنه خلق من لطيف وكثيف ،ليكون كامل الخلق ،كامل الوص ف ،خلق ه هللا تع الى
من ضدين :جسماني وروحاني ،فجعل جسمانيته وبشريته لمالقاة البشر ،ومقايسات الصور ،فجع ل ل ه ق وة يالقي به ا
البشر فيمدهم بمادة بشريته ،فيكون معهم بهم ،فيكون هم لهم (إنما أنا بش ر مثلكم) ،يجانس هم ويش اكلهم ،ألن ه ل و ب رز
إليهم في هيئة روحانية ملكية نورانية لم ا أط اقوا مقابلت ه ،وم ا اس تطاعوا مقاومت ه ،فل ذلك َّ
من هللا تع الى بقول ه{ :لق د
جاءكم رسول من أنفسكم} ،ثم جعل له قوة وروحانية يقابل بها عالم الروحانيين ،وملكوت العلويين ،ليكون تام البركة،
تام الرحمة ،الروحانيون يشهدون جسمانيته.
ثم جعل له وصفا ثالثا خاصا خارجا عن هذين الوصفين ،وهو أنه جعل فيه وصفا ربانيا وسرا إلهيا يثبت به عند تجلي
صفات الربوبية ،ويطيق به مشاهدة الحضرة اإللهية ،ويتلقى به أسرار أنوار الفرداني ة ،ويس مع ب ه خط اب اإلش ارات
القدسية ،وينشق به عطر النفحات الرحمانية ،ويعرج به إلى المقامات العذبة البهي ة ،وه و مع نى قول ه ص لى هللا علي ه
وسلم( :لست كأحد منكم) ،وقوله صلى هللا عليه وس لم( :لي وقت ال يس عني في ه غ ير ربي س بحانه) ،فه ذا المق ام ليس
نبي مرسل ،كأس لم يتناوله سواه ،عروس ما جليت إال عليه ،وهو ه ذا المق ام المخص وص ك مقرب وال ٌّ يختص به َملَ ٌ
به ،وهو أحد المقامات األربعة التي ذكرناها ،وأما الثالثة األخر فإنها كرامات لسائر الخلق ،ليتناول ك لٌّ منهم م ا قس م
له من النصيب.
فأما المقام المحمود فمخصوص بعالم الصورة ،وهو ع الم المل ك في ال دنيا ،فيتن اولهم وج ود طمأنينت ه ،وبرك ة نبوت ه
ورسالته {وما أرسلناك إال رحمةً للعالمين} أقيم على منبر {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من رب ك} ...اآلي ة ،فه و
في الدعوة مجيبهم ،وفي النصيحة خطيبهم ،ومن الزلزلة طبيبهم ،ومن المحبة نصيبهم ،فهذا مخصوص بأهل الدنيا.
وأما المقام الثاني فهو المقام المحمود في القيامة ،وذلك نصيب المأل األعلى ،فينالهم من بركة مقامه ،ومشاهدة جمال ه،
وسماع كالمه {يوم يقوم الروح والمالئكة} ...اآلية ،يؤذن له في الخطاب ،فيقوم خطيبا والمالئك ة ص فوفا ،والخالئ ق
وقوفا ،فيفتتح خطبته بالشفاعة ألمته ،ينادي{ :أمتي أمتي} فيجيبه{ :رحمتي رحمتي}.
وأما المقام الثالث فالشهود ،وذلك في دار الخلود ،لينال أه ل الجن ة من ه نص يبهم ،تتمت ع بمش اهدته الح ور ،وتتش رف
بحلوله القصور ،ويقدم لقدومه السرور ،وتزداد الجنة نورا ،وترفع بقدومه الحجب وتزول الشرور.
المقام الرابع هو المقام الذي ُخصَّ به صلى هللا عليه وسلم ،وهو مقام رؤية المعبود جل وعال ،وه و مق ام ق اب قوس ين
أو أدنى.
وذلك أنه لما كان ثمرةَ شجرة الكون ،ودرةَ صدفة الوجود وسره ،ومعنى كلم ة (كن) ،ولم تكن الش جرة م رادة ل ذاتها،
وإنما كانت مرادة لثمرتها ،فهي محمية محروسة الجتناء ثمرتها ،واستجالء زهرتها.
فلما كان المراد عرض هذه الثمرة بين يدي مثمرها ،وزفها إلى حضرة قربه ،والطواف بها على ندمان حض رته ،قي ل
له :يا يتيم أبي طالب ،قم فإن لك طالبًا ،قد ادخر لك مطالب ،فأرسل إليه أخص خدام الملك ،فلما ورد عليه قادما ،واف اه
على فراشه نائما ،فقال له :يا جبريل؛ إلى أين؟ فقال :يا محمد؛ ارتف ع األين من ال بين ،ف إني ال أع رف في ه ذه النوب ة
أين؟ لكني رسول القدم ،أرسلت إليك من جملة الخدم " وما نتنزل إال بأمر ربك " قال :يا جبريل ،فما الذي مراد م ني؟
قال :أنت مراد اإلرادة ،ومقصود المشيئة ،فالكل مرا ٌد ألجلك ،وأنت مراد ألجله ،وأنت مختار الكون ،أنت صفوة كأس
الحب ،أنت درة هذه الصدفة ،أنت ثمرة ه ذه الش جرة ،أنت ش مس المع ارف ،أنت ب در اللط ائف ،م ا مه دت ال دار إال
لرفعة محلك ،ما هيئ هذا الجمال إال لوصلك ،م ا روق ك أس المحب ة إال لش ربك ،فقم ف إن الموائ د لكرامت ك مم دودة،
والمأل األعلى يتباشرون بقدومك عليهم ،والكروبيون يتهللون بورودك إليهم ،وق د ن الهم ش رف روحانيت ك ،فال ب د لهم
من نصيب جسمانيتك ،فش ّرف عالم الملكوت كما شرفت عالم الملك ،وش رف ب وطء ق دميك قم ة الس ماء ،كم ا ش رفت
بهما أديم البطحاء.
قال :يا جبريل؛ الكريم يدعوني فماذا يفعل بي؟ قال :ليغفر لك ما تقدم من ذنب ك وم ا ت أخر ،ق ال :ه ذا لي؛ فم ا لعي الي
وأطفالي؟ فإن شر الناس من أكل وحده ،قال{ :ولسوف يعطيك ربُّك فترضى} ،قال :يا جبريل؛ اآلن طاب قلبي ،ها أنا
ذاهبٌ إلى ربي ،فقرب له البراق ،فقال :مالي بهذا؟ قال :مركب العشاق ،قال :أنا مركبي شوقي ،وزادي توقي ،ودليلي
وان ض عيف أن يحم ل من يحم ل أثق ال محبت ه؟ ليلي ،أنا ال أصل إليه إال به ،وال يدلني عليه إال هو ،وكيف يطي ق حي ٌ
ورواسي معرفته؟ وأسرار أمانته التي عجزت عن حملها السموات واألرض والجبال؟.
وكيف تطبق أن تدل بي و أنت الحائر عند س درة المنتهى ,و ق د انتهى إلى حض رة ليس له ا منتهى ,ي ا جبري ل :أين
أنت م نى ،ولي وقت ال يس عني في ه غ ير ربي؟ ي ا جبري ل إذا ك ان محب وبي ليس كمثل ه ش يء ،فأن ا لس ت كأح دكم،
المركوب يقطع به المس افات ،وال دليل يس تدل ب ه إلى الجه ات ،وإنم ا ذل ك مح ل المح دثات ،وأن ا حبي بي مق دس عن
الجهات ،منزه عن المحدثات ،ال يوصل إليه بالحركات ،وال يس تدل علي ه باإلش ارات ،فمن ع رف المع اني ع رف م ا
أعاني ،هلم إن قربي منه مثل قاب قوسين أو أدنى.
فوقعت هيئة الوقت على جبريل؛ فقال :يا محمد إنما جيء بي ألكون خادم دولتك ،وصاحب حاشيتك ،وجيء ب المركب
إلي ك إلظه ار كرامت ك ،ألن المل وك من ع اداتهم إذا اس تزاروا حبيب ا ،أو اس تدعوا قريب ا ،وأرادوا ظه ور ك رامتهم
واحترامهم أرسلوا أخص خدامهم ،وأعز دوابهم لنقل أقدامهم ،فجئن اك على رس م ع ادة المل وك ،وآداب الس لوك ،ومن
اعتقد أنه سبحانه وتعالى يوصل إليه بال ُخطا وقع في الخَ طا ،ومن ظن أنه محجوبٌ بالغطاء ،فقد حرم العطاء.
يا محمد إن المأل األعلى في انتظارك ،والجنان قد فتحت أبوابها ،وزخرفت رحابها ،وتزينت أترابه ا ،وروق ش رابها،
كل ذلك فرحا بقدومك ،وسرورا بورودك ،والليلة ليلتك ،والدولة دولتك ،وأنا منذ خلقت منتظر هذه الليلة ،وق د جعلت ك
الوسيلة في حاجة ،قلَّت فيها حيلتي ،وانقطعت وسيلتي ،فأنا فيها حائر العقل ،ذاهل الفكر ،داهش السر ،مش غول الب ال،
زائد البلبال ،يا محمد؛ حيرتي أوقفتني في ميادين أزله وأب ده ،فجلت في المي دان األول فم ا وج دت ل ه أول ،وملت إلى
الميدان اآلخر ،فإذا هو في اآلخر أول ،فطلبت رفيقا إلى ذلك الرفيق ،فتلقاني ميكائي ل في الطري ق ،فق ال لي :إلى أين؟
الطريق مسدودة ،واألبواب دونه مردودة ،ال يوصل إليه باألزمان المعدودة ،وال يوجد في األماكن المحدودة ،قلت :فما
وقوفك في هذا المقام؟ قال :شغلني بمكاييل البحار ،وإنزال األمطار ،وإرسالها في سائر األقط ار ،ف أعرف كم أجاجه ا
مددا ،وكم تقذف أمواجها زبدا ،وال أعرف لألحدية أمدا ،وال للفردية عددا.
قلت :فأين إسرافيل؟ قال :أدخل في مكتب التعليم ،يصافح بصفحة وجهه اللوح المحفوظ ،ويستنسخ منه م ا ه و م بروم
ومنقوض ،ثم يقرأ على صبيان التعليم في مثال{ :ذلك تقدير العزيز العليم}.
ثم هو في زمن تعلمه ال يرفع رأسه حيا ًء من معلمه ،فطرفه عن النظر مقصور ،وقلبه عن الفكر محصور ،فهو ك ذلك
إلى يوم ينفخ في الصور.
قلت :فهلم نسأل العرش ونستهديه ،ونستنسخ منه ما علمه ونستمليه ،فلما سمع العرش ما نحن فيه ،اهتز طرب ا ،وق ال:
وستر ال يفتح دونه باب ،وس ؤال ليس ل ه ج واب،
التحرك به لسانك ،وال تحدث به َجنانَك ،فهذا سر ال يكشفه حجابِ ،
ومن أنا في البين حتى أعرف له أين؟ وما أنا إال مخلوق من حرفين ،وباألمس كنت الأثر وال عين.
من كان باألمس عدما مفقودا ،كيف يعرف رؤية من لم يزل موج ودا ،وال وال دا وال مول ودا ،وه و س بقني باالس تواء،
وقهرني باالستيالء ،فلوال استواؤه لما استويت ،ولوال استيالؤه لما اهتديت.
استوى إلى السماء وهي دخان ،واستوى على العرش لقيام البرهان ،فوعزته لقد استوى ،وال علم لي بما اس توى ،وأن ا
والثرى بالقرب منه على حد سوى ،فال أحيط بما حوى ،وال أعرف ما زوى ،ولكني عبد له؛ ولكل عبد ما نوى.
ثم إني أخبرك بقصتي ،وأبث إليك شكوى غص تي ،أقس م بعلي عزت ه ،وق وي قدرت ه ،لق د خلق ني ،وفي بح ار أحديت ه
غرقني ،وفي بيداء أبديته حيرني ،تارة يطلع من مطالع أبديته فينعشني ،وتارة يدنيني من مواقف قربه فيؤنسني ،وتارة
يحتجب بحجاب عزته فيوحشني ،وتارة ين اجيني بمناج اة لطف ه فيطرب ني ،وت ارة يواص لني بكاس ات حب ه فيس كرني،
وكلما استعذبت من عربدة سكري قال لس ان أحديت ه{ :لن ت راني} ،ف ذبت من هيبت ه فرق ا ،وتم زقت من محبت ه قلق ا،
وصعقت عن تجلي عظمته كما خر موسى صعقا.
فلما أفقت من سكرة وجدي به قيل لي :أيها العاشق هذا جمال ق د ص ناه ،وحس ن ق د حجبن اه ،فال ينظ ره إال ح بيب ق د
اصطفيناه ،ويتيم قد ربيناه ،فإذا سمعت{ :سبحان الذي أسرى بعبده} فقف على طري ق عروج ه إلين ا ،وقدوم ه علين ا،
لعلك ترى من يرانا ،وتفوز بمشاهدة من لم ينظر إلى سوانا.
يا محمد إذا كان العرش مشوقا إليك ،فكيف ال أكون خادم يديك؟ قدم إليه مركبه األول :وهو ال براق إلى بيت المق دس؛
ثم المركب الثاني :وهو المعراج إلى سماء الدنيا ،ثم المركب الثالث :وهو أجنحة المالئكة من سماء إلى س ماء ،وهك ذا
إلى السماء السابعة ،ثم المركب الرابع :وهو جناح جبريل عليه السالم إلى سدرة المنتهى ،فتخلف جبريل علي ه الس الم
عندها ،فقال :يا جبريل ،نحن الليلة أضيافك ،فكيف يتخلف المض يف عن ض يفه؟ أههن ا ي ترك الخلي ل خليل ه؟ ق ال :ي ا
ُ
تقدمت اآلن بقدر أنمل ة الح ترقت (وم ا من ا إال ل ه مق ا ٌم معل وم) ق ال :ي ا محمد؛ أنت ضيف الكريم ،ومدعو القديم ،لو
جبريل؛ إذا كان ك ذلك أل ك حاج ة؟ ق ال :نعم؛ إذا انتهى ب ك إلى الح بيب حيث ال منتهى ،وقي ل ل ك :ه ا أنت وه ا أن ا،
فاذكرني عند ربك ،ثم زج به جبريل عليه السالم زجة فخرق به سبعين ألف حجاب من نور.
ثم تلقاه المركب الخامس :وهو الرفرف من نور أخضر ،قد سد م ا بين الخ افقين ،فركب ه ح تى انتهى ب ه إلى الع رش،
فتمسك العرش بأذياله ،وناداه بلسان حاله ،وقال :يا محم د ،إلى م تى تش رب من ص فاء وقت ك آمن ا من معتك ره؟ ت ارة
يتشوق إليك حبيبك وينزل إلى سماء الدنيا ،وتارة يطوف بك على ندمان حضرته ،ويحملك على رفرف رأفته {سبحان
الذي أسرى بعبده} وتارة يشهدك جمال أحاديثه {ما كذب الفؤاد م ا رأى} ،وت ارة يش هدك جم ال ص مدانيته {م ا زاغ
البصر وما طغى} وتارة يطلعك على سرائر ملكوتيته {فأوحى إلى عبده م ا أوحى} ،وت ارة ي دنيك من حض رة قرب ه
{فكان قاب قوسين أو أدنى}.
يا محمد ،هذا أوان الظمآن إليه ،واللهفان عليه ،والمتح ير في ه ،ال أدري من أي جه ة آتي ه ،جعل ني أعظم خلق ه ،فكنت
أعظمهم وأشدهم خوفا منه ،يا محمد ،خلقني يوم خلقني فكنت أرعد من هيبة جالله ،فكتب على ق ائمتي :ال إل ه إال هللا،
فازددت لهيبة اسمه ارتعادا وارتعاشا ،فلما كتب علي :محمد رس ول هللا س كن ل ذلك قلقي ،وه دأ روعي ،فك ان اس مك
أمانا لقلبي ،وطمأنينة لسري ،ورقية لقلقي ،فهذه بركة وضع اسمك علي ،فكيف إذا وقع جميل نظرك إلي؟.
يا محمد ،أنت المرسل رحمة للعالمين ،وال بد لي من نصيب في هذه الليلة ،ونصيبي من ذلك أن تشهد لي ب البراءة من
النار ،مما نسبه إلي أهل الزور ،وتقوله علي أهل الغرور ،فإنه أخط أ في ق وم فض لّوا وظن وا أني أس ع من ال ح د ل ه،
وأحمل من ال هيئة له ،وأحيط بمن ال كيفية له.
يا محمد ،من ال حد لذاته ،وال عد لصفاته ،فكيف يكون مفتقرا إلي أو محموال علي؟ فإذا كان الرحمن اسمه ،واالستواء
صفته ونعته ،وصفته ونعته متصالن بذاته ،فكيف يتصل بي أو ينفصل عني؟ وال أنا منه وال هو مني؟!!
يا محمد ،وعزته لست بالقرب منه وصال ،وال بالبعد عن ه فص ال ،وال ب المطيق ل ه حمال ،وال بالج امع ل ه ش مال ،وال
بالواجد له مثال ،بل أوجدني من رحمته منة وفضال ،ولو محقني لكان فضال منه وعدال.
يا محمد ،أنا محمول قدرته ،ومعمول حكمته ،فكيف يصح أن يكون الحامل محموال؟ {فال تقف م ا ليس ل ك ب ه علم إن
السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئوال}.
فأجابه لسان حاله صلى هللا عليه وسلم :أيها العرش ،إليك عني؛ فأنا مشغول عنك ،فال تكدر علي صفوتي ،وال تش وش
علي خلوتي ،فما في الوقت سعة لعتابك ،وال محل لخطابك ،فما أعاره صلى هللا عليه وسلم طرفا ،وال قرأ من مسطور
ما أوحى إليه حرفا {ما زاغ البصر}.
ثم قدم المركب السادس :وهو التأييد ،فنودي من فوقه ،ولم ير حافظك قدامك ،ه ا أنت ورب ك ،ق ال :فبقيت متح يرا ،ال
أعرف ما أقول ،وال أدري م ا أفع ل ،إذ وقعت على ش فتي قط رة أحلى من العس ل ،وأب رد من الثلج ،وألين من الزب د،
وأطيب ريحا من المسك ،فصرت بذلك أعلم من جميع األنبياء والرس ل ،فج رى على لس اني :التحي ات المبارك ات هلل،
الصلوات الطيبات هلل ،فأجبت :السالم عليك أيها النبي ورحمة هللا وبركاته ،فأشركت إخواني األنبياء فيم ا اختصص ت
به ،فقلت :السالم علينا وعلى عباد هللا الصالحين ،أراد بهم األنبياء عليهم الصالة والسالم ،ولهذا قيل ألبي بك ر رض ي
هللا عنه ليلة أسري برسول هللا صلى هللا عليه وسلم :إنه رأى ربه ،قال :صدق ،وكنت معه متمسكا بأذياله ،مشاركه في
مقاله ،قيل :كيف؟ ق ال :في قول ه :الس الم علين ا ،فأجاب ه المالئك ة :أش هد أال إل ه إال هللا ،وأن محم دا رس وله ،ق ال :ثم
نوديت :ادْنُ يا محمدُ ،فدنوت ،ثم وقفت ،وهو معنى عز وجل{ :ثم دنا فتدلى} ،وقي ل :دن ا محم د في الس ؤال ،فت دلى،
فتقدم للرب عز وجل ،قيل :دنا بالشفاعة ،وتقرب إلى الرب باإلجابة ،وقيل :دنا بالخدم ة ،وتق رب لل رب بالرحم ة {ثم
دنا فتدلى} معناه :دنا محمد من ربه فتدلى عليه الوحي من ربه ،دنا لطافة ،فتدلى عليه رأفة ورحمة ،ال يوصف بقط ع
مفازة وال مسافة ،قد ذهب األين من البين ،وتالشى الكيف واضمحل األين ،فكان ق اب قوس ين ،فل و اقتص ر على ق اب
قوسين الحتمل أن يكون للرب مكان ،وإنما قوله{ :أو أدنى} لنفي المكان ،وكان معه حيث ال مكان وال زمان وال أوان
وال أكوان.
فنودي :يا محمد ،تقدم ،فقال :يا رب ،إذا انتفى األين فأين أضع القدم؟ قال :ضع الق دم على الق دم ،ح تى يعلم الك ل أني
منزه عن الزمان والمكان واألكوان ،وعن الليل وعن النهار ،وعن الحدود واألقطار ،وعن الحد والمقدار.
يا محمد ،انظر ،فنظر ،فرأى نورا ساطعا ،فقال :م ا ه ذا الن ور؟ قي ل :ليس ه ذا ن ورا ،ب ل ه و جن ات الف ردوس ،لم ا
ارتقيت صارت في مقابل قدميك ،وما تحت قدميك فداء لقدميك ،يا محمد ،مبدأ قدمك منقطع أوهام الخالئق ،ي ا محم د،
ما دمت في سير األين ،جبريل دليلك ،والبراق مركبك ،فإذا ذهب المك ان ،وغبت عن األك وان ،وانتفى األين ،وارتف ع
البين من البين ،ولم يبق إال قاب قوسين ،فأنا اآلن دليلك.
يا محمد ،أفتح لك الباب ،وأرفع لك الحجاب ،وأسمعك طيب الخطاب ،في عالم الغيب وحدتني تحقيقا وإيمانا ،فوح دني
اآلن في عالم الشهود مشاهدة وعيانا ،فقال :أعوذ بعفوك من عقوبتك ،فقيل :هذا لعصاة أمت ك ،ليس ه ذا حقيق ة م دعي
وحدتي ،فقال( :ال أحصي ثناء عليك ،أنت كما أثنيت على نفسك) .فقال :يا محمد ،إذا ك ّل لسانك عن العبارة ،فألكسونه
لسان الصدق{،وما ينطق عن الهوى} فإذا ضل عيانك عن اإلشارة فألجعلن عليك خلعة الهداية {م ا زاغ البص ر وم ا
طغى} ثم ألعيرنك نورا تنظر به جم الي ،وس معا تس مع ب ه كالمي ،ثم أعرف ك بلس ان الح ال مع نى ع ز وج ل علي،
وحكمة نظرك إلي ،فكأنه يقول مشيرا :يا محمد؛ {إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا} والشاهد مطالب بحقيقة ما ش هد
به ،وال يجوز ل ه الش هادة على غ ائب ،فأري ك جن تي لتش اهد م ا أعددت ه ألولي ائي ،وأري ك ن اري لتش اهد م ا أعددت ه
ألعدائي ،ثم أشهدك جاللي ،وأكشف لك عن جمالي ،لتعلم أني منزه عن المثيل والشبيه والبديل والنظير والمشير وعن
الحد و القد ،وعن الحصر والعد ،وعن الجوز والف رد ،وعن المواص لة والمفاص لة ،والمماثل ة والمش اكلة ،والمجالس ة
والمالمسة ،والمباينة والممازحة.
يا محمد ،إني خلقت خلقي ،ودعوتهم إلي ،فاختلفوا علي ،فقوم جعلوا العزير ابني ،وأن يدي مغلولة ،وهم اليهود ،وقوم
زعموا أن المسيح ابني ،وأن لي زوجة وول دا ،وهم النص ارى ،وق وم جعل وا لي ش ركاء وهم الوثني ة ،وق وم جعل وني
صورة ،وهم المجسمة ،وقوم جعلوني محدودا ،وهم المشبهة ،وقوم جعلوني معدوما ،وهم المعطلة ،وق وم زعم وا أني
ال أرى في اآلخرة ،وهم المعتزلة ،وها أنا قد فتحت لك بابي ،ورفعت لك حجابي ،فانظر يا حبيبي ي ا محم د ،ه ل تج د
في شيئا مما نسبوني إليه؟ ،فرآه صلى هللا عليه وسلم بالنور الذي ق واه ب ه ،وأي ده ب ه من غ ير إدراك وال إحاط ة ف ردا
ص مدا ،ال في ش يء ،وال على ش يء ،وال قائم ا بش يء ،وال مفتق را إلى ش يء ،وال هيكال وال ش بحا ،وال ص ورة وال
جسما ،وال محيزا وال مكيفا ،وال مركبا {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير}.
فلما كلمه شفاها ،وشاهده كفاحا ،فقال :يا حبيبي يا محمد ،ال بد لهذا الخل ق من س ر ال ي ذاع ،وزمن ال يش اع {ف أوحى
إلى عبده ما أوحى} فكان سر من سر في سر.
وص ّل هللا وسلم وبارك على أشرف مخلوقاتك ،سيدنا وموالنا محمد ،بحر أنوارك ،ومع دن أس رارك ،ولس ان حجت ك،
وإمام حضرتك ،وعروس مملكتك ،وطراز ملكك ،وخزائن رحمتك ،وطريق شريعتك ،وسراج جنتك ،وعين حقيقت ك،
المتلذذ بمشاهدتك ،عين أعيان خلقك ،المقتبس من نور ضيائك ،صالة تحل بها عقدتي ،وتفرج بها كربتي ،وتقضي بها
أربي ،وتبلغني بها طلبي ،صالة دائمة بدوامك ،باقية ببقائك ،قائمة بذاتك ،صالة ترضيك وترضيه ،وترض ى به ا عن ا
يا رب العالمين .وحسبنا هللا ونعم الوكيل ،وال حول وال قوة إال باهلل العلي العظيم ،وص لى هللا على س يدنا محم د وعلى
آله وصحبه وسلم ،والحمد هلل رب العالمين.
تمت شجرة الكون