Professional Documents
Culture Documents
مقياس تاريخ المعتقدات والاديان القديمة، سنة ثانية تاريخ عام+ سنة ثانية ماستر آثار. أ. شباحي مسعود
مقياس تاريخ المعتقدات والاديان القديمة، سنة ثانية تاريخ عام+ سنة ثانية ماستر آثار. أ. شباحي مسعود
مفهوم ادلين:
ليس من السهوةل مباكن وضع تعريف دقيق لدلين أو حتديد مفهومه بشلك يريض مجيع امليول والرغبات الإنسانية أو
الزنعات دلى خمتلف المم والشعوب وعرب لك الزمنة ،ذكل أن مدارك البرش يف فهم حقيقة ادلين ختتلف ،كام أن ميوهلم
ونزعاهتم ل تصب يف قالب واحد .كام أن الباحث يف مفهوم ادلين جيد نفسه أمام مجموعة من ادلايانت املتباينة واملذاهب
اليت ل تاكد جتمعها وحدة ،وفضال عن هذا وذاك فاإن للك دين من الداين فرقا ومذاهب وطوائف خمتلفة.
وتزداد الصعوبة يف تعريف ادلين اإذا أردان أن يكون هذا التعريف شامال للك الداين لننا هنا ل نقصد ابدلين من
حيث هو حق أو ابطل بل نريد مفهومه عند مجيع الطوائف والشعوب عىل اختالف معتقداهتا وتدرجاها يف سمل
احلضارة ،ونظرا لكون مفهوم ادلين خيتلف عند هذه الشعوب والطوائف فاإنه من املتعذر تعريفه تعريفا ينطبق عىل مجيع
الداين.
أ -ادلين لغة:
وردت عدة معاين لدلين يف اللغة ،وهذه املعاين تمتحور حول اإجياد عالقة بني طرفني ،يمتتع الطرف الول مهنام
ابلسلطان والقوة واملكل ،ويتصف الثاين ابخلضوع والطاعة والاس تاكنة والعبادة ،والعالقة بني الطرفني يه ادلين اليت
حتدد عالقة الول ابلثاين.
ويذكر الباحثون يف أصل التسمية أن لكمة "دين" تؤخذ اترة من فعل متعد بنفسه (دانه ،يدينه) واترة من فعل متعد
ابلالم (دان هل) واترة من فعل متعد ابلباء (دان به).
والاختالف يف الاش تقاق يؤدي اإىل الاختالف يف الصورة املعنوية اليت تعطهيا الصيغة فاإذا قلنا (دانه دينا) أردان
بذكل أنه ملكه وحمكه وساسه ودبره وقهره ،فادلين يف هذا الاس تعامل يدور حول معىن املكل والترصف مبا هو من شأن
اململوك من الس ياسة والتدبري واحلمك.
وإاذا قلنا (دان هل) عنينا أنه أطاعه وخضع هل ،فادلين هنا هو اخلضوع والطاعة والعبادة والورع.
أما قولنا (دان ابليشء) فاإن معناه اختذه دينا ومذهبا ،وهذا يعين أن املقصود ابدلين املذهب أو العقيدة اليت يتبعها
نظراي ومعليا.
ومعوما ،فاإن هذه الاش تقاقات الثالث ملعىن لكمة "دين" يف جانهبا اللغوي تدور حول لزوم الانقياد والطاعة ،فادلين
يف الاس تعامل الول هو الزتام الانقياد والطاعة ،ويف الاس تعامل الثاين هو الزتام الانقياد ،ويف الاس تعامل الثالث هو
املبدأ اذلي يلزتم الانقياد هل.
وقد حاول بعض العلامء الغربيني اإجياد تعريف للكمة دين وذكل اعامتدا عىل ادللةل اللفظية لالصطالح الورويب
( )Relegionواختلف هذا الفريق هبذا الصدد اإىل رأيني فذهب البعض وعىل رأسهم (جييو) ( )Gyauاإىل
2
الاعتقاد بأن هذا اللفظ مش تق من الفعل الالتيين ( )Religareمبعىن مجع أو ربط .وقد أخذ هبذا الرأي (دي
لجرارسي) ( )Delagrasserieاذلي ذهب اإىل أن ادلين هو ارتباط جامعة اإنسانية ابإهل.
أما الفريق الثاين فميثهل (روجيه ابستيد) ( )R. Bastideو(جيفونس) ( )Gevensاذلي يرى أن لكمة
( )Religionترجع اإىل الفعل الالتيين ( )Religareاذلي يشري اإىل مفهوم العبادة عىل اخلشوع والرهبة
والاحرتام.
ومن خالل ما تقدم من اس تقراءات لدللةل اللغوية لدلين ميكن أن نسجل املالحظات التالية:
-أنه ليس لهذه اللكمة معىن واحدا ،بل تشمل عدة معاين ،وأهنا حتمل أكرث من دلةل لغوية ،كام أن مدلول لكمة
دين يف اللغة العربية أوسع منه بكثري يف اللغات الخرى ذات الصل الالتيين ،اكللغة الفرنس ية واللغة الإجنلزيية ،كام أن
جل التعريفات السابقة – التعريفات الغربية -جاءت مقتضبة واقترصت عىل تعريف ادلين يف مجةل أو بضع مجل.
ب -ادلين اصطالحا:
قدم علامء الاجامتع والفلسفة والداين العديد من ادلراسات والحباث يف جمال تعريف ادلين ،واكنت نظرهتم يف ذكل
متفاوتة واجتاهاهتم متباينة.
وجند يف اترخي الداين عددا كبريا من الامنذج لهذه التعريفات تس تويف بعضها العنارص الساس ية لدلين ويفتقر بعضها
الآخر لهذه العنارص.
وقد أورد العلامء الغربيون مضن أحباهثم ودراساهتم عدة تعاريف لدلين ،ونظرا لكرثهتا نقترص هنا عىل ذكر بعض مهنا،
ولعل أشهر هذه التعاريف ما ذكره الفيلسوف الملاين (اكنت) ( )KANTيف دراسة هل بعنوان "ادلين يف حدود
العقل" فهو يعرف ادلين "بأنه الشعور بواجباتنا من حيث كوهنا قامئة عىل أوامر اإلهية".
أما (هربرت س بنرس) ( )H.Spencerفيعرف ادلين بقوهل "الإميان بقوة ل ميكن تصور هنايهتا الزمنية ول
املاكنية ،هو العنرص الرئييس يف ادلين".
ويذهب املرشع الروماين (سيرسون) ( )Ciceronيف تعريفه لدلين بقوهل "هو الرابط اذلي يصل الإنسان
ابهلل".
ويعرف (اتيلر) ( )Taylorادلين "بأنه الاعتقاد بوجود أرواح" .بيامن هو عند (فريزر) (")Frazer
اسرتضاء القوى اليت تتعاىل عىل الإنسان واليت يعتقد بأهنا تدير جمرى الطبيعة وتوجه حياة البرش".
أما (ماكس مولر) ( )Max Mullerفريى "أن ادلين يف جوهره حماوةل للتعبري عام ل ميكن تصوره ،والتطلع
اإىل هللا ابعتباره الكامل املطلق الالهنايئ ،أو حب هللا".
ويعرفه (ريفل) (" )Revellبأنه حماوةل توجيه الإنسان لسلوكه وفقا لشعوره ابلصةل بني روحه ،وبني روح خفية
يعرتف لها السلطان عليه ،وعىل سائر الاكئنات الخرى وحياول أن يكون عىل صةل دامئة هبا".
3
وادلين كام يراه (اميل دور اكمي) (" )EmilleDurKheuimهو مجموعة متساندة من الاعتقادات وأعامل
تضم أتباعها يف وحدة معنوية واحدة تسمى املةل".
ويف دراسة هل عن عمل ادلايانت ،يرى (اميل برنوف) ( )E.Brunoufأن ادلين هو العبادة ،والعبادة معل
مزدوج ،فهي معل عقيل حيث يعرتف الإنسان بقوة سامية ،ومعل قليب حيث يتوجه الإنسان اإىل طلب الرمحة من هذه
القوة".
ويقول (شالير ماخر) ( )ChlaierMakherيف مقالت عن ادلاينة "قوام حقيقة ادلين شعوران ابحلاجة
والتبعية املطلقة".
أما العامل الهولندي (اناتنسونو بلوم) ( )Nathan SonirBlomفيشري اإىل تعريف ادلين بقوهل" :اإن
ادلين يطلق بوجه عام عىل عالقة البرش مبا يعتربه مقدسا ،وابلقوى فوق البرشية اليت يؤمن هبا ،لنه يشعر بأنه خاضع
لها ،وتظهر هذه العالقة بأحاسيس خاصة ،الرجاء اخلوف ،وبأفاكر (معتقدات) وبأعامل خاصة (قرابني) وطقوس أخرى
اكلصالة وأداء الوامر اخللقية املعنوية".
ومما س بق يتضح لنا عدم اتفاق هذه التعريفات عىل معىن حمدد لدلين ،ولعل هذا يمكن أساسا يف كون أن الكتاب
اذلين صاغوا هذه التعريفات ينمتون أصال اإما اإىل ادلاينة الهيودية وإاما اإىل ادلاينة املس يحية ،ومعروف أن الك ادلاينتني قد
تعرضتا اإىل التبديل والتحريف مبا يامتىش وأهواء رجال ادلين.
-أن معظم الباحثني السابقني ينظرون اإىل ادلين عىل أنه اإنتاج مشاعر اإنسانية وليس مجموعة تعالمي ساموية ،زايدة
عىل ذكل فاإن التعريفات تضف عىل ادلين طابع السلبية وجتعهل فوق ذكل قاهرا للفراد وملزما هلم ،وليس من واجهبم
سوى اخلضوع والاس تاكنة والتسلمي ابلمر الواقع.
-افتقار هذه التعريفات اإىل حتديد غاية وهدف ادلين يف احلياة ،ورمبا اكن ذكل انجتا عن كون اجملمتعات الغربية مل
تعرف لدلين غاية وهدفا.
وبدورمه قدم العلامء املسلمون عدة تعاريف لدلين املشهور مهنا "أن ادلين وضع اإلهي يرشد اإىل احلق يف الاعتقادات
وإاىل اخلري يف السلوك واملعامالت" ،و"أنه وضع اإلهي سائغ ذلوي العقول السلمية ابختيارمه اإىل الصالح يف احلال والفالح
يف املال".
ويف تعريف أآخر "أن ادلين ما اكن هللا ،وما اكن من عند هللا ،ومفهوم هللا ليس خشصا وجد يف زمن دون زمن،
وتأثر ببيئة دون أخرى ،اإمنا مفهوم هللا حقيقة أبدية خادلة ،ترتفع فوق املس توايت ويتجرد عام للاكئنات مجيعا من صفات،
هو الكامل املطلق يف ذاته ،اإنه ما جيب اإتباعه بعد الإميان به ،وجتب الطاعة هل بعد المتسك به.
ويالحظ أن هذه التعريفات اليت قدهما العلامء املسلمون قد جاءت مس توفية لعنارص ادلين وذكل من حيث املصدر
والوس يةل والغاية ،وميكن اإجياز هذه المور يف النقاط التالية:
4
-أن مصدر ادلين هو هللا س بحانه وتعاىل ،وهو مصدر اثبت ل يتغري ول يتبدل جوهره ،وأن املعنيني ابدلين مه
ذوو العقول السلمية ،حيث أن فاقدي العقل والقارصين غري معنيني بذكل.
-أن الوس يةل اليت يعرض هبا ادلين حسب التعريف ،يه الاختيار وليس الإكراه ،وأن لدلين غاية يف هذه احلياة،
ويه اإرشاد الناس اإىل الصالح يف دنيامه والفالح يف أخرامه.
-أن ادلين عقيدة وسلوك ومعامالت وأخالق.
وقد جاء لفظ ادلين يف القرأآن الكرمي بعدة معاين مرتابطة مهنا قوهل تعاىل "ماكل يوم ادلين" أي يوم احلساب
واجلزاء" ،ومن أحسن دينا ممن أسمل وهجه هلل وهو حمسن" ،أي أحسن طاعة وعبودية ،وقال عز وجل" ،وكنا نكذب
بيوم ادلين" ،أي يوم احلساب واجلزاء.
كام يرد لفظ ادلين يف القرأآن الكرمي مبعىن املهنج والطريقة كام يف قوهل تعاىل" :لمك دينمك ويل دين" ،أي لمك مهنجمك
وطريقتمك يف عبادة غري هللا ،ويل مهنج وطريق يف عبادة هللا وحده دون سواه.
عقائد التأليه (عبادة الآلهة)
قبل أن نتناول هذا املوضوع ابدلراسة ،جيب أن نشري لنقطة هامة كثريا ما شغلت ذهن من يلمس جوانب الريق يف
حضارة مرص الفرعونية يه سبب شهرة املرصيني القدماء بعبادة احليواانت ،ومدى حصة ما رواه الكتاب الالكس يكيون
(اليوانن والرومان) عن أساليب املرصيني الغريبة يف عبادة احليواانت دلرجة ا إلسفاف أحياان.
والمر اذلي ل شك فيه ،أن ما رواه هؤلء الكتاب فيه ظل من احلقيقة ،ولكن ذكل ينصب عىل العصور املتأخرة من
التارخي املرصي القدمي ،عندما وقعت مرص فريسة لالحتالل الجنيب وتعرض شعهبا للرضابت واحملن ،و نزلت به
الشدائد ،فس يطر عىل الناس اخلوف والقلق وجتردوا من سلطان العقل ،فلجأوا -شأهنم شأن بين الإنسان يف لك زمان و
ماكن -اإىل القوى اخلفية يف الاكئنات القريبة مهنم امللموسة هلم ،من حيواانت و طيور ،يلمتسون عندها المن والطمأنينة
من هواجس اخلوف والقلق .وساعد عىل ذكل انتشار الاعتقاد يف السحر يف تكل العصور انتشارا كبريا ،فاعتقد الناس
أن الآلهة تتقمص هذه الاكئنات و تكس هبا قوهتا بفعل السحر ،فيصبح احليوان نفسه اإلها يس تلزم السجود هل والتقرب
منه .ول يقترص ذكل عىل فرد واحد من احليوان ،بل ميتد اإىل مجيع أفراد احليوان اليت من هذا النوع .وأدى هذا الاعتقاد
اإىل حترمي ذحب هذا احليوان يف املناطق اليت تقدسه.
5
وهكذا ظهر يف مرص يف أآخر عصور اترخيها ما يش به عقيدة الطوطمية املعروفة عند القبائل البدائية ،اليت من أمه أراكهنا
تقديس مجيع أفراد احليوان اليت تتخذ منه القبيةل معبودا ورمزا وحترم ذحبه .ومل تكن عادة حترمي ذحب مجيع أفراد احليوان
املقدس قد عرفت يف مرص قبل ذكل ،لن املرصيني حىت يف عصورمه البدائية عندما عبدوا احليواانت ذلاهتا يف جفر
اترخيهم ،مل يعبدوها عبادة طوطمية .وبذكل سارت العقائد يف مرص عىل عكس اجتاهها دلى الشعوب الخرى ،اإذ غالبا
ما تظهر الطوطمية عند هذه الشعوب يف أول عصور اترخيها أي يف عرصها البدايئ .أما يف مرص فقد ظهر ذكل النوع
من الطوطمية يف أآخر عصور اترخيها...
ولعل هذا الوضع الشاذ املقلوب يف اترخي العقائد يف مرص يفرس لنا تكل الظاهرة الشاذة أيضا يف التارخي املرصي القدمي،
ويه أن أكرث العصور تأخرا و بدائية يف التارخي ادليين ملرص الفرعونية هو أآخر عصورها...
وقد ازدادت العقائد فسادا يف عرص الاحتالل البطلم الروماين ،وهما يقال عن حمك البطاملة ف إانه ل شك حمك أجنيب
من مصلحته إاضعاف املرصيني نفس يا وأخالقيا ،وليشء يعني عىل ذكل أكرث من فساد العقائد .وقد ازداد هذا الفساد
تفش يا وش يوعا يف عرص الاحتالل الروماين فرتخص املرصيون وابتذلوا أآدميهتم أمام احليواانت.
ومن سوء حظ املرصيني أن عصور اترخيهم املظلمة قابلهتا عصور مرشقة يف اترخي اليوانن والرومان ،فاكنت تقابل العرص
اذلهيب للكتابة والتسجيل عندمه وانل مرص الكثري من كتاابت مؤرخهيم ورحالهتم ،فكتب هؤلء عن مرص يف أسوأ
عهودها و اكنت عبادة احليوان يف مرص من أكرث ما جذب اهامتهمم لغرابهتا ابلنس بة هلم ولشعوهبم ،فسجلوا كثريا من
تفاصيلها بسخرية لذعة وهتمك مرير.
من هنا جاءت تكل املعلومات والفاكر القامتة عن العبادات احليوانية يف مرص مثل عبادة العجل "أبيس" يف منف،
والقطة "ابست" يف بوابسطة (ابلقرب من الزقازيق) والتيس يف منديس (تل الربع حاليا ابلقرب من مسنود) والكبش يف
طيبة .اإىل أآخر تكل العبادات احليوانية اليت أفاض فهيا مؤرخو ا إلغريق والرومان وذكر بعضهم صورا صارخة مهنا .فقد
روى بلواترك اذلي عاش يف القرن الول امليالدي أخبار جمزرة وقعت بني أهايل مقاطعة أس يوط وأهايل مقاطعة الهبنسا
(ابملنيا) ،وسبب ذكل أن أهايل مقاطعة أس يوط اذلين اكنوا يقدسون اللكب ألكوا السمكة اليت اكنت تقدم يف الهبنسا،
فانتقم أهايل الهبنسا ملعبودهتم بأن ألكوا الكاب ،فاش تعلت املعركة بني املقاطعتني اإىل أن تدخل الرومان وفصلوا بني
املتحاربني.
6
هذه القصة اإن دلت عىل يشء فاإمنا تدل عىل أن املرصيني يف عصور حمنهتم قد ألغوا عقوهلم متاما و أنس هتم الرضابت
والشدائد مبا زرعت فهيم من خوف ،أنسنهتم ما أنتجته عقول أجدادمه من حضارة راقية اكنت مثار اإجعاب املؤرخني
ا إلغريق والرومان أنفسهم اذلين رضبوا املثل ابملرصيني يف احلمكة.
ولسوء حظ املرصيني أيضا أن العامل ظل قروان طويةل بعد انهتاء التارخي الفرعوين يس تق معلوماته عن مرص الفرعونية
وحضارهتا من كتاابت املؤرخني ا إلغريق والرومان ،بسبب نس يان املرجع السايس لتكل احلضارة وهو الكتابة املرصية
القدمية وخاصة الكتابة الهريوغليفية .ومن هنا اس مترت تكل املعلومات القامئة تنتقل من عرص اإىل عرص و من جيل اإىل
جيل ،حىت قدر للكتابة الهريوغليفية أن تكشف عن أرسارها يف مطلع القرن التاسع عرش عىل يد مشبليون .وبدأت
حضارة مرص الفرعونية تكشف نقاهبا و تظهر وهجها احلقيق للعامل .ولكن بطبيعة احلال ليس من السهل عىل فرتة قصرية
ل تزيد عىل قرن ونصف (منذ أن حلت رموز الكتابة الهريوغليفية) ،أن تزيل ما ترسب يف عقل الإنسانية طوال أكرث
من مخسة وعرشين قران .اإذ ما زالت تسود بني الناس تكل الصور املشوهة لعبادة املرصيني للعجل والقةل والتيس
وغريها ،وما زالت هذه الصور تعترب عند البعض عنوان العقائد املرصية بل احلضارة املرصية القدمية بأمكلها.
والسؤال اذلي يتبادر اإىل اذلهن بطبيعة احلال هو :اإذا مل يكن املرصيون يف عصور ازدهار حضارهتم قد عبدوا احليوان
والطري بنفس السلوب املبتذل ااذلي عبدوها به يف عصور امضحالهلم ،مفاذا اكنت أشاكل هذه العبادات يف تكل
العصور الزاهرة ؟ مث كيف متخضت العبادات املرصية املبكرة ذات املظهر البدايئ ،عن الفاكر املعنوية الراقية اليت أدت
اإىل عقيدة التوحيد ،ويه مقة الرق الفكري ادليين؟
ل إالجابة عىل هذه الس ئةل س نتناول ابدلراسة النقاط التالية :
أول -نشأة عبادة الاكئنات يف مرص
عرف الإنسان الول يف مرص -شأن الإنسان يف العصور الوىل -ألواان من احليوان والطري ،خفاف بعضها وأحب
الآخر فاكن ذكل منشأ العقيدة ،لن عقيدة املرء تقوم عىل عاطفتني هام احلب واخلوف .فأما ما خافه فقد ابتعد عنه
وحاول أن خيدع نفسه عن رشه وأآذاه ،وخيل اإىل نفسه أنه يس تطيع أن يسرتضيه بألوان الطعام والرشاب ،ولعل ذكل أن
يكون منشأ عادة تقدمي القرابني ،فهي اإمنا نشأت عن اخلوف أكرث مما نشأت عن احلب .وهكذا نشأت عبادة النواع
املفرتسة من احليواانت مثل المتساح والسد واللبؤة واذلئب.
7
وأما ما أحبه الإنسان من حيوان وطري فقد أقبل عليه وقدس فيه ما يقدمه هل من نفع وخري ،فقدس يف البقرة خصوبة
ا إلنتاج وما توفره هل من طعام ورشاب هل ولطفاهل ،وقدس يف الثور القوة اخلارقة واخلصب اجلنيس.
اكنت تكل يه إاذن دوافع تقديس املرصي الول لاكئنات البيئة اليت ترضه أو اليت تنفعه بطريقة مبارشة .أما تكل النواع
من الاكئنات اليت مل تكن ذات رضر أو نفع مبارش هل فقد قدس بعضها بدافع ا إلجعاب ،اكلصقر فهو قد رأى ذكل الطري
ذي قدرة خارقة عىل التحليق يف أجواء الفضاء مما ل يس تطيعه أي طائر أآخر ،نقدس فيه السمو والارتفاع .ورمبا اقرتن
ذكل ا إلجعاب ابحلب أحياان ،عندما اكن يرى ذاك الطائر ينقض من أعىل ليختطف احليات والفاع اليت ترضه وتؤذيه.
وأجعب املرصي الول أيضا بطائر أيب منجل عندما رأ آه يسري خبطى رزينة مزتنة ابحثا مبنقاره يف الرض عن رزقه فقدس
فيه تكل الرزانة وذكل ادلأب عىل البحث.
وغري تكل النواع من احليواانت والطيور ،هناك صنوف أخرى من احليواانت اكنت يف أصلها ضارة ابلإنسان مؤذية هل،
ولكن املرصي نسب اإلهيا صفات خرية وأصبحت تلعب دورا كبريا يف عقائده ادلينية ،ومثال ذكل حيوان ابن أآوى
والفاع .فقد عبد املرصي ابن أآوى عىل أنه اإهل املوىت (مث إاهل التحنيط فامي بعد) .ويه صفة مناقضة متاما لطبيعة هذا
احليوان اذلي اعتاد نبش املقابر وهنش جثث املوىت .ويبدو أن املرصي الول قدم لهذا احليوان الطعام لرصفه عن نبش
املقابر ،ومن مث نشأت فكرة تقديسه وتقدمي القرابن هل بل واختاذه إالها للموىت متش يا مع هذا التقديس .وقد لعب هذا
احليوان اذلي يعرف ابمس "اتوب" أو "انبو" (حرفها اليوانن اإىل أنوبيس(لعب دورا كبريا يف ادلاينة املرصية فامي بعد
وطوال العصور التارخيية ،بسبب ارتباطه ابلعقائد اجلنائزية ذات المهية الاوىل عند املرصي القدمي.
أما الافاع فرمغ أهنا اكنت من أشد الاكئنات خطرا يف عقائد املرصيني ،دلرجة أهنم اعتقدوا فامي بعد عندما سادت بيهنم
عبادة الشمس أن أدل أعداء اإهل الشمس ثعبان خضم يعرتض طريق زورقه الساموي ،ابلرمغ من ذكل فقد اختذوا من
الثعابني والافاع أآلهة للحامية ،ومثلوها عىل جبني إاهل الشمس نفسه ويه تنفث السم يف وجه أعدائه كام مثلوها عىل
جبني امللوك لنفس الغرض وهبذا مجع املرصيون بني النقيضني .ورمبا يرجع ذكل اإىل فكرة خداع النفس عن الرش كام فعلوا
مع ابن أآوى ،أو لهنم أدركوا أن أجسام الفاع حتتوی عىل النقيضني ،أي عىل السم وعىل الرتايق.
هكذا نشأت العقائد يف مرص شأهنا شأن بالد العامل الخرى ،بس يطة ساذجة تتالءم يف طابعها احليس امللموس مع عقلية
الإنسان البدايئ.
8
وقد متزيت العقائد يف مرص أيضا بأهنا اكنت انبعة من ظروف البيئة مس متدة مهنا ،ليس من ظروف البيئة العامة اليت
تسود مرص لكها فقط ،بل من البيئة احمللية نفسها .فاختلفت املعبودات اليت قدمهتا القبائل اليت سكنت البالد يف عصور
ما قبل التارخي ابختالف البيئات اليت اس تقرت فهيا هذه القبائل ،اإذ متزيت لك منطقة مبعبود خاص يبدو أنه اكن يف
الصل الاكئن الغالب يف البيئة أو الاكئن ذو التأثري الكبري يف ساكهنا ،مفثال نرى المتساح يعبد يف املناطق اليت تكرث فهيا
اجلزر أو البحريات ،حيث يكرث وجود هذا احليوان ،فعبد مثال يف منطقة دندره عند ثنية قنا حيث ينحين النيل
ويتخلف عن احننائه عدة جزر ل شك اكن عددها يف تكل العصور البعيدة أكرث من اليوم ،كام عبد يف منطقة الفيوم
حيث توجد حبرية قارون العذبة وما يتصل هبا من حبريات صغرية تتناثر هبا اجلزر اليت تأوي اإلهيا الامتس يح (وقد جفت
هذه البحريات وانمكشت حبرية قارون وازدادت ملوحة مياهها خالل العصور التالية نتيجة للبخر ولعدم وجود خمرج لها
تنرصف منه مياهها).
كام عبدت الثعابني والافاع يف املناطق اليت تكرث فهيا هذه احليواانت وخاصة مناطق التالل القريبة من الوادي ،ومثال
ذكل منطقة قاو الكبري املواهجة لبدلة أبو تيج جنوب أس يوط واملناطق املواهجة لها يف غرب النيل .وعبدت الثعابني
والافاع أيضا يف مناطق ادللتا املليئة ابملستنقعات مثل منطقة بوتو القدمية (حول دسوق احلالية) و يه من أقدم مراكز
عبادة أفعى الكوبرا .وعبدت الصقور يف املناطق اليت تتصل عندها الوداين أو الطرق الصحراوية بوادی النيل ،مثل
منطقة ادفو حيث ينهتي وادی عباد ومنطقة قفط حيث ينهتي وادي امحلامات ،ومنطقة احليبة القريبة من الفشن حيث
تصب الوداين القادمة من منطقة الزعفرانة عىل البحر المحر .وكذكل املناطق الواقعة يف أقىص رشق ادللتا أو يف أقىص
غرهبا املتامخة للصحراء ،مثل منطقة أوس مي جنوب غرب ادللتا وابلقرب من اخلطاطبة ،و مثل املنطقة املمتدة من دمهنور
حنو الصحراء ،ويف أقىص رشق ادللتا عند بدلة قفط احلنة القريبة من فاقوس.
أما البقرة والثور فقد عبدا يف املناطق الزراعية وخاصة بني ذراع النيل يف ادللتا ،وكذكل عبد اذلئب وابن أآوى يف
املناطق املتامخة للصحراء ويف املناطق ش به اجلبلية مثل تالل أس يوط.
وفامي عدا احليواانت والطيور عبدت اكئنات أخرى من البيئة مثل الاجشار وأمهها جشرة امجلزي ويه الشجرة الغالبة يف
البيئة املرصية.
9
عىل أنه من املناسب القول بأن اتفاق العبادات مع طبيعة البيئة مل يكن قاعدة بسبب املطامع الس ياس ية ،فقد اكنت
القبائل القوية تغزو مناطق القبائل الضعيفة و تضعها حتت لواهئا وتفرض علهيا عبادة أآلهة ل تتفق مع طبيعة املنطقة اليت
عبدت فهيا.
ومع الاجتاه العام حنو التجميع والتكتل اذلي تفرضه طبيعة البيئة املرصية من انحية ،وبتأثري املطامع الس ياس ية من انحية
أخري ،احتدت مجموعات القبائل وكونت مقاطعات بلغ عددها حوايل 42مقاطعة ،عرشون مهنا يف الوجه البحرى
واثنتان وعرشون يف الوجه القبىل ،ول شك أن معبود أقوى القبائل أصبح معبود املقاطعة لكها اختذ شارة للمقاطعة .وقد
حافظت التقاليد عىل بقاء شارات املقاطعات بعد ذكل رمغ احتاد البالد حتت حمك فرعون واحد وانهتاء تقس ميها تقس امي
فعليا اإىل مقاطعات ،بل بقيت شارات املقاطعات ترمس عىل الآاثر املرصية حىت أواخر العرص الفرعوين ،بل وأيضا حىت
العرص البطلم .وقد حتورت أشاكل هذه الشارات مبرور الوقت ،ففقدت الشارة شلكها الصيل اليت متثل املعبود القدمي
للمقاطعة ،ورمغ ذكل ظل املرصيون يرمسون أمام الشارة شلك إاانء اكن لشك ا إلانء اذلي يقدم فيه القرابن من طعام
ورشاب اإىل املعبود الصيل للمقاطعة.
وهذا املثال يوحض مدى متسك املرصيني ابلتقاليد القدمية وحرصهم عىل مظهريهتا رمغ اختفاء حقيقهتا وجوهرها ،وقد لعب
احلرص عىل هذه املظهرية دورا كبري يف اخللط بني العقائد املرصية فامي ظهر علهيا من غرابة وتناقض نتيجة الإبقاء عىل
القدمي اإىل جانب اجلديد..
وعندما تقدم املرصي يف احلضارة وارتقى بفكره و أراد أن يعرب عن الإهل ابلشلك الإنساين وهو أرىق من الشلك احليواين،
مل يس تطع أن يتخلص من الشلك احليواين للآلهة لرتباط هذه الشاكل ابلتقاليد القدمية ،ولمتسك أهايل لك منطقة أو
مقاطعة مبعبودمه احمليل القدمي ،حفافظ املرصي عىل شلك احليوان يف أكرث أجزاء اجلسم متيزيا هل وهو الرأس .ونشأت
بذكل أشاكل عديدة من الآلهة بأجساد إانسانية ورؤوس حيوانية ،وهبذا اس تطاع املرصيون التوفيق بني التقاليد اليت
تمتسك ابلشاكل احليوانية للآلهة ،ول س امي أهنا اقرب اإىل الزارع والرجل العادي البس يط لرتباطها حبياته وبيئته ،و بني
الافاكر الرىق اليت أخذت تتجه اإىل الشلك الإنساين يف تصوير الآلهة ،و بذكل حافظوا من انحية أخرى عىل مظهرية
القدمي داخل إاطار الاجتاهات الفكرية الرىق.
10
وقد دفع الاجتاه حنو التجمع أيضا اإىل جتميع أ آلهة املقاطعات أو املناطق اخملتلفة عىل شلك أرسات صغرية .واكن ذكل منشأ
ظاهرة الثالوث اذلي ميزي العبادات املرصية .ورمبا يعرب ذكل عن خضوع الآلهة الصغرية للآلهة الكبرية بطريقة سلمية
تسودها روح التوافق اليت متزي البيئة الطبيعية املرصية (واليت تمتثل يف توافق أوقات الفيضان وحرارة الشمس وسقوط
املطر و توافق تيار النيل مع تيارات الرايح وغري ذكل كام ذكران فهيا س بق) كام متزي حياة الناس يف مرص ( وتمتثل يف قوة
الروابط بني أفراد الرسة املرصية كام تثبت ذكل متاثيل ورسوم الرسة املرصية طوال العرص الفرعوين) وذلكل جند
التكوين الغالب لثالوث أ آلهة املرصية يتألف من أب وأم وابن عىل هيئة أرسة صغرية متوافقة مرتابطة.
غري أنه رمغ غلبة الشلك احليواين عىل أشاكل الآلهة املرصية يف جفر التارخي ،فقد ظهرت بعض الآلهة بأشاكل أآدمية ولو
أن بعضها يرجع لعرص متأخر نسبيا عن عرص ظهور الآلهة احليوانية الشلك ،ومثال ذكل الإهل "مني" يف امخمي و قفط،
وا إلهل "عند جىت" يف شامل رشق ادللتا وقد حل حمهل الإهل "اوزير" ابلهيئة البرشية أيضا يف عرص متأخر نسبيا .والاهل
"اتوم" يف عني مشس (وهو الشلك الاديم إلهل الشمس) غري أن الظاهرة امللفتة للنظر أن هذه الآلهة الثالثة ترتبط
ابلظواهر الكونية ،فا إلهل "اتوم" ارتبط بعبادة الشمس ،وا إلهل "اوزير" ارتبط بعبادة النيل وا إلهل "مني" ارتبط بعبادة
الصواعق والعواصف مث ابلقمر .ورمبا يعزى متثيل هذه الآلهة ابلشلك ال آديم اإىل أن الظواهر الكونية دفعت بفكر
الإنسان املرصي اإىل مس توى أرىق من مس توى عبادة الآلهة احليوانية.
ولكام ارتقى املرصيون يف مضامر احلضارة ،لكام حاول املثقفون وأحصاب الفكر مهنم و کهاهنم املس تنريون تربير عبادة الآلهة
احليوانية بتربيرات تتالمئ مع الفكر الرىق ،وسوف نرى كيف توصلوا اإىل ذكل ابملقارنة والتشبيه بني طبائع احليواانت اليت
متثلها هذه الآلهة ،و بني صفات إاهل كوين أكرث رقيا ،وذكل حىت يالمئوا بني ما تفرضه التقاليد من ا إلبقاء عىل الآلهة
احليوانية القدمية ،أي احلفاظ عىل مظهرية العبادة القدمية من انحية (وخاصة أهنا تتالءم مع ما ينشده العامة من الناس يف
أآلههتم من طبيعة منية ملموسة) وبني ما يتطلبه الريق الفكري اذلي أخذ يسود بني املثقفني وأحصاب الفكر مع ريق
احلضارة املرصية يف العصور التارخيية من انحية أخرى.
وهمام يكن من أمر العبادات احليوانية يف مرص وارتباطها ابلقدمي ومتسك عامة الناس هبا ،ف إان املتتبع لبواطن المور
يالحظ أن الطبقة املثقفة وأحصاب الفكر يف مرص اكن هلم موقف معني من هذه الآلهة يمتثل فامي يىل :
11
أول :أهنم مل يقدموا حيواان ذلاته وإامنا رمزوا به لصفة من صفات إاهل أكرب أو إاهل خف ،وادلليل عىل ذكل أهنم مل يقدسوا
احليواانت بأسامهئا احليوانية بل بأسامء رابنية .فمل يقدسوا الصقر ابمسه احليواين "بيك" ،و لكن ابمس رابین هو "حور"،
ومل يقدسوا البقرة ابمسها احليواين "أحت" وإامنا ابمس رابین هو "حتحور" (هاتور) ،و كذكل المتساح مل يقدسوه ابمسه
احليواين وهو "مسح" ولكن ابمس رابين وهو "س بك" وأيضا الكبش قدسوه ابمس رابین هو "خنوم" أو "أآمون" ،وليس
ابمسه احليواين "اب".
وقد خطا املرصيون يف طريق ذكل الريق الفکري خطوات أبعد عندما تساموا هبذه السامء الرابنية للآلهة احليوانية
وجعلوها رموزا لصفات أو مظاهر ل إالهل الكرب كام س نذكر بعد.
اثنيا :أن اختيار املرصيني لفرد من أفراد احليوان مل يؤد اإىل تقديس لك أفراد نوعه ،فمل يكن من بأس عىل منطقة تقدس
الثور مثال أن يس تخدم الثريان يف احلقل واذلحب ،وإامنا هو جمرد حيوان مهنا يتخريه الكهنة اإذا توافرت فيه عالمات حتددها
هلم ادلين ونواميسه .وقد ساد هذا السلوب يف معامةل الآلهة احليوانية بني املرصيني طوال عصور ازدهار حضارهتم .ومل
ينقلب اإىل السلوب البدايئ اذلي اكن يقدس اكفة أنواع احليوان املؤهل وحيرم ذحبه اإل يف عصورمه املتأخرة ،عندما
فسدت عقائدمه وهبط مس توى تفكريمه بتأثري ما نزل هبم من شدائد وحمن نتيجة الاحتالل الجنيب وانتشار العنرص
الجنيب يف البالد.
اثلثا :نالحظ أنه ما من معبد من املعابد املرصية الكبرية الباقية مما خلفته العصور املمتدة من ادلوةل القدمية حىت هناية
ادلوةل احلديثة عىل أقل تقدير أي خالل ما يقرب من ألف عام قد تضمن ماكان معدا حليوان ،وذكل مما يعين أن مزار
احليوان اخملتار اإذا وجد مل يكن مقرا لعبادة فعلية عىل ا إلطالق ،ومل تنترش املزارات اخلاصة ابحليواانت يف املعابد مثل
املزار املشهور لعجل ابيس يف منف اإل يف العصور املتأخرة ويف عصور ضعف وامضحالل احلضارة الفرعونية كام قلنا.
اثنيا :دور الآلهة الكونية يف الفكر ادليين املرصي
متثل عبادة الآلهة الكونية مثل أآلية املاء والشمس والقمر والنيل والرض اخلصبة ،مرحةل تطور هامة يف الفكر ادليين
املرصي ،فقد نقلت العبادات املرصية من مرحةل "التعدد" ويه املرحةل البدائية اليت سادت فهيا عبادة الآلهة احليوانية
املتعددة ك آلهة رئيس ية يف خمتلف املناطق ،وسارت هبا حنو المتهيد ملرح "الرتجيح" ،ومعناها ترجيح أو س يادة عبادة عدد
قليل من الآلهة العظمى واعتبارها أعظم الآلهة ،ولكن دون أن يعين ذكل إالغاء الآلهة احليوانية واحمللية اليت تأخذ يف
12
الاحتاد مع هذه الآلهة يف أول المر مث الاندماج فهيا .وإاذا سار هذا التطور حنو الارتقاء فانه يؤدي اإىل اثلث مراحل
تطور الفكر ادليين وأرقاها ويه مرحةل التوحيد أو الوحدانية فتسود عبادة اإهل واحد وتلغ مجيع الرابب الخرى اليت
تعبد من دونه.
ويرحج الباحثون أن عبادة ال آلهة الكونية ظهرت يف مرص يف وقت مبكر ،و لكهنا اكنت يف شلك ساذج دفعت إاليه
عاطفتنا اخلوف واحلب اليت اكنت منشأ ادلايانت والعقائد .فاكن تردد املرصي بني اخلوف من املطر والرغبة يف
اس تجالبه دافعا لتقديس السامء ،واكن اخلوف من الفيضان والرغبة يف اس تجالب نفعه دافعا لتقديس النيل ،وهكذا اكن
الشأن مع الشمس والقمر وغريها .وبذكل نشأت العقائد الكونية يف مرص بنفس طريقة نشأة العبادات احليوانية ،ولكن
العقائد الكونية سارت ابلفكر ادليين املرصي يف طريق التطور والارتقاء حبمك همينهتا عىل مناطق شاسعة من البالد
وشعور املرصي بأثرها يف اكفة أرجاء الوادي ،ولن فهمها وإادراك كهنها حيتاج اإىل تأمل و إاعامل فكر ،ولهذا يرجع
الباحثون أن الريق الفكري اذلي صاحب العبادات الكونية يف مرص مل يبدأ اإل بعد توحيد القطرين عىل يد مينا.
ولقد لعبت الظواهر الكونية الثالثة البارزة يف مرص ويه الشمس والسامء والنيل ،دورا رئيس يا يف العبادات الكونية
املرصية ،واكن لها فضل كبري يف احتواء ال آلهة احليوانية وإادراهجا يف كياهنا .مفثال أدجمت عبادة البقرة يف عبادة السامء رمبا
عىل أساس ما لحظه املرصيون من تشابه بني الثنني ،فالسامء تسقط مطرا هو اكلغيث للرض ،والبقرة تدر لبنا هو
اكلغيث للبرش ،والسامء حتيط بأراكن العامل الربعة فيبدو كن لها قوامئ أربعة ترتكز علهيا كقوامئ البقرة الربعة (أرجلها)
وهكذا.
وقد عرب املرصيون عن ذكل التشابه برتصيع جسم البقرة بأشاكل النجوم ،كام عربوا عن امجلع بني السامء والبقرة بمتثيل اإلهة
السامء برأس بقرة وجسم امرأة تتناثر فهيا أشاكل النجوم.
و ابلنس بة للنيل فيبدو أن املرصيني أدجموا عبادته يف عبادة الثور (أو العجل) ملا بيهنام من تشابه ،فالنيل خيصب الرض
و الثور خيصب البقار ،ولهذا مجعوا بني امس إاهل النيل (أوزير) و بني امس الثور أو العجل (حايب) يف لكمة واحدة يه
(أوزير حایب) .وقد حور ا إلغريق هذه اللكمة اإىل (سريا بيس) وأطلقوا عىل العجل وحده (ابيس) وهناك تفسري أآخر
للكمة أوزيرحایب هو امس العجل امليت عىل أساس أن أوزير هو إاهل املوىت ،و لكن ل مينع ذكل من مالحظة امجلع بني
العجل و بني أوزير بصفته إاهل النيل.
13
ورمغ ما للنيل من تأثري كبري يف احلياة يف البالد ورمغ امتداده من أقىص اجلنوب اإىل الشامل ،فانه مل يلعب يف العقائد
املرصية ،ادلور الكبري اذلي لعبته الشمس ،ويبدو أن السبب يف ذكل يرجع اإىل طبيعة النيل كظاهرة أرضية حمسوسة،
فضال عن ارتباط النيل بعبادة أوزير واختاذ أوزير اإلها للعامل السفيل أو عامل الآخرة ،اذلي تصوره املرصيون وقد امتد فيه
هنر حتت الرض يش به امتداد النيل فوق الرض ،لك هذه العوامل يبدو أهنا قد حدت من تطور عبادة النيل إاكهل عامل
تتجىل صفاته يف الاكئنات الرضية بيهنا سار إاهل الشمس قدما يف هذا الاجتاه.
واكنت مدينة عني مشس (و يسمهيا املرصيون "أون" مبعىن الربج) أو مدينة هليوبوليس كام عرفها اليوانن ومعناها مدينة
الشمس مقرا لعبادة هللا الشمس منذ أقدم العصور .وقد اش تغل کهاهنا برصد الشمس والنجوم وذلكل محل رئيسهم لقب
كبري الراصدين (أو كبري الناظرين) ،ويرجع اإلهيم الفضل يف اخرتاع التقومي الشميس بتقس مي الس نة اإىل 365يوما .واكن
ذكل من أمه الكشوف احلضارية يف اترخي الإنسانية ،وقد انفردت مرص اس تخدام التقومي الشميس لن الشعوب الخرى
يف الرشق الدین القدمي اكنت تتبع التقومي القمري اذلي تضطرب فيه مواعيد الفصول ،وقد ورث العامل هذه املأثرة
احلضارية عن مرص كام هو معروف.
وإاىل كهنة هليوبوليس يرجع الفضل يف الارتقاء ابلفكر ادليين املرصي والتطور به حنو الرتجيح مث التوحيد .وقد بدأوا
يفلسفون ادلين فوضعوا أول نظرية يف تفسري خلق الكون ،وسار عىل منواهلم كهنة الآلهة الرئيس ية الخرى يف البالد،
ومه كهنة الإهل بتاح و کهنة الإهل حتوت (أو أآمون فهيا بعد) .ولهذا جند ثالثة مذاهب أو نظرايت رئيس ية يف مرص عن
خلق الكون يه :
أ -نظرية عني مشس (أو نظرية التاسوع)
تغلب عىل هذه النظرية الصفة الإنسانية امللموسة فقد تصور كهنة عني مشس أن العامل أصهل حميط مايئ مسوه "نون"،
وقد ظهر فيه هللا الشمس رع (أو أآنوم وهو إاهل الشمس الغاربة و اكن ميثل عىل هيئة رجل مسن يتوك عىل عصا) فوق
تل من صنع هذا ا إلهل .ويبدو أن كهنة الشمس حاولوا تقريب خلق املاء والهواء اإىل أذهان عامة الناس ،فقالوا أن إاهل
الشمس (رع) عطس فأوجد إاهل الهواء (شو) وإالهة الندى أو الرطوبة (تفتوت) ،وهذان ا إللهان أجنبا بدورها إاهل الرض
(جب) وإالهة املاء (نوت) .وقد رزق هذان ا إللهان أربعة أآلهة مه أوزير وإايزيس و ست و تفتيس ،وهؤلء ميثلون الرعيل
الول اذلي مجع بني اللوهية والبرشية و بدأ هبم معران الكون ،ويطلق عىل هؤلء الآلهة التسعة امس (اتسوع عني
14
مشس) .وقد فرست النظرية ظهور الرض والسامء بأن اإهل الهواء (شو) فصل بيهنام بعد أن تودل عن روهحا يف فرتة
اتصاهلام البناء الربعة املذكورين .ويالحظ أن املرصيني س بقوا العامل بفكرة الفصل بني الرض والسامء ،فقد رددهتا فامي
بعد أساطري اخللق العراقية القدمية ،فتقول الساطري السومرية بأن الإهل (انليل) رب العاصفة فصل بني السامء (أآنو)
والرض (یک) .ويف الساطري البابلية شطر الإهل (مردوك) جسم (تيامات) اإىل شطرين وكون مهنا السامء والرض ..وقد
ورد ما يش به هذه الفكرة يف ادلايانت الساموية ،.جفاء يف التوراة (فعمل هللا اجلدل وفصل به املياه اليت حتت اجلدل ،واكن
كذكل ودعا هللا اجلدل سامء » ( سفر التكوين)
ويف القرأآن الكرمي (أو مل ير اذلين كفروا أن الساموات والرض اكان رتقا ففتقناهام)(سورة النبياء أآية .)30وبطبيعة
احلال ف إان الكتب الساموية مل تأخذ هذه الفكرة عن تكل الساطري القدمية ولكهنا اس تخدمت السلوب املنطق املتسلسل
يف اخللق اذلي يالمئ عقول الناس حىت يسهل تفهم ما تغرسه فهيم ادلايانت الساموية من تعالمي وقمي ومبادئ.
ومما يرحج أن نظرية هليوبوليس بشلكها الراهن قد وضعت بعد توحيد (مينا) للبالد ،وجود الإهل أوزير بني التاسوع ورمبا
اكنت النظرية نفسها قدمية وان الإهل أوزير أحقم فهيا بعد ذكل ،اإذ املعروف أن الإهل أوزير مل يتغلغل يف العقيدة الشمس ية
اإل يف عرص متأخر نسبيا.
و نظرية عني مشس كام يبدو حتاول تفسري الظواهر الطبيعة البارزة يف البيئة املرصية ووضعها يف قالب ديين ،فالقول بأن
العامل اكن حميطا مائيا ،اإمنا يرمز لنتشار مياه الفيضان فوق الرض ومغر احلقول ،وظهور التل يشري اإىل ظهور مقم التالل
الصغرية عند احنسار املياه يف بدء اخنفاض الفيضان .مث تتسلسل النظرية تسلسال منطقيا مع تتابع خلق الكون ورمبا ترمز
الآلهة الربعة الخرية اإىل النيل (أوزير) والرض اخلصبة (ايزيس) والصحراء أو اجلفاف (ست) والرض الهامش ية
(نفتيس) أي الرض الواقعة بني الصحراء و بني الرض اخلصبة .ويبدو أن هذه الفاكر املقارنة ظلت ترتدد بني كهنة عني
مشس مدة طويةل بدليل أن املؤرخ بلواترك دوهنا عهنم يف القرن الول امليالدي.
ومن الواحض أن نظرية هليوبوليس ولو أهنا ارتقت ابلفكر املرصي ومثلت مجيع أآلهة التاسوع بأشاكل إانسانية ،كام وردت
هبا أفاكر راقية ظهرت يف الآايت الساموية مثل فكرة الفصل بني الرض والسامء ،اإل أهنا مل تتخلص من الطابع احليس
امللموس ومل ترق اإىل الفاكر اجملردة .وهذا دليل عىل قدهما لن كهنة الشمس قد بلغوا مس توى أرىق من ذكل كثرية يف
الفكر ادليين كام سرنى بعد.
15
ب -نظرية المشونني (أو نظرية الثامون)
أحصاب هذه النظرية مه كهنة مدينة الامشونني (ابلقرب من املنيا) وقد اس هتدفوا مهنا غرضها س ياس يا هو جعل الس يادة
لآلههتم عىل اهل الشمس اذلي اش تد نفوذ کهنته .ويبدو أن كهنة أآمون إاهل طيبة عامصة ا إلمرباطورية يف عرص ادلوةل
احلديثة روجوا لهذه النظرية لهنا تضم اإهلهم أآمون اذلي يرجع يف أصهل اإىل المشونني ،حىت يؤكدوا سلطان إاهلهم عىل رع
إاهل هليوبوليس وابلتايل يؤكدوا سلطاهنم عىل كهنته.
والنظرية تعرب أيضا عن مظاهر الطبيعة املرصية شأن نظرية هليوبوليس وتتفق معها يف أن العامل اكن حميطا مائيا امسه
(نون) أيضا ،واكن أول من برز من هذا احمليط تل اكن مبثابة بدء العامل .وفوق هذا التل ظهرت املعامل الوىل للحياة ،اإذ
سكنت فيه الضفادع والثعابني ويالحظ أهنا من الاكئنات اليت تتفق مع ما يغمر مثل هذا املاكن من ظالم ورطوبة .وقد
مسيت هذه الاكئنات بأسامء اس متدت من طبيعة هذا املاكن ويه الظالم املطبق (كك) والفضاء الالهنايئ (حح) اذلي
مغره الظالم وغشاه مفا تاكد عني احلياة النامئة تتفتح عىل يشء فيه .ف إاذا روح الإهل ترفرف فوق هذه العنارص ممثةل يف
الهواء (أآمون) ،فال تاكد تلمس هذه العنارص حىت تأخذ احلياة تتثاءب لتستيقظ.
و اكنت هذه العنارص الربعة ،أربعة إااثث يتكون من مجموعها مثانية عنارص و لكمة المشونيني العربية مش تقة من اللكمة
القبطية مشون ويه بدورها مش تقة من اللكمة املرصية القدمية "مخون" أو "مخنو" مبعىن مثانية .و اكن هناك يشء أآخر
فوق هذا التل الطم يتناسب مع طبيعة هذا العامل الطيين اجملدب ،هذا اليشء هو بيضة طائر خرج مهنا الطائر أبو
منجل رمز الإهل حتوت إاهل الامشونني (أو طائر أآخر عىل شلك إاوزة اكن رمزا ل إالهل أآمون تبعا لختالف رواية هذه
النظرية) .وخبروج هذا الطائر اس تحال الظالم ادلامس اإىل هنار واحض فاكنت الشمس اليت انبعث مهنا الضوء الول،
واكن صوت الطائر هو الصوت الول اذلي دوى يف هذا الفضاء العريض فدبت احلياة عىل الرض.
واحض من هذه النظرية أهنا جعلت إاهل الشمس (رع) اتليا يف اخللق ل آمون (لهواء) أو من خلقه ليك تمتىش النظرية مع
غرض كهنة أآمون يف إاظهار تفوق أآمون عىل رع أو بعبارة أدق تفوق كهنة طيبة عىل كهنة هليوبوليس كام قلنا.
وقد اكتسب اثمون الامشونني أمهية كبرية يف عرص الامرباطورية بسبب ارتفاع شأن الإهل أآمون واختاذه اإلها رمسيا
لالمرباطورية ،دلرجة أنه يف العصور التالية ساد الاعتقاد بأن طيبة يه موطن الثامون و ليست الامشونني.
16
ومن هذا يتضح كيف أن نظرايت اخللق اكنت اإىل جانب تعبريها عن مظاهر الطبيعة املرصية اكنت تعرب عن املطامع
والهواء الس ياس ية.
نظرية منف:
تصور هذه النظرية الإهل بتاح اإهل مدينة منف عىل أنه اخلالق الول اذلي أوجد لك يشء ،والواقع أن الفكر ادليين
املرصي بلغ القمة يف هذه النظرية اإذ حترر من احملسوسات اليت تغلب عىل نظرييت هاليوبوليس والامشونني ،وانطلق حنو
الفكر اجملرد .ورمبا اس هتدف كهنة منف من هذه النظرية هدفا س ياس يا أيضا هو إاظهار تفوق بتاح اإهل منف عىل أآلهة
مرص الرئيس ية الخرى وخاصة اإهل الشمس .غري أن النظرية تعرب اإىل جانب ذكل عن ظواهر طبيعية وأحداث اترخيية.
فقد جعل كهنة بتاح إاهلم عىل رأس اتسوع هليوبوليس مث أضفوا عىل معلية اخللق طابعا معنواي جمردا أرىق من الطابع
املادي احملسوس اذلي مزي نظرية هليوبوليس ،بأن قالوا أن الإهل بتاح أوجد نفسه بنفسه مث خلق التل الريض اذلي ظهر
من احمليط املايئ (نون) وأن الإهل أتوم (راس اتسوع هليوبوليس والصورة البرشية لآهل الشمس رع ) ،ميثل قلب ولسان
بتاح ،ويرمز هلام (للقلب واللسان) الإهل حور (الصورة احليوانية إلهل الشمس رع ورمز املكل والسلطان) والاهل حتوت
( إاهل الامشونني ورمز العامل واملعرفة).
واكن املرصيون عندما يذكرون لكمة (القلب) يقصدون هبا (العقل) فطبقا لهذه النظرية اكن العقل واللسان أي الفكر
واللكمة ،اكان سبيل الإهل بتاح اإىل خلق الوجود .فالفكرة تدبرها عقل بتاح فأصدرها لسانه عىل هيئة لكمة فاكن اخللق.
وقد جعلت هذه النظرية من الإهل الرئييس يف مرص وهو الإهل أآتوم إاهل عني مشس من خلق الإهل بتاح .وبذكل اس هتدف
كهنة منف من هذه النظرية أيضا هدفا س ياس يا هو إاظهار تفوق اإهلهم عىل اإهل منافس هيم کهنة عني مشس ،وأكدوا هذا
التفوق عىل الآلهة الخرى عندما جعلوا من الإهل حور وا إلهل حتوت رموزا للقلب واللسان.
ولشك أن الظاهرة البارزة يف هذه النظرية أهنا مل تسكل سبيال ماداي للخلق مثل نظرية هليوبوليس اليت نقلت عهنا ،بل
اجتهت اجتاها معنواي جمردا يف إارجاع اخللق للفكر واللكمة .وقد أصبح بتاح هبذه الصفة اإلها للفنانني والصناع ،فاكن كبري
كهنة بتاح حيمل لقب " كبري الفنانني" ،فهناك تشابه بني أسلوب بتاح يف خلق العامل و بني أسلوب الفنان يف إاخراج
العمل الفين ،ذكل أن العمل الفين ليس اإل إانتاجا فكراي وخلقا تشكيليا .ولعل ذكل من أس باب تكل الهنضة الفنية الكبرية
17
اليت شهدهتا منف يف عرص ادلوةل القدمية اإذ اكن فنانوها يعتربون أن لك معل فين ينتجونه اإمنا هو من ويح بتاح اإهل
اخللق الفين.
ولقد ترمجت هذه النظرية أيضا عن أحداث اترخيية يف إانشاء منف عامصة مرص املوحدة ،وما تبع ذكل من نشأة حضارة
عرص الرسات ،مبا اش متلت عليه من نظم حكومية وعقائد ومنشأآت وأعامل فنية راقية .فان ما قام به الفرعون « منا
(مينا) » من إانشاء منف بتحويل أحد فروع جمرى النيل وجتفيف الرض لإقامة العامصة منف ،قد عربت عنه النظرية
خبلق بتاح للتل الريض من املياه (نون) ،كام أن ما قام به الفرعون من ختطيط وتنفيذ ملقومات ادلوةل املرصية املنظمة يف
العامصة منف ،اكن نتيجة تفكري و تدبر (الفكر) وأوامر أصدرها للتنفيذ (النطق أو اللسان أو اللكمة).
هكذا ظهرت يف نظرية منف ،الفاكر املعنوية اجملردة يف عرص مبكر من اترخي البرش ،مما أاثر دهشة الباحثني اإذ
اعتربوها نقةل جفائية بدون مراحل انتقال تدرجيية من عامل أآلهة الطبيعة اإىل عرص الفكر الناجض .ول شك أن أحصاب هذه
النظرية قد تأثروا مبا اكن يسود حوهلم يف العامصة منف من حكومة منظمة وحضارة راقية ،فنس بوا هذا لكه اإىل عقل
مبدع خالق ،و ترمجوا لك ذكل اإىل تكل النظرية اليت س بقت عرصها بكثري.
وقد جعل أهل منف إاهلهم فوق الرابب لكها شأن الفرعون فوق الناس ،فوصفوه بأنه خلق الرابب وأقاهمم عىل
مقدساهتم وش يد هلم املزارات ،وشلك هلم الامتثيل اليت يكون فهيا من لك أنواع اخلشب (كام تقول النصوص املرصية )
ومن لك جحر کرمي و من الطم ومن لك ما يمنو عىل سطح الرض.
وعىل الرمغ مما يبدو يف نس بة خلق الآلهة الخرى اإىل بتاح من تقدم يف العقيدة املادية ،اإذ يظهر فهيا الانتقال من مرحةل
التعدد اإىل مرحةل الرتجيح (ويه املرحةل الثانية يف اترخي العقائد البدائية اليت يسود فهيا إاهل واحد عىل بقية الرابب وتأخذ
هذه الرابب يف الاندماج فيه تدرجييا) ،اإل أن ذكل التقدم يعترب خطوة اإىل الوراء ابلنس بة للمس توى املعنوي اجملرد
اذلي وصلت اإليه عقيدة بتاح بنظرية اخللق ابللكمة .وهكذا اجمتع يف عقيدة بتاح جانبان متناقضان ،جانب معنوي رايق،
وجانب مادی بدايئ .وهذه الظاهرة املزدوجة تؤکد وجود عقيدتني أو عىل القل اجتاهني عقائديني يف مرص الفرعونية،
اجتاه راق يسري تدرجييا حنو املعنوية و التجريد ويظهر أنه اجتاه أحصاب الفكر واملس تنريين وأفراد الطبقة املثقفة ،واجتاه
أدين يمتسك ابلتقاليد واملعبودات القدمية ومييل اإىل العقيدة املادية امللموسة وما يتصل هبا من رموز ومظاهر حيوانية،
ورمبا ميثهل كهنة املعبودات احليوانية القدمية وأفراد الطبقات ادلنيا .ويبدو أن هذا الاجتاه اكن ذا قوة ضاغطة كبرية ،واكن
18
ميثل حراكت املد واجلزر يف وجه الفاكر املعنوية الراقية .ولو قدر لعبادة بناح أن تسري حنو المام يف الاجتاه املعنوي
اجملرد ومل تتأثر أو ختتلط ابلعبادات املادية واحليوانية ،لرمبا قدر لهذه العقيدة أن تصل اإىل مرحةل التوحيد يف عرص مبکر،
ولكن اجلانب الآخر من عقيدة بتاح وهو الوجه املادي التجس يدي أخر هذا التقدم كثريا .ومما زاد يف هذا التأخري أن
بتاح أدخل يف اثلوث يتكون منه وهو يف شلك إانسان ،ومن زوجة يه ا إللهة (خسمت) اليت متثل عىل شلك اللبوءة ،و
من ابن هو الإهل نفرتوم اذلي ميثل عىل شلك زهرة .ورمبا رمز كهنة بتاح هبذا الثالوث اإىل أنواع الاكئنات الثالثة ويه
الإنسان ( يف شلك بتاح) واحليوان ( يف شلك الزوجة) والنبات ( يف شلك الابن) ،وهبذا هبطوا يف سمل الريق الفكري
اإىل أسفل بعد أن اكنوا قد صعدوا عليه عدة درجات بنظريهتم عن اخللق ابللكمة !!
ولعل املقارنة مع ما ظهر دلى الشعوب الخرى من أفاكر شبهية بأفاكر منف ويه اخللق ابللكمة ،لعل هذه املقارنة تؤكد
ذكل الس بق الفكرى العجيب اذلي بلغه املفكرون املرصيون يف عرص مبكر من اترخيهم ،بل من اترخي العامل لكه ،اإذ مل
ترتدد هذه الفكرة عند فالسفة اليوانن اإل بعد ذكل مبا ل يقل عن ألف س نة.
التوحيد والتعدد يف ادلاينة املرصية
هل اكن قددماء املرصديني موحددين يؤمندون ابهل واحدد ،أم بأآلهدة متعدددة؟ هدذا سدؤال حداول العديدد مدن علدامء
املرصايت الإجابة عليه مبفاهمي خمتلفة ،فأكرثمه يؤيد أن املرصدي القددمي فطدر عدىل الإميدان ابهل واحدد ،واهتددى عقدهل اإىل
توحيد اخلالق وعدم التفكري يف اهل غريه ،وان تعددت أشاكهل عىل جدران املعابد يف رسوم لآلهة خمتلفدة ،وكدذكل مدا جداء
ذكره يف الساطري ما هو اإىل مظاهر خمتلفة لصفات اإلهية ليس يف تعددها ما يناقض عقيدة التوحيدد للمدؤمن بعظمدة هدذا
الإهل وتفرده ابلاكمل وإاذا اكن الإهل واحد مفا هو نوع وحدانيته؟ هل يه وحدانيدة بسد يطة أم وحدانيدة مركبدة؟ وإاذا اكندت
وحدانية مركبة مفم ترتكب تكل الوحدانية؟.
التعدد والوحدانية
فباسد تنناء التوحيددد اذلي اخرتعدده (أخندداتون) ظدل الاجتدداه السددايس أي فلسددفة تعددد الآلهددة الساسد ية لدلاينددة
املرصية بال تغيري عىل مدى ثالثة أآلف س نة حىت وان شاهبا التعقد الشديد والتغريات املتكررة ،والتوفيق بني املعتقدات
املتعارضة وامليول التوحيدية والفوىض التامة والتنداقض ،وقدد اسد مترت التعدديدة املرصدية يف املقدام الول لن املرصديني مل
ميكهنم قط التخيل عن مفهوم كون الكثري من الآلهة جيسد من خالل حيوية املادة واحللول عنارص الكون اكفة(
19
ويبدو أن املسافة بني التعدد والتوحيد ظلت قامئة بلك موجاهتا ودرجاهتا يف ادلين املرصي ،فنحن ل نسد تطيع أن
جنزم متاما أن هذا ادلين اكن مرشاك ابلاكمل أو أنه اكن دينا موحدا متاما ،اإذ أن علينا كشف الفلسفة الروحية العميقة اليت
توحض طبيعة معتقداته يف هذا اجملال وكيفية حتولها وتطورها رمغ لك جضيج النصوص والقوامئ الإلهية
فالثابت منذ اقدم الزمنة أن من أعظم توهجات ادلاينة املرصية هو التوجه التوحيددي ،اذلي ميكنندا مالحظتده يف
مجيع النصوص ادلينية الهامة ،نزول حىت احلقبة الخرية ،ول جيدي البحث فدامي اإذا اكن التوحيدد أو الرشدك هدو السد بق
يف حاةل معرفتنا الراهنة ،ويذهب (تييل) ( )TIELLاإىل أن ادلايندة املرصدية اكندت يف أول أمرهدا ترشدك مدع هللا أآلهدة
أخرى ،مث تطورت يف اجتاهني متضدادين ،يف الاجتداه الول تضداعف الآلهدة ابإضدافة الآلهدة احملليدة ،والاجتداه الآخدر دین
املرصيون تقريبا من التوحيد ،.أما الباحث (ويدمان) فريى أن ادلاينة املرصية ثالثة عنارص :توحيدد مشيسد أي اهل واحدد
خالقا للعامل تدتجىل قدرتده خصوصدا يف الشدمس وأآاثرهدا –عقيددة جتديدد قدوى الطبيعدة وتعدرب عدن نفسدها يف عبدادة أآلهدة
التناسل والهات اخلصب ،ومن طائفة من احليواانت وخمتلدف ألوهيدات النبدات -تصدوروا ألوهيدة يف هيئدة برشدية تكدون
حياهتا يف ادلنيا والآخرة منوذجا حلياة الإنسان املثالية
وعددرب الكثددري مدن علددامء املرصددايت الفرنسد يني ومددهنم (اإميانويددل دى روجيدده) (1811-1872م) و(جدداك
جوزيف شامبليون) (1778-1867م) و(أوجست مارييت) (1821-1881م) عدن أشداكل خمتلفدة مدن
الرأي القائل بأن ادلاينة املرصية بدأت يف الصل كتوحيد وأن هذا التوحيد مل يقض عليه قط حىت وان جرى التعبري عدن
ادلاينة املرصية من اخلارج عىل أهنا تعددية .وبدأ (جا س تون ماس بريو) (1846-1916م) ابلعتقداد بدأن التوحيدد
املرصي اكن تطورا مدن التعدديدة ،قبدل أن ينهتدي بتشددد اإىل أن ادلايندة املرصدية اكندت عدىل وجده ادلقدة مدا وصدفته بده
نصوصها ،وهو أهنا تعددية وأهنا اإذا ما وصلت اإىل مفهوم املعبود الواحد فان هذا املعبود مل يكن غيورا أو مانعدا لغدريه مدن
الانضامم اإليه واين لذهب اإىل أن تكون ادلاينة املرصية مبا تقوهل ذاهتا ،من أهنا تعدية بلك تناقضداهتا ،وتكرارهدا ،وتعالميهدا
اليت تبدو للعيون العرصية ،غري لئقة أحياان ،واما قاس ية أو خسيفة(
إ
وأحددع علددامء مرصددايت فرنس د يون أآخددرون مثددل (أبيدده ايتيددان دريوتددون) ( ABBE ETIENNE
1961-1889( )DRITONم) يف أواخر الربعينات مفهوم التوحيد يف مرصد القدميدة اذلي يعدود اإىل عرصد
ادلوةل القدميدة يف سد نة 1879كتدب (بدول بيدري) يف كتابده (مددخل اإىل امليتوجليدا املرصدية) مقداةل يف عدمل السداطري
املرصية يف الفصل الول بعنوان (عقيدة التوحيد املرصية) حيث تبدو ادلاينة املرصية متعددة الآلهة ،ولكهنا اكنت توحيدية
ابلرضورة ول ميكن أن تكون غري ذكل ،لن الإهل واحد وإال فال وجود هل ،فالإميان بأآلهة كثرية هو اإناكر لد إالهل مدا مل ينظدر
اإلهيا ابعتبارها رمزية رصفة ،فهي أدوار أو وظائف ل إالهل العىل املفرد اخلف اذلي حتوى هل النصوص املرصدية العديدد مدن
الصفات التوحيدية الواحضة ،ويرى (فرانسوا جوزيف شااين) أيضا أن الآلهة املتعددة يه جمرد مظاهر ل إالهل الواحد
20
ومن الطبيع أن ممارسة اخزتال أآلهة يف اهل واحد اكنت جزء من لهوت الإهل الرئييسد ،وهبدذه الطريقدة تعايشدت
أآلهة عىل قدر كبري من القوة ،وقد انترش جتميع الآلهدة يف ثنائيدات وثواليدث وتواسد يع وحتويدل الآلهدة الخدرى الديت جدرى
جتميعها اإىل أوجه ل إالهل الرئييس ،أي أن الهدني أو ثالثدة أآلهدة أو أكدرث ميكدن اخدزتاهلم اإىل واحدد يف لهدوت الإهل الرئييسد
القدمي.ويرى (واليس بدج) أن المم املبكرة اليت احتكت ابملرصيني قد أساءت بوجه عام فهم طبيعة هدذه الاكئندات ،وقدد
فعل اليشء نفسه عدة كتاب غربيني حمدثني ،وحني نتفحص هذه الآلهة عن كثب فاإهنا ل تبدو من حيث يه يشء أكدرث
من صورة أو جتليات أو جنبات أو صفات لإهل واحدد ،ذكل الإهل اذلي هدو (رع) اهل الشدمس ،وهدو كدام نتدذكر مدن اكن
منط هللا ورمزه
فالتوحيد املرصي هو توحيد مشيس ل جدال يف ذكل ،فقدد ظلدت الشدمس مصددر التوحيدد الرئييسد يف ادليدن
املرصي ،حيث نلمح الإهل الشمس عرب اكمل املدارس الالهوتية يف (أون) أو (مندف) أو (طيبدة) وهدو ينبثدق عدرب عددة
أسامء (رع ،بتاح ،أآمون) ولكنه يف حقيقة المر يعرب عن الإهل الشمس وعن الشمس ذاهتا وجتلياهتا اخملتلفة ،بل أن هناك
نصا ميدح هؤلء الآلهة الثالث يف خشص الإهل (أآمون) ،فيدمج به الإلهني ( رع) و(بتاح) ،ويصف الاكئن الواحدد اجلديدد
اذلي امسه (أآمون) بأن رأسه هو (رع) وجسمه هو (بتاح)( ولدو أن هدذا الاجتداه اكن قدد نفدذ متامدا لدى اإىل حمدو تعددد
الآلهة ،وهناك يف الواقع أدةل تثبت أهنم اجتهوا هذا الاجتاه ،مفثال تردد يف أانش يد الشدمس توسدالت اإىل اخللديط الإلهدي
املكون من (أآمون) و( رع) و(حر أخيت) و(أآتوم) ابعتباره اإلها واحدا.ومع ذكل فان وجود املعابد اخملتلفة يثبت أن هذه مل
تكن اإل أقاويل شعرية جوفاء ،فطاملا اكن (أآمون) و(رع) و(حورس) مازالت هلم معابدمه اخلاصة الغنية وكهنهتم اخلاصدني
هبم ،فان اندماج هذه الآلهة يف وحدة حقيقة واحدة ل ميكن أن يكون متاما ابلرمغ من هذه العبارات امجليةل الطنانة
وقد تنافس كهنة هذه املدارس عىل الصدارة والسلطة الاكمةل الديت اكندت لالهدوت يف تدكل املعدارك ،فقدد اكندت
تكل املدارس تسعى لتنظمي سلطة اإهلها احمليل التوحيدي املرشب لفرض هذا الإهل ابعتباره اإلها رئيس يا يف اثلدوث حمديل أو
إاقلمي ،ولستيعاب أكرب عدد ممكن من الآلهة الخرى ابعتبارها أوهجا لهلهم الرئييس ،واخرتع الكثري مهنا اتسدوعا هل أآلهتده
ولهوته وأسطورة اخللق اخلاصة به ،وادعى أن تكل يه القدم يف مرص ،ويف مرحةل أخرية سعى لك مهنا اإىل فرض اإلهده
الرئييس ابعتباره الإهل املليك والرئييس ملرص
ولو أن هذه ادلعوة أو تكل مل ترصف القوم عن بقية أرابهبم الخدرى بقددر مدا دفعدهتم اإىل تربيدر امجلدع بيدهنم وبدني
القول ابخلالق الواحد والس يد الفرد ،فوصف أتباع عني مشس ذكل الرب "بأنه يرشف عىل الرابب وما مدن رب يرشدف
عليه" وقدم أهل (منف) تربير ذكل يف قوهلم بأن الإهل اخلالق هو اذلي خلدق بقيدة املعبدودات مدن نفسده وأمدر بعبدادهتم،
وقال قائلهم يف ذكل "خلق هللا الكرب الرابب وأقاهمم عىل مقدساهتم وقدر هلم مقدراهتم وش يد هلدم املدزارات وشدلك هلدم
أبداننا تقر قلوهبم هبا فتلبس الرابب أبداهنم اليت قدرها هلم من لك أنواع اخلشب ومن لك جحر كرمي ،ومدن الطمد ومدن
لك ما يمنو عىل سطح الرض ويس تقرون فيه ،وتبعا ذلكل فاإمنا حيتسب عىل الإهل (الكرب وحده) بقيدة الرابب وأرواهحدم
مجيعاهناك نص يذكره (فرانكفورت) خياطب فيه الشخص اإلهه اذلي يتدألف مدن (أآمدون ،رع ،أآتدوم) (حدرأخيت) أي أنده
21
يتألف من الإهل الشمس والإهل العىل وا إلهل احملديل لكهدم جممتعدني يف اهل واحدد ،مث يسد متر الدنص فيحلدل هدذا الاكئدن اإىل
أوهجه العديدة( ،أآمون ورع وأآتوم وحورس وحر أخيت ،ويعادهل أيضا خريي وشو والقمر والنيل ،ويتساءل فرانكفورت،
هل هذا توحيد أم ل وهناك صفة أخرى يمتزي هبا الإهل املوحد ،ويه أنه خالق ،فهدو خيلدق الآلهدة والنداس ،واملالحدظ أن
الإهل الواحد خيلق الآلهدة ،أي أنده يمتدزي عدهنم يف ادلرجدة والندوع ،وحدىت الإهل املدايئ (خندوم) الفخداري اذلي يصدنع الآلهدة
والناس عىل دولبه اخلزيف اكن اإلها خالقا ،وليك تكمتل صورته التوحيدية املرصية أعط مسحة مشس ية
وظهرت بوادر الإميان بوحددة الربوبيدة مندذ أن اجتده أهدل العقائدد فدامي بدني أواخدر ادلوةل القدميدة وبدني أوائدل ادلوةل
الوسطى اإىل اإهل الشمس ابعتباره اإهل خالقا وإالها أكرب يف أآن واحد ،مث اجتهوا اإليه بأرابهبم القدمية ووصلوا بيهنم وبينده وجعلدوا
امسه قاسام مشرتاك مع أسامهئم ولكن دون أن حياولوا اإفناهئم فيه ،فأطلقوا علهيم أسامء (سدوبك-رع ،وأآمدون رع ،وحتدور رع،
وبتاح رع).وبذكل أصبحت هذه الآلهة صورا من الإهل الكرب (رع) ،وهذا معناه اعتبار الإلوهية اليت جتمدع هدذه الآلهدة لكهدا
اإمنا يه من جوهر واحد مركزه (رع) ،ولكن ذكل الاحتداد اجلدوهري مل يفقدد لك اإهل كيانده اذلار عدىل الرض يف نظدر أتبداع
هذه الإلهة ،اإذ ظلت الآلهة تعبد يف حماربهيا ا إلقلميية بصفهتا احمللية ،وذكل ل شدك بددافع قدوة التقاليدد مدن انحيدة ،مث بددافع
التعصب الس يايس من انحية أخرى حىت ل يفتقد كهنة لك اإهل ما يمتتع به اإهلهم ن النفوذ وإاقبال الناس عليده ومدا يددره ذكل
علهيم من ألوان الرزق ومظاهر السلطان
22
عقيدة البعث واخللود العقيدة اجلنازية
رأينا من دراستنا للنظام الس يايس والإداري يف مرص كيف أدت ظروف البيئة الطبيعية يف مرص اإىل غلبة طابع
املركزية عىل النظام الس يايس ،وكيف أن امللكية املرصية اس متدت سلطهتا عىل البالد من دواع الس يطرة عىل عوامل
هذه البيئة و تطويعها و كيف نشأ تبعا ذلكل نظام امللكية املؤلهة.
ورأينا كيف أن هذه السلطة املطلقة تعرضت لتطورات جذرية نتيجة تطور عالقة امللكية ابلرعية و كيف متخض
ذكل عن نتاجئ اجامتعية ذات تأثري كبري اإذ سادت فكرة أن املكل هو الراع الصاحل لشعبه واملس ئول عن حتقيق العدل
والرخاء للرعية ،وس يطرت هذه الفكرة حىت بعد أن عادت للملكية قوهتا وجربوهتا يف عرص ادلوةل احلديثة .ومن انحية
أخرى رأينا كيف انعكست هذه الفكرة أيضا عىل اجلهاز احلكويم فنادت برضورة وجود موظفني عدول يتصفون ابلزناهة
والمانة ليكونوا أداة احلامك الصاحل يف حتقيق ما ينشده الإنسان املرصي من عداةل ومساواة ورخاء.
وسوف نرى من دراستنا لتطور عقيدة البحث واخللود أن هذه العقيدة ،شأهنا شأن النظام الس يايس ،نشأت بتأثري
عوامل البيئة الطبيعية أيضا ،وأهنا تطورت نتيجة لنفس التطورات الاجامتعية اليت حدثت للنظام الس يايس وانهتت اإىل
نتاجئ مشاهبة للنتاجئ اليت انهتيى اإلهيا النظام الس يايس مع فارق أسايس بطبيعة احلال ،هو أن النظام الس يايس أو الإداري
انهتي اإىل نتاجئ دنيوية ،بيهنا انهتي تطور عقائد البعث واخللود اإىل نتاجئ دينية أخروية .غري أن النتاجئ اليت انهتت اإلهيا
عقائد البعث واخللود تنفرد بظاهرة فريدة ،يه أن أثرها مل يقترص عىل مرص وحدها ،بل امتد اإىل الإنسانية لكها ،فقد
اكنت بداية فكرة الثواب والعقاب وحماس بة الإنسان يف الآخرة عىل ما قدم يف دنياه من خ ير أو رش ،ويه الفكرة اليت
ارتقت هبا الداين الساموية فامي بعد و برشت هبا الناس اكفة.
أثر عوامل البيئة الطبيعية املرصية يف نشأة عقيدة البعث واخللود :
نشأت عقيدة البعث واخللود يف مرص ،شأهنا شأن كثري من مظاهر احلضارة املرصية ،بتأثري عوامل البيئة الطبيعية.
فقد رأى املرصي الول الشمس ترشق يف الصباح وختتف يف املساء ،ولكهنا ل تاكد تغرب حىت تعود اإىل الرشوق يف
صباح اليوم التايل .ورأى النيل يفيض مث يغيض ،مث يعود ليفيض مرة أخرى يف العام التايل .ورأى النبات يمنو ويذبل مث
يعود للمنو يف املومس التايل .وهكذا اكنت مظاهر الطبيعة تويح ملن يتأمل فهيا ابحلياة واملوت مث اب حلياة مرة اخرى أي مبا
يش به البعث.
23
واحلقيقة اليت جيب أن يالحظها لك دارس للحضارة املرصية ،يه أن هذه الظواهر الطبيعية مل تكن يف حد ذاهتا الباعث
اذلي أهلم املرصي بعقيدة البعث ،لن الشمس والهنار والنبات ظواهر طبيعية مشرتكة بني مرص وسائر بالد العامل ،ومل
يصل ساكن هذه البالد اإىل الاعتقاد يف عقيدة البعث واخللود بنفس القوة والعمق كام اكن احلال يف مجمر الفرعونية .ولكن
الباعث عىل ذكل الاعتقاد العميق يف البعث واخللود يف مرص ،اكن الظروف اخلاصة بظواهر الطبيعة املرصية ،وما مزي
هذه الظواهر من التوافق والاتساق ،مما يظهرها أمام املرصي الول كمنا تتضافر التحقيق هدف واحد هو خريه ورخائه،
وتتاكمل مع بعضها يف اجتاه واحد هو توكيد الإحياء هل بعقيدة البعث واخللود.
حقيقة أن هنر النيل يفيض ويفيض شأنه شأن كثري من أهنار العامل ،ولكن فيضان النيل يف مرص يمتزي بظواهر
خاصة ،مث بتوافق فيضه وغيضه مع الظواهر الطبيعية الخرى .والظواهر اخلاصة اليت يمتزي هبا فيضان النيل يف مرص
تمتثل يف انتظام مواعيده وتدرج ارتقاءه واخنفاضه .فالفيضان يف مرص يبدأ يف مواعيد منتظمة ميكن التنبؤ هبا قبل حدوثه
بوقت اكف والاس تعداد لتاليف أخطاره ،ول حيدث جفأة كام هو الشأن يف فيضان أهنار العراق اليت يتكون فيضاهنا من
ذوابن الثلوج فوق جبال الانضول وأرمينية .فضال عن أن يعد منابع هنر النيل عن مرص يقلل اإىل حد كبري من اندفاع
املياه ومدامههتا للرايض ،كام يقلل من تذبذب مكيات املياه اليت جيلهبا الفيضان بني عام وأآخر .وهو يف الوقت نفسه
يؤدي اإىل التجانس يف رسعة املياه بني خمتلف أجزاء الوادي يف مرص ،فال تزيد رسعة الهنر يف املتوسط عن
14000/1وهذه العوامل لكها جعلت من النيل يف مرص همرة فيضيا ممتازة ،فاملياه ترتفع ببطء وتنخفض بطء ،فال
حيدث اإرساب جفايئ لطم يسدد اجملاري والقنوات ،ول يرتك الفيضان بعد اخنفاضه مياه راكدة تؤدى اإىل ملوحة الرتبة
واضعان خصوبهتا ،وإامنا عىل العكس يرتك طبقة رقيقة من الطم جتدد خصوبة الرض ،و تنرصف املياه الزائدة مرة
أخرى بعد اخنفاض الفيضان .ولهذا مل تعرف مرص الفرعونية مشلكة الرصف.
وإاذا قاران هذه الظروف بظروف ،أهنار أخرى مشاهبة لهنر النيل مثل أهنار العراق ،جند أن هنر دجةل رسيع اجلراين
يف أغلب أجزائه ،دلرجة جعلت جمراه معيقا مما عرقل الاس تفادة من مياهه ،أما هنر الفرات فهو غري متجانس يف رسعته
اإذ أنه رسيع اجلراين يف جمراه العىل دلرجة متكن مياهه من محل مكية من الرواسب تبلغ مخسة أضعاف ما حيمهل هنر
النيل يف مرص ،مث هو بط ء اجلراين يف جمراه الدين فتصل رسعة مياهه اإىل 26000/1أي حوايل نصف رسعة
النيل .وهذا التفاوت الكبري جيعل ارساب الهنر يف جمراه الدين ش به جفای فيرتتب عىل ذكل تكوين جسور عالية عىل
24
جانيب الهنر وابلتايل ارتفاع مس توى اجملري عن مس توى السهل ( ومثال ذكل أن اخلط احلديدي اذلي مير جبوار أطالل
مدينة أور القدمية أكرث اخنفاضا حبوايل س تة أقدام عن قاع جمرى الفرات عند بدلة النارصية اليت تبعد عن أور حبوايل
10أميال).
وقد خلق هذا الارتفاع مشلكة من أمه املشالك اليت تعرقل اس تفادة الإنسان من الهنر ويه مشلكة رصف املياه
الزائدة ،اإذ ترتب عىل ذكل جتمع مياه الري عىل هيئة برك ومستنقعات راكدة جتنهنا الشمس فزتيد ملوحة الرتبة و تضعف
خصوبهتا اإيل حد كبري .وهناك فوارق أساس ية أخرى بني النيل والفرات ،مهنا أن فيضان الفرات ( ودجةل ) ش به جفايئ
بسبب اعامتد هذا الفيضان عىل ذوابن الثلوج اليت تغط مقم اجلبال الواقعة شامل العراق يف هضبة الانضول وارمينية ،مما
جيعهل يتوقف عىل ارتفاع درجة احلرارة اذلي قد يتذبذب تبكريا وتأخريا .يضاف اإىل ذكل عامل أآخر أمه وأقوی هو قرب
منابع الفرات (ودجةل) من جماريه ادلنيا يف العراق مما ل يعط الفرصة للساكن الاس تعداد دلفع غائةل الفيضان فتدامه املياه
الرايض و تفرقها (يف العصور القدمية قبل اإنشاء اجلسور والسدود) ولعل ذكل يفرس لنا ش يوع قصص الطوفان يف
أساطري العراق القدمية.
ومن أمه الفوارق الساس ية بني النيل والفرات وجود توافق بني فيضان النيل و بني موامس الزراعة واحلصاد يف
مرص وخاصة يف ظل نظام ري احلياض ،بيامن ل يوجد مثل هذا التوافق يف العراق ،فالفيضان يف مرص يصل بعد الانهتاء
من حصاد احملاصيل ،وبعد أن تكون الرتبة قد تعرضت لشعة الشمس مدة اكفية لقتل ما هبا من جراثمي .وحيدث ذكل
بسبب توافق اخنفاض النيل مع اش تداد حرارة الشمس ،اإذ يف الوقت اذلي تبلع فيه درجة احلرارة يف مرص أقصاها،
يكون النيل قد اخنفض اإىل أقل حد هل ،فتتعرض الرتبة حلرارة الشمس الصيفية الشديدة فتجففها و حتدث هبا شقوقا تنفذ
فهيا أشعة الشمس اإىل أعامقها و تقيض عىل الطفيليات اليت تضعف من خصوبة الرتبية و ترض ابلنبات .وعندما ترتفع مياه
الفيضان تدرجييا متتىلء هذه الشقوق ابملياه اليت تتغلغل اإىل أعامق الرتبة حامةل الطمى اخملصب ،فتهتيأ الرض بذكل
للزراعة اجلديدة بعد أن تكون قد ختلصت من العنارص اليت ترض النبات و بعد أن تزودت بعنارص اخلصوبة .وهكذا
تتضافر الشمس مع النيل ويتوافقان من أجل خري الإنسان املرصي ورفاهيته.
وإاذا قاران هذه الظروف مبا اكن حيدث يف العراق القدمي ،جند أن أمه فارق بني الفرات والنيل يمتثل يف مواعيد
الفيضان الس نوي .فال ميكن لحد أن يتنبأ ابلضبط مبوعد وصول فيضان الفرات ،لن هذا التنبؤ يعمتد عىل معرفة
25
الحوال املناخية يف املناطق اجلبلية البعيدة يف هضبة الانضول وارمينية (ومل تكن هذه املشلكة سهةل ميرسة ابلنس بة
للعراق القدمي) ،وما تؤدى اإليه من تبكري أو تأخري ذوابن الثلوج .ويأر الفيضان غالبا يف أواخر الربيع أي ما بني بداية
أفريل وبداية جوان ،وحيدث ارتفاع املياه بصورة جفائية ،ول يوجد وقت أسوأ من هذا الوقت من وهجة نظر فالح
العراق ،اإذ تتطلب الحوال املناخية يف العراق غرس النبات اجلديد .بيامن يف شهر أفريل تكون النبااتت اليت س بق
غرسها يف الش تاء يف طريقها اإىل النضج ،فاإذا مغرت احلقول ابملياه يف هذه الفرتة لرتفاع قدم أو قدمني ،فان لك أمل يف
جىن حمصول وفري قد يضيع ،وإاذا انتظر الزراع حىت جفاف الرض من املياه لبذر احملصول اجلديد ،فاإن الوقت س يكون
متأخرا جدا ذلكل .
وقد انعكست هذه الحوال عىل تفكري لك من املرصي والعراق ،وميكننا أن نتبني الفرق بني أثر فيضان الفرات
عىل تفكري العراق ،وبني أثر فيضان النيل عىل تفكري املرصي ،من املقارنة بني أنشودتني اإحداها يف وصف فيضان
الفرات والخرى يف وصف النيل وفيضانه كام يىل :
الفيضان يف العراق:
الفيضان الواثب اذلي ل يقوى عىل مقاومته أحد...
واذلي هيز السامء ويزنل الرجفة ابلرض...
يلف الم وطفلها يف غطاء مربع...
وحيطم ايفع اخلرضة يف حقول القصب...
ويغرق احلصاد اإابن نضجه...
مياه صاعدة تؤمل العني...
طوفان يطغ عىل الضفاف...
فيحصد أخضم الجشار...
عاصفة عاتية متزق لك يشء...
برسعهتا الهوجاء يف فوىض عارمة.
النيل والفيضان يف مرص:
26
عندما يفيض النيل تصبح البالد يف فرحة...
و لك اإنسان يف رسور...
هو ( النيل ) اذلي يأر ابلقوت...
ويكرث الطعام و خيلق لك يشء طيب...
هو اذلي جيعل الجشار تمنو كام يش هتي امجليع...
أنت ( النيل ) تفيض فتسقى احلقول...
ومتد الناس ابلقوة...
هو اذلي يسعد الإنسان و جيعهل حيب أخاه...
هو ل يفرق بني خشص وأآخر...
الواحض من هذين النش يدين أهنام يعكسان ذكل التباين الشديد بني الثر املدمر لفيضان الفرات ،و بني الثر املعمر للنيل
وفيضانه.
واحلقيقة أن فيضان الفرات (ودجةل) مل يكن الظاهرة الطبيعية الوحيدة يف العراق اليت تتصف ابلتدمري والعنف ،بل اإن
عنارص الطبيعة العراقية الخرى تغلب علهيا هذه الصفات ،مثل الرايح والعواصف الشديدة اليت تاكد تقتلع الجشار يف
بعض املوامس ،ومثل المطار العاتية اليت حتول الرض الصلبة اإىل حبر من الطني ،فتعوق حركة السفر والانتقال.
فالطبيعة يف العراق تمتزي ابلبطش والتنافر بني عنارصها .ومن هنا اكن تأثريها عىل العرايق القدمي تأثريا سلبيا ،أي يغلب
عليه جانب الرهبة واخلوف عىل جانب احلب .وانطبع ذكل بوضوح يف أساطري العرايق عن الطوفان ،ويف تصوراته القامئة
عن احلياة بعد املوت ،فهو مل يعرف فكرة البعث ،بل اعتقد أن العامل الآخر ماكن مظمل خميف يتعذب فيه املوىت سواء
مهنم الصاحل أم الطاحل ،و يرتعدون من اخلوف و الربد .وقد جتلت تصورات العرايق هذه يف أسطورة عن العامل الآخر
تعرف بأسطورة أو قصة "اانان -عش تار ودوموزی".
أما السبب يف اإميان املرصي بفكرة البعث واخللود واجلنة يف الآخرة ،فاإنه يرجع اإىل ما اتصفت به عنارص الطبيعة املرصية
-عىل النقيض من الطبيعة العراقية -من التوافق والتاكمل والاتساق ،مما ترك انطباعا دلى املرصي الول بأن عنارص
الطبيعة يف بالده وعىل رأسها الشمس والنيل ،تتضافر لصاحله وخريه ،فاكن تأثريها عليه اإجيابيا أي يغلب فيه جانب
27
احلب والامتنان عىل جانب اخلوف والرهبة ،وانعكس ذكل أيضا عىل الساطري املرصية وخاصة عن أآلهة الكون وعن
نظرة املرصي لنفسه وعالقته هبذه الآلهة.
فمل يكن تأثر املرصي ابلنيل جملرد أنه هنر يفيض وحيمل ملرص اخلري والامنء مع فيضانه الس نوي ،و لكن الظروف اخلاصة
بطبيعة النيل وطبيعة فيضانه اليت تظهر النيل كنه يتاكمل و يتوافق مع الظواهر الطبيعية الخرى ،مع الشمس ومع
أوقات بذر وجىن احملاصيل كام قلنا .وبطبيعة احلال فاإن املرصي مل يدرك احلقائق العلمية بشأن تأثري حرارة الشمس يف
الطفيليات والبكرتاي اليت ترض الرتبة ،ولكنه ل شك لحظ مظاهرها ونتاجئها وأدرك عن طريق حاسة املقارنة أمهيهتا
وقميهتا للرتبة والنبات..
كذكل مل يكن رشوق الشمس وغروهبا يف حد ذاته هو اذلي أهلم املرصی بعقيدة البعث واخللود ،فالشمس ترشق
وتغرب يف سائر بالد العامل ،و لكن اكنت مشس مرص لها تأثري خاص يف املرصي الول بسبب وضوهحا يف سامء مرص
الصحو ،و بسبب التوافق والانسجام بني موامس حرارهتا و بني مظاهر الطبيعة الخرى وعىل رأسها النيل كام يوحض
املثال اذلي ذكرانه .وقد متثل هذا التوافق والانسجام يف ارتباط الشمس والنيل يف ذهن املرصي طوال العصور سواء
يف مظهرها الطبيع أم يف رموزها ادلينية .وانعكس هذا الارتباط منذ أقدم العصور عىل ابتاكر املرصي التقومي
الشميس ،فقد جعل املرصيون من وصول بشائر الفيضان اإىل منف يف منتصف شهر جويلية بداية لتقوميهم اذلي اعمتد
عىل حركة الشمس ل عىل حركة القمر كام اكن الشأن دلى شعوب الرشق الدین القدمي الخرى.
هذا الانسجام والتاكمل والارتباط بني النيل والشمس يف مرص ضاعف من تأثري هاتني الظاهرتني الطبيعيتني عىل
تفكري املرصي ،فأصبحت دورهتا املتشاهبة وما تويح به من بعث وجتدد وخلود حمورا لتأمالته وتفكريه فأهلمته بعقيدة
البعث واخللود.
غري أن هناك عنرصا اثلثا رمبا اكن هل أثر كبري يف توكيد هذه العقيدة يف ذهن املرصي ،وهو الصحراء املرصية املمتدة عىل
جانيب الوادي ،واملعروف أن من طبيعة الصحراء احلارة اجلافة أهنا حتفظ اجلثث من التلف مدة طويةل وخاصة اإذا
طمرت يف الرمال ،أي مل توضع داخل مقربة جموفة .وابلطبع بدأ املرصي الول دفناته هبذه الطريقة قبل أن يتقدم يف
احلضارة ويبىن الغرف يف املقابر .واكن أحياان يلف اجلثث يف حصري ويدفهنا حتت الرمال.
28
ورمبا لفتت هذه الظاهرة انتباه املرصي وأاثرت تفكريه لكام اكن حيفر الرض دلفن جثة جديدة ،اإذ اكنت تطالعه اجلثث
اليت دفهنا هبيئهتا اليت تاكد تكون ش به اكمةل ،فاكنت تثري دهشة ،وتؤكد اعتقاده يف احلياة بعد املوت والبعث واخللود.
ورمبا زاد من تأثري الصحراء ما متزيت به العالقة املاكنية بني الوادي يف مرص كام س بق أن قلنا اإذ تاكد الصحراء تلتصق
ابلرض اخلرضاء ،وهذا القرب رصف املرصي عن ادلفن يف الرض اليت يقمي فهيا أي يف الرض الزراعية وجشعه عىل
ادلفن يف الصحراء مادامت الصحراء قريبة .وابلتايل تكررت كثريا مشاهدات املرصيني لظاهرة حفظ اجلثث يف
الصحاري فتضاعف تأثريها يف أذهاهنم .و ابقرتان هذه املشاهدات مع مشاهداته دلورة النيل والشمس ،أصبحت هذه
العنارص الطبيعية الرئيس ية الثالثة يف البيئة املرصية ،ويه الشمس والنيل والصحراء ،الك متاكمال أهلم املرصي بعقيدته
يف اخللود والبعث واحلياة بعد املوت بل مزهجا بوجدانه.
ولعلنا جند مصداقا ذلكل يف ختيالت املرصي للشمس بوجه خاص ،فهو قد ختيلها يف الصباح الباكر وليدا صغريا ،ويف
املساء رجال مس نا ميسك بعصاه كمنا يسعى اإىل القرب ،ولهذا سامه "أآتوم" مبعىن التام واملنهتي .وهنا نصادف يف تفكري
املرصي نوعا من التشبيه أو املقارنة بني دورة الشمس اليومية وحياة الإنسان ،هذه املقارنة جعلته يتخيل أن الإنسان
سوف يبعث بعد املوت كام تبعث الشمس بعد غروهبا أو موهتا.
ورمبا ل يكون من املصادفات البحتة أن تتسم ختيالت املرصي بطابع واحد للظاهرتني اللتني هلام التأثري الكرب يف حياته،
ويف الإحياء هل بفكرة البعث واخللود ،وهام الشمس والنيل .فقد خص املرصي اإهل الشمس وإاهل النيل من دون املعبودات
الخرى برموز تشري اإىل الصفة الساس ية املشرتكة بيهنام ويه صفة التجدد اذلار .فرمز لهذه الصفة يف الشمس حبرشة
اجلعل (اجلعران) لعتقاده أن هذه احلرشة خنىث ول حتتاج يف تناسلها اإىل الزتاوج شأن الاكئنات احلية الخرى .وقد
جسل املؤرخ ابراترك ذكل الاعتقاد عن املرصيني( .ولو أنه اعتقاد غري حصيح من وهجة نظر العمل احلديث ) .و اكن
املرصي شاهد هذه احلرشة يف الصباح ويه تدفع أماهما كرة الروث اليت حتتوي عىل بيضها ،فربط املرصي بني التجدد
التلقايئ يف هذه احلرشة وبني ظاهرة التجدد اليويم للشمس (ما بني رشوق وغروب مث رشوق يف اليوم التايل) ومثل يف
رسومه كرة الشمس تدفعها هذه احلرشة أماهما كام تدفع كرة الروث ،واعترب اجلعل رمزا للتجدد والبقاء والاس مترار وسامه
"خربی" ي املس متر.
29
و نفس الفكرة أي فكرة اجامتع اذلكورة والنوثة وما ترمز اإليه من جتدد ذار مثلها املرصي يف اإهل النيل .فقد رمس اإهل
النيل عىل شلك رجل خمنث يف وهجه مالمح الرجوةل ،بيامن تبدو يف جسمه عالمات النوثة ،فهو جيمع بني صفيت اذلكورة
والنوثة وهام الصفتان الالزمتان لس مترار احلياة وجتددها فكنه يتجدد من تلقاء نفسه ويه الصفة املمزية للنيل و فيضانه.
هذه الرموز اليت جتسد ظاهرة التجدد التلقايئ يف الشمس و النيل ،و اقتصارها عىل هاتني الظاهرتني فقط ،ل شك
تؤكد ما س بق أن قلناه ،من أن فكرة اخللود اليت أآمن هبا املرصي اإمياان قواي و معيقا قد اس متدها من تأمالته لظاهرر
الشمس والنيل بوجه خاص ،واكن للتوافق والانسجام اذلي يربط هاتني الظاهرتني يف البيئة املرصية ابلإضافة اإىل
العوامل الخرى اخلاصة ابلصحراء الفضل الكرب يف اإلهام املرصيني القدماء بعقيدة البعث واخللود وتوكيدها يف وجداهنم بل
حفرها يف أذهاهنم حفرا ،فمتزيت هذه العقيدة يف مرص عن سائر بالد العامل القدمي بشلك خاص خيتلف عن هذه البالد،
ويمتثل ذكل يف وضوهحا الشديد واس مترارها حىت أآخر عصور احلضارة الفرعونية ،بل ل نبالغ اإذا قلنا أن هذه العقيدة
اكنت احملور الرئييس اذلي اكنت تدور حوهل مجيع مظاهر احلضارة املرصية القدمية.
واذلي يتأمل يف خصائص عقيدة البعث يف مرص الفرعونية ،يالحظ أهنا متزيت بطابع هام هو ماديهتا البحتة .فاملرصيون
تصوروا أن بقاء اجلثة سلمية رشط أسايس لتحقيق البعث املنشود ،ولهذا أنشأوا املقابر الضخمة والتوابيت الصدلة
وحنطوا اجلثة ،وهذا يفرس لنا سبب تكل اخمللفات الوفرية اليت تركهتا احلضارة الفرعونية .وغلبة الطابع املادي عىل عقيدة
البعث املرصية ليس أمرا غريبا يف تكل املراحل املبكرة من التارخي الإنساين ،فان الإنسانية مل تصل اإىل الفاكر اجملردة عن
البعث والنشور أي تؤمن حبدوث البعث ابلروح رمغ فناء اجلسم ،اإل بعد مراحل طويةل من التطور الفكري والرويح،
ولعلنا جند صدى للفاكر املادية عن البعث فامي قابل به املرشكون تعالمي الرسول صىل هللا عليه وسمل بشأن بعث
الإنسان من دهشة واس تغراب جتىل يف تساؤهلم اذلي أورده القرأآن الكرمي كمنا يصدر مهنم بعد موهتم" :اإءان ملردودون يف
احلافرة أاإذا كنا عظاما خنرة" (سورة النازعات الآايت .)11 -10
وهذا يدل عىل أن الفاكر املعنوية اجملردة عن البعث مل يكن من السهل عىل عقول القدماء قبولها ،وأن الفاكر املادية
بشأن هذه العقيدة ظلت مس يطرة عىل التفكري الإنساين حىت بعد انهتاء احلضارة الفرعونية مبا ل يقل عن ألف س نة.
اإن التأثري العميق للشمس والنيل يف نفوس املرصيني قد جاء من توافق واتساق هاتني الظاهرتني وتضافرهام بشلك يوىح
للمرصي أن ذكل من أجل خريه ورخائه .واكن من نتيجة ذكل أن ساد الاعتقاد دلى املرصي الول أن الآلهة اليت متثل
30
هذه الظاهرة الطبيعية يه ابملثل أآلهة خرية يسود بيهنا التعاون والتوافق والاتساق .وقد أكد هنا التأثري توافق مظاهر
الطبيعة الخرى يف مرص .فالسامء ترسل مطهرها وقت احتياج املرصي اإليه أي يف الش تاء عندما ينخفض النيل اإىل
أدین حد هل .والرايح السائدة هتب من الشامل اإىل اجلنوب ،فهي تمكل النقص املاليح اذلي نشأ عن وجود هنر واحد
يتجه تياره اجتاها واحدا من اجلنوب اإىل الشامل ،فتساعد الرايح الشاملية السائدة السفن عىل الإحبار حنو اجلنوب و
بذكل تتاكمل مع تيار الهنر يف تيسري الانتقال شامل وجنواب .والبيئة املرصية ل توجد هبا ظواهر طبيعية مدمرة اكلزلزل
والرباكني و الصواعق والعواصف املدمرة .وإامنا لك مظهر من مظاهر الطبيعة يرتفق بساكن مرص ول يبدو هلم منه اإل
وهجه املرشق وجانبه اخلري.
للك هذه الس باب جند أن املرصي الول نظر اإىل مظاهر الطبيعة يف مرص نظرة تغاير نظرة العرايق ملظاهر الطبيعة يف
بالده ،اإذ اعتقد املرصی أن الآلهة اليت متثلها هذه املظاهر تعمل يف اتساق و توافق كفراد الرسة الواحدة ليك تقدم هل
اخلري والنفع ،فقدس فهيا عطاء اخلري والنفع ،وسعى لن يس تجلب هذا اخلري والنفع لنفسه ابلتقرب اإىل هذه الآلهة.
31