Professional Documents
Culture Documents
يبي
تابعت مثل غريي من املواطنني ،حالة الصخب التي صاحبت ظهور مرشوع الدستور
الليبي ،يف األيام األخرية من شهر يوليو عام 2017م.
وحاالت الصخب يف األصل نادرة عند ظهور الدساتري ،التي تصاحبها يف العادة حالة من
الزهو واالبتهاج؛ لدالالهتا العظيمة ،باعتبارها باكورة ثامر الدولة ،غري أن حالة الصخب
والوالدة العسرية ملرشوع الدستور تستدعي تأمالت عميقة .
واحلق ،إنني اطلعت بتمعن واهتامم شديد عىل مرشوع الدستور ،ومل يكن يف نيتي التعليق
عليه كتابة وبشكل علني ،بسبب ظالل كثرية والتباسات مل ترتك ألمثايل غري واجب الدعاء
ملن وضعتهم األقدار يف طريق الشعب ،بعد أن قمنا بواجب النصح عندما سمحت
الظروف ،غري أن اتصاالت كثرية وصلتني من شخصيات وطنية مرموقة ،وزمالء أعزاء من
أساتذة اجلامعات ،وبعض ممن كانوا طاليب من املهتمني بالشأن العام ،طالبتني باعتباري
أستاذا للقانون الدستوري ،بإعطاء رأي يف مرشوع الدستور ،وهو رأي قد يساعد عىل بناء
موقف موضوعي من املرشوع .
.1إن موقفي من " فكرة الدستور " كان معروفا لعدد غري قليل من الناس من صفوة
املجتمع ونخبه الفكرية والثقافية والسياسية ،فمنذ أكثر من ربع قرن مىض جاهرت
برأيي يف أمهية الدستور للدولة احلديثة ،برصف النظر عن األسس األيديولوجية التي
تقوم عليها ،فالدستور الزمة من لوازم الدولة ورشط من رشوط انتظامها واستقرارها،
1
فعالقة الدولة بالدستور هي عالقة علة بمعلوهلا ،يدور معها وجود ًا وعدم ًا ،إذ حيث
توجد الدولة ،جيب أن يوجد الدستور .
تلك قاعدة ،حتولت مع التجارب اإلنسانية إىل" بدهية " ليست يف حاجة إىل إثبات ،
والبدهية كام يعرف" أهل املنطق " حقيقة تواتر إثباهتا ،بالتجربة والعلم والعقل ،مئات
املرات ،بحيث تصبح حماولة جتديد إثباهتا ال ختلو من العبث !
إن األيديولوجية التي يقوم عليها أي نظام سيايس ،ال تلعب أي دور من حيث وجود
الدستور من عدمه ،بل يظهر دورها يف مضمون الدستور ،فهي " املأخذ " الذي يستلهم
منه الدستور مضامينه ،وقيمها الرئيسية هي ما يصب يف نصوص الدستور .
ويف ذروة جماد الت فكرية وسياسية كثرية ،شهدهتا بالدنا طوال العقود املاضية ،عن احلاجة
إىل الدستور يف ظل حكم يقوم عىل الديموقراطية املبارشة ،كنت ضمن أصوات " قليلة
جد ًا" تنادي برضورة كتابة الدستور لتنظيم الدولة ،برصف النظر عن عقيدهتا الفكرية ،أو
شكلها السيايس ،أو نوع مؤسساهتا الدستورية ،وقد جهرت هبذا الرأي يف وجه رأي آخر
يذهب إىل تبسيط املسألة بالقول ( :إ ّن الدستور هو عبارة عن قيد عىل السلطة احلاكمة ،
هيدف إىل ّ
غل يد السلطة ،ويمنعها من التعدي عىل الشعب ،وحيدد للحكومة كيفية حكمها،
أما حني يتحول الشعب نفسه إىل سلطة ويامرس احلكم مبارشة ،فإنه ال معنى لتقييده
بدستور ،فسلطة الشعب "ذات طبيعة مطلقة" ال جيب أن تقيد بأي قيد ،وهو ما ينفي
احلاجة للدستور يف ّ
ظل النظام الديموقراطي املبارش).
تلك االستنتاجات -كانت يف نظري -مبن ّية عىل قراءة سطحية ساذجة لألفكار والعقائد
السياسية ،وسوء الفهم ملتطلبات الدولة العرصية احلديثة وهو ما دفعني -يف وقت صعب
– عىل املعارضة الشديدة هلذه اآلراء يف أروقة اجلامعات وعىل منابر اإلعالم وعىل صفحات
اجلرائد ،وقد دفعت بعض طاليب الذين امتلكوا الشجاعة لبحث هذه اإلشكالية يف رسائل
2
املاجستري والدكتوراه التي أرشفت عليها ،ويف كتبي األربعة عن القانون الدستوري أعلنت
موقفي الثابت ،ويف كتايب األشهر" الوسيط يف القانون الدستوري " الصادر أواخر القرن
عبت عن موقفي النهائي ،وهو كتاب درسه آالف الطالب ،وا ّطلع عليه مئات
املايضّ ،
املهتمني ،وهو بني يدي الناس حتى هذه الساعة ،قلت :إ ّن الدولة هي العلة التي تنتج
معلوهلا " الدستور" ليس يف ذلك زيادة أو نقصان.
.2رغم إحجامي الطويل عن العمل السيايس ،منذ عام 2011م ،واكتفائي بالدعاء
لبالدي وأهلها يف النجاح ببناء أفضل مما كان ،فقد خرجت ملرات قليلة عن هذا القرار
الصارم ،بتوجيه النصح ملن قدرت أن نصيحتي قد تفيده ،من أولئك الذين وضعتهم
املقادير يف مراكز السلطان ،وذلك عمل أردت به وجه اهلل ،ومن أجل صالح الوطن ،
رغم مرارة الظلم وقسوة االضطهاد ...
ومن بني الذين تواصلت معهم ،ووضعت معرفتي حتت ترصفهم " اهليئة التأسيسية لصياغة
مرشوع الدستور " بحكم أن اهليئة ذات طابع وطني ،ال شأن هلا بالرصاع السيايس املرير،
وليس من أهدافها تكريس مغالبة ظرفية لطرف ضد آخر ،وقد كان من حسن احلظ أن من
بني أعضاء اهليئة زمالء ومعارف ،يسهل عليهم إدراك مقاصدي ،ولدهيم القدرة عىل متييز
دوائر الظالل عن خطوط الضوء يف املايض واحلارض واملستقبل.
لقد التقيت مع بعض أعضاء اهليئة يف مناسبات متنوعة ،ويف ثالث مرات ،كانت كلها جادة
ورصحية ومحيمة يف أغلب األحيان.
وال أريد أن أشغل الناس بتفاصيل هذه اللقاءات التي امتدت ساعات طويلة ،لكن
خالصتها كانت ما ييل:
أ .رشحت أمهية ما يقومون به عىل مستوى التاريخ ،فكتابة الدساتري تضع أصحاهبا يف
مراكز علية من التاريخ ،باعتبارهم اآلباء املؤسسني ،وقد أضحى هذا التعبري رمزا
3
من رموز العظمة هلم ولغريهم من األبناء واألحفاد ،ويف معظم الدول تزخر
املتاحف بصورهم ومتاثيلهم وأوراقهم اعرتافا بفضائلهم ،فليس هناك أكثر جالال
من كتابة دستور يضع البالد عىل الطريق الصحيح ،برشط أن يرتفع هؤالء الرجال
ملستوى املسؤولية .
وقد ذكّرهتم بأن املهام اجلليلة ،تدفع ببعض الناس للحسد ،أما قليلهم العاقل فتصيبه
"الغبطة" فال أحد ال يتمنى أن يكون يف موقعهم ،وعليهم اإلمساك بالتاريخ ،حتى ال
ينفلت من بني أيدهيم.
ب .وضعت بني أيدهيم رؤيتي للدستور ،وخالصة جتاريب مع أعامل القانون ،وألنني
تلمست بعض االنحراف املبكر يف املسودات األولية التي اطلعت عليها ،فقد
حذرت من االنزالق نحو مسائل ليست من صميم الدساتري ومشتمالهتا ،وليست
من رضورات تنظيم الدولة ،وقد رشحت – عىل قدر ما أستطيع – فلسفة الدساتري
ومشتمالهتا ،وأن أخطر ما يصيب صناعة الدساتري هو االنغامس يف رصاعات
الساعة ،واالستجابة للعواطف واألهواء والضغوط ،التي تدفع لغرفة الدستور
قضايا ال تنتمي لعائلة الدساتري.
ج .نصحت بأن تنظم ألعضاء اهليئة سلسلة من الدورات لالستامع إىل أكب أساتذة الفكر
والفلسفة والسياسة واالقتصاد والقانون الدستوري ،وإجراء مناقشات معمقة حول
األنظمة السياسية واملؤسسات الدستورية وكيفية بناء الدول ،فقد تولدت لدي
مشاعر عن حاجة أعضاء اهليئة أو بعضهم عىل األقل إىل خمزون معريف قد يعينهم عىل
إنجاز مهمتهم ،ذلك أن نصوص الدستور تبنى عىل الفلسفات الكبى ،والنظريات
الفقهية الراسخة ،يف الفلسفة والفكر والسياسة والرتبية واالقتصاد ،وليست قانونا
لفض النزاعات اليومية الطارئة.
4
د .فتح حوار جمتمعي واسع حول القضايا الدستورية الكبى ،مثل شكل وطبيعة
النظام السيايس ،ونوع احلكومة املرغوبة ،والتوجهات الثقافية واالجتامعية
واالقتصادية ،ومقومات الدولة وهويتها ورموزها وشعاراهتا ،وذلك بقصد "
استظهار " إرادة الشعب ومعرفة انشغاالته وتوجهاته ومهومه وطموحاته ،فرغم أن
اهليئة مكلفة بوضع مرشوع الدستور ،إال إن من واجباهتا تلمس إرادة الشعب،
وعدم التعويل عىل إرادهتا وحدها ،فالقضايا الكبى شأن عام ال تصح النيابة فيه،
وال يقبل فيه ادعاء املعرفة واإلدراك ،وإذا كانت الظروف ال تسمح بإجراء سلسلة
من االستفتاءات ،فإن من الواجب إجراء حوار جمتمعي شامل.
ذ .وقد كان آخر النصائح :وجوب االطالع عىل أفضل دساتري العامل ،واستخالص
الدروس من جتارب األمم التي قطعت أشواطا طويلة يف التنظيم الدستوري ،وقد
بنيت هذه النصيحة عىل معلومات وصلتني تذهب إىل تأثر اهليئة بتجارب وضع
دساتري يف دول جماورة ،فقد كنت أعرف عىل وجه الدقة مقدار اخللل يف هذه
الدساتري ،التي تعهدهتا – يف األصل – أيادي ليست خمتصة ،وهو ما جعلها دساتري
مذمومة يف أوطاهنا ،ترتنح بني احلياة واملوت ،وقد فقدت قداستها قبل الوقوف عىل
أقدامها .
.3بعد شهور ظهرت من اهليئة وثيقة دستورية حتت اسم " خمرجات جلنة العمل ،" 2وقد
كانت فيام يبدو الصياغة شبه النهائية ملرشوع الدستور ،وبعد دراستها بإمعان ،كتبت
عب عن
مقالة انترشت بني الليبيني بعوان " مالحظات عىل مرشوع الدستور الليبي " ،ت ِّ
خيبة اآلمال ،وتدعو إىل الرتيث يف الدفع هبذا املرشوع ،ذكرت فيها األخطاء الكبى
والفادحة يف املرشوع ،وهي مقالة ركّزت عىل القضايا الدّ ستور ّية الكبى ،وليس عىل
5
مواد املرشوع ،وقد عرضت أربع مسائل تتعلق بعدم مالئمة الوقت لصدور الدستور،
وانحراف املرشوع عن القضايا الدستورية نحو القضايا الفرعية ذات الطبيعة القانونية
والالئحية ،وافتقار املرشوع للرؤية الفكرية والسياسية التي جيب أن يقوم عليها،
وأخريا أمهية الصياغة املتينة واجلميلة للدستور ،وبنا ًء عليه نصحت بالرتيث وعدم
توريط الشعب يف دستور مفكك ومشوب بالعيوب ،فهو إذا صدر – هبذا الشكل –
سيكون مصدرا لألزمات وليس حلل ما هو قائم منها.
إنني أظن ّ
أن هذه العيوب قد نجمت عن األسباب التالية :
.1ينبعث اخل طأ الرئييس من بداية اختيار آلية وضع الدستور ،فقد نص اإلعالن
الدستوري عىل اختيار هيئة تأسيسية لكتابة الدستور ،ووضع آليات معقدة إلقراره،
ومع أن أسلوب اهليئات التأسيسية يعد أسلوبا مثاليا لصناعة الدساتري بطريقة
ديموقراطية ،تتضاعف جرعاهتا باالستفتاء الشعبي ،إال أن تنفيذ ذلك يتطلب عدد ًا
من الرشوط املوضوعية لضامن نجاحه ،ويف مقدمة ذلك شيوع ثقافة الديموقراطية،
ووحدة الشعب وإمجاعه ،ورغبته اجلامعية يف إصدار دستور يعب عن املصري املشرتك
ملواطنيه ،وحيقق تطلعات األمة وأجياهلا القادمة.
وأغلب الظن أن معظم هذه الرشوط مل تكن متوفرة يف ظروف ليبيا احلالية ،فقد كان
البيت منقسام ،وبدأت اهليئة عملها يف ظروف الرصاعات املريرة واحلروب املدمرة ،بام فيها
من مناخ الشك ،وانعدام الثقة ،والتمزق السيايس واالجتامعي ،وهو ما جعل املرشوع
أقرب إىل تكريس املغالبة منه إىل امليثاق الوطني املعب عن الرغبة يف العيش املشرتك ،وفق
"التوازنات الطبيعية للمجتمع " وآمال األمة يف املستقبل.
6
وإذا أضيف إىل ذلك ضعف ثقافة الديموقراطية ،وغياب احلوار املجتمعي العميق،
والقيادة الواعية القادرة عىل ضبط الرصاعات ،فإن اخللطة تتحول إىل مائدة مسمومة.
لدي قناعة تامة بأن هذا االختيار قد افتقر للحكمة والتبرص ،وبنى عىل تبسيط شديد
لفكرة الديموقراطية ،ومل يأخذ يف االعتبار الزلزال الليبي ،وقادته سذاجة الزعامء نحو
االعتامد عىل املظهر الشكيل للديموقراطية حلل معضلة إعداد الدستور دون اهتامم بـ"جوهر
" الديموقراطية وقيمها ،التي كانت ستدفع نحو أساليب أكثر عقالنية لكتابة الدستور ،ثم
إصداره بالديموقراطية "الرصينة ".
إن كتابة الدساتري عملية سياسية وفنية مهمة ومعقدة ،وتلجأ الدول إلنجازها باتباع
آليات تتفق مع ظروفها ،وال خترج هذه اآلليات عن االعتامد عىل جلنة ذات مستوى عال من
الكفاءة لكتابة الدستور ،ثم استفتاء الشعب عليه ،أو اللجوء إىل هيئة تأسيسية منتخبة وفق
رشوط دقيقة تضمن وجود الكفاءات وتنوع خباهتا ،أو املزج بني هذه األساليب برشط
توفر الظروف املوضوعية للنجاح ،ويف مقدمة هذه الظروف اتفاق األمة أو معظمها عىل
اخليارات السياسية الكبى املتعلقة بشكل نظام احلكم ،وتوجهات املجتمع ،ودرجة تطوره
التارخيي.
ومل أسمع يف تاريخ كتابة الدساتري ،جلنة أو هيئة ،يعهد إليها بكتابة دستور دون توجيه
مسبق حول النظرية السياسية التي يقوم عليها ،ونظام احلكم املراد تأسيسه ،والتوجهات
الثقافية واالقتصادية واالجتامعية التي جيب البناء عليها.
7
ومن أبجديات كتابة الدساتري :احلصول عىل توجيهات مسبقة عن شكل النظام
السيايس ،وفصيلة مؤسساته ،ونوع ديموقراطيته ،برملانية ،رئاسية ،أو خمتلطة إلخ ،ويف
غياب التوجيه أو احلوار املجتمعي ،يغدو الدستور اجتهادا فرديا يقع فيه اخلطأ والصواب.
.2إن اختيار اهليئة عن طريق االنتخاب ،ودون ضوابط دقيقة ،ويف ظروف التوتر
والرصاع؛ قد أنتج هيئة قليلة االنسجام ،وهو ما عبت عنه املقاطعات الرسيعة،
واالنسحابات املتكررة ،والطعون القضائية يف بعض أعضاء اهليئة وإجراءاهتا ،وهي
طعون طالت رئيس اهليئة نفسه ،وقذفت به بعيدا يف منتصف الطريق ،وقد أدى ذلك
إىل التحول عن اهلدف ،وهو وضع دستور رصني ،إىل احلفاظ عىل كيان اهليئة نفسها ،
فقد أصبح هدف اهليئة هو " احلفاظ عىل متاسك ما تبقى " بأي ثمن ولو عىل حساب
الدستور ،وذلك بمحاولة إرضاء كل عضو ،خشية فقدان األغلبية الالزمة إلنجاز
املرشوع ،وهكذا تغلب الشكل عىل املضمون .
.3أدى حتول اهلدف إىل جعل الدستور " سوقا للمساومات " ،وأغلب الظن أن اهليئة
انقلبت من مؤسسة وطنية جامعة هتدف إىل صياغة مرشوع وطني ،إىل جمموعة من
األعضاء املدافعني عن قضايا جزئية ،ونزاعات حملية وجهوية وفئوية ،وهكذا أصبح
الدستور سوقا للمساومات ،أعطيني مادة أعطيك أخرى ،وافق عىل مجلة أوافقك
عىل مثلها ،أكتب هذه الكلمة أو أنني سأسحب صويت ،وقد أضحى لكل صوت
قيمة غالية أكثر مما يمثل يف الواقع ،ألن انسحاب أصوات قليلة جدا كان كافيا
القتالع اهليئة من جذورها ،ونسف وجودها كليا ،ويف مثل هذه الظروف ال تكتب
الدساتري .
إن احلل يكمن يف تصحيح اآلليات ،فهي الطريق الوحيد لتصحيح املضمون.
8
.4إنني ما زلت -ولن أغري رأي -لناحية أمهية إصدار الدستور ،غري أنني – يف هذا
الوقت -ال أراه حاجة رضورية للبالد ،وذلك -يف ظني -ليس بدعة يف تاريخ
الدساتري ،فقد اعتادت الدول يف ظل الرصاعات واحلروب ،االستعاضة عن الدساتري
بوسائل بديلة ،استعدادا لتهيئة الظروف للمرحلة الدستورية النهائية ،فالدستور "
ميثاق مجاعي" لبناء وطن يقوم عىل الرضاء التام ألبنائه ،وهو ما يدفع إىل وضعه يف
ظرو ف اهلدوء واالستقرار ،وليس يف علمي أن دستورا كتب له البقاء إذا ظهر يف
أجواء النزاعات والقلق.
وال أعرف كيف يمكن االستفتاء عىل دستور والقبول بأحكامه ،بواسطة شعب نصفه
معزول سياسيا ،يعاين ويالت اهلجرة والنزوح ،ونصفه الباقي يعاين شظف العيش ،حتتويه
طوابري املعاناة ،وهي طوابري أكثر طوال من طوابري االستفتاء.
أعرف أن " ديامغوجية " االستفتاء قد تضفي عليه رشعية شكلية ،فمن النادر فشل
االستفتاءات يف بلدان العامل الثالث ،فاالستفتاء بمظهره الديموقراطي يتحول إىل ديامغوجية
سافرة ،عندما توهم الشعوب بأن إصدار الدساتري هي مفاتيح احلل ملعاناهتا.
ويف مثل هذه األحوال يندفع الناس للموافقة ،ليس اعجابا باملضمون ،بل تعلقا بالوهم
الذي زرع يف أذهاهنا ،وأغلب الظن أن تصويت الناس لن يكون بعيدا عن إجابة ذلك
املواطن البسيط الطيب ،حني سئل عن الدستور فأجاب بأنه " سكَّر " !!
إن احلل العقالين املالئم لظروف بالدنا اليوم ،هو اللجوء إىل إصدار إعالنات دستورية
مؤقتة ،أو قوانني أساسية تنظم بشكل مؤقت قضايا احلكم وشكل الدولة ،قضايا احلقوق
واحلريات ،قضايا احلكم املحيل والالمركزية ،قضايا نظام القضاء ،قضايا اإلعالم
9
والصحافة ،قضايا املصاحلة الوطنية الشاملة ،قضايا الطوارئ والتعبئة ،قضايا تكوين
األحزاب واجلمعيات ،قضايا السيادة الوطنية والسياسة اخلارجية إلخ.
إن حالة ليبيا الراهنة تستدعي " تفكريا إبداعيا " ،وليس االنسياق وراء جتارب أخرى
وتقليدها بشكل أعمى ،تفكري " خارج الصندوق " كام يقال ،ينطوي عىل اإلبداع والتأمل،
ولعل أحد األخطاء التي ارتكبت -وقد تتكرر مرة أخرى -هي االعتامد عىل إعالن
دستوري شامل.
إننا يف حاجة إىل " قوانني أساسية مؤقتة " تتسم بقدر من اجلمود ،تشبه الدساتري من
حيث رصانتها ،وهي التي ستشكل -يوما ما -مضمون الدستور الدائم للدولة ،بعد أن
يكشف تطبيقها مزاياها وعيوهبا ،وبعد أن ينطلق يف ظالهلا "حوار جمتمعي شامل " ،وفوق
ذلك بعد إنجاز " مصاحلة وطنية شاملة " تعيد للمجتمع وحدته وزهوه وتطلعاته.
ولعل أغرب ما سمعت من بعض أعضاء اهليئة وغريهم :أ ّن مرشوع الدستور ينطوي
عىل عيوب كثرية ،لكن دعونا نصدره ،ثم نلجأ فيام بعد إىل تعديله ،وهو ما يكشف القصور
يف النظرة للدستور ،وهي نظرة تنزع عنه مقدما أهم خصائصه " القداسة واالحرتام " ،وال
أدري ملاذا ال تعمل عىل عالجه وهو يتخ ّلق بني يديك ،عوضا عن جراحته وهو حي يرزق،
وأخشى أن تتحول هذه الدعوى – ذات يوم – إىل قتله قتال رحي ًام !!
تلك بعض املالحظات املبدئية ،ولدي غريها مما حجبته رمحة باجلمهور.
وإذا فتحنا كتاب مرشوع الدستور ،فإن املالحظات يصعب وضع هناية هلا ،ففي كل مادة
من مواده ما يستحق التعليق والتأمل.
ذكرا للمزايا والعيوب ،وألسباب عملية فإنني سأكتفي بتناول عينات حمدودة ،مسامهة
يف النقاش العام ،وذلك عىل النحو التايل:
10
لا :إن مرشوع الدستور قد انزلق انزالق ًا واسع ًا نحو القضايا غري الدستورية ،ليتناول
أو ً
قضايا ال تدخل بطبيعتها ضمن موضوعات الدستور ،وتكتفي أغلب الدول برتكها للتنظيم
القانوين أو الالئحي يف بعض األحيان ،وعىل املرشوع الدستوري -منذ البداية -التمييز بني
القضايا الدستورية عن غريها ،ذلك أن القضايا الدستورية ،فضال عن أمهيتها املوضوعية ،
فهي قضايا تتميز بالثبات واالستقرار ،مما جيعلها ليست قابلة للتبديل أو التغيري إال بعد
سنوات طويلة ،وهو ما يضفي عىل الدستور وموضوعاته االحرتام والقداسة ،وإذا ضمنت
ضمن نصوصه قضايا القوانني واللوائح املتغرية ،فإنه بسبب التغيريات املتكررة يفقد
احرتامه وقداسته.
إن الدساتري حني نشأت -يف األصل -انصبت عىل موضوع دستوري واحد ،هو تنظيم
السلطات العامة يف الدولة ،وذلك بغرض ضامن ثبات املؤسسات الدستورية ،ومنع
احلكومات املتغرية من تبديل أحكامها أو التالعب هبا ،فالدستور يف األصل هو " الصك
املنظم للسلطات العامة للدولة" .
إن الدستور األمريكي -وهو أول دستور مكتوب يف العرص احلديث -كان صك ًا لتنظيم
سلطات الدولة ،وذلك هو رس حمدودية مواده ،فقد ظهر يف سبع مواد ،كرست واحدة فقط
لتنظيم السلطة الترشيعية ،وثانية للرئيس ،وثالثة للقضاء ،ورابعة لتنظيم االختصاصات بني
االحتاد والواليات ،وما تبقى لتنظيم مسائل عامة وانتقالية تتعلق باالنضامم لالحتاد
والتصديق عىل الدستور وكيفية تعديله.
تلك كانت مشتمالت الدستور ،وهو دستور مل يمس كثريا منذ أكثر من قرنني ،ومع
الزمن ظهرت للوجود قضايا دستورية أخرى ،ال تقل أمهية ،كان يف مقدمتها احلريات
باملؤسسة الدستورية ،مصدر اخلطر
ّ العامة ،وحقوق اإلنسان ،وذلك بسبب صلتها املبارشة
الرئييس عىل هذه احلريات واحلقوق.
11
ذلك هو ما دفع املرشع الدستوري األمريكي إىل االنتباه املبكر إلصدار وثيقة احلريات يف
عرش مواد ،وهي ما يعتبه كثري من الناس تعديالت دستورية ،فهي يف الواقع إضافة وليست
تعديال.
مرت أوقات طويلة قبل أن تتسع الدساتري ملوضوعات جديدة ،فالدستور نظرا ملكانته
ّ
السامية ال جيب أن يتضمن سوى املبادئ العامة والتوجهات الكبى للدولة ،وحتى
املوضوعات التي هي من صميم الدستور ،يكتفي املرشع الدستوري – عادة – بتنظيم
مبادئها العامة وثوابتها الدائمة ،ويرتك لغريه تنظيم تفاصيلها ومتغرياهتا ،وعىل سبيل
املثال ،فإن السل طة القضائية وهي من أهم املؤسسات ال حتظى بالتنظيم الدستوري املفصل،
بل يكتفي املرشع الدستوري بوضع املبادئ العامة التي يرتكز عليها النظام القضائي ،ليرتك
للمرشعني ( عىل اختالف درجاهتم ) تنظيم هذه السلطة املهمة ،وليس هناك من دستور
مرموق ،ينغمس يف التفاصيل املتغرية ،ويعرض نفسه للتالعب والتغيري .
إن ما جيب أن يفهمه (الناس) أن الدستور هو ( :توجيه للمرشعني واحلكام ) ،يلزمهم
بالترشيع واحلكم وفق ثوابت ومبادئ ( يضعها الدستور ) ،وال يتحول هو نفسه إىل أداة
حكم حيل حمل املرشعني واحلكومات ،وإذا حدث ذلك فإن الدستور يفقد أهم خصائصه ،
الثبات واالحرتام .
نظرا للتطور اهلائل يف أساليب احلياة ،وتزايد حدة الرصاعات ،وتعدد التيارات الفكرية
ً
والفلسفية ،وتنامي األيديولوجيات يف القرن العرشين ،ظهرت احلاجة إىل التفات الدساتري
إىل موضوعات جديدة أصبح من حقها اقتحام حقول الدساتري ،لتحظى بالتناول والتنظيم
الدستوري ،فالدستور -يف جانب من جوانبه -هو تعبري عن رؤية حضارية و (طريقة حياة)
األمة التي تنبعث من جذور فكرية عميقة ،دينية أو فلسفية ،وذلك هو ما جعل الدساتري
هتتم بتنظيم ( التوجهات الكبى ) للمجتمع ،وتدرجها ضمن مشتمالهتا ،باعتبارها مبادئ
12
حضارية وثقافية واجتامعية واقتصادية تشكل أهداف األمة وغاياهتا ،وهكذا ظهرت "
املقومات " باعتبارها موضوعا أصبح من " مشتمالت " الدستور ،لكن هذا االهتامم
ينصب عىل املبادئ دون االنغامس يف التفاصيل .
تلك هي – عىل اإلمجال – مشتمالت الدساتري األساسية التي تشكل القواسم املشرتكة
لدساتري الدول املتحرضة ،ومن الطبيعي أن تضاف مشتمالت أخرى لبعض الدساتري،
بحكم خصوصيات الدول وظروفها ،التي تستدعي يف أحوال ما االهتامم هبذه
اخلصوصيات والظروف وإدماجها يف صلب الدستور ،ومع ذلك فإن األمر يدور يف إطار
املبادئ والتوجهات ،وال يتعلق باملتغريات والتفاصيل.
ثاني اًا :مع الزمن ابتكر الفكر القانوين الفرنيس فكرة غاية يف الروعة ،هي فكرة (القانون
األسايس) للتوفيق بني احلاجة للتنظيم الدستوري لبعض املوضوعات ،واحلفاظ عىل
اخلصائص الطبيعية للدساتري.
" القانون األسايس " هو شكل جديد من أشكال القانون ،يقع يف منطقة وسطى بني
الدستور والقوانني العادية ،من حيث اجلمود واملرونة والثبات والتغري ،فهو يشرتك مع
الدستور يف بعض خصائصه ،وأمهها تعلقه بتنظيم السلطات العامة للدولة ،ودرجة ثباته
النسبية ،ويشرتك مع القانون العادي من حيث طبيعته املتغرية ومرونته القابلة للتعديل،
وهكذا فقد ابتكر العقل القانوين فكرة القانون األسايس.
يتميز القانون األسايس بخصائص عديدة ،فهو:
(ًأً)ً :قانون " يفصل " املبادئ الدستورية الواردة يف صلب الدستور ،سواء تعلق
األمر بالسلطات العامة للدولة ،أو احلقوق واحلريات العامة ،أو مقومات الدولة،
أو غري ذلك من مشتمالت الدستور.
13
وهو (ًبً) :ينطوي عىل قابلية أكثر مرونة للتعديل والتطوير إذا استدعت احلاجة
أو تغريت الظروف.
وهو ( ًج ً) :ينطوي عىل قدر من اجلمود يمنع احلكومات من تغيريه والتالعب
بأحكامه ،فهو جزء من دستور الدولة من بعض الوجوه ،وجزء من قوانينها العادية
من وجوه أخرى.
وبسبب ذلك فإن وضعه أو تعديله يتطلب إجراءات خاصة ،وأغلبيات موصوفة ،جتعله
يعلو عىل القوانني ويقرتب من الدساتري من حيث االحرتام والثبات.
" القوانني األساسية " هي الفكرة القانونية املالئمة للتوفيق بني احلاجة إىل إدخال بعض
املوضوعات إىل دائرة الترشيع الدستوري ،واحلاجة إىل االستجابة للمتغريات والظروف،
دون املساس بالدستور األصيل الذي جيب أن يكون ثابتا ال متغريا.
لقد كان يكفي املرشعني يف ليبيا االنتباه ملعاجلات الدستور الفرنيس احلايل الذي أحال
معظم املوضوعات للقوانني األساسية الواردة عرشات املرات يف هذا الدستور ،فقد اكتفى
هذا الدستور بالنص عىل املبادئ األساسية والثوابت الرئيسية ،وترك تفصيلها للقوانني
األساسية ،وقد حدد الدستور نفسه كيفية وضع هذه القوانني ،وكيفية تعديلها وجعلها يف
مرتبة قريبة من الدستور ،دون أن يغلق عىل سلطات بالده االستجابة للتطورات
ورضورات التغيري.
إن فكرة " القوانني األساسية " شائعة اليوم يف معظم دساتري العامل ،وعىل األخص تلك
الدساتري التي تأثرت بالفكر الدستوري الفرنيس ،ورغم أن مرشعينا نقلو عن الدستور
الفرنيس بعض نصوصه ،إال أهنم فشلو يف االنتباه إىل أفضل ما فيه ،وهي فكرة القوانني
األساسية.
14
تنظم " القوانني األساسية " – عادة – مؤسسات دستورية مهمة تعتب جزءا من
السلطات العامة للدولة ،أو تفصل موضوعات مهمة وضعت مبادئها العامة يف صلب
الدستور ،نأى الدستور نفسه عن التعرض لتفاصيلها ،ومع أنه ال يوجد إمجاع فقهي عىل
حرص القوانني األساسية أو جماالهتا ،إال أن أمهها القوانني املنظمة للمجالس الترشيعية،
والقوانني املنظمة للسلطة القضائية ،وعىل األخص املحكمة العليا واملحاكم واملجالس
الدستورية ،قوانني االنتخاب ،قوانني تنظيم األحزاب ،قوانني الطوارئ ،قوانني احلكم
املحيل ،قوانني الصحافة واإلعالم ،قوانني رايات الدولة وشعاراهتا ،قوانني تنظيم اهليئات
واملؤسسات املستقلة كالبنوك املركزية وأجهزة الرقابة وهيئات التنمية واملجالس املعنية
بقضايا احلريات وحقوق اإلنسان ،القوانني االقتصادية املهمة مثل القانون املايل للدولة،
وقوانني محاية الثروات القومية ،وذلك فضال عن قوانني محاية األقليات ،أو غري ذلك من
القوانني املهمة لدولة ما وفق ظروفها وتارخيها ،وعىل األخص ما يتعلق بمقوماهتا القومية
والدينية واحلضارية إلخ.
إن مثل هذه القوانني ال تدرج يف صلب الدستور ،الذي يكتفي بوضع مبادئها
ومرتكزاهتا ،ويوجه سلطة الترشيع إىل تفصيلها وفق املبادئ الدستورية.
إن هذه القوانني تشكل مع الدستور حزمة دستورية واحدة ،وهي بحكم طبيعتها املقاربة
للدستور توضع بطريقة تتسم باحلرص والعناية ،إذ يتطلب إصدارها أو تعديلها إجراءات
صلبة مثل تطلب أغلبيات برملانية خاصة ،أو االستفتاء الشعبي عليها أو غري ذلك من
اإلجراءات املقصود هبا محاية هذه القوانني من نزوات وغوغائية السلطات الترشيعية
املنتخبة ،واحلكومات احلزبية املتغرية.
15
إن مرشوع الدستور الليبي مل يدرك هذه احلقائق ،ومل يلتفت إىل فائدة القوانني األساسية،
وهلذا السبب وقع يف أخطاء فادحة ،إما بإقحام هذه املوضوعات يف صلب الدستور ،أو
تركها لتنظيم القوانني العادية ،ويف احلالتني كان اخلطأ فادحا.
إن إقحام هذه املوضوعات يف صلب الدستور ال يمكن تبيره ،فهو فضال عن تضخيم
الدستور سيقود إىل الرتقيع املستمر لنصوص الدستور ،مما يفقده قدسيته واحرتامه،
فالتعديل املتالحق سينزع عن الدستور أهم خصائصه ،وإذا تعرس التعديل – يوما ما -فإن
احلل األسهل ،سيكون القفز عىل نصوص الدستور وجتاوزها ،وتلك سمة واضحة يف
بلدان العامل الثالث ،إذ أن النصوص الزاهية التي توضع من أجل مترير الدستور ،هي أول
النصوص التي جيري انتهاكها.
أما ترك هذه ملوضوعات لتنظيمها بالقوانني العادية ،فهو ال يقل خطورة ،إذ سيجعل
األمر بيد أي جمموعة قليلة للتالعب بمؤسسات الدولة وتسخريها ملصلحتها ،وذلك كله
يؤجج الرصاع ويقود لعدم االستقرار ،والتجربة الليبية املاثلة اليوم تقدم أفضل الدروس يف
استخدام القوانني للمغالبة ،حني يلوى عنق القوانني وتتحول قاعات املحاكم إىل ساحات
للمامحكات.
إن مرشوع الدستور الليبي ميلء بمثل هذه اإلخفاقات ،فقد حرش بني نصوصه عرشات
املواد ذات الطبيعة غري الدستورية ،فمن املواد األوىل املتعلقة بمقومات الدولة إىل هنايته
املكرسة للهيئات املستقلة واألحكام العامة ،امتأل الدستور باحلشو واإلطناب ،وليس من
مقومات الدولة تفصيل سياسات الزراعة والصناعة والسياحة ،وكيفية إدارة املرافق العامة
والرضائب والزكاة واألوقاف واإلسكان وأصول محاية اآلثار واملخطوطات ،وليس من
حقوق اإلنسان تنظيم املاء والغذاء والرياضة وحتديد أولويات التعليم إلخ .
16
وليس من موضوعات الدساتري تفصيل بناء املؤسسات القضائية وتناول جزئياهتا من
القضاة وأعضاء النيابة واملحامني ومدراء إدارة التفتيش والرقابة واملحكمة الدستورية
وتكوينها واختصاصاهتا وطرق الطعن أمامها إلخ.
وليس من موضوعات الدساتري تناول احلكم املحيل بكل تفاصيله من التكوين
والصالحيات إىل كيفية تدبري املوارد مروا برشعنة بناء العالقات اخلارجية إلخ.
وليس من موضوعات الدساتري " بناء هيئات دستورية مستقلة " من نوع املجالس
املختصة بالبحوث ومحاية املوروث والتنمية والشفافية واإلحصاء واإلعالم ومكافحة
الفساد والصحافة والعلوم واالبتكار إلخ.
ال أحد جيادل يف أمهية مثل هذه املوضوعات ،ووجوب توجيه املرشعني واحلكام لالهتامم
هبا ووضع مبادئها العامة يف الدستور ،لكن ال أحد يقبل أن يتحول الدستور إىل برنامج
عمل ومصفوفة من األماين وقوائم الشعارات ..
إن الدستور ميلء بمشتمالت ليست من طبيعته وتفاصيل تتناقض مع خصائصه ،وقد
كان يكفي هيئة الدستور النص عىل املبادئ العامة هلذه املوضوعات وتوجيه املرشعني
لتفصيلها ،فقد كان يكفيها مثال ،ويف مادة أو مادتني ،النص عىل إنشاء هيئات دستورية
مستقلة وحتديد املبادئ الرئيسية التي تقوم عليها لترتك ملرشع املستقبل بناء هذه املؤسسات ،
وقد كان يكفيها أن تتناول القضاء يف مادة أو مادتني ،حتدد املبادئ القضائية العامة وهيكل
القضاء لترتك التفاصيل لقانون القضاء ،وقد كان يكفيها أن تنظم املحكمة الدستورية يف
مادة أو مادتني تنص عىل إنشاء املحكمة ودورها ومبادئها لترتك لقانوهنا اخلاص تفصيل
غري ذلك من قضايا ،وقد كان يكفيها عند تناول مقومات الدولة االقتصادية ،أن حتدد
املبادئ الرئيسية التي يقوم عليها االقتصاد الوطني وتوجهاته الكبى دون غوص يف
تفاصيل ذلك ،وهكذا يف مجيع موضوعات الدستور تقريبا ،إن هذا اإلخفاق والفشل يف
17
صياغة دستور حمكم ،يعود إىل ثالثة أسباب رئيسية هي :عدم االنتباه ألمهية القوانني
األساسية ،وسيطرة املساومات بني أعضاء اهليئة ،وأخريا التأثر بدساتري أجنبية سيئة
الصياغة ،كام سأبني فيام بعد .
ثالث اا ً :إن مرشوع الدستور ارتكب أخطاء فادحة يف تنظيم السلطة ،وإذا قدر هلذا الدستور
التطبيق ،فإنه لن يكون قادرا عىل إدارة الرصاعات ،بل سيكون سببا يف اندالع األزمات بام
وضعه من نظام غريب لبناء السلطة ،وما صاحب هذا البناء من قصور ،لن تنجح
املؤسسات الدستورية يف التعايش معه ،ولن تنجح املحاكم يف فك اشتباكاته ،واألرجح أن
يقود الدولة إىل حالة تصلب رشايني أعمق بكثري مما تشهده الساحة السياسية اليوم.
ًًًًًإن تنظيم السلطة هو املوضوع الرئييس للدستور ،فرغم أمهية غريه من املشتمالت ،إال أن
تنظيم السلطة كان وسيظل املوضوع الرئييس ألي دستور ،وبسبب هذه األمهية فإن هذا
املوضوع جيب أن حيظى بالدقة الكاملة والوضوح التام ،من حيث " حتديد طبيعة النظام"
و"شكل املؤسسات" و"العالقة بني املؤسسات وصالحياهتا " ،وتلك مسائل ال يشوهبا
الغموض فحسب ،بل صيغة بطريقة تنطوي عىل الكثري من الغرابة.
إن االطالع عىل الباب الثالث ،املنظم للسلطات العامة للدولة ،يثري تساؤالت يصعب
حرصها ،لكنني ألسباب عمل ّية سأكتفي باملالحظات ال ّتالية:
اخلطوةًاألوىل :عند بناء املؤسسات الدستورية ،هي حتديد طبيعة النظام السيايس املرغوب
واألسس الفكرية التي يقوم عليها.
ًًًًً إن هذه املسألة املبدئية ،هي القاعدة األساسية التي تبنى عليها املؤسسات ،واخليط الناظم
حللقات السلطة ،والضامنة التساق املؤسسات وعدم تعارضها.
18
وقد اعتادت الدساتري يف مقدماهتا أو يف صدر موادها حتديد األسس الفكرية والسياسية
ونوع النظام املهيمن عىل الدستور ،إذ يقال عادة أن دولة ما هي " مجهورية ،أو ملكية
ديموقراطية ،حكمها نيايب أو رئايس ،أو غري ذلك من أوصاف.
إن هذا التحديد ليس جمرد وصف للدولة ،بل يعد كشفا لطبيعة النظام الذي ستبنى عليه
املؤسسات ،يلخص مؤسساهتا ويضمن تناسقها ويساعد – فيام بعد – عىل صياغة ما يوضع
من قوانني ،وإجياد احللول ملا ينشأ من معضالت دستورية.
إن اختيار النظام – يف األصل – مسألة جمتمعية جيب أن ختضع لالتفاق العام ،ثم تقوم
اهليئات التأسيسية أو جلان كتابة الدستور بالتعبري عنها وصياغتها يف نصوص واضحة،
وذلك يتطلب إما اللجوء إىل حوار جمتمعي واسع ،أو استفتاء الشعوب عىل طبيعة النظام،
وإذا مل حيدث ذلك فإن اهليئة التأسيسية تأخذ عىل عاتقها اختيار نوع النظام الذي تستشعر
جتاوبه مع إرادة الغالبية من أبناء الشعب ،وبام أن ذلك -مجيعه – مل حيدث فإن اهليئة
التأسيسية اختارت نظاما غريبا ،ومل حتدد جذوره الفكرية ،وال طبيعته السياسية.
لقد نص الدستور الليبي الصادر عام 1951م عىل تكوين ( دولة ديموقراطية مستقلة )،
وهي( :ملكية وراثية ...حكمها نيايب ).
فقد نص هذا الدستور عىل ديموقراطية الدولة امللكية ذات احلكومة ( النيابية ).
ينص الدستور الفرنيس يف املادة األوىل عىل أن فرنسا :مجهورية ،علامنية ،ديموقراطية ،
واجتامعية ....إلخ .
وينص الدستور املرصي يف مادته األوىل عىل أن مرص :نظامها مجهوري ديموقراطي إلخ .
إن هذا التحديد مهم للغاية ،ليس لفهم طبيعة النظام وحسب ،بل لبناء املؤسسات ،وقد
نصت املادة األوىل من املرشوع عىل أن " ليبيا دولة مستقلة ....تسمى اجلمهورية الليبية ".
19
وقد انرصف الدستور بشكل واضح عن مصطلح " الديموقراطية " ،ومل يرد يف أي موقع
فيه ألسباب ال يصعب إدراكها ،كام مل حيدد طبيعة النظام ،عام إذا كان نيابيا أو رئاسيا أو
خمتلطا ،وألنه مل يفعل ذلك فقد أنتج نظاما غريبا ،فيكون النظام نيابيا يف بعض األحيان
ورئاسيا يف أحيان أخرى وخمتلطا يف ثالثة وال نظام معروف يف أحيان كثرية.
قد حياجج البعض بأن الدساتري احلديثة مل تعد مقيدة باألنامط التقليدية املعروفة ،ومن
الطبيعي أن يلجأ الدستور إىل تنوع احللول لالستفادة من التجارب الدستورية األخرى،
وإنتاج أنامط جديدة تستجيب حلاجات العرص وتطلعات الشعوب ،إذ مل يعد هناك دستورا
يعتمد عىل نموذج سايس واحد ،إن ذلك قد يكون مفهوما إذا تم حتسني الدستور بحلول ال
هتدم الشكل األصيل للنظام ،وال تؤثر يف عمل املؤسسات ،لكن ما فعله مرشوعنا هو بناء
آلة ضخمة بقطع غيار متنوعة جرى تركيبها بطريقة تعسفية ،قد تعطي شكل اآللة ،لكنها
لن تستطيع الدوران وإنتاج الطاقة.
إن عدم حتديد النظام أدى إىل االرتباك الواضح عند تصميم املؤسسات ،والظاهر أن اهليئة
الدستورية اختارت من حيث املبدأ " النظام البملاين " باعتباره أساسا لبناء املؤسسات
الدستورية ،ثم قامت برتقيعه عن طريق حلول من أنظمة رئاسية وخمتلطة ،فجاء الدستور
هجينا غريبا أشبه بمخلوق " فرنكشتاين "الذي سيكون من املستحيل السيطرة عليه عندما
تدب فيه احلياة.
ًًًًإن اختيار " النظام البملاين " كأساس للسلطة الليبية يعد خطأ فادحا ،إذ أثبتت التجارب
يف كل مكان يف بلدان العامل الثالث فشل هذا النظام يف حتقيق الديموقراطية واالستقرار.
يعد النظام البملاين يف دولة مثل ليبيا أسوأ اختيار ،ويذهب اعتقادي إىل أن اهليئة التأسيسية
قد اختارت هذا النظام انسياقا وراء أوهام تذهب إىل أن النظام البملاين هو النظام األكثر
20
ديموقراطية من بني األنظمة النيابية ،ولو أن اهليئة -وقبل الرشوع يف كتابة الدستور -أجرت
حوارا جمتمعيا معمقا أو حتى بني أعضاء اهليئة الكتشفت خطأ هذا االختيار.
ما من شك أن النظام البملاين من أقدم النظم النيابية وأقرهبا للديموقراطية من الناحية
النظرية ،فهو يضع جوهر السلطة بيد نواب الشعب ،غري أن هذا النظام يتحول إىل وصفة
مسمومة يف البلدان التي مل تتهيأ بطريقة صحيحة ملامرسة الديموقراطية.
إن النظام البملاين مل ينجح يف حتقيق الديموقراطية واالستقرار ،إال يف جمتمعات قطعت
شوطا طويال يف مضامر الديموقراطية ،وهو يستلزم رشوطا موضوعية كثرية لنجاحه ،ويف
مقدمتها شيوع الثقافة الديموقراطية.
إن النظام البملاين يتحول -بصورة تلقائية ورسيعة – إىل نظام ديامغوجي وغوغائي.
منذ مئات السنني ظهرت نظرية معروفة تسمى " حتول األنظمة " ،وهي نظرية تذهب إىل
حتول األنظمة بطريقة غري حمسوسة ،من النظام احلسن إىل السيئ ،وذلك حني يبدأ التعارض
بني الشكل واملضمون ،الشكل هو شكل النظام اخلارجي ،أما املضمون فهو " القيم " التي
تشكل جوهر النظام.
إن الديموقراطية مثل أي نظام ،تقوم عىل شكل خارجي هو املجالس واألحزاب
واملؤسسات الدستورية األخرى ،أما املضمون فهو " قيم " الديموقراطية مثل احلرية
والعدالة واملساواة والتعددية القائمة عىل قبول اآلخر ،وغري ذلك من القيم التي تشكل "
ثقافة الديموقراطية " ،وال تقوم الديموقراطية إال عند االنسجام الكيل بني " الشكل "
املؤسسات ،و" القيم " الثقافة ،وحني جيري التعارض بينها ويتغلب الشكل؛ فإن
الديموقراطية تنقلب للديامغوجية ،كام تتحول امللكية الدستورية إىل استبداد،
واألوليغارشية إىل طغيان.
21
تلك نظرية معروفة منذ القدم ،فالديموقراطية الشكلية حني ختلو من القيم والضوابط
تتحول إىل نظام غوغائي ،ال شأن هلا بالديموقراطية واحلكم الرشيد.
ّ
إن بلدان العامل الثالث – بشكل عام – بسبب ضعف الرتاكم الديموقراطي تقع مبكرا
فريسة للديامغوجية والغوغائية ،بسبب اعتقادها الساذج بكفاية العنرص الشكيل.
إن دوال متقدمة يف مضامر الديموقراطية وقعت أيضا فريسة هلذا االعتقاد ،وهو ما حدث
لفرنسا ،أحد معاقل الديموقراطية ،فقد أسست اجلمهورية الرابعة عام 1946م عىل دستور
"النظام البملاين" ،وهو ما عارضه ديغول ودفعه لالستقالة من هذا النظام ،بسبب رؤيته
النافذة ويقينه بأن هذا النظام سيغدو ديامغوجيا ،ألنه سيقع ضحية ملزايدات األحزاب
الكثرية ،وغوغائية زعاماهتا ،وهو ما حدث بالفعل ،إذ شهدت فرنسا يف ظل هذا الدستور
أشد أزماهتا ،وهي أزمات مل تفلت منها إال بدستور اجلمهورية اخلامسة ،وهو دستور أهال
الرتاب هنائيا عىل النظام البملاين.
هناك قاعدة ال تكذب ،تذهب إىل أن الديموقراطية البملانية يف بلدان العامل الثالث تسقط
بالتحول إىل ديموقراطية شكل ّية كاذبة ،أو إىل نظام غوغائي.
ّ منذ والدهتا ،إما
ّ
إن جتربة ليبيا يف السنوات األخرية كافية للداللة عىل صحة هذه االستنتاجات ،فرغم
جتسد احلقائق الغوغائية ،جمالس نيابية
وجود املؤسسات الشكلية للنظام النيايب ،إال أهنا ّ
متعددة ومنقسمة عىل ذاهتا ،وحكومات ليست معنية بام جيري حتت قباب البملانات،
وزعامات نيابية أو حزبية أو قبيلة تنغمس يف شؤون أخرى.
رغم أن اهليئة التأسيسية تبنت من حيث املبدأ النظام البملاين وقامت برتقيعه ،إال أهنا مل
حتسن تشييد هذا النظام ،وقد افتقرت – بصورة واضحة – للخيال والقدرة عىل استرشاف
املستقبل ،وذلك يتضح مما ييل:
22
أً– أن اهليئة -يف األصل -مل تشيد نظاما برملانيا متكامال ،بل قدمت نظاما منقوصا ،فام كتبته
عبارة عن نظام برملاين يبني السلطة الترشيعية والتنفيذية ،وذلك هو السياج اخلارجي للبناء،
لكن الدستور أمهل عرشات القضايا املهمة يف صالحيات هذه املؤسسات ،والعالقة بينها،
واألسلحة املتاحة لكل منها.
فهناك فراغ هائل يف نصوص الدّ ستور ،وهو فراغ ال يمكن سدُّ ه بالقوانني األساسية أو
األعراف الدستورية يف دولة بال أعراف.
ومن الغريب جدا أن اهليئة التي مألت الدستور باملشتمالت غري الدستورية ،كانت شحيحة
جدا عند االهتامم بموضوع الدستور األسايس وهو تنظيم السلطة ،وهناك فراغات هائلة يف
باب تنظيم السلطة ،ويعود السبب مرة أخرى إىل عدم االعتامد عىل " نموذج سيايس واحد
" ،فتعدد النامذج السياسية أحدث فجوات بني هذه النامذج ،مل تعرف اهليئة كيف تسدها،
وإذا حدث أن بدأ التطبيق فإن هذه الفراغات ستتحول إىل مناطق صدام مستحكم بني
املؤسسات الدستورية.
بً– إن السبب الرئييس هلذا اخللل -يف ظني -يعود إىل اعتامد اهليئة عىل الدستور املرصي،
فقد نقلت اهليئة عن هذا الدستور عرشات النصوص – بصورة حرفية تقريبا – وهو ما أوقع
اهليئة يف فخاخ مل تستطع اخلروج منها.
ًًًًًإن الدستور املرصي نفسه حمل انتقاد يف األوساط القانونية والثقافية ،بسبب عدم اعتامده
عىل "نموذج سيايس واحد" ،وهو أمر أدخله – مبكرا – يف مرحلة ارتباك ،وهناك اليوم
دعوات ملحة إلحداث تعديالت فيه للخروج من هذا االرتباك ،وحيلو لبعض الصحفيني
واملثقفني وصف دستورهم بأنه " سمك ،لبن ،متر هندي " بسبب تعدد النامذج وما أحدثته
من ارتباك.
23
ورغم عيوب هذا الدستور ( يكفي االطالع عىل املقدمة إلدراك اخللل ) إال أنه خيلو من
الفجوات ،فقد استطاعت جلنة كتابة الدستور الربط بني النامذج املتعددة ،إذ ال يوجد به
فجوات تذكر ،فقد أطلقت اللجنة خياهل ا وعاجلت ما يمكن أن حيدث من مشاكل ،رغم
عيوب كثرية يف صياغة هذا الدستور.
إن هيئة الدستور الليبية نقلت بعض املواد بصورة حرفية ،لكنها مل تتابع النقل حني تعلق
نقوصا للسلطة ،ال أعرف كيف يتم عالجها.
األمر بفجوات الدستور ،فقدمت تنظيام م ً
ج -يف تنظيم السلطة -عىل سبيل املثال ال احلرص -نقل مرشوع الدستور الليبي النصوص
املرصية يف تنظيم جملس النواب بصورة شبه حرفية ( ،أنظر الباب الثالث من مرشوع
الدستور الليبي ،الباب اخلامس من الدستور املرصي) كام نقل الكثري من النصوص املتعلقة
برئيس اجلمهورية واحلكومة ،وبينام عالج الدستور املرصي كل القضايا املتعلقة بتنظيم هذه
املراكز والعالقة بينها بصورة واضحة ،وقام بحل معظم االشكاليات التي يمكن أن تنشأ
بني هذه املراكز ،فإن املرشوع الليبي جاء قارصا بصورة واضحة وأمهل قضايا ال يمكن
إمهاهلا ،نشري إىل بعض منها فقط عىل النحو التايل :
*نظم الدستور املرصي كيفية تعيني احلكومة بصورة واضحة ،وبإجراءات دقيقة ،يف املواد
( ،)153-146فنص الدستور عىل صالحية الرئيس بتكليف رئيس الوزراء الذي يشكل
احلكومة ويعرضها مع برناجمها عىل جملس النواب لنيل الثقة ،وإذا مل تنل الثقة يكلف الرئيس
رئيسا آخر للوزراء برتشيح حزب األغلبية ،ليعرض هو اآلخر حكومته وبرناجمه لنيل الثقة،
وإذا مل ينل الثقة -هذه املرة – حيل جملس النواب بقوة الدستور ،ويعني الرئيس وزارة عىل
عاتقه لتعرض عىل جملس النواب اجلديد ،ويف حال اختيار احلكومة من حزب األغلبية فإن
الرئيس و( بالتشاور ) فقط مع رئيس الوزراء يعني وزراء الوزارات السيادية وهي( :
الدفاع ،الداخلية ،اخلارجية ،العدل ).
24
يالحظ اإلجراءات الواضحة والتنظيم الدقيق ملشاهد خمتلفة قد حتدث أو ال حتدث ،وهي
إجراءات متنع الفراغ احلكومي ،وتفض االشتباكات بني الرئيس والبملان :فكيف عالج
املرشوع الليبي ذلك ؟
ال يشء فيه يدل عىل التنظيم الدقيق ،ومل يتصور يف األصل اإلشكاليات التي يمكن أن
حتدث ،فقد نص بصورة مبسرتة يف املادة ( )104عىل صالحيات الرئيس يف ( تعيني ) رئيس
الوزراء و( اعتامد ) الوزراء وإجراء ( التعديالت الوزارية )،
اكتفى املرشوع بذلك دون أن جييب عن أية تساؤالت مهمة مثل:
من أين يأيت رئيس الوزراء ؟ هل هو اختيار شخيص للرئيس خيضع لرؤيته ومزاجه ،أم
يشرتط أن يكون مستندا ألغلبية ما يف البملان ؟ وماهي عالقة البملان بتعيني رئيس الوزراء
والوزراء ؟ هل جيب عىل احلكومة نيل الثقة أم أن اختيار الرئيس ملزم للبملان ؟! أين هو
البنامج احلكومي أساس الثقة ؟ وماهي احللول التي يضعها الدستور إذا رفض البملان
الثقة يف رئيس احلكومة أو وزراءه ؟ ماذا يفعل الرئيس عند ذلك ؟ وإذا تعطل االختيار أكثر
من مرة ،ما هو احلل ؟
ليس هناك يف نصوص املرشوع أية إجابة أو تصورات .
إن النص الوحيد املوجود يف الدستور هو نص املادة ( )115وهو نص متت صياغته
بطريقة غامضة ومعيبة ،جتعله ليس قادرا عىل حل اإلشكاليات ،بل يؤدي إىل تفاقمها وهذا
نصه ( :إذا قرر جملس النواب بأغلبية " ثلثي أعضاءه " [ املنتخبني ! ] – وكأن باملجلس
أعضاء غري منتخبني !!! – عدم الثقة يف احلكومة وجب عليها [ االستقالة ] ،ويكون القرار
باألغلبية املطلقة ألعضائه [ املنتخبني ] إذا تعلق بأحد الوزراء ،وجيب عليه يف هذه احلالة
اعتزال الوزارة ،وال ينظر جملس النواب يف طلب منع الثقة عن احلكومة إال بعد جلسة [
استجواب ] ،وبناء عىل طلب كتايب مقدم من مخسة عرش عضوا عىل األقل ،وال جيوز أن
25
يطرح هذا الطلب للمناقشة إال بعد ثامنية أيام من يوم تقديمه ،وال تؤخذ اآلراء إال بعد يوم
من إمتام املناقشة ) .
تلك هي املادة الوحيدة التي وردت لتحديد العالقة بني الوزارة وجملس النواب ،والتي
يمكن أن ( يشتم ) منها يشء يتعلق بنيل الثقة ،وهي مادة شديدة العيوب ،من نوع ( سمك
– لبن – متر هندي ) ،فهي مادة تتحدث بوضوح عن " منع الثقة " عن (حكومة عاملة )،
وليس عن تشكيل حكومة جديدة ،ألن منع الثقة يؤدي إىل ( استقالة ) احلكومة أو (
اعتزال) الوزير ،واالستقالة واالعتزال يدالن عىل يشء قائم وليس شيئا يف طور اإلنشاء ،كام
اشرتطت املادة أن ال يتم منع الثقة إال بعد [ استجواب ] ،واالستجواب كام سنالحظ الحقا
ال يتم إال يف وجه حكومة رشعية عاملة ،وليس مرشوع حكومة.
ال يشء يف هذا املرشوع يدلنا عىل كيفية اختيار احلكومة وال نيلها الثقة ،وإذا طبق هذا
الدستور فإن من حق رئيس اجلمهورية اختيار رئيس الوزراء ،الذي خيتار وزراءه ويعتمدهم
الرئيس ،وال يشء بعد ذلك.
فجوات عميقة أدى إليها النقل غري الدقيق من الدستور املرصي.
نظم الدستور املرصي بشكل دقيق العالقة بني رئيس اجلمهورية وحكومته ،وذلك يف املواد
( )174-139ومن قراءة النصوص يتضح اآليت :
-أن العالقة بني رئيس اجلمهورية وحكومته عالقة ( تبعية ) .
-أن الرئيس هو " رئيس السلطة التنفيذية " املادة " "139فهو الرئيس الفعيل
للحكومة .
-أن احلكومة ورئيسها تستمد رشعيتها وقوهتا من الرئيس الذي يعينها ويعفيها.
-أن الرئيس حيتكر تعني الوزراء أو الوزارات السيادية عىل األقل ( املادة . )146
-أن الرئيس يرأس اجتامعات جملس الوزراء عند حضورها .
26
-أن الرئيس واحلكومة يشرتكان يف وضع السياسة العامة للدولة ويرشفان – معا-
عىل تنفيذها.
-أن الرئيس هوا املسؤول عن العالقات اخلارجية ،وهو القائد األعىل للقوات
املسلحة.
-أن الرئيس هو املسؤول الوحيد عن تعيني املوظفني املدنيني والعسكريني واملمثلني
السياسيني.
-أن الرئيس هو املختص بإعالن احلرب وحاالت الطوارئ واملراسيم بقوة القانون
والدعوة لالستفتاء.
-أن الرئيس يفوض بعض صالحياته.
أ ّم ا كيف نظم مرشوع الدستور الليبي هذه املسائل ،وماهي العالقة بني الرئيس
واحلكومة ؟
فتلك من عجائب الدستور الليبي من حيث اآليت :
• أن العالقة بني الرئيس واحلكومة عالقة غامضة ال ختضع لرتاتبية كام فعل الدستور
املرصي ،فقد نص املرشوع عىل (:تناط السلطة التنفيذية برئيس اجلمهورية
واحلكومة) ،وذلك دون حتديد لطبيعة هذه العالقة ،ومدى سلطة الرئيس عىل رئيس
الوزراء واحلكومة( ،املادة )96وهو وضع من املؤكد أن يقود إىل سلسلة من
الرصاعات بني الرئيس واحلكومة.
• أن الرئيس ( يعني ) رئيس الوزراء و( يعتمد تأليف احلكومة ) وإجراء (التعديالت
الوزارية ) ( املادة ،)104وهو ما يعني عدم قدرة الرئيس عىل ( عزل ) رئيس
الوزراء ،فليس يف نصوص الدستور ما يعطي الرئيس سلطة العزل ،وهو ما يعني
انقطاع العالقة بمجرد التعيني.
27
وال يكفي يف ذلك االستنتاج بأن من يملك سلطة التعيني يملك سلطة
العزل ،ويف أضعف االفرتاضات فإن هذا الوضع يقود للنزاع.
• ال يعد الرئيس -وفق هذا النظام -املسؤول التنفيذي األول ،إذ ينص املرشوع
رصاحة عىل أن من صالحياته ( حتديد ) وتوجيه السياسات العامة للسلطة التنفيذية،
(املادة ،) 104وهو ما يعني أن السلطة التنفيذية بيد غريه ،وليس له سوى التوجيه (
العام ) دون وضع أي معايري للسياسات العامة عن غريها.
• أن الرئيس ال حيرض اجتامعات احلكومة وال يرأس اجتامعاهتا إذا قرر حضورها.
• أن احلكومة بعد تعيينها تستمد رشعيتها ووجودها من الدستور ،وليس الرئيس وال
جملس النواب.
• ال توجد عالقة مشاركة بني الرئيس واحلكومة ،بل إن العالقة قد تتحول إىل عالقة
منافسة ،فكالمها حيظى بقدر من سلطة تنفيذية ،مل حتدد دوائرها ،وعىل سبيل املثال
فإن من حق الرئيس واحلكومة -كل عىل انفراد -اقرتاح مرشوعات القوانني.
• إن الرئيس ال حيظى بأي سلطة لتعيني كبار املوظفني ،وأقىص ما أعطاه له مرشوع
الدستور ( التعيينات واإلعفاءات يف الوظائف العليا ( برئاسة الدولة ) واملؤسسات
التابعة هلا ( فـ 10املادة ،)104وهو ما يعني تعيني كبار موظفي ( ديوانه ) وليس
غريهم ،وذلك يف اعتقادي من أغرب النصوص يف أي دستور مكتوب عىل وجه
األرض.
ورغم نص الدستور عىل مسائل بروتوكولية وهامشية وجعلها من اختصاص رئيس
اجلمهورية ،إال أن هذه الوظيفة -بالشكل التي هي عليه -لن جتعل الرئيس بقادر عىل
احلفاظ عىل وحدة البالد واستقالل الوطن وسالمة أراضيه ،ورعاية مصالح الشعب
وفق نص املادة (.)98
28
*إن اخللل ال يقترص عىل اضطراب العالقة بني السلطتني التنفيذية والترشيعية ،أو
الرئيس واحلكومة ،بل يدب يف كل مفاصل السلطة ،فجوات عميقة واضطراب شديد
يعج به تنظيم السلطة الترشيعية نفسها.
ًًًًومن حيث املبدأ ،فإن قيام السلطة الترشيعية عىل جملسني ،ال بد وأن تكون حمل نظر،
والقاعدة أن معظم الدول ال تلجأ إىل هذا التنظيم إال استجابة لظروف خاصة.
تكمن فلسفة التنظيم الترشيعي بمجلسني :إما بسبب شكل الدولة ( االحتادي ) ،أو
حماولة عقلنة الترشيع بإنشاء جملس ثاين مهمته كبح الترشيعات املترسعة ،ومقاومة
النزعات الغوغائية للمجالس النيابية ،أو للتوافق مع موروث تارخيي يصعب التخيل
عنه ،ويف غري هذه األحوال ،فإن معظم الدول تعتمد يف سلطتها الترشيعية عىل جملس
واحد ،ألسباب تتعلق بضبط الديموقراطية وحسن أدائها ،واحلاجة إىل ضبط اإلنفاق
احلكومي ،وتتوجه الدول نحو االعتامد عىل جملس واحد لكفايته يف تنظيم الدولة
الترشيعي ،وحني تلجأ إىل وجود جملس ثان ،فإن هذا املجلس هيدف – يف العادة – إما
لعقلنة الترشيع أو لتحقيق التوازن بني مكونات الدولة ،أو للقيام بأدوار مكملة
للمجلس األول ،ويف غري ذلك من األحوال فإن املجلس الثاين يتحول إىل عبء ال فائدة
منه.
والواقع أن ليس هناك يف لي بيا حاجة واضحة هلذا املجلس ،فهي دولة عربية إسالمية
موحدة ومتصلة ،تتشابه مع معظم الدول العربية التي هجر – معظمها – هذه الفكرة.
ومع ذلك وبافرتاض التسليم باحلاجة إليه يف ليبيا ،فقد كان جيب أن يكون مكمال
للمجلس األول أو معقلنا له ،أو لتحقيق التوازن بني مكونات الدولة ،وذلك مل حيدث
بحسب ما تذهب إليه مواد املرشوع ،فهو جملس لن يكون له دور بناء يف السلطة
الترشيعية ،فهو خليط من جملس استشاري وترشيعي ،ال يلعب أي دور إال يف جماالت
29
ضيقة للترشيع ،معروفة عىل سبيل احلرص ،وليس من بينها أهم الترشيعات املتعلقة
باحلريات ا لعامة وحقوق اإلنسان ،أما ما تبقى يف املجال الترشيعي فهو دور استشاري مل
حتدد مالحمه ،وال حدود آثاره ،مما جيعله شكليا ال قيمة له.
إن املرشوع قد أعطى املجلس الثاين صالحيات ليست ترشيعية ،ورغم أمهيتها إال أهنا
لن تلعب سوى دور معطل لعمل السلطات األخرى ،الترشيعية والتنفيذية ،وسيتحول
هذا املجلس إىل سلطة معطلة لعمل الدولة وتنغيص العمل عىل السلطات األخرى.
واألمثلة يف املرشوع كثرية يمكن اكتشافها بسهولة.
* لعل أكب النقائص التي قد تصل إىل حد الكوارث؛ إمهال املرشوع ألهم املسائل
الدستورية ،وهي كيفية وضع ( امليزانية العامة للدولة ) واحلسابات اخلتامية هلا .
امليزانية العامة للدولة هي أهم مسألة دستورية ،حترص الدساتري عىل تنظيمها بشكل
دقيق وواضح ال لبس فيه وال غموض ،والواقع أن ( ميزانية الدولة ) هي األساس
التارخيي للنظام الديموقراطي برمته ،فقد نشأت الديموقراطية واملجالس النيابية – يف
األصل – بسبب النزاع عىل كيفية ( إدارة موارد الدولة ) ،وانبعثت املجالس النيابية
لضامن وجود ممثلني عن الشعوب ( دافع الرضائب ) ،يكون هلم ( الرأي النهائي ) يف
كيفية حتصيل املوارد واإلنفاق ،وذلك ما يعب عنه (بامليزانية العامة ) .
وال يوجد دستور حديث ال يتناول هذه املسألة املهمة بالتفصيل ( املادة 124وما بعدها
من الدستور املرصي ) ( ،املادة 47من الدستور الفرنيس ) ( ،املادة 61بند 8.9من
الدستور األمريكي ) املادة ...إلخ.
وهكذا فإن كل الدساتري تعتب ميزانية الدولة أهم مسألة دستورية ،وذلك هو الوضع
الطبيعي .
كيف عالج مرشوع الدستور الليبي هذه املسألة ؟
30
ال يشء يف املرشوع يدل عىل تقدير أمهية هذه املسألة لدى اهليئة الدستورية ،فقد مرت
عليها مرور الكرام عندما حددت اختصاصات املؤسسات الدستورية ،فنصت املادة
( )67عىل (إقرار) ( جملس الشورى بمجلسيه ) املوازنة العامة للدولة ،ونصت املادة
( )116الفقرة 4عىل اختصاص جملس الوزراء بإعداد مرشوع ( قانون ) املوازنة العامة.
تلك مبادئ سليمة – نسبيا – إذا جتاوزنا ( حرفية املصطلحات ) ،لكن كيف توضع
امليزانية ؟ وماهي إجراءات ومواعيد عرضها عىل السلطة الترشيعية ؟ وكيف تناقش
أبواهبا وبنودها ؟ وماهي ضوابط تعديلها ؟ وكيف حيل األمر إذا عارضت السلطة
الترشيعية مرشوع امليزانية ؟ وماهي احللول إذا اختلفت حوهلا اهليئات الترشيعية نفسها ؟
وما هو دور رئيس اجلمهورية ؟ وكيف تترصف احلكومة إذا تعطلت امليزانية أو اختلفت
مع السلطة الترشيعية ؟ وماذا يرتتب عىل التعطيل غري املبر لقانون امليزانية ؟ هل
يتوجب حل املجلس أو استقالة الوزارة ؟ إلخ من األسئلة التي ال يمكن اإلجابة عنها.
والستمرار مسلسل الغرابة ،فإن املرشوع نص يف املادة ( )61عىل أن امليزانية العامة ال
تصدر إال بأغلبية ( الثلثني ) ،بالطبع من أعضاء املجلسني ،وهو نص فريد وبدعة جديدة
ال توجد يف أي دستور من دساتري الدنيا ،وهو ما يعني عمليا صعوبة إن مل يكن استحالة
إصدار قانون امليزانية ،ويف حالة الديموقراطية الليبية ! فإنه يسهل اجلزم باالستحالة
املطلقة.
* إن واحدة من أهم معضالت مرشوع الدستور ،هي بناءه عىل فكرة ( التعطيل )
املتبادل ملؤسساته ،وهو تعطيل نشأ – يف ظني – بسبب عدم الدقة يف فهم املبادئ
الرئيسية التي يقوم عليها النظام السيايس.
نصت املادة الثانية من املرشوع عىل أن " يقوم النظام السيايس عىل مبادئ التعددية
السياسية ،والتداول السلمي عىل السلطة ،والفصل بني السلطات والتوازن ،والرقابة
31
بينها عىل أساس احلكم الرشيد القائم عىل الشفافية ،واملراقبة ،واملساءلة " ،وهو نص
منقول – بترصف – عن نص املادة 5من الدستور املرصي ،بعد حذف أحكام مهمة منه،
وإضافة عبارات ال تعني أحكام دستورية حمددة ،وبرصف النظر عن العبارات
الفضفاضة فإن املبادئ السياسية التي تم اعتامدها هي – التعددية السياسية ،والتداول
السلمي للسلطة ،والفصل بني السلطات ،والتوازن والرقابة ،وهي مبادئ مقبولة بشكل
عام ،بصورة نسبية ،وإن كان من املمكن اجلدل العميق حول بعض هذه املبادئ.
وإذا كانت هذه ا ملبادئ هي ما يقوم عليها النظام السيايس ،فقد كان جيب تفريغها فيام يأيت
بعدها من مواد ،وهو ما مل حيدث بشكل دقيق.
ّ
إن كثري من الدساتري تذهب إىل وضع مبادئ مشاهبة ،ولتجسيد هذه املبادئ فإن الدساتري
تذهب إىل:
أً– التحديد الدقيق – قدر اإلمكان -لصالحيات كل مؤسسة ،أما ما ال يمكن حتديده
بدقة فإن الدساتري ترتكه للقوانني األساسية واألعراف الدستورية واألصول العملية
للمامرسة الديموقراطية ،التي يثرهيا – يف العادة – الفقه الدستوري ،وتتحول
االجتهادات نفسها مع مرور الزمن إىل ممارسة دستورية ( .مبدأ فصل السلطات ) .
ب ً– تزويد املؤسسات الدستورية باألسلحة الرضورية للدفاع عن نفسها يف مواجهة
احتامالت " تغول " السلطات األخرى عىل صالحياهتا ،أو املس بكياهنا ،كام تزودها
باألدوات اهلجومية إلجبار السلطات األخرى عىل االلتزام بالدستور ،ومن أشهر هذه
األسلحة :حق حجب الثقة واالستجواب املمنوح للسلطة الترشيعية ،وحق احلل
املمنوح للسلطة التنفيذية وإلزامية األحكام واملبادئ التي تقررها السلطة القضائية( .
مبدأ التوازن).
32
ج ً– وضع آليات دستورية عملية ومرنة لفض النزاعات بني املؤسسات الدستورية.
(مبدأ املراقبة).
ًًًًًإن وضع مبادئ سياسية واضحة ،وتفصيل هذه املبادئ يف نصوص دستورية دقيقة هو
ما يؤدي إىل انسياب عمل الدولة ،وسهولة العالقة بني السلطات ،ذلك أن املقصود
بوضع املبادئ هو ضامن سري املؤسسات بصورة مثالية ،وحتقيق انسجامها ،وضامن عدم
تغلب مؤسسة عىل أخرى أو هتميشها أو تعطيل العمل الدستوري.
إن مرشوع الدستور الليبي ومع اتباعه للمبادئ العامة التي سارت عليها الدساتري ،إال
أنه فهم املسألة عىل أهنا القدرة عىل (تعطيل) عمل املؤسسات األخرى ،فقد جعل من كل
مؤسسة -تقريبا – أداة لتعطيل املؤسسات األخرى ،وهو ما سيؤدي – يف النتيجة – إىل
الشلل شبه التام يف عمل الدولة.
إن هذا البناء " التعطييل " نجم عن عدة أسباب ،يأيت يف مقدمتها ضعف الرتاكم
الديموقراطي ،وانعدام الثقة يف مؤسسات املستقبل ،واملبالغة يف التحوط من احتامالت
املستقبل ،وفق ما أفرزته التجربة الليبية احلالية ،وضعف االنسجام بني أعضاء اهليئة
النابع من اعتقادهم بتمثيل مكونات متعددة دون مد البرص ،إىل حقيقة اهليئة باعتبارها
مؤسسة وطنية يقع عىل عاتقها وضع دستور وطني.
يصعب – من الناحية الواقعية – حرص مظاهر التعطيل يف مرشوع الدستور ،إذ أن كل
مؤسسة بنيت عىل افرتاض عدوانية املؤسسات األخرى ،وتربصها بغريها من
املؤسسات ،بل إن املؤسسة الدستورية الواحدة بنيت عىل مبدأ التعطيل.
إن السلطة الترشيعية القائمة عىل جملسني بنيت عىل التوافق والتعطيل ،فقد نص
مرشوع الدستور يف عرشات املواقع عىل اشرتاك املجلسني يف بعض املهام ،مثل تعيني
رؤساء وأعضاء اهليئات املستقلة ،وإقرار السياسة العامة للدولة ،واخلطة العامة للتنمية
33
االقتصادية واالجتامعية ،واملوازنة العامة للدولة ،وممارسة الرقابة عىل أعامل السلطة
التنفيذية إلخ.
إن مرشوع الدستور مل يفصل هذه القضايا ومل حيدد أين تبدأ أو تنتهي صالحيات كل
غرفة ،وإذا مل حيدث التوافق حول التعيينات أو القوانني ،فام هو احلل؟ وماهي آليات
التوفيق بني املجلسني ،ومن له الكلمة العليا يف شأن من الشؤون؟ إلخ.
وال يشفع يف ذلك التحجج بام جاء يف املادة ( )81التي تنص عىل فك االشتباك يف
أنواع حمددة من القوانني دون غريها ،وهي غالبا لن حتل االشكاليات حتى يف هذا النوع
من القوانني ،كام ال يشفع القول برتك بعض األمور للقوانني العادية املنظمة لعمل
اهليئات املستقلة لوضع التفاصيل ،ألن هذه القوانني نفسها ستكون حمل خالف وتعطيل
بني املجلسني قبل وضعها!!
إن بناء السلطة الترشيعية نفسها جاء معيب ًا ،ومن املرجح أن ينشأ النزاع والتعطيل فور
ظهور املجلسني ،وقد ال تتمكن الدولة من العمل أبد ًا.
إن العالقة بني السلطتني الترشيعية والتنفيذية أشدَ تعقيد ًا ،واألرجح أن يقود تنظيمها
إىل مماحكات بال هناية وتعطيل يشل عمل الدولة ،وإذا كان من الصعب تتبع كل
نصوص املرشوع املنظمة هلذه العالقة ،ومعظمها يقود للتعطيل ،فيكفي أن نالحظ كيفية
ممارسة حق احلل ومنع الثقة.
نص املرشوع يف املادة ( )115عىل صالحيات جملس النواب بمنع الثقة عن احلكومة
بأغلبية ثلثي أعضاءه ،وبعد جلسة استجواب ،وبناء عىل طلب مقدم من مخسة عرش
عضو ًا ،وذلك يعني:
أً– االستحالة شبه املطلقة لسحب الثقة من احلكومة ،بسبب األغلبية الكبرية ( الثلثني )،
وهو إجراء غري مسبوق يف النظم البملانية التي تكتفي باألغلبية املطلقة.
34
ب ً– تعليق منع الثقة عىل االستجواب ،واالستجواب إجراء دستوري مل ينظمه
املرشوع ،بل ترك تنظيمه لالئحة جملس النواب ،وتلك حالة من أغرب حاالت التنظيم
الدستوري ،ومن املحتمل أن اهليئة مل تدرس مسألة االستجواب لتعرف تداعياته
ونتائجه ،والتي يأيت يف مقدمتها سقوط احلكومة وجملس النواب مع ًا .وهو ما دفع اهليئة
ملامرسة الغموض يف هذا الشأن.
جً– إن التوازن بني السلطات واملامرسة املسؤولة تستوجب ربط منع الثقة بحل جملس
النواب ،ذلك ما تذهب اليه كل األنظمة الدستورية ،وإذا مل يتم هذا الربط فإن منع الثقة
يتحول إىل إجراء ديامغوجي ال مسؤول ،واألرجح أن يتحول هذا اإلجراء وفق التنظيم
املشار إليه إىل لعبة خطرة بيد املجلس ،دون أ َية قيمة دستورية له ،أو أن يتحول إىل أداة
تالعب باحلكومة ،ومصدر هتديد جيبها عىل العمل الطائش ،واملامرسة غري املسؤولة.
أما حق احلل ،فقد جاء أيضا عىل نحو شديد الغرابة ،فقد أعطاه املرشوع لرئيس
اجلمهورية وحده ،دون أي دور للحكومة ،وهو حق معلق عىل ما ييل:
أ ً– وجود أسباب وجيهة تتعلق بعرقلة السياسة العامة للدولة ،أو خطة التنمية ،أو
تعطيل املوازنة دون مبرات حقيقية ،أو خمالفة أحكام الدستور.
بً– موافقة املحكمة الدستورية.
جً– موافقة الشعب باالستفتاء العام ( .املادة .)109
و يف ظل هذا التنظيم يصبح من املستحيل حل املجلس ،مما جيرد السلطة التنفيذية من أهم
أسلحتها.
تذهب معظم الدساتري إىل منح السلطة التنفيذية سلطة حل املجالس النيابية إذا وجدت
أسباب وجيهة ،وملنعها من العبث هبذه الصالحية فإن الدساتري تسقط احلكومة يف الوقت
35
نفسه ،مما يعني (االحتكام للشعب) بانتخابات جديدة ،ذلك هو معنى التوازن واملسؤولية،
غري أن مرشوع الدستور التفت عن كل هذه الطرق الديموقراطية املجربة ،لتتحول
النصوص إىل إجراءات تعطيليه ال أكثر.
إن املرشوع ذهب أبعد من ذلك يف املادة ( )115حني منح جملس النواب سلطة إيقاف
الرئيس وعزله ،وهو ما يعني جتريد الرئيس من سلطته التهديدية ،إذ بإمكان جملس النواب
استخدام هذه الصالحية عند شعوره باحتاملية استخدام الرئيس لسلطته التهديدية !!
إنه نظام غريب لتحقيق مبدأ التوازن ،تعكسه كل النصوص املتعلقة بالعالقة بني
السلطات القائمة عىل مبدأ التعطيل ،وهو ما تكشفه النصوص املنظمة للعالقة بني الرئيس
واحلكومة ،والسلطة الترشيعية والقضائية ( .كل سلطة تعطل األخرى ).
ذلك هوا املبدأ اجلديد املهيمن عىل مرشوع الدستور الليبي.
إن فكرة التعطيل املتبادل للمؤسسات الدستورية ،هي الفكرة املهيمنة عىل التنظيم
الدستوري ،وقد استعىص عيل يف الواقع حرص مواطن التعطيل ،وكأن املبدأ الذي قام عليه
هذا املرشوع هو مبدأ " التعطيل ،بحيث تقف كل سلطة يف مواجهة األخرى ،ليس ملنعها
من التغول عىل غريها ،بل ملنعها من العمل دون موافقتها ،ومبدأ " التوافق " الذي ينطوي
عىل مدلول إجيايب أحيانا ،سيتحول إىل مبدأ " املساومة " ليس لتحقيق املصالح العامة ،بل
لتحقيق املنافع واملآرب الشخصية ،وتغليف ذلك بغالف أخالقي ،وتصبح املساومات
وكأهنا للدفاع عن حرمة الدستور.
إن املبدأ الرئييس الذي جيب أن يقوم عليه الدستور هو مبدأ " تعاون السلطات "
وتكاملها ،وليس رصاعها واحرتاهبا ،لكن مبدأ " التعاون " هو السلعة النادرة يف املرشوع،
بسبب مناخ الشك وانعدام الثقة واخلوف من املستقبل ال األمل فيه ،وتلك هي الثمرة املرة
للدساتري التي توضع يف زمن احلروب ،وهتشم الوحدة الوطنية.
36
رابع اًا :إنني ال أستطيع مواصلة تعداد العيوب يف هذا املرشوع ،فذلك يتطلب حجم كتاب،
فام من مادة أو فكرة يف هذا املرشوع إال وتستحق التأمل والتعليق ،نقدً ا أو استحسا ًنا ،لكنني
أرشت إىل عينات قليلة للدفع نحو احلذر واملراجعة العاقلة املسؤولة ،قبل أن يفلت الدستور
من بني يدي الذين وضعوه ،واملسؤولني بعدهم عن عرضه وإقراره ،والشعب الذي عليه
أن يقول فيه كلمته ليجني الثامر أو يدفع الثمن ،وال يتبقى بعد ذلك غري مالحظات أخرية ال
جيب إمهاهلا وهي:
❖ إنه ألمر شديد الغرابة أن يوضع دستور يف القرن احلادي والعرشين خاليا من
مصطلح " الديموقراطية " عقيدة الشعوب يف قرن العلم الوضاء ،والقاسم
املشرتك بني األمم مجيعا ،ودليل النضال للمكافحني يف سبيل احلرية ،واألمر يف
ظني ليس مصادفة من مصادفات الصياغة ،بل تدبري مقصود ،دفعت إليه تيارات
سياسية ترص عىل الوقوف يف وجه موجة التطور ،واالستفادة من منتجات احلضارة
اإلنسانية التي أسهم فيها العرب واملسلمون طوال التاريخ ،من حيث أشكال
احلكم والقيم التي تشكل مضموهنا ،فالديموقراطية التي أصبحت سمة من سامت
احلداثة والتطور ،وقيمة من قيم اإلنسانية عامة؛ أهيل عليها الرتاب يف مرشوعنا
العتيد ،لتحل حملها عبارات غامضة وضعت يف شكل ألغام ،ستستخدم فيام بعد
لغرض مرشوعات ملصلحة التطرف ،وعىل الناس أن تقرأ هذه النصوص بعناية
فائقة قبل االستفتاء عليها وقبوهلا.
❖ أجدد التأكيد عىل محايس الشديد لصياغة دستور يسهم يف رفع املعاناة عن شعبنا
الطيب ،ويصل به إىل املرحلة النهائية لبناء الدولة ،واخلروج من حالة العبث التي
فرضتها مراحل انتقالية ،أصبحت حمل تشاؤم لألغلبية الساحقة من الشعب،
ومصد ر قلق لنخبته الواعية ،لكن هذا احلامس ال جيب أن ينطوي عىل " الترسع "
37
والقبول بأي دستور ،فأمام الشعب الليبي فرصة حقيقية لكتابة دستور يعب عن
طموحاته وآماله ،ويقوده إىل بناء دولة حديثة مستقرة ،ومؤسسات متطورة تليق
بأجماده وكفاحه وتراثه العظيم.
إنني أدعو إىل اغتنام هذه الفرصة ،وأطلب من نخبة ليبيا مساعدة شعبها عىل عدم
ارتكاب أخطاء إضافية ،قد تضاعف املعاناة يف املستقبل.
❖ إن الدعوة للرتيث ال تعني وقف العمل ،باالستمرار فيه باملراجعة والتدقيق ،قبل
أن تذهب الفرص ،وهي دعوة للهيئة الدستورية نفسها التي قامت بعمل مرهق،
وعليها أن تستكمل جهدها يف أجواء مفعمة بالوطنية ،فهي هيئة حمرتمة ومنتخبة
بصورة رشعية ،ليست حمل نزاع ،وال ختلو من الوطنية والكفاءة للتصدي ملثل هذا
العمل التارخيي العظيم ،وإذا كانت -فيام مىض -قد عملت يف أجواء التوتر ،فإن
بمقدورها أن تستعيد أجواء الوطنية لتنغمس يف عمل وطني جليل ،وتقدم لشعبها
أفضل الدساتري إذا تطهرت من النوازع الشخصية واجلهوية واملخاوف.
ّ
إن مرشوع الدستور مازال بني أيدهيا ،وال يشفع يف ذلك التحجج بنصوص اإلعالن
الدستوري التي قد تعيق صالهتا باملرشوع ،ويف هناية املطاف فإن نصوص هذا اإلعالن
ليست مقدسة ،وقد جرى اخرتاقها مرارا من كل املؤسسات يف الدولة تقريبا ،وإذا كان
اخليار يدور بني اخرتاق اإلعالن الدستوري أو تقديم مرشوع معيب ،فإن االخرتاق من
أهون الرشور ،وعىل اهليئة ومؤسسات الدولة األخرى إجياد الطريق الدستوري للمراجعة
العاقلة املسؤولة ،عوضا عن االندفاع نحو خطوة ليست حمسوبة ،هي – يف الغالب – قفزة
يف اهلواء ال يعرف أين سيقع صاحبها.
وبعد ....فال يتبق غري دعاء املؤمنني.
اللهم ِّ
ول علينا خيارنا.
38