You are on page 1of 38

‫آراء يف مرشوع الدّ ستور ال ِّل ّ‬

‫يبي‬

‫أ‪.‬د‪ .‬إبراهيم أبوخزام‬


‫أستاذ القانون الدّ ستوري جامعة طرابلس‬

‫تابعت مثل غريي من املواطنني‪ ،‬حالة الصخب التي صاحبت ظهور مرشوع الدستور‬
‫الليبي‪ ،‬يف األيام األخرية من شهر يوليو عام ‪2017‬م‪.‬‬
‫وحاالت الصخب يف األصل نادرة عند ظهور الدساتري‪ ،‬التي تصاحبها يف العادة حالة من‬
‫الزهو واالبتهاج؛ لدالالهتا العظيمة‪ ،‬باعتبارها باكورة ثامر الدولة‪ ،‬غري أن حالة الصخب‬
‫والوالدة العسرية ملرشوع الدستور تستدعي تأمالت عميقة ‪.‬‬
‫واحلق ‪ ،‬إنني اطلعت بتمعن واهتامم شديد عىل مرشوع الدستور ‪ ،‬ومل يكن يف نيتي التعليق‬
‫عليه كتابة وبشكل علني‪ ،‬بسبب ظالل كثرية والتباسات مل ترتك ألمثايل غري واجب الدعاء‬
‫ملن وضعتهم األقدار يف طريق الشعب‪ ،‬بعد أن قمنا بواجب النصح عندما سمحت‬
‫الظروف‪ ،‬غري أن اتصاالت كثرية وصلتني من شخصيات وطنية مرموقة‪ ،‬وزمالء أعزاء من‬
‫أساتذة اجلامعات‪ ،‬وبعض ممن كانوا طاليب من املهتمني بالشأن العام‪ ،‬طالبتني باعتباري‬
‫أستاذا للقانون الدستوري‪ ،‬بإعطاء رأي يف مرشوع الدستور‪ ،‬وهو رأي قد يساعد عىل بناء‬
‫موقف موضوعي من املرشوع ‪.‬‬
‫‪ .1‬إن موقفي من " فكرة الدستور " كان معروفا لعدد غري قليل من الناس من صفوة‬
‫املجتمع ونخبه الفكرية والثقافية والسياسية ‪ ،‬فمنذ أكثر من ربع قرن مىض جاهرت‬
‫برأيي يف أمهية الدستور للدولة احلديثة‪ ،‬برصف النظر عن األسس األيديولوجية التي‬
‫تقوم عليها ‪ ،‬فالدستور الزمة من لوازم الدولة ورشط من رشوط انتظامها واستقرارها‪،‬‬

‫‪1‬‬
‫فعالقة الدولة بالدستور هي عالقة علة بمعلوهلا ‪ ،‬يدور معها وجود ًا وعدم ًا ‪ ،‬إذ حيث‬
‫توجد الدولة ‪ ،‬جيب أن يوجد الدستور ‪.‬‬
‫تلك قاعدة ‪ ،‬حتولت مع التجارب اإلنسانية إىل" بدهية " ليست يف حاجة إىل إثبات ‪،‬‬
‫والبدهية كام يعرف" أهل املنطق " حقيقة تواتر إثباهتا‪ ،‬بالتجربة والعلم والعقل ‪ ،‬مئات‬
‫املرات ‪ ،‬بحيث تصبح حماولة جتديد إثباهتا ال ختلو من العبث !‬
‫إن األيديولوجية التي يقوم عليها أي نظام سيايس ‪ ،‬ال تلعب أي دور من حيث وجود‬
‫الدستور من عدمه ‪ ،‬بل يظهر دورها يف مضمون الدستور ‪ ،‬فهي " املأخذ " الذي يستلهم‬
‫منه الدستور مضامينه ‪ ،‬وقيمها الرئيسية هي ما يصب يف نصوص الدستور ‪.‬‬
‫ويف ذروة جماد الت فكرية وسياسية كثرية ‪ ،‬شهدهتا بالدنا طوال العقود املاضية ‪ ،‬عن احلاجة‬
‫إىل الدستور يف ظل حكم يقوم عىل الديموقراطية املبارشة ‪ ،‬كنت ضمن أصوات " قليلة‬
‫جد ًا" تنادي برضورة كتابة الدستور لتنظيم الدولة ‪ ،‬برصف النظر عن عقيدهتا الفكرية‪ ،‬أو‬
‫شكلها السيايس‪ ،‬أو نوع مؤسساهتا الدستورية‪ ،‬وقد جهرت هبذا الرأي يف وجه رأي آخر‬
‫يذهب إىل تبسيط املسألة بالقول‪ ( :‬إ ّن الدستور هو عبارة عن قيد عىل السلطة احلاكمة ‪،‬‬
‫هيدف إىل ّ‬
‫غل يد السلطة‪ ،‬ويمنعها من التعدي عىل الشعب‪ ،‬وحيدد للحكومة كيفية حكمها‪،‬‬
‫أما حني يتحول الشعب نفسه إىل سلطة ويامرس احلكم مبارشة‪ ،‬فإنه ال معنى لتقييده‬
‫بدستور‪ ،‬فسلطة الشعب "ذات طبيعة مطلقة" ال جيب أن تقيد بأي قيد‪ ،‬وهو ما ينفي‬
‫احلاجة للدستور يف ّ‬
‫ظل النظام الديموقراطي املبارش)‪.‬‬
‫تلك االستنتاجات ‪ -‬كانت يف نظري ‪ -‬مبن ّية عىل قراءة سطحية ساذجة لألفكار والعقائد‬
‫السياسية‪ ،‬وسوء الفهم ملتطلبات الدولة العرصية احلديثة وهو ما دفعني ‪ -‬يف وقت صعب‬
‫– عىل املعارضة الشديدة هلذه اآلراء يف أروقة اجلامعات وعىل منابر اإلعالم وعىل صفحات‬
‫اجلرائد ‪ ،‬وقد دفعت بعض طاليب الذين امتلكوا الشجاعة لبحث هذه اإلشكالية يف رسائل‬

‫‪2‬‬
‫املاجستري والدكتوراه التي أرشفت عليها ‪ ،‬ويف كتبي األربعة عن القانون الدستوري أعلنت‬
‫موقفي الثابت‪ ،‬ويف كتايب األشهر" الوسيط يف القانون الدستوري " الصادر أواخر القرن‬
‫عبت عن موقفي النهائي‪ ،‬وهو كتاب درسه آالف الطالب‪ ،‬وا ّطلع عليه مئات‬
‫املايض‪ّ ،‬‬
‫املهتمني‪ ،‬وهو بني يدي الناس حتى هذه الساعة‪ ،‬قلت‪ :‬إ ّن الدولة هي العلة التي تنتج‬
‫معلوهلا " الدستور" ليس يف ذلك زيادة أو نقصان‪.‬‬
‫‪ .2‬رغم إحجامي الطويل عن العمل السيايس ‪ ،‬منذ عام ‪2011‬م ‪ ،‬واكتفائي بالدعاء‬
‫لبالدي وأهلها يف النجاح ببناء أفضل مما كان ‪ ،‬فقد خرجت ملرات قليلة عن هذا القرار‬
‫الصارم‪ ،‬بتوجيه النصح ملن قدرت أن نصيحتي قد تفيده‪ ،‬من أولئك الذين وضعتهم‬
‫املقادير يف مراكز السلطان ‪ ،‬وذلك عمل أردت به وجه اهلل‪ ،‬ومن أجل صالح الوطن ‪،‬‬
‫رغم مرارة الظلم وقسوة االضطهاد ‪...‬‬
‫ومن بني الذين تواصلت معهم‪ ،‬ووضعت معرفتي حتت ترصفهم " اهليئة التأسيسية لصياغة‬
‫مرشوع الدستور " بحكم أن اهليئة ذات طابع وطني‪ ،‬ال شأن هلا بالرصاع السيايس املرير‪،‬‬
‫وليس من أهدافها تكريس مغالبة ظرفية لطرف ضد آخر‪ ،‬وقد كان من حسن احلظ أن من‬
‫بني أعضاء اهليئة زمالء ومعارف‪ ،‬يسهل عليهم إدراك مقاصدي‪ ،‬ولدهيم القدرة عىل متييز‬
‫دوائر الظالل عن خطوط الضوء يف املايض واحلارض واملستقبل‪.‬‬
‫لقد التقيت مع بعض أعضاء اهليئة يف مناسبات متنوعة‪ ،‬ويف ثالث مرات‪ ،‬كانت كلها جادة‬
‫ورصحية ومحيمة يف أغلب األحيان‪.‬‬
‫وال أريد أن أشغل الناس بتفاصيل هذه اللقاءات التي امتدت ساعات طويلة‪ ،‬لكن‬
‫خالصتها كانت ما ييل‪:‬‬
‫أ‪ .‬رشحت أمهية ما يقومون به عىل مستوى التاريخ ‪ ،‬فكتابة الدساتري تضع أصحاهبا يف‬
‫مراكز علية من التاريخ ‪ ،‬باعتبارهم اآلباء املؤسسني ‪ ،‬وقد أضحى هذا التعبري رمزا‬

‫‪3‬‬
‫من رموز العظمة هلم ولغريهم من األبناء واألحفاد ‪ ،‬ويف معظم الدول تزخر‬
‫املتاحف بصورهم ومتاثيلهم وأوراقهم اعرتافا بفضائلهم‪ ،‬فليس هناك أكثر جالال‬
‫من كتابة دستور يضع البالد عىل الطريق الصحيح‪ ،‬برشط أن يرتفع هؤالء الرجال‬
‫ملستوى املسؤولية ‪.‬‬
‫وقد ذكّرهتم بأن املهام اجلليلة‪ ،‬تدفع ببعض الناس للحسد‪ ،‬أما قليلهم العاقل فتصيبه‬
‫"الغبطة" فال أحد ال يتمنى أن يكون يف موقعهم ‪ ،‬وعليهم اإلمساك بالتاريخ ‪ ،‬حتى ال‬
‫ينفلت من بني أيدهيم‪.‬‬
‫ب‪ .‬وضعت بني أيدهيم رؤيتي للدستور ‪ ،‬وخالصة جتاريب مع أعامل القانون ‪ ،‬وألنني‬
‫تلمست بعض االنحراف املبكر يف املسودات األولية التي اطلعت عليها ‪ ،‬فقد‬
‫حذرت من االنزالق نحو مسائل ليست من صميم الدساتري ومشتمالهتا‪ ،‬وليست‬
‫من رضورات تنظيم الدولة‪ ،‬وقد رشحت – عىل قدر ما أستطيع – فلسفة الدساتري‬
‫ومشتمالهتا ‪ ،‬وأن أخطر ما يصيب صناعة الدساتري هو االنغامس يف رصاعات‬
‫الساعة‪ ،‬واالستجابة للعواطف واألهواء والضغوط‪ ،‬التي تدفع لغرفة الدستور‬
‫قضايا ال تنتمي لعائلة الدساتري‪.‬‬
‫ج‪ .‬نصحت بأن تنظم ألعضاء اهليئة سلسلة من الدورات لالستامع إىل أكب أساتذة الفكر‬
‫والفلسفة والسياسة واالقتصاد والقانون الدستوري‪ ،‬وإجراء مناقشات معمقة حول‬
‫األنظمة السياسية واملؤسسات الدستورية وكيفية بناء الدول‪ ،‬فقد تولدت لدي‬
‫مشاعر عن حاجة أعضاء اهليئة أو بعضهم عىل األقل إىل خمزون معريف قد يعينهم عىل‬
‫إنجاز مهمتهم‪ ،‬ذلك أن نصوص الدستور تبنى عىل الفلسفات الكبى‪ ،‬والنظريات‬
‫الفقهية الراسخة‪ ،‬يف الفلسفة والفكر والسياسة والرتبية واالقتصاد‪ ،‬وليست قانونا‬
‫لفض النزاعات اليومية الطارئة‪.‬‬

‫‪4‬‬
‫د‪ .‬فتح حوار جمتمعي واسع حول القضايا الدستورية الكبى‪ ،‬مثل شكل وطبيعة‬
‫النظام السيايس‪ ،‬ونوع احلكومة املرغوبة‪ ،‬والتوجهات الثقافية واالجتامعية‬
‫واالقتصادية‪ ،‬ومقومات الدولة وهويتها ورموزها وشعاراهتا‪ ،‬وذلك بقصد "‬
‫استظهار " إرادة الشعب ومعرفة انشغاالته وتوجهاته ومهومه وطموحاته‪ ،‬فرغم أن‬
‫اهليئة مكلفة بوضع مرشوع الدستور‪ ،‬إال إن من واجباهتا تلمس إرادة الشعب‪،‬‬
‫وعدم التعويل عىل إرادهتا وحدها ‪ ،‬فالقضايا الكبى شأن عام ال تصح النيابة فيه‪،‬‬
‫وال يقبل فيه ادعاء املعرفة واإلدراك‪ ،‬وإذا كانت الظروف ال تسمح بإجراء سلسلة‬
‫من االستفتاءات‪ ،‬فإن من الواجب إجراء حوار جمتمعي شامل‪.‬‬
‫ذ‪ .‬وقد كان آخر النصائح‪ :‬وجوب االطالع عىل أفضل دساتري العامل‪ ،‬واستخالص‬
‫الدروس من جتارب األمم التي قطعت أشواطا طويلة يف التنظيم الدستوري‪ ،‬وقد‬
‫بنيت هذه النصيحة عىل معلومات وصلتني تذهب إىل تأثر اهليئة بتجارب وضع‬
‫دساتري يف دول جماورة‪ ،‬فقد كنت أعرف عىل وجه الدقة مقدار اخللل يف هذه‬
‫الدساتري‪ ،‬التي تعهدهتا – يف األصل – أيادي ليست خمتصة ‪ ،‬وهو ما جعلها دساتري‬
‫مذمومة يف أوطاهنا‪ ،‬ترتنح بني احلياة واملوت ‪ ،‬وقد فقدت قداستها قبل الوقوف عىل‬
‫أقدامها ‪.‬‬

‫‪ .3‬بعد شهور ظهرت من اهليئة وثيقة دستورية حتت اسم " خمرجات جلنة العمل ‪ ،" 2‬وقد‬
‫كانت فيام يبدو الصياغة شبه النهائية ملرشوع الدستور ‪ ،‬وبعد دراستها بإمعان ‪ ،‬كتبت‬
‫عب عن‬
‫مقالة انترشت بني الليبيني بعوان " مالحظات عىل مرشوع الدستور الليبي "‪ ،‬ت ِّ‬
‫خيبة اآلمال‪ ،‬وتدعو إىل الرتيث يف الدفع هبذا املرشوع ‪ ،‬ذكرت فيها األخطاء الكبى‬
‫والفادحة يف املرشوع‪ ،‬وهي مقالة ركّزت عىل القضايا الدّ ستور ّية الكبى‪ ،‬وليس عىل‬

‫‪5‬‬
‫مواد املرشوع‪ ،‬وقد عرضت أربع مسائل تتعلق بعدم مالئمة الوقت لصدور الدستور‪،‬‬
‫وانحراف املرشوع عن القضايا الدستورية نحو القضايا الفرعية ذات الطبيعة القانونية‬
‫والالئحية‪ ،‬وافتقار املرشوع للرؤية الفكرية والسياسية التي جيب أن يقوم عليها‪،‬‬
‫وأخريا أمهية الصياغة املتينة واجلميلة للدستور‪ ،‬وبنا ًء عليه نصحت بالرتيث وعدم‬
‫توريط الشعب يف دستور مفكك ومشوب بالعيوب ‪ ،‬فهو إذا صدر – هبذا الشكل –‬
‫سيكون مصدرا لألزمات وليس حلل ما هو قائم منها‪.‬‬
‫إنني أظن ّ‬
‫أن هذه العيوب قد نجمت عن األسباب التالية ‪:‬‬
‫‪ .1‬ينبعث اخل طأ الرئييس من بداية اختيار آلية وضع الدستور‪ ،‬فقد نص اإلعالن‬
‫الدستوري عىل اختيار هيئة تأسيسية لكتابة الدستور‪ ،‬ووضع آليات معقدة إلقراره‪،‬‬
‫ومع أن أسلوب اهليئات التأسيسية يعد أسلوبا مثاليا لصناعة الدساتري بطريقة‬
‫ديموقراطية‪ ،‬تتضاعف جرعاهتا باالستفتاء الشعبي‪ ،‬إال أن تنفيذ ذلك يتطلب عدد ًا‬
‫من الرشوط املوضوعية لضامن نجاحه‪ ،‬ويف مقدمة ذلك شيوع ثقافة الديموقراطية‪،‬‬
‫ووحدة الشعب وإمجاعه‪ ،‬ورغبته اجلامعية يف إصدار دستور يعب عن املصري املشرتك‬
‫ملواطنيه‪ ،‬وحيقق تطلعات األمة وأجياهلا القادمة‪.‬‬

‫وأغلب الظن أن معظم هذه الرشوط مل تكن متوفرة يف ظروف ليبيا احلالية‪ ،‬فقد كان‬
‫البيت منقسام‪ ،‬وبدأت اهليئة عملها يف ظروف الرصاعات املريرة واحلروب املدمرة‪ ،‬بام فيها‬
‫من مناخ الشك‪ ،‬وانعدام الثقة‪ ،‬والتمزق السيايس واالجتامعي‪ ،‬وهو ما جعل املرشوع‬
‫أقرب إىل تكريس املغالبة منه إىل امليثاق الوطني املعب عن الرغبة يف العيش املشرتك‪ ،‬وفق‬
‫"التوازنات الطبيعية للمجتمع " وآمال األمة يف املستقبل‪.‬‬

‫‪6‬‬
‫وإذا أضيف إىل ذلك ضعف ثقافة الديموقراطية‪ ،‬وغياب احلوار املجتمعي العميق‪،‬‬
‫والقيادة الواعية القادرة عىل ضبط الرصاعات‪ ،‬فإن اخللطة تتحول إىل مائدة مسمومة‪.‬‬

‫لدي قناعة تامة بأن هذا االختيار قد افتقر للحكمة والتبرص‪ ،‬وبنى عىل تبسيط شديد‬
‫لفكرة الديموقراطية‪ ،‬ومل يأخذ يف االعتبار الزلزال الليبي‪ ،‬وقادته سذاجة الزعامء نحو‬
‫االعتامد عىل املظهر الشكيل للديموقراطية حلل معضلة إعداد الدستور دون اهتامم بـ"جوهر‬
‫" الديموقراطية وقيمها‪ ،‬التي كانت ستدفع نحو أساليب أكثر عقالنية لكتابة الدستور‪ ،‬ثم‬
‫إصداره بالديموقراطية "الرصينة "‪.‬‬

‫إن كتابة الدساتري عملية سياسية وفنية مهمة ومعقدة‪ ،‬وتلجأ الدول إلنجازها باتباع‬
‫آليات تتفق مع ظروفها‪ ،‬وال خترج هذه اآلليات عن االعتامد عىل جلنة ذات مستوى عال من‬
‫الكفاءة لكتابة الدستور‪ ،‬ثم استفتاء الشعب عليه ‪ ،‬أو اللجوء إىل هيئة تأسيسية منتخبة وفق‬
‫رشوط دقيقة تضمن وجود الكفاءات وتنوع خباهتا ‪ ،‬أو املزج بني هذه األساليب برشط‬
‫توفر الظروف املوضوعية للنجاح‪ ،‬ويف مقدمة هذه الظروف اتفاق األمة أو معظمها عىل‬
‫اخليارات السياسية الكبى املتعلقة بشكل نظام احلكم‪ ،‬وتوجهات املجتمع‪ ،‬ودرجة تطوره‬
‫التارخيي‪.‬‬
‫ومل أسمع يف تاريخ كتابة الدساتري‪ ،‬جلنة أو هيئة‪ ،‬يعهد إليها بكتابة دستور دون توجيه‬
‫مسبق حول النظرية السياسية التي يقوم عليها‪ ،‬ونظام احلكم املراد تأسيسه‪ ،‬والتوجهات‬
‫الثقافية واالقتصادية واالجتامعية التي جيب البناء عليها‪.‬‬

‫‪7‬‬
‫ومن أبجديات كتابة الدساتري‪ :‬احلصول عىل توجيهات مسبقة عن شكل النظام‬
‫السيايس‪ ،‬وفصيلة مؤسساته‪ ،‬ونوع ديموقراطيته‪ ،‬برملانية ‪ ،‬رئاسية ‪ ،‬أو خمتلطة إلخ ‪ ،‬ويف‬
‫غياب التوجيه أو احلوار املجتمعي ‪ ،‬يغدو الدستور اجتهادا فرديا يقع فيه اخلطأ والصواب‪.‬‬
‫‪ .2‬إن اختيار اهليئة عن طريق االنتخاب‪ ،‬ودون ضوابط دقيقة‪ ،‬ويف ظروف التوتر‬
‫والرصاع؛ قد أنتج هيئة قليلة االنسجام‪ ،‬وهو ما عبت عنه املقاطعات الرسيعة‪،‬‬
‫واالنسحابات املتكررة‪ ،‬والطعون القضائية يف بعض أعضاء اهليئة وإجراءاهتا ‪ ،‬وهي‬
‫طعون طالت رئيس اهليئة نفسه‪ ،‬وقذفت به بعيدا يف منتصف الطريق ‪ ،‬وقد أدى ذلك‬
‫إىل التحول عن اهلدف ‪ ،‬وهو وضع دستور رصني ‪ ،‬إىل احلفاظ عىل كيان اهليئة نفسها ‪،‬‬
‫فقد أصبح هدف اهليئة هو " احلفاظ عىل متاسك ما تبقى " بأي ثمن ولو عىل حساب‬
‫الدستور ‪ ،‬وذلك بمحاولة إرضاء كل عضو ‪ ،‬خشية فقدان األغلبية الالزمة إلنجاز‬
‫املرشوع ‪ ،‬وهكذا تغلب الشكل عىل املضمون ‪.‬‬
‫‪ .3‬أدى حتول اهلدف إىل جعل الدستور " سوقا للمساومات "‪ ،‬وأغلب الظن أن اهليئة‬
‫انقلبت من مؤسسة وطنية جامعة هتدف إىل صياغة مرشوع وطني‪ ،‬إىل جمموعة من‬
‫األعضاء املدافعني عن قضايا جزئية‪ ،‬ونزاعات حملية وجهوية وفئوية‪ ،‬وهكذا أصبح‬
‫الدستور سوقا للمساومات ‪ ،‬أعطيني مادة أعطيك أخرى ‪ ،‬وافق عىل مجلة أوافقك‬
‫عىل مثلها ‪ ،‬أكتب هذه الكلمة أو أنني سأسحب صويت ‪ ،‬وقد أضحى لكل صوت‬
‫قيمة غالية أكثر مما يمثل يف الواقع ‪ ،‬ألن انسحاب أصوات قليلة جدا كان كافيا‬
‫القتالع اهليئة من جذورها‪ ،‬ونسف وجودها كليا ‪ ،‬ويف مثل هذه الظروف ال تكتب‬
‫الدساتري ‪.‬‬
‫إن احلل يكمن يف تصحيح اآلليات‪ ،‬فهي الطريق الوحيد لتصحيح املضمون‪.‬‬

‫‪8‬‬
‫‪ .4‬إنني ما زلت ‪ -‬ولن أغري رأي ‪ -‬لناحية أمهية إصدار الدستور‪ ،‬غري أنني – يف هذا‬
‫الوقت‪ -‬ال أراه حاجة رضورية للبالد‪ ،‬وذلك ‪-‬يف ظني‪ -‬ليس بدعة يف تاريخ‬
‫الدساتري‪ ،‬فقد اعتادت الدول يف ظل الرصاعات واحلروب‪ ،‬االستعاضة عن الدساتري‬
‫بوسائل بديلة‪ ،‬استعدادا لتهيئة الظروف للمرحلة الدستورية النهائية‪ ،‬فالدستور "‬
‫ميثاق مجاعي" لبناء وطن يقوم عىل الرضاء التام ألبنائه‪ ،‬وهو ما يدفع إىل وضعه يف‬
‫ظرو ف اهلدوء واالستقرار‪ ،‬وليس يف علمي أن دستورا كتب له البقاء إذا ظهر يف‬
‫أجواء النزاعات والقلق‪.‬‬
‫وال أعرف كيف يمكن االستفتاء عىل دستور والقبول بأحكامه‪ ،‬بواسطة شعب نصفه‬
‫معزول سياسيا‪ ،‬يعاين ويالت اهلجرة والنزوح‪ ،‬ونصفه الباقي يعاين شظف العيش‪ ،‬حتتويه‬
‫طوابري املعاناة‪ ،‬وهي طوابري أكثر طوال من طوابري االستفتاء‪.‬‬

‫أعرف أن " ديامغوجية " االستفتاء قد تضفي عليه رشعية شكلية‪ ،‬فمن النادر فشل‬
‫االستفتاءات يف بلدان العامل الثالث‪ ،‬فاالستفتاء بمظهره الديموقراطي يتحول إىل ديامغوجية‬
‫سافرة‪ ،‬عندما توهم الشعوب بأن إصدار الدساتري هي مفاتيح احلل ملعاناهتا‪.‬‬
‫ويف مثل هذه األحوال يندفع الناس للموافقة‪ ،‬ليس اعجابا باملضمون‪ ،‬بل تعلقا بالوهم‬
‫الذي زرع يف أذهاهنا‪ ،‬وأغلب الظن أن تصويت الناس لن يكون بعيدا عن إجابة ذلك‬
‫املواطن البسيط الطيب‪ ،‬حني سئل عن الدستور فأجاب بأنه " سكَّر " !!‬
‫إن احلل العقالين املالئم لظروف بالدنا اليوم‪ ،‬هو اللجوء إىل إصدار إعالنات دستورية‬
‫مؤقتة‪ ،‬أو قوانني أساسية تنظم بشكل مؤقت قضايا احلكم وشكل الدولة‪ ،‬قضايا احلقوق‬
‫واحلريات‪ ،‬قضايا احلكم املحيل والالمركزية‪ ،‬قضايا نظام القضاء‪ ،‬قضايا اإلعالم‬

‫‪9‬‬
‫والصحافة‪ ،‬قضايا املصاحلة الوطنية الشاملة‪ ،‬قضايا الطوارئ والتعبئة‪ ،‬قضايا تكوين‬
‫األحزاب واجلمعيات‪ ،‬قضايا السيادة الوطنية والسياسة اخلارجية إلخ‪.‬‬
‫إن حالة ليبيا الراهنة تستدعي " تفكريا إبداعيا "‪ ،‬وليس االنسياق وراء جتارب أخرى‬
‫وتقليدها بشكل أعمى‪ ،‬تفكري " خارج الصندوق " كام يقال‪ ،‬ينطوي عىل اإلبداع والتأمل‪،‬‬
‫ولعل أحد األخطاء التي ارتكبت ‪-‬وقد تتكرر مرة أخرى ‪ -‬هي االعتامد عىل إعالن‬
‫دستوري شامل‪.‬‬
‫إننا يف حاجة إىل " قوانني أساسية مؤقتة " تتسم بقدر من اجلمود‪ ،‬تشبه الدساتري من‬
‫حيث رصانتها‪ ،‬وهي التي ستشكل ‪-‬يوما ما‪ -‬مضمون الدستور الدائم للدولة‪ ،‬بعد أن‬
‫يكشف تطبيقها مزاياها وعيوهبا‪ ،‬وبعد أن ينطلق يف ظالهلا "حوار جمتمعي شامل "‪ ،‬وفوق‬
‫ذلك بعد إنجاز " مصاحلة وطنية شاملة " تعيد للمجتمع وحدته وزهوه وتطلعاته‪.‬‬
‫ولعل أغرب ما سمعت من بعض أعضاء اهليئة وغريهم‪ :‬أ ّن مرشوع الدستور ينطوي‬
‫عىل عيوب كثرية‪ ،‬لكن دعونا نصدره‪ ،‬ثم نلجأ فيام بعد إىل تعديله‪ ،‬وهو ما يكشف القصور‬
‫يف النظرة للدستور‪ ،‬وهي نظرة تنزع عنه مقدما أهم خصائصه " القداسة واالحرتام "‪ ،‬وال‬
‫أدري ملاذا ال تعمل عىل عالجه وهو يتخ ّلق بني يديك‪ ،‬عوضا عن جراحته وهو حي يرزق‪،‬‬
‫وأخشى أن تتحول هذه الدعوى – ذات يوم – إىل قتله قتال رحي ًام !!‬
‫تلك بعض املالحظات املبدئية‪ ،‬ولدي غريها مما حجبته رمحة باجلمهور‪.‬‬
‫وإذا فتحنا كتاب مرشوع الدستور‪ ،‬فإن املالحظات يصعب وضع هناية هلا‪ ،‬ففي كل مادة‬
‫من مواده ما يستحق التعليق والتأمل‪.‬‬
‫ذكرا للمزايا والعيوب‪ ،‬وألسباب عملية فإنني سأكتفي بتناول عينات حمدودة‪ ،‬مسامهة‬
‫يف النقاش العام‪ ،‬وذلك عىل النحو التايل‪:‬‬

‫‪10‬‬
‫لا‪ :‬إن مرشوع الدستور قد انزلق انزالق ًا واسع ًا نحو القضايا غري الدستورية ‪ ،‬ليتناول‬
‫أو ً‬
‫قضايا ال تدخل بطبيعتها ضمن موضوعات الدستور‪ ،‬وتكتفي أغلب الدول برتكها للتنظيم‬
‫القانوين أو الالئحي يف بعض األحيان‪ ،‬وعىل املرشوع الدستوري ‪ -‬منذ البداية‪ -‬التمييز بني‬
‫القضايا الدستورية عن غريها‪ ،‬ذلك أن القضايا الدستورية ‪ ،‬فضال عن أمهيتها املوضوعية ‪،‬‬
‫فهي قضايا تتميز بالثبات واالستقرار ‪ ،‬مما جيعلها ليست قابلة للتبديل أو التغيري إال بعد‬
‫سنوات طويلة‪ ،‬وهو ما يضفي عىل الدستور وموضوعاته االحرتام والقداسة‪ ،‬وإذا ضمنت‬
‫ضمن نصوصه قضايا القوانني واللوائح املتغرية‪ ،‬فإنه بسبب التغيريات املتكررة يفقد‬
‫احرتامه وقداسته‪.‬‬
‫إن الدساتري حني نشأت ‪-‬يف األصل‪ -‬انصبت عىل موضوع دستوري واحد‪ ،‬هو تنظيم‬
‫السلطات العامة يف الدولة‪ ،‬وذلك بغرض ضامن ثبات املؤسسات الدستورية‪ ،‬ومنع‬
‫احلكومات املتغرية من تبديل أحكامها أو التالعب هبا ‪ ،‬فالدستور يف األصل هو " الصك‬
‫املنظم للسلطات العامة للدولة" ‪.‬‬
‫إن الدستور األمريكي ‪ -‬وهو أول دستور مكتوب يف العرص احلديث ‪ -‬كان صك ًا لتنظيم‬
‫سلطات الدولة‪ ،‬وذلك هو رس حمدودية مواده‪ ،‬فقد ظهر يف سبع مواد‪ ،‬كرست واحدة فقط‬
‫لتنظيم السلطة الترشيعية‪ ،‬وثانية للرئيس‪ ،‬وثالثة للقضاء‪ ،‬ورابعة لتنظيم االختصاصات بني‬
‫االحتاد والواليات‪ ،‬وما تبقى لتنظيم مسائل عامة وانتقالية تتعلق باالنضامم لالحتاد‬
‫والتصديق عىل الدستور وكيفية تعديله‪.‬‬
‫تلك كانت مشتمالت الدستور‪ ،‬وهو دستور مل يمس كثريا منذ أكثر من قرنني‪ ،‬ومع‬
‫الزمن ظهرت للوجود قضايا دستورية أخرى‪ ،‬ال تقل أمهية‪ ،‬كان يف مقدمتها احلريات‬
‫باملؤسسة الدستورية‪ ،‬مصدر اخلطر‬
‫ّ‬ ‫العامة‪ ،‬وحقوق اإلنسان‪ ،‬وذلك بسبب صلتها املبارشة‬
‫الرئييس عىل هذه احلريات واحلقوق‪.‬‬

‫‪11‬‬
‫ذلك هو ما دفع املرشع الدستوري األمريكي إىل االنتباه املبكر إلصدار وثيقة احلريات يف‬
‫عرش مواد‪ ،‬وهي ما يعتبه كثري من الناس تعديالت دستورية‪ ،‬فهي يف الواقع إضافة وليست‬
‫تعديال‪.‬‬
‫مرت أوقات طويلة قبل أن تتسع الدساتري ملوضوعات جديدة ‪ ،‬فالدستور نظرا ملكانته‬
‫ّ‬
‫السامية ال جيب أن يتضمن سوى املبادئ العامة والتوجهات الكبى للدولة‪ ،‬وحتى‬
‫املوضوعات التي هي من صميم الدستور ‪ ،‬يكتفي املرشع الدستوري – عادة – بتنظيم‬
‫مبادئها العامة وثوابتها الدائمة ‪ ،‬ويرتك لغريه تنظيم تفاصيلها ومتغرياهتا ‪ ،‬وعىل سبيل‬
‫املثال‪ ،‬فإن السل طة القضائية وهي من أهم املؤسسات ال حتظى بالتنظيم الدستوري املفصل‪،‬‬
‫بل يكتفي املرشع الدستوري بوضع املبادئ العامة التي يرتكز عليها النظام القضائي‪ ،‬ليرتك‬
‫للمرشعني ( عىل اختالف درجاهتم ) تنظيم هذه السلطة املهمة ‪ ،‬وليس هناك من دستور‬
‫مرموق ‪ ،‬ينغمس يف التفاصيل املتغرية‪ ،‬ويعرض نفسه للتالعب والتغيري ‪.‬‬
‫إن ما جيب أن يفهمه (الناس) أن الدستور هو‪ ( :‬توجيه للمرشعني واحلكام )‪ ،‬يلزمهم‬
‫بالترشيع واحلكم وفق ثوابت ومبادئ ( يضعها الدستور )‪ ،‬وال يتحول هو نفسه إىل أداة‬
‫حكم حيل حمل املرشعني واحلكومات ‪ ،‬وإذا حدث ذلك فإن الدستور يفقد أهم خصائصه ‪،‬‬
‫الثبات واالحرتام ‪.‬‬
‫نظرا للتطور اهلائل يف أساليب احلياة‪ ،‬وتزايد حدة الرصاعات‪ ،‬وتعدد التيارات الفكرية‬
‫ً‬
‫والفلسفية‪ ،‬وتنامي األيديولوجيات يف القرن العرشين ‪ ،‬ظهرت احلاجة إىل التفات الدساتري‬
‫إىل موضوعات جديدة أصبح من حقها اقتحام حقول الدساتري‪ ،‬لتحظى بالتناول والتنظيم‬
‫الدستوري ‪ ،‬فالدستور‪ -‬يف جانب من جوانبه‪ -‬هو تعبري عن رؤية حضارية و (طريقة حياة)‬
‫األمة التي تنبعث من جذور فكرية عميقة‪ ،‬دينية أو فلسفية‪ ،‬وذلك هو ما جعل الدساتري‬
‫هتتم بتنظيم ( التوجهات الكبى ) للمجتمع‪ ،‬وتدرجها ضمن مشتمالهتا ‪ ،‬باعتبارها مبادئ‬

‫‪12‬‬
‫حضارية وثقافية واجتامعية واقتصادية تشكل أهداف األمة وغاياهتا‪ ،‬وهكذا ظهرت "‬
‫املقومات " باعتبارها موضوعا أصبح من " مشتمالت " الدستور‪ ،‬لكن هذا االهتامم‬
‫ينصب عىل املبادئ دون االنغامس يف التفاصيل ‪.‬‬
‫تلك هي – عىل اإلمجال – مشتمالت الدساتري األساسية التي تشكل القواسم املشرتكة‬
‫لدساتري الدول املتحرضة‪ ،‬ومن الطبيعي أن تضاف مشتمالت أخرى لبعض الدساتري‪،‬‬
‫بحكم خصوصيات الدول وظروفها‪ ،‬التي تستدعي يف أحوال ما االهتامم هبذه‬
‫اخلصوصيات والظروف وإدماجها يف صلب الدستور‪ ،‬ومع ذلك فإن األمر يدور يف إطار‬
‫املبادئ والتوجهات‪ ،‬وال يتعلق باملتغريات والتفاصيل‪.‬‬
‫ثاني اًا‪ :‬مع الزمن ابتكر الفكر القانوين الفرنيس فكرة غاية يف الروعة‪ ،‬هي فكرة (القانون‬
‫األسايس) للتوفيق بني احلاجة للتنظيم الدستوري لبعض املوضوعات‪ ،‬واحلفاظ عىل‬
‫اخلصائص الطبيعية للدساتري‪.‬‬
‫" القانون األسايس " هو شكل جديد من أشكال القانون‪ ،‬يقع يف منطقة وسطى بني‬
‫الدستور والقوانني العادية‪ ،‬من حيث اجلمود واملرونة والثبات والتغري‪ ،‬فهو يشرتك مع‬
‫الدستور يف بعض خصائصه‪ ،‬وأمهها تعلقه بتنظيم السلطات العامة للدولة‪ ،‬ودرجة ثباته‬
‫النسبية‪ ،‬ويشرتك مع القانون العادي من حيث طبيعته املتغرية ومرونته القابلة للتعديل‪،‬‬
‫وهكذا فقد ابتكر العقل القانوين فكرة القانون األسايس‪.‬‬
‫يتميز القانون األسايس بخصائص عديدة‪ ،‬فهو‪:‬‬
‫(ًأً)ً‪ :‬قانون " يفصل " املبادئ الدستورية الواردة يف صلب الدستور ‪ ،‬سواء تعلق‬
‫األمر بالسلطات العامة للدولة ‪ ،‬أو احلقوق واحلريات العامة‪ ،‬أو مقومات الدولة‪،‬‬
‫أو غري ذلك من مشتمالت الدستور‪.‬‬

‫‪13‬‬
‫وهو (ًبً) ‪ :‬ينطوي عىل قابلية أكثر مرونة للتعديل والتطوير إذا استدعت احلاجة‬
‫أو تغريت الظروف‪.‬‬
‫وهو ( ًج ً) ‪ :‬ينطوي عىل قدر من اجلمود يمنع احلكومات من تغيريه والتالعب‬
‫بأحكامه‪ ،‬فهو جزء من دستور الدولة من بعض الوجوه‪ ،‬وجزء من قوانينها العادية‬
‫من وجوه أخرى‪.‬‬
‫وبسبب ذلك فإن وضعه أو تعديله يتطلب إجراءات خاصة‪ ،‬وأغلبيات موصوفة‪ ،‬جتعله‬
‫يعلو عىل القوانني ويقرتب من الدساتري من حيث االحرتام والثبات‪.‬‬
‫" القوانني األساسية " هي الفكرة القانونية املالئمة للتوفيق بني احلاجة إىل إدخال بعض‬
‫املوضوعات إىل دائرة الترشيع الدستوري‪ ،‬واحلاجة إىل االستجابة للمتغريات والظروف‪،‬‬
‫دون املساس بالدستور األصيل الذي جيب أن يكون ثابتا ال متغريا‪.‬‬
‫لقد كان يكفي املرشعني يف ليبيا االنتباه ملعاجلات الدستور الفرنيس احلايل الذي أحال‬
‫معظم املوضوعات للقوانني األساسية الواردة عرشات املرات يف هذا الدستور‪ ،‬فقد اكتفى‬
‫هذا الدستور بالنص عىل املبادئ األساسية والثوابت الرئيسية‪ ،‬وترك تفصيلها للقوانني‬
‫األساسية‪ ،‬وقد حدد الدستور نفسه كيفية وضع هذه القوانني‪ ،‬وكيفية تعديلها وجعلها يف‬
‫مرتبة قريبة من الدستور‪ ،‬دون أن يغلق عىل سلطات بالده االستجابة للتطورات‬
‫ورضورات التغيري‪.‬‬
‫إن فكرة " القوانني األساسية " شائعة اليوم يف معظم دساتري العامل‪ ،‬وعىل األخص تلك‬
‫الدساتري التي تأثرت بالفكر الدستوري الفرنيس ‪ ،‬ورغم أن مرشعينا نقلو عن الدستور‬
‫الفرنيس بعض نصوصه ‪ ،‬إال أهنم فشلو يف االنتباه إىل أفضل ما فيه‪ ،‬وهي فكرة القوانني‬
‫األساسية‪.‬‬

‫‪14‬‬
‫تنظم " القوانني األساسية " – عادة – مؤسسات دستورية مهمة تعتب جزءا من‬
‫السلطات العامة للدولة‪ ،‬أو تفصل موضوعات مهمة وضعت مبادئها العامة يف صلب‬
‫الدستور‪ ،‬نأى الدستور نفسه عن التعرض لتفاصيلها ‪ ،‬ومع أنه ال يوجد إمجاع فقهي عىل‬
‫حرص القوانني األساسية أو جماالهتا‪ ،‬إال أن أمهها القوانني املنظمة للمجالس الترشيعية‪،‬‬
‫والقوانني املنظمة للسلطة القضائية‪ ،‬وعىل األخص املحكمة العليا واملحاكم واملجالس‬
‫الدستورية ‪ ،‬قوانني االنتخاب ‪ ،‬قوانني تنظيم األحزاب ‪ ،‬قوانني الطوارئ ‪ ،‬قوانني احلكم‬
‫املحيل ‪ ،‬قوانني الصحافة واإلعالم ‪ ،‬قوانني رايات الدولة وشعاراهتا ‪ ،‬قوانني تنظيم اهليئات‬
‫واملؤسسات املستقلة كالبنوك املركزية وأجهزة الرقابة وهيئات التنمية واملجالس املعنية‬
‫بقضايا احلريات وحقوق اإلنسان‪ ،‬القوانني االقتصادية املهمة مثل القانون املايل للدولة‪،‬‬
‫وقوانني محاية الثروات القومية‪ ،‬وذلك فضال عن قوانني محاية األقليات‪ ،‬أو غري ذلك من‬
‫القوانني املهمة لدولة ما وفق ظروفها وتارخيها‪ ،‬وعىل األخص ما يتعلق بمقوماهتا القومية‬
‫والدينية واحلضارية إلخ‪.‬‬
‫إن مثل هذه القوانني ال تدرج يف صلب الدستور‪ ،‬الذي يكتفي بوضع مبادئها‬
‫ومرتكزاهتا‪ ،‬ويوجه سلطة الترشيع إىل تفصيلها وفق املبادئ الدستورية‪.‬‬
‫إن هذه القوانني تشكل مع الدستور حزمة دستورية واحدة‪ ،‬وهي بحكم طبيعتها املقاربة‬
‫للدستور توضع بطريقة تتسم باحلرص والعناية‪ ،‬إذ يتطلب إصدارها أو تعديلها إجراءات‬
‫صلبة مثل تطلب أغلبيات برملانية خاصة‪ ،‬أو االستفتاء الشعبي عليها أو غري ذلك من‬
‫اإلجراءات املقصود هبا محاية هذه القوانني من نزوات وغوغائية السلطات الترشيعية‬
‫املنتخبة‪ ،‬واحلكومات احلزبية املتغرية‪.‬‬

‫‪15‬‬
‫إن مرشوع الدستور الليبي مل يدرك هذه احلقائق‪ ،‬ومل يلتفت إىل فائدة القوانني األساسية‪،‬‬
‫وهلذا السبب وقع يف أخطاء فادحة‪ ،‬إما بإقحام هذه املوضوعات يف صلب الدستور‪ ،‬أو‬
‫تركها لتنظيم القوانني العادية‪ ،‬ويف احلالتني كان اخلطأ فادحا‪.‬‬
‫إن إقحام هذه املوضوعات يف صلب الدستور ال يمكن تبيره‪ ،‬فهو فضال عن تضخيم‬
‫الدستور سيقود إىل الرتقيع املستمر لنصوص الدستور‪ ،‬مما يفقده قدسيته واحرتامه‪،‬‬
‫فالتعديل املتالحق سينزع عن الدستور أهم خصائصه‪ ،‬وإذا تعرس التعديل – يوما ما‪ -‬فإن‬
‫احلل األسهل ‪ ،‬سيكون القفز عىل نصوص الدستور وجتاوزها ‪ ،‬وتلك سمة واضحة يف‬
‫بلدان العامل الثالث‪ ،‬إذ أن النصوص الزاهية التي توضع من أجل مترير الدستور‪ ،‬هي أول‬
‫النصوص التي جيري انتهاكها‪.‬‬
‫أما ترك هذه ملوضوعات لتنظيمها بالقوانني العادية‪ ،‬فهو ال يقل خطورة ‪ ،‬إذ سيجعل‬
‫األمر بيد أي جمموعة قليلة للتالعب بمؤسسات الدولة وتسخريها ملصلحتها ‪ ،‬وذلك كله‬
‫يؤجج الرصاع ويقود لعدم االستقرار‪ ،‬والتجربة الليبية املاثلة اليوم تقدم أفضل الدروس يف‬
‫استخدام القوانني للمغالبة ‪ ،‬حني يلوى عنق القوانني وتتحول قاعات املحاكم إىل ساحات‬
‫للمامحكات‪.‬‬
‫إن مرشوع الدستور الليبي ميلء بمثل هذه اإلخفاقات ‪ ،‬فقد حرش بني نصوصه عرشات‬
‫املواد ذات الطبيعة غري الدستورية ‪ ،‬فمن املواد األوىل املتعلقة بمقومات الدولة إىل هنايته‬
‫املكرسة للهيئات املستقلة واألحكام العامة ‪ ،‬امتأل الدستور باحلشو واإلطناب ‪ ،‬وليس من‬
‫مقومات الدولة تفصيل سياسات الزراعة والصناعة والسياحة‪ ،‬وكيفية إدارة املرافق العامة‬
‫والرضائب والزكاة واألوقاف واإلسكان وأصول محاية اآلثار واملخطوطات ‪ ،‬وليس من‬
‫حقوق اإلنسان تنظيم املاء والغذاء والرياضة وحتديد أولويات التعليم إلخ ‪.‬‬

‫‪16‬‬
‫وليس من موضوعات الدساتري تفصيل بناء املؤسسات القضائية وتناول جزئياهتا من‬
‫القضاة وأعضاء النيابة واملحامني ومدراء إدارة التفتيش والرقابة واملحكمة الدستورية‬
‫وتكوينها واختصاصاهتا وطرق الطعن أمامها إلخ‪.‬‬
‫وليس من موضوعات الدساتري تناول احلكم املحيل بكل تفاصيله من التكوين‬
‫والصالحيات إىل كيفية تدبري املوارد مروا برشعنة بناء العالقات اخلارجية إلخ‪.‬‬
‫وليس من موضوعات الدساتري " بناء هيئات دستورية مستقلة " من نوع املجالس‬
‫املختصة بالبحوث ومحاية املوروث والتنمية والشفافية واإلحصاء واإلعالم ومكافحة‬
‫الفساد والصحافة والعلوم واالبتكار إلخ‪.‬‬
‫ال أحد جيادل يف أمهية مثل هذه املوضوعات‪ ،‬ووجوب توجيه املرشعني واحلكام لالهتامم‬
‫هبا ووضع مبادئها العامة يف الدستور ‪ ،‬لكن ال أحد يقبل أن يتحول الدستور إىل برنامج‬
‫عمل ومصفوفة من األماين وقوائم الشعارات ‪..‬‬
‫إن الدستور ميلء بمشتمالت ليست من طبيعته وتفاصيل تتناقض مع خصائصه‪ ،‬وقد‬
‫كان يكفي هيئة الدستور النص عىل املبادئ العامة هلذه املوضوعات وتوجيه املرشعني‬
‫لتفصيلها ‪ ،‬فقد كان يكفيها مثال ‪ ،‬ويف مادة أو مادتني ‪ ،‬النص عىل إنشاء هيئات دستورية‬
‫مستقلة وحتديد املبادئ الرئيسية التي تقوم عليها لترتك ملرشع املستقبل بناء هذه املؤسسات ‪،‬‬
‫وقد كان يكفيها أن تتناول القضاء يف مادة أو مادتني‪ ،‬حتدد املبادئ القضائية العامة وهيكل‬
‫القضاء لترتك التفاصيل لقانون القضاء ‪ ،‬وقد كان يكفيها أن تنظم املحكمة الدستورية يف‬
‫مادة أو مادتني تنص عىل إنشاء املحكمة ودورها ومبادئها لترتك لقانوهنا اخلاص تفصيل‬
‫غري ذلك من قضايا ‪ ،‬وقد كان يكفيها عند تناول مقومات الدولة االقتصادية ‪ ،‬أن حتدد‬
‫املبادئ الرئيسية التي يقوم عليها االقتصاد الوطني وتوجهاته الكبى دون غوص يف‬
‫تفاصيل ذلك‪ ،‬وهكذا يف مجيع موضوعات الدستور تقريبا ‪ ،‬إن هذا اإلخفاق والفشل يف‬

‫‪17‬‬
‫صياغة دستور حمكم‪ ،‬يعود إىل ثالثة أسباب رئيسية هي‪ :‬عدم االنتباه ألمهية القوانني‬
‫األساسية ‪ ،‬وسيطرة املساومات بني أعضاء اهليئة‪ ،‬وأخريا التأثر بدساتري أجنبية سيئة‬
‫الصياغة ‪ ،‬كام سأبني فيام بعد ‪.‬‬
‫ثالث اا ً‪ :‬إن مرشوع الدستور ارتكب أخطاء فادحة يف تنظيم السلطة‪ ،‬وإذا قدر هلذا الدستور‬
‫التطبيق‪ ،‬فإنه لن يكون قادرا عىل إدارة الرصاعات‪ ،‬بل سيكون سببا يف اندالع األزمات بام‬
‫وضعه من نظام غريب لبناء السلطة‪ ،‬وما صاحب هذا البناء من قصور‪ ،‬لن تنجح‬
‫املؤسسات الدستورية يف التعايش معه‪ ،‬ولن تنجح املحاكم يف فك اشتباكاته‪ ،‬واألرجح أن‬
‫يقود الدولة إىل حالة تصلب رشايني أعمق بكثري مما تشهده الساحة السياسية اليوم‪.‬‬
‫ًًًًًإن تنظيم السلطة هو املوضوع الرئييس للدستور‪ ،‬فرغم أمهية غريه من املشتمالت‪ ،‬إال أن‬
‫تنظيم السلطة كان وسيظل املوضوع الرئييس ألي دستور‪ ،‬وبسبب هذه األمهية فإن هذا‬
‫املوضوع جيب أن حيظى بالدقة الكاملة والوضوح التام‪ ،‬من حيث " حتديد طبيعة النظام"‬
‫و"شكل املؤسسات" و"العالقة بني املؤسسات وصالحياهتا "‪ ،‬وتلك مسائل ال يشوهبا‬
‫الغموض فحسب‪ ،‬بل صيغة بطريقة تنطوي عىل الكثري من الغرابة‪.‬‬
‫إن االطالع عىل الباب الثالث‪ ،‬املنظم للسلطات العامة للدولة‪ ،‬يثري تساؤالت يصعب‬
‫حرصها‪ ،‬لكنني ألسباب عمل ّية سأكتفي باملالحظات ال ّتالية‪:‬‬
‫اخلطوةًاألوىل‪ :‬عند بناء املؤسسات الدستورية‪ ،‬هي حتديد طبيعة النظام السيايس املرغوب‬
‫واألسس الفكرية التي يقوم عليها‪.‬‬
‫ًًًًً إن هذه املسألة املبدئية‪ ،‬هي القاعدة األساسية التي تبنى عليها املؤسسات‪ ،‬واخليط الناظم‬
‫حللقات السلطة‪ ،‬والضامنة التساق املؤسسات وعدم تعارضها‪.‬‬

‫‪18‬‬
‫وقد اعتادت الدساتري يف مقدماهتا أو يف صدر موادها حتديد األسس الفكرية والسياسية‬
‫ونوع النظام املهيمن عىل الدستور‪ ،‬إذ يقال عادة أن دولة ما هي " مجهورية ‪ ،‬أو ملكية‬
‫ديموقراطية‪ ،‬حكمها نيايب أو رئايس‪ ،‬أو غري ذلك من أوصاف‪.‬‬
‫إن هذا التحديد ليس جمرد وصف للدولة‪ ،‬بل يعد كشفا لطبيعة النظام الذي ستبنى عليه‬
‫املؤسسات‪ ،‬يلخص مؤسساهتا ويضمن تناسقها ويساعد – فيام بعد – عىل صياغة ما يوضع‬
‫من قوانني‪ ،‬وإجياد احللول ملا ينشأ من معضالت دستورية‪.‬‬
‫إن اختيار النظام – يف األصل – مسألة جمتمعية جيب أن ختضع لالتفاق العام‪ ،‬ثم تقوم‬
‫اهليئات التأسيسية أو جلان كتابة الدستور بالتعبري عنها وصياغتها يف نصوص واضحة‪،‬‬
‫وذلك يتطلب إما اللجوء إىل حوار جمتمعي واسع‪ ،‬أو استفتاء الشعوب عىل طبيعة النظام‪،‬‬
‫وإذا مل حيدث ذلك فإن اهليئة التأسيسية تأخذ عىل عاتقها اختيار نوع النظام الذي تستشعر‬
‫جتاوبه مع إرادة الغالبية من أبناء الشعب‪ ،‬وبام أن ذلك ‪ -‬مجيعه – مل حيدث فإن اهليئة‬
‫التأسيسية اختارت نظاما غريبا‪ ،‬ومل حتدد جذوره الفكرية‪ ،‬وال طبيعته السياسية‪.‬‬
‫لقد نص الدستور الليبي الصادر عام ‪1951‬م عىل تكوين ( دولة ديموقراطية مستقلة )‪،‬‬
‫وهي‪( :‬ملكية وراثية ‪ ...‬حكمها نيايب )‪.‬‬
‫فقد نص هذا الدستور عىل ديموقراطية الدولة امللكية ذات احلكومة ( النيابية )‪.‬‬
‫ينص الدستور الفرنيس يف املادة األوىل عىل أن فرنسا‪ :‬مجهورية ‪ ،‬علامنية ‪ ،‬ديموقراطية ‪،‬‬
‫واجتامعية ‪....‬إلخ ‪.‬‬
‫وينص الدستور املرصي يف مادته األوىل عىل أن مرص‪ :‬نظامها مجهوري ديموقراطي إلخ ‪.‬‬
‫إن هذا التحديد مهم للغاية‪ ،‬ليس لفهم طبيعة النظام وحسب‪ ،‬بل لبناء املؤسسات‪ ،‬وقد‬
‫نصت املادة األوىل من املرشوع عىل أن " ليبيا دولة مستقلة ‪ ....‬تسمى اجلمهورية الليبية "‪.‬‬

‫‪19‬‬
‫وقد انرصف الدستور بشكل واضح عن مصطلح " الديموقراطية "‪ ،‬ومل يرد يف أي موقع‬
‫فيه ألسباب ال يصعب إدراكها‪ ،‬كام مل حيدد طبيعة النظام‪ ،‬عام إذا كان نيابيا أو رئاسيا أو‬
‫خمتلطا‪ ،‬وألنه مل يفعل ذلك فقد أنتج نظاما غريبا‪ ،‬فيكون النظام نيابيا يف بعض األحيان‬
‫ورئاسيا يف أحيان أخرى وخمتلطا يف ثالثة وال نظام معروف يف أحيان كثرية‪.‬‬
‫قد حياجج البعض بأن الدساتري احلديثة مل تعد مقيدة باألنامط التقليدية املعروفة ‪ ،‬ومن‬
‫الطبيعي أن يلجأ الدستور إىل تنوع احللول لالستفادة من التجارب الدستورية األخرى‪،‬‬
‫وإنتاج أنامط جديدة تستجيب حلاجات العرص وتطلعات الشعوب‪ ،‬إذ مل يعد هناك دستورا‬
‫يعتمد عىل نموذج سايس واحد‪ ،‬إن ذلك قد يكون مفهوما إذا تم حتسني الدستور بحلول ال‬
‫هتدم الشكل األصيل للنظام‪ ،‬وال تؤثر يف عمل املؤسسات‪ ،‬لكن ما فعله مرشوعنا هو بناء‬
‫آلة ضخمة بقطع غيار متنوعة جرى تركيبها بطريقة تعسفية‪ ،‬قد تعطي شكل اآللة ‪ ،‬لكنها‬
‫لن تستطيع الدوران وإنتاج الطاقة‪.‬‬
‫إن عدم حتديد النظام أدى إىل االرتباك الواضح عند تصميم املؤسسات‪ ،‬والظاهر أن اهليئة‬
‫الدستورية اختارت من حيث املبدأ " النظام البملاين " باعتباره أساسا لبناء املؤسسات‬
‫الدستورية‪ ،‬ثم قامت برتقيعه عن طريق حلول من أنظمة رئاسية وخمتلطة‪ ،‬فجاء الدستور‬
‫هجينا غريبا أشبه بمخلوق " فرنكشتاين "الذي سيكون من املستحيل السيطرة عليه عندما‬
‫تدب فيه احلياة‪.‬‬
‫ًًًًإن اختيار " النظام البملاين " كأساس للسلطة الليبية يعد خطأ فادحا‪ ،‬إذ أثبتت التجارب‬
‫يف كل مكان يف بلدان العامل الثالث فشل هذا النظام يف حتقيق الديموقراطية واالستقرار‪.‬‬
‫يعد النظام البملاين يف دولة مثل ليبيا أسوأ اختيار‪ ،‬ويذهب اعتقادي إىل أن اهليئة التأسيسية‬
‫قد اختارت هذا النظام انسياقا وراء أوهام تذهب إىل أن النظام البملاين هو النظام األكثر‬

‫‪20‬‬
‫ديموقراطية من بني األنظمة النيابية‪ ،‬ولو أن اهليئة ‪-‬وقبل الرشوع يف كتابة الدستور‪ -‬أجرت‬
‫حوارا جمتمعيا معمقا أو حتى بني أعضاء اهليئة الكتشفت خطأ هذا االختيار‪.‬‬
‫ما من شك أن النظام البملاين من أقدم النظم النيابية وأقرهبا للديموقراطية من الناحية‬
‫النظرية‪ ،‬فهو يضع جوهر السلطة بيد نواب الشعب‪ ،‬غري أن هذا النظام يتحول إىل وصفة‬
‫مسمومة يف البلدان التي مل تتهيأ بطريقة صحيحة ملامرسة الديموقراطية‪.‬‬
‫إن النظام البملاين مل ينجح يف حتقيق الديموقراطية واالستقرار‪ ،‬إال يف جمتمعات قطعت‬
‫شوطا طويال يف مضامر الديموقراطية‪ ،‬وهو يستلزم رشوطا موضوعية كثرية لنجاحه‪ ،‬ويف‬
‫مقدمتها شيوع الثقافة الديموقراطية‪.‬‬
‫إن النظام البملاين يتحول ‪ -‬بصورة تلقائية ورسيعة – إىل نظام ديامغوجي وغوغائي‪.‬‬
‫منذ مئات السنني ظهرت نظرية معروفة تسمى " حتول األنظمة "‪ ،‬وهي نظرية تذهب إىل‬
‫حتول األنظمة بطريقة غري حمسوسة‪ ،‬من النظام احلسن إىل السيئ‪ ،‬وذلك حني يبدأ التعارض‬
‫بني الشكل واملضمون‪ ،‬الشكل هو شكل النظام اخلارجي‪ ،‬أما املضمون فهو " القيم " التي‬
‫تشكل جوهر النظام‪.‬‬
‫إن الديموقراطية مثل أي نظام‪ ،‬تقوم عىل شكل خارجي هو املجالس واألحزاب‬
‫واملؤسسات الدستورية األخرى‪ ،‬أما املضمون فهو " قيم " الديموقراطية مثل احلرية‬
‫والعدالة واملساواة والتعددية القائمة عىل قبول اآلخر‪ ،‬وغري ذلك من القيم التي تشكل "‬
‫ثقافة الديموقراطية "‪ ،‬وال تقوم الديموقراطية إال عند االنسجام الكيل بني " الشكل "‬
‫املؤسسات‪ ،‬و" القيم " الثقافة‪ ،‬وحني جيري التعارض بينها ويتغلب الشكل؛ فإن‬
‫الديموقراطية تنقلب للديامغوجية‪ ،‬كام تتحول امللكية الدستورية إىل استبداد‪،‬‬
‫واألوليغارشية إىل طغيان‪.‬‬

‫‪21‬‬
‫تلك نظرية معروفة منذ القدم‪ ،‬فالديموقراطية الشكلية حني ختلو من القيم والضوابط‬
‫تتحول إىل نظام غوغائي‪ ،‬ال شأن هلا بالديموقراطية واحلكم الرشيد‪.‬‬
‫ّ‬
‫إن بلدان العامل الثالث – بشكل عام – بسبب ضعف الرتاكم الديموقراطي تقع مبكرا‬
‫فريسة للديامغوجية والغوغائية‪ ،‬بسبب اعتقادها الساذج بكفاية العنرص الشكيل‪.‬‬
‫إن دوال متقدمة يف مضامر الديموقراطية وقعت أيضا فريسة هلذا االعتقاد‪ ،‬وهو ما حدث‬
‫لفرنسا‪ ،‬أحد معاقل الديموقراطية‪ ،‬فقد أسست اجلمهورية الرابعة عام ‪ 1946‬م عىل دستور‬
‫"النظام البملاين"‪ ،‬وهو ما عارضه ديغول ودفعه لالستقالة من هذا النظام‪ ،‬بسبب رؤيته‬
‫النافذة ويقينه بأن هذا النظام سيغدو ديامغوجيا‪ ،‬ألنه سيقع ضحية ملزايدات األحزاب‬
‫الكثرية‪ ،‬وغوغائية زعاماهتا‪ ،‬وهو ما حدث بالفعل‪ ،‬إذ شهدت فرنسا يف ظل هذا الدستور‬
‫أشد أزماهتا‪ ،‬وهي أزمات مل تفلت منها إال بدستور اجلمهورية اخلامسة‪ ،‬وهو دستور أهال‬
‫الرتاب هنائيا عىل النظام البملاين‪.‬‬
‫هناك قاعدة ال تكذب‪ ،‬تذهب إىل أن الديموقراطية البملانية يف بلدان العامل الثالث تسقط‬
‫بالتحول إىل ديموقراطية شكل ّية كاذبة‪ ،‬أو إىل نظام غوغائي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫منذ والدهتا‪ ،‬إما‬
‫ّ‬
‫إن جتربة ليبيا يف السنوات األخرية كافية للداللة عىل صحة هذه االستنتاجات‪ ،‬فرغم‬
‫جتسد احلقائق الغوغائية‪ ،‬جمالس نيابية‬
‫وجود املؤسسات الشكلية للنظام النيايب‪ ،‬إال أهنا ّ‬
‫متعددة ومنقسمة عىل ذاهتا‪ ،‬وحكومات ليست معنية بام جيري حتت قباب البملانات‪،‬‬
‫وزعامات نيابية أو حزبية أو قبيلة تنغمس يف شؤون أخرى‪.‬‬
‫رغم أن اهليئة التأسيسية تبنت من حيث املبدأ النظام البملاين وقامت برتقيعه‪ ،‬إال أهنا مل‬
‫حتسن تشييد هذا النظام‪ ،‬وقد افتقرت – بصورة واضحة – للخيال والقدرة عىل استرشاف‬
‫املستقبل‪ ،‬وذلك يتضح مما ييل‪:‬‬

‫‪22‬‬
‫أً– أن اهليئة ‪-‬يف األصل‪ -‬مل تشيد نظاما برملانيا متكامال‪ ،‬بل قدمت نظاما منقوصا‪ ،‬فام كتبته‬
‫عبارة عن نظام برملاين يبني السلطة الترشيعية والتنفيذية‪ ،‬وذلك هو السياج اخلارجي للبناء‪،‬‬
‫لكن الدستور أمهل عرشات القضايا املهمة يف صالحيات هذه املؤسسات‪ ،‬والعالقة بينها‪،‬‬
‫واألسلحة املتاحة لكل منها‪.‬‬
‫فهناك فراغ هائل يف نصوص الدّ ستور‪ ،‬وهو فراغ ال يمكن سدُّ ه بالقوانني األساسية أو‬
‫األعراف الدستورية يف دولة بال أعراف‪.‬‬
‫ومن الغريب جدا أن اهليئة التي مألت الدستور باملشتمالت غري الدستورية‪ ،‬كانت شحيحة‬
‫جدا عند االهتامم بموضوع الدستور األسايس وهو تنظيم السلطة‪ ،‬وهناك فراغات هائلة يف‬
‫باب تنظيم السلطة‪ ،‬ويعود السبب مرة أخرى إىل عدم االعتامد عىل " نموذج سيايس واحد‬
‫"‪ ،‬فتعدد النامذج السياسية أحدث فجوات بني هذه النامذج‪ ،‬مل تعرف اهليئة كيف تسدها‪،‬‬
‫وإذا حدث أن بدأ التطبيق فإن هذه الفراغات ستتحول إىل مناطق صدام مستحكم بني‬
‫املؤسسات الدستورية‪.‬‬
‫بً– إن السبب الرئييس هلذا اخللل ‪-‬يف ظني‪ -‬يعود إىل اعتامد اهليئة عىل الدستور املرصي‪،‬‬
‫فقد نقلت اهليئة عن هذا الدستور عرشات النصوص – بصورة حرفية تقريبا – وهو ما أوقع‬
‫اهليئة يف فخاخ مل تستطع اخلروج منها‪.‬‬
‫ًًًًًإن الدستور املرصي نفسه حمل انتقاد يف األوساط القانونية والثقافية‪ ،‬بسبب عدم اعتامده‬
‫عىل "نموذج سيايس واحد"‪ ،‬وهو أمر أدخله – مبكرا – يف مرحلة ارتباك‪ ،‬وهناك اليوم‬
‫دعوات ملحة إلحداث تعديالت فيه للخروج من هذا االرتباك‪ ،‬وحيلو لبعض الصحفيني‬
‫واملثقفني وصف دستورهم بأنه " سمك ‪ ،‬لبن ‪ ،‬متر هندي " بسبب تعدد النامذج وما أحدثته‬
‫من ارتباك‪.‬‬

‫‪23‬‬
‫ورغم عيوب هذا الدستور ( يكفي االطالع عىل املقدمة إلدراك اخللل ) إال أنه خيلو من‬
‫الفجوات ‪ ،‬فقد استطاعت جلنة كتابة الدستور الربط بني النامذج املتعددة‪ ،‬إذ ال يوجد به‬
‫فجوات تذكر‪ ،‬فقد أطلقت اللجنة خياهل ا وعاجلت ما يمكن أن حيدث من مشاكل ‪ ،‬رغم‬
‫عيوب كثرية يف صياغة هذا الدستور‪.‬‬
‫إن هيئة الدستور الليبية نقلت بعض املواد بصورة حرفية‪ ،‬لكنها مل تتابع النقل حني تعلق‬
‫نقوصا للسلطة‪ ،‬ال أعرف كيف يتم عالجها‪.‬‬
‫األمر بفجوات الدستور‪ ،‬فقدمت تنظيام م ً‬
‫ج‪ -‬يف تنظيم السلطة ‪-‬عىل سبيل املثال ال احلرص‪ -‬نقل مرشوع الدستور الليبي النصوص‬
‫املرصية يف تنظيم جملس النواب بصورة شبه حرفية‪ ( ،‬أنظر الباب الثالث من مرشوع‬
‫الدستور الليبي ‪ ،‬الباب اخلامس من الدستور املرصي) كام نقل الكثري من النصوص املتعلقة‬
‫برئيس اجلمهورية واحلكومة‪ ،‬وبينام عالج الدستور املرصي كل القضايا املتعلقة بتنظيم هذه‬
‫املراكز والعالقة بينها بصورة واضحة‪ ،‬وقام بحل معظم االشكاليات التي يمكن أن تنشأ‬
‫بني هذه املراكز ‪ ،‬فإن املرشوع الليبي جاء قارصا بصورة واضحة وأمهل قضايا ال يمكن‬
‫إمهاهلا ‪ ،‬نشري إىل بعض منها فقط عىل النحو التايل ‪:‬‬
‫*نظم الدستور املرصي كيفية تعيني احلكومة بصورة واضحة‪ ،‬وبإجراءات دقيقة‪ ،‬يف املواد‬
‫( ‪ ،)153-146‬فنص الدستور عىل صالحية الرئيس بتكليف رئيس الوزراء الذي يشكل‬
‫احلكومة ويعرضها مع برناجمها عىل جملس النواب لنيل الثقة‪ ،‬وإذا مل تنل الثقة يكلف الرئيس‬
‫رئيسا آخر للوزراء برتشيح حزب األغلبية‪ ،‬ليعرض هو اآلخر حكومته وبرناجمه لنيل الثقة‪،‬‬
‫وإذا مل ينل الثقة ‪-‬هذه املرة – حيل جملس النواب بقوة الدستور‪ ،‬ويعني الرئيس وزارة عىل‬
‫عاتقه لتعرض عىل جملس النواب اجلديد‪ ،‬ويف حال اختيار احلكومة من حزب األغلبية فإن‬
‫الرئيس و( بالتشاور ) فقط مع رئيس الوزراء يعني وزراء الوزارات السيادية وهي‪( :‬‬
‫الدفاع‪ ،‬الداخلية ‪ ،‬اخلارجية ‪ ،‬العدل )‪.‬‬

‫‪24‬‬
‫يالحظ اإلجراءات الواضحة والتنظيم الدقيق ملشاهد خمتلفة قد حتدث أو ال حتدث‪ ،‬وهي‬
‫إجراءات متنع الفراغ احلكومي‪ ،‬وتفض االشتباكات بني الرئيس والبملان‪ :‬فكيف عالج‬
‫املرشوع الليبي ذلك ؟‬
‫ال يشء فيه يدل عىل التنظيم الدقيق‪ ،‬ومل يتصور يف األصل اإلشكاليات التي يمكن أن‬
‫حتدث‪ ،‬فقد نص بصورة مبسرتة يف املادة (‪ )104‬عىل صالحيات الرئيس يف ( تعيني ) رئيس‬
‫الوزراء و( اعتامد ) الوزراء وإجراء ( التعديالت الوزارية )‪،‬‬
‫اكتفى املرشوع بذلك دون أن جييب عن أية تساؤالت مهمة مثل‪:‬‬
‫من أين يأيت رئيس الوزراء ؟ هل هو اختيار شخيص للرئيس خيضع لرؤيته ومزاجه‪ ،‬أم‬
‫يشرتط أن يكون مستندا ألغلبية ما يف البملان ؟ وماهي عالقة البملان بتعيني رئيس الوزراء‬
‫والوزراء ؟ هل جيب عىل احلكومة نيل الثقة أم أن اختيار الرئيس ملزم للبملان ؟! أين هو‬
‫البنامج احلكومي أساس الثقة ؟ وماهي احللول التي يضعها الدستور إذا رفض البملان‬
‫الثقة يف رئيس احلكومة أو وزراءه ؟ ماذا يفعل الرئيس عند ذلك ؟ وإذا تعطل االختيار أكثر‬
‫من مرة‪ ،‬ما هو احلل ؟‬
‫ليس هناك يف نصوص املرشوع أية إجابة أو تصورات ‪.‬‬
‫إن النص الوحيد املوجود يف الدستور هو نص املادة (‪ )115‬وهو نص متت صياغته‬
‫بطريقة غامضة ومعيبة‪ ،‬جتعله ليس قادرا عىل حل اإلشكاليات ‪ ،‬بل يؤدي إىل تفاقمها وهذا‬
‫نصه‪ ( :‬إذا قرر جملس النواب بأغلبية " ثلثي أعضاءه " [ املنتخبني ! ] – وكأن باملجلس‬
‫أعضاء غري منتخبني !!! – عدم الثقة يف احلكومة وجب عليها [ االستقالة ]‪ ،‬ويكون القرار‬
‫باألغلبية املطلقة ألعضائه [ املنتخبني ] إذا تعلق بأحد الوزراء ‪ ،‬وجيب عليه يف هذه احلالة‬
‫اعتزال الوزارة‪ ،‬وال ينظر جملس النواب يف طلب منع الثقة عن احلكومة إال بعد جلسة [‬
‫استجواب ]‪ ،‬وبناء عىل طلب كتايب مقدم من مخسة عرش عضوا عىل األقل‪ ،‬وال جيوز أن‬

‫‪25‬‬
‫يطرح هذا الطلب للمناقشة إال بعد ثامنية أيام من يوم تقديمه‪ ،‬وال تؤخذ اآلراء إال بعد يوم‬
‫من إمتام املناقشة ) ‪.‬‬
‫تلك هي املادة الوحيدة التي وردت لتحديد العالقة بني الوزارة وجملس النواب‪ ،‬والتي‬
‫يمكن أن ( يشتم ) منها يشء يتعلق بنيل الثقة‪ ،‬وهي مادة شديدة العيوب‪ ،‬من نوع ( سمك‬
‫– لبن – متر هندي ) ‪ ،‬فهي مادة تتحدث بوضوح عن " منع الثقة " عن (حكومة عاملة )‪،‬‬
‫وليس عن تشكيل حكومة جديدة ‪ ،‬ألن منع الثقة يؤدي إىل ( استقالة ) احلكومة أو (‬
‫اعتزال) الوزير‪ ،‬واالستقالة واالعتزال يدالن عىل يشء قائم وليس شيئا يف طور اإلنشاء‪ ،‬كام‬
‫اشرتطت املادة أن ال يتم منع الثقة إال بعد [ استجواب ]‪ ،‬واالستجواب كام سنالحظ الحقا‬
‫ال يتم إال يف وجه حكومة رشعية عاملة‪ ،‬وليس مرشوع حكومة‪.‬‬
‫ال يشء يف هذا املرشوع يدلنا عىل كيفية اختيار احلكومة وال نيلها الثقة‪ ،‬وإذا طبق هذا‬
‫الدستور فإن من حق رئيس اجلمهورية اختيار رئيس الوزراء‪ ،‬الذي خيتار وزراءه ويعتمدهم‬
‫الرئيس‪ ،‬وال يشء بعد ذلك‪.‬‬
‫فجوات عميقة أدى إليها النقل غري الدقيق من الدستور املرصي‪.‬‬
‫نظم الدستور املرصي بشكل دقيق العالقة بني رئيس اجلمهورية وحكومته‪ ،‬وذلك يف املواد‬
‫(‪ )174-139‬ومن قراءة النصوص يتضح اآليت ‪:‬‬
‫‪ -‬أن العالقة بني رئيس اجلمهورية وحكومته عالقة ( تبعية ) ‪.‬‬
‫‪ -‬أن الرئيس هو " رئيس السلطة التنفيذية " املادة " ‪ "139‬فهو الرئيس الفعيل‬
‫للحكومة ‪.‬‬
‫‪ -‬أن احلكومة ورئيسها تستمد رشعيتها وقوهتا من الرئيس الذي يعينها ويعفيها‪.‬‬
‫‪ -‬أن الرئيس حيتكر تعني الوزراء أو الوزارات السيادية عىل األقل ( املادة ‪. )146‬‬
‫‪ -‬أن الرئيس يرأس اجتامعات جملس الوزراء عند حضورها ‪.‬‬

‫‪26‬‬
‫‪ -‬أن الرئيس واحلكومة يشرتكان يف وضع السياسة العامة للدولة ويرشفان – معا‪-‬‬
‫عىل تنفيذها‪.‬‬
‫‪ -‬أن الرئيس هوا املسؤول عن العالقات اخلارجية‪ ،‬وهو القائد األعىل للقوات‬
‫املسلحة‪.‬‬
‫‪ -‬أن الرئيس هو املسؤول الوحيد عن تعيني املوظفني املدنيني والعسكريني واملمثلني‬
‫السياسيني‪.‬‬
‫‪ -‬أن الرئيس هو املختص بإعالن احلرب وحاالت الطوارئ واملراسيم بقوة القانون‬
‫والدعوة لالستفتاء‪.‬‬
‫‪ -‬أن الرئيس يفوض بعض صالحياته‪.‬‬
‫أ ّم ا كيف نظم مرشوع الدستور الليبي هذه املسائل‪ ،‬وماهي العالقة بني الرئيس‬
‫واحلكومة ؟‬
‫فتلك من عجائب الدستور الليبي من حيث اآليت ‪:‬‬
‫• أن العالقة بني الرئيس واحلكومة عالقة غامضة ال ختضع لرتاتبية كام فعل الدستور‬
‫املرصي‪ ،‬فقد نص املرشوع عىل‪ (:‬تناط السلطة التنفيذية برئيس اجلمهورية‬
‫واحلكومة)‪ ،‬وذلك دون حتديد لطبيعة هذه العالقة‪ ،‬ومدى سلطة الرئيس عىل رئيس‬
‫الوزراء واحلكومة‪( ،‬املادة ‪ )96‬وهو وضع من املؤكد أن يقود إىل سلسلة من‬
‫الرصاعات بني الرئيس واحلكومة‪.‬‬
‫• أن الرئيس ( يعني ) رئيس الوزراء و( يعتمد تأليف احلكومة ) وإجراء (التعديالت‬
‫الوزارية ) ( املادة ‪ ،)104‬وهو ما يعني عدم قدرة الرئيس عىل ( عزل ) رئيس‬
‫الوزراء‪ ،‬فليس يف نصوص الدستور ما يعطي الرئيس سلطة العزل‪ ،‬وهو ما يعني‬
‫انقطاع العالقة بمجرد التعيني‪.‬‬

‫‪27‬‬
‫وال يكفي يف ذلك االستنتاج بأن من يملك سلطة التعيني يملك سلطة‬
‫العزل‪ ،‬ويف أضعف االفرتاضات فإن هذا الوضع يقود للنزاع‪.‬‬
‫• ال يعد الرئيس ‪ -‬وفق هذا النظام ‪ -‬املسؤول التنفيذي األول‪ ،‬إذ ينص املرشوع‬
‫رصاحة عىل أن من صالحياته ( حتديد ) وتوجيه السياسات العامة للسلطة التنفيذية‪،‬‬
‫(املادة ‪ ،) 104‬وهو ما يعني أن السلطة التنفيذية بيد غريه‪ ،‬وليس له سوى التوجيه (‬
‫العام ) دون وضع أي معايري للسياسات العامة عن غريها‪.‬‬
‫• أن الرئيس ال حيرض اجتامعات احلكومة وال يرأس اجتامعاهتا إذا قرر حضورها‪.‬‬
‫• أن احلكومة بعد تعيينها تستمد رشعيتها ووجودها من الدستور‪ ،‬وليس الرئيس وال‬
‫جملس النواب‪.‬‬
‫• ال توجد عالقة مشاركة بني الرئيس واحلكومة‪ ،‬بل إن العالقة قد تتحول إىل عالقة‬
‫منافسة‪ ،‬فكالمها حيظى بقدر من سلطة تنفيذية ‪ ،‬مل حتدد دوائرها ‪ ،‬وعىل سبيل املثال‬
‫فإن من حق الرئيس واحلكومة ‪ -‬كل عىل انفراد ‪ -‬اقرتاح مرشوعات القوانني‪.‬‬
‫• إن الرئيس ال حيظى بأي سلطة لتعيني كبار املوظفني‪ ،‬وأقىص ما أعطاه له مرشوع‬
‫الدستور ( التعيينات واإلعفاءات يف الوظائف العليا ( برئاسة الدولة ) واملؤسسات‬
‫التابعة هلا ( فـ ‪ 10‬املادة ‪ ،)104‬وهو ما يعني تعيني كبار موظفي ( ديوانه ) وليس‬
‫غريهم‪ ،‬وذلك يف اعتقادي من أغرب النصوص يف أي دستور مكتوب عىل وجه‬
‫األرض‪.‬‬
‫ورغم نص الدستور عىل مسائل بروتوكولية وهامشية وجعلها من اختصاص رئيس‬
‫اجلمهورية‪ ،‬إال أن هذه الوظيفة ‪ -‬بالشكل التي هي عليه ‪ -‬لن جتعل الرئيس بقادر عىل‬
‫احلفاظ عىل وحدة البالد واستقالل الوطن وسالمة أراضيه‪ ،‬ورعاية مصالح الشعب‬
‫وفق نص املادة (‪.)98‬‬

‫‪28‬‬
‫*إن اخللل ال يقترص عىل اضطراب العالقة بني السلطتني التنفيذية والترشيعية‪ ،‬أو‬
‫الرئيس واحلكومة‪ ،‬بل يدب يف كل مفاصل السلطة‪ ،‬فجوات عميقة واضطراب شديد‬
‫يعج به تنظيم السلطة الترشيعية نفسها‪.‬‬
‫ًًًًومن حيث املبدأ‪ ،‬فإن قيام السلطة الترشيعية عىل جملسني‪ ،‬ال بد وأن تكون حمل نظر‪،‬‬
‫والقاعدة أن معظم الدول ال تلجأ إىل هذا التنظيم إال استجابة لظروف خاصة‪.‬‬
‫تكمن فلسفة التنظيم الترشيعي بمجلسني‪ :‬إما بسبب شكل الدولة ( االحتادي )‪ ،‬أو‬
‫حماولة عقلنة الترشيع بإنشاء جملس ثاين مهمته كبح الترشيعات املترسعة‪ ،‬ومقاومة‬
‫النزعات الغوغائية للمجالس النيابية‪ ،‬أو للتوافق مع موروث تارخيي يصعب التخيل‬
‫عنه‪ ،‬ويف غري هذه األحوال ‪ ،‬فإن معظم الدول تعتمد يف سلطتها الترشيعية عىل جملس‬
‫واحد‪ ،‬ألسباب تتعلق بضبط الديموقراطية وحسن أدائها‪ ،‬واحلاجة إىل ضبط اإلنفاق‬
‫احلكومي‪ ،‬وتتوجه الدول نحو االعتامد عىل جملس واحد لكفايته يف تنظيم الدولة‬
‫الترشيعي‪ ،‬وحني تلجأ إىل وجود جملس ثان‪ ،‬فإن هذا املجلس هيدف – يف العادة – إما‬
‫لعقلنة الترشيع أو لتحقيق التوازن بني مكونات الدولة‪ ،‬أو للقيام بأدوار مكملة‬
‫للمجلس األول‪ ،‬ويف غري ذلك من األحوال فإن املجلس الثاين يتحول إىل عبء ال فائدة‬
‫منه‪.‬‬
‫والواقع أن ليس هناك يف لي بيا حاجة واضحة هلذا املجلس‪ ،‬فهي دولة عربية إسالمية‬
‫موحدة ومتصلة‪ ،‬تتشابه مع معظم الدول العربية التي هجر – معظمها – هذه الفكرة‪.‬‬
‫ومع ذلك وبافرتاض التسليم باحلاجة إليه يف ليبيا ‪ ،‬فقد كان جيب أن يكون مكمال‬
‫للمجلس األول أو معقلنا له‪ ،‬أو لتحقيق التوازن بني مكونات الدولة‪ ،‬وذلك مل حيدث‬
‫بحسب ما تذهب إليه مواد املرشوع ‪ ،‬فهو جملس لن يكون له دور بناء يف السلطة‬
‫الترشيعية‪ ،‬فهو خليط من جملس استشاري وترشيعي‪ ،‬ال يلعب أي دور إال يف جماالت‬

‫‪29‬‬
‫ضيقة للترشيع‪ ،‬معروفة عىل سبيل احلرص‪ ،‬وليس من بينها أهم الترشيعات املتعلقة‬
‫باحلريات ا لعامة وحقوق اإلنسان‪ ،‬أما ما تبقى يف املجال الترشيعي فهو دور استشاري مل‬
‫حتدد مالحمه‪ ،‬وال حدود آثاره‪ ،‬مما جيعله شكليا ال قيمة له‪.‬‬
‫إن املرشوع قد أعطى املجلس الثاين صالحيات ليست ترشيعية‪ ،‬ورغم أمهيتها إال أهنا‬
‫لن تلعب سوى دور معطل لعمل السلطات األخرى‪ ،‬الترشيعية والتنفيذية‪ ،‬وسيتحول‬
‫هذا املجلس إىل سلطة معطلة لعمل الدولة وتنغيص العمل عىل السلطات األخرى‪.‬‬
‫واألمثلة يف املرشوع كثرية يمكن اكتشافها بسهولة‪.‬‬
‫* لعل أكب النقائص التي قد تصل إىل حد الكوارث؛ إمهال املرشوع ألهم املسائل‬
‫الدستورية‪ ،‬وهي كيفية وضع ( امليزانية العامة للدولة ) واحلسابات اخلتامية هلا ‪.‬‬
‫امليزانية العامة للدولة هي أهم مسألة دستورية ‪ ،‬حترص الدساتري عىل تنظيمها بشكل‬
‫دقيق وواضح ال لبس فيه وال غموض ‪ ،‬والواقع أن ( ميزانية الدولة ) هي األساس‬
‫التارخيي للنظام الديموقراطي برمته‪ ،‬فقد نشأت الديموقراطية واملجالس النيابية – يف‬
‫األصل – بسبب النزاع عىل كيفية ( إدارة موارد الدولة )‪ ،‬وانبعثت املجالس النيابية‬
‫لضامن وجود ممثلني عن الشعوب ( دافع الرضائب )‪ ،‬يكون هلم ( الرأي النهائي ) يف‬
‫كيفية حتصيل املوارد واإلنفاق ‪ ،‬وذلك ما يعب عنه (بامليزانية العامة ) ‪.‬‬
‫وال يوجد دستور حديث ال يتناول هذه املسألة املهمة بالتفصيل ( املادة ‪ 124‬وما بعدها‬
‫من الدستور املرصي )‪ ( ،‬املادة ‪ 47‬من الدستور الفرنيس )‪ ( ،‬املادة ‪ 61‬بند ‪ 8.9‬من‬
‫الدستور األمريكي ) املادة ‪...‬إلخ‪.‬‬
‫وهكذا فإن كل الدساتري تعتب ميزانية الدولة أهم مسألة دستورية ‪ ،‬وذلك هو الوضع‬
‫الطبيعي ‪.‬‬
‫كيف عالج مرشوع الدستور الليبي هذه املسألة ؟‬

‫‪30‬‬
‫ال يشء يف املرشوع يدل عىل تقدير أمهية هذه املسألة لدى اهليئة الدستورية‪ ،‬فقد مرت‬
‫عليها مرور الكرام عندما حددت اختصاصات املؤسسات الدستورية‪ ،‬فنصت املادة‬
‫(‪ )67‬عىل (إقرار) ( جملس الشورى بمجلسيه ) املوازنة العامة للدولة‪ ،‬ونصت املادة‬
‫(‪ )116‬الفقرة ‪ 4‬عىل اختصاص جملس الوزراء بإعداد مرشوع ( قانون ) املوازنة العامة‪.‬‬
‫تلك مبادئ سليمة – نسبيا – إذا جتاوزنا ( حرفية املصطلحات )‪ ،‬لكن كيف توضع‬
‫امليزانية ؟ وماهي إجراءات ومواعيد عرضها عىل السلطة الترشيعية ؟ وكيف تناقش‬
‫أبواهبا وبنودها ؟ وماهي ضوابط تعديلها ؟ وكيف حيل األمر إذا عارضت السلطة‬
‫الترشيعية مرشوع امليزانية ؟ وماهي احللول إذا اختلفت حوهلا اهليئات الترشيعية نفسها ؟‬
‫وما هو دور رئيس اجلمهورية ؟ وكيف تترصف احلكومة إذا تعطلت امليزانية أو اختلفت‬
‫مع السلطة الترشيعية ؟ وماذا يرتتب عىل التعطيل غري املبر لقانون امليزانية ؟ هل‬
‫يتوجب حل املجلس أو استقالة الوزارة ؟ إلخ من األسئلة التي ال يمكن اإلجابة عنها‪.‬‬
‫والستمرار مسلسل الغرابة‪ ،‬فإن املرشوع نص يف املادة (‪ )61‬عىل أن امليزانية العامة ال‬
‫تصدر إال بأغلبية ( الثلثني )‪ ،‬بالطبع من أعضاء املجلسني‪ ،‬وهو نص فريد وبدعة جديدة‬
‫ال توجد يف أي دستور من دساتري الدنيا‪ ،‬وهو ما يعني عمليا صعوبة إن مل يكن استحالة‬
‫إصدار قانون امليزانية‪ ،‬ويف حالة الديموقراطية الليبية ! فإنه يسهل اجلزم باالستحالة‬
‫املطلقة‪.‬‬
‫* إن واحدة من أهم معضالت مرشوع الدستور‪ ،‬هي بناءه عىل فكرة ( التعطيل )‬
‫املتبادل ملؤسساته‪ ،‬وهو تعطيل نشأ – يف ظني – بسبب عدم الدقة يف فهم املبادئ‬
‫الرئيسية التي يقوم عليها النظام السيايس‪.‬‬
‫نصت املادة الثانية من املرشوع عىل أن " يقوم النظام السيايس عىل مبادئ التعددية‬
‫السياسية‪ ،‬والتداول السلمي عىل السلطة‪ ،‬والفصل بني السلطات والتوازن‪ ،‬والرقابة‬

‫‪31‬‬
‫بينها عىل أساس احلكم الرشيد القائم عىل الشفافية‪ ،‬واملراقبة‪ ،‬واملساءلة "‪ ،‬وهو نص‬
‫منقول – بترصف – عن نص املادة ‪ 5‬من الدستور املرصي‪ ،‬بعد حذف أحكام مهمة منه‪،‬‬
‫وإضافة عبارات ال تعني أحكام دستورية حمددة‪ ،‬وبرصف النظر عن العبارات‬
‫الفضفاضة فإن املبادئ السياسية التي تم اعتامدها هي – التعددية السياسية‪ ،‬والتداول‬
‫السلمي للسلطة‪ ،‬والفصل بني السلطات‪ ،‬والتوازن والرقابة‪ ،‬وهي مبادئ مقبولة بشكل‬
‫عام‪ ،‬بصورة نسبية‪ ،‬وإن كان من املمكن اجلدل العميق حول بعض هذه املبادئ‪.‬‬
‫وإذا كانت هذه ا ملبادئ هي ما يقوم عليها النظام السيايس‪ ،‬فقد كان جيب تفريغها فيام يأيت‬
‫بعدها من مواد‪ ،‬وهو ما مل حيدث بشكل دقيق‪.‬‬
‫ّ‬
‫إن كثري من الدساتري تذهب إىل وضع مبادئ مشاهبة‪ ،‬ولتجسيد هذه املبادئ فإن الدساتري‬
‫تذهب إىل‪:‬‬
‫أً– التحديد الدقيق – قدر اإلمكان‪ -‬لصالحيات كل مؤسسة‪ ،‬أما ما ال يمكن حتديده‬
‫بدقة فإن الدساتري ترتكه للقوانني األساسية واألعراف الدستورية واألصول العملية‬
‫للمامرسة الديموقراطية‪ ،‬التي يثرهيا – يف العادة – الفقه الدستوري‪ ،‬وتتحول‬
‫االجتهادات نفسها مع مرور الزمن إىل ممارسة دستورية‪ ( .‬مبدأ فصل السلطات ) ‪.‬‬
‫ب ً– تزويد املؤسسات الدستورية باألسلحة الرضورية للدفاع عن نفسها يف مواجهة‬
‫احتامالت " تغول " السلطات األخرى عىل صالحياهتا‪ ،‬أو املس بكياهنا‪ ،‬كام تزودها‬
‫باألدوات اهلجومية إلجبار السلطات األخرى عىل االلتزام بالدستور‪ ،‬ومن أشهر هذه‬
‫األسلحة‪ :‬حق حجب الثقة واالستجواب املمنوح للسلطة الترشيعية‪ ،‬وحق احلل‬
‫املمنوح للسلطة التنفيذية وإلزامية األحكام واملبادئ التي تقررها السلطة القضائية‪( .‬‬
‫مبدأ التوازن)‪.‬‬

‫‪32‬‬
‫ج ً– وضع آليات دستورية عملية ومرنة لفض النزاعات بني املؤسسات الدستورية‪.‬‬
‫(مبدأ املراقبة)‪.‬‬
‫ًًًًًإن وضع مبادئ سياسية واضحة‪ ،‬وتفصيل هذه املبادئ يف نصوص دستورية دقيقة هو‬
‫ما يؤدي إىل انسياب عمل الدولة‪ ،‬وسهولة العالقة بني السلطات‪ ،‬ذلك أن املقصود‬
‫بوضع املبادئ هو ضامن سري املؤسسات بصورة مثالية‪ ،‬وحتقيق انسجامها‪ ،‬وضامن عدم‬
‫تغلب مؤسسة عىل أخرى أو هتميشها أو تعطيل العمل الدستوري‪.‬‬
‫إن مرشوع الدستور الليبي ومع اتباعه للمبادئ العامة التي سارت عليها الدساتري‪ ،‬إال‬
‫أنه فهم املسألة عىل أهنا القدرة عىل (تعطيل) عمل املؤسسات األخرى‪ ،‬فقد جعل من كل‬
‫مؤسسة ‪-‬تقريبا – أداة لتعطيل املؤسسات األخرى‪ ،‬وهو ما سيؤدي – يف النتيجة – إىل‬
‫الشلل شبه التام يف عمل الدولة‪.‬‬
‫إن هذا البناء " التعطييل " نجم عن عدة أسباب‪ ،‬يأيت يف مقدمتها ضعف الرتاكم‬
‫الديموقراطي‪ ،‬وانعدام الثقة يف مؤسسات املستقبل‪ ،‬واملبالغة يف التحوط من احتامالت‬
‫املستقبل‪ ،‬وفق ما أفرزته التجربة الليبية احلالية‪ ،‬وضعف االنسجام بني أعضاء اهليئة‬
‫النابع من اعتقادهم بتمثيل مكونات متعددة دون مد البرص‪ ،‬إىل حقيقة اهليئة باعتبارها‬
‫مؤسسة وطنية يقع عىل عاتقها وضع دستور وطني‪.‬‬
‫يصعب – من الناحية الواقعية – حرص مظاهر التعطيل يف مرشوع الدستور‪ ،‬إذ أن كل‬
‫مؤسسة بنيت عىل افرتاض عدوانية املؤسسات األخرى‪ ،‬وتربصها بغريها من‬
‫املؤسسات‪ ،‬بل إن املؤسسة الدستورية الواحدة بنيت عىل مبدأ التعطيل‪.‬‬
‫إن السلطة الترشيعية القائمة عىل جملسني بنيت عىل التوافق والتعطيل‪ ،‬فقد نص‬
‫مرشوع الدستور يف عرشات املواقع عىل اشرتاك املجلسني يف بعض املهام‪ ،‬مثل تعيني‬
‫رؤساء وأعضاء اهليئات املستقلة‪ ،‬وإقرار السياسة العامة للدولة‪ ،‬واخلطة العامة للتنمية‬

‫‪33‬‬
‫االقتصادية واالجتامعية‪ ،‬واملوازنة العامة للدولة‪ ،‬وممارسة الرقابة عىل أعامل السلطة‬
‫التنفيذية إلخ‪.‬‬
‫إن مرشوع الدستور مل يفصل هذه القضايا ومل حيدد أين تبدأ أو تنتهي صالحيات كل‬
‫غرفة‪ ،‬وإذا مل حيدث التوافق حول التعيينات أو القوانني‪ ،‬فام هو احلل؟ وماهي آليات‬
‫التوفيق بني املجلسني‪ ،‬ومن له الكلمة العليا يف شأن من الشؤون؟ إلخ‪.‬‬
‫وال يشفع يف ذلك التحجج بام جاء يف املادة (‪ )81‬التي تنص عىل فك االشتباك يف‬
‫أنواع حمددة من القوانني دون غريها‪ ،‬وهي غالبا لن حتل االشكاليات حتى يف هذا النوع‬
‫من القوانني‪ ،‬كام ال يشفع القول برتك بعض األمور للقوانني العادية املنظمة لعمل‬
‫اهليئات املستقلة لوضع التفاصيل‪ ،‬ألن هذه القوانني نفسها ستكون حمل خالف وتعطيل‬
‫بني املجلسني قبل وضعها!!‬
‫إن بناء السلطة الترشيعية نفسها جاء معيب ًا‪ ،‬ومن املرجح أن ينشأ النزاع والتعطيل فور‬
‫ظهور املجلسني‪ ،‬وقد ال تتمكن الدولة من العمل أبد ًا‪.‬‬
‫إن العالقة بني السلطتني الترشيعية والتنفيذية أشدَ تعقيد ًا‪ ،‬واألرجح أن يقود تنظيمها‬
‫إىل مماحكات بال هناية وتعطيل يشل عمل الدولة‪ ،‬وإذا كان من الصعب تتبع كل‬
‫نصوص املرشوع املنظمة هلذه العالقة‪ ،‬ومعظمها يقود للتعطيل‪ ،‬فيكفي أن نالحظ كيفية‬
‫ممارسة حق احلل ومنع الثقة‪.‬‬
‫نص املرشوع يف املادة (‪ )115‬عىل صالحيات جملس النواب بمنع الثقة عن احلكومة‬
‫بأغلبية ثلثي أعضاءه‪ ،‬وبعد جلسة استجواب‪ ،‬وبناء عىل طلب مقدم من مخسة عرش‬
‫عضو ًا‪ ،‬وذلك يعني‪:‬‬
‫أً– االستحالة شبه املطلقة لسحب الثقة من احلكومة‪ ،‬بسبب األغلبية الكبرية ( الثلثني )‪،‬‬
‫وهو إجراء غري مسبوق يف النظم البملانية التي تكتفي باألغلبية املطلقة‪.‬‬

‫‪34‬‬
‫ب ً– تعليق منع الثقة عىل االستجواب‪ ،‬واالستجواب إجراء دستوري مل ينظمه‬
‫املرشوع‪ ،‬بل ترك تنظيمه لالئحة جملس النواب‪ ،‬وتلك حالة من أغرب حاالت التنظيم‬
‫الدستوري‪ ،‬ومن املحتمل أن اهليئة مل تدرس مسألة االستجواب لتعرف تداعياته‬
‫ونتائجه‪ ،‬والتي يأيت يف مقدمتها سقوط احلكومة وجملس النواب مع ًا‪ .‬وهو ما دفع اهليئة‬
‫ملامرسة الغموض يف هذا الشأن‪.‬‬
‫جً– إن التوازن بني السلطات واملامرسة املسؤولة تستوجب ربط منع الثقة بحل جملس‬
‫النواب‪ ،‬ذلك ما تذهب اليه كل األنظمة الدستورية‪ ،‬وإذا مل يتم هذا الربط فإن منع الثقة‬
‫يتحول إىل إجراء ديامغوجي ال مسؤول‪ ،‬واألرجح أن يتحول هذا اإلجراء وفق التنظيم‬
‫املشار إليه إىل لعبة خطرة بيد املجلس‪ ،‬دون أ َية قيمة دستورية له‪ ،‬أو أن يتحول إىل أداة‬
‫تالعب باحلكومة‪ ،‬ومصدر هتديد جيبها عىل العمل الطائش‪ ،‬واملامرسة غري املسؤولة‪.‬‬

‫أما حق احلل‪ ،‬فقد جاء أيضا عىل نحو شديد الغرابة‪ ،‬فقد أعطاه املرشوع لرئيس‬
‫اجلمهورية وحده‪ ،‬دون أي دور للحكومة‪ ،‬وهو حق معلق عىل ما ييل‪:‬‬
‫أ ً– وجود أسباب وجيهة تتعلق بعرقلة السياسة العامة للدولة‪ ،‬أو خطة التنمية‪ ،‬أو‬
‫تعطيل املوازنة دون مبرات حقيقية‪ ،‬أو خمالفة أحكام الدستور‪.‬‬
‫بً– موافقة املحكمة الدستورية‪.‬‬
‫جً– موافقة الشعب باالستفتاء العام‪ ( .‬املادة ‪.)109‬‬
‫و يف ظل هذا التنظيم يصبح من املستحيل حل املجلس‪ ،‬مما جيرد السلطة التنفيذية من أهم‬
‫أسلحتها‪.‬‬
‫تذهب معظم الدساتري إىل منح السلطة التنفيذية سلطة حل املجالس النيابية إذا وجدت‬
‫أسباب وجيهة‪ ،‬وملنعها من العبث هبذه الصالحية فإن الدساتري تسقط احلكومة يف الوقت‬

‫‪35‬‬
‫نفسه‪ ،‬مما يعني (االحتكام للشعب) بانتخابات جديدة‪ ،‬ذلك هو معنى التوازن واملسؤولية‪،‬‬
‫غري أن مرشوع الدستور التفت عن كل هذه الطرق الديموقراطية املجربة‪ ،‬لتتحول‬
‫النصوص إىل إجراءات تعطيليه ال أكثر‪.‬‬
‫إن املرشوع ذهب أبعد من ذلك يف املادة (‪ )115‬حني منح جملس النواب سلطة إيقاف‬
‫الرئيس وعزله‪ ،‬وهو ما يعني جتريد الرئيس من سلطته التهديدية‪ ،‬إذ بإمكان جملس النواب‬
‫استخدام هذه الصالحية عند شعوره باحتاملية استخدام الرئيس لسلطته التهديدية !!‬
‫إنه نظام غريب لتحقيق مبدأ التوازن‪ ،‬تعكسه كل النصوص املتعلقة بالعالقة بني‬
‫السلطات القائمة عىل مبدأ التعطيل‪ ،‬وهو ما تكشفه النصوص املنظمة للعالقة بني الرئيس‬
‫واحلكومة‪ ،‬والسلطة الترشيعية والقضائية‪ ( .‬كل سلطة تعطل األخرى )‪.‬‬
‫ذلك هوا املبدأ اجلديد املهيمن عىل مرشوع الدستور الليبي‪.‬‬
‫إن فكرة التعطيل املتبادل للمؤسسات الدستورية‪ ،‬هي الفكرة املهيمنة عىل التنظيم‬
‫الدستوري‪ ،‬وقد استعىص عيل يف الواقع حرص مواطن التعطيل‪ ،‬وكأن املبدأ الذي قام عليه‬
‫هذا املرشوع هو مبدأ " التعطيل‪ ،‬بحيث تقف كل سلطة يف مواجهة األخرى‪ ،‬ليس ملنعها‬
‫من التغول عىل غريها‪ ،‬بل ملنعها من العمل دون موافقتها‪ ،‬ومبدأ " التوافق " الذي ينطوي‬
‫عىل مدلول إجيايب أحيانا‪ ،‬سيتحول إىل مبدأ " املساومة " ليس لتحقيق املصالح العامة‪ ،‬بل‬
‫لتحقيق املنافع واملآرب الشخصية‪ ،‬وتغليف ذلك بغالف أخالقي‪ ،‬وتصبح املساومات‬
‫وكأهنا للدفاع عن حرمة الدستور‪.‬‬
‫إن املبدأ الرئييس الذي جيب أن يقوم عليه الدستور هو مبدأ " تعاون السلطات "‬
‫وتكاملها‪ ،‬وليس رصاعها واحرتاهبا‪ ،‬لكن مبدأ " التعاون " هو السلعة النادرة يف املرشوع‪،‬‬
‫بسبب مناخ الشك وانعدام الثقة واخلوف من املستقبل ال األمل فيه‪ ،‬وتلك هي الثمرة املرة‬
‫للدساتري التي توضع يف زمن احلروب‪ ،‬وهتشم الوحدة الوطنية‪.‬‬

‫‪36‬‬
‫رابع اًا‪ :‬إنني ال أستطيع مواصلة تعداد العيوب يف هذا املرشوع‪ ،‬فذلك يتطلب حجم كتاب‪،‬‬
‫فام من مادة أو فكرة يف هذا املرشوع إال وتستحق التأمل والتعليق‪ ،‬نقدً ا أو استحسا ًنا‪ ،‬لكنني‬
‫أرشت إىل عينات قليلة للدفع نحو احلذر واملراجعة العاقلة املسؤولة‪ ،‬قبل أن يفلت الدستور‬
‫من بني يدي الذين وضعوه‪ ،‬واملسؤولني بعدهم عن عرضه وإقراره‪ ،‬والشعب الذي عليه‬
‫أن يقول فيه كلمته ليجني الثامر أو يدفع الثمن‪ ،‬وال يتبقى بعد ذلك غري مالحظات أخرية ال‬
‫جيب إمهاهلا وهي‪:‬‬
‫❖ إنه ألمر شديد الغرابة أن يوضع دستور يف القرن احلادي والعرشين خاليا من‬
‫مصطلح " الديموقراطية " عقيدة الشعوب يف قرن العلم الوضاء‪ ،‬والقاسم‬
‫املشرتك بني األمم مجيعا‪ ،‬ودليل النضال للمكافحني يف سبيل احلرية‪ ،‬واألمر يف‬
‫ظني ليس مصادفة من مصادفات الصياغة‪ ،‬بل تدبري مقصود ‪ ،‬دفعت إليه تيارات‬
‫سياسية ترص عىل الوقوف يف وجه موجة التطور‪ ،‬واالستفادة من منتجات احلضارة‬
‫اإلنسانية التي أسهم فيها العرب واملسلمون طوال التاريخ‪ ،‬من حيث أشكال‬
‫احلكم والقيم التي تشكل مضموهنا‪ ،‬فالديموقراطية التي أصبحت سمة من سامت‬
‫احلداثة والتطور‪ ،‬وقيمة من قيم اإلنسانية عامة؛ أهيل عليها الرتاب يف مرشوعنا‬
‫العتيد‪ ،‬لتحل حملها عبارات غامضة وضعت يف شكل ألغام‪ ،‬ستستخدم فيام بعد‬
‫لغرض مرشوعات ملصلحة التطرف‪ ،‬وعىل الناس أن تقرأ هذه النصوص بعناية‬
‫فائقة قبل االستفتاء عليها وقبوهلا‪.‬‬
‫❖ أجدد التأكيد عىل محايس الشديد لصياغة دستور يسهم يف رفع املعاناة عن شعبنا‬
‫الطيب‪ ،‬ويصل به إىل املرحلة النهائية لبناء الدولة‪ ،‬واخلروج من حالة العبث التي‬
‫فرضتها مراحل انتقالية‪ ،‬أصبحت حمل تشاؤم لألغلبية الساحقة من الشعب‪،‬‬
‫ومصد ر قلق لنخبته الواعية‪ ،‬لكن هذا احلامس ال جيب أن ينطوي عىل " الترسع "‬

‫‪37‬‬
‫والقبول بأي دستور‪ ،‬فأمام الشعب الليبي فرصة حقيقية لكتابة دستور يعب عن‬
‫طموحاته وآماله‪ ،‬ويقوده إىل بناء دولة حديثة مستقرة‪ ،‬ومؤسسات متطورة تليق‬
‫بأجماده وكفاحه وتراثه العظيم‪.‬‬
‫إنني أدعو إىل اغتنام هذه الفرصة‪ ،‬وأطلب من نخبة ليبيا مساعدة شعبها عىل عدم‬
‫ارتكاب أخطاء إضافية‪ ،‬قد تضاعف املعاناة يف املستقبل‪.‬‬
‫❖ إن الدعوة للرتيث ال تعني وقف العمل‪ ،‬باالستمرار فيه باملراجعة والتدقيق‪ ،‬قبل‬
‫أن تذهب الفرص‪ ،‬وهي دعوة للهيئة الدستورية نفسها التي قامت بعمل مرهق‪،‬‬
‫وعليها أن تستكمل جهدها يف أجواء مفعمة بالوطنية‪ ،‬فهي هيئة حمرتمة ومنتخبة‬
‫بصورة رشعية‪ ،‬ليست حمل نزاع‪ ،‬وال ختلو من الوطنية والكفاءة للتصدي ملثل هذا‬
‫العمل التارخيي العظيم‪ ،‬وإذا كانت ‪-‬فيام مىض‪ -‬قد عملت يف أجواء التوتر‪ ،‬فإن‬
‫بمقدورها أن تستعيد أجواء الوطنية لتنغمس يف عمل وطني جليل‪ ،‬وتقدم لشعبها‬
‫أفضل الدساتري إذا تطهرت من النوازع الشخصية واجلهوية واملخاوف‪.‬‬
‫ّ‬
‫إن مرشوع الدستور مازال بني أيدهيا‪ ،‬وال يشفع يف ذلك التحجج بنصوص اإلعالن‬
‫الدستوري التي قد تعيق صالهتا باملرشوع‪ ،‬ويف هناية املطاف فإن نصوص هذا اإلعالن‬
‫ليست مقدسة‪ ،‬وقد جرى اخرتاقها مرارا من كل املؤسسات يف الدولة تقريبا‪ ،‬وإذا كان‬
‫اخليار يدور بني اخرتاق اإلعالن الدستوري أو تقديم مرشوع معيب‪ ،‬فإن االخرتاق من‬
‫أهون الرشور ‪ ،‬وعىل اهليئة ومؤسسات الدولة األخرى إجياد الطريق الدستوري للمراجعة‬
‫العاقلة املسؤولة‪ ،‬عوضا عن االندفاع نحو خطوة ليست حمسوبة‪ ،‬هي – يف الغالب – قفزة‬
‫يف اهلواء ال يعرف أين سيقع صاحبها‪.‬‬
‫وبعد‪ ....‬فال يتبق غري دعاء املؤمنني‪.‬‬
‫اللهم ِّ‬
‫ول علينا خيارنا‪.‬‬

‫‪38‬‬

You might also like