You are on page 1of 57

‫افتتاحية العدد‬ ‫‪1‬‬

‫ذكرى ميالد ريتشارد فاينمان‬ ‫‪3‬‬


‫هيئة التحرير‬
‫اجتاهات جديدة يف العلم‬ ‫‪7‬‬
‫أمين غوجل‬
‫ماذا قدمت النساء للعلم؟؟‬ ‫‪24‬‬
‫أخيل‬
‫اختبار االنتخاب (االصطفاء ) الطبيعي‬ ‫‪26‬‬
‫تيتان‬
‫مدخل موجز إىل فكر جودي كريشناموريت‬ ‫‪40‬‬
‫نور‬
‫هجن بشرية‬ ‫‪46‬‬
‫‪Hunger Mind‬‬
‫بطالن االدلة العقلية‬ ‫‪62‬‬
‫دين‬
‫نبضات بن باز ‪...‬‬ ‫‪66‬‬
‫تامبي‬
‫امرأة غامضة‬ ‫‪72‬‬
‫كاترينا‬
‫أمسائي يف املشفى‬ ‫‪76‬‬
‫بن باز عزيز‬
‫سراديب اآلهله ‪ -‬القسم األول‬ ‫‪78‬‬
‫رامي‬
‫االحلاد بني اليوم واالمس‬ ‫‪84‬‬
‫خمطوطات القرآن املكتشفة التتطابق‬ ‫‪88‬‬
‫سـ ــورة م ــن مثل ـ ــه‬ ‫‪92‬‬
‫أصنام ( املسلمني)‬ ‫‪94‬‬
‫اسطورة ‪ Pegasus‬اليونانية و براق حممد الطائر‬ ‫‪96‬‬
‫‪ 102‬فصل من كتاب «التارو ىف روح الزن»‬
‫كلمة رئيس التحرير‬

‫واقع‬
‫املتدينون و ادياهنم كينونة واحدة قاتلة و مدمرة و سافكة للدماء جيب القضاء عليها ك افكار أو‬ ‫رمبا تكون مجلة « هؤالء ال ميثلون االسالم « و هذا ليس اسالماً وال ميت لألسالم بصلة « و اذا‬
‫حتييدها على األقل ‪.‬‬ ‫كان املسلمون سيئيني فال تتهمو األسالم بالسوء» من أكثر اجلمل استخداماً للدفاع عن انتشار‬
‫أما مسألة عدم متثيلهم ملا يؤمنون فيه فعدا اهنا فكرة غري واقعية أن يكون ‪ 4‬مليارات مؤمن مل يفهم‬ ‫العته االسالمي خصوصاً و باالتأكيد يستعمل يف بقية الديانات عموماً بنفس املعىن ‪.‬‬
‫اياً منهم دينه‬ ‫فكرهتم أن ماحيصل هو تطبيق سئ لألسالم رغم أن اكثر املسلمني تطرفاً هو برأيي و حبس‬
‫فهي مسألة ال هتمين شخصياً و ال جيب أن هتم أحداً غريهم ‪.‬‬ ‫النصوص االسالمية هو أقرهبم لتطبيق االسالم بصورته الصحيحة ‪.‬‬
‫العته و خاصة اذا كان يسبب القتل و ضياع مكتسبات احلضارة االنسانية و انعدام االخالقيات ال‬ ‫فالضرب فوق االعناق و قطع االيادي و اجللد و نشر الدين بالقوة هي آيات حمكمات يف القرآن‬
‫حيرتم و لو مسيتموه مقدساً ‪.‬‬ ‫ملن يعرف القرآن و مدعومة بعشار األحاديث الصحيحة ملن يعرف األحاديث ‪.‬‬
‫العته و الغباوات القاتله هي عته و غباوات قاتله و ال توجد تسميه ( اكثر احرتاماً ) هلذه الغباوات‬ ‫لكن سنفرتض جدالً أن هذه الكذبه هي الواقع و أن هؤالء املليار مل يفهم احد منهم االسالم‬
‫‪.‬‬ ‫و لن يستطيع أي مسلم يتكلم مبنطق اجلمل اليت أوردهتا اعاله أن يدلك على ثالثة مسلمني من‬
‫الدين نظام جمتمعي قائم حيرض على الكراهية و العنف و القتل و جيب على كل مؤمن باالنسانية‬ ‫ضمن املليار يطبقون االسالم الصحيح (جربوها)‬
‫أن يقاومه ‪.‬‬ ‫بكل األحوال لنتفرض ن هؤالء ال ميثلون األسالم و هؤالء ال ميثلون املسيحية و هؤالء ال ميثلون‬
‫مثلما نقاوم اجلرمية و التلوث البيئي و جتارة املخدرات و العبودية ‪.‬‬ ‫اليهودية و هلم جرا‬
‫ال بل أن االديان تدعم منهجياً كل ما سبق و اكثر بكثري ‪.‬‬ ‫واقعياً ما الذي ميكن أن يشكل فارقاً ‪.‬‬
‫اصدقائي‬ ‫اآلن االديان هتدم كل منتجات احلضارة االنسانية بشكل ممنهج حالياً االسالم يضرب ارهاباً مينة و‬
‫مقاومة الدين ليست ترفاً فكرياً‬ ‫يسرة و حيصد االرواح‬
‫بل دفاع مشروع عن النفس و عن الغري و عن احلضارة ‪.‬‬ ‫واقعياً الكنائس حتارب كل ماهو علمي و انساين ‪ .‬واقعياً اليهودية تلغي كل خمتلف عنها أو تصهرة‬
‫ببوتقة مسخ ‪.‬‬
‫و عيشو سعداء‬ ‫الواقع و بغض النظر عن فهم ذلك الدين أو الدين اآلخر هي أمور قاتلة و بأمتياز مثلها مثل‬
‫أمين غوجل‬ ‫اسلحة الدمار الشامل و تلغي و تشوه كل االخالقيات االنسانية اليت وصل هلا االنسان احلر ‪.‬‬
‫مؤسس و رئيس التحرير‬ ‫اليهمين بصراحة اذا كان اتباع املاركسية أو البوذية مثالً اليفهمون ايديولوجيتهم‬
‫و علينا أن نتحمل قتلهم و ختريبهم للكوكب و ال حناول منعهم حبجة أن املاركسية أو البوذية براء‬
‫منهم و جيب احرتامها ‪.‬‬
‫ال يهم ‪.‬‬

‫‪facebook.com/I.Think.Magazine‬‬

‫‪2‬‬ ‫‪1‬‬
‫ذكرى ميالد ريتشارد فاينمان‬ ‫ذكرى ميالد ريتشارد فاينمان‬

‫من أقوال ريتشارد فاينمان يف الشك وعدم اليقني‪:‬‬


‫ذكرى ميالد ريتشارد فاينمان‬
‫• ميكنين أن أتعايش مع الشك وعدم اليقني وعدم املعرفة‪ ،‬أعتقد أن التعايش‬
‫م ــع ع ــدم امل ــع ــرف ــة أك ــث ــر تشويق اً وأف ــض ــل م ــن االع ــت ــق ــاد يف إج ــاب ــات خ ــاط ــئ ــة‪ .‬لدي‬
‫إجابات تقريبية ومعتقدات تتسم باالحتمالية ودرجات خمتلفة من اليقني حول‬
‫أشياء متعددة‪ .‬ولكىن لست متأكداً بشكل تام من أي شيء ويف بعض احلاالت‬
‫ال أعرف أي شيء على اإلطالق عن أشياء من قبيل‪ :‬السؤال اخلاص بلماذا حنن‬
‫هنا‪ ،‬وهل حيمل أي معىن على اإلطالق‪ ،‬ميكنين التفكري بصدده ملدة قصرية ولكن‬
‫إذا مل أستطع إجياد إجابة‪ ،‬أتوجه بفكري إىل أي شيء أخر‪ ،‬فأنا لست مضط راً ألن‬
‫أمتلك إجابة يقينية‪.‬‬
‫ال أشعر باخلوف من عدم معرفة األشياء‪ ،‬من الضياع يف كون غامض ال حيمل‬
‫أي هدف أو غاية‪ ،‬وهذه هي حقيقته فع الً كما ميكنين أن أمخن ‪ ..‬هذا ال خييفين‬
‫البتة ‪.‬‬
‫ويف شرحه خلطوات الوصول إىل قانون يتفق مع الواقع التجرييب يقول‪:‬‬
‫• أوالً نقوم بتخمني القانون‬
‫• مث نقوم حبساب نتائج هذا التخمني لنرى ما سيعنيه إن كان هذا القانون‬
‫الذي مخّناه صحيح‪ .‬مث نقارن نتائج احلسابات بالطبيعة‪ ،‬بالتجربة‪ ،‬نقارهنا مباشرًة‬ ‫يصادف هذه األيام ذكرى ميالد العامل الفيزيائي األمريكي ريتشارد فاينمان الذي‬
‫باملالحظة‪ ،‬لنرى ما إن كانت تعمل لو كانت تتعارض مع التجربة فهي خاطئة‪.‬‬ ‫ول يف ‪ 11‬أيار من عام ‪ ،1918‬والذي يعد واحداً من أعظم علماء القرن العشرين‪،‬‬
‫• ال يهم مدى مجال ختمينك‪ ،‬ال يهم مدى ذكاؤك‪ ،‬ال يهم من قام بالتخمني‪،‬‬ ‫واملعروف مبسامهاته الواسعة يف نظرية الكم وفيزياء اجلسيمات‪ ،‬وبسبب إسهاماته‬
‫أو ما هو امسه‪ ،‬لو كانت تتعارض مع التجربة فهي خطأ‪.‬‬ ‫يف نظرية الكهروديناميكا الكمية حصل على جائزة نوبل للفيزياء عام ‪.1965‬‬
‫وعن غ رابة فيزياء اجلسيمات ونظرية الكوانتوم يقول‪:‬‬
‫• إن نظرية االلكرتوديناميك الكمية تصف الطبيعة بصورة منافية للعقل‪،‬‬
‫من وجهة نظر املنطق السليم‪ .‬ولكنها تتفق مع التجربة‪ ،‬لذلك آمل أن تتقبلوا‬
‫‪4‬‬ ‫‪3‬‬
‫ذكرى ميالد ريتشارد فاينمان‬ ‫ذكرى ميالد ريتشارد فاينمان‬

‫الطبيعة كما هي‪ ،‬منافية للعقل !!‬


‫• من الصعب جداً تصديق كل األشياء اجلنونية ‪ ..‬اليت هي األمور عليها يف‬
‫الواقع‬
‫تتصرف اإللكرتونات كأمواج ‪ ..‬ال ليس متام اً !!‬
‫تتصرف مثل جسيمات ‪ ..‬ال ليس متام اً !!‬
‫افرتضوا أن تلك األشياء الصغرية ‪ ..‬تصرفت بشكل خمتلف ج ــداً عن أي شيء‬
‫كبري‬
‫ال شيء هو حق اً ما يبدو عليه ‪ ..‬إهنا خمتلفة بشكل مذهل ‪ ..‬عن أي شيء كبري‬
‫العامل هو فوضى ديناميكية من األشياء املهتزة ‪ ..‬من الصعب تصديقها‬
‫علي أن أتوقف يف مكان ما ‪ ..‬سأترك لكم شيئ اً لتخيله‬

‫وعن فكرة اإلله يقول‪:‬‬


‫• اهلل ما هو إال كلمة مت اخ رتاعها لتفسري األشياء الغامضة‪ ،‬فهو يتم استخدامه‬
‫دائم اً لتفسري األشياء اليت ال تفهمها‪ .‬اآلن عندما تكتشف يف النهاية كيفية عمل‬
‫ظاهرة ما‪ ،‬فأنت متتلك بعض القوانني اليت أخذهتا من نطاق اإلله‪ ،‬ومل تعد حباجة‬
‫إليه لتفسري هذه الظاهرة‪ ،‬ولكنك حتتاجه بالنسبة إىل األلغاز األخ ــرى‪ .‬ومن مث‬
‫فأنت ترتكه خيلق الكون ألننا مل نكتشف أصل الكون بعد‪ ،‬أنت حباجة إليه لفهم‬
‫األشياء اليت تعتقد بأن القوانني العلمية لن تفسرها مثل الوعى اإلنساين أو ملاذا‬
‫حتيا لفرتة معينة من الزمن ‪ ..‬احلياة واملوت ‪ ..‬وأشياء من هذا القبيل‪ .‬دائم اً ما‬
‫يتم ربط اآلهلة باألشياء اليت ال تفهمها‪ ،‬و لذلك فأنا ال أعتقد بأن قوانني الطبيعة‬
‫ميكن اعتبارها شبيهة باإلله ألننا قد عرفنا آلية عملها ومل تعد غامضة على‬
‫اإلطالق ‪.‬‬

‫‪6‬‬ ‫‪5‬‬
‫اجتاهات جديدة يف العلم‬ ‫اجتاهات جديدة يف العلم‬

‫مل ي ــك ــن ي ــع ــت ــق ــد ب ــض ــرورة‬


‫ال ــع ــودة إىل أرسطو أو إىل‬
‫الكنيسة من أجل حتديد‬
‫ما هي «النظرية العلمية»‪ ،‬وم ــا هي صلتها بالواقع ال ــذي تصفه؟ ال ي ـزال هذا‬
‫م ـ ــوق ـ ــف م ـ ــع ـ ــريف‪ ،‬ف ــك ــان‬
‫السؤال مطروح اً طرح اً ملح اً‪ ،‬على الرغم من التقدم الذي حققته العلوم النظرية‬
‫ن ـ ـ ـ ــداؤه ص ــرحي ـ ـاً ب ــض ــرورة‬
‫والتطبيقية‪ .‬وهو يعكس إشارة أعمق إىل صلة الوعي اإلنساين مبوضوع معرفته‪.‬‬
‫فصل املعتقد عن املنهج‬
‫أي عمل معريف‬ ‫يعب عنه ُّ‬ ‫كل ما ِّ‬
‫ص لب احلق أن هذا السؤال حياول أن يسرب َّ‬ ‫ويف ُ‬
‫املعريف احلر للحقيقة‪ .‬وقد‬
‫أو فين‪.‬‬
‫أهل ــم ــت ــه أع ــم ــال ن ــي ــك ــوالس‬
‫ولعل العلم يف تنوع ط رائقه وجماالته‪ ،‬ويف انفتاحه الدائم على ما هو أوسع وأغىن‬
‫ك ـ ـ ــوب ـ ـ ــرن ـ ـ ــي ـ ـ ــك ـ ـ ــوس ‪N.‬‬
‫وأمجل‪ ،‬ويف حدسه‪ ،‬كما ويف اختباراته التجريبية‪ ،‬إمنا ميثل ذائقة فنية بالدرجة‬
‫‪ Copernicus‬وتيخو‬
‫املتذوق وبني‬
‫األوىل! وإن هذه الذائقة ال تنمو إال عرب إقامة الصلة العميقة بني ِّ‬
‫ب ـ ـ ـراه ـ ــي ‪T. Brahe‬‬
‫موضوعه اجلمايل‪ .‬وهلذا السبب كان اإلبداع الفين مفتوح اً دائم اً بال حدود؛ وهلذا‬
‫ويوهانس كبلر ‪ J. Kepler‬وغاليليو غاليليه ‪ G. Galilée‬ووليم هاريف ‪W.‬‬
‫السبب نفسه أيض اً‪ ،‬مل يكن للعلم أن يبين نظرياته بناء حمدوداً وهنائي اً‪ :‬فهو ال‬
‫‪ Harvey‬وغريهم مقولته يف أنه جيب أال تُبىن الفلسفة الطبيعية على األفكار‬
‫يكتفي بإخضاعها للتجربة للربهان على صحتها‪ ،‬بل هو يقيس تقدُّمه حبالة‬
‫السلفية واألفكار الثابتة‪ ،‬وأن املنطق جيب أن يرتكز على رصد األشياء احملسوسة‬
‫جس دها يف لوحته األخرية!‬
‫الشعور بالرضا أمام التناغمات اليت َّ‬
‫واختبارها‪.‬‬
‫حتكي قصة العلم عن رحلة فريدة‪ ،‬حاول فيها الوعي سرب هذه الصلة القائمة‬
‫طرحت هذه اللغة اجلديدة‪ ،‬اليت ُسِّ يت بـ»العلم» ‪ Science‬فيما بعد‪ ،‬إشكاليات‬
‫بني اإلنسان والطبيعة‪ .‬وال ت زال هذه القصة مستمرة‪ ،‬مبا هي عمل فين وتاريخ‪ ،‬ال‬
‫كثرية يف البداية‪ :‬ذلك أنه ال ميكن دائم اً تعميم حاالت حمدودة وقليلة الستنتاج‬
‫حيق قه فينا من تفتح‬ ‫دون عرب إجنازاتنا التطبيقية والنظرية فحسب‪ ،‬بل وعرب ما ِّ‬‫يُ َّ‬
‫نظرية عامة ثابتة‪ .‬ومرة بعد مرة‪ ،‬بدأ العلم يعرتف بأن تعديل نظرياته هو أساس‬
‫نفسي وعقلي وروحي‪.‬‬
‫تقدُّمه – ه ــذا التعديل ال ــذي يعين لغة قائمة ب ــذاهت ــا‪ ،‬ه ــي لغة املعرفة املستمرة‬
‫***‬
‫والقابلة دائم اً للتعديل واالنفتاح‪.‬‬
‫ترجع قصة العلم إىل تاريخ حضارات عريقة‪ ،‬كاملصرية والبابلية واهلندية والصينية‬
‫ومن أجل تاليف عدم القدرة على التعميم انطالق اً من معطيات جزئية‪ ،‬طرح بيكون‬
‫واليونانية والعربية‪ .‬لكن العلم مل يأخذ شكله املنهجي إال مع بداية عصر النهضة‬
‫منهجه العلمي االستق رائي‪ ،‬حيث ميكن بناء فرضية على معطيات بسيطة‪ ،‬حبيث‬
‫األوروبية – هذا املنهج الذي تبلور وتعدَّل كث رياً عرب القرون القليلة املاضية‪.‬‬
‫تشكل منوذج اً ميكن حتصيل معطيات جديدة وفق اً له‪ ،‬وهكذا‪ ،‬وصوالً إىل نظرية‬
‫وال شك أن بيكون ‪ Bacon‬لعب دوراً أساسي اً يف متايز املنهج العلمي‪ :‬فهو‬
‫متكاملة‪ ،‬حبيث يستطيع الباحث اكتشاف قوانني الطبيعة اكتشاف اً منظم اً‪.‬‬
‫‪8‬‬ ‫‪7‬‬
‫اجتاهات جديدة يف العلم‬ ‫اجتاهات جديدة يف العلم‬

‫حتت الذري ‪ subatomic‬ليست حمكومة‬ ‫وبعد ذلك‪ ،‬طور العلماء مفهوم التجربة املضبوطة اليت تساعد على عزل أهداف‬
‫بقوانني مطلقة أو حمددة‪ ،‬خاضعة للسبب‬ ‫الرصد وحتديدها وجعلها أكثر دقة‪ .‬وقد ميز رونيه ديكارت ‪R. Descartes‬‬
‫والالتعي‬
‫ُّ‬ ‫والنتيجة‪ ،‬ب ــل بقوانني الصدفة‬ ‫ال راصد عن موضوع الرصد‪ ،‬وحدد هدف التجربة واملالحظة باكتشاف القوانني‬
‫‪ .indeterminacy‬ويف ال ــري ــاض ــي ــات‪،‬‬ ‫السببية ال ــي تربط ب ــن األش ــي ــاء وال ــظ ــاه ـرات‪ .‬وبعد ف ــرة‪ ،‬استفاد اسحق نيوتن‬
‫كان كورت غودل ‪ K. Gödel‬قد برهن أنه‬ ‫‪ I. Newton‬من فكرة ديكارت‪ ،‬فأوجد عالقة بني مالحظات كوبرنيكوس‬
‫توجد دائم اً إثباتات حقيقية ومتجانسة‪،‬‬ ‫وب راهني كبلر وغريمها‪ ،‬وطرح نظريته اليت مل تكن تشتمل إال على ثالثة مبادئ‬
‫إمنا ال ميكن أن تُشتق من جمموعة حمدودة‬ ‫بسيطة‪ ،‬إضافة إىل فرضية تتعلق بالثقالة ‪ .gravity‬وأدى جناح قوانني كبلر إىل‬
‫دائ ــم ـاً‪ ،‬حب ــي ــث ي ــل ــزم دائ ــم ـاً ال ــت ــوس ــع يف أي ــة‬ ‫ترسيخ اعتقاد‪ ،‬أسسه ديكارت‪ ،‬بأن الطبيعة آلية يف عملها‪ .‬وقاد ذلك البالس‬
‫منظومة جي ــب ال ــره ــان عليها‪ .‬وإذا أخذنا‬ ‫‪ Laplace‬يف القرن التاسع عشر إىل التنبؤ مبعادلة قريبة‪ ،‬ستحمل اجلواب عن‬
‫بعني االعتبار ما كانت قد طرحته نظرية‬ ‫كل شيء موجود يف الطبيعة‪.‬‬ ‫ِّ‬
‫النسبية م ــن ت ــوس ــي ــع ك ــب ــر ملفاهيم ال ــزم ــن‬ ‫لقد أثرت أعمال نيوتن يف مدرسة فلسفية كاملة‪ ،‬كان أهم أساتذهتا لوك ‪Lock‬‬
‫وامل ــادة والطاقة واجلاذبية‪ ،‬ميكننا القول إن‬ ‫وبركلي ‪ Berkley‬وهيوم ‪ .Hume‬وعلى الرغم من تأكيد هؤالء – وخباصة‬
‫جممل هذه الرؤى اجلديدة طرح من جديد مسألة النظرية العلمية طرح اً خمتلف اً‪.‬‬ ‫هيوم – على الصفة املستقلة لل راصد عن موضوع التجربة‪ ،‬لكنهم مل يتأكدوا‬
‫ول م ــع بيكون‬ ‫وع ــر بوبر ع ــن ذل ــك بقوله‪« :‬إن مفهوم ال ــك ــون امليكانيكي ق ــد ّ‬ ‫من أن االستق راء ميكن أن يقود إىل اليقني‪ .‬وبالتايل فإن ما يظهر لنا من انتظام يف‬
‫ونيوتن وديكارت؛ فالعامل املوضوعي ليس مطلق اً يف شيء منه‪ .‬والعلم ال يرتكز‬ ‫أبدا أنه سيؤدي إىل معرفة مطلقة يف املستقبل‪.‬‬ ‫الطبيعة ال يعين ً‬
‫دح ض‪ ».‬ويكمل توماس كوهن ‪ T. Kuhn‬هذا املنظور بقوله‬ ‫على أسس ال تُ َ‬ ‫عب فلسفي اً‪ ،‬بعد ظهور نظرييت‬ ‫ورمب ــا كان ك ــارل بوبر ‪ K. Popper‬أول من َّ‬
‫إن النظريات تُعدَّل باستم رار مع ظهور تعارضات أو معضالت جديدة وهكذا‪،‬‬ ‫النسبية العامة وامليكانيكا الكوانتية‪ ،‬عن الاليقني ‪ ،uncertainty‬وعن صلة‬
‫حىت يتطلب األمر تعدي الً جوهري اً يف النظرية وظهور نظرية جديدة‪.‬‬ ‫ال راصد مبوضوع التجربة‪ .‬كذلك طرح بوبر فكرة الربهان بعكس االستق راء‪ ،‬أي‬
‫لقد مت حتسني النموذج األويل القائم على قوانني نيوتن األساسية‪ ،‬حىت ب ــدا يف‬ ‫بنفي حالة واحدة من النظرية العامة‪ :‬إن جبعة سوداء ميكن أن تنقض نظرية أن‬
‫هناية القرن التاسع عشر وكأنه قد اكتمل‪ .‬لكن ظهور النظرية النسبية عدَّل‬ ‫يكون البجع كله أبيض اللون‪ .‬وينعكس ذلك على الفهم الفلسفي للمنحى‬
‫هذا الشعور بالنظرية الكاملة‪ ،‬وطرح يف املقابل فكرة جديدة‪ ،‬حيث ليس من‬ ‫الذي اختذه العلم‪ :‬ف طَ ْر ُح نظرية جديدة جيب أن ي رتافق إذن بأسلوب برهان حاسم‬
‫الضروري أن تنقض النظري ةُ اجلديدةُ النظري ةَ السابقة‪ ،‬بل حتفظ هلا سوية خاصة‬ ‫عليها أو بإمكانية دحضها‪ .‬ومل تكن قد تبلورت حىت ذلك احلني بالتايل‪ ،‬فكرة‬
‫هبا تُط بَّ ق فيها‪ .‬وك ــان ذل ــك إي ــذان ـاً بفتح الباب على مص راعيه على احل ــوار بني‬ ‫أن تكون النظرية العلمية إمكانية معرفية مفتوحة دائم اً‪.‬‬
‫نظريات العامل اجلَ هاري (املاكروسكويب) والعامل اجملهري الدقيق (امليكروسكويب)‪.‬‬ ‫كانت امليكانيكا الكوانتية توحي يف تلك الفرتة بأن الظاه رات على املستوى ما‬
‫‪10‬‬ ‫‪9‬‬
‫اجتاهات جديدة يف العلم‬ ‫اجتاهات جديدة يف العلم‬

‫تكشف عن كون غري حمدَّد واحتمايل‪ ،‬وال ينفصل فيه فعل الرصد عن موضوع‬ ‫***‬
‫املعرفة‪ .‬ويف مقابل العالقة السببية يف الكون حبسب نظرية النسبية‪ ،‬كان تفسري‬ ‫استطاعت نظريتا النسبية والكوانتية َس ــبـْـ َـر جم ــاه ــل ج ــدي ــدة يف اجمل ــال امل ــع ــريف‪.‬‬
‫النظرية الكوانتية الذي قدَّمه بوهر ومدرسة كوبنهاغن يقول بعدم إمكانية وجود‬ ‫واستطاعت أن‬
‫ْ‬ ‫دجمت الزمان باملكان‪ ،‬واملادة بالطاقة‪ ،‬واجملرد باحملسوس‪،‬‬ ‫فالنسبية ْ‬
‫ص ــورة هنائية يف العامل الصغري (امليكروكوزموس) للسبب والنتيجة‪ ،‬بل أم ــواج‬ ‫تبين عامل اً هندسي اً خيلق املادة وماد ًة تؤثِّر يف بنية املكان اهلندسية‪ .‬وقد اعتمدت‬
‫احتمالية فقط‪.‬‬ ‫النسبية يف ذل ــك على قوانني نيوتنية يف أصوهلا‪ ،‬ووصلت بالسببية إىل أقصى‬
‫وعلى الرغم من اخلالف الذي نشأ بني بوهر وأينشتاين حول التفسري الفلسفي‬ ‫مداها‪ .‬لكنها كانت تشري إىل قفزة يف ط رائق تفكرينا‪ ،‬من حيث إن هذه السببية‬
‫ترس ختا رس ــوخ ـاً ك ــب ـراً‪ ،‬حىت ب ــدأ العمل على‬ ‫للنظريتني‪ ،‬لكن هاتني األخ ــرت ــن َّ‬ ‫والدينامي مل تعد قابلة للتوصيف من منظور حم لّ ي‬ ‫َّ‬ ‫اليت حتكم هذا العامل املتحرك‬
‫حماولة توحيدمها يف نظرية واح ــدة‪ .‬وك ــان اهل ــدف هو إجي ــاد وسيلة تعبري رياضية‪،‬‬ ‫حد بعيد‪،‬‬ ‫فقط‪ .‬أما النظرية الكوانتية فقد استطاعت اخ ـراق هذا احلاجز إىل ٍّ‬
‫مدع مة بتفسري فيزيائي‪ ،‬جتمع القوى األرب ــع املعروفة يف الطبيعة‪ ،‬حبيث تظهر‬ ‫َّ‬ ‫وأوجدت عامل اً غري سبيب‪ ،‬بل احتمايل يف جوهره‪ ،‬وال ينفصل عن وعينا‪.‬‬
‫وكأهنا منبثقة عن قوة وحيدة أولية‪.‬‬ ‫ويف كال العاملني ‪ ..‬الكبري السبيب والصغري الكوانيت ‪ ..‬كانت مثة مفاهيم ال َّ‬
‫بد‬
‫أي تقدُّم‬
‫عند هذا املنعطف‪ ،‬عاد التساؤل العلمي يطرح نفسه بقوة‪ :‬هل يتطلب ُّ‬ ‫من تفسريها‪ :‬فهذه امل ــادة الطاقة كانت تعاين من «التعب»‪ ،‬وه ــذا اإللكرتون‬
‫تفس ر الظاه رات ك لَّ ها‪ ،‬وعلى كافة املستويات؟ وهل‬ ‫معريف إجياد منظومة واحدة ِّ‬ ‫صد ر طاقة ضائعة‪ .‬فأين تذهب هذه الطاقة؟‬ ‫القافز من م ــدار إىل م ــدار كان ي ِ‬
‫ُ‬
‫ميكن حتقيق إبداع نظرية جديدة دون اخلروج مرة أخرى‪ ،‬عن الشكل التقليدي‬ ‫وكيف نستطيع فهم ك ــون حيافظ على انتظامه رغ ــم خسارته للطاقة؟ كانت‬
‫الذي بات م تَّبع اً يف العلم؟‬ ‫هذه النقطة بالذات مفتاح االجتاه اجلديد الذي سينطلق منه العلم‪ ،‬لكنها مع‬
‫كان ديفيد بوهم ‪ D. Bohm‬من أوائ ــل الذين تن بَّ هوا إىل هذه النقطة‪ ،‬فقال‬ ‫ص لب احل ــوار ال ــذي ق ــام بني النظريتني النسبية والكوانتية‪،‬‬ ‫األس ــف مل تكن يف ُ‬
‫وأك د خطأ فكرة البحث عن كوانتوم‬ ‫بضرورة عدم جعل اليقني العلمي مطلق اً‪َّ ،‬‬ ‫مم ثَّالً باحلوارات اليت دارت بني ألربت أينشتاين ‪ A. Einstein‬ونيلز بوهر ‪N.‬‬
‫ـوح ــدة‪ ،‬أو عن قُ َس ْي م أويل هو اللبنة األساسية للمادة‪ ،‬معت رباً‬ ‫(أو ك ــم) القوة امل ـ ِّ‬ ‫‪ Bohr‬بشكل خاص‪.‬‬
‫ٍ‬
‫عندئذ‬ ‫املوح دة‬
‫أن ذلك يتناىف مع فكرة أن الكون يشكل ك الً‪ ،‬إذ تكون القوة ِّ‬ ‫فعلى الرغم من أن ك الً من أينشتاين وبوهر كانا يقبالن بك لِّ ية الكون‪ ،‬لكن‬
‫جتميع اً ألج ـزاء ليس هو الكل بالضرورة‪ .‬كذلك ع ــارض روب ــرت ِش لدريك ‪R.‬‬ ‫نظريتيهما كانتا خمتلفتني‪ :‬فالنسبية ترتكز على مفهوم احلقول املتصلة‪ ،‬يف‬
‫‪ Sheldrake‬فكرة توحيد القوى كمنهج علمي‪ :‬إذ إن ذلك سيعين التساؤل‬ ‫(«كم ات»)‬ ‫َّ‬ ‫حني أن الطبيعة الكوانتية غري متصلة‪ ،‬بل تتألف من كوانتونات‬
‫عما كان قبل هذه القوة قبل أن يكون الكون بسببها‪ ،‬وهو سؤال ميتافيزيائي‬ ‫منفصلة‪ .‬وقد متَّ التخ لِّ ي عن فكرة املسار يف هذه األخرية لصاحل «القفزة الكوانتية»‬
‫حبت‪ ،‬حيث سيـُ َع ُّد أن القانون الطبيعي قانون أزيل‪ ،‬وإنه ُو ِج َد قبل وجود الطبيعة‬ ‫خط جيوديسي هام يف‬ ‫تطور مفهوم «املسار» إىل ٍّ‬ ‫‪ ،quantum leap‬يف حني َّ‬
‫نفسها!‬ ‫النسبية‪ .‬والكون يف نظر أينشتاين موضوعي وحمدود‪ ،‬فهو مستقل عن ال راصد‬
‫ـت نظريتا النسبية والكوانتية م ــن امل ــس ــائ ــل ال ــي ال ت ـزال‬ ‫ويف امل ــق ــاب ــل فقد ط ــرح ـ ْ‬ ‫الذي يكتشف فيه قوانني ثابتة وغري احتمالية‪ .‬ويف املقابل فإن النظرية الكوانتية‬
‫‪12‬‬ ‫‪11‬‬
‫اجتاهات جديدة يف العلم‬ ‫اجتاهات جديدة يف العلم‬

‫جتل لل راصد وأدواته اليت‬ ‫احلديثة‪ .‬فثنائية املوجة‪ ..‬اجلسيم عند بوهر ليست سوى ٍّ‬ ‫غامضة ما يكفي للبدء جدي اً بالتحضري النطالقة جديدة يف الفهم‪ ،‬حبيث يتم‬
‫حترض اجملموعات املنطوية من الكمونات بأشكال خمتلفة‪ .‬أما إشكالية االتصال‬ ‫ِّ‬ ‫احلفاظ على أساس النظريتني‪ ،‬إمنا مع إمكان حتقيق منظور أوسع وأمشل‪ .‬ولعل‬
‫واالنفصال‪ ،‬اليت ترجع إىل أيام زينون‪ ،‬فيح لُّ ها بوهم بإرجاعها إىل عملية منفصلة‬ ‫هذا املنظور كان ليحمل معه إمكانية منهج جديد يف العلم كما سنرى‪.‬‬
‫املنبس ط أو يف املنطوي‪.‬‬ ‫تتم يف ِ‬ ‫ومتصلة يف الوقت نفسه‪ ،‬حبسب ما إذا كانت ُّ‬ ‫***‬
‫ويذهب بوهم بالسببية إىل حدِّها األقصى – وال ننسى أنه تلميذ أينشتاين –‬ ‫ك ــان ب ــوه ــم م ــن ال ــس ـبَّ ــاق ــن إىل حم ــاول ــة اخ ـ ـراق ه ــذا ال ــش ــك ــل ال ــت ــق ــل ــي ــدي للنظرية‬
‫لكل شيء‪ .‬وهذا يعين‬ ‫كل شيء هو سبب ِّ‬ ‫ليحل إشكالية الالسببية‪ ،‬فيقول إن َّ‬ ‫َّ‬ ‫العلمية‪ .‬فقد استطاع بنظريته الك لِّ ية يف االنبساط ‪ explication‬واالنطواء‬
‫متجذ راً جت ـ ُّـذ راً غري حم لِّ ي يف احلركة‬
‫ِّ‬ ‫أي حدث حم لِّ ي يف النظام ِ‬
‫املنبس ط يكون‬ ‫أن َّ‬ ‫بغض النظر عما إذا كان قد‬ ‫‪َ ،implication‬ر ْس َم أول اجتاه جديد يف العلم‪ِّ ،‬‬
‫نظام–ص دفة‬
‫ُ‬ ‫الك لِّ ية املنطوية ‪ .Holomovement‬وبذلك‪ ،‬ال يكون مثة ثنائية‬ ‫توص ل إىل نتيجة مقنعة أم ال‪ .‬لقد حاول دخول املرآة‪ ،‬كما فعلت أليس ‪،Alice‬‬ ‫َّ‬
‫كل ما فيه من ظَّم وفق نظام أعلى فأعلى‪ .‬والكون‪ ،‬حبسب بوهم‪ ،‬حمدَّد‬ ‫يف كون ُّ‬ ‫فاج أ بأن‬
‫ليجد نفسه يف «بالد العجائب»! حاول تقطيع قالب احللوى‪ ،‬فإذا به يُ َ‬
‫فكل شيء من ظَّم وحمدَّد يف احلركة الك لِّ ية‪ .‬أما اجلوانب‬ ‫آن واحد‪ُّ :‬‬ ‫وغري حمدَّد يف ٍ‬ ‫الق طَع تعود لتتماسك من جديد!‬ ‫ِ‬
‫متغيات خفية‬ ‫متغيات «خفية» ترتكز هي نفسها على ِّ‬ ‫غري احملدَّدة فتقوم على ِّ‬ ‫لقد أراد ب ــوه ــم اخل ــروج م ــن ال ــك ــون الفيزيائي امل ــع ــروف وط ــرح ك ــون ـاً جييب عن‬
‫أخرى‪ ،‬وهكذا‪ ،‬حبيث تؤلِّف احلركة الك لِّ ية نفسها! ومن هذا املنظور فإن الكون‬ ‫تساؤالت ليست علمية باملعىن املتعارف عليه‪ ،‬كاحلقيقة والفهم واللغة‪ ،‬وحاول‬
‫غري حمدَّد‪.‬‬ ‫أن يربهن على أن هذه املفاهيم توازي يف أمهيتها املفاهيم الكالسيكية‪ ،‬كالشحنة‬
‫وي ــرى بوهم أن قوانني الطبيعة نفسها تتطور‪ ،‬وه ــذا ما يعطي الفرصة للجديد‬ ‫وكمية احلركة‪ .‬وترتكز فكرة بوهم على اتصالية العامل‪ .‬فالكون هولوغ رام كبري‪،‬‬
‫جمرد احتاد أولِّ ياهتا يف ظروف معينة‪ ،‬بل‬ ‫بالظهور حق اً‪ .‬فاحلياة ليست نامجة عن َّ‬ ‫كل جزء فيه على الصورة الك لِّ ية له‪ .‬إن الكون انبساط وإفصاح‬ ‫أي كلٌّ حيتوي ُّ‬
‫لكل إبداع جديد‪ ،‬مبا يف ذلك القوانني‬ ‫هي كمون منط ٍو يف احلركة الك لِّ ية القابلة ِّ‬ ‫لكمون منط ٍو‪ ،‬وهو يف حالة انبساط وانطواء مستمرة‪ ،‬هي اليت تعطي الكون‬
‫علم صريورة وليس علم عطالة‪.‬‬ ‫اجلديدة‪ .‬وهكذا فإن العلم‪ ،‬من منظور بوهم‪ُ ،‬‬ ‫مظهره احلركي والدينامي‪.‬‬
‫الكل حيوي اجلزء‪ ،‬كما أن اجلزء حيوي الكل‪،‬‬ ‫والكل ليس جمموع أج زائه‪ ،‬بل إن َّ‬ ‫ُّ‬ ‫ـدم شاسع‪ ،‬ميوج‬ ‫إن امل ــادة ليست عطالية ومنفصلة يف منظور بوهم‪ :‬فكوننا ع ـ ٌ‬
‫يتحول إىل أحد عناصر التجربة‪ ،‬ليصبح هو نفسه موضوع‬ ‫وعلى هذا فإن ال راصد َّ‬ ‫جتع دات تظهر على سطحه‪ .‬وبالتايل ال ميكن أن توجد‬ ‫كل شيء على شكل ُّ‬ ‫فيه ُّ‬
‫املعرفة‪.‬‬ ‫خارطة هنائية هلذا الكون‪ ،‬مبعىن نظرية كاملة‪ ،‬ألن خ رائطنا ستتغري ببساطة مع‬
‫وعلى الرغم من أن نظرية بوهم مل حتقق النجاح املتوقَّع هلا‪ ،‬ومع أهنا وقعت يف‬ ‫تغري انبساطاته‪ :‬إهنا ببساطة‪ ،‬النظريات ‪ ..‬امل رايا اليت ننظر هبا إليه‪ .‬أما لكي‬
‫مطب العودة إىل اآللية يف كثري من جوانبها – حيث تعود بنا إىل تلك السلسلة‬ ‫ِّ‬ ‫حد امل ــرآة‪ ،‬ومبعىن آخر الغوص فيه! فـنظرتنا نفسها‬ ‫نعرفه‪ ،‬فما علينا إال جتاوز ِّ‬
‫م ــن ال ــس ــاح ــف ال ــي حت ــم ــل األرض بعضها ف ــوق ب ــع ــض دومن ــا هن ــاي ــة‪ ،‬ع ــر سلسلة‬ ‫حقل التجربة واالختبار معرفتَ نا ووعيَ نا‪.‬‬ ‫يغي ُ‬ ‫تغي حقل املعرفة املدروس؛ وبدوره‪ِّ ،‬‬ ‫ِّ‬
‫انطواءاهتا وأنظمتها ال رتاتبية إىل أعلى فأعلى! – لكن أثرها واضح على ما قدَّم ْت ه‬ ‫العديد من اإلشكاليات الفلسفية القدمية والعلمية‬ ‫َ‬ ‫حي ـ ُّـل ه ــذا النظام املنطوي‬
‫‪14‬‬ ‫‪13‬‬
‫اجتاهات جديدة يف العلم‬ ‫اجتاهات جديدة يف العلم‬

‫اجلزيئات الغازية‪ ،‬أي أن احل رارة هي تعبري عن الشواش اجلزيئي‪ ،‬وهي طاقة ضائعة‬ ‫مشج ع اً‬
‫ِّ‬ ‫من حماولة لتجاوز اإلط ــار العام لصريورة النظرية العلمية‪ .‬وك ــان ذلك‬
‫يف اجلزء األكرب منها‪ ،‬مهما كان العمل املستفاد منها‪ .‬أي أن هذا الشواش اجلزيئي‬ ‫حملاولة أكثر ج رأة ومتاس اً مع الشكل العلمي املتعارف عليه‪ ،‬إمنا مع طرح منظور‬
‫هو اإلنرتوبيا‪ .‬وعندما يربد الغاز‪ ،‬أي تتوقف احلركة الشواشية للجزيئات‪ ،‬تبلغ‬ ‫أوسع للمفاهيم األساسية‪ ،‬حبيث تغدو النظرية اجلديدة نفسها طريقة خمتلفة يف‬
‫أي‬
‫اإلنرتوبيا أقصاها‪ ،‬إذ تصبح هذه اجلزيئات يف وضعية غري تفاعلية وال تؤدي َّ‬ ‫الفهم‪ .‬ف رمبا كان علينا حق اً‪ ،‬يف بعض األحيان أن نفعل كما فعلت أليس بعد‬
‫عمل‪ .‬وكان كالوزيوس قد خلَّص الرتموديناميكا ك لَّ ها يف عبارة واحدة‪« :‬إن طاقة‬ ‫بعد نقطعه!‬ ‫دخوهلا يف املرآة‪ :‬نأكل قالب احللوى ومن ُ‬
‫العامل ثابتة‪ ،‬وإنرتوبيا العامل تنحو إىل حدِّها األقصى‪ ».‬وهذا يعين أن طاقة العامل‬ ‫كان غوته – هذا الشاعر والفيلسوف والعامل الكبري – قد انتقد رجال العلم يف‬
‫باض ط راد للشواش ‪.chaos‬‬ ‫تتحول إىل طاقة غري فاعلة‪ ،‬وأن النظام يفسح اجملال ِّ‬ ‫بد من انتظار‬ ‫يفس رون الصريورة يف الطبيعة‪ .‬وكان ال َّ‬ ‫وات مهم بأهنم ال ِّ‬ ‫عصره‪َّ ،‬‬
‫وم ــن املدهش أن ــه‪ ،‬يف الوقت نفسه ال ــذي س ــادت فيه أفكار بولتسمان‪ ،‬كانت‬ ‫علم جديد للصريورة‪.‬‬ ‫إيليا بريغوجني ‪ I. Prigogine‬لينطلق ٌ‬
‫حتق ق إجنازات كبرية‪ .‬ووفق هذه النظرية‪ ،‬كانت اجلزيئات‬ ‫نظرية التطور لدار ِون ِّ‬ ‫يتعلق هذا العلم مبفهوم اإلنرتوبيا ‪ – entropy‬وهي ببساطة الطاقة املستن َف دة‬
‫البسيطة تتفاعل لتشكيل الربوتينات والسالسل النووية الريبية واإلنزميات‪ ،‬مث‬ ‫حتول هلا من شكل إىل آخر‪،‬‬ ‫فكل استخدام للطاقة‪ ،‬أو ُّ‬ ‫اليت ال ميكن اإلفادة منها‪ُّ :‬‬
‫فاملتعض يات املعقدة‪ ،‬وصوالً إىل الكائنات احلية العليا‪ ،‬وذلك‬ ‫ِّ‬ ‫اخلاليا احلية األوىل‪،‬‬ ‫كل‬
‫ي ــؤدي إىل خسارة جزء منها على شكل طاقة ضائعة‪ .‬ويف احلقيقة‪ ،‬خيسر ُّ‬
‫ع ــر منظومات بيئية متداخلة وم ــت ــوازن ــة‪ ،‬وبواسطة ق ــوان ــن للتكاثر واالصطفاء‬ ‫شيء طاقته تدرجيي اً يف كوننا‪ ،‬ليتحول إىل إنرتوبيا‪ .‬وازدي ــاد اإلنرتوبيا هو الذي‬
‫والوراثة على غاية من االنتظام! فكيف نستطيع تفسري ظهور احلياة وارتقائها يف‬ ‫فكل شيء يكرب ويتحول يف صريورة وجوده‪،‬‬ ‫يعطي للزمن اجتاه اً حنو املستقبل‪ُّ .‬‬
‫مواجهة الكون–اإلنرتوبيا؟‬ ‫حىت يفقد طاقته يف النهاية‪.‬‬
‫شك أن املنهج العلمي كان يقف‪ ،‬هاهنا بالذات‪ ،‬عند منعطف حاسم‪ .‬فها‬ ‫ال َّ‬ ‫ي ــع ــاك ــس ه ــذا امل ــن ــظ ــور ال ــف ــك ــر ال ــن ــي ــوتُــي ال ــق ــدمي‪ ،‬ح ــي ــث ك ــان ال ــزم ــن َع ــك ــوس ـاً‬
‫التعارض‪ ،‬ويتن بَّ ه إىل أن وضع‬
‫ُ‬ ‫يتوص ل‪ ،‬عرب منهجه الصارم إىل ما يشبه‬ ‫هو العلم َّ‬ ‫‪ .irreversible‬وأم ــا إذا تساءلنا نيوتوني اً‪ :‬مل ــاذا عندما نرمي حبجر يف امل ــاء‪،‬‬
‫النظريات وإثباهتا ال يكفي لفهم الظاهرة الطبيعية يف ك لِّ يتها‪ ،‬وي ــدرك إدراك ـاً‬ ‫فيغوص إىل القعر بعد أن يُظ ِه ر دوائر على سطح املاء متباعدة عن مركز السقوط‪،‬‬
‫للتغي وللتعديل‪.‬‬
‫حيق قها يف إطار نظرياته معرف ةٌ قابلة ُّ‬ ‫صرحي اً أن معرفته اليت ِّ‬ ‫ال ي ــع ــود احل ــج ــر إىل األع ــل ــى‪ ،‬م ــع ــي ــداً ال ــدوائ ــر م ــن احمل ــي ــط إىل امل ــرك ــز‪ ،‬ف ــإن اإلج ــاب ــة‬
‫لقد الحظ بريغوجني أن ما مي يِّ ز املنظومات احلية املفتوحة عن املنظومات املغلقة‬ ‫النيوتنية تأتينا بأن ذلك ليس مستحي الً‪ ،‬لكنه احتمال ال معىن فيزيائي اً له‪ .‬وهذا‬
‫أبدا بسبب تدفق الطاقة فيه على شكل مواد كيميائية أو‬ ‫هو الوسط غري املتوازن ً‬ ‫يعين أن مفهوم سهم الزمن‪ ،‬املرتبط بازدياد اإلنرتوبيا يف الرتموديناميكا‪ ،‬يرتبط‬
‫غريها؛ وهلذا يـُ َع ُّد هذا الوسط وس طًا شواشي اً‪ ،‬فيه تظهر املنظومات احلية وتتطور‪.‬‬ ‫يف امليكانيكا النيوتنية مبفهوم االحتمال‪ .‬فهل أن سيالن الزمن مرتبط بغياب‬
‫بل إن هناك أمثلة كثرية على نشوء انتظامات آنية يف وس ــط شواشي‪ ،‬كما يف‬ ‫األحداث غري احملتملة وبظهور األحداث احملتملة فقط؟‬
‫جتارب بينار ‪ Bénard‬أو جابوتنسكي–بلوسوف وغريهم‪ .‬ويوافق بريغوجني هنا‬ ‫لقد درس بولتسمان ‪ Boltzmann‬ه ــذه ال ــف ــك ــرة‪ ،‬واس ــت ــط ــاع تفسري طبيعة‬
‫على أن احلياة والالحياة يظه ران يف وضعيات عدم التوازن‪ .‬وهكذا‪ ،‬على عكس‬ ‫مسخ ن‪ ،‬تكون احل رارة مسة حلركة‬ ‫اإلنرتوبيا مبثال بسيط‪ :‬عندما يكون لدينا غاز َّ‬
‫‪16‬‬ ‫‪15‬‬
‫اجتاهات جديدة يف العلم‬ ‫اجتاهات جديدة يف العلم‬

‫الزمن‪.‬‬ ‫توص ف نشوء‬‫ترموديناميكا القرن التاسع عشر‪ ،‬اكتشف بريغوجني ترموديناميكا ِّ‬
‫***‬ ‫ت برتموديناميكا‬ ‫ي‬ ‫الب ىن املنتظمة واملعقدة يف الوسط الشواشي غري املتوازن؛ وقد د ِ‬
‫ع‬
‫ُ َ ْ‬ ‫ُ‬
‫ي ــذه ــب ف ــري ــق م ــن ال ــع ــل ــم ــاء إىل أب ــع ــد م ــن ذل ــك يف ط ــرح ب ــري ــغ ــوج ــن للمنظومات‬ ‫التدومية‪ .‬ودعا بريغوجني األشكال اليت تظهر يف وسط غري متوازن‬ ‫املنظومات ُّ‬
‫انش ْس كو فاريال ‪ ،F. Varela‬تستمد‬ ‫امل ــب ــدِّدة‪ .‬فهذه املنظومات كما ي ــرى ف ر ِ‬ ‫بـ»البُ ىن املبدِّدة» ‪ :structures dissipatives‬ذلك أنه عليها‪ ،‬لكي حتافظ‬
‫استقالليتها من ارتباطها نفسه باحمليط الشواشي الذي تنشأ منه‪ .‬وينطبق ذلك‬ ‫على شكلها‪ ،‬أن تبدِّد دائم اً الطاقة‪ ،‬أي أن تزيد من اإلنرتوبيا‪ ،‬حىت ال ت رتاكم‬
‫على أن ــواع اململكة احليوانية والنباتية ك ــاف ــة‪ ،‬كما وعلى املنظومات األعقد‪،‬‬ ‫ه ــذه األخ ــرة فيها‪ .‬ويتطلب ذل ــك احلصول على الطاقة باستم رار‪ .‬وبالتايل فإن‬
‫وصوالً إىل التجمعات البشرية‪ .‬وهكذا تكون املنظومة مغلقة من جهة بانتظامها‬ ‫ميران عرب املنظومة املبدِّدة املفتوحة ليحفظا هلا توازهنا وانتظامها‪،‬‬‫املادة والطاقة ّ‬
‫وباستقالليتها‪ ،‬ومفتوحة يف الوقت نفسه بتفاعُ لها املستمر مع بيئتها‪ .‬وأضاف‬ ‫يف حني تُس ِه م املنظومة يف طرح اإلنرتوبيا وزيادهتا‪.‬‬
‫إىل ذل ــك إري ــك ي ــان ــت ــش ‪ E. Jantsch‬بُــع ــداً ج ــدي ــداً‪ :‬ف ــه ــو ي ــرى أن ال ــبُ ــى ذات ــي ــة‬ ‫وي ــرى بريغوجني أن احلقيقة متعدِّدة األب ــع ــاد‪ ،‬وال يصح النظر إليها من منظور‬
‫االنتظام حتافظ على شكل صريورهتا بإقامة ت ــوازن ثابت حلاجتها لالحنفاظ من‬ ‫واح ــد‪ .‬وهكذا ف ــإن الشكل امليكانيكي يكون صحيح اً ضمن مستوى معني‪،‬‬
‫التغ ريات‪ ،‬مع حاجتها للبقاء مفتوحة عليها‪ .‬فعند اإلنسان‪ ،‬مث الً يكون دوران‬ ‫ويبقى تطبيق قوانني نيوتن سليم اً فيه‪ ،‬إمنا مع حدود معينة ال ميكن جتاوزها‪.‬‬
‫الدم أو العمليات الكيميائية يف اجلهاز اهلضمي مغلقني أمام التغ ريات أو الدفوق‬ ‫ويق لِّ ل ذلك كث رياً من أمهية املفاهيم املطلقة اليت سادت منذ نيوتن‪ .‬ويف املقابل‬
‫اخلارجية‪ ،‬وحتاول هاتان املنظومتان التخ لُّ ص من أية مادة غريبة تدخل يف دورهتا‪.‬‬ ‫تعطي املنظومات املبدِّدة باستم رار سويات أعلى فأعلى من التعقيد هلا قوانينها‬
‫أم ــا املنظومات العليا يف اجلسم اإلن ــس ــاين‪ ،‬كالدماغ فهي أكثر عرضة للدفوق‬ ‫آن واحد مع املستويات األخرى‪ .‬وعلى عكس‬ ‫اخلاصة‪ ،‬املستقلة واملتداخلة‪ ،‬يف ٍ‬
‫الدينامي‪ .‬لكن الدماغ مفتوح‬ ‫ِّ‬ ‫اخلارجية‪ ،‬وهي حتاول أيض اً احلفاظ على توازهنا‬ ‫أي من هذه املستويات أساسي اً‪،‬‬ ‫منظور النسبية أو الكوانتية‪ ،‬ال ميكن اعتبار ٍّ‬
‫عرب احل ــواس انفتاح اً كب رياً على العامل اخلارجي‪ :‬إن بضعة أفكار ميكن أن تولد‬ ‫وميكن ترتيب السويات األخرى وتصنيفها وفهمها اعتماداً عليه فقط‪.‬‬
‫دفوق اً خارجية كبرية (كاآلمال أو اإلحباطات أو امل ــخ ــاوف)‪ ،‬قبل التخلص من‬ ‫شك إىل التساؤل حول جوهر النظرية العلمية‪« :‬إذا‬ ‫وقاد ذلك بريغوجني دون ٍّ‬
‫توم ض يف حلظة بسبب مؤثر‬ ‫هذه األفكار‪ .‬وبالعكس ميكن لفكرة إبداعية جديدة ِ‬ ‫كان الكون ليس مبني اً من األدىن إىل األعلى‪ ،‬أو من اليسار إىل اليمني‪ ،‬بل هو‬
‫خ ــارج ــي‪ ،‬أال تُــط ـَـرح من املنظومة الدماغية حبيث تعمل على تغيري بنية الفكر‬ ‫نسيج ك لِّ ي من السويات والقوانني املتداخلة‪ ،‬فأين نقف منه ك راصدين فاعلني؟»‬
‫نفسها‪ ،‬وتعطي رؤيا حدسية جديدة متام اً‪.‬‬ ‫الع كوس اً‪.‬‬
‫وجييب بريغوجني بأن الكائنات احلية – ومنها البشر – تعيش وجوداً َ‬
‫إن الدماغ يعطينا فرص اً مم يَّ زة لالستقالل واحلرية‪ .‬فنحن غري حمدودين مث الً بالعيش‬ ‫هم نا الزمين ي تَّجه حنو امل ــوت دائم اً‪ .‬لقد ساهم تطور البنية املبدِّدة – اليت‬‫فس ُ‬
‫َ‬
‫وفق منط اجتماعي واح ــد كالنمل‪ .‬والدماغ ال ــذي يسمح لنا هبذه االستقاللية‬ ‫ندعوها «وعي اً» – بإضافة سوية جديدة من احلقيقة الواقعية‪ ،‬وبالتايل قانون اً‬
‫الفردية واالجتماعية مفتوح مع ذل ــك على ال ــدف ــوق اخلارجية‪ ،‬وه ــو بالتايل غري‬ ‫طبيعي اً جديداً إىل التاريخ الكوين‪ .‬ويتعلق هذا القانون اجلديد مبوقف ال راصد يف‬
‫انفتاح‬
‫ٌ‬ ‫مستقر‪ .‬وهكذا يكتشف يانتش أنه كلما ازدادت االستقاللية‪ ،‬قابل ذلك‬ ‫تقدير االختالف بني املاضي واملستقبل‪ .‬واحلق أن ما مي يِّ زنا هو إدراكنا هذا لسهم‬
‫‪18‬‬ ‫‪17‬‬
‫اجتاهات جديدة يف العلم‬ ‫اجتاهات جديدة يف العلم‬

‫ورمب ــا نستطيع القول أيض اً وعيها‪ .‬ويدعو ِش لدريك هذه احلقول باملورفوجينية‬ ‫أكرب على اخلارج‪ ،‬األمر الذي يوسع ويه يِّ ئ طُ ُرق التواصل بني ما هو يف الداخل‬
‫‪ ،morphogenetic fields‬وي ــس ــم ــي ف ــرض ــي ــت ــه ه ــذه ب ــ»ال ــع ـلَّ ــة امل ــش ـ ِّـك ــل ــة»‬ ‫وما هو يف اخلارج من البنية نفسها‪.‬‬
‫‪.Causative Formation‬‬ ‫ويف املقابل فنحن كمنظومات حية‪ ،‬ال نعيش منفصلني ومستقلني إال بتفاعلنا‬
‫َّ‬
‫تتشك ل‬ ‫حد مدهش مع احلقول اهلندسية اليت‬ ‫إن رؤيا ِش لدريك هذه تتقارب إىل ٍّ‬ ‫وتواح ده معنا‪ :‬حنن نعرف مث الً أن الكثري‬ ‫مع اخلارج‪ ،‬بل وبدخول هذا اخلارج إلينا ُ‬
‫املادة وفق اً هلا يف النسبية العامة‪ ،‬إهنا حقول تعطي الكون ك لَّ ه شكله وحركته‪،‬‬ ‫من أن ــواع البكترييا الصديقة يدخل أجسامنا ويعيش فيها‪ ،‬أي أننا يف النهاية‬
‫تشك لها‬ ‫تتشك ل بواسطة األشياء اليت ِّ‬ ‫َّ‬ ‫وليس أمناط احلياة فيه فقط‪ .‬وهي يف املقابل‬ ‫حد بعيد‪ ،‬وحنن متطورون ومتغريون مع صريورة‬ ‫منظومات متداخلة مع بيئتنا إىل ٍّ‬
‫حتول كينوناهتا‪.‬‬ ‫هي أوالً‪ .‬وهكذا فإن احلقول املورفوجينية عرضة للتحول دائم اً مع ُّ‬ ‫التغري املستمرة‪.‬‬
‫ت ــرى‪ ،‬هل نبالغ إذا ق ــارنَّــا أيض اً ه ــذه احلقول بالالوعي اجلمعي ‪Collective‬‬ ‫ترى أليست تلك النتائج الصرحية للعلم دعوًة واضحة للعلم نفسه إىل االنطالق‬
‫نوس ع‬
‫‪ Unconscious‬ال ــذي حتدث عنه ك ــارل يونغ ‪C.G. Jung‬؟ مل ــاذا ال ِّ‬ ‫يف مناهج واجتاهات جديدة‪ ،‬موازية لألنساق الطبيعية يف تنوعها وانتظاماهتا‪،‬‬
‫مشك لة» حبسب تعبري ِش ــل ــدري ــك‪،‬‬ ‫ه ــذا ال ــاوع ــي إىل الوع ــي ك ــوين‪ ،‬وإىل «ع ـلَّ ــة ِّ‬ ‫حبيث تكون النظريات العلمية أقدر على االنفتاح وعلى تشكيل بُناها املنطقية‬
‫تشك ل الكون ك لُّ ه وف ًق ا‬ ‫ونأنس فيه إىل «النماذج البدئية» ‪ Archetypes‬اليت َّ‬ ‫كتفاعل مباشر مع الكون؟‬
‫لس ٍْب أعمق لصلتنا مع الطبيعة ولعمل ٍ‬
‫واع‬ ‫هلا؟! ألن يكون ذلك مشروع اً أصي الً َ‬ ‫لعل نظريات االنتظام الذايت ‪ ،auto-organization‬اليت سنع ِرض هلا الحق اً‪،‬‬
‫بالتايل على الذات‪ ،‬من أجل املشاركة يف الصريورة الكونية؟‬ ‫تقدِّم لنا مثاالً هام اً على هذا التصور‪ .‬لكن لِنر أوالً إىل جوانب أخرى من صريورة‬
‫يتبادر إىل ذهننا ف ــوراً‪ ،‬وحن ــن ن ــط ــرح ه ــذه ال ــف ــك ــرة‪ ،‬م ــا اق ــرح ــه ك ــارل ب ــري ـرام ‪C.‬‬ ‫املنهج العلمي يف مواجهة نفسه وجت ــدُّده عرب ما يطرحه على نفسه من أسئلة‪.‬‬
‫العال تطبيق نظرية بوهم‬ ‫‪ Pribram‬حول هولوغ رافية الدماغ‪ .‬لقد حاول هذا ِ‬ ‫إن الوعي ميثل بذلك م ــرآة حقيقية ينعكس فيها املعىن اآلين والك لِّ ي للحركة‬
‫يف ك لِّ ية املنظومات على الدماغ‪ ،‬حبيث تكون مثة بنية ك لِّ ية هلذا األخ ــر حتكم‬ ‫تشك ل بشكل موا ٍز‪ ،‬مرحل ةً أساسية‬ ‫الطبيعية عرب مناذج نظرية ليست هنائية إمنا ٍّ‬
‫كل وظيفة‬ ‫ختص صه‪ ،‬وتكون قادرة يف الوقت نفسه‪ ،‬على مت ثُّل ِّ‬ ‫وظائفه ومناطق ُّ‬ ‫يف بناء الوعي نفسه‪.‬‬
‫دخ لنا بري ربام إىل‬ ‫منها‪ ،‬وإن تعرضت منطقتها الفسيولوجية للعطب‪ .‬وبذلك إمنا ي ِ‬ ‫إن أحد األسئلة الكربى املطروحة على العلماء يتع لَّ ق مبعرفة الطريقة اليت تبلغ‬
‫ُ‬ ‫ْ‬
‫منظور جديد لعمليات الوعي‪ ،‬حبيث ال يكون الدماغ جمموعة وظائف متمركزة‬ ‫يوج ه مث الً بنية جنينية إىل‬
‫هبا األشياء أشكاهلا احملددة وحتافظ عليها‪ .‬فما الذي ِّ‬
‫يف منطقة حم ــددة‪ ،‬بل ك ــلٌّ ينعكس وظيفي اً عرب إمكانات فسيولوجية عديدة‪.‬‬ ‫شكلها الناضج بعد فرتة؟ وكيف ينشأ التمايز؟ وكيف نع لِّ ل انتقال املعلومات‬
‫وعلى الرغم من أن هذه الفرضية‪ ،‬كسابقاهتا املتعلقة باحلقول‪ ،‬مل ختضع لربهان‬ ‫يؤم ن االرتقاء املتوازي للحياة؟‬ ‫اخلاصة بالتطور الشكالين عرب أمكنة متباعدة‪ ،‬مما ِّ‬
‫لعبت دوراً كب رياً‬ ‫ْ‬ ‫حاسم لكنها من منظور تأثريها يف الصريورة املنهجية للعلم‪،‬‬ ‫املتعض ية‬
‫ِّ‬ ‫يطرح ِش لدريك فرضية وجود حالة وسطى بني الـ‪ DNA‬وصريورة ُّ‬
‫تشك ل‬
‫يف تعديل رؤيتنا إىل العلوم عموم اً‪ ،‬وإىل البيولوجيا‪ ،‬خصوص اً‪.‬‬ ‫‪ :organism‬وه ــي ع ــب ــارة ع ــن جمموعة معقدة م ــن احل ــق ــول اخلفية ال ــي حتكم‬
‫***‬ ‫كافة م راحل التكون الشكالين واألشكال النهائية لألشياء‪ ،‬مبا فيها سلوكها‪،‬‬
‫‪20‬‬ ‫‪19‬‬
‫اجتاهات جديدة يف العلم‬ ‫اجتاهات جديدة يف العلم‬

‫للمتعض ية إمكانات خيار خاصة‪.‬‬ ‫ِّ‬ ‫السلوك املختلفة إمالءً آلي اً‪ ،‬وإمنا يرتك‬ ‫لقد خضعت النظريات البيولوجية فرتة طويلة لتأثري النظرة امليكانيكية‪ ،‬وكانت‬
‫ف ــاحل ـ ُّـل ال ــب ــدي ــل إذن ع ــن االص ــط ــف ــاء يكمن ببساطة يف ال ــت ــن ــوع‪ .‬وه ــك ــذا ت ــب ــدو لنا‬ ‫نظرية دار ِون متثل ذروة ه ــذه النظرة‪ .‬فوفق ه ــذه النظرية‪ ،‬حنن نقف على قمة‬
‫كل‬ ‫ـوري‪ ،‬ب ــدءاً م ــن اخللية األول ــي ــة‪ ،‬م ــروراً باملمالك احلية ك ــاف ــة‪ِ .‬‬ ‫ٍ‬
‫املورثات وكأهنا ترفض الدخول يف مناذج آلية شديدة التبسيط – كأ ْن تكون ُّ‬ ‫ِّ‬ ‫وع ـ ْـر هذه‬ ‫ه ــرم ت ــط ـ ٍّ‬
‫مورثة مسؤولة عن مهمة حم ــددة‪ ،‬حبيث يكون الكائن وتطوره مقيدين بإرثهما‬ ‫ِّ‬ ‫ال رتاتبية‪ ،‬تلعب مفاهيم االصطفاء وال ــص ـراع دوراً أس ــاس ــي ـاً‪ .‬لكن ه ــذه النظرية‬
‫كتحد على مواجهة وقائع وظروف معينة‪،‬‬ ‫ٍّ‬ ‫أيض ا‪ ،‬ال يتبدَّى التطور‬ ‫منها‪ .‬وهكذا ً‬ ‫طرحت إشكاليات كثرية‪ ،‬رغم ثبات مبادئها األساسية‪ .‬فعملية االصطفاء تقوم‬ ‫ْ‬
‫بل كقدرة على التجدد‪ .‬ويكون ذلك جمديًا مبقدار ما تكون إمكانات التحول‬ ‫على خصائص قدرة الكائن على التأق لُ م؛ وقدرة الكائن على التطور قد جتعله‬
‫املورثات متنوعة‪.‬‬ ‫جتم عية ِّ‬ ‫والتكيف مع الوسط املتغري كبرية‪ ،‬أي مبقدار ما تكون ُّ‬ ‫مرتب طًا ببيئته‪ .‬وحنن ال نستطيع أن نفهم اليوم ما يعين «البقاء لألفضل» بعزل‬
‫***‬ ‫النوع عن بيئته‪ .‬ويف املقابل فإن علم املستحاثات يطرح تساؤالت كثرية حول‬
‫يقودنا احل ــدي ــث ع ــن التنوع مباشرة إىل نظريات االن ــت ــظ ــام ال ــذايت – ه ــذا االجت ــاه‬ ‫اختفاء «فجائي» لألنواع املتأقلمة مع بيئتها‪ ،‬وظهور غريها دون سابق إنذار‪.‬‬
‫اجلديد الذي بدأ العلم يسرب إمكاناته يف غضون العقد األخري‪ ،‬وهو يعي متام اً إىل‬ ‫احلي باحلدِّ‪ ،‬قدر اإلمكان‪،‬‬ ‫استدالالت حتاول تفسري تطور العامل ِّ‬ ‫ٌ‬ ‫برزت‬
‫وهلذا فقد ْ‬
‫ويغي مفاهيمه ومناهجه‪.‬‬ ‫حد ميكن أن يؤثر عليه ِّ‬ ‫أي ٍّ‬ ‫ِّ‬ ‫من اللجوء إىل مفهوم صعب كالقيمة االصطفائية‪ .‬فهي ال تنكر وجود ضغوط‬
‫حد ذاته‪ ،‬بل هو عملية‬ ‫انش ْس كو فاريال أن االنتظام الذايت ليس ظاهرة يف ِّ‬ ‫يرى ف ر ِ‬ ‫عام الت الرئيسية يف صريورة بناء املنظومات احلية يف‬ ‫انتقائية‪ ،‬لكنها ال متثل امل ِ‬
‫ـف املنظومات بعامة‪ ،‬أال وهو‬ ‫انتقالية تنجم ع ــن ش ــيء أكثر جوهرية مي يِّ ز ص ـ َّ‬ ‫طرح يانتش نظريته يف التطور املتوازي والك لِّ ي‪ ،‬حيث‬ ‫شكلها الك لِّ ي‪ .‬كذلك ُ‬
‫وتعرفها‪ .‬وتكمن هذه اآللية‬ ‫ـواع ِّ‬ ‫ٍ‬
‫كصفوف وأن ـ ٍ‬ ‫اآللية اليت حت ــدِّد هذه املنظومات‬ ‫ال يفقد االصطفاء أو الص راع من أجل البقاء دوريهما‪ ،‬إمنا ال يكونان الدافعني‬
‫فيما ميكن أن ندعوه بـ»ذاتية» املنظومة اليت ترتبط بالقدرة على تعريف منظومة‬ ‫الرئيسيني يف تطور أن ــواع احلياة اجلديدة‪ .‬وهو يرتكز يف نظريته على أن تطور‬
‫بواسطة تناغمها الداخلي ال ــذي يعطيها هويتها وتاريخ العالقات فيها‪ .‬وهذا‬ ‫ـك ـ َـري‪ ،‬وبالعكس فإن‬ ‫الص غَ ري يعكس تطوراً على املستوى ال ـ ِ‬ ‫البُ ىن يف التطور ِّ‬
‫التناغم الداخلي ميكن أن ندعوه بـ»السياج الوظيفي»‪ .‬وهكذا يكمن الفارق‬ ‫مع ا ككل‪ .‬ويرى يانتش مع بريغوجني‪ ،‬أن‬ ‫تتطور‬ ‫رية‬ ‫غ‬
‫َ‬ ‫والص‬
‫ِّ‬ ‫ية‬‫ب‬ ‫املنظومات ِ‬
‫الك‬
‫ً‬ ‫َ‬
‫بني تفاعل املنظومات فيما بينها وفق اً للمنظور القدمي وبني تفاعلها وفق منظور‬ ‫صريورة التطور هذه ال تتم بشكل حمدود وآيل‪ ،‬بل هي أشبه باللوحة اإلبداعية‬
‫االنتظام الذايت يف أن التفاعل القدمي كان يتم فقط عرب نقل املعلومات نق الً آلي اً‪،‬‬ ‫تكش فات جديدة باستم رار‪ .‬ويرى بريغوجني أنه يف‬ ‫اليت يستمر العمل فيها مع ُّ‬
‫مهما ب ــدا ذل ــك غني اً‪ ،‬يف حني أن ــه يتم‪ ،‬وفق اً للمنظور اجلديد‪ ،‬عرب التفاعل أو‬ ‫حلظة الاليقني‪ ،‬حيث يؤدي التفرع اجلديد إىل والدة بُىن مبدِّدة جديدة‪ ،‬يولد مبدأ‬
‫سم ى بـ»الت زاوج باألسيجة»‪.‬‬ ‫الت زاوج بالتناغم ما بني املنظومات – وهو ما يُ َّ‬ ‫الك َبي يكافئ مبدأ اليقني هايزنربغ‪ .‬فالكائن يعيش إذن‬ ‫اليقني على املستوى ِ‬
‫فإذا أخذنا منظومة ذاتية االنتظام‪ ،‬ميكننا التساؤل‪ :‬هل إن سلوك هذه املنظومة‬ ‫يف ك ـ ٍّـل غري حم ــدود‪ ،‬والكون يفلت من ك ـ ِّـل تفسري هنائي‪ ،‬متام اً كما هي احلال‬
‫عام الهتا مبقدار طفيف؟ إن اجلواب‬ ‫لتشوش يف أحد م ِ‬ ‫تعرضت ُّ‬ ‫سيبقى هو نفسه إذا‬ ‫ـورث ــي ال ــذي‬
‫بالنسبة لكانتاتا لباخ أو قصيدة لبليك‪ .‬وه ــك ــذا ف ــإن الربنامج امل ـ ِّ‬
‫ُ‬ ‫ْ‬
‫شديد التعقيد‪ ،‬ألن جمموعة التفرعات الناشئة ستكون غنية جدًّا‪ ،‬وهي يف كثري‬ ‫يعكس قانون تطور املنظومات احلية‪ ،‬يصبح أقل تقييداً‪ ،‬حبيث ال ُي لي جوانب‬
‫‪22‬‬ ‫‪21‬‬
‫اجتاهات جديدة يف العلم‬ ‫اجتاهات جديدة يف العلم‬

‫شريالش ر ‪ Scheirlacher‬أن األشكال املعقدة‬ ‫ِ‬ ‫وانتقاهلا‪ .‬وعلى هذا األساس يرى‬ ‫ص ر وفق اً لطريقتنا القدمية يف دراسة تطور أية منظومة‪.‬‬ ‫من األحيان ال ميكن أن ُت َ‬
‫النمو البنائي الذي‬
‫تفس ر كنتائج متبدِّلة لنمط ثابت من ِّ‬ ‫واجلميلة للقواقع مث الً‪َّ ،‬‬ ‫فنحن هنا إذن أم ــام شكل جديد‪ ،‬خمتلف متام اً‪ ،‬من فهم عاملنا ووج ــودن ــا فيه‪.‬‬
‫يعتمد مبدأ «اجلهد األقل»‪ ،‬وأن هذا التنوع يف األشكال املختلفة ال يتعلق‪ ،‬ال من‬ ‫بل ميكن لبعض هذه التفرعات أن تتخذ أدواراً الهنائية حبيث ال تتكرر‪ ،‬وتصبح‬
‫قريب وال من بعيد‪ ،‬مبا يُدعى االصطفاء أو حىت التأقلم مع الطبيعة‪.‬‬ ‫مماثلة متام اً للضجيج أو للشواش‪ .‬وهذا يعين أن منظومة ذات واح ــدات ذاتية‪،‬‬
‫عام لنا مع‬
‫وميكن تلخيص آلية االنتظام الذايت‪ ،‬اليت تطرح فهم اً جديداً ملنهجية تَ ُ‬ ‫دينامي بسيط جداً‪ ،‬ميكن أن تصبح بسهولة معقدة‬ ‫ٍّ‬ ‫حمدَّدة متام اً بسياج أو بتناغم‬
‫الطبيعة ووعينا هلا‪ ،‬كما يلي‪ :‬االنتظام الذايت هو سلوك مم يِّ ز للواحدات الذاتية‪.‬‬ ‫كل سلوك منتظم ذاتي اً يولد‬ ‫جداً – «التعقيد» مبعىن الغىن والتنوع‪ .‬وهذا يعين أن َّ‬
‫وميكن وصف «واح ــدة ذاتية» باملرور من وجهة نظر الت زاوج بالتناغم الداخلي‬ ‫من تناغم داخلي ملنظومة مغلقة عملياتي اً‪ .‬وهكذا تبدو املنظومة الذاتية عائمة‬
‫كج دَّة غري متوقعة وكتأكيد للذاتية – وباختصار كسلوك لواحدة‬ ‫الذي يظهر ِ‬ ‫على الشواش‪ :‬فهي تتغذى عليه وهتضمه إلنتاج النظام‪.‬‬
‫ذاتية االنتظام‪.‬‬ ‫ميكننا أن نأخذ تطور الكائنات احلية كمثال‪ :‬فالت زاوج باملعلومات فقط يكافئ‬
‫***‬ ‫املوج ه األول الذي‬ ‫املورثية النامجة عن االحتكاك به‪ِّ ،‬‬ ‫اعتبار احمليط‪ ،‬والتغ ريات ِّ‬
‫شك أن ذلك يتجاوز جمال البيولوجيا‪ .‬وهذا يعين‬ ‫املورثي يأيت من التنوع‪ .‬وال َّ‬
‫إن الغىن ِّ‬ ‫يسمح بفهم دينام يَّ ة التحوالت من جيل إىل جيل‪ ،‬األمر الذي يُظ ِه رها كصفوف‬
‫أن «االع رتاف باآلخر» أمر على غاية من األمهية بالنسبة لنا‪ ،‬ليس من باب أخالقي أو‬ ‫منتظمة‪ ،‬حيث يكون االصطفاء الطبيعي منوذج اً خوارزمي اً أمثلي اً هلذه العملية‪.‬‬
‫بسبب كرم فجائي‪ ،‬بل ألن املعرفة العلمية اليوم تع لِّ منا هذا الدرس يف أهبى صوره‪ .‬فأية‬ ‫أما «امل زاوجة باألسيجة» – أي بالتناغم الداخلي – فتكافئ اعتبار أن خمتلف‬
‫تفردنا وأصالتنا؟! تلكم‬
‫يعزز ُّ‬‫هدية أحلى ميكن للعلم أن يقدِّمها لنا أكثر من كونه ِّ‬ ‫املوج ه الذي يسمح بفهم التحوالت‬ ‫أمناط التجانس الداخلي جملموعة حيوانية هي ِّ‬
‫ليست دعوة إللغاء التعارضات أو للرضوخ هلا‪ ،‬بل لتحويلها إىل تناغمات داخلية‬ ‫املورثية ل ــدى أنساهلا‪ .‬وي ــؤدي ه ــذا إىل ظهور التنوع اهلائل يف الطبيعة – على‬ ‫ِّ‬
‫احلل األصيل والوحيد الذي ميكن أن‬
‫على مستويات حياتنا كافة‪ .‬وقد يكون ذلك هو ُّ‬ ‫تفس ر تنوع األحياء حبق‪.‬‬ ‫العكس متام اً من أمثلية االصطفاء الطبيعي‪ ،‬اليت ال ِّ‬
‫ن و ِاج ه به ما نلحظه اليوم من تقييم للثقافات وطرح ثقافة وحيدة كضرورة لالستم رار‬ ‫إن فكرة «االصطفاء الطبيعي» هتيمن على العلم منذ أكثر من نصف قرن‪ .‬ومع‬
‫والبقاء‪.‬‬ ‫ذلك فإن علوم االنتظام الذايت تطرح رؤيا جديدة عوض اً عنها‪ :‬فالتأقلم الطبيعي‪،‬‬
‫احلل املاثل أمامنا يف احلفاظ على التنوع يأتينا من العلم‬
‫ومن املفيد أن ننتبه إىل أن هذا َّ‬ ‫ـاك زعان َف ها مث الً جيب أال يُنسينا اجلانب األه ــم من ناحية‬ ‫ـب األمس ـ َ‬
‫ـس ـ َ‬
‫ال ــذي أك ـ َ‬
‫معين هبذا‬
‫حص راً‪ ،‬ومن الثقافة الغ ربية حتديداً‪ .‬ومن املهم أن نشري أيض اً إىل أن العلم ٌّ‬ ‫املتعض ية ومن ـ َّـوه ــا‪ .‬فالواحدة ال تعمل كمجموعة من الصفات بل‬ ‫ِّ‬ ‫فسيولوجيا‬
‫بدأت‬
‫احلل قبل أية منظومة أخرى‪ .‬وحنن نالحظ منذ اآلن أن صريورة املنهج العلمي ْ‬ ‫ِّ‬ ‫فه م انطالق اً‬ ‫ككل متجانس‪ .‬إن موضع عضو يف جنني غري متمايز ال ميكن أن يُ َ‬ ‫ٍّ‬
‫تتخذ هذا االجت ــاه اجلديد‪ ،‬حيث التنوع العلمي تعبري عن ص ــرورة التنوع الطبيعي‪.‬‬ ‫م ــن تقدير م ــا س ــي ــؤول إل ــي ــه مستقب الً‪ ،‬ب ــل جي ــب فهمه على ال ــع ــك ــس‪ ،‬كنتيجة‬
‫وميكننا القول أخ رياً إن هذا العلم اجلديد القادم يعلن بثقة وجب ـرأة أن أية منظومة‬ ‫لالستقاللية املتبادلة والتعريف امل ــت ــب ــادل داخ ــل ــي ـاً ل ــك ـ ِّـل م ــا ي ــوج ــد يف ك ـ ِّـل نقطة‬
‫معرفية ليست هنائية‪ ،‬بوصفها منظومة مؤثِّرة ومتأثِّرة بصريورة التطور الطبيعي‪.‬‬ ‫املتعض ية‪ .‬ويشبه ذلك كث رياً رؤية ِش لدريك لظهور األشكال واألمناط‬ ‫ِّ‬ ‫من نقاط‬
‫‪24‬‬ ‫‪23‬‬
‫قدمت ال ّنساء للعلم؟‬
‫ماذا ّ‬ ‫ماذا قدمت النساء للعلم؟؟‬

‫احللقة الثالثة‬

‫عاملة الفلك‪ :‬عاملة الرياضيات واحلوسبة آدا لوفاليس‬


‫‪ -‬اجلنسية‪ :‬بريطانية‪.‬‬
‫‪ -‬التخصص‪ :‬علم الرياضيات واحلاسوب‬

‫عندما نتح ّدث يف العادة عن علم احلاسوب‪ ،‬ندرس اخلوارزميّ ات ونظم التّ حليل‬
‫والتطور التّ كنولوجي الذي ط رأ‬
‫ّ‬ ‫ياضي‪ ،‬أو ُرّب ا ندرس تاريخ هندسة احلاسوب‬ ‫الر ّ‬‫ّ‬
‫على اآلل ــة ال ــي غ ـ ّـرت حياتنا‪ ،‬غالبً ا م ــا نسمع ع ــن أمس ــاء عظماء كـجان فون‬
‫نيومان‪ ،‬أالن تورين‪ ،‬كون راد زوس‪ ،‬وغريهم‪.‬‬

‫قليل منّ ا يع ِرف عن ُم سامهات من تُعتربُ فعل يًّ ا ّأول مربجمة يف تاريخ احلاسوب‪:‬‬
‫ولكن ٌ‬
‫الش هرة آدا لولفاليس‬‫الكونتيسة أوجستا آدا بايرون‪ ،‬أو كما تُعرف حال يًّ ا بإسم ّ‬
‫(‪ .)Ada Lovelace‬آدا كانت عاملة رياضيّ ات إجنليزيّة عاشت يف القرن التّ اسع‬
‫عشر‪ ،‬وتعاونت م ــع مهندسني أم ــث ــال تشارلز بابيج على تصميم آل ــة حسابيّ ة‬
‫نسخ من كتابات آدا ّأن ــا سامهت يف كتابة ّأول خوارزميّ ة‬ ‫تظهر ٌ‬
‫ُ‬ ‫ميكانيكيّ ة‪.‬‬
‫باحملرك التّ حليلي‪،‬‬
‫ف اآلن ّ‬‫عر ُ‬
‫(حاولت حساب أعداد برينويل) هبدف معاجلتها يف ما يُ َ‬
‫وهو اآللة احلسابيّ ة امليكانيكيّ ة اليت طُ ّورت على يد بابيج‪.‬‬

‫‪24‬‬ ‫‪25‬‬
‫اختبار االنتخاب (االصطفاء ) الطبيعي‬ ‫اختبار االنتخاب (االصطفاء ) الطبيعي‬

‫التحليل التجرييب الدقيق لآلليات اجلينة املؤسسة لالنتخاب الطبيعي ‪ ،‬أكسبا‬


‫مساعي دراسة االنتخاب الطبيعي يف البيولوجيا حيوية فاقت ما كانت عليه قبل‬ ‫‪Ziad‬‬
‫عقدين من الزمن ‪ .‬وقد متحور الكثري من األحباث التجريبية احلديثة هذه حول‬ ‫قد يتأخر اكتشاف بعض األفكار يف فرع علمي ما لطبيعتها الدقيقة واملعقدة‬
‫أهداف ثالثة ‪ :‬حتديد مدى شيوع االنتخاب الطبيعي ‪ ،‬وحتديد التغ ريات اجلينية‬ ‫أو الصعبة ‪ .‬ولكن مفهوم االنتخاب الطبيعي ليس بإحدى تلك احلاالت ‪ .‬فمع‬
‫الدقيقة النامجة عن االنتخاب الطبيعي واملولدة للتكيّ ف ‪ ،‬مث تقدير مدى إسهام‬ ‫أنه ظهر متأخ راً مقارنة بأفكار ثورية علمية أخرى ‪ -‬طرحت من قبل « دارون «‬
‫االنتخاب الطبيعي يف إشكالية أساسية يف البيولوجيا التطورية تتمثل يف منشأ‬ ‫و « واالس « يف عام ‪ ، 1858‬وتالها إصدار « داروين « كتابه أصل األنواع يف‬
‫األنواع اجلديدة ‪.‬‬ ‫عام ‪ – 1859‬فإن فكرة االنتخاب الطبيعي هي البساطة بعينها ‪ .‬وتتمكن بعض‬
‫الكائنات من االزده ــار يف ظ ــروف معينة أكثر من غريها وتنجب نسال أكثر ‪،‬‬
‫االنتخاب الطبيعي ‪ :‬فك رته‬ ‫فتصبح أكثر شيوعا مع مرور الزمن ؛ أي أن البيئة « تنتخب « من الكائنات‬
‫تعد االستعانة بالكائنات ذات دورة احلياة القصرية اليت تسمح بتتبع عدة أجيال‬ ‫تلك األكثر تالؤما مع الشروط احمليطة احلالية وعند تغري الشروط البيئية ستسيطر‬
‫منها ‪ ،‬الطريقة املثلى لتقدير أمهية دور االنتخاب الطبيعي يف عملية التطور‬ ‫مكاهنا تلك الكائنات اليت تصادف أن امتلكت خواص أكثر مواءمة مع الشروط‬
‫‪.‬فبعض أن ــواع البكت ريات تستطيع مضاعفة عددها كل نصف ساعة ‪ ،‬وهكذا‬ ‫املستجدة ‪ .‬فاجلانب ال ــث ــوري يف الداروينية ال يتمثل يف ادع ــاءات ملغزة حول‬
‫لنتصور جمموعة من البكت ريات موزعة يف منطني جينيني بداية وبأعداد متساوية ‪.‬‬ ‫البيولوجيا ‪ ،‬وإمنا يف إحيائها بإمكانية كون املنطق املؤسس للطبيعة مدهشا يف‬
‫ولنفرتض إضافة إىل ذلك أن كليهما يلتزمان بالتكاثر التايل ‪:‬‬ ‫بساطته ‪.‬‬
‫بكت ريات النمط األول ال تولد إال نسال من النمط األول ‪ ،‬و بكت ريات النمط الثاين‬
‫ال تولد إال نسال من النمط الثاين ‪ .‬واآلن لنفرتض حدوث تغري فجائي يف البيئة ‪:‬‬ ‫عانت نظرية االنتخاب الطبيعي ‪ ،‬على الرغم من بساطتها ‪ ،‬تارخيا طويال حافال‬
‫وضع مضاد حيوي يف هذه البيئة يستطيع النمط األول مقاومته ‪ ،‬يف حني يعجز‬ ‫بالصعوبات ‪ .‬فبعكس طرح « داروين « حول تطور األنواع الذي لقي قبوال سريعا‬
‫عن ذلك النمط الثاين ‪ .‬يف هذه البيئة اجلديدة يكون النمط األول أكثر لياقة ؛‬ ‫من البيولوجيني ‪ ،‬فإن معظمهم مل يقبل ما طرحه حول أن االنتخاب الطبيعي هو‬
‫أي أنه أحسن تكيفا ‪ ،‬فهو يبقى – ومن مث يتكاثر – أكثر من النمط الثاين ‪.‬‬ ‫احملرك ملعظم هذا التغري؛ وحىت أنه مل يتم عموما اعتماد مبدأ االنتخاب الطبيعي‬
‫والنتيجة أن النمط األول يولد نسال أكثر مما يولده النمط الثاين ‪.‬‬ ‫كقوة رئيسية للتطور فعليا إال بعد مضي عقود يف القرن العشرين ‪.‬‬
‫وجيسد مصطلح « اللياقة « ‪ ،fitness‬املستخدم يف سياق البيولوجيا التطورية‬
‫وال ــذي هو مصطلح تقين ‪ ،‬فكرة ‪ :‬أرجحية البقيا أو التكاثر يف بيئة معينة ‪.‬‬ ‫ويتبوأ مبدأ االنتخاب الطبيعي حاليا موقعا آمنا نتيجة لعقود من البحث التجرييب‬
‫وحصيلة عملية االنتخاب ‪ ،‬اليت تكررت م رات عديدة ال حصر هلا يف سياقات‬ ‫التفصيلي ‪ ،‬علما أن فصول التمحيص يف االنتخاب الطبيعي مل تستكمل البتة‬
‫خمتلفة ه ــو م ــا ن ـراه يف الطبيعة ‪ :‬نباتات وح ــي ــوان ــات ( و بكت ريات ) الئقة ‪fit‬‬ ‫حىت اآلن ‪ .‬وال ــواق ــع هو أن تطوير تقنيات جتريبية جديدة جزئيا والعمل على‬
‫‪27‬‬ ‫‪26‬‬
‫اختبار االنتخاب (االصطفاء ) الطبيعي‬ ‫اختبار االنتخاب (االصطفاء ) الطبيعي‬

‫النمط األول من تأثري املضاد احليوي بال فاعلية – أو حىت ذات أثر ضار قليال –‬ ‫لبيئتها بطرق معقدة ‪.‬‬
‫يف ظروف البيئة اخلالية من املضاد احليوي ‪ ،‬ولكن توافرها يف النمط األول مكن‬
‫البكت ريات من البقيا عندما تغريت الظروف ‪.‬‬ ‫ومبقدور علماء الوراثة التطوريني إث راء النقاش السابق من خالل إحتافنا بتفاصيل‬
‫بيولوجية غنية ‪ .‬فنحن نعلم ‪ ،‬على سبيل املثال ‪ ،‬أن منشأ األمناط اجلينية هو‬
‫لقد أض ــاء علماء ال ــوراث ــة املختصون باجلماعات جوانب من عملية االنتخاب‬ ‫طف رات يف جزيء الدنا ‪ – dna‬تغ ريات عشوائية يف تسلسل النكليوتيدات (‬
‫الطبيعي أيضا عرب اللجوء إىل وصف رياضيايت هلا ‪ .‬وبينوا ‪ ،‬على سبيل املثال ‪،‬‬ ‫وهو خيط متسلسل مكون من األحرف ‪ ) T,C,G,A‬املكونة « للغة « اجلينوم‬
‫وجود تناسب طردي بني درجة لياقة منط ما يف مجاعة من جهة ‪ ،‬وسرعة تنامي‬ ‫‪ .‬وكذلك نعلم ق ــد را جيدا عن معدل تشكل طفرة مشرتكة – حت ــول يف حرف‬
‫ت ــوات ــره م ــن جهة أخ ــرى ‪ .‬وق ــد أمكن بالفعل حساب م ــدى سرعة ح ــدوث هذه‬ ‫واحد يف الدنا إىل حرف آخر ‪ .‬فلكل نكليوتيد يف كل خلية تناسلية ‪ ،‬يف كل‬
‫الزيادة ‪ .‬واكتشف علماء الوراثة املختصون باجلماعات احلقيقة املدهشة بأن‬ ‫جيل ‪ ،‬فرصة واح ــدة يف البليون تقريبا كي يتحول إىل نكليوتيد آخر ‪ .‬ولكن‬
‫لالنتخاب الطبيعي قوة « إبصار» من الصعب تصورها ‪ ،‬تستطيع متييز تباين‬ ‫األهم يف هذا السياق ‪ ،‬هو أننا على علم بعض الشيء بتأثري الطف رات يف اللياقة‬
‫مدهش يف الصغر يف مستوى لياقة األمناط اجلينية ‪ .‬ففي مجاعة مكونة من مليون‬ ‫‪ .‬فالغالبية الساحقة للطف رات العشوائية ضارة بالكائن احلي ‪ ،‬فهي حتط من‬
‫فرد ‪ ،‬مبقدور االنتخاب الطبيعي أن يعمل من خالل تباين صفري يف مستوى لياقة‬ ‫لياقته ؛ ويقتصر املفيد منها الداعم للياقة على أقلية قليلة جدا ‪ .‬ومعظم هذه‬
‫األف راد يصل إىل واحد يف املليون ‪.‬‬ ‫الطف رات سيئ للسبب نفسه الذي جيعل معظم أخطاء الطباعة يف كود احلاسوب‬
‫سيئ ‪ .‬فاملرجح أن يؤدي أي تغري عشوائي يف منظومة حمكمة بدقة إىل خلل يف‬
‫ومث ــة مس ــة مميزة ملنطق االنتخاب الطبيعي وه ــي أن ــه يبدو صحيحا م ــن أج ــل أي‬ ‫األداء وليس إىل حتسنه ‪.‬‬
‫مستوى من مستويات الكينونة ‪ entity‬احليوية ‪ ،‬من اجلينة إىل النوع ‪ .‬وقد‬
‫أخذ البيولوجيون يف االعتبار ‪ ،‬منذ « داروين « بالطبع ‪ ،‬تباين اللياقة بني أف راد‬ ‫تنقسم فعالية التطور التكيفي ‪ adaptive evolution‬إىل مرحلتني ‪ ،‬يتوزع‬
‫الكائنات ‪ ،‬ولكن ميكن لالنتخاب الطبيعي من حيث املبدأ ‪ ،‬التأثري يف بقيا‬ ‫فيهما العمل بشكل صارم بني حادثة الطفرة وعملية االنتخاب ‪ .‬وينجم عن‬
‫‪ survival‬أو تكاثر كائنات أخرى ‪.‬‬ ‫ه ــذه الطف رات يف ك ــل جيل كائنات ج ــدي ــدة معدلة جينيا تثري اجلماعات ‪.‬‬
‫وعلى سبيل املثال ‪ ،‬ميكننا أن نفسر أن ‪ :‬أنواع الكائنات ذات االنتشار اجلغ رايف‬ ‫ويغربل االنتخاب الطبيعي الحقا هذه الطف رات ‪ :‬تعمل قسوة الشروط البيئية‬
‫الواسع هلا – كنوع – فرصة أكرب للبقيا من األنواع األخرى ذات االنتشار اجلغ رايف‬ ‫على خفض تواتر الكائنات املعدلة « السيئة « ( غري الالئقة نسبيا ) ترفع من‬
‫احملدود ‪ .‬فاألنواع األوىل املنتشرة ستتحمل ‪ ،‬يف النهاية زوال بعض اجلماعات احمللية‬ ‫تواتر « اجليدة « ( الالئقة نسبيا ) ‪ .‬وجتدر اإلشارة هنا إىل قدرة مجاعة الكائنات‬
‫أكثر مما ستتحمله األنواع احملصورة جغ رافيا‪ .‬وبذلك قد يتنبأ منطق االنتخاب‬ ‫على مجع العديد من األف راد املعدلني جينيا يف آن واحد ‪ ،‬ويساعد هذا اجلمع على‬
‫الطبيعي بزيادة نسبية مع مرور الوقت يف األنواع ذات االنتشار اجلغ رايف الواسع ‪.‬‬ ‫التصدي للمتغ ريات البيئية عندما تنشأ ‪ .‬فقد تكون اجلينة اليت أنقذت بكت ريات‬
‫‪29‬‬ ‫‪28‬‬
‫اختبار االنتخاب (االصطفاء ) الطبيعي‬ ‫اختبار االنتخاب (االصطفاء ) الطبيعي‬

‫انتخاب طبيعي « إجيايب « حيث ترفع البيئة من خالله تواتر األمناط املفيدة اليت‬ ‫وعلى ال ــرغ ــم م ــن صحة ه ــذه احلجة شكليا – و التطوريون يشتبهون فعال يف‬
‫كانت نادرة يف البدء ‪ .‬واألحرى – كما قال – أن معظم الطف رات اجلينية اليت‬ ‫حدوث انتخاب مستويات أعلى بني احلني واآلخر فإننا جند معظم البيولوجيني‬
‫تدوم وتبلغ توات را مرتفعا يف اجلماعات هي حمايدة انتخابيا وليس هلا أثر يذكر يف‬ ‫متفقني على ك ــون االن ــت ــخ ــاب الطبيعي حيصل اعتياديا يف مستوى الكائنات‬
‫اللياقة بطريقة أو أخرى ‪.‬‬ ‫الفردية أو األمناط اجلينية ‪ .‬ويعود ذلك إىل أن مدة حياة الكائنات أقصر كث ريا‬
‫من مدة حياة األنواع ‪ .‬فاالنتخاب الطبيعي يف مستوى الكائنات هو الغالب يف‬
‫وتستمر بالطبع الطف رات الضارة بالظهور مبعدل مرتفع ‪ ،‬إال أهن ــا ال تستطيع‬ ‫مستوى األنواع ‪.‬‬
‫أبدا بلوغ تواتر مرتفع يف مجاعة ما ؛ أي إهنا مسلك تطوري مسدود‪ ,‬وملا كانت‬
‫الطف رات احملايدة عمليا « غري مرئية « يف البيئة األنية ‪ ،‬فإن مبقدورها أن تتسلل‬ ‫ما مدى شيوع االنتخاب الطبيعي ؟‬
‫هبدوء إىل اجلماعة ‪ ،‬ومع مرور الزمن تعدل تركيب اجلماعة اجليين تعديال رئيسيا‬ ‫إن أح ــد أب ــس ــط األس ــئ ــل ــة ال ــي ميكن أن يطرحها البيولوجيون ح ــول االنتخاب‬
‫‪ .‬وقد أطلق على هذه العملية تسمية « االجن راف اجليين العشوائي « وهو جوهر‬ ‫الطبيعي هو أيضا – وهذا مفاجئ – أكثرها صعوبة من حيث اإلجابة عنها ‪:‬‬
‫نظرية احلياد يف التطور اجلزيئي ‪.‬‬ ‫ما مدى مسؤولية االنتخاب الطبيعي يف إحداث تغ ريات يف التكوين اجليين العام‬
‫جلماعة ما ؟ إن أحدا ال يشك جديا يف أن االنتخاب الطبيعي هو احملرك لعميلة‬
‫ومع ولوج الثمانينات من القرن املاضي ‪ ،‬تبىن معظم علماء الوراثة التطوريني‬ ‫تطور معظم السمات الفيزيائية يف الكائنات احلية – اذ ال يوجد تفسري آخر‬
‫نظرية احلياد ‪ ،‬إال أن معظم البيانات الساندة هل ــذا التوجه ك ــان غري مباشر ‪،‬‬ ‫معقول للسمات الواسعة االنتشار ‪ ،‬كاملنقار والعضلة ذات ال رأسني والدماغ‬
‫إذ غابت االختبارات احلرجة املباشرة ‪.‬وساعد تطور مسعيني على إصالح هذه‬ ‫‪ .‬ولكن هناك شك جدي حول أمهية الدور الذي يؤديه االنتخاب الطبيعي يف‬
‫املشكلة ‪:‬‬ ‫توجيه التغري على املستوى اجلزيئي ‪ .‬ما هي إذن نسبة التغ ريات التطورية يف الدنا‬
‫املسعى األول هو تصميم علماء الوراثة املختصني باجلماعات اختبارات إحصائية‬ ‫اليت منشؤها مفعول االنتخاب الطبيعي عرب ماليني السنني ‪ ،‬مقارنة بالتغ ريات‬
‫بسيطة لتمييز التغ ريات احليادية يف اجلينوم من تلك ذات الطبيعة التكيفية ‪.‬‬ ‫اليت تعود إىل مفعول بعض العمليات األخرى ؟‬
‫واملسعى ال ــث ــاين ه ــو تصميم تقانات ج ــدي ــدة لتحليل تسلسل ال ــدن ــا أو اجلينوم‬
‫الكلي للعيد من األنواع ‪ ،‬مما وافر مدا كب ريا من البيانات أتاح تطبيق االختبارات‬ ‫اف رتاض مجهور علماء احلياة ‪ ،‬حىت أعوام الستينات من القرن املاضي أن اإلجابة‬
‫اإلحصائية نفسها عليها ‪.‬‬ ‫عن هذا السؤال تتمثل يف « مجيع التغ ريات تقريبا « إال أن جمموعة من علماء‬
‫الوراثة املختصني باجلماعات ي رأسها الباحث الياباين «كيمورا « حتدث بقوة‬
‫وقد أوضحت تلك البيانات اجلديدة أن نظرية احلياد قد خبست االنتخاب الطبيعي‬ ‫هذه الفرضية ‪ .‬فقد جادل «كيمورا» بأن معظم التطور اجلزيئي ال حيركه عادة‬
‫أمهيته ‪ .‬يف إحدى هذه الد راسات عمل فريق ‪ ،‬ي رأسه كل من « بيكان « و «‬
‫‪31‬‬ ‫‪30‬‬
‫اختبار االنتخاب (االصطفاء ) الطبيعي‬ ‫اختبار االنتخاب (االصطفاء ) الطبيعي‬

‫هذه اإلشكالية بصورة مباشرة ‪ .‬وحاليا هناك حماوالت لإلجابة عن جمموعة أسئلة‬ ‫النكلي « ( ومها يف جامعة كاليفورنيا – ديفيس ) ‪ ،‬على مقارنة تسلسل دنا‬
‫جوهرية حول عملية االنتخاب ؛ كاألسئلة التالية ‪ :‬عندما يتكيف كائن مع‬ ‫نوعني من ذبابة الفاكهة ‪ ،‬تابعني جلنس الدوروسوفيال ‪ . Drosophila‬فحلال‬
‫بيئة جديدة من خالل االنتخاب الطبيعي ‪ ،‬فهل يتم ذلك بسبب تغ ريات حتدث‬ ‫حنو ستة أالف جينة يف كال النوعني ‪ ،‬وحددا تلك اجلينات اليت قد تشعبت بعد‬
‫يف جينات قليلة أم كثرية ‪ .‬وهل ميكن حتديد هوية هذه اجلينات ؟ وهل تشارك‬ ‫انفصال النوعني عن أصلهما املشرتك ‪ ,‬وعرب تطبيق اختبار إحصائي ‪ ،‬قد را أنه‬
‫اجلينات ذاهتا يف حاالت مستقلة من التكيف مع احمليط نفسه ؟‬ ‫ميكن استبعاد التطور احليادي يف ‪ %19‬على األقل من هذه اجلينات ؛ أو بعبارة‬
‫ليس من السهل اإلجابة عن تلك األسئلة ‪ .‬وتكمن الصعوبة الرئيسية يف أن زيادة‬ ‫أخرى ‪ :‬إن االنتخاب الطبيعي يدفع التشعب التطوري يف ُخ س جمموعة اجلينات‬
‫اللياقة النامجة عن طفرة مفيدة قد تكون زيادة صغرية جدا ‪ ،‬وهو األمر الذي جيعل‬ ‫املدروسة ( وألن االختبار اإلحصائي املستخدم كان حمافظا ‪ ،‬فإن النسبة احلقيقية‬
‫التغري التطوري بطئيا جدا ‪ .‬وتتمثل إحدى الطرق اليت جلأ إليها البيولوجيون‬ ‫قد تكون أكرب بكثري ) ‪.‬‬
‫التطوريون ملعاجلة هذه املشكلة ‪ ،‬ويف وضع مجاعات من الكائنات احلية السريعة‬
‫التكاثر وتنميتها يف بيئات صنعية ‪ ،‬حيث االختالف يف اللياقة أكرب ‪ ،‬ومن مث‬ ‫وال تعين هذه النتيجة هتميش التطور احليادي ؛ إذ إن بعضا من اجلينات الـ‪%81‬‬
‫فإن عملية التطور أسرع ‪ .‬ويساعد العملية إن كان عدد مجاعات الكائنات احلية‬ ‫قد يكون ‪ ،‬يف النهاية ‪ ،‬تشعب بفعل عامل االجن راف اجليين ؛ بل هو يدل على‬
‫كب ريا مبا فيه الكفاية لتحقيق سيل مستمر من الطف رات ‪ .‬ويف دراس ــة التطور‬ ‫أن دور االنتخاب الطبيعي يف تشعب األنواع يفوق ما مخنه معظم مؤيدي نظرية‬
‫التجرييب للميكوربات ‪ ،‬توضع منطيا مجاعة من الكائنات امليكروية املتماثلة‬ ‫احلياد ‪ .‬ودفعت دراسات شبيهة بتلك معظم علماء الوراثة التطوريني إىل استنتاج‬
‫جينيا يف حميط جديد عليها أن تتكيف معه ‪ .‬وملا كانت مجيع هذه الكائنات‬ ‫مفاده أن االنتخاب الطبيعي هو العامل الشائع الذي حيرك التغري التطوري ‪ ،‬حىت‬
‫حتوي تسلسل الدنا ذاته يف بداية التجربة ‪ ،‬فإن االنتخاب الطبيعي يعمل على‬ ‫يف مستوى تسلسل نيكلوتيدات الدنا ‪.‬‬
‫استثمار الطف رات اجلديدة اليت حدثت إبان التجربة فقط ويستطيع الباحث مع‬
‫مرور الزمن ‪ ،‬تبيان كيفية تغري اللياقة يف اجلماعة من خالل قياس سرعة النكاثر‬
‫يف البيئة اجلديدة ‪.‬‬ ‫الوراثة اخلاصة باالنتخاب الطبيعي ‪:‬‬
‫أكثر أحباث التطور التجرييب إثارة للفضول أُجنزت باستخدام الفريوسات امللتهمة‬ ‫على الرغم من ثقة البيولوجيني يف دفع االنتخاب الطبيعي للتغري التطوري ‪،‬‬
‫للبكت ريات ‪ ،‬وهي فريوسات من الصغر حبيث تستطيع مخج ‪ infect‬البكت ريات ‪.‬‬ ‫فإننا غالبا م ــا جندهم جيهلون كيفية حديث ذل ــك ‪ ،‬وه ــذا يشمل ح ــى مسات‬
‫وهذه الفريوسات حتوي جينومات صغرية مكافئة حلجمها ‪ ،‬ما يساعد البيولوجيني‬ ‫بدنية عادية ( املنقار ‪ ،‬العضلة ذات ال رأسني ‪ ،‬الدماغ ) ‪ .‬فعلى سبيل املثال ‪،‬‬
‫على إج راء تسلسل كامل جلينوماهتا يف بداية التجربة وهنايتها ‪ ،‬وكذلك أثناء‬ ‫مل يكن معروفا – حىت تاريخ حديث – إال القليل عن التغ ريات اجلينية املؤسسة‬
‫التجربة ‪ .‬وهذا يسمح بتعقب كل تغري جيين « ميسك « به االنتخاب الطبيعي‬ ‫للتطور التكيفي ‪ .‬لقد مسح التطور اجلديد يف علم الوراثة للبيولوجيني بتحدي‬
‫لينشره مع الزمن ‪.‬‬
‫‪33‬‬ ‫‪32‬‬
‫اختبار االنتخاب (االصطفاء ) الطبيعي‬ ‫اختبار االنتخاب (االصطفاء ) الطبيعي‬

‫جامعة واشنطن ) بتحليل دور االنتخاب الطبيعي يف نوعني من زهرة القرد ‪.‬‬ ‫طبق كل من « هولدر « و « بول « ( ومها من جامعة تكساس يف أوسنت ) جتربة‬
‫وقد وجدا أنه على الرغم من عالقة القرىب القوية فيما بني هذين النوعني ‪ ،‬فإن‬ ‫كالواردة أنفا باستخدام نوعني قريبني جداً من الفريوسات امللتهمة للبكت ريات‬
‫التلقيح يتم بشكل رئيسي يف زهرة ‪ Mimulus Lewisii‬بوساطة النحل الطنان‬ ‫‪ФX174 :‬و ‪ ، G4‬وكالمها خيمج بكترية معوية شائعة هي اإلشريشيا كويل‬
‫‪ bumble bees‬فيما ينجز بشكل رئيسي يف ‪ M.Cardinalis‬بوساطة الطائر‬ ‫‪ . E.Coli‬لقد وضع الباحثان الفريوسات يف درجات ح رارة عالية غري اعتيادية‬
‫الطنان ‪ hummingbird‬وتبني البيانات املت وافرة من األن ـواع األخرى أن أسلوب‬ ‫‪ ،‬ومسحا هلا بالتكيف مع البيئة احلارة اجلديدة ‪ ،‬فازدادت يف كال النوعني درجة‬
‫التلقيح عرب الطيور يف اجلنس ‪ Mimulus‬قد تطور من تلقيح حشرة النحل ‪.‬‬ ‫اللياقة أثناء التجربة بشكل درامي ‪ .‬والحظ الباحثون يف كلتا احلالتني النمط‬
‫إن اختالف ل ــون الزهرة وح ــده – ‪ M. Lewisii‬أزه ــار وردي ــة اللون ‪ ،‬يف حني أن‬ ‫ذاته ؛ إذا حتسنت اللياقة سريع اً يف بداية التجربة ‪ ،‬وتباطأت مع مرور الزمن ‪.‬‬
‫‪ M.Cardinalis‬أزهار مح راء اللون ‪ .‬يفسر بكشل جلي التباين يف اختيار امللقح‬ ‫والالفت هو أن « هولدر « و « بول « متكنا بشكل دقيق من حتديد طف رات الدنا‬
‫‪. pollinator‬وعندما جلأ كل من « شيمسيكه « و « ب رادشو « إىل هتجني النوعني ‪،‬‬ ‫اليت عملت على زيادة اللياقة ‪.‬‬
‫بيّ نا أن االختالف يف لون الزه رتني يعود يف معظمه ‪ ،‬فيما يبدو ‪ ،‬إىل مفعول جينة وحيدة‬
‫تسمى األصفر العلوي ‪. YUP‬وبناءً على ذلك ‪ ،‬عمال على توليد منطني خمتلفني من‬ ‫االنتخاب الطبيعي ( يف البيئات الطبيعية ) ‪:‬‬
‫اهلجائن ‪ :‬النمط األول الذي حيوي اجلينة ‪ YUP‬من النوع ‪ ، M.Cardinalis‬أما‬ ‫على الرغم مما يقدمه البحث التطوري التجرييب من رؤية جديدة ملفعول االنتخاب‬
‫ما تبقى من جينوم هذا اهلجني فهو مشتق من النوع ‪ M. Lewisii‬ليعطي أزهارا‬ ‫الطبيعي ‪ ،‬يبقى األسلوب املعتمد حمصورا يف استخدام الكائنات احلية البسيطة‬
‫ب رتقالية اللون ‪ .‬النمط الثاين كان صورة مرآتية للهجني األول ؛ إذ حوى اجلينة ‪YUP‬‬ ‫اليت تسمح بتحديد كامل تسلسل دنا اجلينوم م رات عدة ‪ .‬كذلك حذر بعض‬
‫من النوع ‪ ، M. Lewisii‬وما تبقى من اجلينوم مشتق من النوع ‪M.Cardinalis‬‬ ‫العاملني يف هذا اجمل ــال من أن أحب ــاث التطور التجرييب قد تضمن ضغوطا انتخابية‬
‫ليعطي أزهارا وردية اللون ‪.‬‬ ‫قاسية ال توجد يف الطبيعة ‪ ،‬وقد تكون أقسى كث ريا من تلك اليت ت واجهها الكائنات‬
‫وعندمات مت نقل اهلجائن إىل الربية ‪ ،‬الحظ الباحثات أن اجلينة ‪ YUP‬هلا مفعول‬ ‫يف بيئاهتا الطبيعية ‪ .‬لذلك رغبنا يف دراسة عملية االنتخاب يف كائنات حية أرقى‬
‫هائل يف حذب املل ّق ح ‪ .‬فنباتات ‪ ، M. Lewisii‬على سبيل املثال ‪ ،‬اليت حتمل‬ ‫يف ظروف أقرب إىل ظروف البيئة الطبيعة ‪ ،‬فكان ال بد لنا من ابتداع أسلوب مغاير‬
‫اجلينة ‪ YUP‬من النوع ‪ M.Cardinalis‬جذبت إليها الطائر الطنان مبقدار ‪68‬‬ ‫للبحث يف هذه التغ ريات التطورية البالغة البطء ‪.‬‬
‫مرة أكثر من نباتات ‪ M. Lewisii‬الصافية ؛ أما فيما خيص التج ربة املع****ة (‬ ‫و لعمل ذلك ‪ ،‬فإن علماء التطور يلجؤون منطيا إىل مجاعات أو أن واع انفصلت عن‬
‫نباتات ‪ M.Cardinalis‬مع اجلينة ‪ YUP‬من النوع ‪ ) M. Lewisii‬فكانت‬ ‫كاف للعثور بسهولة على اختالفات تكيفية بينها حنتها االنتخاب‬ ‫بعضها منذ زمن ٍ‬
‫النتيجة زيادة يف زيارات النحل الطنان قدرها ‪ 74‬مرة ‪ .‬فليس إذن مثة شك يف الدور‬ ‫الطبيعي ؛ ومن مث عملوا على دراسة هذه االختالفات جينيا ‪ .‬وعلى سبيل املثال‬
‫ال رئيسي للجينة ‪ YU‬يف تطور التلقيح ال ــذي يقوم به الطائر الطنان يف النوع‬ ‫‪ ،‬قام كل من « شيمسكيه «( من جامعة والية ميتشكان ) و « ب رادشو « ( من‬
‫‪ . M.Cardinalis‬ويتضح من حبث « شيمسكيه « و «ب رادوشو « أن عامل‬
‫‪35‬‬ ‫‪34‬‬
‫اختبار االنتخاب (االصطفاء ) الطبيعي‬ ‫اختبار االنتخاب (االصطفاء ) الطبيعي‬

‫معني باملغازلة ‪ ،‬على سبيل املثال ‪ ،‬قد ال تستجيب إناث من أنواع قريبة أخرى‬ ‫االنتخاب الطبيعي قادر أحيانا على تأسيس تكيفات عرب ما يبدو أنه تغ ريات‬
‫إىل هذه املغازلة ( إذا صادف أن مت اتصال جغ رايف بني النوعني ) ‪ .‬فإناث الف راشات‬ ‫جينية بسيطة ‪.‬‬
‫‪ ، pieris occidentalis‬على سبيل املثال ‪ ،‬لن تت زاوج بذكور النوع القريب‬ ‫أصل األنواع ‪:‬‬
‫‪ p. protodice‬ويعود ذلك اإلحجام على األرجح إىل اختالف يف الرسم على‬ ‫إن ادعاء « داروين « األكثر ج رأة فيما خيص االنتخاب الطبيعي ‪ ،‬يتلخص يف‬
‫أجنحة ذكور النوعني ‪ .‬وحىت إن حصل الت زاوج بني النوعني ‪ ،‬فسيؤدي ذلك إىل‬ ‫يفس ر كيفية نشوء األنواع ) علما أن‬
‫اعتبار االنتخاب الطبيعي هو العامل الذي ّ‬
‫موت اهلجني أو والدة هجني عقيم ‪ ،‬وسيكون ذلك شكال آخر من أشكال العزل‬ ‫عنوان كتابه املشهور هو ‪ :‬أصل األنواع ) ‪ .‬ولكن هل مبقدور االنتخاب الطبيعي‬
‫التكاثري ؛ إذ ال ميكن أن تنتقل اجلينات من ن ــوع إىل آخ ــر يف ح ــال ك ــون مجيع‬ ‫تفسري ذلك بالفعل ؟ وما هو الدور الذي يؤديه االنتخاب الطبيعي يف عملية‬
‫اهلجائن الناجتة فيما بينها ميتة أو عقيمة ‪ .‬فسؤال البيولوجيني املعاصرين عما‬ ‫تكون األن ــواع ‪ speciation‬وتشعب ساللة معينة إىل ساللتني ؟ س ــؤاالن ما‬
‫سي أصل األنواع ‪ ،‬يتحول إىل السؤال عما‬ ‫إذا كان االنتخاب الطبيعي هو الذي يُ ّ‬ ‫ي زاالن إىل اليوم موضوعا مهما يف أحباث البيولوجيا التطورية ‪.‬‬
‫إذا كان االنتخاب الطبيعي هو الذي يؤدي إىل نشوء العزل التكاثري ‪.‬‬
‫كي نتوصل إىل إجابات عن هذين السؤالني ‪ /‬ال بد من فهم ما يقصده علماء‬
‫طوال القرن العشرين تقريبا ‪ ،‬كان جواب أكثر علماء التطور عن هذا السؤال‬ ‫التطور مبصطلح « النوع « ‪ .‬يلتزم البيولوجيون املعاصرون عموما بعكس «‬
‫بالنفي ؛ واعتقدوا أن االجن ـراف اجليين ك ــان العامل احلاسم يف نشوء األن ــواع –‬ ‫داروين « مبا يسمى املفهوم احليوي لألنواع ‪ ،‬الذي يتمثل جوهره يف عزلة األنواع‬
‫وأح ــد أكثر املكتشفات احلديثة إث ــارة هو احتمال خطأ فرضية االجن ـراف اجليين‬ ‫فيما بينها تكاثريا ‪ :‬أي امتالك األنواع مسات جينية حتول دون تبادل اجلينات مع‬
‫كمنشأ لألنواع ‪ .‬واملرجح حاليا هو أن االنتخاب الطبيعي يؤدي دورا رئيسيا يف‬ ‫األنواع األخرى ‪ ،‬وبعبارة أخرى ‪ :‬إن مجيع األنواع املختلفة متتلك أحواض جينية‬
‫تشكل األنواع ‪.‬‬ ‫‪ genetic pools‬منفصلة ‪.‬‬

‫نوع ي زهرة القرد الذين سبق ذكرمها ‪ ،‬مثاال جيدا على ما ذكر‬ ‫ويُع ّد تاريخ تطور َ‬ ‫ويعتقد العلماء أنه ال بد من فصل مجاعتني من الكائنات احلية جغ رافيا كشروط‬
‫‪ .‬وألنه يندر أن خيطئ ِّ‬
‫امللق حان بني نوعي زهرة القرد ‪ ،‬فهذا يعين أن كال النوعني‬ ‫لتطور العزل التكاثري ‪ .‬فطيور ال ــدوري ‪ finches‬اليت سكنت جزرا عدة يف‬
‫معزوالن تكاثريا بصورة تامة تقريب اً ‪ .‬ومع أن كال النوعني يوجد يف األمكنة ذاهتا‬ ‫أرخبيل كاالبا**** واشتهرت من خالل وصف « داروين « هلا يف كتابه « أصل‬
‫يف مشال أمريكا ‪ ،‬فإن النحل الطنان الذي يزور زهرة ‪ M. Lewisii‬سيتجنب‬ ‫األن ــواع « ميكن مشاهدهتا يف يومنا ه ــذا وق ــد تشعبت ب ــص ــورة جلية إىل أن ــواع‬
‫زي ــارة زه ــرة ‪ M.Cardinalis‬كما سيتفادى الطائر الطنان ال ــذي ي ــزور زهرة‬ ‫خمتلفة بعد أن انفصلت جغ رافيا ‪.‬‬
‫‪ ، M.Cardinalis‬زيارة زهرة ‪ M. Lewisii‬؛ وبذلك لن يتم نقل حبوب‬
‫الطلع فيما بني النوعني إال فيما ندر ‪.‬‬ ‫وعندما ينشأ العزل التكاثري ‪ ،‬فقد يتخذ أشكاال عدة ‪ .‬فعند قيام ذكور نوع‬
‫‪37‬‬ ‫‪36‬‬
‫اختبار االنتخاب (االصطفاء ) الطبيعي‬ ‫اختبار االنتخاب (االصطفاء ) الطبيعي‬

‫إال أن مكانة االنتخاب الطبيعي لدى البيولوجيني التطوريني ‪ ،‬بدءا من العقود‬ ‫بي « شيمسكيه « وزمالؤه أن هذا االختالف يف امللقح مسؤول وحده‬ ‫وبالفعل ّ‬
‫القليلة املاضية ‪ ،‬مل تشهد إال تناميا يف أمهيتها وترسيخا هلا ‪.‬‬ ‫عن كبح الدفق اجليين بني النوعني مبا م ــق ــد راه ‪ . %98‬يف ه ــذه احلالة حتديدا ‪،‬‬
‫املؤلف ‪H.Allen orr :‬‬ ‫ال ميكن الشك إذن يف أن االنتخاب الطبيعي قد عمل على تشكيل تكيفات‬
‫أس ــت ــاذ جامعي ‪ ،‬وأس ــت ــاذ ‪ Shirley Cox Kearns‬للبيولوجيا يف جامعة‬ ‫النباتني مع مل ّق حني معينني وأدى إىل عزل تكاثري قوي ‪.‬‬
‫روشسرت ‪ ،‬ومؤلف مشارك ( مع « جريي كوين « ) لكتاب « تشكل األنواع «‬
‫‪. speciation‬‬ ‫وقد ظهرت أدلة أخرى حول دور االنتخاب الطبيعي يف تشكل األنواع ‪ ،‬وذلك‬
‫وتتمحور أحباثه حول األس ــس اجلينية لتشكل وتكيف األن ــواع ‪ .‬حصل « أورر‬ ‫من مصدر آخر غري متوقع ‪ .‬ففي العقد املاضي أو قبل ذلك بقليل استطاع عدة‬
‫« على ميدالية داروين واالس من مجعية لينيان يف لندن ‪ ،‬وزمالة جيوجينهامي ‪،‬‬ ‫علماء وراث ــة تطوريني ( ومنهم املؤلف ) حتديد نصف دزينة من اجلينات اليت‬
‫وزمالة داوود ولوسيل باكارد ‪ ،‬وجائزة دوب زانسكي من مجعية دراس ــات التطور‬ ‫تسبب عقما أو موت اهلجني ‪ .‬وتؤدي هذه اجلينات – اليت جرت دراسة معظمها‬
‫‪ .‬نشرت له عدة دراسات ومقاالت نقدية يف اجمللتني ‪New Yorker، New‬‬ ‫يف أن ــواع ذب ــاب ــة الفاكهة – وظ ــائ ــف متنوعة ع ــادي ــة ؛ فبعضها ي ــك ـ ّـود ألن ــزمي ــات‬
‫‪. York Review of books‬‬ ‫يكود لربوتينات بنيوية أو بروتينات ترتبط بالدنا ‪. DNA‬‬ ‫وبعضها اآلخر ِّ‬

‫املصدر ‪:‬‬ ‫وهلذه اجلينات مستان بارزتان ‪ :‬األوىل هي أن معظم اجلينات اليت تسبب اضط رابات‬
‫جملة العلوم األمريكية ‪( 2009( 6/5‬‬ ‫تشع بت بسرعة كبرية ‪ .‬والثانية هي أهنا أكدت – وهو ما‬
‫يف النسل اهلجني قد ّ‬
‫منقول من موقع منتدى امللحدين العرب‬ ‫تبني من اختبارات علم الوراثة املختص باجلماعات – أن التطور السريع هلذه‬
‫‪/http://www.il7ad.com‬‬ ‫اجلينات كان نامجا عن عامل االنتخاب الطبيعي ‪.‬‬

‫إن الد راسات اليت تناولت زهرة القرد وعُ قم هجائن ذباب الفاكهة ‪ ،‬مل تتعمق بعد‬
‫مبا يكفي يف األحباث املستمرة يف الصدور للكشف عن الدور الفاعل لالنتخاب‬
‫الطبيعي يف تشكل األنواع ‪.‬‬
‫وبالفعل ‪ ،‬يتفق حاليا معظم البيولوجيني على أن االنتخاب الطبيعي قوة تطورية‬
‫مفتاحية ‪ ،‬ال يقتصر دورها على دفع عجلة التغري التطوري داخل النوع الواحد‬
‫‪ ،‬وإمنا ميتد ليشمل أنواعا جديدة من الكائنات احلية ‪ .‬ومع أن جمموعة من غري‬
‫املختصني مازالت تشكك بقوة يف حجة االنتخاب الطبيعي وكفاية مفعوله ‪،‬‬
‫‪39‬‬ ‫‪38‬‬
‫مدخل موجز إىل فكر جودي كريشنامورتي‬ ‫مدخل موجز إىل فكر جودي كريشنامورتي‬

‫أُنشئت مببادرة منه‪ .‬ويف هذه املناقشات‪ ،‬تعمقنا جداً يف العديد من املسائل اليت‬
‫كانت تشغل ب ــايل يف حبثي العلمي‪ .‬فقد توغلنا يف طبيعة املكان وال ــزم ــن‪ ،‬ويف‬ ‫إعداد الربوفسور الفيزيائي ديفيد بوهم‬
‫طبيعة الكليات‪ ،‬سواء ما يتعلق منها بالطبيعة اخلارجية أو ما يتعلق بالذهن‪.‬‬ ‫تعريف إىل فكر كريشناموريت أول مرة إىل العام ‪ 1959‬حني ق رأت كتابه احلرية‬ ‫يعود ُّ‬
‫إال أننا‪ ،‬يف هذا اخلصوص‪ ،‬مضينا للنظر يف الفوضى والتشويش العميمني اللذين‬ ‫األوىل واألخرية‪.‬‬
‫وقعت على ما أشعر أنه أكرب اكتشافات‬ ‫ُ‬ ‫يتخلالن وعي اجلنس البشري‪ .‬وهاهنا‬ ‫وما أثار اهتمامي بصفة خاصة كان ف راسته العميقة يف مسألة ال راصد واملرصود‪.‬‬
‫كريشناموريت‪ :‬فما كان يطرحه يف ِج دِّية هو أن هذه الفوضى كلها‪ ،‬اليت هي‬ ‫قبلئذ قريبة من حمور حبثي الشخصي‪ ،‬بوصفي فيزيائي اً‬ ‫ٍ‬ ‫إذ مافتئت هذه املسألة‬
‫السبب اجل ــذري لكل ه ــذا ال ــرح وال ــب ــؤس العميمني‪ ،‬وال ــي حت ــول دون الكائنات‬ ‫نظري اً‪ ،‬معني اً أساس اً مبعىن النظرية الكوانتية‪.‬‬
‫متجذ رةٌ يف كوننا جاهلني للطبيعة‬ ‫ِّ‬ ‫البشرية والعمل متعاونني على ما ينبغي‪،‬‬ ‫ففي هذه النظرية‪ ،‬للمرة األوىل يف تطور الفيزياء‪ ،‬طُرح مفهوم تعذر الفصل بني‬
‫العامة لسريورات فكرنا‪ .‬أو بعبارة أخ ــرى‪ ،‬يصح أن يقال إننا ال نرى ما حيدث‬ ‫ال راصد واملرصود بوصفه ضروري اً لفهم القوانني األساسية للمادة بعامة‪ .‬لذا –‬
‫فعلي اً حني نكون منخرطني يف نشاط التفكري‪ .‬وعرب االنتباه إىل نشاط التفكري‬ ‫وألن الكتاب حيوي العديد من االستبصارات العميقة األخرى أيض اً – شعرت بأن‬
‫ه ــذا‪ ،‬وعرب رص ــده عن كثب‪ ،‬يشعر كريشناموريت أنه ي ــدرك إدراك ـاً مباش راً بأن‬ ‫من األمهية العاجلة يل أن أحتدث مع كريشناموريت حديث اً مباش راً وشخصي اً يف‬
‫الفكر سريورة مادية‪ ،‬تتواصل داخل الكائن البشري يف املخ ويف اجلهاز العصيب‬ ‫أسرع وقت ممكن‪ .‬وحني التقيت به للمرة األوىل لدى واحدة من زياراته إىل لندن‪،‬‬
‫ككل‪.‬‬ ‫أذهلتين تلك السهولة العظيمة يف التواصل معه‪ ،‬تتيحها تلك القدرة املتوقدة‬
‫إننا ننحو بصفة اعتيادية‪ ،‬إىل وعي حمتوى هذا الفكر على األغلب‪ ،‬وليس كيفية‬ ‫التحر من التحفظات واحلواجز الواقية الذي َت اوب به‬ ‫اليت كان يصغي هبا وذلك‬
‫ُ‬
‫حصوله فعلي اً‪ .‬ويف وسع املرء توضيح هذه النقطة بالنظر فيما حيدث حني يق رأ‬ ‫مع ما كان لدي من كالم‪ .‬وكشخص يعمل يف جمال العلم‪ ،‬شعرت بارتياح تام‬
‫كتاب اً‪ :‬فاملرء عادة يكون منتبه اً انتباه اً يكاد أن يكون حمصوراً يف معىن ما يُق رأ‪ .‬غري‬ ‫إىل هذا النوع من التجاوب‪ ،‬ألنه كان يف اجلوهر يتصف بتلك اخلاصية عينها اليت‬
‫أن يف وسع املرء كذلك أن يكون واعي اً للكتاب نفسه‪ ،‬ملكوناته بوصفه مصنوع اً‬ ‫صادفتها يف اتصاالت يل مع غريي من العلماء كان فيها معهم ٍ‬
‫تالق يف العقول‬
‫من صفحات ميكن هلا أن تُق لَ ب‪ ،‬للكلمات املطبوعة وللحرب‪ ،‬ولقوام الورق‪ ،‬إخل‪.‬‬ ‫وثيق للغاية‪ .‬وهاهنا‪ ،‬خيطر ببايل بصفة خاصة آينشتاين الذي أبدى توقداً وغياب اً‬ ‫ٌ‬
‫على حنو مشابه ميكن لنا أن نعي بنية سريورة الفكر ووظيفتها الفعليتني‪ ،‬وليس‬ ‫للحواجز مشاهبني يف عدد من املناقشات اليت جرت بينه وبيين‪ .‬وبعد هذا‪ ،‬بدأت‬
‫حمتواه وحده‪.‬‬ ‫ألتقي بكريشناموريت بصفة منتظمة وأتناقش معه كلما جاء إىل لندن‪.‬‬
‫كيف ميكن ملثل ه ــذا الوعي أن يولد؟ يقرتح كريشناموريت أن ه ــذا يتطلب ما‬
‫يسميه التأمل‪ .‬على أن كلمة «تأمل» ‪ meditation‬أُضفيت عليها طائف ةٌ‬
‫واس ــع ــة م ــن امل ــع ــاين املختلفة‪ ،‬وح ــى املتناقضة‪ ،‬ينطوي العديد منها على أن ــواع‬ ‫ ‬
‫حد ما من الغيبيات‪ .‬أما كريشناموريت فهو يقصد مفهوم اً معين اً‬ ‫سطحية إىل ٍّ‬ ‫وهكذا بدأنا ش راك ةً‪ ،‬ص ــارت مذ ذاك أوث ــق فيما أصبحت مهتم اً باملدارس اليت‬
‫‪41‬‬ ‫‪40‬‬
‫مدخل موجز إىل فكر جودي كريشنامورتي‬ ‫مدخل موجز إىل فكر جودي كريشنامورتي‬

‫ويقول كريشناموريت إن شيئ اً جديداً وخالق اً حيدث يف هذا الصمت – شيئ اً ال‬ ‫وواضح اً حني يستعمل هذه الكلمة‪ .‬ويف وسع املرء أن حيصل على مؤشر نفيس‬
‫ميكن إيصاله يف كلمات‪ ،‬لكنه ذو مغزى خارق من أجل ك لِّ ية احلياة‪ .‬من هنا‬ ‫إىل هذا املعىن إذا نظر يف اشتقاق الكلمة‪( .‬إن ج ــذور الكلمات‪ ،‬باالق رتان مع‬
‫فإنه ال حياول أن يب لِّ غ هذا الشيء بالكالم‪ ،‬بل باألحرى يسأل أولئك املهتمني أن‬ ‫لتبص رات مباغتة‬ ‫س قيادها ُّ‬ ‫معانيها احلالية املعمول هبا عموم اً‪ ،‬غالب اً ما تُسلِ‬
‫ُ‬
‫يستكشفوا مسألة التأمل بأنفسهم‪ ،‬من خالل االنتباه الفعلي إىل طبيعة الفكر‪.‬‬ ‫ملعانيها األعمق‪).‬‬
‫غري أنه ميكن للمرء‪ ،‬من دون أن حياول التوغل يف معىن التأمل األعمق هذا‪ ،‬أن‬ ‫إن كلمة ‪ meditation‬اإلنكليزية تعود بأصلها إىل اجلذر الالتيين ‪ med‬الذي‬
‫يقول إن التأمل باملعىن الذي يضفيه كريشناموريت على الكلمة‪ ،‬ميكن له أن ُِي َّل‬ ‫«ر َاز» ‪to‬‬ ‫َّ‬
‫يعين «القياس»‪ .‬واملعىن احل ــايل للكلمة هو «تفك ر» ‪َ ،to ref lect‬‬
‫النظام على نشاطنا الذهين اإلمج ــايل‪ ،‬وإن هذا قد يكون عام الً أساسي اً يف وضع‬ ‫َ‬ ‫قاس)‪ ،‬و»ق لَّ ب النظر»‪ .‬وباملثل فإن الكلمة السنسكريتية‬ ‫‪( ponder‬أي َوَز َن أو َ‬
‫للتح والبؤس والفوضى والتشويش ال ــي ظلت من نصيب اجلنس البشري‬ ‫ح ـ ٍّـد َّ‬ ‫َّ‬
‫«تفك ر»‪.‬‬ ‫اليت تقابل التأمل – وهي دهيانا – وثيقة الصلة بـدهيايت‪ ،‬اليت تعين‬
‫يبش ر بتغيري‬‫على ك ـِّـر العصور‪ ،‬وم ــازال ــت عموم اً تتواصل من دون طالع مرئي ِّ‬ ‫فإذا كان األمر كذلك‪ ،‬فإن التأمل هو «تقليب املرء ال رأي أو ُّ‬
‫التفك ر امل رافق إليالء‬
‫أساسي يف املستقبل املنظور‪.‬‬ ‫االنتباه الشديد إىل ما حيصل فعلي اً فيما املرء يفعل ذلك»‪.‬‬
‫ـرب العلمي‪،‬‬ ‫سم ى جوهر امل ــق ـ َ‬
‫إن فكر كريشناموريت يتخلله م ــا ميكن ل ــه أن يُ َّ‬ ‫ولعل هذا ما يعنيه كريشناموريت ببداية التأمل‪ .‬أي أن املرء يويل انتباهه اللصيق‬
‫منظوراً إليه يف صورته األمسى واألنقى‪ .‬إذ إنه ينطلق من حقيقة من حقائق طبيعة‬ ‫كل ما حيدث‪ ،‬باالق رتان مع النشاط الفعلي للفكر‪ ،‬الذي هو املصدر األصلي‬ ‫إىل ِّ‬
‫ِ‬ ‫للفوضى العامة‪ .‬واملرء يفعل هذا من دون اختيار‪ ،‬من دون نقد‪ ،‬من دون ٍ‬
‫سريورات فكرنا‪ .‬وهذه احلقيقة يتم التأكد منها ع ْب انتباه لصيق‪ ،‬يتضمن إصغاءً‬ ‫قبول ملا‬
‫متأني اً إىل سريورة الوعي ومثابرًة على رصدها‪ .‬ويف هذا يتع لَّ م املرءُ بصفة دائمة؛‬ ‫رفض له‪ .‬وهذا كله حيصل بالتالزم مع التفكر يف املعىن الذي يتعلمه املرء‬ ‫جيري أو ٍ‬
‫ومن هذا التع لُّ م ينتج االستبصار يف الطبيعة اإلمجالية أو العامة لسريورة الفكر‪.‬‬ ‫الصفحات‬
‫ُ‬ ‫ت‬ ‫عن نشاط الفكر‪( .‬لعل األمر أشبه ما يكون بق راءة املرء كتاب اً ُل بِ طَ ْ‬
‫متاس ك اً‬‫مث يتم الفحص عن ه ــذا االستبصار‪ :‬يتأكد امل ــرء أوالً من أن ــه متماسك ُ‬ ‫فيه‪ ،‬وبوعيه هذه الفوضى وعي اً شديداً‪ ،‬بدالً من جمرد «حماولة إضفاء املعىن» على‬
‫عقالني اً‪ ،‬مث يتأكد املرء من أنه يقود إىل النظام واالتساق‪ ،‬وذلك مما ينضح عنه‬ ‫املشوش الذي يربز حني يكتفي املرء بقبول الصفحات كما يتفق هلا أن‬ ‫احملتوى َّ‬
‫يف احلياة ككل‪.‬‬ ‫تأيت‪).‬‬
‫أي وجه‪ .‬لقد‬ ‫يشدِّد كريشناموريت تشديداً دائم اً على أنه ليس مرجعي ةً وال من ِّ‬ ‫النظام على‬
‫َ‬ ‫حد ذات ــه‪ُِ ،‬ي ـ ُّـل‬
‫ص ـ َـد كريشناموريت بأن فعل التأمل نفسه‪ ،‬يف ِّ‬ ‫لقد َر َ‬
‫بكل ما يف وسعه جلعل‬ ‫قام بعدد من االكتشافات وحسب‪ ،‬وهو يف بساطة يقوم ِّ‬ ‫نشاط الفكر من دون تدخل اإلرادة أو االختيار أو الق رار أو أي فعل آخر من‬
‫مكتشفاته يف متناول مجيع أولئك القادرين على اإلصغاء‪ .‬وفكره ال حيتوي على‬ ‫والش واش اللذان‬‫حيل مثل هذا النظام‪ ،‬خيمد الضجيج َّ‬ ‫ِّ‬
‫«املفك ر»‪ .‬وفيما ُّ‬ ‫أفعال‬
‫أي ــة مجلة من املعتقدات‪ ،‬وال هو يقدِّم تقنيات أو مناهج للحصول على ذهن‬ ‫يشكالن خلفية وعينا املعتادة‪ ،‬ويصري الذهن صامت اً عموم اً‪( .‬ال ينشط الفكر‬
‫صامت‪ .‬إنه ال يهدف إىل إنشاء أية منظومة جديدة من املعتقدات الدينية‪ .‬إذ‬ ‫إال عند احلاجة إليه من أجل غرض ما ضروري حق اً‪ ،‬مث يتوقف إىل حني احلاجة‬
‫كل كائن إنساين‪ ،‬باألحرى‪ ،‬أن يرى إن كان يستطيع أن يكتشف‬ ‫إنه من شأن ِّ‬ ‫إليه من جديد‪).‬‬
‫‪43‬‬ ‫‪42‬‬
‫مدخل موجز إىل فكر جودي كريشنامورتي‬ ‫مدخل موجز إىل فكر جودي كريشنامورتي‬

‫بنفسه ما يلفت كريشناموريت االنتباه إليه‪ ،‬مث يواصل درب ــه من هناك للقيام‬
‫ختص ه هو‪.‬‬
‫مبكتشفات جديدة ُّ‬
‫أي مدخل‪ ،‬من حنو هذا املدخل‪ ،‬ميكن له وحسب يف أحسن‬ ‫من الواضح إذن أن َّ‬
‫فكر كريشناموريت‪.‬‬ ‫–‬ ‫أنا‬ ‫مثلي‬ ‫معي – ِ‬
‫عال‬ ‫َّ‬ ‫شخص‬ ‫م‬ ‫يبي كيف فَ ِ‬
‫ه‬ ‫األحوال‪ ،‬أن ِّ‬
‫َ‬ ‫ٌ‬ ‫َ‬
‫ل ــذا ف ــإن رؤي ــة تامة ملا يقصده كريشناموريت تتطلب من امل ــرء بالطبع‪ ،‬املتابع ةَ‬
‫وق ـراء َة ما يقوله هو فع الً‪ ،‬خباصية االنتباه تلك إىل ك لِّ ية استجاباته‪ ،‬الداخلي‬
‫لتونا‪.‬‬
‫منها واخلارجي‪ ،‬اليت ناقشناها هاهنا ِّ‬

‫‪45‬‬ ‫‪44‬‬
‫هجن بشرية‬ ‫هجن بشرية‬

‫ُم ِزحيا ومستبدال متاما األشكال البشرية القدمية األخرى‪ّ .‬إل أن موضوع الكيفية‬
‫الدقيقة النف راد اإلنسان العاقل أخ ريا يف العامل بقي ملتبسا‪ .‬ومن احملتمل أن يكون‬ ‫تبني من خالل حتاليل الدنا ‪ DNA‬أن اإلنسان العاقل‬
‫الغ زاة قد عملوا على قتل السكان األصليني‪ ،‬أو تفوقوا عليهم يف املنافسة على‬ ‫‪ homo sapiens‬الباكر قد تزاوج بأنواع بشرية أخرى‪ ،‬وأن مثل‬
‫املوارد‪ ،‬أو ببساطة عملوا على التكاثر بسرعة أكرب‪ .‬ومهما تكن كيفية حدوث‬ ‫هذا التهجني بني األنواع قد أدى دورا مفتاحيا يف انتصار نوعنا البشري‪.‬‬
‫ذلك‪ ،‬فإن الغ زاة عملوا وفق هذه الفرضية على إفناء املنافسني من دون الت زاوج‬
‫باختصار‬
‫هبم‪.‬‬
‫تنص النظرية ح ــول منشأ اإلنسان العاقل ال ــي هيمنت لفرتة‬
‫ط ــوي ــل ــة‪ ,‬على أن نوعنا ال ــب ــش ــري ق ــد نشأ ع ــن جمموعة بشرية‬
‫لقد خدمت هذه الفرضية‪ ،‬اليت باتت تعرف بنموذج االستبدال ‪Replacement‬‬
‫معينة جم ــاورة للصح راء ال ــك ــرى وعملت على ال ــق ــض ــاء على‬
‫‪ model‬كقاعدة نظرية أساسية ملنشأ اإلنسان ملدة مخس وعشرين سنة‪ ،‬وذلك‬
‫أنواع اإلنسان القدمي‪.‬‬
‫على الرغم من ت راكم البيانات اليت تناقض هذا الطرح‪ .‬فقد مكن التطور األخري‬
‫إال أن الد راسات احلديثة لدنا ‪ DNA‬اإلنسان احلديث وتلك‬
‫يف تقانات حتديد َس ْل َس لة ‪ sequencing‬الدنا‪ ،‬الباحثني من احلصول على كم‬
‫لإلنسان القدمي بينت أن اإلنسان احلديث الذي جاء من إفريقيا‬
‫كبري من البيانات‪ .‬ومصدر هذه البيانات كان من بشر أحياء‪ ،‬إضافة إىل أنواع‬
‫قد ت زاوج باإلنسان القدمي‪ .‬وتشري البيانات إىل أن هذا التهجني‬
‫بشرية بائدة‪ .‬وقد جنم عن حتليل هذه البيانات باالعتماد على أدوات حاسوبية‬
‫قد ساعد اإلنسان العاقل على االزدهار إبان استعماره أراضي‬
‫متطورة‪ ،‬ترسيخ املعتقد ب ــأن قصة تطورنا كبشر مل تكن البتة بالبساطة اليت‬
‫جديدة‪.‬‬
‫ختيلها معظم املختصني يف علم اإلن ــس ــان‪ .‬إذ تبني أن اإلن ــس ــان احل ــايل حيمل دنا‬
‫موروثا من إنسان النياندرتال ومن بشر قدماء آخرين‪ ،‬مما يدل على أن اإلنسان‬
‫العاقل الباكر قد ت ـزاوج بالفعل ب ــأن ــواع أخ ــرى‪ ،‬وأن ه ــذا ال ــت ـزاوج أدى إىل نسل‬ ‫قد يكون من الصعوبة مبكان تصور ذلك اليوم‪ ،‬إال أن واقع األمر هو أن عدة أنواع‬
‫خصب قادر على نقل موروثه اجليين عرب آالف األجيال املتعاقبة‪ .‬ومل يقتصر أثر‬ ‫شبيهة بالبشر ُو ِج دت معا يف خضم معظم تاريخ تطور اإلنسان‪ .‬فمنذ ما ال يزيد‬
‫هذا االكتشاف على تقويض املفهوم السائد حول طريقة نشوئنا‪ ،‬بل دفع العلماء‬ ‫على ‪ 40‬ألف سنة كانت هناك عدة كائنات شبيهة بالبشر ذات أصول مشرتكة‪،‬‬
‫أيضا إىل البحث يف تقييم مدى هذا التهجني بني األن ــواع وحثهم كذلك على‬ ‫وتلك مشلت النياندرتال وهومو فلوريسينزيس ‪ .Homo f loresiensis‬ولعدة‬
‫حتديد األماكن اجلغ رافية اليت حصل فيها ذلك‪ ،‬وتبيان ما إذا كان اإلنسان احلايل‬ ‫عقود‪ ،‬احتدم اجلدل بني العلماء حول كيفية نشوء اإلنسان العاقل وكيف صار‬
‫قد استفاد بالفعل من أي من هذه اإلسهامات اجلينية اآلتية من أبناء عمومتنا ملا‬ ‫الشكل النهائي لألنواع البشرية‪ .‬ويعود الفضل يف هيمنة فرضية معينة يف هذا‬
‫قبل التاريخ‪.‬‬ ‫الشأن إىل الد راسات اجلينية اليت جرت يف مثانينات القرن املنصرم واليت توصلت‬
‫إىل أن اإلنسان احلديث تشرحييا نشأ يف إفريقيا وانتشر يف سائر أحناء العامل القدمي‪،‬‬
‫‪47‬‬ ‫‪46‬‬
‫هجن بشرية‬ ‫هجن بشرية‬

‫ومناصرو ما يسمى منوذج التطور املتعدد املناطق(‪ )1‬الذي طوره < ‪H .M.‬‬ ‫أصول يكتنفها الغموض‬
‫وولپوف> وزمالؤه يف جامعة ميتشيگان قد تبنوا فكرة أن التحول حدث تدرجييا‬ ‫ولكي يتسىن لنا متاما تقدير أثر هذه االكتشافات اجلينية احلديثة يف فهم العلماء‬
‫لدى اجلماعات القدمية مجيعها‪ ،‬بغض النظر عن مناطق وجودها يف كل من قارات‬ ‫لتطور اإلنسان علينا أن نعود إىل مثانينات القرن املاضي‪ ،‬عندما احتدم النقاش‬
‫إفريقيا وآسيا وأوروبا وأقيانوسيا‪ .‬لقد مت هذا التحول وذلك بفعل اهلجرة والت زاوج‬ ‫حول كيفية نشوء اإلنسان العاقل‪ .‬وتفحص بيانات املستحاثات ‪fossil data‬‬
‫الذي مسح للسمات احلديثة املفيدة باالنتشار بني جممل هذه اجلماعات‪ .‬وللبشر‬ ‫جعل علماء اإلن ــس ــان ال ــق ــدمي يتفقون على أن ف ــرع ــا ق ــدمي ــا م ــن نوعنا البشري‪،‬‬
‫احلاليني وف ــق ه ــذا املشهد‪ ،‬مس ــات مم ــي ــزة مناطقية ت ــوارث ــوه ــا م ــن األص ــول القدمية‬ ‫اإلنسان املنتصب ‪ ،homo erectus‬قد نشأ يف إفريقيا منذ حنو مليوين سنة‬
‫بسبب ما وفّ رته هذه السمات فيما يبدو من فائدة ساعدهتم على التكيف يف‬ ‫ومن مث بدأ سريعا باالنتشار من هذه القارة إىل شىت مناطق العامل القدمي األخرى‪.‬‬
‫بيئاهتم اخلاصة‪ .‬وق ــد مت ذل ــك على الرغم من انتشار السمات األخ ــرى الشائعة‬ ‫وقد متركز اخلالف بني هؤالء العلماء حول كيفية نشوء اإلنسان العاقل من هذا‬
‫لدى مجيع البشر احلاليني مع انتهاء هذه العملية االنتقالية‪ .‬وهناك أيضا فرضية‬ ‫اإلن ــس ــان املنتصب‪ ،‬وه ــو اإلن ــس ــان ال ــذي ميتلك حجرة دماغية م ــك ــورة وهيكال‬
‫أخرى مشتقة من السابقة طرحها <‪ F.‬مسيث> [وهو حاليا يعمل يف جامعة‬ ‫عظميا دقيقا‪ ،‬وهي السمات اليت مل تظهر يف السجل األحفوري ّإل قبل ‪195‬‬
‫والية إلينوي] أمساها منوذج االندماج االجتماعي ‪،Assimilation model‬‬ ‫ألف سنة‪.‬‬
‫واليت يعرتف فيها بدور أكرب للجماعات اليت أتت من إفريقيا يف حتديد صفات‬
‫اإلنسان احلايل‪.‬‬

‫ويف مقابل هذه الفرضية‪ ،‬فإن مناصري منوذج االستبدال(‪( )2‬واملعروف أيضا باسم‬
‫منوذج املنشأ اإلفريقي‪ ،‬من مجلة أمساء أخرى) ومن هؤالء <‪ Ch.‬سرتينگر> [من‬
‫متحف التاريخ الطبيعي يف لندن] ادعوا بأن البشر احلديثني تشرحييا نشؤوا كنوع‬
‫خ ــاص متميز يف مكان واح ــد حم ــدد ‪ -‬على أط ـراف الصح راء ال ــك ــرى ‪ -‬وعمل‬
‫هؤالء على القضاء على مجيع البشر القدماء يف كل مكان ومن دون أن يت زاوجوا‬
‫هب ــم‪ .‬ومث ــة صيغة أق ــل حت ــدي ــدا هل ــذه النظرية ‪ -‬فنموذج التهجني امل ــق ــرح م ــن قبل‬
‫<‪ G.‬بروير> [من جامعة هامبورگ يف أملانيا] يتضمن حدوث التهجني أحيانا‬
‫بني البشر احلديثني واجملموعات البشرية القدمية يف خضم اندفاعهم إىل مناطق‬
‫جديدة‪.‬‬

‫‪49‬‬ ‫‪48‬‬
‫هجن بشرية‬ ‫هجن بشرية‬

‫املسمار األخري الذي ُدك يف نعش‬


‫َ‬ ‫وهذه النتائج مثلت لدى العديد من الباحثني‬ ‫وهكذا‪ ،‬بدا هذا النقاش الذي اعتمد على البيانات األحفورية فقط‪ ،‬وكأنه مل‬
‫منوذج التطور املتعدد املناطق ومنوذج االندماج‪ ،‬لكن آخرين اعرتضوا على املنطق‬ ‫حيسم بعد‪ .‬ومع ظهور تقانة الدنا متكن العلماء من تطوير طرق تسمح بتقصي‬
‫الذي استندت إليه بقية هؤالء الباحثني‪ .‬فغياب مؤشر للتهجني يف أي منطقة‬ ‫ما حصل يف املاضي‪ ،‬وذلك من خالل حتليل التغري اجليين يف اجلماعات البشرية‬
‫مستقلة واحدة من اجلينوم‪ ،‬كما يف الدنا ‪ ،mtDNA‬ال يعين بالضرورة غياب‬ ‫احلالية واستخدامه إلعادة بناء شج رات التطور جلينات معينة‪ .‬ومن خالل دراسة‬
‫دنا مهج ٍن يف املناطق األخرى من هذا اجلينوم‪ .‬وإضافة إىل ذلك‪ ،‬فإن أي منطقة‬ ‫شجرة جينية‪ ،‬ميكن للباحثني حتديد مىت وأين وجد السلف املشرتك األخري جلميع‬
‫معينة من اجلينوم مت اختبارها‪ ،‬ميكن أال حتوي إشارات على التهجني حىت وإن مت‬ ‫األشكال األخرى جلني معني‪.‬‬
‫حدوثه فعال‪ ،‬وذلك ألن الدنا من األنواع األخرى (الدنا الدخيل) قد خيتفي عرضا‬
‫مع الوقت من منظومة اجلينات يف حال عدم توفريه فائدة لنوع اإلنسان العاقل‪.‬‬ ‫ويف دراسة ُم ْع لَ مة(‪ )3‬نشرت عام ‪ ،1987‬أعلن <‪ C .A.‬ويلسن> [من جامعة‬
‫بريكلي] وزمالؤه عن أن شجرة التطور اخلاصة بالدنا اليت وجدت يف امليتوكوندريا‬
‫إن أفضل طريقة حلسم ال ــت ــس ــاؤل ح ــول حقيقة ح ــدوث ه ــذا ال ــت ـزاوج م ــن عدمه‬ ‫‪ - mitochondria‬وهي املكونات املنتجة لطاقة اخلاليا – تعود إىل أُنثى سلف‬
‫يكمن يف مقارنة العديد من املناطق يف اجلينوم أو‪ ،‬مثاليا‪ ،‬بتحليل كامل اجلينوم‬ ‫إفريقية عاشت قبل حنو مئيت ألف سنة‪( .‬ينتقل دنا امليتوكوندريا ‪)4(mtDNA‬‬
‫إن أمكن‪ .‬إال أنه قبل توفر هكذا حتاليل مستفيضة لإلنسان القدمي‪ ،‬تبني يف بعض‬ ‫من األم إىل األوالد ويُعامل يف ال ــد راس ــات املتعلقة باألجداء كجني منفرد)‪ .‬وقد‬
‫الد راسات املبكرة وجود أدلة جينية مناقضة لنموذج االســتبدال الذي َم ثَّل ال رأي‬ ‫انسجمت هذه النتائج مع توقعات منوذج االستبدال املذكور آنفا‪ ،‬كما اتفقت‬
‫املعتمد لــدى أكثريــة العـلمـاء‪ .‬فقــد كانـت إحـدى هـذه الد راسات هي تلك‬ ‫مع الد راسات الالحقة اليت مشلت أج زاء صغرية من دنا نواة اخللية وتلك للصبغي‬
‫اليت أجــ راهــا <‪ D.‬كاريگان> عام ‪ 2005‬عندمــا كان باحثــا ملـا بعــد الدكتوراه‬ ‫(الكروموسوم) ‪ chromosome Y‬املوروث من األب‪.‬‬
‫فع الة ‪nonfunctional‬‬ ‫يف خمتربي‪ ،‬حيث درس تسلسل الدنا يف منطقة غري ّ‬
‫من الصبغي ‪ X‬املسماة ‪ .RRM2P4‬وقد تبني من خالل حتليل شجرة النسب‬ ‫وقد ظهرت أدلة مساندة أخرى هلذا النموذج بعد مضي عقد من الزمن عندما‬
‫أن أصل هذه السلسلة يعود إىل نوع قدمي ليس بإفريقي بل شرق آسيوي عاش‬ ‫جنح <‪ S.‬پعابو> [وهو يعمل حاليا يف مركز ماكس پالنك لعلم تطور اإلنسان‬
‫منذ حنو مليون ونصف سنة‪ .‬وه ــذا يشري إىل أن ه ــذا الدنا أت ــى من ن ــوع آسيوي‬ ‫يف اليپزيگ بأملانيا] وزمالؤه يف استخالص وحتليل قطعة من دنا امليتوكوندريا من‬
‫قدمي اختلط باإلنسان العاقل القادم من إفريقيا‪ .‬كما مت اكتشاف تنوع آخر يف‬ ‫تبي أن دنا النياندرتال خيتلف عن‬
‫عظام النياندرتال‪ .‬ومن خالل هذه الد راسة َّ‬
‫منطقة غري فعالة أخرى من الصبغي ‪ X‬وهي املنطقة ‪ ،Xp21.1‬وقد كان ذلك‬ ‫دنا اإلنسان املعاصر؛ إذ أظهرت بيانات تلك الد راسة غياب الت زاوج (التهجني)‬
‫يف السنة ذاهتا ويف خمتربنا أيضا‪ .‬إذ أظهرت شجرة نَ َس ب اجلينات فرعني متشعبني‬ ‫بينهما‪ .‬وقد مت تأكيد ذلك من خالل دراسات الحقة للدنا ‪ mtDNA‬باستخدام‬
‫تطورا فيما يبدو بشكل مستقل متاما وقد جرى ذلك خالل ما يقارب املليون‬ ‫عينات نياندرتال إضافية‪.‬‬
‫سنة‪ ،‬أحدمها مت إدخاله إىل اجلماعات احلديثة تشرحييا من خالل نوع إفريقي قدمي‪.‬‬
‫‪51‬‬ ‫‪50‬‬
‫هجن بشرية‬ ‫هجن بشرية‬

‫وهكذا‪ ،‬فإن األدلة املستقاة من املنطقتني ‪ RRM2P4‬و ‪ Xp21.1‬قد أحملت‬


‫إىل أن اإلنسان احلديث تشرحييا قد ت ـزاوج ببشر قدماء من آسيا وإفريقيا على‬
‫التوايل‪ ،‬بدال من جمرد استبداهلم من دون هتجني‪.‬‬

‫فرضيات متنافسة‬
‫تحديد مصدر اإلنسان العاقل‬
‫لقد استمر طويال جدل العلماء حول التطور التشرحيي لإلنسان‬
‫احلديث (اخلطوط البنية الغامقة) من السلف القدمي (اخلطوط‬
‫البنية الفاحتة)‪ .‬ويف الفرضيات املعروضة هنا يعود منشأ اإلنسان‬
‫الدنا القدمي اخلاص بنا‬ ‫احلديث إىل إفريقيا‪ .‬ووفقا لنموذج االستبدال ‪replacement‬‬
‫‪ ،model‬فقد استبدلت أنواع اإلنسان القدمي يف العامل القدمي‬
‫إن التقدم الذي أحرزته تقانة َس ْل َس لة الدنا مسح للعلماء حديثا بإج راء َس ْل َس لة‬ ‫م ــن دون أن حي ــدث هتجني بينها وب ــن اإلن ــس ــان احل ــدي ــث‪ .‬ويف‬
‫سريعة جلينومات نووية كاملة(‪ - )5‬متضمنا ذل ــك جينومات إنسان منقرض‬ ‫املقابل‪ ،‬ينص منوذج االندماج ‪ assimilation model‬على‬
‫كالنياندرتال‪ .‬ويف عام ‪ ،2010‬أعلنت جمموعة <پعابو> عن َس ْل َس لة دنا اجلزء‬ ‫انتشار السمات املفيدة من إفريقيا بني هذه اجملموعات القدمية‬
‫األكرب من جينوم النياندرتال الذي يعود إىل دنا مستخلص من عدة مستحاثات‬ ‫من خالل الدمج واهلجرة والت زاوج والذي يسمى بالدفق اجليين‬
‫للنياندرتال من كرواتيا‪ .‬وبعكس التوقعات‪ ،‬فقد تبني من ه ــذه التحاليل أن‬ ‫‪( gene f low‬األسهم اخلض راء)‪ .‬أما منوذج التهجني فيفرتض‬
‫إلنسان النياندرتال مسامهة صغرية يف جتميعية جينية ‪ gene pool‬اإلنسان‬ ‫أن اإلنسان احلديث مل يت زاوج باإلنسان القدمي إال فيما ندر‬
‫احلايل وإن كانت ذات أثـر معتبـر‪ :‬فللبشر خارج إفريقيا مكون وراثي ي رتاوح بني‬ ‫(األسهم احلمر) إبان عملية االستبدال‪ .‬ويف منوذج التطور املتعدد‬
‫‪ 1‬و ‪ 4%‬من اجلينوم يعود إىل جينوم النياندرتال‪ .‬والتفسري املقرتح لذلك متثل يف‬ ‫املناطق جي ــري الرتكيز بشكل حصري على ف ــرة التحول من‬
‫أن الت زاوج بني النياندرتال ومجيع البشر غري اإلفريقيني اقتصر غالبا على الفرتة‬ ‫الشكل القدمي إىل احلديث يف إفريقيا وينص على الدفق اجليين‬
‫مجيع هؤالء املنطق ةَ ذاهتا يف الشرق األوسط واليت امتدت‬ ‫احملدودة اليت شغر فيها ُ‬ ‫والتهجني بني اجملموعات القدمية املختلفة‪ .‬ومثل هذا املشهد‬
‫من ‪ 80‬إىل ‪ 50‬ألف سنة املاضية‪.‬‬ ‫قد يكون سابقا لعملية االستبدال واالندماج والتهجني‪.‬‬

‫‪53‬‬ ‫‪52‬‬
‫هجن بشرية‬ ‫هجن بشرية‬

‫ومن مث تال اإلع ــا ُن السابق إع ــا َن <پعابو> عن اكتشاف مدهش أكثر‪ ،‬متثل‬
‫يف حصوهلم على دن ــا ميتوكوندريا من قطعة عظم إصبع تعود إىل ما قبل ‪40‬‬
‫أل ــف سنة‪ُ ،‬وج ــدت يف كهف ‪ Denisovan‬جببال ألتاي يف سيبرييا‪ .‬وم ــع أن‬
‫العلماء مل يتمكنوا م ــن حت ــدي ــد ه ــوي ــة ال ــن ــوع لقطعة العظم تلك اع ــت ــم ــادا على‬
‫صفاهتا التشرحيية‪ ،‬إال أن تسلسل الدنا بـَ ّي أهنا تعود إىل فرد ينتمي إىل مجاعة‬
‫ق رابتها للنياندرتال أكثر قليال من ق رابتها هي والنياندرتال للبشر احلاليني‪ .‬كما‬
‫أن مقارنة تسلسل دنا الدينوسوڤان مبا يقابله يف اجلماعات احلديثة مكن من‬
‫العثور على كمية معتربة من الدنا يف اجلماعة الشبيهة بالدينوسوڤان ومتثلت‬
‫يف ‪ 1‬إىل ‪ 6%‬يف امليالنيزيني واألس رتاليني والپولينرييني وبعض اجملموعات املرتبطة‬
‫ذات الصلة يف غرب احمليط اهل ــادي‪ ،‬فيما مل يُعثر على شيء من هذا الدنا لدى‬
‫ولكي يتسىن للباحثني تفسري هذا النمط املعقد من التشاركية للدنا‪ ،‬فقد اقرتحوا‬
‫اإلفريقيني والبشر احلاليني من منطقة آسيا وأوروبا‪.‬‬
‫ح ــدوث هتجني م ــع ع ــدة أش ــك ــال ق ــدمي ــة يف زم ــن ــن خمتلفني‪ :‬األول‪ ،‬عندما هاجر‬
‫اإلنسان احلديث بداية من إفريقيا وت ـزاوج بالنياندرتال‪ ،‬والحقا‪ ،‬عندما وصل‬
‫مكتشفات‬
‫خلفاء هذا الت زاوج إىل جنوب شرق آسيا والتقوا باإلنسان الشبيه بالدينوسوڤان‪.‬‬
‫أدلة حول التهجين‬
‫وقد وصل سلف اجملموعات امليالنيزية احلالية املختلط مرتني‪ ،‬إىل احمليط اهلادي‬
‫يشري السجل األحفوري إىل أن اإلنسان العاقل نشأ من إفريقيا منذ‬
‫قبل حنو ‪ 45‬ألف سنة كما حدثت موجة هجرة ثانية لإلنسان احلديث إىل شرق‬
‫حنو مئيت ألف سنة‪ .‬وتبني الد راسات احلديثة للدنا أن اإلنسان احلديث‬
‫آسيا من دون أن حيصل ت زاوج السلف الشبيه بالدينوسوڤان‪.‬‬
‫ت زاوج باإلنسان القدمي يف خضم هجرته داخل إفريقيا ونزوحه خارجها‬
‫إىل سائر بقاع العامل القدمي (األسهم ال ــرم ــادي ــة)‪ .‬وتظهر اخلريطة يف‬
‫ومع أن مناقشة عمليات التهجني يف تطور اإلنسان تتمحور عادة حول الت زاوج‬
‫األس ــف ــل ع ــدة أن ــواع قدمية ‪ -‬مب ــا يف ذل ــك ن ــوع مت حت ــدي ــده م ــؤخ ـرا على‬
‫بني اإلنسان احلديث تشرحييا بالنياندرتال يف أوروبا أو عدة أشكال أخرى قدمية‬
‫أساس بيانات حتليل الدنا املأخوذة من عظم إصبع مستحاثة مصدره‬
‫يف آسيا‪ ،‬إال أن فرص الت زاوج الكربى املتاحة كانت يف إفريقيا‪ ،‬وذلك ألن اإلنسان‬
‫ك ــه ــف دي ــن ــس ــوڤ ــا يف س ــي ــري ــا ‪ -‬ك ــم ــا تظهر امل ــن ــاط ــق ال ــي ج ــرى فيها‬
‫احلديث عايش األشكال القدمية للبشر ملدة أطول كث ريا‪ .‬ولسوء احلظ ال يساعد‬
‫التهجني احملتمل بني اإلنسان احلديث (القطع الناقص) اعتمادا على‬
‫مناخ إفريقيا اإلستوائي وغاباته املطرية‪ ،‬على احلفاظ على الدنا يف املستحاثات‪.‬‬
‫بيانات الدنا املتاحة‪.‬‬
‫ويف غياب مرجعية تعتمد معلومات مأخوذة من دنا قدمي‪ ،‬فإن الد راسة احلالية‬

‫‪55‬‬ ‫‪54‬‬
‫هجن بشرية‬ ‫هجن بشرية‬

‫آخرين ولدى الشيمبانزي تبني أن هذا الدنا يعود إىل الصبغي ‪ Y‬غري املعروف‬ ‫لالحتماالت األخ ــرة تقتصر على حتليل دنا البشر احلاليني يف إفريقيا حبثا عن‬
‫من قبل‪ ،‬تفرع سلفه عن شجرة الصبغي ‪ Y‬قبل أكثر من ‪ 300‬ألف سنة‪ .‬عندئذ‬ ‫مؤش رات لتهجني قدمي‪.‬‬
‫قمنا بتفحص قاعدة البيانات لنحو ستة آالف للصبغي ‪ Y‬إلفريقيني‪ ،‬فوجدنا‬
‫تطابقا يف إحدى عشرة عينة كان مجيع أصحاهبا ينتمون إىل منطقة صغرية جدا‬ ‫ومن أجل ذلك َع ِم َل فريقي (املؤلف) يف جامعة أريزونا‪ ،‬بالتعاون مع <‪D .J.‬‬
‫يف غرب الكامريون‪ .‬وقد نُشر هذا االكتشاف يف عدد الشهر ‪ 3/2013‬من الدورية‬ ‫وول> [من جامعة كاليفورنيا يف سان ف رانسيسكو]‪ ،‬على مجع بيانات تسلسل‬
‫األمريكية ‪ ،Genetics‬وهو يشري إىل أن األصل املشرتك جلميع تنوعات الصبغي‬ ‫الدنا من ‪ 61‬منطقة للجينوم يف عينات من ثالث مجاعات إفريقية تعيش على‬
‫‪ Y‬احلديثة يعود إىل فرتة أقدم بـ ‪ 70%‬مما مت تقديره من قبل‪ .‬ووجود هذا الشكل‬ ‫أط ـراف الصح راء ال ــك ــرى‪ .‬وباستخدام حم ــاك ــاة حاسوبية الختبار ع ــدة أح ــداث‬
‫ال ــق ــدمي للصبغي ‪ Y‬يف البشر احل ــال ــي ــن ي ــدل على ح ــدوث هتجني ب ــن اإلن ــس ــان‬ ‫تطورية متنوعة ممكنة‪ ،‬توصلنا إىل استنتاج‪ ،‬مت نشره ع ــام ‪ ،2011‬إىل أن هذه‬
‫احلديث وإنسان قدمي جمهول اهلوية كان يعيش يف غرب إفريقيا الوسطى‪.‬‬ ‫حوت مسامهة جينية من جمموعة بشرية منقرضة وتقدر هذه‬ ‫اجلماعات احلديثة َ‬
‫املسامهة بـ ‪ 2‬يف املئة‪ .‬وق ــد انفصلت تلك اجملموعة القدمية عن سلف اإلنسان‬
‫وقد توفرت حديثا أدل ــة أخ ــرى ج ــاءت من السجل األحفوري إلمكانية حدوث‬ ‫احلديث تشرحييا قبل حنو ‪ 700‬ألف سنة‪ ،‬وجرى الت زاوج بينهما قبل حنو ‪ 35‬ألف‬
‫ت زاوج خمتلط يف إفريقيا‪ .‬فمباشرة بعد نشر نتائجنا يف عام ‪ 2011‬عملت جمموعة‬ ‫سنة يف إفريقيا الوسطى‪.‬‬
‫من علماء املستحاثات على إعادة حتليل البقايا املوجودة يف املوقع ‪Iwo Eleru‬‬
‫بنيجرييا‪ ،‬وق ــد تبني أن مس ــات اجلمجمة متثل حالة وسطى ب ــن تلك ال ــي لدى‬
‫إن ج ــذور اإلن ــس ــان احل ــدي ــث ال تعود إىل مجاعة سلف واح ــد‬
‫اإلنسان احلديث واإلنسان القدمي‪ ،‬وأن عمرها ال يتجاوز ‪ 13‬ألف سنة‪ ،‬أي بعد‬
‫يف إفريقيا وإمنا إىل مجاعات موزعة يف بقاع خمتلفة من العامل‬
‫زمن طويل من ظهور اإلنسان احلديث تشرحييا‪ .‬وهذه النتائج إىل جانب تلك اليت‬
‫القدمي كله‪.‬‬
‫مت التوصل إليها يف موقع ‪ Ishango‬جبمهورية الكونغو الدميوق راطية‪ ،‬تشري إىل‬
‫أن مسرية تطور اإلنسان احلديث تشرحييا كانت أعقد مما هي يف أي من النماذج‬
‫الطليعية لنشوء اإلنسان احلديث‪ .‬فإما كان اإلنسان القدمي موجودا إىل جانب‬
‫اإلن ــس ــان احل ــدي ــث يف امل ــاض ــي ال ــق ــري ــب‪ ،‬أو أن مج ــاع ــات بسمات م ــش ــرك ــة‪ ،‬قدمية‬ ‫وق ــد ظهر م ــؤش ــر جيين آخ ــر ل ــوج ــود اخ ــت ــاط ق ــدمي يف إفريقيا وذل ــك م ــن خالل‬
‫وحديثة‪ ،‬كانت تت زاوج فيما بينها آلالف السنني‪.‬‬ ‫دراس ــة سلسلة دن ــا الصبغي ‪ Y‬غ ــر ال ــع ــادي‪ ،‬مت احل ــص ــول عليه م ــن أمريكي ‪-‬‬
‫إفريقي يعيش يف جنوب كارولينا أرسلت عينة الدنا اخلاصة به إىل شركة توفر‬
‫للمستهلك حتليال جينيا مباش را‪ .‬وقد تبني من التحليل أن هذا الدنا فريد من‬
‫نوعه‪ .‬فمن خ ــال مقارنة التسلسل ‪ Y‬اخل ــاص هب ــذا الشخص وغ ــره ل ــدى بشر‬
‫‪57‬‬ ‫‪56‬‬
‫هجن بشرية‬ ‫هجن بشرية‬

‫البيضاء البشرية (‪ )6()HLA‬ق ــد تنامى ت ــوات ــره عاليا نسبيا ل ــدى اجلماعات‬ ‫إسهامات؟‬
‫األوراس ــي ــة نتيجة النتقاء طبيعي إجي ــايب ارتبط ب ــدور تلك اجلماعات يف مقاومة‬ ‫مع أن حتاليل دنا النياندرتال ودنا الدينوسوڤان توفر أدلة إضافية حول إسهام‬
‫املمرضات‪ .‬ورمبا ال داعي لالستغ راب من وجود إسهامات قدمية تضمن جينات‬ ‫اإلن ــس ــان ال ــق ــدمي يف إرث ــن ــا اجل ــي ــي‪ ،‬إال أن هناك العديد م ــن القضايا والتقدي رات‬
‫تعمل على تقوية املناعة‪ .‬ومن السهولة مبكان تصور أن اكتساب شكل خمتلف‬ ‫احلالية للنسبة املئوية يف جينومنا اليت تنتمي إىل النياندرتال والدينوسوڤان الشبيه‬
‫جل ــن متكيف م ــع مقاومة امل ــم ــرض ــات يف بيئات غ ــر إفريقية ق ــد يعود بالفائدة‬ ‫بالبشر تقوم على أس ــل ــوب ال يوفر معلومات كافية ح ــول كيف وم ــى حدث‬
‫امل ــب ــاش ــرة على أس ــاف البشر احلاليني ال ــذي ــن ان ــت ــش ــروا يف م ــواط ــن ج ــدي ــدة خ ــارج‬ ‫االختالط‪ .‬ودراسة ذلك تقتضي تطوير فهمنا الدقيق حلدود مناطق اجلينوم اليت‬
‫إفريقيا‪.‬‬ ‫جاءت بالفعل من اإلنسان القدمي وحتديد أي من هذه األن ــواع البشرية القدمية‬
‫قد أسهمت يف ذل ــك‪ .‬وأثناء إع ــداد أطروحة الدكتوراه يف خمتربي (املؤلف) اختذ‬
‫ويف ضوء هذه األدلة امل رتاكمة حول التهجني بني اإلنسان العاقل احلديث تشرحييا‬ ‫<‪ L .F.‬مينديز> خطوات هبذا االجتاه متاما‪ .‬وقد عثر على أدلة قوية على وجود‬
‫واإلنسان القدمي يف كل من إفريقيا وخارجها‪ ،‬مل يعد منوذج االستبدال مقبوال‪.‬‬ ‫قطعة من الدنا يف الصبغي ‪ 12‬حتوي اجلني ‪( STAT2‬وهو جني يسهم يف خط‬
‫فاألنواع البشرية القدمية واحلديثة كانت قادرة على إنتاج هجائن قابلة للحياة‪.‬‬ ‫الـم ْم رضات ‪ pathogens‬الڤريوسية) اليت مصدرها إنسان‬ ‫الدفاع األول ضد ُ‬
‫وه ــك ــذا‪ ،‬فاإلنسان القدمي ال ــذي تعرض لالنق راض ك ــان ق ــادرا على ت ــرك بصمته‬ ‫نياندرتال‪.‬‬
‫اجلينية يف جينوم اإلنسان احلديث‪ .‬وبعد تبيان ذلك‪ ،‬يبدو أن جينومات اإلنسان‬
‫احل ــايل ه ــي يف معظمها م ــن أص ــل إفريقي وأن إس ــه ــام األن ــواع األوراس ــي ــة (األورو‬ ‫ستساعد الد راسة التفصيلية ملناطق الدنا املوروثة من السلف القدمي على اإلجابة‬
‫آس ــي ــوي ــة) أق ــل مم ــا يتنبأ ب ــه ك ــل م ــن ال ــن ــم ــوذج ال ــت ــط ــوري املتعدد املناطق أو من ــوذج‬ ‫عم ا إذا كان اكتساب هذه املكونات اجلينية املختلفة قد وفّ ر فائدة‬
‫عن التساؤل ّ‬
‫االندماج‪.‬‬ ‫تَ َك يفية ما لإلنسان العاقل يف امل راحل الباكرة‪ .‬وبالفعل‪ ،‬فإن اجلني ‪STAT2‬‬
‫يوفر منوذجا جذابا ملا يبدو كبديل مفيد دخل جتميعية جينية اإلنسان احلديث‪.‬‬
‫ومث ــة ع ــدد م ــن الباحثني مييل اآلن إىل من ــوذج <ب ــروي ــر> التهجيين ‪Br?uer?s‬‬ ‫وهناك حنو ‪ 10%‬من البشر يف أوروبا وآسيا وأقيانوسيا حيملون هذا الشكل اخلاص‬
‫‪ ،Hybridization‬الذي يستصوب حدوث ت زاوج بني اإلنسان العاقل واإلنسان‬ ‫للجني ‪ STAT2‬املوجود يف النياندرتال‪ .‬ومن املثري لالهتمام أن هذا اجلني يوجد‬
‫القدمي اقتصر على حاالت قليلة معزولة‪ .‬وإنين أوافق على أن مثل هذا الت زاوج‬ ‫يف ميالنيزيا بتواتر يزيد عشر م ـرات على وج ــوده بشرق آسيا‪ .‬ويشري التحليل‬
‫كان نادرا بعد خروج اإلنسان احلديث من إفريقيا‪ ،‬إال أن القصة ال تنتهي عند‬ ‫إىل أن هذا التواتر املرتفع ناجم عن انتقاء طبيعي ‪ natural selection‬إجيايب‬
‫هذا احلد‪ .‬فالسجل األحفوري املعقد يشري إىل وجود جمموعات بشرية ذات مسات‬ ‫(وه ــذا‪ ،‬ألنه ساعد على إجناح التكاثر أو البقيا) أكثر من كونه انتشر مبحض‬
‫انتقالية يكتنفها موزاييك منوع وخمتلط م ــن صفات ك ــل م ــن اإلن ــس ــان القدمي‬ ‫الصدفة‪ ،‬فقد كان مفيدا جلماعات اإلنسان احلديث تشرحييا يف ميالنيزيا‪.‬‬
‫واحلديث‪ ،‬وقد عاشت هذه اجملموعات يف نطاق جغ رايف ميتد من املغرب العريب‬ ‫وباملثل‪ ،‬يبدو أن قسم اً شبه نياندرتايل مبنطقة من اجلينوم يدعى مستضد الكريات‬
‫‪59‬‬ ‫‪58‬‬
‫هجن بشرية‬ ‫هجن بشرية‬

‫العديد من احلاالت منافسا لإلنسان احلديث‪ ،‬إال أنه ال مناص اآلن للعلماء من‬ ‫حىت جنوب إفريقيا يف فرتة زمنية امتدت من ‪ 200‬ألف سنة إىل ‪ 35‬ألف سنة‬
‫األخذ بعني االعتبار إمكانية كون كليهما معا مصدر وسر جناح اإلنسان العاقل‪.‬‬ ‫ماضية‪ .‬وبناء على ذلك يتعني علينا ترجيح النموذج الذي يشمل الت زاوج بني‬
‫األنواع البشرية أثناء التحول من احلقبة القدمية إىل احلقبة احلديثة‪ .‬ويُطلق أحيانا‬
‫على ه ــذا التحول اس ــم التطور اإلفريقي املتعدد املناطق‪ .‬ويسمح ه ــذا املشهد‬
‫بإمكانية وراثة بعض مسات اإلنسان احلديث من أشكال انتقالية قبل انق راضها‪.‬‬
‫ويف رأيي‪ ،‬إن منوذج التطور املتعدد املناطق إضافة إىل منوذج <بروير> التهجيين‬
‫املؤلف‬ ‫يفس ران أفضل ما ميكن‪ ،‬حىت اليوم‪ ،‬البيانات األحفورية واجلينية‪.‬‬
‫‪Michael F. Hammer‬‬
‫<هامر> عامل وراثة اجلماعات‪ ،‬يف جامعة أريزونا‪ .‬وهو يدرس أمناط التنوع اجليين‬ ‫وقبل أن يتمكن الباحثون م ــن تقييم ت ــام ملثل ه ــذا النموذج لتشكل اإلنسان‬
‫يف اجلماعات البشرية احلديثة هبدف اكتشاف األصول التطورية لإلنسان العاقل‪.‬‬ ‫احلديث سنحتاج إىل معرفة أفضل لكود ‪ code‬السمات التشرحيية احلديثة وإىل‬
‫ ‬ ‫فك شيفرة ‪ decipher‬تارخيها التطوري‪ .‬وإن إج راء حتاليل إضافية جلينومات‬
‫اإلن ــس ــان القدمي واحل ــدي ــث سيساعد الباحثني على حتديد زم ــن ومكان حدوث‬
‫االختالط بشكل دقيق‪ ،‬وفيما إذا كانت هذه اجلينات القدمية اليت انضمت إىل‬
‫العنوان األصلي‬ ‫جتميعية جينية اإلنسان املعاصر‪ ،‬مفيدة للجماعات اليت محلتها‪ .‬وهذه املعلومات‬
‫‪HUMAN HYBRIDS‬‬ ‫ستساعدنا على تقييم فرضية أن التهجني مع مجاعات اإلنسان القدمي اليت كانت‬
‫املقال نشر مبجلة ‪ ,Scientific American‬و ترجتمه للعربية جملة العلوم‬ ‫متكيفة بشكل جيد مع حميطها احمللي قد أكسبت اإلنسان العاقل مسات مسحت‬
‫الصادرة عن دار التقدم العلمي يف الكويت‬ ‫له باهليمنة على العامل‪ .‬هذا‪ ،‬وإن التشارك يف اجلينات من خالل التهجني فيما‬
‫بني األن ــواع البشرية وال ــذي حي ــدث أحيانا هو إح ــدى الطرق املتاحة ال ــي ينجم‬
‫عنها شيء جديد تطوريا يف كثري من احليوانات والنباتات‪ ،‬فليس من املستغرب‬
‫إذن أن يقع الشيء ذاته يف مسرية نوعنا البشري‪.‬‬

‫وما زال هناك الكثري من األمور اليت مل حتسم بعد‪ ،‬إال أن هناك شيئا اتضح اآلن‪:‬‬
‫إن جذور اإلنسان احلديث ال تقتصر على مجاعة بشرية إفريقية واحدة فقط‪ ،‬بل‬
‫عم رت العامل القدمي كله‪ .‬ومع أن اإلنسان القدمي قد اُعتُِ َب يف‬
‫تعود إىل مجاعات ّ‬
‫‪61‬‬ ‫‪60‬‬
‫بطالن االدلة العقلية‪:‬‬ ‫بطالن االدلة العقلية‬

‫و جنمعهم واحد ‪ +‬واحد حىت نصل اىل ملياران و هذا كما أسلفنا ممل و مكلف‬
‫و غري مفيد لذلك احرتعو ا علم احلساب (الرياضيات) و هنا تبدأ االدلة العقلية‬ ‫الدليل ‪ :‬هو شيء ما يستدل به على ذات الشيء أو شيئا» آخر ‪.‬‬
‫و بالتايل فاالدلة العقلية ليس هلا معىن بدون االدلة احلسية التجريبية ‪.‬‬
‫يعين يسأل سائل بالعقل‪:‬أليس وجود الطاولة دليل على أن هلذه الطاولة صانع‬ ‫فنقول م ــث ــا» ال ــدل ــي ــل على وج ــود احل ــج ــر ه ــو أن ــن ــا ن ــرى و نلمس ه ــذه احل ــج ــر و‬
‫و أن البعر دليل على وجود البعري و يسمي هذا الدليل الدليل العقلي التحليلي‬ ‫نسمع صوت ارتطامها ب ــاالرض أو بأي شيئ آخر و بالتايل الدليل هو شيء و‬
‫الرتكييب و هذا صحيح و لكن كيف حللت و ركبت و فككت و بالتايل توصلت‬ ‫معرفة الدليل هو االحساس(الدليل احلسي) به عن طريق احلواس اخلمسة ‪ ،‬النظر‬
‫اىل ذلك ‪.‬هنا يدخل الدليل احلسي التجرييب ليلعب لعبته فمثال» أي شخص مل‬ ‫‪،‬و السمع ‪،‬و الشم ‪ ،‬و الذوق ‪ ،‬و اللمس ‪ .‬وهذه احلواس صحيح أهنا تأيت عن‬
‫يزر اس رتاليا و ال يعرف الكنغارو فهو ال يعرف كيف يتربز الكنغاروا و ال يعرف‬ ‫طريق االط راف و لكن م راكزها موجودة يف الدماغ فلوال وجود الدماغ فليس هلذه‬
‫شكله وال يعرف رائحته و ال يعرف أي شيء عنه و بالتايل مل يكتسب(بالتجربة‬ ‫احلواس أي معىن ‪،‬و بالتايل فالدماغ هو الذي حيلل و يستنتج و يستقرئ النتائج‬
‫بالدليل احلسي أية معلومات لكي يقوم على أساسها الدليل العقلي ) وبالتايل‬ ‫وه ــذا ه ــو ال ــدل ــي ــل( العقلي ) ول ــك ــن العقل ليس ه ــو ال ــدم ــاغ فقط ف ــال ــدم ــاغ هو‬
‫فلو أنه رأى ب راز الكنغاروا فسوف لن يستطيع أن يقول هذا دليل على وجود‬ ‫اآللة اليت حتلل االحاسيس و لكن هذا التحليل يستند اىل معلومات موجودة يف‬
‫الكنغارو‬ ‫الدماغ منها موروث ‪،‬و منها مكتسب‪ ،‬املوروث هو كافة االستعدادات للتعلم‬
‫و نفس الشيء لو أتينا بانسان من العصر احلجري و أريناه الطاولة مباشرة دون‬ ‫مثل تعلم اللغة تعلم احلركة تعلم املشي تعلم الكالم ‪،‬تعلم القفز و السباحة‬
‫أن نريه كيفية صنعها لظنها خشبة مثل أي خشبة أخ ــرى مرمية يف االرض و‬ ‫و الكمبيوتر‪ ،‬تعلم الكذب ‪،‬و الصدق‪ ،‬و االمانة‪ ،‬واحلرية‪ ،‬و العبودية ‪ ....‬اخل و‬
‫ملا استطاع أن يقول أن هلذه الطاولة صانع النه ال ميلك معلومات مكتسبة من‬ ‫املكتسب معرفة كنه االشياء ‪،‬ماهية االشياء ‪ ،‬االلوان ‪ ،‬الروائح االص ــوات‪...،‬اخل‬
‫االدلة احلسية التجريبية ‪ .‬و بالتايل فاالدلة العقلية ال معىن هلا إن مل تكن مشفوعة‬ ‫‪،‬و أيضا» طرق التحليل طرق الفك و الرتكيب ‪.‬‬
‫باالدلة احلسية التجريبية ‪.‬‬ ‫الدليل احلسي التجرييب هو أن حتس االشياء حبواسك اخلمسة أو امتداداهتا الصنعية‬
‫و من هنا االع رتاض على االدلة العقلية اليت يقول هبا أصحاب االعجاز العلمي يف‬ ‫مثل اجملهر‪ ،‬التلسكوب‪ ،‬الكمبيوتر ‪ ،‬الكام ريا ‪...‬اخل و الدليل العقلي هو التحليل‬
‫القرآن و هي أن وجود الكون دليل على وجود صانع هلذا الكون ‪ .‬عمليا» حنن‬ ‫الذي يقوم به العقل للدليل احلسي فمثال» نقول يف الرياضيات أن ‪ 2=1+1‬حىت‬
‫رأينا و تعلمنا و عرفنا‪ -‬أي بالدليل احلسي التجرييب‪-‬كيف تصنع الطاولة لذلك‬ ‫اآلن هذا حتليل و لكن مستقى من التجربة فقد أتينا حبجر مثال» ووضعناه قرب‬
‫قلنا أن وجود الطاولة دليل على وجود صانع ولكننا مل نرى كيف أن اهلل أو أية‬ ‫حجر آخر و قلنا أن جمموعهما حج ران أو اتينا بأرنب ووضعناه عند أرنب آخر و‬
‫قوة أخرى صنعت الكون أو أكوان أخرى و مل يعلمنا أحد كيفية صناعة الكون‬ ‫قلنا أن جمموعهما أرنبان و نستطيع أن نفعل ذلك حىت أعداد كبرية و لكن ذلك‬
‫و كيفية خلقه لكي نستنتج االستنتاج القائل أن وجود الكون دليل على وجود‬ ‫سيكون مكلفا» جدا» و ممال» فلكي نعرف عن طريق (الدليل احلسي التجرييب)‬
‫خالق هلذا الكون ‪.‬‬ ‫‪ ،‬أن مليار ‪+‬مليار =‪2‬مليار يعين أن نأيت مبلياري أرنب و نضعهم عند بعضهم‬
‫‪63‬‬ ‫‪62‬‬
‫نبضات بن باز ‪...‬‬ ‫نبضات بن باز ‪...‬‬

‫‪ -1‬العلة االوىل‪:‬‬
‫ويقولون فيها «اننا نعيش يف كون يعتمد على السبب والتأثري‪ ».‬ولكن من‬ ‫قال ذلك االعرابي‪:‬‬
‫(البعرة تدل على البعري‪ ،‬واألثر يدل على املسري؛ فسماء ذات أبراج‪،‬‬
‫املستحيل منطقيا ان حنصل على احندار الهنائي من االسباب‪ .‬يف مرحله ما‬ ‫وأرض ذات فجاج‪ ،‬وبحار ذات أمواج أفال يدل ذلك على احلكيم اخلبري؟)‬
‫فان هذا االحندار جيب ان يتوقف‪ ،‬ويف هذه املرحله انت حباجه اىل العله االوىل‬
‫اليت ليس هلا سبب وهو ما يسمونه اهلل‪.‬‬ ‫قاهلا ذلك االع رايب القح‪ ،‬واختذها املؤمنون من بعده دليال على الفطرة السليمة!‬
‫قالوا بالعلة االوىل وان صقل السماء واالرض هبذا الشكل هو دليل على وجود‬
‫اهلل‪.‬‬

‫ان الكون ايل نعيش فيه بدا من حوايل ‪ 13.7‬بيليون سنه‪ .‬اليهمنا ان كان قد‬
‫بدا قبل ذلك بشكل خمتلف سواء كان طاقة ام مادة ام جاذبية اخل ‪ ..‬وهذا‬
‫شيء غري معروف ان كان الكون بدأ هكذا او بشكل خمتلف‪ .‬وان كان له‬
‫بدايه فنحن ال نعلم ان كان اهلل هو السبب الوحيد وال نعلم ان كان اهلل عله‬
‫اوىل ام ال!‬

‫‪67‬‬ ‫‪66‬‬
‫نبضات بن باز ‪...‬‬ ‫نبضات بن باز ‪...‬‬

‫هناك احتماليه اخرى وهي تواجد عدة اكوان اخرى متفرقة او جمتمعة كلها‬ ‫ان هناك جسيمات اف رتاضية تظهر وختتفي يف الوجود طوال الوقت‪ ،‬ان فيزياء‬
‫يف ك ــون واح ــد‪ .‬رمب ــا يكون لكل ك ــون منها ثوابته اخل ــاص ــه‪ ،‬فلو افرتضنا ان‬ ‫الكم توضح ان هناك بالفعل احداث ال اسباب هلا‪.‬‬
‫هناك اكوان كثرية اذا فالصدفة قد تلعب دورها هنا يف ان يكون هناك كون‬
‫واحد على االقل قادر على انتاج احلياه‪.‬‬ ‫‪ -2‬من اتى بقوانني الكون؟‪:‬‬
‫واالن دعنا ننظر اىل تعريف كلمه اهلل ‪ « :‬ابدي‪ ،‬العليم‪ ،‬القوي‪ ،‬الودود»‪ .‬اذا‬ ‫الناس تظن ان قوانني الفيزياء توجد خارج نطاق الفيزياء! او اهنا مستمدة من‬
‫هل بامكان اهلل ان ينحرف قليال عن هذه الصفات ؟ مع اننا نعلم ان هناك‬ ‫خارج الكون! يف احلقيقة فان الفيزياء احلديثة تنفي هذا‪ ،‬ان القوانني االساسية‬
‫تباينا حديا بسيطا يف ثوابت الكون «املصقول»‪ .‬ومع ذلك فانه ليس هناك‬ ‫للفيزياء هي مجل رياضية تصف الواقع بطريقة موضوعية‪.‬‬
‫تباين ح ــدي يف صفات ذل ــك االل ــه التقليدي‪ ،‬منطقيا ه ــذا يقودنا اىل عدم‬
‫تصديق وجود اله يف الكون‪.‬‬ ‫‪ -3‬صقل الكون‪:‬‬
‫وايضا حيق لنا ان نسأل من الذي صقل اهلل ؟‬ ‫ان بعض املتدينني يقولون «ان‬
‫لو ان هذا الكون قد خلق خصيصا من اجل البشر‪ ،‬فان حجمه اهلائل هذا‬ ‫الثوابت الفيزيائية السته للكون‬
‫وكل تلك السنني اليت مرت قبل ظهور االنسان كانت بال معىن! وهذا ما‬ ‫م ــن املمكن فقط ان تتواجد يف‬
‫الجيب ان يظهر من ذلك االله !‬ ‫نطاق ضيق لتنتج كونا حيتوي‬
‫على احلياة وبالتايل ف ــان ه ــذا ال‬
‫‪ -4‬صقل االرض‪:‬‬ ‫ميكن ان يكون قد حدث مصادفة‬
‫بعض املتدينون يقولون «ان االرض موضوعة يف مكاهنا االم ــث ــل يف النظام‬ ‫وبالتايل فان اهلل هو من احدثه‪».‬‬
‫الشمسي ( ليست ب ــاردة جدا وال ح ــاره ج ــدا) وبالتايل تقبل احلياة‪ ،‬وايضا‬ ‫انه فكر يعتمد على لصق كل‬
‫فان العناصر على االرض ( الكربون‪ ،‬االوكسيجني) ايضا يف نسبها السليمة‪.‬‬ ‫ما النستطيع تفسريه باهلل‪ .‬ولكن‬
‫ويقولون ان هذا ال ميكن ان حيدث بالصدفة وبالتايل ال بد من وجود اله وضع‬ ‫ه ــذه امل ــق ــول ــه ت ــف ــرض ان ــن ــا نعرف‬
‫االرض يف مكاهنا الصحيح ووضع هذه العناصر الكيميائية‪».‬‬ ‫ك ــل ش ــيء ع ــل ــى ف ــي ــزي ــاء ال ــك ــون‪،‬‬
‫وه ــو العلم ال ــذي يكتشف كل‬
‫ان هذا تك رار لتفسري كل شيء غامض بكلمه اهلل‪ .‬هذا الكالم كان ليكون‬ ‫يوم شيئا جديدا‪ ،‬ق رمبا نكتشف‬
‫صحيحا لو ان االرض هي الكوكب الوحيد يف الكون كله‪ .‬وبالتايل ستكون‬ ‫ي ــوم ــا م ــا ان ه ـ ــذا ال ــك ــون ل ــي ــس‬
‫عالمه واضحة‪.‬‬ ‫مصقوال على االطالق!‬
‫‪69‬‬ ‫‪68‬‬
‫نبضات بن باز ‪...‬‬

‫يقول فولتري‪ « :‬ان كان اهلل غري موجود فال بد من اخ رتاعه»‬ ‫لكن املتدينون هم اول الناس معرفة ان هناك املاليني من الكواكب يف الكون‬

‫بن باز‬
‫@‪benbazbuzz‬‬

‫وبالتايل فانه بالصدفة احد تلك الكواكب تيسر له الظروف املناسبه النتاج‬
‫احلياة‪.‬‬

‫بامكانكم ان تتخيلوا خملوقات فضائية وردية اللون وهلا اربع عيون وتتنفس‬
‫ثاين اكسيد الكربون على كوكب اخر تؤمن ان كوكبها مصقول وان اهلل هو‬
‫من صقله !‬
‫على املؤمنني واج ــب صعب وه ــو حماوله اثبات اهلل بطريقة علمية ب ــدال من‬
‫مقوالت ذلك االع رايب القح‪.‬‬

‫‪71‬‬ ‫‪70‬‬
‫امرأة غامضة‬ ‫امرأة غامضة‬

‫الوحش‪.‬‬
‫مال جسده عن كرسيه ليسقط على األرض‪ ..‬معه حق‪ ..‬قبلة عذبة مثل هذه‬ ‫مصطفى تاج الدين موسى‬
‫ال يستطيع أي رجل يف العامل أن حيتملها‪.‬‬
‫أسرع إليه صاحب املقهى وبعض الرواد‪ ,‬بينما هي تنسل من بينهم لتمشي‬
‫وأتأم ل هذه الوجوه البشرية اليت ضاعت مالحمها‬ ‫كدت اختنق وأن ــا أمشي ّ‬
‫هبدوئها الغريب حىت الباب‪ ,‬حيث استدارت لتنظر إىل جاري وكأهنا تودعه‪,‬‬
‫يف ازدح ــام هذا اليوم‪ ..‬هربت منها ألدخل هذا املقهى‪ ,‬مث طلبت من النادل‬
‫مث خرجت‪ ..‬مل أفهم سر ابتسامتها الغامضة‪.‬‬
‫زجاجة عصري‪.‬‬
‫قال أحد الذين احننوا على جسد جاري‪ ,‬وهيئته تدل على أنه طبيب‪:‬‬
‫لكأسني وأنا أرمق ذباب ةً كسولة كانت تتمشى على سطح طاوليت‪ ,‬بدت يل‬
‫ـــ يبدو أنه قد أصيب بأزمة قلبيّ ة حادة‪ ..‬لقد مات‪..‬‬
‫مالحمها واضحة‪.‬‬
‫عال الكالم والص راخ حول اجلثمان‪ ,‬أسرعت وأخربت صاحب املقهى بأنه من‬
‫شهقت وأن ــا أش ــاه ــد ام ـ ـرأ ًة مجيلة ت ــدخ ــل املقهى لتجلس إىل ط ــاول ـ ٍـة قريبة‪..‬‬
‫املمكن أن تكون تلك امل رأة قد قتلته‪ .‬قال يل مندهش اً‪:‬‬
‫تأملتها مذهوالً‪ ,‬مل يسبق يل أن شاهدت أمجل منها يف حيايت‪ ,‬مجاهلا نادر‪..‬‬
‫املتوف أثار طعنة أو طلقة‪..‬‬
‫ـــ ال يوجد على جسد ّ‬ ‫مع ابتسامتها الساحرة والغامضة‪.‬‬
‫زفرت‪ ,‬مث خرجت من هذه احلانة‪ ,‬وظللت لساعات أمشي على األرصفة بني‬
‫حاولت أن ألفت انتباهها‪ ,‬استغربت منها‪ ..‬كانت مشغولة بالنظر وبإعجاب‬
‫البشر الذين ال مالمح هلم‪ ..‬شعرت باجلوع‪ ..‬فدخلت مطعم اً متواضع اً‪:‬‬ ‫ٍ‬
‫طاولة عن يساري‪.‬‬ ‫إىل جاري على‬
‫شهقت وأن ــا أش ــاه ــد امل ـرأة اجلميلة ذاهت ــا ت ــدخ ــل املطعم لتجلس إىل ط ــاول ـ ٍـة‬
‫كانت ترمقه بعينيها اللتني تنضحان شهوة وحب‪.‬‬
‫أمامي‪.‬‬
‫ما ال ــذي أعجبها هب ــذا البدين البشع؟‪ .‬أمرها غامض ه ــذه اجلميلة‪ ,‬لنصف‬
‫هذه املرة انتبهت يل‪ ,‬ابتسمت هلا خببث فابتسمت يل خببث‪ ,‬غمزهتا بلطف‬
‫ساعة وهي ترمقه دون أن يكرتث هلا‪.‬‬
‫فغمزتين بلطف‪ ,‬لعقت شفيت السفلى فلعقت شفتها السفلى‪.‬‬
‫مهست يف س ــري‪( :‬أن ــا مستعد ألن أخ ــس ــر ح ــي ــايت مقابل أن أن ــام معها ليلة‬
‫ما أمجلها !‪ .‬هذه الليلة سوف أربح سرها وأربح جسدها‪.‬‬
‫واحدة)‪.‬‬
‫قلت للنادل‪:‬‬
‫ف ــج ــأ ًة‪ ..‬هن ــض ــت ع ــن كرسيها وم ــش ــت حن ــو ج ــاري ال ــب ــدي ــن‪ ,‬ي ــا إهل ــي ك ــم هي‬
‫ـــ اجلب زجاجة نبيذ من النوع الفاخر ‪ ..‬وقدمه هلذه السيدة على حسايب‪..‬‬
‫جريئة!‪ .‬تلك الشهوة يف عينيها كانت تشتعل ن ــاراً‪ ,‬عليه اللعنة‪ ..‬سريره‬
‫ـــ عن أي سيدة تتحدث ؟‪.‬‬
‫سريحبها هذه الليلة‪.‬‬
‫ـــ هذه السيدة اليت جتلس أمامي‪..‬‬
‫احن ــن ــت إل ــي ــه لتقرتب بوجهها م ــن وج ــه ــه‪ ,‬مث قبلته قبلة طويلة‪ ,‬خ ــيّ ــل يل أنه‬
‫ونظر إىل حيث أشرت له بسبابيت‪.‬‬
‫سيتحول إىل أمري‪ ,‬كما يف تلك احلكاية القدمية اليت تقبل فيها احلسناء ذلك‬
‫ـــ على هذه الطاولة ال يوجد أحد‪ ..‬إهنا فارغة يا سيدي‪..‬‬
‫‪73‬‬ ‫‪72‬‬
‫وذهب وهو يهز ب رأسه ويبتسم‪.‬‬
‫إيل‪,‬‬
‫مل أفهم شيئ اً‪ ..‬بينما هذه امل رأة اجلميلة تنهض عن كرسيها لتمشي هبدوء ّ‬
‫ويف عينيها شهوة عارمة‪.‬‬
‫ٍ‬
‫عندئذ‪ ..‬مثة ذبابة كانت تتمشى على طاوليت‪ ,‬طارت بعيداً عن هنا‪.‬‬
‫أسمائي يف املشفى‬ ‫أسمائي يف املشفى‬

‫أمساء اهلل وال تنتهي أوجاعه‪.‬‬


‫نبيذ رخيص‪ ,‬مث رجعت وأنا أترنح‪ ..‬سرقت‬ ‫يف دورات املياه شربت زجاجة ٍ‬
‫مصطفى تاج الدين موسى‬
‫السبحة من اليد الباردة جلاري امليت منذ دقائق‪.‬‬
‫على سريري وأسفل الغطاء الرث‪ ,‬رحت أعد وأعد على حباهتا وأنا أهذي‪,‬‬
‫انتهت أوجاع اهلل احلسىن ومل ِ‬ ‫أتذكر أن السيارة اليت حطمت حياة صديقي‪ ,‬هي ذاهتا اليت نقلت ما تبقى‬
‫تنته أمسائي‪.‬‬
‫من حيايت إىل هنا‪.‬‬
‫مروا من أمام‬‫يف املشفى تصري دورات املياه كابوس اً بشع اً للمرضى‪ ,‬ك لّ ما ُّ‬ ‫كأشباح نتمشى حنن املرضى يف هذه املم رات الضيقة‪ ,‬مستندين على اجلد ران‬
‫امل رايا الصغرية فوق املغاسل ال يشاهدون أنفسهم‪.‬‬
‫أحيان اً‪ ,‬وأحيان اً على أعمدة السريوم‪.‬‬
‫بشكل هستريي وج ــه ـاً يشبه وجهي على ك ــل هذه‬ ‫ٍ‬ ‫مساء ال ــب ــارح ــة رمس ــت‬
‫مير بيننا العجوز بعربته املعدنية‪ ,‬ال أحد منا أخذ حصته من الطعام املطبوخ‬
‫امل رايا‪ ,‬بقلم أمحر شفاه أخذته من حبيبة قدمية كذكرى‪.‬‬
‫بشكل سيء فوق عربته‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫ـت ال ــع ــش ـرات وال ــع ــش ـرات م ــن العابرين يف هب ــو املشفى‬
‫ـت وأرب ــك ـ ُ‬
‫اآلن‪ ..‬أرع ــب ـ ُ‬ ‫بينما مالك املوت يغفو قلي الً يف تلك ال زاوية‪ ,‬لينال قسط اً من ال راحة‪ ,‬قبل أن‬
‫عندما صرخت به حبنق‪.‬‬
‫يرجع ليكنسنا كـ بقايا بشر‪.‬‬
‫ال أحد يبتسم هنا إطالق اً‪ ,‬ال املرضى وال زواره ــم‪ ..‬ال األطباء وال املمرضون‬
‫مريض يتأمل يف خياالته مشاهد من فيلم حياته‪ ,‬تأيت‬ ‫ٌ‬ ‫على ك ـ ّـل سري ٍر مثّــة‬
‫وال املمرضات‪ ..‬ال الطباخ العجوز وال أنا وال مالك املوت‪ ..‬وال حىت عامود‬
‫وكأن ا ألحد املخرجني اهلواة‪ ,‬وحده مريض السرطان‬ ‫بشكل عشوائي ّ‬ ‫ٍ‬ ‫اللقطات‬
‫السريوم‪.‬‬
‫وبعد اجلرعة الكيماوية الثالثة‪ ,‬يعيد توضيب مشاهد من حياته يف خياالته كـ‬
‫وحده فقط‪ ..‬داخل صورته الكبرية واملعلقة يف هبو املشفى‪ ,‬يبتسم‪.‬‬
‫خمرج سينمائي حمرتف‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫ـــ بكم كيلو االبتسامات هذا اليوم يا سيادة الرئيس ؟‪..‬‬
‫املمرض املناوب الذي ال حيب السينما‪ ,‬يوزع قبل منتصف الليل على املرضى‬
‫األدوية بال مباالة‪ ,‬مث ميضي إىل غرفته ليداعب خلف باهبا هندي املمرضة‪.‬‬
‫يوم اً م ــا‪ ..‬زوج ــة هذا املمرض و زوج هذه املمرضة‪ ,‬سوف يأتيان إىل هنا كـ‬
‫ـب مل‬
‫بقايا بشر‪ ,‬لينتجا يف خياالهتما ف ــوق ه ــذه األس ــرة املخلخلة‪ ,‬أف ــام ح ـ ٍّ‬
‫يعيشوها أبداً‪.‬‬
‫أنفث‬
‫يعب منها هبدوء وأنا ُ‬ ‫جيلس جانيب مالك املوت فأشعل له سيجارة‪ ,‬هو ُّ‬
‫دخاهنا من أنفي ببطء‪ ,‬هذا ما مساه كارل ماركس بـ (تقسيم العمل)‪.‬‬
‫املريض عن مييين بيده سبحة طويلة‪ ,‬يعد على حباهتا أمساء اهلل احلسىن‪ ,‬تنتهي‬

‫‪77‬‬ ‫‪76‬‬
‫سراديب اآللهه‬ ‫سراديب اآللهه ‪ -‬القسم األول‬

‫فسر جيمس فريدزر(*‪ )2‬هذا االعتقاد على أنه نتيجة جهل اإلنسان األول‬
‫أس ــب ــاب التناسل واإلجن ــاب ال ــي أدت إىل ختصيب فكرة تناسخ احليوانات‬ ‫رنده قسيس‬
‫والكائنات من خالل اإلنسان‪ .‬فالنظرية األوىل لتفسري الطوطم استندت‬
‫على مبدأ تبادل األرواح بني اإلنسان وطوطمه‪ ،‬ليكون احليوان الطوطمي‬ ‫أثر مفهوم الطوطم في نشأة األديان‪ ...‬حلقة ‪1‬‬
‫فرداً من أف راد العشرية املنتمي اليها‪ ،‬و»املقدس» يف آن واحد‪.‬‬
‫يف هذا املكان املقدس يتم حتديد طوطم الطفل من دون أن يتبع طوطم األم‬ ‫تعد اخل ـراف ــة الينبوع األول للنظام الطوطمي ال ــذي ساهم يف شق الطريق‬
‫أو األب‪ ،‬بل يُنسب إىل طوطم السلف وال ــذي ُي ـ ّدد من خالل النبات أو‬ ‫لإلنسان يف تدجني احليوانات ومن مث الزراعة وال لّ ذي ِن سامها بدورمها يف عملية‬
‫احليوان املتعلق مبكان األم عند شعورها بأول عالمات احلمل‪ ،‬ويعود ذلك‪،‬‬ ‫تطور اإلنسان وانتقاله من اإلنسان «الباليوثي» إىل اإلنسان «النيوليثي»‪.‬‬
‫كما ذكر «فريدزر» بسبب جهل قبيلة «األرونتا» لعملية التناسل املرتبطة‬ ‫وهنا ال بد من اإلشارة‪ ،‬إىل أن اإلنسان «الباليوثي» يف مجيع م راحله كان‬
‫بالعملية اجلنسية‪.‬‬ ‫صيّ اداً وقاطف اً للفاكهة‪ .‬وكما يعتقد بعض اختصاصي اآلثار فإن مرحلة‬
‫وجد ساالمون رينا (*‪ )3‬أن النظام الطوطمي قام على أساسني‪ :‬األول‪ ،‬وهو‬ ‫القطف واالستفادة من امل ــوارد الطبيعية لعبت دوراً هام اً يف تطور اإلنسان‬
‫اح رتام حياة الطوطم‪ ،‬فقتله ال يتم إال يف ظروف معينة حيث جيتمع أف راد‬ ‫تدرجيي اً‪ ،‬ويف تأسيس معتقداته البدائية اليت مهدت لتكوين نظام اجتماعي‬
‫القبيلة ألكله مجاعي اً مع ممارسة طقوس خاصة تليق به؛ أما األساس الثاين‪،‬‬ ‫املؤس سة لنظام اجتماعي تلك اليت‬ ‫ديين‪ .‬فكانت من تلك املعتقدات اخل رافية و ِ‬
‫فهو قائم على حترمي العالقات اجلنسية بني األف راد املنتسبني إىل طوطم واحد‬ ‫ختص عملية احلمل عند األنثى وعملية التكاثر عند احلي وانات والنباتات‪،‬‬
‫وه ــذا م ــا يلقب بالنظام ال ــ»اي ــك ــزوغ ــام ــي» ال ــذي ينظم العالقات اجلنسية‬ ‫ويعود ذلك لعدم ربط عالقة احلمل عند امل رأة باحلي وانات املنوية لدى الذكر عند‬
‫داخ ــل القبيلة ال ــواح ــدة‪ ،‬كما اعتقد ري ــن ــا أي ــض ـاً أن التحرمي ال ــذي أص ــاب‬ ‫بعض القبائل األس رتالية‪ ،‬والناشئ بالطبع عن جهل اإلنسان البدائي يف تلك‬
‫هذين األساسني ناتج عن مشاعر االح رتام جتاه حياة أف راد العشرية الواحدة‬ ‫احلقبة بعالقة الذكر يف تلقيح البويضة‪ ،‬وظن البعض منهم آنذاك بوجود‬
‫وامت زاجها بشعور االمشئ زاز من رؤية الدم امل ـراق‪ .‬فالطوطم هو أحد أف راد‬ ‫عالقة تبادلية تربط تكاثر احليوانات والنباتات بعملية احلمل عند امل رأة‪،‬‬
‫العشرية املتميز واملمتلك لقدرة غامضة (*‪ . )4‬هلذا مت التعارف على أن‬ ‫لينشأ عن هذا الربط معتقدات خمتلفة‪ .‬فكان االعتقاد السائد آن ــذاك أن‬
‫الطوطمية والنظام االيكزوغامي مها نظامان نابعان من مبدأ واحد خيصان‬ ‫حلظة حصول احلمل م رتافقة مع شعور ينتاب امل رأة عند إحساسها بارتعاش‬
‫فرتة زمنية معينة ونتجا عن عملية تطور هليكلة اجلماعة‪.‬‬ ‫يف ال ــث ــدي‪ ،‬ليتوجب عليها أن تستذكر م ــا أكلته أو رأت ــه أو ف ــك ــرت به‬
‫اعترب معظم األنرتبولوجيني الطوطم نظام اً عشائري اً أو قبلي اً قائم اً على‬ ‫كنبات أو حيوان يف تلك اللحظة كي يتم نسب الطفل إىل طوطم معني‪.‬‬
‫‪79‬‬ ‫‪78‬‬
‫سراديب اآللهه‬ ‫سراديب اآللهه‬

‫‪--------------------------------------‬‬ ‫جمموعة م ــن التابوهات ال ــي تتلخص يف ع ــب ــادة معينة م ــن قبل مجاعة ما‬
‫*‪ -2‬أسس جيمس فريدزر فرضياته بناءً على دراسات «سبينسر وجيلني»‬ ‫حليوان يف معظم األحيان‪ ،‬أو نبات يف حاالت نادرة‪ ،‬كما ميكن للطوطم‬
‫ال ــي أعطت تفس رياً ملنشأ فكرة النظام الطوطمي‪ ،‬فعند قبائل «ارون ــت ــا»‬ ‫أن يتجلى بعبادة مادة غري حية يف حاالت استثنائية‪ .‬فما مييز الطوطم عن‬
‫االس رتالية اليت كانت األقدم واألكثر بدائية املعروفة لدى األنرتبولوجيني يف‬ ‫الصنم هي تلك العالقه غري احملددة وغري املرتبطة بغرض واحد‪ ،‬بل مرتبطة‬
‫ذلك الوقت‪ .‬وجد «فريدزر» أن مفهوم الطوطم لدى أف راد هذه القبيلة مرتبط‬ ‫مبجموعة من امل ــواد من خ ــال مفهوم واس ــع‪ .‬ه ــذه العبادات ال ــي مارسها‬
‫مبكان حمدد لديها يسكنها أرواح أسالف القبيلة‪ ،‬ففي هذا املكان املقدس‬ ‫اإلنسان لصاحل حيوان أو نبات ما‪ ،‬ولدت من احلقبات البدائية يف مرحلة‬
‫ُت ارس الطقوس وحتتفظ بالـ»شورينجا» اليت حتتوي يف معظم األحيان عند‬ ‫الصيد للجماعات‪ ،‬إال أهنا استمرت مع تطور اجملتمعات لتأخذ أشكاالً متطورة‬
‫قبائل الـ»ارونتا» و»لوريتجا»‪ ...‬على بعض اخلشب أو األحجار املمتلكة‬ ‫عديدة‪ .‬فنجد‪ ،‬على سبيل املثال‪ ،‬أن التابو رافق النظام الطوطمي وتطور معه‬
‫من فرد معني أو من مجاعة لتمنح صفة القدسية عليها‪ .‬وال بد من الذكر‬ ‫حسب تطور النظام االجتماعي ليصبح جزءاً منه‪ ،‬هلذا جند تغ ريات يف مفهوم‬
‫انه متت إضافة بعض الطقوس عليها عند بعض القبائل‪ ،‬كغناء األناشيد‬ ‫التابو عرب العصور‪.‬‬
‫واالحتفاالت‪ ...‬علم اً أن الـ»شورينجا» يف علم النفس التحليلي هلا داللة‬ ‫مر النظام الطوطمي مب راحل متعددة‪ ،‬ففي مرحلته البدائية اعتمد على اعتبار‬
‫رمزية فهي ترمز إىل العضوالذكري كما ذكرها األنرتبولوجي وحملل النفس‬ ‫املوح د ما بني أصل الطوطم املتجسد مبنشأ احلمل والطوطم الوراثي‬ ‫ط ِّ‬ ‫األم ال راب َ‬
‫جي زا روهيم‪ .‬وبعيداً عن رمزية «الشورينجا» جندها تعرب يف طقوسها عن‬ ‫عند حصول حلظة اإلحساس باحلمل امل رتافق بارتعاش الثدي‪ .‬من هنا تش ّك َل‬
‫ارتباط املاضي باحلاضر واملستقبل‪ ،‬كما أن ممارسة طقوس «الشورينجا»‬ ‫الطوطم الفردي الناشئ من فكرة تبادل األرواح بني اإلنسان وطوطمه‪ .‬هذه‬
‫هتدف إىل اقامة عالقة ملموسة وحمسوسة بني احلاضر واملاضي وأمهية استم راره‬ ‫النظرية القدمية‪ ،‬من وجهة نظر جيمس فريدزر‪ ،‬تالمحت وامتزجت مع املفهوم‬
‫يف احلاضر‪.‬‬ ‫الوراثي األبوي اجلديد لتعطي مفهوم اً جديداً للطوطم‪.‬‬
‫ميز فريدزر الطوطم إىل ثالثة أن واع‪:‬‬
‫*‪ -3‬ري ــن ــا س ــاالم ــون‪ ،‬ك ــت ــاب ط ــق ــوس وأس ــاط ــر وأدي ـ ــان؛ ف ــص ــل الطوطمية‬ ‫‪ 1‬ـ طوطم العشرية (*‪ )5‬الذي ينتقل من جيل آلخر‪،‬‬
‫وااليكزوغامي صفحة ‪.81-77‬‬ ‫‪2‬ـ الطوطم املتعلق بالنوع اجلنسي‪ ،‬أي املنقسم إىل طوطم لإلناث وآخر للذكور‪.‬‬
‫‪3‬ـ الطوطم الفردي واخلاص بالفرد ال واحد واملت وارث عربه‪.‬‬
‫*‪ -4‬القوى الغامضة مت تعريفها على أهنا املانا اليت تعد املكون الرئيسي هلذه‬ ‫بينما قسم امييل دوركهيم الطوطم إىل نوعني‪ :‬الطوطم العشائري والطوطم‬
‫القوى اليت ميكن حلاملها لعب دور أساسي ضمن مجاعته‪ ،‬هلذا مت وصفها‬ ‫الفردي‪........‬يتبع‬
‫‪81‬‬ ‫‪80‬‬
‫سراديب اآللهه‬ ‫سراديب اآللهه‬

‫من قبل القبائل البدائية على أهنا امتداد ظل حلياة سابقة وأن األموات أو‬
‫اآلهلة هم ينابيع املانا‪ ،‬أي مبعىن آخر نستطيع القول إن املانا وما حتتوي من‬
‫قوى تستمد طاقتها من األعداد الالمتنهاية للموتى‪.‬‬

‫*‪ -5‬يف اللغة االنكليزية أو الفرنسية تستخدم كلمة «‪ »clan‬واليت ميكننا‬


‫ترمجتها جبماعة أو زمرة أو عشرية‪.‬‬

‫مقتطفات من كتاب س راديب اآلهله‬


‫لرنده قسيس‬

‫‪51‬‬
‫‪37‬‬ ‫‪38‬‬
‫‪82‬‬
‫االحلاد بني اليوم واالمس‬ ‫االحلاد بني اليوم واالمس‬

‫من ــوت‪ ،‬وحنيا وما حنن مببعوثني)‪، .‬ومنهم منكرو البعث‪ ،‬و اإلع ــادة الذين‬
‫أق ــروا بوجود خالق (وض ــرب لنا مثال ونسي خلقه‪ ،‬قال «من حييي العظام‬ ‫راما فاروسي‬
‫وه ــي رم ــي ــم»)‪ .‬ومنهم من أق ـ َّـر بالبعث واإلع ــادة واخل ــال ــق‪ ،‬ولكنهم رفضوا‬
‫قاطع ا وتقربوا لألصنام لتقرهبم من اخلالق‪.‬‬ ‫مل تكن منطقة شبه اجلزيرة العربية‪ ،‬بيئة مهجية تعج بالوثنيني اجلهلة‪ ،‬كما‬
‫رفض ا ً‬ ‫مدعي النبوة بنظرهم‪ً ،‬‬
‫كثريا‪ ،‬ودخل معهم يف ص راعات كالمية‬ ‫صورها لنا اإلس ــام واملسلمون بالرغم من العصبيات القبلية‪ ،‬واحل ــروب‬
‫ولقد عاىن الرسول من زنادقة مكة ً‬
‫كان منطقهم فيها هو الغالب‪ ،‬وكانوا يردون آيات الق ران للكتب املقدسة‪،‬‬ ‫املستمرة إال انه كان للفرد فيها حرية اإلعتقاد مبا يشاء؛ طاملا انه ال ميس‬
‫واألساطري القدمية‪ ،‬وكان أخطرهم النضر بن حارث الذي كان ميثل الطبقة‬ ‫القبيلة وأهلتها بإسته زاء أو أذى‪ .‬فكانت تعيش يف شبه اجل ــزي ــرة قبائل‬
‫املثقفة‪ ،‬و املتمدنة بقريش يف ذلك الوقت اليت رفضت ما جاء به حممد مجلة‬ ‫نص رانية ويهودية وقلة من الصابئة واجملوس‪ ،‬باإلضافة إىل ملحدي العصر‬
‫و تفصيال‪ .‬وق ــد ك ــان على سفر دائ ــم وإط ــاع على الثقافات‪ ،‬والديانات‬ ‫الوثين والزنادقة‪ .‬ولطاملا كانت شبه اجلزيرة موطنً ا ألنبياء بشروا بدعواهتم‪،‬‬
‫يك حملمد أن جياريه وغالبً ا ما كان الناس يرتكون مساع تالوة‬ ‫األخ ــرى فلم ُ‬ ‫وم ــض ــوا‪ ..‬وبعضهم ق ــد ذك ــر يف ال ــق ــرآن‪ ،‬وق ــد ق ــال أب ــو ال ــع ــاء امل ــع ــري‪ ،‬عن‬
‫علم ا‪ ،‬ومعرفة‬ ‫إدعاء البعض بالنبوة يف اجلاهلية‪( :‬مل تكن العرب تقدم على هذه العظائم‬
‫القرآن‪ ،‬ويفضلون حديث بن ح ــارث ال ــذي أثبت انه أكثر ً‬
‫جهدا لتصفيته بوحشية‬ ‫وأقوى حجة من نيب اهلل‪ ،‬لذا مل يدخر النيب حممد ً‬ ‫واألمور غري النظائم‪ ،‬بل كانت عقوهلم جتنح إىل رأي احلكماء‪ ،‬وما سلف‬
‫يف إحدى الغزوات‪ .‬وبعد تطاول النيب املستمر على سادة قريش وآهلتهم‪،‬‬ ‫من كتب القدماء‪ ،‬إذ كان أكثر الفالسفة ال يقولون بنيب‪ ،‬وينظرون إىل‬
‫إضطر للهجرة ليتمكن من مجع حلفاء جدد‪ ،‬وذهب ليثرب اليت كانت تعج‬ ‫من زع ــم ذل ــك بعني ال ــغ ــي)‪ .‬ون ــظ ـًـرا إلعتياد العرب على مدعيي النبوة مل‬
‫باليهود يف ذلك الوقت‪ ،‬وعقد هدنة معهم سرعان ما نقضها وبدأ بتكفريهم‬ ‫تلق دعوة حممد بعد جتاوزها مرحلة السرية معارضة من قبيلة بين قريش‪،‬‬
‫يف السور املدنية‪( ،‬ومن يتبع غري اإلسالم دينً ا لن يقبل منه)‪ ،‬وبدأت األوامر‬ ‫خصوص ا أهنا كانت تقتصر يف أوهلا على آيات البعث‪ ،‬والنشور‪ ،‬والوعيد‪،‬‬ ‫ً‬
‫بتصفيتهم وك ــان ذل ــك أول تطهري عرقي على أس ــاس دي ــي يف ت ــاري ــخ شبه‬ ‫والرفق‪ ،‬باملساكني‪ ،‬والدعوة للتفكر باخلالق والطبيعة‪ ،‬ورغ ــم إنزعاجها‬
‫اجلزيرة‪ .‬خالل الص راعات بني املعسكرين القريشي واحملمدي‪ ،‬وحينها كان‬ ‫خلروجه بأتباعه إىل الشعاب‪ ،‬وال ــص ــاة هبم بطريقة خارجة على أع ـراف‬
‫ممثل للدفاع‬
‫الشعر هو األداة األبرز يف تلك احلرب‪ ،‬وكان حسان بن ثابت ً‬ ‫قريش‪ ،‬إال أهنا تركته‪ ،‬وصحبه ومل تبدأ بالرد عليهم إال بعد أن بدأ يستخف‬
‫عن حممد‪ ،‬وقرآنه يف وجه أشعار الزنادقة‪ ،‬واملستهزئني واملكذبني له‪ ،‬وبعد‬ ‫بآهلة قريش‪ ،‬وأسيادها علنً ا‪ .‬وكان أخطر خصوم النيب حممد الفكريني يف‬
‫فتح مكة بدأ عصر جديد قضى على مجيع أشكال التعددية الدينية‪ ،‬واحلرية‬ ‫ذلك الزمان‪ ،‬من امللحدين هم ماديو العصر الوثين‪ ،‬وك ــان منهم منكرو‬
‫الفكرية يف تلك الصح راء‪ ،‬وبدأ عصر حممدي حيارب العقل والفكر واملنطق‬ ‫اخللق والبعث واإلع ــادة‪ .‬ذكرهم القرآن بقوله‪( :‬إن هي إال حياتنا الدنيا‬
‫‪85‬‬ ‫‪84‬‬
‫االحلاد بني اليوم واالمس‬ ‫االحلاد بني اليوم واالمس‬

‫وحيكم حبد السيف وبشريعة القرآن‪ ،‬فقد أمر بقطع رأس كل من استهزأ‬
‫بالنيب فور فتحه مكة‪ ،‬مما أمخد صوت الزنادقة يف تلك الفرتة‪ .‬عاد الزنادقة‬
‫للظهور يف م ـراح ــل الح ــق ــة يف العصور اإلس ــام ــي ــة‪ ،‬وك ــان أغلبهم فالسفة‬
‫وشع راء يتغنون بأيام اجلاهلية ويناقشون وجود اإلنسان‪ ،‬وفنائه متحدِّين‬
‫احلكم اإلسالمي‪ .‬وقد تعزز تيار الزندقة بدخول جنسيات وثقافات خمتلفة‬
‫نوع ا من التهديد الفكري‬ ‫يف حظرية احلكم اإلسالمي وأصبحوا يشكلون ً‬
‫يف العصر العباسي‪ ،‬مما إضطر اخلليفة املهدي إىل إنشاء ديوان امسه ديوان‬
‫الزنادقة مجع فيه أثارهم‪ ،‬وأمر مبالحقتهم وقتلهم إن مل يتوبوا! أمر اخللفاء‬
‫ورج ــال الدين عرب العصور ب ــإب ــادة مجيع آث ــاره ــم النثرية‪ ،‬ومل يبق منها إال‬
‫وأم ــا آثارهم الشعرية فهي تتعرض‬ ‫مقتطفات بكتب الدين للرد عليها‪َّ ،‬‬
‫لإلتالف حىت يومنا هذا‪ ،‬على يد قوى اإلسالم السياسي اليت ال تريد ألي‬
‫ثقافة خمالفة هلا أن تنتشر بني الناس‪ .‬إن زنادقة األمس هم ملحدو اليوم‪،‬‬
‫وما زالوا يتعرضون لنفس املالحقة والتضيق‪ ،‬ومعظم مفكريهم املعاصرين‬
‫إنتهوا إىل القتل أو النفي‬

‫‪51‬‬ ‫‪86‬‬
‫خمطوطات القرآن املكتشفة التتطابق‬ ‫خمطوطات القرآن املكتشفة التتطابق‬

‫بأكثر من مئة سنة‪ .‬ال يوجد أي دليل يف اآلثار القدمية على وجود النسخة‬
‫القرآنية اليت نقحها وأصدرها اخلليفة عثمان ابن عفان‪:‬‬ ‫راما فاروسي‬
‫‪Martin ;154-140 .pp ,1989 ,Gilchrist, Jam’ al-Qur’an‬‬
‫‪,1976 ,Lings and Yasin Hamid Safadi, The Qur’an‬‬ ‫أكتشفت أقدم اقتباسات قرآنية على عمالت أثرية قدمية كانت متداولة يف‬
‫‪17-11 .pp‬‬ ‫عام ‪ 685‬م‪ ،‬ويف املسجد األقصى الذي بناه عبد امللك بن مروان يف القدس‬
‫يف ‪ 691‬م (‪ .)18 .p ,1977 ,Crone-Cook‬ختتلف هذه االقتباسات‬
‫أقدم املخطوطات القرآنية هي اآليت‪:‬‬ ‫القرآنية كث ريا عن النص القرآين املتداول يف العصر احلايل‪ .‬إستنتج فان برشم‬
‫‪ .1‬خمطوطة مسرقند (مبكتبة تشقند‪ ،‬أزخبستان)‪ .‬حتتوي هذه املخطوطة فقط‬ ‫وجرومان بعد دراسات تفصيلية ألقدم نقوش وكتابات يف املسجد األقصى‬
‫على أج زاء غري كاملة من ‪ 42‬سورة—من سورة البقرة ‪ 2‬إىل سورة الزخرف‬ ‫أهنا ختتلف كث ريا عن القرآن احلايل يف تصريف األفعال ويف تركيب اجلمل‬
‫‪ .43‬حتتوي على آيات قرآنية ختتلف عن النصوص القرآنية احلالية‬ ‫ومعانيها كما أهنا حتذف بعض ما حيتويه قرآن اليوم‪:‬‬
‫(‪)67 .Brother Mark, A Perfect Qur’an, p‬‬ ‫‪,1977 Crone-Cook ;74 .p ,1983 ,Cook, Muhammad‬‬
‫‪ .2‬خمطوطة توبكايب (مبتحف توبكايب باستانبول‪ ،‬تركيا)‪ .‬غري مسموح‬ ‫‪,1927 ,see Van Berchem, part two, vol. ii ;168-167 .pp‬‬
‫للخ رباء بتصوير ودراسة هذه املخطوطة‪.‬‬ ‫‪and Grohmann’s Arabic Papyri form 217-215 .pp‬‬
‫هذين املخطوطتني مكتوبتني باخلط الكويف الذي أستخدم يف أواخر القرن‬ ‫‪72 .Khirbet el-Mird, no‬‬
‫الثامن م‪ ،.‬ومل يكن مستخدما يف مكة واملدينة يف القرن السابع م‪:.‬‬
‫(‪,Martin Lings and Yasin Hamid Safadi, The Qur’an‬‬ ‫أق ــدم شاهد غري إسالمي لكتاب يدعى ال ــق ــرآن يرجع إىل منتصف القرن‬
‫‪)17 ,13-12 .pp ,1976‬‬ ‫الثامن م‪ .‬بني رجل عريب وراهب من بيت هيل (‪.)6f .pp ,1915 Nau‬‬
‫كتبت هذان املخطوطتان يف أواخر القرن الثامن أو أوائل القرن التاسع م‪،.‬‬ ‫لكن هذا الشاهد ال يصف حمتويات الكتاب‪ .‬ليست لدينا أية خمطوطات‬
‫أي أكثر من ‪ 150‬سنة بعد إصدار النسخة العثمانية املزعومة للقرآن‪:‬‬ ‫قرآنية كاملة من القرن السابع م‪:‬‬
‫(‪.)147-144 .pp ,1989 ,Gilchrist, Jam’ al-Qur’an‬‬ ‫(‪,A. Schimmel, Calligraphy and Islamic Culture‬‬
‫‪ .3‬خمطوطة قرآنية مكتوبة باخلط املائل ال ــذي كان مستخدما يف احلجاز‬ ‫‪)4 .p ,1984‬‬
‫(ب ــامل ــت ــح ــف ال ــري ــط ــاين ب ــل ــن ــدن‪ ،‬ب ــري ــط ــان ــي ــا)‪ .‬حب ــس ــب د‪ .‬م ــارت ــن لنجز (مي ــارس‬ ‫يف الواقع‪ ،‬معظم املخطوطات ألج زاء من القرآن قد ُك تبت بعد موت حممد‬
‫‪89‬‬ ‫‪88‬‬
‫خمطوطات القرآن املكتشفة التتطابق‬ ‫خمطوطات القرآن املكتشفة التتطابق‬

‫اإلسالم)‪ ،‬كتبت هذه املخطوطة يف أواخر القرن الثامن م‪.‬‬


‫‪ .4‬خمطوطات صنعاء (اليمن)‪ .‬هذه املخطوطات املتناثرة حتتوي على بعض‬
‫أج ـزاء من القرآن وتعود إىل القرن الثامن م‪ .‬أُكتشفت يف املسجد الكبري‬
‫ال ــق ــدمي يف صنعاء يف ع ــام ‪ .1972‬ال ــق ــرآن ال ــذي حتتويه خيتلف ع ــن النص‬
‫القرآين احلايل‪ .‬يتضح عند فحص هذه املخطوطات أن النص القرآين هبا قد‬
‫تغري‪ .‬فالقرآن الذي هبا مكتوب فوق نص قرآين أقدم منه قد مت حموه غري أن‬
‫آثارا منه مازالت باقية‪ .‬يشري هذا إىل أن نص القرآن قد تطور وتغري على‬
‫مدى عقود من الزمان‪ .‬مل يكن نصا ثابتا راسخا منذ بدايته‪:‬‬
‫(‪Toby Lester, What Is the Koran, The Atlantic‬‬
‫‪)1999 .Monthly, Jan‬‬

‫ال تشري األدل ــة األثرية إىل وج ــود نص ق ــرآين قانوين مشابه للقرآن احل ــايل يف‬
‫القرن السابع م‪ .‬كما أن علماء اآلثار مل يعثروا على أية خمطوطات ألج زاء‬
‫من أي حديث مكتوبة يف املائة سنة اليت تلت موت حممد‪.‬‬

‫‪andy‬‬
‫من صفحة‬
‫‪https://www.facebook.com/ProphetsAreFakes‬‬

‫‪91‬‬ ‫‪90‬‬
‫ســــورة مـــن مثلـــــه‬ ‫ســــورة مـــن مثلـــــه‬

‫التحدي الوحيد الذي يتبجح به املسلمني أتو سورة من مثله و لكن امسعوا‬
‫ض ْوهُ َولِ يـَ ْق َِتفُوا َم ا ُه ْم‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫ين َل يـُ ْؤم نُ و َن بِ ْالَخ َرِة َول يـَْر َ‬ ‫َ‬
‫{ولِت ص غ ى إِلَ ي ِه أَفْ ئِ َدةُ الَّ ِ‬
‫ذ‬ ‫ََ َْ ْ‬ ‫بعدما حتدى كاتب القرآن بسورة ماذا حدث‬
‫ورٍة ِم ْن ِم ثْ لِ ِه َو ْادعُ وا ُش َه َداءَ ُك ْم‬ ‫ب ِمَّا نـ َّزلْ نَ ا َع لَ ى َع ْب ِدنَا فَ أْتُوا بِ‬ ‫ِ‬
‫ُم ْق َِتفُو َن} ‪ -‬األنعام (‪)113‬‬ ‫ُ َ‬‫س‬ ‫َوإ ْن ُك ْن تُ ْم ِف َريْ ٍ َ‬
‫مث اهتم الشع راء بأخذ الشعر من الشياطني اليت تسرتق السمع‬ ‫ني البقرة (‪)23‬‬ ‫ون ال لَّ ِه إِ ْن ُك ْن ت م ِ ِ‬ ‫ِم ن د ِ‬
‫ص ادق َ‬ ‫ُْ َ‬ ‫ْ ُ‬
‫ني‬ ‫ه ل أُنـ بِّ ئُ ُك م ع لَ ى م ن تـ نـ َّز ُل َّ ِ‬
‫الش يَ اط ُ‬ ‫َ ْ َ ْ َ َ ََ‬ ‫و ملا أتوه بسورة من مثله ماذا قال كاتب القرآن‪ ،‬رفع التحدي إىل عشرة سور‬
‫اك أَثِي ٍم‬ ‫تـ نـ َّز ُل ع لَ ى ُك ِّل أَفَّ ٍ‬ ‫اس تَ طَ ْع تُ ْم ِم ْن‬ ‫ن‬‫ِ‬ ‫م‬ ‫وا‬ ‫ع‬ ‫اد‬
‫ْ‬ ‫و‬ ‫ات‬‫أَم يـ ُق ولُو َن افـ تـ راه قُل فَ أْتُوا بِع ْش ِر س و ٍر ِم ثْ لِ ِه م ْف تـ ري ٍ‬
‫ََ َ‬ ‫َ ْ‬ ‫ُ‬ ‫ُ ََ َ َ‬ ‫َ َُ‬ ‫ْ ََ ُ ْ‬ ‫ْ َ‬
‫الس ْم َع َوأَ ْك ثـَُر ُه ْم َك ِاذبُو َن‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫يـُْل ُق و َن َّ‬ ‫ني هود (‪)13‬‬ ‫ص ادق َ‬ ‫ُدون ال لَّ ه إِ ْن ُك ْن تُ ْم َ‬
‫الش َع َراء يـَتَّ بِ عُ ُه ُم الْ غَ ُاوو َن‬‫َو ُّ‬ ‫و ملا ج ــاؤوه بعشرة سور بدأ التهديد و الوعيد ملن يكتب سور و آيات من‬
‫يم و َن‬ ‫ه‬‫أَ َلْ تـَر أَنـَّ ُه م ِف ُك ِّل و ٍاد يَ ِ‬ ‫مثله‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ ْ‬
‫َوأَنـَّ ُه ْم يـَ ُق ولُو َن َم ا ال يـَ ْف َع لُ و َن‬ ‫اب بِأَيْ ِدي ِه ْم ُثَّ يـَ ُق ولُو َن َه َذا ِم ْن ِع ْن ِد ال لَّ ِه لِ يَ ْش تـَُروا‬
‫َ‬ ‫ت‬
‫َ‬ ‫فـ وي ل لِلَّ ِذين ي ْك تُ ب و َن الْ ِ‬
‫ك‬ ‫ََ ُ‬ ‫ٌ‬ ‫ََ ْ‬
‫مث ختمها مبهزلة يف سورة األع راف و قال أن أحدهم و احلديث يف الرواية و‬ ‫ت أَيْ ِدي ِه ْم َو َويْ ٌل َلُ ْم ِمَّا يَ ْك ِس بُ و َن البقرة (‪)79‬‬ ‫ِ‬
‫يل فـََويْ ٌل َلُ ْم مَّا َك تَ بَ ْ‬ ‫بِ ِه َثَنً ا قَ لِ ً‬
‫ال رتاث عن أمية بن أيب الصلت أن اهلل أتاه من آياته و لكنه انسلخ منها‬
‫الش ْي طَا ُن فَ َك ا َن‬‫{واتْ ُل َع لَ ْي ِه ْم نـَبَ أَ الَّ ِذي آَتـَيـْنَ اهُ آَيَاتِنَ ا فَ انْ َس لَ َخ ِم نـْ َه ا فَ أَتـْبـَ َع هُ َّ‬ ‫َ‬ ‫و ملا كانت بالغة الذين يكتبون الشعر و النثر الديين عالية و متمكنة امسع‬
‫ين} ‪ -‬األع راف (‪)175‬‬ ‫ِ‬
‫و‬ ‫ا‬ ‫غ‬
‫َ‬ ‫ل‬
‫ْ‬ ‫ا‬ ‫ن‬ ‫ِ‬
‫م‬ ‫ماذا قال حممد‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ض َواتـَّــبَ ـ َـع َه ـ َـواهُ فَ َم ثـَلُ هُ َك َم ثَ ِل‬‫َخ لَ َد إِ َل ْالَْر ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫{ولَ ـ ْـو ش ئـْنَ ا لَ َرفـَ ْع نَ اهُ بَا َولَ ك نَّهُ أ ْ‬ ‫اب َوَم ا ُه َو‬ ‫اب لِتَ ْح س ب وه ِم ن الْ ِك تَ ِ‬ ‫وإِ َّن ِم نـْه م لَ َف ِري ًق ا يـ ْل وو َن أَلْ ِس نَ تـ ه م بِالْ ِك تَ ِ‬
‫َ‬ ‫َُ ُ َ‬ ‫َُ ْ‬ ‫َُ‬ ‫ُْ‬ ‫َ‬
‫ين َك َّذبُوا‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ب إِ ْن َْت م ْل َع لَ ْي ه يـَْل َه ْ‬ ‫الْ َك ْل ِ‬ ‫اب ويـ ُق ولُو َن ه و ِم ن ِع ْن ِد ال لَّ ِه وم ا ه و ِم ن ِع ْن ِد ال لَّ ِه ويـ ُق ولُو َن ع لَ ى ال لَّ هِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ك َم ثَ ُل الْ َق ْوم ال ذ َ‬ ‫ث َذل َ‬ ‫ث أ َْو تـَتـُْر ْك هُ يـَْل َه ْ‬ ‫َ‬ ‫ََ‬ ‫ََ ُ َ ْ‬ ‫َُ ْ‬ ‫ََ‬ ‫َ‬‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬
‫ْ‬ ‫ا‬ ‫ن‬
‫َ‬ ‫م‬
‫ص لَ َع لَّ ُه ْم يـَتـَ َف َّك ُرو َن} ‪ -‬األع راف (‪)176‬‬ ‫ِ‬ ‫بِآَي اتِ‬ ‫ب َو ُه ْم يـَ ْع لَ ُم و َن آل عم ران (‪)78‬‬ ‫ِ‬
‫َ َ‬ ‫ص‬ ‫ق‬
‫َ‬ ‫ل‬
‫ْ‬ ‫ا‬ ‫ص‬ ‫ص‬
‫ُ‬ ‫ق‬
‫ْ‬ ‫ا‬ ‫ف‬
‫َ‬ ‫ا‬ ‫ن‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫الْ َك ذ َ‬
‫هذا هو قرآنكم يا مسلمني و هذا هو حتديكم‬ ‫إذا كانت بالغة القرآن فارقة ملاذا حيسب الناس أن الشعر املكتوب من عنذ‬
‫كائن خ رايف‬
‫‪Lydia Slimani‬‬ ‫و تواصلت مهازل كاتب القرآن يف حربه ضد الذين يكتبون ال رتاتيل و الشعر‬
‫الديين يف قوله‬
‫ض ُه ْم إِ َل‬ ‫ِ‬ ‫ـس و ِْ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ـك ج ع ْل نَ ا لِ ُك ِّل نَـِـي ع ـ ُـد ًّوا َش ي ِ‬ ‫{و َك ـ َذلِ‬
‫ال ـ ِّـن يُوح ي بـَ ْع ُ‬ ‫َ‬ ‫ـ‬ ‫ن‬
‫ْ‬ ‫ال‬
‫ْ‬ ‫ني‬
‫َ َ‬ ‫اط‬ ‫ٍّ َ‬ ‫ََ‬ ‫َ‬ ‫ـ‬ ‫َ‬
‫ك َم ا فـَ َع لُ وهُ فَ َذ ْر ُه ْم َوَم ا يـَ ْف تـَُرو َن} ‪-‬‬ ‫ورا َولَ ْو َش اءَ َربُّ َ‬ ‫ِ‬ ‫بـَ ْع ٍ‬
‫ف الْ َق ْول غُ ُر ً‬ ‫ض ُز ْخ ُر َ‬
‫األنعام (‪)112‬‬
‫‪93‬‬ ‫‪92‬‬
‫أصنام ( املسلمني)‬ ‫أصنام ( املسلمني)‬

‫البشرية تسري بتاريخ زمن العوملة‪ ..‬حىت ( الفيسبوك ) الذي يستخدمه‬ ‫ملى حممد‬
‫جتار الدين حيمل التاريخ امليالدي‪ ..‬أين ذهبت حضارتكم يا أحفاد‬
‫النخيل‪ ..‬من أحرقها و حيرقها؟!‬
‫احلزن» حيضنين كقوقعة سلحفاة ما زال (احلظ ) يسبقها‪..‬حيميين من‬
‫حول األذكياء شجرة امليالد إىل رمز ديين ( مسيحي) مع أهنا موجودة من‬ ‫ّ‬ ‫مفاجآت أتت و أخرى مل ِ‬
‫تأت‪..‬‬ ‫ْ‬
‫العصور الوثنية‪ ،‬و يف سياق حكاية قدمية تشبه قصة « عيد األضحى»‬
‫عند املسلمني‪ ..‬أ ِ‬ ‫كربت فجأة؟!‬‫هل تعلم يا صديقي ملَ ُ‬
‫حمل الدم‬
‫ّ‬ ‫اجلميل‬ ‫الرمز‬ ‫حل‬
‫ّ‬ ‫و‬ ‫اإلنسان‬ ‫األضحية‬ ‫ت‬
‫ْ‬ ‫ذ‬
‫َ‬ ‫ُنق‬ ‫ألنين فقدت القدرة على اق رت ِ‬
‫اف (الدهشة)‪..‬‬ ‫ُ‬
‫ليعطي فكرة مجيلة عن املعتقد‪...‬‬
‫لست أبداً بذلك النقاء‪..‬‬ ‫أجل ُ‬
‫سريع كأرنب‪..‬و صفعات األصدقاء ما‬ ‫فر خوف اً من قوقعيت ٌ‬ ‫احلب الذي ّ‬
‫يف املقابل قام كثريٌ من املعاقني حبرق الشجرة باسم ( اإلسالم) و حترمي‬
‫عادت تعين زمن اً للبكاء‪..‬‬
‫وضعها يف بيوت املسلمني ليصنعوا من ذلك قضية تافهة جديدة تشغلهم‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫بسماء و كث ٍري‬ ‫أكتف من األحالم‪ ..‬طريقي الطويل ال ي زال يعدين‬ ‫لكنين مل‬
‫حولوا حكاية « عيد األضحى»‬ ‫عن قضايا مصريية جتاهلوها‪ ..‬متام اً كما ّ‬ ‫من الفصول يسكنها الربيع حىت يف الشتاء‪...‬‬
‫إىل أصابع مغمسة بالدم‪...‬‬
‫من «حب آخر»‪ « ..‬ملى حممد»‪.‬‬
‫الشجرة اليت دلّت على ذكاء اإلنسان و قدرته على خلق عامل أمجل‪..‬‬
‫اكتشفت منذ زمن أن احلياة أقصر من االستسالم للفشل‪ ،‬و أطول من‬ ‫ُ‬
‫هتارمز‬
‫شجرة السرو بعنفواهنا و مشوخها‪ ،‬بتحديها للصقيع و دوام خض ر ٌ‬ ‫النجاح مهما كرب‪..‬‬
‫مجيل جيمع مجيع من يؤمن بأن « اهلل» وضعنا على هذه األرض لنعمرها‬
‫و أننا كث رياً ما نتبع عادات األجداد من غري تفكري فنفشل ألننا مل خنرت‬
‫باحلب و العلم بغض النظر عن األديان‪ ..‬الطوائف‪ ..‬القوميات‪ ..‬و‬
‫طريقنا بأنفسنا بل ورثنا القدرة على اختيار ذات العادات‪..‬‬
‫الكماليات األخرى‪.‬‬
‫إذا أردنا أن نكون على قدر ( العقل) جيب أن نستخدمه يف كثري من‬
‫« املسلمون» احلقيقيون اليوم مسؤولون عن تطهري « اإلسالم» من عبدة‬
‫املوروثات‪:‬‬
‫األصنام‪ ..‬ح ّد السيوف‪ ..‬و إرهاب الثقافة و العمائم‪ ..‬مسؤولون عن نشر‬
‫مثل « النقاب»‪ ..‬و « شجرة امليالد»‪...‬‬
‫احملبة‪ ..‬السالم‪ ..‬و كل الصفات اليت يقولون أهنا عماد الدين السليم‪...‬‬
‫***************‬

‫‪95‬‬ ‫‪94‬‬
‫اسطورة ‪ Pegasus‬اليونانية و براق حممد الطائر‬ ‫اسطورة ‪ Pegasus‬اليونانية و براق حممد الطائر‬

‫‪ - 1‬أن رس ــول اهلل صلى اهلل عليه وسلم رأى عندها بنات لعب ‪ ،‬ورأى بينهن‬
‫فرسا له جناحان من رقاع ‪ ،‬فقال ‪ :‬ما هذا الذي أرى وسطهن ؟ قالت ‪ :‬فرس ‪،‬‬
‫قال ‪ :‬وما هذا الذي عليه ؟ قالت ‪ :‬جناحان ‪ ،‬قال ‪ :‬فرس له جناحان ؟ قالت ‪:‬‬
‫أما علمت أن لسليمان خيال هلا أجنحة ؟ قالت ‪ :‬فضحك حىت بدت نواجذه‬
‫اسطورة ‪ Pegasus‬اليونانية او احلصان اجملنح و ال ــي اقتبسها االشوريني‬
‫ال راوي‪ :‬عائشة احملدث‪ :‬أمحد شاكر ‪ -‬املصدر‪ :‬مسند أمحد ‪ -‬الصفحة أو الرقم‪:‬‬
‫والف راعنة والزرادشتيني وكذا فعل حممد !‬
‫‪264/14‬‬
‫اي ان حممد كان اخر من يستخدم هذه االسطورة‬
‫خالصة حكم احملدث‪ :‬إسناده صحيح‬
‫مسعت ايها املسلم ؟؟ اسطورة اي اهنا خيال وليست حقيقة‬
‫‪ - 2‬ق ــدم رس ــول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪ ،‬م ــن غ ــزوة تبوك – أو خيرب – ويف‬
‫‪http://en.wikipedia.org/wiki/Pegasus‬‬
‫سهوهتا سرت ‪ ،‬فهبت ريح فكشفت ناحية السرت ‪ ،‬عن بنات لعائشة – لعب –‬
‫‪http://en.wikipedia.org/wiki/Lamassu‬‬
‫فقال ‪ :‬ما هذا يا عائشة ؟ قالت ‪ :‬بنايت ! ورأى بينهن فرسا له جناحان من رقاع‬
‫‪ ،‬فقال ‪ :‬ما هذا الذي أرى وسطهن ؟ قالت ‪ :‬فرس ‪ ،‬قال ‪ :‬وما هذا الذي عليه‬
‫لقد غار حممد من هرقل إبن زيوس فسرق األسطورة وحبكها على حسب‬
‫؟ قالت ‪ :‬جناحان ‪ ،‬قال ‪ :‬فرس له جناحان ؟ قالت ‪ :‬أما مسعت ‪ :‬أن لسليمان‬
‫عقول البُ سطاء !‬
‫خيال هلا أجنحة ؟ قالت ‪ :‬فضحك حىت رأيت نواجذه‬
‫و العديد من األساطري امل شاهبة هلذه األسطورة ‪ ،‬يكفي كتابة الفرس الطائر‬
‫ال راوي‪ :‬عائشة احملدث‪ :‬األلباين ‪ -‬املصدر‪ :‬صحيح أيب داود ‪ -‬الصفحة أو الرقم‪:‬‬ ‫أو اخليل الطائر يف أي ُ‬
‫لغة من لغات العامل و ستظهر لكم أساطري كثرية تعود‬
‫‪4932‬‬
‫آلالف السنني قبل حممد !‬
‫خالصة حكم احملدث‪ :‬صحيح‬
‫‪ - 3‬قدم رسول اهلل ‪ -‬صلى اهلل عليه وسلم ‪ -‬من غزوة تبوك – أو حنني ‪ -‬؛ ويف‬
‫ختيّ ل ع ــزي ــزي ال ــق ــارئ أن تُشاهد شخص يقول ل ــك ‪ :‬ال ــب ــارح ــة لي الً ذهبت‬
‫سهوهتا سرت ‪ ،‬فهبت الريح فكشفت ناحية السرت عن بنات لعائشة – لعب ‪، -‬‬
‫للسماء على ظهر حصان له أجنحة ! ماذا سيكون موقفك ؟! ستضحك‬
‫فقال ‪ :‬ما هذا يا عائشة ؟ ! ‪ ،‬قالت ‪ :‬بنايت ‪ ،‬ورأى بينهن فرسا له جناحان من‬
‫ح ــى تُــب ــان ن ــواج ــذك كما ضحك حممد رس ــول ال ــع ــرب ؟! نعم بكل تأكيد‬
‫رقاع ‪ ،‬فقال ‪ :‬ما هذا الذي أرى وسطهن ؟ ! ‪ ،‬قالت ‪ :‬فرس ‪ ،‬قال ‪ :‬وما هذا الذي‬
‫ستضحك ؛ فهل يوجد أحصنة تطري ؟! أطارت العقول حىت تُص ّدق هكذا‬
‫عليه ؟ ! ‪ ،‬قالت ‪ :‬جناحان ‪ ،‬قال ‪ :‬فرس له جناحان ؟ ! ‪ ،‬قلت ‪ :‬أما مسعت أن‬
‫ختريف ؟! حىت الرسول ضحك على هذه اخلُرافة قبل أن يتبىن فكرة ُم شاهبة‬
‫لسليمان خيال هلا أجنحة ؟ ! قالت ‪ :‬فضحك ‪ ،‬حىت رأيت نواجذه‬
‫هلا ‪ /‬لنق رأ ‪:‬‬
‫ال راوي‪ :‬عائشة احملدث‪ :‬األلباين ‪ -‬املصدر‪ :‬ختريج مشكاة املصابيح ‪ -‬الصفحة‬
‫لنق رأ ‪:‬‬
‫أو الرقم‪3201 :‬‬
‫‪97‬‬ ‫‪96‬‬
‫اسطورة ‪ Pegasus‬اليونانية و براق حممد الطائر‬ ‫اسطورة ‪ Pegasus‬اليونانية و براق حممد الطائر‬

‫فربطته باحللقة ال ــي يربط به األنبياء ‪ .‬ق ــال ‪ ،‬مث دخلت املسجد فصليت فيه‬ ‫خالصة حكم احملدث‪ :‬إسناده صحيح‬
‫ركعتني ‪ .‬مث خرجت ‪ .‬فجاءين جربيل عليه السالم بإناء من مخر وإناء من لنب ‪.‬‬ ‫إذن القصة ُم ضحكة كما ضحك عليها حممد رسول العرب ! فهل سيعتب‬
‫فاخرتت اللنب ‪ .‬فقال جربيل صلى اهلل عليه وسلم ‪ :‬اخرتت الفطرة ‪ .‬مث عرج بنا‬ ‫علينا املؤمنني إن ضحكنا على بُراقهم الطائر ال ــذي طار مبحمد للسماء‬
‫إىل السماء ‪ .‬فاستفتح جربيل فقيل ‪ :‬من أنت ؟ قال ‪ :‬جربيل ‪ .‬قيل ‪ :‬ومن معك‬ ‫السابعة ؟!‬
‫؟ قال ‪ :‬حممد ‪ .‬قيل ‪ :‬وقد بعث إليه ؟ قال ‪ :‬قد بعث إليه ‪ .‬ففتح لنا ‪ .‬فإذا أنا‬
‫بآدم ‪ .‬فرحب يب ودعا يل خبري ‪ .‬مث عرج بنا إىل السماء الثانية ‪ .‬فاستفتح جربيل‬ ‫الرواية بلسان محمد‬
‫عليه السالم ‪ .‬فقيل ‪ :‬من أنت ؟ قال ‪ :‬جربيل ‪ .‬قيل ‪ :‬ومن معك ؟ قال ‪ .‬حممد‬ ‫حمم د ذات يوم ي ّدعي أنهُ طار للسماء السابعة على فرس ُم نّ ح ويصفه‬ ‫وقف ّ‬
‫‪ .‬قيل ‪ :‬وقد بعث إليه ؟ قال ‪ :‬قد بعث إليه ؟ ففتح لنا ‪ .‬فإذا أنا بابين اخلالة‬ ‫لنا مسلم يف صحيحه قائ الً ‪ :‬دابة أبيض يقال له ال رباق ‪ .‬فوق احلمار ودون‬
‫عيسى بن مرمي وحيىي بن زكريا صلوات اهلل عليهما ‪ .‬فرحبا ودعوا يل خبري ‪ .‬مث‬ ‫البغل ‪ .‬يا سالم!‬
‫عرج يب إىل السماء الثالثة ‪ .‬فاستفتح جربيل ‪ .‬فقيل ‪ :‬من أنت ‪ .‬قال ‪ :‬جربيل‬ ‫كيف ضحك ساخ راً على خيول سليمان الطائرة كما تقول الطفلة عائشة‬
‫‪ .‬قيل ‪ .‬ومن معك ؟ قال ‪ :‬حممد صلى اهلل عليه وسلم ‪ .‬قيل ‪ :‬وقد بعث إليه ؟‬ ‫أم املؤمنني وبعدها أخرتع نفس القصة ؟!‬
‫قال ‪ :‬قد بعث إليه ‪ .‬ففتح لنا ‪ .‬فإذا أنا بيوسف صلى اهلل عليه وسلم ‪ .‬إذا هو‬ ‫لنق رأ القصة ‪:‬‬
‫قد أعطي شطر احلسن ‪ .‬فرحب ودعا يل خبري ‪ .‬مث عرج بنا إىل السماء ال رابعة ‪.‬‬ ‫َس ـ َـرى بِ َع ْب ِد ِه لَ ْي ًل ِم ـ َـن الْ َم ْس ِج ِد ْ‬
‫الَ ـ َـر ِام إِ َل‬ ‫ْ‬ ‫أ‬ ‫ي‬ ‫يقول القرآن ‪﴿ :‬س ب ح ا َن الَّـ ِ‬
‫ـذ‬ ‫ُْ َ‬
‫الس ِم يع الْ ب ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِِ‬
‫فاستفتح جربيل عليه السالم ‪ .‬قيل ‪ :‬من هذا ؟ قال ‪ :‬جربيل ‪ .‬قيل ‪ :‬ومن معك‬ ‫ص ريُ)‬ ‫ص ى الَّذي بَ َار ْك نَ ا َح ْولَ هُ ل نُ ِريَهُ م ْن آَيَات نَ ا إنَّه ُه َو َّ ُ َ‬ ‫الْ َم ْس ج د ْالَقْ َ‬
‫؟ قال ‪ :‬حممد ‪ .‬قال ‪ :‬وقد بعث إليه ؟ قال ‪ :‬قد بعث إليه ‪ .‬ففتح لنا فإذا أنا‬ ‫‪ .‬يُسميها املسلمني اإلس ـراء هي رحلة قام هبا حممد على ال ـراق [ احلصان‬
‫بإدريس ‪ .‬فرحب ودعا يل خبري ‪ .‬قال اهلل عز وجل ‪ { :‬ورفعناه مكانا عليا } [‬ ‫الطائر ] مع جربيل ليال من بلده مكة إىل بيت املقدس يف فلسطني‪ ،‬وأنه انتقل‬
‫‪ / 19‬مرمي ‪ /‬آية ‪ ] 57‬مث عرج بنا إىل السماء اخلامسة ‪ .‬فاستفتح جربيل ‪ .‬قيل‬ ‫بعد من القدس يف رحلة مساوية بصحبة جربيل أوحسب التعبري اإلسالمي‬
‫من هذا ؟ قال ‪ :‬جربيل ‪ .‬قيل ‪ :‬ومن معك ؟ قال ‪ :‬حممد ‪ .‬قيل ‪ :‬وقد بعث إليه‬ ‫عرج به إىل املآل اآلعلى عند سدرة املنتهى أي إىل أقصى مكان ميكن الوصول‬
‫؟ قال ‪ :‬وقد بعث إليه ‪ .‬ففتح لنا ‪ .‬فإذا أنا هبارون صلى اهلل عليه وسلم ‪ .‬فرحب‬ ‫إليه يف السماء وعاد بعد ذلك يف نفس الليلة‪.‬‬
‫ودع ــا يل خبري ‪ .‬مث ع ــرج إىل السماء السادسة ‪ .‬فاستفتح جربيل عليه السالم ‪.‬‬ ‫طبع اً مىت حدثت القصة ؟ ال أحد يعلم كالعادة إختالف فقيل‪ :‬قبل اهلجرة‬
‫قيل ‪ :‬من ه ــذا ؟ ق ــال ‪ :‬جربيل ‪ .‬قيل ‪ :‬وم ــن معك ؟ ق ــال ‪ :‬حممد ‪ .‬قيل ‪ :‬وقد‬ ‫بسنة‪ ،‬وقيل‪ :‬بثالث سنني‪ ،‬وقيل‪ :‬خبمس سنني !‬
‫بعث إليه ؟ قال ‪ :‬قد بعث إليه ‪ .‬ففتح لنا فإذا أنا مبوسى صلى اهلل عليه وسلم‬ ‫يقول حممد ‪:‬‬
‫‪ .‬فرحب ودعا يل خبري ‪ .‬مث عرج إىل السماء السابعة ‪ .‬فاستفتح جربيل ‪ .‬فقيل ‪:‬‬ ‫« أتيت ب ــال ـراق ( وه ــو داب ــة أبيض طويل ف ــوق احلمار ودون البغل ‪ .‬يضع‬
‫من هذا ؟ قال ‪ :‬جربيل ‪ .‬قيل ‪ :‬ومن معك ؟ قال ‪ :‬حممد ‪ .‬قيل ‪ .‬وقد بعث إليه‬ ‫حافره عند منتهى طرفه ) ق ــال ‪ ،‬فركبته حىت أتيت بيت املقدس ‪ .‬ق ــال ‪،‬‬
‫‪99‬‬ ‫‪98‬‬
‫اسطورة ‪ Pegasus‬اليونانية و براق حممد الطائر‬ ‫اسطورة ‪ Pegasus‬اليونانية و براق حممد الطائر‬

‫؟ قال ‪ :‬قد بعث إليه ‪ .‬ففتح لنا ‪ .‬فإذا أنا بإب راهيم صلى اهلل عليه وسلم ‪،‬‬
‫مسندا ظهره إىل البيت املعمور ‪ .‬وإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألف ملك‬
‫ال يعودون إليه ‪ .‬مث ذهب يب إىل السدرة املنتهى ‪ .‬وإن ورقها كآذان الفيلة ‪.‬‬
‫وإذا مثرها كالقالل ‪ .‬قال ‪ ،‬فلما غشيها من أمر اهلل ما غشي تغريت ‪ .‬فما‬
‫أحد من خلق اهلل يستطيع أن ينعتها من حسنها ‪ .‬فأوحى اهلل إيل ما أوحى ‪.‬‬
‫ففرض علي مخسني صالة يف كل يوم وليلة ‪ .‬فنزلت إىل موسى صلى اهلل عليه‬
‫وسلم ‪ .‬فقال ‪ :‬ما فرض ربك على أمتك ؟ قلت مخسني صالة ‪ .‬قال ‪ :‬ارجع‬
‫إىل ربك ‪ .‬فاسأله التخفيف ‪ .‬فإن أمتك ال يطيقون ذلك ‪ .‬فإين قد بلوت بين‬
‫إس رائيل وخربهتم ‪ .‬قال ‪ ،‬فرجعت إىل ريب فقلت ‪ :‬يا رب ! خفف على أميت‬
‫‪ .‬فحط عين مخسا ‪ .‬فرجعت إىل موسى فقلت ‪ :‬حط عين مخسا ‪ .‬قال ‪ :‬إن‬
‫أمتك ال يطيقون ذلك فارجع إىل ربك فاسأله التخفيف ‪ .‬قال ‪ ،‬فلم أزل أرجع‬
‫بني ريب تبارك وتعاىل وبني موسى عليه السالم حىت قال ‪ :‬يا حممد ! إهنن مخس‬
‫صلوات كل يوم وليلة ‪ .‬لكل صالة عشر ‪ .‬فذلك مخسون صالة ‪ .‬ومن هم‬
‫حبسنة فلم يعملها كتبت له حسنة ‪ .‬فإن عملها كتبت له عش را ومن هم‬
‫بسيئة فلم يعملها مل تكتب شيئا ‪ .‬فإن عملها كتبت سيئة واحدة ‪ .‬قال ‪:‬‬
‫فنزلت حىت انتهيت إىل موسى صلى اهلل عليه وسلم فأخربته ‪ .‬فقال ‪ :‬ارجع‬
‫إىل ربك فاسأله التخفيف ‪ .‬فقال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم فقلت ‪ :‬قد‬
‫رجعت إىل ريب حىت استحييت منه « ‪.‬‬
‫ال راوي‪ :‬أنس بن مالك احملدث‪ :‬مسلم ‪ -‬املصدر‪ :‬صحيح مسلم ‪ -‬الصفحة‬
‫أو الرقم‪162 :‬‬
‫خالصة حكم احملدث‪ :‬صحيح‬
‫‪andy‬‬
‫من صفحة‬
‫‪https://www.facebook.com/ProphetsAreFakes‬‬
‫‪101‬‬ ‫‪100‬‬
‫فصل من كتاب "التارو فى روح الزن"‬ ‫فصل من كتاب "التارو فى روح الزن"‬

‫لوحده‪.‬‬ ‫اع ــت ــادت ع ــل ــي ــه ف ــق ــد ق ــام ــوا بتنشئته‬
‫االسد الكبري مل يصدق عينيه وجرى‬ ‫م ــن ــذ ان ك ــان ش ــب ــل‪ .‬ب ــال ــرغ ــم م ــن ان ــه‬ ‫فصل من كتاب ‪(v‬لعبة الحياة) للمتأمل أوشو‬
‫خلف احل ــش ــد‪ ،‬طبيعى ك ــل اخل ـراف‬ ‫ك ــان خ ــروف غ ــري ــب الشكل ولكنه‬
‫ب ــدأت ىف اجل ــرى م ــع إح ــداث صوت‬ ‫بالنسبه هلم كان خروف‪ .‬ألنه اعتاد‬ ‫التشريط (بمعنى العالمات لكل شخصية)‬
‫اخل ـراف وقت الفزع واألس ــد الصغري‬ ‫اك ــل احلشائش ال ــى ع ــادة ال يأكلها‬
‫أخ ـ ــذ ىف اجل ـ ــرى اي ــض ــا م ــع إح ـ ــداث‬ ‫األس ـ ــود‪ .‬ف ــاألس ــود تفضل امل ــوت عن‬ ‫خيافون من الوحدة‪ ،‬فمن اخلطر ان‬ ‫أى ش ــئ ت ــع ــل ــم ــت ــه م ــن اآلخ ــري ــن ال‬
‫نفس صوت اخل راف‪.‬‬ ‫اك ـ ــل احل ــش ــائ ــش ف ــك ــان ه ـ ــذا األس ــد‬ ‫تكون وحيدة ألنه ىف ذلك الوقت‬ ‫مي ــث ــل ــك‪ ،‬ف ــه ــذه ت ــدع ــى «ش ــخ ــص ــي ــة»‬
‫ب ــع ــد ص ــع ــوب ــة وج ــه ــد ك ــب ــر إستطاع‬ ‫يأكل احلشائش وظل نباتى‪.‬‬ ‫اى ح ــي ــوان م ــت ــوح ــش ي ــس ــت ــط ــي ــع ان‬ ‫وع ــل ــي ــك ان ت ــس ــت ــع ــي ــد م ـ ــرة اخ ــرى‬
‫األس ـ ـ ــد ال ــك ــب ــر اإلم ـ ــس ـ ــاك ب ــال ــش ــب ــل‬ ‫وقد اعتاد ان يكون ىف وسط احلشد‬ ‫ينقض عليه ولذا البد هلم ان يكونوا‬ ‫الفطرة الىت جئت هبا حني اتيت اىل‬
‫واخذ يبكى الشبل وينوح متاما مثل‬ ‫حىت يشعر باألمان بالرغم من انه كان‬ ‫ىف مجع‬ ‫هذه الدنيا‬
‫اخل ـراف‪ .‬وج ــر األس ــد الكبري الشبل‬ ‫اطول واضخم من اخل راف‪ .‬ولكنه مل‬ ‫األس ـ ـ ــود مت ــش ــي وح ــي ــدة ىف اق ــال ــي ــم‬ ‫البد لك ان جتد جوهرك قبل ان يبدأ‬
‫اىل بركة ماء قريبة‪.‬‬ ‫يعلم ذلك‪ .‬ومل يزجر ابدا كأسد ألنه‬ ‫ش ــاس ــع ــة والي ــس ــم ــح ــون ب ــاق ـراب اى‬ ‫الناس ىف وضع طبقات من افكارهم‬
‫الشبل كان يشعر خبوف شديد ومل‬ ‫ايضا اليعلم كيف‪.‬‬ ‫احد من اقليمهم‬ ‫‪.‬‬
‫يكن يريد الذهاب مع األسد وكان‬ ‫كان حيلم كاخلروف خياف كاخلروف‪.‬‬ ‫وىف بعض االح ــي ــان ت ــك ــون املساحة‬ ‫ه ــن ــاك م ــث ــل ق ـ ــدمي م ــن ال ــش ــرق ع ــن‬
‫ش ــدي ــد امل ــق ــاوم ــة وب ــال ــط ــب ــع كشبل‬ ‫كان خياف من احليوانات املتوحشة‬ ‫ال ــى يتحرك هبا األس ــد بضعة اميال‬ ‫انثى االس ــد ىف طريقها قف زا من تل‬
‫ك ــان أق ــوى م ــن األس ــد ال ــك ــب ــر ول ــو‬ ‫الىت ال تستطيع ان تؤذيه‪.‬‬ ‫وال يستطيع اى اس ــد أخ ــر الدخول‬ ‫اىل اآلخ ــر سقط وليدها ب ــن حشد‬
‫ك ــان يعلم ه ــذا مل يكن يسمح أن‬ ‫وىف يوم من االيام رأى أسد كبري هذا‬ ‫ىف م ــن ــط ــق ــت ــه واال س ـ ـ ــوف ت ــك ــون‬ ‫من اخلرفان‪ .‬اخذ اخلرفان ىف تغذية‬
‫يؤخذ بالقوة فكان من املمكن ان‬ ‫املشهد مل يكن قد رأى هذا اخللط بني‬ ‫ال ــع ــواق ــب وخ ــي ــم ــة وت ــن ــت ــه ــى امل ــع ــرك ــة‬ ‫الشبل ظنا منهم ان ــه اح ــد اخل ـراف‬
‫يقتل األسد الكبري ولكنه يعرف عن‬ ‫األس ــد واخل ـراف من قبل ‪ .‬فلم يكن‬ ‫مب ــوت احدهم أو االثنني معا‪ .‬ولذا‬ ‫وليس بأسد‪ .‬ولذا كان ميشي وسط‬
‫نفسه ان ــه خ ــروف‪ ،‬ل ــذا مس ــح لألسد‬ ‫هناك اى صداقة بني األسد واخلروف‬ ‫يتجولون وحيدين‪.‬‬ ‫اخل راف وكأنه واحد منهم‪.‬‬
‫ال ــك ــب ــر أن ي ــف ــع ــل ب ــه ه ــك ــذا ب ــال ــق ــوة‬ ‫قبال ‪ ،‬ال يوجد احتمال لذلك‪.‬‬ ‫أم ــا ه ــذا ال ــش ــب ــل امل ــس ــك ــن مل يكن‬ ‫اخلروف الميشي وحيدا ابدا‪ ،‬لكنهم‬
‫ودون رغبته حىت انه ظن انه سوف‬ ‫ولكن اخلروف كان ميشي مع األسد‬ ‫ي ــدرى ان ــه أس ــد مل يكن ل ــدي ــة فكرة‬ ‫ميشون ىف حشد متالصقني ىف بعض‬
‫مي ــوت من بطش األس ــد الكبري متاما‬ ‫ب ــدون اى خ ــوف واألس ــد اي ــض ــا كان‬ ‫عن هيئته وظل يكرب‪ ،‬ولكن اخل راف‬ ‫االحيان‪،‬‬
‫مثل اى خروف‪.‬‬ ‫ميشي مع اخلروف خوفا من ان ميشي‬
‫‪103‬‬ ‫‪102‬‬
‫فصل من كتاب "التارو فى روح الزن"‬ ‫فصل من كتاب "التارو فى روح الزن"‬

‫من الشخصية وال ــوص ــول اىل امل ــوارد األساسية بداخلك ملمارسة احل ــي ــاة‪ .‬تفردك‬ ‫ل ــت ــع ــرف ذل ــك الب ــد ل ــك م ــن احل ــف ــر‬ ‫وألول مرة رأى الشبل وجهه ووجه‬
‫والشعلة ال ــى ات ــي ــت هب ــا م ــن رح ــم أم ــك‪ .‬ف ــإن ــك متفرد منذ األزل‪ .‬فهى الوعي‬ ‫بعمق داخل النفس بني كل القمامة‬ ‫األسد الكبري ىف الربكة وفجأة كان‬
‫االساسي بداخلك‪.‬‬ ‫امل رتاكمة داخلك بإسم الشخصية‪.‬‬ ‫هناك زئري‪ ،‬من اعماق كينونته جاء‬
‫فتذكر اي شئ تعلمته من اآلخرين ليس أنت والبد لك من البحث عن فطرتك‬ ‫البد لك أن تعود طفل من جديد ‪،‬‬ ‫زئري يهز اجلبال من حوله‪.‬‬
‫مرة أخرى البد لك من العثور على كينونتك قبل ان يضع الناس طبقات عليها‬ ‫ما تعرفه عن ذاتك هو شخصيتك‬ ‫وق ــال األس ــد ال ــك ــب ــر ل ــل ــش ــب ــل «ل ــق ــد‬
‫من آرائهم قبل ان يبدأوا بتعليمك وتثقيفك‪.‬‬ ‫‪ ،‬انت تعرف ان لك اسم خاص بك‬ ‫أمتمت عملى» واآلن أنت حلالك‪،‬‬
‫ف ــه ــل ت ــع ــى ان ــه مل ي ــك ــن ل ــدي ــك اس ــم‬ ‫فأنت اآلن تعلم من أنت‪.‬‬
‫عندما أتيت اىل هذا العامل؟‬ ‫ال ــش ــخ ــص ــي ــة ه ــى ال ــى ي ــع ــط ــي ــه ــا لك‬
‫ف ــل ــدي ــك ق ــدر م ــن التعليم ق ــدر من‬ ‫اجملتمع‪ ،‬الثقافة‪ ،‬التحضر‪ ،‬التعليم‬
‫الكفاءة وتعلم انك مل تولد طبيب‬ ‫من اآلخرين‪ .‬يعطيك الناس آرائهم‬
‫أو مهندس أو مدرس‪.‬‬ ‫عنك وأنت جتمع هذه اآلراء وتتكون‬
‫ف ــه ــذه األش ـ ــي ـ ــاء أض ــي ــف ــت ع ــل ــي ــك‪.‬‬ ‫منها شخصيتك‪.‬‬
‫درجاتك العلمية‪ ،‬امسك‪ ،‬شهرتك‪،‬‬ ‫ل ــق ــد ك ــن ــت م ـ ــوج ـ ــودا ه ــن ــا خ ــال‬
‫كل هذه األشياء أضيفت لك‪ .‬وهذا‬ ‫ال ــث ــاث س ــن ــوات االوىل م ــن ع ــم ــرك‬
‫فقط هو ماتعلمه انت عن نفسك‬ ‫ولكن التتذكر شيئا منها‬
‫أما اذا جتردت من كل هذه اآلشياء‬ ‫ك ــن ــت ىف رح ــم أم ــك ‪ 9‬أش ــه ــر دون‬
‫م ــن س ــت ــك ــون؟ م ــاذا ستصبح؟ فقط‬ ‫ت ــذك ــر ش ــئ م ــن ه ــذا اي ــض ــا‪ .‬وسبب‬
‫صفر‪ ،‬قطعه صخر بدون أى نقوش‪.‬‬ ‫عدم تذكرك ألى شيء ىف هذا السن‬
‫شخصيتك ه ــى ك ــل م ــا تعرفه عن‬ ‫ه ــو ع ـ ــدم وج ـ ــود ش ــخ ــص ــي ــة ل ــك ىف‬
‫نفسك‪ ،‬عن ذاتك‪ ،‬أحاول تبسيطها‬ ‫ذال ــك ال ــوق ــت‪ ،‬فالشخصية ه ــى أن‬
‫ع ــل ــى ق ــدر امل ــس ــت ــط ــاع ح ــى ت ــن ــت ــب ــه‪.‬‬ ‫ت ــأخ ــذ ب ــآراء اآلخ ــري ــن وت ـراك ــم ه ــذه‬
‫ت ــف ــردك ه ــو ال ــش ــئ ال ــوح ــي ــد ال ــذى ال‬ ‫اآلراء وختلق هوية غري حقيقية فكرة‬
‫تعلمه أنت بالرغم من انه حقيقة‪.‬‬ ‫معينة عن «من أنا»‬
‫أل ــت ــأم ــل ه ــو العمل جبهد للتخلص‬ ‫أن ــت التعلم حقيقة م ــن أن ــت ألنه‬
‫‪105‬‬ ‫‪104‬‬
107 106
‫شكراً‪...‬عيشوا سعداء‬

You might also like