You are on page 1of 31

1

‫مفهوم ادلين‪:‬‬
‫ليس من السهوةل مباكن وضع تعريف دقيق لدلين أو حتديد مفهومه بشلك يريض مجيع امليول والرغبات الإنسانية أو‬
‫الزنعات دلى خمتلف المم والشعوب وعرب لك الزمنة‪ ،‬ذكل أن مدارك البرش يف فهم حقيقة ادلين ختتلف‪ ،‬كام أن ميوهلم‬
‫ونزعاهتم ل تصب يف قالب واحد‪ .‬كام أن الباحث يف مفهوم ادلين جيد نفسه أمام مجموعة من ادلايانت املتباينة واملذاهب‬
‫اليت ل تاكد جتمعها وحدة‪ ،‬وفضال عن هذا وذاك فاإن للك دين من الداين فرقا ومذاهب وطوائف خمتلفة‪.‬‬
‫وتزداد الصعوبة يف تعريف ادلين اإذا أردان أن يكون هذا التعريف شامال للك الداين لننا هنا ل نقصد ابدلين من‬
‫حيث هو حق أو ابطل بل نريد مفهومه عند مجيع الطوائف والشعوب عىل اختالف معتقداهتا وتدرجاها يف سمل‬
‫احلضارة‪ ،‬ونظرا لكون مفهوم ادلين خيتلف عند هذه الشعوب والطوائف فاإنه من املتعذر تعريفه تعريفا ينطبق عىل مجيع‬
‫الداين‪.‬‬
‫أ‪ -‬ادلين لغة‪:‬‬
‫وردت عدة معاين لدلين يف اللغة‪ ،‬وهذه املعاين تمتحور حول اإجياد عالقة بني طرفني‪ ،‬يمتتع الطرف الول مهنام‬
‫ابلسلطان والقوة واملكل‪ ،‬ويتصف الثاين ابخلضوع والطاعة والاس تاكنة والعبادة‪ ،‬والعالقة بني الطرفني يه ادلين اليت‬
‫حتدد عالقة الول ابلثاين‪.‬‬
‫ويذكر الباحثون يف أصل التسمية أن لكمة "دين" تؤخذ اترة من فعل متعد بنفسه (دانه‪ ،‬يدينه) واترة من فعل متعد‬
‫ابلالم (دان هل) واترة من فعل متعد ابلباء (دان به)‪.‬‬
‫والاختالف يف الاش تقاق يؤدي اإىل الاختالف يف الصورة املعنوية اليت تعطهيا الصيغة فاإذا قلنا (دانه دينا) أردان‬
‫بذكل أنه ملكه وحمكه وساسه ودبره وقهره‪ ،‬فادلين يف هذا الاس تعامل يدور حول معىن املكل والترصف مبا هو من شأن‬
‫اململوك من الس ياسة والتدبري واحلمك‪.‬‬
‫وإاذا قلنا (دان هل) عنينا أنه أطاعه وخضع هل‪ ،‬فادلين هنا هو اخلضوع والطاعة والعبادة والورع‪.‬‬
‫أما قولنا (دان ابليشء) فاإن معناه اختذه دينا ومذهبا‪ ،‬وهذا يعين أن املقصود ابدلين املذهب أو العقيدة اليت يتبعها‬
‫نظراي ومعليا‪.‬‬
‫ومعوما‪ ،‬فاإن هذه الاش تقاقات الثالث ملعىن لكمة "دين" يف جانهبا اللغوي تدور حول لزوم الانقياد والطاعة‪ ،‬فادلين‬
‫يف الاس تعامل الول هو الزتام الانقياد والطاعة‪ ،‬ويف الاس تعامل الثاين هو الزتام الانقياد‪ ،‬ويف الاس تعامل الثالث هو‬
‫املبدأ اذلي يلزتم الانقياد هل‪.‬‬
‫وقد حاول بعض العلامء الغربيني اإجياد تعريف للكمة دين وذكل اعامتدا عىل ادللةل اللفظية لالصطالح الورويب‬
‫(‪ )Relegion‬واختلف هذا الفريق هبذا الصدد اإىل رأيني فذهب البعض وعىل رأسهم (جييو) (‪ )Gyau‬اإىل‬

‫‪2‬‬
‫الاعتقاد بأن هذا اللفظ مش تق من الفعل الالتيين (‪ )Religare‬مبعىن مجع أو ربط‪ .‬وقد أخذ هبذا الرأي (دي‬
‫لجرارسي) (‪ )Delagrasserie‬اذلي ذهب اإىل أن ادلين هو ارتباط جامعة اإنسانية ابإهل‪.‬‬
‫أما الفريق الثاين فميثهل (روجيه ابستيد) (‪ )R. Bastide‬و(جيفونس) (‪ )Gevens‬اذلي يرى أن لكمة‬
‫(‪ )Religion‬ترجع اإىل الفعل الالتيين (‪ )Religare‬اذلي يشري اإىل مفهوم العبادة عىل اخلشوع والرهبة‬
‫والاحرتام‪.‬‬
‫ومن خالل ما تقدم من اس تقراءات لدللةل اللغوية لدلين ميكن أن نسجل املالحظات التالية‪:‬‬
‫‪ -‬أنه ليس لهذه اللكمة معىن واحدا‪ ،‬بل تشمل عدة معاين‪ ،‬وأهنا حتمل أكرث من دلةل لغوية‪ ،‬كام أن مدلول لكمة‬
‫دين يف اللغة العربية أوسع منه بكثري يف اللغات الخرى ذات الصل الالتيين‪ ،‬اكللغة الفرنس ية واللغة الإجنلزيية‪ ،‬كام أن‬
‫جل التعريفات السابقة – التعريفات الغربية‪ -‬جاءت مقتضبة واقترصت عىل تعريف ادلين يف مجةل أو بضع مجل‪.‬‬
‫ب‪ -‬ادلين اصطالحا‪:‬‬
‫قدم علامء الاجامتع والفلسفة والداين العديد من ادلراسات والحباث يف جمال تعريف ادلين‪ ،‬واكنت نظرهتم يف ذكل‬
‫متفاوتة واجتاهاهتم متباينة‪.‬‬
‫وجند يف اترخي الداين عددا كبريا من الامنذج لهذه التعريفات تس تويف بعضها العنارص الساس ية لدلين ويفتقر بعضها‬
‫الآخر لهذه العنارص‪.‬‬
‫وقد أورد العلامء الغربيون مضن أحباهثم ودراساهتم عدة تعاريف لدلين‪ ،‬ونظرا لكرثهتا نقترص هنا عىل ذكر بعض مهنا‪،‬‬
‫ولعل أشهر هذه التعاريف ما ذكره الفيلسوف الملاين (اكنت) (‪ )KANT‬يف دراسة هل بعنوان "ادلين يف حدود‬
‫العقل" فهو يعرف ادلين "بأنه الشعور بواجباتنا من حيث كوهنا قامئة عىل أوامر اإلهية"‪.‬‬
‫أما (هربرت س بنرس) (‪ )H.Spencer‬فيعرف ادلين بقوهل "الإميان بقوة ل ميكن تصور هنايهتا الزمنية ول‬
‫املاكنية‪ ،‬هو العنرص الرئييس يف ادلين"‪.‬‬
‫ويذهب املرشع الروماين (سيرسون) (‪ )Ciceron‬يف تعريفه لدلين بقوهل "هو الرابط اذلي يصل الإنسان‬
‫ابهلل"‪.‬‬
‫ويعرف (اتيلر) (‪ )Taylor‬ادلين "بأنه الاعتقاد بوجود أرواح"‪ .‬بيامن هو عند (فريزر) (‪")Frazer‬‬
‫اسرتضاء القوى اليت تتعاىل عىل الإنسان واليت يعتقد بأهنا تدير جمرى الطبيعة وتوجه حياة البرش"‪.‬‬
‫أما (ماكس مولر) (‪ )Max Muller‬فريى "أن ادلين يف جوهره حماوةل للتعبري عام ل ميكن تصوره‪ ،‬والتطلع‬
‫اإىل هللا ابعتباره الكامل املطلق الالهنايئ‪ ،‬أو حب هللا"‪.‬‬
‫ويعرفه (ريفل) (‪" )Revell‬بأنه حماوةل توجيه الإنسان لسلوكه وفقا لشعوره ابلصةل بني روحه‪ ،‬وبني روح خفية‬
‫يعرتف لها السلطان عليه‪ ،‬وعىل سائر الاكئنات الخرى وحياول أن يكون عىل صةل دامئة هبا"‪.‬‬
‫‪3‬‬
‫وادلين كام يراه (اميل دور اكمي) (‪" )EmilleDurKheuim‬هو مجموعة متساندة من الاعتقادات وأعامل‬
‫تضم أتباعها يف وحدة معنوية واحدة تسمى املةل"‪.‬‬
‫ويف دراسة هل عن عمل ادلايانت‪ ،‬يرى (اميل برنوف) (‪ )E.Brunouf‬أن ادلين هو العبادة‪ ،‬والعبادة معل‬
‫مزدوج‪ ،‬فهي معل عقيل حيث يعرتف الإنسان بقوة سامية‪ ،‬ومعل قليب حيث يتوجه الإنسان اإىل طلب الرمحة من هذه‬
‫القوة"‪.‬‬
‫ويقول (شالير ماخر) (‪ )ChlaierMakher‬يف مقالت عن ادلاينة "قوام حقيقة ادلين شعوران ابحلاجة‬
‫والتبعية املطلقة"‪.‬‬
‫أما العامل الهولندي (اناتنسونو بلوم) (‪ )Nathan SonirBlom‬فيشري اإىل تعريف ادلين بقوهل‪" :‬اإن‬
‫ادلين يطلق بوجه عام عىل عالقة البرش مبا يعتربه مقدسا‪ ،‬وابلقوى فوق البرشية اليت يؤمن هبا‪ ،‬لنه يشعر بأنه خاضع‬
‫لها‪ ،‬وتظهر هذه العالقة بأحاسيس خاصة‪ ،‬الرجاء اخلوف‪ ،‬وبأفاكر (معتقدات) وبأعامل خاصة (قرابني) وطقوس أخرى‬
‫اكلصالة وأداء الوامر اخللقية املعنوية"‪.‬‬
‫ومما س بق يتضح لنا عدم اتفاق هذه التعريفات عىل معىن حمدد لدلين‪ ،‬ولعل هذا يمكن أساسا يف كون أن الكتاب‬
‫اذلين صاغوا هذه التعريفات ينمتون أصال اإما اإىل ادلاينة الهيودية وإاما اإىل ادلاينة املس يحية‪ ،‬ومعروف أن الك ادلاينتني قد‬
‫تعرضتا اإىل التبديل والتحريف مبا يامتىش وأهواء رجال ادلين‪.‬‬
‫‪ -‬أن معظم الباحثني السابقني ينظرون اإىل ادلين عىل أنه اإنتاج مشاعر اإنسانية وليس مجموعة تعالمي ساموية‪ ،‬زايدة‬
‫عىل ذكل فاإن التعريفات تضف عىل ادلين طابع السلبية وجتعهل فوق ذكل قاهرا للفراد وملزما هلم‪ ،‬وليس من واجهبم‬
‫سوى اخلضوع والاس تاكنة والتسلمي ابلمر الواقع‪.‬‬
‫‪ -‬افتقار هذه التعريفات اإىل حتديد غاية وهدف ادلين يف احلياة‪ ،‬ورمبا اكن ذكل انجتا عن كون اجملمتعات الغربية مل‬
‫تعرف لدلين غاية وهدفا‪.‬‬
‫وبدورمه قدم العلامء املسلمون عدة تعاريف لدلين املشهور مهنا "أن ادلين وضع اإلهي يرشد اإىل احلق يف الاعتقادات‬
‫وإاىل اخلري يف السلوك واملعامالت"‪ ،‬و"أنه وضع اإلهي سائغ ذلوي العقول السلمية ابختيارمه اإىل الصالح يف احلال والفالح‬
‫يف املال"‪.‬‬
‫ويف تعريف أآخر "أن ادلين ما اكن هللا‪ ،‬وما اكن من عند هللا‪ ،‬ومفهوم هللا ليس خشصا وجد يف زمن دون زمن‪،‬‬
‫وتأثر ببيئة دون أخرى‪ ،‬اإمنا مفهوم هللا حقيقة أبدية خادلة‪ ،‬ترتفع فوق املس توايت ويتجرد عام للاكئنات مجيعا من صفات‪،‬‬
‫هو الكامل املطلق يف ذاته‪ ،‬اإنه ما جيب اإتباعه بعد الإميان به‪ ،‬وجتب الطاعة هل بعد المتسك به‪.‬‬
‫ويالحظ أن هذه التعريفات اليت قدهما العلامء املسلمون قد جاءت مس توفية لعنارص ادلين وذكل من حيث املصدر‬
‫والوس يةل والغاية‪ ،‬وميكن اإجياز هذه المور يف النقاط التالية‪:‬‬

‫‪4‬‬
‫‪ -‬أن مصدر ادلين هو هللا س بحانه وتعاىل‪ ،‬وهو مصدر اثبت ل يتغري ول يتبدل جوهره‪ ،‬وأن املعنيني ابدلين مه‬
‫ذوو العقول السلمية‪ ،‬حيث أن فاقدي العقل والقارصين غري معنيني بذكل‪.‬‬
‫‪ -‬أن الوس يةل اليت يعرض هبا ادلين حسب التعريف‪ ،‬يه الاختيار وليس الإكراه‪ ،‬وأن لدلين غاية يف هذه احلياة‪،‬‬
‫ويه اإرشاد الناس اإىل الصالح يف دنيامه والفالح يف أخرامه‪.‬‬
‫‪ -‬أن ادلين عقيدة وسلوك ومعامالت وأخالق‪.‬‬
‫وقد جاء لفظ ادلين يف القرأآن الكرمي بعدة معاين مرتابطة مهنا قوهل تعاىل "ماكل يوم ادلين" أي يوم احلساب‬
‫واجلزاء‪" ،‬ومن أحسن دينا ممن أسمل وهجه هلل وهو حمسن"‪ ،‬أي أحسن طاعة وعبودية‪ ،‬وقال عز وجل‪" ،‬وكنا نكذب‬
‫بيوم ادلين"‪ ،‬أي يوم احلساب واجلزاء‪.‬‬
‫كام يرد لفظ ادلين يف القرأآن الكرمي مبعىن املهنج والطريقة كام يف قوهل تعاىل‪" :‬لمك دينمك ويل دين"‪ ،‬أي لمك مهنجمك‬
‫وطريقتمك يف عبادة غري هللا‪ ،‬ويل مهنج وطريق يف عبادة هللا وحده دون سواه‪.‬‬
‫عقائد التأليه (عبادة الآلهة)‬
‫قبل أن نتناول هذا املوضوع ابدلراسة‪ ،‬جيب أن نشري لنقطة هامة كثريا ما شغلت ذهن من يلمس جوانب الريق يف‬
‫حضارة مرص الفرعونية يه سبب شهرة املرصيني القدماء بعبادة احليواانت‪ ،‬ومدى حصة ما رواه الكتاب الالكس يكيون‬
‫(اليوانن والرومان) عن أساليب املرصيني الغريبة يف عبادة احليواانت دلرجة ا إلسفاف أحياان‪.‬‬
‫والمر اذلي ل شك فيه‪ ،‬أن ما رواه هؤلء الكتاب فيه ظل من احلقيقة‪ ،‬ولكن ذكل ينصب عىل العصور املتأخرة من‬
‫التارخي املرصي القدمي‪ ،‬عندما وقعت مرص فريسة لالحتالل الجنيب وتعرض شعهبا للرضابت واحملن‪ ،‬و نزلت به‬
‫الشدائد‪ ،‬فس يطر عىل الناس اخلوف والقلق وجتردوا من سلطان العقل‪ ،‬فلجأوا ‪-‬شأهنم شأن بين الإنسان يف لك زمان و‬
‫ماكن‪ -‬اإىل القوى اخلفية يف الاكئنات القريبة مهنم امللموسة هلم‪ ،‬من حيواانت و طيور‪ ،‬يلمتسون عندها المن والطمأنينة‬
‫من هواجس اخلوف والقلق‪ .‬وساعد عىل ذكل انتشار الاعتقاد يف السحر يف تكل العصور انتشارا كبريا‪ ،‬فاعتقد الناس‬
‫أن الآلهة تتقمص هذه الاكئنات و تكس هبا قوهتا بفعل السحر‪ ،‬فيصبح احليوان نفسه اإلها يس تلزم السجود هل والتقرب‬
‫منه‪ .‬ول يقترص ذكل عىل فرد واحد من احليوان‪ ،‬بل ميتد اإىل مجيع أفراد احليوان اليت من هذا النوع‪ .‬وأدى هذا الاعتقاد‬
‫اإىل حترمي ذحب هذا احليوان يف املناطق اليت تقدسه‪.‬‬

‫‪5‬‬
‫وهكذا ظهر يف مرص يف أآخر عصور اترخيها ما يش به عقيدة الطوطمية املعروفة عند القبائل البدائية‪ ،‬اليت من أمه أراكهنا‬
‫تقديس مجيع أفراد احليوان اليت تتخذ منه القبيةل معبودا ورمزا وحترم ذحبه‪ .‬ومل تكن عادة حترمي ذحب مجيع أفراد احليوان‬
‫املقدس قد عرفت يف مرص قبل ذكل‪ ،‬لن املرصيني حىت يف عصورمه البدائية عندما عبدوا احليواانت ذلاهتا يف جفر‬
‫اترخيهم‪ ،‬مل يعبدوها عبادة طوطمية‪ .‬وبذكل سارت العقائد يف مرص عىل عكس اجتاهها دلى الشعوب الخرى‪ ،‬اإذ غالبا‬
‫ما تظهر الطوطمية عند هذه الشعوب يف أول عصور اترخيها أي يف عرصها البدايئ‪ .‬أما يف مرص فقد ظهر ذكل النوع‬
‫من الطوطمية يف أآخر عصور اترخيها‪...‬‬
‫ولعل هذا الوضع الشاذ املقلوب يف اترخي العقائد يف مرص يفرس لنا تكل الظاهرة الشاذة أيضا يف التارخي املرصي القدمي‪،‬‬
‫ويه أن أكرث العصور تأخرا و بدائية يف التارخي ادليين ملرص الفرعونية هو أآخر عصورها‪...‬‬
‫وقد ازدادت العقائد فسادا يف عرص الاحتالل البطلم الروماين‪ ،‬وهما يقال عن حمك البطاملة ف إانه ل شك حمك أجنيب‬
‫من مصلحته إاضعاف املرصيني نفس يا وأخالقيا‪ ،‬وليشء يعني عىل ذكل أكرث من فساد العقائد‪ .‬وقد ازداد هذا الفساد‬
‫تفش يا وش يوعا يف عرص الاحتالل الروماين فرتخص املرصيون وابتذلوا أآدميهتم أمام احليواانت‪.‬‬
‫ومن سوء حظ املرصيني أن عصور اترخيهم املظلمة قابلهتا عصور مرشقة يف اترخي اليوانن والرومان‪ ،‬فاكنت تقابل العرص‬
‫اذلهيب للكتابة والتسجيل عندمه وانل مرص الكثري من كتاابت مؤرخهيم ورحالهتم‪ ،‬فكتب هؤلء عن مرص يف أسوأ‬
‫عهودها و اكنت عبادة احليوان يف مرص من أكرث ما جذب اهامتهمم لغرابهتا ابلنس بة هلم ولشعوهبم‪ ،‬فسجلوا كثريا من‬
‫تفاصيلها بسخرية لذعة وهتمك مرير‪.‬‬
‫من هنا جاءت تكل املعلومات والفاكر القامتة عن العبادات احليوانية يف مرص مثل عبادة العجل "أبيس" يف منف‪،‬‬
‫والقطة "ابست" يف بوابسطة (ابلقرب من الزقازيق) والتيس يف منديس (تل الربع حاليا ابلقرب من مسنود) والكبش يف‬
‫طيبة‪ .‬اإىل أآخر تكل العبادات احليوانية اليت أفاض فهيا مؤرخو ا إلغريق والرومان وذكر بعضهم صورا صارخة مهنا‪ .‬فقد‬
‫روى بلواترك اذلي عاش يف القرن الول امليالدي أخبار جمزرة وقعت بني أهايل مقاطعة أس يوط وأهايل مقاطعة الهبنسا‬
‫(ابملنيا)‪ ،‬وسبب ذكل أن أهايل مقاطعة أس يوط اذلين اكنوا يقدسون اللكب ألكوا السمكة اليت اكنت تقدم يف الهبنسا‪،‬‬
‫فانتقم أهايل الهبنسا ملعبودهتم بأن ألكوا الكاب‪ ،‬فاش تعلت املعركة بني املقاطعتني اإىل أن تدخل الرومان وفصلوا بني‬
‫املتحاربني‪.‬‬

‫‪6‬‬
‫هذه القصة اإن دلت عىل يشء فاإمنا تدل عىل أن املرصيني يف عصور حمنهتم قد ألغوا عقوهلم متاما و أنس هتم الرضابت‬
‫والشدائد مبا زرعت فهيم من خوف‪ ،‬أنسنهتم ما أنتجته عقول أجدادمه من حضارة راقية اكنت مثار اإجعاب املؤرخني‬
‫ا إلغريق والرومان أنفسهم اذلين رضبوا املثل ابملرصيني يف احلمكة‪.‬‬
‫ولسوء حظ املرصيني أيضا أن العامل ظل قروان طويةل بعد انهتاء التارخي الفرعوين يس تق معلوماته عن مرص الفرعونية‬
‫وحضارهتا من كتاابت املؤرخني ا إلغريق والرومان‪ ،‬بسبب نس يان املرجع السايس لتكل احلضارة وهو الكتابة املرصية‬
‫القدمية وخاصة الكتابة الهريوغليفية‪ .‬ومن هنا اس مترت تكل املعلومات القامئة تنتقل من عرص اإىل عرص و من جيل اإىل‬
‫جيل‪ ،‬حىت قدر للكتابة الهريوغليفية أن تكشف عن أرسارها يف مطلع القرن التاسع عرش عىل يد مشبليون‪ .‬وبدأت‬
‫حضارة مرص الفرعونية تكشف نقاهبا و تظهر وهجها احلقيق للعامل‪ .‬ولكن بطبيعة احلال ليس من السهل عىل فرتة قصرية‬
‫ل تزيد عىل قرن ونصف (منذ أن حلت رموز الكتابة الهريوغليفية)‪ ،‬أن تزيل ما ترسب يف عقل الإنسانية طوال أكرث‬
‫من مخسة وعرشين قران‪ .‬اإذ ما زالت تسود بني الناس تكل الصور املشوهة لعبادة املرصيني للعجل والقةل والتيس‬
‫وغريها‪ ،‬وما زالت هذه الصور تعترب عند البعض عنوان العقائد املرصية بل احلضارة املرصية القدمية بأمكلها‪.‬‬
‫والسؤال اذلي يتبادر اإىل اذلهن بطبيعة احلال هو‪ :‬اإذا مل يكن املرصيون يف عصور ازدهار حضارهتم قد عبدوا احليوان‬
‫والطري بنفس السلوب املبتذل ااذلي عبدوها به يف عصور امضحالهلم‪ ،‬مفاذا اكنت أشاكل هذه العبادات يف تكل‬
‫العصور الزاهرة ؟ مث كيف متخضت العبادات املرصية املبكرة ذات املظهر البدايئ‪ ،‬عن الفاكر املعنوية الراقية اليت أدت‬
‫اإىل عقيدة التوحيد‪ ،‬ويه مقة الرق الفكري ادليين؟‬
‫ل إالجابة عىل هذه الس ئةل س نتناول ابدلراسة النقاط التالية ‪:‬‬
‫أول ‪ -‬نشأة عبادة الاكئنات يف مرص‬
‫عرف الإنسان الول يف مرص ‪ -‬شأن الإنسان يف العصور الوىل‪ -‬ألواان من احليوان والطري‪ ،‬خفاف بعضها وأحب‬
‫الآخر فاكن ذكل منشأ العقيدة‪ ،‬لن عقيدة املرء تقوم عىل عاطفتني هام احلب واخلوف‪ .‬فأما ما خافه فقد ابتعد عنه‬
‫وحاول أن خيدع نفسه عن رشه وأآذاه‪ ،‬وخيل اإىل نفسه أنه يس تطيع أن يسرتضيه بألوان الطعام والرشاب‪ ،‬ولعل ذكل أن‬
‫يكون منشأ عادة تقدمي القرابني‪ ،‬فهي اإمنا نشأت عن اخلوف أكرث مما نشأت عن احلب‪ .‬وهكذا نشأت عبادة النواع‬
‫املفرتسة من احليواانت مثل المتساح والسد واللبؤة واذلئب‪.‬‬

‫‪7‬‬
‫وأما ما أحبه الإنسان من حيوان وطري فقد أقبل عليه وقدس فيه ما يقدمه هل من نفع وخري‪ ،‬فقدس يف البقرة خصوبة‬
‫ا إلنتاج وما توفره هل من طعام ورشاب هل ولطفاهل‪ ،‬وقدس يف الثور القوة اخلارقة واخلصب اجلنيس‪.‬‬
‫اكنت تكل يه إاذن دوافع تقديس املرصي الول لاكئنات البيئة اليت ترضه أو اليت تنفعه بطريقة مبارشة‪ .‬أما تكل النواع‬
‫من الاكئنات اليت مل تكن ذات رضر أو نفع مبارش هل فقد قدس بعضها بدافع ا إلجعاب‪ ،‬اكلصقر فهو قد رأى ذكل الطري‬
‫ذي قدرة خارقة عىل التحليق يف أجواء الفضاء مما ل يس تطيعه أي طائر أآخر‪ ،‬نقدس فيه السمو والارتفاع‪ .‬ورمبا اقرتن‬
‫ذكل ا إلجعاب ابحلب أحياان‪ ،‬عندما اكن يرى ذاك الطائر ينقض من أعىل ليختطف احليات والفاع اليت ترضه وتؤذيه‪.‬‬
‫وأجعب املرصي الول أيضا بطائر أيب منجل عندما رأ آه يسري خبطى رزينة مزتنة ابحثا مبنقاره يف الرض عن رزقه فقدس‬
‫فيه تكل الرزانة وذكل ادلأب عىل البحث‪.‬‬
‫وغري تكل النواع من احليواانت والطيور‪ ،‬هناك صنوف أخرى من احليواانت اكنت يف أصلها ضارة ابلإنسان مؤذية هل‪،‬‬
‫ولكن املرصي نسب اإلهيا صفات خرية وأصبحت تلعب دورا كبريا يف عقائده ادلينية‪ ،‬ومثال ذكل حيوان ابن أآوى‬
‫والفاع ‪ .‬فقد عبد املرصي ابن أآوى عىل أنه اإهل املوىت (مث إاهل التحنيط فامي بعد)‪ .‬ويه صفة مناقضة متاما لطبيعة هذا‬
‫احليوان اذلي اعتاد نبش املقابر وهنش جثث املوىت‪ .‬ويبدو أن املرصي الول قدم لهذا احليوان الطعام لرصفه عن نبش‬
‫املقابر‪ ،‬ومن مث نشأت فكرة تقديسه وتقدمي القرابن هل بل واختاذه إالها للموىت متش يا مع هذا التقديس‪ .‬وقد لعب هذا‬
‫احليوان اذلي يعرف ابمس "اتوب" أو "انبو" (حرفها اليوانن اإىل أنوبيس(لعب دورا كبريا يف ادلاينة املرصية فامي بعد‬
‫وطوال العصور التارخيية‪ ،‬بسبب ارتباطه ابلعقائد اجلنائزية ذات المهية الاوىل عند املرصي القدمي‪.‬‬
‫أما الافاع فرمغ أهنا اكنت من أشد الاكئنات خطرا يف عقائد املرصيني‪ ،‬دلرجة أهنم اعتقدوا فامي بعد عندما سادت بيهنم‬
‫عبادة الشمس أن أدل أعداء اإهل الشمس ثعبان خضم يعرتض طريق زورقه الساموي‪ ،‬ابلرمغ من ذكل فقد اختذوا من‬
‫الثعابني والافاع أآلهة للحامية‪ ،‬ومثلوها عىل جبني إاهل الشمس نفسه ويه تنفث السم يف وجه أعدائه كام مثلوها عىل‬
‫جبني امللوك لنفس الغرض وهبذا مجع املرصيون بني النقيضني‪ .‬ورمبا يرجع ذكل اإىل فكرة خداع النفس عن الرش كام فعلوا‬
‫مع ابن أآوى‪ ،‬أو لهنم أدركوا أن أجسام الفاع حتتوی عىل النقيضني‪ ،‬أي عىل السم وعىل الرتايق‪.‬‬
‫هكذا نشأت العقائد يف مرص شأهنا شأن بالد العامل الخرى‪ ،‬بس يطة ساذجة تتالءم يف طابعها احليس امللموس مع عقلية‬
‫الإنسان البدايئ‪.‬‬

‫‪8‬‬
‫وقد متزيت العقائد يف مرص أيضا بأهنا اكنت انبعة من ظروف البيئة مس متدة مهنا‪ ،‬ليس من ظروف البيئة العامة اليت‬
‫تسود مرص لكها فقط‪ ،‬بل من البيئة احمللية نفسها‪ .‬فاختلفت املعبودات اليت قدمهتا القبائل اليت سكنت البالد يف عصور‬
‫ما قبل التارخي ابختالف البيئات اليت اس تقرت فهيا هذه القبائل‪ ،‬اإذ متزيت لك منطقة مبعبود خاص يبدو أنه اكن يف‬
‫الصل الاكئن الغالب يف البيئة أو الاكئن ذو التأثري الكبري يف ساكهنا‪ ،‬مفثال نرى المتساح يعبد يف املناطق اليت تكرث فهيا‬
‫اجلزر أو البحريات‪ ،‬حيث يكرث وجود هذا احليوان‪ ،‬فعبد مثال يف منطقة دندره عند ثنية قنا حيث ينحين النيل‬
‫ويتخلف عن احننائه عدة جزر ل شك اكن عددها يف تكل العصور البعيدة أكرث من اليوم‪ ،‬كام عبد يف منطقة الفيوم‬
‫حيث توجد حبرية قارون العذبة وما يتصل هبا من حبريات صغرية تتناثر هبا اجلزر اليت تأوي اإلهيا الامتس يح (وقد جفت‬
‫هذه البحريات وانمكشت حبرية قارون وازدادت ملوحة مياهها خالل العصور التالية نتيجة للبخر ولعدم وجود خمرج لها‬
‫تنرصف منه مياهها)‪.‬‬
‫كام عبدت الثعابني والافاع يف املناطق اليت تكرث فهيا هذه احليواانت وخاصة مناطق التالل القريبة من الوادي‪ ،‬ومثال‬
‫ذكل منطقة قاو الكبري املواهجة لبدلة أبو تيج جنوب أس يوط واملناطق املواهجة لها يف غرب النيل‪ .‬وعبدت الثعابني‬
‫والافاع أيضا يف مناطق ادللتا املليئة ابملستنقعات مثل منطقة بوتو القدمية (حول دسوق احلالية) و يه من أقدم مراكز‬
‫عبادة أفعى الكوبرا‪ .‬وعبدت الصقور يف املناطق اليت تتصل عندها الوداين أو الطرق الصحراوية بوادی النيل‪ ،‬مثل‬
‫منطقة ادفو حيث ينهتي وادی عباد ومنطقة قفط حيث ينهتي وادي امحلامات‪ ،‬ومنطقة احليبة القريبة من الفشن حيث‬
‫تصب الوداين القادمة من منطقة الزعفرانة عىل البحر المحر‪ .‬وكذكل املناطق الواقعة يف أقىص رشق ادللتا أو يف أقىص‬
‫غرهبا املتامخة للصحراء‪ ،‬مثل منطقة أوس مي جنوب غرب ادللتا وابلقرب من اخلطاطبة‪ ،‬و مثل املنطقة املمتدة من دمهنور‬
‫حنو الصحراء‪ ،‬ويف أقىص رشق ادللتا عند بدلة قفط احلنة القريبة من فاقوس‪.‬‬
‫أما البقرة والثور فقد عبدا يف املناطق الزراعية وخاصة بني ذراع النيل يف ادللتا‪ ،‬وكذكل عبد اذلئب وابن أآوى يف‬
‫املناطق املتامخة للصحراء ويف املناطق ش به اجلبلية مثل تالل أس يوط‪.‬‬
‫وفامي عدا احليواانت والطيور عبدت اكئنات أخرى من البيئة مثل الاجشار وأمهها جشرة امجلزي ويه الشجرة الغالبة يف‬
‫البيئة املرصية‪.‬‬

‫‪9‬‬
‫عىل أنه من املناسب القول بأن اتفاق العبادات مع طبيعة البيئة مل يكن قاعدة بسبب املطامع الس ياس ية‪ ،‬فقد اكنت‬
‫القبائل القوية تغزو مناطق القبائل الضعيفة و تضعها حتت لواهئا وتفرض علهيا عبادة أآلهة ل تتفق مع طبيعة املنطقة اليت‬
‫عبدت فهيا‪.‬‬
‫ومع الاجتاه العام حنو التجميع والتكتل اذلي تفرضه طبيعة البيئة املرصية من انحية‪ ،‬وبتأثري املطامع الس ياس ية من انحية‬
‫أخري‪ ،‬احتدت مجموعات القبائل وكونت مقاطعات بلغ عددها حوايل ‪ 42‬مقاطعة‪ ،‬عرشون مهنا يف الوجه البحرى‬
‫واثنتان وعرشون يف الوجه القبىل‪ ،‬ول شك أن معبود أقوى القبائل أصبح معبود املقاطعة لكها اختذ شارة للمقاطعة‪ .‬وقد‬
‫حافظت التقاليد عىل بقاء شارات املقاطعات بعد ذكل رمغ احتاد البالد حتت حمك فرعون واحد وانهتاء تقس ميها تقس امي‬
‫فعليا اإىل مقاطعات‪ ،‬بل بقيت شارات املقاطعات ترمس عىل الآاثر املرصية حىت أواخر العرص الفرعوين‪ ،‬بل وأيضا حىت‬
‫العرص البطلم ‪ .‬وقد حتورت أشاكل هذه الشارات مبرور الوقت‪ ،‬ففقدت الشارة شلكها الصيل اليت متثل املعبود القدمي‬
‫للمقاطعة‪ ،‬ورمغ ذكل ظل املرصيون يرمسون أمام الشارة شلك إاانء اكن لشك ا إلانء اذلي يقدم فيه القرابن من طعام‬
‫ورشاب اإىل املعبود الصيل للمقاطعة‪.‬‬
‫وهذا املثال يوحض مدى متسك املرصيني ابلتقاليد القدمية وحرصهم عىل مظهريهتا رمغ اختفاء حقيقهتا وجوهرها‪ ،‬وقد لعب‬
‫احلرص عىل هذه املظهرية دورا كبري يف اخللط بني العقائد املرصية فامي ظهر علهيا من غرابة وتناقض نتيجة الإبقاء عىل‬
‫القدمي اإىل جانب اجلديد‪..‬‬
‫وعندما تقدم املرصي يف احلضارة وارتقى بفكره و أراد أن يعرب عن الإهل ابلشلك الإنساين وهو أرىق من الشلك احليواين‪،‬‬
‫مل يس تطع أن يتخلص من الشلك احليواين للآلهة لرتباط هذه الشاكل ابلتقاليد القدمية‪ ،‬ولمتسك أهايل لك منطقة أو‬
‫مقاطعة مبعبودمه احمليل القدمي‪ ،‬حفافظ املرصي عىل شلك احليوان يف أكرث أجزاء اجلسم متيزيا هل وهو الرأس‪ .‬ونشأت‬
‫بذكل أشاكل عديدة من الآلهة بأجساد إانسانية ورؤوس حيوانية‪ ،‬وهبذا اس تطاع املرصيون التوفيق بني التقاليد اليت‬
‫تمتسك ابلشاكل احليوانية للآلهة‪ ،‬ول س امي أهنا اقرب اإىل الزارع والرجل العادي البس يط لرتباطها حبياته وبيئته‪ ،‬و بني‬
‫الافاكر الرىق اليت أخذت تتجه اإىل الشلك الإنساين يف تصوير الآلهة‪ ،‬و بذكل حافظوا من انحية أخرى عىل مظهرية‬
‫القدمي داخل إاطار الاجتاهات الفكرية الرىق‪.‬‬

‫‪10‬‬
‫وقد دفع الاجتاه حنو التجمع أيضا اإىل جتميع أ آلهة املقاطعات أو املناطق اخملتلفة عىل شلك أرسات صغرية‪ .‬واكن ذكل منشأ‬
‫ظاهرة الثالوث اذلي ميزي العبادات املرصية‪ .‬ورمبا يعرب ذكل عن خضوع الآلهة الصغرية للآلهة الكبرية بطريقة سلمية‬
‫تسودها روح التوافق اليت متزي البيئة الطبيعية املرصية (واليت تمتثل يف توافق أوقات الفيضان وحرارة الشمس وسقوط‬
‫املطر و توافق تيار النيل مع تيارات الرايح وغري ذكل كام ذكران فهيا س بق) كام متزي حياة الناس يف مرص ( وتمتثل يف قوة‬
‫الروابط بني أفراد الرسة املرصية كام تثبت ذكل متاثيل ورسوم الرسة املرصية طوال العرص الفرعوين) وذلكل جند‬
‫التكوين الغالب لثالوث أ آلهة املرصية يتألف من أب وأم وابن عىل هيئة أرسة صغرية متوافقة مرتابطة‪.‬‬
‫غري أنه رمغ غلبة الشلك احليواين عىل أشاكل الآلهة املرصية يف جفر التارخي‪ ،‬فقد ظهرت بعض الآلهة بأشاكل أآدمية ولو‬
‫أن بعضها يرجع لعرص متأخر نسبيا عن عرص ظهور الآلهة احليوانية الشلك‪ ،‬ومثال ذكل الإهل "مني" يف امخمي و قفط‪،‬‬
‫وا إلهل "عند جىت" يف شامل رشق ادللتا وقد حل حمهل الإهل "اوزير" ابلهيئة البرشية أيضا يف عرص متأخر نسبيا‪ .‬والاهل‬
‫"اتوم" يف عني مشس (وهو الشلك الاديم إلهل الشمس) غري أن الظاهرة امللفتة للنظر أن هذه الآلهة الثالثة ترتبط‬
‫ابلظواهر الكونية‪ ،‬فا إلهل "اتوم" ارتبط بعبادة الشمس‪ ،‬وا إلهل "اوزير" ارتبط بعبادة النيل وا إلهل "مني" ارتبط بعبادة‬
‫الصواعق والعواصف مث ابلقمر‪ .‬ورمبا يعزى متثيل هذه الآلهة ابلشلك ال آديم اإىل أن الظواهر الكونية دفعت بفكر‬
‫الإنسان املرصي اإىل مس توى أرىق من مس توى عبادة الآلهة احليوانية‪.‬‬
‫ولكام ارتقى املرصيون يف مضامر احلضارة‪ ،‬لكام حاول املثقفون وأحصاب الفكر مهنم و کهاهنم املس تنريون تربير عبادة الآلهة‬
‫احليوانية بتربيرات تتالمئ مع الفكر الرىق‪ ،‬وسوف نرى كيف توصلوا اإىل ذكل ابملقارنة والتشبيه بني طبائع احليواانت اليت‬
‫متثلها هذه الآلهة‪ ،‬و بني صفات إاهل كوين أكرث رقيا‪ ،‬وذكل حىت يالمئوا بني ما تفرضه التقاليد من ا إلبقاء عىل الآلهة‬
‫احليوانية القدمية‪ ،‬أي احلفاظ عىل مظهرية العبادة القدمية من انحية (وخاصة أهنا تتالءم مع ما ينشده العامة من الناس يف‬
‫أآلههتم من طبيعة منية ملموسة) وبني ما يتطلبه الريق الفكري اذلي أخذ يسود بني املثقفني وأحصاب الفكر مع ريق‬
‫احلضارة املرصية يف العصور التارخيية من انحية أخرى‪.‬‬
‫وهمام يكن من أمر العبادات احليوانية يف مرص وارتباطها ابلقدمي ومتسك عامة الناس هبا‪ ،‬ف إان املتتبع لبواطن المور‬
‫يالحظ أن الطبقة املثقفة وأحصاب الفكر يف مرص اكن هلم موقف معني من هذه الآلهة يمتثل فامي يىل ‪:‬‬

‫‪11‬‬
‫أول‪ :‬أهنم مل يقدموا حيواان ذلاته وإامنا رمزوا به لصفة من صفات إاهل أكرب أو إاهل خف ‪ ،‬وادلليل عىل ذكل أهنم مل يقدسوا‬
‫احليواانت بأسامهئا احليوانية بل بأسامء رابنية‪ .‬فمل يقدسوا الصقر ابمسه احليواين "بيك"‪ ،‬و لكن ابمس رابین هو "حور"‪،‬‬
‫ومل يقدسوا البقرة ابمسها احليواين "أحت" وإامنا ابمس رابین هو "حتحور" (هاتور)‪ ،‬و كذكل المتساح مل يقدسوه ابمسه‬
‫احليواين وهو "مسح" ولكن ابمس رابين وهو "س بك" وأيضا الكبش قدسوه ابمس رابین هو "خنوم" أو "أآمون"‪ ،‬وليس‬
‫ابمسه احليواين "اب"‪.‬‬
‫وقد خطا املرصيون يف طريق ذكل الريق الفکري خطوات أبعد عندما تساموا هبذه السامء الرابنية للآلهة احليوانية‬
‫وجعلوها رموزا لصفات أو مظاهر ل إالهل الكرب كام س نذكر بعد‪.‬‬
‫اثنيا‪ :‬أن اختيار املرصيني لفرد من أفراد احليوان مل يؤد اإىل تقديس لك أفراد نوعه‪ ،‬فمل يكن من بأس عىل منطقة تقدس‬
‫الثور مثال أن يس تخدم الثريان يف احلقل واذلحب‪ ،‬وإامنا هو جمرد حيوان مهنا يتخريه الكهنة اإذا توافرت فيه عالمات حتددها‬
‫هلم ادلين ونواميسه‪ .‬وقد ساد هذا السلوب يف معامةل الآلهة احليوانية بني املرصيني طوال عصور ازدهار حضارهتم‪ .‬ومل‬
‫ينقلب اإىل السلوب البدايئ اذلي اكن يقدس اكفة أنواع احليوان املؤهل وحيرم ذحبه اإل يف عصورمه املتأخرة‪ ،‬عندما‬
‫فسدت عقائدمه وهبط مس توى تفكريمه بتأثري ما نزل هبم من شدائد وحمن نتيجة الاحتالل الجنيب وانتشار العنرص‬
‫الجنيب يف البالد‪.‬‬
‫اثلثا‪ :‬نالحظ أنه ما من معبد من املعابد املرصية الكبرية الباقية مما خلفته العصور املمتدة من ادلوةل القدمية حىت هناية‬
‫ادلوةل احلديثة عىل أقل تقدير أي خالل ما يقرب من ألف عام قد تضمن ماكان معدا حليوان‪ ،‬وذكل مما يعين أن مزار‬
‫احليوان اخملتار اإذا وجد مل يكن مقرا لعبادة فعلية عىل ا إلطالق‪ ،‬ومل تنترش املزارات اخلاصة ابحليواانت يف املعابد مثل‬
‫املزار املشهور لعجل ابيس يف منف اإل يف العصور املتأخرة ويف عصور ضعف وامضحالل احلضارة الفرعونية كام قلنا‪.‬‬
‫اثنيا ‪ :‬دور الآلهة الكونية يف الفكر ادليين املرصي‬
‫متثل عبادة الآلهة الكونية مثل أآلية املاء والشمس والقمر والنيل والرض اخلصبة‪ ،‬مرحةل تطور هامة يف الفكر ادليين‬
‫املرصي‪ ،‬فقد نقلت العبادات املرصية من مرحةل "التعدد" ويه املرحةل البدائية اليت سادت فهيا عبادة الآلهة احليوانية‬
‫املتعددة ك آلهة رئيس ية يف خمتلف املناطق‪ ،‬وسارت هبا حنو المتهيد ملرح "الرتجيح"‪ ،‬ومعناها ترجيح أو س يادة عبادة عدد‬
‫قليل من الآلهة العظمى واعتبارها أعظم الآلهة‪ ،‬ولكن دون أن يعين ذكل إالغاء الآلهة احليوانية واحمللية اليت تأخذ يف‬

‫‪12‬‬
‫الاحتاد مع هذه الآلهة يف أول المر مث الاندماج فهيا‪ .‬وإاذا سار هذا التطور حنو الارتقاء فانه يؤدي اإىل اثلث مراحل‬
‫تطور الفكر ادليين وأرقاها ويه مرحةل التوحيد أو الوحدانية فتسود عبادة اإهل واحد وتلغ مجيع الرابب الخرى اليت‬
‫تعبد من دونه‪.‬‬
‫ويرحج الباحثون أن عبادة ال آلهة الكونية ظهرت يف مرص يف وقت مبكر‪ ،‬و لكهنا اكنت يف شلك ساذج دفعت إاليه‬
‫عاطفتنا اخلوف واحلب اليت اكنت منشأ ادلايانت والعقائد‪ .‬فاكن تردد املرصي بني اخلوف من املطر والرغبة يف‬
‫اس تجالبه دافعا لتقديس السامء‪ ،‬واكن اخلوف من الفيضان والرغبة يف اس تجالب نفعه دافعا لتقديس النيل‪ ،‬وهكذا اكن‬
‫الشأن مع الشمس والقمر وغريها‪ .‬وبذكل نشأت العقائد الكونية يف مرص بنفس طريقة نشأة العبادات احليوانية‪ ،‬ولكن‬
‫العقائد الكونية سارت ابلفكر ادليين املرصي يف طريق التطور والارتقاء حبمك همينهتا عىل مناطق شاسعة من البالد‬
‫وشعور املرصي بأثرها يف اكفة أرجاء الوادي‪ ،‬ولن فهمها وإادراك كهنها حيتاج اإىل تأمل و إاعامل فكر‪ ،‬ولهذا يرجع‬
‫الباحثون أن الريق الفكري اذلي صاحب العبادات الكونية يف مرص مل يبدأ اإل بعد توحيد القطرين عىل يد مينا‪.‬‬
‫ولقد لعبت الظواهر الكونية الثالثة البارزة يف مرص ويه الشمس والسامء والنيل‪ ،‬دورا رئيس يا يف العبادات الكونية‬
‫املرصية‪ ،‬واكن لها فضل كبري يف احتواء ال آلهة احليوانية وإادراهجا يف كياهنا‪ .‬مفثال أدجمت عبادة البقرة يف عبادة السامء رمبا‬
‫عىل أساس ما لحظه املرصيون من تشابه بني الثنني‪ ،‬فالسامء تسقط مطرا هو اكلغيث للرض‪ ،‬والبقرة تدر لبنا هو‬
‫اكلغيث للبرش‪ ،‬والسامء حتيط بأراكن العامل الربعة فيبدو كن لها قوامئ أربعة ترتكز علهيا كقوامئ البقرة الربعة (أرجلها)‬
‫وهكذا‪.‬‬
‫وقد عرب املرصيون عن ذكل التشابه برتصيع جسم البقرة بأشاكل النجوم‪ ،‬كام عربوا عن امجلع بني السامء والبقرة بمتثيل اإلهة‬
‫السامء برأس بقرة وجسم امرأة تتناثر فهيا أشاكل النجوم‪.‬‬
‫و ابلنس بة للنيل فيبدو أن املرصيني أدجموا عبادته يف عبادة الثور (أو العجل) ملا بيهنام من تشابه‪ ،‬فالنيل خيصب الرض‬
‫و الثور خيصب البقار‪ ،‬ولهذا مجعوا بني امس إاهل النيل (أوزير) و بني امس الثور أو العجل (حايب) يف لكمة واحدة يه‬
‫(أوزير حایب)‪ .‬وقد حور ا إلغريق هذه اللكمة اإىل (سريا بيس) وأطلقوا عىل العجل وحده (ابيس) وهناك تفسري أآخر‬
‫للكمة أوزيرحایب هو امس العجل امليت عىل أساس أن أوزير هو إاهل املوىت‪ ،‬و لكن ل مينع ذكل من مالحظة امجلع بني‬
‫العجل و بني أوزير بصفته إاهل النيل‪.‬‬

‫‪13‬‬
‫ورمغ ما للنيل من تأثري كبري يف احلياة يف البالد ورمغ امتداده من أقىص اجلنوب اإىل الشامل‪ ،‬فانه مل يلعب يف العقائد‬
‫املرصية‪ ،‬ادلور الكبري اذلي لعبته الشمس‪ ،‬ويبدو أن السبب يف ذكل يرجع اإىل طبيعة النيل كظاهرة أرضية حمسوسة‪،‬‬
‫فضال عن ارتباط النيل بعبادة أوزير واختاذ أوزير اإلها للعامل السفيل أو عامل الآخرة‪ ،‬اذلي تصوره املرصيون وقد امتد فيه‬
‫هنر حتت الرض يش به امتداد النيل فوق الرض‪ ،‬لك هذه العوامل يبدو أهنا قد حدت من تطور عبادة النيل إاكهل عامل‬
‫تتجىل صفاته يف الاكئنات الرضية بيهنا سار إاهل الشمس قدما يف هذا الاجتاه‪.‬‬
‫واكنت مدينة عني مشس (و يسمهيا املرصيون "أون" مبعىن الربج) أو مدينة هليوبوليس كام عرفها اليوانن ومعناها مدينة‬
‫الشمس مقرا لعبادة هللا الشمس منذ أقدم العصور‪ .‬وقد اش تغل کهاهنا برصد الشمس والنجوم وذلكل محل رئيسهم لقب‬
‫كبري الراصدين (أو كبري الناظرين)‪ ،‬ويرجع اإلهيم الفضل يف اخرتاع التقومي الشميس بتقس مي الس نة اإىل ‪ 365‬يوما‪ .‬واكن‬
‫ذكل من أمه الكشوف احلضارية يف اترخي الإنسانية‪ ،‬وقد انفردت مرص اس تخدام التقومي الشميس لن الشعوب الخرى‬
‫يف الرشق الدین القدمي اكنت تتبع التقومي القمري اذلي تضطرب فيه مواعيد الفصول‪ ،‬وقد ورث العامل هذه املأثرة‬
‫احلضارية عن مرص كام هو معروف‪.‬‬
‫وإاىل كهنة هليوبوليس يرجع الفضل يف الارتقاء ابلفكر ادليين املرصي والتطور به حنو الرتجيح مث التوحيد‪ .‬وقد بدأوا‬
‫يفلسفون ادلين فوضعوا أول نظرية يف تفسري خلق الكون‪ ،‬وسار عىل منواهلم كهنة الآلهة الرئيس ية الخرى يف البالد‪،‬‬
‫ومه كهنة الإهل بتاح و کهنة الإهل حتوت (أو أآمون فهيا بعد)‪ .‬ولهذا جند ثالثة مذاهب أو نظرايت رئيس ية يف مرص عن‬
‫خلق الكون يه ‪:‬‬
‫أ‪ -‬نظرية عني مشس (أو نظرية التاسوع)‬
‫تغلب عىل هذه النظرية الصفة الإنسانية امللموسة فقد تصور كهنة عني مشس أن العامل أصهل حميط مايئ مسوه "نون"‪،‬‬
‫وقد ظهر فيه هللا الشمس رع (أو أآنوم وهو إاهل الشمس الغاربة و اكن ميثل عىل هيئة رجل مسن يتوك عىل عصا) فوق‬
‫تل من صنع هذا ا إلهل‪ .‬ويبدو أن كهنة الشمس حاولوا تقريب خلق املاء والهواء اإىل أذهان عامة الناس‪ ،‬فقالوا أن إاهل‬
‫الشمس (رع) عطس فأوجد إاهل الهواء (شو) وإالهة الندى أو الرطوبة (تفتوت)‪ ،‬وهذان ا إللهان أجنبا بدورها إاهل الرض‬
‫(جب) وإالهة املاء (نوت)‪ .‬وقد رزق هذان ا إللهان أربعة أآلهة مه أوزير وإايزيس و ست و تفتيس‪ ،‬وهؤلء ميثلون الرعيل‬
‫الول اذلي مجع بني اللوهية والبرشية و بدأ هبم معران الكون‪ ،‬ويطلق عىل هؤلء الآلهة التسعة امس (اتسوع عني‬

‫‪14‬‬
‫مشس)‪ .‬وقد فرست النظرية ظهور الرض والسامء بأن اإهل الهواء (شو) فصل بيهنام بعد أن تودل عن روهحا يف فرتة‬
‫اتصاهلام البناء الربعة املذكورين‪ .‬ويالحظ أن املرصيني س بقوا العامل بفكرة الفصل بني الرض والسامء‪ ،‬فقد رددهتا فامي‬
‫بعد أساطري اخللق العراقية القدمية‪ ،‬فتقول الساطري السومرية بأن الإهل (انليل) رب العاصفة فصل بني السامء (أآنو)‬
‫والرض (یک)‪ .‬ويف الساطري البابلية شطر الإهل (مردوك) جسم (تيامات) اإىل شطرين وكون مهنا السامء والرض‪ ..‬وقد‬
‫ورد ما يش به هذه الفكرة يف ادلايانت الساموية‪ ،.‬جفاء يف التوراة (فعمل هللا اجلدل وفصل به املياه اليت حتت اجلدل‪ ،‬واكن‬
‫كذكل ودعا هللا اجلدل سامء » ( سفر التكوين)‬
‫ويف القرأآن الكرمي (أو مل ير اذلين كفروا أن الساموات والرض اكان رتقا ففتقناهام)(سورة النبياء أآية ‪ .)30‬وبطبيعة‬
‫احلال ف إان الكتب الساموية مل تأخذ هذه الفكرة عن تكل الساطري القدمية ولكهنا اس تخدمت السلوب املنطق املتسلسل‬
‫يف اخللق اذلي يالمئ عقول الناس حىت يسهل تفهم ما تغرسه فهيم ادلايانت الساموية من تعالمي وقمي ومبادئ‪.‬‬
‫ومما يرحج أن نظرية هليوبوليس بشلكها الراهن قد وضعت بعد توحيد (مينا) للبالد‪ ،‬وجود الإهل أوزير بني التاسوع ورمبا‬
‫اكنت النظرية نفسها قدمية وان الإهل أوزير أحقم فهيا بعد ذكل‪ ،‬اإذ املعروف أن الإهل أوزير مل يتغلغل يف العقيدة الشمس ية‬
‫اإل يف عرص متأخر نسبيا‪.‬‬
‫و نظرية عني مشس كام يبدو حتاول تفسري الظواهر الطبيعة البارزة يف البيئة املرصية ووضعها يف قالب ديين‪ ،‬فالقول بأن‬
‫العامل اكن حميطا مائيا‪ ،‬اإمنا يرمز لنتشار مياه الفيضان فوق الرض ومغر احلقول‪ ،‬وظهور التل يشري اإىل ظهور مقم التالل‬
‫الصغرية عند احنسار املياه يف بدء اخنفاض الفيضان‪ .‬مث تتسلسل النظرية تسلسال منطقيا مع تتابع خلق الكون ورمبا ترمز‬
‫الآلهة الربعة الخرية اإىل النيل (أوزير) والرض اخلصبة (ايزيس) والصحراء أو اجلفاف (ست) والرض الهامش ية‬
‫(نفتيس) أي الرض الواقعة بني الصحراء و بني الرض اخلصبة‪ .‬ويبدو أن هذه الفاكر املقارنة ظلت ترتدد بني كهنة عني‬
‫مشس مدة طويةل بدليل أن املؤرخ بلواترك دوهنا عهنم يف القرن الول امليالدي‪.‬‬
‫ومن الواحض أن نظرية هليوبوليس ولو أهنا ارتقت ابلفكر املرصي ومثلت مجيع أآلهة التاسوع بأشاكل إانسانية‪ ،‬كام وردت‬
‫هبا أفاكر راقية ظهرت يف الآايت الساموية مثل فكرة الفصل بني الرض والسامء‪ ،‬اإل أهنا مل تتخلص من الطابع احليس‬
‫امللموس ومل ترق اإىل الفاكر اجملردة‪ .‬وهذا دليل عىل قدهما لن كهنة الشمس قد بلغوا مس توى أرىق من ذكل كثرية يف‬
‫الفكر ادليين كام سرنى بعد‪.‬‬

‫‪15‬‬
‫ب‪ -‬نظرية المشونني (أو نظرية الثامون)‬
‫أحصاب هذه النظرية مه كهنة مدينة الامشونني (ابلقرب من املنيا) وقد اس هتدفوا مهنا غرضها س ياس يا هو جعل الس يادة‬
‫لآلههتم عىل اهل الشمس اذلي اش تد نفوذ کهنته‪ .‬ويبدو أن كهنة أآمون إاهل طيبة عامصة ا إلمرباطورية يف عرص ادلوةل‬
‫احلديثة روجوا لهذه النظرية لهنا تضم اإهلهم أآمون اذلي يرجع يف أصهل اإىل المشونني‪ ،‬حىت يؤكدوا سلطان إاهلهم عىل رع‬
‫إاهل هليوبوليس وابلتايل يؤكدوا سلطاهنم عىل كهنته‪.‬‬
‫والنظرية تعرب أيضا عن مظاهر الطبيعة املرصية شأن نظرية هليوبوليس وتتفق معها يف أن العامل اكن حميطا مائيا امسه‬
‫(نون) أيضا‪ ،‬واكن أول من برز من هذا احمليط تل اكن مبثابة بدء العامل‪ .‬وفوق هذا التل ظهرت املعامل الوىل للحياة‪ ،‬اإذ‬
‫سكنت فيه الضفادع والثعابني ويالحظ أهنا من الاكئنات اليت تتفق مع ما يغمر مثل هذا املاكن من ظالم ورطوبة‪ .‬وقد‬
‫مسيت هذه الاكئنات بأسامء اس متدت من طبيعة هذا املاكن ويه الظالم املطبق (كك) والفضاء الالهنايئ (حح) اذلي‬
‫مغره الظالم وغشاه مفا تاكد عني احلياة النامئة تتفتح عىل يشء فيه‪ .‬ف إاذا روح الإهل ترفرف فوق هذه العنارص ممثةل يف‬
‫الهواء (أآمون)‪ ،‬فال تاكد تلمس هذه العنارص حىت تأخذ احلياة تتثاءب لتستيقظ‪.‬‬
‫و اكنت هذه العنارص الربعة‪ ،‬أربعة إااثث يتكون من مجموعها مثانية عنارص و لكمة المشونيني العربية مش تقة من اللكمة‬
‫القبطية مشون ويه بدورها مش تقة من اللكمة املرصية القدمية "مخون" أو "مخنو" مبعىن مثانية‪ .‬و اكن هناك يشء أآخر‬
‫فوق هذا التل الطم يتناسب مع طبيعة هذا العامل الطيين اجملدب‪ ،‬هذا اليشء هو بيضة طائر خرج مهنا الطائر أبو‬
‫منجل رمز الإهل حتوت إاهل الامشونني (أو طائر أآخر عىل شلك إاوزة اكن رمزا ل إالهل أآمون تبعا لختالف رواية هذه‬
‫النظرية)‪ .‬وخبروج هذا الطائر اس تحال الظالم ادلامس اإىل هنار واحض فاكنت الشمس اليت انبعث مهنا الضوء الول‪،‬‬
‫واكن صوت الطائر هو الصوت الول اذلي دوى يف هذا الفضاء العريض فدبت احلياة عىل الرض‪.‬‬
‫واحض من هذه النظرية أهنا جعلت إاهل الشمس (رع) اتليا يف اخللق ل آمون (لهواء) أو من خلقه ليك تمتىش النظرية مع‬
‫غرض كهنة أآمون يف إاظهار تفوق أآمون عىل رع أو بعبارة أدق تفوق كهنة طيبة عىل كهنة هليوبوليس كام قلنا‪.‬‬
‫وقد اكتسب اثمون الامشونني أمهية كبرية يف عرص الامرباطورية بسبب ارتفاع شأن الإهل أآمون واختاذه اإلها رمسيا‬
‫لالمرباطورية‪ ،‬دلرجة أنه يف العصور التالية ساد الاعتقاد بأن طيبة يه موطن الثامون و ليست الامشونني‪.‬‬

‫‪16‬‬
‫ومن هذا يتضح كيف أن نظرايت اخللق اكنت اإىل جانب تعبريها عن مظاهر الطبيعة املرصية اكنت تعرب عن املطامع‬
‫والهواء الس ياس ية‪.‬‬
‫نظرية منف‪:‬‬
‫تصور هذه النظرية الإهل بتاح اإهل مدينة منف عىل أنه اخلالق الول اذلي أوجد لك يشء‪ ،‬والواقع أن الفكر ادليين‬
‫املرصي بلغ القمة يف هذه النظرية اإذ حترر من احملسوسات اليت تغلب عىل نظرييت هاليوبوليس والامشونني‪ ،‬وانطلق حنو‬
‫الفكر اجملرد‪ .‬ورمبا اس هتدف كهنة منف من هذه النظرية هدفا س ياس يا أيضا هو إاظهار تفوق بتاح اإهل منف عىل أآلهة‬
‫مرص الرئيس ية الخرى وخاصة اإهل الشمس‪ .‬غري أن النظرية تعرب اإىل جانب ذكل عن ظواهر طبيعية وأحداث اترخيية‪.‬‬
‫فقد جعل كهنة بتاح إاهلم عىل رأس اتسوع هليوبوليس مث أضفوا عىل معلية اخللق طابعا معنواي جمردا أرىق من الطابع‬
‫املادي احملسوس اذلي مزي نظرية هليوبوليس‪ ،‬بأن قالوا أن الإهل بتاح أوجد نفسه بنفسه مث خلق التل الريض اذلي ظهر‬
‫من احمليط املايئ (نون) وأن الإهل أتوم (راس اتسوع هليوبوليس والصورة البرشية لآهل الشمس رع )‪ ،‬ميثل قلب ولسان‬
‫بتاح‪ ،‬ويرمز هلام (للقلب واللسان) الإهل حور (الصورة احليوانية إلهل الشمس رع ورمز املكل والسلطان) والاهل حتوت‬
‫( إاهل الامشونني ورمز العامل واملعرفة)‪.‬‬
‫واكن املرصيون عندما يذكرون لكمة (القلب) يقصدون هبا (العقل) فطبقا لهذه النظرية اكن العقل واللسان أي الفكر‬
‫واللكمة‪ ،‬اكان سبيل الإهل بتاح اإىل خلق الوجود‪ .‬فالفكرة تدبرها عقل بتاح فأصدرها لسانه عىل هيئة لكمة فاكن اخللق‪.‬‬
‫وقد جعلت هذه النظرية من الإهل الرئييس يف مرص وهو الإهل أآتوم إاهل عني مشس من خلق الإهل بتاح‪ .‬وبذكل اس هتدف‬
‫كهنة منف من هذه النظرية أيضا هدفا س ياس يا هو إاظهار تفوق اإهلهم عىل اإهل منافس هيم کهنة عني مشس‪ ،‬وأكدوا هذا‬
‫التفوق عىل الآلهة الخرى عندما جعلوا من الإهل حور وا إلهل حتوت رموزا للقلب واللسان‪.‬‬
‫ولشك أن الظاهرة البارزة يف هذه النظرية أهنا مل تسكل سبيال ماداي للخلق مثل نظرية هليوبوليس اليت نقلت عهنا‪ ،‬بل‬
‫اجتهت اجتاها معنواي جمردا يف إارجاع اخللق للفكر واللكمة‪ .‬وقد أصبح بتاح هبذه الصفة اإلها للفنانني والصناع‪ ،‬فاكن كبري‬
‫كهنة بتاح حيمل لقب " كبري الفنانني"‪ ،‬فهناك تشابه بني أسلوب بتاح يف خلق العامل و بني أسلوب الفنان يف إاخراج‬
‫العمل الفين‪ ،‬ذكل أن العمل الفين ليس اإل إانتاجا فكراي وخلقا تشكيليا‪ .‬ولعل ذكل من أس باب تكل الهنضة الفنية الكبرية‬

‫‪17‬‬
‫اليت شهدهتا منف يف عرص ادلوةل القدمية اإذ اكن فنانوها يعتربون أن لك معل فين ينتجونه اإمنا هو من ويح بتاح اإهل‬
‫اخللق الفين‪.‬‬
‫ولقد ترمجت هذه النظرية أيضا عن أحداث اترخيية يف إانشاء منف عامصة مرص املوحدة‪ ،‬وما تبع ذكل من نشأة حضارة‬
‫عرص الرسات‪ ،‬مبا اش متلت عليه من نظم حكومية وعقائد ومنشأآت وأعامل فنية راقية‪ .‬فان ما قام به الفرعون « منا‬
‫(مينا) » من إانشاء منف بتحويل أحد فروع جمرى النيل وجتفيف الرض لإقامة العامصة منف‪ ،‬قد عربت عنه النظرية‬
‫خبلق بتاح للتل الريض من املياه (نون)‪ ،‬كام أن ما قام به الفرعون من ختطيط وتنفيذ ملقومات ادلوةل املرصية املنظمة يف‬
‫العامصة منف‪ ،‬اكن نتيجة تفكري و تدبر (الفكر) وأوامر أصدرها للتنفيذ (النطق أو اللسان أو اللكمة)‪.‬‬
‫هكذا ظهرت يف نظرية منف‪ ،‬الفاكر املعنوية اجملردة يف عرص مبكر من اترخي البرش‪ ،‬مما أاثر دهشة الباحثني اإذ‬
‫اعتربوها نقةل جفائية بدون مراحل انتقال تدرجيية من عامل أآلهة الطبيعة اإىل عرص الفكر الناجض‪ .‬ول شك أن أحصاب هذه‬
‫النظرية قد تأثروا مبا اكن يسود حوهلم يف العامصة منف من حكومة منظمة وحضارة راقية‪ ،‬فنس بوا هذا لكه اإىل عقل‬
‫مبدع خالق‪ ،‬و ترمجوا لك ذكل اإىل تكل النظرية اليت س بقت عرصها بكثري‪.‬‬
‫وقد جعل أهل منف إاهلهم فوق الرابب لكها شأن الفرعون فوق الناس‪ ،‬فوصفوه بأنه خلق الرابب وأقاهمم عىل‬
‫مقدساهتم وش يد هلم املزارات‪ ،‬وشلك هلم الامتثيل اليت يكون فهيا من لك أنواع اخلشب (كام تقول النصوص املرصية )‬
‫ومن لك جحر کرمي و من الطم ومن لك ما يمنو عىل سطح الرض‪.‬‬
‫وعىل الرمغ مما يبدو يف نس بة خلق الآلهة الخرى اإىل بتاح من تقدم يف العقيدة املادية‪ ،‬اإذ يظهر فهيا الانتقال من مرحةل‬
‫التعدد اإىل مرحةل الرتجيح (ويه املرحةل الثانية يف اترخي العقائد البدائية اليت يسود فهيا إاهل واحد عىل بقية الرابب وتأخذ‬
‫هذه الرابب يف الاندماج فيه تدرجييا)‪ ،‬اإل أن ذكل التقدم يعترب خطوة اإىل الوراء ابلنس بة للمس توى املعنوي اجملرد‬
‫اذلي وصلت اإليه عقيدة بتاح بنظرية اخللق ابللكمة‪ .‬وهكذا اجمتع يف عقيدة بتاح جانبان متناقضان‪ ،‬جانب معنوي رايق‪،‬‬
‫وجانب مادی بدايئ‪ .‬وهذه الظاهرة املزدوجة تؤکد وجود عقيدتني أو عىل القل اجتاهني عقائديني يف مرص الفرعونية‪،‬‬
‫اجتاه راق يسري تدرجييا حنو املعنوية و التجريد ويظهر أنه اجتاه أحصاب الفكر واملس تنريين وأفراد الطبقة املثقفة‪ ،‬واجتاه‬
‫أدين يمتسك ابلتقاليد واملعبودات القدمية ومييل اإىل العقيدة املادية امللموسة وما يتصل هبا من رموز ومظاهر حيوانية‪،‬‬
‫ورمبا ميثهل كهنة املعبودات احليوانية القدمية وأفراد الطبقات ادلنيا‪ .‬ويبدو أن هذا الاجتاه اكن ذا قوة ضاغطة كبرية‪ ،‬واكن‬

‫‪18‬‬
‫ميثل حراكت املد واجلزر يف وجه الفاكر املعنوية الراقية‪ .‬ولو قدر لعبادة بناح أن تسري حنو المام يف الاجتاه املعنوي‬
‫اجملرد ومل تتأثر أو ختتلط ابلعبادات املادية واحليوانية‪ ،‬لرمبا قدر لهذه العقيدة أن تصل اإىل مرحةل التوحيد يف عرص مبکر‪،‬‬
‫ولكن اجلانب الآخر من عقيدة بتاح وهو الوجه املادي التجس يدي أخر هذا التقدم كثريا‪ .‬ومما زاد يف هذا التأخري أن‬
‫بتاح أدخل يف اثلوث يتكون منه وهو يف شلك إانسان‪ ،‬ومن زوجة يه ا إللهة (خسمت) اليت متثل عىل شلك اللبوءة‪ ،‬و‬
‫من ابن هو الإهل نفرتوم اذلي ميثل عىل شلك زهرة‪ .‬ورمبا رمز كهنة بتاح هبذا الثالوث اإىل أنواع الاكئنات الثالثة ويه‬
‫الإنسان ( يف شلك بتاح) واحليوان ( يف شلك الزوجة) والنبات ( يف شلك الابن)‪ ،‬وهبذا هبطوا يف سمل الريق الفكري‬
‫اإىل أسفل بعد أن اكنوا قد صعدوا عليه عدة درجات بنظريهتم عن اخللق ابللكمة !!‬
‫ولعل املقارنة مع ما ظهر دلى الشعوب الخرى من أفاكر شبهية بأفاكر منف ويه اخللق ابللكمة‪ ،‬لعل هذه املقارنة تؤكد‬
‫ذكل الس بق الفكرى العجيب اذلي بلغه املفكرون املرصيون يف عرص مبكر من اترخيهم‪ ،‬بل من اترخي العامل لكه‪ ،‬اإذ مل‬
‫ترتدد هذه الفكرة عند فالسفة اليوانن اإل بعد ذكل مبا ل يقل عن ألف س نة‪.‬‬
‫التوحيد والتعدد يف ادلاينة املرصية‬
‫هل اكن قددماء املرصديني موحددين يؤمندون ابهل واحدد‪ ،‬أم بأآلهدة متعدددة؟ هدذا سدؤال حداول العديدد مدن علدامء‬
‫املرصايت الإجابة عليه مبفاهمي خمتلفة‪ ،‬فأكرثمه يؤيد أن املرصدي القددمي فطدر عدىل الإميدان ابهل واحدد‪ ،‬واهتددى عقدهل اإىل‬
‫توحيد اخلالق وعدم التفكري يف اهل غريه‪ ،‬وان تعددت أشاكهل عىل جدران املعابد يف رسوم لآلهة خمتلفدة‪ ،‬وكدذكل مدا جداء‬
‫ذكره يف الساطري ما هو اإىل مظاهر خمتلفة لصفات اإلهية ليس يف تعددها ما يناقض عقيدة التوحيدد للمدؤمن بعظمدة هدذا‬
‫الإهل وتفرده ابلاكمل وإاذا اكن الإهل واحد مفا هو نوع وحدانيته؟ هل يه وحدانيدة بسد يطة أم وحدانيدة مركبدة؟ وإاذا اكندت‬
‫وحدانية مركبة مفم ترتكب تكل الوحدانية؟‪.‬‬
‫التعدد والوحدانية‬
‫فباسد تنناء التوحيددد اذلي اخرتعدده (أخندداتون) ظدل الاجتدداه السددايس أي فلسددفة تعددد الآلهددة الساسد ية لدلاينددة‬
‫املرصية بال تغيري عىل مدى ثالثة أآلف س نة حىت وان شاهبا التعقد الشديد والتغريات املتكررة‪ ،‬والتوفيق بني املعتقدات‬
‫املتعارضة وامليول التوحيدية والفوىض التامة والتنداقض‪ ،‬وقدد اسد مترت التعدديدة املرصدية يف املقدام الول لن املرصديني مل‬
‫ميكهنم قط التخيل عن مفهوم كون الكثري من الآلهة جيسد من خالل حيوية املادة واحللول عنارص الكون اكفة(‬

‫‪19‬‬
‫ويبدو أن املسافة بني التعدد والتوحيد ظلت قامئة بلك موجاهتا ودرجاهتا يف ادلين املرصي‪ ،‬فنحن ل نسد تطيع أن‬
‫جنزم متاما أن هذا ادلين اكن مرشاك ابلاكمل أو أنه اكن دينا موحدا متاما‪ ،‬اإذ أن علينا كشف الفلسفة الروحية العميقة اليت‬
‫توحض طبيعة معتقداته يف هذا اجملال وكيفية حتولها وتطورها رمغ لك جضيج النصوص والقوامئ الإلهية‬
‫فالثابت منذ اقدم الزمنة أن من أعظم توهجات ادلاينة املرصية هو التوجه التوحيددي‪ ،‬اذلي ميكنندا مالحظتده يف‬
‫مجيع النصوص ادلينية الهامة‪ ،‬نزول حىت احلقبة الخرية‪ ،‬ول جيدي البحث فدامي اإذا اكن التوحيدد أو الرشدك هدو السد بق‬
‫يف حاةل معرفتنا الراهنة‪ ،‬ويذهب (تييل) (‪ )TIELL‬اإىل أن ادلايندة املرصدية اكندت يف أول أمرهدا ترشدك مدع هللا أآلهدة‬
‫أخرى‪ ،‬مث تطورت يف اجتاهني متضدادين‪ ،‬يف الاجتداه الول تضداعف الآلهدة ابإضدافة الآلهدة احملليدة‪ ،‬والاجتداه الآخدر دین‬
‫املرصيون تقريبا من التوحيد‪ ،.‬أما الباحث (ويدمان) فريى أن ادلاينة املرصية ثالثة عنارص‪ :‬توحيدد مشيسد أي اهل واحدد‬
‫خالقا للعامل تدتجىل قدرتده خصوصدا يف الشدمس وأآاثرهدا –عقيددة جتديدد قدوى الطبيعدة وتعدرب عدن نفسدها يف عبدادة أآلهدة‬
‫التناسل والهات اخلصب‪ ،‬ومن طائفة من احليواانت وخمتلدف ألوهيدات النبدات‪ -‬تصدوروا ألوهيدة يف هيئدة برشدية تكدون‬
‫حياهتا يف ادلنيا والآخرة منوذجا حلياة الإنسان املثالية‬

‫وعددرب الكثددري مدن علددامء املرصددايت الفرنسد يني ومددهنم (اإميانويددل دى روجيدده) (‪1811-1872‬م) و(جدداك‬
‫جوزيف شامبليون) (‪1778-1867‬م) و(أوجست مارييت) (‪1821-1881‬م) عدن أشداكل خمتلفدة مدن‬
‫الرأي القائل بأن ادلاينة املرصية بدأت يف الصل كتوحيد وأن هذا التوحيد مل يقض عليه قط حىت وان جرى التعبري عدن‬
‫ادلاينة املرصية من اخلارج عىل أهنا تعددية ‪.‬وبدأ (جا س تون ماس بريو) (‪1846-1916‬م) ابلعتقداد بدأن التوحيدد‬
‫املرصي اكن تطورا مدن التعدديدة‪ ،‬قبدل أن ينهتدي بتشددد اإىل أن ادلايندة املرصدية اكندت عدىل وجده ادلقدة مدا وصدفته بده‬
‫نصوصها‪ ،‬وهو أهنا تعددية وأهنا اإذا ما وصلت اإىل مفهوم املعبود الواحد فان هذا املعبود مل يكن غيورا أو مانعدا لغدريه مدن‬
‫الانضامم اإليه واين لذهب اإىل أن تكون ادلاينة املرصية مبا تقوهل ذاهتا‪ ،‬من أهنا تعدية بلك تناقضداهتا‪ ،‬وتكرارهدا‪ ،‬وتعالميهدا‬
‫اليت تبدو للعيون العرصية‪ ،‬غري لئقة أحياان‪ ،‬واما قاس ية أو خسيفة(‬
‫إ‬
‫وأحددع علددامء مرصددايت فرنس د يون أآخددرون مثددل (أبيدده ايتيددان دريوتددون) ( ‪ABBE ETIENNE‬‬
‫‪1961-1889( )DRITON‬م) يف أواخر الربعينات مفهوم التوحيد يف مرصد القدميدة اذلي يعدود اإىل عرصد‬
‫ادلوةل القدميدة يف سد نة ‪ 1879‬كتدب (بدول بيدري) يف كتابده (مددخل اإىل امليتوجليدا املرصدية) مقداةل يف عدمل السداطري‬
‫املرصية يف الفصل الول بعنوان (عقيدة التوحيد املرصية) حيث تبدو ادلاينة املرصية متعددة الآلهة‪ ،‬ولكهنا اكنت توحيدية‬
‫ابلرضورة ول ميكن أن تكون غري ذكل‪ ،‬لن الإهل واحد وإال فال وجود هل‪ ،‬فالإميان بأآلهة كثرية هو اإناكر لد إالهل مدا مل ينظدر‬
‫اإلهيا ابعتبارها رمزية رصفة‪ ،‬فهي أدوار أو وظائف ل إالهل العىل املفرد اخلف اذلي حتوى هل النصوص املرصدية العديدد مدن‬
‫الصفات التوحيدية الواحضة‪ ،‬ويرى (فرانسوا جوزيف شااين) أيضا أن الآلهة املتعددة يه جمرد مظاهر ل إالهل الواحد‬

‫‪20‬‬
‫ومن الطبيع أن ممارسة اخزتال أآلهة يف اهل واحد اكنت جزء من لهوت الإهل الرئييسد‪ ،‬وهبدذه الطريقدة تعايشدت‬
‫أآلهة عىل قدر كبري من القوة‪ ،‬وقد انترش جتميع الآلهدة يف ثنائيدات وثواليدث وتواسد يع وحتويدل الآلهدة الخدرى الديت جدرى‬
‫جتميعها اإىل أوجه ل إالهل الرئييس‪ ،‬أي أن الهدني أو ثالثدة أآلهدة أو أكدرث ميكدن اخدزتاهلم اإىل واحدد يف لهدوت الإهل الرئييسد‬
‫القدمي‪.‬ويرى (واليس بدج) أن المم املبكرة اليت احتكت ابملرصيني قد أساءت بوجه عام فهم طبيعة هدذه الاكئندات‪ ،‬وقدد‬
‫فعل اليشء نفسه عدة كتاب غربيني حمدثني‪ ،‬وحني نتفحص هذه الآلهة عن كثب فاإهنا ل تبدو من حيث يه يشء أكدرث‬
‫من صورة أو جتليات أو جنبات أو صفات لإهل واحدد‪ ،‬ذكل الإهل اذلي هدو (رع) اهل الشدمس‪ ،‬وهدو كدام نتدذكر مدن اكن‬
‫منط هللا ورمزه‬
‫فالتوحيد املرصي هو توحيد مشيس ل جدال يف ذكل‪ ،‬فقدد ظلدت الشدمس مصددر التوحيدد الرئييسد يف ادليدن‬
‫املرصي‪ ،‬حيث نلمح الإهل الشمس عرب اكمل املدارس الالهوتية يف (أون) أو (مندف) أو (طيبدة) وهدو ينبثدق عدرب عددة‬
‫أسامء (رع‪ ،‬بتاح‪ ،‬أآمون) ولكنه يف حقيقة المر يعرب عن الإهل الشمس وعن الشمس ذاهتا وجتلياهتا اخملتلفة‪ ،‬بل أن هناك‬
‫نصا ميدح هؤلء الآلهة الثالث يف خشص الإهل (أآمون)‪ ،‬فيدمج به الإلهني ( رع) و(بتاح)‪ ،‬ويصف الاكئن الواحدد اجلديدد‬
‫اذلي امسه (أآمون) بأن رأسه هو (رع) وجسمه هو (بتاح)( ولدو أن هدذا الاجتداه اكن قدد نفدذ متامدا لدى اإىل حمدو تعددد‬
‫الآلهة‪ ،‬وهناك يف الواقع أدةل تثبت أهنم اجتهوا هذا الاجتاه‪ ،‬مفثال تردد يف أانش يد الشدمس توسدالت اإىل اخللديط الإلهدي‬
‫املكون من (أآمون) و( رع) و(حر أخيت) و(أآتوم) ابعتباره اإلها واحدا‪.‬ومع ذكل فان وجود املعابد اخملتلفة يثبت أن هذه مل‬
‫تكن اإل أقاويل شعرية جوفاء‪ ،‬فطاملا اكن (أآمون) و(رع) و(حورس) مازالت هلم معابدمه اخلاصة الغنية وكهنهتم اخلاصدني‬
‫هبم‪ ،‬فان اندماج هذه الآلهة يف وحدة حقيقة واحدة ل ميكن أن يكون متاما ابلرمغ من هذه العبارات امجليةل الطنانة‬
‫وقد تنافس كهنة هذه املدارس عىل الصدارة والسلطة الاكمةل الديت اكندت لالهدوت يف تدكل املعدارك‪ ،‬فقدد اكندت‬
‫تكل املدارس تسعى لتنظمي سلطة اإهلها احمليل التوحيدي املرشب لفرض هذا الإهل ابعتباره اإلها رئيس يا يف اثلدوث حمديل أو‬
‫إاقلمي ‪ ،‬ولستيعاب أكرب عدد ممكن من الآلهة الخرى ابعتبارها أوهجا لهلهم الرئييس‪ ،‬واخرتع الكثري مهنا اتسدوعا هل أآلهتده‬
‫ولهوته وأسطورة اخللق اخلاصة به‪ ،‬وادعى أن تكل يه القدم يف مرص‪ ،‬ويف مرحةل أخرية سعى لك مهنا اإىل فرض اإلهده‬
‫الرئييس ابعتباره الإهل املليك والرئييس ملرص‬
‫ولو أن هذه ادلعوة أو تكل مل ترصف القوم عن بقية أرابهبم الخدرى بقددر مدا دفعدهتم اإىل تربيدر امجلدع بيدهنم وبدني‬
‫القول ابخلالق الواحد والس يد الفرد‪ ،‬فوصف أتباع عني مشس ذكل الرب "بأنه يرشف عىل الرابب وما مدن رب يرشدف‬
‫عليه" وقدم أهل (منف) تربير ذكل يف قوهلم بأن الإهل اخلالق هو اذلي خلدق بقيدة املعبدودات مدن نفسده وأمدر بعبدادهتم‪،‬‬
‫وقال قائلهم يف ذكل "خلق هللا الكرب الرابب وأقاهمم عىل مقدساهتم وقدر هلم مقدراهتم وش يد هلدم املدزارات وشدلك هلدم‬
‫أبداننا تقر قلوهبم هبا فتلبس الرابب أبداهنم اليت قدرها هلم من لك أنواع اخلشب ومن لك جحر كرمي‪ ،‬ومدن الطمد ومدن‬
‫لك ما يمنو عىل سطح الرض ويس تقرون فيه‪ ،‬وتبعا ذلكل فاإمنا حيتسب عىل الإهل (الكرب وحده) بقيدة الرابب وأرواهحدم‬
‫مجيعاهناك نص يذكره (فرانكفورت) خياطب فيه الشخص اإلهه اذلي يتدألف مدن (أآمدون‪ ،‬رع‪ ،‬أآتدوم) (حدرأخيت) أي أنده‬
‫‪21‬‬
‫يتألف من الإهل الشمس والإهل العىل وا إلهل احملديل لكهدم جممتعدني يف اهل واحدد‪ ،‬مث يسد متر الدنص فيحلدل هدذا الاكئدن اإىل‬
‫أوهجه العديدة‪( ،‬أآمون ورع وأآتوم وحورس وحر أخيت‪ ،‬ويعادهل أيضا خريي وشو والقمر والنيل‪ ،‬ويتساءل فرانكفورت‪،‬‬
‫هل هذا توحيد أم ل وهناك صفة أخرى يمتزي هبا الإهل املوحد‪ ،‬ويه أنه خالق‪ ،‬فهدو خيلدق الآلهدة والنداس‪ ،‬واملالحدظ أن‬
‫الإهل الواحد خيلق الآلهدة‪ ،‬أي أنده يمتدزي عدهنم يف ادلرجدة والندوع‪ ،‬وحدىت الإهل املدايئ (خندوم) الفخداري اذلي يصدنع الآلهدة‬
‫والناس عىل دولبه اخلزيف اكن اإلها خالقا‪ ،‬وليك تكمتل صورته التوحيدية املرصية أعط مسحة مشس ية‬
‫وظهرت بوادر الإميان بوحددة الربوبيدة مندذ أن اجتده أهدل العقائدد فدامي بدني أواخدر ادلوةل القدميدة وبدني أوائدل ادلوةل‬
‫الوسطى اإىل اإهل الشمس ابعتباره اإهل خالقا وإالها أكرب يف أآن واحد‪ ،‬مث اجتهوا اإليه بأرابهبم القدمية ووصلوا بيهنم وبينده وجعلدوا‬
‫امسه قاسام مشرتاك مع أسامهئم ولكن دون أن حياولوا اإفناهئم فيه‪ ،‬فأطلقوا علهيم أسامء (سدوبك‪-‬رع‪ ،‬وأآمدون رع‪ ،‬وحتدور رع‪،‬‬
‫وبتاح رع)‪.‬وبذكل أصبحت هذه الآلهة صورا من الإهل الكرب (رع)‪ ،‬وهذا معناه اعتبار الإلوهية اليت جتمدع هدذه الآلهدة لكهدا‬
‫اإمنا يه من جوهر واحد مركزه (رع)‪ ،‬ولكن ذكل الاحتداد اجلدوهري مل يفقدد لك اإهل كيانده اذلار عدىل الرض يف نظدر أتبداع‬
‫هذه الإلهة‪ ،‬اإذ ظلت الآلهة تعبد يف حماربهيا ا إلقلميية بصفهتا احمللية‪ ،‬وذكل ل شدك بددافع قدوة التقاليدد مدن انحيدة‪ ،‬مث بددافع‬
‫التعصب الس يايس من انحية أخرى حىت ل يفتقد كهنة لك اإهل ما يمتتع به اإهلهم ن النفوذ وإاقبال الناس عليده ومدا يددره ذكل‬
‫علهيم من ألوان الرزق ومظاهر السلطان‬

‫‪22‬‬
‫عقيدة البعث واخللود العقيدة اجلنازية‬
‫رأينا من دراستنا للنظام الس يايس والإداري يف مرص كيف أدت ظروف البيئة الطبيعية يف مرص اإىل غلبة طابع‬
‫املركزية عىل النظام الس يايس‪ ،‬وكيف أن امللكية املرصية اس متدت سلطهتا عىل البالد من دواع الس يطرة عىل عوامل‬
‫هذه البيئة و تطويعها و كيف نشأ تبعا ذلكل نظام امللكية املؤلهة‪.‬‬
‫ورأينا كيف أن هذه السلطة املطلقة تعرضت لتطورات جذرية نتيجة تطور عالقة امللكية ابلرعية و كيف متخض‬
‫ذكل عن نتاجئ اجامتعية ذات تأثري كبري اإذ سادت فكرة أن املكل هو الراع الصاحل لشعبه واملس ئول عن حتقيق العدل‬
‫والرخاء للرعية‪ ،‬وس يطرت هذه الفكرة حىت بعد أن عادت للملكية قوهتا وجربوهتا يف عرص ادلوةل احلديثة‪ .‬ومن انحية‬
‫أخرى رأينا كيف انعكست هذه الفكرة أيضا عىل اجلهاز احلكويم فنادت برضورة وجود موظفني عدول يتصفون ابلزناهة‬
‫والمانة ليكونوا أداة احلامك الصاحل يف حتقيق ما ينشده الإنسان املرصي من عداةل ومساواة ورخاء‪.‬‬
‫وسوف نرى من دراستنا لتطور عقيدة البحث واخللود أن هذه العقيدة‪ ،‬شأهنا شأن النظام الس يايس‪ ،‬نشأت بتأثري‬
‫عوامل البيئة الطبيعية أيضا‪ ،‬وأهنا تطورت نتيجة لنفس التطورات الاجامتعية اليت حدثت للنظام الس يايس وانهتت اإىل‬
‫نتاجئ مشاهبة للنتاجئ اليت انهتيى اإلهيا النظام الس يايس مع فارق أسايس بطبيعة احلال‪ ،‬هو أن النظام الس يايس أو الإداري‬
‫انهتي اإىل نتاجئ دنيوية‪ ،‬بيهنا انهتي تطور عقائد البعث واخللود اإىل نتاجئ دينية أخروية‪ .‬غري أن النتاجئ اليت انهتت اإلهيا‬
‫عقائد البعث واخللود تنفرد بظاهرة فريدة‪ ،‬يه أن أثرها مل يقترص عىل مرص وحدها‪ ،‬بل امتد اإىل الإنسانية لكها‪ ،‬فقد‬
‫اكنت بداية فكرة الثواب والعقاب وحماس بة الإنسان يف الآخرة عىل ما قدم يف دنياه من خ ير أو رش‪ ،‬ويه الفكرة اليت‬
‫ارتقت هبا الداين الساموية فامي بعد و برشت هبا الناس اكفة‪.‬‬
‫أثر عوامل البيئة الطبيعية املرصية يف نشأة عقيدة البعث واخللود ‪:‬‬
‫نشأت عقيدة البعث واخللود يف مرص‪ ،‬شأهنا شأن كثري من مظاهر احلضارة املرصية‪ ،‬بتأثري عوامل البيئة الطبيعية‪.‬‬
‫فقد رأى املرصي الول الشمس ترشق يف الصباح وختتف يف املساء‪ ،‬ولكهنا ل تاكد تغرب حىت تعود اإىل الرشوق يف‬
‫صباح اليوم التايل‪ .‬ورأى النيل يفيض مث يغيض‪ ،‬مث يعود ليفيض مرة أخرى يف العام التايل‪ .‬ورأى النبات يمنو ويذبل مث‬
‫يعود للمنو يف املومس التايل‪ .‬وهكذا اكنت مظاهر الطبيعة تويح ملن يتأمل فهيا ابحلياة واملوت مث اب حلياة مرة اخرى أي مبا‬
‫يش به البعث‪.‬‬

‫‪23‬‬
‫واحلقيقة اليت جيب أن يالحظها لك دارس للحضارة املرصية‪ ،‬يه أن هذه الظواهر الطبيعية مل تكن يف حد ذاهتا الباعث‬
‫اذلي أهلم املرصي بعقيدة البعث‪ ،‬لن الشمس والهنار والنبات ظواهر طبيعية مشرتكة بني مرص وسائر بالد العامل‪ ،‬ومل‬
‫يصل ساكن هذه البالد اإىل الاعتقاد يف عقيدة البعث واخللود بنفس القوة والعمق كام اكن احلال يف مجمر الفرعونية‪ .‬ولكن‬
‫الباعث عىل ذكل الاعتقاد العميق يف البعث واخللود يف مرص‪ ،‬اكن الظروف اخلاصة بظواهر الطبيعة املرصية‪ ،‬وما مزي‬
‫هذه الظواهر من التوافق والاتساق‪ ،‬مما يظهرها أمام املرصي الول كمنا تتضافر التحقيق هدف واحد هو خريه ورخائه‪،‬‬
‫وتتاكمل مع بعضها يف اجتاه واحد هو توكيد الإحياء هل بعقيدة البعث واخللود‪.‬‬
‫حقيقة أن هنر النيل يفيض ويفيض شأنه شأن كثري من أهنار العامل‪ ،‬ولكن فيضان النيل يف مرص يمتزي بظواهر‬
‫خاصة‪ ،‬مث بتوافق فيضه وغيضه مع الظواهر الطبيعية الخرى‪ .‬والظواهر اخلاصة اليت يمتزي هبا فيضان النيل يف مرص‬
‫تمتثل يف انتظام مواعيده وتدرج ارتقاءه واخنفاضه‪ .‬فالفيضان يف مرص يبدأ يف مواعيد منتظمة ميكن التنبؤ هبا قبل حدوثه‬
‫بوقت اكف والاس تعداد لتاليف أخطاره‪ ،‬ول حيدث جفأة كام هو الشأن يف فيضان أهنار العراق اليت يتكون فيضاهنا من‬
‫ذوابن الثلوج فوق جبال الانضول وأرمينية‪ .‬فضال عن أن يعد منابع هنر النيل عن مرص يقلل اإىل حد كبري من اندفاع‬
‫املياه ومدامههتا للرايض‪ ،‬كام يقلل من تذبذب مكيات املياه اليت جيلهبا الفيضان بني عام وأآخر‪ .‬وهو يف الوقت نفسه‬
‫يؤدي اإىل التجانس يف رسعة املياه بني خمتلف أجزاء الوادي يف مرص‪ ،‬فال تزيد رسعة الهنر يف املتوسط عن‬
‫‪ 14000/1‬وهذه العوامل لكها جعلت من النيل يف مرص همرة فيضيا ممتازة‪ ،‬فاملياه ترتفع ببطء وتنخفض بطء‪ ،‬فال‬
‫حيدث اإرساب جفايئ لطم يسدد اجملاري والقنوات‪ ،‬ول يرتك الفيضان بعد اخنفاضه مياه راكدة تؤدى اإىل ملوحة الرتبة‬
‫واضعان خصوبهتا‪ ،‬وإامنا عىل العكس يرتك طبقة رقيقة من الطم جتدد خصوبة الرض‪ ،‬و تنرصف املياه الزائدة مرة‬
‫أخرى بعد اخنفاض الفيضان‪ .‬ولهذا مل تعرف مرص الفرعونية مشلكة الرصف‪.‬‬
‫وإاذا قاران هذه الظروف بظروف‪ ،‬أهنار أخرى مشاهبة لهنر النيل مثل أهنار العراق‪ ،‬جند أن هنر دجةل رسيع اجلراين‬
‫يف أغلب أجزائه‪ ،‬دلرجة جعلت جمراه معيقا مما عرقل الاس تفادة من مياهه‪ ،‬أما هنر الفرات فهو غري متجانس يف رسعته‬
‫اإذ أنه رسيع اجلراين يف جمراه العىل دلرجة متكن مياهه من محل مكية من الرواسب تبلغ مخسة أضعاف ما حيمهل هنر‬
‫النيل يف مرص‪ ،‬مث هو بط ء اجلراين يف جمراه الدين فتصل رسعة مياهه اإىل ‪ 26000/1‬أي حوايل نصف رسعة‬
‫النيل‪ .‬وهذا التفاوت الكبري جيعل ارساب الهنر يف جمراه الدين ش به جفای فيرتتب عىل ذكل تكوين جسور عالية عىل‬

‫‪24‬‬
‫جانيب الهنر وابلتايل ارتفاع مس توى اجملري عن مس توى السهل ( ومثال ذكل أن اخلط احلديدي اذلي مير جبوار أطالل‬
‫مدينة أور القدمية أكرث اخنفاضا حبوايل س تة أقدام عن قاع جمرى الفرات عند بدلة النارصية اليت تبعد عن أور حبوايل‬
‫‪ 10‬أميال)‪.‬‬
‫وقد خلق هذا الارتفاع مشلكة من أمه املشالك اليت تعرقل اس تفادة الإنسان من الهنر ويه مشلكة رصف املياه‬
‫الزائدة‪ ،‬اإذ ترتب عىل ذكل جتمع مياه الري عىل هيئة برك ومستنقعات راكدة جتنهنا الشمس فزتيد ملوحة الرتبة و تضعف‬
‫خصوبهتا اإيل حد كبري‪ .‬وهناك فوارق أساس ية أخرى بني النيل والفرات‪ ،‬مهنا أن فيضان الفرات ( ودجةل ) ش به جفايئ‬
‫بسبب اعامتد هذا الفيضان عىل ذوابن الثلوج اليت تغط مقم اجلبال الواقعة شامل العراق يف هضبة الانضول وارمينية‪ ،‬مما‬
‫جيعهل يتوقف عىل ارتفاع درجة احلرارة اذلي قد يتذبذب تبكريا وتأخريا‪ .‬يضاف اإىل ذكل عامل أآخر أمه وأقوی هو قرب‬
‫منابع الفرات (ودجةل) من جماريه ادلنيا يف العراق مما ل يعط الفرصة للساكن الاس تعداد دلفع غائةل الفيضان فتدامه املياه‬
‫الرايض و تفرقها (يف العصور القدمية قبل اإنشاء اجلسور والسدود) ولعل ذكل يفرس لنا ش يوع قصص الطوفان يف‬
‫أساطري العراق القدمية‪.‬‬
‫ومن أمه الفوارق الساس ية بني النيل والفرات وجود توافق بني فيضان النيل و بني موامس الزراعة واحلصاد يف‬
‫مرص وخاصة يف ظل نظام ري احلياض‪ ،‬بيامن ل يوجد مثل هذا التوافق يف العراق‪ ،‬فالفيضان يف مرص يصل بعد الانهتاء‬
‫من حصاد احملاصيل‪ ،‬وبعد أن تكون الرتبة قد تعرضت لشعة الشمس مدة اكفية لقتل ما هبا من جراثمي‪ .‬وحيدث ذكل‬
‫بسبب توافق اخنفاض النيل مع اش تداد حرارة الشمس‪ ،‬اإذ يف الوقت اذلي تبلع فيه درجة احلرارة يف مرص أقصاها‪،‬‬
‫يكون النيل قد اخنفض اإىل أقل حد هل‪ ،‬فتتعرض الرتبة حلرارة الشمس الصيفية الشديدة فتجففها و حتدث هبا شقوقا تنفذ‬
‫فهيا أشعة الشمس اإىل أعامقها و تقيض عىل الطفيليات اليت تضعف من خصوبة الرتبية و ترض ابلنبات‪ .‬وعندما ترتفع مياه‬
‫الفيضان تدرجييا متتىلء هذه الشقوق ابملياه اليت تتغلغل اإىل أعامق الرتبة حامةل الطمى اخملصب‪ ،‬فتهتيأ الرض بذكل‬
‫للزراعة اجلديدة بعد أن تكون قد ختلصت من العنارص اليت ترض النبات و بعد أن تزودت بعنارص اخلصوبة‪ .‬وهكذا‬
‫تتضافر الشمس مع النيل ويتوافقان من أجل خري الإنسان املرصي ورفاهيته‪.‬‬
‫وإاذا قاران هذه الظروف مبا اكن حيدث يف العراق القدمي‪ ،‬جند أن أمه فارق بني الفرات والنيل يمتثل يف مواعيد‬
‫الفيضان الس نوي‪ .‬فال ميكن لحد أن يتنبأ ابلضبط مبوعد وصول فيضان الفرات‪ ،‬لن هذا التنبؤ يعمتد عىل معرفة‬

‫‪25‬‬
‫الحوال املناخية يف املناطق اجلبلية البعيدة يف هضبة الانضول وارمينية (ومل تكن هذه املشلكة سهةل ميرسة ابلنس بة‬
‫للعراق القدمي)‪ ،‬وما تؤدى اإليه من تبكري أو تأخري ذوابن الثلوج‪ .‬ويأر الفيضان غالبا يف أواخر الربيع أي ما بني بداية‬
‫أفريل وبداية جوان‪ ،‬وحيدث ارتفاع املياه بصورة جفائية‪ ،‬ول يوجد وقت أسوأ من هذا الوقت من وهجة نظر فالح‬
‫العراق‪ ،‬اإذ تتطلب الحوال املناخية يف العراق غرس النبات اجلديد‪ .‬بيامن يف شهر أفريل تكون النبااتت اليت س بق‬
‫غرسها يف الش تاء يف طريقها اإىل النضج‪ ،‬فاإذا مغرت احلقول ابملياه يف هذه الفرتة لرتفاع قدم أو قدمني‪ ،‬فان لك أمل يف‬
‫جىن حمصول وفري قد يضيع‪ ،‬وإاذا انتظر الزراع حىت جفاف الرض من املياه لبذر احملصول اجلديد‪ ،‬فاإن الوقت س يكون‬
‫متأخرا جدا ذلكل ‪.‬‬
‫وقد انعكست هذه الحوال عىل تفكري لك من املرصي والعراق‪ ،‬وميكننا أن نتبني الفرق بني أثر فيضان الفرات‬
‫عىل تفكري العراق‪ ،‬وبني أثر فيضان النيل عىل تفكري املرصي‪ ،‬من املقارنة بني أنشودتني اإحداها يف وصف فيضان‬
‫الفرات والخرى يف وصف النيل وفيضانه كام يىل ‪:‬‬
‫الفيضان يف العراق‪:‬‬
‫الفيضان الواثب اذلي ل يقوى عىل مقاومته أحد‪...‬‬
‫واذلي هيز السامء ويزنل الرجفة ابلرض‪...‬‬
‫يلف الم وطفلها يف غطاء مربع‪...‬‬
‫وحيطم ايفع اخلرضة يف حقول القصب‪...‬‬
‫ويغرق احلصاد اإابن نضجه‪...‬‬
‫مياه صاعدة تؤمل العني‪...‬‬
‫طوفان يطغ عىل الضفاف‪...‬‬
‫فيحصد أخضم الجشار‪...‬‬
‫عاصفة عاتية متزق لك يشء‪...‬‬
‫برسعهتا الهوجاء يف فوىض عارمة‪.‬‬
‫النيل والفيضان يف مرص‪:‬‬

‫‪26‬‬
‫عندما يفيض النيل تصبح البالد يف فرحة‪...‬‬
‫و لك اإنسان يف رسور‪...‬‬
‫هو ( النيل ) اذلي يأر ابلقوت‪...‬‬
‫ويكرث الطعام و خيلق لك يشء طيب‪...‬‬
‫هو اذلي جيعل الجشار تمنو كام يش هتي امجليع‪...‬‬
‫أنت ( النيل ) تفيض فتسقى احلقول‪...‬‬
‫ومتد الناس ابلقوة‪...‬‬
‫هو اذلي يسعد الإنسان و جيعهل حيب أخاه‪...‬‬
‫هو ل يفرق بني خشص وأآخر‪...‬‬
‫الواحض من هذين النش يدين أهنام يعكسان ذكل التباين الشديد بني الثر املدمر لفيضان الفرات‪ ،‬و بني الثر املعمر للنيل‬
‫وفيضانه‪.‬‬
‫واحلقيقة أن فيضان الفرات (ودجةل) مل يكن الظاهرة الطبيعية الوحيدة يف العراق اليت تتصف ابلتدمري والعنف‪ ،‬بل اإن‬
‫عنارص الطبيعة العراقية الخرى تغلب علهيا هذه الصفات‪ ،‬مثل الرايح والعواصف الشديدة اليت تاكد تقتلع الجشار يف‬
‫بعض املوامس‪ ،‬ومثل المطار العاتية اليت حتول الرض الصلبة اإىل حبر من الطني‪ ،‬فتعوق حركة السفر والانتقال‪.‬‬
‫فالطبيعة يف العراق تمتزي ابلبطش والتنافر بني عنارصها‪ .‬ومن هنا اكن تأثريها عىل العرايق القدمي تأثريا سلبيا‪ ،‬أي يغلب‬
‫عليه جانب الرهبة واخلوف عىل جانب احلب‪ .‬وانطبع ذكل بوضوح يف أساطري العرايق عن الطوفان‪ ،‬ويف تصوراته القامئة‬
‫عن احلياة بعد املوت‪ ،‬فهو مل يعرف فكرة البعث‪ ،‬بل اعتقد أن العامل الآخر ماكن مظمل خميف يتعذب فيه املوىت سواء‬
‫مهنم الصاحل أم الطاحل‪ ،‬و يرتعدون من اخلوف و الربد‪ .‬وقد جتلت تصورات العرايق هذه يف أسطورة عن العامل الآخر‬
‫تعرف بأسطورة أو قصة "اانان ‪ -‬عش تار ودوموزی"‪.‬‬
‫أما السبب يف اإميان املرصي بفكرة البعث واخللود واجلنة يف الآخرة‪ ،‬فاإنه يرجع اإىل ما اتصفت به عنارص الطبيعة املرصية‬
‫‪ -‬عىل النقيض من الطبيعة العراقية ‪ -‬من التوافق والتاكمل والاتساق‪ ،‬مما ترك انطباعا دلى املرصي الول بأن عنارص‬
‫الطبيعة يف بالده وعىل رأسها الشمس والنيل‪ ،‬تتضافر لصاحله وخريه‪ ،‬فاكن تأثريها عليه اإجيابيا أي يغلب فيه جانب‬
‫‪27‬‬
‫احلب والامتنان عىل جانب اخلوف والرهبة‪ ،‬وانعكس ذكل أيضا عىل الساطري املرصية وخاصة عن أآلهة الكون وعن‬
‫نظرة املرصي لنفسه وعالقته هبذه الآلهة‪.‬‬
‫فمل يكن تأثر املرصي ابلنيل جملرد أنه هنر يفيض وحيمل ملرص اخلري والامنء مع فيضانه الس نوي‪ ،‬و لكن الظروف اخلاصة‬
‫بطبيعة النيل وطبيعة فيضانه اليت تظهر النيل كنه يتاكمل و يتوافق مع الظواهر الطبيعية الخرى‪ ،‬مع الشمس ومع‬
‫أوقات بذر وجىن احملاصيل كام قلنا‪ .‬وبطبيعة احلال فاإن املرصي مل يدرك احلقائق العلمية بشأن تأثري حرارة الشمس يف‬
‫الطفيليات والبكرتاي اليت ترض الرتبة‪ ،‬ولكنه ل شك لحظ مظاهرها ونتاجئها وأدرك عن طريق حاسة املقارنة أمهيهتا‬
‫وقميهتا للرتبة والنبات‪..‬‬
‫كذكل مل يكن رشوق الشمس وغروهبا يف حد ذاته هو اذلي أهلم املرصی بعقيدة البعث واخللود‪ ،‬فالشمس ترشق‬
‫وتغرب يف سائر بالد العامل‪ ،‬و لكن اكنت مشس مرص لها تأثري خاص يف املرصي الول بسبب وضوهحا يف سامء مرص‬
‫الصحو‪ ،‬و بسبب التوافق والانسجام بني موامس حرارهتا و بني مظاهر الطبيعة الخرى وعىل رأسها النيل كام يوحض‬
‫املثال اذلي ذكرانه‪ .‬وقد متثل هذا التوافق والانسجام يف ارتباط الشمس والنيل يف ذهن املرصي طوال العصور سواء‬
‫يف مظهرها الطبيع أم يف رموزها ادلينية‪ .‬وانعكس هذا الارتباط منذ أقدم العصور عىل ابتاكر املرصي التقومي‬
‫الشميس‪ ،‬فقد جعل املرصيون من وصول بشائر الفيضان اإىل منف يف منتصف شهر جويلية بداية لتقوميهم اذلي اعمتد‬
‫عىل حركة الشمس ل عىل حركة القمر كام اكن الشأن دلى شعوب الرشق الدین القدمي الخرى‪.‬‬
‫هذا الانسجام والتاكمل والارتباط بني النيل والشمس يف مرص ضاعف من تأثري هاتني الظاهرتني الطبيعيتني عىل‬
‫تفكري املرصي‪ ،‬فأصبحت دورهتا املتشاهبة وما تويح به من بعث وجتدد وخلود حمورا لتأمالته وتفكريه فأهلمته بعقيدة‬
‫البعث واخللود‪.‬‬
‫غري أن هناك عنرصا اثلثا رمبا اكن هل أثر كبري يف توكيد هذه العقيدة يف ذهن املرصي‪ ،‬وهو الصحراء املرصية املمتدة عىل‬
‫جانيب الوادي‪ ،‬واملعروف أن من طبيعة الصحراء احلارة اجلافة أهنا حتفظ اجلثث من التلف مدة طويةل وخاصة اإذا‬
‫طمرت يف الرمال‪ ،‬أي مل توضع داخل مقربة جموفة‪ .‬وابلطبع بدأ املرصي الول دفناته هبذه الطريقة قبل أن يتقدم يف‬
‫احلضارة ويبىن الغرف يف املقابر‪ .‬واكن أحياان يلف اجلثث يف حصري ويدفهنا حتت الرمال‪.‬‬

‫‪28‬‬
‫ورمبا لفتت هذه الظاهرة انتباه املرصي وأاثرت تفكريه لكام اكن حيفر الرض دلفن جثة جديدة‪ ،‬اإذ اكنت تطالعه اجلثث‬
‫اليت دفهنا هبيئهتا اليت تاكد تكون ش به اكمةل‪ ،‬فاكنت تثري دهشة‪ ،‬وتؤكد اعتقاده يف احلياة بعد املوت والبعث واخللود‪.‬‬
‫ورمبا زاد من تأثري الصحراء ما متزيت به العالقة املاكنية بني الوادي يف مرص كام س بق أن قلنا اإذ تاكد الصحراء تلتصق‬
‫ابلرض اخلرضاء‪ ،‬وهذا القرب رصف املرصي عن ادلفن يف الرض اليت يقمي فهيا أي يف الرض الزراعية وجشعه عىل‬
‫ادلفن يف الصحراء مادامت الصحراء قريبة‪ .‬وابلتايل تكررت كثريا مشاهدات املرصيني لظاهرة حفظ اجلثث يف‬
‫الصحاري فتضاعف تأثريها يف أذهاهنم‪ .‬و ابقرتان هذه املشاهدات مع مشاهداته دلورة النيل والشمس‪ ،‬أصبحت هذه‬
‫العنارص الطبيعية الرئيس ية الثالثة يف البيئة املرصية‪ ،‬ويه الشمس والنيل والصحراء‪ ،‬الك متاكمال أهلم املرصي بعقيدته‬
‫يف اخللود والبعث واحلياة بعد املوت بل مزهجا بوجدانه‪.‬‬
‫ولعلنا جند مصداقا ذلكل يف ختيالت املرصي للشمس بوجه خاص‪ ،‬فهو قد ختيلها يف الصباح الباكر وليدا صغريا‪ ،‬ويف‬
‫املساء رجال مس نا ميسك بعصاه كمنا يسعى اإىل القرب‪ ،‬ولهذا سامه "أآتوم" مبعىن التام واملنهتي ‪ .‬وهنا نصادف يف تفكري‬
‫املرصي نوعا من التشبيه أو املقارنة بني دورة الشمس اليومية وحياة الإنسان‪ ،‬هذه املقارنة جعلته يتخيل أن الإنسان‬
‫سوف يبعث بعد املوت كام تبعث الشمس بعد غروهبا أو موهتا‪.‬‬
‫ورمبا ل يكون من املصادفات البحتة أن تتسم ختيالت املرصي بطابع واحد للظاهرتني اللتني هلام التأثري الكرب يف حياته‪،‬‬
‫ويف الإحياء هل بفكرة البعث واخللود‪ ،‬وهام الشمس والنيل‪ .‬فقد خص املرصي اإهل الشمس وإاهل النيل من دون املعبودات‬
‫الخرى برموز تشري اإىل الصفة الساس ية املشرتكة بيهنام ويه صفة التجدد اذلار‪ .‬فرمز لهذه الصفة يف الشمس حبرشة‬
‫اجلعل (اجلعران) لعتقاده أن هذه احلرشة خنىث ول حتتاج يف تناسلها اإىل الزتاوج شأن الاكئنات احلية الخرى‪ .‬وقد‬
‫جسل املؤرخ ابراترك ذكل الاعتقاد عن املرصيني‪( .‬ولو أنه اعتقاد غري حصيح من وهجة نظر العمل احلديث )‪ .‬و اكن‬
‫املرصي شاهد هذه احلرشة يف الصباح ويه تدفع أماهما كرة الروث اليت حتتوي عىل بيضها‪ ،‬فربط املرصي بني التجدد‬
‫التلقايئ يف هذه احلرشة وبني ظاهرة التجدد اليويم للشمس (ما بني رشوق وغروب مث رشوق يف اليوم التايل) ومثل يف‬
‫رسومه كرة الشمس تدفعها هذه احلرشة أماهما كام تدفع كرة الروث‪ ،‬واعترب اجلعل رمزا للتجدد والبقاء والاس مترار وسامه‬
‫"خربی" ي املس متر‪.‬‬

‫‪29‬‬
‫و نفس الفكرة أي فكرة اجامتع اذلكورة والنوثة وما ترمز اإليه من جتدد ذار مثلها املرصي يف اإهل النيل‪ .‬فقد رمس اإهل‬
‫النيل عىل شلك رجل خمنث يف وهجه مالمح الرجوةل‪ ،‬بيامن تبدو يف جسمه عالمات النوثة‪ ،‬فهو جيمع بني صفيت اذلكورة‬
‫والنوثة وهام الصفتان الالزمتان لس مترار احلياة وجتددها فكنه يتجدد من تلقاء نفسه ويه الصفة املمزية للنيل و فيضانه‪.‬‬
‫هذه الرموز اليت جتسد ظاهرة التجدد التلقايئ يف الشمس و النيل‪ ،‬و اقتصارها عىل هاتني الظاهرتني فقط‪ ،‬ل شك‬
‫تؤكد ما س بق أن قلناه‪ ،‬من أن فكرة اخللود اليت أآمن هبا املرصي اإمياان قواي و معيقا قد اس متدها من تأمالته لظاهرر‬
‫الشمس والنيل بوجه خاص‪ ،‬واكن للتوافق والانسجام اذلي يربط هاتني الظاهرتني يف البيئة املرصية ابلإضافة اإىل‬
‫العوامل الخرى اخلاصة ابلصحراء الفضل الكرب يف اإلهام املرصيني القدماء بعقيدة البعث واخللود وتوكيدها يف وجداهنم بل‬
‫حفرها يف أذهاهنم حفرا‪ ،‬فمتزيت هذه العقيدة يف مرص عن سائر بالد العامل القدمي بشلك خاص خيتلف عن هذه البالد‪،‬‬
‫ويمتثل ذكل يف وضوهحا الشديد واس مترارها حىت أآخر عصور احلضارة الفرعونية‪ ،‬بل ل نبالغ اإذا قلنا أن هذه العقيدة‬
‫اكنت احملور الرئييس اذلي اكنت تدور حوهل مجيع مظاهر احلضارة املرصية القدمية‪.‬‬
‫واذلي يتأمل يف خصائص عقيدة البعث يف مرص الفرعونية‪ ،‬يالحظ أهنا متزيت بطابع هام هو ماديهتا البحتة‪ .‬فاملرصيون‬
‫تصوروا أن بقاء اجلثة سلمية رشط أسايس لتحقيق البعث املنشود‪ ،‬ولهذا أنشأوا املقابر الضخمة والتوابيت الصدلة‬
‫وحنطوا اجلثة‪ ،‬وهذا يفرس لنا سبب تكل اخمللفات الوفرية اليت تركهتا احلضارة الفرعونية‪ .‬وغلبة الطابع املادي عىل عقيدة‬
‫البعث املرصية ليس أمرا غريبا يف تكل املراحل املبكرة من التارخي الإنساين‪ ،‬فان الإنسانية مل تصل اإىل الفاكر اجملردة عن‬
‫البعث والنشور أي تؤمن حبدوث البعث ابلروح رمغ فناء اجلسم‪ ،‬اإل بعد مراحل طويةل من التطور الفكري والرويح‪،‬‬
‫ولعلنا جند صدى للفاكر املادية عن البعث فامي قابل به املرشكون تعالمي الرسول صىل هللا عليه وسمل بشأن بعث‬
‫الإنسان من دهشة واس تغراب جتىل يف تساؤهلم اذلي أورده القرأآن الكرمي كمنا يصدر مهنم بعد موهتم‪" :‬اإءان ملردودون يف‬
‫احلافرة أاإذا كنا عظاما خنرة" (سورة النازعات الآايت ‪.)11 -10‬‬
‫وهذا يدل عىل أن الفاكر املعنوية اجملردة عن البعث مل يكن من السهل عىل عقول القدماء قبولها‪ ،‬وأن الفاكر املادية‬
‫بشأن هذه العقيدة ظلت مس يطرة عىل التفكري الإنساين حىت بعد انهتاء احلضارة الفرعونية مبا ل يقل عن ألف س نة‪.‬‬
‫اإن التأثري العميق للشمس والنيل يف نفوس املرصيني قد جاء من توافق واتساق هاتني الظاهرتني وتضافرهام بشلك يوىح‬
‫للمرصي أن ذكل من أجل خريه ورخائه‪ .‬واكن من نتيجة ذكل أن ساد الاعتقاد دلى املرصي الول أن الآلهة اليت متثل‬

‫‪30‬‬
‫هذه الظاهرة الطبيعية يه ابملثل أآلهة خرية يسود بيهنا التعاون والتوافق والاتساق‪ .‬وقد أكد هنا التأثري توافق مظاهر‬
‫الطبيعة الخرى يف مرص‪ .‬فالسامء ترسل مطهرها وقت احتياج املرصي اإليه أي يف الش تاء عندما ينخفض النيل اإىل‬
‫أدین حد هل‪ .‬والرايح السائدة هتب من الشامل اإىل اجلنوب‪ ،‬فهي تمكل النقص املاليح اذلي نشأ عن وجود هنر واحد‬
‫يتجه تياره اجتاها واحدا من اجلنوب اإىل الشامل‪ ،‬فتساعد الرايح الشاملية السائدة السفن عىل الإحبار حنو اجلنوب و‬
‫بذكل تتاكمل مع تيار الهنر يف تيسري الانتقال شامل وجنواب‪ .‬والبيئة املرصية ل توجد هبا ظواهر طبيعية مدمرة اكلزلزل‬
‫والرباكني و الصواعق والعواصف املدمرة‪ .‬وإامنا لك مظهر من مظاهر الطبيعة يرتفق بساكن مرص ول يبدو هلم منه اإل‬
‫وهجه املرشق وجانبه اخلري‪.‬‬
‫للك هذه الس باب جند أن املرصي الول نظر اإىل مظاهر الطبيعة يف مرص نظرة تغاير نظرة العرايق ملظاهر الطبيعة يف‬
‫بالده‪ ،‬اإذ اعتقد املرصی أن الآلهة اليت متثلها هذه املظاهر تعمل يف اتساق و توافق كفراد الرسة الواحدة ليك تقدم هل‬
‫اخلري والنفع‪ ،‬فقدس فهيا عطاء اخلري والنفع‪ ،‬وسعى لن يس تجلب هذا اخلري والنفع لنفسه ابلتقرب اإىل هذه الآلهة‪.‬‬

‫‪31‬‬

You might also like