You are on page 1of 533

844

‫‪845‬‬

‫‪ 21‬ـ سورة األنبياء‬


‫نزوهلا ‪ :‬مكية ‪ ..‬بال خالف‪.‬‬
‫عدد آياهتا ‪ :‬مائة واثنتا عشرة آية‪.‬‬
‫عدد كلماهتا ‪ :‬ألف ومائة ومثان وستون كلمة‪.‬‬
‫عدد حروفها ‪ :‬أربعة آالف ومثامنائة وسبعون حرفا‪.‬‬
‫ومسيت سورة األنبياء لكثرة من ذكر فيها من األنبياء‪.‬‬

‫الرحيم‬
‫الرحمن ّ‬
‫بسم اهلل ّ‬
‫____________________________________‬

‫اآليات ‪ 1( :‬ـ ‪)9‬‬


‫ض ـو َن (‪ )1‬ما يَ ـأْتِي ِه ْم ِم ْن ِذ ْكـ ٍر ِم ْن َربِّ ِه ْم‬ ‫ـاب ُه ْم َو ُه ْم فِي غَ ْفلَـ ٍـة ُم ْع ِر ُ‬ ‫(اقْتــرب لِلن ِ ِ‬
‫َّاس حسـ ُ‬ ‫ََ َ‬
‫َّ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬
‫ين ظَلَ ُموا َه ْل هذا‬ ‫َّج َوى الذ َ‬ ‫َس ُّروا الن ْ‬ ‫استَ َمعُوهُ َو ُه ْم َيل َْعبُو َن (‪ @)2‬الهيَةً ُقلُ ُ‬
‫وب ُه ْم َوأ َ‬ ‫ُم ْح َدث إِالَّ ْ‬
‫سـ ـ ـ ِ‬ ‫ـال َربِّي َي ْعلَ ُم الْ َقـ ـ ْـو َل فِي ال َّ‬
‫صـ ـ ـ ُرو َن (‪ )3‬ق ـ ـ َ‬ ‫سـ ـ ـ ْحر وأَ ْنتُم ُت ْب ِ‬ ‫إِالَّ ب َ ِ‬
‫ماء‬ ‫شـ ـ ـ ٌر م ْثلُ ُك ْم أَ َفتَـ ـ ـأْتُو َن ال ِّ َ َ ْ‬ ‫َ‬
‫الم ب ـ ِـل ا ْفتــراه ب ــل هــو شـ ِ‬
‫ـاع ٌر َفلْيَأْتِنا‬ ‫ِ‬ ‫ض و ُهــو ال َّ ِ‬
‫َح ٍ َ َ ُ َ ْ ُ َ‬ ‫غاث أ ْ‬
‫ضـ ُ‬ ‫يم (‪ )4‬بَـ ْـل قــالُوا أَ ْ‬ ‫يع ال َْعل ُ‬ ‫س ـم ُ‬ ‫َواأْل َْر ِ َ َ‬
‫ت َق ْبلَ ُه ْم ِم ْن َق ْريَـ ـ ٍـة أ َْهلَكْناها أَ َف ُه ْم ُي ْؤ ِمنُـ ــو َن (‪َ @ @)6‬وما‬ ‫آمنَ ْ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬
‫بِآيَـ ــة َكما أ ُْرس ـ ـ َل اأْل ََّولُـ ــو َن (‪ )5‬ما َ‬
‫ـل الـ ـ ِّـذ ْك ِر إِ ْن ُك ْنتُ ْم ال َت ْعلَ ُمـ ــو َن (‪َ )7‬وما‬ ‫ـوحي إِل َْي ِه ْم فَ ْس ـ ـَئلُوا أ ْـ‬‫ـك إِالَّ ِرجـ ــاالً نُـ ـ ِ‬
‫َهـ َ‬ ‫أ َْر َس ـ ـلْنا َق ْبلَـ ـ َ‬
‫ِِ‬
‫ـاه ْم‬
‫ْناه ُم ال َْو ْعـ َد فَأَنْ َج ْينـ ُ‬
‫ص ـ َدق ُ‬ ‫ين (‪ @ )8‬ثُ َّم َ‬ ‫ـام َوما كــانُوا خالــد َ‬ ‫س ـداً ال يَ ـأْ ُكلُو َن الطَّعـ َ‬‫ـاه ْم َج َ‬‫َج َع ْلنـ ُ‬
‫ِ‬
‫ين) (‪)9‬‬ ‫َو َم ْن نَشاءُ َوأ َْهلَكْنَا ال ُْم ْس ِرف َ‬
‫‪846‬‬

‫التفسري ‪:‬‬
‫مناسبة هذه السورة ملا قبلها ‪ :‬ختمت سورة طه بالتنديد باملش@@ركني من أهل مكة ‪،‬‬
‫ومبش@ @@اقّتهم لرس@ @@ول اهلل ‪ ،‬وت@ @@أبّيهم على اهلدى ال@ @@ذي ي@ @@دعوهم إليه ‪ ،‬مث إهنم وقد بعث اهلل‬
‫فيهم رس @ @@وال بلّغهم رس@ @@الة ربّه ‪ ،‬فال حجة هلم على اهلل ‪ ،‬إذا أخ @ @@ذهم بعذابه ‪ ،‬وال س @ @@بيل‬
‫ـك ِم ْن َق ْبـ ـ ـ ِـل أَ ْن نَـ ـ ـ ِـذ َّل‬
‫ْت إِل َْينا َر ُس ـ ـ ـوالً َفنَتَّبِـ ـ ـ َـع آياتِـ ـ ـ َ‬‫هلم إىل أن يقول @ @ @@وا ‪َ ( :‬ربَّنا لَـ ـ ـ ْـو ال أ َْر َس ـ ـ ـل َ‬
‫َونَ ْخزى) ‪ ..‬مث ختتم السورة هبذا النذير املط@ ّ@ل عليهم ‪ ،‬وقد ترك@@وا مبنقطع الطريق ‪ ،‬بعي@@دين‬
‫س ـ ـَت ْعلَ ُمو َن َم ْن‬ ‫ص ـ ـوا فَ َ‬ ‫ص َفَت َربَّ ُ‬‫عن أن يض@ @@عوا أق@ @@دامهم على طريق اهلدى ‪( :‬قُـ ـ ْـل ُكـ ــلٌّ ُمَتـ ـ َـربِّ ٌ‬
‫الس ِو ِّي َو َم ِن ْاهتَدى)‪.‬‬ ‫الص ِ‬
‫راط َّ‬ ‫حاب ِّ‬ ‫َص ُ‬ ‫أْ‬
‫وىف مفتتح هذه السورة ـ س@ورة األنبي@اء ـ تط ّ@ل على املش@ركني ن@ذر ه@ذا الي@وم ‪ ،‬وهم‬
‫ـاب ُه ْم ‪َ ،‬و ُه ْم فِي‬ ‫على موعد معه ‪ ،‬وإن ك @@انوا ىف غفلة وذه @@ول عنه ‪( ..‬اقْتــرب لِلن ِ ِ‬
‫َّاس حس ـ ُ‬ ‫ََ َ‬
‫ضو َن) ‪..‬‬ ‫غَ ْفلَ ٍة ُم ْع ِر ُ‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫ض ـ ـ ـو َن ما يَ ـ ـ ـأْتِي ِه ْم ِم ْن ِذ ْكـ ـ ـ ٍر ِم ْن َربِّ ِه ْم‬ ‫ـاب ُه ْم َو ُه ْم فِي غَ ْفلَـ ـ ـ ٍـة ُم ْع ِر ُ‬
‫َّاس حسـ ـ ـ ُ‬
‫(اقْتـ ـ ــرب لِلن ِ ِ‬
‫َ َ َ‬
‫ـل هـذا إِاَّل‬ ‫َّ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬
‫ين ظَلَ ُمـوا َه ْ‬
‫َّج َـوى الذ َ‬ ‫ُم ْح َدث إِاَّل ا ْسـتَ َمعُوهُ َو ُه ْم َيل َْعبُـو َن الهيَـةً ُقلُ ُ‬
‫ـوب ُه ْم َوأَ َسـ ُّروا الن ْ‬
‫ص ُرو َن)‪.‬‬ ‫الس ْحر وأَْنتُم ُت ْب ِ‬ ‫بَ ِ‬
‫ش ٌر م ْثلُ ُك ْم أَ َفتَأْتُو َن ِّ َ َ ْ‬ ‫َ‬
‫الن @@اس هنا ‪ ،‬هم ه @@ؤالء املش @@ركون ‪ ،‬من أهل مكة ‪ ،‬مث ي @@دخل معهم ك @ ّ@ل الن @@اس ‪،‬‬
‫الذين غفلوا عن ذكر اهلل ‪ ،‬وعن العمل ليوم اجلزاء ‪..‬‬
‫ـاب ُه ْم) وىف اخلروج به عن م @ @@ألوف النظم ‪،‬‬ ‫وىف النظم الق @ @@رآىن (اقْتـ ــرب لِلن ِ ِ‬
‫َّاس حس ـ ـ ُ‬ ‫ََ َ‬
‫ـاب ُه ْم) ـ ىف ه@ @@ذا توكيد حلس@ @@اهبم ‪ ،‬وش @ @ ّدهم به ش @ @ ّدا وثيقا ال‬ ‫وهو ‪( :‬اقْتـ ــرب لِلن ِ ِ‬
‫َّاس حسـ ـ ُ‬ ‫ََ َ‬
‫يفلتون منه ‪ ..‬وشتان بني النظمني ‪ :‬اقرتب للناس حساهبم ‪ ..‬واقرتب حساب الناس ‪!..‬‬
‫‪847‬‬

‫ض ـ ـو َن) أي وهم ىف غفلة مطبقة عامة ‪ ..‬غفلة عن كل ما هو‬ ‫ـ ( َو ُه ْم فِي غَ ْفلَـ ـ ٍـة ُم ْع ِر ُ‬
‫حق ‪ ،‬وخري ‪ ،‬كما يدل على ذلك تنكري الغفلة‪ .‬وليس ه@@ذا فحسب ‪ ،‬بل إهنم مع غفلتهم‬
‫ضـو َن) عن كل داع ي@@دعوهم إىل أن ينظ@@روا إىل أنفس@@هم ‪ ،‬وأن‬ ‫ه@@ذه العامة الش@@املة ‪ُ ( ،‬م ْع ِر ُ‬
‫ينتبهوا من غفلتهم ‪..‬‬
‫والغفلة قد تك @@ون ألمر ع @@ارض ‪ ،‬حبيث إذا نبّه اإلنس @@ان تنبه ‪ ،‬وإذا دعى أج @@اب ‪..‬‬
‫ولكن غفلة ه @ @@ؤالء الق @ @@وم ‪ ،‬غفلة مس @ @@تولية عليهم ‪ ،‬آخ @ @@ذة بكل حوا ّس@ @ @هم وم @ @@دركاهتم ‪:‬‬
‫( َوإِ ْن تَ ْدعُ ُه ْم إِلَى ال ُْهـدى َفلَ ْن َي ْهتَـ ُدوا إِذاً أَبَــداً) حيث أهنم مع ه@@ذه الغفلة املس@@تولية عليهم ـ‬
‫بعيدون عن دعوات التنبيه ‪ ،‬ال يلقوهنا إال من وراء ظهورهم ‪ ..‬فهم عنها معرضون ‪..‬‬
‫ث إِاَّل ا ْس ـ ـتَ َمعُوهُ َو ُه ْم َيل َْعبُـ ــو َن) ‪ ..‬هك@ @@ذا ش@ @@أن‬ ‫(ما يَ ـ ـأْتِي ِه ْم ِم ْن ِذ ْكـ ـ ٍر ِم ْن َربِّ ِه ْم ُم ْحـ ـ َد ٍـ‬
‫ه@ @ @@ؤالء الغ@ @ @@افلني ‪ ..‬تط@ @ @@رق أمساعهم دع@ @ @@وات متتابعة ‪ ،‬جم ّددة ‪ ،‬جتيئهم من كل ج@ @ @@انب ‪،‬‬
‫وتطلع عليهم من كل أفق ‪ ..‬ومع ه@ @ @ @ @ @@ذا فهم على ما هم عليه ‪ ،‬من غفلة ‪ ،‬وهلو ‪ ،‬وعبث‬
‫‪..‬‬
‫وال @ ّذكر احملدث ‪ ،‬هو ما يت@@نزل من آي@@ات اهلل ‪ ،‬ح@@اال بعد ح@@ال ‪ ،‬ويتج @ ّدد زمنا بعد‬
‫زمن ‪ ..‬وه@@ؤالء املش@@ركون الغ@@افلون على ح@@ال واح@@دة ‪ ،‬مع كل ما ي@@نزل من آي@@ات اهلل ؛‬
‫يسمعوهنا بآذان ال تصغى إىل حق ‪ ،‬وبقلوب ال تتفتح لقبول خري ‪..‬‬
‫شـ ٌر ِم ْثلُ ُك ْم ‪ ..‬أَ َفتَـأْتُو َن ال ِّ‬
‫سـ ْح َر َوأَْنتُ ْم‬ ‫ـل هــذا إِاَّل بَ َ‬
‫ين ظَلَ ُمــوا ‪َ :‬هـ ْ‬
‫َّ ِ‬
‫َّج َـوى الذ َ‬ ‫( َوأَ َسـ ُّروا الن ْـ‬
‫ُت ْب ِ‬
‫ص ُرو َن) ‪..‬‬
‫النجوى ‪ :‬التناجي فيما بينهم ‪..‬‬
‫وإس@@رار النج@@وى ‪ :‬مب@@الغتهم ىف إخف@@اء ما تن@@اجوا به من منكر الق@@ول ‪ ،‬حىت حيكم@@وا‬
‫كيدهم ‪ ،‬ويصلوا إىل رأى جيتمعون عليه ‪ ،‬مث يطلعون على الناس به ‪ ..‬إهنم‬
‫‪848‬‬

‫يأمترون فيما بينهم ‪ ،‬ليتفقوا على الكيد الذي يكيدون به لرسول اهلل ‪ ،‬وآليات اهلل‪.‬‬
‫ين ظَلَ ُمــوا) هو ب@@دل من الض@@مري ىف (أَ َس ـ ُّروا) ‪ ..‬أي أن ه@@ؤالء‬ ‫َّ ِ‬
‫ـ وقوله تع @@اىل ‪( :‬الذ َ‬
‫الذين أس ّ@روا النج@وى ‪ ،‬هم ظ@املون ‪ ،‬قد ظلم@@وا أنفس@هم بعزهلا عن م@@وارد اهلدى ‪ ،‬وقطعها‬
‫عن مناهل اخلري ‪..‬‬
‫ص ـ ُرو َن) هو‬ ‫س ـ ْحر وأَ ْنتُم ُت ْب ِ‬ ‫ـ وقوله تع @@اىل ‪( :‬هــل ه ــذا إِاَّل ب َ ِ‬
‫ش ـ ٌر م ْثلُ ُك ْم ‪ ..‬أَ َفتَ ـأْتُو َن ال ِّ َ َ ْ‬ ‫َ‬ ‫َ ْ‬
‫بي @ @ @@ان ملا تن @ @ @@اجى به الق @ @ @@وم ‪ ،‬وأمتروا فيما بينهم على اص @ @ @@طياده ‪ ،‬من واردات أوه @ @ @@امهم ‪،‬‬
‫ـل هـ ــذا إِاَّل بَ َش ـ ـ ٌر ِم ْثلُ ُك ْم)؟ وإذا ك@ @@ان بش@ @@را مثلنا فكيف يك@ @@ون له ه@ @@ذا‬ ‫وض@ @@الالهتم ‪َ ( ..‬هـ ـ ْ‬
‫صـ ُرو َن)؟‬ ‫سـ ْحر وأَ ْنتُم ُت ْب ِ‬
‫@وى؟ (أَ َفتَأْتُو َن ال ِّ َ َ ْ‬ ‫املكان الذي يط@ ّ@ل عليكم منه ‪ ،‬من ه@@ذا الع@@امل العل@ ّ‬
‫وإذا فكيف نقبل على أنفسنا أن جنىء إىل هذا اخلداع وحنن نراه رأى العني؟‬
‫وهل يليق بعاقل أن ي@ @@رى من ي@ @@دعوه إىل ختله ‪ ،‬وال حيتي@ @@ال عليه ‪ ،‬مث يأتيه طائع@ @@ا؟‬
‫هكذا يريدون هذا اللّغو ‪ ،‬ويسمرون به!‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫ِ‬ ‫ض و ُهو َّ ِ‬ ‫قال ربِّي يعلَم الْ َقو َل فِي َّ ِ‬
‫يم)‪.‬‬
‫يع ال َْعل ُ‬
‫السم ُ‬ ‫السماء َواأْل َْر ِ َ َ‬ ‫( َ َ َْ ُ ْ‬
‫قرىء ‪« :‬قل رىب يعلم القول ىف السماء واألرض»‪.‬‬
‫رد على ما تن @@اجى به املش @@ركون وأس @ ّ@روه ‪ ..‬حىت‬ ‫وعلى كلتا الق @@راءتني ‪ ،‬ف @@إن اآلية ّ‬
‫ش ـ ٌر ِم ْثلُ ُك ْم ‪ ..‬أَ َفتَ ـأْتُو َن‬‫ـل هــذا إِاَّل بَ َ‬
‫إذا أحكم @@وا نس@@جه ‪ ،‬أعلن @@وه ىف ه @@ذا الق @@ول املنكر ‪َ ( :‬هـ ْ‬
‫صـ ُرو َن) ‪ ..‬وأن اهلل س@@بحانه يعلم ما أس@@روا وما أعلن@@وا ‪ ،‬فهو س@@بحانه يعلم‬ ‫الس ْحر وأَ ْنتُم ُت ْب ِ‬
‫ِّ َ َ ْ‬
‫ِ‬ ‫كل ما يق@@ال ىف الس@@ماء واألرض ‪ ،‬وهو (ال َّ ِ‬
‫يم)‬‫يع) ال@@ذي يس@@مع جنوى القل@@وب ‪( ،‬ال َْعل ُ‬ ‫سـم ُ‬
‫صـ ُدو ِر) (‬ ‫اج َهــروا بِ ِـه إِنَّهُ َعلِيم بِـ ِ‬ ‫ِ‬
‫ـذات ال ُّ‬ ‫ٌ‬ ‫تكن الض@@مائر ‪َ ( ..‬وأَس ُّروا َق ْـولَ ُك ْم أَ ِو ْ ُ‬
‫ال@@ذي يعلم ما ّ‬
‫‪ : 13‬امللك)‪.‬‬
‫‪849‬‬

‫قوله تعاىل ‪:‬‬


‫الم ‪ ..‬ب ـ ِـل ا ْفت ــراه ‪ ..‬ب ــل هــو شـ ِ‬
‫ـاع ٌر ‪َ ..‬فلْيَأْتِنا بِآيَـ ٍـة َكما أ ُْر ِس ـ َل‬ ‫َح ٍ َ َ ُ َ ْ ُ َ‬ ‫غاث أ ْ‬
‫ضـ ُ‬ ‫(بَـ ْـل قــالُوا أَ ْ‬
‫اأْل ََّولُو َن)‪.‬‬
‫هو فضح ملا تناجى به القوم ‪ ،‬وكان مما جرى به احلديث بينهم ‪ ..‬فقالوا فيما قالوه‬
‫الم) أي أخالط أحالم ‪ ،‬وهلوسة ن@@ائم ‪ ،‬معت@ ّ@ل املزاج‬ ‫َح ٍ‬‫غاث أ ْ‬‫ض ُ‬ ‫عن الق@@رآن الك@@رمي ‪ :‬هو (أَ ْ‬
‫ـاع ٌر) أي‬ ‫‪ ،‬خمب@@ول العقل ‪ ..‬وإذ مل ي@@رتض بعض@@هم ه@@ذا الق@@ول ردوه ‪ ،‬وق@@الوا ‪( :‬ب ــل هــو شـ ِ‬
‫َ ْ َُ‬ ‫ّ‬
‫من واردات الش@@عر ‪ ،‬ومن نسج أخيلته ‪ ..‬وإذ مل ي@@رض بعض@@هم ه@@ذا الق@@ول أو ذاك ق@@الوا ‪:‬‬
‫ِ‬ ‫ِ ٍ‬
‫حماجته ىف هذا الكالم الذي يلقيه علينا ‪ ،‬ويق@@ول‬ ‫( َفلْيَأْتنا بِآيَة َكما أ ُْرس َل اأْل ََّولُو َن) أي يدع ّ‬
‫عنه إنه معجزته اليت يق @ @ @ ّدمها بني ي@ @ @@دى رس@ @ @@الته ‪ ،‬وليأتنا مبعج@ @ @@زة غري كالمية ‪ ،‬ف@ @ @@إن جمال‬
‫الكالم متّسع لكل قائل ‪ ..‬ف@ @ @@إن ك@ @ @@ان رس@ @ @@وال من عند اهلل ‪ ،‬كما ي@ @ @ @ ّدعى ‪ ،‬فلم مل ي @ @ @@أت‬
‫مبعج@@زة نراها ‪ ،‬كناقة ص@@احل ‪ ،‬وعصا موسى ‪ ،‬ويد عيس@@ى؟ عندئذ ميكن أن يك@@ون له وجه‬
‫يلقانا به على طريق دعوته ‪ ،‬ويكون لنا يظر فيما ي ّدعيه ‪@!..‬‬
‫ف@@انظر إىل كلم@@ات اهلل ‪ ،‬وقد أمس@@كت ب@@القوم وهم على مس@@رح اجلرمية ‪ ،‬مث أخ@@ذت‬
‫ما جرى على لسان كل ذى قول قاله ىف هذا اجمللس اآلمث ‪..‬‬
‫الم ‪ ..‬ب ـ ِـل ا ْفت ــراه ‪ ..‬ب ــل هــو ش ـ ِ‬
‫ـاع ٌر ‪َ ..‬فلْيَأْتِنا بِآيَ ـ ٍـة َكما أ ُْر ِسـ ـ َل‬ ‫َح ٍ َ َ ُ َ ْ ُ َ‬ ‫غاث أ ْ‬
‫ضـ ـ ُ‬ ‫(ق ــالُوا ‪ :‬أَ ْ‬
‫اأْل ََّولُو َن)‪.‬‬
‫لقد ذهب كل فريق منهم بقول من هذه األقوال ‪@!..‬‬
‫وقد نس @@بت كل مقولة إليهم مجيعا ‪ ..‬إذ ك @@انوا كلهم ش @@ركاء فيما قيل ‪ ..‬ف @@املتكلم‬
‫والسامع مجيعا ‪ ،‬شركاء فيه‪.‬‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫ت َق ْبلَ ُه ْم ِم ْن َق ْريٍَة أ َْهلَكْناها ‪ ..‬أَ َف ُه ْم ُي ْؤ ِمنُو َن)‪.‬‬‫آمنَ ْ‬
‫(ما َ‬
‫‪850‬‬

‫النىب بآية كآيات املرسلني قبله ‪..‬‬ ‫رد على ما اقرتحه املشركون من أن يأتيهم ّ‬ ‫هو ّ‬
‫فهل آمن أهل الق@ @@رى ال@ @@ذين ج@ @@اءهتم تلك املعج@ @@زات؟ لقد كف@ @@روا بتلك اآلي@ @@ات ‪،‬‬
‫ف@ @@أهلكهم اهلل ‪ ..‬وهل ش@ @@أن ه@ @@ؤالء املش@ @@ركني غري ش@ @@أن من س@ @@بقهم؟ إهنم لو ج@ @@اءهتم آية‬
‫كتلك اآلي @@ات لن يؤمن@@وا ‪ ،‬ولن ينج@@وا من ه@@ذا املصري ال@@ذي ص@@ار إليه املك@@ذبون قبلهم ‪..‬‬
‫أفليس من الضالل إذن أن يستعجلوا ما فيه هالكهم؟‪.‬‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫ـل الـ ـ ـ ِّـذ ْك ِر إِ ْن ُك ْنتُ ْم ال‬ ‫ـك إِاَّل ِرجـ ـ ــاالً نُـ ـ ـ ِ‬
‫ـوحي إِل َْي ِه ْم ‪ ..‬فَ ْس ـ ـ ـَئلُوا أ ْـ‬
‫َهـ ـ َ‬ ‫( َوما أ َْر َس ـ ـ ـلْنا َق ْبلَـ ـ ـ َ‬
‫َت ْعلَ ُمو َن)‪.‬‬
‫إهنم ينك @@رون أن يك @@ون رس @@ول اهلل بش @@را مثلهم ‪ ..‬فعلى أيّة ص @@ورة يك @@ون الرس @@ول‬
‫املبعوث من اهلل إليهم؟‬
‫ومل يك @ @ @ @ @ @ @@ون رس @ @ @ @ @ @ @@وهلم غري بشر ‪ ،‬ورسل اهلل كلهم ك @ @ @ @ @ @ @@انوا من البشر ‪ ،‬ومن بني‬
‫أق @ @ @@وامهم؟ إن مل يعلم @ @ @@وا ه @ @ @@ذا فليس @ @ @@ألوا أهل العلم ‪ ،‬ال @ @ @@ذين ال ختفى عليهم ه @ @ @@ذه احلقيقة‬
‫السافرة‪.‬‬
‫الذ ْك ِر) هنا ‪ ،‬هم أهل الكتاب ‪ ،‬من اليهود والنصارى‪.‬‬ ‫وقيل إن (أ َْهل ِّ‬
‫َ‬
‫ـل الـ ِّـذ ْك ِر) هم ك@ ّ@ل من عن@@ده علم هبذا ‪ ،‬س@@واء أك@@ان من أهل‬ ‫َه َ‬ ‫واألوىل أن يك@@ون (أ ْـ‬
‫الكتاب أم من غريهم ‪..‬‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫ِِ‬
‫ين)‪.‬‬
‫عام َوما كانُوا خالد َ‬ ‫سداً ال يَأْ ُكلُو َن الطَّ َ‬ ‫ْناه ْم َج َ‬ ‫( َوما َج َعل ُ‬
‫‪851‬‬

‫أي أن ه @ @@ؤالء الرسل ‪ ،‬مع أهنم بشر ‪ ،‬ف @ @@إن اختي @ @@ارهم للرس @ @@الة ‪ ،‬مل يغرّي ش @ @@يئا من‬
‫بشريّتهم ‪..‬‬
‫فهم مثل س@ائر البشر ‪ ،‬حتكمهم ض@@رورات البش@@رية ‪ ..‬ي@أكلون ‪ ،‬ويش@ربون وين@امون‬
‫‪ ،‬ويفرحون ‪ ،‬وحيزنون‪ .‬مث ميوتون ‪..‬‬
‫واجلسد ‪ :‬هو املادة املتج ّس@ @دة‪ .‬والرسل م @@ادة متجس @@دة ‪ ،‬وليس @@وا من ع @@امل املالئكة‬
‫النوراىن الشفاف ‪..‬‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫ِ‬
‫ين)‪.‬‬ ‫ناه ْم َو َم ْن نَشاءُ َوأ َْهلَكْنَا ال ُْم ْس ِرف َ‬
‫ْناه ُم ال َْو ْع َد فَأَنْ َج ْي ُ‬
‫ص َدق ُ‬
‫(ثُ َّم َ‬
‫ذلك ما لرسل اهلل عند اهلل ‪ ..‬إهنم على وعد اهلل هلم بالنصر ‪ ،‬هم ومن اتبعهم من‬
‫املؤم@@نني وقد ص @@دقهم اهلل وع @@ده ‪ ،‬فأجناهم وأجنى من آمن باهلل من أق @@وامهم ‪ ،‬ممن ش@@اء اهلل‬
‫حيل باملكذبني الض@@الني‬‫هلم اهلدى ‪ ..‬فمن شاء اهلل هلم اهلدى اهتدوا ‪ ،‬فلم يصبهم شىء مما ّ‬
‫من أقوامهم ‪ ،‬من هالك وعذاب ‪..‬‬
‫____________________________________‬

‫اآليات ‪ 10( :‬ـ ‪)18‬‬


‫ت‬‫صـ ْمنا ِم ْن َق ْريَـٍـة كـانَ ْ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِِ ِ‬
‫(لََق ْد أَْن َزلْنا إِل َْي ُك ْم كتاباً فيه ذ ْك ُر ُك ْم أَفَال َت ْعقلُو َن (‪َ @)10‬و َك ْم قَ َ‬
‫ضـو َن (‪)12‬‬ ‫سـوا بَأْ َسـنا إِذا ُه ْم ِم ْنها َي ْر ُك ُ‬ ‫ين (‪َ @)11‬فلَ َّما أ َ‬
‫َح ُّ‬ ‫آخـ ِر َ‬ ‫شـأْنا َب ْعـ َدها َق ْومـاً َ‬‫ظالِ َمـ ةً َوأَنْ َ‬
‫ضوا َو ْار ِجعُـوا إِلى ما أُتْـ ِر ْفتُ ْم فِيـ ِـه َو َمســاكِنِ ُك ْم ل ََعلَّ ُك ْم تُ ْسـَئلُو َن (‪ @)13‬قـالُوا يا َو ْيلَنا إِنَّا‬ ‫ال َت ْر ُك ُ‬
‫ين (‪َ @)15‬وما َخلَ ْقنَا‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫َت تِل َ‬ ‫ين (‪ )14‬فَما زال ْ‬ ‫ِِ‬
‫ْناه ْم َحصيداً خامد َ‬ ‫واه ْم َحتَّى َج َعل ُ‬ ‫ْك َد ْع ُ‬ ‫ُكنَّا ظالم َ‬
‫َّخ َذ ل َْهواً التَّ َخـ ْذناهُ ِم ْن لَـ ُدنَّا إِ ْن ُكنَّا‬
‫العبِين (‪ @)16‬لَو أَر ْدنا أَ ْن َنت ِ‬
‫ْ َ‬ ‫َ‬
‫السماء واأْل َرض وما بينهما ِ‬
‫َّ َ َ ْ َ َ َ ْ َ ُ‬
‫ين (‪)17‬‬ ‫ِِ‬
‫فاعل َ‬
‫‪852‬‬

‫زاه ٌق ولَ ُكم الْويْل ِم َّما تَ ِ‬


‫ص ُفو َن) (‪)18‬‬ ‫ْباط ِل َفي ْدمغُهـ فَِإذا هو ِ‬
‫ف بِالْح ِّق َعلَى ال ِ‬ ‫ِ‬
‫َ ُ َ ُ‬ ‫َُ‬ ‫َ َ ُ‬ ‫بَ ْل َن ْقذ ُ َ‬
‫____________________________________‬
‫التفسري ‪:‬‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫(لََق ْد أَْن َزلْنا إِل َْي ُك ْم كِتاباً فِ ِيه ِذ ْك ُر ُك ْم أَفَال َت ْع ِقلُو َن)‪.‬‬
‫ىف ه @@ذه اآلية تنويه باألمة العربية ‪ ،‬ورفع لق @@درها ‪ ،‬باختيارها من بني األمم لتك @@ون‬
‫الوجه ال@ @ @@ذي تلتقى به رس@ @ @@الة اإلس@ @ @@الم ‪ ،‬والراية اليت جيتمع عليها ال@ @ @@داخلون ىف دين اهلل ‪،‬‬
‫وليكون لساهنا هو اللسان الذي حيمل كلمات اهلل ‪ ،‬ويكتب له اخللود خبلودها‪.‬‬
‫وىف قوله تعاىل ‪( :‬لََق ْد أَْن َزلْنا إِل َْي ُك ْم كِتاباً) إشارة إىل أن ه@@ذا الكت@@اب ال@@ذي أنزله اهلل‬
‫على رسوله الكرمي هو منزل كذلك على قومه العرب ‪ ..‬فالرسول منهم ‪ ،‬والكت@@اب املنزل‬
‫عليه هو كت@ @ @@اهبم ‪ ،‬وم @ @@نزل إليهم ‪ ..‬وإذ ك@ @ @@ان ه @ @@ذا هو احلال ‪ ،‬ف @ @@إن من اخلس @ @@ران هلم أن‬
‫ص@هم به ‪ ،‬وإهنم إذا مل يب@@ادروا ويأخ@@ذوا‬ ‫يتخلّ@@وا عن ه@@ذا اخلري ال@@ذي س@@اقه اهلل إليهم ‪ ،‬واخت ّ‬
‫حظهم من ه@ @ @@ذا اخلري ‪ ،‬أو شك أن يفلت من أي@ @ @@ديهم ‪ ،‬ويع@ @ @@دل عنهم إىل غ@ @ @@ريهم ‪ ،‬كما‬
‫يق@ @@ول س@ @@بحانه ‪َ ( :‬وإِ ْن َتَت َولَّ ْوا يَ ْس ـ ـتَْب ِد ْل َق ْوم ـ ـاً غَْـيـ َـر ُك ْم ‪ ..‬ثُ َّم ال يَ ُكونُـ ــوا أ َْمثـ ــالَ ُك ْم) (‪: 38‬‬
‫حمم@ @@د) وىف تنكري الكت@ @@اب ‪ ،‬تعظيم له ‪ ،‬ورفع لق@ @@دره ‪ ،‬وأنه أع@ @@رف من أن يع@ @ ّ@رف ب@ @@أداة‬
‫تعريف ‪ ..‬فهو هبذا التنكري علم ال يشاركه غريه ىف هذا االسم‪.‬‬
‫وىف قوله تع @ @@اىل ‪( :‬فِيـ ـ ِـه ِذ ْـكـ ُـر ُك ْم) حتريض الع @ @@رب على أن ينش @ @@دوا اهلدى من ه@ @@ذا‬
‫عزهم ‪ ،‬وجمدهم ‪ ،‬وخلود ذكرهم ىف العاملني ‪..‬‬ ‫الكتاب ‪ ،‬ويستظلوا بظله ‪ ،‬ففى هذا ّ‬
‫‪853‬‬

‫وىف هذا أيضا إشارة إىل ما يكشف عنه املستقبل من موقف قريش ‪ ،‬والع@@رب ‪ ،‬من‬
‫ال @@دعوى اإلس @@المية ‪ ،‬وأهنم مجيعا س @@يدخلون ىف دين اهلل ‪ ،‬وس @@يبقى ذكر الع @@رب خال @@دا ما‬
‫ذكر اإلسالم اخلالد‪.‬‬
‫@ادة اإلس @@الم» ‪ ..‬وجبه @@ادهم ىف س @@بيل اهلل امت @ ّد‬ ‫ف @@العرب ـ كما ىف املأثور ـ هم ‪« :‬م @ ّ‬
‫ظل اإلسالم ‪ ،‬واتسعت رقعته ‪ ،‬ورفرفت أعالمه ىف كل أفق من آفاق الدنيا ‪..‬‬ ‫ّ‬
‫وىف قوله تعاىل ‪( :‬أَفَال َت ْع ِقلُو َن) خنسة رقيقة ‪ ،‬ت@دعو ه@@ؤالء الق@@وم ‪ ،‬وت@@دفع هبم دفعا‬
‫حب ‪ ،‬وإغ@ @ @ @ @@راء ‪ ،‬ودفعة من يد‬ ‫إىل أخذ حظهم من الكت@ @ @ @ @@اب املنزل إليهم ‪ ..‬إهنا غم@ @ @ @ @@زة ّ‬
‫كرمية رحيمة ودود!!‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫آخ ِر َ‬
‫ين)‪.‬‬ ‫ت ظالِ َمةً َوأَنْ َ‬
‫شأْنا َب ْع َدها َق ْوماً َ‬ ‫ص ْمنا ِم ْن َق ْريٍَة كانَ ْ‬
‫( َو َك ْم قَ َ‬
‫هو تع @@ريض بأهل القرية «مك @@ة» ‪ ،‬وهتديد هلم ب @@أن يس @@لكوا ىف ع @@داد الق @@رى الظاملة‬
‫ين)‪ .‬والقصم ‪:‬‬ ‫آخـ ِر َ‬
‫اليت قصمها اهلل ‪ ،‬أي أهلكها ‪ ،‬وقطع دابرها ‪ ..‬مث أقام مكاهنم ( َق ْوماً َ‬
‫القطع احلاسم ‪ ،‬وهو أشد من القضم‪.‬‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫ضو َن)‪.‬‬ ‫ْسنا إِذا ُه ْم ِم ْنها َي ْر ُك ُ‬‫سوا بَأ َ‬‫َح ُّ‬
‫( َفلَ َّما أ َ‬
‫البأس ‪ :‬العذاب ‪ ،‬والبالء‪.‬‬
‫أي فلما أراد اهلل أن يأخذ الظ@ @ @ @ @ @ @ @@املني بظلمهم ‪ ،‬س @ @ @ @ @ @ @@اق إليهم بأسه وعذابه ‪ ..‬فلما‬
‫استش @ @@عروا وق @ @@وع الع @ @@ذاب هبم ‪ ،‬مبا طلع عليهم من مقدماته ون@ @@ذره ‪ ،‬ذع @ @@روا ‪ ،‬وأخ @ @@ذوا‬
‫يركضون ‪ ،‬أي جيرون مسرعني ىف فزع واضطراب ‪ ،‬فرارا من تلك‬
‫‪854‬‬

‫القرية ‪ ،‬وخوفا من أن ينهار عليهم بنياهنا ‪ ،‬أو ختسف هبم أرضها‪.‬‬


‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫ضوا َو ْار ِجعُوا إِلى ما أُتْ ِر ْفتُ ْم فِ ِيه َو َمساكِنِ ُك ْم ل ََعلَّ ُك ْم تُ ْسَئلُو َن)‪.‬‬ ‫(ال َت ْر ُك ُ‬
‫ه @@ذا هو ص @@وت احلال ين @@ادهبم ‪ :‬إىل أين؟ قف @@وا حيث أنتم ‪ ،‬وال تركض @@وا ك @@ركض‬
‫احلمر املستنفرة ‪ ..‬إنكم لن تفلتوا من هذا البالء النازل بكم ‪..‬‬
‫وملن ترتكون دياركم وما حشدمت فيها من متاع ‪ ،‬وما جلبتم إليها من متع؟‪.‬‬
‫وكيف ترتكون ه@ذا ال@ذي أنتم فيه من ت@رف ونعيم؟ ارجع@وا ‪ ..‬أفت@ذهبون وت@رتكون‬
‫ه@@ذا ال@@ذي أذهبتم حي@@اتكم ‪ ،‬واس@@تهلكتم أعم@@اركم ىف إع@@داده ومجع@@ه؟@ ارجع@@وا ‪ ،‬ولو ك@@ان‬
‫ىف ذلك هالككم ‪ ..‬إن الس @@فينة لتغ @@رق ويغ @@رق معها كل ش @@ىء لكم ‪ ..‬فما حي @@اتكم بعد‬
‫هذا؟‬
‫وىف قوله تع@@اىل ‪َ ( :‬و َمســاكِنِ ُك ْم) إش@@ارة إىل ما لل@@وطن ‪ ،‬وال ّس@كن ‪ ،‬من مك@@ان مكني‬
‫أحب وآثر من كل ما حيرص اإلنس@ @ @ @@ان عليه ‪ ،‬وأن نعيم‬ ‫ىف قلب اإلنس@ @ @ @@ان ‪ ..‬وأنه ش@ @ @ @@ىء ّ‬
‫يتم إال به ‪ ..‬وإن الغريب الذي ال وطن له وال سكن ‪ ،‬هو‬ ‫اإلنسان ال جيتمع إال فيه ‪ ،‬وال ّ‬
‫@قى ‪ ،‬وإن طعم أطيب املط@ @ @ @@اعم ‪ ،‬ولبس أفخر املالبس ‪ ،‬ون@ @ @ @@زل أحسن‬ ‫إنس@ @ @ @@ان ض@ @ @ @@ائع ش@ @ @ @ ّ‬
‫ِ‬
‫املن@ @ @@ازل ‪ ..‬وه@ @ @@ذا ما يشري إليه قوله تع@ @ @@اىل ‪َ ( :‬ولَ ـ ـ ْـو أَنَّا َكتَْبنا َعلَْي ِه ْم أَن اق ُْتلُ ـ ــوا أَْن ُف َ‬
‫سـ ـ ـ ُك ْـم أَ ِو‬
‫يل ِم ْن ُه ْم) (‪ : 66‬النساء)‪.‬‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫ا ْخ ُر ُجوا م ْن ديا ِر ُك ْم ما َف َعلُوهُ إاَّل قَل ٌ‬
‫فجاء هنا اخلروج من الديار ‪ ،‬معادال لقتل النفس!‬
‫وىف قوله تعاىل ‪( :‬ل ََعلَّ ُك ْم تُ ْسَئلُو َن) استهزاء هبم ‪ ،‬وسخرية من مشاعرهم‬
‫‪855‬‬

‫اليت يداعبها األمل بالنجاة ىف هذا الركض الذي يركضونه ‪..‬‬


‫فهم مس @ @@ئولون ال حمالة عما ك @ @@انوا فيه من ض @ @@الل ‪ ،‬واس @ @@تغراق ىف ال @ @@رتف ال @ @@ذي‬
‫أذهلهم عن النظر ىف أنفس @@هم ‪ ،‬وطلب النج @@اة قبل وق @@وع البالء هبم ‪ ..‬وقد ج @@اء اإلخب @@ار‬
‫بس@@ؤاهلم ىف ص@@ورة الرج@@اء ‪ ،‬ال@@ذي ميكن أن يقع أو ال يقع ‪ ،‬وذلك لتتح@@رك ىف ص@@دورهم‬
‫مش@ @ @@اعر األمل ىف النج@ @ @@اة ‪ ،‬مث إذا هم حتت ض@ @ @@ربات البالء ‪ ،‬وقد أح@ @ @@اط هبم الع@ @ @@ذاب من‬
‫ف@@وقهم ومن حتت أرجلهم ‪ ..‬فياخليبة األم@@ل! لقد ب@@رقت بوارقه ‪ ،‬مث انطف@@أت ‪ ،‬ف@@إذا هم ىف‬
‫ظلمات يعمهون‪.‬‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫ـاهم ح ِ‬ ‫َت تِْلـ ـ ـ َ‬ ‫ِِ‬
‫ص ـ ـ ـيداً‬ ‫ـواه ْم َحتَّى َج َع ْلنـ ـ ـ ُ ْ َ‬
‫ـك َد ْعـ ـ ـ ُ‬ ‫(قـ ـ ــالُوا يا َو ْيلَنا إِنَّا ُكنَّا ظـ ـ ــالم َ‬
‫ين فَما زال ْ‬
‫ين)‪.‬‬ ‫ِِ‬
‫خامد َ‬
‫وهك@@ذا أص@@بحوا وجها لوجه مع ع@@ذاب اهلل الن@@ازل هبم ‪ ،‬ال ميلك@@ون معه إال التّن@@ادى‬
‫بالويل ‪ ،‬وإال أن ين @@دبوا حظهم املنك @@ود ‪ ،‬ويرجع @@وا على أنفس @@هم بالالئمة والن @@دم ‪ ،‬والت‬
‫س@اعة من@دم! وهك@ذا تظل تتع@اىل ص@يحاهتم ‪ ،‬ويتع@اوى ص@راخهم ‪ ،‬إىل أن ختمد أنفاس@هم ‪،‬‬
‫ويصبحوا جثثا هامدة ‪ ،‬كحصاد هشيم ‪ ،‬تذروه الرياح‪.‬‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫ين)‪.‬‬ ‫ِِ‬
‫ض َوما َب ْيَن ُهما العب َ‬‫ماء َواأْل َْر َ‬
‫الس َ‬ ‫( َوما َخلَ ْقنَا َّ‬
‫أي أن اهلل س@@بحانه وتع@@اىل ما خلق ش@@يئا عبثا وهلوا ‪ ..‬فالس@@ماء واألرض وما بينهما‬
‫من كائن@@ات وع@@وامل ‪ ،‬إمنا خلقت حلكمة م@@رادة هلل س@@بحانه وتع@@اىل ‪ ،‬ولقصد حكيم قص@@ده‬
‫من خلقها ‪..‬‬
‫وكذلك الناس ‪ ،‬مل خيلقوا عبثا ‪ ،‬وإمنا خلقوا ليعمروا األرض ‪ ،‬ويعبدوا‬
‫‪856‬‬

‫@ردوا إىل اهلل ‪ ،‬ليحاس@@بوا على ما عمل@@وا ‪ ،‬وليلقى احملسن منهم ج@@زاء إحس@@انه‬ ‫اهلل فيها ‪ ،‬مث ي@ ّ‬
‫‪ ،‬واملس@ @ @@يء ج@ @ @@زاء إس@ @ @@اءته ‪( ..‬أَفَ َح ِسـ ـ ـ ْبتُ ْم أَنَّما َخلَ ْقن ـ ــا ُك ْم َعبَثـ ـ ـاً َوأَنَّ ُك ْم إِل َْينا ال ُت ْر َجعُ ـ ــو َن) (‬
‫‪ : 115‬املؤمنون)‪.‬‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ين)‪.‬‬‫(ل َْو أ ََر ْدنا أَ ْن َنتَّخ َذ ل َْهواً اَل تَّ َخ ْذناهُ م ْن لَ ُدنَّا إِ ْن ُكنَّا فاعل َ‬
‫هو توكيد ‪ ،‬ملا تض @@منته اآلية ال ّس @ابقة ‪ ،‬من أن خلق املخلوق@@ات ‪ ،‬علوها وس @@فلها ‪،‬‬
‫ناطقها ‪ ،‬وص@ @ @ @ @@امتها ‪ ،‬مل يكن للهو والعبث ‪ ،‬وإمنا ك@ @ @ @ @@ان خلقا قائما على م@ @ @ @ @@يزان احلكمة‬
‫والتق @@دير ‪ ..‬وأنه س @@بحانه لو أراد أن يتخذ هلوا ال ختذه من لدنه أي من ذاته ‪ ،‬أو ألق @@ام له‬
‫ىف املأل األعلى مس@ @ @ @@رحا للهو ‪ ،‬ومل يقمه على ه@ @ @ @@ذه األرض ‪ ..‬تع@ @ @ @@اىل اهلل عن ذلك عل@ @ @ ّ@وا‬
‫كبريا‪.‬‬
‫وجيوز أن تك @@ون (أَ ْن) هنا نافية مبعىن «م @@ا» أي ما كنا ف @@اعلني ذلك ‪ ..‬تع @@الت عن‬
‫ذلك حكمتنا‪.‬‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫ص ُفو َن)‪.‬‬‫زاه ٌق ‪ ..‬ولَ ُكم الْويْل ِم َّما تَ ِ‬ ‫ْباط ِل َفي ْدمغُهـ فَِإذا هو ِ‬ ‫ف بِالْح ِّق َعلَى ال ِ‬ ‫ِ‬
‫َ ُ َ ُ‬ ‫َُ‬ ‫َ َ ُ‬ ‫(بَ ْل َن ْقذ ُ َ‬
‫القذف ‪ :‬إلقاء الشيء ‪ ،‬ورميه بقوة وشدة ‪..‬‬
‫والدمغ ‪ :‬وسم الشيء بسمة تغرّي معامله ‪ ..‬والزاهق ‪ :‬اهلالك ‪ ،‬والضائع‪.‬‬
‫واملعىن ‪ :‬أن اهلل سبحانه وتعاىل يضرب الباطل باحلق ‪ ،‬ويدمغه@ به ‪ ،‬فإذا هو زاهق ‪،‬‬
‫أي ذاهب ومنهزم ‪..‬‬
‫وهك@ @@ذا آي@ @@ات اهلل وما حتمل من حق ‪ ،‬إهنا تلتقى مبا خيتلقه املبطل@ @@ون من ض@ @@الالت‬
‫وأباطيل ‪ ،‬فت @@دمغها ‪ ،‬وتزهقها ‪ ،‬وختنق أنفاس @@ها ‪ ،‬وإذا تلك املفرتي @@ات واألباطيل ‪ ،‬دخ @@ان‬
‫وهباء ‪ ،‬ال ميسك أصحاهبا منها بشىء ‪ ..‬واملثل احملسوس ىف ه@@ذا ‪ ،‬عصا موسى ‪ ،‬وعص@ ّ@ى‬
‫السحرة ‪ ..‬إن العصا ‪ ،‬حق من احلق ‪،‬‬
‫‪857‬‬

‫وعص@ @ @ ّ@ى الس@ @ @@حرة باطل من األباطيل ‪ ..‬فلما التقت العصا بالعص@ @ @ ّ@ى ألقت هبا ىف غي@ @ @@اهب‬
‫ـاك فَـ ـ ـِإذا ِه َي‬
‫الظلم@ @ @@ات ‪ ..‬فلم جيد أص@ @ @@حاهبا هلا ظال ‪َ ( ..‬وأ َْو َح ْينا إِلى ُموسى أَ ْن أَلْ ـ ـ ِـق َعص ـ ـ َ‬
‫ْح ُّق َوبَطَ َل ما كانُوا َي ْع َملُو َن) (‪ 117‬؛ ‪ 118‬ـ األعراف)‬ ‫ِ‬
‫ف ما يَأْف ُكو َن َف َوقَ َع ال َ‬
‫َت ْل َق ُ‬
‫صـ ُفو َن) هتديد للمش@@ركني ‪ ،‬ووعيد هلم بالويل‬ ‫ـ وىف قوله تعاىل ‪( :‬ولَ ُكم الْويْل ِم َّما تَ ِ‬
‫َ ُ َ ُ‬
‫واهلالك ‪ ،‬ال @@ذي ي @@أتيهم من ه @@ذه األباطيل اليت يعيش @@ون معها ‪ ،‬مبا يص @@فون به اهلل س @@بحانه‬
‫وتع@@اىل من ص@@فات ال تليق جبالله وعظمته ؛ كنس@@بتهم املالئكة إىل اهلل ‪ ،‬وق@@وهلم إهنم بن@@ات‬
‫اهلل!‪.‬‬
‫____________________________________‬

‫اآليات ‪ 19( :‬ـ ‪)29‬‬


‫بادتِـ ـ ـ ـ ـ ِـه َوال‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫سـ ـ ـ ـ ـ ِ‬ ‫( َولَـ ـ ـ ـ ــهُ َم ْن فِي ال َّ‬
‫ض َو َم ْن ع ْنـ ـ ـ ـ ـ َدهُ ال يَ ْسـ ـ ـ ـ ـتَ ْكبِ ُرو َن َع ْن ع َ‬ ‫ماوات َواأْل َْر ِ‬
‫ض ُه ْم‬ ‫َّهار ال َي ْف ُت ُرو َن (‪ )20‬أَِم اتَّ َخ ُذوا آلِ َهةً ِم َن اأْل َْر ِ‬ ‫سبِّ ُحو َن اللَّْي َل َوالن َ‬ ‫يَ ْستَ ْحس ُرو َن (‪ )19‬يُ َ‬
‫ِ‬
‫صـ ُفو َن (‬ ‫ش َع َّما ي ِ‬ ‫ب ال َْع ْـر ِ‬ ‫ي ْن ِشرو َن (‪ )21‬لَـو كـا َن فِي ِهما آلِ َهـ ةٌ إِالَّ اهلل لََفسـ َدتا فَسـ ْبحا َن ِ‬
‫اهلل َر ِّ‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ ُ‬
‫ـل َو ُه ْم يُ ْسـَئلُو َن (‪ )23‬أَِم اتَّ َخـ ُذوا ِم ْن ُدونِ ِـه آلِ َهـ ةً قُ ْـل هـاتُوا ُب ْرهـانَ ُك ْم‬ ‫‪ )22‬ال يُ ْسئَ ُل َع َّما َي ْف َعـ ُ‬
‫ضـو َن (‪َ )24‬وما‬ ‫ـق َف ُه ْم ُم ْع ِر ُ‬
‫ْحـ َّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫هــذا ذ ْـك ُـر َم ْن َمع َي َوذ ْـك ُـر َم ْن َق ْبلي بَـ ْـل أَ ْك َثـ ُـر ُه ْم ال َي ْعلَ ُمــو َن ال َ‬
‫ون (‪َ )25‬وقــالُوا اتَّ َخـ َذ‬ ‫ول إِالَّ نُـ ِ‬
‫ـوحي إِل َْيـ ِـه أَنَّهُ ال إِلــهَ إِالَّ أَنَا فَا ْعب ـ ُد ِ‬ ‫ـك ِم ْن ر ُس ـ ٍ‬ ‫أ َْر َس ـلْنا ِم ْن َق ْبلِـ َ‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫من َولَــداً ُس ـ ْبحانَهُ بَـ ْـل ِعبــا ٌد ُمك َْر ُمــو َن (‪ @ )26‬ال يَ ْس ـبِ ُقونَهُ بِــالْ َق ْو ِل َو ُه ْم بِ ـأ َْم ِر ِه َي ْع َملُــو َن (‬ ‫الـ َّـر ْح ُ‬
‫‪َ )27‬ي ْعلَ ُم ما َب ْي َن أَيْـ ـ ـ ـ ـ ـ ِـدي ِه ْم َوما َخ ْل َف ُه ْم َوال يَ ْشـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ َفعُو َن إِالَّ لِ َم ِن ْارتَضى َو ُه ْم ِم ْن َخ ْشـ ـ ـ ـ ـ ـ ـيَتِ ِه‬
‫جـ ـ ِزي‬ ‫ك نَ ْـ‬ ‫َّم َكـ ــذلِ َ‬ ‫ِ‬
‫ك نَ ْج ِزي ـ ــه َج َهن َ‬ ‫ـل ِم ْن ُه ْم إِنِّي إِل ـ ــهٌ ِم ْن ُدونِ ـ ـ ِـه فَ ـ ــذلِ َ‬ ‫ِ‬
‫ُم ْشـ ـ ـف ُقو َن (‪َ )28‬و َم ْن َي ُق ـ ـ ْ‬
‫ِِ‬
‫ين) (‪)29‬‬ ‫الظَّالم َ‬
‫____________________________________‬
‫‪858‬‬

‫التفسري ‪:‬‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫ض َو َم ْن ِع ْنـ ـ ـ ـ ـ َدهُ ال يَ ْسـ ـ ـ ـ ـتَ ْكبِ ُرو َن َع ْن ِع َ‬
‫بادتِـ ـ ـ ـ ـ ِـه َوال‬ ‫( َولَـ ـ ـ ـ ــهُ َم ْن فِي ال َّ‬
‫سـ ـ ـ ـ ـ ِ‬
‫ماوات َواأْل َْر ِ‬
‫ِ‬
‫سبِّ ُحو َن اللَّْي َل َوالن َ‬
‫َّهار ال َي ْف ُت ُرو َن)‪.‬‬ ‫يَ ْستَ ْحس ُرو َن يُ َ‬
‫ال يستحسرون ‪ :‬أي ال ميلّون ‪ ،‬وال يكلّون ‪..‬‬
‫ال يفرتون ‪ :‬أي ال يرتاخون ‪ ،‬وال ينقطعون عن العبادة ‪ ،‬حلطة ‪ ،‬أو فرتة‪.‬‬
‫واآلية واآلي @@ات اليت بع @@دها ‪ ،‬تكشف عن بعض س @@لطان اهلل ‪ ،‬وحتدث عن بعض ما‬
‫له من قدرة قادرة على كل شىء ‪ ،‬ممسكة بكل شىء ‪..‬‬
‫فهو ـ س @@بحانه ـ املالك ملن ىف الس@ @@موات واألرض ‪ ،‬من ع@ @@وامل ‪ ..‬من ال@ @@ذرة ‪ ،‬وما‬
‫دون ال @@ذرة ‪ ،‬إىل الك @@واكب ىف مس @@اراهتا ‪ ،‬والنج @@وم ىف أفالكها ‪ ..‬إىل املالئكة ال @@ذين هم‬
‫عنده ‪ ،‬ح@افّني ب@العرش ‪ ..‬وهو س@بحانه املتص@@رف ىف ه@@ذه املوج@ودات ‪ ،‬املوجه هلا ‪ ،‬املق@ ّدر‬
‫لوضعها الذي تأخذه ىف هذا الوجود‪.‬‬
‫وإذا ك@@ان ه@@ذا س@@لطان اهلل ‪ ،‬وتلك قدرته اآلخ@@ذة بناص@@ية كل ش@@ىء ‪ ،‬فإنه من غري‬
‫املعقول أن يكون شىء من خلقه ذا سلطان معه ‪ ،‬أو خارجا عن سلطانه ‪..‬‬
‫واملالئكة ‪ ،‬الذين هم عند اهلل هبذا املكان الرفيع ‪ ،‬مل خترج هبم منزلتهم ه@@ذه عن أن‬
‫َّ‬
‫ـل‬
‫س ـبِّ ُحو َن الل ْيـ َ‬ ‫يكون @@وا عب @@ادا من عب @@اد اهلل ؛ ي @@دينون له ب @@الوالء ويتقرب @@ون إليه بالعب @@ادة ‪( :‬يُ َ‬
‫َّهار ال َي ْف ُت ُرو َن) ‪ ..‬إهنم ىف عبادة دائمة متطلة ‪ ،‬وذكر هلل ال يفرتون عنه!‬ ‫َوالن َ‬
‫والس@@ؤال هنا ‪ ،‬هو ‪ :‬إذا ك@@ان املالئكة على ه@@ذا الص@@فاء الن@@وراىن ال@@ذي خلق@@وا منه ‪،‬‬
‫وعلى تلك العبادة الدائبة ؛ والطاعة الدائمة ‪ ،‬فلم هذا اخلوف؟ ومل‬
‫‪859‬‬

‫الر ْعـ ُد بِ َح ْـم ِـد ِه َوال َْمالئِ َكـ ةُ ِم ْن ِخي َفتِـ ِـه) (‪: 13‬‬ ‫تلك اخلش@@يه؟ كما يق@@ول س@@بحانه ‪َ ( :‬ويُ َ‬
‫سـبِّ ُح َّ‬
‫الرعد)‬
‫واجلواب على ه @ @ @@ذا ‪ ،‬هو أن املالئكة لق @ @ @@رهبم من اهلل س @ @ @@بحانه وتع @ @ @@اىل ‪ ،‬ولكم@ @ @@ال‬
‫معرفتهم مباله سبحانه وتعاىل من جالل وكمال ـ هم أكثر عب@@اد اهلل والء هلل ‪ ،‬وانقي@@ادا له ‪،‬‬
‫وفناء فيه ‪ ..‬فمن كان باهلل أعرف كان منه أخ@@وف ‪ ،‬ومن ك@@ان إىل اهلل أق@@رب ك@@ان جلالله‬
‫ش ـ ـى اهلل ِمن ِعبـ ـ ِ‬
‫ـاد ِه الْعُلَمـ ــاءُ) ‪..‬‬ ‫وس@ @@لطانه أرهب‪ !.‬يق @ @@ول اهلل س@ @@بحانه وتع @ @@اىل ‪( :‬إِنَّما يَ ْخ َ‬
‫َ ْ‬
‫فالعلماء باهلل ‪ ،‬الع@@ارفون به ‪ ،‬هم أك@ثر الن@@اس خش@ية له ‪ ،‬ووالء لذاته ‪ ..‬واملالئكة يعلم@@ون‬
‫أكثر مما يعلم العاملون من جالل اهلل وسلطانه ‪ ،‬وعظمته ‪..‬‬
‫وقوله تعاىل ‪:‬‬
‫ض ُه ْم ُي ْن ِش ُرو َن)‬‫(أَِم اتَّ َخ ُذوا آلِ َهةً ِم َن اأْل َْر ِ‬
‫هو تس@@فيه لعق@@ول ه@@ؤالء املش@@ركني ‪ ،‬ال@@ذين يعب@@دون مما على األرض ‪ ،‬من ن@@اطق أو‬
‫ص@ @ @ @ @@امت ‪ ،‬مثل أولئك ال@ @ @ @ @@ذين اختذوا من البشر آهلة ‪ ،‬أو من األحج@ @ @ @ @@ار أص@ @ @ @ @@ناما ينحتوهنا‬
‫ويعب @@دوهنا ‪ ..‬فه @@ؤالء أمحق عق @@وال ‪ ،‬وأغلظ جهال من أولئك ال @@ذين عب @@دوا املالئكة ‪ ،‬وإن‬
‫ك@@ان ه@@ؤالء وأولئك مجيعا ىف ض@@الل م@@بني ‪ ..‬فال املالئكة املقرب@@ون ‪ ،‬وال اجلن ‪ ،‬وال البشر‬
‫‪ ،‬وال األحج@ @ @@ار ‪ ،‬وال أي ش@ @ @@ىء مما خلق اهلل ‪ ،‬مما يصح ىف عقل عاقل أن جيعل له إىل اهلل‬
‫نسبا ‪ ،‬فضال عن أن جيعله إهلا مع اهلل ‪ ،‬يشاركه التصريف والتدبري‪.‬‬
‫ض) إش@@ارة إىل م@@دى االحنط@@اط العقلي ‪ ،‬ال@@ذي وصل إليه‬ ‫وىف قوله تع@@اىل ‪ِ ( :‬م َن اأْل َْر ِ‬
‫أولئك ال@ @@ذين يعب@ @@دون ما على ه@ @@ذه األرض من خملوق@ @@ات ‪ ..‬فهى من مع@ @@دن ه@ @@ذا ال@ @@رتاب‬
‫ال@@ذي تدوسه األق@@دام ‪ ،‬فكيف يك@@ون ه@@ذا ال@@رتاب املش @ ّكل ىف أي ص@@ورة من الص@@ور ‪ ،‬إهلا‬
‫يعبد من دون اهلل ‪ ،‬ويرجى منه ما يرجو املؤمنون باهلل ‪ ،‬من اهلل رب العاملني؟‪@.‬‬
‫‪860‬‬

‫وقوله تع@@اىل ‪ُ ( :‬ه ْم ُي ْن ِش ُرو َن) ‪ ..‬ميكن أن يك@@ون اس@@تفهاما ‪ ..‬تق@@ديره أهم ينش@@رون؟‬
‫أي أه@ @@ؤالء اآلهلة ال@ @@ذين اختذوهم من األرض ينش@ @@رون األم@ @@وات ويبعث@ @@وهنم من قب@ @@ورهم ‪،‬‬
‫كما يفعل اهلل؟ واالستفهام هنا إنكارى ‪..‬‬
‫وميكن أن يك@ @ @ @ @@ون مجلة خربية ‪ ،‬هى ص@ @ @ @ @@فة لآلهلة ‪ ،‬وتك@ @ @ @ @@ون اآلية كلها مبنية على‬
‫االستفهام اإلنكارى ‪ ،‬ويدخل فيها إنكار اجلملة اخلربية ‪ ،‬كذلك ‪..‬‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫ش َع َّما ي ِ‬
‫ص ـ ُفو َن)‪ .‬ه @@ذه‬ ‫ب ال َْعـ ْـر ِ‬ ‫(لَــو كــا َن فِي ِهما آلِ َهـ ةٌ إِاَّل اهلل لََفس ـ َدتا فَس ـ ْبحا َن ِ‬
‫اهلل َر ِّ‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ َ‬ ‫ْ‬
‫قضية ‪ ،‬هى تعقيب على ما وجه به املشركون الذين يتخذون من عب@@اد اهلل ‪ ،‬ىف الس@@ماء أو‬
‫ىف األرض ‪ :‬آهلة ‪ ،‬فإن ذلك سفه وجهل ‪ ،‬وس@وء تق@دير ملا ينبغى أن يك@ون لإلله املعب@ود ‪،‬‬
‫من صفات الكمال واجلالل املطلقني ‪..‬‬
‫وإذا ك@@ان اإلله ال@@ذي يس@@تحق العب@@ادة موص@@وفا بص@@فات الكم@@ال املطلق ‪ ،‬ف@@إن ه@@ذه‬
‫الص@ @@فات ـ ىف إطالقها ـ ال تك@ @@ون إال إلله واحد ‪ ،‬ال يش@ @@اركه أحد فيها ‪ ،‬إذ لو ش@ @@اركه‬
‫غريه فيها ‪ ،‬أو كان له مثلها ‪ ،‬ملا ك@@ان له الكم@@ال املطلق ‪ ،‬وملا ك@@ان له التف@@رد باأللوهية ‪..‬‬
‫إذ الكمال املطلق صفة واحدة ‪ ،‬وال يتصف هبا إال موصوف واحد ‪ ،‬هو اهلل سبحانه ‪..‬‬
‫ومن جهة أخرى ‪ ..‬فإن هذا الوجود ‪ ،‬ىف علوه وسفله ‪ ،‬وىف مسائه وأرضه ـ لو ق@@ام‬
‫@تقر نظامه ‪ ،‬ولك@ان لكل‬ ‫عليه أكثر من ذى سلطان واحد مطلق ‪ ،‬ملا استقام أم@ره ‪ ،‬وملا اس ّ‬
‫ذى س@ @ @@لطان أن يتص @ @@رف فيما له س@ @ @@لطان عليه ‪ ،‬ول @ @@ذهب كل منهم م @ @@ذهبا ‪ ،‬فمضى ذا‬
‫مغربا ‪ ..‬وأخذ هذا ميينا ‪ ،‬وأخذ ذاك يس@ارا ‪ ..‬فيتص@ادم ه@ذا الوج@ود‬ ‫مشرقا ‪ ،‬ومضى ذاك ّ‬ ‫ّ‬
‫‪ ،‬وتتضارب الوجودات ‪ ،‬وينفرط عقدها ‪ ،‬وتتناثر أشالؤها ‪..‬‬
‫‪861‬‬

‫فاإلنس@@ان مثال ‪ ،‬وهو الع@@امل األص@@غر ‪ ،‬ال@@ذي ين@@اظر الع@@امل األكرب ‪ ..‬يق@@وم على ملكة‬
‫التفكري فيه ‪ ،‬عقل واحد ‪ ..‬ويق@@وم على تغذيته بال@@دم ـ ال@@ذي هو مالك حياته ـ قلب واحد‬
‫‪..‬‬
‫وتصور أن يكون إلنسان عقالن ‪ ..‬ماذا يك@@ون حال@@ه؟ وكيف يك@@ون مقامه@ ىف ع@@امل‬ ‫ّ‬
‫البش@@ر؟ إن لكل عقل م@@دركات ‪ ،‬وتص@@ورات وتق@@ديرات ‪ ..‬فب@@أى عقل يس@@ري؟ وب@@أى عقل‬
‫حيكم على األشياء ويتعامل معها؟ إنه هبذين العقلني إنسانان ال إنسان واحد ‪..‬‬
‫إنه ذو شخص @@ية مزدوجة ‪ ،‬تتص @@ارع فيها العواطف والن @@وازع ‪ ،‬وتقتتل فيها اآلم @@ال‬
‫والرغب@@ات ‪ ،‬مث ال يس@@كن ه@@ذا الص@@راع ‪ ،‬وال ينتهى ه@@ذا القت@@ال ‪ ،‬حىت يتحطم ه@@ذا الك@@ائن‬
‫العجيب ‪ ،‬اإلنسان ‪ ..‬له رأسان ‪ ،‬أو عقالن ‪!..‬‬
‫وقل مثل ه @@ذا ىف القل @@بني ‪ ،‬الل @@ذين يفسد أح @@دمها عمل اآلخر ‪ ،‬وينقض أح @@دمها ما‬
‫بناه صاحبه ‪..‬‬
‫ـل اهللُ لَِر ُجـ ـ ٍـل ِم ْن َقلَْب ْي ِن فِي َج ْوفِ ـ ـ ِـه) (‪: 4‬‬
‫واهلل س@ @ @@بحانه وتع @ @@اىل يق @ @@ول ‪( :‬ما َج َع ـ ـ َ‬
‫األحزاب)‪.‬‬
‫وقل مثل ه @@ذا ىف اجلماع @@ات البش @@رية ‪ ..‬إن كل مجاعة جيب أن يك @@ون على رأس @@ها‬
‫رأس واحد ‪ ..‬وإاّل فالتنازع والتصادم ‪ ،‬والفساد ‪@!..‬‬
‫ص ُفو َن) ‪..‬‬ ‫ش َع َّما ي ِ‬ ‫ب ال َْع ْر ِ‬ ‫وقوله تعاىل ‪( :‬فَس ْبحا َن ِ‬
‫اهلل َر ِّ‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫ص@ه بالكم@ال املطلق‬ ‫هو تنزيه هلل سبحانه عما يصفه به الواصفون ‪ ،‬من صفات ال خت ّ‬
‫‪ ،‬بل جتعل له ش@ @ @@ريكا فيها ‪ ،‬ويك@ @ @@ون له مبقتضى ذلك س@ @ @@لطان مع س@ @ @@لطان اهلل ‪ ،‬وع@ @ @@رش‬
‫كعرش اهلل ‪ ..‬فاهلل سبحانه منزه عن أن يكون على تلك الصفة ‪ ..‬إنه س@@بحانه اإلله املتف@@رد‬
‫باخللق واألمر ‪..‬‬
‫‪862‬‬

‫قوله تعاىل ‪:‬‬


‫(ال يُ ْسئَ ُل َع َّما َي ْف َع ُل َو ُه ْم يُ ْسَئلُو َن) ‪..‬‬
‫هو أيضا تنزيه هلل س @ @@بحانه وتع @ @@اىل عن أن يك @ @@ون كه @ @@ذه اآلهلة اليت يعب @ @@دها ه @ @@ؤالء‬
‫الض @ @@الون ‪ ..‬فه @ @@ذه اآلهلة ‪ ،‬هى من خملوق @ @@ات اهلل ‪ ،‬وهى خاض @ @@عة ملش @ @@يئته فيها ‪ ،‬يص @ @ ّ@رفها‬
‫كيف يش @@اء ‪ ،‬وحياسب العاقل منها على ما ك @@ان منه ‪ ..‬أما هو س @@بحانه ‪ ،‬فال يس @@أل عما‬
‫يفعل ‪ ..‬إذ ال يس @@أله إال من هو فوقه ‪ ،‬وهو ـ س @@بحانه ـ ف @@وق كل ذى ف @@وق ‪( ..‬يَ ْخلُـ ُـق ما‬
‫ْخَي َرةُ) (‪ : 68‬القصص)‪.‬‬ ‫يشاء وي ْختار ‪ ..‬ما كا َن لَهم ال ِ‬
‫ُُ‬ ‫َ ُ ََ ُ‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫(أَِم اتَّ َخـ ُذوا ِم ْن ُدونِ ـ ِـه آلِ َهـ ةً ‪ ..‬قُ ـ ْـل ه ــاتُوا ُب ْره ــانَ ُك ْم ‪ ..‬ه ــذا ِذ ْكـ ُـر َم ْن َم ِع َي َو ِذ ْكـ ُـر َم ْن‬
‫ضو َن) ‪..‬‬ ‫ْح َّق َف ُه ْم ُم ْع ِر ُ‬ ‫ِ‬
‫َق ْبلي ‪ ..‬بَ ْل أَ ْك َث ُر ُه ْم ال َي ْعلَ ُمو َن ال َ‬
‫(أَِم) هنا لإلضراب ‪ ،‬مبعىن بل ‪..‬‬
‫واملعىن ‪ :‬أنه مع ه @@ذه الب @@ديهيّات اليت تقع ىف متن @@اول ك @ ّ@ل عقل ‪ ،‬واليت تقضى مبا ال‬
‫ي@@دع جماال للشك ‪ ،‬بأنه ال ميكن أن يك@@ون هلذا الوج@@ود إال إله واحد ‪ ،‬يق@@وم عليه ‪ ،‬وي@@دبّر‬
‫أم@@ره ـ مع ه@@ذا ‪ ،‬ف@@إن ه@@ؤالء الض@@الني املش@@ركني قد عم@@وا عن ه@@ذه الب@@ديهيات ‪ ،‬وقص@@رت‬
‫يوزع@@وا عق@@وهلم وقل@@وهبم‬ ‫أفه@@امهم عن إدراكها ‪ ،‬وس@@اغ هلم أن يعب@@دوا أك@@ثر من إله ‪ ،‬وأن ّ‬
‫بني أرب@ @ @@اب وأش@ @ @@باه أرب@ @ @@اب ‪ ،‬ومل حياولوا أب@ @ @@دا أن جييب@ @ @@وا على ه@ @ @@ذا الس@ @ @@ؤال ‪( :‬أَأ َْرب ـ ـ ٌ‬
‫ـاب‬
‫َّار) (‪ : 39‬يوس @@ف) ‪ ..‬كما مل حياولوا أن يقيم @@وا دليال‬ ‫ُمَت َف ِّرقُ ــو َن َخ ْيـ ٌـر أَِم اهللُ ال ِـ‬
‫ْواحـ ُد الْ َقه ُ‬
‫يقبله العقل ‪ ،‬ويرتضيه املنطق لعبادة هذه اآلهلة املتعددة!‬
‫وىف قوله تعاىل ‪( :‬قُ ْل هاتُوا ُب ْرهانَ ُك ْم) دعوة هلؤالء املشركني أن يرجعوا إىل عقوهلم‬
‫‪ ،‬وأن يأتوا منها بالدليل واحلجة على ما يعبدون من دون اهلل ‪..‬‬
‫‪863‬‬

‫آخ َر ال ُب ْرها َن لَهُ بِ ِـه فَِإنَّما ِحسـابُهُ ِع ْنـ َد َربِِّه إِنَّهُ ال ُي ْفلِ ُح الْكـافِ ُرو َن) (‬ ‫(ومن ي ْدعُ مع ِ‬
‫اهلل إِلهاً َ‬ ‫ََ ْ َ ََ‬
‫‪ : 117‬املؤمنون) ‪..‬‬
‫وقوله تع@@اىل ‪( :‬هــذا ِذ ْـك ُـر َم ْن َم ِع َي َو ِذ ْـك ُـر َم ْن َق ْبلِي) ‪ ..‬هو إش@@ارة إىل الق@@رآن الك@@رمي‬
‫‪ ،‬ال@@ذي بني ي@@دى الرس@@ول ‪ ،‬وهو برهانه على اإلله ال@@ذي يعب@@ده ‪ ،‬وي@@دعو الن@@اس إىل عبادته‬
‫‪ ..‬وه@ @ @ @@ذا الق@ @ @ @@رآن كما هو حجة وبره@ @ @ @@ان للرس@ @ @ @@ول الك@ @ @ @@رمي ‪ ،‬هو حجة وبره@ @ @ @@ان هلؤالء‬
‫املش@ @ @ @@ركني ال@ @ @ @@ذين ي@ @ @ @@دعوهم الرس@ @ @ @@ول إىل اإلميان باهلل ‪ ،‬كما أنه حجة وبره@ @ @ @@ان على أهل‬
‫الكت@@اب ‪( ..‬هذا ِذ ْك ُر َم ْن َم ِع َي َو ِذ ْـك ُـر َم ْن َق ْبلِي) ‪ ..‬فمن مع الرس@@ول هم ه@@ؤالء املش@@ركون‬
‫‪ ..‬والذين من قبله هم أهل الكتاب ‪ ..‬والقرآن الكرمي حجة على هؤالء وأولئك مجيعا ‪..‬‬
‫ضـو َن) ‪ ..‬هو اعت@@ذار لكثري‬ ‫ـق ‪َ ..‬ف ُه ْم ُم ْع ِر ُ‬ ‫وقوله تعاىل ‪( :‬بَ ْل أَ ْك َث ُر ُه ْم ال َي ْعلَ ُمــو َن ال َ‬
‫ْحـ َّ‬
‫من هؤالء املشركني ‪ ،‬ال@ذين عم@@وا عن طريق احلق ‪ ،‬فركب@@وا رءوس@@هم ‪ ،‬وأب@@وا أن يس@@تمعوا‬
‫احلق ‪ ،‬وأن يستجيبوا له ‪ ..‬ومن مثّ ‪ ،‬فإن الرسول ق@@ائم فيهم ‪ ،‬ال يتخلى عن مكانه‬ ‫لداعى ّ‬
‫بينهم ‪ ،‬وال ميسك عن دع@ @ @ @@وهتم ‪ ،‬وكشف مع@ @ @ @@امل الطريق هلم ‪ ،‬حىت يبص@ @ @ @@روا من عمى ‪،‬‬
‫ويهتدوا من ضالل ‪..‬‬
‫وقد ك @ @@ان ‪ ..‬فما زال الرس @ @@ول يغ @ @@ادى ه @ @@ؤالء املش @ @@ركني ‪ ،‬وي @ @@راوحهم ‪ ،‬باحلكمة‬
‫واملوعظة احلس@@نة ‪ ،‬على م@@دى ثالث وعش@@رين س@@نة ‪ ،‬حىت اس@@تنارت بص@@ائرهم ‪ ،‬وتفتحت‬
‫قلوهبم ‪ ،‬وما كادت ختتم الرسالة ‪ ،‬وت@نزل آخر آية من آياهتا ‪ ،‬حىت آمن ه@@ؤالء املش@@ركون‬
‫‪ ،‬ودخل@ @ @@وا ىف دين اهلل أفواجا ‪ ..‬وك@ @ @@ان خمتتم الرس@ @ @@الة قوله تع@ @ @@اىل ‪( :‬الَْيـ ـ ْـو َم أَ ْك َمل ُ‬
‫ْت لَ ُك ْم‬
‫الم ِديناً) (‪ : 3‬املائدة)‪@.‬‬ ‫يت لَ ُك ُم اإْلِ ْس َ‬ ‫ض ُ‬ ‫ت َعلَْي ُكم نِ ْعمتِي ور ِ‬
‫ْ َ ََ‬ ‫ِدينَ ُك ْم َوأَتْ َم ْم ُ‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫ون)‬ ‫وحي إِل َْي ِه أَنَّهُ ال إِلهَ إِاَّل أَنَا فَا ْعب ُد ِ‬ ‫ول إِاَّل نُ ِ‬ ‫ك ِم ْن ر ُس ٍ‬ ‫( َوما أ َْر َسلْنا ِم ْن َق ْبلِ َ‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫‪864‬‬

‫تلك هى مالك دع @@وة الرسل ال @@ذين أرس @@لهم اهلل إىل عب @@اده ‪ ،‬وهم بشر مثل ه @@ؤالء‬
‫البشر ‪ ..‬ودع@ @@وهتم مجيعا هى أنه ال إله إال اهلل ‪ ،‬وأنه وح@ @@ده املس@ @@تحق ألن يف@ @@رد باأللوهية‬
‫والعبادة ‪ ..‬فك@@انت دع@@وة كل رس@@ول إىل قومه مفتتحة هبذا الن@@داء ‪( :‬يا َق ْوِم ا ْعبُـ ُدوا اهللَ ما‬
‫لَ ُك ْم ِم ْن إِ ٍله غَْي ُرهُ) ‪..‬‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫ْر ُمــو َن ال يَ ْسـبِ ُقونَهُ بِــالْ َق ْو ِل َو ُه ْم‬ ‫ِ‬ ‫( َوقالُوا اتَّ َخ َذ َّ‬
‫من َولَداً ‪ُ ..‬س ْبحانَهُ ‪ ..‬بَ ْل عبــا ٌد ُمك َ‬ ‫الر ْح ُ‬
‫بِأ َْم ِر ِه َي ْع َملُو َن)‪.‬‬
‫هو إش@@ارة إىل أهل الكت@@اب ‪ ،‬ال@@ذين أش@@ار إليهم س@@بحانه وتع@@اىل ىف قوله ‪ِ ( :‬ذ ْك ُر َم ْن‬
‫َم ِع َي) فأهل الكت@ @@اب ه@ @@ؤالء ‪ ،‬من اليه@ @@ود والنص@ @@ارى ‪ ،‬قد ج @ @@اءهم رس @ @@والن ‪ ،‬كرميان ‪،‬‬
‫بشران ‪ ،‬من عباد اهلل مها ‪ :‬موسى ‪ ،‬وعيسى ‪ ،‬عليهما‌السالم ‪ ،‬ف@@دعواهم إىل اإلميان باهلل‬
‫وحده ‪ ،‬ولكنهم قلبوا وجه ه@@ذه ال@دعوة ‪ ،‬فجعل النص@@ارى املس@@يح ابنا اهلل ‪ ،‬وجعل اليه@@ود‬
‫عزيرا ابن اهلل‪ .‬كما اختذوا أحبارهم ورهباهنم أربابا من دون اهلل ‪ ،‬وىف هذا يقول اهلل تعاىل‬
‫‪:‬‬
‫اهلل ذلِ ـ ـ َ‬
‫ـك َقـ ـ ْـول ُُه ْم‬ ‫َت النَّص ـ ــارى الْم ِسـ ـ ـيح ابْن ِ‬
‫َ ُ ُ‬
‫ِ‬
‫اهلل وق ـ ــال ِ‬
‫ـود عُ َز ْيـ ـ ٌـر ابْ ُن َ‬
‫(وق ـ ــال ِ‬
‫َت الَْي ُهـ ـ ُ‬ ‫َ‬
‫ِ‬ ‫َّ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫ـار ُه ْم‬‫َحبـ َ‬ ‫ـل قــاَتلَ ُه ُم اهللُ أَنَّى ُي ْؤفَ ُكــو َن اتَّ َخـ ُذوا أ ْ‬ ‫ب ـأَفْواه ِه ْم يُضــاه ُؤ َن َقـ ْـو َل الذ َ‬
‫ين َك َفـ ُـروا م ْن َق ْبـ ُ‬
‫يح ابْ َن َم ْريَ َم َوما أ ُِم ُروا إِاَّل لَِي ْعبُ ُدوا إِلهاً ِـ‬
‫واح داً ال إِلــهَ إِاَّل‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫َو ُر ْهبا َن ُه ْم أ َْرباباً م ْن ُدون اهلل َوال َْمس َ‬
‫ُه َو ُس ْبحانَهُ َع َّما يُ ْش ِر ُكون‪( ):‬بَـ ْـل ِعبــا ٌد ُمك َْر ُمــو َن) أي أن املس@@يح وعزي@@را واألحب@@ار والرهب@@ان‬
‫‪ ،‬هم من عب @@اد اهلل ‪ ،‬أك @@رم بعض @@هم واص@ @@طفاه لرس@ @@الته ‪ ،‬كما أك @@رم واص@ @@طفى كث @@ريا من‬
‫بالنبوة والرسالة ‪ ،‬وكما أكرم كثريا منهم باإلميان‪.‬‬ ‫عباده ورسله ّ‬
‫‪865‬‬

‫وقوله تع@ @@اىل ‪( :‬ال يَ ْسـ ـبِ ُقونَهُ بِ ــالْ َق ْو ِل ‪َ ،‬و ُه ْم بِ ـ ـأ َْم ِر ِه َي ْع َملُ ــو َن) هو ص@ @@فة هلؤالء العب @@اد‬
‫املك@ @ @ @@رمني ‪ ،‬ال@ @ @ @@ذين اختذهم الض@ @ @ @@الون آهلة من دون اهلل ‪ ،‬فه@ @ @ @@ؤالء الرسل ‪ ،‬هم على طاعة‬
‫مطلقة هلل ‪ ..‬ال يس@@بقونه ب@@القول ‪ ،‬فال يقول@@ون إال ما يق@@ال هلم من قبل احلق ‪ ،‬وال يعمل@@ون‬
‫عمال إال ما ي @@أذن اهلل هلم به ‪ ..‬فكيف يك@ @@ون من ه@ @@ذا ش@ @@أنه إهلا مع اهلل؟ وهل يك@ @@ون إهلا‬
‫من ال ميلك من نفسه الكلمة ‪ ،‬وال العمل؟‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫( َي ْعلَ ُم ما َب ْي َن أَيْـ ـ ـ ـ ـ ِـدي ِه ْم َوما َخ ْل َف ُه ْم َوال يَ ْشـ ـ ـ ـ ـ َفعُو َن إِاَّل لِ َم ِن ْارتَضى َو ُه ْم ِم ْن َخ ْشـ ـ ـ ـ ـيَتِ ِه‬
‫ين)‪.‬‬ ‫ِِ‬
‫ك نَ ْج ِزي الظَّالم َ‬ ‫َّم َكذلِ َ‬ ‫ِ‬
‫ك نَ ْج ِزيه َج َهن َ‬ ‫ُم ْش ِف ُقو َن َو َم ْن َي ُق ْل ِم ْن ُه ْم إِنِّي إِلهٌ ِم ْن ُدونِِه فَذلِ َ‬
‫أي أن ه@ @ @@ؤالء العب@ @ @@اد املك@ @ @@رمني من رسل اهلل ‪ ،‬ال يعلم@ @ @@ون إاّل ما علمهم اهلل ‪ ،‬وال‬
‫ميلك @@ون إال ما ي @@أذن اهلل هلم به ‪ ..‬وهو س @@بحانه يعلم من أم @@رهم ما ال يعلم @@ون ‪ ،‬فيعلم (ما‬
‫َب ْي َن أَيْ ـ ـ ـ ِـدي ِه ْم) أي ما مل ينكشف هلم من مس@ @ @ @@رية حي@ @ @ @@اهتم بعد ‪ ،‬ويعلم (ما َخ ْل َف ُه ْم) أي ما‬
‫انكشف هلم من ماضى حي @ @@اهتم قبل أن يتلبس @ @@وا به ‪َ ( ..‬وال يَ ْشـ ـ ـ َفعُو َن إِاَّل لِ َم ِن ْارتَضى) أي‬
‫وال ميلكون الشفاعة ألحد ‪ ،‬إال ملن ارتضى اهلل سبحانه وتعاىل هلم أن يش@@فعوا فيه ‪ ،‬تكرميا‬
‫هلم ‪ ،‬ومض@@اعفة إلحس@@انه إليهم‪َ ( .‬و ُه ْم ِم ْن َخ ْش ـيَتِ ِه ُم ْش ـ ِف ُقو َن) أي وهم ـ مع ه@@ذا اإلميان ‪،‬‬
‫وهذا الوالء ـ على خشية وإشفاق من اهلل ‪ ،‬ومن بأس اهلل وعذابه ‪..‬‬
‫ك‬‫َّم ‪َ ..‬كــذلِ َ‬ ‫ِ‬
‫ك نَ ْج ِزي ــه َج َهن َ‬‫ـل ِم ْن ُه ْم إِنِّي إِل ــهٌ ِم ْن ُدونِ ـ ِـه فَ ــذلِ َ‬
‫ـ وقوله تع @@اىل ‪َ ( :‬و َم ْن َي ُق ـ ْ‬
‫ِِ‬
‫ين) ـ هو استبعاد ألن يك@ون من رسل اهلل ق@ول كه@ذا الق@ول ال@ذي يقوله فيهم‬ ‫نَ ْج ِزي الظَّالم َ‬
‫الضالون ‪ ،‬الذين اختذوهم آهلة ‪ ..‬ولو فرض ـ وهو فرض حمال ـ أن يق@ول أحد منهم إىن إله‬
‫من دون اهلل ‪ ،‬فال يعص@@مه قربه من اهلل ‪ ،‬وإكرامه إي@@اه ‪ ،‬من أن يؤخذ مبا يؤخذ به أي عبد‬
‫من عباد اهلل ‪ ،‬يقول هذا‬
‫‪866‬‬

‫القول ‪ ..‬فهو ظامل من الظاملني ‪ ،‬وال مصري له غري مصريهم ‪..‬‬


‫ف @@إذا ك @@ان ه @@ذا هو ش @@أن املق @@ربني إىل اهلل ‪ ،‬فكيف يك @@ون ش @@أن غ @@ريهم؟ إن م @@يزان‬
‫العدل واحد للناس مجيعا ‪ ..‬ال ترجح فيه كفة أحد على أحد إال بالعمل الصاحل ‪..‬‬
‫راضيَ ٍة َوأ ََّما َم ْن َخ َّف ْ‬
‫ت َموا ِزينُهُ فَأ ُُّمهُ ها ِويَـةٌ َوما‬ ‫ت َموا ِزينُهُ َف ُه َو فِي ِعي َ‬
‫ش ٍة ِ‬ ‫(فَأ ََّما َم ْن َث ُقلَ ْ‬
‫حاميَةٌ) (‪ : 11 : 6‬القارعة)‪.‬‬ ‫راك ما ِهي ْه نار ِ‬ ‫أَ ْد َ‬
‫َ ٌ‬
‫____________________________________‬

‫اآليات ‪ 30( :‬ـ ‪)35‬‬


‫ماوات واأْل َرض كانَتا رتْقاً َف َفت ْقناهما وجعلْنا ِمن الْمـ ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫ـاء‬ ‫َ ُ َ ََ َ‬ ‫َ‬ ‫الس ِ َ ْ َ‬ ‫َن َّ‬ ‫ين َك َف ُروا أ َّ‬ ‫َم َي َر الذ َ‬ ‫(أ ََول ْ‬
‫ـل َشـ ـ ـ ْي ٍء َح ٍّي أَفَال ُي ْؤ ِمنُ ـ ــو َن (‪َ )30‬و َج َعلْنا فِي اأْل َْر ِ‬
‫ض َروا ِسـ ـ ـ َي أَ ْن تَ ِميـ ـ ـ َد بِ ِه ْم َو َج َعلْنا فِيها‬ ‫ُكـ ـ َّ‬
‫ماء َسـ ْقفاً َم ْح ُفوظـاًـ َو ُه ْم َع ْن آياتِها ُم ْع ِر ُ‬
‫ضـو َن‬ ‫سـ َ‬ ‫فِجاجاً ُسبُالً ل ََعلَّ ُه ْم َي ْهتَـ ُدو َن (‪َ @)31‬و َج َعلْنَا ال َّ‬
‫شـمس والْ َقمــر ُكــلٌّ فِي َفلَـ ٍ‬ ‫َّ‬ ‫َّ ِ‬
‫ـك يَ ْسـبَ ُحو َن (‪َ )33‬وما‬ ‫ـار َوال َّ ْ َ َ َ َ‬ ‫ـل َوالنَّهـ َ‬ ‫(‪َ )32‬و ُهـ َـو الذي َخلَـ َـق الل ْيـ َ‬
‫ت‬ ‫س ذائَِقـ ـ ةُ الْمـ ــو ِ‬
‫َْ‬ ‫ـل َن ْف ٍ‬ ‫ت َف ُه ُم الْخالِ ـ ـ ُدو َن (‪ُ )34‬كـ ـ ُّ‬ ‫ـك الْ ُخ ْل ـ ـ َد أَفَ ـ ـِإ ْن ِم َّ‬
‫ش ـ ـ ٍر ِم ْن َق ْبلِـ ـ َ‬
‫َج َعلْنا لِبَ َ‬
‫الش ِّر َوالْ َخ ْي ِر فِ ْتنَةً َوإِل َْينا ُت ْر َجعُو َن) (‪)35‬‬ ‫َو َن ْبلُو ُك ْم بِ َّ‬
‫____________________________________‬
‫التفسري ‪:‬‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫ماوات واأْل َرض كانَتا رتْقاً َف َفت ْقناهما وجعلْنا ِمن الْمـ ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫ـاء‬ ‫َ ُ َ ََ َ‬ ‫َ‬ ‫الس ِ َ ْ َ‬ ‫ين َك َف ُروا أ َّ‬
‫َن َّ‬ ‫َم َي َر الذ َ‬ ‫(أ ََول ْ‬
‫ُك َّل َش ْي ٍء َح ٍّي أَفَال ُي ْؤ ِمنُو َن) ‪..‬‬
‫مناسبة هذه اآلية ملا قبلها ‪ ،‬أن اآليات السابقة عليها قد كشفت عن وجوه‬
‫‪867‬‬

‫الض@ @ @ @ @@الني ‪ ،‬من الك@ @ @ @ @@افرين واملش@ @ @ @ @@ركني ‪ ،‬وعرضت تص@ @ @ @ @@وراهتم املريضة ‪ ،‬جلالل األلوهية‬
‫وكماهلا ‪ ،‬حىت لقد بلغ هبم اإلس@@فاف ىف ض@@الل العقل ‪ ،‬وس@@خف النظر ‪ ،‬ما أوردهم ه@@ذا‬
‫املورد ال @@ذي ي @@نزلون فيه إىل ه @@ذا املنح @@در من الض @@الل ‪ ،‬فيعب @@دون أحج @@ارا ‪ ،‬وحيوان @@ات ‪،‬‬
‫وأناسى ‪ ،‬وجيعلوهنا آهلة ‪ ،‬ختلق ‪ ،‬وترزق ‪ ،‬وحتىي ‪ ،‬ومتيت ‪!..‬‬ ‫ّ‬
‫فج@@اءت ه@@ذه اآلية تلفت ه@@ؤالء الض@@الني إىل ما هم فيه من ض@@الل وش@@رود عن عن‬
‫اهلل ‪ ،‬الواحد ‪ ،‬املتفرد باأللوهية وامللك والسلطان ‪..‬‬
‫عم@@وا عن ه@@ذه اآلي@@ات‬ ‫وىف اختص@@اص ال@@ذين كف@@روا بال@@ذكر هنا ‪ ،‬ألهنم هم ال@@ذين ّ‬
‫فض@لّوا وكف@@روا ‪ ،‬أما املؤمن@@ون فقد ك@@ان هلم نظر دائم إىل ه@@ذا الوج@@ود ‪ ،‬وتفكري متصل ىف‬
‫أسراره وعجائبه ‪ ،‬فهم كما وصفهم اهلل سبحانه ىف قوله ‪:‬‬
‫ض‬‫ماوات َواأْل َْر ِ‬ ‫سـ ِ‬ ‫(يَ ْذ ُك ُرو َن اهللَ قِياماً َو ُقعُــوداً َو َعلى ُجنُــوبِ ِه ْم َو َيَت َف َّك ُرو َن فِي َخ ْلـ ِـق ال َّ‬
‫ذاب النَّا ِر) (‪ : 191‬آل عمران) ‪..‬‬ ‫باطالً سبحانَ َ ِ‬ ‫ت هذا ِ‬
‫ك فَقنا َع َ‬ ‫ُْ‬ ‫َربَّنا ما َخلَ ْق َ‬
‫سـ ـ ـ ـ ـ ِ‬ ‫ين َك َفـ ـ ـ ـ ُـروا أ َّ‬ ‫َّ ِ‬
‫ض كانَتا َرتْقـ ـ ـ ـ ـاً‬ ‫ماوات َواأْل َْر َ‬ ‫َن ال َّ‬ ‫وىف قوله تع @ @ @ @ @@اىل ‪( :‬أ ََول ْ‬
‫َم َيـ ـ ـ ـ َـر الذ َ‬
‫ناهما) إلفات إىل قدرة اهلل سبحانه وتعاىل ‪ ،‬وإىل ما أبدع وصور ىف هذا الوجود ‪..‬‬ ‫َف َفَت ْق ُ‬
‫فالس @ @ @@موات واألرض ‪ ،‬كانتا ش @ @ @@يئا واح @ @ @@دا ‪ ،‬وكتلة متض @ @ @@خمة من املادة ‪( ..‬كانَتا‬
‫َرتْقـاً) أي منض@@ما بعض@@هما إىل بعض ‪ ،‬فال مساء ‪ ،‬وال أرض ‪ ..‬بل ك@@ون ال معلم فيه ‪ ..‬مث‬
‫كان من قدرة اهلل ومن علمه ‪ ،‬وحكمته ‪ ،‬أن أقام من هذا الكون املتض@@خم ‪ ،‬ه@@ذا الوج@@ود‬
‫‪ ،‬ىف مسائه وأرضه ‪ ،‬وما ىف مسائه من ك@ @ @ @ @ @ @ @ @@واكب وجنوم ‪ ،‬وما على أرضه من إنس@ @ @ @ @ @ @ @ @@ان ‪،‬‬
‫وحيوان ‪ ،‬ونبات ‪ ،‬ومجاد ‪( ..‬كانَتا َرتْقاً‬
‫‪868‬‬

‫ناهما) أي فص@@لنا بعض@@هما عن بعض ‪ ..‬فك@@انت الس@@ماء ‪ ،‬وك@@انت األرض‪ .‬مث ك@@انت‬ ‫َف َفَت ْق ُ‬
‫من السموات ما فيهن من عوامل ‪ ،‬وكان من األرض ما فيها من خملوقات ‪..‬‬
‫كانت الس@@موات واألرض كتلة ‪ ،‬أش@@به بالنطفة اليت يتخلّق منها اجلنني ‪ ..‬فمن ه@@ذه‬
‫@وى ال@@ذي هو‬ ‫النطفة ك@@ان ه@@ذا اإلنس@@ان ‪ ،‬بل ه@@ذا الك@@ون الص@@غري ‪ ،‬وك@@ان ه@@ذا اخللق الس@ ّ‬
‫عليه ‪..‬‬
‫ـل َشـ ْي ٍء َح ٍّي) ـ إش@@ارة إىل ه@@ذا العنصر العظيم من‬ ‫وقوله تعاىل ‪( :‬وجعلْنا ِمن ال ِ‬
‫ْماء ُك َّ‬ ‫َ ََ َ‬
‫حى ‪ ،‬وب @ @@ذرة كل حي @ @@اة ىف عاملنا ه@ @@ذا ال @ @@ذي‬
‫عناصر احلي @ @@اة ‪ ،‬وهو املاء ‪ ..‬فهو أصل كل ّ‬
‫نعيش فيه ‪ ..‬فاإلنس @@ان ‪ ،‬واحلي @@وان ‪ ،‬والنب @@ات ‪ ،‬قوامها مجيعا املاء ‪ ،‬ال @@ذي به لبست ث @@وب‬
‫احلياة ‪ ،‬ومنه تستمد بقاءها ‪ ،‬ووجودها ‪ ..‬فإذا افتقدت املاء عادت إىل عامل املوات ‪..‬‬
‫وه@@ذه احلقيقة قد أص@@بحت من مق@@ررات العلم احلديث ‪ ،‬ال@@ذي أثبت أن نش@@أة احلي@@اة‬
‫على ه@ @@ذه األرض قد ظه@ @@رت أول ما ظه@ @@رت على ش@ @@واطئ األهنار ‪ ..‬فك@ @@انت أول أمرها‬
‫ظالال باهتة للحياة ‪ ،‬وإشارة خافته إليها ‪ ،‬مث أخ@ذت تنمو ش@يئا ىف بوتقة ال@زمن على م@دى‬
‫ماليني السنني ‪ ،‬حىت مألت هذه الدنيا ‪ ،‬ىف صور متعددة ‪ ،‬وأشكال خمتلفة ‪ ،‬ال تكاد تقع‬
‫حتت حصر‪.‬‬
‫ـ وىف قوله تع@@اىل ‪( :‬أَفَال ُي ْؤ ِمنُــو َن) خنسة هلؤالء الض@@الني ‪ ،‬أن يتنبه@@وا ‪ ،‬وأن يوقظ@@وا‬
‫وصور ‪..‬‬
‫عقوهلم ‪ ،‬ويفتحوا أبصارهم على هذا الوجود ‪ ،‬وما أبدع فيه اخلالق ّ‬
‫فلو أهنم أداروا عق@ @@وهلم على ه@ @@ذا الوج@ @@ود ‪ ،‬بقل@ @@وب س@ @@ليمة ‪ ،‬ومش@ @@اعر متفتحة ال‬
‫نكشف هلم من أس@ @ @ @ @ @ @ @ @@راره ما حي ّدثهم أبلغ احلديث عن ق@ @ @ @ @ @ @ @ @@درة اهلل ‪ ،‬وعلمه ‪ ،‬وحكمته ‪،‬‬
‫املبثوثة ىف كل ذرة من ذرات هذا العامل ‪ ..‬وإذن آلمنوا باهلل ‪،‬‬
‫‪869‬‬

‫وأخبتوا له ‪ ،‬وال متألت قلوهبم خشية ورهبة لس@@لطانه العظيم ‪ ،‬اآلخذ بناص@@ية كل ش@@ىء ‪،‬‬
‫وألف @ @@ادوا من ذلك علما كث @ @@ريا مي ّكن هلم ىف األرض ‪ ،‬ويس @ @@خر هلم من قواها م @ @@ازال متأبيا‬
‫عليهم ‪ ،‬بعيدا عن متناول أيديهم ‪..‬‬
‫فاإلميان ال يقع من القلب موقع االس@@تقرار واالطمئن@@ان ‪ ،‬إال إذا ج@@اء عن علم باهلل ‪،‬‬
‫ومبا هلل من صفات اجلالل والكمال ‪..‬‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫واس َي أَ ْن تَ ِمي َد بِ ِه ْم َو َج َعلْنا فِيها فِجاجاً ُسبُالً ل ََعلَّ ُه ْم َي ْهتَ ُدو َن)‪.‬‬
‫ضر ِ‬ ‫ِ‬
‫( َو َج َعلْنا في اأْل َْر ِ َ‬
‫هو إلف @ @@ات إىل ما ص @ @@نع اهلل س@ @@بحانه وتع @ @@اىل ب @ @@األرض ‪ ،‬بعد أن فص @ @@لها عن م @ @@ادة‬
‫الوج@@ود ‪ ،‬وص@@ورها على تلك الص@@ورة ‪ ..‬فقد جعل اهلل س@@بحانه وتع@@اىل فيها جب@@اال راس@@ية‬
‫ثابتة ‪ ،‬تش@ @ @ @ @ ّدها ‪ ،‬ومتسك هبا أن متيد وتض@ @ @ @@طرب ‪ ،‬وجعل ىف ه@ @ @ @@ذه اجلب@ @ @ @@ال فجاجا ‪ ،‬أي‬
‫فج@@وات ‪ ،‬وهى س@@بل يس@@لكها الن@@اس ىف انتق@@اهلم من جهة إىل أخ@@رى‪ .‬وجيعل@@ون منها مع@@امل‬
‫يتعرفون منها إىل األماكن واجلهات ‪ ،‬حىت ال يضلّوا ىف أسفارهم ‪..‬‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫ماء َس ْقفاً َم ْح ُفوظاً َو ُه ْم َع ْن آياتِها ُم ْع ِر ُ‬
‫ضو َن)‪.‬‬ ‫الس َ‬ ‫( َو َج َعلْنَا َّ‬
‫وكما أوجد اهلل سبحانه األرض على هذه الص@@ورة ‪ ،‬وجعل فيها رواسى ‪ ،‬وفجاجا‬
‫سبال ‪ ،‬كذلك أقام السماء كما نرى ‪ ،‬سقفا حمفوظا بيد القدرة ‪ ،‬فال يقع علينا ‪..‬‬
‫ضو َن) إشارة إىل ما ىف السماء‬ ‫وىف قوله تعاىل ‪َ ( :‬و ُه ْم َع ْن آياتِها ُم ْع ِر ُ‬
‫‪870‬‬

‫من آي @@ات ناطقة بق @@درة اهلل ‪ ،‬ش @@اهدة على علمه وحكمته ‪ ..‬ببنائها الق @@ائم ‪ ،‬ومبا ت @@تزين به‬
‫من ك @ @ @@واكب وجنوم ‪ ..‬ولكن ه @ @ @@ؤالء الض @ @ @@الني ‪ ،‬املش@ @ @@ركني ‪ ،‬ىف غفلة عن تلك اآلي @ @ @@ات‬
‫الباهرة ‪ ،‬ال يلقون إليها نظرا ‪ ،‬وال يديرون حنوها عقال ‪..‬‬
‫وىف إض@@افة اآلي@@ات إىل الس@@ماء ‪ ،‬إش@@ارة إىل عظمة ه@@ذا الع@@امل العل@@وي ‪ ،‬وأن الس@@ماء‬
‫كون عظيم ‪ ،‬وأن كل ما الح ىف هذا الكون ‪ ،‬هو آية من آيات هذا الكون العظيم ‪..‬‬
‫@وى ‪ ،‬ما يبهر العق@@ول ‪ ،‬ويعجز اخلي@ال ‪..‬‬ ‫وفيما كشف العلم عنه من ه@@ذا الع@@امل العل@ ّ‬
‫وهو إىل ج@@انب ما مل ينكشف أش@@به ب@@ذرة من ع @@امل الرم @@ال ‪ ،‬أو قط @@رة من ع @@امل املاء ف @@أين‬
‫العقول اليت تنظر؟ وأين البصائر اليت تستبصر؟‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫الشمس والْ َقمر ُكلٌّ فِي َفلَ ٍ‬ ‫َّ ِ‬
‫ك يَ ْسبَ ُحو َن)‪.‬‬ ‫َّهار َو َّ ْ َ َ َ َ‬ ‫( َو ُه َو الذي َخلَ َق اللَّْي َل َوالن َ‬
‫هو ع@@رض لبعض مظ@@اهر ق@@درة اهلل ‪ ،‬اليت أش@@ارت اآلي@@ات الس@@ابقة إىل بعض منها ‪..‬‬
‫ومن مظ@ @@اهر الق@ @@درة اإلهلية خلق الليل والنه@ @@ار ‪ ،‬والش@ @@مس والقمر ‪ ،‬وإج@ @@راء كل منها ىف‬
‫فلك خاص به ‪ ،‬ومدار ال يتعداه ‪..‬‬
‫ذاتى‬
‫وىف التعبري عن حركة الليل والنه@ @@ار ‪ ،‬ب@ @@اخللق ‪ ،‬إش@ @@ارة إىل ما هلما من وج@ @@ود ّ‬
‫غري ع@@ارض ‪ ،‬وأن وجودمها مقص@@ود لذاته ‪ ،‬حيث يأخ@@ذان من الوج@@ود ويعطي@@ان ‪ ،‬ش@@أهنما‬
‫ىف ه@@ذا ش@@أن اإلنس@@ان املكلّف ‪ ،‬املطل@@وب منه رس@@الة يؤديها ىف احلي@@اة ‪ ..‬وش@@أهنما ك@@ذلك‬
‫ش@ @ @ @@أن الش@ @ @ @@مس والقمر ‪ ،‬فهما أي الليل والنه@ @ @ @@ار ‪ ،‬وإن كانا مظه@ @ @ @@را من مظ@ @ @ @@اهر حركة‬
‫األرض حول نفسها ‪ ،‬إال أهنما صاحبا سلطان على كل ما يقع‬
‫‪871‬‬

‫ىف فلكهما ‪ ،‬كما للش @@مس س @@لطان على كل ما يقع ىف فلكها ‪ .،‬وهلذا ج @@اء قوله تع @@اىل ‪:‬‬
‫ـك يَ ْس ـ ـبَ ُحو َن) مس@ @@ندا فيه الفعل إىل ه@ @@ذه املخلوق@ @@ات بض@ @@مري العاقل ‪ ،‬ليشري‬ ‫( ُكـ ــلٌّ فِي َفلَـ ـ ٍ‬
‫@زل ‪ ،‬وال تنح@ @@رف ‪ ،‬حىت لكأهنا موجهة‬ ‫ب@ @@ذلك إىل أهنا كائن@ @@ات تسري على ه@ @@دى ‪ ،‬فال ت@ @ ّ‬
‫ب @@إرادة عقل رش @@يد حكيم ‪ ..‬فهى وإن ب @@دت لنا أهنا غري عاقلة ‪ ،‬ف @@إن نظامها ال @@ذي جترى‬
‫@دل على أهنا تتح @ @ @ @@رك بتوجيه ق @ @ @ @@وة عاقلة حكيمة ‪ ،‬إن مل تكن ىف ذاهتا فهى قائمة‬ ‫عليه لي @ @ @ @ ّ‬
‫عليها ‪..‬‬
‫أما حني ال ت@@راد ه@@ذه املخلوق@@ات ل@@ذاهتا ‪ ،‬وإمنا ت@@راد آثارها ‪ ،‬أو بعض آثارها ‪ ،‬ف@@إن‬
‫التعبري الق @ @@رآىن عن ذلك جيىء بلفظ «اجلع @ @@ل» ال «اخلل @ @@ق» ‪ ..‬مثل قوله تع @ @@اىل ‪َ ( :‬و َج َع ـ ـ َ‬
‫ـل‬
‫َّ‬ ‫ـل َس ـ َكناً َوال َّ‬ ‫َّ‬
‫س َوالْ َق َمـ َـر ُح ْس ـباناً) (‪ : 96‬األنع @@ام) وقوله س @@بحانه ‪َ ( :‬و َج َعلْنَا الل ْيـ َ‬
‫ـل‬ ‫ش ـ ْم َ‬ ‫الل ْيـ َ‬
‫ص َرةً) (‪ : 12‬اإلسراء) ‪..‬‬ ‫والنَّهار آيَت ْي ِن فَمحونا آيةَ اللَّْي ِل وجعلْنا آيةَ النَّها ِر م ْب ِ‬
‫ُ‬ ‫َ ََ َ‬ ‫َ َْ َ‬ ‫َ َ َ‬
‫وىف ضمري اجلمع العاقل ىف (يَ ْسبَ ُحو َن) إشارة إىل أنه وإن كان لكل خملوق من هذه‬
‫املخلوق@@ات فلك يس@@بح فيه ‪ ،‬فإهنا مجيعا ينتظمها فلك ع@@ام ‪ ،‬هو فلك الوج@@ود كله ‪ ،‬ال@@ذي‬
‫حيوى كل فلك!‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫ت َف ُه ُم الْخالِ ُدو َن)‪.‬‬‫ك الْ ُخ ْل َد أَفَِإ ْن ِم َّ‬
‫ش ٍر ِم ْن َق ْبلِ َ‬
‫( َوما َج َعلْنا لِبَ َ‬
‫@ىب الك @@رمي فيهم ‪ ،‬وقد س @@اقوا إليه من ض @@روب‬ ‫ك @@ان املش @@ركون يس @@تثقلون مق @@ام الن @ ّ‬
‫ال ّس@فه ‪ ،‬وأل@@وان األذى ‪ ،‬النفسي واملادي ‪ ،‬ىف نفسه ‪ ،‬وىف أص@@حابه ‪ ،‬ما ال حيتمله إال أولو‬
‫الع @@زم من الرسل ‪ ..‬فلما ض @@اقوا به ذرعا ‪ ،‬وأعيتهم الوس @@ائل ىف ص @@ده عن دعوته إىل اهلل ـ‬
‫ك@ @@ان ممّا يع@ @ ّ@زون به أنفس@ @@هم ‪ ،‬ومينّوهنا األم@ @@اىنّ فيه ‪ ،‬أن ينتظ@ @@روا به تلك األي@ @@ام أو الس@ @@نني‬
‫الباقية من عمره ‪ ،‬وقد ذهب أكثره ‪،‬‬
‫‪872‬‬

‫ومل يبق إال قليله ‪ ،‬فقد التقى هبم الرسول الكرمي وقد جاوز األربعني ‪ ،‬وها هو ذا ص@لوات‬
‫اهلل وس@ @ @ @ @ @@المه عليه ‪ ،‬ال ي@ @ @ @ @ @@زال بينهم وقد نيّف على اخلمسني ‪ ،‬وإذن فهى س@ @ @ @ @ @@نوات قليلة‬
‫ينتظروهنا على مضض ‪ ،‬حىت يأتيه النون!‬
‫ـاعر َنَتــربَّ ِ ِ‬‫ِ‬
‫ب‬ ‫وه @@ذا ما حك @@اه الق @@رآن عنهم ىف قوله تع @@اىل ‪( :‬أ َْم َي ُقولُ ــو َن ش ـ ٌ َ ُ‬
‫ص ب ــه َريْ َ‬
‫ون) (‪ : 30‬الطور)‪@.‬‬ ‫الْمنُ ِ‬
‫َ‬
‫ك الْ ُخ ْلـ َد) مس@ ّفها ه@@ذا املنطق الس@@قيم ‪،‬‬ ‫ش ٍر ِم ْن َق ْبلِ َ‬
‫فج@@اء قوله تع@@اىل ‪َ ( :‬وما َج َعلْنا لِبَ َ‬
‫ال@ @@ذي جعل@ @@وه أداة من أدوات الغلب ىف أي@ @@ديهم ‪ ..‬ف@ @@املوت حكم ق@ @@ائم على كل نفس ‪..‬‬
‫النىب ‪ ،‬فليس وحده هو الذي يصري إىل هذا املصري ‪ ،‬وإمنا الناس مجيعا ‪ ،‬صائرون‬ ‫فإذا مات ّ‬
‫إىل ه@ @ @@ذا املصري ‪ ..‬فكيف يك@ @ @@ون املوت أداة من أدوات املعركة بينهم وبني الن@ @ @@يب؟ وكيف‬
‫صح أن يكون‬ ‫يكون سالحا عامال ىف أيديهم على حني يكون سالحا مفلوال ىف يده ‪ ،‬إذا ّ‬
‫رد اهلل عليهم بقوله ‪( :‬أَفَ ـ ـ ـ ـِإ ْن ِم َّ‬
‫ت َف ُه ُم الْخالِ ـ ـ ـ ـ ُدو َن؟) ‪ ..‬فما‬ ‫من أس @ @ @ @@لحة املعرك @ @ @ @@ة؟ وهلذا ّ‬
‫ك‬‫حلى ‪( ..‬إِنَّ َ‬
‫جواهبم على ه@@ذا؟ إهنم لن خيلّ@@دوا ىف ه@@ذه ال@دنيا ‪ ،‬فما ه@ذه ال@دنيا دار خل@ود ّ‬
‫الزم @ @@ر) ‪ ..‬إن املعركة بني حق وباطل ‪ ،‬فما س @ @@الحهم ال @ @@ذي‬ ‫ت َوإَِّن ُه ْم َميِّتُ ـ ــو َن) (‪ّ : 30‬‬ ‫َميِّ ٌ‬
‫حياربون به ىف هذا امليدان؟ إنه الباطل ‪ ،‬وإنه ملهزوم خمذول ‪( :‬إِ َّن ال ِ‬
‫ْباط َل كا َن َز ُهوقاً)‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫س ذائَِقـ ةُ ال َْمـ ْـو ِت َو َن ْبلُــو ُك ْم بِال َّشـ ِّر َوالْ َخ ْيـ ِر فِ ْتنَـةً َوإِل َْينا ُت ْر َجعُــو َن) هو ج@@واب‬‫ـل َن ْف ٍ‬
‫( ُكـ ُّ‬
‫ت َف ُه ُم الْخالِـ ُدو َن)؟ وهو ج@@واب‬ ‫على ه@@ذا الس@@ؤال ال@@ذي ج@@اء ىف اآلية الس@@ابقة ‪( :‬أَفَـِإ ْن ِم َّ‬
‫ينطق به لسان احلال ؛ ويشهد له الواقع‪.‬‬
‫وىف قوله تع@@اىل ‪( :‬ذائَِقـ ةُ ال َْمـ ْـو ِت) إش@@ارة إىل أن للم@@وت طعما ‪ ،‬جتده النف@@وس حني‬
‫تفارق األجساد ‪..‬‬
‫وهذا الطعم خيتلف بني نفس ونفس ‪ ..‬فالنفس املؤمنة تستعذب ورده ‪،‬‬
‫‪873‬‬

‫وتستس@ @ @ @ @ @@يغ طعمه ‪ ،‬ملا ت@ @ @ @ @ @@رى فيه من خالص هلا من ه@ @ @ @ @ @@ذا القيد ‪ ،‬ال@ @ @ @ @ @@ذي أمسك هبا عن‬
‫@ربد ن@@ار أش@@واقها ‪ ،‬وتنعم ىف جن@@ات‬ ‫االنطالق إىل عاملها العل@@وي ‪ ،‬حيث ت@@روى ظمأها ‪ ،‬وت@ ّ‬
‫النعيم اليت وعد اهلل املتقني ‪..‬‬
‫أما النفس الض@ @@الة اآلمثة ‪ ،‬فإمنا حيض@ @@رها عند املوت ‪ ،‬حص @ @@اد ما عملت من آث@ @@ام ‪،‬‬
‫وما ارتكبت من منك@ @ @ @@رات ‪ ،‬وتش@ @ @ @@هد ما يلقاها من غضب اهلل وعذابه ‪ ،‬فتك@ @ @ @@ره املوت ‪،‬‬
‫وجتد فيه ريح جهنم اليت تنتظرها ‪ ..‬وه@ @ @ @ @ @@ذا ما يشري إليه قوله تع@ @ @ @ @ @@اىل ‪َ ( :‬ولَـ ـ ـ ـ ـ ْـو تَـ ـ ـ ـ ــرى إِ ِذ‬
‫باسطُوا أَيْ ِـدي ِه ْم أَ ْخ ِر ُجـوا أَْن ُف َسـ ُك ُم) (‪ : 93‬األنع@@ام)‬ ‫ت والْمالئِ َكةُ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫الظَّال ُمو َن في غَ َمرات ال َْم ْو َ َ‬
‫الدهم إِنَّما ي ِري ـ ُد اهلل لِيعـ ِّـذبهم بِها فِي الْحي ـ ِ‬
‫ـاة‬ ‫وقوله س @@بحانه ‪( :‬فَال ُت ْع ِج ْبـ َ‬
‫َ‬ ‫ُ َُ َُ ْ‬ ‫ُ‬ ‫ـك أ َْمــوال ُُه ْم َوال أ َْو ُ ُ ْ‬
‫الدنْيا َوَت ْز َه َق أَْن ُف ُس ُه ْم َو ُه ْم كافِ ُرو َن) (‪ : 55‬التوبة)‪.‬‬
‫ُّ‬
‫وىف قوله تع@@اىل ‪َ ( :‬و َن ْبلُــو ُك ْم بِال َّش ـ ِّر َوالْ َخ ْي ـ ِر فِ ْتنَ ـةً َوإِل َْينا ُت ْر َجعُــو َن) إش@@ارة إىل ما يقع‬
‫للن@@اس ىف دني@@اهم مما يرونه ش@@را أو خ@@ريا ‪ ..‬ف@@ذلك كله ابتالء هلم ‪ ،‬واختب@@ار ملا يك@@ون منهم‬
‫الشر من صرب أو جزع ‪ ،‬ومع اخلري من شكر أو كفر ‪..‬‬ ‫مع ّ‬
‫فما تس @@تقبله النف @@وس مما يك @@ره ‪ ،‬هو ابتالء هلا على الرضا بقض @@اء اهلل ‪ ،‬والتس @@ليم له‬
‫حيب ‪ ،‬هو امتح @ @@ان هلا ك @ @@ذلك ‪ ،‬على الش @ @@كر واحلمد ملا آتاها اهلل من‬ ‫‪ ..‬وما تس @ @@تقبله مما ّ‬
‫فضله وإحسانه ‪..‬‬
‫فالنفوس املؤمنة ‪ ،‬ال جتزع من املك@@روه ‪ ،‬وال تكفر أو تبطر ب@@احملبوب ‪ ،‬ألن كاّل من‬
‫عند اهلل ‪ ،‬وما ك@ @ @ @@ان من عند اهلل فهو خري كله ‪ ،‬حمب@ @ @ @@وب مجيعه ‪ ..‬هك@ @ @ @@ذا جتده النف@ @ @ @@وس‬
‫املؤمنة باهلل ‪ ،‬العارفة جلالله ‪ ،‬وعظمته ‪ ،‬وحكمته ‪..‬‬
‫أما النف @@وس الض @@الة عن اهلل ‪ ،‬فإهنا إن أص @@اهبا ش @@ىء من الض @ ّ@ر ‪ ،‬ج @@زعت ‪ ،‬وزادت‬
‫كف @@را وض @@الال ‪ ،‬وإن م ّس@ @ها اخلري ‪ ،‬نف @@رت نف @@ار احلي @@وان الش @@رس ‪ ،‬واختذت من نعمة اهلل‬
‫سالحا حتارب به اهلل ‪ ،‬وتضرب ىف وجوه عباد اهلل ‪..‬‬
‫‪874‬‬

‫الش ُّر َج ُزوعاً َوإِذا َم َّ‬


‫سـهُـ الْ َخ ْـي ُـر‬ ‫سهُ َّ‬‫وىف هذا يقول اهلل تعاىل ‪( :‬إِ َّن اإْلِ نْسا َن ُخلِ َق َهلُوعاً إِذا َم َّ‬
‫سـائِ ِل‬ ‫ـوم لِل َّ‬ ‫ين فِي أ َْمــوالِ ِه ْم َحـ ٌّ‬
‫ـق َم ْعلُـ ٌ‬
‫َّ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫صـالت ِه ْم دائ ُمــو َن َوالذ َ‬ ‫ين ُه ْم َعلى َ‬ ‫ين الذ َ‬
‫منُوعـاً إِاَّل الْمصـلِّ َّ ِ‬
‫ُ َ َ‬ ‫َ‬
‫ِ‬
‫ـذاب َربِّ ِه ْم ُم ْش ـ ـف ُقو َن) (‪ 19‬ـ‬ ‫ِ‬
‫ين ُه ْم م ْن َعـ ـ ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬
‫ص ـ ـ ِّدقُو َن بَـي ـ ْـوم الـ ــدِّي ِن َوالذ َ‬
‫ين يُ َ‬
‫حـ ُـروم َوالذ َ‬‫َوال َْم ْـ‬
‫‪ : 27‬املعارج)‪.‬‬
‫والشر» ‪ ..‬نعاجل فيها ما ي@دور ىف بعض‬ ‫وحنب أن نقف هنا وقفة ‪ ،‬مع قضية «اخلري ّ‬ ‫ّ‬
‫ال @@رءوس من تس @@اؤالت عن «الش @ ّ@ر» وعن احلكمة ىف أن يقع ىف ه @@ذه احلي @@اة ‪ ،‬وعن ابتالء‬
‫الناس به ‪ ،‬وعن نسبته إىل اهلل ‪ ..‬إىل غري ذلك مما سنعرضه مفصال ىف املبحث التايل ‪:‬‬

‫[الخير ‪ ..‬والشر]‬

‫التّالزم بين الخير والشر ‪:‬‬


‫ي@@نزع العقل دائما إىل املزاوجة بني األش@@ياء اليت تع@@رض له ‪ ،‬وت@@دور ىف حميط تفك@@ريه‬
‫‪ ..‬فال يك@ @ @@اد أمر من األم@ @ @ @@ور يقع ىف جمال النظر العقلي ‪ ،‬حىت يس@ @ @@تثري له العقل من ع@ @ @@امل‬
‫@اد والعن@ @@اد ‪ ،‬ل@ @@ريى فيه كل‬ ‫الواقع ‪ ،‬أو ع@ @@امل اخلي@ @@ال ‪ ،‬كائنا آخر ‪ ،‬يقف منه موقف التض@ @ ّ‬
‫املر ‪،‬‬
‫الص@ @@فات الس@ @@لبية لألمر ال@ @@ذي بني يديه ‪ ..‬ف@ @@إذا ذاق املرء طمعا حل@ @@وا ‪ ،‬ذكر الطعم ّ‬
‫وإذا ملس اللّنب استش@ @ @ @ @ @@عر اخلشن ‪ ،‬وإذا فكر ىف احلق ‪ ،‬ت@ @ @ @ @ @@ذ ّكر الباطل ‪ ..‬وهك@ @ @ @ @ @@ذا تعيش‬
‫احلس والفكر ‪ ،‬مثىن ‪ ..‬مثىن ‪ ..‬األمر وض ّده‪.‬‬ ‫األشياء ‪ ،‬من املعاين واحملسوسات ‪ ،‬ىف عامل ّ‬
‫@ردى لش @@ىء من األش @@ياء ‪ ،‬أو‬ ‫وحمال أن يع @@رتف العقل ىف ع @@امل الواقع ‪ ،‬ب @@الوجود الف @ ّ‬
‫معىن من املعاين ‪ ..‬حىت لكأن األشياء واملعاين كائنات حيّة ‪ ،‬ال يضمن بقاءها ووجودها ‪،‬‬
‫إال ه @@ذه املزاوج @@ة! اليت جتمع بني الش @@يء ومقابله ‪ ،‬كما جتمع ىف ع @@امل األحي @@اء بني ال @@ذكر‬
‫واألنثى ‪@!!..‬‬
‫‪875‬‬

‫إن احلقيقة الفردية ال وج@ @ @ @ @ @@ود هلا ىف منطق العقل ‪ ،‬فهو ال يع@ @ @ @ @ @@رف الش@ @ @ @ @ @@يء ‪ ،‬وال‬
‫يع @@رتف به ‪ ،‬إال إذا ع @@رف املقابل له ‪ ،‬ولو ك @@ان ه @@ذا املقابل ع @@دما وس @@لبا ‪ ..‬فهو إن عجز‬
‫عن أن جيد ىف ع @@امل الواقع ما يقابل أو يض @@اد الش @@يء ال @@ذي بني يديه ‪ ،‬ان @@تزع من ص @@فات‬
‫مشخص@@ات يقيم منها شخص@@ية تقابله مقابلة التض@@اد والعن@@اد‬ ‫الع@@دم والس@@لوب هلذا الش@@يء ‪ّ ،‬‬
‫‪ ..‬فالوجود يقابله العدم ‪ ،‬واحلياة يقابلها املوت ‪ ..‬وهكذا ‪..‬‬
‫يق@@ول الفيلس@@وف األم@@ريكى «وليم چيمس» ‪« :‬إننا ال ن@@درك متام اإلدراك ؛ القض@@ية‬
‫الص @ @@ادقة ‪ ،‬حىت نعلم مض @ @@مون ما يناقض @ @@ها من قض @ @@ايا كاذبة ‪ ..‬فالغلط ض @ @@رورى@ ليظهر‬
‫احلقيقة على أحسن من @ @@وال ‪ ،‬كما أن ظالم اجلانب اخللفى ـ ىف آلة التص @ @@وير ـ ض @ @@رورى‬
‫ليظهر صفاء الصورة ونضارهتا»‪.‬‬
‫الشر ج@@دير ب@@أن‬ ‫ولعمر بن اخلطاب ـ رضى اهلل عنه ـ كلمته املأثورة ‪« :‬من مل يعرف ّ‬
‫يقع فيه»‪.‬‬
‫وعن طريق ه@ @ @@ذه الثنائية لألش@ @ @@ياء ‪ ،‬اس@ @ @@تطاع العقل أن يبعث احلي@ @ @@اة ىف الكائن @ @ @@ات‬
‫اجملردة مشخصات ‪ ،‬حني جيمع بني املتضادات ‪ ،‬ويقابل بني‬ ‫اجلامدة ‪ ،‬وأن يقيم من املعاين ّ‬
‫املتناقض @@ات ‪ ،‬فتتعاند ‪ ،‬وتتص @@ادم ‪ ،‬ويتولد من تعان @@دها وتص @@ادمها واحتكاكها ‪ ،‬ش @@رارات‬
‫املعرفة ‪ ،‬اليت تكشف للعقل عن حقيق@@تني ىف وقت معا ‪ ،‬عند معاجلته حلقيقة واح@@دة ‪ ..‬مها‬
‫‪ :‬الشيء وضده ‪ ،‬أو الشيء ومقابله‪.‬‬
‫وعن ه @@ذه الثنائية ‪ ،‬نشأ ه @@ذا التالزم بني اخلري والشر ‪ ..‬ف @@إذا ذكر اخلري ‪ ،‬ذكر معه‬
‫الش@ @ @ ّ@ر ‪ ،‬وظه@ @ @@را معا ىف جمال الفكر متق@ @ @@ابلني ‪ ،‬تقابل الص@ @ @@ورة وس@ @ @@البها ىف عمل للص@ @ @@ورة‬
‫«الفتوغرافية»‪.‬‬
‫والسؤال هنا هو ‪ :‬هل هذا التالزم بني اخلري والشر أمر واقع ىف احلياة؟‬
‫‪876‬‬

‫أم أنه جمرد عملية من عملي@ @ @ @ @ @ @@ات العقل ‪ ،‬وطريقة من طرائقه ىف فهم األش@ @ @ @ @ @ @@ياء ‪ ،‬وكشف‬
‫احلقائق؟‬
‫وس@@ؤال آخر ‪ ..‬هل هن@@اك خ@@ري؟ وإذا ك@@ان ‪ ..‬فما ه@@و؟ وهل الشر ق@@ائم إىل ج@@انب‬
‫اخلري أبدا؟ وإن كان ‪ ..‬فما هو؟ وما الصلة بينه وبني اخلري؟‬

‫الخير والشر ‪ ..‬وواقع الحياة ‪:‬‬


‫ولع @ ّ@ل أك @@ثر الكلم @@ات دورانا على ألس @@نة الن @@اس ‪ ،‬كلمتا اخلري والشر ‪ ..‬فما ع @@رض‬
‫إلنس @ @@ان أمر ‪ ،‬أو وقع له ش @ @@ىء ‪ ،‬إاّل نظر إليه من ج @ @@انىب اخلري والشر ‪ ،‬وإاّل أخ @ @@ذه بأحد‬
‫الوص @@فني ‪ :‬اخلري والشر ‪ ..‬إن ه @@اتني الكلم @@تني ‪ ،‬مها م @@يزان احلي @@اة ال @@ذي يق @ ّدر به اإلنس @@ان‬
‫والشر ىف الكفة األخرى ‪ ..‬هكذا جترى حياة‬ ‫كل شىء يأخذه أو يدعه ‪ ..‬اخلري ىف كفة ‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬
‫الن@اس ‪ ،‬وهك@@ذا جتىء تص@@رفاهتم وبقع س@@لوكهم ‪ ،‬على حسب ما يشري إليه مؤشر امليزان ‪،‬‬
‫من رجح@@ان إح@@دى الكف@@تني على األخ@@رى ‪ ..‬ف@@إذا تعادلتا ‪ ،‬توقف اإلنس@@ان ووقع ىف ح@@رية‬
‫بني ما يأخذ وما يدع!‬
‫إننا مجيعا نق@ @ @@ول ب@ @ @@اخلري والشر ‪ ..‬نعرفهما ‪ ،‬ونعمل ونتعامل ىف ح@ @ @@دودمها ‪ ،‬ون@ @ @@زن‬
‫كل شىء هبما ‪..‬‬ ‫حظوظنا من ّ‬
‫ومع هذا ‪ ،‬ف@إن من بعض الفالس@@فة واملفك@@رين من ينكر وجودمها ‪ ،‬وال يع@@رتف ب@أن‬
‫ىف احلياة خريا أو شرا ‪..‬‬
‫فهل يقبل واقع احلي @ @@اة ه@ @ @@ذا ال@ @ @@رأى؟ وهل انط@ @ @@وت ص@ @ @@فحات اخلري والشر من ه@ @@ذا‬
‫الوجود ‪ ،‬إذعانا هلذا الرأى ‪ ،‬ونزوال على حكمه؟‬
‫ولكن ‪ ..‬مهال ‪..‬‬
‫الشر؟‬
‫ما هو اخلري؟ وما هو ّ‬
‫‪877‬‬

‫إننا نتح@ @ @ @ @@دث منذ أخ@ @ @ @ @@ذنا ىف ه@ @ @ @ @@ذا احلديث ‪ ،‬عن اخلري والشر ‪ ،‬كأهنما حقيقت@ @ @ @@ان‬
‫واقعت@ @@ان ‪ ،‬متفق على ماهيتهما ‪ ،‬متع@ @@ارف على احلدود القائمة بينهما ‪ ..‬مع أن الواقع غري‬
‫ذلك ‪..‬‬
‫فمع اع@ @ @@رتاف املع@ @ @@رتفني ب@ @ @@اخلري والش@ @ @ ّ@ر ‪ ،‬ف@ @ @@إن خالفا كب@ @ @@ريا قد وقع بينهم ىف حتديد‬
‫شرا ‪..‬‬
‫والشر ّ‬ ‫الصورة ‪ ،‬اليت يكون هبا اخلري خريا ّ‬
‫ما هى الض @@وابط اليت تض @@بط معىن اخلري؟ واليت إن حتققت ىف أمر من األم @@ور ع @@رف‬
‫أنه خري؟ وإن ختلّف بعضها وحتقق بعضها عرفت نسبة اخلري فيه؟‬
‫إنه بغري ه@@ذه الض@@وابط س@@تتفرق بالن@@اس ال ّس@بل ‪ ،‬حيث تع@@دد املف@@اهيم للخري والش@ ّ@ر‪.‬‬
‫على حسب تع@@دد الن@@اس ‪ ،‬وحسب ما ي@@رون ‪ ،‬وما يق@ ّدرون‪ .‬فال يلتق@@ون على طريق واحد‬
‫فيما يأخذون أو يدعون ‪ ،‬وال فيما حيمدون أو يكرهون ‪ ،‬وال فيما يثيبون أو يعاقبون‪.‬‬
‫ما اخلري إذن؟‬
‫يكاد يكون اخلري أمرا ب@دهيا ‪ ،‬لك@ثرة إلف الن@اس له ‪ ،‬وإحساس@هم به ‪ ..‬فهو هلذا ال‬
‫يك @@اد يض @@بط أو حيصر داخل ح@ @ ّد حمدود ‪ ..‬إنه مش @@اع ىف الن @@اس ‪ ،‬واقع ىف إحساس @@هم ‪..‬‬
‫كل ي @@راه من األفق ال @@ذي يعيش فيه ‪ ..‬فيب @@دو لبعض الن @@اس ىف ص @@ورة املت @@اع اجلس @@دى من‬
‫طع @@ام وش @@راب ‪ ،‬ولب @@اس ‪ ،‬وغري ه @@ذا مما هو من حظ اجلسد ‪ ،‬على حني ي @@راه آخ @@رون ىف‬
‫أل@@وان من األدبيّ@@ات ‪ ،‬اليت تعلو ب@@الروح ‪ ،‬وتس@@مو بالوج@@دان ‪ ..‬وبني ه@@ذه اآلف@@اق الص@@اعدة‬
‫واآلفاق النازلة ‪ ،‬درجات ال تكاد حتصى ‪ ،‬وتكاد تكون على تعداد الناس ‪ ..‬فردا فردا ‪..‬‬
‫ولكن إذ قد اختلفت معابري الناس ىف اخلري ـ وه@ذا أمر ط@بيعى ـ الختالف رغب@اهتم ‪،‬‬
‫وتنوع مطالبهم ‪ ،‬فليس معىن هذا أال يكون هناك خري ‪،‬‬
‫‪878‬‬

‫وإمنا هذا االختالف ىف ذاته ‪ ،‬دليل على وجوده!‬


‫@ادى ‪ ،‬يقع على اجلسد من‬ ‫ولعل أول إحس @@اس ب @@اخلري ‪ ،‬ج @@اء عن طريق إحس @@اس م @ ّ‬
‫أمور تتصل حباج@ات اإلنس@ان اجلس@دية ‪ ،‬اليت متسك عليه احلي@اة ‪ ،‬وت@دفع عنه أس@باب الفن@اء‬
‫فالش@@ىء ال@@ذي ك@@ان يس@ ّد حاجة اإلنس@@ان الب@@دائى ‪ ،‬ويش@@بع جوعته ـ أيا ك@@ان ه@@ذا الش@@يء ـ‬
‫هو خري وخري كثري ‪..‬‬
‫من أجل ه @ @@ذا ك @ @@انت تلك املوج @ @@ودات من حي @ @@وان أو نب @ @@ات أو مجاد ‪ ،‬معب @ @@ودات‬
‫لإلنس @ @@ان األول ‪ ،‬حيث ظه @ @@رت له ‪ ،‬ىف ص @ @@ورة نافعة أو ض @ @@ارة ‪ ،‬وذلك ل @ @@ريجو خريها ‪،‬‬
‫ويدفع شرها ‪..‬‬
‫ومن هنا ك @@ان تع @@دد اآلهلة اليت عب @@دها اإلنس @@ان ىف خطواته األوىل ىف احلي @@اة ‪ ..‬فعبد‬
‫كل شىء ‪ ،‬إذ كان يرى مصريه مرتبطا به ‪ ،‬ىف جمال النفع والضر على السواء ‪..‬‬
‫مث حني خطا اإلنسان خطوات إىل احلياة ‪ ،‬وتعرف على وجوه األشياء ‪ ،‬وأخض@@عها‬
‫لس@@لطانه ـ ت@@رك عبادهتا ش@@يئا فش@@يئا ‪ ،‬مث ما زال هبا ي@@دفعها عن مق@@ام التأليه والتق@@ديس حىت‬
‫انتهى به األمر إىل مجعها مجيعا حتت دائ@@رتني ‪ :‬دائ@@رة تسع كل ما هو خري ‪ ،‬وأخ@@رى جتمع‬
‫كل ما هو شر ‪..‬‬
‫ّ‬
‫الشر كله يصدر عن جهة عليا كذلك ‪،‬‬ ‫فاخلري مجيعه يصدر عن قوة عليا ‪ ،‬كما أن ّ‬
‫تناظر قوة اخلري ‪ ،‬وتقابلها ‪..‬‬
‫وهك@ @@ذا انتهى اإلنس@ @@ان ىف مرحلة مت@ @@أخرة من حياته إىل عب@ @@ادة اخلري ‪ ،‬والشر ‪ ،‬ومل‬
‫يستسغ أن جيمع بني اخلري والشر ىف دائ@ @@رة واح@ @@دة ‪ ،‬فيجعلهما ص@ @@ادرين عن ق@ @@وة واح@ @@دة‬
‫عليا ‪ ..‬ألنه فهم أن اخلري ال يلتقى أبدا مع الشر ‪ ،‬وأن الذي يصنع اخلري ‪ ،‬ال يصنع الشر!‬
‫‪879‬‬

‫فلسفةـ المثنوية ‪:‬‬


‫وقد اطم@@أن اإلنس@@ان إىل ه@@ذا املعتقد ‪ ،‬واجتمعت له فيه ‪ ،‬نفسه املش@@تتة ‪ ،‬وع@@اد إليه‬
‫فكرة الالهث ‪ ،‬الذي كان جيرى وراء كل هذه اآلهلة اليت ال حصر هلا ‪..‬‬
‫ومنذ ه@@ذا ال@@وقت اس@@تطاع اإلنس@@ان أن يتأمل ‪ ،‬وأن يطيل التأمل ىف ه@@ذين اإلهلني ‪،‬‬
‫اللذين احتويا مجيع اآلهلة ‪ ،‬وانتزعا كل سلطان على هذا الوجود ‪..‬‬
‫ولقد نشأ عن ه@ @ @ @@ذا التأمل الطويل العميق ىف ه@ @ @ @@ذين اإلهلني ‪ ،‬فلس@ @ @ @@فة هلا أس@ @ @ @@لوهبا‬
‫الذهين واملنطقي ‪ ،‬وهلا أحكامها القائمة على الربهان واالستدالل ‪..‬‬
‫ولع@ ّ@ل أق@@دم نظر لبس ث@@وب الفلس@@فة ىف العقي@@دة «املثنوي@@ة» هو نظر حكم@@اء الف@@رس ‪،‬‬
‫الذين انتهى هبم الرأى إىل القول بإهلني حيكمان الع@@امل ‪ ،‬ويتحكم@ان ىف مص@@ريه ‪ ،‬ومها ‪ :‬إله‬
‫الشر بالظالم «أهرمن»‪.‬‬ ‫اخلري ‪ ،‬وإله الشر ‪ ..‬وقد رمزوا إلله اخلري بالنور «يزدان» وإلله ّ‬
‫وقد تف@ @ @@رقت بفالس@ @ @@فة الف@ @ @@رس وحكمائها الس@ @ @@بل ح@ @ @@ول النظر ىف ه@ @ @@ذين اإلهلني ‪،‬‬
‫وس@@لطان كل منهما ىف ه@@ذا الع@@امل ‪ ،‬وىف الص@@دام والص@@راع ال@@ذي ال بد أن يقع بينهما ‪ ،‬إذ‬
‫حاد مع طبيعة اآلخر‪.‬‬ ‫كانت طبيعة كل منهما على خالف ّ‬
‫أزىل ق@دمي ‪ ،‬وأما «أه@@رمن» ـ وهو‬ ‫ف@@ذهب فريق منهم إىل أن «ي@@زدان» ـ وهو الن@@ور ـ ُّ‬
‫الظالم ـ فحادث خملوق ‪..‬‬
‫وىف زمن مت @ @@أخر ج@ @@اء «زرادش @ @@ت» مبذهب خيالف ه @ @@ذا املذهب ‪ ،‬فق @ @@ال ‪ :‬إن اهلل‬
‫واحد ق @@دمي ‪ ،‬ال ش @@ريك له وال ضد وال ن @ ّد ‪ ..‬وهو ال @@ذي خلق الن @@ور والظالم ‪ ،‬وال جيوز‬
‫أن ينسب إليه وج@ @ @ @@ود الظلمة ‪ ..‬ولكن اخلري والش@ @ @ @ ّ@ر ‪ ،‬والص@ @ @ @@الح والفس@ @ @ @@اد ‪ ،‬والطه@ @ @ @@ارة‬
‫واخلبث ‪ ،‬إمنا حدث بامتزاج النور والظلمة ‪ ،‬ولو مل ميتزجا ملا كان للعامل وجود!!‬
‫‪880‬‬

‫ومها ـ أي النور والظالم ـ يتقاوم@ان ‪ ،‬ويتغالب@ان ‪ ،‬إىل أن يغلب الن@ور الظالم ‪ ،‬واخلري‬
‫الشر ‪ ،‬مث يتخلص اخلري إىل عامله ‪..‬‬
‫ّ‬
‫والب@ @ @@ارئ تع@ @ @@اىل هو ال@ @ @@ذي مزجهما وخلطهما حلكمة رآها ىف ال@ @ @@رتكيب ‪ ..‬وي@ @ @@رى‬
‫وأما الظلمة فتبع له ‪..‬‬ ‫«زرادش@ @@ت» أن الن@ @@ور هو األصل ‪ ،‬وأن وج@ @@وده وج@ @@ود حقيقى ‪ّ ،‬‬
‫كالظل بالنس@@بة إىل الش@@خص ‪ ..‬وملا ك@@ان الب@@اري ي@@رى أنه موج@@ود ‪ ،‬وليس مبوج@@ود ‪ ،‬فقد‬
‫التضاد» (‪.)1‬‬
‫ّ‬ ‫أبدع النور ‪ ،‬وحصل الظالم تبعا ‪ ..‬ألن من ضرورة الوجود‬
‫ونالحظ هنا أن هذا الرأى يقارب كثريا ما تقول به التوراة ىف سفر التكوين ‪ ..‬فما‬
‫حت ّدث به التوراة يكاد يكون نقال حرفيًّا له!‬
‫كما يالحظ أيضا أن ق@ @@ول «زرادش@ @@ت» ب@ @@أن اخلري والش@ @ ّ@ر ‪ ،‬والص@ @@الح والفس@ @@اد ‪،‬‬
‫والطه@@ارة واخلبث ‪ ،‬إمنا ح@دثت من ام@تزاج الن@ور والظلمة ـ يالحظ أن ه@ذا الق@@ول يتفق مع‬
‫أحدث النظريات الفلسفية واألخالقية اليت تقول ‪ ،‬بأن اخلري والشر ال يوج@@دان خالصني ‪..‬‬
‫والشر معه اخلري ‪( ..‬فَِإ َّن َم َع الْعُ ْس ِر يُ ْسراً إِ َّن َم َع الْعُ ْس ِر يُ ْسراً) ‪..‬‬
‫فاخلري ممتزج بالشر ‪ّ ،‬‬
‫الخير والشر فى معابير الفلسفة الحديثة ‪:‬‬
‫وال بد لنا من نظ @@رة إىل عص @@رنا ه @@ذا ‪ ،‬وإىل نظرته إىل اخلري والشر ‪ ،‬عند العلم @@اء ‪،‬‬
‫والفالسفة ‪ ،‬ورجال ال ّدين واألخالق ‪..‬‬
‫فلقد ع@@نيت الفلس@@فة احلديثة بالس@@لوك اإلنس@@اىن ‪ ،‬وجعلت اإلنس @@ان موض@@وعا ب@@ارزا‬
‫من موضوعات الدراسة والنظر ىف منهجها‪.‬‬
‫ك@ @@ان ما وراء الطبيعة ىف الفلس@ @@فة القدمية ‪ ،‬هو كل ما يش@ @@غل الفالس@ @@فة ‪ ،‬ويس@ @@يطر‬
‫على تفكريهم ‪ ..‬فجاءت نظرياهتم ختطيطا لصور من املثاليات القائمة على‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬انظر امللل والنحل للشهرستاىن ‪ ..‬ج ‪ 2‬ص ‪ 69‬وما بعدها‪.‬‬
‫‪881‬‬

‫وطبيعى أال يكون لإلنسان حظ بارز ىف هذه الفلسفة‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫التصورات والفروض ‪..‬‬
‫واحلس ‪ ،‬ىف كلمته املش @@هورة ‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫وك @@انت دع @@وة «أرس @@طو» إىل النظر ىف ع @@امل الواقع‬
‫«اع@@رف نفس@@ك» ـ ك@@انت ه@@ذه ال@@دعوة ج@@ديرة ب@@أن ت@@ؤتى مثارها ‪ ،‬لو أهنا تن@@اولت اإلنس@@ان‬
‫حى من كائن @ @@ات الطبيعة ‪ ..‬ولكن ه @ @@ذه ال @ @@دعوة نقلت الفلس @ @@فة من‬ ‫من حيث هو ك @ @@ائن ّ‬
‫النظر ىف السماء ‪ ،‬إىل النظر فيما وراء احملسوس من اإلنسان ‪ ..‬من روح ‪ ،‬ونفس ‪ ،‬وعقل‬
‫توجه النظر إىل املادة ‪ ،‬ومظ@ @ @ @@اهر الطبيعة اليت يعيش اإلنس@ @ @@ان فيها ‪ ،‬بل ويعيش منها‬ ‫‪ ،‬ومل ّ‬
‫وعليها ‪..‬‬
‫أما ىف ه@ @ @ @ @ @@ذا العصر ‪ ،‬ومنذ مطلع الق@ @ @ @ @ @@رن التاسع عشر امليالدى ‪ ،‬فقد فنت الن@ @ @ @ @ @@اس‬
‫ب @@الواقع التج @@ريب ‪ ،‬ال @@ذي يق @@وم على االختي @@ار احلس @ ّ@ى ‪ ،‬وأص @@بحت املعامل التجريبية لعل @@وم‬
‫الطبيعة وظواهرها ‪ ،‬مي@@دان الص@@راع العقلي بني العلم@@اء ‪ ..‬فتل@@ون التفكري الفلس@@في بالص@@بغة‬
‫العملية ‪ ،‬وتغري منهج الفلس@@فة ‪ ..‬فبعد أن ك@@انت مراحل التفكري الفلس@@في تب@@دأ من الس@@ماء‬
‫‪ ،‬مث تنتهى أو ال تك@@اد تنتهى إىل األرض ـ أص@@بحت الفلس@@فة تب@دأ من األرض ‪ ،‬مث تنتهى أو‬
‫ال تنتهى إىل السماء ‪!..‬‬
‫وط@ @ @@بيعى أن يظفر اإلنس@ @ @@ان بالنّص@ @ @@يب األوفر من عناية الفالس@ @ @@فة املعاص@ @ @@رين ‪ ..‬إذ‬
‫كانت الطبيعة موضوع فلسفتهم ‪ ،‬وكان اإلنسان هو أعلى ‪ ،‬وأعظم ظاهرة فيها ‪..‬‬
‫وملا ك@@ان اخلري والش@ّ@ر ج@@انبني ب@@ارزين ىف تكفري اإلنس@@ان ‪ ،‬وىف س@@لوكه ‪ ،‬فقد ع@@نيت‬
‫هبما الفلس@ @@فة ‪ ،‬فيما ع@ @@نيت به من ش@ @@أن اإلنس@ @@ان ‪ ،‬وح@ @@اولت الفلس@ @@فة جه@ @@دها أن حتدد‬
‫والشر ‪ ،‬وأن تضع املوازين والضوابط هلما ‪..‬‬ ‫«القيمة» لكل من اخلري ّ‬
‫‪882‬‬

‫وتص @@ور ‪ ..‬كيف يك @@ون احلال ‪ ،‬لو ع @@رف الن @@اس ميزانا دقيقا يزن @@ون به تص @@رفاهتم ـ‬
‫قبل أن تقع ـ وتت@@بيّنوا ج@@انب اخلري ‪ ،‬وج@@انب الشر منه@@ا؟ إن إنس@@انا لن مي ّد ي@@ده ‪ ،‬أو يس@@عى‬
‫برجله ‪ ،‬إىل شر أبدا ‪ ..‬وكيف وقد استبان له وجه اخلري والش@ّ@ر ‪ ،‬على الص@@ورة اليت يقع@@ان‬
‫هبا؟‪.‬‬
‫وقد تق@@ول ‪ :‬إن كث@@ريا من األم@@ور يع@@رف الن@@اس وجه اخلري والش@ ّ@ر فيها ‪ ،‬ومع ه@@ذا ‪،‬‬
‫ف@@إهنم يواقع@@ون الش@ ّ@ر وعي@@وهنم مفتوحة ل@@ه! فهن@@اك ش@ ّ@ر ص@@راح ال خف@@اء فيه ‪ ،‬ومع ه@@ذا فإنه‬
‫واقع ىف سلوك الناس ‪ ..‬قد تقول هذا!‬
‫وحنن نوافقك على ه@ @ @@ذا االع@ @ @@رتاض ‪ ،‬ولكن على ش@ @ @@رط أن تتفق معنا على أن مثل‬
‫الشر غري مصحوب «باحلتمية» اليت جتعل وقوعه أم@@را الزما ‪ ،‬ال مف@ّ@ر منه ‪ ،‬عند ال@@ذين‬ ‫هذا ّ‬
‫يتلبّس@@ون به على األقل ‪ ..‬ف@@إن هن@@اك ص@@ورا من االحتمالية تث@@ور دائما ىف وجه ما يب@@دو أنه‬
‫شر حمض!‬ ‫ّ‬
‫وهذه «االحتمالية» هى الضباب الذي خيفى كثريا من وجوه الش@ ّ@ر ‪ ،‬فيما هو شر ‪،‬‬
‫وهى السراب اخلادع الذي يضلل اإلنسان ‪ ،‬ويغربه بفعل ما هو شر ‪ ،‬وإن ك@@ان ي@@راه رأى‬
‫العني!!@‬
‫وال شك أن رغباتنا ‪ ،‬وعواطفنا ‪ ،‬تلعب@@ان دورا هاما ‪ ،‬ىف جمال العملي@@ات االحتمالية‬
‫‪ ،‬فتقوهبا أو تض @@عفها ‪ ،‬على حسب ما عن @@دنا من رغب @@ات وعواطف حنو الشر ال @@ذي نقف‬
‫إزاءه ‪ ،‬وما عن @@دنا من إرادة ‪ ،‬وع @@زم ‪ ،‬وث @@ورة ‪ ،‬على ض @@بط ه @@ذه الرغب @@ات ‪ ،‬وكبح مجاح‬
‫تلك العواطف!!‬
‫ومع ه@ @@ذا ‪ ،‬فإننا نق@ @@ول ‪ :‬إنه من اخلري أن يظ@ @ ّ@ل اخلري والش@ @ ّ@ر ىف ه@ @@ذه ال ّس@ @حب اليت‬
‫حتجب الكثري من معاملها ‪ ،‬فيك @ @@ون «لالحتمالي @ @@ة» ومكاهنا ىف اخلري أن يك @ @@ون ش @ @@را ‪ ،‬وىف‬
‫الشر أن يكون خريا ـ وبذلك تقوم دواعى العمل ‪ ،‬ويكون للحياة‬ ‫ّ‬
‫‪883‬‬

‫دوراهنا ‪ ،‬وللن@ @ @ @@اس س@ @ @ @@عيهم ىف كل وجه ‪ ،‬فيعمل@ @ @ @@ون فيما حيس@ @ @ @@بون أنه خري ‪ ،‬وإن ج@ @ @@اء‬
‫بالش @@ر!! ( َو َعسى أَ ْن تَك َْر ُهــوا َش ـ ْيئاً َو ُهـ َـو َخ ْيـ ٌـر لَ ُك ْم ‪َ ،‬و َعسى أَ ْن تُ ِحبُّوا َش ـ ْيئاً َو ُهـ َـو َش ـ ٌّر لَ ُك ْم‬
‫َواهللُ َي ْعلَ ُم َوأَْنتُ ْم ال َت ْعلَ ُمو َن)‬
‫ولو استبان للناس وجه اخلري صرحيا ‪ ،‬لك@@ان ركب احلي@@اة كلّه متجها إىل ه@@ذا الوجه‬
‫وحده ‪ ،‬ولكان الناس على طريق واحد!!‬
‫ولكن أي ركب ه@@ذا ال@@ذي يأخذ طريقا واح@@دا؟ إنه ركب جامد ص@@امت ال حركة‬
‫فيه ‪ ..‬إنه أش@@به بالتي@@ار املوجب ىف الق@@وة الكهربائية ‪ ..‬ال يعمل ‪ ،‬وال يتح@@رك ‪ ،‬وال تص@@در‬
‫عنه فاعلية ىف إحداث حرارة أو ضوء ‪ ،‬إال إذا اتصل بالتيار السالب ‪ ،‬وتفاعل معه!‪.‬‬
‫إن معاجلتنا لألم @@ور ‪ ،‬ال تظهر نتائجها إال بعد أن نف @@رغ منها ‪ ،‬وخنرج من أي @@دينا ‪،‬‬
‫ولو استدارت لنا عواقب األمور ‪ ،‬فرأيناها قبل أن نعاجلها ‪ ،‬لكان شأننا ىف احلياة غري ه@@ذه‬
‫الش @ @@أن ‪ ،‬فما أخطأ خمطئ ‪ ،‬وال خسر خاسر ‪ ،‬وال أص@ @ @@يب مص @ @@اب ‪ ..‬وهك@ @ @@ذا ‪ ،‬مما يقع‬
‫@رومى على غري ما ك@@ان عليه ‪ ،‬من اخلوف ‪،‬‬ ‫للناس ‪ ،‬مما يسوؤهم ‪ ..‬ولكان شاعرا كاين ال@ ّ‬
‫والرتدد ‪ ،‬والعجز ‪ ،‬عن لقاء احلياة ‪ ..‬وملا قال هذا القول ‪ ،‬مصورا به نفسه ‪:‬‬
‫أق@ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ ّدم رجال رغبة ىف رغيبة ‪  ‬وأمسك أخ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @@رى رهبة للمع @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @@اطب‬
‫‪ ‬‬ ‫‪ ‬‬

‫أال من يريىن غ@ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @@ايىت قبل م@ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @@ذهىب ‪  ‬ومن أين؟ والغاي@ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @@ات بعد املذاهب!‬
‫‪ ‬‬ ‫‪ ‬‬

‫***‬
‫ونع@@ود فنق@@ول إن الفلس@@فة احلديثة ‪ ،‬وإن ب@دأت ب@النظر إىل اإلنس@@ان ‪ ،‬ممثال ىف اجملتمع‬
‫اإلنساىن ‪ ،‬فإهنا انتهت باإلنسانية ممثلة ىف اإلنسان ‪ ..‬مبعىن أن اإلنسان من حيث هو ك@@ائن‬
‫له ذاتيته ‪ ،‬وله مدركاته ‪ ،‬ومشاعره ـ هذا اإلنسان هو الذي أصبح مركز الدائرة اليت ت@@دور‬
‫حوهلا الفلسفة احلديثة ‪ ..‬وإذا كان هلا نظر إىل‬
‫‪884‬‬

‫اجملتمع اإلنس@ @ @ @ @@اىن ‪ ،‬وإىل الروابط اليت تربط الف@ @ @ @ @@رد باجلماعة ‪ ،‬فهو نظر ج@ @ @ @ @@انىب حيىء تبعا‬
‫للنظرة املتجهة اجتاها مباشرا إىل اإلنسان وحده‪.‬‬
‫ومن هنا كان احلكم على اخلري والشر ـ ىف تقدير الفلسفة احلديثة ـ قائما على أس@@اس‬
‫ف @@ردى حبت ‪ ،‬مبعىن أن الف @@رد ـ والف @@رد وح @@ده ـ هو ال @@ذي له أن حيكم على ه @@ذا األمر بأنه‬
‫خري أو شر ‪ ،‬مث إنه ليس هذا بال@@ذي مينع من أن جيىء غ@@ريه فينقض عليه حكمه ‪ ،‬ف@@ريى ما‬
‫رآه غريه خريا ‪ ،‬شرا ‪ ،‬وما رآه شرا ‪ ،‬هو عنده خري ‪..‬‬
‫وعلى ه @ @@ذا ‪ ،‬فهن @ @@اك ـ عند الفلس @ @@فة احلديثة ـ خري وشر ‪ ،‬ولكن ال ذاتية للخري أو‬
‫الشر ‪ ،‬بل مها أمران اعتباريّان ‪ ،‬فاخلري ما رآه اإلنس@ان خ@ريا‪ .‬والشر ما رآه ش@را ‪ ..‬وإنه ال‬ ‫ّ‬
‫شر ىف حقيقة األمر!!@‬ ‫خري وال ّ‬
‫وىف ه@ @@ذا يق@ @@ول الفيلس@ @@وف األم@ @@ريكى «وليم جيمس» ‪« :‬إن اإلنس@ @@ان هو مص@ @@در‬
‫اخلري والش @ ّ@ر ‪ ،‬والفض @@يلة والرذيلة ‪ ..‬إن اخلري خري بالنس @@بة له ‪ ،‬والش @ ّ@ر شر بالقي @@اس إليه ‪..‬‬
‫إن اإلنس@ @ @ @@ان هو اخلالق الوحيد للقيم ىف ذلك الع@ @ @ @@امل ‪ ،‬وليس لألش@ @ @ @@ياء من قيمة خلقية إال‬
‫باعتباره هو»!!‬
‫وميكن أن يك@ @ @ @@ون ه@ @ @ @@ذا ال@ @ @ @@رأى تلخيصا للفلس@ @ @ @@فة احلديثة ‪ ،‬وإن دخلت عليه بعض‬
‫األلوان واألصباغ ‪ ،‬ف@إن الل@ون الغ@الب فيه هو ه@ذا الل@ون ال@ذي جيعل لإلنس@ان وح@ده تق@ييم‬
‫األشياء ‪ ،‬وتص@@نيفها ‪ ،‬ووضع كل ش@@ىء منها ىف موض@@عه من اخلري والشر ‪ ،‬واحلسن والقبح‬
‫‪!..‬‬

‫والشر فى نظر اإلسالم ‪:‬‬


‫ّ‬ ‫الخير‬
‫ال حتفل الش @@ريعة اإلس @@المية ب @@النظر الفلس @@في ىف حق @@ائق األش @@ياء ‪ ،‬وال تعىن باجلدل‬
‫اللفظي حول ماهيتها ‪ ،‬ألن غاية هذه الشريعة ليست تربية امللكات‬
‫‪885‬‬

‫العقلية ‪ ،‬وال ختريج الفالس@@فة واحلكم@@اء ‪ ،‬وإمنا رس@@التها تق@@وم أساسا على تق@@ومي الس@@لوك ‪،‬‬
‫وهتذيب النفوس ‪ ،‬وإقامة جمتمعات إنسانية على مبادئ اخلري والعدل واإلحسان‪.‬‬
‫ومن هنا ‪ ،‬ال جند ىف الشريعة اإلسالمية تلك التعريفات اجلامعة املانعة ـ كما يقولون‬
‫واحلق والباطل ‪ ،‬واحلسن والق@ @ @ @ @@بيح ‪ ،‬وغري ذلك من الص@ @ @ @ @@ور اليت عىن‬ ‫ـ للخري والش@ @ @ @ @ ّ@ر ‪ّ ،‬‬
‫الفالسفة واألخالقي@@ون ‪ ،‬بتحليلها ‪ ،‬والتع@@رف على عناص@@رها ‪ ،‬ومجع الص@@فات املم@@يزة لكل‬
‫واحد منها ‪..‬‬
‫ف @@إذا ق @@ال الفالس @@فة واألخالقي @@ون ‪« :‬إن احلق هو ك @@ذا ‪ ،‬واخلري هو ك @@ذا ‪ ،‬واحلسن‬
‫ك@ @@ذا ـ مل جند ىف كت @ @@اب اهلل وال س@ @@نّة رس@ @@وله ق @ @@وال عن احلق ‪ ..‬ما ه@ @@و؟ واخلري ما ه@ @@و؟‬
‫واحلسن ما ه@@و؟ وإمنا جند دع@@وات إىل احلق ‪ ،‬واخلري ‪ ،‬واإلحس@@ان ‪ ،‬وإغ@@راء هبا ‪ ،‬وحتريضا‬
‫عليها ‪ ،‬ورص@@دا للج@@زاء احلسن ملن اس@@تقام عليها ‪ ..‬ك@@ذلك جند عكس ه@@ذا ‪ ،‬إزاء كل ما‬
‫هو باطل ‪ ،‬وشر ‪ ،‬وخبيث!‪.‬‬
‫ومل يكن إغف @@ال الش @@ريعة اإلس @@المية لرسم ح @@دود الفض @@ائل ‪ ،‬وتق @@ومي األخالق عن‬
‫هتوين لشأهنا ‪ ،‬أو استصغار خلطرها ‪ ..‬وكيف وغاية الش@ريعة ومقص@دها أوال وأخ@ريا ‪ ،‬إمنا‬
‫@ىب الك @@رمي‬
‫هو تق @@ومي األخالق ‪ ،‬وتربيتها ‪ ،‬وإقامتها على منهج س @@ليم مس @@تقيم! وكيف والن @ ّ‬
‫جيعل عن @ @ @@وان رس @ @ @@الته ‪ ،‬وحيصر مهمة نبوته ىف ه @ @ @@ذا اجملال وح @ @ @@ده ‪ :‬فيق @ @ @@ول ص @ @ @@لوات اهلل‬
‫وسالمه عليه ‪« :‬إمنا بعثت ألمتم مكارم األخالق»؟‬
‫فليس عن هتوين إذن من ش@ @@أن األخالق ‪ ،‬وال عن استص@ @@غار خلطرها ‪ ،‬ه@ @@ذا االجتاه‬
‫ال@ @ @ @@ذي اجتهت إليه الش@ @ @ @@ريعة ىف إغفاهلا البحث عن «ماهي@ @ @ @@ة» األخالق ‪ ..‬إذ ك@ @ @ @@ان مقصد‬
‫الشريعة وهدفها ـ كما قلنا ـ هو اجلانب العملي‬
‫‪886‬‬

‫لألخالق ‪ ..‬اجلانب الس @ @@لوكى ‪ ،‬ال @ @@ذي ال يغىن ىف تعديله وتقوميه ‪ ،‬اجلدل الفلس @ @@في ‪ ،‬أو‬
‫@مو النفسي‬‫النظر املنطقي ‪ ،‬وإمنا الذي يرجى منه النفع ىف هذا املقام ‪ ،‬هو إثارة مش@@اعر الس ّ‬
‫ىف اإلنس @@ان ‪ ،‬ووص @@له ب @@اجملتمع اإلنس @@اىن بص @@الت األخ @@وة ‪ ،‬واحلن @@ان والرمحة ‪ ..‬ف @@ذلك هو‬
‫الذي يقيم من اإلنسان إنسانا صاحلا ىف بناء جمتمع صاحل‪.‬‬
‫حيض على األعم@ @ @ @@ال الص@ @ @ @@احلة ويزكيها ‪ ،‬ويرفع من@ @ @ @@ازل أهلها ‪،‬‬ ‫ف@ @ @ @@القرآن الك@ @ @ @@رمي ّ‬
‫وبعدهم جبنات اهلل ورضوانه عليها ‪..‬‬
‫َّ ِ‬
‫ي@@ذكر الق@@رآن الك@@رمي «التق@@وى» ىف مواضع كث@@رية ‪ ،‬مثل قوله تع@@اىل ‪( :‬يا أ َُّي َها الذ َ‬
‫ين‬
‫صـلِ ْح لَ ُك ْم أَ ْعمــالَ ُك ْم َو َيغْ ِفـ ْـر لَ ُك ْم ذُنُــوبَ ُك ْم) ‪ 70( ..‬ـ‬ ‫ِ‬
‫آمنُــوا َّات ُقــوا اهللَ َوقُولُــوا َقـ ْـوالً َسـديداً يُ ْ‬
‫َ‬
‫‪ : 71‬األحزاب)‬
‫فما هو العمل الص@ @@احل؟ وما هى التق@ @@وى؟ وما الق@ @@ول الس@ @@ديد؟ ‪ ..‬كل ذلك مل يشأ‬
‫القرآن الكرمي أن يعرض له بالكشف عن «ماهيته» ورسم حدوده ‪..‬‬
‫نعم ‪ ،‬هن@ @@اك أم@ @@ور واض@ @@حة ص@ @@رحية ىف ب@ @@اب اخلري ‪ ،‬كما أن هن@ @@اك أم@ @@ورا واض@ @@حة‬
‫ص@ @ @@رحية ىف ب@ @ @@اب الشر ‪ ..‬ولكنها على ه@ @ @@ذا الوض@ @ @@وح ‪ ،‬ومع تلك الص@ @ @@راحة ‪ ،‬ال تقع من‬
‫النف@@وس موقعا واح@@دا ‪ ..‬ف@@إذا اتفقت النف@@وس على أن الع@@دل مجيل ‪ ..‬فإنه ىف نفس عمر بن‬
‫اخلطاب مثال ‪ ،‬غريه ىف نفس كثري من الن@@اس ‪ ..‬هو خري ال شك فيه ‪ ..‬ت@@دعو إليه الش@@ريعة‬
‫وت @@أمر به ‪ ،‬وت @@ثيب عليه ‪ ..‬ولكنها ال تس @@تطيع أن تض @@عه ىف معادلة جربي @@ة‪ .‬أو حتلله حتليال‬
‫كيماويا ‪ ..‬إنه الع@ @ @ @ @ @ @ @ @@دل ‪ ،‬وكفى! وإنه اخلري وكفى! «احلالل بنّي ‪ ،‬واحلرام بنّي ‪ ،‬وبينهما‬
‫أم @@ور مش @@تبهات» هك @@ذا يق @@ول الرس @@ول الك @@رمي ‪ ..‬وليست الش @@بهة ىف احلالل ىف ذاته ‪ ،‬أو‬
‫احلرام ىف داته ‪ ،‬وإمنا تقع الش @ @@بهة ىف املالبس @ @@ات اليت تالبس احلالل أو احلرام ‪ ،‬وىف الوضع‬
‫الذي يكون عليه اإلنسان إزاء ما هو حالل وحرام ‪@!..‬‬
‫أترتك األمور إذن بال ضابط هكذا؟ ‪..‬‬
‫‪887‬‬

‫كال ‪ ..‬ومن قال هذا؟‬


‫إن ربّ@ @ @@ان الس@ @ @@فينة إذا أدار حمركها أو ف@ @ @@رد قلوعها ‪ ،‬هو هالك ال حمالة ‪ ،‬إذا هو مل‬
‫يع@ @@رف الوجهة اليت يتجه إليها ‪ ،‬وإذا مل يكن معه «بوص@ @@لة» أو ما يش@ @@بهها ‪ ،‬ليس@ @@تعني هبا‬
‫على معرفة الش@@رق والغ@@رب ‪ ،‬والش@@مال واجلن@@وب ‪ ،‬وإذا مل يكن معه «بوص@@لة» أخ@@رى أو‬
‫مهاب الرياح!‬
‫يستدل هبا على ّ‬ ‫ّ‬ ‫ما يشبهها ‪ ،‬يقيس هبا األعماق ‪ ،‬أو‬
‫واإلنس@@ان هو س@@فينة ىف حميط ه@@ذه احلي@@اة ‪ ..‬ربّانه العقل ‪ ،‬وقلوعه النفس ‪ ،‬ونزعاته‬
‫وأهواؤه ‪ ،‬هى اليت متأل قلوعها وتدفعها ‪!..‬‬
‫ال بد إذن من «بوصلة» تضبط سريه ‪ ،‬وحتدد وجهته ‪..‬‬
‫علوا كب@ريا ‪ ..‬وكيف‬ ‫وما غفلت قدرة احلكيم العليم عن هذا ‪ ..‬تعاىل اهلل عن ذلك ّ‬
‫كل شىء خلقه ‪ ..‬مث هدى»؟‬ ‫‪ ،‬وهو الذي أعطى ّ‬
‫أدق «بوص@ @@لة» وأض@ @@بطها ‪ ..‬إهنا «القلب» ‪..‬‬ ‫لقد أودع اخلالق العظيم ىف اإلنس@ @@ان ّ‬
‫وحسبك بالقلب السليم «بوصلة» عاملة ىف سفينة احلياة!‬
‫لقد اعتمد اإلسالم على القلب ىف تقومي األخالق ‪ ،‬وىف التع@@رف على اخلري والشر ‪،‬‬
‫واحلسن والقبيح ‪ ..‬ووكل إليه الفصل ىف خري األمور وشرها ‪ ،‬وحسنها وقبيحها ‪..‬‬
‫إن القلب ىف نظر اإلس@ @@الم ‪ ،‬هو العني الباص@ @@رة ‪ ،‬اليت تكشف لإلنس@ @@ان مس@ @@الكه ‪،‬‬
‫واملعوج من طرقه ‪..‬‬
‫ّ‬ ‫وحتديد املستقيم‬
‫وىف الق @@رآن الك @@رمي آي @@ات كث @@رية تتجه إىل القلب وتتح @@دث إليه ‪ ..‬فيق @@ول س @@بحانه‬
‫ْب) (‪ : 37‬ق) ويقول‬ ‫ِ‬ ‫وتعاىل‪( :‬إِ َّن فِي ذلِ َ ِ‬
‫ك لَذ ْكرى ل َم ْن كا َن لَهُ َقل ٌ‬
‫‪888‬‬

‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ ِ‬


‫وب) (‪: 28‬‬ ‫وب ُه ْم بِذ ْك ِر اهلل ‪ ..‬أَال بِذ ْك ِر اهلل تَط َْمئ ُّن الْ ُقلُ ُ‬
‫آمنُوا َوتَط َْمئ ُّن ُقلُ ُ‬ ‫سبحانه ‪( :‬الذ َ‬
‫ين َ‬
‫الرعد)‪.‬‬
‫والرس@@ول الك@@رمي ‪ ،‬ين@ ّ@وه بش@@أن القلب ‪ ،‬ويكشف عن آث@@اره ىف اإلنس@@ان ‪ ،‬فيق@@ول ـ‬
‫ص@@لوات اهلل وس@@المه عليه ـ «أال وإن ىف اجلسد مض@@غة ‪ ،‬إذا ص@@احلات ص@@لح اجلسد كلّه ‪،‬‬
‫وإذا فسدت فسد اجلسد كلّه ‪ ..‬أال وهى القلب» ‪..‬‬
‫@رب ما‬
‫ويق @ @@ول الرس @ @@ول الك @ @@رمي ىف تعريف اخلري والشر ‪ ،‬وىف التعريف عليهما ‪« :‬ال @ @ ّ‬
‫@ردد ىف الص@@در ‪..‬‬ ‫اطم@@أنت إليه النفس واطم@@أن إليه القلب ‪ ،‬واإلمث ما ح@@اك ىف النفس ‪ ،‬وت@ ّ‬
‫استفت قلبك وإن أفتاك الناس وأفتوك» ‪..‬‬
‫اإلس@@الم إذن ‪ ،‬يع@@رتف ب@@اخلري والش@ ّ@ر ‪ ..‬ألهنما أم@@ران واقع@@ان ىف احلي@@اة ‪ ،‬يعيش@@ان ىف‬
‫الن @@اس ‪ ،‬ويعيش فيهما الن @@اس ‪ ..‬وقد ج @@اءت الش @@ريعة اإلس @@المية آم @@رة ب @@اخلري ‪ ،‬ناهية عن‬
‫شرا ‪ ..‬مث مجعت اخلري كله‬ ‫الشر ‪ ..‬وأشارت إىل أمور بذاهتا ع ّدهتا خريا ‪ ،‬وأخرى اعتربهتا ّ‬
‫ىف دائ@ @@رة واح@ @@دة هى «املع@ @@روف»@ وط@ @@وت الشر كله حتت حكم واحد ‪ ،‬هو «املنك@ @@ر» ‪:‬‬
‫يأمرهم باملعروف وينهاهم عن املنكر»‪.‬‬
‫ف@ @@اخلري هو «املع@ @@روف» أو وجه ب@ @@ارز من وج@ @@وه املع@ @@روف ‪ ،‬والشر هو املنكر ‪ ،‬أو‬
‫وجه كاحل من وجوه «املنكر» ‪..‬‬
‫والس@@ؤال هنا ـ وحنن ىف مع@@رض البحث عن اخلري والشر ـ إذا ك@@ان اخلري أم@@را حمم@@ودا‬
‫‪ ،‬ودع@ @@وة من دع@ @@وات الس@ @@ماء إىل لقائه ‪ ،‬والعمل به ـ فلم ك@ @@ان ه@ @@ذا الش@ @ ّ@ر؟ وما حكمة‬
‫وجوده؟‬
‫الشر موجود ‪ ..‬هذه حقيقة مسلّم هبا ‪ ،‬ال سبيل إىل إنكارها ‪ ،‬أو جتاهلها!‬ ‫ّ‬
‫الشر؟‬
‫ّأما ‪ ،‬ملا ذا وجد؟ وما حكمة وجوده؟ وهاّل حمضت احلياة للخري ‪ ،‬وخلصت ّ‬
‫‪..‬‬
‫‪889‬‬

‫أما هذا ‪ ،‬فهو الذي يدور حوله اخلالف ‪ ،‬ويكثر فيه اجلدل ‪..‬‬
‫وقد جتنب اإلسالم ـ منذ قام ـ إيقاظ هذه الفتنة ‪ ،‬فلم يط@رق باهبا من أية جهة ‪ ،‬ومل‬
‫يشر إليها من ق@ @ @ @@ريب أو بعيد ‪ ..‬واحلكمة ىف ه@ @ @ @@ذا ظ@ @ @ @@اهرة ‪ ..‬إذ ال ج@ @ @ @@دوى من أن يقيم‬
‫الشر علة أو علال ‪ ..‬إنه موج@@ود ‪ ..‬وكفى ‪« ..‬وحس@@بك من ش@ّ@ر مساعه»!‬ ‫اإلسالم لوجود ّ‬
‫‪ ..‬واحلزم كل احلزم ىف توقّيه ‪ ،‬ودفعه ‪ ،‬واخلالص منه ‪..‬‬
‫ينقض‬
‫إنه ملن الس@@فاهة الغليظة ‪ ،‬واخلس@@ران املبني ‪ ،‬أن ي@@رى اإلنس@@ان حيوانا يريد أن ّ‬
‫عليه ويفرتسه ‪ ،‬مث ال يطلب النج @@اة لنفسه ‪ ،‬بل يس @@تغرق ىف ت @@أمالت س @@خيفة ليجيب على‬
‫هذا السؤال ‪ :‬ما هذا احليوان املؤذى؟ ومل كان؟‬
‫مل يرد اإلسالم أن يسوق أتباعه إىل هذه املواقف اخلاسرة ‪ ..‬بل ص@@رفهم عنها ص@@رفا‬
‫‪ ،‬وخلّى بينهم وبني احلي@ @@اة خبريها وش@ @@رها ؛ بعد أن أراهم من@ @@ازل اخلري ومثراته ‪ ،‬وأطمعهم‬
‫فيه ‪ ،‬ودع@ @ @ @@اهم إليه ‪ ،‬مث أراهم مزالق الش@ @ @ @ ّ@ر ‪ ،‬ومغباته ‪ ،‬وخ@ @ @ @ ّ@وفهم منه ‪ ،‬وتوع@ @ @ @@دهم على‬
‫االتصال به ‪..‬‬
‫أليس ذلك هو النهج القاصد ‪ ،‬والطريق املستقيم ىف تقدمي األخالق وتربية النفوس؟‬
‫لقد ك@@ان ذلك هو طريق اإلس@@الم ‪ ،‬وك@@ان ذلك هو موقفه حي@@ال ه@@ذه القض@@ية ‪ ..‬مل‬
‫يوقد نارها ‪ ،‬ومل يلق هلا وقودا ‪..‬‬
‫ولكن حني اتصل املس@لمون ب@األمم اجملاورة ‪ ،‬وعرف@@وا ش@يئا من فلس@فة اليون@@ان واهلند‬
‫‪ ،‬وش @@يئا من معتق @@دات الف @@رس ‪ ،‬حتركت ىف نفوس @@هم ه @@ذه الفتنة «اخلال @@دة» ‪ ..‬ملا ذا وجد‬
‫الشر؟‬
‫وقد فتحت اإلجابة على هذا السؤال باب فتنة ‪ ،‬أخذ يتسع شيئا فشيئا ‪،‬‬
‫‪890‬‬

‫حىت دخله املس@ @ @@لمون مجيعا ‪ ،‬وانقس@ @ @ @@موا إىل ف@ @ @ @@رق وطوائف ‪ ،‬ولكل فرقة مقوالهتا ولكل‬
‫طائفة حججها ‪ ..‬حىت كان من ذلك اجلدل حمصول وفري من الكالم!!‬
‫(‪.)1‬‬
‫وال نريد أن نعرض هلذا اجلدل ‪ ،‬فهو مبسوط ىف كتب علم الكالم‬
‫يوجه اهتمامه أوال وقبل كل ش@@ىء ‪،‬‬ ‫حنب أن نق@@رره هنا ‪ ..‬هو أن اإلس@@الم ّ‬ ‫وال@@ذي ّ‬
‫إىل جماه@ @@دة الشر ال@ @@ذي يعيش ىف جمال الن@ @@اس فعال ‪ ،‬وإىل حماولة التغلب عليه ‪ ،‬واالنتص @@ار‬
‫للخري ‪ ،‬واالحني @@از إىل جانبه ‪ ..‬ف @@ذلك هو اجلدير باإلنس @@ان ‪ ،‬من حيث هو إنس @@ان ‪ ،‬حيرتم‬
‫عقله ‪ ،‬ويس @@تهدى بقلبه ‪ ،‬ومن حيث هو ك @@ائن اجتم @@اعي ‪ ،‬يعيش ىف اجملتمع اإلنس @@اىن ‪..‬‬
‫ومن خريه وخري اجلماعة أن يكون عضوا ىف هذا اجملتمع الكبري ‪ ،‬يسعد بسعادته ‪ ،‬ويش@@قى‬
‫بشقائه ‪..‬‬
‫إن اإلسالم ‪ ،‬ال يضع الش@ ّ@ر ىف جمال الع@@دم بالنس@@بة للخري ‪ ،‬بل ي@@راه كيانا قائما بذاته‬
‫إزاء اخلري ‪ ..‬فللشر ـ ىف نظر اإلس @ @@الم ـ ذاتية قائمة ىف احلي @ @@اة ‪ ،‬وعلى الن @ @@اس أن يأخ @ @@ذوا‬
‫حذرهم منه ‪ ،‬وأن يعملوا له حسابا ىف موازنة األمور اليت تعرض هلم‪.‬‬
‫يهون@ @@وا من ش@ @@أن الش@ @ ّ@ر ‪ ،‬وأن جيعل@ @@وا‬
‫لقد ح@ @@اول كثري من مفك@ @@رى@ اإلس@ @@الم ‪ ،‬أن ّ‬
‫وجوده ىف احلياة ‪ ،‬شيئا عارضا ‪ ،‬جيىء ىف ثنايا اخلري!‬
‫@ربئوا ص@@نع اهلل من ه@@ذا النقص ‪ ،‬ال@@ذي يلحق ب@@الوجود ‪ ،‬إذا‬ ‫وك@@أهنم أرادوا هبذا أن ي@ ّ‬
‫الشر قد جنم فيه!!‬
‫قيل إن ّ‬
‫وه@ @@ذا دف@ @@اع غري موفق ‪ ..‬إذ أنه ينكر أم@ @@را واقعا يعيش ىف الن@ @@اس ‪ ..‬وهو الش@ @ ّ@ر ‪..‬‬
‫شر ال يرتفع‬ ‫وكان خريا من هذا الدفاع أن يعرتفوا بالشر ‪ ..‬ولكنه ّ‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬انظر ىف هذا كتابنا «القضاء والقدر ‪ ..‬بني الفلسفة@ والدين»‪.‬‬
‫‪891‬‬

‫إىل أك@@ثر من ض@@رورات احلي@@اة ‪ ..‬احلي@@اة اإلنس@@انية ‪ ،‬اليت يعترب الش@ ّ@ر فيها عنص@@را من العناصر‬
‫العاملة ىف دفع عجلة احلياة ‪ ،‬ودوران دوالب العمل فيها ‪..‬‬
‫يقول اجلاحظ ‪« :‬اعلم أن املص@@لحة ىف ابت@@داء أمر ال@@دنيا إىل انقض@@اء م@ ّدهتا ‪ ،‬والك@@ثرة‬
‫بالقلّة ‪ ..‬ولو ك @ @ @ @@ان الش@ @ @ @ ّ@ر ص @ @ @ @@رفا ‪ ،‬هللك اخللق ‪ ،‬أو ك@ @ @ @@ان اخلري حمضا لس @ @ @ @@قطت احملنة ‪،‬‬
‫وتعطلت أسباب الفكرة ‪..‬‬
‫ومع ع @@دم الفك @@رة يك @@ون ع @@دم احلكمة ‪ ،‬ومىت ذهب التخيري ‪ ،‬ذهب التمي @@يز ‪ ،‬ومل‬
‫يكن للع@ @ @ @@امل تثبت وتوقف وتعلم ‪ ،‬ومل يكن علم ‪ ،‬وال يع@ @ @ @@رف ب@ @ @ @@اب الت@ @ @ @@دبري ‪ ،‬وال دفع‬
‫املض @ @ @ @ ّ@رة ‪ ،‬وال اختالف املنفعة ‪ ،‬وال صرب على مك @ @ @ @@روه ‪ ،‬وال ش @ @ @ @@كر على حمب @ @ @ @@وب ‪ ،‬وال‬
‫تفاضل ىف ج@@انب ‪ ،‬وال تن@@افس ىف درجة ‪ ،‬وبطلت فرحة الظفر ‪ ،‬وع@ ّ@زة الغلبة ‪ ..‬ومل يكن‬
‫ذل الباطل ‪ ،‬وموفّق جيد ب@ @ @ @@رد‬ ‫احلق ‪ ،‬ومبطل جيد ّ‬ ‫حمق جيد ع@ @ @ @ @ ّ@ز ّ‬
‫على ظهرها (أي ال@ @ @ @ @@دنيا) ّ‬
‫تتشعبها األطماع (‪.»)1‬‬‫اليقني ‪ ..‬ومل يكن للنفوس آمال ‪ ،‬ومل ّ‬
‫فاجلاحظ هنا يكشف عن الدور ‪ ،‬الذي يؤديه التفاوت بني األمور ‪ ،‬ىف امتداد جمال‬
‫التنافس بني الناس ‪..‬‬
‫إن االختالف بني األش@@ياء ىف جمال اخلري والش@ ّ@ر ‪ ،‬هو ال@@ذي ميأل كل ف@@راغ ىف احلي@@اة‬
‫‪ ،‬ويفسح لكل إنس@ @ @ @ @@ان مكانا ىف قافلة احلي@ @ @ @ @@اة ‪ ،‬حسب اس@ @ @ @ @@تعداده ‪ ،‬ونزعانه ‪ ..‬وهك@ @ @ @@ذا‬
‫تتحرك احلياة كلها ‪ ،‬ىف آفاقها الصاعدة والنازلة ‪ ،‬على السواء!‪.‬‬
‫والذي ينظر إىل احلياة نظرة فردية جانبية ‪ ،‬يرى هذا التفاوت بني الناس‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬احليوان ‪ :‬للجاحظ ‪ ..‬جزء ‪ 1 :‬ص ‪.96 :‬‬
‫‪892‬‬

‫وأوض @@اعهم ىف ه @@ذه احلي @@اة ‪ ..‬ف @@ريى قمما عالية ‪ ،‬بينما ي @@رى س @@فوحا ‪ ،‬ومنح @@درات ‪ ،‬بل‬
‫وحف@ @@را ‪ ..‬ولكنه إذا نظر إىل احلي@ @@اة عامة ش@ @@املة ‪ ،‬مل ير إال وح@ @@دة منتظمة ‪ ،‬وإاّل س@ @@طحا‬
‫مستويا ‪ ،‬ال جنود فيه ‪ ،‬وال منح@@درات ‪ ..‬كال@@ذى ينظر من ط@@ائرة حملّقة ىف آف@@اق الس@@ماء ‪،‬‬
‫إىل مدينة واسعة األرجاء ‪ ..‬إنه يرى دورها وقصورها ‪ ،‬وأكواخها ‪ ،‬ونواطح س@حبها ـ ىف‬
‫مستوى واحد ‪ ..‬كسطح أملس ‪ ،‬ال فرق بني األكواخ والقصور ‪..‬‬
‫يقول الفيلسوف األمريكى «بوردن باركرباون» ‪« :‬إن أفراد الناس يؤثّر بعضهم ىف‬
‫التضاد بينهم ‪ ،‬وه@ذا االنفص@ال والتج@زؤ ‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫بعض ‪ ،‬وقد يعارض بعضهم بعضا ‪ ..‬لكن هذا‬
‫@ادا ‪ ،‬إن‬
‫ي @@ذوب كله ىف عنصر واحد حيويهم مجيعا ‪ ..‬وما قد يب @@دو ىف ع @@امل اجلزئي @@ات تض @ ّ‬
‫هو ىف حقيقة األمر إال اتس@@اق ‪ ،‬لو نظر إليه من أعلى نظ@@رة ت@@رى تفص@@يالت الوج@@ود كلها‬
‫كل واحد»‪.‬‬‫واحدة ىف ّ‬
‫فه@@ذا الفهم للحي@@اة ‪ ،‬ال ينكر وج@@ود الش@ ّ@ر وذاتيته ىف واقع احلي@@اة اإلنس@@انية ‪ ،‬ولكنه‬
‫حني يرتفع ب @@النظر عن احلي @@اة اإلنس @@انية الفردية ‪ ،‬وعن مس @@توى ه @@ذه األرض ‪ ،‬ال ي @@رى إال‬
‫عاملا مشرقا ‪ ،‬يفيض باحلسن واجلمال‪.‬‬
‫حواسنا ‪ ،‬ومش@@اعرنا ‪ ،‬وم@@داركنا ‪ ،‬مض@بوطة على مس@توى ه@ذا الوج@ود األرضى‬ ‫إن ّ‬
‫@اد ‪ ،‬والتعاند ‪ ،‬ال @ @@ذي ن @ @@راه ـ هو مما يقتض@ @@يه‬
‫ال @ @@ذي نعيش فيه ‪ ..‬وه @ @@ذا التن @ @@اقض ‪ ،‬والتض @ @ ّ‬
‫وجودنا ‪ ،‬وتولده حاجاتنا ‪ ،‬وحتققه مدركاننا وحواسنا‪.‬‬
‫ويق@@ول اجلاحظ ‪« :‬وأظنك ممن ي@@رى الط@@اووس ‪ ،‬أك@@رم على اهلل من الغ@@راب ‪ ،‬وأن‬
‫أحب إىل اهلل من ال @@ذئب ‪ ..‬فإمنا ه @@ذه أم @@ور ّفرقها اهلل اهلل تع @@اىل ىف عي @@ون الن @@اس ‪،‬‬ ‫الغ @@زال ّ‬
‫وميّزها ىف طبائع العباد ‪ ،‬فجعل بعضها أقرب هبم‬
‫‪893‬‬

‫شبها ‪ ،‬وجعل بعضها إنسيّا ‪ ،‬وجعل بعضها وحشيّا ‪ ،‬وبعضها عاديا ‪ ،‬وبعضها قاتال ‪..‬‬
‫@درة واخلرزة ‪ ،‬والنم @ @@رة ‪ ،‬واجلم @ @@رة ‪ ..‬فال ت @ @@ذهب إىل ما تريك العني ‪،‬‬ ‫وك @ @@ذلك ال @ @ ّ‬
‫واذهب إىل ما يراك العقل ‪..‬‬
‫«ولألم@ @@ور حكم ظ@ @@اهر للح@ @@واس ‪ ،‬وحكم ب@ @@اطن للعق@ @@ول ‪ ..‬والعقل هو احلجة ‪..‬‬
‫وقد علمنا أن خزنة الن @ @@ار من املالئكة ‪ ،‬ليس @ @@وا ب@ @ @@دون خزنة اجلنة ‪ ،‬وأن ملك املوت ليس‬
‫دون ملك السحاب ‪ ،‬وإن أتانا بالغيث ‪ ،‬وجلب احلياة» (‪.)1‬‬
‫وال @ @ @ @ @ @@ذي يعنينا من ه @ @ @ @ @ @@ذا الكالم ‪ ،‬أن املوج @ @ @ @ @ @@ودات إمنا تأخذ كيفيتها على حسب‬
‫@ح ‪ ،‬أننا نكيّف املوج@ @ @ @ @ @ @@ودات حسب وقوعها على حواس@ @ @ @ @@نا‬ ‫م@ @ @ @ @ @ @@دركاتنا ‪ ،‬أو مبعىن أص@ @ @ @ @ @ @ ّ‬
‫ومدركاتنا ‪..‬‬
‫وإذا ك@ @@ان اإلس@ @@الم قد جعل معي@ @@ار األخالق وتقوميها إىل بص@ @@رية اإلنس@ @@ان ‪ ،‬حيتكم‬
‫فيها إىل قلبه ‪ ،‬ويرجع فيها إىل ض@ @@مريه ـ فإنه مل يغفل عن اجلانب الض@ @@عيف ىف اإلنس@ @@ان ‪،‬‬
‫هتب من جهته األه@ @ @ @ @ @ @@واء الذاتية ‪ ،‬والش@ @ @ @ @ @ @@هوات الشخص@ @ @ @ @ @ @@ية ‪ ،‬فتثري‬ ‫ذلك اجلانب ال@ @ @ @ @ @ @@ذي ّ‬
‫االضطراب ىف كيان اإلنسان ‪ ،‬وتنذره باهلالك ال@@ذي يته@@دد س@@فينته الض@@اربة ىف حميط احلي@@اة‬
‫‪ ..‬ففى كيان اإلنسان نفس ّأمارة بالسوء ‪ ،‬ورغبات ّنزاعة إىل اهلوى ‪..‬‬
‫هلذا ك@@انت تع@@اليم اإلس@@الم ‪ ،‬موجهة إىل تقوية ه@@ذا اجلانب الض@@عيف ىف اإلنس@@ان ‪،‬‬
‫ودعمه بكل ما يض@ @ @ @@من لإلنس@ @ @ @@ان األمن والس@ @ @ @@الم من ه@ @ @ @@ذا اجلانب ‪ ،‬لو أنه اتبع وص@ @ @ @@ايا‬
‫الشريعة ‪ ،‬وعمل هبا‪.‬‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬احليوان ‪ ..‬للجاحظ‪ .‬جزء ‪ 1‬ص ‪.197‬‬
‫‪894‬‬

‫ومما جاء به اإلسالم ىف هذا ‪:‬‬


‫أوال ‪ :‬أنه جعل اخلري خ @ @ @ @ @@ريا ىف ذاته ‪ ،‬والش @ @ @ @ @ ّ@ر ش @ @ @ @ @ ّ@را ىف ذاته ‪ ،‬ومل يلتفت إىل تلك‬
‫التص@ @ @ @ @@ورات الذهنية الطبيعة الشر واخلري ‪ ،‬وإمنا نظر إليهما على أهنما كائن@ @ @ @ @@ان قائم@ @ @ @ @@ان ىف‬
‫احلياة ‪ ،‬يشعر هبما املرء ‪ ،‬وجيد آثارمها ىف نفسه ‪..‬‬
‫فالن@@ار إذ يس@@تدىفء اإلنس@@ان هبا خري ‪ ،‬والن@@ار إذ حترقه ‪ ،‬شر ‪ ..‬إهنا خري وخري حمض‬
‫ىف ح@ @@ال ‪ ،‬وشر وشر حمض ىف ح@ @@ال ‪ ..‬ه@ @@ذا ج@ @@انب اخلري ي@ @@راه اإلنس@ @@ان ىف األش@ @@ياء حني‬
‫يقيس @@ها إىل نفسه ‪ ،‬وحيكم عليها مبا تقتض @@يه مص @@لحته ‪ ..‬ومثل ه @@ذا ج @@انب الشر ‪ ،‬ال @@ذي‬
‫الذاتى أيضا‪.‬‬
‫يراه اإلنسان ىف األشياء ‪ ،‬حني يأخذها مبعياره الشخصي ّ‬
‫@نب اإلس@ @ @@الم جيعل اخلري والشر حمص@ @ @@ورين ىف دائ@ @ @@رة اإلنس@ @ @@ان الذاتية ‪ ،‬وىف‬ ‫وال حتس@ @ @ ّ‬
‫اجلانب احل ّس@ ّى من ه@ذه ال@دائرة ‪ ..‬أي ج@انب الل@ذة واألمل ‪ ..‬وكاّل ‪ ..‬فه@ذا ج@انب وإن مل‬
‫ينكره اإلسالم ىف تقومي اخلري والشر ‪ ،‬ألنه قائم ىف احلياة ‪ ،‬ال يستطيع الن@@اس االنفص@@ال عنه‬
‫املادى إىل اجلانب‬ ‫‪ ،‬إال أن اإلسالم ـ فوق هذا ـ يعلو هبذا اإلحساس ‪ ،‬فريتفع ‪ ،‬عن اجلانب ّ‬
‫ال@@روحي ‪ ،‬ومن ج@@انب الذاتية الفردية ىف اإلنس@@ان ‪ ،‬إىل ج@@انب اجملتمع اإلنس@@اىن من أض@@يق‬
‫حدوده إىل آخرها ‪ ،‬امتدادا واتساعا ‪ ..‬ومن أجل هذا ك@@انت دع@@وة اإلس@الم إىل التخفيف‬
‫من مت @@اع ال @@دنيا ‪ ،‬كما ك @@انت دعوته إىل الب @@ذل ‪ ،‬واإليث @@ار ‪ ،‬والتض @@حية ‪ ،‬مث ك @@ان وع @@ده‬
‫بالثواب والعقاب ‪ ،‬واجلنة والنار ىف اآلخرة‪.‬‬
‫نص على كثري‬ ‫وثانيا ‪ :‬كشف اإلس@@الم للن@@اس عن كثري من وج@@وه اخلري والش@ ّ@ر ‪ ،‬إذ ّ‬
‫من األم @@ور اعتربها خ@@ريا ‪ ،‬ودعا الن@@اس إليها ‪ ،‬وأم @@رهم هبا ‪ ،‬ووع @@دهم اجلزاء احلسن عليها‬
‫‪ ..‬كالص@@دق ‪ ،‬والصرب ‪ ،‬وب@ ّ@ر الوال@@دين ‪ ،‬واإلحس@@ان إىل الن@@اس ‪ ،‬ب@@القول والعمل ‪ ،‬والوف@@اء‬
‫بالعهد وأداء األمانات إىل أهلها ‪ ،‬واحلكم‬
‫‪895‬‬

‫بالع @@دل ‪ ..‬وكثري غري ه @@ذا ‪ ،‬مما ثبت عند الن @@اس خ @@ريه ‪ ،‬ووج @@دوا آث @@اره الطيبة ىف حي @@اهتم‬
‫السواء‪.‬‬
‫اخلاصة والعامة على ّ‬
‫وكما كشف اإلس@ @ @ @ @@الم عن كثري من وج@ @ @ @ @@وه اخلري ‪ ،‬كشف ك@ @ @ @ @@ذلك عن كثري من‬
‫وج@ @ @ @ @@وه الش@ @ @ @ @ ّ@ر ‪ ،‬كالقتل ‪ ،‬والس@ @ @ @ @@رقة ‪ ،‬واخلمر ‪ ،‬وامليسر ‪ ،‬والزنا ‪ ،‬والربا ‪ ،‬والك@ @ @ @ @@ذب ‪،‬‬
‫وش@ @ @@هادة ال @ @@زور ‪ ،‬والغيبة ‪ ،‬والنميمة ‪ ،‬والنف @ @@اق ‪ ،‬والغش ‪ ،‬والظلم والبغي ‪ ،‬والع@ @ @@دوان ‪،‬‬
‫وكثري غري هذا ‪ ،‬مما جاء به القرآن ‪ ،‬وبيّنته السنّة املطهرة ‪..‬‬
‫@تقر ىف‬‫وال شك أن اإلس @@الم إذ يكشف عن وج @@وه اخلري والشر ‪ ،‬فإمنا ليؤكد ما اس @ ّ‬
‫ض@ @@مري الن@ @@اس ‪ ،‬وما وقع لعق@ @@وهلم وقل@ @@وهبم من ه@ @@ذه الوج@ @@وه كلها ‪ ،‬وهبذا تلتقى ىف قلب‬
‫املس@@لم كلمة الس@@ماء ‪ ،‬مع منطق العقل ‪ ،‬وواقع احلي@@اة ‪ ..‬فيقبل على اخلري ‪ ،‬ويعيش معه ‪،‬‬
‫الشر ‪ ،‬وحياذر االتصال به!‬‫وينأى عن ّ‬
‫وإنه ال حجة ل@ @@ذى عقل على أن اهلل س@ @@بحانه هو ال@ @@ذي أوجد الش@ @ ّ@ر ‪ ،‬كما أوجد‬
‫اإلنس@ @@ان ال@ @@ذي يتعامل معه ‪ ،‬وإذن فال حياسب على لق@ @@اء ش@ @@ىء كتب عليه أن يلق@ @@اه ـ ال‬
‫حجة ل@ @ @@ذى عقل على ه@ @ @@ذا ‪ ،‬فإنه كما أوجد اهلل الش@ @ @ ّ@ر ‪ ،‬أوجد اخلري ‪ ،‬مث دعا إىل اخلري ‪،‬‬
‫وح@ @ ّذر من الش @ ّ@ر ‪ ،‬وجعل لإلنس @@ان عقال ينص @@رف به إىل اخلري والش @ ّ@ر‪ .‬مث جعل للخري أث @@را‬
‫طيبا ىف عاجل اإلنس @@ان وآجله ‪ ،‬وجعل للشر أث @@را س @@يئا ىف عاجله وآجله ‪ ..‬ف @@إذا انص @@رف‬
‫اإلنس @@ان عما ينفعه إىل ما يض @ ّ@ره ‪ ،‬وآثر ما يس @@وؤه على ما يس @ ّ@ره ‪ ،‬فهو ال @@ذي جلب على‬
‫نفسه ما جلب من مكروه ‪ ،‬ألنه هو الذي آثره ‪ ،‬ورضى به!‬
‫إن احلي @@اة خبريها وش @@رها ‪ ،‬أش @@به مبائ @@دة ممدودة ‪ ،‬عليها أل @@وان من األطعمة ‪ ،‬بعض @@ها‬
‫وينميه ‪ ،‬وبعض @@ها خ @@بيث يعطب اجلسم ويفس @@ده‪ .‬وعلى كل ل @@ون من‬ ‫طيب ‪ ،‬يفيد اجلسم ّ‬
‫ألوان الطعام الفتة حتدد صفته ‪ ،‬وتكشف عن حقيقته ‪ ،‬وأثره‬
‫‪896‬‬

‫فيمن يتناوله ‪ ..‬وليس هذا فحسب ‪ ،‬بل إنه يقوم على هذه املائ@@دة ناصح أمني ‪ ،‬ي@@دعو إىل‬
‫َّاس ُكلُـ ـ ـ ـ ــوا ِم َّما فِي‬
‫األكل من الطيب ‪ ،‬وحيذر من م@ @ @ @ @ @ @ ّد األي@ @ @ @ @ @@دى إىل اخلبيث ‪( :‬يا أ َُّي َها الن ُ‬
‫وات َّ ِ‬ ‫ض حالالً طَيِّباً ‪ ..‬وال َتتَّبِعوا ُخطُ ِ‬
‫ين) (‪ : 168‬البقرة)‬ ‫الش ْيطان ‪ ..‬إِنَّهُ لَ ُك ْم َع ُد ٌّو ُمبِ ٌ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫اأْل َْر ِ َ‬
‫على أنه ليس هلذا الناصح أن ميسك بأي@ @ @ @ @@دى اآلكلني على ه@ @ @ @ @@ذا الطع@ @ @ @ @@ام أو ذاك ‪( :‬بَـ ـ ـ ـ ِـل‬
‫ِ ِ‬ ‫ِِ ِ‬
‫ص ـ َر‬
‫ـاء ُك ْم بَصــائ ُر م ْن َربِّ ُك ْم فَ َم ْن أَبْ َ‬‫اإْلِ نْســا ُن َعلى َن ْفس ـ ـه بَص ـ َيرةٌ) (‪ : 14‬القيام@@ة) ‪( ..‬قَ ـ ْد جـ َ‬
‫فَلَِن ْف ِس ِه َو َم ْن َع ِم َي َف َعلَْيها) (‪ : 104‬األنعام) ‪..‬‬
‫إن اإلس@ @@الم ليح@ @@رتم اإلنس@ @@ان ‪ ،‬ويرفع ق@ @@دره ‪ ،‬ويعلى منزلته ‪ ،‬وخيرج به عن دائ@ @@رة‬
‫الطفولة إىل جمال الرشد ‪ ،‬ومحل املسئولية ‪ ..‬وقد أم ّده اإلسالم بأمداد الرعاية واهلداية ‪ ،‬مبا‬
‫بعث من رس @@ول ك @@رمي ‪ ،‬حيمل بني يديه آي @@ات اهلل وكلماته وض @@يئة مش @@رقة ‪ ،‬جتلو غي @@اهب‬
‫ال@ @ @ ّ@ريب ‪ ،‬وتكشف وج @ @@وه املنكر ‪ ،‬ف @ @@احلالل بنّي واحلرام بنّي ‪ ..‬وما على اإلنس@ @ @@ان إال أن‬
‫@وى ‪ ..‬طريق اخلري ‪ ،‬واحلق ‪ ،‬واإلحس @@ان‬ ‫جيمع رأيه ‪ ،‬وحيزم أم @@ره على اختي @@ار الطريق الس @ ّ‬
‫‪ ..‬واجتناب الطرق املليئة باملعاثر واملهالك ‪ ..‬طرق الشر ‪ ،‬والبغي ‪ ،‬والعدوان ‪..‬‬
‫أما التحكك باملماحك@@ات والسفس@@طات ‪ ،‬فج@@دل عقيم ال يلد إاّل الب@@وار واهلالك ‪..‬‬
‫الشر قبل أن يقع فيه‪.‬‬ ‫والعاقل من دان نفسه قبل أن يدان ‪ ،‬وتوقّى ّ‬
‫____________________________________‬

‫اآليات ‪ 36( :‬ـ ‪)47‬‬


‫ك إِالَّ ُه ُزواً أَه َذا الَّ ِذي يَ ْذ ُك ُر آلِ َهتَ ُك ْم َو ُه ْم بِـ ِـذ ْك ِر‬ ‫آك الَّ ِذين َك َفروا إِ ْن يت ِ‬
‫َّخ ُذونَ َ‬ ‫َ‬ ‫َ ُ‬ ‫( َوإِذا َر َ‬
‫الر ْحم ِن ُه ْم كافِ ُرو َن (‪ُ )36‬خلِ َق اإْلِ نْسا ُن‬
‫َّ‬
‫‪897‬‬

‫ِِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬


‫ين(‬ ‫م ْن َع َج ٍل َسأُ ِري ُك ْم آياتي فَال تَ ْسَت ْعجلُون (‪َ )37‬و َي ُقولُو َن َمتى هـ َذا ال َْو ْعـ ُد إِ ْن ُك ْنتُ ْم صــادق َ‬
‫َّار َوال َع ْن ظُ ُهـ ــو ِر ِه ْم َوال ُه ْم‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫ين ال يَ ُك ُّفو َن َع ْن ُو ُجـ ــوه ِه ُم الن َ‬ ‫ين َك َفـ ـ ُـروا ح َ‬ ‫‪ )38‬لَ ـ ـ ْـو َي ْعلَ ُم الذ َ‬
‫صـ ُرو َن (‪ )39‬بَـ ْـل تَـأْتِي ِه ْم َبغْتَـةً َفتَْب َه ُت ُه ْم فَال يَ ْسـتَ ِطيعُو َن َردَّها َوال ُه ْم ُي ْنظَـ ُـرو َن (‪َ )40‬ولََقـ ِـد‬ ‫ُي ْن َ‬
‫ين َسـ ِخ ُروا ِم ْن ُه ْم ما كــانُوا بِـ ِـه يَ ْسـَت ْه ِز ُؤ َن (‪ )41‬قُـ ْـل َم ْن‬ ‫ـك فَحـ َ ِ َّ ِ‬
‫ـاق بالذ َ‬ ‫ئ بُِر ُسـ ٍل ِم ْن َق ْبلِـ َ‬ ‫اس ُت ْه ِز َ‬‫ْ‬
‫ضـ ـو َن (‪ )42‬أ َْم ل َُه ْم آلِ َهـ ـ ةٌ‬‫يَ ْكلَ ـ ُـؤ ُك ْم بِاللَّْي ـ ِـل َوالنَّه ــا ِر ِم َن ال ـ َّـر ْحم ِن بَ ـ ْـل ُه ْم َع ْن ِذ ْـكـ ِر َربِّ ِه ْم ُم ْع ِر ُ‬
‫تَمنعهم ِمن دونِنا ال يس ـت ِطيعو َن نَص ـر أَْن ُف ِس ـ ِهم وال هم ِمنَّا يص ـحبو َن (‪ )43‬ب ــل متَّعنا هـ ُـؤ ِ‬
‫الء‬ ‫ََْ ْ‬ ‫ْ َ ُ ْ ُ ْ َُ‬ ‫َْ‬ ‫ََْ ُ‬ ‫َْ ُُ ْ ْ ُ‬
‫صـ ـ ـها ِم ْن أَطْرافِها أَ َف ُه ُم‬ ‫ـال َعلَْي ِه ُم الْعُ ُمـ ـ ُـر أَفَال َيـ ـ َـر ْو َن أَنَّا نَـ ـ ـأْتِي اأْل َْر َ‬
‫ض َن ْن ُق ُ‬ ‫ـاء ُه ْم َحتَّى ط ـ ـ َ‬‫َوآب ـ ـ َ‬
‫ُّعاء إِذا ما ُي ْن ـ َذ ُرو َن (‪َ )45‬ولَئِ ْن‬ ‫الص ُّم الد َ‬ ‫الْغالِبُو َن (‪ )44‬قُ ْل إِنَّما أُنْ ِذ ُر ُك ْم بِال َْو ْح ِي َوال يَ ْس َم ُع ُّ‬
‫ضـ ـ ـ ُع ال َْمـ ــوا ِز َ‬
‫ين‬ ‫ين (‪َ )46‬ونَ َ‬ ‫ِِ‬
‫ُن يا َو ْيلَنا إِنَّا ُكنَّا ظ ـ ــالم َ‬ ‫ك لََي ُقـ ــول َّ‬ ‫ح ـ ـ ةٌ ِم ْن َعـ ـ ِ‬
‫ـذاب َربِّ َ‬ ‫سـ ـ ـ ْت ُه ْم َن ْف َـ‬
‫َم َّ‬
‫ـال َحبَّ ٍة ِم ْن َخـ ْـر َد ٍل أََت ْينا بِها َو َكفى بِنا‬
‫س َشـ ْيئاً َوإِ ْن كــا َن ِمثْقـ َ‬ ‫ط لِيوِم ال ِْق ِ‬ ‫ِ‬
‫يامــة فَال تُظْلَ ُم َن ْف ٌ‬
‫َ‬ ‫الْق ْس َ َ ْ‬
‫ين) (‪)47‬‬ ‫ِِ‬
‫حاسب َ‬
‫____________________________________‬
‫التفسري ‪:‬‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫ك إِاَّل ُهـ ـ ُـزواً ‪ ،‬أَه ـ ـ َذا الَّ ِذي يَ ـ ـ ْذ ُك ُر آلِ َهتَ ُك ْم َو ُه ْم‬ ‫ين َك َفـ ـ ُـروا إِ ْن َيت ِ ـ‬
‫َّخـ ُذونَ َ‬ ‫(وإِذا ر َ َّ ِ‬
‫آك الذ َ‬ ‫َ َ‬
‫الر ْحم ِن ُه ْم كافِ ُرو َن) ‪..‬‬‫بِ ِذ ْك ِر َّ‬
‫@يب ـ ص @ @@لوات اهلل وس @ @@المه عليه ـ االس @ @@تهزاء به ‪،‬‬ ‫مما ك @ @@ان يلقى به املش @ @@ركون الن @ @ ّ‬
‫والس @@خرية منه ‪ ،‬ورميه بق @@وارص الكلم ‪ ،‬وفحش الق @@ول ‪ ..‬ف @@ذلك هو س @@الح من أس @@لحة‬
‫اجلاهلني ‪ ،‬ال @ @@ذين ال حيس @ @@نون غري الس @ @@فاهة والفحش ‪ ،‬حني تقه@ @ @@رهم احلجة ‪ ،‬وخيرس @ @@هم‬
‫الربهان ‪..‬‬
‫‪898‬‬

‫ك إِاَّل ُهـ ُـزواً ‪« )..‬إن» هنا‬ ‫َّخـ ُذونَ َ‬ ‫ين َك َفـ ُـروا إِ ْن َيت ِـ‬ ‫ـ وىف قوله تع @@اىل ‪( :‬وإِذا ر َ َّ ِ‬
‫آك الذ َ‬ ‫َ َ‬
‫مبعىن «ما» النافية ‪ ،‬أي ما يتخذونك إال ه@زوا ‪ ..‬وه@ذا هتديد هلؤالء الك@افرين ‪ ،‬وفضح ملا‬
‫@ىب‬
‫ي @ @ @@دور ىف رءوس@ @ @@هم ‪ ،‬وتتلمظ به ش@ @ @@فاههم ‪ ،‬وتتغ@ @ @@امز به عي@ @ @@وهنم ‪ ..‬إهنم إذا رأوا الن @ @ ّ‬
‫حتركت ه@ @ @ @@ذه الكالب اليت تنبح ىف ص@ @ @ @@دورهم ‪ ،‬فأرس@ @ @ @@لوها نظ@ @ @ @@رات حانقة ‪ ،‬وأطلقوها‬
‫@ىب من بعيد ومن ق @ @@ريب ‪ ..‬فليست هن@ @ @@اك كلمة طيبة‬ ‫كلم@ @ @@ات حممومة جمنونة ‪ ،‬ت@ @ @@رمى الن@ @ @ ّ‬
‫خترج من أفواههم ‪ ،‬أو نظرة وادعة تطرف هبا عيوهنم ‪..‬‬
‫ـ وقوله تع@@اىل ‪( :‬أَهـ َذا الَّ ِذي يَـ ْذ ُك ُر آلِ َهتَ ُك ْم) ‪ ..‬هو بعض ما جيرى على ألس@@نتهم من‬
‫@ىب ال@ذي يتط@اول إىل‬ ‫سفاهة ‪ ..‬واالس@تفهام هنا لالس@تهزاء واالس@تنكار ‪ ،‬واستص@غار ق@در الن ّ‬
‫هذه اآلهلة ‪ ،‬فيذكرها مبا يذكر من سوء عابديها!‬
‫ـ وقوله تع @@اىل ‪َ ( :‬و ُه ْم بِ ـ ِـذ ْك ِر ال ـ َّـر ْحم ِن ُه ْم كــافِ ُرو َن) مجلة حالية ‪ ..‬أي أهنم يقول @@ون‬
‫@ىب وينك@@رون عليه أن ي@@ذكر آهلتهم ؛ وأن جيرتىء على مق@@امهم ‪ ،‬ىف ح@@ال‬ ‫ه@@ذا الق@@ول ىف الن@ ّ‬
‫هم فيها ق@@ائمون على ج@@رم غليظ ‪ ،‬إذ كف@@روا ب@@الرمحن ‪ ،‬ال@@ذي وس@@عتهم رمحته ‪ ،‬فلم جيعل‬
‫هلم الع@ @ @@ذاب ‪ ،‬وأف @ @@اض عليهم من فض @ @@له وإحس @ @@انه ‪ ،‬فلم يقطع أم@ @ @@داده عنهم ‪ ..‬فما هلم‬
‫يغارون على آهلتهم الصماء اخلرساء ‪ ،‬وال يغارون على مقام اهلل «الرمحن» وقد أجل@@وه من‬
‫قلوهبم ‪ ،‬وأخلوا مشاعرهم من كل توقري له؟‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫ون)‪.‬‬‫( ُخلِ َق اإْلِ نْسا ُن ِمن َعج ٍل سأُ ِري ُكم آياتِي فَال تَسَت ْع ِجلُ ِ‬
‫ْ‬ ‫ْ َ َ ْ‬
‫يتعجل‬
‫حب العاجل ّ‬ ‫اإلنس@@ان هنا ‪ ،‬هو مطلق اإلنس@@ان ‪ ..‬فكل إنس@@ان مفط@@ور على ّ‬
‫كل ش@ @@ىء ‪ ..‬اخلري والش@ @ ّ@ر ‪ ..‬كما يق@ @@ول اهلل تع@ @@اىل ‪َ ( :‬وكـ ــا َن اإْلِ نْسـ ــا ُن َع ُجـ ــوالً) (‪: 11‬‬
‫اإلسراء)‪.‬‬
‫‪899‬‬

‫وهلذا ك@@ان مما دعت إليه الش@@رائع الس@@ماوية «الص@@رب» ال@@ذي هو ال@@دواء ال@@ذي خي ّفف‬
‫من هذا الداء ‪..‬‬
‫الة) (‪ : 45‬البق @@رة) ويق @@ول ‪:‬‬ ‫صـ ـ ِ‬ ‫وىف ه @@ذا يق @@ول س @@بحانه ‪َ ( :‬وا ْسـ ـتَ ِعينُوا بِال َّ‬
‫صـ ـ ْب ِر َوال َّ‬
‫صـ ـ ـ ِر إِ َّن اإْلِ نْس ـ ــا َن ل َِفي ُخسـ ـ ـ ٍر إِاَّل الَّ ِذين آمنُ ـ ــوا و َع ِملُ ـ ــوا ال َّ ِ ِ‬
‫صـ ـ ـ ْوا بِ ـ ــال َ‬
‫ْح ِّق‬ ‫صـ ـ ـالحات َوتَوا َ‬ ‫َ َ َ‬ ‫ْ‬ ‫( َوال َْع ْ‬
‫الص ْب ِر) (سورة العصر)‪@.‬‬ ‫واص ْوا بِ َّ‬ ‫َوتَ َ‬
‫فالصرب هو زاد املؤمنني ‪ ،‬وهو ع ّدهتم ىف مواجهة احلياة ‪..‬‬
‫متر األي@ام هبم بطيئة ثقيلة ‪..‬‬ ‫هم وقلق ‪ّ ،‬‬ ‫أما من حتففوا من هذا ال@زاد ‪ ،‬ف@إهنم أب@دا ىف ّ‬
‫يري@@دون أن جيتمع هلم ىف ي@@ومهم ك@ ّ@ل ما ميكن أن تطوله أي@@ديهم ‪ ،‬ومتتد إليه آم@@اهلم ‪ ..‬إهنم‬
‫يري @@دون حي @@اهتم يوما واح @@دا أو ليلة واح @@دة ‪ ،‬كليلة جن @@ود احلرب ‪ ،‬يقض @@وهنا ليلة ص @@اخبة‬
‫كل ما ىف جيوهبم ‪ ،‬ويلقون ىف وقودها كل ما معهم من م@@ال ومت@@اع‬ ‫الهية ‪ ،‬يفرغون فيها ّ‬
‫‪ ..‬أما الغد فال نظر إليه ‪ ،‬وال حساب له ‪..‬‬
‫واملش@ @ @ @@ركون يس@ @ @ @@تعجلون كل ش@ @ @ @@ىء ‪ ..‬حىت اهلالك ‪ ،‬والبالء ال@ @ @ @@ذي أن@ @ @ @@ذروا به ‪،‬‬
‫ويقولون ىف إحلاح وجلاج ‪ :‬مىت هو؟‬
‫ون) هو اجلواب على ما يس@@تعجل به‬ ‫ـ وىف قوله تعاىل ‪( :‬سأُ ِري ُكم آيــاتِي فَال تَسـَت ْع ِجلُ ِ‬
‫ْ‬ ‫َ ْ‬
‫املش@ @@ركون من ع@ @@ذاب اهلل ‪ ،‬ومن اخلزي ال@ @@ذي س@ @@يحل هبم ي@ @@وم جيىء نصر اهلل والفتح ‪..‬‬
‫وهو هتديد للمشركني ‪ ،‬مبا سيلقون على يد املؤمنني من ه@@وان وذلة ‪ ،‬ي@وم ي@@رون آي@ات اهلل‬
‫‪ ،‬ويوم هتزم الفئة القليلة الفئة الكثرية!‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫َّار َوال َع ْن ظُ ُهــو ِر ِه ْم َوال ُه ْم‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫ين ال يَ ُك ُّفو َن َع ْن ُو ُجــوه ِه ُم الن َ‬ ‫ين َك َفـ ُـروا ح َ‬
‫(لَ ـ ْـو َي ْعلَ ُم الذ َ‬
‫ص ُرو َن) ‪..‬‬ ‫ُي ْن َ‬
‫‪900‬‬

‫ج@@واب الش@@رط هنا حمذوف ‪ ،‬وتق@@ديره ‪ :‬لو يعلم ال@@ذين كف@@روا ما ينتظ@@رهم من بالء‬
‫وع@ذاب ي@وم ي@أتيهم الع@ذاب من ف@وقهم ومن حتت أرجلهم ‪ ،‬ملا اس@تعجلوا ما أن@ذروا به من‬
‫عذاب اهلل‪.‬‬
‫ص ُرو َن) إشارة إىل أهنم لن ينصروا ىف هذه ال@دنيا ‪ ،‬بل‬ ‫ـ وىف قوله تعاىل ‪َ ( :‬وال ُه ْم ُي ْن َ‬
‫ستحل اهلزمية هبم ‪ ،‬وأهنم لن جيدوا ىف اآلخرة من ينصرهم من بأس اهلل إذا جاءهم‪.‬‬ ‫ّ‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫(بَ ْل تَأْتِي ِه ْم َبغْتَةً َفتَْب َه ُت ُه ْم فَال يَ ْستَ ِطيعُو َن َردَّها َوال ُه ْم ُي ْنظَُرو َن)‪.‬‬
‫الساعة اليت يكذبون هبا ‪ ،‬ويستعجلوهنا ‪..‬‬ ‫ِِ‬
‫الضمري ىف (تَأْتيه ْم) يراد به ّ‬
‫فالساعة ال تأتيهم حسب تق@@ديرهم ‪ ،‬وحسب موعد معل@@وم هلم ‪ ..‬بل س@@تأتيهم بغتة‬
‫‪ ،‬أي مباغتة ‪ ،‬ومفاج@ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @@أة ( َفتَْب َه ُت ُه ْم) أي ختزيهم ‪ ،‬وتفضح معتق@ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @@دهم فيها ‪( ..‬فَال‬
‫يَ ْسـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـتَ ِطيعُو َن َردَّها) أي دفعها ومنعها ‪ ..‬إهنا بالء واقع هبم ‪ ،‬ليس هلا دافع ‪َ ( ..‬وال ُه ْم‬
‫ُي ْنظَُرو َن) أي ال ينتظر هبم ىف الدنيا ‪ ،‬حىت يصححوا معتقدهم ‪ ،‬ويهيئوا أنفسهم للقاء هذا‬
‫اليوم ‪..‬‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫ين َسـ ـ ـ ـ ِخ ُروا ِم ْن ُه ْم ما كـ ـ ــانُوا بِ ـ ـ ـ ِـه‬ ‫ئ بِ ُر ُسـ ـ ـ ـ ٍل ِم ْن َق ْبلِ ـ ـ ـ َ‬
‫ـك فَح ـ ـ ـ َ ِ َّ ِ‬
‫ـاق بالذ َ‬ ‫( َولََقـ ـ ـ ِـد ا ْسـ ـ ـ ـ ُت ْه ِز َ‬
‫يَ ْسَت ْه ِز ُؤ َن) ‪..‬‬
‫@ىب ‪ ،‬وتس@ @ @@رية ملا يلقى من قومه من أذى ‪ ،‬وما يواجه به من اس@ @ @@تهزاء‬ ‫هو ع@ @ @@زاء للن@ @ @ ّ‬
‫وسخرية ‪ ..‬فهو ليس وحده من بني رسل اهلل ‪ ،‬ال@@ذي وقف منه قومه ه@@ذا املوقف الل@@ئيم ‪،‬‬
‫بل إن كثريا من رسل اهلل قد أعنتهم أقوامهم ‪ ،‬وأغروا هبم السفهاء منهم ‪..‬‬
‫‪901‬‬

‫ين َس ِخ ُروا ِم ْن ُه ْم ما كانُوا بِ ِه يَ ْسـَت ْه ِز ُؤ َن) هو هتديد هلؤالء‬ ‫ـ وقوله تعاىل ‪( :‬فَ َ ِ َّ ِ‬
‫حاق بالذ َ‬
‫املشركني ‪ ،‬وأنه سيحيق هبم ما حاق باملس@تهزئني من قبلهم برسل اهلل ‪ ،‬وس@يلقون حس@اب‬
‫هذه السخرية عذابا ونكاال ‪..‬‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫(قُ ْل َم ْن يَ ْكلَ ُؤ ُك ْم بِاللَّْي ِل َوالنَّها ِر ِم َن َّ‬
‫الر ْحم ِن بَ ْل ُه ْم َع ْن ِذ ْك ِر َربِّ ِه ْم ُم ْع ِر ُ‬
‫ضو َن)‪.‬‬
‫الكأل ‪ ،‬والكالءة ‪ :‬احلفظ والرعاية ‪ ،‬واحلراسة ‪ ..‬يق@ @ @ @ @ @ @ @ @ @@ال ‪ :‬كأله اهلل ‪ :‬أي حرسه‬
‫وحفظه ‪ ..‬ومنه الكأل ‪ ،‬وهو العشب الذي ترعاه املاشية ‪ ،‬والذي عليه قوام حياهتا ‪..‬‬
‫واملعىن ‪ :‬من يكل@ @ @@ؤكم أيها املك@ @ @@ذبون الض@ @ @@الون املش@ @ @@ركون ‪ ،‬وحيفظكم من اهلل إن‬
‫أراد بكم س@ @ @ @@وءا ‪ ،‬أو أخ@ @ @ @@ذكم بع@ @ @ @@ذاب من عذابه بالليل أو بالنه@ @ @ @@ار؟ أهن@ @ @ @@اك من آهلتكم‬
‫ومعب @@وداتكم من ي @@دفع عنكم ب @@أس اهلل إن ج @@اءكم؟ انظ @@روا إىل ه @@ذه اآلهلة وم @@اذا ميكن أن‬
‫يكون هلا من حول وطول أمام حول اهلل وطوله؟ إنه ال شىء إال العجز واالستخزاء ‪..‬‬
‫وىف اآلية الكرمية إشارتان ‪:‬‬
‫األوىل ىف قوله تع@ @ @@اىل ‪( :‬يَ ْكلَ ـ ـ ُـؤ ُك ْم) وقد ج@ @ @@اءت مبعىن مينعكم ‪ ،‬وحيرس@ @ @@كم ‪ ..‬وىف‬
‫التعبري عن ه@@ذا ب@@الكالءة إش@@ارة إىل أن اإلنس@@ان ـ مهما ملك من ج@@اه وق@@وة وس@@لطان ـ هو‬
‫كائن عاجز ضعيف ‪ ،‬حمتاج إىل قوة عليا ‪ ،‬ترعاه ‪ ،‬ومت ّده بأسباب احلياة والبقاء‪.‬‬
‫واإلش@@ارة الثانية ىف قوله تع@@اىل ‪ِ ( :‬م َن الـ َّـر ْحم ِن) وقد ج@@اءت ه@@ذه الص@@فة الكرمية من‬
‫صفات اهلل سبحانه وتعاىل ‪ ،‬لتشري إىل واسع رمحته ‪ ،‬وعظيم فضله ‪ ،‬وأ ّن هؤالء املشركني‬
‫وحمادهتم هلل‬
‫الضالني ‪ ،‬قد بالغوا ىف غيّهم ‪ ،‬وضالهلم ‪ّ ،‬‬
‫‪902‬‬

‫ورسوله ‪ ،‬حىت إن رمحة اهلل ـ مع سعتها ـ تكاد تطردهم من رحاب فضلها وجودها ‪..‬‬
‫ضـ ـ ـو َن) ـ إش@ @ @@ارة إىل أن ه@ @ @@ؤالء‬ ‫ـ وىف قوله تع@ @ @@اىل ‪( :‬بَـ ـ ـ ْـل ُه ْم َع ْن ِذ ْكـ ـ ـ ِر َربِّ ِه ْم ُم ْع ِر ُ‬
‫املش@ @ @@ركني ‪ ،‬قد ش@ @ @@غلوا مبا هم فيه من هلو ومت@ @ @@اع ‪ ،‬وأهنم هلذا ال ي@ @ @@ذكرون اهلل ‪ ،‬وأنه إذا‬
‫ج@@اءهم من ي@@ذ ّكرهم باهلل ‪ ،‬ويع@@رض عليهم آياته وكلماته ‪ ،‬أعرض@@وا ‪ ،‬وس@@فهوا ‪ ..‬وذلك‬
‫غاية ىف الضالل واخلسران ‪ ..‬إذ أنه قد يغفل اإلنسان عن اخلطر الذي يته@@دده ‪ ،‬وينسى أو‬
‫يتناسى املك@@روه ال@ذي يرتص@@ده ‪ ،‬ف@إذا هلك ىف ه@@ذا الوجه ‪ ،‬ك@@ان له بعض الع@ذر عند نفسه‬
‫أو عند الن@ @ @ @ @@اس ‪ ،‬أما من ينبّه إىل اخلطر فال ينتبه ‪ ،‬وحي ّذر من البالء فال يرع@ @ @ @ @@وى ‪ ،‬فإنه إذا‬
‫لقى مصريه املشئوم ‪ ،‬مل جيد من يعذره ‪ ،‬أو يرثى له ‪..‬‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫(أ َْم ل َُه ْم آل َهةٌ تَ ْمَنعُ ُه ْم م ْن ُدونِنا؟ ال يَ ْستَطيعُو َن نَ ْ‬
‫ص َر أَْن ُفس ِه ْم َوال ُه ْم منَّا يُ ْ‬
‫ص َحبُو َن)‪.‬‬
‫هو مطالبة هلؤالء املش @@ركني ال @@ذين جلّ @@وا ىف ض @@الهلم وطغي @@اهنم ‪ ،‬أن ي@@أتوا مبن مينعهم‬
‫من دون اهلل ‪ ،‬وي@@دفع عنهم يأسه إن ج@@اءهم ‪ ..‬فليس@@أل املش@@ركون أنفس@@هم ه@@ذا الس@@ؤال ‪:‬‬
‫أهلم آهلة متنعهم من دون اهلل؟ ف @@إن هم عم @@وا عن حقيقة آهلتهم ‪ ،‬وق @@الو ‪ :‬نعم ‪ ،‬إن لنا آهلة‬
‫نعب@@دها ‪ ،‬ونرجو نص@@رها وعوهنا ـ إن هم ق@@الوا ه@@ذا الض@@الل ‪ ،‬وج@@دوا ىف قوله تع@@اىل ‪( :‬ال‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫@رد عليهم ه @@ذا ال ّس @فه ‪ ،‬ويبطل ه@@ذا‬ ‫ص ـ َحبُو َن) ـ ما ي @ ّ‬ ‫ص ـ َر أَْن ُفس ـ ِه ْم َوال ُه ْم منَّا يُ ْ‬
‫يَ ْس ـتَطيعُو َن نَ ْ‬
‫رد الس @ @@وء إذا وقع هبا ‪،‬‬ ‫الباطل ‪ ..‬ف @ @@إن ه @ @@ذه اآلهلة ال تس @ @@تطيع ال @ @@دفاع عن نفس @ @@ها ‪ ،‬وال ّ‬
‫فكيف تنصر غريها ‪ ،‬وتدفع السوء عنه؟‪.‬‬
‫ص َحبُو َن) إشارة إىل أن هؤالء املشركني ‪،‬‬ ‫ِ‬
‫ـ وىف قوله تعاىل ‪َ ( :‬وال ُه ْم منَّا يُ ْ‬
‫‪903‬‬

‫ال جيدون من آهلتهم نص@ @ @ @@را ‪ ،‬كما أهنم ال جيدون من اهلل عونا ‪ ،‬وال نص@ @ @ @@را ‪ ..‬إذ ال عمل‬
‫ويرد عنهم بأسه ‪ ،‬فال يصحبون من اهلل بعون أو نصر ‪..‬‬ ‫يشفع هلم عند اهلل ‪ّ ،‬‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫(بل متَّعنا ُ ِ‬
‫صـها‬
‫ض َن ْن ُق ُ‬‫طال َعلَْي ِه ُم الْعُ ُم ُر أَفَال َيـ َـر ْو َن أَنَّا نَـأْتِي اأْل َْر َ‬
‫آباء ُه ْم َحتَّى َ‬ ‫هؤالء َو َ‬ ‫َْ َ ْ‬
‫ِم ْن أَطْرافِها أَ َف ُه ُم الْغالِبُو َن)‪.‬‬
‫يعجل هلم الع@ @@ذاب بل‬ ‫أي أن ه@ @@ؤالء املش@ @@ركني قد م@ @ ّد اهلل هلم ‪ ،‬ىف ض@ @@الهلم ‪ ،‬ومل ّ‬
‫متعهم ‪ ،‬كما متّع آب@ @@اءهم املش@ @@ركني من قبلهم ‪ ،‬حىت اس@ @@توفوا آج@ @@اهلم ‪ ..‬وقد حس@ @@بوا ـ‬
‫لض@@الهلم ـ أن اهلل غافل عما يعمل الظ@@املون ‪ ،‬وأهنم مبنج@@اة من ب@@أس اهلل ‪ ،‬ملا ىف أي@@ديهم من‬
‫مال ومتاع ‪ ..‬وذلك ظنهم برهّب م هو الذي أرداهم ‪..‬‬
‫لقد جهل @@وا ق @@در اهلل ‪ ،‬ومل يرج @@وا له وق @@ارا ‪ ،‬ومل خيش @@وا له بأسا ‪ ..‬ولو نظ @@روا فيما‬
‫بني أي @@ديهم وما خلفهم ل @@رأوا كيف ت@@أتى غري اهلل ‪ ،‬وكيف يقع بأسه بالظ@@املني فكم أهلك‬
‫أذل من جب@ @@ابرة؟ وكم ب @ @ ّدل من أح@ @@وال وأوض@ @@اع؟ فهل بقي‬ ‫اهلل قبلهم من ق@ @@رون؟ وكم ّ‬
‫ح@@ال على حاله ‪ ،‬أو ظل ذو س@@لطان ىف س@@لطانه؟ أم أهنم هم الق@@وة اليت ال تغلب وال ت@@نزل‬
‫صـ ـها ِم ْن أَطْرافِه ــا؟ أَ َف ُه ُم الْغ ــالِبُو َن؟)‬ ‫ض َن ْن ُق ُ‬ ‫هبا األح @@داث والغ @@ري؟ (أَفَال َيـ َـر ْو َن أَنَّا نَـ ـأْتِي اأْل َْر َ‬
‫واالستفهام األول لألمر ‪ ،‬والثاين للتهديد ‪..‬‬
‫واملراد باالس @ @@تفهام األم @ @@رى ‪ :‬إلف @ @@ات املش @ @@ركني إىل ما يقع من غري اهلل ىف الن@ @@اس ‪،‬‬
‫@ذل اجلب@@ابرة ‪ ،‬وي@@رغم أن@@وف املتك@@ربين ‪ ،‬ف@@إذا هم ىف لب@@اس‬ ‫وأنه س@@بحانه الق@@وى القه@@ار ‪ ،‬ي@ ّ‬
‫الذلة بعد الع @ @ @@زة ‪ ،‬وىف دار اهلوان بعد الكرامة ‪ ،‬وىف ض @ @ @@نك العيش بعد النعمة والرفاهي@ @ @@ة‪.‬‬
‫ه @@ذه س @@نة اهلل ىف ه @@ذه ال @@دنيا ‪ ،‬فال ش @@ىء فيها يبقى على ح @@ال ‪ ،‬بل كل ش @@ىء إىل زوال ‪:‬‬
‫صها ِم ْن‬ ‫ض َن ْن ُق ُ‬‫(أَفَال َي َر ْو َن أَنَّا نَأْتِي اأْل َْر َ‬
‫‪904‬‬

‫أَطْرافِها)؟ ف @ @@النقص ألط @ @@راف األرض هو النقص ىف النعم ‪ ،‬من م@ @@ال ‪ ،‬ومت@ @@اع ‪ ،‬وب @ @@نني ‪،‬‬
‫ومن ق@@وة وص@@حة ‪ ،‬ومن ج@@اه وس@@لطان ‪ ،‬يقابل ذلك زي@@ادة ىف ه@@ذه النعم ‪ ،‬وذلك مبا يقع‬
‫من تبدل ىف أح@@وال الن@اس ‪ ..‬حيث تنتقل ه@@ذه النعم من يد إىل يد ‪ ،‬ومن مجاعة إىل مجاعة‬
‫ام نُ ـ ــدا ِولُها َب ْي َن الن ِ‬
‫َّاس) ‪..‬‬ ‫‪ ،‬ومن أمة إىل أمة ‪ ،‬كما يق@ @@ول س @ @@بحانه وتع@ @@اىل ‪َ ( :‬وتِْل ـ ـ َ‬
‫ـك اأْل َيَّ ُ‬
‫@ىن ث@ @ @@وب الفقر ‪ ،‬وهك@ @ @@ذا احلال ىف كل نعمة ‪..‬‬ ‫فيلبس الفقري ث@ @ @@وب الغىن ‪ ،‬كما يلبس الغ@ @ @ ّ‬
‫فالدنيا ‪ :‬حياة وم@وت ‪ ،‬وغىن وفقر ‪ ،‬وص@حة وم@@رض ‪ ..‬إىل غري ذلك مما يتقلب فيه الن@اس‬
‫من شئون ‪..‬‬
‫وه@@ذا هو الس@ ّ@ر ىف التعبري الق@@رآىن ‪ِ ( :‬م ْن أَطْرافِها) حيث أش@@ار ذلك إىل أط@@راف من‬
‫األرض ‪ ،‬أي ج@ @@وانب منه@ @@ا‪ .‬وهى اجلوانب اليت متثل س @ @@لب النّعم ‪ ،‬أما اجلوانب األخ@ @@رى‬
‫اليت تس@@اق إليها النعم ‪ ،‬فهى مس@@كوت عنها ىف ه@@ذا املق@@ام ‪ ،‬ال@@ذي هو مق@@ام هتديد ووعيد‬
‫هلؤالء املش @ @ @@ركني ‪ ،‬ال @ @ @@ذين ط @ @ @@ال عليهم العهد وهم ىف تلك النّعم اليت أنس @ @ @@تهم ذكر اهلل ‪،‬‬
‫واليت هى على وشك أن ترحل عنهم ‪ ،‬وتفلت من أي@ @ @ @@ديهم ‪ ..‬ف@ @ @ @@إهنم ال يس@ @ @ @@تطيعون دفع‬
‫بالء اهلل إذا نزل هبم ‪( :‬أَ َف ُه ُم الْغالِبُو َن؟)‪.‬‬
‫املفسرين إىل أن ه@@ذه اآلية مدنية ىف الس@@ورة املكية ‪ ،‬وأق@@اموا معناها‬ ‫وقد ذهب أكثر ّ‬
‫على أن نقص@ @ @ @@ان األرض من أطرافها ‪ ،‬هو إش@ @ @ @@ارة إىل ما يغلب عليه املس@ @ @ @@لمون من أرض‬
‫املش@@ركني والك@@افرين ‪ ..‬وأن املس@@لمني ينقص@@ون األرض اليت ىف أي@@دى الك@@افرين بالفتوح@@ات‬
‫اإلسالمية ‪ ،‬وبضمها إىل أيديهم ‪..‬‬
‫وهذا املعىن بعيد ىف نظرنا ‪ ..‬وذلك من وجوه ‪:‬‬
‫أوال ‪ :‬أن فتح املس@@لمني لألرض ‪ ،‬وض@@مها إىل ح@@وزة اإلس@@الم ليس نقصا لألرض ‪،‬‬
‫بل هو زي@ @ @ @ @ @ @@ادة فيها ‪ ،‬ومناء هلا ‪ ..‬إذ ك@ @ @ @ @ @ @@ان ذلك الفتح مما يب@ @ @ @ @ @ @@ارك على األرض خريها ‪،‬‬
‫وبضاعف مثرها ‪ ،‬مبا ينشر فيها من عدل ‪ ،‬وأمن ‪ ،‬وسالم ‪..‬‬
‫‪905‬‬

‫وثانيا ‪ :‬أن اهلل سبحانه وتعاىل أضاف هذا النقص لألرض من أطرافها ـ أضافه إليه ‪،‬‬
‫سبحانه ‪..‬‬
‫وثالثا ‪ :‬أن املقام مقام هتديد للمشركني ‪ ،‬هبالكهم ‪ ،‬وتبديل أحواهلم ‪ ..‬إن مل يكن‬
‫ذلك ببالء عاجل يأخ@@ذهم اهلل به ‪ ،‬ك@@ان ذلك حبكم ال@ ّ@زمن وبس@@نن اهلل الكونية اليت أجراها‬
‫ض ِم ْن ُه ْم َو ِع ْنـ ـ َدنا‬ ‫ِ‬
‫على الن@ @@اس ‪ ..‬وه@ @@ذا ما يشري إليه قوله تع@ @@اىل ‪( :‬قَـ ـ ْد َعل ْمنا ما َت ْن ُق ُ‬
‫ص اأْل َْر ُ‬
‫تاب َح ِفي ٌظ) (‪ : 4‬ق)‪.‬‬ ‫ك ٌ‬
‫ِ‬
‫ورابعا ‪ :‬الس@ @@ورة كلها مكية ‪ ،‬وال معىن ألن يق@ @@ال إن ه@ @@ذه اآلية وح@ @@دها هى اآلية‬
‫املدنية فيها ‪ ،‬حيث أن س @ @@ياق النظم جيعلها قطعة من ه @ @@ذه الس @ @@ورة ‪ ،‬مرتبطة ارتباطا وثيقا‬
‫مبا بعدها وما قبلها‪.‬‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫ُّعاء إِذا ما ُي ْن َذ ُرو َن)‪.‬‬
‫الص ُّم الد َ‬‫(قُ ْل إِنَّما أُنْ ِذ ُر ُك ْم بِال َْو ْح ِي َوال يَ ْس َم ُع ُّ‬
‫هو تنبيه هلؤالء املش @@ركني الغ @@افلني ‪ ،‬ال @@ذين إذا ذك @@روا بآي @@ات رهّب م أعرض @@وا عنها ‪،‬‬
‫@ىب الك@@رمي‬ ‫ومل يلتفت@@وا إىل ما ي@@دعون إليه من ه@@دى وخري ‪ ..‬وقد أمر اهلل س@@بحانه وتع@@اىل الن@ ّ‬
‫أن ينخس@هم هبذا األس@لوب الزاجر ‪ ،‬وأن يق@رعهم بتلك املقرعة املوجعة ‪ ،‬حىت تت@أثر ل@ذلك‬
‫قلوهبم القاسية ‪ ،‬وتستشعر به مشاعرهم املتبلّده ‪ ،‬وطباعهم اجلافية الغليظة ‪..‬‬
‫@ىب ‪ ،‬هو وحي ي@ @ @@وحى إليه من ربّه ‪ ..‬إذ هك @ @@ذا‬ ‫فهم يعرف@ @ @@ون أن ما ين@ @ @@ذرهم به الن@ @ @ ّ‬
‫يقول هلم ‪ ،‬وهم هلذا يكذبونه ‪ ،‬ويستكثرون عليه أن يكون على صلة بالسماء ‪..‬‬
‫@ىب على أن ما‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ـ وىف قوله تعاىل ‪( :‬أُنْذ ُر ُك ْم بال َْو ْح ِي) ـ مع أن األمر ق@ائم بينهم وبني الن ّ‬
‫ين @@ذرهم به هو ال @@وحى ـ ىف ه @@ذا التص @@ريح ب @@أن ما ين @@ذرهم به هو ال @@وحى تش @@نيع عليهم ‪،‬‬
‫وعلى الغفلة املطبقة عليهم ‪ ،‬وعلى الظالم الكثيف املخيم على‬
‫‪906‬‬

‫@ىب ‪ ،‬هو من اإلش@@راق والوض@@وح حبيث ال خيفى‬ ‫عق@@وهلم وقل@@وهبم‪ .‬فه@@ذا ال@@ذي ين@@ذرهم به الن@ ّ‬
‫على ذى عقل ونظر أنه وحي من عند اهلل ‪ ،‬ولكن أىّن للعمي أن يبص@ @ @ @ @ @@روا ‪ ،‬وللص@ @ @ @ @ @ ّ@م أن‬
‫يس@معوا ‪ ،‬وللحمقى أن يعقل@@وا ويع@@وا؟ فك@@ان ال بد أن ينخس@وا ه@@ذه النخسة ‪ ،‬وأن يقرع@وا‬
‫بتلك املقرعة ‪ ،‬وأن يق @ @ @ @@ال هلم عن ه @ @ @ @@ذا الن @ @ @ @@ور ‪ ،‬إنه ن @ @ @ @@ور ‪ ،‬وعن ه @ @ @ @@ذه الش @ @ @ @@مس ‪ ،‬إهنا‬
‫الشمس!!‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫ين)‪.‬‬ ‫ِِ‬
‫ُن يا َو ْيلَنا إِنَّا ُكنَّا ظالم َ‬ ‫ك لََي ُقول َّ‬ ‫س ْت ُه ْم َن ْف َحةٌ ِم ْن َع ِ‬
‫ذاب َربِّ َ‬ ‫( َولَئِ ْن َم َّ‬
‫غرهم باهلل الغرور ‪ ،‬فأمنوا مكره ‪ ،‬واستخفوا ببأسه ـ هم‬ ‫فهؤالء املشركون ‪ ،‬الذين ّ‬
‫على ح@ال من الض@عف واالس@تخزاء يك@@ادون يكحون@ون هبا مثال فري@@دا ىف الن@اس ‪ ..‬فهم إذا‬
‫م ّس @ @تهم نفحة من ع@ @@ذاب اهلل جزع@ @@وا ‪ ،‬واحنلّت ق@ @@واهم ‪ ،‬وأك@ @@ثروا من الص@ @@ياح والعويل ‪،‬‬
‫ونسوا ما كانوا عليه من تش@امخ وتع@ال ‪ ..‬ومل جيدوا ش@يئا من الع@زاء والصرب ‪ ،‬على حنو ما‬
‫جيد املؤمنون حني يبتلون من اهلل بشىء من الضر‪.‬‬
‫واملس ‪ :‬دون اللّمس ‪ ..‬والنفحة من العذاب ‪ :‬أهون ش@@ىء فيه وأقله ‪ ،‬وهو بالنس@@بة‬ ‫ّ‬
‫للعذاب أشبه بالرمحة ‪ ،‬وهلذا عرّب عنه بالنفحة ‪ ،‬اليت يغلب استعماهلا ىف اخلري ‪..‬‬
‫فهذا العذاب الذي ميسهم اهلل به ‪ ،‬هو أقل العذاب ‪ ،‬وهو يعترب نعمة ورمحة بالنسبة‬
‫إىل العذاب! فكيف إذا وقع هبم العذاب نفسه ‪ ،‬ال نفحة منه؟‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫ـال َحبَّ ٍة ِم ْن‬ ‫س َشـ ْيئاً َوإِ ْن كــا َن ِمثْقـ َ‬ ‫ط لِيــوِم ال ِْق ِ‬ ‫ضـع الْمــوا ِز ِ‬
‫يامــة فَال تُظْلَ ُم َن ْف ٌ‬‫َ‬ ‫ين الْق ْسـ َ َ ْ‬
‫( َونَ َ ُ َ َ‬
‫ين)‪.‬‬ ‫ِ ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬
‫َخ ْر َدل أََت ْينا بها َو َكفى بنا حاسب َ‬
‫‪907‬‬

‫القسط ‪ ،‬والقسطاس ‪ :‬العدل‪.‬‬


‫ووضع املوازين ‪ :‬إقامتها ‪ ،‬ونصبها لتوزن أعمال الناس فيها ‪ ..‬وحبة اخلردل ‪ :‬حبة‬
‫ض @ @@ئيلة ال تك @ @@اد متسك هبا األص @ @@ابع ‪ ..‬واآلية الكرمية‪ .‬ن@ @ @@ذير ألولئك املش @ @@ركني ‪ ،‬ال @ @@ذين‬
‫أش@ @@ركوا باهلل ‪ ،‬وأعرض@ @@وا عن ذكر ال@ @@رمحن ‪ ،‬وظن @ @@وا أهنم ىف محى من ب @ @@أس اهلل ‪ ،‬جباههم‬
‫ومتاعهم ‪ ..‬وهب أهنم قطعوا العمر ىف هلو ولعب ‪ ،‬ونعموا مبا ىف أي@@ديهم من م@@ال وب@@نني ‪،‬‬
‫ف @ @@إهنم ال ب@ @ @ ّد ميت @ @@ون ‪ ،‬مث إهنم ملبعوث@ @@ون ‪ ،‬وحماس @ @@بون على ما عمل@ @@وا من س@ @@وء ‪ ..‬فهن@ @@اك‬
‫حس@ @@اب وج@ @@زاء ‪ ،‬حيث جتد كل نفس ما عملت من خري حمض@ @@را ‪ ،‬وما عملت من س@ @@وء‬
‫تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا ‪..‬‬ ‫ّ‬
‫وىف مجع املوازين ‪ ،‬إش@ @ @ @@ارة إىل أن لكل إنس@ @ @ @@ان ميزانا ت@ @ @ @@وزن به أعماله ‪ ،‬فال ينتظر‬
‫غ@@ريه حىت يف@@رغ من حس@@ابه ووزن أعماله ‪ ..‬بل إن اإلنس@@ان الواحد ‪ ،‬له م@@وازين كث@@رية ‪،‬‬
‫بعض @@ها لس @@يئاته ‪ ،‬وبعض@ @@ها حلس @@ناته ‪ ..‬ولكل عمل من أعماله الس @@يئة أو احلس @@نة م @@يزان ‪،‬‬
‫ض ـ ـيَ ٍة َوأ ََّما َم ْن‬ ‫ت َموا ِزينُـ ــهُ َف ُهـ ـ َـو فِي ِعي َ‬
‫ش ـ ـ ٍة را ِ‬ ‫وه @ @@ذا ما يشري إليه قوله تع @ @@اىل ‪( :‬فَأ ََّما َم ْن َث ُقلَ ْ‬
‫ت َموا ِزينُهُ فَأ ُُّمهُ ها ِويَةٌ) (‪ 6‬ـ ‪ 9‬القارعة) ‪..‬‬ ‫َخ َّف ْ‬
‫ين) إش @@ارة إىل ع @@دل اهلل س @@بحانه وتع @@اىل وإىل‬ ‫ِ ِِ‬
‫ـ وىف قوله تع @@اىل ‪َ ( :‬و َكفى بنا حاسـ ـب َ‬
‫ض@@بطه ألعم@@ال الن@@اس ‪ ،‬وحماس@@بتهم عليها ‪ ،‬دون أن يفلت أحد من ه@@ذا احلس@@اب ‪ ،‬أو يقع‬
‫ىف حسابه خطأ ‪ ،‬ولو كان مثقال حبة من خردل ‪ ..‬فسبحان من وسع كل شىء علما‪.‬‬
‫____________________________________‬

‫اآليات ‪ 48( :‬ـ ‪)73‬‬


‫َّ ِ‬ ‫ض ـياء و ِذ ْكــراً لِل ِ‬
‫ِ‬
‫ش ـ ْو َن‬ ‫ين (‪ @ @)48‬الذ َ‬
‫ين يَ ْخ َ‬ ‫ْمتَّق َ‬
‫ُ‬ ‫ـارو َن الْ ُف ْرق ــا َن َو ً َ‬
‫( َولََق ـ ْد آَت ْينا ُموسى َوه ـ ُ‬
‫اع ِة ُم ْش ِف ُقو َن (‪َ )49‬وهذا ِذ ْك ٌر‬ ‫ب َو ُه ْم ِم َن َّ‬
‫الس َ‬ ‫َر َّب ُه ْم بِالْغَْي ِ‬
‫‪908‬‬

‫ين(‬ ‫ِِ ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬


‫ـل َو ُكنَّا ب ـه عـالم َ‬ ‫يم ُر ْشـ َدهُ م ْن َق ْب ُ‬ ‫بار ٌك أَْن َزلْناهُ أَفَأَْنتُ ْم لَـهُ ُم ْنك ُـرو َن (‪َ )50‬ولََقـ ْد آَت ْينا إبْـراه َ‬ ‫ُم َ‬
‫ِ‬ ‫قال أِل َبِي ِـه و َقو ِمـ ِـه ما هـ ِـذ ِه التَّماثِيـ َِّ‬ ‫‪ )51‬إِ ْذ َ‬
‫ـل التي أَْنتُ ْم لَها عـاك ُفو َن (‪ @)52‬قــالُوا َو َجـ ْدنا َ‬
‫آباءنا‬ ‫ُ‬ ‫َ ْ‬
‫ْح ِّق أ َْم‬ ‫ِ‬
‫الل ُمبِي ٍن (‪ )54‬قـالُوا أَج ْئتَنا بِـال َ‬ ‫ضـ ٍ‬ ‫ـال لََقـ ْد ُك ْنتُ ْم أَْنتُ ْم َوآبـا ُؤ ُك ْم فِي َ‬ ‫ين(‪ )53‬ق َ‬ ‫ِِ‬
‫لَها عابد َ‬
‫ض الَّ ِذي فَطَ ـ ـ َـر ُه َّن َوأَنَا َعلى‬ ‫سـ ـ ـ ِ‬ ‫ِِ‬ ‫أَنْ َ ِ‬
‫ماوات َواأْل َْر ِ‬ ‫ب ال َّ‬ ‫ـال بَ ـ ـ ْـل َربُّ ُك ْم َر ُّ‬‫ين (‪ )55‬ق ـ ـ َ‬ ‫ت م َن الالَّعب َ‬
‫ِ‬ ‫ُّ‬ ‫اه ِدين (‪ )56‬وتَ ِ ِ‬ ‫ذلِ ُكم ِمن ال َّ ِ‬
‫ين (‪ @ )57‬فَ َج َعلَ ُه ْم‬ ‫نام ُك ْم َب ْع ـ َد أَ ْن ُت َولوا ُم ـ ْدب ِر َ‬
‫صـ َ‬ ‫اهلل أَل َكي ـ َد َّن أَ ْ‬ ‫َ‬ ‫شـ َ‬ ‫ْ َ‬
‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ِِ ِ‬ ‫َّ ِ ِ ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫ين‬‫ـل هــذا بآل َهتنا إِنَّهُ لَم َن الظَّالم َ‬ ‫ُجذاذاً إالَّ َكبيراً ل َُه ْم ل ََعل ُه ْم إل َْيه َي ْرجعُو َن (‪ )58‬قــالُوا َم ْن َف َعـ َ‬
‫يم (‪ @ @)60‬ق ــالُوا فَ ـأْتُوا بِ ـ ِـه َعلى أَ ْعيُ ِن الن ِ‬
‫َّاس‬ ‫(‪ )59‬ق ــالُوا س ـ ِمعنا َفتى ي ـ ْذ ُكرهم يق ـ ُ ِ ِ‬
‫ـال لَ ــهُ إبْ ــراه ُ‬ ‫َ ْ ً َ ُُْ ُ‬
‫ـير ُه ْم‬ ‫ِ‬ ‫يم (‪َ @)62‬‬ ‫ِِ ِ ِ ِ‬ ‫ل ََعلَّ ُه ْم يَ ْش َه ُدو َن (‪ @)61‬قالُوا أَأَنْ َ‬
‫قال بَ ْل َف َعلَهُ َكب ُ‬ ‫ْت هذا بآل َهتنا يا إبْراه ُ‬ ‫ت َف َعل َ‬
‫وه ْم إِ ْن كــانُوا َي ْن ِط ُقــو َن (‪َ @)63‬ف َر َجعُــوا إِلى أَْن ُف ِسـ ِه ْم فَقــالُوا إِنَّ ُك ْم أَْنتُ ُم الظَّالِ ُمو َن (‬ ‫هــذا فَ ْسـَئلُ ُ‬
‫ون‬‫ـال أَ َفَت ْعبـ ُدو َن ِمن ُد ِ‬ ‫الء َي ْن ِط ُقــو َن (‪ @)65‬قـ َ‬ ‫‪ )64‬ثُ َّم نُ ِكسوا على ر ُؤ ِسـ ِهم لََقـ ْد علِمت ما هـ ُـؤ ِ‬
‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َْ َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ َ ُ‬
‫اهلل أَفَال َت ْع ِقلُــو َن‬
‫ون ِ‬ ‫ُف لَ ُكم ولِما َت ْعب ـ ُدو َن ِمن ُد ِ‬ ‫ِ‬
‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ضـ ُّر ُك ْم (‪ @ )66‬أ ٍّ ْ َ‬ ‫اهلل ما ال َي ْن َفعُ ُك ْم َشـ ْيئاً َوال يَ ُ‬
‫نار ُكونِي َب ْرداً َو َسالماً‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬
‫ين (‪ُ @)68‬قلْنا يا ُ‬ ‫ص ُروا آل َهتَ ُك ْم إِ ْن ُك ْنتُ ْم فاعل َ‬ ‫(‪ @)67‬قالُوا َح ِّرقُوهُ َوانْ ُ‬
‫ـراهيم (‪ @ @ )69‬وأ ُ ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫ين (‪َ @ @ )70‬ونَ َّج ْينـ ــاهُ َولُوط ـ ـاً إِلَى‬ ‫س ـ ـ ِر َ‬ ‫َرادوا بِـ ــه َك ْيـ ــداً فَ َج َع ْلنـ ـ ُ‬
‫ـاه ُم اأْل َ ْخ َ‬ ‫َ‬ ‫َعلى إبْـ ـ َ‬
‫ـوب نافِلَـ ـ ـةً َو ُكالًّ َج َعلْنا‬ ‫ين (‪َ @ @ )71‬و َو َه ْبنا لَ ـ ــهُ إِ ْسـ ـ ـ َ‬ ‫ِ ِ ِ‬ ‫اأْل َر ِ َِّ‬
‫حاق َو َي ْع ُق ـ ـ َ‬ ‫بار ْكنا فيها ل ْلع ـ ــالَم َ‬ ‫ض التي َ‬ ‫ْ‬
‫صـ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ص ــالِ ِحين (‪ )72‬وجع ْلن ـ ُ ِ‬
‫الة‬ ‫ـل الْ َخ ْي ــرات َوإِق ـ َ‬
‫ـام ال َّ‬ ‫ـاه ْم أَئ َّمةً َي ْهـ ُدو َن بأ َْم ِرنا َوأ َْو َح ْينا إل َْيه ْم ف ْعـ َ‬ ‫َ ََ‬ ‫َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ين) (‪)73‬‬ ‫الزكاة َوكانُوا لَنا عابد َ‬ ‫َوإِ َ‬
‫يتاء َّ‬
‫____________________________________‬
‫‪909‬‬

‫التفسري ‪:‬‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫ش ـ ـ ْو َن َر َّب ُه ْم‬
‫ين يَ ْخ َ‬ ‫ض ـ ـياء و ِذ ْـكــراً لِلْمت َِّق َّ ِ‬
‫ِ‬
‫ين الذ َ‬
‫ُ َ‬ ‫ـارو َن الْ ُف ْرقـ ــا َن َو ً َ‬
‫( َولََقـ ـ ْد آَت ْينا ُموسى َوهـ ـ ُ‬
‫اع ِة ُم ْش ِف ُقو َن) ‪..‬‬ ‫ب َو ُه ْم ِم َن َّ‬
‫الس َ‬ ‫بِالْغَْي ِ‬
‫مناس @@بة ه @@ذه اآلي @@ات ملا قبلها ‪ ،‬هى أن اآلي @@ات الس @@ابقة قد ذ ّك@@ررت املش @@ركني وما‬
‫النىب ـ ص@لوات اهلل وس@المه عليه ـ من ه@دى ورمحة ‪ ،‬فعم@وا وص@موا ‪ ،‬وأعرض@وا‬ ‫جاءهم به ّ‬
‫‪ ..‬وىف ذكر موسى وهرون ‪ ،‬وما آتامها اهلل من كتاب ‪ ،‬يكشف عن أمرين ‪:‬‬
‫@ىب ليس ب@ @@دعا فيما ج @ @@اء به قومه من ه@ @@دى الس@ @@ماء ‪ ،‬بل إن أنبي@ @@اء‬ ‫أوهلما ‪ :‬أن الن @ @ ّ‬
‫كثريين ‪ ،‬ومنهم موسى وهرون ‪ ،‬قد جاءوا إىل أقوامهم بآيات اهلل وكلماته ‪..‬‬
‫وثانيهما ‪ :‬أن اليه@@ود ‪ ،‬على رغم ما ج@@اءهم من آي@@ات اهلل احلس@@ية إىل ج@@انب آي@@ات‬
‫الكت@@اب ‪ ،‬مل يس@@تقيموا على دع@@وة احلق ‪ ،‬بل ك@@ان هلم مكر بآي@@ات اهلل ‪ ،‬وكفر هبا ‪ ..‬وىف‬
‫هذا تعريض باليهود ‪ ،‬وبأهنم على ضالل ‪ ،‬وأهنم م@دعوون إىل أن يص@@ححوا عقي@دهتم على‬
‫النىب بعد قليل ‪..‬‬
‫ضوء هذا الكتاب الذي بني يدى الناس ‪ ،‬والذي سيلقاهم به ّ‬
‫ين) ما‬ ‫ض ـياء و ِذ ْـكـراً لِل ِ‬
‫ِ‬
‫ْمتَّق َ‬
‫ُ‬ ‫ـارو َن الْ ُف ْرقــا َن َو ً َ‬ ‫ـ وىف قوله تع @@اىل ‪َ ( :‬ولََقـ ْد آَت ْينا ُموسى َوهـ ُ‬
‫حيتاج إىل بيان ‪:‬‬
‫فما الفرقان؟ وما الضياء؟ وما الذكر؟‬
‫أهى ش@ @ @@يء واح@ @ @@د؟ وأن الفرق@ @ @@ان هو الض@ @ @@ياء ‪ ،‬وهو اهلدى ‪ ،‬وهو ال@ @ @@ذكر؟ أم هى‬
‫الفرقان ‪ ،‬والضياء ‪ ،‬والذكر؟‬
‫‪910‬‬

‫اختلف املفسرون ىف هذا ‪:‬‬


‫وذهب أك@@ثرهم إىل أن (الْ ُف ْرقــا َن) هو اآلي@@ات احل ّس @ية كالعصا واليد ‪ ..‬الل@@تني كانتا‬
‫من آيات موسى ‪ ..‬وأن «الضياء» هو «التوراة» وكذلك «الذكر» ‪..‬‬
‫وذهب بعض@@هم إىل أن ثالثتها ش@@ىء واحد ‪ ،‬هى «الت@@وراة»‪ .‬فهى فرق@@ان يف@@رق بني‬
‫احلق والباطل ‪ ،‬وهى ض @ @@ياء يكشف مع @ @@امل الطريق إىل احلق ‪ ،‬واخلري ‪ ،‬واإلحس @ @@ان ‪ ،‬وهى‬
‫ذكر وموعظة ‪ ،‬ملن يطلب ال@ @ @ @@ذكر واملوعظة ‪ ،‬وملن ك@ @ @ @@ان ىف قلبه إميان وتق@ @ @ @@وى ‪ ..‬حيث‬
‫يذكر فتنفعه الذكرى ‪..‬‬
‫وحنن منيل إىل ه@@ذا ال@@رأى ‪ ،‬حيث أن اآلي@@ات املادية قد ذهبت آثارها ‪ ،‬ومل يكن هلا‬
‫أثر إال فيمن شهدوها ‪ ،‬ورأوا آثارها بأعينهم ‪..‬‬
‫ونس@@بة إتي@@ان الفرق@@ان ملوسى وه@@رون ‪ ،‬مع أن موسى هو ال@@ذي أوتى ه@@ذا الكت@@اب ‪،‬‬
‫ألن ه@@رون ك@@ان مش@@اركا ملوسى ىف ال@@دعوة إىل اهلل هبذا الكت@@اب كما ق@@ال اهلل تع@@اىل ‪( :‬قَـ ْد‬
‫َك يا ُموسى)‪.‬‬ ‫أُوتِ َ‬
‫يت ُس ْؤل َ‬
‫ين) تع @@ريض ب @@اليهود ‪ ،‬وب @@أهنم ال يتق @@ون اهلل ‪ ،‬وهلذا فهم ال‬ ‫وىف قوله تع @@اىل ‪( :‬لِل ِ‬
‫ْمتَّق َ‬
‫ُ‬
‫ينتفع@@ون هبذا الفرق@@ان ‪ ،‬والض@@ياء وال@@ذكر ‪ ،‬ال@@ذي ىف أي@@ديهم ‪ ،‬وال يوقرونه ‪ ،‬بل لقد عبث@@وا‬
‫به ‪ ،‬وغريوا به وب ّدلوا فيه ‪..‬‬
‫اع ِة ُم ْش ـ ِف ُقو َن) ص @@فة‬ ‫ب َو ُه ْم ِم َن ال َّ‬
‫سـ َ‬ ‫ش ـ ْو َن َر َّب ُه ْم بِ ــالْغَْي ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫ـ وىف قوله تع @@اىل ‪( :‬الذ َ‬
‫ين يَ ْخ َ‬
‫للمتقني ‪ ..‬وىف ه@ @@ذا الوصف تع@ @@ريض ب@ @@اليهود ‪ ،‬وب@ @@أهنم ليس@ @@وا على ه@ @@ذه الص@ @@فة ‪ ،‬وأهنم‬
‫م@ @@اديّون ‪ ،‬ال يتع@ @@املون إال باحلس@ @@يات ‪ ،‬وهلذا فهم ال يؤمن@ @@ون باهلل إال إميانا طفيفا ‪ ،‬قلقا ‪،‬‬
‫وهلذا أيضا فهم ال يعمل @ @@ون لآلخ @ @@رة ‪ ،‬وال يش @ @@فقون مما يلق @ @@اهم فيها من ع @ @@ذاب اهلل ‪ ..‬إذ‬
‫ك@@ان ع@@ذاهبا غري حاضر بني أي@@ديهم ‪ ..‬إهنم ال يؤمن@@ون ب@@الغيب ‪ ،‬وال يقيم@@ون حي@@اهتم على‬
‫التعامل به ‪..‬‬
‫‪911‬‬

‫قوله تعاىل ‪:‬‬


‫بار ٌك أَْن َزلْناهُ أَفَأَْنتُ ْم لَهُ ُم ْن ِك ُرو َن)‪.‬‬ ‫ِ‬
‫( َوهذا ذ ْك ٌر ُم َ‬
‫اإلش@@ارة هنا إىل الق@@رآن الك@@رمي ‪ ..‬واإلش@@ارة إليه هبذا ‪ ،‬ال@@ذي ي@@دل على ق@@رب املش@@ار‬
‫إليه ‪ ،‬إشارة إىل قربه من األفهام ‪ ،‬ويسر تناوله ‪ ،‬والنتفاع به ‪ ،‬واالهتداء هبديه ‪..‬‬
‫والض@@مري ىف قوله تع@@اىل ‪( :‬أَفَ ـأَْنتُ ْم) قد يك@@ون خطابا للمش@@ركني ‪ ،‬وفيه هتديد هلم ‪،‬‬
‫وتعريض باليهود ‪..‬‬
‫أي أفأنتم منكرون هلذا ال@ذكر ‪ ،‬غري آخ@@ذين هبديه ‪ ،‬كما هو الش@@أن عند اليه@@ود مع‬
‫كتاهبم؟‬
‫وقد يك@ @@ون اخلط@ @@اب لليه@ @@ود ‪ ،‬واملعىن أف@ @@أنتم منك@ @@رون هلذا الكت@ @@اب ‪ ،‬كما ينك@ @@ره‬
‫هؤالء املشركون ‪ ،‬وقد عرفتم وجهه مبا عندكم من كتاب اهلل الذي ىف أيديكم؟ ‪..‬‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫ـال أِل َبِي ـ ِـه َو َق ْو ِمـ ِـه ما ه ـ ِـذ ِه‬
‫ين إِ ْذ ق ـ َ‬ ‫ِ ِ ِِ‬
‫ـل َو ُكنَّا ب ــه ع ــالم َ‬
‫ِ‬
‫يم ُر ْشـ ـ َدهُ م ْن َق ْب ـ ُ‬
‫ِ ِ‬
‫( َولََقـ ـ ْد آَت ْينا إبْ ــراه َ‬
‫ين) ‪..‬‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫التَّماثِ َِّ‬
‫آباءنا لَها عابد َ‬ ‫يل التي أَْنتُ ْم لَها عاك ُفو َن قالُوا َو َج ْدنا َ‬ ‫ُ‬
‫ومناسبة ذكر إبراهيم هنا ‪ ،‬ألنه صاحب دعوة ورسالة كموسى ‪ ،‬وهرون ‪ ،‬وحممد‬
‫‪ ،‬وألنه أبو ه@@ؤالء األنبي@@اء ‪ ..‬ومن جهة أخ@@رى ‪ ،‬ف@@إن موقف إب@@راهيم من قومه ‪ ،‬هو نفس‬
‫املوقف الذي يقفه حممد من قومه ‪ ،‬وما يعبدون من أصنام‪.‬‬
‫وإتي @ @@ان اهلل س @ @@بحانه وتع @ @@اىل إب @ @@راهيم رش @ @@ده ‪ ،‬أي منحه اإلدراك الس @ @@ليم ‪ ،‬والقلب‬
‫النقى ‪ ،‬الذي يأىب بطبيعته قبول الرجس واخلبث‪.‬‬ ‫ّ‬
‫‪912‬‬

‫ـل الَّتِي أَْنتُ ْم لَها ع ــاكِ ُفو َن) ‪..‬‬ ‫ِِ ِ‬ ‫ـ وقوله تع @@اىل ‪( :‬إِ ْذ ق ـ َ أِل ِ ِ ِ ِ‬
‫ـال َبي ــه َو َق ْومــه ما ه ــذه التَّماثي ـ ُ‬
‫ين) أي وكنا به عاملني ‪ ،‬حني قال ألبيه وقومه ه@@ذا الق@@ول ‪( :‬ما‬ ‫ِِ‬
‫متعلق بقوله تعاىل ‪( :‬عالم َ‬
‫ـل الَّتِي أَْنتُ ْم لَها ع ــاكِ ُفو َن)؟ فلقد أنكر عليهم ما هم فيه من عمى وض @@الل ‪ ،‬إذ‬ ‫ِِ ِ‬
‫ه ــذه التَّماثي ـ ُ‬
‫عكفوا على عبادة هذه التماثيل اليت صوروها بأيديهم من خشب وأحجار‪.‬‬
‫والعكوف على الشيء ‪ :‬مداومة االتصال به حاال بعد حال‪.‬‬
‫وميضى احلوار بني إب @ @ @@راهيم وقومه ‪ @...‬وكلما ج @ @ @@اءهم حبجة دامغة ‪ ،‬الت @ @ @@ووا عليه ‪،‬‬
‫يل الَّتِي أَْنتُ ْم لَها عاكِ ُفو َن)؟‪.‬‬ ‫ِِ ِ‬
‫وردوا املنطق بالسفاهة ‪ ..‬يقول هلم ‪( :‬ما هذه التَّماث ُ‬
‫وك @ @@ان ج @ @@ديرا هبم ـ لو عقل @ @@وا ـ أن ينظ @ @@روا إىل ه @ @@ذه التماثيل ‪ ،‬وأن يتعرف @ @@وا على‬
‫حقيقتها ‪ ،‬وعن اآلث@ @@ار اليت جتىن منها ملن يعب@ @@دها ‪ ..‬إهنا ال تس@ @@مع ‪ ،‬وال تعقل ‪ ،‬وال متلك‬
‫ضرا وال نفعا ‪ .،‬فكيف يعطيها إنسان والءه ‪ ،‬وينفق عمره ىف سبيلها؟‬
‫ولكنهم ال ينظرون ىف شىء من هذا ‪ ،‬بل يريدون عليه ‪ ،‬بداهة ‪:‬‬
‫ين)!‪.‬‬ ‫ِِ‬
‫ـ (قالُوا ‪َ :‬و َج ْدنا َ‬
‫آباءنا لَها عابد َ‬
‫ه@ @@ذا هو كل ما عن@ @@دهم ‪ ..‬إهنم أطف@ @@ال ص@ @@غار ‪ ،‬ال حل@ @@وم هلم ‪ ..‬أو ق@ @@رود تقلد ما‬
‫ترى ‪ ،‬ىف غري إدراك‪ .‬أو وعى ملا تقلده!‪.‬‬
‫الل ُمبِي ٍن) ‪..‬‬
‫ض ٍ‬ ‫قال لََق ْد ُك ْنتُ ْم أَْنتُ ْم َوآبا ُؤ ُك ْم فِي َ‬
‫( َ‬
‫إنه ليس حجة أن يضل إنس@ @ @@ان ألن من قبله ك@ @ @@ان على ض@ @ @@الل ‪ ..‬وما ج@ @ @@دوى أن‬
‫يك @ @ @@ون لإلنس @ @ @@ان عقل ينظر به ىف األم @ @ @@ور ‪ ،‬ويتع @ @ @@رف إىل ما هو حق أو باطل ‪ ،‬وخري أو‬
‫شر!؟ ومل إذن يستعمل اإلنسان عينيه ‪ ،‬وال يستغىن عنهما ىف التعرف‬
‫‪913‬‬

‫على األش @@ياء حول @@ه؟ إن ه @@ذا املنطق يقضى ب @@أن يغمض اإلنس @@ان عينيه ‪ ،‬مث يضع ي @@ده على‬
‫كتف أي ذى عينني ‪ ،‬ليقوده ويتبع خطاه!‬
‫هكذا ىف هتكم وسخرية ‪ ،‬يلقون ه@@ذا املنطق املش@@رق ‪ ..‬وهك@@ذا يس@@تقبلون اجل ّد هبذا‬
‫اهلزل األمحق‪.‬‬
‫ض الَّ ِذي فَطَـ ـ ـ ـ ـ ـ َـر ُه َّن َوأَنَا َعلى ذلِ ُك ْم ِم َن‬
‫ماوات َواأْل َْر ِ‬‫سـ ـ ـ ـ ـ ـ ِ‬ ‫ب ال َّ‬ ‫ـال بَـ ـ ـ ـ ـ ـ ْـل َربُّ ُك ْم َر ُّ‬
‫(قـ ـ ـ ـ ـ ـ َ‬
‫ين)‪.‬‬ ‫َّ ِ ِ‬
‫الشاهد َ‬
‫لقد أض @@رب إب @@راهيم عن س @@خفهم ه @@ذا ‪ ،‬وقطع عليهم الطريق إىل ه @@ذا اهلزل ال @@ذي‬
‫سـ ـ ِ‬
‫ماوات‬ ‫أرادوا أن يس@ @@وقوه إليه ‪ ،‬ومضى يق@ @@رر احلق ال@ @@ذي ي@ @@دعوهم إليه ‪َ ( :‬ربُّ ُك ْم َر ُّ‬
‫ب ال َّ‬
‫واأْل َر ِ ِ‬
‫الرب الذي جيب أن يعبد ‪ ،‬وإن كان ال ي@رى ‪ ،‬ف@إن آث@اره‬ ‫ض الَّذي فَطََر ُه َّن) هذا هو ّ‬ ‫َ ْ‬
‫تدل عليه ‪ ،‬وتشهد على عظمته ‪ ،‬وجالله ‪ ،‬وقدرته وعلمه ‪ ،‬وقد آمن إبراهيم هبذا اإلله ‪،‬‬
‫وشهد شهادة احلق له ‪..‬‬
‫ِ‬ ‫ُّ‬ ‫(وتَ ِ ِ‬
‫ين) ‪..‬‬ ‫نام ُك ْم َب ْع َد أَ ْن ُت َولوا ُم ْدب ِر َ‬ ‫َص َ‬ ‫اهلل أَل َكي َد َّن أ ْ‬ ‫َ‬
‫أسر إبراهيم ذلك ىف نفسه ‪ ،‬وأراد أن يريهم ه@@ذا الق@@ول ىف ص@@ورة عملية ‪ ،‬بعد‬ ‫لقد ّ‬
‫أن مل جيد القول آذانا تسمع ‪ ،‬أو قلوبا تعى ‪ ..‬فهذا هو األسلوب ال@@ذي ميكن أن يعامل به‬
‫األطفال ‪ ،‬وصغار العقول من الرجال ‪..‬‬
‫وقد ص@ @ ّدر إب@ @@راهيم النية اليت انتواها ىف ش@ @@أن األص@ @@نام ‪ ،‬بالقسم ‪ ،‬حىت يؤكد ه@ @@ذه‬
‫النية اليت صح عليها رأيه ىف ه@ @@ذا املوقف ‪ ،‬وحىت ال يرجع عنها إذا هو زايل موقفه ه@ @@ذا ‪،‬‬
‫وبردت حرارة املوقف!‪.‬‬
‫والكيد لألصنام ‪ ،‬هو إعمال احليلة ‪ ،‬وإحكام التدبري فيما يريده هبا‪.‬‬
‫(فَ َج َعلَ ُه ْم ُجذاذاً إِاَّل َكبِيراً ل َُه ْم ل ََعلَّ ُه ْم إِل َْي ِه َي ْر ِجعُو َن)‪.‬‬
‫وهك @ @ @@ذا ك @ @ @@ان إب @ @ @@راهيم وت @ @ @@دبريه ‪ ..‬لقد دخل على م @ @ @@رابض األص @ @ @@نام ىف غفلة من‬
‫عابديها ‪ ،‬مث أعمل فيها يده حتطيما ‪ ،‬وتكسريا ‪ ،‬حىت جعلها ( ُجذاذاً)‬
‫‪914‬‬

‫أي قطعا صغرية متناثرة ‪ ..‬إال كبري ه@ذه األص@نام ‪ ،‬فإنه أبقى علي@ه‪ .‬ألمر أراده ‪ ،‬سيكشف‬
‫غ إِلى آلِ َهتِ ِه ْم فَقـ َ‬
‫ـال أَال‬ ‫عنه فيما بعد ‪ ..‬وىف هذا يقول اهلل تع@@اىل ىف س@@ورة الص@@افات ‪( :‬فَرا َ‬
‫ض ْرباً بِالْيَ ِمي ِن‪( ).‬اآليات ‪ 91 :‬ـ ‪)93‬‬ ‫تَأْ ُكلُو َن؟‪ .‬ما لَ ُك ْم ال َت ْن ِط ُقو َن؟‪ .‬فَرا َ‬
‫غ َعلَْي ِه ْم َ‬
‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ِِ ِ‬
‫(قالُوا َم ْن َف َع َل هذا بآل َهتنا ‪ ..‬إِنَّهُ لَم َن الظَّالم َ‬
‫ين) ‪..‬‬
‫وحني رأى الق@ @ @ @ @ @@وم آهلتهم حطاما ‪ ،‬وقد ج@ @ @ @ @ @@اءوا إليها عاب@ @ @ @ @ @@دين ‪ ،‬أخ@ @ @ @ @ @@ذهتم احلرية‬
‫والدهشة ‪ ،‬واس@ @ @ @@تولت عليهم ح@ @ @ @@ال من ال@ @ @ @@ذهول والوج@ @ @ @@وم ‪ ..‬فلما زايلتهم تلك احلال ‪،‬‬
‫ـل ه ــذا بِآلِ َهتِن ــا؟) يقولوهنا وال يس @@ألون أنفس @@هم ‪ :‬كيف يفعل‬ ‫جعل @@وا يتس @@اءلون ‪َ ( :‬م ْن َف َع ـ َ‬
‫بآهلتهم هذا ‪ ،‬وال تستطيع أن ت@@دفع عن نفس@@ها ما يك@@اد هلا ب@@ه؟ أآهلة حتت@@اج إىل من حيرس@@ها‬
‫وحيميها؟ مل يلتفتوا إىل شىء من هذا ‪ ،‬بل مضوا يبحث@@ون عن اجلاين ال@@ذي فعل تلك الفعلة‬
‫ِِ‬ ‫ِ‬
‫ين)!‬ ‫‪( ..‬إِنَّهُ لَم َن الظَّالم َ‬
‫يم) ‪..‬‬ ‫(قالُوا س ِمعنا َفتى ي ْذ ُكرهم ي ُ ِ ِ‬
‫قال لَهُ إبْراه ُ‬ ‫َ ْ ً َ ُُْ ُ‬
‫والتفت الق @ @ @ @ @ @ @ @@وم إىل من حيقر ه @ @ @ @ @ @ @ @@ذه اآلهلة ‪ ،‬ويبغض مقامها فيهم ‪ ،‬فلم جيدوا غري‬
‫إبراهيم ‪ ،‬الذي أنكر عليهم عبادهتا ‪ ،‬وسخر من قبل هبم وهبا!‬
‫(قالُوا فَأْتُوا بِ ِه َعلى أَ ْعيُ ِن الن ِ‬
‫َّاس ل ََعلَّ ُه ْم يَ ْش َه ُدو َن) ‪..‬‬
‫وج@@اءوا ب@@إبراهيم ‪ ،‬ووض@@عوه موضع املس@@اءلة واالهتام ‪ ،‬على أعني الن@@اس ‪ ،‬ومبش@@هد‬
‫هزها هذا احلدث العظيم!‬ ‫من اجلموع احلاشدة ‪ ،‬اليت ّ‬
‫يم)؟‪.‬‬ ‫ِِ ِ ِ ِ‬ ‫(قالُوا ‪ :‬أَأَنْ َ‬
‫ْت هذا بآل َهتنا يا إبْراه ُ‬ ‫ت َف َعل َ‬
‫وه ْم إِ ْن كانُوا َي ْن ِط ُقو َن؟)‪.‬‬ ‫قال ‪ :‬بَ ْل َف َعلَهُ َكبِ ُير ُه ْم هذا ‪ ..‬فَ ْسَئلُ ُ‬‫( َ‬
‫هبذا األسلوب الساخر القاتل ‪ ،‬جييب إبراهيم على اهتام القوم له‪.‬‬
‫أنا مل أفعل ه@ @@ذا بتلك األص@ @@نام ‪ ،‬بل ال@ @@ذي فعله ‪ ،‬هو كب@ @@ريهم ه@ @@ذا ‪ ،‬ال@ @@ذي ترونه‬
‫قائما على هذه األشالء! لقد قامت بينه وبني أتباعه معركة ‪ ،‬وليس هذا ببعيد ‪،‬‬
‫‪915‬‬

‫فما أك@ @ @@ثر ما يقع اخلالف بني املتب@ @ @@وع والت@ @ @@ابعني ‪ ،‬وما أك@ @ @@ثر ما ميلك املتب@ @ @@وع من الق@ @ @@وة‬
‫والس@ @@لطان ما يض@ @@رب به أتباعه الض@ @@ربة القاض@ @@ية ‪ ..‬وليس من املس@ @@تبعد إذن أن يك@ @@ون قد‬
‫وقع خالف بني ه@ @ @ @ @@ذا الص@ @ @ @ @@نم الكبري ‪ ،‬وبني أتباعه ‪ ،‬فأخ@ @ @ @ @@ذهم ببأسه ‪ ،‬ون ّكل هبم ه@ @ @ @@ذا‬
‫التنكيل الذي ترون!‬
‫وه ْم ‪ ..‬إِ ْن كــانُوا َي ْن ِط ُقــو َن) أي إن ك@@ان ىف ق@@درهتم‬ ‫ف@@إن كنتم ال تص@@دقون ‪( ..‬فَ ْسـَئلُ ُ‬
‫أن ينطق @ @ @ @@وا ‪ ،‬وأن يكش @ @ @ @@فوا عن اجلاين ال @ @ @ @@ذي جىن عليهم ‪ ،‬وحطم رءوس @ @ @ @@هم ‪ ،‬وم @ @ @ @@زق‬
‫أشالءهم!‬
‫ومل ير إبراهيم أن يسألوا هذا الصنم الكبري ‪ ..‬بل دعاهم إىل أن يس@@ألوا اجملىن عليهم‬
‫‪ ،‬فهم أع@ @ @ @ @@رف مبن جىن عليهم ‪ ،‬إن ك@ @ @ @ @@ان هبم ق@ @ @ @ @@درة على الكالم ‪ ..‬أما اجلاين فقد ينكر‬
‫جنايته ‪ ،‬وال يكشف عن فعلته ‪ ..‬وه@ @ @@ذا هو الس@ @ @ ّ@ر ىف أن طلب إب@ @ @@راهيم إليهم أن يس@ @ @@ألوا‬
‫اجملىن عليهم ال اجلاين ‪..‬‬
‫ه@@ذا ‪ ،‬وقد أك@ثر املفس@@رون ىف احلديث عن اهتام إب@@راهيم لألص@نام ‪ ،‬ودفع التهمة عنه‬
‫‪ ..‬ودخل@@وا ىف ج@@دل طويل ح@@ول ه@@ذا الك@@ذب ‪ ،‬واملواطن اليت يب@@اح فيها للم@@رء أن يك@@ذب‬
‫‪ ،‬وع ّدوا هذا الذي كان من إبراهيم من الكذب املب@اح املتج@اوز عنه ‪ ..‬ألنه من قبيل التقيّة‬
‫‪ ،‬اليت جيوز املؤمن فيها أن ينطق بكلمة الكفر إذا تع @ @ @ @ @ @ @@رض للبل @ @ @ @ @ @ @@وى ‪ ،‬ما دام قلبه مطمئنا‬
‫باإلميان ‪..‬‬
‫واألمر ال حيت @@اج إىل ش @@ىء من ه @@ذا ‪ ،‬فما ق @@ال إب @@راهيم ه @@ذا الق @@ول ‪ ،‬وهو يق @ ّدر أن‬
‫القوم يصدقونه ‪ ،‬أو يأخذون به ‪ ..‬وعندئذ ميكن أن يقال إن ه@ذا ك@ذب مب@اح ومعف ّ@و عنه‬
‫‪ ..‬وإمنا ق@@ال إب @@راهيم ما ق @@ال ‪ ،‬اس@@تهزاء ب@@القوم ‪ ،‬وس @@خرية منهم ‪ ،‬وكش @@فا هلم عن حقيقة‬
‫ه@@ذه األحج@@ار ‪ ..‬وهلذا ردوا عليه قوله ‪( :‬لََقـ ْد علِمت ما هـ ُـؤ ِ‬
‫الء َي ْن ِط ُقــو َن)! أي إنك تق@@ول‬ ‫َ ْ َ‬ ‫ّ‬
‫هذا القول ساخرا مستهزئا ‪ ،‬ألنك‬
‫‪916‬‬

‫تعلم أهنم ال ينطقون ‪ ..‬وإذن فال كذب من إبراهيم ‪ ،‬وإمنا هو احلق الص@@راح ‪ ،‬ىف أس@لوب‬
‫جمازى!!‬
‫( َف َر َجعُوا إِلى أَْن ُف ِس ِه ْم فَقالُوا إِنَّ ُك ْم أَْنتُ ُم الظَّالِ ُمو َن)‪.‬‬
‫أي إنه حني جاهبهم إبراهيم هبذا اجلواب هبت@وا ‪ ،‬ووقع ىف أنفس@هم ه@ذا الق@ول ال@ذي‬
‫قاله ‪ ،‬أنه حق ‪ ،‬وأهنم على ض@@الل ‪ ،‬وما ك@@ان هلم أن يعب@@دوا ه@@ذه ال @ ّدمى ‪ ،‬وتلك اخلشب‬
‫املسندة ‪ ..‬إهنا حلظة خاطفة أشرقت فيها أنفسهم بنور احلق ‪ ،‬واستبان هلم على ض@@وء ه@@ذه‬
‫اللمعة أهنم على ض@ @ @ @@الل ‪ ،‬وأهنم قد ظلم@ @ @ @@وا أنفس@ @ @ @@هم هبذا الض@ @ @ @@الل ال@ @ @ @@ذي هم فيه ‪ ،‬ولو‬
‫وج @@دت ه @@ذه الش @@رارة املنطلقة من أعم @@اق فط @@رهتم ‪ ،‬ش @@يئا من العقل املستبصر ‪ ،‬والبص @@رية‬
‫الناف@@ذة ـ الش@@تعلت ه@@ذه الش@@رارة ىف كي@@اهنم ‪ ،‬وألض@@اءت عق@@وهلم وقل@@وهبم ‪ ،‬ولط@@ردت ه@@ذا‬
‫الظالم الك@ @@ثيف املخيم عليهم ‪ ..‬ولكن ما أن ك@ @@ادت ه@ @@ذه الش@ @@رارة املض@ @@يئة تنطلق ‪ ،‬حىت‬
‫نفخ فيها اهلوى ‪ ،‬والضالل ‪ ،‬فماتت ىف مهدها ‪ ،‬وخبت ىف مكاهنا!‬
‫الء َي ْن ِط ُقو َن) ‪..‬‬ ‫هؤ ِ‬ ‫ت ما ُ‬ ‫سوا َعلى ُر ُؤ ِس ِه ْم ‪ ..‬لََق ْد َعلِ ْم َ‬ ‫ِ‬
‫(ثُ َّم نُك ُ‬
‫@ح وضع الق @@وم ىف احلي @@اة ‪ ،‬حني أوقفهم إب @@راهيم على أق @@دامهم ‪ ،‬وأراهم من‬ ‫لقد ص @ ّ‬
‫آهلتهم ما هى عليه من ذلّة وض @@عف واستس @@الم ‪ ،‬ف @@رأوا وجه احلق مش @@رقا مض @@يئا ‪ ..‬ولكن‬
‫س @ @@رعان ما غلب عليهم ض @ @@الهلم ‪ ،‬فع @ @@ادوا إىل وض @ @@عهم األول املنك @ @@وس ‪ ،‬ونكس @ @@وا على‬
‫رءوس@ @@هم ‪ ،‬ف@ @@رأوا األش@ @@ياء ىف وض@ @@عها املقل@ @@وب ‪ ،‬كما ك@ @@انوا يروهنا من قبل ‪ ..‬رأوا احلق‬
‫ت ‪ ..‬ما‬ ‫حياجونه هبذا الض @ @@الل ‪( :‬لََقـ ـ ْد َعلِ ْم َ‬ ‫ب @ @@اطال ‪ ،‬والباطل حقا ‪ ..‬وع @ @@ادوا إىل إب @ @@راهيم ّ‬
‫هؤ ِ‬
‫الء َي ْن ِط ُقو َن؟)‬ ‫ُ‬
‫ُف لَ ُك ْم َولِما‬
‫ضـ ـ ـ ـ ـ ُّر ُك ْم أ ٍّ‬ ‫ون ِ‬
‫اهلل ما ال َي ْن َفعُ ُك ْم َشـ ـ ـ ـ ـ ْيئاً َوال يَ ُ‬ ‫ـال ‪ :‬أَ َفَت ْعبـ ـ ـ ـ ـ ُدو َن ِمن ُد ِ‬
‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫(ق ـ ـ ـ ـ َ‬
‫اهلل‪ .‬أَفَال َت ْع ِقلُو َن)؟‬
‫ون ِ‬ ‫َت ْعب ُدو َن ِمن ُد ِ‬
‫ْ‬ ‫ُ‬
‫‪917‬‬

‫رد إب @@راهيم على الق @@وم ‪ ،‬إنه ينكر عليهم ه @@ذا الض @@الل ال @@ذي هم فيه ‪،‬‬ ‫هك @@ذا ك @@ان ّ‬
‫حىت إهنم ليع@@رتفون بألس@@نتهم على ه@@ؤالء اآلهلة ب@@أهنم ىف عجز ظ@@اهر ‪ ،‬وأهنم ال ينطق@@ون ‪..‬‬
‫الء َي ْن ِط ُقو َن) ‪ ..‬هكذا يقولوهنا ىف بالهة وغباء ‪ ..‬فيجبههم إبراهيم هبذا‬ ‫هؤ ِ‬ ‫ت ما ُ‬ ‫(لََق ْد َعلِ ْم َ‬
‫@ح بعاقل‬ ‫ون ِ‬ ‫ال @@رد املفحم ‪( :‬أَ َفَت ْعب ـ ُدو َن ِمن ُد ِ‬
‫ض ـ ُّر ُك ْم؟) ‪ ..‬أفيص@ ّ‬
‫اهلل ما ال َي ْن َفعُ ُك ْم َش ـ ْيئاً َوال يَ ُ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬
‫ويعريها من كل قوة ‪ ،‬مث يع@@ود إليها خاض@@عا ذليال ‪،‬‬ ‫لعلم هذا العلم من أمر تلك األصنام ‪ّ ،‬‬
‫يتخاضع بني ي @@ديها ‪ ،‬ويع ّفر وجهه بالس @@جود حتت أق @@دامها؟ إن ذلك ال يك @@ون من إنس @@ان‬
‫فيه مشكة من عقل ‪ ..‬وهلذا أتبع إبراهيم هذا القول بقوله ‪:‬‬
‫اهلل ‪ ..‬أَفَال َت ْع ِقلُــو َن)؟ ورمبا ق@@ال إب @@راهيم ه @@ذا فيما‬ ‫ون ِ‬‫ُف لَ ُكم ولِما َت ْعب ـ ُدو َن ِمن ُد ِ‬
‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫(أ ٍّ ْ َ‬
‫ون ِ‬
‫اهلل ما ال َي ْن َفعُ ُك ْم‬ ‫بينه وبني نفسه ‪ ،‬فبعد أن واجههم هبذا اإلنك@ @ @ @@ار ‪( :‬أَ َفَت ْعبـ ـ ـ ـ ُدو َن ِمن ُد ِ‬
‫ْ‬ ‫ُ‬
‫ض ُّر ُك ْم؟) رجع إىل نفسه ‪ ،‬فأدار فيها هذا احلديث بينه وبينها ‪!..‬‬ ‫َش ْيئاً َوال يَ ُ‬
‫ُف) هنا ‪ ،‬معناها ‪ :‬بع@ @ @ @ @@دا لكم وملا تعب@ @ @ @ @@دون من دون اهلل‪ .‬فالت@ @ @ @ @@أفف من‬ ‫وكلمة (أ ٍّ‬
‫الش@ @@يء ‪ ،‬يشري إىل الت@ @@أذى منه ‪ ،‬والض@ @@يق به ‪ ..‬وهو حكاية للص@ @@وت اليت حيدثه اإلنس@ @@ان‬
‫بأنفه وفمه ‪ ،‬حني يش@ @ @ @ @ @ ّ@م رحيا خبيثة ‪ ..‬مث أتبع ذلك هبذا االس@ @ @ @ @ @@تفهام اإلنك@ @ @ @ @ @@ارى ‪( :‬أَفَال‬
‫َت ْع ِقلُو َن)؟ أي أمالكم عقول كسائر الناس ‪ ،‬حىت تستسيغوا هذا املنكر ‪ ،‬وتسكنوا إليه؟‪.‬‬
‫ِِ‬ ‫ِ‬
‫ين)‪.‬‬ ‫ص ُروا آل َهتَ ُك ْم إِ ْن ُك ْنتُ ْم فاعل َ‬
‫(قالُوا َح ِّرقُوهُ َوانْ ُ‬
‫ه@ذا هو موقف الع@اجز ‪ ،‬أم@ام حجة العقل واملنطق ‪ ..‬إنه ال ميلك إال أن يتح@ول إىل‬
‫حيوان ‪ ،‬ينطح بقرونه ‪ ،‬وينهش مبخالبه وأنيابه!‬
‫لقد اهتم@@وا إب@@راهيم ‪ ،‬وأدان@@وه ‪ ،‬وأص@@دروا حكمهم عليه ‪َ ( :‬ح ِّرقُــوهُ)! هك@@ذا بكلمة‬
‫واحدة يقضون قضاءهم فيه ‪..‬‬
‫‪918‬‬

‫اهجموا عليه ‪ ..‬حرقوه ‪..‬‬


‫صـ ـ ـ ُروا آلِ َهتَ ُك ْم) حتريض على إمض@ @ @@اء ه@ @ @@ذا احلكم وإنف@ @ @@اذه ‪ ،‬فهو‬ ‫وىف ق@ @ @@وهلم ‪َ ( :‬وانْ ُ‬
‫انتص@ @ @@ار ال ألشخاص@ @ @@هم ‪ ،‬وإمنا هو انتص@ @ @@ار آلهلتهم ‪ ..‬فمن مل يقف معهم ىف ه@ @ @@ذه اجلبهة‬
‫املدافعة عن اآلهلة ‪ ،‬ومن مل يض@ @ @ @@رب بي@ @ @ @@ده ىف وجه ه@ @ @ @@ذا املعت@ @ @ @@دى عليها ‪ ،‬فلينتظر غضب‬
‫حيل به من بالء!!‬ ‫اآلهلة ‪ ،‬وما ّ‬
‫ِِ‬
‫ين) حتريض بعد حتريض ‪ ،‬على إنف@ @ @ @@اذ احلكم ال@ @ @ @@ذي‬ ‫وىف ق @ @ @ @@وهلم ‪( :‬إِ ْن ُك ْنتُ ْم ف ـ ـ ــاعل َ‬
‫حكموا به على إبراهيم ‪..‬‬
‫أي إن كنتم منتص @ @ @@رين آلهلتكم ‪ ،‬غري خ @ @ @@اذلني هلا ‪ ،‬فحرق @ @ @@وا إب @ @ @@راهيم ‪ ،‬وانص @ @ @@روا‬
‫آهلتكم‪ .‬أما إذا خذلتموها ‪ ..‬فهذا أمر آخر!!‬
‫يم)‪.‬‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫نار ُكوني َب ْرداً َو َسالماً َعلى إبْراه َ‬ ‫( ُقلْنا يا ُ‬
‫وهك @@ذا أمضى الق @@وم حكمهم ىف إب @@راهيم ‪ ،‬فأوق @@دوا ن @@ارا عظيمة ‪ ،‬وألق @@وه فيها ‪..‬‬
‫ولكن رمحة اهلل تداركته ‪ ،‬وعنايته أح@@اطت به ‪ ،‬فلم خيلص إليه من الن@@ار أذى ‪ ،‬بل ك@@انت‬ ‫ّ‬
‫بردا وسالما عليه ‪..‬‬
‫يم) ‪ ..‬بذكر إبراهيم ‪ ،‬بدال من الضمري ـ ىف هذا تكرمي‬ ‫ِ ِ‬
‫وىف قوله تعاىل ‪َ ( :‬على إبْراه َ‬
‫إلبراهيم ‪ ،‬ورفع لقدره ‪ ،‬ومتجيد المسه!‬
‫وانظر إىل ق@درة اهلل ‪ ..‬النّ@ار املتأججة اجلامحة ‪ ،‬يلقى ب@إبراهيم ىف هليبها املتض ّ@رم دون‬
‫أن جيد هلذه النار أثرا من احلرارة ‪ ..‬بل لقد حتولت إىل برد حيتاج املرء معه إىل نار تدفئه!‬
‫فكان قوله تعاىل ‪َ ( :‬و َسالماً) هو األمر الذي صدعت له النار فأعطت بردا لطيفا ال‬
‫العشى بعد هنار قائظ ‪..‬‬ ‫ّ‬ ‫تقشعر منه األبدان ‪ ..‬بل هو أشبه بنسائم‬
‫‪919‬‬

‫(وأ ُ ِ‬
‫ين)‪.‬‬‫س ِر َ‬ ‫َرادوا بِه َك ْيداً فَ َج َعل ُ‬
‫ْناه ُم اأْل َ ْخ َ‬ ‫َ‬
‫أي إهنم أرادوا أن يكي@@دوا إلب@@راهيم ‪ ،‬وأن يقض@@وا عليه هبذه امليتة الش@@نعاء ‪ ..‬فنج@@اه‬
‫اهلل منهم ‪ ،‬وألبسهم ثوب اخلسران ىف الدنيا ‪ ،‬إذ مل ينالوا من إبراهيم من@اال ‪ ،‬وأع@ ّد اهلل هلم‬
‫ىف اآلخرة عذابا عظيما ‪..‬‬
‫ين)‪.‬‬ ‫ِ ِ ِ‬ ‫(ونَ َّج ْيناهُ ولُوطاً إِلَى اأْل َر ِ َِّ‬
‫بار ْكنا فيها للْعالَم َ‬ ‫ض التي َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫أي أن اهلل س @@بحانه وتع @@اىل بعد أن خلص إب @@راهيم من الن @@ار ‪ ،‬خلّصه ك @@ذلك من يد‬
‫ب إِلى َربِّي َس ـَي ْه ِدي ِن)‪ .‬وقد جنّى اهلل معه لوطا‬ ‫ِ‬
‫ـال إِنِّي ذاه ٌ‬ ‫ه@@ؤالء الض@@الني ‪ ،‬ف@@اعتزهلم ‪َ ( ،‬وقـ َ‬
‫‪ ،‬ألن لوطا عليه‌السالم ‪ ،‬هو وح@@ده ال@@ذي اس@@تجاب له ‪ ،‬وآمن به ‪ ،‬كما يق@@ول س@@بحانه‬
‫هاجر إِلى ربِّي إِنَّهُ هو الْع ِزيز ال ِ‬ ‫ِ‬
‫يم) (‪ : 26‬العنكبوت)‪.‬‬ ‫ْحك ُ‬ ‫َُ َ ُ َ‬ ‫َ‬ ‫قال إِنِّي ُم ٌ‬ ‫ط َو َ‬ ‫آم َن لَهُ لُو ٌ‬ ‫‪( :‬فَ َ‬
‫ِِ‬ ‫حاق ويع ُق ـ ِ‬
‫ين)‪.‬‬ ‫وب نافلَةً َو ُكاًّل َج َعلْنا صالح َ‬ ‫( َو َو َه ْبنا لَهُ إِ ْس َ َ َ ْ َ‬
‫أي أن اهلل س@@بحانه وتع@@اىل بعد أن جنّى إب@@راهيم من قومه ‪ ،‬أكرمه اهلل تع@@اىل ‪ ،‬وأق@@ام‬
‫له من نس@@له قوما ‪ ،‬ف@@وهب له إس@@حق ‪ ،‬مث وهب له إلس@@حق يعق@@وب ‪ ،‬وب@@ارك نس@@له وكثّ@@ره‬
‫‪ ،‬فك @@ان أمة ‪ ..‬وىف قوله تع @@اىل ‪( :‬نافِلَ ـةً) ـ إش @@ارة إىل أن يعق @@وب مل يولد إلب @@راهيم ‪ ،‬وإمنا‬
‫ولد البنه إس@ @ @ @ @ @@حق ‪ ..‬فهو ابن ابن له وليس ابنا ‪ ..‬فهو هبذا نافلة ‪ ،‬أي زي@ @ @ @ @ @@ادة على الولد‬
‫املوهوب‪.‬‬
‫ِِ‬
‫ين) إش @@ارة إىل أن إس @@حق ويعق @@وب مل يكونا‬ ‫وىف قوله تع @@اىل ‪َ ( :‬و ُكاًّل َج َعلْنا ص ــالح َ‬
‫جمرد ول@@دين ‪ ،‬بل كانا ول@@دين ص@@احلني ‪ ،‬من عب@@اد اهلل الص@@احلني ‪ ،‬كما ك@@ان أبومها إب@@راهيم‬
‫‪ ،‬صاحلا من الصاحلني ‪..‬‬
‫ـرات وإِقـ ــام ال َّ ِ‬
‫ـاهم أَئِ َّمةً ي ْهـ ـ ُدو َن بِأ َْم ِرنا وأَوح ْينا إِل َْي ِهم فِ ْعـ ــل الْ َخ ْيـ ـ ِ‬
‫ص ـ ـالة َوإِيت ـ َ‬
‫ـاء‬ ‫َ َ‬ ‫ْ َ‬ ‫ََْ‬ ‫َ‬ ‫( َو َج َع ْلنـ ـ ُ ْ‬
‫ين)‪.‬‬ ‫ِِ‬ ‫َّ ِ‬
‫الزكاة َوكانُوا لَنا عابد َ‬
‫‪920‬‬

‫أي ومل يكونوا صاحلني ىف أنفسهم وحسب ‪ ،‬بل كانوا دعاة ص@@الح ‪ ،‬وأئمة ه@@دى‬
‫‪ ،‬يدعون الناس إىل اخلري ‪ ،‬ويهدوهنم إىل طريق الفالح‪.‬‬
‫وىف قوله تع@ @@اىل ‪َ ( :‬ي ْهـ ـ ُدو َن بِأ َْم ِرنا) إش@ @@ارة إىل أهنم ك@ @@انوا رسال ‪ ،‬ي@ @@وحى إليهم من‬
‫عند اهلل‪ .‬وهبذا الوحى يبش@رون الن@اس وين@ذروهنم ‪ ،‬وي@دعوهنم إىل اإلميان باهلل والي@وم اآلخر‬
‫‪ ،‬وعمل الصاحلات‪.‬‬
‫ـرات وإِقــام ال َّ ِ‬
‫وه @@ذا ما يشري إليه قوله تع @@اىل ‪( :‬وأَوح ْينا إِل َْي ِهم فِ ْعــل الْ َخ ْيـ ِ‬
‫ص ـالة َوإِيتـ َ‬
‫ـاء‬ ‫َ َ‬ ‫ْ َ‬ ‫ََْ‬
‫كاة) أي أن ما أوحاه اهلل إليهم هو فعل اخلريات وإقام الصالة وإيتاء الزكاة ‪..‬‬ ‫الز ِ‬
‫َّ‬
‫ين) إش @@ارة إىل أن ه @@ؤالء الرسل مل تلههم دع @@وة‬ ‫ِِ‬
‫وىف قوله تع @@اىل ‪َ ( :‬وكــانُوا لَنا عاب ــد َ‬
‫الن @ @@اس إىل اهلدى ‪ ،‬عن ذكر ‪ ،‬اهلل ومل يص@ @ @@رفهم ذلك عن أن يأخ@ @ @@ذوا حظهم ك@ @ @@امال من‬
‫عبادة اهلل ‪ ،‬وذكره ىف كل حملة وخاطرة‪.‬‬
‫____________________________________‬

‫اآليات ‪ 74( :‬ـ ‪)82‬‬


‫ث إَِّن ُه ْم‬‫ـل الْ َخب ــائِ َ‬
‫ت َت ْع َمـ ُ‬ ‫( َولُوطـ ـاً آَت ْين ــاهُ ُح ْكمـ ـاً َو ِع ْلمـ ـاً َونَ َّج ْين ــاهُ ِم َن الْ َق ْريَ ـ ِـة الَّتِي ك ــانَ ْ‬
‫ين (‪َ )75‬ونُوحـ ـاً إِ ْذ‬ ‫ك ــانُوا َقــوم سـ ـو ٍء فا ِسـ ـ ِقين (‪ )74‬وأَ ْد َخ ْلن ــاهُ فِي رحمتِنا إِنَّهُ ِمن ال َّ ِ ِ‬
‫صـ ـالح َ‬ ‫َ‬ ‫َ َْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َْ َ ْ‬
‫صـ ـ ْرناهُ ِم َن الْ َقـ ْـوِم‬
‫ب ال َْعظ ِيم (‪َ )76‬ونَ َ‬
‫ن ــادى ِمن َقب ــل فَاسـ ـتجبنا لَ ــه َفنَ َّجين ــاهُ وأ َْهلَ ــه ِمن الْ َكــر ِ ِ‬
‫ْ ْ ُ ْ َ َْ ُ ْ َ ُ َ ْ‬
‫ـاهم أ ِ‬ ‫ٍ‬ ‫َّ ِ‬
‫داو َد َو ُس ـ ـلَْيما َن إِ ْذ‬
‫ين (‪َ )77‬و ُ‬ ‫َج َمع َ‬‫ين َـك ـ َّـذبُوا بِآياتِنا إَِّن ُه ْم كـ ــانُوا َقـ ـ ْـو َم َس ـ ـ ْوء فَأَ ْغ َرقْنـ ـ ُ ْ ْ‬ ‫الذ َ‬
‫ِِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫شــ ْ ِ ِ‬ ‫ْح ــر ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫َّمناها‬ ‫ين (‪َ )78‬ف َفه ْ‬ ‫ت فيـ ــه غَنَ ُم الْ َقـ ـ ْـوم َو ُكنَّا ل ُحكْم ِه ْم شـ ــاهد َ‬ ‫ث إِ ْذ َن َف َ‬ ‫يَ ْح ُكمـ ــان في ال َـ ْ‬
‫ِِ‬ ‫سلَْيما َن و ُكالًّ آَت ْينا حكْماً و ِع ْلمـاً وسـخَّرنا مــع داو َد ال ِ‬
‫ين (‬ ‫سـبِّ ْح َن َوالطَّْـي َـر َو ُكنَّا فــاعل َ‬ ‫ـال يُ َ‬
‫ْجبـ َ‬ ‫ََ ْ ََ ُ‬ ‫ُ َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫ص ْن َعةَ لَبُ ٍ‬
‫وس‬ ‫‪َ )79‬و َعلَّ ْمناهُ َ‬
‫‪921‬‬

‫ج ِري بِـأ َْم ِر ِه‬ ‫صنَ ُكم ِمن بأ ِْس ُكم َف َهل أَْنتُم شاكِرو َن (‪ )80‬ولِسـلَْيما َن الـ ِّـريح عا ِ‬
‫صـ َفةً تَ ْـ‬ ‫لَ ُكم لِتُ ْح ِ‬
‫َ‬ ‫َ ُ‬ ‫ُ‬ ‫ْ َْ ْ ْ ْ‬ ‫ْ‬
‫ض الَّتِي بار ْكنا فِيها و ُكنَّا بِ ُك ِّل َشي ٍء عــالِ ِمين (‪ @)81‬و ِمن ال َّ ِ‬ ‫إِلى اأْل َْر ِ‬
‫صـو َن لَــهُ‬ ‫شـياطي ِن َم ْن َيغُو ُ‬ ‫َ َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ين) (‪)82‬‬ ‫ِِ‬ ‫َو َي ْع َملُو َن َع َمالً ُدو َن ذلِ َ‬
‫ك َو ُكنَّا ل َُه ْم حافظ َ‬
‫____________________________________‬
‫التفسري ‪:‬‬
‫ـل‬ ‫قوله تع@ @@اىل ‪َ ( :‬ولُوط ـ ـاً آَت ْينـ ــاهُ ُح ْكم ـ ـاً َو ِع ْلم ـ ـاً َونَ َّج ْينـ ــاهُ ِم َن الْ َق ْريَـ ـ ِـة الَّتِي كـ ــانَ ْ‬
‫ت َت ْع َـمـ ُ‬
‫ين) ‪..‬‬ ‫فاس ِقين وأَ ْد َخلْناهُ فِي رحمتِنا إِنَّهُ ِمن َّ ِ ِ‬ ‫ث إَِّنهم كانُوا َقوم سو ٍء ِ‬ ‫ِ‬
‫الصالح َ‬ ‫َ‬ ‫َ َْ‬ ‫ََ‬ ‫ْ َ َْ‬ ‫الْ َخبائ َ ُ ْ‬
‫ملا ك@@ان ل@@وط ـ عليه‌السالم ـ هو ال@@ذي اس@@تجاب إلب@@راهيم من قومه ‪ ،‬واتّبعه وآمن‬
‫به ‪ ،‬فقد كان من فضل اهلل سبحانه وتعاىل عليه ‪ ،‬أن اصطفاه للنب@@وة ‪ ،‬وآت@@اه حكما وعلما‬
‫‪ ،‬إذ ك @@ان هو النبتة الص @@احلة من بني ه @@ذا النبت اخلبيث كله ‪ ..‬مث جناه اهلل س @@بحانه وتع @@اىل‬
‫من العذاب الذي أخذ به قومه وأهلك به قريته ‪ ،‬اليت كانت تعمل اخلب@@ائث ‪ ،‬وت@@أتى املنكر‬
‫جهارا ‪ ..‬وهكذا ينصر اهلل املتقني من عب@اده ‪ ،‬ويفيض عليهم من كرمه وإحس@انه ‪ ،‬ويأخذ‬
‫الظاملني املفسدين بالعذاب البئيس ‪ ،‬جزاء مبا كانوا يعملون ‪..‬‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫صـ ْرناهُ ِم َن‬ ‫(ونُوحاً إِ ْذ نادى ِمن َقبل فَاستجبنا لَه َفنَ َّجيناهُ وأ َْهلَه ِمن الْ َكر ِ ِ‬
‫ب ال َْعظ ِيم َونَ َ‬ ‫ْ ْ ُ َْ َْ ُ ْ َ ُ َ ْ‬ ‫َ‬
‫ْناهم أ ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ َّ ِ‬
‫ين) ‪..‬‬ ‫َج َمع َ‬‫ين َك َّذبُوا بِآياتِنا إَِّن ُه ْم كانُوا َق ْو َم َس ْوء فَأَ ْغ َرق ُ ْ ْ‬ ‫الْ َق ْوم الذ َ‬
‫( َونُوحاً) معطوف على (لُوطاً) وهو عطف حدث على حدث ‪ ،‬وقصة‬
‫‪922‬‬

‫على قصة ‪ ..‬والتق@دير ون@ذكر نوحا إذ ن@ادى ربه من قبل ه@ذا ال@@زمن ال@ذي ك@ان فيه ه@ؤالء‬
‫األنبي@@اء ‪ ..‬إب@@راهيم ‪ ،‬ول@@وط ‪ ،‬وموسى ‪ ،‬وه@@رون ‪( ..‬فَا ْسـتَ َج ْبنا لَــهُ) أي أننا اس@@تجبنا دع@@اءه‬
‫الذي دعانا به ‪ ،‬على قومه ‪..‬‬
‫ودع@@اء ن@@وح على قومه ‪ ،‬هو ما ذك@@ره اهلل س@@بحانه وتع@@اىل ىف قوله ‪( :‬فَـ َدعا َربَّهُ أَنِّي‬
‫ض‬‫ب ال تَـ َذ ْر َعلَى اأْل َْر ِ‬
‫ـوح َر ِّ‬ ‫صـ ْر) (‪ : 10‬القم@@ر) وىف قوله س@@بحانه ‪َ ( :‬وقـ َ‬ ‫ـوب فَا ْنتَ ِ‬
‫ـال نُـ ٌ‬ ‫َمغْلُـ ٌ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ين َديَّاراً) (‪ : 26‬نوح)‪.‬‬ ‫م َن الْكاف ِر َ‬
‫وقد اس@ @@تجاب اهلل س@ @@بحانه وتع@ @@اىل لن@ @@وح ‪ ،‬فأهلك قومه مجيعا ب@ @@الغرق ‪ ،‬وجناه هو‬
‫ومن آمن معه ‪ ،‬وما آمن معه إال قليل ‪..‬‬
‫و (الْ َك ْر ِب ال َْع ِظ ِيم) ‪ :‬هو الطوفان ‪..‬‬
‫اجلر «من»‬ ‫َّ ِ ِ‬ ‫ِ َّ ِ‬ ‫ِ‬
‫ين َـكـذبُوا بآياتنا) ـ ج@@اء ح@@رف ّ‬ ‫ص ْرناهُ م َن الْ َق ْـوم الذ َ‬‫وىف قوله تع@@اىل ‪َ ( :‬ونَ َ‬
‫بدال من «على» الذي يقتضيه الفعل ‪ ،‬فإن «نصر» يتع ّدى بعلى ال مبن تقول نص@@رت فالنا‬
‫على فالن ‪ ..‬وذلك ألن الفعل هنا تض ّ@من ‪ ،‬معىن االنتق@ام واالنتص@اف لن@وح من قومه ‪ ،‬إذ‬
‫ك@@انوا هم ال@@ذين اعت@@دوا عليه ‪ ،‬وب@@ادءوه بالس@@فاهة ‪ ،‬وتوع@@دوه بالس@@وء ‪ ،‬وهتددوه ب@@الرجم ـ‬
‫فك@@ان نصر اهلل له انتص@@افا لن@@وح منهم ‪ ،‬وانتقاما له من ع@@دواهنم عليه ‪ ..‬وعلى ه@@ذا يك@@ون‬
‫ين َكـ َّـذبُوا بِآياتِنا) أي أخ@ @@ذنا له حبقه من الق @@وم‬ ‫ِ َّ ِ‬ ‫ِ‬
‫معىن قوله تع@ @@اىل ‪َ ( :‬ونَ َ‬
‫صـ ـ ْرناهُ م َن الْ َق ـ ْـوم الذ َ‬
‫الذين كذبوا بآياتنا ‪ ،‬واعتدوا على رسولنا ‪ ،‬وانتصفنا له منهم‪.‬‬
‫ولو جاء النظم الق@رآىن على ما يقضى به مطل@وب الفعل «نص@ر» فك@@ان النظم هك@@ذا‬
‫ص ـ ْرناهُ) على الق@@وم ال@@ذين ك@@ذبوا بآياتنا ‪ ،‬ملا أعطى الفعل ه@@ذا املعىن ال@@ذي أف@@اد النصر ‪،‬‬ ‫(نَ َ‬
‫دل على أن الق @@وم ك @@انوا معت @@دين ‪ ،‬ظ @@املني ‪ ..‬ولوقف مبعىن النصر‬ ‫واالنتق @@ام معا ‪ ،‬وال @@ذي ّ‬
‫عند ح@ @ @ @ @@دود ه@ @ @ @ @@ذا املعىن اجملرد ‪ ،‬األمر ال@ @ @ @ @@ذي ميكن أن يفهم منه النصر على أنه نصر بني‬
‫احملق من املبطل‬ ‫متخاصمني‪ ،‬ال يعرف منهما ّ‬
‫‪923‬‬

‫منهما ‪ ..‬وكث@@ريا ما ينتصر املبطل ‪ ،‬ويه@@زم احملق ‪ ،‬ىف مرحلة من مراحل الص@@راع ال@@دائر بني‬
‫واجلن على أن ي@ @@أتوا‬ ‫احلق والباط@ @@ل! فس@ @@بحان من ه@ @@ذا كالمه ‪ ،‬ال@ @@ذي لو اجتمعت اإلنس ّ‬ ‫ّ‬
‫مبثل هذا القرآن ال يأتون مبثله ولو كان بعضهم لبعض ظهريا ‪..‬‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫ت فِيـ ِـه غَنَم الْ َقــوِم و ُكنَّا لِحك ِ‬
‫ْم ِه ْم‬ ‫شـ ْ‬ ‫ث إِ ْذ َن َف َ‬‫ـان فِي الْحــر ِ‬ ‫(وداو َد وس ـلَْيما َن إِ ْذ ي ْح ُكمـ ِ‬
‫ُ‬ ‫ُ ْ َ‬ ‫َْ‬ ‫َ‬ ‫َ ُ َُ‬
‫ِ‬
‫َّمناها ُسلَْيما َن َو ُكاًّل آَت ْينا ُحكْماً َوعلْماً)‪.‬‬ ‫ِِ‬
‫ين َف َفه ْ‬
‫شاهد َ‬
‫نفشت فيه غنم الق @@وم ‪ :‬أي ع @@اثت فيه فس @@ادا ‪ ،‬وانطلقت ت @@رعى بغري ممسك ميسك‬
‫هبا على مك@@ان معني من احلرث ‪ ..‬وأصل النفش ‪ :‬االنتش@@ار ‪ ،‬ومنه قوله تع@@اىل ‪َ ( :‬كــال ِْع ْه ِن‬
‫ـوش) ‪ ..‬واحلرث ‪ :‬هو ال@@زرع ‪ ،‬ال@@ذي ه@@يئت له األرض وح@@رثت ‪ ،‬وب@@ذر فيها احلب‬ ‫ال َْم ْن ُفـ ِ‬
‫‪ ..‬وليس هو الزرع الذي ينبت من غري جهد إنساىن‪.‬‬
‫وداود وس @@ليمان ‪ ،‬مها النبي @@ان الكرميان ‪ ،‬من ذرية إب @@راهيم ‪ ،‬ومن أبن @@اء يعق @@وب ‪..‬‬
‫وداود هو األب ‪ ،‬وسليمان هو االبن‪.‬‬
‫وه@ @ @ @@ذه اآلية الكرمية متسك حبدث من األح@ @ @ @@داث اليت وقعت ل@ @ @ @@داود وس@ @ @ @@ليمان ‪..‬‬
‫وكان داود ىف جملس احلكم والفصل بني الناس ‪ ،‬فيما يقع بينهم من خصومات‪.‬‬
‫وقد ذكر الق@@رآن الك@@رمي ل@@داود قصة أخ@@رى من قصص الفصل ىف اخلص@@ومات وهى‬
‫قصة األخ@ @@وين الل@ @@ذين ك@ @@ان ألح@ @@دمها نعجة ولآلخر تسع وتس@ @@عون نعجة ‪ ..‬وقد ج@ @@اء ىف‬
‫ـاح ُك ْم َب ْي َن الن ِ‬
‫َّاس‬ ‫ض فَـ ْ‬ ‫ـاك َخلِي َفـ ةً فِي اأْل َْر ِ‬‫داو ُد إِنَّا َج َع ْلنـ َ‬
‫أعق@@اب ه@@ذه القصة قوله تع@@اىل ‪( :‬يا ُ‬
‫اهلل) (‪ : 26‬ص)‪.‬‬ ‫يل ِ‬ ‫ك َع ْن َسبِ ِ‬ ‫بِالْح ِّق وال َتتَّبِ ِع ال َْهوى َفي ِ‬
‫ضلَّ َ‬ ‫ُ‬ ‫َ َ‬
‫‪924‬‬

‫وىف ه @@ذه القصة ‪ ،‬يشري الق @@رآن إش @@ارة الحمة إىل أن داود مل يع @@رف كيف يفصل ىف‬
‫ه@ @ @@ذه القض@ @ @@ية ‪ ،‬أو أنه فصل فيها فصال مل يصب مقطع احلق منها ‪ ..‬وه@ @ @@ذا ال يعيب داود‬
‫عليه‌الس الم ‪ ،‬وال ينقص من ق @ @@دره ‪ ،‬ألنه فصل مبا أدى إليه اجته @ @@اده ‪ ..‬ف @ @@إذا أخطأ فله‬
‫أجر ‪ ،‬وإن أص@@اب فله أج@@ران ‪ ..‬ه@@ذا هو حكم اجملتهد ‪ ،‬ال@@ذي جترد من ه@@واه ‪ ..‬وال شك‬
‫أن داود كان أبعد ما يكون عن اهلوى‪.‬‬
‫َّمناها ُس ـلَْيما َن) إش@@ارة إىل أن س@@ليمان هو ال@@ذي ع@@رف وجه‬ ‫ففى قوله تع@@اىل ‪َ ( :‬ف َفه ْ‬
‫احلق ىف ه@ @@ذه القض@ @@ية ‪ ،‬ووقع على ال@ @@رأى الص@ @@حيح فيها ‪ ..‬وذلك بفهم آت@ @@اه اهلل س@ @@بحانه‬
‫َّمناها ُسلَْيما َن) وقوله تع@@اىل ‪َ ( :‬و ُكاًّل آَت ْينا ُح ْكمـاً‬
‫وتع@@اىل إي@@اه ‪ ..‬كما يق@@ول س@@بحانه ‪َ ( :‬ف َفه ْ‬
‫َّمناها ُسـلَْيما َن) ال@@ذي قد يفهم منه أن س@@ليمان قد‬ ‫ِ‬
‫َوع ْلمـاً) هو تعقيب على قوله تع@@اىل ( َف َفه ْ‬
‫أوتى فهما من اهلل وأن داود قد ح@ @@رم ه@ @@ذا الفهم ‪ ،‬فك@ @@ان ذلك دافعا هلذا ال@ @@وهم ‪ ..‬إذ أن‬
‫كاّل من داود وس@ @ @@ليمان ‪ ،‬قد لبس من فضل اهلل ومن إحس@ @ @@انه حلال ‪ ،‬وأن كاّل منهما قد‬
‫أوتى من اهلل حكما وعلما ‪ ..‬ولكن ه@ @ @ @@ذا ال مينع من أن يك@ @ @ @@ون أح@ @ @ @@دمها أك@ @ @ @@ثر علما من‬
‫اآلخر ‪ ،‬ف @@العلم درج @@ات ال ح @@دود هلا ؛ واهلل س @@بحانه وتع @@اىل يق @@ول ‪َ ( :‬نرفَــع َدرجـ ٍ‬
‫ـات َم ْن‬ ‫ْ ُ َ‬
‫ِ ِ ِ‬
‫يم) (‪ : 76‬يوسف)‪.‬‬ ‫نَشاءُ َو َف ْو َق ُك ِّل ذي عل ٍْم َعل ٌ‬
‫والق@@رآن الك@@رمي مل يكشف عن تفاص@@يل ه@@ذه القض@@ية‪ .‬ومل يتح@@دث عن احلكم ال@@ذي‬
‫حكم به داود فيها ‪ ،‬وال عن وجهة نظر س @@ليمان فيما حكم به أب @@وه ‪ ..‬ذلك أن كل ه @@ذا‬
‫ال يق @ @ ّدم ش@ @@يئا ىف حتقيق الغاية اليت ج@ @@اءت هلا القصة ‪ ،‬وهو أن الفصل ىف اخلص@ @@ومات@ بني‬
‫الن@@اس أمر خطري ‪ ،‬حيت@@اج إىل علم واسع ‪ ،‬وبص@@رية ناف@@ذة ‪ ،‬ونفس جتردت من كل ه@@وى ‪،‬‬
‫وإال ك @@ان اخلطأ والزلل ‪ ،‬ال @@ذي من ش @@أنه إن ش @@اع أفسد حي @@اة الن @@اس ‪ ،‬وأغ @@رى بعض @@هم‬
‫ببعض ‪ ..‬ومن جهة أخرى‬
‫‪925‬‬

‫فإنه مهما بلغ اإلنس @@ان من علم ‪ ،‬ومهما أوتى من نف @@اذ بص @@رية ‪ ،‬ومن ق @@درة على التج @@رد‬
‫حترى الع@ @@دل واجتهد ىف حتقيقه ‪ ،‬فإنه قد يقع له أحيانا من املش @@كالت‬ ‫من اهلوى ‪ ،‬ومهما ّ‬
‫ما يغيم عليه فيه وجه احلق ‪ ،‬ويغيب عنه وجه الص@ @ @@واب ‪ ..‬ومن هنا ك@ @ @@ان على من يق@ @@وم‬
‫للفصل ىف اخلص@ @@ومات ‪ ،‬أن يك@ @@ون على ح@ @@ذر دائما ‪ ،‬وأاّل يعجل ب@ @@الرأى ال@ @@ذي يظهر له‬
‫ألول نظ @@رة ‪ ،‬بل يقلب وج @@وه النظر كلها ‪ ،‬ويع @@رض بعض @@ها على بعض ‪ ..‬فما ك@@ان منها‬
‫أق@ @ @ @@رب إىل احلق والع@ @ @ @@دل أخذ به ‪ ..‬وىف ه@ @ @ @@ذا يق@ @ @ @@ول النيب الك@ @ @ @@رمي ‪« :‬إمنا أنا بشر وإنكم‬
‫إىل ولعل بعض@ @@كم أحلن حبجته من بعض ‪ ،‬فمن قض@ @@يت له حبق أخيه ‪ ،‬فإمنا ‪،‬‬ ‫لتختص@ @@مون ّ‬
‫هى قطعة من النار ‪ ،‬فليأخذها أو يدعها ‪@.»..‬‬
‫ه @@ذا ـ واهلل أعلم ـ هو املقصد ال @@ذي ج @@اءت له ه @@ذه القصة ‪ ..‬وهى ىف ه @@ذا النظم‬
‫ال @@ذي ج @@اءت عليه ‪ ،‬مؤدية ـ ىف أكمل أداء وأمت ص @@ورة ‪ ،‬وأعجز إعج @@از وإجياز ـ املقصد‬
‫الذي قصدت إليه‪.‬‬
‫أما القصة ‪ ،‬فهى ـ كما جاءت ىف روايات املفسرين وأصحاب السري ـ تتلخص فيما‬
‫يلى ‪ ،‬وهو مما ي @@روى عن ابن عب @@اس ‪ :‬ك @@ان جلماعة زرع ‪ ،‬وقيل ك @@رم ت @@دلّت عنا قي @@ده ‪،‬‬
‫وك@@ان آلخ@@رين غنم ت@@رعى قريبا من ه@@ذا ال@@زرع أو الك@@رم ‪ ،‬فغفل عنها رعاهتا ‪ ،‬ف@@انطلقت‬
‫إىل الزرع ‪ ،‬فانتشرت فيه ‪ ،‬وعاثت ىف أرجائه‪.‬‬
‫وج@ @ @@اء أص@ @ @@حاب ال@ @ @@زرع يش@ @ @@كون أص@ @ @@حاب الغنم إىل داود ‪ ،‬فقضى داود ب@ @ @@الغنم‬
‫ألص @ @ @@حاب احلرث! ‪ ..‬فلما لقى س @ @ @@ليمان أص @ @ @@حاب الغنم ق @ @ @@ال هلم ‪ :‬كيف قضى بينكم؟‬
‫فأخربوه ‪ ،‬فقال ‪ :‬لو وليت أم@ركم لقض@يت بغري ه@ذا ‪ ،‬فلما علم داود ب@ذلك دع@اه ‪ ،‬فق@@ال‬
‫‪ :‬كيف تقضى بينهم؟ ق@ @ @@ال ‪ :‬أدفع الغنم إىل أص@ @ @@حاب احلرث فيك@ @ @@ون هلم أوالدها وألباهنا‬
‫وصوفها ومنافعها ‪ ،‬ويبذر أصحاب الغنم ألهل احلرث مثل ح@@رثهم ‪ ،‬ف@@إذا بلغ احلرث احل ّد‬
‫الذي كان عليه ‪ ،‬أخذه أصحاب احلرث ‪ ،‬وردوا الغنم إىل أصحاهبا‪ .‬فقصى داود هبذا!!‬
‫‪926‬‬

‫احلق ‪ ،‬فأخذ به ‪ ،‬ومل ميسك حكمه ال @ @@ذي اس @ @@تبان له أوال‬


‫وهك @ @@ذا رأى داود وجه ّ‬
‫‪..‬‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫ِِ‬ ‫(وسخَّرنا مع داو َد ال ِ‬
‫ـوس لَ ُك ْم‬ ‫ين ؛ َو َعلَّ ْمنــاهُ َ‬
‫صـ ْن َعةَ لَبُـ ٍ‬ ‫سبِّ ْح َن َوالطَّْي َر َو ُكنَّا فاعل َ‬
‫بال يُ َ‬
‫ْج َ‬ ‫َ َ ْ ََ ُ‬
‫صنَ ُك ْم ِم ْن بَأ ِْس ُك ْم َف َه ْل أَْنتُ ْم شاك ُرو َن)‪.‬‬
‫ِ‬ ‫لِتُ ْح ِ‬
‫وس لَ ُك ْم) ‪ :‬اللبوس هنا ما يلبس للحرب ‪ ،‬من دروع وغريها‪.‬‬ ‫ص ْن َعةَ لَبُ ٍ‬‫(َ‬
‫صنَ ُك ْم) أي تكون لكم حصنا ووقاية ىف القتال‪.‬‬ ‫(لِتُ ْح ِ‬
‫والقوة‪.‬‬ ‫ِ ِ‬
‫(م ْن بَأْس ُك ْم) ‪ :‬أي من عدوان بعضكم على بعض ‪ ..‬والبأس ‪ :‬الش ّدة ‪ّ ،‬‬
‫وه@@ذه اآلية هى تفص@@يل جململ قوله تع@@اىل ‪َ ( :‬و ُكاًّل آَت ْينا ُح ْكمـاً َو ِع ْلمـاً) ‪ ،‬وهى ـ من‬
‫َّمناها‬ ‫جهة أخ@@رى ـ دفع هلذا ال@@وهم ال@@ذي قد يتس@@رب لبعض العق@@ول من قوله تع@@اىل ‪َ ( :‬ف َفه ْ‬
‫ُسلَْيما َن) والذي قد يقع منه ىف الفهم‪ .‬انتقاص لقدر داود عليه‌السالم ‪..‬‬
‫نىب كرمي عند اهلل ‪ ،‬حمفوف بفضله وإحس@@انه ‪ ..‬ومن فضل اهلل‬ ‫فداود عليه‌السالم‪ّ .‬‬
‫سخر معه اجلب@ال والطري ‪ ،‬تس@بّح مجيعها حبمد اهلل ‪ ،‬وتش@كر له ‪ ..‬ف@إذا س@بّح حبمد‬ ‫عليه أنه ّ‬
‫اهلل ‪ ،‬وجد الوج @ @@ود كله من حوله ‪ ،‬من مجاد وحي @ @@وان ‪ ،‬يس @ @@بّح معه ‪ ،‬وي @ @@أمتّ به ىف ه @ @@ذا‬
‫التسبيح ‪ ،‬فيكون من ذلك كلّه نشيد متناغم ‪ ،‬ميأل أمساع الكون ‪ ،‬فتفيض به مش@@اعر داود‬
‫‪ ،‬ويرتوى منه قلبه ‪ ،‬ويصبح كيانه كلّه نغما منطلقا بتمجيد اهلل ‪ ،‬مرتمّن ا بتقديسه ومحده‪.‬‬
‫ـال يُ َس ـبِّ ْح َن َوالطَّْيـ َـر) إش @@ارة إىل أن ه @@ذه‬ ‫وىف قوله تع @@اىل ‪( :‬وس ـخَّرنا مــع داو َد ال ِ‬
‫ْجب ـ َ‬ ‫ََ ْ ََ ُ‬
‫@خر داود من‬ ‫الكائنات ‪ ،‬من جبال وطري ‪ ،‬مسخرات من اهلل ‪ ،‬لتسبيحه ومتجي@ده ‪ ،‬كما س ّ‬
‫اهلل لتسبيحه ومتجي@@ده ‪ ،‬وأهنا قد انض@@مت مع داود وجتاوبت معه ‪ ،‬وائتلفت به ‪ ..‬وه@@ذا ما‬
‫جعل لداود هذا اإلحساس هبا ‪ ،‬حني أزيل احلجاب بينه وبينها ‪،‬‬
‫‪927‬‬

‫األمر ال@@ذي ال يش@@اركه فيه كثري من العاب@@دين املس@@بّحني ‪ ..‬وإاّل ف@@إن الوج@@ود كله ىف أرضه‬
‫وميج@ده ‪ ،‬كما يق@@ول‬ ‫ومسائه ‪ ،‬وفيما حتت@@وى أرضه مساؤه ‪ ،‬يس@@بّح حبمد اهلل ‪ ،‬ويص @لّى له ‪@ّ ،‬‬
‫ِِ ِ‬
‫سـ ـ ـ ـبِّ ُح بِ َح ْمـ ـ ــده َولك ْن ال َت ْف َق ُهـ ـ ــو َن تَ ْسـ ـ ـ ـبِ َ‬ ‫ٍِ‬ ‫ِ ِ‬
‫يح ُه ْم) (‪: 44‬‬ ‫س@ @ @ @@بحانه ‪َ ( :‬وإ ْن م ْن َشـ ـ ـ ـ ْيء إاَّل يُ َ‬
‫داو َد) ب@ @@دال من «ل@ @@داود» ‪ ..‬فاجلب@ @@ال‬ ‫اإلس@ @@راء) ‪ ..‬وه@ @@ذا هو الس@ @ ّ@ر ىف قوله تع@ @@اىل ‪َ ( :‬مـ ـ َـع ُ‬
‫والطري هنا مسخرة معه للتسبيح والتمجيد ‪ ،‬وليست مسخرة له ‪ ..‬وهذا ما يشري إليه قوله‬
‫بال أ َِّوبِي َم َعهُـ َوالطَّْي َر) (‪ : 10‬سبأ)‪.‬‬ ‫ضالً يا ِج ُ‬ ‫داو َد ِمنَّا فَ ْ‬ ‫تعاىل ‪َ ( :‬ولََق ْد آَت ْينا ُ‬
‫ين) ـ إش @@ارة إىل أن ه @@ذا الفضل من اهلل س @@بحانه على‬ ‫ِِ‬
‫وىف قوله تع @@اىل ‪َ ( :‬و ُكنَّا ف ــاعل َ‬
‫داود ‪ ،‬ك@ @@ان بتق@ @@ديره ‪ ،‬ومبا أوجبه ج @ @ ّ@ل ش@ @@أنه على نفسه من اإلحس@ @@ان إىل احملس@ @@نني من‬
‫«الزب@@ور» ت@@رانيم ‪ ،‬ذات نغم‬ ‫عب@@اده ‪ ..‬وقد ك@@ان داود أحسن خلق اهلل ص@@وتا ‪ ..‬وقد جعل ّ‬
‫شجى ‪ ،‬يسبح فيه حبمد اهلل ‪ ..‬فتتجاوب مع صوته الكائنات من مجاد وحيوان ‪..‬‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫صنَ ُك ْم ِم ْن بَأ ِْس ُك ْم ‪َ ..‬ف َه ْل أَْنتُ ْم شاكِ ُرو َن)‪.‬‬ ‫وس لَ ُكم لِتُ ْح ِ‬
‫ص ْن َعةَ لَبُ ٍ ْ‬ ‫( َو َعلَّ ْمناهُ َ‬
‫أي أن من فضل اهلل تع@ @ @ @@اىل على داود ‪ ،‬أن علمه ص@ @ @ @@نعة ال@ @ @ @@دروع‪ .‬بعد أن أالن له‬
‫ِّر فِي ال َّسـ ـ ْر ِد) (‬ ‫ٍ‬
‫ـل س ــابِغات َوقَ ــد ْ‬
‫احلديد ‪ ،‬كما يق @@ول س @@بحانه ‪( :‬وأَلَنَّا لَ ــهُ ال ِ ِ‬
‫ْحديـ ـ َد أَن ا ْع َمـ ْ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫‪ : 11 ، 10‬سبأ)‪.‬‬
‫صنَ ُك ْم ِم ْن بَأ ِْس ُك ْم) إشارة إىل أن هذه ال@دروع ‪ ،‬هى مما ي@@دفع‬ ‫وىف قوله تعاىل ‪( :‬لِتُ ْح ِ‬
‫@رد به ع@دوان بعض@هم على بعض ‪ ..‬وهى نعمة تس@توجب من الن@اس‬ ‫به اهلل بأس الن@اس ‪ ،‬وي ّ‬
‫احلمد والشكر هلل رب العاملني‪.‬‬
‫‪928‬‬

‫وهنا سؤال ‪:‬‬


‫كيف تكون هذه الدروع نعمة من نعم اهلل ‪ ،‬تس@@توجب احلمد والش@@كر ‪ ،‬وهى أداة‬
‫من أدوات احلرب ‪ ،‬وع@ @ ّدة من ع @@دده؟ مث هى من جهة أخ @@رى ‪ ،‬قد تك @@ون ق @@وة من ق @@وى‬
‫البغي والع@ @ @ @@دوان ‪ ،‬يفيد منها أهل البغي والع@ @ @ @@دوان أك@ @ @ @@ثر مما يفيد منها أهل االس@ @ @ @@تقامة ‪،‬‬
‫والسالمة؟‬
‫واجلواب على هذا ‪ ،‬من وجوه ‪:‬‬
‫أوال ‪ :‬أن ه@@ذه ال@@دروع فيها حص@@انة ‪ ،‬وص@@يانة لكثري من ال@@دماء اليت ك@@ان ميكن أن‬
‫تراق ‪ ،‬ولألرواح اليت ك@ان ميكن أن تزهق ىف القت@ال ال@ذي يلتحم بني الن@اس ‪ ..‬فهى ـ كما‬
‫ت@رى ـ عامل خمفف من ويالت احلرب ‪ ،‬ودافع لكثري من ش@رورها ‪ ..‬فلو ق@ ّدر أن يلتقى ىف‬
‫ميدان القتال أعداد من املتقاتلني بدروع وآخرون مثلهم بغري دروع ‪ ،‬لكان حصيد احلرب‬
‫‪ ،‬وحص @ @@يلتها من ال@ @@دماء واألرواح ىف املي @ @@دان األول ‪ ،‬أق@ @ ّ@ل بكثري ج@ @@دا مما يقع ىف املي @ @@دان‬
‫اآلخر ‪..‬‬
‫إذ ك @ @@ان األول @ @@ون يق @ @@اتلون وهم ىف ه @ @@ذه احلص @ @@ون من ال @ @ ّدروع ‪ ،‬على حني يقاتل‬
‫اآلخرون وهم ىف معرض اهلالك مع كل طعنة أو ضربة! ‪ : :‬فهذه الدروع نعمة تس@@توجب‬
‫الشكر من الناس مجيعا ‪ ،‬أقويائهم وضعفائهم على السواء ‪..‬‬
‫وال ي@@دفع ه@@ذا ‪ ،‬ب@@القول ب@@أن ه@@ذه ال@@دروع فد تغ@@رى الن@@اس بعض@@هم ببعض ‪ ،‬وت@@دفع‬
‫هبم إىل القت @ @ @@ال ‪ ،‬إذ جيدون ىف أي @ @ @@ديهم ما ي @ @ @@دفع عنهم خطر احلرب ‪ ،‬ويبعد من احتم@ @ @@ال‬
‫املوت فيها ‪..‬‬
‫فهذا القول ‪ ،‬وإن بدا ىف ظاهره ش@يئا مقب@وال ‪ ،‬إال أنه ىف حقيقته ق@ائم على غري ه@ذا‬
‫الوجه ‪..‬‬
‫@وى‬
‫ذلك أن كل ق @ @ @ ّ@وة مس @ @ @@تجلبة غري الق @ @ @@وى اجلس @ @ @@دية اإلنس @ @ @@ان ‪ ،‬هى متاحة للق @ @ @ ّ‬
‫والضعيف منهم ‪ ،‬وأن الضعيف ‪ ،‬يستطيع هبذه القوى املستجلبة أن يبطل‬
‫‪929‬‬

‫فضل صاحب القوة اجلسدية عليه ‪ ،‬وهبذا يتعادل األقوياء والضعفاء ‪ ،‬ويكون من ذلك أن‬
‫يكبح مجاح أص@ @ @ @@حاب الق@ @ @ @@وى اجلس@ @ @ @@دية ‪ ،‬اليت ك@ @ @ @@انت أظهر ق@ @ @ @@وة عاملة ‪ ،‬ىف جمال البغي‬
‫والعدوان وىف تسلط األقوياء على الضعفاء ‪..‬‬
‫وننظر ىف اجملتمع اإلنساىن اليوم ‪ ،‬فنجد أن اخرتاع القنبلة الذرية ‪ ،‬اليت هى أش@@نع ما‬
‫ع@ @ @@رف من أدوات الت@ @ @@دمري واإلهالك ‪ ..‬قد ك@ @ @@انت ىف أول أمرها ي@ @ @@وم وقعت ليد أمة من‬
‫األمم ‪ ،‬ك@انت مص@در خطر عظيم ىف يد ه@ذه األمة ‪ ،‬تك@اد هتدد به الع@امل ‪ ،‬ولكن س@رعان‬
‫ما س @ @ @@عت غريها من األمم إىل امتالك ه @ @ @@ذه الق @ @ @@وة الرهبية ‪ ،‬وس @ @ @@رعان ما بطل مفعوهلا أو‬
‫يك @ @ @@اد يبطل ‪ ،‬حيث أهنا ن@ @ @@ذير بالش @ @ @ ّ@ر العظيم لألط @ @ @@راف املتحاربة هبا مجيعا ‪ ..‬وهنا نلمح‬
‫ـاص َحيــاةٌ يا أُولِي اأْل َلْبـ ِ‬
‫ـاب ل ََعلَّ ُك ْم َتَّت ُقــو َن) ـ‬ ‫إش@@ارة مض@@يئة من قوله تع@@اىل ‪َ ( :‬ولَ ُك ْم فِي ال ِْقصـ ِ‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫ـوس لَ ُك ْم لتُ ْحص ـ ـنَ ُك ْم م ْن بَأْس ـ ـ ُك ْم ‪َ ..‬ف َهـ ـ ْ‬
‫ـل أَْنتُ ْم‬ ‫تشري إىل قوله تع@ @@اىل ‪َ ( :‬و َعلَّ ْمن ـ ــاهُ َ‬
‫صـ ـ ـ ْن َعةَ لَبُ ـ ـ ٍ‬
‫شـ ــاكِ ُرو َن) فالقص@ @@اص إزه@ @@اق نفس ‪ ،‬ولكن فيه حي@ @@اة لنف@ @@وس ‪ ،‬إذ أن القص@ @@اص يقتل ىف‬
‫نف@ @ @@وس ‪ ،‬كثري من الن@ @ @@اس ممن حتدثهم أنفس@ @ @@هم بالقتل ـ يقتل فيهم تلك النزعة الداعية إىل‬
‫القتل ‪ ،‬خوفا من أن يقتل القاتل مبن قتله ‪ ..‬وك @ @@ذلك ال@ @@دروع اليت يلبس @ @@ها املتح @ @@اربون ‪،‬‬
‫هى وقاية لكل منهما من عدوان اآلخر عليه ‪..‬‬
‫وليس هذا شأن الدروع وحدها ‪ ،‬بل هو ش@أن كل وس@@ائل القت@@ال ‪ ،‬وال@@دفاع‪ .‬فهى‬
‫وإن ك@ @@انت أداة ت@ @@دمري وهالك ‪ ،‬هى ىف ال@ @@وقت نفسه عامل ردع وزجر ‪ ..‬بل إهنا دع@ @@وة‬
‫إىل الس@@الم ‪ ،‬وإمخاد ن@@ار احلروب ‪ ،‬إذا ت@@وازنت الق@@وى بني األمم‪ .‬وقد ك@@ان من ت@@دبري اهلل‬
‫@ىب ك@ @@رمي ‪ ،‬ال يك@ @@ون منه بغى أو‬ ‫تع@ @@اىل ‪ ،‬أن وضع ه@ @@ذه ال@ @@دروع أول ما وض@ @@عها ىف يد ن@ @ ّ‬
‫تسلط ‪ ..‬مث أصبحت ملكا مشاعا ىف الناس مجيعا ‪..‬‬
‫وثانيا ‪ :‬أن الق@رآن الك@رمي ىف حديثه عن ال@دروع ‪ ،‬وعن أهنا نعمة تس@توجب الش@كر‬
‫‪ ،‬إمنا يتحدث إىل اجملتمع اإلنساىن ‪ ،‬الذي من طبيعته البغي‬
‫‪930‬‬

‫@ف فيه بعض‬ ‫القوى فيه أن يبغى على الض@عيف ‪ ،‬وال@@ذي إن ك@ ّ‬ ‫ّ‬ ‫والعدوان ‪ ،‬والذي من شأن‬
‫@ف الن@@اس أي@@ديهم عنهم ‪ ..‬وعلى ه@@ذا ف@@إن ح@@ديث الق@@رآن‬ ‫الن@@اس أي@@ديهم عن الن@@اس ‪ ،‬مل تك@ ّ‬
‫عن ال@@دروع ‪ ،‬هو ح@@ديث عن واقع احلي@@اة ‪ ،‬وعما ي@@دور ىف حي@@اة الن@@اس ‪ ..‬ف@@امتالك الن@@اس‬
‫ألدوات احلرب ال يغ @@ريهم ب @@احلرب ‪ ،‬وال يفتح هلم بابا مل ي @@دخلوه ‪ ،‬فهم ىف ح @@رب دائمة‬
‫‪ ..‬وهذه الدروع وغريها من أدوات الدفاع محاية للناس من الطعنات والضربات‪.‬‬
‫سلىب ال إجياىب ‪ ،‬مبعىن أهنا ـ ىف ذاهتا‬ ‫وثالثا ‪ :‬هذه الدروع أو لبوس احلرب ‪ ،‬هلا دور ّ‬
‫@رده ‪ ،‬وال ينطلق منها شر إىل أحد ‪ ..‬كما هو احلال ىف الس @ @ @ @@يوف ‪،‬‬ ‫ـ ت @ @ @ @@دفع الشر ‪ ،‬وت @ @ @ @ ّ‬
‫واحلراب ‪ ،‬واملدافع ‪ ،‬وغريها ‪ ..‬إهنا أداة دف@ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @@اع ‪ ،‬وليست أداة هج@ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @@وم ‪ ..‬إهنا تتلقى‬
‫الضربات ‪ ،‬وال تضرب ‪ ،‬وال يضرب هبا‪.‬‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫ـل َشـ ْي ٍء‬
‫بار ْكنا فِيها َو ُكنَّا بِ ُكـ ِّ‬ ‫ج ِري بِـأ َْم ِر ِه إِلى اأْل َر ِ َِّ‬
‫ض التي َ‬ ‫ْ‬
‫(ولِسـلَْيما َن الـ ِّـريح عا ِ‬
‫صـ َفةً تَ ْـ‬ ‫َ‬ ‫َ ُ‬
‫ين) ‪..‬‬ ‫ِِ‬
‫عالم َ‬
‫ـال يُ َسـبِّ ْح َن َوالطَّْـي َـر) ‪ ..‬أي‬ ‫هو معط@@وف على قوله تع@@اىل ‪( :‬وسـخَّرنا مــع داو َد ال ِ‬
‫ْجبـ َ‬ ‫ََ ْ ََ ُ‬
‫@خرنا لس@@ليمان ال@@ريح عاص@@فة ‪ ..‬وقد بيّنا ىف اآلية الس@@ابقة الس@ ّ@ر ىف تعدية الفعل‬ ‫وك@@ذلك س@ ّ‬
‫( َسـ ـ ـخ َّْرنا) ب@ @@أداة املعية «م@ @@ع» وع@ @@دم تعديته بالم امللك «الالم» وقلنا إن اجلب@ @@ال والطري مل‬
‫@خرة لتس @@بّح حبمد اهلل معه ‪ ..‬فهى مص @@احبة له ‪ ،‬ىف‬ ‫تكن مس @@خرة ل @@داود ‪ ،‬بل ك @@انت مس @ ّ‬
‫مسخرة خلدمته ‪..‬‬ ‫التسبيح ‪ ..‬وليست ّ‬
‫أما هنا ‪ ،‬ف@ @@إن ال@ @@ريح مس@ @@خرة لس@ @@ليمان ‪ ،‬خاض@ @@عة ألم@ @@ره ‪ ،‬قد جعلها اهلل س@ @@بحانه‬
‫وتعاىل ‪ ،‬مطية ذلوال له ‪ ،‬جترى بأمره رخاء حيث شاء ‪..‬‬
‫‪931‬‬

‫وىف قوله تع @ @@اىل ‪( :‬عا ِصـ ـ ـ َفةً) إش @ @@ارة إىل ق@ @ @@وة انطالق ه @ @@ذه ال@ @ @@ريح ‪ ،‬وأهنا ىف ق @ @@وة‬
‫العاص @ @@فة ىف ان @ @@دفاعها ‪ ،‬ولكنها ىف رقّة النس @ @@يم ولينه ىف س @ @@ريها ‪ ،‬وه @ @@ذا ما يشري إليه قوله‬
‫ِ ِ‬
‫ـاب) (‪ : 36‬ص) فهى عاص@@فة ورخ@@اء‬ ‫ث أَص َ‬ ‫تعاىل ىف آية أخ@@رى ‪( :‬تَ ْج ِري ب ـأ َْم ِره ُرخ ً‬
‫ـاء َح ْي ُ‬
‫معا!!‬
‫بار ْكنا فِيها) إش@@ارة إىل مس@@بح‬ ‫ه@@ذا كالم اهلل!! ـ وىف قوله تع@@اىل ‪( :‬إِلى اأْل َر ِ َِّ‬
‫ض ا ل تي َ‬ ‫ْ‬
‫ه @@ذه ال @@ريح ومس @@راها ‪ ،‬وأهنا ال تتج @@اوز ح @@دود األرض املقدسة ‪ ،‬وال تعمل خ @@ارج مسائها‬
‫‪..‬‬
‫ِ‬
‫واحها‬
‫يح غُ ـ ُد ُّوها َشـ ْه ٌر َو َر ُ‬ ‫وه@@ذا ما ينبغى أن يفهم عليه قوله تع@@اىل ‪َ ( :‬ول ُ‬
‫س ـلَْيما َن الـ ِّـر َ‬
‫َشـ ـ ـ ْه ٌر) (‪ : 12‬س @ @@بأ) فقد تض @ @@اربت أق @ @@وال املف ّس @ @رين ىف ه @ @@ذه ال @ @@ريح ‪ ،‬وىف امت @ @@داد ملك‬
‫س @ @@ليمان هبا ‪ ،‬وأهنا ك @ @@انت تقطع به ملكه ىف ش @ @@هر ذاهبة ‪ ،‬وش @ @@هر راجعة ‪ ..‬وه @ @@ذا ما ال‬
‫يتسع له ملك سليمان حبال أبدا ‪..‬‬
‫واملعىن ال @@ذي تفهم عليه ه @@ذه اآلية الكرمية ‪ ،‬هو املعىن ال @@ذي يش @ ّ@ع من قوله تع @@اىل ‪:‬‬
‫بار ْكنا فِيها) وهو أهنا ىف (غُ ـ ـ ُد ُّوها) أي مس@ @@راها ىف غ@ @@دوة‬ ‫(تَ ْجـ ـ ِري بِ ـ ـأ َْم ِر ِه إِلى اأْل َر ِ َِّ‬
‫ض التي َ‬ ‫ْ‬
‫النه@@ار ‪ ،‬تقطع من املس@@افة ما يقطعه الس@@ائر على قدميه ‪ ،‬أو على دابته ىف ش@@هر ‪ ..‬ك@@ذلك‬
‫واحها) وهو رجوعها آخر النه@@ار ‪ ..‬يق@ ّدر مبس@@رية ش@@هر للراجل أو ال@@راكب ‪ ..‬والغ@@دوة‬ ‫( َر ُ‬
‫الروحة‪.‬‬ ‫قد تكون ساعة أو ساعتني ‪ ،‬أو ثالثا ‪ ،‬أو أكثر ‪ ،‬وكذلك ّ‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫ِِ‬ ‫وصو َن لَهُ َو َي ْع َملُو َن َع َمالً ُدو َن ذلِ َ‬ ‫(وِمن َّ ِ‬
‫ين)‪.‬‬
‫ك َو ُكنَّا ل َُه ْم حافظ َ‬ ‫الشياطي ِن َم ْن َيغُ ُ‬ ‫َ َ‬
‫الشياطي ِن) أي من بعض الشياطني ال كلّهم ‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫أي وسخرنا لسليمان (م َن َّ‬
‫‪932‬‬

‫من يغوص@@ون له ىف البح@@ار ويس@@تخرجون اللؤلؤ واملرج@@ان وغريها ‪َ ( ..‬و َي ْع َملُــو َن َع َمالً ُدو َن‬
‫@خروا ىف البن@@اء ‪ ،‬ومحل األحج@@ار ‪ ،‬وغري ه@@ذا ‪..‬‬ ‫ـك) أي أقل من ه@@ذا العمل ‪ ،‬ك@@أن يس@ ّ‬ ‫ذلِـ َ‬
‫اص) (‪ : 37‬ص)‪.‬‬ ‫ياطين ُك َّل بن ٍ‬
‫َّاء َوغَ َّو ٍ‬ ‫كما يقول سبحانه وتعاىل ىف آية أخرى ‪( :‬و َّ ِ‬
‫َ‬ ‫الش َ‬ ‫َ‬
‫ين) إش @@ارة إىل أهنم حمكوم @@ون بق @@درة اهلل ‪ ،‬وأن‬ ‫ِِ‬
‫وىف قوله تع @@اىل ‪َ ( :‬و ُكنَّا ل َُه ْم ح ــافظ َ‬
‫تلك الق@@درة هى احلافظة هلم ‪ ،‬واملمس@@كة هبم ‪ ،‬على خدمة س@@ليمان ‪ ،‬وطاعة أم@@ره ‪ ..‬ولو‬
‫ال هذا لتفلّتوا منه ‪ ،‬وخرجوا عن طاعته ‪ ،‬فليس س@ليمان هو ال@@ذي س@@خر ه@@ذه الش@@ياطني ‪،‬‬
‫وإمنا اهلل سبحانه وتعاىل هو الذي سخرها له ‪..‬‬
‫____________________________________‬

‫اآليات ‪ 83( :‬ـ ‪)91‬‬


‫ين (‪ )83‬فَا ْس ـ ـتَ َج ْبنا لَـ ــهُ‬ ‫ِِ‬ ‫س ـ ـنِ َي ال ُّ‬
‫ض ـ ـ ُّر َوأَنْ َ‬ ‫وب إِ ْذ نـ ــادى َربَّهُ أَنِّي َم َّ‬
‫ت أ َْر َح ُم الـ ـ َّـراحم َ‬ ‫( َوأَيُّ َ‬
‫ين (‪)84‬‬ ‫ِ ِِ‬ ‫ِ ِ ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ش ْفنا ما بِ ِه ِم ْن ُ‬
‫ضـ ٍّر َوآَت ْينــاهُ أ َْهلَــهُ َوم ْثلَ ُه ْم َم َع ُه ْم َر ْح َمـ ةً م ْن ع ْنــدنا َوذ ْـكـرى للْعاب ــد َ‬ ‫فَ َك َ‬
‫ـاه ْم فِي َر ْح َمتِنا إَِّن ُه ْم ِم َن‬ ‫ين (‪َ @ @)85‬وأَ ْد َخ ْلن ـ ُ‬ ‫ْك ْفـ ِـل ُكــلٌّ ِمن ال َّ ِ‬
‫صـ ـاب ِر َ‬ ‫َ‬
‫ماعيل وإِ ْد ِريس و َذا ال ِ‬
‫َ َ‬
‫ِ‬
‫َوإِ ْسـ ـ َ َ‬
‫ـات أَ ْن‬ ‫ضـباًـ فَظَ َّن أَ ْن لَن َن ْقـ ِـدر َعلَْيـ ِـه فَنــادى فِي الظُّلُمـ ِ‬ ‫ُّون إِ ْذ َذ َهب مغا ِ‬ ‫صـالِ ِحين(‪ )86‬و َذا الن ِ‬
‫ْ َ‬ ‫َ ُ‬ ‫َ‬ ‫ال َّ َ‬
‫ين (‪ @ @ @ @)87‬فَا ْس ـ ـ ـتَ َج ْبنا لَـ ـ ــهُ َونَ َّج ْينـ ـ ــاهُ ِم َن الْغَ ِّم‬ ‫ِِ‬
‫ت م َن الظَّالم َ‬
‫ك إِنِّي ُك ْن ُ ِ‬ ‫ت ُس ـ ـ ـ ْبحانَ َ‬‫ال إِلـ ـ ــهَ إِالَّ أَنْ َ‬
‫ت َخ ْـيـ ـ ُـر‬‫ب ال تَ ـ ـ ـ َذ ْرنِي َفـ ـ ـ ْـرداً َوأَنْ َ‬ ‫ين (‪َ )88‬و َز َك ِريَّا إِ ْذ نـ ـ ــادى َربَّهُ َر ِّ‬ ‫ك ُن ْن ِجي ال ـ ِ ِ‬ ‫َو َكـ ـ ــذلِ َ‬
‫ْم ـ ـ ْـؤمن َ‬
‫ُ‬
‫صـلَ ْحنا لَــهُ َز ْو َجــهُ إَِّن ُه ْم كــانُوا يُســا ِرعُو َن فِي‬ ‫ِ‬
‫حـيى َوأَ ْ‬ ‫ين (‪ )89‬فَا ْسـتَ َج ْبنا لَــهُ َو َو َه ْبنا لَــهُ يَ ْـ‬ ‫الْــوا ِرث َ‬
‫ِِ‬ ‫ِ‬
‫ت َف ْر َجها َفَن َف ْخنا‬ ‫ص ـنَ ْ‬
‫َح َ‬ ‫ين (‪َ )90‬والَّتِي أ ْ‬ ‫الْ َخ ْيــرات َويَ ـ ْدعُونَنا َرغَب ـاً َو َر َهب ـاً َوك ــانُوا لَنا خاش ـع َ‬
‫ين) (‪)91‬‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫فيها م ْن ُروحنا َو َج َعلْناها َو ْابنَها آيَةً للْعالَم َ‬
‫____________________________________‬
‫‪933‬‬

‫التفسري ‪:‬‬

‫[أولياء اهلل وما يبتلون به]‬


‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫ين)‪.‬‬ ‫ت أَرحم َّ ِ ِ‬ ‫سنِ َي الض ُّ‬
‫وب إِ ْذ نادى َربَّهُ أَنِّي َم َّ‬
‫الراحم َ‬ ‫ُّر َوأَنْ َ ْ َ ُ‬ ‫( َوأَيُّ َ‬
‫ْحـ ـ ْـر ِث) وهو‬ ‫ِ ِ‬
‫داو َد َو ُسـ ـ ـلَْيما َن إِ ْذ يَ ْح ُكم ـ ــان في ال َ‬
‫هو معط@ @@وف على قوله تع@ @@اىل ‪َ ( :‬و ُ‬
‫عطف قصة على قصة‪ .‬أي واذكر أيوب إذ نادى ربّه»‪.‬‬
‫وذكر أيوب ىف هذا املقام ‪ ،‬هو ذكر له داللته العظيمة ‪ ،‬وذلك من وجوه ‪:‬‬
‫أوال ‪ :‬أن أنبي@ @@اء اهلل وأص@ @@فياءه يبتل@ @@ون بالض@ @ ّ@ر ‪ ،‬كما يبتلى الن @@اس ‪ ،‬بل وكما يبتلى‬
‫والشر ‪ ،‬كذلك يبتلى األنبياء باخلري والشر ‪..‬‬ ‫شرار الناس ‪ ..‬وأنه كما يبتلى الناس باخلري ّ‬
‫فأنبي @@اء اهلل وأص @@فياؤه ‪ ،‬يبتل @@ون من اهلل ف @@يزدادون إميانا وقربا منه ‪ ،‬وطمعا ىف رمحته‬
‫وحمادة له‪.‬‬
‫‪ ..‬وأعداء اهلل يبتلون فيزدادون بعدا من اهلل ‪ ،‬وكفرا به ‪ّ ،‬‬
‫وثانيا ‪ :‬أن أنبي @@اء اهلل وأص @@فياءه ‪ ،‬إذا ابتل @@وا ىف ش @@ىء من أنفس @@هم أو أم @@واهلم ض @@روا‬
‫إىل اهلل ‪ ،‬وبسطوا إليه أكفهم وولّوا إليه وجوههم ‪ ،‬وطرقوا أبواب رمحته بال@@دعاء والرج@@اء‬
‫‪ ..‬فباتوا على أمن من كل خوف ‪ ،‬وعلى طمع ورجاء من كل خري ‪..‬‬
‫وثالثا ‪ :‬أن اهلل س@ @ @ @ @@بحانه وتع@ @ @ @ @@اىل ‪ ،‬يتقبل من عب@ @ @ @ @@اده املخلصني ما يدعونه به ‪ ،‬فال‬
‫يقطع أمداد رمحته عنهم ‪ ،‬وال خييّب رجاءهم فيه‪.‬‬
‫وانظر إىل ه@ @@ذا األدب النب@ @@وي العظمى ‪ ،‬ىف مناج@ @@اة اخلالق ج@ @ ّ@ل وعال ‪ ..‬ف@ @@أيوب ـ‬
‫عليه‌السالم ـ مع هذا البالء العظيم ‪ ،‬الذي مشله ىف نفسه وأهله وماله‬
‫‪934‬‬

‫مجيعا ‪ ،‬مل يستب ّد به اجلزع ‪ ،‬ومل تستول عليه احلرية ‪ ،‬ومل حترقه أنفاس الض@@يق واألمل ‪ ..‬بل‬
‫ظ @ ّ@ل جمتمع النفس ‪ ،‬س @@اكن الف @@ؤاد ‪ ،‬رطب اللس @@ان ب @@ذكر اهلل ‪ ..‬فلما اش @@تد به الك @@رب ‪،‬‬
‫ورهقه البالء ‪ ،‬وأراد أن ي@@ذكر نفسه ‪ ،‬ويش@@كو لربّه ما جيد ‪ ،‬مل ي@@زد على أن يق@@ول بلس@@ان‬
‫ين) وك @@ان‬ ‫ِِ‬ ‫س ـنِ َي ال ُّ‬
‫ض ـ ُّر َوأَنْ َ‬ ‫رطب بالصرب ‪ ،‬وبأنف @@اس نديّة باإلميان ‪( :‬أَنِّي َم َّ‬
‫ت أ َْر َح ُم ال ـ َّـراحم َ‬
‫أن مسع اهلل دعاءه ‪ ،‬واستجاب له ‪..‬‬
‫ض ٍّر َوآَت ْيناهُ أ َْهلَهُ َوِم ْثلَ ُه ْم َم َع ُه ْم ‪َ ..‬ر ْح َمةً ِم ْن ِع ْن ِدنا‬
‫ش ْفنا ما بِ ِه ِم ْن ُ‬
‫استَ َج ْبنا لَهُ ‪ ..‬فَ َك َ‬
‫(فَ ْ‬
‫ين)‪.‬‬ ‫ِ ِِ‬ ‫ِ‬
‫َوذ ْكرى للْعابد َ‬
‫صـابِ ُرو َن‬
‫وهك@@ذا جيزى اهلل احملس@@نني الص@@ابرين ‪ ..‬كما يق@@ول س@@بحانه ‪( :‬إِنَّما ُي َوفَّى ال َّ‬
‫ـاب) ‪ ..‬لقد كشف اهلل عن أي@@وب الضر ال@@ذي أص@@ابه ىف جس@@ده ‪ ،‬ورزقه‬ ‫َجـر ُه ْم بِغَْيـ ِر ِحسـ ٍ‬
‫أ ْـ َ‬
‫من البنني واألموال ضعف الذي ذهب منه ‪..‬‬
‫وقوله تعاىل ‪َ ( :‬ر ْح َمةً ِم ْن ِع ْن ِدنا) أي أن ذلك العطاء كان رمحة منّا ‪ ،‬أصبنا هبا عبدا‬
‫من عبادنا املخلصني‪.‬‬
‫ين) معط@ @@وف على «رمحة» أي وك@ @@ان ذلك ال@ @@ذي‬ ‫ِ ِِ‬ ‫ِ‬
‫وقوله تع@ @@اىل ‪َ ( :‬وذ ْكــرى للْعابـ ــد َ‬
‫ين) أي الذين يعب@@دون اهلل ‪ ،‬وحيس@@نون عبادته‬ ‫ِ ِِ‬
‫وب) تذكرة وموعظة (للْعابد َ‬ ‫فعلناه بعبدنا (أَيُّ َ‬
‫‪ ،‬ويصطربون عليها ‪..‬‬
‫فالعابدون مبا هلم من صلة باهلل ‪ ،‬رمّب ا يقع ىف نفوس@@هم أهنم مبنج@@اة من االبتالء بالشر‬
‫‪ ،‬إذ ال يك @@اد يقع ىف تص @ ّ@ور الن @@اس أن من وثّق طلته باهلل ‪ ،‬وتق @@رب بالعب @@ادات والطاع @@ات‬
‫إليه ‪ ،‬هو ىف م @ @@أمن مما يقع للن @ @@اس من ض @ @ ّ@ر وأذى ‪ ،‬ىف نفسه أو ول @ @@ده أو ماله ‪ ..‬وإاّل فما‬
‫مثرة هذه الصلة ‪ ،‬وما فضل الطائعني على العاصني ‪ ،‬واألولياء على األعداء؟‬
‫‪935‬‬

‫@حح مش@@اعر العاب@@دين‬ ‫ِ ِِ‬ ‫ِ‬


‫ين) لينبه إليه ‪ ،‬وليص@ ّ‬ ‫هذا ما جاء قوله تع@@اىل ‪َ ( :‬وذ ْكرى للْعاب ـد َ‬
‫خاصة ‪ ،‬هبذا الذي كان منه سبحانه لعب@@ده أيّ@@وب ـ عليه‌السالم ـ وما ابتاله به ‪ ،‬ىف نفسه‬
‫‪ ،‬وأهله ‪ ،‬وماله ‪ ،‬مبا مل يكد يبتلى به أحد من عباد اهلل ‪@!..‬‬
‫وقد كان أيوب ـ عليه‌السالم ـ من خري العابدين املقربني إىل اهلل ‪ ،‬حني م ّس@ه الض@ ّ@ر‬
‫‪ ،‬كما ك @@ان من خري الص @@ابرين على البالء ‪ ،‬الط @@امعني ىف رمحة اهلل ‪ ،‬املطمئ @@نني إىل قض @@ائه‬
‫الضر وعاش فيه‪.‬‬ ‫ىف عباده ‪ ،‬الواثقني حبكمته وبعدله ‪ ..‬بعد أن لبسه ّ‬
‫وإذن فليس املؤمنون ‪ ،‬العابدون ‪ ،‬الساجدون ‪ ،‬مبع@@زل عن االبتالء بالض@ ّ@ر واألذى ‪،‬‬
‫بل إهنم أك @@ثر الن @@اس تعرضا للبل @@وى ‪ ،‬وذلك ليبتلى اهلل ما ىف ص @@دورهم ‪ ،‬وليمحص ما ىف‬
‫قلوهبم ‪ ..‬واهلل سبحانه وتع@@اىل يق@@ول للمؤم@@نني ‪( :‬لَتُْبلَ ُو َّن فِي أ َْمـوالِ ُك ْم َوأَ ْن ُف ِسـ ُك ْم َولَتَ ْسـ َمعُ َّن‬
‫َذى َكثِــيراً) (‪ : 186‬آل عم @@ران)‬ ‫ِ َّ ِ‬ ‫ْكتـ ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ َّ ِ‬
‫ين أَ ْش ـ َر ُكوا أ ً‬ ‫ـاب م ْن َق ْبل ُك ْم َوم َن الذ َ‬‫ين أُوتُــوا ال َ‬‫م َن الذ َ‬
‫آمنَّا َو ُه ْم ال ُي ْفَتنُـ ـ ــو َن) (‪: 2‬‬ ‫ويق@ @ @@ول س@ @ @@بحانه ‪( :‬أ ِ‬
‫َّاس أَ ْن ُي ْت َر ُـك ـ ــوا أَ ْن َي ُقولُـ ـ ــوا َ‬
‫ب الن ُ‬
‫َحسـ ـ ـ َ‬
‫َ‬
‫العنكبوت)‪@.‬‬
‫املر‬
‫فأولياء اهلل وأحباؤه هم أكثر عباد اهلل تعرضا لالبتالء ‪ ،‬إذ ك@ان ذلك هو ال@دواء ّ‬
‫‪ ،‬ال@ @@ذي ت@ @@ذهب اجلرعة ‪ ،‬منه بكثري من أم@ @@راض النف@ @@وس وعللها ‪ ،‬وهو الن@ @@ار احملرقة ‪ ،‬اليت‬
‫والزب @ @@د! وهبذا‬ ‫تنص @ @@هر ىف حرارهتا مع @ @@ادن الرج @ @@ال ‪ ،‬فتص@ @ @ ّفى من اخلبث وتن ّقى من الغث @ @@اء ّ‬
‫تظهر عظمة اإلنس@@ان ‪ ،‬وتص@@فو م@@وارده ‪ ،‬ويص@@بح ـ على ما يب@@دو عليه من ض@@عف ‪ ،‬وفقر ـ‬
‫أق@@وى األقوي@@اء ‪ ،‬وأغىن األغني@@اء ‪ ،‬ينظر إىل ال@@دنيا ‪ ،‬وحطامها ‪ ،‬وما يتف@@اخر به الن@@اس فيها‬
‫من م @ @@ال ‪ ،‬وج @ @@اه ‪ ،‬وس @ @@لطان ـ نظرته إىل أطف@ @@ال يتله @ @@ون بلعبهم ‪ ،‬ويزه @ @@ون باجلديد من‬
‫ثياهبم!‬
‫مث لعلك تس@@أل ‪ :‬أما ك@@ان غري ه@@ذا البالء ‪ ،‬أوىل هبم ‪ ،‬وهم أحب@@اب اهلل وخلص@@اؤه؟‬
‫أو ما كان اإلحسان إليهم باخلري أليق من التوجه إليهم باملساءة‬
‫‪936‬‬

‫والض@ @ ّ@ر؟ وإذا مل يكن اإلحس@ @@ان ‪ ..‬فهال ك@ @@انت العافية من البالء؟ وإذا ك@ @@ان ه@ @@ذا االبتالء‬
‫م@ @@رادا لغاية هى تطهري النف@ @@وس ‪ ،‬وتزكيتها ‪ ،‬وختليص@ @@ها من اآلف@ @@ات والعلل ‪ ..‬فهال ك@ @@ان‬
‫ذلك باإلحس@ @@ان واإلنع@ @@ام ‪ ..‬وق@ @@درة اهلل ال يعجزها ش@ @@ىء ‪ ،‬وال حي ّدها ح @ @ ّد ‪ ،‬وال يقي@ @@دها‬
‫قيد؟‬
‫واجلواب عن هذا كله ‪:‬‬
‫أوال ‪ :‬أن اهلل س@@بحانه وتع@@اىل كما ابتلى ب@@اخلري ‪ ،‬ابتلى بالشر ‪ ،‬كما يق@@ول س@@بحانه‬
‫وتع @@اىل ‪َ ( :‬و َن ْبلُ ــو ُك ْم بِال َّشـ ـ ِّر َوالْ َخ ْيـ ـ ِر فِ ْتنَـ ـةً) (‪ : 35‬األنبي @@اء) ‪ ..‬وقد ابتلى اهلل ـ س @@بحانه ـ‬
‫واجلن ‪ ،‬وعلّمه لغة‬ ‫@خر له ال @ @@ريح ّ‬ ‫س @ @@ليمان عليه‌الس الم ب @ @@الكثري الغ @ @@دق من النعم ‪ ،‬فس @ @ ّ‬
‫احلي@وان والطري ‪ ،‬وجعلها جن@ودا من جن@ده ‪ ،‬ووضع بني يديه من الق@وى الظ@اهرة واخلفية ‪،‬‬
‫ما جعل له ملكا وس @@لطانا مل يكن ألحد من بع @@ده كما يق @@ول اهلل س @@بحانه وتع @@اىل ‪( :‬ق ـ َ‬
‫ـال‬
‫َّاب) (‪ : 35‬ص)‬ ‫ت ال َْوه ُ‬ ‫ك أَنْ َ‬‫َحـ ـ ٍـد ِم ْن َب ْعـ ـ ِـدي إِنَّ َ‬ ‫ِ أِل‬ ‫ب ا ْغ ِفـ ــر لِي وه ِ‬
‫ب لي ُم ْلكـ ـ ـاً ال َي ْنبَغي َ‬
‫ْ ََ ْ‬ ‫َر ِّ‬
‫ج ِري بِـأ َْم ِر ِه‬
‫يح تَ ْـ‬ ‫وقد أجاب اهلل سبحانه وتعاىل ما طلب ‪ ،‬فق@@ال س@@بحانه ‪( :‬فَ َ‬
‫سخ َّْرنا لَهُ الـ ِّـر َ‬
‫صـ ِ‬ ‫آخـ ِرين م َقـ َّـرنِ ِ‬ ‫ـل بن ٍ‬
‫َّاء َوغَـ َّـو ٍ‬ ‫ث أَصـاب وال َّ ِ‬
‫فاد هـذا َعطا ُؤنا‬ ‫ين في اأْل َ ْ‬ ‫اص َو َ َ ُ َ‬ ‫ين ُك َّ َ‬ ‫شـياط َ‬ ‫َ َ‬ ‫ـاء َح ْي ُ‬‫ُرخ ً‬
‫ـاب) (‪ 36‬ـ ‪ : 39‬ص) حىت إن س @@ليمان نفسه ليس @@تكثر ه @@ذا‬ ‫ك بِغَْيـ ـ ِر ِحس ـ ٍ‬ ‫فَ ـ ْـامنُ ْن أ َْو أ َْم ِسـ ـ ْ‬
‫ـق الطَّْي ـ ـ ِر‬‫َّاس عُلِّ ْمنا َم ْن ِطـ ـ َ‬
‫اإلحس @ @@ان ال @ @@ذي ال يك @ @@اد يتسع له وج @ @@وده ‪ ،‬فيق @ @@ول ‪( :‬يا أ َُّي َها الن ُ‬
‫ين) (‪ : 16‬النم @ @@ل) وحىت إنه ليجد نفسه‬ ‫ِ‬
‫ض ـ ـ ُل ال ُْمب ُ‬ ‫ـل َش ـ ـ ْي ٍء إِ َّن هـ ــذا ل َُهـ ـ َـو الْ َف ْ‬
‫َوأُوتِينا ِم ْن ُكـ ـ ِّ‬
‫ب أ َْو ِز ْعنِي أَ ْن أَ ْشـ ُك َر‬ ‫ع@@اجزا عن الوف@@اء بش@@كر القليل من ه@@ذا الفضل العظيم ‪ ،‬فيق@@ول ‪َ ( :‬ر ِّ‬
‫ـك فِي‬ ‫ـل ص ــالِحاً َت ْرض ــاهُ َوأَ ْد ِخلْنِي بَِر ْح َمتِ ـ َ‬ ‫ي َوأَ ْن أَ ْع َمـ َ‬‫ت َعلَ َّي َو َعلى والِـ ـ َد َّ‬ ‫ـك الَّتِي أَْن َع ْم َ‬ ‫نِ ْع َمتَ ـ َ‬
‫ين) (‪ : 19‬النمل)‪.‬‬ ‫باد َك َّ ِ ِ‬ ‫ِع ِ‬
‫الصالح َ‬
‫ف@االبتالء باإلحس@ان واخلري ‪ ،‬عند من يع@رف ق@در اإلحس@ان ‪ ،‬وفضل احملسن وجالله‬
‫يقل مئونة وعبئا ‪ ،‬عن االبتالء باملساءة والضر ‪ ..‬إنه ابتالء!‬
‫وعظمته ـ ال ّ‬
‫‪937‬‬

‫وقد ابتلى اهلل س @ @@بحانه بعض أوليائه بالضر واملس @ @@اءة ‪ ،‬فك @ @@ان ذلك ـ ىف حقيقته ـ‬
‫إحس @@انا إليهم ‪ ،‬إذ س @@لك هبم مس @@الك اخلري واإلحس @@ان ‪ ،‬وزادهم من اهلل قربا ومن رض @@اه‬
‫رضى وزلفى ‪..‬‬
‫وانظركم لقى رسول اهلل حممد صلى‌هللا‌عليه‌وسلم ـ وهو صفوة خلق اهلل ؛ وخامت‬
‫رس @ @ @@له ـ كم لقى على مس @ @ @@رية دعوته ‪ ،‬وىف س @ @ @@بيل رس @ @ @@الته ‪ ،‬من أذى؟ وكم احتمل من‬
‫وضر؟‬
‫مساءة ّ‬
‫أفرأيت إىل رسول اهلل صلى‌هللا‌عليه‌وسلم ‪ ،‬حني خرج إىل ثقيف ‪ ،‬يرجو عن@دهم‬
‫من اس@ @ @@تجابة هلل ورس@ @ @@وله ‪ ،‬ما أبته عليه ق@ @ @@ريش ‪ ،‬حىت إذا التقى بس@ @ @@ادة ثقيف ‪ ،‬وع@ @ @@رض‬
‫ردوه أش @ @@نع رد ‪ ،‬مث أغ@ @ @@روا به س@ @ @@فهاءهم ‪ ،‬فرمجوه حىت أدم@ @ @@وه ‪ ..‬مث‬
‫عليهم اإلميان باهلل ‪ّ ،‬‬
‫أرأيت إىل رس@ @@ول اهلل ـ ص@ @@لوات اهلل وس@ @@المه عليه ـ وقد أخذ طريقه إىل خ@ @@ارج ثقيف ‪،‬‬
‫اهلم الثقيل ‪ ،‬حىت إذا بلغ إىل حيث انقطع عنه ص@@وت الكالب البش@@رية اليت‬ ‫وهو حيمل هذا ّ‬
‫ك @@انت تنبحه ‪ ،‬أس @@ند ظه @@ره إىل ظل ش @@جرة هن @@اك ‪ ،‬وم @@واله زيد يض @@مد جراحه ‪ ..‬مث ما‬
‫ك@ @ @ @@ادت نفسه هتدأ ‪ ،‬وأنفاسه تنتظم ‪ ،‬حىت رفع رأسه إىل الس@ @ @ @@ماء ‪ ،‬ون@ @ @ @@اجى ربه ‪ ،‬بتلك‬
‫الكلم@@ات الض@@ارعة املش@@رقة ‪ ،‬اليت تنبض حي@@اة مبش@@اعر اإلميان ‪ ،‬وأنف@@اس التس@@ليم والرضا ‪..‬‬
‫استمع إليها ‪..‬‬
‫«إهلى ‪ ..‬أش @@كو إليك ض @@عف ق @@وتى ‪ ،‬وقلة حيلىت ‪ ،‬وه @@واىن على الن@@اس! «يا أرحم‬
‫الرامحني ‪ ..‬أنت رب املستضعفني وأنت رىب‪.‬‬
‫«إىل من تكلىن؟ ‪ ..‬إىل بعيد يتجهمىن؟ أو قريب ملّكته أمرى؟‬
‫على فال أباىل‪.‬‬
‫«إن مل يكن بك غضب ّ‬
‫«غري أن عافيتك هى أوسع ىل!‬
‫‪938‬‬

‫«أع@@وذ بن@@ور وجهك ال@@ذي أش@@رقت له الظلم@@ات ‪ ،‬وص@@لح عليه أمر ال@@دنيا واآلخ@@رة ـ‬
‫على غضبك ‪ ،‬أو ينزل يب سخطك‪.‬‬ ‫حيل ّ‬‫أن ّ‬
‫«لك العتىب حىت ترضى ‪..‬‬
‫«وال حول وال قوة إال بك ‪»..‬‬
‫إهنا مناج @ @ @ @ @ @ @@اة ‪ ،‬يتنفس فيها النيب أنف @ @ @ @ @ @ @@اس العافية ‪ ،‬ويطعم منها طعم الرضا ‪ ،‬وهلذا‬
‫ط@ @@الت تلك املناج@ @@اة ‪ ،‬ومشت كلماهتا اهلوينا على ش@ @@فىت رس@ @@ول اهلل ‪ ،‬كأهنا حتمل أثق @@اال‬
‫من اهلموم اليت أملت به ‪ ،‬وتنطلق هبا ىف قافلة طويلة ممتدة بني األرض والسماء!!‬
‫مث انظر إىل رس@@ول اهلل صلى‌هللا‌عليه‌وسلم ي@@وم أحد ‪ ،‬وقد أح@@اط به املش@@ركون ‪،‬‬
‫شج صلوات اهلل وسالمه‬ ‫وتعاورته سهامهم ورماحهم ‪ ،‬وكادت تصل إليه سيوفهم ‪ ،‬وقد ّ‬
‫عليه ‪ ،‬وكس @@رت ثنيت @@اه ‪ ،‬واستش @@هد كثري من أص @@حابه ‪ ،‬وأحبابه ‪ ،‬ومن بينهم عمه ‪ ،‬أسد‬
‫اهلل ‪ ،‬محزة بن عبد املطلب‪ .‬ومع ه @ @ @@ذا ‪ ،‬فما ق @ @ @@ال النيب ىف ه @ @ @@ذا املق @ @ @@ام ‪ ،‬إال القولة اليت ال‬
‫يقوهلا إنسان غ@ريه ىف ه@ذه ال@دنيا ‪ ..‬ق@ال ـ ص@@لوات اهلل وس@@المه عليه ‪« :‬اللهم اهد ق@ومى ‪،‬‬
‫فإهنم ال يعلمون»!!‬
‫وكما ابتلى اهلل سبحانه ‪ ،‬أولياءه بالبأساء والض@@راء ‪ ،‬ابتلى أع@@داءه بالنعم@@اء والس@@راء‬
‫‪ ،‬فك@@ان ذلك بالء عليهم ‪ ،‬ونقمة من نقم اهلل هبم ‪ ..‬لقد زادهتم تلك النعم بع@@دا عن اهلل ‪،‬‬
‫وعمى عن احلق ‪ ،‬وضالال عن اهلدى‪.‬‬
‫والقرآن الكرمي يذكر لنا قارون ‪ ،‬كمثل من أمثلة االبتالء ب@@النعم ‪ ،‬عند من ال يق@@در‬
‫على الوف @@اء هبا ‪ ،‬وال يق @@درها ق @@درها ‪ ،‬فك @@ان أن عجل اهلل له اهلالك ىف ال @@دنيا ‪ ،‬مث أع @ ّد له‬
‫عذاب السعري ىف اآلخ@رة ‪ ..‬وك@ذلك فرع@@ون ‪ ،‬ال@ذي بسط له ىف الس@لطان ‪ ،‬وأم@ ّده مبوف@@ور‬
‫النعم ‪ ،‬فما زاده ذلك إال كف@@را باهلل ‪ ،‬وحمادة له ‪ ..‬فم@@ات تلك امليتة الش@@نعاء ‪ ،‬وك@@ان مثال‬
‫وعربة ألوىل األبصار ‪..‬‬
‫‪939‬‬

‫أما ىف اآلخرة ‪ ،‬فهو إم@ام من أئمة الض@الل ‪ ،‬وقائد من الق@واد إىل ع@ذاب اجلحيم ‪..‬‬
‫ود) (‪ : 98‬هود)‪@.‬‬ ‫س الْ ِو ْر ُد ال َْم ْو ُر ُ‬ ‫ِ‬ ‫(ي ْق ُدم َقومهُ يوم ال ِْق ِ‬
‫َّار ‪َ ،‬وب ْئ َ‬
‫يامة ‪ ،‬فَأ َْو َر َد ُه ُم الن َ‬
‫َ ُ ْ َ َْ َ َ‬
‫وثانيا ‪ :‬ال شك أنه س@@بحانه وتع@@اىل ق@@ادر على أن يعفى أولي@@اءه من البالء وأن جيعل‬
‫ابتالءهم بالس@ @ @ @@راء ال بالض@ @ @ @@راء ‪ ،‬وأن جيعلهم طبيعة قائمة على احلمد والش@ @ @ @@كر ‪ ،‬وفط@ @ @@رة‬
‫مفطورة على االحتمال والصرب‪.‬‬
‫ولكن هذا وإن كان مما يفعله اهلل ببعض عب@اده وأحبابه ‪ ،‬كما ك@ان ذلك لس@ليمان ـ‬
‫ف@ @@إن هن@ @@اك درجة ف@ @@وق تلك الدرجة ‪ ،‬وهى درجة االبتالء بالض@ @@راء ‪ ،‬حيث جيد اإلنس @@ان‬
‫نفسه وكأنه ىف ص@ @@راع ض@ @@ار مع احلي@ @@اة وخطوهبا ‪ ،‬وحيث ي@ @@رى نفسه وكأنه جبل راسخ‬
‫ش @@امخ تتحطم على ص @@خوره الص @@لدة ‪ ،‬األم @@واج الص @@اخبة ‪ ،‬وتتكسر حتت أقدامه القويّة ‪،‬‬
‫العواصف العاتية ‪ ..‬وحيث يرى آخر األمر وقد انتهى ه@ذا الص@@راع ‪ ،‬واجنلى غب@ار املعركة‬
‫‪ ،‬وإذا به وبني يديه راية النصر ‪ ،‬وعلى جبينه تاج الفوز والظفر!‬
‫لقد كسب املعركة هبذا اجلهد ال@ @ @ @ @@ذايت ‪ ،‬وهبذا الثمن الغ@ @ @ @ @@ايل ال@ @ @ @ @@ذي قدمه من ذات‬
‫نفسه ‪ ،‬عرقا متصببا وأرقا متصال ‪ ،‬وعمال دائبا ‪..‬‬
‫وهذا ما جيعل للنصر ه@@ذا الطعم احللو ‪ ،‬ال@@ذي ال يع@@رف مذاقه إال من ابتلى وصرب ‪،‬‬
‫وجاهد وب@ @@ذل ‪ ،‬وح@ @@رم نفسه الن@ @@وم ىف ظل الراحة والرفاهة ‪ ،‬وب@ @@ات ليله س@ @@اهرا ‪ ،‬وهناره‬
‫عامال ‪..‬‬
‫وإنه لفرق كبري بني من جيد بني يديه طعاما طيبا حاض@@را عتي@@دا ‪ ،‬مل يب@@ذل فيه جه@@دا‬
‫‪ ،‬ومل يتكلّف له عمال ‪ ،‬وبني من ف @@رغت ي @@ده من كل ش @@ىء ‪ ،‬فيج@ @ ّد ويعمل ىف غري ون @@اء‬
‫أو فت @@ور ‪ ،‬وهو على ما به من حرم @@ان ومس @@غبة ‪ ،‬حىت إذا اجتمع له من س @@عيه ما يهيء به‬
‫لنفسه طعاما ‪ ،‬ك@ @@انت عن@ @@ده كل لقمة من ه@ @@ذا الطع@ @@ام ‪ ،‬أش@ @@هى وأطيب من تلك املائ@ @@دة‬
‫احلافلة بطيب الطعام‬
‫‪940‬‬

‫واملثل هلذا ‪ ،‬ما جند ىف حياة الوارث الذي يعيش على ما ورث ‪ ،‬وبني العامل الذي‬
‫يعيش من عرقه وكدحه وجهده ‪ !..‬فحياة الوارث حياة رتيبة مملة ثقيلة ‪ ،‬ذات لون واحد‬
‫‪ ،‬ال يتبدل ‪ ،‬بينما حياة العامل خصبة مليئة باحلياة واحلركة ‪ ،‬وتغاير الطعوم واأللوان‪.‬‬
‫وجند ه@@ذا ىف األنبي@@اء ـ ص@@لوات اهلل وس@@المه عليهم ـ فأص@@حاب الرس@@االت الك@@ربى‬
‫منهم ‪ ،‬هم الذين ابتلوا بالبأساء والضراء ‪ ..‬وعلى قدر ابتالئهم كانت منزلتهم عند رهبم‪.‬‬
‫إب@@راهيم عليه‌السالم ‪ ،‬ابتلى بإلقائه ىف الن@@ار ‪ ..‬وب@@األمر ي@@ذبح ول@@ده إمساعيل بي@@ده ‪،‬‬
‫فكان خليل الرمحن وأبا األنبياء ‪..‬‬
‫وموسى عليه‌الس الم ‪ ،‬ابتلى من أول حياته ‪ ،‬بإلقائه ىف اليم رض@ @ @ @ @ @ @@يعا ‪ ،‬مث بقتله‬
‫@رى ‪ ،‬وطلب فرع @@ون له ‪ ،‬وف @@راره إىل م @@دين ‪ ..‬مث بلق @@اء فرع @@ون ‪ ،‬ومواجهته بال @@دعوة‬ ‫املص @ ّ‬
‫إىل اإلميان باهلل ‪ ..‬مث ك@ @ @@ان ابتالؤه األكرب ىف حياته بني بىن إس@ @ @@رائيل ‪ ،‬وىف خالفهم عليه ‪،‬‬
‫وشرودهم منه ‪ ..‬فكان كليم اهلل‪.‬‬
‫وعيسى ـ عليه‌السالم ـ نشأ ىف حجر االبتالء ‪ @...‬تنعقد حوله ‪ ،‬وح @@ول أمه التهم‬
‫والظن@ @@ون ‪ ،‬حىت إذا ظهر ىف اليه@ @@ود ‪ ،‬ك@ @@ان بينه وبينهم ه@ @@ذا الص@ @@راع الطويل املرير ‪ ،‬حىت‬
‫ل ّفق@@وا له التهم ‪ ،‬وق@@دموه للح@@اكم الروم@@اىن ‪ ،‬وطلب@@وا إليه أن حيكم عليه بالص@@لب ‪ ،‬حسب‬
‫ش @ @@ريعتهم ‪ ،‬ومل يس @ @@رتح هلم ب @ @@ال حىت حكم هلم بص @ @@لبه ‪ ،‬وحىت ش @ @@بّه هلم أهنم ص @ @@لبوه ‪..‬‬
‫وكان كلمة اهلل‪.‬‬
‫وحممد ـ صلوات اهلل وسالمه عليه ـ قد لقى من قومه أل@@وان املس@@اءة ىف كل حلظة من‬
‫حلظات تلك السنوات الثالث عش@@رة اليت قض@@اها ىف مكة قبل اهلج@@رة ‪ ..‬فلما ه@@اجر ك@@انت‬
‫حياته قسما مشاعا بني الدعوة إىل اهلل ‪ ،‬واجلهاد‬
‫‪941‬‬

‫ىف س@ @@بيل اهلل ‪ ..‬يق@ @@وم ليله ‪ ،‬ويص@ @@وم هناره ‪ ..‬وما ش@ @@بع من طع@ @@ام قط ‪ ،‬وال ن@ @@ام إال على‬
‫حش@@ية من ليف ‪ ..‬وهو ال@@ذي ك@@ان يس@@تطيع ـ لو أراد ـ أن يأكل ىف ص @@حاف من ذهب ‪،‬‬
‫وأن ينام على فراش من حرير ‪ ..‬فكان خامت األنبياء وصفوة@ اخللق ‪..‬‬
‫وهك@ @@ذا جند االبتالء بالض @@راء أرجح كفة من االبتالء بالس @@راء ‪ ،‬ىف م@ @@يزان الص @@ياغة‬
‫ملعادن الرجال ‪ ،‬وصبّهم ىف قوالب الكمال واإلحس@ان ‪ ..‬وهلذا ك@ان أولو الع@زم من الرسل‬
‫‪ ،‬هم الذين ابتلوا وامتحنوا أشق امتحان ‪ ،‬وأثقل ابتالء ‪..‬‬
‫وثالثا ‪ :‬االبتالء بالش @ @ @ ّ@ر ليس ض @ @ @@ربة الزب ألولي @ @ @@اء اهلل وأحبابه وأص @ @ @@فيائه ‪ ،‬ولكنه‬
‫الش@ @@أن الغ@ @@الب عليهم ‪ ،‬ألن ذلك أش@ @@كل بط@ @@بيعتهم ‪ ،‬وأق@ @@رب إىل نفوس@ @@هم ‪ ،‬ألهنم كلما‬
‫ازدادوا من اهلل قربا انكشف هلم أمر ال@ @ @ @ @ @@دنيا ‪ ،‬ومتاعها الغ@ @ @ @ @ @@رور ‪ ،‬فنظ@ @ @ @ @ @@روا إليها نظ@ @ @ @ @@رة‬
‫اس @@تخفاف واستص @@غار ‪ ،‬لكل ما فيها ومن فيها ‪ ،‬مث إذا هم رأوا تك @@الب الن @@اس وت @@زامحهم‬
‫على مواردها ‪ ،‬زادهم ذلك إحقارا هلا ‪ ،‬وبعدا عنها‪.‬‬
‫وضر ‪ ،‬وحرم@@ان ‪ ،‬ونع@ ّده بالء‬ ‫فهذا الذي نرى فيه أولياء اهلل وأصفياءه ‪ ،‬من فاقة ‪ّ ،‬‬
‫أو ابتالء ‪ ،‬هو ـ ىف الواقع ـ مطلب لتلك النف@ @@وس العظيمة ‪ ،‬ورغبة حمببة هلذه القمم العالية‬
‫من عباد اهلل ‪..‬‬
‫إهنم يزه@ @ @ @@دون فيما تطلبه النف@ @ @ @@وس ‪ ،‬راضني ‪ ..‬وإهنم ليج@ @ @ @@دون ىف احلرم@ @ @ @@ان ‪ ،‬من‬
‫الغبطة والرضا ‪ ،‬ما ال جيده الواجدون من متع احلياة ومسراهتا ‪..‬‬
‫وهكذا تطلب كل نفس غذاءها الذي يهنئوها ‪ ،‬ويطيب هلا ‪ ..‬وش@@تان بني الكالب‬
‫واألس @@ود ‪ ..‬حيث تتقاتل الكالب على اجليف ‪ ،‬على حني متوت األس @@ود جوعا وال ت @@دنو‬
‫منها ‪..‬‬
‫‪942‬‬

‫رابعا ـ يبتلى احملس @@نون والص @@احلون من عب@ @@اد اهلل مبا يبتل@ @@ون به ‪ ،‬وهم على وعد من‬
‫اهلل س @@بحانه وتع @@اىل ‪ ،‬ب @@أن وراء الض @@يق فرجا ‪ ،‬وب @@أن مع العسر يس @@را ‪ ..‬وأهنم إن ص @@ربوا‬
‫الي@ @ @ @@وم على الض@ @ @ @ ّ@ر واألذى ‪ ،‬ف@ @ @ @@إهنم لعلى موعد بلق@ @ @ @@اء غد ينجلى فيه الك@ @ @ @@رب ‪ ،‬وتنقشع‬
‫صيبةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّ ِه وإِنَّا إِل َْي ِه ِ‬ ‫ِ‬ ‫الصابِ ِر َّ ِ‬
‫راجعُو َن‬ ‫َ‬ ‫ين إِذا أ َ‬
‫َصاب ْت ُه ْم ُم َ‬ ‫ين الذ َ‬ ‫ش ِر َّ َ‬ ‫غمامات الضر ‪َ ( ..‬وبَ ِّ‬
‫ـك ُه ُم ال ُْم ْهتَ ـ ـ ـ ُدو َن) (‪ 155‬ـ ‪: 157‬‬ ‫وات ِم ْن َربِّ ِه ْم َو َر ْح َمـ ـ ـ ةٌ َوأُولئِـ ـ ـ َ‬ ‫أُولئِـ ـ ـ َ‬
‫ـك َعلَْي ِه ْم َ‬
‫ص ـ ـ ـلَ ٌ‬
‫البقرة) ‪..‬‬
‫وكما قيل ‪ ،‬من أن الصحة تاج على رءوس األصحاء ال ي@راه إال املرضى ‪ ،‬فك@ذلك‬
‫كل نعمة من نعم اهلل ‪ ،‬ال ي@@ذوق حالوة طعمها ‪ ،‬وال يع@@رف جالل ق@@درها إال من حرمها‬
‫‪ ،‬وط@@ال حرمانه وافتق@@اده هلا ‪ ،‬ف@@إذا لقيها بعد ه@@ذا ‪ ،‬ع@@رف كيف فضل اهلل عليه ‪ ،‬وكيف‬
‫يؤدى هلل بعض ما جيب له ‪ ،‬من محد وشكران ‪..‬‬ ‫إحسانه إليه ‪ ،‬ومن مث يعرف كيف ّ‬
‫(*)‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫ـاه ْم فِي َر ْح َمتِنا إَِّن ُه ْم ِم َن‬ ‫ين َوأَ ْد َخ ْلنـ ُ‬ ‫ْك ْفـ ِـل ُكــلٌّ ِمن ال َّ ِ‬
‫ص ـاب ِر َ‬ ‫َ‬
‫ماعيل وإِ ْد ِريس و َذا ال ِ‬
‫َ َ‬
‫ِ‬
‫( َوإِ ْس ـ َ َ‬
‫ين) ‪..‬‬ ‫َّ ِ ِ‬
‫الصالح َ‬
‫ج@ @ @ @@اء ذكر إمساعيل ‪ ،‬بعد ذكر أي@ @ @ @@وب ‪ ،‬ألن كال منهما قد ابتلى ابتالء عظيما من‬
‫اهلل ‪ ،‬وكاّل منهما كان من الصابرين على ما ابتلى به‪.‬‬
‫ف@@أيوب ‪ ،‬قد ك@@ان ىف عافية ‪ ،‬وىف نعمة ظ@@اهرة ‪ ،‬مث ابتالء اهلل ىف نفسه وماله وول@@ده‬
‫مجيعا ‪ ..‬فصرب راضيا حبكم اهلل فيه ‪ ،‬مطمئنا إىل مواقع الرمحة منه ‪..‬‬
‫وإمساعيل ‪ ..‬قد رأى أب @@وه ىف املن @@ام أنه يذحبه ب @@أمر من ربه ‪ ،‬فلما أخ @@ربه ب @@أمر اهلل ‪،‬‬
‫ت ا ْف َع ْل‬‫وطلب إليه رأيه ‪ ،‬مل يرتدد ىف اجلواب ‪ ،‬وقال ‪( :‬يا أَب ِ‬
‫َ‬
‫‪943‬‬

‫ما ُت ْؤ َمر َستَ ِج ُدنِي إِ ْن شاء اهللُ ِمن َّ ِ‬


‫الصاب ِر َ‬
‫ين) ‪..‬‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫وق ّدم أي@وب على إمساعيل ‪ ،‬مع أنه ف@@رع من إب@@راهيم ‪ ،‬وإمساعيل أصل ‪ ..‬ألن أي@@وب‬
‫ط@@الت حمنته ‪ ،‬وط@@ال انتظ@@اره ىف موقف البالء س@@نني ‪ ،‬وهو ص@@ابر ومص@@ابر ‪ ،‬ومل يض@@جر ‪،‬‬
‫ومل يتك@ثر من األنني والش@@كوى‪ .‬أما إمساعيل فقد ك@@ان ابتالؤه لس@@اعة من ال@@زمن ‪ ،‬مث اجنلى‬
‫الكرب وزالت احملنة ‪ ..‬ومن جهة أخ@@رى ‪ ،‬ف@إن إمساعيل ك@@ان ـ ىف مواجهة ه@@ذا االبتالء ما‬
‫ي@@زال غالما ‪ ،‬مل يقع ىف نفسه ‪ ،‬وقوعا واض@@حا ك@@امال أثر ه@@ذا الفعل ال@@ذي هو مس@@اق إليه‬
‫‪ ..‬وهلذا ك @@انت البل @@وى ‪ ،‬أو ك @@ان اجلانب األكرب منها واقعا على أبيه إب @@راهيم ‪ ،‬ومن أجل‬
‫هذا كان حساهبا مضافا إىل إبراهيم ‪ ،‬وإن كان إلمساعيل حسابه ‪ ،‬وهو حساب وإن ق@ ّ@ل ـ‬
‫باإلض @@افة إىل أبيه ـ هو ش @@ىء عظيم رائع ‪ ،‬ت @@رجح به موازينه ىف الص @@ابرين من عب @@اد اهلل ‪..‬‬
‫وذلك على حني ك@@ان أي@@وب ىف دور الرجولة ‪ ،‬وىف ح@@ال لبس فيها الش@@باب ‪ ،‬والص@@حة ‪،‬‬
‫وذاق حالوة الغىن ‪ ،‬وع@@رف طعمها ‪ ،‬فك@@ان ان@@تزاع ه@@ذا كله منه ‪ ،‬أش @ ّد وقعا وأم@ ّ@ر طعما‬
‫مما لو وقع عليه ابتداء‪.‬‬
‫هذا وقد ذكر مع إمساعيل «إدريس» و«ذو الكفل»‪.‬‬
‫أما إدريس فهو ممن ذك@ @ @ @@رهم اهلل من أنبيائه ‪ ،‬كما يق@ @ @ @@ول س@ @ @ @@بحانه ‪َ ( :‬واذْ ُكـ ـ ـ ْـر فِي‬
‫يس إِنَّهُ كا َن ِصدِّيقاً نَبِيًّا ‪ : 56( ):‬مرمي) ‪ ..‬ومل يذكر الق@@رآن عن إدريس أك@@ثر‬ ‫ِ ِ ِ ِ‬
‫الْكتاب إ ْدر َ‬
‫من أنه ك@ @ @@ان نبيا وك@ @ @@ان من الص@ @ @@ابرين ‪ ..‬فلم يكن له ىف الق@ @ @@رآن قصة كقصة ‪ ،‬ص @ @@احل ‪،‬‬
‫وهود ‪ ،‬وإبراهيم ‪ ،‬ولوط ‪ ،‬وموسى ‪ ،‬وغريهم من رسل اهلل ‪..‬‬
‫وأما «ذو الكفل» فلم ي@ذكر إال ىف ه@ذا املوضع ‪ ،‬وقد اجتمع مع النب@يني الك@رميني ‪:‬‬
‫إمساعيل وإدريس ‪ ،‬وش @@اركهما ىف ص @@فة الصرب ‪ ..‬كما يق @@ول س @@بحانه ( ُكــلٌّ ِمن ال َّ ِ‬
‫ص ـاب ِر َ‬
‫ين‬ ‫َ‬
‫ين) ‪..‬‬ ‫وأَ ْد َخلْناهم فِي رحمتِنا إَِّنهم ِمن َّ ِ ِ‬
‫الصالح َ‬ ‫ُْ َ َْ ُْ َ‬ ‫َ‬
‫‪944‬‬

‫وقد ذهب معظم املفس@ @@رين م@ @@ذاهب شىت ىف «ذى الكف@ @@ل» وك@ @@ان أض @ @@عف اآلراء‬
‫عندهم فيه ‪ ،‬أنه نىب ‪ ،‬من أنبياء اهلل ‪..‬‬
‫@ىب ‪ ،‬وأن أب@@رز ص@@فة ىف حياته ك@@انت ص@@فة الصرب ‪..‬‬ ‫وال@@رأى عن@@دنا واهلل أعلم ـ أنه ن@ ّ‬
‫أما رسالته ‪ ،‬وأما قومه ‪ ،‬فشأنه ىف هذا شأن إدريس ‪ ،‬الذي مل يذكر له الق@@رآن رس@@الة وال‬
‫قوما ‪ ..‬كما أننا ن@@رجح أنه زكريا ـ عليه‌السالم ـ ألنه هو ال@@ذي كفل م@@رمي ‪ ،‬كما يق@@ول‬
‫اهلل تعاىل ‪َ ( :‬و َك َّفلَها َز َك ِريَّا)‬
‫وتس@ @ @ @@أل ‪ :‬ما حكمة ذكر إدريس وذى الكفل ‪ ،‬ه@ @ @ @@ذا ال@ @ @ @@ذكر ال@ @ @ @@ذي ال حيوى إال‬
‫امسيهما دون أن تلحق مبا قصة تستملى منها العربة والعظة؟‬
‫واجلواب على ه@@ذا ـ واهلل أعلم ـ أن ذكرمها ىف الق@@رآن الك@@رمي مل يكن مس@@اقا للع@@ربة‬
‫والعظة ‪ ،‬ففيما ح@ @@دث به الق@ @@رآن من قصص األنبي@ @@اء أك@ @@ثر من ع@ @@ربة وعظة ‪ ..‬وإمنا ك@ @@ان‬
‫ذكرمها تكرميا هلما ‪ ،‬وحفظا المسيهما الك@ @ @ @ @ @ @@رميني على ال@ @ @ @ @ @ @@زمن ‪ ،‬ونظمهما ىف عب@ @ @ @ @ @ @@اد اهلل‬
‫املصطفني من أنبيائه ورسله ‪..‬‬
‫وىف هذا حتقيق ألمرين ‪:‬‬
‫أوهلما ‪ :‬ما جيده األحي@ @@اء ال @@ذين يش@ @@هدون ه@ @@ذا احلديث ‪ ،‬من إحس@ @@ان اهلل س@ @@بحانه‬
‫وتع@@اىل إىل احملس@@نني من عب@@اده ‪ ،‬بعد أن ي@@رتكوا ه@@ذه ال@@دنيا ‪ ،‬وذلك برفع ذك@@رهم ‪ ،‬وختليد‬
‫آثارهم ‪ ،‬وىف هذا ما يغرى باإلحسان ‪ ،‬وبتمجيد احملسنني ‪..‬‬
‫وثانيهما ‪ :‬أال حيرم ه@@ذان النبي@@ان نص@@يبهما من دع@@اء املؤم@@نني على امت@@داد األزم@@ان ‪،‬‬
‫حيث يصلّى املصلون على أنبياء اهلل ‪ ،‬وحيث يذكرهم الذاكرون واحدا واحدا‪.‬‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫غاضباًـ فَظَ َّن أَ ْن لَن َن ْق ِدر َعلَْي ِه فَنادى فِي الظُّلُ ِ‬
‫مات‬ ‫ُّون إِ ْذ ذَ َهب م ِ‬ ‫(وذَا الن ِ‬
‫ْ َ‬ ‫َ ُ‬ ‫َ‬
‫‪945‬‬

‫ين فَا ْس ـتَ َج ْبنا لَ ــهُ َونَ َّج ْين ــاهُ ِم َن الْغَ ِّم َو َكــذلِ َ‬
‫ك‬ ‫ِِ‬ ‫ك إِنِّي ُك ْن ُ ِ‬
‫ت م َن الظَّالم َ‬ ‫أَ ْن ال إِل ــهَ إِاَّل أَنْ َ‬
‫ت ُس ـ ْبحانَ َ‬
‫ين)‪.‬‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬
‫ُن ْنجي ال ُْم ْؤمن َ‬
‫ذا الن @@ون ‪ :‬هو ي @@ونس ـ عليه‌السالم ـ والن @@ون ‪ :‬هو احلوت ‪ ،‬ومجعه نين @@ان ‪ ..‬وقد‬
‫نسب إليه يونس ‪ ،‬ألنه عاش ىف بطنه زمنا ـ كما سرتى ‪..‬‬
‫ب ُمغا ِضـباًـ) إش@@ارة إىل أنه اختلف مع قومه ‪ ،‬ف@@رتكهم وذهب‬ ‫وقوله تع@@اىل ‪( :‬إِ ْذ َذ َه َ‬
‫بعيدا عنهم ‪ ،‬مغاضبا هلم‪.‬‬
‫وىف قوله تع @@اىل ‪ُ ( :‬مغا ِضـ ـباً) إش @@ارة إىل أنه اس @@تجلب املغاض @@بة ‪ ،‬واس @@تعجلها ‪ ،‬وأنه‬
‫وإن ظهر له من قومه ما يثري الغضب ‪ ،‬وي@ @ @ @@دعو إىل القطيعة ‪ ،‬إال أنه ك@ @ @ @@ان ج@ @ @ @@ديرا به أن‬
‫يصرب ‪ ،‬ويصابر ‪ ،‬وأاّل يأخذ الق@@وم ب@@أول ب@@ادرة ‪ ،‬فيتخلى عن مقامه@ فيهم ‪ ..‬وه@@ذا ما يشري‬
‫اصبِ ْر لِ ُحك ِ‬
‫النىب الك@@رمي ‪ ،‬ص@@لوات اهلل وس@@المه عليه ‪( :‬فَ ْ‬
‫ك َوال‬ ‫ْم َربِّ َ‬ ‫إليه قوله تعاىل ‪ ،‬خماطبا ّ‬
‫ب الْح ِ‬ ‫ِ‬
‫وم) (‪ : 48‬ن)‪.‬‬ ‫وت إِ ْذ نادى َو ُه َو َم ْكظُ ٌ‬ ‫تَ ُك ْن َكصاح ِ ُ‬
‫ففى ه@@ذا تع@@ريض بي@@ونس ـ عليه‌السالم ـ وأنه مل يصرب الصرب املطل@@وب من األنبي@@اء‬
‫‪..‬‬
‫َن َن ْقـ ِـد َر َعلَْيـ ِـه) أي ظن أن لن نق@@در على حماس@@بته على ه@@ذا‬ ‫وقوله تع@@اىل ‪( :‬فَظَ َّن أَ ْن ل ْ‬
‫املوقف ‪ ،‬وعقابه عليه ‪..‬‬
‫ومل يكن من ي@ @@ونس عليه‌السالم ه@ @@ذا الظن بربه ‪ ،‬وبقدرته ‪ ،‬وإمنا حاله اليت ك@ @@ان‬
‫عليها هى اليت تعطى ه @ @ @ @@ذا الوصف له ‪ ..‬فهو قد فعل فعل من يظن أنه يفعل ما يفعل ‪ ،‬مث‬
‫ال جيد حماسبا على ما فعل ‪..‬‬
‫ت ِم َن‬
‫ك إِنِّي ُك ْن ُ‬ ‫قوله تع@ @ @ @ @@اىل ‪( :‬فَنـ ـ ـ ــادى فِي الظُّلُمـ ـ ـ ـ ِ‬
‫ـات أَ ْن ال إِلـ ـ ـ ــهَ إِاَّل أَنْ َ‬
‫ت ُس ـ ـ ـ ـ ْبحانَ َ‬
‫ِِ‬
‫الظَّالم َ‬
‫ين)‪.‬‬
‫‪946‬‬

‫هنا كالم مض@@مر ‪ ،‬يشري إليه العطف بالف@@اء (فَنادى) ‪ ..‬وه@@ذا املض@@مر ‪ ،‬قد ذكر ىف‬
‫ين إِ ْذ‬ ‫ِ‬ ‫آي@@ات أخ@@رى من الق@@رآن الك@@رمي ‪ ،‬وىف ه@@ذا يق@@ول س@@بحانه ‪( :‬وإِ َّن ي ــونُ ِ‬
‫س لَم َن ال ُْم ْر َسـل َ‬ ‫َ ُ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ْك الْم ْشح ِ‬ ‫ِ‬
‫يم) (‪139‬‬ ‫ـوت َو ُهـ َـو ُمل ٌ‬
‫ْحـ ُ‬
‫ين فَالَْت َق َمــهُ ال ُ‬
‫ساه َم فَكا َن م َن ال ُْم ْد َحض َ‬
‫ون فَ َ‬ ‫أَبَ َق إِلَى الْ ُفل َ ُ‬
‫ـ ‪ : 142‬الصافات)‪.‬‬
‫فحرف العطف «الفاء» يشري إىل هذه اآليات ‪ ..‬واملعىن أن ي@@ونس ملا ذهب مغاض@@با‬
‫ـك الْم ْشـح ِ‬ ‫ِ‬
‫ون) أي ال@@ذي ش@@حن‬ ‫قومه ‪ ،‬ظانّا أن لن نق@@در عليه ‪ ،‬أبق (أي ه@@رب) (إِلَى الْ ُف ْلـ َ ُ‬
‫وامتلئ بالن@@اس واألمتعة ‪ ،‬حىت ف@@اض ‪ ،‬وك@@اد يغ@@وص ىف املاء ‪ ..‬وإنق@@اذا للس@@فينة من الغ@@رق‬
‫رؤى أن يتخفف من أمتعتها ‪ ،‬مث من بعض الراك@ @ @ @ @ @ @ @ @@بني فيها ‪ ،‬وقد ارتضى الرك@ @ @ @ @ @ @ @ @@اب أن‬
‫يق@ @ @ @ @@رتعوا فيما بينهم على من خيلى الس@ @ @ @ @@فينة ‪ ،‬ويلقى بنفسه ىف املاء ‪ ،‬ولو ك@ @ @ @ @@ان ىف ذلك‬
‫هالكه ‪ ،‬إذ أن ىف هالكه جناة كثريين‪.‬‬
‫وقد وقعت القرعة على ي@ @ @@ونس فيمن وقعت عليهم ‪ ،‬ليلق@ @ @@وا بأنفس@ @ @@هم ىف البحر ‪..‬‬
‫ين) أي الس@@اقطني ‪ ،‬املخ@@ذولني ‪ ..‬وأرض دحض أي زلق ‪ ،‬ال‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ـاه َم فَكــا َن م َن ال ُْم ْد َحضـ َ‬
‫(فَسـ َ‬
‫متسك قدمى من ميشى عليها ‪ ،‬وحجة داحجة ‪ :‬أي ساقطة ‪ ،‬غري مقبولة ‪..‬‬
‫فلما ألقى ي@@ونس بنفسه ىف املاء ‪ ،‬التقمه احلوت‪( .‬فَنــادى فِي الظُّلُمـ ِ‬
‫ـات أَ ْن ال إِلــهَ إِاَّل‬
‫ِِ‬ ‫ك إِنِّي ُك ْن ُ ِ‬
‫ين) واملراد بالنداء ‪ ،‬الدعاء ‪ ،‬والتسبيح هلل ‪ ..‬كما يقول‬ ‫ت م َن الظَّالم َ‬ ‫ت ُس ْبحانَ َ‬ ‫أَنْ َ‬
‫ث فِي بطْنِـ ِـه إِلى يــوِم ي ْبعثُــو َن) و (الظُّلُمـ ِ‬ ‫س@@بحانه ‪َ ( :‬فلَــو ال أَنَّهُ كــا َن ِمن الْم ِ‬
‫ـات)‬ ‫َْ ُ َ‬ ‫ين لَلَبِ َ َ‬ ‫سـبِّح َ‬
‫َ َُ‬ ‫ْ‬
‫هى ه@ @ @ @@ذا الظالم الك@ @ @ @@ثيف املش@ @ @ @@تمل عليه ىف بطن احلوت ‪ ،‬حيث ال ينفذ إليه ش@ @ @ @@عاعة من‬
‫ضوء‪.‬‬
‫وقد ذكر املف ّس@ @ @رون أن ه@ @ @@ذه الظلم@ @ @@ات ‪ ،‬هى ظلمة البحر ‪ ،‬وظلمة بطن احلوت ‪،‬‬
‫وظلمة الليل ‪..‬‬
‫‪947‬‬

‫وأنه ال حاجة إىل ه@ @ @ @@ذا التكلّف ‪ ،‬إلجياد وجه جلمع الظلم@ @ @ @@ات ‪ ..‬والبحر نفسه هو‬
‫ظلم@ @@ات ‪ ،‬وبطن احلوت ظلم@ @@ات وظلم@ @@ات ‪ ..‬فما احلاجة إىل الليل ‪ ،‬حىت تص@ @@بح الظلمة‬
‫ظلمات؟ وهل ىف أعم@@اق البحر ‪ ،‬أو ىف ج@@وف احلوت ‪ ،‬حس@@اب للّيل أو النه@@ار ‪ ،‬والظالم‬
‫ج ِم ْن َف ْوقِـ ِـه‬ ‫مات فِي بَ ْح ٍر ل ِّ‬
‫ُج ٍّي َيغْشــاهُ َمـ ْـو ٌ‬
‫والنور؟ ‪ ..‬واهلل س@@بحانه وتع@@اىل يق@@ول ‪( :‬أَو َكظُلُ ٍ‬
‫ْ‬
‫ض) (‪ : 40‬الن@ور) إن ما ىف أعم@اق البحر‬ ‫ضها َف ْو َق َب ْع ٍ‬ ‫مات َب ْع ُ‬
‫حاب ‪ ،‬ظُلُ ٌ‬ ‫ِِ‬ ‫مو ِ‬
‫ج م ْن َف ْوقه َس ٌ‬ ‫َْ ٌ‬
‫‪ ،‬ليست ظلمات وحسب ‪ ،‬وإمنا هى ظلمات ‪ ،‬فوق ظلمات ‪ ،‬فوق ظلمات!‬
‫ين) أي أن اهلل‬ ‫ِِ‬ ‫وقوله تع @@اىل ‪( :‬فَا ْس ـتَج ْبنا لَــهُ ونَ َّج ْينــاهُ ِمن الْغَ ِّم و َكــذلِ َ ِ‬
‫ك نُ ْنجي ال ُْمـ ْـؤمن َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫غم ‪ ،‬وك@@ذلك ينجى اهلل املؤم@@نني‬ ‫س@@بحانه قد اس@@تجاب دع@@اء ي@@ونس ‪ ،‬وجنّ@@اه مما هو فيه من ّ‬
‫‪ ،‬مما ينزل هبم من سوء ‪ ،‬وما يصيبهم من بالء ‪..‬‬
‫ِِ‬ ‫ك إِنِّي ُك ْن ُ ِ‬
‫ين) ‪..‬‬ ‫ت م َن الظَّالم َ‬ ‫ت ُسـ ـ ـ ْبحانَ َ‬‫وي@ @ @@ونس مل ي @ @@دع إال بقوله ‪( :‬ال إِل ـ ــهَ إِاَّل أَنْ َ‬
‫فهو دع @@اء مل يطلب فيه جناة أو خالصا من ه @@ذا البالء ال @@ذي هو فيه ‪ ..‬ففيم اس @@تجاب اهلل‬
‫له؟‬
‫واجلواب ـ واهلل أعلم ـ أنه دعا بأفضل دع@ @@اء يقتض@ @@يه حاله ‪ ،‬ويطلبه موقف@ @@ه‪ @.‬إنه قد‬
‫أتى من قبل نفسه ‪ ،‬وإ ّن نفسه هى اليت أوقعته ىف ه@ @@ذا البالء ‪ ،‬ودفعت به إىل ه@ @@ذا املوقف‬
‫ال@@ذي هو فيه ‪ ،‬فهو ىف دعائه ه@@ذا يطلب ال@@رباءة من نفسه ‪ ،‬والنج@@اة من ش@@باكها ‪ ،‬وذلك‬
‫ب@ @ @@إخالص العبودية هلل ‪ ،‬وال@ @ @@رباءة من كل ش@ @ @@ىء ‪ ،‬حىت من نفسه ه@ @ @@ذه ‪ ،‬واالستس@ @ @@الم هلل‬
‫الذي ال إله إال هو ‪..‬‬
‫وإنه إذا خلص من نفسه ‪ ،‬وبرىء من أهوائها ونوازعها ‪ ،‬فقد خلص من كل س@وء‬
‫‪ ،‬وأمن كل مك @ @@روه ‪ ..‬ومن هنا ك@ @ @@ان خالصه من بطن احلوت ‪ ،‬وك@ @ @@انت جناته من ه @ @@ذا‬
‫البالء ‪ ..‬وهكذا كل من يضيف وجوده إىل اهلل ‪،‬‬
‫‪948‬‬

‫ويربأ من نفسه وما توسوس له به ‪ ..‬إنه يكون أبدا على شاطىء النجاة!‪.‬‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫ِ‬
‫استَ َج ْبنا لَهُ َو َو َه ْبنا لَــهُ‬ ‫ب ال تَ َذ ْرنِي َف ْرداً َوأَنْ َ‬
‫ت َخ ْي ُر الْوا ِرث َ‬
‫ين فَ ْ‬ ‫( َو َز َك ِريَّا إِ ْذ نادى َربَّهُ َر ِّ‬
‫صـلَ ْحنا لَـهُ َزوجـهُ إَِّن ُهم كـانُوا يسـا ِرعُو َن فِي الْ َخ ْي ِ‬
‫ـرات َويَـ ْدعُونَنا َرغَبـاً َو َر َهبـاً َوكـانُوا‬ ‫يَ ْحـيى َوأَ ْ‬
‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َْ‬
‫ين)‪.‬‬ ‫ِِ‬
‫لَنا خاشع َ‬
‫وزكريا ـ عليه‌السالم ـ ك@ @@ان مبتلى باحلرم@ @@ان من الولد ‪ ،‬وقد ط@ @@ال انتظ@ @@اره له ‪،‬‬
‫وتطلعه إليه ‪ ،‬حىت بلغ من الكرب عتيّا ‪ ..‬فلما بلغ احل ّد الذي يقع عنده الي@@أس ‪ ،‬مل يكن من‬
‫ب ال تَ ـ َذ ْرنِي‬
‫اليائسني من روح اهلل ‪ ،‬ف @@دعا ربّه ‪ ،‬وناج@@اه فيما بينه وبني نفسه ‪ ،‬فق @@ال ‪َ ( :‬ر ِّ‬
‫ِ‬
‫ت َخ ْي ُر الْوا ِرث َ‬
‫ين)‪.‬‬ ‫َف ْرداً َوأَنْ َ‬
‫ين) تعقيب على قوله ‪( :‬ال تَـ َذ ْرنِي َفـ ْـرداً) أي إن مل‬ ‫ِ‬
‫ت َخ ْـي ُـر الْــوا ِرث َ‬ ‫ـ وىف قوله ‪َ ( :‬وأَنْ َ‬
‫تس@ @ @ @@تجب ىل ‪ ،‬وهتب ىل من يؤنسىن ‪ ،‬ويرثىن من الولد ‪ ،‬فتلك هى مش@ @ @ @@يئتك ‪ ،‬وهى مىّن‬
‫مبوضع االستس @ @@الم والرضا ‪ ،‬ف @ @@إذا مل يكن ىل الولد ال @ @@ذي يرثىن ‪ ،‬ف @ @@أنت خري ال@ @@وارثني ‪..‬‬
‫ترث األرض ومن عليها ‪..‬‬
‫صـ ـلَ ْحنا لَ ــهُ َز ْو َجــهُ) إش@ @@ارة إىل ما ك@ @@ان ىف امرأته من عقم ‪،‬‬ ‫ـ وىف قوله تع@ @@اىل ‪َ ( :‬وأَ ْ‬
‫وأهنا هبذا العقم مل تكن ص @@احلة للحمل وال @@والدة ‪ ،‬فأص @@لحها اهلل س @@بحانه وتع @@اىل ‪ ،‬وجعل‬
‫من املرأة العقيم امرأة ولودا ‪..‬‬
‫ـ وقوله تعاىل ‪( :‬إَِّن ُهم كانُوا يسا ِرعُو َن فِي الْ َخ ْي ِ‬
‫رات َويَـ ْدعُونَنا َرغَبـاً َو َر َهبـاً َوكـانُوا لَنا‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬
‫ين) ‪ ..‬الض@ @@مري ىف (إَِّن ُه ْم) يع@ @@ود إىل زكريا ‪ ،‬وزوجه ‪ ،‬وول@ @@دمها حيىي ‪ ..‬فهم مجيعا‬ ‫ِ ِ‬
‫خاش ـ ـع َ‬
‫ك@ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @@انوا على ح@ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @@ال متقاربة من اإلميان باهلل ‪ ،‬والطمع ىف رمحته ‪ ،‬واخلوف من عذابه‬
‫واخلشوع لعظمته وجالله ‪..‬‬
‫والرهب ‪ :‬اخلوف ‪ ،‬واخلشية‪.‬‬ ‫والرغب ‪ :‬الرغبة ‪ ،‬والطمع ‪ّ ..‬‬ ‫ّ‬
‫‪949‬‬

‫قوله تعاىل ‪:‬‬


‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫ين)‪.‬‬
‫ت َف ْر َجها َفَن َف ْخنا فيها م ْن ُروحنا َو َج َعلْناها َو ْابنَها آيَةً للْعالَم َ‬
‫صنَ ْ‬ ‫( َوالَّتِي أ ْ‬
‫َح َ‬
‫اليت أحص@ @@نت فرجها ‪ ،‬هى م@ @@رمي ابنة عم@ @@ران ‪ ..‬ومل ت@ @@ذكر بامسها ألهنا مل تكن من‬
‫األنبياء ‪ ،‬واملذكورون هنا مجيعا أنبياء ‪ ،‬ومنهم ذو الكفل ـ كما أشرنا إىل ذلك من قبل ـ‪.‬‬
‫وقد ابتليت م@@رمي هبذا االبتالء ‪ ،‬ال@@ذي تك ّش@ف عن نعمة س@@ابغة ‪ ،‬وفضل عظيم ‪ ،‬مل‬
‫يكن ألنثى غريها ‪..‬‬
‫لقد محلت بنفخة من روح اهلل ‪ ،‬وج@ @@اءت باملس@ @@يح عليه‌الس الم ‪ ..‬وذلك بعد أن‬
‫م@ @ @ ّ@رت هبذا االمتح@ @ @@ان القاسي ‪ ،‬وواجهت من أهلها وقومها ه@ @ @@ذا االهتام ‪ ،‬ال @ @@ذي مل يكن‬
‫ليدفعه عنها ما ع@ @@رفت به ىف قومها من طهر ال حيوم حوله شك ‪ ،‬ومن عفة ال يط@ @@وف هبا‬
‫دنس ‪ ..‬ومع ه@ @@ذا فقد واجهت احملنة ‪ ،‬واحتملتها ىف صرب ‪ ،‬مستس@ @@لمة ألمر اهلل ‪ ،‬راض@ @@ية‬
‫حبكمه ‪ ،‬وكان عاقبة أمرها أن كانت هى وابنها آية للع@@املني ‪ ،‬تتجلّى فيها ق@@درة اهلل ‪ ،‬وما‬
‫له ىف عباده املخلصني من فضل وإحسان ‪..‬‬
‫لقد كانت هى آية من آي@@ات اهلل ‪ ،‬إذ ول@@دت من غري أن تتصل برجل ‪ ،‬وك@@ان ابنها‬
‫آية من آيات ‪ ،‬اهلل إذ ولد بنفخة من روح اهلل ‪ ،‬من غري أب‪.‬‬
‫____________________________________‬

‫اآليات ‪ 92( :‬ـ ‪)104‬‬


‫(إِ َّن ه ـ ِـذ ِه أ َُّمت ُكم أ َُّمةً ِ‬
‫واحـ َد ًة وأَنَا ربُّ ُكم فَا ْعب ـ ُد ِ‬
‫ون (‪َ )92‬وَت َقطَّعُ ــوا أ َْمـ َـر ُه ْم َب ْيَن ُه ْم ُكــلٌّ‬ ‫َ َ ْ ُ‬ ‫ُ ْ‬
‫الصالِ ِ‬
‫حات َو ُه َو‬ ‫راجعُو َن (‪ )93‬فَ َم ْن َي ْع َم ْل ِم َن َّ‬ ‫إِل َْينا ِ‬
‫‪950‬‬

‫ـرام َعلى َق ْريَـٍـة أ َْهلَكْناها أ ََّن ُه ْم ال َي ْر ِجعُــو َن‬ ‫م ْؤ ِمن فَال ُك ْفرا َن لِ ِ‬
‫سـ ْعيِه َوإِنَّا لَــهُ كـاتِبُو َن (‪َ )94‬و َح ٌ‬ ‫َ‬ ‫ُ ٌ‬
‫ـل حـ ـ َد ٍ ِ‬ ‫ِ‬ ‫(‪َ @ @)95‬حتَّى إِذا فُتِ َح ْ‬
‫ب‬ ‫ب َي ْنس ـ ـلُو َن (‪َ @ @)96‬واقَْتـ ـ َـر َ‬ ‫وج َو ُه ْم م ْن ُكـ ـ ِّ َ‬ ‫ْج ُ‬ ‫وج َو َمـ ـأ ُ‬‫ْج ُ‬ ‫ت يَ ـ ـأ ُ‬
‫ين َك َفـ ُـروا يا َو ْيلَنا قَـ ْد ُكنَّا فِي غَ ْفلَـ ٍـة ِم ْن هــذا بَـ ْـل ُكنَّا‬ ‫َّ ِ‬
‫صار الذ َ‬ ‫صةٌ أَبْ ُ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ْح ُّق فَِإذا ه َي شاخ َ‬ ‫ال َْو ْع ُد ال َ‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِِ‬
‫َّم أَْنتُ ْم لَها وا ِر ُدو َن (‪ )98‬ل َْو كا َن‬ ‫ب َج َهن َ‬ ‫صُ‬ ‫ين (‪ )97‬إِنَّ ُك ْم َوما َت ْعبُ ُدو َن م ْن ُدون اهلل َح َ‬ ‫ظالم َ‬
‫ـير َو ُه ْم فِيها ال يَ ْسـ ـ َمعُو َن (‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫ه ـ ُـؤالء آل َـه ـ ةً ما َو َر ُدوها َو ُكــلٌّ فيها خالـ ـ ُدو َن (‪ )99‬ل َُه ْم فيها َزف ـ ٌ‬
‫ْح ْس ـ ـ ـنى أُولئِـ ـ ـ َ‬ ‫ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫ـك َع ْنها ُم ْب َعـ ـ ـ ُدو َن (‪ )101‬ال يَ ْس ـ ـ ـ َمعُو َن‬ ‫ت ل َُه ْم منَّا ال ُ‬ ‫ين َس ـ ـ ـَب َق ْ‬‫‪ @ @ @ )100‬إِ َّن الذ َ‬
‫ِ‬ ‫يسها َو ُه ْم فِي َما ا ْشَت َه ْ‬ ‫ِ‬
‫اه ُم‬‫س ُه ْم خال ُدو َن (‪ @)102‬ال يَ ْح ُز ُن ُه ُم الْ َف َزعُ اأْل َ ْكَبـ ُـر َوَتَتلَ َّق ُ‬ ‫ت أَْن ُف ُ‬ ‫َحس َ‬
‫ب‬ ‫الس ِج ِّل لِ ْل ُكتُ ِ‬ ‫ماء َكطَ ِّي ِّ‬ ‫الس َ‬ ‫وع ُدو َن (‪َ )103‬ي ْو َم نَطْ ِوي َّ‬ ‫ال َْمالئِ َكةُ هذا َي ْو ُم ُك ُم الَّ ِذي ُك ْنتُ ْم تُ َ‬
‫ِِ‬ ‫ِ‬
‫ين) (‪)104‬‬ ‫َكما بَ َدأْنا أ ََّو َل َخل ٍْق نُعي ُدهُ َو ْعداً َعلَْينا إِنَّا ُكنَّا فاعل َ‬
‫____________________________________‬
‫التفسري ‪:‬‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫ون)‪.‬‬ ‫هذ ِه أ َُّمت ُكم أ َُّمةً ِ‬
‫واح َدةً وأَنَا ربُّ ُكم فَا ْعب ُد ِ‬ ‫(إِ َّن ِ‬
‫َ َ ْ ُ‬ ‫ُ ْ‬
‫بعد أن ذكر اهلل سبحانه وتعاىل أولئك املصطفني من رسله وأنبيائه وعباده الصاحلني‬
‫‪ ..‬من ن@@وح ال@@ذي يع@ ّد األب الث@@اين لإلنس@@انية بعد آدم ‪ ،‬إىل إدريس ‪ ،‬ال@@ذي يق@@ال إنه ك@@ان‬
‫@ىب ىف بىن إس@@رائيل ـ‬
‫من ذرية ن@@وح األق@@ربني ‪ ،‬إىل إب@@راهيم أىب األنبي@@اء ‪ ..‬إىل م@@رمي ّأم آخر ن@ ّ‬
‫بعد ذكر اهلل س @@بحانه وتع @@اىل ه @@ؤالء املك @@رمني من عب @@اده ‪ ،‬من ذك @@ور وإن @@اث ‪ ،‬ومن بعيد‬
‫عه@ @@ده وقريبه ـ ع ّقب على ذلك بقوله تع@ @@اىل ‪( :‬إِ َّن هـ ـ ِـذ ِه أ َُّمتُ ُك ْم)‪ .‬إش@ @@ارة إىل أن ه@ @@ذا هو‬
‫اجملتمع اإلنساىن ‪،‬‬
‫‪951‬‬

‫وتلك هى األمة اإلنس@@انية ‪ ،‬اليت يبعث اهلل فيها رس@@له ‪ ،‬ويص@@طفى منها من يش@@اء من عب@@اده‬
‫األم اليت ينتسب إليها كل إنس@@ان ‪ ،‬وفيها ه@@ذه الوج@@وه املش@@رقة اليت عرض@@تها‬ ‫‪ ..‬فه@@ذه هى ّ‬
‫اآلي@ @ @@ات الس@ @ @@ابقة ‪ ،‬واليت ينبغى أن يقيم الن@ @ @@اس وج@ @ @@وههم عليهم ‪ ،‬وأن يقت@ @ @@دوا هبم ‪ ،‬فهم‬
‫مجيعا من طينة واح @ @@دة ‪ ،‬وإمنا يك @ @@ون التف @ @@اوت بينهم باجلهد ال @ @@ذي يبذله اإلنس @ @@ان منهم ‪،‬‬
‫إلعالء إنسانيته ‪ ،‬ورفعها عن هذا الطني!!@‬
‫واحـ ـ َدةً) إش @ @@ارة إىل تلك الوح @ @@دة اليت جتمع الن @ @@اس مجيع @ @@ا‪.‬‬ ‫وىف قوله تع @ @@اىل ‪( :‬أ َُّمةً ِـ‬
‫وجتعل منهم جمتمعا واحدا ‪ ،‬وإن اختلفوا ألسنة ‪ ،‬وتباينوا ألوانا ‪ ،‬وتناءوا ديارا وأوطانا ‪..‬‬
‫رب مجيع الن@@اس ‪ ،‬وراعيهم‬ ‫ِ‬
‫وقوله تع@@اىل ‪َ ( :‬وأَنَا َربُّ ُك ْم ‪ ..‬فَا ْعبُ ُدون) أي أنه س@@بحانه ّ‬
‫@ذى نعمته وإحس @ @@انه ‪ ..‬تقلّهم أرضه ‪،‬‬ ‫وك @ @@الئهم ‪ ،‬فكلهم خلقه وص @ @@نعة ي @ @@ده ‪ ،‬وكلهم غ @ @ ّ‬
‫وتظلهم مساؤه ‪ ،‬وتغ@@اديهم وت@@راوحهم نعمه ‪ ..‬وإذا ك@@ان ه@@ذا ص@@نبعه هبم ‪ ،‬وش@@أنه فيهم ‪،‬‬
‫فهو املستحق للعبادة والطاعة والوالء ‪..‬‬
‫فمن ش @ @@رد عن اهلل ‪ ،‬وبعد عن مكانه ال @ @@ذي ينبغى ان يأخ @ @@ذه بني عب @ @@اده ‪ ،‬وأىب أن‬
‫يستمع لناصح ‪ ،‬أو يستجيب لداع ‪ ،‬أو حيفل بن@@ذير ‪ ،‬فقد س@@عى بنفسه إىل حتفه ‪ ،‬وأزهق‬
‫روحه بيده ‪..‬‬
‫وانظر م @ @ @@رة أخ @ @ @@رى ىف قوله تع @ @ @@اىل ‪( :‬إِ َّن هـ ـ ـ ِـذ ِه أ َُّمتُ ُك ْم أ َُّمةً ِ ـ‬
‫واح ـ ـ َد ًة ‪َ ..‬وأَنَا َربُّ ُك ْم ‪..‬‬
‫ون) جتد هذه املعادلة ‪:‬‬ ‫فَا ْعب ُد ِ‬
‫ُ‬
‫هذه أمتكم ‪ ..‬أمة واحدة‪.‬‬
‫رب لكم غريه‪.‬‬ ‫وهذا أنا ربكم ‪ ..‬إله واحد ‪ ..‬ال ّ‬
‫‪952‬‬

‫والنتيجة الالزمة هلذه املعادلة هى ‪:‬‬


‫ب ‪..‬‬ ‫ِ‬
‫الر ّ‬
‫(فَا ْعبُ ُدون) إذ أنتم مربوبون ‪ ،‬وأنا ّ‬
‫رب العباد ‪..‬‬ ‫أنتم العباد ‪ ،‬وأنا ّ‬
‫أنتم العابدون ‪ ..‬وأنا املعبود ‪..‬‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫(وَت َقطَّعوا أ َْمر ُهم ب ْيَن ُهم ُكلٌّ إِل َْينا ِ‬
‫راجعُو َن)‪.‬‬ ‫َ ُ َ َْ ْ‬
‫واو العطف هنا تشري إىل معطوف عليه حمذوف ‪ ..‬وه@@ذا احملذوف هو من تفريع@@ات‬
‫ون) ‪ ..‬وهو ج@ @@واب عن س@ @@ؤال مق@ @ ّدر‬ ‫األمر ال@ @@ذي أمر به الن@ @@اس ىف قوله تع@ @@اىل ‪( :‬فَا ْعب ـ ـ ُد ِ‬
‫ُ‬
‫يقتض@@يه احلال وهو ‪ :‬ما ذا ك@@ان من الن@@اس إزاء ه@@ذا األمر ال@ذي أم@@روا ب@@ه؟ فك@@ان اجلواب ‪،‬‬
‫مل يكونوا على طريق واحد ‪ ،‬بل اختلفوا ‪ ،‬وتقطع@@وا ش@@يعا وأحزابا ‪ ..‬فك@@ان منهم املطيع ‪،‬‬
‫وك @ @@ان منهم العاص @ @@ي‪ .‬منهم املؤمن ‪ ،‬ومنهم الك @ @@افر ‪ ..‬منهم عابد ال @ @@رمحن ‪ ،‬ومنهم عابد‬
‫الش@@يطان ‪َ ( ..‬ت َقطَّعُـوا أ َْم َـر ُه ْم َب ْيَن ُه ْم) ‪ ..‬وىف إض@@افة األمر إليهم ‪ ،‬إش@@ارة إىل أنه األمر ال@@ذي‬
‫هو مالك صالحهم وفالحهم ‪ ،‬وهو اإلميان اهلل‪.‬‬
‫راجعُــو َن) أي أن كل فريق منهم راجع إىل اهلل ‪ ،‬وحماسب‬ ‫ـ وقوله تعاىل ‪ُ ( :‬كلٌّ إِل َْينا ِ‬
‫على ما كسب من خري أو شر ‪..‬‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫حات َو ُه َو ُم ْؤ ِم ٌن فَال ُك ْفرا َن لِ َس ْعيِ ِه ‪َ ..‬وإِنَّا لَهُ كاتِبُو َن)‪.‬‬
‫الصالِ ِ‬ ‫(فَ َم ْن َي ْع َم ْل ِم َن َّ‬
‫هو بيان ملا يكون عليه الناس عند رجوعهم إىل اهلل يوم القيامة ‪ ..‬فمن عمل‬
‫‪953‬‬

‫صاحلا وهو مؤمن ‪ ،‬تقبّل اهلل عمله ‪ ،‬وكتبه له ‪ ..‬وسيجزيه عليه اجلزاء األوىف ‪..‬‬
‫ـ وقوله تع @@اىل ‪َ ( :‬و ُهـ َـو ُمـ ْـؤ ِم ٌن) هو قيد لقب @@ول األعم @@ال الص @@احلة ‪ ،‬فال يقبل من غري‬
‫املؤم@@نني عمل وإن ك@@ان ص@@احلا ‪ ،‬إذ مل يز ّكه اإلميان باهلل ‪ ،‬وكل عمل ال يز ّكيه اإلميان باهلل‬
‫‪ ،‬هو باطل ‪ ،‬ال وزن له‪.‬‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫رام َعلى َق ْريٍَة أ َْهلَكْناها أ ََّن ُه ْم ال َي ْر ِجعُو َن)‪.‬‬
‫( َو َح ٌ‬
‫هو بي @@ان للوجه املقابل للمؤم @@نني ‪ ،‬وهو وجه الك @@افرين ‪ ..‬وقد ج @@اء النظم الق @@رآىن‬
‫على هذا األسلوب ‪ ،‬ليكشف عن حال هؤالء اجملرمني ىف الدنيا ‪ ،‬واآلخرة معا ‪..‬‬
‫يعجل للظ@@املني ‪ ..‬وهم ىف اآلخ@@رة واقع@@ون‬ ‫معرض@@ون للهالك ‪ ،‬ال@@ذي ّ‬ ‫فهم ىف ال@@دنيا ّ‬
‫حتت ع@@ذاب اهلل ‪ ،‬مس@@وقون إليه ‪ ،‬يتمنّ@@ون أن يع@@ودوا إىل ال@@دنيا ‪ ،‬ليص@@لحوا ما أفس@@دوا ‪..‬‬
‫ولكن هيهات ‪ ..‬هيهات ‪..‬‬
‫ـرام َعلى َق ْريَ ٍـة أ َْهلَكْناها أ ََّن ُه ْم ال َي ْر ِجعُـو َن) أي وحمك@@وم على أية‬
‫ـ وقوله تع@@اىل ‪َ ( :‬و َح ٌ‬
‫يفروا من هذا العذاب املع ّد هلم‪.‬‬ ‫قرية هلكت أال يرجع أهلها مرة أخرى إىل الدنيا ‪ ،‬أو أن ّ‬
‫وىف التعبري عن احلكم بلفظ احلرام ‪ ،‬تأكيد هلذا احلكم ‪ ،‬وجعل ع @ @ @@ودهتم إىل ال @ @ @@دنيا‬
‫من احملرم@ @@ات ‪ ،‬اليت إن ارتكبها اجملرم@ @@ون ‪ ،‬فإهنا ال جتىء من عند اهلل! تع@ @@اىل اهلل عن ذلك‬
‫عل @ ّ@وا كب @@ريا ‪ ،‬فكما كتب س @@بحانه على نفسه الرمحة ‪ ،‬ح @ ّ@رم س @@بحانه على نفسه أن يرجع‬
‫املوتى إىل الدنيا مرة أخرى ‪ ،‬وإمنا يبعثهم للحساب واجلزاء‪.‬‬
‫‪954‬‬

‫قوله تعاىل ‪:‬‬


‫وج َو ُه ْم ِم ْن ُك ِّل َح َد ٍب َي ْن ِسلُو َن) ‪..‬‬
‫ْج ُ‬‫وج َو َمأ ُ‬
‫ْج ُ‬ ‫( َحتَّى إِذا فُتِ َح ْ‬
‫ت يَأ ُ‬
‫يأجوج ومأجوج ‪ ،‬وهم من اجلماع@@ات املفس@@دة ىف األرض ‪ ،‬وقد ذك@@رهم اهلل تع@@اىل‬
‫ىف قصة ذى الق @ @ @@رنني ‪ ،‬وقد أق @ @ @@ام ذو الق @ @ @@رنني ىف وجههم س@ @ @ @ ّدا ‪ ،‬حىت ال ينف @ @ @@ذوا منه إىل‬
‫مواطن العمران ‪ ،‬ويعيثوا ىف األرض مفسدين ‪..‬‬
‫ِ‬
‫ـاء َو ْعـ ُد َربِّي‬‫وىف ه@@ذا يق@@ول ذو الق@@رنني عن الس @ ّد ‪( :‬هــذا َر ْح َمـ ةٌ م ْن َربِّي ‪ ..‬فَ ـِإذا جـ َ‬
‫وج)‬‫ْج ُ‬ ‫وج َو َمـ ـأ ُ‬
‫ْج ُ‬ ‫اء َوك ــا َن َو ْعـ ـ ُد َربِّي َح ًّقا) وىف قوله تع@ @@اىل ‪َ ( :‬حتَّى إِذا فُتِ َح ْ‬
‫ت يَ ـ ـأ ُ‬ ‫َج َعلَ ــهُ َد َّك َ‬
‫إشارة إىل اهنيار هذا الس ّد ‪ ،‬وفتح الطريق ليأجوج ومأجوج إىل األمم اجملاورة هلم ‪..‬‬
‫واحلدب ‪ :‬املك @@ان املرتفع ‪ ،‬ومنه األح @@دب ‪ ،‬ال @@ذي ب @@رز ظه @@ره ‪ ،‬وعال‪ .‬مث احنىن ‪..‬‬
‫ومنه احلدب ‪ ،‬وهو امليل والعطف ‪ ،‬وينس@ @ @ @ @@لون ‪ :‬أي جييئون ىف خفة وانطالق ‪ ..‬ك@ @ @ @ @@أهنم‬
‫جراد منتشر ‪..‬‬
‫ه@@ذا ‪ ،‬وقد ربط الق@@رآن خ@@روج ي@@أجوج وم@@أجوج بق@@رب الس@@اعة ‪ ..‬والس@@اعة ق@@ربت‬
‫اعةُ َوانْ َش ـ َّق الْ َق َمـ ُـر) وكما يق@@ول‬ ‫سـ َ‬
‫ت ال َّ‬ ‫من ي@@وم ن@@زول الق@@رآن ‪ ،‬كما يق@@ول تع@@اىل ‪( :‬اقَْتــرب ِ‬
‫ََ‬
‫ساب ُه ْم)‪.‬‬ ‫سبحانه‪( :‬اقْترب لِلن ِ ِ‬
‫َّاس ح ُ‬ ‫ََ َ‬
‫وعلى ه@@ذا ‪ ،‬فليس باملس@@تبعد أن يك@@ون ي@@أجوج وم@@أجوج قد خرج@@وا من ه@@ذا الس@ ّد‬
‫‪ ،‬بعد أن تداعى واهنار ‪ ..‬ومن ي@@درى؟ فلعلهم التت@@ار ال@ذين طلع@@وا على الدولة اإلس@@المية ‪،‬‬
‫وأتوا على معامل احلضارة ‪ ،‬ىف عاص@@متها بغ@@داد ‪ ،‬وىف كل ما وقع ألي@@ديهم من كل ع@@امر ‪،‬‬
‫حىت لقد قيل إهنم ألق@@وا مبا ح@@وت اخلزائن من كتب ىف هنر دجلة ‪ ،‬وك@@ان ه@@ذا ش@@يئا كث@@ريا‬
‫س@ @ ّد به النه @@ر! ورمبا ك @@انت أمة الصني ‪ ،‬اليت ك @@انت تعيش ىف ش @@به عزلة عن الع @@امل ‪ ،‬وها‬
‫هى ذى اليوم تتجمع وراء‬
‫‪955‬‬

‫ح@دودها ‪ ،‬وقد ملكت ىف ي@دها القنبلة الذرية ‪ ..‬وإنه ليس ببعيد ه@@ذا الي@@وم ال@@ذي تغ@@زو فيه‬
‫العامل كلّه ‪ ..‬هبذا السالح الرهيب ‪@!..‬‬
‫وقد حتدثنا عن ي@ @@أجوج وم@ @@أجوج ‪ ،‬وما قيل فيهم من مق@ @@والت ‪ ،‬ىف تفسري س@ @@ورة‬
‫الكهف‪.‬‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫ين َك َف ُـروا ‪ ..‬يا َو ْيلَنا قَـ ْد ُكنَّا فِي‬ ‫شاخصـةٌ أَبص َّ ِ‬ ‫ـق فَـِإذا ِهي ِ‬ ‫ْح ُّ‬
‫ـار الذ َ‬ ‫َ ْ ُ‬ ‫َ‬ ‫ب ال َْو ْعـ ُد ال َ‬
‫( َواقَْت َـر َ‬
‫ين)‪.‬‬ ‫ِِ‬ ‫ٍِ‬
‫غَ ْفلَة م ْن هذا بَ ْل ُكنَّا ظالم َ‬
‫والوعد احلق ‪ ..‬هو ي@@وم القيامة ‪ ..‬شاخصة أبص@@ار ال@@ذين كف@@روا ‪ :‬أي جام@@دة ‪ ،‬ال‬
‫تطرف ‪ ،‬من ش ّدة ما ترى من هول‪.‬‬
‫ت‬‫واآلية معطوفة على حمذوف ‪ ،‬هو غاية «ح@ @ @ @@ىت» ىف قوله تع@ @ @ @@اىل ‪َ ( :‬حتَّى إِذا فُتِ َح ْ‬
‫وج)‪.‬‬
‫ْج ُ‬ ‫وج َو َمأ ُ‬
‫ْج ُ‬
‫يَأ ُ‬
‫والتق @@دير ‪ :‬حىت إذا فتحت ي @@أجوج وم @@أجوج وهم من ك @ ّ@ل ح @@دب ينس @@لون ‪ ،‬وقع‬
‫الفس @@اد واالض @@طراب ‪ ،‬واق @@رتب الوعد احلق‪ .‬حيث ه @@ذا الن @@ذير ال @@ذي يق @@وم بني ي @@دى ه @@ذا‬
‫اليوم ‪ ،‬وهو ذلك اهلول الذي تشخص له أبصار الذين كفروا يوم القيامة ‪..‬‬
‫ين َك َفـ ُـروا) إش @@ارة إىل أن اق @@رتاب‬ ‫شاخصـ ـةٌ أَبص ـ َّ ِ‬ ‫ـ وىف قوله تع @@اىل ‪( :‬فَـ ـِإذا ِهي ِ‬
‫ـار الذ َ‬‫َ ْ ُ‬ ‫َ‬
‫الس@@اعة ‪ ،‬وظه @@ور أماراهتا ‪ ،‬ومنها خ@@روج ي@@أجوج وم@@أجوج ـ يطلع منه على الك @@افرين ما‬
‫تش @ @@خص به أبص @ @@ارهم ‪ ،‬فتظل احلدق معلقة ىف األعني ‪ ،‬ثابتة ال تتح @ @@رك ‪ ،‬لله @ @@ول ال @ @@ذي‬
‫يرونه ‪ ..‬إهنم ىف طريقهم إىل الفزع األكرب ‪ ..‬إىل جهنم ‪ ،‬أعاذنا اهلل منها ‪..‬‬
‫ين) ‪ ..‬هو حكاية ملا‬ ‫ِِ‬ ‫ٍِ‬ ‫ِ‬
‫وقوله تع@@اىل ‪( :‬يا َو ْيلَنا قَ ـ ْد ُكنَّا في غَ ْفلَــة م ْن هــذا بَـ ْـل ُكنَّا ظــالم َ‬
‫يتنادى به الكافرون يومئذ ‪ ،‬وهم ىف فزع القيامة ‪ ،‬وبني يدى‬
‫‪956‬‬

‫يومها املوعود ‪ ..‬إهنم يدعون بالويل والثبور ‪ ،‬ويندبون أنفسهم وهم على طريق اهلالك‪.‬‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫َّم أَْنتُ ْم لَها وا ِر ُدو َن)‪.‬‬
‫ب َج َهن َ‬ ‫صُ‬ ‫(إِنَّ ُك ْم َوما َت ْعبُ ُدو َن م ْن ُدون اهلل َح َ‬
‫هو ص@ @@وت اإلغاثة ال@ @@ذي يغ@ @@اث به الك@ @@افرون ‪ ،‬وهم يولول@ @@ون ‪ ،‬وين@ @@دبون ‪ ..‬وإنه‬
‫ون ِ‬
‫اهلل‬ ‫لص @@وت مف @@زع ‪ ،‬ي @@دخل عليهم مبا يزي @@دهم كربا وجزعا ‪( :‬إِنَّ ُكم وما َت ْعب ـ ُدو َن ِمن ُد ِ‬
‫ْ‬ ‫َْ ُ‬
‫َّم) أي إنكم احلصى ال@@ذي حتصب به جهنم ‪ ،‬أي إهنم يلق@@ون فيها هم وآهلتهم‬ ‫ب َج َهن َ‬ ‫صـ ُ‬
‫َح َ‬
‫كما يلقى باحلصى ىف حفرة ‪ ،‬بال وزن وال حساب‪.‬‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫ـير َو ُه ْم فِيها ال‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫(لَـ ـ ْـو كـ ــا َن هـ ـ ُـؤالء آل َهـ ـ ةً ما َو َر ُدوها َو ُكـ ــلٌّ فيها خال ـ ـ ُدو َن ل َُه ْم فيها َزفـ ـ ٌ‬
‫يَ ْس َمعُو َن)‪.‬‬
‫أي لو ك @@ان ه @@ؤالء ال @@ذين يعب @@دهم املش @@ركون ‪ ،‬آهلة ما وردوا جهنم ‪ ،‬وال دخلوها‬
‫معهم ‪ ..‬إذ كيف يكون إهلا من يلقى به ىف جهنم؟ ( َو ُكلٌّ فِيها خالِ ُدو َن) أي كل من هذه‬
‫اآلهلة وعابديها ‪ ،‬واردون جهنم وخالدون فيها ‪ ..‬وهؤالء وأولئك مجيعا يع@@انون من أل@@وان‬
‫الع@ @@ذاب أه@ @@واال ‪ ،‬فأنفاس@ @@هم ىف جهنم زفري متصل ‪ ،‬مما يلفظونه من أج@ @@وافهم اليت تغلى ‪،‬‬
‫وليس هلم فرصة يأخ@@ذون منها ش@@هيقا وإن ك@@ان من هلب جهنم ‪ ،‬وقد أص@@اهبم الص@@مم من‬
‫هذا الزفري املتالحق ‪ ،‬الذي ال يأذن لش@@ىء ي@@دخل إىل كي@@اهنم ‪ ..‬واملعب@@ودون هنا هم أولئك‬
‫الضالّون املغرورون الذي دعوا الناس إىل عبادهتم وأقاموا أنفسهم آهلة عليهم‪.‬‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫ِ‬ ‫ْح ْسـنى أُولئِـ َ‬ ‫ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫سـها َو ُه ْم‬
‫ـك َع ْنها ُم ْب َعـ ُدو َن ال يَ ْسـ َمعُو َن َحسي َ‬ ‫ت ل َُه ْم منَّا ال ُ‬‫ين َسـَب َق ْ‬‫(إِ َّن الذ َ‬
‫س ُه ْم خالِ ُدو َن ال يَ ْح ُزنُ ُه ُم الْ َف َزعُ اأْل َ ْكَب ُر‬ ‫فِي َما ا ْشَت َه ْ‬
‫ت أَْن ُف ُ‬
‫‪957‬‬

‫وع ُدو َن)‪.‬‬‫اه ُم ال َْمالئِ َكةُ هذا َي ْو ُم ُك ُم الَّ ِذي ُك ْنتُ ْم تُ َ‬


‫َوَتَتلَ َّق ُ‬
‫تع @ @@رض ه @ @@ذه اآلي @ @@ات الثالث ما يلقى املؤمن @ @@ون ي @ @@وم القيامة من رهبم ‪ ،‬من كرامة‬
‫وتك@ @ @ @ @@رمي ‪ ..‬وقد وص@ @ @ @ @@فوا ب@ @ @ @ @@أهنم ال@ @ @ @ @@ذين س@ @ @ @ @@بقت هلم من اهلل احلسىن ‪ ،‬ألن إمياهنم باهلل ‪،‬‬
‫وت@@وفيقهم لألعم@@ال الص@@احلة ‪ ،‬مل يكن إال مبا س@@بق من علم اهلل هبم ‪ ،‬وإرادته فيهم ‪ ،‬وأهنم‬
‫ك@@انوا ىف علم اهلل ‪ ،‬ومبقتضى إرادته من أص@@حاب اليمني ‪ ..‬هك@@ذا خلقهم اهلل أزال ‪ ..‬فلما‬
‫جاءوا إىل هذه الدنيا ‪ ،‬جروا على ما علم اهلل منهم ‪ ،‬وعلى ما أراد هلم ‪ ،‬فآمنوا ‪ ،‬وعمل@@وا‬
‫الصاحلات ‪ ،‬وكانوا من عباد اهلل املكرمني ‪..‬‬
‫فاإلميان والكفر ‪ ،‬واهلوى والض@@الل ‪ ،‬وأص@@حاب اجلنة وأص@@حاب الن@@ار ‪ ..‬ك@ ّ@ل ذلك‬
‫ىف علم اهلل الق@@دمي ‪ ،‬وىف إرادته الس@@ابقة ‪ ..‬كما يق@@ول س@@بحانه ‪ُ ( :‬هـ َـو الَّ ِذي َخلَ َق ُك ْم فَ ِم ْن ُك ْم‬
‫ْجن َِّة َوفَ ِري ـ ٌق فِي‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫@ل ش @@أنه ‪( :‬فَ ِري ـ ٌق في ال َ‬ ‫كــاف ٌر َوم ْن ُك ْم ُمـ ْـؤم ٌن) (‪ : 2‬التغ @@ابن) وكما يق @@ول ج @ ّ‬
‫الس ِعي ِر) (‪ : 7‬الشورى)‪.‬‬ ‫َّ‬
‫وقد شرحنا هذه القضية ىف مبحث خاص حتت ه@@ذا العن@@وان ‪« :‬مش@@يئة اهلل‪ .‬ومش@@يئة‬
‫العباد»‪.‬‬
‫فه @@ؤالء ال @@ذين س @@بقت هلم من اهلل احلسىن ‪ ،‬هم مبع @@دون عن تلك النّ @@ار اليت يتقلب‬
‫حرها ‪،‬‬ ‫على مجرها ‪ ،‬وهليبها ‪ ،‬الك@ @@افرون والض@ @@الون ‪ ..‬فال خيلص إىل املؤم@ @@نني ش@ @@ىء من ّ‬
‫حس من زفريها وش@ @@هيقها (ال يَ ْس ـ ـ َمعُو َن َح ِسي َس ـ ـها) حىت ال تت@ @@أذى‬ ‫وال يصل إىل أمساعهم ّ‬
‫ت أَْن ُف ُس ـ ُه ْم خالِ ـ ُدو َن) أي‬ ‫مش @@اعرهم هبذه األص @@وات الرهيبة ‪ ،‬املفزعة ‪َ ( ،‬و ُه ْم فِي َما ا ْش ـَت َه ْ‬
‫أهنم يلق@ @ @@ون ىف اجلنة ما تش@ @ @@تهى أنفس@ @ @@هم ‪ ،‬من نعيم دائم ال ينقطع أب@ @ @@دا ‪( ..‬ال يَ ْـحـ ـ ُـز ُن ُه ُم‬
‫الْ َفـ ـ ـ َـزعُ اأْل َ ْكَبـ ـ ُـر) أي أهنم ال جيزع@ @ @@ون لي @ @@وم القيامة وال يفزع @ @@ون منه ‪ ،‬إذ مأل اهلل قل@ @ @@وهبم‬
‫طمأنينة وأمنا ‪ ،‬مبا أراهم من فضله ‪ ،‬ومبا اس@@تقبلتهم به املالئكة من بش@@ريات هبذا الفضل ‪،‬‬
‫إذ املالئكة‬
‫‪958‬‬

‫وع ُدو َن)‬ ‫يلقوهنم على أول الطريق ىف هذا اليوم ‪ ،‬ويقولون هلم ‪( :‬هذا َي ْو ُم ُك ُم الَّ ِذي ُك ْنتُ ْم تُ َ‬
‫أي هذا الي@وم ي@وم ج@@زاؤكم ‪ ،‬ونعيمكم ‪ ،‬ورض@وانكم ‪ ،‬ال@ذي وع@@دكم اهلل به ‪ ،‬ولن خيلف‬
‫اهلل وعده ‪ ..‬فهيّا استقبلوا ما وعدكم اهلل من رضوان ‪ ،‬وجنات لكم فيها نعيم مقيم‪.‬‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫ب َكما بَـ َدأْنا أ ََّو َل َخ ْل ٍـق نُِعيـ ُدهُ َو ْعـداً َعلَْينا إِنَّا‬‫سـ ِج ِّل لِ ْل ُكتُ ِ‬
‫ماء َكطَ ِّي ال ِّ‬
‫سـ َ‬ ‫( َي ْو َم نَطْـ ِوي ال َّ‬
‫ين)‪.‬‬ ‫ِِ‬
‫ُكنَّا فاعل َ‬
‫ماء) ظ @@رف متعلق بقوله تع @@اىل ‪( :‬ال يَ ْحـ ُـز ُن ُه ُم الْ َفـ َـزعُ اأْل َ ْكَبـ ُـر) ال‬ ‫( َيـ ْـو َم نَطْـ ـ ِوي ال َّ‬
‫سـ ـ َ‬
‫حيزن ال @@ذين هلم من اهلل احلسىن ‪ ،‬الف@ @@زع األكرب ىف ه @@ذا الي @@وم ‪ ،‬ال @@ذي نط @@وى فيه الس@ @@ماء‬
‫كطى الس @@جل للكتب ‪ ،‬وهو ي @@وم القيامة ‪ ،‬ي @@وم تب @@دل األرض غري األرض والس @@موات ‪..‬‬ ‫ّ‬
‫ِ‬
‫ماء) متعلقا بقوله تع@@اىل ‪( :‬نُعيـ ُدهُ) أي نعيد‬ ‫ويصح أن يك@@ون ه@@ذا الظ@@رف ( َي ْو َم نَطْ ِوي ال َّ‬
‫سـ َ‬
‫اخللق كما بدأناه ‪ ،‬وذلك يوم نطوى السماء كطى السجل للكتب‪.‬‬
‫يلف البساط ويطوى‪.‬‬ ‫وطى الشيء ‪ ،‬ضمه ‪ ،‬ول ّفه كما ّ‬ ‫ّ‬
‫وطى السماء ‪ ،‬ض@مها ‪ ،‬ول ّفها ‪ ،‬فينكشف ه@ذا الس@قف املعق@ود هبا ‪ ،‬وه@ذا ما يشري‬
‫جل ‪،‬‬ ‫إليه قوله تعاىل ‪( :‬وفُتِح ِ‬
‫ت أَبْواباً) ‪ ..‬فالسماء تطوى كما يطوى ال ّس@ ّ‬ ‫السماءُ فَكانَ ْ‬ ‫ت َّ‬ ‫َ َ‬
‫مبا كتب فيه ‪ ،‬فهى تطوى بعواملها كلها ‪ ،‬من كواكب ومشوس وأقمار ‪..‬‬
‫والسجل ‪ :‬أص@له احلجر ‪ ،‬ال@ذي يكتب عليه ‪ ،‬مث اس@تعمل لكل ما يكتب عليه ‪ ،‬من‬ ‫ّ‬
‫جلد وورق وحنوه ‪ ..‬وللكتب ‪ :‬أي على الكتب ‪ ..‬والكتب مبعىن املكتوبات‪.‬‬
‫وهذا التحول ىف العوامل العلوية والسفلية ‪ ،‬إمنا هو تصوير ملا يقع ىف مفهوم‬
‫‪959‬‬

‫اإلنس @ @@ان ‪ ،‬حني ينتقل إىل ال@ @@دار اآلخ @ @@رة ‪ ،‬حيث يش@ @@هد الوج @ @@ود على غري ما يقع حلواسه‬
‫ومدركاته وهو ىف هذه الدنيا‪.‬‬
‫وه@@ذا يعىن أن اإلنس@@ان بعد أن يف@@ارق ه@@ذا اجلسد ‪ ،‬يع@@ود إىل ع@@امل ال@ ّ@روح ‪ ،‬فينطلق‬
‫من أسر ه @ @ @@ذا اجلسد احملدود ‪ ،‬ويس @ @ @@بح ىف ع @ @ @@امل م @ @ @@اوراء املادة ‪ ،‬وهن @ @ @@اك ي @ @ @@رى األرض ‪،‬‬
‫ماوات‬
‫ُ‬ ‫سـ‬
‫ض َوال َّ‬‫ض غَْـي َـر اأْل َْر ِ‬ ‫والسماء غري الس@@ماء ‪ ..‬كما يق@@ول س@@بحانه ‪َ ( :‬ي ْو َم ُتبَد ُ‬
‫َّل اأْل َْر ُ‬
‫َو َبـ ـ ـ َـر ُزوا لِلَّ ِه ال ِ ـ‬
‫ْواح ـ ـ ِد الْ َقهَّا ِر) (‪ : 48‬إب @ @ @@راهيم) ‪ ..‬فه @ @ @@ذا التب @ @ @@دل هو تب@ @ @ @ ّدل فيما يقع على‬
‫تص@ @@ورات اإلنس@ @@ان ومدركاته ‪ ،‬بانتقاله من الع@ @@امل املادي إىل الع@ @@امل ال@ @@روحي ‪ ..‬وإال ف@ @@إن‬
‫العوامل ثابتة على ما أقامها اهلل سبحانه وتعاىل ‪ ،‬ىف هذا النظام احملكم‪.‬‬
‫ف @ @@األمر إذن ‪ ،‬ليس كما يتص @ @@ور ال @ @@ذين أخ @ @@ذوا أوص @ @@اف ي @ @@وم القيامة اليت ج @ @@اء هبا‬
‫القرآن ‪ ،‬على هذا التصور الذي تذهب به معامل الوجود كلّه ‪ ،‬وتنقلب أوض@@اع الس@@موات‬
‫واألرض ‪..‬‬
‫وكاّل ‪ ،‬ف@ @@إن ه@ @@ذا الوج@ @@ود العظيم ‪ ،‬ليس لإلنس@ @@ان ‪ ،‬وال من أجل اإلنس@ @@ان ‪ ،‬وإمنا‬
‫اإلنس @ @@ان ذرة من ذراته ‪ ،‬وش @ @@ىء من أش @ @@يائه ‪ ..‬وإن التغري والتب @ @@دل واقع عليه هو ‪ ،‬فتتغري‬
‫ل@ @@ذلك مدركاته ‪ ،‬وي@ @@رى الوج@ @@ود ‪ ،‬واملوج@ @@ودات بعني غري اليت يراها عليه ‪ ،‬وهو ىف ه @@ذا‬
‫املادى ‪ ،‬ال@ @@ذي حيجب نظر اإلنس@ @@ان ‪،‬‬ ‫الكي@ @@ان املادي ‪ ..‬وذلك ي@ @@وم يكشف ه@ @@ذا العط@ @@اء ّ‬
‫املادى ‪،‬‬
‫وحيص@@ره ىف ه@@ذه ال@@دائرة احملدودة الض@@يقة ‪ ،‬وعندئذ ي@@رى ما مل يكن ل@@رياه ىف عامله ّ‬
‫ص ُر َك الَْي ْو َم َح ِدي ٌد) (‪ : 22‬ق)‪.‬‬ ‫ش ْفنا ع ْن َ ِ‬
‫طاء َك َفبَ َ‬
‫كغ َ‬ ‫كما يقول سبحانه ‪( :‬فَ َك َ َ‬
‫@ىب صلى‌هللا‌عليه‌وسلم ‪« :‬من م @ @@ات فقد‬ ‫@ح احلديث ال @ @@ذي ي @ @@روى عن الن@ @ ّ‬‫وإذا ص @ @ ّ‬
‫ق @@امت قيامت @@ه» فه @@ذا يعىن أن كل من م @@ات وانتقل إىل الع @@امل اآلخر ‪ ،‬ي @@رى الوج @@ود قائما‬
‫يصور فيها القرآن مشاهد القيامة ‪ ،‬وما يتبدل‬ ‫على هذه الصورة اليت ّ‬
‫‪960‬‬

‫من مع @ @@امل الوج @ @@ود ‪ ..‬فهو تب @ @@دل ىف م @ @@دركات اإلنس @ @@ان وىف تص @ @@وراته ‪ ،‬بعد خالصه من‬
‫اجلسد وحترره من أسر املادة ‪..‬‬
‫ـ وىف قوله تع@@اىل ‪َ ( :‬كما بَ ـ َدأْنا أ ََّو َل َخ ْلـ ٍـق نُِعي ـ ُدهُ) أي أننا نعيد املوتى وننش@@رهم كما‬
‫يصح للمشركني والكافرين ‪ ،‬الذي يكذبون بيوم ال@@دين ‪ ،‬أن ينك@@روا‬ ‫خلقناهم ابتداء ‪ ،‬فال ّ‬
‫سـ ِ‬
‫ماوات‬ ‫س الَّ ِذي َخلَـ َـق ال َّ‬‫ه@@ذا البعث ‪ ،‬وأن يس@@تبعدوه ‪ ..‬فهو أه@@ون من اخللق ابت@@داء (أ ََول َْي َ‬
‫ب لَنا َمثَالً َونَ ِسـ َي‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫واأْل َر ِ ِ‬
‫يم) ‪َ ( ..‬و َ‬
‫ضـ َر َ‬ ‫ض بقاد ٍر َعلى أَ ْن يَ ْخلُ َق م ْثلَ ُه ْم؟ بَلى َو ُهـ َـو الْ َخاَّل ُـق ال َْعل ُ‬
‫َ ْ َ‬
‫شـ ـأَها أ ََّو َل َمـ َّـر ٍة َو ُهـ َـو بِ ُكـ ِّ‬
‫ـل َخ ْل ـ ٍـق‬ ‫يم قُ ـ ْـل يُ ْحيِ َيها الَّ ِذي أَنْ َ‬ ‫ـال من يح ِي ال ِْعظ ـ ِ ِ‬
‫ـام َوه َي َرم ٌ‬
‫َ‬ ‫َخ ْل َقــهُ ق ـ َ َ ْ ُ ْ‬
‫يم) (‪ : 79 ، 78‬يس)‬ ‫ِ‬
‫َعل ٌ‬
‫ـ وىف قوله تعاىل ‪( :‬أ ََّو َل َخل ٍْق) وىف تنكري ( َخل ٍْق) ما يفيد االستغراق والعموم ‪ ،‬فهو‬
‫@اص به ‪ ،‬وأن له من علم‬ ‫مبعىن أول كل خلق ‪ ..‬كما يفيد أيضا أن ك @ ّ@ل خمل @@وق له خلق خ@ ّ‬
‫@اص به ‪ ،‬وأن له من علم اهلل وقدرته‬ ‫اهلل وقدرته وحكمته ‪ ،‬نص @@يبه املق @@دور له ‪ ..‬وه @@ذا خ @ َّ‬
‫ٍ‬ ‫وحكمته ‪ ،‬نص @ @@يبه املق @ @@دور له ‪ ..‬وه @ @@ذا ما يشري إليه قوله تع @ @@اىل ‪( :‬إِنَّا ُكـ ـ َّ‬
‫ـل َش ـ ـ ْيء َخلَ ْقنـ ــاهُ‬
‫بَِق َد ٍر) (‪ : 49‬القمر)‪.‬‬
‫ِِ‬
‫ين) أي إن إع@ @@ادة املوتى إىل احلي@ @@اة م@ @@رة‬ ‫ـ وقوله تع@ @@اىل ‪َ ( :‬و ْعـ ــداً َعلَْينا إِنَّا ُكنَّا فـ ــاعل َ‬
‫راد له ‪ ..‬وىف هذا يقول س@@بحانه ‪:‬‬ ‫أخرى ‪ ،‬للحساب واجلزاء ‪ ،‬هو أمر قضى اهلل به ‪ ،‬وال ّ‬
‫يامـ ِـة ُت ْب َعثُــو َن) (‪ 15‬ـ ‪ : 16‬املؤمن@@ون) ويق@@ول‬ ‫ِ‬ ‫(ثُ َّم إِنَّ ُك ْم َب ْعـ َد ذلِـ َ‬
‫ـك ل ََميِّتُــو َن ثُ َّم إِنَّ ُك ْم َيـ ْـو َم الْق َ‬
‫َن ُي ْب َعثُ ـ ــوا قُ ـ ـ ْـل بَلى َو َربِّي لَتُْب َعثُ َّن ثُ َّم ل َُتنََّب ُؤ َّن بِما َع ِملْتُ ْم‬ ‫َّ ِ‬
‫جل ش @ @@أنه ‪َ ( :‬ز َع َم الذ َ‬
‫ين َك َفـ ـ ُـروا أَ ْن ل ْ‬
‫اهلل يَ ِس ٌير) (‪ : 7‬التغابن)‪.‬‬ ‫ك َعلَى ِ‬ ‫َوذلِ َ‬
‫وه @ @ @ @@ذا وعد من اهلل ‪ ،‬ولن خيلف اهلل وع @ @ @ @@ده وقد أ ّك@ @ @ @@ده س@ @ @ @@بحانه بقوله ‪( :‬إِنَّا ُكنَّا‬
‫ين) ‪ ..‬وهو وعد ال حيت @ @@اج إىل توكيد ‪ ،‬عند املؤم @ @@نني ‪ ،‬وإمنا التأكيد منظ @ @@ور فيه إىل‬ ‫ِِ‬
‫ف ـ ــاعل َ‬
‫الكافرين ‪ ،‬الذين يكذبون بيوم الدين‪.‬‬
‫‪961‬‬

‫____________________________________‬

‫اآليات ‪ 105( :‬ـ ‪)112‬‬


‫ص ـالِ ُحو َن (‪)105‬‬ ‫ِ ِ‬ ‫الزبُــو ِر ِم ْن َب ْعـ ِـد الـ ِّـذ ْك ِر أ َّ‬
‫( َولََقـ ْد َكتَْبنا فِي َّ‬
‫ي ال َّ‬ ‫ض يَ ِرثُها عبــاد َ‬ ‫َن اأْل َْر َ‬
‫ين (‪ )107‬قُـ ْـل إِنَّما‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ ٍ ِِ‬ ‫ِ‬
‫ْناك إِالَّ َر ْح َمـ ةً ل ْلعــالَم َ‬
‫ين (‪َ )106‬وما أ َْر َسـل َ‬ ‫إِ َّن في هــذا لَبَالغـاً ل َقـ ْـوم عاب ــد َ‬
‫ـل آ َذ ْنتُ ُك ْم َعلى‬ ‫ِ َّ‬ ‫ِ‬
‫ـل أَْنتُ ْم ُم ْس ـل ُمو َن (‪ )108‬فَ ـإ ْن َت َول ْوا َف ُقـ ْ‬ ‫واح ٌد َف َهـ ْ‬‫َي أَنَّما إِ ُله ُك ْم إِلــهٌ ِ ـ‬
‫يُــوحى إِل َّ‬
‫ْج ْهـ َـر ِم َن الْ َقـ ْـو ِل َو َي ْعلَ ُم ما‬ ‫ٍ‬
‫وع ـ ُدو َن (‪ )109‬إِنَّهُ َي ْعلَ ُم ال َ‬ ‫يب أ َْم بَ ِعي ـ ٌد ما تُ َ‬ ‫َس ـواء َوإِ ْن أَ ْد ِري أَقَ ـ ِر ٌ‬
‫اح ُك ْم بِـال َ‬
‫ْح ِّق‬ ‫ب ْ‬ ‫ـال َر ِّ‬‫تَكْتُ ُمو َن (‪َ )110‬وإِ ْن أَ ْد ِري ل ََعلَّهُ فِ ْتنَـةٌ لَ ُك ْم َو َمتـاعٌ إِلى ِحي ٍن (‪ )111‬قـ َ‬
‫ص ُفو َن) (‪)112‬‬ ‫الر ْحمن الْمستَعا ُن َعلى ما تَ ِ‬
‫َو َر ُّبنَا َّ ُ ُ ْ‬
‫____________________________________‬
‫التفسري ‪:‬‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫الصالِ ُحو َن) ‪..‬‬ ‫ِ ِ‬ ‫الزبُو ِر ِم ْن َب ْع ِد ِّ‬
‫الذ ْك ِر أ َّ‬ ‫( َولََق ْد َكتَْبنا فِي َّ‬
‫ي َّ‬ ‫ض يَ ِرثُها عباد َ‬
‫َن اأْل َْر َ‬
‫@الزبور هنا ـ واهلل أعلم ـ الكتب الس@@ماوية ‪ ،‬اليت هى بعض الكت@@اب «األم» ‪،‬‬ ‫املراد ب@ ّ‬
‫كتاب اهلل ‪ ،‬وهو مستودع علمه الذي ال ينفد ‪..‬‬
‫وأصل الزب @ @@ور ‪ :‬القطعة من الش @ @@يء ومجعه زبر ‪ ،‬كما يق @ @@ول تع @ @@اىل ‪( :‬آتُـ ــونِي ُز َبـ ـ َـر‬
‫يد) والذكر ‪ :‬على هذا التقدير ‪ ،‬هو أم الكتاب‪.‬‬ ‫الْح ِد ِ‬
‫َ‬
‫واملعىن ‪ ،‬أن اهلل س @ @@بحانه وتع @ @@اىل كتب وقضى ىف الكتب املنزلة على رس @ @@له بعد أن‬
‫الصالِ ُحو َن) ‪..‬‬ ‫ِ ِ‬ ‫األم ـ (أ َّ‬
‫ي َّ‬ ‫ض يَ ِرثُها عباد َ‬‫َن اأْل َْر َ‬ ‫كان ذلك مسطورا ىف الكتاب ّ‬
‫‪962‬‬

‫واملراد مبرياثهم األرض ‪ ،‬أهنم هم الذين ينتفع@@ون حبي@@اهتم فيها ‪ ،‬وي@@تزودون فيها ال@@زاد‬
‫الطيب ‪ ،‬ال @ @@ذي يلقونه ي@ @@وم القيامة ‪ ،‬فيك@ @@ون هلم مطية جيوزون هبا الن@ @@ار إىل اجلنة ‪ ،‬حيث‬
‫ينعم @@ون ينعيمها اخلالد ‪ ..‬فه @@ذا ك @ ّ@ل ما جيىن من مثر ‪ ،‬وما حيصل من خري ىف ه @@ذه ال @@دنيا ‪،‬‬
‫يستحق أن يسمى مرياثا ‪..‬‬ ‫ّ‬ ‫وهو الذي‬
‫أما غري املؤم@@نني ‪ ،‬ف@@إهنم مهما ملك@@وا من ه@@ذه ال@@دنيا ‪ ،‬ومهما وقع ألي@@ديهم منها من‬
‫م@@ال ‪ ،‬وج@@اه ‪ ،‬وس@@لطان ـ فلن يك@@ون هلم من ه@@ذا ش@@ىء ىف حي@@اهتم اآلخ@@رة ‪ ،‬بل س@@يكون‬
‫عليهم وب@@اال وحس@@رة ‪ ،‬على حني متر هبم حي@@اهتم ال@@دنيا ‪ ،‬وكأهنا ض@@حوة ي@@وم أو عش@@يته ‪..‬‬
‫ضحاها)‪ : 46( .‬النازعات)‪.‬‬ ‫َم َيلْبَثُوا إِاَّل َع ِشيَّةً أ َْو ُ‬
‫( َكأ ََّن ُه ْم َي ْو َم َي َر ْونَها ل ْ‬
‫ف@ @ @ @ @@املراد ب@ @ @ @ @@املرياث هنا ‪ ،‬املرياث الن@ @ @ @ @@افع ‪ ،‬ال@ @ @ @ @@ذي يبقى ملا بعد املوت ‪ ،‬حيث جيده‬
‫احلى ىف اآلخ@@رة‬ ‫اإلنس@@ان ‪ ،‬وكأنه ىف حياته الثانية ‪ ،‬قد ورث حياته األوىل ‪ ..‬أو كأنه ه@@ذا ّ‬
‫‪ ،‬ال @@ذي ورث ه @@ذا امليت ال @@ذي ك @@ان ىف ال @@دنيا ‪ ..‬وه @@ذا هو بعض الس @ ّ@ر ىف التعبري بكلمة‬
‫(يَ ِرثُها) ‪..‬‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫ِ ٍ ِِ‬ ‫ِ‬
‫ين) ‪..‬‬ ‫(إِ َّن في هذا لَبَالغاً ل َق ْوم عابد َ‬
‫أي إن ىف هذا الذي حت ّدث به القرآن الكرمي من قصص ‪ ،‬وما فيه من عرب ـ لبالغا ‪،‬‬
‫أي لبيانا كاش @@فا ش @@افيا ‪ ..‬أو أن ىف ه @@ذا احلكم ال @@ذي ض @ ّ@مت عليه اآلية الكرمية ‪َ ( :‬ولََقـ ـ ْد‬
‫الزبُ ـ ــو ِر ِم ْن َب ْعـ ـ ِـد ال ـ ـ ِّـذ ْك ِر ‪ )..‬ـ إن ىف ه@ @ @@ذا لبيانا مبينا وحجة قاطعة ‪ ،‬يتلقى منها‬‫َكتَْبنا فِي َّ‬
‫العابدون العربة والعظة‪.‬‬
‫واملراد بالعاب @@دين ‪ ،‬املؤمن @@ون ‪ ،‬وقد ذك @@روا بالص @@فة الغالبة عليهم ‪ ،‬وهى التعبد هلل ‪،‬‬
‫والوالء له ‪ ..‬فال يكون املؤمن مؤمنا إال إذا عبد اهلل ‪ ،‬وذكره ‪ ،‬ذكرا متصال ‪..‬‬
‫‪963‬‬

‫قوله تعاىل ‪:‬‬


‫ِ ِ‬
‫ْناك إِاَّل َر ْح َمةً للْعالَم َ‬
‫ين)‪.‬‬ ‫( َوما أ َْر َسل َ‬
‫@ىب ص@@لوات اهلل وس@@المه عليه ‪ ،‬وأن اهلل س@@بحانه وتع@@اىل إمنا أرس@@له رمحة‬ ‫اخلط@@اب للن@ ّ‬
‫للناس مجيعا ‪ ..‬كما يقول صلوات اهلل وسالمه عليه ‪« :‬أنا رمحة مهداة» ‪..‬‬
‫ويسأل سائل ‪:‬‬
‫@ىب ص @ @@لوات اهلل وس @ @@المه عليه رمحة للع @ @@املني مجيع @ @@ا‪ .‬الن @ @@اس كلّهم‬ ‫كيف يك @ @@ون الن @ @ ّ‬
‫أس@@ودهم وأمحرهم ‪ ،‬وما بني أس@@ودهم وأمحرهم ‪ ،‬وقليل من كث@@ريهم أولئك ال@ذين آمن@@وا به‬
‫ين) يفيد العم@ @@وم‬ ‫ِ ِ‬
‫واهت@ @ @@دوا هبديه ‪ ،‬وانتفع@ @ @@وا برس@ @ @@الته؟ كيف ه@ @ @@ذا ‪ ،‬وقوله تع@ @ @@اىل (ل ْلع ـ ــالَم َ‬
‫والشمول؟‬
‫واجلواب على هذا ـ واهلل أعلم ـ من وجوه ‪:‬‬
‫أوال ‪ :‬أن اهلدى ال @@ذي ج @@اء به ـ ص @@لوات اهلل وس @@المه عليه ـ هو خري ممدود للن @@اس‬
‫مجيعا ‪ ،‬وهو رمحة غري حمج@ @ @@وزة عن أحد ‪ ،‬بل إهنا مبس@ @ @@وطة لكل إنس@ @ @@ان ‪ ،‬أيّا ك@ @ @@ان لونه‬
‫ول ِ‬
‫اهلل إِل َْي ُك ْم‬ ‫َّاس إِنِّي َر ُسـ ُ‬
‫وجنسه ‪ ..‬وىف ه@@ذا يق@@ول اهلل تع@@اىل لنبيه الك@@رمي ‪( :‬قُـ ْـل يا أ َُّي َها الن ُ‬
‫اهلل َو َر ُس ـولِ ِه‬ ‫يت فَـ ِ‬
‫ـآمنُوا بِ ِ‬ ‫ض ال إِلــهَ إِاَّل ُهـ َـو يُحيِي َويُ ِم ُ‬ ‫سـ ِ‬
‫ماوات َواأْل َْر ِ‬ ‫َج ِميع ـاً الَّ ِذي لَــهُ ُم ْلـ ُ‬
‫ـك ال َّ‬
‫النَّبِ ِّي اأْل ُِّم ِّي الَّ ِذي يـ ْـؤ ِمن بِ ِ‬
‫اهلل َو َكلِماتِـ ِـه َواتَّبِعُــوهُ ل ََعلَّ ُك ْم َت ْهتَـ ُدو َن ‪ : 158( )..‬األع@@راف) فهو‬ ‫ُ ُ‬
‫ص @@لوات اهلل وس @@المه عليه رمحة مه @@داة ‪ ،‬يط @@رق هبا ب @@اب كل إنس @@ان ‪ ،‬من غري أن يطلب‬
‫ل@@ذلك أج@@را ‪ ،‬وليس على النيب ـ بعد ه@@ذا ـ أن ي@@رغم املت@@أبّني عليه أن يقبل@@وا ما يقدمه هدية‬
‫ولكن كث@@ريا من األحي@@اء يعش@@ون‬
‫حى ‪ّ ..‬‬ ‫هلم ‪ ..‬إنه أش@@به بالش@@مس ‪ ،‬وهى رمحة عامة لكل ّ‬
‫عن ضوئها ‪ ،‬وكثري من األحياء ‪ ،‬إذا آذهنم‬
‫‪964‬‬

‫ض@@وؤها اجنح@@روا وقض@@وا ي@@ومهم ىف ظالم دامس ‪ ..‬فآية النه@@ار قائمة ‪ ،‬ولكنها بالنس@@بة هلم‬
‫منسوخة غري عاملة‪.‬‬
‫النىب ‪ ،‬وال@ذين يؤمن@ون به ىف كل جيل من أجي@ال الن@اس‬ ‫وثانيا ‪ :‬أن الذين آمنوا هبذا ّ‬
‫‪ ،‬وىف كل أمة من األمم ‪ ،‬وىف كل مجاعة من اجلماع@ @ @@ات ‪ ،‬هم رمحة ىف ه@ @ @@ذه ال@ @ @@دنيا على‬
‫أهلها مجيعا ‪ ،‬إذ ك@@انوا ـ مبا معهم من إميان ـ عناصر خري ‪ ،‬ومخائر رمحة ‪ ،‬ومص@@ابيح ه@@دى‬
‫وترق كثافة الظالم‪.‬‬ ‫وختف وطأة الظلم ‪ّ ،‬‬ ‫‪ ..‬وهبم تنكسر ضراوة الشر ‪ّ ،‬‬
‫وثالثا ‪ :‬ه@@ذا الكت@@اب ال@@ذي تل ّق@@اه النيب ـ ص@@لوات اهلل وس@@المه عليه ـ وحيا من ربّه ‪،‬‬
‫وه@@ذه اآلي@@ات املض@@يئة اليت نطق هبا ‪ ،‬واليت وعتها اآلذان ‪ ،‬وس@@لجتها الص@@حف ‪ ..‬كل ه@@ذا‬
‫رمحة قائمة ىف الن @@اس مجيعا ‪ ،‬وم @@رياث من الن @@ور واهلدى ‪ ،‬يس @@تهدى به الن @@اس ‪ ،‬ويص @@يبون‬
‫منه ما يسع جهدهم ‪ ،‬وما تطول أيديهم من خري ‪..‬‬
‫@ىب ‪ ،‬إىل أن ي@ @@رث اهلل‬ ‫وعلى ه@ @@ذا ‪ ،‬ف@ @@املراد بالع@ @@املني ‪ ،‬الن@ @@اس مجيعا ‪ ،‬منذ مبعث الن@ @ ّ‬
‫ْناك) ال@@ذي يفهم منه أن الرمحة‬ ‫األرض ومن عليها ‪ ..‬وهذا ما يشري إليه قوله تعاىل ‪( :‬أ َْر َسل َ‬
‫كانت منذ إرساله ومبعثه ‪ ،‬صلوات اهلل وسالمه عليه ‪..‬‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫َي أَنَّما إِله ُكم إِلهٌ ِ‬
‫واح ٌد ‪َ ..‬ف َه ْل أَْنتُ ْم ُم ْسلِ ُمو َن)‪.‬‬ ‫ُ ْ‬ ‫(قُ ْل إِنَّما يُوحى إِل َّ‬
‫النىب ىف الناس ‪ ،‬ويقدمها هدية هلم ‪( ..‬أَنَّما إِ ُله ُك ْم إِلهٌ‬ ‫هذه هى الرمحة اليت يؤذّن هبا ّ‬
‫واحـ ـ ٌد) ‪ ..‬ه@ @ @@ذا هو مفت@ @ @@اح الرمحة ‪ ،‬وذلك هو مفت@ @ @@اح اهلدى ‪ ..‬فمن أمسك بقلبه ه @ @@ذا‬ ‫ِـ‬
‫املفتاح ‪ ،‬مث أداره ‪ ،‬فقد وضع يده على كنوز اخلري كلها ‪..‬‬
‫‪965‬‬

‫ـ وىف قوله تعاىل ‪َ ( :‬ف َه ْل أَْنتُ ْم ُم ْسلِ ُمو َن) ‪ ..‬هو حتريض للن@@اس مجيعا على االس@@تجابة‬
‫هلذه ال @ @ @ @@دعوة الكرمية ‪ ،‬اليت خ ّفف حمملها ‪ ،‬وغال مثنها ‪ ..‬إهنا كلمة واح @ @ @ @@دة ‪« :‬ال إله إال‬
‫اهلل» فما أخفها على اللس@ @ @ @ @ @ @@ان ‪ ،‬وما أطيب بردها على القلب ‪ ،‬وما أق@ @ @ @ @ @ @@وم س@ @ @ @ @ @ @@بيلها إىل‬
‫@زور هبا عق@ل؟ إن ذلك ال يك@ون‬ ‫العقل!! فهل يلتوى هبا فم؟ وهل يض@يق هبا ص@در؟ وهل ي ّ‬
‫إال عن آفات تغتال فطرة اإلنسان ‪ ،‬وتفسد كيانه‪.‬‬
‫ـ وانظر ىف قوله تعاىل ‪َ ( :‬ف َه ْل أَْنتُ ْم ُم ْسـلِ ُمو َن)؟ لقد طلب منهم اإلس@@الم أوال ‪ ،‬وهو‬
‫اإلقرار باللسان ‪ ،‬هبذه الكلمة السمحة السهلة ‪ ..‬مث إهنا بعد هذا كفيلة بأن تفعل فعلها ىف‬
‫كي@@ان اإلنس@@ان ‪ ،‬وت@@ؤتى مثراهتا الطيبة املباركة ك@ ّ@ل حني ‪ ..‬إهنا هى الكلمة الطيبة اليت أش@@ار‬
‫شـ َج َر ٍة طَيِّبَ ٍـة‬
‫ب اهللُ َمثَالً َكلِ َمـ ةً طَيِّبَـةً َك َ‬
‫ضـ َر َ‬
‫ـف َ‬ ‫إليها اهلل سبحانه وتع@@اىل ىف قوله ‪( :‬أَل ْ‬
‫َم َت َر َك ْي َ‬
‫ماء ُت ْؤتِي أُ ُكلَها ُك َّل ِحي ٍن بِِإ ْذ ِن َربِّها) (‪ 25 ، 24‬إبراهيم)‪.‬‬ ‫الس ِ‬
‫ت َو َف ْرعُها فِي َّ‬
‫َصلُها ثابِ ٌ‬
‫أْ‬
‫إهنا كلمة «ال إله إال اهلل حممد رسول اهلل»‪.‬‬
‫وأنت ت @ @@رى ىف ه @ @@ذا مساحة اإلس @ @@الم ‪ ،‬وأس @ @@لوبه الرائع املعجز ىف دع @ @@وة الن @ @@اس إىل‬
‫@ف األم@ @ @@ور ‪ ..‬حىت إذا ذاق@ @ @@وا حالوة اإلميان ‪،‬‬ ‫اهلدى ‪ ..‬إنه يلق@ @ @@اهم بأيسر الس@ @ @@بل ‪ ،‬وأخ@ @ @ ّ‬
‫واطم@ @@أنت قل@ @@وهبم بكلمة التوحيد ‪ ،‬وج@ @@دوا ىف أنفس@ @@هم الق@ @@درة على احتم@ @@ال التك@ @@اليف‬
‫الش@@رعية ‪ ،‬والوف@@اء هبا ‪ ..‬إهنا املدخل ال@@ذي ي@@دخل منه اإلنس@@ان إىل اإلميان ‪ ..‬مث يغ@@رس ما‬
‫شاء أن يغرس من خري ‪ ،‬وجيىن ما قدر اهلل له أن جيىن من مثر!!@‬
‫النىب‬
‫ففى سنن أىب داود عن جابر بن عبد اهلل قال ‪« :‬اشرتطت ثقيف على ّ‬
‫‪966‬‬

‫صلى‌هللا‌عليه‌وسلم ‪ ،‬أن ال ص@@دقة (‪ )1‬عليها وال جه@@اد ‪ ،‬فق@@ال ص@@لوات اهلل وس@@المه عليه‬
‫‪« :‬سيتص ّدقون وجياهدون إذا أسلموا»!‬
‫شك أن هذا أقوم أسلوب ‪ ،‬وأعدل منهج ىف الرتبية ‪ ،‬حيث التدرج من الس@هل‬ ‫وال ّ‬
‫إىل الص @@عب ‪ ..‬خط @@وة خط @@وة ‪ ،‬حىت يبلغ املرء مأمنه ‪ ،‬وحىت ي @@دخل اإلميان قلبه ‪ ،‬وخيالط‬
‫مشاعره‪.‬‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫ٍ‬
‫يب أ َْم بَ ِعيـ ـ ٌد ما تُ َ‬
‫وعـ ـ ُدو َن إِنَّهُ‬ ‫ـل آ َذ ْنتُ ُك ْم َعلى َسـ ـواء ‪َ ..‬وإِ ْن أَ ْد ِري أَقَـ ـ ِر ٌ‬ ‫ِ َّ‬
‫(فَـ ـإ ْن َت َول ْوا َف ُق ـ ْ‬
‫ْج ْه َر ِم َن الْ َق ْو ِل َو َي ْعلَ ُم ما تَكْتُ ُمو َن)‬ ‫َي ْعلَ ُم ال َ‬
‫وه@@ذا هو موقف النيب ودعوته ‪ ،‬ممن مل يس@@تمعوا له ‪ ،‬ويس@@تجيبوا ملا ي@@دعوهم إليه ‪..‬‬
‫واء) أي أعلمتم مبا أرس@ @@لت به إليكم ‪ ..‬واألمر بيىن وبينكم اآلن ‪،‬‬ ‫( َف ُقـ ــل آذَ ْنت ُكم على س ـ ـ ٍ‬
‫ْ ُ ْ َ َ‬
‫وبعد أن ت@ @ @ @ @@وليتم قد ع@ @ @ @ @@اد إىل ما كنّا عليه من قبل ‪ ..‬أنا على ديىن ‪ ،‬وأنتم على دينكم ‪..‬‬
‫وأنا ىل عملى ‪ ،‬وأنتم لكم عملكم ‪ ..‬أنتم بريئ@ @ @ @ @ @@ون مما أعمل وأنا ب@ @ @ @ @ @@رىء مما تعمل@ @ @ @ @ @@ون ‪،‬‬
‫وس @ @ @ @@تعلمون عاقبة ما أن@ @ @ @ @@ذرتكم به ‪ ..‬أما مىت يك@ @ @ @ @@ون ه@ @ @ @ @@ذا؟ فعلمه عند رىب ‪ ،‬وما أدرى‬
‫أق @@ريب ه @@ذا أم بعي @@د؟ إن رىب ال @@ذي يعلم ك @ ّ@ل ش @@ىء ‪ ،‬ال خيفى عليه من أم @@ركم ش @@ىء ‪..‬‬
‫أسر القول ومن جهر به!‪.‬‬ ‫سواء منكم من ّ‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫( َوإِ ْن أَ ْد ِري ل ََعلَّهُ فِ ْتنَةٌ لَ ُك ْم َو َمتاعٌ إِلى ِحي ٍن)‪.‬‬
‫إن هنا هي املخففة من إ ّن الثقيلة ‪ ،‬وليست نافية ‪ ،‬كما جاءت ىف اآلية‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬املراد بالصدقة هنا ‪ ،‬الزكاة ‪ ،‬وهى ركن من أركان الدين‪.‬‬
‫‪967‬‬

‫املفسرون ‪..‬‬
‫وع ُدو َن) ‪ ..‬على ما ذهب إليه ّ‬ ‫يب أ َْم بَ ِعي ٌد ما تُ َ‬
‫السابقة ‪َ ( :‬وإِ ْن أَ ْد ِري أَقَ ِر ٌ‬
‫واملعىن ‪ :‬إنىن وإن كنت ال أدرى أق@ @ @@ريب أم بعيد ما توع @ @@دون ‪ ،‬ف@ @ @@إنىن أدرى ه @ @@ذا‬
‫ال@ @@ذي أنتم فيه من ش@ @@رود عن اهلل مبا ىف أي@ @@ديكم من م@ @@ال ومت@ @@اع ‪ ..‬لعله فتنة لكم ‪ ،‬كما‬
‫الش ِّر َوالْ َخ ْيـ ِر فِ ْتنَـةً) وإنه ( َمتــاعٌ إِلى ِحي ٍن) أي مت@@اع إىل‬‫يقول سبحانه وتعاىل ‪َ ( :‬و َن ْبلُو ُك ْم بِ َّ‬
‫أجل حمدود ال تتجاوزونه ‪ ..‬فلستم خال@دين ىف ه@@ذه ال@دنيا ‪ ،‬وليس ىف أي@@ديكم ض@@مان هلذا‬
‫املتاع الذي معكم ‪ ،‬فقد تصبحون وليس ىف أيديكم شىء منه ‪..‬‬
‫وقد ج@ @@اء اخلرب مص@ @@حوبا بلع@ @ ّ@ل اليت تفيد الرج@ @@اء ‪ ،‬ألن ذلك اخلرب ليس على س@ @@بيل‬
‫القطع بالنس@@بة للمخ@@اطبني مجيعا ‪ ..‬ف@@إن فيهم من يث@@وب إىل رش@@ده ‪ ،‬ويس@@تجيب لل@@دعوة ‪،‬‬
‫ويدخل ىف دين اهلل ‪..‬‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫الر ْحمن الْمستَعا ُن َعلى ما تَ ِ‬
‫ص ُفو َن)‪.‬‬ ‫ْح ِّق َو َر ُّبنَا َّ ُ ُ ْ‬ ‫اح ُك ْم بِال َ‬
‫ب ْ‬ ‫قال َر ِّ‬‫( َ‬
‫هو حكاية لق @ @@ول الرس @ @@ول ص @ @@لوات اهلل وس @ @@المه عليه ‪ ،‬ال@ @@ذي يع ّقب به على ه@ @@ذا‬
‫املوقف ال @@ذي بينه وبني املش @@ركني ‪ ،‬ال @@ذين يقف @@ون منه ه @@ذا املوقف املن @@ادي في @@دعو ربّه أن‬
‫ْح ِّق) فيعطى كاّل ح ّقه ‪ ..‬ماله ‪ ،‬وما‬ ‫حيكم بينه وبني ه@ @ @ @@ؤالء املش@ @ @ @@ركني ‪ ،‬والض@ @ @ @@الني (بِـ ـ ــال َ‬
‫عليه‪.‬‬
‫ْح ِّق) تطمني‬‫اح ُك ْم بِ ــال َ‬
‫@ىب ( ْ‬
‫ْح ِّق) وىف ق @@ول الن @ ّ‬ ‫واهلل س @@بحانه وتع @@اىل ال حيكم إال (بِ ــال َ‬
‫هلؤالء املش @@ركني الض @@الني ‪ ،‬وهو أنه إذ ي @@دعوهم إىل االحتك @@ام إىل اهلل ‪ ،‬فإمنا ي @@دعوهم إىل‬
‫باحلق ‪ ،‬وهو ال يطلب من اهلل سبحانه حماب@اة له ‪ ،‬إذ ك@@ان مؤمنا باهلل وهم أع@@داء‬ ‫من حيكم ّ‬
‫هلل ‪ ..‬إنه ال يريد غري احلق ‪ ،‬من احلق جل وعال وه @@ذا ش @@أن الواثق من احلق ال @@ذي ىف ي @@ده‬
‫‪..‬‬
‫‪968‬‬

‫@ىب ‪ ،‬وينتظ@@ره من ربّه ‪..‬‬ ‫احلق ال@@ذي يعلمه الن@ ّ‬


‫ْح ِّق) هنا ‪ّ ،‬‬ ‫وجيوز أن يك @@ون املراد (بِــال َ‬
‫@ىب احلكم‬ ‫ف@ @@أل ىف «احلق» للعهد ‪ ،‬أي احلق املع@ @@روف ‪ ،‬املعه@ @@ود عند اهلل ‪ ،‬وليس طلب الن@ @ ّ‬
‫باحلق إال إحالة لألمر الذي بينه وبني قومه إىل صاحب األمر يقضى فيه حبكمه‪.‬‬
‫الر ْحمن الْمستَعا ُن َعلى ما تَ ِ‬
‫ص ُفو َن)‪.‬‬ ‫وقوله تعاىل ‪َ ( :‬و َر ُّبنَا َّ ُ ُ ْ‬
‫هو خامتة هذه السورة ‪@...‬‬
‫@ىب ـ ص@ @ @@لوات اهلل وس@ @ @@المه عليه ـ موقفه مع قومه ‪ ،‬مع‬ ‫وىف ه@ @ @@ذه اخلامتة ينهى الن@ @ @ ّ‬
‫الضالني واملعان@@دين ‪ ،‬ب@أن ي@@رتكهم حلكم اهلل فيهم ‪ ،‬وقض@@ائه بينه وبينهم ‪ ،‬وهو حكم ع@@دل‬
‫‪ ،‬وقضاء حق ‪..‬‬
‫@ىب ـ ص@ @ @@لوات اهلل وس@ @ @@المه عليه ـ من خالفهم عليه ‪ ،‬واهّت امهم له ‪،‬‬ ‫أما ما جيد الن@ @ @ ّ‬
‫الرميات الطائشة ‪ ،‬كقوهلم عنه ‪ :‬إنه شاعر ‪ ،‬وإنه جمن@ون ‪ ،‬وإنه س@احر ـ‬ ‫ورميهم إياه بتلك ّ‬
‫ف@ @ @@ذلك مما يس@ @ @@تعني اهلل على محله منهم ‪ ،‬من غري أن حيمل هلم ض@ @ @@غينة ‪ ،‬أو خيرج به ذلك‬
‫على غري ما يري@ @ @ @ @ @ @ @@ده من اهلل هلم ‪ ،‬من هداية ‪ ،‬إىل أن ي @ @ @ @ @ @ @@دعو عليهم ‪ ،‬كما دعا كثري من‬
‫األنبي @@اء على أق @@وامهم ‪ ،‬فأخ @@ذوا بع @@ذاب اهلل ‪ ،‬ووقع هبم البالء وهم ينظ @@رون ‪ ..‬فما ج @@اء‬
‫ص@@لوات اهلل وس@@المه عليه إال رمحة للع@@املني ‪ ،‬وهو هبذه الرمحة ح@@ريص على أن ين@@ال قومه‬
‫وأهله حظّهم منها ‪ ..‬ف@@إن مل ينل املعان@@دين واملنك @@رين ش@@ىء من ه @@ذه الرمحة ‪ ،‬فال أق @ ّ@ل من‬
‫أال يص@@يبهم ع@@ذاب ىف ه@@ذه ال@@دنيا ‪ ،‬كما أص@@يبت األمم األخ@@رى ‪ّ ..‬أما ىف اآلخ@@رة ف@@أمرهم‬
‫إىل اهلل ‪ ،‬حيكم فيهم مبا شاء ‪ ،‬وهو أحكم احلاكمني ‪..‬‬
‫النىب ىف طريق دعوته ‪ ،‬صابرا ‪ ،‬مصابرا ‪ ،‬يلقى املساءة باإلحسان‬ ‫ولقد مضى ّ‬
‫‪969‬‬

‫واألذى ب@ @ @ @ @ @ @ @ @@املغفرة@ ‪ ،‬حىت إهنم ليخرجونه من البلد احلرام ‪ ،‬ويزعجونه من بيته وأهله ‪ ..‬مث‬
‫جيمع@@ون مجوعهم ىف جيش جلب ‪ ،‬يري@@دون أن ي@@دخلوا عليه املدينة موطنه ال@@ذي ه@@اجر إليه‬
‫@ىب هبذا الع@@دد القليل من أص@@حابه ىف ب@@در ‪ ،‬فتك@@ون ال@دائرة عليهم ‪ ،‬وينصر اهلل‬ ‫‪ ،‬فيلق@@اهم الن@ ّ‬
‫النىب وأصحابه نصرا عزي@زا ‪ ..‬مث ال يأخذ الق@وم من ه@ذا آية ‪ ،‬وال يتلق@ون منها ع@ربة وعظة‬ ‫ّ‬
‫‪ ،‬بل يع@@اودون الك@@رة ىف الع@@ام الت@@ايل ‪ ،‬وجييئون إىل املدينة ط@@البني الث@@أر لب@@در ‪ ،‬وقد حش@@دوا‬
‫للمعركة ‪ ،‬ما ميلك@ @@ون من ق@ @@وة ‪ ..‬ويلتقى هبم النيب وأص@ @@حابه من امله@ @@اجرين واألنص@ @@ار ىف‬
‫النىب ويسيل دمه ‪ ،‬وتنكسر رباعيته‬ ‫أحد ‪ ..‬وينتصر املسلمون أوال ‪ ،‬مث يهزمون ‪ ،‬ويصاب ّ‬
‫عمه محزة ‪ ،‬ويرفع رس@ @ @@ول اهلل بص@ @ @@ره إىل‬ ‫‪ ،‬ويقتل نفر ك@ @ @@رام من أهله وأص@ @ @@حابه ‪ ،‬ومنهم ّ‬
‫يهم أن يسأل ربّه أن يأخذ له من هؤالء املعت@@دين‬ ‫السماء ‪ ،‬وىف قلبه أسى وحسرة ‪ ،‬وكأنه ّ‬
‫اآلمثني ‪ ..‬ولكن تغلبه عاطفة املودة والرمحة ‪ ،‬وإذا ه @@ذه الكلم @@ات احلانية ال @@ودود ت @@دفع من‬
‫طريقها تلك الكلم @ @@ات الث @ @@ائرة الغضىب ‪ ،‬وإذا ش @ @@فتاه املباركت @ @@ان ‪ ،‬الطيبت @ @@ان ‪ ،‬احملس @ @@نتان ‪،‬‬
‫ترددان ىف ضراعة ضارعة ‪« :‬اللهم اهد قومى فإهنم ال يعلمون» ‪..‬‬ ‫ّ‬
‫فيا رس @ @ @ @@ول اهلل ‪ ،‬ويا خري خلقه ‪ ،‬ويا ص @ @ @ @@فوة أنبيائه ‪ ،‬ويا خ @ @ @ @@امت رس @ @ @ @@له ‪ ..‬عليك‬
‫صلوات اهلل وسالمه عليه ورمحته وبركاته ‪..‬‬
‫ويا رس @@ول اهلل ‪ ،‬ويا رمحته امله @@داة للع @@املني‪ .‬عليك ص @@لوات اهلل ومالئكته واملؤم @@نني‬
‫صلُّوا َعلَْي ِه َو َسلِّ ُموا تَ ْسلِيماً)‪.‬‬
‫آمنُوا َ‬
‫َّ ِ‬ ‫ِ‬
‫صلُّو َن َعلَى النَّب ِّي ‪ ..‬يا أ َُّي َها الذ َ‬
‫ين َ‬
‫ِ‬
‫(إِ َّن اهللَ َو َمالئ َكتَهُ يُ َ‬
‫***‬
‫‪970‬‬

‫الحج‬
‫‪ 22‬ـ سورة ّ‬
‫نزوهلا ‪ :‬اختلف فيها ‪ ،‬فق@ @@ال بعض@ @@هم ‪ :‬إهنا مكية إاّل آي@ @@ات ‪ ،‬وق@ @@ال آخ@ @@رون ‪ :‬إهنا‬
‫مدنية إاّل آي@ @ @ @@ات ‪ ..‬وحنن نغلّب ال@ @ @ @@رأى القائل بأهنا مدنية إال بعض آي@ @ @ @@ات منها فمكية ‪..‬‬
‫واحلج إمنا فرض بعد اهلجرة‪.‬‬
‫احلج ‪ّ ،‬‬ ‫تسمى سورة ّ‬ ‫ويكفى أن ّ‬
‫عدد آياهتا ‪ :‬مثان وسبعون آية‪.‬‬
‫عدد كلماته ‪ :‬ألفان ومائتان ‪ ،‬وإحدى وتسعون كلمة‪.‬‬
‫عدد حروفها ‪ :‬مخسة آالف ومخسة وسبعون حرفا‪.‬‬

‫مناسبتها للسورة التي قبلها‬


‫ك@ @@انت س@ @@ورة األنبي@ @@اء ـ الس @@ابقة على ه @@ذه الس @@ورة ـ ح @@ديثا متصال عن أنبي @@اء اهلل‬
‫وسراء ‪ ،‬مث كانت ع@@اقبتهم مجيعا إىل‬ ‫ضراء ّ‬ ‫ورسله ‪ ،‬وما ابتالهم اهلل سبحانه وتعاىل به من ّ‬
‫العافية ىف ال@@دنيا ‪ ،‬وإىل رضا اهلل ورض@@وانه ىف اآلخ@@رة ‪ ..‬وقد ب@@دئت ه@@ذه الس@@ورة ـ س@@ورة‬
‫ض ـ ـو َن) مث ختمت‬ ‫ـاب ُه ْم َو ُه ْم فِي غَ ْفلَـ ـ ٍـة ُم ْع ِر ُ‬ ‫األنبي@ @@اء ـ هبذا اخلرب املثري ‪( :‬اقْتـ ــرب لِلن ِ ِ‬
‫َّاس حسـ ـ ُ‬ ‫ََ َ‬
‫الزبُـ ــو ِر ِم ْن َب ْعـ ـ ِـد‬
‫الس@ @@ورة هبذا البالغ املبني ‪ ،‬ال@ @@ذي ج@ @@اء به قوله تع@ @@اىل ‪َ ( :‬ولََقـ ـ ْد َكتَْبنا فِي َّ‬
‫ِ ِ‬
‫ـادي ال َّ ِ‬ ‫الـ ِّـذ ْك ِر أ َّ‬
‫@ىب ـ ص@@لوات‬ ‫صـال ُحو َن) مث تلتها اآلي@@ات اليت حتدث عن الن@ ّ‬ ‫ض يَ ِرثُها عبـ َ‬
‫َن اأْل َْر َ‬
‫اهلل وسالمه عليه ـ وأنه املبع@@وث رمحة للع@@املني ‪ ،‬وأنه ال حيمل الن@اس محال على اهلدى ال@@ذي‬
‫النىب من أمره ش@@ىء ‪ ..‬واملوعد اآلخ@@رة ‪ ،‬حيث يفصل اهلل‬ ‫بني يديه ‪ ،‬فمن توىّل ‪ ،‬فما على ّ‬
‫بني العباد ‪..‬‬
‫وقد جاءت سورة احلج فبدأت هبذا اإلعالن ‪ ،‬أو هذا النذير الصارخ ‪:‬‬
‫‪971‬‬

‫ضـ َع ٍة َع َّما‬
‫ـل مر ِ‬ ‫ِ‬ ‫سـ َ ِ‬
‫َّاس َّات ُقوا َربَّ ُك ْم إِ َّن َزل َْزلَـةَ ال َّ‬
‫يم َي ْـو َم َت َر ْونَها تَـ ْذ َه ُل ُك ُّ ُ ْ‬
‫اعة َشـ ْيءٌ َعظ ٌ‬ ‫(يا أ َُّي َها الن ُ‬
‫ذات حمـ ٍـل حملَها ‪ ..‬وَتــرى النَّاس سـ ـكارى وما هم بِسـ ـكارى و ِ‬
‫لك َّن‬ ‫ـل ِ‬ ‫ضـ ـ ُع ُكـ ُّ‬
‫ت َوتَ َ‬
‫ضـ ـ َع ْ‬ ‫أ َْر َ‬
‫َ‬ ‫َ ُْ ُ‬ ‫َ ُ‬ ‫َ َ‬ ‫َْ َْ‬
‫اهلل َش ِدي ٌد)‪.‬‬
‫َعذاب ِ‬
‫َ‬
‫وواضح ما بني ب @@دء ه @@ذه الس @@ورة ‪ ،‬وب @@دء س @@ورة األنبي @@اء وخامتتها ‪ ،‬وما بني ب @@دئها‬
‫وختامها من تالق وتالحم ‪ ..‬حبيث ميكن أن تق@@رأ س@@ورة احلج ىف أعق@@اب س@@ورة األنبي@@اء ‪،‬‬
‫من غري فاصل بالبسملة ‪ ،‬وكأهنا بعض منها ‪ ،‬وتعقيب على مقرراهتا‪.‬‬

‫الرحيم‬
‫الرحمن ّ‬
‫بسم اهلل ّ‬
‫____________________________________‬

‫اآليات ‪ 1( :‬ـ ‪)2‬‬


‫يم (‪َ @)1‬ي ْـو َم َت َر ْونَها تَـ ْذ َه ُل ُك ُّ‬
‫ـل‬ ‫ِ‬ ‫سـ َ ِ‬‫َّاس َّات ُقـوا َربَّ ُك ْم إِ َّن َزل َْزلَـةَ ال َّ‬
‫اعة َشـ ْيءٌ َعظ ٌ‬ ‫(يا أ َُّي َها الن ُ‬
‫سـكارى‬ ‫ِ‬
‫َّاس ُسـكارى َوما ُه ْم ب ُ‬
‫ضـع ُكـ ُّ ِ‬
‫ـل ذات َح ْـم ٍـل َح ْملَها َوَتـ َـرى الن َ‬ ‫ت َوتَ َ ُ‬ ‫ض َع ٍة َع َّما أ َْر َ‬
‫ض َع ْ‬ ‫مر ِ‬
‫ُْ‬
‫اهلل َش ِدي ٌد) (‪)2‬‬ ‫لك َّن َعذاب ِ‬
‫َ‬
‫و ِ‬
‫َ‬
‫____________________________________‬
‫التفسري ‪:‬‬
‫َّاس َّات ُقوا َربَّ ُك ْم ‪)...‬‬
‫(يا أ َُّي َها الن ُ‬
‫هبذا اإلعالم الصارخ املدوى تبدأ السورة الكرمية ‪ ،‬منذرة الن@@اس هبذا الي@@وم العظيم ‪،‬‬
‫ي@ @ @ @ @ @@وم القيامة ‪ ،‬منبهة هلم من غفلتهم ‪ ،‬ملفتة هلم إىل ما هنالك من أه@ @ @ @ @ @@وال تش@ @ @ @ @ @@يب منها‬
‫الولدان ‪..‬‬
‫واإلعالن ع@@ام للن@@اس مجيعا ‪ ،‬م@@ؤمنهم وك@@افرهم ‪ ،‬املنتبه هلذا الي@@وم ‪ ،‬واملع @ ّد نفسه له‬
‫‪ ،‬ومن أنكره وكفر به ‪ ،‬أو كان ىف غفلة عنه ‪..‬‬
‫‪972‬‬

‫وذلك التعميم ال@ @@ذي يش@ @@مل الن@ @@اس مجيعا ‪ ،‬إمنا هو ألن أه@ @@وال ه@ @@ذا الي@ @@وم ال يك @@اد‬
‫يتص@@ورها أحد ‪ ،‬ألهنا خترج عن دائ@@رة التص@@ور البش@@رى ‪ ،‬وجتىء على ص@@ورة مل تقع للن@@اس‬
‫ىف حي @ @@اهتم األوىل ‪ ،‬على رغم ما وقع هلم من أه @ @@وال ‪ ،‬وما ن @ @@زل هبم من بالء ‪ ..‬ومن هنا‬
‫كان الذين يؤمنون باآلخرة ‪ ،‬وال يعملون هلا ‪ ،‬مطالبون بأن ينتبه@وا ‪ ،‬وأن يعمل@وا أك@ثر مما‬
‫عملوا ‪ ..‬فإهنم ـ على يقظتهم ‪ ،‬وعلى خوفهم من لقاء رهّب م ‪ ،‬وعلى إعدادهم ليوم اللق@اء ـ‬
‫إهنم مع ه@ @@ذا كله أش@ @@به بالغ@ @@افلني ‪ ..‬ف@ @@إن اهلول ش@ @@ديد ‪ ،‬وأن املوقف ال ميكن تص@ @@وره ‪..‬‬
‫ومن هنا أيضا ك@ @@ان املؤمن ىف حاجة دائمة إىل ت @@ذكر ه@ @@ذا الي@ @@وم ‪ ،‬وإىل احلي@ @@اة معه ‪ ،‬وإىل‬
‫العمل له ‪ ،‬وإنه مهما أكثر من عمل ‪ ،‬فإنه قليل إىل املطل@@وب منه هلذا الي@@وم ‪ ،‬لو علم هوله‬
‫‪ ،‬وتصور صورته‪.‬‬
‫يم) هو عرض هلذا اليوم العظيم ‪ ،‬وما يقع‬ ‫ِ‬ ‫الس َ ِ‬‫وقوله تعاىل ‪( :‬إِ َّن َزل َْزلَةَ َّ‬
‫اعة َش ْيءٌ َعظ ٌ‬
‫والرع @@دة ‪ ،‬وهى‬ ‫اهلزة ّ‬ ‫فيه من أه @@وال ‪ ،‬وما يطلع به على الن @@اس من مفزع @@ات ‪ ..‬والزلزلة ‪ّ ،‬‬
‫اإلرهاصات اليت تقوم بني يدى هذا اليوم‪.‬‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫ـل ِ‬
‫ذات َح ْـم ٍـل َح ْملَها َوَتـ َـرى‬ ‫ض ـ ُع ُكـ ُّ‬
‫ت َوتَ َ‬ ‫ض ـ َع ٍـة َع َّما أ َْر َ‬
‫ض ـ َع ْ‬ ‫ـل مر ِ‬
‫( َيـ ْـو َم َت َر ْونَها تَ ـ ْذ َه ُل ُكـ ُّ ُ ْ‬
‫اهلل َش ِدي ٌد)‪.‬‬
‫لك َّن َعذاب ِ‬
‫َ‬
‫النَّاس سكارى وما هم بِسكارى و ِ‬
‫َ‬ ‫َ ُْ ُ‬ ‫َ ُ‬
‫هو «لقطات» من مشاهد ه@@ذا الي@@وم ‪ ..‬فمج@@رد رؤية ما يطلع ىف ه@@ذا الي@@وم ‪ ،‬يأخذ‬
‫عما أرض@@عت ‪ ،‬وتضع‬ ‫على الن@@اس عق@@وهلم ‪ ،‬وأمساعهم وأبص@@ارهم ‪ ..‬فت@@ذهل ك@ ّ@ل مرض@@عة ّ‬
‫ك@ ّ@ل ذات محل محلها ‪ ..‬حيث ال ميلك أحد ـ مع ه@@ذا البالء ـ ش@@يئا من نفسه ‪ ،‬فتتعطل فيه‬
‫األجه@@زة «العامل@@ة» اإلرادية منها وغري اإلرادية ‪ ..‬ويص@@بح جمرد ش@@بح يتح@@رك كما تتح@@رك‬
‫األشباح!‬
‫والصورة هنا جمازية ‪ ،‬فليس هناك مرضع حىت تذهل عن رضيعها ‪ ،‬وال حامل‬
‫‪973‬‬

‫حىت تلقى مبا ىف رمحها ‪ ..‬واملراد أنه لو طلعت الس@ @ @ @@اعة على الن@ @ @ @@اس ىف دني@ @ @ @@اهم ‪ ،‬وأرهتم‬
‫زلزلة منها ‪ ،‬ل @@ذهلت كل مرض @@عة عما أرض @@عت ‪ ،‬وأللقت كل ذات محل محلها ‪ ..‬وجيوز‬
‫أن يك@@ون املراد بوضع احلمل العم@@وم والش@@مول ‪ ،‬أي كل ش@@ىء حيمل ‪ ،‬س@@واء أك@@ان ما ىف‬
‫األرح @ @@ام من أجنة ‪ ،‬أو ما مع الن@ @ @@اس من أم @ @@ور يش @ @@غلون هبا ‪ ،‬وحيرص @ @@ون عليها ‪ ..‬وهبذا‬
‫يكون املراد بذات احلمل ‪ :‬النفس‪.‬‬
‫وميكن أن تكون هذه الصورة حقيقية ‪ ،‬وأن من يشهد من الناس إرهاصات الس@@اعة‬
‫‪ ،‬ون@ @@ذرها ‪ ،‬قبل أن تقع ‪ ،‬يقع هلم ه@ @@ذا ‪ ..‬فكيف بالس@ @@اعة نفس@ @@ها ‪ ،‬حني ينكشف أمرها‬
‫كله؟‪.‬‬
‫اهلل َش ِدي ٌد)‪.‬‬
‫لك َّن َعذاب ِ‬
‫َ‬
‫وقوله تعاىل ‪( :‬وَترى النَّاس سكارى وما هم بِسكارى و ِ‬
‫َ‬ ‫َ ُْ ُ‬ ‫َ ُ‬ ‫َ َ‬
‫هو ع@@رض لص@@ورة من ص@@ور الس@@اعة بني ي@@دى ن@@ذرها ‪ ..‬فه@@ذه الن@@ذر تقلب أوض@@اع‬
‫احلي@@اة ‪ ،‬وتطلع على الن@@اس مبا مل ي@@روه ىف حي@@اهتم من م@@ذهالت ‪ ..‬وه@@ذا ما بشري إليه قوله‬
‫ين َك َفـ ُـروا ‪ ..‬يا َو ْيلَنا قَـ ْد ُكنَّا فِي‬ ‫تعاىل ‪( :‬واقْترب الْو ْع ُد الْح ُّق فَِإذا ِهي ِ‬
‫شاخصـةٌ أَبصـ َّ ِ‬
‫ـار الذ َ‬
‫َ ْ ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ ََ َ َ‬
‫ين) (‪ : 97‬األنبياء)‬ ‫ِِ‬ ‫ٍِ‬
‫غَ ْفلَة م ْن هذا ‪ ..‬بَ ْل ُكنَّا ظالم َ‬
‫____________________________________‬

‫اآليات ‪ 3( :‬ـ ‪)5‬‬


‫ب َعلَْيـ ِـه أَنَّهُ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ ِِ ِ‬ ‫( َوِم َن الن ِ‬
‫َّاس َم ْن يُجاد ُل في اهلل بغَْي ِر عل ٍْم َو َيتَّب ُع ُك َّل َش ْيطان َم ِريد (‪ُ @)3‬كت َ‬
‫ب ِم َن‬ ‫َّاس إِ ْن ُك ْنتُ ْم فِي َريْ ٍ‬ ‫س ـ ـعي ِر (‪ )4‬يا أ َُّي َها الن ُ‬
‫ـذاب ال َّ ِ‬ ‫ض ـ ـلُّهُ َو َي ْه ِديـ ـ ِـه إِلى َعـ ـ ِ‬
‫من َتـ ــوالَّهُ فَأَنَّهُ ي ِ‬
‫ُ‬ ‫َْ َ‬
‫ـراب ثُ َّم ِم ْن نُطْ َفـ ٍـة ثُ َّم ِم ْن َعلَ َقـ ٍـة ثُ َّم ِم ْن ُم ْ‬
‫ض ـغَ ٍة ُم َخلَّ َقـ ٍــة َوغَْيـ ِر ُم َخلَّ َقـ ٍــة‬ ‫ث فَِإنَّا َخلَ ْقنــا ُك ْم ِم ْن تُـ ٍ‬ ‫الْب ْع ِ‬
‫َ‬
‫س ًّمى ثُ َّم نُ ْخ ِر ُج ُك ْم‬ ‫حام ما نَشاءُ إِلى أ َ‬ ‫لِنَُبيِّ َن لَ ُك ْم َونُِق ُّر فِي اأْل َْر ِ‬
‫َج ٍل ُم َ‬
‫‪974‬‬

‫ِط ْفالً ثُ َّم لِتَْبلُغُــوا أَ ُش ـ َّد ُك ْم َو ِم ْن ُك ْم َم ْن ُيَتـ َـوفَّى َوِم ْن ُك ْم َم ْن ُيـ َـر ُّد إِلى أ َْرذَ ِل الْعُ ُمـ ِر لِ َك ْيال َي ْعلَ َم ِم ْن‬
‫ت ِم ْن ُكـ ِّ‬
‫ـل‬ ‫ت َوأَْنبَتَ ْ‬ ‫ت َو َربَ ْ‬ ‫ـاء ْاهَتـ َّـز ْ‬ ‫ِ‬
‫ض هامـ َد ًة فَـِإذا أَْن َزلْنا َعلَْي َها الْمـ َ‬ ‫َب ْعــد عل ٍْم َشـ ْيئاً َوَتـ َـرى اأْل َْر َ‬
‫ِ ِ‬
‫يج) (‪)5‬‬ ‫َز ْو ٍج بَ ِه ٍ‬
‫____________________________________‬
‫التفسري ‪:‬‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫طان م ِر ٍ‬‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ ِ‬ ‫( َوِم َن الن ِ‬
‫يد)‪.‬‬ ‫َّاس َم ْن يُجاد ُل في اهلل بِغَْي ِر عل ٍْم َو َيتَّبِ ُع ُك َّل َش ْي َ‬
‫مناس@@بة ه@@ذه اآلية ملا قبله@@ا‪ .‬أهنا تع@@رض وجها من وج@@وه املش@@ركني ‪ ،‬املك@@ذبني بي@@وم‬
‫القيامة ‪ ،‬اليت ج@ @ @@اءت اآليت@ @ @@ان الس@ @ @@ابقتان من@ @ @@ذرتني هبا ‪ ،‬حمذرتني من أهواهلا ‪ ..‬ومع ه@ @@ذه‬
‫األه @@وال العظيمة ‪ ،‬واألح @@داث املزلزلة اليت تلقى الن@@اس ي @@وم القيامة ‪ ،‬ف @@إن كث @@ريا من الن@@اس‬
‫اله@@ون عنها ‪ ،‬مس@@تخ ّفون هبا ‪ ،‬يأخ@@ذون كل ح@@ديث عنها مأخذ الس@@خرية والعبث ‪ ،‬هبذا‬
‫اجلدل العقيم ‪ ،‬الذي يسلم املرء فيه عقله هلواه ‪ ،‬فريمى بالكالم على أي وجه يقع ‪..‬‬
‫طان م ِر ٍ‬‫ٍ‬
‫يد) إش@@ارة إىل أن ه@@ذا الص@@نف من الن@@اس ‪،‬‬ ‫ـ وىف قوله تعاىل ‪َ ( :‬و َيتَّبِ ُع ُك َّل َش ْي َ‬
‫ال يس@ @ @@عى إىل حتص@ @ @@يل علم ىف األمر ال@ @ @@ذي جيادل فيه ‪ ،‬وهو البعث ‪ ،‬وكأنه أمر ال يعنيه ‪،‬‬
‫أى ش @@عور به ‪ ،‬يزح @@زح تلك املش @@اعر اليت ارتبط هبا بال @@دنيا‬ ‫وال يريد أن ي @@دخل على نفسه ّ‬
‫‪ ..‬فهو منق@ @@اد هلواه ‪ ،‬متبع لش @@يطانه ‪ ..‬وهو ش@ @@يطان ق@ @@وى بالنس@ @@بة هلذا اإلنس@ @@ان األمحق ‪،‬‬
‫الذي التقى هواه مع هوى الشيطان!‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫الس ِعي ِر)‪.‬‬ ‫ضلُّهُ َو َي ْه ِد ِيه إِلى َع ِ‬
‫ذاب َّ‬ ‫( ُكتِب َعلَْي ِه أَنَّهُ من َتواَّل هُ فَأَنَّهُ ي ِ‬
‫ُ‬ ‫َْ َ‬ ‫َ‬
‫هو وصف للش @ @ @ @ @ @@يطان ‪ ،‬وهو أنه قد كتب عليه ‪ ،‬أي حكم عليه من اهلل س @ @ @ @ @ @@بحانه‬
‫وتعاىل أال يتواله ‪ ،‬ويستجيب له ‪ ،‬إال الضالّون اخلاسرون من عباده ‪:‬‬
‫‪975‬‬

‫ـك ِم َن‬‫ـك َعلَْي ِه ْم ُسـلْطا ٌن إِاَّل َم ِن َّاتَب َعـ َ‬ ‫ِ َّ ِ ِ‬


‫كما يق@@ول س@@بحانه وتع@@اىل ‪( :‬إن عبــادي ل َْي َ‬
‫س لَـ َ‬
‫ِ‬ ‫الْغ ـ ــا ِوين) (‪ 42‬احلج@ @ @@ر)‪ .‬وكما يق@ @ @@ول جل ش@ @ @@أنه ‪( :‬ا ْذهب فَمن تَبِع ـ ـ َ ِ‬
‫ـك م ْن ُه ْم فَـ ـ ـإ َّن َج َهن َ‬
‫َّم‬ ‫َ ْ َْ َ‬ ‫َ‬
‫زاء َم ْوفُوراً)‪ : 63( .‬اإلسراء)‬
‫َجزا ُؤ ُك ْم َج ً‬

‫الحياة ‪ ..‬وخالق الحياة‬


‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫ـراب ثُ َّم ِم ْن نُطْ َفـ ـ ٍـة ثُ َّم‬
‫ث فَِإنَّا َخلَ ْقنـ ــا ُك ْم ِم ْن تُـ ـ ٍ‬
‫ب ِمن الْب ْع ِ‬ ‫ِ‬
‫َّاس إِ ْن ُك ْنتُ ْم في َريْ ٍ َ َ‬
‫(يا أ َُّي َها الن ُ‬
‫ِ ِ‬ ‫ٍِ‬ ‫ٍ‬ ‫ِمن َعلَ َقـ ٍـة ثُ َّم ِمن م ْ ٍ‬
‫ضـغَ ـة ُم َخلَّ َقـ ــة َوغَْيـ ِر ُم َخلَّ َقـ ــة لنَُبيِّ َن لَ ُك ْم َونُقـ ُّـر في اأْل َْرحـ ِـام ما نَشــاءُ إِلى أ َ‬
‫َجـ ٍـل‬ ‫ْ ُ‬ ‫ْ‬
‫س ـ ًّمى ثُ َّم نُ ْخـ ِر ُج ُك ْم ِط ْفالً ثُ َّم لِتَْبلُغُــوا أَ ُش ـ َّد ُك ْم َو ِم ْن ُك ْم َم ْن ُيَتـ َـوفَّى َوِم ْن ُك ْم َم ْن ُيـ َـر ُّد إِلى أ َْرذَ ِل‬
‫ُم َ‬
‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ت‬ ‫ض هامـ َدةً فَ ـِإذا أَْن َزلْنا َعلَْي َها الْم ـ َ‬
‫ـاء ْاهَتـ َّـز ْ‬ ‫الْعُ ُمـ ِر ل َك ْيال َي ْعلَ َم م ْن َب ْعــد عل ٍْم َش ـ ْيئاً َوَتـ َـرى اأْل َْر َ‬
‫يج)‪.‬‬ ‫ت ِم ْن ُك ِّل َز ْو ٍج بَ ِه ٍ‬ ‫ت َوأَ ْنبَتَ ْ‬‫َو َربَ ْ‬
‫أكثر ما يكون اجلدل ىف قضية اإلميان يدور حول «البعث» حىت إن كثريا من ال@ذين‬
‫يع@ @@رتفون بوج@ @@ود اإلله اخلالق ‪ ،‬ال@ @@ذي بي@ @@ده ملك@ @@وت الس@ @@موات واألرض ‪ ،‬يك@ @@ذبون ‪ ،‬أو‬
‫يش @ ّكون ىف إمك @@ان البعث ووقوع @@ه‪ .‬وه @@ذا ناش @@ىء عن فس @@اد ىف العقي @@دة ‪ ،‬وعن قص @@ور ىف‬
‫إدراك بعض ما هلل س@ @ @ @ @@بحانه وتع@ @ @ @ @@اىل من كم@ @ @ @ @@ال مطلق ‪ ،‬ىف ذاته وص@ @ @ @ @@فاته ‪ ..‬وأن قدرته‬
‫سبحانه مطلقة من كل حد وقيد ‪..‬‬
‫وإذا كان للشك ىف البعث ما يربره عند الذين ينكرون اهلل ‪ ،‬وال يؤمنون بوج@@وده ‪،‬‬
‫فإنه ليس له وجه يقبل عليه من ال@ذين يقول@ون إهنم يؤمن@ون بإله واح@د!! وه@ذا ش@ان اليه@ود‬
‫‪ ،‬ف@@إهنم مع إمياهنم باهلل ‪ ،‬ف@@إن تص@@ورهم املريض جلالل األلوهية وعظمتها ‪ ،‬جعلهم ينظ@@رون‬
‫مادى حمدود ‪ ،‬ال يقدر على إعادة األجسام بعد البلى والدثور ‪ ..‬مث‬ ‫إىل اهلل ‪ ،‬وكأنه كائن ّ‬
‫كان حبهم للحياة ‪ ،‬وتعلقهم هبا مباعدا‬
‫‪976‬‬

‫بينهم وبني ذكر املوت ‪ ،‬وتص @@وره ‪ ،‬وتص @ ّ@ور ما بع @@ده ‪ ..‬ف @@إ ّن ذكر البعث ال جيىء إال بعد‬
‫اإلميان ب@@املوت كحقيقة واقعة ‪ ،‬مث استحض@@اره واإلع@@داد له وملا بع@@ده ‪ ..‬فهم كما وص@@فهم‬
‫ٍ ِ َّ ِ‬
‫ين أَ ْشـ َر ُكوا َيـ َـو ُّد‬ ‫ص الن ِ‬
‫َّاس َعلى َحيــاة َوم َن الذ َ‬ ‫اهلل س@@بحانه وتع@@اىل ىف قوله ‪َ ( :‬ولَتَ ِج َد َّن ُه ْم أ ْ‬
‫َح َر َ‬
‫ـف َس ـ ـنَ ٍة) (‪ : 96‬البق@ @@رة) ‪ ..‬فهم ومش@ @@ركو الع@ @@رب على س@ @@واء ‪ ،‬ىف‬ ‫َحـ ـ ُد ُه ْم لَـ ـ ْـو ُي َع َّم ُر أَلْـ ـ َ‬
‫أَ‬
‫تص@ @ @@ورهم للبعث ‪ ،‬فقد ك@ @ @@ان مش@ @ @@ركو اجلاهلية يؤمن@ @ @@ون باهلل ‪ ،‬ولكنه إميان ب@ @ @@اهت خمتلط‬
‫بكثري من الض @ @@الالت ‪ ،‬األمر ال@ @@ذي جعلهم ينك @ @@رون البعث ويقول @ @@ون ‪( :‬ما ِه َي إِاَّل َحيا ُتنَا‬
‫َّه ُر) (‪ : 24‬اجلاثية)‪.‬‬ ‫وت َونَ ْحيا َوما ُي ْهلِ ُكنا إِاَّل الد ْ‬ ‫الدنْيا نَ ُم ُ‬ ‫ُّ‬
‫وهذه اآلية الكرمية تش@رح قض@ية البعث ‪ ،‬وتعرض@ها ه@ذا الع@رض احملس@وس الواضح ‪،‬‬
‫الذي تكاد متسك به اليد ‪ ،‬ومن هنا كان العرض عاما ‪ ،‬ي@@دعى إليه الن@@اس مجيعا ‪ ،‬م@@ؤمنهم‬
‫وكافرهم ‪ ،‬عاملهم وجاهلهم ‪:‬‬
‫َّاس) ‪ ..‬امسعوا ه @@ذا الن @@داء ‪ ،‬واش @@هدوا ه @@ذا الع @@رض ‪ ..‬مث احكم @@وا مبا‬ ‫ـ (يا أ َُّي َها الن ُ‬
‫ترون ‪..‬‬
‫ب ِمن الْب ْع ِ‬ ‫ِ‬
‫ث) ‪ ..‬فانظروا أوال ىف هذه الصورة ‪ ،‬وت@ابعوا س@ريها ‪،‬‬ ‫ـ (إِ ْن ُك ْنتُ ْم في َريْ ٍ َ َ‬
‫خط@ @ @@وة خط@ @ @@وة ‪ ،‬ل@ @ @@رتوا كيف ب@ @ @@دأت ‪ ،‬وكيف انتهت ‪ ،‬مث كيف ك@ @ @@ان الب@ @ @@دء ‪ ..‬وكيف‬
‫كانت النهاية ‪:‬‬
‫ـ (فَِإنَّا َخلَ ْقنا ُك ْم) ‪ ..‬هكذا ‪..‬‬
‫ـراب ‪ )..‬حيث كنتم بعض ه@@ذا ال@@رتاب ال@@ذي ت@@رون‪ .‬ال وج@@ود لكم وال أثر‬ ‫ـ ( ِم ْن تُـ ٍ‬
‫يدل عليكم ‪..‬‬ ‫ّ‬
‫(ثُ َّم ِم ْن نُطْ َف ٍة ‪ )..‬أي ومن هذا الرتاب نبتت شجرة إنسانية ‪ ،‬هى اإلنسان األول ‪..‬‬
‫مث كان تناسلكم وتوالدكم ‪ ،‬كما تتوالد ‪ ،‬وتتناسل‬
‫‪977‬‬

‫احلى‬
‫الكائن@@ات احلية ‪ ..‬حيث يب@@دأ التناسل والتوالد بالنطفة ‪ ،‬وهى م@@اء التناسل ىف الك@@ائن ّ‬
‫‪..‬‬
‫(ثُ َّم ِم ْن َعلَ َق ٍة) ‪ ..‬وهى صورة أوىل من صور النطفة ‪ ،‬حيث تنعقد النطفة‪.‬‬
‫(ثُ َّم ِم ْن ُم ْ‬
‫ضـ ـ ـغَ ٍـة ُم َخلَّ َقـ ـ ـ ٍـة َوغَْيـ ـ ـ ِر ُم َخلَّ َقـ ـ ـ ٍـة) هى ص @ @@ورة أوىل من ص@ @ @@ور العلقة ‪ ،‬حيث‬
‫تتح @@ول إىل قطعة من اللّحم ‪ ،‬أش @@به بلقمة مض @@غت@ حىت أص @@بحت أش @@به بقطعة من العجني‬
‫‪ ..‬وه @@ذه املض @@غة قد تك @@ون مهي @@أة الس @@تقبال احلي @@اة ‪ ،‬فتعلق ب @@الرحم ‪ ،‬وتس @@تقر فيه ‪ ،‬حىت‬
‫منوها ‪ ،‬وتص @@بح جنينا ‪ ،‬مث ولي @@دا خيرج إىل احلي @@اة ‪ ،‬وقد تك @@ون غري مهي @@أة‬ ‫تس @@توىف مراحل ّ‬
‫للحياة ‪ ،‬فيلفظها الرحم ‪..‬‬
‫ـ (لِنَُبيِّ َن لَ ُك ْم ‪ )..‬أي ه@ @ @@ذه املراحل اليت حتول هبا ال@ @ @@رتاب ‪ ،‬إىل م@ @ @@ادة تأكلوهنا ‪ ،‬مث‬
‫املادة «النطف@ @@ة» اليت هى ب@ @@ذرة احلي@ @@اة ‪ ،‬مث حتولت النطفة إىل علقة ‪ ،‬والعلقة‬ ‫ختلّق من ه@ @@ذا ّ‬
‫إىل مض@ @ @@غة ‪ ..‬وه@ @ @@ذه املض@ @ @@غة تقف على عتبة احلي@ @ @@اة ‪ ،‬وتط@ @ @@رق باهبا ‪ ..‬فإما أن ي@ @ @@ؤذن هلا‬
‫@رد ‪ ،‬وتع @@ود‬ ‫بال @@دخول ‪ ،‬فتأخذ طريقها حىت خترج من الب @@اب اآلخر كائنا حيّا ‪ ،‬وإما أن ت @ ّ‬
‫إىل ع @ @@امل ال @ @@رتاب ‪ ،‬ال @ @@ذي ج @ @@اءت منه ـ ه @ @@ذه املراحل األوىل هى إع @ @@داد للحي @ @@اة ‪ ،‬ومتهيد‬
‫احلب ‪ ،‬مته @ ّد هلا األرض ‪ ،‬مث ت@@ودع ىف ال@@رتاب‬ ‫لألرض اليت تنبت فيها ‪ ..‬متاما كالب@@ذرة من ّ‬
‫‪ ،‬مث يساق إليها املاء ‪..‬‬
‫وإىل هنا تكون كل وس@@ائل اإلنب@@ات مس@@تكملة مس@توفاة ىف ظ@@اهر األمر ‪ ..‬وه@@ذا هو‬
‫املطلوب من اإلنسان أن يعمله ‪ ،‬وأن يستكمل أسبابه حىت جيىء املسبّب ‪@!..‬‬
‫ولكن بني األسباب واملسبب ‪ ،‬نظر لناظر ‪ ،‬وعربة ملعترب!‬
‫‪978‬‬

‫ف@@إذا ك@@ان اإلنس@@ان ميلك أن يه@@يئ األرض ‪ ،‬ويب@@ذر الب@@ذر ‪ ،‬ويس@@وق إليه املاء ‪ ..‬فهل‬
‫له يد ميكن أن مي ّدها إىل تلك األس @@باب املهي @@أة ‪ ،‬واليت هى كلها أدوات مل يكن من ص @@نعه‬
‫ش @@ىء منها ‪ ،‬بل كل س @@بب منها مس @@بب عن أس @@باب ‪ ..‬وكل س @@بب من ه @@ذه األس @@باب ‪،‬‬
‫مسبب عن أسباب أخرى ‪ ..‬وهك@@ذا ـ نق@@ول ‪ :‬هل له يد ميكن أن مي ّدها إىل تلك األس@@باب‬
‫‪ ،‬فيخرج منها النبات الذي بذر بذرته ‪ ،‬وانتظر مثرته؟‬
‫وإذا ك@@ان اإلنس@@ان ميلك أن جيد ىف كيانه النطفة ‪ ،‬مث يه@@يئ املك@@ان ال@@ذي يق@@ذفها فيه‬
‫‪ ،‬مث يق @@ذف بالنطفة ىف ه @@ذا املك @@ان املهيأ هلا ـ فهل له جمال هنا ىف أن يزح @@زح تلك النطفة‬
‫اليت ن@@زلت مبكاهنا املهيأ هلا ‪ ،‬مث جه@@دت جه@@دها ‪ ،‬فك@@انت علقة ‪ ،‬مث ك@@انت العلقة مض@@غة ـ‬
‫نق @@ول ‪ :‬هل له جمال هنا ىف أن يزح@ @@زح تلك النطفة ـ وقد أص@ @@بحت مض @@غة ـ إىل أبعد من‬
‫الرحم؟‬ ‫هذا ‪ ،‬وأن ينفخ فيها نفخة احلياة ‪ ،‬وأن ميسك هبا ىف ّ‬
‫ج@ @ @ @ @@واب واحد ‪ ،‬ينطق به احلال ‪ ،‬ويش@ @ @ @ @@هد له الواقع ‪ ،‬وهو ‪« :‬ال»! إنه ال ح@ @ @ @ @@ول‬
‫لإلنسان وال طول له ‪ ،‬ىف ه@@ذا األمر أو ذاك ‪ ،‬وإنه ليس إال العجز ‪ ،‬والتس@@ليم ‪ ،‬ليد ق@@ادرة‬
‫‪ ،‬خالقة ‪ ،‬مبدعة ‪ ..‬ال حدود لقدرهتا ‪ ،‬وال هناية إلبداعها‪.‬‬
‫واستمع إىل قوله تعاىل ‪:‬‬
‫(أَ َف َرأ َْيتُ ْم ما تُ ْمنُو َن أَأَْنتُ ْم تَ ْخلُ ُقونَهُ أ َْم نَ ْح ُن الْخالِ ُقو َن؟) (‪ 58‬ـ ‪ : 59‬الواقعة)‪.‬‬
‫هذا ‪ ،‬عن النطفة ‪ ،‬وعن آيات القدرة القادرة ‪ ،‬وآثارها فيها ‪..‬‬
‫الزا ِرعُ ــو َن؟ لَ ـ ْـو نَش ــاءُ ل َ‬
‫َج َع ْلن ــاهُ ُحطامـ ـاً‬ ‫(أَ َفـ َـرأ َْيتُ ْم ما تَ ْح ُرثُ ــو َن أَأَْنتُ ْم َت ْز َرعُونَ ــهُ أ َْم نَ ْح ُن َّ‬
‫ومو َن) (‪ 63‬ـ ‪ : 67‬الواقعة) ‪..‬‬ ‫َم ْغ َر ُمو َن بَ ْل نَ ْح ُن َم ْح ُر ُ‬ ‫فَظَلْتُ ْم َت َف َّك ُهو َن إِنَّا ل ُ‬
‫‪979‬‬

‫ص@ @ @انع ‪ ،‬ىف أمر هو أق @ @@رب إىل‬ ‫وه @ @@ذا عن النب @ @@ات ‪ ،‬وعن ق @ @@درة الق @ @@ادر ‪ ،‬وص @ @@نعة ال ّ‬
‫اإلنس @@ان‪ .‬وأيسر ـ فيما يب @@دو له ـ من عملية اخللق املعق @@دة ‪ ،‬ىف ع @@امل احلي @@وان ‪ ..‬فهل له ىف‬
‫هذا أو ذاك يدان؟‬
‫وإىل هنا وحنن ما زلنا بعد على شاطىء احلياة ‪ ،‬بعيدا عن أعماقها وأغوارها‪!.‬‬
‫ف @@إذا غ @@رق اإلنس @@ان وهو ما زال على اليبس ‪ ،‬فكيف به إذا خ @@اض املاء ‪ ،‬أو غ @@اص‬
‫ىف أعماقه؟‬
‫إنه ألس @ @ @@لم لإلنس @ @ @@ان إذن أن يقف حيث هو ‪ ،‬وأن يظ @ @ @ ّ@ل على الش @ @ @@اطئ ‪ ،‬يش @ @ @@هد‬
‫ببصره ‪ ،‬أو ببصريته ما يرى من آيات اهلل ‪ ،‬وآثار قدرته ورمحته ىف تلك «املضغة»!‪.‬‬
‫وأيّة مضغة؟ إهنا املضغة ‪ ،‬املخلّقة ‪ ،‬اليت نفخ فيها اخلالق النفخة األوىل للحياة ‪..‬‬
‫ّأما املضغة غري املخلقة ‪ ،‬فقد وقفت عند الشاطئ ‪ ..‬ترابا مع هذا الرتاب‪.‬‬
‫فلنبدأ إذن ىف متابعة هذه النطفة «املخلقة» ‪ ،‬ولنرصد مسريهتا ‪ ..‬مرحلة مرحلة ‪..‬‬
‫( َونُِق ُّر فِي اأْل َْر ِ‬
‫حام ما نَشاءُ) ‪..‬‬
‫فها هى ذى النطفة اآلن ىف سفينة احلياة ‪ ..‬وها هى ذى السفينة تتحرك روي@@دا على‬
‫صدر هذا احمليط العظيم ‪..‬‬
‫(ثُ َّم نُ ْخ ِر ُج ُك ْم ِط ْفالً) ‪..‬‬
‫السفينة تضرب ىف ثبج احمليط ‪ ،‬وختتفى رويدا رويدا عن‬ ‫وها هى ذى ّ‬
‫‪980‬‬

‫األنظ @@ار ‪ ..‬مث ها هى ذى تع @@ود حبملها ‪ ،‬وقد ثقلت ‪ ،‬وك @@ادت تتقطع أنفاس @@ها ‪ ،‬وتس @@قط‬
‫اليم مبا محلت! ولكن يد الق@ @ @ @ @@درة الق@ @ @ @ @@ادرة متسك هبا ‪ ،‬حىت تبلغ الش@ @ @ @ @@اطئ ‪ ،‬وتلقى مبا‬ ‫ىف ّ‬
‫محلت!‬
‫وما هذا احلمل الذي ألقت به على شاطىء احلياة؟ ومن أين جاءت به؟‬
‫إنه تلك النطفة ‪ ،‬أو املض@@غة اليت أقلعت هبا من الش@@اطئ ‪ ..‬مث دارت هبا تلك ال@@دورة‬
‫الطويلة ‪ ،‬فتخلّق من ه@@ذه املض@@غة ه @@ذا «الطف@@ل» ال@@ذي هو ص@@ورة كاملة مص @@غرة من ه @@ذا‬
‫اإلنس@ @@ان ال @ @@ذي دفع به إىل الس@ @@فينة نطفة ‪ ،‬مث ها هو ذا يس @ @@تقبله إنس@ @@انا! وما أبعد ما بني‬
‫النطفة واإلنس@@ان ‪ ،‬فيما ت@@رى العني ‪ ،‬ويش@@هد العقل ‪ ..‬وما أق@@رب ما بني النطفة واإلنس@@ان‬
‫املصور!‪@.‬‬ ‫ىف يد اخلالق ‪ ،‬املبدع ‪ّ ،‬‬
‫مث ما هذا الطفل ‪ ،‬أو ذلك اإلنسان املصغر؟‬
‫إنه كائن ال ميلك من أمره شيئا ‪..‬‬
‫ولكن مهال ‪ ،‬ف@ @@إن يد الق @ @@درة ممس@ @@كة بي @ @@ده ‪ ..‬ف @ @@انظر كيف جتعل من ه @ @@ذا الطفل‬
‫رجال ‪ ،‬كما جعلت من النطفة طفال!‬
‫(ثُ َّم لِتَْبلُغُوا أَ ُش َّد ُك ْم)‪.‬‬
‫فها هو ذا الطفل ىف يد القدرة القادرة ‪ ،‬مت ّده بأس@باب النّم@اء والق@@وة ‪ ،‬يوما بعد ي@وم‬
‫وح@ @ @ @@اال بعد ح@ @ @ @@ال ‪ ..‬وإذا ه@ @ @ @@ذه الكومة من اللحم املتحركة ىف كياهنا احملدود ‪ ،‬حتبو ‪ ،‬مث‬
‫تقفز كما تقفز الض@@فدع ‪ ،‬مث متشى على أربع كما متشى ال@@دواب ‪ ،‬مث تق@@وم منتص@@بة القامة‬
‫‪ ،‬متشى على رجلني ‪ ..‬مث ‪ ..‬ومث ‪ ،‬ومث ‪ ..‬حىت يبلغ أشده وبصري رجال ‪..‬‬
‫‪981‬‬

‫وه @ @@ذا هو اإلنس @ @@ان ىف أمتّ ص @ @@ورة وأكملها ‪ ..‬لقد كمل جس @ @@مه ‪ ،‬وعقله ‪ ..‬وبلغ‬
‫أش ّده‪.‬‬
‫والالم ىف قوله تع@@اىل ‪( :‬لِتَْبلُغُــوا) هى الم العاقبة والغاية ‪ ..‬أي غاية النضج اإلنس@@اىن‬
‫‪..‬‬
‫وهنا تبدأ هلذا الكائن مسرية أخرى ‪..‬‬
‫( َوِم ْن ُك ْم َم ْن ُيَتـ ـ ـ َـوفَّى ‪َ ،‬و ِم ْن ُك ْم َم ْن ُي ـ ـ ـ َـر ُّد إِلى أ َْر َذ ِل الْعُ ُمـ ـ ـ ـ ِر لِ َك ْيال َي ْعلَ َم ِم ْن َب ْعـ ـ ـ ِـد ِعل ٍْم‬
‫َش ْيئاً)‪.‬‬
‫وإذ يبلغ اإلنس@ @@ان ـ مرحلة الش@ @@يخوخة ـ من العمر ‪ ،‬يقف وقفة على عتبة املوت ‪،‬‬
‫أشبه بتلك الوقفة ‪ ،‬اليت وقفتها املضغة ‪ ،‬على ب@اب احلي@اة! فكما ك@@انت املض@@غة هن@@اك خملّقة‬
‫أو غري خملّقة ‪ ،‬يكون «الشيخ» هنا خملّقا من حصاد املوت ‪ ،‬أو غري خملّف ‪..‬‬
‫وهذا يعىن ‪..‬‬
‫أوال ‪ :‬أن ح@ @ @@دود احلي @ @@اة اإلنس @ @@انية ‪ ،‬تنتهى غالبا عند مرحلة الش@ @ @@يخوخة ‪ ..‬حيث‬
‫يس @@توىف اإلنس @@ان غايته ‪ ،‬ويعطى احلي @@اة ك @ ّ@ل ما عن @@ده ‪ ،‬ويأخذ منها ك @ ّ@ل ما هو ق @@ادر على‬
‫أخذه منها‪.‬‬
‫وثانيا ‪ :‬أن ه@ @ @@ذا ال مينع من أن يس@ @ @@قط على ه@ @ @@ذا الطريق كثري من الن@ @ @@اس ‪ ،‬قبل أن‬
‫يبلغ@ @@وا ه@ @@ذه املرحلة ‪ ..‬من أجنّة ‪ ،‬وأطف@ @@ال ‪ ،‬وص@ @@بيان ‪ ،‬وغلم@ @@ان ‪ ،‬وش@ @@باب ‪ ..‬متاما كما‬
‫تتس@ @ @ @@اقط بعض مثار الفاكهة ‪ ،‬زه@ @ @ @@را ‪ ،‬أو حص@ @ @ @@رما ‪ ،‬أو رطب@ @ @ @@ا‪ .‬كما ال مينع أيضا من أن‬
‫جياوز اإلنس@@ان مرحلة الش@@يخوخة ‪ ،‬فيك@@ون من خملف@@ات احلي@@اة ‪ ..‬متاما كمخلف@@ات الثمر ‪،‬‬
‫جيف ‪ ،‬وهو ال يزال ممسكا بغصن الشجرة ‪..‬‬ ‫الذي ّ‬
‫‪982‬‬

‫وثالثا ‪ :‬إمس@ @@اك احلي @@اة ببعض «الش @@يوخ» حىت يبلغ@ @@وا أرذل العمر ‪ ،‬هو وجه مقابل‬
‫حلي @@اة الطفولة ىف اإلنس @@ان ‪ ..‬حيث ينح @@در اإلنس @@ان ش @@يئا فش @@يئا ‪ ،‬ويت@ @دىّل قليال قليال حىت‬
‫يقع على األرض ‪ ،‬فيصبح كومة من اللحم ‪ ،‬يضرب برأسه على األرض لتفتح له رمحها ‪،‬‬
‫وهتيئ له مكانا فيه ‪ ..‬متاما كاجلنني ‪ ،‬حني تفتّح له رحم أمه ‪ ..‬فخرج منه ‪..‬‬
‫إهنا دورة ىف نصف دائرة ‪ ..‬أشبه بالشمس ىف شروقها وغروهبا ‪..‬‬
‫مث ال بد أن تتم ه@@ذه ال@@دورة لتك@@ون دائ@@رة كاملة ‪ ،‬فه@@ذا هو نظ@@ام الك@@ون ىف أفالكه‬
‫مجيعا ‪ ،‬إهنا تدور ىف دائرة كاملة ‪ ..‬واإلنس@ان ما هو إال ك@ون من ه@ذه األك@وان ‪ ..‬يش@رق‬
‫‪ ،‬مثّ يغرب ‪ ،‬وبذلك يتم نصف دورته ‪ ..‬أما النصف اآلخر فيقطعه وراء ه@@ذا الع@امل ـ ع@@امل‬
‫الظاهر ـ مث يعود ليطلع من جديد ىف عامل الظهور!‪.‬‬
‫وىف التعبري الق@ @ @@رآىن عن امت @ @@داد العمر إىل ما بعد الش @ @@يخوخة بقوله تع @ @@اىل ‪( :‬أ َْرذَ ِل‬
‫الْعُ ُمـ ـ ـ ِر) إش @ @@ارة إىل أن ه@ @@ذه النهاية اليت ينتهى إليها اإلنس@ @@ان ىف مس @ @@رية حياته ‪ ،‬هى أرذل‬
‫مرحلة ‪ ،‬وأخ ّس @ها ‪ ،‬وأس@@وؤها ىف حياته ‪ ..‬إذ هبا يتح@@ول اإلنس@@ان إىل ك@@ائن هو مسخ هلذا‬
‫@رتد ش@يئا فش@يئا ممّا ك@انت قد أعطته‬ ‫اإلنس@ان ‪ ..‬حيث تأخذ منه احلي@اة كل ي@وم ش@يئا ‪ ،‬وتس ّ‬
‫‪..‬‬
‫لقد اس @ @@تقبلته احلي @ @@اة ولي @ @@دا ‪ ،‬فأرض @ @@عته من ث @ @@ديها ‪ ،‬النّم @ @@اء ‪ ،‬والق @ @@وة ‪ ،‬واإلدراك ‪،‬‬
‫والعلم ‪ ،‬واملعرفة ‪ ..‬وما ي@ @ @ @@زال ه@ @ @ @@ذا دأهبا به حىت يبلغ غايته ‪ ،‬ويس@ @ @ @@توىف كل ما ميكن أن‬
‫تعطيه طبيعته ‪ ..‬وهنا تدعه احلي@ @@اة ينفق مما أخذ منها ‪ ،‬وىف كل ي@ @@وم ينقص رص@ @@يده ال @@ذي‬
‫ادخره ‪ ،‬من النماء والقوة واإلدراك والعلم واملعرفة ‪ ..‬وهكذا يتقلّص‬
‫‪983‬‬

‫ظل ه@@ذا الرص@@يد ش@@يئا فش@@يئا حىت يص@@بح ظالال باهتة ‪ ..‬مث خيتفى ‪ ،‬وي@@ذوب ‪ ،‬كما ي@@ذوب‬
‫الثلج حتت حرارة الشمس ‪..‬‬
‫وش@@تّان بني ب@@دء احلي@@اة وختامها ‪ ..‬بني وهج الطفولة وتوق@@دها ‪ ،‬ومخود الش@@يخوخة‬
‫وبرودهتا ‪ ..‬بني إقب@@ال احلي@@اة وإدبارها ‪ ..‬بني الش@@روق والغ@@روب ‪ ،‬بني رحلة احلي@@اة ورحلة‬
‫املوت!!‬
‫ـ وىف قوله تع@@اىل ‪( :‬لِ َك ْيال َي ْعلَ َم ِم ْن َب ْع ِد ِعل ٍْم َشـ ْيئاً) هو ع@@رض لص@@ورة احلي@@اة واملوت‬
‫حى ميت ‪ ،‬أو‬ ‫رد إىل أرذل العمر ‪ ،‬ون ّكس ىف اخللق ‪ ..‬هو ّ‬ ‫معا ‪ ،‬ىف ه@ @@ذا اإلنس@ @@ان ال@ @@ذي ّ‬
‫حى ‪ ..‬إنه يع@ @ @@ود من حيث ب@ @ @@دأ ‪ ،‬فقد ج@ @ @@اء إىل احلي@ @ @@اة ال يعلم ش@ @ @@يئا ‪ ،‬كما يق@ @ @@ول‬ ‫ميت ّ‬
‫س@@بحانه ‪( :‬واهلل أَ ْخرج ُكم ِمن بطُ ِ‬
‫ون أ َُّمهــاتِ ُك ْم ال َت ْعلَ ُمــو َن َشـ ْيئاً ‪ : 78( )..‬النح@@ل) وها هو‬ ‫َ ُ ََ ْ ُْ‬
‫ذا يعود طفال (لِ َك ْيال َي ْعلَ َم ِم ْن َب ْع ِد عل ٍْم َش ْيئاً) ‪..‬‬
‫ِ‬
‫موجه‬ ‫ِ‬
‫يتوجه به إىل إنس@ @@ان بعينه ‪ ،‬وإمنا هو ّ‬ ‫والتعليل بقوله تع@ @@اىل ‪( :‬ل َك ْيال َي ْعلَ َم) ال ّ‬
‫احلى ‪،‬‬
‫إىل الن@ @@اس عامة ‪ ،‬وإىل منك@ @@رى البعث خاصة ‪ ،‬ل@ @@ريوا ىف ه@ @@ذا اإلنس@ @@ان ‪ ،‬الش@ @@اهد ّ‬
‫احلى ‪ ،‬حييا امليّت ‪..‬‬
‫الذي ينطق بأن احلياة واملوت وجهان متقابالن ‪ ،‬وأنه كما ميوت ّ‬
‫ت‬‫وىف نظ @@رة مش @@رقة ص @@افية ميكن أن تتجلّى ىف قوله تع @@اىل ‪( :‬ي ْخـ رِج الْح َّي ِمن الْميِّ ِ‬
‫ُ ُ َ َ َ‬
‫احلى من امليت ‪،‬‬ ‫ِ ِ‬
‫ْح ِّي) (‪ : 95‬األنع @ @ @@ام) ص @ @ @@ورة من ص @ @ @@ور إخ @ @ @@راج ّ‬ ‫ِج ال َْميِّت م َن ال َ‬
‫َو ُم ْخـ ـ ـ ر ُ‬
‫احلى ‪ ،‬ىف مسرية اإلنسان على طريق احلي@@اة ‪ ،‬من مول@@ده إىل مماته ‪ ..‬أي‬ ‫وإخراج امليت من ّ‬
‫من طفولته إىل أرذل عمره وتنكيسه ىف اخللق ‪..‬‬
‫‪984‬‬

‫أدق‬
‫حى ميت! وما ّ‬
‫حى ‪ ..‬وهو ىف أرذل عم@ @ @ @ @ @ @ @ @@ره ّ‬
‫فهو ىف ب@ @ @ @ @ @ @ @ @@دء طفولته ‪ ..‬ميت ّ‬
‫املعرى ‪:‬‬ ‫وأبرع قول ّ‬
‫وكالنّ@ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @@ار احلي@ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @@اة ‪ ..‬فمن رم@ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @@اد ‪  ‬أواخرها وأوهلا دخ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @@ان‬
‫‪ ‬‬ ‫‪ ‬‬

‫فاحلياة ـ كما يصورها املعرى ـ جذوة من نار ‪ ،‬تب@دأ دخانا ‪ ،‬وهو أول ما يك@ون من‬
‫النار ‪ ،‬مث تنتهى إىل رماد ‪ ،‬وهو آخر ما يكون منها ‪..‬‬
‫ِ‬
‫ت‬‫ت َو َربَ ْ‬ ‫ض هامـ ـ ـ َد ًة فَـ ـ ـِإذا أَْن َزلْنا َعلَْي َها الْم ـ ـ َ‬
‫ـاء ْاهَتـ ـ َّـز ْ‬ ‫وىف قوله تع@ @ @@اىل ‪َ ( :‬وَتـ ـ ـ َـرى اأْل َْر َ‬
‫يج) ‪..‬‬ ‫ت ِم ْن ُك ِّل َز ْو ٍج بَ ِه ٍ‬
‫َوأَ ْنبَتَ ْ‬
‫عرض لصورة من صور اإلحياء ‪ ،‬والبعث ‪ ،‬يراها أولو األبص@@ار ‪ ،‬ح@@اال بعد ح@@ال ‪،‬‬
‫فيما يس@ @ @@فر عنه وجه األرض ‪ ،‬من حي@ @ @@اة متج@ @ @@ددة عليها ‪ ،‬ومن أث@ @ @@واب تلبس@ @ @@ها ‪ ،‬وحلى‬
‫تتحلى هبا ‪ ،‬بعد أن كانت أرضا مواتا ‪ ،‬ال معلم من معامل احلياة فيها ‪..‬‬
‫فه@@ذه األرض اجلديب القفر ‪ ،‬يأخ@@ذها اإلنس@@ان بنظ@@ره الي@@وم ‪ ،‬ف@@إذا هى ـ كما ي@@رى ـ‬
‫م @ @@وات ىف م @ @@وات ‪ ،‬وص@ @@مت م @ @@وحش رهيب ‪ ،‬كص@ @@مت القب@ @@ور ‪ ..‬مث إذا أص @ @@اهبا املاء ‪،‬‬
‫ت) ه @ ّ@زة احلي@@اة ‪ ،‬ونبضت عروقها ‪ ،‬وس @@رت ال @@روح ىف أوص @@اهلا ‪..‬‬ ‫وغاثها الغيث ‪ْ ( ،‬اهَتـ َّـز ْ‬
‫يج) ف@ @ @@إذا ك@ @ @ ّ@ر الن@ @ @@اظر إليها‬ ‫ـل َز ْو ٍج بَ ِه ٍ‬‫ت ِم ْن ُكـ ـ ِّ‬ ‫ت) ومنت كما ينمو الطفل ‪َ ( ..‬وأَْنبَتَ ْ‬ ‫( َو َربَ ْ‬
‫بص@ @@ره ك@ @ ّ@رة أخ@ @@رى ‪ ،‬رأى ه@ @@ذا املوات قد أص@ @@بح حي@ @@اة مزه@ @@رة مثم@ @@رة ‪ ،‬متأل العني هبجة‬
‫ومسرة‪.‬‬
‫ّ‬
‫فم@@اذا إذن ينك@@ره املنك@@رون من بعث املوتى؟ وهل ه@@ذه القب@@ور وما ض@ ّ@مت عليه من‬
‫جثث وأش@@الء ورف@@ات ‪ ،‬ت@@رتاءى فيها ص@@ور اآلدم@@يني ال@@ذين عمروها ـ هل ه@@ذه القب@@ور أبعد‬
‫من بعث احلي @ @ @ @ @ @@اة فيها ‪ ،‬وإخ @ @ @ @ @ @@راج خبئها ـ من األرض اجلديب امليتة ‪ ،‬اليت أحياها اهلل ‪،‬‬
‫فاهتزت وربت ‪ ،‬وأنبتت من كل زوج هبيج؟ ذلك ما ال يقبله عقل ‪ ،‬وال يرضاه منطق!‪.‬‬
‫‪985‬‬

‫تلك هى «قض@@ية البعث» ‪ ..‬وه@@ذه هى حيثياهتا ‪ ،‬جيدها اإلنس@@ان ىف نفسه هو ‪ ،‬من‬


‫مول@@ده إىل مماته ‪ ..‬ف@@إن أعي@@اه النظر إىل نفسه ‪ ،‬وج@@دها ىف األرض اليت ميشى عليها ‪ ..‬ف@@إن‬
‫احلق أب@@دا‪ .‬ف@@إن ذلك العمى من عمى القلب‬ ‫عمى عن ه@@ذا وذاك ‪ ،‬فهيه@@ات أن ي@@رى وجه ّ‬
‫‪ ،‬الذي ليس ملصاب به شفاء ‪ ،‬واهلل سبحانه وتعاىل يق @@ول ‪( :‬فَِإنَّها ال َتعمى اأْل َبصار و ِ‬
‫لك ْن‬ ‫ْ َُ‬ ‫َْ‬
‫وب الَّتِي فِي ُّ‬
‫الص ُدو ِر) (‪ : 46‬احلج) ‪..‬‬ ‫َت ْع َمى الْ ُقلُ ُ‬
‫***‬
‫حنب أن نقف وقفة مع عملية «اخللق» وبعث احلياة ىف املخلوقات‪.‬‬ ‫وهنا ّ‬
‫فه@@ذه العملية ‪ ،‬عملية «اخلل@@ق» ‪ ،‬هى مما اس@@تأثر اهلل س@@بحانه وتع@@اىل به ‪ ،‬ليس ألحد‬
‫من خملوقاته أن يك @ @@ون له معه ش @ @@ركة فيه ‪ ..‬وىف ه @ @@ذا يق @ @@ول اهلل تع @ @@اىل ‪( :‬أَال لَ ـ ــهُ الْ َخ ْل ـ ـ ُـق‬
‫َواأْل َْمـ ـ ُـر) (‪ : 54‬األع@ @ @@راف) ‪ ..‬هك@ @ @@ذا على س@ @ @@بيل القصر ‪ ..‬فلله وجه ـ بال مش@ @ @@اركة ـ‬
‫(الْ َخ ْلـ ُـق) وهو اإلجياد ‪ ،‬والتص@@وير ‪ ،‬وبعث احلي@@اة ىف املوج@@ودات واملص@ ّ@ورات ‪َ ( ..‬واأْل َْمـ ُـر)‬
‫ْق َواأْل َْم ُر)‪.‬‬
‫وهو التقدير ‪ ،‬خللق ما خيلق وتصوير ما يصور ‪( ..‬أَال لَهُ الْ َخل ُ‬
‫ه @@ذا ‪ ،‬وتتطلع اإلنس @@انية دائما إىل كشف ه @@ذا الس @ ّ@ر ـ س @ ّ@ر احلي @@اة ـ وحياول العلم @@اء‬
‫والباحثون أن يص@لوا إىل تلك احلقيقة ‪ ،‬وأن يض@بطوا قوانينها ‪ ،‬وأن يض@عوا أي@ديهم عليها ‪،‬‬
‫حىت يك@ @@ون هلم أن خيلق@ @@وا ما يش@ @@اءون من خملوق@ @@ات ‪ ،‬وأن يتحكم@ @@وا فيما خيلق@ @@ون ‪ ..‬من‬
‫إناث أو ذكور ‪ ،‬على اختالف األلوان والصور!‪@.‬‬
‫وقد أج @@رى كثري من العلم @@اء جتارب عدي @@دة ىف ه @@ذا اجملال ‪ ،‬وزرع @@وا واس @@تنبتوا ىف‬
‫خمابرهم مخائر للحياة ‪ ..‬ولكن ذلك كلّه مل يصل هبم إىل شىء‬
‫‪986‬‬

‫مما أرادوا ‪ ،‬وك@ ّ@ل ما أمس@@كوا به ىف أي@@ديهم ‪ ،‬هو ص@@ور باهتة ‪ ،‬إن دلّت على ش@@ىء ‪ ،‬فإمنا‬
‫@دل على تأكيد ه@@ذه احلقيقة ‪ ،‬وهى أن «اخلل@@ق» هلل وح@@ده ‪ ،‬وأن غاية العلم ‪ ،‬ال تتج@@اوز‬ ‫ت@ ّ‬
‫أبدا أكثر من هذه الوقفة على شاطىء احلياة ‪ ،‬بعيدا عن ملس حبرها العميق ‪..‬‬
‫@واد ىف خمابريهم وأن@@ابيبهم ‪،‬‬ ‫إن ك@ ّ@ل ما جيريه العلم@@اء من حبوث ‪ ،‬وما يض@@عونه من م@ ّ‬
‫جل وعال ‪ ..‬وأن هذه األطياف من احلي@@اة‬ ‫هو من عناصر احلياة نفسها ‪ ،‬اليت خلقها اخلالق ّ‬
‫تطل على العلماء من خمابريهم وأن@ابيبهم ‪ ،‬إمنا هى من ب@ذور احلي@اة اليت أوج@دها اخلالق‬ ‫اليت ّ‬
‫‪ ،‬وق ّدر هلا سبال تس@لكها ‪ ،‬لتثمر مثر احلي@@اة ‪ ،‬فغرّي العلم@@اء س@بيلها ‪ ،‬وع@@دلوا هبا عن طريقها‬
‫املرسوم ‪ ،‬الذي خطّته هلا القدرة اإلهلية ‪!..‬‬
‫ف @ @@إذا جنح العلم ىف ه@ @@ذا الت@ @@دبري ‪ ،‬واس @ @@تطاع أن يصل إىل ش @ @@ىء من ص@ @@ور اخللق ـ‬
‫وهيه @@ات ـ ف @@إن ذلك ال يع @@دو أن يك @@ون نبتة من نب @@ات تلك الب @@ذرة اليت أوج @@دها اخلالق ‪،‬‬
‫وكل ما كان من العلم والعلماء ‪ ،‬هو أشبه بنقل نبات من تربة غري تربته ‪ ،‬واستنبات نوع‬
‫من النبات ىف غري موطنه‪.‬‬
‫حنب أن ننبه إليه هنا ‪ ،‬هو أن اإلس @@الم ـ ش @@ريعة وعقي @@دة ـ ال ينظر إىل تلك‬ ‫وال @@ذي ّ‬
‫احملاوالت اليت حياوهلا العلم ىف حقل احلي @@اة ـ نظ @@رة متكرهة أو معادية ‪ ،‬بل إنه ي @@ز ّكى ه @@ذا‬
‫البحث العلمي ‪ ،‬ويطلق لإلنس @ @ @ @@ان العن @ @ @ @@ان ىف البحث وال @ @ @ @@درس ‪ ،‬وإج @ @ @ @@راء ما يش @ @ @ @@اء من‬
‫التج@@ارب ىف عملية اخللق ‪ ،‬فه@@ذا كله ق@@راءة ىف كت@@اب الك@@ون ‪ ،‬وتأمل وت@@دبّر ىف آي@@ات اهلل‬
‫‪ ..‬وما يصل إليه اإلنس@ @ @ @ @@ان من كش@ @ @ @ @@وف علمية ‪ ،‬وحق@ @ @ @ @@ائق كونية ‪ ،‬هو منظ@ @ @ @ @@ور إليه من‬
‫ج @@انب اإلس@ @@الم على أنّه رس@ @@الة العلم ‪ ،‬ىف الكشف عن ق @@درة اهلل ‪ ،‬وعلمه ‪ ،‬وحكمته ‪..‬‬
‫األمر ال @ @ @@ذي يفتح للن @ @ @@اس الطريق إىل اإلميان باهلل ‪ ،‬وجيلّى عن عق@ @ @@وهلم وقل @ @ @@وهبم غي@ @ @@اهب‬
‫الشك والشرك‬
‫‪987‬‬

‫واإلحلاد ‪ ..‬وهنا ميكن أن يقوم العلم ىف الدعوة إىل اهلل ‪ ،‬مقام الرسل واألنبياء! ‪..‬‬
‫ومن جهة أخرى ‪ ،‬فإن العلماء الذين يبلغ هبم علمهم ه@@ذا املدى ال@@ذي يطلع@@ون منه‬
‫على الن@اس هبذه اآلي@ات املعج@زة ـ ه@ؤالء العلم@اء هم ىف الواقع آية من آي@ات اهلل ‪ ..‬فما هم‬
‫إال ص @@نعة اخلالق ‪ ،‬ال @@ذي خلق فس@ @ ّ@وى ‪ ،‬فجعل من ابن املاء والطني ‪ ،‬ه @@ذه الق@ @@وة الق @@ادرة‬
‫على أن جتىء هبذا اإلعجاز العظيم ‪..‬‬
‫فمر حى بالعلم ‪ ،‬ومزيدا من آياته ومعجزاته ‪ ..‬فحصاد هذا كلّه ‪ ،‬ومثر ه@@ذا كله ‪،‬‬
‫عائد إىل اإلنس@ @@ان ‪ ،‬ىف حياته املادية والعقلية والروحية ‪ ..‬وما ك@ @@ان ل@ @@دين ـ أي دين ـ أن‬
‫يعطل ملك @@ات اإلنس @@ان ‪ ،‬أو يقيد يديه عن العمل ىف كل جمال يس @@تطيع العمل فيه ـ س @@واء‬
‫أخطأ أم أصاب ‪ ،‬مادام يطلب اخلري ‪ ،‬ويلقى إليه ‪ ،‬بشباكه ىف األرض أو ىف السماء ‪!..‬‬
‫@ود أن نض@ @@عها بني ي@ @@دى العلم@ @@اء ‪ ،‬دون أن نقطع الطريق‬ ‫على أن هن@ @@اك حقيقة ‪ ،‬ن@ @ ّ‬
‫عليهم فيما هم س@ @@ائرون إليه ‪ ،‬حنو البحث عن احلي@ @@اة ‪ ،‬واس@ @@تيالد األحي @ @@اء ‪ ،‬أو خلقهم ‪،‬‬
‫ودون أن ندخل اليأس عليهم ‪ ،‬ونوصد ىف وجههم هذا الباب ‪..‬‬
‫فنحن وإن كنا على يقني ب @ @@أن العلم ـ ىف ع @ @@امل البشر ـ لن خيلق احلي @ @@اة أب @ @@دا ‪ ،‬فإننا‬
‫ن @@دعو إىل مزيد من البحث واالنطالق ىف ه @@ذا اجملال إىل أبعد غاية ‪ ،‬ف @@إن ه @@ذا البحث ـ ىف‬
‫سينمى معارف اإلنسان ‪ ،‬ويزيده علما إىل علم ‪..‬‬ ‫الواقع ـ لن يضيع هباء ‪ ،‬بل إنه ّ‬
‫ومن ي@@درى؟ فلعل العلم@@اء إذا أخط@@أهم الوص@@ول إىل «احلي@@اة» وف@@اهتم احلص@@ول على‬
‫سرها ‪ ،‬لعلهم جيدون ىف طريقهم أسرارا أخرى ‪ ،‬هى أجدى على‬ ‫ّ‬
‫‪988‬‬

‫اإلنس@ @ @ @@انية وأنفع هلا ‪ ،‬فيما ي@ @ @ @@دفع عن ه@ @ @ @@ذه «احلي@ @ @ @@اة» ما يعانيه الن@ @ @ @@اس من غوائل األوبئة‬
‫واألمراض ‪..‬‬
‫أما احلقيقة اليت أريد أن أص@ @@ارح العلم@ @@اء هبا ‪ ،‬فهى ما ص@ @ ّ@رح به الق@ @@رآن الك@ @@رمي ىف‬
‫اجلزء األخري من هذه السورة ‪ ،‬وهو قوله تعاىل ‪:‬‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ ِ‬ ‫ِ‬
‫َن يَ ْخلُ ُقــوا‬ ‫ب َمثَـ ٌـل فَا ْسـتَمعُوا لَــهُ ‪ ..‬إِ َّن الذ َ‬
‫ين تَـ ْدعُو َن م ْن ُدون اهلل ل ْ‬ ‫ضـ ِر َ‬
‫َّاس ُ‬
‫(يا أ َُّي َها الن ُ‬
‫ضـ ـع َ ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫ف الطَّال ُ‬
‫ب‬ ‫اجتَ َمعُ ــوا لَ ــهُ ‪َ ..‬وإِ ْن يَ ْسـ ـلُْب ُه ُم ال ـ ُّـذ ُ‬
‫باب َشـ ـ ْيئاً ال يَ ْسـ ـَت ْنق ُذوهُ م ْن ــهُ ‪ُ َ ..‬‬ ‫ذُبابـ ـاً َولَـ ـ ِو ْ‬
‫وب)‪.‬‬
‫َوال َْمطْلُ ُ‬
‫فهذه آية متح ّدية ‪ ،‬للناس ‪ ،‬وملا يعبد الن@@اس من خمل@@وقني ي@@روهنم آهلة ‪ ،‬مبا ىف أي@@ديهم‬
‫من سلطان مادى أو روحى ‪..‬‬
‫َن يَ ْخلُ ُقوا ذُباباً) ‪ ..‬وهو أض@@أل املخلوق@@ات‬
‫فالناس ‪ ،‬فردا فردا ‪ ،‬ومجاعة مجاعة ‪( ..‬ل ْ‬
‫اجتَ َمعُوا لَـهُ) ‪ ..‬واحتش@@دوا له من أقط@@ار ألرض كلها ‪ ،‬وج@@اءوا بكل ما‬ ‫وأضعفها ‪َ ( ..‬ولَ ِو ْ‬
‫معهم من علم ‪..‬‬
‫والذباب ال يعدو أن يك@@ون دودة متخلّقة من خملق@@ات املواد الق@@ذرة واملتعفنة ‪ ،‬فهو ـ‬
‫هبذه الص@@ورة ـ أدىن م@@راتب احلي@@اة ‪ ،‬وأن@@زل منازهلا ‪ ..‬ومع ه@@ذا ف@@إن الن@@اس كلهم لن خيرج‬
‫من أيديهم بكل ما معهم من علم ‪ ،‬أن خيلقوا ذبابة واحدة!‬
‫وأك@ @@ثر من ه@ @@ذا ‪ ،‬ف@ @@إن ه@ @@ذا ال@ @@ذباب ال@ @@ذي عج @@زوا عن خلقه ‪ ،‬هو ـ ىف ح@ @@ال من‬
‫أحواله ـ أق @@وى منهم ‪ ،‬وأق @@در على الكيد هلم ‪ ..‬وأنه إذا س @@لبهم س @@يئا ال يس @@تنقذونه منه ‪،‬‬
‫ردا ‪..‬‬
‫وال يستطيعون له ّ‬
‫والذباب أنواع كثرية ‪ ..‬منه ال@ذباب املع@@روف ‪ ،‬ومنه ذب@اب الفاكهة ‪ ،‬ومنه الزن@@ابري‬
‫وغريها ‪..‬‬
‫‪989‬‬

‫فهب أن طائفة من ه @@ذه الطوائف ‪ ،‬خلت بطع @@ام فالتهمته ‪ ،‬أو وقعت على ش @@جرة‬
‫@رتد ما أكل ال@ @@ذباب؟‬ ‫من أش@ @@جار الفاكهة ف@ @@أتت عليها ـ أيك@ @@ون ىف مس@ @@تطاع أحد أن يس@ @ ّ‬
‫ذلك حمال ‪..‬‬
‫وىف التعبري عن أكل ال@ @ @@ذباب «بالس@ @ @@لب» إش@ @ @@ارة إىل أن ما أكله مل يكن عن رضى‬
‫من أص@ @ @@حاب ه@ @ @@ذا املأكول ‪ ..‬فهو أش@ @ @@به بالس@ @ @@لب والغصب ‪ ،‬وىف ه@ @ @@ذا إظه@ @ @@ار لض@ @ @@عف‬
‫اإلنسان ‪ ،‬ووقوعه حتت بأس ه@ذا املخل@وق الض@عيف ‪ ،‬ال@ذي يع@ ّد أض@عف ما خلق اهلل ‪ ،‬ىف‬
‫عامل األحياء!‬
‫ض ـع َ ِ‬
‫ـوب) تع@@ريض باإلنس@@ان ‪ ،‬وبغ@@روره ال@@ذي‬ ‫ف الطَّال ُ‬
‫ب َوال َْمطْلُـ ُ‬ ‫وىف قوله تع @@اىل ‪ُ َ ( :‬‬
‫خييّل إليه أنه خيرق األرض أو يبلغ اجلب@@ال ط@@وال ‪ ..‬إنه وال@@ذباب على س@@واء ‪ ،‬كالمها ع@@اجر‬
‫ضعيف ‪ ..‬وإن كان الذباب ـ ىف بعض األحوال ـ أقوى منه ‪ ،‬وأقدر على الكيد له!‬
‫وليس هذا التصوير لضعف اإلنسان ‪ ،‬استخفافا به ‪ ،‬وإطف@@اء جلذوة الطم@@وح املتّق@@دة‬
‫ىف كيانه ‪ ،‬وإمنا هو استش@@فاء لإلنس@@ان من داء الغ@@رور ‪ ،‬ال@@ذي كث@@ريا ما يس@@تب ّد به ‪ ،‬ويفسد‬
‫عليه وج @@وده ‪ ،‬ف @@إذا هو ـ وقد اس @@توى على ظهر الغ @@رور ـ ق @@وة غامشة ‪ ،‬وإعص @@ار جمن @@ون ‪،‬‬
‫وعاصفة هو جاء ‪ ،‬هتلك احلرث والنسل ‪ ،‬حىت إذا انطلقت إىل غايتها دارت حول نفسها‬
‫دورة ‪ ،‬مث هوت كما هتوى الصاعقة ىف الوحل والطني!‬
‫إن اإلس@ @@الم ليس@ @@تقبل كل ما يفتح به العلم للن@ @@اس من أس@ @@رار الوج@ @@ود ‪ ،‬ىف حف@ @@اوة‬
‫وإع@@زاز ‪ ،‬إذ ك@@ان ذلك ـ كما قلنا ـ هو الطريق املس@@تقيم إىل اهلل ‪ ،‬وهو ال@@ذي يقيم العق@@ول‬
‫والقل @ @@وب على اإلميان باهلل ‪ ،‬إميانا مص @ @ ّفى من كل ريب ‪ ،‬م @ @@ربأ من كل ض@ @@عف ‪ ..‬فه@ @@ذا‬
‫الكون هو كتاب مفتوح لكل ناظر ‪ ،‬وآيات اهلل املبثوثة ىف هذا الوجود ‪ ،‬هى مراد ألنظار‬
‫العلماء ‪ ،‬ومسبح خلواطرهم ومداركهم ‪..‬‬
‫‪990‬‬

‫وليس على أحد ح@@رج ىف أن ينظر ىف الك@@ون كيف يش@@اء ‪ ،‬ويس@@بح ىف الوج@@ود حيث يريد‬
‫‪ ..‬بل إن ه@ @ @@ذا الوج@ @ @@ود ال حيسن التعامل معه ‪ ،‬وال يقطف من جىن مثره الطيب ‪ ،‬إال أهل‬
‫العلم واملعرفة ‪ ،‬وأنه على ق@@در ما يبلغ اإلنس@@ان من العلم يك@@ون حظه من التلقي واالنتف@@اع‬
‫ضـ ِربُها‬
‫ـال نَ ْ‬ ‫هبذا اخلري املخب@@وء ىف ص@@در الك@@ون ‪ ..‬واهلل س@@بحانه وتع@@اىل يق@@ول ‪َ ( :‬وتِل َ‬
‫ْك اأْل َْمث ُ‬
‫َّاس َوما َي ْع ِقلُها إِاَّل الْعالِ ُمو َن) (‪ : 43‬العنكبوت)‪.‬‬
‫لِلن ِ‬
‫مرحى ب@العلم ‪ ،‬ومزي@دا من جه@اد العلم@اء ‪ ،‬ومن فتوح@اهتم ىف آف@اق‬ ‫ومرة أخرى ‪ّ ..‬‬
‫اجلاد لكشف أس@@راره ‪ ،‬وعلى ال@@رغم مما‬ ‫ه@@ذا الوج@@ود ‪ ،‬ال@@ذي على ال@@رغم من ه@@ذا الس@@عى ّ‬
‫يب@ @@ذل العلم@ @@اء ىف كل عصر ‪ ،‬وىف كل أمة من جه@ @@ود مض@ @@نية وتض@ @@حيات س@ @@خية ىف ه @@ذا‬
‫اجملال ـ ف@@إن اإلنس @@انية ما زالت على الش@@اطئ بعد ‪ ،‬مل تكد تبت@ ّ@ل أق @@دمها من حبر املعرفة ‪..‬‬
‫واهلل سبحانه وتعاىل يقول ‪َ ( :‬وما أُوتِيتُ ْم ِم َن ال ِْعل ِْم إِاَّل قَلِيالً) (‪ : 85‬االسراء)‪.‬‬
‫***‬
‫____________________________________‬

‫اآليات ‪ 6( :‬ـ ‪)14‬‬


‫ـل َش ـ ـ ْي ٍء قَـ ـ ِـد ٌير (‪َ @ @)6‬وأ َّ‬
‫َن‬ ‫ـق َوأَنَّهُ يُ ْح ِي ال َْمـ ـ ْـوتى َوأَنَّهُ َعلى ُكـ ـ ِّ‬
‫ْحـ ـ ُّ‬
‫َن اهللَ ُهـ ـ َـو ال َ‬ ‫(ذلِـ ـ َ‬
‫ـك بِ ـ ـأ َّ‬
‫ـاد ُل فِي ِ‬ ‫َّاس من يجـ ِ‬ ‫ِ‬ ‫َن اهلل يبع ُ ِ‬ ‫اعةَ آتِي ـةٌ ال ري ِ‬
‫اهلل‬ ‫ث َم ْن في الْ ُقبُــو ِر (‪َ @ )7‬وم َن الن ِ َ ْ ُ‬ ‫ب فيها َوأ َّ َ َ ْ َ‬ ‫سـ َ َ َ ْ َ‬ ‫ال َّ‬
‫ِ‬ ‫ضـ َّل َعن سـبِ ِ ِ ِ‬ ‫تاب منِي ٍر (‪ )8‬ثانِي ِعط ِْفـ ِـه لِي ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫يل اهلل لَــهُ في الـ ُّـدنْيا ـخ ْز ٌ‬
‫ي‬ ‫ْ َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫دى َوال ك ٍ ُ‬ ‫بغَْي ِر عل ٍْم َوال ُه ً‬
‫س بِظَالٍَّم لِل َْعبِيـ ِـد (‬ ‫ت يَـ َ َّ‬
‫ـداك َوأَن اهللَ ل َْي َ‬ ‫ـك بِما قَــد َ‬
‫َّم ْ‬ ‫ْح ِريـ ِـق (‪ )9‬ذلِـ َ‬ ‫ـذاب ال َ‬
‫يامة َعـ َ‬
‫ونُ ِذي ُقهُ يوم ال ِْق ِ‬
‫َْ َ َ‬ ‫َ‬
‫ف فَِإ ْن أَصابَهُ َخ ْي ٌر‬ ‫َّاس من يعب ُد اهلل َعلى حر ٍ‬ ‫ِ‬
‫َْ‬ ‫‪َ )10‬وم َن الن ِ َ ْ َ ْ ُ َ‬
‫‪991‬‬

‫ب َعلى َو ْج ِهـ ِـه َخ ِس ـ َر ال ـ ُّـدنْيا َواآْل ِخـ َرةَ ذلِ ـ َ‬


‫ـك ُهـ َـو الْ ُخ ْس ـرا ُن‬ ‫َن بِ ـ ِـه وإِ ْن أَص ـ ِ‬
‫ـاب ْتهُ ف ْتنَ ـةٌ ا ْن َقلَ َ‬
‫َ‬ ‫اط َْمـ أ َّ َ‬
‫الل الْبَ ِعي ـ ُد (‪)12‬‬ ‫ضـ ُ‬ ‫ض ـ ُّرهُ َوما ال َي ْن َفعُــهُ ذلِـ َ‬
‫ـك ُهـ َـو ال َّ‬ ‫اهلل ما ال يَ ُ‬‫ون ِ‬ ‫الْمبِين(‪ )11‬ي ـ ْدعُوا ِمن ُد ِ‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ُ ُ‬
‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫س ال َْعش ـ ُير (‪ @ )13‬إِ َّن اهللَ يُ ـ ْدخ ُل الذ َ‬
‫ين‬ ‫س ال َْمـ ْـولى َولَب ْئ َ‬ ‫ب م ْن َن ْفعــه لَب ْئ َ‬ ‫ض ـ ُّرهُ أَ ْـق َـر ُ‬
‫يَ ـ ْدعُوا ل ََم ْن َ‬
‫هار إِ َّن اهللَ َي ْف َع ُل ما يُ ِري ُد) (‪)14‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫آمنُوا و َع ِملُوا َّ ِ ِ‬
‫الصالحات َجنَّات تَ ْج ِري م ْن تَ ْحت َها اأْل َنْ ُ‬ ‫َ َ‬
‫____________________________________‬
‫التفسري ‪:‬‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫اعةَ آتِيَـةٌ‬
‫الس َ‬ ‫ْح ُّق َوأَنَّهُ يُ ْح ِي ال َْم ْوتى َوأَنَّهُ َعلى ُك ِّل َش ْي ٍء قَ ِد ٌير َوأ َّ‬
‫َن َّ‬ ‫َن اهللَ ُه َو ال َ‬‫ك بِأ َّ‬‫(ذلِ َ‬
‫ث َم ْن فِي الْ ُقبُو ِر)‪.‬‬ ‫ب فِيها َوأ َّ‬
‫َن اهللَ َي ْب َع ُ‬ ‫ال َريْ َ‬
‫اإلشارة هنا ‪ ،‬إىل هذا الع@@رض الرائع املعجز ‪ ،‬ال@ذي كشف عن آي@ات اهلل املبثوثة ىف‬
‫ه@ @ @ @@ذا الوج@ @ @ @@ود ‪ ،‬واليت تتجلى فيها عج@ @ @ @@ائب ق@ @ @ @@درة اهلل ‪ ،‬وحكمته ‪ ،‬وعلمه ‪ ،‬وذلك فيما‬
‫حتدثت به اآلية السابقة عن خلق اإلنسان ‪ ،‬وتط@@وره ىف اخللق ‪ ،‬من ت@@راب مث من نطفة ‪ ،‬مث‬
‫ص@با ‪ ،‬والش@@باب ‪،‬‬ ‫من ‪ ،‬علقة ‪ ،‬مث من مض@@غة خملّقة وغري خملقة ‪ ،‬مث امليالد ‪ ،‬والطفولة ‪ ،‬وال ّ‬
‫والكهولة والش@ @@يخوخة ‪ ،‬وما بعد الش@ @@يخوخة ‪ ..‬ف@ @@ذلك البي@ @@ان ‪ ،‬إمنا هو ل@ @@ريى منه الن@ @@اس‬
‫احلق ‪ ،‬وما سواه باطل وضالل ‪ ،‬وأنه ـ سبحانه ـ حيىي املوتى‬ ‫دالئل اإلميان بأن اهلل هو اإلله ّ‬
‫‪ ،‬وأنه على كل ش@@ىء ق@@دير ‪ ،‬ال يعج@@زه ش@@ىء ‪ ،‬وال تقف أم@@ام قدرته ح@@دود أو س@@دود ‪..‬‬
‫ف @@إذا أخرب ـ س @@بحانه ـ أن الس @@اعة آتية ‪ ،‬ف @@ذلك وعد ح @ ّ@ق ‪ ،‬ال ب@ @ ّد من أن يتحقق ‪ ،‬وليس‬
‫ملؤمن باهلل ه @@ذا اإلميان ال @@ذي ق @@ام على النظر ىف عج @@ائب ص @@نع اهلل ـ ليس ملؤمن عندئذ أن‬
‫يس @ @ @@أل بعد ه @ @ @@ذا ‪ ،‬عن إمكانية البعث ‪ ،‬وعن الص @ @ @@ورة اليت يك @ @ @@ون عليها ‪ ..‬وإمنا عليه أن‬
‫يؤمن إميانا مطلقا بأن الساعة آتية ‪ ،‬وأن اهلل يبعث من‬
‫‪992‬‬

‫ىف القب@ @ @@ور ‪ ..‬أما مىت ت@ @ @@أتى ف@ @ @@ذلك علمه عند اهلل ‪ ..‬وأما كيف يك@ @ @@ون املبعث ف@ @ @@ذلك إىل‬
‫قدرة اهلل!!‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫دى َوال كِ ٍ‬
‫تاب ُمنِي ٍر)‪.‬‬ ‫ِ ِ ِِ ِ‬ ‫( َوِم َن الن ِ‬
‫َّاس َم ْن يُجاد ُل في اهلل بغَْي ِر عل ٍْم َوال ُه ً‬
‫حت ّدثت اآلي@ @ @@ات الس @ @ @@ابقة عن ص@ @ @@نف من اجملادلني بغري علم حيث يتص@ @ @ @ ّدى الواحد‬
‫منهم جبهله ‪ ،‬لكل رأى ‪ ،‬وي@@دخل ىف كل قض@@ية ‪ ،‬آخ@@ذا الطّ@@رف املنح@@رف منها ‪ ،‬دون أن‬
‫يك @@ون له رأى نظر فيه بعقله ‪ ،‬وه @@دى إليه بتفك @@ريه‪ .‬وإمنا هو اخلالف عن ه @@وى وعمى ‪،‬‬
‫ليثبت وجوده أمام نفسه ‪ ،‬ويعلن عن ذاته بأنه من أص@@حاب ال@@رأى ‪ ،‬وأنه إذا ك@@ان للعلم@اء‬
‫ما يقولون ‪ ،‬فإن له هو ما يقول!!‬
‫وىف ه @ @@ذه اآلية أص@ @@ناف من الن@ @@اس ‪ ،‬جيادلون بغري علم من أنفس @ @@هم ‪ ،‬أو هبدى من‬
‫غ@ريهم ‪ ،‬أو عن كت@@اب ص@حيح ىف أي@@ديهم ‪ ،‬ليجمع الواحد منهم ه@@ذه الض@الالت كلها ‪..‬‬
‫فيكون جاهال ىف نفسه ‪ ،‬مث يك@@ون متأبّيا على من ي@@دعوه إىل العلم ‪ ،‬مث يك@@ون مع ه@@ذا غري‬
‫ناظر ىف كتاب صحيح ‪ ..‬ومع هذا فهو جيادل ىف احلق ‪ ،‬ويدفعه بيديه دفعا‪.‬‬
‫@ردد كلم@@ات مسعها من غ@@ريه‬ ‫وقد جيادل أح@@دهم وهو جاهل ال علم عن@@ده ‪ ،‬ولكنّه ي@ ّ‬
‫دون أن يعقلها ‪ ،‬ويتع@ @@رف إىل ما فيها من ه@ @@دى وض@ @@الل ‪ ..‬مث يتخذ من ه@ @@ذه الكلم@ @@ات‬
‫م@@ادة للج@@دل ‪ ..‬وقد يس@@تند أح@@دهم ىف جدله إىل كت@@اب قد دخل عليه االف@@رتاء والك@@ذب ‪،‬‬
‫فاختلط فيه احلق بالباطل ‪ ..‬وىف ذلك تعريض بأهل الكتاب ـ وخاصة اليهود ـ ال@@ذين زيّف@@وا‬
‫وجياجونه مبا فيها من أحك @@ام وأخب @@ار ‪ ،‬وه @@ذا ما‬ ‫ّ‬ ‫@ىب جيادلونه ‪،‬‬
‫الت @@وراة ‪ ،‬مث اس @@تقبلوا هبا الن @ ّ‬
‫تاب ُمنِي ٍر) ‪ ..‬فالكتاب الذي كان منحرفا ‪ ،‬غري مل@@تزم طريق‬ ‫يشري إليه قوله تعاىل ‪َ ( :‬وال كِ ٍ‬
‫احلق ‪ ،‬كان قوة عاتية من قوى الضالل والفساد‪ .‬إنه يقود إىل الضالل والظالم ‪..‬‬
‫‪993‬‬

‫قوله تعاىل ‪:‬‬


‫ـذاب‬ ‫اهلل لَ ــهُ فِي ال ـ ُّـدنْيا ِـخـ ْزي ونُ ِذي ُقــهُ يــوم ال ِْق ِ‬
‫يل ِ‬ ‫(ث ــانِي ِعط ِْفـ ِـه لِي ِ‬
‫ضـ ـ َّل َع ْن َسـ ـبِ ِ‬
‫يامــة َع ـ َ‬
‫ََْ َ‬ ‫ٌَ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫ْح ِر ِيق)‪.‬‬
‫ال َ‬
‫أي أن ه@@ذا اجملادل اجله@@ول ‪ ،‬جيادل ‪ ،‬وهو ث@@ان عطفه ‪ ،‬أي مائل جبنبه ‪ ،‬تيها وك@@ربا‬
‫احلق ‪ ،‬وهو مقبل عليها بوجهه ‪ ،‬بل يعطيها ظه @@ره ‪ ،‬أو‬ ‫‪ ،‬واس @@تنكافا عن أن يس @@مع دع @@وة ّ‬
‫يلقاها جبنبه ‪ ،‬إمعانا ىف الكرب ‪ ،‬ومبالغة ىف العناد‪.‬‬
‫اهلل) ـ إشارة إىل أنه بفعله هذا قد أراد أم@@را ‪ ،‬هو‬ ‫يل ِ‬ ‫ض َّل َع ْن َسبِ ِ‬ ‫وىف قوله تعاىل ‪( :‬لِي ِ‬
‫ُ‬
‫إضالل نفسه ‪ ،‬وإبعادها عن اخلري ‪ ..‬إنه حيسب أنه يكيد هبذا ملن ي@@دعوه إىل اهلل ‪ ،‬وهو ىف‬
‫الواقع إمنا يكيد لنفسه ‪ ،‬ويوردها موارد اهلالل ‪ ،‬كما يورد الذين اتبعوه هذا املورد‪.‬‬
‫@ىب واملؤم @@نني ‪ ،‬ومن خذالنه‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫(لَ ــهُ في ال ـ ُّـدنْيا خـ ْز ٌي) وذلك مبا ي @@رى من إع @@زاز اهلل للن @ ّ‬
‫@ال مظ@اهرا هلم ‪ ،‬وحماربا‬ ‫سبحانه وإذالله جلبهة الك@افرين واملش@ركني ‪ ،‬ال@ذين ك@ان ه@ذا الض ّ‬
‫ىف جبهتهم ‪..‬‬
‫ْح ِر ِيق) وكما أنه مل يكن يقع ىف حسابه أن جيىء اليوم‬ ‫(ونُ ِذي ُقهُ يوم ال ِْق ِ‬
‫ذاب ال َ‬ ‫يامة َع َ‬ ‫َْ َ َ‬ ‫َ‬
‫ال@@ذي تنه@@ار جبهة الكفر ‪ ،‬وتتع ّفر فيه جب@@اه الك@@افرين ب@@الرتاب ‪ ،‬وقد ج@@اء ه@@ذا الي@@وم ال@@ذي‬
‫أخ @ @ @@زاه وأذله ـ ك @ @ @@ذلك مل يكن يقع ىف تق @ @ @@ديره أن يبعث ‪ ،‬وأن جيىء ي @ @ @@وم القيامة ‪ ،‬وأن‬
‫حياسب على ما ق@ @ @@دم من آث@ @ @@ام ـ أال فليعلم أن ه@ @ @@ذا الي@ @ @@وم آي@ @ @@ات ال ريب فيه ‪ ،‬وس@ @ @@يلقى‬
‫العذاب املهني ىف اآلخرة ‪ ،‬كما لقى اخلزي واهلوان ىف الدنيا ‪..‬‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫َن اهلل لَيس بِظَاَّل ٍم لِلْعبِ ِ‬ ‫(ذلِ َ‬
‫يد)‪.‬‬ ‫َ‬ ‫داك َوأ َ ْ َ‬
‫ت يَ َ َّ‬ ‫ك بِما قَد َ‬
‫َّم ْ‬
‫‪994‬‬

‫أي أن ذلك العذاب الذي يساق إليه هذا الض@@ال وأمثاله ‪ ،‬إمنا هو بس@@بب ما ق@@دمت‬
‫َّ‬
‫س‬‫يداه من سوء ‪ ،‬فوجد ه@@ذا الس@@وء حاض@@را ‪ ،‬ينتظ@@ره على مش@@ارف جهنم ‪َ ( ..‬وأَن اهللَ ل َْي َ‬
‫ين أَسا ُؤا بِما َع ِملُوا‬ ‫يد) ‪ ..‬بل جيزيهم مبا عملوا من حسن أو سوء ‪( :‬لِيج ِز َّ ِ‬ ‫بِظَاَّل ٍم لِلْعبِ ِ‬
‫ي الذ َ‬ ‫َْ َ‬ ‫َ‬
‫ويج ِز َّ ِ‬
‫ْح ْسنَى) (‪ : 31‬النجم)‪.‬‬ ‫سنُوا بِال ُ‬
‫َح َ‬
‫ين أ ْ‬ ‫ي الذ َ‬ ‫ََ ْ َ‬
‫س بِظَاَّل ٍم لِل َْعبِي ـ ـ ـ ِـد) ـ‬ ‫َّ‬
‫وىف نفى املبالغة ىف الظلم عن اهلل ىف قوله تع@ @ @ @@اىل ‪َ ( :‬وأَن اهللَ ل َْي َ‬
‫إش @@ارة إىل أن ما يلقى الض @@الون ‪ ،‬واآلمثون من ع @@ذاب ىف اآلخ @@رة ‪ ،‬ج @@زاء ما عمل @@وا ـ هو‬
‫عذاب شديد ‪ ،‬وبالء عظيم ‪ ،‬مل يعرفه الناس ىف حياهتم الدنيا ‪ ..‬وحىت أن الناظر إىل س@@وء‬
‫ه@@ذا الع@@ذاب ـ ليس@@تكثره ‪ ،‬وي@@رى أن ال ذنب ـ وإن عظم ـ يس@@تحق به ص@@احبه بغض ه@@ذا‬
‫الع @ @@ذاب ‪ ،‬وحىت ليقع ىف نفسه أن ظلما ش@ @@ديدا وقع على ه@ @@ذا اإلنس @ @@ان املنك@ @@ود ‪ ،‬ال@ @@ذي‬
‫يش@@وى بن@@ار جهنم ‪ ،‬هك@@ذا على م@@دى الس@@نني وال@@دهور ‪ ..‬ال ميوت فيها وال حييا ‪ ..‬وكال‬
‫‪ ،‬فإنه ال ظلم ‪ ،‬وال مبالغة ىف ظلم ‪ ،‬وإمنا هو احلق ‪ ،‬والع@@دل ‪ ،‬وإن ك@@ان ع@@ذاب الس@@عري ‪،‬‬
‫واخللود ىف هذا العذاب ‪..‬‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫ـاب ْتهُ فِ ْتنَ ـةٌ‬ ‫ف فَ ـِإ ْن أَصــابهُ َخيــر اطْمـ أ َّ ِ‬ ‫َّاس من يعب ـ ُد اهلل َعلى حــر ٍ‬ ‫ِ‬
‫َن بِــه َوإِ ْن أَص ـ َ‬ ‫َ ٌْ َ‬ ‫َْ‬ ‫( َوم َن الن ِ َ ْ َ ْ ُ َ‬
‫ين)‪.‬‬ ‫ِ‬
‫ك ُه َو الْ ُخ ْسرا ُن ال ُْمب ُ‬‫الدنْيا َواآْل ِخ َر َة ‪ ..‬ذلِ َ‬
‫ب َعلى َو ْج ِه ِه َخ ِس َر ُّ‬ ‫ا ْن َقلَ َ‬
‫وهذا صنف آخر من الناس ‪..‬‬
‫وهذا الصنف ‪ ،‬يقف على مفارق الطريق بني اإلميان والكفر ‪ ..‬يضع إح@@دى رجليه‬
‫على طريق اإلميان ‪ ،‬ويضع األخرى على طريق الكفر ‪ ..‬إنه‬
‫‪995‬‬

‫يعبد اهلل على حرف ‪ ،‬أي على جانب واحد ‪ ،‬دون أن يعطى اهلل وجوده كلّه‪ .‬فإن أص@@ابه‬
‫ومسته عافية ‪ ،‬اطمأن ‪ ،‬ووضع رجليه معا على طريق اإلميان ‪..‬‬ ‫ىف دنياه خري ّ‬
‫ب َعلى َو ْج ِهـ ـ ـ ِـه) أي‬ ‫وإن أص@ @ @ @@ابه ش@ @ @ @@ىء ابتلى به ىف ماله ‪ ،‬أو ول@ @ @ @@ده أو نفسه (ا ْن َقلَ َ‬
‫أعطى اإلميان ظهره ‪ ..‬وأنكر اهلل ‪ ،‬وتن ّكر له ‪ ،‬ونسى نعمته عليه ‪ ،‬وإحسانه إليه‪.‬‬
‫وه@@ذا نف@@اق مع اهلل ‪ ،‬أقبح وجها ‪ ،‬وأشد نك@@را من النف@@اق ال@@ذي يعيش به املن@@افقون‬
‫ىف الناس ‪ ..‬إنه مكر باهلل ‪ ،‬واستخفاف به‬
‫ـ وىف قوله تع@@اىل ‪َ ( :‬خ ِسـ َر الـ ُّـدنْيا َواآْل ِـخ َرةَ) إش@@ارة إىل أن ه@@ذا النف@@اق مع اهلل يقضى‬
‫على ص@@احبه خبس@@ران ال@@دنيا واآلخ@@رة مجيعا ‪ ..‬فهو قد خسر ال@@دنيا ‪ ،‬ألن ما ابتاله اهلل ‪ ،‬ال‬
‫يدفعه عنه ه@ @ @ @@ذا الكفر باهلل ‪ ،‬ال@ @ @ @@ذي لقى به ابتالء اهلل له ‪ ..‬وهو قد خسر اآلخ@ @ @ @@رة ‪ ،‬ألنه‬
‫سيلقى اهلل على كفره هذا ‪ ،‬وللكافرين عذاب أليم‪.‬‬
‫ين) أي اخلس@ @@ران العظيم الواضح ‪ ،‬ال@ @@ذي‬ ‫ِ‬ ‫وقوله تع@ @@اىل ‪( :‬ذلِـ ـ َ‬
‫ـك ُهـ ـ َـو الْ ُخ ْس ـ ـرا ُن ال ُْمب ُ‬
‫ليس فيه ش@@بهة ‪ ..‬إذ ك@@انت خس@@ارة ال@@دنيا فيه حمققة ‪ ،‬ألهنا وقعت فعال ‪ ،‬ولو ك@@ان مؤمنا‬
‫باهلل ‪ ،‬لوجد ىف التس@@ليم له والرضا بقض@@ائه ‪ ،‬ع@@زاء خيفف من مص@@ابه ‪ ،‬ويه@ ّ@ون من مص@@يبته‬
‫‪ ..‬وخسارة اآلخرة س@تتحقق أيضا ‪ ،‬ألهنا واقعة ال شك فيها ‪ ،‬إذ هك@ذا س@يعلم ه@@ذا ال@ذي‬
‫يعبد اهلل على حرف ‪ ،‬وإن فتنه االبتالء ‪ ،‬وأضلّه عن سواء السبيل ‪..‬‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫َّالل الْبَ ِعي ُد)‪.‬‬
‫ك ُه َو الض ُ‬‫ض ُّرهُ َوما ال َي ْن َفعُهُ ذلِ َ‬ ‫اهلل ما ال يَ ُ‬ ‫ون ِ‬ ‫(ي ْدعُوا ِمن ُد ِ‬
‫ْ‬ ‫َ‬
‫‪996‬‬

‫@ال ‪ ،‬ال@ذي يعبد اهلل على ح@رف ‪ ،‬إذا وىّل وجهه إىل غري اهلل ‪ ،‬حني‬ ‫أي أن ه@ذا الض ّ‬
‫يبتلى من اهلل بضر ـ فإمنا ي @@زداد ض @@الال إىل ض @@الل ‪ ،‬وابتالء إىل ابتالء ‪ ،‬ألنه يف @ ّ@ر من وجه‬
‫ضرا وال نفعا ‪..‬‬ ‫اهلل ‪ ،‬ويفزع من بالئه إىل من ال ميلك ّ‬
‫إنه جهد ضائع ‪ ،‬وعمل فاسد ‪ ..‬وذلك هو الضالل البعيد ‪..‬‬
‫وىف تق@@دمي الض@ ّ@ر على النّفع ‪ ،‬إش@@ارة إىل أن ه@@ذه املعب@@ودات اليت تعبد من دون اهلل ‪،‬‬
‫ال متلك الض @ ّ@ر ‪ ،‬ال @@ذي ميلكه هلل وح @@ده ‪ ،‬وال @@ذي يف @ ّ@ر منه ه @@ذا الض @@ال ال @@ذي إن ش @@اء اهلل‬
‫ض@@اعف عليه البالء ‪ ،‬ورم@@اه بالض@ ّ@ر بعد الض@ ّ@ر ‪ ..‬ففى ه@@ذا هتديد هلذا الض@@ال ‪ ،‬أن يأخ@@ذه‬
‫اهلل ‪ ،‬بابتالء آخر ‪ ،‬يتبع هذا االبتالء الذي ابتلى به ‪ ،‬وكفر باهلل من أجله ‪..‬‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫س ال َْع ِش ُير)‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ض ُّرهُ أَقْر ُ ِ ِ ِ ِ‬
‫س ال َْم ْولى َولَب ْئ َ‬
‫ب م ْن َن ْفعه لَب ْئ َ‬ ‫َ‬ ‫(يَ ْدعُوا ل ََم ْن َ‬
‫أي أن هذا الض@ال ال@ذي دعا غري اهلل لكشف ض ّ@ره ‪ ،‬إمنا ي@دعو من يض ّ@ر وال ينفع ‪،‬‬
‫وفيه يصدق قول القائل ‪:‬‬
‫املس@ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @@تجري بعم@ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @@رو عند كربته ‪  ‬كاملس@ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @@تجري من الرمض@ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @@اء بالنّ@ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @@ار‬
‫‪ ‬‬ ‫‪ ‬‬

‫فااللتج @ @ @ @ @ @@اء إىل غري اهلل ‪ ،‬مض @ @ @ @ @ @@لة ‪ ،‬إذ ال ميلك أحد معه من األمر ش @ @ @ @ @ @@يئا ‪َ ( ..‬وإِ ْن‬
‫ض ـ ـلِ ِه) (‪: 107‬‬ ‫اد لَِف ْ‬ ‫ض ـ ـ ٍّر فَال كا ِش ـ ـ َ‬
‫ف لَـ ــهُ إِاَّل ُهـ ـ َـو َوإِ ْن يُ ـ ـ ِر ْد َك بِ َخ ْي ـ ـ ٍر فَال َر َّ‬ ‫ك اهللُ بِ ُ‬
‫س ْس ـ ـ َـ‬
‫يَ ْم َ‬
‫يونس)‪.‬‬
‫وه@ @@ؤالء ال@ @@ذين يلجأ إليهم املكروب@ @@ون ‪ ،‬من أص@ @@نام ‪ ،‬أو حي@ @@وان ‪ ،‬أو إنس@ @@ان ‪ ،‬إمنا‬
‫ض@ ّ@رهم أق@@رب وأك@@ثر من نفعهم ‪ ..‬ذلك أهنم إن وجد فيها عاب@@دوهم بعض الراحة النفس@@ية‬
‫مبا يداعب خياهلم من آمال كاذبة ‪ ،‬وهم يفزعون إليهم ‪،‬‬
‫‪997‬‬

‫ويض@@رعون حتت أق@@دامهم ‪ ،‬ف@@إن األمر س@@ينجلى عن خيبة ‪ ،‬وينكشف عن حس@@رة إذ ك@@ان‬
‫قد ف@ @@اهتم أن يعمل@ @@وا جه@ @@دهم ىف عالج البالء ال@ @@ذي وقع هبم ‪ ،‬أو أن يوطّن@ @@وا النفس على‬
‫احتماله ‪ ..‬ف@@إذا انكشف األمر عن عجز ه@@ؤالء املعب@@ودين عن م @ ّد الع@@ون ىف ه@@ذا املوقف ‪،‬‬
‫كان اخلطب أفدح ‪ ،‬واملصيبة أعظم ‪..‬‬
‫وهك@@ذا ش@@أن كثري من ال@@ذين يفزع@@ون إىل األض@@رحة ‪ ،‬ويتعلق@@ون بأبواهبا ‪ ،‬وأس@@تارها‬
‫‪ ،‬ويتمس@ @ @@حون بأعتاهبا وتراهبا ‪ ،‬كلما م ّس @ @ @هم ضر ‪ ،‬أو ك@ @ @@رهبم ك@ @ @@رب ‪ ..‬ف@ @ @@رتاهم هن @ @@اك‬
‫يقض @@ون أي @@امهم ولي @@اليهم ىف ترديد عب @@ارات الرج @@اء ‪ ،‬وطلب الغ @@وث ‪ ،‬غري ن @@اظرين إىل ما‬
‫ط @ @ @@رفهم من أح @ @ @@داث ‪ ،‬وما ج @ @ @ ّ@ل هبم من ض @ @ @ ّ@ر ‪ ،‬فال يعاجلونه باجل ّد والعمل ‪ ،‬وال يلقونه‬
‫باألسباب العاملة ىف دفعه ‪ ،‬أو ختفيف أثره ‪ ،‬منتظرين ه@@ذه الق@وى اخلفية اليت يلمحوهنا من‬
‫وراء تلك األض @@رحة أن تق @@وم عنهم مبا ك @@ان جيب أن يقوم @@وا هم به ‪ ،‬وأن تت @@وىل عنهم ما‬
‫كان ينبغى أن يتولوه هم بأنفسهم ‪..‬‬
‫ومن غري دخ@ @@ول أو تع@ @ ّ@رض إىل ما تض@ @ ّ@م ه@ @@ذه األض@ @@رحة من ص@ @@الح وتق@ @@وى فيمن‬
‫أودع @ @@وا فيها من عب @ @@اد اهلل الص @ @@احلني ‪ ..‬ومن غري اع @ @@رتاض أو تع @ @@رض ملا وألولي @ @@اء اهلل من‬
‫كرام@ @ @ @@ات ىف ال@ @ @ @@دنيا‪ .‬ومن غري حبث أو ج@ @ @ @@دل فيما قد يك@ @ @ @@ون أو ال يك@ @ @ @@ون من اتص @ @ @@ال‬
‫كراماهتم ىف حي@اهتم ‪ ،‬وبعد م@وهتم ـ ف@إن ال@ذي يقضى به العقل ‪ ،‬وتوجيه س@نن احلي@اة ‪ ،‬هو‬
‫أن تع@@اجل األم @@ور بأس@@باهبا ‪ ،‬وأن ي @@ؤتى إليها من أبواهبا ‪ ،‬وأن يلقاها األحي@@اء بواقع احلي@@اة ‪،‬‬
‫وأاّل يس@@لموها إىل تلك الغيبيّ@@ات اليت ال ي@@رون جمرياهتا ‪ ،‬وال ي@@درون ما ت@@أتى وما ت@@دع من‬
‫أمور ‪..‬‬
‫ه @@ذا ما يقضى به العقل ‪ ،‬وما تفرضه س@@نن احلي@@اة ‪ !..‬وهو عني ما يقضى به اإلميان‬
‫باهلل ‪ ..‬حيث أوجب اإلميان على املؤم@ @ @@نني أن يعمل@ @ @@وا ‪ ،‬وأن يواجه@ @ @@وا احلي@ @ @@اة بعق@ @ @@وهلم ‪،‬‬
‫وحواسهم ‪ ،‬وقواهم العقلية واجلسدية معا ‪ ،‬وأن يتقبلوا بعد هذا‬ ‫ّ‬
‫‪998‬‬

‫ما يعطيهم جه @@دهم من مثر قليل أو كثري ‪ ،‬ف @@إن أص @@اهبم خري محدوا اهلل وش @@كروا له ‪ ،‬وإن‬
‫الضر منه ‪!..‬‬ ‫ضر استعانوا اهلل بالصرب عليه ‪ ،‬والتمسوا العافية وكشف ّ‬ ‫أصاهبم ّ‬
‫هذا هو سبيل املؤمنني ‪ ،‬الذين ميتثل@@ون أمر اهلل س@@بحانه بالعمل ‪ ،‬كما يق@@ول س@@بحانه‬
‫‪َ ( :‬وقُ ـ ـ ِـل ا ْع َملُ ـ ــوا) مث يس@ @ @@لمون أم@ @ @@ورهم كلّها له س@ @ @@بحانه ‪ ..‬غري ن@ @ @@اظرين إىل غ@ @ @@ريه ‪ ،‬أو‬
‫طامعني ىف غري فضل من فضله أو رمحة من رمحته ‪@!..‬‬
‫ه@ @@ذا وقد أش@ @@رنا إىل ه@ @@ذا ىف مبحث خ@ @@اص ‪ ،‬حتت عن@ @@وان ‪« :‬الوس@ @@يلة والتوس@ @@ل»‬
‫فلريجع إليه من شاء (‪.)1‬‬
‫ذم هلؤالء املعب@ @ @ @@ودين ال من‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫س ال َْعشـ ـ ـ ـ ُير) هو ّ‬ ‫وىف قوله تع@ @ @ @@اىل ‪( :‬لَب ْئ َ‬
‫س ال َْمـ ـ ـ ْـولى َولَب ْئ َ‬
‫حيث ذواهتم وأشخاص@@هم ‪ ،‬وإمنا من حيث الع@@ون ال@@ذي ينتظ@@ره العاب@@دون منهم ‪ ..‬فهم ال‬
‫ـاء ُك ْم‬ ‫ميلك@@ون هلم من اهلل ش@@يئا ‪ ،‬كما يق@@ول س@@بحانه وتع@@اىل ‪( :‬إِ ْن تَ ـ ْدعُ ُ‬
‫وه ْم ال يَ ْس ـ َمعُوا ُدعـ َ‬
‫@ذم متجه إىل الثم@@رة املرج@ ّ@وة من ه@@ؤالء‬ ‫ِ‬
‫َولَـ ْـو َسـمعُوا َما ا ْسـتَجابُوا لَ ُك ْم) (‪ : 14‬ف@@اطر) ‪ ..‬فال@ ّ‬
‫املعب @@ودين ‪ ..‬إهنا س @@راب ينخ @@دع له أولئك ال @@ذين تتعلق أبص @@ارهم به ‪ ،‬وتنعقد آم @@اهلم عليه‬
‫‪..‬‬
‫واملوىل ‪ :‬هو القريب ‪ ،‬والسيد ‪ ..‬الذي يرجى عونه ونصرنه‪.‬‬
‫والعشري ‪ :‬املعاشر من أهل وأقارب ‪..‬‬
‫وجيوز أن يك@@ون ال@@ذم متوجها إىل املعب@@ودين ‪ ،‬من أص@@نام أو ن@@اس ي@@دعون الن@@اس إىل‬
‫عبادهتم ‪..‬‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬انظر الكتاب الثالث من التفسري القرآىن للقرآن‪.‬‬
‫‪999‬‬

‫قوله تعاىل ‪:‬‬


‫ـار إِ َّن‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫(إِ َّن اهلل ي ـ ْد ِخل الَّ ِذين آمنُ ــوا و َع ِملُ ــوا ال َّ ِ ِ‬
‫ص ـالحات َجنَّات تَ ْجـ ِري م ْن تَ ْحت َها اأْل َنْه ـ ُ‬ ‫َُ ُ َ َ َ‬
‫اهللَ َي ْف َع ُل ما يُ ِري ُد)‪.‬‬
‫هو ص@ @@ورة مقابلة للمش@ @@ركني والك@ @@افرين ‪ ،‬وما حص@ @@لوه من التعبد لغري اهلل ‪ ..‬فقد‬
‫كان جزاؤهم اخلزي ىف الدنيا ‪ ،‬والعذاب األليم ىف اآلخرة ‪..‬‬
‫أما ال@@ذين تعب@@دوا هلل ‪ ،‬وأعط@@وه والءهم ‪ ،‬ودان@@وا له بالطاعة ‪ ،‬وتقرب@@وا إليه باألعم@@ال‬
‫الص@@احلة ‪ ،‬فقد رحبوا رحبا عظيما ‪ ،‬حيث أع@@زهم اهلل ىف ال@@دنيا ‪ ،‬وأن@@زهلم ىف اآلخ@@رة من@@ازل‬
‫الرضوان ‪ ،‬ىف جنات جترى من حتتها األهنار‪.‬‬
‫ِ‬
‫ـل ما يُ ِري ـ ـ ُد) إش@ @@ارة إىل س@ @@لطان اهلل وقدرته ومش@ @@يئته‬ ‫وىف قوله تع@ @@اىل ‪( :‬إ َّن اهللَ َي ْف َعـ ـ ُ‬
‫املطلقة ‪ ،‬وأنه يفعل ما يريد ‪ ،‬دون مع @ @ @@رتض أو مع @ @ @@وق ‪ ،‬أو معقب@ ‪ ..‬وىف ه @ @ @@ذا تع @ @ @@ريض‬
‫باآلهلة اليت يعب@ @ @ @@دها الض@ @ @ @@الون من دون اهلل ‪ ،‬حيث هى ىف قيد العجز ‪ ،‬ال متلك ض@ @ @ @ ّ@را وال‬
‫نفعا ‪..‬‬
‫____________________________________‬

‫اآليات ‪ 15( :‬ـ ‪)18‬‬


‫سـ ِ‬ ‫ب إِلَى ال َّ‬ ‫س ـبَ ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫ماء ثُ َّم‬ ‫ص ـ َرهُ اهللُ في الـ ُّـدنْيا َواآْل ـخ َرة َفلْيَ ْمـ ُد ْد ب َ‬ ‫( َم ْن كــا َن يَظُ ُّن أَ ْن ل ْ‬
‫َن َي ْن ُ‬
‫ـدي‬ ‫َن اهلل ي ْـه ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫ك أَْن َزلْناهُ آيات َبيِّنــات َوأ َّ َ َ‬ ‫ظ (‪َ )15‬و َكذلِ َ‬ ‫لَْي ْقطَ ْع َفلَْي ْنظُْر َه ْل يُ ْذ ِهبَ َّن َك ْي ُدهُ ما يَ ِغي ُ‬
‫َّ ِ‬ ‫ـادوا وال َّ ِِ‬ ‫َّ ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫ين‬
‫ـوس َوالذ َ‬ ‫ين َوالنَّصـ ــارى َوال َْم ُجـ ـ َ‬ ‫ص ـ ـا ب ئ َ‬ ‫ين هـ ـ ُ َ‬ ‫آمنُـ ــوا َوالذ َ‬ ‫ين َ‬ ‫َم ْن يُ ِري ـ ـ ُد (‪ @ @ )16‬إِ َّن الذ َ‬
‫صل بينهم يوم ال ِْقيام ِـة إِ َّن اهلل على ُك ِّ ٍ‬ ‫ِ‬
‫َن اهللَ‬ ‫ـل َشـ ْيء َشـ ِهي ٌد (‪ @)17‬أَل ْ‬
‫َم َت َـر أ َّ‬ ‫َ َ‬ ‫أَ ْش َر ُكوا إِ َّن اهللَ َي ْف ُ َ ْ َ ُ ْ َ ْ َ َ‬
‫س َوالْ َق َم ُر‬ ‫ض َو َّ‬
‫الش ْم ُ‬ ‫ماوات َو َم ْن فِي اأْل َْر ِ‬
‫الس ِ‬ ‫يَ ْس ُج ُد لَهُ َم ْن فِي َّ‬
‫‪1000‬‬

‫ـذاب َو َم ْن يُِه ِن‬ ‫َّاس و َكثِــير حـ َّ ِ‬ ‫اب و َكثِـ ِ‬ ‫والنُّجــوم وال ِ‬


‫ـق َعلَْيــه ال َْعـ ُ‬ ‫ـير م َن الن ِ َ ٌ َ‬
‫َّو ُّ َ ٌ‬ ‫ـال َوال َّ‬
‫ش ـ َج ُر َوالــد َ‬ ‫ْجبـ ُ‬ ‫َ ُ َُ‬
‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫اهللُ فَما لَهُ م ْن ُم ْك ِرم إِ َّن اهللَ َي ْف َع ُل ما يَشاءُ) (‪)18‬‬
‫____________________________________‬
‫التفسري ‪:‬‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫سـ ِ‬‫ب إِلَى ال َّ‬
‫س ـبَ ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫ماء ثُ َّم‬ ‫ص ـ َرهُ اهللُ في الـ ُّـدنْيا َواآْل ـخ َرة َفلْيَ ْمـ ُد ْد ب َ‬ ‫( َم ْن كــا َن يَظُ ُّن أَ ْن ل ْ‬
‫َن َي ْن ُ‬
‫لَْي ْقطَ ْع َفلَْي ْنظُْر َه ْل يُ ْذ ِهبَ َّن َك ْي ُدهُ ما يَ ِغي ُظ)‪.‬‬
‫ه @@ذه اآلية تع @@رض جتربة عملية ‪ ،‬ت @@دعو إليها أولئك ال @@ذين يعب @@دون اهلل على ح @@رف‬
‫فيؤمنون به إن أصاهبم خري ‪ ،‬ويكفرون به إن مسهم ضر ‪..‬‬
‫وه@ @ @ @ @@ذه التجربة وإن مل ميكن إجراؤها إج@ @ @ @ @@راء واقعيا ‪ ،‬فإنه ميكن أن متثّل وتتص@ @ @ @@ور‬
‫تصورا ‪..‬‬
‫وهو أن ميد اإلنس@ @@ان س@ @@ببا ‪ ،‬أي حبال إىل الس@ @@ماء وأن يتخذ من ه@ @@ذا احلبل س @ @لّما‬
‫يص@@عد به إىل أعلى ‪ ،‬وي@@رقى إىل من@@ازل الع@@زة والس@@يادة ـ ف@@إن فعل ه@@ذا ‪ ،‬وحدثته نفسه أن‬
‫ه@ @@ذا ال حيقق له ش@ @@يئا مما يريد ‪ ،‬فليقطع ه@ @@ذا احلبل ‪ ،‬مث لينظر هل ينفعه كي@ @@ده ‪ ..‬ه@ @@ذا ىف‬
‫قطع احلبل؟ إنه قطع السبب الذي كان من املمكن أن يص@@عد به ‪ ،‬وإنه ليس من وس@@يلة إىل‬
‫ذلك إال مبثل ه@ @ @ @ @@ذا احلبل املم @ @ @ @ @@دود ‪ ..‬وأما وقد قطع احلبل ‪ ،‬فإنه س@ @ @ @ @@يهوى إىل األرض ‪،‬‬
‫ويسقط جثة هامدة الصقا باألرض ‪ ،‬ال يربحها أبدا ‪..‬‬
‫والصورة ـ كما قلنا ـ قائمة على التمثيل ‪ ،‬والتخيل ‪..‬‬
‫فالذى يؤمن باهلل ‪ ،‬هو كمن م ّد حبال بينه وبني ربه ‪ ،‬وأمسك بالسبب الذي‬
‫‪1001‬‬

‫يس@ @ @@تطيع به أن ين@ @ @@ال من اهلل ما وع@ @ @@ده ‪ ،‬من ع@ @ @@زة ونصر ىف ال@ @ @@دنيا ‪ ،‬وخري ونعيم كبري ىف‬
‫اآلخرة ‪..‬‬
‫ف@@إذا شك ه@@ذا املؤمن ىف أن ين@@ال من اهلل ما وع@@ده ‪ ،‬وهو ممسك هبذا الس@@بب ال@@ذي‬
‫بينه وبني ربه ‪ ،‬فليقطع هذا السبب ‪ ،‬وليخل يده منه ‪ ..‬مث لينظر م@@اذا يك@@ون من أم@@ره؟ أنه‬
‫س @@يجد نفسه قد س @@قط على ه @@ذا ال @@رتاب ‪ ،‬ولصق به ‪ ،‬مث ال يك @@ون له بعد ذلك س @@بيل إىل‬
‫أن يتحرك حنو هذا اخلري القائم على طريق هذا السبب املمدود بينه وبني السماء! ‪..‬‬
‫إن اإلميان باهلل هو السبب ـ وال سبب غريه ـ ال@@ذي ميكن أن ين@@ال به اإلنس@@ان الق@@رب‬
‫من ربه ‪ ،‬والتع@@رض لفض@له وإحس@@انه ‪ ..‬ف@إذا قطع ه@ذا الس@بب ‪ ،‬فقد قطع كل س@بب يدنيه‬
‫من اهلل ‪ ،‬ويفتح له مغالق السعادة والرضوان ‪..‬‬
‫يظن به الظنون بربّه ‪،‬‬
‫فإذا وقع هلذا املؤمن باهلل ‪ ،‬ما تضيق به نفسه من البالء ‪ ،‬وما ّ‬
‫فليكفر باهلل ‪ ،‬مث لينظر م@ @@اذا جيدى عليه كف@ @@ره؟ هل يكشف عنه البالء ال@ @@ذي ن@ @@زل؟ وهل‬
‫الضر الذي وقع ب@@ه؟ إن يكن قد نفعه ذلك ـ وه@@ذا حمال ـ فليمسك بكف@@ره ‪ ،‬وإال‬ ‫يدفع عنه ّ‬
‫فليعد إىل اإلميان ‪ ،‬وليش ّد ي@@ده عليه ‪ ،‬وإن أض@ّ@ره الض@ّ@ر ‪ ،‬وكربه الك@@رب ‪ ..‬إنه ممسك حببل‬
‫النج @@اة ىف متالطم املوج ‪ ،‬وإن من الض @@الل أن يقطع ه @@ذا احلبل خمت @@ارا ‪ ،‬ففى ذلك ض @@الل‬
‫حمقق ‪ ،‬على حني أنه يكون ىف معرض النجاة ما دام ممسكا حببل النجاة!‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫َن اهللَ َي ْه ِدي َم ْن يُ ِري ُد)‪.‬‬ ‫آيات بيِّ ٍ‬
‫نات َوأ َّ‬ ‫ك أَْنزلْناهُ ٍ‬ ‫ِ‬
‫َ‬ ‫( َو َكذل َ َ‬
‫اإلش @@ارة هنا إىل ه @@ذه اآلية الكرمية ‪ ،‬وما فيها من حجة قاطعة ‪ ،‬ومثل واضح بنّي ‪،‬‬
‫على أن طريق النجاة هو اإلميان باهلل ‪ ،‬وأن هذا اإلميان هو حبل النجاة ‪،‬‬
‫‪1002‬‬

‫فمن مل ميسك به فهو ىف اهلالكني ‪ ،‬ومن أمسك به ‪ ،‬مث قطعه فهو ىف اهلالكني أيضا‪.‬‬
‫والض@@مري ىف (أَْن َزلْناهُ) يع@@ود إىل الق@@رآن الك@@رمي ‪ ،‬وأن آياته كلّها آي@@ات بيّن@@ات كه@@ذه‬
‫اآلية البيّنة ‪ ،‬اليت صورت اإلميان باهلل هذا التصوير الواضح البني‪.‬‬
‫َن اهللَ َي ْـه ِـدي َم ْن يُ ِريـ ُد) ـ إش@@ارة إىل أن آي@@ات اهلل مع وض@@وحها‬ ‫وىف قوله تع@@اىل ‪َ ( :‬وأ َّ‬
‫وبياهنا ‪ ،‬ال يهت @@دى هبا ‪ ،‬إال من أراد اهلل له اهلداية ‪ ،‬وفتح بص @@ره وقلبه إليها ‪ ،‬وأراه اهلدى‬
‫ض ـلِ ْل َفلَ ْن تَ ِجـ َد لَ ــهُ َولِيًّا ُم ْر ِش ـداً) (‪: 17‬‬
‫ـد اهللُ َف ُهـ َـو ال ُْم ْهتَ ـ ِـد َو َم ْن يُ ْ‬‫والنّ @@ور منها ‪( ..‬من ي ْهـ ِ‬
‫َْ َ‬
‫الكهف)‪.‬‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫َّ ِ‬ ‫ـادوا وال َّ ِِ‬ ‫َّ ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫ين أَ ْش ـ َر ُكوا ‪..‬‬
‫ـوس َوالذ َ‬‫ين َوالنَّصــارى َوال َْم ُجـ َ‬ ‫ص ـا ب ئ َ‬ ‫ين هـ ُ َ‬ ‫آمنُــوا َوالذ َ‬ ‫ين َ‬ ‫(إِ َّن الذ َ‬
‫يام ِة ‪ ..‬إِ َّن اهللَ َعلى ُك ِّل َش ْي ٍء َش ِهي ٌد)‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫إِ َّن اهللَ َي ْفص ُل َب ْيَن ُه ْم َي ْو َم الْق َ‬
‫هذا بيان للناس مجيعا ‪ ،‬على اختالف معتقدهم ىف اهلل ‪ ..‬وهم ‪:‬‬
‫الذين آمنوا إميانا خالصا باهلل‪ .‬وهم املؤمنون‪.‬‬
‫والذين هادوا ‪ ..‬وهم اليهود‪.‬‬
‫والصابئون ‪ ..‬وهم من أنكروا وجود اخلالق أصال ‪..‬‬
‫والنصارى ‪ ..‬وهم الذين عبدوا املسيح من دون اهلل‪.‬‬
‫واجملوس ‪ ..‬وهم ال@@ذين عب@@دوا النّ@@ار ‪ ،‬تقربا إىل اهلل ‪ ،‬كما عبد املش@@ركون األص@@نام ‪،‬‬
‫تقربا إىل اهلل‪.‬‬
‫ـ ه@ @ @ @@ؤالء هم الن@ @ @ @@اس مجيعا ‪ ،‬وه@ @ @ @@ؤالء مجيعا يفصل اهلل بينهم ي@ @ @ @@وم القيامة ‪ ،‬ومييز‬
‫املهتدين من الض@@الني منهم ‪ ،‬وجيزى كاّل مبا كسب ‪( ..‬إِ َّن اهللَ َعلى ُك ِّل َشـ ْي ٍء َشـ ِهي ٌد) فهو‬
‫ـ س@@بحانه ـ ع@@امل بكل فريق منهم ‪ ،‬وبكل ف@@رد من كل طائفة فيهم ‪ ،‬ال ختفى عليه خافية ‪،‬‬
‫من كبري أعماهلم وصغريها‪.‬‬
‫‪1003‬‬

‫هذا ‪ ،‬ويالحظ هنا ‪:‬‬


‫أوال ‪« :‬أن ال @@ذين ه @@ادوا والص @@ابئني ‪ ،‬والنص @@ارى ‪ ،‬واجملوس ‪ ،‬وال @@ذين أش @@ركوا ‪..‬‬
‫ه@@ؤالء مجيعا ليس@@وا ىف ع@@داد املؤم@@نني باهلل ‪ ..‬وذلك ملا ش@@اب إمياهنم من قليل أو كثري ‪ ،‬من‬
‫الضالل والفساد ‪ ..‬وهلذا جاء ذكرهم كأصناف أخرى ‪ ،‬خارجة عن صنف املؤمنني‪.‬‬
‫وثانيا ‪ :‬جاء نظم هذه اآلية ىف سورة املائدة هكذا ‪:‬‬
‫اهلل َوالَْيـ ـ ْـوِم اآْل ِ ـخـ ِر‬
‫ص ـ ـابِئُو َن والنَّصـ ــارى من آمن بِ ِ‬
‫َْ ََ‬ ‫َ‬ ‫ـادوا َوال َّ‬
‫ين هـ ـ ُ‬ ‫َّ ِ‬
‫آمنُـ ــوا َوالذ َ‬
‫ين َ‬
‫َّ ِ‬
‫(إِ َّن الذ َ‬
‫َو َع ِم َل صالِحاً فَال َخ ْو ٌ‬
‫ف َعلَْي ِه ْم َوال ُه ْم يَ ْح َزنُو َن) (اآلية ‪.)69 :‬‬
‫والناظر ىف اآليتني يرى ‪:‬‬
‫أوال ‪ :‬أن اآلية األوىل ـ آية احلج ـ مل تعت@ @ ّد بإميان غري إميان املؤم@ @@نني باهلل‪ .‬وأن اآلية‬
‫الثانية ـ آية املائ@ @@دة ـ قد دعت املؤم@ @@نني وغري املؤم@ @@نني من ه@ @@ؤالء الطوائف إىل اإلميان باهلل‬
‫والعمل الص@احل ‪ ،‬وأن من آمن منهم باهلل والي@وم اآلخر وعمل ص@احلا فال خ@وف عليهم وال‬
‫هم حيزن @@ون ‪ ..‬وذلك ألن اإلميان ـ لكى يك @@ون إميانا ص @@حيحا ـ ال بد أن يص @@حبه عمل ‪،‬‬
‫فاإلميان بال عمل ‪ ،‬كال إميان ‪ ..‬ومن هنا ك@@ان على املؤم@@نني لكى ي@@دخلوا ىف احلكم ال@@ذي‬
‫ف َعلَْي ِه ْم َوال ُه ْم يَ ْح َزنُ ــو َن) ـ ك @@ان عليهم أن‬ ‫قضت به اآلية ‪ ،‬وهو قوله تع @@اىل ‪( :‬فَال َخـ ْـو ٌ‬
‫يكملوا إمياهنم بالعمل الصاحل ‪ ،‬فهم بغري العمل الصاحل مؤمنون ‪ ،‬وغري مؤمنني!‪.‬‬
‫ين) عطف نسق على ما قبلها ‪،‬‬ ‫وثانيا ‪ :‬أن اآلية األوىل ـ آية احلج ـ عطفت (ال َّ ِِ‬
‫ص ـا ب ئ َ‬
‫كما عطفت ما بع@ @ @ @@دها عطف نسق عليها ‪ ،‬حيث دخل اجلميع حتت حكم النصب ب@ @ @ @@أداة‬
‫النصب «إن» ‪ ..‬على خالف ما ج@ @ @ @@اء ىف آية املائ@ @ @ @@دة ‪ ،‬حيث انقطع «الص@ @ @ @@ابئون» قبلهم‬
‫السر ىف هذا؟‬
‫ومن بعدهم ‪ ..‬فما ّ‬
‫والسر ـ واهلل أعلم ـ أن آية املائدة تدعو املؤمنني وغري املؤمنني إىل‬ ‫ّ‬
‫‪1004‬‬

‫منزلة ال يناهلا إال من حيقق األمرين معا ‪ :‬اإلميان ‪ ،‬والعمل الصاحل‪.‬‬


‫واملؤمنون ‪ ..‬مؤمنون وال شبهة ىف إمياهنم‪.‬‬
‫واليه@ @ @@ود ‪ ..‬مؤمن@ @ @@ون ‪ ،‬وىف إمياهنم ش@ @ @@بهة ‪ ،‬وهى أهنم يؤمن@ @ @@ون باهلل ‪ ،‬وال يؤمن@ @ @@ون‬
‫باليوم اآلخر‪.‬‬
‫والنصارى مؤمنون باملسيح ابنا هلل ‪ ،‬فهو إميان مشبوه‪.‬‬
‫صـابِئُو َن) فهم ال يع@@رتفون بإله ق@@ائم على ه@@ذا الوج@@ود ‪ ،‬بل هم دهريّ@@ون ‪ ،‬أو‬ ‫أما (ال َّ‬
‫طبيعيون‪.‬‬
‫وهلذا ‪ ،‬عزل@@وا عن ه@@ذه الطوائف الثالث ‪ ،‬ألهنم أبعد الن@@اس عن اإلميان ‪ ،‬ومع ه@@ذا‬
‫ف @@إن ش @@أهنم ش @@أن ه @@ؤالء املؤم @@نني على اختالف وض @@عهم من اإلميان ‪ ،‬وأهنم إذا آمن @@وا باهلل‬
‫ف َعلَْي ِه ْم َوال ُه ْم يَ ْح َزنُــو َن) ‪..‬‬
‫وعمل@@وا الص@@احلات ـ دخل@@وا ىف ه@@ذا احلكم الع@@ام ‪( :‬فَال َخـ ْـو ٌ‬
‫احلج فهم على منزلة واح@@دة ىف احلكم ال@@ذي يؤخ@@ذون به ي@@وم القيامة‬ ‫أما من ذك@@روا ىف آية ّ‬
‫‪ ،‬وهو أن اهلل يفصل بينهم ‪ ،‬على احلال اليت يكون عليها كل منهم ‪..‬‬
‫وثالثا ‪ :‬مل ت@@ذكر آية املائ@@دة ‪ ،‬اجملوس ‪ ،‬وال املش@@ركني ‪ ،‬على حني ذك@@رهتم آية احلج‬
‫‪..‬‬
‫والس @ ّ@ر ىف ه @@ذا ـ واهلل أعلم ـ أن اجملوس وال @@ذين أش @@ركوا ‪ ،‬هم على ص @@ورة مش @@اهبة‬
‫لليه@ود والنص@ارى ىف إمياهنم إميانا مش@وبا بالض@الل ‪ ..‬فلم ي@ذكروا عند ال@دعوة إىل تص@حيح‬
‫إمياهنم ‪ ،‬ألن فس@ @@اد إمياهنم أظهر من فس@ @@اد إميان اليه@ @@ود والنص@ @@ارى ‪ ،‬إذ ك@ @@ان مع اليه@ @@ود‬
‫والنصارى ش@بهة إميان ب@الكتب الس@ماوية اليت معهم ‪ ،‬على حني مل يكن اجملوس واملش@ركني‬
‫ش@@ىء من ه@@ذا ‪ ،‬فهم مط@@البون ـ من ب@@اب أوىل ـ بتص@@حيح إمياهنم ‪ ،‬بص@@ورة أل@@زم من مطالبة‬
‫اليهود والنصارى‬
‫‪1005‬‬

‫@مىن ـ ومن‬ ‫بتص@@حيح معتق@@دهم ىف اهلل ‪ ،‬وإمياهنم به ‪ ..‬ففى ذكر اليه@@ود والنص@@ارى ذكر ض@ ّ‬
‫باب أوىل ـ للمجوس والذين أشركوا‪.‬‬
‫أما ىف موقف الفصل واحلس@ @@اب واجلزاء ‪ ،‬فكل طائفة على منزلتها ‪ ..‬فك@ @@ان ال ب @ @ ّد‬
‫من ذكر املؤم @ @@نني ‪ ،‬ومن ذكر من معهم ش @ @@بهة من اإلميان ‪ ،‬وهم اليه @ @@ود ‪ ،‬والنص @ @@ارى ‪،‬‬
‫واجملوس ‪ ،‬ومن ال ش@@بهة من إميان معهم ‪ ،‬وهم الص@@ابئة واملش@@ركون ‪ ..‬وذلك حىت ال يقع‬
‫ىف وهم اجملوس وال@ @ @ @ @@ذين أش@ @ @ @ @@ركوا ‪ ،‬أهنم غري م@ @ @ @ @@أخوذين هبذا احلكم ‪ ،‬وأهنم ن@ @ @ @ @@اجون من‬
‫احلس@ @ @ @ @ @ @ @@اب واجلزاء ‪ ..‬ففى موقف الفصل واجلزاء يأخذ ك@ @ @ @ @ @ @ @ ّ@ل مكانه ‪ ،‬ال مع الطائفة اليت‬
‫اخلاص به ىف الطائفة اليت هو منها‬ ‫ّ‬ ‫ينتمى إليها وحسب ‪ ،‬بل سيأخذ مكانه‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫س َوالْ َق َمـ ـ ُـر‬ ‫ماوات َو َم ْن فِي اأْل َْر ِ‬
‫ض َوال َّ‬
‫شـ ـ ـ ْم ُ‬
‫سـ ـ ـ ِ‬‫َن اهللَ يَ ْسـ ـ ـ ُج ُد لَ ـ ــهُ َم ْن فِي ال َّ‬
‫َم َتـ ـ َـر أ َّ‬
‫(أَل ْ‬
‫ـذاب َو َم ْن يُِه ِن‬ ‫َّاس و َكثِــير حـ َّ ِ‬ ‫اب و َكثِـ ِ‬ ‫والنُّجــوم وال ِ‬
‫ـق َعلَْيــه ال َْعـ ُ‬ ‫ـير م َن الن ِ َ ٌ َ‬
‫َّو ُّ َ ٌ‬ ‫ش ـ َج ُر َوالــد َ‬‫ـال َوال َّ‬ ‫ْجبـ ُ‬ ‫َ ُ َُ‬
‫اهللُ فَما لَهُ ِم ْن ُم ْك ِرٍم إِ َّن اهللَ َي ْف َع ُل ما يَشاءُ)‪.‬‬
‫ىف ه @ @@ذه اآلية تع @ @@ريض بالك @ @@افرين واملش @ @@ركني ‪ ،‬وغ @ @@ريهم ‪ ،‬ممن ال يعط @ @@ون والءهم‬
‫خالصا هلل ‪ ..‬فعلى حني أن الوج @ @@ود كلّه ق@ @@ائم على ه @ @@ذا ال @ @@والء املطلق اخلالص هلل ـ ف@ @@إن‬
‫كث @@ريا من الن @@اس ـ والن @@اس وح @@دهم ىف عاملنا ـ خيرج @@ون على ه @@ذا ال @@والء الع @@ام املطلق هلل ‪،‬‬
‫وي@@أبون أن يس@جدوا له ‪ ،‬ف@@إن س@جدوا ك@@ان س@جودهم لغري اهلل ‪ ..‬وه@@ذا ف@@وق أنه كفر باهلل‬
‫‪ ،‬وجح@ @@ود بآالئه ونعمه ‪ ،‬هو ش@ @@رود وض@ @@الل عن االجتاه الع@ @@ام ‪ ،‬ال@ @@ذي يتجه إليه الك@ @@ون‬
‫كلّه ‪ ،‬وس @@باحة متحدية للتي @@ار اهلادر ال @@ذي ال يغ @@الب ‪ ،‬وال @@ذي ال يلبث أن يغ @@رق فيه ك @ ّ@ل‬
‫من سبح ىف غري جمراه!‬
‫‪1006‬‬

‫إن من ىف السموات ومن ىف األرض ‪ ،‬من عوامل وخملوقات كبرية أو صغرية ‪ ،‬عاقلة‬
‫‪ ،‬أو غري عاقلة ‪ ،‬حيّة أو جام@@دة ‪ ..‬كلها تس@@بح حبمد اهلل ‪ ،‬وتنق@@اد ملش@@يئته ‪ ،‬وختضع ألم@@ره‬
‫@ال من بىن اإلنس @@ان! وإن ه @@ؤالء األش@@قياء ‪ ،‬لفى عزلة عن‬ ‫@قى الض@ ّ‬
‫‪ ..‬إاّل ه@@ذا الص @@نف الش@ ّ‬
‫ه@ @@ذا الوج@ @@ود ‪ ،‬بل وىف ح@ @@رب معه ‪ ..‬إهنم أش@ @@به جبماعة من اخلارجني على نظ@ @@ام اجملتمع‬
‫والعابثني حبرماته ومق ّدساته ‪ ..‬فاجملتمع كله حرب عليهم ‪ ،‬وإهنم لن يفلتوا من عقابه!‪.‬‬
‫وتسبيح الكائنات حبمد اهلل ‪ ،‬هو ىف جرياهنا على سنن اهلل اليت أقامها عليها ‪ ..‬فهى‬
‫ال خترج أب @ @@دا عن ه @ @@ذه ال ّس@ @ @نن ‪ ،‬وال تفلت من عقد الوج @ @@ود ال@ @@ذي انتظمت ىف س@ @@لكه ‪،‬‬
‫ـل س ــابِ ُق النَّه ــا ِر‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬
‫س َي ْنبَغي لَها أَ ْن تُـ ـ ْد ِر َك الْ َق َمـ َـر َواَل الل ْي ـ ُ‬ ‫وك @@انت حبّة من حبّاته ‪( ..‬اَل ال َّ‬
‫شـ ـ ْم ُ‬
‫ك يَ ْسبَ ُحو َن!) (‪ : 40‬يس) وىف هذا انقياد هلل ‪ ،‬ووالء له ‪..‬‬ ‫و ُكلٌّ فِي َفلَ ٍ‬
‫َ‬
‫واإلنس@@ان وح@@ده ـ فيما يظهر لنا ـ هو ال@@ذي منحه اهلل إرادة عاملة ‪ ،‬ومش@@يئة تس@@مح‬
‫له بأن خيتار الطريق الذي يرضاه ‪ ،‬دون قهر أو إلزام ‪ ..‬وليست كذلك الكائنات األخرى‬
‫@خرة ‪ ،‬على حني أن اإلنس @@ان‬ ‫‪ ،‬اليت ال متلك ه @@ذه اإلرادة ‪ ،‬وال جتد تلك املش @@يئة ‪ ،‬إهنا مس @ ّ‬
‫خمرّي ومريد ‪ ..‬إهنا ال متلك من أمرها ش@ @ @ @ @ @@يئا ‪ ،‬على حني أن اإلنس@ @ @ @ @ @@ان هو س@ @ @ @ @ @@يد نفسه ‪،‬‬
‫ومالك أم @@ره ‪ ..‬وه @@ذا تك @@رمي من اهلل له ‪ ،‬إذ جعله س @@بحانه وتع @@اىل على ص @@ورة أق @@رب إىل‬
‫ص@ @ @ @@ورته ‪ ،‬فجعله مري@ @ @ @@دا ‪ ،‬عاملا ‪ ،‬خمت@ @ @ @@ارا ‪ ..‬كما يشري إىل ذلك احلديث ‪« :‬خلق اهلل آدم‬
‫على صورته»‪@.‬‬
‫وهذا التكرمي ‪ ،‬هو ابتالء آلدم ‪ ،‬وهو األمانة اليت محلها ‪ ،‬وأبت الس@@موات واألرض‬
‫أن حيملنها وأش @@فقن منها ‪ ..‬وك @@ان عليه أن يثبت هلذا االمتح@ @@ان ‪ ،‬وأن ي@ @@ؤدى األمانة اليت‬
‫محلها ‪ ،‬حىت يكون أهال هلذا التكرمي ‪،‬‬
‫‪1007‬‬

‫وإاّل ك @@ان عليه أن يتحمل تبعة نكوصه وختاذله ‪ ،‬وأن يتج @@رع م @@رارة ه @@ذا اإلخف @@اق ‪ ،‬وأن‬
‫خيلع ث @@وب اإلنس @@انية ‪ ،‬ليعيش مس @@خا قزما ‪ ،‬مش @ ّ@وه اخللق بني أبن @@اء جنسه ‪ ،‬ال @@ذين اعت @@دل‬
‫خلقهم ‪ ،‬وسلمت هلم فطرهتم ‪ ،‬وذلك هو الشقاء األليم والعذاب املهني ‪..‬‬
‫َّاس) معط@@وف على قوله س@@بحانه ‪( :‬يَ ْسـ ُج ُد لَــهُ َم ْن فِي‬ ‫ـير ِم َن الن ِ‬ ‫ِ‬
‫ـ قوله تع@@اىل ‪َ ( :‬و َكثـ ٌ‬
‫ض) ‪ ..‬أي ويسجد له كثري من الناس ‪..‬‬ ‫ماوات َو َم ْن فِي اأْل َْر ِ‬
‫الس ِ‬ ‫َّ‬
‫ذاب) هو استئناف ‪ ،‬أي وكثري من الن@@اس ال‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ـ وىف قوله تعاىل ‪َ ( :‬و َكث ٌير َح َّق َعلَْيه ال َْع ُ‬
‫يسجدون هلل ‪ ،‬فحق عليهم العذاب ‪ ..‬أي وجب ولزم ‪..‬‬
‫وىف قوله تع @@اىل ‪َ ( :‬علَْيـ ِـه) ب @@دال من «عليهم» إش @@ارة إىل أن ه @@ذا الص @@نف من الن @@اس‬
‫ضـ ُّل) (‪179‬‬ ‫عام بَـ ْـل ُه ْم أَ َ‬ ‫الذي أىب السجود هلل ‪ ،‬هو ىف عداد غري العقالء ‪( ..‬أُولئِ َ‬
‫ك َكاأْل َنْ ِ‬
‫‪ :‬األع @@راف) فهم وإن ك @@انوا أع @@دادا كث @@رية ‪ ،‬أش @@به بكي @@ان واحد جيمع كتلة متض @@خمة من‬
‫الضالل والفساد ‪..‬‬
‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫موجه إىل تلك اجلماع @@ات اليت‬ ‫قوله تع @@اىل ‪َ ( :‬و َم ْن يُِه ِن اهللُ فَما لَ ــهُ م ْن ُم ْـكـ ِرم) ـ هو ّ‬
‫ش @@ردت عن احلق ‪ ،‬وض @لّت عن س @@واء الس @@بيل ‪ ،‬وهى ك @ ّ@ل الطوائف غري املؤمنة اليت أش @@ار‬
‫ذاب) ‪ ..‬فه@ؤالء ممن أه@@اهنم اهلل ‪ ،‬إذ مل‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫إليها سبحانه وتعاىل ىف قوله ‪َ ( :‬و َكث ٌير َح َّق َعلَْيه ال َْع ُ‬
‫ي@دعهم إليه ‪ ،‬ومل ي@نزهلم من@ازل رض@@وانه ‪ ،‬فش@ردوا وض@لّوا ‪ ..‬ف@الكفر باهلل هو أم@ارة اإلهانة‬
‫من اهلل للك @@افر ‪ ،‬إذ مل يكن أهال ألن ي @@دعى إىل جن @@اب اهلل ‪ ،‬مع من دع @@وا إليه من عب @@اده‬
‫@حاء ومعه@‬ ‫ال@@ذين آمن@@وا ‪ ،‬ملا اش@@تمل عليه كيانه من داء خ@@بيث ‪ ،‬ال ينبغى له أن خيالطه األص@ ّ‬
‫هذا املرض ‪ ،‬الذي يفتال إنسانيته ‪ ،‬ويفسد معاملها‪.‬‬
‫رد على سؤال أو تساؤل ‪،‬‬ ‫ـ وقوله تعاىل ‪( :‬إِ َّن اهللَ َي ْف َع ُل ما يَشاءُ) هو ّ‬
‫‪1008‬‬

‫قد يرد على لسان بعض الن@اس ‪ ..‬وهو ‪ :‬ملا ذا أه@@ان اهلل ه@@ؤالء ال@ذين مل يؤمن@@وا ب@@ه؟ وملا ذا‬
‫مل يدعهم إىل اإلميان ‪ ،‬كما دعا املؤمنني وأراد هلم اإلميان؟‬
‫فك@@ان اجلواب ‪( :‬إِ َّن اهللَ َي ْف َع ُل ما يَشــاءُ)! فمن ك@@ان له حيلة فليحتل ‪ ،‬ومن ك@@ان له‬
‫مع اهلل ش @@ىء فلي @@أت ب @@ه! ‪ ..‬فلتخ @@رس األلس @@نة إذن ‪ ،‬وليحمد املؤمن @@ون اهلل أن ه @@داهم إىل‬
‫ض ـلِ ْل َفلَ ْن‬
‫ـد اهللُ َف ُهـ َـو ال ُْم ْهتَـ ِـد َو َم ْن يُ ْ‬
‫اإلميان ‪ ،‬ولي @@دع الض @@الون رهّب م أن يه @@ديهم ‪( ..‬من ي ْهـ ِ‬
‫َْ َ‬
‫تَ ِج َد لَهُ َولِيًّا ُم ْر ِشداً) (‪ : 17‬الكهف)‬
‫____________________________________‬

‫اآليات ‪ 19( :‬ـ ‪)25‬‬


‫ت لَهم ثِيـ ِ‬ ‫َّ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ـذان َخ ْ ِ‬ ‫(هـ ِ‬
‫ب‬ ‫ص ـ ُّ‬‫ـاب م ْن نــا ٍر يُ َ‬ ‫ين َك َفـ ُـروا قُطِّ َع ْ ُ ْ ٌ‬ ‫ص ـ ُموا في َربِّ ِه ْم فَالذ َ‬ ‫ص ـمان ا ْختَ َ‬
‫ـام ُـع ِم ْن‬‫ـود (‪ )20‬ولَهم مقـ ِ‬
‫َ ُْ َ‬ ‫ْجلُـ ُ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫ص ـ َه ُر بِــه ما في بُطُــون ِه ْم َوال ُ‬ ‫يم (‪ )19‬يُ ْ‬ ‫ِمن َفــو ِق ر ُؤ ِس ـ ِهم ال ِ‬
‫ْحم ُ‬ ‫ُ َ‬ ‫ْ ْ ُ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫ْح ِري ـ ِـق (‬‫ـذاب ال َ‬‫َرادوا أَ ْن يَ ْخ ُر ُجــوا م ْنها م ْن غَ ٍّم أُعي ـ ُدوا فيها َوذُوقُ ــوا َعـ َ‬ ‫َح ِدي ـ ٍـد (‪ُ @ @)21‬كلَّما أ ُ‬
‫َّات تَ ـ ِ‬ ‫صـالِ ِ‬ ‫ِ َّ ِ‬
‫ـار يُ َحلَّ ْو َن‬ ‫ِ‬
‫ج ِري م ْن تَ ْحت َها اأْل َنْه ُ‬ ‫حات َجن ٍ ْ‬ ‫آمنُـوا َو َع ِملُـوا ال َّ‬
‫ين َ‬ ‫‪ )22‬إِ َّن اهللَ يُـ ْدخ ُل الذ َ‬
‫ب ِم َن الْ َقـ ْـو ِل‬ ‫ب َول ُْؤلُ ــؤاً َولِبا ُس ـ ُه ْم فِيها َح ِري ـ ٌـر (‪َ )23‬و ُه ـ ُدوا إِلَى الطَّيِّ ِ‬ ‫فِيها ِم ْن أَس ــا ِو َر ِم ْن ذَ َه ٍ‬
‫اهلل َوال َْم ْس ـ ـ ِج ِد‬
‫يل ِ‬ ‫ص ـ ـدُّو َن َع ْن َس ـ ـبِ ِ‬ ‫َّ ِ‬ ‫راط ال ِ ِ‬ ‫صــ ِ‬ ‫و ُهـ ـ ُدوا إِلى ِ‬
‫ين َك َفـ ـ ُـروا َويَ ُ‬ ‫ْحميـ ــد (‪ @ @ @)24‬إِ َّن الذ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ـاد بِظُل ٍْم نُ ِذقْــهُ ِم ْن‬ ‫ـاد ومن ي ـ ِر ْد فِيـ ِـه بِِإلْحـ ٍ‬ ‫ِ‬
‫ف فيــه َوالْبـ َ َ ْ ُ‬
‫َّاس س ـواء الْعــاكِ ُ ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫ـرام الذي َج َع ْلنــاهُ للن ِ َ ً‬
‫الْحـ ِ َّ ِ‬
‫َ‬
‫ذاب أَلِ ٍيم) (‪)25‬‬ ‫َع ٍ‬
‫____________________________________‬
‫التفسري ‪:‬‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫َّ ِ‬ ‫ِ‬ ‫هذان َخ ْ ِ‬
‫( ِ‬
‫ت ل َُه ْم ثِ ٌ‬
‫ياب‬ ‫ين َك َف ُروا قُطِّ َع ْ‬
‫ص ُموا في َربِّ ِه ْم ‪ ..‬فَالذ َ‬
‫صمان ا ْختَ َ‬
‫‪1009‬‬

‫ـام ُع ِم ْن‬
‫ـود ولَهم مقـ ِ‬
‫ْجلُـ ُ َ ُ ْ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫صـ َه ُر بِــه ما في بُطُــون ِه ْم َوال ُ‬
‫يم يُ ْ‬ ‫ب ِمن َفــو ِق ر ُؤ ِسـ ِهم ال ِ‬
‫ْحم ُ‬‫ُ َ‬ ‫صـ ُّ ْ ْ ُ‬
‫ِ‬
‫م ْن نــا ٍر يُ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ح ِد ٍ‬
‫ْح ِر ِيق ‪.)..‬‬ ‫َرادوا أَ ْن يَ ْخ ُر ُجوا م ْنها م ْن غَ ٍّم أُعي ُدوا فيها َوذُوقُوا َع َ‬
‫ذاب ال َ‬ ‫يد ُكلَّما أ ُ‬ ‫َ‬
‫اخلصمان ‪ :‬مها املؤمنون ‪ ،‬والكافرون على اختالف ضالالهتم ‪..‬‬
‫واختص@ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @@امهم ىف رهبم ‪ ،‬هو اختالفهم فيه ‪ ..‬ف@ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @@املؤمنون على طريق إىل اهلل ‪،‬‬
‫واملش @@ركون والك @@افرون ومن على ش @@اكلتهم ‪ ،‬على ط @@رق شىت ختتلف عن ه @@ذا الطريق ‪..‬‬
‫يفرق بني املتخاصمني ‪..‬‬ ‫فهذا االختالف ‪ ،‬هو أشبه باخلصام الذي ّ‬
‫مث بينت اآليات بعد هذا ‪ ،‬ما أع ّد اهلل لكل من هذين اخلصمني املختص@@مني ىف اهلل ‪،‬‬
‫من عذاب ‪ ،‬أو نعيم‪.‬‬
‫ياب ِم ْن نــا ٍر) أي أهنم يلبس@@ون الن@@ار ‪ ،‬أو تلبس@@هم الن@@ار‬ ‫ت ل َُه ْم ثِ ٌ‬‫ين َك َف ُروا قُطِّ َع ْ‬ ‫َّ ِ‬
‫ـ (فَالذ َ‬
‫‪ ،‬فيكون@ @ @ @@ون كيانا واح@ @ @ @@دا معها ‪ ،‬حبيث تش@ @ @ @@تمل على اجلسد كلّه ‪ ،‬وتغطيه ‪ ،‬كما يغطى‬
‫بالثوب!‬
‫مث م@ @ @@ازال هن@ @ @@اك ش@ @ @@ىء من اجلسد ال تغطيه الثي@ @ @@اب ‪ ،‬وهو ال@ @ @@رأس ‪ ،‬ال@ @ @@ذي يغطى‬
‫بالعمائم ‪ ،‬والتيجان ‪ ،‬وحنو هذا ‪..‬‬
‫وإذن فلتتوج رءوسهم ‪ ،‬ولكن بتيجان من نار ‪ ،‬وبعمائم من جهنم‪.‬‬
‫يم) ‪ ،‬وهو املاء ال @@ذي يغلى فيش @@وى وج @@وههم مث‬ ‫ب ِمن َفــو ِق ر ُؤ ِسـ ـ ِهم ال ِ‬
‫ْحم ُ‬
‫ُ َ‬ ‫صـ ـ ُّ ْ ْ ُ‬ ‫ـ (يُ َ‬
‫يتخلل تلك الثي @ @@اب ‪ ،‬فيص @ @@هر ما ىف بط @ @@وهنم من أمع @ @@اء ‪ ،‬وأكب @ @@اد ‪ ،‬وقل @ @@وب ‪ ،‬وغريها مما‬
‫حتويه البطون ‪ ..‬كما يصهر اجللود ‪ ،‬ويذيبها فتكون كتلة مذابة مع اللحم والعظم ‪..‬‬
‫وليس هذا فحسب ‪ ..‬بل إن هلم طرائف يطرفون هبا ‪ ،‬كما كانوا‬
‫‪1010‬‬

‫يطرف @@ون ىف ال @@دنيا ب @@ألوان النعيم ال @@ذي ش @@غلهم عن اهلل ‪ ..‬فهن @@اك ( َمقـ ِـام ُـع) أي مط @@ارق من‬
‫حديد ‪ ..‬لعلها تعمل تلقائيا من نفس@ها ‪ ..‬كلما أرادوا أن خيرج@وا من ثي@اهبم النارية تلك ‪،‬‬
‫فردوا فيها ‪ ..‬وقيل هلم اخسئوا ‪ ،‬وذوقوا عذاب احلريق ‪..‬‬ ‫أخذوا هبذه املقامع ‪ّ ،‬‬
‫وهذه الصور من ألوان العذاب ‪ ،‬هو مما يتص@@وره الن@اس ىف ال@@دنيا ‪ ،‬بل ومما يأخ@@ذون‬
‫به بعض@ @@هم بعضا ‪ ..‬فكم من ص@ @@ور ه@ @@ذا الع@ @@ذاب اجلهنّمى اس@ @@تخدمه اجلب@ @@ابرة والظلمة ىف‬
‫تعذيب من خيرج على سلطاهنم ‪ ،‬ويتح ّدى تسلطهم وجربوهتم ‪..‬‬
‫فه @@ذا الع @@ذاب ال @@دنيوي جيده اجملرم @@ون ي @@وم القيامة حاض @@را عتي @@دا ‪ ،‬فيما جيدون من‬
‫صور شىت من عذاب اآلخرة ‪ ،‬وذلك ليذوقوا ما أذاقوه للناس ىف دنياهم ‪ ،‬وليسقوا بكأس‬
‫ك @@انوا جيدون الل @@ذة ىف أن يتج @@رع الن @@اس مرارهتا ‪ ،‬س @@واء أك @@ان ع @@ذاب اآلخ @@رة حس @@يا أو‬
‫معنويا ‪ ،‬جسديا أو نفسيا ‪ ،‬وليست هذه الصور احلسيّة اليت ذكرها الق@رآن لع@ذاب اآلخ@رة‬
‫‪ ،‬من ثي@@اب من ن@@ار ‪ ،‬ومن مق @@امع من حديد ‪ ،‬ومن سالسل وأغالل ‪ ،‬ليست ب @@اليت تتن @@اىف‬
‫مع الع@@ذاب النفسي ‪ ،‬فما أك@@ثر ما تتجسد ص@@ور الع@@ذاب ىف النفس ‪ ،‬وجيد اإلنس@@ان لآلالم‬
‫النفس@@ية وقعا مثل ما جيده من اآلالم اجلس@@دية ‪ ..‬وأق@@رب مثل هلذا ما يقع لإلنس@@ان ىف ح@@ال‬
‫الن@وم من رؤى وأحالم مزعجة ‪ ،‬أو مس@عدة ‪ ..‬إنه يعيش فيها بكيانه كله ‪ ،‬جس@دا وروحا‬
‫‪ ،‬وإن ك@ @ @@ان الواقع أن ال@ @ @@روح هى اليت تتلقى ه@ @ @@ذه ال@ @ @@رؤى وتلك األحالم ‪ ،‬وتتعامل هبا ‪،‬‬
‫وهى ىف انطالقها بعيدا أو قريبا من اجلسد ‪..‬‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫َّات تَ ْج ِري ِم ْن تَ ْحتِ َها‬ ‫َ‬
‫الصالِ ِ‬
‫حات جن ٍ‬ ‫آمنُوا َو َع ِملُوا َّ‬ ‫ِ َّ ِ‬
‫(إِ َّن اهللَ يُ ْدخ ُل الذ َ‬
‫ين َ‬
‫‪1011‬‬

‫باس ُه ْم فِيها َح ِر ٌير)‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫هار يُ َحلَّ ْو َن فِيها ِم ْن أَسا ِو َر ِم ْن ذَ َه ٍ‬


‫ب َول ُْؤلُؤاً َول ُ‬ ‫اأْل َنْ ُ‬
‫ىف ذكر اهلل س@@بحانه وتع@@اىل هنا ‪ ،‬ه@@ذا ال@@ذكر املؤكد ‪ ،‬تك@@رمي للمؤم@@نني ‪ ،‬واحتف@@اء‬
‫هبم ‪ ،‬وأن اهلل تب@ @@ارك وتع@ @@اىل هو ال@ @@ذي يت@ @@وىل إدخ@ @@اهلم اجلنة ‪ ،‬وال ي@ @@دع ه@ @@ذا ملالئكته ‪..‬‬
‫آمنُـ ــوا َو َع ِملُـ ــوا‬ ‫ِ َّ ِ‬
‫مبالغة ىف تك@ @@رميهم ‪ ،‬فضال منه ‪ ،‬وكرما ‪ ،‬ورمحة ‪( ..‬إِ َّن اهللَ يُ ـ ـ ْدخ ُل الذ َ‬
‫ين َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫َّ ِ ِ‬
‫هار) ‪..‬‬ ‫الصالحات َجنَّات تَ ْج ِري م ْن تَ ْحت َها اأْل َنْ ُ‬
‫ف@@إذا أدخلهم اهلل س@@بحانه وتع@@اىل اجلنة ‪ ،‬حلّ@@وا فيها بأس@@اور من ذهب ‪ ،‬ولؤل@@ؤا ‪ ،‬ىف‬
‫مواضع ش@ىّت ‪ ،‬من أجس@@امهم ‪ ،‬ك@@أن يك@@ون هلم من اللؤلؤ قالئد ‪ ،‬أو تيج@@ان ‪ ،‬وحنو ه@@ذا ‪،‬‬
‫هذا إىل ما يلبسون من مالبس رقيقة ‪ ،‬من حرير ‪..‬‬
‫احللى ‪ ،‬وتلك املالبس ‪ ،‬هى مما ك@@ان يش@@تهيه املؤمن@@ون ىف ال@@دنيا ‪ ،‬وقد ف@@اهتم‬ ‫وه@@ذه ّ‬
‫أن ين @@الوه فيه @@ا‪ .‬فك @@ان مما ينعم @@ون به ىف اجلنة أن ين @@الوا ما ك @@انت نفوس @@هم متطلعة إليه ‪..‬‬
‫فهو غائب ينتظرهم ‪ ..‬وليس هذا كل ما يلبسون ‪ ،‬أو يتزينون ‪ ..‬بل هن@@اك ما ال حصر له‬
‫من أل@@وان املالبس والزينة ‪ ،‬مما مل خيطر على قلب بشر ‪ ..‬فه@ذه األل@وان من ص@@نوف الطع@ام‬
‫والش@@راب ‪ ،‬واملالبس ‪ ،‬واألهنار ‪ ،‬والظالل ‪ ،‬والقص@@ور وغريها ‪ ،‬مما ج@@اء ذك@@ره ىف الق@@رآن‬
‫‪ ،‬مما يلق @ @ @@اه أهل اجلنة ـ هو مما ك @ @ @@انوا يطلبونه ىف ال @ @ @@دنيا ‪ ،‬وال يأخ @ @ @@ذون حظهم منه ‪ ،‬أو‬
‫ين@@الون منه ش@@يئا ‪ ..‬وك@@ان من متام اإلحس@@ان إليهم ‪ ،‬أن يع@@رض عليهم كل ه@@ذا ىف ص@@ورته‬
‫الكاملة ‪ ،‬كماال مطلقا ‪..‬‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫راط الْح ِم ِ‬ ‫ص ِ‬ ‫ب ِمن الْ َقو ِل و ُه ُدوا إِلى ِ‬
‫يد)‪.‬‬ ‫َ‬ ‫( َو ُه ُدوا إِلَى الطَّيِّ ِ َ ْ َ‬
‫أي أهنم كما طاب وحسن ظاهرهم ‪ ،‬طاب وحسن كذلك باطنهم ‪..‬‬
‫‪1012‬‬

‫ْح ْـم ُد لِلَّ ِه‬ ‫ِ‬


‫آخر َد ْعـ ُ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ـواه ْم أَن ال َ‬ ‫فال ينطق@@ون لغ@@وا ‪ ،‬وال يس@@معون لغ@@وا ‪( ..‬تَحيَُّت ُه ْم فيها َس ٌ‬
‫الم َو ُ‬
‫ين) ‪..‬‬ ‫ِ‬
‫ب الْعالَم َ‬
‫َر ِّ‬
‫والص@@راط احلميد ‪ ،‬هو ص@@راط اهلل ‪ ..‬وقد ه@@دوا إىل أن حيم@@دوه محدا دائما متصال ‪،‬‬
‫ألنه هو س@ @ @ @@بحانه املس@ @ @ @@تأهل للحمد ‪ ،‬وألن نعمه اليت أفاض@ @ @ @@ها عليهم تس@ @ @ @@توجب منهم أن‬
‫يلزموا هذا الصراط ‪ ،‬وال حييدوا عنه حلظة ‪..‬‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫ـرام الَّ ِذي َج َع ْلنـ ــاهُ لِلن ِ‬
‫َّاس‬ ‫ْحـ ـ ِ‬ ‫ِِ‬ ‫(إِ َّن الَّ ِذين َك َفـ ــروا ويص ـ ـدُّو َن َعن س ـ ـبِ ِ ِ‬
‫يل اهلل َوال َْم ْس ـ ـجد ال َ‬ ‫ْ َ‬ ‫َ ُ ََ ُ‬
‫ْحاد بِظُل ٍْم نُ ِذقْهُ ِم ْن َع ٍ‬
‫ذاب أَلِ ٍيم)‪.‬‬ ‫ْباد ومن ي ِر ْد فِ ِيه بِِإل ٍ‬
‫ِ‬
‫ف فيه َوال َ َ ْ ُ‬
‫سواء الْعاكِ ُ ِ ِ‬
‫َ ً‬
‫ـاد بِظُل ٍْم نُ ِذقْــهُ ِم ْن َعـ ٍ‬
‫ـذاب‬ ‫خرب إن حمذوف دل عليه قوله تع @@اىل ‪( :‬ومن ي ـ ِر ْد فِيـ ِـه بِِإلْحـ ٍ‬
‫ََ ْ ُ‬
‫أَلِ ٍيم) ‪ ..‬أي أن هؤالء الذين كفروا ‪ ،‬ومل يقفوا عند كفرهم ‪ ،‬بل وقفوا للن@@اس باملرص@@اد ‪،‬‬
‫يص@@دوهنم عن س@@بيل اهلل ‪ ،‬وحيول@@ون بينهم وبني االتص@@ال باملس@@جد احلرام ‪ ،‬ال@@ذي جعله اهلل‬
‫مثابة للناس وأمنا ‪ ،‬وجعل فيه للبادين ـ وهم أهل البادية ـ مثل ما للع@@اكفني ـ وهم املقيم@@ون‬
‫حق ىف االتصال هبذا البيت ‪ ،‬والطواف به ‪ ،‬والصالة فيه ‪..‬‬ ‫من أهل مكة ـ من ّ‬
‫ه@@ؤالء ال@@ذين كف@@روا ‪ ،‬ويص @ ّدون عن س@@بيل اهلل واملس@@جد احلرام ‪ ..‬هم أش@@نع الن@@اس‬
‫جرما ‪ ،‬وأغلظهم إمثا ‪ ..‬إهنم ليس @ @ @ @ @@وا ك @ @ @ @ @@افرين وحسب ‪ ،‬بل إهنم أض @ @ @ @ @@افوا إىل كف @ @ @ @ @@رهم‬
‫الوق@ @@وف ىف وجه املتجهني إىل اهلل ‪ ،‬وإىل بيت اهلل ـ ه@ @@ؤالء هلم ع@ @@ذاب مض@ @@اعف ‪ ،‬ف@ @@وق‬
‫ع@@ذاب الك@@افرين ‪ ..‬أما ه@@ذا الع@@ذاب فقد عرف@@وا بعضا منه ‪ ،‬وهو ما أعد للك@@افرين ‪ ،‬كما‬
‫ب ِم ْن َف ـ ْـو ِق‬
‫صـ ـ ُّ‬ ‫ت لَهم ثِي ـ ِ‬
‫ين َك َف ـ ُـروا قُطِّ َع ْ ُ ْ ٌ‬
‫ـاب م ْن ن ــا ٍر يُ َ‬
‫َّ ِ‬
‫بيّنه س@ @@بحانه وتع@ @@اىل ىف قوله ‪( :‬فَالذ َ‬
‫ص َه ُر بِ ِه ما فِي بُطُونِ ِه ْم‬
‫يم يُ ْ‬ ‫ر ُؤ ِس ِهم ال ِ‬
‫ْحم ُ‬
‫ُ ُ َ‬
‫‪1013‬‬

‫ـود َول َُه ْم َمق ـ ِـام ُـع ِم ْن َح ِدي ـ ٍـد ‪ .. )..‬فهم أوال م @@أخوذون هبذا الع @@ذاب ال @@ذي يؤخذ به‬
‫ْجلُ ـ ُ‬
‫َوال ُ‬
‫الكافرون ‪ ..‬أما ما فوق هذا ‪ ،‬فعلمه عند اهلل ‪ ..‬وهو شىء فوق املدارك والتصورات‪.‬‬
‫وىف قوله تعاىل ‪( :‬ومن ي ِر ْد فِ ِيه بِِإل ٍ‬
‫ْحاد بِظُل ٍْم) ج@@اء فيه الفعل ‪« :‬ي@@رد» متض@@منا معىن‬ ‫ََ ْ ُ‬
‫اجلر ىف ‪ ،‬وه@ذا التض@مني للداللة على أن اإلرادة هنا ال يقع‬ ‫«يس@@عى» ‪ ،‬وهلذا ع@ ّدى حبرف ّ‬
‫عليها هذا الوعيد ‪ ،‬حىت تكون عمال وسعيا‪.‬‬
‫____________________________________‬

‫اآليات ‪ 26( :‬ـ ‪)33‬‬


‫ِ ِ ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫إِل‬
‫ين‬‫يم َمكـ ـ ـ ـ ــا َن الَْب ْيت أَ ْن ال تُ ْش ـ ـ ـ ـ ـ ِر ْك بي َش ـ ـ ـ ـ ـ ْيئاً َوطَ ِّه ْر َب ْيت َي للطَّائف َ‬ ‫ِ‬
‫( َوإ ْذ َب َّوأْنا ِ بْـ ـ ـ ـ ــراه َ‬
‫ـل ض ـ ِ‬ ‫ود (‪َ )26‬وأَذِّ ْن فِي الن ِ‬ ‫سـ ـج ِ‬ ‫ِِ‬
‫ـام ٍر‬ ‫وك ِرج ــاالً َو َعلى ُكـ ِّ‬ ‫َّاس بِ ــال َ‬
‫ْح ِّج يَـ ـأْتُ َ‬ ‫الر َّك ِع ال ُّ ُ‬ ‫ين َو ُّ‬ ‫َوالْق ــائم َ‬
‫ومات َعلى‬ ‫اهلل فِي أَيَّ ٍام م ْعلُ ٍ‬
‫َ‬
‫يق (‪ )27‬لِي ْش َه ُدوا منافِع ل َُهم وي ْذ ُكروا اسم ِ‬
‫َ َ ْ ََ ُ ْ َ‬ ‫َ‬ ‫ين ِم ْن ُك ِّل فَ ٍّج َع ِم ٍ‬ ‫ِ‬
‫يَأْت َ‬
‫ـير (‪ )28‬ثُ َّم لَْي ْق ُ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ما ر َز َقهم ِمن ب ِه ِ‬
‫ضـ ـوا َت َف َث ُه ْم‬ ‫س الْ َفقـ َ‬ ‫يمــة اأْل َنْع ــام فَ ُكلُ ــوا م ْنها َوأَطْع ُمــوا الْب ــائ َ‬ ‫َ ُْ ْ َ َ‬
‫ـات ِ‬ ‫ـك ومن يعظِّم حرم ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ ِ‬ ‫َّ‬
‫اهلل َف ُه َـو َخ ْي ٌـر لَـهُ‬ ‫ور ُه ْم َولْيَط َّوفُـوا ب ـالَْب ْيت ال َْعتي ِـق (‪ )29‬ذل َ َ َ ْ ُ َ ْ ُ ُ‬ ‫َولْيُوفُوا نُـ ُذ َ‬
‫اجتَنِبُـوا َق ْـو َل‬ ‫الر ْجس ِمن اأْل َوث ِ‬ ‫ت لَ ُكم اأْل َنْعام إِالَّ ما ي ْتلى َعلَْي ُكم فَ ْ ِ‬ ‫ِ ِ َّ‬ ‫ِ‬
‫ـان َو ْ‬ ‫اجتَنبُوا ِّ َ َ ْ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ع ْن َد َربِّه َوأُحل ْ ُ‬
‫اهلل فَ َكأَنَّما َخـ َّـر ِمن ال َّ ِ‬ ‫الـ ُّـزو ِر (‪ )30‬حنَفــاء لِلَّ ِه غَْـيـر م ْشـ ِركِين بِـ ِـه ومن ي ْش ـ ِر ْك بِ ِ‬
‫سـماء َفتَ ْخطَُفــهُ‬ ‫َ‬ ‫َ ََ ْ ُ‬ ‫َ ُ‬ ‫ُ َ‬
‫اهلل فَِإنَّها ِم ْن َت ْق َوى‬
‫ك ومن يعظِّم َشعائِر ِ‬
‫َ‬ ‫يق (‪ )31‬ذل َ َ َ ْ ُ َ ْ‬
‫ِ‬ ‫كان َس ِح ٍ‬ ‫الريح فِي م ٍ‬ ‫ِ‬
‫الطَّْي ُر أ َْو َت ْه ِوي بِه ِّ ُ َ‬
‫َج ٍل ُم َس ًّمى ثُ َّم َم ِحلُّها إِلَى الَْب ْي ِت ال َْعتِ ِيق) (‪)33‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫وب (‪ )32‬لَ ُك ْم فيها َمناف ُع إِلى أ َ‬ ‫الْ ُقلُ ِ‬
‫____________________________________‬
‫‪1014‬‬

‫التفسير ‪:‬‬

‫[مناسك الحج ‪ ..‬ومشاهدـ القيامة]ـ‬

‫قوله تعالى ‪:‬‬


‫ِ ِ ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫إِل‬
‫يم َمكـ ـ ـ ـ ــا َن الَْب ْيت أَ ْن ال تُ ْش ـ ـ ـ ـ ـ ِر ْك بي َش ـ ـ ـ ـ ـ ْيئاً َوطَ ِّه ْر َب ْيت َي للطَّائف َ‬
‫ين‬ ‫ِ‬
‫( َوإ ْذ َب َّوأْنا ِ بْـ ـ ـ ـ ــراه َ‬
‫السج ِ‬ ‫ِِ‬
‫ود)‪.‬‬ ‫الر َّك ِع ُّ ُ‬ ‫ين َو ُّ‬ ‫َوالْقائم َ‬
‫والسكن إليه ‪..‬‬ ‫بوأنا ‪ :‬أي هيأنا ‪ ،‬وأعددنا ‪ ..‬وأصل البوء الرجوع إىل املنزل ‪ّ ،‬‬
‫يم َمكــا َن الَْب ْي ِت) أي هيّأن@@اه له ‪ ،‬وأع@@ددناه ‪ ..‬وقد‬ ‫إِل ِ‬ ‫ِ‬
‫ـ وقوله تع@@اىل ‪َ ( :‬وإ ْذ َب َّوأْنا ِ بْــراه َ‬
‫ع@ ّدى الفعل ب@@الالم ‪ ،‬ألنه تض@@من معىن اإلع@@داد ‪ ،‬والتمكن ‪ ..‬واألصل ىف الفعل أنه يتع@ ّدى‬
‫بنفسه ملفعولني ‪ ..‬تقول ‪ :‬بوأنك املنزل ‪ ،‬مبعىن أسكنتك إياه‪.‬‬
‫ـ وىف قوله تع@@اىل ‪َ ( :‬مكا َن الَْب ْي ِت) إش@@ارة إىل أن اإلع@@داد ك@@ان املك@@ان ال للبن@@اء ال@@ذي‬
‫أقيم على املك@@ان ‪ ،‬وهو ال@@بيت ‪ ..‬وه@@ذا يعىن أن اهلل س@@بحانه وتع@@اىل قد أع @ ّد ه@@ذا املك@@ان ‪،‬‬
‫وهي@ @ @@أه ‪ ،‬وأض@ @ @@فى عليه ‪ ،‬ما ش@ @ @@اء س@ @ @@بحانه ؛ من الربكة والرمحة ‪ ..‬أما البن@ @ @@اء ‪ ،‬فقد أقامه‬
‫إبراهيم ‪ ،‬ومعه@ إمساعيل على هذا املكان املبارك ‪..‬‬
‫فالربكة أصال ىف املك@@ان ‪ ..‬مث مشلت البن@@اء ال@@ذي أقيم عليه وهو ال@@بيت فص@@ار ال@@بيت‬
‫مباركا ىف املكان املبارك‪.‬‬
‫ـ وقوله تعاىل ‪( :‬أَ ْن ال تُ ْش ِر ْك بِي َشـ ْيئاً) ‪ ..‬املص@@در املؤول متعلق مبح@@ذوف ‪ ،‬تق@@ديره‬
‫‪ :‬وأمرن @@اه ‪ ،‬أو قلنا له ‪ ..‬أن ال تش @@رك يب ش @@يئا ‪ .. ،‬ف @@إن ه @@ذا املك @@ان الط @@اهر املب @@ارك ‪ ،‬ال‬
‫ينزله إال طاهر مبارك ‪ ،‬مربأ من الشرك ‪..‬‬
‫السج ِ‬ ‫ِِ‬ ‫ِ ِ ِِ‬
‫ود) ‪ ..‬أي‬ ‫الر َّك ِع ُّ ُ‬
‫ين َو ُّ‬ ‫ـ وقوله تعاىل ‪َ ( :‬وطَ ِّه ْر َب ْيت َي للطَّائف َ‬
‫ين َوالْقائم َ‬
‫‪1015‬‬

‫وطه@ @ @ @@ره من الش@ @ @ @@رك ‪ ،‬واجعله خالصا هلل ‪ ،‬ولعب@ @ @ @@اده املؤم@ @ @ @@نني به ‪ ،‬ال@ @ @ @@ذين جييئون إىل بيته‬
‫طائفني ‪ ،‬قائمني ‪ ،‬راكعني ‪ ،‬ساجدين ‪..‬‬
‫سـج ِ‬ ‫ِِ‬
‫ود) إش@@ارة إىل أن ه@@ذا ال@@بيت س@@يكون‬ ‫الر َّك ِع ال ُّ ُ‬ ‫ـ وىف قوله تع@@اىل ‪َ ( :‬والْقــائم َ‬
‫ين َو ُّ‬
‫لتلك األمة اإلسالمية ‪ ،‬اليت سيكون السجود معلما من معامل صالهتا ‪ ،‬وحدها دون غريها‬
‫من أص@ @@حاب ال@ @@ديانات الس@ @@ماوية ك@ @@اليهود والنص@ @@ارى ‪ ،‬وهلذا ك@ @@انت مسة املس@ @@لمني اليت‬
‫يعرف @@ون هبا بني األمم ‪ ،‬هى ه @@ذا األثر ال @@ذي يرتكه الس @@جود ىف اجلبهة ‪ ،‬وقد وص @@فوا هبذا‬
‫ين َم َعـهُـ أَ ِشـدَّاءُ َعلَى‬ ‫الوصف ىف التوراة كما يقول س@@بحانه وتع@@اىل ‪( :‬مح َّم ٌد رس ُ ِ َّ ِ‬
‫ول اهلل َوالذ َ‬ ‫َُ َُ‬
‫يماه ْم فِي‬ ‫ِ‬ ‫ض ـ ـالً ِمن ِ‬
‫اهلل َو ِر ْ‬
‫ض ـ ـواناً س ـ ـ ُ‬ ‫ـراه ْم ُر َّكع ـ ـاً ُس ـ ـ َّجداً َي ْبَتغُـ ــو َن فَ ْ‬
‫الْ ُك َّفا ِر ُر َحمـ ــاءُ َب ْيَن ُه ْم تَـ ـ ُ‬
‫َ‬
‫راة)‪ : 29( .‬الفتح)‬ ‫ك م َثلُهم فِي التَّو ِ‬ ‫وه ِهم ِمن أَثَ ِر ُّ ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫ْ‬ ‫الس ُجود ذل َ َ ُ ْ‬ ‫ُو ُج ْ ْ‬
‫وه @@ذا من فضل اهلل س @@بحانه وتع @@اىل على ه @@ذه األمة ‪ ،‬وإحس @@انه إليها ‪ ،‬إذ أع@ @ ّد هلا‬
‫هذا البيت قبل أن يبعث فيها رس@@ول اهلل ‪ ،‬وجيىء إليها برس@@الة اإلس@@الم ‪ ..‬وفضال عن ه@@ذا‬
‫‪ ،‬ف @@إن إع @@داد إب @@راهيم هلذا ال @@بيت ‪ ،‬وإقامته بي @@ده ‪ ،‬يقابله من جهة أخ @@رى إع @@داده لرس @@الة‬
‫اإلس @ @ @@الم ‪ ،‬إذ ك @ @ @@ان هو أبا األنبي @ @ @@اء ‪ ،‬وك @ @ @@انت رس @ @ @@الة من أرس @ @ @@لوا من ذريته ‪ ،‬كموسى‬
‫وعيسى أش@@به بتلك اللبن@@ات اليت رفع هبا إب@@راهيم القواعد من ال@@بيت ‪ ،‬فلما ج@@اء الرس@@ول ـ‬
‫ص@@لوات اهلل وس@@المه عليه ـ برس@@الة اإلس@@الم ‪ ،‬كمل البن@@اء ‪ ،‬وأص@@بح ال@@بيت مهيأ الس@@تقبال‬
‫السج ِ‬ ‫ِِ‬
‫ود) ‪..‬‬ ‫الر َّك ِع ُّ ُ‬
‫ين َو ُّ‬ ‫(الْقائم َ‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫ين ِم ْن ُك ِّل فَ ٍّج َع ِم ٍيق)‪.‬‬ ‫ِ ِ‬
‫وك ِرجاالً َو َعلى ُك ِّل ضام ٍر يَأْت َ‬ ‫( َوأَذِّ ْن فِي الن ِ‬
‫َّاس بِال َ‬
‫ْح ِّج يَأْتُ َ‬
‫األذان ‪ :‬اإلعالم ‪ ،‬ورفع الصوت باألمر املراد اإلعالم به ‪..‬‬
‫‪1016‬‬

‫والرج @ @@ال ‪ :‬املش @ @@اة ‪ ،‬ال @ @@ذين ينتقل@ @ @@ون على أرجلهم ‪ ..‬مجع راجل أو رجل ‪ ،‬يطلق‬ ‫ّ‬
‫على الذكر واألنثى‪.‬‬
‫خف حلمه من اجلهد والتعب ‪..‬‬ ‫والضامر ‪ :‬النحيف ‪ ،‬الذي ّ‬
‫والفج العميق ‪ :‬الطريق الطويل بني مرتفعني ‪..‬‬
‫واملعىن أن اهلل س@ @@بحانه ‪ ،‬أمر إب@ @@راهيم ـ بعد أن أق@ @@ام ال@ @@بيت ـ أن ي@ @@ؤذن ىف الن@ @@اس ‪،‬‬
‫وي@ @@دعوهم إىل احلج إىل ه@ @@ذا ال@ @@بيت ‪ ..‬فإنه إن فعل ‪ ،‬وجد اآلذان اليت تس@ @@مع ه@ @@ذا الن@ @@داء‬
‫وتس@ @@تجيب له ‪ ،‬وإذا الن@ @@اس من كل مك@ @@ان ق@ @@ريب وبعيد ‪ ،‬قد ج@ @@اءوا حلج ه@ @@ذا ال@ @@بيت ـ‬
‫جييئون إليه ماشني على أق@ @ @@دامهم ‪ ،‬كما جييئون إليه راك@ @ @@بني من جه@ @ @@ات بعي@ @ @@دة ‪ ،‬فته@ @ @@زل‬
‫الزاد ‪ ،‬ويصيها الضمور ‪ ،‬وخفة اللحم‪.‬‬ ‫مطاياهم من طول السفر ‪ ،‬وقلة ّ‬
‫ـل فَ ٍّج َع ِميـ ٍـق) بن @@ون النّس @@وة ‪ ،‬لغري العاقل من اإلبل‬ ‫ين ِم ْن ُكـ ِّ‬ ‫ِ‬
‫ـ وىف قوله تع @@اىل ‪( :‬يَ ـأْت َ‬
‫@دواب وحنوها اليت يع@@ود إليها ه@@ذا الض@@مري ـ ىف ه@@ذا ما يشري إىل بعد الش@@قة اليت ج@@اءت‬ ‫وال@ ّ‬
‫منها ه@ @@ذه ال@ @@دواب براكبيها ‪ ،‬وأهنا قطعت طرقا طويلة موحشة ‪ ،‬ال أنيس فيها ‪ ،‬فك@ @@انت‬
‫هى وراكبوها كيانا واح @@دا ط @@وال ه @@ذه الرحلة ‪ ،‬حيث تقتسم معهم طع @@امهم وش @@راهبم ‪،‬‬
‫وتستمع إىل أحاديثهم وحدائهم ‪..‬‬
‫فاكتس@بت هبذا من مش@@اعر األلفة واألنس ‪ ،‬ما جعلها أق@@رب ش@@ىء إىل اإلنس@@ان منها‬
‫إىل احليوان ‪ ،‬حيث أنس اإلنسان هبا ‪ ،‬كما ي@أنس برفيق س@فره! فح ّ@ق هلا ـ واألمر ك@ذلك ـ‬
‫أن ختاطب خطاب العقالء ‪..‬‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫يمـ ِـة‬ ‫ِ‬ ‫(لِي ْش ـ َه ُدوا منــافِع ل َُهم وي ـ ْذ ُكروا ا ْس ـم ِ‬
‫اهلل فِي أَيَّ ٍام َم ْعلُومـ ٍـ‬
‫ـات َعلى ما َر َز َق ُه ْم م ْن بَ ِه َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ ْ ََ ُ‬ ‫َ‬
‫س الْ َف ِق َير)‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫اأْل َنْعام فَ ُكلُوا م ْنها َوأَطْع ُموا الْبائ َ‬
‫‪1017‬‬

‫اختلف ىف عدد األيام املعلومات تلك ‪ ..‬فهى معلومات الزمان ‪ ،‬جمهولة العدد ‪..‬‬
‫فقيل ‪ ،‬هى األي @@ام العش @@رة األوىل من ذى احلجة ‪ ،‬ويؤيد ه@@ذا ما روى عن ابن عمر‬
‫أحب إليه العمل‬
‫أن رسول اهلل صلى‌هللا‌عليه‌وسلم قال ‪« :‬ما من أيّام أعظم عند اهلل وال ّ‬
‫فيهن من هذه األي@@ام ‪ ،‬ف@أكثروا فيهن التهليل والتكبري والتحمي@د» ‪ ..‬وعلى ه@ذا ف ّس@ر بعض‬
‫ـال َع ْش ـ ٍر) بأهنا هى تلك األي@@ام العشر‬ ‫الص @@حابة اللي@@اىل العشر ىف قوله تع @@اىل ‪( :‬والْ َف ْجـ ِر ولَيـ ٍ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫‪ ..‬وقيل إن األي@ @ @@ام املعلوم@ @ @@ات ‪ ،‬هى ي@ @ @@وم النحر وثالثة أي@ @ @@ام بع@ @ @@ده ‪ ..‬وقيل ي@ @ @@وم النحر ‪،‬‬
‫ويومان من بعده ‪ ..‬وقيل يوم عرفة ‪ ،‬ويوم النحر ‪ ،‬ويوم آخر بعده‪.‬‬
‫والم التعليل ىف قوله تع @ @@اىل ‪( :‬لِيَ ْش ـ ـ َه ُدوا َمنـ ــافِ َع ل َُه ْم ‪ )..‬متعلق بقوله تع @ @@اىل ىف اآلية‬
‫ـل ضـ ِـام ٍر) ‪ ..‬أي ي@@أتى احلجيج إىل ه@@ذا ال@@بيت ليش @@هدوا‬ ‫وك ِرجــاالً َو َعلى ُكـ ِّ‬
‫الس @@ابقة ‪( :‬يَ ـأْتُ َ‬
‫منافع هلم ‪..‬‬
‫واملن@ @ @ @ @@افع اليت يش@ @ @ @ @@هدها الواف@ @ @ @ @@دون إىل بيت اهلل احلرام ‪ ،‬كث@ @ @ @ @@رية ‪ ،‬متنوعة ‪ ،‬ختتلف‬
‫حظوظ الناس منها ‪..‬‬
‫كل من يط@@وف‬ ‫فهناك منافع روحية تفيض من جالل املكان وروعته وبركته ‪ ،‬على ّ‬
‫حبم@ @@اه ‪ ،‬وي@ @@نزل س@ @@احته ‪ ،‬وذلك مبا يغشى ال@ @@روح من ه@ @@ذا احلشر العظيم ال@ @@ذي حشر فيه‬
‫جمردين من مت@@اع ال@@دنيا ‪ ،‬وما لبس@@وا فيها‬ ‫الن@@اس ‪ ،‬على هيئة واح@@دة ‪ ،‬ىف مالبس اإلح@@رام ‪ّ ،‬‬
‫من ج@@اه ‪ ،‬وس@@لطان ‪ ..‬إهنم هنا ىف ه@@ذا املوطن الك@@رمي على ص@@ورة س@@واء ‪ ،‬فيما ي@@أنون من‬
‫أعم@ @@ال احلج من ‪ ،‬س@ @@عى ‪ ،‬وط@ @@واف ‪ ،‬ووق@ @@وف بعرفة ‪ ،‬ورمى للجم@ @@رات ‪ ..‬ومن تلبية ‪،‬‬
‫رب العاملني ‪ ..‬إهنم ىف مشهد أشبه مبشهد احلشر ي@@وم القيامة ‪ ..‬حيث‬ ‫وتضرع ‪ ،‬وتعبّد هلل ّ‬
‫ولعل هذا‬‫للحى القيوم ‪ ،‬وحيث ختشع األصوات جلالله وقيومته ‪ّ ..‬‬ ‫تعنو الوجوه ّ‬
‫‪1018‬‬

‫بعض الس @ @ ّ@ر ىف جمىء آي @ @@ات احلج ىف ه @ @@ذه ال ّس@ @ @ورة اليت ب @ @@دئت هبذا الع @ @@رض املثري أله @ @@وال‬
‫ِ‬ ‫ســ َ ِ‬
‫َّاس َّات ُقـ ــوا َربَّ ُك ْم إِ َّن َزل َْزلَ ـ ـةَ ال َّ‬
‫يم َيـ ـ ْـو َم َت َر ْونَها‬
‫اعة َش ـ ـ ْيءٌ َعظ ٌ‬ ‫القيامة ومفازعها ‪( :‬يا أ َُّي َها الن ُ‬
‫َّاس ُسـكارى َوما ُه ْم‬ ‫ِ‬
‫ض ُع ُك ُّل ذات َح ْم ٍل َح ْملَها َوَتـ َـرى الن َ‬
‫ت َوتَ َ‬ ‫ض َع ٍة َع َّما أ َْر َ‬
‫ض َع ْ‬ ‫تَ ْذ َهل ُك ُّل مر ِ‬
‫ُْ‬ ‫ُ‬
‫اهلل َش ـدي ٌد) ‪ ..‬فما أق@@رب الش@@به بني م@@وكب احلجيج ‪ ،‬وبني احلشر‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫بِسـكارى ولك َّن َعــذاب ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫ىف هذا اليوم العظيم ‪..‬‬
‫احلج نفسه ‪ ،‬هو ص@@ورة مص@@غرة للحي@@اة اآلخ@@رة ‪ ،‬اليت تب@@دأ من املوت ‪ ،‬مث البعث‬ ‫إن ّ‬
‫‪ ،‬واحلشر ‪ ،‬واحلساب ‪ ،‬واجلزاء‪.‬‬
‫ولقد أحسن اإلم @@ام النس @@في ‪ ،‬رضى اهلل عنه ‪ ،‬ىف تص @@وير ه @@ذه الفريضة ‪ ،‬وىف عقد‬
‫الشبه بينها وبني احلياة اآلخرة‪.‬‬
‫ّ‬
‫يق@@ول ـ رضى اهلل عنه ـ ‪« :‬فاحلاج إذا دخل البادية ‪ ،‬ال يتكل فيها إال على عت@@اده ‪،‬‬
‫وال يأكل إال من زاده ‪ ،‬فك@@ذا املرء إذا خ@@رج من ش@@اطىء احلي@@اة ‪ ،‬وركب حبر الوف@@اة ‪ ،‬ال‬
‫ينفع وحدته إال ما س@ @@عى ىف معاشه ملع@ @@اده ‪ ،‬وال ي@ @@ؤنس وحش @@ته إال ما ك @@ان ي @@أنس به من‬
‫أوراده‪.‬‬
‫«وغسل من حيرم ‪ ،‬وتأهبه ‪ ،‬ولبسه غري املخيط ‪ ،‬وتطيّبه ـ م@ @ @@رآة ملا س @ @@يأتى عليه ‪،‬‬
‫من وضعه على سريره ‪ ،‬لغسله وجتهييزه ‪ ،‬مطيبا باحلنوط ‪ ،‬ملففا ىف كفن غري خميط!‪.‬‬
‫«مث احملرم ‪ ،‬يكون أشعث حريان ‪ ..‬فكذا يوم احلشر خيرج من القرب هلفان‪.‬‬
‫«ووقوف احلجيج بعرف@@ات ‪ ،‬آملني ‪ ،‬رغبا ورهبا ‪ ،‬س@@ائلني خوفا وطمعا ‪ ،‬وهم من‬
‫@قى وس@@عيد‬
‫بني مقب@@ول وخمذول ـ كموقف العرص@@ات ‪ ،‬ال تكلّم نفس إاّل بإذنه ‪ ،‬فمنهم ش@ ّ‬
‫‪..‬‬
‫‪1019‬‬

‫السوق لفصل القضاء!‬ ‫«واإلفاضة إىل املزدلفة باملساء ‪ ،‬هو ّ‬


‫«ومىن ‪ ،‬هو موقف املىن للمذنبني إىل شفاعة الشافعني ‪..‬‬
‫«وحلق الرأس والتنظيف ‪ ،‬كاخلروج من السيئات بالرمحة والتخفيف‪.‬‬
‫والبيت احلرام ‪ ،‬الذي من دخله كان آمنا من اإلي@@ذاء والقت@@ال ‪ ،‬أمنوذج ل@@دار الس@@الم‬
‫‪ ،‬اليت هى من نزهلا بقي ساملا من الفناء والزوال ‪»...‬‬
‫وهن@اك من@افع عقلية ‪ ،‬ومادية حيص@لها احلج@اج عن قصد ‪ ،‬وغري قصد ‪ ،‬حيث يلتقى‬
‫بعض @@هم ببعض وينظر بعض @@هم ىف أح @@وال بعض ‪ ،‬وىف البالد اليت ج @@اؤا منها ‪ ،‬وما ىف ه @@ذه‬
‫البالد من ص @@ور احلي @@اة ‪ ،‬وأعم @@ال النّ @@اس ‪ ،‬ومثرات أفك @@ارهم وأي @@ديهم ‪ ،‬وذلك فيما محل @@وه‬
‫معهم من آث@ @@ار احلي@ @@اة عن@ @@دهم ‪ ،‬وما ك @ @@ان هلم من جديد ومس@ @@تحدث ‪ ..‬وهبذا يتب@ @@ادلون‬
‫السلع بينهم ‪ ،‬بيعا وشراء ‪ ،‬أو يتهادوهنا ‪ ،‬مودة وإخاء‪.‬‬ ‫املعرفة ‪ ،‬كما يتبادلون ّ‬
‫ـات) ‪ ..‬األي@@ام املعلوم@@ات هى أي@@ام‬ ‫اهلل فِي أَيَّ ٍام َم ْعلُومـ ٍـ‬
‫ـ قوله تع @@اىل ‪( :‬وي ـ ْذ ُكروا ا ْس ـم ِ‬
‫َ‬ ‫ََ ُ‬
‫احلج ‪ ،‬اليت تتم فيها أعم @@ال ه @@ذه الفريضة ‪ ..‬وهى ىف أرجح األق @@وال عش @@رة األي @@ام األوىل‬
‫من ذى احلجة‪.‬‬
‫وال@ @@ذكر املراد هنا هو ه@ @@ذا ال@ @@ذكر اخلاص ‪ ،‬ال@ @@ذي يك@ @@ون ىف أعم@ @@ال احلج ‪ ..‬فكل‬
‫عمل من أعم@ @ @ @@ال احلج هو ذكر هلل ‪ ..‬ف@ @ @ @@اإلحرام ذكر ‪ ،‬والط@ @ @ @@واف ب@ @ @ @@البيت احلرام ذكر ‪،‬‬
‫واستالم احلجر األس@ود ذكر ‪ ..‬والس@عى بني الص@فا واملروة ذكر ‪ ..‬والوق@وف بعرفة ذكر ‪،‬‬
‫احلج كلّها ذكر ‪ ..‬حيث يلهج‬ ‫ورمى اجلم@رات ذكر ‪ ..‬وحرك@ات احلاج وس@كناته ىف أي@ام ّ‬
‫احلجيج دائما بالتلبية ‪ ،‬والتكبري ‪..‬‬
‫دل عليه‬ ‫يم ـ ِـة اأْل َنْعـ ـ ِـام) هو متعلق مبح @ @@ذوف ّ‬‫ـ وقوله تع @ @@اىل ‪َ ( :‬على ما َر َز َق ُه ْم ِم ْن بَ ِه َـ‬
‫ـات) والتق@@دير وي@@ذكروه على ما رزقهم من‬ ‫اهلل فِي أَيَّ ٍام َم ْعلُومـ ٍـ‬‫قوله تع@@اىل ‪( :‬وي ـ ْذ ُكروا ا ْسـم ِ‬
‫َ‬ ‫ََ ُ‬
‫هبيمة األنعام ‪..‬‬
‫‪1020‬‬

‫ه @ @ @ @@ذا ‪ ،‬ويك @ @ @ @@اد إمجاع املف ّس@ @ @ @ @رين ينعقد على أن قوله تع @ @ @ @@اىل ‪َ ( :‬على ما َر َز َق ُه ْم ِم ْن‬
‫ـات) ‪ ..‬وعلى أن ذكر اسم‬ ‫اهلل فِي أَيَّ ٍام م ْعلُومـ ٍ‬
‫ب ِهيمـ ِـة) متعلق بقوله تع@@اىل ‪( :‬وي ـ ْذ ُكروا ا ْسـم ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ََ ُ‬ ‫َ َ‬
‫اهلل ىف ه @@ذه األي @@ام املعلوم @@ات واقع على (ما َر َز َق ُه ْم ِم ْن بَ ِه َيمـ ِـة اأْل َنْعـ ِـام) وهى اهلدى املس @@اق‬
‫إىل بيت اهلل ‪ ،‬مبعىن أهنم يذكرون اسم اهلل عند حنر ما يق ّدمون من هدى ‪..‬‬
‫وال @ @@ذي ن @ @@راه ـ واهلل أعلم ـ أن قيد ذكر اسم اهلل على هبيمة األنع @ @@ام ىف تلك األي@ @@ام‬
‫املعلومات غري مقبول ‪ ،‬وذلك من أكثر وجه ‪:‬‬
‫ختتص به أنع @@ام اهلدى وح @@دها ‪ ،‬بل هو‬ ‫ف @@أوال ‪ :‬ذكر اسم اهلل على هبيمة األنع @@ام ال ّ‬
‫أمر واجب ىف كل ما ي @@ذبح من حي @@وان لألكل ‪ ،‬س @@واء ما ك @@ان منه ه @@ديا أو غري ه @@دى ‪،‬‬
‫حيل أكل حي@@وان ذبح من غري أن ي@@ذكر اسم اهلل عليه ‪ ،‬وه@@ذا ص@@ريح ىف قوله تع@@اىل‬ ‫وأنه ال ّ‬
‫اهلل َعلَْي ـ ِـه ‪َ ..‬وإِنَّهُ ل َِف ْسـ ـ ٌق) ‪ : 121( ..‬األنع @@ام) وىف قوله‬ ‫‪( :‬وال تَـ ـأْ ُكلُوا ِم َّما لَم ي ـ ْذ َك ِر ا ْس ـم ِ‬
‫ُ‬ ‫ُْ‬ ‫َ‬
‫ِ‬
‫ِ ِِ ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ين) (‪ : 118‬األنع@@ام) ‪ ..‬فقد‬ ‫اس ُم اهلل َعلَْيه إِ ْن ُك ْنتُ ْم بآياته ُمـ ْـؤمن َ‬
‫سبحانه ‪( :‬فَ ُكلُوا م َّما ذُك َر ْ‬
‫ج@ @ @@اء النهى ىف اآلية األوىل ص@ @ @@رحيا قاطعا ‪ ،‬كما ج@ @ @@اء األمر باألكل ىف اآلية الثانية ‪ِ ( :‬م َّما‬
‫اهلل َعلَْي ِه) متضمنا النهى ـ مبفهوم املخالفة ـ عن األكل مما مل يذكر اسم اهلل عليه‪.‬‬ ‫اسم ِ‬
‫ذُك َر ْ ُ‬
‫ِ‬
‫وعلى هذا ‪ ،‬يك@@ون ختص@@يص ذكر اسم اهلل ىف األي@@ام املعلوم@@ات ‪ ،‬وقص@@ره على هبيمة‬
‫حمل له ‪ ،‬إذ ال جديد فيه ‪ ،‬األمر ال@ @ @ @@ذي جيعل اآلية معطلة عن إعط@ @ @ @@اء معىن‬ ‫األنع@ @ @ @@ام ـ ال ّ‬
‫يس@@تفاد منه@@ا‪ .‬وذلك مما ت@ ّ@نزهت عنه آي@@ات اهلل وكلمات@@ه‪ .‬وىف ه@@ذا يق@@ول ابن ح@@زم ىف كتابه‬
‫@حى ليال ‪ ،‬حمتجا بقوله تع@@اىل ‪َ ( :‬ويَـ ْذ ُك ُروا‬ ‫ردا على من يق@@ول بأنه ال جيوز أن يض@ ّ‬ ‫«احمللّى» ّ‬
‫ومات َعلى ما َر َز َق ُه ْم ِم ْن‬
‫اهلل فِي أَيَّ ٍام َم ْعلُ ٍـ‬
‫اسم ِ‬
‫َْ‬
‫‪1021‬‬

‫بَ ِه َيمـ ِـة) ‪ ..‬وب@@أن اهلل تع@@اىل ذكر األي@@ام ومل ي@@ذكر اللي@@اىل ‪ ..‬يق@@ول ابن ح@@زم ىف مع@@رض ال@@رد‬
‫على هذا ‪:‬‬
‫«ألن اهلل تع @@اىل مل ي @@ذكر ىف ه @@ذه اآلية ذحبا ‪ ،‬وال تض @@حية ‪ ،‬وال حنرا ‪ ،‬ال ىف هنار ‪،‬‬
‫وال ىف ليل ‪ ،‬وإمنا أمر اهلل تع @@اىل ب@@ذكره ىف تلك األي @@ام املعلوم @@ات ‪ ..‬أف @@رتى حيرم ذك @@ره ىف‬
‫لياليهن؟ إن هذا لعجب! (‪.)1‬‬
‫وحق البن حزم ـ رضى اهلل عنه ـ أن يعجب ‪ ،‬ويعجب!‪.‬‬ ‫ّ‬
‫وثانيا ‪ :‬ج@ @@اء ىف آية أخ@ @@رى بعد ه@ @@ذه اآلية ‪ ،‬أمر خ@ @@اص ب@ @@ذكر اسم اهلل على هبيمة‬
‫األنعام هذه ‪ ،‬اليت تساق هديا لل@@بيت احلرام ‪ ،‬وذلك ىف قوله تع@@اىل ‪َ ( :‬والْبُ ْد َن َج َعلْناها لَ ُك ْم‬
‫واف ‪ ..‬فَ ـِإذا َو َجبَ ْ‬
‫ص ـ َّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫ت ُجنُوبُها‬ ‫م ْن َش ـعائ ِر اهلل ‪ ..‬لَ ُك ْم فيها َخ ْـي ٌـر ‪ ..‬فَــاذْ ُك ُروا ا ْس ـ َم اهلل َعلَْيها َ‬
‫فَ ُكلُوا ِم ْنها َوأَط ِْع ُموا الْقانِ َع َوال ُْم ْعَت َّر) (اآلية ‪.)36 :‬‬
‫وه@ @ @ @ @@ذا األمر اخلاص ب@ @ @ @ @@ذكر اسم اهلل على أنع@ @ @ @ @@ام اهلدى عند ذحبها ‪ ،‬هو تنويه هبذه‬
‫ال@@ذبائح ‪ ،‬وإش@@عار بأهنا قرب@@ان هلل ‪ ،‬وأهنا ش@@عرية من ش@@عائر اهلل ‪ ،‬وعمل من أعم@@ال احلج ‪،‬‬
‫وأهنا ليست جملرد األكل ‪ ،‬وإمنا هى للرّب واإلحس@ @ @ @ @ @@ان إىل الفق@ @ @ @ @ @@راء ‪ ،‬حيث يطعم@ @ @ @ @ @@ون من‬
‫حلومها ‪ ،‬ويشاركون أصحاهبا ىف األكل منها ‪..‬‬
‫فليس األمر ب@@ذكر اسم اهلل على ه@@ذه األنع@@ام عند حنرها ‪ ،‬هو إنش@@اء هلذا األمر ‪ ،‬بل‬
‫هو توكيد لألمر الع@ @@ام ب@ @@ذكر اهلل على ما ي@ @@ذبح ‪ ،‬وأن ذكر اهلل هنا ينش@ @@ىء ش@ @@عورا خاصا‬
‫بأن هذه األضاحى ليست ملكا خاصا ألصحاهبا ‪ ،‬وإمنا هى قسمة بينهم وبني الفقراء!‪.‬‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬احمللى ‪ :‬اجلزء السابع ص ‪.446‬‬
‫‪1022‬‬

‫وثالثا ‪ :‬قصر ذكر اسم اهلل ىف األي@ @ @ @@ام املعلوم@ @ @ @@ات ‪ ،‬على هبيمة األنع@ @ @ @@ام (اهلدى) قد‬
‫أوقع املفسرين والفقهاء ىف خالف ش@ديد ‪ ،‬ىف حتديد امليق@ات ال@ذي ت@ذبح فيه األض@احى ‪..‬‬
‫وهل ت@ @ @@ذبح ي@ @ @@وم النحر ‪ ،‬أو ىف الثالثة األي@ @ @@ام املكملة لي@ @ @@وم النحر ‪ ،‬أو آلخر ي@ @ @@وم من ذى‬
‫احلجة؟ ىف كل هذا آراء ‪..‬‬
‫ذلك ‪ ..‬أن ذكر اسم اهلل ىف أي@ @@ام معلوم@ @@ات ‪ ،‬قد أفسح للمفس@ @@رين والفقه@ @@اء جمال‬
‫النظر ىف ه @@ذه األي @@ام ‪ ،‬اليت ت @@ذبح فيها األض @@احى ‪ ..‬إهنا أي @@ام ‪ ،‬وليست يوما ‪ ..‬وإذن فقد‬
‫حترى الوقت املناسب من هذه األيام لذحبها ‪ ..‬وقد كان!!‬ ‫لزم االجتهاد ىف ّ‬
‫ففى رأى أىب يوسف وحممد ـ صاحىب أىب حنيفة ـ أهنا أيام النحر ‪ ،‬وع@ ّدهتا ثالثة أي@ام‬
‫‪ ..‬يوم العيد ‪ ،‬ويومان بعده ‪..‬‬
‫وعن الشافعي ‪ ،‬واحلسن وعطاء ‪ ،‬أهنا أربعة أيام ‪ ،‬يوم العيد ‪ ،‬وثالثة أيام بعده ‪..‬‬
‫وعند ابن سريين ‪ ،‬يوم واحد ‪ ،‬هو يوم النحر‪.‬‬
‫وعند أىب سلمة ‪ ،‬وسليمان بن يسار ‪ ،‬أهنا إىل هالل احملرم ‪!..‬‬
‫فأى يوم من تلك األيام ينحر فيه اهلدى ‪ ،‬هو جمز ىف حدود هذه املقوالت‪.‬‬
‫ك‬‫ص ـ ـ ِّل لَِربِّ َ‬ ‫وه @ @@ذا كلّه ـ فيما ن @ @@رى ـ خمالف لقوله تع @ @@اىل ‪( :‬إِنَّا أَ ْعطَْينـ ـ َ‬
‫ـاك الْ َـك ـ ْـو َث َر فَ َ‬
‫ص@الة ‪ ..‬حيث‬ ‫َوانْ َح ْر) حيث قرن األمر النحر بالصالة ‪ ،‬اليت هى صالة العيد ‪ ،‬ال مطلق ال ّ‬
‫احلج هبذا القرب @@ان ‪ ،‬وحيث ين @@الون‬ ‫يتحلل احلجيج من إح @@رامهم ‪ ،‬وحيث خيتم @@ون أعم @@ال ّ‬
‫ش @@يئا من حظ @@وظ ال @@دنيا هبذا الطع @@ام من اللّحم ىف ه @@ذا الي @@وم ‪ ،‬وحيث يش @@رتكون مجيعا ىف‬
‫هذه املائدة اليت دعاهم اهلل إليها ‪،‬‬
‫‪1023‬‬

‫احملرم ‪ ..‬وهذا مما ال ميكن حتصيله إذا وقع الذبح بعد هذا اليوم ‪ ،‬حيث‬ ‫وهم ىف ضيافة بيته ّ‬
‫يتف @@رق احلجيج ‪ ،‬ويأخذ كل طريقه إىل الع @@ودة من حيث أتى ‪ ..‬مث من جهة أخ @@رى ن @@رى‬
‫أعم @ @ @@ال احلج كلها جترى ىف ص @ @ @@ورة مجاعية ‪ ..‬وليس هن @ @ @@اك من حكمة ظ @ @ @@اهرة ىف إف @ @ @@راد‬
‫اهلدى هبذا التحلل من قيد اجلماعية ىف الوقت الذي يذبح فيه!‬
‫اهلل) على أن «اسم اهلل»‬ ‫ه @@ذا ‪ ،‬ورمّب ا فهم بعض @@هم من قوله تع @@اىل ‪( :‬لِي ـ ْذ ُكروا ا ْس ـم ِ‬
‫َ‬ ‫َ ُ‬
‫ال ي @@ذكر إال عند ال @@ذبح ‪ ،‬أما ال @@ذكر مبعن @@اه املطلق ‪ ،‬فهو ذكر اهلل مثل قوله تع @@اىل ‪( :‬فَ ـِإذا‬
‫ـاء ُك ْم أ َْو أَ َش ـ َّد ِذ ْكــراً) (‪ : 200‬البق @@رة) وقوله‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ض ـ ْيتُ ْم َمناس ـ َك ُك ْم فَ ــاذْ ُك ُروا اهللَ َكــذ ْك ِر ُك ْم آب ـ َ‬
‫قَ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫تع@@اىل‪َ ( :‬واذْ ُك ُروا اهللَ َكثيراً ل ََعلَّ ُك ْم ُت ْفل ُحــو َن) (‪ : 10‬اجلمع@@ة) وقوله س@@بحانه ‪َ ( :‬والـ َّـذاك ِر َ‬
‫ين‬
‫رات) (‪ : 35‬األحزاب) ‪ ..‬فحيث أريد ذكر اهلل ‪ ،‬أي تس@@بيحه ومحده مل‬ ‫الذاكِ ِ‬ ‫اهللَ َكثِيراً َو َّ‬
‫تقرن به به كلمة «اسم» على حني أن كلمة «اسم» قد ج@اءت مع لفظ اجلاللة عند إرادة‬
‫تزكية احلي@@وان وذحبه ‪ ،‬كما ىف قوله تع@@اىل ‪( :‬فَ ُكلُـوا ِم َّما ذُكِـر ا ْسـم ِ‬
‫اهلل َعلَْيـ ِـه إِ ْن ُك ْنتُ ْم بِآياتِـِـه‬ ‫َ ُ‬
‫مـ ْـؤ ِمنِين وما لَ ُكم أَاَّل تَ ـأْ ُكلُوا ِم َّما ذُكِــر ا ْس ـم ِ‬
‫اهلل َعلَْيـ ِـه َوقَ ـ ْد فَ َّ‬
‫ص ـ َل لَ ُك ْم ما َحـ َّـر َم َعلَْي ُك ْم إِاَّل َما‬ ‫َ ُ‬ ‫ْ‬ ‫ُ ََ‬
‫ضطُ ِررتُم إِل َْي ِه) (‪ 118‬ـ ‪ : 119‬األنعام) وقوله تعاىل ‪( :‬وال تَأْ ُكلُوا ِم َّما لَم ي ـ ْذ َك ِر ا ْسـم ِ‬
‫اهلل‬ ‫ُ‬ ‫ُْ‬ ‫َ‬ ‫اْ ْ ْ‬
‫َعلَْي ِه َوإِنَّهُ ل َِف ْس ٌق) (‪ : 121‬األنعام)‪.‬‬
‫املفسرين والفقهاء خيصصون ذكر اسم اهلل ىف‬‫نقول ‪ :‬لعل هذا هو الذي جعل أكثر ّ‬
‫آية احلج بالذكر على هبيمة األنعام عند الذبح‪.‬‬
‫ونق @@ول ‪ :‬إن اق@@رتان كلمة «اس@@م» بلفظ اجلاللة هك @@ذا ‪« :‬اسم اهلل» ال ينهض دليال‬
‫على اختصاص ذكر اسم اهلل بذبح احليوان ‪ ..‬فقد جاء ىف آي@@ات أخ@@رى ‪ ،‬ال@دعوة إىل ذكر‬
‫اهلل ‪ ،‬مقرتنة بلفظ «اسم» كما ىف قوله تعاىل ‪:‬‬
‫‪1024‬‬

‫ك اأْل َ ْعلَى) (‪ : 1‬األعلى) وقوله س@@بحانه ‪( :‬قَـ ْد أَ ْفلَ َح َم ْن َتـ َـز َّكى َوذَ َكـ َـر ا ْسـ َم‬
‫( َسـبِّ ِح ا ْسـ َم َربِّ َ‬
‫ك ال َْع ِظ ِيم) (‪: 52‬‬ ‫س ـبِّ ْح بِا ْس ـ ِم َربِّ َ‬
‫ص ـلى) (‪ 14‬ـ ‪ : 15‬األعلى) وقوله جل ش@@أنه ‪( :‬فَ َ‬
‫َربِِّه فَ َ َّ‬
‫احلاقة)‪.‬‬
‫وعلى ه@ @@ذا ‪ ،‬ف@ @@إن املراد ـ واهلل أعلم ـ من ذكر اسم اهلل ىف األي@ @@ام املعلوم@ @@ات ‪ ،‬هو‬
‫ص@ @ا على‬ ‫ذك @@ره ذك @@را عاما مطلقا بكل اسم من أمسائه ج @ ّ@ل وعال ‪ ..‬مث ذكر امسه ذك @@را خا ّ‬
‫هبيمة األنعام عند ذحبها‪.‬‬
‫وش@بهة أخ@@رى رمبا وردت على تفكري بعض املف ّس@رين ال@ذين خصص@وا ذكر اسم اهلل‬
‫ىف األي@ @@ام املعلوم@ @@ات ‪ ،‬وقص@ @@روه على هبيمة األنع@ @@ام املس@ @@وقة ه@ @@ديا لل@ @@بيت احلرام ‪ ..‬وتلك‬
‫اهلل فِي‬
‫الش@@بهة هى تع @ ّدى فعل ال@@ذكر حبرف اجلر «على» ىف قوله تع@@اىل ‪( :‬وي ـ ْذ ُكروا ا ْس ـم ِ‬
‫َ‬ ‫ََ ُ‬ ‫ّ‬
‫ومات َعلى ما َر َز َق ُه ْم ِم ْن بَ ِه َيمـ ِـة اأْل َنْعـ ِـام) ‪ ..‬ف@@إن تع@ ّدى ه@@ذا الفعل حبرف االس@@تعالء‬
‫أَيَّ ٍام َم ْعلُ ٍـ‬
‫«على» قد يك@@ون قرينة عن@@دهم على أن ذكر اسم اهلل هنا إمنا يقع على هبيمة األنع@@ام ‪ ،‬ولو‬
‫اجلر ه@@ذا ‪ ،‬ال@@ذي يشري إش@@ارة واض@@حة إىل الش@@يء‬ ‫ك@@ان ذك@@را عاما ملا تع @ ّدى الفعل حبرف ّ‬
‫املراد ذكر اسم اهلل عليه‪.‬‬
‫اجلر «على» ال يقضى ب @@أن يك @@ون‬ ‫وجوابنا على ه @@ذا ‪ ،‬أن تعدية فعل ال @@ذكر حبرف ّ‬
‫احلرف لالس@ @@تعالء ‪ ،‬وأن يك@ @@ون االس@ @@تعالء واقعا على هبيمة األنع@ @@ام ‪ ،‬وإمنا ال@ @@ذي يقتض @@يه‬
‫«اجلر» الس@ @ @@ببية ال لالس@ @ @@تعالء ‪ ،‬كما ىف قوله تع@ @ @@اىل ‪:‬‬ ‫املق@ @ @@ام هنا ‪ ،‬هو أن يك@ @ @@ون ح@ @ @@رف ّ‬
‫ْملُـوا ال ِْع َّـد َة َولِتُ َكِّب ُروا اهللَ َعلى ما َهـدا ُك ْم) (‪ : 185‬البق@@رة) أي بس@@بب هدايته لكم ‪،‬‬ ‫(ولِتُك ِ‬
‫َ‬
‫وتوجيه قلوبكم وعقولكم إىل اإلميان به ‪..‬‬
‫ـات َعلى ما‬ ‫اهلل فِي أَيَّ ٍام م ْعلُوم ـ ٍ‬
‫وعلى ه @@ذا يك @@ون معىن قوله تع @@اىل ‪( :‬وي ـ ْذ ُكروا ا ْسـ ـم ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ََ ُ‬
‫َر َز َق ُه ْم ِم ْن بَ ِه َيم ِة اأْل َنْعـ ِـام) أي ي@@ذكروا اسم اهلل بس@@بب ما رزقهم من هبيمة األنع@@ام ‪ ،‬وذللها‬
‫وأحل هلم حلومها‪.‬‬‫ّ‬ ‫هلم ‪،‬‬
‫‪1025‬‬

‫وعلى ه@ @@ذا ‪ ،‬ف@ @@إن ال@ @@رأى ـ واهلل أعلم ـ أن يتعلق قوله تع@ @@اىل ‪َ ( :‬على ما َر َز َق ُه ْم ِم ْن‬
‫@دل عليه الفعل الس @@ابق ‪ ،‬ويك @@ون النظم الق @@رآىن هك @@ذا ‪( :‬لِيَ ْش ـ َه ُدوا‬ ‫بَ ِه َيمـ ِـة اأْل َنْع ـ ِـام) بفعل ي @ ّ‬
‫يمـ ـ ِـة‬ ‫ِ‬ ‫اهلل فِي أَيَّ ٍام َم ْعلُومـ ـ ٍـ‬
‫منـ ــافِع ل َُهم وي ـ ـ ْذ ُكروا ا ْس ـ ـم ِ‬
‫ـات) (وي@ @@ذكروه) ( َعلى ما َر َز َق ُه ْم م ْن بَ ِه َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ ْ ََ ُ‬
‫عام) ‪ ..‬هذا ‪ ،‬واهلل أعلم‪.‬‬ ‫اأْل َنْ ِ‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫ور ُه ْم َولْيَطََّّوفُوا بِالَْب ْي ِت ال َْعتِ ِيق)‪.‬‬
‫ضوا َت َف َث ُه ْم َولْيُوفُوا نُ ُذ َ‬
‫(ثُ َّم لَْي ْق ُ‬
‫هو تعقيب على ما ج @ @ @@اء ىف قوله تع @ @ @@اىل ىف اآلية الس @ @ @@ابقة ‪( :‬لِيَ ْش ـ ـ ـ َه ُدوا َمنـ ـ ــافِ َع ل َُه ْم‬
‫يمـ ـ ـ ِـة اأْل َنْع ـ ـ ـ ِـام ‪ ..‬فَ ُكلُـ ـ ــوا ِم ْنها‬ ‫ِ‬ ‫اهلل فِي أَيَّ ٍام َم ْعلُومـ ـ ـ ٍـ‬
‫ـات َعلى ما َر َز َق ُه ْم م ْن بَ ِه َ‬
‫ويـ ـ ـ ـ ْذ ُكروا ا ْس ـ ـ ـم ِ‬
‫َ‬ ‫ََ ُ‬
‫ِ‬
‫س الْ َفق َير)‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َوأَطْع ُموا الْبائ َ‬
‫واملعىن ‪ :‬أنه بعد ه@@ذه األعم@@ال اليت تتم هبا فريضة احلج ‪ ،‬يع@@ود احلجيج إىل أنفس@@هم‬
‫‪ ،‬لينظروا ىف شئوهنم اخلاصة اليت أمهلوها ىف أيام احلج ‪ ،‬ومل يلتفتوا إليها ‪ ،‬حيث استغرقهم‬
‫االجتاه اخلالص إىل اهلل‬
‫قص ش@ @@عورهم ‪ ،‬وتقليم أظ@ @@افرهم ‪ ،‬وه@ @@ذا أول م@ @@دخل‬ ‫وأول ما ينظ@ @@رون فيه ‪ ،‬هو ّ‬
‫ي @@دخلون به إىل ال @@دنيا ‪ ،‬بعد أن خرج @@وا منها منذ أول حلظة دخل @@وا هبا ىف مالبس اإلح @@رام‬
‫ضوا َت َف َث ُه ْم)‪.‬‬
‫‪ ..‬وهذا ما عرّب عنه القرآن بقوله تعاىل ‪( :‬ثُ َّم لَْي ْق ُ‬
‫والتّفث ‪ :‬ما يعلق باإلنسان من قذر يتأذّى به ‪ ،‬ويطلب اخلالص منه‪.‬‬
‫وهو هبذا املعىن أش@ @ @@به ب@ @ @@الرفث ‪ ..‬وه@ @ @@ذا يعىن أنه حاجة من ح@ @ @@اج اإلنس@ @ @@ان ‪ ،‬ومن‬
‫مطالبه اجلسديّة ‪ ..‬سواء أكان ذلك بدفعها ‪ ،‬أو جبلبها ‪..‬‬
‫ض ـوا َت َف َث ُه ْم) إش @@ارة معج @@زة إىل أن ه @@ذه األم @@ور وأمثاهلا ‪،‬‬ ‫وىف قوله تع @@اىل ‪( :‬ثُ َّم لَْي ْق ُ‬
‫وإن ك@@انت من حاج@@ات اإلنس@@ان ‪ ،‬فإهنا ليست من ص@@ميم مطالبه اليت ينبغى أن تك@@ون ىف‬
‫االعتبار األول عنده ‪ ،‬مما يتصل حباجات العقل والروح ‪،‬‬
‫‪1026‬‬

‫ومما يكسو اإلنس @@ان من مع @@اىن اإلنس @@انية ما هو خليق به ‪ ،‬وبالكم @@ال ال @@ذي ينبغى أن يقيم‬
‫وجهه دائما عليه ‪..‬‬
‫إنه ال ب@ @@أس من أن يأخذ اإلنس@ @@ان حظه من مط@ @@الب اجلسد ‪ ،‬فيتجمل ىف مظه@ @@ره ‪،‬‬
‫جتمل الباطن‬ ‫عما هو أوىل ‪ ،‬وأكرم وهو ّ‬ ‫ويسوى من صورته ‪ ،‬ولكن على أال يشغله ذلك ّ‬ ‫ّ‬
‫وتس@@ويته على أكمل ص@@ورة وأحس@@نها ‪ ،‬علما ‪ ،‬وخلقا ‪ ..‬ف@@ذلك هو اإلنس@@ان ال@@ذي يري@@ده‬
‫اإلسالم‪.‬‬
‫إنه يري@ @@ده حسن الظ@ @@اهر والب@ @@اطن ‪ ،‬مجيل املظهر واملخرب ‪ ،‬نظيف اإلن@ @@اء وما حيتويه‬
‫اإلناء ‪!..‬‬
‫ور ُه ْم) ‪ ..‬أي ليؤدوا هلل ما كانوا قد ن@@ذروه ‪ ،‬تقربا إليه ‪،‬‬ ‫وقوله تعاىل ‪َ ( :‬ولْيُوفُوا نُ ُذ َ‬
‫من ذب@@ائح ‪ ،‬وص@@دقات وغريها ‪ ..‬وإن خري وقت للوف@@اء هبذه الن@@ذور هو ىف ه@@ذا ال@@وقت ‪،‬‬
‫وىف ه@ @@ذا املوطن ‪ ..‬بل إن ه@ @@ذا يك@ @@اد يك@ @@ون أم@ @@را الزما هنا ‪ ،‬حيث س@ @@بق آخر عمل من‬
‫أعم @@ال احلج ‪ ،‬وهو الط @@واف ب @@البيت الع @@تيق ‪ ،‬ط @@واف ال @@وداع ‪ ..‬كما يق @@ول س @@بحانه بعد‬
‫ذلك ‪َ ( :‬ولْيَطََّّوفُــوا بِــالَْب ْي ِت ال َْعتِيـ ِـق) ‪ ..‬فبالوف@@اء بالن@@ذور ‪ ،‬وب@@الطواف ب@@البيت ‪ ،‬ختتم أعم@@ال‬
‫احلج ‪ ..‬وكما كان أول أعمال احلج ‪ ،‬هو لقاء البيت العتيق والط@@واف به ط@@واف تس@@ليم ‪،‬‬
‫يكون آخر عمل من أعمال احلج ‪ ،‬هو الطواف بالبيت ‪ ،‬طواف وداع واستئذان وش@كر ‪،‬‬
‫ملا لقى ىف رحاب هذا البيت من ألطاف اهلل ‪ ،‬وأفضاله ‪ ،‬وما تلقى من آالئه ونعمائه ‪..‬‬
‫ووصف ال @@بيت ب@ @@العتق ‪ ،‬ألنه أول بيت هلل وضع للن @@اس على األرض ‪ ..‬ف@ @@العتق هنا‬
‫من العتاقة ‪ ،‬وهى الق@ @@دم ‪ ،‬ال@ @@ذي هو ص@ @@فة من ص@ @@فات اهلل ‪ ..‬ف@ @@إذا ك@ @@ان الق@ @@دم ىف مق@ @@ام‬
‫الفضل واإلحس@@ان ‪ ،‬فهو تق @ ّدم ىف الدرجة ‪ ،‬وس@@بق ىف اإلحس@@ان ‪ ..‬وهبذا يك@@ون أهال ألن‬
‫يأخذ مك@@ان اإلمامة على غ@@ريه ‪ ..‬وقد اس@@تحق املؤمن@@ون الس@@ابقون من امله@@اجرين واألنص@@ار‬
‫أن يكونوا وجه اإلسالم ‪،‬‬
‫‪1027‬‬

‫س ـابِ ُقو َن‬


‫وق @@دوة املس @@لمني ‪ ،‬وأن يكون @@وا أق @@رب عب @@اد اهلل إىل اهلل كما يق @@ول س @@بحانه ‪َ ( :‬وال َّ‬
‫ِ‬ ‫َّات الن َِّع ِيم ُثلَّةٌ ِمن اأْل ََّولِين وقَلِيـ ِ‬
‫ـك الْم َق َّرب ــو َن فِي جن ِ‬ ‫ِ‬
‫ين َعلى ُس ـ ُر ٍر‬ ‫ـل م َن اآْل ـخ ِر َ‬
‫ََ ٌ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫س ـابِ ُقو َن أُولئـ َ ُ ُ‬ ‫ال َّ‬
‫ين) (‪ 10‬ـ ‪ : 16‬الواقعة)‪.‬‬ ‫ِِ‬ ‫مو ُ ٍ ِ ِ‬
‫ين َعلَْيها ُمتَقابل َ‬ ‫ضونَة ُمتَّكئ َ‬ ‫َْ‬
‫ووص@@فت اخليل الكرمية ب@@العتق والعتاقة ‪ ،‬فيق@@ال خيل عت@@اق ‪ ،‬ألهنا تس@@بق غريها من‬
‫اخليل ‪ ،‬ووصف الرقيق ال@ @ @ @@ذي حترر من ال@ @ @ @@رق بأنه ع@ @ @ @@تيق ‪ ،‬ألن س@ @ @ @@بق األرق@ @ @ @@اء ال@ @ @ @@ذين مل‬
‫يتحرروا ‪ ..‬إىل التحرر ‪..‬‬
‫@التطوف» إش@ارة إىل اإلكث@ار منه ‪ ،‬وأنه أك@ثر من ط@واف‬ ‫وىف التعبري عن الط@واف «ب ّ‬
‫«تطوف» أكثر حروفا من «طاف»!‬ ‫واحد ‪ ..‬فالفعل ّ‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫ـام إِاَّل ما ُي ْتلى‬
‫ت لَ ُك ُم اأْل َنْعـ ُ‬ ‫اهلل َف ُهـ َـو َخ ْـي ٌـر لَــهُ ِع ْنـ َد َربِِّه َوأ ُِحلَّ ْ‬
‫مات ِ‬ ‫ك ومن يعظِّم حر ِ‬
‫(ذل َ َ َ ْ ُ َ ْ ُ ُ‬
‫ِ‬
‫الزو ِر)‪.‬‬ ‫اجتَنِبُوا َق ْو َل ُّ‬ ‫الر ْجس ِمن اأْل َو ِ‬ ‫َعلَْي ُكم فَ ْ ِ‬
‫ثان َو ْ‬ ‫اجتَنبُوا ِّ َ َ ْ‬ ‫ْ‬
‫ـك) إش@ @@ارة إىل ما ج @ @@اءت به اآلي@ @@ات الس@ @@ابقة من أحك@ @@ام ‪ ..‬أي ذلك ال @ @@ذي‬ ‫(ذلِ ـ ـ َ‬
‫ج@@اءت به اآلي@@ات الس@@ابقة قد علمتم@@وه ‪ ..‬وأمر آخر ‪ ،‬جيب أن تعلم@@وه وتعمل@@وا به ‪ ،‬وهو‬
‫اهلل َف ُه َو َخ ْي ٌر لَهُ ِع ْن َد َربِِّه)‪.‬‬
‫مات ِ‬ ‫أن (من يعظِّم حر ِ‬
‫َ ْ َُ ْ ُ ُ‬
‫وتعظيم حرمات ‪ ،‬اهلل هو االلتفات إليها ‪ ،‬وتقديرها قدرها ‪ ،‬ىف غري اس@@تخفاف هبا‬
‫@تخف هبا هلك ‪ ،‬ومن مل يأخذ ح @@ذره منها ه @@وى وس @@قط ‪..‬‬ ‫‪ ..‬فهى أمر عظيم ‪ ..‬من اس @ ّ‬
‫وكان من الضالني ‪..‬‬
‫عملى حلرم@@ات‬ ‫ـام إ ما ُي ْتلى َعلَْي ُك ْم) ـ هو تط@@بيق ّ‬ ‫وقوله تع@@اىل ‪َ ( :‬وأ ُِحلَّ ْ‬
‫ت لَ ُك ُم اأْل َنْعـ ُ ِاَّل‬
‫حرمه‬ ‫اهلل ‪ ..‬فهناك من هبيمة األنعام ‪ ،‬ما أحله اهلل ‪ ،‬وهناك ما ّ‬
‫‪1028‬‬

‫احملرم هو من حرم@ @ @@ات اهلل ال@ @ @@واجب تعظيمها ‪ ،‬وت@ @ @@وقى االس@ @ @@تخفاف هبا ‪،‬‬ ‫منها ‪ ..‬وه@ @ @@ذا ّ‬
‫والدنو منها ‪..‬‬
‫ّ‬
‫وما يتلى ‪ ،‬هو ما ذكر ىف كت@@اب اهلل من البه@@ائم احملرمة ‪ ،‬وهى اليت ج@@اءت ىف قوله‬
‫ـل لِغَْي ـ ـ ِر ِ‬
‫اهلل بِـ ـ ِـه َوال ُْم ْن َخنِ َقـ ـ ةُ‬ ‫ْخ ْن ِزي ـ ـ ِر َوما أ ُِهـ ـ َّ‬
‫ت َعلَي ُكم الْميتَ ـ ـةُ والـ ــدَّم ولَحم ال ِ‬
‫تع @ @@اىل ‪ُ ( :‬حـ ـ ِّـر َم ْ ْ ُ َ ْ َ ُ َ ْ ُ‬
‫ِ‬
‫سـ ـبُ ُع إِاَّل ما ذَ َّك ْيتُ ْم َوما ذُبِ َح َعلَى النُّ ُ‬
‫صـ ـ ِ‬
‫ب َوأَ ْن‬ ‫يحـ ـ ةُ َوما أَ َكـ َ‬
‫ـل ال َّ‬ ‫َوال َْم ْوقُ ــوذَةُ َوال ُْمَت َردِّيَـ ـةُ َوالنَّط َ‬
‫الم ‪ ..‬ذلِ ُك ْم فِ ْسـ ٌق) (‪ : 3‬املائ@@دة)‪ @.‬وه@@ذا يعىن أن ه@@ذه اآلية ن@@زلت بعد آية‬ ‫تَ ْسَت ْق ِسـ ُموا بِـاأْل َ ْز ِ‬
‫احلج ‪ ..‬وه@ @@ذا هو الث@ @@ابت من ت@ @@اريخ ال@ @@نزول الق@ @@رآىن ‪ ..‬إذ ك@ @@انت املائ@ @@دة من آخر س @@ور‬
‫القرآن الكرمي نزوال‪.‬‬
‫الر ْجس ِمن اأْل َو ِ‬
‫ثان)‬ ‫وقوله تعاىل ‪( :‬فَ ْ ِ‬
‫اجتَنبُوا ِّ َ َ ْ‬
‫الرجس ‪ :‬ال ّدنس والقذر‪.‬‬ ‫ّ‬
‫واألوث@@ان ‪ :‬األص@@نام وحنوها ‪ ،‬مما يش@ ّكل ويص@ ّ@ور ‪ ،‬من مجادات ‪ ،‬ليعبد من دون اهلل‬
‫ـان) بيانية ‪ ..‬أي ف@@اجتنبوا ال@@رجس ال@@ذي هو األوث@@ان‬ ‫‪ ..‬و«من» ىف قوله تع@@اىل ‪ِ ( :‬من اأْل َوثـ ِ‬
‫َ ْ‬
‫‪ ..‬فهى كلها رجس وخبث ‪ ،‬وقذر ‪ ،‬وال ينضح منها إال ما هو رجس وخبث وقذر‪.‬‬
‫الزو ِر)‪.‬‬‫اجتَنِبُوا َق ْو َل ُّ‬
‫وقوله تعاىل ‪َ ( :‬و ْ‬
‫احلق ‪ ..‬ومسّى زورا ‪ ،‬ألن الص @ @@دور‬‫ال @ @@زور ‪ :‬هو الباطل من الق @ @@ول ‪ ،‬واخلارج على ّ‬
‫الصدور املريضة ‪ ،‬والنفوس السقيمة‪.‬‬ ‫تزور به ‪ ،‬وتضيق حبمله ‪ ..‬وال تتسع له ّ‬ ‫السليمة ّ‬
‫وىف ق@ @@رن (ال ـ ـ ُّـزو ِر) باألوث@ @@ان ‪ ،‬إش@ @@ارة إىل ش@ @@ناعته ‪ ،‬وإىل أنه م@ @@أمث غليظ ‪ ،‬يع@ @@ادل‬
‫الش@@رك باهلل ‪ ..‬بل إن الش@@رك نفسه هو مثرة فاس@@دة من مثار ال@@زور ‪ ..‬إذ الش@@رك ىف ص@@ميمه‬
‫‪ ،‬افرتاء على اهلل ‪ ،‬وتزيني للباطل ‪ ،‬وتزويق للزور‪.‬‬
‫وهذا ما وصف به املشركون ىف موقفهم من رسول اهلل صلى اهلل عليه‬
‫‪1029‬‬

‫ـك ا ْفتَــراهُ َوأَعانَــهُ َعلَْيـ ِـه َقـ ْـو ٌم‬


‫ين َك َفـ ُـروا إِ ْن َهــذا إِاَّل إِفْـ ٌ‬ ‫وس@@لم إذ يق@@ول ج@@ل ش@@أنه ‪( :‬وقـ َ َّ ِ‬
‫ـال الذ َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬
‫آخ ُرو َن‪َ .‬ف َق ْد جا ُؤ ظُلْماً َو ُزوراً) (‪ : 4‬الفرقان)‬
‫َ‬
‫وىف احلديث أن رسول اهلل صلى‌هللا‌عليه‌وسلم قال ألص@@حابه ‪« :‬أال أن@@بئكم ب@@أكرب‬
‫الكب@ @@ائر؟» ق@ @@الوا ‪ :‬بلى يا رس@ @@ول اهلل ‪ ..‬ق@ @@ال «الش@ @@رك باهلل وعق@ @@وق الوال@ @@دين» ‪ ..‬وك @@ان‬
‫متكئا فجلس فقال ‪« :‬أال وشهادة الزور وقول الزور ‪ ..‬أال وشهادة الزور وق@@ول ال@@زور ‪..‬‬
‫يكررها‬ ‫أال وش@@هادة ال@@زور وق@@ول ال@@زور» ‪ ..‬ق@@الوا ‪ :‬فما زال ـ ص@@لوات اهلل وس@@المه عليه ـ ّ‬
‫حىت قلنا ال يسكت!»‪.‬‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫ماء َفتَ ْخطَُفـهُ الطَّْي ُـر‬ ‫سـ ِ‬‫اهلل فَ َكأَنَّما َخ َّـر ِم َن ال َّ‬
‫(حنَفاء لِلَّ ِه غَْيـر م ْشـ ِركِين بِـ ِـه ومن ي ْشـ ِر ْك بِ ِ‬
‫َ ََ ْ ُ‬ ‫َ ُ‬ ‫ُ َ‬
‫كان َس ِح ٍيق)‪.‬‬
‫الريح فِي م ٍ‬ ‫ِ‬
‫أ َْو َت ْه ِوي بِه ِّ ُ َ‬
‫احلنفاء ‪ :‬مجع حنيف ‪ ،‬وهو املائل عن طرق الضالل إىل طريق اهلدى ‪..‬‬
‫س ِم َن‬ ‫وقوله تع @@اىل ‪( :‬حنَفــاء لِلَّ ِه) ح @@ال من الفاعل ىف قوله تع @@اىل ‪( :‬فَـ ْ ِ‬
‫ـاجتَنبُوا الـ ِّـر ْج َ‬ ‫ُ َ‬
‫اجتَنِبُــوا َقـ ْـو َل الـ ُّـزو ِر) أي اجتنب@@وا ه@@ذه املنك@@رات ‪ ،‬وأنتم حنف@@اء هلل ‪ ،‬أي خملصني‬ ‫اأْل َوثـ ِ‬
‫ـان َو ْ‬ ‫ْ‬
‫ال ّدين هلل وحده ‪ ،‬غري مشركني به ‪..‬‬
‫سـ ِ‬
‫ماء َفتَ ْخطَُفـهُ الطَّْي ُـر أ َْو َت ْـه ِوي بِ ِـه‬ ‫اهلل فَ َكأَنَّما َخ َّر ِم َن ال َّ‬
‫ـ وقوله تعاىل ‪( :‬ومن ي ْش ِر ْك بِ ِ‬
‫ََ ْ ُ‬
‫كان َس ِح ٍيق)‪.‬‬ ‫الريح فِي م ٍ‬
‫ِّ ُ َ‬
‫هو هتديد ون@ @@ذير ملن يش@ @@رك باهلل ‪ ،‬ويع@ @@دل عن طريق اإلميان اخلالص به ‪ ..‬ف@ @@إن من‬
‫عرض نفسه ألبشع صورة من صور اهلالك ‪ ..‬إنه أشبه مبن س@@قط من علو‬ ‫يفعل هذا ‪ ،‬فقد ّ‬
‫شاهق ‪ ،‬فوقع على األرض أشالء ممزقة ‪ ،‬تكون طعاما‬
‫‪1030‬‬

‫جلوارح الطري ‪ ..‬أو تق@@ذف به ال@@ريح ىف مك@@ان س@@حيق ‪ ،‬كبطن حميط ‪ ،‬أو غ@@ور ب@@ئر ‪ ..‬فال‬
‫خيف أحد لنجدته ‪..‬‬‫ّ‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫اهلل فَِإنَّها ِم ْن َت ْق َوى الْ ُقلُ ِ‬
‫وب)‪.‬‬ ‫ك ‪ ..‬ومن يعظِّم َشعائِر ِ‬
‫(ذل َ َ َ ْ ُ َ ْ‬
‫ِ‬
‫َ‬
‫الشعائر مجع شعرية ‪ :‬وهى ما يستجيش مش@@اعر اإلنس@@ان ‪ ،‬وحيرك وجدانه ‪ ..‬وي@@راد‬
‫وكل ما يتقرب به العبد إىل اهلل‪.‬‬ ‫بالشعائر ‪ ،‬العبادات ‪ ،‬والطاعات ‪ّ ،‬‬
‫املفسرين إىل أن الشعائر هنا ‪ ،‬هى اهلدى املس@@اق إىل احلرم ‪ ،‬وأهنا إمنا‬ ‫ويذهب أكثر ّ‬
‫مسّيت ش @@عائر ألهنا تش @@عر أي تعلم بش @@عرية ـ أي حدي @@دة ـ تش @@رط هبا ىف اجلانب األمين من‬
‫سنامها ‪..‬‬
‫وال @@رأى عن @@دنا ـ واهلل أعلم ـ هو ما ذهبنا إليه ‪ ،‬من أن املراد بالش @@عائر هنا العب @@ادات‬
‫كلها ‪ ،‬ومنها مناسك احلج ‪ ،‬وأعماله ‪ ،‬ومنها اهلدى أيضا‪.‬‬
‫أما تعظيم ش @ @ @@عائر اهلل ‪ ،‬فهو ىف أدائها على وجهها ‪ ،‬ىف اطمئن @ @ @@ان ‪ ،‬وإخب @ @ @@ات هلل ‪،‬‬
‫ووالء جلالله وعظمته ‪..‬‬
‫وأما تعظيم ش@ @ @ @ @ @ @ @ @ @@عرية «اهلدى» فهو برعايتها ‪ ،‬وإكرامها ‪ ،‬وإنزاهلا من النفس منزلة‬
‫اإلعزاز‪ .‬ألهنا منذ الوقت ال@@ذي اخت@@ريت فيه لتك@@ون ه@@ديا ‪ ،‬قد أص@@بحت خالصة هلل ‪ ،‬وأهنا‬
‫منذ ذلك الوقت إىل يوم النحر ىف ضيافة مهديها إىل اهلل ‪ ..‬وهلذا وجب عليه أن يكرمها ‪،‬‬
‫يعريها من أص@ @ @@وافها وأوبارها ‪ ،‬ما‬ ‫وحيسن ض@ @ @@يافتها ‪ ،‬فال يركبها ‪ ،‬وال حيمل عليها ‪ ،‬وال ّ‬
‫دام قد أع ّدها للهدى ‪..‬‬
‫مث إن من أم@@ارات اإلك@@رام هلا أن تعلم بعالمة مميزة هلا ‪ ،‬وأن تعلق ىف رقبتها قالدة ‪،‬‬
‫حتلّيها وتزينها ‪ ،‬وجتعل هلا ميزة على غريها ‪..‬‬
‫‪1031‬‬

‫@اج ـ أن ي @@رعى‬ ‫حاجا أو غري ح @ ّ‬ ‫ومن جهة أخ @@رى ‪ ،‬فإنه مطل @@وب من ك @ ّ@ل مس @@لم ـ ّ‬
‫لله@@دى ه@@ذه احلرمة ‪ ،‬فال يعت@@دى عليه ‪ ،‬بالس@@رقة ‪ ،‬أو ان@@تزاع ما قلد به من قالئد ‪ ..‬فه@@ذا‬
‫اهلدى هو ه@ @@دى اهلل ‪ ،‬وليس أص@ @@حابه املتق@ @@دمون به إىل اهلل إال رع@ @@اة له ‪ ..‬إنه أش@ @@به بناقة‬
‫توعد اهلل س@بحانه وتع@اىل مثود ب@اهلالك‬ ‫ص@احل ‪ ..‬له حرمته ‪ ،‬كما ك@ان للناقة حرمتها ‪ ،‬وقد ّ‬
‫ض ِ‬ ‫ـل فِي أ َْر ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِِ‬
‫س ـوها‬ ‫اهلل َوال تَ َم ُّ‬ ‫‪ ،‬إن هم نالوها بس @@وء ‪( :‬ه ــذه ناقَ ـةُ اهلل لَ ُك ْم آيَ ـةً فَ ـ َذ ُروها تَأْ ُكـ ْ‬
‫يم) (‪ : 73‬األعراف)‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫بِس ٍ‬
‫ذاب أَل ٌ‬
‫ْخ َذ ُك ْم َع ٌ‬‫وء َفيَأ ُ‬ ‫ُ‬
‫شـ ـ ْه َر‬ ‫ـرام قِيامـ ـاً لِلن ِ‬
‫َّاس َوال َّ‬ ‫ْحـ َ‬
‫ت ال َ‬ ‫وىف ه@ @@ذا يق@ @@ول اهلل تع@ @@اىل ‪َ ( :‬ج َع ـ َ‬
‫ـل اهللُ الْ َك ْعبَـ ـةَ الَْب ْي َ‬
‫ـرام َوال َْهـ ـ ْد َي َوالْ َقالئِ ـ ـ َد) (‪ : 97‬املائ@ @@دة) فقد جعل اهلل س@ @@بحانه وتع@ @@اىل قالئد اهلدى ـ‬ ‫ْح ـ َ‬
‫ال َـ‬
‫فضال عن اهلدى نفسه ـ قرينة الش@@هر احلرام ‪ ،‬ىف حرمتها وما ينبغى للن@@اس أن يعظم@@وه منها‬
‫‪..‬‬
‫مث لعلك تس@ @@أل ‪ :‬مل ه @ @@ذا التعظيم للحي @ @@وان؟ ومل ه@ @@ذه املراسم اليت تتخذ ل@ @@ه؟ أليس‬
‫ذلك ضربا من ضروب الوثنية اليت جاء اإلسالم حلرهبا ‪ ،‬والقضاء عليها؟‪.‬‬
‫احلج رحلة روحية خالصة ‪ ،‬خيرج فيها احلاج من ع@ @ @ @ @ @@امل‬ ‫واجلواب على ه@ @ @ @ @ @@ذا ‪ :‬أن ّ‬
‫املادة ‪ ،‬إىل ع@ @ @@امل ال@ @ @@روح ‪ ،‬وأن أعم@ @ @@ال احلج اليت تلق@ @ @@اة على طريق رحلته الروحية تلك ‪،‬‬
‫مق ّدرة هبذا التقدير ‪..‬‬
‫@التجرد من املالبس ولبس غري املخيط ‪ ،‬وامله@ @ @ @ @@اجرة من ال @ @ @ @@وطن ‪ ،‬وت @ @ @ @@رك األهل‬ ‫ف@@@@ ّ‬
‫والولد واملال ‪ ،‬والط@ @ @@واف ح@ @ @@ول ال@ @ @@بيت ‪ ،‬والس@ @ @@عى بني الص@ @ @@فا واملروة ‪ ،‬واس@ @ @@تالم احلجر‬
‫األس@@ود ‪ ،‬أو تقبيله ‪ ،‬ورمى اجلم@@رات ـ كلها أعم@@ال ومراسم ‪ ،‬تب@دو ىف ظ@@اهر األمر متص@@لة‬
‫رب األش @ @@ياء ‪ ..‬ولكنها ىف حقيقة األمر ‪ ،‬راجعة أوال‬ ‫اتص @ @@اال وثيقا ب @ @@ذوات األش @ @@ياء ‪ ،‬ال ّ‬
‫وأخريا ‪ ،‬إىل اهلل سبحانه وتعاىل ‪ ،‬إذ كانت تلك األعمال‬
‫‪1032‬‬

‫احلاج امتث @ @ @ @ @ @ @@اال ألمر اهلل ‪ ،‬ووالء وطاعة ملا أمر به ‪ ،‬وإنه ليس‬
‫وه @ @ @ @ @ @ @@ذه املراسم ‪ ،‬إمنا ّأداها ّ‬
‫للعبد املؤمن باهلل ‪ ،‬أن يراجع اهلل فيما ي@ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @@أمره به ‪ ،‬وأن يطلب احلكمة هلذا األمر ‪ ..‬وإمنا‬
‫املطل@@وب منه ‪ ،‬هو أن ميتثل ‪ ،‬وي@@أتى ما أمر به من غري ت@@ردد ‪ ..‬فه@@ذا ابتالء من اهلل ‪ ،‬يبتلى‬
‫به عب@@اده ‪ ،‬ليظهر منهم ما هم عليه من طاعة أو عص@@يان‪ .‬وقد ك@@ان أمر املالئكة بالس@@جود‬
‫آلدم ‪ ،‬ابتالء وامتحانا هلم ‪ ،‬فس @@جد املالئكة ‪ ،‬وأىب إبليس أن يس @@جد ‪ ،‬وق @@ال ‪( :‬أَنَا َخ ْيـ ٌـر‬
‫ِم ْنهُ ‪َ ،‬خلَ ْقتَنِي ِم ْن نا ٍر َو َخلَ ْقتَهُ ِم ْن ِطي ٍن) (‪ : 12‬األعراف)‪ .‬فكان من اهلالكني ‪..‬‬
‫فه@ @ @ @ @@ذه األعم@ @ @ @ @@ال اليت يأتيها احلجيج ‪ ،‬هى امتح@ @ @ @ @@ان وابتالء هلم ‪ ،‬ىف ب@ @ @ @ @@اب الطاعة‬
‫واالمتث@ @@ال ألمر اهلل ‪ ،‬ىف غري ت@ @@ردد أو مراجعة ‪ ..‬وإال فهو العص@ @@يان والكفر ‪ ..‬نع@ @@وذ باهلل‬
‫منهما‪.‬‬
‫وتع@@الت حكمة اهلل ‪ ..‬فإنه س@@بحانه وتع@@اىل ‪ ،‬مل يبتل املؤم@@نني هبذه األعم@@ال ابت@@داء ‪،‬‬
‫ومل يلقهم هبا على أول طريق اإلميان ‪ ،‬بل ج @ @@اءهم هبا بعد أن يك @ @@ون املؤمن منهم قد قطع‬
‫ش@@وطا ط@@ويال على طريق اإلميان ‪ ،‬حىت اطم@@أن قلبه به ‪ ،‬وس@@كنت نفسه إليه ‪ ،‬وثبتت قدمه‬
‫عليه‪.‬‬
‫احلج إال ىف زمن مت @@أخر ‪ ،‬حيث‬ ‫ف @@أوال ‪ :‬ىف مس @@رية ال @@دعوة اإلس @@المية ‪ ،‬مل يف @@رض ّ‬
‫فرض بعد الصالة ‪ ،‬والصيام ‪ ،‬والزكاة ‪ ،‬وكان هبذا آخر ما فرض من أركان اإلسالم‪.‬‬
‫وه@@ذا يعىن أن املس@@لمني ال@@ذين خرج@@وا من اجلاهلية إىل اإلس@@الم ‪ ،‬قد التق@@وا ب@@احلج ‪،‬‬
‫بعد تلك الف@ @@رتة اليت عاش@ @@وها ىف اإلس@ @@الم ‪ ..‬يؤمن@ @@ون بوحدانية اهلل ‪ ،‬ويقيم@ @@ون الص@ @@الة ‪،‬‬
‫ويؤتون الزكاة ‪ ،‬ويصومون رمضان ‪ ..‬وتلك ف@رتة كافية لتث@بيت قواعد اإلميان ىف قل@وهبم ‪،‬‬
‫وإجالء كل داعية من دواعى الوثنية والشرك منها‪.‬‬
‫‪1033‬‬

‫مترس‬ ‫احلج إال بعد أن يك@@ون قد ّ‬ ‫أى زمن ـ ال ي@@ؤدى فريضة ّ‬ ‫وثانيا ‪ :‬أن املس@@لم ـ ىف ّ‬
‫باإلميان ‪ ،‬وأق@ @@ام الص@ @@الة ‪ ،‬وآتى الزك@ @@اة ‪ ،‬وص@ @@ام رمض@ @@ان ‪ ..‬وكث@ @@ريا ما يك@ @@ون ذلك زمنا‬
‫احلج ‪ ،‬والتقى بأعماله ‪ ،‬مل يكن ىف‬ ‫ط@ @ @@ويال ميت@ @ @ @ ّد إىل عش@ @ @@رات الس@ @ @@نني ‪ ..‬ف@ @ @@إذا ج@ @ @@اء إىل ّ‬
‫احلج وأش@@يائه ‪ ،‬إال على أهنا من ش @@عائر اهلل ‪ ،‬وأهنا‬ ‫خ@@اطره أية طرفة يط @@رف هبا إىل أم @@اكن ّ‬
‫معلم من مع@امل اهلل ـ س@بحانه ـ على ه@@ذه األرض ‪ ،‬وأن تعظيمها هو تعظيم هلل ‪ ،‬ومبالغة ىف‬
‫االمتث @ @@ال ألم @ @@ره ‪ ،‬حيث يق @ @@وم التعامل بني احلاج وبني ذوات أش @ @@ياء هى من آي @ @@ات اهلل ‪..‬‬
‫َطاع اهللَ) (‪ : 80‬النساء)‪.‬‬ ‫ول َف َق ْد أ َ‬
‫الر ُس َ‬ ‫وإهنا ىف هذا ألشبه برسله ‪َ ( ،‬م ْن يُ ِط ِع َّ‬
‫وب) إشارة إىل أن تعظيم هذه الش@عائر‬ ‫وثالثا ‪ :‬ىف قوله تعاىل ‪( :‬فَِإنَّها ِم ْن َت ْق َوى الْ ُقلُ ِ‬
‫‪ ،‬هو تعظيم هلل ‪ ،‬يتجلّى فيها درجة إميان املؤم@@نني ‪ ،‬وينكشف هبا ما عن@@دهم من تق@@وى ‪..‬‬
‫إذ ك@@انت ه@@ذه األعم@@ال ـ كما تب@@دو ىف ظاهرها ـ ما عن@@دهم من تق@@وى ‪ ..‬إذ ك@@انت ه@@ذه‬
‫األعم @@ال ـ كما تب @@دو ىف ظاهرها ـ خارجة عن منطق العقل ‪ @!..‬واإلميان ـ ىف حقيقته ـ هو‬
‫واحلب إذا ك @@ان ص @@ادقا ‪ ،‬ال يس @@مع ص @@وت العقل ‪ ،‬وال يس @@تجيب له ‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫حب خ @@الص هلل ‪،‬‬ ‫ّ‬
‫ِ‬
‫وإمنا يتلقى من القلب ‪ ،‬ما حي ّدثه به ‪ ،‬وي@ @ @@دعوه إليه ‪ ..‬وهلذا ج@ @ @@اء قوله تع@ @ @@اىل ‪( :‬فَِإنَّها م ْن‬
‫ـوب) ليكشف عن أن تعظيم ه@@ذه الش@@عائر ‪ ،‬وإتياهنا ىف إميان وإخالص ‪ ،‬وحب‬ ‫َت ْقـ َـوى الْ ُقلُـ ِ‬
‫وش@ @@وق ـ إمنا هو من وحي القل@ @@وب ‪ ،‬ومن خفق@ @@ات اإلميان الث@ @@ابت فيها ‪ ،‬ومن إش@ @@ارات‬
‫التق@ @ @ @ @ @ @ @@وى املتمكنة منها ‪ ..‬وىف الكلمة املأثورة عن عمر بن اخلط@ @ @ @ @ @ @ @@اب ‪ ،‬وهو يقبّل احلجر‬
‫األس@ @@ود حني ق@ @@ال ‪« :‬أعلم أنك حجر ال تض@ @ ّ@ر وال تنفع ‪ ،‬ولو ال أىن رأيت رس@ @@ول اهلل ـ‬
‫احلب هلل ‪،‬‬
‫صلى‌هللا‌عليه‌وسلم ـ يقبّلك ما قبلت@@ك» ـ ىف ه@@ذه الكلمة ما يكشف عن ه@@ذا ّ‬
‫ولرس@ @@ول اهلل ‪ ،‬ومتابعته ىف ك@ @ ّ@ل ق@ @@ول ‪ ،‬وعمل ‪ ،‬وإن ج@ @@اء ه@ @@ذا الق@ @@ول أو العمل ‪ ،‬ف@ @@وق‬
‫مدارك العقول! ‪ ..‬ومن أجل هذا فقد وقف القرآن الكرمي هذه الوقفات الطويلة‬
‫‪1034‬‬

‫املس@ @@تأنية مع مناسك احلج ‪ ،‬ودعا أك@ @@ثر من م@ @ ّ@رة إىل رعايتها ‪ ،‬وتعظيمها ‪ ،‬وذلك لي@ @@دافع‬
‫ه @@ذا الش @@عور ال @@ذي قد يتس@ @لّط على اإلنس @@ان من ال @@رتاخي ىف أداء ه @@ذه األعم @@ال ‪ ،‬وتلك‬
‫املراسم ‪ ،‬أو أدائها ىف اس@ @@تخفاف وتك@ @ ّ@ره ‪ ،‬األمر ال@ @@ذي ي@ @@ذهب ب@ @@الثمرة الطيبة ‪ ،‬واملع@ @@اين‬
‫الكرمية اليت تدخل على نفس احلاج من هذه األعمال ‪ ،‬إذا هو أداها على وجهها الصحيح‬
‫‪ ،‬ممتثال أمر اهلل فيها ‪ ،‬شارحا هبا صدره ‪ ،‬مسلما هلا وجوده ‪ ،‬مضيفا إليها مشاعره‪.‬‬
‫وهكذا يقيم اإلسالم املسلمني على منطق العقل ‪ ،‬ومشاعر القلب معا ‪..‬‬
‫فهو إذ ي@@دعوهم إىل اإلميان باهلل ‪ ،‬واإلق@@رار بوحدانيته ‪ ،‬جيىء إليهم عن طريق العقل‬
‫‪ ،‬فيقيم هلم احلجج ‪ ،‬وينصب األدلة وال@@رباهني ‪ ،‬حىت يقع اإلميان منهم موقع اليقني ‪ ..‬ألنه‬
‫هو األس@@اس ال@@ذي تق@@وم عليه كل دع@@وة لإلس@@الم ‪ ،‬وكل أمر من أوام@@ره ‪ ،‬وهنى من نواهيه‬
‫‪ ..‬ف @@إذا ك @@ان اإلميان باهلل عن نظر واقتن @@اع ‪ ،‬ك @@ان التس @@ليم واجبا بكل ما ي @@أمر به اهلل ‪ ،‬أو‬
‫ينهى عنه ‪..‬‬
‫مث ك@@انت الص@@الة ‪ ..‬وك@@ان الص@@وم ‪ ..‬وك@@انت الزك@@اة ‪ ..‬وكلها أعم@@ال يلتقى فيها‬
‫منطق العقل ‪ ،‬مع مشاعر القلب ‪ ،‬وإن كان منطق العقل فيها أكثر من منطق الش@@عور ‪ ،‬أو‬
‫مساويا له‪.‬‬
‫مث أخريا ‪ ،‬كان احلج ‪ ..‬فكان مشاعر خالصة ‪ ،‬أو شبه خالصة ‪ ،‬حيث يك@اد العقل‬
‫خيلى مكانه للقلب ‪ ،‬ليأخذ حظه ك@ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @@امال ‪ ،‬كما أخذ العقل حظّه ك@ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @@امال من اإلميان‬
‫باهلل! ‪ ..‬وهبذا يعت @@دل م @@يزان اإلنس @@ان ‪ ،‬وتت @@وازن مداركه مع مش @@اعره ‪ ،‬ويت @@آخى عقله مع‬
‫قلبه ‪ ..‬وذلك هو اإلنسان ىف أعدل صورة ‪ ،‬وأحسن تقومي ‪ ،‬وأمت وضع!!‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫‪1035‬‬

‫(لَ ُكم فِيها منافِع إِلى أَج ٍل مس ًّمى ثُ َّم م ِحلُّها إِلَى الْب ْي ِ‬
‫ت ال َْعتِ ِيق)‪.‬‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ َُ‬ ‫َ ُ‬ ‫ْ‬
‫اهلل فَِإنَّها ِم ْن َت ْق َوى‬
‫ك ومن يعظِّم َشعائِر ِ‬
‫َ‬
‫ِ‬
‫الضمري ىف (فيها) يعود إىل قوله تعاىل ‪( :‬ذل َ َ َ ْ ُ َ ْ‬
‫ِ‬
‫وب) على اعتبار أن من هذه الشعائر هبيمة األنعام ‪ ،‬املساقة هديا إىل بيت اهلل ‪..‬‬ ‫الْ ُقلُ ِ‬
‫واملعىن ‪ ،‬أن ما يس@ @@اق إىل ال@ @@بيت احلرام من ه@ @@دى ‪ ،‬هو أمانة ىف أي@ @@دى أص@ @@حابه ‪،‬‬
‫وأن هلم أن ينتفعوا به االنتفاع الذي ال يسوءه وال يتضرر منه ‪ ..‬كاالنتفاع بلبنه مثال ‪..‬‬
‫وىف قوله تعاىل ‪( :‬ثُ َّم َم ِحلُّها إِلَى الَْب ْي ِت ال َْعتِ ِيق) تذكرة باجلهة اليت سيهدى إليها هذا‬
‫اهلدى ‪ ،‬وأن ذلك من ش@ @ @ @@أنه أن جيعل هلذا اهلدى حرمة ورعاية خاصة ‪ ..‬إذ ك@ @ @ @@ان آخ@ @ @@ذا‬
‫@ؤدى ‪ ،‬وله ذم @ @@ام‬ ‫طريقه إىل بيت اهلل ‪ ،‬مع اآلخ @ @@ذين ط @ @@ريقهم إليه ‪ ،‬فله حرمة ينبغى أن ت @ @ ّ‬
‫جيب أن يرعى ‪ ..‬فهو بعض وفد اهلل إىل ‪ ،‬بيت اهلل!!‬
‫ومسّى البيت احلرام بالبيت العتيق ‪ ،‬ألنه أول بيت وضع للناس ‪ ،‬كما يق@@ول س@@بحانه‬
‫َّاس لَلَّ ِذي بِب َّكةَ مباركاً و ُه ِ ِ‬ ‫ض َع لِلن ِ‬
‫توِ‬ ‫ٍ‬
‫ين) ‪ ..‬فه@@ذه األولية ‪،‬‬ ‫دى ل ْلعــالَم َ‬‫َ ُ َ َ ً‬ ‫وتعاىل ‪( :‬إِ َّن أ ََّو َل َب ْي ُ‬
‫هى ىف مق @@ام اإلحس @@ان واخلري ‪ ،‬س @@بق له خط @@ره وق @@دره ‪ ..‬فكلمة ع @@تيق هنا تض @@اهى كلمة‬
‫«عري@@ق» ‪ ،‬أي هو عريق وق@@دمي ىف مق@@ام اخلري واإلحس@@ان ‪ ..‬فكما س@@بق الس@@ابقون األول@@ون‬
‫خصهم اهلل س@@بحانه وتع@@اىل‬ ‫من املهاجرين واألنصار إىل اإلسالم ‪ ،‬واستحقوا هبذا السبق ما ّ‬
‫به من فضل وإحس @@انه ‪ ..‬فك @@ذلك ه @@ذا ال @@بيت ‪ ،‬إذ ك @@ان أول بيت هلل على ه @@ذه األرض ‪،‬‬
‫فقد اس @@تحق أن يك @@ون أك @@رم بي @@وت اهلل على اهلل ‪ ،‬وأوالها ب @@اإلجالل ‪ ،‬واالحتف @@اء ‪ ..‬من‬
‫عباد اهلل‬
‫‪1036‬‬

‫____________________________________‬

‫اآليات ‪ 34( :‬ـ ‪)37‬‬


‫يمـ ِـة اأْل َنْعـ ِـام فَـِإ ُله ُك ْم‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫سـكاً ليَـ ْذ ُك ُروا ا ْسـ َم اهلل َعلى ما َر َز َق ُه ْم م ْن بَ ِه َ‬ ‫( َول ُك ِّل أ َُّمة َج َعلْنا َم ْن َ‬
‫ـوب ُهم وال َّ ِ‬ ‫ين إِذا ذُكِ َـر اهللُ َو ِجلَ ْ‬ ‫َّ ِ‬ ‫ِِ‬ ‫َسلِ ُموا َوبَ ِّ‬ ‫ِ‬
‫صـاب ِر َ‬
‫ين‬ ‫ت ُقلُ ُ ْ َ‬ ‫ين (‪ )34‬الذ َ‬ ‫شـ ِر ال ُْم ْخبت َ‬ ‫إِلهٌ واح ٌد َفلَهُ أ ْ‬
‫ـاه ْم ُي ْن ِف ُقـ ــو َن (‪َ )35‬والْبُ ـ ـ ْد َن َج َعلْناها لَ ُك ْم ِم ْن‬ ‫يمي ال َّ ِ ِ‬
‫ص ـ ـالة َوم َّما َر َزقْنـ ـ ُ‬ ‫َعلى ما أَصـ ــاب ُهم والْم ِق ِ‬
‫َ َْ ُ‬
‫ت ُجنُوبُها فَ ُكلُ ــوا ِم ْنها‬ ‫واف فَ ـِإذا َو َجبَ ْ‬ ‫ص ـ َّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫َش ـعائ ِر اهلل لَ ُك ْم فيها َخ ْيـ ٌـر فَ ــاذْ ُك ُروا ا ْس ـ َم اهلل َعلَْيها َ‬
‫ومها‬ ‫ُح ُ‬ ‫ـال اهللَ ل ُ‬ ‫َن يَنـ َ‬ ‫ك َسـخ َّْرناها لَ ُك ْم ل ََعلَّ ُك ْم تَ ْشـ ُك ُرو َن (‪ )36‬ل ْ‬ ‫َوأَط ِْع ُمــوا الْقــانِ َع َوال ُْم ْعَتـ َّـر َكــذلِ َ‬
‫َّرها لَ ُك ْم لِتُ َكِّب ُروا اهللَ َعلى ما َـه ـ ــدا ُك ْم‬ ‫ك َس ـ ـ ـخ َ‬ ‫الت ْـقـ ــوى ِم ْن ُك ْم َـكـ ــذلِ َ‬
‫لك ْن يَنالُـ ـ ــهُ َّ‬‫وال ِدما ُؤها و ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ِِ‬
‫ين) (‪)37‬‬ ‫ش ِر ال ُْم ْحسن َ‬ ‫َوبَ ِّ‬
‫____________________________________‬
‫التفسري ‪:‬‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫يمـ ِـة اأْل َنْعـ ِـام فَـِإ ُله ُك ْم‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫سـكاً ليَـ ْذ ُك ُروا ا ْسـ َم اهلل َعلى ما َر َز َق ُه ْم م ْن بَ ِه َ‬
‫( َول ُك ِّل أ َُّمة َج َعلْنا َم ْن َ‬
‫ِِ‬ ‫َسلِ ُموا َوبَ ِّ‬ ‫ِ‬
‫ين)‪.‬‬ ‫ش ِر ال ُْم ْخبت َ‬ ‫إِلهٌ واح ٌد َفلَهُ أ ْ‬
‫@ؤدى فيه النسك ‪ ..‬والنّسك ‪ :‬هو ما اف@ @ @ @ @@رتض اهلل على‬ ‫املنسك ‪ :‬اسم مك@ @ @ @ @@ان ‪ ،‬ي@ @ @ @ @ ّ‬
‫عباده من قربات يتقربون هبا إليه‪.‬‬
‫واملخبتني ‪ :‬املطيعني ‪ ،‬املطمئنني ‪ ،‬الذين يؤدون أوامر اهلل ىف رضا واطمئنان ‪..‬‬
‫واملعىن ‪ :‬أن اهلل سبحانه وتعاىل جعل لكل أمة ( َم ْن َسكاً) أي معلما من‬
‫‪1037‬‬

‫مع @ @@امل دينهم ‪ ،‬ي @ @@دعون فيه إىل التق @ @@رب إىل اهلل بال @ @@ذبائح ‪ ،‬وذكر امسه عليها عند ذحبها ‪،‬‬
‫لي@@ذكروا ب@ذلك فض@@له عليهم ‪ ،‬فيما رزقهم من هبيمة األنع@@ام ‪ ،‬ينتفع@@ون هبا يف وج@@وه كث@@رية‬
‫فءٌ َو َمنــافِ ُع َو ِم ْنها تَـأْ ُكلُو َن َولَ ُك ْم فِيها‬
‫ـام َخلَ َقها لَ ُك ْم فِيها ِد ْ‬
‫‪ ..‬كما يق@@ول س@@بحانه ‪َ ( :‬واأْل َنْعـ َ‬
‫َم تَ ُكونُ ــوا بالِ ِغي ـ ِـه إِاَّل بِ ِش ـ ِّق‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫جمـ ٌ ِ‬
‫ـل أَثْق ــالَ ُك ْم إِلى َبلَــد ل ْ‬
‫ين تَ ْس ـ َر ُحو َن َوتَ ْحمـ ُ‬
‫يحــو َن َوح َ‬ ‫ين تُ ِر ُ‬ ‫ـال ح َ‬ ‫َ‬
‫ِ‬ ‫ـال وال ِ‬ ‫ِ‬
‫ـير لَت ْر َكبُوها َو ِزينَـ ـ ـةً) (‪ 5‬ـ ‪: 8‬‬ ‫ـل َوالْبِغ ـ ـ َ َ َ‬
‫ْحمـ ـ َ‬ ‫يم َوالْ َخ ْي ـ ـ َ‬
‫ف َرح ٌ‬‫س إِ َّن َربَّ ُك ْم لَ ـ ـ َـر ُؤ ٌ‬
‫اأْل َْن ُف ِ‬
‫النحل)‪.‬‬
‫ـ وىف قوله تع @ @ @@اىل ‪( :‬فَ ـ ـ ـِإ ُله ُك ْم إِلـ ـ ــهٌ ِ ـ‬
‫واحـ ـ ٌد) إش @ @ @@ارة إىل أن املناسك ‪ ،‬والش @ @ @@عائر ‪،‬‬
‫والعبادات اليت تعبّد اهلل هبا عباده على لسان رسله ـ وإن اختلفت صورا وأش@@كاال ـ هى من‬
‫دين اهلل ‪ ،‬وهى طريق عباده إىل طاعته ورضاه ‪ ..‬وأن هذا االختالف ىف صورها وأشكاهلا‬
‫‪ ،‬ال جيعل منها س @@ببا إىل االختالف بني املؤم @@نني باهلل ‪ ..‬فكلهم يعب @@دون إهلا واح @@دا ‪ ،‬ومن‬
‫شأهنم ‪ ،‬أن يكونوا أمة واحدة‪.‬‬
‫ـ وقوله تع@@اىل ‪َ ( :‬فلَــهُ أَ ْس ـلِ ُموا) هو دع@@وة للمؤم@@نني أن يس@@لموا وج@@وههم هلل ‪ ،‬وأن‬
‫ينق@@ادوا له ‪ ،‬مث هو دع@@وة ألهل الكت@@اب أن ي@@دخلوا ىف دين اهلل ‪ ،‬وهو اإلس@@الم ‪ ،‬إن ك@@انوا‬
‫مؤم @ @ @@نني باهلل حقا ‪ ..‬فما اإلس @ @ @@الم إال دين اهلل ‪ ،‬ال@ @ @@ذي اجتمع فيه ما تف @ @ @@رق منه ىف األمم‬
‫السابقة ‪...‬‬
‫ِِ‬
‫ين) هو اس@@تدعاء ‪ ،‬وإغ@@راء لل@@ذين مل ميتثل@@وا بعد ه@@ذا‬ ‫ش ـ ِر ال ُْم ْخبت َ‬ ‫ـ وقوله تع @@اىل ‪َ ( :‬وبَ ِّ‬
‫األمر ـ أن يس@لموا هلل وج@وههم ‪ ،‬وأن ي@دخلوا ىف دينه ‪ ،‬ليكون@@وا ممن هلم البش@رى ىف احلي@اة‬
‫الدنيا وىف اآلخرة ‪@...‬‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫َصاب ُه ْم‬
‫ين َعلى ما أ َ‬ ‫وب ُهم و َّ ِ‬
‫الصاب ِر َ‬ ‫ت ُقلُ ُ ْ َ‬ ‫ين إِذا ذُكِ َر اهللُ َو ِجلَ ْ‬ ‫َّ ِ‬
‫(الذ َ‬
‫‪1038‬‬

‫ْناه ْم ُي ْن ِف ُقو َن)‪.‬‬ ‫يمي َّ ِ ِ‬ ‫والْم ِق ِ‬


‫الصالة َوم َّما َر َزق ُ‬ ‫َ ُ‬
‫هو ص @@فة للمخب @@تني ‪ ،‬ال @@ذين وع @@دهم اهلل بالبش @@ريات املس @@عدة ‪ ،‬ىف ال @@دنيا واآلخ @@رة‪.‬‬
‫فمن ص@@فات ه@@ؤالء املخب@@تني ‪ ،‬أهنم إذا ذكر اهلل وجلت قل@@وهبم ل@@ذكره ‪ ،‬وحض@@رهتم ح@@ال‬
‫من الرهبة واخلشية جلالل اهلل وعظمته‪.‬‬
‫مث إهنم إلمياهنم باهلل ‪ ،‬هذا االميان الذي ميال قلوهبم جالال وخشية ـ ص@@ابرون على ما‬
‫أص@@اهبم ويص@@يبهم من بالء ‪ ،‬ف@@إن اجلزع ليس من ص@@فات املؤم@@نني ‪ ،‬ألن اجلزع ال جيىء إال‬
‫من شعور بأن ليس وراء اإلنسان قوة تسنده وتعينه وتكشف ض@ ّ@ره ‪ ..‬أما املؤمن ‪ ،‬فإنه إذا‬
‫ابتلى ب @ @ @ @ @ @@أعظم ابتالء ‪ ،‬ال جيزع ‪ ،‬وال يك @ @ @ @ @ @@رب ‪ ،‬وال خيور ‪ ،‬بل حيتمل ص @ @ @ @ @ @@ابرا ‪ ،‬ويثبت‬
‫للمحنة ‪ ،‬وهو على طمع ىف رمحة اهلل أن ينكشف ض@ @ @@ره ‪ ،‬وي@ @ @@دفع بل@ @ @@واه ‪ ..‬مث إن ه@ @ @@ؤالء‬
‫املخب@تني يقيم@ون الص@الة ‪ ،‬ويؤدوهنا ىف خش@وع وخض@وع ‪ ،‬إذ هى اليت تصل املؤمن بربه ‪،‬‬
‫وتعمر قلبه باإلميان به ‪ ..‬ومن هنا ك @@ان الصرب هو الثم @@رة الطيبة اليت تثمرها الص @@الة ‪ ،‬كما‬
‫الة)‪.‬‬‫الص ِ‬
‫الص ْب ِر َو َّ‬‫استَ ِعينُوا بِ َّ‬
‫يقول سبحانه ‪َ ( :‬و ْ‬
‫@ؤدى كاملة إال مع الصرب ‪،‬‬ ‫وق@ ّدم الصرب على الص@الة ‪ ،‬ألنه مطل@وب هلا ‪ ،‬حيث ال ت ّ‬
‫ف@إذا ّأديت ك@@انت هى نفس@@ها رص@@يدا كب@@ريا تزيد به حص@يلة الصرب ىف كي@@ان املؤمن ‪ ..‬مث إن‬
‫هؤالء املخبتني ال ميسكون رزق اهلل الذي رزقهم ‪ ،‬ىف أيديهم ‪ ،‬وال حيبسونه على أنفس@@هم‬
‫@رب ‪ ،‬ويرزق@@ون عب@@اد اهلل مما رزقهم اهلل ‪ ..‬إذ أهنم ينفق@@ون ما ىف‬ ‫‪ ،‬بل ينفقون منه ىف وج@@وه ال ّ‬
‫أي@ @@ديهم ‪ ،‬وهم على رج@ @@اء من أن اهلل ي@ @@رزقهم ‪ ،‬ويكفل هلم ما يكفل للطري وال@ @@دواب من‬
‫الر ْز َق َوا ْعبُ ُدوهُ َوا ْش ُك ُروا لَهُ)‪.‬‬ ‫رزق ‪( ..‬فَ ْابَتغُوا ِع ْن َد ِ‬
‫اهلل ِّ‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫اس َم‬ ‫ِ‬ ‫(والْب ْد َن جعلْناها لَ ُكم ِمن َشعائِ ِر ِ‬
‫اهلل لَ ُك ْم فيها َخ ْي ٌر فَاذْ ُك ُروا ْ‬ ‫ْ ْ‬ ‫َ ُ ََ‬
‫‪1039‬‬

‫ت ُجنُوبُها فَ ُكلُــوا ِم ْنها َوأَط ِْع ُمــوا الْقـانِ َع َوال ُْم ْعَت َّـر َـكـذلِ َ‬
‫ك َسـخ َّْرناها‬ ‫واف فَِإذا َو َجبَ ْ‬
‫ص َّ‬ ‫اهلل َعلَْيها َ‬
‫ِ‬
‫لَ ُك ْم ل ََعلَّ ُك ْم تَ ْش ُك ُرو َن)‪.‬‬
‫البدن ‪ :‬مجع بدنة ‪ ،‬وهى الناقة ‪ ،‬ومسيت بدنة لعظمها وضخامتها ‪..‬‬
‫@اف ‪ ..‬واملراد به الس@@كون ‪ ،‬ومنه قوله تع@@اىل ( َوالطَّْي ُر‬ ‫واف ‪ :‬مجع ص@@افّة ‪ ،‬وص@ ّ‬ ‫والص ّ‬ ‫ّ‬
‫ات) أي ص @ ّفت أجنحتها ‪ ،‬وس@@كنت ‪ ،‬وذلك حني تف@@رد أجنحتها ىف اجلو ‪ ،‬وتتوقف‬ ‫ص ـافَّ ٍ‬
‫َ‬
‫عليال عن الطريان ‪..‬‬
‫وجبت جنوهبا ‪ :‬أي سقطت على األرض‪.‬‬
‫القانع ‪ :‬من ال يسأل ‪ ..‬واملعرت ‪ :‬من يتعرض للسؤال مستجديا‪.‬‬
‫واملعىن ‪ :‬أن هذه البدن ‪ ،‬أي اإلبل ‪ ،‬جعلها اهلل من شعائره ‪ ،‬حيث تساق هديا إىل‬
‫بيته احلرام ‪ ،‬وجعل فيها خ@ @@ريا للن@ @@اس ‪ ،‬مبا ينتفع@ @@ون به منها ‪ ،‬ىف محل األمتعة ‪ ،‬وركوهبا ‪،‬‬
‫واالنتقال هبا ‪ ،‬واالنتفاع بألباهنا وأوبارها ‪ ،‬وحلومها ‪..‬‬
‫واف) أي إذا أردمت حنرها ‪ ،‬ف @@اذكروا‬ ‫صـ ـ َّ‬ ‫ِ‬
‫ـ وقوله تع@ @@اىل ‪( :‬فَ ــاذْ ُك ُروا ا ْسـ ـ َم اهلل َعلَْيها َ‬
‫@واف ‪ ،‬أي ىف ح@ @ @ @ @ @ @@ال وقوفها ‪،‬‬ ‫اسم اهلل عليها ‪ ،‬قبل أن حنرها ‪ ،‬مث ليكن ذحبها وهى ص@ @ @ @ @ @ @ ّ‬
‫@ف قوائمها ‪ ..‬وذلك أن اإلبل تنحر وهى واقف@ @ @ @ @ @ @@ة‪ .‬على خالف غريها من‬ ‫وثباهتا ‪ ،‬وص@ @ @ @ @ @ @ ّ‬
‫احليوان‪.‬‬
‫ت ُجنُوبُها فَ ُكلُــوا ِم ْنها َوأَط ِْع ُمــوا الْقــانِ َع َوال ُْم ْعَتـ َّـر) أي أهنا‬ ‫ـ وقوله تع @@اىل ‪( :‬فَ ـِإذا َو َجبَ ْ‬
‫إذا نزفت دماؤها ‪ ،‬وسقطت على األرض ‪ ،‬جثّة هامدة ـ أصبحت صاحلة لألكل ‪ ..‬فكل@@وا‬
‫@رت ال@@ذي يس@@أل ‪ ،‬فهى نعمة من نعم اهلل ‪،‬‬ ‫منها ‪ ،‬وأطعم @@وا الق @@انع ‪ ،‬ال@@ذي ال يس @@أل ‪ ،‬واملع @ ّ‬
‫جعلها اهلل ىف أيديكم ‪ ،‬وسخرها لكم ‪،‬‬
‫‪1040‬‬

‫فاش@@كروا له ‪ ،‬هبذا الب@@ذل ‪ ،‬ال@@ذي تبذلونه من حلومها ‪ ،‬ملن ت@@رون أنه حمت@@اج ‪ ،‬ولو مل يس@@أل‬
‫‪ ، ..‬وكذلك غري احملتاج من أهل وأصدقاء ‪..‬‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫َّرها لَ ُك ْم‬ ‫الت ْقـ ــوى ِم ْن ُك ْم َكـ ــذلِ َ‬
‫ك َسـ ـ ـخ َ‬
‫ـال اهلل لُحومها وال ِدما ُؤها و ِ‬
‫لك ْن يَنالُ ـ ــهُ َّ‬ ‫َ‬ ‫َن يَن ـ ـ َ َ ُ ُ َ‬ ‫(ل ْ‬
‫ِِ‬
‫ش ِر ال ُْم ْحسن َ‬
‫ين)‪.‬‬ ‫لِتُ َكِّب ُروا اهللَ َعلى ما َهدا ُك ْم َوبَ ِّ‬
‫أي أن هذه البدن اليت تقدموهنا قربانا ‪ ،‬و‪ ،‬تطعمون منها وتطعمون ‪ ،‬هى ىف الواقع‬
‫نفع خ @@الص لكم ‪ ..‬فليس هلل س @@بحانه وتع @@اىل ـ وهى من عطاي @@اه ـ ش @@ىء منها ‪ ،‬وليس ىف‬
‫تقدميها قربانا هلل ‪ ،‬وإطعام من تطعمون منها ـ ما يصل إىل اهلل منه شىء ‪ ..‬فهذا كل ش@ىء‬
‫منها هو بني أي@@ديكم ‪ :‬حلمها قد أكلتم@@وه ‪ ،‬ودمها قد أريق على األرض ‪ ..‬ومع ه@@ذا فهى‬
‫قربان لكم ‪ ،‬تتقربون به إىل اهلل ‪ ،‬وتثابون عليه‪.‬‬
‫الت ْقــوى ِم ْن ُك ْم) إش @@ارة إىل أنه ليس املقص @@ود من ه @@ذه‬ ‫لك ْن يَنالُ ــهُ َّ‬‫ـ وقوله تع @@اىل ‪( :‬و ِ‬
‫َ‬
‫اهلدايا ذحبها ‪ ،‬وأكل حلمها ‪ ..‬وإمنا املراد أوال وبال@@ذات ‪ ،‬هو امتث@@الكم ألمر اهلل ‪ ،‬وإمض@@اء‬
‫دعوته ‪ ،‬فيما ي@ @@دعوكم إليه ‪ ،‬من التض@ @@حية بش@ @@ىء عزيز عليكم ‪ ،‬ح@ @@بيب إىل نفوس@ @@كم ‪،‬‬
‫وهبذا حتس@@بون ىف أهل التق@@وى من عب@@اد اهلل ‪ ..‬وه@@ذا هو ال@@ذي يناله اهلل منكم ‪ ،‬ويتقبله من‬
‫أعمالكم ‪ ..‬إنه التعبّد هلل ‪ ،‬والوالء له ‪ ،‬واالستجابة ألمره ‪..‬‬
‫ض @ل من‬ ‫وىف التعبري عن تقبّل اهلل س@@بحانه وتع@@اىل للطاع@@ات من عب@@اده «بالني@@ل» ـ تف ّ‬
‫اهلل س@@بحانه وتع@@اىل على عب@@اده املتقني ‪ ،‬وإحس@@ان مض@@اعف منه إليهم ‪ ،‬إذ جعل ط@@اعتهم ‪،‬‬
‫وتعبدهم له ـ إحسانا منهم إليه ‪ ،‬سبحانه وتعاىل ‪ ..‬وهذا ش@@بيه بقوله تع@@اىل ‪َ ( :‬م ْن ذَا الَّ ِذي‬
‫ض اهللَ َق ْرض ـاً َح َس ـناً) (‪ : 245‬البق@@رة)‪ @.‬فهو س@@بحانه وتع@@اىل ـ فضال وكرما وإحس@@انا‬ ‫ُي ْقـ ِر ُ‬
‫منه ـ يعطى ‪ ،‬ويقرتض ممن أعطاه!‬
‫‪1041‬‬

‫أال خس @@ىء وخسر ال @@ذين يض @@نون مبا ىف أي @@ديهم عن الب @@ذل والعط @@اء ‪ ،‬من عط @@اء اهلل ‪ ،‬ىف‬
‫سبيل اهلل ‪!..‬‬
‫____________________________________‬

‫اآليات ‪ 38( :‬ـ ‪)41‬‬


‫ِ ِِ‬ ‫ٍ‬ ‫آمنُ ــوا إِ َّن اهللَ ال يُ ِح ُّ‬ ‫َّ ِ‬ ‫ِ‬
‫ـل َخـ َّـوان َك ُفــو ٍر (‪ )38‬أُذ َن للَّذ َ‬
‫ين‬ ‫ب ُكـ َّ‬ ‫ين َ‬ ‫(إِ َّن اهللَ يُ ــداف ُع َع ِن الذ َ‬
‫ين أُ ْخ ِر ُجوا ِم ْن ِديا ِر ِه ْم بِغَْي ِر َح ٍّق‬ ‫َّ ِ‬ ‫يقاَتلُو َن بِأ ََّنهم ظُلِموا وإِ َّن اهلل َعلى نَ ِ ِ‬
‫ص ِره ْم لََقد ٌير (‪ )39‬الذ َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ُْ ُ َ‬ ‫ُ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫وات‬
‫صـلَ ٌ‬ ‫صـوام ُع َوبِيَ ٌـع َو َ‬ ‫ت َ‬ ‫ِّم ْ‬
‫ض ل َُهد َ‬‫ض ُه ْم بَِب ْع ٍ‬ ‫إالَّ أَ ْن َي ُقولُوا َر ُّبنَا اهللُ َول َْو ال َدفْ ُع اهلل الن َ‬
‫َّاس َب ْع َ‬ ‫ِ‬
‫صـ ـ ُرهُ إِ َّن اهللَ لََقـ ـ ِو ٌّي َع ِزي ـ ٌـز (‪)40‬‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫صـ ـ َر َّن اهللُ َم ْن َي ْن ُ‬
‫َو َمس ــاج ُد يُـ ـ ْذ َك ُر ف َيها ا ْسـ ـ ُم اهلل َكث ــيراً َولََي ْن ُ‬
‫الزكـ ــاةَ وأَمـ ــروا بِـ ــالْمعر ِ‬ ‫َّاه ْم فِي اأْل َْر ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫وف َو َن َهـ ـ ْـوا َع ِن‬ ‫َ ُْ‬ ‫ََُ‬ ‫ص ـ ـالةَ َوآَتـ ـ ُـوا َّ‬ ‫ـاموا ال َّ‬‫ض أَقـ ـ ُ‬ ‫ين إِ ْن َم َّكن ُ‬ ‫الذ َ‬
‫ال ُْم ْن َك ِر َولِلَّ ِه عاقِبَةُ اأْل ُُمو ِر) (‪)41‬‬
‫____________________________________‬
‫التفسري ‪:‬‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫آمنُوا إِ َّن اهللَ ال يُ ِح ُّ‬
‫ب ُك َّل َخ َّو ٍان َك ُفو ٍر)‪.‬‬ ‫َّ ِ‬ ‫ِ‬
‫(إِ َّن اهللَ يُداف ُع َع ِن الذ َ‬
‫ين َ‬
‫مناس@ @ @@بة ه@ @ @@ذه اآلية ملا قبلها ‪ ،‬هى أن اآلي@ @ @@ات الس@ @ @@ابقة دعت إىل تعظيم ش@ @ @@عائر اهلل‬
‫@رت منها ‪ ..‬وه@@ذا‬ ‫ومناسكه ‪ ،‬وإىل ذكر اسم اهلل على هبيمة األنع@@ام ‪ ،‬وإىل إطع@@ام الق@@انع واملع@ ّ‬
‫ال يق@ @ @@وم على تعظيمه والوف@ @ @@اء به ‪ ،‬إاّل أهل اإلميان والتق@ @ @@وى ـ فناسب ه@ @ @@ذا أن ي@ @ @@ذكر ما‬
‫للمؤم@ @ @ @ @ @ @ @ @@نني املتقني عند اهلل من فضل وإحس@ @ @ @ @ @ @ @ @@ان ‪ ،‬وأهنم جند اهلل ‪ ،‬ي@ @ @ @ @ @ @ @ @@دافع اهلل عنهم ‪،‬‬
‫وينصرهم ‪..‬‬
‫‪1042‬‬

‫َّ ِ‬ ‫ِ‬
‫آمنُـ ـ ــوا) ‪ ..‬إش@ @ @ @@ارة إىل أن املؤم@ @ @ @@نني‬ ‫ين َ‬ ‫ـ وىف قوله تع@ @ @ @@اىل ‪( :‬إِ َّن اهللَ يُـ ـ ــداف ُع َع ِن الذ َ‬
‫معرضون لالبتالء من أعداء اهلل ‪ ،‬ال@ذين يكي@@دون هلم ‪ ،‬ويري@دوهنم على أن يكون@@وا معهم ‪،‬‬
‫َّ ِ‬ ‫ِ‬
‫آمنُــوا) فريبط على‬ ‫وأال خيرج@@وا عن ط@@ريقهم‪ .‬ولكن اهلل س@@بحانه وتع@@اىل (يُــداف ُع َع ِن الذ َ‬
‫ين َ‬
‫قلوهبم ‪ ،‬ويثبت أقدامهم على طريق اهلدى ‪ ،‬وميدهم بالصرب على احتمال املكروه ‪ ..‬وهذا‬
‫أشبه بال@@دروع احلص@ينة اليت تتكسر عليها ض@ربات أهل الباطل والكفر ‪ ..‬إهنا أم@داد من اهلل‬
‫‪ ،‬وأدوات من أدوات ال @@دفاع ‪ ..‬مث ينتهى األمر باحنس @@ار جبهة الض @@الل ‪ ،‬وان @@دحار أهله ‪،‬‬
‫ب اهللُ أَل َ ْغلِبَ َّن أَنَا َو ُر ُسـلِي إِ َّن اهللَ قَـ ِو ٌّي َع ِزيـ ٌـز) (‪: 21‬‬ ‫وغلبة اإلميان وانتص@@ار املؤم@@نني ‪َ ( :‬كتَ َ‬
‫اجملادلة)‪.‬‬
‫وأنت ت @@رى‪ .‬أن دف @@اع اهلل عن املؤم @@نني ‪ ،‬إمنا يك @@ون واملؤمن @@ون ىف م @@واطن اإلميان ‪،‬‬
‫وىف ميدان املعركة‪.‬‬
‫@دو املؤم@@نني ‪ ،‬ال يك@@ون ىف مي@@دان‬ ‫@دو اهلل وع@ ّ‬ ‫وه@@ذا يعىن أن املؤمن ال@@ذي يستس@@لم لع@ ّ‬
‫عدوه ‪..‬‬
‫املعركة ‪ ،‬ومن مثّ فال يكون من اهلل دفاع عنه ‪ ،‬إذ ال معركة قائمة بينه وبني ّ‬
‫ومن هنا ‪ ،‬ك@ @ @ @ @ @ @ @@ان واجبا على املؤمن ال@ @ @ @ @ @ @ @@ذي يطمع ىف دف@ @ @ @ @ @ @ @@اع اهلل عنه ‪ ،‬أال يلقى‬
‫السالح‪.‬‬
‫يفر من املي@@دان ‪ ..‬س@@واء أك@ان ذلك مي@@دان ح@@رب ‪ ،‬أو مي@دان رأى ‪،‬‬ ‫من يده ‪ ،‬وأال ّ‬
‫ودعوة إىل اهلل ‪..‬‬
‫ان َك ُفــو ٍر) ـ هو هتديد للك @@افرين ‪ ،‬ال @@ذين‬ ‫ـل َخـ َّـو ٍ‬
‫ب ُكـ َّ‬ ‫ـ وقوله تع @@اىل ‪( :‬إِ َّن اهللَ ال يُ ِح ُّ‬
‫خانوا عهد اهلل وميثاقه ال@ذي واثقهم به وهم ىف أص@@الب آب@@ائهم ‪ ،‬كما يشري إىل ذلك قوله‬
‫ت‬‫آد َم ِم ْن ظُ ُهــو ِر ِه ْم ذُ ِّر َّيَت ُه ْم َوأَ ْش ـ َه َد ُه ْم َعلى أَْن ُف ِس ـ ِه ْم أَلَ ْس ـ ُ‬
‫ك ِم ْن بَنِي َ‬ ‫تع @@اىل ‪َ ( :‬وإِ ْذ أ َ‬
‫َخـ َذ َربُّ َ‬
‫بَِربِّ ُك ْم؟ قالُوا بَلى َش ِه ْدنا) (‪ : 172‬األعراف)‪.‬‬
‫‪1043‬‬

‫مث إهنم بعد ه@@ذا قد كف@@روا مبا ج@@اءهم من آي@@ات اهلل على يد رس@@له ‪ ،‬وك@@ذبوا هبا ‪..‬‬
‫يامـ ـ ِـة َوال ُي ـ ـ َـز ِّكي ِه ْم َول َُه ْم‬ ‫ِ‬
‫فهم هلذا ىف مع@ @ @@رض الس@ @ @@خط من اهلل ‪( ..‬ال يُ َكلِّ ُم ُه ُم اهللُ َيـ ـ ْـو َم الْق َ‬
‫يم) (‪ : 174‬البقرة)‪@.‬‬ ‫ِ‬
‫ذاب أَل ٌ‬
‫َع ٌ‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫ص ِر ِه ْم لََق ِد ٌير) ‪..‬‬ ‫ِ‬
‫ين يُقاَتلُو َن بِأ ََّن ُه ْم ظُل ُموا َوإِ َّن اهللَ َعلى نَ ْ‬
‫ِ ِِ‬
‫(أُذ َن للَّذ َ‬
‫أذن هلم ‪ :‬أي أبيح هلم القتال ‪ ،‬دفاعا عن النفس ‪..‬‬
‫أي أن اهلل س @@بحانه وتع @@اىل ‪ ،‬قد أذن املس @@لمني ال @@ذين ب @@دأهم أع @@داؤهم وأع @@داء اهلل‬
‫بالقت@ @ @@ال ـ قد أذن هلم أن يق@ @ @@اتلوا ‪ ،‬وأن ي @ @@دفعوا يد البغي والع@ @ @@دوان عنهم ‪ ..‬فه @ @@ذا قت@ @@ال‬
‫مش @ @@روع ‪ ،‬بل إنه واجب ‪ ،‬إذ ك @ @@ان فيه تقليم ألظفر الطغي @ @@ان وخضد لش @ @@وكة الطغ @ @@اة ‪..‬‬
‫ـاص َحيــاةٌ) (‪ : 179‬البق@@رة) ويق@@ول ‪( :‬فَ َم ِن‬ ‫واهلل س@@بحانه وتع@@اىل يق@@ول ‪َ ( :‬ولَ ُك ْم فِي ال ِْقصـ ِ‬
‫ا ْعتَدى َعلَْي ُك ْم فَا ْعتَ ُدوا َعلَْي ِه بِ ِمثْ ِل َما ا ْعتَدى َعلَْي ُك ْم) (‪ : 194‬البقرة) ‪..‬‬
‫أما االستس@@الم للبغى ‪ ،‬والس@@كوت على الظلم ‪ ،‬فهو متكني للش@ ّ@ر ‪ ،‬وت@@دعيم لبنائه ‪،‬‬
‫وإطالق ليده ‪ ،‬يضرب هبا كيف يشاء ىف مواقع احلق ‪ ،‬ومواطن اخلري ‪..‬‬
‫إن البغي ‪ ،‬والظلم ‪ ،‬والع@@دوان ‪ ..‬كلها وج@@وه منك@@رة من وج@@وه املنكر ‪ ،‬ومطل@@وب‬
‫من كل مؤمن باهلل أن يدفع املنكر بكل ما ملكت يده ‪ ،‬ووسع جهده ‪..‬‬
‫وقت @ @@ال املؤم @ @@نني ‪ ،‬والع @ @@دوان عليهم ‪ ،‬بإراقة دم @ @@ائهم وإزه @ @@اق أرواحهم ‪ ،‬هو أنكر‬
‫يرد هذا املنكر ‪ ،‬وخيمد‬ ‫املنكر ‪ ،‬وإنه لفرض على كل مؤمن أن ّ‬
‫‪1044‬‬

‫أنفاسه ‪ ،‬ويق@ @@دم نفسه قربانا هلل ىف س@ @@بيل ال@ @@دفاع عن دين اهلل ‪ ،‬وعن ين@ @@ابيع الرمحة واخلري‬
‫املتدفقة منه‪.‬‬
‫ـ وىف قوله تع@@اىل ‪( :‬بِـأ ََّن ُه ْم ظُلِ ُمــوا) هو تعليل لإلذن ال@@ذي أذن فيه للمؤم@@نني بالقت@@ال‬
‫‪..‬‬
‫واملعىن ‪ :‬أنه قد أذن اهلل لل@@ذين يق@@اتلون أن يق@@اتلوا من يق@@اتلهم ‪ ،‬بس@@بب أهنم ظلم@@وا‬
‫بالتع @ ّدى عليهم ‪ ،‬ومبب@@ادأهتم بالقت@@ال ‪ ..‬فهو قت@@ال دف@@اع منهم ‪ ،‬ال قت@@ال هج@@وم ‪ ..‬وهلذا ‪،‬‬
‫ص ِر ِه ْم لََق ِد ٌير)‪ .‬إذ يف يده سبحانه الق@@وى كلها ‪،‬‬ ‫فإهنم مؤيّدون بنصر اهلل ‪َ ( ،‬وإِ َّن اهللَ َعلى نَ ْ‬
‫وإنه ال غ@الب هلل ‪ ..‬وىف ه@ذا حتريض للمظل@وم ـ وإن ك@ان ض@عيفا ـ أن ينتصف ممن ظلمه ‪،‬‬
‫فإنه على وعد بنصر اهلل له‪.‬‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫ِ‬ ‫ين أُ ْخ ِر ُجــوا ِم ْن ِدي ــا ِر ِه ْم بِغَْي ـ ِر َحـ ٍّ ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫ـق إاَّل أَ ْن َي ُقولُــوا َر ُّبنَا اهللُ َولَ ـ ْـو ال َدفْ ـ ُـع اهلل الن َ‬
‫َّاس‬ ‫(الذ َ‬
‫ـاج ُد ي ـ ـ ـ ْذ َكر فِ َيها ا ْسـ ـ ـم ِ‬
‫اهلل َكثِ ـ ــيراً‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ُ‬ ‫وات َو َمس ـ ـ ُ ُ‬ ‫صـ ـ ـلَ ٌ‬‫صـ ـ ـوام ُع َوبِيَ ـ ـ ٌـع َو َ‬
‫ت َ‬ ‫ِّم ْ‬ ‫ض ل َُهـ ــد َ‬‫ضـ ـ ـ ُه ْم بَِب ْع ٍ‬
‫َب ْع َ‬
‫ص ُرهُ ‪ ..‬إِ َّن اهللَ لََق ِو ٌّي َع ِز ٌيز)‪.‬‬ ‫ص َر َّن اهللُ َم ْن َي ْن ُ‬ ‫َولََي ْن ُ‬
‫َّ ِ‬
‫هو بي@ @ @ @ @@ان احلال ه@ @ @ @ @@ؤالء ال@ @ @ @ @@ذين أذن اهلل هلم أن يق@ @ @ @ @@اتلوا ‪ ..‬فقوله تع@ @ @ @ @@اىل ‪( :‬الذ َ‬
‫ين‬
‫ِِ‬ ‫أُ ْخ ِرجـ ِ‬
‫ـوام ْن ِدي ــا ِر ِه ْم بِغَْيـ ـ ِر َحـ ٍّ‬
‫ـق إِاَّل أَ ْن َي ُقولُ ــوا َر ُّبنَا اهللُ) ـ هو ب @@دل من قوله تع @@اىل ‪( :‬للَّذ َ‬
‫ين‬ ‫ُ‬
‫يُقاَتلُو َن) فهؤالء الذين يقاتلون ‪ ،‬وأذن هلم ىف قتال مق@@اتليهم ـ هم أولئك امله@@اجرون ال@@ذين‬
‫ـق) ‪ ..‬ف@@إهنم مل جين@@وا على أحد ‪ ،‬ومل يكره@@وا‬ ‫أخرج@@وا من دي@@ارهم ظلما وع@@دوانا (بِغَْيـ ِر َحـ ٍّ‬
‫أحدا على أمر ‪ ،‬وإمنا كل جن@ايتهم ـ إن ك@@انت هن@@اك جناية ـ هى إمياهنم باهلل ‪ ،‬وق@@وهلم ربنا‬
‫اهلل الواحد ‪ ،‬ال @@ذي ال ش @@ريك له ‪ ..‬فهل ىف ه @@ذا ع @@دوان على أحد ‪ ،‬أو ض @@رر يع @@ود على‬
‫ولكن أهل الض@@الل والبغي ينظ@@رون بعي@@ون مريضة ‪ ،‬وحيكم@@ون على األم@@ور بعق@@ول‬ ‫أح@@د؟‪ّ .‬‬
‫فاسدة ‪ ،‬فريون النور ظالما ‪ ،‬واخلري شرا ‪ ،‬واإلحسان إساءة ‪..‬‬
‫‪1045‬‬

‫ت صـ ـ ـ ِ‬
‫وام ُع َوبِيَ ـ ـ ٌـع‬ ‫ضـ ـ ـ ُه ْم بَِب ْع ٍ‬ ‫ِ‬
‫ِّم ْ َ‬
‫ض ل َُهـ ــد َ‬ ‫ـ وقوله تع @ @@اىل ‪َ ( :‬ولَ ـ ـ ْـو ال َدفْ ـ ـ ُـع اهلل الن َ‬
‫َّاس َب ْع َ‬
‫اهلل َكثِــيراً) ‪ ..‬هو إش@@ارة إىل ه@@ذا الص@@دام ال@@ذي يق@@وم‬ ‫ـاج ُد ي ـ ْذ َكر فِ َيها ا ْسـم ِ‬ ‫ِ‬
‫ُ‬ ‫وات َو َمسـ ُ ُ‬ ‫ص ـلَ ٌ‬
‫َو َ‬
‫بني أهل الشر والض@ @ @@الل ‪ ،‬وأهل اخلري واإلميان ‪ ،‬وأنه لو ال أهل اخلري واإلميان ‪ ،‬ووق@ @ @@وفهم‬
‫ىف وجه الضالني والباغني ـ ملا قام هلل دين على هذه األرض ‪ ،‬ولغلب الشر الضالل ‪ ،‬وألىن‬
‫على كل ص@@احلة ىف ه@@ذه ال@@دنيا ‪ ،‬وخلربت بي@@وت العب@@ادة اليت أقامها املؤمن@@ون لعب@@ادة اهلل من‬
‫وام ُع) وهى بي@@وت عب@@ادة الرهب@@ان من النص@@ارى ‪َ ( ،‬وبِيَـ ٌـع) وهى بي@@وت عب@@ادة النص@@ارى‬ ‫(ص ـ ِ‬
‫َ‬
‫ساج ُد) وهى بيوت عبادة املسلمني ‪..‬‬ ‫وات) وهى بيوت عبادة اليهود ‪( ،‬وم ِ‬
‫ََ‬ ‫صلَ ٌ‬ ‫عامة ‪َ ( ،‬و َ‬
‫ومن أجل ه@@ذا ‪ ،‬فقد أق@@ام اهلل س@@بحانه وتع@@اىل ‪ ،‬ىف كل ملة ‪ ،‬وىف كل ّأمة ‪ ،‬مجاعة‬
‫مؤمنة ‪ ،‬تقيم ش@ @@رع اهلل ‪ ،‬وحتىي ش@ @@عائره ‪ ،‬وتعمر بيوته ‪ ،‬وحتتمل ىف س@ @@بيل ه@ @@ذا ما حتتمل‬
‫من بالء ‪ ،‬ىف دفع الظاملني ‪ ،‬وردع الباغني ‪..‬‬
‫ض @الّني ‪ ،‬هو س @نّة من‬ ‫ص@ @دام الق @@ائم بني اهلدى والض @@الل ‪ ،‬وبني املهت @@دين وال ّ‬ ‫فه @@ذا ال ّ‬
‫س@ @ @@نن اهلل ‪ ،‬اليت أق@ @ @@ام حي@ @ @@اة الن@ @ @@اس عليها ‪ ،‬واليت ك@ @ @@ان من مثارها أن ق@ @ @@امت بي@ @ @@وت اهلل ‪،‬‬
‫وعمرت باملؤمنني الذاكرين اهلل كثريا فيها ‪..‬‬
‫وىف ه@ذا دع@وة املؤم@نني ـ ىف ص@در ال@دعوة اإلس@المية خاصة ـ أن يكون@وا جند اهلل ىف‬
‫واملعم@رين س@@احاهتا ب@@ذكر‬‫ه@@ذه األرض ‪ ،‬واحلم@@اة املدافعني عن دينه ‪ ،‬واملقيمني مس@@اجده ‪@ّ ،‬‬
‫اهلل فيها ‪..‬‬
‫وىف هذا أيضا إشارة إىل أنه سيكون للمسلمني مساجد ‪ ،‬وأن هذه املساجد س@@تعمر‬
‫رب ك@ @@رمي ‪ ،‬جلماعة املؤم@ @@نني‬‫باملص@ @@لني وال@ @@ذاكرين اهلل كث@ @@ريا فيها ‪ ..‬وهو وعد ك@ @@رمي من ّ‬
‫يومئذ ‪ ..‬وقد حتقق هذا الوعد ـ وكان ال بد أن‬
‫‪1046‬‬

‫يتحقق ـ فمألت املساجد آفاق األرض ‪ ،‬وامتألت باملصلني ‪ ،‬واهتزت جنباهتا بالذاكرين‪.‬‬
‫صـ ـ ـ ـ ُرهُ) هو وعد منه س@ @ @ @@بحانه وتع@ @ @ @@اىل بالنصر‬ ‫صـ ـ ـ ـ َر َّن اهللُ َم ْن َي ْن ُ‬
‫قوله تع@ @ @ @@اىل ‪َ ( :‬ولََي ْن ُ‬
‫للمؤم@ @@نني ‪ ،‬ال@ @@ذين نص@ @@روا اهلل ‪ ،‬وجاه@ @@دوا ىف س@ @@بيله ‪ ..‬إهنم نص@ @@روا اهلل إذ نص@ @@روا دينه ‪،‬‬
‫ين)‬ ‫ِِ‬ ‫فك@@ان ح ّقا على اهلل أن ينص@@رهم ‪ ،‬كما يق@@ول س@@بحانه ‪َ ( :‬وكــا َن َح ًّقا َعلَْينا نَ ْ‬
‫صـ ُر ال ُْمـ ْـؤمن َ‬
‫(‪ : 47‬الروم)‪@.‬‬
‫وقوله تعاىل ‪( :‬إِ َّن اهللَ لََق ِو ٌّي َع ِزيـ ٌـز) هو توكيد ‪ ،‬بعد توكيد هلذا الوعد ال@@ذي وع@@ده‬
‫اهلل املؤمنني بالنصر ‪ ،‬إذا هم نصروا اهلل ‪ ،‬ودافعوا عن دين اهلل ‪..‬‬
‫وليس وعد اهلل ىف حاجة إىل توكيد ‪ ،‬عند املؤم@ @ @ @ @ @ @@نني باهلل ‪ ،‬ولكنه مبالغة ىف تطمني‬
‫القلوب ‪ ،‬وتث@بيت األق@@دام ‪ ،‬ىف تلك الس@اعات اليت تزيغ فيها األبص@ار ‪ ،‬وتض@@طرب النف@@وس‬
‫‪ ،‬حني تلتقى مجاعة املؤم@ @ @ @ @@نني ‪ ،‬ىف أع@ @ @ @ @@دادها القليلة ‪ ،‬حبش@ @ @ @ @@ود املش@ @ @ @ @@ركني ‪ ،‬ىف جحافلها‬
‫اجلرارة!‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫الزكــا َة وأَمــروا بِــالْمعر ِ‬ ‫َّاه ْم فِي اأْل َْر ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫وف َو َن َهـ ْـوا‬ ‫َ ُْ‬ ‫صـال َة َوآَتـ ُـوا َّ َ َ ُ‬ ‫َقاموا ال َّ‬‫ضأ ُ‬ ‫ين إِ ْن َم َّكن ُ‬
‫(الذ َ‬
‫َع ِن ال ُْم ْن َك ِر َولِلَّ ِه عاقِبَةُ اأْل ُُمو ِر)‪.‬‬
‫ين) ب@@دال من االسم املوص@@ول ىف قوله تع@@اىل‪:‬‬ ‫َّ ِ‬
‫ميكن أن يك@@ون االسم املوص@@ول ‪( :‬الذ َ‬
‫َّ ِ‬
‫ين) ىف قوله‬ ‫صـ ُرهُ) كما ميكن أن يك@@ون ب@@دال من االسم املوص@@ول (الذ َ‬ ‫ص َر َّن اهللُ َم ْن َي ْن ُ‬
‫( َولََي ْن ُ‬
‫ين أُ ْخ ِر ُجوا ِم ْن ِديا ِر ِه ْم بِغَْي ِر َح ٍّق ‪)..‬‬ ‫َّ ِ‬
‫تعاىل ‪( :‬الذ َ‬
‫أى فإن الذين أخرجوا من ديارهم بغري حق ‪ ،‬هم الذين وعدوا‬ ‫وعلى ّ‬
‫‪1047‬‬

‫ص َر َّن اهللُ َم ْن َي ْن ُ‬
‫ص ُرهُ ‪)..‬‬ ‫بالنصر ىف قوله تعاىل ‪َ ( :‬ولََي ْن ُ‬
‫فالذين أخرجوا من ديارهم بغري حق ‪ ،‬وهم املهاجرون ـ هم ال@ذين وع@دوا بالنصر ‪،‬‬
‫ألهنم نصروا اهلل ‪ ،‬فخرجوا من دي@ارهم وأم@واهلم ‪ ،‬مه@اجرين ب@دينهم ال@ذي هو كل حظهم‬
‫من هذه الدنيا ‪ ،‬والذي باعوا من أجله أنفسهم وأمواهلم وديارهم وأوطاهنم ‪..‬‬
‫ص ـ ـالةَ َوآَتـ ـ ُـوا َّ‬
‫الزكـ ــاةَ َوأ ََمـ ـ ُـروا‬ ‫َّاه ْم فِي اأْل َْر ِ‬
‫ض أَقـ ـ ُ‬
‫ـاموا ال َّ‬ ‫ين إِ ْن َم َّكن ُ‬
‫َّ ِ‬
‫وقوله تع@ @@اىل ‪( :‬الذ َ‬
‫وف َو َن َهـ ـ ْـوا َع ِن ال ُْم ْن َكـ ـ ِر) ـ هو ع@ @@رض للص@ @@ورة الكرمية اليت س@ @@يكون عليها ه@ @@ؤالء‬ ‫بِـ ــالْمعر ِ‬
‫َ ُْ‬
‫املؤمن @@ون ال @@ذين أخرج @@وا من دي @@ارهم بغري حق ‪ ،‬وذلك حني ينص @@رهم اهلل ‪ ،‬ومي ّكن هلم ىف‬
‫األرض ‪ ،‬وتكون هلم القوة والغلب ‪..‬‬
‫إهنم ـ مع ما ملكت أي @@ديهم من ق @@وة ‪ ،‬وما م ّكن اهلل س @@بحانه وتع @@اىل هلم ىف األرض‬
‫من س @ @@لطان ـ لن يكون @ @@وا على ش @ @@اكلة ه @ @@ؤالء الض @ @@الّني ال @ @@ذين ك @ @@انت إىل أي @ @@ديهم الق@ @@وة‬
‫والس@ @ @ @@لطان ‪ ،‬فتس@ @ @ @@لطوا على عب@ @ @ @@اد اهلل ‪ ،‬ورهق@ @ @ @@وهم ‪ ،‬وأخ@ @ @ @@ذوهم بالبأس@ @ @ @@اء والض@ @ @ @@راء ‪،‬‬
‫وأخرجوهم من ديارهم بغري حق ‪..‬‬
‫إن ه @ @@ؤالء املؤم @ @@نني ‪ ،‬حني مي ّكن اهلل هلم ىف األرض ‪ ،‬س @ @@يكونون مص @ @@ابيح ه @ @@دى ‪،‬‬
‫وينابيع رمحة ‪ ،‬لإلنسانية كلها ‪ ،‬مبا يقيمون فيها من موازين احلق ‪ ،‬والعدل ‪ ،‬وما يغرسون‬
‫ىف آفاقها من مغ @ @@ارس اخلري واإلحس @ @@ان ‪ ..‬إهنم يقيم @ @@ون الص @ @@الة ‪ ،‬ليس @ @@تمدوا منها أم @ @@داد‬
‫اهلدى من اهلل ‪ ..‬ويؤتون الزكاة ‪ ،‬فيكش@@فون هبا الض@ّ@ر عن عب@اد اهلل ‪ ..‬وي@أمرون ب@املعروف‬
‫وينه@@ون عن املنكر ‪ ..‬فيص@@لحون هبذا من س@@لوك الن@@اس ‪ ،‬ويقيم@@ون هلم ط@@رقهم مس@@تقيمة ‪،‬‬
‫فال تتصادم منازعهم ‪ ،‬وال تفسد مشارهبم ‪..‬‬
‫وقد ص@@دق اهلل وع@@ده ‪ ،‬ومكن س@@بحانه وتع@@اىل للمؤم@@نني ىف األرض ‪ ،‬فك@@انوا أعالم‬
‫هدى ‪ ،‬وآيات رمحة ‪ ،‬وموازين عدل وإحسان بني الناس ‪..‬‬
‫‪1048‬‬

‫َّاس تَ ـأْمرو َن بِــالْمعر ِ‬ ‫وك @@انوا كما وص @@فهم س @@بحانه بقوله ‪ُ ( :‬ك ْنتم َخيــر أ َُّم ٍة أُ ْخـ ِرج ْ ِ‬
‫وف‬ ‫َ ُْ‬ ‫ت للن ِ ُ ُ‬ ‫َ‬ ‫ُْ ْ َ‬
‫اهلل) (‪ : 110‬آل عمران)‪.‬‬ ‫وَت ْن َهو َن َع ِن الْم ْن َك ِر و ُت ْؤ ِمنُو َن بِ ِ‬
‫ُ َ‬ ‫َ ْ‬
‫قوله تع @@اىل ‪َ ( :‬ولِلَّ ِه عاقِبَـ ـةُ اأْل ُُم ــو ِر) ‪ ..‬إش @@ارة إىل نف @@اد ق @@درة اهلل ‪ ،‬وأهنا بالغة الغاية‬
‫اليت ق@ @ ّدرها اهلل هلا ىف ه @@ذا املق @@ام ‪ ،‬وهى نصر املؤم @@نني ‪ ،‬وإع @@زازهم ‪ ،‬وخ @@ذالن املش @@ركني‬
‫والضالني ‪ ،‬وخزيهم ‪..‬‬
‫فعاقبة األمور ‪ ،‬هى مثراهتا الطيبة ‪ ،‬إذ كانت األمور كلها جترى ب@أمر اهلل ‪ ،‬وتتح@@رك‬
‫مبشيئته ‪ ..‬ف@إذا بلغت غايتها ك@@انت خ@ريا ‪ ،‬وك@@انت كم@اال ‪ ،‬وحس@نا ‪ ..‬وه@ذا ما يشري إليه‬
‫ين) (‪ : 128‬األعراف) وقوله س@@بحانه ‪َ ( :‬والْعاقِبَـةُ لِ َّلت ْقـوى) (‬ ‫قوله تعاىل ‪( :‬والْعاقِبةُ لِل ِ‬
‫ْمتَّق َ‬
‫َ َ ُ‬
‫‪ : 132‬طه)‪.‬‬
‫____________________________________‬

‫اآليات ‪ 42( :‬ـ ‪)48‬‬


‫ِ ِ‬ ‫وك َف َق ْد َك َّذبَ ْ‬ ‫( َوإِ ْن يُ َك ِّذبُ َ‬
‫ود (‪َ )42‬و َقـ ْـو ُم إبْــراه َ‬
‫يم َو َقـ ْـو ُم‬ ‫وح َوعا ٌد َوثَ ُم ُ‬
‫ت َق ْبلَ ُه ْم َق ْو ُم نُ ٍ‬
‫ف كـا َن نَ ِكـي ِر‬ ‫حاب م ْدين و ُك ِّذب موسى فَأَملَي ُ ِ ِ‬ ‫ٍ‬
‫َخ ْذ ُت ُه ْم فَ َك ْي َ‬ ‫ت للْكاف ِر َ‬
‫ين ثُ َّم أ َ‬ ‫ْْ‬ ‫َص ُـ َ َ َ َ َ ُ‬ ‫لُوط (‪َ @)43‬وأ ْ‬
‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫ص ـ ٍر‬ ‫(‪ )44‬فَ َكـ أَيِّ ْن م ْن َق ْريَــة أ َْهلَكْناها َوه َي ظال َمـ ةٌ فَ ِه َي خا ِويَ ـةٌ َعلى عُ ُروش ـها َوبِْئـ ٍر ُم َعطَّلَــة َوقَ ْ‬
‫ـوب َي ْع ِقلُــو َن بِها أ َْو آذا ٌن يَ ْسـ َمعُو َن بِها‬ ‫ض َفتَ ُكــو َن ل َُه ْم ُقلُـ ٌ‬‫يد (‪ )45‬أَ َفلَ ْم يَ ِسـ ُيروا فِي اأْل َْر ِ‬ ‫م ِش ٍ‬
‫َ‬
‫ك بِال َْع ِ‬
‫ذاب‬ ‫الص ُدو ِر (‪َ )46‬ويَ ْسَت ْع ِجلُونَ َ‬ ‫وب الَّتِي فِي ُّ‬ ‫ِ‬
‫صار َولك ْن َت ْع َمى الْ ُقلُ ُ‬ ‫فَِإنَّها ال َت ْع َمى اأْل َبْ ُ‬
‫ْف َسـنَ ٍة ِم َّما َتعُــدُّو َن (‪َ )47‬و َكـ أَيِّ ْن ِم ْن َق ْريَـ ٍـة‬ ‫ك َكـ أَل ِ‬ ‫ـف اهللُ َو ْعـ َدهُ َوإِ َّن َي ْوم ـاً ِع ْنـ َد َربِّ َ‬‫َن يُ ْخلِـ َ‬
‫َول ْ‬
‫ص ُير) (‪)48‬‬ ‫َي الْم ِ‬
‫َخ ْذتُها َوإِل َّ َ‬ ‫ت لَها َو ِه َي ظالِ َمةٌ ثُ َّم أ َ‬ ‫أ َْملَْي ُ‬
‫____________________________________‬
‫‪1049‬‬

‫التفسري ‪:‬‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫ـراهيم و َقــوم لُ ٍ‬ ‫ِ‬
‫ـوط‬ ‫ـود َو َق ْـو ُم إِبْ َ َ ْ ُ‬‫ـوح َوعــا ٌد َوثَ ُم ُ‬ ‫ت َق ْبلَ ُه ْم َقـ ْـو ُم نُ ٍ‬ ‫( َوإِ ْن يُ َك ِّذبُ َ‬
‫وك َف َقـ ْد َك َّـذبَ ْ‬
‫ف كا َن نَ ِكي ِر)‪.‬‬ ‫حاب م ْدين و ُك ِّذب موسى فَأَملَي ُ ِ ِ‬
‫َخ ْذ ُت ُه ْم فَ َك ْي َ‬ ‫ت للْكاف ِر َ‬
‫ين ثُ َّم أ َ‬ ‫ْْ‬ ‫َص ُـ َ َ َ َ َ ُ‬ ‫َوأ ْ‬
‫رب الع @@املني ‪ ،‬ملا يلقى من‬ ‫@ىب الك @@رمي ‪ ،‬وع@@زاء مجيل من ّ‬ ‫ىف ه @@ذه اآلي @@ات مواس @@اة للن@ ّ‬
‫ـل ما‬ ‫قومه من تك @@ذيب ‪ ،‬وس @@فه ‪ ،‬وتط @@اول ‪ ..‬فتلك هى س @@بيل األنبي @@اء مع أق @@وامهم ‪ُ ( ..‬كـ َّ‬
‫ـاء أ َُّمةً َر ُسـولُها َك َّـذبُوهُ) (‪ : 44‬املؤمن@@ون) ‪ ..‬وأنت أيها النيب لست مبع@@زل عن ه@@ذا ‪ ،‬وال‬ ‫جَ‬
‫قومك بب @@دع بني األق @@وام ‪ ..‬إنه حق وباطل ‪ ،‬وه @@دى وض @@الل ‪ ،‬وإنه ال بد من ص @@دام بني‬
‫صـ ـ ـبِ ْر َكما َ‬
‫صـ ـ ـَب َر‬ ‫أص@ @@حاب احلق وأهل الباطل ‪ ،‬وبني دع@ @@اة اهلدى ‪ ،‬وأئمة الض@ @@الل ‪( ..‬فَا ْ‬
‫الر ُس ِل َوال تَ ْسَت ْع ِج ْل ل َُه ْم) (‪ : 35‬األحقاف) ‪..‬‬ ‫أُولُوا ال َْع ْزِم ِم َن ُّ‬
‫وىف هذه اآليات ‪:‬‬
‫ّأوال ‪ :‬ج@@اء ذكر ق @@وم ن@@وح ‪ ،‬وق @@وم إب@@راهيم ‪ ،‬وق @@وم ل @@وط ‪ ،‬مض@@افني إىل أنبي@@ائهم ‪،‬‬
‫على حني جاء قوم هود ‪ ،‬وقوم صاحل ‪ ،‬وأصحاب مدين ‪ ،‬وهم عاد ومثود ‪ ،‬وقوم شعيب‬
‫جمردين من هذه اإلضافة ‪ ..‬فما وجه هذا؟ ‪..‬‬
‫اجلواب ـ واهلل أعلم ـ أنه تنويع ىف النظم ‪ ،‬وذلك بتوزيع الكلم@ @ @ @ @ @@ات ذات النغم‬
‫الواحد مثل «ق@ @ @ @ @@وم» ه@ @ @ @ @@ذا التوزيع غري املتت@ @ @ @ @@ابع ‪ ،‬حىت ال يثقل على األذن ‪ ،‬وال يثري امللل‬
‫والس@@أم ‪ ،‬فك@@ان ه @@ذا التوزيع ال@@ذي ت@@رى وتس @@مع تس@@اوق حلنه وروعة نغمه ‪ ..‬ولو ذهبت‬
‫تعيم النظم على أسلوب واحد ‪ ،‬فتذكر األقوام مضافني إىل أنبيائهم ‪ ،‬أو تذكرهم بأعياهنم‬
‫جمردين من تلك اإلضافة ‪ ،‬لوجدت نظما قلقا مضطربا يتعثر به اللسان ‪ ،‬وتستثقله اآلذان‪.‬‬
‫‪1050‬‬

‫وثانيا ‪ :‬جاء الفعل «كذبت» مؤنثا مع أن فاعله م@@ذكر وهو «ق@@وم ن@@وح» ‪ ..‬وك@@ان‬
‫سر هذا؟ ‪..‬‬ ‫ظاهر النظم يقضى بأن جيىء الفعل مذكرا هكذا ‪« :‬كذب» فما ّ‬
‫واجلواب ـ واهلل أعلم ـ أن الق@ @@وم املك@ @@ذبني ك@ @@انوا على طبيعة واح@ @@دة من الض@ @@الل‬
‫والعمى ‪ ،‬فك@ @@أهنم ـ هبذا كتلة متض@ @@خمة من الظالم ‪ ،‬ال خيرج منها إال ما هو شر ‪ ،‬وض @ ّ@ر‬
‫‪ ..‬فكأ ّن الفعل واقع على هذا الكيان الفاسد ‪ ،‬أو هذه القطعة من الظالم ‪ ،‬والضالل!‪.‬‬
‫ومن جهة أخ @@رى ‪ ،‬ف @@إن الفعل «ك @@ذب مس @@لط على ه @@ؤالء األق @@وام ال @@ذين ذك @@رهتم‬
‫اآلية ‪ ،‬قوم نوح ‪ ،‬وع@@اد ‪ ،‬ومثود ‪ »...‬وهم هبذا أمة واح@@دة ‪ ،‬ىف الض@@الل ‪ ،‬وإن ك@@انوا أمما‬
‫ىف األمكنة واألزمنة ‪..‬‬
‫ب ُموسى) خمالفا للنظم ‪ ،‬ال@@ذي ك@@ان ظ@@اهره يقضى‬ ‫وثالثا ‪ :‬جاء قوله تعاىل ‪َ ( :‬و ُك ِّذ َ‬
‫حاب َمـ ْديَ َن) ‪..‬‬
‫صـ ُ‬ ‫ب@@أن جيىء هك@@ذا ‪« :‬وك@@ذب ق@@وم موس@@ى» معطوفا على قوله تع@@اىل ( َوأَ ْ‬
‫فما وجه هذا؟‪.‬‬
‫واجلواب ـ واهلل أعلم ـ أن ق @@وم موسى ‪ ،‬وهم بنو إس @@رائيل مل يك @@ذبوه ‪ ،‬وإمنا ال @@ذي‬
‫كذبه هو فرعون وقوم فرعون ‪ ،‬وهم ليسوا قوم موسى ‪..‬‬
‫أما الس @ ّ@ر ىف أنه مل ي @@ذكر فرع @@ون وقومه ىف األمم واألق @@وام املكذبة بالرسل ف @@ذلك ـ‬
‫واهلل أعلم ـ ألن موسى مل يكن من قوم فرعون ‪ ،‬ورسل اهلل مجيعا من أقوامهم ‪ ..‬فلم يكن‬
‫موسى مبعوثا إىل فرع@@ون وقومه ليقيم فيهم دينا ويؤسس ش@@ريعة ‪ ،‬وإمنا ك@@انت رس@@الته إىل‬
‫فرع@@ون أن ي@@دعوه إىل إطالق بىن إس@@رائيل من ي@@ده كما يق@@ول س@@بحانه ملوسى وما ي@@دعون‬
‫يل َوال ُت َعـ ِّـذ ْب ُه ْم) (‪ : 47‬ط@@ه) ه@@ذه هى رس@@الة موسى‬ ‫ِ ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫فرع@@ون إليه ‪( :‬فَأ َْرسـ ْل َم َعنا بَني إ ْسـرائ َ‬
‫إىل فرعون ‪..‬‬
‫‪1051‬‬

‫أما دعوته فرع@ @ @ @ @ @ @ @@ون إىل اإلميان باهلل ‪ ،‬فهى من مس@ @ @ @ @ @ @ @@تلزمات دعوته إىل إطالق بىن‬
‫إس@ @@رائيل ‪ ،‬تلك ال@ @@دعوة املأمور هبا من اهلل ‪ ..‬ف@ @@إذا مل ي@ @@ؤمن فرع@ @@ون باهلل ‪ ،‬فلن يس@ @@تجيب‬
‫هلذه الدعوة ‪..‬‬
‫ـف ك ــا َن نَ ِكــي ِر‪ ).‬هو هتديد‬ ‫ـ وىف قوله تع @@اىل ‪( :‬فَـ ـأَملَي ُ ِ ِ‬
‫َخـ ـ ْذ ُت ُه ْم فَ َك ْي ـ َ‬ ‫ت ل ْلك ــاف ِر َ‬
‫ين ثُ َّم أ َ‬ ‫ْْ‬
‫@ىب وك@ @@ذبوه ‪ ،‬وآذوه@ ‪ ..‬ف @ @@إن يكن اهلل قد أملى هلم ‪ ،‬أي‬ ‫للمش @ @@ركني ‪ ،‬ال @ @@ذين تص@ @@دوا للن @ @ ّ‬
‫أمهلهم ‪ ،‬ومل يعجل هلم الع @@ذاب فإنه س@@بحانه قد أملى للك @@افرين قبلهم ‪ ..‬مث أخ @@ذهم أخذ‬
‫عزيز مقتدر ‪..‬‬
‫ـف كــا َن نَ ِكــي ِر) اس@@تفهام ي@@راد به التقرير ‪ ،‬واإللف@@ات إىل ما‬ ‫ـ وىف قوله تع @@اىل ‪( :‬فَ َك ْيـ َ‬
‫أخذ اهلل به الك@ @@افرين املك@ @@ذبني برسل اهلل ‪« ..‬فمنهم من أغرقه اهلل ‪ ،‬ومنهم من خسف به‬
‫األرض ‪ ،‬ومنهم من أرسل عليه حاصبا ‪ ،‬ومنهم من أخذته الصيحة ‪»..‬‬
‫والنكري ‪ :‬اإلنك@ @@ار املنكر ‪ ..‬ونكري اهلل هو إنك@ @@اره على الك@ @@افرين كف@ @@رهم ‪ ،‬وليس‬
‫وراء هذا اإلنكار ‪ ،‬إال البالء املهني ‪ ،‬والعذاب األليم ‪..‬‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫(فَ َكأَيِّ ْن م ْن َق ْريَـة أ َْهلَكْناها َوه َي ظال َمـ ةٌ فَ ِه َي خا ِويَـةٌ َعلى عُ ُروشـها َوبِْئـ ٍر ُم َعطَّلَــة َوقَ ْ‬
‫صـ ٍر‬
‫يد ‪)..‬‬‫م ِش ٍ‬
‫َ‬
‫هو بي@@ان لنكري اهلل س@@بحانه وتع@@اىل ‪ ،‬ووقع@@ات بأسه بالظ@@املني والض@@الني ‪ ..‬فكثري من‬
‫ق @ @@رى الظ @ @@املني قد أهلكها اهلل ‪ ،‬وأن @ @@زل هبا عذابه ‪ ،‬فوقع عليها وهى قائمة على ما ك @ @@انت‬
‫عليه من ظلم وطغيان ‪ ..‬وهذه القرى قد خوت على عروشها ‪،‬‬
‫‪1052‬‬

‫خير اإلنس @ @@ان على وجه @ @@ه‪.‬‬ ‫أي خ @ @ ّ@رت ‪ ،‬وس @ @@قطت على عروش @ @@ها ‪ ،‬أي س @ @@قفها ‪ ..‬كما ّ‬
‫فتعطلت آبارها وردمت ‪ ،‬ألهنا ال جتد ال @ @@واردين إليها ‪ ،‬وخ @ @@ربت القص @ @@ور املش @ @@يدة ‪ ،‬بعد‬
‫عمراهنا ‪ ،‬ألهنا ال جتد من يسكنها ‪..‬‬
‫لقد ذهب اجلميع ‪ ،‬وخلّفوا وراءهم هذا اخلراب املوحش املخيف!‪.‬‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫ـوب َي ْع ِقلُــو َن بِها أ َْو آذا ٌن يَ ْسـ َمعُو َن بِها فَِإنَّها‬
‫ض َفتَ ُكو َن ل َُه ْم ُقلُـ ٌ‬‫(أَ َفلَ ْم يَ ِس ُيروا فِي اأْل َْر ِ‬
‫ص ـ ُدو ِر‪ ).‬االس@@تفهام هنا ‪ ،‬تقريع ‪ ،‬وخنس‬ ‫ـوب الَّتِي فِي ال ُّ‬ ‫ِ‬
‫ـار َولك ْن َت ْع َمى الْ ُقلُـ ُ‬
‫ال َت ْع َمى اأْل َبْصـ ُ‬
‫هلؤالء املشركني من قريش ‪ ،‬ال@ذين تص@ ّدوا لرس@ول اهلل ‪ ،‬وك@ ّذبوه وآذوه ‪ ،‬دون أن ينظ@روا‬
‫ىف عاقبة أمرهم ‪ ،‬ودون أن يلتفتوا إىل ما وراء هذا املنكر ال@@ذي هم فيه ‪ ..‬ولو نظ@@روا فيما‬
‫حوهلم لعرفوا أهنم ىف مع@رض اهلالك ‪ ،‬إذا هم مل يرجع@وا عن ه@ذا الض@الل ال@ذي يركبونه ‪،‬‬
‫فهم ليس@@وا أحسن موقفا من أولئك األق@@وام ال@@ذين ك@@ذبوا الرسل من قبلهم ‪ ،‬ف@@أهلكهم اهلل‬
‫‪..‬‬
‫وب َي ْع ِقلُو َن بِها أ َْو آذا ٌن يَ ْسـ َمعُو َن بِها) هو إش@@ارة‬ ‫ـ وىف قوله تعاىل ‪َ ( :‬فتَ ُكو َن ل َُه ْم ُقلُ ٌ‬
‫إىل أن السري ىف األرض ‪ ،‬ال يفيد منه ص@ @ @@احبه ش@ @ @@يئا إال إذا ك@ @ @@ان معه قلب متفتّح ‪ ،‬يتل ّقى‬
‫املؤثّرات اخلارجية ‪ ،‬ويت@@أثّر هبا ‪ ،‬ويتفاعل معها ‪ ..‬ف@@إن مل يكن له ه@@ذا القلب اليقظ املتفتّح‬
‫‪ ،‬فليفتح أذنه ل@@دعوة ال@@داعي ‪ ،‬ون@@ذير املن@@ذر ‪ ..‬ف@@إن األعمى يتّخذ من أذنه أداة عاملة تق@@وم‬
‫مقام عينيه ‪ ،‬وتصل ما بينه وبني الوجود ‪..‬‬
‫أما ه @ @@ؤالء الق @ @@وم الض @ @@الون ‪ ،‬فلم تكن هلم قل @ @@وب يعقل @ @@ون هبا ‪ ،‬ومل تكن هلم آذان‬
‫صم بكم عمى ال يعقلون ‪..‬‬ ‫يسمعون هبا ‪ ..‬لقد عطلوا حواسهم ‪ ..‬فهم ّ‬
‫‪1053‬‬

‫ومل ي@ @@ذكر الق@ @@رآن هنا أبص@ @@ارهم ‪ ،‬ومل يس@ @@تدعها كما اس@ @@تدعى قل@ @@وهبم وآذاهنم ‪..‬‬
‫ِ‬
‫ـوب‬ ‫ولكن أش @ @@ار إليها ض @ @@منا ‪ ،‬ىف قوله تع @ @@اىل ‪( :‬فَِإنَّها ال َت ْع َمى اأْل َبْصـ ـ ُ‬
‫ـار َولك ْن َت ْع َمى الْ ُقلُـ ـ ُ‬
‫الص ُدو ِر) ‪ ..‬فكأنه ق@@ال ‪ :‬أما أبص@@ارهم فال وزن هلا إذا مل تكن هن@@اك القل@@وب اليت‬ ‫الَّتِي فِي ُّ‬
‫تتلقى عنها ‪ ،‬وتعى ما جيىء إليها منها ‪ ..‬فأبص@ @@ارهم معهم ‪ ،‬وهى س @ @@ليمة ال عيب فيها ‪،‬‬
‫ولكنهم مع ه @@ذا هم عمى ‪ ،‬ألن العمى ليس عمى األبص @@ار ‪ ،‬ولكنه عمى القل @@وب اليت ىف‬
‫الصدور‪.‬‬
‫صـ ـ ُدو ِر) توكيد للقل@ @@وب ‪ ،‬وأهنا هى املرادة‬ ‫ـوب الَّتِي فِي ال ُّ‬ ‫ـ وىف قوله تع@ @@اىل ‪( :‬الْ ُقلُ ـ ُ‬
‫هنا ‪ ،‬على س@@بيل احلقيقة ال اجملاز ‪ ،‬وذلك لئال ينص@@رف مفه@@وم@ القل@@وب إىل العق@@ول ‪ ،‬كما‬
‫حيدث ذلك كثريا‪.‬‬
‫وقد وص@ @@فت القل @ @@وب هنا بأهنا تعقل وت@ @@درك ‪ ..‬فك@ @@ان حتديد مكاهنا أم @ @@را الزما ‪،‬‬
‫حىت يتقرر أهنا املقصودة بذاهتا ‪ ،‬وليست العقول ‪..‬‬
‫واختص@ @ @@اص القلب بال@ @ @@ذكر ‪ ،‬والنظر إليه على أنه مركز اإلدراك واإلهلام ‪ ،‬ىف ه@ @@ذا‬
‫احلب واالمتث@@ال وال@@والء ‪ ،‬والقلب هو منبع‬ ‫املق@@ام ‪ ،‬ألن ال @ ّدين عقي@@دة ‪ ،‬والعقي@@دة أساس@@ها ّ‬
‫هذه املشاعر ‪ ،‬ومصدر تلك العواطف ‪..‬‬
‫وتصورها ‪ ،‬وإنه بغري هذا‬ ‫وح ّقا ‪ ،‬إن للعقل مكانه البارز ىف إدراك احلقائق الدينية ‪ّ ،‬‬
‫احلب ‪ ،‬والتق@@دير ‪ ،‬والتق@@ديس‬ ‫اإلدراك وذلك التص@@ور ال تقع ه@@ذه احلق@@ائق من القلب موقع ّ‬
‫‪ ..‬ولكن القرآن الكرمي ينظر إىل القلب ‪ ،‬ال باعتباره مصدر العواطف واملشاعر وحسب ‪،‬‬
‫بل ينظر إليه كذلك نظرة وظيفية ‪ ،‬كعضو عامل ىف كيان اإلنسان ‪ ..‬فهو ـ من هذه اجلهة‬
‫ـ مركز احلي@@اة ىف اإلنس@@ان ‪ ،‬بل وىف كل ع@@امل احلي@@وان ـ حيث مي ّد اجلسم كلّه بال@ ّدم املت@@دفق‬
‫احلى ‪ ،‬وأص@بح جثة هام@دة ‪..‬‬ ‫منه ىف الع@روق والش@رايني ‪ ،‬ولو توقف حلظ@ات ملات الك@ائن ّ‬
‫ومن هنا كان نبض القلب هو اإلشارة الدالة على وجود احلياة‬
‫‪1054‬‬

‫وجتف ينابيعها ‪..‬‬


‫ىف اإلنسان ‪ ..‬وحني يسكت النبض تتوقف احلياة ‪ ،‬ويغيض جمراها ‪ّ ،‬‬
‫وإذ ك@ @ @@ان القلب هبذه املثابة ‪ ،‬فإنه هو ص@ @ @@احب الش@ @ @@أن األول ىف اإلنس@ @ @@ان ‪ ،‬حبكم‬
‫آثاره الظاهرة فيه ‪ ..‬إنه يعمل دائما ىف حال اليقظة والنوم‪.‬‬
‫وأما العقل ‪ ،‬وإن ع@ @@رفت آث@ @@اره ‪ ،‬فإنه ال يع@ @@رف س@ @ ّ@ره ‪ ،‬ولو ع@ @@رف س@ @ ّ@ره ‪ ،‬فإنه ال‬
‫@ذى م@@اء احلي@@اة ال@@ذي مي ّده به ‪ ،‬أيّا ك@@ان موض@@عه ىف‬ ‫خيرج عن أن يك@@ون ربيب القلب ‪ ،‬وغ@ ّ‬
‫مستقره‪@.‬‬
‫ّ‬ ‫كيان اإلنسان ‪ ،‬وأيّا كان‬
‫ف@ @@إذا أض@ @@اف الق@ @@رآن الك@ @@رمي إىل القلب ‪ ،‬علما ‪ ،‬ومعرفة ‪ ،‬وحكمة ‪ ،‬وإميانا ‪ ،‬فإمّن ا‬
‫ذلك ألنه س @ @@لطان اجلسد كلّه ‪ ،‬وإىل ص @ @@الحه أو فس @ @@اده يع @ @@ود ص @ @@الح أعض @ @@اء اإلنس @ @@ان‬
‫وفس@ @ @ @@ادها ‪ ،‬وس@ @ @ @@المة حواسه أو اعتالهلا ‪ ..‬وليس العقل إال حا ّس @ @ @ @ة خفية ـ من ح@ @ @ @@واس‬
‫اإلنس@@ان ‪ ،‬ترتبط س@@المته بس@@المة اجلسد ‪ ،‬كما ترتبط س@@المة اجلسد بس@@المة القلب ‪ ،‬وىف‬
‫املثل ‪« :‬العقل السليم ىف اجلسم السليم» ‪ ..‬وقد كشف عن هذا الرسول الك@@رمي ىف قوله ‪:‬‬
‫«أال وإن ىف اجلسد مضغة ‪ ،‬إذا صلحت ص@@لح اجلسد كله ‪ ،‬وإذا فس@@دت فسد اجلسد كلّه‬
‫‪ ،‬أال وهى القلب»‪.‬‬
‫ـوب َي ْع ِقلُ ــو َن بِها) (‪: 46‬‬
‫وعلى ه @@ذا ميكن أن نفهم قوله تع @@اىل ‪َ ( :‬فتَ ُكــو َن ل َُه ْم ُقلُ ـ ٌ‬
‫احلج) ال على أن القلب هو مص@ @ @@در اإلدراك املباشر ‪ ،‬وإمنا هو مص@ @ @@در للعقل ال@ @ @@ذي يعقل‬
‫وي@@درك ‪ ..‬فلو ك@@ان القلب س@@ليما مع@@اىف من العلل لس@@لم العقل ‪ ،‬مث لك @@ان إدراكه لألم @@ور‬
‫س@@ليما ‪ ،‬وتق@@ديره هلا ص@@حيحا ‪ ..‬وه@@ذا أبلغ ىف الكشف عن داء الغفلة املس@@توىل على الق@@وم‬
‫‪ ،‬وأنه داء ينبع من املنبع األص@ @ @ @ @ @ @@لى ‪ ،‬وهو القلب ‪ ،‬وليس داء عارضا أص@ @ @ @ @ @ @@اب حاسة من‬
‫احلواس ‪ ..‬إنه داء يسرى ىف اجلسد كله‪.‬‬
‫وسواء إذا كان القلب هو موطن املشاعر واملدركات ‪ ،‬أم كان عضوا‬
‫‪1055‬‬

‫من أعض@ @ @ @ @ @ @ @ @ @@اء اجلسد أو جارحة من جوارحه ‪ ،‬فإنه من حيث مكانه ىف اجلسد ‪ ،‬ووظيفته‬
‫احلى ‪ ،‬تتأثر به كل خلية من خاليا اجلسد ‪ ،‬كما‬ ‫العضوية فيه ـ يع ّد مركز احلياة ىف الكائن ّ‬
‫صح أن يض@@اف إليه ك@ ّ@ل ما للج@وارح من آث@ار ‪،‬‬ ‫أنه يتأثر بكل خلية ىف اجلسد ‪ ..‬ومن هنا ّ‬
‫حسية أو معنوية‪.‬‬ ‫وما لكل عضو من قوى ّ‬
‫ف@ @ @ @@العني وما فيها من ق@ @ @ @@وى اإلبص@ @ @ @@ار ‪ ،‬هى من جن@ @ @ @@ود القلب ‪ ..‬إذ هى غصن من‬
‫أغص@@ان الش@@جرة اليت يق@@وم على تغ@@ذيتها ‪ ،‬وإم@@دادها باحلي@@اة ‪ ..‬وك@@ذلك الش@@أن ىف األذن ‪،‬‬
‫واليد ‪ ،‬واللسان ‪ ..‬وكذلك احلال ىف «املخ» الذي قيل إنه هو موطن الشعور واإلدراك!!‬
‫إن اإلنسان ‪ ،‬هو ىف الواقع هذا القلب ‪ ،‬ال من حيث هو تلك النطفة الصنوبرية من‬
‫اللحم وال@ @ ّدم ‪ ..‬ولكن من حيث هو مس @@تودع ه @@ذه احلي @@اة املتدفقة منه ‪ ،‬وهى ال@ @ ّدم ال @@ذي‬
‫يس@@رى ىف الع@روق والش@رايني ‪ ،‬وال@@ذي ميأل الكي@ان اجلس@دى كلّه مع كل خفقة من خفقاته‬
‫‪ ،‬قبضا وانبساطا ‪..‬‬
‫***‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫ْف َسـنَ ٍة ِم َّما‬ ‫ـف اهللُ َو ْعـ َدهُ َوإِ َّن َي ْومـاً ِع ْنـ َد َربِّ َ‬
‫ك َـك أَل ِ‬ ‫َن يُ ْخلِ َ‬ ‫ك بِال َْع ِ‬
‫ـذاب َول ْ‬ ‫( َويَ ْسـَت ْع ِجلُونَ َ‬
‫َتعُدُّو َن)‪.‬‬
‫احلق ‪ ،‬وض@ @@لوا عن س@ @@واء‬ ‫رد على ه@ @@ؤالء املش@ @@ركني الض@ @@الني ال@ @@ذين عم@ @@وا عن ّ‬ ‫هو ّ‬
‫السبيل ‪ ،‬مث هم مع ـ هذا املوقف املكابر املتح ّدى ـ يستعجلون العذاب الذي أن@@ذروا به إهنم‬
‫أعرض @@وا عن اإلميان باهلل ‪ ،‬وك @@ذبوا مبا ج @@اءهم به رس @@ول اهلل ‪ ،‬كما ىف قوله تع @@اىل ‪( :‬فَ ـِإ ْن‬
‫ـود) (‪ : 13‬فص@@لت) ‪ ..‬وىف ه@@ذا ال@@رد‬ ‫ـاع َقةً ِمثْـل ص ِ‬
‫ـاع َق ِة ع ٍ‬ ‫ضـوا َف ُقـل أَنْـ َذرتُ ُكم ص ِ‬ ‫أَ ْع َر ُ‬
‫ـاد َوثَ ُم َ‬ ‫َ‬ ‫ْ ْ ْ‬
‫إنكار عليهم ‪ ،‬وتسفيه هلم ‪ ،‬إذ‬
‫‪1056‬‬

‫يطلب @@ون اهلالك ‪ ،‬ويس @@تعجلون البالء ‪ ،‬على حني يص @@رفون وج @@وههم عن ه @@ذا اخلري ال @@ذي‬
‫بني أي@ @@ديهم ‪ ،‬ويلق@ @@ون بأنفس@ @@هم إىل التهلكة ‪ ..‬وه@ @@ذا ال يك@ @@ون من إنس@ @@ان له مس@ @@كة من‬
‫العقل واإلدراك‪.‬‬
‫ـف اهللُ َو ْعـ َدهُ) هتديد هلم ‪ ،‬بالع @@ذاب ال @@ذي أن @@ذروا به ‪،‬‬ ‫َن يُ ْخلِـ َ‬‫وىف قوله تع @@اىل ‪َ ( :‬ول ْ‬
‫وأنه واقع هبم ‪ ..‬فه@@ذا وعد من اهلل ‪ ،‬ولن خيلف اهلل وع@@ده ‪ ..‬ألن خلف الوعد إمنا يك@@ون‬
‫علوا كبريا ‪..‬‬ ‫عن عجز عن الوفاء به ‪ ..‬وتعاىل اهلل عن ذلك ّ‬
‫ْف َسـ ـنَ ٍة ِم َّما َتعُ ــدُّو َن) هو تأكيد لوق @@وع‬ ‫ك َكـ ـ أَل ِ‬ ‫وقوله س @@بحانه ‪َ ( :‬وإِ َّن َي ْومـ ـاً ِع ْنـ ـ َد َربِّ َ‬
‫وعد اهلل ‪ ،‬وإجنازه وأهنم إذا كانوا قد استبطئوا وقوعه ‪ ،‬فإن هلل س@بحانه وتع@اىل تق@ديرا غري‬
‫تق @@ديرهم ‪ ،‬وحس @@ابا غري حس @@اهبم ‪ ،‬وأنه س @@بحانه ال يقيس ال @@زمن مبقي @@اس الن @@اس ‪ ،‬فالن @@اس‬
‫يتع@املون مع أش@ياء حمدودة ‪ ،‬ىف زمن حمدود ‪ ،‬على حني أن اهلل س@بحانه ي@دبر الوج@ود كله‬
‫‪ ،‬ىف زمن مطلق ‪ ،‬وبق @ @@درة مطلقة ‪ ..‬وعلى ه @ @@ذا فإنه إذا مل يقع هبم الع @ @@ذاب ع@ @ @@اجال فهو‬
‫واقع آجال ‪ ،‬وأهنم إذا مل يؤخ@@ذوا به ىف ال@@دنيا ‪ ،‬أخ@@ذوا به ىف اآلخ@@رة ‪ ..‬فهم أب@@دا ىف قبضة‬
‫الزمن الذي هو ىف قبضة اهلل ‪ ..‬ولن يفلتوا أبدا‪.‬‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫ص ُير ‪)..‬‬ ‫َي الْم ِ‬
‫َخ ْذتُها َوإِل َّ َ‬ ‫ت لَها َو ِه َي ظالِ َمةٌ ثُ َّم أ َ‬ ‫( َو َكأَيِّ ْن ِم ْن َق ْريٍَة أ َْملَْي ُ‬
‫ْف َس ـ ـنَ ٍة ِم َّما َتعُـ ــدُّو َن ‪)..‬‬ ‫هو بي@ @@ان ش@ @@ارح لقوله تع@ @@اىل ‪َ ( :‬وإِ َّن َي ْوم ـ ـاً ِع ْن ـ ـ َد َربِّ َ‬
‫ك َكـ ـ أَل ِ‬
‫واملعىن أن ه@@ؤالء املش@@ركني إن ك@@انوا يس@@تعجلون الع@@ذاب ‪ ،‬ويش@@كون ىف وقوعه حني أبطأ‬
‫عليهم ‪ ،‬ومل يقع هبم ‪ ،‬فما ذلك إاّل ألن هلم حس@ @ @@ابا ‪ ،‬وأن هلل س @ @@بحانه وتع@ @ @@اىل حس @ @@ابا ‪،‬‬
‫وأهنم إذا كانوا قد أملى هلم ومل يؤخذوا بظلمهم إىل يومهم هذا ال@ذي هم فيه ـ فليس ه@@ذا‬
‫ألهنم ممتنعون عن اهلل بقوة أو جاه أو سلطان ‪،‬‬
‫‪1057‬‬

‫وإمنا ألن ذلك هو حكم اهلل ىف عباده ‪ ،‬وسنته ىف الظ@@املني منهم ‪ ..‬ال يعجل هلم الع@@ذاب ‪،‬‬
‫وال يب@@ادرهم به ‪ ،‬بل ميهلهم وميلى هلم ‪ ،‬حىت يراجع@@وا أنفس@@هم ‪ ،‬ويت@@دبروا أم@@رهم ‪ ،‬وه@@ذا‬
‫َّاس بِظُل ِْم ِه ْم ما‬ ‫من رمحة اهلل هبم وفض@@له عليهم ‪ ،‬كما يق @@ول س @@بحانه ‪َ ( :‬ولَـ ْـو يُ ِ ـ‬
‫ؤاخ ُذ اهللُ الن َ‬
‫ٍ ِ‬ ‫ِ‬
‫َجـ ٍـل ُم َسـ ـ ًّمى) (‪ : 61‬النح @@ل) وبني ي @@دى ه @@ؤالء‬ ‫ِّر ُه ْم إِلى أ َ‬
‫َتـ َـر َك َعلَْيها م ْن َدابَّة َولك ْن ُي ـ َـؤخ ُ‬
‫املشركني الضالني ش@اهد ن@اطق هبذا فما أك@ثر الق@رى الظاملة اليت أمهلها اهلل ‪ ..‬مث أخ@ذها ‪..‬‬
‫حى هلذا ‪ ..‬فهم على ما هم فيه من ظلم ما زال@ @@وا ىف‬ ‫بل إن ه@ @@ؤالء املش@ @@ركني هم ش@ @@اهد ّ‬
‫عافية من أم@@رهم ‪ ،‬مل يأخ@@ذهم اهلل بعذابه ‪ ..‬وتلك فرص@@تهم الس@@احنة للخالص من ب@@أس اهلل‬
‫يرد ‪ ..‬إذا حان حينه هبم ‪..‬‬ ‫‪ ،‬الذي ال ّ‬
‫َي الْم ِ‬
‫ص ـ ُير) إش @@ارة إىل أهنم إذا مل يؤخ @@ذوا بظلمهم ىف ه @@ذه‬ ‫ـ وىف قوله تع @@اىل ‪َ ( :‬وإِل َّ َ‬
‫ال @@دنيا ‪ ،‬ف @@إهنم ص @@ائرون إىل اهلل ‪ ،‬وس @@يلقون ج @@زاء الظ @@املني ي @@وم القيامة ‪ ..‬ف @@إن هم أمهل @@وا‬
‫الي@@وم ‪ ،‬فليس معىن ذلك أهنم جنوا من الع@@ذاب ‪ ،‬بل إن ىف غد ع@@ذابا ف@@وق الع@@ذاب ‪ ،‬وبالء‬
‫ذاب اآْل ِخ َر ِة أَ ْكَب ُر ل َْو كانُوا َي ْعلَ ُمو َن) (‪ : 26‬الزمر)‪.‬‬
‫فوق البالء! ( َول ََع ُ‬
‫____________________________________‬

‫اآليات ‪ 49( :‬ـ ‪)59‬‬


‫صـ ـالِ ِ‬ ‫آمنُ ــوا َو َع ِملُ ــوا ال َّ‬ ‫َّ ِ‬ ‫ِ‬
‫حات‬ ‫ين (‪ )49‬فَالذ َ‬
‫ين َ‬ ‫َّاس إِنَّما أَنَا لَ ُك ْم نَ ــذ ٌير ُمبِ ٌ‬
‫(قُ ـ ْـل يا أ َُّي َها الن ُ‬
‫ْج ِح ِيم (‬ ‫حاب ال َ‬ ‫صـ ُـ‬ ‫ـك أَ ْ‬ ‫ين أُولئِـ َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫ين َسـ َع ْوا في آياتنا ُمعــاج ِز َ‬
‫َّ ِ‬
‫يم (‪َ )50‬والذ َ‬
‫ِ‬
‫ل َُه ْم َم ْغفـ َـرةٌ َو ِر ْز ٌق َكـ ِر ٌ‬
‫سـ ُخ‬ ‫ِ ِ ِِ‬ ‫ك ِم ْن ر ُس ٍ‬
‫ول َوال نَبِ ٍّي إِالَّ إِذا تَ َمنَّى أَلْ َقى َّ‬ ‫‪َ )51‬وما أ َْر َسلْنا ِم ْن َق ْبلِ َ‬
‫الش ْيطا ُن في أ ُْمنيَّتــه َفَي ْن َ‬ ‫َ‬
‫ـل ما ُيل ِْقي ال َّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫اهللُ ما ُيل ِْقي ال َّ‬
‫ش ـ ْيطا ُن‬ ‫يم (‪ )52‬ليَ ْج َعـ َ‬ ‫يم َحك ٌ‬‫ش ـ ْيطا ُن ثُ َّم يُ ْحك ُم اهللُ آيات ــه َواهللُ َعل ٌ‬
‫ِِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ين فِي ُقلُوبِ ِه ْم َم َر ٌ‬ ‫ِ ِِ‬
‫وب ُه ْم َوإِ َّن الظَّالم َ‬
‫ين‬ ‫ض َوالْقاسيَة ُقلُ ُ‬ ‫ف ْتنَةً للَّذ َ‬
‫‪1058‬‬

‫ِ‬
‫ت لَــهُ‬ ‫ك َف ُي ْؤ ِمنُــوا بِـ ِـه َفتُ ْخبِ َ‬ ‫ـق ِم ْن َربِّ َ‬
‫ْحـ ُّ‬ ‫ْم أَنَّهُ ال َ‬
‫ِ‬
‫ين أُوتُــوا الْعل َ‬
‫َّ ِ‬ ‫ِ ِ ٍ ِ ٍ‬
‫لَفي شـقاق بَعيــد (‪َ @ )53‬ولَي ْعلَ َم الذ َ‬
‫ين َك َفـ ُـروا فِي‬ ‫راط مسـ ـتَ ِق ٍيم (‪ )54‬وال ي ـ ُ َّ ِ‬ ‫ِ ٍ‬ ‫ِ َّ ِ‬
‫ـزال الذ َ‬ ‫َ َ‬ ‫آمنُ ــوا إِلى صـ ـ ُ ْ‬ ‫ين َ‬‫ـوب ُه ْم َوإِ َّن اهللَ لَه ــاد الذ َ‬ ‫ُقلُ ـ ُ‬
‫ٍ‬
‫ـك َي ْو َمئِ ـ ٍـذ لِلَّ ِه‬‫ـذاب َيـ ْـوم َع ِق ٍيم (‪ @ @)55‬ال ُْم ْلـ ُ‬ ‫ِ‬
‫اعةُ َبغْتَ ـةً أ َْو يَ ـأْتَي ُه ْم َعـ ُ‬ ‫ِم ْريَ ـ ٍـة ِم ْنــهُ َحتَّى تَ ـأْتَِي ُه ُم ال َّ‬
‫سـ َ‬
‫َّ ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫يح ُكم بيَنهم فَالَّ ِذين آمنُـ ـ ــوا و َع ِملُـ ـ ــوا ال َّ ِ ِ ِ‬
‫ين َك َفـ ـ ـ ُـروا‬ ‫ص ـ ـ ـالحات في َجنَّات النَّع ِيم (‪َ @ @ @ @)56‬والذ َ‬ ‫َ َ َ‬ ‫َ ْ ُ َْ ُ ْ‬
‫اهلل ثُ َّم قُتِلُ ــوا أ َْو‬ ‫يل ِ‬ ‫ـاج ُروا فِي َسـ ـبِ ِ‬‫ين ه ـ َ‬
‫َّ ِ‬
‫ين (‪َ )57‬والذ َ‬ ‫ـذاب ُم ِه ٌ‬
‫ـك ل َُه ْم َعـ ٌ‬ ‫َو َكـ َّـذبُوا بِآياتِنا فَأُولئِ ـ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َّه ْم ُمـ ـ ْد َخالً‬ ‫ين (‪ @ @ )58‬لَيُ ـ ـ ْدخلَن ُ‬ ‫س ـ ـناً َوإِ َّن اهللَ ل َُهـ ـ َـو َخ ْـيـ ُـر الـ ـ َّـرا ِزق َ‬
‫َّه ُم اهللُ ِر ْزق ـ ـاً َح َ‬
‫مـ ــاتُوا لََيـ ـ ْـر ُز َقن ُ‬
‫يم) (‪)59‬‬ ‫ضونَه وإِ َّن اهلل لَعلِ ِ‬
‫يم َحل ٌ‬ ‫َ َ ٌ‬ ‫َي ْر َ ْ ُ َ‬
‫____________________________________‬
‫التفسري ‪:‬‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫ِ‬
‫ين)‪.‬‬ ‫َّاس إِنَّما أَنَا لَ ُك ْم نَذ ٌير ُمبِ ٌ‬
‫(قُ ْل يا أ َُّي َها الن ُ‬
‫هو توكيد هلذا اإلن@@ذار ‪ ،‬ال@@ذي أن@@ذر به املش@@ركون من وق@@وع الع@@ذاب هبم ‪ ،‬إذا هم‬
‫مل يس@@تجيبوا هلل وللرس@@ول ‪ ..‬فهو إن@@ذار ع@@ام للن@@اس مجيعا ‪ ،‬ولكنه ىف حقيقته إن@@ذار خ@@اص‬
‫@وى ‪ ،‬مث هو إن @ @@ذار ىف مواجهة ه @ @@ؤالء املش @ @@ركني ‪ ،‬يص @ @@رخ ىف وج @ @@وههم ‪،‬‬ ‫@ال غ @ @ ّ‬ ‫لكل ض @ @ ّ‬
‫ويصك أمساعهم ‪ ..‬وإنه إلنذار م@@بني واضح ‪ ،‬مبا معه من األدلة القاطعة ‪ ،‬واآلي@@ات الناطقة‬ ‫ّ‬
‫املعجزة ‪..‬‬
‫ِ‬ ‫(فَالَّ ِذين آمنُوا و َع ِملُوا َّ ِ ِ‬
‫الصالحات ل َُه ْم َمغْف َرةٌ َو ِر ْز ٌق َك ِر ٌ‬
‫يم)‪.‬‬ ‫َ َ َ‬
‫الفاء هنا ‪ ،‬للتفريع املسبب عن هذا اإلنذار الذي جاء به النذير املبني ‪..‬‬
‫‪1059‬‬

‫إذ الناس مع هذا اإلنذار ‪ ،‬بني ملتفت إليه ‪ ،‬مستفيد منه ‪ ،‬آخذ طريق النج@@اة ‪ ،‬وبني ذاهل‬
‫@تخف به ‪ ،‬أو مك @ @ ّذب له ‪ ..‬فهو ىف غفلة من أم@ @@ره ‪ ،‬ق@ @@ائم ىف وجه العاص @@فة‬ ‫عنه ‪ ،‬أو مس@ @ ّ‬
‫العاتية اليت جتتاح كل شىء ‪ ،‬وتدمر كل شىء ‪..‬‬
‫فأما ال@ @@ذين اس@ @@تمعوا هلذا الن@ @@ذير ‪ ،‬وآمن@ @@وا باهلل ‪ ،‬وعمل@ @@وا الص@ @@احلات ‪ ،‬فقد ركب@ @@وا‬
‫طريق النجاة ‪ ،‬وهلم من اهلل مغفرة@ ‪ ،‬ورمحة ‪ ،‬ورزق كرمي ‪..‬‬
‫ْج ِح ِيم ‪)..‬‬ ‫حاب ال َ‬ ‫َص ُـ‬‫كأ ْ‬ ‫ين أُولئِ َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫ين َس َع ْوا في آياتنا ُمعاج ِز َ‬
‫َّ ِ‬
‫( َوالذ َ‬
‫أي ‪ :‬وأما ه@@ؤالء ال@@ذين مل يس@@تمعوا هلذا الن@@ذير املبني ‪ ،‬ومل يستض@@يئوا ب@@النور ال@@ذي‬
‫معه ‪ ،‬بل تص @ ّدوا هلذا الن @@ور ‪ ،‬وأرادوا أن يطفئ @@وه ب@@أفواههم ‪ ،‬ومبا خيرج منها من أك@@اذيب‬
‫وأضاليل ـ هؤالء هم أص@حاب اجلحيم ‪ ،‬فليس هلم من ص@احب إال جهنم وما مت ّدهم به من‬
‫عذاب أليم ‪ ..‬إهنم أشكل هبا ‪ ،‬وهى أقرب شىء إىل طبيعتهم‪.‬‬
‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫ين) إش@@ارة إىل س@@عى ه@@ؤالء املش@@ركني ‪،‬‬ ‫ـ وىف قوله تع @@اىل ‪َ ( :‬س ـ َع ْوا في آياتنا ُمعــاج ِز َ‬
‫وأنه س@ @@عى للباطل والض@ @@الل ‪ ،‬حيث يس@ @@عون إلعج@ @@از آي@ @@ات اهلل ‪ ،‬وغلبتها وص@ @@رفها عن‬
‫طريقها ‪ ..‬وىف تعدية الفعل حبرف اجلر «ىف» الذي يفيد الظرفية ‪ ،‬إشارة إىل أهنم ي@@دخلون‬
‫احلق بالباطل ‪ ،‬إذ حيرف @@ون الكلم عن مواض @@عه ‪ ،‬ويلق @@ون فيه باهلذر‬ ‫ىف آي @@ات اهلل ويلبس @@ون ّ‬
‫والسخف من الكالم ‪ ،‬كما حكى القرآن ذلك عنهم ىف قوله تعاىل ‪:‬‬ ‫من القول ‪ّ ،‬‬
‫آن َوالْغَ ـ ْـوا فِي ـ ِـه ل ََعلَّ ُك ْم َت ْغلِبُ ــو َن) (‪: 26‬‬
‫ـال الَّ ِذين َك َفــروا ال تَسـ ـمعوا لِهـ ـ َذا الْ ُق ــر ِ‬
‫ْ‬ ‫ْ َُ‬ ‫َ ُ‬ ‫( َوق ـ َ‬
‫فصلت)‪.‬‬
‫ِ‬
‫ين) وأن تقف ل@@ويال عن@@دها‬ ‫وأريد أن تلتفت التفاتة خاصة إىل قوله تع @@اىل ‪ُ ( :‬معــاج ِز َ‬
‫القصة العجيبة املثرية ‪ ،‬اليت نسج خيوطها‬ ‫‪ ،‬فإن هلا شأنا ىف تلك ّ‬
‫‪1060‬‬

‫ص @اص ‪ ،‬من واردات اخلي @@االت واألوه @@ام ‪ ،‬فك @@ان منها تلك اخلرافة املعروفة‬ ‫املف ّس @رون والق ّ‬
‫(بالغرانقة العال) اليت ك @@ثرت فيها األق @@وال ‪ ،‬وتض @@اربت حوهلا اآلراء ‪ ،‬حىت ك @@ادت ت @@دخل‬
‫مدخل الواقع ‪ ،‬وتلبس ثوب احلقيقة ‪ ،‬لدوراهنا على األلسنة ‪ ،‬وتقليب وجوه ال@رأى فيها ‪،‬‬
‫وهى ك@@ائن ميت ‪ ،‬ك@@ان من ال@@واجب أن ي@@وارى من أول يومه ‪ ،‬وي@@دفن ىف ال@@رتاب ‪ ،‬وأال‬
‫ينبش بني احلني واحلني ‪ ،‬ف @ @ @ @ @@إن تقليب جثث املوتى ال جتىء منه إال ال@ @ @ @ @ @@روائح اخلبيثة ‪ ،‬اليت‬
‫ت@ @@زكم األن@ @@وف ‪ ،‬وتكظم األنف@ @@اس! وقد كنّا نريد أال ننبش ه@ @@ذا اجلسد املتعفن ‪ ،‬وأال نثري‬
‫منه تلك ال@@روائح اخلبيثة اليت تض@@يق هبا ص@@دور املؤم@@نني ‪ ،‬لو ال أننا خنشى أن يك@@ون لبعض‬
‫املؤمنني نظر فيها ‪ ،‬ووقوف أو توقّف عندها ‪ ،‬وهم يقرءوهنا ىف كتب التفاسري ‪ ،‬وجيدوهنا‬
‫ىف ثنايا كتب السرية النبويّة العطرة!‪@.‬‬
‫وحيرك ىف ص@ @@دورهم وس@ @@اوس وظنون@ @@ا!‬ ‫فيثري ذلك ىف نفوس@ @@هم قلقا ‪ ،‬واض@ @@طرابا ‪ّ ،‬‬
‫وهلذا مل نر ب ّدا من الوقوف عند هذه القصة ‪ ،‬والكشف عن زيفها وباطلها ‪@!..‬‬
‫ولكن قبل ال @@دخول ىف ه @@ذا البحث ‪ ،‬أع @@ود ف @@أذ ّكرك ب @@النظر إىل قوله تع @@اىل ىف اآلية‬
‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫ين ‪ )..‬وإىل أن ه@@ذه اآلية موجهة إىل املش@@ركني ‪،‬‬ ‫ين َس َع ْوا في آياتنا ُمعــاج ِز َ‬
‫الس@@ابقة ‪َ ( :‬والذ َ‬
‫وإىل عبثهم بآيات اهلل ‪ ،‬وإىل مغالبتها ومعاجزهتا باللّغو فيها ‪..‬‬
‫فاملش@@ركون متّهم @@ون هبذه اجلرمية ‪ ،‬وهى ال@@دخول إىل آي@@ات اهلل ‪ ،‬مبا يغرّي وجهها ‪،‬‬
‫ويب ّدل صورهتا ‪ ،‬ويعطيهم احلجة عليها ‪ ،‬بعد أن كانت هلا احلجة عليهم ‪..‬‬
‫@دل عليه ‪ ،‬وهو أمر‬ ‫إذا عرفنا ه@ @ @@ذا ‪ ،‬وس@ @ @@لمنا به ـ وهو واضح ال حيت@ @ @@اج إىل من ي@ @ @ ّ‬
‫مسلّم به ‪ ،‬ال جيوز اخلالف فيه ـ كان ذلك هو مقطع القول ىف هذه القضية ‪،‬‬
‫‪1061‬‬

‫وكلمة الفصل فيها ‪ ..‬وك@@انت ك@ ّ@ل ال@@دعاوى اليت ت @ ّدعى هلا ‪ ،‬وك@ ّ@ل الرواي@@ات اليت تس@@اق‬
‫إلثبات شخصيتها ‪ ،‬ضالال ىف ضالل ‪ ،‬ألهنا تصادم صريح لفظ القرآن ‪ ،‬وتنقض خربا من‬
‫أخباره ‪ ..‬وذلك كما سرتى ‪..‬‬

‫قصتها ومن أين جاءت؟]‬


‫[الغرانقة العلى ‪ّ ..‬‬

‫قوله تعالى ‪:‬‬


‫شـ ـ ـ ْيطا ُن فِي أ ُْمنِيَّتِـ ـ ـ ِـه‬ ‫ـك ِم ْن ر ُسـ ـ ـ ٍ‬
‫ول َوال نَبِ ٍّي إِاَّل إِذا تَ َمنَّى أَلْ َقى ال َّ‬ ‫( َوما أ َْر َسـ ـ ـلْنا ِم ْن َق ْبلِ ـ ـ َ‬
‫َ‬
‫يم)‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫س ُخ اهللُ ما ُيل ِْقي َّ‬
‫يم َحك ٌ‬ ‫الش ْيطا ُن ثُ َّم يُ ْحك ُم اهللُ آياته َواهللُ َعل ٌ‬ ‫َفَي ْن َ‬
‫املفسرون وأص@حاب ال ّس@ري ‪ ،‬قصة «الغرانق@@ة»‬ ‫هذه اآلية الكرمية ‪ ،‬هى اليت ولّد منها ّ‬
‫ه@@ذه ‪ ..‬ولكنا ن@@دع ه@@ذه القصة اآلن ‪ ،‬وننظر ىف اآلية الكرمية نظ@@را غري مرتبط مبا يق@@ال من‬
‫رواي@ @@ات عن أس@ @@باب ال@ @@نزول ـ ننظر إليها على أهنا ق@ @@رآن يتلى ‪ ،‬ويتعبّد بتالوته ‪ ،‬دون أن‬
‫يكون لسبب النزول ـ أيّا كان ـ أثر ىف موقعه من قلوبنا ‪ ،‬أو عقولنا!‬
‫ـك ِم ْن ر ُسـ ٍ‬
‫ول َوال نَبِ ٍّي إِاَّل إِذا تَ َمنَّى أَلْ َقى ال َّ‬
‫شـ ْيطا ُن‬ ‫ـ فقوله تعاىل ‪َ ( :‬وما أ َْر َسلْنا ِم ْن َق ْبلِـ َ‬
‫َ‬
‫فِي أ ُْمنِيَّتِـ ـ ـ ِـه) هو خرب يتض@ @ @ @@من حكما عاما ‪ ،‬ال انفك@ @ @ @@اك منه ‪ ..‬يقع على رسل اهلل وأنبيائه‬
‫@ىب من أنبيائه ‪ ،‬إال‬ ‫مجيعا ‪ ..‬وه@ @ @ @@ذا احلكم ‪ ،‬هو ‪ :‬أنه ما من رس@ @ @ @@ول من رسل اهلل ‪ ،‬وال ن@ @ @ @ ّ‬
‫والشيطان راصد له ‪ ،‬وأنه كلّما متىّن ألقى الشيطان ىف أمنيّته!‬
‫ه @ @@ذا ص @ @@ريح ما تنطق به كلم@ @@ات اهلل ‪ ،‬ىف وض@ @@وح وجالء ‪ ..‬وإن ك @ @@ان هن @ @@اك ما‬
‫النىب؟ مث‬
‫يسأل عنه ‪ ،‬فهو كلمة التمىّن ‪ ..‬فما معىن التّميّن ‪ ،‬وماذا كان يتمىّن الرسول ‪ ،‬أو ّ‬
‫النىب؟‬
‫ماذا يلقى الشيطان فيما يتمناه الرسول أو ّ‬
‫‪1062‬‬

‫والتمىّن ىف اللغة مع@ @@روف ‪ ،‬وهو طلب النّفس لرغيبة من الرغ @@ائب احملبوبة ‪ ،‬البعي @@دة‬
‫عن أن تنال ‪ ،‬بعدا يكاد يبلغ ح ّد االستحالة‪.‬‬
‫@رتجى ‪ ،‬والتّميّن ‪ ،‬كما ّفرق@ @ @ @@وا بني ح@ @ @ @@رىف‬ ‫وقد ف@ @ @ ّ@رق علم@ @ @@اء النحو والبالغة بني ال@ @ @ ّ‬
‫الطلب ‪ :‬ليت ‪ ،‬ولع@ @ @ @ ّ@ل ‪ ..‬فق@ @ @ @@الوا ‪ :‬إن «ليت» للتمىّن ‪ ،‬وهو طلب حمب@ @ @ @@وب ال ي@ @ @ @@درك ‪،‬‬
‫للرتجى ‪ ،‬وهو طلب مرغوب ميكن إدراكه واحلصول عليه ‪ ،‬وإن كان بعيدا‪.‬‬ ‫و«لعل» ّ‬
‫ّ‬
‫وىف الق@@رآن الك@@رمي ‪ ،‬ج@@اء لفظ التمين هبذا املعىن ‪ ،‬ال@@ذي هو طلب الش@@يء البعيد ‪..‬‬
‫ت أَيْ ِدي ِه ْم)‬ ‫َن َيتَ َمن َّْوهُ أَبَداً بِما قَد َ‬
‫َّم ْ‬ ‫ين َول ْ‬
‫ِِ‬
‫ت إِ ْن ُك ْنتُ ْم صادق َ‬ ‫كما ىف قوله تعاىل ‪َ ( :‬فتَ َمن ُ‬
‫َّوا ال َْم ْو َ‬
‫(‪ 94‬ـ ‪ : 95‬البقرة)‪@.‬‬
‫واخلطاب هنا لبىن إسرائيل ‪ ،‬وهم مطالبون ىف ه@@ذا اخلط@@اب أن يتمنّ@@وا ش@يئا ال ميكن‬
‫َن َيتَ َمن َّْوهُ أَبَــداً) كاش@@فا عن‬ ‫أن يقع منهم ‪ ،‬وهو متىّن املوت ‪ ..‬وهلذا ج @@اء قوله تع @@اىل ‪َ ( :‬ول ْ‬
‫َّاس َعلى حي ٍ‬
‫ـاة) ـ ج@@اء‬ ‫َ‬ ‫ص الن ِ‬ ‫َح َر َ‬ ‫هذا ‪ ..‬وهلذا أيضا جاء قوله تعاىل بعد ذلك ‪َ ( :‬ولَتَ ِج َد َّن ُه ْم أ ْ‬
‫مؤكدا لع@دم وق@وع ه@ذا األمر منهم ‪ ،‬إذ أن احلريص على الش@يء ال يتمىن إفالته من ي@ده ‪،‬‬
‫فكيف إذا كان أش ّد الناس حرصا عليه؟‬
‫ـان ما تَ َمنَّى؟) (‪ : 24‬النجم)‬ ‫وج @@اء ىف الق @@رآن الك @@رمي أيضا قوله تع @@اىل ‪( :‬أ َْم لِإْلِ نْس ـ ِ‬
‫وهو ينكر على اإلنسان أن يقع له ما يتمناه ‪ ،‬وجيرى على هواه وهواجسه ‪..‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫وج @@اء ىف الق @@رآن الك @@رمي ك @@ذلك ىف قوله تع @@اىل ‪َ ( :‬وم ْن ُه ْم أ ُِّميُّو َن ال َي ْعلَ ُمــو َن الْكتـ َ‬
‫ـاب‬
‫إِاَّل أَمــانِ َّي َوإِ ْن ُه ْم إِاَّل يَظُنُّو َن) (‪ : 78‬البق @@رة) واألم @@اىنّ مجع أمنيّة ‪ ..‬وعلم األم @@يني من أهل‬
‫احلق ‪ ،‬بعد األمنية عمن يتمنّاها‪.‬‬ ‫الكتاب ‪ ،‬بالكتاب ‪ ،‬هو علم بعيد عن ّ‬
‫‪1063‬‬

‫ذلك هو التمين ‪ ،‬على ما عرفته الع @ @ @@رب ‪ ،‬وج @ @ @@اء به الق @ @ @@رآن الك @ @ @@رمي ‪ ،‬وهو أنه طلب أمر‬
‫حمبوب ‪ ،‬بعيد اإلدراك ‪ ،‬أو مستحيله‪.‬‬
‫نىب؟‬
‫وكل ّ‬ ‫كل رسول ‪ّ ،‬‬ ‫فما هى أمنية ّ‬
‫@ىب ‪ ،‬هى أن ي@ @ @@رى قومه على اهلدى ال@ @ @@ذي‬ ‫إن أمنية ك@ @ @ ّ@ل رس@ @ @@ول ‪ ،‬ورغيبة ك@ @ @ ّ@ل ن@ @ @ ّ‬
‫ي@@دعوهم إليه ‪ ،‬وأن يص@@بحوا مجيعا ىف املؤم@@نني باهلل ‪ ..‬فتلك هى رس@@الته ىف الن@@اس ‪ ،‬يعيش‬
‫هلا ‪ ،‬ويعمل من أجل حتقيقها ‪ ،‬وأن سعادته كلها هى أن يرى جناح مسعاه ‪ ،‬ومثرة جهاده‬
‫‪ ،‬ىف ه@@ذه األع@@داد اليت اس@@تجابت له واتبعته ‪ ،‬وأنه كلما ك@@ثرت ه@@ذه األع@@داد ‪ ،‬تض@@اعفت‬
‫سعادته ‪ ،‬وعظمت غبطته‪.‬‬
‫نىب ‪ ..‬ال أمنية ألحد منهم غري هذه األمنية!‬ ‫هذه هى أمنية كل رسول ‪ ،‬وكل ّ‬
‫ولكن األماىنّ ـ كما قلنا ـ بعيدة التحقيق!‬
‫@ىب ىف أن يك @ @@ون الن@ @ @@اس مجيعا مؤم @ @@نني ـ أمنية تقع ىف دائ @ @@رة‬ ‫وأمنية الرس @ @@ول أو الن@ @ @ ّ‬
‫املس@ @@تحيالت ‪ ،‬ألهنا تطلب من احلي@ @@اة م@ @@امل جتد به ‪ ،‬وتريد الن@ @@اس على غري ما أق@ @@امهم اهلل‬
‫عليه ‪ ..‬فاحلياة مل تعرف اجملتمع اإلنساىنّ على طريق سواء ‪ ،‬يض@ ّ@م مجيع أف@@راده ‪ ..‬والن@@اس ـ‬
‫كما خلقهم اهلل ـ م@ @@ؤمن وك@ @@افر ‪ ،‬وىف ه@ @@ذا يق@ @@ول اهلل تع@ @@اىل ‪ُ ( :‬ه ـ َـو الَّ ِذي َخلَ َق ُك ْم فَ ِم ْن ُك ْم‬
‫كافِ ٌر َو ِم ْن ُك ْم ُم ْؤ ِم ٌن) (‪ : 2‬التغابن)‪.‬‬
‫@ىب ‪ ،‬غري ممكنة التحقيق ‪ ..‬ومع ه @ @@ذا ف@ @@إن على كل‬ ‫وإذن فأمنية أي رس@ @@ول وأي ن@ @ ّ‬
‫@ىب أن يس@@عى س@@عيه ‪ ،‬ويب@@ذل جه@@ده ‪ ،‬وي@@دعو الن@@اس مجيعا إىل اهلل ‪ ،‬وي@@ؤذّن‬ ‫رس@@ول وكل ن@ ّ‬
‫فيهم بآيات اهلل!‬
‫ولكن ص @ @@وت احلق ه @ @@ذا ‪ ،‬تلق @ @@اه على الطريق أص @ @@وات منك @ @@رة ‪ ،‬بعض @ @@ها ينبح نبح‬
‫الكالب ‪ ،‬وبعضها يعوى عواء الذئاب ‪ ،‬ومنها ما ينهق هنيق احلمري ‪،‬‬
‫‪1064‬‬

‫يفح فحيح األف@ @ @ @@اعى ‪ ..‬فيت@ @ @ @@ألف منها ومن كثري غريها من كل ص@ @ @ @@وت منكر ـ‬ ‫ومنها ما ّ‬
‫إعص@ار جمن@ون ‪ ،‬يك@اد خينق ه@ذا الص@وت الك@رمي ‪ ،‬ويغطى مساءه الص@افية ‪ ،‬مبا يثري من غب@ار‬
‫ودخان!‬
‫@ىب ‪ ،‬وتلك إلق @@اءات الش @@يطان فيها ‪ ..‬إذ ليست ك @ ّ@ل‬ ‫فه @@ذه هى أمنية الرس @@ول أو الن @ ّ‬
‫ه@@ذه األص@@وات املنك@@رة إال ص@@نيعة الش@@يطان ‪ ،‬وإال غرسا من غرسه النكد ‪ ،‬ومثرات من مثر‬
‫هذا الغرس اخلبيث ‪..‬‬
‫ـك ِم ْن ر ُسـ ٍ‬
‫ول‬ ‫وحيسن هنا أن تقرأ هذا املقطع من اآلية الكرمية ‪َ ( :‬وما أ َْر َسلْنا ِم ْن َق ْبلِـ َ‬
‫َ‬
‫الش ْيطا ُن فِي أ ُْمنِيَّتِ ِه ‪)..‬‬
‫َوال نَبِ ٍّي ‪ ..‬إِاَّل إِذا تَ َمنَّى أَلْ َقى َّ‬
‫@ىب ‪ ،‬ك @ @@انت أب@ @ @@دا هى هداية قومه‬ ‫وواضح مما رأيت ‪ ،‬أن أمنيّة كل رس @ @@ول وكل ن @ @ ّ‬
‫مجيعا إىل اهلل ‪ ،‬وأن إلقاء الشيطان ىف هذه األمنية ‪ ،‬هو ما يوس@@وس به للس@@فهاء ‪ ،‬واحلمقى‬
‫‪ ،‬واجلهالء من الق@ @ @ @@وم ‪ ،‬ليقف@ @ @ @@وا ىف وجه ال@ @ @ @@دعوة اليت ي@ @ @ @@دعون إليها ‪ ،‬ول@ @ @ @@ريهقوا رس@ @ @ @@لهم‬
‫@ىب مواجهة ‪ ،‬وإمنا يلقامها‬ ‫وأنبي @@اءهم ‪ ..‬فالش @@يطان ال يظهر عيانا ‪ ،‬وال يلقى الرس @@ول أو الن @ ّ‬
‫ىف أتباعه وأوليائه ‪ ،‬هؤالء الذين استذهّل م الشيطان ‪ ،‬وأمسك هبم من مقاودهم ‪ ،‬فكانوا له‬
‫جنودا يسلطهم على أنبياء اهلل ‪ ،‬ورسل اهلل ‪ ،‬وأولياء اهلل ‪..‬‬
‫@ىب ‪ ،‬وما يلقى به‬ ‫ولكن م @ @ @@اذا يك @ @ @@ون بني ه@ @ @@ذه األمنية اليت يتمنّاها الرس@ @ @@ول أو الن @ @ @ ّ‬
‫الشيطان فيها؟‬
‫الشيطان كما أخربنا اهلل ـ سبحانه وتعاىل ـ عنه ‪ ،‬ليس له سلطان على ال@ذين آمن@وا ‪،‬‬
‫آمنُـوا َو َعلى َربِّ ِه ْم َيَت َو َّكلُـو َن) (‪: 99‬‬ ‫َّ ِ‬ ‫ِ‬
‫ين َ‬‫س لَهُ ُسـلْطا ٌن َعلَى الذ َ‬ ‫كما يقول س@@بحانه ‪( :‬إنَّهُ ل َْي َ‬
‫النح @@ل) فكيف بالرسل واألنبي @@اء ‪ ،‬ال @@ذين عص @@مهم اهلل ‪ ،‬وأم@ @ ّدهم بكثري من أم @@داد عونه ‪،‬‬
‫وتوفيقه ‪ ،‬وحياطت@@ه؟ مث كيف والش@يطان أيّا ك@@ان هو ض@@عيف الكيد ملن ع@رف كيف ي@دافع‬
‫عن إنسانيته ‪ ،‬وحيمى وجوده من أن‬
‫‪1065‬‬

‫شـ ْي ِ‬
‫طان إِ َّن َك ْيـ َد‬ ‫ـاء ال َّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫يك@@ون مطيعة ذل@@وال له ‪ ..‬وه@@ذا ما يشري إليه قوله تع@@اىل ‪( :‬فَقــاتلُوا أ َْوليـ َ‬
‫ض ـ ِعيفاً) (‪ : 76‬النس@@اء) إن ه@@ؤالء الض@@الني اآلمثني ‪ ،‬ال@@ذين يقف@@ون ىف وجه‬ ‫ش ـ ْي ِ‬
‫طان كــا َن َ‬ ‫ال َّ‬
‫احلق ‪ ،‬هم ص@@نائع الش@@يطان ‪ ،‬وهم كي@@ده ال@@ذي يكيد به ألولي@@اء اهلل ‪ ،‬وأنبي@@اء اهلل ‪ ،‬ورسل‬
‫اهلل ‪ ..‬وهذا «الكيد» الذي هو من أولياء الشيطان ‪ ..‬هو كيد ضعيف ‪ ،‬وسراب خادع ‪،‬‬
‫للحق ‪ ،‬وال حيتمل صدمته! ‪..‬‬ ‫ال يقف ّ‬
‫@ىب ‪ ،‬من ض @ @@الالت‬ ‫وعلى ه @ @@ذا ‪ ،‬ف @ @@إن ما يلقى به الش @ @@يطان ىف أمنية الرس @ @@ول أو الن @ @ ّ‬
‫وأباطيل ‪ ،‬وما يس @ @@تنبت به ىف من @ @@ابت احلق من ش @ @@وك وحسك ـ هو س @ @@حب ص @ @@يف ‪ ،‬ال‬
‫تلبث أن تنقشع من وجه الش@ @ @@مس ‪ ،‬وإذا ش@ @ @@عاعها ميأل اآلف@ @ @@اق ‪ ،‬وإذا ض@ @ @@وؤها يب@ @ @@دد كل‬
‫ِ‬ ‫تتمشى ىف أوصال الكائنات ‪َ ( ..‬كذلِ َ‬
‫ـل ‪..‬‬ ‫ـق َوالْباطـ َ‬‫ْحـ َّ‬
‫ب اهللُ ال َ‬ ‫ض ِر ُ‬ ‫ك يَ ْ‬ ‫ظالم ‪ ،‬وإذا حرارهتا ّ‬
‫ض) (‪ : 17‬الرعد)‬ ‫ث فِي اأْل َْر ِ‬‫َّاس َفيَ ْم ُك ُ‬
‫فاء َوأ ََّما ما َي ْن َف ُع الن َ‬
‫ب ُج ً‬
‫الزبَ ُد َفيَ ْذ َه ُ‬
‫فَأ ََّما َّ‬
‫وهك @@ذا ي @@ذهب ما يلقى الش @@يطان ىف أمنيّة الرس @@ول أو النيب ‪ ..‬هب @@اء ‪ ،‬حيث خيلص‬
‫النيب أو الرس @@ول بأوليائه ‪ ،‬وهم ص @@فوة اجملتمع ‪ ،‬والثم @@رات الطيبة فيه ‪ ،‬على حني يس @@توىل‬
‫الشيطان على أتباعه ‪ ،‬ويسوقهم إىل حظريته ‪ ،‬حيث هم حصب جهنم وحطبها!‬
‫شـ ْيطا ُن ثُ َّم يُ ْح ِك ُم اهللُ آياتِـ ِـه‬
‫س ُخ اهللُ ما ُيل ِْقي ال َّ‬
‫واستمع بعد هذا إىل قوله تعاىل ‪َ ( :‬فَي ْن َ‬
‫يم) وانظر كيف ك @ @ @@انت عاقبة ه @ @ @@ذا الص @ @ @@راع بني النيب أو الرس @ @ @@ول ‪ ،‬وبني‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫يم َحك ٌ‬ ‫َواهللُ َعل ٌ‬
‫الش@@يطان وأولي@@اء الش@@يطان ‪ ..‬لقد أحكم اهلل س@@بحانه وتع@@اىل آياته ‪ ،‬فنسخ أي أبطل ‪ ..‬ما‬
‫ألقى الشيطان ‪ ،‬مث أحكم سبحانه آياته ‪ ،‬وثبّت قواعدها ‪..‬‬
‫النىب كانت أمنيّته هى هداية‬ ‫وال يعرتض على هذا القول ‪ ،‬بأن الرسول أو ّ‬
‫‪1066‬‬

‫قومه ‪ ،‬أو معظم قومه ‪ ،‬ولكن ال@ @ @@ذين خلص هبم من ه@ @ @@ذا املع@ @ @@رتك ‪ ،‬هم قليل من كثري ‪..‬‬
‫فكيف يقال مع هذا إن أمنيته حتققت ‪ ،‬وإن اهلل س@بحانه وتع@اىل قد أحكم آياته ـ على ه@ذا‬
‫املفهوم الذي فهمت عليه اآلية ـ ونسخ ما ألقى الشيطان؟‪.‬‬
‫واجلواب على ه@@ذا ‪ ،‬ق@@ريب من ق@@ريب ‪ ..‬فلقد حتققت أمنية النيب أو الرس@@ول حتقيقا‬
‫كامال ‪ ،‬ولو مل يؤمن معه من قومه أحد ‪ @!..‬كما ترى‪.‬‬
‫@ىب‪ .‬ك@ @@انت ىف أول األمر هى هداية قومه ‪ ،‬ف@ @@ردا ‪ ،‬ف@ @@ردا ‪..‬‬ ‫إن أمنية الرس@ @@ول أو الن@ @ ّ‬
‫وهو ىف سبيل حتقيق هذه األمنية ال ي@دخر ش@يئا من جه@@ده ‪ ،‬وال يض@ ّ@ن بش@ىء من راحته ‪..‬‬
‫مث هو مع ه @@ذا يظل ص@ @@ابرا حمتمال لكل ما يرميه به الس@ @@فهاء ‪ ،‬من فحش الق @@ول ‪ ،‬وش @@نيع‬
‫العمل ‪ ..‬حىت إذا انتهى األمر إىل غاية يتضح منها أن ال خري ي@ @ @@رجى من ه@ @ @@ؤالء الق@ @ @@وم ‪،‬‬
‫ص @ @ل منهم ‪ ،‬مهما ب @ @@ذل من جهد ‪ ،‬أو ض@ @@وعف من عمل ـ إىل هنا يك@ @@ون‬ ‫وأن ال مثرة حت ّ‬
‫@ىب ‪ ،‬وحجب ض@@وءها ‪ ..‬وعندئذ يت@@وىل اهلل س@@بحانه‬ ‫الش@@يطان قد غطى أمنية الرس@@ول أو الن@ ّ‬
‫وتع@@اىل أخذ ه@@ؤالء الق@@وم بالبأس@@اء والض@ ّ@راء ‪ ،‬فيض@@رهبم ض@@ربة قاض@@ية ‪ ،‬ف@@إذا هم ىف اهلالكني‬
‫‪ ..‬وهك@ @ @ @ @@ذا ينسخ اهلل كل ما ألقى الش@ @ @ @ @@يطان ويبطله ‪ ،‬على حني يك@ @ @ @ @@ون قد أحكم آياته‬
‫@ىب ىف تلك احلال ـ وإن‬ ‫@ىب أو الرس @@ول من ه @@ذا البالء ‪ ..‬إن الرس @@ول أو الن @ ّ‬ ‫وثبتها بنج @@اة الن @ ّ‬
‫ك @ @@ان وح @ @@ده ـ هو آية اهلل ‪ ،‬أو آي @ @@ات اهلل اليت أحكمت ‪ ،‬فثبتت ‪ ،‬وبقيت ‪ ..‬أما ما ألقى‬
‫الشيطان ‪ ،‬فقد نسخ وبطل ‪ ،‬وذهب هباء!‬
‫ـك ِم ْن ر ُس ـ ٍ‬
‫ول َوال نَبِ ٍّي إِاَّل‬ ‫واس@@تمع إىل اآلية كلها م@@رة أخ@@رى ‪َ ( :‬وما أ َْر َس ـلْنا ِم ْن َق ْبلِـ َ‬
‫َ‬
‫شـ ْيطا ُن ‪ ..‬ثُ َّم يُ ْح ِك ُم اهللُ آياتِـ ِـه ‪..‬‬
‫سـ ُخ اهللُ ما ُيل ِْقي ال َّ‬ ‫ِ ِ ِِ‬ ‫إِذا تَ َمنَّى أَلْ َقى َّ‬
‫الش ْيطا ُن في أ ُْمنيَّته ‪َ ..‬فَي ْن َ‬
‫يم)‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫يم َحك ٌ‬‫َواهللُ َعل ٌ‬
‫وأحسب ـ بعد هذا ‪ ،‬بل وقبل هذا ـ أن اآلية الكرمية ‪ ،‬واضحة‬
‫‪1067‬‬

‫الداللة بيّنة القصد ‪ ،‬ملن نظر إليها نظ@ @ @ @ @ @@را بعي@ @ @ @ @ @@دا عن وس@ @ @ @ @ @@اوس األس@ @ @ @ @ @@اطري ‪ ،‬ومهس@ @ @ @ @ @@ات‬
‫اإلسرائيليات ‪ ،‬اليت كان يلقى هبا اليهود إىل آذان القصاص ورواة األخب@@ار ‪ ،‬فيتلقاها عنهم‬
‫املفسرون ‪ ،‬وحيملوهنا إىل الكتاب الكرمي!!‬
‫فاآلية الكرمية تك@ @@اد لوض@ @@وحها تنطق مبض@ @@موهنا ‪ ،‬وحت ّدث مبفهومها@ ‪ ،‬ولكن اخلي @@ال‬
‫األس @@طورى ‪ ،‬أغ @@رى املفس @@رين ب @@أن يس @@تولدوا من اآلية عج @@ائب وغ @@رائب منك @@رة ‪ ..‬كما‬
‫سنعرضها عليك بعد قليل ‪..‬‬
‫@ىب ‪،‬‬
‫حنب أن نشري إىل أن اآلية الكرمية قد حت ّدثت عن الرس@ @ @ @ @ @ @ @@ول ‪ ،‬وعن الن@ @ @ @ @ @ @ @ ّ‬ ‫وهنا ّ‬
‫باعتبار أن لكل منهما صفة خاصة ‪ ،‬وأهنما لو كانا على صفة واح@@دة ملا ج@@اءت هبما اآلية‬
‫@ىب بإع@@ادة ح@@رف النفي ‪ ،‬ال@@ذي‬ ‫على ه @@ذا النظم ‪ ،‬ال@@ذي ج@@اء العطف فيه بني الرس @@ول والن@ ّ‬
‫والنىب ذاتيته ‪ ..‬فكأ ّن نظم اآلية يق@@ول ‪« :‬وما أرس@لنا من قبلك من‬ ‫لكل من الرسول ّ‬ ‫يؤكد ّ‬
‫النىب ‪..‬‬
‫نىب» ‪ ..‬وهذا يعىن أن الرسول غري ّ‬ ‫رسول ‪ ،‬وما أرسلنا من قبلك من ّ‬
‫@ىب ي@ @@وحى‬ ‫وال@ @@ذي عليه ال@ @@رأى عند املفس@ @@رين والفقه@ @@اء ‪ ،‬أن كاّل من الرس@ @@ول والن@ @ ّ‬
‫إليهما من اهلل ولكن الرس @ @@ول ينف @ @@رد بأنه ص @ @@احب ش @ @@ريعة يتلقاها من اهلل ‪ ،‬وي@ @ @@دعو إليها‬
‫@ىب ال@ @@ذي ال ش@ @@ريعة معه ‪ ،‬وإمنا هو على ش@ @@ريعة رس@ @@ول س@ @@بقه ‪ ،‬وأنه‬ ‫الن@ @@اس ‪ ..‬خبالف الن@ @ ّ‬
‫نىب رسوال ‪..‬‬ ‫نىب ‪ ..‬وليس كل ّ‬ ‫يدعو إىل شريعة هذا الرسول ‪ ..‬فكل رسول ّ‬
‫@ىب فال‬
‫أى ‪ ،‬ف@@إن الرس@@ول ص@@احب كت@@اب مساوى أو ص@@حف مساوية ‪ ..‬أما الن@ ّ‬ ‫وعلى ّ‬
‫كتاب وال صحف معه ‪..‬‬
‫@ىب عن الرس@@ول ‪ ،‬له داللة كب@@رية ىف املفه@@وم ال@@ذي‬ ‫وه@@ذا الوضع ال@@ذي خيتلف فيه الن@ ّ‬
‫س ُخ اهللُ ما ُيل ِْقي‬
‫ينبغى أن نفهمه من اآلية السابقة ‪ ،‬وهو أن قوله تعاىل ‪َ ( :‬فَي ْن َ‬
‫‪1068‬‬

‫ال َّش ـ ْيطا ُن ثُ َّم يُ ْح ِك ُم اهللُ آياتِـ ِـه)‪ .‬ال ميكن أن ينص@@رف إىل اآلي@@ات املق@@روءة ‪ ،‬املنزلة وحيا من‬
‫السماء ‪..‬‬
‫@ىب ـ ال ي@ @@دخل ىف ه@ @@ذا احلكم ‪ ،‬إذ ال كت@ @@اب معه ‪ ،‬وال‬ ‫@ىب ـ جمرد الن@ @ ّ‬ ‫وذلك ألن الن@ @ ّ‬
‫صحف ‪ ،‬حىت يقع عليها النسخ فيما ألقى الشيطان فيها‪!!.‬‬
‫وإذن ‪ ،‬فال@ @@ذى ينبغى أن نقطع به قطعا جازما ‪ ،‬هو أن معىن النسخ ىف ه@ @@ذه اآلية ‪،‬‬
‫ال ميكن أن يك @@ون واردا على نسخ آي@@ات اهلل املتل@@وة ‪ ،‬كما هو املع @@روف عن النسخ مبعن @@اه‬
‫العام املطلق ‪ ،‬الذي فسره عليه املفسرون ‪..‬‬
‫وه @@ذه احلقيقة ‪ ،‬هى ىف الواقع من أق @@وى األدلة على فس @@اد املعىن ال @@ذي فهمت عليه‬
‫اآلية الكرمية ‪ ،‬وال @ @@ذي ج@ @@اءت منه قصة ـ أو خرافة ـ «الغرانقة العال» اليت س @ @@تعرف نبأها‬
‫عما قليل ‪..‬‬
‫وقبل أن نع @@رض هلذه اخلرافة ‪ ،‬ننظر ىف اآلي @@ات الكرمية اليت تلت ه @@ذه اآلية اليت حنن‬
‫بني يديها ‪ ،‬منذ أخذنا ىف هذا احلديث ‪ ..‬فهذه اآليات مكملة هلا ‪ ،‬ومعقبة عليها ‪..‬‬
‫يقول اهلل تعاىل بعد هذه اآلية ‪:‬‬
‫ِ ِ‬ ‫ين فِي ُقلُ ـ ــوبِ ِه ْم َمـ ـ َـر ٌ‬ ‫ِ ِِ‬ ‫ـل ما ُيل ِْقي ال َّ‬ ‫ِ‬
‫ـوب ُه ْم َوإِ َّن‬
‫ض َوالْقاسـ ـ ـيَة ُقلُ ـ ـ ُ‬ ‫شـ ـ ـ ْيطا ُن ف ْتنَـ ـ ـةً للَّذ َ‬ ‫(ليَ ْج َع ـ ـ َ‬
‫يد) ‪..‬‬ ‫الظَّالِ ِم ِ ِ ٍ‬
‫قاق ب ِع ٍ‬
‫ين لَفي ش َ‬ ‫َ‬
‫النىب ـ هو فتنة لل@ذين كف@روا‬ ‫وهذا يشري إىل أن ما ألقاه الشيطان ىف أمنية الرسول أو ّ‬
‫من أهل الكت@@اب ‪ ،‬وللقاس@@ية قل@@وهبم من ه@@ؤالء املش@@ركني من ق@@ريش‪ .‬مبعىن أن من اختذهم‬
‫الش@ @@يطان أولي@ @@اء ‪ ،‬فجعل منهم جن@ @@ودا م@ @@دججني بس@ @@الح الس@ @@فاهة والتط@ @@اول على الرسل‬
‫واألنبياء ـ ه@ؤالء اجلن@ود هم فتنة مطلة على ال@ذين كف@روا من أهل الكت@اب ‪ ،‬وهم ال@ذين ىف‬
‫قلوهبم مرض ‪ ،‬وعلى املشركني من‬
‫‪1069‬‬

‫الع@@رب ‪ ،‬وهم القاس@@ية قل@@وهبم ‪ ،‬إذ ك@@انوا بعملهم ه@@ذا ـ من أهل كت@@اب ومش@@ركني ـ دع@@وة‬
‫@ىب ‪ ..‬واهلل س@ @@بحانه وتع @@اىل‬ ‫إىل الض@ @@الل ‪ ،‬تواجه دع@ @@وة اهلدى اليت ي@ @@دعو هبا الرس@ @@ول والن@ @ ّ‬
‫ض فِ ْتنَةً) (‪ : 20‬الفرقان) ويقول سبحانه على لس@ان املؤم@نني‬ ‫ض ُك ْم لَِب ْع ٍ‬
‫يقول ‪َ ( :‬و َج َعلْنا َب ْع َ‬
‫ِ ِِ‬
‫ين َك َف ُروا) (‪ : 5‬املمتحنة)‪.‬‬ ‫‪َ ( :‬ربَّنا ال تَ ْج َعلْنا ف ْتنَةً للَّذ َ‬
‫يد) إش@@ارة أخ@@رى إىل أن ه@@ؤالء ال@@ذين‬ ‫قاق ب ِع ٍ‬‫وىف قوله تعاىل ‪( :‬وإِ َّن الظَّالِ ِم ِ ِ ٍ‬
‫ين لَفي ش َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫@ىب ـ هم متلبس@ @@ون بظلم‬ ‫ألقى هبم الش@ @@يطان ىف طريق ال@ @@دعوة اليت ي@ @@دعو هبا الرس@ @@ول أو الن @ ّ‬
‫عظيم ‪ ،‬ملا هم عليه من ش@ @ @ @ @ @@قاق بعيد عن م@ @ @ @ @ @@واطن احلق ‪ ،‬ومن خالف ق@ @ @ @ @ @@ائم على اجلرأة‬
‫والتجرد من احلياء ‪ ،‬ىف إنكار البديهيات ‪ ،‬وىف عدم التسليم هبا واالنقياد هلا ‪:‬‬
‫مث جيىء بعد هذا قوله تعاىل ‪:‬‬
‫ِ‬
‫ـوب ُه ْم ‪َ ..‬وإِ َّن‬ ‫ك َف ُي ْؤ ِمنُـوا بِ ِـه َفتُ ْخبِ َ‬
‫ت لَـهُ ُقلُ ُ‬ ‫ـق ِم ْن َربِّ َ‬ ‫ْم أَنَّهُ ال َ‬
‫ْح ُّ‬ ‫ِ‬
‫ين أُوتُوا الْعل َ‬
‫َّ ِ‬
‫( َولَي ْعلَ َم الذ َ‬
‫ص ٍ‬
‫راط ُم ْستَ ِق ٍيم)‪.‬‬ ‫َهاد الَّ ِذين آمنُوا إِلى ِ‬ ‫اهلل ل ِ‬
‫َ َ‬ ‫َ‬
‫@ىب ‪ ،‬وبني الباطل‬ ‫احلق ال@@ذي ي@@دعو إليه الرس@@ول أو الن@ ّ‬ ‫أي أنه من ه@@ذا االحتك@@اك بني ّ‬
‫ال @@ذي يلقى به الش @@يطان وأولي @@اء الش @@يطان ىف وجه ه @@ذا احلق ـ ىف ه @@ذا االحتك @@اك تنق @@دح‬
‫ش@@رارات مض@@يئة ‪ ،‬ي@@رى أهل العلم واملعرفة على ض@@وئها ف@@رق ما بني احلق والباطل ‪ ،‬ف@@تزداد‬
‫ِ َّ ِ‬
‫معرفتهم باحلق ‪ ،‬ويق@@وى تعلقهم به ‪ ،‬واطمئن@@ان قل@@وهبم وإخباهتا له ‪َ ( ..‬وإِ َّن اهللَ لَهاد الذ َ‬
‫ين‬
‫راط ُم ْسـ ـ ـتَ ِق ٍيم) ‪ ،‬هبذا الص@ @ @@راع ال@ @ @@ذي يق@ @ @@وم بني احلق والباطل ‪ ،‬فال يعشى‬ ‫صـ ـ ـ ٍ‬ ‫آمنُـ ـ ــوا إِلى ِ‬
‫َ‬
‫أبص@@ارهم عن احلق ه@@ذا الغب@@ار ال@@ذي يث@@ريه الباطل واملبطل@@ون ىف وجهه ‪ ،‬بل إن ذلك ليزيد‬
‫من نور احلق ‪ ،‬ويضاعف من جالله وروائه ‪ ..‬كالشمس ‪ ،‬حيجبها السحاب ‪ ،‬فإذا انقشع‬
‫الس @@حاب وس @@فرت عن وجهها ‪ ،‬ك @@انت أحسن حس @@نا وأهبى هباء ‪ ..‬إن ذلك ش @@أن ك @ ّ@ل‬
‫ض ّد يلتقى بضده ‪ ..‬فاحلسن يزداد مع القبيح حسنا ‪ ،‬واحللو يكون بعد مذاق‬
‫‪1070‬‬

‫املر أحلى م @@ذاقا وأل@ @ ّذ طعما ‪ ..‬والعافية بعد ال ّس@ @قم ‪ ،‬تك @@ون أهنأ وأطيب منها ىف جسد مل‬ ‫ّ‬
‫يلح عليه مرض ‪ ..‬وىف املثل ‪« :‬بضدها تتميز األشياء»‪.‬‬ ‫تصادفه علة ‪ ،‬أو ّ‬
‫مث جيىء بعد هذا قوله تعاىل ‪:‬‬
‫ـذاب َي ْـوٍم‬ ‫ِ‬
‫اعةُ َبغْتَـةً أ َْو يَـأْتَي ُه ْم َع ُ‬
‫سـ َ‬‫ين َك َف ُروا فِي ِم ْريٍَة ِم ْنـهُ َحتَّى تَـأْتَِي ُه ُم ال َّ‬ ‫(وال ي ُ َّ ِ‬
‫زال الذ َ‬ ‫َ َ‬
‫َع ِق ٍيم)‪.‬‬
‫الض@@مري ىف «من@@ه» يع@@ود إىل الق@@رآن الك@@رمي ‪ ،‬ال@@ذي وإن مل جير له ذكر فيما س@@بق ‪،‬‬
‫فهو م@@ذكور كأصل أص@@يل للحق ال@@ذي جيادل فيه ال@@ذين ىف قل@@وهبم م@@رض والقاس@@ية قل@@وهبم‬
‫‪..‬‬
‫أما القاس@@ية قل@@وهبم ـ وهم مش@@ركو الع@@رب ـ فس@@تلني قل@@وهبم آخر األمر ‪ ،‬وس@@يؤمنون‬
‫باهلل ‪ ،‬وينقادون للحق ‪..‬‬
‫وأما الذين ىف قلوهبم مرض ـ وهم أهل الكتاب ـ وخاصة اليهود ‪ ،‬ف@@إهنم لن يتحول@@وا‬
‫عن ح@@اهلم مع الق@@رآن ‪ ،‬بل س@@يظلون على ام@@رتائهم وج@@دهلم فيه ‪ ..‬وه@@ذا ش@@أهنم أب@@دا حىت‬
‫ت@@أتيهم الس@@اعة ‪ ،‬بل إن كث@@ريا منهم س@@يظل على امرتائه حىت ي@@رى ع@@ذاب اهلل ىف ه@@ذا الي@@وم‬
‫العظيم ‪..‬‬
‫وىف وصف ه@ @ @ @@ذا الي@ @ @ @@وم بأنه عقيم ‪ ،‬إش@ @ @ @@ارة إىل أنه ال ي@ @ @ @@وم بع@ @ @ @@ده ‪ ،‬حىت ميكن أن‬
‫تتحول فيه أحوال الناس ‪ ،‬ويصلح املفسد منهم ما أفسد ‪ ..‬إنه يوم عقيم ال يلد يوما بع@@ده‬
‫‪ ،‬كما تلد أيام الدنيا ‪ ،‬أياما بعدها ‪..‬‬
‫مث جيىء قوله تعاىل ‪:‬‬
‫حات فِي جن ِ‬ ‫صـ ـ ـالِ ِ‬ ‫آمنُ ـ ــوا َو َع ِملُ ـ ــوا ال َّ‬ ‫َّ ِ‬ ‫(الْم ْل ـ ـ ُ ِ ٍ ِ ِ‬
‫َّات‬ ‫َ‬ ‫ين َ‬ ‫ـك َي ْو َمئ ـ ــذ للَّه يَ ْح ُك ُم َب ْيَن ُه ْم ‪ ..‬فَالذ َ‬ ‫ُ‬
‫ين َك َف ُروا َو َك َّذبُوا بِآياتِنا فَأُولئِ َ‬ ‫َّ ِ‬ ‫ِ‬
‫ذاب ُم ِه ٌ‬
‫ين) ‪:‬‬ ‫ك ل َُه ْم َع ٌ‬ ‫النَّع ِيم* َوالذ َ‬
‫‪1071‬‬

‫أي ىف هذا اليوم ‪ ،‬يكون امللك هلل وحده ‪ ،‬ال ميلك أحد لنفسه أو ألحد شيئا ‪..‬‬
‫@احلق بينهم ‪ ..‬فال@ @ @ @@ذين آمن@ @ @@وا‬ ‫وىف ه@ @ @ @@ذا املوقف يفصل اهلل بني عب@ @ @ @@اده ‪ ،‬ويقضى ب@ @ @ @ ّ‬
‫وعمل @@وا الص @@احلات ىف جن @@ات النعيم ‪ ،‬ينعم @@ون برض @@وان اهلل ‪ ،‬وخيل @@دون ىف رمحته ‪ ..‬وأما‬
‫ال @ @@ذين كف @ @@روا وك @ @@ذبوا بآي @ @@ات اهلل ‪ ،‬وج @ @@ادلوا بالباطل فيها ‪ ،‬فأولئك هلم ع @ @@ذاب مهني ‪،‬‬
‫يذهّل م وخيزيهم‪.‬‬
‫وىف ختص@@يص امللك هلل ىف ه@@ذا الي@@وم ‪ ،‬مع أن امللك هلل أب@@دا ‪ ،‬ىف ه@@ذا الي@@وم وىف كل‬
‫يوم ‪ ،‬إشارة إىل أن ه@@ذا الي@@وم يتج@@رد فيه كل ذى س@لطان من س@لطانه ‪ ،‬وكل ذى ق@@وة من‬
‫قوته ‪ ،‬وكل ذى م @@ال من ماله ‪ ،‬فال تص @@ريف ألحد ‪ ،‬ىف الظ @@اهر أو الب @@اطن ‪ ،‬كما للن @@اس‬
‫خوهلم اهلل من سلطان ‪ ،‬وأموال ‪ ..‬ىف هذه الدنيا‬ ‫تصريف ـ ىف الظاهر ـ فيما ّ‬
‫مث جيىء قوله تعاىل ‪:‬‬
‫سـناً َوإِ َّن اهللَ‬ ‫اهلل ثُ َّم قُتِلُــوا أ َْو مــاتُوا لََيـ ْـر ُز َقن ُ‬
‫َّه ُم اهللُ ِر ْزقـاً َح َ‬
‫يل ِ‬ ‫ـاج ُروا فِي َسـبِ ِ‬ ‫ين هـ َ‬
‫َّ ِ‬
‫( َوالذ َ‬
‫ضونَه وإِ َّن اهلل لَعلِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫لَهو َخير َّ ِ‬
‫يم ‪)..‬‬ ‫يم َحل ٌ‬ ‫َ َ ٌ‬ ‫َّه ْم ُم ْد َخالً َي ْر َ ْ ُ َ‬ ‫ين* لَيُ ْدخلَن ُ‬ ‫الرا ِزق َ‬ ‫َُ ْ ُ‬
‫هو إش@ @ @@ارة إىل إحك@ @ @@ام اهلل آلياته ‪ ،‬بعد أن نسخ ما ألقى الش@ @ @@يطان فيها ‪ ..‬فه@ @ @@ؤالء‬
‫الذين هاجروا ىف سبيل اهلل ‪ ،‬فرارا بدينهم ‪ ،‬مث قتلوا استشهادا ىف سبيل اهلل ‪ ،‬أو م@@اتوا ميتة‬
‫طبيعية ـ هم من ال@ @@ذين أحكم اهلل آياته فيهم ‪ ،‬فنج@ @@اهم من االفتت@ @@ان ىف دينهم ‪ ،‬وج@ @@زاهم‬
‫على ص @@ربهم على ه @@ذا االبتالء ىف أم @@واهلم وأنفس @@هم ‪ ،‬أج @@را عظيما ‪ ،‬حيث رزقهم أطيب‬
‫رزق وأكرمه ‪ ،‬وهو احلق ال @ @ @ @ @ @@ذي معهم ‪ ،‬واإلميان ال @ @ @ @ @ @@ذي عمر قل @ @ @ @ @ @@وهبم ‪ ،‬مث النّصر على‬
‫@دوهم ‪ ،‬والتمكني هلم ىف األرض‪ .‬مث ال @@رزق األعظم هبذا الف @@وز جبنّ @@ات النعيم ىف اآلخ @@رة‬ ‫ع@ ّ‬
‫ِ‬
‫ين) ومن عطائه اجلزيل اجلليل ‪ ،‬ه @ @@ذا النعيم ال @ @@ذي ينعم به‬ ‫‪َ ( ..‬وإِ َّن اهللَ ل َُهـ ـ َـو َخ ْيـ ـ ُـر ال ـ ـ َّـرا ِزق َ‬
‫املؤمنون ىف‬
‫‪1072‬‬

‫جنات اخللد ‪ ،‬هلم فيها ما تشتهى أنفسهم وهلم فيها ما ي ّدعون ‪ ..‬نزال من غف@@ور رحيم ‪..‬‬
‫ِ‬
‫وه@@ذا هو املدخل ال@@ذي ي@@دخلهم اهلل فيه ‪ ،‬وميأل قل@@وهبم به غبطة ورضا ‪َ ( ..‬وإِ َّن اهللَ ل ََعل ٌ‬
‫يم)‬
‫يم) ال يعجل مقوبته ‪ ،‬بل ميهل‬ ‫ِ‬
‫مبن هم أحق برض@ @ @@اه ومغفرته@ وإحس@ @ @@انه من عب@ @ @@اده ‪َ ( ..‬حل ٌ‬
‫الظاملني ‪ ،‬حىّت يكون هلم نظر ىف أمرهم ‪ ،‬ورجعة إىل رهّب م ‪ ..‬ف@إن مل يفعل@@وا فالن@ار مث@واهم‬
‫ذاب اآْل ِخ َر ِة أَ ْكَب ُر ل َْو كانُوا َي ْعلَ ُمو َن) (‪ : 26‬الزمر)‪.‬‬ ‫‪َ ( :‬ول ََع ُ‬
‫ـك ِم ْن ر ُس ـ ـ ـ ٍ‬
‫ول َوال نَبِ ٍّي إِاَّل إِذا تَ َمنَّى أَلْ َقى‬ ‫ه @ @ @@ذه اآلية الكرمية ‪َ ( :‬وما أ َْر َس ـ ـ ـلْنا ِم ْن َق ْبلِـ ـ ـ َ‬
‫َ‬
‫يم‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫سـ ـ ـ ـ ـ ُخ اهللُ ما ُيل ِْقي ال َّ‬ ‫ِ ِِ ِ‬ ‫ال َّ‬
‫شـ ـ ـ ـ ـ ْيطا ُن ثُ َّم يُ ْحك ُم اهللُ آيات ـ ـ ـ ــه ‪َ ..‬واهللُ َعل ٌ‬ ‫شـ ـ ـ ـ ـ ْيطا ُن في أ ُْمنيَّت ـ ـ ـ ــه َفَي ْن َ‬
‫يم)‪ ، .‬وما سبقها أو تالها من آيات ـ هى اليت نس@@حت جوهلا قصة «الغرانق@@ة» اليت آن‬ ‫ِ‬
‫َحك ٌ‬
‫أن حندثك عنها‬
‫الصراع ‪ ،‬الذي ع@@رض الق@@رآن‬ ‫وقد رأينا اآليات مجيعها تعرض صورة من صور هذا ّ‬
‫@ىب ‪ ،‬وبني املش@@ركني والك@@افرين واملن@@افقني ومن ىف قل@@وهبم‬ ‫الك@@رمي كث@@ريا من ص@@وره ‪ ،‬بني الن@ ّ‬
‫م @@رض ‪ ..‬وهى ىف ص @@ورهتا تلك ليس فيها ش @@ىء على غري م @@ألوف ما ج @@اء من ص @@ور ه @@ذا‬
‫الصراع بني أنبياء اهلل ورسله ‪ ،‬مع أقوامهم ‪..‬‬
‫فمن أين إذن ج@ @ @ @ @@اءت خرافة «الغرانيق العلى»؟ ذلك ما ت@ @ @ @ @@راه فيما سنعرضه عليك‬
‫اآلن ‪..‬‬
‫ك @@ان موض @@وع الناسخ واملنس @@وخ ىف الق @@رآن ‪ ،‬من القض @@ايا الب @@ارزة ‪ ،‬اليت ش @@غل هبا‬
‫علم @@اء التفسري ‪ ،‬والفقه ‪ ..‬وقد عرض @@نا هلذه القض @@ية ىف مبحث خ @@اص ىف اجلزء األول من‬
‫هذا التفسري ‪ ..‬وكان من رأينا ـ ومازلنا عليه ـ أن ال نسخ ىف القرآن ‪..‬‬
‫ك ِم ْن ر ُس ـ ٍ‬
‫ول َوال نَبِ ٍّي إِاَّل إِذا‬ ‫املفسرون ىف قوله تعاىل ‪َ ( :‬وما أ َْر َسلْنا ِم ْن َق ْبلِ َ‬
‫َ‬ ‫وقد نظر ّ‬
‫ِ‬ ‫س ُخ اهللُ ما ُيل ِْقي َّ‬ ‫ِ ِ ِِ‬ ‫تَ َمنَّى أَلْ َقى َّ‬
‫الش ْيطا ُن ‪ ..‬ثُ َّم يُ ْحك ُم اهللُ‬ ‫الش ْيطا ُن في أ ُْمنيَّته َفَي ْن َ‬
‫‪1073‬‬

‫آياتِ ـ ِـه) ـ نظر املفس @@رون ىف قوله تع @@اىل ‪َ ( :‬فَي ْن َسـ ـ ُخ اهللُ ما ُيل ِْقي ال َّشـ ـ ْيطا ُن) ف @@رأوا ه @@ذا اخلرب‬
‫بالنسخ ‪ ،‬فكان هذا منطلقا ينطلقون منه إىل إثارة هذه القض@@ية ‪ ،‬وإىل البحث عن املنس@@وخ‬
‫الذي نسخه اهلل ‪ ،‬وكان من هذا أيضا امت@@داد النظر إىل ما وراء الق@@رآن الك@@رمي ‪ ،‬واإلص@@غاء‬
‫إىل ما يلقى إليهم من أخبار ورواي@@ات ميكن أن يتّكأ إليها ‪ ،‬للكشف عن أس@@اس تق@@وم عليه‬
‫اآلية الكرمية ‪ ،‬وبتحقق هبا ما أخرب به اهلل س@@بحانه وتع@@اىل من نسخ ملا ألقى الش@@يطان ‪ ..‬مث‬
‫كان ذلك داعية للبحث عن هذا الذي ألقاه الشيطان ‪ ،‬مث نسخه اهلل ‪!..‬‬
‫املفسرين الكشف عنهما ىف هذا املوقف ‪:‬‬ ‫هناك إذن أمران ‪ ،‬كان على ّ‬
‫ما هى أمنية النيب؟‬
‫النىب؟ وأين ألقاه؟ مث مباذا نسخه اهلل؟‬ ‫مث ماذا ألقى الشيطان ىف أمنية ّ‬
‫وقد كان!‬
‫ف@@ألقى املف ّس@رون بش@@باكهم ىف ه@@ذا البحر املتالطم ‪ ،‬ال@@ذي يفيض من ي@@دى القص@@اص‬
‫‪ ،‬ورواة األخبار ‪ ..‬فجاءت بأكثر من صيد‪.‬‬
‫@ىب صلى‌هللا‌عليه‌وس لم ق@ @ @ @ @@رأ م@ @ @ @ @@رة س@ @ @ @ @@ورة «النجم»‬ ‫فمن ذلك ما روى أن الن@ @ @ @ @ ّ‬
‫ت َوالْعُـ ـ َّـزى َو َمنـ ــا َة‬ ‫واملش@ @@ركون يس@ @@تمعون إليه ‪ ،‬وحني بلغ إىل قوله تع@ @@اىل ‪( :‬أَ َفـ ـ َـرأ َْيتُ ُم الاَّل َ‬
‫الثَّالِثَـ ـ ـ ـةَ اأْل ُ ْخـ ـ ــرى) أتبع ذلك بقوله ‪« :‬تلك الغرانيق (‪ )1‬العال» وىف رواية ‪« :‬إن ش@ @ @ @@فاعتها‬
‫ل @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @@رتجتى ‪ ،‬وإهنا ملع الغرانيق العال» وىف رواية ثالثة ‪« :‬والغرانقة العال تلك الش@ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @@فاعة‬
‫ترجتى» ‪ ..‬وىف رواية رابعة ؛ «إن شفاعتهن لرتجتى» من غري ذكر الغرانقة العال‪.‬‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬الغرانيق ‪ :‬مجع غرنيق ‪ ،‬أو غرن @ @ @@وق (بضم الغني) أو غرانق (بضم الغني أيض @ @ @@ا) وهو ط @ @ @@ائر م @ @ @@ائى يش @ @ @@به‬
‫الكركي ‪ ،‬ويشبه به الشاب األبيض اجلميل كما يشبه به املالئكة‪.‬‬
‫‪1074‬‬

‫فهذه أربع روايات ىف هذه الواقعة ‪ ،‬وكلّها ذات أسانيد متصلة ‪..‬‬
‫ت َوالْعُـ َّـزى َو َمنــاةَ‬ ‫فالرواية األوىل تق@@ول ‪ :‬إن النيب ق@@رأ اآلي@@ات هك@@ذا ‪( :‬أَ َفـ َـرأ َْيتُ ُم الاَّل َ‬
‫الثَّالِثَةَ اأْل ُ ْخرى) ‪ ..‬تلك الغرانيق العال وإن شفاعتها لرتجتى»!‬
‫ت َوالْعُ َّزى* َو َمناةَ‬ ‫والرواية الثانية تقول ‪ :‬إن قراءة النيب كانت هكذا ‪( :‬أَ َف َرأ َْيتُ ُم الاَّل َ‬
‫الثَّالِثَةَ اأْل ُ ْخرى) * إن شفاعتها لرتجتى ‪ ،‬وإهنا ملع الغرانيق العال»!‬
‫ت َوالْعُـ ـ َّـزى َو َمنـ ــاةَ الثَّالِثَ ـ ـةَ‬
‫وىف الرواية الثالثة ج @ @@اءت الق @ @@راءة هك @ @@ذا ‪( :‬أَ َفـ ـ َـرأ َْيتُ ُم الاَّل َ‬
‫اأْل ُ ْخرى) ‪ ،‬والغرانقة العال تلك الشفاعة ترجتى»‪.‬‬
‫ت َوالْعُـ َّـزى َو َمنــاةَ الثَّالِثَـةَ اأْل ُ ْـخـرى) ‪ ،‬إن‬ ‫والرواية الرابعة كانت هك@@ذا ‪( :‬أَ َف َرأ َْيتُ ُم الاَّل َ‬
‫شفاعتهن لرتجتى»‪.‬‬
‫ت َوالْعُ َّـزى* َو َمنـاةَ الثَّالِثَـةَ اأْل ُ ْخـرى * أَلَ ُك ُم‬ ‫أما القرآن الك@@رمي ‪ ،‬فيق@@ول ‪( :‬أَ َف َرأ َْيتُ ُم الاَّل َ‬
‫إِ ْن ِه َي إِاَّل أَ ْسـماءٌ َسـ َّم ْيتُ ُموها أَْنتُ ْم َوآبــا ُؤ ُك ْم ما‬ ‫(‪)1‬‬ ‫ْك إِذاً قِسمةٌ ِ‬
‫ضيزى‬ ‫َْ‬ ‫الذ َك ُر َولَهُ اأْل ُنْثى * تِل َ‬
‫َّ‬
‫أَْنز َل اهلل بِها ِمن سل ٍ‬
‫ْطان)‪.‬‬ ‫ْ ُ‬ ‫َ ُ‬
‫ومدلول هذه الرواي@@ات ‪ ،‬أن النيب صلى‌هللا‌عليه‌وسلم ‪ ،‬قد ذكر ىف تالوته لس@@ورة‬
‫النجم ‪ ،‬آهلة ق@ @ @ @ @@ريش خبري ‪ ،‬وجعل هلا عند اهلل مكانا عليّا ‪ ،‬حىت إهنا لتش@ @ @ @ @@فع عن@ @ @ @ @@ده ‪ ،‬ملن‬
‫يلتمس الشفاعة عندها ‪ ،‬ويستحقها منها‪.‬‬
‫@ىب حني بلغ آخر الس@@ورة ‪ ،‬س@@جد ‪ ،‬وس@@جد معه املس@@لمون ‪،‬‬ ‫وتق@@ول الرواية ‪ :‬إن الن@ ّ‬
‫واملشركون ‪ ،‬عند ما مسعوه ‪ ،‬وقد أثىن على آهلتهم!!‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬قس@@مة ض@@يزى ‪ :‬أي ج@@ائرة ظاملة ‪ ،‬إذ جعل@@وا هلل اإلن@@اث ‪ ،‬وهلم ال@@ذكور ‪ ..‬وال@@ذكور ىف ع@@رفهم أك@@رم من‬
‫اإلناث‪.‬‬
‫‪1075‬‬

‫وقد تداخلت مع هذه الرواية روايات أخ@@رى ‪ ،‬وكأهنا تريد أن تفسر ه@@ذه الواقعة ‪،‬‬
‫وجتد هلا وجها تقبل عليه‪.‬‬
‫@ىب ه@@ذا الق@@ول ‪ ،‬ال@@ذي قاله‬ ‫فتق@@ول بعض الرواي@@ات ‪ :‬إن الش@@يطان ألقى على لس@@ان الن@ ّ‬
‫ىف حق اآلهلة ـ الالت والع@ @@زى ومن@ @@اة ـ وأنه صلى‌هللا‌عليه‌وسلم ‪ ،‬ك@ @@ان قد أملّ به ض @@يق‬
‫وح@زن ش@ديد ‪ ،‬ملا ك@ان بينه وبني قومه من خالف مس@تحكم ‪« ،‬فتم@ىن» ىف تلك احلال أن‬
‫لو ن@@زل عليه ش@@ىء من الق@@رآن يق@@ارب بينه وبني قومه ‪ ،‬ويباعد ش@@قة اخلالف بينه وبينهم ‪،‬‬
‫وهلذا فإنه ـ عليه الص @@الة والس @@الم ـ حني تال س @@ورة النجم ‪ ،‬وبلغ املوضع ال @@ذي ت @@ذكر فيه‬
‫آهلتهم ‪ ،‬ألقى الش@ @ @ @ @@يطان إليه هبذه الكلم@ @ @ @ @@ات ‪ ،‬اليت ترفع من ش@ @ @ @ @@أهنا ‪ ،‬وجتعل هلا مك@ @ @ @ @@ان‬
‫@ىب‬
‫الش@@فاعة عند اهلل ‪ ..‬مث تس@@تطرد الرواية فتق@@ول ‪« :‬إن جربيل ـ عليه‌السالم ـ ج@@اء إىل الن@ ّ‬
‫@ىب الس@ورة مبا أدخله الش@يطان عليها ‪ ،‬ق@ال له جربيل ‪« :‬ما جئتك هبا‬ ‫‪ ،‬فلما ع@رض عليه الن ّ‬
‫ـك ِم ْن‬ ‫@ىب ل@@ذلك ‪ ،‬ف@@نزل قوله تع@@اىل ـ تس@@لية له ـ ‪َ ( :‬وما أ َْر َس ـلْنا ِم ْن َق ْبلِـ َ‬
‫هك@@ذا!!» فح@@زن الن@ ّ‬
‫سـ ـ ـ ُخ اهللُ ما ُيل ِْقي ال َّ‬
‫شـ ـ ـ ْيطا ُن ‪ ،‬ثُ َّم‬ ‫ِ ِِ ِ‬ ‫ول َوال نَبِ ٍّي إِاَّل إِذا تَ َمنَّى أَلْ َقى ال َّ‬
‫شـ ـ ـ ْيطا ُن في أ ُْمنيَّت ـ ــه َفَي ْن َ‬
‫ر ُسـ ـ ـ ٍ‬
‫َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ـك َع ِن الَّذي أ َْو َح ْينا إِل َْيـ َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫يُ ْحك ُم اهللُ آيات ــه ‪ )..‬مث قوله تع @@اىل ‪َ ( :‬وإِ ْن كـ ُ‬ ‫ِ‬
‫ي‬‫ـك لَت ْفتَ ـ ِر َ‬ ‫ـادوا لََي ْفتنُونَـ َ‬
‫ت َت ْـر َك ُن إِل َْي ِه ْم َشـ ْيئاً قَلِيالً* إِذاً‬ ‫ـاك لََقـ ْد كِـ ْد َ‬ ‫وك َخلِيالً* َولَـ ْـو ال أَ ْن َثبَّْتنـ َ‬‫َعلَْينا غَْي َرهُ َوإِذاً اَل تَّ َخ ُذ َ‬
‫ص ـ ـيراً) (‪ 73‬ـ ‪: 75‬‬ ‫ـك َعلَْينا نَ ِ‬ ‫ـات ثُ َّم ال تَ ِ ـ‬
‫ج ـ ُد لَـ ـ َ‬ ‫ف الْممـ ـ ِ‬ ‫ف ال ِ ِ‬ ‫أَل َذَقْنـ ـ َ ِ‬
‫ْحيـ ــاة َوض ـ ـ ْع َ َ‬ ‫ـاك ض ـ ـ ْع َ َ‬
‫اإلسراء)‪.‬‬
‫ونق@ول ‪ :‬إن ه@ذه الرواي@ات ‪ ،‬وتلك النق@ول ‪ ،‬ك@انت موضع إنك@ار ‪ ،‬واس@تنكار عند‬
‫بعض املف ّس @رين ‪ ،‬وأص @@حاب السري ‪ ..‬إذ ك @@انت ـ ىف ص @@ورهتا تلك ـ ع @@دوانا ص @@ارخا على‬
‫النىب‪!.‬‬
‫النبوة ‪ ،‬ونسخا صرحيا لعصمة ّ‬ ‫مقام ّ‬
‫وقد كان القاضي عياض خري من تص ّدى هلذه األكذوبة ‪ ،‬وفضح مستورها‬
‫‪1076‬‬

‫وعقد ل@@ذلك فصال ىف كتابه ‪« :‬الش@@فا ‪ ..‬بتعريف حق@@وق املص@@طفى ‪ »..‬ن@@رى من اخلري أن‬
‫نعرض جانبا منه ‪..‬‬
‫يقول القاضي عياض ‪:‬‬
‫«إن لنا ىف الكالم على شكل هذا احلديث ـ يقصد حديث الغرانقة ـ مأخذين‪.‬‬
‫أحدمها ‪ :‬توهني أصله ‪[ ..‬أي ىف سنده ومتنه] ‪..‬‬
‫والثاين على تسليمه ‪[ ..‬أي على فرض التسليم بصحته]‬

‫[المأخذ األول]‬

‫(ا) توهين أصل الحديث ‪:‬‬


‫يقول القاضي عياض ‪:‬‬
‫خيرجه أحد‬ ‫«أما املأخذ األول ‪ ،‬وهو توهني أصل احلديث ‪ ،‬فيكفيك أنه حديث مل ّ‬
‫من أهل الص@ @ @@حة ‪ ،‬وال رواه ثقة بس@ @ @@ند س@ @ @@ليم متصل ‪ ،‬وإمنا أولع به ومبثله ‪ ،‬املف ّس@ @ @ @رون ‪،‬‬
‫واملؤرخ @@ون ‪ ،‬واملولع @@ون بكل غ @@ريب ‪ ،‬املتلقف @@ون من الص @@حف ‪ ،‬ك @ ّ@ل ص @@حيح وس @@قيم ‪..‬‬
‫وص@@دق القاضي بكر بن العالء املالكي ‪ ،‬حيث ق@@ال ‪« :‬لقد بلى الن@@اس ببعض أهل األه@@واء‬
‫والب@ @@دع ‪ ،‬وتعلق ب@ @@ذلك امللح@ @@دون ‪ ،‬مع ض@ @@عف نقلته ـ يقصد ه@ @@ذا احلديث ـ واض@ @@طراب‬
‫رواياته وانقط@ @@اع إس@ @@ناده ‪ ،‬واختالف كلماته ‪ ..‬فقائل يق@ @@ول إنه ىف الص@ @@الة (يقصد بعض‬
‫الرواي@@ات اليت تق@@ول إن النيب ق@@رأ س@@ورة النجم ىف الص@@الة) ‪ ..‬وآخر يق@@ول ‪ :‬قاهلا ىف ن@@ادى‬
‫قومه حني أن@@زلت عليه الس@@ورة ‪ ،‬وآخر يق@@ول ‪ :‬قاهلا وقد أص@@ابته س@@نة ‪ ..‬وآخر يق@@ول ‪ :‬بل‬
‫@ىب ملا عرض@@ها‬ ‫ح @ ّدث نفسه فس@@ها ‪ ..‬وآخر يق@@ول ‪ :‬إن الش@@يطان قاهلا على لس@@انه ‪ ،‬وأن الن@ ّ‬
‫على جربيل ق@ @ @ @@ال له ‪ :‬ما هك@ @ @ @@ذا أقرأتك ‪ ..‬وآخر يق@ @ @ @@ول ‪ :‬بل أعلمهم الش@ @ @ @@يطان أن النيب‬
‫صلى اهلل‬
‫‪1077‬‬

‫@يب صلى‌هللا‌عليه‌وسلم ذلك ‪ ،‬ق @ @@ال ‪« :‬واهلل ما هك@ @@ذا‬ ‫عليه وس @ @@لم ‪ ،‬قرأها ‪ ،‬فلما بلغ الن @ @ ّ‬
‫ن @ @@زلت» إىل غري ذلك من اختالف ال@ @ @@رواة ‪ ،‬ومن حكيت ه@ @ @@ذه احلكاية عنه من املف ّس @ @رين‬
‫@حاىب)‪ .‬وأك@@ثر الط@@رق‬
‫والت@@ابعني ‪ ،‬مل يس@@ندها أحد منهم ‪ ،‬ومل يرفعها إىل ص@@احب (أي ص@ ّ‬
‫عنهم فيها ضعيفة واهية ‪..‬‬

‫(ب) توهين معنى الحديث ‪:‬‬


‫مث يق@@ول القاضي عي@@اض ‪« :‬ه@@ذا توهينه ـ أي احلديث ـ من جهة النقل ‪« ..‬وأما من‬
‫جهة املعىن ‪ ،‬فقد ق@ @ @ @ @@امت احلجة ‪ ،‬وأمجعت األمة على عص@ @ @ @ @@مته صلى‌هللا‌عليه‌وس لم ‪،‬‬
‫ونزاهته من فعل ه@@ذه الرذيلة ‪ ،‬إما من متنّيه أن ي@@نزل عليه مثل ه@@ذا ‪ ،‬من م@@دح آهلة غري اهلل‬
‫‪ ،‬وهو كفر ‪ ،‬أو من أن يتس @ @ ّ@ور ـ أي يعلو ـ عليه الش @ @@يطان ‪ ،‬ويش @ @@بّه عليه الق @ @@رآن ‪ ،‬حىت‬
‫@ىب أن من الق@ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @@رآن ما ليس منه ‪ ،‬حىت ينبهه جربيل‬ ‫جيعل فيه ما ليس منه ‪ ،‬ويعتقد الن@ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ ّ‬
‫عليه‌السالم ‪..‬‬
‫وذلك كله ممتنع ىف حقه صلى‌هللا‌عليه‌وس لم ‪ ..‬أو أن يق @ @ @ @@ول ذلك ىف نفسه من‬
‫قبل نفسه ‪ ..‬عم@ @@دا ‪ ،‬وذلك كفر ‪ ،‬أو س@ @@هوا ‪ ،‬وهو معص@ @@وم@ من ه@ @@ذا كله ‪ ..‬وقد قررنا‬
‫بالرباهني واإلمجاع ‪ ،‬عصمتهصلى‌هللا‌عليه‌وسلم ‪ ،‬من جريان الكفر على قلبه أو لسانه ‪،‬‬
‫ال عم@ @@دا وال س@ @@هوا ‪ ..‬أو أن يش@ @@تبه عليه ما يلقيه امللك مبا يلقى الش@ @@يطان ‪ ،‬أو أن يك@ @@ون‬
‫للش @@يطان عليه س @@بيل ‪ ،‬أو أن يتق @@ول على اهلل ‪ ،‬ال عم @@دا وال س @@هوا ‪ ،‬ما مل ي @@نزل عليه ‪..‬‬
‫ِ‬ ‫وقد ق @@ال تع@ @@اىل ‪( :‬ولَ ــو َت َقـ َّـو َل علَينا بعض اأْل َقا ِوي ـ ِـل* أَل َ ِ‬
‫َخـ ـ ْذنا م ْن ــهُ بِ ــالْيَ ِمي ِن* ثُ َّم لََقطَ ْعنا م ْن ــهُ‬ ‫َ ْ َْ َ‬ ‫َ ْ‬
‫ين) (‪ 44‬ـ ‪ : 46‬احلاقة)‪.‬‬ ‫ِ‬
‫ال َْوت َ‬
‫مث يقول القاضي عياض ‪ ،‬ىف عرض وجوه الرأى ىف توهني معىن احلديث ‪:‬‬

‫ووجهـ ثان ‪:‬‬


‫وهو استحالة هذه القصة ‪ ،‬نظرا وعرفا ‪ ،‬وذلك أن هذا الكالم لو كان‬
‫‪1078‬‬

‫كما روى ‪ ،‬لك@ان بعيد االلتئ@ام ‪ ،‬متن@اقض األقس@ام ‪ ،‬ممتزج املدح بال@ذم ‪ ،‬متخ@اذل الت@أليف‬
‫@ىب صلى‌هللا‌عليه‌وسلم ‪ ،‬وال من حبض@@رته من املس@@لمني ‪ ،‬وص@@ناديد‬ ‫والنظم ‪ ،‬وملا ك@@ان الن@ ّ‬
‫متأمل ‪ ،‬فكيف مبن رجح‬ ‫املش @ @ @ @ @ @ @@ركني ‪ ،‬ممن خيفى عليه ذلك ‪ ،‬وه @ @ @ @ @ @ @@ذا ال خيفى على أدىن ّ‬
‫حلمه ‪ ،‬واتسع ىف بيان البيان ومعرفة فصيح الكالم علمه؟‬

‫ووجهـ ثالث ‪:‬‬


‫أنه قد علم من عادة املنافقني ‪ ،‬ومعاندى املشركني ‪ ،‬وض@@عفة القل@@وب ‪ ،‬واجلهلة من‬
‫املس @@لمني ‪ ،‬نف @@ورهم ألول وهلة ‪ ،‬وختليط الع @@دو على النيب صلى‌هللا‌عليه‌وسلم ألقل فتنة‬
‫‪ ،‬وتعي@@ريهم املس@@لمني والش@@ماتة هبم الفينة بعد الفينة ‪ ،‬وارت@@داد من ىف قلبه م@@رض ممن أظهر‬
‫اإلسالم ـ ألدىن شبهة‪.‬‬
‫ومل حيك أحد ىف ه@ذه القصة ش@يئا ‪ ،‬س@وى ه@ذه الرواية الض@عيفة األصل ‪ ،‬ولو ك@ان‬
‫ذلك ‪ ،‬لوج @@دت من ق @@ريش على املس @@لمني الص @@ولة ‪ ،‬وألق @@امت هبا اليه @@ود عليهم احلجة ‪،‬‬
‫ردة ‪ ..‬وال‬ ‫كما فعل @@وا ‪ ،‬مك @@ابرة ـ ىف قصة اإلس @@راء ‪ ،‬حىت ك @@ان ىف ذلك لبعض الض @@عفاء ّ‬
‫ك@ذلك ما روى ىف ه@@ذه القصة ـ قصة الغرانقة ـ وال فتنة أعظم من ه@ذه البليّة لو وج@@دت ‪،‬‬
‫وال تش@ @ @@غيب للمع@ @ @@ادى حينئذ أش @ @ @ ّد من ه@ @ @@ذه احلادثة لو أمكنت!!@ ‪ ..‬فما روى عن معاند‬
‫@دل ـ ذلك ـ على بطالهنا واجتث@@اث أص@لها‬ ‫فيها كلمة ‪ ،‬وال عن مسلم بسببها بنت شفة ‪ ،‬ف ّ‬
‫واجلن ه@@ذا احلديث على بعض مغ ّفلى احمل ّدثني‬
‫‪ ..‬وال شك ىف إدخال بعض ش@ياطني اإلنس ّ‬
‫‪ ،‬ليلبّس به على ضعفاء املسلمني‪.‬‬

‫ووجهـ رابع ‪:‬‬


‫ذكره الرواة هلذه القضية ‪ ،‬أن فيها نزلت اآلية ‪َ ( :‬وإِ ْن ُ‬
‫كادوا‬
‫‪1079‬‬

‫وك َخلِيالً* َولَ ـ ـ ْـو ال أَ ْن‬ ‫ي َعلَْينا غَْيـ ـ َـرهُ َوإِذاً اَل تَّ َـ‬
‫خ ـ ـ ُذ َ‬ ‫ـك َع ِن الَّ ِذي أَوحينا إِلَي ـ ـ َ ِ‬
‫ـك لَت ْفتَـ ـ ـ ِر َ‬ ‫ْ َْ ْ‬ ‫لََي ْفتِنُونَ ـ ـ َ‬
‫ِ‬ ‫ـاك لََقـ ْد كِـ ْد َ‬
‫@ردان‬‫ت َتـ ْـر َك ُن إِل َْي ِه ْم َشـ ْيئاً قَليالً) (‪ 73‬ـ ‪ : 74‬اإلس@@راء) ـ وهات@@ان اآليت@@ان ت@ ّ‬ ‫َثبَّْتنـ َ‬
‫اخلرب ال@@ذي رووه ‪ ،‬ألن اهلل تع@@اىل ذكر أهّن م ك@@ادوا يفتنونه حىت يف@@رتى ‪ ،‬وأنه لو ال أن ثبّته‬
‫اهلل ـ لكاد يركن إليهم‪.‬‬
‫«فمضمون هذا ومفهومه@ ‪ ،‬أن اهلل تعاىل عصمه من أن يفرتى ‪ ،‬وثبته حىت مل يركن‬
‫إليهم قليال ‪ ،‬فكيف كث@ @@ريا؟ وهم ـ أي ال@ @@رواة ـ ي @ @@روون ىف أخب@ @@ارهم الواهية أنه زاد على‬
‫الركون واالفرتاء ‪ ،‬مبدح آهلتهم ‪ ،‬وأنه ق@@ال صلى‌هللا‌عليه‌وسلم ‪ :‬اف@@رتيت على اهلل وقلت‬
‫@ح ‪ ،‬وال ص@@حة له ‪..‬‬ ‫ما مل يقل ‪ ،‬وه@@ذا ض @ ّد مفه@@وم اآلية ‪ ،‬وهى تض@@عف احلديث ‪ ،‬لو ص@ ّ‬
‫ت طائَِفةٌ ِم ْن ُهم أَ ْن ي ِ‬
‫ضـلُّ َ‬ ‫ضل ِ‬
‫وك َوما‬ ‫ْ ُ‬ ‫ك َو َر ْح َمتُهُ ل ََه َّم ْ‬
‫اهلل َعلَْي َ‬ ‫وهذا مثل قوله تعاىل ‪َ ( :‬ول َْو ال فَ ْ ُ‬
‫ك ِم ْن َش ْي ٍء) (‪ : 113‬النساء)‪.‬‬ ‫ض ُّرونَ َ‬
‫س ُه ْم َوما يَ ُ‬ ‫ِ ُّ ِ‬
‫يُضلو َن إاَّل أَْن ُف َ‬
‫وقد روى عن ابن عباس ‪« :‬كل ما ىف القرآن «كاد» فهو ال يكون» قال اهلل تع@@اىل‬
‫ـاد أُ ْخ ِفيها) ومل‬
‫ب بِاأْل َبْص ــا ِر) ومل ي @@ذهب ـ به ـ بصر أحد ‪( ..‬أَك ـ ُ‬ ‫ِِ‬ ‫‪( :‬يَك ـ ُ‬
‫ـاد َسـ ـنا َب ْرق ــه يَـ ـ ْذ َه ُ‬
‫يفعل!‬
‫ق@@ال القش@@ريي القاضي ‪« :‬ولقد طالبته ق@@ريش وثقيف إذ م@ ّ@ر ب@@آهلتهم أن يقبل بوجهه‬
‫إليها ‪ ،‬ووعدوه اإلميان به إن فعل ‪ ،‬فما فعل ‪ ،‬وما كاد ليفعل»‪.‬‬

‫[المأخذ الثاني]‬

‫التسليم بصحة الحديث ‪:‬‬


‫مث ين@ @@اقش القاضي عي@ @@اض ه@ @@ذه القض@ @@ية ‪ ،‬من جانبها اآلخر ‪ ،‬وهو ف@ @@رض التس@ @@ليم‬
‫@ح ‪،‬‬
‫بصحة احلديث ‪ ،‬فيق@@ول ‪« :‬وأما املأخذ الث@@اين ‪ ،‬فهو مبىن على تس@@ليم احلديث ‪ ،‬لو ص@ ّ‬
‫وقد أعاذنا اهلل من صحته ‪ ،‬ولكن على كل حال ‪ ،‬فقد أجاب‬
‫‪1080‬‬

‫الغث والسمني ‪ ..‬فمنها ‪:‬‬ ‫عن ذلك أئمة املسلمني بأجوبة ‪ ،‬منها ّ‬
‫@ىب ـ صلى‌هللا‌عليه‌وسلم ‪ ،‬أص@@ابته س@@نة‬ ‫أوال ‪ :‬ما روى عن قت@@ادة ومقاتل ‪« :‬أن الن@ ّ‬
‫عند قراءته هذه السورة ‪ ،‬فجرى على لسانه هذا الكالم حبكم النوم» ‪..‬‬
‫@ىب مثله ‪ ،‬ىف حالة من أحواله ‪ ،‬وال خيلقه اهلل‬ ‫وه@ @ @ @ @@ذا ال يصح ‪ ،‬إذ ال جيوز على الن@ @ @ @ @ ّ‬
‫على لس@@انه ‪ ،‬وال يس@@توىل الش@@يطان عليه ‪ ،‬ىف ن@@وم وال يقظة ‪ ،‬لعص@@مته ىف ه@@ذا الب@@اب ‪ ،‬من‬
‫مجيع العمد والسهو‪.‬‬
‫@ىب صلى‌هللا‌عليه‌وس لم ح@ @ @ @ @ ّدث نفسه ‪ ،‬فق@ @ @ @@ال ذلك‬ ‫ثانيا ‪ :‬وىف ق@ @ @ @@ول ‪« :‬أن الن@ @ @ @ ّ‬
‫الش@ @ @@يطان على لس@ @ @@انه ‪ »..‬وىف رواية «ابن ش@ @ @@هاب» عن أىب بكر بن عبد ال@ @ @@رمحن ق@ @ @@ال ‪:‬‬
‫«وسها ـ أي النيب ـ فلما أخرب بذلك قال ‪ :‬إمنا ذلك من الشيطان»‪.‬‬
‫@ح أن يقوله‬ ‫وي@ @ @@رد القاضي عي@ @ @@اض على ه@ @ @@ذه الرواي@ @ @@ات بقوله ‪« :‬كل ه@ @ @@ذا ال يص@ @ @ ّ‬
‫النبىّصلى‌هللا‌عليه‌وسلم ‪ ،‬ال س@@هوا وال قص@@دا ‪ ،‬وال يتقوله الش@@يطان على لس@@انه ‪ ..‬ثالثا ‪:‬‬
‫وقيل ‪« :‬لع @ ّ@ل النيب صلى‌هللا‌عليه‌وسلم قاله ـ أي ه @@ذا الق @@ول ـ أثن @@اء تالوته ‪ ،‬على تق @@دير‬
‫التقرير والتوبيخ للكفار ‪ ،‬كقول إبراهيم ـ عليه‌السالم ‪( :‬هــذا َربِّي) على أحد الت@@أويالت‬
‫@ىب إذ ق@@ال ذلك قال@@ه) بعد ال ّس @كت ‪ ،‬وبي@@ان الفصل بني الكالمني ‪ ،‬مث رجع إىل‬ ‫(وأن الن@ ّ‬
‫(‪)1‬‬

‫تالوته ‪»..‬‬
‫يق@ @@ول القاضي عي@ @@اض ‪« :‬وه@ @@ذا ممكن ‪ ،‬مع بي@ @@ان الفصل وقرينة ت@ @@دل على املراد ‪،‬‬
‫املتلو ‪ ،‬أي ليس من القرآن» ‪ ..‬اه‪.‬‬ ‫وأنه ليس من ّ‬
‫***‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬من التأويالت اليت يذهب إليها املفسرون ىف ق@@ول إب@@راهيم (هذا َربِّي) عن الك@@وكب والقمر والش@@مس ‪ ،‬أنه‬
‫قال ذلك على طريق االستفهام املراد به السخرية واالستهزاء ‪ ،‬أي ‪« :‬أهذا رىب»؟ استصغارا لشأنه‪.‬‬
‫‪1081‬‬

‫تلك هى القصة ‪ ،‬أو األكذوبه ‪ ،‬كما ج @ @ @ @ @ @ @ @ @ @@اءت ىف كتب السري ‪ ،‬وعلى ألس @ @ @ @ @ @ @ @ @@نة‬
‫القص @ @@اص ‪ ،‬ونقلها املف ّس@ @ @رون ‪ ،‬وت @ @@داوهلا الالحق منهم عن الس @ @@ابق ‪ ،‬وذلك أس @ @@لوب من‬
‫أساليب دفعها ‪ ،‬وتكذيبها‪.‬‬
‫والقصة أو األكذوبة ـ كما ت @@رى ـ مهلهلة النسج ‪ ،‬واهية البن @@اء ‪ ،‬أراد خمرجوها أن‬
‫خيف @@وا عوارها ‪ ،‬وي @@داروا هزاهلا ‪ ،‬ف @@ألقوا إليها كث @@ريا من الرقع ‪ ،‬حىت لك @@اد خيتفى األصل ‪،‬‬
‫وال يرى منها إال تلك املرقعات اليت أضيفت إليها!‬
‫فاملادة اليت ختلّقت منها القصة ‪ ،‬مادة فاسدة ‪ ،‬ال يتخلّق منها شىء يص@لح أن يعيش‬ ‫ّ‬
‫ىف احلياة ‪ ،‬وأن يكتب له بقاء ىف عامل األحياء‪.‬‬
‫ـك ِم ْن ر ُس ـ ٍ‬
‫ول‬ ‫ونس @@أل ‪ :‬ما مض @@مون ه @@ذا اخلرب ىف قوله تع @@اىل ‪َ ( :‬وما أ َْر َس ـلْنا ِم ْن َق ْبلِـ َ‬
‫َ‬
‫الش ْيطا ُن فِي أ ُْمنِيَّتِ ِه)‪.‬‬
‫َوال نَبِ ٍّي إِاَّل إِذا تَ َمنَّى أَلْ َقى َّ‬
‫@ىب ىف حياته ‪ ،‬وإمنا هى‬ ‫أليس من معىن ه @@ذا أن التمين ليس ح @@اال واح @@دة تع @@رض للن @ ّ‬
‫أمنيات تعيش مع النيب أو الرسول حياته كلها ‪ ،‬وأنه كلّما متىّن أمنية ألقى الشيطان فيها؟‪.‬‬
‫@ىب إال ىف ه@ @@ذه املرة؟ وم@ @@اذا حيول بينه وبني أن‬ ‫فكيف ال يلقى الش@ @@يطان ىف أمنية الن@ @ ّ‬
‫@ىب؟ أليس ه@@ذا مما يتمن@@اه الش@@يطان ‪ ،‬ويعمل له جه@@ده لو اس@@تطاع إليه‬ ‫يلقى ىف كل أمنيّة للن@ ّ‬
‫سبيال؟‪.‬‬
‫ص @ة الغرانقة العال ‪ ،‬ي@@ذهبون إىل أن التّمىن ‪،‬‬ ‫وأك@@ثر من ه@@ذا ‪ ،‬ف@@إن ال@@ذين يقول@@ون بق ّ‬
‫ليس معن @@اه من األم @@اىنّ ‪ ،‬وإمنا معن @@اه الق @@راءة ‪ ،‬ويستش @@هدون ل @@ذلك هبذا ال @@بيت الي @@تيم من‬
‫الشعر ‪ ،‬وهو من قول حسان بن ثابت ىف عثمان رضى اهلل عنه‪.‬‬
‫متىّن كت @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @@اب اهلل أول ليله وآخ@ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @@ره القى محام املق@ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @@ادر‬
‫‪ ‬‬ ‫‪ ‬‬
‫‪1082‬‬

‫@ىب قرآنا ‪ ،‬دخل عليه‬ ‫وهو ـ لو عقل@ @@وا ـ حجة عليهم ‪ ..‬ألنه يعىن أنه كلما ق@ @@رأ الن@ @ ّ‬
‫الش @@يطان ‪ ،‬وألقى فيما يق @@رأ مبا يريد ‪ ،‬حىت يفسد م @@ادة الق @@رآن ‪ ،‬ويغرّي وجهها ‪ ،‬ويطفىء‬
‫نورها ‪..‬‬
‫وال@@ذين ي@@روون ه@@ذه القصة ‪ ،‬مل جييئوا حبادثة أخ@@رى ‪ ،‬ك@@ان للش@@يطان فيها إلق@@اء ىف‬
‫النىب ‪ ،‬على حنو ما رووه ىف هذه القصة املفرتاة!‬ ‫قراءة ّ‬
‫@ىب س@ @@ها فوقع ه@ @@ذا اخلاطر ىف قلبه ‪ ،‬أو ج@ @@رى س@ @ ّ@را على‬ ‫مث إن ال@ @@ذين ق@ @@الوا ‪ :‬إن الن@ @ ّ‬
‫لسانه ‪ ،‬مث التقطه الش@يطان فأذاعه ‪ ..‬أو إن النيب أخذته س@نة فج@رى على لس@انه ه@ذا الق@ول‬
‫عند قراءته ‪ ،‬حبكم الن @@وم ـ ه @@ذا يعىن أن النيب ‪ ،‬ص @@لوات اهلل وس @@المه عليه ـ ك @@ان ىف ح @@ال‬
‫يقظته يعيش مع ه@ @@ذه اخلواطر ‪ ،‬وي@ @@راود نفسه هبا ‪ ،‬وأن عقله اليقظ ـ كما يق@ @@ول علم@ @@اء‬
‫النفس ـ ك@@ان ي@@أىب عليه أن يص@ ّ@رح به ‪ ،‬فلما ن@@ام أو س@@ها ‪ ،‬احنلّت ه@@ذه اخلواطر من عق@@ال‬
‫العقل اليقظ ‪ ،‬وانطلقت ال ش@ @@عوريا إىل اخلارج ‪ ،‬فك@ @@انت ح@ @@ديثا مس@ @@موعا ‪ ..‬وه@ @@ذا يعىن‬
‫أيضا أن النيب ـ صلى‌هللا‌عليه‌وسلم ـ مع@ @@رتف فيما بينه وبني نفسه هبذه األص@ @@نام ‪ ،‬وبأهنا‬
‫غرانقة عال ‪ ،‬وأن ش@@فاعتها ت@@رجتى ‪ ،‬وأنه إذا مل يكن يص@@رح ب@@ذلك ‪ ،‬وهو ىف ح@@ال اليقظة‬
‫‪ ،‬فقد ص@ @ @ @ ّ@رح به س@ @ @ @@هوا ‪ ،‬أو حني أخذته س@ @ @ @@نة من الن@ @ @ @@وم! ‪ ..‬وه@ @ @ @@ذا يعىن ثالثا ‪ ،‬الكفر ‪،‬‬
‫والنف@ @@اق معا ‪ @!..‬وإنه هلو الكفر ال@ @@ذي ي@ @@دمغ به كل مس@ @@لم ‪ ،‬تقع ىف نفسه أية ش@ @@بهة من‬
‫النبوة الصافية ‪ ،‬املشرقة بنور رهّب ا‪.‬‬‫الشبه حتوم ىف مساء ّ‬
‫وبعد ه@ @ @ @ @@ذا كله ‪ ،‬وقبل ه@ @ @ @ @@ذا كلّه ‪ ،‬ف@ @ @ @ @@إن فيصل احلكم ىف ه@ @ @ @ @@ذا املوقف هو كلمة‬
‫نيب؟ رسول أو غري رسول؟‬ ‫واحدة ‪ :‬نىب ‪ ،‬أو غري ّ‬
‫نىب ‪ ،‬وغري رسول ‪ ،‬فهذا موقف‬ ‫فإن كان «حممد» صلوات اهلل وسالمه عليه ‪ ،‬غري ّ‬
‫له حسابه وتقديره ‪ ،‬وللكالم الذي يقال فيه حساب وتقدير ‪..‬‬
‫‪1083‬‬

‫فكل ما ينسب إليه من أخط@@اء ‪ ،‬وما ي@@رمى به من هتم ‪ ،‬ممكن الوق@@وع ‪ ،‬وميكن التس@@ليم به‬
‫‪ ،‬إذ هو ـ واحلال ك @ @@ذلك ـ إنس @ @@ان ‪ ،‬جمرد إنس @ @@ان ‪ ،‬جيوز عليه ما جيوز على الن @ @@اس ‪ ،‬من‬
‫صدق وكذب ‪ ،‬ومن إميان وكفر!‬
‫أما إن كان «حممد» ـ صلوات اهلل وسالمه عليه ـ نبيا ورسوال ‪ ،‬ف@@إن ال@@ذي يعتقد ىف‬
‫نبوته ‪ ،‬وي@ @ @@ؤمن برس@ @ @@الته ‪ ،‬مث يلحق به ما يقع ىف حي@ @ @@اة الن@ @ @@اس من أخط@ @ @@اء ‪ ،‬وع@ @ @@ثرات ‪،‬‬
‫وختبط@@ات ‪ ،‬فه@@ذا ال يس@@تقيم أب@@دا مع ص@@فة النب@@وة ‪ ،‬ف@@إن الرس@@ول مبلّغ عن ربه ‪ ،‬وهو هبذه‬
‫الصفة معصوم@ من اخلطأ والنسيان ‪ ،‬فيما يتصل برسالة ربّه ‪ ،‬وما حتمل من شريعة وعقي@@دة‬
‫‪ ،‬إذ أن أي احنراف أو حتريف ىف ه @ @ @@ذا ‪ ،‬معن @ @ @@اه س @ @ @@وق الن @ @ @@اس إىل ط @ @ @@رق مفتوحة ‪ ،‬مليئة‬
‫ب@@العثرات واحلفر ‪ ،‬على حني أن دع@@وة الس@@ماء ت@@دعوهم إىل ص@@راط مس@@تقيم ‪ ،‬وال يس@@تقيم‬
‫ه @@ذا الص @@راط مع تلك األخالط ‪ ،‬وه @@ذه املتناقض @@ات ‪ ،‬اليت تلتقى بالن @@اس ‪ ،‬وهم س @@ائرون‬
‫فيه‪.‬‬
‫ذلك ما جيب أن يتأكد ‪ ،‬ويتقرر ‪ ،‬أوال عند من يؤمنون باألنبياء ‪ ..‬إهنم لن يكونوا‬
‫على غري تلك احلال اليت ت @@وجب هلم العص @@مة ‪ ،‬وحتمى الرس @@الة اليت حيملوهنا من أية ش @@ائبة‬
‫تقلق هبا‪.‬‬
‫@ىب ـ حني‬‫@ىب ـ ويقوهلا هك@@ذا الن@ ّ‬
‫وإذن فمن الض@@اللة واجلهل ‪ ،‬أن يق@@ول قائل ‪ :‬إن الن@ ّ‬
‫@وى ىف نفسه ‪ ،‬أو‬ ‫ق @@رأ س @@ورة النجم ‪ ،‬نسى ‪ ،‬أو س @@ها ‪ ،‬أو أخذته س @@نة ‪ ،‬أو غلبه خ @@اطر ق @ ّ‬
‫ألقى الش@@يطان إليه ‪ ،‬ف@@ذكر األص@@نام اليت ك@@ان يعب@@دها قومه ‪ ،‬وأثىن عليها ‪ ،‬ورفع منزلتها ‪،‬‬
‫وجعل هلا عند اهلل شفاعة!‬
‫أهذا قول يقال ‪ ،‬ويلتقى أوله مع آخره؟‬
‫الشر ‪ ،‬فتغري من آيات اهلل ‪،‬‬ ‫نىب يقر قرآنا منزال من السماء ‪ ..‬مث تعدو عليه عوادى ّ‬ ‫ّ‬
‫وتبدل من شريعته ‪ ،‬وهو على لسانه ‪ ،‬بل وبلسانه؟‬
‫‪1084‬‬

‫وماذا ترك للضالني ‪ ،‬واملنافقني ‪ ،‬وأعداء األنبياء؟‬


‫قد يكون سائغا أن تنفى عن «حممد» صفة النب@وة والرس@الة على س@بيل املك@ابرة ‪ ،‬أو‬
‫من ب@اب الكفر واإلحلاد ‪ ،‬مث يق@@ال ‪ :‬إنه ق@ال ىف معب@@ودات ق@@ريش ما ق@ال ‪ ..‬إنه ال يع@@دو أن‬
‫يكون حينئذ واحدا من مشركى قريش ‪ ،‬الذين يتعاملون مع هذه اآلهلة ‪ ،‬ويتعبدون هلا‪.‬‬
‫نىب ‪ ،‬فإنه ىف عصمة ‪ ،‬فوق اخلطأ وفوق النسيان!‬ ‫أما وحممد ّ‬
‫عن عبد اهلل بن عمر رضى اهلل عنهما ‪ ،‬ق@@ال ‪« :‬قلت يا رس@@ول اهلل ‪ ..‬أأكتب عنك‬
‫كل ما أمسع؟ ق @ @@ال ‪« :‬نعم» قلت ‪ :‬ىف الرضا والغض @ @@ب؟ ق @ @@ال ‪« :‬نعم» ف @ @@إىن ال أق @ @@ول ىف‬
‫ذلك كلّه إاّل ح ّقا»‪.‬‬
‫واحلديث أيّا ك@@ان س@@نده ‪ ،‬ف@@إن الق@@رآن الك@@رمي ينطق هبذا ىف قوله تع@@اىل ‪َ ( :‬وما َي ْن ِط ُق‬
‫َع ِن ال َْهوى * إِ ْن ُه َو إِاَّل َو ْح ٌي يُوحى)‪ .‬فهذا حكم قاطع بأن الرسول ـ ص@@لوات اهلل وس@@المه‬
‫عليه ـ ال ينطق عن ه@@وى ‪ ،‬وال يبلغ عن اهلل إال ما ي@@وحى إليه ‪ ..‬فكيف يك@@ون للق@@ول ب@@أن‬
‫الرس@ @ @@ول نطق بك@ @ @@ذا وك@ @ @@ذا مما ليس من عند اهلل ‪ ،‬مث يتعلّل ل@ @ @@ذلك بأنه ك@ @ @@ان س@ @ @@هوا ‪ ،‬أو‬
‫ح@@ديث خ@@اطر ‪ ،‬أو حنو ه@@ذا ـ كيف يك@@ون هلذا الق@@ول مك@@ان من القب@@ول على أي وجه من‬
‫الوجوه مع قول اهلل تعاىل ‪َ ( :‬وما َي ْن ِط ُق َع ِن ال َْهوى * إِ ْن ُه َو إِاَّل َو ْح ٌي يُوحى)؟‬
‫دس على املس @ @ @@لمني ‪ ،‬ىف غري انتب @ @ @@اه منهم إليه ‪ ،‬وال تق @ @ @@دير للشر‬ ‫إن تلك الفرية مما ّ‬
‫الذي ينجم عنه ‪ ،‬وشغلهم اخلرب بغرابته وإثارته عن أن ينظروا فيه نظرا متفحصا دارسا ‪..‬‬
‫ولو أهنم فعلوا ملا ك@@ان هلذا احلديث مك@@ان ىف كتب احلديث ‪ ،‬أو الفقه ‪ ،‬أو التفسري‬
‫‪ ،‬سواء أكان ذلك جملرد نقل اخلرب ‪ ،‬مث جترحيه ‪ ،‬وتكذيبه ‪ ،‬أو كان‬
‫‪1085‬‬

‫لنقله ‪ ،‬مث نصب العلل اليت خترج به عن مفهومه ‪ ..‬فهو ح@ @ @ @ @ @ @ @ @@ديث خرافة ‪ ،‬ال ينبغى النظر‬
‫إليه ‪ ،‬أو الوقوف عنده‪.‬‬
‫***‬
‫ـك ِم ْن ر ُسـ ٍ‬
‫ول َوال نَبِ ٍّي إِاَّل إِذا‬ ‫وبعد ‪ ،‬ف@@إن مفه@@وم@ اآلية الكرمية ‪َ ( :‬وما أ َْر َسـلْنا ِم ْن َق ْبلِـ َ‬
‫َ‬
‫تَ َمنَّى أَلْ َقى ال َّش ـ ـ ْيطا ُن فِي أ ُْمنِيَّتِـ ـ ِـه َفَي ْن َس ـ ـ ُخ اهللُ ما ُيل ِْقي ال َّش ـ ـ ْيطا ُن ‪ ..‬ثُ َّم يُ ْح ِك ُم اهللُ آياتِـ ـ ِـه ‪ )..‬ـ‬
‫نق@@ول إن مفه@@وم اآلية الكرمية على ه@@ذا الوجه ال@@ذي ق@@امت ىف ظله قصة «الغرانقة العال» ـ‬
‫هو اهتام لرسل اهلل وأنبيائه مجيعا ‪ ،‬ب@ @ @@أهنم حتت س@ @ @@لطان الش@ @ @@يطان ‪ ،‬وأنه راصد هلم ‪ ،‬آخذ‬
‫على ألس@نتهم ‪ ،‬فال تس@تقيم ألس@نتهم بق@@راءة آية من آي@@ات اهلل ‪ ،‬حىت خيرجها الش@يطان على‬
‫الوجه الذي يراه ‪ ،‬ويلوى لسان الرسول والنيب إىل ما يريد ‪..‬‬
‫فس @@بحانك ‪ ..‬س @@بحانك‪ .‬ه @@ذا هبت @@ان عظيم ‪ ،‬تك @@اد الس @@موات يتفط @@رن منه وتنش @ ّ@ق‬
‫وختر اجلبال ه ّدا!‬ ‫األرض ‪ّ ،‬‬
‫____________________________________‬

‫اآليات ‪ 60( :‬ـ ‪)66‬‬


‫ِ‬ ‫ـك ومن عــاقَب بِ ِمثْـ ِـل ما عُــوقِ ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫ب بِــه ثُ َّم بُغ َي َعلَْيــه لََي ْن ُ‬
‫صـ َرنَّهُ اهللُ إِ َّن اهللَ ل ََع ُفـ ٌّـو غَ ُفـ ٌ‬
‫ـور(‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫(ذلـ َ َ َ ْ‬
‫يع ب ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّهار فِي اللَّْي ِل َوأ َّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ك بِأ َّ‬‫‪ )60‬ذلِ َ‬
‫صـ ٌير (‪)61‬‬ ‫َن اهللَ َسم ٌ َ‬ ‫َن اهللَ يُول ُج اللَّْي َل في النَّها ِر َويُول ُج الن َ‬
‫ـير (‪)62‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ـل َوأ َّ‬ ‫ِ‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ْح ُّق َوأ َّ‬ ‫ك بِأ َّ‬‫ذلِ َ‬
‫َن اهللَ ُه َـو ال َْعل ُّي الْ َكب ُ‬ ‫َن ما يَـ ْدعُو َن م ْن ُدون ــه ُه َـو الْباط ُ‬ ‫َن اهللَ ُه َو ال َ‬
‫يف َخبِ ٌير (‪ )63‬لَــهُ ما‬ ‫ض َّر ًة إِ َّن اهلل ل ِ‬ ‫َن اهلل أَْنز َل ِمن َّ ِ‬
‫َط ٌ‬ ‫َ‬ ‫ض ُم ْخ َ‬ ‫صبِ ُح اأْل َْر ُ‬ ‫ماء َفتُ ْ‬
‫السماء ً‬ ‫َم َت َر أ َّ َ َ َ‬ ‫أَل ْ‬
‫َم َتـ َـر أ َّ‬ ‫ض وإِ َّن اهلل ل َُهــو الْغَنِ ُّي ال ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫فِي ال َّ‬
‫َّر لَ ُك ْم‬
‫َن اهللَ َس ـخ َ‬ ‫ْحمي ـ ُد (‪ )64‬أَل ْ‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬ ‫س ـماوات َوما في اأْل َْر ِ َ‬
‫ْك تَ ْج ِري‬ ‫ما فِي اأْل َْر ِ‬
‫ض َوالْ ُفل َ‬
‫‪1086‬‬

‫َّاس لَر ُؤ ٌ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ماء أَ ْن َت َق َع َعلَى اأْل َْر ِ ِ ِِ ِِ ِ‬ ‫فِي الْبَ ْح ِر بِأ َْم ِر ِه َويُ ْم ِس ُ‬
‫يم (‬
‫ف َرح ٌ‬ ‫ض إالَّ بإ ْذنه إ َّن اهللَ بالن ِ َ‬ ‫الس َ‬‫ك َّ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ور) (‪)66‬‬ ‫‪َ )65‬و ُه َو الَّذي أ ْ‬
‫َحيا ُك ْم ثُ َّم يُميتُ ُك ْم ثُ َّم يُ ْحيِي ُك ْم إِ َّن اإْلِ نْسا َن لَ َك ُف ٌ‬
‫____________________________________‬
‫التفسري ‪:‬‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫ِ‬ ‫ك ومن عاقَب بِ ِمثْ ِل ما عُوقِ ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫ور)‪.‬‬ ‫ب بِه ثُ َّم بُغ َي َعلَْيه لََي ْن ُ‬
‫ص َرنَّهُ اهللُ إِ َّن اهللَ ل ََع ُف ٌّو غَ ُف ٌ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫(ذل َ َ َ ْ‬
‫ـك) هى إش @ @ @@ارة إىل ش @ @ @@أن مضى ‪ ،‬مث دخ @ @ @@ول إىل ش @ @ @@أن آخر ‪..‬‬ ‫اإلش @ @ @@ارة هنا (ذلِـ ـ ـ َ‬
‫والتق@@دير ‪ :‬ذلك ال@@ذي ح @ ّدثت به اآلي@@ات الس@@ابقة ‪ ،‬ش@@أن ‪ ،‬وها هو ذا ش@@أن آخر فاس@@تمع‬
‫إليه أيها النيب ‪ ..‬والعطف ‪ ،‬هو عطف شأن على شأن ‪ ،‬وموضوع على موضوع‪@.‬‬
‫واآلية الكرمية تن ّدد بالبغي والعدوان ‪ ،‬وجتعل للمعت@دى عليه س@لطانا نص@ريا من اهلل ‪،‬‬
‫ِ‬
‫ـل َمظْلُومـ ـاً َف َقـ ـ ْد َج َعلْنا‬ ‫ألنه ىف تلك احلالة مظل @@وم ‪ ،‬واهلل س @@بحانه وتع @@اىل يق @@ول ‪َ ( :‬و َم ْن قُت ـ َ‬
‫لِولِيِّ ِه س ـلْطاناً فَال يس ـ ِر ْ ِ‬
‫ص ـوراً) (‪ 33‬اإلس@@راء) مث إن اآلية الكرمية ‪،‬‬ ‫ف في الْ َق ْتـ ِـل إِنَّهُ كــا َن َم ْن ُ‬ ‫ُْ‬ ‫َ ُ‬
‫إذ جتيز للمعتمدى عليه أن يأخذ حبقه من املعتدى ‪ ،‬فإهنا تشري من طرف خفى إىل العفو ‪،‬‬
‫وذلك من وجوه ‪:‬‬
‫أوال ‪ :‬ىف تس@ @ @@مية القص@ @ @@اص من املعت@ @ @@دى ‪ ،‬عقابا ‪ ،‬فهو إذا أخذ حبقه ‪ ،‬ال فضل له‬
‫رد االعت@داء ‪ ،‬وقد ك@ان العفو أفضل وأك@رم‪ .‬واهلل س@بحانه‬ ‫على املعتدى ‪ ،‬فقد تس@اويا بعد ّ‬
‫صَبرتُم ل َُهــو َخ ْيـر لِل َّ ِ‬ ‫ِ ِِ ِ‬ ‫ِ ِِ‬
‫ين) (‬ ‫صـاب ِر َ‬ ‫وتعاىل يقول ‪َ ( :‬وإِ ْن عا َق ْبتُ ْم فَعاقبُوا بمثْ ِل ما عُوق ْبتُ ْم به َولَئ ْن َ ْ ْ َ ٌ‬
‫‪ : 126‬النحل)‪.‬‬
‫وثانيا ‪ :‬ىف قوله تعاىل ‪( :‬ثُ َّم بُِغ َي َعلَْي ِه) إشارة إىل املعتدى عليه إذ يعفو ‪،‬‬
‫‪1087‬‬

‫ِ‬ ‫ِ‬
‫صـ َرنَّهُ‬
‫واملبغى عليه موع@@ود بالنصر من اهلل ‪( :‬ثُ َّم بُغ َي َعلَْيه لََي ْن ُ‬ ‫ّ‬ ‫املبغى عليه ‪،‬‬ ‫يك@@ون ىف ص@@ورة ّ‬
‫اهللُ)‪.‬‬
‫وثالثا ‪ :‬ىف قوله تع@ @ @ @@اىل (إِ َّن اهللَ ل ََع ُفـ ـ ـ ٌّـو غَ ُفـ ـ ـ ٌ‬
‫ـور) ت@ @ @ @@ذكري ب@ @ @ @@العفو واملغف@ @ @ @@رة ىف موقف‬
‫القص @ @ @ @@اص ‪ ،‬واستحض @ @ @ @@ار عفو اهلل ومغفرته ىف تلك احلال ‪ ،‬األمر ال @ @ @ @@ذي تنح @ @ @ @ ّ@ل به عزمية‬
‫االنتقام ‪ ،‬وتبوخ معه محيّة النقمة واالنتقام‪.‬‬
‫ه @@ذا ‪ ،‬والعفو هنا ‪ ،‬إمنا هو من ق @@ادر ‪ ،‬ميلك االنتق @@ام‪ .‬ومن هنا ال يك @@ون للمعت @@دى‬
‫سبيل إىل التمادي ىف اعتدائه ‪ ،‬وىف إذالل من اعتدى عليه‪.‬‬
‫مث إن اآلية الكرمية تضع أم@@ام املس@@لمني ـ وقد أذن هلم ىف القت@@ال ىف قوله تع@@اىل ىف آية‬
‫صـ ـ ِر ِه ْم لََقـ ِـد ٌير) ـ تضع أم @@امهم‬ ‫ِ‬
‫ين يُق ــاَتلُو َن بِـ ـأ ََّن ُه ْم ظُل ُمــوا َوإِ َّن اهللَ َعلى نَ ْ‬
‫ِ ِِ‬
‫س @@ابقة ‪( :‬أُذ َن للَّذ َ‬
‫دس @@تورا يقيمهم على أحسن س @@بيل ‪ ،‬بني العفو واالنتق @@ام ‪ ..‬إن ش @@اءوا عف @@وا ‪ ،‬وإن ش @@اءوا‬
‫انتقم@@وا ‪ ..‬على حسب األح@@وال واألش@@خاص ‪ ..‬فقد عفا رس@@ول اهلل صلى‌هللا‌عليه‌وسلم‬
‫عن كث @@ريين ممن آذوه ‪ ،‬وآذوا املس @@لمني ‪ ،‬وح @@اربوهم ‪ ،‬وقتل @@وا منهم من قتل @@وا ‪ ..‬مث ك @@ان‬
‫منه ـ صلوات اهلل وسالمه عليه ـ ه@ذا العفو الع@@ام عن مش@@ركى ق@ريش ي@@وم الفتح ‪ ،‬حني ق@ال‬
‫هلم قولته اخلال@دة ‪« :‬اذهب@وا ف@أنتم الطلق@اء» ـ على حني ـ أنه ص@لوات اهلل وس@المه عليه ـ قد‬
‫أه@@در دم بعض األف@@راد من ه@@ؤالء املش@@ركني ‪ ،‬وطلب قتل أح@@دهم ولو وجد متعلقا بأس@@تار‬
‫الكعبة ‪ ..‬كما قتل النضر بن احلارث صربا‪.‬‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫يع ب ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّهار فِي اللَّْي ِل َوأ َّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫(ذلِ َ‬
‫ك بِأ َّ‬
‫ص ٌير)‪.‬‬ ‫َن اهللَ َسم ٌ َ‬ ‫َن اهللَ يُول ُج اللَّْي َل في النَّها ِر َويُول ُج الن َ‬
‫ـك) إش@ @ @@ارة ‪ ،‬إىل ما تض@ @ @@منته اآلية الس@ @ @@ابقة من حكم ىف مواجهة‬ ‫اإلش@ @ @@ارة هنا (ذلِ ـ ـ َ‬
‫العدوان من املعتدين‪.‬‬
‫‪1088‬‬

‫َن) «للسببية» ‪..‬‬ ‫والباء ىف (بِأ َّ‬


‫واملعىن ‪ :‬أن مقابلة الع @@دوان بالع @@دوان ‪ ،‬هو ل @@دفع ب @@أس الن @@اس بعض @@هم عن بعض ‪،‬‬
‫ال@ @@ذي ل@ @@واله لفسد نظ@ @@ام اجملتمع ‪ ،‬ولتس@ @لّط األش@ @@رار على األخي@ @@ار ‪ ،‬كما يق@ @@ول س@ @@بحانه‬
‫وات ومسـ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ـاج ُـد‬ ‫صـلَ ٌ َ َ‬ ‫صـوام ُع َوبِيَـ ٌـع َو َ‬ ‫ت َ‬ ‫ِّم ْ‬ ‫ضـ ُه ْم بَِب ْع ٍ‬
‫ض ل َُهــد َ‬ ‫وتع@@اىل ‪َ ( :‬ولَـ ْـو ال َدفْـ ُـع اهلل الن َ‬
‫َّاس َب ْع َ‬
‫اهلل َكثِيراً) (‪ : 40‬احلج)‬ ‫اسم ِ‬ ‫ِ‬
‫يُ ْذ َك ُر ف َيها ْ ُ‬
‫رد على تلك الفلس@@فة املريضة ‪ ،‬اليت ت@@رى ىف مثل ه@@ذا ال@ ّدفع إكث@@ارا من إراقة‬ ‫واآلية ّ‬
‫ال@ @@دماء ‪ ،‬وإغ@ @@زاء للن@ @@اس باالنتق@ @@ام ‪ ،‬ال@ @@ذي يولد كث@ @@ريا من مواليد الشر والنقمة وي@ @@رون أن‬
‫املثالية ت@@دعو إىل األخذ ب@@دعوة الس@@يد املس@@يح ـ عليه‌السالم ـ ىف قوله ‪« :‬من ض@@ربك على‬
‫ـل فِي‬ ‫ِ َّ‬ ‫ـك بِ ـأ َّ‬‫خ @ ّدك األمين ف @@أدر له خ @ ّدك األيس @@ر» ‪ ..‬ففى قوله تع @@اىل ‪( :‬ذلِ ـ َ‬
‫َن اهللَ يُ ــول ُج الل ْيـ َ‬
‫ِ‬
‫رد على ه @ @@ذا التفكري الس @ @@قيم ‪ ،‬ودحض لتلك الفلس@ @@فة‬ ‫ـار فِي اللَّْي ـ ـ ِـل) ّ‬ ‫النَّه ـ ــا ِر َويُ ـ ــول ُج النَّه ـ ـ َ‬
‫املريضة ‪ ،‬وذلك باإلش @ @@ارة إىل نظ @ @@ام الوج@ @@ود ‪ ،‬وأنه ق@ @@ائم على الت @ @@دافع بني اخلري والشر ‪،‬‬
‫والش @ ّ@ر واخلري ‪ ،‬متاما كما ي @@دفع الليل النه @@ار ‪ ،‬وي @@دفع النه @@ار الليل ‪ ..‬فلو أنه س @@كن النه @@ار‬
‫إىل دفع اللّيل له ‪ ،‬ومل يدفعه كما دفعه ملا طلع هنار أب@ @ @ @ @ @@دا ‪ ،‬وال ختفى إىل ي@ @ @ @ @ @@وم القيامة ‪،‬‬
‫ولساد الدنيا ظالم دامس إىل األبد‪.‬‬
‫فمن س@ @ @ @نّة اهلل ىف احلي@ @ @@اة أن يغ@ @ @@رى األش@ @ @@رار باألخي@ @ @@ار ‪ ،‬فتنة وابتالء ‪ ،‬مث ال ي@ @ @@دع‬
‫األخي @@ار ألي @@ديهم ‪ ،‬بل ي @@دعوهم إىل أن يأخ @@ذوا حب ّقهم منهم ‪ ،‬وأن ي @@دفعوهم عنهم ‪ ،‬حىت‬
‫يسفر وجههم ‪ ،‬ويربز وجودهم ‪..‬‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫َن اهللَ ُهـ ـ َـو ال َْعلِ ُّي‬
‫ـل َوأ َّ‬ ‫ِ‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ـق َوأ َّ‬
‫ْحـ ُّ‬ ‫(ذلِـ ـ َ‬
‫ـك بِ ـ ـأ َّ‬
‫َن ما يَ ـ ـ ْدعُو َن م ْن ُدون ـ ــه ُهـ ـ َـو الْباطـ ـ ُ‬ ‫َن اهللَ ُهـ ـ َـو ال َـ‬
‫الْ َكبِ ُير)‪.‬‬
‫‪1089‬‬

‫ىف هذه اآلية إشارتان ‪:‬‬


‫األوىل ‪ :‬أن أهل اإلميان هم أهل احلق ‪ ،‬وأهنم جند اهلل ‪ ،‬وأنص @ @@ار اهلل ‪ ..‬وه @ @@ذا من‬
‫احلق‬
‫حيق اهلل ّ‬ ‫شأنه أن حيملهم على اجلهاد ىف س@@بيله ‪ ،‬ودفع الباطل ‪ ،‬وردع املبطلني ‪ ،‬حىت ّ‬
‫ويبطل الباطل ‪ ،‬ويكون الدين كله هلل‪.‬‬
‫العلى الكبري ـ ال يغلب ‪ ،‬وال يغلب أولي @@اؤه ‪ ،‬وأنه‬ ‫والثانية ‪ :‬أن اهلل س @@بحانه ـ وهو ّ‬
‫سبحانه ‪ ،‬وهو احلق ـ سينصر احمل ّقني الذين يقفون ىف جبهة احلق وجياهدون ىف سبيله‪.‬‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫يف َخبِ ٌير)‪.‬‬ ‫ض َّرةً إِ َّن اهلل ل ِ‬ ‫َن اهلل أَْنز َل ِمن َّ ِ‬
‫َط ٌ‬ ‫َ‬ ‫ض ُم ْخ َ‬‫صبِ ُح اأْل َْر ُ‬
‫ماء َفتُ ْ‬
‫السماء ً‬ ‫َم َت َر أ َّ َ َ َ‬ ‫(أَل ْ‬
‫هو تكملة للصورة اليت كشفت عنها اآلية السابقة ‪ ..‬مبعىن أن اهلل س@بحانه وتع@اىل ‪،‬‬
‫وهو احلق ‪ ،‬فإن ما يرسله إىل الناس ـ هو حق ‪ ،‬وهو خري‪ .‬وإن رساالته اليت حيملها أنبي@@اؤه‬
‫‪ ،‬ينبغى أن تأخذ مكاهنا من قل@@وب املؤم@@نني ‪ ،‬وأن ت@@نزل منها كما ي@@نزل املاء من الس@@ماء ‪،‬‬
‫فتحيا به األرض ‪ ،‬وتعمر ال@ @@دنيا ‪ ..‬وإنه كما يعمل الع @ @@املون ىف االنتف @ @@اع هبذا املاء ومتهيد‬
‫األرض له ‪ ،‬وب@ @ @@ذر احلب فيها ـ ك@ @ @@ذلك ينبغى أن يعمل املؤمن@ @ @@ون ىف حقل اإلميان ‪ ،‬على‬
‫حراسة هذا اإلميان وتعهده ‪ ،‬حىت يؤتى مثاره ‪ ،‬وميأل حياة الناس خريا وأمنا ‪..‬‬
‫ـ وىف قوله تع @@اىل ‪( :‬أَْنــز َل ِمن ال َّ ِ‬
‫ض ـ َّر ًة) ‪ ..‬وىف التعبري‬ ‫ض ُم ْخ َ‬‫ص ـبِ ُح اأْل َْر ُ‬
‫ـاء َفتُ ْ‬
‫س ـماء م ـ ً‬ ‫َ َ‬
‫عن إن@ @ @ @ @ @ @@زال املاء بالفعل املاضي ‪ ،‬وعن اخض@ @ @ @ @ @ @@رار األرض بالفعل احلاضر ال@ @ @ @ @ @ @@ذي ميتد إىل‬
‫املس@@تقبل ـ ىف ه@@ذا إش@@ارة إىل الق@@رآن الك@@رمي ‪ ،‬ال@@ذي ن@@زل ‪ ،‬وإىل مثاره اليت ال تنقطع أب@@دا ‪،‬‬
‫وأنه سيظل هكذا قائما ىف احلياة ‪ ،‬يروى القلوب ‪ ،‬وحيىي‬
‫‪1090‬‬

‫م@@وات النف@@وس ‪ ،‬ويفيض اخلري والربكة على اإلنس@@انية إىل ي@@وم ال@@دين ‪ ..‬لقد ن@@زل الق@@رآن ‪،‬‬
‫وتلقى الذين شهدوا نزوله ما ق ّدر اهلل هلم من خريه ونوره ‪ ،‬وهداه ‪..‬‬
‫وسيظل هكذا نورا قائما ىف الناس ‪ ،‬وخ@@ريا ممدودا هلم ‪ ،‬يهت@@دون به ‪ ،‬ويص@@يبون من‬
‫خريه ‪ ،‬إىل أن يرث اهلل األرض ومن عليها ‪ ،‬وهو خري الوارثني‪.‬‬
‫ـير) إش@@ارة إىل لطف اهلل بعب@@اده ‪ ،‬ورمحته هبم ‪،‬‬ ‫َطيـ ٌ ِ‬ ‫وىف قوله تع @@اىل ‪( :‬إِ َّن اهلل ل ِ‬
‫ـف َخبـ ٌ‬ ‫َ‬
‫حيث ي@ @@نزل إليهم من الس@ @@ماء م@ @@اء حيىي م@ @@وات أرض@ @@هم ‪ ،‬وحيفظ حي@ @@اة أجس@ @@امهم ‪ ،‬كما‬
‫ينزل إليهم من السماء آي@@ات بين@ات ‪ ،‬حتىي م@@وات قل@وهبم ‪ ،‬وحتفظ ص@@فاء أرواحهم ‪ ..‬وأنه‬
‫سبحانه ( َخبِ ٌير) مبا يصلح أمر الناس ‪ ،‬وحيفظ وجودهم املادي والروحي مجيعا‪.‬‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫ْح ِمي ُد)‪.‬‬ ‫ِ‬
‫ض َوإِ َّن اهللَ ل َُه َو الْغَن ُّي ال َ‬‫ماوات َوما فِي اأْل َْر ِ‬
‫الس ِ‬ ‫(لَهُ ما فِي َّ‬
‫هو بي @ @ @ @ @ @@ان لفضل اهلل على عب@ @ @ @ @ @ @@اده ‪ ،‬وأنه غىن عنهم ‪ ،‬له ما ىف الس@ @ @ @ @ @ @@موات وما ىف‬
‫األرض ‪ ،‬فالن @ @@اس ـ وهم بعض ما ىف األرض ـ ملك له ‪ ،‬وما ينزله عليهم من الس @ @@ماء هو‬
‫فضل من فض@ @@له ‪ ،‬ال يريد به س@ @@بحانه من الن@ @@اس إال أن حيم@ @@دوه ويش@ @@كروا له ‪( :‬ما أُ ِري ـ ـ ُد‬
‫ون) (‪ : 57‬الذاريات)‪.‬‬ ‫ِم ْن ُهم ِمن ِر ْز ٍق وما أُ ِري ُد أَ ْن يط ِْعم ِ‬
‫ُ ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ ْ‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫ك‬‫ـك تَ ْجـ ِري فِي الْبَ ْحـ ِر بِ ـأ َْم ِر ِه َويُ ْم ِس ـ ُ‬ ‫ض َوالْ ُف ْلـ َ‬ ‫َّر لَ ُك ْم ما فِي اأْل َْر ِ‬
‫َن اهللَ َس ـخ َ‬ ‫َم َتـ َـر أ َّ‬
‫(أَل ْ‬
‫َّاس لَر ُؤ ٌ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ماء أَ ْن َت َق َع َعلَى اأْل َْر ِ ِ ِِ ِِ ِ‬
‫يم)‪.‬‬
‫ف َرح ٌ‬ ‫ض إاَّل بإ ْذنه إ َّن اهللَ بالن ِ َ‬ ‫الس َ‬
‫َّ‬
‫اخلط@ @@اب هنا لك@ @ ّ@ل ذى نظر وعقل ‪ ..‬حيث ي@ @@رى فضل اهلل ىف ه@ @@ذه الكائن@ @@ات اليت‬
‫سخرها اهلل لإلنسان ‪ ،‬وجعلها مستجيبة له ‪ ،‬إذا هو جتاوب معها‬
‫‪1091‬‬

‫ووجه قواه إىل اإلف@@ادة منها ‪ ،‬وذلك ب@التعرف على الطريق ال@ذي يوص@له إليها ‪ ،‬ويضع ي@ده‬
‫على موضع اخلري منها‪.‬‬
‫ْك) معط@@وف على (ما) أي وس@@خر لكم ما ىف األرض ‪ ،‬وس@@خر‬ ‫وقوله تعاىل ‪( :‬الْ ُفل َ‬
‫لكم الفلك جترى ىف البحر بأمره‪.‬‬
‫ض إِاَّل بِِإ ْذنِـ ـ ِـه) إيق@ @@اظ ملش@ @@اعر‬
‫ماء أَ ْن َت َقـ ـ َـع َعلَى اأْل َْر ِ‬
‫ســ َ‬ ‫ك ال َّ‬ ‫ـ وقوله تع@ @@اىل ‪َ ( :‬ويُ ْم ِس ـ ـ ُ‬
‫اإلنس@ @@ان ومدركاته ‪ ،‬ليم @ @ ّد بص@ @@ره إىل ما ف@ @@وق ه@ @@ذه األرض ‪ ،‬بعد أن يثبت قدمه عليها ‪،‬‬
‫فينظر ىف ملكوت السماء ‪ ..‬وعندئذ يرى أن هذا السقف املرف@@وع فوقه ‪ ،‬متس@@كه ق@@درة اهلل‬
‫حى فيها ‪..‬‬ ‫‪ ،‬وأنه لو ال هذه القدرة لسقط على األرض ‪ ،‬وأهلك كل ّ‬
‫ـ وىف قوله تع@@اىل ‪( :‬إِاَّل بِِإ ْذنِـ ِـه) ـ إش@@ارة إىل أن ه@@ذه الس@@ماء املرفوعة احملفوظة بق@@درة‬
‫اهلل ‪ ،‬هى خاضعة إلرادة اهلل ‪ ،‬وأنه من املمكن أن يأذن اهلل هلا بأن تسقط على األرض!‬
‫َّاس لَر ُؤ ٌ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫يم) ـ تطمني للن@@اس ب@@أن الس@@ماء لن تقع‬ ‫ف َرح ٌ‬ ‫ـ وىف قوله تع@@اىل ‪( :‬إ َّن اهللَ بالن ِ َ‬
‫عليهم ‪ ،‬وذلك لرمحته سبحانه وتعاىل ورأفته بعباده ‪..‬‬
‫ومع ه@@ذا كله ‪ ،‬ف@@إن كث@@ريا من عب@@اده جيح@@دون نعمة اهلل ‪ ،‬ويكف@@رون به ‪ ،‬ويعب@@دون‬
‫غريه ‪ ..‬من أحجار ‪ ،‬وحيوان ‪ ،‬وإنسان!‬
‫وقوله تعاىل ‪:‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ور)‪.‬‬ ‫( َو ُه َو الَّذي أ ْ‬
‫َحيا ُك ْم ثُ َّم يُميتُ ُك ْم ثُ َّم يُ ْحيِي ُك ْم ‪ ..‬إِ َّن اإْلِ نْسا َن لَ َك ُف ٌ‬
‫ىف ه @@ذه اآلية ت @@ذكري للن @@اس بتلك النعمة الك @@ربى ‪ ،‬نعمة احلي @@اة ‪ ..‬فقد ك @@ان الن @@اس‬
‫@وى العاقل ‪ ،‬املدبّر ‪ ،‬الص@@انع! مث‬ ‫عدما ‪ ،‬أو ترابا ىف هذا الرتاب ‪ ..‬مث إذا هم هذا اخللق الس@ ّ‬
‫إذا هم تراب مرة أخرى ‪ ..‬مث إذا هم يلبسون حياة ال موت بعدها ‪،‬‬
‫‪1092‬‬

‫وهبذه احلي@ @@اة تتم النعمة ‪ ،‬نعمة احلي@ @@اة ‪ ..‬ذلك أنه لو ك@ @@انت احلي @ @@اة ال@ @@دنيا هى كل حي@ @@اة‬
‫اإلنسان لكانت نعمة ناقصة ‪ ،‬بل إهنا تك@@ون نقمة ملا فيها من معان@@اة ‪ ،‬وأعب@@اء ‪ ،‬وش@@دائد ‪،‬‬
‫يلتقى هبا اإلنسان ىف مسرية احلياة الدنيا ‪ ،‬من املولد إىل املمات ‪..‬‬
‫إن احلي@اة ال@دنيا هى إع@داد للحي@اة األخ@رى ‪ ،‬إهنا زرع ‪ ،‬واألخ@رى حص@اد لثمر ه@ذا‬
‫ال@@زرع ‪ ،‬ومن هنا ك@@ان ال بد من احلي@@اة اآلخ@@رة ‪ ،‬حىت تك@@ون احلي@@اة نعمة تس@@توجب احلمد‬
‫والشكران هلل ‪..‬‬
‫ـور) تعقيبا على تلك النعمة ‪ ،‬وتندي @ @@دا‬ ‫وهلذا ج@ @ @@اء قوله تع@ @ @@اىل ‪( :‬إِ َّن اإْلِ نْس ـ ــا َن لَ َك ُفـ ـ ٌ‬
‫باإلنسان وكفره وجحوده هلا ‪ ،‬إذ مل ي@ؤد مطل@وب اهلل منه ىف ه@ذه احلي@اة ال@دنيا ‪ ،‬املوص@ولة‬
‫باحلياة اآلخرة ‪..‬‬

‫اآليات ‪ 67( :‬ـ ‪)72‬‬


‫ك‬ ‫ك إِنَّ َ‬ ‫َّك فِي اأْل َْمـ ـ ـ ِر َوا ْدعُ إِلى َربِّ َ‬ ‫س ـ ـ ـكاً ُه ْم نا ِس ـ ـ ـ ُكوهُ فَال يُنا ِزعُن َ‬ ‫(لِ ُكـ ـ ـ ِّ ٍ‬
‫ـل أ َُّمة َج َعلْنا َم ْن َ‬
‫ُوك َف ُق ِل اهللُ أَ ْعلَ ُم بِما َت ْع َملُو َن (‪ @)68‬اهللُ يَ ْح ُك ُم َب ْينَ ُك ْم‬ ‫جادل َ‬‫دى ُم ْستَ ِق ٍيم (‪َ @)67‬وإِ ْن َ‬ ‫ل ََعلى ُه ً‬
‫ض إِ َّن‬ ‫ماء َواأْل َْر ِ‬ ‫سـ ِ‬ ‫َن اهللَ َي ْعلَ ُم ما فِي ال َّ‬ ‫َم َت ْعلَ ْم أ َّ‬ ‫ِِ ِ‬ ‫يــوم ال ِْق ِ ِ‬
‫يامــة فيما ُك ْنتُ ْم فيــه تَ ْختَل ُفــو َن (‪ )69‬أَل ْ‬ ‫َْ َ َ‬
‫َم ُيَن ِّـز ْل بِ ِـه ُسـلْطاناً‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫تاب إِ َّن ذلِ َ‬
‫ك فِي كِ ٍ‬ ‫ذلِ َ‬
‫ك َعلَى اهلل يَس ٌير (‪َ @)70‬و َي ْعبُ ُدو َن م ْن ُدون اهلل ما ل ْ‬
‫ف‬ ‫ـات َت ْعـ ـ ِر ُ‬ ‫ص ـ ـي ٍر (‪ )71‬وإِذا ُت ْتلى َعلَْي ِهم آياتُنا بيِّنـ ـ ٍ‬ ‫وما ل َْيس ل َُهم بِـ ـ ِـه ِعلْم وما لِلظَّالِ ِمين ِمن نَ ِ‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ ْ‬ ‫ٌَ‬ ‫َ ْ‬ ‫َ‬
‫ين َي ْتلُ ــو َن َعلَْي ِه ْم آياتِنا قُ ـ ْـل أَفَ ـأَُنبِّئُ ُك ْم‬ ‫ِ َّ ِ‬ ‫ِ َّ ِ‬ ‫ِ‬
‫ـادو َن يَ ْس ـطُو َن بالذ َ‬ ‫ين َك َفـ ُـروا ال ُْم ْن َكـ َـر يَك ـ ُ‬
‫في ُو ُجــوه الذ َ‬
‫ش ٍّر ِمن ذلِ ُكم النَّار و َع َد َها اهلل الَّ ِذين َك َفروا وبِْئس الْم ِ‬
‫ص ُير) (‪)72‬‬ ‫ُ َ ُ َ َ َ‬ ‫ُ َُ‬ ‫بِ َ ْ‬
‫‪1093‬‬

‫التفسري ‪:‬‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫ك‬ ‫ك إِنَّ َ‬ ‫َّك فِي اأْل َْمـ ـ ـ ِر َوا ْدعُ إِلى َربِّ َ‬
‫س ـ ـ ـكاً ُه ْم نا ِس ـ ـ ـ ُكوهُ فَال يُنا ِزعُن َ‬ ‫(لِ ُكـ ـ ـ ِّ ٍ‬
‫ـل أ َُّمة َج َعلْنا َم ْن َ‬
‫دى ُم ْستَ ِق ٍيم)‪.‬‬
‫ل ََعلى ُه ً‬
‫املنسك ‪ :‬الش @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @@ريعة ‪ ،‬واجلمع مناسك ‪ ،‬وهى مراسم الش @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @@ريعة ‪ ،‬وأحكامها ‪،‬‬
‫وحدودها ‪..‬‬
‫واملعىن أن اهلل س @ @ @ @ @@بحانه وتع@ @ @ @ @ @@اىل ‪ ،‬جعل لكل أمة من األمم ‪ ،‬ش@ @ @ @ @ @@ريعتها اليت تالئم‬
‫ظروفها وأحواهلا ‪ ،‬وذلك رمحة من اهلل س@@بحانه ‪ ،‬بعب@@اده ‪ ،‬إذ لو أخ@@ذهم اهلل مجيعا بش@@ريعة‬
‫واح@@دة منذ ب@@دء اخلليقة ‪ ،‬لك@@ان ىف ذلك إعن@@ات هلم ‪ ،‬وتض@@ييق عليهم ‪ ،‬إذ يص@@بحون هبذه‬
‫الش@ @@ريعة ىف ح@ @@ال من اجلم@ @@ود ‪ ،‬ال يتحرك@ @@ون معه إىل ميني أو مشال ‪ ،‬أو أم@ @@ام أو وراء ‪..‬‬
‫واحلي@ @ @@اة اإلنس@ @ @@انية تتح@ @ @@رك دائما ‪ ،‬متقلبة األح@ @ @@وال ‪ ..‬وهى ىف حركتها وتقلبها تتجه إىل‬
‫األم@ @@ام دائما ‪ ..‬فك @@ان من حكمة احلكيم ‪ ،‬ورمحة ال@ @@رحيم ‪ ،‬أن جعل ش@ @@رعة فيهم مناس @@با‬
‫لظ@ @@روفهم وأح@ @@واهلم ‪ ،‬يلق@ @@اهم ّأمة ّأمة ‪ ،‬ومجاعة مجاعة ‪ ،‬فيعطى كل أمة وكل مجاعة ‪ ،‬ما‬
‫يصلح هلا ‪ ،‬ويس ّدد خطوها على طريق احلياة ‪..‬‬
‫ـ وىف قوله تع@ @ @ @@اىل ‪ُ ( :‬ه ْم نا ِسـ ـ ـ ـ ُكوهُ) إش@ @ @ @@ارة إىل أن كل أمة ترتبط بش@ @ @ @@ريعتها اليت‬
‫ـل َج َعلْنا ِم ْن ُك ْم ِش ـ ـ ْر َعةً‬
‫ش@ @@رعت هلا ‪ ،‬وجترى حماس@ @@بتها عليها ‪ ..‬كما يق@ @@ول س@ @@بحانه ‪( :‬لِ ُكـ ـ ٍّ‬
‫َوِم ْنهاجاً) (‪ : 48‬املائدة)‪.‬‬
‫@ىب‬ ‫ِ‬ ‫ـ وقوله تع @@اىل ‪( :‬فَال ينا ِزعُن َ ِ‬
‫َّك في اأْل َْمـ ـ ر) أي أن الش @@ريعة اليت بني ي @@ديك أيها الن @ ّ‬ ‫ُ‬
‫هى شريعتك اليت اختارها اهلل بعلمه وحكمته ‪ ،‬ألمتك ‪ ،‬لتكون خامتة رساالت السماء ‪..‬‬
‫فال ينازعنك فيها أصحاب الشرائع األخرى من أهل الكتاب ‪،‬‬
‫‪1094‬‬

‫وال يدخلون على شريعتك مبا معهم من شرائع ‪..‬‬


‫َّك فِي اأْل َْمـ ـ ِر) إش@ @@ارة إىل أن ه@ @@ذه الش@ @@ريعة اليت بني‬ ‫ـ وىف قوله تع@ @@اىل ‪( :‬فَال يُنا ِزعُن َ‬
‫ي @@دى حممد ـ ص@ @@لوات اهلل وس@ @@المه عليه ـ هى (اأْل َْمـ ـ ِر) أي الش @@رع كلّه ‪ ،‬وأنه ال أمر وال‬
‫السر ىف تعريف (اأْل َْم ِر) ‪..‬‬ ‫شرع بعد هذا ‪ ..‬وهذا هو ّ‬
‫@ىب‬
‫َّك) ال@ @ @ @ @@ذي هو هنى ألهل الكت@ @ @ @ @@اب ‪ ،‬ىف حض@ @ @ @ @@ور الن@ @ @ @ ّ‬ ‫وىف توكيد الفعل (يُنا ِزعُن َ‬
‫وخماطبته ‪ ،‬أمران ‪:‬‬
‫أوهلما ‪ :‬تي@ئيس أهل الكت@اب من أن يك@ون هلم ش@أن ىف ه@ذا األمر ‪ ،‬وأهنم إذا أرادوا‬
‫أن يكون هلم شأن فيه ‪ ،‬فليسلموا له ‪ ،‬وليأخ@@ذوا مبا ج@@اء به ‪ ،‬وليجعل@@وا ما بني أي@@ديهم من‬
‫شرع تبعا هلذا األمر أو الشرع‪.‬‬
‫النىب الك@@رمي عن ج@@دل أهل الكت@@اب ‪ ،‬وعن االس@@تماع إىل مق@@والهتم‬ ‫وثانيهما ‪ :‬عزل ّ‬
‫‪ ،‬والنظر إىل ما عندهم ‪ ..‬إذ أن عنده األمر كله ‪ ..‬ومن ك@ان عن@ده األصل ‪ ،‬فال ينظر إىل‬
‫الفرع ‪..‬‬
‫ـدى ُم ْس ـ ـتَ ِق ٍيم) أي وإذا ك@ @@ان ذلك هو‬ ‫ك ل ََعلى ُهـ ـ ً‬ ‫ك إِنَّ َ‬‫ـ قوله تع@ @@اىل ‪َ ( :‬وا ْدعُ إِلى َربِّ َ‬
‫موقفك من أهل الكتاب ‪ ،‬فال تلتفت إليهم ‪ ،‬وال تنظر إىل ما جيادلونك به من شريعتهم ‪،‬‬
‫وادع إىل ربك مبا معك من شريعة ‪ ..‬فإنك لعلى ه ّدى من ربك ‪ ..‬هدى مستقيم ‪..‬‬
‫وىف وصف اهلدى باالس@@تقامة ‪ ،‬إش@@ارة إىل ما ىف أي@@دى أهل الكت@@اب من ش@@ريعة غري‬
‫مستقيمة ‪ ،‬مبا أدخلوا عليها من زيف وضالل ‪..‬‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫ُوك َف ُق ِل اهللُ أَ ْعلَ ُم بِما َت ْع َملُو َن) ‪..‬‬ ‫( َوإِ ْن َ‬
‫جادل َ‬
‫النىب بالدعوة إىل ربه ‪ ..‬بالكتاب املستقيم‬ ‫هو تأكيد لألمر الذي أمر به ّ‬
‫‪1095‬‬

‫ال@@ذي معه ‪ ،‬دون التف@@ات إىل ما ىف أي@@دى أهل الكت@@اب ‪ ،‬ودون اس@@تماع ملا يلق@@ون إليه من‬
‫مسائل يريدون هبا إثارة اجلدل وبعث الشكوك عند املنافقني ومن ىف قلوهبم مرض ‪..‬‬
‫@ىب إىل أن ميضى ىف طريقه ‪ ،‬وأن ي@ @@دع أهل الكت@ @@اب‬ ‫فه@ @@ذه اآلية الكرمية ‪ ،‬ت@ @@دعو الن@ @ ّ‬
‫وما جيادلون فيه ‪ ،‬وحسبه أن يلقاهم بقوله تع@@اىل ‪( :‬اهللُ أَ ْعلَ ُم بِما َت ْع َملُو َن) أي ليس ىل أن‬
‫أحاس@@بكم على اف@@رتائكم الك@@ذب على اهلل ‪ ،‬ف@@إن اهلل س@@بحانه هو أعلم مبا أنتم عليه ـ ظ@@اهرا‬
‫وباطنا ـ وهو ـ سبحانه ـ الذي يتوىل حسابكم وجزاءكم ‪..‬‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫يام ِة فِيما ُك ْنتُ ْم فِ ِيه تَ ْختَلِ ُفو َن) ‪..‬‬ ‫ِ‬
‫(اهللُ يَ ْح ُك ُم َب ْينَ ُك ْم َي ْو َم الْق َ‬
‫@ىب ال@ذي أم@@ره اهلل س@بحانه وتع@اىل أن يقوله للمج@@ادلني من‬ ‫ّإما أن يك@ون من كالم الن ّ‬
‫أهل الكت @ @ @@اب ‪ ،‬أي قل هلم ‪( :‬اهلل أعلم مبا تعمل @ @ @@ون) وقل هلم (اهلل حيكم بينكم إخل) وعلى‬
‫ه @@ذا يك @@ون اخلط @@اب موجها إليهم ‪ ،‬وأن اهلل س @@بحانه س @@يحكم بينهم فيما اختلف @@وا فيه من‬
‫النىب ‪ ،‬فكانوا حربا عليه ‪ ،‬وع@@داوة‬ ‫مقوالت ‪ ،‬فكانوا فرقا وشيعا ‪ ،‬أو فيما اختلفوا فيه مع ّ‬
‫له ‪..‬‬
‫وإما أن يكون ذلك استئنافا ‪ ،‬وليس من مقول الق@@ول ‪ ..‬وعلى ه@@ذا يك@@ون اخلط@@اب‬ ‫ّ‬
‫عاما موجها إىل الن@ @ @@اس مجيعا ‪ ..‬مبعىن أن اهلل س@ @ @@بحانه سيفصل بني الن@ @ @@اس فيما وقع بينهم‬
‫من خالف ‪ ،‬سوء أكان خالفا واقعا بني أهل الشريعة الواحدة ‪ ،‬أو بينهم وبني غريهم من‬
‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫سـكاً‬‫أصحاب الشرائع األخرى ‪ ..‬ويكون ه@@ذا تعقيبا على قولة تع@@اىل ‪( :‬ل ُك ِّل أ َُّمة َج َعلْنا َم ْن َ‬
‫ناس ُكوهُ) ‪..‬‬ ‫هم ِ‬
‫ُْ‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫ـك َعلَى ِ‬ ‫ـاب إِ َّن ذلِـ َ‬ ‫ـك فِي كِتـ ٍ‬‫ض إِ َّن ذلِـ َ‬‫ماء َواأْل َْر ِ‬ ‫سـ ِ‬
‫َن اهللَ َي ْعلَ ُم ما فِي ال َّ‬ ‫َم َت ْعلَ ْم أ َّ‬
‫اهلل‬ ‫(أَل ْ‬
‫يَ ِس ٌير) هو إلفات إىل سعة علم اهلل سبحانه وما يقع ىف حميط هذا العلم من‬
‫‪1096‬‬

‫أعم@ @@ال الن@ @@اس ـ ظ@ @@اهرة وباطنة ـ وهو هبذا العلم يكشف مس@ @@تورهم ‪ ،‬وحياس@ @@بهم ويقضى‬
‫بينهم‪.‬‬
‫فهو س@@بحانه ‪ ،‬يعلم ما ىف الس@@ماء واألرض ‪ ..‬ألن كل ما فيهما ص@@نعته ‪ ،‬والص@@انع‬
‫ـير) (‪ : 14‬املل@ @@ك) ـ‬ ‫ال خيفى عليه ش@ @@ىء مما ص@ @@نع (أَال َي ْعلَم َم ْن َخلَ ـ َـق و ُهــو اللَّ ِطي ـ ُ ِ‬
‫ـف الْ َخب ـ ُ‬ ‫َ َ‬ ‫ُ‬
‫تاب) أي أن هذا العلم الذي حييط بأسرار الوجود كله ‪ ،‬هو‬ ‫ك فِي كِ ٍ‬ ‫وقوله تعاىل ‪( :‬إِ َّن ذلِ َ‬
‫م@@ودع ىف كت@@اب عند اهلل ‪ ..‬فكل ما ك@@ان أو يك@@ون ىف ه@@ذا الوج@@ود كله ـ ىف أرضه ومسائه‬
‫‪ ،‬وفيما بني أرضه ومسائه ـ م@@ودع ىف ه@@ذا الكت@@اب ‪ ..‬كما يق@@ول س@@بحانه ‪َ ( :‬وما ِم ْن غائِبَـ ٍـة‬
‫ـاب ُمبِي ٍن) (‪ : 75‬النم@@ل) وه@@ذا الكت@@اب هو الل@@وح احملف@@وظ‬ ‫ض إِاَّل فِي كِتـ ٍ‬ ‫سـ ِ‬
‫ماء َواأْل َْر ِ‬ ‫فِي ال َّ‬
‫الذي هو أول ما خلق اهلل بعد القلم ‪..‬‬
‫اهلل يَ ِس ـ ٌير) هو دفع ملا يقع ىف بعض العق @@ول القاص @@رة‬ ‫ـك َعلَى ِ‬ ‫ـ قوله تع @@اىل ‪( :‬إِ َّن ذلِ ـ َ‬
‫اليت ال تعرف قدر اهلل ـ من شعور باستعظام هذه املعلوم@@ات اليت حتصى كل ش@@ىء ‪ ،‬وتق@ ّدر‬
‫كل ش@@ىء ‪ ،‬لكل خمل@@وق ‪ ،‬ص@@غر أو كرب ‪ ،‬وأخذ ه@@ذا الق@@ول على س@@بيل املبالغة أو التج@@وز‬
‫اهلل يَ ِسـ ٌير) تأكي@@دا لعلم اهلل ‪ ،‬وس@@عة ه@@ذا العلم ومشوله‬ ‫ك َعلَى ِ‬ ‫‪ ..‬فكان قوله تعاىل ‪( :‬إِ َّن ذلِ َ‬
‫‪ ،‬وأن هذا الوجود كله ال يع ّد شيئا إىل علم اهلل ‪ ،‬الذي أحاط بكل هذا الوج@@ود وال حييط‬
‫الوجود كله بشىء من علمه إال مبا يشاء ‪..‬‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫ين ِم ْن‬ ‫ِ ِِ‬
‫ْم َوما للظَّالم َ‬
‫ِِ ِ‬ ‫ِِ‬
‫َم ُيَن ِّز ْل به ُسلْطاناً َوما ل َْي َ‬
‫س ل َُه ْم به عل ٌ‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫( َو َي ْعبُ ُدو َن م ْن ُدون اهلل ما ل ْ‬
‫نَ ِ‬
‫صي ٍر) ‪..‬‬
‫الض@@مري ىف ( َي ْعبُـ ُدو َن) ي@@راد به املش@@ركون ‪ ،‬ال@@ذين يعب@@دون آهلة دون اهلل ‪ ..‬ومل يكن‬
‫للمش@@ركني ذكر هنا حىت يع@@ود ه@@ذا الض@@مري إليهم ‪ ..‬فاحلديث عنهم بض@@مري الغيبة ‪ ،‬إبع@@اد‬
‫هلم ‪ ،‬وإنكار لوجودهم ىف جمتمع العقالء ‪ ،‬الذين هم أهل للخطاب‪.‬‬
‫‪1097‬‬

‫@ماوى ‪،‬‬ ‫ِِ‬


‫ـ وقوله تع@@اىل ‪( :‬ما ل َْم ُيَنـ ِّـز ْل ب ــه ُسـلْطاناً) ـ املراد بالس@@لطان هنا الكت@@اب الس@ ّ‬
‫ال @@ذي ي @@دعو إىل عب @@ادة املس @@تحق للعب @@ادة ‪ ،‬وهو اهلل س @@بحانه وتع @@اىل ‪ ..‬وه @@ؤالء املش @@ركون‬
‫يعب@ @@دون آهلة تنكر الكتب الس@ @@ماوية عبادهتا ـ فهم إذ يعب@ @@دوهنا فإمنا يعب@ @@دون ما ال دليل ىف‬
‫ِ ِ ِِ ِ‬ ‫أي@ @@ديهم على اس@ @@تحقاقه العب@ @@ادة ‪َ ( :‬وِم َن الن ِ‬
‫ـدى َوال‬‫َّاس َم ْن يُج ــاد ُل في اهلل بغَْيـ ـ ِر عل ٍْم َوال ُه ـ ً‬
‫تاب ُمنِي ٍر)‪ : 8( .‬احلج)‬ ‫كِ ٍ‬
‫ْم) ـ هو اهتام للمش@@ركني ب@@أهنم إمنا يعب@@دون ما‬ ‫ِِ ِ‬
‫ـ وقوله تع @@اىل ‪َ ( :‬وما ل َْي َ‬
‫س ل َُه ْم ب ــه عل ٌ‬
‫يعب @@دون من دون اهلل ‪ ،‬عن ه @@وى وض @@الل ‪ ،‬وعن جهل وغب @@اء ‪ ..‬فال دليل ىف أي @@ديهم من‬
‫كت@@اب ‪ ،‬وال حجة معهم من علم أخ@@ذوه عن نظر ودرس ىف ص@@حف ه@@ذا الوج@@ود ‪ ..‬فقد‬
‫يهت@@دى اإلنس@@ان إىل اهلل بعقله ونظ@@ره ‪ ..‬ف@@إن مل يكن له عقل ونظر ‪ ،‬فه@@ذا كت@@اب اهلل ‪ ،‬فيه‬
‫اهلدى لكل من ضل ‪ ،‬والعلم لكل من جهل ‪ ..‬وه@ @ @@ؤالء املش@ @ @@ركون ‪ ،‬مل يكن هلم عق@ @ @@ول‬
‫ص@ @ @ @ @رهم من عمى ‪،‬‬ ‫ينظ@ @ @ @@رون هبا ‪ ،‬أو قل@ @ @ @@وب يعقل@ @ @ @@ون هبا ‪ ،‬فلما ج@ @ @ @@اءهم الكت@ @ @ @@اب ‪ ،‬ليب ّ‬
‫وأصموا آذاهنم دونه ‪..‬‬ ‫ردوه بأيديهم ‪ّ ،‬‬ ‫وليعلمهم من جهل ‪ّ ،‬‬
‫صي ٍر) هو هتديد هلؤالء املش@@ركني ‪ ،‬ال@@ذين ظلم@@وا‬ ‫ـ وقوله تع@@اىل ‪( :‬وما لِلظَّالِ ِمين ِمن نَ ِ‬
‫َ ْ‬ ‫َ‬
‫حواسهم وملك@@اهتم ىف‬ ‫احلق ‪ ،‬فلم يطلبوه من كتاب اهلل ‪ ،‬وظلموا أنفسهم ‪ ،‬فلم يستعملوا ّ‬
‫النظر ملا فيه ه@@دايتهم ‪ ،‬فركب@@وا م@@راكب الض@@الل ‪ ،‬واهلالك ‪ ..‬وليس هلم من يس@@تنقذهم من‬
‫هذا الضالل ‪ ،‬ويدفع عنهم يد اهلالك ‪ ،‬وقد وقعوا ىف شباكها‪.‬‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫ِ َّ ِ‬ ‫ـات َتعـ ـ ـ ِر ُ ِ‬
‫ـادو َن‬
‫ين َك َفـ ـ ُـروا ال ُْم ْن َكـ ـ َـر يَك ـ ـ ُ‬
‫ف في ُو ُجـ ــوه الذ َ‬ ‫( َوإِذا ُت ْتلى َعلَْي ِه ْم آياتُنا َبيِّن ـ ـ ٍ ْ‬
‫ين‬ ‫َّ ِ‬ ‫يسـ ـطُو َن بِالَّ ِذين ي ْتلُ ــو َن َعلَي ِهم آياتِنا ‪ ..‬قُ ــل أَفَـ ـأَُنبِّئُ ُكم بِ َ ِ ِ‬
‫َّار َو َعـ ـ َد َها اهللُ الذ َ‬
‫شـ ـ ٍّر م ْن ذل ُك ُم الن ُ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ْ ْ‬ ‫ََ‬ ‫َْ‬
‫ص ُير)‪.‬‬ ‫َك َفروا وبِْئس الْم ِ‬
‫ُ َ َ َ‬
‫‪1098‬‬

‫تع@@رض ه@@ذه اآلية ص@@ورة من عن@@اد املش@@ركني ‪ ،‬وت@@أبّيهم على احلق ‪ ،‬وش@@رودهم عن‬
‫اهلدى ‪ ..‬وذلك أهنم إذا تليت عليهم آي @ @@ات اهلل ‪ ،‬وقعت كلماهتا ىف قل @ @@وهبم موقع النكر ‪،‬‬
‫فامشأزوا منها ‪ ،‬وضاقوا هبا ‪ ،‬وظهر على وج@وههم ما اعتمل ىف ص@@دورهم من حنق وغيظ‬
‫‪ ،‬وك@ @ @ @@ادت أي@ @ @@ديهم تتح@ @ @@رك بالتط@ @ @@اول واألذى ‪ ،‬ين@ @ @@الون به من يتلو عليهم آي@ @ @ @@ات اهلل ‪،‬‬
‫ويسمعهم إياها ‪..‬‬
‫ه@@ذا هو ح@@ال أهل الض@@الل ‪ ،‬مع كل دع@@وة راش@@دة ‪ ،‬وىف وجه ك@ ّ@ل كلمة طيبة ‪..‬‬
‫@زورون ب@ @@اخلري ‪ ،‬ويض@ @@يقون ذرعا باهلدى ـ ش@ @@أن املدمن على منكر من املنك@ @@رات ‪..‬‬ ‫إهنم ي@ @ ّ‬
‫جير عليه من‬ ‫يؤذيه احلديث ال@@ذي يكشف له عن وجه ه@@ذا املنكر ‪ ،‬وعن س@@وء مغبته ‪ ،‬وما ّ‬
‫فساد لعقله ‪ ،‬وجسده ‪ ،‬وماله ‪..‬‬
‫ـ وقوله تع@ @@اىل ‪( :‬قُ ـ ْـل أَفَـ ـأَُنبِّئُ ُك ْم بِ َشـ ـ ٍّر ِم ْن ذلِ ُك ُم ‪ )..‬اإلش@ @@ارة هنا (ذلِ ُك ُم) إىل املنكر‬
‫ال @@ذي يب @@دو على وج @@وه الك @@افرين ‪ ،‬ملا يقع ىف نفوس @@هم من ض @@يق وأذى مما يس @@معون من‬
‫كلمات اهلل ‪ ..‬فهذا الض@@يق ال@ذي جيدونه ىف ص@@دورهم ‪ ،‬هو ش@ّ@ر وأذى يقع ىف أنفس@@هم ‪..‬‬
‫شر قليل وأذى حمتمل باإلضافة إىل ما يلقون ي@@وم القيامة من ع@@ذاب أليم ‪ ..‬فلو أهّن م‬ ‫ولكنه ّ‬
‫املر ال@@ذي‬
‫راض@@وا أنفس@@هم على االس@@تماع إىل كلم@@ات اهلل ‪ ،‬وص@@ربوا قليال على ه@@ذا ال@@دواء ّ‬
‫جتده نفوس @@هم املريضة منه ـ لوج @@دوا ب @@رد العافية من ه @@ذا الض @@الل ال @@ذي هم فيه ‪ ،‬وآلمن @@وا‬
‫باهلل ‪ ،‬ولنج@ @@وا من ع@ @@ذاب الس@ @@عري ‪ ،‬ول@ @@دفعوا هبذا الش@ @ ّ@ر ال@ @@ذي جيدونه ىف ص@ @@دورهم ش @ ّ@را‬
‫مستطريا ‪ ،‬وبالء عظيما ‪ ..‬وهو العذاب األليم ىف اآلخرة ‪..‬‬
‫وىف تس @@مية ما جيده املش @@ركون من ض @@يق ىف ص @@دورهم عند االس @@تماع إىل كلم @@ات‬
‫اهلل ـ ىف تس @ @@ميته ش @ @@را ‪ ،‬إمنا هو باإلض @ @@افة إليهم ‪ ،‬وحسب نظ @ @@رهتم إليه ‪ ..‬إهنم جيدون ما‬
‫الشر ال@@ذي يص@@رفهم عن احلي@@اة والعيش مع‬ ‫تعرضه عليهم آيات اهلل من دواء لدائهم ‪ ،‬وهو ّ‬
‫هذا الداء املتمكن منهم ‪..‬‬
‫‪1099‬‬

‫ص ُير) ـ هو جواب على هذا‬ ‫ـ وقوله تعاىل ‪( :‬النَّار و َع َد َها اهلل الَّ ِذين َك َفروا وبِْئس الْم ِ‬
‫ُ َ ُ َ َ َ‬ ‫َُ‬
‫ـك؟) مث ج@ @@اءهم‬ ‫ش ـ ـ ٍّر ِم ْن ذلِـ ـ َ‬
‫ـل أَُنبِّئُ ُك ْم بِ َ‬
‫الس@ @@ؤال ال@ @@ذي س@ @@ئلوه من قبل ىف قوله تع@ @@اىل ‪َ ( :‬ـه ـ ْ‬
‫َّ ِ‬
‫ين َك َفـ ُـروا‬ ‫اجلواب على هذا السؤال ‪ ،‬سواء طلبوا ذلك أو مل يطلبوا ‪( :‬الن ُ‬
‫َّار َو َع َد َها اهللُ الذ َ‬
‫صـ ُير) أي ه@@ذا الشر ال@@ذي أخ@@ربكم به ‪ ،‬هو الن@@ار ‪ ،‬اليت وع@@دها اهلل ال@@ذين كف@@روا‬ ‫وبِْئس الْم ِ‬
‫َ َ َ‬
‫وأع ّدها هلم ‪ ..‬وأنتم أيها الكافرون ال مصري لكم غري هذا املصري ‪ ،‬وإنه لبئس املصري ‪..‬‬
‫____________________________________‬

‫اآليات ‪ 73( :‬ـ ‪)76‬‬


‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ ِ‬ ‫ِ‬
‫َن يَ ْخلُ ُقـ ــوا‬
‫ين تَ ـ ـ ْدعُو َن م ْن ُدون اهلل ل ْ‬ ‫ب َمثَـ ـ ٌـل فَا ْس ـ ـتَمعُوا لَـ ــهُ إِ َّن الذ َ‬ ‫ض ـ ـ ِر َ‬
‫َّاس ُ‬
‫(يا أ َُّي َها الن ُ‬
‫ضـع َ ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫ـوب‬
‫ب َوال َْمطْلُـ ُ‬ ‫ف الطَّال ُ‬ ‫باب َش ْيئاً ال يَ ْسَت ْنق ُذوهُ م ْنهُ َ ُ‬ ‫الذ ُ‬ ‫اجتَ َمعُوا لَهُ َوإِ ْن يَ ْسلُْب ُه ُم ُّ‬ ‫ذُباباً َولَ ِو ْ‬
‫صـطَِفي ِم َن ال َْمالئِ َكـ ِـة ُر ُسـالً‬ ‫ي َع ِزيـ ٌـز (‪ @ )74‬اهللُ يَ ْ‬ ‫ـق قَ ـ ْد ِر ِه إِ َّن اهللَ لََقـ ِو ٌّ‬
‫(‪ @ )73‬ما قَ ـ َد ُروا اهللَ َحـ َّ‬
‫ـع‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّاس إِ َّن اهلل س ـ ـ ـ ِم ٌ ِ‬
‫يع بَص ـ ـ ـ ٌير (‪َ @ @ @ @)75‬ي ْعلَ ُم ما َب ْي َن أَيْـ ـ ــدي ِه ْم َوما َخ ْل َف ُه ْم َوإِلَى اهلل ُت ْر َـج ـ ـ ُ‬ ‫َ َ‬ ‫َوِم َن الن ِ‬
‫ور) (‪)76‬‬ ‫اأْل ُُم ُ‬
‫____________________________________‬
‫التفسري ‪:‬‬
‫ون ِ‬ ‫ض ِرب مثَل فَاستَ ِمعوا لَهُ ‪ ..‬إِ َّن الَّ ِذين تَـ ْدعُو َن ِمن ُد ِ‬
‫اهلل‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َّاس ُ َ َ ٌ ْ ُ‬ ‫قوله تعاىل ‪( :‬يا أ َُّي َها الن ُ‬
‫ف‬ ‫باب َشـ ْيئاً ال يَ ْسـَت ْن ِق ُذوهُ ِم ْنــهُ ‪َ ..‬‬
‫ضـعُ َ‬ ‫اجتَ َمعُــوا لَــهُ ‪َ ..‬وإِ ْن يَ ْسـلُْب ُه ُم الـ ُّـذ ُ‬
‫َن يَ ْخلُ ُقــوا ذُبابـاً َولَـ ِو ْ‬
‫لْ‬
‫ِ‬
‫وب)‪.‬‬ ‫ب َوال َْمطْلُ ُ‬ ‫الطَّال ُ‬
‫مناس @@بة ه @@ذه اآلية ملا قبلها ‪ ،‬هى أن اآلي @@ات الس @@ابقة حتدثت عن املش @@ركني ‪ ،‬وأهنم‬
‫يعبدون من دون اهلل ما أملته عليهم أهواؤهم ‪ ،‬دون أن يكون بني‬
‫‪1100‬‬

‫مساوى ي@ @ @@دعوهم إىل عبادهتا ‪ ،‬أو يك@ @ @@ون معهم عقل دهّل م عليها ‪ ،‬وأراهم‬ ‫ّ‬ ‫أي@ @ @@ديهم كت@ @ @@اب‬
‫منها ما تس@ @ @ @ @@تحق به أن تؤلّه وتعبد ‪ ..‬مث كش@ @ @ @ @@فت اآلي@ @ @ @ @@ات بعد ذلك عن موقف ه@ @ @ @ @@ؤالء‬
‫املشركني عند استماعهم آلي@@ات اهلل إذا تالها عليهم ق@@ال ‪ ..‬إهنم يض@@يقون هبا ‪ ،‬حىت لتك@@اد‬
‫ختتنق أنفاسهم منها ‪..‬‬
‫وهنا ىف ه @@ذه اآلية ‪ ،‬يض @@رب اهلل س @@بحانه وتع @@اىل هلم مثال جمس @@ما ‪ ،‬ميكن أن يوضع‬
‫موضع التجربة واالختب@ @ @@ار من الن@ @ @@اس ‪ ،‬وخاصة املش@ @ @@ركني ‪ ،‬وهو أن ي@ @ @@دعوا ه@ @ @@ذه اآلهلة‬
‫مجيعها إىل أن خيلق @ @@وا كائنا من أض @ @@أل خملوق @ @@ات اهلل ‪ ،‬وهو ال @ @@ذباب ‪ ..‬ف @ @@إن فعل @ @@وا ـ ولن‬
‫يفعل @@وا ـ فليكن هلم أن جيعلوها آهلة ‪ ،‬وأن يعب @@دوها كما يعبد اهلل ‪ ..‬وإن مل خيلق @@وا جن @@اح‬
‫ذبابة ـ وهو ما تكشف عنه التجربة ـ ف @ @@إن عب @ @@ادهتم هلا بعد ذلك ‪ ،‬ض@ @ @@الل ىف ض @ @@الل ‪:‬‬
‫ِ‬
‫(أَيُ ْش ـ ـ ـ ِر ُكو َن ما ال يَ ْخلُـ ـ ـ ُـق َش ـ ـ ـ ْيئاً َو ُه ْم يُ ْخلَ ُقـ ـ ــو َن؟ َوال يَ ْس ـ ـ ـتَطيعُو َن ل َُه ْم نَ ْ‬
‫ص ـ ـ ـراً َوال أَْن ُف َ‬
‫س ـ ـ ـ ُه ْم‬
‫ص ُرو َن) (‪ 191‬ـ ‪ : 192‬األعراف)‪.‬‬ ‫َي ْن ُ‬
‫ه@ @ @@ذا ‪ ،‬وقد م@ @ @ ّ@ر تفسري ه@ @ @@ذه اآلية ىف أول ه@ @ @@ذه الس@ @ @@ورة ‪ ،‬ىف مبحث [اخلالق وما‬
‫خلق]‪.‬‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫(ما قَ َد ُروا اهللَ َح َّق قَ ْد ِر ِه إِ َّن اهللَ لََق ِو ٌّي َع ِز ٌيز)‪.‬‬
‫أي أن ه@ @@ؤالء املش@ @@ركني ‪ ،‬قد جهل@ @@وا ق@ @@در اهلل ‪ ،‬ونظ@ @@روا إليه كما ينظ@ @@رون إىل ما‬
‫يكرب ىف صدورهم ‪ ،‬من خملوقات ومصنوعات ‪ ..‬فلم جياوزوا بقدر اهلل ما يرفعه فوق هذه‬
‫املعب @@ودات ‪ ،‬وجيعلها مجيعا عاب @@دة له ‪ ،‬خاض@@عة لتص@@ريفه فيها ‪ ،‬بل إن ظنّهم باهلل ‪ ،‬جعلهم‬
‫الظن منهم باهلل ‪ ،‬جعله إهلا على رأس ه@ @@ذه‬ ‫جيعلونه إهلا ىف جممع ه@ @@ذه اآلهلة ‪ ،‬ومن أحسن ّ‬
‫اآلهلة ‪ ،‬تش @ @@اركه امللك والت@ @ @@دبري ‪ ،‬وأن هلم هبذا أن يقرب@ @ @@وهم إىل اهلل ‪ ،‬وي @ @@نزلوهم من@ @ @@ازل‬
‫اهلل ُزلْفى) (‪ : 3‬الزمر)‪.‬‬ ‫الرضوان عنده ‪ ،‬وقالوا ‪( :‬ما َن ْعب ُد ُهم إِاَّل لِي َق ِّربونا إِلَى ِ‬
‫ُ ْ ُ ُ‬
‫‪1101‬‬

‫ـ وىف قوله تع@@اىل ‪( :‬إِ َّن اهللَ لََقـ ِو ٌّي َع ِزيـ ٌـز) ـ إش@@ارة إىل ما هلل س@@بحانه وتع@@اىل من ق@@وة‬
‫ومن ع@@زة ‪ ،‬وأن قوته متف@@ردة ب@@القوة كلها ‪ ،‬ال ق@@وة ألحد مع قوته ‪ ،‬وأن عزته متلك الع@@زة‬
‫عزته ‪ ..‬فكيف يس@ @ @@وغ لعاقل أن يس @ @@تم ّد الق @ @@وة والع@ @ @ ّ@زة من غري‬ ‫كلّها ‪ ،‬ال ع @ @ ّ@زة لعزيز مع ّ‬
‫مالك القوة والعزة؟ إن أي متجه يتجه إليه ط@@الب الق@@وة والع@@زة غري االجتاه إىل اهلل وح@@ده ‪،‬‬
‫هو سعى إىل تباب ‪ ،‬واجتاه إىل بوار‪.‬‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫ص ٌير)‪.‬‬ ‫يع ب ِ‬ ‫ِ‬
‫َّاس ‪ ..‬إِ َّن اهللَ َسم ٌ َ‬ ‫صطَِفي ِم َن ال َْمالئِ َك ِة ُر ُسالً َوِم َن الن ِ‬ ‫(اهللُ يَ ْ‬
‫هو بي@@ان يكشف عن ض@@الل ه@@ؤالء املش@@ركني ال@@ذين يعب@@دون املالئكة ‪ ،‬أو يعب@@دون‬
‫بعضا من أنبي @ @@اء اهلل ورس@ @@له ‪ ،‬كما عبد بعض اليه@ @@ود العزيز ‪ ،‬وكما عبد بعض النص@ @@ارى‬
‫املس@ @@يح ‪ ..‬فه@ @@ؤالء ‪ ،‬وأولئك ـ من املالئكة والرسل ـ هم عب@ @@اد من عب@ @@اد اهلل ‪ ،‬وخلق من‬
‫خلقه ‪ ،‬اص @ @@طفاهم اهلل ‪ ،‬وأك @ @@رمهم ‪ ،‬ومنحهم ما منحهم من ق @ @@وى وآي @ @@ات ‪ ..‬ولن خيرج‬
‫هبم ه@ @ @ @ @ @@ذا عن أن يكون@ @ @ @ @ @@وا عبيد اهلل ‪ ..‬فكيف يعبد العبد من دون الس@ @ @ @ @ @@يّد ‪ ،‬وكيف يؤله‬
‫املخلوق مع اإلله اخلالق؟ ذلك سفه سفيه ‪ ،‬وضالل مبني ‪..‬‬
‫صـ ٌير) هتديد هلؤالء املش@@ركني ال@@ذين يعب@@دون عب@@اد‬ ‫يع ب ِ‬ ‫ِ‬ ‫ـ وىف قوله تعاىل ‪( :‬أ َّ‬
‫َن اهللَ َسم ٌ َ‬
‫يع) ملق@ @ @@والهتم املنك@ @ @@رة ىف ه@ @ @@ؤالء املخل@ @ @@وقني ‪..‬‬ ‫اهلل ‪ ،‬من دون اهلل ‪ ..‬فاهلل س @ @@بحانه ( َسـ ـ ـ ِم ٌ‬
‫صـ ـ ٌير) مبا يعمل @@ون من أعم @@ال ‪ ،‬وما يق@ @ ّدمون من عب @@ادات وقرب @@ات هلؤالء املخل @@وقني ‪..‬‬ ‫(ب ِ‬
‫َ‬
‫وليس وراء هذا إال احلساب ‪ ،‬واجلزاء ‪ ،‬والعذاب األليم ‪..‬‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ـور ‪ )..‬هو هتديد ووعيد‬ ‫( َي ْعلَ ُم ما َب ْي َن أَيْـ ـ ــدي ِه ْم َوما َخ ْل َف ُه ْم ‪َ ..‬وإِلَى اهلل ُت ْر َـج ـ ـ ُ‬
‫ـع اأْل ُُمـ ـ ـ ُ‬
‫كذلك ‪ ،‬ألولئك املشركني ‪ ،‬وأن اهلل السميع البصري ( َي ْعلَ ُم ما َب ْي َن‬
‫‪1102‬‬

‫أَيْـ ِـدي ِه ْم) أي يعلم ما يعملونه قبل أن يعمل @@وه ‪َ ( ..‬وما َخ ْل َف ُه ْم) أي ويعلم ما عمل @@وا ‪ ،‬وأهنم‬
‫ِ‬
‫سريدون اهلل ‪ ،‬وحياسبون ‪َ ( :‬وإِلَى اهلل ُت ْر َج ُع اأْل ُُم ُ‬
‫ور)‬ ‫وأعماهلم ّ‬
‫____________________________________‬

‫اآليتان ‪ 77( :‬ـ ‪)78‬‬


‫اس ُج ُدوا َوا ْعبُ ُدوا َربَّ ُك ْم َوا ْف َعلُوا الْ َخ ْـي َـر ل ََعلَّ ُك ْم ُت ْفلِ ُحــو َن‬ ‫آمنُوا ْار َكعُوا َو ْ‬‫ين َ‬
‫َّ ِ‬
‫(يا أ َُّي َها الذ َ‬
‫ـل َعلَْي ُك ْم فِي الــدِّي ِن ِم ْن َحـ َـر ٍج ِملَّةَ‬ ‫اجتَبــا ُك ْم َوما َج َعـ َ‬
‫ِِ‬
‫ـق ِجهــاده ُهـ َـو ْ‬ ‫جاهـ ُدوا فِي ِ‬
‫اهلل َحـ َّ‬ ‫(‪ @ )77‬و ِ‬
‫َ‬
‫ـل َوفِي هـ ــذا لِيَ ُك ــو َن َّ‬ ‫ـراهيم ه ــو س ـ ـ َّما ُكم الْمسـ ـلِ ِم ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ول َش ـ ـ ِهيداً َعلَْي ُك ْم‬ ‫الر ُس ـ ـ ُ‬ ‫ين م ْن َق ْب ـ ُ‬‫أَبي ُك ْم إِبْـ ـ َ ُ َ َ ُ ُ ْ َ‬
‫اهلل ُه َـو َم ْـوال ُك ْم فَنِ ْع َم‬ ‫صـموا بِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫صـالةَ َوآتُـوا َّ‬ ‫وتَ ُكونُـوا ُشـهداء َعلَى الن ِ ِ‬
‫الزكـاةَ َوا ْعتَ ُ‬ ‫يموا ال َّ‬
‫َّاس فَـأَق ُ‬ ‫َ َ‬ ‫َ‬
‫َّص ُير) (‪)78‬‬ ‫الْمولى ونِ ْعم الن ِ‬
‫َْ َ َ‬
‫____________________________________‬
‫التفسري ‪:‬‬
‫هباتني اآلي@ @ @ @@تني الكرميتني ختتم الس@ @ @ @@ورة الكرمية ‪ ..‬وهبذا اخلت@ @ @ @@ام ‪ ،‬يلتقى ب@ @ @ @@دؤها مع‬
‫ختامها ‪ ،‬كما يلتقى ختامها مع بدء السورة اليت بعدها ‪ ،‬وهى سورة «املؤمنون»‪.‬‬
‫ِ‬ ‫سـ َ ِ‬
‫َّاس َّات ُقـوا َربَّ ُك ْم إِ َّن َزل َْزلَـةَ ال َّ‬
‫يم‬
‫اعة َشـ ْيءٌ َعظ ٌ‬ ‫فقد ب@@دأت الس@@ورة هك@@ذا ‪( :‬يا أ َُّي َها الن ُ‬
‫‪ )..‬إنه نذير صارخ للناس مجيعا ‪ ،‬أن يأخذوا ألنفسهم من هذا الي@وم العظيم ‪ ،‬وأن يعمل@وا‬
‫على ما ينجيهم من أهواله املهولة املفزعة ‪..‬‬
‫وقد اس@ @@تجاب أن @ @@اس هلذا النّ @ @@داء ‪ ،‬ف@ @@آمنوا باهلل ‪ ،‬وس @ @@عوا إىل مرض @ @@اته ‪ ،‬ليخلص@ @@وا‬
‫بأنفسهم من شر هذا اليوم العظيم ‪..‬‬
‫مث ك@ @ @ @ @ @@انت الس@ @ @ @ @ @@ورة كلها بعد ذلك ‪ ،‬دع@ @ @ @ @ @@وة إىل اهلل ‪ ،‬وإىل كشف الطريق إليه ‪،‬‬
‫وإرس@@ال الن@@ذير بعد الن@@ذير ‪ ،‬إىل الض@@الني ‪ ،‬واملش@@ركني ‪ ،‬ال@@ذين أمس@@كوا على ما ىف قل@@وهبم‬
‫من كفر وضالل‪.‬‬
‫‪1103‬‬

‫مث كانت حصيلة هذه النّ@ذر ‪ ،‬ه@ؤالء املؤم@نني ال@ذين دخل@وا ىف دين اهلل ‪ ،‬واس@تجابوا‬
‫ص@ @ @هم خبطابه ‪ ،‬ورف @ @@دهم‬ ‫لرس @ @@ول اهلل ‪ ..‬فك @ @@ان أن دع @ @@اهم اهلل س @ @@بحانه وتع @ @@اىل إليه ‪ ،‬وخ ّ‬
‫بوصاياه ‪ ،‬ليثبتوا على اإلميان ‪ ،‬وليعملوا على طريق اإلميان ‪ ،‬وليغرسوا ىف مغارسه‪.‬‬
‫فقال سبحانه ‪ ،‬خماطبا عباده املؤمنني ‪:‬‬
‫آمنُ ـ ــوا ‪ْ ..‬ار َكعُ ـ ــوا َوا ْسـ ـ ـ ُج ُدوا َوا ْعبُـ ـ ـ ُدوا َربَّ ُك ْم َوا ْف َعلُ ـ ــوا الْ َخ ْيـ ـ َـر ل ََعلَّ ُك ْم‬ ‫َّ ِ‬
‫ين َ‬
‫(يا أ َُّي َها الذ َ‬
‫ُت ْفلِ ُحو َن) ‪ ،‬فليس اإلميان باهلل جمرد كلمة ينطق هبا اللس@@ان ‪ ،‬وإمنا اإلميان ‪ :‬ق@@ول ‪ ،‬وعمل ‪،‬‬
‫إق@@رار باللس@@ان ‪ ،‬واعتق@@اد ىف القلب ‪ ،‬وعمل ب@@اجلوارح ‪ ..‬فال@@دعوة إىل الرك@@وع والس@@جود ـ‬
‫ومها من أرك@@ان الص@@الة ـ دع@@وة إىل الص@@الة ‪ ،‬وأمر بإقامتها كاملة ‪ ،‬وأدائها على وجهها ‪،‬‬
‫رب الع@ @ @@املني ‪ْ ( :‬ار َكعُـ ـ ــوا َوا ْس ـ ـ ـ ُج ُدوا) ‪ ..‬ف@ @ @@الركوع‬ ‫وما تقضى به من والء وخش@ @ @@وع هلل ّ‬
‫والس @@جود ليسا جمرد حرك @@تني من حرك @@ات اجلسد ‪ ،‬وإمنا مها ـ قبل كل ش @@ىء ـ خض @@وع‬
‫ب @@القلب ‪ ،‬وخش @@وع ب @@النفس ‪ ،‬وتس @@ربل حبال من الرهبة واخلش @@ية هلل ‪ ،‬حبيث جيد اإلنس @@ان‬
‫@دك به بن@@اؤه اجلس@@دى ‪ ،‬ف@@ريكع حتت وط@@أة ه@@ذا احلمل الثقي@@ل‪ .‬مث‬ ‫هلذه الرهبة واخلش@@ية ما ين@ ّ‬
‫ال يلبث أن يه @ @ @ @ @ @@وى س @ @ @ @ @ @@اجدا حىت يضع جبهته على األرض ‪ ..‬وهنا جيد الرضا من ربّه ‪،‬‬
‫والكرامة والتك@@رمي من س@@يده ‪ ..‬في@@دعوه إىل أن يرفع وجهه عن ه@@ذا ال@@رتاب ال@@ذي لصق به‬
‫‪..‬‬
‫وهك @ @@ذا ‪ ،‬يظل املص@ @ @لّى بني ي @ @@دى اهلل ‪ ،‬ىف رك @ @@وع وس @ @@جود ‪ ،‬وىف خفض ورفع ‪،‬‬
‫حىت خيتم ص @@الته ‪ ،‬وهو متمكن على ه @@ذه األرض ‪ ،‬مس @@ئول عليها اس @@تيالء ذى الس @@لطان‬
‫على سلطانه!‬
‫وقوله تعاىل ‪َ ( :‬وا ْعبُ ُدوا َربَّ ُك ْم) هو أمر بالعب@@ادة مطلقا ‪ ،‬فيما ف@@رض اهلل من عب@@ادات‬
‫غري الصالة ‪ ،‬كالصوم ‪ ،‬والزكاة ‪ ،‬واحلج ‪ ،‬وفيما أمر به من ذكره‬
‫‪1104‬‬

‫تع@@اىل ‪ ،‬واجله@@اد ىف س@@بيله ‪ ،‬والس@@عى ىف طلب ال@@رزق ‪ ..‬فكلها عب@@ادات وطاع@@ات وقرب@@ات‬
‫‪..‬‬
‫وقوله تع@ @ @@اىل ‪َ ( :‬وا ْف َعلُـ ـ ــوا الْ َخ ْـيـ ـ َـر) هو أمر بكل خري ‪ ،‬وراء ه @ @ @@ذه العب @ @ @@ادات ‪ ،‬من‬
‫اإلحس@@ان إىل الن@@اس ب@@القول والعمل ‪ ،‬ومن احلكم بني الن@@اس بالع@@دل ‪ ،‬ومن أداء األمان@@ات‬
‫إىل أهلها ‪ ..‬إىل غري ذلك ما هو خري وحسن ‪ ،‬ومعروف‪@.‬‬
‫وىف قوله تع @ @@اىل ‪( :‬ل ََعلَّ ُك ْم ُت ْفلِ ُحـ ــو َن) إش @ @@ارة إىل أن ه @ @@ذه األعم @ @@ال كلها ‪ ،‬ـ وعلى‬
‫رأسها اإلميان باهلل ـ هى مما ترجى به النجاة ‪ ،‬من عذاب اهلل ‪ ،‬والفوز برضوانه ‪..‬‬
‫جمرد وس@@ائل يتوسل هبا اإلنس@@ان إىل ربه ‪ ..‬أما إجناح ه@@ذه الوس@@ائل وتقبلها من‬ ‫إهنا ّ‬
‫صاحبها ‪ ،‬فذلك أمره إىل اهلل ‪ ،‬وإىل مشيئة اهلل ىف عبده ‪ ..‬وه@ذا هو الس@ّ@ر ىف تص@دير اخلرب‬
‫حبرف التميّن «لع@ @@ل» ‪ ..‬إذ ليس ألحد على اهلل حق يطالبه به ‪ ..‬وإمنا اهلل س@ @@بحانه وتع @@اىل‬
‫هو ال@ذي يطلب ‪ ،‬وعلى عب@@اده أن ميتثل@@وا ‪ ،‬وي@@ؤدوا ما طلب منهم ‪ ،‬وأن يكون@@وا بعد ذلك‬
‫على رجاء من القبول والرضا ‪..‬‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫ـل َعلَْي ُك ْم فِي الــدِّي ِن ِم ْن َحـ َـر ٍج ِملَّةَ‬
‫اجتَبــا ُك ْم َوما َج َعـ َ‬
‫ِِ‬ ‫(و ِ‬
‫جاه ُدوا فِي ِ‬
‫اهلل َح َّق ِجهاده ُهـ َـو ْ‬ ‫َ‬
‫ـل َوفِي هـ ــذا لِيَ ُك ــو َن َّ‬ ‫ـراهيم ه ــو س ـ ـ َّما ُكم الْمسـ ـلِ ِم ِ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ول َش ـ ـ ِهيداً َعلَْي ُك ْم‬ ‫الر ُس ـ ـ ُ‬ ‫ين م ْن َق ْب ـ ُ‬‫أَبي ُك ْم إِبْـ ـ َ ُ َ َ ُ ُ ْ َ‬
‫اهلل ُه َـو َم ْـوال ُك ْم فَنِ ْع َم‬
‫صـموا بِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫صـالةَ َوآتُـوا َّ‬ ‫وتَ ُكونُـوا ُشـهداء َعلَى الن ِ ِ‬
‫الزكـاةَ َوا ْعتَ ُ‬ ‫يموا ال َّ‬
‫َّاس فَـأَق ُ‬ ‫َ َ‬ ‫َ‬
‫الْمولى ونِ ْعم الن ِ‬
‫َّص ُير)‪.‬‬ ‫َْ َ َ‬
‫هو عطف على ما ج @ @@اء ىف اآلية الس @ @@ابقة من أمر ب@ @@الركوع والس @ @@جود وعب@ @@ادة اهلل‬
‫وفعل اخلري ‪..‬‬
‫واجلهاد وإن كان مما تضمنه هذا األمر ‪ ،‬إذ هو من عبادة اهلل ‪ ،‬ومن فعل‬
‫‪1105‬‬

‫خص بال @@ذكر هنا ملا له من مق @@ام كبري ‪ ،‬بني العب @@ادات وأفع @@ال اخلري ‪ ،‬وملا‬ ‫اخلري معا ؛ فقد ّ‬
‫فيه من خماطرة ب@ @ @ @ @ @ @ @@النفس ‪ ،‬واملال ‪ ،‬ومها أعلى ما ميلك اإلنس@ @ @ @ @ @ @ @@ان ‪ ،‬وأوىل ما حيرص عليه‬
‫ويضن به‪.‬‬
‫ّ‬
‫هاد ِه) تأكيد هلذا اجله@@اد ‪ ،‬وبي@@ان للص@@فة اليت يك@@ون عليها‬ ‫ـ وىف قوله تع@@اىل ‪( :‬ح َّق ِج ِ‬
‫َ‬
‫‪ ،‬وهو أن يك@ @ @ @ @@ون خالصا هلل ‪ ،‬وىف س@ @ @ @ @@بيل اهلل ‪ ،‬ال يبتغى به ش@ @ @ @ @@ىء غري وجه اهلل ‪ ..‬وهنا‬
‫يكون البذل للمال والنفس هيّنا ‪ ،‬إذا نظر إليه ىف مقابل ثواب اهلل ‪ ،‬وابتغاء رضوانه‪.‬‬
‫اهلل) بتعدية اجله@ @ @@اد حبرف اجلر «ىف» إىل لفظ‬ ‫ـ وىف قوله تع@ @ @@اىل ‪( :‬و ِ‬
‫جاهـ ـ ـ ُدوا فِي ِ‬
‫َ‬
‫اجلاللة ‪« ،‬اهلل» وإىل س @@بيل اهلل ‪ ،‬كما ج @@رى ذلك ىف األس @@لوب الق @@رآىن ـ ىف ه @@ذا ما يشري‬
‫إىل ق @@در اجله @@اد ‪ ،‬وإىل أنه هلل وح @@ده ‪ ،‬ومن أجل ذاته س@@بحانه ـ ولوجهه خاصة ـ فح @@رف‬
‫اجلر هنا للسببية ‪..‬‬
‫ومن جهة أخرى ‪ ،‬فإن اجلهاد ىف اهلل هو جهاد عام ‪ ،‬يشمل اجلهاد ىف سبيله وغريه‬
‫‪ ،‬كاألمر باملعروف ‪ ،‬والنهى عن املنكر ‪ ،‬وجماهدة النفس ‪ ،‬وحنو ه@@ذا ‪ ،‬مما يعلى كلمة اهلل‬
‫جاه ـ ـ ـ ُدوا فِينا‬ ‫َّ ِ‬
‫‪ ،‬ويقيم دع@ @ @ @@ائم احلق ‪ ،‬ويثبت أركانه ‪ ..‬وه@ @ @ @@ذا مثل قوله تع@ @ @ @@اىل ‪َ ( :‬والذ َ‬
‫ين َـ‬
‫ِِ‬ ‫ِ‬
‫ين)‪ : 69( .‬العنكبوت)‬ ‫َّه ْم ُس ُبلَنا َوإِ َّن اهللَ ل ََم َع ال ُْم ْحسن َ‬
‫لََن ْهد َين ُ‬
‫ـل َعلَْي ُك ْم فِي الــدِّي ِن ِم ْن َحـ َـر ٍج) هو تعليل لألمر‬ ‫ـ وقوله تع@@اىل ‪ُ ( :‬ه َو ْ‬
‫اجتَبا ُك ْم َوما َج َعـ َ‬
‫باجله@@اد ‪ ،‬وداعية إىل امتث@@ال ه@@ذا األمر ‪ ،‬ألنه ص@@ادر من اهلل ال@ذي «اجت@ىب» أي اخت@@ار ه@@ذه‬
‫األمة ‪ ..‬واصطفاها من بني األمم حلمل رسالة اإلسالم ‪ ،‬آخر الرساالت ‪ ،‬وأكملها ‪ ،‬فهم‬
‫هلذا مطالبون بأن يكون@وا رسال حيمل@ون دع@وة اإلس@الم ‪ ،‬وجن@ودا ي@دافعون عنها ‪ ،‬ويب@ذلون‬
‫ص @هم‬‫النفس واملال ىف س@@بيلها ‪ ..‬إهنا أمانة ‪ ،‬هم أهل حلملها ‪ ،‬إذ قد اجتب@@اهم اهلل هلا ‪ ،‬وخ ّ‬
‫هبا ‪..‬‬
‫مث إن هذه الرسالة ـ رسالة اإلسالم ـ مع ما فيها من دعوة إىل بذل‬
‫‪1106‬‬

‫النفس واملال ‪ ،‬باجله@ @@اد ىف س@ @@بيل اهلل ـ فإهنا رس@ @@الة قائمة على الرمحة والع@ @@دل ‪ ،‬ليس فيها‬
‫ف اهللُ َن ْفساً إِاَّل ُو ْسـ َعها ‪)..‬‬‫حرج ومشقة على أهلها ‪ ،‬إذ أن من أسس@@ها العامة أنه (ال يُ َكلِّ ُ‬
‫وأن كل إنسان حيمل من تكاليفها وأوامرها قدر ما يس@@تطيع ‪ ،‬وىف ه@@ذا الق@@در حتقيق ألدىن‬
‫املطلوب ‪..‬‬
‫وردها‬
‫ففى باب اجلهاد مثال ‪ ،‬يبدأ اجله@اد مبجاه@دة النفس ‪ ،‬وكفها عن احملرم@ات ‪ّ ،‬‬
‫عن األه@ @ @ @ @ @ @@واء والش@ @ @ @ @ @ @@هوات ‪ ،‬وه@ @ @ @ @ @ @@ذا وإن ك@ @ @ @ @ @ @@ان اجله@ @ @ @ @ @ @@اد األكرب ‪ ،‬كما مساه رس@ @ @ @ @ @ @@ول‬
‫اللهصلى‌هللا‌عليه‌وسلم ‪ ،‬فإنه ق@@ريب من كل إنس@@ان ‪ ..‬إنه أق@@رب ش@@ىء إليه ‪ ،‬ال يتكلّف‬
‫له م@ @ @@اال ‪ ،‬وال يب@ @ @@ذل له نفسا ‪ ..‬ومع ه@ @ @@ذا فهو درج@ @ @@ات ‪ ..‬يب@ @ @@دأ ب@ @ @@الكف عن الكب@ @ @@ائر ‪،‬‬
‫وينتهى باالنتهاء عن اللّمم والصغائر ‪..‬‬
‫ومن اجله @ @ @ @@اد مثال ‪ ..‬األمر ب@ @ @ @@املعروف والنهى عن املنكر ‪ ..‬فهو جماه @ @ @ @@دة ب@ @ @ @@القلب‬
‫وباللسان ‪ ،‬ال بالنفس وال باملال ‪..‬‬
‫وىف ب@ @ @ @@اب اجله@ @ @ @@اد ك@ @ @ @@ذلك ‪ ،‬رفع اهلل احلرج عن الض@ @ @ @@عفاء واملرضى ‪ ،‬وأص@ @ @ @@حاب‬
‫ضـ ـ ـ ـع ِ‬
‫فاء َوال َعلَى‬ ‫س َعلَى ال ُّ َ‬ ‫العاه@ @ @ @@ات ‪ ،‬وحنوهم ‪ ،‬وأعف@ @ @ @@اهم من اجله@ @ @ @@اد بأنفس@ @ @ @@هم ‪( ..‬ل َْي َ‬
‫صـ ـ ـ ُحوا لِلَّ ِه َو َر ُسـ ـ ـولِ ِه ما َعلَى‬
‫ج إِذا نَ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ين ال يَ ـجـ ـ ُدو َن ما ُي ْنف ُقـ ـ ــو َن َـحـ ـ َـر ٌ‬
‫َّ ِ‬
‫ال َْم ْرضى ‪َ ،‬وال َعلَى الذ َ‬
‫يل واهلل غَ ُف ِ‬ ‫الْمح ِسنِ ِ‬
‫يم) (‪ : 91‬التوبة) ‪..‬‬ ‫ور َرح ٌ‬ ‫ين م ْن َسبِ ٍ َ ُ ٌ‬ ‫ُْ َ‬
‫وقل مثل ه@ @ @ @@ذا ىف مجيع أوامر الش@ @ @ @@ريعة وأحكامها ‪ ..‬إهنا ش@ @ @ @@ريعة قائمة على اليسر‬
‫ورفع احلرج ‪ ،‬وىف ه@@ذا يق@@ول اهلل تع@@اىل ‪( :‬فَ َّـات ُقوا اهللَ َما ا ْسـتَطَ ْعتُ ْم) (‪ : 16‬التغ@@ابن) أي ىف‬
‫حدود ما حتتمل أنفس@كم ‪ ،‬وما تتسع له طاق@اتكم ‪ ..‬وىف احلديث الش@ريف ‪« :‬إذا أم@رتكم‬
‫ب @@أمر ف @@أتوا منه ما اس @@تطعتم» ‪ ..‬وىف احلديث أيضا ‪« :‬إن ه @@ذا ال @@دين ذل @@ول ال ي @@ركب إال‬
‫ذلوال» أي إن هذا الدين مسح س@@هل ‪ ،‬ال ينتفع به إال إذا أخذ مسحا س@@هال ‪ ،‬تتقبله النف@@وس‬
‫‪ ،‬وتنشرح له الصدور ‪ ..‬شأنه ىف هذا شأن الطعام ‪ ،‬ال يفيد منه اجلسم ‪ ،‬إال إذا طابت له‬
‫‪1107‬‬

‫النفس ‪ ،‬واشتهته ‪ ،‬واستساغت طعمه ‪ ،‬واستطابت مضغه وبلعه ‪..‬‬


‫وىف احلديث أيضا ‪« :‬ال تبغّض إىل نفسك عب@ @ @ @ @ @ @ @@ادة اهلل» وذلك بالقس@ @ @ @ @ @ @ @@وة عليها ‪،‬‬
‫وحبملها على ما هو ش@@اق ‪ ،‬وبني ي@@ديها الق@@ريب امليس@@ور! وىف احلديث ‪« :‬ما خرّي الرس@@ول‬
‫صلوات اهلل وسالمه عليه بني أمرين ‪ ،‬إال اختار أيسرمها» ‪..‬‬
‫يم ‪ )..‬امللة ‪ ،‬الش@@ريعة ‪ ،‬وهى منص@@وبة على اإلغ@@راء‬ ‫ِ َّ ِ ِ ِ‬
‫ـ وقوله تع@@اىل ‪( :‬ملةَ أَبي ُك ْم إبْراه َ‬
‫‪ ..‬أي الزموا هذه امللة ‪ ،‬ملة أبيكم إبراهيم‪.‬‬
‫ـل) أي أنه هو ال@@ذي طلب من اهلل أن‬ ‫ـ وقوله تع@@اىل ‪( :‬هو سـ َّما ُكم الْمسـلِ ِم ِ‬
‫ين م ْن َق ْب ُ‬ ‫َُ َ ُ ُ ْ َ‬
‫تك@ @ @@ون من ذريته تلك األمة املس@ @ @@لمة اليت هى أنتم ‪ ..‬وه@ @ @@ذا ما يشري إليه قوله تع@ @ @@اىل على‬
‫ـك َو ِم ْن ذُ ِّريَّتِنا أ َُّمةً‬
‫اج َعلْنا ُم ْس ـ ـ ـلِ َم ْي ِن لَـ ـ ـ َ‬
‫لس@ @ @@ان إب@ @ @@راهيم وإمساعيل عليهما‌الس الم ‪َ ( :‬ربَّنا َو ْ‬
‫َك) (‪ : 128‬البقرة)‪@.‬‬ ‫ُم ْسلِ َمةً ل َ‬
‫فالداعيان ‪ ،‬مها إبراهيم وإمساعيل ‪ ،‬ودعوهتما ‪ ،‬هى أن يكونا مسلمني هلل وأن جيعل‬
‫منهما ـ أي من إب@ @ @@راهيم ‪ ،‬وإمساعيل ـ أمة مس@ @ @@لمة ‪ ..‬وأن يبعث فيهم رس@ @ @@وال منهم كما‬
‫ث فِي ِه ْم َر ُس ـ ـوالً ِم ْن ُه ْم َي ْتلُـ ــوا َعلَْي ِه ْم‬ ‫يق @ @@ول اهلل تع @ @@اىل على لس @ @@انيهما بعد ذلك ‪َ ( :‬ربَّنا َو ْاب َع ْ‬
‫ت الْع ِزيز ال ِ‬ ‫ْمةَ َو ُي َز ِّكي ِه ْم إِنَّ َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫آياتِ َ‬
‫يم) (‪ : 129‬البقرة) ‪..‬‬ ‫ْحك ُ‬ ‫ك أَنْ َ َ ُ َ‬ ‫ك َو ُي َعلِّ ُم ُه ُم الْك َ‬
‫تاب َوالْحك َ‬
‫فالنىب صلى‌هللا‌عليه‌وسلم ‪ ،‬هو «دع@@وة إب@@راهيم» ـ كما ق@@ال صلى‌هللا‌عليه‌وسلم‬ ‫ّ‬
‫‪« :‬أنا دع@ @@وة إب@ @@راهيم» ‪ ..‬وك@ @@ذلك أبن@ @@اء إب@ @@راهيم من ذرية إمساعيل ‪ ،‬هم األمة املس@ @@لمة ‪،‬‬
‫وهم الدعوة املستجابة إلبراهيم ‪..‬‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫داء َعلَى الن ِ‬
‫َّاس)‪.‬‬ ‫ول َش ِهيداً َعلَْي ُك ْم َوتَ ُكونُوا ُش َه َ‬ ‫( َوفِي هذا لِيَ ُكو َن َّ‬
‫الر ُس ُ‬
‫‪1108‬‬

‫ـل َعلَْي ُك ْم فِي ال ــدِّي ِن ِم ْن‬ ‫اإلش@ @@ارة هنا هبذا ‪ ،‬إىل قوله تع@ @@اىل ‪ُ ( :‬هـ َـو ْ‬
‫اجتَب ــا ُك ْم َوما َج َع ـ َ‬
‫َحـ ـ َـر ٍج) أي وىف ه@ @@ذا االجتب@ @@اء ‪ ،‬ورفع احلرج عنكم ‪ ،‬س@ @@بب ألن يك@ @@ون الرس@ @@ول ش@ @@هيدا‬
‫عليكم وتكونوا شهداء على الناس ‪..‬‬
‫وش@ @ @@هادة الرس@ @ @@ول على أمته ‪ ،‬هو أن يش@ @ @@هد بأنه بلّغ رس@ @ @@الته فيهم ‪ ،‬ودع@ @ @@اهم إىل‬
‫اإلميان باهلل ‪ ،‬وإىل االس@ @ @ @@تقامة على ما ش@ @ @ @@رع اهلل هلم من عب@ @ @ @@ادات وأحك@ @ @ @@ام ‪ ..‬وهو هبذه‬
‫وقصر ‪..‬‬
‫كل من أىب ّ‬ ‫الشهادة يدين ّ‬
‫أما ش@ @ @@هادة ه@ @ @@ذه األمة على الن @ @@اس ‪ ،‬فهى مثل ش@ @ @@هادة الرس@ @ @@ول عليهم ‪ ..‬أي أهنم‬
‫مبنزلة الرسول ىف الناس ‪ ،‬يدعوهنم إىل اهلل ‪ ،‬ويبلغوهنم رسالة اإلس@@الم ‪ ،‬وهم هبذه الش@@هادة‬
‫كل من أىب االستجابة هلم ‪ ،‬والدخول ىف دين اهلل معهم ‪..‬‬ ‫يدينون ّ‬
‫وهذه املنزلة اليت رفع اهلل هبا قدر هذه األمة ‪ ،‬وأعلى هبا شأهنا ىف الناس ‪ ،‬وجعل هلا‬
‫هبا ما للرسل ىف أق@@وامهم ـ ه@@ذه املنزلة العالية الرفيعة ‪ ،‬هى أمانة ‪ ،‬ال حيملها إال أولو الع@@زم‬
‫من الن@@اس ‪ ،‬ومن هنا ك@@ان واجبا على كل مس@@لم أن ينهض حبمل ه@@ذا العبء ‪ ،‬وأن ي@@رى‬
‫الن@ @ @@اس منه ‪ ،‬ىف قوله وعمله ‪ ،‬من اس@ @ @@تقامة اخللق ‪ ،‬واعت@ @ @@دال الس@ @ @@لوك ما ي@ @ @@رى الن@ @ @@اس ىف‬
‫األنبياء والرسل ‪..‬‬
‫فيا ليت قومى يعلمون هذا الشرف العظيم ‪ ،‬الذي قلده اهلل سبحانه وتع@@اىل إي@@اهم ‪،‬‬
‫وه @@ذا ال @@واجب الك @@رمي ال @@ذي أناطه هبم ‪ ،‬وه @@ذا املق @@ام الرفيع ال @@ذي أق @@امهم على الن @@اس فيه‬
‫‪!!..‬‬
‫إن أي مس@@لم ال ي@@رى ـ بعمله ‪ ،‬وعلمه ‪ ،‬وق@@دره ىف الن@@اس ـ أنه ىف مك@@ان القي@@ادة من‬
‫اجملتمع اإلنس@ @ @@اىن ‪ ،‬فهو ليس من اإلس@ @ @@الم ىف ش@ @ @@ىء ‪ ..‬إنه لن يك@ @ @@ون ىف املس@ @ @@لمني ال@ @ @@ذين‬
‫يشهدون على الناس يوم القيامة‪.‬‬
‫‪1109‬‬

‫وقوله تعاىل ‪:‬‬


‫اهلل ُهـ ـ َـو َمـ ـ ْـوال ُك ْم فَنِ ْع َم ال َْمـ ـ ْـولى َونِ ْع َم‬
‫صـ ـ ـموا بِ ِ‬
‫ِ‬ ‫صـ ـ ـالةَ َوآتُ ـ ــوا َّ‬ ‫ِ‬
‫الزك ـ ــاةَ َوا ْعتَ ُ‬ ‫يموا ال َّ‬
‫(فَـ ـ ـأَق ُ‬
‫الن ِ‬
‫َّص ُير)‪.‬‬
‫هو ت @@ذكري برس @@الة املس @@لم ‪ ،‬وبتلك املؤهالت اليت حيقق هبا ه @@ذه الرس @@الة ‪ ،‬ويك @@ون‬
‫من الش @@هداء على الن @@اس ‪ ..‬وذلك ب @@أن يقيم الص @@الة ‪ ،‬وي @@ؤتى الزك @@اة ‪ ،‬وأن يعتصم باهلل ‪،‬‬
‫وجيعل وجوده كلّه هلل ‪ ،‬وباهلل ‪ ..‬وذلك هو الذي يض@@من له عل@ ّ@وا ‪ ،‬ونص@@را وع@ّ@زا ‪َ ( ..‬و َم ْن‬
‫ص ٍ‬
‫راط ُم ْستَ ِق ٍيم)‪.‬‬ ‫اهلل َف َق ْد ُه ِدي إِلى ِ‬
‫صم بِ ِ‬ ‫ِ‬
‫َ‬ ‫َي ْعتَ ْ‬
‫***‬
‫بعونه تعاىل مت اجلزء السابع عشر ‪ ،‬ويليه اجلزء الثامن عشر إن شاء اهلل‬
‫‪1110‬‬

‫‪ 23‬ـ سورة المؤمنون (‪)23‬‬


‫نزوهلا ‪ :‬هى مكية ‪ ..‬إمجاعا‪.‬‬
‫عدد آياهتا ‪ :‬مائة ومثاىن عشرة آية‪.‬‬
‫عدد كلماهتا ‪ :‬ألف ومائتان وأربعون كلمة‪.‬‬
‫عدد حروفها ‪ :‬أربعة آالف ومثامنائة حرف ‪ ،‬وحرف‪.‬‬

‫الرحيم‬
‫الرحمن ّ‬
‫بسم اهلل ّ‬
‫____________________________________‬

‫اآليات ‪ 1( :‬ـ ‪)11‬‬


‫ين ُه ْم َع ِن اللَّ ْغـ ِو‬ ‫َّ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ ِ‬ ‫ِ‬
‫صـالت ِه ْم خاشـعُو َن (‪َ )2‬والذ َ‬ ‫ين ُه ْم في َ‬ ‫(قَ ْد أَ ْفلَ َح ال ُْم ْؤمنُو َن (‪ @ )1‬الذ َ‬
‫وج ِه ْم حـافِظُو َن (‪ )5‬إِالَّ َعلى‬ ‫فاعلُو َن (‪ @)4‬والَّ ِذين ُهم لِ ُفـر ِ‬ ‫كاة ِ‬ ‫لز ِ‬ ‫ين ُه ْم لِ َّ‬ ‫َّ ِ‬ ‫ُم ْع ِر ُ‬
‫َ َ ْ ُ‬ ‫ضو َن (‪َ @)3‬والذ َ‬
‫راء ذلِـ َ‬
‫ـك فَأُولئِـ َ‬ ‫ِ‬ ‫أَ ْز ِ‬
‫ـك ُه ُم‬ ‫ين (‪ @ )6‬فَ َم ِن ْابتَغى َو َ‬ ‫ت أَيْمــا ُن ُه ْم فَـِإ َّن ُه ْم غَْـي ُـر َملُــوم َ‬ ‫واج ِه ْم أ َْو ما َملَ َك ْ‬
‫صـ ـ ـ ـلَواتِ ِه ْم‬ ‫َّ ِ‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫أِل‬ ‫َّ ِ‬
‫ين ُه ْم َعلى َ‬ ‫ين ُه ْم َمان ـ ـ ــات ِه ْم َو َع ْهـ ـ ــده ْم راعُ ـ ـ ــو َن (‪َ @ @ @ @ )8‬والذ َ‬ ‫ـادو َن (‪َ )7‬والذ َ‬ ‫الع ـ ـ ـ ُ‬
‫س ُه ْم فِيها خالِ ُدو َن) (‪)11‬‬ ‫ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫ك ُه ُم الْوا ِرثُو َن (‪ )10‬الذ َ‬
‫ين يَ ِرثُو َن الْف ْر َد ْو َ‬ ‫يُحافِظُو َن (‪ )9‬أُولئِ َ‬
‫____________________________________‬
‫التفسري ‪:‬‬
‫احلج ‪،‬‬
‫يلتقى ب@ @@دء ه@ @@ذه الس@ @@ورة مع خامتة س@ @@ورة احلج قبلها ‪ ..‬فقد ختمت س@ @@ورة ّ‬
‫هبذا اخلط@@اب الع@@ام للمؤم@@نني ‪ ،‬ال@@ذين اص@@طفاهم اهلل واجتب@@اهم ‪ ،‬وقد تض@@من ه@@ذا اخلط@@اب‬
‫دع@ @ @ @ @@وة إىل إقامة الص@ @ @ @ @@الة ‪ ،‬وإيت@ @ @ @ @@اء الزك@ @ @ @ @@اة واالعتص@ @ @ @ @@ام باهلل ‪ ..‬مث ختم بقوله تع@ @ @ @ @@اىل ‪:‬‬
‫اهلل ُهو موال ُكم فَنِ ْعم الْمولى ونِ ْعم الن ِ‬
‫َّص ُير)‪.‬‬ ‫ِ ِ ِ‬
‫( َوا ْعتَص ُموا ب َ َ ْ ْ َ َ ْ َ َ‬
‫‪1111‬‬

‫صـالتِ ِه ْم‬ ‫ِ‬ ‫َّ ِ‬ ‫ِ‬


‫وب@@دء س@@ورة ‪« :‬املؤمن@@ون» بقوله تع@@اىل ‪( :‬قَ ْد أَ ْفلَ َح ال ُْم ْؤمنُو َن الذ َ‬
‫ين ُه ْم في َ‬
‫ض ـو َن ‪ )...‬إىل آخر اآلي @@ات ـ هو اس @@تقبال ك @@رمي هلؤالء‬ ‫ين ُه ْم َع ِن اللَّغْ ـ ِو ُم ْع ِر ُ‬ ‫َّ ِ‬ ‫ِ‬
‫خاش ـعُو َن َوالذ َ‬
‫املؤم@ @@نني ال@ @@ذين دع@ @@وا إىل اهلل ‪ ،‬واس@ @@تجابوا لدعوته ‪ ،‬وآمن@ @@وا به ‪ ..‬فه@ @@ؤالء املؤمن@ @@ون ‪ ،‬قد‬
‫معجل البشريات هلم ىف هذه الدنيا‪.‬‬ ‫أفلحوا ‪ ،‬وفازوا برضوان اهلل ‪ ..‬وكان هذا اخلرب من ّ‬
‫@ؤدون‬ ‫ومن ص@ @@فات ه@ @@ؤالء املؤم@ @@نني املفلحني ‪ ،‬أهنم ىف ص@ @@الهتم خاش@ @@عون ‪ ..‬أي ي@ @ ّ‬
‫ص@ @@الهتم ىف خش@ @@وع ‪ ،‬وخش@ @@ية ‪ ،‬ووالء ‪ ..‬إهنا ص@ @@الة تفيض من قلب خاشع جلالل اهلل ‪،‬‬
‫راهب لعظمته ‪ ،‬فكي@ @ @ @@ان املؤمن كله ‪ ،‬ووجدانه مجيعه ‪ ،‬وهو ق@ @ @ @@ائم ىف حمراب الص@ @ @ @@الة ـ‬
‫مشتمل عليه هذا اجلالل ‪ ،‬مستولية عليه تلك الرهبة‪.‬‬
‫ومن أجل هذا كان لتلك الصالة اخلاشعة الضارعة أثرها العظيم ‪ ،‬ىف إيق@اظ مش@@اعر‬
‫اخلري ىف املص @ @ @@لني ‪ ،‬وىف تص @ @ @@فية أنفس @ @ @@هم من وس@ @ @@اوس الس @ @ @@وء ‪ ..‬فهم هلذا ‪َ ( :‬ع ِن اللَّغْ ـ ـ ـ ِو‬
‫ضو َن) أي ال يقبل@@ون اللّغو ‪ ،‬وال يتع@@املون به ‪ ..‬ف@إذا نطق@@وا ‪ ،‬نطق@@وا خ@@ريا أو س@@كتوا ‪،‬‬ ‫ُم ْع ِر ُ‬
‫وإذا مسعوا ‪ ،‬مسعوا حس @@نا أو انص @@رفوا ‪ ..‬إهنم ـ وقد ص @@فت نفوس @@هم ‪ ،‬وطه @@رت قل @@وهبم ـ‬
‫ـاعلُو َن) أي‬ ‫ـاة فـ ِ‬
‫لزكـ ِ‬
‫ليعافون موارد اللّغو ‪ ،‬من القول التافه ‪ ،‬أو احلديث الباطل ‪ ..‬مث هم (لِ َّ‬
‫ي@ @@ؤدون زك@ @@اة أم@ @@واهلم ‪ ،‬ويش@ @@اركون الفق@ @@راء واحملت@ @@اجني فيما رزقهم اهلل من فض@ @@له ‪ ،‬فال‬
‫يضنّون مبا ىف أيديهم ‪ ،‬وال يؤثرون أنفسهم مبا معهم ‪..‬‬
‫وىف التعبري عن أدائهم للزك @@اة ‪ ،‬ب @@أهنم ف @@اعلون هلا ـ إش @@ارة إىل أن الزك @@اة ليست من‬
‫نافلة األعم@ @@ال ‪ ،‬اليت تص@ @@در عن غري وعى أو ش@ @@عور من اإلنس@ @@ان ‪ ،‬بل إهنا ش @@ىء عظيم ‪،‬‬
‫حيتاج إىل يقظة كاملة ممن يؤديها ‪ ..‬وذلك من وجوه ‪:‬‬
‫فأوال ‪ :‬نظره إىل اجملتمع الذي حوله ‪ ،‬وإىل اجلوانب الضعيفة منه ‪ ،‬وإىل‬
‫‪1112‬‬

‫ذوى الض@ @ @ @ @ ّ@ر واحلاجة من أف@ @ @ @ @@راده ‪ ،‬فيعمل على س @ @ @ @ @ ّد ه@ @ @ @ @@ذا اخللل ‪ ،‬وتقوية تلك اجلوانب‬
‫ودعمها ‪ ،‬مبا بني يديه من مال‪.‬‬
‫وثانيا ‪ :‬نظره إىل هذا املال الذي ىف يده ‪ ،‬ومحل نفسه على ال ّس@ماح والب@@ذل ىف كل‬
‫وجه ن @@افع طيب ‪ ..‬وذلك حىت ال تغلبه نفسه على الض @ ّ@ن به ‪ ،‬والوق @@وف عند ح@ @ ّد الزك @@اة‬
‫الواجبة‪.‬‬
‫جادا ‪ ،‬حيت@@اج إىل كل ما حيت@@اج إليه العمل‬ ‫ومن هنا كانت الزكاة «فعال» أي عمال ّ‬
‫اجلاد ‪ ،‬من إمع@@ان نظر ‪ ،‬وب@@ذل جهد ‪ ..‬وليست جمرد ص@@دقة طارئة ‪ ،‬تط@@رق املتص@@دق بني‬ ‫ّ‬
‫احلني واحلني ‪ ،‬أو تلق@@اه على رأس كل ع@@ام ‪ ،‬وإمنا هى «فع@@ل» متصل ‪ ،‬يش@@غل به اإلنس@@ان‬
‫ىف كل حلظة من حلظ@@ات حياته ‪ ..‬وب@@ذلك يك@@ون على ص@@لة دائمة ب@@اجملتمع ال@@ذي يعيش فيه‬
‫حيس بإحساسه ‪ ،‬ويتح @ @ @ @ @ @ @@رك معه ىف االجتاه ال @ @ @ @ @ @ @@ذي يتح @ @ @ @ @ @ @@رك فيه ‪ ،‬وحيمل مهوم ذوى‬ ‫‪ّ ..‬‬
‫هم املس@@لمني فليس‬ ‫احلاج@@ات واهلم@@وم من مجاعة املس@@لمني ‪ ..‬وىف احلديث ‪« :‬من مل حيمل ّ‬
‫منهم»‪.‬‬
‫وج ِه ْم حـ ـ ــافِظُو َن) أي أهنم كما حفظ @ @@وا‬ ‫ومن ص @ @ @@فات ه @ @ @@ؤالء املؤم @ @ @@نني أهّن م (لِ ُفـ ـ ــر ِ‬
‫ُ‬
‫ألس@@نتهم عن اللغو ‪ ،‬وكف@@وا ج@@وارحهم عن الشر واألذى ـ حفظ@@وا ف@@روجهم من ال @ ّدنس ‪،‬‬
‫ولزموا هبا جانب الع ّفة والطهارة ‪..‬‬
‫ِ‬ ‫وقوله تع@ @ @@اىل ‪( :‬إِاَّل َعلى أَ ْز ِ‬
‫ين) هو‬ ‫ت أَيْم ـ ــا ُن ُه ْم فَـ ـ ـِإ َّن ُه ْم غَْيـ ـ ُـر َملُ ـ ــوم َ‬
‫واج ِه ْم أ َْو ما َملَ َك ْ‬
‫استثناء من حفظ الفروج عن االتصال بالنّساء ‪ ،‬والتعفف عنهن ‪ ..‬فليس ه@@ذا على إطالقه‬
‫‪ ،‬وإمنا لف@@روجهم ما أح@ ّ@ل من أزواج ‪ ،‬ومما ملكت اليمني من ج@@وار ‪ ..‬فه@@ذا ال ل@@وم عليهم‬
‫فيه ‪ ..‬متاما كاإلمساك عن اللغو من الكالم ‪ ،‬مع إباحة احلديث الطيب من القول ‪..‬‬
‫ِ‬
‫ين) ما يشعر برفع احلظر عن أمر كان حمظورا ‪،‬‬ ‫ـ وىف قوله تعاىل ‪( :‬فَِإ َّن ُه ْم غَْي ُر َملُوم َ‬
‫وبدفع اللوم عن أمر كان إتيانه موضع لوم ‪ ..‬فكيف هذا؟ واهلل‬
‫‪1113‬‬

‫سبحانه وتعاىل جعل الص@@لة بني الرجل واملرأة من النعم اليت أنعم اهلل هبا على عب@@اده ‪ ،‬فق@@ال‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬
‫تع @@اىل ‪َ ( :‬وم ْن آيات ــه أَ ْن َخلَ ـ َـق لَ ُك ْم م ْن أَْن ُفس ـ ُك ْم أَ ْزواج ـاً لتَ ْس ـ ُكنُوا إل َْيها َو َج َعـ َ‬
‫ـل َب ْينَ ُك ْم َمـ َـو َّدةً‬
‫َو َر ْح َمةً؟) (‪ : 21‬الروم)‬
‫واجلواب على هذا ـ واهلل أعلم ـ هو أن اإلنسان ىف ص@@ورته احليوانية ‪ ،‬مب@@اح له إباحة‬
‫مطلقة ‪ ،‬أن يتصل ب@@املرأة أيا ك@@انت ‪ ،‬ش@@أنه ىف ه@@ذا ش@@أن احلي@@وان ىف اتص@@ال ال@@ذكر ب@@األنثى‬
‫‪ ..‬بال قيد وال حد ‪..‬‬
‫@دس ىف كيانه ه@@ذا احلي@@وان ‪ ،‬قد أراد اهلل س@@بحانه له ‪ ،‬أن‬ ‫ولكن اإلنس@@ان ‪ ،‬ال@@ذي ين@ ّ‬
‫يعلو بإنس@ @@انيته ‪ ،‬ويرتفع إىل مس@ @@توى ك@ @@رمي ‪ ،‬يك@ @@ون فيه أق@ @@رب إىل الع@ @@امل العل@ @@وي منه إىل‬
‫العامل األرضى ‪ ..‬وذلك ال يكون إال بأن خيرج من مسالخ احليوان ‪ ،‬أو يقتل ه@@ذا احلي@@وان‬
‫@دس ىف كيانه ‪ ..‬وذلك من مظ@ @@اهره أال تك@ @@ون ص@ @@لته ب@ @@األنثى ش@ @@بيهة بص@ @@لة احلي@ @@وان ‪،‬‬ ‫املن@ @ ّ‬
‫املطلقة من كل قيد ‪!..‬‬
‫ولكن اإلنس@ @ @@ان مهما يكن ‪ ،‬ال ميكن أن ينس@ @ @@لخ من اجلانب احلي@ @ @@واين ال@ @ @@ذي فيه ‪،‬‬
‫وهو على هذا ال@رتكيب اجلس@دى ‪ ،‬ال@ذي تتح@رك فيه ش@هوة داعية إىل اتص@ال الرجل ب@املرأة‬
‫‪..‬‬
‫فك@ @@ان من ت@ @@دبري اهلل س@ @@بحانه وتع@ @@اىل أن وقف باإلنس @ @@ان موقفا وس@ @@طا ‪ ،‬يأخذ فيه‬
‫وضعا مالئما لإلنسان واحليوان معا ‪ ..‬فقيد اإلنس@@ان هبذا القيد ال@ذي ألزمه ح@دود إنس@انيته‬
‫‪ ،‬مث ن ّفس عنه بعض الش@ @ @ @ @@يء ‪ ،‬فجعل هلذا اجلسد ىف اإلنس@ @ @ @ @@ان حظّه من املرأة ىف ح@ @ @ @ @@دود‬
‫مرس @@ومة ال يتع @@داها ‪ ،‬وهو أن يتخذ له ام @@رأة ‪ ،‬أو أك @@ثر إىل أربعة ‪ ،‬ممن أح @ ّ@ل اهلل له ‪ ..‬أو‬
‫ما يشاء من النساء ‪ ،‬ممن ملكتهن يده!‬
‫األصل إذن ‪ ،‬احلرمة املطلقة ىف اتص @ @@ال الرجل ب @ @@املرأة عموما ‪ ..‬مث اإلباحة ىف ه @ @@ذا‬
‫النط@ @@اق الض@ @@يق احملدود ‪ !..‬أو قل ‪ :‬األصل هو اإلباحة املطلقة من كل قيد ‪ ،‬مث ه@ @@ذا القيد‬
‫الوارد على هذا اإلطالق ‪ ..‬وذلك حسب أي النظرتني بنظر هبا‬
‫‪1114‬‬

‫إىل اإلنسان ‪ ..‬فإن نظر إليه على أنه إنسان يسمو بإنسانيته عن االنتساب إىل عامل احلي@@وان‬
‫ـ ك@ @ @@ان على مس@ @ @@توى التق@ @ @@دير األول ‪ ،‬وإن نظر إليه على أنه حي@ @ @@وان ‪ ،‬يريد أن يتحسس‬
‫طريقه إىل اإلنسان ـ كان على مستوى التقدير الثاين‪.‬‬
‫وانظر ‪ :‬إنه لو ت@ @ @@رك لإلنس@ @ @@ان احلبل على الغ@ @ @@ارب ‪ ،‬لك@ @ @@ان له أن يتصل بأية ام@ @ @@رأة‬
‫هبن ‪،‬‬
‫يري@ @@دها ويش @ @@تهيها ‪ ..‬وه@ @@ذا من ش @ @@أنه أن جيعل مجيع النس@ @@اء مباح@ @@ات له ‪ ..‬يتصل ّ‬
‫بوسيلة أو بأخرى ‪..‬‬
‫وه @@ذا الق @@در احملدود املب @@اح له من النس @@اء ‪ ،‬هو اس @@تثناء من ه @@ذا احلظر الع @@ام ‪ ،‬وهو‬
‫بالقياس إىل احلظر العام ‪ ،‬ال يك@اد يع@ ّد ش@يئا ‪ ،‬حيسب حس@ابه‪ .‬حىت لك@أن احلظر الع@ام ق@ائم‬
‫‪..‬‬
‫ِ‬
‫ين) ت @@ذكري هبذه النعمة ‪ ،‬اليت أت @@احت لإلنس @@ان أن‬ ‫فقوله تع @@اىل ‪( :‬فَ ـِإ َّن ُه ْم غَْيـ ُـر َملُ ــوم َ‬
‫يتصل ب @@املرأة ىف ه @@ذه احلدود ‪ ،‬وهى وإن وج @@دها ض @@يقة ‪ ،‬ال تش @@بع جوعه احلي @@واين ‪ ،‬ف @@إن‬
‫عليه أن يذكر أنه إنسان ‪ ،‬وأنه كان من مطلب اجلانب الروحي منه ‪ ،‬أال يكون هناك هذا‬
‫املنفذ ال@ @ @@ذي ينفذ منه إىل املرأة ‪ ..‬ومع ذلك فإنه غري مل @ @ @@وم ىف االتص @ @ @@ال ب @ @ @@املرأة ىف ه@ @ @@ذه‬
‫احلدود ‪ ،‬وإن ج@@ار ه@@ذا على اجلانب ال@@روحي منه ‪ ،‬وه@@ذا كله يعىن القصد ىف ه@@ذا األمر ‪،‬‬
‫واالعتدال فيه ‪ ،‬وأال يكون اإلنسان على سواء مع احليوان!‬
‫ـادو َن) ـ حتذير من جماوزة‬ ‫ـك ُه ُم الع ـ ُ‬ ‫راء ذلِ ـ َ‬
‫ـك فَأُولئِ ـ َ‬ ‫وىف قوله تع @@اىل ‪( :‬فَ َم ِن ْابتَغى َو َ‬
‫ه@ @ @@ذه احلدود ‪ ،‬واالنطالق إىل ماوراءها ‪ ،‬ف@ @ @@إن ذلك هو دخ@ @ @@ول ىف ع@ @ @@امل احلي@ @ @@وان باربعة‬
‫أرجل ‪ ،‬وهو عدوان على إنسانية اإلنسان ‪ ،‬واعتداء على حدود اهلل!‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫ين ُه ْم أِل َماناتِ ِه ْم َو َع ْه ِد ِه ْم راعُو َن) ـ هو من صفات هؤالء املؤمنني‬ ‫َّ ِ‬
‫( َوالذ َ‬
‫‪1115‬‬

‫ال@ذين وص@فهم اهلل س@بحانه وتع@@اىل ب@الفالح ‪ ..‬فمن ص@@فات ه@ؤالء املؤم@@نني ـ مع ما وص@فوا‬
‫به من قبل ـ أهنم يرع@@ون األمان@@ات ‪ ،‬وحيفظ@@ون العه@@ود ‪ ..‬ومن األمان@@ات ‪ ،‬والعه@@ود ‪ ،‬ه@@ذه‬
‫التك @@اليف اليت كلّف هبا اإلنس @@ان ‪ ،‬وه @@ذه األوامر اليت أمر هبا ‪ ..‬ورعاية ه @@ذه التك @@اليف ‪،‬‬
‫وتلك األوامر ‪ ،‬هو القي@@ام عليها ‪ ،‬وال@@تزام ح@@دودها ‪ ..‬واخلروج عليها ‪ ،‬هو ع @@دوان عليها‬
‫‪ ،‬وعلى اهلل سبحانه!‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫صـ ـلَواتِ ِه ْم يُح ــافِظُو َن) ـ هو من ص @@فات املؤم @@نني املفلحني أيضا ‪..‬‬ ‫ين ُه ْم َعلى َ‬
‫َّ ِ‬
‫( َوالذ َ‬
‫وهو حمافظتهم على الص@ @ @ @ @@لوات ‪ ،‬وأداؤها ىف أوقاهتا ‪ ،‬بعد أن وص@ @ @ @ @@فوا من قبل ب@ @ @ @ @ @أهّن م ىف‬
‫صالهتم خاشعون ‪..‬‬
‫وق@@دمت اخلش@@ية ىف الص@@الة ‪ ،‬على احملافظة عليها ‪ ..‬ألن اخلش@@ية هى املطل@@وب األول‬
‫حمصل هلا ‪ ،‬وال مثرة منها ‪..‬‬ ‫من الصالة ‪ ،‬وأن صالة بغري خشوع وخشية ‪ ،‬ال ّ‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫س ُه ْم فِيها خالِ ُدو َن)‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫ك ُه ُم الْوا ِرثُو َن ‪ ،‬الذ َ‬
‫ين يَ ِرثُو َن الْف ْر َد ْو َ‬ ‫(أُولئِ َ‬
‫هو بيان للجزاء احلسن ‪ ،‬الذي جيزى اهلل سبحانه وتعاىل به املؤمنني ‪ ،‬ال@@ذين وص@@فوا‬
‫هبذه الص@ @ @@فات ‪ ،‬وهو ما يكشف عن فالحتهم ‪ ،‬وف@ @ @@وزهم ‪ ،‬وإنه ال فالح أعظم من ه @ @@ذا‬
‫الفالح! وال فوز أكرم من هذا الفوز ‪!..‬‬
‫وأي فالح أعظم ‪ ،‬وأي ف@@وز أك@@رم ‪ ،‬من أن تك@@ون اجلنة مرياثا خال@@دا أب@@دا ‪ ،‬يعيش‬
‫فيه أولئك املؤمنون املفلحون!‬
‫‪1116‬‬

‫____________________________________‬

‫اآليات ‪ 12( :‬ـ ‪)22‬‬


‫( َولََقـ ـ ْد َخلَ ْقنَا اإْلِ نْس ــا َن ِم ْن ُسـ ـالل ٍَة ِم ْن ِطي ٍن (‪ )12‬ثُ َّم َج َع ْلن ــاهُ نُطْ َفـ ـ ةً فِي قَ ــرا ٍر َم ِكي ٍن (‬
‫ـام‬ ‫ِ‬ ‫ضـ ـغَةً فَ َخلَ ْقنا الْم ْ ِ‬ ‫‪ @ @)13‬ثُ َّم َخلَ ْقنَا النُّطْ َفـ ـ ةَ َعلَ َقـ ـ ةً فَ َخلَ ْقنَا ال َْعلَ َقـ ـ ةَ ُم ْ‬
‫سـ ـ ْونَا الْعظ ـ َ‬ ‫ضـ ـغَةَ عظامـ ـاً فَ َك َ‬ ‫َ ُ‬
‫ـك ل ََميِّتُـو َن (‬‫ين (‪ @)14‬ثُ َّم إِنَّ ُك ْم َب ْعـ َد ذلِ َ‬ ‫ِِ‬
‫س ُن الْخالق َ‬ ‫َح َ‬ ‫بار َك اهللُ أ ْ‬ ‫آخ َر َفتَ َ‬ ‫شأْناهُ َخلْقاً َ‬ ‫َحماً ثُ َّم أَنْ َ‬‫لْ‬
‫يام ِة ُت ْب َعثُو َن (‪َ )16‬ولََق ْد َخلَ ْقنا َف ْوقَ ُك ْم َس ْب َع طَرائِ َق َوما ُكنَّا َع ِن الْ َخل ِْق‬ ‫ِ‬
‫‪ )15‬ثُ َّم إِنَّ ُك ْم َي ْو َم الْق َ‬
‫هاب بِ ِه ل ِ‬ ‫َس َكنَّاهُ فِي اأْل َْر ِ‬ ‫غافِلِين (‪ @)17‬وأَ ْنزلْنا ِمن َّ ِ‬
‫َقاد ُرو َن‬ ‫ض َوإِنَّا َعلى َذ ٍ‬ ‫ماء بَِق َد ٍر فَأ ْ‬ ‫السماء ً‬ ‫َ َ َ‬ ‫َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ناب لَ ُك ْم فيها فَواكهُ َكث َيرةٌ َوم ْنها تَأْ ُكلُو َن (‪)19‬‬ ‫ِ‬ ‫يل َوأَ ْع ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫شأْنا لَ ُك ْم بِه َجنَّات م ْن نَخ ٍ‬ ‫(‪ )18‬فَأَنْ َ‬
‫ين (‪َ @ @)20‬وإِ َّن لَ ُك ْم فِي اأْل َنْع ـ ِـام‬ ‫ِ ِ ِِ‬ ‫ت بِال ــد ْ‬ ‫و َش ـجر ًة تَ ْخــر ِ‬
‫ُّه ِن َوص ـ ْب ٍغ لآْل كل َ‬ ‫ج م ْن طُ ــو ِر َس ـ ْي َ‬
‫ناء َت ْنبُ ُ‬ ‫ُُ‬ ‫َ ََ‬
‫ـيرةٌ َوِم ْنها تَ ـأْ ُكلُو َن (‪َ )21‬و َعلَْيها َو َعلَى‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ ِ‬
‫لَع ْبـ َـر ًة نُ ْس ـقي ُك ْم م َّما في بُطُونها َولَ ُك ْم فيها َمن ــاف ُع َكث ـ َ‬
‫ِ‬
‫ْك تُ ْح َملُو َن) (‪)22‬‬ ‫الْ ُفل ِ‬
‫____________________________________‬
‫التفسري ‪:‬‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫( َولََق ْد َخلَ ْقنَا اإْلِ نْسا َن ِم ْن ُسالل ٍَة ِم ْن ِطي ٍن)‪.‬‬
‫مناسبة هذه اآلية ملا قبلها ‪ ،‬هى أن اآلي@ات الس@@ابقة من متفتح الس@@ورة إىل ه@ذه اآلية‬
‫‪ ،‬قد كانت عرضا ‪ ،‬مسعدا للمؤمنني املفلحني ‪ ،‬ال@@ذين آمن@@وا باهلل ‪ ،‬واس@@تقاموا على طريقه‬
‫املستقيم ‪ ..‬وىف مقابل هذا العرض ك@انت ت@رتاءى ص@ورة الض@الني والغ@اوين ‪ ،‬ال@ذين كف@روا‬
‫به ‪ ،‬وحادوا عن سواء السبيل ‪ ..‬وإىل هذه‬
‫‪1117‬‬

‫الصورة كانت تتطلع كثري من النفوس إىل هيئتها اليت تكون عليها ‪ ،‬لو أهنا أطلّت بوجهها‬
‫‪ ،‬وكشفت عن ح@ال أص@حاهبا ‪ ،‬كما كش@@فت الص@@ورة الس@ابقة عن املؤم@@نني ‪ ،‬وعن ح@اهلم‬
‫الطيبة املس@ @ @ @ @@عدة ‪ ..‬ف@ @ @ @ @@املؤمنون باهلل ينظ@ @ @ @ @@رون إىل من خلّف@ @ @ @ @@وهم وراءهم على طريق الكفر‬
‫والض@ @@الل ‪ ،‬ل@ @@ريوا ما ص@ @@نع اهلل هبم ‪ ..‬وغري املؤم@ @@نني ‪ ،‬ينظ@ @@رون إىل مك@ @@انتهم بعد أن رأوا‬
‫املؤمنني ‪ ،‬وقد ورثوا جنات النعيم‪.‬‬
‫ولكن ك@ان من رمحة اهلل هبؤالء الض@الني الغ@اوين ‪ ،‬أن حجب عنهم ص@ورهتم الس@يئة‬
‫املنك@@رة ‪ ،‬ومل يكشف هلم عن املصري املش@@ئوم ال@@ذي هم ص@@ائرون إليه ‪ ،‬إذا وقف@@وا حيث هم‬
‫على موارد الضالل والغواية‪.‬‬
‫وب @ @@دال من أن يكشف اهلل هلم عن ح @ @@اهلم الس @ @@يئة ‪ ،‬وي @ @@نزهلم من @ @@ازل اهلون والبالء ـ‬
‫دع@ @ @ @@اهم إليه ‪ ،‬ومنحهم فرصة أخ@ @ @ @@رى ‪ ،‬يراجع@ @ @ @@ون فيها أنفس@ @ @ @@هم ‪ ،‬ويت@ @ @ @@دبرون ح@ @ @ @@اهلم ‪،‬‬
‫ويرجعون إىل اهلل من قريب ‪ ،‬ليكونوا ىف املؤمنني املفلحني ‪ ،‬فعرض عليهم س@@بحانه وتع@@اىل‬
‫شيئا من مظاهر قدرته ‪ ،‬وعلمه ‪ ،‬وحكمته ‪ ..‬جيدوهنا ـ لو عقلوا ـ ىف أقرب شىء إليهم ‪..‬‬
‫ىف أنفس@هم ‪ ،‬وىف عج@ائب ق@درة اهلل ‪ ،‬وب@الغ حكمته ‪ ..‬إذ أخ@رج من ال@رتاب ه@ذا اإلنس@ان‬
‫‪ ،‬الس @ @ @@ميع البصري ‪ ،‬العاقل ‪ ،‬الن @ @ @@اطق ‪ ،‬ال @ @ @@ذي عمر ه @ @ @@ذه األرض ‪ ،‬وتس@ @ @ @لّط على حيواهنا‬
‫ونباهتا ومجادها ‪..‬‬
‫ففى ه @@ذه النظ @@رة اليت ينظر هبا اإلنس @@ان إىل نفسه ‪ ،‬وإىل أصل نش @@أته ‪ ،‬وتط @@وره ىف‬
‫احلي@@اة ‪ ،‬وتنقله ىف اخللق ـ ىف ه@@ذه النظ@@رة ‪ ،‬ي@@رى اإلنس@@ان أن ي@@دا حكيمة ق@@ادرة ‪ ،‬هى اليت‬
‫أوجدته ‪ ،‬وأخرجته على ه @@ذه الص @@ورة ‪ ،‬اليت ال وجه للش @@به بينها وبني ه @@ذا ال @@رتاب اهلامد‬
‫ال@@ذي ول@@دت منه ‪ ..‬فكيف ال ي@@وىل اإلنس@@ان وجهه إىل ال@@ذي فط@@ره وص@ ّ@وره ‪ ،‬وأقامه على‬
‫هذا العامل األرضى خليفة هلل فيه؟ وكيف ال ي@@دين خلالقه ورازقه بالطاعة وال@@والء؟ مث كيف‬
‫يعطى يديه ‪ ،‬ويس@ @ @@لم زمامه ألحج@ @ @@ار ينحتها ‪ ،‬أو حلي@ @ @@وان يربيه ‪ ،‬أو إلنس@ @ @@ان هو خمل@ @ @@وق‬
‫مثله؟ ذلك ضالل مبني‪.‬‬
‫‪1118‬‬

‫واحندار سريع إىل عامل الرتاب ‪ ،‬مع اهلوام واحلشرات!‬


‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫( َولََق ْد َخلَ ْقنَا اإْلِ نْسا َن ِم ْن ُسالل ٍَة ِم ْن ِطي ٍن)‪.‬‬
‫الس@@اللة ‪ :‬األصل ‪ ،‬وكأهنا السلس@@لة اليت ميتد عليها أصل الش@@يء ‪ ،‬ويصل بني مبدئه‬
‫مر ىف أطوار كثرية بني عامل الرتاب ‪ ،‬وس@@ار مس@@رية‬ ‫وغايته ‪ ،‬وهذا يشري إىل أن اإلنسان قد ّ‬
‫طويلة ىف سلسلة متصلة احللق@@ات ‪ ..‬من ال@@رتاب إىل الطني ‪ ،‬مث من الطني إىل احلمأ املس@@نون‬
‫‪ ،‬مث من احلمأ املس @@نون إىل الصلص @@ال ‪ ،‬كما يق @@ول تع @@اىل على لس @@ان إبليس ـ لعنه اهلل ـ ‪:‬‬
‫ون) (‪ : 33‬احلج@@ر) ‪ ..‬مث من‬ ‫ـال ِمن حمـٍإ مسـنُ ٍ‬
‫ش ٍر َخلَ ْقتَــهُ ِم ْن َ ٍ‬ ‫َس ُج َد لِبَ َ‬ ‫أِل‬
‫ص ْلصـ ْ َ َ َ ْ‬ ‫َم أَ ُك ْن ْ‬ ‫قال ل ْ‬
‫( َ‬
‫ه@ @@ذا الصلص@ @@ال إىل ع@ @@امل النب@ @@ات ‪ ..‬من الطح @@الب ‪ ..‬إىل النخلة ‪ ،‬مث من ع@ @@امل النب@ @@ات إىل‬
‫احليوان ‪ ،‬من اجلرثومة ‪ ..‬إىل اإلنسان ‪!..‬‬
‫وقد عرضنا لقضية خلق اإلنسان ىف اجلزء األول من هذا التفسري ‪..‬‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫(ثُ َّم َج َعلْناهُ نُطْ َفةً فِي قَرا ٍر َم ِكي ٍن)‪.‬‬
‫هو إشارة إىل أن هذا اإلنسان الذي أخرجته القدرة اإلهلية من بني هذا الرتاب بشرا‬
‫س@ @ @@ويّا ‪ ،‬ما هو إال ه@ @ @@ذه النطفة اليت اختص@ @ @@رت وج@ @ @@وده كله ‪ ،‬واش@ @ @@تملت على كل ما ىف‬
‫كيانه من ق@@وى عاقلة ‪ ،‬ناطقة ‪ ،‬مبص@@رة ‪ ،‬مسيعة ‪ ،‬مري@@دة ‪ ،‬فما النطفة إال اإلنس@@ان مض@@مرا‬
‫ىف كياهنا ‪ ،‬وما اإلنسان إال النطفة ساحبا ىف حميطها متحركا ىف فلكها ‪..‬‬
‫املنوى ‪ ،‬الذي ميتد بني‬
‫ّ‬ ‫والقرار املكني ‪ ،‬املودعة فيه النطفة ‪ ،‬هو احلبل‬
‫‪1119‬‬

‫فقار الظهر ‪ ،‬وأضالع الصدر ‪ ،‬كما يقول تعاىل ‪َ ( :‬فلْي ْنظُ ِر اإْلِ نْسا ُن ِم َّم ُخلِق ُخلِـق ِمن م ٍ‬
‫ـاء‬ ‫َ َ ْ‬ ‫َ‬
‫ْب َوالتَّرائِ ِب) (‪ 5‬ـ ‪ : 7‬الطارق)‪.‬‬ ‫ج ِم ْن َب ْي ِن ُّ‬
‫الصل ِ‬ ‫ِ‬
‫داف ٍق يَ ْخ ُر ُ‬
‫تستقر فيه النطفة ‪..‬‬ ‫وقد يكون القرار املكني ‪ ،‬هو الرحم الذي ّ‬
‫وبني خلق اإلنس @@ان من طني ‪ ،‬وبني جعله نطفة ىف ق @@رار مكني ‪ ،‬مقابلة ‪ ،‬بني نش @@أة‬
‫اإلنس @@ان األول من الطني ‪ ،‬وبني عملية التوالد ‪ ،‬اليت هى وظيفة عض @@وية من وظ @@ائف ه @@ذا‬
‫اإلنسان ‪..‬‬
‫فالنش @ @@أة األوىل ‪ ،‬من ال @ @@رتاب ‪ ..‬وىف ه @ @@ذا ال @ @@رتاب ك @ @@انت تكمن جرثومة اإلنس@ @@ان‬
‫األول كما تكمن النطفة ىف هذا القرار املكني من اإلنسان ‪..‬‬
‫ولكن شتان بني نطفة ونطفة!‬
‫فالنطفة اليت ختلّق منها اإلنس@@ان األول ك@@انت من م@@ادة ه@@ذه األرض كلها ‪ ..‬واملدى‬
‫بعيد شاسع بني م@ @@ادة األرض ‪ ،‬وبني ه@ @@ذا اإلنس@ @@ان املتخلق من املادة ‪ ..‬وهلذا ج@ @@اء التعبري‬
‫القرآىن املعجز عن هذه العملية بلفظ «اخللق» ‪َ ( :‬ولََق ْد َخلَ ْقنَا اإْلِ نْسا َن ‪)..‬‬
‫أما نطفة اإلنسان ‪ ،‬وما يتخلّق من هذه النطفة من كائن بشرى مثل هذا اإلنس@@ان ‪،‬‬
‫فاملس @ @@افة بينهما قريبة ىف م @ @@رأى العني البش @ @@رية ‪ ،‬وىف مواجهة الش @ @@واهد الكث @ @@رية هلذا ‪ ..‬ىف‬
‫عامل النبات واحليوان ‪ ..‬حيث خترج احلبّة نباتا مثل ه@@ذا النب@@ات ال@ذي ج@اءت منه ‪ ،‬وخيرج‬
‫احلي@ @@وان من نطفته حيوانا مثله ‪ ..‬وهلذا ج@ @@اء التعبري الق@ @@رآىن املعجز عن ه@ @@ذه العملية بلفظ‬
‫جع @ @@ل‪( .‬ثُ َّم َج َع ْلنـ ــاهُ نُطْ َفـ ـ ـ ةً ‪ )..‬واجلعل دون اخللق ‪ ،‬إذ هو وظيفة من وظ @ @@ائف املخل @ @@وق ‪،‬‬
‫ـل لِباسـ ـ ـاً‬ ‫َّ‬
‫وذلك مثل قوله تع @ @@اىل ‪َ ( :‬و َخلَ ْقن ـ ــا ُك ْم أَ ْزواجـ ـ ـاً َو َج َعلْنا َن ـ ـ ْـو َم ُك ْم ُسـ ـ ـباتاً َو َج َعلْنَا الل ْي ـ ـ َ‬
‫َّهار َمعاشاًـ) (‪ 8‬ـ ‪ 11‬النبأ)‪.‬‬ ‫َو َج َعلْنَا الن َ‬
‫‪1120‬‬

‫قوله تعاىل ‪:‬‬


‫سـ ْونَا‬ ‫ضـغَةً ‪ ..‬فَ َخلَ ْقنا الْم ْ ِ‬
‫ضـغَةَ عظامـاً ‪ ..‬فَ َك َ‬ ‫َ ُ‬ ‫(ثُ َّم َخلَ ْقنَا النُّطْ َفةَ َعلَ َقةً ‪ ..‬فَ َخلَ ْقنَا ال َْعلَ َقـ ةَ ُم ْ‬
‫تقص ه @@ذه اآلية‬ ‫ِِ‬ ‫َحم ـاً ‪ ..‬ثُ َّم أَنْ َ‬ ‫ِ‬
‫ين‪ّ ).‬‬ ‫س ـ ُن الْخــالق َ‬
‫َح َ‬
‫ـار َك اهللُ أ ْ‬
‫آخـ َـر ‪َ ..‬فتَبـ َ‬ ‫ش ـأْناهُ َخ ْلق ـاً َ‬ ‫ـام ل ْ‬
‫الْعظ ـ َ‬
‫قصة «خل@@ق» اإلنس@@ان ‪ ،‬ابت@@داء من النطفة ‪ ،‬اليت جعلها اهلل س@@بحانه وتع@@اىل ىف ق@@رار مكني‬
‫الرحم‪.‬‬ ‫‪ ..‬هو ّ‬
‫وهنا يتجلى اإلعج@ @@از الق@ @@رآىن ‪ ،‬حىت ليك@ @@اد يلمس باليد ‪ ،‬إن عميت عنه العي@ @@ون ‪،‬‬
‫وزاغت عنه األبصار!‬
‫فقد رأينا كيف فرق النظم القرآىن بني أمرين ‪:‬‬
‫ف @@أوال ‪ :‬جعل إجياد اإلنس @@ان من الطني ‪ ،‬عملية خلق ‪َ ( ..‬خلَ ْقنَا اإْلِ نْس ــا َن ِم ْن ُسـ ـالل ٍَة‬
‫ِم ْن ِطي ٍن)‪.‬‬
‫وثانيا ‪ :‬جعل توالد اإلنسان من النطفة عملية وظيفية ‪ ،‬ختضع لسنن ظاهرة ي@@دركها‬
‫اإلنس@@ان ‪ ،‬ويعمل على حتقيقها ‪ ،‬وقد عرب عنها الق@@رآن بلفظ «جع@@ل» ‪( ..‬ثُ َّم َج َع ْلنـاهُ نُطْ َفـ ةً‬
‫فِي قَرا ٍر َم ِكي ٍن)‪.‬‬
‫وهنا ىف ه @ @@ذه اآلية ـ وهو موضع العجب وال @ @ ّدهش واالنبه @ @@ار هلذا اإلعج @ @@از ـ هنا‬
‫تتح@ @@رك النطفة حنو غايتها إىل أن تك@ @@ون مول@ @@ودا بش@ @@را ‪ ..‬يتن ّقل من نطفة ‪ ،‬إىل علقة ‪ ،‬إىل‬
‫مض@ @ @@غة ‪ ،‬إىل هيكل عظمى مع@ @ @ ّ@رى@ من اللحم ‪ ..‬إىل هيكل بش@ @ @@رى يكس@ @ @@وه اللحم ‪ ..‬إىل‬
‫جنني ‪ ..‬مث طفل ‪..‬‬
‫وهذه األطوار ‪ ،‬هى ىف الواقع انطالقة هلذه النطفة ‪ ،‬وإظه@@ار ملا ىف كياهنا ‪ @!..‬وعلى‬
‫ه@ @ @@ذا ‪ ،‬فقد ك@ @ @@ان من املتوقع أن تك@ @ @@ون ه@ @ @@ذه التحرك@ @ @@ات للنطفة من ب@ @ @@اب «اجلع@ @ @@ل» ال‬
‫«اخللق» ألن النطفة ذاهتا «جمعولة» وكل ما تعطيه هو من «اجملعول» أيضا ‪..‬‬
‫‪1121‬‬

‫ولكن النظم القرآىن ‪ ،‬خالف هذا ‪ ،‬وجاء بالتعبري عن «اجلعل» بلفظ «اخللق»‪.‬‬
‫فالنطفة مل جتعل علقة ‪ ،‬وإمنا خلقت علقة ‪( ..‬ثُ َّم َخلَ ْقنَا النُّطْ َفةَ َعلَ َقةً ‪)..‬‬
‫ضغَةً ‪)..‬‬ ‫العلقة مل جتعل مضغة ‪ ،‬وإمنا خلقت مضغة ‪( ..‬فَ َخلَ ْقنَا ال َْعلَ َقةَ ُم ْ‬
‫ض ـ ـغَةَ ِعظام ـ ـاً‬
‫وهك@ @@ذا املض@ @@غة ‪ ،‬مل جتعل عظاما ‪ ،‬وإمنا خلقت عظاما ‪( ..‬فَ َخلَ ْقنَا ال ُْم ْ‬
‫‪)..‬‬
‫فما سر هذا؟ بل ما أسرار هذا؟ وماذا وراءه؟‬
‫الس@ ّ@ر ىف ه@@ذا ـ واهلل أعلم ـ أن ك@ ّ@ل عملية من ه@@ذه العملي@@ات ‪ ،‬هى خلق جديد ‪ ،‬ال‬
‫ميلكه إال اخلالق جل وعال ‪ ،‬وهو مما اس@ @ @ @@تأثر به س@ @ @ @@بحانه وتع@ @ @ @@اىل وح@ @ @ @@ده ‪ ،‬فس@ @ @ @ ّ@مى ذاته‬
‫«اخلالق» وأىب على خلقه أن يشاركوه ىف هذه الصفة ‪..‬‬
‫ومعىن ه@ @@ذا ‪ ،‬أنه ال ميكن لإلنس @ @@انية كلها ـ وإن اجتمعت ـ أن تنتقل باإلنس@ @@ان ىف‬
‫ه@@ذه األط@@وار من ط@@ور إىل ط@@ور ‪ ..‬وأن ق@@درة الن@@اس ـ ولو اجتمعت ـ ال تس@@تطيع أن تنتقل‬
‫بالنطفة إىل العلقة ‪ ،‬وال بالعلقة إىل املضغة ‪ ..‬وهكذا ‪..‬‬
‫إهنا مجيعها ـ كما قرر الق@رآن ـ عملي@@ات «خل@ق» ‪ ،‬اس@تأثر هبا اخلالق ‪ ..‬وإهنا ملعج@زة‬
‫قرآنية متحدية ‪ ،‬قائمة على التحدي ىف كل زمان ومكان ‪ ..‬وإنه لن يأتى العلم أو العلم@اء‬
‫ـ مهما بلغ العلم ‪ ،‬واجتهد العلماء ـ مبا يقف هلذه املعجزة املتحدية ‪ ،‬على مدى األزمان‪.‬‬
‫نق @ @@ول ه@ @@ذا ‪ ،‬ال لنحجر على العلم ‪ ،‬وال لنقف ىف طريق العلم@ @@اء ‪ ،‬ال@ @@ذين حياولون‬
‫احلى ‪ ..‬بل حنن ن@ @@دعو العلم ‪ ،‬وهنيب بالعلم@ @@اء أن جيروا ىف‬ ‫الوص@ @@ول إىل «خل@ @@ق» الك@ @@ائن ّ‬
‫ه @ @@ذا املي@ @@دان إىل غايته ‪ ،‬وأن يتح@ @ @ ّدوا ه @ @@ذه املعج @ @@زة املتحدية ‪ ..‬فتلك هى دع @ @@وة الق @ @@رآن‬
‫رب العاملني ‪..‬‬ ‫للكشف عن إعجازه ‪ ،‬والدعوة إىل اإلميان بأنه تنزيل من ّ‬
‫‪1122‬‬

‫وقد عرض @@نا هلذه القض @@ية ىف مبحث خ @@اص ‪ ،‬حتت عن @@وان ‪« :‬اخلالق وما خل @@ق» ىف‬
‫تفسري اجلزء السابع عشر ‪ ،‬من القرآن الكرمي ‪..‬‬
‫آخ َر) إشارة إىل نفخة الروح ىف اإلنس@@ان ‪ ،‬بعد‬ ‫ـ وىف قوله تعاىل ‪( :‬ثُ َّم أَنْ َ‬
‫شأْناهُ َخلْقاً َ‬
‫أن يتخلّق ‪ ،‬ويتم تص @@ويره على الص @@ورة اإلنس @@انية ‪ ..‬فهو قبل ه @@ذه النفخة كتلة من اللحم‬
‫والعظم ‪ ..‬حىت إذا نفخ فيه اخلالق من روحه ‪ ،‬أص@ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @@بح كائنا حيّا ‪ ،‬ودخل ىف ع@ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @@امل‬
‫اإلنسان!‬
‫ين) هو متجيد هلل ‪ ،‬وتس@ @ @@بيح جبالله‬ ‫ِِ‬
‫س ـ ـ ـ ُن الْخـ ـ ــالق َ‬ ‫َح َ‬ ‫ـ وقوله تع @ @ @@اىل ‪َ ( :‬فتَبـ ـ ـ َ‬
‫ـار َك اهللُ أ ْ‬
‫وعظمته ‪ ،‬يقوهلا احلق س@ @ @ @@بحانه وتع@ @ @ @@اىل ممج@ @ @ @@دا ذاته ‪ ،‬ويقوهلا الوج@ @ @ @@ود كلّه ‪ ،‬تس@ @ @ @@بيحا ‪،‬‬
‫املصور ‪..‬‬
‫وصالة ‪ ،‬ومحدا للخالق املبدع ّ‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫ك ل ََميِّتُو َن)‪.‬‬ ‫(ثُ َّم إِنَّ ُك ْم َب ْع َد ذلِ َ‬
‫وه@ @ @ @@ذه حقيقة واقعة ‪ ،‬يعلمها الن@ @ @ @@اس ويقع@ @ @ @@ون ىف دائ@ @ @ @@رة جتربتها ‪ ..‬فهى ـ واحلال‬
‫ك @@ذلك ـ ىف غري حاجة إىل أن خيرب عنها ‪ ،‬مث إذا ك @@ان ال بد من اإلخب @@ار هبا ‪ ،‬فهى ىف غري‬
‫حاجة إىل توكيد ‪..‬‬
‫ولكن ج @@اء الق @@رآن خمربا عنها ‪ ،‬ومؤك @@دا هلا ‪ ..‬وذلك ألن الن @@اس ـ وإن ك @@انوا على‬
‫علم واقع هبذه احلقيقة ـ ذاهل@@ون عن املوت ‪ ،‬غ@@افلون عنه ‪ ،‬حىت لك@@أهنم لن ميوت@@وا أب@@دا ‪..‬‬
‫فلقد غ@ ّ@رهتم ال@@دنيا ‪ ،‬وأهلاهم متاعها ‪ ،‬وش@@غلهم غرورها ‪ ،‬فك@@انت ه@@ذه النخسة من الق@@رآن‬
‫الك @ @@رمي ‪ ،‬إيقاظا هلؤالء الني @ @@ام ‪ ،‬ال @ @@ذين هم ىف غم @ @@رة س @ @@اهون ‪ ،‬وال @ @@ذين هم ىف خوض @ @@هم‬
‫يلعبون‪.‬‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫يام ِة ُت ْب َعثُو َن)‪.‬‬ ‫ِ‬
‫(ثُ َّم إِنَّ ُك ْم َي ْو َم الْق َ‬
‫‪1123‬‬

‫إن املوت ليس هو هناية اإلنس@ @ @ @ @ @ @@ان ‪ ،‬بل إنه مرحلة من مراحل وج@ @ @ @ @ @ @@وده ‪ ،‬وموقف‬
‫يتحول به من عامل إىل عامل آخر ‪ ..‬فيه حساب وجزاء‪.‬‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫ِِ‬ ‫ِ‬
‫( َولََق ْد َخلَ ْقنا َف ْوقَ ُك ْم َس ْب َع طَرائ َق َوما ُكنَّا َع ِن الْ َخل ِْق غافل َ‬
‫ين)‪.‬‬
‫الطرائق ‪ :‬مجع طريقة ـ وهى الطبق @@ات ‪ ..‬بعض @@ها ف @@وق بعض ‪ ..‬والس @@بع الطرائق ‪:‬‬
‫ـف َخلَ ـ ـ َـق اهللُ َسـ ـ ـ ْب َع‬ ‫الس@ @ @@موات الس@ @ @@بع ‪ ..‬وه@ @ @@ذا ما يشري إليه قوله تع@ @ @@اىل ‪( :‬أَل ْ‬
‫َم َتـ ـ َـر ْوا َك ْي ـ ـ َ‬
‫ماوات ِطباقاً) (‪ : 15‬نوح)‪.‬‬ ‫س ٍ‬
‫َ‬
‫فال ّس@ @موات ‪ ،‬ليست كما تب @@دو ىف م @@رأى العني ‪ ،‬س @@قفا جام @@دا ‪ ،‬وإمنا هى طبق @@ات‬
‫من األثري ‪ ،‬بعض@@ها ف@@وق بعض ‪ ،‬كما أن األرض طبق@@ات من املادة الكثيفة ‪ ..‬بعض@@ها ف@@وق‬
‫بعض ك@ @ @@ذلك ‪ ..‬طبقة قش@ @ @@رية من ت@ @ @@راب ‪ ..‬مثّ حتتها طبق@ @ @@ات من أحج@ @ @@ار ‪ ،‬ومع@ @ @@ادن ‪..‬‬
‫وغريها ‪ ،‬مما مل يبلغه علم اإلنسان ‪..‬‬
‫ِِ‬
‫ين) ـ إش@ارة إىل أن اهلل س@بحانه وتع@اىل ‪،‬‬ ‫ـ وىف قوله تعاىل ‪َ ( :‬وما ُكنَّا َع ِن الْ َخل ِْق غافل َ‬
‫إذ خيلق ما خيلق ‪ ،‬فإنه ـ س@ @@بحانه ـ يق@ @@وم على أمر ه@ @@ذا اخللق وت@ @@دبريه ‪ ،‬وميسك نظامه ‪،‬‬
‫وحيفظ وجوده‪.‬‬
‫وه @@ذا ما يشري إليه قوله تع @@اىل ‪( :‬أَال لَ ــهُ الْ َخ ْل ـ ُـق َواأْل َْمـ ُـر ‪ )..‬فهو وح @@ده ـ س @@بحانه ـ‬
‫الذي خيلق ‪ ،‬وهو وحده ـ جل شأنه ـ الذي يدبّر أمر ما خلق‪.‬‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫هاب بِ ِه ل ِ‬ ‫َس َكنَّاهُ فِي اأْل َْر ِ‬ ‫(وأَ ْنزلْنا ِمن َّ ِ‬
‫َقاد ُرو َن)‪.‬‬ ‫ض َوإِنَّا َعلى َذ ٍ‬ ‫ماء بَِق َد ٍر فَأ ْ‬
‫السماء ً‬ ‫َ َ َ‬
‫ِِ‬
‫ين ‪)..‬‬ ‫هو بيان لقوله تعاىل ‪َ ( :‬وما ُكنَّا َع ِن الْ َخل ِْق غافل َ‬
‫وذلك أن اهلل ـ سبحانه ـ الذي خلق اإلنسان ‪ ،‬مل يدعه وشأنه ‪ ،‬بل‬
‫‪1124‬‬

‫حى ‪ ،‬من نب@ @@ات‬


‫ت@ @@وىّل أم@ @@ره ‪ ،‬ودبّر ش@ @@ئونه ‪ ،‬ف@ @@أنزل ه@ @@ذا املاء ال@ @@ذي هو مالك حي@ @@اة كل ّ‬
‫وحيوان ‪..‬‬
‫وأن ه@@ذا املاء مل ي@@نزل إال حبس@@اب ‪ ،‬وتق@@دير ‪ ،‬فك@@ان على ق@@در ما يص@@لح به الن@@اس ‪،‬‬
‫أقل مما هو ‪ ،‬هللك الناس ‪ ،‬وفسدت حي@اهتم ‪ ،‬ولو ك@ان‬ ‫وتصلح به حياهتم ‪ ..‬وأنه لو كان ّ‬
‫أكثر مما هو ‪ ،‬هللك الناس ‪ ،‬وذهب العمران ‪..‬‬
‫ض) ـ إشارة إىل أمور‪.‬‬ ‫َس َكنَّاهُ فِي اأْل َْر ِ‬
‫ـ وىف قوله تعاىل ‪( :‬فَأ ْ‬
‫أوهلا ‪ :‬اس@@تقرار املاء ىف األرض ‪ ،‬ولزومه إياها ‪ ،‬وجعلها س@@كنا له ‪ ،‬يألفها ‪ ،‬وتألفه‬
‫‪ ،‬فال ينفصل أح@@دمها عن اآلخر أب@@دا ‪ ،‬حىت لكأهنما كائن@@ان من ع@@امل األحي@@اء ‪ ،‬يتزاوج@@ان‬
‫تزاوج الذكر واألنثى‪.‬‬
‫يؤديها ىف احلي @@اة ‪ ،‬ش @@أنه ىف‬
‫وثانيهما ‪ :‬أن إس @@كان املاء ىف األرض ‪ ،‬إمنا هو لرس @@الة ّ‬
‫هذا ش@أن اإلنس@ان ‪ ،‬ال@ذي أس@كنه اهلل ه@ذه األرض ‪ ،‬وجعله خليفة فيها ‪ ..‬وه@ذا هو بعض‬
‫السر ىف التعبري عن استقرار املاء ىف األرض ‪ ،‬بالسكن فيها‪.‬‬ ‫ّ‬
‫اجلر «ىف» ال@ @@ذي يفيد الظرفية ـ ه @@ذه‬ ‫وثالثهما ‪ :‬أن تعدية الفعل (فَأَ ْس ـ ـ َكنَّاهُ) حبرف ّ‬
‫التعدية تعىن جري@ @ @ @@ان املاء ىف األرض ‪ ،‬ونف@ @ @ @@وذه إىل أعم@ @ @ @@اق بعي@ @ @ @@دة فيها ‪ ،‬وأنه هبذا يأخذ‬
‫وض @ @@عا متمكنا منها ‪ ،‬حبيث ال يع@ @ @@رض له من الع @ @@وارض ‪ ،‬ما جيليه عنها ‪ ،‬أو يقطع ص @ @@لته‬
‫هبا‪.‬‬
‫ـاد ُرو َن) إلف @@ات إىل تلك النعمة العظيمة‬ ‫ـاب بِ ـ ِـه لَق ـ ِ‬
‫ـ وىف قوله تع @@اىل ‪َ ( :‬وإِنَّا َعلى َذه ـ ٍ‬
‫اليت ال يك @ @@اد يلتفت إليها الن @ @@اس إال ىف أح @ @@وال ن @ @@ادرة ‪ ،‬حيث ينقطع املاء عنهم ‪ ..‬فه @ @@ذه‬
‫النعمة اليت جيدها اإلنس @@ان بني يديه من غري أن يب @@ذل هلا جه @@دا ‪ ،‬هى أمثن وأغلى ش @@ىء ىف‬
‫كل ما ميلك ىف هذه‬ ‫هذه احلياة ‪ ،‬وأن اإلنسان ليق ّدم ّ‬
‫‪1125‬‬

‫الدنيا ىف مقابل شربة من املاء ‪ ،‬متسك عليه حياته ‪ ،‬إذا حرم املاء ىف حال من األحوال ‪..‬‬
‫روى أن أحد الزه@@اد دخل على الرش@@يد ‪ ،‬فعتب عليه الرش@@يد أنه مل يطلب منه ش@@يئا‬
‫‪ ..‬فقال الزاهد ‪ :‬وماذا ىف يدك حىت أطلب منك؟‬
‫فق@@ال الرش@@يد ‪ :‬ه@@ذه خ@@زائن م@@اىل ‪ ،‬وه@@ذه األمص@@ار ‪ ..‬ف@@اطلب من املال ما تش@@اء ‪،‬‬
‫واخرت أي مصر أقيمك واليا عليه!‬
‫فق@ @ @ @ @@ال الزاهد ‪ :‬وكم يس@ @ @ @ @@اوى ما ىف خزائنك من م@ @ @ @ @@ال؟ وكم يق @ @ @ @ @ ّدر ألمص@ @ @ @ @@ارك‬
‫ووالياتك من مثن؟‬
‫فقال الرشيد ‪ :‬إنه كثري كثري ‪ ..‬كما ترى ‪..‬‬
‫فق@ @ @@ال الزاهد ‪ :‬يا أمري املؤم@ @ @@نني ‪ ..‬بكم تش@ @ @@رتى ش@ @ @@ربة املاء إذا اش @ @@ت ّد بك العطش‪.‬‬
‫وأنت ىف متاهة ‪ ،‬وال ماء معك؟‬
‫فقال الرشيد ‪ :‬مبلكي كلّه ‪ ،‬ولو كان معى مثله لبذلته ‪..‬‬
‫فق @@ال الزاهد ‪ :‬يا أمري املؤم @@نني ‪ ..‬وبكم من ملكك ت @@دفع عن نفسك ش @@ربة املاء إذا‬
‫احتبست ىف داخلك ‪ ،‬ومل خترج من خمرجها؟‬
‫فقال الرشيد ‪ :‬مبلكي كلّه ‪ ..‬ولو كان معى ضعفه خلرجت منه!!‬
‫فق @ @ @ @ @@ال الزاهد ‪ :‬ه @ @ @ @ @@ذا ملكك يا أمري املؤم @ @ @ @ @@نني ‪ ..‬كما رأيت ‪ ..‬فم @ @ @ @ @@اذا أطلب مما‬
‫ملكت؟‬
‫فلو أن الناس ذكروا أدىن نعم اهلل عندهم ‪ ،‬لوجد أش@ ّدهم فق@@را أنه ىف غىن ع@@ريض ‪،‬‬
‫رب العاملني ‪..‬‬ ‫وملك كبري ‪ ،‬ولبات مع القليل الذي ىف يده ‪ ،‬على رضا ومحد هلل ّ‬
‫‪1126‬‬

‫ـ قوله تعاىل ‪:‬‬


‫ناب لَ ُك ْم فِيها فَواكِهُ َكثِ َيرةٌ َو ِم ْنها تَأْ ُكلُو َن)‪.‬‬
‫يل َوأَ ْع ٍ‬ ‫َّات ِم ْن نَ ِخ ٍ‬
‫شأْنا لَ ُكم بِ ِه جن ٍ‬
‫ْ َ‬ ‫(فَأَنْ َ‬
‫هو بي@ @@ان لبعض وج@ @@وه النفع اليت ينتفع هبا اإلنس@ @@ان من ه@ @@ذا املاء ‪ ،‬ال@ @@ذي أنزله اهلل‬
‫سبحانه وتعاىل من السماء ‪ ،‬وأسكنه ىف األرض ‪ ،‬وأبقاه ومل يذهب به‪.‬‬
‫فمن هذا املاء ـ فضال عن حي@اة اإلنس@ان به ‪ ،‬وإرواء ظمئه ـ ينبت النب@ات والش@جر ‪،‬‬
‫وخيرج احلب والفاكهة ‪..‬‬
‫وىف اختص @@اص اجلنّ @@ات بال @@ذكر ‪ ،‬ألهنا الص @@ورة الكاملة اليت جتمع خمتلف ال @@زروع ‪،‬‬
‫وحب احلصيد ‪..‬‬ ‫من الفاكهة ّ‬
‫وىف اختص @ @ @@اص النخيل واألعن @ @ @@اب من بني أش @ @ @@جار الفاكهة ‪ ،‬ألهنا أعلى درج @ @ @@ات‬
‫النب@@ات ص@@عودا إىل الكم@@ال ىف ع@@امل النب@@ات ‪ ..‬فهات@@ان الش@@جرتان على قمة الع@@امل النب@@ايت ‪،‬‬
‫حيث تالمس @ @ @@ان ع @ @ @@امل احلي @ @ @@وان ‪ ..‬وقد حتدثنا عن النخلة ىف حبثنا عن خلق آدم ‪ ،‬ىف اجلزء‬
‫األول من ه@@ذا التفسري ‪ ،‬وأش@@رنا إىل معىن احلديث الش@@ريف ‪« :‬أكرم@@وا عم@@اتكم النّخل ‪..‬‬
‫فإهنن خلقن من طينة آدم» ‪..‬‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫ِ ِ ِِ‬ ‫ت بِالد ْ‬ ‫(و َشجر ًة تَ ْخر ِ‬
‫ين)‪.‬‬ ‫ُّه ِن َوص ْب ٍغ لآْل كل َ‬ ‫ج م ْن طُو ِر َس ْي َ‬
‫ناء َت ْنبُ ُ‬ ‫َ ََ ُ ُ‬
‫املراد بالش@ @ @@جرة هنا ش@ @ @@جرة الزيت@ @ @@ون ‪ ..‬وقد ج@ @ @@اءت منك@ @ @@رة للتنويه هبا ‪ ،‬وبأهنا ىف‬
‫معرف ‪ ..‬وذلك ألن اهلل س@بحانه وتع@اىل ب@ارك عليها ‪ ،‬فق@ال تع@اىل‬ ‫تنكريها أعرف من كل ّ‬
‫بار َك ٍة َز ْيتُونٍَة) (‪ : 35‬النور)‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫‪( :‬يُوقَ ُد م ْن َش َج َرة ُم َ‬
‫َّات ‪ )..‬على تق @ @@دير وأخرجنا لكم به جن @ @@ات من‬ ‫وهى منص @ @@وبة ب @ @@العطف على (جن ٍ‬
‫َ‬
‫خنيل وأعناب وشجرة ‪..‬‬
‫‪1127‬‬

‫خــر ِ‬
‫ناء) ـ مع أهنا خترج من م@ @@واطن كث@ @@رية من‬ ‫ج م ْن طُـ ــو ِر َس ـ ـ ْي َ‬ ‫وىف وص@ @@فها بأهنا (تَ ْـ ُ ُ‬
‫األرض ـ إشارة إىل أهنا ولدت أول ما ولدت ىف هذا املوطن املبارك ‪ ،‬طور سيناء ‪ ..‬فذلك‬
‫هو مس @@قط رأس @@ها األول ‪ ،‬وذلك هو ال @ ّ@رحم الط @@اهر ال @@ذي خ @@رجت منه ‪ ..‬فكل أش @@جار‬
‫األم اليت ول@ @@دهتا تلك الش@ @@جرة اليت تفتق عنها رحم ه@ @@ذا‬ ‫الزيت@ @@ون ممسوسة بنفحة من ه@ @@ذه ّ‬
‫املكان الطاهر املبارك ‪..‬‬
‫ُّه ِن) أي تنبت وىف كياهنا ال@ @@دهن ‪ ،‬وهو ال@ @@زيت ال@ @@ذي‬ ‫ت بِالـ ــد ْ‬‫ـ وقوله تع@ @@اىل ‪َ ( :‬ت ْنبُ ُ‬
‫خيرج منها ‪ ،‬ويعصر من مثارها ‪..‬‬
‫ين) ‪ ..‬معط@@وف على ال@@دهن ‪ ،‬والص@@بغ اإلدام ‪ ،‬ال@@ذي‬ ‫ِ ِ ِِ‬
‫ـ وقوله تع@@اىل ‪َ ( :‬وص ْب ٍغ لآْل كل َ‬
‫يص@ @@بغ اللقمة من الطع@ @@ام حني تغمس ىف ال@ @@زيت ‪ ،‬فتص@ @@طبغ به ‪ ،‬وتتل@ @ ّ@ون بلونه ‪ ،‬وتص@ @@بح‬
‫مشتهاة لآلكلني ‪..‬‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫ـيرةٌ َوِم ْنها‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫( َوإ َّن لَ ُك ْم في اأْل َنْع ــام لَع ْبـ َـر ًة نُ ْس ـقي ُك ْم م َّما في بُطُونها َولَ ُك ْم فيها َمن ــاف ُع َكث ـ َ‬
‫تَأْ ُكلُو َن)‪.‬‬
‫هو إلفات إىل هذه األنعام املسخرة لإلنسان ‪ ،‬وما فيها من منافع كثرية له‪.‬‬
‫وأعجب ما ىف ه@@ذه األنع@@ام ‪ ،‬ه@@ذا اللنب ال@@ذي خيرج من بطوهنا ‪ ،‬من بني ف@@رث ودم‬
‫‪ ..‬فال يأخذ من ل @ @@ون ال @ @@دم ‪ ،‬أو ريح الف @ @@رث ش @ @@يئا ‪ ،‬على حني أنه جيرى بينهما ‪ ،‬ويأخذ‬
‫مس @@لكه ال @@دقيق معهما ‪ ..‬ففى ذلك ش @@اهد من ش @@واهد ق @@درة اهلل وإحك @@ام ت @@دبريه وتف @ ّ@رده‬
‫سبحانه باخللق والتدبري‪.‬‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫ْك تُ ْح َملُو َن)‪.‬‬ ‫(و َعلَْيها و َعلَى الْ ُفل ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫أي أن من ه@ @ @ @ @@ذه األنع@ @ @ @ @@ام ما يتخذ للرك@ @ @ @ @@وب وحلمل األثق@ @ @ @ @@ال ‪ ،‬كما تتخذ الفلك‬
‫مراكب لالنتقال ومحل األثقال ‪..‬‬
‫‪1128‬‬

‫____________________________________‬

‫اآليات ‪ 23( :‬ـ ‪)30‬‬


‫ـال يا َقـ ْـوِم ا ْعبُـ ـ ُدوا اهللَ ما لَ ُك ْم ِم ْن إِل ـ ٍـه غَْيـ ُـرهُ أَفَال‬ ‫( َولََقـ ـ ْد أ َْر َسـ ـلْنا نُوحـ ـاً إِلى َق ْو ِمـ ِـه فَق ـ َ‬
‫ض ـ َل‬‫ش ـ ٌر ِم ْثلُ ُك ْم يُ ِري ـ ُد أَ ْن َيَت َف َّ‬
‫ين َك َفـ ُـروا ِم ْن َق ْو ِمـ ِـه ما ه ــذا إِالَّ بَ َ‬ ‫َّ ِ‬ ‫َتَّت ُقــو َن(‪ @ @)23‬فَق ـ َ‬
‫ـال ال َْمأَل ُ الذ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫ين (‪ )24‬إ ْن ُه َـو إالَّ َر ُج ٌ‬
‫ـل‬ ‫ـاء اهللُ أَل َْنـ َـز َل َمالئ َكـ ةً ما َسـم ْعنا بهــذا في آبائنَا اأْل ََّول َ‬ ‫َعلَْي ُك ْم َولَـ ْـو شـ َ‬
‫ون (‪ )26‬فَأَوح ْينا إِل َْيـ ِـه أ ِ‬
‫َن‬ ‫َْ‬
‫ب انْص ـرنِي بِما َكـ َّـذب ِ‬
‫ُ‬ ‫ـال َر ِّ ُ ْ‬ ‫ص ـوا بِـ ِـه َحتَّى ِحي ٍن (‪ )25‬قـ َ‬ ‫ِ ِ‬
‫بِــه جنَّةٌ َفَت َربَّ ُ‬
‫ك فِيها ِم ْن ُكـ ٍّ‬
‫ـل َز ْو َج ْي ِن ا ْثَن ْي ِن‬ ‫ُّور فَا ْسـلُ ْ‬
‫التن ُ‬‫ـار َّ‬ ‫ـاء أ َْم ُرنا َوفـ َ‬ ‫ِ‬ ‫صـنَ ِع الْ ُف ْلـ َ ِ ِ‬
‫ـك بأَ ْعيُننا َو َو ْحينا فَـِإذا جـ َ‬ ‫اْ‬
‫ين ظَلَ ُمــوا إَِّن ُه ْم ُمغْ َرقُــو َن (‪)27‬‬ ‫ِ ِ ِ َّ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ـك إِالَّ َم ْن َس ـبَ َق َعلَْيــه الْ َقـ ْـو ُل م ْن ُه ْم َوال تُخــاط ْبني في الذ َ‬ ‫َوأ َْهلَـ َ‬
‫ِ ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ َّ ِ‬ ‫ِ‬
‫ين (‬ ‫ْح ْـم ُد للَّه الذي نَ َّجانا م َن الْ َق ْـوم الظَّالم َ‬ ‫ـك َعلَى الْ ُف ْلـك َف ُق ِـل ال َ‬ ‫ت َو َم ْن َم َعـ َ‬ ‫ت أَنْ َ‬ ‫فَِإذَا ا ْسـَت َويْ َ‬
‫ِ‬
‫ـات َوإِ ْن ُكنَّا‬ ‫ك آَل يـ ٍ‬ ‫ين (‪ )29‬إِ َّن فِي ذلِ َ‬ ‫ت َخ ْي ُر ال ُْم ْن ِزل َ‬ ‫باركاً َوأَنْ َ‬ ‫‪ )28‬وقُل ر ِّ ِ‬
‫ب أَنْ ِزلْني ُم ْن َزالً ُم َ‬ ‫َ َْ‬
‫ين) (‪)30‬‬ ‫ل ِ‬
‫َم ْبتَل َ‬
‫ُ‬
‫____________________________________‬
‫التفسري ‪:‬‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫ـال يا َقـ ْـوِم ا ْعبُـ ـ ُدوا اهللَ ما لَ ُك ْم ِم ْن إِل ـ ٍـه غَْيـ ُـرهُ أَفَال‬
‫( َولََقـ ـ ْد أ َْر َسـ ـلْنا نُوحـ ـاً إِلى َق ْو ِمـ ِـه فَق ـ َ‬
‫َتَّت ُقو َن)‪.‬‬
‫ك@ @ @ @ @@ان ذكر نعمة الفلك ىف اآلية الس@ @ @ @ @@ابقة ىف قوله تع@ @ @ @ @@اىل ‪( :‬و َعلَْيها و َعلَى الْ ُف ْلـ ـ ـ ـ ِ‬
‫ـك‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫تُ ْح َملُـ ـ ــو َن) مناس@ @ @@بة قوية ت@ @ @@ذ ّكر بقصة ن@ @ @@وح عليه‌الس الم ‪ ،‬وبالس@ @ @@فينة ‪ ،‬اليت جعلها اهلل‬
‫مركب جناة له ‪ ،‬وملن آمن معه ‪ ..‬وأن هذه السفينة مل تكن إال‬
‫‪1129‬‬

‫نعمة من نعم اهلل ‪ ،‬جنا عليها من آمن به ‪ ..‬وك@ @@ذلك كل نعمة من نعم اهلل الكث@ @@رية اليت ىف‬
‫أي@@دى الن@اس ‪ ،‬هى فلك جناة ‪ ،‬يس@لك هبا اإلنس@ان طريقه إىل اهلل ‪ ،‬ويس@تدل هبا على قدرته‬
‫وحكمته ‪ ،‬في@@ؤمن به ‪ ،‬ويبتغى مرض@@اته ‪ ،‬وهبذا ينجو من س@@خطه وعذابه ‪ ،‬الواقع بالظ@@املني‬
‫املك ّذبني‪.‬‬
‫وقد ج@@اء ن@@وح إىل قومه ي@@ذ ّكرهم باهلل ‪ ،‬وي@@دعوهم إىل اإلميان به وح@@ده ‪ ،‬وحيض@@هم‬
‫على تقواه ‪( :‬أَفَال َتَّت ُقو َن؟)‪.‬‬
‫وكان جواب القوم على هذه الدعوة الكرمية ‪ ،‬ما جاء ىف قوله تعاىل ‪:‬‬
‫شـ ٌر ِم ْثلُ ُك ْم يُ ِري ـ ُد أَ ْن َيَت َف َّ‬
‫ض ـ َل َعلَْي ُك ْم‬ ‫ين َك َفـ ُـروا ِم ْن َق ْو ِمـ ِـه ما هــذا إِاَّل بَ َ‬ ‫َّ ِ‬
‫ـال ال َْمأَل ُ الذ َ‬ ‫(فَقـ َ‬
‫ين)‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫شاء اهللُ أَل َْن َز َل َمالئ َكةً ما َسم ْعنا بهذا في آبائنَا اأْل ََّول َ‬ ‫َول َْو َ‬
‫إهنا فلسفة مريضة ‪ ،‬وسفاهة عمياء ‪..‬‬
‫ض ـ ـ َل َعلَْي ُك ْم ‪ )..‬هك@ @@ذا رأى الق@ @@وم ـ جبهلهم‬ ‫ش ـ ـ ٌر ِم ْثلُ ُك ْم يُ ِري ـ ـ ُد أَ ْن َيَت َف َّ‬
‫(ما هـ ــذا إِاَّل بَ َ‬
‫وغب @@ائهم ـ ىف ه @@ذا ال @@داعي ال @@ذي ي @@دعوهم إىل اهلل ‪ ..‬إنه ط @@الب س @@لطان عليهم واس @@تعالء‬
‫فيهم ‪ ،‬هبذا املوقف ال@ @ @ @ @ @ @ @@ذي يقفه منهم ‪ ..‬إذ كيف يق@ @ @ @ @ @ @ @@ودهم فينق@ @ @ @ @ @ @ @@ادون؟ وي@ @ @ @ @ @ @ @@دعوهم‬
‫فيستجيبون؟ وهو واحد منهم ال فضل له عليهم؟ فمن أين جاءه ه@ذا الس@لطان فيهم؟ ومن‬
‫أين ك@@انت له ه@@ذه الكلمة عليهم؟ إهّن ا ال أك@@ثر من دع@@وى ي@ ّدعيها ‪ ،‬وإنه ال أك@@ثر من ق@@ول‬
‫يقوله ‪ :‬أنا رس@ @ @ @ @@ول اهلل إليكم!! وإذا ك@ @ @ @ @@ان هلل رسل ‪ ،‬فلم مل يكون @ @ @ @@وا من املالئكة ‪ ،‬وهم‬
‫أقرب إىل اهلل ‪ ،‬وأكثر اتصاال به؟‬
‫وإذن فالقوم كانوا يعرفون اهلل ‪ ،‬ويعرفون أن هلل سبحانه وتعاىل مالئكة‪.‬‬
‫نعم ‪ ،‬ولكنهم ك@ @@انوا أش @@به مبش@ @@ركى الع@ @@رب ‪ ..‬يعرف@ @@ون اهلل ه@ @@ذه املعرفة املطموسة‬
‫بتلك التصورات الفاسدة ‪ ،‬اليت ال ترتفع جبالل اهلل إىل ما يليق به من‬
‫‪1130‬‬

‫تنزيه عن الصاحبة ‪ ،‬والشريك ‪ ،‬والولد ‪..‬‬


‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫صوا بِ ِه َحتَّى ِحي ٍن)‪.‬‬ ‫ِ ِ‬
‫(إِ ْن ُه َو إِاَّل َر ُج ٌل بِه جنَّةٌ َفَت َربَّ ُ‬
‫وه@ @@ذا حكمهم على «ن@ @@وح» ‪ ..‬إنه رجل خمب@ @@ول ‪ ،‬يه@ @@ذى هبذا الكالم ال@ @@ذي يقوله‬
‫هلم ‪ ،‬وحيدثهم به عن اهلل ‪ ..‬وإذن ‪ ،‬فمن احلكمة ـ حكمة الس @ @@فهاء ـ أن ينتظ @ @@روا قليال ‪،‬‬
‫حىت ي @@روا ما وراء ه @@ذا اجلن @@ون ‪ ..‬أهو ع @@ارض فيش @@فى منه ص @@احبه ‪ ،‬أم هو متمكن منه ‪،‬‬
‫وال شفاء له ‪ ..‬وإذن فسيكون هلم معه شأن غري هذا الشأن!‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫ون)‪.‬‬ ‫ب انْصرنِي بِما َك َّذب ِ‬
‫ُ‬ ‫قال َر ِّ ُ ْ‬ ‫( َ‬
‫وإنه ليس أم@ @ @ @@ام ن@ @ @ @@وح مع ه@ @ @ @@ذا العن@ @ @ @@اد األعمى ‪ ،‬إاّل أن يستنصر بربه ‪ ،‬وأن يطلب‬
‫االنتقام له من هؤالء الذين ك ّذبوه ‪ ،‬وهبتوه ‪ ،‬وتوعدوه بالبالء والنكال‪.‬‬
‫ون) أي انص @@رين مبا ك @@ذبون به ‪ ،‬من س @@لطانك وبأسك وقوتك ‪..‬‬ ‫وقوله (بِما َكـ َّـذب ِ‬
‫ُ‬
‫فالباء لالستعانة ‪ ،‬وليست للسببية ‪..‬‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫ك فِيها‬
‫ُّور فَا ْسـلُ ْ‬
‫التن ُ‬
‫ـار َّ‬
‫جاء أ َْم ُرنا َوفـ َ‬ ‫ِ‬ ‫اصنَ ِع الْ ُفل َ ِ ِ‬
‫ْك بأَ ْعيُننا َو َو ْحينا فَِإذا َ‬ ‫َن ْ‬ ‫(فَأَوح ْينا إِل َْي ِه أ ِ‬
‫َْ‬
‫ِ ِ ِ َّ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِم ْن ُكـ ٍّ‬
‫ـك إِاَّل َم ْن َسـبَ َق َعلَْيــه الْ َقـ ْـو ُل م ْن ُه ْم َوال تُخــاط ْبني في الذ َ‬
‫ين ظَلَ ُمــوا‬ ‫ـل َز ْو َج ْي ِن ا ْثَن ْي ِن َوأ َْهلَـ َ‬
‫إَِّن ُه ْم ُمغْ َرقُو َن)‪.‬‬
‫ه@@ذا هو ج@@واب اهلل لن@@وح فيما س@@أله إي@@اه ‪ ..‬أن يص@@نع الفلك على حسب ما يتل ّقى‬
‫من توجيه ربه ‪ ،‬ووحيه له ‪ ،‬وأن «يسلك» أي يدخل وينظم فيها‬
‫‪1131‬‬

‫من كل حي@@وان ن@@افع له ‪ ،‬زوجني اث@@نني ‪ ،‬ذك@@را وأن@@ثى ‪ ،‬وأن يأخذ أهله معه ‪ ،‬إال من س@@بق‬
‫عليه القول منهم ‪ ،‬فلم يكن من املؤمنني باهلل ‪..‬‬
‫ين ظَلَ ُمــوا إَِّن ُه ْم ُمغْ َرقُ ــو َن) ـ هو تث @@بيت لقلب‬ ‫ِ ِ ِ َّ ِ‬
‫ـ وقوله تع @@اىل ‪َ ( :‬وال تُخ ــاط ْبني في الذ َ‬
‫ن@ @ @@وح ‪ ،‬وع @ @ @@زاء له ىف أهله ال@ @ @@ذين س@ @ @@يخلّفهم وراءه للهالك غرقا ‪ ..‬فه@ @ @@ذا أمر اهلل فيهم ‪،‬‬
‫@رد ‪ ،‬وال وراء حكمه معقب@ ‪ ،‬وإنه ليس عند املؤم @@نني‬ ‫وحكمه عليهم ‪ ..‬وليس ألمر اهلل م @ ّ‬
‫باهلل إال االستسالم والرضا ‪..‬‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫ْح ْـمـ ُد لِلَّ ِه الَّ ِذي نَ َّجانا ِم َن الْ َقـ ْـوِم‬ ‫ِ‬
‫ـك َعلَى الْ ُف ْل ــك َف ُقـ ِـل ال َ‬ ‫(فَـ ـِإ َذا ا ْسـ ـَت َويْ َ‬
‫ت أَنْ َ‬
‫ت َو َم ْن َم َع ـ َـ‬
‫ِِ‬
‫ين)‪.‬‬ ‫الظَّالم َ‬
‫هو وعد من اهلل س@بحانه وتع@اىل لن@@وح بالنج@@اة من ه@ذا الطوف@ان املخيف ‪ ،‬وأن ه@@ذه‬
‫الرحلة اليت س @ @@يخوض فيها بس @ @@فينته غم @ @@رات ه @ @@ذا الطوف @ @@ان ‪ ،‬هى رحلة مأمونة ‪ ،‬عاقبتها‬
‫رب العاملني‪.‬‬ ‫السالمة والنجاة ‪ ،‬وح ّقها احلمد والشكران هلل ّ‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫ِ‬ ‫(وقُل ر ِّ ِ‬
‫ين)‪.‬‬‫ت َخ ْي ُر ال ُْم ْن ِزل َ‬ ‫باركاً َوأَنْ َ‬‫ب أَنْ ِزلْني ُم ْن َزالً ُم َ‬ ‫َ َْ‬
‫هو تلقني لن@ @@وح بتلك ال@ @@دعوة املباركة ‪ ،‬اليت ي@ @@دعو هبا ربّه ‪ ،‬وهو ىف طريق الع@ @@ودة‬
‫إىل اليابسة ‪ ،‬بعد أن تنهى السفينة دورهتا على ظهر هذا الطوفان ‪ ،‬حىت يه@@يئ اهلل له مكانا‬
‫خ@@ريا من ه @@ذا املك @@ان ال @@ذي ش @@هد فيه عن @@اد قومه ‪ ،‬ورأى مص @@ارعهم ‪ ،‬وقد اش @@تمل عليهم‬
‫الطوفان ‪..‬‬
‫وه @ @@ذا يعىن أن بعض األمكنة أفضل من بعض ‪ ..‬بعض @ @@ها ينبت الش @ @@وك واحلسك ‪،‬‬
‫وبعضها خيرج زروعا ناضرة ‪ ،‬وجنات مثمرة ‪ ..‬كذلك بعضها يلد الكرام من‬
‫‪1132‬‬

‫الرج @ @@ال وبعض @ @@ها يلد األنك @ @@اد املش @ @@ائيم منهم ‪ ..‬وه @ @@ذا ما جنده ىف قوله تع @ @@اىل ‪َ ( :‬والَْبلَ ـ ـ ُد‬
‫ث ال يَ ْخ ُر ُج إِاَّل نَ ِكداً)‪.‬‬
‫ج نَباتُهُ بِِإ ْذ ِن َربِِّه َوالَّ ِذي َخبُ َ‬ ‫الطَّيِّ ُ‬
‫ب يَ ْخ ُر ُ‬
‫وليس ينكر أثر البيئة ىف تك@ @ @@وين شخص@ @ @@ية اإلنس @ @@ان ‪ ،‬وىف تل@ @ @@وين ص@ @ @@بغته الظ@ @ @@اهرة‬
‫والباطنة ‪ ..‬فأهل البادية غري أهل احلضر ‪ ،‬وسكان البالد احلارة غري سكان البالد املعتدلة‪.‬‬
‫وحلكمة عالية ‪ ،‬وس @ ّ@ر عظيم ‪ ،‬ك @@ان اختي @@ار اجلزي @@رة العربية مطلعا لرس @@الة اإلس @@الم‬
‫اخلالدة ‪ ،‬واختيار رسوهلا من نبت هذه البادية ‪ ،‬ومن زهرها الطيب الك@@رمي ‪ ..‬وقد عرض@@نا‬
‫@ىب حممد صلى‌هللا‌عليه‌وس لم» ‪ ..‬حتت عن@ @@وان ‪« :‬مك@ @@ان‬ ‫هلذا املوض@ @@وع ىف كتابنا ‪« :‬الن@ @ ّ‬
‫الدعوة وزماهنا»‪.‬‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫ين)‪.‬‬ ‫يات وإِ ْن ُكنَّا ل ِ‬ ‫ك آَل ٍ‬‫(إِ َّن فِي ذلِ َ‬
‫َم ْبتَل َ‬‫ُ‬ ‫َ‬
‫اإلش@ @ @ @@ارة هنا إىل ه@ @ @ @@ذا احلدث ‪ ،‬وما ك@ @ @ @@ان فيه من هالك الق@ @ @ @@وم الظ@ @ @ @@املني ‪ ،‬وجناة‬
‫الرس@ @ @@ول ومن آمن معه ‪ ..‬ففى ه@ @ @@ذا احلدث آي@ @ @@ات ‪ ،‬وش@ @ @@واهد على ق@ @ @@درة اهلل ‪ ،‬وإحاطة‬
‫علمه مبا يقع من عباده من طاعة أو عصيان ‪..‬‬
‫ين ‪( )..‬إن) هنا خمففة من «إ ّن» الثقيلة ‪ ..‬واملعىن أن‬ ‫وقوله تع@ @ @ @@اىل ‪( :‬وإِ ْن ُكنَّا ل ِ‬
‫َم ْبتَل َ‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫اهلل س@ @ @@بحانه وتع@ @ @@اىل جعل االبتالء واالختي@ @ @@ار أم@ @ @@را الزما يؤخذ به عب@ @ @@اده ‪ ،‬حىت ينكشف‬
‫ح@@اهلم ‪ ،‬ويأخذ كل منهم مكانه ىف ه @@ذا االبتالء ‪ ..‬فإرس @@ال الرسل إىل الن@@اس ‪ ،‬ودع @@وهتم‬
‫إىل اإلميان باهلل ‪ ،‬وإتي @@ان ما يفرضه عليهم اإلميان من واجب @@ات ‪ ،‬هو ابتالء ‪ ،‬يتكشف آخر‬
‫األمر عن مؤمنني وك@@افرين ‪ ،‬ون@@اجني وهلكى ‪ ..‬واهلل س@@بحانه وتع@@اىل يق@@ول ‪َ ( :‬ولَنَْبلُ َونَّ ُك ْم‬
‫جاه ِدين ِم ْن ُكم و َّ ِ‬
‫حتَّى َنعلَم الْم ِ‬
‫بار ُك ْم) (‪ : 31‬حممد)‬ ‫الصاب ِر َ‬
‫ين َو َن ْبلُ َوا أَ ْخ َ‬ ‫َ َْ‬ ‫َ ْ َ ُ‬
‫‪1133‬‬

‫____________________________________‬

‫اآليات ‪ 31( :‬ـ ‪)41‬‬


‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫شـأْنا ِم ْن َب ْعـ ِـد ِه ْم َق ْرنـاً َ‬
‫ين (‪ )31‬فَأ َْر َسـلْنا في ِه ْم َر ُسـوالً م ْن ُه ْم أَن ا ْعبُـ ُدوا اهللَ‬ ‫آخـ ِر َ‬ ‫(ثُ َّم أَنْ َ‬
‫ـال الْمأَل ُ ِمن َقو ِمـ ِـه الَّ ِذين َك َفــروا و َكـ َّـذبوا بِلِق ـ ِ‬ ‫ِ ٍ‬
‫ـاء‬ ‫َ ُ َ ُ‬ ‫ما لَ ُك ْم م ْن إِل ــه غَْيـ ُـرهُ أَفَال َتَّت ُقــو َن (‪َ )32‬وق ـ َ َ ْ ْ‬
‫ِ‬ ‫شـر ِم ْثلُ ُكم يأْ ُكـ ِ‬ ‫اآْل ِـخ ر ِة وأَْترفْنــاهم فِي ال ِ‬
‫ب‬‫ـل م َّما تَـأْ ُكلُو َن م ْنــهُ َويَ ْشـ َر ُ‬ ‫َْ ُ‬ ‫ْحيــاة الـ ُّـدنْيا ما هــذا إِالَّ بَ َ ٌ‬ ‫َ‬ ‫َ َ َ ُْ‬
‫ش ـراً ِم ْثلَ ُك ْم إِنَّ ُك ْم إِذاً لَخا ِس ـ ُرو َن (‪ @ @)34‬أَيَ ِع ـ ُد ُك ْم أَنَّ ُك ْم إِذا‬ ‫ِم َّما تَ ْش ـ َربُو َن (‪َ )33‬ولَئِ ْن أَطَ ْعتُ ْم بَ َ‬
‫وعـ ُدو َن (‪ )36‬إِ ْن ِه َي‬ ‫ـات لِما تُ َ‬
‫ـات َه ْيهـ َ‬‫ُّم َو ُك ْنتُ ْم تُرابـاً َو ِعظامـاً أَنَّ ُك ْم ُم ْخ َر ُجـو َن (‪َ @)35‬ه ْيه َ‬ ‫ِ‬
‫مت ْ‬
‫ـوت ونَ ْحيا وما نَ ْحن بِم ْبع ــوثِين (‪ @ )37‬إِ ْن ُهــو إِالَّ رجــل ا ْفتَــرى َعلَى ِ‬
‫اهلل‬ ‫َ َُ ٌ‬ ‫ُ َ ُ َ‬ ‫َ‬ ‫إِالَّ َحيا ُتنَا الـ ُّـدنْيا نَ ُمـ ُ َ‬
‫ـال َع َّما قَلِي ـ ٍـل‬
‫ون (‪ @ @ )39‬ق ـ َ‬ ‫ب انْصـ ـرنِي بِما َكـ َّـذب ِ‬ ‫ين (‪ @ @ )38‬ق ـ َ‬ ‫ِ ِِ‬ ‫ِ‬
‫ُ‬ ‫ـال َر ِّ ُ ْ‬ ‫َكــذباً َوما نَ ْح ُن لَ ــهُ ب ُمـ ْـؤمن َ‬
‫ِ ِ ِِ‬ ‫ِِ‬
‫ين) (‬ ‫ـاء َف ُب ْعــداً ل ْل َقـ ْـوم الظَّالم َ‬
‫ـاه ْم غُثـ ً‬ ‫صـ ْي َحةُ بِــال َ‬
‫ْح ِّق فَ َج َع ْلنـ ُ‬ ‫ين (‪ )40‬فَأ َ‬
‫َخـ َذ ْت ُه ُم ال َّ‬ ‫لَيُ ْ ِ‬
‫صـب ُح َّن نــادم َ‬
‫‪)41‬‬
‫____________________________________‬
‫التفسري ‪:‬‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫ين)‪.‬‬ ‫شأْنا ِم ْن َب ْع ِد ِه ْم َق ْرناً َ‬
‫آخ ِر َ‬ ‫(ثُ َّم أَنْ َ‬
‫أي وبعد ن@@وح أرسل اهلل س@@بحانه وتع@@اىل رسال كث@@ريين إىل أق@@وامهم ‪ ،‬فك@@ان املوقف‬
‫جاء أ َُّمةً َر ُسولُها َك َّذبُوهُ)‪.‬‬
‫واحدا ( ُك َّل ما َ‬
‫ـ وىف قوله تع@ @ @@اىل ‪( :‬ثُ َّم أَنْ َشـ ـ ـأْنا ‪ )..‬إش@ @ @@ارة إىل أن عملية اخللق ليست عملية آلية ‪،‬‬
‫كما تب@ @ @@دو من التوالد بني األحي@ @ @@اء ‪ ،‬وإمنا تتجلّى ق@ @ @@درة اهلل س@ @ @@بحانه وتع@ @ @@اىل ىف خلق كل‬
‫خملوق ‪ ،‬صغر أم كرب ـ فميالد املولود هو خلق ‪ ،‬وإنشاء‬
‫‪1134‬‬

‫مستقل ‪ ..‬متاما كما خلق اإلنسان األول من تراب ‪ ،‬فك@ذلك خلق اإلنس@ان املول@ود منه ‪..‬‬ ‫ّ‬
‫هو من ت @ @ @@راب أيضا ‪ ..‬حيث تتولد النطفة من م @ @ @@ادة املأكوالت املتول@ @ @@دة من األرض ‪ ..‬مث‬
‫تسري النطفة ىف مراحل التط @ @@ور بق @ @@درة اخلالق ‪ ،‬فتتح @ @@رك من ط @ @@ور إىل ط @ @@ور ‪ ،‬حىت يولد‬
‫املولود‪.‬‬
‫وه@@ذا هو السر ىف التعبري الق@@رآىن بلفظ «أنش@@أنا» ب@@دال من لفظ أقمنا ‪ ،‬أو خلقنا ‪..‬‬
‫وحنومها‪.‬‬
‫والق @@رن اآلخ @@رون ‪ ،‬ال @@ذين ج @@اءوا بعد ق @@وم ن @@وح ‪ ،‬هم ق @@وم ع @@اد وق @@وم مثود ‪ ..‬وقد‬
‫مجعهما الق @@رآن الك @@رمي ىف ق @@رن واحد ‪ ،‬ألهنم ك @@انوا على ش @@اكلة واح @@دة ‪ ،‬وقد ج @@اء ق @@وم‬
‫مثود ‪ ،‬خلفا لقوم عاد ‪ ،‬ىف ديارهم ومساكنهم ‪..‬‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫(فَأ َْر َسلْنا فِي ِه ْم َر ُسوالً ِم ْن ُه ْم أ َِن ا ْعبُ ُدوا اهللَ ما لَ ُك ْم ِم ْن إِ ٍله غَْي ُرهُ أَفَال َتَّت ُقو َن)‪.‬‬
‫تلك هى دعوة الرسول ىف القوم ‪ ،‬سواء أك@ان الرس@ول ه@ودا ‪ ،‬املرسل إىل ع@اد ‪ ،‬أم‬
‫ص@ @ @ @@احلا املرسل إىل مثود ‪ ..‬إن رس@ @ @ @@ول كل من الق@ @ @ @@ومني هو واحد منهم ‪ ،‬وإن كلمة كال‬
‫الرس@@ولني إىل قومه هى ‪( :‬أ َِن ا ْعبُـ ُدوا اهللَ ‪ ..‬ما لَ ُك ْم ِم ْن إِلـ ٍـه غَْـي ُـرهُ ‪ ..‬أَفَال َتَّت ُقــو َن) ‪ ..‬دع@@وة‬
‫إىل عبادة اهلل ‪ ،‬وإفراده بالعبودية وحده ‪ ..‬واالستقامة على ما يأمر به ‪ ،‬واجتن@@اب ما ينهى‬
‫عنه ‪..‬‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫قاء اآْل ِخر ِة وأَْترفْناهم فِي الْح ِ‬
‫ياة الـ ُّـدنْيا‬ ‫قال الْمأَل ُ ِمن َقو ِم ِه الَّ ِذين َك َفروا و َك َّذبوا بِلِ ِ‬
‫َ‬ ‫َ َ َ ُْ‬ ‫َ ُ َ ُ‬ ‫( َو َ َ ْ ْ‬
‫شراً ِم ْثلَ ُك ْم‬
‫ب ِم َّما تَ ْش َربُو َن َولَئِ ْن أَطَ ْعتُ ْم بَ َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ما هذا إِاَّل ب َ ِ‬
‫ش ٌر م ْثلُ ُك ْم يَأْ ُك ُل م َّما تَأْ ُكلُو َن م ْنهُ َويَ ْش َر ُ‬‫َ‬
‫َخاس ُرو َن) ـ تلك‬ ‫إِنَّ ُكم إِذاً ل ِ‬
‫ْ‬
‫‪1135‬‬

‫هى بعض مق@@والت الق@@وم ـ ق@@وم ع@@اد وق@@وم مثود معا ـ اليت اس@@تقبلوا هبا دع@@وة رس@@وهلم هلم ‪،‬‬
‫إىل اإلميان باهلل ‪..‬‬
‫واملأل ‪ :‬اجلماعة من أشراف القوم وساداهتم ‪..‬‬
‫ـ وىف قوله تع@@اىل ‪( :‬الَّ ِذين َك َفــروا و َكـ َّـذبوا بِلِقـ ِ‬
‫ـاء اآْل ِـخ ر ِة وأَْترفْنــاهم فِي الْحيـ ِ‬
‫ـاة الـ ُّـدنْيا‬ ‫َ‬ ‫َ َ َ ُْ‬ ‫َ ُ َ ُ‬
‫ـاه ْم) على التك @ @@ذيب والكفر ـ ىف ه@ @ @@ذا إش @ @@ارة إىل أن نعم اهلل اليت‬ ‫‪ )..‬وىف عطف (أَْت َرفْن ـ ـ ُ‬
‫نعمهم هبا وأت @@رفهم ب @@التنعم فيها ـ ك @@انت عن @@دهم ع @@دال للكفر والتك @@ذيب ‪ ..‬وك @@أن ذلك‬
‫صفة من صفاهتم إىل جانب الكفر والتك@@ذيب ‪ ..‬وك@@أن ذلك ص@@فة من ص@فاهتم إىل ج@انب‬
‫الكفر والتكذيب ‪ ..‬أي كفروا وكذبوا بلقاء اآلخ@رة ‪ ،‬وجح@دوا بنعمنا اليت أترفن@اهم هبا ‪،‬‬
‫وكذبوا بالرسول الذي جاءهم ‪ ،‬وأب@@وا أن يؤمن@@وا لبشر مثلهم ‪ ،‬وع@@دوا ه@ذا خس@@رانا وبالء‬
‫عليهم‪.‬‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫ُّم َو ُك ْنتُ ْم تُراباً َو ِعظاماً أَنَّ ُك ْم ُم ْخ َر ُجو َن)‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫(أَيَع ُد ُك ْم أَنَّ ُك ْم إِذا مت ْ‬
‫هو بعض من مق@ @@والت الق@ @@وم ‪ ،‬اليت ينك@ @@رون هبا على النيب دعوته إي@ @@اهم إىل اإلميان‬
‫ب@@اليوم اآلخر ‪ ..‬فهم يس@@تبعدون ـ إىل حد االس@@تحالة ـ أن يبعث@@وا بعد أن ميوت@@وا ‪ ،‬ويص@@بحوا‬
‫وعـ ُدو َن‬ ‫ـات لِما تُ َ‬ ‫ترابا ورفاتا ‪ ..‬كما يقول اهلل تعاىل بعد هذا ‪ ،‬على لساهنم ‪َ ( :‬ه ْي َ‬
‫هات َه ْيهـ َ‬
‫ين)‪.‬‬ ‫ِ ِ‬
‫وت َونَ ْحيا َوما نَ ْح ُن ب َم ْبعُوث َ‬ ‫الدنْيا نَ ُم ُ‬‫إِ ْن ِه َي إِاَّل َحيا ُتنَا ُّ‬
‫إهنم هبذا يؤكدون استبعاد البعث بعد املوت ‪ ،‬ويؤكدون أنه ال حياة إال ه@@ذه احلي@@اة‬
‫اليت هم فيها ‪ ،‬وأهنم إمنا ي@ @@دورون ىف ه@ @@ذين املدارين ‪ ،‬حي@ @@اة وم@ @@وت ‪ ،‬وم@ @@وت وحي@ @@اة ‪..‬‬
‫حيث ميوت ن@ @@اس ‪ ،‬ويولد ن@ @@اس ‪ ..‬وهك@ @@ذا دواليك ‪ ..‬أما أن يبعث املوتى من قب@ @@ورهم ‪،‬‬
‫ويعودوا إىل احلياة مرة أخرى ‪ ،‬فذلك ما ال تقبله عقوهلم وال يتصوره خياهلم ‪..‬‬
‫‪1136‬‬

‫إن اإلميان ب@ @@البعث ف@ @@رع عن اإلميان باهلل ‪ ،‬وبقدرته ‪ ،‬وعلمه ‪ ،‬وحكمته ‪ ..‬ف@ @@إذا مل‬
‫يكن إميان باهلل ‪ ،‬أو دخل على ه@@ذا اإلميان خلل وفس@@اد ـ مل يكن أمر البعث ممكن التص@@ور‬
‫‪ ..‬كما يقول الشاعر اجلاهلى‪.‬‬
‫حي@ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @@اة مث م@ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @@وت مث بعث؟ ‪  ‬ح @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @@ديث خرافة يا ّأم عم@ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @@رو‬
‫‪ ‬‬ ‫‪ ‬‬

‫قوله تعاىل ‪:‬‬


‫ِ ِِ‬ ‫ِ ِ‬
‫ين)‬‫(إِ ْن ُه َو إِاَّل َر ُج ٌل ا ْفتَرى َعلَى اهلل َكذباً َوما نَ ْح ُن لَهُ ب ُم ْؤمن َ‬
‫هى قوله الق@@ومني ـ ع@@اد ومثود ـ قاهلا كل ق@@وم لرس@@وهلم ‪ ،‬فرم@@وه ب@@االفرتاء والك@@ذب‬
‫على اهلل‪.‬‬
‫ب انْصرنِي بِما َك َّذب ِ‬
‫ون)‬ ‫ُ‬ ‫قال َر ِّ ُ ْ‬ ‫( َ‬
‫وتلك هى ص @@رخة كل من الرس @@ولني إىل ربه ‪ ،‬وفزعته إليه ‪ ..‬وقد ك @@انت تلك هى‬
‫ون)‪.‬‬‫ب انْصرنِي بِما َك َّذب ِ‬
‫ُ‬ ‫صرخة نوح وفزعته إىل ربه من قبل ‪َ ( :‬ر ِّ ُ ْ‬
‫ين)‪.‬‬ ‫ِِ‬ ‫يل لَيُ ْ ِ‬‫قال َع َّما قَلِ ٍ‬
‫صب ُح َّن نادم َ‬ ‫( َ‬
‫توعد به القوم الظاملني ‪..‬‬ ‫وقد استجاب اهلل للرسولني الكرميني ‪ ،‬هبذا الوعيد الذي ّ‬
‫ِ ِ ِِ‬
‫ثاء َف ُب ْعداً ل ْل َق ْوم الظَّالم َ‬
‫ين)‬ ‫ْناه ْم غُ ً‬ ‫الص ْي َحةُ بِال َ‬
‫ْح ِّق فَ َج َعل ُ‬ ‫َخ َذ ْت ُه ُم َّ‬
‫(فَأ َ‬
‫رجت دي@ @@ار الق@ @@وم ‪ ،‬وأتت على كل ش@ @@ىء وإذا ك @@ان‬ ‫الص@ @@يحة ‪ :‬هى الزلزلة ‪ ،‬اليت ّ‬
‫ع@ @@اد قد أهلك@ @@وا ب@ @@ريح صرصر عاتية ‪ ،‬كما يق@ @@ول اهلل تع@ @@اىل ‪َ ( :‬وأ ََّما عـ ــا ٌد فَ ـ ـأ ُْهلِ ُكوا بِ ـ ـ ِر ٍ‬
‫يح‬
‫ِ‬ ‫ِ ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍِ‬
‫صـ ْرعى َكـ أ ََّن ُه ْم‬ ‫َّرها َعلَْي ِه ْم َس ْب َع لَيال َوثَمانيَةَ أَيَّام ُح ُ‬
‫سوماً َفَت َرى الْ َقـ ْـو َم فيها َ‬ ‫ص ٍر عاتيَة َسخ َ‬
‫ص ْر َ‬
‫َ‬
‫جاز نَ ْخ ٍل خا ِويٍَة َف َه ْل تَرى ل َُه ْم ِم ْن باقِيَ ٍة) ‪ ..‬وإذا ك@@انت مثود قد أهلكت بالص@@يحة‪ .‬وقد‬ ‫أَ ْع ُ‬
‫مساها القرآن «الطاغية»‬
‫‪1137‬‬

‫ـود فَ ـأ ُْهلِ ُكوا بِالطَّ ِ‬


‫اغيَـ ِـة) ـ إذا ك @@ان ه @@ذا وذاك ‪ ،‬ف @@إن الص @@يحة‬ ‫كما ىف قوله تع @@اىل ‪( :‬فَأ ََّما ثَ ُمـ ُ‬
‫جتمع الصفة اليت هلك عليها عاد ومثود ‪ ،‬فأهنم أهلكوا هبذا البالء الذي ص@@اح فيهم ص@@يحة‬
‫مجد هلا الدم ىف عروقهم ‪ ،‬وتصدعت هلا قلوهبم ‪ ،‬وهتاوت منها ديارهم ‪..‬‬
‫ـاء) إش @ @@ارة إىل أن ما خلّفه البالء الواقع هبم ‪ ،‬من‬ ‫وىف قوله تع @ @@اىل ‪( :‬فَ َج َع ْلنـ ـ ُ‬
‫ـاه ْم غُثـ ـ ً‬
‫ذواهتم ‪ ،‬وديارهم ‪ ،‬وأمواهلم ـ مل يكن إال ترابا وحطاما أشبه بالغث@@اء ال@ذي حيمله الس@يل ىف‬
‫اندفاعه ‪ ،‬مما جيده ىف طريقه من خملفات األشياء ‪ ،‬اليت ال يلتفت إليها أحد‪.‬‬
‫____________________________________‬

‫اآليات ‪ 42( :‬ـ ‪)50‬‬


‫َجلَها َوما يَ ْسـتَأ ِْخ ُرو َن(‬ ‫ِ ٍ‬
‫ين (‪ )42‬ما تَ ْسـبِ ُق م ْن أ َُّمة أ َ‬ ‫شـأْنا ِم ْن َب ْعـ ِـد ِه ْم ُق ُرونـاً َ‬
‫آخـ ِر َ‬ ‫(ثُ َّم أَنْ َ‬
‫ـاه ْم‬
‫ضـ ُه ْم َب ْعضـاً َو َج َع ْلن ُ‬ ‫ـاء أ َُّمةً َر ُسـولُها َك َّـذبُوهُ فَأَْتَب ْعنا َب ْع َ‬
‫ـل ما ج َ‬ ‫‪ )43‬ثُ َّم أ َْر َسلْنا ُر ُسلَنا َت ْترا ُك َّ‬
‫يث َفب ْعداً لَِقــوٍم ال ي ْؤ ِمنُـو َن (‪ )44‬ثُ َّم أَرسـلْنا موسى وأَخــاهُ هــارو َن بِآياتِنا وسـل ٍ‬
‫ْطان ُمبِي ٍن‬ ‫ِ‬
‫َُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َْ ُ‬ ‫ْ ُ‬ ‫أَحاد َ ُ‬
‫شـ َريْ ِن ِمثْلِنا‬
‫ين (‪ )46‬فَقــالُوا أَُنـ ْـؤ ِم ُن لِبَ َ‬ ‫ِ‬
‫استَكَْب ُروا َوكانُوا َق ْومـاً عــال َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫(‪ )45‬إِلى ف ْر َع ْو َن َو َمالئِه فَ ْ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ين (‪َ )48‬ولََقـ ـ ـ ْد آَت ْينا ُمو َس ـ ـ ـى‬ ‫وهما فَكـ ـ ــانُوا م َن ال ُْم ْهلَك َ‬ ‫َو َق ْو ُم ُهما لَنا عابِ ـ ـ ـ ُدو َن (‪ )47‬فَ َكـ ـ ـ َّـذبُ ُ‬
‫ناهما إِلى ر ْب ــو ٍة ِ‬ ‫ِ‬
‫ذات قَ ــرا ٍر‬ ‫َ َ‬ ‫ـاب ل ََعلَّ ُه ْم َي ْهتَـ ـ ُدو َن (‪َ )49‬و َج َعلْنَا ابْ َن َم ـ ْـريَ َم َوأ َُّمهُ آيَـ ـةً َو َ‬
‫آويْ ُ‬ ‫الْكت ـ َ‬
‫َو َم ِعي ٍن) (‪)50‬‬
‫____________________________________‬
‫‪1138‬‬

‫التفسري ‪:‬‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫َجلَها َوما يَ ْستَأ ِْخ ُرو َن)‪.‬‬ ‫ِ ٍ‬
‫ين ما تَ ْسبِ ُق م ْن أ َُّمة أ َ‬ ‫شأْنا ِم ْن َب ْع ِد ِه ْم ُق ُروناً َ‬
‫آخ ِر َ‬ ‫(ثُ َّم أَنْ َ‬
‫الق@ @@رون ‪ :‬األمم ‪ ..‬والق@ @@رن من عمر ال@ @@زمن مائة ع@ @@ام ‪ ،‬ومن عمر اإلنس@ @@انية ‪ ،‬جيل‬
‫من أجياهلم ويق ّدر بثالث وثالثني سنة‪.‬‬
‫واإلنشاء ‪ :‬اخللق ‪ ،‬واإلجياد من عدم ‪ ،‬كما أشرنا إىل ذلك من قبل‪.‬‬
‫ِ ٍ‬
‫اجلر من» زائد ‪،‬‬ ‫َجلَها) ‪ :‬أي ما تس@ @ @ @@بق أمة أجلها ‪ ..‬وح@ @ @ @@رف ّ‬ ‫(ما تَ ْسـ ـ ـ ـبِ ُق م ْن أ َُّمة أ َ‬
‫و«أمة» فاعل‪.‬‬
‫واملعىن ‪ ..‬أنه بعد أن أهلك اهلل ق@@وم ع@@اد ‪ ،‬وق@@وم مثود ‪ ،‬خلق من بع@@دهم أمما أخ@@رى‬
‫كثرية ‪ ،‬جاء بعضها إثر بعض ‪ ..‬فكان لكل أمة ميقات مليالدها ومهلكها ‪ ،‬متاما كميقات‬
‫مولد اإلنسان ومهلكه ‪ ..‬ال جتىء أمة قبل الوقت املقدر مليالدها ‪ ،‬وال تستأخر عنه ‪..‬‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫ـاء أ َُّمةً َر ُسـ ـ ـولُها َكـ ـ َّـذبُوهُ فَأَْتَب ْعنا َب ْع َ‬
‫ضـ ـ ـ ُه ْم َب ْعضـ ـ ـاً‬ ‫ـل ما ج ـ ـ َ‬
‫(ثُ َّم أ َْر َسـ ـ ـلْنا ُر ُسـ ـ ـلَنا َت ْت ـ ــرا ُكـ ـ َّ‬
‫يث َفُب ْعداً لَِق ْوٍم ال ُي ْؤ ِمنُو َن ‪)..‬‬ ‫َحاد َ‬ ‫ْناهم أ ِ‬
‫َو َج َعل ُ ْ‬
‫ترتى ‪ :‬أي تتتابع ‪ ،‬وجيىء بعضها وراء بعض‪.‬‬
‫أي مث أرسل اهلل سبحانه وتعاىل إىل كل أمة رسوال منها ‪ ..‬يلقاها ىف الوقت املعل@@وم‬
‫‪ ..‬وكما تت@@ابعت األمم ‪ ،‬وج@@اء بعض@@ها إثر بعض ‪ ،‬ك@@ذلك تت@@ابعت الرسل وج@@اء بعض@@هم‬
‫وراء بعض ‪..‬‬
‫وكما خلفت كل أمة األمة اليت قبلها ‪ ،‬ىف ديارها وأمواهلا ‪ ،‬خلفتها كذلك‬
‫‪1139‬‬

‫ىف تك@@ذيبها لرس@@ول اهلل املبع@@وث إليه@@ا! مث حل هبا البالء ‪ ،‬وأخ@@ذها اهلل ببأسه ‪ ..‬كما أخذ‬
‫من سبقها من أمم ‪..‬‬
‫يث) إش@ @ @@ارة إىل هالك ه@ @ @@ذه األمم املتتابعة ‪،‬‬ ‫ـاهم أَح ـ ـ ِ‬
‫ـاد َ‬ ‫ـ وىف قوله تع@ @ @@اىل ‪َ ( :‬و َج َع ْلن ـ ـ ُ ْ‬
‫وزوال آثارها ‪ ،‬فلم يبق منها إال أحاديث يرويها الناس عنها ‪ ،‬وعما ك@@ان منها ‪ ،‬وما ن@@زل‬
‫هبا ‪..‬‬
‫ـ وقوله تع@@اىل ‪َ ( :‬فُب ْعــداً لَِقـ ْـوٍم ال ُي ْؤ ِمنُــو َن ‪ )..‬هو هتديد ملن ال ي@@ؤمن باهلل من األق@@وام‬
‫احلاضرة أو املقبلة ‪ ،‬وعربة هبذه األمم اليت هلكت بعذاب اهلل‪.‬‬
‫ٍ‬
‫وىف التعبري هنا بقوله تع @@اىل ‪َ ( :‬ف ُب ْعــداً لَِقـ ْـوم ال ُي ْؤ ِمنُ ــو َن ‪ )..‬وبقوله تع @@اىل ‪َ ( :‬ف ُب ْعــداً‬
‫ِ ِ ِِ‬
‫ين) عند التعقيب على هالك قوم عاد ومثود ـ ىف ه@ذا مراع@اة ملقتضى احلال هنا‬ ‫ل ْل َق ْوم الظَّالم َ‬
‫وهناك ‪..‬‬
‫فهنا هتديد لق @@وم ي @@دعون إىل اإلميان ‪ ،‬ويقف @@ون موقفا مباع @@دا له ‪ ،‬ولكنهم مل يقع @@وا‬
‫بعد حتت ع@@ذاب اهلل الراصد للك@@افرين ‪ ..‬فحسن هلذا أن تع@@رض عليهم ص@@ورة الك@@افرين ‪،‬‬
‫وقد تلبسوا بكفرهم هذا الذي إذا مل خيرجوا منه ‪ ،‬كان مصريهم البالء والنكال ‪ ..‬وهناك‬
‫ـ مع ق@@وم ع@اد ومثود ـ قد هلك الق@@وم فعال ‪ ،‬بعد أن قطع@@وا ط@ريقهم مع الكفر إىل آخ@@ره ‪..‬‬
‫فكانوا هبذا كافرين وظاملني غري مظلومني ‪ ،‬إذ أخذوا هبذا العذاب البئيس ‪ ،‬فكان وص@@فهم‬
‫بالظلم أنسب وصف هلم‪.‬‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫ْطان ُمبِي ٍن إِلى فِ ْر َعـ ْـو َن َو َماَل ئِـ ِـه فَا ْسـتَكَْب ُروا‬
‫(ثُ َّم أَرسلْنا موسى وأَخاهُ هــارو َن بِآياتِنا وسـل ٍ‬
‫َُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َْ ُ‬
‫ين)‪.‬‬ ‫ِ‬
‫َوكانُوا َق ْوماً عال َ‬
‫عطفت قصة موسى على ما قبلها حبرف العطف «مثّ» الذي يفيد الرتاخي‪.‬‬
‫‪1140‬‬

‫وه@ @ @ @@ذا الفصل بثم ‪ ،‬بني ه@ @ @ @@ذه القصة وما س@ @ @ @@بقها من قصص ‪ ،‬لإللف@ @ @ @@ات إىل قصة‬
‫موسى ‪ ،‬إذ ك@ @@انت ‪ ،‬مبا اش @@تملت عليه من أح@ @@داث ‪ ،‬وما ص@ @@حبها من معج@ @@زات ـ تك @@اد‬
‫تكون مثال فريدا بني قصص األنبياء اليت سبقتها ‪..‬‬
‫والس@لطان املبني ال@ذي ك@@ان مع موسى ـ هو ما ض ّ@مت عليه ه@@ذه اآلي@@ات من إعج@از‬
‫قاهر غالب ‪ ،‬يفحم اخلصم ‪ ،‬ويقهره ‪ ..‬وهبذا يكون له السلطان القوى املبني عليه‪.‬‬
‫ين)‪ .‬هو ح@ @@ال من الض@ @@مري ىف قوله تع@ @@اىل ‪:‬‬ ‫ِ‬
‫وىف قوله تع@ @@اىل ‪َ ( :‬وك ـ ــانُوا َق ْومـ ـ ـاً ع ـ ــال َ‬
‫(فَا ْس ـتَكَْب ُروا) أي فاس@@تكربوا مص @@احبني اس@@تعالءهم ال@@ذي ك @@ان ميأل ش @@عورهم ب @@الرتفع عن‬
‫مستوى البشر ‪..‬‬
‫فه @@ذا االس @@تكبار ال@@ذي لقى به فرع @@ون واملأل ال @@ذين معه ‪ ،‬دع @@وة موسى وه @@رون هلم‬
‫إىل اإلميان باهلل ‪ ،‬ـ ه @@ذا االس @@تكبار ‪ ،‬هو أثر من آث @@ار ه @@ذا الغ @@رور ال @@ذي اس @@تبد بعق @@وهلم ‪،‬‬
‫فرأوا منه ىف فرعون إهلا ‪ ،‬وأهنم حاشية إله!!‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫(فَقالُوا أَُن ْؤ ِم ُن لِبَ َش َريْ ِن ِمثْلِنا َو َق ْو ُم ُهما لَنا عابِ ُدو َن؟)‬
‫وهذا القول ‪ ،‬هو من قوم فرع@ون ‪ ،‬ومن املأل ال@ذين معه ‪ ..‬وليس من فرع@ون ‪ ..‬إذ‬
‫أن فرع @@ون ما ك@ @@ان ي @@رى أنه من البشر ‪ ،‬وإمنا هو إله من نسل آهلة ‪ ..‬وهلذا ق @@ال ملوسى ‪:‬‬
‫ِ‬ ‫ت إِلهاً غَي ِري أَل َجعلَن َ ِ‬
‫ين)!‬ ‫َّك م َن ال َْم ْس ُجون َ‬ ‫َْ‬ ‫(لَئِ ِن اتَّ َخ ْذ َ َ ْ‬
‫وه@@ذه القولة من ق@@وم فرع@@ون ش@@اهد يش@@هد ب@@أن الن@@اس مجيعا على س@@واء ىف إنك@@ارهم‬
‫على رسل اهلل أن يكون@@وا بش@@را مثلهم ‪ ..‬وأك@@ثر ما يك@@ون ه@@ذا عن احلسد ال@@ذي ينفس فيه‬
‫بعض الناس على بعضهم ‪ ،‬أن ينالوا شيئا من نعمة ‪،‬‬
‫‪1141‬‬

‫أو ج@@اه ‪ ،‬أو س @@لطان ‪ ،‬وأشد ما يك @@ون احلسد ‪ ،‬حني يك @@ون بني املتج @@اورين ‪ ،‬واملتق @@اربني‬
‫ىف ال @@دار ‪ ،‬أو العمل ‪ ..‬وأنه كلما بع @@دت الص @@الت بني إنس @@ان وإنس @@ان ‪ ،‬ف @@رتت أو م @@اتت‬
‫دواعى احلسد له ‪ ،‬والعكس صحيح ‪..‬‬
‫ومن هنا صحت العربة القائلة ‪« :‬ال كرامة لنىب ىف وطنه» وذلك للنظرة احلاس@@دة له‬
‫من قومه‪.‬‬
‫وقوله تع@ @ @ @@اىل ‪َ ( :‬و َق ْو ُم ُهما لَنا عابِ ـ ـ ـ ُدو َن) ـ هو من بعض تعاّل ت الق@ @ @ @@وم على موسى‬
‫وهرون ‪ ،‬ومن احلجج اليت أقاموها ىف دفع دعوته هلم إىل متابعته ‪ ..‬إذ كيف يتابعون بش@@را‬
‫مثلهم؟ وإذا جاز هذا فكيف يت@ابعون بش@را هو دوهنم منزل@ة؟ أليس موسى وه@رون من ق@وم‬
‫هم خدم وأتباع لفرعون وقومه؟‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ين)‪.‬‬ ‫وهما فَكانُوا م َن ال ُْم ْهلَك َ‬ ‫(فَ َك َّذبُ ُ‬
‫وتلك هى عاقبة من ي@ @ @@دعى إىل اهلدى في @ @ @@أىب ‪ ،‬ويلقى إليه حببل النج@ @ @@اة في@ @ @@أنف أن‬
‫ميسك به من يد ال يراها كفئا له حس @ @@با ونس @ @@با ‪ ،‬وي @ @@ؤثر أن ميوت غرقا على أن تكتب له‬
‫النجاة ‪ ،‬ويأخذ احلياة من تلك اليد احمل ّقرة عنده!‪.‬‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫تاب ل ََعلَّ ُه ْم َي ْهتَ ُدو َن)‪.‬‬ ‫ِ‬
‫وسى الْك َ‬
‫( َولََق ْد آَت ْينا ُم َ‬
‫هو إش@ @ @ @ @ @@ارة إىل قصة أخ@ @ @ @ @ @@رى ‪ ..‬هى قصة موسى مع قومه بىن إس@ @ @ @ @ @@رائيل ‪ ،‬بعد أن‬
‫انتهت قصته مع فرعون وقومه ‪..‬‬
‫‪1142‬‬

‫ومل جير ذكر هنا لبىن إس@@رائيل ‪ ،‬وإمنا جىء بض@@مري الغيبة عنهم ب@@دال منهم ‪ ،‬إش@@عارا‬
‫ملا ك@@ان عليه الق@@وم من عن@@اد ‪ ،‬وخالف ‪ ،‬ومكر بآي@@ات اهلل ‪ ،‬حىت لك@@أهنم ـ وهم يس@@معون‬
‫آي @@ات اهلل ‪ ،‬وي @@رون املعج @@زات اليت يطلع هبا عليهم موسى ـ غ @@ائبون غري حاض @@رين ‪ ،‬ملا ىف‬
‫قلوهبم من قسوة ‪ ،‬وما ىف طبائعهم من التواء‪.‬‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫ناهما إِلى ر ْبـ ــو ٍة ِ‬
‫ذات قَـ ــرا ٍر َو َم ِعي ٍن) هو معط @ @@وف‬ ‫آويْ ُ‬
‫َ َ‬ ‫( َو َج َعلْنَا ابْ َن َمـ ـ ْـريَ َم َوأ َُّمهُ آيَ ـ ـةً َو َ‬
‫ـاب) ‪ ..‬أي آتينا موسى الكت @@اب ‪ ،‬وجعلنا ابن‬ ‫ِ‬
‫على قوله تع @@اىل ‪َ ( :‬ولََقـ ـ ْد آَت ْينا ُمو َسـ ـى الْكت ـ َ‬
‫وأمه آية ‪ ..‬لبىن إس @@رائيل لعلهم يهت @@دون ‪ ،‬وذلك أن عيسى عليه‌السالم هو رس @@ول‬ ‫م @@رمي ّ‬
‫إىل بىن إس@@رائيل ‪ ،‬وآية من آي@@ات اهلل فيهم ‪ ..‬وتلك اآلي@@ات الق@@اهرة املتتابعة ‪ ،‬هى مظ@@اهرة‬
‫حلجة اهلل على ه @@ؤالء الق @@وم ‪ ،‬حىت إذا مل يس @@تجيبوا هلا ‪ ،‬ك @@ان الع @@ذاب الواقع هبم أض @@عافا‬
‫حيل بغريهم من عباد اهلل‪.‬‬ ‫مضاعفة ‪ ،‬ملا ّ‬
‫وىف اإلش@ @@ارة إىل عيسى عليه‌السالم بقوله تع@ @@اىل ‪( :‬ابْ َن َم ـ ْـريَ َم) إش@ @@ارة إىل النسب‬
‫الص @@حيح له ‪ ..‬وهو أنه ابن ّأمه م @@رمي ‪ ..‬وليس ابن إله كما ي @ ّدعى النّص @@ارى ‪ ،‬وال ابن زنا‬
‫كما يفرتى اليهود ‪« ..‬إنه ابن مرمي»!‬
‫وقد اختلف ىف الرب@ @ @@وة ـ وهى املك@ @ @@ان املرتفع من األرض ـ اليت آوى اهلل س@ @ @@بحانه‬
‫وأمه ‪ ..‬وال @@راجح عن @@دنا أهنا مصر ‪ ..‬اليت ج @@اء إليها املس @@يح طفال‬ ‫وتع @@اىل ‪ ،‬إليها ابن م @@رمي ّ‬
‫حمم @@وال على ص @@در أمه ‪ ،‬مع زوجها يوسف النّج @@ار ‪ ..‬وذلك حني أوحى اهلل إىل م @@رمي أن‬
‫هترب بولي@ @@دها إىل مصر ‪ ،‬خوفا عليه من احلاكم الروم@ @@اىن ‪ ،‬ال@ @@ذي طلبه ليقتله ‪ ،‬حني مسع‬
‫مبولده ‪ ..‬كما حي ّدث بذلك إجنيل مىّت ‪.‬‬
‫‪1143‬‬

‫وتس @ @@مية مصر ( َر ْبـ ـ َـو ٍة) ألهنا بالنس @ @@بة ألرض فلس @ @@طني أش @ @@به ب @ @@الربوة املش @ @@رفة على‬
‫ال @@وادي ‪ ،‬وذلك ألنه كاّل من مصر وفلس @@طني ىف النصف الش @@مايل من الك @@رة األرض @@ية ‪..‬‬
‫وأن األرض ىف ه@ @ @ @ @@ذا النصف تأخذ ىف االحندار من اجلن@ @ @ @ @@وب إىل الش@ @ @ @ @@مال ‪ ،‬أي من خط‬
‫االستواء إىل القطب الش@مايل ‪ ،‬وهلذا جترى األهنار من اجلن@وب إىل الش@مال ىف ه@ذا النصف‬
‫من الك@ @@رة ‪ ..‬وملا ك@ @@انت مصر تقع إىل اجلن@ @@وب من أرض فلس@ @@طني ‪ ،‬فإهنا ـ هلذا ـ أعلى‬
‫مكانا منها ‪ ،‬حبيث لو نظر الن @ @@اظر إليهما من أفق أعلى ل @ @@رأى مصر مش @ @@رفة على فلس @ @@طني‬
‫كأهنا ربوة عالية‪.‬‬
‫@تقر فيه ‪ ،‬حيث تت@وفر أس@باب احلي@اة واالس@تقرار واملعني ‪:‬‬ ‫والق@رار ‪ :‬املك@@ان ال@ذي يس ّ‬
‫املاء الذي يفيض من العيون ‪ ..‬وهذا الوصف جدير أن يكون ملصر‪.‬‬
‫____________________________________‬

‫اآليات ‪ 51( :‬ـ ‪)62‬‬


‫يم (‪َ @)51‬وإِ َّن‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫الر ُس ُل ُكلُوا م َن الطَّيِّبــات َوا ْع َملُــوا صــالحاً إِنِّي بما َت ْع َملُــو َن َعل ٌ‬ ‫(يا أ َُّي َها ُّ‬
‫ب بِما‬ ‫ـل ِـح ْز ٍ‬
‫ون (‪َ @)52‬فَت َقطَّعُوا أ َْم َـر ُه ْم َب ْيَن ُه ْم ُزبُـراً ُك ُّ‬ ‫َ َ ْ‬
‫هذ ِه أ َُّمت ُكم أ َُّمةً ِ‬
‫واح َد ًة وأَنَا ربُّ ُكم فَ َّات ُق ِ‬
‫ُ ْ‬
‫ِ‬
‫ُّه ْم بِ ـ ِـه ِم ْن‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫س ـبُو َن أَنَّما نُ ِمــد ُ‬
‫لَ ـ َديْ ِه ْم فَ ِر ُحــو َن (‪ )53‬فَ ـ َذ ْر ُه ْم في غَ ْمـ َـرت ِه ْم َحتَّى حي ٍن (‪ @ @)54‬أَيَ ْح َ‬
‫ين ُه ْم ِم ْن َخ ْش ـيَ ِة‬ ‫َّ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ين (‪ )55‬نُســارِعُ ل َُه ْم في الْ َخ ْيــرات بَـ ْـل ال يَ ْش ـعُ ُرو َن (‪ )56‬إِ َّن الذ َ‬
‫ٍ ِ‬
‫مــال َوبَن َ‬
‫ين ُه ْم بِـَـربِّ ِه ْم ال يُ ْشـ ِر ُكو َن‬ ‫َّ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫َّ ِ‬ ‫ِ‬
‫ين ُه ْم بآيات َربِّ ِه ْم ُي ْؤمنُــو َن (‪َ )58‬والذ َ‬ ‫َربِّ ِه ْم ُم ْشف ُقو َن (‪َ )57‬والذ َ‬
‫ـك‬‫راجعُـ ـ ــو َن (‪ )60‬أُولئِـ ـ ـ َ‬ ‫(‪ )59‬والَّ ِذين ي ْؤتُـ ـ ــو َن ما آَتـ ـ ــوا و ُقلُـ ـ ــوب ُهم و ِجلَ ـ ـ ـةٌ أ ََّن ُهم إِلى ربِّ ِهم ِ‬
‫ْ َ ْ‬ ‫ُ َْ‬ ‫ْ َ‬ ‫َ َُ‬
‫ِ‬ ‫ـرات َو ُه ْم لَها س ــابِ ُقو َن(‪َ )61‬وال نُ َكلِّ ُ‬ ‫يس ــا ِرعُو َن فِي الْ َخ ْيـ ِ‬
‫ف َن ْفس ـاً إِالَّ ُو ْس ـ َعها َولَ ـ َديْنا كت ـ ٌ‬
‫ـاب‬ ‫ُ‬
‫ِ‬
‫ْح ِّق َو ُه ْم ال يُظْلَ ُمو َن) (‪)62‬‬ ‫َي ْنط ُق بِال َ‬
‫____________________________________‬
‫‪1144‬‬

‫التفسري ‪:‬‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫يم َوإِ َّن هـ ِـذ ِه‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫الر ُس ـ ُل ُكلُــوا م َن الطَّيِّبــات َوا ْع َملُــوا صــالحاً إِنِّي بما َت ْع َملُــو َن َعل ٌ‬ ‫(يا أ َُّي َها ُّ‬
‫ون)‪.‬‬ ‫أ َُّمت ُكم أ َُّمةً ِ‬
‫واح َد ًة وأَنَا ربُّ ُكم فَ َّات ُق ِ‬
‫َ َ ْ‬ ‫ُ ْ‬
‫اخلط @@اب املوجه من اهلل س @@بحانه وتع @@اىل إىل الرسل ‪ ..‬عليهم الص @@الة والس @@الم ـ هو‬
‫خص الرسل بالن@ @@داء ألهنم الق@ @@دوة واملثل‬ ‫خط@ @@اب ع@ @@ام يش@ @@مل أتب@ @@اع الرسل مجيعا ‪ ..‬وقد ّ‬
‫لألنسانية كلها عامة ‪ ،‬وألقوامهم خاصة‪.‬‬
‫وق @ @ ّدم األكل من الطيب @ @@ات على العمل الص@ @ @@احل ‪ ،‬ألنه مثرة األعم @ @@ال الص@ @ @@احلة ‪ ،‬فال‬
‫يتحرى األكل من الطيب إال من أقام نفسه على األعمال الصاحلة وأخذها هبا‪.‬‬ ‫ّ‬
‫وألن األكل ‪ ،‬وما يتصل به ‪ ،‬هو م@ @@دار حي@ @@اة اإلنس@ @@ان ‪ ،‬وكل س@ @@عيه وعمله يك @@اد‬
‫يك@ @ @@ون دائ@ @ @@را ىف جماله ـ ك@ @ @@ان اإللف@ @ @@ات إليه أل@ @ @@زم وأوىل ‪ ،‬ألنه هو ال@ @ @@ذي جي ّس @ @ @م العمل ‪،‬‬
‫ويصوره ‪ ،‬وهو الذي يرى عليه أثر العمل وصفته ‪ ،‬إن كان صاحلا أو غري صاحل‪.‬‬ ‫ّ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫يم) حتذير من مراقبة اهلل ‪ ،‬وعلمه مبا يقع من‬ ‫ـ وىف قوله تع@@اىل ‪( :‬إِنِّي بما َت ْع َملُو َن َعل ٌ‬
‫الناس من أعمال ‪ ،‬ومبا تتصف به هذه األعمال من صالح أو فساد‪.‬‬
‫ِ‬
‫واحـ َد ًة وأَنَا ربُّ ُكم فَـ ـ َّـات ُق ِ‬ ‫ِِ‬
‫ون) ـ هو دع@ @@وة إىل‬ ‫ـ وقوله تع@ @@اىل ‪َ ( :‬وإِ َّن هـ ــذه أ َُّمتُ ُك ْم أ َُّمةً ـ َ َ ْ‬
‫اإلخاء اإلنس@@اىنّ ‪ ،‬وإىل إزالة ه@ذه الس@دود اليت تع@زل اجملتمع@@ات اإلنس@انية بعض@ها عن بعض‬
‫‪ ..‬فما ه@@ذه األص@@باغ واألل@@وان اليت تص@@بغ الن@@اس ‪ ،‬من معتق@@دات دينية ‪ ،‬ال ينبغى أن تق@@وم‬
‫حجازا بني الناس ‪ ،‬وخاصة إذا كانوا مجيعا يتجهون‪.‬‬
‫‪1145‬‬

‫إىل اهلل ‪ ،‬ويؤمن@ @ @@ون به ‪ ..‬ف@ @ @@وجهتهم مجيعا هى اهلل ‪ ،‬وإن ك@ @ @@ان لك@ @ @ ّ@ل وجهة هو موليها ‪..‬‬
‫وك@ @@ذلك ينبغى أن تك@ @@ون وجهتهم مجيعا هى اإلنس @ @@انية ‪ ،‬وإن ك@ @@ان لك@ @ ّ@ل إنس @ @@ان لونه ‪،‬‬
‫ووطنه وجنسه‪.‬‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫( َفَت َقطَّعُوا أ َْم َر ُه ْم َب ْيَن ُه ْم ُزبُراً ُك ُّل ِح ْز ٍب بِما لَ َديْ ِه ْم فَ ِر ُحو َن)‪.‬‬
‫هو إنك @@ار على الن @@اس ه @@ذا التق @@اطع والت @@دابر ال @@ذي بينهم ‪ ،‬وقد ك @@ان األوىل هبم ‪،‬‬
‫@رب واحد أن يك @ @@ون أم @ @@رهم واح @ @@دا ‪..‬‬ ‫وهم إخ @ @@وة أبن @ @@اء ذكر وأن @ @@ثى ‪ ،‬وهم مربوب @ @@ون ل @ @ ّ‬
‫ولكنهم تنكب @@وا ه @@ذا الطريق ‪ ،‬فتن @@ازعوا أم @@رهم بينهم ‪ ،‬وتقطع @@وه قطعا ‪ ،‬وذهب كل فريق‬
‫منهم جبزء منه ‪ ،‬فرحا مبا ذهب به ‪ ،‬ظانّا أنه أخذ اخلري كلّه ‪ ،‬على حني أنه أخذ القليل‬
‫وفاته الكثري‪.‬‬
‫ـ وىف قوله تع@@اىل ‪َ ( :‬فَت َقطَّعُــوا) ب@@دال من قوله «فقطع@@وا» ال@@ذي يقتض@@يه ظ@@اهر النظم‬
‫إشارة إىل أهنم هم ال@@ذين تقطع@@وا ‪ ،‬ال أن األمر هو ال@@ذي تقطع ‪ ..‬وذلك أهنم هبذا اخلالف‬
‫الذي وقع بينهم ‪ ،‬قد أوقعوا الضرر بأنفسهم ‪ ،‬فكان بينهم الصراع والقتال ‪..‬‬
‫والزبر ‪ :‬القطع ‪ ،‬مجع «زب @ @ @ @@رة» وهى القطعة من الش @ @ @ @@يء ‪ ..‬كما ىف قوله تع @ @ @ @@اىل ‪:‬‬ ‫ّ‬
‫ْحديد) (‪ : 96‬الكهف)‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫(آتُوني ُز َب َر ال َ‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫(فَ َذ ْر ُه ْم فِي غَ ْم َرتِ ِه ْم َحتَّى ِحي ٍن)‪.‬‬
‫األمر هنا ‪ ،‬هو أمر مطلق ‪ ،‬لكل ناصح ومرشد ‪ ،‬هلؤالء الض@ @ @ @ @@الّني ‪ ،‬املختلفني على‬
‫احلق‪.‬‬
‫‪1146‬‬

‫وهذا األمر هو هتديد هلؤالء الضالني املختلفني ‪ ،‬ب@@أن ي@@رتكوا فيما هم فيه من ض@@الل‬
‫‪ ،‬وأال يلح عليهم أحد ىف تن@ @@بيههم من غم @ @@رهتم ‪ ،‬وس@ @@كرهتم اليت هم فيه@ @@ا‪ .‬وذلك إىل أن‬
‫تقرعهم القارعة ‪ ،‬اليت تذهب هبذا اخلمار الذي ل ّذهلم النوم ىف ظله املعتم الكثيف!‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫ـال وبنِين نُسـ ـ ــارِعُ ل َُهم فِي الْ َخ ْيـ ـ ـ ِ‬
‫ـرات ‪ ..‬بَـ ـ ـ ْـل ال‬ ‫ٍ‬ ‫(أَيحس ـ ـ ـبو َن أَنَّما نُ ِـم ـ ــد ِ ِ ِ‬
‫ْ‬ ‫ُّه ْم بـ ـ ــه م ْن مـ ـ ـ َ َ َ‬ ‫ُ‬ ‫َْ َ ُ‬
‫يَ ْشعُ ُرو َن)‪.‬‬
‫دل عليه املقام ‪..‬‬ ‫املفعول الثاين للفعل حيسبون حمذوف ‪ّ ،‬‬
‫والتق@ @@دير أحيس @ @@بون ه@ @@ذا ال @ @@ذي من ّدهم به من م@ @@ال وب @ @@نني ‪ ،‬إكراما ‪ ،‬وإحس@ @@انا منّا‬
‫ـرات) لنفتنهم فيما مندهم به ‪ ،‬كما يق@@ول تع@@اىل ‪:‬‬ ‫إليهم؟ كال ‪ ،‬وإمنا (نُســارِعُ ل َُهم فِي الْ َخ ْي ِ‬
‫ْ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ْحيــاة الـ ُّـدنْيا لَن ْفتَن ُه ْم فيــه) (‪: 131‬‬ ‫َّعنا بِه أَ ْزواجـاً م ْن ُه ْم َز ْـه َـر َة ال َ‬ ‫ك إِلى ما َمت ْ‬ ‫( َوال تَ ُمد َّ‬
‫َّن َع ْيَن ْي َ‬
‫طه)‪.‬‬
‫ـ وقوله تع@@اىل ‪( :‬بَـ ْـل ال يَ ْشـعُ ُرو َن) ـ إش@@ارة إىل أهنم ال يش@@عرون هبذا االبتالء ‪ ،‬وأهنم‬
‫ـاه ُم اهللُ ِم ْن‬
‫ين َي ْب َخلُــو َن بِما آتـ ُ‬
‫َّ ِ‬
‫سبَ َّن الذ َ‬ ‫حيسبون ذلك خريا هلم ‪ ،‬كما يق@@ول تع@@اىل ‪َ ( :‬وال يَ ْح َ‬
‫يامـ ِـة) (‪ : 180‬آل‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫فَ ْ ِ ِ‬
‫ضـ ـله ُهـ َـو َخ ْي ــراً ل َُه ْم بَ ـ ْـل ُهـ َـو َشـ ـ ٌّر ل َُه ْم َسـ ـيُطََّوقُو َن ما بَخلُ ــوا بِ ــه َيـ ْـو َم الْق َ‬
‫عمران)‪.‬‬
‫ـرات) هو املفع@@ول الث@@اين‬ ‫ه@@ذا ‪ ،‬وميكن أن يك@@ون قوله تع@@اىل ‪( :‬نُســارِعُ ل َُهم فِي الْ َخ ْيـ ِ‬
‫ْ‬
‫للفعل حيس@@بون ‪ ..‬ويك@@ون املعىن ‪« :‬أحيس@@بون أمنا من ّدهم به من م@@ال وب@@نني مس@@ارعة هلم منا‬
‫ب@ @ @@اخلريات؟ كال ‪ ..‬إنه فتنة هلم ‪ ..‬ولكن ال يش @ @@عرون» ملا اس @ @@توىل عليهم من س@ @ @@كرة هبذا‬
‫الذي هم فيه من نعيم ‪..‬‬
‫‪1147‬‬

‫قوله تعاىل ‪:‬‬


‫َّ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫َّ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫ين ُه ْم بآيــات َربِّ ِه ْم ُي ْؤمنُــو َن َوالذ َ‬
‫ين ُه ْم‬ ‫(إِ َّن الذ َ‬
‫ين ُه ْم م ْن َخ ْش ـيَة َربِّ ِه ْم ُم ْش ـف ُقو َن َوالذ َ‬
‫بِــربِّ ِهم ال ي ْش ـ ِر ُكو َن والَّ ِذين ي ْؤتُــو َن ما آَتــوا و ُقلُــوب ُهم و ِجلَ ـةٌ أ ََّن ُهم إِلى ربِّ ِهم ِ‬
‫راجعُــو َن أُولئِـ َ‬
‫ـك‬ ‫ْ َ ْ‬ ‫ْ َ ُ َْ‬ ‫َ َُ‬ ‫َ ْ ُ‬
‫رات َو ُه ْم لَها سابُِقو َن ‪)..‬‬ ‫يسا ِرعُو َن فِي الْ َخ ْي ِ‬
‫ُ‬
‫ىف ه@ @@ذه اآلي@ @@ات ع@ @@رض للص@ @@ورة الكرمية ‪ ،‬اليت يك@ @@ون عليها ال@ @@ذين يس @ @@ارعون ىف‬
‫اخلريات حقا ‪ ،‬وميلئون أيديهم منها ‪ ،‬ويكون هلم فيها زاد طيب ىف الدنيا واآلخرة ‪..‬‬
‫وهؤالء هم على صفات تؤهلهم هلذا املقام الكرمي ‪:‬‬
‫فهم (أوال) من خشية رهبم ‪ ،‬وخوفهم من بأسه ـ على إشفاق دائم ‪ ،‬من أن يعصوه‬
‫ين ُه ْم ِم ْن َخ ْشيَ ِة َربِّ ِه ْم ُم ْش ِف ُقو َن ‪)..‬‬ ‫َّ ِ‬
‫‪ ،‬وأن يفعلوا منكرا ‪( ..‬إِ َّن الذ َ‬
‫وهم (ثاني @ @@ا) بآي@ @@ات رهبم يؤمن @ @@ون ‪ ،‬ويعمل @ @@ون هبذه اآلي@ @@ات ‪ ،‬ويهت @ @@دون هبديها ‪..‬‬
‫آيات َربِّ ِه ْم ُي ْؤ ِمنُــو َن) مث هم (ثالث@@ا) قد خلت نفوس@@هم من ك@ ّ@ل أثر من الش@@رك‬ ‫(والَّ ِذين ُهم بِ ِ‬
‫َ َ ْ‬
‫ين ُه ْم بِ ـ ـ َـربِّ ِه ْم ال يُ ْشـ ـ ـ ِر ُكو َن) مث هم (رابع@ @ @@ا) على خش@ @ @@ية ومراقبة دائمة هلل ‪..‬‬ ‫َّ ِ‬
‫باهلل ‪َ ( ..‬والذ َ‬
‫حىت أهنم وهم يفعلون ما يفعلون من خري ويقدمون ما يقدمون من طاع@@ات وعب@@ادات ‪ ،‬ال‬
‫تزايلهم اخلش@ية وال يب@@ارحهم اخلوف من اهلل ‪ ،‬ومن أهنم على تقصري ىف حقه تع@@اىل ‪ ،‬وفيما‬
‫ـوب ُه ْم َو ِجلَـ ـ ـ ـ ـةٌ أ ََّن ُه ْم إِلى َربِّ ِه ْم‬ ‫َّ ِ‬
‫جيب له من طاعة ووالء ‪َ ( ..‬والذ َ‬
‫ين ُي ْؤتُ ـ ـ ـ ــو َن ما آَتـ ـ ـ ـ ـ ْـوا َو ُقلُ ـ ـ ـ ـ ُ‬
‫ِ‬
‫راجعُو َن)‬
‫الزكا َة) وقوله تعاىل‪:‬‬ ‫ويستعمل اإليتاء غالبا ىف فعل اخلري مثل قوله تعاىل ‪َ ( :‬و ُي ْؤتُو َن َّ‬
‫ْمال َعلى ُحبِّ ِه) وقوله سبحانه ‪( :‬آَت ْيناهُ َر ْح َمةً ِم ْن ِع ْن ِدنا) ‪..‬‬ ‫( َوآتَى ال َ‬
‫‪1148‬‬

‫شـةَ َوأَ ْنتُ ْم‬ ‫ويستعمل اإلتيان ىف فعل الشر غالبا ‪ ..‬كما ىف قوله تع@@اىل ‪( :‬أَتَأْتُو َن ال ِ‬
‫ْفاح َ‬
‫صرو َن) وقوله ‪( :‬وتَأْتُو َن فِي ِ‬
‫نادي ُك ُم ال ُْم ْن َك َر ‪)..‬‬ ‫ِ‬
‫َ‬ ‫ُت ْب ُ‬
‫ـوب ُه ْم َو ِجلَـ ـةٌ‬ ‫َّ ِ‬
‫وقد ج @@اءت اآلية هنا بلفظ «اإليت @@اء» ‪َ ( ..‬والذ َ‬
‫ين ُي ْؤتُ ــو َن ما آَتـ ْـوا َو ُقلُ ـ ُ‬
‫راجعُو َن ‪)..‬‬‫أ ََّن ُهم إِلى ربِّ ِهم ِ‬
‫ْ َ ْ‬
‫النىب ‪..‬‬
‫وىف قراءة مشهورة ‪« :‬والذين يأتون ما أتوا» ‪ ..‬ويقال هلا قراءة ّ‬
‫وعلى هذه الق@@راءة يك@@ون املعىن ‪ :‬وال@@ذين يفعل@@ون املنكر ‪ ،‬وهم على خ@@وف وخش@ية‬
‫من رهبم‪ .‬ف@@إهنم هبذا اخلوف وتلك اخلش@@ية أهل ألن يكون@@وا ىف ه@@ذه األص@@ناف اليت ذكرها‬
‫اهلل سبحانه وتعاىل من أصناف املؤمنني ‪ ..‬إذ أن ما ىف قلوهبم من وجل من لقاء رهّب م وهم‬
‫على املنكر ـ سينتهى هبم يوما إىل النزوع عن املنكر ‪ ،‬والوقوف عند حدود اهلل ‪..‬‬
‫وقد يبدو ىف ت@رتيب ه@ذه الص@فات تق@دمي وت@أخري ‪ ،‬وأهنا مل تل@تزم ال@رتتيب الط@بيعي ‪،‬‬
‫تصاعدا أو تنازال ‪..‬‬
‫فمثال ‪ ..‬اإلميان بآيات اهلل ‪ ..‬ينبغى أن يسبق اخلشية من اهلل ‪ ،‬وكذلك عدم الشرك‬
‫باهلل ‪ ،‬وهو س @@ابق للخش @@ية من اهلل ‪ ،‬حيث ال تك @@ون اخلش @@ية هلل إال من قلب م @@ؤمن باهلل ‪،‬‬
‫وبآيات اهلل ‪ ..‬وإنه ال بد هلذا من سر ‪ ..‬فما هو؟‬
‫اجلواب ـ واهلل أعلم ـ أن ه@@ذه الص@@فات ‪ ،‬وإن أمكن أن تلتقى مجيعها ىف قلب املؤمن‬
‫باهلل ‪ ،‬إال أن املؤمنني على حظ@وظ خمتلفة منها ‪ ..‬فبعض@هم تغلب عليه ص@فة اخلش@ية من اهلل‬
‫‪ ،‬وبعضهم ي@ؤمن بآي@ات اهلل ‪ ،‬ولكن تغلبه نفسه ‪ ،‬فال تتحقق اخلش@ية كاملة من اهلل ىف قلبه‬
‫‪ ..‬وبعض@@هم يع@@رتف بوج@@ود اهلل ‪ ،‬ويق@ ّ@ر بوحدانيته إق@@رارا عقليّا ‪ ،‬كالفالس@@فة وحنوهم‪ .‬وال‬
‫الرسل ‪ ،‬وال يأخذون مما معهم من آيات اهلل ‪ ..‬وبعض@@هم ي@@ؤمن باهلل ‪ ،‬وبآي@@ات‬ ‫يتلقون عن ّ‬
‫اهلل ‪ ،‬وبرسل‬
‫‪1149‬‬

‫اهلل ‪ ..‬مث يؤتون ما آتوا من طاعات وعبادات وهم ىف صراع مع أنفسهم ‪ ،‬وىف خ@وف من‬
‫قصروا ‪..‬‬
‫لقاء اهلل أن يكونوا قد ّ‬
‫فه@@ؤالء مجيعا ميكن أن يتجه@@وا إىل اخلري ‪ ،‬وجياه@@دوا أنفس@@هم لتحص@@يل اخلري ‪ ،‬حيث‬
‫حيمل كل منهم ىف كيانه شرارة من ش@رارات اإلميان ميكن أن تنق@دح ىف ح@ال من األح@وال‬
‫‪ ،‬ما دام على أية صفة من تلك الصفات ‪ ،‬فتشرق نفسه بن@ور اهلل ‪ ،‬وإذا هو ـ ش@يئا فش@يئا ـ‬
‫على هدى من ربه ‪ ،‬وعلى طريق اخلري واإلحسان ‪..‬‬
‫طان‬ ‫ف ِم َن ال َّ‬
‫شـ ـ ـ ْي ِ‬ ‫سـ ـ ـ ُه ْم ط ـ ــائِ ٌ‬
‫ين َّات َقـ ـ ْـوا إِذا َم َّ‬ ‫َّ ِ‬
‫وه@ @ @@ذا ما يشري إليه قوله تع@ @ @@اىل ‪( :‬إِ َّن الذ َ‬
‫ص ُرو َن) (‪ : 201‬األعراف)‬ ‫تَ َذ َّكروا فَِإذا ُهم م ْب ِ‬
‫ُْ‬ ‫ُ‬
‫وهذه األصناف من املؤمنني ـ على قرهبا أو بع@دها من اإلحس@ان ـ يش@ ّدها مجيعها إىل‬
‫النج @@اة ‪ ،‬والفالح ‪ ،‬اإلميان باهلل ‪ ..‬وحيث يك @@ون اإلميان باهلل ‪ ،‬فإنه يك @@ون األمل والرج @@اء‬
‫ىف الس@@المة والنج@@اة ‪ ،‬وحيث يتع@ ّ@رى اإلنس@@ان من اإلميان فإنه ال أمل وال رج@@اء ىف س@@المة‬
‫أو جناة ‪ ،‬وإن فعل أفعال املؤمنني احملسنني ‪..‬‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫رات َو ُه ْم لَها سابُِقو َن ‪)..‬‬ ‫ك يسا ِرعُو َن فِي الْ َخ ْي ِ‬ ‫ِ‬
‫(أُولئ َ ُ‬
‫أي أن ه@ @ @@ؤالء املؤم@ @ @@نني ال@ @ @@ذين حتققت فيهم تلك الص@ @ @@فات مجيعها ‪ ،‬أو حتقق فيهم‬
‫بعض @@ها دون بعض ـ هم أهل ألن يس @@ددوا ويرش @@دوا ‪ ،‬وأن يكون @@وا يوما من الس @@باقني إىل‬
‫اخلري ‪ ،‬ما دام @ @@وا ىف ص@ @ @@حبة اإلميان باهلل ‪ ،‬ذلك اإلميان ال @ @@ذي يقيم ىف كي @ @@اهنم ن @ @@ورا يطلع‬
‫عليهم كلما أظلمت مساؤهم ‪ ،‬وظللتها سحب الفنت واألهواء ‪..‬‬
‫‪1150‬‬

‫فاإلميان باهلل ‪ ،‬هو املعتصم ‪ ،‬وال معتصم غ@ @ @ @ @ @ @ @@ريه ‪ ،‬إذا استمسك به اإلنس@ @ @ @ @ @ @ @@ان فقد‬
‫راط ُم ْسـتَ ِق ٍيم) (‪ : 101‬آل‬ ‫صـ ٍ‬ ‫اهلل َف َقـ ْد ُهـ ِـدي إِلى ِ‬ ‫صـم بِ ِ‬ ‫ِ‬
‫َ‬ ‫ض@@من النج@@اة والفالح ‪َ ( ..‬و َم ْن َي ْعتَ ْ‬
‫عمران)‬
‫@ىب صلى‌هللا‌عليه‌وس لم ‪ ،‬ىف ش@ @@أن ثقيف ‪ ،‬حني‬ ‫وقد روينا من قبل ح@ @@ديثا عن الن@ @ ّ‬
‫دعيت إىل اإلس@@الم ‪ ،‬فقبلته ‪ ،‬ولكنها اش@@رتطت أال ت@@ؤدى الزك@@اة ‪ ،‬وال جتاهد ىف س@@بيل اهلل‬
‫‪..‬‬
‫@ىب ـ ص @@لوات اهلل وس @@المه عليه ـ إس @@المهم ه @@ذا ‪ ،‬قبله منهم ‪،‬‬ ‫وحني ع @@رض على الن@ ّ‬
‫وقال صلوات اهلل وسالمه عليه ‪« :‬سيتصدقون وجياهدون ىف سبيل اهلل إذا أسلموا» ‪..‬‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫تاب َي ْنط ُق بِال َ‬
‫ْح ِّق َو ُه ْم ال يُظْلَ ُمو َن ‪)..‬‬ ‫ف َن ْفساً إِاَّل ُو ْس َعها ‪َ ..‬ولَ َديْنا ك ٌ‬ ‫( َوال نُ َكلِّ ُ‬
‫هو تطمني لقل@@وب ه@@ؤالء املؤم@@نني ‪ ،‬ال@@ذين مألت اخلش@@ية قل@@وهبم ‪ ،‬واس@@توىل اخلوف‬
‫من اهلل عليهم ‪ ،‬حىت لقد ك@@اد ذلك يك@@ون وسواسا دائما يعيش معهم ‪ ..‬فج@@اء قوله تع@@اىل‬
‫ف َن ْفس ـاً إِاَّل ُو ْس ـ َعها) ليخفف عن املؤم @@نني باهلل ه @@ذا الش @@عور الض @@اغط عليهم ‪،‬‬ ‫‪َ ( :‬وال نُ َكلِّ ُ‬
‫ول@ @@رييهم من رمحة اهلل ما تق@ @ ّ@ر به عي@ @@وهنم ‪ ،‬وتطمئن به قل@ @@وهبم ‪ ،‬وذلك ألن اهلل س@ @@بحانه ‪:‬‬
‫«ال يكلف نفسا إال وس@@عها» وحسب املؤمن باهلل أن ي@@أتى من الطاع@@ات ما تتسع له نفسه‬
‫‪ ،‬وحيتمله جه @ @ @@ده ‪ ..‬واهلل س @ @ @@بحانه وتع @ @ @@اىل يق @ @ @@ول ‪( :‬فَـ ـ ـ َّـات ُقوا اهللَ َما ا ْس ـ ـ ـتَطَ ْعتُ ْم) (‪: 16‬‬
‫التغابن)‪.‬‬
‫ْح ِّق ‪ )..‬املراد بالكت@ @@اب هنا ‪ ،‬هو الكت@ @@اب‬ ‫ـاب َي ْن ِطـ ـ ُ‬
‫ـق بِـ ــال َ‬
‫ِ‬
‫وقوله تع@ @@اىل ‪َ ( :‬ولَ ـ ـ َديْنا كتـ ـ ٌ‬
‫@جل فيه األعم@@ال ‪ ،‬لكل عامل ىف ه@@ذه ال@@دنيا ‪ ،‬من حسن أو س@@ىء ‪ ..‬كما يق@@ول‬ ‫ال@@ذي تس@ ّ‬
‫ْح ِّق إِنَّا ُكنَّا نَ ْسَت ْن ِس ُخ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫سبحانه ‪( :‬هذا كتابُنا َي ْنط ُق َعلَْي ُك ْم بِال َ‬
‫‪1151‬‬

‫ـان أَل َْز ْمنـاهُ طـائَِرهُ فِي‬


‫ـل إِنس ٍ‬
‫ما ُك ْنتُ ْم َت ْع َملُو َن) (‪ : 29‬اجلاثي@@ة) وكما يق@@ول جل ش@@أنه ‪َ ( :‬و ُك َّ‬
‫يام ِة كِتاباً َيلْقاهُ َم ْن ُشوراً) (‪ : 13‬اإلسراء)‪.‬‬ ‫ِ‬
‫ِج لَهُ َي ْو َم الْق َ‬
‫ِِ‬
‫عُنُقه َونُ ْخر ُ‬
‫فكل ما يعمله اإلنس@@ان ‪ ،‬مس@@طور ىف ه@@ذا الكت@@اب ‪ ،‬ن@@اطق بكل ص@@غرية وكب@@رية ‪..‬‬
‫دون أن يكون هناك خطأ أو نسيان ‪ ..‬تعاىل اهلل عن ذلك علوا كبريا‪.‬‬
‫حيب أن يراه ‪ ،‬ويسعد به‪.‬‬‫فليكتب اإلنسان ىف كتابه هذا ما ّ‬
‫يسرك ىف القيامة أن تراه‬
‫وال تكتب ىف كتابك غري شىء ّ‬
‫____________________________________‬

‫اآليات ‪ 63( :‬ـ ‪)74‬‬


‫ـك ُه ْم لَها ع ـ ِـاملُو َن (‪)63‬‬ ‫ون ذلِ ـ َ‬ ‫ـال ِمن ُد ِ‬ ‫ٍِ‬
‫ـوب ُه ْم في غَ ْمـ َـرة م ْن ه ــذا َول َُه ْم أَ ْعم ـ ٌ ْ‬
‫ِ‬
‫(بَ ـ ْـل ُقلُ ـ ُ‬
‫ـذاب إِذا ُه ْم يَ ْجـ ـ ـ أ َُرو َن (‪ )64‬ال تَ ْجـ ـ ـ أ َُروا الَـْي ـ ـ ْـو َم إِنَّ ُك ْم ِمنَّا ال‬ ‫َخـ ـ ـ ْذنا ُم ْـتـ ــرفِي ِه ْم بِال َْعـ ـ ـ ِ‬
‫َ‬ ‫َحتَّى إِذا أ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ص ـ ـ ـو َن (‪)66‬‬ ‫ت آيـ ـ ــاتي ُت ْتلى َعلَْي ُك ْم فَ ُك ْنتُ ْم َعلى أَ ْعقـ ـ ــابِ ُك ْم َت ْنك ُ‬ ‫ص ـ ـ ـ ُرو َن (‪ @ @ @ @)65‬قَ ـ ـ ـ ْد كـ ـ ــانَ ْ‬‫ُت ْن َ‬
‫ـاء ُه ُم‬ ‫ِ‬ ‫ـامراً َت ْه ُج ـ ُـرو َن (‪ )67‬أَ َفلَ ْم يَ ــد َّ‬ ‫مسـ ـت ْكبِ ِرين بِ ـ ِـه س ـ ِ‬
‫َم يَـ ـأْت آب ـ َ‬ ‫ـاء ُه ْم ما ل ْ‬ ‫َّب ُروا الْ َقـ ْـو َل أ َْم ج ـ َ‬ ‫َُْ َ‬
‫ِِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َم َي ْع ِرفُوا َر ُسول َُه ْم َف ُه ْم لَهُ ُم ْنكـ ُـرو َن (‪ @)69‬أ َْم َي ُقولُــو َن ب ــه جنَّةٌ بَـ ْـل جـ َ‬
‫ـاء ُه ْم‬ ‫ين (‪ @)68‬أ َْم ل ْ‬ ‫اأْل ََّول َ‬
‫ـق أ َْهــواء ُهم لََفسـ ـ َد ِ‬ ‫ِ‬
‫ماوات‬
‫ُ‬ ‫سـ ـ‬
‫ت ال َّ‬ ‫َ ْ َ‬ ‫ـق ك ــا ِر ُهو َن (‪َ @ @ )70‬ولَـ ـ ِو َّاتبَ ـ َـع ال َ‬
‫ْحـ ُّ‬ ‫ْحـ ِّ‬ ‫بِ ــال َ‬
‫ْح ِّق َوأَ ْك َث ـ ُـر ُه ْم لل َ‬
‫ضو َن (‪ @)71‬أ َْم تَ ْسأَل ُُه ْم َخ ْرجـاً‬ ‫ناه ْم بِ ِذ ْك ِر ِه ْم َف ُه ْم َع ْن ِذ ْك ِر ِه ْم ُم ْع ِر ُ‬ ‫ِ‬
‫ض َو َم ْن في ِه َّن بَ ْل أََت ْي ُ‬ ‫َواأْل َْر ُ‬
‫ص ٍ‬ ‫وهم إِلى ِ‬ ‫ين (‪َ )72‬وإِنَّ َ‬ ‫ك َخير وهو َخير َّ ِ‬
‫راط‬ ‫ك لَتَ ْدعُ ُ ْ‬ ‫الرا ِزق َ‬ ‫راج َربِّ َ ْ ٌ َ ُ َ ْ ُ‬ ‫فَ َخ ُ‬
‫‪1152‬‬

‫ين ال ُي ْؤ ِمنُو َن بِاآْل ِخ َر ِة َع ِن ِّ‬


‫الص ِ‬
‫راط لَناكِبُو َن) (‪)74‬‬ ‫َّ ِ‬ ‫ِ‬
‫ُم ْستَق ٍيم (‪َ )73‬وإِ َّن الذ َ‬
‫____________________________________‬
‫التفسري ‪:‬‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫ك هم لَها ِ‬
‫عاملُو َن ‪)..‬‬ ‫ِ ِ‬ ‫(بل ُقلُوبهم فِي غَمر ٍة ِمن هذا ولَهم أَ ْع ٌ ِ‬
‫مال م ْن ُدون ذل َ ُ ْ‬ ‫َ ُْ‬ ‫َْ ْ‬ ‫َ ْ ُُ ْ‬
‫الض @@مري ىف قل @@وهبم ‪ ،‬ي @@راد به املش @@ركون من أهل مكة ‪ ،‬ومن حوهلا ‪ ..‬وهم وإن مل‬
‫جير هلم ذكر فيما سبق من آيات ‪ ،‬فإهنم ـ ىف الواقع ـ م@@ذكورون ىف كل آية ‪ ،‬إذ ك@@ان ه@@ذا‬
‫القرآن كلّه هو كتاهبم ‪ ،‬وهو رسالة رسول اهلل فيهم‪.‬‬
‫ـوب ُه ْم فِي غَ ْـم َـر ٍة ِم ْن هــذا) هو خنسة موجعة هلؤالء املش@@ركني‬ ‫ـ فقوله تع@@اىل ‪( :‬بَـ ْـل ُقلُـ ُ‬
‫الذين يستمعون إىل هذه اآلي@@ات ‪ ،‬وكأهنا ال تع@@نيهم ‪ ،‬وال تتح@ ّدث إليهم ‪ ..‬على حني أهنا‬
‫إمنا هى مسوقة هلم ‪ ،‬أوال ‪ ،‬مث هى للناس مجيعا ‪ ،‬بعد هذا ‪..‬‬
‫واإلش@@ارة «ه@@ذا» مش@@ارهبا إىل ه@@ذا احلديث ال@@ذي حتدثت به اآلي@@ات الس@@ابقة ‪ ،‬عن‬
‫الذين يؤمنون باهلل ‪ ،‬وخيشونه ‪ ،‬ويشفقون من لقائه ‪..‬‬
‫فاملش@@ركون قل@@وهبم «ىف غم@@رة» ‪ ،‬أي ىف ش@@غل ‪ ،‬وغفلة وض@@الل ‪ ،‬عن ه@@ذا احلديث‬
‫وما حيمل إليهم من عظات‪.‬‬
‫ومستقر املعتقدات الص@@احلة أو‬ ‫ّ‬ ‫وخصت القلوب ‪ ،‬ألهنا موطن املشاعر ىف اإلنسان ‪،‬‬
‫الفاسدة‪.‬‬
‫ـك ‪ُ ..‬ه ْم لَها ع ـ ـ ـ ـ ِـاملُو َن) أي أن هلؤالء‬ ‫ـال ِمن ُد ِ‬
‫ون ذلِ ـ ـ ـ ـ َ‬ ‫وقوله تع@ @ @ @ @@اىل ‪َ ( :‬ول َُه ْم أَ ْعم ـ ـ ـ ـ ٌ ْ‬
‫املشركني الغافلني عن هذا احلديث ‪ ،‬مشغال بأمور أخرى ‪ ،‬ىف مستوى غري هذا‬
‫‪1153‬‬

‫املستوي الرفيع ‪ ،‬الذي حتدث به اآلي@@ات ‪ ..‬أهنم ىف ش@@غل مبا هم فيه من ص@@الت مع آهلتهم‬
‫‪ ..‬واملشغول ـ كما يقولون ـ ال يشغل!‬
‫وىف تسمية هذه الصالت اليت بني املشركني وبني معب@@وداهتم ـ باألعم@@ال ‪ ،‬إش@@ارة إىل‬
‫أهنا جمرد حرك@ات ‪ ،‬ورس@@وم ‪ ،‬ال تتصل بالعقل أو القلب ‪ ..‬إهنا حرك@@ات وص@@ور مرس@@ومة‬
‫‪ ،‬توارثها القوم عن آبائهم ‪ ،‬فكانت أشبه شىء بالعمل اآلىل الذي ال يتصل بعقل اإلنس@@ان‬
‫أو قلبه ‪..‬‬
‫عاملُو َن) تقريع وت@@وبيخ هلؤالء املش@@ركني ‪ ،‬ال@@ذين ي@@ؤدون‬ ‫ـ وىف قوله تعاىل ‪( :‬هم لَها ِ‬
‫ُْ‬
‫ه @@ذه األعم @@ال وحيتش @@دون هلا ‪ ،‬ويض @@يعون أوق @@اهتم وأعم @@ارهم فيها ‪ ..‬على حني أهّن ا عبث‬
‫ولغو ‪ ،‬ولعب أش@@به بلعب األطف@@ال! فهم وه@@ذه األعم@@ال على س@@واء ‪ ..‬هى أعم@@ال تافهة ‪،‬‬
‫يأتيها أناس تافهون!‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫َخ ْذنا ُم ْترفِي ِه ْم بِال َْع ِ‬
‫ذاب إِذا ُه ْم يَ ْجأ َُرو َن)‪.‬‬ ‫( َحتَّى إِذا أ َ‬
‫َ‬
‫اجلأر ‪ ،‬واجلؤار ‪ :‬الصراخ‪.‬‬
‫واملعىن ‪ :‬أن ه @@ؤالء املش @@ركني الغ @@افلني عن آي @@ات اهلل ‪ ،‬املش @@غولني هبذا العبث ال @@ذي‬
‫هم فيه مع معب@ @@وداهتم ـ س@ @@يظلون على ما هم فيه من غفلة ‪ ،‬حىت إذا ج@ @@اء وقت احلس@ @@اب‬
‫واجلزاء ‪ ،‬وس@@يقوا إىل جهنم ـ فزع@@وا ‪ ،‬وعال ص@@ياحهم ‪ ،‬وارتفع ص@@راخهم ‪ ،‬من ه@@ذا اهلول‬
‫الذي هم فيه ‪..‬‬
‫وىف اختص@ @ @ @@اص املرتفني من املش@ @ @ @@ركني بال@ @ @ @@ذكر ‪ ،‬ع@ @ @ @@رض ألب@ @ @ @@رز مثل فيهم ‪ ،‬وهم‬
‫املنعم@ @@ون من املش@ @@ركني ‪ ،‬أص@ @@حاب املال ‪ ،‬واجلاه ‪ ..‬فه@ @@ؤالء إذا أخ@ @@ذوا ‪ ،‬وفعل هبم ه@ @@ذا‬
‫البالء ‪ ،‬ومل يغن عنهم ما هلم ومل يشفع هلم جاههم ـ كان غريهم ممن ال مال له وال جاه ‪،‬‬
‫أش ّد خوفا من لقاء هذا العذاب ‪ ،‬الذي ينتظره ‪ ،‬وقد سبقه‬
‫‪1154‬‬

‫إليه من ك @@انوا على الش @@رك مثله ‪ ،‬ومل يش @@فع هلم م @@ال أو س @@لطان ‪ ..‬فكيف مبن ال م @@ال له‬
‫وال سلطان؟‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫ِ‬
‫ص ُرو َن)‪.‬‬ ‫(ال تَ ْجأ َُروا الَْي ْو َم إِنَّ ُك ْم منَّا ال ُت ْن َ‬
‫@رد على ه@@ذا الص@@راخ ‪ ،‬ال@@ذي يتع@@اوى به املرتفون من املش@@ركني ‪ ،‬وهم ىف‬ ‫ه@@ذا هو ال@ ّ‬
‫ص@راخ ‪ ..‬إنه ال يس@@مع‬ ‫الع@@ذاب املهني ‪( ..‬ال تَ ْجـ أ َُروا) فإنه ال فائ@@دة ت@@رجى من وراء ه@@ذا ال ّ‬
‫ِ‬
‫صـ ُرو َن ‪ )..‬فليس ألحد ق@@درة على‬ ‫خيف أحد لنج@@دتكم ‪( ..‬إِنَّ ُك ْم منَّا ال ُت ْن َ‬ ‫أحد لكم ‪ ،‬وال ّ‬
‫أن يدفع عنكم هذا العذاب الذي حكم اهلل به عليكم ‪..‬‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫ت آيــاتِي ُت ْتلى علَي ُكم فَ ُك ْنتم على أَ ْعقــابِ ُكم َت ْن ِكص ـو َن مس ـت ْكبِ ِرين بِـ ِـه سـ ِ‬
‫ـامراً‬ ‫(قَ ـ ْد كــانَ ْ‬
‫ُ ُ َْ َ‬ ‫ْ‬ ‫َ ْ ْ ُْ َ‬
‫َت ْه ُج ُرو َن)‪.‬‬
‫أي ال تلوموا إال أنفسكم ‪ ،‬فقد كانت النجاة من هذا البالء بني أي@@ديكم ‪ ،‬لو أنكم‬
‫اس@ @ @@تمعتم إىل آي @ @@ايت وآمنتم هبا‪ .‬ولكنكم كنتم إذا وقع إىل آذانكم ش@ @ @@ىء منها نف @ @@رمت كما‬
‫ينفر احلي@ @ @@وان الوحش @ @ @ ّ@ى حني ي@ @ @@رى وجه إنس @ @ @@ان ‪ ..‬ف@ @ @@رجعتم على أعق @ @ @@ابكم ‪ ،‬ىف حركة‬
‫منكوسة ‪ ،‬وعي @@ونكم إىل مص @@در ه @@ذا الص @@وت ال @@ذي يس @@معكم ما مسعتم من آي @@ات اهلل ‪،‬‬
‫تنظرون إليه ىف حذر وخوف ‪ ،‬كما ينظر العدو إىل عدوه ‪!..‬‬
‫بل وأكثر من هذا ‪ ..‬فإنكم كنتم تتخذون مما تسمعون من آيات اهلل ‪ ،‬مادة لل ّس@مر‬
‫ىف أن@ @ @@ديتكم ‪ ،‬وجماال للس@ @ @@خرية واالس@ @ @@تهزاء هبا فيما بينكم ‪( ..‬مسـ ـ ـت ْكبِ ِرين بِ ـ ـ ِـه ‪ ..‬س ـ ـ ِ‬
‫ـامراً‬ ‫ُْ َ َ‬
‫َت ْه ُج ُرو َن ‪)..‬‬
‫‪1155‬‬

‫والضمري ىف «ب@ه» يع@ود إىل ما يتلى عليهم من آي@ات اهلل ‪ ،‬وما يس@معون من كلماته‬
‫اجلر الب @ @@اء ‪ ،‬لتض @ @@منه معىن االس @ @@تهزاء ‪ ..‬أي أنكم‬ ‫‪ ..‬وقد ع@ @ @ ّدى الفعل «اس @ @@تكرب» حبرف ّ‬
‫الس@ @ @@تكباركم تلق@ @ @@ون ما تس@ @ @@معون من آي@ @ @@ات اهلل ‪ ،‬باس@ @ @@تهزاء وس@ @ @@خرية ‪ ..‬فهى س@ @ @@خرية‬
‫املستكرب ‪ ،‬واستهزاء املتعايل ‪..‬‬
‫«والسامر» جمتمع القوم للسمر‪.‬‬
‫ونصب (سـ ِـامراً) على أنه مفع@@ول له ‪ ..‬أي ألجل الس@@امر هتج@@رون جملس االس@@تماع‬
‫إىل الق@@رآن ‪( ..‬سـ ِـامراً َت ْه ُجـ ُـرو َن ‪ )..‬ألن الس@@امر حيمل معىن ال ّس@مر ‪ ،‬ومسر الق@@وم هو عبث‬
‫وهلو ‪ ،‬فك@@أن املعىن ‪ :‬هلوا ولعبا هتج@@رون االس@@تماع إىل كالم اهلل ‪ ..‬واجلملة ح@@ال أخ@@رى ـ‬
‫ص ـو َن ‪ )..‬وجيوز أن يك @@ون (َت ْه ُجـ ُـرو َن) من اهلجر ‪ ،‬وهو الفحش ىف الق @@ول‬ ‫ِ‬
‫من فاعل (َت ْنك ُ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ين) ويك@ @@ون‬ ‫‪ ..‬ويك@ @@ون (سـ ــامراً) منص@ @@وبا على احلال من الض@ @@مري املس@ @@تكن ىف ( ُم ْس ـ ـتَ ْكب ِر َ‬
‫الس@@امر مبعىن االجتم@@اع ‪ ..‬ومجلة «هتج@@رون» ح@@ال من الض@@مري ىف الس@@امر مبعىن االجتم@@اع‬
‫‪ ..‬مبعىن أنكم كنتم تنكص @@ون على أعق @@ابكم عند االس @@تماع إىل آي @@ات اهلل ‪ ،‬وقد اش @@تملت‬
‫عليكم أكثر من حال ‪ ..‬إذ تنكصون ‪ ..‬مستهزئني ‪ ،‬سامرين ‪ ،‬متفحشني ‪..‬‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫ين)‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫َّبروا الْ َقو َل أ َْم جاء ُهم ما ل ِ‬
‫آباء ُه ُم اأْل ََّول َ‬
‫َم يَأْت َ‬ ‫َ ْ ْ‬ ‫ْ‬ ‫(أَ َفلَ ْم يَد َّ ُ‬
‫لقد ت @ @ @@رك الق@ @ @@وم املش @ @ @@ركون يص @ @ @@رخون ويتع @ @ @@اوون ىف جهنم ‪ ،‬بعد أن أجيب على‬
‫ِ‬
‫صراخهم وجؤارهم هبذا التقريع العنيف ‪( ..‬ال تَ ْجأ َُروا الَْي ْو َم ‪ ..‬إِنَّ ُك ْم منَّا ال ُت ْن َ‬
‫ص ُرو َن)‪.‬‬
‫مث كان ملن يرون هذا املشهد الذي تنخلع له القلوب ‪ ،‬وما يعاىن املشركون‬
‫‪1156‬‬

‫فيه من بالء ونكال ـ كان هلم تساؤالت عن هؤالء املعذبني ‪ ،‬وعن جنايتهم اليت جنوها ىف‬
‫حق اهلل ‪ ،‬وىف حق الرسول املرسل إليهم من عند اهلل‪.‬‬
‫وكان من تساؤالت السائلني ‪ ،‬ما ذكره القرآن الكرمي هنا ‪:‬‬
‫ـ (أَ َفلَ ْم يَد ََّّب ُروا الْ َق ْو َل؟)‪.‬‬
‫أن أألهنم مل حيس@ @ @@نوا االس@ @ @@تماع ‪ ،‬والنظر ‪ ،‬والت@ @ @@دبر فيما ج@ @ @@اءهم به الرس@ @ @@ول ـ مل‬
‫يعرفوا وجه احلق ‪ ،‬ومل يروا الطريق إىل اهلل على ض@وء ه@ذا الن@ور ال@ذي بني ي@دى الرس@ول ـ‬
‫ومن أجل ه@@ذا ظل@@وا ىف ض@@الهلم وش@@ركهم ‪ ،‬فك@@انت جهنم م@@أواهم‪ .‬والع@@ذاب ج@@زاؤهم ‪..‬‬
‫أهذا هلذا؟ قد يكون!‬
‫ين؟)‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ـ (أ َْم جاء ُهم ما ل ِ‬
‫آباء ُه ُم اأْل ََّول َ‬
‫َم يَأْت َ‬ ‫َ ْ ْ‬
‫أي أألهنم مل ي@ @ ّدبروا الق @@ول فض@ @لّوا؟ أم ألن ه @@ذا ال @@ذي ج @@اءهم به رس @@ول اهلل ‪ ،‬هو‬
‫ش@@ىء غ@@ريب مل يكن آلب@@ائهم ش@@ىء من@@ه؟ ‪ ..‬فهم هلذا ينكرونه ‪ ،‬وينك@@رون ما معه ‪ ،‬ألهنم‬
‫مأسورون ىف قيد ما ورثوا عن آبائهم من عادات وتقاليد ‪..‬؟ أهذا هلذا؟ قد يكون!‪.‬‬
‫ـ (أ َْم ل َْم َي ْع ِرفُوا َر ُسول َُه ْم ‪َ ..‬ف ُه ْم لَهُ ُم ْن ِك ُرو َن؟)‪.‬‬
‫أي أه @ @@ذا ‪ ،‬أم أن الرس @ @@ول ال @ @@ذي ج @ @@اءهم غري مع @ @@روف عن @ @@دهم بنس @ @@به ‪ ،‬وبامسه ‪،‬‬
‫وبص @@فته ـ فهم هلذا ينكرونه ‪ ،‬وينك @@رون مقامه فيهم ‪ ،‬ويرمونه مبا مل يعرف @@وا منه من س @@حر‬
‫أو شعر أو جنون؟‪.‬‬
‫ـ (أ َْم َي ُقولُو َن بِ ِه ِجنَّةٌ؟)‬
‫أي أه @@ذا ال@@ذي حج @@زهم عن اتب @@اع الرس @@ول ‪ ..‬أم هو ه @@ذا ال @@رأى ال @@ذي رأوه فيه ‪،‬‬
‫وأنه جمنون ‪ ،‬خياطب عقالء ‪ ،‬وما كان للعقالء أن يستجيبوا لدعوة جمنون؟ قد يكون!‬
‫‪1157‬‬

‫وىف ه@ @ @ @ @ @@ذه التس@ @ @ @ @ @@اؤالت ‪ ،‬جند الثالثة األوىل منها اهتاما هلم ‪ ..‬فالتس@ @ @ @ @ @@اؤل األول ‪،‬‬
‫يرميهم بنقص ىف التفكري ‪ ،‬وضعف ىف اإلدراك ‪ ،‬وقصور عن فهم آيات اهلل ‪ ،‬وتدبرها ‪..‬‬
‫والث@ @@اين ‪ ،‬يتهمهم ب@ @@أهنم أس@ @@رى التقليد األعمى ‪ ،‬وأهنم ال خيرج@ @@ون من ه@ @@ذا األسر‬
‫ولو م@ @@اتوا فيه اختناقا هبذا اهلواء الفاسد ال@ @@ذي يتنفس@ @@ون فيه ‪ ،‬دون أن يفتح@ @@وا ناف@ @@ذة متأل‬
‫عيوهنم نورا ‪ ،‬وصدورهم هواء نقيا ‪ ،‬منعشا! إن من هتم الرسول عن@@دهم أنه ج@@اءهم مبا مل‬
‫يعرفه آب @ @ @ @@اؤهم األول @ @ @ @@ون ‪ ،‬حيث مل ي @ @ @ @@أهتم من قبل رس @ @ @ @@ول من عند اهلل ‪ ،‬كما أتى األمم‬
‫األخرى ‪..‬‬
‫ـاه ْم ِم ْن نَـ ـ ـ ِـذي ٍر ِم ْن َق ْبلِـ ـ ـ َ‬
‫ـك ل ََعلَّ ُه ْم‬ ‫ِ ِ‬
‫وىف ه @ @ @@ذا يق @ @ @@ول اهلل تع @ @ @@اىل ‪( :‬ل ُت ْنـ ـ ــذ َر َق ْوم ـ ـ ـاً ما أَتـ ـ ـ ُ‬
‫َيتَ َذ َّك ُرو َن) (‪ : 46‬القصص)‪.‬‬
‫ويقول سبحانه ‪( :‬لُِت ْن ِذ َر َق ْوماً ما أُنْ ِذ َر آبا ُؤ ُه ْم َف ُه ْم غافِلُو َن) (‪ : 6‬يس)‪.‬‬
‫والق@وم ىف ه@ذا املوقف مه@ددون بالفن@اء ‪ ،‬إذ قي@دوا أنفس@هم هبذا القيد الثقيل ووقف@وا‬
‫حيث يقف آب@ @ @@اؤهم منذ زمن بعيد ‪ ..‬فهم ‪ ،‬واألمر ك@ @ @@ذلك ‪ ،‬يأخ@ @ @@ذون من احلي@ @ @@اة موقفا‬
‫حى أن يأخذ مكانه‬ ‫واح@@دا ال يتحول@@ون عنه ‪ ..‬واحلي@اة متحركة متحولة ‪ ..‬ومن ش@أن كل ّ‬
‫ىف دورة الفلك ‪ ،‬وأن يعيش الليل ليال والنه @@ار هنارا ‪ ،‬والص @@يف ص @@يفا ‪ ،‬والش @@تاء ش @@تاء ‪..‬‬
‫وإال هلك ‪..‬‬
‫فكيف ينكر الق @@وم على احلي @@اة أن ت @@أتيهم جبديد مل ي @@أت آب @@اءهم األولني؟ إن احلي @@اة‬
‫ول@ @ @@ود لكل جديد ىف كل زم@ @ @@ان ومك@ @ @@ان ‪ ..‬وأنه إذا ك@ @ @@ان لإلنس@ @ @@ان أن يتوقف أم@ @ @@ام كل‬
‫جديد ‪ ،‬ف@@إن من الس@@فاهة واحلمق أن يرفضه ابت@@داء حبكم أنه جديد ‪ ،‬دون أن يعرضه على‬
‫عقله ‪ ،‬وينظر فيما ميكن أن يكون فيه من خري ونفع‪.‬‬
‫الرسول ‪،‬‬ ‫والتساؤل الثالث ‪ ،‬ينكر على القوم هذه التهم اليت يرمون هبا ّ‬
‫‪1158‬‬

‫احلق ‪ ،‬ويلبس@ونه ث@وب الباطل ‪ ،‬حىت خيدعوا به عق@وهلم‬ ‫فيك@ذبون على أنفس@هم ‪ ،‬ويزيف@ون ّ‬
‫‪ ،‬ويريدوها على قبوله والتسليم به ‪..‬‬
‫فهم يقول@@ون ىف الرس@@ول ‪ ..‬إنه جمن@@ون ‪ ..‬وإنه ش@@اعر ‪ ..‬وإنه س@@احر ‪ ..‬وإنه ك@@ذاب‬
‫مفرت ـ يقولون هذا ‪ ،‬وهم على معرفة كاملة بالرس@@ول ‪ ،‬من مول@@ده ‪ ،‬ومن قبل مول@@ده ‪ ،‬إىل‬
‫أن ج@@اءهم برس@@الة ربه ‪ ..‬فما عرف@@وا فيه ش@@يئا مما يتهمونه به زورا وهبتانا ‪ ..‬بل لقد عرف@@وه‬
‫العف ‪ ..‬وأنه كان ىف ص@@باه يتحلّى بأحسن ما‬ ‫العاقل الرشيد ‪ ،‬والصادق األمني ‪ ،‬والطاهر ّ‬
‫يتحلّى به الرجال ‪ ،‬من حكمة ورويّة ‪ ،‬ورشاد ‪ ..‬وأنه ما كذب قط ‪ ،‬وال ق@@ال هج@@را قط‬
‫‪ ،‬وال نطق بشعر أبدا ‪ ،‬وال طاف بصنم أبدا ‪..‬‬
‫أما ق@ @@وهلم عن الرس@ @@ول ‪( :‬بِـ ـ ِـه ِجنَّةٌ) فهو أش@ @@نع هتمة يتهم هبا الق@ @@وم ىف تفك@ @@ريهم ‪،‬‬
‫وتقديرهم ‪..‬‬
‫وقد يكون سائغا منهم أهنم مل يتدبروا القول ‪ ،‬فكثري من الناس ال يتدبرون الق@@ول ‪،‬‬
‫وال حيسنون الفهم ‪!..‬‬
‫وقد يك@ @@ون مقب@ @@وال أيضا أن حيم@ @@دوا على ما هم عليه من ع@ @@ادات موروثة ‪ ..‬ف@ @@إن‬
‫الرخ @@وة ىف أص @@دافها‬
‫كث @@ريا من الن @@اس يعيش @@ون ىف ع @@ادات وتقاليد ‪ ،‬كما تعيش احليوان @@ات ّ‬
‫وقواقعها ‪@!..‬‬
‫وقد ميكن أن يس @ @@اغ ـ ولو مبرارة ووقاحة ـ إنك@ @@ار احلق @ @@ائق الثابتة ‪ ،‬والتع @ @@امي عن‬
‫الواقع احملسوس ‪!..‬‬
‫فكثري من الن@@اس يك@@ابرون ىف احلق ‪ ،‬وميارون ىف الواقع ‪ ،‬وال تعلو وج@@وههم ص@@فرة‬
‫اخلجل ‪ ،‬وال تندى جباههم بقطرة حياء!‬
‫الصراح ‪،‬‬
‫التبجح ‪ ،‬فهو الكذب ّ‬ ‫أما الذي ال تتسع له املكابرة ‪ ،‬وال حيتمله ّ‬
‫‪1159‬‬

‫الذي ال ي@دارى بتمويه أو خ@داع ‪ ،‬بل يع@@رض هك@@ذا س@افرا بكل مشخص@@اته ‪ ،‬مث يق@@ال عنه‬
‫احلق! ف @@ذلك إن وجد مس @@اغا عند أهله ‪ ،‬فإنه ال جيد له موجها من القب @@ول عند‬ ‫‪ :‬ه @@ذا هو ّ‬
‫أحد ‪ ،‬ممن ميكن أن خيدع ويضلّل ‪..‬‬
‫@ىب إنه ش @@اعر ‪ ..‬ف @@أين هو الوجه ال @@ذي يقبل به ه @@ذا‬ ‫ف @@إذا ق @@ال س @@فهاء ق @@ريش ىف الن @ ّ‬
‫القول عند من يريدون قبوله منه؟ وقد يكون هلذا الكذب م@@دخل إىل بعض العق@@ول لو أهنم‬
‫@ىب‪ .‬فيك@ @ @@ون أم@ @ @@را حمتمال للنظر واجلدل ‪ ..‬وقد يأخذ به‬ ‫اص@ @ @@طنعوا ش@ @ @@عرا مث نس@ @ @@بوه إىل الن@ @ @ ّ‬
‫@ىب ش@@عرا ‪ ،‬بل ق@@الوا عنه‬ ‫البعض من غري حبث أو نظر ‪ !..‬ولكنهم مل يفعل@@وا ومل ينتحل@@وا للن@ ّ‬
‫إنه شاعر ‪ ،‬دون أن يأتوا على هذا القول بشاهد من مفرتياهتم وأكاذيبهم ‪ ..‬وه@@ذا معج@@زة‬
‫من معجزات الرسول الكرمي ‪..‬‬
‫@ىب إنه جمن @@ون ‪ ..‬أو به جنّة ‪ ..‬فقد ك @@ان عليهم لكى‬ ‫وإذا ق @@ال س @@فهاء ق @@ريش ىف الن @ ّ‬
‫يغطّ@@وا وجه ه@@ذا الك@@ذب بش@@ىء من التمويه ـ أن يقيم@@وا ش@@هودا من ال@@زور يش@@هدون ب@@أهنم‬
‫النىب كذا ‪ ،‬وكذا ‪ ،‬من هذيان اجملانني ‪ ..‬ولكنهم مل يفعلوا ‪..‬‬ ‫رأوا من ّ‬
‫نعم ‪ ،‬إهنم مل يفعل@@وا ه@@ذا ‪ ،‬أو ذاك ‪ ،‬وما ك@@ان ىف اس@@تطاعتهم أن يفعل@@وا ‪ ..‬إذ ك@@ان‬
‫النىب فيما اهتموه به ‪ ،‬أبعد من أن يدخل عليه زيف ‪ ،‬أو تعلق به شائبة من متويه ‪..‬‬ ‫أمر ّ‬
‫وه@@ذا من معج@@زات الرس@@ول ص@@لوات اهلل وس@@المه عليه ‪ ،‬واليت هى بعض ما عص@@مه‬
‫ك ِم َن الن ِ‬
‫َّاس ‪ )..‬وإهنا‬ ‫اهلل سبحانه وتعاىل به من الناس ‪ ،‬كما يقول سبحانه ‪( :‬واهلل ي ْع ِ‬
‫ص ُم َ‬ ‫َ َُ‬
‫لعص @@مة حتفظ ـ فيما حتفظ ـ ذاته ومشخص @@اته ‪ ،‬وص @@فاته ‪ ،‬من أن يعلق بس @@مائها الص @@افية‬
‫املشرقة شىء من هذا الغبار الذي تثريه أفواه النافحني ىف اجلبال الراسيات‪.‬‬
‫‪1160‬‬

‫قوله تعاىل ‪:‬‬


‫ِ‬
‫@ماوى ‪ ،‬على كل ما اهتم‬ ‫@رد الس@ ّ‬ ‫ـق كـا ِر ُهو َن) هو ال@ ّ‬
‫ْح ِّ‬ ‫جاء ُه ْم بِال َ‬
‫ْح ِّق َوأَ ْك َث ُـر ُه ْم لل َ‬ ‫(بَ ْل َ‬
‫النىب ىف شخصه ‪ ،‬وىف الكتاب الذي معه ‪..‬‬ ‫به املشركون ّ‬
‫رب الع@@املني ‪ ..‬وإهنم ليعرف@@ون‬ ‫احلق من ّ‬ ‫فالرس@@ول ص@@ادق أمني ‪ ،‬وال@@ذي ج@@اء به هو ّ‬
‫احلق ‪،‬‬
‫احلق ‪ ،‬ولكن أك@@ثرهم ك@@ارهون هلذا ّ‬ ‫رب الع@@املني ‪ ..‬وإهنم ليعرف@@ون أنه ّ‬ ‫احلق من ّ‬ ‫أنه ّ‬
‫ومن مثّ ك@ @@ان منهم ه@ @@ذا العمى عنه ‪ ،‬وه@ @@ذا اإلنك@ @@ار له ‪ ،‬وه@ @@ذا ال@ @@رمي األمحق الط@ @@ائش ‪،‬‬
‫الذي ال يصيب إال الرماة ىف مقاتلهم!‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫ِ‬ ‫َه ــواء ُهم لََفس ـ ـ َد ِ‬
‫ض َو َم ْن في ِه َّن بَـ ـ ْـل أََت ْينـ ـ ُ‬
‫ـاه ْم‬ ‫ماوات َواأْل َْر ُ‬
‫ُ‬ ‫ســ‬
‫ت ال َّ‬ ‫ـق أ ْـ َ ْ َ‬ ‫( َولَ ـ ـ ِو َّاتبَـ ـ َـع ال َ‬
‫ْحـ ـ ُّ‬
‫ضو َن)‪.‬‬ ‫بِ ِذ ْك ِر ِه ْم َف ُه ْم َع ْن ِذ ْك ِر ِه ْم ُم ْع ِر ُ‬
‫أي ه @@ؤالء املش @@ركون ‪ ،‬إذ يكره @@ون احلق ‪ ،‬ويكره @@ون التعامل به ‪ ،‬ف@@إهنم يتع @@املون‬
‫مبا متليه عليهم أهواؤهم من سفاهات وضالالت ‪..‬‬
‫واحلق ‪ ،‬هو مركز الدائرة الذي يدور عليه ه@ذا الوج@ود ‪ ،‬وهو النظ@ام املمسك بكل‬ ‫ّ‬
‫ذرة من ذراته ‪..‬‬
‫احلق هو ه@ @@ذه الس@ @@نن الكونية اليت ق@ @@ام عليها نظ@ @@ام كل موج@ @@ود‪ .‬إنه األس@ @@باب‬ ‫وإن ّ‬
‫واملسببات ‪ ..‬وإن أي خروج على األسباب يفضى إىل فساد املسببات واضطراهبا ‪..‬‬
‫احلق الذي إن‬ ‫وإن ما ميسك به العلم والعلماء من أسرار الكون ‪ ،‬هو ّ‬
‫‪1161‬‬

‫أخط @@أهم كله أو بعضه ‪ ،‬أفلت من أي @@ديهم ه @@ذا الس @ ّ@ر ‪ ،‬ال @@ذي يفتح @@ون به مغ @@الق احلي @@اة ‪،‬‬
‫ويذللون به ما تأىّب عليهم منها ‪..‬‬
‫ف @@احلق ‪ ،‬هو ه @@ذا احمليط الع @@ام ال @@ذي تصب فيه روافد احلق @@ائق اليت يق @@وم عليها نظ @@ام‬
‫الوجود ‪ ،‬واملوجودات مجيعا ‪..‬‬
‫ـق أ َْهــواء ُهم لََفسـ ـ َد ِ‬
‫ض َو َم ْن‬
‫ماوات َواأْل َْر ُ‬
‫ُ‬ ‫سـ ـ‬
‫ت ال َّ‬ ‫َ ْ َ‬ ‫ْحـ ُّ‬‫ـ وىف قوله تع@ @@اىل ‪َ ( :‬ولَـ ـ ِو َّاتبَ ـ َـع ال َ‬
‫فِي ِه َّن)‪.‬‬
‫أى اختالل ي@@دخل على احلق ‪ ،‬ىف أي موقع من مواقعه ‪ ،‬وىف أي ذرة‬ ‫إش@@ارة إىل أن ّ‬
‫من ذرات الوجود كله ‪ ،‬من شأنه أن يفسد نظ@@ام ه@@ذا الوج@@ود ىف أرضه ومسائه ‪ ،‬وفيما ىف‬
‫أرضه ومسائه ‪..‬‬
‫ذلك أن احلق ـ كما قلنا ـ كيان واحد ‪ ..‬إنه أسباب ومس@@ببات يأخذ بعض@@ها برق@@اب‬
‫بعض ‪ ..‬من ال@@ذرة إىل النج@@وم والك@@واكب ‪ ..‬فكل س@@بب يق@@وم على س@@بب ‪ ،‬ويق@@وم عليه‬
‫س @@بب ‪ ،‬وهك @@ذا ىف سلس @@لة متص @@لة احللق @@ات ‪ ،‬وقطع أي حلقة ‪ ،‬هو قطع هلذا الش @@ريان ‪،‬‬
‫الذي يغذى كيان احلق ‪ ،‬وحيكم نسجه ‪..‬‬
‫فلو أنه دخل على احلق ‪ ،‬بعض ما ىف نف @@وس ه @@ؤالء املش @@ركني من ه @@وى وض @@الل ‪،‬‬
‫مث ص@ @ @ @@ار ه@ @ @ @@ذا اهلوى ق@ @ @ @@وة عاملة ىف الوج@ @ @ @@ود ‪ ،‬ألدخل اخللل على نظ@ @ @ @@ام الوج@ @ @ @@ود كله ‪،‬‬
‫ولفسدت السموات واألرض ومن فيهن!!‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫ضو َن)‪.‬‬ ‫ناه ْم بِ ِذ ْك ِر ِه ْم َف ُه ْم َع ْن ِذ ْك ِر ِه ْم ُم ْع ِر ُ‬
‫ـ (بَ ْل أََت ْي ُ‬
‫أي أن احلق مل يتبع أه@@واء ه@@ؤالء املش@@ركني ‪ ،‬ومل جيئهم الرس@@ول مبا تش@تهى أنفس@@هم‬
‫‪ ،‬بل ج @@اءهم ب @@احلق ‪ ،‬ال @@ذي فيه ذك @@رهم ‪ ..‬أي رفع ق @@درهم ‪ ،‬وعل @ ّ@و إنس @@انيتهم ‪ ،‬لو أهنم‬
‫اتبعوه ‪ ،‬واستقاموا عليه ‪..‬‬
‫‪1162‬‬

‫ض ـو َن) تس@@فيه هلم ‪ ،‬وحتميق لعق@@وهلم ‪ ،‬إذ‬ ‫ـ وىف قوله تع @@اىل ‪َ ( :‬ف ُه ْم َع ْن ِذ ْكـ ِر ِه ْم ُم ْع ِر ُ‬
‫ليس أبعد ىف السفاهة ‪ ،‬وال أوغل ىف احلمق ‪ ،‬ممن يدعى إىل ما فيه خ@ريه ‪ ،‬وع@ّ@زه ‪ ،‬ورفعته‬
‫‪ ،‬مث يأباه ‪ ،‬ويؤثر اإلسفاف والتدىّل إىل منازل اهلوان والضياع! ‪..‬‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫ك َخير وهو َخير َّ ِ‬
‫ين)‪.‬‬‫الرا ِزق َ‬ ‫راج َربِّ َ ْ ٌ َ ُ َ ْ ُ‬ ‫(أ َْم تَ ْسأَل ُُه ْم َخ ْرجاً فَ َخ ُ‬
‫اخلرج ‪ :‬األجر ‪ ،‬وهو ىف األصل ما خيرج من األرض من مثرات ‪ ،‬ومنه اخلراج ‪..‬‬
‫وىف اآلية تع@@ريض باملش@@ركني ‪ ،‬ومبا ركبهم من س@@فه وجهل ‪ ..‬إن اخلري ال@@ذي يب@@ذل‬
‫هلم ‪ ،‬وث@ @ @@وب اجملد ال @ @@ذي ينسج ليتحلّ@ @ @@وا به ـ إمنا يق @ @@دم هلم من غري مثن ‪ ،‬ومع ه@ @ @@ذا فهم‬
‫يرفضونه ‪ ،‬ويأبون إال أن ميشوا ىف الناس عراة مهازيل!‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫راط ُم ْستَ ِق ٍيم)‬‫ص ٍ‬ ‫وهم إِلى ِ‬ ‫( َوإِنَّ َ‬
‫ك لَتَ ْدعُ ُ ْ‬
‫هو تأكيد هلذا اخلري ال @@ذي حيمل إىل ه @@ؤالء املش @@ركني ‪ ،‬على يد الرس @@ول الك @@رمي ‪..‬‬
‫إهنم إمنا ي@ @@دعون هبذا الكت@ @@اب ال@ @@ذي حيمله الرس@ @@ول إليهم ـ إىل ص@ @@راط مس@ @@تقيم ‪ ،‬إذا هم‬
‫الزلل والعث@@ار ‪ ،‬وانته@@وا به إىل غاي@@ات الع@@زة ‪ ،‬والس@@يادة ‪ ،‬والفالح ‪ ..‬ىف‬ ‫س@@اروا عليه أمن@@وا ّ‬
‫الدنيا واآلخرة مجيعا‪.‬‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫الص ِ‬
‫راط لَناكِبُو َن)‬ ‫ين ال ُي ْؤ ِمنُو َن بِاآْل ِخ َر ِة َع ِن ِّ‬ ‫َّ ِ‬
‫( َوإِ َّن الذ َ‬
‫هو هتديد للمش @@ركني ‪ ،‬ب @@أهنم إذا هم مل يس @@ريوا على ه @@ذا الص @@راط املس @@تقيم ال @@ذي‬
‫ي @@دعوهم إليه الرس @@ول ـ ص @@لوات اهلل وس @@المه عليه ـ مل يكن أم @@امهم إال ط @@رق الض @@الل ‪،‬‬
‫يركبوهنا إىل حيث هتوى هبم ىف قرار اجلحيم‪.‬‬
‫والصراط هنا ‪ ،‬هو الصراط األخروى ‪ ،‬الذي يصل باملؤمنني إىل اجلنة ‪،‬‬
‫‪1163‬‬

‫حيث جيتازونه ىف يسر ‪ ،‬على حني يتس@@اقط من جانبيه املش@@ركون والك@@افرون والض@@الون ‪،‬‬
‫ال @@ذين ال يؤمن @@ون ب @@اآلخرة ‪ ،‬وال يعلم @@ون حس @@ابا هلذا الي @@وم ‪ ..‬أو هو الص @@راط املذكور ىف‬
‫ص ٍ‬
‫راط ُم ْستَ ِق ٍيم)‪.‬‬ ‫وهم إِلى ِ‬ ‫قوله تعاىل ‪َ ( :‬وإِنَّ َ‬
‫ك لَتَ ْدعُ ُ ْ‬
‫وهو صراط اهلل املستقيم على اهلدى ‪ ،‬والقائم على احلق!‬
‫والن@@اكب ‪ :‬هو املتنكب ‪ ،‬ال@@ذي يع@@دل عن الطريق املس@@تقيم ‪ ،‬إىل املتاه@@ات املض@لّة ‪،‬‬
‫اليت ال يرجى للسائر عليها جناة ‪..‬‬
‫____________________________________‬

‫اآليات ‪ 75( :‬ـ ‪)92‬‬


‫ضـ ـ ٍّر لَلَ ُّجوا فِي طُ ْغي ــانِ ِه ْم َي ْع َم ُهــو َن (‪َ )75‬ولََقـ ـ ْد‬ ‫شـ ـ ْفنا ما بِ ِه ْم ِم ْن ُ‬ ‫ـاه ْم َو َك َ‬ ‫ِ‬
‫( َولَ ـ ْـو َرح ْمن ـ ُ‬
‫ض ـ َّرعُو َن (‪َ )76‬حتَّى إِذا َفتَ ْحنا َعلَْي ِه ْم باب ـاً ذا‬ ‫ـذاب فَ َما ا ْس ـتَكانُوا لِـ َـربِّ ِه ْم َوما َيتَ َ‬
‫ناه ْم بِال َْعـ ِ‬ ‫َخـ ْذ ُ‬ ‫أَ‬
‫ـار َواأْل َفْئِ ـ َد َة‬ ‫س ـو َن (‪َ )77‬و ُهـ َـو الَّ ِذي أَنْ َ‬ ‫ِِ ِ‬ ‫ٍ ِ ٍِ‬
‫س ـ ْم َع َواأْل َبْصـ َ‬
‫ش ـأَ لَ ُك ُم ال َّ‬ ‫َعــذاب َش ـديد إذا ُه ْم فيــه ُم ْبل ُ‬
‫ش ـ ـ ُرو َن (‪َ )79‬و ُهـ ـ َـو الَّ ِذي‬ ‫ض َوإِل َْيـ ـ ِـه تُ ْح َ‬ ‫قَلِيالً ما تَ ْش ـ ـ ُك ُرو َن(‪َ )78‬و ُهـ ـ َـو الَّ ِذي َذ َرأَ ُك ْم فِي اأْل َْر ِ‬
‫ـال اأْل ََّولُــو َن (‬ ‫الف اللَّْي ِل َوالنَّها ِر أَفَال َت ْع ِقلُو َن (‪ )80‬بَ ْل قالُوا ِمثْ َل ما قـ َ‬ ‫يت َولَهُ ا ْختِ ُ‬ ‫يُ ْحيِي َويُ ِم ُ‬
‫‪ )81‬قــالُوا أَإِذا ِم ْتنا َو ُكنَّا تُراب ـاً َو ِعظام ـاً أَإِنَّا ل ََم ْبعُوثُــو َن (‪ )82‬لََقـ ْد ُو ِعـ ْدنا نَ ْح ُن َوآبا ُؤنا هــذا‬
‫ض َو َم ْن فِيها إِ ْن ُك ْنتُ ْم َت ْعلَ ُمـ ــو َن (‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ين (‪ )83‬قُـ ـ ْـل ل َم ِن اأْل َْر ُ‬ ‫ـل إِ ْن هـ ــذا إِالَّ أَسـ ــاط ُير اأْل ََّول َ‬‫م ْن َق ْبـ ـ ُ‬
‫ش‬‫ب ال َْع ـ ْـر ِ‬ ‫سـ ـ ْب ِع َو َر ُّ‬ ‫سـ ـ ِ‬
‫ماوات ال َّ‬ ‫ب ال َّ‬ ‫‪َ )84‬سـ ـَي ُقولُو َن لِلَّ ِه قُ ـ ْـل أَفَال تَـ ـ َذ َّك ُرو َن (‪ )85‬قُ ـ ْـل َم ْن َر ُّ‬
‫ـل َشـ ـ ْي ٍء َو ُهـ َـو‬ ‫ـوت ُكـ ِّ‬ ‫ال َْع ِظ ِيم (‪َ )86‬سـ ـَي ُقولُو َن لِلَّ ِه قُ ـ ْـل أَفَال َتَّت ُقــو َن (‪ )87‬قُ ـ ْـل َم ْن بِيَ ـ ِـد ِه َملَ ُكـ ُ‬
‫جار َعلَْي ِه إِ ْن ُك ْنتُ ْم َت ْعلَ ُمو َن(‪َ )88‬سَي ُقولُو َن لِلَّ ِه قُ ْل فَأَنَّى‬ ‫يُج ُير َوال يُ ُ‬
‫ِ‬
‫‪1164‬‬

‫ـاذبُو َن (‪َ )90‬ما اتَّ َخـ َذ اهللُ ِم ْن َولَـ ٍـد َوما كــا َن‬
‫ـاهم بِــالْح ِّق وإَِّنهم لَكـ ِ‬
‫تُ ْس ـ َح ُرو َن (‪ @ )89‬بَـ ْـل أََت ْينـ ُ ْ َ َ ُ ْ‬
‫اهلل َع َّما ي ِ‬
‫ض سـ ْبحا َن ِ‬ ‫ب ُك ُّل إِ ٍله بِما َخلَـ َـق َول ََعال َب ْع ُ‬ ‫ِ ٍ‬
‫صـ ُفو َن (‬ ‫َ‬ ‫ضـ ُه ْم َعلى َب ْع ٍ ُ‬ ‫َم َعهُ م ْن إِله إِذاً لَ َذ َه َ‬
‫هاد ِة َفتَعالى َع َّما يُ ْش ِر ُكو َن) (‪)92‬‬ ‫الش َ‬ ‫ب َو َّ‬ ‫‪ )91‬عالِ ِم الْغَْي ِ‬
‫____________________________________‬
‫التفسري ‪:‬‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫ض ٍّر لَلَ ُّجوا فِي طُ ْغيانِ ِه ْم َي ْع َم ُهو َن)‪.‬‬‫ش ْفنا ما بِ ِه ْم ِم ْن ُ‬
‫ناه ْم َو َك َ‬ ‫ِ‬
‫( َول َْو َرح ْم ُ‬
‫املتح @ @ @ @ ّدث عنهم هنا ‪ ،‬هم املش@ @ @ @@ركون من ق@ @ @ @@ريش ‪ ،‬ال@ @ @ @@ذين حتدثت عنهم اآلي@ @ @ @@ات‬
‫الس@@ابقة ‪ ،‬وكش@@فت عن م@@وقفهم من اهلدى ‪ ،‬ومق@@والهتم ىف النيب ال@@ذي خياطبه اهلل س@@بحانه‬
‫ص ٍ‬
‫راط ُم ْستَ ِق ٍيم)‪.‬‬ ‫وهم إِلى ِ‬ ‫وتعاىل بقوله ‪َ ( :‬وإِنَّ َ‬
‫ك لَتَ ْدعُ ُ ْ‬
‫فه@ @@ؤالء املش@ @@ركون ‪ ،‬ال يزي@ @@دهم اهلدى ‪ ،‬إال ض@ @@الال ‪ ،‬وال الن@ @@ور ‪ ،‬إال عمى ‪ ،‬وال‬
‫اإلنعام واإلحسان ‪ ،‬إال طغيانا ‪ ،‬وكفرا ‪..‬‬
‫فلو أن اهلل س @@بحانه وتع @@اىل رمحهم ‪ ،‬وكشف ما هبم من ضر ‪ ،‬فأح @@ال ه @@ذا اجلدب‬
‫وفجر فيها أهنارا ـ‬ ‫ال@@ذي هم فيه خص@@با ‪ ،‬وجعل الص@@حارى اليت تش@@تمل عليهم ‪ ،‬جن@@ات ‪ّ ،‬‬
‫ملا ش@@كروا هلل ‪ ،‬وملا اس@@تجابوا ل@@داعى احلق ال@@ذي ي@@دعوهم ‪ ..‬بل زادهم ذلك ض@@الال وبع@@دا‬
‫عن احلق ‪ ..‬وعدوانا على الرسول الذي يدعوهم إىل اهلل ‪..‬‬
‫واللج ‪ ،‬واللجاج ‪ :‬التخبط على غري هدى‪.‬‬ ‫ّ‬
‫والعمه ‪ :‬عمى البصرية ‪ ،‬وضالل العقل ‪..‬‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫ض َّرعُو َن)‬ ‫استَكانُوا لَِربِّ ِه ْم َوما َيتَ َ‬
‫ذاب فَ َما ْ‬ ‫ناه ْم بِال َْع ِ‬
‫َخ ْذ ُ‬ ‫( َولََق ْد أ َ‬
‫‪1165‬‬

‫والضراء ‪ ،‬وأن@زهلم من@ازل اخلزي ىف ب@در‬ ‫وهؤالء املشركون‪ .‬قد أخذهم اهلل بالبأساء ّ‬
‫‪ ،‬واألح@@زاب واحلديبية ‪ ..‬مث الفتح ‪ ..‬ومع ه@@ذا ‪ ،‬ف@@إن ه@@ذا البالء مل يفتح قل@@وهبم إىل اهلل ‪،‬‬
‫ض ـ َّرعُو َن) أي فما جلأوا إليه ‪ ،‬وال‬ ‫ومل يق@@دهم بنواص@@يهم إليه ‪( :‬فَ َما ا ْسـتَكانُوا لِـ َـربِّ ِه ْم َوما َيتَ َ‬
‫آل‬
‫َخـ ْذنا َ‬ ‫ضرعوا له ‪ ،‬وال طلبوا غوثه ورمحته ‪ ..‬وهذا مثل قوله تع@@اىل ىف فرع@@ون ‪َ ( :‬ولََق ْد أ َ‬
‫رات ل ََعلَّ ُه ْم يَ َّذ َّك ُرو َن) (‪ : 130‬األعراف)‬ ‫ص ِمن الثَّم ِ‬ ‫فِر َعو َن بِ ِّ ِ‬
‫ين َو َن ْق ٍ َ َ‬ ‫السن َ‬ ‫ْ ْ‬
‫وقد جاء اإلخبار عن هذا الذي نزل بالقوم من بالء ‪ ،‬بصيغة املاضي‪ .‬على حني أنه‬
‫مل يكن قد وقع بعد ‪ ،‬وذلك لتحقق وقوعه مس@ @ @ @ @ @@تقبال ‪ ،‬فهو من أنب@ @ @ @ @ @@اء الغيب اليت ج@ @ @ @ @@اء‬
‫القرآن الكرمي بكثري منها ‪..‬‬
‫وجيوز أن يك@@ون ه@@ذا إخب@@ارا عما ك@@ان ي@@نزل هبم من ح@@وائج وجماع@@ات ‪ ،‬قبل البعثة‬
‫النبوية ‪ ،‬ويكون هذا اخلرب عنهم ‪ ،‬مرادا به الكشف عن جفاء طب@@اعهم ‪ ،‬وغلظ مش@@اعرهم‬
‫‪ ،‬وأهنم أشبه باجلماد ‪ ،‬ال يتأثرون باخلري أو الشر ‪..‬‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫يد إِذا ُه ْم فِ ِيه ُم ْبلِ ُسو َن)‪.‬‬‫ذاب َش ِد ٍ‬ ‫( َحتَّى إِذا َفتَ ْحنا َعلَْي ِه ْم باباً ذا َع ٍ‬
‫وهك @ @@ذا يظل الق @ @@وم على ما هم فيه من ض @ @@الل ‪ ،‬وكفر ‪ ،‬وعن @ @@اد ‪ ،‬ال يص @ @@لح من‬
‫@وجهم إحس@ @@ان أو إس@ @@اءة ‪ ..‬حىت ميوت@ @@وا‬ ‫فس@ @@ادهم ت@ @@أديب ب@ @@اخلري أو الشر ‪ ،‬وال يق@ @ ّ@وم مع@ @ ّ‬
‫بدائهم هذا ‪ ،‬الذي ال شفاء له إاّل عذاب السعري ‪..‬‬
‫واإلبالس ‪ :‬الوج@@وم ‪ ،‬واجلم@@ود ‪ ،‬وس@@كون احلرك@@ات ‪ ،‬ومخود املش@@اعر ‪ ..‬من اهلول‬
‫وشدة البالء ‪..‬‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫صار َواأْل َفْئِ َد َة قَلِيالً ما تَ ْش ُك ُرو َن)‪.‬‬
‫الس ْم َع َواأْل َبْ َ‬ ‫( َو ُه َو الَّ ِذي أَنْ َ‬
‫شأَ لَ ُك ُم َّ‬
‫‪1166‬‬

‫ه @@ذه اآلية واآلي @@ات اليت بع @@دها ‪ ،‬تع @@رض بعض نعم اهلل على الن @@اس ‪ ،‬وموقف كثري‬
‫منهم من هذه النعم‪.‬‬
‫وأعظم ه@@ذه النعم وأكرمها ‪ ،‬الس@@مع والبصر ‪ ،‬والف@@ؤاد ‪ ،‬وهو القلب ‪ ..‬إذ أن ه@@ذه‬
‫اجلوارح هى اليت جتعل اإلنس@ @ @ @@ان إنس@ @ @ @@انا ‪ ،‬إذا هو انتفع هبا ‪ ،‬ووجهها الوجهة الص@ @ @ @@احلة ‪،‬‬
‫حني يرد هبا موارد اخلري ‪ ،‬ويلقى هبا ىف حميط الوجود ‪ ،‬فتجىء إليه بكل صيد مثني طيب!‬
‫سـ ـ ْم َع ‪..‬‬
‫ـل لَ ُك ُم ال َّ‬ ‫وىف ه @@ذا ال @@رتتيب ال @@ذي ج @@اء عليه نظم اآلية ‪( :‬أَنْ َ‬
‫شـ ـأَ ُك ْم ‪َ ..‬و َج َعـ َ‬
‫صار ‪َ ..‬واأْل َفْئِ َدةَ) ـ ما حي ّدث عن كثري من األسرار ‪..‬‬‫َواأْل َبْ َ‬
‫ف @ @@أوال ‪ :‬ق @ @ ّدم اإلنش @ @@اء ‪ ،‬وهو اخللق الع @ @@ام لإلنس @ @@ان ‪ ،‬على إجياد الس @ @@مع والبصر ‪،‬‬
‫الفؤاد ‪ ..‬إذ أن الوجود اإلنساىن مقدم على ظهور هذه احلواس فيه ‪..‬‬
‫وثانيا ‪ :‬ق@ @@دم الس@ @@مع على البصر ‪ ..‬ألن حاسة الس@ @@مع تس@ @@بق حاسة اإلبص@ @@ار عند‬
‫مولد الطفل ‪ ،‬كما ثبت ذلك باملالحظة‪.‬‬
‫وثالثا ‪ :‬ق@ @ @@دم الس@ @ @@مع والبصر على الف@ @ @@ؤاد ‪ ،‬وهو العقل ‪ ،‬ألنه ال يك@ @ @@ون لإلنس@ @ @@ان‬
‫إدراك أو متي@ @ @ @ @ @@يز إال بعد أن تعمل ح@ @ @ @ @ @@واس اإلنس@ @ @ @ @ @@ان كلها ‪ ،‬وت@ @ @ @ @ @@ؤدى وظائفها ‪ ،‬وتتوثق‬
‫الص@ @ @ @@الت بينها وبني خاليا املخ ‪ ..‬ومن هنا يب@ @ @ @@دأ اإلدراك والتمي@ @ @ @@يز ويتخلّق ىف اإلنس @ @ @@ان‬
‫العقل أو الفؤاد ‪ ،‬الذي ينمو شيئا فشيئا ‪ ،‬حىت ينضج ويكتمل ‪..‬‬
‫ـ وقوله تع @@اىل ‪( :‬قَلِيالً ما تَ ْش ـ ُك ُرو َن) هو خط @@اب للن@@اس عامة ‪ ،‬وأن قليال منهم هم‬
‫ال@ @@ذين يعرف@ @@ون نعمة اهلل عليهم مث يش@ @@كروهنا ‪ ..‬أما ك@ @@ثرهتم الغالبة فهم ىف غفلة عن ه@ @@ذه‬
‫النعم ‪ ،‬وىف ش @@رود عن املنعم هبا ‪ ،‬وعن القي @@ام ب @@واجب احلمد والش @@كر ‪ ..‬وه @@ذا مثل قوله‬
‫ور) (‪ : 13‬سبأ)‪.‬‬ ‫ي َّ‬ ‫تعاىل ‪( :‬وقَلِ ِ ِ ِ‬
‫الش ُك ُ‬ ‫يل م ْن عباد َ‬
‫َ ٌ‬
‫‪1167‬‬

‫قوله تعاىل ‪:‬‬


‫ض َوإِل َْي ِه تُ ْح َش ُرو َن)‪.‬‬
‫( َو ُه َو الَّ ِذي ذَ َرأَ ُك ْم فِي اأْل َْر ِ‬
‫الذرء ‪ :‬اخللق ‪ ،‬واإلجياد واحلشر ‪ :‬اجلمع ‪ ،‬واحلشد‪.‬‬
‫وه @ @@ذه نعمة أخ @ @@رى ‪ ..‬اخللق واإلجياد من ع @ @@دم ‪ ،‬مث املوت ‪ ،‬مث البعث والنش@ @ @@ور ‪،‬‬
‫والرجعة إىل اهلل سبحانه وتعاىل ‪ ،‬للحساب وللجزاء ‪..‬‬
‫ف@ @ @ @@الوجود نعمة ‪ ،‬ألنه خري من الع@ @ @ @@دم ‪ ..‬واحلشر بعد املوت ‪ ،‬نعمة أخ@ @ @ @@رى ‪ ،‬ألنه‬
‫حي@@اة جدي@@دة ‪ ،‬ال م@@وت بع@@دها ‪ ،‬ووضع لكل نفس ىف مكاهنا ال@@ذي أع @ ّد هلا ‪ ،‬ىف اجلنة أو‬
‫ىف النّار ‪..‬‬
‫وإذا ك@@انت الن@@ار ش@@قاء على أهلها ‪ ،‬وبالء ـ نع@@وذ باهلل منها ـ فإهنا مطه@@رة للنف@@وس‬
‫الصدئ ‪ ،‬وشفاء ألمراضها اخلبيثة!‬ ‫الدنسة ‪ ،‬وصفل ملعدهنا ّ‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫الف اللَّْي ِل َوالنَّها ِر أَفَال َت ْع ِقلُو َن)‬
‫يت َولَهُ ا ْختِ ُ‬ ‫( َو ُه َو الَّ ِذي يُ ْحيِي َويُ ِم ُ‬
‫هو دفع هلذا الوهم الذي قد يتسرب إىل بعض الناس من وج@@ود املوت ‪ ،‬والشك ىف‬
‫ع ّده نعمة من بني النعم املذكورة ىف هذه اآليات ‪..‬‬
‫ف@ @ @@املوت دورة من دورات الوج @ @@ود اإلنس@ @ @@اىن ‪ ،‬ووجه مقابل للحي@ @ @@اة ‪ ،‬مقابلة الليل‬
‫للنهار ‪ ..‬فاحلي@@اة يقابلها املوت ‪ ،‬والنه@@ار يعقبه الليل ‪ ..‬تلك هى س@نة اهلل ىف احلي@اة ال@@دنيا ‪،‬‬
‫كل شىء فيها يقابله ض ّده ‪ ،‬كى يثبت وجوده ‪ ،‬وحيقق ذاته ‪ ..‬وهذا أمر ال يدرك س@ ّ@ره ‪،‬‬
‫وال يعرف حقيقته ‪ ،‬إال أصحاب العقول ‪ ،‬الذين يستعملون عقوهلم ‪..‬‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫قال اأْل ََّولُو َن قالُوا أَإِذا ِم ْتنا َو ُكنَّا تُراباً َو ِعظاماً أَإِنَّا ل ََم ْبعُوثُو َن ‪)..‬‬
‫(بَ ْل قالُوا ِمثْ َل ما َ‬
‫‪1168‬‬

‫أي أن هؤالء املشركني ال يستعملون عقوهلم ‪ ،‬وال ينظرون ىف ه@ذه اآلي@ات الكونية‬
‫اليت بني أي @ @@ديهم ‪ ..‬بل لقد أنك @ @@روا احلي @ @@اة بعد املوت ‪ ،‬وق @ @@الوا ما قاله آب @ @@اؤهم من قبل ‪..‬‬
‫قالوا ‪ :‬كيف نع@ود إىل احلي@اة م@رة أخ@رى ‪ ،‬بعد أن نصري ترابا وعظام@ا؟ ولو أهنم نظ@روا إىل‬
‫الليل والنهار مثال ‪ ،‬لعرفوا أن النهار ينسخه الليل ‪ ،‬مث يعود النهار فيطلع من جديد ناس@@خا‬
‫ظالم الليل ‪ ..‬وهكذا ‪ ..‬ليل وهنار ‪ ،‬وهنار وليل!‬
‫فمن ع@ @@اش ىف النه@ @@ار ‪ ،‬ومأل عينيه من ض@ @@وئه الوض@ @@يء ‪ ..‬مث ع@ @@اش ىف الليل ‪ ،‬ول ّفه‬
‫ظالمه ال @ ّدامس ‪ ،‬مل يكن له ـ حسب تق@@ديرهم ه@@ذا ـ أن ينتظر هنارا يطلع من أحش@@اء ه@@ذا‬
‫الظالم الكثيف!‬
‫لكن ال @@ذي حيدث ‪ ،‬هو أن هنارا يطلع من كي @@ان ه @@ذا الظالم ‪ ،‬وك @@أن ليال مل يكن!‬
‫كذلك احلياة ‪ ،‬واملوت ‪ ،‬مث احلياة بعد املوت ‪..‬‬
‫فه @@ذا اإلنس @@ان ال @@ذي ك @@ان ميأل ال @@دنيا حركة وس @@عيا ‪ ،‬مث تض @ ّ@مه األرض ىف بطنها ‪،‬‬
‫ويد ّس@ه ال@@رتاب ىف كيانه ‪ ..‬ليس بالش@@يء البعيد املس@@تغرب ـ والش@@واهد ماثلة ـ أن خيرج من‬
‫بني أحشاء هذا الرتاب إنسانا ‪ ،‬كهذا اإلنسان الذي كان!‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫(لََق ْد ُوع ْدنا نَ ْح ُن َوآبا ُؤنا هذا م ْن َق ْب ُل إِ ْن هذا إِاَّل أَساط ُير اأْل ََّول َ‬
‫ين)‪.‬‬
‫هو تأكيد لق@@وهلم الباطل ال@@ذي ق@@الوه عن إمك@@ان البعث ‪ ..‬وأن ه@@ذا البعث قد وعد‬
‫به آب@ @@اؤهم من قبل ‪ ..‬وها هم أوالء ما زال@ @@وا ترابا هام@ @@دا ‪ ..‬مث إن ه@ @@ؤالء يوع@ @@دون به ‪..‬‬
‫وس@يكونون بعضا من ه@@ذا ال@رتاب اهلامد ‪ ،‬مع آب@ائهم ‪ ..‬فما ه@@ذا الوعد عن@@دهم ‪ ،‬وحسب‬
‫ص @ @ل هلا‬
‫تط@ @@ورهم ‪ ،‬إال من اخلراف@ @@ات واألس@ @@اطري اليت تعيش ىف الن@ @@اس من زمن بعيد وال حم ّ‬
‫أبدا‪.‬‬
‫‪1169‬‬

‫قوله تعاىل ‪:‬‬


‫ض َو َم ْن فِيها إِ ْن ُك ْنتُ ْم َت ْعلَ ُمو َن؟ َسَي ُقولُو َن لِلَّ ِه ‪ ..‬قُ ْل أَفَال تَ َذ َّك ُرو َن)‪.‬‬ ‫ِ‬
‫(قُ ْل ل َم ِن اأْل َْر ُ‬
‫هذا سؤال ‪ ،‬ال جييب عليه اإلجابة الصحيحة إال من عقل وعلم ‪..‬‬
‫ملن هذه األرض ومن فيها ‪ ،‬من عوامل وخملوقات؟‬
‫جواب واحد عند أهل الدراية والعلم ‪ ..‬إهنا هلل ‪..‬‬
‫حجة أهل العلم ‪ ..‬ف @@إن مل يكون @@وا ع @@املني ‪ ،‬ك @@ان‬ ‫وقد أل @@زمهم اهلل س @@بحانه وتع @@اىل ّ‬
‫عليهم أن يأخ @ @@ذوا بق @ @@ول الع @ @@املني ‪ ..‬وإال ف @ @@إى الن @ @@اس هم؟ إهنم ليس @ @@وا علم @ @@اء ‪ ،‬وليس@ @@وا‬
‫ب @@املنتفعني بعلم العلم @@اء ‪ ..‬واألعمى إذا مل يس @@لم ي @@ده للمبصر ‪ ..‬ختبط ‪ ،‬وض @ ّ@ل وهلك ‪..‬‬
‫وإذن فهم ىف اهلالكني ‪ ،‬إذا مل ينزلوا على هذا احلكم امللزم ‪ ،‬ومل يأخذوا به ‪..‬‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫ش ال َْع ِظ ِيم؟ َس ـ ـ ـَي ُقولُو َن لِلَّ ِه! قُـ ـ ـ ْـل أَفَال‬‫ب ال َْعـ ـ ـ ْـر ِ‬
‫س ـ ـ ـ ْب ِع َو َر ُّ‬ ‫سـ ـ ـ ِ‬
‫ماوات ال َّ‬ ‫ب ال َّ‬
‫(قُـ ـ ـ ْـل َم ْن َر ُّ‬
‫َتَّت ُقو َن؟)‬
‫وسؤال آخر ‪ ..‬حيتاج إىل نظر أوسع ‪ ،‬وعلم أكثر!‬
‫ورب العرش العظيم؟‪.‬‬ ‫رب السموات السبع ّ‬ ‫من ّ‬
‫إهنم حملجوج@ @ @ @@ون بق@ @ @ @@ول أهل الدراية واملعرفة ‪ ..‬إهنا مجيعا هلل ‪ ..‬هك@ @ @ @@ذا يق@ @ @ @@رر أهل‬
‫الدراية والعلم‪.‬‬
‫فليقولوا هذا ‪ ..‬وإهنم إن مل يقولوه اختيارا قالوه اضطرارا‪.‬‬
‫وإهنم إذا س@ @@لموا هبذا ـ وال بد من التس@ @@ليم به ـ فلم ال يتق@ @@ون اهلل؟ ومل ال خيش@ @@ون‬
‫بأسه ‪ ،‬وهو املالك املتصرف ىف هذا الوجود كله ‪ ..‬ال شريك له؟‬
‫‪1170‬‬

‫قوله تعاىل ‪:‬‬


‫ـار َعلَْيـ ِـه ‪ ..‬إِ ْن ُك ْنتُ ْم َت ْعلَ ُمـو َن؟‬ ‫ِ‬ ‫ـوت ُك ِّ ٍ‬ ‫(قُ ْـل َم ْن بِيَ ِـد ِه َملَ ُك ُ‬
‫ـل َشـ ْيء ‪َ ..‬و ُهـ َـو يُ ـج ُير َوال يُجـ ُ‬
‫َسَي ُقولُو َن لِلَّ ِه ‪ ..‬قُ ْل فَأَنَّى تُ ْس َح ُرو َن؟)‬
‫وس@@ؤال ث@@الث ‪ ..‬ال ب@ ّد أن يس@@لم به من س@@لم بالس@@ؤالني الس@@ابقني ‪ ..‬وإن ك@@ان أمشل‬
‫منهما ‪ ،‬وأوسع مدى‪.‬‬
‫وت ُك ِّل َشـ ْي ٍء)؟ أي من بي@@ده ملك كل ش@@ىء وتص@@رفه فيه ‪..‬؟ ( َو ُهـ َـو‬ ‫( َم ْن بِيَ ِد ِه َملَ ُك ُ‬
‫ـار َعلَْي ـ ِـه) ‪ :‬وال س@ @@لطان ألحد ي@ @@دفع بأسه ‪ ،‬ويكشف‬ ‫يُ ـجـ ُير) أي حيمى ‪ ،‬وحيفظ ( َوال يُج ـ ُ‬
‫ِ‬
‫ضره ‪ ..‬من هذا ‪ ،‬وملن هذا؟‬ ‫ّ‬
‫رب العاملني‪.‬‬ ‫رب العاملني ‪ ..‬وهو هلل ّ‬ ‫جواب واحد ‪ ..‬هو اهلل ّ‬
‫ونتيجة واحدة ‪ :‬االستسالم هلل ‪ ،‬والوالء هلل‪.‬‬
‫(فَ ـأَنَّى تُ ْس ـ َح ُرو َن) أي فكيف ت @@ذهلون عن ه @@ذا ‪ ،‬وتستس @@لمون لغري اهلل ‪ ،‬وتعط @@ون‬
‫والءكم ملا تشركون به من دونه؟ أسحركم ساحر فأخذ على عقولكم ‪ ،‬وأضلّكم عن اهلل‬
‫‪ ،‬وأعم@@اكم عن احلق؟ وه@@ذا اخلط@@اب ج@@ار على ما هو ىف أوه@@ام الق@@وم من أن هن@@اك ق@@وى‬
‫النىب ‪ ،‬إنه ساحر!‬ ‫تسحر الناس ‪ ،‬وتفسد عقوهلم ‪ ،‬كما كانوا يقولون عن ّ‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫ناهم بِالْح ِّق وإَِّنهم ل ِ‬
‫َكاذبُو َن)‪.‬‬ ‫(بَ ْل أََت ْي ُ ْ َ َ ُ ْ‬
‫هو تعقيب عام ‪ ،‬على هذه األسئلة ‪ ،‬وأجوبتها‪.‬‬
‫احلق عليها ‪ ،‬ولكنهم جييب@@ون عليها ك@@ذبا‬ ‫إن اهلل سبحانه وتعاىل قد أعط@اهم اجلواب ّ‬
‫احلق بتلك األجوبة ‪ ،‬ويقه @@رهم س @@لطانه قه @@را عليها ‪ ،‬ف @@إهنم ال‬ ‫وهبتانا ‪ ..‬وإهنم إذ ينطقهم ّ‬
‫يأخذون مبا نطقت به ألسنتهم ‪ ،‬وال ينزلونه منزلة االعتقاد من قلوهبم‪.‬‬
‫‪1171‬‬

‫قوله تعاىل ‪:‬‬


‫ب ُك ُّل إِ ٍله بِما َخلَ َق َول ََعال َب ْع ُ‬ ‫ِ ٍ‬ ‫ِ ٍ‬
‫ضـ ُه ْم‬ ‫( َما اتَّ َخ َذ اهللُ م ْن َولَد َوما كا َن َم َعهُـ م ْن إِله إِذاً لَ َذ َه َ‬
‫هاد ِة ‪َ ..‬فتَعالى َع َّما يُ ْش ِر ُكو َن)‪.‬‬ ‫ب َو َّ‬
‫الش َ‬ ‫ص ُفو َن ‪ ..‬عالِ ِم الْغَْي ِ‬
‫اهلل َع َّما ي ِ‬
‫َ‬
‫ض ‪ ..‬س ْبحا َن ِ‬
‫َعلى َب ْع ٍ ُ‬
‫هذا هو مالك األمر كلّه ‪ ،‬ومدار القضية ‪ ،‬وأصل البحث ‪ ،‬وه@@ذا ما ك@@ان ينبغى أن‬
‫يق @ ّ@ر به أولئك املش @@ركون ‪ ،‬بعد أن ألقيت إليهم تلك األس @@ئلة ‪ ،‬حمملة باألجوبة الص @@حيحة‬
‫عليها ‪..‬‬
‫إنه ال ش @ @@ريك هلل ‪ ..‬من ص @ @@احبة أو ولد ‪ ،‬وإنه ال إله معه ‪ ..‬وأنه لو ك @ @@ان معه إله‬
‫آخر لش@ @@اركه ه@ @@ذا امللك ‪ ،‬ونازعه ه@ @@ذا الس@ @@لطان ‪ ،‬واس@ @@تب ّد بالتص@ @@ريف فيما ميلك منه ‪..‬‬
‫لكل منهما أن يفعل ما يشاء ‪ ..‬وه@@ذا من ش@@أنه أن ي@ذهب بنظ@@ام الوج@@ود ‪ ،‬ويفسد‬ ‫ولكان ّ‬
‫الوضع القائم عليه ‪ ،‬حيث ال تلتقى إرادهتما ‪ ،‬وال تتفق مشيئتهما ‪..‬‬
‫إن اجلسد اإلنس@ @@اىن ‪ ،‬ال يق@ @@وم عليه إال س @ @@لطان واحد ‪ ،‬هو القلب ‪ ،‬ولو أنه ك@ @@ان‬
‫هن@ @ @@اك قلب@ @ @@ان ىف جسد واحد ‪ ،‬ال ختل نظ@ @ @@ام اجلسد ‪ ،‬واحنلت روابطه ‪ ،‬وملا تن ّفس ه@ @ @@ذا‬
‫اجلسد نفسا واحدا‪.‬‬
‫والك@ @@ون ‪ ..‬هو جسد كبري ‪ ..‬حيكمه نظ@ @@ام ‪ ،‬ويق@ @@وم عليه س @@لطان ‪ ..‬وهيه@ @@ات أن‬
‫ص ُفو َن) ‪..‬‬ ‫اهلل َع َّما ي ِ‬
‫حيكم بنظامني ‪ ،‬أو ينتظم أمره بسلطانني! (س ْبحا َن ِ‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫وت@@نزهت ذاته عن أن يك@@ون كما يص@@فه الض@@الون ‪ ،‬بنس@@بة الولد ‪ ،‬أو الش@@ريك إليه ‪،‬‬
‫فتعاىل ‪ ،‬سبحانه ‪ ،‬عما يشرك به املشركون ‪ :‬من آهلة وأشباه آهلة‪.‬‬
‫‪1172‬‬

‫____________________________________‬

‫اآليات ‪ 93( :‬ـ ‪)111‬‬


‫ِ ِِ‬ ‫ِ ِ‬
‫ين (‪)94‬‬ ‫ب فَال تَ ْج َعلْني في الْ َقـ ـ ْـوم الظَّالم َ‬ ‫وع ـ ـ ُدو َن (‪َ )93‬ر ِّ‬ ‫ب إِ َّما تُ ـ ـ ِر َينِّي ما يُ َ‬
‫(قُـ ـ ْـل َر ِّ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫وإِنَّا َعلى أَ ْن نُ ِري ـ َ ِ‬
‫س ـيِّئَةَ نَ ْح ُن أَ ْعلَ ُم بِما‬ ‫س ـ ُن ال َّ‬
‫َح َ‬‫ـك ما نَعـ ُد ُه ْم لَقــاد ُرو َن (‪ @ )95‬ا ْدفَـ ْـع بِــالَّتِي ه َي أ ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ب أَ ْن‬ ‫ـك َر ِّ‬ ‫شـ ـ ـياطي ِن (‪َ )97‬وأَعُ ـ ــوذُ بِ ـ ـ َ‬‫ِ‬ ‫ـزات ال َّ‬‫ـك من َهمـ ـ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫صـ ـ ـ ُفو َن(‪َ @ @ )96‬وقُ ـ ـ ْـل َر ِّ‬ ‫يِ‬
‫ب أَعُ ـ ــوذُ ب ـ ـ َ ْ َ‬ ‫َ‬
‫ِ‬ ‫قال ر ِّ ِ ِ‬ ‫ي ْح ُ ِ‬
‫ـل صـالحاً‬ ‫ِّ‬
‫ب ْارجعُــون (‪ @)99‬ل ََعلي أَ ْع َم ُ‬ ‫ت َ َ‬ ‫َح َد ُه ُم ال َْم ْو ُ‬‫جاء أ َ‬ ‫ض ُرون (‪َ @)98‬حتَّى إِذا َ‬ ‫َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫خ إِلى َي ْوم ُي ْب َعثُو َن (‪ )100‬فَِإذا نُف َخ‬ ‫ت َكالَّ إِنَّها َكل َمةٌ ُه َو قائِلُها َوم ْن َورائِ ِه ْم َب ْر َز ٌ‬ ‫فيما َت َر ْك ُ‬
‫ت َموا ِزينُــهُ فَأُولئِـ َ‬ ‫ٍِ‬ ‫فِي ُّ‬
‫ـك ُه ُم‬ ‫ـاءلُو َن (‪ )101‬فَ َم ْن َث ُقلَ ْ‬ ‫ساب َب ْيَن ُه ْم َي ْو َمئذ َوال َيتَسـ َ‬ ‫الصو ِر فَال أَنْ َ‬
‫َّم خالِـ ُدو َن (‬ ‫ِ‬
‫سـ ُه ْم في َج َهن َ‬
‫ِ‬
‫ين َخس ُروا أَْن ُف َ‬
‫ت موا ِزينُهُ فَأُولئِ َ َّ ِ‬
‫ك الذ َ‬ ‫ال ُْم ْفل ُحو َن (‪َ @)102‬و َم ْن َخ َّف ْ َ‬
‫ِ‬
‫َم تَ ُك ْن آيــاتِي ُت ْتلى َعلَْي ُك ْم فَ ُك ْنتُ ْم‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َّار َو ُه ْم فيها كــال ُحو َن (‪ @ )104‬أَل ْ‬ ‫‪َ )103‬ت ْل َف ُح ُو ُجـ َ‬
‫ـوه ُه ُم الن ُ‬
‫ِ‬ ‫بِها تُ َك ِّـذبُو َن (‪ )105‬قــالُوا َربَّنا غَلَبَ ْ‬
‫ين (‪َ @)106‬ربَّنا أَ ْخ ِر ْجنا‬ ‫ت َعلَْينا شـ ْق َوتُنا َو ُكنَّا َق ْومـاً ضـالِّ َ‬
‫ـون (‪ )108‬إِنَّهُ كــا َن فَ ِريـ ٌق‬ ‫ـال ا ْخسـ ُؤا فِيها وال تُ َكلِّمـ ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫م ْنها فَـإ ْن عُـ ْدنا فَإنَّا ظــال ُمو َن (‪ @ )107‬قـ َ َ‬
‫ين (‪ )109‬فَاتَّ َخـ ْذتُ ُم ُ‬
‫وه ْم‬ ‫ِِ‬ ‫آمنَّا فَــا ْغ ِف ْر لَنا َو ْار َح ْمنا َوأَنْ َ‬ ‫ِ ِ ِ‬
‫ت َخ ْـي ُـر الـ َّـراحم َ‬ ‫م ْن عبادي َي ُقولُــو َن َربَّنا َ‬
‫صـَب ُروا‬ ‫ض َح ُكو َن (‪ )110‬إِنِّي َج َز ْي ُت ُه ُم الَْي ْو َم بِما َ‬ ‫س ْو ُك ْم ِذ ْك ِري َو ُك ْنتُ ْم ِم ْن ُه ْم تَ ْ‬ ‫ِ‬
‫س ْخ ِريًّا َحتَّى أَنْ َ‬
‫أ ََّن ُه ْم ُه ُم الْفائُِزو َن) (‪)111‬‬
‫____________________________________‬
‫‪1173‬‬

‫التفسري ‪:‬‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫ِ ِِ‬ ‫ِ ِ‬
‫ب فَال تَ ْج َعلْني في الْ َق ْوم الظَّالم َ‬
‫ين)‪.‬‬ ‫ب إِ َّما تُ ِر َينِّي ما يُ َ‬
‫وع ُدو َن َر ِّ‬ ‫(قُ ْل َر ِّ‬
‫@ىب الك@ @@رمي ‪ ،‬بعد ه @@ذا الع@ @@رض املبس@ @@وط لوج@ @@وه املش @@ركني ‪ ،‬وما‬ ‫هو التف @@ات إىل الن @ ّ‬
‫ي@ @@دور ىف أفك@ @@ارهم من س@ @@خافات ‪ ،‬وما تنطق به ألس@ @@نتهم من س@ @@فاهات ‪ ،‬وما تنعقد عليه‬
‫قلوهبم من شرك وضالل‪.‬‬
‫وىف ه@@ذا االلتف@@ات ي@@دعو اهلل س@@بحانه نبيّه ‪ ،‬أن يطلب إىل ربه أال يك@@ون مبش@@هد من‬
‫حيل هبم بأس اهلل ‪ ،‬ويقع عليهم عذابه‪.‬‬ ‫هؤالء املشركني حني ّ‬
‫وىف هذا إش@ارة إىل ش@ ّدة ه@ذا البالء وقس@وته ‪ ،‬وأنه مما ال حتتمل النفس رؤيته ب@العني‬
‫‪ ،‬فكيف حال املبتلى به ‪ ،‬الذي يتجرع كئوس عذابه؟‬
‫مث إن ه @@ذا ـ من جهة أخ @@رى ـ هتديد للمش @@ركني بالع @@ذاب األليم ‪ ،‬والبالء العظيم ‪،‬‬
‫ال @@ذي ي @@دعو اهلل أولي @@اءه إىل أن يتض @@رعوا إليه ‪ ،‬ط @@البني الف @@رار منه ‪ ،‬قبل أن يقع ‪ ،‬حىت ال‬
‫يشهدوه بأعينهم‪.‬‬
‫وال شك أن هذا دعاء جماب مق ّدما من قبل أن ي@دعو به النيب ‪ ،‬ألن اهلل س@بحانه هو‬
‫الذي أمره هبذا الدعاء ‪ ،‬وهو س@@بحانه ال@ذي بي@@ده إجابته ‪ ..‬وه@@ذا يكشف لنا عن االرتب@اط‬
‫بني األس@@باب واملس@@ببات ‪ ..‬وأن على اإلنس@@ان أن يأخذ باألس@@باب لكل أمر يري@@ده ‪ ..‬وقد‬
‫دل اهلل عب@@اده على األس@@باب ‪ ،‬وأم@@رهم باألخذ هبا ‪ ،‬وأن ي@@دعوا املس@@ببات هلل وح@@ده ‪ ،‬واهلل‬
‫يفعل ما يريد‪.‬‬
‫«رب إن تريىن ما يوع @@دون فال جتعلىن ىف الق @@وم الظ @@املني» ‪..‬‬ ‫وأصل النظم هك @@ذا ‪ّ :‬‬
‫ودوى ينبعث @@ان من احلرف «م @@ا» باتص @@اله‬ ‫ّ‬ ‫وقد ج @@اء النظم الق @@رآىن على ما ت @@رى من فخامة‬
‫بأن الشرطية ‪« ..‬إما» ‪ ،‬وىف هذا هتويل للعذاب‬
‫‪1174‬‬

‫ال@@ذي يته@@دد املش@@ركني ‪ ،‬وحيوم ح@@وهلم ‪ ..‬مث ما ت@@رى ىف تص@@دير ج@@واب الش@@رط هبذا الن@@داء‬
‫لالسم الك @@رمي «رب» ال @@ذي يض @@رع إليه لكشف الض @ ّ@ر ‪ ،‬ودفع البالء ‪ ،‬ألنه بالء عظيم ال‬
‫يدفعه إال اهلل ‪ ،‬وليس للناس مجيعا سبيل إىل دفعه‪.‬‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫ك ما نَ ِع ُد ُهم ل ِ‬
‫َقاد ُرو َن)‪.‬‬ ‫( َوإِنَّا َعلى أَ ْن نُ ِريَ َ‬
‫ْ‬
‫للنىب بأن اهلل قد أع ّد للقوم اهلزمية واخلزي على يديه ‪ ،‬وأن ذلك موق@@وت‬ ‫هو تطمني ّ‬
‫بوقته ‪ ،‬وأنه حاضر ىف علم اهلل ‪ ،‬ولو ش @@اء س @@بحانه أن يطلع النيب ل @@رأى بعينه مس @@رية ه @@ذا‬
‫الص @@راع ‪ ،‬بينه وبني قومه ‪ ،‬خط @@وة خط @@وة ‪ ..‬حىت جيىء نصر اهلل والفتح ‪ ،‬وي @@دخل الن @@اس‬
‫ىف دين اهلل أفواجا‪.‬‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫السيِّئَةَ نَ ْحن أَ ْعلَم بِما ي ِ‬ ‫ِ‬
‫ص ُفو َن)‪.‬‬ ‫ُ ُ َ‬ ‫س ُن َّ‬ ‫(ا ْدفَ ْع بِالَّتِي ه َي أ ْ‬
‫َح َ‬
‫وإذا ك @@انت خامتة النيب هى النصر على ه @@ؤالء املتط @@اولني عليه ‪ ،‬املعان @@دين له ‪ ،‬ف @@إن‬
‫ذلك يه@ @ ّ@ون كث@ @@ريا من األذى ال@ @@ذي يلق@ @@اه منهم ‪ ،‬حيث يك@ @@ون بص@ @@ره متعلقا بي@ @@وم النصر‬
‫املوعود ‪ ،‬غري ملتفت إىل ما يصادفه على يومه من مش ّقة وعناء‪.‬‬
‫ومن هنا ‪ ،‬ك@ @@انت دع@ @@وة النيب إىل لق@ @@اء إس@ @@اءات قومه باإلحس@ @@ان دع@ @@وة تلتقى مع‬
‫مش@@اعره ‪ ،‬اليت اس@@رتوحت أنس@@ام الرض@@اء ىف ظل ه@@ذا املوعد الك@@رمي بالنصر املبني لدعوته ‪،‬‬
‫وطل@ @@وع مشس @@ها على كل أفق ‪ ..‬ف @@إن كل ص@ @@عب يه @@ون ‪ ،‬وكل بالء حمتمل ‪ ،‬إذا ك @@انت‬
‫العاقبة جناحا ‪ ،‬ونصرا حمققا‪.‬‬
‫ص ُفو َن) هتديد للمشركني ‪ ،‬الذين‬ ‫وىف قوله تعاىل ‪( :‬نَ ْحن أَ ْعلَم بِما ي ِ‬
‫ُ ُ َ‬
‫‪1175‬‬

‫@ردهم ه@ذا اإلحس@ان عن غيّهم وض@الهلم ‪ ..‬فليفعل@وا ما حيلو‬ ‫يسيئون وحيسن إليهم ‪ ،‬مث ال ي ّ‬
‫هلم ‪ ،‬واهلل سبحانه عامل مبا يفعلون ‪ ،‬وحماسبهم عليه ‪..‬‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫ضر ِ‬
‫ون)‪.‬‬ ‫الش ِ‬
‫ياطي ِن َوأَعُوذُ بِ َ‬ ‫ك ِمن َهم ِ‬
‫زات َّ‬ ‫ِ‬
‫ب أَ ْن يَ ْح ُ ُ‬
‫ك َر ِّ‬ ‫ب أَعُوذُ ب َ ْ َ‬ ‫( َوقُ ْل َر ِّ‬
‫مهزات الشياطني ‪ :‬وساوسها ‪ ،‬وخنسلتها اليت تنخس هبا ىف صدور الناس ‪..‬‬
‫وكما أمر اهلل س@ @@بحانه وتع@ @@اىل نبيه الك@ @@رمي ‪ ،‬أن ي@ @@دعو ربه ‪ ،‬ب@ @@أن يقيه شر الن@ @@اس ‪،‬‬
‫ويباعد بينه وبني الق@@وم الظ@@املني ـ أم@@ره س@@بحانه أن يس@@تعيذ به من وس@@اوس الش@@ياطني ‪ ،‬وما‬
‫يلم@@ون به ‪ ،‬وال حيض@@رونه ىف‬ ‫يزين@@ون به للن@@اس من منك@@رات ‪ ،‬وأن يباعد بينه وبينهم ‪ ،‬فال ّ‬
‫أي حال من أحواله ‪ ،‬خاليا ‪ ،‬أو مع الناس ‪..‬‬
‫وه@@ذه االس@@تعاذة من الش@@يطان ‪ ،‬هى إلف@@ات للمس@@لمني إىل ه@@ذا الع@@دو املرتبص هبم ‪،‬‬
‫والذي هو شر خ@الص ‪ ،‬ال جيىء منه إال الشر لكل من ي@أنس إليه ‪ ،‬ويطمئن له ‪ ..‬وإنه إذا‬
‫ك@ @@ان النيب ـ ص@ @@لوات اهلل وس@ @@المه عليه ‪ ..‬وهو ىف حراسة من ربه ‪ ،‬وىف ق@ @@وة من خلقه ‪،‬‬
‫ودينه ـ إذا ك @@ان النيب يطلب الغ @@وث والعي @@اذ باهلل من ه @@ذا الع @@دو الراصد ‪ ،‬ف @@أوىل بالن @@اس ـ‬
‫وهم على ما فيهم من ض @@عف ـ أن يس @@تكثروا من طلب الغ @@وث والعي @@اذ باهلل من الش @@يطان‬
‫ال @@رجيم ‪ ،‬وأن يكون @@وا على ذكر دائم ب @@أهنم مع ع @@دو م @@رتبص هبم ‪ ،‬ينتظر غفلتهم ‪ ،‬لينفذ‬
‫إىل ما يريد فيهم ‪ ،‬من إغراء وإضالل ‪..‬‬
‫‪1176‬‬

‫قوله تعاىل ‪:‬‬


‫ت ‪..‬‬ ‫ون ‪ ،‬ل ََعلِّي أَ ْع َم ُل صالِحاً فِيما َت َر ْك ُ‬ ‫ب ار ِجع ِ‬
‫قال َر ِّ ْ ُ‬ ‫ت َ‬ ‫َح َد ُه ُم ال َْم ْو ُ‬ ‫( َحتَّى إِذا َ‬
‫جاء أ َ‬
‫َكاَّل إِنَّها َكلِ َمةٌ ُه َو قائِلُها َو ِم ْن َورائِ ِه ْم َب ْر َز ٌخ إِلى َي ْوِم ُي ْب َعثُو َن)‪.‬‬
‫( َحتَّى) غاية حملذوف دل عليه الس @ @ @@ياق ‪ ،‬والتق @ @ @@دير ‪ ،‬ولكن كث @ @ @@ريا من الن @ @ @@اس ‪ ،‬ال‬
‫يأخ@@ذون ح@@ذرهم من الش@@يطان ‪ ،‬وال يس@@تعيذون باهلل منه ‪ ،‬فيفسد عليهم دينهم ‪ ،‬وينقض‬
‫ت)‬ ‫َحـ َد ُه ُم ال َْمـ ْـو ُ‬ ‫ظه @@ورهم بال @@ذنوب واآلث @@ام ‪ ،‬مث يظل @@ون هك @@ذا ىف غفلتهم ( َحتَّى إِذا جـ َ‬
‫ـاء أ َ‬
‫ـون) إىل دني@@اى ‪،‬‬ ‫ب ار ِجعـ ِ‬ ‫وانكشف عن عينيه الغط@@اء ‪ ،‬ورأى ما ق@@دم من منك@@رات (ق َ‬
‫ـال َر ِّ ْ ُ‬
‫@وج‬
‫ت) وألص @@لح من أم @@رى ما فسد ‪ ،‬وأقيم من ديىن ما اع @ ّ‬ ‫ـل صــالِحاً فِيما َتـ َـر ْك ُ‬ ‫ِّ‬
‫(ل ََعلي أَ ْع َمـ ُ‬
‫‪ ..‬ولكن هيهات ‪ ..‬لقد فات وقت الزرع ‪ ،‬وه@@ذا أوان احلص@@اد ‪َ ( ..‬كاَّل ‪ ..‬إِنَّها َكلِ َمةٌ ُهـ َـو‬
‫قائِلُها) أي إهنا جمرد كالم يق @ @ @@ال ‪ ،‬ال وزن له ‪ ،‬وال مثرة منه ‪َ ( ..‬وِم ْن َورائِ ِه ْم َبـ ـ ـ ْـر َز ٌخ) أي‬
‫أن هن@@اك س@@دا قائما ‪ ،‬فاصال بني األم@@وات ‪ ،‬وع@@امل األحي@@اء ‪ ..‬فال س@@بيل ملن أدركه املوت‬
‫أن خيرتق ه@@ذا ال@@ربزخ ‪ ،‬وينفذ إىل ع@@امل األحي@@اء م@@رة أخ@@رى ‪ ،‬وذلك (إِلى َي ْوِم ُي ْب َعثُـو َن ‪)..‬‬
‫حيث يزول الربزخ ‪ ،‬وينتقل الن@@اس مجيعا إىل الع@@امل اآلخر ‪ ،‬ويص@@بحون مجيعا ىف ع@@امل احلق‬
‫‪..‬‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫ٍِ‬ ‫(فَِإذا نُِف َخ فِي ُّ‬
‫ساءلُو َن)‪.‬‬
‫ساب َب ْيَن ُه ْم َي ْو َمئذ َوال َيتَ َ‬ ‫الصو ِر فَال أَنْ َ‬
‫أي ف @@إذا ص @@ار الن @@اس إىل ه @@ذا الي @@وم ‪ ،‬ي @@وم النفخ ىف الص @@ور ‪ ،‬للبعث ‪ ،‬ج @@اءوا وقد‬
‫شغل كل منهم بشأنه وتقطعت بينهم األنساب ‪ ،‬فال جيتمع ق@@ريب إىل ق@@ريب ‪ ،‬وال يلتفت‬
‫صاحب إىل صاحبه ‪..‬‬
‫‪1177‬‬

‫ـل ْامـ ِر ٍئ ِم ْن ُه ْم َي ْو َمئِـ ٍـذ‬ ‫َخيـ ِـه ‪ ،‬وأ ُِّم ِه وأَبِيـ ِـه ‪ ،‬وصـ ِ‬
‫ـاحبَتِ ِه َوبَنِيـ ِـه ‪ ،‬لِ ُكـ ِّ‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬
‫(يــوم ي ِفـ ُّـر الْمــرء ِمن أ ِ‬
‫ََْ َ َُْ ْ‬
‫َشـأْ ٌن ُيغْنِيـ ِـه) (‪ 34‬ـ ‪ : 37‬عبس) ‪ ..‬فال يس@@أل أحد أح@@دا عن حاله ومآل@@ه‪ .‬وحس@@به ما هو‬
‫ـال َكــال ِْع ْه ِن‪َ .‬وال يَ ْسـ ـئَ ُل‬ ‫ْجب ـ ُ‬‫سـ ـماء َكالْم ْهـ ِـل ‪ ،‬وتَ ُكــو ُن ال ِ‬
‫َ‬ ‫فيه من ش @@غل بنفسه ( َيـ ْـو َم تَ ُكــو ُن ال َّ ُ ُ‬
‫يم َح ِميماً) (‪ 8‬ـ ‪ : 10‬املعارج)‪.‬‬ ‫ِ‬
‫َحم ٌ‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫ت موا ِزينُـ ـ ــهُ فَأُولئِـ ـ ـ َ َّ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ت َموا ِزينُـ ـ ــهُ فَأُولئِـ ـ ـ َ‬
‫ين‬
‫ـك الذ َ‬ ‫ـك ُه ُم ال ُْم ْفل ُحـ ـ ــو َن َو َم ْن َخ َّف ْ َ‬ ‫(فَ َم ْن َث ُقلَ ْ‬
‫َّار َو ُه ْم فِيها كالِ ُحو َن)‪.‬‬ ‫وه ُه ُم الن ُ‬ ‫َّم خال ُدو َن َت ْل َف ُح ُو ُج َ‬
‫َخ ِسروا أَْن ُفسهم فِي جهن ِ‬
‫ََ َ‬ ‫َُ ْ‬ ‫ُ‬
‫وىف هذا اليوم توضع املوازين حلساب الناس ‪ ،‬ويرى كل ميزانه وما يوزن فيه‪.‬‬
‫ـك ُه ُم ال ُْم ْفلِ ُـحـ ـ ـ ــو َن)‪ .‬حيث ال تثقل املوازين ‪ ،‬إال‬ ‫ت َموا ِزينُـ ـ ـ ـ ــهُ فَأُولئِـ ـ ـ ـ ـ َ‬‫ـ (فَ َم ْن َث ُقلَ ْ‬
‫باألعمال الصاحلة‪.‬‬
‫فتلك األعم @@ال الص @@احلة ‪ ،‬هى اليت يق @@ام هلا وزن ‪ ،‬ويك @@ون هلا ىف امليزان ثقل ‪ ..‬أما‬
‫األعمال السيئة فال وزن هلا ‪ ،‬ألن هذا امليزان ميزان حق وعدل ‪ ،‬ال يوضع فيه إال ما ك@@ان‬
‫ـك الَّ ِذين َك َفـروا بِآيـ ِ‬
‫ـات َربِّ ِه ْم‬ ‫حقا وع@@دال وإحس@@انا ‪ ..‬وه@@ذا ما يشري إليه قوله تع@@اىل ‪( :‬أُولئِ َ‬
‫َ ُ‬
‫يامـ ِـة َو ْزنـاً) (‪ : 105‬الكه@@ف) وقوله س@@بحانه‬ ‫ِ‬
‫يم ل َُه ْم َيـ ْـو َم الْق َ‬
‫ِ‬
‫ت أَ ْعمــال ُُه ْم فَال نُق ُ‬ ‫َولِقائِـِـه فَ َحبِطَ ْ‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫ـاء َم ْنثُــوراً) (‬‫‪ ،‬عن أعمال الكافرين والضالني ‪َ ( :‬وقَد ْمنا إِلى ما َعملُــوا م ْن َع َمـ ٍـل فَ َج َع ْلنـاهُ َهب ً‬
‫َّار َو ُه ْم فِيها كالِ ُحو َن) عرض حلال من‬ ‫وه ُه ُم الن ُ‬‫‪ : 23‬الفرقان) وىف قوله تعاىل ‪َ( :‬ت ْل َف ُح ُو ُج َ‬
‫أح@ @ @@وال أهل الن @ @@ار ‪ ،‬وما يلق@ @ @@ون فيها من بالء ‪ ،‬حيث ت @ @@داعبهم الن @ @@ار بلهيبها ‪ ،‬وتص@ @ @@فع‬
‫هم وك @@رب ‪ ،‬وتعلو وج @@وههم غ @@ربة ترهقها‬ ‫وج @@وههم بلظاها ‪ ،‬وحيث يغش @@اهم من ذلك ّ‬
‫قرتة‪.‬‬
‫‪1178‬‬

‫املكفهر ‪ ،‬ملا يعتمل ىف كيانه من غموم ومهوم ‪..‬‬ ‫ّ‬ ‫والكاحل ‪ :‬العابس‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫(أَل َْم تَ ُك ْن آياتِي ُت ْتلى َعلَْي ُك ْم فَ ُك ْنتُ ْم بِها تُ َك ِّذبُو َن)‪.‬‬
‫هو رد على ج@ @@ؤار املع@ @@ذبني ىف جهنم ‪ ،‬وما يص@ @@طرخون به من ويل وثب@ @@ور‪ .‬إنه ال‬
‫مصري لكم إال ه @ @@ذا ‪ ..‬فقد ج @ @@اءكم رس @ @@ولنا بآي @ @@ات اهلل ‪ ،‬وتالها عليكم ‪ ،‬ودع @ @@اكم إىل‬
‫اهلدى واإلميان ‪ ..‬ف@@أبيتم وك@@ذبتم‪ .‬فه@@ذا ج@@زاؤكم ‪ ،‬ف@@ذوقوا ع@@ذاب اخلزي مبا كنتم بآي@@ات‬
‫اهلل تكذبون ‪..‬‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫ِ‬
‫ت َعلَْينا ش ْق َوتُنا َو ُكنَّا َق ْوماً ضالِّ َ‬
‫ين)‪.‬‬ ‫(قالُوا َربَّنا غَلَبَ ْ‬
‫ٍِ‬
‫وم@ @@اذا ينفع الن@ @@دم ‪ ،‬واإلق@ @@رار بال@ @@ذنب ىف دار احلس@ @@اب واجلزاء؟ ( َفَي ْو َمئـ ــذ ال َي ْن َفـ ـ ُ‬
‫ـع‬
‫ين ظَلَ ُموا َم ْع ِذ َر ُت ُه ْم َوال ُه ْم يُ ْسَت ْعتَبُو َن) (‪ : 57‬الروم)‪@.‬‬ ‫َّ ِ‬
‫الذ َ‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫قال ا ْخس ُؤا فِيها وال تُ َكلِّم ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫ون)‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫( َربَّنا أَ ْخ ِر ْجنا م ْنها فَإ ْن عُ ْدنا فَإنَّا ظال ُمو َن َ َ‬
‫وردنا‬
‫وىف ذلة واستخزاء ‪ ،‬وىف هلفة وجنون ‪ ،‬يقولون ربنا أخرجنا من ه@@ذا البالء ‪ّ ،‬‬
‫إىل ال@ @ @@دنيا م@ @ @@رة أخ@ @ @@رى ‪ ،‬فن@ @ @@ؤمن بك ونتبع الرسل ‪ ..‬ف@ @ @@إن ع@ @ @@دنا إىل ما كنا فيه من كفر‬
‫وض@@الل ‪ ،‬كنا ظ@@املني ‪ ،‬فنس@@تحق ما نلقى من ع@@ذاب وه@@وان! وك@@أهنم مل يكون@@وا ظ@@املني ‪،‬‬
‫ِ‬
‫ين) ـ‬ ‫ت َعلَْينا ش ْق َوتُنا َو ُكنَّا َق ْوماً ضــالِّ َ‬ ‫وكأن عذرهم الذي اعتذروا به حني قالوا ‪َ ( :‬ربَّنا غَلَبَ ْ‬
‫ك @@أن ع@ @@ذرهم ه @@ذا قد قبل منهم! لقد منّتهم أنفس @@هم تلك األم@ @@اىنّ الكاذبة ‪ ..‬وإهنم ألهل‬
‫شر وسوء ‪ ،‬ال يرجى‬
‫‪1179‬‬

‫َكاذبُو َن) (‪ : 28‬األنع@@ام) وهلذا ج@@اء‬ ‫َعادوا لِما ُنهوا َع ْنهُ وإَِّنهم ل ِ‬ ‫لدائهم دواء ‪َ ( :‬ول َْو ُردُّوا ل ُ‬
‫َ ُْ‬ ‫ُ‬
‫ـون ‪ )..‬أي انزج@@روا فيها ‪ ،‬وأقيم@@وا حيث أنتم‬ ‫الرد القاطع الزاجر ‪( :‬ا ْخس ُؤا فِيها وال تُ َكلِّمـ ِ‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬
‫‪ ،‬وال تكلموا اهلل ‪ ..‬فإنه سبحانه ال يقبل منكم قوال ‪ ،‬وال جييب لكم سؤال‪.‬‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫ِِ‬ ‫آمنَّا فَـا ْغ ِف ْر لَنا َو ْار َح ْمنا َوأَنْ َ‬ ‫ِ ِ ِ‬
‫ين‬
‫ت َخ ْي ُـر ال َّـراحم َ‬ ‫(إِنَّهُ كا َن فَ ِري ٌق م ْن عبـادي َي ُقولُـو َن َربَّنا َ‬
‫س ـ ْو ُك ْم ِذ ْكـ ِري َو ُك ْنتُ ْم ِم ْن ُه ْم تَ ْ‬
‫ض ـ َح ُكو َن إِنِّي َجـ َـز ْي ُت ُه ُم الَْيـ ْـو َم بِما‬ ‫ِ‬
‫وه ْم س ـ ْخ ِريًّا َحتَّى أَنْ َ‬
‫فَاتَّ َخـ ْذتُ ُم ُ‬
‫صَب ُروا أ ََّن ُه ْم ُه ُم الْفائُِزو َن)‪.‬‬
‫َ‬
‫هو تعليل ملا أخذهم اهلل به ‪ ،‬من كبت وزجر ‪ ،‬وملا رماهم به من عذاب اليم‪.‬‬
‫إهنم مل يؤمن @@وا باهلل ‪ ،‬ومل يس @@تجيبوا لرس @@ول اهلل ‪ ،‬بل ك@ @ ّذبوه ‪ ،‬وهبت @@وه ‪ ،‬وآذوه@ ‪..‬‬
‫ومل يقف@ @@وا عند ه@ @@ذا ‪ ،‬بل إهنم تس@ @@لطوا على املؤم@ @@نني باهلل ‪ ،‬واختذوهم س@ @@خريّا ‪ ،‬وجعل@ @@وا‬
‫ض ـ َح ُكو َن َوإِذا‬ ‫ِ َّ ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫آمنُ ــوا يَ ْ‬
‫ين َ‬
‫َج َر ُمــوا ك ــانُوا م َن الذ َ‬ ‫منهم م @@ادة للض @@حك والعبث ‪( ..‬إِ َّن الذ َ‬
‫ين أ ْ‬
‫غام ُزو َن) (‪ 30 ، 29‬املطففني)‪@.‬‬ ‫َم ُّروا بِ ِه ْم َيتَ َ‬
‫وىف قوله تع @@اىل ‪َ ( :‬حتَّى أَنْ َسـ ـ ْو ُك ْم ِذ ْـكـ ِري) إش @@ارة إىل أن اش @@تغال ه @@ؤالء املش @@ركني‬
‫الضالني بالسخرية من املؤم@@نني ‪ ،‬والض@@حك منهم ‪ ،‬قد أهلاهم عن ذكر اهلل ‪ ،‬وص@@رفهم عن‬
‫النظر ىف آياته ‪ ،‬واالس @@تماع إىل كلماته ‪ ..‬إهنم ش @@غلوا بغ @@ريهم عن أنفس @@هم ‪ ،‬وعن العمل‬
‫ملا فيه خ @@ريهم ورش @@ادهم ‪ ..‬وه @@ذا ش @@أن كل من يش @@غل ب @@أمور الن @@اس ‪ ،‬وجيعلها مهّه ‪ ..‬إنه‬
‫ينسى نفسه ‪ ،‬وحيرمها ما كان ميكن أن يسوقه إليها من سعيه وجهده‪.‬‬
‫وىف نسبة نس@@ياهنم ل@ذكر اهلل ‪ ،‬إىل املؤم@@نني ‪ ،‬مع أن املؤم@@نني مل يكن منهم دع@@وة هلم‬
‫إىل نسيان ذكر اهلل ‪ ،‬بل إهنم كانوا يدعوهنم إىل اهلل ‪ ،‬ويذ ّكروهنم‬
‫‪1180‬‬

‫به ـ ىف ه@ذا مض@اعفة حلس@رة الك@افرين ‪ ،‬وزي@ادة ىف إيالمهم ‪ ،‬إن ك@@ان ما هم فيه حيت@اج إىل‬
‫زي@@ادة‪ .‬وذلك حني ينظ@@رون إىل املؤم@@نني ال@@ذين ك@@انوا يس@@خرون منهم ‪ ،‬فيج@@دون أهنم هم‬
‫ال@ @ @ @@ذين ش@ @ @ @@غلوهم عن ذكر اهلل ‪ ،‬وعن اإلميان به ‪ ،‬وأهنم هم ال@ @ @ @@ذين أوردوهم ه@ @ @ @@ذا املورد‬
‫الوبيل ‪ ..‬مث جيدوهنم ـ مع هذا ـ ىف نعيم ورضوان من اهلل ‪( :‬إِنِّي َجـ َـز ْي ُت ُه ُم الَْي ْـو َم بِما َ‬
‫صـَب ُروا‬
‫ِ‬
‫أ ََّن ُه ْم ُه ُم الْفــائ ُزو َن ‪ )..‬لقد ص@@ربوا على اس@@تهزائكم هبم ‪ ،‬وس@@خريتكم منهم ‪ ،‬ومل ّ‬
‫يتحول@@وا‬
‫عن الصراط املستقيم الذي استقاموا عليه ‪ ،‬فكان هذا هو جزاؤهم عند اهلل‪.‬‬
‫____________________________________‬

‫اآليات ‪ 112( :‬ـ ‪)118‬‬


‫ض َيـ ْـوٍم فَ ْسـئَ ِل‬ ‫ين (‪ )112‬قــالُوا لَبِثْنا َي ْومـاً أ َْو َب ْع َ‬ ‫ِِ‬
‫ض َعـ َد َد سـن َ‬ ‫ـال َك ْم لَبِثْتُ ْم فِي اأْل َْر ِ‬
‫(قـ َ‬
‫ـال إِ ْن لَبِثْتُ ْم إِالَّ قَلِيالً لَـ ـ ـ ْـو أَنَّ ُك ْم ُك ْنتُ ْم َت ْعلَ ُـم ـ ــو َن (‪ )114‬أَفَ َح ِس ـ ـ ـ ْبتُ ْم أَنَّما‬
‫ِّين (‪ )113‬قـ ـ ـ َ‬
‫الْعـ ـ ــاد َ‬
‫ب‬‫ـق ال إِلــهَ إِالَّ ُهـ َـو َر ُّ‬ ‫ْحـ ُّ‬
‫ـك ال َ‬ ‫َخلَ ْقنــا ُك ْم َعبَثـاً َوأَنَّ ُك ْم إِل َْينا ال ُت ْر َجعُــو َن (‪َ @ )115‬فتَعــالَى اهللُ ال َْملِـ ُ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫آخ َر ال ُب ْرها َن لَهُ بِ ِـه فَِإنَّما حســابُهُ ع ْنـ َد َربِِّه إِنَّهُ‬ ‫اهلل إِلهاً َ‬ ‫ش الْ َك ِر ِيم (‪ )116‬ومن ي ْدعُ مع ِ‬
‫ََ ْ َ ََ‬ ‫ال َْع ْر ِ‬
‫ين (‪)118‬‬ ‫ت َخ ْير َّ ِ ِ‬ ‫ال ي ْفلِح الْكافِرو َن (‪ )117‬وقُل ر ِّ ِ‬
‫الراحم َ‬ ‫ب ا ْغف ْر َو ْار َح ْم َوأَنْ َ ُ‬ ‫َ َْ‬ ‫ُ‬ ‫ُ ُ‬
‫____________________________________‬
‫التفسري ‪:‬‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫ض َيـ ـ ْـوٍم فَ ْسـ ـ ـئَ ِل‬
‫ين؟ ‪ ..‬ق ـ ــالُوا لَبِثْنا َي ْومـ ـ ـاً أ َْو َب ْع َ‬ ‫ِ ِ‬
‫ض َعـ ـ ـ َد َد سـ ـ ـن َ‬ ‫ـال َك ْم لَبِثْتُ ْم فِي اأْل َْر ِ‬ ‫(ق ـ ـ َ‬
‫قال إِ ْن لَبِثْتُ ْم إِاَّل قَلِيالً ل َْو أَنَّ ُك ْم ُك ْنتُ ْم َت ْعلَ ُمو َن)‪.‬‬
‫ِّين َ‬ ‫الْعاد َ‬
‫‪1181‬‬

‫@ل وعال ‪ ،‬أهل الن @@ار ‪ ،‬وقد أيأس @@هم من اخلروج منها ‪َ ( ..‬ك ْم‬
‫احلق ج @ ّ‬
‫س @@ؤال يس @@أله ّ‬
‫ين)‪.‬‬ ‫ِِ‬ ‫لَبِثْتُ ْم فِي اأْل َْر ِ‬
‫ض َع َد َد سن َ‬
‫وىف متي @@يز الع @@دد بأنه س @@نون ‪ ،‬وليس أياما وال ش @@هورا ‪ ،‬مع أنه ىف تق @@ديرهم يوما أو‬
‫بعض ي@@وم ‪ ،‬كما س@@يكون ج@@واهبم بعد ه@@ذا ـ ىف ه@@ذا كشف عن تلك املفارقة البعي@@دة بني‬
‫حساهبم ىف الدنيا حلياهتم ‪ ،‬وما لبثوا فيها من سنني ‪ ،‬وبني حس@@اب ه@@ذه الس@@نني ىف اآلخ@@رة‬
‫‪..‬‬
‫ياة الـ ُّـدنْيا‬‫إهنا ليست شيئا بعد أن طويت صفحتها ‪ ،‬وذهب رحيها ‪( ..‬فَما متاعُ الْح ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ِ ِِ ِ‬ ‫ِ‬
‫يل) (‪ : 38‬التوب@@ة) ‪ ..‬وهلذا ك@@ان ج@@واهبم ـ حسب تق@@ديرهم ـ ‪َ ( :‬ي ْومـاً أ َْو‬ ‫في اآْل خ َرة إاَّل قَل ٌ‬
‫ض َي ْوٍم)‪ !.‬وهك@@ذا ما ميضى من عمر اإلنس@@ان ‪ ..‬إنه مهما ط@@ال وامت@ ّد ‪ ،‬إذا نظر إليه ىف‬ ‫َب ْع َ‬
‫يومه ‪ ،‬ك@@ان ش@@يئا قليال ‪ ..‬يوما أو بعض ي@@وم ‪ ..‬فكيف إذا نظر الن@@اس إىل حي@@اهتم ال@@دنيا ‪،‬‬
‫َم َيلْبَثُــوا إِاَّل‬ ‫وهم بني ي@@دى ه@@ذا اهلول العظيم ي@@وم القيام@@ة؟ ( َكـ أ ََّن ُه ْم َي ْـو َم َي َـر ْو َن ما يُ َ‬
‫وعـ ُدو َن ل ْ‬
‫ساعةً ِم ْن نَها ٍر) (‪ : 35‬األحقاف)‪.‬‬ ‫َ‬
‫ِّين) ما يكشف عن س@ @@وء ح@ @@التهم ‪ ،‬وأهنم ىف ذه@ @@ول ال‬ ‫وىف ق@ @@وهلم ‪( :‬فَ ْس ـ ـئَ ِل الْعـ ــاد َ‬
‫يدرون معه من أمرهم شيئا ‪ ..‬فلقد ذهب اهلول بعقوهلم ‪ ،‬فال يدرون ماذا يقولون ‪ ..‬إهنم‬
‫ليسوا أهال ألن يسألوا ‪ ،‬وأن جييبوا على ما يسألون عنه ‪..‬‬
‫وجييئهم اجلواب ال@@ذي ت@@اه من عق@@وهلم ‪ ،‬وض@ ّ@ل عن إدراكهم ‪( ..‬إِ ْن لَبِثْتُ ْم إِاَّل قَلِيالً)‬
‫أي ما لبثتم إال قليال ‪( ..‬لَـ ـ ْـو أَنَّ ُك ْم ُك ْنتُ ْم َت ْعلَ ُمـ ــو َن) أي لو ك@ @@ان عن@ @@دكم عقل ونظر لعلمتم‬
‫هذا وأنتم ىف دنياكم ‪ ،‬وملا شغلكم هذا القليل الزائل ‪ ،‬عن آخرتكم الباقية اخلالدة ‪..‬‬
‫‪1182‬‬

‫قوله تعاىل ‪:‬‬


‫(أَفَ َح ِس ْبتُ ْم أَنَّما َخلَ ْقنا ُك ْم َعبَثاً َوأَنَّ ُك ْم إِل َْينا ال ُت ْر َجعُو َن)‪.‬‬

‫[الحياة ‪ ..‬والموت وحتمية البعث]‬


‫هناك قضيتان ‪ ..‬قضية «اخللق» وقضية «البعث» ‪..‬‬
‫وإذا ك @@ان ال @@ذين ال يؤمن @@ون باهلل وال ب @@اليوم اآلخر ‪ ،‬ال ينك @@رون «اخلل @@ق» ألنه أمر‬
‫واقع فعال ‪ ،‬وأهنم هم أنفسهم بعض هذا اخللق ـ فهاّل سألوا أنفسهم هذا السؤال ‪ :‬مل كان‬
‫هذا اخللق؟ أو ملا ذا خلقنا؟‪.‬‬
‫وج @@واب واحد ال غري ‪ ،‬هو ال@@ذي جياب به على ه@@ذا الس@@ؤال ‪ ،‬وهو أن ه@@ذا اخللق‬
‫مل يكن هلوا وعبثا ‪ ،‬وأهنم إمنا خلق@ @ @@وا عن علم ‪ ،‬وحكمة وتق@ @ @@دير ‪ ،‬ألن ه@ @ @@ذا اخللق ينطق‬
‫عن حكمة بالغة ‪ ،‬وق @@درة ق @@ادرة على كل ش @@ىء ‪ ،‬وعلم حميط بكل ش @@ىء ‪ ..‬ومن ك @@انت‬
‫تلك ص @@فاته ال يك @@ون منه هلو أو عبث ‪ ..‬مث إن ه @@ذا النظ @@ام ال @@دقيق احملكم ‪ ،‬املمسك بكل‬
‫ذرة من ذرات الوج @ @@ود ‪ ،‬أي @ @@دخل عليه ش @ @@ىء من اللهو والعبث؟ إ ّن الالهي الع @ @@ابث ‪ ،‬ال‬
‫يتقيد بنظ@ @ @ @ @ @@ام ‪ ،‬وال جيرى أعماله على توافق وترابط ‪ ،‬وانس@ @ @ @ @ @@جام ‪ ،‬بل يفعل ما متليه عليه‬
‫نزواته ‪ ،‬وما تصوره له أهواؤه!‬
‫ص@ @ @دفة ‪ ،‬كما يق @ @@ول ب @ @@ذلك املاديّون‬
‫وإذن فالن @ @@اس مل خيلق @ @@وا عبثا ‪ ،‬ومل جتىء هبم ال ّ‬
‫وامللحدون ‪ ،‬وإمنا هم غراس غارس حكيم ‪ ،‬عليم ‪ ،‬قادر ‪ ،‬مدبر ‪..‬‬
‫ه@ @ @ @ @@ذه قض@ @ @ @ @@ية ‪ ..‬ال بد من التس@ @ @ @ @@ليم هبا ‪ ،‬وىف إنكارها مك@ @ @ @ @@ابرة ىف احلق ‪ ،‬وجمادلة‬
‫بالباطل ‪ ..‬ومن مقتضى التس@ @ @@ليم هبذا أن يس@ @ @ @لّم أيضا ببعث اإلنس@ @ @@ان بعد موته ‪ ،‬أو مبعىن‬
‫آخر ‪ ،‬امتداد حياة اإلنسان ‪ ،‬وانتقاله من دار إىل دار ‪ ،‬ومن عامل إىل‬
‫‪1183‬‬

‫ع@@امل ‪ ،‬أش@@به ىف ه@@ذا بانتقاله من الطفولة إىل الص@@با ‪ ،‬أو الش@@باب ‪ ،‬أو غري ه@@ذا من مراحل‬
‫العمر ‪..‬‬
‫ذلك أن اإلنس @@ان هو خليفة اهلل على ه @@ذه األرض ‪ ..‬وهو س @@يد ه @@ذا الك @@وكب من‬
‫غري ج@ @@دال ‪ ..‬فهو الك@ @@ائن ال@ @@ذي ملك من الق@ @@وى ما اس@ @@تطاع هبا أن يغرّي وجه األرض ‪،‬‬
‫@خر موجوداهتا ‪ ..‬وإذا ك@@ان ه@@ذا ش@@أن اإلنس@@ان ف@@إن مما جيانب‬ ‫وأن يس@@تخرج خبأها ‪ ،‬ويس@ ّ‬
‫احلكمة ‪ ،‬وي @@دخل ىف ب @@اب اللهو والعبث ‪ ،‬أن تنطفىء ج @@ذوة ه @@ذا الك @@ائن ‪ ،‬بعد س @@نوات‬
‫قليلة يقضيها على هذه األرض ‪ ..‬مث يصري رمادا ‪ ،‬خيتلط برتاب هذه األرض ‪ ،‬مع الدواب‬
‫‪ ،‬واحلشرات واهلوام!‬
‫إن ىف ه@@ذا جلورا على اإلنس@@ان ‪ ،‬وظلما له ‪ ،‬إذ ك@@ان احلي@@وان ـ على ه@@ذا احلس@@اب ـ‬
‫خ @@ريا منه ‪ ،‬ألنه تن ّفس أنف @@اس احلي @@اة ‪ ،‬وليس معه ه @@ذا العقل ال @@ذي مل ي @@دع لإلنس @@ان حلظة‬
‫خيلد فيها إىل الراحة واالطمئن@@ان ‪ ..‬بل إنه أب@@دا ىف ص@@راع داخلى ال يه@@دأ أب@@دا ‪ ،‬بني رج@@اء‬
‫السواء ‪..‬‬
‫ويأس ‪ ،‬وسعادة وشقاء ‪ ،‬وطمأنينة وخوف ‪ ..‬ىف يقظته ونومه ‪ ..‬على ّ‬
‫إن اإلنص @ @@اف لإلنس @ @@ان يقضى ب @ @@أال تنتهى حياته ب @ @@املوت ‪ ،‬بل ال بد أن تك @ @@ون له‬
‫رجعة أخرى ‪ ،‬إىل حياة أكمل ‪ ،‬وأفضل ‪..‬‬
‫وامنت عليه‬ ‫إن احلي@@اة ـ كما قلنا ىف مواضع كث@@رية ـ نعمة أنعم اهلل هبا على اإلنس@@ان ‪ّ ،‬‬
‫ـار َواأْل َفْئِـ َد َة‬
‫سـ ْم َع َواأْل َبْصـ َ‬
‫ـل لَ ُك ُم ال َّ‬ ‫هبا ‪ ..‬كما يق@@ول س@@بحانه ‪( :‬قُـ ْـل ُهـ َـو الَّ ِذي أَنْ َ‬
‫شـأَ ُك ْم َو َج َعـ َ‬
‫قَلِيالً ما تَ ْشـ ـ ـ ـ ـ ُك ُرو َن ‪ )..‬ومن متام ه@ @ @ @ @@ذه النعمة ‪ ،‬دوامها ‪ ،‬وإال فما ك@ @ @ @ @@ان لوجودها أصال‬
‫حكمة ‪ ،‬ولكان خريا منها العدم!‬
‫وقد يسأل سائل ‪ :‬كيف تكون احلياة اآلخرة بالنسبة للكافرين واملشركني‬
‫‪1184‬‬

‫وغ @@ريهم من أص @@حاب الن @@ار ‪ ،‬خ @@ريا من الع @@دم ‪ ،‬واهلل س @@بحانه وتع @@اىل يق @@ول ‪َ ( :‬يـ ْـو َم َي ْنظُـ ُـر‬
‫ت تُرابـ ـاً) (‪ : 40‬النب @@أ) أيتفق ه @@ذا وذاك‬ ‫ـول الْك ــافِ ُر يا ل َْيتَنِي ُك ْن ُ‬
‫ت يَ ــداهُ َو َي ُقـ ُ‬
‫َّم ْ‬
‫ال َْمـ ْـرءُ ما قَ ــد َ‬
‫الذي نقول به ‪..‬؟‬
‫ونق@ @ @ @@ول ‪ :‬إن احلي@ @ @ @@اة بعد املوت نعمة ألهل اجلنة وأهل الن@ @ @ @@ار مجيعا ‪ ،‬وهى خري من‬
‫الع@@دم! أيّا ك@@انت ص@@ورة تلك احلي@@اة ‪ ،‬وأيّا ك@@ان مصري األحي@@اء فيها ‪ ..‬نق@@ول ه@@ذا ‪ ،‬وبني‬
‫أيدينا كثري من الشواهد ‪ ،‬من كتاب اهلل ‪..‬‬
‫@ردوا إىل احلي@@اة ال @ ّدنيا ‪ ..‬وذلك ىف كثري‬ ‫ف@@أوال ‪ :‬من أمنيّ@@ات أهل الن@@ار ىف النّ@@ار أن ي@ ّ‬
‫من اآلي @@ات القرآنية ‪ ،‬كما يق @@ول س @@بحانه وتع @@اىل عنهم ‪َ ( :‬ولَ ـ ْـو تَ ــرى إِ ْذ ُوقِ ُفــوا َعلَى النَّا ِر‬
‫ين) (‪ : 27‬األنع@ @@ام) وكما‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫فَقـ ــالُوا يا ل َْيتَنا ُنـ ــر ُّد وال نُ َـك ـ ِّـذ ِ ِ‬
‫ب بآيـ ــات َربِّنا َونَ ُكـ ــو َن م َن ال ُْمـ ـ ْـؤمن َ‬
‫َ‬ ‫َ َ‬
‫ِ‬
‫يق @@ول س @@بحانه ىف ه @@ذه الس @@ورة على لس @@ان أهل الن @@ار ‪َ ( :‬ربَّنا أَ ْخ ِر ْجنا م ْنها فَـ ـِإ ْن عُـ ـ ْدنا فَِإنَّا‬
‫ِ‬
‫َجـ ٍـل‬ ‫ظــال ُمو َن) (اآلية ‪ )107 :‬وكما يق@@ول جل ش@@أنه على لس@@اهنم أيضا ‪َ ( :‬ربَّنا أَخ ِّْرنا إِلى أ َ‬
‫الر ُس َل) (‪ : 44‬إبراهيم)‪.‬‬ ‫ك َو َنتَّبِ ِع ُّ‬‫ب َد ْع َوتَ َ‬ ‫قَ ِر ٍ ِ‬
‫يب نُج ْ‬
‫وهذا يعىن أهنم ‪ ،‬وهم ىف النار ‪ ،‬متمسكون باحلياة ‪ ،‬راغب@ون فيها ‪ ،‬على أية ص@ورة‬
‫كانوا عليها ‪..‬‬
‫وثانيا ‪ :‬أن ما يقوله الك @@افر ىف اآلخ @@رة ‪ ،‬حني ي @@رى الع @@ذاب ‪ ،‬وهو قوله ‪( :‬يا ل َْيتَنِي‬
‫ت تُرابـاً) هو بس@@بب ما يالقى الك@@افرون من بالء ‪ ،‬تض@@يق به نفوس@@هم ‪ ،‬ش@@أهنم ىف ه@@ذا‬ ‫ُك ْن ُ‬
‫ش@@أن كثري من الن@@اس ىف ه@@ذه احلي@@اة ال@@دنيا حني حتت@@ويهم حي@@اة قاس@@ية ‪ ،‬يتمن@@ون معها املوت‬
‫‪ ..‬ولكنهم ىف الواقع متمس@@كون باحلي@@اة حريص@@ون عليها ‪ ..‬ولو طلع عليهم املوت ىف تلك‬
‫احلال ‪ ،‬لفزعوا منه وكربوا ‪ ،‬ولطلبوا املهرب ‪ ،‬إن كان مثة مهرب!‬
‫وقليل من الناس أولئك الذين يرحلون عن هذه الدنيا ‪ ،‬دون أن تنازعهم‬
‫‪1185‬‬

‫أنفس@ @ @ @ @ @@هم إىل التعلق هبا ‪ ،‬واللهفة على التش@ @ @ @ @ @@بث بكل خيط ىف ي@ @ @ @ @ @@دهم منها ‪ ،‬مهما يكن‬
‫حظهم فيها ‪ ،‬وشقاؤهم هبا ‪..‬‬
‫الن @@اس مجيعا متعلق @@ون باحلي @@اة ‪ ،‬راغب @@ون ىف املزيد منها ‪ ،‬ولو أخ @@ذت منهم األي @@ام ‪،‬‬
‫وأحلت عليهم العلل ‪ ،‬وحطمتهم السنون ‪..‬‬
‫حى ‪ ،‬وهو ىف اإلنس@ @ @ @ @ @@ان طبيعة وإرادة معا ‪ ..‬طبيعة‬ ‫حب احلي@ @ @ @ @ @@اة طبيعة ىف كل ّ‬
‫إن ّ‬
‫وحب البق@@اء ـ ف@@وق ذلك ـ‬
‫تدفعه إىل حفظ نفسه ‪ ،‬واإلبق@@اء على ذاته أط@@ول زمن ممكن ‪ّ ..‬‬
‫إرادة ختلّقت ىف اإلنس@ان عن اتص@اله باحلي@اة ‪ ،‬واختالطه باألحي@اء ‪ ،‬واش@تباك مص@احله هبم ‪،‬‬
‫وانفساح آفاق آماله بينهم ‪ ،‬وامتداد آثاره ىف احلياة وفيهم ‪..‬‬
‫إن اإلنس@@ان ـ مهما ط@@ال عم@@ره ‪ ،‬وامتد أجله ‪ ،‬ف@@إن ي@@ده تقصر عن أن تن@@ال كل ما‬
‫أراد ‪ ،‬وإن احلياة لتض@من ب@أن حتقق له كل رغبة ‪ ،‬وأن تدنيه من كل أمل ‪ ..‬يق@ول الش@اعر‬
‫‪:‬‬
‫‪  ‬وحاجة من ع@ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @@اش ال تنقضى‬ ‫حاجاته‬ ‫املرء‬ ‫مع‬ ‫متوت‬
‫‪ ‬‬ ‫‪ ‬‬

‫من أجل ه @@ذا ‪ ،‬ك @@ان ىف الن @@اس ه @@ذا احلرص الش @@ديد على احلي @@اة ‪ ،‬وعلى االس @@تزادة‬
‫منها ‪ ،‬ولو كان ماؤها آسنا ‪ ،‬وهواؤها مسوما ‪ ،‬وطعامها الشوك واحلسك!‬
‫واملوت هو الش @@بح املخيف ‪ ،‬ال @@ذي يطل على الن @@اس بوجه ك @@احل بغيض ‪ ،‬يته @@ددهم‬
‫ىف أنفس@@هم ‪ ،‬وفيمن حيب@@ون ‪ ،‬من ولد ‪ ،‬وأهل وص@@ديق ‪ ..‬إنه أع@@دى ع@@دو لإلنس@@ان ‪ ..‬إنه‬
‫يبغت الن@ @@اس بغتة ‪ ،‬ويفج@ @@ؤهم فج@ @@اءة على غري موعد ‪ ..‬فهم أب@ @@دا ىف وس@ @@واس منه ‪ ،‬وىف‬
‫خوف من وقعاته هبم ‪ ،‬ومبن حيبون ‪ ،‬ويؤثرون‪.‬‬
‫إنه ليس شىء أبغض إىل الناس من املوت ‪ ،‬وليس شىء أكثر طروقا‬
‫‪1186‬‬

‫ووسواسا هلم منه ‪ ..‬إنه أبدا مصدر إزع@@اج لكل س@ليم وس@@قيم ‪ ،‬وكل ش@@اب وش@@يخ ‪ ..‬إن‬
‫مل ي@ @ @ @@ره دانيا منه ىف ح@ @ @ @@ال ‪ ،‬رآه ناش@ @ @ @@با أظف@ @ @ @@اره ىف أب ‪ ،‬أو أم ‪ ،‬أو زوج ‪ ،‬أو ولد ‪ ،‬أو‬
‫صديق‪.‬‬
‫ومن أجل ه@@ذا ك@@ره الن@@اس لق@@اء املوت ‪ ،‬وتعلق@@وا باحلي@@اة ‪ ،‬مهما تكن ه@@ذه احلي@@اة ‪،‬‬
‫ومهما تكن ضراوهتا وقسوهتا ‪ ،‬وما تسوق إىل الناس من مآس وآالم ‪ ..‬يقول أبو العالء ‪:‬‬
‫للمنايا ‪  ‬وحنن مبا هوينا األش@ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @@قياء‬ ‫بغضا‬ ‫العيش‬ ‫حنب‬
‫ّ‬
‫‪ ‬‬ ‫‪ ‬‬

‫ويقول أيضا ‪:‬‬


‫ودنيانا اليت عش@ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @@قت وأش@ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @@قت ‪  ‬ك@ @ @ @ @ @ @ @ @@ذاك العشق ـ معروفا ـ ش@ @ @ @ @ @ @ @ @@قاء‬
‫‪ ‬‬ ‫‪ ‬‬

‫س @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @@ألناها البق @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @@اء على ش @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @@قاها ‪  ‬فق @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @@الت عنكم حظر البق@ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @@اء‬
‫‪ ‬‬ ‫‪ ‬‬

‫ولزومي@ @ @ @@ات أىب العالء ‪ ،‬ت@ @ @ @@دور كلها ح@ @ @ @@ول املوت ‪ ،‬وم@ @ @ @@اوراء املوت ‪ ،‬وال تك@ @ @@اد‬
‫قص@يدة أو مقطوعة من ش@عره ىف ه@ذا ال@ديوان ختلو من احلديث عن املوت ‪ ،‬أو النفس ‪ ،‬أو‬
‫البعث واجلزاء ‪ ..‬وذلك ىف ص @ @ @ @ @ @@ور شىت من ال @ @ @ @ @ @@رأى املتقلب بني اليقني والشك ‪ ،‬واإلميان‬
‫واإلحلاد ‪ ،‬واإلقرار واإلنكار ‪..‬‬
‫إن املوت هو الينب @ @@وع ال @ @@ذي ارت @ @@وت منه فلس @ @@فة «أىب العالء» فعمقت ج @ @@ذورها ‪،‬‬
‫ومسقت فروعها ‪ ،‬وتعددت طعومها‪ @.‬فكانت فلس@@فة مؤمنة ‪ ،‬ملح@@دة ‪ ..‬متفائلة ‪ ،‬متش@@ائمة‬
‫املفزع ‪ ،‬تتغاير ىف عينيه صور األشياء ‪ ،‬وتغيم حقائقها ‪..‬‬ ‫‪ ..‬شأن اخلائف ّ‬
‫إن ظ@ @ @ @ @@اهرة املوت من أكرب الظ@ @ @ @ @@واهر وأعمها ‪ ،‬مما ش@ @ @ @ @@غل به العقل ‪ ،‬والتفتت إليه‬
‫الديانات السماوية والوضعية ‪ ،‬منذ اخلطوات األوىل لإلنسان ىف هذه احلياة ‪..‬‬
‫‪1187‬‬

‫يق@@ول بعض الفالس@@فة املعاص@@رين ‪« :‬إن املوت هو أصل ال@@ديانات كلها ‪ ،‬وجيوز أنه‬
‫لو مل يكن هناك موت ملا كان لإلله عندنا وجود»‪.‬‬
‫وذلك ألن املوت لفت اإلنس@ @ @@ان إىل ق@ @ @@وة عليا ‪ ،‬يس@ @ @@تمد منها احلي@ @ @@اة ‪ ،‬وي@ @ @@دفع هبا‬
‫املوت ‪ ..‬وإذا مل يتحقق له ذلك ىف احلي@@اة ال@@دنيا ‪ ،‬طمع ىف حي@@اة أخ@@رى بعد املوت ‪ ،‬يصل‬
‫هبا ما انقطع باملوت ‪..‬‬
‫ويك@@اد التفكري اإلنس@@اىن كله ـ ع@@دا مجاع@@ات قليلة متن@@اثرة على رقعة ال@@زمن الفس@@يح ـ‬
‫يكاد يرى املوت خامتة حياة ‪ ،‬ومبدأ حياة جديدة أخرى‪@.‬‬
‫لقد رفض العقل منذ أول مرحلة من مراحل تفك@ @ @@ريه ـ رفض أن جيعل املوت خامتة‬
‫هنائية حلي @ @@اة اإلنس @ @@ان ‪ ،‬وأىب أن ي @ @@ذهب مبن ميوت @ @@ون من األهل واألحب @ @@اب واألص @ @@دقاء إىل‬
‫وادي الفن@ @@اء والع@ @@دم ‪ ..‬فأق@ @@ام هلم املق@ @@ابر ‪ ،‬وس@ @@عى إليهم ىف أوق@ @@ات خمتلفة ‪ ،‬ين @ @@اجيهم ‪،‬‬
‫ويبثهم ما بص @@دره من ش @@وق وح @@نني ‪ ،‬ويش @@كو إليهم ما لقى من بع @@دهم من آالم وأح @@زان‬
‫‪..‬‬
‫وح@ @ @ @@ول املق@ @ @ @@ابر ‪ ،‬وعليها ‪ ،‬أقيمت متاثيل املوتى ‪ ،‬وق@ @ @ @ @ ّدمت الق@ @ @ @@رابني والص@ @ @ @@لوات‬
‫واألدعية ‪ ،‬حىت جيد امليت ىف ذلك ما يهنأ به ىف عامله اجلديد ‪..‬‬
‫@دب ىف األم@@وات ‪ ،‬م@@ازال يط@ ّ@ل على األحي@@اء من وراء القب@@ور ‪ ،‬فلم‬ ‫إن ش@@بح احلي@@اة ت@ ّ‬
‫تنقطع الص@@لة بني األحي@@اء واألم@@وات ‪ ..‬مبواراهتم ىف القب@@ور ‪ ،‬أب@@دا ‪ ،‬بل ك@@ان األحي@@اء دائما‬
‫احلى ‪ ،‬بل وكث@@ريا ما يتلقى األحي@@اء‬ ‫احلى إىل ّ‬‫ين@@اجون األم@@وات ‪ ،‬ويتح@@دثون إليهم ح@@ديث ّ‬
‫من املوتى ـ عن طريق التخيل والت@@وهم ـ اجلواب الش@@ايف ملا يلق@ون إليهم من ش@ئون وش@جون‬
‫‪..‬‬
‫إن تلك الص @@لة النفس @@ية بني األحي @@اء واألم @@وات ‪ ،‬قد خلقت ىف الن @@اس عقي @@دة احلي @@اة‬
‫بعد املوت ‪ ..‬وذلك قبل أن جتىء األدي@@ان الس @@ماوية ‪ ،‬فتق @@رر ه @@ذه احلقيقة ‪ ،‬وتلتقى مع ما‬
‫وجده اإلنسان حبدسه ‪ ،‬واستشعره بوجدانه ‪ ،‬وطرقه خبياله‪.‬‬
‫‪1188‬‬

‫لقد ك@@ان أهم ما مييز ديانة املص@@ريني الق@@دماء هو فك@@رة اخلل@@ود ‪ ..‬أعىن احلي@@اة اخلال@@دة‬
‫بعد املوت ‪ ..‬فتلك العقي@@دة هى جرثومة التفكري ال@@ديين ‪ ،‬ال@@ذي تول@@دت منه الديانة املص@@رية‬
‫القدمية ‪ ،‬وتشكلت منه طقوسها ومرامسها ‪..‬‬
‫فاملصريون القدماء ‪ ،‬ك@@انوا يعتق@@دون أنه وقد أمكن أن حييا النيل بعد موته ‪ ،‬فيفيض‬
‫مث يفيض ‪ ،‬وأن حييا النب @ @@ات بعد موته ‪ ،‬ف @ @@يزدهى وينضر ‪ ،‬فإنه ـ من ب @ @@اب أوىل ـ أن حييا‬
‫اإلنسان بعد أن ميوت ‪..‬‬
‫واق @ @@رأ قوله تع @ @@اىل ‪َ ( :‬و ُهـ ـ َـو الَّ ِذي يُ ْحيِي َويُ ِم ُ‬
‫يت َولَـ ــهُ ا ْختِ ُ‬
‫الف اللَّْيـ ـ ِـل َوالنَّهـ ــا ِر ‪ ..‬أَفَال‬
‫َت ْع ِقلُو َن) (‪ : 80‬املؤمنون)‪.‬‬
‫***‬
‫مل ي @@رض اإلنس @@ان أن يك @@ون نص @@يبه من احلي @@اة تلك الس @@نوات اليت يعيش @@ها ىف ه @@ذه‬
‫@دى ‪ ،‬بعد املوت ‪ ..‬بل إنه جعل من‬ ‫@دى عليه بالفن @@اء األب @ ّ‬ ‫ال @@دنيا ‪ ،‬وأىب أن يقبل احلكم األب @ ّ‬
‫املوت طريقا إىل احلياة األبدية اخلالدة ‪ ،‬اليت ال موت معها‪.‬‬
‫يقول «سقراط» «عند ما فتشت عن علة احلياة وج@دت املوت ‪ ..‬وعند ما وج@دت‬
‫نغتم باحلي @ @@اة ‪ ،‬ونف @ @@رح ب @ @@املوت ‪ ،‬ألننا حنيا‬ ‫املوت ألفيت احلي @ @@اة الدائمة ‪ ..‬وهلذا ينبغى أن ّ‬
‫لنموت ‪ ،‬ومنوت لنحيا ‪»..‬‬
‫وىف كت@ @ @@اب اهلند املق@ @ @@دس «كاث@ @ @@ا» ‪« :‬يفىن الف@ @ @@اين كما تفىن الغالل ‪ ،‬مث يع@ @ @@ود إىل‬
‫احلياة ىف والدة جديدة كما تعود الغالل (‪.»)1‬‬
‫ويقول الفيلسوف األملاىن «جوته» ‪:‬‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬يريد بفناء الغالل دفنها ىف باطن األرض ‪ ،‬مث حتللها ‪ ،‬وتشققها ليخرج منها النبات‪.‬‬
‫‪1189‬‬

‫«إن االجته@@اد احملت@@دم ىف نفسى ‪ ،‬هو بره@@اىن على الدميومة ‪ ..‬ف@@إذا كنت قد عملت‬
‫حي @ @@اتى كلها ومل أس @ @@رتح ‪ ،‬فمن حقى على الطبيعة أن تعطيىن وج @ @@ودا آخر عند ما تنح@ @ ّ@ل‬
‫قواى ‪ ،‬وتنوء حبمل نفسى»‪.‬‬
‫وال @@ديانات الس @@ماوية ‪ ،‬تص @@ور املوت على أنه إش @@ارة الب @@دء إىل رحلة طويلة ‪ ،‬ينتقل‬
‫فيها اإلنس@@ان من ه@ذه ال@دنيا إىل ع@امل اخلل@@ود ‪ ،‬حيث يلقى كل إنس@ان هن@اك ج@@زاء ما عمل‬
‫شر‪.‬‬
‫‪ ،‬من خري أو ّ‬
‫وي @@ؤدى املوت ىف ال @@ديانات الس @@ماوية ‪ ،‬دورا عظيما ىف إقامة العقي @@دة الدينية ‪ ،‬وىف‬
‫تعميق ج @@ذورها ىف قل @@وب املؤم @@نني ‪ ،‬وبعث احلم @@اس لألعم @@ال الص @@احلة اليت ت @@دعو إليها ‪،‬‬
‫وتقبّلها ىف رضا وغبطة ‪ ،‬وإن ك@@انت حتمل اإلنس@@ان على تق@@دمي نفسه قربانا هلل باجله@@اد ىف‬
‫سبيله ‪ ،‬طمعا ىف حياة أفضل!‬
‫وليس من خالف بني ال@@ديانات الس@@ماوية كلها ىف تقرير ه@@ذه احلقيقة وتوكي@@دها ‪..‬‬
‫وتكاد تكون دعوة الرسل منحصرة ىف اإلميان بالبعث واليوم اآلخر ‪ ،‬بعد اإلميان باهلل‪.‬‬
‫ومع أن الكتب السماوية ‪ ،‬مل تتعرض لشرح عملية املوت شرحا «فسيولوجيا» ومل‬
‫ت@دخل ىف ج@دل ح@@ول اجلسد وال@@روح وما بينهما من عالقة ىف احلي@اة ‪ ،‬وما بعد احلي@اة ـ مع‬
‫هذا ‪ ،‬فإن أتباع هذه الكتب مل يقفوا عند هذا ‪ ،‬بل كان ىف املتدينني ـ من فالسفة وعلم@@اء‬
‫وفقهاء ـ من أجال تفكريه ىف هذه القضية ‪ ،‬مستصحبا الدين ‪ ،‬أو مستقاّل بنظره ورأيه‪.‬‬
‫وىف التفكري اإلسالمى كثري من اآلراء واملقوالت ‪ ..‬نكتفى هنا بأثارة منها ‪..‬‬
‫فمثال يقول «الراغب األصفهاىن» ‪« :‬إن املوت املتعارف ‪ ،‬الذي هو‬
‫‪1190‬‬

‫مفارقة ال@@روح للب@@دن ‪ ،‬هو أحد األس@@باب املوص@@لة لإلنس@@ان إىل النعيم األب@@دى ‪ ..‬فهو وإن‬
‫كان ىف الظاهر فناء واض@محالال ‪ ،‬فهو ىف احلقيقة والدة ثانية ‪ ..‬إن اإلنس@ان ىف دني@اه ج@ار‬
‫جمرى الف@ @ @ @ @@رخ ىف البيضة ‪ ،‬فكما أن من كم@ @ @ @ @@ال الف@ @ @ @ @@رخ تفلّق البيضة عنه وخروجه منها ‪،‬‬
‫كذلك من شروط كمال اإلنسان مفارقة هيكله ‪ ..‬ولو ال املوت مل يكمل اإلنسان!»‪.‬‬
‫مث يقول ‪« :‬فاملوت إذن ض@@رورى@ ىف كم@ال اإلنس@@ان ‪ ،‬ولك@@ون املوت س@ببا لالنتق@@ال‬
‫َّ‬
‫من حال أوضع إىل حال أش@@رف ‪ ،‬مسّاه اهلل «توفّي@@ا» وإمس@@اكا عن@@ده ‪( :‬اهللُ َيَت َوفى اأْل َْن ُف َ‬
‫س‬
‫ت َو ُي ْر ِس ُل اأْل ُ ْـخـرى‬ ‫ت فِي م ِ‬
‫نامها ‪َ ،‬فيُ ْم ِس ُ‬
‫ك الَّتِي قَضى َعلَْي َها ال َْم ْو َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َم تَ ُم ْ َ‬‫ين َم ْوتها ‪َ ،‬والَّتي ل ْ‬
‫ح َ‬
‫َج ٍل ُم َس ًّمى) (‪ : 42‬الزمر)‪@.‬‬ ‫إِلى أ َ‬
‫ص @ل إليها ‪ ،‬ولو مل‬ ‫مث يق@@ول ال@@راغب ‪« :‬ف@@املوت هو ب@@اب من أب@@واب اجلنة ‪ ،‬منه يتو ّ‬
‫من اهلل به على اإلنس@@ان ‪ ..‬فق@@ال تع@@اىل ‪( :‬الَّ ِذي َخلَ َق‬ ‫يكن املوت ‪ ،‬مل تكن اجلنة ‪ ،‬ولذلك ّ‬
‫َح َسـ ـ ُن َع َمالً) (‪ : 2‬املل @@ك) ‪ ..‬فق@ @ ّدم املوت على احلي @@اة ‪،‬‬ ‫ِ‬
‫ْحي ــا َة ليَْبلُ ـ َـو ُك ْم أَيُّ ُك ْم أ ْ‬
‫ت َوال َ‬
‫ال َْمـ ْـو َ‬
‫تنبيها إىل أنه يتوصل به إىل احلياة احلقيقة ومن هنا ع ّد نعمة ‪..‬‬
‫َحيــا ُك ْم ‪ ..‬ثُ َّم يُ ِميتُ ُك ْم ثُ َّم‬ ‫ـف تَ ْك ُفــرو َن بِ ِ‬
‫اهلل َو ُك ْنتُ ْم أ َْموات ـاً فَأ ْ‬ ‫وق @@ال س @@بحانه أيضا ‪َ ( :‬ك ْيـ َ‬
‫ُ‬
‫يُ ْحيِي ُك ْم) فجعل املوت إنعاما ‪ ،‬ألنه ملا ك@ @ @ @@انت احلي@ @ @ @@اة األخروية نعمة ال وص@ @ @ @@ول إليها إاّل‬
‫ص@ل به إىل النعمة ‪ ،‬نعمة ‪ ..‬وعلى ه@ذا ج@اء‬ ‫باملوت ‪ ،‬فاملوت نعمة ‪ ،‬ألن السبب الذي يتو ّ‬
‫ين ثُ َّم إِنَّ ُك ْم َب ْعـ ـ َد ذلِ ـ َ‬
‫ـك‬ ‫ِِ‬
‫سـ ـ ُن الْخ ــالق َ‬‫َح َ‬‫ـار َك اهللُ أ ْ‬‫آخـ َـر ‪َ ..‬فتَب ـ َ‬
‫شـ ـأْناهُ َخ ْلقـ ـاً َ‬ ‫قوله تع @@اىل ‪( :‬ثُ َّم أَنْ َ‬
‫يام ِة ُت ْب َعثُــو َن) (‪ 14‬ـ ‪ 16‬املؤمن@@ون) ـ فنبّه على أن ه@@ذه التغ@@ريات‬ ‫ِ‬
‫ل ََميِّتُو َن ‪ ..‬ثُ َّم إِنَّ ُك ْم َي ْو َم الْق َ‬
‫متجهة إىل خلق أحسن ‪..‬‬
‫ويقول الفيلسوف املسلم «حممد إقبال» ‪:‬‬
‫‪1191‬‬

‫«إن كائنا ـ يعىن اإلنس@ان ـ اقتضى تط ّ@وره ماليني الس@نني ‪ ،‬ليس من احملتمل إطالقا ‪،‬‬
‫أن يلقى به كما لو ك@ @ @ @ @ @@ان من س@ @ @ @ @ @@قط املت@ @ @ @ @ @@اع ‪ ..‬وليس إاّل من حيث هو نفس ت@ @ @ @ @ @@تزكى‬
‫ورها‬
‫س َوما َسـ ـ ـ ـ ـ َّواها فَأَل َْه َمها فُ ُج َ‬ ‫باس@ @ @ @ @@تمرار ـ ميكن أن ينسب إىل معىن الك@ @ @ @ @@ون ‪َ ( ..‬و َن ْف ٍ‬
‫ـاب َم ْن َد َّسـاها) (‪ 7‬ـ ‪ : 10‬الش@@مس) ‪ ..‬وكيف تك@@ون‬ ‫َوَت ْقواها قَ ْد أَ ْفلَ َح َم ْن َز َّكاها َوقَ ْد خ َ‬
‫ـار َك الَّ ِذي بِيَ ـ ِـد ِه ال ُْم ْل ـ ُ‬
‫ـك‬ ‫تزكية النفس وختليص @@ها من الفس @@اد؟ إمنا يك @@ون ذلك بالعمل ‪( :‬تَب ـ َ‬
‫سـ ـ ُن َع َمالً َو ُهـ َـو‬
‫َح َ‬
‫ِ‬
‫ْحي ــا َة ليَْبلُ ـ َـو ُك ْم أَيُّ ُك ْم أ ْ‬ ‫ـل َشـ ـ ْي ٍء قَ ـ ِـد ٌير الَّ ِذي َخلَ ـ َـق ال َْمـ ْـو َ‬
‫ت َوال َ‬ ‫َو ُهـ َـو َعلى ُكـ ِّ‬
‫ـور) (‪ 1‬ـ ‪ : 2‬املل@@ك) ـ فاحلي@@اة هتىيء جماال لعمل النفس ‪ ،‬واملوت هو أول ابتالء‬ ‫ال َْع ِزيـ ُـز الْغَ ُفـ ُ‬
‫لنشاطها املركب»‪.‬‬
‫***‬
‫وننتهى من هذا كله إىل حتمية البعث واحلياة بعد املوت ‪..‬‬
‫وإنه قبل أن جتىء ال @@ديانات الس @@ماوية ‪ ،‬وقبل أن تق @@ول كلمتها ىف احلي @@اة اآلخ @@رة ‪،‬‬
‫ق@@الت اإلنس@@انية كلمتها ‪ ..‬قالتها ش@@عرا ون@@ثرا ‪ ..‬وقالتها ش@@عوذة وفلس@@فة! وأع @ ّدت نفس@@ها‬
‫للحساب بني يدى قوة عليا ‪ ،‬بيدها وحدها اجلزاء األوىف لكل عمل ‪..‬‬
‫ففى ال@ديانات املص@@رية القدمية مثال ‪ ،‬ك@@ان حيمل امليت معه دفاعا مكتوبا ‪ ،‬يلقيه بني‬
‫يدى احملاسب العظيم ‪ ..‬وهذا ‪ ،‬مثل من صور هذا الدفاع ‪:‬‬
‫رب الص@@دق والعدالة ‪ ..‬لقد وقفت أمامك يا‬ ‫«س@@الم عليك ‪ ..‬أيها اإلله العظيم ‪ّ ..‬‬
‫رب ‪..‬‬
‫ّ‬
‫«وجىء يب لكى أشاهد ما لديك من مجال!!‬
‫«أمحل إليك الصدق ‪ ..‬إىن مل أظلم الناس ‪ ..‬مل أظلم الفقراء ‪ ..‬مل أفرض‬
‫‪1192‬‬

‫حر عمال أكثر مما فرض هو على نفسه!‬ ‫على رجل ّ‬


‫«مل أمهل ‪ ..‬ومل أرتكب ما تبغضه اآلهلة ‪ ..‬ومل أكن س@ @ @ @ @@ببا ىف أن يس@ @ @ @ @@ىء الس@ @ @ @ @@يد‬
‫معاملة عبده ‪..‬‬
‫«مل أمت إنسانا من اجلوع ‪ ..‬ومل أبك أحدا ‪ ..‬ومل أقتل إنسانا‪ .‬ومل أخن أحدا ‪..‬‬
‫«مل أرتكب عمال شهوانيا داخل أسوار املعبد املقدس ‪..‬‬
‫أغش ىف امليزان ‪..‬‬
‫«مل أكفر باآلهلة ‪ ..‬ومل ّ‬
‫ضع ‪ ..‬ومل اصطد بالشباك طيور اآلهلة ‪..‬‬ ‫الر ّ‬
‫«مل أنتزع اللعب من أفواه ّ‬
‫«أنا طاهر ‪ ..‬أنا طاهر ‪ ..‬أنا طاهر ‪@»!!..‬‬
‫فاحلي@ @ @ @ @@اة بعد املوت ‪ ،‬واحلس@ @ @ @ @@اب واجلزاء ‪ ،‬هى مما يطلبه اإلنس@ @ @ @ @@ان ‪ ،‬ويعيش فيه ‪،‬‬
‫ويعمل له ‪ ..‬ولو مل يكن هناك دين يدعو إليها ‪ ،‬أو شريعة تكشف عنها ‪..‬‬
‫فكيف إذا جاءت ش@رائع الس@@ماء كلها ‪ ،‬مق@@ررة هلا ‪ ،‬كاش@@فة عنها ‪ ،‬ض@اربة األمث@ال‬
‫هلا ‪ ،‬مقدمة احلجج والرباهني عليها؟‬
‫وخري ما خنتم به ه @@ذا البحث ‪ ،‬ما ق @ ّ@رره ال @@راغب األص @@فهاىن ‪ ،‬ىف كتابه ‪« :‬تفص @@يل‬
‫النش@ @@أتني» حيث يق @ @@ول ‪« :‬مل ينكر املع@ @@اد والنش@ @@أة األخ@ @@رى ‪ ،‬إال مجاعة من الطبيع @ @@يني ‪،‬‬
‫أمهل@@وا أفك@@ارهم ‪ ،‬وجهل@@وا أق@@دارهم ‪ ،‬وش@@غلهم عن التفكري ىف مب@@دئهم ومنش@@ئهم ‪ ،‬ش@@غفهم‬
‫حب الشهوات ‪..‬‬
‫مبا زيّن هلم من ّ‬
‫«وأما من ك @@ان س @@ويّا ‪ ،‬ومل ميش مكبّا على وجهه ‪ ،‬وتأمل أج @@زاء الع @@امل ‪ ،‬علم أن‬
‫أفضلها ذوات األرواح ‪ ،‬وأفضل ذوات األرواح ذوات اإلرادة واالختيار ‪،‬‬
‫‪1193‬‬

‫وأفضل ذوى اإلرادة واالختي @@ار ‪ ،‬الن @@اظر ىف الع @@واقب ‪ ،‬وهو اإلنس@ @@ان ـ فيعلم أن النظر ىف‬
‫العواقب من خاصية اإلنسان ‪ ،‬وأنه ـ سبحانه ـ مل جيعل هذه اخلاص@@يّة له ‪ ،‬إاّل ألمر جعله ىف‬
‫العقىب ‪ ،‬وإال كان وجود هذه القوة فيه باطال!‬
‫«فلو مل يكن لإلنس @@ان عاقبة ينتهى إليها غري ه @@ذه احلي @@اة اخلسيسة ‪ ،‬اململ @@وءة نص @@با‬
‫أخس البه@ @@ائم أحسن ح@ @@اال من‬ ‫ومهّا وحزنا ‪ ،‬وال يك@ @@ون بع@ @@دها ح@ @@ال مض@ @@بوطة ـ لك@ @@ان ّ‬
‫اإلنس @@ان!! فيقتضى ه @@ذا أن تك @@ون ه @@ذه احلكم اإلهلية ‪ ،‬والب @@دائع الربانية ‪ ،‬اليت أظهرها اهلل‬
‫ىف اإلنس @@ان عبثا ‪ ،‬كما نبّه اهلل تع @@اىل بقوله ‪( :‬أَفَ َح ِس ـ ْبتُ ْم أَنَّما َخلَ ْقن ــا ُك ْم َعبَث ـاً َوأَنَّ ُك ْم إِل َْينا ال‬
‫ُت ْر َجعُو َن ‪ )..‬فإن إحكام بنية اإلنسان ‪ ،‬مع كثرية بدائعها وعجائبها ‪ ،‬مث نقضها ‪ ،‬وه@@دمها‬
‫من غري معىن س@@وى ما تش@@اركه فيه البه@@ائم من األكل والش@@رب ‪ ،‬مع ما يش@@وبه من التعب‬
‫علوا كبريا»‪.‬‬ ‫الذي أغىن عنه احليوان ـ سفه» «تعاىل اهلل عن ذلك ّ‬
‫***‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫ب ال َْع ْر ِش الْ َك ِر ِيم)‪.‬‬ ‫ْح ُّق ال إِلهَ إِاَّل ُه َو َر ُّ‬ ‫( َفتَعالَى اهللُ ال َْملِ ُ‬
‫ك ال َ‬
‫هو تنزيه هلل س@@بحانه وتع@@اىل ‪ ،‬أن يك@@ون خلق اخللق عبثا ‪ ،‬وأنه س@@بحانه مييتهم ‪ ،‬مث‬
‫رب الع@رش الك@رمي‬ ‫احلق ‪ ،‬الذي ال إله إال هو ّ‬ ‫ال يبعثهم ‪ ..‬إن هذا ال يليق بامللك العظيم ‪ّ ،‬‬
‫‪..‬‬
‫وىف وصف اهلل س@@بحانه وتع@@اىل لذاته الكرمية العلية ‪ ،‬هبذه األوص@@اف اجلليلة ما يشري‬
‫إش @@ارة مبينة إىل تقرير ه @@ذين األم @@رين ‪ :‬اخللق ‪ ،‬والبعث ‪ ،‬وأهنما من ش @@أن «املل @@ك» ال @@ذي‬
‫احلق ‪ ،‬وال@ @ @@ذي ال إله معه ‪ ،‬يش @ @ @@اركه اخللق واألمر ‪ ،‬فيعطل مش @ @ @@يئته ‪ ،‬أو‬ ‫ق @ @ @@ام ملكه على ّ‬
‫ينقض حكمته ‪..‬‬
‫مث إن ىف وصفه@ ذاته سبحانه وتعاىل بالكرم ‪ ،‬إشارة أخرى ‪ ،‬إىل أن‬
‫‪1194‬‬

‫اخللق والبعث نعمة من منعم كرمي ‪ ،‬بيده اخلري ‪ ،‬وهو على كل شىء قدير‪.‬‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫آخـ ـ َـر ال ُب ْرهـ ــا َن لَـ ــهُ بِـ ـ ِـه فَِإنَّما ِحسـ ــابُهُ ِع ْن ـ ـ َد َربِِّه إِنَّهُ ال ُي ْفلِ ُح‬ ‫(ومن ي ـ ـ ْدعُ مـ ــع ِ‬
‫اهلل إِله ـ ـاً َ‬ ‫ََ ْ َ َ َ‬
‫الْكافِ ُرو َن)‪.‬‬
‫وهبذه اآلية ‪ ،‬واآلية اليت بعدها ختتم السورة الكرمية ‪ ،‬حيث يلتقى ختامها مع بدئها‬
‫خاشعُو َن ‪)..‬‬ ‫‪ ..‬فقد بدئت هبذا اإلعالن العام ‪( :‬قَ ْد أَ ْفلَح الْم ْؤ ِمنُو َن الَّ ِذين هم فِي صالتِ ِهم ِ‬
‫َ ْ‬ ‫َ ُْ‬ ‫َ ُ‬
‫مث ج@@اءت اآلي@@ات بعد ذلك تع@@رض ص@@فات املؤم@@نني ‪ ،‬وما أع@ ّد اهلل هلم ىف اآلخ@@رة من نعيم‬
‫@ورثهم اجلنّة ‪ ،‬ويطلق أي@ @ @ @@ديهم فيها ‪ ،‬ينعم@ @ @ @@ون مبا يش@ @ @ @@اءون منها ‪ ..‬مث عرضت‬ ‫‪ ،‬حيث ي@ @ @ @ ّ‬
‫اآلي@@ات بعد ه @@ذا ص @@ورا من ق@@درة اهلل ‪ ،‬وفض@@له على اإلنس@@ان ‪ ،‬ال@@ذي أخرجه من ت@@راب ‪،‬‬
‫وى ‪ ..‬ومتضى اآلي@ات فتع@رض ‪ ،‬ص@ورا للمعان@دين املك@ذبني برسل اهلل‬ ‫فكان ه@ذا البشر ال ّس@ ّ‬
‫‪ ،‬وما أخ@@ذهم اهلل به ىف ال@@دنيا من نك@@ال ‪ ،‬وما أعد هلم ىف اآلخ@@رة من ع@@ذاب ‪ ..‬مث ختلص‬
‫اآلي@ @ @ @ @ @@ات من ه@ @ @ @ @ @@ذا الع@ @ @ @ @ @@رض إىل تقرير أمر البعث ‪ ،‬وأنه أمر واقع ال شك فيه ‪ ..‬مث جتىء‬
‫خامتتها داعية إىل اإلميان باهلل ‪ ،‬واإلق@ @ @@رار بوحدانيته ‪ ،‬والتح@ @ @@ذير من الش@ @ @@رك به ‪ ،‬ف@ @ @@إن من‬
‫يشرك باهلل فهو من الكافرين ‪ ..‬وإن الكافرين هم اخلاسرون ‪..‬‬
‫ـ وىف قوله تع@@اىل ‪( :‬ال ُب ْرهــا َن لَــهُ بِـ ِـه) ـ دع@@وة ص@@رحية إىل حترير العقل ‪ ،‬وإطالقه من‬
‫قيد األسر لألوه@ @ @@ام ‪ ،‬ومن االنقي@ @ @@اد لآلخ@ @ @@رين ‪ ،‬من غري أن يك@ @ @@ون له نظر واقتن@ @ @@اع ‪ ،‬عن‬
‫برهان قاطع ‪ ،‬وحجة واضحة ‪..‬‬
‫فاإلميان باهلل س@ @@بحانه وتع@ @@اىل ‪« :‬قض@ @@ية» أوىل من قض@ @@ايا العقل ‪ ،‬يرتبط هبا مس@ @@ريه‬
‫ومصريه ‪ ،‬ىف ال@دنيا واآلخ@@رة ‪ ..‬وه@@ذا من ش@أنه أن ي@دعو اإلنس@@ان أن يلقى ه@@ذه القض@ية ىف‬
‫يوجه إليها كل مدركاته ‪،‬‬ ‫ج ّد واهتمام بالغني ‪ ،‬وأن ّ‬
‫‪1195‬‬

‫وملكاته ‪ ،‬وأن يفتح هلا عقله وقلبه ‪ ،‬حىت ميحص@@ها متحيصا ‪ ،‬ويقيم هلا األدلة وال@@رباهني ‪..‬‬
‫ف@ @@إن هو آمن بعد ه @ @@ذا ‪ ،‬ك @ @@ان إميانه على بص @ @@رية وه @ @@دى ‪ ،‬وك @ @@ان هلذا اإلميان أث @ @@ره فيه ‪،‬‬
‫وس@@لطانه عليه ‪ ..‬وإن مل جيد بني يديه «الربه@@ان» املقنع ‪ ،‬وال@@دليل الق@@اطع ‪ ،‬واحلجة امللزمة‬
‫‪ ،‬فال عليه أن ميسك عن اإلميان ‪ ،‬حىت تتضح له مع@ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @@امل الطريق إليه ‪ ،‬وحىّت يقع على‬
‫ال@@دليل اهلادي ‪ ،‬ال@@ذي يق@@وده إىل اهلل م@@ذعنا ‪ ،‬مستس@@لما! ‪ ..‬ف@@ذلك هو اإلميان ال@@ذي يطلبه‬
‫اإلسالم من املسلمني ‪ ،‬ويفتح أبصارهم وبصائرهم له‪.‬‬
‫وليس ه@ @@ذا هو ش@ @@أن العقل مع قض@ @@ية اإلميان باهلل وح@ @@دها ‪ ،‬بل إن ذلك هو ال@ @@ذي‬
‫ينبغى أن يك @@ون من ش @@أنه مع كل قض @@يّة من قض @@ايا احلي @@اة ‪ ،‬ص @@غريها وكبريها ‪ ..‬إذ ك @@ان‬
‫العقل هو احلا ّس@ @ @ @ة اليت ي @ @ @@ذوق هبا اإلنس @ @ @@ان طع @ @ @@وم احلي @ @ @@اة ‪ ،‬ومييز هبا اخلبيث من الطيب ‪،‬‬
‫والش@ @ @ @ ّ@ر من اخلري ‪ ،‬والن@ @ @ @@افع من الض@ @ @ @@ار ‪ ..‬متاما كما ي@ @ @ @@ذوق باللس@ @ @ @@ان طع@ @ @ @@وم املأكوالت‬
‫واملشروبات ‪ ،‬حىت ال يدخل على اجلسد طعاما فاسدا ‪ ،‬فيفسد طبيعته‪.‬‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫ين)‪.‬‬ ‫ت َخ ْير َّ ِ ِ‬ ‫(وقُل ر ِّ ِ‬
‫الراحم َ‬ ‫ب ا ْغف ْر َو ْار َح ْم َوأَنْ َ ُ‬ ‫َ َْ‬
‫رب ك @ @@رمي رحيم ‪،‬‬ ‫هبذه اآلية الكرمية ‪ ،‬ختتم الس @ @@ورة ‪ ..‬وهبذه الرمحة الواس @ @@عة من ّ‬
‫يغ @@اث الن @@اس ‪ ،‬ويت @@داوون من جراح @@ات اآلث @@ام وال @@ذنوب ‪ ،‬اليت ش @@وهت مع @@امل فط @@رهتم ‪،‬‬
‫وى ‪ ،‬الذي خلقهم اهلل عليه ‪..‬‬ ‫الس ّ‬ ‫وذهبت بالكثري من مجال خلقهم ّ‬
‫لقد ركب كثري من الن @@اس ط @@رق الغواية والض@ @@الل ‪ ،‬وك@ @@ادت تض @@يع إنس@ @@انيتهم ىف‬
‫ض @ @ياع ‪ ،‬وأع @ @@ادهتم إىل‬
‫ه @ @@ذا التّيه ‪ ،‬ولكن رمحة اهلل ت @ @@داركتهم ‪ ،‬فلقيتهم هن @ @@اك ىف ه @ @@ذا ال ّ‬
‫جمتمع اإلنسانية الكرمي ‪..‬‬
‫‪1196‬‬

‫@رب والف@@اجر ‪ ،‬وتكسو املطيع‬ ‫وهك@@ذا ينتهى أمر الن@@اس ‪ ،‬برمحة عامة ش@@املة ‪ ،‬تن@@ال ال@ ّ‬
‫والعاصي‪.‬‬
‫رب الن@@اس‬ ‫ول@@رتغم أن@@وف أولئك ال@ذين يت@@ألّون على اهلل ‪ ،‬ويؤيّس@@ون الن@اس من رمحة ّ‬
‫‪ ،‬وحيتجزوهنا ألنفس@ @ @ @ @@هم ‪ ،‬حىت لكأهنا ال تتسع إاّل هلم ‪ ،‬وأنه لو ش@ @ @ @ @@اركهم فيها غ@ @ @ @ @@ريهم‬
‫الظن باهلل ‪ ،‬ومن ض @ @@الل ىف الفهم ملا‬ ‫لض @ @@اقت هبم ‪ ،‬وق@ @ ّ@ل حظهم منها ‪ ..‬فه @ @@ذا من س @ @@وء ّ‬
‫ش ـ ـَت ُه ْم فِي‬
‫س ـ ـ ْمنا َب ْيَن ُه ْم َم ِعي َ‬
‫ك؟ نَ ْح ُن قَ َ‬ ‫لذاته من كم@ @@ال مطلق ‪( ..‬أ َُه ْم َي ْق ِس ـ ـ ُمو َن َر ْح َم َ‬
‫ت َربِّ َ‬
‫ض ـ ُه ْم َب ْعض ـاً ُس ـ ْخ ِريًّا َو َر ْح َم ُ‬
‫ت‬ ‫ـات لِيت ِ‬
‫َّخـ َذ َب ْع ُ‬ ‫ٍ‬ ‫ض ـ ُه ْم َفـ ْـو َق َب ْع ٍ‬ ‫الْحي ـ ِ‬
‫ـاة ال ـ ُّـدنْيا َو َر َف ْعنا َب ْع َ‬
‫ض َد َرج ـ َ‬ ‫َ‬
‫ك َخ ْي ٌر م َّما يَ ْج َمعُو َن) ‪ : 32( ..‬الزخرف)‬ ‫ِ‬ ‫َربِّ َ‬
‫ومن أسرار هذا اخلتام للس@@ورة هبذه اآلية الكرمية ‪ ،‬أهنا ج@@اءت حتمل الرمحة واملغف@@رة@‬
‫ـ الرمحة الواس@ @@عة ‪ ،‬واملغف@ @@رة الش@ @@املة ـ وبني ي@ @@ديها ه@ @@ذه األحك@ @@ام ‪ ،‬وتلك احلدود ‪ ،‬اليت‬
‫ج@ @@اءت هبا س@ @@ورة «الن@ @@ور» اليت تلى ه@ @@ذه اآلية مباش@ @@رة ‪ ،‬وكأهنا تبشر بالرمحة واملغف@ @@رة@ ‪،‬‬
‫أولئك ال @@ذين تغلبهم أنفس@ @@هم ‪ ،‬وتس @@تعلى عليهم أه @@واؤهم ‪ ،‬فيخرج @@ون عن ح @@دود اهلل ‪،‬‬
‫ويواقعون اإلمث واملنكر!!‬
‫فس@ @ @ @@بحانك س@ @ @ @@بحانك من رب ك@ @ @ @@رمي ‪ ،‬غف@ @ @ @@ور ‪ ،‬رحيم ‪ ..‬تعنو جلالله الوج@ @ @ @@وه ‪،‬‬
‫وتس@ @ @ @ @@تخزى ىف مواجهة كرمه ‪ ،‬ومغفرته ورمحته ‪ ،‬النف@ @ @ @ @@وس ‪ ،‬ويس@ @ @ @ @@تحى من عص@ @ @ @ @@يانه ‪،‬‬
‫والتمرد على طاعته ‪ ،‬أهل احلياء!‬
‫وأال ش @@اهت وج @@وه ال @@ذين يلق @@ون رمحة ال @@رمحن ال @@رحيم ب @@التمرد والكف @@ران ‪ ..‬وأال‬
‫خس @@ىء وخسر ‪ ،‬أولئك ال @@ذين يغ @@ريهم لطف اللطيف ‪ ،‬وإحس @@ان احملسن بالتط @@اول عليه ‪،‬‬
‫والعدوان على حرماته ‪!..‬‬
‫***‬
‫‪1197‬‬

‫‪ 24‬ـ سورة النور‬


‫نزوهلا ‪ :‬هى مدنية ‪ ..‬باتفاق‪.‬‬
‫عدد آياهتا ‪ :‬أربع وستون آية‪.‬‬
‫عدد كلماهتا ‪ :‬ألف وثالمثائة وست عشرة كلمة‪.‬‬
‫عدد حروفها ‪ :‬مخسة آالف ‪ ،‬وستمائة ومثانون حرفا‪.‬‬

‫بسم اهلل الرحمن الرحيم‬


‫____________________________________‬

‫اآليات ‪ 1( :‬ـ ‪)3‬‬


‫الزانِيَـ ـةُ‬ ‫ـات بيِّن ـ ٍ‬
‫ـات ل ََعلَّ ُك ْم تَـ ـ َذ َّك ُرو َن (‪َّ @ @)1‬‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫ضـ ـناها َوأَ ْن َزلْنا فيها آي ـ َ‬ ‫ورةٌ أَْن َزلْناها َو َف َر ْ‬
‫( ُسـ ـ َ‬
‫ْخـ ْذ ُكم بِ ِهما رأْفَـةٌ فِي ِدي ِن ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ـل ِـ ٍ ِ‬ ‫اجلِـ ُدوا ُكـ َّ‬
‫اهلل إِ ْن ُك ْنتُ ْم‬ ‫َ‬ ‫واح د م ْن ُهما مائَـةَ َج ْلـ َدة َوال تَأ ُ ْ‬ ‫َوالـ َّـزانِي فَ ْ‬
‫ين (‪ )2‬الـ َّـزانِي ال َي ْن ِك ُح إِالَّ‬ ‫ِِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ـذاب ُهما طائ َفـ ةٌ م َن ال ُْمـ ْـؤمن َ‬‫ُت ْؤمنُــو َن بِاهلل َوالَْيـ ْـوم اآْل ـخ ِر َولْيَ ْش ـ َه ْد َعـ َ‬
‫ِِ‬ ‫زان أ َْو ُم ْش ِر ٌك َو ُح ِّر َم ذلِ َ‬
‫الزانِيةُ ال ي ْن ِكحها إِالَّ ٍ‬ ‫ِ‬
‫ين) (‪)3‬‬ ‫ك َعلَى ال ُْم ْؤمن َ‬ ‫زانيَةً أ َْو ُم ْش ِر َكةً َو َّ َ َ ُ‬
‫____________________________________‬
‫التفسري ‪:‬‬
‫ىف هذه السورة ـ أمران ـ حنب أن نقف قليال عندمها ‪ ،‬قبل أن منضى ىف تفسريها ‪:‬‬
‫أوهلما ‪ :‬ه@@ذا الب@@دء ال@@ذي ب@@دئت به ‪ ،‬واإلخب@@ار عنها بأهنا س@@ورة ـ مع أهنا «س@@ورة»‬
‫من مائة وأربع عشرة سورة ‪ ،‬هى القرآن الكرمي كله‪.‬‬
‫‪1198‬‬

‫سر هذا؟‬‫فما ّ‬
‫مل جند أح @@دا من املفس @@رين س @@أل ه @@ذا الس @@ؤال ‪ ،‬أو أش @@ار إليه من ق @@ريب أو بعيد ‪..‬‬
‫وإن كانوا قد توسعوا ىف شرح معىن سورة ‪ ،‬وأهنا من السور الذي يق@@وم على ما يداخله ‪،‬‬
‫وحيتويه ‪ ..‬فهى هبذا أش@@به بالس@@ور ‪ ..‬هلا ب@@دء وخت@@ام ‪ ..‬وما بني ب@@دئها وختامها حمص@@ور ىف‬
‫البدء واخلتام ‪ ..‬وليس ىف هذا ما جيعلها منفردة بوضع خاص بني سور القرآن الكرمي‪.‬‬
‫أما اإلخب@@ار عنها بأهنا س@@ورة ‪ ،‬وهى س@@ورة فعال ‪ ..‬فه@@ذا ما قد س@@كتوا عنه ‪ ..‬وهو‬
‫أمر يلفت النظر ‪ ،‬ويستوجب الدراسة والبحث ‪..‬‬
‫ـات بيِّن ـ ٍ‬
‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫ـات‬ ‫ض ـناها َوأَْن َزلْنا فيها آي ـ َ‬ ‫وحنن إذ ننظر ىف قوله تع @@اىل ‪ُ ( :‬س ـ َ‬
‫ورةٌ أَْن َزلْناها َو َف َر ْ‬
‫ل ََعلَّ ُك ْم تَ َذ َّك ُرو َن)‪.‬‬
‫جند ه@ @@ذا اخلرب وما وصف به ‪ ،‬ينطبق على كل س@ @@ورة من س@ @@ور الق@ @@رآن الك@ @@رمي ‪..‬‬
‫فكل س@ @@ورة منه هى س@ @@ورة ‪ ،‬وكل س@ @@ورة ‪ ،‬أنزهلا اهلل وفرض@ @@ها ‪ ،‬وأوجب على املس@ @@لمني‬
‫التعبّد بآياهتا ‪ ،‬والفعل بأحكامها ‪ ..‬وكل س @ @@ورة فيها آي @ @@ات بين @ @@ات ‪ ،‬للت @ @@ذكر والت @ @@دبر ‪،‬‬
‫وهى ىف ه@ @ @ @@ذا ال ختتص مبزيد فضل على غريها من الس@ @ @ @@ور ‪ ،‬ألن الق@ @ @ @@رآن كله كالم اهلل ‪،‬‬
‫وكالم اهلل ـ سبحانه ـ على التمام والكمال مجيعه ‪ ،‬ال يفضل بعضه بعضا بشىء ‪ ..‬إذ ليس‬
‫هناك مكان لزيادة ىف فضل!‬
‫فما السر إذن؟‬
‫نق @@ول ـ واهلل أعلم ـ إن ب @@دء الس @@ورة ىف احلقيقة هو قوله تع @@اىل ىف اآلية الثانية منها ‪:‬‬
‫واح ٍد ِم ْن ُهما ِمائَـةَ َج ْلـ َد ٍة ‪ )..‬وإن اآلية اليت ب@@دئت هبا الس@@ورة‬ ‫ـل ِـ‬ ‫اجلِـ ُدوا ُك َّ‬
‫الزانِيَةُ َوال َّـزانِي فَ ْ‬
‫( َّ‬
‫ليست إال تنبيها على أن س @ @@ورة س @ @@تنزل ‪ ،‬وفيها ف @ @@رائض ‪ ،‬وأحك @ @@ام ‪ ،‬وآي @ @@ات بين @ @@ات ‪..‬‬
‫وذلك أن األحكام الشرعية ‪ ..‬وخاصة‬
‫‪1199‬‬

‫ما يتصل منها باحلدود ـ مل جيىء هبا الق@@رآن الك@@رمي ىف ص@@در الس@@ور القرآنية ‪ ،‬وإمنا ج@@اء هبا‬
‫بني ثنايا اآلي @ @ @@ات ‪ ،‬حيث ميهد هلا بآي @ @ @@ات قبلها ‪ ،‬مث يعقب عليها بآي @ @ @@ات بع @ @ @@دها ‪ ..‬وهبذا‬
‫جيىء احلكم الشرعي وبني يديه ومن خلفه ما يدعمه ‪ ،‬ويوضحه‪.‬‬
‫ـات بيِّنـ ٍ‬
‫ـات ل ََعلَّ ُك ْم تَ ـ َذ َّك ُرو َن‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫ض ـناها َوأَ ْن َزلْنا فيها آيـ َ‬ ‫فقوله تع @@اىل ‪ُ ( :‬س ـ َ‬
‫ورةٌ أَْن َزلْناها َو َف َر ْ‬
‫‪)..‬‬
‫هو أش@به باملوس@يقى ‪ ،‬اليت تتق@دم م@وكب اجملاه@@دين ىف س@بيل اهلل ‪ ،‬املتجهني إىل غ@@زو‬
‫مواقع الكفر والض @@الل ‪ ،‬إذ أن اآلي @@ات اليت ج @@اءت بعد ه @@ذا املطلع ‪ ،‬هى ىف الواقع أق @@رب‬
‫شىء إىل أن تكون بعثا من جند السماء ‪ ،‬حيمل اهلدى والن@@ور إىل ه@@ذه املواطن املظلمة من‬
‫اجملتمع اإلس @ @@المى ‪ ،‬فيب @ @@دد ظالمها ‪ ،‬ويكشف لألبص @ @@ار والبص @ @@ائر ‪ ،‬الطريق املس @ @@تقيم إىل‬
‫مرضاة اهلل!‬
‫وثانيهما ‪ :‬تس@@ميتها بس@@ورة «الن@@ور» ‪ ..‬على اعتب@@ار أن أمساء الس@@ور ت@@وقيفى ‪ ،‬وهو‬
‫الرأى الراجح عندنا ‪..‬‬
‫مل مسيت هبذا االسم؟‬
‫واجلواب ـ واهلل أعلم ـ أن ذلك ‪:‬‬
‫أوال ‪ :‬ألهنا ج@@اءت بآي@@ات كش@@فت ظالما كثيفا ‪ ،‬ك@@ان قد انعقد ىف مساء املس@@لمني‬
‫قبل أن تنزل هذه السورة ‪ ،‬وتنزل معها هذه اآلي@@ات ‪ ..‬وذلك أن الس@@يدة عائشة رضى اهلل‬
‫عنها ‪ ،‬ك@ @ @@انت ىف تلك الف@ @ @@رتة موضع اهتام على ألس@ @ @@نة املش@ @ @@ركني واملن@ @ @@افقني ‪ ،‬وقد أوذى‬
‫رس@ @@ول اللهصلى‌هللا‌عليه‌وسلم من ه@ @@ذا احلديث املف@ @@رتى ‪ ،‬كما أوذيت زوجه رضى اهلل‬
‫عنها ‪ ،‬وأوذى املسلمون هبذا الذي طاف حول بيت النبوة من غبار تلك التهمة املف@@رتاة ‪..‬‬
‫@ربئ الربيئة الص@ ّديقة بنت الص@@ديق ـ انقشع ه@@ذا الظالم ‪ ،‬وكشف‬ ‫فلما ن@@زلت اآلي@@ات اليت ت@ ّ‬
‫النور السماوي ‪ ،‬عن وجوه املنافقني املفرتين ‪..‬‬
‫‪1200‬‬

‫ض َمثَ ُل نُــو ِر ِه‬ ‫الس ِ‬


‫ماوات َواأْل َْر ِ‬ ‫ور َّ‬ ‫وثانيا ‪ :‬جاء ىف السورة الكرمية قوله تعاىل ‪( :‬اهللُ نُ ُ‬
‫ي يُوقَـ ـ ُد ِم ْن‬ ‫جاجـ ـ ةُ َكأَنَّها َكـ ْـو َك ٌ‬
‫ب ُد ِّر ٌّ‬ ‫جاجـ ٍـة ‪ُّ ..‬‬
‫الز َ‬ ‫باح في ُز َ‬
‫كاة فِيها ِمصـ ـباح ‪ ..‬ال ِْمصـ ـ ِ‬
‫ْ ُ‬ ‫ْ ٌ‬
‫َك ِم ْشـ ـ ٍ‬
‫ـور َعلى‬ ‫ِ‬ ‫بار َك ٍة َز ْيتُونٍَة ال َش ْرقِيَّ ٍة َوال غَ ْربِيَّ ٍة يَ ُ‬ ‫ٍ‬
‫نار ‪ ..‬نُـ ٌ‬ ‫س ْسهُـ ٌ‬ ‫َم تَ ْم َ‬
‫كاد َز ْيتُها يُضيءُ َول َْو ل ْ‬ ‫َش َج َرة ُم َ‬
‫نُو ٍر َي ْه ِدي اهللُ لِنُو ِر ِه َم ْن يَشاءُ ‪)35( )..‬‬
‫فله@ @ @@ذه األن@ @ @@وار اليت متأل الوج@ @ @@ود من ن@ @ @@ور اهلل ‪ ،‬وهلذه اآلي@ @ @@ات املنزلة اليت أض@ @ @@اءت‬
‫للمسلمني ظالم الليل الكثيف ‪ ،‬وفضحت املش@@ركني واملف@@رتين ـ هلذا أو ذاك ‪ ،‬أوهلما معا ‪،‬‬
‫استحقت السورة أن حتمل هذا االسم ‪ ،‬وأن تكون نورا على نور ‪ ..‬من نور اهلل ‪!..‬‬
‫***‬
‫بعد هذا ‪ ،‬نستطيع أن نلتقى بالسورة الكرمية ‪ ،‬ونقف بني يدى آياهتا ‪..‬‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫ضناها وأَ ْنزلْنا فِيها ٍ‬
‫آيات بيِّ ٍ‬
‫نات ل ََعلَّ ُك ْم تَ َذ َّك ُرو َن)‪.‬‬ ‫َ‬ ‫ورةٌ أَْن َزلْناها َو َف َر ْ َ َ‬
‫( ُس َ‬
‫ورةٌ) خرب ملبتدأ حمذوف ‪ ،‬تقديره ‪ ،‬هذه سورة ‪ ..‬وقد قرىء «س@@ورة» بالنصب‬ ‫( ُس َ‬
‫‪ ،‬بتق@ @ @@دير ناصب هلا من فعل ‪ ،‬أو اسم فعل ‪ ،‬مثل اق@ @ @@رأ ‪ ،‬أو اس@ @ @@تقبل ‪ ،‬أو إليك أيها النيب‬
‫سورة ‪..‬‬
‫وىف هذا البدء إلفات إىل ما سيجيئ ىف السورة من أحك@@ام‪ .‬وتش@@ريعات ‪ ،‬وقواعد ‪،‬‬
‫حلفظ اجملتمع ‪ ،‬وصيانة روابط األسرة ‪ ،‬اليت هى األساس الذي يق@@وم عليه كي@@ان اجلماع@@ات‬
‫واألمم ‪..‬‬
‫‪1201‬‬

‫[الجلد والرجم ‪ ..‬وجريمة الزنا]‬


‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫واح ٍد ِم ْن ُهما ِمائَةَ َج ْل َد ٍة َوال تَأ ُ‬
‫ْخ ْذ ُك ْم بِ ِهما َرأْفَةٌ فِي ِدي ِن‬ ‫الزانِي فَاجلِ ُدوا ُك َّل ِ‬
‫ْ‬ ‫الزانِيَةُ َو َّ‬
‫( َّ‬
‫ِِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ين)‪.‬‬
‫ذاب ُهما طائ َفةٌ م َن ال ُْم ْؤمن َ‬ ‫اهلل إِ ْن ُك ْنتُ ْم ُت ْؤمنُو َن بِاهلل َوالَْي ْوم اآْل خ ِر َولْيَ ْش َه ْد َع َ‬
‫هك@@ذا تب@@دأ الس@@ورة هبذا احلكم ‪ ،‬على غري ما ج@@رى عليه الق@@رآن من تقرير األحك@@ام‬
‫ىف ثنايا السورة ‪ ،‬وبني يديها ومن خلفها آيات متهيد هلا ‪ ،‬وتعقب عليها‪.‬‬
‫أما هنا ‪ ،‬فقد تك @@اد الس @@ورة تب @@دأ هبذا احلكم ‪ ،‬وليست اآلية اليت ب @@دأت هبا الس @@ورة‬
‫إال إعالنا عن أن ه@@ذه س@@ورة ‪ ،‬وأهنا ج@@اءت ابت@@داء بتقرير ه@@ذا احلكم ‪ ،‬وه@@ذا يشري إىل أن‬
‫ه@@ذا األمر ال@@ذي جعلته الس@@ورة ىف مق@@دمتها ‪ ،‬هو أمر عظيم اخلطر على اجملتمع اإلنس@@اىن ‪،‬‬
‫وأن من احلكمة اإلسراع ىف حماربته والقض@اء عليه ‪ ،‬وأنه هلذا ج@دير ب@أن يتص@در س@@ورة من‬
‫سور القرآن الكرمي ‪ ،‬وأال تسبقه مقدمات ‪ ،‬وإرهاصات تشري إليه ‪..‬‬
‫وىف تص @@دير احلكم باجلملة االمسية ‪ ،‬تق @@دمي للمس @@ند إليه ـ املبت @@دأ ـ وكشف عنه قبل‬
‫الكشف عن احلكم ال@ @@ذي سيس@ @@ند إليه ‪ ..‬إذ ليس املقص@ @@ود أوال هو إقامة احل ّد على الزانية‬
‫والزاين ‪ ،‬وإمنا املراد هو التعرف على من حيمل هذا املرض اخلبيث ىف كيانه ‪ ..‬مث ي@@أتى بعد‬
‫ذلك ما يتخذ لوقايته ‪ ،‬ووقاية اجملتمع منه ‪..‬‬
‫الزانِيَ ـةُ َوالـ َّـزانِي) يلفت الس @@امع إىل أن حكما ما س @@يقع عليهما ‪ ،‬أو‬ ‫فقوله تع @@اىل ‪َّ ( :‬‬
‫ق@@وال س@@يقال فيهما ‪ ..‬وهنا تص@@غى األمساع ‪ ،‬وتتطلع النف@@وس إىل ه@@ذا احلكم ‪ ..‬وإذ يتوقع‬
‫املس @@تمعون أن ه @@ذا احلكم س @@يكون وعي @@دا من اهلل ‪ ،‬أو وص @@فا دامغا للزانية وال @@زاين ـ جيىء‬
‫األمر على غري ما ينتظرون ‪ ،‬وإذا هم أنفسهم ‪ ،‬هم‬
‫‪1202‬‬

‫املطالبون بالكشف عن هذا الداء ‪ ،‬مث هم مط@البون أيضا بأخ@ذهم هبذا ال@ ّدواء ال@ذي وض@عه@‬
‫اهلل ىف أي@ @@ديهم ‪ ،‬وإنف@ @@اذ أم@ @@ره فيهم ‪ ..‬وه@ @@ذا كله من ش@ @@أنه أن جيعل املس@ @@لمني مجيعا حربا‬
‫على هذا الداء ‪ ،‬وأساة ملن يصابون به ‪..‬‬
‫واح ٍد ِم ْن ُهما ِمائَةَ َج ْل َد ٍة)‪.‬‬
‫ففى قوله تعاىل ‪( :‬فَاجلِ ُدوا ُك َّل ِ‬
‫ْ‬
‫الزن@@اة ‪ ،‬ال@@ذين حتقق اجملتمع من ه@@ذا ال@@داء ال@@ذي‬ ‫أوال ‪ :‬ع@@زل للمؤم@@نني ‪ ،‬عن مجاعة ّ‬
‫نزل هبم ‪..‬‬
‫وثانيا ‪ :‬إل@@زام للمؤم@@نني أال يقف@@وا موقفا س@@لبيا من ه@@ذا ال@@داء ال@@ذي يته@@ددهم إن هم‬
‫تغاضوا عنه ‪ ،‬ومل يأخذوا وألنفسهم وقاية منه‪.‬‬
‫وهبذا يكون معىن اآلية ‪:‬‬
‫الزانية وال@@زاين ‪ ،‬ها مها قد أص@@يبا هبذا ال@@داء اخلبيث ‪ ،‬وإنه لكى ت@@دفعوا عن أنفس@@كم‬
‫شر هذا ال@@داء ‪ ،‬فاجل@@دوا كل واحد منهما مائة جل@@دة ‪ ،‬وال تأخ@@ذكم هبما رأفة ىف دين اهلل‬
‫إن كنتم تؤمنون باهلل واليوم اآلخر ‪ ،‬إذ لستم أنتم أرأف بالناس من رب الناس ‪..‬‬
‫ين) ـ إش@ @@ارة إىل أن اجلرمية‬ ‫ِِ‬ ‫ِ ِ‬
‫وىف قوله تع@ @@اىل ‪َ ( :‬ولْيَ ْش ـ ـ َه ْد َعـ ـ َ‬
‫ـذاب ُهما طائ َفـ ـ ةٌ م َن ال ُْمـ ـ ْـؤمن َ‬
‫ينبغى أن يك @@ون عقاهبا علنا ‪ ،‬مبحضر من الن @@اس ‪ ،‬ليك @@ون ىف ذلك فضح للج @@اىن ‪ ،‬وحتذير‬
‫لغريه من أن يأتى هذا املنكر ‪ ،‬ويقع حتت سياط العذاب ‪ ،‬وعلى أعني الناس!‬
‫وه@@ذه اجلرمية ينكرها الن@@اس مجيعا ‪ ،‬وتنكرها ك@@ذلك املدنية الغربية جه@@را ‪ ،‬وترضى‬
‫هبا وعنها سرا ‪ ..‬وذلك ملا ىف هذه اجلرمية من عدوان على حقوق األزواج ‪ ،‬ومن اختالط‬
‫األنس@ @@اب ‪ ،‬وحل روابط األس@ @@رة ‪ ،‬وقطع ما بني اآلب@ @@اء واألبن@ @@اء من تع@ @@اطف ‪ ،‬وت@ @@راحم ‪،‬‬
‫وإيث @ @@ار ‪ ،‬وب @ @@ذل يبلغ حد التض @ @@حية ب @ @@النفس ‪ ،‬األمر ال @ @@ذين ال يك @ @@ون إال إذا مألت عاطفة‬
‫األبوة قلوب اآلباء ‪ ..‬وهذا ال يكون‬
‫‪1203‬‬

‫إال إذا وقع ىف نف@ @@وس اآلب@ @@اء وقوعا حمققا أن ه@ @@ؤالء األبن@ @@اء من أص@ @@الهبم ‪ ،‬وأهنم غرس @@هم‬
‫ال@ذي غرس@وه ‪ ،‬ونبتهم ال@ذي خ@@رج من ه@@ذا الغ@رس ‪ ..‬ومن هنا تق@وم ىف أنفس@@هم ال@دواعي‬
‫القوية لرعاية هذا النّبت وبذل اجلهد له ‪ ،‬حىت ينمو ‪ ،‬ويزهو ‪ ،‬ويثمر ‪..‬‬
‫إن اجملتمع ال يك@ون جمتمعا س@ليما ‪ ،‬ق@@وى البني@@ان ‪ ،‬ث@ابت األرك@ان ‪ ،‬إال إذا انتظمت‬
‫@واد والتع @@اطف بني أف @@راده ‪ ..‬واألس @@رة هى أول لبنة ىف بن @@اء‬ ‫أف @@راده مش @@اعر متالمحة من الت @ ّ‬
‫اجملتمع ‪ ..‬ومن هنا كان حرص اإلسالم على إقامة هذه اللّبنة من مادة متماسكة ‪ ،‬متالمحة‬
‫‪ ،‬مص@@فاة من الش@@وائب ‪ ،‬حمص@@نة من اآلف@@ات ‪ ..‬فربط أوال بني ال@@زوج والزوجة هبذا الرب@@اط‬
‫املوثق ‪ ،‬ال @@ذي ال ينحل إال إذا عرضت له ع @@وارض جتعل من إمس @@اك ال @@زوجني هبذا الرب @@اط‬
‫أم@@را فيه إعن@@ات هلما ‪ ،‬أو ألح@@دمها ‪ ،‬فك@@ان التحلل منه أرفق وأوفق ‪ ..‬مث مل ي@@دع اإلس@@الم‬
‫ه@ @ @ @@ذا الرب@ @ @ @@اط ينحل تلقائيا ـ إذا دعت دواعيه ـ بل جعل له أس@ @ @ @@لوبا خاصا جيرى عليه ‪،‬‬
‫ويتعامل الزوج@ان مبقتض@اه ‪ ،‬ك@@أن تعت@ ّد املرأة بعد احنالل الرابطة الزوجية ب@الطالق أو الوف@اة‬
‫‪ ،‬وك @@أن يق @@دم الرجل للم @@رأة م @@ؤخر الص @@داق ‪ ،‬ونفقة الع @@دة ‪ ،‬وغري ه @@ذا مما هو مفصل ىف‬
‫كتب الفقه ‪ ..‬مث ه @ @ @@ذه الثم @ @ @@رة اليت يثمرها ال @ @ @@زواج من أوالد ‪ ،‬وما جيب على اآلب @ @ @@اء عن‬
‫رعاية وتربية هلؤالء األوالد ‪ ،‬وهو أمر وإن ك@ @@ان ىف فط@ @@رة الك@ @@ائن احلي ‪ ،‬إال أن اإلس@ @@الم‬
‫جعله ش@ @@ريعة ‪ ،‬يؤخذ هبا من فس@ @@دت فط@ @@رهتم من اآلب@ @@اء واألمه@ @@ات ‪ ..‬وك@ @@ذلك أوجبت‬
‫الش@@ريعة على األبن@@اء طاعة اآلب@@اء ‪ ،‬وب@ ّ@رهم ‪ ،‬وتق@@دمي الرعاية الكاملة هلم عند الكرب والعجز‬
‫‪ ..‬وه @ @ @ @ @@ذا أمر وإن ك@ @ @ @ @ @@انت تقضى به الفط @ @ @ @ @@رة ‪ ،‬وتوجبه املروءة ‪ ،‬اليت ت @ @ @ @ @@دعو إىل مقابلة‬
‫اإلحسان باإلحسان ‪ ،‬فإن اإلسالم جعله شريعة ملزمة ‪ ،‬وحقا واجب األداء ‪ ،‬إذا ك@ان ىف‬
‫األبن@ @ @@اء من ذهبت مروءته ‪ ،‬وطمست مع@ @ @@امل فطرته ‪ ،‬فلم ي@ @ @@رع ه@ @ @@ذا احلق ابت@ @ @@داء من غري‬
‫طلب ‪..‬‬
‫‪1204‬‬

‫وهك@ @ @@ذا ينظر اإلس@ @ @@الم إىل األس@ @ @@رة ‪ ،‬ويع@ @ @ ّدها «البوتق@ @ @@ة» األوىل ‪ ،‬اليت تنصب فيها‬
‫مبادئه ‪ ،‬وختترب أحكامه ‪ ،‬وتثمر ش@ @@ريعته ‪ ..‬فإنه إذا ظه@ @@رت آث@ @@ار ه@ @@ذه الش@ @@ريعة ىف جمتمع‬
‫األس@ @ @ @@رة ‪ ،‬وق@ @ @@امت منها تلك «اخللي@ @ @@ة» الس@ @ @ @@ليمة ‪ ،‬القوية ‪ ،‬احملص@ @ @ @@نة من آف@ @ @ @@ات االحنالل‬
‫والتفكك ـ ك@@ان اجملتمع ال@@ذي يق@@وم من اجتم@@اع ه@@ذه اخلاليا ‪ ،‬جمتمعا س@@ليما قويا ‪ ..‬أش@@به‬
‫باجلسد السليم القوى ‪ ،‬الذي ال تنال منه اآلفات والعلل ‪ ..‬إذا عرضت له ‪..‬‬
‫وس@ @@المة الرب@ @@اط ال@ @@ذي يق@ @@وم بني ال@ @@زوجني ‪ ،‬وقي@ @@ام الرابطة الزوجية ىف ض@ @@مان من‬
‫التحلل والتفكك ‪ ،‬وىف أمان من الشك واالرتياب ـ هو األس@@اس ال@ذي تق@@وم عليه الص@@الت‬
‫الروحية ‪ ،‬والنفسية ‪ ،‬واملادية بني أعضاء هذه األسرة ‪ ،‬اليت يبنيها الزوج والزوجة معا ‪..‬‬
‫من أجل ه @@ذا وقفت ش @@ريعة اإلس @@الم ه @@ذه الوقفة احلكيمة احلازمة ‪ ،‬من أمر الزنا ‪،‬‬
‫وع ّدته آفة مهلكة إذا مل يأخذ اجملتمع كله الس@ @ @ @ @@بيل عليها ‪ ،‬وين ّكل بال@ @ @ @ @@ذين يعت@ @ @ @ @@دون على‬
‫حرمته ويهددون أمنه وسالمته ‪ ،‬ويدكون صرح بنيانه ‪ ،‬باقرتاف هذا املنكر ‪..‬‬
‫وقد ف @ @@رق اإلس @ @@الم ىف العقوبة بني احملص @ @@نني وغري احملص @ @@نني ‪ ،‬ملا بني الف @ @@ريقني من‬
‫اختالف ىف احلاجة ‪ ،‬وىف الدافع إليها‪.‬‬
‫فاحل ّد ال@ @@ذي فرضه اإلس@ @@الم ‪ ،‬هو مائة جل@ @@دة لغري احملصن ‪ ،‬من النس@ @@اء والرج@ @@ال ‪:‬‬
‫واح ٍد ِم ْن ُهما ِمائَةَ َج ْل َد ٍة ‪)..‬‬
‫الزانِي فَاجلِ ُدوا ُك َّل ِ‬
‫ْ‬ ‫الزانِيَةُ َو َّ‬
‫( َّ‬
‫أما احملصن من الرجال والنساء ‪ ،‬فح ّده املوت ‪ ..‬رمجا باحلجارة‪.‬‬
‫فإذا توافرت أركان هذه اجلرمية مبا يوجب احلد ‪ ،‬وجب احلد ‪ ،‬ولزم‪.‬‬
‫مث إنه إذا أقيم احلد ـ جلدا أو رمجا ـ وجب أن يكون علنا ‪ ،‬يشهده طائفة‬
‫‪1205‬‬

‫من املؤمنني ‪ ،‬وقد أشرنا من قبل إىل احلكمة املبتغاة من هذه العالنية‪.‬‬
‫ه @ @ @@ذا ‪ ،‬وقد ج@ @ @@اء اجللد نصا ىف الق @ @ @@رآن الك @ @ @@رمي ‪ ..‬كما ج@ @ @@اءت به اآلية الكرمية ‪:‬‬
‫واح ٍد ِم ْن ُهما ِمائَةَ َج ْل َد ٍة)‪.‬‬‫الزانِي فَاجلِ ُدوا ُك َّل ِ‬
‫ْ‬ ‫الزانِيَةُ َو َّ‬
‫( َّ‬
‫ولكن ‪ ..‬هنا سؤال ‪:‬‬
‫إذا ك @@ان حكم الق @@رآن قد ج @@اء هك @@ذا مطلقا ىف الزانية وال @@زاين ‪ ،‬وهو اجللد ‪ ..‬فلم‬
‫هذا التخصص بغري احملصنني؟ ومن أين جاء النص على احملصنني بالرجم؟‬
‫ونق@ @ @ @@ول إن التقييد للنص الق@ @ @ @@رآىن ‪ ،‬وص@ @ @ @@رفه إىل غري احملص@ @ @ @@نني ‪ ،‬إمنا هو من عمل‬
‫الرس@ @@ول ‪ ،‬ص@ @@لوات اهلل وس@ @@المه عليه ‪ ..‬فقد رجم الرس@ @@ول ص@ @@لوات اهلل وس@ @@المه عليه ـ‬
‫حمص@@نا هو «م@@اعز بن مال@@ك» كما رجم حمص@@نة هى ‪« :‬الغامدي@ة» وذلك كما هو ث@ابت ىف‬
‫السنة املطهرة ‪..‬‬
‫ولكن ‪ ..‬لسائل أن يسأل ‪:‬‬
‫كيف جيىء حكم الق@ @ @ @ @@رآن عن جرمية «الزن@ @ @ @ @@ا» نصا ىف اجللد ‪ ،‬مث ال جيىء فيه نص‬
‫للرجم»؟‬
‫فينص الق@ @ @ @ @@رآن على العقوبة الك@ @ @ @ @@ربى وهى‬ ‫أال يك@ @ @ @ @@ون عكس ه@ @ @ @ @@ذا هو األوىل ‪ّ ..‬‬
‫«ال@@رجم» مث جيعل «اجلل@@د» عمال من إعم@@ال ه@@ذا النص ‪ ،‬فيك@@ون تعزي@@را ‪ ،‬حيث ال تت@@وافر‬
‫األدلة القاطعة؟‪.‬‬
‫ونقول ـ واهلل أعلم ـ ‪:‬‬
‫واحـ ٍد ِم ْن ُهما ِمائَ ـ ـةَ‬
‫ـل ِ ـ‬
‫اجلِ ـ ـ ُدوا ُكـ ـ َّ‬
‫الزانِيَ ـ ـةُ َوالـ ـ َّـزانِي فَ ْ‬
‫أوال ‪ :‬محل إطالق قوله تع@ @@اىل ‪َّ ( :‬‬
‫َج ْل ـ ـ َد ٍة) ـ محل ه @ @@ذا اإلطالق على غري احملص @ @@نني ‪ ،‬فيه رعاية ملقتضى احلال ‪ ،‬ال @ @@ذي يك@ @@اد‬
‫يصرح بأن الزنا ـ إن كان ـ فال ينبغى أن يكون إال من غري‬ ‫ّ‬
‫‪1206‬‬

‫احملص@ @@نني ‪ ،‬حيث مل يكن هلم ما يتحص@ @@نون به من دواعى الش@ @@هوة ‪ ،‬ب@ @@الزواج ‪ ،‬ال@ @@ذي من‬
‫ش @@أنه أن يكسر ح @@دة ه @@ذه الش @@هوة ‪ ،‬ويطفىء وق @@دهتا ‪ ..‬فهم هلذا ـ إذا أق @@دموا على الزنا‬
‫ك @@انوا أقل جرما من احملص @@نني ‪ ،‬ال @@ذين من ش @@أهنم أن يتحص @@نوا ويتعفف @@وا ‪ ،‬وهم ىف حي @@اة‬
‫الزوجية‪.‬‬
‫فه@ @ @@ذه اإلش@ @ @@ارة بليغة من الش@ @ @@ريعة اإلس@ @ @@المية ‪ ،‬إىل أن املؤمن ينبغى أن يك@ @ @@ون ىف‬
‫حص @@انة من دينه ‪ ،‬وىف يقظة دائمة من مراقبة ربه ‪ ..‬وت @@وقى الع @@دوان على ح @@دوده ‪ ،‬ف @@إذا‬
‫غلبت املؤمن ش@هوته ‪ ،‬ىف ه@ذه احلال ‪ ،‬وأغ@واه ش@يطان فاس@تغوى ‪ ،‬وركب طريق الفاحشة‬
‫ـ فإنه مل@@وم م@@ذموم ‪ ..‬ولكن ش@@تان ىف ه@@ذا ‪ ،‬بني احملصن وغري احملصن ‪ ،‬ىف موقف احلس@@اب‬
‫واجلزاء ‪ ،‬على تلك الفعلة املفكرة ‪..‬‬
‫ولش@ @@ناعة ه @ @@ذه اجلرمية ‪ ،‬وعظيم خطرها ‪ ،‬فقد نص الق @ @@رآن على أدىن حد جيب أن‬
‫يؤخذ به مقرتفه @ @ @@ا‪ .‬وهو ال @ @ @@رجم ‪ ،‬كما أن الق @ @ @@رآن أمسك هبذا النص من يغلب عليهم أن‬
‫يواقع@@وا ه@@ذا املنكر ‪ ،‬ويقع@@وا حتت العقوبة الراص@@دة له ‪ ،‬وهم غري احملص@@نني ‪ ..‬أما احملص@@نون‬
‫فأوىل هبم أال يكون هلم موقف هنا‪ .‬وأال يذكروا فيمن يذكر ىف معرض هذا األمر الشنيع‪.‬‬
‫وثانيا ‪ :‬إن عمل الرس @@ول ‪ ،‬متمم للش @@ريعة ‪ ،‬وش @@ارح هلا ‪ ،‬حبكم الق @@رآن الك @@رمي ىف‬
‫ول فَ ُخـ ُذوهُ َوما نَهــا ُك ْم َع ْنــهُ فَــا ْنَت ُهوا) (‪ : 7‬احلش@@ر) ذلك أن‬ ‫قوله تع@@اىل ‪َ ( :‬وما آتــا ُك ُم َّ‬
‫الر ُسـ ُ‬
‫الرسول ال يدخل على شريعة اهلل إال مبا ي@@أمره به اهلل ‪ ..‬كما يق@@ول تع@@اىل ‪َ ( :‬وما َي ْن ِط ُق َع ِن‬
‫ال َْهوى ‪ ..‬إِ ْن ُه َو إِاَّل َو ْح ٌي يُوحى) (‪ 3‬ـ ‪ : 4‬النجم)‬
‫وثالثا ‪ :‬أن وج@ @ @@وب إقامة احلد على ال@ @ @@زاين والزانية ‪ ،‬ال يك@ @ @@ون إال إذا وقعت ه@ @@ذه‬
‫اجلرمية مستوفية أركانا خاصة ‪ ،‬دون أن يعلق بأى ركن منها شبهة من‬
‫‪1207‬‬

‫احنل ركن من ه@ @@ذه األرك@ @@ان ‪ ،‬أو دخلت عليه ش@ @@بهة مل‬ ‫الش@ @@به القريبة أو البعي@ @@دة ‪ ..‬ف@ @@إذا ّ‬
‫تكن جرمية ىف نظر الشارع ‪ ،‬ومن مث فال حد على املأخوذ هبا‪.‬‬
‫وأهم األرك @@ان اليت تثبت هبا جرمية الزنا ‪ ،‬ش @@هادة أربعة من الش @@هود الع @@دول ‪ ،‬ب @@أن‬
‫يش @@هدوا ب @@أهنم رأوا ه @@ذا املنكر بني الرجل واملرأة ‪ ،‬على الوجه ال @@ذي يقع بني ال @@زوجني ىف‬
‫فراش الزوجية ‪ ،‬من املعاشرة اليت ال يطلع عليها أحد ‪ ،‬وأن تك@ون ه@ذه الرؤية كاش@فة كل‬
‫شىء بني الرجل واملرأة ‪ ،‬وخاصة فيما يتصل بالتقاء سوءتيهما ‪ ،‬التقاء مباشرا كامال‪.‬‬
‫ف@ @@إذا مل تقم كل ش@ @@هادة من ش@ @@هادات الش@ @@هود األربعة على ه@ @@ذا الوجه ‪ ،‬حبيث لو‬
‫وقع االختالف بينها ىف أية ص@@فة من تلك الص@@فات ـ مل حيكم بوق@@وع اجلرمية ‪ ،‬ومن مثّ فال‬
‫َّ ِ‬
‫إقامة حلد عليها ‪ ..‬وجيلد الش@ @ @@هود مثانني جل@ @ @@دة ‪ ،‬إعم@ @ @@اال لقوله تع@ @ @@اىل ‪َ ( :‬والذ َ‬
‫ين َي ْر ُمـ ــو َن‬
‫هاد ًة أَبَــداً‬
‫ين َج ْل َد ًة ‪َ ،‬وال َت ْقَبلُوا ل َُه ْم َشـ َ‬‫ِ‬ ‫نات ثُ َّم لَم يأْتُوا بِأَربع ِة ُشهداء فَ ِ‬
‫الْم ْحص ِ‬
‫وه ْم ثَمان َ‬
‫اجل ُد ُ‬
‫ََْ َ َ ْ‬ ‫َْ‬ ‫ُ َ‬
‫ْفاس ُقو َن) (‪ : 4‬النور)‪.‬‬ ‫ك هم ال ِ‬ ‫ِ‬
‫َوأُولئ َ ُ ُ‬
‫وط @@بيعى أن حتقق ه @@ذه الش @@روط ن @@در أن يقع ‪ ..‬ذلك أن ال @@ذي ميكن أن حيدث منه‬
‫ه@ @@ذا األمر املنكر على مأل من الن@ @@اس حبيث تنكشف هلم س@ @@وءته ـ هو إنس@ @@ان معت@ @@وه ‪ ،‬أو‬
‫جمن @@ون ‪ ،‬أو خمم @@ور ‪ ..‬ألن العاقل ـ ىف أي درجة من درج@@ات العقل ـ ي@@أىب عليه حي@@اؤه أن‬
‫يتجرد هذا التجرد ألعني الناس ‪ ..‬وإنه لو ف@@رض وك@@ان ممن ذهب م@@اء احلي@@اء من وجهه ‪..‬‬
‫فكيف الس @@بيل إىل املرأة اليت مجد حياؤها ه @@ذا اجلم @@ود ‪ ،‬فتع @ ّ@رت للرجل ه @@ذا التع @ ّ@رى على‬
‫أعني الن@ @@اس؟ إن ه@ @@ذه ص@ @@ورة ال تقع إال ىف أح@ @@وال ن@ @@ادرة ‪ ،‬وحتت ظ@ @@روف وأح@ @@وال غري‬
‫طبيعية ‪ ،‬كأن يق@در الزاني@@ان أهنما ىف م@@أمن ‪ ،‬فينكشف عنهما ه@ذا السرت ال@ذي تس@رتا فيه ‪،‬‬
‫على غري انتظار ‪ ،‬أو أن يطلع عليهما مطلع من حيث ال حيسبان أو يقدران ‪..‬‬
‫‪1208‬‬

‫وال شك أن غري احملص@@نني هم أق@@رب إىل التع@@رض ملثل ه@@ذا الفعل املنكر املفض@@وح ‪،‬‬
‫إذ ك@@انوا ـ حتت وط@@أة الش@@هوة وقس@@وة احلرم@@ان ـ معرضني لالن@@دفاع إىل ه@@ذه اجلرمية ‪ ،‬وإىل‬
‫قلة املباالة بعواقبها ‪ ،‬والعمى أو التعامي عن الظروف احمليطة هبا‪.‬‬
‫أما احملصن فإنه ـ إذ يق @@دم على ه @@ذه اجلرمية ـ ال يك @@ون حمكوما بث @@ورة الش @@هوة ‪ ،‬أو‬
‫قس @@وة احلرم @@ان إىل ه @@ذا احلد ال @@ذي يك @@ون عليه غري احملصن ‪ ..‬كما أنه ال ين @@دفع إىل ه @@ذه‬
‫اجلرمية ه@@ذا االن@@دفاع الص@@ارخ اجملن@@ون ‪ ،‬ىف غري مب@@االة ‪ ،‬خوفا من الفض@@يحة واخلزي ‪ ،‬عند‬
‫زوجه وبنيه وأهله ‪ ..‬وهلذا مل تثبت جرمية الزنا على احملصن أو احملص @@نة إال بإقرارمها ‪ ،‬كما‬
‫كان الشأن مع «ماعز» واملرأة الغامدية ‪..‬‬
‫وهنا يتضح لنا حكمة نص القرآن على حد اجللد ‪ ،‬وهو العقوبة املفروضة على غري‬
‫احملص@ @@نني ‪ ،‬إذ ك@ @@ان غري احملص@ @@نني ـ كما قلنا ـ هم الك@ @@ثرة الواقعة حتت حكم الزنا ‪ ،‬على‬
‫تلك الص@ @ @@ورة املكش@ @ @@وفة املفض @ @ @@وحة ‪ ،‬وهم أدىن إىل مواقعة اإلمث على ص @ @ @@ورته تلك ‪ ،‬من‬
‫احملص@@نني ‪ ،‬ال@ذين يك@@اد اإلس@الم ال يف@رتض هلم وج@@ودا ‪ ..‬ألهنم إذا وج@دوا على تلك احلال‬
‫‪ ،‬كانوا من الندرة النادرة اليت ال يتوجه إليها عموم احلكم‪.‬‬
‫ك@@ذلك تتضح حكمة ه@@ذا التق@@دير ال@ذي ق@ ّدره اإلس@@الم لعقوبة ه@@ذا اجلرم ‪ ،‬ىف جماليه‬
‫معا ‪ ،‬اإلحص@ان وغري اإلحص@ان ‪ ،‬وهو تق@دير ع@ادل رحيم ‪ ،‬ال ختف موازينه أب@دا ‪ ،‬ىف أي‬
‫جمتمع إنس @ @ @@اىن ‪ ،‬حيرتم وج @ @ @@وده ‪ ،‬ويك @ @ @@رم إنس @ @ @@انيته ‪ ،‬وي @ @ @@رعى حرماهتا ‪ ،‬وحيتفظ بالق@ @ @@در‬
‫اإلنساىن من حيائه ومروءته ‪..‬‬
‫واجللد مضافا إليه الفضح على املأل ‪ ،‬هو عقوبة غري احملصن واحملصنة‪.‬‬
‫‪1209‬‬

‫وهذا اجللد ‪ ..‬غري منكور ما فيه من استخفاف بإنسانية اإلنسان ‪ ،‬وامتهان لكرامته‬
‫‪ ،‬وإسقاط ملروءته!‬
‫نعم ‪ ..‬إن اإلس@@الم يأخذ ه@@ذا «اإلنس@@ان!» بكل ه@@ذا التج@@رمي والتج@@ريح ‪ ،‬ىف مقابل‬
‫جنايته تلك اليت جناها على اجملتمع ‪..‬‬
‫وكيف ي@@رعى اإلس@@الم ‪ ،‬حرمة ف@@رد ـ رجال ك@@ان أو ام@@رأة ـ مل ي@@رع إنس@@انيته ‪ ،‬ومل‬
‫حيفل مبروءته؟‬
‫وكيف يقبل منه ه@@ذا الع@@دوان الص@@ارخ على اجملتمع ‪ ،‬وه@@ذا التح @ ّدى اجملن@@ون حلرمة‬
‫اجلماعة وحيائها ‪ ،‬دون أن يذيقه من الك @ @ @ @@أس اليت س @ @ @ @@قى منها جمتمعا ك @ @ @ @@امال؟ وكيف ال‬
‫يلبسه ه@ @ @@ذا الث@ @ @@وب من املذلة واهلوان واالس@ @ @@تخفاف ‪ ،‬وقد ألبس هو اجملتمع ه@ @ @@ذه املالبس‬
‫مجيعها؟‬
‫أقل ما ينبغى أن ينال مقرتقى هذا اإلمث ـ ىف عالنية وىف غري مباالة ـ هو أن يك@@ون‬ ‫إن ّ‬
‫العقاب املسلط عليهما قائما على العالنية ‪ ،‬وعدم املباالة هبما‪.‬‬
‫أما احملص@@نون ال@@ذين يض@@بطهم اجملتمع على تلك احلال ‪ ،‬ويقيم الش@@هادة عليهم ‪ ،‬فقد‬
‫نزل@@وا درك@@ات بعي@@دة عن ه@@ذا املس@@توي املنحط ال@@ذي ن@@زل إليه غري احملص@@نني ‪ ،‬إذ ال جيدون‬
‫عند اهلل ‪ ،‬وال عند الناس شيئا من العذر الذي قد يقوم لغري احملص@@نني ‪ ..‬وهلذا ك@@ان عق@@اهبم‬
‫أن ي @ @@دفنوا ىف ه@ @ @@ذه احلف@ @ @@رة اليت حفروها ألنفس@ @ @@هم ‪ ،‬وأن يق@ @ @@ذفهم اجملتمع باألحج@ @ @@ار اليت‬
‫قذفوه هبا ‪ ،‬حىت تزهق أرواحهم‪.‬‬
‫***‬
‫إن جرمية الزنا ‪ ،‬ال يلقاها اإلس@ @@الم هبذا العق@ @@اب ال@ @@دنيوي الراصد الزاجر ‪ ،‬إال حني‬
‫تتحول عند مرتكبيها إىل عمل غري منكر ‪ ،‬فيأتيه من يأتيه منهم ‪،‬‬
‫‪1210‬‬

‫وكأنه ي @@ؤدى رس @@الة كرمية ىف احلي @@اة ‪ ،‬ي @@رى من اخلري أن يش @@هد الن @@اس وهو متلبس هبا ‪..‬‬
‫وهنا يك@ @@ون احلس@ @@اب على ه@ @@ذا الفج@ @@ور العري@ @@ان ‪ ،‬وعلى تلك احليوانية الطاغية اليت تلبس‬
‫@تحل دم احلي@@وان ‪،‬‬ ‫اإلنس@@ان ‪ ،‬وتتمشى به ىف الن@@اس ‪ ،‬ىف غري خجل أو حي@@اء ‪ ..‬وكيف يس@ ّ‬
‫وال يباح دم هذا احليوان من أبناء آدم؟ وهل مثل هذا اإلنسان أكرم عند اهلل أو عند الن@@اس‬
‫وأحل ذحبه؟‬
‫ّ‬ ‫من احليوان الذي أباح اهلل دمه ‪،‬‬
‫أما حس @ @ @@اب اإلس @ @ @@الم ملرتكىب ه @ @ @@ذا اإلمث ‪ ،‬ىف سرت وخف @ @ @@اء ‪ ،‬فهو مما يت@ @ @ @واّل ه اهلل ‪،‬‬
‫@رب الع@@املني ‪ ،‬ويقف املذنبون ب@@ذنوهبم بني ي@@دى أحكم‬ ‫ويأخذ به أهله ‪ ،‬ي@@وم يق@@وم الن@@اس ل@ ّ‬
‫احلاكمني ‪ ،‬فيغفر ملن يشاء ‪ ،‬ويعذب من يشاء‪.‬‬
‫من أجل ه@ @ @@ذا ‪ ،‬مل تكن عقوبة اجللد أو ال@ @ @@رجم تقع ‪ ،‬إال ىف القليل الن @ @@ادر ج @ @@دا ‪،‬‬
‫على أولئك الذين ينادون على أنفسهم بالفضيحة ‪ ..‬بال مباالة أو حترج ‪!..‬‬
‫فما ف @@رض اإلس@ @@الم على املس @@لمني ـ حكاما أو حمك@ @@ومني ـ أن يفتّش@ @@وا على دخائل‬
‫الن@اس ‪ ،‬وأن يعم@دوا إىل كشف ما س@رتوه ‪ ،‬وما س@رته اهلل عليهم ‪ ..‬بل إنه س@بحانه ـ رمحة‬
‫بعب@@اده ـ دعا إىل السرت على املبتلني من عب@@اده مبنكر من املنك@@رات ‪ ،‬وع @ ّد الكشف عن ه@@ذا‬
‫وتوعد ال@ذين ي@ذيعوهنا بالع@@ذاب األليم ‪ ..‬فق@ال تع@اىل‬ ‫املنكر من إشاعة الفاحشة ىف املؤم@نني ّ‬
‫يم فِي الـ ُّـدنْيا َواآْل ِ ـخ َر ِة‬‫ِ‬
‫ـذاب أَل ٌ‬
‫آمنُــوا ل َُه ْم َعـ ٌ‬
‫ين َ‬
‫ْفاح َ ِ َّ ِ‬
‫ش ـةُ في الذ َ‬
‫‪( :‬إِ َّن الَّ ِذين ي ِحبُّو َن أَ ْن تَ ِش ـيع ال ِ‬
‫َ‬ ‫َُ‬
‫َواهللُ َي ْعلَ ُم َوأَْنتُ ْم ال َت ْعلَ ُمو َن) (‪ : 19‬النور)‪.‬‬
‫روى أن رس@ @@ول اهلل ص@ @@لوات اهلل وس@ @@المه عليه ‪ ،‬وقد بلغه عن ام@ @@رأة ك@ @@انت تعلن‬
‫الفج@ @@ور ‪ ،‬فق@ @@ال ‪« :‬لو كنت رامجا أح@ @@دا بغري بيّنة ل@ @@رمجت ه@ @@ذه» وه@ @@ذه املعالنة اليت يشري‬
‫إليها الرسول ـ صلوات اهلل وسالمه عليه ـ‬
‫‪1211‬‬

‫هى تلك اليت ي@@رى فيها الن@@اس تلك املرأة متلبسة هبذا املنكر ‪ ،‬على م@@رأى ومش@@هد منهم ‪..‬‬
‫حىت لقد ك@ @ @ @@ان منها أن اش@ @ @ @@تهرت أهنا على عالقة بفالن أو فالن ‪ ،‬وأن بعض@ @ @ @@هم قد اطلع‬
‫منها على هذا املنكر ‪..‬‬
‫***‬
‫بقي أن نشري هنا إىل ما ورد ىف بعض األحاديث من أن رجم احملصن واحملص@@نة ‪ ،‬قد‬
‫ج@@اء ىف كت@@اب اهلل غري املتلو من آياته ‪ ..‬أي ال@@ذي نسخ تالوة ‪ ،‬وبقي حكما ‪ ..‬وي@@روون‬
‫هلذا ‪ ،‬ه@ @ @@ذه اآلية ‪« :‬الش@ @ @@يخ والش@ @ @@يخة إذا زنيا فاجل@ @ @@دومها البتة نك@ @ @@اال من اهلل واهلل عزيز‬
‫حكيم»‪.‬‬
‫وق @ @@الوا ‪ :‬إن ه @ @@ذه اآلية مما ك @ @@ان أن @ @@زل على رس @ @@ول اهلل صلى‌هللا‌عليه‌وس لم ‪ ،‬مث‬
‫نسخت تالوته ‪ ،‬وبقي حكمه ‪ ،‬ومل يثبت ىف املصحف‪.‬‬
‫ومن ه @@ذا ما ي @@روى ىف ص @@حيح البخ @@اري ومس @@لم عن عبد اهلل بن مس @@عود ‪ ،‬أن ابن‬
‫عب @@اس أخ @@ربه أن عمر ق@@ام ‪ ،‬فحمد اهلل وأثىن عليه مث ق@@ال ‪« :‬أما بعد أيها الن@@اس ‪ ،‬ف @@إن اهلل‬
‫تع @@اىل بعث حمم @@دا صلى‌هللا‌عليه‌وسلم ب @@احلق ‪ ،‬وأن @@زل عليه الكت @@اب ‪ ،‬فك @@ان فيما أن @@زل‬
‫عليه آية ال @ @@رجم ‪ ،‬فقرأناها وو عيناها ‪ ،‬ورجم رس @ @@ول اهلل صلى‌هللا‌عليه‌وس لم ‪ ،‬ورمجنا‬
‫بعده ‪ ..‬فأخشى أن يط@ول بالن@اس زم@ان أن يق@ول قائل ‪ :‬ال جند آية ال@رجم ىف كت@اب اهلل ‪،‬‬
‫فيضلّوا برتك فريضة قد أنزهلا اهلل ‪ ،‬فالرجم ىف كت@@اب اهلل حق على من زىن وهو حمصن من‬
‫الرجال والنساء ‪ ،‬إذا قامت البينة ‪ ،‬أو احلبل ‪ ،‬أو االعرتاف»‪.‬‬
‫وىف مس@ @@ند أمحد عن ابن عب@ @@اس ‪ ،‬عن عبد ال@ @@رمحن بن ع@ @@وف ‪ ،‬ق@ @@ال ‪ :‬إن عمر بن‬
‫اخلط @@اب ‪ ،‬خطب الن @@اس ‪ ،‬فس @@معته يق @@ول ‪« :‬أال وإن ناسا يقول @@ون ‪ :‬ما ال @@رجم ىف كت @@اب‬
‫اهلل ‪ ،‬وإمنا فيه اجللد ‪ ،‬وقد رجم رسول اهلل صلى اهلل عليه‬
‫‪1212‬‬

‫وس@ @@لم ورمجنا بع@ @@ده ‪ ،‬ولو ال أن يق@ @@ول قائل أو يتكلم متكلم ‪ :‬إن عمر زاد ىف كت@ @@اب اهلل‬
‫ألثبتها كما نزلت»!‬
‫وىف مسند أمحد أيضا عن ابن عباس ‪ ،‬قال ‪ :‬خطب عمر بن اخلط@@اب رضى اهلل عنه‬
‫‪ ،‬ف@@ذكر ال@@رجم فق@@ال ‪« :‬ال جند من ال@@رجم ب@@دا ‪ ،‬فإنه ح@ ّد من ح@@دود اهلل ‪ ،‬أال وإن رس@@ول‬
‫اللهصلى‌هللا‌عليه‌وسلم رجم ‪ ،‬ورمجنا بع @@ده ‪ ،‬ولو ال أن يق @@ول ق @@ائلون ‪ :‬إن عمر زاد ىف‬
‫كت@ @@اب اهلل ما ليس فيه لكتبت ىف ناحية من املص @ @@حف ‪ :‬وش @ @@هد عمر بن اخلط @ @@اب ‪ ،‬وابن‬
‫عوف ‪ ،‬وفالن ‪ ،‬وفالن أن رسول اهلل صلى‌هللا‌عليه‌وسلم قد رجم ورمجنا بعده»!‬
‫ه @ @@ذا بعض من أح @ @@اديث ج@ @ @@اءت ىف ه @ @@ذه القض@ @ @@ية ‪ ،‬وهى عند أص@ @ @@حاب احلديث‬
‫صحيحة ‪ ،‬ال مطعن عندهم ىف سندها ‪..‬‬
‫وحنن إذ ننظر ىف هذه األحاديث جندها معلولة بأكثر من علة ‪:‬‬
‫ف @ @@أوال ‪ :‬آية ال @ @@رجم اليت ت @ @@روى بأهنا ك @ @@انت هك @ @@ذا ‪« :‬الش@ @@يخة والش@ @@يخة إذا زنيا‬
‫فاجلدومها البتة نكاال من اهلل واهلل عزيز حكيم»‪.‬‬
‫@ح أن تأخذ اسم آية ـ فيها أك @@ثر من أمر يص @ ّ@رح بأهنا ليست من‬ ‫ه @@ذه اآلية ـ إذا ص @ ّ‬
‫آيات اهلل ‪ ،‬وال من كالم اهلل ‪ ،‬وال من كالم رسوله ‪ ..‬وذلك ‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ «الشيخ والشيخة» كلمتان ثقيلت@@ان ‪ ،‬قلقت@@ان ‪ ،‬ال ينتظم باجتماعهما نظم ق@@رآىن‬
‫‪ ..‬وقد ج@ @ @ @@اء ىف الق@ @ @ @@رآن لفظ «الش@ @ @ @@يخ» فوقع موقعه من النظم ‪ ..‬كما ىف قوله تع@ @ @ @@اىل ‪:‬‬
‫ـير) ومل جيىء لفظ الش @@يخة ‪ ،‬ال ىف‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫( َوهــذا َب ْعلي َش ـ ْيخاً) وقوله س @@بحانه ‪َ ( :‬وأَبُونا َش ـ ْي ٌخ َكبـ ٌ‬
‫عرىب بليغ‪.‬‬
‫القرآن ‪ ،‬وال ىف كالم ّ‬
‫‪ 2‬ـ كلمة «البتّ@ @ @ @@ة» كلمة غريبة ‪ ،‬مل يس@ @ @ @@تعملها الع@ @ @ @@رب ‪ ،‬وإمنا هى كلمة مول@ @ @@دة‬
‫البت ‪ ،‬وهو القطع ‪ ..‬وليس ىف‬ ‫استعملها الفالسفة واملناطقة ‪ ،‬وأصلها من ّ‬
‫‪1213‬‬

‫اللغة العربية الص @ @ @ @ @ @@حيحة كلمة تلزمها مهزة القطع ىف «ال» اليت للتعريف ‪« ..‬والبت @ @ @ @ @ @@ة» ال‬
‫تنطق ابتداء أو وصال إال هبمزة القطع حمققة ‪ ،‬على ما استعمله عليها أصحاهبا‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ كلمة «البت@@ة» ه @@ذه ـ ف @@وق أهنا غريبة ـ هى أيضا زائ@@دة ال حاجة إليها ىف تقرير‬
‫واح ٍد ِم ْن ُهما ِمائَـةَ‬
‫ـل ِـ‬
‫اجلِ ُدوا ُكـ َّ‬
‫الزانِي فَ ْ‬
‫الزانِيَةُ َو َّ‬ ‫احلكم أو توكيده ‪ ..‬وقد جاء قوله تعاىل ‪َّ ( :‬‬
‫َج ْلـ َد ٍة ‪ )..‬وك@@ان من الط@@بيعي أن جيىء احلكم املتمم هلذه اآلية هك@@ذا ‪« :‬والش@@يخ والش@@يخة‬
‫فارمجومها ‪ ..‬نكاال من اهلل ‪»..‬‬
‫وإذن فه@ @ @@ذه اليت تس @ @ @@مى آية ‪ ،‬أبعد ما تك @ @ @@ون عن نظم الق @ @ @@رآن ‪ ،‬كما أهنا أبعد ما‬
‫تكون عن بالغة الرسول ‪ ،‬وبيانه املعجز ‪..‬‬
‫وثانيا ‪ :‬إىل ج@ @ @ @ @@انب ه@ @ @ @ @@ذا ال@ @ @ @ @@ذي يق@ @ @ @ @@ال عنه إنه آية ‪ ..‬ي@ @ @ @ @@روى ه@ @ @ @ @@ذا احلديث عن‬
‫النبىّصلى‌هللا‌عليه‌وسلم ‪« :‬خ @@ذوا عىن ‪ ..‬خ @@ذوا عىّن ‪ ..‬قد جعل اهلل هلن س @@بيال ‪ ..‬البكر‬
‫بالبكر جلد مائة وتغريب عام ‪ ،‬والثيب بالثيب جلد مائة والرجم»‪.‬‬
‫وه @@ذا احلديث ـ إن صح ـ وقد ص @@ححه رج@@ال احلديث ‪ ،‬يك@@ون أش@@به بالناسخ آلية‬
‫الزانِي) وآلية ‪« :‬الش@@يخ والش@@يخة» ‪ ..‬ص@@ارفا النظر عنهما إىل األخذ عن رس@@ول‬ ‫الزانِيَةُ َو َّ‬
‫( َّ‬
‫اهلل صلى‌هللا‌عليه‌وسلم إذ ال معىن للقول ‪« :‬خذوا عىن خذوا عىن» إال صرف النظر عن‬
‫ك @ ّ@ل ما ج @@اء ىف الق @@رآن عن ه @@ذا األمر ‪ ،‬واألخذ هبذا ال @@ذي يق @@ال ‪ ..‬وح @@اش لرس @@ول اهلل‬
‫صلى‌هللا‌عليه‌وسلم أن ينطق هبذا ‪ ،‬وأن يتح @ @ ّدى كالم اهلل ال@ @@ذي ن@ @@زل عليه وبلّغه ‪ ،‬فقد‬
‫واح ٍد ِم ْن ُهما ِمائَـةَ‬
‫ـل ِـ‬
‫اجلِـ ُدوا ُكـ َّ‬
‫الزانِيَةُ َوالـ َّـزانِي فَ ْ‬
‫أخذ عنه املس@@لمون من قبل قوله تع@@اىل ‪( :‬شـ َّ‬
‫َج ْل َد ٍة)!‬
‫‪1214‬‬

‫وثالثا ‪ :‬س@@ورة الن@@ور كلها حمكمة ‪ ،‬وقد ن@ ّ@وه اهلل س@@بحانه وتع@@اىل هبا بقوله ‪ُ ( :‬سـ َ‬
‫ورةٌ‬
‫ـات بيِّن ٍ‬
‫ـات ل ََعلَّ ُك ْم تَـ َذ َّك ُرو َن ‪ )..‬فهى ن@@ور من ن@@ور ‪ ،‬وكل‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫ضـناها َوأَ ْن َزلْنا فيها آي َ‬
‫أَْن َزلْناها َو َف َر ْ‬
‫وكل ما فيها مفروض@ ال نقض فيه ‪..‬‬ ‫ما فيها بنّي جلّى ‪ّ ،‬‬
‫نص عليه احلكم‬ ‫وإذن فتغ@ @@ريب اجملل@ @@ود ‪ ،‬واجملل@ @@ودة ‪ ،‬عاما ‪ ،‬هو حكم زائد على ما ّ‬
‫الص@@ريح ال@@بني ىف اآلية ‪ ..‬وه@@ذا ين@@اقض ما ج@@اء ىف مطلع الس@@ورة من أهنا س@@ورة فرض@@ها اهلل‬
‫وأن@ @@زل فيها آي@ @@ات بين@ @@ات ‪ ،‬واختصاص@ @@ها هبذه األوص@ @@اف ـ مع أن كل الق@ @@رآن على ه @@ذه‬
‫الصفة ـ مزيد عناية هبا ‪ ،‬وتأكيد بأنه ال يدخلها نسخ ‪ ،‬إن كان هناك نسخ‪.‬‬
‫وقد ذهب كثري من األئمة والفقه @@اء إىل الق @@ول ب @@أن ال تغ @@ريب مع اجللد ‪ ..‬وي @@روى‬
‫على ك@ @ @@رم اهلل وجهه أنه ك@ @ @@ان يق@ @ @@ول ‪« :‬كفى ب @ @@التغريب فتن@ @ @@ة»‪ .‬وإذا ك@ @ @@ان‬
‫عن اإلم@ @ @@ام ّ‬
‫للتغ@ @ @@ريب حكمة ىف أنه يبعد اجملل@ @ @@ود أو اجملل@ @ @@ودة عن حميطهما ال@ @ @@ذي ارتكبا فيه الفاحشة ‪،‬‬
‫ويباعد بينهما وبني األعني اليت ترميمهما ب @@االزدراء ‪ ،‬واأللس @@نة اليت تق @@ذفهما بالس @@وء ـ إذا‬
‫ك@@ان للتغ@@ريب ه@@ذا ‪ ،‬ف@@إن فيه ما ينسى الن@@اس الع@@ربة والعظة اليت جيدوهنا كلما ط@@العوا وجه‬
‫اجملل @ @@ودين ‪ ،‬كما أن اجملل @ @@ودين ـ إذا بع @ @@دا عن موقع اجلرمية ‪ ،‬وعن ش @ @@هودها ‪ ،‬خف عنهم‬
‫على ـ فتنة قائمة بذاهتا ‪!!..‬‬ ‫أثرها ‪ ،‬وزال وشيكا وقعها ‪ ..‬مث إن الغربة ـ كما يقول اإلمام ّ‬
‫ورابعا ‪ :‬األح @@اديث اليت ت @@روى عن عمر بن اخلط @@اب فيها اض @@طراب ‪ ،‬وتن @@اقض ‪..‬‬
‫فما ينسب إىل عمر أنه ق@@ال ‪« :‬إن ناسا يقول@@ون ‪« :‬ما ال@@رجم ىف كت@@اب اهلل وإمنا فيه اجللد‬
‫‪ »..‬ه @@ذا غري معق @@ول أن يق @@ول به عمر ‪ ،‬وأح @@داث ال @@رجم اليت وقعت ب @@أمر رس @@ول اهلل ال‬
‫تزال حديث الناس ‪ ..‬واملسلمون يعلمون أن الرسول م@@بنّي لكت@@اب اهلل ‪ ،‬وأن قوله وعمله ـ‬
‫فيما يتعلق بالشريعة ـ شرع ‪ ..‬فمحال إذن‬
‫‪1215‬‬

‫أن يقول إنسان هذا القول ‪ ،‬وحمال كذلك أن يكون لعمر تعليق على قول مل يقل ‪@!..‬‬
‫مث من جهة أخ@ @ @@رى ‪ ،‬ي@ @ @@رى ىف احلديث أن عمر يق@ @ @@ول ‪« :‬لو ال أن يق@ @ @@ول قائل أو‬
‫يتكلم متكلم أن عمر زاد ىف كت@ @@اب اهلل ألثبتّها كما ن@ @@زلت ‪ »..‬وه@ @@ذا كالم ال يلتقى أوله‬
‫@وى ‪ ،‬ال يأبه أب@دا لق@ول قائل أو كالم متكلم ‪ ،‬ىف أي أمر متعلق‬ ‫مع آخ@ره ‪ ..‬فعمر رجل ق ّ‬
‫بأحك @ @@ام اهلل ‪ ..‬مث كيف خيشى عمر ق @ @@ول الن @ @@اس وكالمهم ‪ ،‬وال خيشى أن يزيد ىف كالم‬
‫اهلل ‪ ..‬مث كيف خيشى عمر ق @ @ @ @ @ @ @@ول الن @ @ @ @ @ @ @@اس وكالمهم ‪ ،‬وال خيشى أن يزيد ىف كالم اهلل ‪،‬‬
‫@ىب ‪ ،‬وزمن‬ ‫ويثبت ما مل ي@@أمر الرس@@ول بإثبات@@ه؟ وكيف تظل ه@@ذه اآلية غري مق@@روءة@ زمن الن@ ّ‬
‫أىب بكر ‪ ،‬وزمن عمر ‪ ،‬مث يبدو لعمر أن يثبتها ‪ ،‬لو ال أنه خيشى قول القائلني؟‬
‫وأكثر من هذا ‪ ،‬فإن احلديث الث@@الث ال@@ذي روين@@اه آنفا عن عمر ‪ ،‬ي@@دل داللة قاطعة‬
‫على أن الرجم كان سنّة عملية ‪ ،‬ولو مل يكن عن آية قرآنية نسخت تالوهتا ‪ ..‬يقول عمر‬
‫‪« :‬ال جند من ال@@رجم ب@@دا» ـ وص@@دق ف@@إن ال@@رجم للزانية وال@@زاين احملص@@نني ‪ ،‬مما فعله الرس@@ول‬
‫‪ ،‬وأمر به ‪ ..‬مث يق@ @@ول ‪« :‬فإنه من ح@ @@دود اهلل ‪ »..‬وص@ @@دق ـ رضى اهلل عنه ـ ف@ @@إن ال@ @@رجم‬
‫كاجللد ‪ ،‬كالمها من ح @ @@دود اهلل ‪ ..‬مث يق @ @@ول ‪« :‬أال وإن رس @ @@ول اهلل صلى‌هللا‌عليه‌وسلم‬
‫رجم رمجنا بع@ده» وه@ذا إمجاع ال خالف فيه ‪ ..‬مث يق@@ول ‪« :‬ولو ال أن يق@ول ق@ائلون ‪ :‬إن‬
‫عمر زاد ىف كت @@اب اهلل ما ليس فيه ـ لكتبت ىف ناحية من املص @@حف» وه @@ذا يعىن أن ال @@ذي‬
‫ك@ @@ان يهتم به عمر وال يفعله خمافة الفتنة ـ هو أن يكتب ىف ج@ @@انب من املص@ @@حف ‪ ،‬بعي @@دا‬
‫هم أن يكتبه ‪..‬‬‫عن اآليات القرآنية ـ هذا الذي ّ‬
‫هم عمر بكتابته ومل يكتبه لالعتبارات اليت رآها؟‬ ‫وماذا ّ‬
‫هذا هو نص ما أراد عمر أن يكتبه ‪ ،‬وأمسك عن كتابته ‪:‬‬
‫«وشهد عمر بن اخلطاب وابن عوف وفالن وفالن أن رسول اهلل صلى اهلل‬
‫‪1216‬‬

‫عليه وسلم رجم ‪ ،‬ورمجنا معه ‪»..‬‬


‫هم عمر بكتابته ومل يكتبه ‪ ،‬هو ش@@هادة تلحق باملص@@حف ‪ ،‬ىف ناحية منه ‪..‬‬ ‫ه@@ذا ما ّ‬
‫ومض @@مون ه @@ذه الش @@هادة ‪ ،‬هو ‪« :‬أن رس @@ول اهلل رجم ‪ ،‬ورجم املس @@لمون بع @@ده» ويش @@هد‬
‫على هذا عمر بن اخلطاب وعبد الرمحن بن عوف ‪ ،‬وآخرون‪.‬‬
‫وه @ @@ذا يعىن أنه لو ك @ @@انت هن @ @@اك آية «ال @ @@رجم» ه @ @@ذه اليت يقول @ @@ون عنها ‪« :‬الش@ @@يخ‬
‫والش@ @ @ @@يخة إذا زنيا فارمجومها البتة نك@ @ @ @@اال من اهلل واهلل عزيز حكيم» ـ لو ك@ @ @ @@ان هلذه اآلية‬
‫وجود ـ ظاهر أو خفى ـ لك@انت ش@هادة عمر عليها أوىل من ش@هادته على ال@رجم ‪ ،‬وألثبتها‬
‫ىف ناحية من املص @ @ @ @@حف ‪ ،‬وش @ @ @ @@هد هو ومن معه على أهنا ق @ @ @ @@رآن ‪ ،‬نس @ @ @ @@خت تالوته وبقي‬
‫حكمه ‪..‬‬
‫وه @@ذا قليل من كثري مما ميكن أن يق @@ال ىف ه @@ذه األح @@اديث ‪ ،‬وىف آية ال @@رجم ه @@ذه ‪،‬‬
‫وأنه كلما نظر اإلنس@ @@ان فيها وجد خلال واض@ @@طرابا ب@ @@رىء منهما الق@ @@رآن الك@ @@رمي ‪ ،‬وت@ @@نزه‬
‫عنهما كالم اهلل ‪..‬‬
‫فمثال ‪ :‬الش@ @@يخ والش@ @@يخة إذا كانا غري حمص@ @@نني فهل يرمجان؟ والش@ @@اب والش@ @@ابة إذا‬
‫كانا حمص@ @ @ @ @ @@نني فهل ال يرمجان؟ ه@ @ @ @ @ @@ذا ما يتسع له منط@ @ @ @ @ @@وق آية ‪« :‬الش@ @ @ @ @ @@يخ والش@ @ @ @ @ @@يخة»‬
‫ومفهومها!@‬
‫على بن أىب ط@@الب ك@@رم اهلل وجهه ‪ ،‬أنه قد ثبت لديه حكم‬ ‫وىف ح@@ديث ي@@روى عن ّ‬
‫الزنا على ام @ @@رأة حمص @ @@نة امسها «س @ @@راحة» فجل @ @@دها ي @ @@وم اخلميس ‪ ،‬مث رمجها ي @ @@وم اجلمعة ‪،‬‬
‫وق@ @@ال جل@ @@دهتا بكت@ @@اب اهلل ‪ ،‬ورمجتها بس@ @@نة رس@ @@ول اهلل ‪ ..‬وه@ @@ذا دليل على أن األصل هو‬
‫«اجلل@@د» ‪ ،‬وهو ع@@ام يش@@مل احملصن وغري احملصن حيث ج@@اء احلكم مطلقا ىف قوله تع@@اىل ‪:‬‬
‫واحـ ٍد ِم ْن ُهما ِمائَ ـ ـةَ َج ْلـ ـ َد ٍة) وأما ال@ @@رجم فهو اس@ @@تثناء ‪ ،‬من‬
‫ـل ِـ‬ ‫اجلِ ـ ـ ُدوا ُكـ ـ َّ‬
‫الزانِيَـ ـةُ َوالـ ـ َّـزانِي فَ ْ‬
‫( َّ‬
‫األصل ‪ ،‬وهو مما جاءت به السنّة ‪ ،‬ىف حق‬
‫‪1217‬‬

‫احملص@ @@نني ىف احلكم الع@ @@ام ‪ ،‬وأن جيرى عليهما حكم اآلية احملكمة ‪ ،‬مث يأخ@ @@ذمها باالس@ @@تثناء‬
‫الذي جاءت به السنة ‪ ..‬وهو الرجم ‪ ..‬واهلل أعلم‪.‬‬
‫***‬
‫الزانِي ـ ـةُ ال ي ْن ِكحها إِاَّل ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫زان أ َْو‬ ‫َ ُ‬ ‫قوله تع @ @@اىل ‪( :‬الـ ـ َّـزاني ال َي ْنك ُح إِاَّل زانيَ ـ ـةً أ َْو ُم ْش ـ ـ ِر َكةً َو َّ َ‬
‫ين)‪.‬‬ ‫ِِ‬ ‫ُم ْش ِر ٌك َو ُح ِّر َم ذلِ َ‬
‫ك َعلَى ال ُْم ْؤمن َ‬
‫اختلف املف ّس@ @رون ىف معىن النك @@اح هنا ‪ ،‬ف @@ذهب بعض @@هم إىل أو املراد به ال @@تزوج ‪،‬‬
‫على اعتب@ @ @@ار أن ه@ @ @@ذا هو املعىن الغ@ @ @@الب على ه@ @ @@ذه الكلمة ‪ ..‬وذهب آخ@ @ @@رون إىل أن معىن‬
‫النكاح هنا ‪ ،‬الوطء ‪ ،‬والتقاء الرجل باملرأة ‪..‬‬
‫وعلى املعىن األول ‪ ،‬يك@ون معىن اآلية ‪ :‬أن ال@زاين ال جيوز له أن ي@تزوج إال من زانية‬
‫أو مش@ @ @ @@ركة ‪ ،‬وأن الزانية ‪ ،‬ال جيوز هلا أن ت@ @ @ @@تزوج إال من زان أو مش@ @ @ @@رك ‪ ..‬وه@ @ @ @@ذا يعىن‬
‫ب@دوره أن ال@زاين والزانية ليسا مس@لمني ‪ ،‬وأن هلما أحكاما ختالف أحك@@ام املس@لمني ‪ ،‬إذا ال‬
‫حيل‬
‫جيوز هلما أن يتزوجا من املس@@لمني ‪ ،‬وأن هلما أن يتزوجا من املش@@ركني ‪ ..‬وه@@ذا مما ال ّ‬
‫ملسلم أو مسلمة ‪..‬‬
‫والث @@ابت ش @@رعا وعمال ‪ ،‬أن الزانية وال @@زاين ‪ ،‬مل خيرجا من اإلس @@الم جبرميتهما ‪ ،‬وأن‬
‫إقامة احل ّد عليهما تطهري هلما من ال@@رجس ال@@ذي وقعا فيه ‪ ..‬وهلذا ك@@انت كلمة من ج@@اءوا‬
‫إىل النيب ـ صلى‌هللا‌عليه‌وس لم ـ مع@ @ @@رتفني ب@ @ @@ذنبهم ‪ ،‬هى ق@ @ @@وهلم ‪« :‬طه@ @ @@رىن يا رس@ @ @@ول‬
‫اهلل»! ‪..‬‬
‫وهلذا ‪ ،‬ف@ @ @ @ @ @@إن املعىن ال@ @ @ @ @ @@ذي تس@ @ @ @ @ @@تقيم عليه اآلية هو أن يك@ @ @ @ @ @@ون «النك@ @ @ @ @ @@اح» مبعىن‬
‫«الوطء» ‪ ،‬والتقاء الرجل باملرأة ‪ ..‬ويكون معىن اآلية حينئذ ‪ :‬أن ال@@زاين ال يطأ إال زانية ‪،‬‬
‫أي ال يتهيأ له احلصول على من يشاركه هذا اإلمث إال ام@@رأة فاس@@دة فاس@@قة مثل@@ه‪ .‬فهو فاسد‬
‫فاسق ‪ ،‬ال يس@ @ @ @@تجيب له إال فاس@ @ @ @@دة فاس@ @ @ @@قة ‪ ،‬أو «مش@ @ @ @@ركة» ال ت@ @ @ @@ؤمن باهلل ‪ ،‬وال ختشى‬
‫حسابا أو جزاء ‪ ،‬فهى هلذا مستخ ّفة‬
‫‪1218‬‬

‫بكل معىن من مع@ @ @@اىن اخللق والفض@ @ @@يلة ‪ ،‬إذ ال ترجو بعثا ‪ ،‬وال تطمع ىف ث@ @ @@واب وال ختشى‬
‫من عقاب ‪..‬‬
‫وك @@ذلك الش @@أن ىف الزانية ‪ ..‬إهنا ال ت @@دعو إليها إال فاس @@دا فاس @@قا ‪ ،‬يس @@تجيب هلا ‪،‬‬
‫ويواقع املنكر معها ‪ ،‬أو مشركا ‪ ..‬ال يؤمن باهلل وال باليوم اآلخر ‪..‬‬
‫وىف ه @@ذا تغليظ هلذا اجلرم‪ .‬واس @@تخفاف بأهله ‪ ..‬وأهنم أهل س @@وء ‪ ،‬جيتمع بعض @@هم‬
‫إىل بعض ‪ ..‬فليس فيهما ص@@احل وفاسد ‪ ..‬وإمنا مها كائن@@ان فاس@@دان ‪ ،‬ينج@@ذب بعض@@هما إىل‬
‫بعض ‪ ،‬كما ينجذب الذباب إىل القذر والعفن‪.‬‬
‫ين) إش@@ارة إىل أن ه@@ذا الفحش ‪ ،‬أو ه@@ذا‬ ‫ِِ‬ ‫وىف قوله تع@@اىل ‪َ ( :‬و ُحـ ِّـر َم ذلِـ َ‬
‫ـك َعلَى ال ُْمـ ْـؤمن َ‬
‫املنكر ‪ ،‬قد ح@ @ ّ@رم على املؤم @ @@نني ‪ ،‬ال يأتونه أب@ @@دا ‪ ..‬كما ح @ @@رم عليهم ش@ @@رب اخلمر وأكل‬
‫امليتة وال@@دم وحلم اخلنزير ‪ ،‬وما أه@ ّ@ل لغري اهلل به ‪ ..‬ومع ه@@ذا ف@@إن بعض املؤم@@نني ي@@أتى ه@@ذه‬
‫احملرمات ‪ ،‬وال تنزع عنه صفة اإلميان إال ىف حال تلبّسه باملنكر ‪..‬‬ ‫ّ‬
‫وه@ @ @ @ @ @@ذا ما يشري إليه قوله صلى‌هللا‌عليه‌وس لم ‪« :‬ال يقتل القاتل حني يقتل وهو‬
‫مؤمن ‪ ،‬وال يشرب اخلمر حني يش@رهبا وهو م@ؤمن وال ي@زىن ال@زاين حني ي@زىن وهو م@ؤمن ‪،‬‬
‫وال يس@ @@رق الس@ @@ارق حني يس@ @@رق وهو م@ @@ؤمن ‪ ،‬وال خيتلس خلسة وهو م@ @@ؤمن ‪ ..‬خيلع منه‬
‫اإلميان كما خيلع س @ @@رباله ‪ ،‬ف @ @@إذا رجع رجع إليه اإلميان»‪ .‬أي أنه ىف احلال اليت يتلبس فيها‬
‫يفعل هذا املنكر أو ذاك ال يكون اإلميان ىف صحبته ‪ ،‬إذ لو كان اإلميان معه ‪ ،‬لكان له منه‬
‫وازع يزعه عن خمالفة اهلل ‪ ،‬واالعت@ @ @ @ @@داء على ح@ @ @ @ @@دوده ‪ ..‬ففى تلك احلال جيلى اإلميان من‬
‫قلبه ‪ ،‬وينزع الثوب الذي يلبسه منه ‪ ..‬فإذا صدر عن ه@ذا املنكر ‪ ،‬وت@اب إىل اهلل ‪ ،‬ورجع‬
‫إليه ‪ ،‬عاد إليه اإلميان ‪ ،‬وكان ىف املؤمنني ‪ ،‬العاصني ‪..‬‬
‫***‬
‫‪1219‬‬

‫____________________________________‬

‫اآليات ‪ 4( :‬ـ ‪)10‬‬


‫ين َج ْلـ َد ًة َوال‬ ‫ِ‬ ‫نات ثُ َّم لَم ي ـأْتُوا بِأَربعـ ِـة ُشـهداء فَ ِ‬ ‫(والَّ ِذين يرمــو َن الْم ْحصـ ِ‬
‫وه ْم ثَمــان َ‬ ‫اجلـ ُد ُ‬ ‫ََْ َ َ ْ‬ ‫َْ‬ ‫ُ َ‬ ‫َ َ َْ ُ‬
‫صـلَ ُحوا‬ ‫ـك َوأَ ْ‬ ‫ين تــابُوا ِم ْن َب ْعـ ِـد ذلِـ َ‬ ‫َّ ِ‬ ‫ِ‬
‫ـك ُه ُم الْفاسـ ُقو َن (‪ )4‬إِالَّ الذ َ‬ ‫هاد ًة أَبَــداً َوأُولئِـ َ‬
‫َت ْقَبلُــوا ل َُه ْم َشـ َ‬
‫ِ‬ ‫َّ ِ‬ ‫ِ‬
‫َم يَ ُك ْن ل َُه ْم ُشـ ـ ـ ـ َهداءُ إالَّ أَْن ُف ُ‬
‫سـ ـ ـ ـ ُه ْم‬ ‫يم (‪َ )5‬والذ َ‬
‫ين َي ْر ُمـ ـ ــو َن أَ ْز َ‬
‫واج ُه ْم َول ْ‬ ‫ـور َرح ٌ‬ ‫فَـ ـ ـ ـِإ َّن اهللَ غَ ُفـ ـ ـ ٌ‬
‫اهلل َعلَْي ِـه إِ ْن‬‫ت ِ‬ ‫سـةُ أ َّ‬ ‫ِ‬ ‫اهلل إِنَّهُ ل َِمن ال َّ ِ ِ‬ ‫هادةُ أَح ِد ِهم أَربع َشـ ٍ‬
‫هادات بِ ِ‬
‫َن ل َْعنَ َ‬ ‫ين (‪َ )6‬والْخام َ‬ ‫صـادق َ‬ ‫َ‬ ‫ش َ َ ْ َْ ُ‬ ‫فَ َ‬
‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ ِ ِ‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬
‫ين (‬ ‫ذاب أَ ْن تَ ْش َه َد أ َْربَ َع َشهادات باهلل إِنَّهُ لَم َن الْكاذب َ‬ ‫ين(‪َ )7‬ويَ ْد َر ُؤا َع ْن َها ال َْع َ‬ ‫كا َن م َن الْكاذب َ‬
‫ضـ ـل ِ‬ ‫اهلل َعلَيها إِ ْن ك ــا َن ِمن ال َّ ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫اهلل َعلَْي ُك ْم‬ ‫ين (‪َ )9‬ولَ ـ ْـو ال فَ ْ ُ‬ ‫صـ ـادق َ‬ ‫َ‬ ‫ب ِ ْ‬ ‫ضـ ـ َ‬
‫َن غَ َ‬ ‫سـ ـةَـ أ َّ‬
‫‪َ @ @ )8‬والْخام َ‬
‫يم) (‪)10‬‬ ‫ِ‬ ‫َو َر ْح َمتُهُ َوأ َّ‬
‫اب َحك ٌ‬ ‫َن اهللَ َت َّو ٌ‬
‫____________________________________‬
‫التفسري ‪:‬‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫ين َج ْلـ َدةً َوال‬‫ِ‬ ‫نات ثُ َّم لَم ي ـأْتُوا بِأَربعـ ِـة ُشـهداء فَ ِ‬
‫(والَّ ِذين يرمــو َن الْم ْحصـ ِ‬
‫وه ْم ثَمــان َ‬
‫اجلـ ُد ُ‬
‫ََْ َ َ ْ‬ ‫َْ‬ ‫ُ َ‬ ‫َ َ َْ ُ‬
‫صـلَ ُحوا فَـِإ َّن‬ ‫ين تــابُوا ِم ْن َب ْعـ ِـد ذلِـ َ‬
‫ـك َوأَ ْ‬
‫َّ ِ‬ ‫ِ‬ ‫هادةً أَبَــداً َوأُولئِـ َ‬
‫ـك ُه ُم الْفاسـ ُقو َن إِاَّل الذ َ‬ ‫َت ْقَبلُــوا ل َُه ْم َشـ َ‬
‫يم)‪.‬‬ ‫اهلل غَ ُف ِ‬
‫ور َرح ٌ‬
‫َ ٌ‬
‫بعد أن بينت اآليت@@ان الس@@ابقتان حكم الزانية وال@@زاين ‪ ،‬وما جيرى عليهما من عق@@اب‬
‫‪ ،‬وما يكون هلما من مكان ىف اجملتمع اإلسالمى ـ جاءت اآليات بعد هذا ت@بنّي ش@ناعة ه@@ذه‬
‫اجلرمية ‪ ،‬واخلطر العظيم ال@ @ @ @@ذي ينجم عنها ‪ ،‬حىت ليك@ @ @ @@اد يص@ @ @ @@يب كل من يق@ @ @ @@رتب منها ‪،‬‬
‫فضال عن أن يكون طرفا من أطرافها ‪..‬‬
‫‪1220‬‬

‫وهذه اجلرمية ال تتم إال بش@هادة ش@هود أربعة ‪ ،‬كما بيّنا ‪ ،‬أو ب@االعرتاف أربع م@رات‬
‫‪ ،‬أو باحلمل ىف غري فراش الزوجية‪.‬‬
‫أما االع@ @@رتاف بالزنا واإلق@ @@رار به ‪ ،‬ف@ @@أمره موك@ @@ول إىل من فعله ‪ ،‬وأق@ @ ّ@ر به ‪ ،‬ليتطهر‬
‫بالعقوبة ‪ ،‬من الرجس الذي لبسه ‪..‬‬
‫وأما احلمل ىف غري ف @@راش الزوجية ‪ ،‬فهو منكر ميشى بني الن @@اس ‪ ،‬وفيه ـ مع اجملاهرة‬
‫بالفاحشة ـ اعرتاف ضمىن ‪..‬‬
‫وأما الش @ @@هود ال@ @@ذين يش @ @@هدون على واقعة الزنا ‪ ،‬فهو موض @ @@وع ه @ @@ذه اآلية ‪ ،‬حيث‬
‫ت@@دعو الش@@هود إىل التثبت ‪ ،‬والتحقق مما يش@@هدون عليه ‪ ،‬وإاّل يعجل@@وا بالش@@هادة قبل التثبت‬
‫والتحقق ‪ ،‬وأال يتلق@ @ @@وا ما يش@ @ @@هدون به من أف@ @ @@واه الش@ @ @@ائعات واألقاويل ‪ ..‬ذلك أن ه@ @ @@ذه‬
‫الش@@هادة إذا متت ‪ ،‬ك@@ان من ش@@أهنا أن هتدر دم إنس@@ان ب@@الرجم ‪ ،‬إن ك@@ان حمص@@نا ‪ ،‬أو حتطّم‬
‫إنسانيته وتذهب بكرامته باجللد ‪ ،‬إن كان غري حمصن ‪ ..‬إن آثارها ىف كال احلالني ‪ ،‬قض@@اء‬
‫على إنس @@انية إنس @@انني ‪ ،‬وفض @@حهما وفضح من يتصل هبما من أهل وولد ‪ ..‬ومن هنا أق @@ام‬
‫اإلس@@الم تلك احلراسة الش@@ديدة على الش@@هادة ‪ ،‬وعلى الش@@هود معا ‪ ..‬كما فص@@لنا ذلك من‬
‫قبل!‬
‫فمن رمى حمص@@نة أو حمص@@نا ‪ ،‬وق@@ذفهما هبذه التهمة علنا ‪ ،‬ك@@ان عليه أن ي@@أتى بأربعة‬
‫ش@ @@هداء ‪ ،‬هو واحد منهم ‪ ،‬أو أربعة ليس هو فيهم ‪ ..‬يش@ @@هدون على ما رأوا ب@ @@أعينهم من‬
‫التقاء املرأة والرجل ‪ ،‬التقاء حمققا ‪ ،‬كما يلتقى الزوج بزوجه ىف فراش الزوجية ‪..‬‬
‫وقد ذكرت احملصنات ‪ ،‬ومل يذكر احملصنون ‪ ..‬ألن املرأة تبعتها ىف ه@@ذه اجلرمية ـ إذا‬
‫ثبتت ـ أف@ @ @@دح من الرجل ‪ ..‬وك@ @ @@ذلك ذكر احملص@ @ @@نات ‪ ،‬ومل ي @ @@ذكر غري احملص@ @ @@نات ‪ ،‬هلذا‬
‫السبب عينه ‪..‬‬
‫‪1221‬‬

‫ف@ @@اجلميع داخل@ @@ون ىف ه @ @@ذا احلكم ‪ ،‬نس@ @@اء ورج@ @@اال ‪ ،‬حمص@ @@نات ‪ ،‬وغري حمص@ @@نات ‪،‬‬
‫وحمصنني وغري حمصنني ‪..‬‬
‫وإمنا ذكر اإلحص @ @@ان ‪ ،‬للداللة به على التعفف والتص @ @ ّ@ون ‪ ،‬وأن ال @ @@ذي ي@ @@رمى بتلك‬
‫التهمة إمنا ي@@رمى عفيفا متص@@ونا ‪ ،‬أو من ش@@أنه أن يك@@ون هك@@ذا ‪ ،‬أو من ش@@أن املس@@لمني أن‬
‫يظنوا به هذا الظن ‪ ،‬قبل أن يتهموه ‪..‬‬
‫ف @ @ @@إذا مل ي @ @ @@أت الق @ @ @@اذف للمحص @ @ @@نة أو احملصن بأربعة ش @ @ @@هداء ‪ ،‬أو إذا أتى هبما ومل‬
‫تتحقق التهمة من شهادهتم ‪ ،‬خللل فيها ‪ ..‬وقعوا مجيعا ـ أي القاذف والشهود ـ حتت طائلة‬
‫العق@@اب ‪ ،‬واس@@تحقوا ش@@يئا من العقوبة اليت ك@@ان يس@@تحقها املتهم لو أن التهمة ثبتت عليه ‪،‬‬
‫وذلك ب @@أن جيلد كل منهم مثانني جل @@دة ‪ ..‬وليس ه @@ذا فحسب بل إهنم خيرج @@ون من دائ @@رة‬
‫املس@لمني الع@دول ‪ ،‬فال تقبل هلم ش@هادة أب@دا ‪ ..‬وليس ه@ذا وكفى ‪ ،‬بل إهنم لين@ادى عليهم‬
‫بأهنم فاسقون ‪ ..‬فتلك هى صفتهم ـ بل هذه هى ص@@فتهم اخلاس@@رة اليت خرج@@وا هبا من ه@@ذا‬
‫األمر الذي دخلوا فيه من غري تثبت ‪ ،‬واستيقان ‪..‬‬
‫وىف ه@ @ @ @@ذا كلّه دع@ @ @ @@وة للمؤم@ @ @ @@نني أال ي@ @ @ @@ذيعوا الفاحشة ىف املؤم@ @ @ @@نني ‪ ،‬وأال يتعجل@ @ @@وا‬
‫الفض@ @@يحة للمس @ @@لمني ‪ ،‬وأن يس @ @@رتوا عليهم ما ك @ @@ان للسرت موضع ‪ ..‬وليس معىن ه @ @@ذا أال‬
‫ينكر الن@@اس املنكر ‪ ،‬وأال يس@@وقوا أهله إىل موقع العق@@اب ‪ ،‬وإمنا هو احلذر واحليطة ‪ ،‬وع@@دم‬
‫الطّري فرحا ‪ ،‬إذا اطلع املس@ @ @ @@لم على س@ @ @ @@وء من مس@ @ @ @@لم ‪ @!..‬وأنه إذا أراد الكشف عن ه@ @ @@ذا‬
‫السوء فليكن ىف حذر ‪ ،‬وىف مهل ‪ ،‬وىف رفق ‪ ،‬بل وىف أسى على ه@@ذا ال@@ذي غ@@رق ىف اإلمث‬
‫‪ ،‬ووقع بني أنياب الفتنة ‪@!..‬‬
‫ِ‬ ‫ين ت ــابُوا ِم ْن َب ْعـ ِـد ذلِ ـ َ‬ ‫َّ ِ‬
‫يم)‬
‫ـور َرح ٌ‬ ‫ص ـلَ ُحوا فَ ـِإ َّن اهللَ غَ ُفـ ٌ‬
‫ـك َوأَ ْ‬ ‫ـ وىف قوله تع @@اىل ‪( :‬إِاَّل الذ َ‬
‫اس@@تثناء من احلكم ال@@ذي قضى به اهلل تع@@اىل على أولئك ال@@ذين يرم@@ون احملص@@نات ‪ ،‬ومل تكن‬
‫بني أيديهم احلجة القاطعة ‪ ،‬وقد تضمن هذا احلكم ثالثة‬
‫‪1222‬‬

‫أم @@ور ‪ :‬جل @@دهم مثانون جل @@دة ‪ ..‬وع @@دم قب @@ول ش @@هادة هلم أب @@دا ‪ ..‬مث ومسهم هبذه الس @@مة ‪،‬‬
‫وهى الفسق ‪..‬‬
‫ـك‬‫ين تــابُوا ِم ْن َب ْعـ ِـد ذلِـ َ‬ ‫َّ ِ‬
‫وقد اختلف فيما يقع عليه االس @@تثناء ىف قوله تع @@اىل ‪( :‬إِاَّل الذ َ‬
‫َصلَ ُحوا) أهو اجللد؟ أم عدم قبول الشهادة؟ أم وصفهم بالفسق‪.‬؟‬ ‫َوأ ْ‬
‫وال خالف يعت@ @ @ ّد به ىف وق@ @@وع اجللد ‪ ..‬ألن التوبة ‪ ،‬إمنا جتىء بعد وق @ @@وع العقوبة ‪،‬‬
‫ألن التوبة ال ت@ @ @@دفع احل ّد عمن لزمه احل ّد ووجب عليه ‪ ،‬إذا أعلن توبته ‪ ..‬وإمنا هى طه@ @ @@رة‬
‫له ‪ ،‬مما بقي عليه من آثار فعلته ‪ ،‬مما مل يذهب به احل ّد ‪..‬‬
‫أما اخلالف فهو ىف ‪ :‬هل التوبة ترفع عن ال@ @ @ @@ذين أقيم عليهم ح @ @ @ @ ّد الق@ @ @ @@ذف ‪ ،‬ه@ @ @@ذا‬
‫احلظر الذي أقيم عليهم بعدم قبول شهادهتم؟ وهل تزيل عنهم وصفهم بالفسق؟ ‪..‬‬
‫أكثر املفسرين على أن التوبة هنا إمّن ا تدخل باالستثناء على الوصف بالفسق وحده‪.‬‬
‫مبعىن أن اجملل @@ودين ىف ه @@ذا احلد ‪ ،‬إذا ت @@ابوا ‪ ،‬وأعلن @@وا ت @@وبتهم على املأل وأص @@لحوا ما فسد‬
‫منهم ‪ ،‬رفعت عنهم ص@@فة الفسق ‪ ..‬أما احلظر ال@@ذي أقيم عليهم بع@@دم قب@@ول ش@@هادهتم فهو‬
‫ق @@ائم ‪ ،‬ال ترفعه التوبة ‪ ،‬ألنه ج @@اء حكما مؤب @@دا ‪ ،‬كما يق @@ول س @@بحانه ‪َ ( :‬وال َت ْقَبلُ ــوا ل َُه ْم‬
‫هاد ًة أَبَداً) ‪...‬‬
‫َش َ‬
‫وذهب بعض املفسرين إىل أن التوبة تدخل باالستثناء على األمرين معا ‪ :‬عدم قب@@ول‬
‫الش @@هادة ‪ ،‬والوصف بالفسق ‪ ،‬وأن التأبيد هو تأبيد ق @@ائم ما مل تلحقه توبة ‪ ..‬وق @@الوا ‪ :‬إن‬
‫رد ش@ @ @@هادته ‪ ،‬فكيف ت@ @ @@رد ش@ @ @@هادة من‬ ‫ينص على ّ‬ ‫اجملل@ @ @@ود ىف الزنا ‪ ،‬وهو أصل اجلرمية ‪ ،‬مل ّ‬
‫جلد ىف الشهادة على الزنا ‪ ،‬وتقبل شهادة من زىن ‪..‬؟‬
‫‪1223‬‬

‫@الزاىن ال@ @@ذي جلد ىف الزنا إمنا‬ ‫واحلق أن ه@ @@ذا قي@ @@اس مع الف@ @@ارق ـ كما يقول@ @@ون ـ ف@ @ ّ‬
‫ّ‬
‫ارتكب جرمية ‪ ،‬ق@ @ @ @ @@امت عليه بالبيّنة ‪ ،‬أو ب@ @ @ @ @@اإلقرار ‪ ،‬أو باحلبل ‪ ..‬وفيها أن من أق@ @ @ @ @ ّ@ر على‬
‫نفسه ‪ ،‬وطلب التطهري ‪ ،‬هو ش@@خص مل يقبل ض@@مريه ه@@ذا املنكر ‪ ،‬وأنه طلب بنفسه إن@@زال‬
‫ترد ش@@هادته ‪ ..‬ومن‬ ‫العقوبة به ‪ ،‬ومثل هذا ال ميكن أن يشهد زورا ‪ ،‬ومن مثّ فهو عدل ال ّ‬
‫الزنا ‪ ،‬قد غلبتهما شهوة ‪ ،‬وتسلط عليهما ه@@وى ‪،‬‬ ‫جهة أخرى ‪ ،‬فإن اجمللودة أو اجمللود ىف ّ‬
‫وأهنما هبذا قد جنيا على أنفس@@هما ‪ ،‬أما ش@@اهد ال@@زور هنا ‪ ،‬فهو إمنا دخل إىل ه@@ذا األمر ملا‬
‫غلب على طبيعته من فس @@اد ‪ ،‬وليس عن ح @@ال طارئة ‪ ،‬أو ش @@هوة غالبة ‪ ،‬مث إنه هبذا ال @@زور‬
‫جيىن على نفسه كما جيىن على غ @ @@ريه ‪ ..‬وك @ @@ذلك الش @ @@أن ىف كل ش @ @@هادة ‪ ،‬هى ىف أص @ @@لها‬
‫@رد ش@@اهد ال@@زور ال@@ذي ثبت عليه ه@@ذا ‪ ،‬مث أقيم عليه احل ّد فيه ‪،‬‬ ‫م@@ؤثرة فيمن ش@@هد عليه ‪ ..‬ف@ ّ‬
‫هو محاية للن@اس من أن جيىن عليهم بش@هادة ال@@زور ‪ ،‬وقد ج@ّ@رب عليه ه@ذا ‪ ،‬وأنه إذا ك@انت‬
‫ردت هنا ‪ ،‬ومل يؤخذ هبا ‪ ،‬فإنه إذا ك@ @ @ @@ان له أن يش@ @ @ @@هد بعد ه@ @ @ @@ذا وأن تقبل‬ ‫ش@ @ @ @@هادته قد ّ‬
‫ش @@هادته ‪ ،‬فقد يش @@هد ب @@الزور ‪ ،‬وقد يقضى مبا ش @@هد به ‪ ..‬وىف ه @@ذا بالء وشر ‪ ،‬يقع على‬
‫الناس منه ‪..‬‬
‫وعلى ه@ @@ذا ‪ ،‬فإننا ن@ @@رى أن اجملل@ @@ود ىف الق @ @@ذف ال تقبل ش @ @@هادته أب @ @@دا ‪ ..‬وإن قبلت‬
‫ين ت ــابُوا ِم ْن َب ْعـ ِـد ذلِ ـ َ‬
‫ـك‬ ‫َّ ِ‬
‫ش @@هادة اجملل @@ود ىف الزنا ‪ ..‬وهبذا يك @@ون االس @@تثناء ىف قوله ‪( :‬إِاَّل الذ َ‬
‫َصلَ ُحوا) واقعا على صفة الفسق ‪ ،‬اليت تس@@عها رمحة اهلل ‪ ،‬وتش@@ملها مغفرته@ ‪ ..‬ألن أمرها‬ ‫َوأ ْ‬
‫يتعلق حبق من حق@@وق اهلل ‪ ..‬أما ش@@هادة ال@@زور ففيها حق الن@@اس ‪ ،‬ال@@ذين حتمل عليهم ه@@ذه‬
‫الشهادة‪.‬‬
‫ويؤيد هذا ما جاء ىف الرسالة املشهورة املعروفة برسالة القض@اء ‪ ،‬واملنس@@وبة إىل عمر‬
‫بن اخلطاب رضى اهلل عنه ‪ ..‬وفيها ‪« :‬املسلمون عدول بعضهم على بعض ‪ ،‬إال جملودا ىف‬
‫ح ّد ‪ ،‬أو جمربا عليه شهادة زور ‪ ،‬أو كان ظنينا ىف نسب‬
‫‪1224‬‬

‫أو والء» وقد جرى الفقه على هذا ‪ ،‬وأخذ به القضاء!‬


‫صـ ـ ـلَ ُحوا) إش@ @ @@ارة إىل أن من متام التوبة أن يص@ @ @@لح ال@ @ @@رامي ما‬ ‫وىف قوله تع@ @ @@اىل ‪َ ( :‬وأَ ْ‬
‫أص @@اب برميته من ج @@راح ‪ ،‬أص @@ابت املق @@ذوف ىف ش @@رفه ومسعته ‪ ،‬كما أص @@ابت أهله ب @@رذاذ‬
‫من ه@@ذا ال@@دم ال@@ذي يقطر من جراحه ‪ ..‬واإلص@@الح يك@@ون ب@@أن يعلن ال@ ّ@رامى على املأل ‪ ،‬أنه‬
‫ك@ @ @@ان خمطئا ‪ ،‬أو غري متحقق مما ش@ @ @@هد به ‪ ،‬أو أنه ألبس عليه األمر ‪ ،‬واختلط عن@ @ @ @@ده احلق‬
‫بالباطل ‪ ..‬إىل غري ذلك مما يطيّب خ@ @@اطر املتهم ‪ ،‬ويقطع ألس@ @@نة الس @ @@وء فيه ‪ ،‬أو ميس@ @@كها‬
‫عن التمادي ىف النيل منه ‪..‬‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫َحـ ِـد ِه ْم أ َْربَ ـ ُـع‬
‫هادةُ أ َ‬
‫شـ ـ َ‬
‫سـ ـ ُه ْم فَ َ‬ ‫ِ‬
‫َم يَ ُك ْن ل َُه ْم ُشـ ـ َهداءُ إاَّل أَْن ُف ُ‬ ‫ين َي ْر ُم ــو َن أَ ْز َ‬
‫واج ُه ْم َول ْ‬
‫َّ ِ‬
‫( َوالذ َ‬
‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫َن لَعنَ َ ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫اهلل إِنَّهُ ل َِمن َّ ِ ِ‬ ‫َش ٍ‬
‫هادات بِ ِ‬
‫ين)‪.‬‬‫ت اهلل َعلَْيه إِ ْن كا َن م َن الْكاذب َ‬ ‫سةُ أ َّ ْ‬ ‫ين َوالْخام َ‬ ‫الصادق َ‬ ‫َ‬
‫ق@@ررت اآلية الس@@ابقة حكم ال@@ذين يرم@@ون غري أزواجهم بتهمة الزنا ‪ ،‬وىف ه@@ذه اآلية‬
‫بي@ @ @@ان حلكم ال@ @ @@ذين تك@ @ @@ون التهمة منهم موجهة إىل أزواجهم ‪ ..‬فللعالقة الزوجية ش@ @ @@أن ىف‬
‫هذا األمر ‪ ،‬غريه مع غري الزوج والزوجة ‪..‬‬
‫فإذا وضع الرجل امرأته موضع التهمة ‪ ،‬ورماها هبذا املنكر ‪ ،‬مل يكن مطالبا إلثب@@ات‬
‫ه @@ذه التهمة بإحض @@ار أربعة ش @@هود يش @@هدون على ه @@ذا األمر ‪ ،‬إذ ال يقبل رجل على نفسه‬
‫أن يع@@رض امرأته ىف ه@@ذا املع@@رض ‪ ،‬وأن يفض@@حها تلك الفض@@يحة املعلنة ‪ ،‬على املأل ‪ ..‬وإمنا‬
‫املطل@@وب منه هنا هو أن يستش@@هد نفسه ‪ ،‬وحيتكم إىل دينه وض@@مريه ‪ ،‬فيس@@تخرج من كيانه‬
‫أربعة ش@@هود يش@@هدون على لس@@انه أربع ش@@هادات ‪ ،‬وذلك ب@@أن يش@@هد هو ه@@ذه الش@@هادة ‪،‬‬
‫وحيتملها ديانة أمام اهلل ‪ ،‬فيقول مثال ‪ :‬أشهد اهلل أىن رأيت زوجىت هذه ‪ ،‬فالنة ‪ ،‬مع فالن‬
‫‪ ،‬ىف حال تلبس بتلك اجلرمية ‪..‬‬
‫‪1225‬‬

‫وإىن ملن الص@@ادقني فيما ش@@هدت ‪ ..‬ويك@@رر ه@@ذا أربع م@@رات ‪ ..‬مث جيىء باخلامسة بعد ه@@ذا‬
‫مواجها هبا نفسه ‪ ،‬فيقول ‪ :‬إ ّن لعنة اهلل عليه إن كان من الكاذبني‪.‬‬
‫وال شك أن تك@ @@رار ه@ @@ذه الش@ @@هادة ‪ ،‬وتك@ @@رار ذكر اسم اهلل معها ىف كل م@ @@رة ‪ ،‬مما‬
‫ي@@تيح للرجل فرصة ىف أن يراجع نفسه ‪ ،‬أو يرجع إىل اهلل إن ك@@ان أم@@ره قائما على ظن@@ون ‪،‬‬
‫وشكوك‪.‬‬
‫@ب فيها لعنة اهلل عليه إن ك@ @ @ @ @ @@ان كاذبا ‪ ،‬عملية يقف هبا‬ ‫وىف املرة اخلامسة اليت يص@ @ @ @ @ @ ّ‬
‫@يرتدى فيها إذا هو‬ ‫اإلنس@ @@ان على حافة اهلاوية ‪ ،‬ويط@ @ ّ@ل منها على تلك اهلوة العميقة اليت س@ @ ّ‬
‫مضى إىل غايته ‪ ،‬ومل يكن متقيا اهلل ىف نفسه ‪ ،‬وىف املرأة اليت يض@ @ @@رهبا الض@ @ @@ربة القاض@ @ @@ية ‪،‬‬
‫هبذه الكلمة خترج من فمه ‪..‬‬
‫روى اإلم @ @@ام الش @ @@افعي ـ رضى اهلل عنه ـ ىف «الرس @ @@الة» أن رجال العن زوجه عند‬
‫رس @ @@ول اهلل صلى‌هللا‌عليه‌وس لم ‪ ،‬فلما ص @ @@ار إىل اخلامسة ‪ ،‬اليت حيسم فيها األمر ‪ ،‬ق @ @@ال‬
‫صلوات اهلل ورمحته وبركاته عليه ‪« :‬قفوه ‪ ..‬فإهنا موجبة»!‬
‫والواقع أن ال@@زوج ال يس@@وق زوجه إىل ه@@ذا املوقف ‪ ،‬إال إذا ق@@امت بني يديه الق@@رائن‬
‫القاطعة ‪ ،‬واألدلة الواض @@حة ‪ ..‬ولكن كث @@ريا من األزواج قد تعميهم الغ @@رية ‪ ،‬فيخ @@الون غري‬
‫الواقع واقعا ‪ ..‬مث ال يرض@@ون إال أن يك@@ون انتق@@امهم من املرأة على تلك الص@@ورة الفاض@@حة‬
‫أقل ما فيها أهنا تنفى نسبة الولد إليه ‪ ،‬إن كانت حامال ‪..‬‬ ‫املخزية ‪ ،‬اليت ّ‬
‫أما املرأة اليت وضعت هذا املوضع ‪ ،‬وال عنها زوجها ـ فإن أق@@رت مبا ش@@هد به ‪ ،‬أقيم‬
‫@رد ش@ @@هادته ب@ @@أن تش@ @@هد أربع‬ ‫عليها احل ّد ‪ ،‬ورمجت ‪ ..‬وإن أبت أن تق@ @ ّ@ر ‪ ،‬ف@ @@إن عليها أن ت@ @ ّ‬
‫شهادات باهلل إنه ملن الكاذبني ‪ ..‬وذلك بأن تقول‬
‫‪1226‬‬

‫مثال ‪ :‬أش @@هد باهلل أن فالنا زوجى ك @@اذب فيما اهتمين به ‪ ..‬تك @@رر ذلك أربع م @@رات ‪ ..‬مث‬
‫تقول ىف اخلامسة ‪ :‬إن غضب اهلل عليها إن كان من الصادقني ‪..‬‬
‫وهبذا تدرأ عن نفسها العذاب الدنيوي ‪ ،‬وهو الرجم ‪ ..‬أما ىف اآلخرة ‪ ،‬فحساهبا ‪،‬‬
‫وحساب زوجها على اهلل ‪ ،‬س@بحانه وتع@اىل ‪ ،‬وهو ال@ذي يعلم احملق من املبطل منهما ‪ ..‬إذ‬
‫ال شك أن أحدمها كاذب‪.‬‬
‫وي @@رتتب على ه @@ذا أن تطلّق املرأة من الرجل ‪ ،‬وهلا مهرها ‪ ،‬من غري متعة ‪ ،‬وتلزمها‬
‫حيل له زواجها‬ ‫الع ّدة ‪ ،‬وال ينتسب ولدها الذي ت@@أتى به إىل أبيه ‪ ،‬بل ينسب إىل أمه ‪ ،‬وال ّ‬
‫أبدا‪.‬‬
‫وهذا ما يشري إليه قوله تعاىل ‪:‬‬
‫ِ‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ ِ ِ‬
‫سـةَ أ َّ‬
‫َن‬ ‫ـذاب أَ ْن تَ ْشـ َه َد أ َْربَـ َـع َشـهادات باهلل إِنَّهُ لَم َن الْكـاذب َ‬
‫ين َوالْخام َ‬ ‫( َويَـ ْد َر ُؤا َع ْن َها ال َْعـ َ‬
‫اهلل َعلَيها إِ ْن كا َن ِمن َّ ِ ِ‬
‫ين)‪.‬‬ ‫الصادق َ‬ ‫َ‬ ‫ب ِ ْ‬ ‫ضَ‬‫غَ َ‬
‫والرد ‪ ..‬واملراد بالعذاب هنا ‪ :‬الرجم‪.‬‬ ‫والدرء ‪ :‬ال ّدفع ‪ّ ،‬‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫يم)‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ضل ِ‬
‫اهلل َعلَْي ُك ْم َو َر ْح َمتُهُ َوأ َّ‬
‫اب َحك ٌ‬ ‫َن اهللَ َت َّو ٌ‬ ‫( َول َْو ال فَ ْ ُ‬
‫ج@ @ @ @ @@واب لو ال حمذوف ‪ ،‬وتق@ @ @ @ @@ديره ‪ :‬ولو ال فضل اهلل عليكم ‪ ،‬ورمحته بكم ‪ ،‬وأنه‬
‫ت @@واب حكيم ـ لو ال ه @@ذا لعنتّم ‪ ،‬وملا ع @@رفتم ه @@ذه احلدود ‪ ،‬وتلك األحك @@ام اليت بينها اهلل‬
‫لكم ‪ ،‬واليت حيسم هبا ما يقع بينكم من شر وفساد ‪ ،‬وضياع لألنساب ‪..‬‬
‫@ردهم إىل حظ@@رية املؤم@@نني الص@@احلني‬ ‫اب) يقبل العاصني منكم ‪ ،‬وي@ ّ‬ ‫مث إنه تعاىل ‪َ( :‬ت َّو ٌ‬
‫يم) فيما ح@ @ @ @ ّدد من ح @ @ @@دود ورصد من‬ ‫ِ‬
‫‪ ،‬إذا هم ت @ @ @@ابوا وأص @ @ @@لحوا ‪ ،‬وهو س @ @ @@بحانه ‪َ ( :‬حك ٌ‬
‫عقوبات ‪ ،‬للمعتدين على حدوده‪.‬‬
‫‪1227‬‬

‫____________________________________‬

‫اآليات ‪ 11( :‬ـ ‪)20‬‬


‫س ـبُوهُ َشـ ـ ًّرا لَ ُك ْم بَ ـ ْـل ُهـ َـو َخ ْيـ ٌـر لَ ُك ْم لِ ُكـ ِّ‬
‫ـل‬ ‫ِ‬ ‫(إِ َّن الَّ ِذين ج ــا ُؤ بِاإْلِ فْ ـ ِ‬
‫ص ـبَةٌ م ْن ُك ْم ال تَ ْح َ‬ ‫ـك عُ ْ‬ ‫َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍِ‬
‫يم (‪ )11‬لَـ ْـو ال إِ ْذ‬ ‫ـذاب َعظ ٌ‬ ‫ب م َن اإْلِ ثْ ِم َوالَّذي َتـ َـولَّى ك ْـب َـرهُ م ْن ُه ْم لَــهُ َعـ ٌ‬ ‫سـ َ‬ ‫ْامـ ِرئ م ْن ُه ْم َما ا ْكتَ َ‬
‫ين (‪ )12‬لَـ ْـو ال جــا ُؤ‬ ‫ـك ُمبِ ٌ‬ ‫نات بِأَْن ُف ِس ِه ْم َخ ْيــراً َوقــالُوا هــذا إِفْـ ٌ‬ ‫َس ِم ْعتُ ُموهُ ظَ َّن ال ُْم ْؤ ِمنُو َن َوال ُْم ْؤ ِم ُ‬
‫اهلل ُهم ال ِ‬ ‫ك ِع ْن َد ِ‬ ‫داء فَأُولئِ َ‬ ‫الشه ِ‬ ‫ِِ ِ‬
‫ضـ ُل‬ ‫ْكاذبُو َن (‪َ )13‬ول َْو ال فَ ْ‬ ‫ُ‬ ‫َم يَأْتُوا بِ ُّ َ‬‫داء فَِإ ْذ ل ْ‬
‫َعلَْيه بأ َْر َب َعة ُش َه َ‬
‫يم (‪ )14‬إِ ْذ‬ ‫ِ‬ ‫س ـ ـ ُكم فِيما أَفَ ْ ِ ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ـذاب َعظ ٌ‬ ‫ض ـ ـتُ ْم فيـ ــه َعـ ـ ٌ‬ ‫اهلل َعلَْي ُك ْم َو َر ْح َمتُـ ــهُ في الـ ـ ُّـدنْيا َواآْل ـخـ َرة ل ََم َّ ْ‬
‫واه ُكم ما ل َْيس لَ ُكم بِ ـ ِـه ِعلْم وتَ ْحسـ ـبونَهُ َهيِّن ـاً و ُهــو ِع ْنـ ـ َد ِ‬
‫اهلل‬ ‫َتلَ َّقونَ ــه بِأَلْ ِسـ ـنَتِ ُكم وَت ُقولُ ــو َن بِ ـأَفْ ِ‬
‫ْ ُ‬
‫َ َ‬ ‫ٌ َ َُ‬ ‫َ ْ‬ ‫ْ‬ ‫َْ‬
‫ك هـ ــذا ُب ْهتـ ــا ٌن‬ ‫يم (‪َ )15‬ولَ ـ ْـو ال إِ ْذ َس ـ ـ ِم ْعتُ ُموهُ ُقلْتُ ْم ما يَ ُكـ ــو ُن لَنا أَ ْن َنتَ َكلَّ َم بِه ــذا ُسـ ـ ْبحانَ َ‬ ‫ِ‬
‫َعظ ٌ‬
‫ِِ‬ ‫َع ِظيم (‪ @ @ @)16‬ي ِعظُ ُكم اهلل أَ ْن َتع ـ ـ ُ ِ ِ ِ ِ‬
‫ين (‪َ @ @ )17‬و ُيَبيِّ ُن اهللُ لَ ُك ُم‬ ‫ـودوا لمثْل ـ ــه أَبَ ـ ــداً إِ ْن ُك ْنتُ ْم ُمـ ـ ْـؤمن َ‬ ‫َ ُ ُ ُ‬ ‫ٌ‬
‫آمنُ ـ ــوا ل َُه ْم‬ ‫ْفاح َ ِ َّ ِ‬ ‫ـات واهلل علِيم ح ِكيم (‪ )18‬إِ َّن الَّ ِذين ي ِحبُّو َن أَ ْن تَ ِشـ ـ ـيع ال ِ‬ ‫ِ‬
‫ين َ‬ ‫شـ ـ ـةُ في الذ َ‬ ‫َ‬ ‫َُ‬ ‫اآْل ي ـ ـ َ ُ َ ٌ َ ٌ‬
‫ض ـل ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫َعــذاب أَلِ ِ‬
‫اهلل َعلَْي ُك ْم‬ ‫يم في الـ ُّـدنْيا َواآْل ـخ َرة َواهللُ َي ْعلَ ُم َوأَ ْنتُ ْم ال َت ْعلَ ُمــو َن (‪َ )19‬ولَـ ْـو ال فَ ْ ُ‬ ‫ٌ ٌ‬
‫َن اهلل ر ُؤ ٌ ِ‬
‫يم) (‪)20‬‬ ‫ف َرح ٌ‬ ‫َو َر ْح َمتُهُ َوأ َّ َ َ‬
‫____________________________________‬

‫[حديث اإلفك ‪ ..‬عبرة وعظة]‬


‫التفسري ‪:‬‬
‫بعد أن بينت اآليات السابقة حكم الذين يرمون احملصنات ‪ ،‬مث حكم الذين‬
‫‪1228‬‬

‫يرم@@ون أزواجهم ـ ج@@اءت اآلي@@ات هنا ت@@بني حكما خاصا لواقعة خاصة ‪ ،‬ت@@رمى هبا أحصن‬
‫احملصنات ‪ ،‬أم املؤمنني ‪ ،‬عائشة ‪ ،‬زوج النيب صلى‌هللا‌عليه‌وسلم ‪..‬‬
‫واهتامهن بتلك التهمة‬ ‫ّ‬ ‫والقض@ @ @@ية ىف أص@ @ @@لها قض@ @ @@ية واح@ @ @@دة ‪ ،‬هى رمى احملص@ @ @@نات ‪،‬‬
‫الشنعاء ‪ ..‬وقد جاءت ىف ثالثة معارض ‪ ،‬األول عاما ‪ ،‬والثاين خاصا ‪ ،‬والثالث أخص ‪..‬‬
‫فاحملص @ @ @ @@نات ‪ ،‬ي @ @ @ @@دخل ىف حكمهن الزوج @ @ @ @@ات ‪ ،‬كما ي @ @ @ @@دخل فيهن اإلفك على أم‬
‫املؤمنني عائشة رضى اهلل عنها‪.‬‬
‫وإمنا ج @@اء احلديث عن الزوج@@ات ىف مع @@رض خ@@اص ـ وإن مشلهن حكم احملص @@نات ـ‬
‫ألن للعالقة الزوجية ـ كما قلنا ـ اعتب@@ارات خاصة ‪ ،‬ينبغى أن يك@@ون هلا حس@@اب وتق@@دير ‪،‬‬
‫غري حساب األجنىب الذي يرمى حمصنة أو حمصنا ‪ ..‬كذلك ‪ ،‬أم املؤمنني ـ عائشة ـ هى غري‬
‫عامة احملصنات ‪ ،‬وهى غري الزوجة ‪ ..‬إهنا األم لكل مؤمن ومؤمنة ‪ ،‬فك@@ان ال بد أن يك@@ون‬
‫ألمرها هنا ذكر خ@ @@اص ‪ ،‬وأن يت@ @@وىل الق@ @@رآن الك@ @@رمي الكشف عن تلك الفرية اليت اف@ @@رتيت‬
‫عليها ‪ ،‬وأن ميسك بأهل اإلفك ‪ ،‬ويسجل فضيحتهم ‪ ،‬لتبقى عالقة هبم إىل األبد ‪..‬‬
‫وال@ @ @@رأى عند املفس@ @ @@رين ‪ ،‬والفقه@ @ @@اء ‪ ،‬واألص@ @ @@وليني ـ أن بني احلكم اخلاص بق@ @ @@ذف‬
‫الزوج@@ات ‪ ،‬وبني احلكم الع@@ام املتعلق بق@@ذف احملص@@نات ـ تناس@@خا ‪ ،‬وأن اآلية الثانية ناس@@خة‬
‫َّ ِ‬
‫َم يَ ُك ْن ل َُه ْم‬
‫واج ُه ْم َول ْ‬ ‫لعم@ @ @ @@وم احلكم ىف األوىل ‪ ..‬أي أن قوله تع@ @ @ @@اىل ‪َ ( :‬والذ َ‬
‫ين َي ْر ُمـ ـ ــو َن أَ ْز َ‬
‫َّ ِ‬ ‫ِ‬
‫سـ ـ ـ ُه ْم ‪ )..‬اآلي@ @ @@ات» ناسخ لعم@ @ @@وم احلكم ىف قوله تع @ @@اىل ‪َ ( :‬والذ َ‬
‫ين َي ْر ُمـ ــو َن‬ ‫ُشـ ـ ـ َهداءُ إاَّل أَْن ُف ُ‬
‫ين َج ْل َد ًة ‪)..‬‬ ‫ِ‬ ‫نات ثُ َّم لَم يأْتُوا بِأَربع ِة ُشهداء فَ ِ‬
‫الْم ْحص ِ‬
‫وه ْم ثَمان َ‬
‫اجل ُد ُ‬ ‫ََْ َ َ ْ‬ ‫َْ‬ ‫ُ َ‬
‫والرأى عندنا أنه ال تناسخ بني احلكمني ‪ ..‬فكل من احلكمني عامل‬
‫‪1229‬‬

‫ىف موض@@عه ‪ ،‬وكل من اآلي@@ات ‪ ،‬الس@@ابقة والالحقة تق@@رر حكما ال يتع@@ارض ‪ ،‬وال يت@@داخل‬
‫مع صاحبه ‪..‬‬
‫فاآلي @@ات األوىل ‪ ،‬خاصة بق @@ذف احملص @@نات حني يك @@ون الق @@اذف غري زوج ‪ ..‬وهلذه‬
‫احلالة حكم خ @ @@اص هبا ‪ ،‬وهى أن الق @ @@اذف مط @ @@الب ب @ @@أن ي @ @@أىن بأربعة ش @ @@هداء ‪ ،‬وإاّل جلد‬
‫مثانني جلدة ‪ ،‬مث ال تقبل له بعد هذا شهادة أبدا ‪ ..‬مث هو من الفاسقني ‪..‬‬
‫أما اآلي@ @@ات األخ@ @@رى ‪ ،‬فهى خاصة بق@ @@ذف ال@ @@زوج زوجه ‪ ..‬واحلكم ىف ه@ @@ذا ‪ ،‬هو‬
‫التالعن بينهما ‪ ،‬وما يرتتب على هذا ‪ ،‬كما أشرنا إىل ذلك من قبل ‪..‬‬
‫وال@ @ @ @ @@ذي أدخل الش@ @ @ @ @@بهة على الق@ @ @ @ @@ائلني بالتناسخ بني اآلي@ @ @ @ @@ات ‪ ،‬هو وج@ @ @ @ @@ود كلمة‬
‫نات) هنا ‪ ،‬وهن@ @ @@اك ‪ ..‬فافرتض@ @ @@وا هلذا عمومية احلكم ىف اآلي@ @ @@ات األوىل ‪ ،‬حبيث‬ ‫صـ ـ ـ ُ‬ ‫(ال ُْم ْح َ‬
‫يش @@مل الزوج @@ات وغ @@ريهن ‪ ،‬وع @ ّدوا إف @@راد الزوج @@ات ب @@ذكر خ @@اص ىف اآلي @@ات األخ @@رى ‪،‬‬
‫ختصيصا لعموم احلكم ‪ ..‬وهو عندهم ـ أي التخصيص ـ من قبيل النسخ ال@@وارد على احلكم‬
‫العام!‬
‫وهذا غري صحيح من وجهني ‪:‬‬
‫ف@@أوال ‪ :‬احملص@@نات ىف اآلي@@ات األوىل ‪ ،‬إمنا ي@@راد هبن العفيف@@ات املتحص@@نات بعفتهن ‪،‬‬
‫أكن متزوج@@ات أم غري متزوج@@ات ‪ ،‬كما أنه يش@@مل ـ ض@@منا ـ احملص@@نني من الرج@@ال ‪،‬‬ ‫س@@واء ّ‬
‫املتحصن بالعفة ‪ ،‬سواء أكان متزوجا أم غري متزوج ‪..‬‬ ‫ّ‬ ‫هبذا املعىن أيضا ‪ ،‬وهو‬
‫أكن ـ‬
‫أما «احملص@@نات» ىف اآلي@@ات األخ@@رى ‪ ،‬ف@@املراد هبن ـ نصا ـ املتزوج@@ات ‪ ،‬س@@واء ّ‬
‫ىف واقع األمر ـ عفيفات أم غري عفيفات‪.‬‬
‫وثانيا ‪ :‬الذين يرمون احملصنات ‪ ،‬أو الالئي يرمني احملصنني ‪ ،‬ىف اآليات‬
‫‪1230‬‬

‫األوىل حكم خ @ @ @@اص ‪ ،‬ال يلتقى معه احلكم ال @ @ @@ذي يقع من التالعن بني ال@ @ @@زوجني ‪ ،‬ىف أي‬
‫وجه من الوجوه ‪..‬‬
‫وإذن فال تناسخ بني اآلي @@ات الس @@ابقة والالحقة ‪ ،‬بالتخص @@يص أو غ @@ريه ‪ ..‬وإمنا كل‬
‫من السابق والالحق من اآليات له موضعه ‪ ،‬وله احلكم الواقع على هذا املوضع ‪..‬‬
‫ونعود بعد هذا إىل ح@ديث اإلفك ‪ ..‬وقد ج@اء كما قلنا ىف مع@رض خ@اص به ‪ ،‬ألنه‬
‫أشنع ما يقع ىف هذا الباب ‪ ،‬من صور القذف ‪..‬‬
‫وقد ج@@اء الق@@رآن الك@@رمي ب@@احلكم أوال على ه@@ؤالء ال@@ذين اف@@رتوا تلك الفرية املنك@@رة ‪،‬‬
‫وأذاعوا هذا البهتان العظيم ‪ ..‬فقال تعاىل ‪:‬‬
‫س ـبُوهُ َشـ ـ ًّرا لَ ُك ْم بَ ـ ْـل ُهـ َـو َخ ْيـ ٌـر لَ ُك ْم لِ ُكـ ِّ‬
‫ـل‬ ‫ِ‬ ‫(إِ َّن الَّ ِذين ج ــا ُؤ بِاإْلِ فْ ـ ِ‬
‫ص ـبَةٌ م ْن ُك ْم ال تَ ْح َ‬‫ـك عُ ْ‬ ‫َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬ ‫ٍِ‬
‫يم ‪)..‬‬ ‫ذاب َعظ ٌ‬ ‫ب م َن اإْلِ ثْ ِم َوالذي َت َولى ك ْب َرهُ م ْن ُه ْم لَهُ َع ٌ‬ ‫سَ‬ ‫ْام ِرئ م ْن ُه ْم َما ا ْكتَ َ‬
‫وقد تضمن هذا احلكم أمورا ‪ ،‬منها ‪:‬‬
‫أوال ‪ :‬وصف ه @@ذا احلدث ال @@ذي أث @@ار البلبلة ىف اخلواطر ‪ ،‬واالض @@طراب ب @@النفوس ـ‬
‫بأنه «إفك» ‪ ..‬واإلفك هو االفرتاء ‪ ،‬وخلق األباطيل ‪ ،‬ونسجها من الكذب والبهتان ‪..‬‬
‫ك) الذي جرى على ألس@@نة املؤتفكني ‪ ،‬ىف ص@@ورة جم ّس@دة‬ ‫وثانيا ‪ :‬تصوير هذا (بِاإْلِ فْ ِ‬
‫‪ ،‬وأنّه شىء جملوب جاءوا به من عامل الظالم ‪ ،‬وتعاملوا به ‪ ،‬وتب@ادلوه ‪ ،‬فيما بينهم ‪ ،‬كما‬
‫ك)‬‫يتبادلون النقد الزائف ‪( :‬جا ُؤ بِاإْلِ فْ ِ‬
‫ـك) واس @@توردته من ظنوهنا الس @@يئة ‪،‬‬ ‫وثالثا ‪ :‬وصف اجلماعة اليت جلبت ه@ @@ذا (بِاإْلِ فْ ـ ِ‬
‫صبَةٌ) تداعت على اإلفك ‪،‬‬ ‫وأوهامها الضالة ـ وصفها بأهنا (عُ ْ‬
‫‪1231‬‬

‫واجتمعت عليه ‪ ،‬وأص@ @@بحت عص@ @@بة له ‪ ،‬ملا بينها من عالئق التالحم ‪ ،‬والرتابط ‪ ،‬والتوافق‬
‫الشر ‪..‬‬
‫‪ ،‬ىف فساد العقيدة ‪ ،‬وضعف اإلميان ‪ ،‬واالجنذاب حنو ّ‬
‫ورابعا ‪ :‬أن ه@@ذه العص@@بة اليت ج@@اءت باإلفك ـ ش@@أهنا ىف ذلك ش@@أن كل عص@@بة ـ هلا‬
‫رأس فاسد يقودها إىل الش @ @ ّ@ر ‪ ،‬وجيمعها عليه ‪ ..‬ومن وراء ه @ @@ذا ال @ @@رأس ‪ ،‬أعض @ @@اء ‪ ،‬تعمل‬
‫معه ‪ ،‬ولكل عضو مكانه ودوره الذي يقوم به‪.‬‬
‫وخامسا ‪ :‬ه@@ذه العص@@ابة اآلمثة اليت ج@@اءت هبذا اإلفك ـ هلا حس@@اهبا ‪ ،‬وجزاؤها عند‬
‫اهلل ‪ ..‬أما زعيمها ‪ ،‬ول @@ذى ت @@وىّل كرب أمرها ‪ ،‬فله ع @@ذاب عظيم ‪ ،‬أض @@عاف ما يلق @@اه غ @@ريه‬
‫من الذين معه ‪..‬‬
‫وسادسا ‪ :‬هذا احلديث اآلمث ‪ ،‬وإن ب@دا ىف ظ@اهره أنه ش ّ@ر ت@أذّت به النف@وس الط@اهرة‬
‫‪ ،‬وض@@اقت به الص@@دور الكرمية ـ فإنه حيمل ىف طيّاته خ@@ريا كث@@ريا ‪ ،‬حني ينجلى ه@@ذا ال@@دخان‬
‫‪ ،‬ويتب@@دد ه@@ذا الض@@باب ‪ ،‬فيس@@فر وجه احلق ‪ ،‬ويكشف عن آية من آي@@ات اهلل ‪ ،‬ىف الطّهر ‪،‬‬
‫والتصون ‪..‬‬
‫ّ‬ ‫والع ّفة ‪،‬‬
‫وحديث اإلفك ـ كما ي@@روى ـ هو أن أم املؤم@@نني «عائش@@ة» رضى اهلل عنها ‪ ،‬ك@@انت‬
‫@ىب صلى‌هللا‌عليه‌وسلم ىف إح@@دى غزواته ‪ ،‬ويق@@ال إهنا غ@@زوة ـ بىن املص@@طلق ـ‬ ‫ىف ص@@حبة الن@ ّ‬
‫بالرحيل‬‫وىف طريق العودة ‪ ،‬نزل النيب ـ صلى‌هللا‌عليه‌وسلم ـ وأصحابه منزال ‪ ،‬فلما آذنوا ّ‬
‫‪ ،‬ك @@انت أم املؤم @@نني ‪ ،‬عائشة ‪ ،‬تقضى حاجة هلا ‪ ،‬بعي @@دا عن هودجها ال @@ذي ك @@انت حتمل‬
‫عليه ‪ ،‬وإذ ك@@انت ىف عجلة من أمرها ‪ ،‬فقد افتق@@دت عق@@دا هلا ‪ ..‬فلما التمس@@ته ومل جتده ‪،‬‬
‫وهى ىف طريقها إىل هودجها ‪ ،‬ع@ @ @ @ @ @ @ @ @@ادت تبحث عنه ‪ ،‬فلما وجدته ‪ ،‬وأس@ @ @ @ @ @ @ @ @@رعت لتأخذ‬
‫مكاهنا ىف رحلها ‪ ،‬ك@@ان الق@@وم قد احتمل@وه ‪ ،‬وك@@انت ص@غرية ‪ ،‬خفيفة اللحم ‪ ،‬فلم ينتبه@وا‬
‫إىل شىء مما حدث ‪ ،‬وظنوا أهنا ىف الرحل الذي محلوه ‪..‬‬
‫‪1232‬‬

‫@ىب وأص @@حابه قد بع @@دوا عنها ‪ ،‬وهم على يقني‬ ‫وحني وص @@لت إىل مكاهنا ‪ ،‬ك @@ان الن @ ّ‬
‫من أهنا ىف هودجها ‪ ،‬على راحلتها اليت يقودوهنا معهم ‪..‬‬
‫وال@@ذي ص@@نعته أم املؤم@@نني عائشة ىف تلك احلال ‪ ،‬هو أهنا جلست ىف مكاهنا ‪ ،‬تنتظر‬
‫عودة من يعود إليها من القوم ‪ ،‬بعد أن يفتقدوها ىف الرحل ‪ ،‬فال جيدوها ‪..‬‬
‫وك@@ان من الع@@ادة أن يتخلّف وراء الق@@وم من ينتدبونه ‪ ،‬لينظر ‪ ..‬إذا اس@@تبان النه@@ار ـ‬
‫فيما خلّف@ @ @ @ @ @@وه وراءهم من أدواهتم ‪ ،‬وأمتعتهم ‪ ،‬فيلتقطها ‪ ،‬وحيملها معه إىل أص@ @ @ @ @ @@حاهبا ‪..‬‬
‫وذلك أهنم كانوا يرحتلون ليال ‪ ،‬فتن ّد عنهم بعض األشياء اليت حيجبها الظالم عنهم ‪..‬‬
‫املهمة ‪ ..‬فلما‬‫وقد ك@@ان «ص@@فوان بن املعط@@ل» ـ رض@@وان اهلل عليه ـ هو املنت@@دب هلذه ّ‬
‫اس@ @@تبان ض@ @@وء النه@ @@ار ‪ ،‬وج@ @@اء حيث ك@ @@ان م@ @@نزل الرس@ @@ول وأص@ @@حابه ىف تلك الليلة ‪ ،‬رأى‬
‫سوادا ‪ ،‬مل يتبيّنه أول األمر ‪ ،‬وظنّه متاعا من أمتعة القوم ‪ ،‬فلما داناه رأى كائنا يتحرك ىف‬
‫@ىب ـ فلم ير ألم املؤم@@نني ‪ ،‬وجها ‪ ،‬ولكنه‬ ‫داخله ـ وك@@ان احلج@@اب قد ض@@رب على نس@@اء الن@ ّ‬
‫@ىب‬
‫ع@@رف أهنا أم املؤم@@نني ‪ ،‬فاس@@رتجع ‪ ،‬مث أن@@اخ هلا بع@@ريه ‪ ،‬فركبته ‪ ،‬وق@@اده هبا حىت أدرك الن@ ّ‬
‫وأصحابه ىف بعض الطريق ‪ ..‬دون أن ينطق بكلمة‪.‬‬
‫هذا هو جممل القصة ‪..‬‬
‫أىب بن س@ @ @@لول ـ أخ@ @ @@ذوا يتهامس@ @ @@ون‬‫ولكن املن@ @ @@افقني ـ وعلى رأس@ @ @@هم عبد اهلل بن ّ‬
‫ويتغ@@امزون ‪ ،‬مث حتول مهس@@هم وتغ@@امزهم إىل اهتام ص@@ريح ألم املؤم@@نني ‪ ،‬على ه@@ذا الص@@حايب‬
‫اجلليل ‪ ،‬ص @@فوان بن املعط @@ل‪ !.‬مث أخذ ه @@ذا احلديث ي @@دور ىف املدينة ‪ ،‬واملن @@افق عبد اهلل بن‬
‫أىب ينفخ فيه ‪ ،‬حىت أص@ @ @@بح ن@ @ @@ارا مش@ @ @@تعلة ‪ ،‬علقت بأذي@ @ @@ال املس@ @ @@لمني ‪ ،‬وأكلت كث@ @ @@ريا من‬
‫ّ‬
‫القل@ @@وب املؤمنة ‪ ..‬كما أهنا أكلت ما بقي من إميان ىف قل@ @@وب املن@ @@افقني وال@ @@ذين ىف قل@ @@وهبم‬
‫مرض!‬
‫‪1233‬‬

‫أىب‬
‫@ىب صلى‌هللا‌عليه‌وسلم ‪ ،‬قالة املن @@افقني ‪ ،‬وعلى رأس @@هم عبد اهلل بن ّ‬ ‫وقد بلغ الن @ ّ‬
‫‪ ..‬واستأذن بعض الصحابة رسول اهلل صلى‌هللا‌عليه‌وسلم ىف قتل ه@@ذا املن@@افق ‪ ،‬وقتل من‬
‫كان على شاكلته ‪ ،‬ولكن رسول اللهصلى‌هللا‌عليه‌وسلم أىب عليهم ذلك ‪ ،‬وف@ ّ@وض أم@@ره‬
‫إىل اهلل ‪ ،‬ىف هذا املنافق ومن معه ‪..‬‬
‫أما أم املؤمنني ‪ ،‬فإهنا كانت ىف غفلة عن هذا الذي يتح ّدث به املن@افقون ىف ش@أهنا ‪،‬‬
‫وك@ @@انت ىف تلك األي@ @@ام متوعكة ‪ ،‬تالزم فراش@ @@ها ـ ورمبا ك@ @@ان ذلك ملا أص@ @@اهبا من مش@ @@قة‬
‫@ىب صلى‌هللا‌عليه‌وسلم عنها ‪ ،‬إال‬ ‫الس @@فر ‪ ..‬وقد استش @@عرت بطبيعة األن @@ثى إعراضا من الن @ ّ‬
‫أهنا مل تعرف لذلك سببا ‪..‬‬
‫كل ه@@ذا ‪ ،‬واحلديث ي@@دور حوهلا ‪ ،‬والعاص@@فة تزجمر عن ميينها ومشاهلا ‪ ،‬وهى الغافلة‬
‫عن كل ه @@ذا ‪ ،‬غفلة أهل ال@@رباءة ‪ ،‬املش @@غولة ب@@دينها عن دنياها ‪ ،‬ش @@غل املؤم @@نني بالس @@ماء ‪،‬‬
‫عما يشغل به الناس ىف األرض ‪..‬‬
‫وىف ليلة ‪ ..‬خ @@رجت أم املؤم @@نني ‪ ،‬مع قريبة هلا ‪ ،‬هى أم مس @@طح ‪ ،‬لقض @@اء حاجة ىف‬
‫اخلالء ‪ ..‬وك@@ان أن ع@@ثرت أم مس@@طح أو تعم@@دت العث@@ار ‪ ،‬لتنطق بتلك الكلمة اليت تريد أن‬
‫تلقى هبا إىل أمساع أم املؤم @@نني ‪ ،‬ولتتخذ منها م @@دخال إىل احلديث ال @@ذي تريد أن تفضى به‬
‫إليها ‪ ،‬وهى ىف غفلة عنه ـ فق @@الت أم مس @@طح حني ع @@ثرت أو تع @@اثرت ‪« :‬تعس مس @@طح»‬
‫تريد ابنها مس@ @@طحا! فق@ @@الت أم املؤم@ @@نني بئس ما قلت يا أم مس@ @@طح ىف رجل ش@ @@هد ب@ @@درا!‬
‫فق @@الت أم مس @@طح ‪ :‬ال ‪ ،‬وتعسا ل @@ه!! أما مسعت ما يق @@ول مس @@طح؟ فق @@الت وما يق @@ول؟ ‪..‬‬
‫فأخربهتا ما ي@ @ @ @ @@دور على األلس@ @ @ @ @@نة من ح@ @ @ @ @@ديث اإلفك ‪ ،‬ومن التهمة الظاملة اليت يرميها هبا‬
‫املنافقون ‪ ،‬ويتلقاها عنهم كثري من الثرثارين ‪ ..‬ومنهم مسطح!!‬
‫@ىب منها ‪،‬‬‫وهنا تنبهت أم املؤم @@نني إىل ما ك @@انت غافلة عنه ‪ ،‬واس @@رتجعت موقف الن @ ّ‬
‫وعرفت سبب إعراضه عنها ‪ ،‬وأنه مل يكن لذلك من سبب إال هذا احلديث ‪،‬‬
‫‪1234‬‬

‫@ىب ـ ص@ @@لوات اهلل وس@ @@المه عليه ـ قد وقع منه ه@ @@ذا احلديث موقعا ‪ ..‬فك@ @@ربت هلذا‬ ‫وأن الن@ @ ّ‬
‫واض @ @@طربت ‪ ،‬ورجعت إىل ال @ @@بيت حممومة يك @ @@اد يقتلها األسى ‪ ،‬ويف @ @@رى كب @ @@دها األمل! مث‬
‫اس@ @@تأذنت رس@ @@ول اهلل صلى‌هللا‌عليه‌وس لم لتم@ @ ّ@رض عند أبويها ‪ ..‬ف@ @@أذن هلا!! ‪ ..‬وك@ @@ان‬
‫@ىب هلا ‪ ..‬فلما أذن هلا‬ ‫ذلك مما ض @ @@اعف ىف بلوهتا ‪ ،‬ألهنا ما اس @ @@تأذنت إال ل @ @@رتى ما عند الن @ @ ّ‬
‫عرفت ما هناك!‬
‫مث ك@@ان ح@@ديث عاصف ث@@ائر ‪ ،‬ك@@ادت تزل@@زل به أرك@@ان ه@@ذا ال@@بيت الك@@رمي ‪ ،‬بيت‬
‫الص ّديق رضى اهلل عنه ‪..‬‬
‫وال حنسب أن أم @@را ع @@رض ألىب بكر ‪ ،‬منذ ص @@حب الرس @@ول إىل ه @@ذا الي @@وم ‪ ،‬ك @@ان‬
‫أش @ ّد وقعا عليه ‪ ،‬وابتالء لص @@ربه ‪ ،‬وإميانه ‪ ،‬وإيث @@اره لرس @@ول اهلل صلى‌هللا‌عليه‌وسلم ـ من‬
‫ه@@ذا األمر ‪ ،‬ال@@ذي هيأ نفسه فيه لتق@@دمي ابنته ‪ ،‬وش@@رفه ‪ ،‬على م@@ذبح التض@@حية والف@@داء ‪ ،‬ىف‬
‫سبيل اهلل ‪ ،‬ومن أجل رسول اهلل ‪..‬‬
‫إنه ـ رضوان اهلل عليه ـ مل ينظر إىل نفسه ‪ ،‬وال إىل ابنته ‪ ،‬وإمنا نظر إىل رس@@ول اهلل ‪،‬‬
‫@ود خملصا أن لو ن@ @ @ @@زل طري من الس@ @ @ @@ماء ‪،‬‬ ‫وما أص@ @ @ @@ابه ىف نفسه من ه@ @ @ @@ذا األمر ‪ ..‬وإنه لي@ @ @ @ ّ‬
‫ف @@اختطف ابنته ‪ ،‬أو انش @@قت األرض فابتلعتها ‪ ،‬إذ ك @@انت ـ ىف نظ @@ره يومئذ ـ هى الش @@وكة‬
‫اليت شاك هبا املشركون واملنافقون رسول اهلل ‪ ..‬وإنه ال ش@ىء أبغض إىل الص@ديق ـ رض@وان‬
‫اهلل عليه ـ من شىء جيىء إىل رسول اهلل منه ما يس@@وؤه ‪ ،‬ولو ك@@انت نفسه اليت بني جنبيه ‪،‬‬
‫أو كانت فلذة كبده ‪ ..‬عائشة ‪ ،‬رضوان اهلل عليها!‬
‫إن الص ّديق ـ رضوان اهلل عليه ـ مل يكن ينظر إىل تلك الفرية إال من حيث ما أص@@اب‬
‫الرسول منها من أذى ‪..‬‬
‫@يب ‪ ..‬والص @ @ ّديق ال‬‫وس@ @@واء أص@ @@حت عن@ @@ده تلك التهمة أو مل تصح ‪ ..‬فإهنا آذت الن@ @ ّ‬
‫ضر ‪ ،‬بعيدا عن كل‬ ‫النىب معاىف من كل ّ‬ ‫يهمه ىف الدنيا شىء ‪ ،‬إال أن يرى ّ‬
‫‪1235‬‬

‫أذى ‪ ..‬أما ما وراء ذلك ـ وإن عظم ـ فهو هني ‪ ،‬ميكن أن تتحمله النفس وتصرب عليه ‪..‬‬
‫ومن هنا ندرك ‪ ،‬ما كان يعاجله الص ّديق من مهوم ‪ ،‬وما يعاينه من آالم! ‪..‬‬
‫فهو ـ كم@ؤمن من املؤم@نني ‪ ،‬وأك@ثرهم محال ألعب@اء اإلس@الم ـ قد أخذ بنص@يبه األوىف‬
‫من تلك التهمة ‪..‬‬
‫مث هو ك@ @ @ @ @ @@أكثر املؤم@ @ @ @ @ @@نني حبّا لرس@ @ @ @ @ @@ول اهلل ‪ ،‬وتعلقا به ‪ ،‬وإيث@ @ @ @ @ @@ارا له ‪ ..‬قد ذهب‬
‫بالنصيب األوفر منها ‪..‬‬
‫مث هو كأب ألم املؤمنني ‪ ،‬وكسيد من س@@ادات الق@@وم ‪ ،‬حيرص على ش@@رفه ـ قد أخذ‬
‫نصيبه كامال منها ‪..‬‬
‫ومع ه @@ذا كله ‪ ،‬ومع تلك األعب @@اء الثق @@ال اليت محلها ـ فإنه ـ رض @@وان اهلل عليه مل ير‬
‫@ىب ما محل‬‫حيب ‪ ،‬ومل يس@معه إال ما يرض@@يه ‪ ..‬وإنه لو اس@تطاع أن حيمل عن الن ّ‬ ‫@ىب إال ما ّ‬ ‫الن ّ‬
‫ِ‬
‫ـل َواهللُ ال ُْم ْسـتَعا ُن َعلى‬ ‫من هذا األمر لفعل ‪ ..‬ولكنه كان أبدا مع قوله تعاىل ‪( :‬فَ َ‬
‫ص ْب ٌر َجميـ ٌ‬
‫ما تَ ِ‬
‫ص ُفو َن ‪)..‬‬
‫ومن هنا أيضا ن @@درك بعض الس @ ّ@ر ىف أن ك @@ان من ت @@دبري اهلل س @@بحانه وتع @@اىل ‪ ،‬ومن‬
‫فض @@له العظيم على أىب بكر وإحس @@انه العميم إليه ‪ ..‬أن تت @@نزل رمحات اهلل على ه @@ذا ال @@بيت‬
‫@ماوى‬
‫الك@@رمي ‪ ،‬ال@@ذي تع@@رض هلذه العاص@@فة اهلوج@@اء اجملنونة ‪ ،‬وأن يطلع منه ه@@ذا الن@@ور الس@ ّ‬
‫الوه@ @@اج ‪ ،‬ال@ @@ذي يفضح دع@ @@اة اإلفك ‪ ،‬وخيزيهم ‪ ،‬ويس@ @@مهم بس@ @@مات الذلة ‪ ،‬ويقيمهم ىف‬
‫قفص االهتام إىل ي@وم ال@دين ‪ ،‬حيث ينظر إليهم نظ@رة اهتام ‪ ،‬ك ّ@ل ق@ارئ لكت@اب اهلل ‪ ،‬مرتل‬
‫لتلك اآليات البينات ‪ ،‬اليت نزل هبا الروح األمني على الرسول الكرمي ‪ ،‬ىف بيت الص@ ّديق ‪،‬‬
‫وعلى مشهد‬
‫‪1236‬‬

‫منه ‪ ،‬ومن أهله مجيعا ‪..‬‬


‫ففى زورة للرس@@ول ـ ص@@لوات اهلل وس@@المه عليه ـ آلل أىب بكر ‪ ،‬وهم ىف ه@@ذه احملنة‬
‫القاس @@ية ‪ ،‬وىف أثن @@اء ح @@ديث مرير ‪ ،‬ح @@رج ‪ ،‬م @@زعج ‪ ،‬بني رس @@ول اهلل ‪ ،‬وبني أم املؤم @@نني ـ‬
‫هتب على ه@ @@ذا اجلمع الك@ @@رمي ريح طيبة ‪ ،‬ك@ @@أطيب ما يك@ @@ون الطيب ‪ ،‬وخيلص إىل نف@ @@وس‬ ‫ّ‬
‫اجلمع منها ‪ ،‬أنف@@اس عط@@رة ‪ ،‬تش@@يع الس@@كينة ‪ ،‬واألمن ‪ ،‬والرضا ‪ ،‬فيجد هلا كل من ض@@مه‬
‫ه @@ذا اجمللس الطيّب ىف رح @@اب ه @@ذا ال @@بيت الك @@رمي ـ نغما علويا ‪ ،‬يص @@دح بأحلان مس @@عدة ‪،‬‬
‫@زف بني ي@@ديها آي@@ات اهلل حممولة على أجنحة نورانية ‪ ،‬ت@@رف ح@@ول رس@@ول اهلل ‪ ،‬وتوشك‬ ‫ت@ ّ‬
‫أن تشتمل عليه ‪..‬‬
‫@النيب ‪ ،‬وتس@@كن اجلوارح ‪،‬‬‫وميسك القوم عن احلديث بعد أن اتصل رسول الس@@ماء ب@ ّ‬
‫وتبهر األنفاس ‪ ،‬وتتعلق األبصار برسول اهلل ‪ ،‬وما غشيه من ه@@ذا الن@@ور املت@@دفق من الس@@ماء‬
‫‪..‬‬
‫ويأخذ الرسول ـ صلوات اهلل وسالمه عليه ـ ما يأخذه من الوحى ‪ ،‬والقلوب واجفة‬
‫‪ ،‬واألبص@@ار زائغ@@ة‪ .‬والنف@@وس قلقة ‪ ..‬ال ي@@درى أحد ما ج@@اءت به الس@@ماء ‪ ،‬وما يك@@ون هلا‬
‫من ح@ @@ديث عن ه@ @@ذا احلدث الص@ @@اعق! وإن ك@ @@انت الس@ @@يدة عائشة على إميان وثيق برهّب ا ‪،‬‬
‫وعلى ثقة مطلقة بطهرها ‪ ،‬وبراءهتا ـ فإهنا ما ك@@انت تتوقع ـ كما ك@@انت حتدث عن نفس@@ها‬
‫فيما بعد ـ أن ي@@نزل ىف ش@@أهنا ق@@رآن ‪ ،‬وأن تت@@نزل من الس@@ماء آي@@ات تز ّكيها ‪ ،‬وت@@دمغ الب@@اغني‬
‫عليها!‪.‬‬
‫فلما انفصل الوحى عن رس@ول اهلل ‪ ،‬وس ّ@رى عنه ـ نطق وجهه الك@رمي بش@را ‪ ،‬ون@ورا‬
‫‪ ،‬قبل أن ينطق لس@@انه مبا ن@@زل على قلبه من كلم@@ات ربه ‪ ..‬وع@@رفت الس@@يدة عائشة ‪ ،‬ومن‬
‫معها أن قرآنا قد ن@ @@زل برباءهتا ‪ ..‬وما هى إال حلظة ـ م@ @@رت كأهنا دهر ـ حىت أقبل رس@ @@ول‬
‫اللهصلى‌هللا‌عليه‌وس لم على عائشة ق @ @@ائال ‪« :‬أبش @ @@رى يا عائش @ @@ة‪ .‬أما اهلل عزوجل فقد‬
‫ّبرأك»!! فقالت ‪ :‬حبمد اهلل ال حبمدك!‬
‫‪1237‬‬

‫فق @@الت هلا أمها ‪ :‬ق @@ومى لرس @@ول اهلل صلى‌هللا‌عليه‌وسلم ‪ ..‬فق @@الت ‪ :‬واهلل ال أق @@وم إليه ‪،‬‬
‫وال أمحد إال اهلل عزوجل ال @ @@ذي أن @ @@زل ب @ @@راءيت»!! إهنا ث @ @@ورة احلرة على ش @ @@رفها ‪ ،‬وعلى‬
‫@ىب ال@ @@ذي ش@ @@رفت بزواجها منه ‪ ،‬وعلى ش@ @@رف بيت النب@ @ ّ@وة ال@ @@ذي ض@ @ ّ@مت إليه ‪،‬‬ ‫ش@ @@رف الن@ @ ّ‬
‫وعلى شرف بيت الصديق الذي نبتت منه!!‪@.‬‬
‫وهتدأ العاصفة ‪ ،‬وختمد نار الفتنة ‪ ،‬وخيرج أبو بكر وآله من ه@@ذه احملنة ب@@أعظم مغنم‬
‫@ت‬‫‪ ،‬مل يكن ألحد من املؤم@@نني أن يش@@اركه فيه ‪ ..‬فقد ن@@زل ال@@وحى ىف بيت أىب بكر ‪ ،‬بس@ ّ‬
‫عشرة آية من القرآن الكرمي ‪ ،‬هى ىف شأن أىب بكر ‪ ،‬وبنت أىب بكر!‬
‫لقد كان املس@لمون يتعب@دون فيما يتعب@دون به من آي@ات الق@رآن الك@رمي ‪ ،‬بقوله تع@اىل‬
‫ين َك َف ـ ُـروا ث ــانِ َي ا ْثَن ْي ِن إِ ْذ ُهما فِي الْغ ــا ِر ‪ ،‬إِ ْذ‬ ‫َّ ِ‬
‫صـ ـ َرهُ اهللُ إِ ْذ أَ ْخ َر َجــهُ الذ َ‬ ‫‪( :‬إِاَّل َت ْن ُ‬
‫صـ ـ ُروهُ َف َقـ ـ ْد نَ َ‬
‫ِ ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ي ُقـ ُ ِ ِ ِ ِ‬
‫ـول لص ــاحبه ال تَ ْحـ َـز ْن إِ َّن اهللَ َم َعنا ‪ ..‬فَـ ـأَْن َز َل اهللُ َسـ ـكينَتَهُ َعلَْي ــه َوأَيَّ َدهُ ب ُجنُ ــود ل ْ‬
‫َم َت َر ْوها ‪،‬‬ ‫َ‬
‫ِ‬ ‫ِ ِِ‬ ‫ِ َّ ِ‬
‫يم) (‪ : 40‬التوب@ة)‬ ‫الس ْفلى ‪َ ،‬و َكل َمةُ اهلل ه َي الْعُلْيا َواهللُ َع ِز ٌيز َحك ٌ‬ ‫ين َك َف ُروا ُّ‬ ‫َو َج َع َل َكل َمةَ الذ َ‬
‫ـ وإهنم منذ اآلن ليتعب@@دون إىل آخر ه@@ذه احلي@@اة ال@دنيا ‪ ،‬بتلك اآلي@@ات الست عش@@رة أيضا ‪..‬‬
‫وك@@أ ّن ذلك اس@@تغفار متصل من املؤم@@نني مجيعا ألىب بكر ‪ ،‬وبنت أىب بكر ‪ ،‬من ه@@ذا املنكر‬
‫الذي جاءت به عصبة من املؤمنني!‪.‬‬
‫وانظر إىل ت @@دبري اهلل س @@بحانه ‪ ،‬وإىل غي @@وث رمحته ‪ ،‬وس @@وابغ فض @@له على املخلصني‬
‫من عباده ‪..‬‬
‫@ىب ‪ ،‬وإخراجه من بل@@ده ‪ ،‬واملس@@جد احلرام ‪ ،‬غاية ما وصل إليه‬ ‫لقد ك@@انت هج@@رة الن@ ّ‬
‫للنىب ‪ ،‬ىف مشاعره‪.‬‬
‫املشركون من إيذاء ّ‬
‫وكان «الغار» على طريق اهلجرة ‪ ،‬الغاية القصوى ملا كان ميكن أن‬
‫‪1238‬‬

‫@ىب وص @@احبه الص @@ديق ‪ ،‬لو أهنم ظف @@روا هبما ‪ ،‬وقد ك @@انوا على بضع‬ ‫يبلغه املش @@ركون من الن @ ّ‬
‫خطوات منهما!!‬
‫وإنه ليس هلذه اآلالم النفسية القاسية من شفاء إال ىف آيات اهلل ‪ ،‬اليت يق@@ول س@بحانه‬
‫ين ‪ : 82( )..‬اإلس@@راء) وقد‬ ‫آن ما ُهــو ِشـفاء ور ْحمـ ةٌ لِل ِ ِ‬ ‫وتع@@اىل فيها ‪( :‬ونَُن ِّز ُل ِمن الْ ُقر ِ‬
‫ْم ْـؤمن َ‬
‫ٌ ََ َ ُ‬ ‫َ‬ ‫َ ْ‬ ‫َ‬
‫صـ َرهُ اهللُ ‪ )..‬فأخذ أو بكر نص@@يبه من ه@@ذا‬ ‫نزل ما فيه الشفاء والرمحة ‪( :‬إِاَّل َت ْن ُ‬
‫ص ُروهُ َف َق ْد نَ َ‬
‫من الشفاء والرمحة‪.‬‬
‫وىف ح@ @@ديث اإلفك ‪ ،‬ك@ @@ان املن@ @@افقون ومرضى القل@ @@وب من املس@ @@لمني ‪ ،‬ميثّل@ @@ون دور‬
‫@ىب ىف مش@اعره ‪ ،‬وىف ال@دعوة اليت يق@@وم عليها ‪ ،‬إذ أن ه@ذا‬ ‫املشركني ىف مكة ‪ ..‬لقد آذوا الن ّ‬
‫احلديث لو جرى إىل غايته ‪ ،‬ومل تعاجله الس@@ماء هبذا ال@دواء الرب@@اين ‪ ،‬لك@@ان مع@@وال يه@دم ىف‬
‫ص @@رح اإلس @@الم ‪ ،‬ال@@ذي مل يتم بن @@اؤه بعد ‪ ،‬ولك@@ان ىف يد ال @@ذين يكي @@دون هلذا ال @@دين حجة‬
‫@ىب على حرماته ومقدس@@اته ‪ ،‬ال خيافون عق@@اب اهلل ‪ ،‬وال‬ ‫قوية عليه ‪ ،‬ىف عدوان أص@@حاب الن@ ّ‬
‫ي@@وقّرون ال@@ذي ي@@دعوهم إىل اهلل ‪ ..‬ولك@@ان لقائل أن يق@@ول ‪ :‬إن أص@@حاب حممد ه@@ؤالء ‪ ،‬لو‬
‫وج@@دوا ىف ه@@ذا ال@@دين ‪ ،‬أو ىف الداعية إىل ه@@ذا ال@@دين ما يبعث ىف قل@@وهبم خش@ية ‪ ،‬أو توق@@ريا‬
‫ملا جرؤ أحدهم على فعل هذا الذي جيرى به هذا احلديث األثيم!‬
‫@ىب ‪ ،‬ومعه@ ص@@احبه أبو بكر ‪ ،‬ومعه@ املؤمن@@ون الص@@ادقون ‪ ،‬جيدون‬ ‫نعم ‪ ..‬لقد ك@@ان الن@ ّ‬
‫من وقع ألس@@نة ال@@ذين ج@@اءوا هبذا اإلفك ‪ ،‬ما ك@@انوا جيدونه وهم ىف مكة على يد املش@@ركني‬
‫ضر وأذى ‪..‬‬ ‫‪ ،‬وما يرموهنم به من ّ‬
‫@ىب للس@ @@يدة عائشة ‪ ،‬وقب@ @@ول انتقاهلا إىل بيت أبويها لتم@ @ ّ@رض هن@ @@اك‬ ‫وك@ @@ان ف@ @@راق الن@ @ ّ‬
‫وتستش@@فى مما أملّ هبا ‪ ،‬أش@@به بفراقه ـ ص@@لوات اهلل وس@@المه عليه ـ لبل@@ده ‪ ،‬وأهله ‪ ،‬إىل حيث‬
‫يطلب السالمة والعافية ‪ ،‬ىف مهاجره الذي هاجر إليه‪.‬‬
‫‪1239‬‬

‫مث ك @@ان بيت الص @@ديق ‪ ،‬ال @@ذي أوت إليه أم املؤم @@نني أش @@به «بالغ @@ار» ‪ ..‬حيث ك @@ثر‬
‫الطلب للح @ @@ديث عنها ‪ ،‬وعلت األص @ @@وات اخلافتة للقالة فيها ‪ ،‬بعد أن خ @ @@رجت من بيت‬
‫النىب ‪ ،‬إىل بيت أبويها ‪..‬‬ ‫ّ‬
‫@رد للنف@ @ @ @ @@وس‬
‫مث مل يكن هلذا البالء العظيم إال ما ي@ @ @ @ @@نزل من رمحة الس@ @ @ @ @@ماء ‪ ،‬حىت ي@ @ @ @ @ ّ‬
‫الط@ @ @ @ @ @ @@اهرة اعتبارها ‪ ،‬ويأخذ هلا حبقها ‪ ،‬وجيزيها اجلزاء العظيم على ص@ @ @ @ @ @ @@ربها واحتماهلا ‪..‬‬
‫ف @ @@نزلت تلك اآلي@ @ @@ات الست عش@ @ @@رة ‪ ،‬اليت رفعت ق @ @@درا رفعه اهلل وأراد املن @ @@افقون ومن ىف‬
‫قل@ @ @@وهبم م@ @ @@رض أن ين@ @ @@الوا منه ‪ ..‬فك@ @ @@ان أن زاده اهلل رفعة إىل رفعة ‪ ،‬وش@ @ @@رفا إىل ش@ @ @@رف ‪،‬‬
‫وذكرا باقيا خالدا على الدهر ‪ ..‬وهذا ما يشري اليه قوله تعاىل ‪:‬‬
‫ص ـبَةٌ ِم ْن ُك ْم ال تَ ْح َس ـبُوهُ َش ـ ًّرا لَ ُك ْم ‪ ،‬بَـ ْـل ُهـ َـو َخ ْيـ ٌـر لَ ُك ْم ‪)..‬‬
‫ـك عُ ْ‬ ‫(إِ َّن الَّ ِذين جــا ُؤ بِاإْلِ فْـ ِ‬
‫َ‬
‫وأي خري أعظم من هذا اخلري؟ وأي شىء ىف الدنيا كلها يعدله ‪ ،‬أو يعدل بعضا منه؟‬
‫***‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫ـك ُمبِ ٌ‬
‫ين)‬ ‫نات بِأَْن ُف ِس ِه ْم َخ ْيراً َوقــالُوا هــذا إِفْـ ٌ‬ ‫(ل َْو ال إِ ْذ َس ِم ْعتُ ُموهُ ظَ َّن ال ُْم ْؤ ِمنُو َن َوال ُْم ْؤ ِم ُ‬
‫‪..‬‬
‫احلث على إتي@@ان األمر‬ ‫لو ال ‪ :‬ح@@رف حتض@@يض ‪ ،‬مبعىن هاّل ‪ ..‬فهو اس@@تفهام ي@@راد به ّ‬
‫املستفهم عنه ‪..‬‬
‫واملعىن ‪ :‬لقد ك@ @ @ @@ان من اخلري لكم أيها املؤمن@ @ @ @@ون وأيتها املؤمن@ @ @ @@ات ‪ ،‬إذ مسعتم ه@ @ @@ذا‬
‫املنكر ـ أن تنك@@روه ‪ ،‬وت@@ردوه على أهله ال@@ذين ج@@اءوا به ‪ ..‬حيث أن اليت ت@@رمى به ‪ ،‬ام@@رأة‬
‫مؤمنة منكم ‪ ،‬بل هى أم املؤمنني ‪ ،‬وزوج الرسول الكرمي ‪ ..‬وكل صفة من تلك الص@@فات‬
‫هى وحدها أمان هلا من الزلل والعثار ‪ ،‬ووازع قوى يزعها عن االعت@@داء على ح@@دود اهلل ‪،‬‬
‫فكيف إذا اجتمعت هلا هذه الصفات مجيعها؟ ‪..‬‬
‫‪1240‬‬

‫وىف قوله تعاىل ‪( :‬ظَ َّن ال ُْم ْؤ ِمنُو َن َوال ُْم ْؤ ِم ُ‬


‫نات بِأَْن ُف ِس ِه ْم َخ ْيراً) أمور ‪ ..‬منها ‪:‬‬
‫أوال ‪ :‬اإلش@ @ @@ارة إىل تلك الرابطة القوية الوثيقة ‪ ،‬اليت تربط املؤم@ @ @@نني مجيعا بعض@ @ @@هم‬
‫ببعض ‪ ،‬حبيث يكون ما يعرض ألح@@دهم من ع@@ارض مي ّس@ه ‪ ،‬ىف نفسه ‪ ،‬أو دينه ‪ ،‬أو مقامه‬
‫ىف جمتمعه ـ هو مص@ @@اب يص@ @@اب به اجملتمع املؤمن كلّه ‪ ..‬ف@ @@املؤمنون كما وص@ @@فهم الق@ @@رآن‬
‫الك@ @ @@رمي (إِ ْخـ ـ َـوةٌ) كما يق@ @ @@ول س@ @ @@بحانه ‪( :‬إِنَّ َما ال ُْم ْؤ ِمنُ ـ ــو َن إِ ْخـ ـ َـوةٌ ‪ )..‬مث هم كما وص@ @ @@فهم‬
‫الرس @@ول الك @@رمي «جس @@د» حبكم ه @@ذا الرب @@اط األخ @@وة ال @@ذي ي @@ربطهم ‪ ،‬ويشد بعض @@هم إىل‬
‫@وادهم وت @@رامحهم‬‫بعض ‪ ..‬يق @@ول الرس @@ول ـ ص @@لوات اهلل وس @@المه عليه «مثل املؤم @@نني ىف ت @ ّ‬
‫كمثل اجلسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر األعضاء باحلمى والسهر»‪.‬‬
‫وثانيا ‪ :‬اإلش @ @@ارة إىل أن املؤمن ح ّقا ‪ ،‬إمنا ينظر إىل املؤم @ @@نني من خالل نفسه ‪ ،‬ف@ @@إذا‬
‫ك @@ان على الس @@المة ىف دينه ‪ ،‬واالس @@تقامة ىف طريقه ‪ ،‬رأى املؤم @@نني مجيعا مثله ‪ ،‬على تلك‬
‫الص @@فة ‪ ..‬وه@@ذا من ش@@أنه أن يلفت املؤمن إىل نفسه أوال ‪ ..‬ف@@إذا مسع عن م @@ؤمن ما ينقص‬
‫من إميانه ‪ ،‬أو ما يشري إىل احنراف ىف س @ @@لوكه ـ مث اس @ @@تقبل ه @ @@ذا ال @ @@ذي مسعه ‪ ،‬ومل يضق‬
‫صدره به ‪ ،‬ومل ت@أمل نفسه له ـ ك@ان عليه أن يتهم إميانه أوال ‪ ،‬ألنّه قبل أن ي@دخل عليه ه@ذا‬
‫املنكر ‪ ،‬ال@@ذي دخل على املؤم@@نني مجيعا ‪ ،‬وأض@@يف إليهم ‪ ،‬حبكم الوح@@دة القائمة بينهم ‪..‬‬
‫هش هلذا ال@ @ @ @ @@ذي مسعه ‪ ،‬أو ط@ @ @ @ @@ار به فرحا ـ فليعلم أنه ليس من اإلميان إال على‬ ‫مث إذا هو ّ‬
‫ح@@رف ‪ ،‬وأنه موشك أن ينفصل عن اإلميان ‪ ،‬ويقطع ص@@لته ب@@املؤمنني ‪ ..‬مث إذا هو مل يقف‬
‫عند احل ّد ‪ ،‬وأطلق لس @@انه هبذا املنكر ال @@ذي مسعه ‪ ،‬وعمل على إذاعته ‪ ،‬ونش @@ره ىف الن @@اس ـ‬
‫فليعلم أنه ـ م@@ادام على تلك احلال ـ فهو ليس من اإلميان ىف ش@@ىء ‪ ،‬وأنه ق@@ائم على منكر ‪،‬‬
‫ال جيتمع هو واإلميان ‪ ،‬ىف كيان إنسان‪.‬‬
‫مربا من التهم ‪ ،‬بعيدا‬ ‫وثالثا ‪ :‬اإلشارة إىل أن املؤمن من شأنه أن يكون ّ‬
‫‪1241‬‬

‫عن م@@واطن الش@بهات ‪ ..‬وأنه أب@@دا على ه@@ذه ال@@رباءة حىت تثبت إدانته ‪ ..‬أما قبل ه@@ذا ‪ ،‬ف@إن‬
‫ك@ @ ّ@ل كلمة س@ @@وء تق@ @@ال فيه ‪ ،‬هى إمث كبري ‪ ،‬وهبت@ @@ان عظيم ‪ ..‬يس@ @@تحق قائل الس@ @@وء فيه أن‬
‫يساق إىل موقف االهتام ‪ ،‬وأن يطالب بالدليل القاطع على صدق ما يق@@ول ‪ ،‬وإال فاحل ّد ىف‬
‫ظهره ‪ ..‬تأديبا له ‪ ،‬وقصاصا حلرمة هذا املؤمن ‪ ،‬أو املؤمنة ‪ ..‬واهلل سبحانه وتعاىل يق@ول ‪:‬‬
‫صاص) (‪ : 194‬البقرة) ‪..‬‬ ‫(والْحر ُـ ِ‬
‫مات ق ٌ‬ ‫َ ُُ‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫ـك ِع ْنـ ـ ـ َد ِ‬ ‫شـ ـ ـه ِ‬
‫داء فَأُولئِ ـ ـ َ‬ ‫ِِ ِ‬
‫اهلل ُه ُم‬ ‫َم يَـ ـ ـأْتُوا بِال ُّ َ‬
‫داء فَـ ـ ـِإ ْذ ل ْ‬
‫(لَ ـ ـ ْـو ال ج ـ ــا ُؤ َعلَْي ـ ــه بأ َْر َب َع ـ ــة ُشـ ـ ـ َه َ‬
‫ْكاذبُو َن)‪.‬‬‫ال ِ‬
‫(لَـ ْـو ال) هنا للتمج@@يز ‪ ،‬وليست للتحض@@يض ‪ ..‬إذ مل يكن من املمكن اإلتي@@ان بأربعة‬
‫ش@هداء ‪ ،‬يش@@هدون على ه@@ذا املنكر ‪ ،‬ألنه إن أمكن اص@طياد أربعة ممن يش@@هدون عليه زورا‬
‫‪ ،‬ف@إن ال@زور سينفضح ‪ ،‬حيث س@تختلف أق@@واهلم ‪ ،‬وتض@@طرب أل@وان الص@ورة اليت يص@@ورون‬
‫هبا الواقعة املزورة ‪ ،‬ألن كال منهم يص@ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @@ورها حسب ما متليه عليه أوهامه وخياالته ‪،‬‬
‫وهيه@ @@ات أن يلتقى وهم مع وهم ‪ ،‬أو جيتمع خي@ @@ال إىل خي@ @@ال ‪ ،‬وإن أحكم@ @@وا فيما بينهم‬
‫تدبري األمر ‪ ،‬وعملوا على سد اخللل فيه!!‬
‫ش ـه ِ‬
‫داء) ـ إش@@ارة إىل أهنم مل ي@@أتوا هبم ‪ ،‬ألن ه@@ذا‬ ‫َم يَ ـأْتُوا بِال ُّ َ‬
‫وىف قوله تع@@اىل ‪( :‬فَ ـِإ ْذ ل ْ‬
‫األمر مل يش@ @@هده أحد ‪ ..‬فقد ك@ @@انت أم املؤم @@نني ‪ ،‬وك@ @@ان معها ص@ @@فوان ابن املعطّل ‪ ..‬ومل‬
‫يكن أحد غريمها ‪ ،‬وذلك على ما رأى املسلمون وغري املسلمني مجيعا ‪ ..‬ف@أى ش@اهد ميكن‬
‫أن جيىء ويقول ‪ :‬إنه شهد شيئا كان بني أم املؤمنني وصفوان؟‪.‬‬
‫‪1242‬‬

‫وه@ @@ذا هو السر ىف التعبري ب@ @@الظرف «إذ» ب@ @@دال من أداة الظ@ @@رف الش@ @@رطية «إذا» أو‬
‫«إن» كما يبدو من ظاهر النظم ‪..‬‬
‫ـك ِع ْنـ ـ َد ِ‬
‫اهلل ُه ُم‬ ‫وىف ه@ @@ذا ما جيعل ه@ @@ذا اخلرب واقعا حمققا ‪ ،‬وهو قوله تع@ @@اىل ‪( :‬فَأُولئِ ـ َ‬
‫ْكاذبُو َن) ‪ ..‬أي أن هؤالء الذين جاءوا هبذا اإلفك ‪ ،‬موسومون عند اهلل بالكذب‪.‬‬ ‫ال ِ‬
‫شـه ِ‬
‫داء ‪ )..‬هو ظ@@رف تقع ىف حيّ@@زه اجلملة اخلربية ‪..‬‬ ‫َم يَـأْتُوا بِال ُّ َ‬‫وقوله تع@@اىل ‪( :‬فَـِإ ْذ ل ْ‬
‫وتق@@دير النظم هك@@ذا ‪ :‬ه@@اتوا أربعة ش@@هداء ‪ ..‬وإنه ال ش@@هداء معكم ‪ ،‬وإذن ف@@أنتم عند اهلل‬
‫الكاذبون ‪ ،‬إذ أنكم مل تستطيعوا أن جتدوا من يشهد على افرتائكم وهبتانكم‪.‬‬
‫ْكاذبُو َن) إش@@ارة إىل أن ه@@ؤالء ال@@ذين ج@@اءوا‬ ‫ك ِع ْن َد ِ‬
‫اهلل ُهم ال ِ‬ ‫وىف قوله تعاىل ‪( :‬فَأُولئِ َ‬
‫ُ‬
‫باإلفك ‪ ،‬ليس @@وا ك @@اذبني عند الن @@اس ‪ ،‬وحسب ‪ ،‬بل إهنم ىف حقيقة األمر ك @@اذبون فعال ‪..‬‬
‫وه@ @ @@ذا ما س@ @ @@جله اهلل عليهم ‪ ،‬ووص@ @ @@فهم به فقد يك@ @ @@ون اإلنس@ @ @@ان ىف نظر الن@ @ @@اس كاذبا ىف‬
‫ح@@ديث حتدث به ‪ ،‬أو ش@@هادة ش@@هد هبا ‪ ،‬وهو ىف واقع األمر ص@@ادق ‪ ..‬وإن مل تقم ق@@رائن‬
‫للناس منهم ‪ ،‬حني مل يكن معهم شاهد على هبتاهنم ‪..‬‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫ـذاب‬ ‫س ُكم فِيما أَفَ ْ ِ ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫اهلل َعلَْي ُك ْم َو َر ْح َمتُهُ فِي ُّ‬
‫ضل ِ‬
‫ضتُ ْم فيــه َعـ ٌ‬ ‫الدنْيا َواآْل خ َرة ل ََم َّ ْ‬ ‫( َول َْو ال فَ ْ ُ‬
‫يم)‪.‬‬ ‫ِ‬
‫َعظ ٌ‬
‫أف@ @ @@اض ىف األمر ‪ :‬أي ب@ @ @@الغ فيه ‪ ،‬وأك@ @ @@ثر من @ @@ه‪ .‬وأف @ @@اض ىف احلديث ‪ :‬تو ّس @ @ @ع فيه ‪،‬‬
‫وجاوز احلد ‪..‬‬
‫‪1243‬‬

‫واخلط@@اب موجه إىل املؤم@@نني مجيعا ‪ ،‬وأهنم حيمل@@ون ش@@يئا من وزر ه@@ذا احلديث اآلمث‬
‫‪ ،‬الذي تردد ىف آفاقهم ‪ ،‬وأن الذين مل يشاركوا فيه ‪ ،‬ومل يس@@تمعوا له ‪ ،‬وقد م ّس@هم ش@@ىء‬
‫من رحيه اخلبيثة ‪ ..‬فه@@ؤالء اآلمثون ال@@ذين اف@@رتوا ه@@ذا البهت@@ان العظيم ‪ ،‬هم بعض ه@@ذا اجملتمع‬
‫الكبري ‪ ..‬وأنه لو وقع هبم بالء اهلل ‪ ،‬ألصاب رذاذه من ال ذنب له من املؤمنني‪.‬‬
‫ولكن فضل اهلل س @ @@بحانه وتع @ @@اىل على املؤم @ @@نني ‪ ،‬وإحس @ @@انه إليهم ‪ ،‬قد اتسع هلؤالء‬
‫املذنبني ‪ ،‬فش@@ملهم ‪ ..‬وب@@دال من أن يقع البالء باملذنبني ‪ ،‬ويتس@@رب إىل غ@@ريهم من املؤم@@نني‬
‫‪ ،‬أراد اهلل للمؤم @@نني احلسىن ‪ ،‬فجعل إحس @@انه إىل املؤم @@نني ‪ ،‬وقاية من إس @@اءة املس @@يئني ‪ ،‬مث‬
‫يعجل هلم العذاب ىف الدنيا ‪ ،‬بل م ّد هلم ىف‬ ‫جعل من هذا اإلحسان شيئا ينال اآلمثني ‪ ،‬فلم ّ‬
‫ه@@ذه احلي@@اة ‪ ،‬ليج@@دوا فرص@@تهم ىف التوبة إىل اهلل ‪ ،‬وقد ت@@اب كثري منهم ‪ ،‬وقبلت ت@@وبتهم ‪،‬‬
‫اهلل َعلَْي ُك ْم َو َر ْح َمتُـ ــهُ فِي‬
‫ض ـ ـل ِ‬
‫وحسن إمياهنم ‪ ..‬وه@ @@ذا ما يشري إليه قوله تع@ @@اىل ‪َ ( :‬ولَـ ـ ْـو ال فَ ْ ُ‬
‫الدنْيا َواآْل ِخ َر ِة ‪)..‬‬
‫ُّ‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫سـبُونَهُ َهيِّنـاً َو ُهـ َـو‬ ‫ِِ ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ َّ ِ ِ ِ‬
‫ْم َوتَ ْح َ‬
‫س لَ ُك ْم ب ــه عل ٌ‬
‫(إ ْذ َتلَق ْونَــهُ بأَلْسـنَت ُك ْم َوَت ُقولُــو َن ب ـأَفْواه ُك ْم ما ل َْي َ‬
‫يم)‪.‬‬ ‫ِ ِ ِ‬
‫ع ْن َد اهلل َعظ ٌ‬
‫تلقونه بألس @ @@نتكم ‪ :‬أي يلقيه بعض @ @@كم إىل بعض ‪ ،‬وتتداوله األلس @ @@نة ‪ ،‬كما تتداوله‬
‫األيدى األشياء فيما بينها!‬
‫وه @@ذا يعىن ‪ ،‬أن ح @@ديث اإلفك ال @@ذي تداوله املت @@داولون بينهم ‪ ،‬مل يكن إال بض @@اعة‬
‫رخيصة من لغو الكالم ‪ ،‬الذي تتحرك به األلسنة وحدها ‪ ،‬دون‬
‫‪1244‬‬

‫أن يك @@ون له دافع من عقل أو رأى ‪ ..‬إنه حركة آلية ‪ ،‬ال يش @@رتك فيها من كي @@ان اإلنس @@ان‬
‫ْم) ـ‬ ‫ِِ ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫س لَ ُك ْم ب ــه عل ٌ‬ ‫إاّل اللس@@ان ‪ ..‬وه@@ذا ما يشري إليه قوله تع@@اىل ‪َ ( :‬وَت ُقولُــو َن ب ـأَفْواه ُك ْم ما ل َْي َ‬
‫أي أن ه@ @@ذا احلديث املدار بينكم ىف ه@ @@ذا األمر ‪ ،‬هو ح@ @@ديث ألس@ @@نة ‪ ،‬ال تنطق عن علم ‪،‬‬
‫وال تأخذ عن عقل ‪ ،‬أو منطق ‪ ..‬إنه ح @ @ @@ديث لس @ @ @@ان يأخذ عن لس @ @ @@ان ‪ ،‬حىت دون أن مير‬
‫ْم)‪.‬‬ ‫ِِ ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ َّ ِ ِ ِ‬
‫س لَ ُك ْم به عل ٌ‬ ‫على األذن! (إ ْذ َتلَق ْونَهُ بأَلْسنَت ُك ْم َوَت ُقولُو َن بأَفْواه ُك ْم ما ل َْي َ‬
‫وإنه إلعجاز من القرآن الكرمي هذا التصوير املعجز الشائعات السوء ‪ ،‬حني جتد من‬
‫الن@ @@اس آذانا مص@ @@غية إليها ‪ ،‬ونفوسا مس@ @@تجيبة هلا ‪ ..‬إهنا حينئذ تنطلق ىف س@ @@عار وجن@ @@ون ‪،‬‬
‫حبيث ال تدع للناس فسحة من الوقت يتلقوهنا بآذاهنم ‪ ،‬مث يديروهنا ىف عقوهلم ومشاعرهم‬
‫‪ ،‬ليكون هلم خيار ىف قبوهلا أو ردها ‪ ،‬بل إنه يلقى هبا على ألسنتهم خلقا مصنوعا ‪ ،‬جمهزا‬
‫@رد احلكم فيها إىل األلس@ @ @ @@نة ‪ ..‬فلت@ @ @ @@ذقها‬ ‫للتعامل به على ص@ @ @ @@ورته تلك ‪ ..‬إهنا كلم@ @ @ @@ات م@ @ @ @ ّ‬
‫األلس@ @@نة إذن ‪ ،‬ولتحكم عليها مبا ت@ @@ذوق منها ‪ ..‬وإن كث@ @@ريا من الن@ @@اس ‪ ،‬ليقف@ @@ون ب@ @@الكالم‬
‫ويفوضون هلا األمر فيما تقبل منه أو ترفض ‪ ..‬وإن لكلمات الس@@وء‬ ‫على حدود ألسنتهم ‪ّ ،‬‬
‫حلالوة على ألس@@نة أهل الس@@وء والفس@@اد ‪ ،‬يرتش@@فوهنا كما يرتش@@فون املاء الب@@ارد على ظمأ ‪،‬‬
‫ىف يوم قائظ!‪.‬‬
‫يم) حتذير هلؤالء ال@@ذين يس@@تخ ّفون‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫وىف قوله تعاىل ( َوتَ ْح َ‬
‫سبُونَهُ َهيِّنـاً َو ُه َـو ع ْنـ َد اهلل َعظ ٌ‬
‫بالكلمة ‪ ،‬وينفق @ @@ون من رص @ @@يد ألس @ @@نتهم بغري حس @ @@اب ‪ ..‬ظ @ @@انني أن ذلك ال يض @ @@ريهم ىف‬
‫شىء أبدا ‪ ،‬ما دام الذي ينفقون ال يكلّفهم جهدا أو ماال ‪..‬‬
‫‪1245‬‬

‫وه@ @ @ @@ذا ظن خ@ @ @@اطئ ‪ ..‬فالكلمة ليست جمرد ص@ @ @ @@وت ينطلق من فم ‪ ،‬وإمنا هى ـ ىف‬
‫حقيقتها ـ رس@ @@الة من الرس@ @@االت إىل عق@ @@ول الن@ @@اس ‪ ،‬قد تك@ @@ون طيبة ‪ ،‬فتحمل إليهم اخلري‬
‫واهلدى ‪ ،‬وقد تك @@ون خبيثة ‪ ،‬فتس @@وق إليهم البالء واهلالك ‪ ..‬وقد ض @@رب اهلل مثال للكلمة‬
‫صـلُها ثـابِ ٌ‬ ‫ضرب اهلل مثَالً َكلِمةً طَيِّبـةً َك َ ٍ ٍ‬
‫ت‬ ‫شـ َج َرة طَيِّبَـة أَ ْ‬ ‫َ َ‬ ‫ف ََ َ ُ َ‬ ‫الطيبة فقال سبحانه ‪( :‬أَل ْ‬
‫َم َت َر َك ْي َ‬
‫ـل ِحي ٍن بِ ـِإ ْذ ِن َربِّها ‪ )..‬وك @@ذلك ض @@رب اهلل مثال للكلمة‬ ‫ماء ُتـ ْـؤتِي أُ ُكلَها ُكـ َّ‬ ‫سـ ِ‬ ‫َو َف ْرعُها فِي ال َّ‬
‫ض ما لَها‬ ‫َّت ِم ْن َفـ ْـو ِق اأْل َْر ِ‬ ‫ٍ‬ ‫اخلبيثة ‪ ،‬فقال س@@بحانه ‪( :‬ومثَل َكلِم ٍـة َخبِيثَ ٍـة َك َ ٍ‬
‫شـ َج َرة َخبِيثَـة ْ‬
‫اجتُث ْ‬ ‫ََ ُ َ‬
‫ِم ْن قَرا ٍر) (‪ 24‬ـ ‪ : 26‬إبراهيم) ‪..‬‬
‫فالكلمة ىف حس @@اب املبطلني ‪ ،‬واملفس @@دين ‪ ،‬وأص @@حاب النف @@وس املريضة ‪ ،‬والعق @@ول‬
‫الفارغة ـ شىء رخيص ‪ ،‬ال وزن له ‪ ،‬وال مثن للقليل أو الكثري منه ‪..‬‬
‫وهى عند أهل ال@@رأى والعقل ‪ ،‬واحلكمة ‪ ،‬واإلميان ‪ ..‬ش@@ىء عظيم ‪ ،‬هى آية اهلل ىف‬
‫اإلنس@@ان ‪ ..‬هبا ك@@ان إنس@@انا ‪ ،‬وك@@ان خليفة اهلل ىف األرض ‪ ..‬وبالكلمة خلق اهلل الس@@موات‬
‫واألرض ‪ ،‬وما فيهن ومن فيهن ‪ ..‬وبالكلمة ص @@اغ اإلنس @@ان ه @@ذه املص @@نوعات اليت مأل هبا‬
‫وجه األرض‪ .‬فل @ @@وال الكلمة ما ول@ @@دت األفك @ @@ار ‪ ،‬ولو ال األفك @ @@ار ما ظهر لإلنس @ @@ان عمل‬
‫أكثر من عمل احليوان على األرض ‪..‬‬
‫وه @@ذا احلديث اآلمث ‪ ،‬ال @@ذي انطلق ىف آف @@اق املدينة ‪ ،‬وتداولته بعض األلس @@نة ىف غري‬
‫حترج أو ت @ @@أمث ‪ ،‬هو أخبث ما تنطق به األف@ @ @@واه من كلم ‪ ،‬إذ ك@ @ @@ان زورا وهبتانا ‪ ،‬واف@ @ @@رتاء‬
‫على احلق ىف أرفع منازله ‪ ،‬وعدوانا على الطهر ىف أشرف مواطنه ‪..‬‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫ك ه ـ ــذا ُب ْهت ـ ــا ٌن‬‫( َولَ ـ ـ ْـو ال إِ ْذ َسـ ـ ـ ِم ْعتُ ُموهُ ُقلْتُ ْم ما يَ ُكـ ــو ُن لَنا أَ ْن َنتَ َكلَّ َم بِه ـ ــذا ‪ُ ..‬سـ ـ ـ ْبحانَ َ‬
‫يم) ‪..‬‬ ‫ِ‬
‫َعظ ٌ‬
‫‪1246‬‬

‫هو بي@ @ @@ان من اهلل س@ @ @@بحانه وتع@ @ @@اىل للمؤم@ @ @@نني ال@ @ @@ذين خاض@ @ @@وا ىف ه@ @ @@ذا احلديث ‪ ،‬أو‬
‫اس@@تمعوا له ‪ ،‬أو س@@كتوا عنه ‪ ،‬وتوجيه هلم إىل املوقف ال@@ذي ك@@ان ينبغى أن يقف@@وه من ه@@ذه‬
‫الفتنة ‪ ،‬وتلقني هلم بالكلمة اليت كان جيب أن يلقوا هبا هذا البهتان العظيم‪.‬‬
‫فليس للم @@ؤمن إال موقف واحد من ه @@ذا احلديث ‪ ،‬وهو إنك @@اره ‪ ،‬وهبت املتح @@دثني‬
‫به ‪ ،‬ووضعهم موضع التهمة بالكذب واالفرتاء ‪..‬‬
‫وىف قوله تع@@اىل ‪( :‬إِ ْذ َس ـ ِم ْعتُ ُموهُ) ـ إش@@ارة إىل أن األمر مل يكن إال ح@@ديثا ي@@دار على‬
‫األلسنة ‪ ،‬ويلقى به على األمساع ‪ ،‬وأنه مل يكن عن رؤية ومشاهدة ‪..‬‬
‫وىف قوله تع @@اىل ‪( :‬ما يَ ُكــو ُن لَنا أَ ْن َنتَ َكلَّ َم بِه ــذا) إش @@ارة أخ @@رى إىل أن ه @@ذا احلديث‬
‫النىب ‪ ،‬وجرح غائر ملشاعره ‪ ،‬وإيذاء‬ ‫اآلمث ‪ ،‬ال ينبغى ملؤمن أن ينطق به ‪ ،‬ألنه عدوان على ّ‬
‫ش@ @@ديد له ‪ ..‬وليس م@ @@ؤمن ذلك اإلنس@ @@ان ال@ @@ذي يس@ @@وق إىل النيب ش@ @@يئا يس@ @@وءه ‪ ،‬أو خيدش‬
‫يم) (‪61‬‬ ‫ِ‬ ‫ول ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫ـذاب أَل ٌ‬
‫اهلل ل َُه ْم َعـ ٌ‬ ‫مشاعره ‪ ..‬واهلل سبحانه وتعاىل يقول ‪َ ( :‬والذ َ‬
‫ين ُي ْؤذُو َن َر ُس َ‬
‫‪ :‬التوبة)‪.‬‬
‫فلو فرض وكان هذا األمر على ش@@ىء من احلقيقة ـ ف@@إن اإلميان باهلل ورس@@وله يقتضى‬
‫املؤمن أن ي@دفع ه@ذا الس@وء ال@ذي يع@رض للنىب ‪ ،‬وأن يتلق@اه دونه ‪ ،‬وحيمله عنه ‪ ..‬إن وجد‬
‫إىل ذلك سبيال ‪..‬‬
‫أما أن يك @@ون خطبا يزيد الن @@ار اش @@تعاال ‪ ،‬ف @@ذلك هو ال @@ذي ال جيتمع معه إميان ‪ ،‬وال‬
‫يبقى معه دين ‪ ..‬ألن اإلميان والء ‪ ،‬وحب وتقديس ‪ ،‬والدين عبادة وصالة وتسبيح ‪..‬‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫ِِ‬ ‫(ي ِعظُ ُكم اهلل أَ ْن َتع ُ ِ ِ ِ ِ‬
‫ين)‪.‬‬‫ودوا لمثْله أَبَداً إِ ْن ُك ْنتُ ْم ُم ْؤمن َ‬ ‫َ ُ ُ ُ‬
‫‪1247‬‬

‫هو دع@@وة كرمية من رب ك@@رمي ‪ ،‬إىل املؤم@@نني ‪ ،‬أاّل يع@@ودوا إىل مثل ه@@ذا األمر ‪ ،‬وأال‬
‫خيوضوا ىف أعراض املسلمني ‪ ،‬وأال جيعلوا لكلمة الس@@وء مكانا ىف قل@@وهبم ‪ ،‬أو موض@@عا على‬
‫ألسنتهم ‪ ،‬أما هذا احلديث الذي حدث ‪ ،‬فاهلل سبحانه وتعاىل ‪ ،‬قد عاد بفضله على ال@@ذين‬
‫عضهم الندم ‪ ،‬وجاءوا إىل اهلل تائبني مستغفرين ‪..‬‬
‫فاخلط@ @ @@اب هنا موجه إىل كل من ك@ @ @@ان له مش@ @ @@اركة ىف ه@ @ @@ذا األمر ‪ ،‬من ق@ @ @@ريب أو‬
‫بعيد‪.‬‬
‫وىف قوله تع @@اىل ‪( :‬يَ ِعظُ ُك ُم اهللُ) ـ إش @@ارة إىل أن ال @@ذين اش @@رتكوا ىف ه @@ذا احلديث مل‬
‫يهلك@ @ @@وا بعد ‪ ،‬وأهنم م@ @ @@دعوون إىل أن يس@ @ @@تمعوا إىل ما يوعظ@ @ @@ون به ‪ ،‬ف@ @ @@إن قبل@ @ @@وا املوعظة‬
‫وعملوا هبا جنوا ‪ ،‬وإال فهم ىف اهلالكني‪.‬‬
‫ِِ‬
‫توجه إليهم ه@@ذه العظة إمنا‬ ‫ين) إش@@ارة إىل أن ال@@ذين ّ‬ ‫وىف قوله تع@@اىل ‪( :‬إِ ْن ُك ْنتُ ْم ُم ْؤمن َ‬
‫هم الذين حيرصون على اإلميان ‪ ،‬ويدفعون عن أنفسهم كل ما يشني إمياهنم ‪ ،‬أو ينقصه‪.‬‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫يم)‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫يم َحك ٌ‬
‫( َو ُيَبيِّ ُن اهللُ لَ ُك ُم اآْل يات َواهللُ َعل ٌ‬
‫هو إش@@ارة إىل أن ما وعظ به املؤمن@@ون ىف اآلي@@ات الس@@ابقة ‪ ،‬هو ما اقتض@@ته رمحة اهلل‬
‫ب@@املؤمنني ‪ ،‬ببي@@ان الش@@بهات اليت تع@@رض هلم ‪ ،‬وب@@أال يؤخ@@ذوا بالعق@@اب قبل أن يبلّغ@@وا البالغ‬
‫املبني ‪ ،‬ال@@ذي ال ش@@بهة فيه ‪ ..‬وىف ه@@ذا يق@@ول س@@بحانه ‪( :‬وما كــا َن اهلل لِي ِ‬
‫ضـ َّل َق ْومـاً َب ْعـ َد إِ ْذ‬ ‫ُ ُ‬ ‫َ‬
‫ـداه ْم َحتَّى ُيَبيِّ َن ل َُه ْم ما َيَّت ُقــو َن) (‪ : 115‬التوب@@ة) ‪ ..‬وذلك عن علم العليم ‪ ،‬ال@@ذي يعلم‬ ‫َهـ ُ‬
‫من عب@@اده ما مل يعلم@@وا ‪ ،‬ومن حكمة احلكيم ‪ ،‬ال@@ذي كشف ب@@العلم طريق اهلدى لعب@@اده ‪،‬‬
‫ليكونوا هبذا العلم أهل حكمة وبصرية‪.‬‬
‫‪1248‬‬

‫قوله تعاىل ‪:‬‬


‫يم فِي الـ ـ ـ ُّـدنْيا‬‫ِ‬ ‫ْفاح َ ِ َّ ِ‬ ‫(إِ َّن الَّ ِذين ي ِحبُّو َن أَ ْن تَ ِش ـ ـ ـيع ال ِ‬
‫ـذاب أَل ٌ‬
‫آمنُـ ـ ــوا ل َُه ْم َعـ ـ ـ ٌ‬
‫ين َ‬
‫ش ـ ـ ـةُ في الذ َ‬ ‫َ‬ ‫َُ‬
‫َواآْل ِخ َر ِة َواهللُ َي ْعلَ ُم َوأَ ْنتُ ْم ال َت ْعلَ ُمو َن)‪.‬‬
‫هو تعقيب على هذا احلدث العظيم ‪ ،‬بالتنبيه إىل أن ال@@ذين حيب@@ون أن تفشو الفاحشة‬
‫‪ ،‬وتشيع الفتنة ىف جمتمع املؤمنني ـ هؤالء هلم عذاب أليم ىف ال@@دنيا ‪ ،‬وذلك ب@@أ ّن يؤخ@@ذوا مبا‬
‫رصد من عق @@اب ألولئك ال @@ذين يرم @@ون املؤم @@نني بغري ما اكتس @@بوا ‪ ..‬مث إن هلم ع @@ذابا أشد‬
‫وأنكى من هذا العذاب ‪ ،‬ىف اآلخرة‪.‬‬
‫وإشاعة الفاحشة ىف اجملتمع من يكون أكثر من وجه‪.‬‬
‫ـ باإلقدام على الفاحشة ‪ ،‬والتعامل هبا ‪..‬‬
‫ـ أو باملعالنة بإتي @@ان الفاحشة من مرتكبها ‪ ،‬أو التح @@دث هبا إىل الن @@اس ‪ ،‬وإفش @@اء ما‬
‫سرت اهلل منه ‪..‬‬
‫ـ أو بإذاعة األح@ @ @ @@اديث عن الفاحشة ‪ ،‬س@ @ @ @@واء أك@ @ @ @@ان ذلك ىف أهل الفاحشة أم ىف‬
‫غريهم‪.‬‬
‫ـ أو باإلص@@غاء إىل ح@@ديث اإلمث ‪ ،‬وت@@رك املتح@@دثني به ‪ ،‬ي@@ثرثرون ‪ ،‬دون أن ي@@ردعهم‬
‫رادع ‪ ،‬أو ميسك ألسنتهم أحد ‪..‬‬
‫فه@@ذه الوج@@وه ‪ ،‬وما ي@@دخل م@@داخلها ‪ ،‬كلها مما تش@@يع به الفاحشة ىف اجملتمع ‪ ،‬ق@@وال‬
‫‪ ،‬وفعال ‪ ..‬وأهنا إذا مل تؤخذ عليها الس@ @ @ @@بل ‪ ،‬من أول األمر ‪ ،‬استش@ @ @ @@رى ش@ @ @ @@رها ‪ ،‬وعظم‬
‫خطرها ‪ ،‬واتسعت دائرهتا ‪ ،‬حىت ليص@بح اجملتمع كله واقعا ىف قبض@تها ‪ ..‬إهنا أش@به بالن@ار ‪،‬‬
‫تك@ @@ون أول األمر ش@ @@رارة ‪ ،‬ف @@إذا هى مل تع@ @@اجل ىف احلال ‪ ،‬ان @@دلعت ألس@ @@نتها ‪ ،‬وعال هليبها ‪،‬‬
‫وص@ @@ارت حريقا عظيما ‪ ،‬ال يقف له ش@ @@ىء ‪ ،‬وال يدفعه ش@ @@ىء ‪ ،‬فتقع اجلماعة كلها حتت‬
‫اخلطر الذي ترمى به ‪..‬‬
‫‪1249‬‬

‫وىف قوله تع@@اىل ‪َ ( :‬واهللُ َي ْعلَ ُم َوأَ ْنتُ ْم ال َت ْعلَ ُمــو َن) حتذير لل@@ذين يس@@تمعون لقالة الس@@وء‬
‫‪ ،‬ويعط @@ون آذاهنم ملن يلق @@ون إليهم هبا ‪ ..‬ف @@أكثر ه @@ذه املق @@والت ك @@ذب ‪ ،‬وهبت @@ان ‪ ،‬ورجم‬
‫ب@@الغيب ‪ ،‬ورمى ب@@الظنون ‪ ..‬وأك@@ثر ما ي@@دفع املتق@@ولني إىل رك@@وب ه@@ذا املركب اآلمث ‪ ،‬هو‬
‫ادع@@اؤهم العلم خبفايا األم@@ور ‪ ،‬وأهنم يعلم@@ون ما ال يعلم الن@@اس ‪ ..‬وه@@ذا ليس من العلم ىف‬
‫ش@@ىء حىت وإن ك@@ان ص@@دقا ‪ ،‬فما هو إال قش@@ور من قش@@ور العلم ‪ ،‬أما العلم احلق ‪ ،‬فهو ما‬
‫يعلمه اهلل ‪َ ( :‬واهللُ َي ْعلَ ُم َوأَ ْنتُ ْم ال َت ْعلَ ُمو َن ‪)..‬‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫َن اهلل ر ُؤ ٌ ِ‬ ‫ِ‬
‫يم) لو ال ‪ :‬ح@ @ @@رف امتن@ @ @@اع‬
‫ف َرح ٌ‬ ‫ض ـ ـ ـ ُل اهلل َعلَْي ُك ْم َو َر ْح َمتُـ ـ ــهُ َوأ َّ َ َ‬
‫( َولَـ ـ ـ ْـو ال فَ ْ‬
‫لوجود ‪ ..‬أي امتناع حتقيق جواهبا ‪ ،‬لوجود شرطها ‪ ..‬ولو ال ه@@ذا الش@@رط لتحقق اجلواب‬
‫ووقع ‪..‬‬
‫وج @ @@واب الش@ @ @@رط هنا حمذوف ‪ ،‬وتق @ @@ديره ‪ ،‬ولو ال فضل اهلل عليكم ورمحته ‪ ،‬وأنه‬
‫رءوف رحيم بكم ‪ ،‬ألخذكم بعذابه على هذا األمر العظيم ال@@ذي وقعتم فيه ‪ ،‬وخ@@اض فيه‬
‫اخلائضون منكم ‪..‬‬
‫____________________________________‬

‫اآليات ‪ 21( :‬ـ ‪)26‬‬


‫ش ـ ْي ِ‬
‫طان فَِإنَّهُ‬ ‫طان ومن يتَّبِ ــع ُخطُ ـ ِ‬
‫ـوات ال َّ‬ ‫ـوات ال َّ ِ‬ ‫(يا أ َُّي َها الَّ ِذين آمنُ ــوا ال َتتَّبِع ــوا ُخطُ ـ ِ‬
‫ش ـ ْي َ َ ْ َ ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ َ‬
‫اهلل َعلَي ُكم ورحمتُــهُ ما َزكى ِم ْن ُكم ِمن أَحـ ٍـد أَب ــداً و ِ‬
‫لك َّن‬ ‫ْ ْ َ َ َ‬ ‫ْ ْ ََ َْ‬
‫ضل ِ‬ ‫يَأ ُْم ُر بِالْ َف ْح ِـ‬
‫شاء َوال ُْم ْن َك ِر َول َْو ال فَ ْ ُ‬
‫ض ِل ِم ْن ُك ْم‬
‫يم (‪َ )21‬وال يَأْتَ ِل أُولُوا الْ َف ْ‬ ‫اهلل ي َز ِّكي من يشاء واهلل س ِم ِ‬
‫يع َعل ٌ‬ ‫َْ َ ُ َ ُ َ ٌ‬ ‫َُ‬
‫‪1250‬‬

‫يل ِ‬ ‫ين فِي َسـبِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫و َّ ِ‬


‫صـ َف ُحوا أَال‬ ‫اهلل َولَْي ْع ُفــوا َولْيَ ْ‬ ‫ين َوال ُْمهاج ِر َ‬ ‫الس َعة أَ ْن ُي ْؤتُوا أُولي الْ ُق ْربى َوال َْمساك َ‬ ‫َ‬
‫نات الْغ ــافِ ِـ‬
‫الت‬ ‫ِ‬
‫تُ ِحبُّو َن أَ ْن يغْ ِف ــر اهلل لَ ُكم واهلل غَ ُف ــور رحيم (‪ )22‬إِ َّن الَّ ِذين يرم ــو َن الْم ْحصـ ـ ِ‬
‫ُ َ‬ ‫َ َْ ُ‬ ‫ٌَ ٌ‬ ‫َ َ ُ َْ ُ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫الْم ْؤ ِمن ـ ِ‬
‫يم (‪َ )23‬يـ ْـو َم تَ ْش ـ َه ُد َعلَْي ِه ْم أَلْس ـنَُت ُه ْم‬ ‫ـذاب َعظ ٌ‬ ‫ـات ل ُِعنُ ــوا في ال ـ ُّـدنْيا َواآْل خـ َرة َول َُه ْم َعـ ٌ‬ ‫ُ‬
‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َن اهللَ‬ ‫َوأَيْدي ِه ْم َوأ َْر ُجلُ ُه ْم بِما كانُوا َي ْع َملُو َن (‪َ )24‬ي ْو َمئذ ُي َوفِّي ِه ُم اهللُ د َين ُه ُم ال َ‬
‫ْح َّق َو َي ْعلَ ُمو َن أ َّ‬
‫ـات والطَّيِّبـ ـ ـ ُ ِ ِ‬ ‫ِ ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ـق الْمبِين (‪ @ @ @ @)25‬الْ َخبِيثـ ـ ـ ُ ِ ِ ِ‬
‫ـات للطَّيِّب َ‬
‫ين‬ ‫ين َوالْ َخبيثُـ ـ ــو َن ل ْل َخبيثـ ـ ـ َ‬ ‫ـات ل ْل َخبيث َ‬ ‫ْحـ ـ ـ ُّ ُ ُ‬ ‫ُهـ ـ ـ َـو ال َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫والطَّيِّبو َن لِلطَّيِّ ِ‬
‫بات أُولئِ َ‬
‫يم) (‪)26‬‬ ‫ك ُمَب َّر ُؤ َن م َّما َي ُقولُو َن ل َُه ْم َم ْغف َرةٌ َو ِر ْز ٌق َك ِر ٌ‬ ‫َ ُ‬
‫____________________________________‬
‫التفسري ‪:‬‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫ش ـ ْي ِ‬
‫طان فَِإنَّهُ‬ ‫طان ومن يتَّبِ ــع ُخطُ ـ ِ‬
‫ـوات ال َّ‬ ‫(يا أ َُّي َها الَّ ِذين آمنُ ــوا ال َتتَّبِع ــوا ُخطُ ـ ِ‬
‫ـوات ال َّ ِ‬
‫ش ـ ْي َ َ ْ َ ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ َ‬
‫اهلل َعلَي ُكم ورحمتــه ما َزكى ِم ْن ُكم ِمن أَحـ ٍـد أَب ــداً و ِ‬
‫لك َّن‬ ‫ْ ْ َ َ َ‬ ‫ض ُل ِ ْ ْ َ َ ْ َ ُ ُ‬ ‫يَأ ُْم ُر بِالْ َف ْح ِـ‬
‫شاء َوال ُْم ْن َك ِر َول َْو ال فَ ْ‬
‫يم)‪.‬‬ ‫اهلل ي َز ِّكي من يشاء واهلل س ِم ِ‬
‫يع َعل ٌ‬
‫َْ َ ُ َ ُ َ ٌ‬ ‫َُ‬
‫ه @@ذه اآلية وما بع @@دها إىل اآلية (‪ )26‬ـ هى مما يتصل حبديث اإلفك ‪ ،‬وي @@دور حوله‬
‫‪ ،‬ليطفىء الن@@ار املش@@تعلة منه ‪ ،‬وي@@ذهب ب@@دخاهنا ال@@ذي انعقد ىف مساء اجملتمع اإلس@@المى كلّه‬
‫‪..‬‬
‫واآلية هنا تنهى املؤم @@نني عن أن يتبع @@وا خط @@وات الش @@يطان ‪ ،‬وأن يس @@تجيبوا له فيما‬
‫يدعوهم إليه ‪ ،‬فإن دعوته ال تكون إال إىل شر وبالء ‪( ..‬فَِإنَّهُ يَأ ُْم ُر بِالْ َف ْح ِـ‬
‫شاء َوال ُْم ْن َك ِر)‬
‫‪1251‬‬

‫وإن مما ي @@دعو إليه الش @@يطان وي @@أمر به ‪ ،‬ويزينه للن @@اس ‪ ،‬هو إطالق األلس @@نة بالس @@وء‬
‫والفحشاء ‪ ،‬تنهش ىف أعراض املؤمنني ‪ ،‬وتشيع الفاحشة فيهم ‪..‬‬
‫فمن أراد أن يك @ @@ون ىف املؤم @ @@نني حقا ‪ ،‬فليمسك لس @ @@انه عن لغو احلديث ‪ ،‬وليص@ @ ّ@م‬
‫أذنيه عن مساع كلم@ @ @ @@ات الس@ @ @ @@وء والفحش ىف املؤم@ @ @ @@نني ‪ ،‬فإنه إن مل يفعل ‪ ،‬واس@ @ @ @@تمع إىل‬
‫كلم @ @@ات الس @ @@وء والفحش ‪ ،‬مث أطلق لس @ @@انه هبا ك @ @@ان ىف ركب الش @ @@يطان ‪ ،‬جيرى وراءه ‪،‬‬
‫ويتبع خطواته ‪ ،‬مع أولئك الذين استجابوا للشيطان ووقعوا ىف شباكه ‪..‬‬
‫َح ٍد أَبَداً ‪)..‬‬ ‫ِ ِ‬ ‫وقوله تعاىل ‪( :‬لَو ال فَ ْ ِ‬
‫ض ُل اهلل َعلَْي ُك ْم َو َر ْح َمتُهُ ما َزكى م ْن ُك ْم م ْن أ َ‬ ‫ْ‬
‫زكى النفس‬ ‫ما زكى ‪ :‬أي ما طهر ‪ ،‬وما خلص من ال@@رجس ‪ ،‬واإلمث ‪ ،‬وص@@ار طيبا ّ‬
‫بعد أن تطهر ‪ ،‬وأزال ما علق به من ريح خبيثة مبا اق @ @ @ @ @@رتف من إمث ‪ ..‬فالزك @ @ @ @ @@اة جتىء بعد‬
‫الطهر وغسل القذر ‪..‬‬
‫وهذا يعىن أن الناس مجيعا هم أبن@اء اخلطيئة ‪ ،‬وأهنم مجيعا ـ مبا ر ّكب فيهم من طبيعة‬
‫معرضون للزلل ‪ ،‬وللوقوع ىف اخلطايا واآلثام ‪..‬‬ ‫حيوانية ـ ّ‬
‫كما يقول الرسول الكرمي ‪« :‬كل ابن آدم خطّاء وخري اخلطائني التوابون» ‪..‬‬
‫مطه@را يتطه@@رون به‬ ‫ولكن اهلل س@@بحانه وتع@@اىل بفض@@له ورمحته بعب@@اده ‪ ،‬قد جعل هلم ّ@‬
‫من آثامهم اليت تعلق هبم ‪ ،‬وهم على طريق احلياة ‪ ..‬وذلك عن طريق العبادات والطاع@@ات‬
‫والقرب@@ات ‪ ..‬فالص@@الة مثال ‪ ،‬هى مطه@@رة ملا بني الفريض@@تني‪ .‬كما ىف احلديث ‪« :‬الص@@لوات‬
‫بينهن ما مل تغش الكب @ @ @ @@ائر» وقد ش@ @ @ @@بهها الرس @ @ @ @@ول‬ ‫اخلمس واجلمعة إىل اجلمعة كف @ @ @ @@ارة ملا ّ‬
‫الكرمي بنهر جار ‪ ،‬يغتسل فيه املصلى‬
‫‪1252‬‬

‫مخس مرات ىف الي@وم ‪ ،‬فق@ال ص@لوات اهلل وس@المه عليه ‪« :‬أرأيتم لو أن هنرا بب@اب أح@دكم‬
‫‪ ،‬يغتسل منه كل ي @@وم مخس م @@رات ‪ ،‬هل يبقى من درنه ش@@ىء؟» ق@@الوا ‪ :‬ال يبقى من درنه‬
‫‪ ،‬قال «فذلك مثل الصلوات اخلمس ‪ ،‬ميحو اهلل هبن اخلطايا»‪.‬‬
‫والزكاة ‪ ،‬مطهرة ‪ @...‬ش@@أهنا ىف ه@@ذا ش@@أن الص@@الة ‪ ،‬كما يق@@ول اهلل تع@@اىل ‪ُ ( :‬خ ْذ ِم ْن‬
‫ص َدقَةً تُطَ ِّه ُر ُه ْم َوُت َز ِّكي ِه ْم بِها) (‪ : 103‬التوبة) ‪..‬‬ ‫ِ‬
‫أ َْموال ِه ْم َ‬
‫وهك @ @@ذا الص @ @@وم ‪ ،‬واحلج ‪ .. ،‬وكل طاعة ‪ ،‬وكل قرية ‪ ،‬هى مما يتطهر به اإلنس@ @@ان‬
‫ويتزكى من ذنوبه وآثامه ‪..‬‬
‫هذا إىل «التوبة» اليت هى الب@@اب الواسع ال@@ذي ي@@دخل منه اآلمثون مجيعا إىل رمحة اهلل‬
‫ب‬‫ومغفرته ‪ ،‬فمن ص @ @ @ @@حت توبته ‪ ،‬ص @ @ @ @@ار نقيا ط @ @ @ @@اهرا ‪ ،‬كي @ @ @ @@وم ولدته أمه ‪( ..‬إِ َّن اهللَ يُ ِح ُّ‬
‫ين) (‪ : 222‬البقرة)‪.‬‬ ‫ين َويُ ِح ُّ‬
‫ب ال ُْمتَطَ ِّه ِر َ‬
‫الت َّ ِ‬
‫َّواب َ‬
‫وه @ @@ذا كله مما يفتح للم @ @@ؤمن الطريق إىل أن يك @ @@ون ىف الط @ @@اهرين ال @ @@زاكني ‪ ،‬ال @ @@ذي‬
‫لك َّن اهللَ ُي َز ِّكي َم ْن يَشاءُ)‪.‬‬ ‫يدخلون مع الداخلني ىف قوله تعاىل ‪( :‬و ِ‬
‫َ‬
‫يم) هو بي @ @@ان للراغ @ @@بني ىف الطّهر وال @ @@تز ّكى ‪ ،‬وذلك‬ ‫وقوله تع@ @@اىل ‪( :‬واهلل س ـ ـ ِم ِ‬
‫يع َعل ٌ‬
‫َ ُ َ ٌ‬
‫ب@ @ @ @@االخنالع عما هم فيه من منك@ @ @ @@رات ‪ ،‬والرج@ @ @ @@وع إىل اهلل ‪ ،‬والتق@ @ @ @@رب إليه ‪ ،‬بالعب@ @ @ @@ادات‬
‫يع) ملا تنطق به أف@ @ @ @@واههم ‪ ،‬وما تتح@ @ @ @@دث به‬ ‫والطاع@ @ @ @@ات ‪ ..‬واهلل س@ @ @ @@بحانه وتع@ @ @ @@اىل ( َسـ ـ ـ ـ ِم ٌ‬
‫يم) مبا ىف قلوهبم من إخالص ىف العمل ‪ ،‬وصدق ىف التوبة ‪..‬‬ ‫ِ‬
‫خواطرهم ( َعل ٌ‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫الس َع ِة أَ ْن ُي ْؤتُوا أُولِي الْ ُق ْربى‬
‫ض ِل ِم ْن ُك ْم َو َّ‬
‫( َوال يَأْتَ ِل أُولُوا الْ َف ْ‬
‫‪1253‬‬

‫ص ـ َف ُحوا ‪ ..‬أَال تُ ِحبُّو َن أَ ْن َيغْ ِفـ َـر اهللُ لَ ُك ْم‬ ‫يل ِ‬


‫اهلل َولَْي ْع ُفــوا َولْيَ ْ‬ ‫ين فِي َس ـبِ ِ‬ ‫ِ‬
‫ين َوال ُْمهــاج ِر َ‬
‫ِ‬
‫َوال َْمســاك َ‬
‫يم)‪.‬‬ ‫واهلل غَ ُف ِ‬
‫ور َرح ٌ‬ ‫َ ُ ٌ‬
‫( َوال يَأْتَ ِل) ‪ :‬أي وال ميتنع ‪ ،‬أو ّ‬
‫يقصر‪.‬‬
‫هذه اآلية الكرمية ‪ ،‬ن@@زلت ىف أىب بكر الص@@ديق ـ رضى اهلل عنه ـ وك@@ان قد حلف أاّل‬
‫ينفق على «مسطح» بعد أن خاض مع من خاضوا ىف ح@@ديث اإلف@@ك‪ .‬وك@@ان مس@@طح قريبا‬
‫ألىب بكر ‪ ،‬وقد ه@@اجر فيمن ه@@اجر إىل املدينة ‪ ،‬وك@@ان فق@@ريا ‪ ،‬يعينه أبو بكر ‪ ،‬وينفق عليه‬
‫من ماله ‪ ،‬وقد انزلق مس@@طح إىل ه@@ذا املنح@@در ‪ ،‬وك@@ان رأسا من رءوس اخلائضني ىف ه@@ذه‬
‫الفتنة‪.‬‬
‫وىف ه @@ذه ال @@دعوة الس @@ماوية ألىب بكر ‪ ،‬تك @@رمي عظيم له ‪ ،‬وإعالء ملنزلته عند اهلل ‪..‬‬
‫إذ دع@@اه احلق س@@بحانه وتع@@اىل إىل اليت هى أحسن ‪ ،‬وهو أن يلقى الس@@يئة باحلس@@نة ‪ ،‬وي@@دفع‬
‫الشر ب@@اخلري ‪ ..‬وه@@ذه املنزلة عالية ال يناهلا ‪ ،‬إال من أراد اهلل هلم الكرامة واإلحس@@ان ‪ ..‬وىف‬
‫ـظ َع ِظ ٍيم) (‪: 35‬‬
‫صـَب ُروا َوما ُيلَ َّقاها إِاَّل ذُو َحـ ٍّ‬ ‫َّ ِ‬
‫ه@@ذا يق@@ول اهلل تع@@اىل ‪َ ( :‬وما ُيلَ َّقاها إِاَّل الذ َ‬
‫ين َ‬
‫فصلت)‪.‬‬
‫ومن وجهة أخ@ @ @ @@رى ‪ ،‬ف@ @ @ @@إن اهلل س@ @ @ @@بحانه وتع@ @ @ @@اىل أرى أبا بكر املثل األعلى ىف ذاته‬
‫يم ‪ )..‬أي فكن‬ ‫ِ‬
‫ـور َرح ٌ‬‫س@ @ @ @@بحانه وتع@ @ @ @@اىل ‪ ،‬إذ وصف ذاته س@ @ @ @@بحانه هنا بقوله ‪َ ( :‬واهللُ غَ ُفـ ـ ـ ٌ‬
‫@رب غف@@ور‬
‫ربانيا أيها الص@@ديق ‪ ،‬وكن غف@@ورا رحيما ‪ ،‬أيها اإلنس@@ان املب@@ارك ‪ ،‬ألنك عبد ل@ ّ‬
‫رحيم ‪ ..‬ومن شأن العبد الصاحل أن ينظر إىل سيده ‪ ،‬ويتّبع سبيله ‪..‬‬
‫وليس ه@@ذا فحسب ‪ ،‬بل إنه تع@@اىل ن@@ادى عب@@ده ‪ ،‬ودع@@اه إىل رح@@اب املغف@@رة بقوله ‪:‬‬
‫(أَال تُ ِحبُّو َن أَ ْن َي ْغ ِف َر اهللُ لَ ُك ْم)؟ ومن ذا ال@@ذي ال حيب أن يغفر اهلل ل@@ه؟‪ .‬وهلذا ك@@ان ج@@واب‬
‫أىب بكر على ه @@ذا الن @@داء الك @@رمي ‪ ،‬وتلك ال @@دعوة املباركة ‪« :‬بلى واهلل يا ربنا ‪ ،‬إنا لنحب‬
‫أن تغفر لنا»‪.‬‬
‫‪1254‬‬

‫ين فِي‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬


‫ين َوال ُْمهــاج ِر َ‬
‫مث إن ىف وصف «مسطح» بقوله تع@@اىل ‪( :‬أُولي الْ ُق ْربى َوال َْمسـاك َ‬
‫اهلل) ـ إث @@ارة ألك @@ثر من عاطفة تعطف أبا بكر على اإلنس @@ان ال @@ذي آذاه ىف ش @@رفه ‪..‬‬‫يل ِ‬‫َس ـبِ ِ‬
‫فهناك عاطفة القرابة ‪ ،‬مث عاطفة احلاجة واملس@@كنة ‪ ،‬مث عاطفة اهلج@@رة ىف س@@بيل اهلل ‪ ..‬وكل‬
‫واح @@دة منها ت @@دعو إىل الرمحة واملغف @@رة ‪ ،‬فكيف إذا اجتمعن مجيعا ىف ه @@ذا اإلنس @@ان ال @@ذي‬
‫أوقعه س @ @@وء حظه فيما وقع في @ @@ه؟ إن هن @ @@اك ألك @ @@ثر من داعية ت @ @@دعو إىل إقالته من عثرته ‪،‬‬
‫والتجاوز عن مساءته ‪..‬‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫ـات ل ُِعنُ ــوا فِي ال ـ ُّـدنْيا َواآْل ِـخـ َر ِة َول َُه ْم‬
‫الت الْم ْؤ ِمن ـ ِ‬
‫ُ‬
‫نات الْغ ــافِ ِ‬
‫(إِ َّن الَّ ِذين يرمــو َن الْم ْحصـ ـ ِ‬
‫ُ َ‬ ‫َ َْ ُ‬
‫يم)‪.‬‬ ‫ِ‬
‫ذاب َعظ ٌ‬ ‫َع ٌ‬
‫هو وعيد ألولئك ال@ @ @ @@ذين مل ميس@ @ @ @@كوا ألس@ @ @ @@نتهم بعد عن اخلوض ىف ه@ @ @ @@ذا احلديث ‪،‬‬
‫وال@ @ @ @@ذين ال زال ىف أنفس@ @ @ @@هم بقية من شك ىف ب@ @ @ @@راءة أم املؤم@ @ @ @@نني وطهرها ‪ ..‬فهى ـ كما‬
‫وص@@فها اهلل س@@بحانه ‪ ،‬وتع@@اىل ـ احملص @@نة ‪ ،‬أي الط @@اهرة املربأة من الس @@وء ‪ ،‬وهى الغافلة عن‬
‫ه @ @ @ @@ذا املنكر ‪ ،‬فلم يطف هبا ‪ ،‬ومل يقع ىف خط @ @ @ @@رة من خط @ @ @ @@رات نفس @ @ @ @@ها ‪ ،‬وهى املؤمنة ‪،‬‬
‫ص@ @نة بإمياهنا الوثيق ‪ ،‬ال @@ذاكرة جلالل رهبا وخش @@يته ‪ ..‬وىف كل ص @@فة‬ ‫الكاملة اإلميان ‪ ،‬املتح ّ‬
‫من ه@@ذه الص@@فات عاصم يعصم املتصف هبا من الزلل ‪ ،‬والوق@@وع ىف ه@@ذا املنكر ‪ ..‬وكيف‬
‫وقد اجتمعن مجيعا ‪ ،‬ىف ّأم املؤم@ @ @@نني ‪ ،‬الص@ @ @@ديقة بنت الص@ @ @@ديق ‪ ،‬واحلبيبة بنت احلبيب إىل‬
‫رسول اهلل ‪ ،‬صلوات اهلل وسالمه عليه؟‬
‫يم) ـ هو اجلزاء الذي يلق@@اه‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ـ وقوله تعاىل ‪( :‬ل ُِعنُوا فِي ُّ‬
‫ذاب َعظ ٌ‬ ‫الدنْيا َواآْل خ َرة َول َُه ْم َع ٌ‬
‫كل من خيوض ىف أعراض املؤمنني واملؤمنات ‪ ،‬ويرميهم بالفاحشة ‪،‬‬
‫‪1255‬‬

‫كذبا ‪ ،‬وهبتانا ‪ ..‬فاحلكم عام ‪ ،‬قائم أبدا الدهر ‪ ،‬وإن كان مساقا ىف معرض احلديث اآلمث‬
‫‪ ،‬الذي رميت به أم املؤم@نني من املن@افقني وال@ذين ىف قل@وهبم م@رض‪ .‬وأنه إذا ك@ان أن@اس ممن‬
‫خاض @ @@وا ىف ه @ @@ذا احلديث قد ت@ @@ابوا ‪ ،‬وأن @ @@ابوا إىل اهلل ‪ ،‬واس@ @@تغفروا ل@ @@ذنبهم ‪ ،‬فقبلهم اهلل ‪،‬‬
‫وغفر هلم ـ ف@@إن هن@@اك أناسا آخ@@رين ‪ ،‬قد هلك@@وا هبذا احلديث ‪ ،‬إذ أمس@@كوا به ىف أنفس@@هم‬
‫يم)‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫‪ ..‬فهؤالء ‪( :‬ل ُِعنُوا فِي ُّ‬
‫ذاب َعظ ٌ‬ ‫الدنْيا َواآْل خ َرة َول َُه ْم َع ٌ‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫ٍِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫( َي ْو َم تَ ْش َه ُد َعلَْي ِه ْم أَلْسـنَُت ُه ْم َوأَيْــدي ِه ْم َوأ َْر ُجلُ ُه ْم بِما كــانُوا َي ْع َملُــو َن َي ْو َمئــذ ُيـ َـوفِّي ِه ُم اهللُ‬
‫ين)‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ْح َّق َو َي ْعلَ ُمو َن أ َّ‬ ‫ِ‬
‫ْح ُّق ال ُْمب ُ‬ ‫َن اهللَ ُه َو ال َ‬ ‫د َين ُه ُم ال َ‬
‫يم) ‪ ،‬أي هلم ع @ @@ذاب‬ ‫ِ‬
‫ـذاب َعظ ٌ‬ ‫الظ @ @@رف هنا ( َي ـ ـ ْـو َم) متعلق بقوله تع @ @@اىل ‪َ ( :‬ول َُه ْم َع ـ ـ ٌ‬
‫عظيم ‪ ،‬ىف اآلخرة ‪ ،‬يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم مبا كانوا يعملون ‪..‬‬
‫فه @@ؤالء ال @@ذين ج @@اءوا هبذا اإلفك ‪ ،‬وم @@اتوا به ‪ ،‬وأب @@وا أن يش @@هدوا على أنفس @@هم ىف‬
‫ال @@دنيا ‪ ،‬وب @@أهنم ك @@انوا ك @@اذبني مف @@رتين ـ ه @@ؤالء ‪ ،‬س @@تنطق ألس @@نتهم ىف اآلخ @@رة مبا أبت أن‬
‫تنطق به ىف ال @@دنيا ‪ ،‬وتق @@وم ش @@اهدة عليهم ب @@أهنم ك @@انوا ك @@اذبني مف @@رتين ‪ ،‬وإهنم ليؤخ @@ذون‬
‫ب @@إقرارهم ه @@ذا ‪ ،‬ومبا ش @@هدت به عليهم ألس @@نتهم ‪ ،‬اليت خرست ىف ال @@دنيا عن ق @@ول احلق ‪،‬‬
‫وانطلقت هتذى وتعوى بالزور والبهتان ‪..‬‬
‫مث إىل ج@ @ @@انب ش@ @ @@هادة ألس@ @ @@نتهم عليهم ىف اآلخ@ @ @@رة مبا نطق@ @ @@وا به ىف ال@ @ @@دنيا من زور‬
‫وهبت@@ان ـ تق@@وم أي@@ديهم وأرجلهم ش@@اهدة عليهم مبا عمل@@وا من منكر ‪ ..‬فالي@@دان ‪ ،‬وال@@رجالن‬
‫ش @@هود أربعة ‪ ،‬تش @@هد على ه @@ذا االدع @@اء ال @@ذي يدعيه اللس @@ان على ص @@احبه ‪ ..‬وك @@أن ه @@ذا‬
‫اللسان متهم عند صاحبه ‪ ،‬ألنه مل ينطق أبدا إال بالزور والبهتان ‪ ..‬فإذا‬
‫‪1256‬‬

‫@ريد ش@@هادته عليه ‪ ،‬ق@@ام من كيانه ش@@هود أربعة ‪ ،‬كلها تص@@دق ه@@ذا اللس@@ان ‪،‬‬ ‫ج@@اء ص@@احبه ل@ ّ‬
‫ال @ @@ذي مل يص @ @@دق أب @ @@دا إال ىف ه @ @@ذا املوق @ @@ف! وه @ @@ذا هو بعض السر ىف تق @ @@دمي اللس @ @@ان على‬
‫األيدى واألرجل فكأنه هو امل ّدعى ‪ ،‬وكأن شهوده على دعواه ‪ ..‬اليدان والرجالن! مث إمنا‬
‫قامت الشهادة عليهم ‪ ،‬أخذوا بذنبهم ‪ ،‬جزاء وفاقا‪.‬‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫ـات لِلطَّيِّبِين والطَّيِّبـ ــو َن لِلطَّيِّبـ ـ ِ‬
‫ـات‬ ‫ـات لِ ْل َخبِيثِين والْ َخبِيثُـ ــو َن لِ ْل َخبِيثـ ـ ِ‬
‫ـات َوالطَّيِّبـ ـ ُ‬ ‫(الْ َخبِيثـ ـ ُ‬
‫ََ ُ‬ ‫ََ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫أُولئِ َ‬
‫ك ُمَب َّر ُؤ َن م َّما َي ُقولُو َن ‪ ..‬ل َُه ْم َم ْغف َرةٌ َو ِر ْز ٌق َك ِر ٌ‬
‫يم)‪.‬‬
‫تعرض اآلية الكرمية هنا دليال من واقع احلياة ‪ ،‬يش@@هد ملا نطقت به اآلي@@ات من ب@@راءة‬
‫أم املؤمنني ‪ ،‬مما رمتها به األلسنة اآلمثة من زور وهبتان ‪..‬‬
‫فالس@@يدة عائشة ‪ ،‬نبتة طيبة ‪ ،‬نبتت ىف بيت طيب ‪ ،‬مل يع@@رف عنه ىف اجلاهلية ش@@ىء‬
‫مما ك@@ان يأتيه اجلاهليون ‪ ،‬من اس@@تعالن ب@@الفجور ومباه@@اة به ‪ ..‬بل ك@@ان ه@@ذا ال@@بيت ‪ ،‬أش@@به‬
‫@دوم وتص@ @@خب ىف بي@ @@وت اجلاهلني ‪ ،‬من س@ @@فك‬ ‫بنس@ @@مة رقيقة ‪ ،‬بني ه@ @@ذه العواصف اليت ت@ @ ّ‬
‫دم @@اء ‪ ،‬واعت @@داء على احلرم @@ات ‪ ،‬حىت إذا ج @@اء اإلس @@الم ك @@انت أول يد تص @@افحه ‪ ،‬وأول‬
‫قلب يتفتح له ‪ ،‬هى يد أىب بكر الص@ديق ‪ ،‬وهو قلب أىب بكر الص@ديق ‪ ..‬وما ذاك إال ألن‬
‫طبيعته ك@@انت مس@@لمة ‪ ،‬أو أق@@رب إىل اإلس@@الم ‪ ،‬من قبل أن جيىء اإلس@@الم ‪ ،‬حىت إذا ك@@ان‬
‫أول ص @@وت ي@ @@ؤذّن ب @@دعوة اإلس@ @@الم ‪ ،‬ك @@ان أبو بكر أول املس @@تجيبني له ‪ ،‬واملتجهني إليه ‪،‬‬
‫حىت لكأنه كان على توقّع له ‪ ،‬وتطلع إليه ‪ !!..‬فمن ظهر هذا الرجل الكرمي النبيل جاءت‬
‫العف نشأت «عائشة» ‪..‬‬ ‫«عائشة» ‪ ،‬وىف بيت هذا الرجل الطاهر ّ‬
‫مث ك@ @@ان أن انتقلت الس@ @@يدة عائشة ‪ ،‬وهى ال ت@ @@زال ىف إه@ @@اب الطفولة ـ انتقلت من‬
‫ه@@ذا ال@@بيت الط@@اهر الك@@رمي ‪ ،‬إىل ال@@بيت األك@@رم بيت النب@@وة ‪ ..‬فك@@ان ىف ه@@ذا ال@@بيت الق@@دس‬
‫مرباها ىف طفولتها ‪ ،‬وصباها ‪ ،‬وشباهبا‪ .‬فشهدت فيه منذ صباها الباكر‬
‫‪1257‬‬

‫البهى ‪ ،‬وميأل قلبها ووج@@داهنا ‪ ،‬علما ‪،‬‬ ‫أن@@وار الس@@ماء ت@@نزل على النيب ‪ ،‬فيغمرها ه@@ذا الن@@ور ّ‬
‫وحكمة ‪ ،‬وطه@ @ @@را ‪ ..‬فك @ @@انت هبذا ‪ ،‬املرأة اليت أخ@ @ @@ذت حبظ النس@ @ @@اء مجيعا من ه @ @@ذا اخلري‬
‫املنزل من الس @ @@ماء ‪ ..‬وكأهنا الش @ @@اهد الق @ @@ائم على أن املرأة ش @ @@ريكة للرجل حىت ىف مق @ @@ام‬
‫النب@@وة ‪ ،‬اليت إن اختص هبا الرج@@ال فك@@ان منهم األنبي@@اء ‪ ،‬ف@@إن النس@@اء مل حيرمن حظهن منها‬
‫‪ ،‬فكان منهن حواريو األنبياء!!‬
‫ف@@امرأة ه@@ذا ش@@أهنا ‪ ،‬وذلك هو منبتها ‪ ،‬ومرباها ‪ ،‬يك@@ون من البعيد بعد املس@@تحيل ‪،‬‬
‫احلرة ‪ ،‬على ش@رفها وخلقها ‪ ،‬ومروءهتا‬ ‫@زل وأن تس@@قط ‪ ،‬وأن ت@أتى من املنكر ما تأب@اه ّ‬ ‫أن ت ّ‬
‫‪!..‬‬
‫ومن جهة أخ@ @@رى ‪ ..‬ف@ @@إن اهلل ال@ @@ذي اص@ @@طفى النيب حلمل رس@ @@الة الس@ @@ماء ‪ ،‬وص@ @ ّفى‬
‫جوهره من كل شائبة ‪ ،‬حىت لقد كان نورا أقرب إىل هذا الن@ور ال@ذي ي@نزل عليه وحيا من‬
‫ربه ـ إن ال@@ذي اص@@طفى حمم@@دا هلذا ‪ ،‬قد اص@@طفى له ـ فيما اص@@طفى ـ أزواجه ‪ ،‬وأص@@حابه ‪،‬‬
‫ومواليه ‪ ،‬ومن كان على صلة قريبة مدانية له ‪..‬‬
‫وقد ك@ @@انت الس@ @@يدة عائشة ‪ ،‬أق@ @@رب املق@ @@ربني إىل رس@ @@ول اهلل ‪ ،‬وأش @ @ ّدهم ص@ @@لة به ‪،‬‬
‫وأك@ @@ثرهم اطالعا على س @ @@ره وعالنيت @ @@ه‪ .‬فهى ـ واألمر ك @ @@ذلك ـ أص @ @@فى من اص@ @@طفى اهلل‬
‫سبحانه وتعاىل من النساء ـ إن مل يكن من الرج@@ال ـ لص@@حبة نبيه ‪ ،‬ومرافقته رفقة مالزمة ‪،‬‬
‫ىف أخطر دور من أدوار رسالته ‪ ،‬وأكثرها ازدحاما والتحاما باألحداث!‪.‬‬
‫ـات لِلطَّيِّبِين والطَّيِّب ــو َن لِلطَّيِّب ـ ِ‬
‫ـات) ك @@ان مفه @@وم ه @@ذا‬ ‫ف @@إذا ج @@اء قوله تع @@اىل ‪َ ( :‬والطَّيِّب ـ ُ‬
‫ََ ُ‬
‫@النيب ‪ ،‬وص@@حبتها له ‪ ،‬وجعلها زوجا‬ ‫واض@@حا أمتّ وض@@وح وأبينه ‪ ،‬ىف التق@@اء الس@@يدة عائشة ب@ ّ‬
‫يسكن إليها ‪ ،‬ويس@@عد بص@@حبتها ‪ ..‬إهنا طيبة أطيب الطيب@ات ‪ ،‬ال تك@@ون إال لطيّب بفض@@لها‬
‫طيبا ‪ ،‬وإن ص @@احبها لطيب ‪ ،‬أطيب الطي @@بني ‪ ،‬ال يتصل به ‪ ،‬وال ي @@دخل ىف حياته إال طيبة‬
‫‪ ،‬أشكل الطيبات به ‪ ،‬وأقرهبن طيبا إىل طيبه!‪.‬‬
‫‪1258‬‬

‫ف@ @ @ @@إذا ك@ @ @ @@ان ىف احلي@ @ @ @@اة طيب ‪ ،‬وعفة ‪ ،‬وطهر ‪ ،‬فهنا الطيب ‪ ،‬والعفة والطهر ‪ ،‬وإذا‬
‫تزل ‪ ،‬وأنثى ال تأمث ‪ ،‬فهى هذه املرأة ‪ ،‬وهى تلك األنثى!! ‪..‬‬ ‫كان ىف النساء امرأة ال ّ‬
‫ه@@ذا هو منطق الواقع ‪ ،‬فيما تنطق به احلي@@اة ‪ ،‬ىف خمتلف البيئ@@ات ‪ ،‬وىف كل األزم@@ان‬
‫‪ ..‬الطيّب ال يقبل إال طيبا ‪ ،‬من ق@ @ @ @@ول أو عمل ‪ ،‬أو زوج أو ص@ @ @ @@ديق ‪ ..‬واخلبيث ال يقبل‬
‫إال اخلبيث ‪ ،‬من ق @@ول أو عمل ‪ ،‬أو زوج ‪ ،‬أو ص @@احب ‪ .. ،‬وه @@ذا ما يشري إليه احلديث ‪:‬‬
‫«األرواح جنود جمندة ‪ ،‬ما تعارف منها ائتلف ‪ ،‬وما تنافر منها اختلف» ‪..‬‬
‫وىف اآلية أمور ‪..‬‬
‫ـات) على (الطَّيِّب ـ ُ ِ ِ‬‫ـات لِ ْل َخبِيثِين ‪ ،‬والْ َخبِيثُ ــو َن لِ ْل َخبِيث ـ ِ‬
‫ف @@أوال ‪ :‬ق@ @ ّدم (الْ َخبِيث ـ ُ‬
‫ـات للطَّيِّب َ‬
‫ين‬ ‫َ َ‬
‫والطَّيِّبو َن لِلطَّيِّ ِ‬
‫بات ‪)..‬‬ ‫َ ُ‬
‫وذلك ألن اخلط@ @ @@اب موجه أوال إىل أولئك ال @ @ @@ذين خبث@ @ @@وا نفسا ‪ ،‬ودينا ‪ ،‬ف@ @ @@أطلقوا‬
‫ألس @@نتهم ىف الطيب @@ات والطي @@بني من املؤم @@نني ‪ ،‬وأهنم لو مل يكون @@وا على تلك الص @@فة لظن @@وا‬
‫باملؤمنني واملؤمنات خريا ‪ ،‬ولكانوا يقولون إذ مسعوا اللغط هبذا احلديث ‪( :‬ما يَ ُكو ُن لَنا أَ ْن‬
‫وصى اهلل املؤمنني بذلك ‪ ،‬ودعاهم إليه ‪..‬‬ ‫ِ‬ ‫َنتَ َكلَّ َم بِهذا ‪ُ ..‬س ْبحانَ َ‬
‫يم) كما ّ‬ ‫ك هذا ُب ْهتا ٌن َعظ ٌ‬
‫وثانيا ‪ :‬ق@ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ ّدمت املرأة على الرجل هنا ىف احلالني ‪ :‬اخلبث والطّيب ‪ ..‬وذلك ألن‬
‫املرأة هى اليت يطلب هلا كفؤها من الرج@@ال ‪ ،‬فال يصح أن ت@@تزوج مبن هو أن@@زل منها ش@@رفا‬
‫وقدرا ‪..‬‬
‫والكفاءة هنا منظور إليها من ناحية التقوى ‪ ،‬والعفة ‪ ،‬والطهر ‪..‬‬
‫فاخلبيثة ‪ ،‬كفؤها من هو أخبث منها خبثا ‪..‬‬
‫‪1259‬‬

‫والطيبة ‪ ،‬كفؤها من هو أطيب منها طيبا ‪..‬‬


‫ـك ُمَبـ ـ ـ َّـر ُؤ َن ِم َّما َي ُقولُـ ـ ــو َن ‪ )..‬تشري إىل من‬
‫وثالثا ‪ :‬اإلش @ @ @@ارة ىف قوله تع @ @ @@اىل ‪( :‬أُولئِـ ـ ـ َ‬
‫مس@@هم ش@@ىء من ه@@ذا احلديث اآلمث ‪ ،‬وهم الرس@@ول ـ ص@@لوات اهلل وس@@المه عليه ـ وعائشة ـ‬
‫رضى اهلل عنها ‪ ،‬وأبواها ‪ ،‬وص @ @@فوان بن املعطل ‪ ..‬فه @ @@ؤالء قد ب @ @@رأهم اهلل من كل دنس ‪،‬‬
‫وعاف @@اهم من كل س @@وء ‪ ،‬ودمغ هبذا الق @@ول الزائف اآلمث أهله ‪ ..‬على حني أج @@زل الث @@واب‬
‫ِ‬
‫بضر ‪( :‬ل َُه ْم َمغْف َرةٌ َو ِر ْز ٌق َك ِر ٌ‬
‫يم) ‪..‬‬ ‫العظيم ‪ ،‬والرزق الكرمي ملن مسهم هذا القول ّ‬
‫____________________________________‬

‫اآليات ‪ 27( :‬ـ ‪)29‬‬


‫س ـ ـلِّ ُموا َعلى‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫س ـ ـوا َوتُ َ‬
‫آمنُـ ــوا ال تَ ـ ـ ْد ُخلُوا ُبيُوت ـ ـاً غَْـيـ َـر ُبيُـ ــوت ُك ْم َحتَّى تَ ْستَأْن ُ‬
‫ين َ‬
‫(يا أ َُّي َها الذ َ‬
‫َحــداً فَال تَ ـ ْد ُخلُوها َحتَّى‬ ‫أ َْهلِها ذلِ ُكم َخيــر لَ ُكم لَعلَّ ُكم تَ ـ َذ َّكرو َن (‪ )27‬فَ ـِإ ْن لَم تَ ِ ـ ِ‬
‫ج ُدوا فيها أ َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ْ ٌْ ْ َ ْ‬
‫يم (‪)28‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫يـ ـ ْـؤذَ َن لَ ُكم وإِ ْن قِيـ ــل لَ ُكم ار ِجعـ ــوا فَـ ـ ِ‬
‫ـارجعُوا ُهـ ـ َـو أَ ْزكى لَ ُك ْم َواهللُ بما َت ْع َملُـ ــو َن َعل ٌ‬ ‫ْ‬ ‫َ ُ ْ ُ‬ ‫َْ‬ ‫ُ‬
‫ـاح أَ ْن تَـ ْد ُخلُوا ُبيُوتـاً غَْـي َـر َم ْسـ ُكونٍَة فِيها َمتــاعٌ لَ ُك ْم َواهللُ َي ْعلَ ُم ما ُت ْبـ ُدو َن َوما‬ ‫س َعلَْي ُك ْم ُجنـ ٌ‬
‫ل َْي َ‬
‫تَكْتُ ُمو َن) (‪)29‬‬
‫____________________________________‬
‫التفسري ‪:‬‬
‫ج @@اءت ه @@ذه اآلي @@ات الثالث ‪ ،‬بعد ح @@ديث اإلفك ‪ ،‬ال @@ذي ك @@ان املدخل إليه ‪ ،‬هو‬
‫ه@@ذا احلديث ال@@ذي ش@@غل الس@@يدة عائشة عن أن تك@@ون ىف ال@@ركب ‪ ،‬وقد لقيها على الطريق‬
‫ص@ @@فوان بن املعطل ‪ ،‬فحملها على بع@ @@ريه ‪ ،‬وأحلقها بك@ @@رب الرس@ @@ول ‪ ..‬فك@ @@ان املن@ @@افقني ‪،‬‬
‫ومن ىف قلوهبم مرض أن ينظروا إىل هذه احلادثة بنفوس‬
‫‪1260‬‬

‫مريضة ‪ ،‬وأه@@واء متس@@لطة ‪ ،‬وأن يعم@@وا عن ه@@ذا اجلوهر الك@@رمي املص @ ّفى ال@@ذي ينظ@@رون إليه‬
‫الصحاىب الذي كان ىف خدمتها ‪..‬‬ ‫ّ‬ ‫‪ ..‬سواء ىف ذلك أم املؤمنني ‪ ،‬أو‬
‫نق@@ول ـ ج@@اءت ه@@ذه اآلي@@ات الثالث ‪ ،‬بعد ح@@ديث اإلفك لتقيم املس@@لمني على أدب‬
‫خ @@اص ‪ ،‬يتصل ب @@البيوت وحرمتها ‪ ،‬حىت ال تك @@ون مظنّة لريبة ‪ ،‬أو موض @@عا لتهمة ‪ ..‬ذلك‬
‫والنف@وس ـ إذ تس@تقبل ه@ذه اآلي@ات ـ مهي@@أة لقب@ول كل ما ي@دفع التهم ‪ ،‬وينفى ال@ّ@ريب ‪ ،‬بعد‬
‫النىب ‪ ،‬وزوجه ‪ ،‬وصديقه الص@@ديق ‪ ،‬وص@@حابته ‪ ،‬وص@@احلو‬ ‫تلك التجربة القاسية اليت عاشها ّ‬
‫املؤمنني ‪..‬‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫س ـ ـلِّ ُموا َعلى‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫س ـ ـوا َوتُ َ‬
‫آمنُـ ــوا ال تَ ـ ـ ْد ُخلُوا ُبيُوت ـ ـاً غَْـيـ َـر ُبيُـ ــوت ُك ْم َحتَّى تَ ْستَأْن ُ‬
‫ين َ‬ ‫(يا أ َُّي َها الذ َ‬
‫أ َْهلِها ذلِ ُك ْم َخ ْي ٌر لَ ُك ْم ل ََعلَّ ُك ْم تَ َذ َّك ُرو َن)‬
‫فهذا أول مادة ىف دستور هذا األدب الرباىنّ ‪ ،‬ىف تزاور املسلمني ‪ ،‬وتواصلهم بلق@اء‬
‫بعض@@هم بعضا ىف ال@@بيوت ‪ ..‬وهو أاّل ي@@دخل أحد بيتا غري بيته حىت يس@@تأنس ‪ ،‬ويس@@لم على‬
‫أهله ‪..‬‬
‫واالس@ @ @@تئناس ‪ ،‬هو طلب األنس ‪ ،‬وإزالة الوحشة ‪ ،‬وذلك باس@ @ @@تئذان أهل ال@ @ @@بيت ‪،‬‬
‫ولق@@اء من يلق@@اه منهم على ب@@اب ال@@دار ‪ ،‬ف@@إذا لقيه أحد س@@لم عليه ‪ ..‬ف@@إن أذن له بال@@دخول‬
‫دخل ‪ ،‬وإن مل يأذن له رجع ‪ ..‬وهذا ما يشري إىل قوله تعاىل ‪:‬‬
‫ـل لَ ُك ُم ْار ِجعُ ــوا‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫(فَ ـِإ ْن ل ِ‬
‫َحــداً فَال تَ ـ ْد ُخلُوها َحتَّى ُيـ ْـؤذَ َن لَ ُك ْم ‪َ ..‬وإ ْن قي ـ َ‬ ‫َم تَجـ ُدوا فيها أ َ‬ ‫ْ‬
‫يم)‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫فَ ْارجعُوا ُه َو أَ ْزكى لَ ُك ْم َواهللُ بما َت ْع َملُو َن َعل ٌ‬
‫وىف قوله تعاىل ‪( :‬فَال تَ ْد ُخلُوها َحتَّى ُي ْؤذَ َن لَ ُك ْم) أي ال دخول‬
‫‪1261‬‬

‫أبدا إال بعد إذن ‪ ..‬فإن مل يكن أحد ىف ال@بيت فال دخ@ول أب@دا ‪ ..‬وإن ك@ان ىف ال@بيت أحد‬
‫‪ ،‬فال دخول إال بعد التسليم ‪ ،‬واإلذن ‪..‬‬
‫وىف قوله تع@ @ @ @@اىل ‪ُ ( :‬هـ ـ ـ َـو أَ ْزكى لَ ُك ْم) أي ه@ @ @ @@ذا املوقف هو أزكى لكم ‪ ،‬وهو أن ال‬
‫دخول أبدا إذا مل يكن أحد ‪ ،‬وأن ال دخول إذا كان أحد إال بعد تسليم وإذن‪.‬‬
‫والض @@مري «ه @@و» يع @@ود إىل مص @@در مفه @@وم@ من قوله تع @@اىل (فَ ـ ْـار ِجعُوا) أي ف @@الرجوع‬
‫أزكى لكم ‪ ،‬ف@ @ @@إن ال@ @ @@دخول بغري إذن هو تط ّفل ‪ ،‬وع@ @ @@دوان على حرم@ @ @@ات غ@ @ @@ريكم ‪ ،‬فقد‬
‫يك@@ون ع@@دم اإلذن لكم راجعا إىل أن ال@@ذي تري@@دون لق@@اءه ال يريد لق@@اءكم ‪ ،‬أو قد يك@@ون‬
‫حيب أن تطلع @@وا عليه منه ‪ ..‬أو حنو ه @@ذا ‪ ..‬ف @@البيوت سرت ألهلها ‪ ،‬ودخوهلا‬ ‫ألنه ىف أمر ال ّ‬
‫بغري إذن ابت@ @@داء ‪ ،‬هو أش@ @@به باللصوص@ @@ية ‪ ،‬أما إن ك@ @@ان ال@ @@دخول بعد طلبكم اإلذن ‪ ،‬مث مل‬
‫يؤذن لكم فهو اعتداء صارخ ‪ ،‬فوق أنه تط ّفل وصغار!@‬
‫يم) حتذير ملن حتدثهم أنفس @ @@هم بانته @ @@اك‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ـ وىف قوله تع @ @@اىل ‪َ ( :‬واهللُ بما َت ْع َملُ ـ ــو َن َعل ٌ‬
‫وأدهبم بأدبه‪.‬‬ ‫حرمات اهلل ‪ ،‬أو ال يأمترون هبذا األمر ‪ ،‬الذي أمرهم اهلل به ‪ّ ،‬‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫ـاح أَ ْن تَ ـ ـ ْد ُخلُوا ُبيُوت ـ ـاً غَْـي ـ َـر َم ْس ـ ـ ُكونٍَة فِيها َمتـ ــاعٌ لَ ُك ْم َواهللُ َي ْعلَ ُم ما‬
‫س َعلَْي ُك ْم ُجنـ ـ ٌ‬
‫(ل َْي َ‬
‫ُت ْب ُدو َن َوما تَكْتُ ُمو َن)‪.‬‬
‫هذا استثناء من األمر العام باالستئذان قبل دخول البيوت ‪ ،‬وهبذا االستثناء يفهم أن‬
‫املراد هبذه ال @@بيوت هى ال @@بيوت املس @@كونة ‪ ،‬وهى اليت يك @@ون احلرج واقعا على من ي @@دخلها‬
‫بغري إذن ‪..‬‬
‫أما البيوت غري املسكونة ‪ ،‬كاألمكنة العامة ‪ ،‬مثل النّزل ‪ ،‬واملطاعم ‪ ،‬وحنوها‬
‫‪1262‬‬

‫فال ح@ @ @ @ @@رج ىف دخوهلا بغري إذن ‪ ..‬إذ ك@ @ @ @ @@انت طبيعتها ال تقتضى إذنا ‪ ،‬بل إهنا تس@ @ @ @ @@تدعى‬
‫الواردين إليها ‪ ،‬وأبواهبا مفتوحة هلم دائما ‪..‬‬
‫واملراد باملت @ @@اع ىف قوله تع @ @@اىل ‪( :‬فِيها َمت ـ ــاعٌ لَ ُك ْم) هو املنفعة واحلاجة ‪ ،‬وليس املراد‬
‫أن يكون هلم فيها أمتعة‪.‬‬
‫ـ وىف قوله تع@ @@اىل ‪َ ( :‬واهللُ َي ْعلَ ُم ما ُت ْبـ ـ ُدو َن َوما تَكْتُ ُمــو َن) إش@ @@ارة إىل أن ه@ @@ذا األدب‬
‫املطل @@وب رعايته ىف دخ@ @@ول ال @@بيوت املس @@كونة ـ هو مما يقضى به الظ @@اهر ‪ ،‬وليس امتثاله ‪،‬‬
‫غض البصر ‪ ،‬ورعاية احلرم@ @ @ @@ات ‪ ،‬وحفظ‬ ‫حيل املؤمن من ّ‬ ‫وال@ @ @ @@دخول بعد االس@ @ @ @@تئذان ‪ ،‬مما ّ‬
‫أس @@رار ال @@بيوت ‪ ،‬وما يطلع عليه ال @@ذي ي @@دخلها من ش @@ئوهنا وما جيرى فيها ـ ف @@إن هلذا كلّه‬
‫حسابه عند اهلل ‪ ،‬ال@@ذي يعلم ما خنفى وما نعلن ‪ ،‬وهو حياسب على كل ما نق@@ول أو نعمل‬
‫وسر ‪..‬‬
‫ىف علن ّ‬
‫____________________________________‬

‫اآليات ‪ 30( :‬ـ ‪)31‬‬


‫ِ‬ ‫وج ُه ْم ذلِـ َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫(قُل لِل ِ ِ‬
‫ـك أَ ْزكى ل َُه ْم إِ َّن اهللَ َخبـ ٌ‬
‫ـير‬ ‫ين َيغُضُّوا م ْن أَبْصــا ِره ْم َويَ ْح َفظُــوا ُفـ ُـر َ‬ ‫ْم ْؤمن َ‬‫ْ ُ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ض ْ ِ‬ ‫ص ـَنعو َن (‪ )30‬وقُــل لِلْم ْؤ ِمن ـ ِ‬
‫ين‬
‫وج ُه َّن َوال ُي ْبــد َ‬ ‫ْن ُفـ ُـر َ‬ ‫ض ـ َن م ْن أَبْصــا ِره َّن َويَ ْح َفظ َ‬ ‫ـات َي ْغ ُ‬ ‫َ ْ ُ‬ ‫بِما يَ ْ ُ‬
‫ين ِزينََت ُه َّن إِالَّ لُِبعُــولَتِ ِه َّن أ َْو‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِزينَته َّن إِالَّ ما ظَهر ِم ْنها ولْي ْ ِ ِ‬
‫ض ِربْ َن ب ُخ ُم ِره َّن َعلى ُجيُوب ِه َّن َوال ُي ْبــد َ‬ ‫ََ‬ ‫ََ‬ ‫َُ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫آب ــائِ ِه َّن أ َْو آب ــاء ُبعُ ــولَتِ ِه َّن أ َْو أَبْن ــائِ ِه َّن أ َْو أَبْن ــاء ُبعُ ــولَتِ ِه َّن أ َْو إِ ْخــوانِ ِه َّن أ َْو بَنِي إِ ْخــوانِ ِه َّن أ َْو بَنِي‬
‫ـال أَ ِو الطِّْف ِـل‬ ‫الرج ِ‬ ‫ين غَْيـ ِر أُولِي اإْلِ ْربَـِـة ِم َن ِّ‬ ‫ِِ‬
‫ت أَيْما ُن ُه َّن أَ ِو التَّابع َ‬ ‫َخواتِ ِه َّن أ َْو نِسائِ ِه َّن أ َْو ما َملَ َك ْ‬ ‫أَ‬
‫ين ِم ْن ِزينَتِ ِه َّن‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ ِ‬ ‫رات النِّس ـ ـ ِ‬ ‫الَّ ِذين لَم يظ َْهـ ــروا َعلى َع ـ ــو ِ‬
‫ضـ ـ ـ ِربْ َن بـ ـ ـأ َْر ُجل ِه َّن ل ُي ْعلَ َم ما يُ ْخف َ‬
‫ـاء َوال يَ ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ َْ ُ‬
‫اهلل َج ِميعاً أ َُّي َها ال ُْم ْؤ ِمنُو َن ل ََعلَّ ُك ْم ُت ْفلِ ُحو َن) (‪)31‬‬ ‫وتُوبوا إِلَى ِ‬
‫َ ُ‬
‫____________________________________‬
‫‪1263‬‬

‫التفسري ‪:‬‬
‫هات @ @@ان اآليت @ @@ان تش @ @@رحان تلك اإلش @ @@ارة اخلفية اليت ج @ @@اءت ىف قوله تع @ @@اىل ىف اآلية‬
‫الس @ @ @@ابقة عليهما ىف قوله تع @ @ @@اىل ‪َ ( :‬واهللُ َي ْعلَ ُم ما ُت ْبـ ـ ـ ُدو َن َوما تَكْتُ ُـم ـ ــو َن ‪ )..‬حيث ج @ @ @@اءت‬
‫غض األبص@@ار ‪ ،‬وحفظ الف@@روج ‪ ،‬وهى أم@@ور تقع غالبا ىف خف@@اء وسرت‬ ‫اآليت@@ان ت@@دعوان إىل ّ‬
‫‪ ..‬فج@ @ @@اءت اآليت@ @ @@ان تص@ @ @@رحان ب @ @@األمر مبا هو مطل@ @ @@وب من املؤمن ‪ ،‬واملؤمنة ‪ ،‬وهو غض‬
‫البصر ‪ ،‬وحفظ الفرج ‪..‬‬
‫وقوله تعاىل ‪:‬‬
‫ِ‬ ‫وج ُه ْم ذلِـ َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫(قُل لِل ِ ِ‬
‫ـك أَ ْزكى ل َُه ْم إِ َّن اهللَ َخبـ ٌ‬
‫ـير‬ ‫ين َيغُضُّوا م ْن أَبْصــا ِره ْم َويَ ْح َفظُــوا ُفـ ُـر َ‬
‫ْم ْؤمن َ‬ ‫ْ ُ‬
‫بِما يَ ْ‬
‫صَنعُو َن)‪.‬‬
‫موجه إىل املؤم@@نني ‪ ،‬ال@@ذين هم حبكم إمياهنم باهلل ‪ ،‬وم@@راقبتهم له ‪ ،‬أهل ألن‬ ‫اخلطاب ّ‬
‫ميتثلوا أمر اهلل ويستجيبوا له ‪..‬‬
‫وغض البصر ‪ ،‬هو كس @@ره ‪ ،‬وع @@دم ملء العني من النظر إىل احملرم @@ات من النس @@اء ‪،‬‬ ‫ّ‬
‫خمالسة ‪ ،‬أو معالنة ‪ ..‬ف @ @@إن النظر هو رس @ @@ول الش @ @@يطان إىل حتريك الش @ @@هوة ‪ ،‬وال @ @@دعوة إىل‬
‫الفاحشة ‪..‬‬
‫وق ّدم الرجال على النساء ‪ ،‬ألن النساء ‪ ،‬عورة ‪ ،‬والنظر إليهن يدعو إىل الفتنة أكثر‬
‫من نظر النساء إىل الرجال ‪..‬‬
‫وقوله تعاىل ‪:‬‬
‫ين ِزينََت ُه َّن إِاَّل‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ض ْ ِ‬ ‫(وقُ ــل لِلْم ْؤ ِمن ـ ِ‬
‫وج ُه َّن َوال ُي ْب ــد َ‬ ‫ضـ ـ َن م ْن أَبْص ــا ِره َّن َويَ ْح َفظ َ‬
‫ْن ُفـ ُـر َ‬ ‫ـات َي ْغ ُ‬ ‫َ ْ ُ‬
‫ـاء بع ـ ــولَتِ ِه َّن أَو أَبن ـ ــائِ ِه َّن أَو أَبن ـ ـ ِ‬
‫ـاء ُبعُ ـ ــولَتِ ِه َن أ َْو إِ ْخـ ــوانِ ِه َّن أ َْو بَنِي‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫ْ ْ‬ ‫ْ ْ‬ ‫ل ُبعُ ـ ــولَت ِه َّن أ َْو آب ـ ــائ ِه َّن أ َْو آب ـ ـ ُ ُ‬
‫ين غَْيـ ِر أُولِي اإْلِ ْربَـ ِـة ِم َن‬ ‫ِِ‬
‫ت أَيْمــا ُن ُه َّن أَ ِو التَّابع َ‬ ‫َخــواتِ ِه َّن أ َْو نِســائِ ِه َّن أ َْو ما َملَ َك ْ‬ ‫إِ ْـخـوانِ ِه َّن أ َْو بَنِي أ َ‬
‫َّ ِ‬ ‫ِّ ِ‬
‫َم يَظ َْه ُروا َعلى‬ ‫ين ل ْ‬‫الرجال أَ ِو الطِّْف ِل الذ َ‬
‫‪1264‬‬

‫ضـ ِربْن بِـأَرجلِ ِه َّن لِي ْعلَم ما ي ْخ ِفين ِمن ِزينَتِ ِه َّن وتُوب ــوا إِلَى ِ‬
‫اهلل َج ِميعـاً أ َُّي َها‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َ ُ‬ ‫ُ َ ُ َ ْ‬ ‫َعـ ْـورات النِّســاء َوال يَ ْ َ ْ ُ‬
‫ال ُْم ْؤ ِمنُو َن ل ََعلَّ ُك ْم ُت ْفلِ ُحو َن)‪.‬‬
‫ه@ @@ذه اآلية موجهة إىل النس@ @@اء ‪ ،‬وإىل ما ينبغى أن يأخ@ @@ذن أنفس@ @@هن به ‪ ،‬من أدب ‪،‬‬
‫واحتشام ‪ ،‬حىت ال يتعرضن للفتنة ‪ ،‬أو يقعن حتت دائرة الشك أو االهتام ‪..‬‬
‫ِ‬ ‫ض ْ ِ‬
‫وج ُه َّن‬
‫ْن ُف ـ ُـر َ‬‫ض ـ ـ َن م ْن أَبْصـ ــا ِره َّن َويَ ْح َفظ َ‬ ‫وأول ما يأخ@ @@ذن به أنفس@ @@هن ‪ ،‬هو أن ( َي ْغ ُ‬
‫‪ )..‬ه @ @ @@ذا هو األمر الع @ @ @@ام ‪ ،‬ال @ @ @@ذي يطلب منهن امتثاله ‪ ،‬فال متأل املرأة عينها من رجل غري‬
‫حمرم هلا ‪ ،‬وأن حتفظ فرجها ‪ ..‬فه@ @ @ @ @ @ @@ذا وذاك أمانة هى مؤمتنة عليها ‪ ،‬وليس من س@ @ @ @ @ @ @@لطان‬
‫عليها ‪ ،‬إال دينها وض @@مريها ‪ ،‬وع ّفتها ‪ ..‬وقد اق @@رتن األمر بغض األبص @@ار حبرف من ال @@ذي‬
‫تاما ‪ ،‬وهلذا مل جتىء من اليت‬ ‫يغض البصر ‪ ،‬ويقفل قفال ّ‬ ‫يفيد التبعيض ‪ ،‬ألنه ال ميكن أن ّ‬
‫للتبعيض مع حفظ الف@ @@روج ‪ ،‬ألن احلفظ هنا ال أبع@ @@اض له ‪ ..‬مث هن @@اك أم@ @@ور ‪ ..‬هى ذرائع‬
‫إىل الفتنة واإلغراء هبا ‪ ،‬من جانب الرجال ‪ ..‬فعلى املرأة أن تس ّد ه@ذه ال@ذرائع وتغلق ه@@ذه‬
‫النوافذ ‪ ،‬اليت تط@ @ ّ@ل هبا الفتنة منها على الرج@ @@ال ‪ ،‬فتك@ @@ون ب@ @@ذلك داعية فتنة وإغ@ @@راء بالفتنة‬
‫سواء قصدت إىل هذا أم مل تقصده ‪..‬‬
‫وهذه ال ّذرائع هى ما جاء مفصال ىف اآلية على هذا الرتتيب ‪:‬‬
‫ين ِزينََت ُه َّن إِاَّل ما ظَ َه َر ِم ْنها ‪ )..‬أي ال يكشفن من أنفس@هن إاّل ما ال س@بيل‬ ‫ِ‬
‫ـ ( َوال ُي ْبد َ‬
‫إىل سرته وإخفائه ‪ ،‬كالعينني ‪ ،‬والك ّفني ‪ ،‬والقدمني‪.‬‬
‫فاملرأة كلّها «زينة» ىف عني الرجل ‪ ..‬حىت صوهتا ‪ ..‬ولكن الشريعة اإلسالمية نافية‬
‫للح@@رج ‪ ..‬وأمر املرأة بإخف@@اء كياهنا كلّه ‪ ،‬مما ال حتتمله النف@@وس ‪ ،‬وال تقبله احلي@@اة ‪ ..‬ومن‬
‫هنا ك@ @@ان االس@ @@تثناء بقوله تع@ @@اىل ‪( :‬إِاَّل ما ظَ َـه ـ َـر ِم ْنها) أي إاّل ما ال ب @ @ ّد من ظه@ @@وره ‪ ،‬حىت‬
‫تعيش املرأة ىف احلياة ‪ ،‬وتشارك فيها ‪ ،‬فتنظر بعينيها وتعمل بيديها ‪ ،‬وتسعى بقدميها ‪..‬‬
‫‪1265‬‬

‫ض ِربْ َن بِ ُخ ُم ِر ِه َّن َعلى ُجيُوبِ ِه َّن)‪.‬‬ ‫ـ ( َولْيَ ْ‬


‫الضرب ‪ :‬وضع الشيء على الشيء ىف إحكام‪.‬‬
‫واخلمر ‪ :‬مجع مخار ‪ ،‬وهو ما تسرت به املرأة حنرها ‪..‬‬
‫واجليوب ‪ :‬مجع جيب ‪ ،‬وهو فتحة الثوب ‪ ،‬بني النحر ‪ ،‬والعنق ‪..‬‬
‫واملعىن ‪ :‬أنه جيب عليهن سرت العنق والنحر ب@@اخلمر ‪ ،‬وض@@رهبا على العنق ‪ ،‬وإرس@@اهلا‬
‫إىل النحور ‪..‬‬
‫ـاء بع ــولَتِ ِه َّن أَو أَبن ــائِ ِه َّن أَو أَبن ـ ِ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫ـاء‬ ‫ْ ْ‬ ‫ْ ْ‬ ‫ين ِزينََت ُه َّن إِاَّل ل ُبعُ ــولَت ِه َّن أ َْو آب ــائ ِه َّن أ َْو آب ـ ُ ُ‬
‫ـ ( َوال ُي ْب ــد َ‬
‫َخــواتِ ِه َّن أ َْو نِســائِ ِه َّن أ َْو ما َملَ َك ْ‬
‫ت أَيْمــا ُن ُه َّن أَ ِو‬ ‫ُبعُــولَتِ ِه َّن أ َْو إِ ْـخـوانِ ِه َّن أ َْو بَنِي إِ ْـخـوانِ ِه َّن أ َْو بَنِي أ َ‬
‫رات الن ِ‬
‫ِّساء)‪.‬‬ ‫جال ‪ ..‬أَ ِو الطِّْف ِل الَّ ِذين لَم يظ َْهروا َعلى َعو ِ‬ ‫الر ِ‬ ‫ين غَْي ِر أُولِي اإْلِ ْربَِة ِم َن ِّ‬ ‫ِِ‬
‫ْ‬ ‫َ َْ ُ‬ ‫التَّابع َ‬
‫فه@ @@ؤالء األص@ @@ناف من الرج @ @@ال ‪ ،‬هم حمارم للم@ @@رأة ‪ ،‬أو أش @ @@به باحملارم هلا ‪ ..‬وليس‬
‫عليها من جناح ىف أن تتحفف كثريا أو قليال من هذا احلظر املضروب عليها ‪..‬‬
‫ين ِزينََت ُه َّن إِاَّل لُِبعُــولَتِ ِه َّن) أي أزواجهن ‪ ..‬فليس على املرأة‬ ‫ِ‬
‫ـ فقوله تع@@اىل ‪َ ( :‬وال ُي ْبــد َ‬
‫حرج أن تبدى زينتها كلها أو بعضها للزوج‪.‬‬
‫ـ (أ َْو آبـائِ ِه َّن ‪ )..‬وليس عليها من ح@@رج ك@@ذلك ىف أن تب@@دى زينتها كلها أو بعض@@ها‬
‫ىف حضور أبيها‪.‬‬
‫آباء ُبعُــولَتِ ِه َّن) وهم آب@@اء األزواج ‪ ،‬أي وك@@ذلك الش@@أن مع أىب ال@@زوج ‪ ..‬فهو‬ ‫ـ (أَو ِ‬
‫ْ‬
‫مثل أبيها‪.‬‬
‫ـ (أ َْو أَبْنائِ ِه َّن ‪ )..‬وليس على املرأة من حرج ىف حضور أبنائها ‪،‬‬
‫‪1266‬‬

‫أن يظهر منها شىء مما أمرت بسرته من زينتها‪.‬‬


‫ناء ُبعُولَتِ ِه َّن) أي أبناء األزواج من غريهن ‪ ..‬فهن مثل أبنائهن‪.‬‬ ‫أو (أَب ِ‬
‫ْ‬
‫ـ (أ َْو إِ ْخـ ــوانِ ِه َّن ‪ )..‬وليس على املرأة ح @ @@رج ىف أن يظهر منها ش @ @@ىء من زينتها ىف‬
‫حضور إخوهتا ‪..‬‬
‫ـ (أ َْو بَنِي إِ ْخوانِ ِه َّن) وكذلك أبناء اإلخوة ‪ ،‬هم كاإلخوة ‪..‬‬
‫َخواتِ ِه َّن) وأبناء األخوات كأبناء اإلخوة ‪..‬‬ ‫ـ (أ َْو بَنِي أ َ‬
‫ـ (أ َْو نِسـ ـ ــائِ ِه َّن) أي زوج@ @ @ @@ات ه@ @ @ @@ؤالء الرج@ @ @ @@ال املذكورين ‪ ،‬حيث ال يك@ @ @ @@ون ىف‬
‫أى‬
‫خمالطتهن فتنة ‪ ،‬وال ىف كشف الزينة أم@ @@امهن ما يفضح مجال املرأة ‪ ،‬وذلك ألن زوجة ّ‬
‫من هؤالء الرجال تتحرج من أن تصف ما ترى منها للرجال ‪ ،‬إذ كانت املرأة هنا بالنس@@بة‬
‫ألية زوجة من أولئك الزوج@ @ @@ات بعضا منها ‪ ،‬وأهال من أهلها ‪ ،‬فال تغ @ @@رى الرج @ @@ال هبا ‪،‬‬
‫وال تكشف هلم عن مفاتنها ‪..‬‬
‫وكذلك الشأن ىف نس@اء زوجها ‪ ،‬الالئي متس@كهن الغ@رية عن وصف أي حسن ت@راه‬
‫إحداهن ىف األخرى ‪..‬‬
‫ت أَيْمــا ُن ُه َّن) وهم الرقيق ‪ ،‬اململ @@وك هلن من الرج@@ال ‪ ..‬فملك اليمني ‪،‬‬ ‫ـ (أ َْو ما َملَ َك ْ‬
‫وإن مل يكن من حمارم املرأة ‪ ،‬هو أش@ @ @ @@به ب@ @ @ @@احملرم ‪ ،‬ألهنا متلكه ‪ ،‬كما متلك املت@ @ @ @@اع ‪ ،‬األمر‬
‫ـال‬ ‫الذي ال يصح معه أن يكون زوجا هلا ‪ ،‬له القوامة عليها ‪ ،‬كما يقول اهلل تعاىل ‪ِّ ( :‬‬
‫الرجـ ُ‬
‫ـاء ‪ : 34( )..‬النس @@اء) فاعتب @@ار ملك اليمني ‪ ،‬أهال ألن ينظر إىل مالكته‬ ‫َق َّوامــو َن علَى النِّس ـ ِ‬
‫ُ َ‬
‫نظ@@رة اش@@تهاء ‪ ،‬فيه إي@@ذان بفتح ب@@اب فتنة وفس@@اد ‪ ،‬حيث خيلى املرأة من ش@@عور ال@@رتفّع عن‬
‫جيرىء اململ@وك على التط@اول‬ ‫أن تكون مستفرشة خلادمها وملك ميينها ‪ ،‬على حني أن هذا ّ‬
‫إىل سيدته ‪ ،‬والطمع فيها ‪..‬‬
‫وىف التخفف من زينة املرأة أمام مملوكها ‪ ،‬إشعار له وهلا ‪ ،‬أن األمر بينهما‬
‫‪1267‬‬

‫ق@ @ @@ائم على غري ما يق@ @ @@وم عليه احلال بينها وبني غري احملارم من الرج @ @@ال ‪ ..‬وهبذا ميوت ‪ ،‬أو‬
‫يصل إىل قريب من املوت ‪ ،‬هذا اإلحساس الذي يكون بني املرأة والرجل األجنىب عنها ‪..‬‬
‫ف@@اململوك ـ وإن ك@@ان رجال ‪ ،‬فيه ما ىف الرج@@ال من رغبة واش@@تهاء ـ هو بالنس@@بة إىل‬
‫مالكته كأحد حمارمها ‪ ،‬ال@ @ @ @@ذين خيالطوهنا ‪ ،‬ويعايش@ @ @ @@وهنا ‪ ..‬ك@ @ @ @@األب ‪ ،‬واالبن ‪ ،‬واألخ ‪..‬‬
‫وختففها من زينتها ىف وجوده يش@@عره ويش@@عرها هبذا املعىن ‪ ،‬وهو أنه ال ينبغى أن مي ّد بص@@ره‬
‫إليها ‪ ،‬كما أنه ال يليق هبا أن تشتهيه‪.‬‬
‫وقد ذهب كثري من املف ّس@ @ @ @رين ‪ ،‬والفقه@ @ @ @@اء إىل أن املراد مبا ملكت أمياهنن اإلم@ @ @ @@اء ‪،‬‬
‫دون العبيد ‪ ..‬ولكن ال@ @ @ @ @ @ @ @ @@ذي ن@ @ @ @ @ @ @ @ @@راه ‪ ،‬هو أن املقص@ @ @ @ @ @ @ @ @@ود به العبيد ‪ ..‬وقد روى أن النيب‬
‫صلى‌هللا‌عليه‌وس لم أتى إىل فاطمة ـ رضى اهلل عنها ـ بعبد هلا ‪ ،‬ف@ @@أرادت أن تس@ @@ترت منه‬
‫باحلج@ @ @ @ @@اب ‪ ،‬فق@ @ @ @ @@ال عليه الص@ @ @ @ @@الة والس@ @ @ @ @@الم ‪« :‬إنه ليس عليك ب@ @ @ @ @@أس ‪ ..‬إمنا هو أب@ @ @ @ @@وك‬
‫وغالمك»!!@‬
‫ين غَْي ِر أُولِي اإْلِ ْربَِة ِم َن ِّ‬
‫الر ِ‬
‫جال ‪)..‬‬ ‫ِِ‬
‫ـ (أَ ِو التَّابع َ‬
‫واإلربة ‪ :‬من األرب ‪ ،‬وهو الرغبة واالشتهاء ‪..‬‬
‫واملراد بالت@ @ @@ابعني ‪ ،‬هم ال@ @ @@ذين خيدمون املرأة ‪ ،‬ويكون@ @ @@ون ىف حاجتها ب@ @ @@أجر ‪ ،‬وهم‬
‫ليس @ @@وا ىف ملك ميينها ‪ ..‬فه @ @@ؤالء الت @ @@ابعون ‪ ،‬وقد انقطعت ش @ @@هوهتم للم @ @@رأة ‪ ،‬ملرض ‪ ،‬أو‬
‫شيخوخة ‪ ،‬أو غري هذا مما تنقطع به شهوة الرجل للم@@رأة ـ ه@@ؤالء الت@ابعون ‪ ،‬ال ح@رج على‬
‫املرأة من أن تتخفف من زينتها ىف حض@ @ @@ورهم ‪ ،‬ألهنم ال ينظ@ @ @@رون إىل ما ب@ @ @@دا منها نظ@ @ @@رة‬
‫رغبة واش @ @@تهاء ‪ ..‬ومن مثّ ال يك @ @@ون النظر إليها م @ @@دخال إىل الفتنة ‪ ،‬إذ ال إربة هلم ىف املرأة‬
‫‪..‬‬
‫‪1268‬‬

‫رات الن ِ‬
‫ِّساء)‪.‬‬ ‫ـ (أَ ِو الطِّْف ِل الَّ ِذين لَم يظ َْهروا َعلى َعو ِ‬
‫ْ‬ ‫َ َْ ُ‬
‫والطّفل ‪ :‬الولد ‪ ،‬م @@ادام ناعما ‪ ،‬ويطلق على املف @@رد ‪ ،‬واجلمع ‪ ،‬وجيمع على أطف @@ال‬
‫‪ ،‬ويقال للمرأة الناعمة طفلة‪.‬‬
‫وحكم الص@@غار ـ وإن ك@@انوا غري حمارم للم@@رأة ـ كحكم الت@@ابعني غري أوىل اإلربة من‬
‫الرج@ @ @ @ @@ال ‪ ..‬ألهنم ىف تلك احلال بعي@ @ @ @ @@دون عن التفكري ىف املرأة ‪ ،‬وعن النظر إليها ىف رغبة‬
‫وشهوة ‪..‬‬
‫ـاء) إش @@ارة إىل أهنم وهم‬ ‫رات النِّسـ ِ‬
‫وىف وص @@فهم بقوله تع @@اىل ‪( :‬لَم يظ َْهــروا َعلى َعــو ِ‬
‫ْ‬ ‫َْ ُ‬
‫سن الطفولة ‪ ،‬ال يستطيعون التمييز بني ما هو عورة ‪ ،‬وما ليس بعورة من املرأة ‪..‬‬ ‫ىف ّ‬
‫فهؤالء اثنا عشر صنفا من الرجال ‪ ،‬ليس على املرأة حرج ىف أن تبدى بعض زينتها‬
‫ىف وجودهن ‪..‬‬
‫ه@ @ @ @@ذا ‪ ،‬ويالحظ ىف ه@ @ @ @@ذا النظم ‪ ،‬ال@ @ @ @@ذي ج@ @ @ @@اءت عليه ه@ @ @ @@ذه اآلية ىف ذكر ه@ @ @ @@ؤالء‬
‫األش@ @@خاص ‪ ،‬أنه يأخذ ترتيبا تنازليا ىف تض@ @@ييق دائ@ @@رة التخفف من الزينة ‪ ،‬ش@ @@يئا فش@ @@يئا ‪..‬‬
‫حبيث تك@@ون ه@@ذه ال@@دائرة على س@@عتها كلها مع ال@@زوج ‪ ،‬مث تب@@دأ تض@@يق ش@@يئا فش@@يئا مع من‬
‫رات الن ِ‬
‫ِّساء ‪)..‬‬ ‫بعده ‪ ،‬حىت تبلغ حدها األدىن مع (الطِّْف ِل الَّ ِذين لَم يظ َْهروا َعلى َعو ِ‬
‫ْ‬ ‫َ َْ ُ‬
‫@دل على حكمة احلكيم ‪ ،‬وتق @@دير العزيز العليم ‪ ،‬ملا ىف‬ ‫ونظ @@رة ىف ه @@ذا ال @@رتتيب ‪ ،‬ت @ ّ‬
‫النفس البش @@رية من ن @@وازع وعواطف ‪ ،‬تتح @@رك حسب ما يق @@وم بينها وبني الع @@امل اخلارجي‬
‫من روابط وصالت‪.‬‬
‫ين ِم ْن ِزينَتِ ِه َّن) أي وال ي@ @ @ @@أتني‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ ِ‬
‫ض ـ ـ ـ ِربْ َن ب ـ ـ ـأ َْر ُجل ِه َّن ل ُي ْعلَ َم ما يُ ْخف َ‬
‫وقوله تع@ @ @ @@اىل ‪َ ( :‬وال يَ ْ‬
‫تنم عما خيفني من زينتهن ‪ ..‬وذلك مبا يكون‬ ‫بأرجلهن حركة ّ‬
‫‪1269‬‬

‫من ضروب متصنعة ىف املشي ‪ ،‬هتتز معها األرداف ‪ ،‬وتتمايل اخلصور ‪ ،‬وتتماوج الصدور‬
‫‪..‬‬
‫اهلل َج ِميع ـاً أ َُّي َها ال ُْم ْؤ ِمنُــو َن ل ََعلَّ ُك ْم ُت ْفلِ ُحــو َن) هو دع@@وة‬
‫وىف قوله تع@@اىل ‪( :‬وتُوب ــوا إِلَى ِ‬
‫َ ُ‬
‫للمؤم@@نني ‪ ،‬واملؤمن@@ات ‪ ،‬إىل التوبة إىل اهلل ‪ ،‬والرج@@وع إليه من ق@@ريب حيث أن اإلنس@@ان ىف‬
‫ه @ @@ذه املواقف مع @ @@رض للزلل والعث@ @@ار ‪ ..‬من خط @ @@رات نفسه ‪ ،‬أو نظ @ @@رات عينه ‪ ،‬أو فحش‬
‫لسانه ‪ ،‬إىل غري هذا مماال يك@@اد يس@@لم منه أحد ‪ ..‬وليس هلذا من دواء إال التوبة إىل اهلل من‬
‫كل زلّة أو عثرة ‪ ..‬ف@إن ه@ذه التوبة هى اليت تص@حح للم@ؤمن إميانه ‪ ،‬وتبقى على ما ىف قلبه‬
‫من جالل وخشية هلل رب العاملني ‪ ..‬وىف هذا الفوز والفالح ‪..‬‬
‫____________________________________‬

‫اآليات ‪ 32( :‬ـ ‪)34‬‬


‫ـراء ُي ْغنِ ِه ُم‬ ‫ِ‬ ‫ص ـالِ ِح ِ ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ين م ْن عبــاد ُك ْم َوإِمــائ ُك ْم إِ ْن يَ ُكونُــوا ُف َقـ َ‬ ‫( َوأَنْك ُحــوا اأْل َيــامى م ْن ُك ْم َوال َّ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ َّ ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫اهلل ِمن فَ ْ ِ ِ‬
‫ين ال يَ ـج ُدو َن نكاحـاً َحتَّى ُي ْغنَي ُه ُم اهللُ‬ ‫يم (‪َ @)32‬ولْيَ ْسـَت ْعفف الذ َ‬ ‫ضله َواهللُ واسـ ٌع َعل ٌ‬ ‫ُ ْ‬
‫وه ْم إِ ْن َعلِ ْمتُ ْم فِي ِه ْم َخ ْي ـ ــراً‬
‫ت أَيْم ـ ــانُ ُك ْم فَك ـ ــاتِبُ ُ‬‫ـاب ِم َّما َملَ َك ْ‬ ‫ِ‬
‫ين َي ْبَتغُ ـ ــو َن الْكت ـ ـ َ‬
‫ِمن فَ ْ ِ ِ َّ ِ‬
‫ضـ ـ ـله َوالذ َ‬ ‫ْ‬
‫صـناً لِتَْبَتغُــوا‬ ‫اهلل الَّ ِذي آتــا ُكم وال تُ ْك ِرهــوا َفتيــاتِ ُكم علَى الْبِغـ ِ‬
‫ـاء إِ ْن أ ََر ْد َن تَ َح ُّ‬ ‫ـال ِ‬ ‫ـوهم ِم ْن مـ ِ‬
‫ُ َ ْ َ‬ ‫َْ‬ ‫َوآتُـ ُ ْ‬
‫يم (‪َ )33‬ولََقـ ْد أَْن َزلْنا‬ ‫ـراه ِه َّن غَ ُفـ ِ‬ ‫الدنْيا ومن ي ْك ِر ْهه َّن فَِإ َّن اهلل ِمن بعـ ِـد إِ ْـك ِ‬ ‫َعرض ال ِ‬
‫ـور َرح ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫َ ْ َْ‬ ‫ْحياة ُّ َ َ ْ ُ ُ‬ ‫َ َ َ‬
‫نات ومثَالً ِمن الَّ ِذين َخلَوا ِمن َقبلِ ُكم ومو ِعظَةً لِل ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫ين) (‪)34‬‬ ‫ْمتَّق َ‬
‫ُ‬ ‫َ َ ْ ْ ْ ْ َ َْ‬ ‫إِل َْي ُك ْم آيات ُمَبيِّ َ َ‬
‫____________________________________‬
‫‪1270‬‬

‫التفسري ‪:‬‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫ـراء ُيغْنِ ِه ُم‬ ‫ِ‬ ‫الصالِ ِح ِ ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ين م ْن عباد ُك ْم َوإِمائ ُك ْم ‪ ..‬إِ ْن يَ ُكونُــوا ُف َقـ َ‬
‫( َوأَنْك ُحوا اأْل َيامى م ْن ُك ْم َو َّ َ‬
‫يم) ‪..‬‬ ‫ِ ِ‬ ‫اهلل ِمن فَ ْ ِ ِ‬
‫ضله َواهللُ واس ٌع َعل ٌ‬ ‫ُ ْ‬
‫األيامى ‪ :‬مجع أمّي ‪ ،‬وهو من مل تكن له زوجة ‪ ،‬أو من مل يكن هلا زوج ‪..‬‬
‫واألمر موجه إىل اجملتمع اإلسالمى كله ‪ ..‬وهو نصح وإرشاد ‪ ،‬وترغيب ىف ال@@زواج‬
‫‪ ،‬وذلك ملا فيه من وقاية ‪ ،‬وحص @@انة ‪ ،‬وتعفف ‪ ..‬وهو مما يعني على االس @@تجابة ملا أمر اهلل‬
‫غض األبصار وحفظ الفروج ‪ ..‬وىف هذا يقول الرسول الك@@رمي‬ ‫به ىف اآليات السابقة ‪ ،‬من ّ‬
‫أغض للبصر ‪ ،‬وأحفظ‬ ‫‪« :‬يا معشر الش@ @@باب ‪ ..‬من اس@ @@تطاع منكم الب@ @@اءة فلي@ @@تزوج ‪ ،‬فإنه ّ‬
‫للفرج ‪ ،‬ومن مل يستطع فعليه بالصوم ‪ ،‬فإنه له وجاء» ‪..‬‬
‫والباءة ‪ :‬القدرة على التزوج ‪ ،‬وامتالك الصالحية له ‪..‬‬
‫والوجاء ‪ :‬اخلصاء ‪ ،‬الذي به متوت الشهوة ‪ ،‬وينقطع اتصال الرجل باملرأة ‪..‬‬
‫فاملس @@لمون مط @@البون ب @@أن يتحص @@نوا ب @@الزواج ‪ ،‬وأن يرغب @@وا فيه ‪ ،‬ويي ّس@ @روا أم @@وره ‪،‬‬
‫وذلك حىت ال تفشو فيهم دواعى الفس@ @ @ @ @@اد ‪ ،‬واالعت@ @ @ @ @@داء على الف@ @ @ @ @@روج ‪ ،‬أو حىت ال يتجه‬
‫@وى إىل الرهبنة ‪ ،‬اليت حترمها ش@@ريعة ه@@ذا ال@@دين ‪ ..‬كما يق@@ول الرس@@ول‬ ‫أص@@حاب اإلميان الق@ ّ‬
‫الك @@رمي ‪« :‬النك @@اح س @@نّىت ‪ ،‬فمن رغب عن س @@نىت فليس مىّن ‪ »..‬وكما يق @@ول ص @@لوات اهلل‬
‫وسالمه عليه‪« :‬ال رهبانية ىف اإلسالم» ‪..‬‬
‫باد ُك ْم َوإِمائِ ُك ْم) معطوف على قوله تعاىل ‪:‬‬ ‫الصالِ ِحين ِمن ِع ِ‬
‫ـ وقوله تعاىل ‪َ ( :‬و َّ َ ْ‬
‫‪1271‬‬

‫( َوأَنْ ِك ُحـ ـ ــوا اأْل َيـ ـ ــامى ِم ْن ُك ْم ‪ )..‬أي وزوج@ @ @ @@وا من مل ي@ @ @@تزوج من أح@ @ @ @@راركم وحرائ@ @ @ @@ركم ‪،‬‬
‫وزوج@ @@وا ك @ @@ذلك الص @ @@احلني من عب@ @@ادكم وهم العبيد ‪ ،‬وإم @ @@ائكم ‪ ،‬وهن الرقيق @ @@ات ‪ ..‬أي‬
‫وكما يرش @@دكم اهلل س @@بحانه وتع @@اىل إىل أن ت @@تزاوجوا فيما بينكم أيها األح @@رار ‪ ،‬لتحفظ @@وا‬
‫ف@@روجكم ‪ ،‬ك@@ذلك ينصح لكم أن تزوج@@وا من ترونه ص@@احلا لل@@زواج من عبي@@دكم وإم@@ائكم‬
‫‪ ..‬فهم بشر مثلكم ‪ ،‬فيهم رغبة وش @@هوة ‪ ،‬وإنه ال س @@بيل إىل قض @@اء ه @@ذه الش @@هوة ‪ ،‬إن مل‬
‫يكن ىف حالل ‪ ،‬ففى حرام ‪..‬‬
‫ومن أجل ه @ @ @@ذا ‪ ،‬ف @ @ @@إن على من ىف ي @ @ @@ده فىت أو فت @ @ @@اة ‪ ،‬أن ي @ @ @@رعى اهلل فيهما ‪ ،‬وأاّل‬
‫ي@@دعهما مهال ‪ ،‬يعيش@@ان ىف الفاحشة كما تعيش البه@@ائم ‪ ..‬فهم ج@@زء من اجملتمع اإلنس@@اىن ‪،‬‬
‫وىف فسادهم فساد للمجتمع ‪ ،‬ومنهم تصل العدوى إىل غريهم من األحرار واحلرائر ‪..‬‬
‫وىف وصف العبيد واإلم@ @ @@اء بالص@ @ @@الح ‪ ،‬إش@ @ @@ارة إىل أنه ليس كل عبد أو أمة ص@ @ @@احلا‬
‫لل@@زواج ‪ ..‬ف@@إن حي@@اة العبيد واإلم@@اء ت@@ذهب بكثري من مع@@امل إنس@@انيتهم ‪ ..‬ولكن يبقى ـ مع‬
‫هذا ـ قدر صاحل من اإلنسانية عند بعضهم ‪ ،‬يصلح به أن يكون أهال للزواج من مثله ‪..‬‬
‫ضلِ ِه ‪ )..‬الضمري ىف (يَ ُكونُوا) يع@@ود‬ ‫راء ُي ْغنِ ِه ُم اهللُ ِم ْن فَ ْ‬
‫وقوله تعاىل ‪( :‬إِ ْن يَ ُكونُوا ُف َق َ‬
‫خفى إىل العبيد واإلم@ @@اء ‪ ..‬أي إن‬ ‫إىل املذكورين ىف اآلية من (اأْل َي ــامى) ويشري من ط@ @@رف ّ‬
‫يكن هؤالء املذكورون صاحلني لل@@زواج ‪ ،‬وراغ@@بني فيه طلبا للتعفف ‪ ،‬ولكن مينعهم خ@@وف‬
‫الفقر واحلاجة ‪ ،‬وع @@دم الق @@درة على محل أعب @@اء الزوجية ‪ ،‬وما جتىء به من ذرية ـ إن يكن‬
‫ه@@ذا ص@@ارفا هلم عن ال@@تزوج فلي@@تزوجوا ‪ ،‬واهلل س@@بحانه وتع@@اىل يع@@دهم س@@عة ال@@رزق ‪ ،‬ودفع‬
‫الض@ @ ّ@ر ال@ @@ذي يتوقعونه من ال@ @@زواج ‪ ،‬ما دامت نيتهم قائمة على طلب مرض@ @@اة اهلل ‪ ،‬وحفظ‬
‫الفروج هبذا الزواج ‪..‬‬
‫‪1272‬‬

‫وهذا وعد كرمي من اهلل سبحانه ‪ ،‬ال ب ّد أن يتحقق ‪ ،‬وذلك ألمرين ‪:‬‬
‫أوهلما ‪ :‬أنه وعد من اهلل ‪ ..‬واهلل سبحانه وتعاىل ال خيلف وعده! ‪..‬‬
‫وثانيهما ‪ :‬أن هذا الوعد حيمل معه أسباب الغىن! ‪..‬‬
‫وكيف؟ ‪..‬‬
‫واجلواب ‪ ،‬هو أن ال@ @ @ @@ذي يطلب ىف ال@ @ @ @@زواج العص@ @ @ @@مة لدينه واحلف@ @ @ @@اظ على ش@ @ @ @@رفه‬
‫@اد ىف ه@ذه احلي@اة ‪ ،‬وملء إهابه ‪ ،‬إميان ‪ ،‬وتقى ‪ ،‬وج@ ّد ‪ ،‬وع@زم ‪..‬‬ ‫ومروءته ‪ ،‬هو إنس@ان ج ّ‬
‫وأنه ليس من الالهني الف@ @ @ @ @@ارغني ‪ ،‬ال@ @ @ @ @@ذين يقض@ @ @ @ @@ون حي@ @ @ @ @@اهتم ىف اللهو والعبث ‪ ،‬وتص@ @ @ @@يّد‬
‫الشهوات ‪ ،‬والتقاطها من كل وجه ‪ ..‬فهؤالء الذين يشغلون ب@@البحث عن الل@@ذات واملتع ‪،‬‬
‫وقض@ @@اء الش@ @@هوات ‪ ،‬هم أق@ @@رب الن@ @@اس إىل الفقر ‪ ،‬وأدن@ @@اهم إىل احلاجة والع@ @@وز ‪ ،‬ألهنم ال‬
‫يصرفون أنفسهم إىل عمل جاد مثمر أبدا ‪..‬‬
‫أما أولئك ال@ @@ذين حتص@ @@نوا ب@ @@الزواج ‪ ،‬فقد أراح@ @@وا أنفس@ @@هم من ه@ @@ذا اجلري الالهث‬
‫وراء شهواهتم ‪ ،‬وهم هلذا منصرفون إىل العمل اجلاد املثمر ‪ ،‬ال@@ذي يب@@ذلون له كل جه@@دهم‬
‫وط @@اقتهم ‪ ..‬وه @@ذا من ش @@أنه أن ميأل أي @@ديهم من اخلري ‪ ،‬وأن ي @@دنيهم من الغىن ‪ ،‬بل وحيققه‬
‫هلم ‪..‬‬
‫يم) إش @ @@ارة إىل س @ @@عة فضل اهلل ‪ ،‬وأنه ال يض @ @@يق‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫وىف قوله تع @ @@اىل ‪َ ( :‬واهللُ واسـ ـ ـ ٌع َعل ٌ‬
‫يم) مبا يص@لح أم@@رهم ‪ ،‬ويق@@رهبم من فض@له ‪،‬‬ ‫ِ‬
‫بالطالبني لفضله ‪ ،‬املبتغني من رزقه ‪ ،‬وهو ( َعل ٌ‬
‫ويعرضهم لرزقه ‪ ..‬ومن ذلك حتصنهم بالزواج ‪..‬‬ ‫ّ‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫وه ْم إِ ْن َعلِ ْمتُ ْم‬ ‫تاب ِم َّما َملَ َك ْ‬
‫ت أَيْمانُ ُك ْم فَكاتِبُ ُ‬
‫ِ‬
‫ين َي ْبَتغُو َن الْك َ‬
‫َّ ِ‬
‫( َوالذ َ‬
‫‪1273‬‬

‫اهلل الَّ ِذي آتـ ــا ُكم وال تُ ْك ِرهـ ــوا َفتيـ ــاتِ ُكم علَى الْبِغـ ـ ِ‬
‫ـاء إِ ْن أ ََر ْد َن‬ ‫ـال ِ‬‫ـوهم ِم ْن مـ ـ ِ‬ ‫ِ‬
‫ْ َ‬ ‫ُ َ‬ ‫َْ‬ ‫في ِه ْم َخ ْيـ ــراً َوآتُـ ـ ُ ْ‬
‫راه ِه َّن غَ ُف ِ‬‫الدنْيا ومن ي ْك ِر ْهه َّن فَِإ َّن اهلل ِمن بع ِد إِ ْك ِ‬ ‫صناً لِتبتغُوا َعرض ال ِ‬
‫يم) ‪..‬‬ ‫ور َرح ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫َ ْ َْ‬ ‫ْحياة ُّ َ َ ْ ُ ُ‬ ‫َ َ َ‬ ‫تَ َح ُّ ََْ‬
‫@رق ‪ ،‬ىف مقابل‬ ‫الكت@ @@اب ‪ :‬املكاتبة ‪ ،‬وهو أن يطلب العبد إىل م@ @@واله أن يعتقه من ال@ @ ّ‬
‫قدر من املال ‪ ،‬يؤديه إليه ‪ ،‬فيعطيه سيّده بذلك كتابا ‪ ،‬ي@@ذكر له فيه املال ال@@ذي كاتبه عليه‬
‫‪..‬‬
‫وىف دع @@وة ما لكى الرق @@اب إىل مكاتبة من ىف أي @@ديهم ‪ ،‬ممن ي @@رغب منهم ىف ه @@ذا ـ‬
‫@ك الرق@@اب ‪ ..‬وذلك بعد ال@@دعوة إىل حفظ إنس@@انيتهم ‪ ،‬ورفع‬ ‫دع@@وة إىل حترير األرق@@اء ‪ ،‬وف@ ّ‬
‫قدرهم بالزواج ‪ ،‬ونقلهم من دائرة احليوان إىل عامل اإلنسان ‪..‬‬
‫وه ْم إِ ْن َعلِ ْمتُ ْم فِي ِه ْم َخ ْيــراً) إرش@@اد ملالكى الرق@@اب ‪ ،‬إذا هم‬ ‫وىف قوله تع@@اىل ‪( :‬فَكــاتِبُ ُ‬
‫اس@ @ @@تجابوا ألمر اهلل ‪ ،‬ورغب @ @ @@وا ىف مكاتبة من يطلب املكاتبة من م @ @ @@واليهم ـ أن ينظ @ @ @@روا ىف‬
‫يتحررا من الرق ـ ‪ ..‬فقد‬ ‫يتحروا صالحيتهم للحياة بعد أن ّ‬ ‫حاهلم قبل أن يكاتبوهم ‪ ،‬وأن ّ‬
‫ال يك @@ون ملن يتح @@رر منهم حيلة ىف احلي @@اة اجلدي @@دة اليت ي @@دخل فيها ‪ ،‬فيص @@بح ـ وهو احلر ـ‬
‫عالة على اجملتمع ‪ ،‬يعيش على الس @@ؤال والتكفف ‪ ،‬وىف ه @@ذا ض @@ياع له ‪ ،‬أك @@ثر من ض @@ياعه‬
‫وهو ىف قيد ال@@رق! ‪ ..‬وال شك أن الس@@يد إذا أمسك عن مكاتبة عب@@ده ‪ ،‬وهو ينظر ىف ه@@ذا‬
‫إىل مصلحة العبد نفسه ـ إمنا يريد له اخلري ‪ ،‬باختيار ما هو أصلح له ‪ ..‬وسيد هك@@ذا ‪ ..‬هو‬
‫س@@يد خياف اهلل ويتقيه ‪ ،‬ىف ه@@ذا اإلنس@@ان ال@@ذي ملكه اهلل رقبته ‪ ،‬وحفظه ىف ي@@ده رقيقا خري‬
‫من إطالقه‪ .‬وهو ال حيسن القيام على نفسه‪.‬‬
‫اهلل الَّ ِذي آتـ ــا ُك ْم) دع @ @@وة إىل املؤم @ @@نني مجيعا ‪،‬‬
‫ـال ِ‬ ‫ـوهم ِم ْن مـ ـ ِ‬
‫وىف قوله تع @ @@اىل ‪َ ( :‬وآتُـ ـ ُ ْ‬
‫ومنهم السيد مالك الرقيق املكاتب ‪ ،‬أن يعينوهم على مجع املال املطلوب‬
‫‪1274‬‬

‫احلر ‪ ،‬ويكون@@وا ق@@وة عاملة‬ ‫منهم ‪ ،‬حىت يتخلص@@وا من أسر ال@@رق ‪ ،‬وحىت ي@@دخلوا ىف اجملتمع ّ‬
‫فيه ‪..‬‬
‫قوله تعاىل ‪( :‬وال تُ ْك ِرهوا َفتياتِ ُكم علَى الْبِ ِ‬
‫غاء إِ ْن أ ََر ْد َن تَ َح ُّ‬
‫صناً)‪.‬‬ ‫ُ َ ْ َ‬ ‫َ‬
‫البغاء ‪ :‬من البغي ‪ ،‬وهو العدوان على حدود اهلل بإهدار حصانة الفروج ‪..‬‬
‫والنهى هنا متجه إىل من ميلكون إماء ىف أيديهن ‪..‬‬
‫وقد أمجعت أق@ @@وال املفس@ @@رين مجيعا ‪ ،‬على أن معىن إك@ @@راه اإلم@ @@اء على البغ@ @@اء ‪ ،‬هو‬
‫دعوة مالكيهن هلن إىل طلب البغاء ‪ ،‬رغبة ىف احلصول على املال ال@@ذي جيمعنه هلم من ه@@ذا‬
‫الوجه اخلسيس ‪..‬‬
‫والنهى هنا واقع على مالك الرقبة ‪ ،‬إذا أرادت اململوكة حتص@ @ @ @ @ @ @ @ @@نا وتع ّففا ‪ ..‬أما إذا‬
‫حمل للنهى ‪ ،‬ويك@ @@ون ه@ @@ذا‬ ‫ك@ @@ان البغ@ @@اء ب@ @@دعوة من س@ @@يدها ‪ ،‬وعن رغبة ورضا منها ‪ ،‬فال ّ‬
‫البغاء مباحا ‪ ..‬هذا ما يفهم مما أمجع عليه املفس@@رون ىف تأويل ه@@ذه اآلية ‪ ..‬وللمفس@@رين ىف‬
‫ه @ @@ذا خترجيات ‪ ،‬وأس @ @@اتيد يس @ @@تندون إليها ‪ ،‬ومروي @ @@ات ي @ @@أتون هبا ‪ ،‬ىف أس @ @@باب ال @ @@نزول ‪،‬‬
‫واألحداث اليت البست نزول اآلية ‪..‬‬
‫واحلق أننا مل نر ىف هذه التخرجيات وجها ‪ ،‬نقبلها عليه ‪ ،‬وأن نفهم كلم@@ات اهلل هبا‬
‫‪ ،‬دون أن يك@@ون ىف الص@@در ح@@رج ‪ ،‬وىف القلب ض@@يق ووس@@واس! ‪ ..‬فمن أراد أن ينظر ىف‬
‫ص @ @ @در هبا ‪،‬‬ ‫ه @ @ @@ذه املروي @ @ @@ات ‪ ،‬وتلك التخرجيات فهى مبثوثة ىف كتب التفاسري ‪ ،‬يض @ @ @@يق ال ّ‬
‫ويثقل على النفس نقلها هنا ‪..‬‬
‫وقد هدانا اهلل سبحانه وتعاىل ‪ ،‬إىل مفه@وم@ لآلية الكرمية‪ .‬نرجو أن يك@@ون أق@@رب إىل‬
‫احلق‪.‬‬
‫الصواب ‪ ،‬وأدىن إىل ّ‬
‫ف @ @@الفهم ال @ @@ذي نس @ @@رتيح إليه ىف اآلية الكرمية ‪ ..‬هو أن قوله تع@ @ @@اىل ‪َ ( :‬وال تُ ْك ِر ُـه ـ ــوا‬
‫صناً) هو دعوة إىل مالكى‬ ‫َفتياتِ ُكم علَى الْبِ ِ‬
‫غاء إِ ْن أ ََر ْد َن تَ َح ُّ‬ ‫َ ْ َ‬
‫‪1275‬‬

‫ص @ @ن به ‪ ،‬وليحفظن‬ ‫رق @@اب ه@ @@ؤالء الفتي @@ات (اإلم@ @@اء) ب @@تزوجيهن إذا رغنب ىف ال@ @@زواج‪ .‬ليتح ّ‬
‫ف@@روجهن ‪ ..‬فه@@ذه اإلرادة منهن للتحصن ب@@الزواج ‪ ،‬ش@@اهد م@@بني على ص@@الحهن ‪ ،‬وس@@المة‬
‫إمياهنن ‪ ،‬وأهنن يرغنب عن احلياة الطليقة ‪ ،‬اليت يعيش فيها اإلماء ‪ ،‬مستباحات األع@@راض ‪..‬‬
‫إهنن هبذا ال @@زواج ال @@ذي ي @@رغنب فيه ‪ ،‬ي @@ردن قي @@دا يقيّد خط@ @@وهن املطلق ىف ع @@امل اخلطيئة ‪..‬‬
‫وهذا ال يكون إاّل من أمة تشعر بإنسانيتها ‪ ،‬وختاف اهلل ىف عرضها ‪..‬‬
‫فاإلمس@@اك باإلم@@اء الاليت ي@@رغنب ىف اإلحص@@ان ب@@الزواج ـ اإلمس@@اك هبن عن ال@@زواج ‪،‬‬
‫هو ىف احلقيقة ـ إك @@راه هلن على البغ @@اء ‪ ..‬إذ ال س @@بيل إليهن ـ وهن رقيق @@ات ـ إال البغ @@اء ‪،‬‬
‫رغنب ىف هذا ‪ ،‬أو مل يرغنب ‪ ..‬إذ ال حجاز بينهن وبني من يريدهن ‪..‬‬
‫ويكون حترير معىن اآلية هكذا ‪:‬‬
‫( َوال تُ ْك ِر ُهوا) أيها املؤمنون ( َفتَياتِ ُك ْم) أي إم@@اءكم الاليت ي@@رغنب التحصن ب@@الزواج ـ‬
‫غاء) وحتملوهن عليه محال ‪ ،‬مبنعهن من التزوج ‪..‬‬ ‫ال تكرهوهن (علَى الْبِ ِ‬
‫َ‬
‫وىف قوله تع@ @@اىل ‪( :‬لِتبتغُ ــوا َع ــرض الْحي ـ ِ‬
‫ـاة ال ـ ُّـدنْيا) إش@ @@ارة إىل العلة اليت قد حتول بني‬ ‫َ َ َ‬ ‫ََْ‬
‫الس@ @ @@يد ‪ ،‬وبني إجابة رغبة أمته أو إمائه ىف التحصن ب@ @ @@الزواج ‪ ..‬وذلك ملا تش@ @ @@غل به األمة‬
‫خيف به ميزاهنا ىف‬ ‫عن س@ @ @@يدها ‪ ،‬بزوجها ‪ ،‬وباحلمل ‪ ،‬والرض@ @ @@اعة ‪ ،‬وغريها ‪ ،‬األمر ال@ @ @@ذي ّ‬
‫خدمة سيدها ‪ ،‬وينزل به قدرها عند بيعها ‪..‬‬
‫وه@ @@ذا املقطع من اآلية هو ال@ @@ذي محل املفس@ @@رين على الق@ @@ول ب@ @@أن اإلك@ @@راه م@ @@راد به‬
‫اإلك@ @ @ @ @ @@راه على الزنا ‪ ،‬وجلب املال ألس@ @ @ @ @ @@يادهن من ه@ @ @ @ @ @@ذا الوجه ‪ ..‬وقد رأيت تأويلنا هلذا‬
‫املقطع ‪ ،‬واتساقه مع املعىن الذي ذهبنا إليه ‪..‬‬
‫‪1276‬‬

‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬


‫مث جتىء خامتة اآلية هك@ @ @ @@ذا ‪َ ( :‬و َم ْن يُ ْكـ ـ ـ ِر ْه ُه َّن فَ ـ ـ ـِإ َّن اهللَ م ْن َب ْعـ ـ ــد إِ ْـك ـ ــراه ِه َّن غَ ُفـ ـ ـ ٌ‬
‫ـور‬
‫يم) ‪@...‬‬ ‫ِ‬
‫َرح ٌ‬
‫وقد اضطرب املفسرون ىف توجيه ه@@ذه اخلامتة ‪ ،‬وض@@اقت هبم الس@@بل ىف خترجيها ‪ ،‬إذ‬
‫كيف يك@@ره الس@@يد أمته أو إمياءه على البغ@@اء ‪ ،‬مث جيىء من ذلك عفو اهلل ومغفرته ورمحت@@ه؟‬
‫إن هذا أشبه بالتحريض على اإلكراه على البغاء ‪@!..‬‬
‫ومن خمرج ض@ @@يّق كس@ @ ّ@م اخلي@ @@اط ‪ ،‬خ@ @@رج بعض املفس@ @@رين إىل الق@ @@ول ‪ ،‬ب@ @@أن املغف @@رة‬
‫والرمحة إمنا ي@@راد هبما اإلم@@اء الاليت أك@@رهن على البغ@@اء ‪ ،‬على حني ال تن@@ال املغف@@رة والرمحة‬
‫من أكرههن!!‬
‫وهذا مردود من أكثر من وجه ‪:‬‬
‫فاألمة ىف تلك احلال مكرهة ‪ ،‬وال ذنب عليها ‪ ،‬ت@ @ @@رجى له املغف@ @ @@رة والرمحة ‪ ..‬ففى‬
‫احلديث الشريف ‪« :‬رفع عن أمىت اخلطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» ‪..‬‬
‫مث هى من جهة أخ @@رى ‪ ،‬ملك ىف يد س @@يدها ‪ ،‬ال متلك من أمر نفس @@ها ش @@يئا ‪ ،‬فهو‬
‫حيل منها ما يشاء ملن يشاء!‬
‫ّ‬
‫وعلى ه@@ذا ‪ ،‬ف@@إن املغف@@رة والرمحة إمنا تطلب ملن ك@@انت منه إس@@اءة ‪ ،‬هى ىف مفهومنا‬
‫ممن أمسك هبن عن التحصن ب@@الزواج ‪ ،‬وك@@ان بس@@بب ه@@ذا ك@@املكره هلن على البغ@@اء ‪ ..‬ف@@إن‬
‫هو رجع إىل اهلل ‪ ،‬وأمس @@كهن عن طريق الفس @@اد ‪ ،‬وحص @@نهن ب @@الزواج ‪ ،‬نالته مغف @@رة اهلل ‪،‬‬
‫وسعة رمحته ‪..‬‬
‫ومن جهة أخ@@رى ‪ ..‬فإننا ن@@رى ىف ه@@ذه اآلية ‪ ،‬دع@@وة إىل م@@الكى الرق@@اب مبكاتبة من‬
‫يرونه صاحلا للمكاتبة من عبيدهم ‪ ،‬إذا هم رغبوا ىف هذا ‪..‬‬
‫‪1277‬‬

‫فه@@ذه رغبة ي@@دعو اإلس@@الم إىل حتقيقها للعبيد ‪ ..‬ألهنم ىف الواقع هم ال@@ذين ت@@نزع هبم‬
‫نفوسهم إىل الرغبة ىف التحرر باملكاتبة ‪ ،‬خبالف اإلماء الاليت ال حول هلن وال طول ‪..‬‬
‫ومن حق اإلم@ @@اء على الش@ @@ريعة اإلس@ @@المية أن حتقق هلن رغبة يرغبنها ‪ ،‬كما حققت‬
‫للعبيد الرغبة اليت يرغبوهنا ‪..‬‬
‫ورغبة اإلم@ @@اء هنا ‪ ،‬هى إرادة التحصن ب@ @@الزواج ‪ ،‬كما يق@ @@ول س@ @@بحانه ‪( :‬إِ ْن أ ََر ْد َن‬
‫َّ ِ‬
‫ص ـ ـ ـ ـناً ‪ )..‬فه@ @ @ @ @@ذه الرغبة تقابل رغبة العبيد ىف املكاتبة كما يق@ @ @ @ @@ول س@ @ @ @ @@بحانه ‪َ ( :‬والذ َ‬
‫ين‬ ‫تَ َح ُّ‬
‫تاب ِم َّما َملَ َك ْ‬
‫ت أَيْمانُ ُك ْم ‪)..‬‬ ‫ِ‬
‫َي ْبَتغُو َن الْك َ‬
‫وهبذا يعت@ @ @@دل م @ @ @@يزان اإلم@ @ @@اء والعبيد ‪ ،‬ىف ش@ @ @@ريعة ق@ @ @@امت على الع @ @ @@دل واإلحس@ @ @@ان‬
‫واملساواة ‪ ..‬ىف احلقوق ‪ ،‬والواجبات ‪ ..‬للمرأة والرجل على السواء ‪..‬‬
‫ومن جهة ثالثة ‪ ،‬فإن األمة إذا تزوجت أحص@نت ‪ ،‬كما يق@ول اهلل تع@اىل ‪َ ( :‬و َم ْن ل ْ‬
‫َم‬
‫ت أَيْم ــانُ ُك ْم ِم ْن َفتَي ــاتِ ُك ُم‬ ‫ـات فَ ِم ْن ما َملَ َك ْ‬‫نات الْم ْؤ ِمن ـ ِ‬
‫ُ‬
‫يسـ ـتَ ِطع ِم ْن ُكم طَ ــوالً أَ ْن ي ْن ِكح الْم ْحصـ ـ ِ‬
‫َ َ ُ َ‬ ‫َْ ْ ْ ْ‬
‫ِ‬ ‫ضـ ُكم ِمن بع ٍ ِ‬ ‫الْم ْؤ ِم ِ‬
‫ـور ُه َّن‬
‫ُج َ‬ ‫وه َّن بِـِإ ْذ ِن أ َْهل ِه َّن َوآتُ ُ‬
‫ـوه َّن أ ُ‬ ‫ض فَـانْك ُح ُ‬ ‫نات َواهللُ أَ ْعلَ ُم بِِإيمـانِ ُك ْم َب ْع ُ ْ ْ َ ْ‬ ‫ُ‬
‫شـ ٍة‬ ‫صـ َّن فَـِإ ْن أََتين بِ ِ‬ ‫ُح ِ‬ ‫ذات أَ ْـخ ٍ‬ ‫َّخ ِ‬ ‫حات َوال ُمت ِـ‬
‫نات غَْـي َـر ُمســافِ ٍـ‬
‫وف م ْحصـ ٍ‬ ‫ِ‬
‫فاح َ‬ ‫َْ‬ ‫ـدان فَـِإذا أ ْ‬ ‫بِــال َْم ْع ُر ُ َ‬
‫ت ِم ْن ُك ْم َوأَ ْن‬ ‫ـك لِ َم ْن َخ ِشـ ـ ـ ـ َي ال َْعنَ َ‬ ‫نات ِم َن ال َْعـ ـ ـ ِ‬
‫ـذاب ‪ ..‬ذلِـ ـ ـ َ‬ ‫ف ما َعلَى الْم ْحصـ ـ ـ ـ ِ‬
‫ُ َ‬ ‫َف َعلَْي ِه َّن نِ ْ‬
‫صـ ـ ـ ـ ُ‬
‫يم) (‪ : 25‬النساء)‪.‬‬ ‫تَصبِروا َخير لَ ُكم واهلل غَ ُف ِ‬
‫ور َرح ٌ‬ ‫ْ ُ ٌْ ْ َ ُ ٌ‬
‫ففى هذه اآلية أمور ‪..‬‬
‫احلرة حمص@ @ @ @ @@نة ‪ ،‬س@ @ @ @ @@واء أك@ @ @ @ @@انت متزوجة أم غري متزوجة ‪ ،‬وأن األمة إمنا‬
‫أوال ‪ :‬أن ّ‬
‫حتصن بالزواج ‪..‬‬
‫خلستها ‪ ،‬ونقلها من مرتبة‬
‫ثانيا ‪ :‬ىف زواج األمة تكرمي هلا ‪ ،‬ورفع ّ‬
‫‪1278‬‬

‫احليوان اململوك ‪ ،‬إىل درجة املرأة احلرة ‪ ..‬حيث ينشىء هلا الزواج حقوقا ‪ ،‬ويفرض عليها‬
‫واجبات ‪ ،‬وقد كانت قبل الزواج مطلقة ‪ ،‬ال حقوق هلا ‪ ،‬وال واجبات عليها ‪..‬‬
‫ثالثا ‪ :‬أن األمة إذا تزوجت مث زنت ‪ ،‬وثبتت عليها اجلرمية ‪ ،‬أقيم عليها احل ّد ‪ ،‬وهو‬
‫نصف ما على احملصنات من العذاب ‪ ،‬فتجلد مخسني جلدة‪.‬‬
‫رابعا ‪ :‬أش@ @ @@ارت اآلية إىل أن زواج األمة ال يك@ @ @@ون إال ب @ @@إذن مالكها وعن رض@ @ @@اه ‪،‬‬
‫فليس هلا واحلال ك@ذلك ‪ ،‬أن ت@زوج نفس@ها إذا رغبت ىف ال@زواج ‪ ،‬وأرادت التحصن به ‪..‬‬
‫ف @@إن أىب عليها مالكها أن ت @@تزوج ‪ ،‬مل يكن أمامها إال أن تع @@رض نفس @@ها للرج @@ال ‪ ..‬وه @@ذا‬
‫@ف عن‬ ‫هو البغ @@اء ال@@ذي أكرهها مالكها عليه بوقوفه ىف وجه ال @@زواج ال@@ذي تتحصن به وتع @ ّ‬
‫الفاحشة‪.‬‬
‫ِ ِ ِ‬
‫هذا ‪ ،‬هو ما رأينا واهلل سبحانه وتعاىل أعلم ( َو َف ْو َق ُك ِّل ذي عل ٍْم َعل ٌ‬
‫يم)‪.‬‬
‫***‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫ين َخلَـ ـ ـ ـ ْـوا ِم ْن َق ْبلِ ُك ْم َو َم ْو ِعظَ ـ ـ ـ ـةً‬ ‫ِ َّ ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫( َولََقـ ـ ـ ـ ْد أَْن َزلْنا إِل َْي ُك ْم آيـ ـ ـ ــات ُمَبيِّنـ ـ ـ ــات َو َمثَالً م َن الذ َ‬
‫ين)‪.‬‬ ‫لِل ِ‬
‫ْمتَّق َ‬
‫ُ‬
‫ه@ @@ذه اآلية هى خت@ @@ام آلي@ @@ات األحك@ @@ام ‪ ،‬اليت ج@ @@اءت هبا الس@ @@ورة من قوله تع@ @@اىل ‪:‬‬
‫صناً)‪.‬‬ ‫الزانِي) إىل قوله تعاىل ‪( :‬وال تُ ْك ِرهوا َفتياتِ ُكم علَى الْبِ ِ‬
‫غاء إِ ْن أ ََر ْد َن تَ َح ُّ‬ ‫الزانِيَةُ َو َّ‬
‫( َّ‬
‫ُ َ ْ َ‬ ‫َ‬
‫ورةٌ أَْن َزلْناها‬ ‫وهى ىف ه@@ذا أش@@به بالب@@دء ال@@ذي ب@@دئت به الس@@ورة ‪ ،‬ىف قوله تع@@اىل ‪ُ ( :‬س َ‬
‫ضناها وأَ ْنزلْنا فِيها ٍ‬
‫آيات بيِّ ٍ‬
‫نات ل ََعلَّ ُك ْم تَ َذ َّك ُرو َن)‪.‬‬ ‫َ‬ ‫َو َف َر ْ َ َ‬
‫فبدء السورة كان إعالنا بنزول آيات بينات ‪ ،‬تلى هذا اإلعالن ‪ ،‬وجتىء بعده ‪..‬‬
‫‪1279‬‬

‫وقد ن@@زلت ه@@ذه اآلي@@ات البين@@ات ‪ ،‬متض@@منة تلك األحك@@ام اخلاصة حبرم@@ات الف@@روج‪.‬‬
‫وحني انتهت اآلي@@ات من بي@@ان ه@@ذه األحك@@ام ‪ ،‬ج@@اء قوله تع@@اىل ‪( :‬ولََق ْد أَْنزلْنا إِل َْي ُكم آي ٍ‬
‫ـات‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ـات ‪ )..‬لي @ @ @@ذ ّكر بتحقيق ه @ @ @@ذا اخلرب ال @ @ @@ذي أعلنته الس @ @ @@ورة ىف أول آية منها ‪ ،‬وليلفت‬ ‫مبيِّنـ ـ ـ ٍ‬
‫َُ‬
‫األنظ@ @@ار إىل أن ه@ @@ذه اآلي@ @@ات ‪ ،‬هى اآلي@ @@ات البين @ @@ات ‪ ،‬اليت أش@ @@ارت إليها اآلية األوىل من‬
‫الس @@ورة ‪ ..‬فليتحقق @@وا من ه @@ذا الوصف ‪ ،‬وليطلب @@وه منها ‪ ،‬وليك @@ون هلم منه ع @@ربة وموعظة‬
‫‪..‬‬
‫ـات) ووص @@فها هنا بأهنا (آيـ ٍ‬ ‫ـات بيِّنـ ٍ‬ ‫ٍ‬
‫ـات‬ ‫وىف وصف اآلي @@ات ىف أول الس @@ورة بأهنا (آيـ َ‬
‫ـات) ما حيقق وص@@فني هلذه اآلي@@ات فهى آي@@ات بين@@ات واض@@حات مش@@رقات ىف ذاهتا ‪..‬‬ ‫مبيِّنـ ٍ‬
‫َُ‬
‫س@@واء نظر إليها الن@@اظرون ‪ ،‬أو مل ينظ@@روا ‪ ..‬مث هى مبين@@ات ‪ ،‬تكشف ملن ينظر فيها طريق‬
‫احلق واهلدى ‪..‬‬ ‫ّ‬
‫وق @ @ ّدم وص @ @@فها بالبيّن@ @ @@ات على وص@ @ @@فها باملبين@ @ @@ات ‪ ..‬ألهنا ىف أول األمر مل تكن بني‬
‫يدى الناس ‪ ،‬ومل ينظروا فيها بعد ‪ ..‬فكان وصفها بالبينات وص@@فا ذاتيا هلا ‪ ،‬دون نظر إىل‬
‫اتص @ @@ال الن@ @ @@اس هبا ‪ ..‬فلما ن @ @@زلت ‪ ،‬واتصل الن @ @@اس هبا ك @ @@انت مبينة هلم احلق من الباطل ‪،‬‬
‫واهلدى من الضالل ‪..‬‬
‫وقوله تعاىل ‪( :‬ومثَالً ِمن الَّ ِذين َخلَوا ِمن َق ْبلِ ُكم) معطوف على قوله تعاىل ‪( :‬آيـ ٍ‬
‫ـات‬ ‫ْ‬ ‫َ َ ْ ْ‬ ‫ََ‬
‫نات) أي وأنزلنا إليكم ىف هذه اآليات مثال من الذين خلوا من قبلكم‪.‬‬ ‫مبيِّ ٍ‬
‫َُ‬
‫وه@ @ @@ذا املثل ال@ @ @@ذي ج@ @ @@اءت به اآلي@ @ @@ات هنا مش@ @ @@اهبا ومماثال ملثل آخر وقع ىف األزمنة‬
‫اخلالية ـ ه @@ذا املثل هو ح @@ديث اإلفك ‪ ،‬ال @@ذي رميت به الس @@يدة عائشة ـ رضى اهلل عنها ـ‬
‫ومثله ىف ال@@ذين خل @@وا من قبل ‪ ،‬هو ما وقع ملرمي ـ عليها‌السالم ملا لقيها به أهلها من اهتام‬
‫‪ ،‬حني جاءت إليهم بوليدها حتمله ‪ ..‬وقد برأ اهلل م@رمي ىف آي@ات بين@ات من كتابه الك@@رمي ‪،‬‬
‫كما ق@ @@ال س@ @@بحانه وتع@ @@اىل ىف اليه@ @@ود ‪َ ( :‬وبِ ُك ْفـ ـ ِر ِه ْم َو َقـ ـ ْـولِ ِه ْم َعلى َمـ ـ ْـريَ َم ُب ْهتان ـ ـاً َع ِظيم ـ ـاً) (‬
‫‪ : 156‬النساء) ـ فقد وصف اهلل سبحانه‬
‫‪1280‬‬

‫وتعاىل ق@@وهلم ىف م@@رمي بأنه هبت@@ان عظيم ‪ ،‬كما وصف س@@بحانه ما رميت به الس@يدة عائشة ‪،‬‬
‫بأنه هبت@ @ @@ان عظيم ‪ ،‬وذلك ىف قوله س @ @@بحانه ‪َ ( :‬ولَ ـ ـ ْـو ال إِ ْذ َسـ ـ ـ ِم ْعتُ ُموهُ ُقلْتُ ْم ما يَ ُكـ ــو ُن لَنا أَ ْن‬
‫يم) ‪..‬‬ ‫ِ‬ ‫َنتَ َكلَّ َم بِهذا ُس ْبحانَ َ‬
‫ك هذا ُب ْهتا ٌن َعظ ٌ‬
‫وكفى الس@@يدة عائشة ـ رضى اهلل عنها ـ ق@@درا وش@@رفا أن تك@@ون مثال من@@اظرا للس@@يدة‬
‫م @@رمي ‪ ،‬عفة وطه @@ارة ‪ ،‬وأن تش @@اركها ه @@ذا الوصف ال @@ذي وص @@فت به ىف قوله تع @@اىل ‪( :‬يا‬
‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫فاك وطَه ِ‬‫ِ‬
‫ين) (‪ : 42‬آل عمران)‪.‬‬ ‫اصطَفاك َعلى نساء الْعالَم َ‬ ‫َّرك َو ْ‬
‫اصطَ َ َ‬ ‫َم ْريَ ُم إِ َّن اهللَ ْ‬
‫____________________________________‬

‫اآليات ‪ 35( :‬ـ ‪)40‬‬


‫جاج ٍـة‬ ‫كاة فِيها ِمصـباح ال ِْمصـ ِ‬ ‫ض مثَـل نُـو ِر ِه َك ِم ْشـ ٍ‬ ‫ِ‬
‫باح في ُز َ‬ ‫ْ ٌ ْ ُ‬ ‫سـماوات َواأْل َْر ِ َ ُ‬ ‫ـور ال َّ‬
‫(اهللُ نُ ُ‬
‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫ـاد َز ْيتُها‬ ‫بار َك ٍة َز ْيتُونٍَة ال َشـ ْرقِيَّ ٍة َوال غَ ْربِيَّ ٍة يَكـ ُ‬
‫ي يُوقَ ُد م ْن َش َج َرة ُم َ‬ ‫ب ُد ِّر ٌّ‬ ‫جاجةُ َكأَنَّها َك ْو َك ٌ‬‫الز َ‬ ‫ُّ‬
‫ـال‬
‫ب اهللُ اأْل َْمثـ َ‬ ‫ض ـ ِر ُ‬‫ـدي اهللُ لِنُــو ِر ِه َم ْن يَشــاءُ َويَ ْ‬ ‫ض ـيء ولَــو لَم تَمسس ـهُ نــار نُــور َعلى نُــو ٍر ي ْـه ِ‬
‫َ‬ ‫يُ ُ َ ْ ْ ْ َ ْ ٌ ٌ‬
‫ِ‬
‫ِ‬ ‫ٍ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ ِ‬ ‫ِ‬ ‫لِلن ِ‬
‫يم (‪ )35‬في ُبيُوت أَذ َن اهللُ أَ ْن ُت ْرفَـ َـع َويُـ ْذ َك َر ف َيها ا ْسـ ُمهُ يُ َ‬
‫سـبِّ ُح لَــهُ‬ ‫َّاس َواهللُ ب ُك ِّل َش ْيء َعل ٌ‬
‫صـ ِ‬
‫الة‬ ‫ـال ال ُت ْل ِهي ِهم تِج ــارةٌ وال ب ْيـ ٌـع َعن ِذ ْكـ ِر ِ‬
‫اهلل َوإِق ـ ِـام ال َّ‬ ‫ـال (‪ِ @ @)36‬رج ـ ٌ‬ ‫فِيها بِالْغُ ـ ُد ِّو واآْل ص ـ ِ‬
‫ْ‬ ‫ْ َ َ َ‬ ‫َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫وإِيت ـ ِ‬
‫س ـ َن ما‬ ‫َح َ‬‫ـار (‪ )37‬ليَ ْجـ ِز َي ُه ُم اهللُ أ ْ‬ ‫ـوب َواأْل َبْص ـ ُ‬ ‫ب في ــه الْ ُقلُ ـ ُ‬ ‫الزك ــاة يَخ ــافُو َن َي ْوم ـاً َتَت َقلَّ ُ‬‫ـاء َّ‬ ‫َ‬
‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬
‫ضله َواهللُ َي ْر ُز ُق َم ْن يَشاءُ بِغَْيـ ِر حس ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعملُوا َويَ ِزي َد ُه ْم م ْن فَ ْ‬
‫ين َك َف ُـروا أَ ْعمــال ُُه ْم‬ ‫ـاب (‪َ @)38‬والذ َ‬
‫ِ‬ ‫َم يَ ِ ـ‬ ‫ٍ ِِ ٍ‬
‫ج ْدهُ َش ـ ْيئاً َو َو َجـ َد اهللَ ع ْن ـ َدهُ َف َوفَّاهُ‬ ‫ـاء َحتَّى إِذا ج ـ َ‬
‫ـاءهُ ل ْ‬ ‫س ـبُهُ الظَّ ْمــآ ُن مـ ً‬ ‫س ـراب بق َيعــة يَ ْح َ‬ ‫َك َ‬
‫ِِ‬ ‫ُجي ي ْغشـاه مـو ِ‬ ‫ـات فِي بَ ْـ‬‫ـاب (‪ )39‬أَو َكظُلُم ٍ‬ ‫ْحس ِـ‬ ‫ِحسابهُ واهلل سـ ِريع ال ِ‬
‫ج‬‫ج م ْن َف ْوقـه َم ْـو ٌ‬ ‫ح ٍر ل ِّ ٍّ َ ُ َ ْ ٌ‬ ‫ْ‬ ‫َ َ ُ َ ُ‬
‫مات‬
‫حاب ظُلُ ٌ‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬
‫م ْن َف ْوقه َس ٌ‬
‫‪1281‬‬

‫ض إِذا أَ ْخ َر َج يَـ َدهُ ل َْم يَ َكـ ْد يَراها َو َم ْن ل َْم يَ ْج َع ِـل اهللُ لَـهُ نُـوراً فَما لَـهُ ِم ْن نُـو ٍر)‬
‫ضها َف ْو َق َب ْع ٍ‬
‫َب ْع ُ‬
‫(‪)40‬‬
‫____________________________________‬
‫التفسري ‪:‬‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫باح فِي‬ ‫ٍِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫سـ ـ ِ‬
‫باح ‪ ..‬ال ِْم ْ‬
‫صـ ـ ُ‬ ‫ض َمثَـ ـ ُـل نُـ ــو ِره َك ِم ْش ـ ـكاة فيها م ْ‬
‫صـ ـ ٌ‬ ‫ماوات َواأْل َْر ِ‬ ‫ـور ال َّ‬
‫(اهللُ نُـ ـ ُ‬
‫بار َك ٍـة َز ْيتُونَ ٍـة ال َشـ ْرقِيَّ ٍة َوال غَ ْربِيَّ ٍة‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫جاج ٍة ‪ُّ ..‬‬
‫ي يُوقَـ ُد م ْن َشـ َج َرة ُم َ‬
‫ب ُد ِّر ٌّ‬‫جاجةُ َكأَنَّها َك ْـو َك ٌ‬
‫الز َ‬ ‫ُز َ‬
‫ب اهللُ‬ ‫ـدي اهللُ لِنُــو ِر ِه َم ْن يَشــاءُ َويَ ْ‬
‫ضـ ِر ُ‬
‫ضيء ولَو لَم تَمسسهُـ نار نُور َعلى نُو ٍر ي ْـه ِ‬
‫َ‬ ‫كاد َز ْيتُها يُ ُ َ ْ ْ ْ َ ْ ٌ ٌ‬
‫ِ‬ ‫يَ ُ‬
‫يم)‪.‬‬ ‫ٍ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ثال لِلن ِ‬
‫َّاس َواهللُ ب ُك ِّل َش ْيء َعل ٌ‬ ‫اأْل َْم َ‬
‫ه@@ذه اآلية حتدث عن س@@لطان اهلل ‪ ،‬وامتالكه لناص@@ية كل موج@@ود ىف ه@@ذا الوج@@ود ‪،‬‬
‫من ال ّذ ّرة فما دوهنا ‪ ،‬إىل النجم فما فوقه ‪..‬‬
‫وقد وصف اهلل س@ @ @ @ @ @@بحانه وتع@ @ @ @ @ @@اىل ذاته بأنه ن@ @ @ @ @ @@ور ال ّس@ @ @ @ @ @ @موات واألرض ‪ ..‬أي أنه‬
‫املوجه له إىل الطريق ال@@ذي يأخ@@ذه‬ ‫الكاشف لكل موجود طريقه ىف ه@@ذا الوج@@ود ‪ ،‬واهلادي ّ‬
‫‪ ،‬كما يقول سبحانه ‪( :‬الَّ ِذي أَ ْعطى ُك َّل َش ْي ٍء َخ ْل َقهُ ‪ ،‬ثُ َّم َهدى) (‪ : 50‬طه)‪@.‬‬
‫فهذا النور الذي يضىء الوجود كله ‪ ،‬ويقيم لكل موج@@ود فيه ‪ ،‬بص@@رية ‪ ،‬أو بص@@را ـ‬
‫ه @ @@ذا الن @ @@ور هو مظهر من مظ @ @@اهر جالل اهلل ‪ ،‬وعظمته ‪ ،‬وقدرته ‪ ..‬فكما أن اهلل س @ @@بحانه‬
‫رب العاملني ‪ ،‬فكذلك هو ـ سبحانه ـ نور العاملني ‪..‬‬ ‫وتعاىل هو ّ‬
‫وقد ض @@رب اهلل س @@بحانه وتع @@اىل لن @@وره العظيم ‪ ،‬مثال يقربه إىل العق @@ول ‪ ،‬ويدنيه من‬
‫احلس ‪ ..‬وإال فإن هذا الن@@ور‬
‫املدارك والتصورات ‪ ،‬وخيرجه من عامل ماوراء احلس إىل عامل ّ‬
‫ىف ذاته ال ميكن تصوره ‪ ،‬حقيقة أو خياال ‪ ،‬ألنه من صفات‬
‫‪1282‬‬

‫اهلل ‪ ،‬وكما ال تدرك ذات اهلل ‪ ،‬فكذلك ال تدرك صفاته ‪..‬‬


‫واملثل املض@ @ @@روب لن@ @ @@ور اهلل هو «املش@ @ @@كاة» وهى الك@ @ @@وة أي «الط@ @ @@اق» املفتوحة ىف‬
‫احلائط ‪ ،‬واملغلقة من أحد وجهيها ‪ ..‬وميكن أن تك @ @ ّ@ون «املش @ @@كاة» هى ه @ @@ذا القن @ @@ديل من‬
‫البلّور ‪ ،‬الذي حيمل املصباح‪.‬‬
‫وه @@ذه املش @@كاة ‪ ،‬أو القن @@ديل ‪ ،‬يتألأل ن @@ورا مش @ ّ@عا ‪ ،‬يك @@اد خيطف األبص @@ار ‪ ..‬وه @@ذا‬
‫الن @ @ @@ور ‪ ،‬ينبعث من «مص @ @ @@باح» وهو الش @ @ @@علة املتق @ @ @@دة املض @ @ @@يئة ‪ ،‬من فتيل أو حنوه ‪ ،‬داخل‬
‫املشكاة ‪..‬‬
‫وهذا املصباح داخل زجاجة ‪..‬‬
‫ى ‪..‬‬ ‫در ّ‬‫وهذه الزجاجة ‪ ..‬شفافة صافية ‪ ..‬كأهنا كوكب ّ‬
‫مث إن وق @ @@ود ه @ @@ذا املص @ @@باح هو ‪ ،‬من زيت مب @ @@ارك ‪ ،‬مستص @ @@فى من ش @ @@جرة مباركة‬
‫زيتونة ‪( ،‬ال َشـ ـ ـ ـ ـ ْرقِيَّ ٍة َوال غَ ْربِيَّ ٍة) أي مغروسة ىف أنسب مك@ @ @ @ @ @@ان هلا ‪ ،‬وأعدله ‪ ..‬فهى وإن‬
‫ك@@انت من نب@@ات املن@@اطق املعتدلة ‪ ،‬ال احلارة ‪ ،‬وال الب@@اردة ‪ ،‬إال أهنا تأخذ أع@@دل مك@@ان ىف‬
‫هذه املناطق ‪ ،‬فهى ال إىل الشرق ‪ ،‬وال إىل الغرب ‪..‬‬
‫وقد حيسب بعض الن@@اس أن الت@@أثريات الطبيعية ىف حي@@اة الن@@اس ‪ ،‬واحلي@@وان والنب@@ات ‪،‬‬
‫ختضع لقرب املكان أو بعده من خط االستواء ‪ ..‬وهذا ‪ ،‬وإن كان ص@@حيحا ‪ ،‬إال أنه ليس‬
‫على إطالقه ‪ ،‬فإن قرب املكان أو بعده ‪ ،‬من نصف الكرة األرض@@ية ‪ ،‬ش@@رقا ‪ ،‬أو غربا ‪ ،‬له‬
‫@وى ىف الكائن @@ات احلية ‪ ،‬من إنس @@ان ‪ ،‬وحي @@وان ‪ ،‬ونب @@ات ‪ ،‬وهلذا اختلف الش @@رق‬ ‫ت @@أثريه الق @ ّ‬
‫والغ@ @@رب ‪ ،‬وهلذا قيل ‪ :‬الش @@رق ش@ @@رق والغ@ @@رب غ @@رب ‪ ،‬مبعىن أن لكل منهما بيئة خاصة ‪،‬‬
‫يت@ @ @ @@أثر هبا األحي@ @ @ @@اء اليت تعيش فيها ‪ ..‬وإنه لش@ @ @ @@تان بني الياب@ @ @ @@اىن ىف أقصى الش@ @ @ @@رق ‪ ،‬وبني‬
‫األمريكى ىف أقصى الغرب ‪ ،‬وإن كانا على خط عرض واحد ‪..‬‬
‫‪1283‬‬

‫واملش@@رق ‪ ،‬أو النصف الش@@رقي من الك@@رة األرض @@ية ‪ ،‬ختتلف طب @@ائع الن@@اس فيه ‪ ،‬بني‬
‫من ك@ @@ان منهم ىف أقصى الش@ @@رق ‪ ،‬ومن ك@ @@ان ىف أقصى الغ@ @@رب من ه@ @@ذا الش@ @@رق ‪ ،‬وذلك‬
‫المت@@داد املس@@افة وطوهلا بني ش@@رق الش@@رق وغربه ‪ ،‬وك@@ذلك الش@@أن ىف الغ@@رب ‪ ،‬وهلذا ج@@اء‬
‫ب ال َْمغْ ِر َب ْي ِن) (‪ : 17‬ال@@رمحن) وج@@اء ىف آية أخ@@رى ‪( :‬فَال‬ ‫ب ال َْم ْش ِر َق ْي ِن َو َر ُّ‬
‫قوله تعاىل ‪َ ( :‬ر ُّ‬
‫ب ال َْمشا ِر ِق َوال َْمغا ِر ِب) (‪ : 40‬املع@@ارج) ‪ ..‬فاملش@@رق مش@@رقان ‪ ،‬واملغ@@رب مغرب@@ان‬ ‫أُق ِ‬
‫ْس ُم بَِر ِّ‬
‫‪ ..‬واملش@ @ @@رق مش@ @ @@ارق ‪ ،‬واملغ@ @ @@رب مغ@ @ @@ارب ‪ ،‬وذلك حسب اتس@ @ @@اع النظ@ @ @@رة اليت ينظر هبا‬
‫إليهما‪.‬‬
‫يدل على أهنا أك@@رم‬ ‫وال شك أن وصف الشجرة الزيتونة بأهنا ال شرقية وال غربية ‪ّ ،‬‬
‫شجرة زيتون ‪ ،‬وأحسنها ‪ ،‬وأمتها ‪ ،‬إذ كانت تنبت ىف أعدل مكان من األماكن اليت تنبت‬
‫فيها‪.‬‬
‫***‬
‫ونعود إىل هذا التشبيه الذي شبه به نور اهلل ‪..‬‬
‫وقد أك@@ثر املفس@@رون الق@@ول ىف العائد عليه الض@@مري ىف قوله تع@@اىل ‪َ ( :‬مثَـ ُـل نُــو ِر ِه) أهو‬
‫اهلل؟ أم املؤمن؟ أم قلب املؤمن؟ أم القرآن؟ أم النيب صلى‌هللا‌عليه‌وسلم؟‪.‬‬
‫وال@ذي ت@دل عليه اآلية ص@راحة ‪ ،‬هو أن ه@ذا الض@@مري يع@ود إىل اهلل س@بحانه وتع@@اىل ‪،‬‬
‫وأن ه@@ذا التش@@بيه هو تش@@بيه لن@@ور اهلل ‪ ،‬وإنه ال ح@@رج من أن يش@@به ن@@ور اهلل مبا يقع حلواس@@نا‬
‫صـ ـ ُير) وقد‬‫سـ ـ ِميع الْب ِ‬ ‫ِِِ‬
‫من ن @@ور ‪ ،‬وهلل ـ مع ه @@ذا ـ املثل األعلى ‪( ،‬ل َْي َ‬
‫س َكمثْل ــه َشـ ـ ْيءٌ َو ُهـ َـو ال َّ ُ َ‬
‫وصف س @ @ @@بحانه ذاته ‪ ،‬بأنه ي @ @ @@رى ‪ ،‬ويس @ @ @@مع ‪ ،‬ويط @ @ @@وى الس @ @ @@موات بيمينه ‪ ،‬ويص @ @ @@نع من‬
‫يصطفى من عباده على عينه ‪ ..‬إىل غري ذلك مما هو من صفات اإلنس@@ان ‪ ،‬وأعماله ‪ ..‬وما‬
‫ذلك إال لنعطيه سبحانه ‪ ،‬حنن البشر ـ الوصف الكامل ‪ ،‬الذي ننتزعه من عامل احلس ال@@ذي‬
‫نعيش فيه ‪..‬‬
‫‪1284‬‬

‫حترج كثري من املفس @@رين أن يقبل @@وا ه @@ذا املثل لن @@ور اهلل ‪ ،‬وهلذا ك @@ان منهم تلك‬
‫وقد ّ‬
‫التأويالت اليت جتعل النور لقلب املؤمن ‪ ،‬أو للقرآن ‪ ،‬أو للرسول الكرمي ‪..‬‬
‫وه@@ذا مثل ‪ ،‬وليس متاثال من كل وجه بني ن@@ور اهلل ‪ ،‬وبني ه@@ذا الن@@ور املمثل به ن@@ور‬
‫احلق جل وعال ‪..‬‬
‫وىف احلديث ‪« :‬إن اهلل س@@بحانه وتع @@اىل خلق آدم على ص@@ورته» ‪ ..‬وتق @@ول الت@@وراة!‬
‫«خلق اهلل اإلنسان على صورته ‪ ..‬على صورته خلقه»‪.‬‬
‫وأين اإلنسان من عظمة اهلل ‪ ،‬وجالل اهلل؟ إنه هباءة تسبح ىف اهلواء!‬
‫قيل إن أبا متام الش@ @ @@اعر ‪ ،‬دخل على ممدوحه ىف مصر ‪ ،‬فمدحه بقص@ @ @@يدة ج@ @ @@اء فيها‬
‫قوله ‪:‬‬
‫إق@ @ @ @ @ @ @ @ @ @@دام عم@ @ @ @ @ @ @ @ @ @@رو (‪ )1‬ىف مساحة ح@ @ @ @ @ @ @ @ @ @@امت ‪  ‬ىف حلم أحنف ىف ذك @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @@اء إي @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @@اس‬
‫‪ ‬‬ ‫‪ ‬‬

‫فق@ @ @ @@ال بعض حاش@ @ @ @@ية األمري ‪ :‬ما هك@ @ @ @@ذا ميدح األمري ‪ ..‬ما زدت أن ش@ @ @ @@بهته ببعض‬
‫صعاليك األعراب!‬
‫فسكت أبو متام قليال ‪ ..‬مث قال ‪ ،‬دافعا هذا االعرتاض ‪ ،‬ومفحما هذا املعرتض ‪:‬‬
‫ال تنك@ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @@روا ض@ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @@رىب له من دونه ‪  ‬مثال ش@ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @@رودا ىف الن@ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @@دى والب@ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @@اس‬
‫‪ ‬‬ ‫‪ ‬‬

‫فاهلل قد ض@ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @@رب األق@ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ ّ@ل لن@ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @@وره ‪  ‬مثال من املش@ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @@كاة والن@ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @@رباس‬
‫‪ ‬‬ ‫‪ ‬‬

‫فهكذا جيب أن تفهم األمثال ‪ ،‬وأهنا ليست متاثال بني مضرب املثل واملضروب له‪.‬‬
‫__________________‬
‫ود العامري‪ .‬من فرسان العرب املعدودين‪.‬‬
‫(‪ )1‬هو عمرو بن ّ‬
‫‪1285‬‬

‫وقد عرض @@نا هلذه القض @@ية ىف كتابنا قض @@ية األلوهية «بني الفلس @@فة وال @@دين» ىف اجلزء‬
‫األول منه‪.‬‬
‫والصورة اليت يصورها التشبيه هى ‪:‬‬
‫ك@ @ @@وة أو مش@ @ @@كاة «بلوري @ @@ة» ‪ ..‬فيها مص@ @ @@باح متقد ‪ ،‬وه@ @ @@ذا املص@ @ @@باح مظ@ @ @@روف ىف‬
‫زجاجة ص @@افية أمت ما يك @@ون عليه الص @@فاء ‪ ،‬حىت لكأهنا ك @@وكب درى ‪ ..‬مث إن ش @@علة ه @@ذا‬
‫املصباح تشتعل من زيت مستخلص من أكرم شجرة عرفت من شجر الزيتون ‪..‬‬
‫ور َعلى نُــو ٍر ‪)..‬‬
‫فهذا النور ‪ ،‬ليس جمرد نور ‪ ،‬وإمنا هو كما وصفه اهلل سبحانه ‪( :‬نُ ٌ‬
‫ن @@ور املش @@كاة البلوري @@ة‪ .‬مث ن @@ور الزجاجة الص @@افية ص @@فاء الك @@وكب ال @@دري ‪ ،‬مث ن @@ور ال @@زيت‬
‫الذي يكاد يضىء ولو مل متسسه نار ‪ ..‬مث ضوء فتيل املصباح بعد أن يش@@تعل ‪ ..‬فك@ ّ@ل منها‬
‫نور جيتمع إىل نور ‪..‬‬
‫وه@@ذا الن@@ور هو أقصى ما ك@@ان ميكن أن حتصل عليه اإلنس@@انية ‪ ،‬أو تتش@ ّ@هى احلص@@ول‬
‫عليه عند نزول القرآن ‪..‬‬
‫أما ما ج @ ّد بعد ذلك من ن @@ور الكهرب @@اء ـ فإنه ال ينقض ه @@ذا الن @@ور ‪ ،‬وال ينقص من‬
‫جالله وروعته ‪ ..‬ألنه ن@@ور وديع ‪ ،‬ه@@ادىء ‪ ،‬لطيف ‪ ،‬على حني أن ن@@ور الكهرب@@اء زاعق ‪،‬‬
‫ص@ارخ ‪ ..‬وه@ذا هو ال ّس@ر أو بعض الس ّ@ر ىف ض@رب املثل هبذا الن@ور ‪ ،‬دون ض@وء الش@مس ‪،‬‬
‫وهو أهبى هباء وأقوى قوة من كل نور تعرفه اإلنسانية‪.‬‬
‫ذرة ىف ه @ @@ذا‬‫وقد قلنا إن املراد بن@ @ @@ور اهلل هنا ‪ ،‬هو هداية اهلل س@ @ @@بحانه وتع@ @ @@اىل لكل ّ‬
‫الوج @@ود ‪ ،‬وإقامتها ىف مكاهنا الص @@حيح ‪ ،‬وتوجيهها الوجهة اليت ت @@أتلف فيها مع الوج @@ود ‪،‬‬
‫وتتن@ @@اغم مع املوج@ @@ودات ‪ ..‬فك@ @@أ ّن كل ذرة من ذرات الوج@ @@ود تعمل ىف ن@ @@ور ‪ ،‬فال تض@ @ ّ@ل‬
‫طريقها أبدا ‪..‬‬
‫مث إذا نظرنا بعني العلم اليوم ‪ ،‬رأينا الوجود كله نورا ‪ ..‬فاألجسام مجيعها‬
‫‪1286‬‬

‫مكونة من ذرات ‪ ،‬وال@ @ ّذرات ـ كما ع @@رف العلم ـ ن @@ور من ن @@ور ‪ ..‬فكل ذرة جمموعة من‬
‫الش@ @@موس ‪ ،‬ت@ @@دور ىف فلك الن@ @@واة اليت لل@ @@ذرة ‪ ..‬فه@ @@ذه األجس@ @@ام املعتمة وغري املعتمة ‪ ،‬من‬
‫ودواب ‪ ،‬وعرب@@ات ‪ ،‬وس@@يارات ‪ ،‬ودور ‪ ،‬وقص@@ور ‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫جبال ‪ ،‬ورمال ‪ ،‬وتراب ‪ ،‬وأناس@ ّ@ى ‪،‬‬
‫احنل إىل ذرات ك@ @ @@ان كتال من الن@ @ @@ور‬ ‫ومشوس وأقم@ @ @@ار ـ هى ن@ @ @@ور جمسد ‪ ،‬متك@ @ @@اثف‪ .‬إذا ّ‬
‫الوهاج ‪..‬‬
‫املادى ـ كما يب @@دو الي @@وم ىف م @@رآة@ العلم احلديث ـ هو مشوس من ن @@ور ‪ ،‬وأن‬ ‫فالع @@امل ّ‬
‫ن @ @@وره س @ @@بحانه ‪ ،‬يتخلل ه @ @@ذا الن @ @@ور ‪ ،‬ال @ @@ذي هو باإلض @ @@افة إىل ن @ @@ور اهلل ظالم ‪ ،‬ال تتجلى‬
‫حقيقته إال على ض @@وء ن @@ور اهلل ‪ ،‬كما تتجلى حق @@ائق األش @@ياء اليت تقع ىف حميط املش @@كاة ‪،‬‬
‫يشع املصباح الذي فيها من أضواء‪.‬‬ ‫وما ّ‬
‫فن@@ور اهلل س@@بحانه وتع@@اىل ‪ ،‬هو ال@@ذي ميسك ه@@ذا الوج@@ود على نظامه ال@@ذي أقامه اهلل‬
‫عليه ‪ ،‬إذ على ه@ @ @ @ @ @ @@ذا الن@ @ @ @ @ @ @@ور ي@ @ @ @ @ @ @@دور كل موج@ @ @ @ @ @ @@ود ىف فلكه ‪ ،‬متناغما متجاوبا مع دورة‬
‫َم يَ ْج َعـ ِـل اهللُ لَــهُ‬
‫املوجودات كلها ىف فلك الوجود ‪ ..‬وهذا ما يشري إىل قوله تعاىل ‪َ ( :‬و َم ْن ل ْ‬
‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫ـاب‬
‫ـور َوكتـ ٌ‬ ‫ـاء ُك ْم م َن اهلل نُـ ٌ‬ ‫نُــوراً فَما لَــهُ م ْن نُــو ٍر ‪ : 40( )..‬الن@@ور) وقوله س@@بحانه ‪( :‬قَ ـ ْد جـ َ‬
‫ين) (‪ : 15‬املائدة)‬ ‫ُمبِ ٌ‬
‫وعلى ه @ @ @@ذا يك @ @ @@ون املراد بن @ @ @@ور اهلل ‪ ،‬هو ما أودع ىف املوج @ @ @@ودات من س @ @ @@نن ‪ ،‬وما‬
‫ر ّكب ىف املخلوقات من قوى ‪ ،‬وما بعث ىف الن@@اس من رسل ‪ ،‬وما أن@@زل من كتب ‪ ،‬ومن‬
‫الم) (‬ ‫سـ ِ‬ ‫ضـوانَهُ ُسـبُ َل ال َّ‬ ‫دالئل ‪ ..‬ففى كل ه@@ذا ن@@ور من ن@@ور اهلل ‪َ ( ،‬ي ْه ِدي بِ ِه اهللُ َم ِن َّاتبَ َـع ِر ْ‬
‫‪ : 16‬املائدة) وهلذا جاءت هذه اآلية ‪:‬‬
‫ـات مبيِّنـ ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫سـ ِ‬
‫ـات‬ ‫ض) تالية قوله تع@@اىل ‪َ ( :‬ولََقـ ْد أَْن َزلْنا إِل َْي ُك ْم آيـ ُ َ‬ ‫ماوات َواأْل َْر ِ‬ ‫ـور ال َّ‬ ‫(اهللُ نُـ ُ‬
‫ين) وذلك بعد أن كش @ @ @ @@فت آي @ @ @ @@ات اهلل‬ ‫ومثَالً ِمن الَّ ِذين َخلَـ ـ ـ ــوا ِمن َقبلِ ُكم ومو ِعظَ ـ ـ ـ ـةً لِل ِ‬
‫ْمتَّق َ‬
‫ُ‬ ‫ْ ْ ْ ْ َ َْ‬ ‫َ َ‬ ‫ََ‬
‫بأنوارها هذه الغاش@@ية اليت غش@@يت املس@@لمني من ح@@ديث اإلفك ‪ ،‬حىت لقد انقشع ظالمها ‪،‬‬
‫واجنلى ليلها عن صبح مشرق مبني ‪..‬‬
‫‪1287‬‬

‫وال بد من اإلش @@ارة إىل أن التعبري عن قيومية اهلل س @@بحانه وتع @@اىل ‪ ،‬وس @@لطانه الق @@ائم‬
‫ىف الوج@ @@ود ـ ب@ @@النور ‪ ..‬إمنا هو ملا ىف الن@ @@ور من لطف ‪ ،‬حبيث ال يتجسد أب@ @@دا ‪ ،‬بل أنه ىف‬
‫هذا على عكس األشياء كلها ‪ ،‬فاألشياء اللطيفة كالزج@@اج الرقيق مثال ‪ ،‬كلما علت طبقة‬
‫منه طبقة أخ@@رى زادت كثافته ‪ ،‬مث ال ت@@زال ش@@فافيته نقل كلما تك@@اثرت طبقاته حىت يص@@بح‬
‫جسما معتما ‪ ..‬أما النور ‪ ،‬فإنه كلما تض@اعفت أش@عته ‪ ،‬ازداد ش@فافية وق@درة على كشف‬
‫املرئي@@ات اليت يقع عليها ‪ ..‬فن@@ور مشعة ىف حج@@رة ‪ ،‬ون@@ور آالف منها ىف نفس احلج@@رة ‪ ،‬هو‬
‫هو من حيث أنه ال يشغل حيّزا فيها ‪ ،‬وال حيدث خلخلة ىف اهلواء املوجود هبا ‪ ،‬وإن كان‬
‫يزيد املوجودات وضوحا وانكشافا‪.‬‬
‫ومن جهة أخ@@رى ‪ ،‬ف@@إن الن@@ور ـ مع ش@@فافيته ‪ ،‬ومع زي@@ادة ه@@ذه الش@@فافية كلما ق@@وى‬
‫وك@@ثر ـ هو أك@@ثر ظ@@واهر الطبيعة س@@رعة ‪ ،‬حبيث ال يك@@اد يقيد بقيد ال@@زمن ‪ ..‬فالش@@عاعة من‬
‫الض@@وء تنتقل من ط@@رف األرض إىل طرفها اآلخر ىف حملة بصر ‪ ،‬ال تتج@@اوز ج@@زءا من الثانية‬
‫‪...‬‬
‫فالنور ـ كما ترى ـ ال يتحيز ىف مكان ‪ ،‬وال يكاد يتقيّد بزمان‪.‬‬
‫واهلل سبحانه وتعاىل ال حيويه مكان ‪ ،‬وال حي ّده زمان ‪..‬‬
‫ف@@إذا ك@@ان اهلل ن@@ور الس@@موات واألرض ‪ ،‬ك@@ان معىن ه@@ذا أنه ـ س@@بحانه ـ وهو القي@@وم‬
‫على الوج @@ود ـ ليس ح @ااّل ىف املوج @@ودات ‪ ،‬وال متح @@يزا فيها ‪ ،‬وال حمج @@وزا ىف مك @@ان منها‬
‫دون مكان ‪ ..‬وأقرب مثل هلذا ىف تصورنا ‪ ،‬هو النور املنبعث من مص@@باح ىف زجاجة درية‬
‫‪ ،‬داخل مش@كاة ‪ ،‬هى أش@به ب@الوجود ال@ذي يستض@ىء بن@ور اهلل ‪ ..‬فه@@ذه املش@كاة ‪ ،‬يكشف‬
‫الن @@ور وجودها ‪ ،‬دون أن يش @@غل ح @@يزا فيها ‪ ،‬ودون أن حتيزه هى داخلها ‪ ،‬ألهنا ش @@فافة ال‬
‫حتجب النور‬
‫‪1288‬‬

‫الذي يشع فيها ‪ ،‬ودون أن يكون هناك زمان ينتقل فيه النور من مكان إىل مكان فيها ‪..‬‬
‫وإذا علمنا أن الوج@ @@ود ـ كما أثبت العلم ـ مص@ @@ور على هيئة كروية ‪ ،‬ك@ @@ان لنا أن‬
‫ن @@رى ه @@ذا الوج @@ود ممثال ىف تلك املش @@كاة البلورية ‪ ،‬املعلقة ىف الفض @@اء يض @@يئها مص @@باح ىف‬
‫درى ‪ ،‬يوقد من زيت ش@ @ @@جرة زيتونة مباركة ال ش@ @ @@رقية وال غربية‬ ‫زجاجة كأهنا ك @ @@وكب ّ‬
‫يكاد زيتها يضىء ولو مل متسسه نار! ‪ ..‬وأق@@رب ص@ورة للوج@@ود ‪ ،‬والن@ور املنبعث ىف كيانه‬
‫‪ ،‬هو القنديل املعلق ىف بيت من بيوت اهلل ‪ ،‬ينبعث منه النور ىف ظلمات ليل هبيم‪.‬‬
‫ومن بعد ه@@ذا كله ‪ ،‬أو قبل ه@@ذا كله ‪ ،‬ينبغى أن نف@@رق بني ن@@ور ون@@ور ‪ ..‬ن@@ور اهلل ‪،‬‬
‫وهذا النور الذي نصطنعه ‪ ..‬فهذا النور ال@@ذي حنصل عليه من الطبيعة ‪ ،‬هو ظالم باإلض@@افة‬
‫إىل الن @@ور اإلهلى ‪ ..‬ال @@ذي ال يع @@رف كنهه ‪ ،‬وال ي @@درك س @@ره ‪ ،‬وإن استض @@اءت به البص @@ائر‬
‫واس@@تنارت به القل@@وب ‪ ..‬فه@@ذا مثل ‪ ،‬ال يق@@وم منه متاثل بينه وبني احلقيقة املش@@ار إليه هبا ‪..‬‬
‫ض وهو الْع ِزيز ال ِ‬ ‫ِ‬ ‫( َولَهُ ال َْمثَ ُل اأْل َ ْعلى فِي َّ‬
‫يم) ‪..‬‬
‫ْحك ُ‬‫السماوات َواأْل َْر ِ َ ُ َ َ ُ َ‬
‫وىف قوله تع @@اىل ‪َ ( :‬ي ْهـ ِـدي اهللُ لِنُ ــو ِر ِه َم ْن يَش ــاءُ) ـ إش @@ارة إىل أن ن @@ور اهلل ال @@ذي ميأل‬
‫الوج@ @@ود ‪ ،‬هو نفحة من الن@ @@ور العل@ @@وي ‪ ،‬وأن ه@ @@ذه النفحة ‪ ،‬موج@ @@ودة ىف كل موج@ @@ود ‪..‬‬
‫ومع ه@ @@ذا ف@ @@إن اهلل س@ @@بحانه وتع@ @@اىل ألطافا بعب@ @@اده ‪ ،‬فيصل ن@ @@ورهم بن@ @@وره ‪ ،‬ويفتح هلم هبذا‬
‫النور طريقا إىل عامل احلق ‪ ،‬واخلري ‪َ ( :‬ي ْه ِدي اهللُ لِنُو ِر ِه َم ْن يَشاءُ)‪.‬‬
‫ف@ @@الوجود كله ‪ ،‬وإن ك@ @@ان ن@ @@ورا من ن@ @@ور اهلل ‪ ،‬باإلفاضة واخللق ‪ ،‬ف@ @@إن هن@ @@اك ن@ @@ور‬
‫اهلداية ‪ ،‬ال@ذي يض@@ىء البص@@ائر ‪ ،‬ويش@@رح الص@@دور ‪ ،‬وه@@ذا الن@@ور ي@دعو اهلل إليه من ش@اء من‬
‫خلقه ‪ ،‬ليكونوا ىف ضيافة هذا النور القدسي؟ وليكونوا‬
‫‪1289‬‬

‫َم يَ ْج َع ِل اهللُ لَــهُ نُــوراً فَما‬


‫ربانيني ‪ ،‬مبا فيهم من النور الرباين ‪ ،‬الذي أم@@دهم اهلل به ‪َ ( :‬و َم ْن ل ْ‬
‫لَهُ ِم ْن نُو ٍر) (‪ : 40‬النور)‪.‬‬
‫صورته املش@@كاة ‪،‬‬ ‫َّاس)‪ .‬أي هذا النور ‪ ،‬الذي ّ‬ ‫ثال لِلن ِ‬ ‫ض ِر ُ‬
‫ب اهللُ اأْل َْم َ‬ ‫قوله تعاىل ‪َ ( :‬ويَ ْ‬
‫واملص @@باح ‪ ،‬هو مثل ‪ ،‬وليس حقيقة ‪ ،‬ألن ن @@ور اهلل س @@بحانه وتع @@اىل ال ميكن وص @@فه@ ‪ ،‬وإن‬
‫أمكن اإلشارة إليه بصورة متثله ‪ ،‬وال متاثله ‪..‬‬
‫يم) إش @ @@ارة إىل أن ن @ @@ور اهلل ‪ ،‬هو من علم اهلل‬ ‫ٍ ِ‬ ‫وقوله تع @ @@اىل ‪َ ( :‬واهللُ بِ ُكـ ـ ِّ‬
‫ـل َشـ ـ ـ ْيء َعل ٌ‬
‫الكاشف لك ّ@ل ش@ىء ‪ ..‬فهو ن@ور علم وهداية ‪ ،‬يص@در عن ع@امل ‪ ،‬حكيم ‪ ،‬م@دبر ‪ ،‬فيفيض‬
‫على الوجود هدى ورمحة ‪ ،‬ويسكب على املوجودات سكينة وسالما وأمنا ‪..‬‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫اسمهُ يُسبِّح لَهُ فِيها بِالْغُ ُد ِّو واآْل ِ‬
‫صال ِرجـ ٌ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ ِ‬ ‫ِ‬
‫ـال‬ ‫َ‬ ‫(في ُبيُوت أَذ َن اهللُ أَ ْن ُت ْرفَ َع َويُ ْذ َك َر ف َيها ْ ُ َ ُ‬
‫ب فِيـ ِـه‬ ‫ـاء َّ ِ‬ ‫الة وإِيتـ ِ‬
‫قام َّ ِ‬ ‫ال ُت ْل ِهي ِهم تِجارةٌ وال ب ْي ٌع َعن ِذ ْك ِر ِ‬
‫الزكــاة يَخــافُو َن َي ْومـاً َتَت َقلَّ ُ‬ ‫الص َ‬ ‫اهلل َوإِ ِ‬ ‫ْ َ َ َ ْ‬
‫صار) ـ‬
‫وب َواأْل َبْ ُ‬
‫الْ ُقلُ ُ‬
‫وت) هو فعل حمذوف ‪ ،‬تقديره ‪ :‬إذا أردمت التماس ه@@ذا‬ ‫متعلّق اجلار واجملرور (فِي بي ٍ‬
‫ُُ‬
‫اس ُمهُ)‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ٍ ِ‬ ‫ِ‬
‫النور ‪ ..‬نور اهلل ‪ ..‬فالنمسوه (في ُبيُوت أَذ َن اهللُ أَ ْن ُت ْرفَ َع َويُ ْذ َك َر ف َيها ْ‬
‫وهذا الذي نقول به ‪ ،‬هو أنسب من القول ب@@أن ه@@ذا اجلار واجملرور متعلق مبش@@كاة ‪،‬‬
‫على تقدير ‪:‬‬
‫كاة ‪ ..‬فِي بي ٍ‬
‫وت أ َِذ َن اهللُ أَ ْن ُت ْرفَ َع)‪.‬‬ ‫ض مثَل نُو ِر ِه َك ِم ْش ٍ‬ ‫ِ‬
‫ُُ‬ ‫السماوات َواأْل َْر ِ َ ُ‬
‫ور َّ‬‫(اهللُ نُ ُ‬
‫وه@@ذا بعيد من حيث النظم ‪ ،‬مث بعيد من حيث املع@@ىن‪ .‬إذ أن ن@@ور اهلل هو ن@@ور اهلل ‪،‬‬
‫سواء ىف املساجد ‪ ،‬أو ىف غريها ‪..‬‬
‫والذي ذهبنا إليه ‪ ،‬هو املناسب للمقام ‪ ..‬إذ كان قوله تعاىل ‪َ ( :‬ي ْه ِدي‬
‫‪1290‬‬

‫ِ ِ‬
‫مشوقا للنف@@وس أن يك@ون هلا نص@يبها من ه@ذا الن@ور ‪ ،‬وأن تك@@ون فيمن‬ ‫اهللُ لنُو ِره َم ْن يَشاءُ) ّ‬
‫شاء اهلل هدايتهم إليه ‪ ..‬ومن بواعث ه@ذا الش@وق جتىء تس@اؤالت عن ه@ذا الن@ور ‪ ،‬وكيف‬
‫الس @@بيل إليه ‪ ،‬وبل @@وغ النفس حظها من @@ه؟ وال تك @@اد النفس تتل ّقى ه @@ذه اخلواطر املتس @@ائلة ‪،‬‬
‫وهى بني ي@@دى قوله تع@@اىل ‪َ ( :‬ي ْـه ِـدي اهللُ لِنُــو ِر ِه َم ْن يَشــاءُ) ـ حىت يلقاها ال@@دليل ال@@ذي يأخذ‬
‫ـوت أ َِذ َن اهللُ أَ ْن ُت ْرفَ ـ َـع َويُـ ـ ْذ َك َر فِ َيها ا ْسـ ـ ُمهُ) ـ ففى ه @@ذه‬
‫هبا إىل مواقع ه@ @@ذا الن@ @@ور ‪( :‬فِي بي ـ ٍ‬
‫ُُ‬
‫ال@ @ @ @ @ @ @@بيوت اليت أذن اهلل أن ترفع وي@ @ @ @ @ @ @@ذكر فيها امسه ‪ ،‬يلتمس ن@ @ @ @ @ @ @@ور اهلل ‪ ،‬حيث يتجلى اهلل‬
‫سبحانه وتعاىل على كل من يغشون هذه البيوت ‪ ،‬ويذكرون اهلل فيها ‪..‬‬
‫وىف تنكري البيوت ‪ ،‬تعظيم ملقامها ‪ ،‬ورفع لشأهنا ‪ ،‬وتض@@خيم لق@@درها ‪ ،‬وإن ض@@اقت‬
‫رقعة وقلت ع@@ددا ‪ ..‬فهى أيّا ك@@انت ‪ ،‬أعلى ال@@بيوت مقاما ‪ ،‬وأرفعها عم@@ادا ‪ ،‬وكل بي@@وت‬
‫ظل هلا ‪ ،‬ومرفق من مرافقها‪.‬‬ ‫غريها ‪ّ ،‬‬
‫وإذن اهلل برفع ه @ @ @@ذه ال @ @ @@بيوت ‪ ،‬هو أم@ @ @@ره بإقامتها ‪ ..‬فحيث أقيمت ‪ ،‬فهى مرفوعة‬
‫على كل بنيان ‪ ،‬وإن عال بناء ‪ ،‬وعظم جسما‪.‬‬
‫وقوله تع@@اىل ‪َ ( :‬ويُـ ْذ َك َر فِ َيها ا ْسـ ُمهُ) معط@@وف على قوله تع@@اىل ‪ُ( :‬ت ْرفَـ َـع) أي أذن اهلل‬
‫أن ترفع ‪ ،‬وأذن أن ي@ @ @ @ @@ذكر فيها امسه ‪ ..‬وهو بي@ @ @ @ @@ان للغاية من رفعها ‪ ،‬وإقامتها ‪ ،‬وأهنا إمنا‬
‫رفعت وأقيمت ليذكر فيها اسم اهلل ‪ ..‬فهى بيوت عبادة ‪ ،‬وذكر هلل ‪..‬‬
‫وذكر اسم اهلل ‪ ،‬هو ذكر اهلل ‪ ..‬واسم اهلل ‪ ،‬هو ص@ @ @ @ @@فته ‪ ،‬وليس هلل س@ @ @ @ @@بحانه اسم‬
‫واحد ‪ ،‬أو ص@فة واح@دة ‪ ،‬وإمنا له أمساء وص@فات كث@رية ‪ ،‬هى الكم@ال املطلق ‪ ،‬كما يق@ول‬
‫ْح ْسنى فَا ْدعُوهُ بِها) (‪ : 180‬األعراف) ودعاء اهلل بأمسائه ‪ ،‬هو‬ ‫ِِ‬
‫سبحانه ‪َ ( :‬وللَّه اأْل ْ‬
‫َسماءُ ال ُ‬
‫ذكر ومتجيد له ‪..‬‬
‫‪1291‬‬

‫وىف ذكر اهلل ‪ ،‬ذكر جلالله ‪ ،‬وعظمته ‪ ،‬وقيومته ‪ ،‬واستحضار ملا له س@@بحانه وتع@@اىل‬
‫ىف خلقه ‪ ،‬من تقدير وتدبري ‪ ،‬وىف هذا ال@ذكر يتصل العبد بربه ‪ ،‬ويق@رتب من مواقع رض@اه‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫ـوب) (‪ : 28‬الرع @@د)‬ ‫ورمحته ‪ ..‬وه @@ذا ما يشري إليه قوله تع @@اىل ‪( :‬أَال بِــذ ْك ِر اهلل تَط َْمئ ُّن الْ ُقلُـ ُ‬
‫وقد عرضنا لبحث هذا املوضوع ‪ ،‬عند تفسري هذه اآلية الكرمية (‪.. )1‬‬
‫ِ‬ ‫وقوله تع@@اىل ‪( :‬يُسـبِّح لَــهُ فِيها بِالْغُـ ُد ِّو واآْل صـ ِ‬
‫ـارةٌ َوال َب ْيـ ٌـع َع ْن‬ ‫ـال ال ُت ْل ِهي ِه ْم تجـ َ‬ ‫ـال ِرجـ ٌ‬ ‫َ‬ ‫َ ُ‬
‫ـاة يخــافُو َن يوم ـاً َتَت َقلَّ ِ ِ‬ ‫ـاء َّ ِ‬ ‫الة وإِيتـ ِ‬‫اهلل وإِقـ ِـام ال َّ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ـار ‪ )..‬هو‬ ‫ـوب َواأْل َبْصـ ُ‬‫ب فيــه الْ ُقلُـ ُ‬ ‫ُ‬ ‫َْ‬ ‫الزكـ َ‬ ‫صـ َ‬ ‫ذ ْكـ ِر َ‬
‫هتش ‪ ،‬وال‬ ‫بي@ @@ان ش@ @@ارح هلذه املس@ @@اجد ‪ ،‬وملن يغش@ @@وهنا من عب@ @@اد اهلل ‪ ..‬فه@ @@ذه ال@ @@بيوت ال ّ‬
‫تس@@عد إال مبن يتعلق فلبه هبا ‪ ،‬وجيد األنس واملس@ ّ@رة ىف رحاهبا ‪ ،‬ويستش@@عر الغربة والوحشة‬
‫ىف البعد عنها ‪ ،‬فهو هلذا غ@ @ @@اد ورائح إليها ‪ ،‬ال تلهيه جتارة وال بيع عن غش@ @ @@ياهنا وذكر اهلل‬
‫ـار) أي‬ ‫فيها ‪ ،‬ابتغ @ @ @@اء رض @ @ @@وانه ‪ ،‬وخوفا من لقائه ىف ي @ @ @@وم ( َتَت َقلَّ ِ ِ‬
‫ـوب َواأْل َبْصـ ـ ـ ُ‬
‫ب فيـ ـ ــه الْ ُقلُـ ـ ـ ُ‬ ‫ُ‬
‫تضطرب فيه القلوب هوال وفزعا ‪ ،‬وتزيغ فيه األبصار ‪ ،‬كربا وجزعا ‪..‬‬
‫@دو ‪:‬‬ ‫@دو ‪ :‬أول النه@@ار ‪ ،‬واآلص@@ال ‪ :‬مجع أص@@يل ‪ ،‬وهو آخر النه@@ار ‪ ..‬وأف@@رد الغ@ ّ‬ ‫والغ@ ّ‬
‫ألن فيه ص@@الة واح@@دة ‪ ،‬هى ص@@الة الص@@بح ‪ ..‬ومجع األص@@يل ‪ ..‬ألنه زمن ممتد ‪ ،‬فيه ص@@الة‬
‫الظهر ‪ ،‬والعصر ‪ ،‬والعشاءين ‪( ..‬املغرب والعشاء)‪.‬‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫سـ ـ ـ َن ما َع ِملُ ـ ــوا َويَ ِزيـ ـ ـ َد ُه ْم ِم ْن فَ ْ‬
‫ضـ ـ ـلِ ِه َواهللُ َيـ ـ ْـر ُز ُق َم ْن يَش ـ ــاءُ بِغَْيـ ـ ـ ِر‬ ‫(لِيَ ْـ‬
‫جـ ـ ِز َي ُه ُم اهللُ أ ْ‬
‫َح َ‬
‫ساب)‪.‬‬‫ِح ٍ‬
‫هو تعليل ملا ببغيه الغادون والرائحون إىل بيوت اهلل ‪ ..‬أي أهنم يفعلون‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬انظر التفسري القرآىن للقرآن ‪ :‬الكتاب السابع‪.‬‬
‫‪1292‬‬

‫ه @@ذا ‪ ،‬ويولّ @@ون وج @@وههم إىل رهبم بالغ @@دو واآلص @@ال ‪ ،‬ليك @@ون ذلك س @@ببا ىف أن يرضى اهلل‬
‫عنهم ‪ ،‬وجيزيهم أحسن ما عمل@ @@وا ويقبله منهم ‪ ،‬ويتج@ @@اوز بإحس@ @@اهنم ه@ @@ذا عن س@ @@يئاهتم ‪،‬‬
‫ـاو ُز َع ْن َسـيِّئاتِ ِه ْم) (‬ ‫ِ‬ ‫كما يقول سبحانه ‪( :‬أُولئِ َ َّ ِ‬
‫س َن ما َعملُــوا َو َنتَجـ َ‬ ‫َح َ‬‫ين َنَت َقبَّ ُل َع ْن ُه ْم أ ْ‬
‫ك الذ َ‬
‫‪ : 16‬األحق@@اف) ‪ ..‬وليس ه@@ذا فحسب ‪ ،‬بل إنه س@@بحانه وتع@@اىل ـ س@@يزيدهم من فض@@له ‪،‬‬
‫ويض@ @ @@اعف اجلزاء هلم من إحس@ @ @@انه ‪ ..‬فه@ @ @@ذا رزق من رزقه ( َواهللُ َيـ ـ ـ ْـر ُز ُق َم ْن يَشـ ـ ــاءُ بِغَْيـ ـ ـ ِر‬
‫ـاب) ألن خزائنه مألى أب@@دا ‪ ،‬ال تنقص بالعط@@اء ‪ ..‬وإذن فال جيرى حس@@اب على ه@@ذه‬ ‫ِحسـ ٍ‬
‫اخلزائن ‪ ،‬إلحصاء ما ذهب منها وما بقي ‪..‬‬
‫ولكن ـ مع ه@@ذه اخلزائن املألى من رزق اهلل ‪ ،‬ومن فض@@له ‪ ،‬وإحس@@انه ـ فإنه س@@بحانه‬
‫‪ ،‬قي@ @ @ @@وم حكيم ‪ ،‬يضع رمحته حيث يش@ @ @ @@اء ‪ ،‬ويعطى منها ما يش@ @ @ @@اء ملن يش@ @ @ @@اء ‪ ،‬حبس@ @ @ @@اب‬
‫ـل َشـ ـ ْي ٍء‬ ‫وتق @@دير ‪ ،‬حسب ما تقضى به حكمته وت @@دبريه ‪ ،‬وىف ه @@ذا يق @@ول س @@بحانه ‪َ ( :‬و ُكـ ُّ‬
‫@ل ش@@أنه ‪َ ( :‬وإِ ْن ِم ْن َشـ ْي ٍء إِاَّل ِع ْنـ َدنا َخزائِنُــهُ َوما نَُن ِّزلُــهُ إِاَّل بَِقـ َد ٍر‬ ‫ِ ِِ‬
‫ع ْنـ َدهُ بم ْقــدا ٍر ‪ )..‬ويق@@ول ج@ ّ‬
‫وم) (‪ : 21‬احلجر) ‪..‬‬ ‫معلُ ٍ‬
‫َْ‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫َم يَ ِـج ْدهُ‬ ‫(والَّ ِذين َك َفروا أَ ْعمالُهم َك ٍ ِِ ٍ‬
‫ـاء َحتَّى إِذا ج َ‬
‫ـاءهُ ل ْ‬ ‫سـبُهُ الظَّ ْمـآ ُن مـ ً‬
‫سـراب بق َيعــة يَ ْح َ‬ ‫ُْ َ‬ ‫َ َ ُ‬
‫ساب)‪.‬‬ ‫ْح ِـ‬ ‫َشيئاً ووج َد اهلل ِع ْن َدهُ َفوفَّاهُ ِحسابهُ واهلل س ِريع ال ِ‬
‫َ َ ُ َ ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ ََ َ َ‬
‫ىف اآلية الس@@ابقة ‪ ،‬ذكر اهلل س@@بحانه وتع@@اىل املؤم@@نني ‪ ،‬ال@@ذين يغ@@دون ويروح@@ون إىل‬
‫بيوته ‪ ،‬يذكرونه ويسبحون حبمده ‪ ،‬وقد وعدهم اهلل على ذلك ‪ ،‬قبول أحسن ما عملوا ‪،‬‬
‫ومضاعفة هذا اإلحسان ‪..‬‬
‫وىف ه @@ذه اآلية ع @@رض للك @@افرين ‪ ،‬وأعم @@اهلم اليت يعملوهنا ىف دني @@اهم ‪ ..‬إهنا أعم @@ال‬
‫مهلكة ألهلها ‪ ،‬ال جييئهم منها إال البالء وسوء املنقلب ‪ ..‬ألهنا‬
‫‪1293‬‬

‫أغ@ @@وهتم وأض@ @@لتهم ‪ ،‬وخيّل إليهم منها أهنا أعم@ @@ال م@ @@ربورة ‪ ،‬وأهنا غ @ @@رس ىف مغ @ @@ارس اخلري‬
‫واإلحسان ‪ ..‬وهى ىف حقيقتها أشبه بالسراب ‪ ،‬يلمع ىف «قيعة» ـ مجع ق@@اع ـ وهو األرض‬
‫الفسيحة اليت ال زرع فيها ‪..‬‬
‫ماء) إش@ارة إىل خ@داع النفس ‪ ،‬بعد خ@داع البصر‬ ‫سبُهُ الظَّ ْمآ ُن ً‬
‫وىف قوله تعاىل ‪( :‬يَ ْح َ‬
‫هبذا الس@ @@راب ‪ ،‬ف@ @@إن هلفة الظم@ @@آن ‪ ،‬وح@ @@رارة ش@ @@وقه إىل املاء ‪ ،‬تغطّى على عقله ‪ ،‬فيخ@ @@ال‬
‫الس @@راب م @@اء ‪ ،‬مثله كاخلائف املذعور ‪ ،‬ىف س @@واد الليل ووحش @@ته ‪ ،‬ميثّل له ال @@وهم أش @@باحا‬
‫تطلع عليه من كل أفق ‪ ،‬تريد االنقض@@اض عليه والفتك ب@@ه‪ .‬وإىل ه@@ذا الس@@راب يش@@تد طلب‬
‫الظم@ @ @ @ @@آن ‪ ،‬ويس@ @ @ @ @@عى حثيثا الهثا إليه ‪ ،‬وكلما قطع مرحلة وجد الس@ @ @ @ @@راب يتح@ @ @ @ @@رك أمامه‬
‫ـاءهُ) ووصل إىل حيث‬ ‫ويفلت من بني يديه ‪ ،‬وهك@ @ @ @ @ @@ذا حىت تتقطع أنفاسه ‪َ ( :‬حتَّى إِذا ج ـ ـ ـ ـ َ‬
‫ك @@ان يظن أنه املاء (ل َْم يَ ِـجـ ْدهُ َشـ ـ ْيئاً)! فتتض @@اعف ل @@ذلك حس @@رته ‪ ،‬ويش @@تد يأسه ‪ ،‬وتتقطّع‬
‫أنفاسه ‪ ،‬وتغلى مراجل غيظه وظمئه ‪..‬‬
‫وليس ه@ @ @ @ @@ذا وحسب ‪ ،‬بل إنه س@ @ @ @ @@يجد هن@ @ @ @ @@اك من ميسك به ‪ ،‬ويق@ @ @ @ @@وده إىل موقف‬
‫احلس@ @@اب على ما ك@ @@ان منه من كفر ‪ ،‬وض@ @@الل ‪َ ( ..‬و َو َجـ ـ َد اهللَ ِع ْن ـ ـ َدهُ ‪َ ..‬ف َوفَّاهُ ِحسـ ــابَهُ ‪..‬‬
‫ْح ِ‬
‫ساب)!‬ ‫واهلل س ِريع ال ِ‬
‫َ ُ َ ُ‬
‫ف@ @@الكفر ميحق ك@ @ ّ@ل عمل وإن ك@ @@ان من ب@ @@اب اخلري واإلحس@ @@ان ‪ ..‬ألن كل عمل ال‬
‫يز ّكيه اإلميان ‪ ،‬هو أشبه بامليتة ‪ ،‬ال يؤكل حلمها ‪ ،‬وإن كانت من أطيب احليوان حلما!‬
‫قوله تعاىل‪:‬‬
‫ِِ‬ ‫ُجي ي ْغشــاه مــوج ِمن َفوقِـ ِـه مــو ِ‬ ‫ٍ ِ‬
‫ـات‬
‫حاب ظُلُمـ ٌ‬ ‫ج م ْن َف ْوقــه َس ـ ٌ‬ ‫(أ َْو َكظُلُمــات في بَ ْحـ ٍر ل ِّ ٍّ َ ُ َ ْ ٌ ْ ْ َ ْ ٌ‬
‫َم يَ ْج َعـ ِـل اهللُ لَــهُ نُــوراً ‪ ..‬فَما لَــهُ ِم ْن‬
‫َم يَ َكـ ْد يَراها َو َم ْن ل ْ‬ ‫ض إِذا أَ ْـخ َـر َ‬
‫ج يَ ـ َدهُ ل ْ‬ ‫ض ـها َفـ ْـو َق َب ْع ٍ‬
‫َب ْع ُ‬
‫نُو ٍر)‪.‬‬
‫‪1294‬‬

‫هو مثل آخر ‪ ،‬تشبه به أعمال الكافرين ‪ ،‬بعد أن شبهت بالسراب‪.‬‬


‫والف@رق بني املثلني ‪ ،‬أن ال ّس@راب ص@@ورة متثيلية ملا ي@راه الك@افرون ىف أعم@@اهلم وهم ىف‬
‫احلي@@اة ال@@دنيا ‪ ،‬حيث يروهنا ىف ص@@ورة حس@@نة معجبة ‪ ..‬وهى ىف حقيقتها س@@راب خيدعهم ‪،‬‬
‫وي@@دفع هبم ىف طريق الغواية والض@@الل ‪ ،‬حىت ختمد أنفاس@@هم ‪ ،‬ويس@@لمهم ه@@ذا الس@@راب إىل‬
‫القرب ‪ ،‬وما وراء القرب من حساب ‪ ،‬وعقاب ‪ ..‬واهلل سبحانه وتعاىل يقول ‪( :‬أَفَ َم ْن ُزيِّ َن لَـهُ‬
‫ُسوءُ َع َملِ ِه َف َرآهُ َح َسناً)‪ : 8( .‬فاطر)‬
‫وهنا ىف هذا املثل ‪ ،‬تطلع عليهم أعم@@اهلم ه@@ذه ىف ال@@دار اآلخ@@رة ‪ ،‬حيث يلتمس@@وهنا ‪،‬‬
‫كمه ‪،‬‬ ‫فيج@@دون أهنم غ@@ارقون ىف ظالم مطبق ‪ ،‬ال ي@@رى فيه أح@@دهم ي@@ده ‪ ،‬إذا أخرجها من ّ‬
‫وعرضها لعينيه ‪ ..‬فكيف يرى هذه األعمال ‪ ،‬اليت كان يظنها أعماال مربورة حمم@@ودة؟ إهنا‬
‫قد استحالت إىل قطعة من الظلمات ‪ ،‬ىف كيان ه@ذه الظلم@ات ‪ ..‬فليقتطع لنفسه قطعة من‬
‫هذا الظالم إن أراد ‪ ،‬وإن استطاع!‬
‫مات) كظلمات ال ظلمة واحدة ‪ ،‬بل طبق@@ات بعض@@ها ف@@وق بعض من م@@ادة‬ ‫(أَو َكظُلُ ٍ‬
‫ْ‬
‫ُج ٍّي) أي متالطم املوج ‪ ،‬حيث يتع@ @ @@اىل املوج ‪ ،‬وي@ @ @@ركب بعضه بعضا ‪،‬‬ ‫الظالم (فِي بَ ْـ‬
‫حـ ـ ٍر ل ِّ‬
‫ج‬‫اللجى ( َي ْغشــاهُ َمـ ْـو ٌ‬
‫ّ‬ ‫ف@@إذا س@@واده الك@@ثيف يلتقى مع ه@@ذه الظلم@@ات املطبقة على ه@@ذا البحر‬
‫حاب) أي يغطى ه@ @@ذا البحر م@ @@وج ‪ ،‬وف@ @@وق املوج ‪ ،‬م@ @@وج ‪،‬‬ ‫ِِ‬ ‫ِمن َفوقِـ ـ ِـه مـ ــو ِ‬
‫ج م ْن َف ْوقـ ــه َس ـ ـ ٌ‬ ‫ْ ْ َْ ٌ‬
‫ض) ‪..‬‬ ‫ض ـها َفـ ْـو َق َب ْع ٍ‬ ‫وف @@وق املوج ‪ ،‬س @@حاب ‪ ،‬هو م @@وج ف @@وق م @@وج ‪ ..‬وهو (ظُلُم ـ ٌ‬
‫ـات َب ْع ُ‬
‫وأىّن ملن تركبه هذه الظلم@ات أن يع@رف طريقا إىل النج@اة واخلالص؟ إنه ال يك@اد ي@رى ي@ده‬
‫اليت مي ّدها إىل حبل النج@@اة إن ك@@ان هن@@اك حب@@ل! إن ه@@ذا الظالم يك@@اد ينعقد عليه ‪ ،‬ويلبسه‬
‫من قمة رأسه‬
‫‪1295‬‬

‫إىل أمخص قدمه ‪ ،‬حىت تضيق به أنفاسه ‪ ،‬وتزهق منه روحه!‬


‫وقوله تع@@اىل ‪َ ( :‬و َم ْن ل َْم يَ ْج َعـ ِـل اهللُ لَــهُ نُــوراً فَما لَــهُ ِم ْن نُــو ٍر) ـ أي من مل جيعل اهلل ىف‬
‫قلبه ن @@ورا ‪ ،‬هو ن @@ور اإلميان ‪ ،‬ال @@ذي يه @@دى ص @@احبه إىل طريق الس @@المة والنج @@اة ‪ ،‬فهيه @@ات‬
‫هيه@@ات أن جيد الن@@ور أب@@دا ‪ ..‬وإنه للمح@@روم الش@@قي ‪ ،‬ذلك ال@@ذي ح@@رم حظّه من ن@@ور اهلل ‪،‬‬
‫الذي ميأل السموات واألرض!‬
‫____________________________________‬

‫اآليات ‪ 41( :‬ـ ‪)46‬‬


‫ات ُكــلٌّ قَ ـ ْد َعلِ َم‬‫ض والطَّْـيـر ص ـافَّ ٍ‬
‫س ـماوات َواأْل َْر ِ َ ُ َ‬
‫ِ‬ ‫س ـبِّ ُح لَــهُ َم ْن فِي ال َّ‬
‫َن اهللَ يُ َ‬ ‫َم َتـ َـر أ َّ‬
‫(أَل ْ‬
‫ض وإِلَى ِ‬
‫اهلل‬ ‫ِ‬
‫سـ ـ ـماوات َواأْل َْر ِ َ‬ ‫ـك ال َّ‬ ‫يم بِما َي ْف َعلُ ـ ــو َن (‪َ )41‬ولِلَّ ِه ُم ْلـ ـ ُ‬ ‫ِ‬
‫يحهُ َواهللُ َعل ٌ‬ ‫صـ ـ ـالتَهُ َوتَ ْسـ ـ ـبِ َ‬
‫َ‬
‫ف َب ْينَ ــهُ ثُ َّم يَ ْج َعلُ ــهُ ُركام ـاً َفَتـ َـرى الْ ـ َـو ْد َق‬‫َن اهللَ ُي ـ ْـز ِجي َس ـحاباً ثُ َّم ُي َؤلِّ ُ‬ ‫َم َتـ َـر أ َّ‬
‫ال َْمص ـ ُير(‪ )42‬أَل ْ‬
‫ِ‬
‫ِ‬ ‫ٍ ِ‬ ‫خـرج ِمن ِخاللِـ ِـه وينـ ِّـز ُل ِمن ال َّ ِ ِ ِ ٍ ِ ِ‬
‫صـ ِرفُهُ‬ ‫يب بِــه َم ْن يَشــاءُ َويَ ْ‬
‫سـماء م ْن جبــال فيها م ْن َبـ َـرد َفيُصـ ُ‬ ‫َ‬ ‫َ َُ‬ ‫يَ ْـ ُ ُ ْ‬
‫ـك‬ ‫ـار إِ َّن فِي ذلِـ َ‬ ‫ـل َوالنَّهـ َ‬ ‫َّ‬
‫ب اهللُ الل ْيـ َ‬ ‫ب باأْل َبْصــا ِر (‪ُ )43‬ي َقلِّ ُ‬
‫ـاد َس ـنا َبرقِـ ِـه يَ ـ ْذ َه ِ‬
‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َع ْن َم ْن يَشــاءُ يَكـ ُ‬
‫ـاء فَ ِم ْن ُه ْم َم ْن يَ ْم ِشـي َعلى بَطْنِـ ِـه َوِم ْن ُه ْم‬ ‫ـل دابٍَّة ِمن م ٍ‬ ‫ِ أِل ِ‬
‫لَع ْب َرةً ُولي اأْل َبْصا ِر (‪َ )44‬واهللُ َخلَـ َـق ُكـ َّ َ ْ‬
‫َم ْن يَ ْم ِشي َعلى ِر ْجلَْي ِن َوِم ْن ُه ْم َم ْن يَ ْم ِشي َعلى أ َْربَ ٍع يَ ْخلُ ُق اهللُ ما يَشاءُ إِ َّن اهللَ َعلى ُك ِّل َش ْي ٍء‬
‫راط ُم ْستَ ِق ٍيم) (‪)46‬‬ ‫ص ٍ‬ ‫نات واهلل ي ْه ِدي من يشاء إِلى ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫َْ َ ُ‬ ‫قَد ٌير (‪ )45‬لََق ْد أَْن َزلْنا آيات ُمَبيِّ َ ُ َ‬
‫____________________________________‬
‫التفسري ‪:‬‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫ض والطَّْير صافَّ ٍ‬
‫ات ُك ٌل‬ ‫ِ‬ ‫سبِّ ُح لَهُ َم ْن فِي َّ‬
‫السماوات َواأْل َْر ِ َ ُ َ‬ ‫َم َت َر أ َّ‬
‫َن اهللَ يُ َ‬ ‫(أَل ْ‬
‫‪1296‬‬

‫يم بِما َي ْف َعلُو َن) ‪..‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬


‫يحهُ َواهللُ َعل ٌ‬ ‫صالتَهُ َوتَ ْسبِ َ‬
‫قَ ْد َعل َم َ‬
‫ىف ه@ @ @@ذه اآلية ‪ ،‬واآلي@ @ @@ات اليت بع@ @ @@دها ‪ ،‬اس@ @ @@تعراض لق@ @ @@درة اهلل ‪ ،‬وبس@ @ @@طة نف@ @ @@وذه ‪،‬‬
‫وسلطانه املتمكن ىف ه@ذا الوج@ود ‪ ،‬واآلخذ بناص@@ية ك@ ّ@ل موج@ود ‪ ..‬وذلك بعد أن عرضت‬
‫اآلي@ات الس@ابقة مثال لن@ور اهلل س@بحانه وتع@اىل ‪ ،‬ال@ذي ميأل الوج@ود كله ‪ ،‬ويس@رى ىف كي@ان‬
‫كل ذرة فيه ‪ ،‬ويقيمها املقام املناسب هلا ىف ملكوت الس@@موات واألرض ‪ ..‬وأن ه@@ذا الن@@ور‬
‫قد اهت@@دى به املهت@@دون ‪ ،‬فأس@@عدهم اهلل وأرض@@اهم ‪ ،‬وأن@@زهلم من@@ازل الس@@عادة والنعيم ‪ ،‬على‬
‫حني قد عمى عن ه@@ذا الن@@ور ‪ ،‬الض@@الون ‪ ،‬واملش@@ركون ‪ ،‬والك@@افرون ‪ ،‬ف@@أذاقهم اهلل الوب@@ال‬
‫واخلسران ‪ ،‬وأنزهلم منازل اهلون والشقاء ‪..‬‬
‫وىف ه @@ذا الع @@رض ال @@ذي تع @@رض فيه ه @@ذه اآلية واآلي @@ات اليت بع @@دها ‪ ،‬ماهلل س @@بحانه‬
‫وتع @@اىل من ق @@درة وس @@لطان ـ ىف ه @@ذا الع @@رض تث@@بيت إلميان املؤم @@نني ‪ ،‬وربط على قل @@وهبم ‪،‬‬
‫وتوثيق للص@ @ @ @ @@لة اليت أقامها اإلميان بينهم وبني رهّب م ‪ ..‬ومن جهة أخ@ @ @ @ @@رى ‪ ،‬ف@ @ @ @ @@إن ىف ه@ @ @ @@ذا‬
‫الع@ @@رض دع@ @@وة جم ّددة إىل الك @@افرين ‪ ،‬واملش@ @@ركني ‪ ،‬واملن@ @@افقني ومن ىف قل @@وهبم م @@رض ـ أن‬
‫يعي@ @@دوا النظر ىف م@ @@وقفهم ه@ @@ذا الزائغ املنح@ @@رف عن س@ @@واء الس@ @@بيل ‪ ،‬وأن ينظ@ @@روا ىف ه@ @@ذه‬
‫املع@ @ @ @@ارض اليت تعرض@ @ @ @@ها تلك اآلي@ @ @ @@ات جلالل اهلل ‪ ،‬وقدرته ‪ ،‬وعظمته ‪ ،‬ففيها ن@ @ @ @@ور اهلل ملن‬
‫يلتمسون النور ‪ ،‬ويطلبون اهلدى‪.‬‬
‫ض ‪ )..‬الرؤية هنا‬ ‫سـ ـ ِ‬
‫ماوات َواأْل َْر ِ‬ ‫سـ ـبِّ ُح لَ ــهُ َم ْن فِي ال َّ‬ ‫َم َتـ َـر أ َّ‬
‫َن اهللَ يُ َ‬ ‫وقوله تع @@اىل ‪( :‬أَل ْ‬
‫@ىب صلى‌هللا‌عليه‌وس لم ‪،‬‬ ‫معناها العلم ال @ @ @@ذي جيىء عن حبث ونظر ‪ ..‬وهو خط @ @ @@اب للن @ @ @ ّ‬
‫خياطب به ك@ ّ@ل من هو أهل للخط@@اب ‪ ..‬مث هو دع@@وة إىل النظر والت@@دبّر ىف ه@@ذا الوج@@ود ‪..‬‬
‫وعن ه @@ذا النظر وذلك الت @@دبر يس @@تطيع اإلنس @@ان أن ي @@رى انقي @@اد الوج @@ود كلّه للخ @@الق جل‬
‫وعال ‪ ،‬ووالءه له ‪ ،‬وعبوديته لذاته ‪ ،‬وخض@ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @@وعه جلالله ‪ ..‬وهبذا يعلم أن كل ما ىف‬
‫السموات واألرض يسبّح حبمد اهلل‬
‫‪1297‬‬

‫ِِ ِ‬
‫سبِّ ُح بِ َح ْمده َولك ْن ال َت ْف َق ُهو َن تَ ْسبِ َ‬ ‫ٍِ‬ ‫ِ ِ‬
‫يح ُه ْم) (‪: 44‬‬ ‫وميجده ‪ ،‬ويعظّمه ‪َ ( ..‬وإ ْن م ْن َش ْيء إاَّل يُ َ‬ ‫ّ‬
‫اإلسراء) ‪ ..‬فهو تسبيح ووالء ‪ ،‬وخضوع واستسالم ‪ ،‬كما يقول س@@بحانه ‪َ ( :‬ولِلَّ ِه يَ ْسـ ُج ُد‬
‫صال) (‪ : 15‬الرعد)‪.‬‬ ‫ض طَ ْوعاً و َكرهاً و ِظالل ُُهم بِالْغُ ُد ِّو واآْل ِ‬ ‫الس ِ‬
‫ماوات َواأْل َْر ِ‬ ‫َم ْن فِي َّ‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ ْ َ‬
‫ات) ‪ ..‬معط@ @ @@وف على فاعل الفعل (يُ َسـ ـ ـبِّ ُح) وهو‬ ‫ـ وقوله تع@ @ @@اىل ‪( :‬والطَّْيـ ــر صـ ـ ـافَّ ٍ‬
‫ُ َ‬ ‫َ‬
‫ات ‪ )..‬وصافات ‪ ،‬ح@@ال من الطري‬ ‫االسم املوصول «من» واملعىن ‪ ..‬ويسبح له (الطَّْير صافَّ ٍ‬
‫ُ َ‬
‫‪ ،‬أي أهنا تس@ @ @ @@بّح هلل س@ @ @ @@بحانه وتع@ @ @ @@اىل ‪ ،‬وهى ىف أروع مظاهرها ‪ ،‬وأعلى منازهلا ‪ ،‬حيث‬
‫تكون حملقة ىف ج@ ّ@و الس@@ماء ‪ ،‬ص@@افّة أجنحتها ‪ ،‬أي باس@@طتها ىف ح@@ال من اهلدوء والس@@كون‬
‫علوها وتربعها على ه @@ذا‬ ‫‪ ،‬كأهنا تس@@تعرض الع @@امل األرضى ‪ ،‬وتبسط ظلها عليه ‪ ..‬فهى ىف ّ‬
‫الع @@رش ‪ ،‬مل ي @@دخل عليها ش @@ىء من الكرب والغ @@رور ‪ ،‬كما يقع ذلك لكثري من الن @@اس ‪ ،‬بل‬
‫إهنا ل@@تزداد هبذا والء وخش@@وعا هلل ‪ ،‬فتقيم ص@@الهتا هلل ‪ ،‬ىف ج@ ّ@و الس@@ماء ‪ ،‬ص@@افة أجنحتها ‪،‬‬
‫مرسلة جوارحها ‪ ،‬ىف خشوع واستسالم ‪ ،‬معتمدة على قدرة اهلل ‪ ،‬ال ختشى أن هتوى من‬
‫حالق ‪ ..‬وهذا هو التوكل ىف أروع مظاهره ‪..‬‬
‫ِ‬
‫صالتَهُ َوتَ ْسبِ َ‬
‫يحهُ)‪.‬‬ ‫ـ وقوله تعاىل ‪ُ ( :‬كلٌّ قَ ْد َعل َم َ‬
‫ميكن أن يك @@ون فاعل الفعل ( َعلِ َم) ض @@مري يع @@ود إىل اهلل س @@بحانه وتع @@اىل ‪ :‬ويك @@ون‬
‫املعىن ك@ ّ@ل من ه@@ذه املخلوق@@ات قد علم اهلل ص@@الته وتس@@بيحه ‪ ..‬وه@@ذا هو ال@@ذي ذهب إليه‬
‫املفسرون ‪..‬‬
‫ّ‬
‫وميكن أن يك@@ون الفاعل ض@@مريا يع@@ود إىل ه@@ذه املخلوق@@ات ‪ ..‬ويك@@ون املعىن أن ك@ ّ@ل‬
‫خمل@@وق من ه@@ذه املخلوق@@ات ‪ ،‬قد علم الص@@الة اليت يص@لّى هبا ‪ ،‬والتس@@بيح ال@@ذي يس@@بّح به هلل‬
‫‪ ..‬وهذا هو الرأى الذي نقول به ‪..‬‬
‫ويكون معىن العلم هنا ‪ ،‬هو ما أودعه اهلل ىف كيان كل خملوق من قوى‬
‫‪1298‬‬

‫يسره اهلل له ‪ ..‬وهذا يشعر بأن عملها ه@@ذا ليس عمال آليا‬ ‫يتصرف هبا ‪ ،‬ويعمل حسب ما ّ‬
‫‪ ،‬وإمنا هو عمل عن علم ‪ ،‬ذاتى ‪ ،‬أو خ@ @ @ @ @ @@ارج عن ال@ @ @ @ @ @@ذات ‪ ..‬فهو على أي ح@ @ @ @ @ @@ال عمل‬
‫حيكمه علم ‪ ،‬حىت حيقق ه@ @@ذا الت@ @@آلف ‪ ،‬والتج@ @@اوب بني موج@ @@ودات الوج@ @@ود ‪ ،‬ىف محد اهلل‬
‫وتسبيحه ‪..‬‬
‫يم بِما َي ْف َعلُــو َن) إش@@ارة إىل علم اهلل س@@بحانه وتع@@اىل ‪ ،‬احمليط‬ ‫ِ‬
‫وقوله تع @@اىل ‪َ ( :‬واهللُ َعل ٌ‬
‫بكل شىء ‪ ،‬والعامل بكل ما يعلم اخللق وما يعملون ‪..‬‬
‫وه @@ذا يؤيد ما ذهبنا إليه من أن ه @@ذه املخلوق @@ات هلا علمها ال @@ذي تعمل به ‪ ،‬وأن هلل‬
‫سبحانه وتعاىل علمه ‪ ،‬احمليط بعلمها وعملها مجيعا!‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫اهلل الْم ِ‬
‫ص ُير)‪.‬‬ ‫َ‬
‫ض وإِلَى ِ‬ ‫ِ‬
‫السماوات َواأْل َْر ِ َ‬‫ْك َّ‬ ‫( َولِلَّ ِه ُمل ُ‬
‫هو تأكيد لعلم اهلل بعلم املخلوق@ @ @ @ @ @ @ @ @ @@ات ‪ ،‬وبعملها ‪ ..‬إذ هو علم متمكن ‪ ،‬ألنه علم‬
‫اخلالق ملا خلق ‪ ،‬ومعرفة املالك ملا ملك ‪ ..‬فقد يعلم اإلنس@ @@ان الش@ @@يء وال ميلكه وال يق@ @@در‬
‫على التص@ @ @@رف فيه مبقتضى ما يعلم منه ‪ ..‬أما علم اهلل فهو علم املالك ملا ملك ‪ ،‬يتص@ @ @@رف‬
‫فيه كيف يشاء ‪ ،‬مبا يقضى به علمه ‪ ،‬وحكمته ‪ ،‬وإرادته‪.‬‬
‫صـ ـ ـ ـ ـ ـ ُير) تأكيد للملكية ‪ ،‬وأهنا ملكية ال خترج عن‬ ‫اهلل الْم ِ‬
‫وىف قوله تع @ @ @ @ @ @@اىل ‪( :‬وإِلَى ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫س @ @@لطان املالك أب@ @ @@دا ‪ ،‬ال كملكية املالكني ملا ميلك@ @ @@ون ‪ ..‬إذ أن كل ما ميلكه اإلنس@ @ @@ان من‬
‫ش @@ىء ‪ ،‬هو ذاهب عنه ‪ ،‬مقض @ ّ@ى عليه ب @@الفراق بينه وبني ما ملك ‪ ..‬إما ب @@أن يس @@تهلكه ىف‬
‫وإما ب@ @ @ @@أن ميوت عنه ‪ ،‬وخيلّفه وراءه ملن يرثه من بع@ @ @ @@ده ‪ّ ..‬أما ملكية اهلل س@ @ @ @@بحانه‬ ‫حياته ‪ّ ،‬‬
‫وتع@@اىل هلذا الوج@@ود وما فيه ‪ ،‬فهو ملك ال خيرج من يد املالك أب@@دا ‪ ،‬مهما حتولت أحواله‬
‫‪ ،‬وتب ّدلت صوره وأشكاله ‪ ،‬فاملالكون ‪ ،‬وما ميلكون صائرون مجيعا إىل اهلل ‪..‬‬
‫‪1299‬‬

‫قوله تعاىل ‪:‬‬


‫ج ِم ْن‬ ‫َن اهللَ ُي ْز ِجي َسحاباً ثُ َّم ُي َؤلِّ ُ‬
‫ف َب ْينَهُ ثُ َّم يَ ْج َعلُهُ ُركاماً َفَت َرى ال َْو ْد َق يَ ْخ ُر ُ‬ ‫َم َت َر أ َّ‬
‫(أَل ْ‬
‫ص ِ‬
‫يب بِه َم ْن يَشاءُ َويَ ْ‬ ‫ِخاللِ ِه ويَن ِّز ُل ِمن َّ ِ ِ ِ ٍ ِ ِ ٍ ِ‬
‫صـ ِرفُهُ َع ْن َم ْن يَشــاءُ‬ ‫السماء م ْن جبال فيها م ْن َب َرد َفيُ ُ‬ ‫َ‬ ‫َُ‬
‫ب بِاأْل َبْصا ِر)‪.‬‬ ‫ِِ‬
‫كاد َسنا َب ْرقه يَ ْذ َه ُ‬
‫يَ ُ‬
‫يزجى ‪ :‬أي يدفع ‪ ،‬وحيرك ‪..‬‬
‫والركام ‪ :‬املرتاكم ‪ ،‬اجملتمع بعضه إىل بعض ‪..‬‬
‫الودق ‪ :‬املطر ‪ ،‬ينزل متساقطا ىف قطرات ‪ ،‬فيدق األرض ‪ ،‬أي يرتك فيها آثارا ‪..‬‬
‫ىف ه @@ذه اآلية ع @@رض حمس @@وس لق @@درة اهلل ‪ ،‬بعد ه @@ذا الع @@رض غري احملس @@وس ‪ ،‬ال @@ذي‬
‫جاءت به اآلية السابقة ‪ ،‬من النظر املطلق الشامل للوجود كله ‪ ،‬وما قام عليه من نظام ‪..‬‬
‫وىف ه@@ذا الع@رض ‪ ،‬إلف@ات إىل ظ@@اهرة من ظ@@واهر الطبيعة ‪ ،‬اليت يش@هدها الن@اس مجيعا‬
‫وكل مكان ‪..‬‬ ‫ىف كل زمان ‪ّ ،‬‬
‫فه@@ذه الس@@حب اليت تنطلق ىف م@@واكب متدافعة ىف جو الس@@ماء ‪ ،‬كأهنا جي@@وش غازية‬
‫‪ ،‬تزحف إىل ميدان القتال ‪ ،‬أو ترتاكض عائدة من املعركة حمملة بالغنائم واألسالب ـ هذه‬
‫السحب ‪ :‬من أنش@@أها؟ ومن س@@ريها؟ ومن ح@ ّدد هلا خط مس@@ريها؟ ومن وقف هبا عند غاية‬
‫معلومة هلا؟‬
‫أال فليعلم من مل يكن يعلم ‪ ،‬أن اهلل سبحانه وتعاىل ‪ ،‬هو ال@ذي أنش@@أها ‪ ،‬وس@@ريها ‪،‬‬
‫وح ّدد هلا وجهتها ‪ ،‬وأمسك هبا عند الغاية احملددة هلا ‪..‬‬
‫َن اهللَ ُي ْـز ِجي َسـحاباً ‪ ..‬ثُ َّم ُي َؤلِّ ُ‬
‫ف َب ْينَـهُ ‪ ،‬ثُ َّم يَ ْج َعلُـهُ ُركامـاً ‪ )..‬فه@@ذه ص@@ور‬ ‫َم َت َـر أ َّ‬
‫ـ (أَل ْ‬
‫الريح‬ ‫ثالث ‪ ،‬ملشاهد السحاب ‪ ..‬يولد أوال دخانا رقيقا ‪ ،‬مث يدفعه ّ‬
‫‪1300‬‬

‫ىف خفة ويسر ‪ ..‬مث جيتمع ه@ @ @@ذا الس @ @@حاب بعضه إىل بعض ‪ ،‬فيتك @ @@اثف ش @ @@يئا فش @ @@يئا ‪ ،‬مث‬
‫يتدافع هذا السحاب ‪ ،‬ويدخل بعضه ىف بعض ‪ ،‬فإذا هو ركام ‪ ،‬أشبه باآلك@ام ‪ ،‬أو اجلب@ال‬
‫‪..‬‬
‫ـ وىف قوله تع @@اىل ‪َ ( :‬فَتـ َـرى الْ ـ َـو ْد َق يَ ْخـ ُـر ُج ِم ْن ِخاللِ ـ ِـه ‪ )..‬إلف @@ات إىل مولد املطر من‬
‫هذا السحاب ‪ ،‬وحتلبه من خالله ‪ ،‬كما يتحلّب اللنب من الضرع ‪..‬‬
‫وليس يدرك سر هذه اللفتة إىل قط@@رات املاء ‪ ،‬وهى تتس@@اقط من الس@@حاب ‪ ،‬إاّل من‬
‫ع @@اش ىف الص @@حراء ‪ ،‬وش @@هد آث @@ار املاء حني ي @@نزل إىل األرض ‪ ،‬ويبعث احلي @@اة واحلركة ىف‬
‫مجادها ونباهتا ‪ ،‬وحيواهنا ‪ ..‬إهنا عملية خلق ‪ ،‬وبعث جدي@ @ @@دين ‪ ،‬هلذا اجلسد الكبري اهلامد‬
‫‪ ..‬مث هو بعد ذلك ع @ @ @@رس رائع ‪ ،‬حتتشد له األحي @ @ @@اء ‪ ،‬وتنطلق من كياهنا نش @ @ @@وات البهجة‬
‫@رى بالتس@بيح واحلمد هلل‬ ‫واحلبور ‪ ،‬ىف أه@@ازيج ‪ ،‬وأناش@يد ‪ ،‬وزغاريد ‪ :‬يت@ألف منها حلن عبق ّ@‬
‫رب العاملني ‪..‬‬
‫انظر إىل ه@ @ @@ذا الوصف الرائع ‪ ،‬ال@ @ @@ذي ص@ @ @ ّ@ور به «ام@ @ @@رؤ القيس» احتش@ @ @@اد الطبيعة ‪،‬‬
‫غب مطر ‪ ..‬فيقول امرؤ القيس ‪ ،‬ىف معلقته املشهورة ‪:‬‬ ‫ونشوهتا ّ‬
‫@ىب مكلّل‬
‫أص@ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @@اح ت@ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @@رى برقا أريك وميضه ‪  ‬كلمع الي@ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @@دين ىف ح@ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ ّ‬
‫‪ ‬‬ ‫‪ ‬‬

‫(‪)1‬‬
‫يض@ @ @ @ @ @ @@ىء س@ @ @ @ @ @ @@ناه ‪ ..‬أو مص@ @ @ @ @ @ @@ابيح راهب ‪  ‬أم@ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @@ال الس@ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @@ليط بال @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ ّذبال املفتّل‬
‫‪ ‬‬ ‫‪ ‬‬

‫(‪)2‬‬
‫@أملى‬
‫قع@ @ @ @ @ @ @ @ @ @@دت له وص@ @ @ @ @ @ @ @ @ @@حبىت بني ض@ @ @ @ @ @ @ @ @ @@ارج ‪  ‬وبني الع @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @@ذيب بعد ما مت@ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ ّ‬
‫‪ ‬‬ ‫‪ ‬‬

‫@اكى اجلواء غديّة ‪  ‬ص@ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @@بحن س@ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @@الفا من رحيق مفلفل‬


‫ك@ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @@أ ّن مك@ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ ّ‬
‫‪ ‬‬ ‫‪ ‬‬

‫__________________‬
‫(‪ )1‬السليط ‪ :‬الزيت الذي يوقد منه املصباح‪.‬‬
‫(‪ )2‬ضارج ‪ ،‬والعذيب ‪ :‬موضعان‪.‬‬
‫‪1301‬‬

‫ه@ذه نظ@رة ش@اعر ‪ ..‬نظر إىل ه@ذه الظ@اهرة من ظاهرها ‪ ،‬وش@غل بألواهنا ‪ ،‬وأحلاهنا ‪،‬‬
‫عما وراء ه @ @ @ @@ذه األل @ @ @ @@وان ‪ ،‬وتلك األحلان ‪ ،‬من حق@ @ @ @ @@ائق ‪ ،‬تصل ه @ @ @ @@ذه القطعة من الطبيعة‬
‫املصور!‬
‫بالوجود كله ‪ ،‬مث تضيف هذا الوجود إىل املوجد ‪ ،‬املبدع ‪ّ ،‬‬
‫نىب!‬
‫وإليك نظرة ّ‬
‫@ىب األنبي@@اء ‪ ،‬وخ@@امت املرس@@لني ‪ ،‬حممد بن عبد اهلل ‪ ،‬ص@@لوات اهلل وس@@المه‬ ‫ومن؟ إنه ن@ ّ‬
‫عليه ‪..‬‬
‫فقد روى أنه ـ ص@@لوات اهلل وس@@المه عليه ـ ك@@ان إذا ن@@زل املطر ‪ ،‬خ@@رج إىل الع@@راء ‪،‬‬
‫وكشف له عن رأسه ‪ ،‬واحت @@واه بني ذراعيه ‪ ..‬وك @@ان ص @@لوات اهلل وس @@المه عليه يق @@ول ‪:‬‬
‫«إنه ق@ @ @@ريب عهد برب@ @ @@ه» ‪ ..‬أي إنه رمحة مرس@ @ @@لة من عند اهلل ‪ ..‬رمحة حمسوسة ملموسة ‪،‬‬
‫ت@ @@رى ب@ @@العني ‪ ،‬وتلمس باليد ‪ ،‬وت@ @@ذاق باللس @ @@ان ‪ @!..‬فمن أراد أن يش@ @@هد رمحة اهلل عيانا ‪،‬‬
‫املنزل من الس@@ماء ‪ ..‬ص@@افيا ط@@اهرا ‪ ،‬مل يعلق به ش@@ىء من أخالط األرض‬ ‫فهى ىف ه@@ذا املاء ّ‬
‫‪ ..‬إنه ىف طهر املواليد اليت تلدها احلياة ‪ ..‬من إنسان أو حيوان أو نبات!‬
‫بال فِيها ِم ْن َبـ َـر ٍد ‪ )..‬أي وي@@نزل من جب@@ال ىف‬ ‫الس ِ‬
‫ماء ِم ْن ِج ٍ‬ ‫قوله تعاىل ‪َ ( :‬و ُيَن ِّز ُل ِم َن َّ‬
‫السماء ‪ ،‬وهى السحب املرتاكمة ـ بردا ‪ ،‬وهو قطع الثلج ‪..‬‬
‫بال فِيها ِم ْن َب َر ٍد) بدل من السماء ‪..‬‬‫فقوله تعاىل ‪ِ ( :‬م ْن ِج ٍ‬
‫وىف اإلش@@ارة إىل ه@@ذه الظ@@اهرة ‪ ،‬إش@@ارة إىل أن ه@@ذه الس@@حب اليت ي@@نزل منها املاء ‪،‬‬
‫هى أيضا ‪ ،‬وإن كانت مص@@در نعمة ‪ ،‬ميكن أيضا أن تك@@ون مص@@در نقمة ‪ ،‬حني ي@@نزل منها‬
‫ه @@ذا ال @@ربد ‪ ،‬وكأنه قطع من األحج @@ار ‪ ،‬تتس @@اقط من اجلب @@ال ‪ ،‬فتهلك كل من تقع عليه ‪،‬‬
‫وكأهنا هبذه العقوبة الراصدة إىل جانب تلك النعمة‬
‫‪1302‬‬

‫الك@@ربى املنزلة من الس@@ماء ـ مرص@@ودة@ ليؤخذ هبا كل من يكفر هبذه النعم ‪ ،‬وال يض@يفها إىل‬
‫املنعم هبا ‪ ،‬ويسبح حبمده ‪ ،‬ويشكر له ‪..‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫صـ ِرفُهُ َع ْن َم ْن يَشـاءُ) أي أن ه@@ذا ال@@ربد ال@@ذي‬ ‫يب بِـه َم ْن يَشـاءُ َويَ ْ‬‫وقوله تعاىل ‪َ ( :‬فيُص ُ‬
‫حتمله الس@@حب بني ي@@ديها ‪ ،‬ال ن@@رمى به هك@@ذا من غري حس@@اب ‪ ،‬بل هو ممل@@وك بيد الق@@درة‬
‫الق@@ادرة ‪ ،‬فيقع حيث أراد اهلل أن يقع ‪ ،‬ويص@@رف عمن أراده اهلل س@@بحانه أن يص@@رفه عنه ‪،‬‬
‫من نبات ‪ ،‬وحيوان ‪ ،‬وإنسان ‪..‬‬
‫ب بِاأْل َبْصا ِر) ـ ل@@ون جديد تكمل به الص@@ورة ‪،‬‬ ‫ِِ‬ ‫وىف قوله تعاىل ‪( :‬يَ ُ‬
‫كاد َسنا َب ْرقه يَ ْذ َه ُ‬
‫صورة ه@ذا الع@ذاب الواقع مع ال@ربد املتس@اقط كاألحج@ار ‪ ..‬فه@ذا ال@ربد حيمل معه الص@واعق‬
‫املهلكة ‪ ،‬والن@ @ @ @@ار احملرقة ‪ ،‬وإن ك@ @ @ @@ان م@ @ @ @@اء! فما أعظم ق@ @ @ @@درة الق@ @ @ @@ادر ‪ ،‬وما أع@ @ @ @ ّ@ز وأق@ @ @ @@وى‬
‫سلطانه!!‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫ك ل َِع ْب َر ًة أِل ُولِي اأْل َبْصا ِر)‪.‬‬
‫َّهار ‪ ..‬إِ َّن فِي ذلِ َ‬
‫ب اهللُ اللَّْي َل َوالن َ‬ ‫( ُي َقلِّ ُ‬
‫وهذه ظاهرة أخرى ‪ ..‬تشهدها احلواس ‪ ،‬وتعيش فيها ‪ ..‬حيث ي@@دور الليل والنه@@ار‬
‫@ف ىف حركتها ‪،‬‬ ‫ىف ه@ @@ذا الفلك دورة منتظمة ‪ ،‬حمكمة ‪ ،‬ال تتخلف أب@ @@دا ‪ ..‬وكأهنما الك@ @ ّ‬
‫ظاهرا وباطنا ‪ @!..‬يقلبهما اهلل ـ سبحانه ـ كما يقلب اإلنسان ك ّفه!‬
‫ين يَ ـ ـ ْذ ُك ُرو َن اهللَ قِيام ـ ـاً َو ُقعُـ ــوداً َو َعلى‬ ‫َّ ِ‬
‫وىف ه@ @@ذا ع@ @@ربة وعظة ألوىل األبص@ @@ار ‪( ..‬الذ َ‬
‫ـاطالً) (‪: 191‬‬ ‫ت ه ــذا ب ـ ِ‬ ‫ض ‪َ ..‬ربَّنا ما َخلَ ْق َ‬ ‫سـ ِ‬
‫ماوات َواأْل َْر ِ‬ ‫ُجنُ ــوبِ ِه ْم َو َيَت َف َّك ُرو َن فِي َخ ْلـ ِـق ال َّ‬
‫آل عمران)‪.‬‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫ماء ‪ ..‬فَ ِم ْن ُه ْم َم ْن يَ ْم ِشي َعلى بَطْنِ ِه ‪َ ،‬و ِم ْن ُه ْم‬ ‫(واهلل َخلَق ُك َّل دابٍَّة ِمن ٍ‬
‫َ ْ‬ ‫َ ُ َ‬
‫‪1303‬‬

‫َم ْن يَ ْم ِش ـ ـي َعلى ِر ْجلَْي ِن َوِم ْن ُه ْم َم ْن يَ ْم ِش ـ ـي َعلى أ َْربَ ـ ـ ٍع ‪ ..‬يَ ْخلُـ ـ ُـق اهللُ ما يَشـ ــاءُ ‪ ..‬إِ َّن اهللَ َعلى‬
‫ُك ِّل َش ْي ٍء قَ ِد ٌير ‪)..‬‬
‫ه@@ذه اآلية ‪ ،‬ش@@ارحة لنعمة املاء ‪ ،‬ال@@ذي أش@@ارت إليه اآلية قبل الس@@ابقة ‪ ..‬فه@@ذا املاء‬
‫ال@ذي ينظر إليه بعض الن@اس نظ@@رة ب@اردة جام@@دة ‪ ،‬وال ينظر إليه بعض@هم أب@@دا ـ ه@@ذا املاء هو‬
‫أصل هذه احلياة ‪ ،‬وهو جرثومة كل حى ‪ ..‬من نبات ‪ ،‬أو حيوان ‪ ،‬أو إنسان ‪ ..‬وه@@ذا ما‬
‫ـل َش ـ ْي ٍء َح ٍّي ‪ )..‬فليعد اإلنس@@ان الغافل النظر إىل‬ ‫ج@@اء ىف قوله تع@@اىل ‪( :‬وجعلْنا ِمن الْمـ ِ‬
‫ـاء ُكـ َّ‬ ‫َ ََ َ‬
‫هذا املاء ‪ ،‬ولريجع إليه البصر مرة ومرة وم@@رات ‪ ،‬وس@@ريى أن ه@@ذا املاء هو أصل وج@@وده ‪،‬‬
‫كما أنه سبب ىف إمساك هذا الوجود ‪ ،‬وحفظه ‪ ،‬وأنه لو حرم املاء أليام معدودة@ هللك!‪@.‬‬
‫فاملاء ‪ ،‬هو احلياة العاملة ىف هذا الكوكب األرضى ‪ ..‬ففى املاء أودع اهلل س@ ّ@ر احلي@@اة‬
‫‪ ،‬ىف ص@ @ @@ورها املختلفة ‪ ،‬وأش@ @ @@كاهلا املتباينة املتع@ @ @@ددة ‪ ..‬فحيث ك@ @ @@ان املاء ك@ @ @@انت احلي@ @ @@اة ‪،‬‬
‫وك @ @@انت احلركة ‪ ،‬وك @ @@ان التوالد لص @ @@ور احلي@ @@اة ‪ ،‬اليت تكتسى هبا األرض حس@ @@نا ومجاال ‪،‬‬
‫وتتبدل هبا من وحشتها هبجة وأنسا ‪..‬‬
‫ونظ@@رة ىف وج@@وه األرض املختلفة ‪ ،‬يتكشف لنا منها ما للم@@اء من آي@@ات وأس@@رار ‪..‬‬
‫فحيث يوجد املاء يوجد اخلصب والنم@@اء ‪ ،‬وتش@@اهد احلركة واحلي@@اة ‪ ،‬وحيث يفتقد املاء ‪،‬‬
‫يكون اجلدب ‪ ،‬والوحشة ‪ ،‬واملوات ‪ ،‬واهلمود‪!.‬‬
‫احلفى به ىف الق@ @@رآن الك@ @@رمي ‪ ..‬ويكفى أن‬ ‫ومن أجل ه@ @@ذا ك@ @@ان للم@ @@اء ه@ @@ذا ال @ @ ّذكر ّ‬
‫يك@ @ @@ون ع@ @ @@رش اهلل س @ @@بحانه وتع@ @ @@اىل على املاء ‪ ،‬كما يق@ @ @@ول س@ @ @@بحانه ‪ُ ( :‬ـه ـ ـ َـو الَّ ِذي َخلَـ ـ ـ َـق‬
‫ماوات واأْل َرض فِي ِست َِّة أَيَّ ٍام وكــا َن عر ُشـه علَى الْمـ ِ‬
‫ـاء) (‪ : 7‬ه@@ود) ‪ ..‬واملراد ب@@العرش ‪،‬‬ ‫َْ ُ َ‬ ‫َ‬ ‫الس ِ َ ْ َ‬ ‫َّ‬
‫هو السلطان ‪ ..‬وهذا يعىن أن سلطان اهلل‬
‫‪1304‬‬

‫ق@ @@ائم على املاء‪ .‬يص@ @@رفه كيف يش@ @@اء ‪ ،‬وخيلق منه ما يش@ @@اء ‪ ..‬وه@ @@ذا يعىن أيضا أن املاء هو‬
‫سر احلي@@اة ‪ ،‬اليت يفيض@@ها اهلل س@@بحانه وتع@@اىل بقدرته وحكمته على األحي@@اء ىف الوج@@ود كله‬
‫‪..‬‬
‫ـ وىف قوله تع@ @@اىل ‪( :‬فَ ِم ْن ُه ْم َم ْن يَ ْم ِشـ ـي َعلى بَطْنِ ـ ِـه ‪َ ..‬و ِم ْن ُه ْم َم ْن يَ ْم ِشـ ـي َعلى ِر ْجلَْي ِن‬
‫َوِم ْن ُه ْم َم ْن يَ ْم ِشي َعلى أ َْربَ ٍع ‪ )..‬إشارة إىل تنوع صور املخلوق@ات ‪ ،‬وتع@دد أش@كاهلا ‪ ،‬وهى‬
‫مجيعها من م@ @@ادة واح@ @@دة ‪ ،‬ال ل@ @@ون هلا ‪ ،‬وال طعم ‪ ،‬وال رائحة ‪ ..‬إهنا ش@ @@ىء واحد ‪ ،‬ومع‬
‫هذا فقد جاءت بقدرة القادر ‪ ،‬وصنعة اخلبري الصانع ـ على هذه الصور اليت ال تك@@اد حتصر‬
‫من عوامل األحياء ‪ ،‬على اختالف صورها ‪ ،‬وتباين أشكاهلا ‪ ،‬وتعدد ألواهنا ‪..‬‬
‫وه@@ذا التقس@@يم ال@@ذي أش@@ارت إليه اآلية ‪ ،‬هو تقس@@يم ع@@ام ‪ ،‬حيث ين@@درج حتت كل‬
‫قسم ما ال حصر له من ص@ @ @@ور وأش @ @@كال ‪ ،‬تنض@ @ @@وى حتت كل قسم ‪ ،‬وتن@ @ @@درج حتت كل‬
‫صنف ‪..‬‬
‫ف @ @@أنواع الزواحف ‪ ،‬من دي@ @@دان ‪ ،‬وحي@ @@ات ‪ ،‬وحش @ @@رات ‪ ..‬وما ش @ @@اكلها ـ هى مما‬
‫ميشى على بطنه ‪..‬‬
‫والن @@اس ‪ ،‬واختالف ألس @@نتهم وأل @@واهنم ‪ ..‬والطري ‪ ،‬وتع @@دد أجناسه واختالف ألوانه‬
‫وأشكاله ‪ ..‬ذلك كله ممن ميشى على رجلني ‪..‬‬
‫@دواب ‪ ،‬واألنع@@ام ‪ ،‬والوح@@وش ‪ ..‬ىف تع@ ّدد عواملها ‪ ،‬واختالف أجناس@@ها‬ ‫والبهائم وال@ ّ‬
‫‪ ..‬ممن ميشى على أربع ‪..‬‬
‫ـ وقوله تع @@اىل ‪( :‬يَ ْخلُ ـ ُـق اهللُ ما يَش ــاءُ) ـ هو إلف @@ات إىل ه @@ذه الق @@درة الق @@ادرة ‪ ،‬اليت‬
‫تبدع وتصور وختلق ‪ ،‬هذه الصور ‪ ،‬وتلك األجن@@اس واألن@@واع ‪ ،‬من عنصر واحد ‪ ..‬وه@@ذا‬
‫ال يكون إال من قادر حكيم عليم ‪ ،‬يتصرف كيف‬
‫‪1305‬‬

‫يش@ @@اء ‪ ..‬ولو ك@ @@ان ذلك من عمل غري ه@ @@ذه الق@ @@درة املطلقة ‪ ،‬جلاءت مجيع املخلوق@ @@ات ىف‬
‫قالب واحد ‪ ،‬وعلى صورة واحدة ‪..‬‬
‫ـل َشـ ـ ـ ْي ٍء قَ ـ ـ ِـد ٌير) تقرير هلذه احلقيقة ‪ ،‬وتأكيد هلا ‪،‬‬ ‫ـ وقوله تع @ @@اىل ‪( :‬إِ َّن اهللَ َعلى ُكـ ـ ِّ‬
‫وأهنا ال تصدر إال ممن هو على كل شىء قدير ‪ ..‬ال يعجزه شىء‬
‫وهذا كلّه ىف عامل األرض ‪ ..‬ومن قطرة املاء ‪..‬‬
‫وأين األرض ‪ ،‬وما فيها ‪ ،‬ومن فيها ‪ ،‬من ملك اهلل العظيم؟‬
‫أال ش@ @ @ @ @ @ @ @@اهت وج@ @ @ @ @ @ @ @@وه من يولّ@ @ @ @ @ @ @ @@ون وج@ @ @ @ @ @ @ @@وههم إىل غري اهلل ‪ ،‬وأال خسئ وخسر‬
‫املبطلون! ‪..‬‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫صـ ٍ‬
‫راط ُم ْسـتَ ِق ٍيم) املراد باآلي@@ات‬ ‫ـدي من يشــاء إِلى ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫(لََقـ ْد أَْن َزلْنا آيــات ُمَبيِّنــات َواهللُ َي ْـه َ ْ َ ُ‬
‫املبينات ‪ ،‬هى تلك اآليات اليت حتدثت عن نور اهلل ‪ ،‬وعن أن ه@@ذا الن@@ور هو آي@@ات مبين@ات‬
‫‪ ،‬تس @ @ @@رى ىف كي @ @ @@ان املوج @ @ @@ودات ‪ ،‬وتقيم كل موج @ @ @@ود مبكانه املالئم له ‪ ،‬وتوجهه وجهته‬
‫املقدرة له ‪ ..‬مث كان من ن@@ور اهلل ‪ ،‬تلك اآلي@@ات القرآنية ‪ ،‬اليت كش@@فت للن@@اس ط@@ريقهم إىل‬
‫اهلل ‪ ،‬وأطلعتهم على دالئل قدرته ‪ ،‬وآثار رمحته ‪ ..‬وذلك فيما جاء ىف اآليات اليت حتدثت‬
‫عن بي@ @ @ @ @ @ @@وت اهلل اليت أذن اهلل أن ترفع ‪ ،‬وي@ @ @ @ @ @ @@ذكر فيها امسه ‪ ..‬واآلي@ @ @ @ @ @ @@ات اليت حتدثت عن‬
‫الك@ @@افرين وأعم@ @@اهلم ‪ ،‬مث ىف ه@ @@ذه اآلي@ @@ات اليت عرضت تلك املش@ @@اهد الناطقة بق@ @@درة اهلل ‪،‬‬
‫وس@@عة علمه ونف@@وذ س@لطانه ‪ ..‬من الس@حاب واملطر ‪ ،‬ومن خلق احلي@@اة القائمة على األرض‬
‫من عنصر املاء ‪..‬‬
‫ففى ه@ @ @@ذا كله ‪ ،‬آي @ @ @@ات مبين@ @ @@ات ‪ ،‬أي موض@ @ @@حات ‪ ،‬وكاش @ @ @@فات ‪ ،‬لطريق احلق ‪،‬‬
‫واهلدى ‪ ،‬واإلميان باهلل ‪ ،‬والوالء له ‪ ،‬والتسبيح حبمده‪.‬‬
‫‪1306‬‬

‫راط ُم ْسـتَ ِق ٍيم)‪ .‬إش@@ارة إىل أن ه@@ذه‬ ‫صـ ٍ‬ ‫ـدي من يشــاء إِلى ِ‬ ‫ِ‬
‫ـ وىف قوله تع@@اىل ‪َ ( :‬واهللُ َي ْـه َ ْ َ ُ‬
‫اآليات املبينات ‪ ،‬وتلك الشموس الساطعة ‪ ،‬ال يهتدى هبا ‪ ،‬وال يبصر احلق على ض@@وئها ‪،‬‬
‫إال من أراد اهلل أن يفتح عي@ @ @@وهنم إليها ‪ ،‬ويكشف لبص@ @ @@ائرهم الطريق إىل اهلل من خالهلا ‪..‬‬
‫راط ُم ْسـتَ ِق ٍيم) (‪: 39‬‬ ‫صـ ٍ‬ ‫شـأْ ي ْجع ْلــهُ َعلى ِ‬ ‫شِأ اهلل ي ْ ِ‬
‫ضللْهُ َو َم ْن يَ َ َ َ‬ ‫وذلك شأنه ىف عباده ‪َ ( :‬م ْن يَ َ ُ ُ‬
‫ِ َّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫صـ ْد َرهُ‬ ‫ص ْد َرهُ لإْلِ ْسـالم َو َم ْن يُـ ِر ْد أَ ْن يُضـلهُ يَ ْج َعـ ْ‬
‫ـل َ‬ ‫األنعام) ‪( ..‬فَ َم ْن يُ ِرد اهللُ أَ ْن َي ْهديَهُ يَ ْش َر ْح َ‬
‫ماء) (‪ : 125‬األنعام)‪.‬‬ ‫الس ِ‬ ‫ص َّع ُد فِي َّ‬ ‫ضيِّقاً َح َرجاً َكأَنَّما يَ َّ‬
‫َ‬
‫____________________________________‬

‫اآليات ‪ 47( :‬ـ ‪)52‬‬


‫ـك‬‫ـك َوما أُولئِـ َ‬‫ول َوأَطَ ْعنا ثُ َّم َيَت َولَّى فَ ِري ٌق ِم ْن ُه ْم ِم ْن َب ْع ِد ذلِـ َ‬ ‫الر ُس ِ‬ ‫(وي ُقولُو َن آمنَّا بِ ِ‬
‫اهلل َوبِ َّ‬ ‫َ‬ ‫ََ‬
‫ضـو َن (‪)48‬‬ ‫اهلل َو َر ُسـولِ ِه لِيَ ْح ُك َم َب ْيَن ُه ْم إِذا فَ ِريـ ٌق ِم ْن ُه ْم ُم ْع ِر ُ‬
‫بِالْم ْؤ ِمنِين (‪ @)47‬وإِذا ُدعُــوا إِلَى ِ‬
‫َ‬ ‫ُ َ‬
‫ض أَِم ْارتــابُوا أ َْم يَخــافُو َن أَ ْن‬ ‫ين (‪ @ )49‬أَفِي ُقلُــوبِ ِه ْم َمـ َـر ٌ‬ ‫ِ ِِ‬
‫ـق يَ ـأْتُوا إِل َْيــه ُم ـ ْذعن َ‬ ‫َوإِ ْن يَ ُك ْن ل َُه ُم ال َ‬
‫ْحـ ُّ‬
‫ين إِذا ُدعُــوا‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫يف اهللُ َعلَْي ِه ْم َو َر ُسولُهُ بَ ْل أُولئِ َ‬ ‫يَ ِح َ‬
‫ك ُه ُم الظَّال ُمو َن (‪ @ )50‬إِنَّما كا َن َق ْو َل ال ُْم ْؤمن َ‬
‫ـك ُه ُم ال ُْم ْفلِ ُحــو َن (‪َ )51‬و َم ْن‬ ‫اهلل َو َر ُسـولِ ِه لِيَ ْح ُك َم َب ْيَن ُه ْم أَ ْن َي ُقولُــوا َسـ ِم ْعنا َوأَطَ ْعنا َوأُولئِـ َ‬‫إِلَى ِ‬
‫ك ُه ُم الْفائُِزو َن) (‪)52‬‬ ‫ش اهللَ َو َيَّت ْق ِه فَأُولئِ َ‬ ‫ِ‬
‫يُط ِع اهللَ َو َر ُسولَهُ َويَ ْخ َ‬
‫____________________________________‬
‫التفسري ‪:‬‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫ـك‬ ‫ول َوأَطَ ْعنا ثُ َّم َيَت َولَّى فَ ِري ٌق ِم ْن ُه ْم ِم ْن َب ْع ِد ذلِـ َ‬
‫ـك َوما أُولئِـ َ‬ ‫الر ُس ِ‬ ‫(وي ُقولُو َن آمنَّا بِ ِ‬
‫اهلل َوبِ َّ‬ ‫َ‬ ‫ََ‬
‫ين)‪.‬‬ ‫ِ ِِ‬
‫بال ُْم ْؤمن َ‬
‫‪1307‬‬

‫من هم هؤالء الذين يقولون آمنا باهلل وبالرسول؟‬


‫إنه مل جير هلم ذكر ىف اآلي @@ات الس @@ابقة ‪ ..‬ولكنهم م @@ذكورون ض @@منا ىف قوله تع @@اىل‬
‫ص ٍ‬
‫راط ُم ْستَ ِق ٍيم)‪.‬‬ ‫نات واهلل ي ْه ِدي من يشاء إِلى ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫َْ َ ُ‬ ‫(لََق ْد أَْن َزلْنا آيات ُمَبيِّ َ ُ َ‬
‫فهن @@اك أن @@اس ‪ ،‬قد دخل @@وا ىف اجلماعة اإلس @@المية ‪ ،‬وحس @@بوا ىف املؤم @@نني ‪ ،‬وأض @@افوا‬
‫أنفس@@هم إىل تلك اجلماعة وتزيّ@@وا بزيّها ‪ ،‬وأخ@@ذوا مستها ‪ ..‬واطم@@أنوا إىل ما هم فيه ـ ولكن‬
‫اهلل فضحهم ‪ ،‬وكشف عن نفاقهم ‪ ،‬وأهنم ليسوا من اإلميان ىف شىء ‪..‬‬
‫جترع احملب ىف‬ ‫حب ‪ ،‬وإن ّ‬ ‫إن اإلميان والء ‪ ،‬وطاعة ‪ ،‬وانقي@ @ @ @@اد ‪ ..‬مث هو قبل ه@ @ @ @@ذا ّ‬
‫سبيله جرع البالء!‬
‫حمك التجربة ‪ ،‬ظهر زيفه‬ ‫وهؤالء الذين لبسوا اإلميان ظ@@اهرا ‪ ،‬إذا وضع إمياهنم على ّ‬
‫‪ ،‬وب@ @@ان ما فيه من دخل ‪ ،‬وفس@ @@اد ‪( ..‬أ ِ‬
‫آمنَّا َو ُه ْم ال‬ ‫َّاس أَ ْن ُي ْت َر ُكـ ــوا أَ ْن َي ُقولُ ـ ــوا َ‬
‫ب الن ُ‬
‫َحسـ ـ ـ َ‬
‫َ‬
‫ُي ْفَتنُو َن) (‪ : 2‬العنكبوت)‪.‬‬
‫ول َوأَطَ ْعنا ‪ )..‬ما أك@ @@ثر األق@ @@وال ‪ ،‬وما أيس@ @@رها على‬ ‫الر ُس ـ ـ ِ‬
‫اهلل َوبِ َّ‬ ‫ـ (وي ُقولُـ ــو َن آمنَّا بِ ِ‬
‫َ‬ ‫ََ‬
‫ِ‬
‫األف @@واه ‪ ..‬وإن الق @@ول ال @@ذي ال يص @@دقه العمل ‪ ،‬هو زور وهبت @@ان ‪( ..‬ثُ َّم َيَتـ َـولَّى فَ ِري ـ ٌق م ْن ُه ْم‬
‫ك ‪ )..‬أفه@ذا ش@أن املؤم@نني؟ أو تلك هى س@بيل املطيعني؟ ـ ذلك ما ال يك@ون من‬ ‫ِم ْن َب ْع ِد ذلِ َ‬
‫أهل اإلميان أبدا ‪..‬‬
‫والتوىّل ‪ :‬هو النك@وص على األعق@@اب ‪ ،‬والع@@ودة إىل حيث ما ك@انوا عليه من ض@الل‬
‫وكفر ‪..‬‬
‫ـك ‪ )..‬أي من بعد ق@ @ @@وهلم ه@ @ @@ذا الق@ @ @@ول بألس@ @ @@نتهم ‪،‬‬ ‫ـ وقوله تع@ @ @@اىل ‪ِ ( :‬م ْن َب ْعـ ـ ِـد ذلِ ـ ـ َ‬
‫ول َوأَطَ ْعنا) ‪..‬‬ ‫الر ُس ِ‬ ‫والدخول هبذا القول مدخل املؤمنني ‪ ،‬وهو قوهلم ‪( :‬آمنَّا بِ ِ‬
‫اهلل َوبِ َّ‬ ‫َ‬
‫ين) هو حكم على هؤالء الذين قالوا هذا‬ ‫وقوله تعاىل ‪( :‬وما أُولئِ َ ِ ِ ِ‬
‫ك بال ُْم ْؤمن َ‬ ‫َ‬
‫‪1308‬‬

‫الذي قالوه بأفواههم ‪ ،‬ومل يتصل بعق@@وهلم ‪ ،‬وقل@@وهبم ‪ ،‬ومل ي@@ؤثر ىف مش@@اعرهم ووج@@داناهتم‬
‫‪ ..‬وهم فريق @ @ @ @@ان ‪ :‬فريق دخل ىف التجربة ‪ ،‬فكش @ @ @ @@فت التجربة عن نفاقه ‪ ..‬وفريق ما زال‬
‫وتعريه من ه @@ذا الث @@وب الزائف ال @@ذي اس @@ترت به ‪ ،‬وهو ال بد أن‬
‫ينتظر التجربة اليت تفض @@حه ّ‬
‫يتعرى ويفضح ىف يوم من األيام ‪:‬‬
‫@ف عما حتته ‪  ‬ف@ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @@إذا التحفت به فإنك ع@ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @@ار‬
‫ث@ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @@وب الري@ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @@اء يش@ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ ّ‬
‫‪ ‬‬ ‫‪ ‬‬

‫قوله تعاىل ‪:‬‬


‫ضـو َن ‪ )..‬هو بي@@ان ملا‬ ‫اهلل َو َر ُسـولِ ِه لِيَ ْح ُك َم َب ْيَن ُه ْم إِذا فَ ِريـ ٌق ِم ْن ُه ْم ُم ْع ِر ُ‬
‫(وإِذا ُدعُــوا إِلَى ِ‬
‫َ‬
‫ىف قلوب هؤالء املنافقني من نف@اق ‪ ..‬فهم مؤمن@ون ‪ ،‬إذا ك@انت ريح اإلميان ت@دفع س@فينتهم‬
‫إىل الوجهة اليت يري@ @ @ @ @@دوهنا ‪ ..‬وهم غري مؤم@ @ @ @ @@نني ‪ ،‬إذا تعارضت ريح اإلميان مع أه@ @ @ @ @@وائهم‬
‫وشهواهتم ‪..‬‬
‫إهنم ال يرض@ @ @@ون حكم اهلل ورس@ @ @@وله فيهم ‪ ،‬وال يقبل@ @ @@ون ما قضى به كت@ @ @@اب اهلل ىف‬
‫شأن من شئوهنم ‪ ،‬إذا كان ذلك احلكم مما ال يرضيهم‪.‬‬
‫وىف احلديث عن هؤالء املن@افقني عموما ‪ ،‬مث اإلش@ارة إىل فريق منهم ـ ىف ه@ذا إش@@ارة‬
‫إىل أهنم كي@@ان واحد ‪ ،‬من الض@@الل ‪ ،‬والفس@@اد ‪ ..‬وأنه ال ف@@رق بني من ميتحن منهم ‪ ،‬ومن‬
‫ال ميتحن ‪ ،‬وبني من ي@ @ @ @@دعى إىل حكم اهلل ومن ال ي@ @ @ @@دعى‪ .‬إهنم مجيعا عص@ @ @ @@ابة لص@ @ @ @@وص ‪،‬‬
‫دخلت ىف حظرية اإلسالم ‪ ،‬ف@إذا ض@بط اإلس@الم بعض@هم متلبسا جبرمه ‪ ،‬فليس ذلك بال@ذي‬
‫ي@@ربىء س@@احة ه@@ؤالء ال@@ذين ال يزال@@ون بعي@@دين عن قبضة اإلس@@الم ‪ ،‬حيث مل يفتضح نف@@اقهم‬
‫بعد! إهنم على طريق الفضيحة ‪ ..‬إن مل يكن اليوم ‪ ،‬فغدا ‪ ،‬أو بعد غد!‬
‫اهلل َو َر ُسولِ ِه)‪.‬‬
‫وقوله ‪( :‬إِلَى ِ‬
‫اهلل) س@@بحانه وتع@@اىل ‪ ،‬تش@@ريف ملق@@ام الرس@@ول‬ ‫ىف عطف الرس@@ول على لفظ اجلاللة ( ِ‬
‫ورفع لق @ @ @ @@دره ‪ ..‬وأنه إمنا يقضى مبا قضى اهلل به ‪ ،‬فحكمه من حكم اهلل ‪ ،‬وطاعته ‪ ،‬طاعة‬
‫اهلل‪.‬‬
‫‪1309‬‬

‫قوله تعاىل ‪:‬‬


‫ِ ِِ‬
‫ين) ـ أي إن ه@@ؤالء املن@@افقني ‪ ،‬إذا ك@@ان حكم‬ ‫ـق يَ ـأْتُوا إِل َْيــه ُم ـ ْذعن َ‬ ‫( َوإِ ْن يَ ُك ْن ل َُه ُم ال َ‬
‫ْحـ ُّ‬
‫اإلس@ @ @@الم ىف أمر من األم@ @ @@ور العارضة هلم ‪ ،‬مما يتفق مع مص@ @ @@لحتهم ‪ ،‬ج@ @ @@اءوا إىل الرس@ @ @@ول‬
‫م@@ذعنني ‪ ،‬أي مطيعني ‪ ،‬معل@@نني ال@@والء هلل ‪ ،‬ولرس@@وله ‪ ،‬يطلب@@ون أن يأخ@@ذهم حبكم اإلس@@الم‬
‫‪ ،‬ألنه جيرى مع مصلحتهم ‪ ،‬ويلتقى مع حاجتهم ‪..‬‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫ض؟ أَِم ْارت ــابُوا؟ أ َْم يَخ ــافُو َن أَ ْن يَ ِحي ـ َ‬
‫ـف اهللُ َعلَْي ِه ْم َو َر ُس ـولُهُ؟ ‪ ..‬بَ ـ ْـل‬ ‫(أَفِي ُقلُ ــوبِ ِه ْم َمـ َـر ٌ‬
‫ك ُه ُم الظَّالِ ُمو َن)‪.‬‬ ‫أُولئِ َ‬
‫االس@ @ @ @ @ @@تفهام هنا هو تقري@ @ @ @ @ @@رى ‪ ،‬يكشف عن العلل ‪ ،‬اليت متوج هبا ص@ @ @ @ @ @@دور أولئك‬
‫املنافقني ‪ ..‬فليس داء واحدا هو الذي خيامر املنافق ‪ ..‬وإمنا هو يعيش ىف أكثر من داء ‪ ،‬مما‬
‫ىف قلبه من مرض‪.‬‬
‫وه @@ذا املرض ال @@ذي ىف قلبه ‪ ،‬من ش@@أنه أن يفسد ك @ ّ@ل معتقد ‪ ..‬فال يعتقد املن @@افق ىف‬
‫صحة رأى أو فساده إال بالقدر الذي جيىن منه نفعا عاجال ‪ ..‬إنه ال ميزان عن@@ده خللق ‪ ،‬أو‬
‫رأى‪ .‬أو دين ‪ ..‬إنه ي @@دين بال @@دين ال @@ذي ميشى مع ه @@واه ‪ ..‬ومن هنا ‪ ،‬فهو ىف ارتي @@اب من‬
‫كل ش@@ىء ‪ ..‬يلق@@اه م@@رتددا متش@@ككا ‪ ،‬ويقلّبه ‪ ،‬كأمنا ي@@راه ألول م@@رة ‪ ،‬ولو ك@@ان قد م@ ّ@ر به‬
‫ألف مرة ‪ ..‬ألن له ىف كل مرة حاال معه ‪ ،‬ورأيا فيه ‪..‬‬
‫ومن هنا ج@ @@اءت العلة الثالثة اليت تس@ @@كن ىف قل@ @@وب املن@ @@افقني ‪ ،‬وهى ختوفهم من أن‬
‫حييف اهلل عليهم ورس@@وله ‪ ،‬إذا هم احتكم@@وا إىل كت@@اب اهلل ‪ ..‬فكت@@اب اهلل م@@يزان واحد ‪..‬‬
‫وهم إمنا جيرون أم@ @ @@ورهم على م@ @ @@وازين ال حصر هلا ‪ ..‬وكل حكم ال يتفق مع أه@ @ @@وائهم ‪،‬‬
‫هو عن@ @@دهم ج@ @@ور وحيف ‪ ..‬فهم يض@ @@عون أحك@ @@ام اهلل موضع االختب@ @@ار واالمتح@ @@ان ‪ ،‬وال‬
‫جييئون إليها مستسلمني راضني مبا يقضى‬
‫‪1310‬‬

‫به اهلل ‪ ،‬سواء أكان هلم أم عليهم ‪ ..‬بل إهنم إن وجدوا ىف حكم اهلل ‪ ،‬ما هو هلم ‪ ،‬أخذوا‬
‫به ورضوا عنه ‪ ،‬وإن وجدوه على غري ما يريدون ‪ ،‬أعرضوا عنه ‪ ،‬وتنكروا له ‪..‬‬
‫ـك ُه ُم الظَّالِ ُمو َن ‪ )..‬إش@@ارة إىل أن ه@@ذه األم@@راض اخلبيثة‬ ‫ـ وىف قوله تع@@اىل ‪( :‬بَ ْل أُولئِ َ‬
‫اليت يعيش فيها املن@ @ @ @@افقون ‪ ،‬إمنا تنتهى هبم إىل أخسر ص @ @ @@فقة ‪ ،‬وهى الظلم ال@ @ @ @@ذي هم أول‬
‫ض@@حاياه ‪ ..‬إهنم ظلم@@وا أنفس@@هم ‪ ،‬وس@@اقوها إىل ه@@ذا املرعى الوبيل ‪ ،‬ال@@ذي لن يطعم@@وا منه‬
‫إال اخلزي واخلس@@ران ىف ال@@دنيا ‪ ،‬والع@@ذاب األليم ىف اآلخ@@رة ‪ ،‬وحس@@بهم أهنم كف@@روا بآي@@ات‬
‫اهلل ‪ ..‬وللكافرين عذاب مهني ‪..‬‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫اهلل َو َر ُسـولِ ِه لِيَ ْح ُك َم َب ْيَن ُه ْم أَ ْن َي ُقولُــوا َسـ ِم ْعنا‬
‫(إِنَّما كــا َن َقــو َل الْمـ ْـؤ ِمنِين إِذا ُدعُــوا إِلَى ِ‬
‫ْ ُ َ‬
‫ك ُه ُم ال ُْم ْفلِ ُحو َن) ‪..‬‬‫َوأَطَ ْعنا َوأُولئِ َ‬
‫ه@@ذه هى الص@@ورة املش@@رقة إلميان املؤم@@نني ‪ ،‬وما ىف قل@@وهبم من ص@@دق ويقني ‪ ..‬إهنم‬
‫إذا دع@@وا إىل كت@@اب اهلل ليحكم بينهم ‪ ،‬أج@@ابوا بال ّس@مع والطاعة ‪ ،‬ورض@@وا مبا يقضى به اهلل‬
‫ورس@@وله فيهم ‪ ،‬س@@واء أك@@ان ذلك هلم ‪ ،‬أم عليهم ‪ ..‬هك@@ذا اإلميان ‪ ،‬وهك@@ذا ش@@أن املؤم@@نني‬
‫ْخَي َـرةُ ِم ْن أ َْمـ ِر ِه ْم‬
‫ضـى اهلل ورسـولُهُ أَمــراً أَ ْن ي ُكـو َن لَهم ال ِ‬
‫ُُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫ِ ٍ‬ ‫ِ ِ‬
‫‪َ ( :‬وما كا َن ل ُمـ ْـؤم ٍن َوال ُم ْؤمنَـة إِذا قَ َ ُ َ َ ُ‬
‫ضالالً ُمبِيناً) (‪ : 36‬األح@@زاب) إنه الس@@مع والطاعة ملا‬ ‫ض َّل َ‬
‫ص اهللَ َو َر ُسولَهُ َف َق ْد َ‬‫‪َ ..‬و َم ْن َي ْع ِ‬
‫ي @@أمر به اهلل ورس @@وله ‪ ،‬دون ت @@ردد أو ارتي @@اب ‪ ..‬إذ ال إميان مع ت @@ردد ىف أمر من أمر اهلل أو‬
‫شك ىف حكم من أحكامه ‪..‬‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫ك ُه ُم الْفائُِزو َن)‪.‬‬ ‫ش اهللَ َو َيَّت ْق ِه فَأُولئِ َ‬ ‫ِ‬
‫( َو َم ْن يُط ِع اهللَ َو َر ُسولَهُ َويَ ْخ َ‬
‫هذا هو جزاء املؤمنني حقا ‪ ..‬الفوز برضوان اهلل ‪ ،‬بعد أن أفلحوا حني‬
‫‪1311‬‬

‫أخلص @@وا دينهم هلل ‪ ،‬ودان @@وا بالطاعة هلل ولرس @@وله ‪ ،‬وامتألت قل @@وهبم خش @@ية وتقى هلل ‪ ،‬فلم‬
‫ين@@افقوا ىف دينهم ‪ ،‬ومل يتّج@@روا بإمياهنم ‪ ،‬بل ك@@انوا على ح@ال ‪ ،‬س@@واء مع اهلل ورس@@وله ‪ ،‬ىف‬
‫والضراء وىف الشدة والرخاء ‪ ..‬إنه احلب هلل ‪ ،‬والرضا حبكم اهلل ‪ ..‬واحلب الصادق‬ ‫ّ‬ ‫السراء‬
‫ال جيىء منه أب @@دا ما يغري موقف احملب ممن أحب‪ .‬هك @@ذا احلب بني الن @@اس ‪ ،‬فكيف يك @@ون‬
‫احلب بني الناس ورب الناس؟‬
‫يقول الشاعر ملن أحب ‪:‬‬
‫أس@ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @@يئي بنا أو أحسىن ‪ ..‬ال ملومة ‪  ‬ل@ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @@دينا وال مقليّة إن تقلّت‬
‫‪ ‬‬ ‫‪ ‬‬

‫____________________________________‬

‫اآليات ‪ 53( :‬ـ ‪)57‬‬


‫خ ُـر ُج َّن قُـ ْـل ال ُت ْق ِسـ ُموا َ‬
‫طاعـةٌ َم ْع ُروفَـةٌ إِ َّن‬ ‫اهلل َج ْـه َد أَيْمــانِ ِه ْم لَئِ ْن أ ََمـ ْـرَت ُه ْم لَيَ ْـ‬
‫(وأَقْسـموا بِ ِ‬
‫َ َُ‬
‫ول فَـِإ ْن َت َولَّ ْوا فَِإنَّما َعلَْي ِـه ما ُح ِّم َل‬ ‫َطيعـوا اهلل وأ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫الر ُسـ َ‬
‫َطيعُـوا َّ‬ ‫اهللَ َخب ٌير بما َت ْع َملُـو َن (‪ )53‬قُ ْـل أ ُ َ َ‬
‫ِ‬ ‫و َعلَْي ُكم ما ُح ِّملْتُم وإِ ْن تُ ِطيعُــوهُ َت ْهتَ ـ ُدوا وما َعلَى َّ ِ‬
‫ين (‪َ )54‬و َع ـ َد اهللُ‬ ‫الر ُس ـول إِالَّ الْبَالغُ ال ُْمب ُ‬ ‫َ‬ ‫َْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫ين ِم ْن‬ ‫ض َكما اسـ ـ ـتَ ْخلَ َ َّ ِ‬
‫ف الذ َ‬ ‫َّه ْم في اأْل َْر ِ َ ْ‬
‫حات لَيسـ ـ ـتَ ْخلِ َفن ِ‬
‫ُ‬ ‫َْ‬
‫صـ ـ ـالِ ِ‬ ‫آمنُ ـ ــوا ِم ْن ُك ْم َو َع ِملُ ـ ــوا ال َّ‬
‫ين َ‬
‫َّ ِ‬
‫الذ َ‬
‫َّه ْم ِم ْن َب ْعـ ِـد َخـ ْـوفِ ِه ْم أ َْمن ـاً َي ْعبُ ـ ُدونَنِي ال‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َق ْبل ِه ْم َولَيُ َم ِّكنَ َّن ل َُه ْم د َين ُه ُم الَّذي ْارتَضى ل َُه ْم َولَيُبَ ـ ِّـدلَن ُ‬
‫صـال َة َوآتُـوا‬ ‫يمــوا ال َّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ـك ُه ُم الْفاسـ ُقو َن (‪َ )55‬وأَق ُ‬ ‫ـك فَأُولئِ َ‬ ‫يُ ْش ِر ُكو َن بِي َشـ ْيئاً َو َم ْن َك َف َـر َب ْعـ َد ذلِـ َ‬
‫ين فِي اأْل َْر ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ ِ‬ ‫الر ُس َ َّ‬ ‫الزكا َة وأ ِ‬
‫ض‬ ‫ين َك َف ُروا ُم ْعج ِز َ‬ ‫سبَ َّن الذ َ‬ ‫ول ل ََعل ُك ْم ُت ْر َح ُمو َن (‪ )56‬ال تَ ْح َ‬ ‫َطيعُوا َّ‬ ‫َّ َ‬
‫ص ُير) (‪)57‬‬ ‫ْواهم النَّار ولَبِْئس الْم ِ‬
‫َو َمأ ُ ُ ُ َ َ َ‬
‫____________________________________‬
‫‪1312‬‬

‫التفسري ‪:‬‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫خ ُـر ُج َّن قُـ ْـل ال ُت ْق ِسـ ُموا ‪َ ..‬‬
‫طاعـةٌ َم ْع ُروفَـةٌ‬ ‫اهلل َج ْهـ َد أَيْمــانِ ِه ْم لَئِ ْن أ ََمـ ْـرَت ُه ْم لَيَ ْـ‬
‫(وأَقْسـموا بِ ِ‬
‫َ َُ‬
‫إِ َّن اهللَ َخبِ ٌير بِما َت ْع َملُو َن)‪.‬‬
‫ع@ @ @@ادت اآلي@ @ @@ات بعد ذلك لتكشف عن وجه آخر من وج@ @ @@وه املن@ @ @@افقني ‪ ،‬ولتع@ @ @@رض‬
‫ص @@ورة أخ @@رى من ص @@ور نف @@اقهم مع اهلل ‪ ،‬بعد أن عرضت تلك الص @@ورة املخزية الفاض @@حة‬
‫منهم ‪ ،‬وأهنم ال يقبل@ @@ون حكم اهلل ورس@ @@وله فيهم ‪ ،‬وال يرض@ @@ون بكت@ @@اب اهلل حكما عليهم‬
‫‪..‬‬
‫ف@@رتاهم هنا ىف ه@@ذه الص@@ورة ‪ ،‬ال يس@@تجيبون ل@@دعوة اجله@@اد إذا ح@@ان وقت اجله@@اد ‪،‬‬
‫ودعا داعية ‪ ..‬وقد ك @ @@انوا من قبل يقس @ @@مون األميان أغلظ األميان وأوك @ @@دها ‪ ،‬لئن أم @ @@رهم‬
‫ليخرجن من غري ت@@ردد أو مهل ‪ ..‬فهم ىف جمال الق@@ول ‪ ،‬أبط@ال‬ ‫ّ‬ ‫الرسول باخلروج إىل القتال‬
‫ح@@روب ‪ ،‬وفرس@@ان قت@ال ‪ ،‬ف@إذا ج@ ّد اجل ّد ‪ ،‬ك@@انوا أجنب الن@@اس ‪ ،‬وأح@@رص الن@@اس على حي@@اة‬
‫‪..‬‬
‫وإذا ما خال اجلب@ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @@ان ب @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @@أرض ‪  ‬طلب الطعن وح@ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @@ده والنّ@ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @@زاال‬
‫‪ ‬‬ ‫‪ ‬‬

‫واحللف ‪ ،‬هو أول مسة من مسات النف@ @ @ @ @@اق ‪ ،‬وك@ @ @ @@ثرة احللف وتوكي@ @ @ @ @@ده ‪ ،‬هو اإلدام‬
‫ال @@ذي يأت @@دم به الكالم ىف أف @@واه املن @@افقني ‪ ،‬فال يس @@وغ ألف @@واههم كالم ‪ ،‬وال جيدون لق @@ول‬
‫طعما إال إذا غمس @ @ @ @ @@وه ىف تلك األميان الكاذبة ‪ ،‬وأك @ @ @ @ @@دوه هبذا احللف الف @ @ @ @ @@اجر ‪ ،‬واليمني‬
‫الغموس ‪..‬‬
‫ـ وقوله تع@ @ @ @@اىل ‪( :‬ال ُت ْق ِسـ ـ ـ ـ ُموا) هو ردع هلم ‪ّ ،‬‬
‫ورد ألمياهنم املؤك@ @ @ @@دة ‪ ،‬ومب@ @ @ @@ادرة‬
‫بالتك@ @ @@ذيب ملا وراء ه@ @ @@ذه األميان ‪ ،‬وذلك ملا هو مع@ @ @@روف من أم@ @ @@رهم ‪ ،‬وأهنم ليس@ @ @@وا أهل‬
‫صدق ووفاء ‪ ،‬ألن من ال إميان له ‪ ،‬ال أميان له ‪..‬‬
‫‪1313‬‬

‫طاعـةٌ َم ْع ُروفَـةٌ) اس@@تهزاء هبم ‪ ،‬وس@@خرية منهم ‪ ،‬وبط@@اعتهم تلك‬ ‫ـ وىف قوله تع@@اىل ‪َ ( :‬‬
‫اليت حيلف@@ون عليها ‪ ،‬ويق@ ّدمون بني ي@ديها أوكد األميان ‪ ..‬إهنا طاعة معروفة ‪ ،‬طاعة ب@@القول‬
‫‪ ،‬وعصيان بالعمل ‪ ..‬وهذا مثل قوله تعاىل ىف املن@@افقني ‪َ ( :‬ي ْعتَ ِـذ ُرو َن إِل َْي ُك ْم إِذا َر َج ْعتُ ْم إِل َْي ِه ْم‬
‫َن ُنـ ـ ـ ْـؤ ِم َن لَ ُك ْم ‪ ..‬قَ ـ ـ ـ ْد َنبَّأَنَا اهللُ ِم ْن أَ ْخبـ ـ ــا ِر ُك ْم ‪َ ..‬و َس ـ ـ ـَي َرى اهللُ َع َملَ ُك ْم‬ ‫ِ‬
‫قُـ ـ ـ ْـل ال َت ْعتَـ ـ ــذ ُروا ‪ ..‬ل ْ‬
‫هاد ِة َفُينَبِّئُ ُك ْم بِما ُك ْنتُ ْم َت ْع َملُو َن) (‪ : 94‬التوبة)‪.‬‬ ‫الش َ‬ ‫ب َو َّ‬ ‫َو َر ُسولُهُ ثُ َّم ُت َردُّو َن إِلى عالِ ِم الْغَْي ِ‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫ول فَ ـِإ ْن َت َولَّ ْوا فَِإنَّما َعلَْيـ ِـه ما ُح ِّم َل َو َعلَْي ُك ْم ما ُح ِّملْتُ ْم‬
‫الر ُس ـ َ‬
‫َطيعُــوا َّ‬‫َطيع ــوا اهلل وأ ِ‬ ‫ِ‬
‫ََ‬ ‫(قُـ ْـل أ ُ‬
‫ِ‬ ‫وإِ ْن تُ ِطيعُوهُ َت ْهتَ ُدوا وما َعلَى َّ ِ‬
‫ين)‪.‬‬ ‫الر ُسول إِاَّل الْبَالغُ ال ُْمب ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫هو دع@ @@وة إىل املن@ @@افقني ‪ ،‬أن خيرج@ @@وا من نف@ @@اقهم ه@ @@ذا ‪ ،‬وأن يس@ @@تقيموا على طريق‬
‫اإلميان ‪ ،‬ويأخ@@ذوا وجهتهم مع املؤم@@نني ‪ ،‬ولن يك@@ون ذلك إال ب@@أن يطيع@@وا اهلل والرس@@ول ‪،‬‬
‫وأن ميتثل@@وا ما أمر اهلل به على لس@@ان نبيه الك@@رمي ‪ ،‬ف@@إن فعل@@وا رش@@دوا ‪ ،‬وإن تول@@وا فإمنا على‬
‫الرس @@ول «ما محّ @@ل» من أمانة ‪ ،‬وهى تبليغ رس @@الة ربه ‪ ،‬وقد بلّغها ‪« ..‬وعليهم ما محل @@وا»‬
‫وهو االس @@تجابة للرس @@ول ‪ ،‬واإلميان به ‪ ،‬ومبا معه من آي @@ات اهلل ‪ ..‬وقد ألق @@وا ه @@ذه األمانة‬
‫من أيديهم ‪ ،‬وخلعوها من أعناقهم‪.‬‬
‫وقوله تعاىل ‪( :‬فَِإ ْن َت َولَّ ْوا) أصله «تتولوا» ‪ ..‬حذفت تاء املضارعة للتخفيف ‪..‬‬
‫ـ وقوله تعاىل ‪َ ( :‬وإِ ْن تُ ِطيعُوهُ َت ْهتَ ُدوا) ـ هو مطل@@وب األمانة اليت محّلوها ‪ ،‬واليت أش@@ار‬
‫إليها قوله تعاىل ‪َ ( :‬و َعلَْي ُك ْم ما ُح ِّملْتُ ْم ‪)..‬‬
‫ِ‬ ‫ـ وقوله تع@ @ @@اىل ‪( :‬وما َعلَى َّ ِ‬
‫ين) ـ هو مطل@ @ @@وب األمانة اليت‬ ‫الر ُسـ ـ ـول إِاَّل الْبَالغُ ال ُْمب ُ‬ ‫َ‬
‫النىب ‪ ،‬واليت أشار إليها ‪ ،‬قوله تعاىل ‪( :‬فَِإنَّما َعلَْي ِه ما ُح ِّم َل ‪)..‬‬ ‫محلها ّ‬
‫‪1314‬‬

‫@رد فيه خت @@ام اآلية على مطلعها ‪ ،‬م @@راعى فيه ال @@رتتيب‬ ‫وقد ك @@ان مقتضى النظم أن ي @ ّ‬
‫الذي جاء عليه املطلع ‪ ..‬مبعىن أن يكون نظم الكالم هكذا ‪:‬‬
‫ف@إن تول@وا فإمنا عليه ما محل وعليكم ما محلتم ‪ ،‬وما على الرس@ول إال البالغ املبني ‪،‬‬
‫وما عليكم إال أن تطيعوه ‪..‬‬
‫ولكن هذا كالم ‪ ،‬وذاك قرآن ‪ ..‬وشتان بني القرآن ‪ ،‬وبني الكالم! ‪..‬‬
‫فحمل املن @ @@افقني األمانة ‪ ،‬مث دع @ @@اهم ف@ @@ورا إىل‬ ‫فقد ج @ @@اء الق @ @@رآن على ه @ @@ذا النظم ‪ّ ،‬‬
‫الوف@@اء هبا ‪ ،‬ألهنم هم املطلوب@@ون ‪ ،‬املن@@ادى عليهم باخليانة ‪ ..‬على حني أن الرس@@ول قد أدى‬
‫أمانته ‪ ،‬وليس ىف حاجة إىل تنبيه أو طلب ‪ ..‬وعلى ه@ @ @ @@ذا يك@ @ @ @@ون قوله تع@ @ @ @@اىل ‪َ ( :‬وما َعلَى‬
‫ين) توكي@ @ @@دا وش@ @ @@رحا لقوله تع @ @@اىل ‪( :‬فَِإنَّما َعلَْي ـ ـ ِـه ما ُح ِّم َل) وليس‬ ‫ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫الر ُسـ ـ ـول إِاَّل الْبَالغُ ال ُْمب ُ‬
‫دعوة جديدة للنّىب أن يبلغ البالغ املبني ‪ ،‬على حني أن قوله تع@@اىل ‪َ ( :‬وإِ ْن تُ ِطيعُوهُ َت ْهتَـ ُدوا)‬
‫هو أمر مطلوب من املنافقني أداؤه‪.‬‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫ض َك َما‬‫َّه ْم فِي اأْل َْر ِ‬ ‫ِ‬
‫حات لَيَ ْس ـ ـ ـتَ ْخل َفن ُ‬ ‫آمنُـ ـ ــوا ِم ْن ُك ْم َو َع ِملُـ ـ ــوا ال َّ‬
‫ص ـ ـ ـالِ ِ‬
‫ين َ‬
‫َّ ِ‬
‫( َو َع ـ ـ ـ َد اهللُ الذ َ‬
‫َّه ْم ِم ْن َب ْع ِد َخ ْوفِ ِه ْم‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ف الَّ ِذ ِ ِ‬
‫ين م ْن َق ْبل ِه ْم َولَيُ َم ِّكنَ َّن ل َُه ْم د َين ُه ُم الَّذي ْارتَضى ل َُه ْم َولَيُبَ ِّدلَن ُ‬
‫َ‬ ‫استَ ْخلَ َ‬
‫ْ‬
‫ك هم ال ِ‬
‫ْفاس ُقو َن)‪.‬‬ ‫أ َْمناً ي ْعب ُدونَنِي ال ي ْش ِر ُكو َن بِي َش ْيئاً ‪ ،‬ومن َك َفر ب ْع َد ذلِ َ ِ‬
‫ك فَأُولئ َ ُ ُ‬ ‫ََ ْ َ َ‬ ‫ُ‬ ‫َُ‬
‫اخلطاب هنا للمؤمنني مجيعا ‪ ،‬ىف مواجهة املنافقني ‪ ..‬وأن هؤالء املؤم@@نني موع@@ودون‬
‫من اهلل ـ إذا هم ص@ @ @ ّدقوا إمياهنم بالعمل الص@ @ @@احل ـ أن يس@ @ @@تخلفهم ىف األرض ‪ ،‬أي جيعلهم‬
‫خلف @@اءه عليها ‪ ،‬وجيعل إىل أي @@ديهم الس @@لطان املتمكن فيها ‪ ..‬فاإلنس @@ان هو خليفة اهلل على‬
‫صحت إنسانيته ‪ ،‬وسلمت فطرته‪.‬‬ ‫هذه األرض ‪ ،‬ولن يكون أهال هلذه اخلالفة إال إذا ّ‬
‫‪1315‬‬

‫أما إذا احنرف ‪ ،‬وفسد ‪ ،‬فإنه ي@ @ @ @@نزل عن ه@ @ @ @@ذه اخلالفة ‪ ،‬وخيلى مكانه منها ‪ ،‬ليأخذ‬
‫مكانه بني حيوانات األرض ودواهّب ا‪.‬‬
‫ين ِم ْن َق ْبلِ ِه ْم) ـ إش@@ارة إىل من اس@@تخلفهم اهلل من‬ ‫ف الذ َ‬
‫ـ وقوله تع@@اىل ‪َ ( :‬كما استَ ْخلَ َ َّ ِ‬
‫َ ْ‬
‫عب@@اده املؤم@@نني الص@@احلني ‪ ،‬بعد أن أهلك الق@@وم الظ@@املني ‪ ..‬وه@@ذا ما يشري إليه قوله تع@@اىل ‪:‬‬
‫ـود َّن فِي ِملَّتِنا فَـأ َْوحى إِل َْي ِه ْم َر ُّب ُه ْم‬ ‫خ ِرجنَّ ُكم ِمن أَر ِ‬
‫ضـنا أ َْو لََتعُ ُ‬ ‫ِ ِ‬
‫ين َك َف ُـروا ل ُر ُسـل ِه ْم لَنُ ْـ َ ْ ْ ْ‬
‫(وق َ َّ ِ‬
‫ـال الذ َ‬ ‫َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ـاف َوعيــد) (‬ ‫ـاف َمقــاميـ َوخـ َ‬ ‫ـك ل َم ْن خـ َ‬
‫ض م ْن َب ْعــده ْم ذلـ َ‬ ‫ل َُن ْهل َك َّن الظَّالم َ‬
‫ين َولَنُ ْسـكَننَّ ُك ُم اأْل َْر َ‬
‫الزبُــو ِر ِم ْن َب ْعـ ِـد الـ ِّـذ ْك ِر أ َّ‬
‫َن‬ ‫‪ 13‬ـ ‪ : 14‬إبراهيم) ‪ ..‬وكذلك قوله سبحانه ‪َ ( :‬ولََق ْد َكتَْبنا فِي َّ‬
‫الصالِ ُحو َن) (‪ : 105‬األنبياء)‪.‬‬ ‫ِ ِ‬
‫ي َّ‬ ‫ض يَ ِرثُها عباد َ‬‫اأْل َْر َ‬
‫ف@@املؤمن باهلل ‪ ،‬املس@@تقيم على طريق احلق واهلدى ‪ ،‬هو أق@@وى الن@@اس ق@@وة ‪ ،‬وأق@@درهم‬
‫على جىن أطيب الثمرات مما على هذه األرض ‪ ..‬وهبذا يكون له السلطان املتمكن فيها ‪..‬‬
‫ـ قوله تع@@اىل ‪َ ( :‬ولَيُ َم ِّكنَ َّن ل َُه ْم ِد َين ُه ُم الَّ ِذي ْارتَضى ل َُه ْم) أي أن املؤم@@نني ال@@ذين عرف@@وا‬
‫حقيقة اإلميان ‪ ،‬وأدوا ما يقتض @@يه اإلميان منهم ‪ ،‬من عمل ص @@احل ـ هم أهل ألن جيمع @@وا إىل‬
‫أيديهم الدنيا ‪ ،‬والدين مجيعا ‪ ،‬فتكون هلم العزة ‪ ،‬ويكون لدينهم الغلب والتمكني‪.‬‬
‫ين ‪ )..‬فاملؤمنون ال@@ذين‬ ‫وهذا ما يشري إليه قوله تعاىل ‪( :‬ولِلَّ ِه ال ِْع َّزةُ ولِرسولِ ِه ولِل ِ ِ‬
‫ْم ْؤمن َ‬ ‫ََُ َ ُ‬ ‫َ‬
‫هلم العزة هنا ‪ ،‬إمنا يستمدون عزهتم من عزة الرسول ‪ ،‬الذي يستمد عزته من ربه ‪..‬‬
‫فهم هبذا موصولون باهلل ‪ ،‬باتباعهم رسول اهلل ‪ ،‬وما أنزل إليه من ربه‪.‬‬
‫وهيه @@ات أن يك @@ون إلنس @@ان ذليل ض @@عيف ‪ ،‬دين ‪ ،‬أو أن يق @@وم دين لدولة ىف جمتمع‬
‫مريض هزيل!‬
‫‪1316‬‬

‫وال @ ّدين ال@@ذي ارتض@@اه اهلل للمؤم@@نني ‪ ،‬هو اإلس@@الم ‪ ،‬كما يق@@ول س@@بحانه وتع@@اىل ىف‬
‫يت لَ ُك ُم‬‫ضـ ُ‬‫ت َعلَْي ُكم نِ ْعمتِي ور ِ‬
‫ْ َ ََ‬ ‫ْت لَ ُك ْم ِدينَ ُك ْم َوأَتْ َم ْم ُ‬ ‫آخر آيات القرآن نزوال ‪( :‬الَْي ْو َم أَ ْك َمل ُ‬
‫الم ِديناً) (‪ : 3‬املائدة)‪.‬‬ ‫اإْلِ ْس َ‬
‫فاإلس@@الم ‪ ،‬هو ال@@دين ال@@ذي ق@@امت ىف ظلّه الش@@رائع الس@@ماوية ‪ ،‬كما يق@@ول تع@@اىل ‪:‬‬
‫ِ‬ ‫(إِ َّن الد ِ‬
‫الم ‪ )..‬هو ال@@دين ال@@ذي خلص كلّه لألمة اإلس@@المية ‪ ..‬كما يق@@ول‬ ‫ِّين ع ْنـ َد اهلل اإْلِ ْسـ ُ‬
‫َ‬
‫ـق لِيُظْ ِهـ َـرهُ َعلَى الــدِّي ِن ُكلِّ ِه ‪ )..‬وكما‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫س@@بحانه ‪ُ ( :‬هـ َـو الَّذي أ َْر َسـ َل َر ُسـولَهُ بِال ُْهــدى َودي ِن ال َ‬
‫ْحـ ِّ‬
‫ِّين لِلَّ ِه) (‪ : 193‬البقرة) ‪..‬‬ ‫ِ‬
‫وه ْم َحتَّى ال تَ ُكو َن ف ْتنَةٌ َويَ ُكو َن الد ُ‬ ‫يقول سبحانه ‪َ ( :‬وقاتِلُ ُ‬
‫َّه ْم ِم ْن َب ْعـ ِـد َخـ ْـوفِ ِه ْم أ َْمنـاً َي ْعبُـ ُدونَنِي ال يُ ْشـ ِر ُكو َن بِي َشـ ْيئاً)‬
‫وىف قوله تع@@اىل ‪َ ( :‬ولَيُبَـ ِّـدلَن ُ‬
‫إش@@ارة إىل ما يكس@@به اإلميان احلق أهله ‪ ،‬من ع@ ّ@زة ومنعة وق@@وة ‪ ،‬وأهنم هبذا اإلميان قد أمن@@وا‬
‫أن يزحيهم الكافرون واملش@@ركون واملن@@افقون عن دينهم ‪ ،‬وأن يفتن@@وهم فيه ‪ ..‬ومن مثّ ف@@إهنم‬
‫يعب @@دون اهلل بقل @@وب خلصت من املداهنة والنف @@اق ‪ ،‬والش @@رك ‪ ..‬فال يلتفت @@ون إىل غري اهلل ‪،‬‬
‫وال يعطون والءهم لسلطان غري سلطان اهلل‪.‬‬
‫ـك ُه ُم الْفا ِسـ ُقو َن ‪ )..‬أي من ح ّدثته نفسه‬ ‫ـك فَأُولئِـ َ‬ ‫وقوله تع@@اىل ‪َ ( :‬و َم ْن َك َفـ َـر َب ْعـ َد ذلِـ َ‬
‫باإلقالع عن اإلسالم ‪ ،‬والع@@ودة إىل الكفر ‪ ،‬بعد أن لبس ث@@وب الع@ّ@زة ‪ ،‬وأمن الفتنة ىف دينه‬
‫من ج@@ور اجلائرين ‪ ،‬وظلم الظ@@املني ـ فهو من الفاس@@قني ‪ ..‬أي اخلارجني طوعا عن دينهم ‪،‬‬
‫وليس هلم مثّة عذر ‪ ..‬فهم كافر وفاسق معا ‪..‬‬
‫وهذه اآلية ‪ ،‬تواجه املنافقني ‪ ..‬كما قلنا ـ مبا يسوءهم ويكبتهم ‪ ،‬وذلك هبذا الوعد‬
‫الك @@رمي من اهلل ب @@إعزاز املؤم @@نني ‪ ،‬والتمكني هلم ‪ ،‬واس @@تخالفهم ىف األرض ‪ ..‬وأن املن @@افقني‬
‫إذ كانوا ينظرون إىل حال املؤمنني يومئذ ‪ ،‬وإىل‬
‫‪1317‬‬

‫ما يعجبهم من ك@ @@ثرة املش@ @@ركني وغلبتهم ‪ ،‬ف@ @@إن الدولة وش@ @@يكة ‪ ،‬أن تك@ @@ون للمؤم@ @@نني ‪..‬‬
‫فليب @@ادروا إىل ه @@ذا املغنم ‪ ،‬وليأخ @@ذوا مك @@اهنم بني املؤم @@نني منذ الي @@وم ‪ ،‬وإال فلن يك @@ون هلم‬
‫مكان بعد أن يفوهتم الركب ‪ ،‬وهم مبنقطع الطريق‪.‬‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫ول ل ََعلَّ ُك ْم ُت ْر َح ُمو َن)‪.‬‬ ‫الزكاةَ وأ ِ‬ ‫ِ‬
‫الر ُس َ‬
‫َطيعُوا َّ‬ ‫الصالةَ َوآتُوا َّ َ‬ ‫يموا َّ‬ ‫( َوأَق ُ‬
‫وهذا بيان لألعمال املطلوبة من املؤمنني ‪ ،‬حىت يكون@@وا على الوصف ال@@ذي وص@@فهم‬
‫اهلل سبحانه وتع@@اىل به ‪ ،‬ووع@@دهم عليه االس@@تخالف ‪ ،‬والتمكني ‪ ..‬وهو أن يقيم@@وا الص@@الة‬
‫‪ ،‬وأن يؤت@@وا الزك@@اة ‪ ،‬وأن يطيع@@وا الرس@@ول فيما ي@@دعوهم إليه ‪ ،‬وين@@دهبم له ‪ ،‬من اجله@@اد ىف‬
‫سبيل اهلل ‪..‬‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫ْواهم النَّار ولَبِْئس الْم ِ‬
‫ص ُير)‪.‬‬ ‫ض َو َمأ ُ ُ ُ َ َ َ‬ ‫ين فِي اأْل َْر ِ‬ ‫ِ‬
‫ين َك َف ُروا ُم ْعج ِز َ‬
‫َّ ِ‬
‫سبَ َّن الذ َ‬
‫(ال تَ ْح َ‬
‫للنىب ـ صلوات اهلل وسالمه عليه ـ مش@ار به إىل املؤم@نني ‪ ،‬ال@ذين اس@تمعوا‬ ‫هو خطاب ّ‬
‫إىل وعد اهلل س@ @@بحانه وتع@ @@اىل هلم ‪ ،‬باالس@ @@تخالف ىف األرض ‪ ،‬والتمكني ل@ @@دينهم ‪ ..‬وأهنم‬
‫إذا نظ@روا فوج@دوا ما هم عليه من قلّة وض@عف ‪ ،‬وما عليه الك@افرون واملش@ركون من ك@ثرة‬
‫وقوة ـ إذا نظروا فوج@دوا ه@ذا ‪ ،‬فال يه@ولنّهم األمر ‪ ،‬وال ي@دخل على ثقتهم بوعد اهلل وهن‬
‫أو شك ‪ ..‬فه@@ؤالء الك@@افرون وإن بلغ@@وا ما بلغ@@وا من ك@@ثرة وق@@وة ‪ ،‬ف@إهنم ال ش@ىء أما ق@@درة‬
‫اهلل س @@بحانه وتع @@اىل ‪ ..‬فلن يعج @@زوه ‪ ،‬ولن يفلت @@وا من املصري ال @@ذي هم ص @@ائرون إليه ‪ ،‬من‬
‫ذلّة وخزى ىف الدنيا ‪ ،‬وعذاب أليم ىف اآلخرة ‪..‬‬
‫فليمض املؤمنون على إمياهنم ‪ ،‬وليستقيموا على ما أمرهم اهلل ‪ ..‬فإن هم صدقوا اهلل‬
‫‪ ،‬صدق وعده هلم ‪ ،‬إذ يلقاهم على تلك الصفة اليت وعدوا عليها ‪..‬‬
‫‪1318‬‬

‫____________________________________‬

‫اآليات ‪ 58( :‬ـ ‪)60‬‬


‫ْحلُ َم ِم ْن ُك ْم‬
‫َم َي ْبلُغُــوا ال ُ‬‫ين ل ْ‬
‫َّ ِ‬
‫ت أَيْمــانُ ُك ْم َوالذ َ‬ ‫ين َملَ َك ْ‬ ‫َّ ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫آمنُوا ليَ ْستَأْذنْ ُك ُم الذ َ‬ ‫ين َ‬
‫َّ ِ‬
‫(يا أ َُّي َها الذ َ‬
‫الة ال ِْعشـ ِ‬ ‫ضعو َن ثِياب ُكم ِمن الظَّ ِهير ِة وِمن بع ِد صـ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ات ِمن َقب ِل ِ‬ ‫الث م َّر ٍ‬
‫ـاء‬ ‫َ َ ْ َْ َ‬ ‫َ ْ َ‬ ‫ين تَ َ ُ‬‫صالة الْ َف ْج ِر َوح َ‬ ‫ْ ْ َ‬ ‫ثَ َ َ‬
‫ٍ‬
‫ضـ ـ ـ ُك ْم َعلى‬ ‫س َعلَْي ُك ْم َوال َعلَْي ِه ْم ُجن ـ ـ ٌ‬
‫ـاح َب ْعـ ـ ـ َد ُه َّن طََّوافُ ـ ــو َن َعلَْي ُك ْم َب ْع ُ‬ ‫الث َع ـ ـ ْـورات لَ ُك ْم ل َْي َ‬ ‫ثَ ُ‬
‫ْحلُ َم‬ ‫ـات واهلل علِيم ح ِكيم (‪ @)58‬وإِذا بلَـ َغ اأْل َطْفـ ُ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ض َكــذلِ َ‬ ‫َب ْع ٍ‬
‫ـال م ْن ُك ُم ال ُ‬ ‫َ َ‬ ‫ك ُيَبيِّ ُن اهللُ لَ ُك ُم اآْل يـ َ ُ َ ٌ َ ٌ‬
‫يم (‬ ‫ِ‬
‫يم َحك ٌ‬
‫ِ‬ ‫ِِ‬
‫ك ُيَبيِّ ُن اهللُ لَ ُك ْم آيات ـ ــه َواهللُ َعل ٌ‬ ‫ين ِم ْن َق ْبلِ ِه ْم َكـ ــذلِ َ‬ ‫َّ ِ‬ ‫ِ‬
‫َفلْيَ ْسـ ـ ـتَأْذنُوا َك َما ا ْسـ ـ ـتَأْذَ َن الذ َ‬
‫ـاب ُه َّن‬ ‫ـاء الالَّتِي ال يرجــو َن نِكاح ـاً َفلَْيس َعلَْي ِه َّن جن ــاح أَ ْن ي َ ِ‬ ‫واع ـ ُد ِمن النِّس ـ ِ‬ ‫‪ )59‬والْ َق ِ‬
‫ض ـ ْع َن ثي ـ َ‬ ‫ُ ٌ َ‬ ‫َ‬ ‫َْ ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫يم) (‪)60‬‬ ‫جات بِ ِزينَ ٍة وأَ ْن يستع ِف ْفن َخير لَه َّن واهلل س ِم ِ‬ ‫غَْير متَب ِّر ٍ‬
‫يع َعل ٌ‬ ‫َ َ َْ ْ َ ٌْ ُ َ ُ َ ٌ‬ ‫َ َُ‬
‫____________________________________‬
‫التفسري ‪:‬‬
‫ج@اءت ه@ذه اآلي@ات الثالث لتس@تكمل أدب املعاش@رة واملخالطة ىف اجملتمع اإلس@المى‬
‫‪ ،‬بعد أن بينت اآلي@ @@ات الس@ @@ابقة أحك@ @@ام االس@ @@تئذان ‪ ،‬واحلج@ @@اب والتحصن ىف ال@ @@زواج ‪..‬‬
‫وكان من تدبري احلكيم العليم ىف هذا ‪ ،‬أنه مل جيىء هبذه األحك@@ام مجيعها ىف مع@@رض واحد‬
‫‪ ،‬حىت ال ت@@زحم العقل ‪ ،‬وحىت ال يفلت منها ش@@ىء ىف ه@@ذا املزدحم ‪ ..‬فهى مجيعها دس@@تور‬
‫متكامل ‪ ،‬وعقد منتظم ‪ ،‬إن انفرطت حبة منه انفرطت حبّات العقد كلها‪.‬‬
‫‪1319‬‬

‫ومن أجل ه @ @@ذا ك @ @@ان ه @ @@ذا الفصل بينها بتلك اآلي @ @@ات ‪ ،‬اليت عرضت ماهلل س @ @@بحانه‬
‫كل من‬ ‫وتعاىل من جالل وقدرة ‪ ،‬وأنه سبحانه نور السموات واألرض ‪ ،‬وما فيهن ‪ ،‬وأن ّ‬
‫ىف السموات واألرض يسبح حبمده ‪ ،‬وأن عامل األحياء خلق مجيعه من ماء ‪ ،‬وذلك بق@@درة‬
‫الق @@ادر العليم احلكيم ‪ ..‬وأنه كما اختلفت ع @@وامل األحي @@اء ص @@ورا وطب @@ائع ‪ ،‬اختلف الن @@اس‬
‫عقال وس@ @@فها ‪ ،‬وإميانا وض@ @@الال ‪ ..‬فك@ @@ان فيهم املؤمن@ @@ون املتق@ @@ون ‪ ،‬وك@ @@ان منهم الك@ @@افرون‬
‫اجلاحدون ‪ ،‬وكان فيهم املنافقون ‪ ،‬الذين جيمعون بني الكفر واإلميان ‪..‬‬
‫وبعد ه @ @ @@ذا الع @ @ @@رض املمتد املتن @ @ @ ّ@وع ‪ ،‬جتىء ه @ @ @@ذه اآلي @ @ @@ات الثالث ‪ ،‬لتس @ @ @@توىف أدب‬
‫املعاشرة واملعايشة ‪ ،‬بني الناس والناس ‪..‬‬
‫وىف قوله تعاىل ‪:‬‬
‫ْحلُ َم‬ ‫َّ ِ‬ ‫َّ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫َم َي ْبلُغُ ـ ــوا ال ُ‬
‫ين ل ْ‬
‫ت أَيْم ـ ــانُ ُك ْم ‪َ ،‬والذ َ‬
‫ين َملَ َك ْ‬
‫آمنُ ـ ــوا ليَ ْسـ ـ ـتَأْذنْ ُك ُم الذ َ‬
‫ين َ‬‫(يا أ َُّي َها الذ َ‬
‫ات) ـ ىف ه @@ذا أمر للمؤم @@نني ـ من رج @@ال ونس @@اء أن يلزم @@وا م @@واليهم ال @@ذين‬ ‫الث مـ َّـر ٍ‬ ‫ِ‬
‫م ْن ُك ْم ثَ َ َ‬
‫حتت أيديهم ـ من عبيد وإماء ـ أال يدخلوا عليهم خل@@واهتم ‪ ،‬إال بعد إذن ‪ ..‬وذلك ىف ثالثة‬
‫أوق@ @@ات بينتها اآلية كما س@ @@نرى ‪ ..‬وك@ @@ذلك حتمل اآلية أم@ @@را إىل الب@ @@الغني الراش@ @@دين ـ من‬
‫أحرار الرجال والنساء ـ أال يدعوا الصغار ـ من ب@@نني وبن@@ات ـ ال@@ذين ‪ ،‬مل يبلغ@@وا احللم بعد ‪،‬‬
‫ولكنهم مييزون ما للرجل واملرأة ‪ ،‬ويعرف@ @@ون الع@ @@ورة وغري الع@ @@ورة ـ أاّل ي@ @@دعوهم ي@ @@دخلون‬
‫عليهم ىف هذه األوقات الثالثة إال بعد استئذان ‪ ،‬وإذن ‪..‬‬
‫وهذه األوقات ‪ ،‬قد بينها اهلل سبحانه وتعاىل ىف قوله ‪:‬‬
‫ض ـعو َن ثِي ــاب ُكم ِمن الظَّ ِهــير ِة ‪ ..‬و ِمن بعـ ِـد ص ـ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫الة‬ ‫َ ْ َْ َ‬ ‫َ‬ ‫َ ْ َ‬ ‫ين تَ َ ُ‬‫ص ـالة الْ َف ْجـ ِر ‪َ ..‬وح َ‬ ‫ـ (م ْن َق ْب ـ ِـل َ‬
‫ال ِْع ِ‬
‫شاء ‪)..‬‬
‫‪1320‬‬

‫ففى ه @ @ @@ذه األوق @ @ @@ات الثالثة ‪ ،‬يتهيأ اإلنس @ @ @@ان للراحة والن@ @ @@وم ‪ ،‬ويتخفف كث @ @ @@ريا من‬
‫مالبسه ومن حتفظه ىف سرت عورته ‪ ،‬ألنه على ش@ @ @ @ @ @ @ @@عور بأنه ىف خل@ @ @ @ @ @ @ @@وة مع نفسه ‪ ،‬أو مع‬
‫زوجه ‪..‬‬
‫ففى هذه األوقات الثالثة ينبغى أال يدخل املوايل ـ عبيدا أو إماء ـ على س@@ادهتم ‪ ،‬من‬
‫رج@@ال أو نس@@اء ‪ ،‬وك@@ذلك الص@@غار املم@@يزون من ب@@نني وبن@@ات ـ ال ي@@دخلون على آب@@ائهم أو‬
‫أمه@ @@اهتم ‪ ،‬أو غ@ @@ريهم ‪ ،‬إال بعد أن يس@ @@تأذنوا وي@ @@ؤذن هلم‪ .‬وذلك س@ @@رتا للع@ @@ورات ‪ ،‬وحفظا‬
‫للحياء ‪ ،‬وس ّدا لذرائع الفتنة‪.‬‬
‫رات لَ ُك ْم) أي ه@@ذه األوق@@ات ‪ ،‬هى أش@@به بثالث ع@@ورات‬ ‫الث َعــو ٍ‬
‫ـ وقوله تع@@اىل ‪( :‬ثَ ُ ْ‬
‫لكم ‪ ،‬ينبغى أن تص @ @ @@ونوا فيها أنفس @ @ @@كم عن أن ي@ @ @@دخل عليكم أحد فيها إال ب @ @ @@إذن ‪ ،‬حىت‬
‫أولئك الذين ال حتتشمون هلم ‪ ،‬وال تتحرجون كثريا منهم ‪ ،‬وهم املوايل والصغار ‪..‬‬
‫ـاح َب ْعـ َد ُه َّن ‪ )..‬أي ال ح@@رج عليكم وال‬ ‫س َعلَْي ُك ْم َوال َعلَْي ِه ْم ُجنـ ٌ‬ ‫ـ وقوله تع@@اىل ‪( :‬ل َْي َ‬
‫عليهم ‪ ،‬بعد ه @ @@ذه األوق @ @@ات الثالثة ‪ ،‬ىف أن ي @ @@دخلوا عليكم من غري اس @ @@تئذان ‪ ..‬إذ ك @ @@ان‬
‫أم@@ركم غالبا ىف غري تلك األوق@@ات ‪ ،‬أق@@رب إىل التص@ ّ@ون والتحفظ ‪ ..‬وىف االس@@تئذان املل@@زم‬
‫للمواىل والصغار ‪ ،‬ىف مجيع األوقات ‪ ،‬كثري من احلرج ‪ ،‬الذي تأباه هذه الش@@ريعة ‪ ،‬وتعفى‬
‫أتباعها منه ‪..‬‬
‫ض)‪ .‬مجلة حالي @ @@ة‪ .‬أي ال جن @ @@اح‬ ‫ضـ ـ ـ ُك ْم َعلى َب ْع ٍ‬ ‫وقوله تع@ @ @@اىل ‪( :‬طََّوافُ ـ ــو َن َعلَْي ُك ْم َب ْع ُ‬
‫عليكم وال عليهم بعد ه @ @@ذه األوق @ @@ات الثالثة وأنتم طواف @ @@ون بعض @ @@كم على بعض ‪ ..‬فه@ @@ذا‬
‫ش@@أنكم وش@@أهنم ‪ ،‬حبكم املخالطة واملعاش@@رة ‪ ..‬ومن هنا رفع عنكم وعنهم احلرج ‪ ،‬ىف غري‬
‫ه@ @ @ @ @ @@ذه األوق@ @ @ @ @ @@ات الثالثة ‪ ..‬فلكم أن تطوف@ @ @ @ @ @@وا عليهم ‪ ،‬وهلم أن يطوف@ @ @ @ @ @@وا عليكم من غري‬
‫استئذان!‬
‫‪1321‬‬

‫يم) أي مثل ه@@ذا البي@@ان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ـ وقوله تعاىل ‪َ ( :‬كذلِ َ‬
‫يم َحك ٌ‬ ‫ك ُيَبيِّ ُن اهللُ لَ ُك ُم اآْل يــات َواهللُ َعل ٌ‬
‫اجللى الواضح ‪ ،‬ي @ @ @ @@بني اهلل لكم اآلي @ @ @ @@ات ‪ ،‬وجيىء هبا حمكمة ‪ ،‬ال حتت @ @ @ @@اج إىل تأويل ‪ ،‬حىت‬ ‫ّ‬
‫يم) ىف وصف‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫يم) مبا يص@ @ @ @@لح حي@ @ @@اتكم ( َحك ٌ‬ ‫تأخ@ @ @ @@ذوا هبا ‪ ،‬وتس@ @ @ @@تقيموا عليها ‪َ ( ..‬واهللُ َعل ٌ‬
‫الدواء لكل داء ‪ ،‬يعطى منه باحلكمة ‪ ،‬دون إفراط أو تفريط ‪..‬‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫ك‬‫ين ِم ْن َق ْبلِ ِه ْم َـك ــذلِ َ‬ ‫َّ ِ‬ ‫ِ‬
‫ْحلُ َم َفلْيَ ْس ـ ـتَأْذنُوا َك َما ا ْس ـ ـتَأْ َذ َن الذ َ‬
‫(وإِذا بلَ ـ ـ َغ اأْل َطْفـ ـ ُ ِ‬
‫ـال م ْن ُك ُم ال ُ‬ ‫َ َ‬
‫يم)‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫يم َحك ٌ‬ ‫ُيَبيِّ ُن اهللُ لَ ُك ْم آياته َواهللُ َعل ٌ‬
‫أي أن ه @@ؤالء األطف @@ال ‪ ،‬ال @@ذين أذن هلم ب @@الطواف عليكم من غري اس @@تئذان ىف كل‬
‫وقت ‪ ،‬ما ع @@دا ه @@ذه األوق @@ات الثالثة ـ ه @@ؤالء األطف @@ال إذا زايلتهم ص @@فة الطفولة ‪ ،‬وبلغ @@وا‬
‫احللم ‪ ،‬ودخلوا مدخل البالغني ـ من رج@@ال ونس@@اء ـ أخ@@ذوا حبكمهم ‪ ،‬وأص@@بح لزاما عليهم‬
‫أن يستأذنوا ىف مجيع األوقات ‪ ،‬ال ىف هذه األوقات الثالثة وحسب ‪..‬‬
‫يم) إش@@ارة إىل أن ه@@ذا‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِِ‬ ‫ـ وىف قوله تعاىل ‪َ ( :‬كذلِ َ‬
‫يم َحك ٌ‬ ‫ك ُيَبيِّ ُن اهللُ لَ ُك ْم آيات ــه َواهللُ َعل ٌ‬
‫األمر وإن ك@ @ @ @ @@ان واض@ @ @ @ @@حا ‪ ،‬من حيث أن الطفولة هى اليت قضت بإعف@ @ @ @ @@اء األطف@ @ @ @ @@ال من‬
‫االس@@تئذان ىف غري ه@@ذه األوق@@ات الثالثة ‪ ،‬ف@@إذا زايلتهم الطفولة زايلهم حكمها ال@@ذي ت@@رتب‬
‫عليها ـ إال أنه ميكن ملتأول أن يتأول الطفولة بأهنا البن ّ@وة ‪ ،‬ومن مث ف@إن أبن@اء الرجل أو املرأة‬
‫إذا بلغ@ @@وا ‪ ،‬ظ@ @ ّ@ل ه@ @@ذا األعف@ @@اء مالزما هلم ‪ ..‬فك@ @@ان ه@ @@ذا البي@ @@ان احلكيم ‪ ،‬وض@ @@عا لألمر ىف‬
‫موض @@عه الص @@حيح ‪ ،‬وقاطعا الطريق على كل تأويل ‪ ،‬إذ ك @@ان األمر من عظم الش @@أن حبيث‬
‫جيب كشفه وبيانه على هذه الصورة الواضحة ‪ ،‬حىت ال يقع فيه لبس أو خفاء ‪..‬‬
‫‪1322‬‬

‫وال ب@ ّد من أن يقف املرء هنا وقفة متأملة أم@@ام ه@@ذا األدب اإلس@@المى الرفيع ‪ ،‬ال@@ذي‬
‫يضفى على أتباعه س@رتا مجيال من التص@ ّ@ون ‪ ،‬والتعفف ‪ ،‬واحلي@اء ‪ ،‬هبذه احلواجز الرقيقة اليت‬
‫ال تشف عما وراءها من عورات ‪ ،‬وذلك ال يكون إال ىف جمتمع كملت إنسانيته ‪ ،‬ورقت‬
‫مشاعره ‪ ،‬فعرف لنفسه قدرها ‪ ،‬ولكرامته حقها ‪..‬‬
‫إن احلي@@اء هو لب@@اس اإلنس@@انية اليت مجّلها اهلل س@@بحانه وتع@@اىل به ‪ ..‬وهلذا ك@@ان أول ما‬
‫ظهر على آدم من ص @ @@فات اإلنس @ @@ان هى سرت عورته ‪ ،‬حني ظه @ @@رت إرادته هبذا العص @ @@يان‬
‫ال@ @ @ @ @@ذي عصى به ربّه ‪ ،‬وأكل من الش@ @ @ @ @@جرة اليت هنى عن األكل منها ‪ ..‬إنه هنا ك@ @ @ @ @@ائن ذو‬
‫إرادة ‪ ..‬إنه إنسان ‪ !..‬ولن يكون إنسانا وهو ىف هذا العرى احليواين ‪ ..‬فك@@ان أن نظر آدم‬
‫وزوجه إىل وجودمها ‪ ،‬فرأيا سوءتيهما ‪ ،‬وفرض عليهما احلياء أن يس@@رتا ما اس@@تحييا منه ‪..‬‬
‫وقد أسعفتهما احليلة ‪ ،‬فطفقا خيصفان عليهما من أوراق الشجر ‪ ،‬ما سرت العورة‪.‬‬
‫هذا هو اإلنسان ىف أصل فطرته ‪ ..‬احلياء أول شعور وجده ىف كيانه ‪ ،‬وسرت العورة‬
‫أول صنيع صنعه ليخرج به عن عامل احليوان ‪!..‬‬
‫ومن أجل ه@ @@ذا ك@ @@ان من آداب اإلس@ @@الم ‪ ،‬ه@ @@ذا احلرص الش@ @@ديد على احلف@ @@اظ على‬
‫عورات املسلمني ‪ ،‬وعلى إيقاظ مشاعر احلي@@اء فيهم ‪ ،‬مبا أوجب عليهم من أحك@@ام وآداب‬
‫‪ ،‬ىف املخالطة واملعاشرة ‪ ،‬واالستئذان وسرت العورة ‪ ،‬حىت يظل ماء احلياء س@@اريا ىف كي@@اهنم‬
‫@ف م@@اء احلي@اء فيها‬ ‫‪ ،‬تتغ@ ّذى منه مش@@اعرهم ‪ ،‬وتس@مو به إنس@@انيتهم ‪ ..‬فإنه ال إنس@@انية إذا خ ّ‬
‫‪ ..‬وىف ه@ @@ذا يق@ @@ول الرس@ @@ول الك@ @@رمي ‪« :‬احلي@ @@اء خري كل@ @@ه» ‪« ..‬واحلي@ @@اء ش@ @@عبة اإلميان» ‪..‬‬
‫«احلياء من اإلميان» ‪..‬‬
‫ف@ @ @ @ @@أين ه@ @ @ @ @@ذا األدب الرفيع من تلك احلي@ @ @ @ @@اة البهيمية اليت تعيش فيها أمم تعد ىف نظر‬
‫الرقى ‪ ،‬مستولية على زمام املدنية‬
‫اجملتمعات اإلنسانية قائمة على قمة ّ‬
‫‪1323‬‬

‫واحلض@ @@ارة؟ وال تسل عن األزي@ @@اء اخلليعة اليت تشف عما حتتها ‪ ،‬وجت ّس @ @د ما وراءها ‪ ..‬وال‬
‫تقف عند االختالط احلي@ @ @@واين بني الرج@ @ @@ال والنس@ @ @@اء ىف األندية والطرق@ @ @@ات ‪ ،‬وال@ @ @@بيوت ‪..‬‬
‫ف@ @@ذلك كله قد ص@ @@ار حي@ @@اة من حي@ @@اة تلك اجملتمع@ @@ات ‪ ،‬ووض@ @@عا مس@ @@تقرا من أوض@ @@اعها ‪..‬‬
‫ولكن ال @@ذي يثري العجب وال @@دهش حقا أن يص @@بح ه @@ذا األس @@لوب من احلي @@اة دينا ي @@دين به‬
‫الن @ @ @ @ @ @ @ @@اس ‪ ،‬له فلس @ @ @ @ @ @ @ @@فته ‪ ،‬وله آدابه وأحكامه ‪ ..‬جتد ذلك ىف أندية الع @ @ @ @ @ @ @ @@راة ‪ ،‬وىف جمتمع‬
‫الوجودية والربمجانية وغريها ‪ ..‬مما تضج به حياة الغرب ‪..‬‬
‫والعجب ‪ ،‬هو أن يكون للفوضى منطق ‪ ،‬وأن يكون للعرى أدب!‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫ـاب ُه َّن‬ ‫ـاء الاَّل تِي ال يرجـو َن نِكاحـاً َفلَْيس َعلَْي ِه َّن جنـاح أَ ْن ي َ ِ‬ ‫واع ُد ِمن النِّس ِ‬ ‫(والْ َق ِ‬
‫ضـ ْع َن ثي َ‬ ‫ُ ٌ َ‬ ‫َ‬ ‫َْ ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬
‫يم ‪)..‬‬ ‫غَْي َر ُمتََب ِّرجات ب ِزينَة َوأَ ْن يَ ْسَت ْعف ْف َن َخ ْي ٌر ل َُه َّن َواهللُ َسم ٌ‬
‫يع َعل ٌ‬
‫ض ـ َن ِم ْن‬‫ض ْ‬ ‫وه @@ذه اآلي @@ات اس @@تثناء أيضا من عم @@وم قوله تع @@اىل ‪( :‬وقُ ــل لِلْم ْؤ ِمنـ ِ‬
‫ـات َي ْغ ُ‬ ‫َ ْ ُ‬
‫ين ِزينََت ُه َّن‪ .).‬اآلية»‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫وج ُه َّن َوال ُي ْبد َ‬ ‫ْن ُف ُر َ‬ ‫أَبْصا ِره َّن َويَ ْح َفظ َ‬
‫فالقواعد من النس@@اء ‪ ،‬وهن املتق@@دمات ىف الس@ ّ@ن ‪ ،‬الاليت ال إربة هلن ىف الرج@@ال وال‬
‫هن أش @@به باألطف @@ال ال @@ذين مل يبلغ @@وا احللم ‪ ..‬ومن هنا ك @@انت نظ @@رة‬ ‫أرب للرج @@ال فيهن ـ ّ‬
‫الش@@ريعة إليهن ‪ ،‬التخفيف مما أخذ به النس@@اء عموما ‪ ،‬من أال يب@@دين زينتهن ‪ ،‬وال يكش@@فن‬
‫شيئا من تلك الزينة إال ملن استثنوا ىف اآلية من األزواج وغريهم ‪..‬‬
‫فه@ @ @ @@ؤالء القواعد من النس@ @ @ @@اء الاليت ال يرج@ @ @ @@ون نكاحا ـ ليس عليهن ح@ @ @ @@رج ىف أن‬
‫يتخففن من ثياهبن ‪ ،‬ىف مجيع األوقات ‪ ،‬مع احملارم ‪ ،‬وغري احملارم ‪..‬‬
‫‪1324‬‬

‫واملراد من ثياهبن ‪ ،‬الثياب اليت يراد منها سرت ما وراءها من زينة ‪ ..‬كغطاء ال@رأس ‪،‬‬
‫واخلمار وغريمها ‪ ..‬ال الثياب اليت تسرت العورات من املرأة ‪..‬‬
‫ـات بِ ِزينَـ ـ ـ ٍـة) قيد لإلذن برفع احلرج عنهن ىف وضع‬ ‫وىف قوله تع@ @ @ @@اىل ‪( :‬غَْـي ـ ــر متَب ِّرجـ ـ ـ ٍ‬
‫َ َُ‬
‫ثي @ @@اهبن ‪ ،‬وذلك ب @ @@أال يك @ @@ون غرض @ @@هن من وضع ه @ @@ذه الثي @ @@اب إب @ @@داء زينتهن ‪ ،‬والتع @ @@رض‬
‫بعرض @ @@ها لألعني ‪ ..‬فه @ @@ذا ين @ @@اىف الوصف ال @ @@ذي وص @ @@فن به ‪ ،‬وهو قوله تع @ @@اىل ‪( :‬الاَّل تِي ال‬
‫َي ْر ُجو َن نِكاحاً) ألن تربجهن بالزينة ‪ ،‬وعرض أنفسهن هبا ‪ ،‬ينقض هذا الوصف ‪..‬‬
‫وقوله تع @@اىل ‪َ ( :‬وأَ ْن يَ ْس ـَت ْع ِف ْف َـن َخ ْـي ٌـر ل َُه َّن ‪ )..‬أي وإن يتحفظن ‪ ،‬وي@@دعن التخفف ‪،‬‬
‫خري هلن ‪..‬‬
‫ف@@ذلك التعفف وع@@دم الت@@ربج هو من طبيعة املرأة احلرة ‪ ،‬أيا ك@@انت الس@ ّ@ن اليت بلغتها‬
‫‪ ..‬مث هو من زينة املرأة املس@@لمة ‪ ،‬ومن أدهبا ال@@ذي تعيش به ىف اجملتمع اإلس @@المى! أما ه @@ذا‬
‫التخفيف فهو رخصة ‪ ،‬من اهلل ‪ ،‬للتخفيف والرمحة ‪ ،‬تض@ @@عها املرأة ىف ي@ @@دها ‪ ،‬وتس@ @@تعملها‬
‫عند الضرورة ‪ ،‬بعقل ‪ ،‬وحكمة ‪ ،‬ودين ‪..‬‬
‫واهلل مسيع عليم ‪..‬‬
‫____________________________________‬

‫اآلية‪)61( .‬‬
‫ج َوال َعلى‬ ‫ج َوال َعلَى ال َْمـ ِر ِ‬
‫يض َحـ َـر ٌ‬ ‫ج َوال َعلَى اأْل َ ْعـ َـر ِج َحـ َـر ٌ‬
‫س َعلَى اأْل َ ْعمى َحـ َـر ٌ‬
‫(ل َْي َ‬
‫ـوت أ َُّمهــاتِ ُكم أَو بيـ ِ‬
‫ـوت إِ ْـخـوانِ ُك ْم أ َْو‬ ‫ـوت آبــائِ ُكم أَو بيـ ِ‬ ‫أَْن ُف ِسـ ُكم أَ ْن تَـأْ ُكلُوا ِمن بيــوتِ ُكم أَو بيـ ِ‬
‫ْ ْ ُُ‬ ‫ْ ْ ُُ‬ ‫ْ ُُ ْ ْ ُُ‬ ‫ْ‬
‫وت خاالتِ ُك ْم‬ ‫ِ‬
‫وت أَ ْخوال ُكم أَو بي ِ‬ ‫وت َع َّماتِ ُكم أَو بي ِ‬ ‫ِ‬
‫وت أَ ْعمام ُكم أَو بي ِ‬ ‫َخواتِ ُكم أَو بي ِ‬ ‫ِ‬
‫ْ ْ ُُ‬ ‫ْ ْ ُُ‬ ‫ْ ْ ُُ‬ ‫ُبيُوت أ َ ْ ْ ُُ‬
‫‪1325‬‬

‫ناح أَ ْن تَـأْ ُكلُوا َج ِميعـاً أ َْو أَ ْشـتاتاً فَـِإذا َد َخلْتُ ْم‬ ‫أَو ما ملَكْتُم مفاتِحهُـ أَو ِ ِ‬
‫س َعلَْي ُك ْم ُج ٌ‬‫صديق ُك ْم ل َْي َ‬‫ْ َ َْ َ ْ َ‬
‫ك يبيِّن اهلل لَ ُكم اآْل ي ــاتِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ُبيُوت ـاً فَ ِّ‬
‫بار َكـ ةً طَيِّبَ ـةً َكــذل َ َُ ُ ُ ُ‬ ‫س ـل ُموا َعلى أَْن ُفس ـ ُك ْم تَحيَّةً م ْن ع ْنــد اهلل ُم َ‬‫َ‬
‫ِ‬
‫ل ََعلَّ ُك ْم َت ْعقلُو َن) (‪)61‬‬
‫____________________________________‬
‫التفسري ‪:‬‬
‫اختلف املفس@ @ @ @ @ @@رون ىف احلرج ال@ @ @ @ @ @@ذي رفع عن األعمى ‪ ،‬واألع@ @ @ @ @ @@رج ‪ ،‬واملريض ‪..‬‬
‫وذهب أكثرهم إىل القول بأن هذا احلكم نزل ىف شأن أولئك الزمىن ‪ ،‬وأصحاب العاه@@ات‬
‫‪ ،‬الذين كانوا يقومون على شئون املسلمني الذاهبني إىل الغ@@زو ‪ ،‬حيث خيلّف@@وهنم وراءهم ‪،‬‬
‫وي@@دعون إليهم التص@@رف ىف ش@@ئوهنم ‪ ..‬ويض@@عون ىف أي@@ديهم ما ميلك@@ون ‪ ،‬من م@@ال أو مت@@اع‬
‫إىل أن يعودوا من الغزو ‪@!..‬‬
‫وه@@ذا ال@@رأى يعارضه ما ج@@اء ىف قوله تع@@اىل ىف ه@@ذه اآلية ‪( :‬أ َْو ما َملَكْتُ ْم َمفاتِ َحــهُ أ َْو‬
‫ص ـ ِد ِيق ُك ْم) فه@@ؤالء الزمىن واملرضى ‪ ،‬ي@@دخلون ىف عم@@وم ه@@ذا احلكم ‪ ،‬س@@واء ك@@انوا ممن ىف‬ ‫َ‬
‫أيديهم مفاتيح اجملاهدين ‪ ،‬أو كانوا أصدقاء هلم ‪..‬‬
‫وال@@ذي ن@@ذهب إليه ‪ ،‬ونرجو ـ إن ش@@اء اهلل أن يك@@ون ص@@حيحا ـ هو أن اآلية الكرمية‬
‫@واد بني املس @@لمني عامة ‪ ،‬وبني األهل واألق @@ارب خاصة ‪ ..‬وأنه إذا ك @@ان‬ ‫دع @@وة إىل الرب والت @ ّ‬
‫للمس@@لم أن يتح@@رج من أن يس@@تطعم أو يطعم من أحد من الن@@اس ‪ ،‬فإنه ليس له أن يتح@@رج‬
‫من أن يس@ @@تطعم أو يطعم من أحد من الن@ @@اس ‪ ،‬فإنه ليس له أن يتح@ @@رج أو خيزى ‪ ،‬إذا هو‬
‫أص@@اب طعامه عند أحد من أقاربه ه@@ؤالء ‪ ،‬ال@@ذين ذك@@رهم اهلل س@@بحانه ىف تلك اآلية ‪ ،‬من‬
‫اآلب@ @@اء واألمه@ @@ات ‪ ،‬واإلخ@ @@وة ‪ ،‬واألخ@ @@وات ‪ ،‬واألعم@ @@ام والعم@ @@ات واألخ@ @@وال واخلاالت ـ‬
‫فه@@ؤالء مجيعا أبن@@اء أس@@رة واح@@دة ‪ ،‬قد قض@@وا ف@@رتة من حي@@اهتم معا ‪ ،‬يظلهم س@@قف واحد ‪،‬‬
‫وجتمعهم معيشة واحدة ‪ ..‬فإذا التمس أحدهم طعاما ‪ ،‬ومل جيده ىف بيته ‪ ،‬كان له‬
‫‪1326‬‬

‫أى من األق@ @ @ @@ارب ‪ ،‬وأن ين@ @ @ @@ال منه ش@ @ @ @@بعه ‪ ،‬ب@ @ @ @@إذن أو بغري إذن ‪ ..‬هك@ @ @@ذا‬ ‫أن يلتمسه عند ّ‬
‫التكافل بني األقارب وذوى األرحام ‪..‬‬
‫ومناسبة ه@ذه اآلية ملا قبلها ‪ ،‬هى أن اآلي@@ات الس@ابقة ‪ ،‬ك@انت دس@تورا حيكم العالقة‬
‫بني األقارب ‪ ،‬وذوى األرحام ‪ ،‬من رج@@ال ونس@@اء ‪ ،‬ىف اختالط بعض@@هم ببعض ‪ ،‬كما أهنا‬
‫حتكم العالقة بني املس@لمني عامة ـ من رج@ال ونس@@اء ـ ىف دخ@@ول ال@بيوت ‪ ،‬بعد االس@تئذان ‪،‬‬
‫واإلذن من أصحاهبا ‪..‬‬
‫وملا ك @ @@ان ه @ @@ذا االختالط بني األق @ @@ارب ‪ ،‬وه @ @@ذا ل @ @@تزاور بني املس @ @@لمني عامة ‪ ،‬يضع‬
‫املخ@@الطني والزائ@@رين ىف أح@@وال يش@@هدون فيها طعاما بني ي@@دى أهل ال@@بيت ال@@ذي دخل@@وا إليه‬
‫مستأذنني ـ فقد كان من متام احلكمة أن ت@بني الش@ريعة ما يقضى به املوقف إزاء ه@ذا الطع@ام‬
‫املم @@دود ‪ ،‬وهل من ح @@رج على من حيض @@ره أن يتن @@اول منه ‪ ،‬إذا دعى إلي @@ه؟ إن ال @@ذي دخل‬
‫ال @@بيت هنا مل يكن يقصد الطع @@ام ال @@ذي حض @@رة ‪ ..‬ورمّب ا يقع ىف ش @@عور أهل املنزل أنه ج @@اء‬
‫يطلب الطعام ‪ ،‬ويرصد وقته ‪ ،‬وقد يكون الزائر جائعا فعال ‪ ،‬ونفسه تشتهى هذا الطع@@ام ‪،‬‬
‫ولكنه يتحرج أن ينال منه ‪..‬‬
‫إن هن @@اك مش @@اعر كث @@رية خمتلطة تش @@تمل على أهل ال @@دار وعلى زائ @@رهم ‪ ..‬فك @@ان ما‬
‫ج@@اءت به اآلية الكرمية هنا ‪ ،‬ما يص@@حح ه@@ذه املش@@اعر ‪ ،‬ويقيمها على م@@يزان حكيم ع@@ادل‬
‫كما سنرى ‪..‬‬
‫ج ‪َ ،‬وال َعلَى ال َْمـ ِر ِ‬
‫يض‬ ‫ج َوال َعلَى اأْل َ ْعـ َـر ِج َحـ َـر ٌ‬ ‫فقوله تع@@اىل ‪( :‬ل َْي َ‬
‫س َعلَى اأْل َ ْعمى َحـ َـر ٌ‬
‫َح َر ٌج ‪َ ،‬وال َعلى أَْن ُف ِس ُك ْم ‪ )..‬ـ هو رفع للح@@رج عن ه@@ذه األص@@ناف اليت ذكرهتا اآلية ‪ ،‬من‬
‫أن يستطعموا ‪ ،‬ويطعموا من تلك البيوت اليت يطرقوهنا وال حرج عليهم ىف هذا ‪..‬‬
‫أما األعمى ‪ ،‬واألعرج ‪ ،‬واملريض ‪ ..‬فإهنم حني يقعون حتت داعية احلاجة‬
‫‪1327‬‬

‫إىل الطع@@ام ‪ ،‬ويعج@@زهم ح@@اهلم عن أن ين@@الوا من كسب أي@@ديهم ‪ ،‬ف@@إهنم ىف ه@@ذه احلال أبن@@اء‬
‫األس@ @ @ @@رة اإلس@ @ @ @@المية كلها ‪ ،‬وإن هلم على اجملتمع ح@ @ @ @ ّ@ق اإلطع@ @ @ @@ام ‪ ،‬كما لالبن على أبيه أن‬
‫يدخل بيته ‪ ،‬وينال من الطعام ما يسد جوعته ‪..‬‬
‫ولكى يتقرر هذا املعىن ىف نفوس املس@لمني ‪ ،‬ولكى يص@بح ه@ذا األمر ح ّقا ‪ ،‬لألعمى‬
‫واألع @ @ @@رج واملريض ‪ ،‬على اجملتمع اإلس @ @ @@المى ‪ ،‬يط @ @ @@الب كل منهم به ‪ ،‬ويس @ @ @@تأدبه من أي‬
‫مس @@لم ق @@ادر على الوف @@اء به ‪ ،‬دون أن يك @@ون ىف ذلك ج @@رح لكرامته ‪ ،‬أو منّة وفضل عليه‬
‫من أحد ـ نق @@ول لكى يتق @@رر ه @@ذا ‪ ،‬فقد ق @ ّدمهم الق @@رآن على األهل واألق @@ارب ‪ ،‬إذا ك @@انوا‬
‫على الص @ @ @@حة والس @ @ @@المة ‪ ،‬وك @ @ @@انوا أق @ @ @@در على أن جيدوا حيلة ل @ @ @@دفع غائلة اجلوع عنهم ‪،‬‬
‫خبالف هؤالء العجزة الذين ال يستطيعون حيلة وال يهتدون سبيال ‪..‬‬
‫فج@ @@اءت اآلية برفع احلرج عن ه@ @@ؤالء العج@ @@زة أوال ‪ ،‬مث دخل معهم ه @ @@ؤالء ال@ @@ذين‬
‫جاءت هبم اآلية ‪ ،‬من األقارب ‪ ،‬وذوى األرحام ‪ ..‬ثانيا‪.‬‬
‫وه @ @@ذا ال @ @@ذي ذهبنا إليه ‪ ،‬هو ال@ @ @@ذي يتفق مع روح تلك الش @ @@ريعة الس @ @@محاء ‪ ،‬اليت‬
‫قامت على التآخى بني الناس ‪ ،‬والتكافل بني املسلمني مجيعا ‪..‬‬
‫ض@يف واجبة على كل مس@@لم ‪ ،‬ف@@إن أص@@بح‬ ‫وىف ه@@ذا يق@@ول الرس@@ول الك@@رمي ‪« :‬ليلة ال ّ‬
‫بفنائه حمروما (‪ )1‬ك@ @@ان دينا عليه (‪ ، )2‬ف@ @@إن ش@ @@اء اقتض@ @@اه ‪ ،‬وإن ش@ @@اء ترك@ @@ه» ‪ ..‬ويق@ @@ول ـ‬
‫ص @@لوات اهلل وس @@المه عليه ‪« :‬أمّي ا مس @@لم ض @@اف قوما فأص @@بح الض @@يف حمروما ‪ ،‬ف @@إن ح ّقا‬
‫على كل مسلم نصره ‪ ،‬حىت يأخذ بقرى ليلته ‪ ،‬من زرعه وماله»‪.‬‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬اسم أصبح ضمري يعود إىل الضيف ‪ ،‬أي إذا أصبح الفقري بفناء الغىن حمروما ‪..‬‬
‫(‪ )2‬أي كان حق هذا احملروم دينا على الغىن‪.‬‬
‫‪1328‬‬

‫وروى البخ@@اري ومس@@لم عن عقبة بن ع@@امر ق@@ال ‪ :‬قلنا يا رس@@ول اهلل تبعثنا (‪ )1‬فن@@نزل‬
‫بق@@وم فال يقروننا ‪ ..‬فما ت@@رى ىف ذل@@ك؟ فق@@ال ـ ص@@لوات اهلل وس@@المه عليه ‪« : ..‬إذا ن@@زلتم‬
‫بق @ @@وم ف @ @@أمروا لكم مبا ينبغى للض @ @@يف ف @ @@اقبلوا منهم ‪ ،‬وإن مل يفعل @ @@وا ‪ ،‬فخ @ @@ذوا منهم حق‬
‫الضيف الذي ينبغى هلم» ‪..‬‬
‫***‬
‫وال@ @@ذي ينظر ىف اآلية الكرمية جيد أن مس@ @@اقها يشري إش@ @@ارة واض@ @@حة إىل أن املقص @@ود‬
‫برفع احلرج فيها ‪ ،‬إمنا هو عن أولئك العج@ @ @ @@زة ‪ ..‬من األعمى ‪ ،‬واألع@ @ @ @@رج واملريض ‪ ،‬وأن‬
‫من دخل بعدهم ىف هذا احلكم من األهل واألقارب ‪ ،‬إمنا جاء لي@دعم ه@ذه القض@ية ‪ ،‬قض@ية‬
‫@دل على أهنم أوىل ىف ه @@ذا املق @@ام من األهل واألق @@ارب ‪ ،‬وأنه إمنا رفع احلرج‬ ‫العج @@زة ‪ ،‬ولي @ ّ‬
‫عن األقارب ‪ ،‬تبعا هلؤالء ‪..‬‬
‫ففى قوله تع @ @@اىل ‪َ ( :‬وال َعلى أَْن ُف ِس ـ ـ ُك ْم) ما يش @ @@عر ب @ @@أن ش @ @@يئا ما من احلرج مع ه@ @@ذا‬
‫اإلذن ‪ ،‬وأن اإلس @@الم قد جتاوز عنه ‪ ،‬ختفيفا ورمحة ‪ ،‬إذ ك @@ان املق @@ام مق @@ام رمحة عامة تن @@ال‬
‫البعيد ‪ ،‬وال حيرم منها القريب ‪..‬‬
‫وهلذا ج @@اء التص @@ريح نصا برفع احلرج ‪ ،‬عن األعمى ‪ ،‬وعن األع @@رج ‪ ،‬وعن املريض‬
‫‪ ..‬هكذا‪.‬‬
‫«ليس على األعمى ‪ ..‬حرج ‪..‬‬
‫«وال على األعرج ‪ ..‬حرج‪.‬‬
‫«وال على املريض ‪ ..‬حرج‪.‬‬
‫نص على رفع احلرج عنه ‪ ..‬زي@ @ @ @ @ @ @@ادة ىف التقرير ‪ ،‬والتوكيد ‪..‬‬ ‫وكل واحد منهم قد ّ‬
‫وإاّل كان من مقتضى النظم أن جيىء رفع احلرج ‪ ..‬مرة واحدة‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬أي ىف سبيل اهلل ‪..‬‬
‫‪1329‬‬

‫ج ‪َ ،‬وال َعلَى اأْل َ ْعـ َـر ِج َحـ َـر ٌ‬


‫ج ‪َ ،‬وال‬ ‫عن مجيع املتع @@اطفني ‪ ..‬هك @@ذا ‪( :‬ل َْي َ‬
‫س َعلَى اأْل َ ْعمى َحـ َـر ٌ‬
‫يض َح َر ٌج ‪!)..‬‬ ‫َعلَى ال َْم ِر ِ‬
‫ص@ @ @ا مص @ @ ّ@رحا به ‪ ،‬بل‬
‫مث إنه حني ج @ @@اء ذكر األق @ @@ارب ‪ ،‬مل جيىء رفع احلرج عنهم ن ّ‬
‫ج @@اء باحلمل على احلكم ال @@ذي ك @@ان للمعط @@وف عليهم ‪ ،‬وهم ه @@ؤالء العج @@زة! ‪ ..‬ولك @@أن‬
‫املعىن هو‪« :‬حىت وال على أنفسكم حرج» ‪..‬‬
‫ص ـ ِد ِيق ُك ْم) ـ إش@@ارة إىل ص@@نفني آخ@@رين‬ ‫ِ‬
‫ـ وىف قوله تع @@اىل ‪( :‬أ َْو ما َملَكْتُ ْم َمفات َحــهُ أ َْو َ‬
‫من الناس ‪ ،‬ليس عليهم حرج ىف أن يأكلوا مما ليس هلم ‪ ..‬والص@@نف األول ‪ ،‬هم ال@@ذين ىف‬
‫أي@@ديهم مف@@اتيح غ@@ريهم ‪ ،‬ك@@الوكالء ‪ ،‬واألوص@@ياء ‪ ،‬وغ@@ريهم ‪ ،‬ممن يتولّ@@ون ش@@ئون غ@@ريهم ‪،‬‬
‫وحفظ أم@ @@واهلم وأمتعتهم ‪ ،‬فه@ @@ؤالء هلم أن ي @@أكلوا مما حتت أي @@ديهم ‪ ،‬ب @@املعروف ‪ ،‬من غري‬
‫إسراف ‪ ،‬وذلك إذا كانوا ىف حاجة إىل ه@ذا ال@ذي يأكلونه ‪ ..‬كما يق@@ول س@بحانه ‪َ ( :‬و َم ْن‬
‫وف) (‪ : 6‬النس @@اء) ‪ ..‬أما الص @@نف‬ ‫ف ومن ك ــا َن فَِقــيراً َفلْيأْ ُكــل بِ ــالْمعر ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َ ْ َ ُْ‬ ‫ك ــا َن غَنيًّا َفلْيَ ْسـ ـَت ْعف ْ َ َ ْ‬
‫اآلخر ‪ ،‬فهم األص@@دقاء ‪ ،‬إذ أن هلم على أص@@دقائهم ه@@ذا احلق ال@@ذي جيعل هلم مما ىف أي@@دى‬
‫أص @@دقائهم ش @@يئا ‪ ،‬أقلّه هو لقمة الطع @@ام عند احلاجة ‪ ..‬ألن الص @@داقة ‪ ،‬ال تك @@ون ص @@دقا إال‬
‫املودة واإلخاء ‪..‬‬ ‫إذا وصلت بني الصديقني حببل ّ‬
‫هذا ‪ ،‬ويالحظ ىف اآلية الكرمية أمران ‪:‬‬
‫أوهلما ‪ :‬أهنا مل ت@@ذكر األبن@@اء ‪ ،‬بالنس@@بة لآلب@@اء ‪ ،‬على حني ذك@@رت اآلب@@اء ‪ ،‬وفتحت‬
‫يتحرج@@ون أب@@دا من أن يطعم@@وا مما جيدون ىف بي@@وت‬ ‫بي@@وهتم لألبن@@اء ‪ ..‬وذلك ألن األبن@@اء ال ّ‬
‫آب@@ائهم ‪ ..‬وكيف وقد أنبتتهم ه@@ذه ال@بيوت ‪ ،‬وغ@@ذهتم منذ ال@@والدة إىل أن ص@@اروا رج@اال ‪..‬‬
‫فهل تنك@ @ @@رهم ه@ @ @@ذه ال @ @@بيوت بعد ه@ @ @@ذا؟ وهل جيد أحد منهم وحشة ىف دخوهلا ‪ ،‬وتن @ @@اول‬
‫طعامه منها؟ ذلك‬
‫‪1330‬‬

‫ما ال يك@@ون! أما اآلب@@اء ف@@إهنم إذ تلجئهم احلاجة إىل بي@@وت أبن@@ائهم ‪ ،‬ف@@إهنم يغش@@ون بيوتا مل‬
‫يكن هلم هبا عهد ‪ ..‬إهنا بي @@وت مس @@تحدثة ‪ ،‬أح @@دثها أبن @@اؤهم ‪ ،‬بعد أن ك @@ربوا ‪ ،‬واس @@تقلوا‬
‫حبياهتم ‪..‬‬
‫ومن هنا تك@ @@ون الوحشة ‪ ،‬ويك@ @@ون احلرج ‪ ..‬وقد ج@ @@اء الق @ @@رآن الك@ @@رمي برفع ه @ @@ذا‬
‫احلرج ‪..‬‬
‫ومن جهة أخرى ‪ ،‬فإن اآلباء ‪ ،‬ال ميكن أن يضيقوا أبدا بأبنائهم إذا دخلوا عليهم ‪،‬‬
‫وطعم @ @@وا من طع @ @@امهم ‪ ،‬ىف أي وقت ‪ ،‬وعلى أي ح @ @@ال ‪ ،‬بل إن ذلك هو مبعث الس @ @@عادة‬
‫العاق الذي ال ي@@رعى حق@@وق‬ ‫والرضا إىل قلوب اآلباء ‪ ،‬خبالف كثري من األبناء ‪ ،‬فإن فيهم ّ‬
‫األب @@وة ‪ ،‬وال @@ذي قد يض @@يق ب @@دخول أبيه عليه ‪ ،‬واألكل مما عن @@ده ‪ ..‬وهلذا ج @@اء األمر بفتح‬
‫هذه األبواب ‪ ..‬أبواب األبناء ‪ ..‬لآلباء! ‪..‬‬
‫وثانيهما ‪ :‬أن ه @@ذا ال @@رتتيب ال @@ذي ج @@اءت عليه اآلية ىف ذكر ه @@ذه األص @@ناف ‪ ،‬هو‬
‫ترتيب تنازىل ىف رفع احلرج ‪ ،‬حسب درجة القرابة ‪ ..‬كما هو واضح ىف اآلية ‪..‬‬
‫اآلب@@اء أوال ‪ ،‬فاألمه@@ات ‪ ،‬ف@@اإلخوة ‪ ،‬ف@@األخوات ‪ ،‬فاألعم@@ام ‪ ،‬فالعم@@ات ‪ ،‬ف@@األخوال‬
‫‪ ،‬فاخلاالت ‪..‬‬
‫بقي بعد ه @@ذا ‪ ،‬أن نس @@أل عن تأويل قوله تع @@اىل ‪َ ( :‬وال َعلى أَْن ُف ِس ـ ُك ْم أَ ْن تَ ـأْ ُكلُوا ِم ْن‬
‫ُبيُوتِ ُك ْم) فهل هناك حرج ىف أن يأكل اإلنسان من بيته ‪ ،‬حىت ي@@دخل ه@@ذا ىف عم@@وم احلكم‬
‫القاضي برفع احلرج؟ إن أكل اإلنس@@ان من بيته هو األصل األص@@يل ىف ه@@ذا الب@@اب ‪ ،‬فكيف‬
‫جيىء حكم برفع حرج عن أمر ال حرج فيه أصال؟‪.‬‬
‫واجلواب على هذا ـ واهلل أعلم ـ هو أن بيت اإلنسان ‪ ،‬وما فيه من‬
‫‪1331‬‬

‫مال ‪ ،‬ومتاع ‪ ،‬وطعام ‪ ،‬وإن كان ملكا خالصا له ‪ ،‬يتصرف فيه مبا يشاء ‪ ،‬وكيف يشاء ـ‬
‫إال أن ذلك ليس على إطالقه ىف مفهوم الشريعة اإلسالمية ‪..‬‬
‫فالشريعة مع تسليمها حبق اإلنسان بالتصرف فيما ميلك ‪ ،‬وبالتسلط على ما ىف ي@@ده‬
‫من م@@ال ومت@@اع ـ ال تع@@زل املس@@لم عن اجملتمع ال@@ذي يعيش فيه ‪ ،‬وال تع@@زل اجملتمع عنه فهو ـ‬
‫أيّا ك@ @ @@ان ـ خلية ىف ه@ @ @@ذا اجملتمع ‪ ،‬وعضو من أعض@ @ @@اء ه@ @ @@ذا اجلسد الكبري ‪ ..‬وأن ما ميلكه‬
‫اإلنس @@ان ليس ملكا خالصا له ‪ ،‬وإمنا تتعلق هبذا امللك حق @@وق هلل ‪ ،‬وللوال @@دين واألق @@ربني ‪،‬‬
‫والفقراء واملساكني ‪ ،‬وابن السبيل ‪ ،‬واجملاهدين ىف سبيل اهلل ‪..‬‬
‫ه@@ذا ما ينبغى أن يقيم عليه املس@@لم ‪ ،‬ش@@عوره ىف كل ما ميلك ‪ ..‬إن له ىف ه@@ذا امللك‬
‫شركاء ‪ ،‬منظورين ‪ ،‬وغري منظورين ‪..‬‬
‫وإذن فال يغلق بابه على ما فيه من طع@@ام ‪ ،‬وال ميسك يديه عما معه من م@@ال ‪ ،‬وإنه‬
‫لن يك @ @@ون على ش @ @@ريعة اإلس @ @@الم إذا خلت نفسه من ه @ @@ذا الش @ @@عور ‪ ،‬أو ض@ @ ّ@ن مبا تعلق من‬
‫حقوق فيما بني يديه من فضل اهلل ‪..‬‬
‫وعلى ه @@ذا جند ما ج @@اءت به اآلية الكرمية من رفع احلرج عن أص @@حاب ال @@بيوت أن‬
‫ي@ @ @@أكلوا من بي@ @ @@وهتم ‪ ،‬هو إلف@ @ @@ات حكيم ألص@ @ @@حاب ال@ @ @@بيوت إىل أهنم ليس@ @ @@وا هم وح@ @ @@دهم‬
‫أص@ @@حاهبا ‪ ،‬واملس@ @@تأثرين مبا فيها ‪ ،‬وأن هن@ @@اك أص@ @@حاب حق@ @@وق يش@ @@اركوهنم فيما ىف ه@ @@ذه‬
‫البيوت ‪ ،‬فإذا جاء أحد أصحاب احلقوق يطرق أبواهبم ‪ ،‬فليفتحوا له ‪ ،‬ولي@@ؤدوا إليه حق@@ه!‬
‫وأال إن الط@ @ @ @@ارقني لكث@ @ @ @@ريون ‪ ..‬ي@ @ @ @@أتون إليهم من ق@ @ @ @@ريب وبعيد ‪ ..‬فال يض@ @ @ @@يقوا هبم ‪ ،‬وال‬
‫يض@@جروا ‪ ..‬إهنا حق@@وق جيب أن يؤدوها هلم ‪ ،‬وأن ي@@ربئوا ذمتهم منها ‪ ،‬إن ك@@انوا مؤم@@نني‬
‫باهلل ‪ ،‬مطيعني ملا ي@ @ @ @ @ @ @@أمر به اهلل ‪ ..‬وهنا يرفع احلرج عما ميلك@ @ @ @ @ @ @@ون ‪ ،‬ىف أن ينتفع@ @ @ @ @ @ @@وا به ‪،‬‬
‫ويطلق@@وا أي@@ديهم للتص@@رف فيه ‪ ،‬بعد أن ّأدوا ما عليهم من حق@@وق ‪ ..‬وإال ف@@إن احلرج ق@@ائم‬
‫‪ ..‬حىت تؤدى هذه احلقوق ‪..‬‬
‫‪1332‬‬

‫هك@ذا امللكية ىف ش@ريعة اإلس@الم ‪ ..‬ملكية تتعلق هبا حق@وق ‪ ،‬وتق@وم عليها التزام@ات‬
‫‪ ،‬ولن تص@@بح ملكا خالصا ملالكيها ‪ ،‬حىت ي@@ؤدوا ما عليها من حق@@وق ‪ ،‬ويف@@وا مبا عليها من‬
‫التزامات ‪..‬‬
‫ناح أَ ْن تَأْ ُكلُوا َج ِميعاً أ َْو أَ ْشتاتاً) أي ليس عليكم أيها‬ ‫ـ وقوله تعاىل ‪( :‬ل َْي َ‬
‫س َعلَْي ُك ْم ُج ٌ‬
‫املس@ @ @ @ @ @@لمون ح@ @ @ @ @ @@رج ىف أن يأكل الواحد منكم وح@ @ @ @ @ @@ده أو ىف مجاعة ‪ ..‬حسب الظ@ @ @ @ @ @@روف‬
‫واألح @@وال ‪ ..‬وذلك أنه ك @@ان من ع @@ادة الع @@رب أاّل يأكل اإلنس @@ان إال إذا التمس من يأكل‬
‫معه ‪ ،‬ويشاركه فيما يأكل ‪ ..‬وىف هذا يقول شاعرهم ‪:‬‬
‫إذا ما ص@ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @@نعت ال@ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ ّ@زاد فالتمسى له ‪  ‬أكيال ‪ ..‬ف @ @ @ @ @ @ @ @ @ @@إىن لست آكله وح @ @ @ @ @ @ @ @ @ @@دي‬
‫‪ ‬‬ ‫‪ ‬‬

‫فلما ج@@اء اإلس@@الم ‪ ،‬ودعا إىل التكافل بني املس@@لمني ‪ ،‬أمسك املس@@لمون هبذه الع@@ادة‬
‫‪ ،‬وجعلوها أم @@را ملزما ‪ ،‬وخاصة بعد أن مسعوا رس @@ول اهلل صلى‌هللا‌عليه‌وسلم يق @@ول هلم‬
‫‪« :‬أال أخربكم بشراركم؟ قالوا بلى يا رسول اهلل؟ قال ‪« :‬من أكل وحده ‪ ،‬ومنع رف@ده ‪،‬‬
‫وضرب عبده»‪.‬‬
‫وال شك ىف أن مقصد الرس @@ول الك @@رمي مبن أكل وح @@ده ‪ ،‬هو ذلك الش @@ره الش @@حيح‬
‫ال@@ذي ي@@ؤثر نفسه مبا بني يديه من طع@@ام ‪ ،‬دون أن يلتفت إىل من حوله من زوج ‪ ،‬وولد ‪،‬‬
‫وخ @@ادم ‪ ..‬فإنه ق @ ّ@ل أن يأكل اإلنس@ @@ان وح@ @@ده إال إذا ك@ @@ان على تلك الص@ @@فة ‪ ..‬أما ىف غري‬
‫تلك احلال ‪ ،‬فإنه ال بأس من أن يأكل اإلنسان وحده ‪ ،‬وهلذا جاء القرآن برفع احلرج ‪..‬‬
‫ِ ِ ِ ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫قوله تعاىل ‪( :‬فَِإذا َد َخلْتُ ْم ُبيُوتاً فَ ِّ‬
‫سل ُموا َعلى أَْن ُفس ُك ْـم تَحيَّةً م ْن ع ْند اهلل ُم َ‬
‫بار َكةً طَيِّبَ ـةً‬ ‫َ‬
‫يات ل ََعلَّ ُك ْم َت ْع ِقلُو َن)‪.‬‬
‫ك يبيِّن اهلل لَ ُكم اآْل ِ‬‫ِ‬
‫َكذل َ َُ ُ ُ ُ‬
‫املراد ب @@البيوت هنا ‪ ،‬هى تلك ال @@بيوت اليت أش @@ارت إليها اآلية ‪ ،‬واليت أذن ب @@دخوهلا‬
‫لألصناف الذين ذكروا فيها ‪..‬‬
‫‪1333‬‬

‫فهذه البيوت ‪ ،‬هلا حرمتها ‪ ،‬وألهلها الذين هم فيها عالقة مودة وقرىب مبن يدخلون‬
‫عليهم فيها ‪ ..‬ومن أجل ه@ @ @@ذا ك@ @ @@ان التس@ @ @@ليم على أهلها ‪ ،‬وصال هلذه املودة ‪ ،‬واس@ @ @@تدعاء‬
‫هلذه القرابة ‪ ،‬اليت جتمع املسلمني مجيعا ‪..‬‬
‫ـ وىف قوله تع@@اىل ‪( :‬فَ َسلِّ ُموا َعلى أَْن ُف ِس ُك ْـم) إش@@ارة إىل أن ال@@ذي ي@@دخل ه@@ذه ال@@بيوت‬
‫‪ ،‬هو بعض ممن فيه@@ا‪ .‬وأنه وقد دخلها ـ س@@واء أك@@ان قريبا ‪ ،‬أو ص@@ديقا ‪ ،‬أو غري ق@@ريب أو‬
‫صديق ـ فقد ص@ار من أهلها ‪ ،‬وص@ار أهلها منه ‪ ..‬وهك@ذا يص@بح بيت كل مس@لم بيتا لكل‬
‫مسلم!‬
‫بار َكـ ةً طَيِّبَ ـةً) هو مفع@@ول مطلق لقوله تع@@اىل ‪:‬‬ ‫ِ ِ ِ ِ ِ‬
‫وىف قوله تع @@اىل ‪( :‬تَحيَّةً م ْن ع ْنــد اهلل ُم َ‬
‫(فَ َسـلِّ ُموا) ال@@ذي ض@ ّ@من معىن ‪( :‬فَ َحيُّوا) أي فحي@@وا أنفس@@كم حتية من عند اهلل مباركة طيبة‬
‫‪ ،‬هى حتية اإلس@ @ @ @@الم ‪ ..‬أي «الس@ @ @ @@الم عليكم» ‪ ..‬ففى ه@ @ @ @@ذه التحية الربكة ‪ ،‬والطّيب ‪ ،‬ملا‬
‫تشيع ىف النفوس من أمان وسالم ‪ ،‬ومودة وإخاء ‪..‬‬
‫اهلل) منص@@وبا بفعل حمذوف ‪ ،‬تق@@ديره ‪ ،‬فس@@لموا‬ ‫هذا وجيوز أن يكون (تَ ِحيَّةً ِمن ِع ْن ِد ِ‬
‫ْ‬
‫على أنفسكم ‪ ،‬وتقبلوا حتية من عند اهلل مباركة طيبة ‪..‬‬
‫ـات ل ََعلَّ ُك ْم َت ْع ِقلُــو َن ‪ )..‬وىف جعل فاص@@لة‬
‫ك يبيِّن اهلل لَ ُكم اآْل ي ِ‬ ‫ِ‬
‫وىف قوله تعاىل ‪َ ( :‬كذل َ َُ ُ ُ ُ‬
‫اآلية (ل ََعلَّ ُك ْم َت ْع ِقلُـ ــو َن) إش @ @@ارة إىل أن ىف ه@ @@ذه اآلية مع @ @@اىن دقيقة حتت @ @@اج إىل روية وتعقل ‪،‬‬
‫إلدراك مراميها البعي @ @ @ @@دة ‪ ،‬وأس @ @ @ @@رارها العظيمة ‪ ..‬وحسب املرء أن ي @ @ @ @@دبر عقله ‪ ،‬إىل تلك‬
‫الرعاية اليت أوجبها اإلس @@الم على املس @@لمني ىف حق أص @@حاب العاه @@ات ‪ ،‬واملرضى ‪ ،‬ال @@ذين‬
‫هم األعض@ @ @ @@اء الض@ @ @ @@عيفة ىف اجملتمع ‪ ،‬تلك األعض@ @ @ @@اء اليت ينبغى أن تك@ @ @ @@ون موضع رعاية ‪،‬‬
‫وعناية ‪ ،‬كما يرعى اإلنسان بعض أعضائه ‪ ،‬إذا أصاهبا مكروه ‪!..‬‬
‫‪1334‬‬

‫____________________________________‬

‫اآليات ‪ 62( :‬ـ ‪)64‬‬


‫ِ‬ ‫ِِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫َّ ِ‬ ‫ِ‬
‫َم يَـ ْذ َهبُوا‬ ‫آمنُــوا باهلل َو َر ُسـوله َوإِذا كــانُوا َم َعــهُ َعلى أ َْمـ ٍر جــام ٍع ل ْ‬ ‫ين َ‬ ‫(إِنَّ َما ال ُْم ْؤمنُــو َن الذ َ‬
‫وك‬ ‫اهلل َو َر ُس ـ ـولِ ِه فَ ـ ـِإذَا ا ْس ـ ـتَأْذَنُ َ‬
‫ـك الَّ ِذين ي ْؤ ِمنُـ ــو َن بِ ِ‬
‫َُ‬ ‫ك أُولئِـ ـ َ‬‫ين يَ ْس ـ ـتَأ ِْذنُونَ َ‬ ‫َّ ِ‬ ‫ِ‬
‫َحتَّى يَ ْس ـ ـتَأْذنُوهُ إِ َّن الذ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ض َشأْنِ ِهم فَـأْذَ ْن لِمن ِشـ ْئ َ ِ‬ ‫لَِب ْع ِ‬
‫يم (‪ )62‬ال تَ ْج َعلُـوا‬ ‫ـور َرح ٌ‬ ‫ت م ْن ُه ْم َوا ْسـَت ْغف ْر ل َُه ُم اهللَ إِ َّن اهللَ غَ ُف ٌ‬ ‫َْ‬ ‫ْ‬
‫سـ ـ ـلَّلُو َن ِم ْن ُك ْم لِ ـ ــواذاً‬ ‫َّ ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ُدع ـ ــاء َّ ِ‬
‫ين َيتَ َ‬ ‫الر ُسـ ـ ـول َب ْينَ ُك ْم َـكـ ـ ُدعاء َب ْعضـ ـ ـ ُك ْم َب ْعضـ ـ ـاً قَـ ـ ـ ْد َي ْعلَ ُم اهللُ الذ َ‬ ‫َ‬
‫يم (‪ )63‬أَال إِ َّن لِلَّ ِه‬ ‫ِ‬
‫ـذاب أَل ٌ‬ ‫صـ َيب ُه ْم َعـ ٌ‬ ‫صـيب ُهم فِ ْتنَـةٌ أَو ي ِ‬
‫ْ ُ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ين يُخـال ُفو َن َع ْن أ َْمـ ِره أَ ْن تُ َ ْ‬
‫ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫َفلْيَ ْح َذ ِر الذ َ‬
‫ض قَـ ـ ْد َي ْعلَ ُم ما أَْنتُ ْم َعلَْي ـ ِـه َو َي ـ ْـو َم ُي ْر َجعُ ــو َن إِل َْي ـ ِـه َف ُينَبُِّئ ُه ْم بِما َع ِملُ ــوا‬ ‫سـ ـ ِ‬
‫ماوات َواأْل َْر ِ‬ ‫ما فِي ال َّ‬
‫يم) (‪)64‬‬ ‫ٍ ِ‬ ‫ِ‬
‫َواهللُ ب ُك ِّل َش ْيء َعل ٌ‬
‫____________________________________‬
‫التفسري ‪:‬‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫ِ‬ ‫ِِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫َّ ِ‬ ‫ِ‬
‫آمنُــوا باهلل َو َر ُسـوله َوإِذا كــانُوا َم َعــهُ َعلى أ َْمـ ٍر جــام ٍع ل ْ‬
‫َم يَـ ْذ َهبُوا‬ ‫(إِنَّ َما ال ُْم ْؤمنُــو َن الذ َ‬
‫ين َ‬
‫اهلل َو َر ُس ـ ـولِ ِه فَ ـ ـِإذَا ا ْس ـ ـتَأْذَنُ َ‬
‫وك‬ ‫ـك الَّ ِذين ي ْؤ ِمنُـ ــو َن بِ ِ‬
‫َُ‬ ‫ين يَ ْس ـ ـتَأ ِْذنُونَ َ‬
‫ك أُولئِـ ـ َ‬ ‫َّ ِ‬ ‫ِ‬
‫َحتَّى يَ ْس ـ ـتَأْذنُوهُ إِ َّن الذ َ‬
‫ت ِم ْنهم واستغْ ِفر لَهم اهلل إِ َّن اهلل غَ ُف ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫لِب ْع ِ ِ‬
‫يم ‪)..‬‬ ‫ور َرح ٌ‬ ‫َ ٌ‬ ‫ض َشأْن ِه ْم فَأْذَ ْن ل َم ْن ش ْئ َ ُ ْ َ ْ َ ْ ُ ُ َ‬ ‫َ‬
‫هذه اآلية حتكم الص@لة اليت بني املؤم@نني وبني النيب ص@@لوات اهلل وس@@المه عليه بعد أن‬
‫جاءت اآلية السابقة لتحكم الصلة بني أفراد اجملتمع اإلسالمى ‪..‬‬
‫‪1335‬‬

‫وأهنا صلة وثيقة العرى ‪ ،‬مالكها السمع والطاعة لرسول اهلل من كل مؤمن ومؤمنة ‪..‬‬
‫وحقيقة إميان املؤمن ‪ ،‬اإلميان باهلل ورس@@وله ‪ ،‬مث الس@@مع والطاعة وال@@والء للرس@@ول ‪..‬‬
‫واحملك ال @@ذي يظهر عليه ما عند املؤمن من طاعة ‪ ،‬هو س @@اعة الض @@يق والعس @@رة ‪ ،‬وامتح @@ان‬ ‫ّ‬
‫املسلم ‪ ،‬ىف نفسه وماله ‪..‬‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫جام ٍع ل َْم يَ ْذ َهبُوا َحتَّى يَ ْستَأ ِْذنُوهُ)‪.‬‬ ‫ـ (وإِذا كانُوا معه على أَم ٍر ِ‬
‫ََُ َ ْ‬ ‫َ‬
‫األمر اجلامع ‪ :‬هو األمر العظيم ‪ ،‬ال @ @ @@ذي ي @ @ @@دعى له املس @ @ @@لمون مجيعا ‪ ،‬ليواجه @ @ @@وه ‪،‬‬
‫وليحمل كل منهم نص@@يبه من@@ه‪ .‬وذلك ىف ح@@ال ال@@دعوة إىل اجله@@اد ‪ ،‬والنّف@@رة إىل لق@@اء الع@@دو‬
‫@يب ـ ص@لوات اهلل وس@المه عليه ـ إىل اجله@@اد ‪ ،‬واجتمعت مجاعة املس@لمني ‪ ،‬مل‬ ‫‪ ..‬فإذا دعا الن ّ‬
‫يكن ألحد منهم أن ي@ @ @@ذهب لش@ @ @@أن من ش@ @ @@ئونه ‪ ،‬أو يش@ @ @@غل ب@ @ @@أمر خ@ @ @@اص به ‪ ،‬إال بعد أن‬
‫النىب ‪ ،‬فإن أذن له مضى ‪ ،‬وإال لزام مكانه‪.‬‬ ‫يستأذن ّ‬
‫اهلل َو َر ُس ـولِ ِه) هو إذن‬
‫ـك الَّ ِذين ي ْؤ ِمنُــو َن بِ ِ‬
‫َُ‬ ‫ك أُولئِـ َ‬ ‫ين يَ ْس ـتَأ ِْذنُونَ َ‬ ‫َّ ِ‬
‫ـ وقوله تع @@اىل ‪( :‬إِ َّن الذ َ‬
‫@ىب مما حيظر على‬ ‫للمؤم@@نني ‪ ،‬من ذوى األع@@ذار ىف أن يس@@تأذنوا ‪ ..‬فليس طلب اإلذن من الن@ ّ‬
‫املس@@لم ىف ه@@ذا ال@@وقت ‪ ..‬فاإلس@@الم يسر ال عسر ‪ ،‬والرس@@ول الك@@رمي ‪ ،‬خري من يق@ ّدر ح@@ال‬
‫املستأذن وظروفه ‪..‬‬
‫ت ِم ْن ُه ْم) أي إ ّن طلب‬ ‫ض َشـأْنِ ِه ْم فَـأْ َذ ْن لِ َم ْن ِشـ ْئ َ‬
‫وك لَِب ْع ِ‬ ‫ـ وقوله تع@@اىل ‪( :‬فَـِإ َذا ا ْسـتَأْ َذنُ َ‬
‫@ىب ‪ ،‬ونظ@@ره إىل األمر‬ ‫اإلذن ليس معن@@اه إجابة ه@@ذا الطلب ‪ ،‬بل إن ذلك يرجع إىل تق@@دير الن@ ّ‬
‫من مجيع وجوهه ‪ ،‬فقد ي@ @ @@رى أن ي@ @ @@أذن لبعض ‪ ،‬وال ي@ @ @@أذن اآلخ@ @ @@رين ‪ ..‬فه@ @ @@ذا وذلك مما‬
‫يقضى به الرسول ‪ ،‬وعلى املسلم أن يسمع ويطيع ‪..‬‬
‫يم) ـ إشارة‬ ‫ـ وىف قوله تعاىل ‪( :‬واست ْغ ِفر لَهم اهلل ‪ ..‬إِ َّن اهلل غَ ُف ِ‬
‫ور َرح ٌ‬ ‫َ ٌ‬ ‫َ َْ ْ ُ ُ َ‬
‫‪1336‬‬

‫إىل أن طلب اإلذن ىف هذا األمر اجلامع ‪ ،‬وإن كان مباحا ـ ف@@إن تركه أوىل وأفضل ‪ ،‬إذ أن‬
‫فيه إيثارا على النفس ‪ ،‬وتضحية باخلاص من أجل العام ‪ ،‬ومع ه@@ذا ‪ ،‬ف@@إن ال@@ذين يس@@تأذنون‬
‫وي @ @@أذن الرس @ @@ول هلم ‪ ،‬قد مشلهم اهلل مبغفرته ورمحته ‪ ،‬إذ أمر رس @ @@وله أن يس @ @@تغفر هلم اهلل ‪،‬‬
‫واهلل غفور رحيم ‪ ..‬وهذا من مساحة هذا الدين ويسره ‪..‬‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫سـلَّلُو َن‬ ‫َّ ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫(ال تَ ْج َعلُوا ُدعاء َّ ِ‬
‫ين َيتَ َ‬
‫الر ُسول َب ْينَ ُك ْم َكـ ُدعاء َب ْعضـ ُك ْم َب ْعضـاً قَـ ْد َي ْعلَ ُم اهللُ الذ َ‬ ‫َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫يم ‪)..‬‬ ‫ين يُخال ُفو َن َع ْن أ َْم ِره أَ ْن تُص َيب ُه ْم ف ْتنَةٌ أ َْو يُص َيب ُه ْم َع ٌ‬
‫ذاب أَل ٌ‬ ‫م ْن ُك ْم لواذاً َفلْيَ ْح َذ ِر الذ َ‬
‫الدعاء ‪ :‬األمر الذي حيمل دعوة ‪ ،‬أو الدعوة اليت حتمل أمرا‪.‬‬
‫يتسللون ‪ :‬أي ينسحبون ىف خفاء ‪ ،‬من غري أن يشعر هبم أحد‪.‬‬
‫اللّواذ ‪ :‬الفرار طلبا للسالمة والعافية‪.‬‬
‫واآلية حتت املس@@لمني على االمتث@@ال ألمر الرس@@ول الك@@رمي ‪ ،‬واالس@@تجابة ملا ي@@دعوهم‬
‫@ردد ‪ ..‬فليست دع @@وة الرس @@ول للمس @@لمني ‪ ،‬مثل دع @@وة بعض @@هم‬ ‫إليه ‪ ،‬من غري مهل ‪ ،‬أو ت @ ّ‬
‫لبعض ‪ ،‬حيث يكون لإلنسان اخليار ىف أن جييب دعوة الداعي أو ال جييب ‪..‬‬
‫إن دعوة الرس@@ول ‪ ،‬هى أمر من أمر اهلل ‪ ،‬ليس ملؤمن وال مؤمنة اخلي@ار ىف ه@@ذا األمر‬
‫‪ ،‬وإمنا عليه الطاعة واالمتثال ‪ ..‬واهلل سبحانه وتعاىل يقول ‪:‬‬
‫ْخَيـ َـرةُ ِم ْن‬
‫ض ـى اهلل ورس ـولُهُ أَمــراً أَ ْن ي ُكــو َن لَهم ال ِ‬
‫ُُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ ََ ُ‬ ‫( َوما كــا َن لِ ُمـ ْـؤ ِم ٍن َوال ُم ْؤ ِمنَـ ٍـة إِذا قَ َ‬
‫أ َْم ِر ِه ْم) (‪ : 36‬األحزاب)‬
‫ودعاء الرسول هنا ‪ ،‬هو دعاء إىل اجلهاد ىف سبيل اهلل ‪ ،‬وهو أمر ملزم لكل‬
‫‪1337‬‬

‫َه ِـل ال َْم ِدينَـ ِـة َو َم ْن َحـ ْـول َُه ْم‬


‫ق@@ادر على محل الس@@الح ‪ ..‬وىف ه@@ذا يق@@ول اهلل تع@@اىل ‪( :‬ما كــا َن أِل ْـ‬
‫اهلل َوال َي ْرغَبُوا بِأَْن ُف ِس ِه ْم َع ْن َن ْف ِس ِه) (‪ 120‬التوبة)‬ ‫ول ِ‬ ‫ِم َن اأْل َ ْع ِ‬
‫راب أَ ْن َيتَ َخلَّ ُفوا َع ْن ر ُس ِ‬
‫َ‬
‫وقد يك@@ون ال@@دعاء ألمر غري اجله@@اد ‪ ،‬وهو ـ أيّا ك@@ان ـ أمر مل@@زم ملن تلقى األمر من‬
‫َّ ِ‬
‫آمنُ ـ ـ ــوا‬
‫ين َ‬ ‫الرس@ @ @ @@ول ‪ ،‬فإنه ال ي@ @ @ @@أمر إال خبري ‪ ،‬واهلل س@ @ @ @@بحانه وتع@ @ @ @@اىل يق@ @ @ @@ول ‪( :‬يا أ َُّي َها الذ َ‬
‫ول إِذا َدعا ُك ْم لِما يُ ْحيِي ُك ْم) (‪ : 24‬األنفال)‬ ‫استَ ِجيبُوا لِلَّ ِه َولِ َّ‬
‫لر ُس ِ‬ ‫ْ‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫ين يُخ ـ ــالِ ُفو َن َع ْن أ َْمـ ـ ـ ِر ِه أَ ْن‬ ‫َّ ِ‬ ‫سـ ـ ـلَّلُو َن ِم ْن ُك ْم لِ ـ ــواذاً َفلْيَ ْـ‬
‫حـ ـ َذ ِر الذ َ‬ ‫ين َيتَ َ‬
‫َّ ِ‬
‫(قَـ ـ ـ ْد َي ْعلَ ُم اهللُ الذ َ‬
‫يم)‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫صيب ُهم فِ ْتنَةٌ أَو ي ِ‬ ‫ِ‬
‫ذاب أَل ٌ‬ ‫ص َيب ُه ْم َع ٌ‬ ‫ْ ُ‬ ‫تُ َ ْ‬
‫قد ‪ ،‬هنا ‪ ،‬للتحقيق ‪ ،‬والتوكيد ‪..‬‬
‫واملعىن ‪ :‬إن اهلل ليعلم الذين يتسلّلون من بني املس@@لمني ‪ ،‬وخيرج@@ون ىف خفية ‪ ،‬ف@@رارا‬
‫بأنفسهم ‪ ،‬وطلبا للدعة والراحة ‪..‬‬
‫فليحذر هؤالء املتسلّلون ‪ ،‬ال@ذي خرج@وا على أمر الرس@@ول ‪ ،‬ونكص@وا على أعق@اهبم‬
‫‪ ،‬أن تصيبهم فتنة وابتالء ىف الدنيا ‪ ،‬حيث يفتضح أمرهم ‪ ،‬ويصبحوا ىف عداد املن@@افقني ‪..‬‬
‫ف @@إن مل يص @@بهم ه @@ذا ىف ال @@دنيا ‪ ،‬مل يفلت @@وا من ع @@ذاب اهلل ىف اآلخ @@رة ‪ ..‬وهو ع @@ذاب أليم ‪،‬‬
‫نعوذ باهلل منه‪.‬‬
‫وىف تعدية الفعل (يُخــالُِفو َن) حبرف اجلر ( َع ْن) مع أنه فعل يتع @@دى بنفسه ‪ ..‬إش @@ارة‬
‫إىل أن ه@ @@ذا الفعل قد ض@ @@من معىن «اخلروج» ‪ ،‬فهو خمالفة ‪ ،‬وخ@ @@روج معا ‪ ،‬إذ قد تك@ @@ون‬
‫املخالفة ىف الرأى ‪ ،‬مث يكون االمتث@@ال بالعمل ‪ ..‬وه@@ؤالء املخ@@الفون ال@@ذين يتوع@@دهم اهلل إمنا‬
‫مجعوا بني املخالفة ىف الرأى ‪ ،‬واخلروج عليه قوال وعمال ‪..‬‬
‫‪1338‬‬

‫وهذا يشري إىل أن مراجعة الرس@ول ‪ ،‬فيما ي@أمر به ‪ ،‬مما مل يس@تنب للمس@لم منه احلجة‬
‫الواض@ @@حة وال@ @@دليل املقنع ـ ه@ @@ذه املراجعة ‪ ،‬بل املعارضة أحيانا ال ح@ @@رج منها ‪ ،‬إذ ك@ @@انت‬
‫غايتها هى وض @ @@وح الرؤية ‪ ،‬وانكش @ @@اف الطريق ‪ ،‬لعيىن املؤمن ‪ ،‬حىت يك @ @@ون على بينة من‬
‫أمره ‪ ،‬وحىت ميتثل ما يؤمر به ‪ ،‬وهو على هدى وبصرية ‪ ،‬واقتناع ‪..‬‬
‫ف @@دعوة اإلس @@الم دع @@وة قائمة على الع @@دل ‪ ،‬مس @@تندة إىل احلجة والربه @@ان ‪ ..‬ومن مثّ‬
‫ك@ @ @ @@ان على املس@ @ @ @@لم أن يع@ @ @ @@رض أم@ @ @ @@ور دينه كلها على عقله ‪ ،‬وأن يلتمس ال@ @ @ @@دليل املقنع ‪،‬‬
‫واحلجة القاطعة ىف كل أمر ‪ ..‬فإذا مل يسعفه عقله بال@@دليل ‪ ،‬وجب عليه امتث@@ال ما ي@@ؤمر به‬
‫‪ ،‬مع اليقني بأنه هو احلق ‪ ،‬واخلري ‪ ..‬إذ ليس العقل إال حا ّس@ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ة من احلواس العاملة ىف‬
‫حاسة ىف أن له حدودا يعمل فيها ‪ ،‬وأنه إذا جاوز هذه احلدود‬ ‫اإلنسان ‪ ،‬وشأنه شأن كل ّ‬
‫بطل عمله ‪..‬‬
‫وىف س @@رية الرس @@ول ـ ص @@لوات اهلل وس @@المه عليه ـ مع ص @@حابته رض @@وان اهلل عليهم ‪،‬‬
‫كثري من املواقف ‪ ،‬اليت يلقى فيها الص@ @ @@حابة رس @ @@ول اهلل ـ ىف أدب رائع واح @ @@رتام عظيم ـ‬
‫معرتضني أو خمالفني ‪ ،‬حىت إذا كشف هلم الرس@@ول ـ ص@@لوات اهلل وس@@المه عليه ـ عن وجه‬
‫األمر ‪ ،‬أو أراهم من نفسه أنه ماض مل أم@@رهم به ‪ ،‬مل يكن ألحد منهم إال الس@@مع والطاعة‬
‫‪ ،‬ىف إميان ثابت ويقني مكني ‪..‬‬
‫وت@@ذكر هنا ـ من ب@@اب اإلش@@ارة ـ ما ك@@ان من احلب@@اب بن املن @@ذر بن اجلم@@وح ‪ ،‬حني‬
‫النىب ـ صلوات اهلل وسالمه عليه ـ وقد أنزل املسلمني منزال ىف غزوة بدر ‪ ،‬فلما مل يره‬ ‫رأى ّ‬
‫احلباب باملنزل املناسب للمسلمني ‪ ،‬جاء إىل رسول اهلل يسأله ق@@ائال ‪ :‬يا رس@@ول اهلل ‪ ..‬أهو‬
‫م@ @ @ @@نزل أنزلكه اهلل ‪ ،‬فليس لنا أن نتح@ @ @ @@ول عنه ‪ ،‬أم هو ال@ @ @ @@رأى واملكي@ @ @ @@دة واحلرب؟ فق@ @ @ @@ال‬
‫ص@ @ @@لوات اهلل وس@ @ @@المه عليه ‪« :‬بل هو ال@ @ @@رأى واملكي@ @ @@دة واحلرب» ‪ ..‬وهنا أش@ @ @@ار احلب@ @ @@اب‬
‫باملنزل الذي رآه ‪ ..‬فأخذ‬
‫‪1339‬‬

‫النىب برأيه ‪ ،‬وحتول باملسلمني إليه ‪ ..‬فك@@ان املنزل املب@@ارك ‪ ،‬ال@@ذي هبت على املس@@لمني ريح‬ ‫ّ‬
‫النصر منه!!‬
‫فمخالفة الرس@@ول هنا ليست جملرد املخالفة ‪ ،‬وإمنا هى للنصح للمس@@لمني ‪ ،‬أو لنصح‬
‫املرء لنفسه ولدينه ‪ ،‬حىت ال يك@ @ @@ون ىف ص@ @ @@دره ح@ @ @@رج مما ي@ @ @@ؤمر ب@ @ @@ه! وب@ @ @@ذلك تطيب نفس‬
‫املس @@لم ‪ ،‬ويس@@لم له دينه ‪ ،‬ويتضح له طريقه ‪ ،‬ومن هنا يق @@وم بينه وبني معتق @@ده ألفة وحب‬
‫‪ ،‬حيث ال يدخل عليه شىء مل يرضه ‪ ،‬ويعتقده ‪ ،‬عن إميان واقتناع ‪..‬‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫ض قَ ـ ـ ْد َي ْعلَ ُم ما أَْنتُ ْم َعلَْيـ ـ ِـه َو َيـ ـ ْـو َم ُي ْر َجعُـ ــو َن إِل َْيـ ـ ِـه‬ ‫ســ ِ‬
‫ماوات َواأْل َْر ِ‬ ‫(أَال إِ َّن لِلَّ ِه ما فِي ال َّ‬
‫يم)‪.‬‬ ‫ٍ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫َف ُينَبُِّئ ُه ْم بما َعملُوا َواهللُ ب ُك ِّل َش ْيء َعل ٌ‬
‫هبذه اآلية ختتم الس@@ورة الكرمية ‪ ،‬مض@@يفة ه@@ذا الوج@@ود كله إىل اهلل س@@بحانه وتع@@اىل ‪،‬‬
‫ال@@ذي أوج@@ده ‪ ،‬وأقامه على س@@نن ‪ ،‬وأخ@@ذه بنظ@@ام حكيم ‪ ،‬ال يتخلف عنه أب@@دا‪ .‬واإلنس@@ان‬
‫هو بعض ما هلل ـ هو ج@ @@زء من ه@ @@ذا الوج@ @@ود ‪ ..‬وه@ @@ذه األحك@ @@ام والش@ @@رائع اليت س@ @@نها اهلل‬
‫س@@بحانه وتع@@اىل لإلنس@@ان ‪ ،‬وبني له فيها الطريق ال@@ذي يس@@لكه ‪ ،‬والط@@رق اليت جيتنبها ـ هى‬
‫من س@ @@نن ه @ @@ذا الوج @ @@ود ‪ ،‬وىف خ @ @@روج اإلنس @ @@ان عن أمر اهلل خ @ @@روج على ه @ @@ذه الس@ @@نن ‪،‬‬
‫يعرضه للعزلة عن هذا‬ ‫واحنراف عن الوضع السليم الذي جيب أن يكون عليه ‪ ،‬األمر الذي ّ‬
‫الوج@ @@ود ‪ ،‬ويلقى به بعي@ @@دا عن دائ@ @@رة األمن والس@ @@المة ‪ ..‬ومن هنا جيىء ش@ @@قاؤه ىف ال@ @@دنيا‬
‫واآلخرة مجيعا ‪..‬‬
‫وىف قوله تعاىل ‪( :‬قَ ْد َي ْعلَ ُم ما أَْنتُ ْم َعلَْي ِه) حتذير للمخالفني هلل ‪ ،‬اخلارجني على سننه‬
‫‪ ،‬املتم @@ردين على أوام @@ره حتذير هلم من عقابه الراصد ‪ ،‬وعذابه األليم ‪ ..‬ألنه س @@بحانه يعلم‬
‫كل شىء ‪ ،‬ويعلم من اإلنسان ما خيفى وما يعلن ‪ ،‬وما هو عليه‬
‫‪1340‬‬

‫من صالح وفساد ‪ ،‬وطاعة وعصيان ‪ ،‬واستقامة واحنراف ‪ ..‬وقد هنا ‪ ،‬للتحقيق والتوكيد‬
‫‪..‬‬
‫ـ وقوله تعاىل ‪َ ( :‬و َي ْو َم ُي ْر َجعُو َن إِل َْي ِه َفُينَبُِّئ ُه ْم بِما َع ِملُوا) هو جواب لسؤال ي@@رد على‬
‫اخلواطر ‪ ،‬بعد االس @@تماع إىل قوله تع @@اىل ‪( :‬قَـ ـ ْد َي ْعلَ ُم ما أَْنتُ ْم َعلَْي ـ ِـه) ‪ ،‬وهو ‪ :‬ما وراء ه @@ذا‬
‫العلم ال@ @@ذي علمه اهلل س @ @@بحانه وتع@ @@اىل من الن@ @@اس وأعم@ @@اهلم؟ ـ وىف قوله تع@ @@اىل ‪َ ( :‬و َيـ ـ ْـو َم‬
‫ُي ْر َجعُــو َن إِل َْيـ ِـه َفُينَبُِّئ ُه ْم بِما َع ِملُــوا)‪ .‬إش@@ارة إىل ج@@واب ه@@ذا الس@@ؤال ‪ ،‬وهو أهنم سيحاس@@بون‬
‫على هذه األعمال ‪ ،‬كبريها وصغريها ‪ ،‬ىف الدنيا واآلخرة ‪ ..‬أما ىف الدنيا فيك@@ون احلس@@اب‬
‫واجلزاء من غري أن حيض@@روا ه@@ذا احلس@@اب ‪ ،‬أو أن يعرف@@وا س@@بب ه@@ذا اجلزاء ال@@ذي جيزون به‬
‫‪ ..‬وأما ىف اآلخ@@رة ‪ ،‬وي@@وم يرجع@@ون إىل اهلل فين@@بئهم مبا عمل@@وا ‪ ،‬حيث ي@@رون كل ما عمل@@وه‬
‫حاض@ @ @ @@را ‪ ،‬فيع@ @ @ @@رف كل عامل ما عمل ‪ ،‬وما لعمله من ث@ @ @ @@واب أو عق@ @ @ @@اب ‪ ..‬كما يق@ @ @ @@ول‬
‫ـل ِمثْق َ‬
‫ـال ذَ َّر ٍة َخ ْيـراً َي َـرهُ َو َم ْن‬ ‫ِ‬
‫َّاس أَ ْشـتاتاً ل ُي َـر ْوا أَ ْعمـال َُه ْم فَ َم ْن َي ْع َم ْ‬
‫ص ُد ُر الن ُ‬
‫ٍ‬
‫س@@بحانه ‪َ ( :‬ي ْو َمئِذ يَ ْ‬
‫ـل إِنسـ ٍ‬
‫ـان أَل َْز ْمنــاهُ‬ ‫قال َذ َّر ٍة َش ًّرا َيـ َـرهُ) (‪ 6‬ـ ‪ 8‬الزلزل@@ة) وكما يق@@ول جل ش@@أنه ‪َ ( :‬و ُكـ َّ‬ ‫َي ْع َم ْل ِمثْ َ‬
‫ـك َكفى بَِن ْف ِسـ َ‬
‫ك الَْي ْـو َم‬ ‫شـوراً ا ْق َـرأْ كِتابَ َ‬‫يام ِـة كِتابـاً َي ْلقـاهُ َم ْن ُ‬ ‫ِ‬
‫ِج لَهُ َي ْو َم الْق َ‬
‫ِ ِ ِِ‬
‫طائ َرهُ في عُنُقه َونُ ْخر ُ‬
‫ك َح ِسيباً ‪ : 14 ، 13( )..‬اإلسراء)‪.‬‬ ‫َعلَْي َ‬
‫وه@@ذا هو بعض السر ىف االنتق@@ال من اخلط@@اب ‪( :‬قَـ ْد َي ْعلَ ُم ما أَْنتُ ْم َعلَْيـ ِـه) إىل الغيب@@ة‪:‬‬
‫( َو َيـ ْـو َم ُي ْر َجعُــو َن إِل َْيـ ِـه َفُينَبُِّئ ُه ْم بِما َع ِملُــوا ‪ )..‬وك@@ان النظم يقضى ب@@أن جيىء ه@@ذا املقطع من‬
‫اآلية الكرمية هك@@ذا ‪« :‬وي@@وم ترجع@@ون إليه فين@@بئكم مبا عملتم» ‪ ..‬وذلك ألن اخلط@@اب بعلم‬
‫اهلل سبحانه وتعاىل مبا عليه الناس من خري أو شر ـ هو خطاب عام ‪ ،‬موجه إىل الناس مجيعا‬
‫‪ ..‬أما قوله تع@@اىل ‪َ ( :‬و َيـ ْـو َم ُي ْر َجعُــو َن إِل َْيـ ِـه َفُينَبُِّئ ُه ْم بِما َع ِملُــوا) فهو موجه إىل املك@@ذبني هبذا‬
‫اليوم ‪ ،‬الذين ال يرجون لقاء اهلل ‪ ،‬ولكن على طريق اإلمياء ‪ ،‬وذلك بتوجيه احلديث‬
‫‪1341‬‬

‫ـ ال@@ذي هو من ش@@أهنم ـ إىل غ@@ريهم ‪ ،‬من املؤم@@نني ال@@ذين يؤمن@@ون ب@@اليوم اآلخر ‪ ،‬وما يلقى‬
‫الن @ @@اس فيه ‪ ..‬وك @ @@أهنم هبذا غري أهل ألن خياطبوا ‪ ..‬وأنه إذا ك@ @ @@ان مثة ح @ @@ديث «إليهم» ‪،‬‬
‫فليوجه إىل غ @@ريهم ‪ ،‬ممن هم أهل ألن يس @@معوا ‪ ،‬ويعقل @@وا ‪ ،‬وأنه إذا ك @@ان هلؤالء املك @@ذبني‬
‫هبذا احلديث ‪ ،‬عودة إىل أنفسهم ‪ ،‬وإىل النظر ىف هذا احلديث ‪ ،‬فليأخذوه من أهله ‪..‬‬
‫يم)‪.‬‬ ‫ٍ ِ‬ ‫ِ‬
‫( َواهللُ ب ُك ِّل َش ْيء َعل ٌ‬
‫هذا ‪ ،‬واهلل أعلم ‪..‬‬
‫‪1342‬‬

‫‪ 25‬ـ سورة الفرقان‬


‫نزوهلا ‪ :‬مكية ‪ ..‬باتفاق ‪..‬‬
‫عدد آياهتا ‪ :‬سبع وسبعون آية ‪..‬‬
‫عدد كلماهتا ‪ :‬مثامنائة واثنتان وسبعون كلمة ‪..‬‬
‫عدد حروفها ‪ :‬ثالثة آالف ‪ ،‬وسبعمائة وثالثون حرفا ‪..‬‬

‫مناسبتها لما قبلها‬


‫ك @@انت س @@ورة «الن @@ور» اليت تس @@بق ه @@ذه الس @@ورة ‪ ،‬ن @@ورا من ن @@ور احلق ج @ ّ@ل وعال ‪،‬‬
‫سطع نورها يف آفاق اجملتمع اإلسالمي ‪ ،‬فجال كل غاشية ‪ ،‬وفضح كل ضالل وهبتان‪.‬‬
‫وك @ @@انت «س @ @@ورة الفرق @ @@ان» مكملة هلذه الس @ @@ورة ‪ ،‬إذ قد اس @ @@تفتحت بتمجيد اهلل ‪،‬‬
‫الذي أفاض على عباده هذا اخلري الكثري املب@@ارك ‪ ،‬مبا ن@ّ@زل من آي@@ات بين@ات على نبيّه الك@@رمي‬
‫‪ ..‬هى الفرقان ‪ ،‬بني احلق والباطل ‪ ،‬واهلدى والضالل ‪ ،‬والنور والظالم‪.‬‬
‫فك@@ان الن@@ور املشع من س@@ورة الن@@ور كاش@@فا لل ّش @به ‪ ،‬جمليا للش@@كوك وال@@ريب ‪ ،‬مقيما‬
‫أمر املس @@لمني على ن @@ور م @@بني ‪ ..‬وه @@ذا الن @@ور ال @@ذي معهم من آي @@ات اهلل ‪ ،‬هو «الفرق @@ان»‬
‫الذي يفرقون به بني احلق والباطل ‪ ،‬وبني اهلدى والضالل!‪.‬‬
‫‪1343‬‬

‫الرحيم‬
‫الرحمن ّ‬
‫بسم اهلل ّ‬
‫____________________________________‬

‫اآليات ‪ 1( :‬ـ ‪)6‬‬


‫ـك‬‫ين نَ ـ ِـذيراً (‪ @ @)1‬الَّ ِذي لَ ــهُ ُم ْل ـ ُ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِِ ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫ـار َك الذي َنـ َّـز َل الْ ُف ْرق ــا َن َعلى َع ْب ــده ليَ ُكــو َن ل ْلع ــالَم َ‬ ‫(تَب ـ َ‬
‫ْك و َخلَــق ُكـ َّ ٍ‬
‫َّرهُ‬‫ـل َشـ ْيء َف َقــد َ‬ ‫يك فِي ال ُْمل ِ َ َ‬ ‫َم يَ ُك ْن لَهُ َش ِر ٌ‬ ‫ض ول ِ‬
‫َم َيتَّخ ْذ َولَداً َول ْ‬ ‫السماوات َواأْل َْر ِ َ ْ‬
‫ِ‬ ‫َّ‬
‫َت ْقـ ِـديراً(‪َ )2‬واتَّ َخـ ُذوا ِم ْن ُدونِـ ِـه آلِ َهـ ةً ال يَ ْخلُ ُقــو َن َش ـ ْيئاً َو ُه ْم يُ ْخلَ ُقــو َن َوال يَ ْملِ ُكــو َن أِل َْن ُف ِس ـ ِه ْم‬
‫ين َك َفـ ُـروا إِ ْن َهــذا إِالَّ‬ ‫ش ـوراً (‪ )3‬وقـ َ َّ ِ‬
‫ـال الذ َ‬ ‫َ‬ ‫ض ـ ًّرا َوال َن ْفع ـاً َوال يَ ْملِ ُكــو َن َم ْوت ـاً َوال َحيــاةً َوال نُ ُ‬ ‫َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ـك ا ْفتَــراهُ َوأَعانَــهُ َعلَْيـ ِـه َقـ ْـو ٌم َ‬
‫إِفْـ ٌ‬
‫ين‬‫آخـ ُـرو َن َف َقـ ْد جــا ُؤ ظُْلم ـاً َو ُزوراً (‪َ )4‬وقــالُوا أَســاط ُير اأْل ََّول َ‬
‫سـ ـ ـ ِ‬
‫ماوات‬ ‫سـ ـ ـ َّر فِي ال َّ‬‫صـ ـ ـيالً (‪ )5‬قُ ـ ـ ْـل أَْن َزلَ ـ ــهُ الَّ ِذي َي ْعلَ ُم ال ِّ‬
‫ا ْكتَتَبها فَ ِهي تُملى َعلَْي ـ ـ ِـه ب ْكـ ــرةً وأَ ِ‬
‫ُ َ َ‬ ‫َ ْ‬ ‫َ‬
‫ض إِنَّهُ كا َن غَ ُفوراً َر ِحيماً) (‪)6‬‬ ‫َواأْل َْر ِ‬
‫____________________________________‬
‫التفسري ‪:‬‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫ين نَ ِذيراً)‪.‬‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِِ ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫بار َك الذي َن َّز َل الْ ُف ْرقا َن َعلى َع ْبده ليَ ُكو َن للْعالَم َ‬
‫(تَ َ‬
‫تبارك ‪ :‬عظمت بركته ‪ ،‬وكثر حريه وفضله ‪..‬‬
‫واملراد هبذا اخلرب ‪ ،‬الثن@ @ @@اء على اهلل س@ @ @@بحانه ‪ ،‬وتع@ @ @@اىل ‪ ..‬وهو ثن@ @ @@اء من ذاته لذاته ‪،‬‬
‫ج@ @ ّ@ل وعال ‪ ..‬ومن ح ّقه على عب@ @@اده أن يثن@ @@وا عليه ‪ ،‬كما أثىن س@ @@بحانه على نفسه ‪ ..‬وقد‬
‫كان من دعاء الرسول صلوات اهلل عليه ‪ ،‬وتسبيحه حبمد ربه ‪ ،‬قوله ‪:‬‬
‫‪1344‬‬

‫«س@@بحانك ‪ ..‬ال أحصى ثن@@اء عليك ‪ ..‬أنت كما أث@@نيت على نفس@@ك» ‪ ..‬والثن@@اء على اهلل‬
‫س @@بحانه ‪ ،‬من ذاته ‪ ،‬أو من خملوقاته ‪ ،‬يف ه @@ذا املق @@ام ‪ ،‬إمنا هو ش @@عور بعظم املنّة العظيمة ‪،‬‬
‫اليت كانت بنزول القرآن ‪ ،‬وما يف هذا القرآن من رمحة ‪ ،‬وهدى للعاملني ‪..‬‬
‫ـ وقوله تع@@اىل ‪( :‬الَّ ِذي َنـ َّـز َل الْ ُف ْرقــا َن َعلى َع ْبـ ِـد ِه) ـ هو وصف هلل س@@بحانه وتع@@اىل ‪،‬‬
‫يكشف عن بعض إحسانه وفضله ‪ ،‬الذي استحق به التمجيد ‪ ،‬والتربيك ‪..‬‬
‫@ىب من‬‫ـ ويف قوله تع @@اىل ‪َ ( :‬ن ـ َّـز َل) ب @@دال من «أن @@زل» إش @@ارة إىل أن ما ن @@زل على الن @ ّ‬
‫مفرقة ‪ ..‬وذلك حلكمة عالية ‪ ،‬كشف‬ ‫آي@@ات ربّه ‪ ،‬مل ي@@نزل مجلة واح@@دة ‪ ،‬وإمنا ن@@زل جنوما ّ‬
‫رده على الك@ @@افرين والض@ @@الني ‪ ،‬ال@ @@ذين ق@ @@الوا ‪« :‬لو ال ن@ @ ّ@زل عليه‬ ‫عنها س@ @@بحانه وتع@ @@اىل يف ّ‬
‫ِ‬
‫ك لِنُثَبِّ َ‬
‫ت بِ ِه فُ َ‬
‫ؤاد َك َو َرَّتلْناهُ َت ْرتيالً* َوال يَأْتُونَـ َ‬
‫ـك‬ ‫القرآن مجلة واحدة؟» فقال سبحانه ‪َ ( :‬كذلِ َ‬
‫َح َس َن َت ْف ِسيراً) (‪ 32‬ـ ‪ : 33‬الفرقان)‪.‬‬ ‫بِ َمثَ ٍل إِاَّل ِج ْئ َ‬
‫ناك بِال َ‬
‫ْح ِّق َوأ ْ‬
‫ويف تس@@مية الق@@رآن «فرقان@@ا» إش@@ارة إىل أن ما حيمل الق@@رآن من ه@@دى ون@@ور ‪ ،‬يف@@رق‬
‫احلق والباطل ‪ ،‬واخلري والشر ‪ ،‬واهلدى والضالل ‪..‬‬ ‫به العاملون به ‪ ،‬بني ّ‬
‫للنىب الكرمي ‪ ،‬وإدناء له من ربّه ‪ ،‬بإضافته إىل‬ ‫ِِ‬
‫ـ ويف قوله تعاىل ‪َ ( :‬على َع ْبده) تكرمي ّ‬
‫ذاته س@ @@بحانه وتع@ @@اىل ‪ ..‬ووص@ @@فه ـ ص@ @@لوات اهلل وس@ @@المه عليه ـ بالعبودية هلل ‪ ،‬رفع ملقامه‬
‫يستحق هذه الصفة وحده من عباد اهلل ‪..‬‬ ‫ّ‬ ‫وتشريف لقدره ‪ ،‬وأنه هو اإلنسان الذي‬
‫فلم يذكر القرآن الكرمي عبدا من عباد اهلل ‪ ،‬أو رسوال من رسله ‪،‬‬
‫‪1345‬‬

‫مضافا إىل الذات العليّة إال «حممدا» صلوات اهلل وسالمه ورمحته وبركاته عليه ‪..‬‬
‫لقد ج@ @ @ @@اء وصف العبد لعيسى عليه‌الس الم ‪ ،‬ولكن غري مض@ @ @ @@اف إىل ذات اهلل ‪،‬‬
‫ِِ ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫يل) (‪ : 59‬الزخ@@رف)‬ ‫فق@@ال تع@@اىل ‪( :‬إ ْن ُهـ َـو إاَّل َع ْبـ ٌد أَْن َع ْمنا َعلَْيــه َو َج َع ْلنــاهُ َمثَالً لبَني إ ْس ـرائ َ‬
‫وج@@اء وصف زكريا بأنه عبد ‪ ،‬وقد أض@@يف إىل ض@@مري ال@@ذات ‪ ،‬ومل تطلق ه@@ذه اإلض@@افة ‪،‬‬
‫ك َع ْبـ ـ ـ َدهُ َز َك ِريَّا) (‪: 2‬‬ ‫ت َربِّ َ‬ ‫بل قي @ @@دت ب @ @@ذكر اسم زكريا ‪ ..‬فق@ @@ال تع@ @@اىل ‪ِ ( :‬ذ ْـك ــر ر ْحم ِ‬
‫ُ َ َ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫مرمي)‪.‬‬
‫وهبذا مل ختلص له اإلضافة على إطالقها ‪..‬‬
‫ك@@ذلك أض@@يف كثري من األنبي@@اء بص@@فة العبودية ‪ ،‬إىل ض@@مري ال@@ذات ‪ ،‬ولكن قيّ@@دت‬
‫وب) (‪: 41‬‬ ‫ه@@ذه اإلض@@افة ب@@ذكر أمسائهم ‪ ،‬بع@@دها ‪ ،‬كما يف قوله تع@@اىل ‪َ ( :‬واذْ ُك ْر َع ْب َدنا أَيُّ َ‬
‫ص)‪.‬‬
‫ـوب أُولِي اأْل َيْـ ِـدي َواأْل َبْصــا ِر)‬ ‫يم َوإِ ْسـ َ‬
‫حاق َو َي ْع ُقـ َ‬
‫وقوله س@@بحانه ‪( :‬واذْ ُكر ِع َ ِ ِ‬
‫بادنا إبْــراه َ‬ ‫َ ْ‬
‫(‪ : 45‬ص)‪.‬‬
‫وأكثر من هذا ‪ ،‬فإن «حمم@دا» ص@لوات اهلل وس@المه عليه قد تك@@رر ذك@@ره يف الق@رآن‬
‫الك@@رمي ‪ ،‬مض@@افا إىل ذات اهلل س@@بحانه وتع@@اىل بوصف العبودية ‪ ،‬ومل تقيّد ه@@ذه اإلض@@افة يف‬
‫أية م @@رة ‪ ،‬ب @@ذكر امسه ‪ ،‬أو ص @@فته بع @@دها ‪ ،‬بل ترسل اإلض @@افة ‪ ،‬هك @@ذا يف كل م @@رة ‪ ،‬على‬
‫إطالقها ‪ ،‬وذلك مما يؤ ّكد املعىن ال@ @ @ @ @@ذي ذهبنا إليه ‪ ،‬وهو إف @ @ @ @ @@راد «حمم@ @ @ @ @@د» ص @ @ @ @ @@لوات اهلل‬
‫وسالمه عليه ‪ ،‬هبذه املنزلة بني عباد اهلل مجيعا ‪ ..‬وأنه عبده ‪ ،‬اخلالص من بني العبيد مجيعا‪.‬‬
‫ومما يؤيد هذا املعىن ‪ ،‬ويؤكده ‪ ،‬أن إض@@افة حممد إىل ربّه ‪ ،‬بص@@فة العبودية ‪ ،‬مل يكن‬
‫النىب إىل أعلى مقامات القرب من ربّه‪.‬‬ ‫إال يف أحوال خاصة ‪ ،‬وصل فيها ّ‬
‫‪1346‬‬

‫ففى اإلس@ @ @@راء ‪ ..‬يوصف «حمم@ @ @@د» ص@ @ @@لوات اهلل عليه بص@ @ @@فة العبودية ‪ ،‬مض@ @ @@افا إىل‬
‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬
‫ـرام إِلَى‬
‫ْحـ ِ‬ ‫َسرى بِ َع ْبــده ل َْيالً م َن ال َْم ْسـجد ال َ‬
‫الذات العلية ‪ ..‬فيق@@ول س@@بحانه ‪ُ ( :‬س ْبحا َن الَّذي أ ْ‬
‫ْصى) (‪ : 1‬اإلسراء)‪.‬‬ ‫ِِ‬
‫ال َْم ْسجد اأْل َق َ‬
‫ويف املع@@راج ‪ ،‬ختلع على «حمم@@د» ـ ص@@لوات اهلل وس@@المه عليه ـ تلك اخللعة الس@@نيّة ‪،‬‬
‫وهو يف أعلى عل@ @@يني ‪ ..‬فيق@ @@ول س@ @@بحانه وتع@ @@اىل ‪( :‬فَ ـ ـأ َْوحى إِلى َع ْبـ ـ ِـد ِه ما أ َْوحى) (‪: 10‬‬
‫النجم)‪.‬‬
‫وأك @@ثر من ه @@ذا أيضا ‪ ..‬ف @@إن «حمم @@دا» ـ ص @@لوات اهلل وس @@المه عليه ‪ ،‬مل ختلع عليه‬
‫ص@@فة العبودية مض@@افة إىل ض@@مري ال@ ّذات ‪ ،‬وحسب ‪ ،‬بل أض@@يفت إىل ال@@ذات ذاهتا ‪ ،‬يف قوله‬
‫ـادوا يَ ُكونُــو َن َعلَْيـ ِـه لِبَــداً) (‪ : 19‬اجلن) ‪ ..‬وه @@ذه‬ ‫تع @@اىل ‪( :‬وأَنَّهُ ل ََّما قــام َع ْب ـ ُد ِ‬
‫اهلل يَ ـ ْدعُوهُ كـ ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫خصوصية أخرى ‪ ،‬تعطى هذه العبودية وضعا ليس لغريها من عباد اهلل مجيعا ‪..‬‬
‫للنىب ـ صلوات اهلل وس@@المه عليه ـ بني خلق اهلل مجيعا ‪ ،‬ومع‬ ‫التفرد ‪ ،‬الذي ّ‬ ‫ومع هذا ّ‬
‫ه@@ذا الق@@رب ال@@ذي ليس ألحد غ@@ريه من عب@@اده ‪ ،‬فإنه ـ ص@@لوات اهلل وس@@المه عليه ـ لن خيرج‬
‫عن قيد العبودية ‪ ،‬ولن يك@@ون إال عب@@دا هلل ‪ ،‬وإن ك@@ان أك@@رم العبيد ‪ ..‬وإاّل خلقا من خلقه‬
‫‪ ،‬وإن كان أفضل اخللق ‪ ..‬وأن هذه املنزلة الرفيعة العالية ‪ ،‬اليت مل تكن ولن تكون لبشر ‪،‬‬
‫@رق ‪ ،‬ويص@@فو ‪ ،‬ويعلو ‪ ،‬حىت‬ ‫هى تك@@رمي لإلنس@@ان من حيث هو ابن املاء والطني ‪ ،‬وال@@ذي ي@ ّ‬
‫يتقدم املأل األعلى ‪ ،‬ويدنو من ذى العرش ‪ ،‬حىت يكون قاب قوسني أو أدىن ‪..‬‬
‫ومع ه @@ذا كلّه ‪ ،‬ف @@إن ما يتح @@دث به املتح @@دثون عن احلقيقة احملمدية ‪ ،‬يري @@دون هبذا‬
‫احلديث أن يقطعوه عن البشرية ‪ ،‬وأن يعزلوه عن هذا الوجود البشرى ‪،‬‬
‫‪1347‬‬

‫النىب الكرمي ‪ ،‬هبذه األلوان الص@@ارخة من اخلي@@ال ‪،‬‬ ‫إمنا يسيئون من حيث ال يدرون إىل مقام ّ‬
‫ال @@ذي يلقونه على ص @@ورته الكرمية ‪ ،‬فيطمس @@ون معاملها ‪ ،‬ويش @ ّ@وهون حقيقتها ‪ ،‬فال ميسك‬
‫منها النظر ‪ ،‬أو العقل ‪ ،‬أو اخلي@ @ @ @@ال ‪ ،‬إال بظالل باهتة مرتاقصة ‪ ،‬ميوج بعض@ @ @ @@ها يف بعض ‪،‬‬
‫فال تس@ @@تبني فيها حقيقة ملخل@ @@وق ‪ ،‬من أهل األرض ‪ ،‬أو ع@ @@امل الس@ @@ماء ‪ ،‬وإمنا هى أمش@ @@اج‬
‫(‪)1‬‬
‫خمتلطة ‪ ،‬من خياالت وأوهام ‪!...‬‬
‫إن عظمة «حمم @@د» ىف أنه بشر كامل البش @@رية ‪ ..‬ولد من أب وأم ‪ ..‬ومحلت به أمه‬
‫تس @@عة أش @@هر ‪ ،‬وأرضع يف البادية كما يرضع األطف @@ال ‪ ،‬وع @@اش كما يعيش أطف @@ال قومه ‪،‬‬
‫وص @ @@بياهنم ‪ ،‬وش @ @@بّاهنم ‪ ،‬ورج @ @@اهلم ‪ ..‬وإن ك @ @@ان ذلك على أحسن ص @ @@ورة يراها الن @ @@اس يف‬
‫إنسان ‪ ،‬ويتمنّوهنا هلم ‪ ،‬وألبنائهم ‪..‬‬
‫فلما ك@ @ ّ@رم اهلل س@ @@بحانه وتع@ @@اىل حمم@ @@دا بالرس@ @@الة ‪ ،‬مل تقطعه ه@ @@ذه الرس@ @@الة عن حاله‬
‫األوىل ‪ ،‬ومل ير فيه الن @@اس غري ما ي @@رون ‪ ،‬بل إنه مل ي @@أهتم خبارقة من اخلوارق ‪ ،‬أو معج @@زة‬
‫من املعج@ @@زات ‪ ،‬ميلكها يف ي@ @@ده ‪ ،‬وإمنا ج@ @@اءهم بآي@ @@ات هى كلم@ @@ات اهلل ‪ ،‬مض@ @@افة إىل اهلل‬
‫جل ش@@أنه ‪ ..‬وما حممد إال مبلغ هلذه الكلم@@ات ‪ ،‬وليس له منها إال‬ ‫سبحانه ‪ ،‬ومنسوبة إليه ّ‬
‫ما للن@ @ @ @@اس مجيعا ‪ ،‬من االهت@ @ @ @@داء بنورها ‪ ،‬واالمتث@ @ @ @@ال ألمرها وهنيها ‪ ..‬فك@ @ @ @@ان ذلك أعظم‬
‫توكيد وأبلغه ‪ ،‬للداللة على بش@@رية الرس@@ول من جهة ‪ ،‬وعلى أن ابن املاء والطني حيمل يف‬
‫كيانه من ق@@وى اخلري ‪ ،‬ومش@@اعل الن@@ور ‪ ،‬ما يرتفع به إىل أعلى عل@@يني ‪ ،‬وأن الطريق مفت@@وح‬
‫إىل م@ @@اال ح@ @@دود له من الكم@ @@االت ‪ ،‬أم@ @@ام اإلنس@ @@ان ‪ ..‬وأمامه املثل األعلى لإلنس@ @@ان ‪ ..‬يف‬
‫حممد ـ «صلوات اهلل وسالمه عليه» ‪..‬‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬انظر حبثنا يف هذا عن «احلقيقة احملمدية ‪ ..‬وما يقال فيها» يف الكتاب الثامن من هذا التفسري‪.‬‬
‫‪1348‬‬

‫وما أحسن ما يق@@ول «البوص@@ريى» يف رس@@ول اهلل ‪ ،‬وفيما يق@@ال ‪ ،‬وما ال يق@@ال ‪ ،‬فيه‬
‫‪ ،‬إذ يقول ‪:‬‬
‫دع ما ّادعته النص@ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @@ارى يف ن@ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @@بيّهم وقل ما ش@ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @@ئت م@ @ @ @ @ @ @ @ @ @ @@دحا فيه واحتكم‬
‫‪ ‬‬ ‫‪ ‬‬

‫قوله تعاىل ‪:‬‬


‫يك فِي الْم ْلـ ِ‬
‫ـك‬ ‫َم يَ ُك ْن لَــهُ َشـ ِر ٌ‬ ‫َم َيت ِـ‬ ‫سـ ِ‬
‫ماوات َواأْل َْر ِ‬ ‫(الَّ ِذي لَــهُ ُم ْلـ ُ‬
‫ُ‬ ‫َّخ ْذ َولَــداً َول ْ‬ ‫ض َول ْ‬ ‫ـك ال َّ‬
‫َّرهُ َت ْق ِديراً ‪)..‬‬ ‫ٍ‬
‫َو َخلَ َق ُك َّل َش ْيء َف َقد َ‬
‫هو متجيد هلل س@ @ @ @ @@بحانه ‪ ،‬وتعظيم لذاته ‪ ،‬بإض@ @ @ @ @@افة ه@ @ @ @ @@ذا الوج@ @ @ @ @@ود إليه ‪ ،‬يف مساواته‬
‫وأرضه ‪ ،‬وما يف السموات واألرض ‪..‬‬
‫ـ وقوله تعاىل ‪:‬‬
‫َّخـ ـ ْذ َولَ ـ ــداً) هو تنزيه هلل أن يك@ @ @@ون له ولد ‪ ،‬كما ي @ @@دعى النص@ @ @@ارى ‪ ،‬يف‬ ‫َم َيت ِـ‬‫ـ ( َول ْ‬
‫املس @@يح ‪ ،‬وكما ي@ @ ّدعى اليه @@ود يف عزيز ‪ ..‬ألن اختاذ الولد إمنا يك @@ون الفتق @@ار األب إىل من‬
‫حيفظ نس @ @ @@به ‪ ،‬ويبقى ذك @ @ @@ره ‪ ..‬مث إن ه @ @ @@ذا الولد يف حاجة أيضا إىل أن يك @ @ @@ون له ولد ‪..‬‬
‫وهكذا يف سلسلة من التوالد ‪ ،‬جتعل اآلهلة وأبناء اآلهلة أكثر من اآلدميني ‪ ،‬وأبن@@اء اآلدم@@يني‬
‫‪ ..‬إذ ك@@ان اآلهلة ـ على حسب ه@@ذا املنطق ـ أط@@ول أعم@@ارا ‪ ،‬وأك@@ثر ق@@درة على اإلجناب ‪..‬‬
‫أو أهنم يتوالدون ‪ ،‬وال ميوت هلم مولود ‪!..‬‬
‫ومن جهة أخ@@رى ‪ ،‬ف@@إن االبن ـ قياسا على ه@@ذا املنطق البش@@رى ـ ال بد أن تك@@ون له‬
‫أم ‪ ،‬هى زوج اإلله ‪..‬‬
‫ومن جهة ثالثة ‪ ،‬فإن التناسل ال يكون إال بني الطبائع املتماثلة ‪ ..‬وعلى هذا‬
‫‪1349‬‬

‫تك@ @@ون زوجة اإلله ش@ @@بيهة به ‪ ،‬مش@ @@اهبة املرأة للرجل ‪ ..‬ويك@ @@ون االبن ش@ @@بيها هلما مش@ @@اهبة‬
‫األوالد لآلباء ‪..‬‬
‫وه @@ذا كلّه ‪ ،‬مما ال يرتفع باإلله عن مس @@توى البشر ‪ ..‬ومن مثّ فال يك @@ون له يف ه @@ذا‬
‫الوجود أكثر مما ألى إنسان ‪ ..‬وهبذا يظل مكان مالك الوجود ـ ىف هذا التص ّ@ور ـ خاليا ‪..‬‬
‫فلمن إذن يضاف هذا الوجود ‪ ،‬خلقا ‪ ،‬وحفظا وتدبريا وتصريفا؟‬
‫ملن هذا امللك؟ ملن ما يف السموات واألرض؟‬
‫من يقول أنا؟‬
‫أال فلتخرس األلسنة ‪ ،‬وأال فلتخضع األعناق ‪ ..‬وأال فلتخشع القلوب ‪..‬‬
‫رب العاملني! ‪..‬‬ ‫فذلكم اهلل ّ‬
‫يك فِي‬ ‫َم يَ ُك ْن لَــهُ َشـ ِر ٌ‬ ‫َم َيت ِـ‬
‫َّخ ْذ َولَــداً ‪َ ..‬ول ْ‬
‫سـ ِ‬
‫ماوات َواأْل َْر ِ‬
‫ض ‪َ ..‬ول ْ‬ ‫ـك ال َّ‬‫ـ (الَّ ِذي لَــهُ ُم ْلـ ُ‬
‫َّرهُ َت ْق ِديراً)‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫ال ُْملْك َو َخلَ َق ُك َّل َش ْيء َف َقد َ‬
‫وإنّا إذا ننظر يف ه @ @@ذه اآلية ‪ ،‬ويف قوله تع @ @@اىل يف اآلية قبلها ‪َ ( :‬على َع ْب ـ ـ ِـد ِه) جند أن‬
‫@ىب ص@ @@لوات اهلل‬ ‫@ىب لربه أن تطغى عليها عواطف احلب واإلكب@ @@ار للن@ @ ّ‬ ‫فيها حراسة لعبودية الن@ @ ّ‬
‫وس@@المه عليه ‪ ،‬من أتباعه ‪ ،‬وأوليائه ‪ ،‬فيجعل@@وا له إىل اهلل نس@@با ‪ ،‬ب @@والدة أو مش@@اركة ‪ ،‬أو‬
‫احلب ‪ ،‬الذي ال حتكمه بصرية وال يضبطه عقل!‬ ‫حنو هذا ‪ ،‬مما ميليه ّ‬
‫ـل َش ـ ْي ٍء ‪ )..‬أي خلق ك @ ّ@ل ما يف الس@@موات واألرض من‬ ‫ـ وقوله تع @@اىل ‪َ ( :‬و َخلَـ َـق ُكـ َّ‬
‫خملوقات ‪ ،‬ظاهرة أو خفية عرفها الناس ‪ ،‬أو مل يعرفوها ‪..‬‬
‫َّرهُ َت ْق ِديراً) أي أن كل خملوق خلقه اهلل ‪ ،‬هو عن علم ‪،‬‬ ‫ـ وقوله تعاىل ‪َ ( :‬ف َقد َ‬
‫‪1350‬‬

‫وت@ @@دبري ‪ ،‬وتق@ @@دير ‪ ..‬وليس خلقا آليا ‪ ،‬كما يق @ @@ول الط@ @@بيعيون ‪ ،‬ال@ @@ذين ي @ @@رون ىف ق@ @@وانني‬
‫الطبيعة قدرة ذاتية خاّل قة! وهذا ضالل يف ضالل ‪..‬‬
‫ف@ @ @@أوال ‪ :‬لو ك@ @ @@انت الطبيعة هى اليت تعطى ه@ @ @@ذا احملص@ @ @@ول ال@ @ @@وافر من املخلوق@ @ @@ات ‪،‬‬
‫لك@ @ @ @ @@انت كل خملوقاهتا على ص@ @ @ @ @@ورة واح@ @ @ @ @@دة ‪ ،‬وملا تع@ @ @ @ @@ددت أجناسا ‪ ،‬واختلفت ص@ @ @ @ @@ورا‬
‫وأش@@كاال ‪ ..‬ألن تع@@دد األجن@@اس ‪ ،‬واختالف الص@@ور واألل@@وان ‪ ،‬إمنا يك@@ون من عمل إرادة‬
‫ح @ ّ@رة ‪ ،‬خمت @@ارة ‪ ،‬تفعل ما تش @@اء ‪ ..‬والطبيعة عند الطبيع @@يني ال إرادة هلا وال اختي @@ار ‪ ..‬أش @@به‬
‫ب@ @ @ @ @ @@احلجر يلقى به من أعلى اجلبل ‪ ،‬فال ميلك إال أن خيضع حلكم اجلاذبية ‪ ،‬ويس@ @ @ @ @ @@قط على‬
‫السفح!‬
‫وثانيا ‪ :‬لو س@ @@لمنا أن ه@ @@ذه الق@ @@وانني اليت حتكم الطبيعة ‪ ،‬وحتدد مس@ @@ريهتا ‪ ،‬هى اليت‬
‫تعمل وتنتج ه @@ذا النت @@اج املتولد من قوانينها ـ لو س @@لمنا هبذا ‪ ..‬لك @@ان لنا أن نس @@أل ‪ :‬فمن‬
‫أوجد الطبيعة ه @ @ @@ذه؟ مث من أودع يف ه @ @ @@ذه الطبيعة تلك الق @ @ @@وى الكامنة فيه @ @ @@ا؟ ومن رسم‬
‫القوانني اليت حتكم الصالت اليت بني أشيائها؟ ‪..‬‬
‫وكيف يقبل الط @ @ @ @ @@بيعيون تأليه الطبيعة ‪ ،‬يف كل ذرة من ذراهتا ‪ ..‬مث ال يقبل@ @ @ @ @ @@ون أن‬
‫@رد إليها ه @@ذه الطبيعة ‪ ،‬إجيادا وتق @@ديرا ‪ ،‬وتنظيم @@ا؟‬ ‫يك @@ون على ه @@ذه الطبيعة ق @@وة ق @@ادرة ‪ ،‬ت @ ّ‬
‫أليس ذلك أق@@رب إىل منطق العقل ‪ ،‬وأش@@كل بأس@@لوب العلم ‪ ،‬ىف كشف احلق@@ائق ‪ ،‬وتقعيد‬
‫القواعد؟‬
‫إن ق@ @ @ @@وانني الطبيعة اليت كشف العلم عنها ‪ ،‬ال يعيش بعض@ @ @ @@ها مبع@ @ @ @@زل عن بعض ‪..‬‬
‫فهى وإن ك@ @ @ @@ان بينها تفاضل من جهة ف@ @ @ @@إن بينها تك@ @ @ @@امال من جهة أخ@ @ @ @@رى ‪ ..‬حىت ينتهى‬
‫األمر هبا إىل أن تك@@ون قانونا واح@@دا عاما ‪ ،‬ش@@امال ‪ ..‬هو ال@@ذي حي ّدث الق@@رآن الك@@رمي عنه‬
‫بأنه «سنة اهلل» ‪ ..‬فكل ما عرف وهو هباءة مما مل‬
‫‪1351‬‬

‫يع@@رف من ق@@وانني هو من@@درج حتت ه@@ذا الق@@انون الع@@ام «س@@نة اهلل» ‪ ،‬أي نظ@@ام اهلل ‪ ،‬وتق@@دير‬
‫اهلل ‪ ،‬الذي أقام عليه هذا الوجود ‪..‬‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫( َواتَّ َخ ُذوا ِم ْن ُدونِِه آلِ َهـ ةً ال يَ ْخلُ ُقــو َن َشـ ْيئاً َو ُه ْم يُ ْخلَ ُقــو َن َوال يَ ْملِ ُكــو َن أِل َْن ُف ِسـ ِه ْم َ‬
‫ضـ ًّرا‬
‫َوال َن ْفعاً َوال يَ ْملِ ُكو َن َم ْوتاً َوال َحيا ًة َوال نُ ُشوراً ‪)..‬‬
‫الض @@مري ىف «اختذوا» ي @@راد به املش @@ركون باهلل ‪ ،‬ال @@ذين جيعل @@ون مع اهلل آهلة أخ @@رى ‪،‬‬
‫ومل جير هلؤالء املشركني ذكر من قبل يف هذه الصورة ‪..‬‬
‫ويف ع@ @@ود ه@ @@ذا الض@ @@مري على غري م@ @@ذكورين ‪ ،‬حتقري هلم ‪ ،‬وإص@ @@غار لش@ @@أهنم ‪ ،‬وأهنم‬
‫ليسوا شيئا ذا بال ‪ ،‬حىت يذكروا ذكرا ظاهرا ‪..‬‬
‫وقوله تع @@اىل ‪( :‬ال يَ ْخلُ ُقــو َن َشـ ـ ْيئاً َو ُه ْم يُ ْخلَ ُقــو َن) ـ هو ص @@فة لتلك اآلهلة اليت اختذها‬
‫املشركون ‪ ،‬واصطنعوها بأيديهم ‪ ،‬وجعلوها آهلة ‪..‬‬
‫وإنه ليس بعد سفه هؤالء املشركني سفه ‪ ..‬خيلقون آهلة بأيديهم ‪ ،‬مث يعبدوهنا؟ ‪..‬‬
‫إن ذلك وضع معك@ @ @@وس منك@ @ @@وس ‪ ..‬فهم بالنس@ @ @@بة إىل ه@ @ @@ذه ال@ @ @ ّدمى اليت ص@ @ @@نعوها‬
‫بأي@ @ @ @@ديهم ‪ ،‬أش@ @ @@به باآلهلة ‪ ..‬ألهنم هم ال@ @ @@ذين خلقوها ‪ ،‬وأنه إذا ك@ @ @ @@ان ال ب@ @ @ @ ّد من أن يعبد‬
‫أح@@دمها اآلخر ‪ ،‬ف@@إن املخل@@وق هو ال@@ذي يعبد خالقه ‪ ..‬أما أن يعبد اخلالق ما خلق ‪ ..‬فه@@ذا‬
‫ضالل بعيد بعيد!‬
‫ويف قوله تعاىل ‪َ ( :‬و ُه ْم يُ ْخلَ ُقو َن) ـ ويف إض@فاء ص@فة العقالء على ه@ذه ال@ ّدمى إش@@ارة‬
‫إىل أهنا إذا قيست هبؤالء املش@ @@ركني ‪ ،‬ال@ @@ذين يعب@ @@دوهنا ‪ ،‬ك@ @@انت أثقل منهم ميزانا ‪ ،‬وأعلى‬
‫منزلة ‪ ،‬وأش@ @ @@رف ق@ @ @@درا ‪ ..‬إهنا معب@ @ @@ودة وهم هلا عاب@ @ @@دون ‪ ..‬وأهنم ـ فيما يب@ @ @@دو للن@ @ @@اس ـ‬
‫أصحاب عقول ‪ ،‬فكيف ال يكون‬
‫‪1352‬‬

‫آلهلتهم تلك اليت يعب @@دوهنا عق @@ول كعق @@وهلم؟ وهل يعقل أن يك @@ون املعب @@ود ‪ ،‬دون العابد يف‬
‫شىء؟ ‪..‬‬
‫إهنم هم أنفسهم ال يرضون هبذا ‪ ،‬ال يرضون ألحد أن ينزل آهلتهم من هذه السماء‬
‫اليت ينظ@@رون من أرض@@هم إليها ‪ ..‬فه@@ذه ال@ ّدمى عاقلة ‪ ،‬وإن ك@@انت من حجر منح@@وت ‪ ،‬أو‬
‫خشب منج@ @@ور ‪ ،‬أو مع@ @@دن مص@ @@نوع ‪ !!..‬وهل ي@ @@رى األطف@ @@ال ىف ال @ @ ّدمى واللعب اليت بني‬
‫أي @@ديهم إال شخوصا حية ‪ ،‬عاقلة ‪ ،‬يناجوهنا ‪ ،‬ويلق @@ون إليها بأم @@انيهم ‪ ،‬وخ @@واطرهم ‪ ..‬إن‬
‫هذا من ذاك سواء بسواء ‪@!..‬‬
‫ض ـ ًّرا َوال َن ْفع ـاً َوال يَ ْملِ ُكــو َن َم ْوت ـاً َوال َحيــاةً ‪،‬‬
‫وقوله تع@@اىل ‪َ ( :‬وال يَ ْملِ ُكــو َن أِل َْن ُف ِس ـ ِه ْم َ‬
‫َوال نُ ُشـوراً) هو بي@@ان لص@@فات أخ@@رى ‪ ،‬من ص@@فات ه@@ذه اآلهلة ‪ ..‬فهى خملوقة غري خالقة ‪،‬‬
‫وهى ال حول هلا وال طول ‪ ،‬إذ أهنا يف مجودها ه@@ذا ال تس@تطيع التح@@ول من ح@ال إىل ح@ال‬
‫‪ ،‬وال احلركة من مك@@ان إىل مك@@ان ‪ ..‬حىت لو أرادت أن حتطم نفس@@ها ما اس@@تطاعت ‪ ،‬ولو‬
‫أرادت أن تدفع عنها يد من حيطمها ما كان هلا إىل ذلك من س@@بيل ‪ ..‬إهنا باقية على حاهلا‬
‫تلك ‪ ،‬إىل أن يطرقها ح @ @@دث من األح @ @@داث ‪ ،‬فيغري من وض @ @@عها ‪ ،‬كيف يش @ @@اء ‪ ،‬دون أن‬
‫يك @ @@ون هلا موقف ‪ ..‬إجيابا ‪ ،‬أو س@ @@لبا ‪ ..‬وهل ميلك اجلم@ @@اد ش@ @@يئا إال أن جيمد على ما هو‬
‫عليه ‪ ،‬حىت جتىء إليه ّقوة من اخلارج ‪ ،‬فتحدث فيه ما حتدث من تغيري وتبديل؟ ‪..‬‬
‫ض @ @ @ @ّر على النفع ‪ ،‬ألن جلب الض@ @ @ @ ّ@ر أيسر من حتص@ @ @ @@يل النفع ‪ ..‬فاإلنس @ @ @@ان‬ ‫@دم ال ّ‬
‫وق@ @ @ @ ّ‬
‫يس@ @@تطيع أن يضر نفسه بأيسر جمه@ @@ود ‪ ،‬بل وبال جمه@ @@ود أصال ‪ ،‬وحس @@به أن يقف يف طريق‬
‫احلي@ @@اة من غري حركة ‪ ،‬فإنه إن فعل ‪ ،‬س@ @@يجد ألوانا من الض@ @ ّ@ر واألذى تزحف إليه من كل‬
‫اجتاه ‪ ..‬وليس ك@@ذلك حتص@@يل النفع ‪ ،‬فإنه حيت@@اج إىل ب@@ذل ‪ ،‬وجهد ‪ ،‬هو الثمن املقابل هلذا‬
‫النفع ‪ ،‬كيال بكيل ‪ ،‬ووزنا بوزن ‪..‬‬
‫‪1353‬‬

‫وهذه اجلمادات ـ ومنها تلك األصنام ـ ال متلك أن تتح@@ول من ح@@ال إىل ح@@ال أب@@دا ‪،‬‬
‫س@@واء يف االحتف @@اظ بوض@@عها ‪ ،‬أو التح@@ول عنه إىل وضع أس@@وأ ‪ ،‬أو أحسن ‪ ..‬إهنا ال متلك‬
‫«موتا» لنفسها ‪ ،‬وذلك بتحطيم صورهتا اليت تش@@كلت عليها ‪ ،‬وال «حي@@اة» أي إجياد ه@@ذه‬
‫الصورة من قبل أن توجد ‪« ،‬وال نشورا» أي إعادة هذه الصورة بعد حتطيمها ‪..‬‬
‫هذا شأهنا مع نفس@ها ‪ ..‬عجز مطلق واستس@الم ص@امت ‪ ..‬فهل ميكن ـ مع ه@ذا ـ أن‬
‫يك@@ون هلا حيلة مع غريها ‪ ،‬ىف دفع ضر ‪ ،‬أو جلب نف@@ع؟ ذلك حمال ‪ ..‬وأبعد منه اس@@تحالة‬
‫‪ ،‬أن تق @@در على إماتة حى ‪ ،‬أو إجياد حى ‪ ،‬أو بعث ميت ‪ ..‬ف @@ذلك مما عجز عنه األحي @@اء‬
‫‪ ..‬والذي ال ميلكه إال خالق احلياة ‪ ،‬وموجد األحياء ‪ ..‬اهلل رب العاملني ‪..‬‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫آخـ ُـرو َن ‪َ ..‬ف َقـ ْد جــا ُؤ‬ ‫ـك ا ْفتَــراهُ َوأَعانَــهُ َعلَْيـ ِـه َقـ ْـو ٌم َ‬
‫ين َك َفـ ُـروا إِ ْن َهــذا إِاَّل إِفْـ ٌ‬ ‫(وقـ َ َّ ِ‬
‫ـال الذ َ‬ ‫َ‬
‫ظُلْماً َو ُزوراً)‪.‬‬
‫تكشف اآلية هنا عن وجه ه@@ؤالء ال@@ذين ذك@@رهتم اآلية الس@@ابقة بض@@مري الغيبة ‪ ،‬دون‬
‫أن ت @ @@ذكر ص @ @@فتهم ‪ ،‬أو ترجع ه @ @@ذا الض @ @@مري إىل م @ @@ذكورين من قبل ذلك يف قوله تع @ @@اىل ‪:‬‬
‫( َواتَّ َخ ُذوا ِم ْن ُدونِِه آلِ َهةً) ‪:‬‬
‫ـك ا ْفتَــراهُ َوأَعانَ ــهُ َعلَْيـ ِـه َقـ ْـو ٌم‬
‫ين َك َفـ ُـروا إِ ْن َهــذا إِاَّل إِفْـ ٌ‬ ‫ـ ففي قوله تع @@اىل ‪( :‬وقـ َ َّ ِ‬
‫ـال الذ َ‬ ‫َ‬
‫آخ ُرو َن ‪ )..‬إشارة دالة على أن هؤالء الك@افرين ال@ذين يقول@ون ه@ذا الق@ول املنكر يف الق@رآن‬ ‫َ‬
‫الكرمي ـ هم أولئك الذين اختذوا من دونه آهلة!‬
‫وإنك لو ذهبت تضع كال من اآليتني مكان األخرى ‪ ،‬ال استقام النظم‪ .‬بل إنك لو‬
‫كنت ال@@ذي حي ّدث هبذا األمر ‪ ،‬ويص@@وغ ه@@ذا الق@@ول ‪ ،‬ملا ذهبت غري ه@@ذا املذهب فجعلت‬
‫تكذيب املشركني بآيات اهلل ‪ ،‬واهتامهم الرسول بالكذب‬
‫‪1354‬‬

‫واالفرتاء على اهلل ‪ ،‬سببا يف كفرهم ‪ ،‬ويف اختاذهم آهلة يعبدوهنا من دون اهلل ‪..‬‬
‫ولكن نظم الق@@رآن وإعج@@ازه ‪ ،‬هو وح@@ده ال@@ذي يس@@توىل على احلقيقة كاملة ‪ ،‬حيث‬
‫جتن من خلجات وخطرات ‪..‬‬ ‫ينفذ إىل الصدور ‪ ،‬وينكشف ما ّ‬
‫فه@@ؤالء ال@@ذين التق@@وا بكلم@@ات اهلل ‪ ،‬وق@@الوا فيها ه@@ذا الق@@ول املنكر ‪ ،‬إمنا التق@@وا هبا ‪،‬‬
‫وقد فس@ @ @ @@دت فط@ @ @ @@رهتم ‪ ،‬مبا دخل على قل@ @ @ @@وهبم من م@ @ @ @@رض ‪ ،‬وما غطّى على عي@ @ @ @@وهنم من‬
‫موروث@@ات الض@@الل ‪ ..‬ولو أهنم التق@@وا بآي@@ات اهلل من غري أن يك@@ون معهم ه@@ذا ال@@داء ال@@ذي‬
‫متكن منهم ‪ ،‬وأفسد عليهم فط@@رهتم ـ لك@@ان هلم ىف آي@@ات اهلل ق@@ول غري ه@@ذا الق@@ول ‪ ،‬ول@@رأوا‬
‫يف سناها الوضيء وجه احلق ‪ ،‬فاهتدوا إىل اهلل ‪ ،‬وآمنوا به ‪ ،‬وبرسوله ‪ ،‬وبكلماته ‪!..‬‬
‫وكيف ي @@رجى من عق @@ول متلى ألص @@حاهبا أن ينحت @@وا بأي @@ديهم ص @@ورا من أحج @@ار مث‬
‫خيرون بني ي@ @ @ @@دى ه@ @ @ @@ذه األحج@ @ @ @@ار عاب@ @ @ @@دين ‪ ،‬يرج@ @ @ @@ون منها ما ال يرجونه من أنفس@ @ @ @@هم ‪،‬‬
‫وحيمل@ @@ون عليها من آالمهم ‪ ،‬وآم@ @@اهلم ما ال حيتمل@ @@ون هم ‪ ،‬أف@ @@رادا ‪ ،‬أو مجاع@ @@ات ـ كيف‬
‫ي@@رجى من ه@@ذه العق@@ول أن تعقل آي@@ات اهلل ‪ ،‬وما حتمل ىف كياهنا من أن@@وار احلق ‪ ،‬واخلري ‪،‬‬
‫واإلحسان؟ ذلك ما ال يكون!‪.‬‬
‫وإذن ‪ ،‬فهذا القول الذي يقوله ه@ؤالء الك@افرون يف آي@ات اهلل ‪ ..‬هو من منطق ه@ذه‬
‫العقول اليت تتعامل مع ال ّدمى ‪ ،‬وتقف بني يديها هذا املوقف الذليل املستكني ‪..‬‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫ك ا ْفتَراهُ ‪َ ،‬وأَعانَهُ َعلَْي ِه َق ْو ٌم َ‬
‫آخ ُرو َن ‪.)..‬‬ ‫ين َك َف ُروا إِ ْن َهذا إِاَّل إِفْ ٌ‬ ‫(و َ َّ ِ‬
‫قال الذ َ‬ ‫َ‬
‫الزور والبهتان ‪..‬‬ ‫واإلفك ‪ :‬هو ّ‬
‫واالفرتاء خلق األكاذيب ‪ ،‬ونسبتها إىل الغري ‪..‬‬
‫‪1355‬‬

‫@ىب بالك@@ذب واالف@@رتاء ‪ ،‬وهم ال@@ذين مل‬ ‫ومن منطق ه@@ؤالء الض@@الني ‪ ،‬أهنم يتهم@@ون الن@ ّ‬
‫احلق‬
‫جيرب@وا عليه يف حياته كلّها قولة واح@دة ج@انبت الص@واب ‪ ،‬أو بع@دت عن الص@ميم من ّ‬ ‫ّ‬
‫@زور الكالم ‪،‬‬ ‫‪ ..‬ومل يس@@ألوا أنفس@@هم ‪ :‬مل يك@@ذب؟ وما غايته من ه@@ذا الك@@ذب؟ إن ال@@ذي ي@ ّ‬
‫وخيتلق األك@@اذيب ‪ ،‬ال ب@ ّد أن يك@@ون له وراء ذلك غاية يتغيّاها ‪ ،‬ومطلب يس@@عى للحص@@ول‬
‫@ىب منهم من وراء ه@@ذا ال@ ّدين ال@@ذي ي@@دعوهم إلي@@ه؟ إهنم ـ لو عقل@@وا ‪،‬‬ ‫عليه ‪ ..‬فم@@اذا طلب الن@ ّ‬
‫ص@غار ال@ذي هم فيه‬ ‫لعرفوا أمنا يدعوهم ليح@رتموا عق@وهلم ‪ ،‬ول@ريتفعوا بإنس@انيتهم عن ه@ذا ال ّ‬
‫‪ ،‬من لعب يف الرتاب!‬
‫ومن عجب ‪ ،‬أن هؤالء الرجال األطفال ‪ ،‬قد استطاعوا أن مييزوا هذا الق@@ول ‪ ،‬وأن‬
‫يعرف @@وا أنه ف @@وق مس @@توى البشر ‪ ،‬وأنه ما ك @@ان حملمد أن يق @@در على افرتائه ‪ ،‬وإمنا اس @@تعان‬
‫بأهل الص @@نعة واخلربة فأع @@انوه عليه ـ من عجب أن تبه @@رهم آي @@ات اهلل ‪ ،‬وأن ي @@روا بعض ما‬
‫فيها من عظمة وجالل ‪ ..‬مث ت@ @@أىب عليهم عق@ @@وهلم اليت أذهّل ا اجلهل والض@ @@الل ‪ ،‬أن يس@ @ @لّموا‬
‫رب الع @ @@املني ‪ ،‬كما يق @ @@ول هلم‬ ‫ب@ @@أن ه@ @@ذا الكالم ليس من ص @ @@نعة بشر ‪ ،‬وإمنا هو من كالم ّ‬
‫جيرب@ @ @ @@وا عليه كذبة قط ‪ ،‬وكما حت ّدثهم ب@ @ @ @@ذلك كلم@ @ @ @@ات اهلل ‪ ،‬ىف‬ ‫ذلك حممد ‪ ،‬ال@ @ @ @@ذي مل ّ‬
‫ومسوها ‪ ،‬وبعدها عن أن تكون يف متناول إنسان!‪.‬‬ ‫جالهلا ‪ّ ،‬‬
‫رد على ق@@ول الك@@افرين ‪( :‬إِ ْن َهـذا‬ ‫ـ ويف قوله تع@@اىل ‪َ ( :‬ف َق ْد جا ُؤ ظُْلمـاً َو ُزوراً) ـ هو ّ‬
‫آخـ ُـرو َن ‪ )..‬إهنم هم ال @@ذين ج @@اءوا هبذا الق @@ول الظ @@امل ‪،‬‬‫ـك ا ْفتَــراهُ َوأَعانَ ــهُ َعلَْيـ ِـه َقـ ْـو ٌم َ‬
‫إِاَّل إِفْ ـ ٌ‬
‫زوروه على أنفسهم ‪ ،‬وك ّذبوا عليها به ‪..‬‬ ‫اجلائر عن احلق ‪ ،‬والذي ّ‬
‫اجلر ‪ ،‬فيقال‬
‫ويف تعدية الفعل «جاء» إىل املفعول ‪ ،‬وهو يتع ّدى حبرف ّ‬
‫‪1356‬‬

‫ج@ @@اء بك @ @@ذا ‪ ،‬ال ج@ @@اء ك @ @@ذا ‪ ..‬ىف ه @ @@ذا إش @ @@ارة إىل أن ه @ @@ذا الق @ @@ول ال@ @@ذي ق@ @@الوه ‪ ،‬إمنا هو‬
‫مس@ @@تجلب من وراء عق@ @@وهلم ‪ ،‬وأنه من موروث@ @@ات الض@ @@الل ال@ @@ذي يعيش معهم ‪ ..‬فهم قد‬
‫استجلبوا هذا القول ‪ ،‬ال@ذي ظلم@@وا به احلقيقة ‪ ،‬وظلم@وا به أنفس@هم ‪ ،‬وك@ذبوا به عليها ‪..‬‬
‫ضمن معىن «جلب» أو «اختلق» ‪..‬‬ ‫فالفعل «جاء» ّ‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫َساطير اأْل ََّولِين ا ْكتَتَبها ‪ ..‬فَ ِهي تُملى َعلَْي ِه بكْرةً وأ ِ‬
‫َصيالً)‪.‬‬ ‫ِ‬
‫ُ َ َ‬ ‫َ ْ‬ ‫َ َ‬ ‫( َوقالُوا أ ُ‬
‫هو ق @ @@ول آخر من مق@ @ @@والت املش@ @ @@ركني يف كلم @ @@ات اهلل ‪ ..‬وك @ @@أهنم أرادوا هبذا أن‬
‫يقيم@@وا هلذا ال@@زور ال@@ذي اس@@تجلبوه أو اختلق@@وه ‪ ،‬مس@@تندا يس@@تند إليه ‪ ،‬وقد رأوه يك@@اد يف@ ّ@ر‬
‫من بني أيديهم ‪..‬‬
‫ونس@@بة الق@@رآن إىل أنه من أس@@اطري األولني ‪ ،‬ف@@رار من الق@@ول بأنه من معطي@@ات احلي@@اة‬
‫اليت يعيش@ @ @@ون فيها ‪ ،‬وذلك حني رأوا أن ه@ @ @@ذه احلي@ @ @@اة ال تعطى مثل ه@ @ @@ذا الكالم يف جالله‬
‫وروعته ‪ ،‬وأنه لو ك@ @@ان ذلك ممكنا لك@ @@ان عليهم أن جييئوا بق@ @@ول مثله ‪ ،‬فلم يكن ـ واحلال‬
‫كذلك ـ إال أن ينسبوه إىل علم املاضني ‪ ،‬وما سطروه من علم وحكمة ‪..‬‬
‫ويف أس @@اطري األولني م @@دخل فس @@يح للخي @@ال ‪ ،‬واص @@طياد الغ @@رائب اليت ال ختطر على‬
‫الب @@ال ‪ ،‬حيث يقع املاضي من الن @@اس موقع القداسة والرهبة ‪ ،‬لكل ص @@غري وكبري يس @@تجلب‬
‫منه ‪ ..‬فال حجة عليهم ملن جييئهم من ع@ @@امل األس@ @@اطري مبا مل يقع ألي@ @@ديهم ‪ ،‬فه@ @@ذا ع@ @@امل ال‬
‫حدود له ‪ ،‬وال جماز بني أحد وبينه ‪@!!..‬‬
‫@ىب ‪ ،‬ودفع االع@ @@رتاض الق@ @@ائم بني ي@ @@دى‬ ‫ويف ق@ @@وهلم ‪« :‬اكتتبه@ @@ا» إش@ @@ارة إىل أمية الن@ @ ّ‬
‫ك ا ْفتَراهُ ‪ )..‬وقوهلم عن هذا اإلفك املفرتى‬ ‫قوهلم‪( :‬إِ ْن َهذا إِاَّل إِفْ ٌ‬
‫‪1357‬‬

‫األمي؟ فك@ @ @@ان ق@ @ @@وهلم ‪:‬‬


‫إنه من «أس@ @ @@اطري األولني» ‪ ..‬ف@ @ @@أىّن حملمد بأس@ @ @@اطري األولني ‪ ،‬وهو ّ‬
‫«اكتتبها» دفعا هلذا االعرتاض ‪ ...‬أي أنه وإن كان ّأميّا ‪ ،‬فإنه استعان مبن يكتبها له!!‬
‫ويف قوهلم ‪( :‬فَ ِه َي تُ ْملى َعلَْي ِه بُ ْك َـرةً َوأَ ِصـيالً) دفع الع@@رتاض آخر ‪ ..‬وهو ‪ :‬إذا ك@@ان‬
‫حممد قد اس@@تكتب ه@@ذه األس@@اطري ‪ ،‬واس@@تعان مبن يكتبها له ـ فما فائ@@دة ه@@ذه الكتابة ‪ ،‬وهو‬
‫ال يقرأ ما كتب له؟ مث هو إمنا يتحدث هبذا الكالم مشافهة بلسانه ‪ ،‬ال يقرؤه من كتاب ‪،‬‬
‫وال يق@ @@رؤه له أحد عليهم ‪ ..‬فكيف ه@ @@ذا؟ ‪ ..‬وج@ @@واهبم ـ كما ق@ @@دروه ـ ‪ :‬أن ه@ @@ذا ال@ @@ذي‬
‫اس@@تكتبه ‪ ،‬يتلى عليه بك@@رة وأص@@يال ‪ ،‬تالوة دائمة ‪ ،‬حىت حيفظه ‪ ،‬مث حيفظه ‪ ،‬مث خيرج على‬
‫الناس به!‬
‫وهكذا يركبون جبهلهم ‪ ،‬وسفههم ‪ ،‬هذا املركب الوعر ‪ ،‬والطريق أمامهم مستقيم‬
‫قاصد ‪ ..‬فم@ @@اذا عليهم لو أخ@ @@ذوا مبا حت ّدثهم به أنفس@ @@هم ‪ ،‬وق@ @@الوا إ ّن ه@ @@ذا الكالم من عند‬
‫اهلل؟‪.‬‬
‫إهنم لو قالوا هذا ‪ ..‬لكان هلم يف هذا القول ما حملمد نفسه ‪ ..‬إنه ليس حملمد فيه إاّل‬
‫ال ‪،‬‬ ‫ض@ @ ّ‬
‫ما هو هلم ‪ ،‬وإنه إذا ك@ @@ان له من فضل عليهم ‪ ،‬فهو فضل ال@ @ ّدليل على ال@ @@راكب ال ّ‬
‫وفضل الط@ @@بيب على األعمى ‪ ،‬يعيد إليه بص@ @@ره ‪ ،‬ف@ @@ريى الن@ @@ور ‪ ،‬ال@ @@ذي هو من نعمة اهلل ‪،‬‬
‫على عباد اهلل ‪ ،‬وليس للطبيب وال لغريه فضل على أحد فيه! أفيكرهون أن يقوم من بينهم‬
‫ط@@بيب ‪ ،‬جيلى عمى أبص@@ارهم ‪ ،‬وي@@زيح ض@@الل عق@@وهلم ‪ ،‬ف@@ريوا آي@@ات اهلل بعي@@ون مبص@@رة ‪،‬‬
‫وعق@@ول س@@ليمة مدرك@@ة؟ إنه العن@@اد ‪ ،‬والكرب ‪ ..‬عن@@اد األطف@@ال ‪ ،‬وكرب الس@@فهاء واحلمقى ‪..‬‬
‫ميوت أح@@دهم غرقا وال مي ّد ي@@ده إىل حبل النج@@اة املم@@دود له من يد كرمية رحيمة ‪ ،‬حىت ال‬
‫يقال إن فالنا قد أخذ بيده ‪ ،‬وجنّاه من مهلكه!!‬
‫‪1358‬‬

‫قوله تعاىل ‪:‬‬


‫ض ‪ ..‬إِنَّهُ كا َن غَ ُفوراً َر ِحيماً)‪.‬‬ ‫الس ِ‬
‫ماوات َواأْل َْر ِ‬ ‫الس َّر فِي َّ‬
‫(قُ ْل أَْن َزلَهُ الَّ ِذي َي ْعلَ ُم ِّ‬
‫ه @@ذا هو الق @@ول ‪ ،‬ال @@ذي يلقى به رس @@ول اهلل ‪ ،‬ق @@ول ه @@ؤالء الض @@الني عن كالم اهلل ‪،‬‬
‫بأنه إفك اف@@رتاه حممد ‪ ،‬وأعانه عليه ق@@وم آخ@@رون ‪ ،‬وأنه أس@@اطري األولني اكتتبها ‪ ،‬فهى متلى‬
‫عليه بكرة وأصيال ‪..‬‬
‫رب الع@@املني‪ .‬أنزله‬ ‫فه@@ذا ال@@ذي بني ي@@دى حممد ‪ ،‬وعلى لس@@انه ‪ ،‬ويف قلبه ـ هو كالم ّ‬
‫عليه ‪ ،‬هدى ورمحة للعاملني ‪..‬‬
‫ويف وصف اهلل س@@بحانه وتع@@اىل بتلك الص@@فة هنا ‪ ،‬وهو أنه يعلم الس@ ّ@ر ىف الس@@موات‬
‫واألرض ـ إش @@ارة إىل ما هلل س @@بحانه وتع @@اىل من علم ‪ ،‬فال ختفى عليه خافية يف األرض وال‬
‫يف الس@ @@ماء ‪ ..‬وأن ما عند األولني من علم ‪ ،‬وما خلف@ @@وا من آث@ @@ار ‪ ،‬باقية ‪ ،‬أو مطموسة ‪،‬‬
‫هى يف علم اهلل ‪ ،‬وأنه إذا ك @ @ @ @ @@ان فيما ن @ @ @ @ @@زل على حممد أخب @ @ @ @ @@ار من حي @ @ @ @ @@اة األولني ‪ ،‬ومن‬
‫أحداثهم ـ ف@ذلك يف علم اهلل ‪ ،‬ومن علم اهلل ‪ ..‬وإنه ليس مبحمد حاجة ـ وهو يتلقى آي@ات‬
‫ربه ـ أن يس@@تكتب أس@@اطري األولني ‪ ،‬وأن حيفظها ‪ ،‬مث حيدث هبا ‪ ..‬إنه يس@@تقى من مص@@در‬
‫العلم ‪ ،‬ومن ينابيعه الص@ @ @@افية ‪ ،‬فما حاجته إىل أن مي ّد بص@ @ @@ره إىل س@ @ @@راب خ@ @ @@ادع ‪ ،‬أو ب @ @@ئر‬
‫مطموسة؟‪.‬‬
‫ويف قوله تع @@اىل ‪( :‬إِنَّهُ كــا َن غَ ُفــوراً َر ِحيم ـاً) ـ إش @@ارة إىل أن اهلل س @@بحانه ‪ ،‬مع علمه‬
‫خبفايا الناس ‪ ،‬ومبا يرتكب@ون من منك@رات خيش@ون أن يطلع عليها من يفض@حهم ‪ ،‬ويكشف‬
‫يعجل هلم‬ ‫املس@@تور من أم@@رهم ـ فإنه س@@بحانه وتع@@اىل ‪« ،‬غف@@ور» ألص@@حاب املنك@@رات ‪ ،‬وال ّ‬
‫العقاب ‪ ،‬وال يفضح املستور منهم ‪ ،‬حىت‬
‫‪1359‬‬

‫تكون هلم عودة إىل أنفسهم ‪ ،‬ورجعة إىل الطريق املس@تقيم ‪ ..‬ف@@إهنم إن فعل@@وا ‪ ،‬وج@@دوا ربا‬
‫«غفورا» يقبل توبتهم ‪ ،‬ويغفر هلم ما كان منهم ‪( ..‬إِنَّهُ كا َن غَ ُفوراً َر ِحيماً)‪.‬‬
‫____________________________________‬

‫اآليات ‪ 7( :‬ـ ‪)16‬‬


‫واق لَـ ْـو ال أُنْ ـ ِز َل إِل َْيـ ِـه َملَـ ٌ‬
‫ـام ويم ِش ـي فِي اأْل َ ْس ـ ِ‬
‫ـل الطَّعـ َ َ َ ْ‬ ‫(وقــالُوا ما لِه ـ َذا َّ ِ‬
‫ـك‬ ‫الر ُس ـول يَأْ ُكـ ُ‬ ‫َ‬
‫ِ‬
‫ـال الظَّال ُمو َن إِ ْن‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ـل م ْنها َوقـ َ‬ ‫َفيَ ُكــو َن َم َعــهُـ نَــذيراً (‪ )7‬أ َْو ُيلْقى إل َْيــه َك ْـن ٌـز أ َْو تَ ُكــو ُن لَــهُ َجنَّةٌ يَأْ ُكـ ُ‬
‫ضـلُّوا فَال يَ ْسـتَ ِطيعُو َن َسـبِيالً‬ ‫ـال فَ َ‬ ‫َك اأْل َْمثـ َ‬ ‫ض َربُوا ل َ‬‫ف َ‬ ‫َتتَّبِعُو َن إِالَّ َر ُجالً َم ْس ُحوراً (‪ )8‬انْظُْر َك ْي َ‬
‫َّات تَ ـ ِ‬ ‫ـك َخ ْيــراً ِم ْن ذلِـ َ‬ ‫َّ ِ‬
‫ـل‬‫ـار َويَ ْج َعـ ْ‬
‫ِ‬
‫ج ِري م ْن تَ ْحت َها اأْل َنْهـ ُ‬ ‫ـك َجن ٍ ْ‬ ‫ـل لَـ َ‬ ‫ـار َك الذي إِ ْن شـ َ‬
‫ـاء َج َعـ َ‬ ‫(‪ )9‬تَبـ َ‬
‫اع ِة َسـ ِعيراً (‪ @)11‬إِذا َرأَْت ُه ْم‬ ‫ب بِال َّ‬ ‫ِ‬ ‫سـ َ ِ‬ ‫صوراً (‪ @)10‬بَ ْـل َك َّـذبُوا بِال َّ‬
‫سـ َ‬ ‫اع ـة َوأَ ْعتَـ ْدنا ل َم ْن َك َّـذ َ‬ ‫َك قُ ُ‬ ‫لَ‬
‫ين َد َعـ ْـوا‬ ‫ِ‬
‫ض ـيِّقاً ُم َقـ َّـرن َ‬‫ـان بَ ِعيـ ٍـد َس ـ ِمعُوا لَها َتغَيُّظ ـاً َو َزفِــيراً (‪َ )12‬وإِذا أُلْ ُقــوا ِم ْنها َمكان ـاً َ‬ ‫ِمن مكـ ٍ‬
‫ْ َ‬
‫ـك َخ ْـي ٌـر‬‫واحداً َوا ْدعُوا ثُبُوراً َكثِيراً (‪ @)14‬قُـ ْـل أَذلِـ َ‬ ‫ك ُثبوراً (‪ )13‬ال تَ ْدعوا الْيوم ُثبوراً ِ‬ ‫ِ‬
‫ُ َْ َ ُ‬ ‫ُهنال َ ُ‬
‫ص ـ ـيراً (‪ )15‬ل َُه ْم فِيها ما يَشـ ــا ُؤ َن‬ ‫ت ل َُهم ـج ــزاء وم ِ‬ ‫ِ ِ ِ‬
‫أ َْم َجنَّةُ الْ ُخ ْلـ ــد الَّتي ُوعـ ـ َد ال ُْمَّت ُقـ ــو َن كـ ــانَ ْ ْ َ ً َ َ‬
‫ك َو ْعداً َم ْس ُؤالً) (‪)16‬‬ ‫ين كا َن َعلى َربِّ َ‬ ‫ِِ‬
‫خالد َ‬
‫____________________________________‬
‫التفسري ‪:‬‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫واق لَـ ْـو ال أُنْ ـ ِز َل إِل َْيـ ِـه َملَـ ٌ‬
‫ـام ويم ِش ـي فِي اأْل َ ْس ـ ِ‬
‫ـل الطَّعـ َ َ َ ْ‬ ‫(وقــالُوا ما لِه ـ َذا َّ ِ‬
‫ـك‬ ‫الر ُس ـول يَأْ ُكـ ُ‬ ‫َ‬
‫ِ‬
‫َفيَ ُكو َن َم َعهُـ نَذيراً ‪)..‬‬
‫‪1360‬‬

‫بعد أن فض@ @ @@حت اآلي@ @ @@ات الس@ @ @@ابقة مقولة املش@ @ @@ركني يف الق@ @ @@رآن الك@ @ @@رمي ‪ ،‬بأنه إفك‬
‫مف@ @ @@رتى ‪ ،‬وأنه أس @ @@اطري األولني ‪ ،‬اكتتبها حممد ‪ ،‬فهى متلى عليه بك@ @ @@رة وأص@ @ @@يال ـ بعد أن‬
‫ورد اهلل‬
‫فض @ @@حت اآلي @ @@ات الس @ @@ابقة تلك املقولة الظاملة عن املش @ @@ركني ىف الق @ @@رآن الك @ @@رمي ‪ّ ،‬‬
‫ســ ِ‬
‫ماوات‬ ‫س ـ ـ َّر فِي ال َّ‬
‫س @ @@بحانه وتع @ @@اىل ك @ @@ذهبم واف @ @@رتاءهم بقوله ‪( :‬قُـ ـ ْـل أَْن َزلَـ ــهُ الَّ ِذي َي ْعلَ ُم ال ِّ‬
‫@ىب نفسه ‪..‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ َِّ‬
‫َواأْل َْرض ‪ ..‬إنهُ كا َن غَ ُفوراً َرحيماً) ـ جاءت هذه اآليات لتفضح مقولتهم يف الن@ ّ‬
‫فإن هلم فيه مقوالت ‪ ،‬كتلك املقوالت اليت يقولوهنا يف كلمات اهلل اليت محلها إليهم ‪..‬‬
‫ومن مقوالهتم يف الرسول قوهلم الذي حكاه القرآن عنهم ‪:‬‬
‫واق؟)‪.‬‬ ‫َس ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫عام َويَ ْمشي في اأْل ْ‬ ‫ول يَأْ ُك ُل الطَّ َ‬ ‫(ما لِه َذا َّ‬
‫الر ُس ِ‬
‫فهم ينك @ @@رون أن يك @ @@ون ه @ @@ذا اإلنس @ @@ان رس @ @@وال ‪ ،‬مث يأكل الطع @ @@ام كما ي @ @@أكلون ‪،‬‬
‫وميشى يف األسواق ‪ ،‬ليبيع أو يشرتى ‪ ،‬كما ميشون ويبيعون ويشرتون!‬
‫ويف ح @ @@ديثهم عن حممد بأنه رس @ @@ول ‪ ،‬اس@ @@تهزاء ‪ ،‬وس @ @@خرية ‪ ،‬وإنك @ @@ار ‪ ..‬إذ كيف‬
‫يك@@ون رس@@وال مث يك@@ون بش@@را حتكمه الض@@رورات البش@@رية ‪ ،‬من طع@@ام وش@@راب ‪ ،‬وغريمها؟‬
‫هكذا جيرى تفكريهم وتقديرهم‪.‬‬
‫@دىل منهم ‪ ،‬ب@@أن‬ ‫ِ‬ ‫ويف ق @@وهلم ‪( :‬لَـ ْـو ال أُنْ ـ ِز َل إِل َْيـ ِـه َملَـ ٌ‬
‫ـك َفيَ ُكــو َن َم َعــهُ نَــذيراً) تس@@ليم ج@ ّ‬
‫يكون الرسول بشرا ‪ ،‬ولكن ال يعرتف به رسوال ‪ ،‬إال أن يكون معه ملك هو ال@@ذي يأخذ‬
‫منه الن@ @@اس ش@ @@اهدا على أن حمم@ @@دا رس@ @@ول اهلل ‪ ،‬وأن ه@ @@ذه الكلم@ @@ات اليت ين@ @@ذرهم هبا هى‬
‫كلمات اهلل!!‬
‫ومل يس @@أل ه @@ؤالء الض @@الني أنفس @@هم ما ج @@دوى الرس @@ول إذن ‪ ،‬مع ه @@ذا امللك املنزل‬
‫من الس@ماء بكلم@ات اهلل؟ ومل ال يتصل هبم امللك اتص@اال مباش@را إن ك@ان ذلك ممكن@ا؟ ومع‬
‫أى من املرس@ @ @ @@لني يتع@ @ @ @@املون؟ أمع البشر ‪ ،‬أم املل@ @ @ @@ك؟ ‪ ..‬مث ‪ ،‬من ي@ @ @ @@رى ملكا ويتعامل مع‬ ‫ّ‬
‫بشر؟‪.‬‬
‫‪1361‬‬

‫قوله تعاىل ‪:‬‬


‫ـل ِم ْنها َوقـ َ‬
‫ـال الظَّالِ ُمو َن إِ ْن َتتَّبِعُــو َن إِاَّل َر ُجالً‬ ‫ِ ِ‬
‫(أ َْو ُيلْقى إل َْيــه َك ْـن ٌـز أ َْو تَ ُكــو ُن لَــهُ َجنَّةٌ يَأْ ُكـ ُ‬
‫َم ْس ُحوراً)‪.‬‬
‫مث ها هم أوالء يس @لّمون ج@@دال ‪ ،‬أن يك@@ون حممد رس@@وال ‪ ،‬يأكل الطع@@ام وميشى يف‬
‫األس @@واق ‪ ..‬ولكن كيف يك @@ون على ه @@ذه احلال ‪ ،‬من الض @@يق ىف العيش ‪ ،‬وهو على ص @@لة‬
‫باهلل ‪ ،‬ال @ @@ذي يفيض اخلري على الن @ @@اس وميأل أي @ @@ديهم من النعم؟ أال يلقى إليه ربّه ك @ @@نزا من‬
‫الس@@ماء ‪ ،‬ينفق منه عن س@@عة ‪ ،‬وين@@ال به ك@ ّ@ل ما ش@@اء من متع احلي@@اة؟ أوال جيعل له ربّه جنة‬
‫يأكل منها ‪ ،‬ويعيش يف خريها ‪ ،‬كتلك اجلنات اليت ميلكها أصحاب اجلاه والنعمة فيهم؟‬
‫إن ال @@ذين يتص @@لون ب @@امللوك ‪ ،‬واألم @@راء ‪ ،‬وأص @@حاب اجلاه والغىن ‪ ،‬يعيش @@ون ىف نعمة‬
‫ورخ@ @@اء ‪ ..‬فكيف تك@ @@ون تلك احلال من الفقر والض@ @@يق ‪ ،‬ملن ي@ @ @ ّدعى أنه على ص @ @@لة باهلل ‪،‬‬
‫وأنه رسول اهلل؟ ـ هكذا يقيس القوم أق@دار الن@اس ومن@@ازهلم عند اهلل! فعلى ق@در ما وسع اهلل‬
‫إلنس@@ان يف ال@@رزق ‪ ،‬يك@@ون ـ ىف تق@@ديرهم ـ على ق@@در حبّه له ‪ ،‬ومنزلته عن@@ده! إن مق@@اييس‬
‫الن@@اس عن@@دهم مبا ملك@@وا من م@@ال ‪ ،‬وما مجع@@وا من حط@@ام ‪ ..‬ومل ي@@دخل يف حس@@اهبم ش@@ىء‬
‫من كماالت النفس ‪ ،‬ومسّو الروح ‪ ..‬وحسبوا أن هذه احلي@اة ال@@دنيا هى ك@ ّ@ل ما لإلنس@@ان ‪،‬‬
‫ف@@إذا انتهت حياته مبوته انتهى ك@ ّ@ل ش@@ىء بالنس@@بة له ‪ !..‬ومن هنا ك@@ان حس@@اهبم قائما على‬
‫ميزان فاسد ‪ ،‬ال يقام لشىء وزن فيه ‪ ،‬إال إذا كان فاسدا معطوبا ‪..‬‬
‫مث ي@@دور ه@@ذا احلديث يف الق@@وم ‪ ،‬ويتعاطونه فيما بينهم كما يتع@@اطون كئ@@وس اخلمر‬
‫‪ ..‬مث يكون حصيلة هذا كله ‪ ،‬أن يقولوا ‪( :‬إِ ْن َتتَّبِعُو َن إِاَّل َر ُجالً َم ْس ُحوراًـ)! أي ما تتبعون‬
‫إن اتبعتم إال إنسانا سحر ‪ ،‬فاختلط عقله ‪ ،‬واضطرب تفكريه ‪..‬‬
‫‪1362‬‬

‫قال الظَّالِ ُمو َن) بدال من قوله «وقالوا» إظهارا للص@فة اليت ي@دمغهم هبا‬ ‫ويف قوله ‪َ ( :‬و َ‬
‫النىب‪ .‬إهّن م‬
‫اهلل سبحانه وتعاىل ‪ ،‬ىف مقابل تلك املقوالت املنكرة ‪ ،‬الضالة ‪ ،‬اليت يقولوهنا يف ّ‬
‫ظاملون ‪ ،‬جائرون عن الطريق املستقيم ‪ ،‬راكبون طرق الضالل ‪ ،‬واهلالك ‪..‬‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫ضلُّوا فَال يَ ْستَ ِطيعُو َن َسبِيالً ‪)..‬‬ ‫ثال فَ َ‬‫َك اأْل َْم َ‬ ‫ض َربُوا ل َ‬‫ف َ‬ ‫(انْظُْر َك ْي َ‬
‫التف@ @@ات إىل النيب الك@ @@رمي هبذا اخلط@ @@اب من ربّه ج@ @ ّ@ل وعال ‪ ،‬ي@ @@دعوه إىل أن ينظر ىف‬
‫ه@@ذه املق@@والت اليت يقولوهنا فيه ‪ ،‬وليعجب من تلك العق@@ول الفارغة اليت ال خيرج منها غري‬
‫ه@ @ @ @ @@ذا اللّغو من الق@ @ @ @ @@ول؟ إهنم أعجوبة ‪ ،‬تثري ال@ @ @ @ @@دهش والعجب ‪ ،‬وتبعث على الس@ @ @ @ @@خرية‬
‫واالستهزاء!‬
‫واألمث@@ال اليت ض@@ربوها ‪ ،‬هى تلك الص@@ور اليت ص@@ورهتا عق@@وهلم الفارغة ملن ي@@رون أن‬
‫يكون أهال لرسالة السماء‪.‬‬
‫ضلُّوا فَال يَ ْستَ ِطيعُو َن َسبِيالً) إشارة إىل أن ض@@الهلم ك@@ان ض@@الال‬ ‫ـ ويف قوله تعاىل ‪( :‬فَ َ‬
‫بعيدا ‪ ،‬مستوليا على وجودهم كله ‪ ..‬ومن هنا ‪ ،‬فإهنم ال يق@درون ـ ولو ح@اولوا ـ على أن‬
‫جيدوا سبيال للخالص من هذا الضالل ‪ ،‬الذي غرقوا ىف جلجه املتالطمة!‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ـك َخ ْيـ ــراً ِم ْن ذلِـ ـ َ‬ ‫َّ ِ‬
‫ـك َجنَّات تَ ْجـ ـ ِري م ْن تَ ْحت َها اأْل َنْهـ ـ ُ‬
‫ـار‬ ‫ـل لَـ ـ َ‬ ‫ـار َك الذي إِ ْن شـ ـ َ‬
‫ـاء َج َعـ ـ َ‬ ‫(تَبـ ـ َ‬
‫صوراً)‪.‬‬ ‫َك قُ ُ‬‫َويَ ْج َع ْل ل َ‬
‫أي تب @ @@ارك ربّك ‪ ،‬وك @ @@ثرت خرياته وبركاته ‪ ..‬وإنه ليس بال @ @@ذي ميسك عنك ه @ @@ذا‬
‫املتاع الدنيوي ‪ ،‬الذي يقتتل عليه هؤالء املشركون ‪ ،‬ويأبون متابعتك‬
‫‪1363‬‬

‫إال إذا كنت على تلك الص@@ورة اليت متثلوها ملبع@@وث الس@@ماء إليهم ‪ ،‬من وف@@رة الغىن وك@@ثرة‬
‫األم@@وال وال@@زروع ‪ ..‬فلو ش@@اء ربك جلعل لك ب@@دل اجلنة جن@@ات ‪ ،‬وب@@دل القصر قص@@ورا ‪..‬‬
‫ضن بك على هذه الدنيا أن تش@@غل قلبك ‪ ،‬عن ذك@@ره ‪ ،‬أو حتجز عينك عن‬ ‫ولكنه سبحانه ّ‬
‫النظر يف غري آياته ‪!..‬‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫اع ِـة َس ِعيراً)‪.‬‬ ‫ب بِ َّ‬ ‫ِ‬ ‫الس َ ِ‬
‫(بَ ْل َك َّذبُوا بِ َّ‬
‫الس َ‬ ‫اعة َوأَ ْعتَ ْدنا ل َم ْن َك َّذ َ‬
‫إن ه@@ؤالء الق@@وم ‪ ،‬ال يرض@@ون عن ه@@ذا الق@@ول ‪ ،‬وال جيدون فيه ما يعت@@دل به ميزانك‬
‫عندهم ‪ ..‬ألهنم ال يؤمنون باآلخرة ‪ ،‬وال يرجون وراء هذه الدنيا حياة أخرى ‪ ..‬ولو أهنم‬
‫آمن@ @@وا باحلي@ @@اة اآلخ@ @@رة ‪ ،‬لعلم@ @@وا أهنا هى احلي@ @@اة ‪ ،‬وأن نعيمها هو النعيم ‪ ،‬وأن ش@ @@قاءها هو‬
‫الشقاء‪.‬‬
‫َّار اآْل ِ ـخ ـ ـ َرةَ لَ ِه َي‬
‫وأن ما يف ه @ @ @@ذه ال @ @ @@دنيا من مت @ @ @@اع وش @ @ @@قاء ‪ ،‬إىل زوال ‪َ ( :‬وإِ َّن الـ ـ ــد َ‬
‫ْحيَوا ُن ل َْو كانُوا َي ْعلَ ُمو َن) (‪ : 64‬العنكبوت)‪.‬‬ ‫ال َ‬
‫اع ِـة َس ـ ـ ِعيراً) وعيد هلؤالء املش@ @@ركني‬ ‫ب بِال َّ‬ ‫ِ‬
‫س ــ َ‬ ‫ـ ويف قوله تع@ @@اىل ‪َ ( :‬وأَ ْعتَ ـ ـ ْدنا ل َم ْن َكـ ـ َّـذ َ‬
‫بالعذاب األليم الذي أعده اهلل للظاملني يف اآلخرة ‪ ..‬وإهنم ملن الظاملني ‪..‬‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫ـان بَ ِعي ـ ٍـد َسـ ـ ِمعُوا لَها َتغَيُّظـ ـاً َو َزفِ ــيراً َوإِذا أُلْ ُق ــوا ِم ْنها َمكانـ ـاً َ‬
‫ضـ ـيِّقاً‬ ‫(إِذا رأَْت ُهم ِمن مك ـ ٍ‬
‫َ ْ ْ َ‬
‫واحداً َوا ْدعُوا ثُبُوراً َكثِيراً ‪)..‬‬ ‫ك ثُبوراً ال تَ ْدعوا الْيوم ُثبوراً ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ُ َْ َ ُ‬ ‫ين َد َع ْوا ُهنال َ ُ‬ ‫ُم َق َّرن َ‬
‫فه@@ذه جهنم ـ وه@@ذه أهواهلا ـ إهنا إذا رأت أهلها املس@@اقني إليها ‪ ،‬وهم على بعد منها‬
‫‪َ ( ،‬س ِمعُوا لَها َتغَيُّظاً َو َزفِيراً) إهنا ترسل إليهم بنذرها قبل أن يصلوا‬
‫‪1364‬‬

‫إليها ‪ ،‬حىت لكأن بينها وبينهم ترة وثأرا ‪ ..‬فما أن تلمحهم من بعيد ‪ ،‬حىت يف@ور فائرها ‪،‬‬
‫وميوج مائجها ‪ ..‬حىت إذا بلغوها ‪ ،‬وألق@ @@وا منها يف مك@ @@ان ض@ @@يق خ@ @@انق ‪ ،‬أطبقت عليهم ‪،‬‬
‫فض @@اقت أنفس @@هم ‪ ،‬واختنقت أنفاس @@هم ‪ ،‬وتن @@ادوا بالويل والثب @@ور ‪ ..‬فق @@الوا ‪ :‬يا ويلنا ‪ ،‬يا‬
‫ض@@يعتنا ‪ ،‬يا س@@وء مص@@رينا ‪ ..‬مث ال جيدون هلذا االستص@@راخ من يس@@مع أو جييب ‪ ،‬وص@@وت‬
‫واحداً َوا ْدعُوا ُثبُوراً َكثِيراً) إن صراخكم س@@يطول‬ ‫احلال يقول هلم ‪( :‬ال تَ ْدعوا الْيوم ثُبوراً ِ‬
‫ُ َْ َ ُ‬
‫‪ ،‬وإن عويلكم ال ينتهى ‪ ..‬ولن ينفعكم صراخ أو عويل!‬
‫ين) إش@@ارة إىل ما يؤخذ به الظ@@املون من إذالل وه@@وان ‪ ،‬وأهنم‬ ‫ِ‬
‫ـ وقوله تع@@اىل ‪ُ ( :‬م َق َّرن َ‬
‫إذ يساقون إىل جهنم ‪ ،‬وإذ يلقون فيها ‪ ،‬فإمنا حيزمون كح@زم احلطب ‪ ،‬ويق@رن بعض@هم إىل‬
‫بعض كما يقرن القطيع من احليوان ‪..‬‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫ت ل َُهم جــزاء وم ِ‬ ‫ِ ِ ِ‬ ‫(قُـ ْـل أَذلِـ َ‬
‫ص ـيراً* ل َُه ْم‬ ‫ـك َخ ْـي ٌـر أ َْم َجنَّةُ الْ ُخ ْلــد الَّتي ُوعـ َد ال ُْمَّت ُقــو َن كــانَ ْ ْ َ ً َ َ‬
‫ك َو ْعداً َم ْس ُؤالً)‪.‬‬ ‫ين كا َن َعلى َربِّ َ‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬
‫فيها ما يَشا ُؤ َن خالد َ‬
‫أفه @ @ @@ذا الع@ @ @@ذاب األليم واهلوان املهني ال @ @ @@ذي س @ @ @@تجدونه ي @ @ @@وم القيامة أيها الض@ @ @@الون‬
‫املكذبون ‪ ،‬أم جنة اخللد اليت وعدها اهلل املتقني من عباده؟‪ .‬فذلك هو جزاؤهم ‪ ،‬وهذا هو‬
‫مص@ @@ريهم ‪ ،‬إهنا جنة اخللد ‪ ،‬أع@ @@دها اهلل س@ @@بحانه وتع@ @@اىل لعب@ @@اده املتقني ‪ ،‬وأعد هلم فيها ما‬
‫يش@ @@اءون من نعيم خالد ‪ ،‬ال ينفد ـ أف@ @@ذلك ال@ @@ذي أنتم فيه أيها الض@ @@الون ‪ ،‬خري ‪ ،‬أم ه@ @@ذا‬
‫النعيم املقيم؟ أال ف@@ذوقوا ه@@ذا الع@@ذاب ‪ ،‬وانعم@@وا به ‪ ،‬واس@@كنوا إليه ‪ ،‬كما كنتم حتي@@ون مع‬
‫آهلتكم وتسكنون إليهم!‬
‫ك َو ْعــداً َم ْسـ ُؤالً) ـ إش@@ارة إىل أن ه@@ذا النعيم ال@@ذي‬ ‫ـ ويف قوله تع@@اىل ‪( :‬كــا َن َعلى َربِّ َ‬
‫وعده اهلل عباده املؤمنني املتقني ‪ ،‬هو وعد أوجب اهلل سبحانه‬
‫‪1365‬‬

‫وتع@@اىل على نفسه ـ فضال منه وإحس@@انا وكرما ـ حتقيقه ملن وع@@دوا به ‪ ،‬وإن هلم على اهلل ـ‬
‫فضال وإحس @@انا وكرما ـ أن يس @@ألوه إجناز ه @@ذا الوعد ‪ ،‬ال @@ذي هو منجز ومع@ @ ّد هلم من غري‬
‫س @@ؤال ‪ ..‬ولكن اهلل س @@بحانه ‪ ،‬قد جعل ه @@ذا الوعد ك @@دين لعب @@اده املتقني ؛ وجعل هلم حق‬
‫استقضاء هذا الدين! ويف هذا ما فيه من كرم الكرمي ‪ ،‬وإحسان احملسن‪.‬‬
‫ك َو ْعــداً َم ْس ـ ُؤالً) أن ه @@ذا الوعد‬ ‫وجيوز أن يك @@ون معىن قوله تع @@اىل ‪( :‬ك ــا َن َعلى َربِّ َ‬
‫كان مما يدعو به املؤمنون رهّب م يف الدنيا ‪ ،‬ويطلبون اس@@تجابته هلم ‪ ،‬كما يق@@ول اهلل س@@بحانه‬
‫ك ال‬‫يامـ ـ ِـة إِنَّ َ‬ ‫ِ‬
‫ك َوال تُ ْخ ِزنا َيـ ـ ْـو َم الْق َ‬‫وتع@ @@اىل على لس@ @@اهنم ‪َ ( :‬ربَّنا َوآتِنا ما َو َعـ ـ ـ ْدتَنا َعلى ُر ُسـ ـ ـلِ َ‬
‫ـاد) ‪ ،‬وقد تلقى اهلل س@@بحانه وتع @@اىل دع @@اءهم ه @@ذا ب@@القبول ‪ ،‬فق @@ال س@@بحانه ‪:‬‬ ‫تُ ْخلِـ ُ‬
‫ـف ال ِْميعـ َ‬
‫عامـ ـ ٍـل ِم ْن ُك ْم ِم ْن ذَ َـك ـ ـ ٍر أ َْو أُنْ ـ ــثى) (‪ : 195‬آل‬ ‫ضـ ـ ـيع عمـ ــل ِ‬ ‫ِ‬
‫جاب ل َُه ْم َر ُّب ُه ْم أَنِّي ال أُ ُ َ َ َ‬ ‫(فَا ْسـ ـ ـتَ َ‬
‫عمران)‪.‬‬
‫فلما كان يوم القيامة ‪ ،‬صدقهم اهلل وعده ‪ ،‬وأنزهلم منازل رمحته ورضوانه ‪..‬‬
‫____________________________________‬

‫اآليات ‪ 17( :‬ـ ‪)20‬‬


‫ـادي هـ ُـؤ ِ‬ ‫ضـلَلْتُم ِعبـ ِ‬ ‫ون ِ‬ ‫شر ُهم وما ي ْعب ُدو َن ِمن ُد ِ‬
‫الء أ َْم ُه ْم‬ ‫ـول أَأَْنتُ ْم أَ ْ ْ‬
‫اهلل َفَي ُقـ ُ‬ ‫ْ‬ ‫( َو َي ْو َم يَ ْح ُ ُ ْ َ َ ُ‬
‫ـك ِمن أَولِيــاء و ِ‬
‫لك ْن‬ ‫ِ‬ ‫ك ما كــا َن ي ْنب ِغي لَنا أَ ْن َنت ِـ ِ‬ ‫يل (‪ @)17‬قــالُوا ُسـ ْبحانَ َ‬ ‫ضلُّوا ال َّ ِ‬
‫َّخ َذ م ْن ُدون ـ َ ْ ْ َ َ‬ ‫ََ‬ ‫س ـب َ‬ ‫َ‬
‫الذ ْك َر َوكـانُوا َق ْومـاً بُـوراً (‪َ @)18‬ف َقـ ْد َك َّـذبُو ُك ْم بِما َت ُقولُـو َن فَما‬ ‫آباء ُه ْم َحتَّى نَسوا ِّ‬
‫ُ‬ ‫َّعَت ُه ْم َو َ‬‫َمت ْ‬
‫ـك ِم َن‬ ‫صراً َو َم ْن يَظْلِ ْم ِم ْن ُك ْم نُ ِذقْهُ َعذاباً َكبِـيراً (‪َ @)19‬وما أ َْر َسـلْنا َق ْبلَ َ‬ ‫ص ْرفاً َوال نَ ْ‬
‫ِ‬
‫تَ ْستَطيعُو َن َ‬
‫ض فِ ْتنَ ـ ـةً‬‫ض ـ ـ ُك ْم لَِب ْع ٍ‬ ‫ش ـ ـو َن فِي اأْل َ ْس ـ ـ ِ‬
‫واق َو َج َعلْنا َب ْع َ‬ ‫ين إِالَّ إَِّن ُه ْم لَيَ ـ ـأْ ُكلُو َن الطَّعـ ـ َ‬
‫ـام َويَ ْم ُ‬ ‫ِ‬
‫ال ُْم ْر َس ـ ـل َ‬
‫كب ِ‬
‫صيراً) (‪)20‬‬ ‫صبِ ُرو َن َوكا َن َربُّ َ َ‬ ‫أَتَ ْ‬
‫____________________________________‬
‫‪1366‬‬

‫التفسري ‪:‬‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫ـادي هـ ُـؤ ِ‬
‫ضـلَلْتُم ِعبـ ِ‬ ‫ون ِ‬ ‫شر ُهم وما ي ْعب ُدو َن ِمن ُد ِ‬
‫الء أ َْم ُه ْم‬ ‫ـول أَأَْنتُ ْم أَ ْ ْ‬
‫اهلل َفَي ُقـ ُ‬ ‫ْ‬ ‫( َو َي ْو َم يَ ْح ُ ُ ْ َ َ ُ‬
‫يل ‪)..‬‬ ‫ضلُّوا َّ ِ‬
‫السب َ‬ ‫َ‬
‫ه@@ذا مش@@هد من مش@@اهد ي@@وم القيامة ‪ ،‬يع@@رض على ه@@ؤالء املش@@ركني ‪ ،‬وهم ىف ه@@ذه‬
‫ال @@دنيا ‪ ،‬مع ض @@الالهتم ومعب @@وداهتم ‪ ..‬ويف ه @@ذا املش @@هد ي @@رون ما س @@يكون بينهم وبني ه @@ذه‬
‫املعبودات ‪ ،‬من عداوة وخصام ‪ ،‬وشقاق ‪..‬‬
‫ف@@إذا حشر الن@@اس إىل رهبم ‪ ،‬ووقف@@وا موقف احلس@@اب واملس@@اءلة ‪ ،‬جىء باملش@@ركني ‪،‬‬
‫ومبعبوداهتم اليت كانوا يعب@@دوهنا من دون اهلل ‪ ..‬من مجاد ‪ ،‬وحي@وان ‪ ،‬وإنس@ان ‪ ،‬ومالئكة ‪،‬‬
‫ـادي ه ـ ُـؤ ِ‬
‫ضـ ـلَلْتُم ِعب ـ ِ‬
‫الء ‪)..‬‬ ‫احلق جل وعال أولئك املعب @@ودين ‪( :‬أَأَْنتُ ْم أَ ْ ْ‬ ‫وجن ‪ ..‬وهنا يس @@أل ّ‬ ‫ّ‬
‫أي أأنتم أيها املعبودون ‪ ،‬الذين أضللتم عبادى هؤالء؟ أم هم ضلوا السبيل؟‪.‬‬
‫وانظر إىل ـ ما هلل س @@بحانه وتع @@اىل من لطف وك @@رم ‪ ..‬كيف ي @@دعو ه @@ؤالء الض @@الني‬
‫الء) ال @ @@ذين أش @ @@ركوا يب ‪ ،‬وك@ @ @ ّذبوا‬ ‫ـادي هـ ـ ُـؤ ِ‬ ‫إليه ‪ ،‬وكيف يض @ @@يفهم إىل ذاته الكرمية ‪ِ ( :‬عبـ ـ ِ‬
‫رسلى!!‬
‫فما أق @ @ ّ@ل حي @ @@اء ه @ @@ؤالء الض @ @@الني ‪ ،‬الش @ @@اردين عن رهّب م ‪ ..‬ي @ @@دعوهم إليه ‪ ،‬مث هم ال‬
‫يستجيبون له ‪ ،‬ويأبون إال أن يولّوا وجوههم إىل غريه!‬
‫وجيىء جواب املعبودين‪.‬‬
‫َّعَت ُه ْم‬ ‫ِ‬ ‫َّخـ ـ َذ ِمن دونِ ـ ـ َ ِ ِ‬ ‫ك ما ك ـ ــا َن َي ْنبَ ِغي لَنا أَ ْن َنت ِـ‬
‫ـاء َولك ْن َمت ْ‬
‫ـك م ْن أ َْولي ـ ـ َ‬ ‫ْ ُ‬ ‫(ق ـ ــالُوا ُسـ ـ ـ ْبحانَ َ‬
‫الذ ْك َر َوكانُوا َق ْوماً بُوراً) ‪..‬‬ ‫آباء ُه ْم َحتَّى نَسوا ِّ‬ ‫َو َ‬
‫ُ‬
‫إن هؤالء املعبودين للمشركني ‪ ..‬من مجاد ‪ ،‬وحيوان ‪ ،‬وإنسان ‪،‬‬
‫‪1367‬‬

‫ومالئكة ‪ ،‬يعرف@@ون ق@@در اهلل ‪ ،‬ويعطونه والءهم ك@@امال ‪« ..‬س@@بحانك» أي ج@ ّ@ل جاللك ‪،‬‬
‫َّخ َذ ِمن دونِ َ ِ ِ‬
‫ـاء) أي أنه ما ك@@ان يصح لنا ‪،‬‬ ‫ك م ْن أ َْوليـ َ‬ ‫وعال عالك ‪( ،‬ما كا َن َي ْنبَ ِغي لَنا أَ ْن َنت ِ ْ ُ‬
‫أو يقع يف تق@ @ @@ديرنا ‪ ،‬أن نستنصر بغ@ @ @@ريك ‪ ،‬ونع@ @ @@تز بغري عزتك ‪ ،‬ونقبل والء من عب@ @ @@ادك ‪،‬‬
‫الذين ينبغى أن يكون والؤهم لك وحدك ‪..‬‬
‫آباء ُه ْم َحتَّى نَسوا ِّ‬ ‫ِ‬
‫الذ ْك َر َوكانُوا َق ْوماً بُوراً) ‪..‬‬ ‫ُ‬ ‫َّعَت ُه ْم َو َ‬ ‫ـ ويف قوله تعاىل ‪َ ( :‬ولك ْن َمت ْ‬
‫إش @@ارة إىل اجلهة اليت ج @@اء منها الض @@الل إىل ه @@ؤالء الض @@الني ‪ ..‬إنه البطر بنعم اهلل ‪،‬‬
‫ـاء ُه ْم) أي أن إحس@@انك إليهم ‪ ،‬ربّنا‬ ‫ِ‬
‫والكفر بإحس@@انه وفض@@له عليهم ‪َ ( ..‬ولك ْن َمت ْ‬
‫َّعَت ُه ْم َوآبـ َ‬
‫‪ ،‬وم@ @ ّدهم ب @@النعم ‪ ،‬وحلمك عليهم ‪ ،‬فلم تعجل هلم العق @@اب ىف ال @@دنيا ‪ ،‬مع حمادهتم لك ‪،‬‬
‫وش @@ركهم بك ـ إن ذلك هو ال @@ذي ص @@ار هبم إىل ه @@ذا املصري ‪ ،‬وإهنم حني رأوا آب @@اءهم قد‬
‫س @@لكوا ه @@ذا املس @@لك من قبلهم ‪ ،‬ومل حيل عليهم غض @@بك ومل ت @@نزل هبم نقمتك ‪ ،‬اطم @@أنوا‬
‫الغى ‪ ..‬وهك@ذا أهل الس@وء ‪ ،‬تبط@رهم النّعم ‪ ،‬ويفس@دهم‬ ‫إىل هذا الضالل ‪ ،‬ومتادوا يف هذا ّ‬
‫اإلحسان ‪..‬‬
‫ـال َعلَْي ِه ُم الْعُ ُمـ ُـر) (‬ ‫ِ‬
‫ـاء ُه ْم َحتَّى ط ـ َ‬
‫َّعنا ه ـ ُـؤالء َوآب ـ َ‬ ‫ويف ه @@ذا يق @@ول اهلل تع @@اىل ‪( :‬بَ ـ ْـل َمت ْ‬
‫‪ : 44‬األنبياء)‪.‬‬
‫وهذا العرض الكاشف ‪ ،‬الذي يعرض فيه املعبودون ‪ ،‬نعم اهلل وإحسانه على ه@@ؤالء‬
‫الض@ @@الني ‪ ،‬وما ركبهم من ه@ @@ذه النعم وذلك اإلحس@ @@ان ‪ ،‬من س@ @@فه ‪ ،‬وغواية ـ هو زجر ‪،‬‬
‫وتع @@نيف ‪ ،‬وتقريع هلؤالء املش @@ركني ال @@ذين يقف @@ون ه @@ذا املوقف ‪ ،‬وأهنم ليس @@وا موض @@عا هلذا‬
‫اإلحس @@ان ‪ ،‬وال أهال هلذا الفضل ‪ ..‬وإن ه @@ذا الع @@ذاب ال @@ذي ينتظ @@رهم ‪ ،‬هلو اجلزاء الع @@ادل‬
‫الذي يؤخذون به ‪..‬‬
‫ويف قوله تع@@اىل ‪َ ( :‬حتَّى نَ ُسـوا الـ ِّـذ ْك َر ‪ )..‬إش@@ارة إىل أن تط@@اول العهد عليهم بالعافية‬
‫‪ ،‬من غري أن حتل هبم النقم ‪ ،‬أو يشتمل عليهم البالء ـ قد أنساهم ذكر‬
‫‪1368‬‬

‫اهلل ‪ ،‬وأبع@@دهم عن م@@واطن اللجأ إليه ‪ ..‬ف@@إن احملن والش@@دائد ‪ ،‬هى اليت تش@ ّد املرء إىل اهلل ‪،‬‬
‫فيكثر من ذكره ‪ ،‬والغياث به ‪ ..‬واهلل سبحانه وتعاىل يقول ‪( :‬قُل من ينَ ِّجي ُكم ِمن ظُلُ ِ‬
‫مات‬ ‫ْ ْ‬ ‫ْ َْ ُ‬
‫ضـ ـ ُّرعاً و ُخ ْفيـ ـةً لَئِن أَنْجانا ِمن ه ـ ِـذ ِه لَنَ ُكــونَ َّن ِمن ال َّ ِ‬
‫ين) (‪: 63‬‬ ‫شـ ـاك ِر َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ َ ْ‬ ‫ح ـ ِر تَ ْدعُونَ ــهُ تَ َ‬
‫الَْبـ ِّـر َوالْبَ ْـ‬
‫سهُـ َّ‬
‫الش ُّر فَـ ُذو‬ ‫ض َونَأى بِجانِبِ ِه َوإِذا َم َّ‬ ‫األنعام) ويقول سبحانه (وإِذا أَْنعمنا َعلَى اإْلِ نْ ِ‬
‫سان أَ ْع َر َ‬ ‫َْ‬ ‫َ‬
‫يض) (‪ : 51‬فصلت)‪@.‬‬ ‫عاء َع ِر ٍ‬ ‫د ٍ‬
‫ُ‬
‫وإنه ملن اإلميان أن يذكر اإلنسان ربّه يف الضراء ‪ ،‬وأن يدعوه ملا نزل به من مك@@روه‬
‫‪ ،‬إذ هو س@بحانه وح@ده غي@اث املس@تغيثني ‪ ،‬ومحى الالج@ئني ‪ ،‬وقد أمرنا س@بحانه وتع@اىل أن‬
‫ب لَ ُك ْم) (‪: 60‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ن@@دعوه ‪ ،‬ووع@@دنا اإلجابة ملا ن@@دعوه به ‪ ،‬فق@@ال س@@بحانه ‪( :‬ا ْدعُــوني أَ ْسـتَج ْ‬
‫َّاع إِذا‬ ‫َك ِعب ـ ِ‬
‫ـادي َعنِّي فَـ ـِإنِّي قَـ ـ ِر ِ‬ ‫@ل ش @@أنه ‪َ ( :‬وإِذا َسـ ـأَل َ‬
‫يب َد ْعـ َـوةَ ال ــد ِ‬ ‫يب أُج ُ‬‫ٌ‬ ‫غ @@افر) وق @@ال ج @ ّ‬
‫عان) (‪ : 186‬البقرة) ‪ ..‬ولكن الذي ليس من اإلميان يف شىء ‪ ،‬بل هو من املكر باهلل ‪،‬‬ ‫َد ِ‬
‫وآي @@ات اهلل ‪ ،‬أن ي @@ذكر اإلنس @@ان ربه يف الش @ ّدة ‪ ،‬وينك @@ره يف الرخ @@اء والعافية إن ذلك إميان‬
‫كإميان فرع @ @@ون حني أدركه الغ @ @@رق ‪ ،‬فق @ @@ال وقد ض @ @@اقت به س @ @@بل النج @ @@اة ‪« :‬آمنت»! إن‬
‫املؤمن ح ّقا هو ال@@ذي ميأل قلبه أب@@دا ب@@ذكر اهلل ‪ ،‬ىف الس@ ّ@راء والض@ ّ@راء على الس@@واء ‪ ..‬فهو يف‬
‫الس@ ّ@راء ي@@ذكر اهلل ش@@اكرا نعمه ‪ ،‬مس@@بحا حبم@@ده ‪ ،‬طالبا املزيد من فض@@له ‪ ..‬وهو يف الض@@راء‬
‫الضر ‪ ،‬ورفع البالء ‪ ..‬وهذا ما أش@@ار إليه الرس@@ول الك@@رمي يف قوله‬ ‫يذكر اهلل ‪ ،‬طالبا كشف ّ‬
‫‪ ،‬حني خ @@ريه ربه ‪ ،‬بني أن يك @@ون ملكا نبيا ‪ ،‬أم عب @@دا رس @@وال ‪ ،‬فاخت @@ار أن يك @@ون عب @@دا ‪،‬‬
‫وق@ @@ال ‪« :‬بل أك @ @@ون عب @ @@دا أش@ @@بع يوما فأش@ @@كرك ‪ ،‬وأج @ @@وع يوما ف@ @@أذكرك» بل إن حقيقة‬
‫اإلميان ال تنكشف إال يف مواقع النعم ‪ ،‬ويف م @ @@واطن اإلحس@ @@ان ‪ ،‬وهلذا م @ @@دح اهلل س@ @@بحانه‬
‫وتعاىل الشاكرين من عب@@اده ‪ ،‬ون@ ّ@وه هبم ‪ ،‬كما ق@@ال س@@بحانه ىف ن@@وح ‪( :‬ذُ ِّريَّةَ َم ْن َح َملْنا َم َع‬
‫وح‪ .‬إِنَّهُ كا َن َع ْبداً َش ُكوراً) (‪ : 3‬اإلسراء)‬ ‫نُ ٍ‬
‫‪1369‬‬

‫حث سبحانه عب@اده ال@ذين أج@زل هلم العط@اء ‪ ،‬وأغ@دق عليهم اإلحس@ان ‪ ،‬أن يش@كروا‬ ‫كما ّ‬
‫ور) (‪: 13‬‬ ‫ي ال َّ‬ ‫آل داو َد ُشـ ـكْراً ‪ ،‬وقَلِي ـ ِ ِ ِ‬
‫شـ ـ ُك ُ‬ ‫ـل م ْن عب ــاد َ‬ ‫َ ٌ‬ ‫له ‪ ،‬فق @@ال ل @@داود وآله ‪( :‬ا ْع َملُ ــوا َ ُ‬
‫سبأ)‪.‬‬
‫أما ذكر اهلل يف س @@اعة العس @@رة والض @@يق ‪ ،‬فإنه أمر يك @@اد يس @@توى فيه الن @@اس مجيعا ‪،‬‬
‫ضـ ـ ُّر َدعانا لِ َج ْنبِ ـ ِـه أ َْو‬ ‫املؤمن@ @@ون واملش@ @@ركون ‪ ..‬كما يق@ @@ول س@ @@بحانه ‪َ ( :‬وإِذا َم َّ‬
‫س اإْلِ نْس ــا َن ال ُّ‬
‫ضـ ٍّر َم َّسـهُـ) (‪ : 12‬ي@@ونس)‬ ‫َم يَـ ْدعُنا إِلى ُ‬ ‫ِ‬
‫قاعــداً أ َْو قائِمـاً ‪َ ،‬فلَ َّما َك َ‬
‫ضـ َّرهُ َمـ َّـر َكـ أَ ْن ل ْ‬
‫شـ ْفنا َع ْنــهُ ُ‬
‫األعم األغلب من الناس‪.‬‬ ‫فاإلنسان هنا هو مطلق اإلنسان ‪ ،‬واحلكم واقع على ّ‬
‫ويف قوله تع@@اىل ‪َ ( :‬وكــانُوا َق ْومـاً بُــوراً) ـ إش@@ارة إىل ه@@ؤالء املش@@ركني باهلل ‪ ،‬وإىل أن‬
‫شركهم هذا قد حرمهم كل خري ‪ ،‬فكانوا هبذا «قوما ب@@ورا» أي هلكى ‪ ،‬ال س@@بيل هلم إىل‬
‫النجاة من هذا املصري املشئوم الذي هم صائرون إليه ‪..‬‬
‫وقوله تعاىل ‪:‬‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫صـراً ‪َ ،‬و َم ْن يَظْل ْم م ْن ُك ْم نُ ِذقْــهُ‬ ‫( َف َق ْد َكـ َّـذبُو ُك ْم بِما َت ُقولُــو َن فَما تَ ْسـتَطيعُو َن َ‬
‫صـ ْرفاً َوال نَ ْ‬
‫َعــذاباً َكبِ ــيراً) ىف ه @@ذا ‪ ،‬التف @@ات إىل ه @@ؤالء املش @@ركني ‪ ،‬ال @@ذين يقول @@ون ىف كالم اهلل ‪ ،‬ويف‬
‫تطن يف‬ ‫رس @@ول اهلل ه @@ذا الق @@ول املنكر ‪ ،‬ال @@ذي ال ي @@زال على ألس @@نتهم ‪ ،‬وال ت @@زال أص @@داؤه ّ‬
‫آذاهنم ‪..‬‬
‫فقد مسعوا ش @ @ @@هادة آهلتهم فيهم ‪ ،‬وب @ @ @@راءهتم منهم ‪ ،‬بل وق @ @ @@رعهم مبق @ @ @@ارع التع @ @ @@نيف‬
‫والتسفيه ‪ ،‬وأهنم ليسوا أهال ملا ألبسهم اهلل من نعم ‪ ،‬وما دفع عنهم من نقم ‪..‬‬
‫ومن إعج@@از الق @@رآن الك @@رمي هنا ‪ ،‬أنه ـ بكلماته املعج @@زة ـ ينقل الن @@اس من ال@@دنيا إىل‬
‫@ردهم إىل ال@دنيا م@رة أخ@رى ‪ ،‬ىف حلظ@ات ع@ابرة ‪ ،‬يرتفع فيها ه@ذا احلج@از بني‬ ‫اآلخ@رة ‪ ،‬مث ي ّ‬
‫احلياة واملوت ‪ ،‬وبني الدنيا واآلخرة ‪ ،‬وإذا هؤالء‬
‫‪1370‬‬

‫املش@ركون ينتقل@ون من ن@اديهم ال@ذي يتفكه@ون فيه هبذه الكلم@ات الس@اخرة اهلازئة ‪ ،‬بآي@ات‬
‫اهلل وكلم @@ات اهلل ـ ينتقل @@ون من ن @@اديهم ه @@ذا إىل اآلخ @@رة ‪ ،‬وإىل موقف احلس @@اب واجلزاء ‪،‬‬
‫وإىل جهنم وس@ @@عريها ‪ ..‬مث إذا هم ـ ىف حلم ك@ @@أحالم اليقظة ـ ق@ @@ائمون يف ن@ @@اديهم ‪ ،‬وقد‬
‫دخلت عليهم مش@ @@اعر كئيبة ثقيلة خانقة ‪ ،‬من ه@ @@ذه الرحلة القص@ @@رية ‪ ،‬وإذا هم يف وج@ @@وم‬
‫ورهق ‪ ،‬كمن أفاق من حلم مزعج ‪ ،‬مث إذا هم وقد ص@ ّكت آذاهنم هبذا الق@@ول ال@@ذي يطلع‬
‫عليهم من حيث ال يعلمون ‪َ ( :‬ف َق ْد َك َّذبُو ُك ْم بِما َت ُقولُو َن)!‬
‫ويص @@حو الق @@وم من وج @@ومهم ه @@ذا ‪ ،‬وي @@دورون ب @@أعينهم هنا وهن @@اك ‪ ،‬ب @@احثني عن‬
‫هؤالء الذين كذبوهم مبا يقولون ‪ ..‬فيذكرون هذا احللم املخيف ‪ ،‬ويتذكرون ه@@ذا املوقف‬
‫ال@@ذي ك@@ان بينهم وبني معب@@وداهتم ‪ ،‬وتك@@ذيبهم هلم ‪ ..‬مث ما يك@@ادون يص@@لون ما انقطع من‬
‫صـ ـراً ‪ )..‬فلقد‬ ‫ِ‬
‫حي@ @@اهتم ‪ ،‬حىت يلق@ @@اهم ه@ @@ذا الص@ @@وت ق@ @@ائال ‪( :‬فَما تَ ْس ـ ـتَطيعُو َن َ‬
‫صـ ـ ْرفاً َوال نَ ْ‬
‫ك@ @ @@ذبكم آهلتكم ‪ ،‬وختلّ@ @ @@وا عنكم ‪ ،‬وذهب النصري ال@ @ @@ذي ك@ @ @@ان متعلقكم به ‪ ..‬وها هو ذا‬
‫الع@ @ @ @@ذاب مقبل عليكم ‪ ،‬وإنكم ال تس@ @ @ @@تطيعون له ص@ @ @ @@رفا ‪ ،‬وال تس@ @ @ @@تطيعون أن جتدوا لكم‬
‫ناص@ @ @ @@را ينص@ @ @ @@ركم من دون اهلل ‪ ..‬مث ال ينتهى املوقف هبم عند ه@ @ @ @@ذا ‪ ،‬ف@ @ @ @@إهنم ما يك@ @ @ @@ادون‬
‫يستس @@لمون للي @@أس ‪ ،‬ويعط @@ون أي @@ديهم هلذا الع @@ذاب يف استس @@الم ذليل ‪ ،‬حىت يلق @@اهم ه @@ذا‬
‫الص@ @@وت بقوله ‪َ ( :‬و َم ْن يَظْلِ ْم ِم ْن ُك ْم نُ ِذقْـ ــهُ َعـ ــذاباً َكبِـ ــيراً ‪ )..‬إنه لي@ @@ذكرهم ب@ @@أهنم ليس@ @@وا يف‬
‫اآلخ@ @@رة ‪ ،‬وإمنا هم م@ @@ازالوا يف ه@ @@ذه ال@ @@دنيا ‪ ،‬وأن طريق اخلالص مفت@ @@وح أم@ @@امهم ‪ ،‬إذا هم‬
‫أرادوا أن يلتمس@@وا وجه النج@@اة من ه@@ذا الع@@ذاب ال@@ذي رأوه ب@@أعينهم ‪ ..‬فل@@ريجعوا إىل اهلل ‪،‬‬
‫وليأخ @ @@ذوا يف غري ه @ @@ذا احلديث املنكر ‪ ،‬ال @ @@ذي يقولونه يف آي @ @@ات اهلل ‪ ،‬ويف رس @ @@وله اهلل ‪..‬‬
‫فإهنم إن رجع@@وا إىل اهلل ‪ ،‬وآمن@@وا باهلل وبآي@@ات اهلل وبرس@@ول اهلل ‪ ،‬فقد جنوا بأنفس@@هم ‪ ،‬وإال‬
‫فإن أمسكوا مبا هم فيه من ظلم ‪ ،‬فإن اهلل أع ّد للظاملني عذابا كبريا ‪..‬‬
‫‪1371‬‬

‫واقرأ كلمات اهلل مرة أخرى ‪ ،‬وانظر يف هذا البيان املعجز‪.‬‬


‫اهلل) ‪..‬‬ ‫ون ِ‬ ‫شر ُهم وما ي ْعب ُدو َن ِمن ُد ِ‬
‫ْ‬ ‫( َو َي ْو َم يَ ْح ُ ُ ْ َ َ ُ‬
‫ضلُّوا َّ ِ‬ ‫هؤ ِ‬ ‫ضلَلْتُم ِع ِ‬
‫يل؟) ‪..‬‬ ‫السب َ‬ ‫الء ‪ ..‬أ َْم ُه ْم َ‬ ‫بادي ُ‬ ‫ول ‪ :‬أَأَْنتُ ْم أَ ْ ْ‬ ‫( َفَي ُق ُ‬
‫َّخ َذ ِمن دونِ َ ِ ِ‬
‫ياء!) ‪..‬‬ ‫ك م ْن أ َْول َ‬ ‫ك ‪ ..‬ما كا َن َي ْنبَ ِغي لَنا أَ ْن َنت ِ ْ ُ‬ ‫(قالُوا ُس ْبحانَ َ‬
‫الذ ْك َر َوكانُوا َق ْوماً بُوراً) ‪..‬‬ ‫آباء ُه ْم َحتَّى نَسوا ِّ‬ ‫ِ‬
‫ُ‬ ‫َّعَت ُه ْم َو َ‬
‫( َولك ْن َمت ْ‬
‫( َف َق ْد َك َّذبُو ُك ْم بِما َت ُقولُو َن!!) ‪..‬‬
‫صراً) ‪..‬‬ ‫ِ‬
‫ص ْرفاً َوال نَ ْ‬ ‫(فَما تَ ْستَطيعُو َن َ‬
‫( َو َم ْن يَظْلِ ْم ِم ْن ُك ْم نُ ِذقْهُ َعذاباً َكبِيراً ‪)..‬‬
‫آمنت باهلل ‪ ،‬وصدقت بكلمات اهلل ‪ ،‬وبرسول اهلل ‪..‬‬
‫ففى ه@ @@ذه الكلم@ @@ات املع@ @@دودات ملحمة ‪ ،‬ال يس@ @@تطيع أن ميسك هبا خي@ @@ال ‪ ،‬أو أن‬
‫يضبط ص@@ورها ومش@@اهدها كل ما ع@@رف اإلنس@@ان من أل@@وان التعبري ‪ ،‬جمتمعة ومتفرقة ‪ ..‬إن‬
‫احلى ‪،‬‬
‫احلى من امليت ‪ ،‬وخيرج امليت من ّ‬ ‫ذلك ال يك@@ون إال بكلم@@ات اهلل ‪ ..‬اليت خيرج هبا ّ‬
‫وحيىي األرض بعد موهتا!‬
‫قوله تعاىل ‪:‬‬
‫شـ ـو َن فِي اأْل َ ْسـ ـ ِ‬ ‫ِ‬ ‫(وما أَرسـ ـلْنا َقبلَ ـ َ ِ‬
‫واق‬ ‫ين إِاَّل إَِّن ُه ْم لَيَـ ـأْ ُكلُو َن الطَّع ـ َ‬
‫ـام َويَ ْم ُ‬ ‫ـك م َن ال ُْم ْر َسـ ـل َ‬ ‫ْ‬ ‫َ َْ‬
‫كب ِ‬ ‫ض ُكم لِبع ٍ ِ‬
‫صيراً)‪.‬‬ ‫صبِ ُرو َن‪َ .‬وكا َن َربُّ َ َ‬ ‫ض ف ْتنَةً ‪ ..‬أَتَ ْ‬ ‫َو َج َعلْنا َب ْع َ ْ َ ْ‬
‫@ىب الك@@رمي ‪ ،‬وهو على م@@رأى ومس@@مع من قومه ‪ ،‬وهم ىف ح@@اهلم‬ ‫ه@@ذا التف@@ات إىل الن@ ّ‬
‫تلك ‪ ،‬اليت ص@@ورهتم عليها اآلي@@ات الس@@ابقة ‪ ،‬ودارت هبم تلك ال@@دورة العجيبة ‪ ،‬بني ال@@دنيا‬
‫واآلخرة ‪..‬‬
‫رد على ق@@وهلم ‪:‬‬ ‫وهذا احلديث إىل النيب الكرمي ‪ ،‬هو حديث إىل قومه هؤالء ‪ ،‬وهو ّ‬
‫«مال هذا الرسول يأكل الطعام وميشى يف األسواق» ‪ ..‬وكأنه‬
‫‪1372‬‬

‫يق @@ول هلم‪ .‬ه @@ذا هو رس @@ول اهلل إليكم ‪ ،‬وإنه ليأكل الطع @@ام وميشى يف األس @@واق ‪ ،‬ش @@أنه يف‬
‫هذا شأن املرسلني من قبله مجيعا ‪ ..‬فهل أنتم بعد هذا الذي رأيتم من مشاهد اآلخرة ـ هل‬
‫أنتم مؤمنون به على صفته تلك ‪ ،‬أم الزلتم على ما أنتم عليه من إنكار له ‪ ،‬وتكذيب به؟‬
‫ِ‬ ‫وقوله تع @@اىل ‪( :‬وما أَرس ـلْنا َقبلَـ َ ِ‬
‫ش ـو َن‬ ‫ين إِاَّل إَِّن ُه ْم لَيَ ـأْ ُكلُو َن الطَّعـ َ‬
‫ـام َويَ ْم ُ‬ ‫ـك م َن ال ُْم ْر َس ـل َ‬ ‫َ َْ ْ‬
‫واق) ـ هو توكيد لبش@ @@رية الرسل مجيعا ‪ ..‬وأنه ما أرسل اهلل س@ @@بحانه وتع@ @@اىل من‬ ‫فِي اأْل َ ْس ـ ـ ِ‬

‫رسل ‪ ،‬إال ك@ @ @@انوا على تلك الص@ @ @@فة ‪ ،‬وك@ @ @@ان ح@ @ @@اهلم هو ه@ @ @@ذا احلال ‪( :‬لَيَـ ـ ـأْ ُكلُو َن الطَّع ـ ـ َ‬
‫ـام‬
‫واق)! أي يتعاملون مع الناس ‪ ،‬بيعا وشراء ‪ ،‬وأخذا وعطاء‪.‬‬ ‫َس ِ‬ ‫ويم ُ ِ‬
‫شو َن في اأْل ْ‬ ‫َ َْ‬
‫ض فِ ْتنَةً) إش@@ارة إىل أن ه@@ؤالء املش@@ركني هم فتنة‬ ‫ض ُك ْم لَِب ْع ٍ‬
‫وقوله تعاىل ‪َ ( :‬و َج َعلْنا َب ْع َ‬
‫@ىب وللمؤم @@نني ‪ ،‬وابتالء من اهلل هلم هبم ‪ ،‬ومبا يس @@وقون إليهم ‪ ،‬من مكر ‪ ،‬وما يرم @@وهنم‬ ‫للن @ ّ‬
‫ين‬ ‫ِ‬ ‫ك َج َعلْنا لِ ُكـ ـ ِّ ِ‬
‫به من أذى ‪ ..‬وه @ @@ذا ما يشري إليه قوله تع @ @@اىل ‪َ ( :‬و َكـ ــذلِ َ‬
‫ـل نَب ٍّي َع ـ ـ ُد ًّوا َش ـ ـياط َ‬
‫ك ما َف َعلُــوهُ ‪..‬‬
‫ـاء َربُّ َ‬ ‫ِ‬ ‫ض ـ ُه ْم إِلى َب ْع ٍ‬ ‫ْج ِّن ي ـ ِ‬
‫اإْلِ نْ ِ ِ‬
‫ف الْ َقـ ْـول غُـ ُـروراً َولَـ ْـو شـ َ‬
‫ض ُز ْخـ ُـر َ‬ ‫ـوحي َب ْع ُ‬ ‫س َوال ُ‬
‫فَ َذ ْر ُه ْم َوما َي ْفَت ُرو َن) (‪ : 112‬األنعام)‪@.‬‬
‫أما ما ي@@ذهب إليه معظم املف ّس @رين من إطالق اآلية على عمومها ‪ ،‬وأن الن@@اس مجيعا‬
‫ـ م @ @@ؤمنهم وك @ @@افرهم ـ هم فتنة ‪ ،‬يفنت بعض @ @@هم بعضا ‪ ،‬فالك@ @ @@افرون يفتن @ @@ون املؤم @ @@نني ‪،‬‬
‫واملؤمنون يفتنون الكافرون ـ فإنه مردود@ من أكثر من وجه ‪..‬‬
‫ف @@أوال ‪ :‬الفتنة ‪ ،‬حيث لبست إنس @@انا ك @@انت وب @@اال عليه ‪ ،‬وعلى غ @@ريه ‪ ..‬وإذن فلن‬
‫يكون املؤمن فتنة أبدا ‪ ،‬ال لغريه ‪ ،‬وال للناس ‪ ..‬وقد كان من دعاء‬
‫‪1373‬‬

‫ِ ِِ‬
‫ين َك َف ُروا) (‪ : 5‬املمتحنة)‪.‬‬ ‫املؤمنني ‪ ،‬ما جاء يف قوله تعاىل ‪َ ( :‬ربَّنا ال تَ ْج َعلْنا ف ْتنَةً للَّذ َ‬
‫توعد اهلل سبحانه وتع@اىل ‪ ،‬أهل الض@الل ‪ ،‬ال@ذين يفتن@ون املؤم@نني واملؤمن@@ات‬ ‫وثانيا ‪ّ :‬‬
‫ِ ِ‬ ‫ِِ‬ ‫َّ ِ‬
‫َّم‬
‫ـذاب َج َهن َ‬
‫َم َيتُوبُــوا ‪َ ..‬فلَ ُه ْم َعـ ُ‬
‫ين َوال ُْم ْؤمنــات ثُ َّم ل ْ‬ ‫بقوله س@@بحانه ‪( :‬إِ َّن الذ َ‬
‫ين َفَتنُــوا ال ُْمـ ْـؤمن َ‬
‫ْح ِر ِيق) (‪ : 10‬الربوج) ‪ ..‬فكيف يكون املؤمنون على موقف كهذا؟‬ ‫ذاب ال َ‬ ‫َول َُه ْم َع ُ‬
‫ض فِ ْتنَةً ‪ )..‬قوله تعاىل‪:‬‬ ‫ض ُك ْم لَِب ْع ٍ‬‫وثالثا ‪ :‬جاء تعقيبا على قوله تعاىل ‪َ ( :‬و َج َعلْنا َب ْع َ‬
‫«أتصربون؟»‪ .‬وهو دعوة للنىب وللمؤمنني إىل الصرب على ه@@ذه الفنت اليت ي@@رميهم هبا‬
‫يهب‬
‫املش@ @@ركون ‪ ..‬وه@ @@ذا االس@ @@تفهام م@ @@راد به األمر أي ‪ :‬اص@ @@ربوا على ما تكره@ @@ون ‪ ،‬مما ّ‬
‫عليكم من ريح الفنت من أهل الضالل والشرك ‪..‬‬
‫صـ ـ ـ ـيراً) وفيه تطمني للنىب ‪،‬‬ ‫كب ِ‬
‫رابعا ‪ :‬ج @ @ @ @@اء خت @ @ @ @@ام اآلية ‪ ..‬هك @ @ @ @@ذا ‪َ ( :‬وك ـ ـ ــا َن َربُّ َ َ‬
‫وللمؤم@@نني ‪ ،‬وربط على قل@@وهبم ‪ ،‬حىت يص@@ربوا على أذى املش@@ركني ‪ ،‬فاهلل س@@بحانه وتع@@اىل‬
‫بصري ‪ ،‬عامل مبا حيتملون من مك@روه يف س@بيل احلق ‪ ،‬ويف الثب@ات على اإلميان ‪ ،‬وس@يجزيهم‬
‫عليه ‪ ،‬كما أنه س @@بحانه ‪ ،‬بصري ع @@امل مبا يعمل املش @@ركون ‪ ،‬وس @@يلقون ج @@زاء ما يعمل @@ون ‪:‬‬
‫ك أَ ْعمال َُه ْم إِنَّهُ بِما َي ْع َملُو َن َخبِ ٌير) (‪ : 111‬هود)‪@.‬‬ ‫( َوإِ َّن ُكاًّل ل ََّما ل َُي َو ِّفَين ُ‬
‫َّه ْم َربُّ َ‬
‫‪1374‬‬

‫فهرست المجلد الثالث‬

‫من موضوعات هذا المجلد‬


‫حملة من القضاء والقدر‪21...........................................................‬‬
‫قميص يوسف ‪ ..‬ما هو؟ ‪43........................................................‬‬
‫احلق والباطل ‪ ..‬دولة ودولة‪93......................................................‬‬
‫ذكر اهلل واطمئنان القلوب‪110......................................................‬‬
‫الكلمة الطيبة والكلمة اخلبيثة ‪170...................................................‬‬
‫إبليس ‪ ..‬ومن له سلطان عليهم‪234.................................................‬‬
‫القرآن الكرمي ‪ ..‬واحلقائق الكونية‪341...............................................‬‬
‫مع النسخ ‪ ..‬مرة أخرى ‪361.......................................................‬‬
‫وقفة مع اإلسراء واملعراج ‪412......................................................‬‬
‫احلقيقة احملمدية وما يقال فيها‪434...................................................‬‬
‫بنو إسرائيل ‪ ..‬ووعد اآلخرة ‪442...................................................‬‬
‫العرب وقتل األبناء ووأد البنات‪478.................................................‬‬
‫الشجرة امللعونة ىف القرآن ‪ ..‬ما هى؟ ‪512...........................................‬‬
‫أصحاب الكهف ‪ ..‬من هم؟‪585...................................................‬‬
‫قصة موسى والعبد الصاحل‪640......................................................‬‬
‫القضاء والقدر ‪ ..‬واإلنسان ‪672....................................................‬‬
‫‪1375‬‬

‫ذو القرنني ‪ ..‬من هو؟ وما شأنه‪696................................................‬‬


‫يأجوج ومأجوج ‪706..............................................................‬‬
‫جهنم وهل يردها الناس مجيعا؟ ‪756.................................................‬‬
‫اخلري والشر ‪874...................................................................‬‬
‫أولياء اهلل وما يبتلون به ‪933........................................................‬‬
‫احلياة ‪ ..‬وخالق احلياة‪975..........................................................‬‬
‫مناسك احلج ومشاهد القيامة‪1014.................................................‬‬
‫قصتها ومن أين جاءت؟ ‪1061.....................................‬‬ ‫الغرانقة العلى ‪ّ ..‬‬
‫اجللد والرجم ‪ ..‬وجرمية الزنا‪1201.................................................‬‬
‫‪1376‬‬

‫بع @ @ @@ون اهلل مت الكت @ @ @@اب التاسع ‪ ،‬ويليه الكت @ @ @@اب العاشر ‪ ،‬وفيه تفسري اجلزءين التاسع‬
‫عشر والعشرين ‪ ..‬إن شاء اهلل ‪..‬‬

You might also like