You are on page 1of 343

A LEGAL-JURISTIC INVESTIGATION OF ISLAMIC

POLITICS AND THE LAW OF GOVERNANCE IN THE


LIGHT OF SHARI᷾ AH OBJECTIVES AND ISLAMIC
JURISPRUDENCE

by

Ashraf Mohamed Aly Ghazy

Submitted in accordance with the requirements for the degree of

DOCTOR OF LITERATURE AND PHILOSOPHY

In the subject of

ISLAMIC STUDIES

at the

University of South Africa

PROMOTER: PROF Y DADOO

NOVEMBER 2016
1
‫دراسة أصولية فقهية‬

‫فى‬

‫الفقه السياسى ونظام الحكم فى ضوء قواعد الشريعة وأصول الفقه‬

‫مقدمة من الباحث‬
‫أشرف محمد علي غازي‬

‫ومقدمة وفقا لمتطلبات نيل‬

‫درجة الدكتوراه‬

‫في الدراسات اإلسالمية‬

‫في‬

‫جامعة يونيسا ‪ -‬جنوب أفريقيا‬

‫المشرف‪ :‬الفاضل العالمة البروفيسير يوسف دادو‬

‫نوفمبر ‪2016‬‬

‫‪2‬‬
‫خطة البحث ونظريته‬

‫ومنهجيته‬
‫‪ :‬دوافع البحث ‪1-‬‬
‫بيان أن السياسة الشرعية أو الفقه السياسي احتل ركنا أصيال في مقاصد الشريعة وأصول الفقه ‪1-‬‬
‫وليس بدعة معاصرة ال دخل لإلسالم فيها‬
‫دحض آراء العلمانية في فصل الدين عن الدولة ‪2-‬‬
‫دحض فكرة أن السياسة أمر نجس ال أخالق له وال ينبغي للدين المقدس أن يشارك فيها ‪3-‬‬
‫تقديم رؤية شرعية متوازنة تجمع بين مقاصد الشريعة وأصول‪ /‬الفقه وبين تطور أنظمة الحكم ‪4-‬‬
‫الحديثة في قالب إسالمي معاصر ومتوازن ال يتنكر لألصول والمقاصد ويأخذ بالجديد المناسب‬
‫بيان شمول الشريعة ومعالجتها‪ /‬لكل مناحي الحياة حاضرها ومستقبلها ‪5-‬‬

‫‪:‬أهداف البحث ‪2-‬‬


‫الوقوف‪ /‬على خصائص الشريعة اإلسالمية وما تتميز به من مرونة وواقعية ‪1-‬‬

‫تسليط الضوء على بعض من مقاصد الشريعة وأصول‪ /‬الفقه ‪2-‬‬


‫معرفة صفات وخصائص الحكم اإلسالمي الرشيد‪3- /‬‬

‫الوقوف‪ /‬على مقاصد وغايات الفقه السياسي وأهمية دراسته ‪4-‬‬

‫بيان موقف الشريعة من التعددية السياسية واألحزاب‪5- /‬‬


‫الوقوف‪ /‬على البيعة الشرعية ودورها في تنصيب الحاكم ودراسة األنماط الحديثة والشبيهة لها ‪6-‬‬
‫بيان موقف اإلسالم من مشاركة المرأة فى صناعة المستقبل السياسي‪ /‬لألمة ‪7-‬‬
‫الوقوف‪ /‬على قيمة الحرية ودورها‪ /‬في تأهيل وإعداد األجيال الختيار من يقودها ‪8-‬‬
‫معرفة دور‪ /‬الحوار الجاد في بناء الفكر المجتمعي وتال قح آرائه للوصول إلى الصيغ المثلى ‪9-‬‬
‫إلدارة مؤسسات المجتمع‬
‫بيان نظرة اإلسالم إلى الدولة الدينية والمدنية ‪10-‬‬

‫‪3‬‬
‫‪:‬سؤال البحث ‪3-‬‬
‫يدور هذا البحث حول سؤال هام و محوري‪ /‬وهو‬

‫كيف نستطيع تقديم رؤية شرعية متوازنة تجمع بين مقاصد الشريعة وأصول الفقه وبين‬
‫تطور أنظمة الحكم الحديثة في قالب إسالمي معاصر ومتوازن ال يتنكر لألصول والمقاصد‬
‫ويأخذ بالجديد المناسب؟‬

‫كل ذلك نحاول اإلجابة عليه من خالل دراسة أصولية فقهية متأنية آليات القرآن والسنة المطهرة وآراء‬
‫السلف الصالح من العلماء والفقهاء وكذلك‪ /‬المعاصرين منهم في ضوء مقاصد الشريعة وأصول الفقه‬
‫اإلسالمي‬
‫وكذلك نحاول استنباط أوجه الشبه والقياس بين المصطلحات‪ /‬القديمة والمصطلحات الحديثة وإحداث نوع‬
‫من التوافق والتناسق‪ /‬في ظالل فقه المقاصد بعيدا عن السطحية واللفظية والهشاشة الفكرية من خالل‬
‫قراءة عميقة لواقع أمتنا ومستجدات األحداث من حولنا‬

‫‪:‬منهجية البحث ‪4-‬‬


‫يعتمد البحث في منهجيته على انه بحث نظري ‪1-‬‬
‫يتقصى ويتحرى آراء العلماء والفقهاء والمجتهدين القدامى والمعاصرين ويحاول الترجيح بين آرائهم بما‬
‫يناسب الواقع ومقتضى‪ /‬الحال والعصر في ظل فقه المقاصد واألصول الشرعية المعمول بها ديانة‬
‫وقضاء‬
‫كذلك يعتمد البحث في منهجيته على أنه بحث تحليلي ‪2-‬‬
‫يحلل ما طرأ على المسلمين من أحداث عبر أزمنة التاريخ اإلسالمي سواء أكانت سلبية أو ايجابية‬
‫وكيف نجحوا مرات وأخفقوا أخريات في تطبيق‪ /‬أنموذج الحكم اإلسالمي الرشيد وكيف كانت أفكارهم‪/‬‬
‫وممارستهم ومدى ثبوتها‪ /‬وتغيرها وبعدها وقربها من األصول والمقاصد الشرعية‬

‫‪4‬‬
‫كذلك يهتم هذا البحث في منهجه بالكيف والنوعية المؤثرة ال بالكثرة والكمية الفارغة التي ال فائدة ‪3-‬‬
‫فيها وال طائل من ورائها‬

‫‪:‬نظرية البحث ‪5-‬‬


‫يعتمد البحث على المنهجية التاريخية فالمنهج التاريخي يساعد الباحث عل تقصى ومعرفة أهم اآلثار‬
‫واألحداث التاريخية التي كانت سائدة وكذلك يعتمد على النظرية السياسية فالسياسة الشرعية والفقه‬
‫السياسي ونظام‪ /‬الحكم له جذر وأصل ورافد‪ /‬كبير من هذه النظرية بل هو من أهم مكوناتها‬

‫‪:‬أهمية البحث ‪6-‬‬


‫تكمن أهمية البحث في كونه يعالج قضية هامة وخطيرة تعد من أجل قضايا‪ /‬األمة في واقعنا‪ /‬المعاصر‬
‫فالفقه السياسي‪ /‬ونظام الحكم والسياسة الشرعية ترسم المالمح الدقيقة والعالقة الوثيقة بين الحاكم‬
‫والمحكوم‪ /‬وعلى قواعده تستقر أعمدة النظم السياسية واالقتصادية واالجتماعية في الدولة اإلسالمية‬
‫حيث الحقوق والواجبات التي تجمع الرعية شعوبا‪ /‬وحكاما في مناخ من الحرية واإليجابية والثقة‬
‫المتبادلة والشعور بالمسئولية الفردية والجماعية نحو هذه األمة الواحدة لنحقق جميعا أفرادا وحكاما تقرير‬
‫القرآن الكريم‪ ( /‬وان هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون ) األنبياء آية‪92‬‬

‫‪ :‬المستفيد من البحث‪7-‬‬
‫الفرد (أيا كان عمله ومهنته )‬ ‫‪-1‬‬
‫األسرة‬ ‫‪-2‬‬
‫الساسة والحكام‬ ‫‪-3‬‬
‫المجتمع‬ ‫‪-4‬‬

‫محتويات البحث ‪8-‬‬

‫أوال حقول نبحثها بالتفصيل‬

‫الشريعة أهميتها وخصائصها ‪1-‬‬

‫تعريف علم مقاصد الشريعة وعلم أصول الفقه ‪2-‬‬

‫علم المقاصد وعلم األصول‪ -‬مراحل النشأة والتطور‪ /‬واإلثبات ‪3-‬‬

‫‪5‬‬
‫‪ -4‬أقسام مقاصد الشريعة وخصائصها‬

‫‪ -5‬ضوابط& المقاصد وتوازنها& مع المصالح الشرعية‬

‫مقاصد وغايات الفقه السياسي& وأهمية دراسته ‪6-‬‬

‫نظام الحكم في اإلسالم أهميته ودعائمه‪7-‬‬

‫نظام الحكم بين الدولة الدينية والمدنية ‪8-‬‬

‫‪ -9‬أهل الحل والعقد صفاتهم – واجباتهم‪ -‬شروطهم&‬

‫‪ -10‬البيعة الشرعية مفهومها – صورها وأنماطها القديمة والحديثه ‪ -‬شروط صحتها –‬


‫واجبات مترتبة عليها‬

‫‪ -11‬التعددية السياسية واألحزاب في التصور& اإلسالمي‬

‫‪ -12‬المرأة ودورها في المشاركة السياسية‬

‫‪ -13‬الحرية ودورها في ترسيخ أعمدة الحكم الرشيد‬

‫‪ -14‬الحوار ودوره في صياغة الحكم الرشيد‬

‫‪ -15‬أهل الذمة فى الدولة اإلسالمية‬

‫ثانيا ‪:‬حقول نرجئ دراستها بالتفصيل إلى دراسات أخرى‬

‫المعارضة ودورها& في أنظمة الحكم ‪1-‬‬


‫المعهادات الدولية ومكانتها فى الدولة اإلسالمية ‪2-‬‬
‫العالقات الدولية واإلنفتاح على اإلنسانية وبناء جسور التواصل الحضارى فى ضوء رسالة اإلسالم ‪3-‬‬
‫العالمية‬
‫معامالت السلم والحرب فى الدولة اإلسالمية ‪4-‬‬

‫مراجع ودراسات سابقة ‪9-‬‬

‫‪6‬‬
‫‪ -1‬الموافقات في أصول الشريعة ‪ -‬أبو إسحاق الشاطبي ‪ -‬دار الكتب العلمية ‪1991-‬م‬

‫مقاصد الشريعة اإلسالمية ‪ -‬الطاهر ابن عاشور‪ -‬دار النفائس بيروت الطبعة األولى ‪2 1999‬‬
‫تفسير التحرير والتنوير ‪ -‬الطاهر ابن عاشور‪ -‬دار النفائس بيروت‪ /‬الطبعة األولى ‪3- 1999‬‬
‫إعالم الموقعين عن رب العالمين – ابن القيم الجوزية – دار الكتب العلمية‪2004 -‬م ‪4-‬‬

‫السياسة الشرعية في إصالح الراعي والرعية – ابن تيمية ‪ -‬دار اآلفاق الجديدة بيروت‪-‬ط‪.‬األولى ‪5--‬‬
‫‪1983‬م‬

‫‪ -‬الدكتور‪ /‬يوسف القرضاوى‪ -‬دار الشروق‪ -.‬بيروت‪ --‬الطبعة األولي‪6- -‬‬ ‫الدين والسياسة‬
‫‪2007‬م‬

‫صحيح البخاري ‪ -‬اإلمام البخاري ‪ -‬المكتبة اإلسالمية مصر الطبعة االولى ‪ 1426‬هـ‪7-‬‬

‫صحيح مسلم ‪ -‬اإلمام مسلم ‪ -‬دار إحياء التراث العربي‪ ،‬بيروت‪ ،‬الطبعة الثانية ‪ 1972 -‬م ‪8‬‬

‫مجموع الفتاوى ‪ -‬بن تيمية‪ -‬مجمع الملك فهد‪ .‬سنة النشر‪1416 :‬هـ‪1995/‬م‪9-‬‬

‫بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع ‪ -‬الكاساني‪-‬دار الكتاب العربي ‪ -‬بيروت ‪ ،1982 -‬الطبعة‪10- :‬‬
‫الثانية‬

‫مختصر تفسير ابن كثير‪-‬محمد على الصابوني‪ -‬دار القرآن الكريم ‪ /‬الطبعة الرابعة ‪ /‬بيروت ‪11- /‬‬
‫‪1401‬هـ‬

‫قواعد األحكام في إصالح األنام ‪-‬العز ابن عبد السالم ‪ -‬دار القلم‪-‬دمشق‪2000 :‬م ‪12-‬‬

‫أدب الدنيا والدين –الماوردي ‪ -‬دار الكتب العلمية الطبعة األولى ‪ 1407‬هـ ‪13-‬‬
‫‪7‬‬
‫تفسير القرطبي ‪ -‬أبوعبد اهلل القرطبي ‪ -‬دار ابن كثير‪ ،‬دمشق‪ -‬بيروت‪ ،‬الطبعة األولى‪1986 ،‬م ‪14-‬‬

‫الفقه السياسي الدستوري في اإلسالم –الوحيدى ‪ -‬الطبعة األولى‪ 1988 ،‬م‪ ،‬مطابع الهيئة الخيرية ‪15-‬‬

‫تاريخ المذاهب اإلسالمية ‪-‬محمد أبو زهرة – دار الفكر العربى – الطبعة األولى – بيروت ‪16-‬‬

‫فتح الباري بشرح صحيح البخارى – ابن حجر العسقالنى – دار الفكر – بيروت – ‪2000‬م ‪17-‬‬

‫نيل األوطار من اسرار منتقى االخبار ‪-‬الشوكانى ‪ -‬المطبعة األميرية بوالق مصر سنة ‪18- 1297‬‬

‫الملل والنحل –الشهرستانى‪-‬دار الكتب العلمية‪ -‬طبعة أولى‪19‬‬

‫إسالم بال مذاهب ‪ -‬مصطفى الشكعه ‪ -‬دار الكتاب المصري ‪-‬الطبعة األولى ‪20- 1979‬‬

‫نبذة عن بعض المؤلفات ونقدها ‪10-‬‬

‫‪ 7‬مؤلفه‪ :‬ابن عاشور ‪1-‬‬


‫‪ ‬تفسير التحرير والتنوير‬

‫‪:‬نبذة عن الكتاب وميزاته‬

‫‪ ‬‬
‫لعل أبرز معالم تفسير الشيخ ابن عاشور رحمه هللا غوصه في المباحث اللغوية‪ ،‬واستخراجه الدرر‬
‫النفيسة التي حملتها اآليات‪ ،‬وما جاءت به من دقائق ولطائف‪ /‬بيانية‪ ،‬ونثره إياها في جنبات تفسيره‪ ،‬لينعم‬
‫بالنظر إليها كل حاذق خبير‪ ،‬وكل متدبر‪ /‬يبحث عن حسن التصوير‪/‬‬

‫‪8‬‬
‫‪:‬لقد ق ّدم ابن عاشور لتفسيره بمقدمات عشر ذات صلة بالتفسير وعلوم القرآن‪ ،‬وهي‬
‫‪.‬المقدمة األولى‪ :‬في التفسير والتأويل‬
‫‪.‬المقدمة الثانية‪ :‬في استمداد علم التفسير‬
‫‪.‬المقدمة الثالثة‪ :‬في صحة التفسير بغير المأثور‪ ،‬ومعنى التفسير بالرأي‬
‫‪.‬المقدمة الرابعة‪ :‬غرض المفسر‬
‫‪.‬المقدمة الخامسة‪ :‬أسباب النزول‬
‫‪.‬المقدمة السادسة‪ :‬في القراءات‬
‫‪.‬المقدمة السابعة‪ :‬القصص القرآني‬
‫‪.‬المقدمة الثامنة‪ :‬ما يتعلق باسم القرآن وآياته‬
‫‪.‬المقدمة التاسعة‪ :‬المعاني التي تتحملها جمل القرآن‬
‫‪.‬المقدمة العاشرة‪ :‬في إعجاز القرآن‬

‫وبعد هذه المقدمات بدأ بتفسير اآليات القرآنية في سورها مرتبة حسب ترتيب المصحف‪ ،‬ونجده يقدم‬
‫للسورة بمقدمة يذكر فيها أسماء السورة ـ إنْ كان لها أكثر من اسم ـ‪ ،‬ووجه تسميتها‪ ،‬ثم يذكر آراء‬
‫العلماء في مكية السورة ومدنيتها‪ ،‬ورقمها‪ /‬في ترتيب النزول‪ ،‬ويستشهد في ذلك كله باآلثار والروايات‪ /‬ـ‬
‫‪.‬إنْ وجد ـ‪ ،‬ويأتي باختالف العلماء في عدد آيها‬

‫وبعد هذا يعرض أغراض السورة والموضوعات التي تحدثت عنها السورة على شكل نقاط‪ ،‬ثم يبدأ‬
‫‪.‬بتفسير اآليات‬
‫وأول ما يبدأ به هو بيان مناسبة اآلية للسياق‪ ،‬ونلمح من هذا حرصه على إظهار الصالت والروابط بين‬
‫‪.‬اآليات الكريمة‪ ،‬وإبرازها‪ /‬كنسيج واحد‬

‫ونراه يهتم بالقراءات اهتماما ً ملحوظاً‪ ،‬فهو يذكر القراءات‪ ،‬وينسبها‪ /‬إلى أصحابها‪ ،‬ثم يوجهها‪ ،‬فيذكر‪ /‬ما‬
‫معان‪ ،‬مع عدم ترجيحه بين القراءات المتواترة‬
‫ٍ‬ ‫‪.‬تحتمله من‬

‫وال يكتفي ـ رحمه هللا ـ بنقل اآلثار‪ ،‬ولكنه بناقش ما كان قابالً للنقاش‪ ،‬كأن يختلف الصحابة أو التابعين‬
‫في مسألة من المسائل‪ ،‬فينقل اختالفهم‪ ،‬ويرجّ ح ما يراه صحيحا ً باألدلة‪ ،‬و َي ْك ُث ُر هذا في تفسيره آليات‬

‫‪.‬األحكام‬

‫‪9‬‬
‫ويمكننا أن نتبيّن مصادره التي اعتمد عليها بكثرة في التفسير‪ ،‬وهي‪ :‬تفسير الطبري‪ ،‬وتفسير‬
‫‪.‬الزمخشري‪ ،‬وابن عطية‪ ،‬والرازي‪ ،‬والقرطبي‪ ،‬والبيضاوي‪ ،‬وأبي السعود‪ ،‬واأللوسي‪/‬‬

‫وأهم هذه التفاسير بالنسبة له كان تفسير الزمخشري (الكشاف)‪ ،‬فقد نقل عنه كثيراً‪ ،‬ولعل السبب في هذا‬
‫يعود إلى اهتمام ابن عاشور بإبراز‪ /‬الجانب البالغي في اآليات‪ ،‬ومعلوم أن تفسير الكشاف‪ /‬من أبرز‬
‫‪.‬التفاسير التي اعتنت بهذا الجانب‬

‫إال أن ابن عاشور لم يكن يوافق‪ /‬الزمخشري على آرائه جميعها‪ ،‬فهو يناقشه ويرد بعض أقواله‪ ،‬وال‬
‫‪.‬تنحصر مصادر‪ /‬ابن عاشور في هذه المذكورة‪ ،‬فهو يستعين بغيرها كذلك‪ ،‬وإنما ذكرت أهمها‬

‫ومما الحظ ُته في تفسير ابن عاشور أنه كان يحرص على إظهار اآلداب التي توحي‪ /‬بها اآليات‪،‬‬
‫والمعاني التي تحملها لتربية النفوس وتهذيبها‪ ،‬وهو بهذا يبرز الجانب التربوي‪ /‬في اآليات‪ ،‬الذي يع ّد من‬
‫‪.‬أهم الجوانب التي تظهر بها وظيفة القرآن األولى‪ ،‬وهي الهداية‬

‫ومما يلفت النظر في تفسير ابن عاشور اهتمامه المميز بآيات األحكام‪ ،‬فنراه يذكر أقوال األئمة األربعة‬
‫في المسألة‪ ،‬وقد‪ /‬يتعدى‪ /‬ذلك إلى ذكر أقوال غيرهم‪ ،‬ويذكر االختالفات في المذهب الواحد‪ ،‬ويسرد األدلة‬
‫التي استشهد بها كل فريق‪ ،‬مما جاء في الكتاب أو السنة أو أقوال الصحابة والتابعين‪ ،‬أو القياس‪ ،‬أو‬
‫غيرها من األدلة مما يُستدل به‪ ،‬ويناقش األدلة نقاشا ً يعكس مدى تمك ّنه وتمرّ سه في هذا الميدان‪ ،‬ويرجّ ح‬
‫‪.‬ما يراه صحيحاً‪ ،‬مستدالً على مذهبه بأدلة علمية‪ ،‬وهو يقدم من بين اآلراء ما استند إلى حديث صحيح‬

‫ومعلوم أن الشيخ ابن عاشور‪ /‬كان مالكي المذهب‪ ،‬ومما يُمدح به أنه لم يكن متعصباً‪ /‬لمذهبه‪ ،‬بل كان‬
‫أحيانا ً ير ّجح مذهبا ً مخالفا ً لمذهب اإلمام مالك‪ ،‬من ذلك ترجيحه مذهب اإلمام أبي حنيفة في طهارة جلد‬
‫‪.‬الميتة بالدبغ ما عدا الخنزير؛ ألنه محرم العين‪ ،‬قال‪ :‬وقول أبي حنيفة أرجح للحديث الصحيح‪ ،‬ثم ذكره‬

‫نقد الكتاب‬
‫شأن ابن عاشور كشأن معظم المفسرين‪ ،‬وقع في اإلسرائيليات‪ ،‬إال أنه كان مُقالً إذا ما قارناه مع ‪1-‬‬
‫غيره من المفسرين‪ ،‬وكان أحيانا ً يُحذر منها‪ ،‬ويصفها‪ /‬بالخرافات‪ ،‬من ذلك ما جاء في تفسير قوله تعالى‪:‬‬
‫اب} [ص‪ ،]34:‬قال‪" :‬وقد أشارت اآلية إلى حدث عظيم‬ ‫ان َوأَ ْل َق ْي َنا َعلَى ُكرْ سِ ِّي ِه َج َسداً ُث َّم أَ َن َ‬
‫{ولَ َق ْد َف َت َّنا ُسلَ ْي َم َ‬
‫َ‬
‫ح ّل بسليمان‪ ،‬واختلفت أقوال المفسرين في تعيين هذه الفتنة‪ ،‬فذكروا قصصاً‪ /‬هي بالخرافات أشبه‪ ،‬ومقام‬

‫‪10‬‬
‫سليمان عن أمثالها أنزه"‪ ،‬ثم ذكر بعض الروايات‪ /‬اإلسرائيلية‪ ،‬إال أن الغريب أنه بعد وصفه اإلسرائيليات‪/‬‬
‫بالخرافات‪ ،‬ورفضه ما جاء من هذا الطريق‪ ،‬ذكر رواية إسرائيلية أخرى من طريق وهب بن منبه‪،‬‬
‫‪.‬وشهر بن حوشب‪ ،‬وف ّسر‪ /‬اآلية بنا ًء على ما جاء فيها‬
‫‪.‬وعلى كل حال‪ ،‬فهو بالنسبة لغيره يُع ّد من المقلّين في هذا المجال‬

‫ومما يؤخذ على الشيخ رحمه هللا أنه كان أحيانا ً يستعين بما جاء في التوراة لتأييد ما يذهب إليه‪2- ،‬‬
‫فيقول‪( :‬وجاء في سفر كذا)‪ ،‬وهذا مما ال يقبل‪ ،‬فالقرآن مهيمن على الكتب السابقة‪ ،‬فكيف يُستدل بها‬
‫!عليه؟‬
‫وحين يذكر األحاديث النبوية يذكرها محذوفة السند‪ ،‬ويكتفي بذكر الصحابي‪ /‬الذي روى الحديث ‪3-‬‬
‫مرفوعا ً إلى رسول هللا ـ صلى هللا عليه وسلم ـ ‪ ،‬وكذلك اآلثار الموقوفة على الصحابة‪ ،‬أو أقوال التابعين‬
‫‪.‬أو غيرهم‪ ،‬يكتفي بذكر صاحب القول دون سند‪ ،‬وقليالً ما يعقب عليها بتصحيح أو تضعيف‪/‬‬

‫إعالم الموقعين عن اهلل رب العالمين مؤلفه‪ :‬ابن القيم الجوزية ‪2-‬‬


‫‪:‬نبذة عن الكتاب وميزاته‬

‫هو كتاب جامع بين الفقه وأصوله ومقاصد الشريعة وتاريخ التشريع والسياسة الشرعية حث فيه على‬
‫اتباع اآلثار‬
‫النبوية وبين فيه مصادر التشريع وشرح رسالة عمر إلى أبي موسى األشعري التي تعتبر أصال في‬
‫اإلثبات واألحكام‬
‫ثم تناول المؤلف بالدراسة التفصيلية بعض المباحث الفقهية واألصولية كالربا وسد الذرائع والحيل‬
‫والقياس والتأويل‬
‫ـ صلى اهلل عليه وشروط المفتي وآداب الفتوى والطالق الثالث‪ .‬وختم الكتاب بفصول فتاوى النبى‬
‫وسلم‬
‫ويحمد للمؤلف توجيهه البارع لألدلة مع حسن االختيار والترجيح‪ ,‬وقوة الشخصية وتخريج األحاديث‬
‫وعزوها الى كتب السنة‬

‫‪ :‬نقد الكتاب‬

‫نرى أن المؤلف في تناوله للمسائل الفقهية ‪ :‬أنه تناولها بإسهاب وتفصيل كبيرين‪ ,‬واستدالل وتعليل‬
‫طويلين مما يؤدى إلى تشتت الذهن وشرود الخاطر وخصوصا إذا قل تركيز الباحث وضعفت متابعته‬

‫مؤلفه ‪ :‬شيخ اإلسالم ابن تيمية ‪3-‬‬ ‫السياسة الشرعية في إصالح الراعي والرعية‬
‫‪11‬‬
‫نبذة عن الكتاب وميزاته‪:‬‬
‫يعد الكتاب مشروع إصالح ونهضة لألمة اإلسالمية وتحرير لبالدها من الفساد والطغيان ف أهم م ا‬
‫يميزه أنه‪:‬‬

‫‪ -1‬يحدد به طبيعة العالقة بين الحاكم والمحكوم‪ ،‬ويتركز كتابه على آيتين من س ورة النس اء قول ه‬
‫تعالى‪( :‬إِنَّ اهللَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا األَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُ وا بِالعَ دْلِ إِنَّ اهللَ‬
‫نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اهللَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا ) [النساء‪( ،]58 :‬يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُ وا أَطِيعُ وا اهللَ وَأَطِيعُ وا‬
‫الرَّسُولَ وَأُولِي األَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اهللِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاهللِ وَاليَ وْمِ‬
‫اآلَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا ) [النساء‪ .]59 :‬‬
‫ارتكازا على هاتين اآليتين قام منهج ابن تيمية في رؤيته لإلصالح السياسي واإلجتماعى واإلقتصادى‬
‫‪ -2‬يرى ابن تيمية –رحمه اهلل‪ -‬أن اآلية األولى تخص الحاكم‪ ،‬والثاني ة تخص المحك وم‪ ،‬والعملي ة‬
‫اكم‬ ‫تبادلية‪ ،‬يحصل فيها الحاكم على الطاعة‪ ،‬مقابل أن يقوم بأداء األمانة وأن يحكم بالعدل‪ ،‬فأداء الح‬
‫لألمانة يستوجب على األمة طاعته‪ ،‬والطاعة الممنوحة له تستوجب أن يكون عدال‪.‬‬
‫‪ -3‬يعد الكتاب موسوعة سبقت عصرها في التنظير والتوقع بما ستؤول إليه أحوال األمة من فساد‬
‫حكامها وتمرد شعوبها‪ .‬فهو يرى أن الفساد بكل أنواعه ناشئ من أمرين‪:‬‬
‫‌أ‪ -‬استغالل المال العام‪.‬‬
‫‌ب‪ -‬استغالل السلطة في تعيين من يشاء وكذلك حد الضوابط التي تحكم هذا األمر‪ .‬‬
‫حيث يرى كذلك أن فساد األمة وما آلت إليه من اضطراب وفوضى ناشئ من فساد الوالة الذين لم تكن‬
‫تتوفر فيهم المعايير التي يقرها اإلسالم‪ ،‬فيما يتعلق بالقيام بالمهام الموكلة إليه‪.‬‬
‫‪ ‬‬

‫إسهامات الباحث في هذا الحقل ‪11-‬‬

‫تدور اسهامتى البحثية إن شاء هللا تعالى في هذه األطروحة حول تقديم رؤية شرعية متوازنة تجمع‬
‫بين مقاصد الشريعة وأصول الفقه وبين تطور أنظمة الحكم الحديثة في قالب إسالمي معاصر ومتوازن‬
‫ال يتنكر لألصول والمقاصد ويأخذ بالجديد المناسب‬

‫‪12‬‬
‫قائمة المحتويات‬
‫تبويب الرسالة‬
‫ص‪: 8‬ص‪15‬‬ ‫أوال‪ :‬مقدمة وتمهيد‬
‫ثانيا ‪ :‬األبواب‬
‫الباب األول ص‪1- 46: 26‬‬
‫الشريعة أهميتها وخصائصها‬

‫الفصل األول ‪ :‬تعريف& الشريعة‪ -‬أهمية الشريعة – األدلة الشرعية ص‪ : 16‬ص‪26‬‬

‫الفصل الثانى ‪:‬خصائص الشريعةص‪ : 27‬ص‪36‬‬

‫الباب الثانى ص‪: 47‬ص‪2- 56‬‬

‫تعريف علم مقاصد الشريعة وأهميته‬

‫الفصل األول ‪ :‬تعريف& علم المقاصد ص‪ : 37‬ص‪43‬‬

‫الفصل الثانى‪ :‬أهمية المقاصد وفوائدها& ص‪ : 44‬ص‪46‬‬

‫الباب الثالث ص ‪ : 57‬ص‪3- 80‬‬


‫علم المقاصد وعلم األصول‪ -‬مراحل النشأة والتطور واإلثبات‬
‫الفصل األول ‪ :‬مراحل النشأة والتكوين ص‪ : 47‬ص‪59‬‬

‫الفصل الثانى ‪ :‬طرق معرفة اثبات المقاصد ص‪ : 60‬ص‪70‬‬

‫‪ -4‬الباب الرابع ص‪ : 81‬ص‪94‬‬

‫أقسام علم المقاصد‬

‫الفصل األول ‪ :‬أقسام مقاصد الشريعة وأنواعها ص ‪ : 71‬ص‪78‬‬

‫الفصل الثانى ‪ :‬أمثلة للمقاصد ص ‪ : 79‬ص ‪84‬‬

‫‪13‬‬
‫‪ -5‬الباب الخامس ص ‪ :95‬ص‪119‬‬

‫ضوابط المقاصد وتوازنها مع المصالح الشرعية‬

‫الفصل األول ‪ :‬ضوابط المقاصد والنظر فيها ص‪ : 85‬ص‪87‬‬

‫الفصل الثانى ‪ :‬بين المقاصد والمصالح المرسلة ص‪: 85‬ص‪109‬‬

‫الباب السادس ص‪ : 120‬ص‪6- 155‬‬

‫مقاصد وغايات الفقه> السياسي وأهمية دراسته‬

‫الباب السابع ص‪: 156‬ص‪7- 174‬‬

‫نظام الحكم في اإلسالم أهميته ودعائمه‬

‫الفصل األول ‪:‬أهمية الحكم فى اإلسالم ص ‪ : 146‬ص‪153‬‬

‫الفصل الثانى ‪ :‬دعائم أنظمة الحكم ص ‪ : 154‬ص‪164‬‬

‫الباب الثامن ص ‪ : 175‬ص ‪8- 181‬‬

‫نظام الحكم اإلسالمى بين الدولة الدينية والمدنية‬

‫‪ -9‬الباب التاسع ص‪ : 182‬ص ‪192‬‬

‫تعريف أهل الحل والعقد – صفاتهم – وشروطهم‬

‫‪ -10‬الباب العاشر ص ‪ : 193‬ص‪204‬‬


‫البيعة الشرعية مفهومها – صورها وأنماطها القديمة والحديثه ‪ -‬شروط صحتها – واجبات مترتبة عليها‬

‫الفصل األول ‪ :‬مفهوم البيعة وصورها ص ‪ : 183‬ص‪188‬‬

‫الفصل الثانى ‪ :‬شروط صحة البيعة ص ‪ : 189‬ص‪194‬‬

‫‪ -11‬الباب الحادى عشر ص‪ : 205‬ص‪251‬‬

‫التعددية السياسية واألحزاب في التصور اإلسالمي‬

‫‪14‬‬
‫الفصل األول ‪ :‬تعريف& ونشأة األحزاب السياسية فى التاريخ ص‪: 195‬ص ‪214‬‬

‫الفصل الثانى ‪ :‬مناقشة اآلراء الفقهية فى التعددية السياسية والترجيح بينها ص‪ : 215‬ص‪241‬‬

‫‪ -12‬الباب الثانى عشر ص ‪: 252‬ص ‪258‬‬

‫المرأة ودورها في المشاركة السياسية‬

‫‪ -13‬الباب الثالث عشر ص ‪ : 259‬ص ‪278‬‬

‫الحرية ودورها في ترسيخ أعمدة الحكم الرشيد‬

‫الفصل األول ‪:‬تعريف الحرية وبيان أهميتها ص‪ : 249‬ص‪262‬‬

‫الفصل الثانى ‪ :‬ضوابط الحرية ص‪ : 263‬ص‪268‬‬

‫‪ -14‬الباب الرابع عشر ص ‪ : 279‬ص‪292‬‬

‫الحوار ودوره في صياغة الحكم الرشيد‬

‫الفصل األول ‪:‬مكانة الحوار فى اإلسالم – ميادين الحوار ص ‪ : 269‬ص‪275‬‬

‫الفصل الثانى ‪ :‬ضوابط اإلختالف ص ‪ : 276‬ص‪282‬‬

‫‪ -15‬الباب الخامس عشر ص ‪ : 293‬ص‪324‬‬

‫أهل الذمة فى الدولة اإلسالمية‬

‫الخاتمة ص ‪16- 327 : 325‬‬


‫نتائج متعلقة بالبحث واقتراحات لبحوث مستقبلية ص ‪ : 328‬ص‪- 32017‬‬
‫قائمة المراجع ص ‪ :331‬ص ‪18- 338‬‬

‫‪15‬‬
16
Summary
This research is motivated by the following considerations:
Islamic political theory is closely aligned with the rationale underlying Islamic
legislation and its jurisprudence. As such, it rebuts the notion of separation between
religion and state; instead it offers a balanced view about how the aforementioned
features create a balanced system of political authority for all times.
For this purpose, the present study will foreground the realism and flexibility
underlying the Islamic code through a critique of its rationale for legislation and its
jurisprudence. The following aspects will merit special attention: the display of
political allegiance in contemporary politics; multi-party systems; women’s political
participation; the importance of freedom and dialogue; theocracy versus civilian rule;
and the status of non-Muslims in this dispensation.
While there has been a proliferation of writings on this topic, this work is
distinguished by the great latitude of topics reviewed. Besides, the opinions of
scholars belonging to various legal persuasions from different eras have been selected
for this purpose.

Ten most commonly used terms:


Islamic code (Sharī ᷾ah)
Islamic law
Islamic political theory
Rationales for Islamic legislation
Systems of government
Citizens
Despotism
Justice
Freedom
Dialogue

17
‫دراسة أصولية فقهية‬

‫فى‬

‫الفقه السياسى ونظام الحكم فى ضوء قواعد الشريعة وأصول الفقه‬

‫‪ :‬مقدمة وتمهيد‬

‫الحمد هلل حمدا كثيرا مباركا فيه حمدا يليق بجالل وجهه الكريم منه الفضل واليه األمر وعليه القصد‬

‫ومنه الرجاء وعليه التكالن ومنه المدد والعون ال نعمة اال بأمره وال ضرا اال بعلمه‬

‫اللهم انى عبد ال حول له اال بحولك وال قوة له اال من قوتك وال علم له اال من علمك وال بصر له اال من‬

‫بصرك وال سمع له اال من سمعك وال سند له اال من سندك تعالى جدك وتقدس اسمك وال اله غيرك‬

‫وأصلى وأسلم على خير خلقك محمد صلى هللا عليه وسلم البشير النذير والسراج المنير‬

‫حامل لواء الشريعة الغراء والفطرة العصماء جاء بالصراط‪ /‬المستقيم والنهج القويم‬

‫اللهم صل عليه وعلى آله وأزواجه وصحبه الطيبين الطاهرين ومن تبعهم باحسان الى يوم الدين‬

‫ثم أما بعد‬

‫ما أحوج أمتنا فى هذه األيام الى معرفة هذا النوع من الفقه السياسى الذى يتناول عروة من أهم عرى‬

‫اإلسالم وهى عروة الحكم نظاما وسياسة وممارسة وتصورا وفكرا‪/‬‬

‫هذه العروة من األهمية والخطورة بمكان عظيم فالمتأمل من الباحثين المخلصين والمهتمين بهذا الشأن‬

‫الجليل ال تخطىء عيونهم اال أن ترى بيانا عيانا أن األمة ال تؤتى اال من فساد حكامها وأمرائها‪ /‬وخنوع‬

‫علمائها ومصلحيها‪/‬‬

‫‪18‬‬
‫فترى الطغاة يستحمرون الجماهير المغفلة ويمتطوها كالحميرليحققوا‪ /‬بها مآربهم‪ /‬الدنيئة حتى ألهوا‬

‫أنفسهم من دون هللا فما فرعون مصر منا ببعيد حتى أفرد‪ /‬هللا له ثلثى القصص فى كتابه الكريم تحذيرا لنا‬

‫واشفاقا علينا أن نحذو حذوه أو نسلك دربه فتكون عاقبتنا عاقبته‬

‫ين َك َذل َِك َوأَ ْو َر ْث َنا َها‬


‫ُوع َو َم َق ٍام َك ِر ٍيم َو َنعْ َم ٍة َكا ُنوا فِي َها َفاك ِِه َ‬
‫ُون َو ُزر ٍ‬ ‫قال تعالى ‪( :‬ك ْم َت َر ُكوا مِن َج َّنا ٍ‬
‫ت َو ُعي ٍ‬

‫ين) الدخان ‪29 -25‬‬ ‫ت َعلَي ِْه ُم ال َّس َماء َواألَرْ ضُ َو َما َكا ُنوا م َ‬
‫ُنظ ِر َ‬ ‫ين* َف َما َب َك ْ‬ ‫َق ْومًا َ‬
‫آخ ِر َ‬

‫وكذلك ال ترى دماء سالت وأرواحا‪ /‬أزهقت بغير حق اال من تنازع ومقاتلة حول شهوة الحكم وهى من‬

‫أعظم الشهوات وأخسها فهى تجمع فى طياتها شهوات خبيثىة كالبغى وحب الرئاسة وشهوة المال‬

‫والنساء والعلو واإلستكبار‪ /‬فى األرض بغير الحق‬

‫فجاءت الشريعة الغراء بمقاصدها ومناهجها لتحد حدودا وترسم‪ /‬معالما وترسى قواعدا وأسسا لنظام حكم‬

‫اسالمى رشيد ليس خياال وانما واقعا‪ /‬متناغما مع الفطرة واإلنسان فى كل بيئة وزمان ومكان‬

‫مراعيا الحال والمآل‬

‫فال غرو أن تجد القرآن يصدح بأسمى آيات العدل واإلحسان اجماال تاركا التفاصيل لكل عصر ومكان‬

‫ليحققوا مقاصد ربهم قال تعالى ‪ (:‬ان هللا يأمر بالعدل واإلحسان ) النحل ‪90‬‬

‫ليس عدال مجردا بل احسانا فى صياغته واتقانا فى أدائه‬

‫ت َفاحْ ُكم‪َ /‬ب ْي َن ُه ْم ِب ْالقِسْ طِ إِنَّ هّللا َ ُيحِبُّ ْال ُم ْقسِ طِ َ‬


‫ين ) المائدة ‪42‬‬ ‫‪(:‬وإِنْ َح َك ْم َ‬
‫وقال تعالى َ‬

‫اس ِب ْال َح ِّق َواَل َت َّت ِب ِع ْال َه َوى َفيُضِ لَّ َ‪/‬‬
‫ك َعن‬ ‫ك َخلِي َف ًة فِي اأْل َرْ ِ‬
‫ض َفاحْ ُكم‪َ /‬بي َْن ال َّن ِ‬ ‫وقال تعالى ( َيا دَاوُ و ُ‪/‬د إِ َّنا َج َع ْل َنا َ‬

‫يل هَّللا ِ لَ ُه ْم َع َذابٌ َشدِي ٌد ِب َما َنسُوا َي ْو َم ْالح َِسابِ) ص ‪26‬‬ ‫يل هَّللا ِ إِنَّ الَّذ َ‬
‫ِين يَضِ لُّ َ‬
‫ون َعن َس ِب ِ‬ ‫َس ِب ِ‬

‫ثم جاءت السنة مفصلة ما أجمل القرآن ومرهبة ومحذرة من الطغيان والجور ومحببة للعدل والقسط‬

‫عن عبد هللا بن عمرو بن العاص رضي هللا عنهما قال‪ :‬قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪( :‬إن‬

‫المقسطين عند هللا على منابر من نور‪ /‬عن يمين الرحمن وكلتا يديه يمين الذين يعدلون فِي حكمهم وأهليهم‬

‫‪.‬وما ولوا)رواه مسلم والنسائي‬


‫‪19‬‬
‫وعن أبي هريرة رضي هللا عنه عن النبي صلى هللا عليه وسلم قال‪َ ( :‬ما من أمير عشرة إال يؤتى‪ /‬به‬

‫مغلوالً يوم القيامة حتى يفكه العدل أو يوبقه الجور)‪ .‬رواه البزار والطبراني فِي األوسط ورجال البزار‬

‫رجال الصحيح‬

‫ثم ضرب الخلفاء الراشدون أروع أمثلة عملية حية فى ضمير األمة ومن بعدهم باقات من الحكام‬

‫الراشدين فى عصور متفرقات تشم عبيرها وشذاها بين الحين والحين‬

‫وتلت هذه العصور الزاهية عصور من التخلف والجمود والتسلط‪ /‬حكم فيها أفراد من الطواغيت‬

‫فسدوا باب اإلجتهاد والتجديد‪ /‬الفقهى عن عمد فى غفلة من الصالحين ويقظة من الفاسدين‬

‫ومهد لهم الطريق‪ /‬علماء السلطة الذين يأكلون الحرام على موائد السالطين فاستغفلوا األمة قرونا‪ /‬طويلة‬

‫وعللوا للطغاة ظلمهم‪ /‬وجورهم إما بتبرير الواقع والخضوع‪ /‬له‪ ،‬أو رفضه واعتزاله‬

‫فأصبح مصطلح الفقه السياسى جريمة نكراء وخطيئة فكرية زيادة عن كونها كبيرة فقهية‬

‫فآزروا‪ /‬العلمانيين وغيرهم من المناهج المنحرفة وسلكوا كل السبل لتجريف‪ /‬عقول األمة‬

‫فخلت مناهجنا الدراسية من هذا المصطلح وانكفئنا على فقه العبادات والمعامالت متعمدين ابعاد األجيال‬

‫عن فقه الدولة سياسة وقتصادا وادارة ونجحت ثلة من المجرمين الذى سموا أنفسهم مفكرين واصالحيين‬

‫ومتنورينفى محاصرة المسلمين فى دور العبادة فانحسرت‪ /‬األمة فى مشروعها الربانى‪ /‬العالمى‬

‫الى أمة محبوسة محصورة فى الزوايا‪ /‬وحجرات‪ /‬الصالة متناسية نداء ربها‪:‬‬

‫آل عمران ‪ ) 110‬كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف‪ /‬وتنهون عن المنكر وتؤمنون باهلل(‬

‫ويا ليتهم تركوا‪ /‬لهم المساجد بل شككوا فى العبادات والفرائض حتى وصلوا‪ /‬بهم وبشبابهم الى اإللحاد‬

‫والزندقة‬

‫وتم هذا كله وفق‪ /‬خطوات مرسومة وآزارهم فيها اخوانهم من عمالء األمة وطابورها‪ /‬الخامس برتبة‬

‫عالم أو مفكر سوغ لألمة أنه ليس فى فكرنا وال فقهنا ما يسمى بالفقه السياسى‪ ,‬أو ما يعرف‪ /‬بممارسة‬

‫للسياسة فى أنظمة الحكم أوغيره‬


‫‪20‬‬
‫ولكن هيهات هيهات فالحق‪ /‬أبلج لقد ذخر تراثنا الفقهى بكثيرمن الفقهاء المجديدين الحاذقين الذين تلقتهم‬

‫األمة قاطبة بالقبول هؤالء تصدوا للظلم والطغيان –وبعيدا حتى عن مذاهب الفقهاء‬

‫دعونى أسأل نفسى واخوانى المسلمين الذين آمنوا باهلل العدل وآمنوا بآيات العدل فى كتابه الكريم‪ /‬وآمنوا‪/‬‬

‫بكالم رسولهم الكريم بمئات األحاديث الصحيحة التى تأمر بالعدل والقسط‬

‫كيف بشريعة هللا أنزلها بالعدل والقسط وسمى‪ /‬نفسه العدل كيف يرضى‪ /‬بجور‪ /‬السالطين وكيف يرضى‪/‬‬

‫بحكم الجبابرة والطغاة ؟‬

‫ان مقتضيات اإليمان األولى عند العوام والخواص تأبى هذا والفطرة السليمة تنكر هذا وتلفظه‬

‫‪ -‬وأسوق لكم مثاال لفقيه األمة المجتهد المجدد اإلمام الشوكانى‪- /‬رحمه هللا‬

‫إن ممارسته للعمل السياسي‪ ،‬وتوليه لمنصب القضاء العام‪ ،‬منحه فرصة المشاركة في تخطيط وتنفيذ‬

‫برامج الدولة السياسية‪ ،‬واالقتصادية‪ ،‬واإلدارية‪ ،‬واالجتماعية‪ ،‬األمر الذي جعل فكره الفقهي يتفتح على‬

‫قضايا المجتمع العامة‪ ،‬ومن ث َّم ينعكس على إنتاجه الفقهي الذي لم يتوقف‪ /‬عند ح ّد حفظ وشرح التراث‬

‫السياسي واالقتصادي‪ /‬الموروث‪ ،‬بل تعداه إلى صياغة برامج ميدانية إصالحية تسير على أساسها‪ /‬شؤون‬

‫الدولة العامة‪ ..‬وهذا البعد الجديد الذي أعطاه الشوكاني لفقهه جعله ينتقل من فقه الكتب إلى فقه البرامج‬

‫والمؤسسات‪/‬‬

‫تعرض الشوكاني‪ /‬فـي رسائل مختلفـة لقضايا سياسية هامة أفرزتها‪ /‬طبيعة نظام الحكم السائد فـي البالد‬

‫اإلسالمـية‪ ،‬وما تر ّتب عليه من قناعات ومواقف سياسية ميّزت الفكر السياسي في عصره مثل‪ :‬مبدأ‬

‫فصل الدين عن الدولة‪ ،‬مبدأ الصلة بالحكام‪ ،‬عوامل االستقرار السياسي‬

‫هذه الموضوعات وغيرها‪ ،‬مثلت منطلق اإلصالح السياسي عند الشوكاني‪ ،‬ذلك ألن الوصول‪ /‬إلى تصور‬

‫شرعي فيها سـيساهم‪ /‬إلى ح ّد كبير في تصحيح المفاهيم الخاطـئة التي أنـتجتها النـظرة الجزئية للدين‬

‫‪21‬‬
‫اإلسالمي‪ ،‬والتدين به في عصور االنحطاط‪ ،‬والتأكيد‪ /‬على البعد الشمولي لإلسالم‪ ،‬وأنه نـظام حياة‬

‫الينحصر فى العبادات فقط‬

‫أما مبدأ فصل الدين عن الدولة‪ ،‬فقد اهتم الشوكاني‪ /‬ببيان جذوره التاريخية‪ ،‬ونتائج تطبيقه في المجتمع(‬

‫اإلسالمي؛ ألنه صار العقيدة السياسية لكثير من أنظمة الحكم في العالم اإلسالمي‪ .‬فأعـاد جذوره إلى‬

‫جينكزخان (‪624 - 548‬هـ) ملك التتار الذي ش ّرع مجموعة من القوانيـن الوضعية الخاصة بمراسيم‬

‫الملوك والرعية‪ ،‬وفرضـها‪ /‬على رعاياه من المسلمين‪ ،‬وسار على هذا النهج أوالده من بعده‪ .‬ولما أسلم‬

‫بعض حفدته‪ ،‬وبقي فيهم الملك في أرض اإلسالم‪ ،‬التزموا العمل بهذه القوانين في األمور المتعلقة بالملك‬

‫مع إسالمهم‪ ،‬فرسخ هذا المبدأ في البالد اإلسالمية‪ ،‬وبلور‪ /‬مفاهيم خـاطئة اتخـذها الحكام مبرراً للتمسك‬

‫)بهذا المبدأ‪ ،‬مثل‪ :‬أن الملك ال يصلح بالتدبيرات الشرعية‪ ،‬وال يقوم بغير تلك القوانين الوضعية‬

‫نقالً بتصرف عن عبد الغني قاسم الشراجي‪ ،‬اإلمام الشوكاني حياته وفكره‪ ،‬ص‪360-358‬‬

‫محمد بن علي الشوكاني‪ ،‬عقد الجمان في شأن حدود‪ /‬البلدان (مخطوط)‪ ،‬ص‪152-151‬‬

‫وأما المبدأ األول ‪ :‬الصلة بالحكام‪ ،‬فقد رفض الشوكاني‪ /‬اعتزال العلماء للمناصب‪ ،‬ألن زهدهم في مراكز‬

‫التغيير في المجتمع والدولة يؤدي إلى زيادة ابتعادها عن تعاليم اإلسالم‪ ،‬ورأى في المقابل أن اشتغال‬

‫رجال العلم في أجهزة الحكم والدولة يعد وسيلة هامة لتحقيق العدل‪ ،‬وترشيد‪ /‬الحكام‪ ،‬وتخفيف ظلمهم‪.‬‬

‫ومما قاله في هذا الشأن‬

‫وال يخفى على ذي عقل أنه لو امتنع أهل العلم والفضل والدين عن مداخلة الملوك‪ ،‬لتعطلت الشريعة(‬

‫المطهرة‪ ،‬لعدم وجود من يقوم بها‪ ،‬وتبدلت المملكة اإلسالمية بالمملكة الجاهلية في األحكام الشرعية‪ ،‬من‬

‫ديانة ومعاملة‪ ،‬وعم الجهل وط ّم‪ ،‬وخولفت أحكام الكتاب والسنة جهاراً‪ ،‬وال سيما من الملك وخاصته‬

‫المرجع نفسه‪ ،‬ص‪)364‬وأتباعه‬

‫‪22‬‬
‫وخالف الشوكاني‪ /‬أولئك الذين يجعلون من شيوع‪ /‬المنكرات ذريعة العتزال مراكز التغيير في المجتمع‬

‫والدولة‪ ،‬ورد استداللهم‪ /‬القائم على سد الذرائع باستدالل منطقي عقلي فحواه أن وجود‪ /‬المنكرات أمر‬

‫مالزم لكل دولة مسلمة تلت فترة الخالفة الرائدة‪ ،‬حيث أصبح نظام الحكم ملكيا ً‬

‫ووجه الى دراسة إشكالية الصلة بالحكام في ضوء مقاصد الشريعة‪ ،‬وقواعدها العامة‪ ،‬كقاعدة دفع‬

‫الضرر األعلى بالضرر‪ /‬األدنى‪،‬حيث قال‬

‫فالمتصل بهم من أهل المناصب الدينية قد يفضي في بعض األحوال عن شيء من المنكرات ال(‬

‫لرضى‪ ،‬بل لكونه قد اندفع بسعيه ما هو أعظم منه‪ ،‬وال يتم له ذلك إال بعدم التشدد فيما هو دونه‪ ،‬وهو‬

‫) )يعلم أنه لو تشدد في ذلك الدون‪ ،‬لوقع هو وذلك الذي هو أشد منه وأشنع وأفظع‬

‫‪.‬المرجع نفسه‪ ،‬ص‪364- 362-361‬‬

‫كما وضع الشوكاني ضابطاً‪ /‬هاما ً في االتصال بالحكام‪ ،‬وهو عدم تبرير‪ /‬ظلمهم وعدم المشاركة في تنفيذه‬

‫‪:‬فقال‬

‫لكن هذا المتصل بهم لم يتصل بهم ليعينهم‪ /‬على ظلمهم وجورهم‪ ،‬بل ليفتي بين الناس بحكم هللا‪ ،‬فإن كان(‬

‫األمر هكذا‪ ،‬فلو كان الملك قد بلغ من الظلم إلى أعلى درجاته لم يكن على هؤالء من ظلمه شيء‪ ،‬إذا كان‬

‫ألحدهم مدخل في تخفيف الظلم‪ ،‬ولو أقل قليل وأحقر حقير‪ ،‬كان مع ما هو فيه من المنصب مأجور‪ /‬أبلغ‬

‫أجر‪ ،‬ألنه قد صار مع منصبه في حـكم من يطلب الحق‪ ،‬ويكره الباطل‪ ،‬ويسعى‪ /‬بـما تبلغ إليه طاقته في‬

‫دفعه‪ ،‬ولم يعنه على ظلمه‪ ،‬وال سعى فـي تقرير ما هو عليه أو تحسينه‪ ،‬أو إيراد الشبه في تجويزه‪ ،‬فإن‬

‫المرجع نفسه‪) 361‬أدخل نفسه في شيء من هذه األمور فهو في عداد الظلمة‬

‫‪23‬‬
‫فالعالقة بين الحاكم والمحكوم في نظر الشوكاني يضبطها‪ /‬فقه األولويات‪ ،‬والموازنات‪ ،‬القائم على معرفة‬

‫الضرر األكبر واألخف‪ .‬لكن إدراكا ً منه أن مبدأ عزلة المناصب والحكام‪ /‬صار قناعة فقهية عامة في‬

‫المجتمع اإلسالمي بأسره‪ ،‬أكد اإلمام الشوكاني ضرورة تحرر‪ /‬العلماء من ضغط الواقع‪ ،‬وعدم تأثرهم‬

‫باألحكام الظالمة التي قد يصدرها‪ /‬المجتمع عليهم من جراء اتصالهم‪ /‬بالحكام‪ ،‬التي مرجعها في األساس‬

‫إلى الجهل بقواعد الضرر‪ /‬والمصلحة في الشريعة اإلسالمية ) بتصرف‪ /‬المرجع نفسه ‪362‬‬

‫ومن الموضوعات التي تضمنها فقه الشوكاني السياسي موضوع االستقرار السياسي‪ ،‬ولعل اهتمامه بهذه‬

‫اإلشكالية كان نتيجة معايشته استفحال الصراع السياسي في البالد اإلسالمية عامة‪ ،‬واليمن خاصة‪ ،‬فح ّدد‬

‫الشوكاني عوامل ثالثة أساسية لالستقرار السياسي وهي‪ :‬القوة العسكرية‪ ،‬والقوة االقتصادية والمناصب‪/‬‬

‫الدينيةباعتبارها مصدر المشروعية للنظام الحاكم‪ ،‬والمنفذ األساس ألهل العلم في إصالح الراعي‬

‫والرعية) بتصرف‪ /‬محمد بن علي الشوكاني‪ ،‬ديوان الشوكاني‪ :‬أسالك الجوهر‪ ،‬ص ‪ 187‬ـ ‪188‬‬

‫المبدأ الثاني‪ :‬ضبط شروط‪ /‬تولي المناصب العامة السيما منصب القضاء فقال‪( :‬وانتخاب القضاة في كل‬

‫قطر أوالً ممن جمع هللا لهم بين العلم والعمل‪ ،‬والزهد والورع‪ ،‬ويكونون ثانيا ً من الباذلين نفوسهم‬

‫إلصالح الرعايا وتعليمهم فرائض هللا‪ ،‬ودفع المظالم الواردة عليهم‪ ،‬ويقبضون ما أوجب هللا عليهم‪ ،‬فإن‬

‫في ذلك ما هو أنفع من األشياء التي تؤخذ على وجه الظلم)‬

‫محمد بن علي الشوكاني‪ ،‬الدواء العاجل في دفع العدو الصائل ص ‪35‬‬

‫‪24‬‬
‫هكذا كان فقهاؤنا ومشايخنا الذين فهموا اإلسالم بشموله منهج حياة يشمل كل مناحى الحياة عبادة ومعاملة‬

‫وحكما وقضاء إنها الشريعة بكل نواحيها‪ /‬وبكل مقاصدها‬

‫أقول – وباهلل التوفيق ومنه المدد‪ -‬إن بحثنا بحث هدفه طموح يحاول أن يقدم صورة معاصرة حديثة‬

‫لنظام حكم اسالم رشيد جذورة ضاربة فى أعماق أصولنا الفقهية وقواعدنا‪ /‬التشريعية بمقاصدها‪ /‬ومعانيها‬

‫ورأسه تشرأب الى المعاصرة فى وسائلها وأدواتها الحديثة غايته حراسة الدين وتحقيق المصلحة‬

‫للمسلمين حتى يدخل الناس في دين هللا أفواجا يعبدون هللا ال يشركون به شيئا‬

‫‪25‬‬
‫الباب األول‬

‫الشريعة اإلسالمية فى ظالل‬

‫تعريفها وأهميتها وخصائصها‬

‫الفصل األول‬

‫تعريف الشريعة ‪1-‬‬

‫أهمية الشريعة ‪2-‬‬

‫األدلة الشرعية ‪3-‬‬

‫تعريف الشريعة‬

‫الشريعة في اللغة‪ :‬فعيلة بمعنى مفعولة الموضع الذي ينحدر إلى الماء منه‪ ،‬فهي مورد الشاربة التي‬

‫يشرعها الناس ـ أي يردها ـ فيشربون منها ويستقون‪ ،‬قال الليث‪ :‬وبها سمي ما شرع هللا للعباد شريعة من‬

‫الصوم والصالة والحج والنكاح وغيره‪ ،‬قال الزبيدي‪ :‬هي ما شرع هللا لعباده كالشرع‪ /‬بالفتح‪ ،‬وحقيقتها‬

‫وضع ما يتعرف منه العباد أحكام عقائدهم وأفعالهم وأقوالهم وما يترتب عليه صالحهم‬

‫القاموس المحيط‪ ،‬الفيروزآبادي‪ /،‬ج‪1‬ص‪ ،946‬لسان العرب‪ ،‬ابن منظور‪ ،‬ج‪8‬ص‪ ،175‬تاج العروس‪،‬‬

‫الزبيدي‪ ،‬ج‪1‬ص‪63‬‬

‫قال ابن عاشور‪ " :‬والشريعة‪ :‬الدين والملة المتبعة مشتقة من الشرع وهو‪ :‬جعل طريق للسير‪ ،‬وسمي‬

‫النهج شرعا ً تسمية بالمصدر‪ /.‬وسميت شريعة الماء الذي يرده الناس شريعة لذلك‪ ،‬قال الراغب‪ :‬استعير‬

‫اسم الشريعة للطريقة اإللهية تشبيها ً بشريعة الماء‪ ،‬قلت‪ :‬ووجه الشبه ما في الماء من المنافع وهي الري‬

‫والتطهير‪/‬‬

‫تفسير التحرير والتنوير‪ ،‬محمد الطاهر ابن عاشور‪ ،‬ج‪25‬ص‪348‬‬

‫‪26‬‬
‫أما الشريعة في االصطالح فهي‪ :‬ما شرع هللا لعباده من الدين‪ ،‬أي من األحكام المختلفة‪ .‬وسميت هذه‬

‫األحكام شريعة الستقامتها ولشبهها‪ /‬بمورد الماء ألن بها حياة النفوس والعقول كما أن في مورد الماء‬

‫حياة األبدان‪ .‬والشريعة الدين والملة بمعنى واحد‪ ،‬وهو ما شرعه هللا لعباده من أحكام‪ ،‬ولكن هذه األحكام‬

‫تسمى شريعة باعتبار وضعها وبيانها‪ /‬واستقامتها‪ ،‬وتسمى دينا ً باعتبار الخضوع لها وعبادة هللا بها‪،‬‬

‫وتسمى ملة باعتبار إمالئها على الناس‬

‫نظرات في الشريعة‪ ،‬عبد الكريم زيدان‪ ،‬ص‪60‬‬

‫ومنهم من عرفها بقوله‪ " :‬والشريعة هي النظم التي شرعها هللا أو شرع أصولها ليأخذ اإلنسان بها نفسه‬

‫" في عالقته بربه‪ ،‬وعالقته بأخيه المسلم‪ ،‬وعالقته بأخيه اإلنسان‪ ،‬وعالقته بالكون‪ ،‬وعالقته بالحياة‬

‫اإلسالم عقيدة وشريعة‪ ،‬محمود شلتوت‪ ،‬ص‪22‬‬

‫وهو بهذا التعريف‪ /‬يريدها‪ /‬في مقابل العقيدة‪ ،‬واألول أعم‪ ،‬وقال شيخ اإلسالم ابن تيمية‪ " :‬الشرعة هي‬

‫الشريعة‪ ،‬قال هللا تعالى‪( :‬لِ ُك ٍّل َج َع ْل َنا ِم ْن ُك ْم شِ رْ َع ًة َو ِم ْن َهاجً ا) المائدة‪ ،‬آية ‪48‬‬

‫َ‬ ‫‪.‬وقال تعالى‪ُ :‬‬


‫يع ٍة م َِن اأْل ِ‬
‫مْر َفا َّت ِبعْ َها)الجاثية‪ ،‬آية ‪18‬‬ ‫(ث َّم َج َع ْل َن َ‬
‫اك َعلَى َش ِر َ‬

‫الط ِري َق ِة أَل َسْ َق ْي َنا ُه ْم َما ًء َغدَ ًقا)‪.‬الجن آية‪16‬‬


‫تعالى‪(:‬وأَلَ ِو اسْ َت َقامُوا َعلَى َّ‬
‫َ‬ ‫والمنهاج هو الطريق‪ ،‬قال‬

‫فالشرعة بمنزلة الشريعة للنهر‪ ،‬والمنهاج هو الطريق الذي سلك فيه‪ ،‬والغاية المقصودة هي حقيقة الدين‬

‫‪.‬مجموع الفتاوى‪ ،‬ج‪11‬ص‪218‬‬

‫وقال معترضا ً على من يقصر الشريعة على األحكام الفقهية العملية دون األمور العقدية‪ " :‬والتحقيق أن‬

‫الشريعة التي بعث هللا بها محمداً ‪ -‬صلى هللا عليه وسلم ‪ -‬جامعة لمصالح الدنيا واآلخرة‪ ..‬لكن قد يغير‬

‫أيضا ً لفظ الشريعة عند أكثر الناس‪ ،‬فالملوك والعامة عندهم أن الشرع والشريعة اسم لحكم الحاكم‪،‬‬

‫ومعلوم أن القضاء فرع من فروع الشريعة‪ ،‬وإال فإن فالشريعة جامعة لكل والية وعمل فيه صالح الدين‬

‫والدنيا‪ ،‬والشريعة إنما هي كتاب هللا وسنة رسوله‪ ،‬وما كان عليه سلف األمة في العقائد واألصول‬

‫والعبادات واألعمال والسياسات‪ /‬واألحكام‪ ،‬والواليات والعطيات‬

‫‪27‬‬
‫‪.‬المرجع السابق‪ ،‬ج‪19‬ص‪ .308‬وانظر أيضا ً ‪ :‬مقاصد الشريعة عند ابن تيمية‪ ،‬يوسف‪ /‬البدوي‪ ،‬ص‪53‬‬

‫أما الشريعة اإلسالمية فهي‪ :‬األحكام التي شرعها هللا تعالى وأنزلها‪ /‬على رسوله ‪ -‬صلى هللا عليه وسلم‪- /‬‬

‫ليبلغها للناس جميعاً‪ ،‬سواء كانت هذه األحكام في القرآن أو في السنة‪ ،‬باعتبارهما وحيا ً من عند هللا تعالى‬

‫نظرات في الشريعة‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪61‬‬

‫ثانيا ‪ -‬أهمية الشريعة‬

‫مْر َفا َّت ِبعْ َها‪َ /‬واَل َت َّت ِبعْ أَهْ َوا َء الَّذ َ‬‫َ‬ ‫قال تعالى‪ُ :‬‬
‫ِين اَل َيعْ لَم َ‬
‫ُون)الجاثية‪ ،‬آية‪18‬‬ ‫يع ٍة م َِن اأْل ِ‬ ‫(ث َّم َج َع ْل َن َ‬
‫اك َعلَى َش ِر َ‬

‫قال ابن عاشور‪ " :‬قد بلغت هذه الجملة من اإليجاز مبلغا ً عظيما ً إذ أفادت أن شريعة اإلسالم أفضل من‬

‫شريعة موسى‪ /‬وأنها شريعة عظيمة‪ ،‬وأن الرسول‪ /‬متمكن منها ال يزعزعه شيء عن الدأب في بيانها‬

‫والدعوة إليها‪ .‬ولذلك فرع عليه بأمره باتباعها بقوله‪ :‬فاتبعها‪ ،‬أي دم على اتباعها‪ ،‬فاألمر لطلب الدوام‬

‫‪.‬تفسير التحرير والتنوير‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ج‪25‬ص‪348‬‬

‫واألصل أن األمر للنبي ‪ -‬صلى هللا عليه وسلم ‪ -‬أمر لكافة األمة إال ما دل الدليل على التخصيص‪ ،‬قال‬

‫ابن القيم تحت عنوان‪ :‬بناء الشريعة على مصالح العباد في المعاش والمعاد‪ " :‬فالشريعة عدل هللا بين‬

‫عباده ورحمته بين خلقه وظله في أرضه وحكمته الدالة عليه وعلى صدق رسوله ‪ -‬صلى هللا عليه وسلم‬

‫أتم داللة وأصدقها‬

‫وهي نوره الذي به أبصر المبصرون وهداه الذي به اهتدى المهتدون وشفاؤه التام الذي به دواء كل‬

‫عليل‪ ،‬وطريقه المستقيم الذي من استقام عليه فقد استقام على سواء السبيل‪ ،‬فهي قرة العين وحياة القلوب‬

‫ولذة األرواح‪ ،‬فهي بها الحياة والغذاء والدواء والنور‪ /‬والشفاء والعصمة‪ ،‬وكل خير في الوجود‪ /‬فإنما هو‬

‫مستفاد منها وحاصل بها‪ ،‬وكل نقص في الوجود‪ /‬فسببه من إضاعتها‪ ،‬ولوال رسوم‪ /‬بقيت لخربت الدنيا‬

‫وطوي‪ /‬العالم‪ ،‬وهي العصمة للناس وقوام‪ /‬للعالم وبها يمسك هللا السموات واألرض أن تزوال‪ ،‬فإذا أراد‬

‫سبحانه وتعالى‪ /‬خراب الدنيا وطي‪ /‬العالم رفع إليه ما بقي من رسومها‪ ،‬فالشريعة التي بعث هللا بها رسوله‬

‫هي عمود العالم وقطب الفالح والسعادة في الدنيا واآلخرة‬

‫‪28‬‬
‫إعالم الموقعين عن رب العالمين‪ ،‬ابن القيم‪ ،‬ج‪3‬ص‪3‬‬

‫ثالثا ‪ :‬األدلة الشرعية‬

‫تعريف األدلة‪ ،‬هي جمع دليل‪ ،‬وهو ما يمكن ال ّتوصّل بصحيح النظر فيه إلى مطلوب خبري‬

‫‪:‬أقسام األدلة‬

‫من حيث االحتجاج تقسم إلى قسمين‬

‫األول ‪ :‬أدلة نصية متفق عليها‪ ،‬كـ(الكتاب) و(السنة)‬

‫ومن أمثلة األدلة النصية من الكتاب قوله تعالى‪( :‬وأحل هللا البيع) وقد شرعه هللا لتحقيق مصالح العباد‬

‫بالتبادل‬

‫وقد شرع النكاح لتحقيق مصلحة العباد ي االستقرار واستمرار‪ /‬النوع البشري‬

‫ومن أمثلة األدلة النصية من السنة قول رسول هللا صلى هللا عليه وسلم (تناكحوا تناسلوا )‬

‫والثاني ‪ :‬أدلة اجتهادية‪ ،‬كـ(اإلجماع) و(القياس)‬

‫ومن أمثلة اإلجماع‪ :‬االتفاق على أن تحريم الربا مُعلَّل‪ ،‬وإن اختلفت أقوال الفقهاء في بيان على تحريم‬

‫‪.‬العلة‬

‫فعند فقهاء الحنفية والحنابلة‪ :‬علة تحريم الربا الكيل والوزن‪ ،‬وبمعنى أن كل ما يدخله القياس يجري في‬

‫الربا‪ ،‬وإذا تمت مبادلته بجنسه وجب شرطان‪ :‬التماثل والتقابض‪ ،‬وإذا تمت مبادلته بغير جنسه وجب‬

‫‪.‬شرط واحد‪ ،‬وهو‪ :‬التقابض‬

‫وعند فقهاء الشافعية‪ :‬علة تحريم‪ /‬الربا الثمنية والطعم‪ ،‬فكل ما كان ثمنا ً أو طعاما ً يجب عند مبادلته بجنسه‬

‫شرطان‪ :‬التماثل والتقابض‪ ،‬وعند مبادلته بغير جنسه وجب شرط واحد‪ ،‬وهو‪ :‬التقابض‬

‫‪29‬‬
‫وعند فقهاء المالكية‪ :‬على تحريم‪ /‬الربا الثمنية والقوت‪ ،‬فكل ما كان ثمنا ً أو قوتا ً ي َّدخر يجب عند مبادلته‬

‫‪.‬بجنسه شرطان‪ :‬التماثل والتقابض‪ ،‬وعند مبادلته بغير جنسه وجب شرط‪ /‬واحد‪ ،‬وهو‪ :‬التقابض‬

‫ومن أمثلة القياس‪ :‬تحريم التدخين لعلة الضرر واإلضرار‪ /‬المنهي عنه شرعاً‪ ،‬والعلة متفق عليها‪،‬‬

‫واندارج ضرر التدخين فيها متفق عليه في هذا الزمان بعد أن تحقق الضرر‪ /‬وثبت عن طريق‪ /‬العلم‬

‫مراتب الشريعة‬

‫الشريعة تتفاوت مراتبها ل َت َبايُن آثارها؛ لذا جعلها العلماء على مراتب‪ ،‬واستقر‪ /‬االصطالح على أنها‬

‫‪:‬مراتب ثالث‬

‫أولها ‪ :‬مرتبة الض ََّر ْو ِريَّات‪ .‬والكالم فيها كما يأتي‬

‫تعريف الضروريات‪ :‬يقول ال َم َحلِّي‪( :‬هي ما تصل الحاجة إليه إلى َح ّد الضرورة) شرح جمع الجوامع‬

‫ويقول ابن عاشور‪( :‬هي التي تكون األمة ب َمجْ موعها وآحادها‪ /‬في ضرورة إلى َتحْ صِ يْلها)‬

‫شرح جمع الجوامع‬

‫ومعنى الضرورية‪( :‬أنها ال ب َّد منها في قيام‪ /‬مصالح الدين والدنيا‪ ،‬بحيث إذا فُقِدت لم ُتجْ َر مصالح الدنيا‬

‫على استقامة‪ ،‬بل على فساد وتهارج‪ /‬وفوت‪ /‬حياة‪ ،‬وفي‪ /‬اآلخرة‪ :‬فوت النجاة والنعيم‪ ،‬والرجوع‪ /‬بالخسران‬

‫‪.‬المبين)الموافقات‪ ،‬الشاطبي‪ ،‬دار الفكر‪2/4 ،‬‬

‫وقد حُصِ َر ْ‬
‫ت تلك الضروريات عند عامة العلماء في خمس أو ست‪ ،‬وهي ‪ :‬الدين‪ ،‬والنفس‪ ،‬والنسب أو‬

‫النسل‪ ،‬والعقل‪ ،‬والمال‪ ،‬والعِرْ ض‬

‫وللمحافظة على هذه الضروريات‪ /‬أقام الشرع حدوداً من العقوبات‬


‫‪30‬‬
‫فح ُّد الردة في مقابل حفظ الدين‬
‫‪َ ,‬‬

‫وح ُّد القتل قصاصا ً في مقابل حفظ النفس‬


‫َ‬

‫‪.‬وح ُّد الزنى في مقابل حفظ النسب أو النسل‬


‫َ‬

‫‪.‬وح ُّد شرب الخمر في مقابل حفظ العقل‬


‫َ‬

‫وح ُّد السرقة في مقابل حفظ المال‬


‫َ‬

‫‪.‬وح ُّد القذف في مقابل حفظ العِرْ ض‬


‫َ‬

‫دليل الضروريات‪ :‬و َيرْ جع إلى االستقراء التام ألدلة الشريعة ال ُم َّت َفق عليها مع اتفاق العقول الصحيحة‬

‫على ذلك‬

‫يقول ال َغ َّزالي‪( :‬وتحريم َت ْف ِويْت هذه األصول الخمسة َيسْ تحيل أن ال َت ْشتمل عليه ِملَّة وال شريعة أ ُ ِريْد بها‬

‫الخ ْلق ‪ .‬وقد‪ُ /‬علِم بالضرورة كونها مقصودة للشرع ال بدليل واحد وأصل معين‪ ،‬بل بأدلة خارجة‬
‫إصالح َ‬

‫‪.‬عن الحصر)شرح جمع الجوامع‬

‫وقال الشاطبي‪( :‬قد ا َّت َف َق ْ‬


‫ت األمة بل سائر‪ /‬الملل‪ :‬على أن الشريعة وضعت للمحافظة على الضروريات‪/‬‬

‫الخمس‪ :‬وهي‪ :‬الدين‪ ،‬والنفس‪ ،‬والنسل‪ ،‬والمال‪ ،‬والعقل‪ ،‬وعِ ْلمُها عند األمة كالضروري‪ ،‬ولم يثبت لنا‬

‫ذلك بدليل معين‪ ،‬وال شهد لنا أصل معين يمتاز برجوعها إليه‪ ،‬بل علمت مالئمتها للشريعة بمجموعة‬

‫‪.‬أدلة ال تنحصر في باب واحد) شرح جمع الجوامع‬

‫وقال‪( :‬وعلم هذه الضروريات صار مقطوعا ً به‪ ،‬ولم يثبت ذلك بدليل معين‪ ،‬بل علمت مالئمتها للشريعة‬

‫بمجموع أدلة ال تنحصر في باب واحد ‪ .‬فكما ال يتعين في التواتر المعنوي أن يكون المفيد للعلم خبراً‬

‫‪31‬‬
‫واحداً من األخبار دون سائر األخبار‪ ،‬كذلك ال يتعين هنا؛ الستواء جميع األدلة في إفادة الظن على‬

‫‪.‬انفرادها‬

‫وسأطلق‪ /‬على هذه الضروريات الخمس أو الست‪ :‬أهداف المجتمع اإلسالمي‪ ،‬وبالتالي‪ /‬فإني أدعو إلى‬

‫تعميم ونشر هذه األهداف في كل المجتمعات؛ بعيداً عن األهداف البشرية التي تطلق هنا أو هناك‪،‬‬

‫‪.‬وبتحقيق هذه األهداف وإقامة حدودها‪ /‬للمحافظة عليها‪ :‬يتحقق بناء اإلنسان والمجتمع فكرياً‪/‬‬

‫بيان الضروريات الخمس أو الست‬

‫الدين في االصطالح‪َ :‬وضْ ع إلهي سائق‪ /‬لذوي‪ /‬العقول باختيارهم إياه إلى الصالح في الحال والفالح في‪1-‬‬

‫المآل‬

‫التوقيف‪ /‬على مهمات التعاريف‪ -‬المناوي‬

‫والمقصود بـ(الدين) هنا ‪ :‬الدين اإلسالمي المـُنزل على خاتم الرسل محمد صلى هللا عليه وسلم‬

‫‪:‬والنفس‪ :‬يُقصد بها‪ :‬النفس المعصومة من القتل والمحمية من اإلزهاق‪ ،‬وهي ثالثة أنفس‪2-‬‬

‫نفس معصومة باإلسالم وتكون للمسليمن‪ ،‬ونفس معصومة بالجزية وتكون ألهل الكتاب المقيمين مع‬

‫المسلمين في بلد واحد‪ ،‬ونفس معصومة باألمان وتكون للحربي الذي يطلب من المسلمين الدخول إلى‬

‫أرضهم ألغراض مدنيةالروضة‪ -‬النووي‬

‫والعقل‪ :‬هو‪ :‬الحابس عن ذميم القول والفعلمقاييس اللغة‪ :‬ابن فارس‪3-‬‬

‫يقول ابن تيمية‪( :‬فهنا أمور‬

‫أحدها‪ :‬علوم ضرورية يفرق بها بين المجنون الذي رُفع القلم عنه‪ ،‬وبين العاقل الذي جرى عليه العقل‪،‬‬

‫‪.‬فهو مناط التكليف‬

‫‪32‬‬
‫والثاني ‪ :‬علوم مكتسبة تدعو اإلنسان إلى فعل ما ينفعه وترك‪ /‬ما يضره‪ ،‬فهذا أيضا ً ال نزاع في وجوده‪،‬‬

‫وهو داخل فيما يحمد بها عند هللا من العقل‬

‫‪.‬والثالث‪ :‬العمل بالعلم‪ ،‬يدخل في مسمى العقل أيضاً‪ ،‬بل هو من أخص ما يدخل في اسم العقل الممدوح‬

‫والرابع ‪ :‬الغريزة التي بها يعقل اإلنسان‪ ،‬فهذه مما ُت ِ‬


‫نوزع في وجودها)بغية المرتاد‬

‫والنسب أو النسل‪ :‬النسل في اللغة‪ :‬الولد‪ ،‬يقال‪َ :‬ن َسل َنسْ الً‪ :‬إذا َك ُثر َنسْ لُه‪ ،‬أي‪ :‬ولده ُ‬
‫وذرِّ يته ‪4-‬‬

‫والمال‪ :‬اصطالحا ً هو‪ :‬اسم لغير اآلدمي‪ُ ،‬خلِق لمصالح اآلدمي وأمكن إحرازه والتصرّ ف‪ /‬فيه على ‪5-‬‬

‫وجه االختيار‪ ،‬ومن ذلك ‪ :‬األثمان‪ ،‬والبضائع‪ ،‬والعقارات‪ ،‬والحيواناتالحاوي‪ /:‬السيوطي‬

‫الج َسد‪ ،‬وجانب الرجل الذي َيصُونه من نفسه وال يُقبل ‪6-‬‬
‫والع ِْرض‪ :‬ويأتي على أكثر من معنى‪ ،‬منها‪َ :‬‬

‫أن ُي ْن َت َقص وي ُْثلَب‬

‫ترتيب الضروريات‪ :‬في ترتيبها اتفق الفقهاء على أمرين‬

‫أولهما ‪ :‬تقديم ال ِّديْن على باقي الضروريات ومنها‪ :‬النفس‪ ،‬وإن قال بعض العلماء بتقديم النفس على‬

‫الدين‪ ،‬وأجازوا لِ َمن أُكره على الكفر وقلبه مطمئن باإليمان أن ينطق بلسانه بما يخلِّصه من القتل‪ ،‬حتى‬

‫‪.‬إذا زال اإلكراه عنه أعلن ما في قلبه من اإليمان‬

‫والثاني ‪ :‬تقديم النفس على باقي الضروريات سوى ال ِّديْن‬

‫واختلف الفقهاء في شيئين‬

‫أولهما‪ :‬النسل والعقل أيهما ُي َق َّدم‪ ،‬فاآلمدي في كتابه (اإلحكام) َج َزم بتقديم النسل على العقل‪ ،‬وذهب ابن‬

‫السبكي في (جمع الجوامع) إلى تقديم العقل على النسب‬

‫والثاني‪ :‬العرض والمال أيهما ُي َق َّدم‪ ،‬ف َمن ألحق العرض بالنسب والنسل َق َّدمه على المال‪ ،‬و َمن جعله‬

‫منفصالً مستقالً َق َّدم المال عليه‬

‫‪33‬‬
‫الحا ِج َّيات‪ .‬والكالم فيها كما يأتي‬
‫وثانيها ‪ :‬مرتبة َ‬

‫تعريف الحاجيات‪ :‬يقول إمام الحرمين‪( :‬هي ما َي َت َعلَّق بالحاجة العامة وال َي ْن َتهي إلى ح ّد الضرورة‪ ،‬وهذا‬

‫مثل تصحيح اإلجارة‪ ،‬فإنها‪َ /‬م ْب ِنيّة على مَسِ يْس الحاجة إلى المساكن مع القصور‪ /‬ـ أي العجز حقيقة أو‬

‫حكما ً ـ عن َت َملُّكها ورضّة ُمالّكها بها ـ فالمالك َيضِّن في إعطاء األشياء ـ على سبيل العاريّة‪ ،‬فهذه حاجة‬

‫ظاهرة غير بالغة َم ْبلَغ الضرورة المفروضة في البيع وغيره‬

‫(الحا ِجيّ ‪ :‬هو ما ُي ْفتقر إليه من حيث ال َّت ْوسِ عة ورفع الضيق المؤدي‪ /‬في الغالب إلى‬
‫وقال الشاطبي‪َ :‬‬

‫الح َر ُج والمشق ُة؛‬


‫تراع دخل على المكلَّفين ـ على الجملة ـ َ‬
‫َ‬ ‫الحرج والمشقة الالحقة بفوت المطلوب‪ ،‬فإذالم‪/‬‬

‫‪.‬ولكنه ال يبلغ َمبْلغ الفساد العادي ال ُم َت َو َّقع في المصالح العامة)الموافقات‪ ،‬الشاطبي‪5-2/4 ، /‬‬

‫ومن أمثلتها‪ :‬الرُّ َخصُ المخ ِّف َفة؛ كالفطر زمن وجوب الصيام بسبب المرض أو السفر‪ ،‬ومثل‪ :‬إباحة الصيد‬

‫‪.‬والتمتع بالطيبات مما هو حالل‬

‫الحكمة من الحاجيات‪َ :‬ترْ جع إلى شيئين‬

‫ور ْفع‪/‬‬
‫أولهما‪َ :‬ر ْفع الحرج والمشقة عن المكلفين‪ ،‬إذ د ََو َران الحاجيّات على‪ :‬ال َّت ْوسِ عة والتيسير‪ /،‬والرفق َ‬

‫‪.‬الضيق والحرجالموافقات‪ ،‬الشاطبي ‪5-2/4 ،‬‬

‫والثاني‪ :‬تكميل الضروريات وحِمايتها‪ ،‬يقول الشاطبي‪( :‬األمور الحاجيّة ‪ :‬إنما هي حائمة حول هذه‬

‫الحمى‪ ،‬إذ هي تتردد‪ /‬على الضروريات ُت َكمِّلها‪ ،‬بحيث ترتفع في القيام بها واكتسابها‪ /:‬ال َم َش ّقات‪ ،‬وتميل‬

‫بهم فيها إلى التوسط واالعتدال في األمور‪ ،‬حتى تكون جارية على وجه ال يميل إلى إفراط وتفريط) ثم‬

‫قال‪( :‬فإذا فهم هذا لم َيرْ َتب – من الرَّ يْب والشك– العاقل في أن هذه األمور الحاجية‪ :‬فرو ٌع دائرةٌ حول‬

‫األمور الضرورية) ‪ ،‬وقال أيضاً‪( :‬الحاجيّ مكمِّل للضروري) وقال أيضاً‪( :‬الحاجيّ َي ْخدم الضروري)‬

‫الموافقات‪ ،‬الشاطبي‪2/8 ، /‬‬

‫‪34‬‬
‫وثالثها ‪ :‬مرتبة ال َّتحْ سِ ْي ِنيَّات‪ .‬والكالم فيها كما يأتي‬

‫تعريف التحسينيات‪ :‬يقول الشاطبي‪( /:‬هي‪ :‬األخذ بما يليق من َم َحاسن العادات‪ ،‬و َت َج ُّنب األحوال المد ِّنسات‬

‫‪.‬التي تأنفها العقول الراجحات‪ ،‬و َيجْ مع ذلك‪ :‬قسم‪ /‬مكارم األخالق)‪ .‬الموافقات‪ ،‬الشاطبي‪2/5 ، /‬‬

‫و َذ َك َر أمثلة على ذلك‪ ،‬مثل‪ :‬أخذ الزينة ‪ ،‬والتقرب إلى هللا بنوافل الخيرات‪ ،‬ومثل آداب األكل والشرب‬

‫‪.‬في (العادات)‪ ،‬ومنع بيع النجاسات في (المعامالت)‬

‫ثم قال‪( :‬وقليل األمثلة َي ُد ّل على ما سواها مما هو في معناها‪ ،‬فهذه األمور راجعة إلى محاسن زائدة على‬

‫أصل المصالح الضرورية والحاجيّة؛ إذ ليس فقدانها ب ُم ِخ ّل بأمر ضروري‪ /‬وال حاجيّ ‪ ،‬وإنما َج َر ْ‬
‫ت‬

‫‪.‬مجرى ال َّتحسين وال َّتزيين‪/‬الموافقات‪ ،‬الشاطبي‪2/5 ، /‬‬

‫الحكمة من التحسينيات‪ :‬وترجع‪ /‬إلى شيئين‬

‫أولهما‪ :‬تكميل الضروريات والحاجيّات وحمايتها‪ ،‬يقول الشاطبي‪( :‬كل واحدة من هذه المراتب‪ :‬لما كانت‬

‫مختلفة في تأ ُّكد االعتبار – فالضروريات آكدها ثم َتلِيْها الحاجيات والتحسينيات‪ – /‬وكان مرتبطا ً بعضها‬

‫ببعض‪ ،‬كان في إبطال األخفّ جُرْ أة على ما هو آكد منه‪ ،‬ومدخل لإلخالل به‪ ،‬فصار‪ /‬األخف كأنه ِحمىً‬

‫‪.‬لآلكد‪ ،‬والراتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه) الموافقات‪ ،‬الشاطبي ‪13 -2/12 ،‬‬

‫وقال أيضاً‪( :‬إن كل حاجيّ و َتحْ سيني إنما هو خادم لألصل الضروري وم ُْؤنس‪ /‬به‪ ،‬وم َُحسِّن لصورته‬

‫الخاصة‪ :‬إما مُق ِّد ً‬


‫مة له‪ ،‬أو مقارناً‪ ،‬أو تابعاً‪ ،‬وعلى ك ّل تقدير فهو يدور بالخدمة َح َوالَيْه‪ ،‬فهو أحرى أن‬

‫يتأ ّدى به الضروري‪ /‬على أحسن حاالته)الموافقات‪ ،‬الشاطبي ‪2/14 ،‬‬

‫والثاني‪( :‬كمال األمة في نظامها حتى تعيش أمة آمنة مطمئنة‪ ،‬ولها بهجة منظر المجتمع في مرأى بقية‬

‫األمم حتى تكون األمة اإلسالمية مرغوبا ً في االندماج فيها أو في التقرّ ب منها)المرجع السابق‬

‫‪35‬‬
‫الفصل الثانى‬

‫خصائص الشريعة‬

‫ان المفهوم اإلسالمي للعبادة قد تجسد في الشريعة اإلسالمية العظيمة‪ ،‬التي أمر هللا المؤمنين بتحقيقها في‬

‫األرض وجعلها دستوراً‪ /‬لحياتهم االجتماعية واألخالقية واالقتصادية والسياسية (ثم جعلناك على شريع ٍة‬

‫من األمر فاتبعها‪ /‬وال تتبع أهواء الذين ال يعلمون)(الجاثية‪)18 :‬‬

‫فالشريعة هي ما شرعه هللا لعباده من الدين وأحكامه المختلفة التي شرعها لمنفعة المؤمنين جميعا ً إلى‬

‫قيام الساعة‬

‫وللشرعية خصائص عديدة‪ُ ،‬ت ْلحظ باستقراء األحكام وعللها؛ ألن ال ِّشرْ عة المحمدية قائمة على حفظ‬

‫المقاصد ورعايتها‬

‫يقول الشاطبي‪( :‬الشريعة المباركة المحمدية منـزلة على هذا الوجه‪ ،‬ولذلك كانت محفوظة في أصولها‪/‬‬

‫وفروعها‪ /‬كما قال تعالى‪ (:‬إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون )؛ ألنها ترجع إلى حفظ المقاصد‪ ،‬التي‬

‫بها يكون صالح الدارين‪ ،‬وهي‪ :‬الضروريات‪ /‬والحاجيات‪ /‬والتحسينيات وما هو مكمل ومتمم ألطرافها‪،‬‬

‫وهي أصول الشريعة)الموافقات للشاطبى ج ‪ 1‬ص ‪108‬‬

‫وتمتاز الشريعة اإلسالمية عن غيرها من الشرائع التي قامت وتقوم إلى قيام‪ /‬الساعة بخصائص‪ ،‬أهمها‬

‫أوال ‪ .‬ربانية المصدر والغاية‬

‫أول خصيصة للشريعة اإلسالمية أنها ربانية المصدر والغاية‪ ،‬فهي من هللا‪ ،‬وتهدف‪ /‬إلى بلوغ رضاه‪،‬‬

‫فالمسلم يستمد شرائعه المختلفة من مصدرين أصيلين‪ ،‬هما القرآن الكريم الذي أوحاه هللا بحروفه‪ ،‬ثم‬

‫السنة النبوية‪ ،‬وهي أقوال النبي ‪ -‬صلى هللا عليه وسلم ‪ -‬وأفعاله وتقريراته التي أمر هللا بالتأسي‪ /‬بها بقوله‬

‫تعالى‪( :‬وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا)‪(/‬الحشر‪)7 :‬‬

‫‪36‬‬
‫فالنبي يحمل رسالة هللا إلى الناس‪ ،‬وما يقرره بقوله وفعله إنما هو بوحي هللا وأمره (وما ينطق عن‬

‫‪.‬الهوى ‪ -‬إن هو إال وحي يوحى)(النجم‪)4 - 3 :‬‬

‫ومن هذين المصدرين وتأسيساً‪ /‬على قواعدهما‪ /‬اشتق العلماء عدداً من المصادر‪ /‬الفرعية للشريعة‬

‫‪.‬كاإلجماع والقياس واالستصحاب واالستحسان‪ /‬والعرف‪ /‬وغيرها‬

‫والخروج عن هذه المصادر إلى أحكام البشر إنما هو تحاكم إلى الهوى ومشاركة لغير هللا في إحدى‬

‫خصائصه تبارك وتعالى (أال له الخلق واألمر تبارك هللا رب العالمين)(األعراف‪)54 :‬‬

‫‪.‬فكما خلق وحده فإنه يشرع وحده‪ ,‬ومشاركة غيره له في التشريع اعتداء على حق هللا بالتشريع‬

‫وهو استعباد لخلق هللا‪ ،‬لذلك لما دخل عدي بن حاتم على النبي ‪ -‬صلى هللا عليه وسلم ‪ -‬سمعه يقرأ ‪،‬‬

‫قوله تعالى(اتخذوا‪ /‬أحبارهم ورهبانهم‪ /‬أربابا ً من دون هللا)(التوبة‪)31 :‬‬

‫فاستغرب عدي‪ ،‬حتى فسَّره النبي بقوله‪(( :‬أما إنهم لم يكونوا يعبدونهم‪ ،‬ولكنهم كانوا إذا أحلوا لهم شيئا ً‬

‫استحلوه‪ ،‬وإذا حرموا عليهم شيئا ً حرموه) (أخرجه الترمذي ح(‪)3095‬‬

‫فعبادتهم‪ /‬ألحبارهم‪ ،‬ليس سجودهم وركوعهم‪ /‬لهم‪ ،‬بل اإلذعان لما أحدثوه في الدين في مجامعهم التي‬

‫‪.‬جعلت من رجال الدين مشرعين مع هللا‬

‫وتهدف الشريعة إلى تحقيق رضا هللا الذي شرَّ ع بحكمته البالغة لإلنسانية ما يسعدها في دنياها وأخراها‪/‬‬

‫(كتابٌ أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم‪ /‬إلى صراط العزيز الحميد)‬

‫)إبراهيم ‪(1‬‬

‫وشريعته خير كلها‪ ،‬ألنها صدرت عن هللا العليم بما يصلح أحوالنا وبما يناسب فطرنا وتكويننا (أال يعلم‬

‫من خلق وهو اللطيف الخبير)(الملك‪)14 :‬‬

‫وهي بهذه المثابة تسمو على غيرها من الشرائع البشرية التي يتلبسها قصور اإلنسان وجهله وما يكتنف‪/‬‬

‫تشريعه من الهوى الذي يجعل المشرِّ ع البشري يميل بتشريعاته إلى حراسة مصالحه الشخصية والفئوية‪،‬‬

‫‪.‬كما هو الحال في تشريعات النظم العلمانية‬

‫‪37‬‬
‫أما حين تكون الشريعة إلهية؛ فإنها ال تحابي في أحكامها جنسا ً أو عرقا ً أو لوناً‪ ،‬فالجميع‪ /‬عبيد هلل‬

‫متساوون أمام أحكامه (وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقاً‪ /‬لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا ً عليه فاحكم‬

‫ً‬
‫شرعة ومنهاجاً‪ /‬ولو شاء هللا‬ ‫بينهم بما أنزل هللا وال تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم‬

‫لجعلكم ً‬
‫أمة واحد ًة ولكن ليبلوكم في ما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى هللا مرجعكم جميعا ً فينبئكم‪ /‬بما كنتم فيه‬

‫تختلفون ‪ -‬وأن احكم بينهم بما أنزل هللا وال تتبع أهواءهم واحذرهم‪ /‬أن يفتنوك عن بعض ما أنزل هللا إليك‬

‫فإن تولوا فاعلم أنما يريد هللا أن يصيبهم‪ /‬ببعض ذنوبهم وإن كثيراً من الناس لفاسقون ‪ -‬أفحكم الجاهلية‬

‫‪.‬يبغون ومن أحسن من هللا حكما ً ٍ‬


‫لقوم يوقنون)(المائدة‪)50 - 48 :‬‬

‫إن كون هذه الشريعة من هللا يعطيها هيبة وسلطاناً‪ /‬في النفوس والضمائر‪ /‬ال تجده في قانون ما‪ ،‬فالناس‬

‫منقادون إليها بسلطة اإليمان الذي يمأل قلوبهم‪ ،‬منقادون إليها ظاهراً وباطناً‪ ،‬سراً وعالنية‪ ،‬يرقبون في‬

‫‪.‬ذلك كله جزاء هللا الذي ال يعزب عنه شيء في األرض وال في السماء‬

‫وتتميز الشريعة في مسألة الجزاء عن غيرها من القوانين في أنها القانون الوحيد الذي يجازي في الدنيا‬

‫واآلخرة‪ ،‬فالمؤمن يلتزم حدودها‪ ،‬طمعا ً في سعادة الدنيا التي يعيشها في جنبات الطاعة والفضيلة‪ ،‬ثم هو‬

‫موعود بحسن الجزاء في اآلخرة‪ ،‬بالجنة التي أعدها هللا لألتقياء من عباده‪ ،‬فألجلهما معا ً يمتثل المؤمن‬

‫‪.‬قانون الشريعة ويلتزم‪ /‬به‬

‫وللتعرف على أهمية هذه الخصيصة نذكر أن أمريكا أدركت مضار‪ /‬الخمر الصحية واالجتماعية‬

‫واالقتصادية‪ ،‬وعزمت على تحريمه‪ ،‬وأصدرت تشريعاً‪ /‬بذلك‪ ،‬ثم بذلت الماليين لتنفيذ هذا القانون‪ ،‬وبعد‬

‫سنوات من النفير في األمن والمحاكم‪ ،‬وبعد سجن األلوف من المدمنين عادت أمريكا إلى إباحة الخمر‪،‬‬

‫‪.‬مع يقينها بما فيه من الفساد‪ ،‬لكنها عجزت وعجز قانونها‪ /‬البشري‪ /‬أن يجد له بين الناس قبوالً‬

‫وفي مقابله فإن اإلسالم حين حرم الخمر‪ ،‬لم يستعن بشرطة أو جنود‪ /‬أو محاكم‪ ،‬ولم يجد عنتا ً وال مشقة‬

‫في جعل المجتمع المسلم أطهر المجتمعات اإلنسانية‪ ،‬بابتعاده عن المسكرات بأنواعها‪ ،‬إن طهارة‬

‫‪38‬‬
‫المجتمع من هذه اآلفة لم يتطلب سوى آية أنزلها هللا في تحريمه‪ ،‬وهي قوله‪( :‬يا أيها الذين آمنوا إنما‬

‫‪.‬الخمر والميسر واألنصاب واألزالم‪ /‬رجسٌ من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون)(المائدة‪)90 :‬‬

‫فالتزم أصحاب النبي ‪ -‬صلى هللا عليه وسلم ‪ -‬بذلك‪ ،‬بل وتساءلوا عن مصير إخوانهم ممن شرب الخمر‬

‫ُ‬
‫كنت ساقي‪ /‬القوم في منزل أبي طلحة‪ ،‬فنزل تحريم‪ /‬الخمر‪ ،‬فأمر‬ ‫ومات قبل تحريمها‪ ،‬يقول أنس بن مالك‪:‬‬

‫ُ‬
‫فخرجت‪ ،‬فقلت‪ :‬هذا مناد‬ ‫مناديا ً فنادى‪ ،‬فقال أبو طلحة ألنس‪ :‬اخرج فانظر‪ /‬ما هذا الصوت؟ قال أنس‪:‬‬

‫ْ‬
‫فجرت في سِ كك المدينة‬ ‫ينادي‪ :‬أال إن الخمر قد حرمت‪ .‬فقال لي‪ :‬اذهب فأهرقهاقال أنس‪:‬‬

‫فقال بعض القوم‪ :‬قُتِل قوم وهي في بطونهم؟‬

‫فأنزل هللا‪( :‬ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا‪ /‬إذا ما اتقوا وآمنوا‪ /‬وعملوا‬

‫الصالحات ثم اتقوا وآمنوا‪ /‬ثم اتقوا وأحسنوا‪ /‬وهللا يحب المحسنين)(المائدة‪)93 :‬‬

‫أخرج الحديث البخاري‪ /‬ح (‪()4620‬‬

‫أي لن يحاسبوا عن شربها قبل التحريم ألنه ال عقوبة إال بتشريع‬

‫ثانيا ‪ .‬العدل والمساواة‬

‫العدل اسم من أسماء هللا تعالى‪ ،‬وهو صفة الزمة للرب في أوامره وتشريعاته وجزائه‪ ،‬ومظاهر‪ /‬عدل هللا‬

‫في شرائعه كثيرة‪ ،‬من أولها أنه تعالى ال يحاسب اإلنسان على ما ال يقدر عليه‪ ،‬بل لم يكلفه أصالً بما‬

‫يعجزه (ال يكلف هللا نفسا ً إال وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا ال تؤاخذنا‪ /‬إن نسينا أو أخطأنا‬

‫ربنا وال تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا ربنا وال تحملنا ما ال طاقة لنا به) (البقرة‪:‬‬

‫‪)286‬‬

‫فشرائع هللا مبناها على اليسر والسهولة (يريد هللا بكم اليسر وال يريد بكم العسر)(البقرة‪)185 :‬‬

‫حرج ولكن يريد ليطهركم‪ /‬وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون(‬


‫ٍ‬ ‫)المائدة‪) (6 :‬ما يريد هللا ليجعل عليكم من‬

‫‪39‬‬
‫والنبي ‪ -‬صلى هللا عليه وسلم ‪ -‬يقول‪( :‬أحب الدين إلى هللا الحنيفي ُة السمح ُة)‪ .‬أخرجه البخاري ح(‬

‫‪)2108‬معلقا ً باب (الدين يسر)‬

‫ومن عدله تبارك وتعالى‪ /‬أنه رفع التكليف بأحكام الشريعة عن األطفال الذين لم يحوزوا‪ /‬كمال العقل الذي‬

‫يجيز محاسبتهم‪ ،‬كما أسقطه عمن ح ُِرم نعمة العقل ابتداءً‪ ،‬يقول ‪ -‬صلى هللا عليه وسلم‪( :- /‬رفع القلم عن‬

‫ثالثة‪ :‬عن النائم حتى يستيقظ‪ ،‬وعن الصبي حتى يشبَّ ‪ ،‬وعن المعتوه حتى يعقل) (أخرجه الترمذي )‬

‫كما يعفو هللا عمن وقع في الخطأ‬

‫من غير إرادته لذلك أو من وقع فيه مكرها ً أو ناسيا ً تحريمه‪ ،‬فقد قال ‪ -‬صلى هللا عليه وسلم ‪( :-‬إن هللا‬

‫‪.‬تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا‪ /‬عليه) أخرجه ابن ماجه ح‪304‬‬

‫وإذا كانت الشريعة ال تحاسب من هو دون التكليف على خطئه؛ فإنه يعلم أنها ‪ -‬من باب أولى ‪ -‬ال‬

‫تحاسبه على ذنب غيره‪ ،‬فالمرء مسؤول‪ /‬عن عمله الشخصي (قل أغير هللا أبغي ربا ً وهو رب كل شي ٍء‬

‫نفس إال عليها وال تزر وازرةٌ وزر أخرى ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم‪ /‬بما كنتم فيه‬
‫وال تكسب كل ٍ‬

‫‪.‬تختلفون)(األنعام‪)164 :‬‬

‫وعليه فاإلسالم ال يقر بالذنب األصلي المتوارث عن األبوين (آدم وحواء)‬

‫فاألبوان تحمال وزريهما بنفسيهما‪ ،‬واستغفرا هللا منه‪ ،‬فتاب عليهما‪ ،‬وال عالقة لذريتهما‪ /‬بذنبهما‪ /‬من‬

‫قريب أو بعيد‪ ،‬بل ك ٌّل مسؤول‪ /‬عن عمله (فتلقى آدم من ربه كلما ٍ‬
‫ت فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم ‪-‬‬

‫قلنا اهبطوا منها جميعا ً فإما يأتينكم مني ً‬


‫هدى فمن تبع هداي فال خوفٌ عليهم وال هم يحزنون ‪ -‬والذين‬

‫‪.‬كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون)(البقرة‪)39 - 37 :‬‬

‫وأيضا ً فإن شرائع هللا تبارك وتعالى راعت ‪ -‬لعدالتها ‪-‬الفروق بين الذكر واألنثى‪ ،‬فلم تكلف المرأة بما ال‬

‫يالئم طبيعتها‪ /‬كالجهاد والخروج من المنزل للتكسب واإلنفاق‪ ،‬وغيرهما مما ال يتناسب وأنوثتها‪ /‬أو‬

‫‪.‬يخالف رونق حياتها وصفاء أحاسيسها‬

‫‪40‬‬
‫ولم تميز الشريعة العادلة في أحكامها العامة بين ملك وسوقة‪ ،‬وال بين أبيض وأسود‪ ،‬وال بين غني‬

‫وفقير‪ ،‬فالجميع متساوون أمام شرائع هللا‪ ،‬فقد خطب النبي ‪ -‬صلى هللا عليه وسلم ‪ -‬في ما يربو‪ /‬على مائة‬

‫ألف من أصحابه‪ ،‬فقال‪(( :‬يا أيها الناس‪ ،‬أال إن ربكم واحد‪ ،‬وإن أباكم واحد‪ ،‬أال ال فضل لعربي على‬

‫أعجمي‪ ،‬وال لعجمي على عربي‪ ،‬وال ألحمر على أسود‪ ،‬وال أسود على أحمر؛ إال بالتقوى) أخرجه‬

‫أحمدح‪22978‬‬

‫ذكر وأنثى‬
‫فالخيرية مبناها على العبادة واالستقامة‪ ،‬ال الحسب والجاه‪( ،‬يا أيها الناس إنا خلقناكم من ٍ‬

‫وجعلناكم شعوباً‪ /‬وقبائل لتعارفوا‪ /‬إن أكرمكم‪ /‬عند هللا أتقاكم إن هللا علي ٌم خبيرٌ)(الحجرات‪)13 :‬‬

‫وقد طبَّق النبي ‪ -‬صلى هللا عليه وسلم ‪ -‬بنفسه عدل اإلسالم وقِ َيمه حين رفض التمييز في إقامة الشرائع‬

‫بين شريف ووضيع‪ ،‬فقد حكم ‪ -‬صلى هللا عليه وسلم‪ - /‬على سارقة من أشراف‪ /‬قريش‪ /‬بقطع يدها‬

‫الخؤون‪ ،‬فاستشفع الناس لها‪ ،‬طلبوا‪ /‬من أسامة بن زيد ‪-‬بما له من مكانة عند النبي ‪ -‬صلى هللا عليه وسلم‬

‫‪ -.‬أن يشفع لها عنده‪ ،‬فقال له ‪ -‬صلى هللا عليه وسلم ‪( :-‬أتشفع في حد من حدود هللا)‬

‫ثم قام فخطب الناس‪ ،‬فقال‪( :‬إنما أهلك الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه‪ ،‬وإذا سرق‬

‫ْ‬
‫سرقت (أي ابنته ‪ -‬صلى هللا عليه وس‬ ‫فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد‪ ،‬وأ ْي ُم هللا لو أن فاطمة بنت محمد‬

‫ُ‬
‫لقطعت يدها) أخرجه البخاري ح (‪ ،)3475‬ومسلم ح‪1688‬‬

‫وهكذا فالعدل سمة شريعة هللا الذي أمر به وشرعه بين خلقه(إن هللا يأمر بالعدل واإلحسان وإيتاء ذي‬

‫القربى وينهى‪ /‬عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون)(النحل‪)90 :‬‬

‫ثالثا‪ .‬الشمول والتوازن‬

‫لما كان اإلسالم رسالة هللا الخاتمة وكلمته الباقية إلى قيام الساعة‪ ،‬فإن هللا تلطف فيه على اإلنسانية بكل‬

‫ما يصلح شؤونها في دار معاشها ثم في دار جزائها‪ ،‬فكملت أنعم هللا بكمال تشريعاته (اليوم أكملت لكم‬

‫‪.‬دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم اإلسالم ديناً)(المائدة‪)3 :‬‬

‫‪41‬‬
‫واإلسالم بنيان شمولي‪ /‬يغطي مناحي الحياة المختلفة‪ ،‬فهو دين عبادة‪ ،‬وهو أيضا ً منظومة من الشرائع‬

‫‪.‬األخالقية واالجتماعية‪ ،‬واالقتصادية والسياسية التي تحقق سعادة الفرد والمجتمع في الدنيا ثم اآلخرة‬

‫إن اإلسالم ينظم عالقات اإلنسان المختلفة من ميالده إلى وفاته‪ ،‬وهو يحرس حقوقه حتى فيما قبل الميالد‬

‫وما بعد الوفاة‪ ،‬وأما ما بينهما فإنه يتناول‪ /‬أحكامه تفاصيل سلوكه الشخصي بما يتضمنه من عادات‬

‫وآداب‪ ،‬وهو ير ِّشد أيضا ً عالقة اإلنسان مع أسرته ومجتمعه‪ ،‬ال بل يتناول حاله مع الكون كله بما فيه من‬

‫طائر يطير بجناحيه إال أم ٌم أمثالكم ما فرطنا‪ /‬في الكتاب من‬


‫ٍ‬ ‫حيوان وجماد (وما من داب ٍة في األرض وال‬

‫‪.‬شي ٍء)(األنعام‪)38 :‬‬

‫أما على الصعيد الجماعي فإن شرائع اإلسالم تنظم المجتمع وتضبط حقوق من فيه وواجباتهم‪ /،‬وتنظم‬

‫عالقة الدولة واألمة المسلمة مع القريب من الناس والبعيد (ونزلنا عليك الكتاب تبيانا ً لكل شي ٍء ً‬
‫وهدى‬

‫ً‬
‫ورحمة وبشرى للمسلمين)(النحل‪)89 :‬‬‫‪.‬‬

‫وتلبي هذه الشرائع حاجات اإلنسان المختلفة‪ ،‬فهي تعنى بجسده‪ ،‬وال تهمل روحه‪ ،‬تبتغي اآلخرة‪ ،‬وال‬

‫تفرط في الدنيا‪ ،‬تربط المجتمع وال تغفل مصالحه‪ ،‬وهي في نفس الوقت تحقق ذاتية الفرد وتحرس‬

‫‪.‬مصالحه وحقوقه‪ ،‬توازن عجيب‪ ،‬ال إفراط فيه وال تفريط‪ ،‬وأي عجب‪ ،‬فذلك تقدير اللطيف الخبير‬

‫رابعا ‪ .‬المثالية الواقعية‬

‫كثيراً ما تجنح الشرائع التي يشرعها اإلنسان نحو المثالية التي ال تتحقق‪ ،‬فجمهورية أفالطون الفاضلة لم‬

‫تجاوز عقله وقلمه‪ ،‬وفي مقابله قد يخضع البعض للواقع الجاثم على المجتمع‪ ،‬فيعمد إلى تكييف نفسه‬

‫ومبادئه مع الحالة الراهنة اعترافا ً بوطأة هذا الواقع وإذعانا ً له‪ ،‬فحين عجزت مجتمعات الغرب عن منع‬

‫الخمر أو الزنا أو الفواحش لم تجد ما يمنعها من االعتراف بهذا الواقع وتقنينه‪ ،‬ليصبح شرعة مباحة عند‬

‫الناس؛ تفني الجنس البشري‪ /‬وتهدد‪ /‬وجوده بما تحمله تلك اآلثام من أمراض وباليا اجتماعية‪ ،‬ليتحقق ما‬

‫‪42‬‬
‫أخبر به ‪ -‬صلى هللا عليه وسلم‪ - /‬بقوله‪( :‬لم تظهر الفاحشة في قوم‪ /‬قط حتى يعلنوا بها إال فشا فيهم‬

‫الطاعون واألوجاع‪ /‬التي لم تكن مضت في أسالفهم‪ /‬الذين مضوا)‪.‬أخرجه ابن ماجه ح‪401‬‬

‫وأما اإلسالم فإنه دين واقعي مثالي‪ ،‬فواقعيته مبنية على أنه سلوك إنساني يعيشه الناس يومياً‪ ،‬وأما‬

‫‪.‬مثاليته فيحققها أنه يهدف إلى إصالح المجتمع‪ ،‬وال يرضى بالتعايش والمهادنة مع الخطأ والرذيلة‬

‫واقعيته يوضحها تالؤم تشريعاته مع فطرة اإلنسان وتحقيقها لحاجاته ورغباته التي علمها هللا فشرع‪ /‬ما‬

‫يناسبها (أال يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير)(الملك‪)14 :‬‬

‫فلم يأمر اإلسالم بالتعفف عن النكاح‪ ،‬وال منع من استحالت عليهم الحياة الزوجية من االفتراق بالطالق‬

‫‪(.‬وإن يتفرقا‪ /‬يغن هللا كال من سعته وكان هللا واسعاً‪ /‬حكيماً)(النساء‪)130 :‬‬

‫ولم يأمر اإلسالم بإعطاء الخد األيسر لمن ضرب الخد األيمن‪ ،‬بل شرع ما يرد اإلساءة ويردع الجاني‬

‫ٌ‬
‫سيئة‬ ‫ويمنعه من التمادي‪ ،‬ولكنه رغب أيضا ً في العفو والمسامحة والصفح‪ ،‬قال تعالى‪( :‬وجزاء سيئ ٍة‬

‫مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على هللا إنه ال يحب الظالمين ‪ -‬ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك‪ /‬ما عليهم من‬

‫سبيل) (الشورى‪)41 - 40 /:‬‬


‫‪ٍ .‬‬

‫وتسطع هذه المزاوجة بين الواقع والمثال في تدرج اإلسالم في معالجة األمراض واآلثام‪ /‬المستفحلة في‬

‫المجتمع‪ ،‬فعندما بُعث النبي ‪ -‬صلى هللا عليه وسلم‪ - /‬في أمة تشرب الخمر ُ‬
‫شر َبها للماء؛ تدرج في تحريم‬

‫الخمر‪ ،‬فأشار‪ /‬أوالً إلى ما فيها من السوء‪ ،‬ليهجرها‪ /‬أصحاب العزائم واألحالم‪( :‬يسألونك عن الخمر‬

‫والميسر قل فيهما إث ٌم كبي ٌر ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما ويسألونك‪ /‬ماذا ينفقون قل العفو كذلك‬

‫يبين هللا لكم اآليات لعلكم تتفكرون)(البقرة‪)219 :‬‬

‫فالخمر فيها منافع محدودة (كالتجارة) لكن ما فيها من اإلثم والضرر أعظم‬

‫ثم في مرحلة أخرى منع المسلمين من تناولها‪ /‬سائر‪ /‬النهار‪ ،‬ألنها تشغل عن الصالة وتفسدها‪ ،‬فتضايق‪/‬‬

‫عليهم وقت شربها (يا أيها الذين آمنوا ال تقربوا الصالة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون)(النساء‪:‬‬

‫‪)43.‬‬

‫‪43‬‬
‫لما نزلت هذه اآلية أحس الصحابة أن هللا يشدد عليهم في الخمر‪ ،‬فدعا عمر ‪ -‬رضي هللا عنه ‪ -‬هللا فقال‪:‬‬

‫اللهم بيِّن لنا في الخمر بيان شفاء‪ ،‬فنزل قوله تعالى‪( :‬يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر‪ /‬واألنصاب‬

‫واألزالم رجسٌ من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون ‪ -‬إنما يريد الشيطان أن يوقع‪ /‬بينكم العداوة‬

‫والبغضاء في الخمر والميسر‪ /‬ويصدكم‪ /‬عن ذكر هللا وعن الصالة فهل أنتم منتهون)(المائدة‪)91 - 90 :‬‬

‫ف ُدعي عمر‪ ،‬فقُرئت عليه‪ ،‬فقال‪( :‬انتهينا انتهينا)أخرجه الترمذى ح ‪3049‬‬

‫تقول أم المؤمنين عائشة‪( :‬إنما نزل أول ما نزل منه [أي من القرآن] سورة من المفصل فيها ذكر الجنة‬

‫والنار‪ ،‬حتى إذا ثاب الناس إلى اإلسالم؛ نزل الحالل والحرام‪ ،‬ولو نزل أول شيء‪ :‬ال تشربوا‪ /‬الخمر‪.‬‬

‫‪.‬لقالوا‪ :‬ال ندع الخمر أبداً‪ ،‬ولو نزل‪ :‬ال تزنوا‪ .‬لقالوا‪ :‬ال ندع الزنا أبداً)أخرجه البخارى‪4993 /‬‬

‫لهذا ولغيره يدعو المستشرق الشهير جوزيف‪ /‬شاخت المحاضر في الدراسات اإلسالمية في جامعتي‬

‫أكسفورد وليدن في كتابه "تراث اإلسالم" إلى دراسة الشريعة اإلسالمية‪ ،‬فيقول‪" :‬من أهم ما أورثه‬

‫ضر‪ /‬قانونه الديني الذي يسمى (بالشريعة)‪ ،‬والشريعة اإلسالمية تختلف اختالفا ً‬
‫اإلسالم للعالم المتح ّ‬

‫واضحا ً عن جميع أشكال القانون إلى ح ّد أن دراستها‪ /‬أمر ال غنى عنه؛ لكي نقدر المدى الكامل لألمور‬

‫القانونية تقديراً كافيا ً ‪ ..‬إن الشريعة اإلسالمية شيء فريد‪ /‬في بابه‪ ،‬وهي جملة األوامر‪ /‬اإللهية التي تنظم‬

‫حياة كل مسلم من جميع وجوهها‪ ،‬وهي تشتمل على أحكام خاصة بالعبادات والشعائر الدينية كما تشتمل‬

‫على قواعد سياسية وقانونية) من كتاب قالوا عن اإلسالم ‪ ..‬عماد الدين خليل ص ‪203‬‬

‫خامسا ‪ :‬العموم واالطراد‬

‫َت ْشمل جميع أنواع التكليف والمكلَّفين واألحوال‪ ،‬و َت ّ‬


‫طرد دون َت َخلُّف‪ ،‬يقول الشاطبي‪( :‬إذا ثبت أن‬

‫الشارع قد قصد‪ /‬بالتشريع إقامة المصالح األخروية والدنيوية‪ ،‬وذلك على وجه ال يختل لها به نظام‪ ،‬ال‬

‫بحسب الكل وال بحسب الجزء‪ ،‬وسواء في ذلك ما كان من قبيل الضروريات‪ /‬أو الحاجيات أو‬

‫التحسينيات‪ ،‬فإنها لو كانت موضوعة بحيث يمكن أن يختل نظامها أو تختل أحكامها‪ :‬لم يكن التشريع‬

‫موضوعا ً لها‪ ،‬إذ ليس كونها مصالح إذ ذاك بأولى من كونها مفاسد‪ ،‬لكن الشارع قاصد بها أن تكون تلك‬

‫‪44‬‬
‫مصالح على اإلطالق‪ ،‬فال بد أن يكون وضعها‪ /‬على ذلك الوجه أبديا ً وكلياً‪ ،‬وعاما ً في جميع أنواع‬

‫التكليف والمكلفين وجميع األحوال‪ ،‬وكذلك َو َج ْدنا األمر فيها)الموافقات للشاطبى ج‪ 2‬ص‪62‬‬

‫سادسا ‪:‬الثبوت من غير زوال‬

‫يقول الشاطبي‪( :‬فلذلك ال تجد فيها بعد كمالها نسخا ً وال تخصيصا ً لعمومها‪ ،‬وال تقييداً إلطالقها‪ ،‬وال‬

‫رفعا ً لحكم من أحكامها‪ :‬ال بحسب عموم المكلفين‪ ،‬وال بحسب خصوص بعضهم‪ ،‬وال بحسب زمان دون‬

‫زمان وال حال دون حال)‬

‫ودلي ُل الثبوت‪ :‬االستقرا ُء التام‪ ،‬يقول الشاطبي‪( :‬ويدل على ذلك االستقراء التام‪ ،‬وأن الشريعة مبنية على‬

‫حفظ الضروريات والحاجيات والتحسينات‪ /‬وجميع ذلك لم ينسخ منه شيء‪ ،‬بل إنما أتى بالمدينة ما يُقوّ يها‬

‫ويُحْ كِمها وي َُحصِّنها‪ ،‬وإذا كان كذلك‪ :‬لم َي ْثبت نسخ لكلي الب ّتة‪ ،‬ومن استقرأ ُكتب الناسخ والمنسوخ تح ّقق‬

‫هذا المعنى‪ ،‬فإنما‪ /‬يكون النسخ في الجزئيات منها)المصدر السابق ج ‪ 3 /‬ص ‪338-‬‬

‫سابعا‪ :‬كونها حاكمة غير محكوم عليها‬

‫ألنها كالروح لألعمال‪ ،‬يقول الشاطبي‪( :‬فإن المقاصد أرواح األعمال؛ فقد صار العمل ذا روح على‬

‫الجملة)الموافقات للشاطبى‪ /‬ج ‪ 3‬ص ‪44‬‬

‫‪:‬ولما كانت حاكمة لإلنسان جاءت‬

‫أ‪ :‬مراعية لفطرته‬

‫يقول ابن عاشور‪( /:‬ونحن إذا أجلنا النظر في المقصد العام من التشريع …نجده ال يعدو أن يساير حفظ‬

‫‪.‬الفطرة‪ ،‬والحذر‪ /‬من خرقها‪ /‬واختاللها)ابن عاشور‪ ،‬مقاصد الشريعة اإلسالمية‪ ،‬ص‪59 :‬‬
‫‪45‬‬
‫ب ‪ :‬حاملة على التو ُّسط‪/‬‬

‫يقول الشاطبي‪( :‬مقصد الشارع‪ /‬من المكلّف َ‬


‫الح ْمل على التوسُّط من غير إفراط وال تفريط )الموافقات‬

‫للشاطبى ج ‪ 5‬ص والوسط هو معظم الشريعة وأم الكتاب‪ ،‬ومن تأمل موارد األحكام باالستقراء التام‬

‫عرف ذلك‪276‬‬

‫‪46‬‬
‫الباب الثانى‬

‫علم مقاصد الشريعة تعريفه ومراحله وأهميته‬

‫الفصل األول ‪ :‬تعريف‪ /‬علم المقاصد ومراحل نشأته‬

‫الفصل الثانى‪ :‬أهمية المقاصد وفوائدها‬

‫الفصل األول‬

‫‪ :‬تمهيد‬

‫لقد شغل موضوع‪ /‬المقاصد في اآلونة األخيرة مساحة واسعة في كتابات العلماء والباحثين بشتى‬

‫اتجاهاتهم العلمية‪ ،‬مما يدل على صحوة علمية في هذا المجال وتجاوز لحالة السبات التي أصابت القرون‬

‫المتأخرة بسبب سيادة منطق التقليد والتبعية في أخذ األحكام مجردة عن الدليل‬

‫وهي حالة حرص العلماء من المحققين على عالجها وإعادتها إلى أصولها الصحيحة‪ ،‬والنظر‪ /‬المقاصدي‬

‫بالرغم من كونه لم ينضج إال في فترة متأخرة ـ وهي القرن الثامن الهجري ـ من خالل كتابات شيخ‬

‫اإلسالم ابن تيمية في جانبها التطبيقي واإلمام الشاطبي‪ /‬في جانبها التنظيري‪ /،‬إال أن كتابات المتقدمين لم‬

‫تخل من إشارات إلى هذا العلم كما هو الحال في كتابات إمام الحرمين الجويني‪ /‬والغزالي والعز بن عبد‬

‫السالم ـ رحم هللا الجميع ـ‪ ،‬كما أن الغالب على كتب األصوليين بحثها لمقاصد الشريعة في ثنايا كالمهم‬

‫في باب القياس‬

‫وعلى الرغم من أهمية هذا العلم في جوانب مختلفة وأهمها الكشف عن مقاصد الشارع في وضعه‬

‫للشريعة‪ ،‬وإعانة العلماء المجتهدين في استنباط‪ /‬األحكام وبيان عللها‪ ،‬إال أن الغالب على كتب األصول‬

‫‪47‬‬
‫بحث مسائل التعليل في باب القياس مقتصرة على النظر التجزيئي‪ ،‬بمعنى معرفة العلة في األصل الذي‬

‫انبنى عليه الحكم وتعديته في الفرع عند تحقق هذه العلة فيه‪ ،‬فكان النظر في التعليل جزئيا ً دون تجاوزه‬

‫إلى النظر الكلي‪ ،‬باإلضافة إلى انشغال األصوليين بالمباحث اللفظية والحرفية على حساب النظر‬

‫المقاصدي‪ ،‬والمنهج الشرعي يقتضي الجمع بين األخذ بظواهر‪ /‬النصوص واعتبار مقاصدها‬

‫وهذا ما دفع العلماء من المحققين إلى بيان محاسن الشريعة‪ ،‬وإظهار خصائصها‪ /،‬وتجلية الحكم‬

‫والمصالح التي تسعى إلى تحقيقها‪ ،‬منطلقين في ذلك من النصوص الشرعية المحكمة‬

‫تعريف مقاصد الشريعة اإلسالمية ومراحل نشأته‬

‫ص َد‪ /:‬االعتماد واألَ ّم ـ بفتح الهمزة مع تشديد الميم ـ‪ ،‬تقول ‪:‬‬ ‫كلمة مقاصد‪َ ،‬ج ْمعُ‪َ :‬م ْق َ‬
‫صد‪ ،‬ومن معاني َق َ‬

‫البيت الحرام‪ ،‬إذا أَمّوا تلك الجهة واعتمدوها‬


‫َ‬ ‫قصد الحجا ُج‬

‫ومقاصد‪ :‬جمع مقصد‪ ،‬والمقصد‪ /:‬مصد ميمي مشتق من الفعل قصد‪ ،‬فيقال‪ :‬قصد يقصد قصداً‪ /‬ومقصداً‬

‫وعليه فإن المقصد له معان لغوية كثيرة منها‬

‫(و َعلَى هّللا ِ َقصْ ُد الس َِّب ِ‬


‫يل َو ِم ْن َها‪َ /‬جآ ِئرٌ‪()...‬النحل‪*)9 :‬‬ ‫االعتماد والتوجه واستقامة الطريق‪ /.‬قال تعالى‪َ :‬‬

‫(وا ْقصِ ْد فِي َم ْش ِي َ‬


‫ك‪()...‬لقمان‪ .)19 :‬وقال الرسول – صلى *‬ ‫التوسط وعدم اإلفراط والتفريط‪ /‬قال تعالى‪َ :‬‬

‫هللا عليه وسلم –‪" :‬القص َد القص َد تبلُ ُغوا"‪(.‬أخرجه البخاري في كتاب ِّ‬
‫الرقاق)‬

‫‪48‬‬
‫‪:‬تعريف الشريعة لغة‬

‫الشريعة ُتطلق في اللغة على مورد‪ /‬الماء ومنبعه ومصدره‪ .‬كما ُتطلق على ال ِّدين والملَّة والطريقة‬

‫والمنهاج والسنة‪ .‬والشريعة والشرع وال ِّشرْ عة بمعنى واحد‬

‫ووجه إطالق الشريعة على منبع الماء ومصدره أن الماء مصدر حياة اإلنسان والحيوان والنبات‪ ،‬وأن‬

‫الدين اإلسالمي مصدر حياة النفوس وصالحها‪ /‬وتقدمها وسالمتها في الدنيا واآلخرة‪.‬فالشريعة اإلسالمية‬

‫مصدر كل الخير والرخاء والسعادة في العاجل واآلجل‪ ،‬في المعاش والمعاد‪ ،‬قال تعالى‪َ { :‬يا أَ ُّي َها الَّذ َ‬
‫ِين‬

‫‪.‬آ َم ُنو ْا اسْ َت ِجيبُو ْا هّلِل ِ َولِلرَّ س ِ‪/‬‬


‫ُول إِ َذا َد َعا ُكم لِ َما يُحْ ِيي ُك ْم‪( }...‬األنفال‪)24 :‬‬

‫‪:‬تعريف لفظ اإلسالمية‬

‫لفظ اإلسالمية مشتق من كلمة اإلسالم‪ ،‬واإلسالم‪ /‬لغة‪ :‬االنقياد واالستسالم هلل سبحانه تعالى بتوحيده‬

‫وعبادته واالمتثال إلى أوامره واجتناب نواهيه‪ .‬وإطالق اإلسالمية على المقاصد دليل على أن هذه‬

‫المقاصد مستندة إلى اإلسالم‪ ،‬منبثقة منه ومتفرعة عنه‪ ،‬وليست مستقلة عنه أو مخالفة له‬

‫‪:‬التعريف االصطالحي لمقاصد الشريعة اإلسالمية‬

‫لم يوجد عند العلماء األوائل تعريف واضح أو محدد أو دقيق لمقاصد الشريعة‪ ،‬وإنما وجدت كلمات‬

‫وجُمل لها تعلق ببعض أنواعها وأقسامها‪ ،‬وببعض تعبيراتها‪ /‬ومرادفاتها‪ ،‬وبأمثلتها‪ /‬وتطبيقاتها‪ ،‬وبحجيتها‪/‬‬

‫وحقيقتها‪ .‬فقد ذكروا الكليات المقاصدية الخمس (حفظ الدين والنفس والعقل والنسل أو النسب والمال)‬

‫وذكروا‪ /‬المصالح الضرورية والحاجية والتحسينية‪ .‬وذكروا‪ /‬بعض الحكم واألسرار والعلل المتصلة‬

‫بأحكامها وأدلتها‪ .‬وذكروا‪ /‬أدلة من المنقول والمعقول الدالة على حقية المقاصد وحجيتها‪ ،‬ووجوب‬

‫مراعاتها واالعتماد عليها بشروط معينة وضوابط مقررة‪ ،‬وبدون الخروج عن الشرع أو معارضة أدلته‬

‫ومصادمة تعاليمه وقواعده وأصوله‪ .‬كما أنهم عبروا عن المقاصد بتعبيرات كثيرة دلت في مجملها‬

‫بالتصريح والتلميح والتنصيص‪ /‬واإليماء على التفات هؤالء األعالم إلى مراعاة المقاصد واستحضارها‪/‬‬

‫‪.‬في عملية فهم النصوص واألحكام واالجتهاد‪ /‬فيها والترجيح بينها‬

‫‪49‬‬
‫ومن تلك التعبيرات واالشتقاقات‪:‬المصلحة والحكمة والعلة والمنفعة والمفسدة واألغراض والغايات‬

‫واألهداف والمرامي‪ /‬واألسرار والمعاني‪ /‬والمراد والضرر‪ /‬واألذى وغير ذلك مما هو مبعوث في‬

‫‪.‬مصادره ومظانه‬

‫‪:‬تعريف العلماء المعاصرين للمقاصد‬

‫حظيت مقاصد الشريعة في العصر الحديث بعناية خاصة من قبل العلماء والباحثين؛ وذلك ألهميتها‬

‫ودورها‪ /‬في عملية االجتهاد الفقهي‪ ،‬وفي‪ /‬معالجة قضايا الحياة المعاصرة في ضوء األدلة والنصوص‬

‫والقواعد الشرعية‪ ،‬وكان من ضروب هذا االعتناء تدوين المقاصد وتأليفها‪ /‬واعتبارها‪ /‬علما ً شرعيا ً وفنا ً‬

‫‪.‬أصوليا ً له ما لسائر العلوم والفنون من تعريفات ومصطلحات وتقسيمات وغير ذلك‬

‫‪:‬وقد وردت عدة تعريفات لهذا العلم نوردها‪ /‬فيما يلي‬

‫عرَّ فها الشيخ محمد الطاهر بن عاشور بأنها‪ :‬المعاني والحكم الملحوظة للشارع في جميع أحوال ‪1-‬‬

‫التشريع أو معظمها‪ ،‬بحيث ال تختص مالحظتها بالكون في نوع خاص من أحكام الشريعة‪ ،‬فيدخل في‬

‫هذا أوصاف‪ /‬الشريعة وغاياتها العامة والمعاني التي ال يخلوا التشريع عن مالحظتها‪ ...‬ويدخل في هذا‬

‫معان من الحكم ليست ملحوظة في سائر أنواع األحكام ولكنها‪ /‬ملحوظة في أنواع كثيرة منها‪( .‬مقاصد‬

‫‪.‬الشريعة البن عاشور ص ‪)51‬‬

‫عرفها الفاسي بقوله‪ :‬المراد بمقاصد الشريعة اإلسالمية‪ :‬الغاية منها واألسرار التي وضعها الشارع ‪2-‬‬

‫‪.‬عند كل حكم من أحكامها‪( .‬مقاصد الشريعة اإلسالمية ومكارمها ص ‪)3‬‬

‫عرفها الريسوني بقوله‪ :‬إن مقاصد الشريعة هي الغايات التي وضعت الشريعة ألجل تحقيقها لمصلحة ‪3-‬‬

‫‪.‬العباد‪( .‬نظرية المقاصد عند الشاطبي‪ ،‬د‪.‬أحمدالريسوني ص ‪)7‬‬

‫‪50‬‬
‫عرفها الدكتور محمد بن سعد بن أحمد بن سعود اليوبي‪ :‬المقاصد هي المعاني والحكم ونحوها‪ /‬التي ‪4-‬‬

‫راعاها الشارع في التشريع عموما ً وخصوصاً‪ /‬من أجل تحقيق مصالح العباد‪( .‬مقاصد الشريعة‬

‫‪.‬اإلسالمية وعالقتها باألدلة الشرعية ص ‪)37‬‬

‫عرفها فتحي الدريني‪ :‬وهي القسم التي تمكن وراء الصيغ والنصوص‪ ،‬ويستخدمها التشريع كليات‪5-‬‬

‫‪.‬وجزئيات‪( .‬مقاصد المكلفين عند األصوليين‪)1/35 ،‬‬

‫الخالصة‪:‬إن المقاصد الشرعية هي جملة ما أراده الشارع الحكيم من مصالح ترتيب على األحكام‬

‫الشرعية‪ ،‬كمصلحة الصوم والتي هي بلوغ التقوى‪ ،‬ومصلحة الجهاد والتي هي رد العدوان والذب عن‬

‫األمة‪ ،‬ومصلحة الزواج والتي هي غض البصر وتحصين الفرج وإنجاب الذرية وإعمار الكون‪ .‬وهذه‬

‫المصالح كثيرة ومتنوعة‪ ،‬وهي تجتمع في مصلحة كبرى وغاية كلية‪ :‬هي تحقيق عبادة هللا‪ ،‬وإصالح‬

‫{ولَ َق ْد َب َع ْث َنا فِي ُك ِّل أ ُ َّم ٍة رَّ سُوالً أَ ِن اعْ ُب ُدو ْا هّللا َ َواجْ َت ِنبُو ْا‬
‫المخلوق‪ ،‬وإسعاده في الدنيا واآلخرة‪ ،‬قال تعالى‪َ :‬‬

‫‪َّ .‬‬
‫الطا ُغ َ‬
‫وت‪( }...‬النحل‪)36 :‬‬

‫تاريخ علم مقاصد الشريعة النشأة والتطور‬

‫عند حديثنا عن نشأة وتطور‪ /‬علم المقاصد فإننا‪ /‬نشير‪ /‬إلى المرحلة التاريخية التي أضحت فيها المقاصد‬

‫قواعد وأسسا ً تستند عليها‪ ،‬وأصبحت‪ /‬علما ً قائماً‪ /‬بذاته له دالالته وحقائقه ومناهجه‪ ،‬وإال فإن أساس هذا‬

‫العلم ونشأته كانت مع نزول الوحي ووضع‪ /‬الشريعة‪ ،‬وعلى الرغم من أهمية علم المقاصد وتأكيد‪/‬‬

‫نصوص الشريعة عليه كتابا ً وسنة‪ ،‬إال أنه لم يأخذ مداه في الفضاء الفقهي والفكري اإلسالمي ‪ -‬كغيره‬

‫من العلوم وخاصة أصول الفقه ‪ -‬وإن وجد اهتماما ً لدى ثلة من العلماء الذين تناولوا موضوعه بصورة‬

‫نظرية‪ ،‬حيث ظلت قضية المقاصد أحد األبعاد الغائبة عن الدراسات اإلسالمية أزمنة طويلة‪ ،‬ويقف في‬

‫مقدمة أسباب هذا الغياب هيمنة النظر الكالمي المجرد واالختالف في التعليل ولعلنا في إشارة سريعة‬

‫بحاجة إلى استقراء المراحل التي مر بها هذا العلم‪ ،‬وتقديم نبذة مختصرة عن كتابات علماء المقاصد‬

‫‪51‬‬
‫كان مصطلح مقاصد الشريعة ظاهراً في بعض نصوص الكتاب والسنة‪ ،‬وفتاوى وعمل الفقهاء‪ ،‬دون‬

‫تدوين لذلك في كتاب‬

‫ص ِّنفت الكتب؛ أُظهر علم مقاصد الشريعة‪ ،‬ويمكن‬ ‫لكن لما ا ْن َقلَ َب ْ‬
‫ت العلوم صناعة‪ ،‬و ُدوِّ نت المصنفات‪ ،‬و ُ‬

‫‪:‬تمييز ثالث مراحل لهذا العلم‬

‫المرحلة األولى ‪ :‬وهي مرحلة النشأة والتكوين‬

‫وتتمثل هذه المرحلة بما قام به علماء األصول من إظهار بعض مباحث ومسائل‪ /‬مقاصد الشريعة في‬

‫تآليفهم وتصانيفهم‪ ،‬ومن أبرز أولئك‪ :‬إمام الحرمين أبو المعالي الجويني في كتابه‪ :‬البرهان‪ ،‬واإلمام أبو‬

‫الغ َّزالي (ت‪ 505 :‬هـ) في كتابيه‪ :‬المستصفى‪ ،‬وشفاء الغليل في بيان الشبه والمخيل‪ ،‬ومسالك‪/‬‬
‫حامد َ‬

‫‪.‬التعليل (طبع بتحقيق حمد الكبيسي‪ ،‬طبع وزراة األوقاف العراقية‪ ،‬عام ‪1971‬م)‬

‫مزايا هذه المرحلة‬

‫أ‌‪ -‬إظهار بعض مباحث علم المقاصد ومسائله‬

‫ب‌‪ -‬عدم اإلسهاب في مباحث علم المقاصد بيانا ً وتحقيقا ً‬

‫المرحلة الثانية ‪ :‬وهي مرحلة ال َت َحوُّ ل والتدوين‬

‫وفيها إِظها ُر أصول مقاصد الشريعة‪ ،‬وقواع َد كلية تتعلق بذلك‪ ،‬وتتمثل بما قام به سلطان العلماء العز بن‬

‫عبد السالم (ت‪660 :‬هـ)‪ ،‬في كتابه‪ :‬قواعد األحكام في مصالح األنام‪ ،‬والقواعد الص ُّْغرى‬

‫‪52‬‬
‫مزايا هذه المرحلة‬

‫أ‌‪ -‬إظهار أصول المقاصد إظهاراً َبيِّنا ً واضحا ً‬

‫ب‌‪ -‬المجيء بمباحث وقواعد في المقاصد لم ُت ْذ َكر من قبل‬

‫ولقد اعتنى اإلمام ال َق َرافي المالكي بتحرير وتهذيب ما قرَّ ره شيخه العز بن عبد السالم‪ ،‬وذلك في منثور‪/‬‬

‫كتبه‪ ،‬وبخاصة كتب‪ :‬الفروق‪ ،‬والنفائس‪ ،‬وشرح تنقيح الفصول‬

‫المرحلة الثالثة ‪ :‬وهي مرحلة االكتمال والنضج‬

‫وتتمثل بما قام به اإلمام الشاطبي‪( /‬ت‪ 790 :‬هـ)‪ ،‬في كتابه‪ :‬الموافقات؛ حيث جمع مسائل هذا العلم‪،‬‬

‫وح َّقق مباحثه‪ ،‬حتى قيل‪ :‬هو مخترع علم المقاصد‬


‫‪.‬وأصَّل قواعده‪َ ،‬‬

‫مزايا هذه المرحلة‬

‫أ‌‪ -‬ا ْكتِمال علم المقاصد في جملة مسائله مع تأصيل‬

‫ب‌‪ -‬إظهار مقاصد الشريعة كعلم مُسْ َتقِل‬

‫ولعل من األسباب التي دفعت اإلمام الشاطبي‪ /‬للعناية بالمقاصد أنه مالكي المذهب‪ ،‬ومعلوم‪ /‬أن من أصول‬

‫المذهب المالكي‪ :‬مراعاة المصالح‪ ،‬هذا باإلضافة إلى وجود ال َملَ َكة التامَّة لالستنباط والتعليل عند اإلمام‬

‫الشاطبي‪ ،‬والقوة في علم اللسان والعربية‬

‫وعلى الرغم من عظم اإلسهام الذي قدمه الشاطبي‪ /‬في علم المقاصد‪ ،‬إال أنه يصدق‪ /‬عليه ما قاله مالك بن‬

‫نبي في ابن خلدون من أنه جاء متأخراً‪ /‬عن أوانه أو سابقا ً عليه فلم تنطبع أفكاره في العقل المسلم‪ ،‬وكذلك‬

‫لم تنطبع أفكار الشاطبي في العقل المسلم الذي كان يعيش بداية انحطاطه يومئذ‪ ،‬فظلت أفكاره مجهولة‪،‬‬

‫وبعده أصيبت العلوم اإلسالمية عامة والمقاصد‪ /‬خاصة بجمود كبير‪ ،‬وبما يشبه الغيبة في اإلبداع‬

‫والتجديد واالستمرار حتى اكتشفها علماء مصلحون معاصرون‪ :‬الشيخ محمد عبده والشيخ رشيد رضا‬

‫والدكتور‪ /‬عبد هللا دراز في المشرق‪ ،‬والعالمتان محمد الطاهر ابن عاشور وعالل الفاسي في المغرب‪،‬‬

‫فأشادوا‪ /‬بها وكتبوا‪ /‬حولها كتابات حللت وأصلت وأضافت المزيد‬

‫‪53‬‬
‫الفصل الثانى‬

‫‪:‬أهمية المقاصد وفوائدها‬

‫تتجلى أهمية معرفة مقاصد الشريعة في عدة أمور‪ ،‬منها‬

‫أوال‪ :‬إن العلم بها يشير إلى الكمال في التشريع واألحكام‪/‬‬

‫قال هللا تعالى‪ (:‬إنا كل شيء خلقناه بقدر) (القمر‪49‬‬

‫وتندرج األحكام الشرعية تحت خلق هللا الم َق َّدر بحكمة‬

‫قال ابن القيم‪( :‬إنه سبحانه حكيم ال يفعل شيئا ً عبثا ً وال لغير معنى ومصلحة وحكمة‪ ،‬هي الغاية المقصودة‬

‫بالفعل‪ ،‬بل أفعاله سبحانه صادرة عن حكمة بالغة ألجلها فعل‪ ،‬كما هي ناشئة عن أسباب بها فعل‪ ،‬وقد‬

‫دل كالمه وكالم رسوله على هذا) شفاء العليل‪ ،‬طبعة مكتبة الرياض الحديثة ص‪190‬‬

‫ثانيا ‪ :‬إن العلم بالمقاصد يفيد معرفة مراتب المصالح والمفاسد‪ ،‬ودرجات األعمال في الشرع والواقع‪/،‬‬

‫وهذا م ُِه ّم عند الموازنة بين األحكام‬

‫يقول ابن تيمية‪( :‬والمؤمن ينبغي له أن َيعْ رف الشرور‪ /‬الواقعة ومراتبها‪ /‬في الكتاب والسنة‪ ،‬كما َيعْ رف‪/‬‬

‫الخيرات الواقعة‪ ،‬ومراتبها في الكتاب والسنة‪ ،‬ف ُي َفرِّ ق‪( /‬بين) أحكام األمور الواقعة الكائنة‪ ،‬والتي يُراد‬

‫إيقاعها في الكتاب والسنة‪ ،‬ليق ِّدم ما هو أكثر خيراً وأقل شراً على ما هو دونه‪ ،‬و َي ْدفع‪ /‬أعظم الشرين‬

‫باحتمال أدناهما‪ ،‬و َيجْ تلب أعظم الخيرين بفوات أدناهما‪ ،‬فإنّ من لم َيعْ رف الواقع في الخلق‪ ،‬والواجب في‬

‫الدين‪ :‬لم َيعْ رف أحكام هللا في عباده‪ ،‬وإذا لم َيعْ رف ذلك كان قوله وعمله بجهل‪ ،‬ومن عبد هللا بغير علم‬

‫‪.‬كان ما ُي ْفسِ د أكثر مما يُصْ لِح)جامع الرسائل‪305/ 2 ،‬‬

‫ثالثا ‪ :‬إن العلم بالمقاصد نافع في َتعْ دية األحكام‪ ،‬من األصول إلى الفروع‪ ،‬ومن الكليات إلى الجزئيات‪،‬‬

‫ومن القواعد إلى التفريعات‪ ،‬يقول َّ‬


‫الغزالي‪( :‬الحكم الثابت من جهة الشرع نوعان‬

‫‪54‬‬
‫أحدهما ‪َ :‬نصْ ب األسباب علالً لألحكام‪ ،‬كجعل الزنا مُوجبا ً للحد‪ ،‬وجعل الجماع ـ في نهار رمضان ـ‬

‫موجبا ً للكفارة‪ ،‬وجعل السرقة موجبة للقطع‪ ،‬إلى غير ذلك من األسباب التي ُعقِل من الشرع نصبها علالً‬

‫لألحكام‬

‫والنوع الثاني ‪ :‬إثبات األحكام ابتداء من غير ربط بالسبب‬

‫ْ‬
‫ظهرت العلة المتع ِّدية)شفاء الغليل‪ ،‬ص ‪603‬‬ ‫)‪.‬وكل واحد من النوعين قابل للتعليل وال َّتعْ دية‪ ،‬مهما‬

‫رابعا ‪ :‬إن العلم بالمقاصد يزيد النفس ُ‬


‫ط َمأنينة بالشريعة وأحكامِها‪ ،‬والنفسُ َمجْ بولة على التسليم للحُكم‬

‫عرفت عِ لَّته‬
‫ْ‬ ‫الذي‬

‫خامسا ‪ :‬إبراز علل التشريع وحكمه وأغراضه ومراميه الجزئية والكلية العامة والخاصة في شتى‬

‫مجاالت الحياة وفي مختلف أبواب الشريعة‬

‫سادسا ‪ :‬إبراز أهداف الدعوة اإلسالمية التي ترمي إلى تحقيق مصالح الناس‪ ،‬ودفع‪ /‬المفاسد عنهم‪،‬‬

‫وذلك يرشد إلى الوسائل والسبل التي تحقق السعادة في الدنيا والفوز‪ /‬برضوان هللا في اآلخرة‬

‫سابعا ‪ :‬فهم النصوص وتفسيرها‪ /‬بشكل صحيح عند تطبيقها على الوقائع واستنباط األحكام منها‬

‫ثامنا ‪:‬تعين على ترجيح ما يحقق المقاصد ويتفق مع أهدافها في جلب المنافع ودفع المفاسد‬

‫تاسعا ‪ :‬التوفيق بين خاصيتي األخذ بظاهر النص‪ ،‬وااللتفات إلى روحه ومدلوله على وجه ال يخل فيه ‪-‬‬

‫المعنى بالنص‪ ،‬وال العكس‪ ،‬لتجري الشريعة على نظام واحد ال اختالف فيه وال تناقض‬

‫عاشرا ‪ :‬تأكيد خصائص صالحية الشريعة ودوامها وواقعيتها ومرونتها‪ /‬وقدرتها‪ /‬على التحقق ‪-‬‬

‫والتفاعل مع مختلف البيئات والظروف واألطوار‬

‫احدى عشر‪ :‬التقليل من االختالف والنزاع‪ /‬الفقهي والتعصب‪ /‬المذهبي‪ ،‬وذلك باعتماد علم المقاصد في ‪-‬‬

‫‪.‬عملية بناء الحكم‪ ،‬وتنسيق اآلراء المختلفة‪ ،‬ودرء التعارض بينها‬

‫‪55‬‬
‫اثنى عشر ‪ :‬إدراك علماء الشريعة اإلسالمية أن نصوصها وأحكامها‪ /‬معقولة المعنى‪ ،‬ومبنية على النظر‬

‫واالستدالل‪ ،‬فالمسلم وإن كان يتلقى التكاليف‪ /‬بروح القناعة واليقين بأحقيتها‪ ،‬ويطبقها وهو تملؤه الثقة‬

‫بخيريتها‪ ،‬إال أن ذلك ال يمنع من التماس الحكمة من تشريعها‪/‬‬

‫قال ابن عاشور موضحا ً أهمية المقاصد فيما عنون له‪ :‬احتياج الفقيه إلى معرفة مقاصد الشريعة‪" :‬إن‬

‫تصرف المجتهدين بفقههم في الشريعة يقع على خمسة أنحاء‬

‫النحواألول ‪ :‬فهم أقوالها‪ ،‬واستفادة مدلوالت تلك األقوال‪ ،‬بحسب االستعمال اللغوي‪ ،‬وبحسب النقل‬

‫الشرعي بالقواعد اللفظية التي بها عمل االستدالل الفقهي‪ .‬وقد تكفل بمعظمه علم أصول الفقه‬

‫النحو الثاني‪ :‬البحث عما يعارض األدلة التي الحت للمجتهد‪ ،‬والتي استكمل إعمال نظره في استفادة‬

‫مدلوالتها‪ ،‬ليستيقن أن تلك األدلة سالمة مما يبطل ويقضي عليها باإللغاء والتنقيح‪ .‬فإذا استيقن أن الدليل‬

‫سالم عن المعارض أعمله‪ ،‬وإذا ألفى له معارضاً‪ /‬نظر في كيفية العمل بالدليلين معاً‪ ،‬أو رجحان أحدهما‬

‫على اآلخر‬

‫النحو الثالث‪ :‬قياس ما لم يرد حكمه في أقوال الشارع على حكم ما ورد حكمه فيه بعد أن يعرف علل‬

‫التشريعات الثابتة بطريق‪ /‬من طرق مسالك العلة المبينة في أصول الفقهالنحو الرابع‪ :‬إعطاء حكم لفعل أو‬

‫حادث حدث للناس ال يعرف حكمه فيما الح للمجتهدين من أدلة الشريعة‪ ،‬وال له نظير يقاس عليه‬

‫النحو الخامس‪ :‬تلقي بعض أحكام الشريعة الثابتة عنده تلقي من لم يعرف علل أحكامها وال حكمة‬

‫الشريعة في تشريعها‪ /.‬فهو‪ /‬يتهم نفسه بالقصور عن إدراك حكمة الشارع منها‪ ،‬ويستضعف‪ /‬علمه في‬

‫جنب سعة الشريعة‪ ،‬فيسمي هذا النوع بالتعبديفالفقيه بحاجة إلى معرفة مقاصد الشريعة في هذه األنحاء‬

‫كله)مقاصد الشريعة اإلسالمية‪ ،‬محمد الطاهر ابن عاشور‪ ،‬ص‪40‬‬

‫‪56‬‬
‫الباب الثالث‬

‫علم المقاصد وعلم األصول‬

‫بين مراحل النشأة والتطور واإلثبات‬

‫الفصل األول ‪ :‬مراحل النشأة والتكوين لعلم المقاصد واألصول‬

‫الفصل الثانى ‪ :‬طرق معرفة اثبات المقاصد‬

‫الفصل ااألول‬

‫تاريخ ونشأة علم مقاصد وعلم األصول‬

‫‪ :‬أوال تاريخ ونشأة علم األصول‬

‫عندما نتحدث عن علم أصول الفقه فى فترة التشريع األولىفى عهد النبى صلى هللا عليه وسلم وما تاله‬

‫من عصر الصحابة وعصر التابعين ‪ ،‬فإننا ال نعني بذلك تدوينه على شكل فصول‪ /‬وأبواب ومسائل‪،‬‬

‫وإنما نقصد أن الرعيل األول كان لهم من اإلمكانات اللغوية والذهنية ما يستطيعون به استخراج األحكام‪،‬‬

‫وتمييز الحالل عن الحرام‪ .‬أما علم األصول كما هو معروف‪ /‬اليوم فإنه لم ينضج ويستقيم‪ /‬عوده إال بعد‬

‫عصر الصحابة والتابعين‪ .‬وفي‪ /‬هذا المعنى يصب قول ابن خلدون‪( :‬واعلم أن هذا الفن من الفنون‬

‫المستحدثة في الملة‪ ،‬وكان السلف في غنية عنه‪ ،‬بما أن استفادة المعاني من األلفاظ ال يحتاج فيها إلى‬

‫أزيد مما عندهم من الملكة اللسانية‪ ،‬وأما القوانين التي يحتاج إليها في استفادة األحكام خصوصا فعنهم‬

‫أخذ معظمها)مقدمة ابن خلدون ص‪426-425 :‬‬

‫‪57‬‬
‫المطلب األول‪ :‬أصول الفقه في عهد الرسول صلى هللا عليه وسلم‬

‫يعتبر النبي صلى هللا عليه وسلم هو المبلغ عن هللا عزوجل‪ ،‬وقد عني عليه الصالة السالم ببيان مراد‬

‫هللا من خلقه‪ ،‬حيث كان يرجع إلى الوحي في كل ما يعرض له من أمور وأقضية‪ ،‬ومع أن هذا العصر‬

‫هو عصر نزول الوحي إال أنه عليه السالم كان يوجه أصحابه إلى االجتهاد ويحضهم‪ /‬عليه كما في‬

‫حديث عمرو ابن العاص أنه سمع رسول‪ /‬هللا يقول‪( :‬إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران‪ ،‬وإذا حكم‬

‫فاجتهد ثم أخطأ فله أجر) رواه البخاري في كتاب االعتصام بالكتاب والسنة‪ ،‬باب أجر الحاكم إذا اجتهد‬

‫وقد اجتهد الصحابة في عهد النبوة في حضرته عليه السالم حينا‪ ،‬وفي‪ /‬غيابهم عنه أحيانا أخرى‪ ،‬من ذلك‬

‫اجتهاد عمرو بن العاص رضي هللا عنه في الصالة بدون االغتسال من الجنابة لخوف الضرر‪/‬وقدرواه‬

‫أبو داود في كتاب الطهارة‪ ،‬باب‪ :‬إذا خاف الجنب البرد أيتيمم ؟ برقم‪334 :‬‬

‫وقصة صالة العصر في بني قريظة واجتهاد سعد بن معاذ في بني قريظة وتصويب النبي صلى هللا عليه‬

‫وسلم له قائال‪«:‬لقد حكمت فيهم بحكم هللا من فوق سبع سماوات» رواه البخاري في كتاب الجهاد والسير‪،‬‬

‫باب‪ :‬إذا نزل العدو على حكم رجل‪ ،‬برقم ‪ 3043‬و‪ 3804‬و ‪4121‬وغيرها وغير ذلك من األمثلة التي‬

‫تدل على وقوع‪ /‬االجتهاد‪ /‬من الصحابة في عهد الرسالة ‪ -‬وهو موضوع‪ /‬خالف بين األصوليينقال ابن‬

‫القيم‪ «:‬وقد اجتهد الصحابة في زمن النبي صلى هللا عليه وسلم في كثير من األحكام ولم يعنفهم)إعالم‬

‫الموقعين عن رب العالمين ‪2/355‬‬

‫وقد اختلف األصوليون في إمكان حصول االجتهاد منه عليه السالم من جهة‪ ،‬وفي وقوعه‬

‫من جهة أخرى حيث ذهب جمهور األصوليين إلى جواز ذلك‪ ،‬بدليل استعمال النبي صلى‬

‫هللا عليه وسلم القياس في العديد من المسائل التي عرضت عليه‪ ،‬منها حديث ابن‬
‫‪58‬‬
‫عباسرضي هللا عنهما قال‪ :‬جاء رجل إلى النبي صلى هللا عليه وسلم فقال‪ :‬يا رسول هللا إن‬

‫أمي ماتت وعليها صوم أفأقضيه عنها‪ ،‬قال‪ :‬لو كان على أمك دين أكنت قاضيه عنها ؟ قال‪:‬‬

‫نعم‪ ،‬قال‪ «:‬فدين هللا أحق أن يقضى» رواه البخاري في كتاب‪ :‬الصوم‪ ،‬باب من مات وعليه صوم‪،‬‬

‫‪.‬برقم ‪1953‬‬

‫ومنها حديث عمر رضي‪ /‬هللا عنه حينما سأل عن قبلة الصائم فقال له عليه السالم‪«:‬أرأيت لو تمضمضت‬

‫من الماء وأنت صائم» رواه أبو داود في كتاب الصيام‪ ،‬باب‪ :‬القبلة للصائم‪ ،‬برقم‪ ،2385 :‬وصححه‬

‫األلباني في صحيح أبي داود ‪65-2/64‬‬

‫قال إمام الحرمين تعليقا على هذا الحديث‪«:‬فكان ذلك منه قياسا‪ /‬للقبلة على المضمضة» ‪ -‬البرهان‬

‫‪1/502‬‬

‫ومنها قوله عليه السالم للمرأة التي سألته قضاء الحج عن أمها‪« :‬نعم حجي عنها‪ ،‬أرأيت لو كان على‬

‫أمك دين أكنت قاضيته‪ ،‬اقضوا هللا‪ ،‬فاهلل أحق بالوفاء»‪ ،‬قال القرافي‪« :‬وهذا هو عين القياس»شرح‬

‫التنقيح ص‪ ،300 :‬وقال إمام الحرمين في التلخيص‪«:‬وهذا تشبيه منه للحج بالدين»‪3/211‬إلى غير‬

‫ذلك من األخبار التي يطول تتبعها والتي تجدها مبتوتة في كتب األصول‬

‫وبالجملة فإن الناظر في سيرة المصطفى صلى هللا عليه وسلم وصحابته الكرام‪ ،‬يجد فيها العديد من‬

‫اإلشارات الظاهرة‪ ،‬والرموز‪ /‬الخفية‪ ،‬التي تدل على استخدام‪ /‬الكثير من القواعد األصولية‪ .‬قال الزركشي‪/‬‬

‫مبينا أصالة علم أصول الفقه واتصاله سنده بالعهد النبوي‪«:‬وقد أشار المصطفى صلى هللا عليه وسلم في‬

‫جوامع كلمه إليه‪ ،‬ونبه أرباب اللسان عليه‪ ،‬فصدر‪ /‬في الصدر‪ /‬األول منه جملة سنية‪ ،‬ورموز خفية‬

‫المطلب الثاني‪ :‬أصول الفقه في عهد الصحابة والتابعين‬

‫بعد وفاة النبي صلى هللا عليه وسلم وانقطاع‪ /‬الوحي من السماء‪ ،‬واجه الصحابة رضوان هللا عليهم نوازل‬

‫وأقضية لم تكن معهودة في عصر النبوة‪ ،‬فعملوا على إيجاد حكم هللا في كل نازلة عن طريق عرضها‬

‫على الكتاب والسنة‪ ،‬فإن لم يجدوا بدلوا وسعهم‪ /‬في استنباط‪ /‬األحكام عن طريق االجتهاد بكل أنواعه‪،‬‬
‫‪59‬‬
‫حيث يبحثون عن األشباه والنظائر‪ ،‬ويقيسون األحكام بعضها على بعض بما تجمع لديهم من علم بأسرار‪/‬‬

‫‪.‬اللغة العربية ومقاصد الشريعة اإلسالمية‬

‫قال اإلمام أبو المعالي‪« :‬ونحن نعلم قطعا أن الوقائع التي جرت فيها فتاوى علماء الصحابة‬

‫وأقضيتهم‪ ،‬تزيد على المنصوصات زيادة ال يحصرها عد‪ ،‬وال يحويها حد‪ ،‬فإنهم كانوا‬

‫قايسين في قريب من مائة سنة‪ ،‬والوقائع تترى‪ ،‬والنفوس إلى البحث ُ‬


‫طلعة‪ ،‬وما سكتوا عن‬

‫واقعة صائرين إلى أنه ال نص فيها‪ ،‬واآليات واألخبار المشتملة على األحكامنصا وظاهرا‪،‬‬

‫باإلضافة إلى األقضية والفتاوى كغرفة من بحر ال ينزف)البرهان ‪ ،500-2/499‬وانظر التلخيص‬

‫‪189-3/188‬‬

‫وقال ابن القيم‪« :‬وقد كان أصحاب رسول هللا صلى هللا عليه وسلم يجتهدون في النوازل‪ ،‬ويقيسون بعض‬

‫األحكام على بعض‪ ،‬ويعتبرون النظير بالنظير)إعالم الموقعين عن رب العالمين البن القيم الجوزية‬

‫‪2/354‬‬

‫ومن أمثلة االجتهاد في هذا العصر تقديم الصحابة للصديق في الخالفة وقولهم‪ /«:‬رضيه رسول هللا صلى‬

‫هللا عليه وسلم لديننا‪ ،‬أفال نرضاه لدنيانا» فقاسوا‪ /‬اإلمامة الكبرى على إمامة الصالة)إعالم الموقعين‬

‫‪2/370‬وكذلك اتفاقهم على كتابة المصحف وجمع القرآن فيه‪ ،‬وكذلك اتفاقهم‪ /‬على جمع الناس على‬

‫مصحف واحد وترتيب واحد وحرف واحد) رواه البخاري في كتاب فضائل القرآن‪ ،‬باب‪ :‬جمع القرآن‪،‬‬

‫برقم‪4986 :‬‬

‫وكذلك منع عمر وعلي من بيع أمهات األوالد برأيهما‪ ،‬وكذلك‪ /‬تسوية الصديق بين الناس في العطاء‬

‫برأيه‪ ،‬وتفضيل عمر برأيه وكذلك إلحاق عمر حد الخمر بحد القذف برأيه وأقره الصحابة وغير ذلك مما‬

‫‪.‬اجتهدوا فيه برأيهم حيث لم يجدوا نصا في المسألة‬

‫‪60‬‬
‫ثم انقرض عصر الصحابة بعد أن خلفوا وراءهم إرثا علميا ومعرفيا كبيرا أخذه عنهم التابعون‪ ،‬فتلقى‬

‫أهل كل مصر ما تجمع لديهم من أقوال الصحابة الذين رحلوا إليهم‪ ،‬واعتمدوا على ما حفظوه من‬

‫فتاويهم‪ /‬وأقضيتهم‪ ،‬ثم نهج التابعون منهج الصحابة في النظر واالجتهاد وزادوا‪ /‬على ما خلفوه أصال‬

‫جديدا هو‪ :‬األخذ بفتوى الصحابي‪ ،‬والذي سيعتبر‪ /‬فيما بعدا أصال ثابتا من األصول المعتبرة في علم‬

‫‪.‬أصول الفقه‬

‫قال إمام الحرمين‪« :‬فقد تبين بمجموع‪ /‬ما ذكرناه إجماع الصحابة رضي هللا عنهم والتابعين ومن بعدهم‪،‬‬

‫على العمل بالرأي والنظر في مواقع الظن‪ ،‬ومن أنصف من نفسه‪ ،‬لم يشكل عليه إذا نظر في الفتاوى‬

‫واألقضية أن تسعة أعشارها صادرة عن الرأي المحض واالستنباط‪ ،‬وال تعلق لها بالنصوص‬

‫والظواهر‪)/‬البرهان ‪2/512‬‬

‫والجدير بالذكر‪ ،‬أن الصحابة ومن بعدهم كان علمهم بأصول الفقه سليقة لهم‪ ،‬أي مركوزا‬

‫في طبيعتهم‪ ،‬كما كان علم العربية من نحو وتصريف وبيان خليقة‪ ،‬أي مركوزا في طبائع‬

‫العرب فطرة فطرهم هللا عليها‪ ،‬واأللقاب كاسم المبتدأ والخبر والفاعل والمفعول وغير ذلك‬

‫اصطالحات وضعها أئمة النحو‪ ،‬وكذلك وضع أئمة األصول الذين صنفوا فيه اسم‬

‫المنطوق‪ ،‬والمفهوم‪ ،‬والفحوى‪ ،‬والمخالفة‪ ،‬والعام‪ ،‬والخاص‪ ،‬والمطلق‪ ،‬والمقيد‪ ،‬وغير ذلك‬

‫ويمكن تلخيص المالمح الرئيسة لعلم أصول الفقه في هذه الفترة فيما يلي‬

‫أوال‪ :‬زادت مصادر التشريع مصدرا آخر وهو فتاوى الصحابي‬

‫ثانيا‪ :‬تميز مدرسة أهل الحديث وأهل الرأي‬

‫ثالثا‪ :‬لم تكن هناك قواعد واضحة معلومة للمجتهدين‪ ،‬بل كان الغالب هو اتباع أحد‬

‫الصحابة‪ ،‬واتخاذ أقوالهم مستندا للفتوى‬

‫‪61‬‬
‫المطلب الثالث‪ :‬عهد األئمة األربعة‬

‫بعد بداية القرن الهجري الثاني‪ ،‬وبعد تدوين العلوم بمختلف أنواعها‪ .‬انتشرت موجة واسعة من االجتهاد‪،‬‬

‫بعد أن اتسعت رقعة البالد اإلسالمية‪ ،‬ودخل في هذا الدين جموع غفيرة من مختلف األجناس و األعراف‬

‫واألديان‪ ،‬وتعايش المسلمون مع بعضهم عربا وعجما‪ ،‬كما تعايشوا‪ /‬مع غير المسلمين من يهود ونصارى‪/‬‬

‫وغيرهم‪ ،‬مما أدى إلى إثراء الفكر اإلسالمي‪ ،‬خاصة وأن المجتمعات اإلسالمية قد واجهت أقضية لم تكن‬

‫معروفة في صدر اإلسالم‪ ،‬الشيء الذي أدى إلى تحريك عجلة االجتهاد‪ ،‬حيث اتسع النشاط الفقهي‪،‬‬

‫وتشعبت األقوال في االجتهاد بالرأي‪ ،‬خاصة في مجال الفقه االفتراضي‪ ،‬مما جعل صياغة القواعد‬

‫األصولية وتدوينها‪ /‬عمال ضروريا لتقنين آلة االجتهاد‪ .‬فظهرت‪ /‬قواعد لم تكن معلومة من قبل‪ ،‬وصيغت‬

‫لبعض األصول التي كانت مستعملة فيما قبل مصطلحات‪ /‬خاصة أطلقها عليها أهل كل مذهب‪ ،‬وتنازعوا‬

‫فيما بينهم في العمل بها أو ردها‪ ،‬ومن مظاهر أخذ األئمة المجتهدين بالرأي في هذا العصر‪ ،‬قولهم‪/‬‬

‫‪.‬باالستحسان‪ ،‬والمصلحة المرسلة‪ ،‬وسد الذرائع وغيرها‬

‫واستمرت هذه الثورة العلمية التي عمت أرجاء العالم اإلسالمي‪ ،‬إلى أن تمخض عنها تدوين أول مصنف‬

‫مستقل في علم أصول الفقه‪ ،‬والذي اعتبر فيما بعد أصل األصول في هذا الفن‪ ،‬أال وهو "كتاب الرسالة"‬

‫‪.‬لإلمام الشافعي‪/‬‬

‫المطلب الرابع‪ :‬عهد اإلمام الشافعي‬

‫هو أبو عبد هللا محمد بن إدريس الشافعي المطلبي‪ .‬وُ لد في غزة عام ‪150‬هـ‪ .‬وتوفي بمصر سنة ‪204‬‬

‫‪.‬هـ‪ ،‬أحد األئمة األربعة أصحاب المذاهب المشهورة التي انتشر أتباعها في مختلف بقاع العالم‬

‫‪62‬‬
‫وكان الشافعي‪ /‬كثير المناقب‪ ،‬جم المفاخر‪ ،‬منقطع النظير ومن مناقبه أنه أول من صنف كتابا مستقال في‬

‫علم أصول الفقه‪ ،‬فقد أخرج البيهقيفي "مناقب الشافعي" والخطيب البغدادي في "تاريخ بغداد"[بسنديهما‪/‬‬

‫أن عبد الرحمان بن مهدي (ت‪ 198‬هـ) كتب إلى الشافعي‪ /‬وهو شاب أن يضع له كتابا فيه معاني القرآن‪،‬‬

‫ويجمع قبول األخبار فيه‪ ،‬وحجة اإلجماع‪ ،‬وبيان الناسخ والمنسوخ من القرآن والسنة‪ ،‬فوضع له كتاب‬

‫الرسالة‬

‫وكتاب الرسالة ألفه الشافعي‪ /‬مرتين‪ :‬مرة ببغداد وتسمى "الرسالة القديمة" وأخرى بمصر وهي "الرسالة‬

‫الجديدة" ولهذا تجدهم في كتب التراجم يسمونه بالكتاب القديم والكتاب الجديد قال الرازي‪«:‬اعلم أن‬

‫الشافعي صنف كتاب الرسالة ببغداد‪ ،‬ولما خرج إلىمصر‪ /‬أعاد تصنيف كتاب"الرسالة" وفي كل واحد‬

‫منهما علم كثير»‪،‬مناقب اإلمام الشافعي للرازي ص‪157 :‬‬

‫وأيا ما كان فقد ذهبت الرسالة القديمة‪ ،‬وليس في أيدي الناس اآلن إال الرسالة الجديدة‬

‫وقد اهتم العلماء قديما وحديثا بالرسالة‪ ،‬وأفردوها‪ /‬بالشرح والدراسة‪ ،‬ومن أهم شراح هذا السفر نجد‪ :‬أبو‬

‫بكر محمد بن عبد هللا الشيباني الجوزقي‪ /‬النيسابوري‪ /‬المتوفى‪ /‬سنة ‪ ،388‬واإلمام‪ /‬محمد بن علي القفال‬

‫الكبير الشاشي المتوفى سنة ‪ ،365‬وأبو‪ /‬الوليد حسان بن محمد النيسابوري القرشي األموي المتوفى سنة‬

‫‪ ،349‬وأبو بكر محمد بن عبد هللا الصيرفي‪ /‬المتوفى سنة ‪ ،330‬وأبو‪ /‬زيد عبد الرحمان الجزولي‪،‬‬

‫ويوسف‪ /‬بن عمر‪ ،‬وجمال الدين األقفهي‪ ،‬وابن الفاكهاني‪ ،‬وأبو القاسم بن عيسى بن ناجي‪ ،‬وأبو محمد‬

‫الجويني اإلمام والد إمام الحرمين المتوفى سنة ‪438‬هـ‬

‫قال الرازي مبينا أن الشافعي هو أول من ألف كتابا مستقال في أصول الفقه‪« :‬كانوا قبل اإلمام الشافعي‪/‬‬

‫يتكلمون في مسائل الفقه‪ ،‬ويعترضون ويستدلون‪ ،‬ولكن ما كان لهم قانون كلي يرجع إليه في معرفة‬

‫الدالئل الشرعية‪ ،‬وفي كيفية معارضاتها‪ /‬وترجيحاتها‪ /،‬فاستنبط الشافعي‪ /‬علم أصول الفقه‪ ،‬ووضع‪ /‬للخلق‬

‫قانونا كليا يرجع إليه في معرفة مراتب أدلة الشرع)مناقب اإلمام الشافعي للرازي ص‪157 :‬‬

‫‪63‬‬
‫وسبق الشافعي‪ /‬في تدوين علم أصول الفقه ال يقتصر‪ /‬على كتاب "الرسالة" فقط‪ ،‬بل تضم إليه مؤلفات‬

‫أخرى كلها تأصل لهذا العلم الجليل‪ .‬قال الزركشي‪« /:‬الشافعي‪ /‬رضي هللا عنه أول من صنف في علم‬

‫أصول الفقه‪ ،‬صنف فيه كتاب"الرسالة"‪ ،‬وكتاب"أحكام القرآن"‪ ،‬و"اختالف الحديث"‪ ،‬و"إبطال‬

‫االستحسان"‪ ،‬و كتاب "جماع العلم"‪ ،‬وكتاب "القياس‬

‫المطلب الخامس‪ :‬عهد اإلمام الباقالني‬

‫يعتبر عهد أبي بكر الباقالني من أبرز محطات علم أصول الفقه‪ ،‬فمع هذا اإلمام الكبير بدأ هذا العلم‬

‫ينضج ويختمر‪ ،‬وكتابه المشهور "التقريب واإلرشاد خير شاهد على عظم قدره وكبير شأنه في هذا الفن‪،‬‬

‫حيث تنافس األئمة على دراسته واالستفادة منه‪ ،‬فأكثروا من النقل عنه واإلحالة عليه‪.‬حتى قال عنه‬

‫الزركشي‪ « :‬وكتاب "التقريب واإلرشاد" للقاضي أبي بكر‪ ،‬وهو أجل كتاب صنف في هذا العلم مطلقا»‬

‫ونحوه قول السبكي‪« :‬وهو من أجل كتب األصول‬

‫ومن مظاهر عناية العلماء بهذا الكتاب أن إمام الحرمين قد لخصه في كتابه المسمى ب"التلخيص في‬

‫أصول الفقه" والذي أماله بمكة وقد كان في اختصاره له مقرا ألقواله قلما يخالفه في رأي كسائر‪/‬‬

‫المبتدئين في متابعة من يشتغلون بكتبهم‬

‫وقد استفاد منه العديد من األئمة أثناء تأليفهم في أصول الفقه‪ ،‬حيث نقلوا عنه مذاهب األصوليين‪ ،‬وبينوا‪/‬‬

‫رأيه في الكثير من المسائل‪ ،‬بل ال تكاد تجد مسألة إال والقاضي حاضر فيها ذكره‪ ،‬مثبت فيها رأيه‪،‬‬

‫ويبقى أهم من أفاد من أبي بكر الباقالني‪ /‬إمامنا الجويني‪ /‬رحمه هللا‪ ،‬فكما أنه لخص "التقريب واإلرشاد"‬

‫في سفر مستقل‪ ،‬فإننا نجده أيضا يستفيد منه في كتابه "البرهان" في كثير من المواضع‪ ،‬حيث ينقل رأيه‬

‫في كل مسألة تقريبا دون أن يشير إلى كتاب "التقريب واإلرشاد" إال في موضعين‪ :‬األول منهما في‬

‫معرض رده على القاضي في إبطال قياس الشبه حيث قال ‪ « :‬وعضد القاضي في "التقريب" هذه‬

‫الطريقة بمناظرات أصحاب رسول هللا صلى هللا عليه وسلم في الفرائض » البرهان في أصول الفقه‬

‫‪2/569.‬‬

‫‪64‬‬
‫والثاني عند كالمه عن الفنون التي يحتاجها المفتي إذا أراد أن يقلد غيره‬

‫المطلب السادس‪ :‬عهد إمام الحرمين الجويني‬

‫ال يمكن الحديث عن أصول الفقه دون التعرض لهذه المرحلة البارزة من تاريخ هذا العلم الجليل‪،‬‬

‫فالجويني‪ /‬علم من أعالمه‪ ،‬وإمام جليل القدر‪ ،‬عظيم الشأن‪ ،‬يشهد بذلك عناية األئمة بآرائه واالستدالل‬

‫بها‪ ،‬فال تكاد تجد كتابا في أصول الفقه إال ويذكر أقواله‪ ،‬وينقل عباراته‪ ،‬حتى صار البعض يكتفي عند‬

‫ذكره بإطالق بلقب "اإلمام" كما هو صنيع ابن الحاجب في "المنتهى" و"المختصر"‪ ،‬والنووي في‬

‫‪"".‬المجموع‪/‬‬

‫وأهمية هذا اإلمام إنما تنبعث مما قدمه من خدمات جليلة لعلم أصول الفقه‪ ،‬حيث إنه ألف فيه المؤلفات‬

‫العظيمة القدر‪ ،‬الغزيرة الفوائد‪ ،‬من ذلك كتابه "التلخيص في أصول الفقه" والذي هو بمثابة مختصر‬

‫لكتاب الباقالني "التقريب واإلرشاد"‪ ،‬لكنه لم يكتفي فيه بمجرد التلخيص‪ ،‬بل "زاد من قبل نفسه أشياء‬

‫على طريقة المتقدمين في االختصار" وقد اكتسب هذا الكتاب مكانة كبيرة عند علماء األصول رغم أنه‬

‫من الكتب التي ألفها الجويني في بداية حياته العلمية حينما كان مجاورا بمكة‪ ،‬ومع ذلك فقد اعتمده‬

‫العلماء وعدوه من أفضل الكتب المصنفة في هذا العلم على اإلطالق‪ .‬قال السبكي‪«:‬والذي أقوله ليستفاد‪،‬‬

‫أني على كثرة مطالعتي‪ /‬في الكتب األصولية للمتقدمين والمتأخرين وتنقيبي عنها‪ ،‬على ثقة بأني لم كتابا‬

‫أجل من هذا "التلخيص" ال لمتقدم وال لمتأخر‪ ،‬ومن طالعه مع نظره إلى ما عداه من المصنفات‪ ،‬علم قدر‬

‫هذا الكتاب» وتكفي هذه الشهادة الكبيرة من هذا اإلمام الكبير للتدليل على المكانة العظيمة التي يتبوؤها‬

‫‪.‬كتاب "التلخيص" بين كتب أصول الفقه‬

‫كما كتب رحمه هللا "الورقات في أصول الفقه"‪ ،‬وهو متن صغير الحجم‪ ،‬عظيم الفائدة‪ ،‬لقي قبوال كبيرا‬

‫‪.‬بين العلماء وطلبة العلم‪ ،‬وقد‪ /‬اعتنى به الكثير من األئمة شرحا وتعليقا وتدريسا‪/‬‬

‫‪65‬‬
‫ومن كتبه في األصول أيضا نجد كتاب "التحفة" و"رسالة في التقليد واالجتهاد" و كتاب " مغيث الخلق‬

‫في ترجيح القول الحق"‪ ،‬هذا باإلضافة إلى كتابه "الغياثي" فرغم كونه في اإلمامة إال أنه قد ضمنه‬

‫‪.‬مباحث أصولية كثيرة‬

‫ويبقى أهم وأجل مصنفاته في هذا الفن كتاب "البرهان في أصول الفقه"‪ ،‬الذي يعتبر أحد أهم الكتب‬

‫األصولية على اإلطالق‪ ،‬وسأعرض له فيما يلي مبحثا مستقال أبين فيه مكانته‪ ،‬وموضوعه‪ ،‬وقيمته‬

‫‪.‬العلمية‬

‫كما تبرز أهمية الجويني من خالل ما خلفه من تالمذة كبار صاروا‪ /‬من بعده أئمة هذا الشأن‪ ،‬كالغزالي‬

‫( ت ‪ 505‬هـ ) وحسبك وأبو‪ /‬القاسم األنصاري‪ ( /‬ت ‪ 512‬هـ ) وأبو الحسن علي الطبري الكياهراسي (‬

‫‪.‬ت ‪ 504‬هـ ) وغيرهم كثير‬

‫وبخالف الباقالني‪ ،‬فإن إمام الحرمين قد عرف بإمامته أيضا في الفقه‪ ،‬وكتابه "نهاية المطلب في دراية‬

‫المذهب" خير شاهد على ذلك‪ ،‬فقد حظي باهتمام كبير من طرف األئمة والفقهاء‪ ،‬حتى قال عنه ابن‬

‫عساكر‪«:‬وأتي فيه من البحث والتقرير ‪ ...‬والتدقيق‪ /‬والتحقيق بما شفى الغليل‪ ،‬وأوضح السبيل‪ ،‬ونبه على‬

‫قدره ومحله في علم الشريعة فما صنف في اإلسالم قبله مثله‪ ،‬وال اتفق ألحد ما اتفق له»‪.‬تبيين كذب‬

‫المفتري البن عساكر ص ‪282-281 :‬‬

‫كما عده النووي‪ /‬في "المجموع" أحد األربعة أمهات الكتب في الفقه الشافعي‪ ،‬حيث إنه ال تكاد تخلوا‬

‫مسألة من المسائل التي عرض لها النووي في المجموع إال و إمامنا حاضر فيها برأيه‬

‫ثانيا ‪ :‬تاريخ ونشأة علم المقاصد‬

‫على الرغم من أن هناك إسهامات تقدمت في هذا الباب تمثل طليعة الكتابات في باب المقاصد كإسهام‬

‫الحكيم الترمذي في كتبه التي أظهر فيها اهتمامه بالمقاصد ككتاب‪ :‬الصالة ومقاصدها‪ ،‬وكتابه علل‬

‫الشريعة‪ ،‬وإسهام أبي بكر القفال الشاشي في كتابه محاسن الشريعة‪ ،‬وغيرهما من العلماء‪ ،‬إال أن إسهام‬

‫إمام الحرمين أبي المعالي الجويني (ت ‪478‬هـ) يمثل منطلقا ً حقيقيا ً في باب المقاصد من خالل كتابه‬

‫‪66‬‬
‫(البرهان في أصول الفقه) حيث خصص جزءاً من كتابه للحديث عن المقاصد وعنون له بقوله‪ :‬في‬

‫تقاسيم العلل واألصول التي بها تظهر المقاصد ويكشف عن المصالح‪ .‬قال السبكي‪ " :‬وضع إمام‬

‫الحرمين في أصول الفقه كتاب البرهان على أسلوب غريب لم يقتد فيه بأحد "بين علمي أصول الفقه‬

‫والمقاصد‪ ،‬ص‪ 84‬نقالً عن طبقات الشافعية للسبكي‪ ،‬ج‪5‬‬

‫وقد تضمن كتاب البرهان شواهد على عناية الجويني باألصول‪ /‬وبالمقاصد الشرعية‬

‫ثم جاء من بعده تلميذه الغزالي (ت ‪505‬هـ)‪ ،‬حيث تعددت كتبه‪ ،‬وتميزت‪ /‬إسهاماته‪ ،‬وأظهر تصورات‪- /‬‬

‫جديدة في علمي األصول والمقاصد‪ ،‬يمكن تلمسها بصورة خاصة في كتبه‪ :‬شفاء الغليل‪ ،‬والمنخول‪،‬‬

‫والمستصفى‪ /‬الذي يمثل أنضج كتبه وأكثرها‪ /‬وضوحاً‪ ،‬ولعل من أبرز ما قدمه الغزالي في باب المقاصد‬

‫‪.‬حديثه عن المصالح التي جعلها ثالث مراتب‪ :‬ضرورية‪ ،‬وحاجية‪ ،‬وتحسينية‬

‫ثم يأتي جهد اإلمام العز بن عبد السالم (ت ‪660‬هـ) ليضيف بعداً آخر لعلم المقاصد من خالل كتابه ‪-‬‬

‫المميز‪ :‬قواعد األحكام في مصالح األنام‪ ،‬فقد وضعه على أسلوب بديع جعل جماع القواعد الشرعية‬

‫محصوراً‪ /‬في جلب المصالح ودرء المفاسد‪ ،‬حتى كاد كتابه يكون خاصا ً في مقاصد الشريعة سواء‬

‫باعتبار كالمه الصريح في مقاصد األحكام‪ ،‬أو باعتبار أن الكالم في المصالح والمفاسد إنما هو كالم عن‬

‫المقاصد الشرعية‬

‫ثم أتى تلميذه اإلمام شهاب الدين القرافي (ت ‪685‬هـ)‪ ،‬فقد اقتفى طريق شيخه في ضبط القواعد ‪-‬‬

‫وتحرير‪ /‬المقاصد في جملة من كتبه‪ ،‬وبخاصة كتابه‪ :‬الفروق‪ ،‬الذي مثل بيانا ً ألصول الشريعة في ضوء‬

‫ما سماه بأسرار‪ /‬الشرع وحكمه‪ ،‬ومن إضافاته تمييزه بين المقامات المختلفة للتصرفات النبوية‬

‫أما شيخ اإلسالم ابن تيمية (ت ‪728‬هـ) فال يخلو كالمه عن الشريعة وأحكامها‪ /‬وبيان مقاصدها‪ ،‬وكان ‪-‬‬

‫يكثر من بيان تعليل األحكام وإظهار مقاصدها الشرعية‪ ،‬فالشريعة عنده " جاءت بتحصيل المصالح‬

‫وتكميلها‪ ،‬وتعطيل المفاسد وتقليلها‪ ،‬وأنها ترجح خير الخيرين وشر‪ /‬الشرين‪ ،‬وتحصل أعظم المصلحتين‬

‫بتفويت أدناهما‪ ،‬وتدفع أعظم المفسدتين باحتمال أدناهما "مجموع الفتاوى‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ج‪ 20‬ص‬

‫‪67‬‬
‫‪48‬والبن تيمية استدراك على األصوليين في حصرهم لمقاصد الشريعة الخمسة المعروفة إذ يقول‪" :‬‬

‫وقوم‪ /‬من الخائضين في أصول الفقه وتعليل األحكام الشرعية باألوصاف المناسبة إذا تكلموا في المناسبة‪،‬‬

‫وأن ترتيب الشارع‪ /‬لألحكام على األوصاف‪ /‬المناسبة يتضمن تحصيل مصالح العباد ودفع مضارهم‪،‬‬

‫ورأوا أن المصلحة نوعان أخروية‪ ،‬ودنيوية‪ ،‬جعلوا األخروية ما في سياسة النفس وتهذيب األخالق من‬

‫الحكم‪ ،‬وجعلوا الدنيوية ما تضمن حفظ الدماء واألموال والفروج والعقول والدين الظاهر‪ ،‬وأعرضوا عما‬

‫في العبادات الباطنة والظاهرة من أنواع المعارف باهلل تعالى ومالئكته وكتبه ورسله‪ ،‬وأحوال القلوب‬

‫وأعمالها‪ ،‬كمحبة هللا‪ ،‬وخشيته‪ ،‬وإخالص الدين له‪ ،‬والتوكل عليه‪ ،‬والرجاء لرحمته‪ ،‬ودعائه‪ ،‬وغير ذلك‬

‫من أنواع المصالح في الدنيا واآلخرة وكذلك فيما شرعه الشارع من الوفاء بالعهود وصلة األرحام‪،‬‬

‫وحقوق المماليك والجيران‪ ،‬وحقوق‪ /‬المسلمين بعضهم على بعض‪ ،‬وغير ذلك من أنواع ما أمر به ونهى‬

‫ً‬
‫حفظا لألحوال السنية‪ ،‬وتهذيب األخالق ويتبين أن هذا جزء من أجزاء ما جاءت به الشريعة من‬ ‫عنه‪،‬‬

‫المصالح)المرجع السابق‪ ،‬ج‪ 32‬ص‪234‬‬

‫ثم جاء من بعده تلميذه ابن القيم (ت ‪751‬هـ) ليؤكد نهج شيخه وامتداد مدرسته المقاصدية‪ ،‬ومن أبرز ‪-‬‬

‫كتبه في هذا الباب كتاب‪ :‬إعالم الموقعين عن رب العالمين‪ ،‬إذ يقول فيه‪ " :‬الشريعة مبناها وأساسها‪ /‬على‬

‫الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد وهي عدل كلها ورحمة كلها ومصالح كلها وحكمة كلها فكل‬

‫مسألة خرجت عن العدل إلى الجور وعن الرحمة إلى ضدها وعن المصلحة إلى المفسدة وعن الحكمة‬

‫إلى العبث فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل " إعالم الموقعين عن رب العالمين‪ ،‬مرجع‬

‫سابق‪ ،‬ج‪ 3‬ص‪3‬‬

‫وقال في موضع آخر مبينا ً مكانة القرآن الكريم وما فيه من تعليالت وأحكام‪ " /:‬وقد رتب هللا سبحانه‬

‫حصول الخيرات في الدنيا واآلخرة وحصول الشرور‪ /‬في الدنيا واآلخرة في كتابه على األعمال ترتب‬

‫الجزاء على الشرط والمعلول على العلة والمسبب على السبب وهذا في القرآن يزيد على ألف‬

‫موضع) الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي‪ ،‬ابن القيم‪ ،‬ص‪16‬‬

‫‪68‬‬
‫أما اإلمام الشاطبي (ت ‪790‬ه‪ )-‬فيعد شيخ علم المقاصد‪ ،‬حيث صنف فيه كتابه‪ :‬الموافقات‪ ،‬تناول فيه ‪-‬‬

‫موضوع‪ /‬المقاصد باستفاضة وعمق في القسم الثاني من الكتاب‪ :‬تحت عنوان (كتاب المقاصد)‪ ،‬وصاغه‬

‫بأسلوب أصولي فذ‪ ،‬ال يوجد في غيره من المصنفات التي سبقته‪ ،‬وإن من مظاهر‪ /‬اإلبداع والتجديد‪ /‬التي‬

‫أضافها الشاطبي‪ /‬إلى علم المقاصد‪ ،‬إيراده لكثير من القواعد العامة التي تعبر عن معان تشريعية‬

‫مقاصدية‪ ،‬أي أنه صاغ المقاصد على شكل قواعد‪ ،‬بحيث تشكل المعالم األساسية التي راعاها الشارع في‬

‫تشريعه‪ ،‬قال الشاطبي مبينا ً الغاية من وضع الشريعة‪ " :‬وضع الشرائع إنما هو لمصالح العباد في العاجل‬

‫واآلجل معاً‪ ...‬والمعتمد إنما هو أنا استقرينا من الشريعة أنها وضعت لمصالح العباد استقراء‪ ..‬فإن هللا‬

‫اس َعلَى هَّللا ِ حُجَّ ٌة َبعْ دَ‬ ‫ين لِ َئاَّل َي ُك َ‬


‫ون لِل َّن ِ‬ ‫تعالى يقول في بعثه الرسل‪ ،‬وهو األصل‪ُ { :‬ر ُساًل ُم َب ِّش ِر َ‬
‫ين َو ُم ْنذ ِِر َ‪/‬‬

‫الرُّ س ُِل} النساء‪ ،‬آية ‪165‬‬

‫ِين} األنبياء‪ ،‬آية ‪107‬‬ ‫{و َما أَرْ َس ْل َنا َ‬


‫ك إِاَّل َرحْ َم ًة ل ِْل َعالَم َ‬ ‫ويقول‪َ :‬‬

‫ش ُه َعلَى ْال َما ِء لِ َي ْبلُ َو ُك ْم‬


‫ان َعرْ ُ‬ ‫َ‬ ‫ت َواأْل َرْ َ‬
‫ض فِي سِ َّت ِة أي ٍ‬
‫َّام َو َك َ‬ ‫{وه َُو الَّذِي َخلَ َق ال َّس َم َاوا ِ‬
‫وقال في أصل الخلقة‪َ :‬‬

‫أَ ُّي ُك ْم أَحْ َسنُ َع َماًل } هود‪ ،‬آية ‪7‬‬

‫وأما التعاليل لتفاصيل األحكام في الكتاب والسنة فأكثر من أن تحصى؛ كقوله بعد آية الوضوء‪َ { :‬ما ي ُِري ُد‬

‫هَّللا ُ لِ َيجْ َع َل َعلَ ْي ُك ْم مِنْ َح َر ٍج َو َلكِنْ ي ُِري ُد لِي َُطه َِّر ُك ْ‪/‬م َولِ ُي ِت َّم نِعْ َم َتهُ} المائدة‪ ،‬آية ‪ . 6‬وقال في الصيام‪َ { :‬يا أَ ُّي َها‬

‫ِين مِنْ َق ْبلِ ُك ْم لَ َعلَّ ُك ْم َت َّتقُ َ‬


‫ون} البقرة‪ ،‬آية ‪ 183‬وفي‬ ‫ِب َعلَى الَّذ َ‬
‫ص َيا ُم َك َما ُكت َ‬ ‫ِين آَ َم ُنوا ُكت َ‬
‫ِب َعلَ ْي ُك ُم ال ِّ‬ ‫الَّذ َ‬

‫صاَل َة َت ْن َهى َع ِن ْال َفحْ َشا ِء َو ْال ُم ْن َك ِر} العنكبوت‪ ،‬آية ‪45‬‬
‫الصالة‪{ :‬إِنَّ ال َّ‬

‫والمقصود التنبيه‪ .‬وإذا دل االستقراء على هذا‬

‫اس َعلَ ْي ُك ْم حُجَّ ٌة} وفي‪ /‬الجهاد‪{ :‬أُذ َِن لِلَّذ َ‬


‫ِين ُي َقا َتلُ َ‬
‫ون‬ ‫وقال في القبلة‪َ { :‬ف َولُّوا وُ جُو َه ُك ْ‪/‬م َش ْط َرهُ لِ َئاَّل َي ُك َ‬
‫ون لِل َّن ِ‬

‫اص َح َياةٌ َيا أُولِي اأْل َ ْل َبا ِ‬


‫ب لَ َعلَّ ُك ْم َت َّتقُون‬ ‫{ولَ ُك ْم فِي ْالق َ‬
‫ِص ِ‬ ‫ِبأ َ َّن ُه ْم ُ‬
‫ظلِمُوا} الحج‪ ،‬آية ‪ 39‬وفي‪ /‬القصاص‪َ :‬‬

‫ت ِب َر ِّب ُك ْم َقالُوا َبلَى َش ِه ْد َنا أَنْ َتقُولُوا َي ْو َم ْالقِ َيا َم ِة إِ َّنا ُك َّنا‬
‫َ}البقرة‪ ،‬آية ‪ 179‬وفي التقرير على التوحيد‪{ :‬أَلَسْ ُ‬

‫َعنْ َه َذا َغافِل َ‬


‫ِين} األعراف‬

‫‪69‬‬
‫قال ابن عاشور‪ " :‬والرجل الفذ الذي أفرد المسمى عنوان التعريف‪ /‬بأصول التكليف في أصول الفقه‪،‬‬

‫وعنون ذلك القسم ب كتاب المقاصد‪ .‬ولكنه هذا الفن بالتدوين هو‪ :‬أبو إسحاق إبراهيم بن موسى الشاطبي‬

‫المالكي‪ ،‬إذ عني بإبراز‪ /‬القسم الثاني من كتابه تطوح في مسائله إلى تطويالت وخلط‪ ،‬وغفل عن مهمات‬

‫من المقاصد‪ ،‬بحيث لم يحصل منه الغرض المقصود‪ ،‬على أنه أفاد جد اإلفادة‪ .‬فأنا أقتفي آثاره)مقاصد‬

‫الشريعة اإلسالمية‪ ،‬ابن عاشور‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪28‬‬

‫الفصل الثانى‬

‫طرق إثبات المقاصد‬

‫يصطلح على تسمية هذا المبحث بمسالك الكشف عن المقاصد‪ ،‬أو سبل إثبات المقاصد‪ ،‬أو طرق كشف‬

‫وتعيين المقاصد‪ ،‬وغيرها‪ ،‬وقد‪ /‬عنون الشاطبي‪ /‬لهذا المبحث بقوله‪( :‬فصل‪ :‬بيان الجهات التي يعرف بها‬

‫مقاصد الشارع)الموافقات للشاطبى ‪ ،‬ص‪442‬‬

‫وعنون لها ابن عاشور بقوله‪( :‬طرق إثبات المقاصد الشرعية) علم المقاصد الشرعية‪ ،‬ص‪67‬‬

‫ويحسن بنا في هذا الموضع أن نسوق‪ /‬كالم العالمة ابن عاشور‪ /‬في مقاصده فقد بين باستفاضة طرق‬

‫إثبات المقاصد ولخص كالم الشاطبي في هذا المبحث‪ ،‬فكل من كتب فيه يعتبر عالة على ما قاله‪ ،‬قال ‪-‬‬

‫‪ -:‬رحمه هللا‬

‫الطريق األول‪ :‬وهو أعظمها‪ ،‬استقراء الشريعة في تصرفاتها‪ /،‬وهو على نوعين‪ :‬أعظمهما‪ :‬استقراء "‬

‫األحكام المعروفة عللها‪ ،‬اآلئل إلى استقراء تلك العلل المثبتة بطرق‪ /‬مسالك العلة( شرح العلة بتصرف‬

‫العلة عند األصوليين يراد بها معنيان ‪ :‬األول ‪ :‬الوصف الظاهر المنضبط‪ /‬المناسب الذي جعله الشارع‬

‫موجبا ً للحكم ومعرفا ً له‪ ،‬ومثاله ‪ :‬الزنى الذي جعله علة للرجم أو الجلد‪ ،‬والقتل العمد الذي جعله علة‬

‫مناسبة للقصاص‪ ،‬وعقد النكاح الذي جعله الشارع‪ /‬علة لحل االستمتاع‪ ،‬فهذه جميعها أوصاف ظاهرة‬

‫غير خفية‪ .‬كذلك فهي أوصاف منضبطة‪ ،‬أي أنها غير مضطربة‪ ،‬بحيث لم تختلف باختالف األشخاص‬

‫واألزمان‪ ،‬ولذا لم تجعل المشقة علة الفطر والتخفيف على المسافر بالقصر في رمضان‪ ،‬وإنما أناطه‬

‫‪70‬‬
‫بالسفر‪ ،‬كونه منضبطا ً ظاهراً‪ .‬أما أن تلك األوصاف‪ /‬مناسبة فمعناها ‪ :‬أن من شأن ترتب الحكم عليها أن‬

‫تفضي إلى تحقيق مصلحة مقصودة للشارع‪ .‬وأما أنها موجبة للحكم ‪ :‬فذاك ألنها تستدعي ما أناط الشارع‬

‫بها من أحكام‪ ،‬وربط‪ /‬وجود الحكم بها‪ ،‬بحيث يدور الحكم معها وجوداً‪ /‬وعدماً‪ ،‬كالسرقة التي توجب حكم‬

‫قطع اليد‪ ،‬والزنى الذي يوجب حكم الرجم إن كان محصناً‪ ،‬أو الجلد إن كان بكراً‪ ،‬والقتل العمد الذي‬

‫يوجب القصاص‪ .‬وأما المعنى الثاني للعلة ‪ :‬فهو المعنى المناسب لتشريع‪ /‬الحكم‪ .‬وهو ما عبر عنه‬

‫( الشاطبي‪ ) /‬بقوله في تعريفه للعلة ‪ " :‬هي الحكم والمصالح التي تعلقت بها األوامر أو اإلباحة‪ ،‬والمفاسد‪/‬‬

‫التي تعلقت بها النواهي‪ .‬فالمشقة علة في إباحة القصر والفطر في السفر؛ فالعلة هي المصلحة نفسها أو‬

‫‪.‬المفسدة نفسها مظنتها ظاهرة كانت أو غير ظاهرة‪ ،‬منضبطة أو غير منضبطة‬

‫انظر ‪ :‬قواعد المقاصد عند اإلمام الشاطبي‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪ .49‬وللتوسع‪ /‬في معنى العلة ‪ :‬يراجع‬

‫‪.‬البحر المحيط للزركشي‪ /،‬ج‪4‬ص‪111‬‬

‫أما مسالك العلة فهي الطرق‪ /‬التي تدل على كون الوصف‪ /‬علة‪ ،‬وهي متعددة ذكر منها الفتوحي‪: /‬‬

‫اإلجماع‪ ،‬والنص‪ ،‬والمناسبة‪ ،‬والشبه‪ ،‬والدوران‪ .‬وأضاف‪ /‬إليها الرازي ‪ :‬اإليماء‪ ،‬والتأثير‪ ،‬والسبر‬

‫‪.‬والتقسيم‪ ،‬والطرد‪ ،‬وتنقيح المناط‬

‫انظر ‪ :‬شرح الكوكب المنير‪ ،‬الفتوحي‪ ،‬ج‪4‬ص‪ ،115‬والمحصول‪ ،‬الرازي‪ ،‬ج‪ ،5‬ص‪137‬‬

‫انتهى بتصرف )‬

‫فإن باستقراء العلل حصول العلم بمقاصد الشريعة بسهولة‪ ،‬ألننا إذا استقرينا‪ /‬علالً كثيرة متماثلة في‬

‫كونها ضابطا ً لحكمة متحدة أمكن أن نستخلص منها حكمة واحدة‪ ،‬فنجزم بأنها مقصد شرعي‪ ،‬كما‬

‫يستنتج من استقراء الجزئيات تحصيل مفهوم كلي حسب قواعد المنطق‪ .‬مثاله‪ :‬أننا إذا علمنا علة النهي‬

‫عن المزابنة[المزابنة ‪ :‬هي بيع الرطب بما كان يابساً‪ .‬انظر ‪ :‬المجموع شرح النووي‪ ،‬ج‪ 10‬ص‪]585‬‬

‫الثابتة بمسلك اإليماء في قول رسول‪ /‬هللا عليه الصالة والسالم في الحديث الصحيح لمن سأله عن بيع‬

‫‪.‬التمر بالرطب‪( :‬أينقص الرطب إذا جف ؟ قال‪ :‬نعم‪ ،‬قال‪ :‬فال إذن)‬

‫‪71‬‬
‫فحصل لنا أن علة تحريم المزابنة‪ ،‬هي‪ :‬الجهل بمقدار أحد العوضين‪ ،‬وهو الرطب منهما المبيع باليابس‪.‬‬

‫وإذا علمنا النهي عن بيع الجزاف بالمكيل‪ ،‬وعلمنا أن علته جهل أحد العوضين بطريق‪ /‬استنباط العلة‪.‬‬

‫وإذا علمنا إباحة القيام بالغبن‪ ،‬وعلمنا أن علته نفي الخديعة بين األمة بنص قول الرسول‪ /‬عليه السالم‬

‫للرجل ‪ -‬الذي قال له‪ :‬إني أخدع في البيوع ‪( :-‬إذا بايعت فقل ال خالبة)‪ .‬إذا علمنا هذه العلل كلها‬

‫استخلصنا منها مقصداً واحداً‪ ،‬وهو‪ :‬إبطال الغرر في المعاوضات‪ .‬فلم يبق خالف في أن كل تعاوض‬

‫اشتمل على خطر أو غرر في ثمن‪ ،‬أو مثمن أو آجل فهو تعاوض باطل‪ .‬ومثال آخر‪ :‬وهو أننا نعلم النهي‬

‫عن أن يخطب المسلم على خطبة مسلم آخر‪ ،‬والنهي عن أن يسوم‪ /‬على سومه‪ ،‬ونعلم‪ /‬أن علة ذلك هو ما‬

‫في ذلك من الوحشة التي تنشأ عن السعي في الحرمان من منفعة مبتغاة‪ ،‬فنستخلص من ذلك مقصداً هو‪:‬‬

‫دوام األخوة بين المسلمين‪ ،‬فنستخدم‪ /‬ذلك المقصد إلثبات الجزم بانتفاء حرمة الخطبة بعد الخطبة والسوم‪/‬‬

‫بعد السوم‪ ،‬إذا كان الخاطب األول والسائم‪ /‬األول قد أعرضا عما رغبا فيه‪ .‬النوع الثاني من هذا الطريق‪:‬‬

‫استقراء أدلة أحكام اشتركت في علة‪ ،‬بحيث يحصل لنا اليقين بأن تلك العلة مقصد مراد للشارع‪ .‬مثاله‪:‬‬

‫النهي عن بيع الطعام قبل قبضه‪ ،‬علته طلب رواج الطعام‪ /‬في األسواق‪/‬‬

‫والنهي عن بيع الطعام بالطعام‪ /‬نسيئة إذا حمل على إطالقه عند الجمهور‪ ،‬علته أن ال يبقى الطعام في‬

‫الذمة فيفوت رواجه‪ .‬والنهي عن االحتكار في الطعام لحديث مسلم عن معمر مرفوعاً‪( :‬من احتكر طعاما ً‬

‫فهو خاطئ)‪ ،‬علته إقالل الطعام من األسواق‪ /.‬فبهذا االستقراء يحصل العلم بأن رواج الطعام وتيسير‬

‫تناوله مقصد من مقاصد الشريعة‪ .‬فنعمد إلى هذا المقصد فنجعله أصالً ونقول‪ :‬إن الرواج إنما يكون‬

‫‪.‬بصور من المعاوضات‪ ،‬واإلقالل إنما يكون بصور من المعاوضات‪ ،‬إذ الناس ال يتركون التبايع‬

‫فما عدا المعاوضات‪ /‬ال يخشى معه عدم رواج الطعام‪ .‬ولذلك قلنا‪ :‬تجوز الشركة والتولية[التولية ‪ :‬هي‬

‫نقل جميع المبيع إلى المولى بمثل الثمن المثلي أو عين المتقوم القيمي بلفظ ‪ :‬وليتك أو ما يقوم مقامه‪.‬‬

‫انظر ‪ :‬الموسوعة الفقهية‪ ،‬ج‪14‬ص‪]196‬‬

‫‪72‬‬
‫واإلقالة [هي رفع العقد‪ ،‬وإلغاء حكمه وآثاره بتراضي الطرفين‪ .‬انظر الموسوعة الفقهية‪ ،‬ج‪ 5‬ص‬

‫‪ ]324‬في الطعام قبل قبضه‪ .‬ومن هذا القبيل كثرة األمر بعتق الرقاب الذي دلنا على أن من مقاصد‬

‫‪.‬الشريعة حصول الحرية‬

‫الطريق الثاني‪ :‬أدلة القرآن الواضحة الداللة التي يضعف احتمال أن يكون المراد منها غير ما هو‬

‫ظاهرها بحسب االستعمال العربي‪ ،‬بحيث ال يشك في المراد منها إال من شاء أن يدخل على نفسه شكا ً ال‬

‫ِب َعلَ ْي ُك ُم ال ِّ‬


‫ص َيا ُم}‪ :‬أن هللا أوجبه‬ ‫‪.‬يعتد به‪ .‬أال ترى أنا نجزم بأن معنى‪ُ { :‬كت َ‬

‫ولو قال أحد‪ :‬إن ظاهر هذا اللفظ أن الصيام مكتوب في الورق‪ /‬لجاء خطأ ً من القول‪ .‬فالقرآن لكونه‬

‫متواتر اللفظ قطعيه يحصل اليقين بنسبة ما يحتوي عليه إلى الشارع تعالى‪ ،‬ولكنه لكونه ظني الداللة‬

‫يحتاج إلى داللة واضحة يضعف تطرق احتمال معنى ثان إليها‪ .‬فإذا انضم إلى قطعية المتن قوة ظن‬

‫الداللة تسنى لنا أخذ مقصد شرعي منه يرفع الخالف عند الجدل في الفقه‪ ،‬مثل ما يؤخذ من قوله تعالى‪:‬‬

‫ِين آَ َم ُنوا اَل َتأْ ُكلُوا أَم َْوالَ ُك ْم َب ْي َن ُك ْم ِب ْالبَاطِ ِل}‪ ،‬وقوله‪َ :‬‬
‫{واَل َت ِز ُر َو ِ‬
‫از َرةٌ‬ ‫{وهَّللا ُ اَل ُيحِبُّ ْال َف َسا َد}‪ ،‬وقوله‪{ :‬أَ ُّي َها الَّذ َ‬
‫َ‬

‫ضا َء فِي ْال َخم ِْر َو ْال َميْسِ ِر}‪ ،‬وقوله‪:‬‬ ‫ِو ْز َر أ ُ ْخ َرى}‪ ،‬وقوله‪{ :‬إِ َّن َما ي ُِري ُد ال َّش ْي َطانُ أَنْ يُوق َِع َب ْي َن ُك ُم ْال َعد َ‬
‫َاو َة َو ْال َب ْغ َ‬

‫{و َما َج َع َل َعلَ ْي ُك ْم فِي ال ِّد ِ‬


‫ين مِنْ َح َر ٍج}‪ .‬ففي كل آية من هذه اآليات تصريح بمقصد شرعي أو تنبيه على‬ ‫َ‬

‫‪.‬مقصد‬

‫‪:‬الطريق الثالث‪ :‬السنة المتواترة‪ .‬وهذا الطريق‪ /‬ال يوجد له مثال إال في حالين‬

‫الحال األول‪ :‬المتواتر المعنوي الحاصل من مشاهدة عموم الصحابة عمالً من النبي ‪ -‬صلى هللا عليه‬

‫وسلم ‪ ،-‬فيحصل لهم علم بتشريع‪ /‬في ذلك يستوي فيه جميع المشاهدين‪ .‬وإلى هذا الحال يرجع قسم‬

‫المعلوم من الدين بالضرورة‪ ،‬وقسم العمل الشرعي القريب من المعلوم ضرورة‪ ،‬مثل مشروعية الصدقة‬

‫‪.‬الجارية المعبر عن بعضها بالحبس‬

‫‪73‬‬
‫وهذا العمل هو الذي عناه مالك حين بلغه‪ :‬أن شريحاً‪ /‬يقول بعدم انعقاد الحبس[وهي األوقاف‪ ،‬والوقف ‪:‬‬

‫هو تحبيس األصل وتسبيل المنافع]‪ ،‬ويقول أن ال حبس عن فرائض هللا‪ .‬فقال مالك‪( :‬رحم هللا شريحاً‪/‬‬

‫تكلم ببالده ‪ -‬يعني الكوفة ‪ -‬ولم يرد المدينة‪ ،‬فيرى‪ /‬آثار األكابر من أزواج النبي ‪ -‬صلى هللا عليه وسلم‪- /‬‬

‫وأصحابه والتابعين بعدهم وما حبسوا من أموالهم [ ال يطعن فيها طاعن ]‪ ،‬وهذه صدقات‪ /‬رسول هللا‬

‫سبعة حوائط‪ .‬وينبغي للمرء أن ال يتكلم إال فيما أحاط به خبرة) اه‪ .-‬وأمثلة هذا العمل في العبادات كثيرة‪،‬‬

‫‪.‬ككون خطبة العيدين بعد الصالة‬

‫الحال الثاني‪ :‬تواتر عملي‪ ،‬يحصل آلحاد الصحابة من تكرر مشاهدة أعمال رسول هللا ‪ -‬صلى هللا عليه‬

‫‪.‬وسلم ‪ -‬بحيث يستخلص من مجموعها مقصداً شرعيا ً‬

‫ففي صحيح البخاري‪ :‬عن األزرق بن قيس قال‪( :‬كنا على شاطئ نهر باألهواز‪ /،‬قد نضب عنه الماء‪.‬‬

‫فجاء أبو برزة األسلمي على فرس‪ ،‬فقام يصلى وخلى فرسه‪ ،‬فانطلقت الفرس‪ .‬فترك صالته وتبعها‪ /‬حتى‬

‫أدركها فأخذها‪ ،‬ثم جاء فقضى صالته‪ .‬وفينا‪ /‬رجل له رأي فأقبل يقول‪ :‬انظروا‪ /‬إلى هذا الشيخ ترك‬

‫صالته من أجل فرس‪ .‬فأقبل‪ /‬فقال‪ :‬ما عنفني أحد منذ فارقت رسول هللا ‪ -‬صلى هللا عليه وسلم‪ - /‬وقال‪ :‬إن‬

‫‪.‬منزلي متراخ‪ ،‬فلو صليت وتركت الفرس لما آت أهلي إلى الليل‬

‫وذكر أنه صحب رسول هللا ‪ -‬صلى هللا عليه وسلم‪ - /‬فرأي من تيسيره)‪ .‬فمشاهدته أفعال رسول هللا عليه‬

‫السالم المتعددة استخلص منها أن من مقاصد الشرع التيسير‪ .‬فرأي أن قطع الصالة من أجل إدراك‬

‫فرسه ثم العود إلى استئناف صالته أولى من استمراره على صالته مع تجشم مشقة الرجوع‪ /‬إلى أهله‬

‫راجالً‪ .‬فهذا المقصد بالنسبة إلى أبي برزة مظنون ظنا ً قريبا ً من القطع‪ ،‬ولكنه بالنسبة إلى غيره ‪ -‬الذين‬

‫يروي إليهم خبره ‪ -‬مقصد محتمل‪ ،‬ألنه يتلقى منه على وجه التقليد وحسن الظن به‪ .‬ولقد جاء الشاطبي‪/‬‬

‫في آخر كتاب المقاصد من تأليفه الموافقات بكالم أرى من المهم إثبات خالصته باختصار‪ ،‬قال‪( :‬بماذا‬

‫‪74‬‬
‫يعرف ما هو مقصود‪ /‬للشارع مما ليس مقصوداً له ؟ والجواب ‪ :‬أن النظر بحسب التقسيم العقلي ثالثة‬

‫‪:‬أقسام‬

‫أحدها‪ :‬أن يقال‪ :‬إن مقصد الشارع غائب عنا حتى يأتينا النص الذي يعرفنا‪ /‬به‪ .‬وحاصل‪ /‬على هذا الوجه‬

‫الحمل على الظاهر مطلقاً‪ .‬وهو رأي الظاهرية الذين يحصرون مظان العلم بمقاصد الشارع في الظواهر‬

‫‪.‬والنصوص‬

‫‪.‬الثاني‪ :‬دعوى أن مقصد الشارع ليس في هذه الظواهر وال ما يفهم منها‪ ،‬وإنما المقصود‪ /‬أمر آخر وراءه‬

‫ويطرد‪ /‬ذلك في جميع الشريعة حتى ال يبقى في ظاهرها متمسك تعرف منه مقاصد الشارع‪ .‬وهذا رأي‬

‫‪.‬كل قاصد إلبطال الشريعة وهم الباطنية‬

‫الثالث‪ :‬أن يقال باعتبار األمرين جميعاً‪ ،‬على وجه ال يخل فيه المعنى بالنص وال العكس‪ ،‬لتجري‬

‫الشريعة على نظام واحد ال اختالف فيه وال تناقض‪ .‬وهذا الذي أمه أكثر العلماء‬

‫فنقول‪ :‬إن مقصد الشارع يعرف من جهات‬

‫إحداها‪ :‬مجرد األمر والنهي االبتدائي التصريحي‪ /.‬فإن األمر كان أمراً القتضائه الفعل‪ ،‬فوقوع الفعل‬

‫‪.‬عنده مقصود للشارع‪ ،‬وكذلك النهي في اقتضاء الكف‬

‫‪.‬الثانية‪ :‬اعتبار علل األمر والنهي كالنكاح لمصلحة التناسل‪ ،‬والبيع لمصلحة االنتفاع بالمبيع‬

‫الثالثة‪ :‬أن للشارع في شرع األحكام مقاصد أصلية ومقاصد‪ /‬تابعة‪ .‬فمنها منصوص عليه‪ ،‬ومنها مشار‬

‫إليه‪ ،‬ومنها ما استقرئ من المنصوص‪ .‬فاستدللنا‪ /‬بذلك على أن كل ما لم ينص عليه مما ذلك شأنه هو‬

‫مقصود للشارع)‪ .‬انتهى حاصل كالمه (مقاصد الشريعة اإلسالمية‪ ،‬ابن عاشور‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪56‬‬

‫وقد أضاف إلى هذه الطرق طريقة السلف في رجوعهم إلى مقاصد الشريعة مع ضبطها‪ /‬بغيرها‪ ،‬حيث‬

‫قال‪ " :‬وهذا المبحث يتنزل منزلة طريق من طرق إثبات المقاصد الشرعية‪ ،‬ولكني‪ /‬لم أعده في عدادها‬

‫من حيث إني لم أجد حجة في كل قول من أقوال السلف‪ ،‬إذ بعضها غير مصرح صاحبه بأنه راعى في‬

‫‪75‬‬
‫كالمه المقصد‪ ،‬وبعضها‪ /‬فيه التصريح أو ما يقاربه‪ ،‬ولكنه ال يعد بمفرده حجة ألن قصاراه أنه رأي من‬

‫‪.‬صاحبه في فهم مقصد الشريعة‬

‫ولكن مناط الحجة لنا بأقوالهم‪ /‬أنها دالة على أن مقاصد الشريعة على الجملة واجبة االعتبار‪ ،‬وأن أقوالهم‪/‬‬

‫"أيضا ً لما تكاثرت قد أنبأتنا بأنهم كانوا يتقصون باالستقراء مقاصد الشريعة من التشريع‬

‫أما الدكتور يوسف القرضاوي فى كتابه دراسة في فقه مقاصد الشريعة للقرضاوى ‪ ،‬ص‪ 24‬فقد بين‬

‫الوصول إلى المقاصد من خالل أكثر من طريقة‬

‫‪:‬ولم يأت إال على ذكر طريقتين‬

‫‪.‬أوالً‪ :‬تتبع النصوص التي جاءت بتعليالت في القرآن والسنة‪ ،‬لنعرف منها مقاصد اإلسالم وأهدافه‬

‫ثانيا ً‪ :‬استقراء األحكام الجزئية‪ ،‬وتتبعها والتأمل فيها‪ ،‬وضم بعضها إلى بعض من أجل الوصول إلى‬

‫مقصد كلي أو مقاصد كلية‪ ،‬قصدها‪ /‬الشارع الحكيم من تشريع هذه األحكام‬

‫عالقة المقاصد بغيرها من المصطلحات ذات الصلة‬

‫أوالً‪ :‬عالقة المقاصد بالعلة‬

‫قد تقدم معنا مفهوم العلة وأن لها معنيين عند األصوليين‪ ،‬وكالهما له ارتباطه الوثيق في تعليل األحكام‪،‬‬

‫وخاصة المعنى األول ‪ -‬أعني الوصف‪ /‬الظاهر المنضبط الذي يتعلق الحكم به ‪ ،-‬والمقاصد عالقتها‬

‫بالعلة وثيقة‪ ،‬كون التعليل ظاهراً بينا ً في الكثير من اآليات واألحاديث النبوية‪ ،‬ومن ذلك قوله تعالى معلالً‬

‫ون} الذاريات‪ ،‬آية ‪56‬‬ ‫ت ْال ِجنَّ َواإْل ِ ْن َ‬


‫س إِاَّل لِ َيعْ ُب ُد ِ‬ ‫{و َما َخلَ ْق ُ‬
‫إيجاد العباد‪َ :‬‬

‫اس َعلَى هَّللا ِ حُجَّ ٌة َبعْ دَ الرُّ س ُِل}‬ ‫ين لِ َئاَّل َي ُك َ‬


‫ون لِل َّن ِ‬ ‫وقوله معلالً إرسال الرسل‪ُ { :‬ر ُساًل ُم َب ِّش ِر َ‬
‫ين َو ُم ْنذ ِِر َ‬

‫النساء‪ ،‬آية ‪165‬‬


‫‪76‬‬
‫وعلل ‪ -‬سبحانه ‪ -‬تشريع القصاص بحفظ النفوس بقوله‪{ :‬مِنْ أَجْ ِل َذل َِك َك َت ْب َنا َعلَى َبنِي إِسْ َرائِي َل أَ َّن ُه َمنْ‬

‫اس َج ِميعً ا} المائدة‪ ،‬آية ‪32‬‬ ‫س أَ ْو َف َسا ٍد فِي اأْل َرْ ِ‬


‫ض َف َكأ َ َّن َما َق َت َل ال َّن َ‬ ‫َق َت َل َن ْف ًسا ِب َغي ِْر َن ْف ٍ‬

‫كماعلل رسول هللا ‪ -‬صلى هللا عليه وسلم ‪ -‬أموراً كثيرة نصا ً وإيماء‪ ،‬فمن ذلك قوله عليه الصالة ‪،‬‬

‫والسالم‪ " :‬كنت قد نهيتكم عن لحوم األضاحي‪ /‬من أجل الدافة‪ ،‬فكلوا وادخروا‪" /‬أخرجه مسلم في كتاب‬

‫األضاحي‪ ،‬رقم ‪ ،1971‬والدافة ‪ :‬هم من يطرأ من المحتاجين‬

‫ومع ظهور‪ /‬قضية التعليل ‪ -‬كما في األمثلة المتقدمة وغيرها مما لم يذكر ‪ -‬فإن هناك اختالفا ً بين العلماء‬

‫‪:‬في إثباتها‪ ،‬وخالصته‬

‫‪.‬إن األصل عدم التعليل‪ ،‬حتى يقوم الدليل عليه ‪-‬‬

‫‪.‬إن األصل التعليل بكل وصف‪ /‬صالح إلضافة الحكم عليه‪ ،‬حتى يوجد مانع عن البعض ‪-‬‬

‫‪.‬إن األصل التعليل بوصف‪ ،‬ولكن ال بد من دليل يميز الصالح من األوصاف للتعليل وغير الصالح ‪-‬‬

‫إن األصل في النصوص التعبد دون التعليل ‪-‬‬

‫ولسنا بصدد تفصيل القول في قبول أو رد هذه األقوال‪ ،‬أو ترجيح الراجح منها‪ ،‬ولكن يكفي القول في‬

‫مسألة التعليل‪ :‬إن جماهير العلماء من الصحابة والتابعين ومن جاء بعدهم ذهبوا‪ :‬إلى أن أحكام الشرع‬

‫معللة بجلب المصالح للعبد دنيوية أو أخروية‪ ،‬ودرء المفاسد عنه بكل أنواعها‪ ،‬سواء منها ما كان معقول‬

‫المعنى‪ ،‬وما لم يكن كذلك‪ ،‬ولم يخالف في هذا إال الظاهرية‪ ،‬وحتى هؤالء عند التحقيق وتحرير‪ /‬موضع‬

‫النزاع معهم بدقة‪ ،‬يؤول الخالف معهم إلى اللفظ‪ ،‬وقد وصف شيخ اإلسالم ابن تيمية منكر التعليل بقوله‪:‬‬

‫" قد أنكر ما جاءت به الشرائع من المصالح والمفاسد والمعروف والمنكر[وأنكر‪ /‬ما في الشريعة من‬

‫المناسبات بين األحكام وعللها‪ ،‬وأنكر‪ /‬خاصة الفقه في الدين الذي هو معرفة حكمة الشريعة ومقاصدها‪/‬‬

‫ومحاسنها‪ " /‬مجموع الفتاوى‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ج‪ 11‬ص‪354‬‬

‫وطالما أن المقاصد دائرة مع الحكم والغايات فإن عالقتها بالعلل وثيقة‪ ،‬كون التعليل مرتبطاً‪ /‬ببيان الغاية‬

‫من التشريع‪ ،‬فال وجه للفصل والتفريق بينهما‬

‫‪77‬‬
‫ثانياً‪ :‬عالقة المقاصد بالمصلحة‬

‫اختلط مفهوم المقصد بالمصلحة في االستعمال‪ ،‬فيذكر أحدهما بمعنى اآلخر ولذلك عقد ابن عاشور‪ /‬فصالً‪/‬‬

‫للتعريف بالمصلحة فعرف المصلحة بقوله‪ " :‬وصف للفعل يحصل به الصالح‪ ،‬أي النفع منه دائما ً أو‬

‫‪.‬غالبا ً للجمهور أو لآلحاد " مقاصد الشريعة اإلسالمية‪ ،‬ص‪200‬‬

‫وهناك من انتقد تعريف ابن عاشور للمصلحة‪ ،‬وهو الدكتور محمد المختار السالمي بقوله ‪ " :‬ابن عاشور وضع(‬

‫المصلحة في إطار الفعل اإلنساني‪ .‬ولذا أخرج الذوات وأعراضها من ضابط المصلحة والمفسدة‪ .‬إال أنه جعل الوصف‬

‫يتميز بأنه يحصل به الصالح‪ .‬والصالح والمصلحة مادة واحدة‪ .‬فأفضى تعريفه إلى أنه ال تفهم المصلحة إال بفهم‬

‫الصالح‪ .‬وال يفهم الصالح إال بإدراك حد المصلحة‪ .‬وهو دور مفسد للتعريف وكأنه استشعر هذه الصعوبة ففسر الصالح‬

‫بالمنفعة‪ .‬فالمنفعة لفظ مساو للصالح"‪ ،‬وهذا الذي دفع بعض الباحثين إلى القول ‪ " :‬إن المصلحة هو موضع الصالح‪.‬‬

‫وإذا تبين أن المصالح التي تعتبرها الشريعة هي المواضع المعنوية التي يحصل فيها اإلنسان صالحه‪ ،‬علمنا أن‬

‫وظيفتها األساسية وظيفة أخالقية صريحة‪ .‬إذ حد الصالح أنه قيمة أخالقية‪ ،‬بل هو رأس القيم األخالقية‪ ،‬وحد األخالق‬

‫أنها تبحث في الصالح "‪ .‬انظر ‪ :‬مظاهر التجديد في المبحث المقاصدي‪ ،‬إبراهيم الكيالني‪ ،‬ضمن كتاب ‪ :‬خطاب التجديد‬

‫اإلسالمي‪ ،‬مجموعة مؤلفين‪ ،‬ص‪ .258‬وال غرابة في هذا القول فإن النصوص قد أكدت عليه‪ ،‬وبينت المقصد من البعثة‬

‫انتهى ) والتشريع‪ ،‬كما صح عن نبينا عليه الصالة والسالم قوله ‪ " :‬إنما بعثت ألتمم مكارم األخالقأي المصلحة‬

‫‪".‬بتصرف‬

‫وهو قريب من تعريف‪ /‬الشاطبي‪ /‬الذي استنبطه ابن عاشور‪ /‬في كتابه بقوله‪ " :‬وعرفهاالشاطبي في‬

‫مواضع من كتابه عنوان التعريف‪ - /‬بما يتحصل منه بعد تهذيبه ‪ -‬أنها ما يؤثر صالحا ً أو منفعة للناس‬

‫عمومية أو خصوصية‪ ،‬ومالءمة قارة في النفوس في قيام الحياة "مقاصد الشريعة اإلسالمية‪ ،‬ابن‬

‫عاشور‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪200‬‬

‫وأضاف قائالً‪ " :‬إن المصالح كثيرة متفاوتة اآلثار قوة وضعفا ً في صالح أحوال األمة أو الجماعة‪،‬‬

‫وأنها أيضا ً متفاوتة بحسب العوارض العارضة والحافة بها من معضدات آلثارها أو مبطالت لتلك اآلثار‬

‫كالً أو بعضاً‪ .‬وإنما يعتبر منها ما نتحقق أنه مقصود للشريعة‪ ،‬ألن المصالح كثيرة منبثة)المرجع‬

‫السابق‪ ،‬ص‪230‬‬
‫‪78‬‬
‫وعرفها الغزالي بقوله‪ " :‬أما المصلحة فهي عبارة في األصل عن جلب منفعة أو دفع مضرة‬

‫"المستصفى‪ ،‬الغزالي‪ ،‬ج‪2‬ص‪481‬‬

‫وقد بين الغزالي مقصوده من هذا التعريف بقوله‪ " :‬ولسنا نعني به ذلك فإن جلب المنفعة ودفع المضرة‬

‫مقاصد الخلق وصالح الخلق في تحصيل مقاصدهم‪ ،‬لكنا نعني بالمصلحة المحافظة على مقصود الشرع‪،‬‬

‫ومقصود الشرع من الخلق خمسة‪ :‬وهو أن يحفظ عليهم دينهم‪ ،‬ونفسهم‪ ،‬وعقلهم‪ ،‬ونسلهم‪ ،‬ومالهم‪ ،‬فكل‬

‫ما يتضمن حفظ هذه األصول‪ /‬الخمسة فهو مصلحة‪ ،‬وكل ما يفوت هذه األصول فهو مفسدة ودفعها‪/‬‬

‫" مصلحة‬

‫وارتباط‪ /‬الشرع بالمصلحة أمر ظاهر ال ينكر‪ ،‬كون الشريعة معللة بالمصالح التي تراعي مقاصد العباد‬

‫في العاجل واآلجل‪ ،‬قال ابن القيم مبينا ً ارتباط‪ /‬الشريعة بالمصالح ورعايتها لها تحت عنوان‪ :‬بناء‬

‫الشريعة على مصالح العباد في المعاش والمعاد‪ " :‬هذا فصل عظيم النفع جداً وقع بسبب الجهل به غلط‬

‫عظيم على الشريعة أوجب من الحرج والمشقة وتكليف‪ /‬ما ال سبيل إليه ما يعلم أن الشريعة الباهرة التي‬

‫في أعلى رتب المصالح ال تأتى به‪ ،‬فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش‬

‫" والمعاد‪ ،‬وهي عدل كلها ومصالح كلها وحكمة كلها‬

‫وإذا كانت الشريعة تراعي مصالح العباد فإنها ‪ -‬بال شك ‪ -‬تقصد هذه المصالح وتهدف إلى تحصيلها‪،‬‬

‫فالشارع‪ /‬أراد هذه المصالح وقصدها‪ /‬بتشريعه األحكام‪ ،‬وهي تعود على المكلف وتؤول إليه ‪ ،‬ومما تقدم‬

‫ندرك أن المقاصد عالقتها بالمصلحة عالقة وثيقة بل هي تمثل أساسا ً نظرياً‪ /‬لها تنبني عليه‪ ،‬وقد‪ /‬أقر‬

‫فقهاء اإلسالم على مر العصور‪ /‬بأن الشريعة مصلحة والمصلحة شريعة‪ ،‬فهي حاضرة في األصول‬

‫والقواعد التشريعية‬

‫ثالثاً‪ :‬عالقة المقاصد بالحكمة‬

‫الحكمة عند األصوليين‪ :‬هي ما يترتب على ربط الحكم بعلته أو بسببه من جلب مصلحة أو دفع مضرة‪،‬‬

‫أو تقليلها)الموسوعة الفقهية‪ ،‬ج‪ 18‬ص‪67‬‬

‫‪79‬‬
‫ولفظ (الحكمة) أكثر ما يستعمله األصوليون لبيان المعنى المقصود من تشريع الحكم‪ ،‬وما يترتب عليه‬

‫من جلب نفع أو دفع مضرة‪ ،‬كتحصيل‪ /‬مصلحة حفظ األنساب بتحريم الزنى‪ ،‬وإيجاب الحد على الزاني‪،‬‬

‫وكدفع المشقة بتشريع القصر والفطر للمسافر‪ ،‬والحفاظ على النفس اإلنسانية من االعتداء أو اإلهدار‬

‫بتشريع القصاص‪ ،‬وغير ذلك‪ ،‬وهو ما صرح به الطوفي بقوله‪( :‬والحكمة غاية الحكم المطلوبة‬

‫بشرعه)قواعد المقاصد عند اإلمام الشاطبي‪ ،‬ص‪48‬‬

‫وطالما أن المقاصد دائرة مع الحكم والغايات من التشريع‪ ،‬فالحكمة وفق‪ /‬المعنى المتقدم تتطابق مع‬

‫ت ْالح ِْك َم َة َف َق ْد أُوت َِي َخيْرً ا‬


‫{و َمنْ ي ُْؤ َ‬
‫المقصد الشرعي الذي أراده الحكم‪ .‬قال ابن القيم عند قوله تعالى‪َ :‬‬

‫َك ِثيرً ا}البقرة ‪269‬‬

‫والحكمة هي العلم النافع والعمل الصالح‪ ،‬وسمي حكمة ألن العلم والعمل قد تعلقا بمتعلقهما‪ ،‬وأوصال "‬

‫إلى غايتهما‪ ،‬وكذلك ال يكون الكالم حكمة حتى يكون موصالً إلى الغايات المحمودة والمطالب‪ /‬النافعة‪،‬‬

‫فإذا كان المتكلم به لم يقصد مصلحة المخاطبين وال هداهم وال إيصالهم‪ /‬إلى سعادتهم وداللتهم‪ /‬على‬

‫أسبابها وموانعها‪ ،‬وال كان ذلك هو الغاية المقصودة المطلوبة‪ ،‬وال تكلم ألجلها‪ ،‬وال أرسل الرسل وأنزل‬

‫الكتب ألجلها‪ ،‬وال نصب الثواب والعقاب ألجلها لم يكن حكيما ً وال كالمه حكمة "[شفاء العليل في‬

‫‪،‬مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل‪ ،‬ابن القيم‪ ،‬ص‪]190‬‬

‫فكالم ابن القيم ‪ -‬رحمه هللا ‪ -‬ظاهر في بيان معنى الحكمة‪ ،‬وربطها‪ /‬بمقاصد المتكلم ‪ -‬وهو الشارع‬

‫سبحانه ‪ ،-‬لتعبر عن مراده في وضع الشريعة‪ ،‬وهذا يثبت أن الشريعة لم توضع عبثا ً وال سدى‪ ،‬وأنها‬

‫موضوعة كما قال الشاطبي‪ /‬في موافقاته‪" :‬لمصالح العباد في العاجل واآلجل معاً"[الموافقات للشاطبى‬

‫‪.‬ص‪ ،]200‬وهذا يجعل لفظ الحكمة متطابقا ً مع لفظ المقصد‬

‫‪80‬‬
‫الباب الرابع‬

‫أقسام علم المقاصد‬

‫الفصل األول ‪ :‬أقسام مقاصد الشريعة وأنواعها‬

‫الفصل الثانى ‪ :‬أمثلة للمقاصد‬

‫الفصل األول‬

‫‪:‬أقسام مقاصد الشريعة وأنواعها‬

‫بالنظر إلى أهمية المقاصد الشرعية فقد حظيت بعناية العلماء من حيث تقسيمها وبيان مراتبها‬

‫أوال ‪ :‬من حيث الوضع إلى مقاصد الشارع ومقاصد المكلف‬

‫ثانيا ‪ :‬من حيث العموم والخصوص إلى مقاصد عامة ومقاصد كلية ومقاصد خاصة ومقاصد جزئية‬

‫ثالثا ‪ :‬من حيث اعتبار حظ المكلف وعدمه إلى مقاصد أصلية ومقاصد تابعة‬

‫رابعا ‪ :‬من حيث القطع والظن إلى مقاصد قطعية ومقاصد ظنية ومقاصد وهمية‬

‫خامسا ‪ :‬من حيث الحاجة واألهمية إلى مقاصد ضرورية وحاجية وتحسينية‬

‫وسنستعرض‪ /‬هذه األقسام‪ /‬بصورة موجزة‪ ،‬مع التنبيه على أن هذه األقسام‪ /‬قد يتداخل بعضها في بعض‬

‫‪81‬‬
‫أوالً‪ :‬أقسام المقاصد من حيث الوضع‬

‫مقاصد الشارع‬

‫وهي المقاصد التي قصدها الشارع بوضعه الشريعة‪ ،‬وهي تتمثل إجماالً في جلب المصالح ودرء المفاسد‬

‫في الدارين ‪ ،‬وقد‪ /‬قدم الشاطبي كتاب المقاصد بقوله‪ " :‬وضع الشرائع إنما هو لمصالح العباد في العاجل‬

‫الموافقات للشاطبى‪ ، /‬مرجع سابق‪،‬ص ‪200‬‬ ‫واآلجل م ًعا"‬

‫وحصر ‪ -‬رحمه هللا ‪ -‬مقصد الشارع في أربعة أنواع‬

‫األول‪ :‬قصد الشارع في وضع الشريعة ابتداء‬

‫الثاني‪ :‬قصد‪ /‬الشارع في وضع الشريعة لألفهام‬

‫الثالث‪ :‬قصد الشارع في وضع الشريعة للتكليف بمقتضاها‬

‫‪.‬الرابع‪ :‬قصد الشارع في دخول المكلف تحت أحكام الشريعة‬

‫مقاصد المكلف‬

‫وهي المقاصد التي يقصدها المكلف في سائر تصرفاته‪ ،‬اعتقاداً وقوالً وعمالً ‪ ،‬وتكون معتبرة في‬

‫التصرفات من العبادات والعادات‪ ،‬وهي التي تفرق بين ما هو عادة وما هو عبادة‪ ،‬وفي العبادات بين ما‬

‫هو واجب وغير واجب‪ ،‬وفي‪ /‬العادات بين الواجب والمندوب‪ ،‬والمباح والمكروه والمحرم‪ ،‬والصحيح‬

‫والفاسد‪ ،‬وغير ذلك من األحكام‪ ،‬هذا من جهة ومن جهة أخرى قصد المكلف ال بد أن يكون موافقا ً لقصد‬

‫الشارع من التكليف‪ ،‬وهذا ظاهر من جهة أن المكلف خلق لعبادة هللا تعالى‪ ،‬وذلك راجع إلى العمل على‬

‫وفق القصد من وضع الشريعة ‪ -‬وهذا محصول العبادة ‪)-‬الموافقات‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪401‬‬
‫‪82‬‬
‫ثانياً‪ :‬أقسام المقاصد من حيث العموم والخصوص‬

‫مقاصد كلية‬

‫وهي المقاصد الضرورية التي ال بد منها لقيام نظام‪ /‬العالم وصالحه بحيث ال يبقى النوع اإلنساني مستقيم‬

‫الحال بدونه‪ ،‬وقد حصر العلماء هذا النوع في خمسة وهو حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال‬

‫مقاصد جزئية‬

‫وهي ما يقصده الشارع من كل حكم شرعي ‪ ،‬وما فيه من علل وحكم وأسرار‪ /،‬ويدخل فيها مقاصد‬

‫‪.‬الفروع الفقهية المبثوثة في كتب الفقه والقواعد‪ ،‬وما وضعه العلماء من تصانيف في محاسن الشريعة‬

‫‪:‬مقاصد عامة‬

‫وهي المقاصد التي تالحظ في جميع أو أغلب أبواب الشريعة ومجاالتها‪ /،‬بحيث ال تختص مالحظتها في‬

‫نوع خاص من أحكام الشريعة‪ ،‬فيدخل في هذا أوصاف‪ /‬الشريعة وغاياتها الكبرى‬

‫‪:‬مقاصد خاصة‬

‫وهي المقاصد المتعلقة بباب معين أو أبواب متجانسة من الشريعة كأبواب المعامالت‬

‫وقد اهتم بهذا النوع من المقاصد العالمة ابن عاشور في مقاصده‪ ،‬وقد وصفها بقوله‪ " :‬وهي الكيفيات‬

‫المقصودة للشارع لتحقيق مقاصد الناس النافعة‪ ،‬أو لحفظ مصالحهم العامة في تصرفاتهم الخاصة‪ ،‬كي ال‬

‫يعود سعيهم في مصالحهم الخاصة بإبطال ما أسس لهم من تحصيل مصالحهم العامة‪ ،‬إبطاالً عن غفلة أو‬

‫)عن استزالل هوى وباطل شهوة‪ .‬ويدخل في ذلك كل حكمة روعيت في تشريع أحكام تصرفات الناس‬

‫‪83‬‬
‫مقاصد الشريعة اإلسالمية‪ ،‬ابن عاشور‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪402‬‬

‫ثالثاً‪ :‬أقسام المقاصد من حيث اعتبار حظ المكلف وعدمه‬

‫مقاصد أصلية‬

‫هي المقاصد التي ال حظ فيها للمكلف‪ ،‬وهي الضروريات‪ /‬الخمس في كل ملة‪ ،‬التي بها القيام بمصالح‬

‫عامة مطلقة‪ ،‬وهي على ضربين‪ :‬عينية وكفائية‪ ،‬فأما العينية فهي واجبة على كل مكلف في نفسه‪ ،‬فهو‬

‫‪.‬مأمور بحفظ دينه‪ ،‬ونفسه‪ ،‬وعقله‪ ،‬ونسله‪ ،‬وماله‬

‫ويدل على ذلك‪ :‬أنه لو فرض اختيار العبد خالف هذه األمور لحجر عليه‪ ،‬ولحيل بينه وبين اختياره‪ ،‬فمن‬

‫هنا صار فيه مسلوب الحظ‪ ،‬محكوما ً عليه في نفسه‪ ،‬وأما الكفائية فهي القيام بالمصالح العامة على‬

‫‪.‬العموم لجميع المكلفين‪ ،‬لتستقيم األحوال العامة التي ال تقوم الخاصة إال بها‬

‫إال أن هذا القسم مكمل لألول‪ ،‬فهو الحق به في كونه ضرورياً‪ ،‬إذ ال يقوم العيني إال بالكفائي؛ وذلك أن‬

‫الكفائي قيام بمصالح عامة لجميع الخلق‪ ،‬فالمأمور‪ /‬لم يؤمر إذا ذاك بخاصة نفسه فقط ‪ -‬وإال صار‪ /‬عينيا ً ‪-‬‬

‫بل بإقامة الوجود‪/‬‬

‫ويدلك على أن هذا المطلوب معرً ى من الحظ شرعاً‪ :‬أن القائمين به في ظاهر األمر ممنوعون من‬

‫استجالب الحظوظ‪ /‬ألنفسهم بما قاموا به من ذلك‪ ،‬فال يجوز لوال أن يأخذ أجرة ممن توالهم‪ /‬على واليته‬

‫عليهم‪ .‬ولذلك امتنعت الرشا والهدايا المقصود بها نفس الوالية؛ ألن استجالب المصلحة هنا مؤد إلى‬

‫مفسدة عامة تضاد حكمة الشريعة في نصب هذه الواليات‪ ،‬وعلى هذا المسلك يجري العدل في جميع‬

‫األنام‪ ،‬ويصلح النظام‪ ،‬وعلى خالفه يجري الجور في األحكام‪ ،‬وهدم قواعد اإلسالم‬

‫مقاصد تابعة‬

‫‪84‬‬
‫وهي المقاصد التي روعي فيها حظ المكلف‪ ،‬فمن جهتها يحصل له مقتضى ما جبل عليه من نيل‬

‫الشهوات‪ ،‬واالستمتاع بالمباحات‪ ،‬وسد الخالت‪ .‬وذلك أن حكمة الحكيم الخبير حكمت أن قيام الدين‬

‫والدنيا إنما يصلح ويستمر بدواع من قبل اإلنسان تحمله على اكتساب ما يحتاج إليه هو وغيره‪ ،‬فخلق‪ /‬له‬

‫شهوة الطعام والشراب إذا مسه الجوع والعطش‪ ،‬ليحركه ذلك الباعث إلى التسبب في سد هذه الخلة بما‬

‫أمكنه‪ .‬فمن هذه الجهة صارت المقاصد التابعة خادمة للمقاصد األصلية ومكملة لها‬

‫رابعاً‪ :‬أقسام المقاصد من حيث القطع والظن‬

‫مقاصد قطعية‬

‫وهي التي تواترت عليها وتكررت أدلة القرآن والسنة‪ ،‬ومثالها‪ :‬مقصد التيسير الذي وردت به آيات كثيرة‬

‫وأحاديث متعددة‪ ،‬قال تعالى‪{ :‬ي ُِري ُد هَّللا ُ ِب ُك ُم ْاليُسْ َر َواَل ي ُِري ُد ِب ُك ُم ْالعُسْ َر} البقرة‪ ،‬آية ‪185‬‬

‫وقال عليه الصالة والسالم‪( :‬إن الدين يُسْ ر‪ ،‬ولن يُشا َّد الدين أح ٌد إال غلبه)أخرجه البخاري‪ ،‬كتاب اإليمان‪،‬‬

‫رقم‪39‬‬

‫ومثله مقصد األمن‪ ،‬وحفظ األعراض‪ ،‬وصيانة األموال‪ ،‬وإقرار العدل‪ ،‬وغيرها‬

‫مقاصد ظنية‬

‫وهذه المقاصد دون المقاصد القطعية‪ ،‬وتحصيلها سهل من استقراء غير كبير لتصرفات الشريعة‪ ،‬ألن‬

‫ذلك االستقراء يعطي علما ً باصطالح‪ /‬الشارع وما يراعيه في التشريع‬

‫وقد وضع العز بن عبد السالم قاعدة ترشد إلى طريق معرفة المقاصد الظنية في مبحث ما خالف القياس‬

‫من المعاوضات في قواعده بعد ذكر المثال الحادي والعشرين‪ ،‬فقال‪" :‬إن من عاشر إنسانا ً من الفضالء‬

‫الحكماء العقالء‪ ،‬وفهم‪ /‬ما يؤثره ويكرهه في كل ورد وصدر‪ /،‬ثم سنحت له مصلحة أو مفسدة لم يعرف‬

‫قوله فيها‪ ،‬فإنه يعرف بمجموع ما عهده من طريقته وألفه من عادته أنه يؤثر تلك المصلحة ويكره تلك‬

‫المفسدة) قواعد األحكام في مصالح األنام‪ ،‬عز الدين عبد العزيز بن عبد السالم‪ ،‬ج‪ 2‬ص‪160‬‬

‫‪85‬‬
‫وقد ذكر ابن عاشور أمثلة للمقاصد الظنية وجعلها متفاوتة الدرجة ظهوراً وخفاء‪ ،‬فقال ‪ -‬رحمه هللا‪:‬‬

‫"واعلم أن مراتب الظنون في فهم مقاصد الشريعة متفاوتة بحسب تفاوت االستقراء المستند إلى مقدار ما‬

‫بين يدي الناظر من األدلة‪ ،‬وبحسب خفاء الداللة وقوتها‪ .‬فإن داللة تحريم الخمر على كون مقصد‬

‫الشريعة حفظ العقول عن الفساد العارض داللة واضحة‪ .‬ولذلك لم يكد يختلف المجتهدون في تحريم ما‬

‫‪.‬يصل بالشارب إلى حد اإلسكار‬

‫وأما داللة تحريم‪ /‬الخمر على أن مقصد الشريعة سد ذريعة إفساد العقل‪ ،‬حتى نأخذ من ذلك المقصد‬

‫تحريم القليل من الخمر‪ ،‬وتحريم النبيذ الذي ال يغلب إفضاؤه إلى اإلسكار‪ ،‬فتلك داللة خفية‪ .‬ولذلك‬

‫اختلف العلماء في مساواة تحريم األنبذة لتحريم‪ /‬الخمر‪ ،‬وفي مساواة تحريم شرب قليل الخمر‪ .‬فمن غلب‬

‫ظنه بذلك سوى بينهما في التحريم وإقامة الحد والتجريح به؛ ومن جعل بينهما فرقاً‪ ،‬لم يسو بينهما في‬

‫تلك األمور)مقاصد الشريعة اإلسالمية‪ ،‬ابن عاشور‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪146‬‬

‫مقاصد وهمية‬

‫وهي التي يتخيل ويتوهم أنها صالح وخير ومنفعة‪ ،‬وهي في الحقيقة خالف ذلك‪ ،‬وال شك أن هذا النوع‬

‫‪.‬من المقاصد مردود‪ /‬وباطل ‪ ،‬ولعل أبرز أمثلتها‪ :‬توهم المقاصد المرجوة من إباحة الربا‬

‫خامساً‪ :‬أقسام المقاصد من حيث الحاجة واألهمية‬

‫يعتبر الغزالي أول من قسم مراتب المقاصد والمصالح والكليات الشرعية إلى مراتبها الثالث المعروفة‪:‬‬

‫الضرورية‪ ،‬والحاجية‪ ،‬والتحسينية‪ ،‬قال ‪ -‬رحمه هللا‪" :‬المصلحة باعتبار قوتها في ذاتها تنقسم إلى ما هي‬

‫في رتبة الضرورات‪ ،‬وإلى ما هي في رتبة الحاجات‪ ،‬وإلى ما يتعلق بالتحسينات‬

‫والتزيينات)المستصفى‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ج‪2‬ص‪481‬‬

‫وهذا التقسيم يعتبر تقسيما ً منطقيا ً ال يستغني عنه مجتهد في الحكم على وقائع الحياة‪ ،‬والموازنة بين‬

‫األشياء عندما تتعارض‪ ،‬فالضروريات‪ /‬مقدمة على الحاجيات والتحسينات‪ ،‬والحاجيات مقدمة على‬

‫التحسينات‪ ،‬ولكل مرتبة حكمها‬

‫‪86‬‬
‫وهذا القسم بأنواعه الثالثة عني ببحثه العلماء‪ ،‬وتتبعوا تصاريف‪ /‬الشريعة في أحكامها فيه‪ ،‬فوجدوها‪/‬‬

‫دائرة حول هذه األنواع ال تكاد تفوت شيئا ً منها ما وجدت السبيل إلى تحصيله؛ حيث ال ي ِ‬
‫ُعارضُ ذلك‬

‫ُعارضٌ في جلب مصلح ٍة أعظم‪ ،‬أو في در ِء مفسد ٍة كبرى‬


‫م ِ‬

‫مقاصد ضرورية‬

‫وهي المقاصد التي ال ُب َّد منها في قيام‪ /‬مصالح الدين والدنيا‪ ،‬بحيث إذا اخ َتلَّت لم تجر مصالح الدنيا على‬

‫استقامة‪ ،‬بل على فساد‪ /‬وتهارج‪ /‬وفوت حياة‪ ،‬وفي‪ /‬األخرى فوت النجاة والنعيم‪ ،‬والرجوع بالخسران‬

‫المبين) الموافقات للشاطبى ‪ ،‬ص‪202‬‬

‫وقد حصر الغزاليوالشاطبي‪ ،‬وابن عاشور ‪ ،‬وغيرهم هذه المقاصد في خمس‪ ،‬وهي‪ :‬حفظ الدين‪،‬‬

‫‪.‬والنفس‪ ،‬والعقل‪ ،‬والنسل‪ ،‬والمال‬

‫ولكن حصرها في هذه الخمس قد تمت مراجعته‪ ،‬والنظر فيه‪ ،‬وعدم التسليم به من قِ َب ِل العلماء‪ ،‬وهناك‬

‫محاوالت متعددة قديما ً وحديثاً‪ /‬إلعادة النظر فيه‪ ،‬وقد ترددت ما بين إضافة عناصر أخرى إليه‪ ،‬وما بين‬

‫إعادة النظر في التقسيم أصالً‬

‫فأولى المحاوالت في مراجعة هذا التقسيم للمقاصد الضرورية جاء عن طريق‪ /‬القرافي‪ ،‬حيث أضاف ‪-‬‬

‫حفظ العرض إلى المقاصد الخمسة المتقدمة ‪ ،‬وقد وافقه في ذلك كل من السبكي في جمع الجوامع‪،‬‬

‫والشوكاني‪ ، /‬ومن المعاصرين الدكتور يوسف‪ /‬القرضاوي ‪ ،‬وقد انتقد إضافة العرض إلى المقاصد‬

‫الضرورية ك ٌّل من العالَّمة ابن عاشور ‪ ،‬والدكتور‪ /‬أحمد الريسوني‬

‫ك على األصوليين حصرهم‪ /‬للمقاصد الضرورية‪ ،‬بقوله‪" :‬وقوم‪- /‬‬


‫استدر َ‬
‫َ‬ ‫أما شيخ اإلسالم ابن تيمية فقد‬

‫من الخائضين في أصول الفقه وتعليل األحكام الشرعية باألوصاف المناسبة إذا تكلموا في المناسبة‪ ،‬وأن‬

‫ترتيب الشارع‪ /‬لألحكام على األوصاف‪ /‬المناسبة يتضمن تحصيل مصالح العباد ودفع مضارهم‪ ،‬ورأوا أن‬

‫المصلحة نوعان أخروية‪ ،‬ودنيوية‪ ،‬جعلوا األخروية ما في سياسة النفس وتهذيب األخالق من الحكم‪،‬‬

‫‪87‬‬
‫وجعلوا الدنيوية ما تضمن حفظ الدماء واألموال والفروج والعقول والدين الظاهر‪ ،‬وأعرضوا عما في‬

‫العبادات الباطنة والظاهرة من أنواع المعارف باهلل تعالى ومالئكته وكتبه ورسله‪ ،‬وأحوال القلوب‬

‫وأعمالها‪ ،‬كمحبة هللا‪ ،‬وخشيته‪ ،‬وإخالص الدين له‪ ،‬والتوكل عليه‪ ،‬والرجاء لرحمته‪ ،‬ودعائه‪ ،‬وغير ذلك‬

‫من أنواع المصالح في الدنيا واآلخرة وكذلك فيما شرعه الشارع من الوفاء بالعهود وصلة األرحام‪،‬‬

‫وحقوق المماليك والجيران‪ ،‬وحقوق‪ /‬المسلمين بعضهم على بعض‪ ،‬وغير ذلك من أنواع ما أمر به ونهى‬

‫ً‬
‫حفظا لألحوال السنية‪ ،‬وتهذيب األخالق ويتبين أن هذا جزء من أجزاء ما جاءت به الشريعة من‬ ‫عنه‪،‬‬

‫المصالح)مجموع الفتاوى‪ ،‬ج‪ 32‬ص‪234‬‬

‫وقد جرى على منواله الدكتور يوسف‪ /‬القرضاوي‪ ،‬حيث قال‪" :‬وهناك مقاصد أو مصالح ضرورية لم‬

‫تستوعبها هذه الخمس المذكورة‪ .‬من ذلك‪ :‬ما يتعلق بالقيم االجتماعية‪ ،‬مثل الحرية‪ ،‬والمساواة‪ ،‬واإلخاء‪،‬‬

‫‪.‬والتكافل‪ ،‬وحقوق اإلنسان‪ .‬ومن ذلك ما يتعلق بتكوين المجتمع واألمة والدولة‬

‫ويبدو لي أن توجه األصوليين قديماً‪ /‬كان إلى مصلحة الفرد المكلف‪ :‬من ناحية دينه ونفسه ونسله وعقله‬

‫وماله‪ .‬ولم تتوجه عناية مماثلة للمجتمع‪ ،‬واألمة‪ ،‬والدولة‪ ،‬والعالقات اإلنسانية)دراسة في فقه مقاصد‬

‫الشريعة‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪28‬‬

‫‪88‬‬
‫الفصل الثانى‬

‫أمثلة للمقاصد‬

‫أوال ‪ :‬المقاصد الضرورية الخمسة‬

‫نقصد بحفظ الضروريات‪ /‬الخمس ‪ -‬أو الكليات ‪ -‬حفظها بالنسبة آلحاد األمة وبالنسبة لعموم األمة باألولى‬

‫‪:‬وذلك يكون بأمرين‬

‫األول‪ :‬ما يقيم أركانها ويثبت قواعدها‪ ،‬وذلك عبارة عن مراعاتها من جانب الوجود‬

‫الثاني‪ :‬ما يدرأ عنها االختالل الواقع أو المتوقع‪ /‬فيها‪ ،‬وذلك عبارة عن مراعاتها من جانب العدم‬

‫أوالً‪ :‬حفظ الدين‬

‫الحفاظ على مصلحة الدين من جانب الوجود‪ - /‬أي إبقاؤه على سبيل الدوام ‪ -‬يكون عن طريق‪ /:‬تشريع‬

‫اإليمان‪ ،‬والنطق بالشهادتين‪ ،‬والصالة‪ ،‬والزكاة‪ ،‬والصيام‪ /،‬والحج‪ ،‬وما أشبه ذلك‪ ،‬وهذا الواجب الذي‬

‫أوجبه هللا على عباده بالرغم من أنه حق هللا على عباده إال أن مصالحه تعود على األفراد والجماعة في‬

‫الدنيا واآلخرة‪ ،‬وهو أيضا ً وسيلة لتحصيل جميع الفضائل الضرورية‬

‫وأما الحفاظ عليه من جانب العدم فيكون عن طريق‪ :‬تشريع الجهاد والترغيب فيه‪ ،‬وتحريم‪ /‬الردة وتشريع‬

‫حد الردة‪ ،‬وتحريم‪ /‬البدعة وتشريع‪ /‬عقوبة الداعي إلى البدعة‬

‫ثان ًيا‪ :‬حفظ النفس‬

‫الحفاظ على النفس من جانب الوجود يكون عن طريق مراعاة حق اإلنسان في الحياة‪ ،‬وحفظ حياته من‬

‫التلف أفراداً وعموماً‪ ،‬ويكون كذلك عن طريق‪ /‬تشريع نظام الحالل والحرام‪ ،‬وهذا النظام يعتبر معياراً‬

‫للنفع والضرر‪ ،‬ومرجع ذلك أن المصالح والمفاسد‪ /‬ال يستطيع العقل البشري‪ /‬أن يحيط بها إحاطة تامة‪،‬‬

‫‪89‬‬
‫وإنما مرد ذلك إلى عالم الغيب والشهادة ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪{ :-‬أَاَل َيعْ لَ ُم َمنْ َخلَ َق َوه َُو اللَّطِ يفُ ْال َخ ِبير‬

‫ُ}الملك‪ ،‬آية ‪14‬‬

‫أما الحفاظ على النفس من جانب العدم فيكون عن طريق‪ :‬تحريم القتل وتشريع القصاص‪ ،‬ومنع التمثيل‬

‫والتشويه‪ ،‬ومعاقبة المحاربين وقطاع الطرق‪ ،‬وغير ذلك‬

‫قال ابن عاشور‪" :‬وليس المراد حفظها بالقصاص كما مثل به الفقهاء‪ ،‬بل نجد القصاص هو أضعف‬

‫‪.‬أنواع حفظ النفوس‪ ،‬ألنه تدارك بعض الفوات‬

‫بل الحفظ أهمه حفظها عن التلف قبل وقوعه‪ ،‬مثل مقاومة األمراض السارية‪ .‬وقد منع عمر بن الخطاب‬

‫‪.‬الجيش من دخول الشام ألجل طاعون عمواس‬

‫والمراد النفوس المحترمة في نظر الشريعة‪ ،‬وهي المعبر عنها بالمعصومة الدم‪ ..‬ويلحق بحفظ النفوس‬

‫من اإلتالف حفظ بعض أطراف‪ /‬الجسد من اإلتالف‪ ،‬وهي األطراف‪ /‬التي ينزل إتالفها‪ /‬منزلة إتالف‬

‫)النفس في انعدام المنفعة بتلك النفس‪ .‬مثل األطراف التي جعلت في إتالفها خطأ الدية كاملة‬

‫مقاصد الشريعة اإلسالمية‪ ،‬ابن عاشور‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪236‬‬

‫ثالثاً‪ :‬حفظ المال‬

‫الحفاظ على المال من جانب الوجود‪ /‬يكون عن طريق تداول المال وإبعاده عن مواطن النزاع والخصومة‬

‫ْن إِلَى أَ َج ٍل‬


‫والتضرر‪ ،‬والعدل فيه بوضعه موضعه الذي وجد من أجله ‪ ،‬قال تعالى‪{ :‬إِ َذا َتدَا َي ْن ُت ْم ِبدَ ي ٍ‬

‫ِين إِ َذا أَ ْن َفقُوا لَ ْم يُسْ ِرفُوا‪َ /‬ولَ ْم َي ْق ُترُوا َو َك َ‬


‫ان َبي َْن َذل َِك‬ ‫{والَّذ َ‬ ‫ُم َس ًّمى َف ْ‬
‫اك ُتبُوهُ} البقرة ‪ ، 282‬وقال تعالى‪َ :‬‬

‫َق َوامًا}العنكبوت ‪67‬‬

‫‪90‬‬
‫رابعاً‪ :‬حفظ النسل‬

‫الحفاظ على النسل من جانب الوجود‪ /‬يكون عن طريق تشريع الزواج والترغيب فيه‪ ،‬قال عليه الصالة‬

‫‪.‬والسالم‪ " :‬وأتزوج النساء‪ ،‬فمن رغب عن سنتي فليس مني)البخاري‪ ،‬كتاب النكاح‪ ،‬رقم ‪4776‬‬

‫أما الحفاظ عليه من جانب العدم فيكون عن طريق‪ /‬تحريم‪ /‬الزنى واللواط‪ /‬والقذف‪ ،‬وتشريع‪ /‬العقوبة عليها‪.‬‬

‫قال ابن عاشور‪" :‬وأما حفظ األنساب ‪ -‬ويعبر عنه بحفظ النسل ‪ -‬فقد أطلقه العلماء ولم يبينوا المقصود‬

‫منه‪ ،‬ونحن نفصل القول فيه‪ .‬وذلك أنه إن أريد به حفظ األنساب أي النسل من التعطيل فظاهر عده من‬

‫الضروري‪ /،‬ألن النسل هو خلفة أفراد النوع‪ .‬فلو تعطل يؤول تعطيله إلى اضمحالل النوع وانتقاصه‪،‬‬

‫‪.‬كما قال لوط لقومه‪( :‬وتقطعون السبيل) العنكبوت ‪29‬‬

‫على أحد التفسيرين‪ ،‬فبهذا المعنى ال شبهة في عده من الكليات؛ ألنه يعادل حفظ النفوس‪ ،‬فيجب أن تحفظ‬

‫ذكور األمة من االختصاء مثالً‪ ،‬ومن ترك مباشرة النساء باطراد‪ /‬العزوبة ونحو ذلك‪ .‬وأن تحفظ إناث‬

‫األمة من قطع أعضاء األرحام التي بها الوالدة‪ ،‬ومن تف ِّشي إفساد الحمل في وقت العلوق‪ ،‬وقطع‪ /‬الثدي‪،‬‬

‫ُّ‬
‫وتعذره في‬ ‫كثير من النساء‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫فإنه يكثر الموتان في األطفال بعسر‪ /‬اإلرضاع‪ /‬الصناعي على‬

‫‪.‬البوادي)مقاصد الشريعة اإلسالمية‪ ،‬ابن عاشور‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪239‬‬

‫خامسا ‪ :‬حفظ العقل‬

‫الحفاظ على العقل من جانب الوجود يكون عن طريق‪ /‬العلم ونشره وتعليمه‪ ،‬والنصوص‪ /‬الحاثة على العلم‬

‫ُون َوالَّذ َ‬
‫ِين‬ ‫وفضله أكثر من أن تساق في هذا المقام‪ ،‬ولكن حسبنا قوله تعالى‪{ :‬قُ ْل َه ْل َيسْ َت ِوي الَّذ َ‬
‫ِين َيعْ لَم َ‬

‫{وقُ ْل َربِّ ِز ْدنِي عِ ْلمًا}طه‪114‬‬ ‫اَل َيعْ لَم َ‬


‫ُون} الزمر ‪ 9‬وقوله تعالى‪َ :‬‬

‫أما حفظه من جانب العدم فيكون بحفظه من أن يدخل عليه خلل يفضي إلى فساده‪ ،‬ودخول الخلل على‬

‫عقل الفرد مفض إلى فساد جزئي‪ ،‬ودخوله على عقول الجماعات وعموم األمة أعظم‬

‫‪91‬‬
‫قال القرضاوي‪" :/‬وهناك بعض المالحظات على استدالل األصوليين على بعض الضروريات والكليات‪،‬‬

‫مثل استداللهم على حفظ العقل بتحريم‪ /‬الخمر وفرض العقوبة على شاربها‪ .‬وأرى‪ /‬أن حفظ العقل يتم في‬

‫اإلسالم بوسائل وأمور كثيرة‪ ،‬منها‪ :‬فرض طلب العلم على كل مسلم ومسلمة‪ ،‬والرحلة في طلب العلم‪،‬‬

‫واالستمرار‪ /‬في طلب العلم من المهد إلى اللحد‪ ،‬وفرض كل علم تحتاج إليه األمة في دينها أو دنياها‬

‫فرض كفاية‪ ،‬وإنشاء العقلية العلمية التي تلتمس اليقين وترفض‪ /‬اتباع الظن أو اتباع الهوى‪ ،‬كما ترفض‬

‫التقليد لآلباء وللسادة الكبراء‪ ،‬أو لعوام الناس‪ ،‬شأن اإلمعة‪ ،‬والدعوة إلى النظر والتفكر في ملكوت‬

‫السموات واألرض وما خلق هللا من شيء) دراسة في فقه مقاصد الشريعة‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪29‬‬

‫المقاصد الحاجية هي في المرتبة الثانية بعد المقاصد الضرورية‪ ،‬وقد‪ /‬عرفها العلماء بألفاظ مختلفة‪،‬‬

‫ولكنها متفقة من حيث المعنى‪ ،‬وبعض أهل العلم وضع ضوابط‪ /‬للتفريق بينها وبين قسيميها ‪ -‬الضروري‪/‬‬

‫‪:‬والتحسيني‪/‬‬

‫فقد عرفها الشاطبي بقوله‪" :‬وأما الحاجيات‪ ،‬فمعناها أنها مفتقر إليها من حيث التوسعة ورفع‪ /‬الضيق ‪-‬‬

‫المؤدي في الغالب إلى الحرج والمشقة بفوت المطلوب‪ ،‬فإذا لم تراع‪ ،‬دخل على المكلفين ‪ -‬على الجملة ‪-‬‬

‫الحرج والمشقة‪ ،‬ولكنه ال يبلغ مبلغ الفساد العادي المتوقع في المصالح العامة)الموافقات‪ ،‬مرجع سابق‪،‬‬

‫‪.‬ص‪203‬‬

‫وعرفها ابن عاشور‪ /‬بقوله‪" :‬ولننتقل إلى صنف الحاجي‪ ،‬وهو ما تحتاج األمة إليه القتناء مصالحها ‪-‬‬

‫وانتظام‪ /‬أمورها‪ /‬على وجه حسن‪ ،‬بحيث لوال مراعاته لما فسد النظام‪ ،‬ولكنه كان على حالة غير منتظمة‬

‫فلذلك كان ال يبلغ مبلغ الضروري)مقاصد الشريعة اإلسالمية‪ ،‬ابن عاشور‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪241‬‬

‫‪:‬أمثلة المقاصد الحاجية‬

‫فيما يتعلق بحفظ الدين‪ :‬شرعت العبادات دعما ً ألركانه‪ ،‬وشرعت الرخص المخففة‪ ،‬كالنطق‪ /‬بكلمة ‪-‬‬

‫‪.‬الكفر لتجنب القتل‪ ،‬وكالفطر بالسفر‪ ،‬والرخص المناطة بالمرض‬

‫‪.‬وفيما يتعلق بحفظ النفس‪ :‬إباحة الصيد والتمتع بالطيبات‪ ،‬وهو ما زاد على أصل الغذاء ‪-‬‬

‫‪92‬‬
‫‪.‬وفيما يتعلق بحفظ المال‪ :‬التوسع في شرعة المعامالت‪ ،‬كالقراض والسلم والمساقاة ‪-‬‬

‫وفيما يتعلق بحفظ النسب‪ :‬شرعت المهور والطالق‪ ،‬وشرط‪ /‬توفر الشهود على موجب حد الزنا ‪-‬‬

‫قال ابن عاشور‪" :‬والنكاح الشرعي من قبيل الحاجي‪ ،‬وحفظ األنساب‪ ،‬بمعنى إلحاق األوالد بآبائهم من‬

‫الحاجي لألوالد ولآلباء‪ .‬فلألوالد للقيام عليهم فيما يحتاجون ولتربيتهم‪ /‬النافعة لهم‪ ،‬ولآلباء العتزاز‬

‫العشيرة وحفظ العائلة‪ .‬وحفظ األعراض ‪ -‬أي حفظ أعراض الناس من االعتداء عليها ‪ -‬هو من الحاجي‪،‬‬

‫لينكف الناس عن األذى بأسهل وسائله وهو الكالم‪ .‬ومن الحاجي ما هو تكملة للضروري‪ /،‬كسد بعض‬

‫ذرائع الفساد‪ ،‬وكإقامة القضاة والوزعة والشرطة لتنفيذ الشريعة‪ .‬ومن الحاجي ما يدخل في الكليات‬

‫الخمسة المتقدمة في الضروري‪ /‬إال أنه ليس بالغا ً حد الضرورة‪ .‬كما أشرنا إليه فيما مضى من األمثلة‪.‬‬

‫فبعض أحكام النكاح ليست من الضروري ولكنها من الحاجي مثل اشتراط الولي والشهرة)مقاصد‬

‫‪.‬الشريعة اإلسالمية‪ ،‬ابن عاشور‪ ،‬ص‪241‬‬

‫وبعض أحكام البيوع ليست من الضروري‪ ،‬مثل بيوع اآلجال المحظورة ألجل سد الذريعة‪ ،‬ومثل تحريم‬

‫الربا‪ ،‬وأخذ األجر على الضمان‪ ،‬وعلى بذل الشفاعة‪ .‬فإن كثيراً من تلك األحكام تكميلية لحفظ المال‪،‬‬

‫وليست داخلة في أصل حفظ المال‪ .‬وعناية الشريعة بالحاجي تقرب من عنايتها بالضروري‪ .‬ولذلك‬

‫‪ .‬رتبت الحد على تفويت بعض أنواعه‪ ،‬كحد القذف‬

‫ثالثاً‪ :‬مقاصد تحسينية‬

‫وتأتي في المرتبة الثالثة بعد الضروري‪ /‬والحاجي‪ ،‬وفيها تعريفات متعددة‬

‫فقد عرفها الغزالي بقوله‪" :‬الرتبة الثالثة‪ :‬ما ال يرجع إلى ضرورة وال إلى حاجة‪ ،‬ولكن يقع موقع ‪-‬‬

‫التحسين والتزيين والتيسير‪ /‬للمزايا والمزائد‪ ،‬ورعاية أحسن المناهج في العادات والمعامالت)المستصفى‪،‬‬

‫مرجع سابق‪ ،‬ج‪2‬ص‪485‬‬

‫وعرفها الشاطبي بقوله‪" :‬األخذ بما يليق من محاسن العادات‪ ،‬وتجنب األحوال المدنسات التي تأنفها‬

‫العقول الراجحات‪ ،‬ويجمع ذلك قسم مكارم األخالق)الموافقات‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪203‬‬

‫‪93‬‬
‫وعرفها ابن عاشور‪ /‬بقوله‪" :‬والمصالح التحسينية هي عندي ما كان بها كمال حال األمة في نظامها ‪-‬‬

‫حتى تعيش آمنة مطمئنة‪ ،‬ولها بهجة منظر‪ /‬المجتمع في مرأى بقية األمم‪ ،‬حتى تكون األمة اإلسالمية‬

‫مرغوبا ً في االندماج فيها أو في التقرب منها‪ .‬فإن لمحاسن العادات مدخالً في ذلك سواء كانت عادات‬

‫عامة كستر العورة‪ ،‬أم خاصة ببعض األمم كخصال الفطرة وإعفاء اللحية‪ .‬والحاصل أنها مما تراعى‬

‫فيها المدارك الراقية البشرية)مقاصد الشريعة اإلسالمية‪ ،‬ابن عاشور‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪243‬‬

‫أمثلة المقاصد التحسينية‬

‫‪.‬فيما يتعلَّق بحفظ الدين‪ :‬شرعت أحكام النجاسات‪ ،‬والطهارات‪ ،‬وستر‪ /‬العورة‪ ،‬وما شابه ذلك ‪-‬‬

‫وفيما يتعلق بحفظ النفس‪ :‬شرعت آداب األكل والشراب‪ ،‬ومجانبة ما استخبث من الطعام‪ ،‬واالبتعاد‪ /‬عن‬

‫‪.‬اإلسراف والتقتير‬

‫‪.‬وفيما يتعلق بحفظ المال‪ :‬شرع المنع من بيع النجاسات‪ ،‬وفضل الماء والكأل‬

‫وفيما يتعلق بحفظ العقل ‪ :‬أما من جانب العدم فيكون بحفظه من أن يدخل عليه خلل يفضي إلى فساده‬

‫وفيما يتعلق بحفظ النسب‪ :‬شرعت أحكام الكفاءة في اختيار‪ /‬الزوجين‪ ،‬وآداب المعاشرة بينهما‬

‫أهمية ترتيب هذه المقاصد‬

‫تبرز أهمية ترتيب المقاصد بالصورة المتقدمة‪ :‬الضرورية ثم الحاجية ثم التحسينية فيما يلي‬

‫أوالً‪ :‬إن معرفة مقصد الشارع من الحكم الشرعي يعين على فهم النص على وجهه الصحيح‪ ،‬ومن ثم‬

‫تساعد على حسن تنزيله على الوقائع‪ /‬سواء من جهة االهتداء بفهم المقصد العام في تنزيل الحكم الكلي‬

‫‪.‬على الجزئيات‪ ،‬أو الترجيح بين ما ظاهره التعارض‬

‫ثانياً‪ :‬إن هذا التقسيم يحدد مراتب األحكام الشرعية بحسب المقصود منها‪ ،‬فالضروريات مقدمة على‬

‫الحاجيات‪ ،‬والحاجيات مقدمة على التحسينيات‪ ،‬والنازل‪ /‬مكمل للعالي‪ ،‬فال يراعى الحكم النازل‬

‫كالتحسيني مثالً إذا عاد على الحاجي أو الضروري‪ /‬باإلخالل‪ ،‬أما الضروري‪ /‬فال يجوز اإلخالل به إال‬

‫إذا أخل بكلي أهم منه كالتضحية بالنفس في الجهاد للحفاظ على الدين‬

‫‪94‬‬
‫الباب الخامس‬

‫ضوابط المقاصد وتوازنها مع المصالح الشرعية‬

‫الفصل األول ‪ :‬ضوابط المقاصد والنظر فيها‬

‫الفصل الثانى ‪ :‬بين المقاصد والمصالح المرسلة‬

‫الفصل األول‬

‫‪:‬ضوابط المقاصد والنظر فيها‬

‫إن المرجع في التعرف على المقاصد وتعيينها هو الوقوف على األدلة الشرعية التفصيلية وعللها أو(‬

‫بين علمي أصول الفقه والمقاصد‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪ )172‬على حكمة التشريع التي قصد‪ /‬إليه الشارع‬

‫وقد تم بيانه سابقا ً في مبحث طرق إثبات المقاصد‪ ،‬وحتى يتسنى لنا الوقوف على المقاصد الحقيقية علينا‬

‫‪:‬أن نقف على األمور‪ /‬الضابطة لها‪ ،‬وقد وضع ابن عاشور في مقاصده أربعة ضوابط‪ /‬للمقاصد بقوله‬

‫المقاصد الشرعية نوعان‪ :‬معان حقيقية‪ ،‬ومعان عرفية عامة‪ ..‬فأما المعاني الحقيقية فهي التي لها تحقق"‬

‫في نفسها بحيث تدرك العقول السليمة مالءمتها للمصلحة أو منافرتها‪ /‬لها‪ ،‬أي تكون جالبة نفعا ً عاما ً أو‬

‫ضراً عاماً‪ ،‬إدراكا ً مستقالً عن التوقف على معرفة عادة أو قانون‪،‬كإدراك كون العدل نافعاً‪ ،‬وكون‬

‫االعتداء على النفوس ضاراً‪ ،‬وكون األخذ على يد الظالم نافعا ً لصالح المجتمع‪ ..‬وأما المعاني العرفية‬

‫فهي المجربات التي ألفتها نفوس الجماهير‪ ،‬واستحسنتها استحساناً‪ /‬ناشئا ً عن تجربة مالءمتها لصالح‬

‫‪95‬‬
‫الجمهور‪ ،‬كإدراك كون اإلحسان معنى ينبغي تعامل األمة به‪ ،‬وكإدراك كون عقوبة الجاني رادعة إياه‬

‫عن العود إلى مثل جنايته‪ ،‬ورادعة غيره عن اإلجرام‪ ،‬وكون ضد ذينك يؤثر ضد أثرهما ‪ ،‬وإدراك‬

‫‪.‬كون القذارة تقتضي التطهر‬

‫‪.‬وقد اشترطت لهذين النوعين‪ :‬الثبوت‪ ،‬والظهور‪ ،‬واالنضباط‪ /،‬واالطراد‬

‫‪.‬فالمراد بالثبوت‪ :‬أن تكون تلك المعاني مجزوماً‪ /‬بتحققها أو مظنوناً‪ /‬ظنا ً قريباً‪ /‬من الجزم‬

‫والمراد بالظهور‪ :/‬االتضاح‪ ،‬بحيث ال يختلف الفقهاء في تشخيص المعنى‪ ،‬وال يلتبس على معظمهم‪/‬‬

‫بمشابهه‪ ،‬مثل حفظ النسب الذي هو المقصد من مشروعية النكاح فهو معنى ظاهر وال يلتبس بحفظه‬

‫الذي يحصل بالمخادنة أو باإلالطة‪ ،‬وهي إلصاق المرأة البغي الحمل الذي تعلقه برجل معين ممن‬

‫‪.‬ضاجعوها‬

‫والمراد باالنضباط‪ :/‬أن يكون للمعنى حد معتبر ال يتجاوزه وال يقصر عنه‪ ،‬بحيث يكون القدر الصالح‬

‫منه ألن يعتبر مقصداً شرعيا ً قدراً‪ /‬غير مشكك‪ ،‬مثل حفظ العقل إلى القدر الذي يخرج به العاقل عن‬

‫‪.‬تصرفات العقالء الذي هو المقصد من مشروعية التعزير بالضرب عند اإلسكار‬

‫والمراد باالطراد‪ :/‬أن ال يكون المعنى مختلفا ً باختالف أحوال األقطار‪ /‬والقبائل واألعصار‪ ،‬مثل وصف‪/‬‬

‫اإلسالم‪ ،‬والقدرة على اإلنفاق في تحقيق مقصد المال َءمة للمعاشرة المسماة بالكفاءة المشروطة في النكاح‬

‫في قول مالك وجماعة من الفقهاء)مقاصد الشريعة اإلسالمية‪ ،‬ابن عاشور‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪165‬‬

‫النظر في المقاصد‬

‫دقيق يتناسب معها يستطيع معرفة‬


‫ٍ‪/‬‬ ‫لكون مقاصد الشريعة نوعً ا دقي ًقا من أنواع العلم‪ ،‬فإنها تحتا ُج إلى ٍ‬
‫نظر‬

‫مراد الشارع من وضعه للشريعة‪ ،‬وإدراك غايات التشريع واألحكام‪ /‬الموضوعة للمكلفين‪ ،‬ولذلك‪" :‬ليس‬

‫فحق العامِّي أن يتل َّقى الشريعة بدون معرفة المقصد؛ ألنه‬ ‫كل مُكلَّ ٍ‬
‫ف بحاج ٍة إلى معرفة مقاصد الشريعة‪ُّ ..‬‬

‫ال يحسن ضبطه وال تنزيله‪ .‬ثم يتوسَّع للناس في تعريفهم المقاصد بمقدار ازدياد‪ِّ /‬‬
‫حظهم من العلوم‬

‫‪96‬‬
‫الشرعية‪ ،‬لئال يضعوا ما يُلقنون من المقاصد في غير مواضعه‪ ،‬فيعود بعكس المراد‪ .‬وحق العالم فهم‬

‫‪.‬المقاصد)المرجع السابق‪ ،‬ص‪51‬‬

‫وإذا كانت بعض معاني الشريعة ظاهرة بينة‪ ،‬والمصلحة فيها قطعية ال خالف فيها بين العلماء مهما‬

‫اختلفت الظروف واألحوال‪ /‬واألزمنة واألمكنة ‪ -‬كسائر‪ /‬القطعيات في الشريعة‪ ،‬فإن هناك من المعاني ما‬

‫ّ‬
‫االطراد فيها‪ ،‬فهذه ال تصلح‬ ‫يتردد بين كونه صالحا ً تارة وفساداً‪ /‬تارة أخرى‪ ،‬وهذا معناه‪ :‬اختالل صفة‬

‫العتبارها مقاصد شرعية على اإلطالق‪ ،‬وال لعدم اعتبارها كذلك؛ بل المقصد الشرعي فيها أن توكل إلى‬

‫نظر علماء األمة ووالة األمور األمناء على مصالحها من أهل الحل والعقد‪ ،‬لتعيين الوصف‪ /‬الجدير‬

‫باالعتبار في أحد األحوال دون غيره صالحا ً أو فسادا )مقاصد الشريعة اإلسالمية‪ ،‬ابن عاشورص‪168‬‬

‫وهذا األصل مُقرَّ ر في النصوص الشرعية‪ُ ،‬م َّت ٌ‬


‫فق عليه بين العلماء المعتبرين‪ ،‬ومن أبرز األمثلة على‬

‫ُول َوإِلَى أُولِي اأْل َم ِْر‬


‫{وإِ َذا َجا َء ُه ْم أَمْ ٌر م َِن اأْل َمْ ِن أَ ِو ْال َخ ْوفِ أَ َذاعُوا ِب ِه َولَ ْو َر ُّدوهُ إِلَى الرَّ س ِ‬
‫ذلك قوله تعالى‪َ :‬‬

‫ِين َيسْ َت ْن ِب ُ‬
‫طو َن ُه ِم ْن ُه ْم}النساء‪ ،‬آية ‪83‬‬ ‫‪ِ .‬م ْن ُه ْم لَ َعلِ َم ُه الَّذ َ‬

‫ت إِحْ دَا ُه َما َعلَى اأْل ُ ْخ َرى‪َ /‬ف َقا ِتلُوا‪/‬‬


‫ِين ا ْق َت َتلُوا َفأَصْ لِحُوا‪َ /‬ب ْي َن ُه َما َفإِنْ َب َغ ْ‬
‫ان م َِن ْالم ُْؤ ِمن َ‬
‫{وإِنْ َطا ِئ َف َت ِ‬
‫وقوله تعالى‪َ :‬‬

‫‪.‬الَّتِي َت ْبغِي َح َّتى َتفِي َء إِلَى أَم ِْر هَّللا ِ}الحجرات‪ ،‬آية ‪9‬‬

‫فالنظر المقاصدي‪ /‬في غاية من األهمية تجعل الفقيه قادراً على فهم النص واكتمال دالالته به‪ ،‬وال يستقيم‬

‫الفهم للنص بمجرد الوقوف‪ /‬على ظاهره والجمود‪ /‬عند حرفيته وتفسيره بذلك دون ربطه بالمقاصد العامة‬

‫للتشريع وعلل األحكام وهذا ال يتيسر‪ /‬إال للعلماء‪.‬‬

‫‪97‬‬
‫الفصل الثانى‬

‫بين المقاصد والمصالح المرسلة‬

‫حسبنا في هذا الموضع أن نسوق‪ /‬معنى المصلحة المرسلة لكون عالقته بالمقاصد وثيقة‪ ،‬ثم نبين الخالف‬

‫في حجية هذا األصل‪ ،‬وترجيح القول فيه مع بيان األدلة في ذلك‪ ،‬ثم نبين وجه العالقة بينه وبين مقاصد‬

‫‪.‬الشريعة‬

‫أقسام المصالح من جهة اعتبارها وعدمه‬

‫المصالح من حيث شهادة الشرع لها باالعتبار أو اإللغاء أو السكوت عن االعتبار واإللغاء تنقسم إلى‬

‫‪ :‬ثالثة أقسام‬

‫األول‪ :‬المصلحة المعتبرة‬

‫وهي المصلحة التي اعتبرها الشارع وجاءت األدلة بطلبها من الكتاب والسنة أو اإلجماع أو القياس‪،‬‬

‫ورتب عليها أحكاما ً لتحقيقها ومراعاتها من أجل المحافظة على مقصود الشرع في جلب المصالح أو دفع‬

‫المفاسد والمضار‪ ،‬وهذا القسم حجة ال إشكال في صحته‪ ،‬ويرجع حاصله إلى القياس وهو اقتباس الحكم‬

‫من معقول النص أو اإلجماع‪ ،‬ومثالها حفظ العقل‪ ،‬فإنه مصلحة اعتبرها الشارع‪ ،‬فرتب عليها تحريم‬

‫الخمر حفظا ً لها‪ ،‬فيقاس على الخمر في التحريم كل ما أسكر من مشروب‪ /‬أو مأكول‪ ،‬حفظا ً لهذه‬

‫المصلحة‪ .‬وكذلك حفظ النفس‪ ،‬فإنه مصلحة اعتبرها الشارع‪ ،‬فرتب عليها وجوب القصاص في القتل‬

‫بالمحدد‪ ،‬وجعل النضباط‪ /‬ذلك أوصافاً‪ /،‬وهو أن يكون القتل عمداً عدواناً‪ ،‬فيقاس على القتل بالمحدد في‬

‫وجوب القصاص‪ ،‬القتل بالمثل‪ ،‬بجامع القتل العمد العدوان‪ ،‬حفظا ً لمصلحة حفظ النفس‪.‬‬

‫‪98‬‬
‫الثاني‪ :‬المصلحة الملغاة‬

‫وهي المصلحة التي ألغاها الشارع فلم يعتبرها‪ ،‬وإن رآها العبد مصلحة في نظره‪ ،‬ألنها مصالح من حيث‬

‫الظاهر‪ ،‬وتخفي وراءها أضراراً ومفاسد ومخاطر دينية واجتماعية وغيرها‪ ،‬وهذا القسم ليس بحجة‪ ،‬بل‬

‫إن هذا النوع من المصلحة مما اتفق على إبطاله وامتناع التمسك به‪ ،‬إذ المصلحة ال تقتضي الحكم بنفسها‬

‫على وجه يستقل العقل باعتبارها مصلحة مجردة عن عرضها على الشرع ليشهد لها أو يردها‪ .‬فإذا كان‬

‫الشرع يشهد بإلغائها‪ /‬فال شك في إبطالها‪ ،‬ألن في اعتبارها مخالفة لنصوص الشرع بالمصلحة‪ ،‬وفتح هذا‬

‫‪.‬الباب يؤدي إلى تغيير جميع حدود الشرائع ونصوصها‬

‫ومثالها‪ :‬ما حكاه الشاطبي‪ /‬عن بعض أكابر العلماء أنه دخل على بعض السالطين فسأله عن الوقاع‪ /‬في‬

‫نهار رمضان‪ ،‬فقال‪ :‬عليك صيام شهرين متتابعين‪ .‬فلما خرج راجعه الفقهاء وقالوا‪ /‬له‪ :‬القادر على إعتاق‬

‫الرقبة كيف يعدل به إلى الصوم‪ ،‬والصوم‪ /‬وظيفة المعسرين‪ ،‬وهذا الملك يملك عبيداً غير محصورين؟‬

‫فقال لهم‪ :‬لو قلت له عليك إعتاق رقبة الستحقر ذلك وأعتق عبيداً مراراً‪ ،‬فال يزجره إعتاق الرقبة‬

‫ويزجره صوم شهرين متتابعين‪ .‬فهذا المعنى مناسب‪ ،‬ألن الكفارة‪ ،‬مقصود‪ /‬الشارع‪ /‬منها الزجر‪ ،‬والملك‬

‫ال يزجره اإلعتاق ويزجره الصيام‪ .‬وهذه الفتيا باطلة ألن العلماء بين قائلين‪ :‬قائل بالتخيير‪ ،‬وقائل‬

‫بالترتيب‪ ،‬فيقدم العتق على الصيام‪ ،‬فتقديم الصيام بالنسبة إلى الغني ال قائل به)االعتصام ج‪2‬ص‪113‬‬

‫ومثالها أيضا ً الربا( فإن فيه مصلحة ظاهرية آنية للمقرض بالفائدة وللمستقرض باالستفادة من المال‪،‬‬

‫ومثل قتل المريض اليائس من الشفاء‪ ،‬وشرب المسكرات للنشوة‪ ،‬أو المخدرات للتأمل الخيالي والهرب‬

‫من الواقع‪ ،‬ففي كل منها مصلحة‪ ،‬ولكنها تنطوي‪ /‬على الشر والفساد‪ ،‬وتخفي في طياتها‪ /‬الضرر‪/‬‬

‫والخراب‪ ،‬فنص الشارع على إلغاء المصلحة فيها وعدم اعتبارها‪ ،‬ومثالها‪ /‬أيضا ً ما يظن البعض من أن‬

‫المصلحة تقضي بمساواة األنثى للذكر في الميراث‪ ،‬إذا كانا أخوين شقيقين‪ ،‬فهذه مصلحة متوهمة ألغى‬

‫‪99‬‬
‫الشارع اعتبارها بما شرعه من أن للذكر مثل حظ األنثيين‪ ،‬قال تعالى‪{ :‬يُوصِ ي ُك ُ‪/‬م هَّللا ُ فِي أَ ْواَل ِد ُك ْ‪/‬م ل َِّلذ َك ِر‬
‫ُ‬
‫م ِْث ُل َح ِّظ اأْل ْن َث َيي ِ‬
‫ْن}النساء‪ ،‬آية ‪11‬‬

‫وال خالف بين الفقهاء أن المصالح الملغاة ال يصح بناء األحكام عليها)الوجيز في أصول الفقه اإلسالمي‪،‬‬

‫مرجع سابق‪ ،‬ص‪254‬‬

‫الثالث‪ :‬وأما القسم الثالث من أقسام‪ /‬المصلحة‪ ،‬وهو ما لم يشهد له الشرع باعتبار وال بإلغاء‪ ،‬بل سكتت‬

‫عنه الشواهد الخاصة في الشرع ( أي النصوص المعينة ) التي تدل على أحد األمرين‪ :‬االعتبار أو‬

‫اإللغاء‪ ،‬وهو المصلحة المرسلة‪ ،‬وهذا القسم سنحاول تسليط الضوء عليه في هذا المبحث بصورة‬

‫‪.‬مستفيضة لمعرفة عالقته بالمقاصد الشرعية‬

‫الطوفي ودليل المصلحة‬

‫الطوفي‪ :/‬هو نجم الدين سليمان بن عبد القوي بن عبد الكريم المشهور بالطوفي‪ ،‬فقيه‪ ،‬أصولي‪ ،‬لغوي‪،‬‬

‫من علماء الحنابلة‪ ،‬ولد سنة ‪657‬هـ‪ -‬بقرية طوف‪ - /‬أو طوفا‪ - /‬بالعراق‪ ،‬وتوفي سنة ‪716‬هـ‪ -‬بالخليل‬

‫من أعمال فلسطين‪ ،‬له مؤلفات كثيرة‪ :‬من أشهرها‪ /‬كتابه شرح مختصر الروضة‪ ،‬وشرحه لألربعين‬

‫النووية‬

‫وقد اشتهر عنه أمران األول‪ :‬اتهامه بالتشيع والرفض‪ ،‬وسبب ذلك ما نسب إليه من قصائد‪ /‬وأشعار في‬

‫هجاء الشيخين ‪ -‬أبي بكر وعمر رضي‪ /‬هللا عنهما ‪ -‬وقد ناقش هذه المسألة باستفاضة الدكتور‪ /‬عبد هللا بن‬

‫عبد المحسن التركي في مقدمة تحقيقه لشرح مختصر‪ /‬الروضة‪ ،‬فقال‪ " :‬هذه النقول التي وردت عن اتهام‬

‫الطوفي‪ /‬بالتشيع والرفض‪ /‬في مصادر‪ /‬ترجمته‪ ،‬ونظرة فاحصة إليها يتضح أن نجم الدين الطوفي‪ /‬كان قد‬

‫احتل منزلة سامية بين علماء القاهرة‪ ،‬جعلت أستاذه سعد الدين الحارثي يكرمه‪ ،‬وينزله في دروس‪،‬‬

‫ويبدو أن الطوفي‪ /‬في هذه الفترة كان كثير الهموم العلمية‪ ،‬تشغله مسائل لم يصل في دراستها‪ /‬إلى مرحلة‬

‫النضج‪ ،‬ويلهب الشك فكره في بعض األمور‪ ،‬وكان يرى وقوف‪ /‬العلماء على أنماط ثابتة‪ ،‬ورسوم‬

‫‪.‬موروثة‪ ،‬فال يعجبه هذا‬

‫‪100‬‬
‫وهو ما يفسر ما وقع بينه وبين أستاذه الحارثي‪ /‬من كالم في الدروس‪ ،‬اقتضى‪ /‬أن يقوم عليه ابن أستاذه‪،‬‬

‫واستطاع‪ /‬خصومه أن يجمعوا من البينات‪ ،‬من فلتات لسانه‪ ،‬وبعض شعره‪ ،‬وربما زادوا‪ /‬فيه إلى الحد‬

‫الذي أدى إلى تعزيره وحبسه‪ ،‬والتشهير‪ /‬به‪ ،‬ثم نفيه‪ ،‬وقد ذكر ابن رجب عن المطري‪ ،‬حافظ‪ /‬المدينة‬

‫ومؤرخها‪ /،‬أن الطوفي‪ /‬بعد سجنه نفي إلى الشام‪ ،‬فلم يمكنه الدخول إليها‪ ،‬ألنه كان قد هجا أهلها وسبهم‪/،‬‬

‫فخشي منهم‪ ،‬فسار‪ /‬إلى دمياط‪ ،‬فأقام بها مدة‪ ،‬ثم توجه إلى الصعيد‪ ،‬إال أن الدالئل كلها تشير بعد ذلك إلى‬

‫استقامة فكره‪ ،‬ونضوج علمه‪ ،‬فلم ير منه الناس ولم يسمعوا‪ /‬ما يشين كما تقدم نقله‪ .‬وأما ما ذكر ابن‬

‫رجب أنه من دسائسه الخبيثة‪ ،‬فليس فيه ما يقوم دليالً على اتهامه‪ ،‬وهو يحكي عن قوم رأيهم في نتائج‬

‫تأخر تدوين السنة‪ ،‬ولو كان رافضياً‪ ،‬لما تحدث عن رواية الصحابة لحديث رسول هللا ‪ -‬صلى هللا عليه‬

‫‪.‬وسلم ‪ ،-‬فالشيعة ال يقرون من الحديث إال ما جاء عن أئمتهم‬

‫وأما قوله عن اتهامه بالرفض‪ :‬إنه يلوح في كثير من تصانيفه‪ ،‬فكالم بغير بينة‪ ،‬وقد عقد الدكتور‪/‬‬

‫مصطفى زيد فصالً نفى فيه عن الطوفي‪ /‬تهمة التشيع‪ ،‬ودرس كتبه الموجودة‪ ،‬ونقل نصوصا ً كثيرة تنفي‬

‫عنه التشيع والرفض‪ ،‬بل تقول في الرافضة أعنف مما يقول أعداؤهم‪ ...‬ولم أجد في كتابه هذا‪ ( :‬شرح‬

‫مختصر الروضة ) ما يؤيد صراحة تشيع الطوفي‪ ،‬بل وجدت أنه يترضى‪ /‬عن الصحابة رضوان هللا‬

‫عليهم وبخاصة الشيخين‪ ،‬ويصرح في أماكن باعتقاده بما يعتقده أهل السنة والجماعة‪ ،‬ويرد‪ /‬على الشيعة‬

‫وآرائهم‪ ،‬ويبين أن الحق بخالفها)مقدمة شرح مختصر الروضة‪ ،‬ج‪1‬ص‪35‬‬

‫الثاني‪ :‬تقديمه للمصلحة على النص مطلقاً‪ ،‬وهذا هو مقتضى كالمه في شرحه لحديث‪" :‬ال ضرر‪ /‬وال‬

‫ضرار"‪ ،‬وخالصة ما ذهب إليه‪ :‬أنه قسم‪ /‬األحكام الشرعية إلى قسمين‪ :‬القسم األول‪ :‬أحكام العبادات‬

‫والمقدرات ونحوها‪ ،‬وهذا مما ال مجال للعقل في فهم معناه على التفصيل‪ .‬والمعول عليه في هذا هو‬

‫النص واإلجماع ونحوهما‪ /‬من أدلة الشرع‪ .‬القسم الثاني‪ :‬أحكام المعامالت والعادات والسياسات الدنيوية‬

‫وشبهها‪ ،‬مما للعقل مجال في فهم معناه والمقصود‪ /‬به‬

‫‪101‬‬
‫والمعول عليه في هذا‪ ،‬المصلحة‪ ،‬أي جلب النفع ودفع الضر‪ ،‬إذ المصلحة من أدلة الشرع‪ ،‬بل هي عنده‬

‫أقوى األدلة وأخصها‪ ،‬فهي الدليل الشرعي األساسي في المعامالت وشبهها‪ ،‬مما شرعت فيها األحكام‬

‫لجلب النفع للناس ودفع الضر عنهم وفهم العقل معناها والمقصود‪ /‬بها‪ .‬وخالصة أدلة الطوفي‪/‬‬

‫ما ورد من النصوص الدالة على أن الشارع ما قصد من تشريعه األحكام إال تحقيق مصالح الناس‪- ،‬‬

‫‪.‬وأنه راعاها واهتم بها‬

‫استدالله بحديث‪ " :‬ال ضرر‪ /‬وال ضرار " أخرجه مالك في الموطأ‪ ،‬رقم ‪ ،1429‬والحاكم في‬

‫المستدرك‪ ،‬رقم ‪ ،2345‬والبيهقي في السنن‪ ،‬رقم ‪ ،11116‬والدارقطني في السنن‪ ،‬رقم ‪83‬‬

‫وعول كثيراً عليه‪ ،‬وذلك أنه نص خاص قاطع في نفي الضرر‪ ،‬فإذا دل نص على حكم وكان تطبيقه‬

‫‪.‬يستلزم ضرراً خصص النص بما عدا هذه الواقعة عمالً بالحديث المتقدم‬

‫أن أدلة الشرع وسائل لتحقيق مصالح الناس‪ ،‬ورعاية المصلحة من ذلك‪ ،‬وتقديمها على غيرها تقديم ‪-‬‬

‫‪.‬لراجح على مرجوح‬

‫وقال في سبب تقديمها على النصوص واإلجماع‪/‬‬

‫‪.‬أ‪ -‬إن منكري اإلجماع قالوا بالمصالح‪ ،‬فهي محل وفاق‪ ،‬واإلجماع‪ /‬محل خالف‬

‫‪.‬ب‪ -‬إن النصوص مختلفة متعارضة‪ ،‬ورعاية المصلحة أمر حقيقي في نفسه ال يختلف‬

‫‪.‬ج‪ -‬إنه ثبت في السنة معارضة النصوص بالمصالح‬

‫والواقع‪ :‬أن هذه األدلة ال يقوى شيء منها على التدليل لما ذهب إليه‪ ،‬وهي فروض ال رصيد‪ /‬لها من‬

‫الواقع‪ ،‬ونصوص الشارع كلها مصالح للعباد‪ ،‬ويستحيل أن يرد نص بأمر فيه ضرر عليهم أو مفسدة‪.‬‬

‫واختالف النصوص وتعارضها إنما هو في نظر المجتهد‪ ،‬ال في الحقيقة والواقع‪ ،‬ثم إن المصالح أكثر‬

‫اختالفاً‪ ،‬ألنها تتغير حسب عقول الناس‪ ،‬وبيئاتهم‪ ،‬وظروفهم وأهوائهم)أصول مذهب اإلمام أحمد ص‬

‫‪491‬‬

‫‪102‬‬
‫وقد ذهب بعض الماصرين (منهم العالمة الدكتور يوسف‪ /‬القرضاوي في كتابه ‪ :‬السياسة الشرعية‪ ،‬ص‬

‫‪)145‬‬

‫إلى القول‪ :‬إن ترجيح الطوفي‪ /‬للمصلحة على النص ليس مطلقاً‪ ،‬وإنما مراده بالنص النص الظني ال‬

‫القطعي‪ ،‬وسندهم‪ /‬في ذلك عبارات الطوفي نفسه في شرحه على حديث‪ " :‬ال ضرر وال ضرار " المتقدم‪،‬‬

‫قال الدكتور‪ /‬حسين حامد حسان‪ " :‬الذي نراه أن النص الذي يسلم الطوفي إمكان التعارض بينه وبين‬

‫المصلحة‪ .‬وبالتالي تقديم األخيرة عليه هو النص الظني‪ .‬أما النص الذي حصلت فيه القطعية من كل جهة‬

‫فإن الطوفي‪ /‬يمنع تخالفه مع المصلحة‪ ،‬فضالً عن أن يقول بتقديم المصلحة عليه‪ .‬وسندنا في هذا الرأي‬

‫هو العبارات التي قدم بها الطوفي مذهبه‪ ،‬وهي في نظرنا تفيد ‪ -‬إذا أخذت مجتمعة ‪ -‬أن الطوفي‪ /‬ال يرى‬

‫)فرض التخالف بين المصلحة والنص القطعي واقعاً‪ .‬ومن ثم وجب تفسير مذهبه في ضوء هذه الحقيقة‬

‫السياسة الشرعية في ضوء نصوص الشريعة ومقاصدها‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪146‬‬

‫وبالرغم من الخالف بين الباحثين حول نظرية الطوفي في المصلحة‪ ،‬ومهما تكن دوافعه فيما كتب‪ ،‬فإن‬

‫إطالقه القول بتقديم المصلحة على النص فيه مخالفة إلجماع العلماء على التسليم المطلق لنصوص‬

‫الكتاب والسنة‪ ،‬وأن المصلحة والخير‪ /‬والنعمة فيها‪ ،‬وأنه حينما تتضح داللة النص ال يجوز‪ /‬تركه إلى‬

‫شيء آخر‪ .‬والكالم في المصالح واعتبارها ال يرد إال عند عدم النصوص‬

‫ثالثا ‪ :‬المصلحة المرسلة‬

‫للمصلحة المرسلة عند العلماء إطالقات أخر‪ ،‬فقد سماها بعضهم باالستصالح‪ ،‬والبعض اآلخر بالمناسب‬

‫المرسل‪ ،‬ومنهم‪ /‬من أطلق عليها لفظ االستدالل‪ ،‬وهذه اإلطالقات على الرغم من كونها مترادفة باعتبار‬

‫وحدة مقصودها وهو المصلحة المرسلة‪ ،‬إال أن كال منها نظر إليها من جهة معينة‪ ،‬فمن نظر إليها من‬

‫جهة المصلحة المترتبة عليها عبر بالمصلحة المرسلة وهو اإلطالق األشهر‪ ،‬ومن نظر إليها من جهة‬

‫الوصف المناسب الذي يستوجب ترتيب الحكم عليه تحقيق تلك المصلحة عبر بالمناسب المرسل‪ ،‬ومن‬

‫‪103‬‬
‫نظر إليها من جهة بناء الحكم على الوصف‪ /‬المناسب أو المصلحة عبر باالستصالح أو االستداللوقد‪/‬‬

‫‪:‬عرفها العلماء عدة تعريفات متقاربة من حيث المعنى‬

‫"فقد عرفها الغزالي بقوله‪ " :‬ما لم يشهد له من الشرع بالبطالن وال باالعتبار نص معين‬

‫‪.‬المستصفى‪ ،‬ج‪2‬ص‪481‬‬

‫وهو نفس تعريف ابن قدامةفى روضة الناظرص‪169‬‬

‫وعرفها الشاطبي بقوله‪ " :‬ما سكتت عنه الشواهد الخاصة‪ ،‬فلم تشهد باعتباره وال بإلغائه)االعتصام‪ ،‬ج‬

‫‪2‬ص‪114‬‬

‫وعرفها الشنقيطي بقوله‪ " :‬أن ال يشهد الشرع العتبار تلك المصلحة بدليل خاص وال إللغائها بدليل ‪-‬‬

‫خاص)مذكرة في أصول الفقه‪ ،‬الشنقيطي‪ ،‬ص‪202‬‬

‫وعرفها الدكتور‪ /‬البوطي‪ /‬بقوله‪ " :‬كل منفعة داخلة في مقاصد الشارع دون أن يكون لها شاهد باالعتبار ‪-‬‬

‫أو اإللغاء) ضوابط المصلحة‪ ،‬ص‪288‬‬

‫حجية المصالح المرسلة‬

‫اتفق العلماء على أن المصالح المرسلة ال مدخل لها في العبادات والمقدرات‪ ،‬كالحدود والكفارات‬

‫وفروض اإلرث وشهور‪ /‬العدة بعد الموت أو الطالق‪ ،‬وكل ما شرع محدداً واستأثر الشارع بعلم‬

‫المصلحة فيما حدد به‪ ،‬أما العبادات فلكونها تعبدية في األصل‪ ،‬وال مدخل للعقل في إدراك المصلحة‬

‫الجزئية لكل عبادة منها‬

‫قال الشاطبي‪ " :/‬األصل في العبادات بالنسبة إلى المكلف التعبد دون االلتفات إلى المعاني‪ .‬وأصل‬

‫العادات االلتفات إلى المعاني‪ .‬أما األول فيدل عليه أمور‪ :‬منها‪ :‬االستقراء؛ فإنا وجدنا‪ /‬الطهارة‬

‫مخصوصة بالماء الطهور‪ /‬وإن أمكنت النظافة بغيره‪ ،‬وأن التيمم ‪ -‬وليست فيه نظافة حسية ‪ -‬يقوم مقام‬

‫‪.‬الطهارة بالماء المطهر‪ .‬وهكذا سائر العبادات‪ ،‬كالصوم والحج وغيرهما‬

‫‪104‬‬
‫ومنها‪ :‬أنه لو كان المقصود‪ /‬التوسعة في وجوه التعبد بما حد وما لم يحد لنصب الشارع عليه دليالً‬

‫‪.‬واضحا ً كما نصب على التوسعة في وجوه العادات أدلة‬

‫منها‪ :‬أن وجوه التعبدات في أزمنة الفترات‪ ،‬لم يهتد إليها العقالء اهتداءهم لوجوه معاني العادات‪ .‬فقد‬

‫رأيت الغالب فيهم الضالل فيها "تهذيب الموافقات‪ ،‬محمد حسين الجيزاني‪ ،‬ص‪ ،179‬وللتوسع انظر ‪:‬‬

‫الموافقات‪ ،‬ص‪384‬‬

‫وأما المقدرات فألنها مثل أحكام العبادات‪ ،‬حيث استأثر الشارع بعلم المصلحة فيما حدد به‪ ،‬وحتى لو‬

‫‪،‬كان هناك سبيل إلدراك المصلحة والحكمة منها‪ ،‬لكن ال يمنع من القول إن األصل فيها التعبد‬

‫قال الطوفي‪ " :‬أحكام العبادات والمقدرات التي ال مجال للعقل في فهم معانيها بالتفصيل‪ ،‬وهذه المعول‬

‫‪...‬عليه فيها نصوص القرآن والسنة وإجماع المجتهدين من األمة‬

‫ألن العبادات حق للشارع‪ /‬خاص به‪ ،‬وال يمكن معرفة حقه كما ً وكيفا ً وزماناً‪ /‬ومكانا ً إال من جهته‪ ،‬فيأتي‪/‬‬

‫به العبد على ما رسم له)العمل بالمصلحة ‪ ،‬ص‪125‬‬

‫واختلف العلماء في حكم المصالح المرسلة ‪ -‬أي في بناء األحكام عليها ‪ -‬فيما سوى العبادات والمقدرات‪،‬‬

‫على ثالثة مذاهب‬

‫األول‪ :‬المنع مطلقاً‬

‫وذهب إليه بعض أهل العلم منهم أبو بكر الباقالني‪ ،‬واآلمدي‪ ،‬وابن الحاجب‪ ،‬وابن قدامة من الحنابلة‪،‬‬

‫‪.‬ونسبه الشوكاني إلى الجمهور‪ ،‬وهو مذهب أكثر الشافعية‪ ،‬وفقهاء الحنفية‪ ،‬ومتأخري الحنابلة‬

‫الثاني‪ :‬الجواز‪ /‬مطلقا ً‬

‫وذهب إليه مالك‪ ،‬وأحمد‪ ،‬والشافعي‪ /‬عند بعض العلماء دون البعض اآلخر‪ ،‬وبعض الشافعية‪ ،‬ومعظم‪/‬‬

‫‪.‬الحنفية‪ ،‬ومتقدمو‪ /‬الحنابلة وبعض المتأخرين منهم‬

‫الثالث‪ :‬جوازها بشروط‪/‬‬

‫‪.‬وذهب إليه الغزالي والبيضاوي إذا كانت المصلحة قطعية‪ ،‬كلية‪ ،‬ضرورية‬
‫‪105‬‬
‫أدلة القائلين بالمنع‬

‫األول‪:‬أن هللا ‪ -‬سبحانه ‪ -‬لم يترك الخلق سدى‪ ،‬من غير أن يشرع‪ /‬لهم كل ما يكفل تحقيق مصالحهم‪ ،‬بل‬

‫شرع لهم ذلك‪ ،‬وذلك باألحكام التي نص عليها في كتابه وعلى لسان رسوله ‪ -‬صلى هللا عليه وسلم ‪،-‬‬

‫وباألحكام‪ /‬التي هدى إليها أهل العلم فلم يختلفوا فيها‪ ،‬وهي األحكام التي سندها اإلجماع‪ ،‬وأرشدهم إلى‬

‫أنهم إن تنازعوا في شيء مما ليس فيه حكم هلل وال لرسوله ولم يجمع أهل العلم على حكم فيه أن يردوه‬

‫إلى حكم هللا ورسوله‪ ،‬وذلك يكون بالقياس أو بأي طريق من طرق رده إلى حكم هلل ورسوله ‪ -‬صلى هللا‬

‫عليه وسلم ‪ .-‬وبهذا‪ /‬كفل هللا لخلقه تحقيق مصالحهم‪ ،‬وأكمل لهم دينهم‪ ،‬وأتم عليهم نعمته‪ ،‬وامتن عليهم‬

‫يت لَ ُك ُم اإْل ِسْ اَل َم دِي ًنا)المائدة آية ‪4‬‬ ‫ت لَ ُك ْم دِي َن ُك ْم َوأَ ْت َم ْم ُ‬
‫ت َعلَ ْي ُك ْم نِعْ َمتِي َو َرضِ ُ‪/‬‬ ‫{ال َي ْو َم أَ ْك َم ْل ُ‬
‫بذلك‪ ،‬قال تعالى‪ْ :‬‬

‫والقول بحجية المصلحة المرسلة يعني أن هناك مصالح للخلق باقية‪ ،‬لم يكفلها ما شرعه هللا وما أرشد‬

‫إلى سلوكه في حال التنازع فيما ليس فيه شرع هللا‪ ،‬وهذا يتنافي مع إكمال الدين‪ ،‬وإتمام النعمة التي‬

‫تفضل هللا بها على عباده‪ .‬فالقول باستناد‪ /‬األحكام إلى المصالح المرسلة زائد ال حاجة إليه‪ ،‬وبهذا يتبين‬

‫أنها ليست حجة في استنباط األحكام)العمل بالمصلحة‪ ،‬ص‪ ،141‬المصلحة عند الحنابلة‪ ،‬ص‪315‬‬

‫‪:‬والجواب علي هذا الرأى‬

‫أوال ‪ :‬أن المصلحة المرسلة وإن كانت مرسلة عن دليل معين خاص نص عليها‪ ،‬فإنها داخلة في إطار‬

‫‪.‬الدليل العام والمجمل‪ ،‬فاألدلة شاهدة على جنسها وإن لم تشهد على عينها‬

‫الثاني‪ :‬أن المصالح منقسمة إلى ما عهد من الشارع اعتبارها وإلى ما عهد منه إلغاؤها‪ .‬والمصالح‬

‫المرسلة مترددة بين هذين القسمين‪ ،‬وليس إلحاقه بأحدهما أولى من اآلخر‪ ،‬فامتنع االحتجاج به دون‬

‫شاهد باالعتبار يعرف‪ /‬أنه من قبيل المعتبر دون الملغى‪ .‬ثم إن في هذا مجاالً لألهواء والشهوات‬

‫واألغراض‪ ،‬فقد يغلب على المرء هواه فيرى‪ /‬المفسدة مصلحة‪ ،‬والمضرة منفعة‪ ،‬وقد تخفى على العقل‬

‫بعض وجوه الضرر‪ /‬والفساد‪ ،‬فيحكم‪ /‬على غير علم تام‪ ،‬فاإلنسان‪ /‬مهما كمل‪ ،‬ال يأمن من أن يغلب هواه‬

‫‪106‬‬
‫عليه‪ ،‬وأن يزين له السوء حسناً‪ ،‬والعقل مهما نضج‪ ،‬ال يأمن من أن تخفى عليه بعض وجوه النفع‬

‫والضرر‪/‬‬

‫‪:‬والجواب عليه من وجهين‬

‫أن هذه المصلحة وإن كانت مرسلة عن دليل معين من الشارع على اعتبارها‪ ،‬إال أنها معتبرة منه على ‪-‬‬

‫‪.‬سبيل الجملة كما أوضحنا‪ /‬في الجواب على الدليل األول‪ ،‬فكان إلحاقها بالمعتبر أولى من إلحاقها‪ /‬بالملغي‬

‫أن عدم االحتجاج بالمصلحة المرسلة يعني إلحاقها بالمصالح الملغاة‪ ،‬وليس إلحاقها بها أولى من ‪-‬‬

‫إلحاقها بالمصالح المعتبرة إذ هو ترجيح بال مرجح‬

‫الثالث‪ :‬إن المعاني إذا حصرتها‪ /‬األصول وضبطتها‪ /‬المنصوصات‪ /‬كانت منحصرة في ضبط الشرع‪ .‬وإذا‬

‫لم يشترط‪ /‬استنادها‪ /‬إلى األصول لم تنضبط‪ ،‬واتسع األمر‪ ،‬وصار‪ /‬الشرع مرجوعه إلى وجوه الرأي من‬

‫الناس‪ ،‬من غير اعتماد واستناد إلى أصل شرعي‪ ،‬فيرى كل إنسان وجهاً‪ ،‬ويعتمد‪ /‬شيئا ً سوى ما يراه‬

‫ويعتمده صاحبه‪ ،‬ويصير إذا أهل الرأي في هذا بمنزلة األنبياء‪ ،‬فيفعل كل إنسان ما يراه ويعتقده صالحا ً‬

‫في المعنى الذي سنح له‪ ،‬فيصير‪ /‬ذلك ذريعة إلى إبطال الشريعة بالرأي وإن كان صاحبه يرى فيه‬

‫المصلحة والمنفعة‬

‫والجواب عليه‪ :‬أن بناء الحكم على مجرد المصلحة المرسلة وعدم العلم بأن الشرع قد أثبت هذا الحكم‬

‫حفظا ً لهذه المصلحة‪ ،‬ال يعتبر وضعا ً للشرع بالرأي‪ ،‬بل هو طريق‪ /‬من الطرق الشرعية التي أمر هللا‬

‫بالرد إليها عند التنازع‪ .‬ثم إن الشارع حافظ على كل واحدة من المصالح بالحكم المناسب لحفظها وال‬

‫يلزم أنه ينص على حكم بعينه‪ ،‬والمجتهد‪ /‬في المصلحة المرسلة مأمور ببذل الجهد في اختيار الحكم‬

‫األنسب لحفظ المصلحة‪ ،‬وهي وظيفة أناطها هللا بالعلماء وفق النظر في مقاصد التشريع وقواعده العامة‬

‫الرابع‪ :‬إن الحكم إذا ثبت لمصلحة اقتضته ثم عدمت المصلحة‪ ،‬فإما أن يقال‪ :‬انعدم الحكم‪ ،‬وهذا يفضي‬

‫إلى جعل الشريعة مختلفة األزمان وذلك نسخ لها‪ ،‬وإما أن يقال‪ :‬لم ينعدم‪ ،‬فهذا يفضي إلى ثبوت الحكم‬

‫)مع عدم علته الموجبة وهذا محال على اعتبار أن الحكم يدور‪ /‬مع علته وجوداً وعدما‬

‫‪107‬‬
‫نظرية التقعيد الفقهي ص‪477‬‬

‫والجواب عليه‪ :‬أن الحكم المستنبط بدليل المصلحة المرسلة هو من قبيل االجتهاد الذي يختلف الحكم فيه‬

‫باختالف األزمنة واألمكنة واألشخاص واألحوال‪ ،‬فتغير الحكم فيه ليس معناه نسخ الشريعة‪ ،‬كما أن تغير‬

‫الحكم يكون تبعا ً لتغير علته‪ ،‬وتغير العلة منوط بتغير المصلحة‪ ،‬ألن األحكام المبنية على مصلحة معينة‬

‫تظل معتبرة ما بقيت هذه المصلحة‪ ،‬فإذا انتفت وجب أن يتغير الحكم تبعا ً لها‪ ،‬وبناء األحكام على‬

‫‪.‬المصالح الزمنية من أسباب تغيير الفتوى كما هو معلوم‬

‫‪:‬أدلة القائلين بالجواز‬

‫األول‪ :‬ذكر السمعاني من أدلة مثبتي المصالح المرسلة قولهم‪ " :‬أنا نعلم قطعا ً أنه ال يجوز أن تخلو حادثة‬

‫عن حكم هللا تعالى‪ ،‬منسوب إلى شريعة نبينا محمد ‪ -‬صلى هللا عليه وسلم ‪ -‬ببينة أنه لم يرد عن السلف‬

‫الماضين أنهم أعروا وأخلوا واقعة عن بيان حكم فيها هلل تعالى وتقدس‪ ،‬ونحن نعلم كثرة الفتاوى وازدحام‬

‫‪.‬األحكام‬

‫وقد استرسلوا‪ /‬في بث األحكام استرسال‪ /‬واثق‪ /‬بانبساطها على جميع الوقائع‪ ،‬وقد‪ /‬تصدوا إلثباتها فيما وقع‪،‬‬

‫وتشوفوا إلى إثباتها فيما سيقع‪ ،‬وال يخفى على منصف أنهم ما كانوا يفتون فتوى من تنقسم الوقائع عنده‬

‫إلى ما يعرى عن حكم وإلى ما ال يعرى عنه‪ .‬وإذا عرفنا هذا فنقول‪ :‬لو انحصرت مآخذ األحكام في‬

‫المنصوصات‪ /‬والمعاني المستثارة منها لما وسع القياس لكل ذلك؛ فإنا نعلم أن المنصوصات ومعانيها‪ /‬ال‬

‫تنسحب على كل الوقائع؛ ولو لم يتمسك الماضون بمعان في وقائع لم يعهدوا‪ /‬أمثالها لكان يزيد وقوفهم‪/‬‬

‫في األحكام على فتاويهم وجريانهم فيها)قواطع األدلة في أصول الفقه‪ ،‬ج‪4‬ص‪494‬‬

‫الثاني‪ :‬إن وسائل الناس إلى مصالحهم الدنيوية المشروعة قد تتغير بتغير الزمان‪ ،‬وال سبيل إلى‬

‫حصرها‪ .‬فإذا لم يعتبر منها إال ما وقع له نظير في عهد التنزيل‪ ،‬ضاق بهم األمر وحيل بينهم وبين‬

‫التفكير في تيسير سبل العيش والتماس أفضل الوسائل للوصول إلى األغراض الشريفة والمصالح‬

‫المشروعة‪ ،‬وذلك إضرار عظيم بهم‪ ،‬فإن الوقائع تحدث‪ ،‬والحوادث تتجدد‪ ،‬والبيئات تتغير‪ ،‬والضرورات‪/‬‬

‫‪108‬‬
‫والحاجات تطرأ‪ ،‬وقد‪ /‬تطرأ لألمة الالحقة طوارئ لم تطرأ لألمة السابقة‪ ،‬وقد‪ /‬تستوجب البيئة مراعاة‬

‫مصالح ما كانت تستوجبها البيئة من قبل‪ ،‬وقد يؤدي‪ /‬تغير أخالق الناس وذممهم‪ /‬وأحوالهم إلى أن يصير‬

‫مفسدة ما كان مصلحة‪ ،‬فلو لم يفتح للمجتهدين باب التشريع باالستصالح‪ ،‬ضاقت الشريعة اإلسالمية‬

‫بمصالح العباد وقصرت‪ /‬عن حاجاتهم‪ ،‬فال بد من التوسع في التشريع بمراعاة شواهد الشريعة العامة‪،‬‬

‫وعدم الوقوف عند الشواهد الخاصة‪ ،‬وهذا من محاسن الشريعة‪ ،‬ومن أسباب مرونتها وصالحيتها لكل‬

‫زمان ومكان‬

‫الثالث‪ :‬أن المصالح التي بنيت عليها أحكام المعامالت ونحوها‪ /‬معقولة‪ ،‬فقد شرع لنا ما يدرك العقل نفعه‬

‫وحرم علينا ما يدرك العقل ضرره‪ ،‬فالحادثة التي ال حكم من الشارع فيها يكون حكم المجتهد فيها بناء‬

‫على ما يدركه عقله فيها من نفع أو ضرر مبنيا ً على أساس معتبر من الشارع‬

‫‪:‬والجواب عليه من وجهين‬

‫أن العقل ال يدرك نفع جميع ما شرع الشارع‪ ،‬وال يدرك قدر جميع ما نهى عنه الشارع‪ ،‬فقد شرع لنا ‪-‬‬

‫كل أمر فيه مصلحة راجحة‪ ،‬ولو لم يدركها العقل‪ ،‬وحرم‪ /‬علينا كل ما فيه مضرة راجحة ولو لم يدرك‬

‫‪.‬العقل ضررهوأن نظر العقل واستحسانه ليس أساسا ً معتبراً من الشارع‪ /‬مطلقا ً‬

‫والجواب عليه‪ :‬أن الشارع جعل للعقل مجاالً يسيح فيه بما حباه من قدرات وإمكانيات‪ ،‬يمكنه من خاللها‬

‫إدراك محاسن الشريعة‪ ،‬واستنباط‪ /‬األحكام الشرعية‪ ،‬وليس صحيحا ً أن الشارع لم يعتبر نظر العقل‬

‫‪.‬مطلقاً‪ ،‬وإنما رد نظر العقل عند معارضته للنصوص الشرعية ومراد الشارع منها‬

‫الرابع‪ :‬عمل الصحابة ‪ -‬ومنهم الخلفاء الراشدون ‪ -‬والسلف الصالح بالمصلحة المرسلة فيما طرأ لهم من‬

‫حوادث‪ ،‬ومراعاتهم‪ /‬المصالح وبناء األحكام عليها فيما لم يقم دليل معين على اعتبارهاوهذا عليه أمثلة‬

‫كثيرة‬

‫‪:‬أدلة الغزالي ومن وافقه‬

‫‪109‬‬
‫ذهب الغزالي إلى أن المصلحة المرسلة تنقسم إلى‪ :‬ما يقع في رتبة الضرورات‪ ،‬وإلى ما يقع في رتبة‬

‫الحاجات‪ ،‬وإلى ما يقع موقع التحسين والتزيين‪ ،‬واختار أن ما يقع في رتبة الضرورات يحتج بالمصلحة‬

‫فيه‪ ،‬ولكنه لم يجزم‪ ،‬حيث قال‪ :‬أما الواقع في رتبة الضرورات‪ ،‬فال يبعد في أن يؤدي إليه اجتهاد مجتهد‪،‬‬

‫وإن لم يشهد له أصل معين‪ ،‬ومثل بمسألة الترس)المستصفى‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ج‪2‬ص‪487‬‬

‫ثم قال‪ :‬فهذا مثال مصلحة غير مأخوذة بطريق القياس على أصل معين‪ ،‬وانقدح اعتبارها باعتبار ثالثة‬

‫أوصاف‪ :‬أنها ضرورية‪ ،‬قطعية‪ ،‬كلية[‪ .‬ثم أورد اعتراضات ورد عليها‪ ،‬ومن أقواها‪ :‬أن هذه المصلحة‬

‫تخالف النص‪ ،‬وأنتم تلغونها‪ /‬عند وجوده‪ ،‬وال تخصصون النص بها‪ ،‬وبدا عليه التراجع عند هذا‬

‫االعتراض‪ ،‬حيث قال‪ :‬لهذا نرى المسألة في محل االجتهاد‪ ،‬وال يبعد المنع من ذلك‬

‫ومن أقوى االعتراضات التي أجاب عنها‪ ،‬وذكر بأنها ‪ -‬المصلحة ‪ -‬ليست هي الحجة‪ ،‬وإنما الحجة في‬

‫‪:‬المقاصد العامة التي جاءت بها النصوص الكثيرة‬

‫أنه كيف تقولون بذلك‪ ،‬وأنتم جعلتم المصالح من األصول‪ /‬الموهومة‪ ،‬فقال‪ :‬هذا من األصول الموهومة‪،‬‬

‫إذ من ظن أنه أصل خامس‪ ،‬فقد أخطأ‪ ،‬ألنا رددنا المصلحة إلى حفظ مقاصد الشرع‪ ،‬ومقاصد الشرع‬

‫تعرف بالكتاب والسنة واإلجماع‪ .‬فكل مصلحة ال ترجع إلى حفظ مقصود فهم من الكتاب والسنة‬

‫واإلجماع‪ ،‬وكانت من المصالح الغريبة التي ال تالئم تصرفات‪ /‬الشرع‪ ،‬فهي باطلة‪ ،‬ومن صار إليها‪ ،‬فقد‬

‫شرع‪ ،‬كما أن من استحسن فقد شرع‪ ،‬وكل مصلحة رجعت إلى حفظ مقصود شرعي علم كونه مقصوداً‬

‫بالكتاب والسنة واإلجماع‪ ،‬فليس خارجا ً من هذه األصول)أصول مذهب اإلمام أحمد‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‬

‫‪ ،464‬وقد لخص الدكتور عبد هللا التركي كالم الغزالي تلخيصاً‪ /‬جيداً‪ ،‬ولهذا اعتمدنا عليه في النقل هنا‬

‫‪110‬‬
‫والذي يترجح للباحث في هذه المسألة‬

‫هو القول بحجية المصلحة المرسلة سواء كانت المصلحة التي يراد بناء الحكم عليها واقعة في مرتبة‬

‫الضروريات‪ ،‬أم في مرتبة الحاجيات‪ ،‬أم في مرتبة التحسينيات‪ ،‬ولكن ترجيحنا‪ /‬لهذا القول مبني على‬

‫‪:‬الشروط التالية‬

‫أوالً‪ :‬أن تكون المصلحة مالئمة لمقاصد الشرع بحيث ال تنافي أصالً من أصوله‪ ،‬وال دليالً من دالئله‬

‫القطعية‪ ،‬بل تكون متفقة مع المصالح التي قصد الشرع إلى تحصيلها‪ ،‬بأن تكون من جنسها أو قريبة‬

‫‪.‬منها‪ ،‬ليست غريبة عنها‪ ،‬وإن لم يشهد دليل خاص باعتبارها‬

‫ثانياً‪ :‬أن ترجع إلى حفظ أمر ضروري‪ ،‬أو رفع حرج الزم في الدين‪ .‬فأما مرجعها إلى حفظ الضروري‪،‬‬

‫فهو من باب ما ال يتم الواجب إال به‪ ،‬فهي إذن من الوسائل ال المقاصد‪ .‬وأما رجوعها إلى رفع حرج‬

‫‪.‬الزم‪ ،‬فهو إما الحق بالضروري‪ ،‬وإما من الحاجي‪ ،‬الذي مرده إلى التخفيف والتيسير‪/‬‬

‫ثالثا ً‪ :‬أن عامة النظر فيها إنما هو فيما عقل منها‪ ،‬فتكون معقولة في ذاتها‪ ،‬بحيث إذا عرضت على‬

‫العقول تلقتها بالقبول‪ ،‬فال مدخل لها في األمور التعبدية كالعبادات والمقدرات‪ ،‬ألن عامة التعبدات ال‬

‫يعقل لها معنى على التفصيل في األصل‬

‫رابعا ً‪ :‬أال تكون المصلحة في األحكام التي ال تتغير‪ ،‬كوجوب الواجبات‪ ،‬وتحريم المحرمات‪ ،‬والحدود‪،‬‬

‫والمقدرات الشرعية‪ ،‬ويدخل في ذلك األحكام المنصوص والمجمع عليها وما ال يجوز فيه االجتهاد‬

‫خامساً‪ :‬أن تكون المصلحة حقيقية ال وهمية‪ ،‬وعامة ال خاصة‪ ،‬وهذا يعلم بالنظر‪ /‬والبحث واالستقراء‬

‫‪111‬‬
‫سادسا ً‪ :‬أن الذي يتولى تقدير المصلحة التي يبنى عليها الحكم فيما ال نص فيه وال إجماع وال يمكن الحكم‬

‫فيه بالقياس جماعة من أهل االجتهاد في األمة‪ ،‬تتوافر فيهم العدالة والبصيرة النافذة بأحكام الشريعة‬

‫ومصالح الدنيا‬

‫قال الشنقيطي‪ " :‬فالحاصل أن الصحابة ‪ -‬رضي‪ /‬هللا عنهم ‪ -‬كانوا يتعلقون بالمصالح المرسلة التي لم يدل‬

‫دليل على إلغائها‪ ،‬ولم تعارضها‪ /‬مفسدة راجحة أو مساوية‪ .‬وأن جميع المذاهب يتعلق أهلها بالمصالح‬

‫المرسلة‪ ،‬وإن زعموا التباعد منها‪ .‬ومن تتبع وقائع الصحابة وفروع المذاهب علم صحة ذلك‪ .‬ولكن‬

‫التحقيق أن العمل بالمصلحة المرسلة أمر يجب فيه التحفظ وغاية الحذر حتى يتحقق صحة المصلحة‬

‫وعدم معارضتها لمصلحة أرجح منها أو مفسدة أرجح منها أو مساوية لها‪ ،‬وعدم تأديتها إلى مفسدة في‬

‫ثاني حال)المصالح المرسلة‪ ،‬الشنقيطي‪ ،‬ص‪21‬‬

‫وهذا الذي قرره القرافي‪ /‬في شرح التنقيح حيث قال‪ " :‬وإذا افتقدت المذاهب وجدتهم‪ /‬إذا قاسوا أو جمعوا‬

‫أو فرقوا بين المسألتين ال يطلبون شاهداً باالعتبار لذلك المعنى الذي جمعوا أو فرقوا‪ ،‬بل يكتفون بمطلق‪/‬‬

‫المناسبة‪ ،‬وهذا هو المصلحة المرسلة‪ ،‬فهي إذا في جميع المذاهب" مدخل إلى دراسة الشريعة اإلسالمية‪،‬‬

‫ص‪162‬‬

‫وقال الدكتور عبد الكريم زيدان‪ " :‬المصالح المرسلة حجة شرعية صرح بذلك كثير من الفقهاء وبنوا‪/‬‬

‫كثيراً من فقههم عليها كما نجد ذلك في فقه اإلمام مالك واإلمام أحمد بن حنبل‪ .‬وقد نسب إلى الشافعية‬

‫والحنفية القول بإنكار حجية المصلحة المرسلة واعتبارها من مصادر‪ /‬األحكام في الشريعة اإلسالمية‪،‬‬

‫ولكننا نجد في فقههم اجتهادات قامت على أساس المصلحة‪ .‬ومن العلماء من أخذ بالمصلحة بشروط‬

‫تجعلها من قبيل الضرورات‪ /‬التي ال يختلف العلماء في األخذ بها وبناء األحكام عليها كاإلمام الغزالي إذ‬

‫‪.‬اشترط فيها أن تكون ضرورية وقطعية وكلية‬

‫‪112‬‬
‫ولكن األدلة القوية ترجح القول بمشروعية األخذ بالمصلحة المرسلة وبناء األحكام عليها وأن أدلة‬

‫المنكرين لها أدلة ضعيفة"‪.‬نظرات في الشريعة‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪275‬‬

‫أمثلة على المصالح المرسلة‬

‫أوالً‪ :‬اتفاق أصحاب رسول هللا ‪ -‬صلى هللا عليه وسلم ‪ -‬على جمع المصحف‪ ،‬وليس ثم نص على جمعه‪،‬‬

‫وذلك بعد وقعة اليمامة‪ ،‬وقد‪ /‬تتبعه زيد بن ثابت ‪ -‬رضي هللا عنه ‪ ،-‬فقد روى البخاري في صحيحه من‬

‫حديث زيد بن ثابت قوله‪ " :‬أرسل إلي أبو بكر مقتل أهل اليمامة‪ ،‬وعنده عمر‪ ،‬فقال أبو بكر‪ :‬إن عمر‬

‫أتاني فقال‪ :‬إن القتل قد استحر يوم اليمامة بالناس‪ ،‬وإني أخشى أن يستحر القتل بالقراء في المواطن‪،‬‬

‫فيذهب كثير من القرآن‪ ،‬إال أن تجمعوه‪ ،‬وإني ألرى أن تجمع القرآن‪ .‬قال أبو بكر‪ :‬قلت لعمر‪ :‬كيف أفعل‬

‫شيئا ً لم يفعله رسول هللا ‪ -‬صلى هللا عليه وسلم ‪-‬؟ فقال عمر‪ :‬هو وهللا خير‪ ،‬فلم يزل عمر يراجعني فيه‬

‫حتى شرح هللا لذلك صدري‪ ،‬ورأيت الذي رأى عمر‪ ،‬قال زيد بن ثابت‪ ،‬وعمر عنده جالس ال يتكلم‪،‬‬

‫فقال أبو بكر‪ :‬إنك رجل شاب عاقل وال نتهمك‪ ،‬كنت تكتب الوحي لرسول‪ /‬هللا ‪ -‬صلى هللا عليه وسلم ‪،-‬‬

‫‪.‬فتتبع القرآن فاجمعه‬

‫فوهللا لو كلفني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل علي مما أمرني‪ /‬به من جمع القرآن‪ .‬قلت‪ :‬كيف تفعالن‬

‫شيئا ً لم يفعله رسول هللا ‪ -‬صلى هللا عليه وسلم ‪-‬؟ فقال أبو بكر‪ :‬هو وهللا خير‪ ،‬فلم أزل أراجعه حتى‬

‫شرح هللا صدري‪ /‬للذي شرح هللا له صدر أبي بكر وعمر‪ ،‬فقمت فتتبعت القرآن أجمعه من الرقاع‬

‫واألكتاف والعسب‪ ،‬وصدور‪ /‬الرجال‪ ،‬حتى وجدت من سورة التوبة آيتين مع خزيمة األنصاري لم‬

‫أجدهما مع أحد غيره‪ :‬لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم "[‪.]52‬فهذا عمل‬

‫‪.‬لم ينقل فيه خالف عن أحد من الصحابة‬

‫‪113‬‬
‫ومثله أمر عثمان ‪ -‬رضي هللا عنه ‪ -‬بجمع الناس على مصحف واحد‪ ،‬وإحراق ما سواه منعا ً للخالف بين‬

‫المسلمين )االعتصام‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ج‪2‬ص‪ ،115‬أصول مذهب اإلمام أحمد‪ ،‬مرجع سابق‬

‫وكان سند اتفاقهم على هذا األمر مجرد كونه خيراً‪ ،‬وإن لم يفعله النبي ‪ -‬صلى هللا عليه وسلم ‪ -‬أو يأمر‬

‫به‪ .‬وواضح من كالم زيد ‪ -‬رضي هللا عنه ‪ -‬أنه لم ينضم إلى هذا السند أي دليل آخر كاإلجماع‪ /‬مثالً‪،‬‬

‫وإنما حصل اإلجماع السكوتي على ذلك بعد بداءة زيد ‪ -‬رضي هللا عنه ‪ -‬بالكتابة والجمع‪ ،‬وهو ال يعد‬

‫سنداً أو جزء سند لما اتفق عليه الثالثة‪ ،‬ألنه جاء متأخراً عن اتفاقهم‪ ،‬وإنما اإلجماع نفسه مستند إلى‬

‫الخير الذي كان مناط اتفاقهم‬

‫وقد يقول قائل‪ :‬إن فعل أبي بكر وعمر هو قياس الجمع على أمر النبي ‪ -‬صلى هللا عليه وسلم ‪ -‬بكتابته‬

‫بجامع الحفظ لكتاب هللا تعالى‪ ،‬ولكن العبرة في المثال بالطريقة التي سلكها أبو بكر وعمر في االجتهاد‬

‫في أمر الجمع‪ ،‬وهما لم يستندا في ذلك إال إلى مطلق الخيرية دون أن يخطر‪ /‬في بالهما قياس فرع على‬

‫أصل‪ ،‬فقد نظروا‪ /‬إلى المسألة من حيث إنها استصالح‪ ،‬والدليل على ذلك ما قاله زيد عنهما ‪ -‬رضي‪ /‬هللا‬

‫‪ -.‬عنهم ‪ :-‬كيف نفعل شيئا ً لم يفعله رسول هللا ‪ -‬صلى هللا عليه وسلم‬

‫ثانياً‪ :‬عهد أبي بكر ‪ -‬رضي هللا عنه ‪ -‬بالخالفة إلى عمر بن الخطاب ‪ -‬رضي هللا عنه ‪ -‬مع أن النبي ‪-‬‬

‫صلى هللا عليه وسلم ‪ -‬لم يعهد ألحد من بعده‪ ،‬ولكنه لم ينه عن ذلك أيضاً‪ .‬وقد‪ /‬كان سنده في ذلك أنه‬

‫خشي إن هو قبض ولم يعهد بالخالفة إلى أحد يجمع شتات المسلمين ويوحد كلمتهم أن يعود االختالف‬

‫بينهم بأخطر مما ظهر بينهم بعد وفاة النبي ‪ -‬صلى هللا عليه وسلم ‪ ،-‬وفي‪ /‬ذلك ما يجعل للعدو مطمعاً‪/‬‬

‫فيهم‪ ،‬فهي إذن مصلحة الحيطة في حفظ وحدة المسلمين وحماية شوكتهم‪ ،‬وهي داخلة في مقاصد التشريع‬

‫وإن لم يرد بذلك نص أو دليل معين‬

‫" ثالثا ً‪ :‬إن الخلفاء قضوا بتضمين الصناع‪ ،‬قال علي ‪ -‬رضي‪ /‬هللا عنه ‪ " :-‬ال يصلح الناس إال ذاك‬

‫ووجه المصلحة فيه أن الناس لهم حاجة إلى الصناع‪ ،‬وهم يغيبون عن األمتعة في غالب األحوال‪،‬‬

‫واألغلب عليهم التفريط‪ ،‬وترك‪ /‬الحفظ‪ ،‬فلو لم يثبت تضمينهم‪ /‬مع مسيس الحاجة إلى استعمالهم‪ /‬ألفضى‬

‫‪114‬‬
‫ذلك إلى أحد أمرين‪ :‬إما ترك االستصناع بالكلية‪ ،‬وذلك شاق على الخلق‪ ،‬وإما أن يعملوا وال يضمنوا‬

‫ذلك بدعواهم الهالك والضياع‪ ،‬فتضيع‪ /‬األموال‪ ،‬ويقل االحتراز‪ ،‬وتتطرق الخيانة‪ ،‬فكانت المصلحة‬

‫التضمين‪ ..‬وهو من باب ترجيح المصلحة العامة على المصلحة الخاصة‬

‫رابعا ً‪ :‬جواز قتل الجماعة بالواحد‪ ،‬وهو الذي أفتى به عمر بن الخطاب ‪ -‬رضي هللا عنه ‪ ،-‬والمستند فيه‬

‫المصلحة المرسلة؛ إذ ال نص على عين المسألة‪ ،‬وهو مذهب مالك والشافعي‪ .‬ووجه المصلحة أن القتيل‬

‫معصوم‪ ،‬وقد قتل عمداً‪ ،‬فإهداره إهدار لدم برئ‪ ،‬وتعطيل لحكم القصاص الثابت بالكتاب‪ ،‬وفتح لباب‬

‫الجنايات دون تعرض للعقوبة الرادعة عنها‪ .‬فإن قيل‪ :‬هذا أمر ليس له أصل في الشرع وهو قتل غير‬

‫القاتل‪ .‬قلنا‪ :‬ليس كذلك‪ ،‬بل لم يقتل إال القاتل‪ ،‬وهم الجماعة من حيث االجتماع عند مالك والشافعي‪،‬فهو‬

‫مضاف إليهم تحقيقا ً إضافته إلى الشخص الواحد‪ ،‬وإنما التعيين في تنزيل األشخاص منزلة الشخص‬

‫)الواحد‪ ،‬وقد دعت إليه المصلحة فلم يكن مبتدعا ً مع ما فيه من حفظ مقاصد الشرع في حقن الدماء‬

‫خامسا ً‪ :‬اتفاق أصحاب رسول هللا ‪ -‬صلى هللا عليه وسلم‪ - /‬على حد شارب الخمر ثمانين‪ ،‬وإنما مستندهم‪/‬‬

‫فيه الرجوع إلى المصالح والتمسك باالستدالل المرسل‪ ،‬قال العلماء‪ :‬لم يكن فيه في زمان رسول هللا ‪-‬‬

‫صلى هللا عليه وسلم ‪ -‬حد مقدر‪ ،‬وإنما جرى الزجر فيه مجرى‪ /‬التعزير‪ /.‬ولما انتهى األمر إلى أبي بكر ‪-‬‬

‫رضي هللا عنه ‪ -‬قرره على طريق‪ /‬النظر بأربعين‪ ،‬ثم انتهى األمر إلى عثمان ‪ -‬رضي هللا عنه ‪ -‬فتتابع‬

‫الناس فجمع الصحابة ‪ -‬رضي هللا عنهم ‪ -‬فاستشارهم‪ /،‬فقال علي ‪ -‬رضي هللا عنه ‪ -‬من سكر هذى‪ ،‬ومن‬

‫‪.‬هذى افترى‪ ،‬فأرى‪ /‬عليه حد المفتري‬

‫ووجه إجراء المسألة على االستدالل المرسل أن الصحابة أو الشرع يقيم األسباب في بعض المواضع‬

‫مقام المسببات‪ ،‬والمظنة مقام الحكمة‪ ...‬فرأوا‪ /‬الشرب ذريعة إلى االفتراء الذي تقتضيه كثرة الهذيان‪ ،‬فإنه‬

‫أول سابق إلى السكران ‪ -‬قالوا ‪ -‬فهذا من أوضح األدلة على إسناد األحكام إلى المعاني التي ال أصول لها‬

‫وهو مقطوع من الصحابة ‪ -‬رضي هللا عنهم‬

‫‪115‬‬
‫ولقائل أن يقول‪ :‬لماذا ال يكون هذا من قبيل القياس على حد القذف خصوصاً‪ /‬أن عليا ً ‪ -‬رضي‪ /‬هللا عنه ‪-‬‬

‫قال في معرض االستدالل عليه‪ :‬من شرب سكر‪ ،‬ومن سكر هذى‪ ،‬ومن هذى افترى‪ ،‬فأرى عليه إذن حد‬

‫المفتري؟ والجواب‪ :‬أن بعض األصوليين ألحقوا هذه المسألة بالقياس‪ ،‬والتحقيق أنه ليس كذلك‪ ،‬إذ القياس‬

‫إنما هو تعدية حكم بعينه من محل النص إلى محل آخر بعلة هي الموجبة في محل النص‪ ،‬وهذا المعنى‬

‫غير موجود في مسألتنا هذه‪ ،‬إذ ال يستقيم أن يقال‪ :‬وجب ثمانون جلدة في القذف بعلة كذا‪ ،‬وتلك العلة‬

‫بعينها موجودة في شرب الخمر فيجب ثمانون جلدة في شرب الخمر‪ ،‬ذلك أن موجب الثمانين في القذف‬

‫كونه جناية على عرض الغير‪ ،‬وليس في شرب الخمر تعرض لعرض الغير‪ ،‬بحيث يتحقق من وجوده‬

‫فيه حتى يعتبر‪ /‬بذلك علة جامعة‬

‫سادسا ً‪ :‬إن العلماء نقلوا االتفاق على أن اإلمامة الكبرى ال تنعقد إال لمن نال رتبة االجتهاد والفتوى في‬

‫علوم الشرع‪ ،‬كما أنهم اتفقوا أيضا ً ‪ -‬أو كادوا أن يتفقوا ‪ -‬على أن القضاء بين الناس ال يحصل إال لمن‬

‫رقى في رتبة االجتهاد‪ ،‬وهذا صحيح على الجملة‪ ،‬ولكن إذا فرض خلو الزمان عن مجتهد يظهر‪ /‬بين‬

‫الناس‪ ،‬وافتقروا‪ /‬إلى إمام يقدمونه لجريان األحكام وتسكين ثورة الثائرين‪ ،‬والحياطة على دماء المسلمين‬

‫وأموالهم‪ ،‬فال بد من إقامة األمثل ممن ليس بمجتهد‪ ،‬ألنا بين أمرين‪ ،‬إما أن يترك الناس فوضى‪ ،‬وهو‬

‫عين الفساد والهرج‪ ،‬وإما أن يقدموه فيزول الفساد بتة‪ ،‬وال يبقى إال فوت االجتهاد‪ ،‬والتقليد كاف بحسبه‬

‫وإذا ثبت هذا فهو نظر مصلحي يشهد له وضع أصل اإلمامة‪ ،‬وهو مقطوع به بحيث ال يفتقر في صحته‬

‫ومالءمته إلى شاهد‪ .‬هذا ‪ -‬وإن كان ظاهراً مخالفا ً لما نقلوا من اإلجماع في الحقيقة ‪ -‬إنما ينعقد على‬

‫فرض أن ال يخلو الزمان من مجتهد‪ ،‬فصار‪ /‬مثل هذه المسألة مما لم ينص عليه‪ ،‬فصح االعتماد فيه على‬

‫المصلحة)االعتصام‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ج‪2‬ص‪126‬‬

‫سابعاً‪ :‬ومن أمثلة المصالح المرسلة في اجتهادات الفقهاء‬

‫‪:‬عند الحنفية‬

‫‪116‬‬
‫قالوا بجواز حرق ما يغنمه المسلمون من العدو في القتال من متاع أو ضأن إذا عجزوا عن حمله‪،‬‬

‫فيذبحون الضأن ويحرقون اللحم‪ ،‬وكذا يحرقون المتاع لئال ينتفع به العدو‪ ،‬وقالوا‪ /‬بالحجر على الطبيب‬

‫‪.‬الجاهل والمفتي الماجن والمكاري‪ /‬المفلس‬

‫عند المالكية‪:‬‬

‫قالوا بجواز بيعة المفضول مع وجود الفاضل‪ ،‬وجواز‪ /‬فرض الضرائب على األغنياء إذا خال بيت المال‬

‫‪ -‬الخزانة العامة ‪ -‬من المال الالزم لمواجهة النفقات الضرورية للدولة كسد حاجات الجند‪ ،‬إلى أن يظهر‬

‫مال في بيت المال يكفي لسد هذه النفقات‪ .‬وأجازوا‪ /‬شهادة الصبيان بعضهم‪ /‬على بعض في الجراحات‬

‫للمصلحة‪ ،‬ألنه ال يشهد لعبهم ‪ -‬عادة ‪ -‬غيرهم‪ ،‬وإن لم يتوافر‪ /‬فيهم شرط البلوغ وهو من شروط‪ /‬قبول‬

‫الشاهد‪ .‬وأباحوا‪ /‬حبس المتهم وتعزيره توصالً إلى إقراره‪ .‬وأباحوا‪ /‬التصرف في مال الغير عند الحاجة‬

‫‪.‬وتعذر استئذانه بما يسمى الفضالة‬

‫‪:‬عند الشافعية‬

‫قالوا بجواز إتالف الحيوانات التي يقاتل عليها األعداء‪ ،‬وإتالف‪ /‬شجرهم‪ /‬إذا كانت حاجة القتال والظفر‬

‫‪ .‬باألعداء والغلبة عليهم تستدعي ذلك‬

‫‪:‬عند الحنابلة‬

‫أفتى اإلمام أحمد بن حنبل بنفي أهل الفساد إلى بلد يؤمن فيه من شرهم‪ ،‬كما أفتى بتخصيص الرجل أحد‬

‫أوالده بهبة دون إخوانه لمصلحة معينة كأن يكون مريضا ً ال مال له أو محتاجا ً أو طالب علم‪ ،‬وقال فقهاء‬

‫الحنابلة‪ :‬إن لولي األمر أن يجبر المحتكرين على بيع ما عندهم بثمن المثل عند ضرورة الناس إليه‪ .‬كما‬

‫أن لولي األمر أن يجبر أصحاب الحرف والصناعات التي يحتاجها الناس على العمل باجر المثل إذا‬

‫امتنعوا عن العمل بحرفهم‪ /‬وصناعاتهم‪ .‬وقالوا‪ :‬من احتاج إلى إجراء الماء في أرض غيره من غير‬

‫ضرر عليه ‪ -‬أي على صاحب األرض ‪ -‬فله أن يمرره ولو جبراً على صاحب األرض‪ ،‬وهذا هو‬

‫المنقول عن عمر بن الخطاب ‪ -‬رضي هللا عنه ‪ ،-‬وأخذ به أحمد بن حنبل في إحدى الروايتين عنه وأخذ‬

‫‪117‬‬
‫به فريق‪ /‬من الحنابلة‪ .‬وهو األولى واألرجح ألن التعسف في استعمال الحق منهي عنه في الشريعة‬

‫‪.‬اإلسالمية‬

‫عالقة المصالح المرسلة بالمقاصد‬

‫‪:‬تظهر عالقة المصالح المرسلة بالمقاصد في عدة أمور‬

‫أوالً‪ :‬اندراجها في مقاصد الشريعة‪ :‬فالمصالح المرسلة طالما أننا قد حققنا القول في حجيتها‪ ،‬وأن من‬

‫شروطها‪ /‬مالئمتها لتصرفات الشارع بحيث ال تنافي أصالً من أصوله‪ ،‬وال دليالً من أدلته القطعية‪ ،‬فهي‬

‫‪.‬إذا داخلة في مقاصد التشريع‬

‫ثانيا ً‪ :‬أن جلب المصالح يمثل حفظ ورعاية مقاصد الشريعة من جانب الوجود‪ ،‬فالمصالح ضرورية وال‬

‫بد منها حتى تتحصل مقاصد الشريعة‪ ،‬فإيجاد المقاصد‪ ،‬وتثبيتها‪ ،‬ورعايتها‪ ،‬والعناية بها ال يتم إال‬

‫‪.‬بحصول المصالح والمنافع‪/‬‬

‫ثالثا ً‪ :‬تمثل المقاصد‪ ،‬ورعايتها‪ ،‬والجري‪ /‬على سننها‪ ،‬وعدم مناقضتها‪ /‬عنصراً رئيساً‪ ،‬وشرطاً‪ /‬مهما ً في‬

‫‪.‬اعتبار المصالح‬

‫رابعا ً‪ :‬كما يشترط‪ /‬في المجتهد أن يكون ملما ً بمقاصد الشريعة‪ ،‬فكذلك يشترط‪ /‬فيمن ينظر في المصالح‬

‫ويزنها‪ ،‬ويعتمد عليها في اعتبارها‪ ،‬أن يكون من ذوي االختصاص الذين اصطبغوا بهذه الشريعة‪،‬‬

‫‪.‬ونهلوا من معينها الصافي‪ ،‬وهذا هو ما يختص به العلماء‪ ،‬وهو حقيقة العمل بما جاءت به الرسل‬

‫خامسا ً‪ :‬جلب المصالح الحقيقية الموافقة لروح الشريعة يمثل جانبا ً مهما ً في إبراز محاسن الشريعة‪،‬‬

‫وجمالها‪ ،‬وسر خلودها‪ ،‬وترغيب الناس فيها‪ ،‬وفي المقابل فإن إهمال المصالح الحقيقية المضبوطة‬

‫بضابط الشرع فيه هدر لهذه المقاصد وخرم‪ /‬لها‪ ،‬ومناقضة لمطلوب الشارع ومراده‪ ،‬مما قد يجلب العنت‬

‫والمشقة‪ ،‬ويظهر الشريعة بمظهر تبدو فيه غير مالئمة وملبية لحاجات المكلفين ومصالحهم)مقاصد‬

‫الشريعة عند ابن تيمية‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪359‬‬

‫‪118‬‬
‫سادسا ً‪ :‬تظهر عالقة المصالح المرسلة بالمقاصد‪ /‬في ضوء تقسيم العلماء للمصالح المرسلة إلى ثالثة‬

‫أقسام باعتبار قوتها في ذاتها‪ ،‬وهي‪ :‬الضرورية‪ ،‬والحاجية‪ ،‬والتحسينية‪ ،‬وقد تقدم تفصيلها في ثنايا هذا‬

‫البحث‪ ،‬فهذه األنواع الثالثة من المصالح هي نقطة انطالق مبدأ المصالح المرسلة)أصول الفقه‬

‫اإلسالمي‪ ،‬د‪ .‬وهبة الزحيلي‪ ،‬ص‪755‬‬

‫وليس معنى هذا انطباق‪ /‬المصالح المرسلة على المقاصد أو العكس‪ ،‬وإنما هي ‪ -‬أي المصالح ‪ -‬مندرجة‬

‫‪.‬فيها كما تقدم‬

‫الخاتمة‬

‫وبعد‪ :‬فإن إدراك مقاصد الشريعة‪ ،‬وإبراز عللها يؤكد صالحيتها وقدرتها على التكيف والتفاعل مع‬

‫مختلف الظروف‪ ،‬ولذلك اهتم العلماء ببيان خصائص الشريعة وذكر مزاياها‪ ،‬ومنها مراعاتها للمصالح‪،‬‬

‫وعمومها‪ ،‬وموافقتها‪ /‬للعقل‪ ،‬وإمكانية تعليل أحكامها مع مرونتها‪ /.‬وبناء على ذلك فإن العالم ودارس‬

‫الشريعة والمتخصص‪ /‬فيها ونحوهم ال يمكنهم االستغناء عن دراسة المقاصد‪ ،‬وإبراز حكمة الشريعة‪،‬‬

‫خاصة إذا علمنا أن جماهير العلماء متفقون على أن الشريعة معللة بالحكم والمصالح‪ ،‬وأن الشارع‬

‫‪.‬وضعها لمصالح العباد عاجالً وآجالً‬

‫‪119‬‬
‫الباب السادس‬

‫مقاصد وغايات الفقه السياسى وأهمية دراسته‬

‫تمهيد ‪:‬‬

‫لعل من أشق األبحاث على الفكر التشريعي] تعقب نوايا المشرع ومقاصده المضمرة في مختلف النصوص‬

‫التشريعية محاولة منهم في التفتيش عن إرادة الشارع] وأهدافه من وراء وضع التشريع؛ ومن ثم البناء‬

‫عليها عند غموض النص أو في حالة الفراغ‬

‫أو السكوت التشريعي] المتروك عمدا تخفيفا من الشارع؛ ولعل من أهم الموضوعات المعاصرة التي تحتاج‬

‫إلى البحث عن مقاصدها وأهدافها العامة والخاصة تلك التي لها عالقة بالقانون العام اإلسالمي والمصطلح‬

‫على تسميته بمقاصد األحكام السلطانية؛ من خالل التفتيش عن اإلرادة التشريعية الكلية للشارع الحكيم من‬

‫‪. ‬وراء االجتماع السياسي] للبشر في اإلسالم‬

‫‪120‬‬
‫فمن بين األولويات البحثية في االجته]اد المقاص]دي] البحث عن المقاص]د العلي]ا والمص]الح العام]ة الناظم]ة‬

‫لنص]]وص الش]]ريعة في أص]]ولها وفص]]ولها] على مس]]توى األم]]ة‪ ،‬من خالل إمع]]ان النظ]]ر في الخطاب]]ات‬

‫الشرعية الموجهة لألمة أمراً ونهياً‪ ،‬وسبر] األحكام في سياقاتها] المختلفة وصوال إلى معرفة حكمة التش]]ريع‬

‫وسره؛ وهي التي يعبر عنها اصطالحا بالمقاص]]د الكلي]]ة المن]]وطُ تحقيقُه]]ا باألحك]]ام] الش]]رعية في جزئياته]]ا‬

‫وفروعها‪ ].‬والعمل المنقطع النظير الذي قام به اإلمام الطاهر بن عاشور وعلى خط]]اه اإلم]]ام عالل الفاس]]ي‬

‫من خالل االهتم]]ام بالبع]]د االجتم]]اعي في منظوم]]ة مقاص]]د الش]]ريعة‪ ،‬فنج]]ده مثال يس]]تدرك] على الق]]دامى‬

‫إغفالهم مراعاة المقاصد الضرورية على مستوى األمة فيقول‪ ":‬إن حفظ هذه الكليات معناه حفظها بالنَّس]]بة‬

‫آلحاد األمة‪ ،‬وبالنِّسبة لعموم األمة باألولى‪ ،‬فحفظ ال]دين معن]اه حف]ظ دين ك]ل أح]د من المس]لمين أن ي]دخل‬

‫عليه ما يفسد اعتقاده وعمله الالحق بالدين‪ ،‬وحفظ الدين بالنِّسبة لعموم األمة ه]]و د ْف]]ع ك]]ل م]]ا من ش]]أنه أن‬

‫اإلس]الَ ِمية بإبق]]اء وس]]ائل‬


‫ينقص أصول الدين القطعية؛ ويدخل في ذلك حماية البيضة‪ ،‬وال]]ذب عن الح]]وزة ِ‬

‫ش ِريعة؛ ص‪302‬‬
‫تلق ِّي الدين من األمة حاضرها وآتيها)ابن عاشور‪ ،‬مقاصد ال َّ‬

‫تعريف عام بقواعد الفقه‬

‫من الضرورى والمنطقى أن نقف على تعريف‪ /‬القواعد الفقهية عموما حتى نستطيع‪ /‬االتعرف على مقاصد‬

‫الشريعة فى الفقه السياسى وحتى نستطيع‪ /‬تصور أهمية دراسة هذا النوع من الفق‪//‬ه فالب‪//‬د لن‪//‬ا من الوق‪//‬وف‬

‫على معانيه ومضامينه ألن الحكم الصحيح على األشياء أصل من حسن تصورها‪/‬‬

‫ف أحكامه‪//‬ا‬
‫‪/‬ر َ‬ ‫القاعدة ً‬
‫لغة‪ :‬هي األساس‪ .‬واصطالحاً‪ :‬حكم كلي ينطبق على جميع جزئياته أو أكثرها‪ ،‬لتِع‪َ /‬‬

‫منه‪.‬‬

‫القاعدة الفقهية‪ :‬هي المبادىء العامة في الفقه اإلسالمي التي تتضمن أحكاما ً ش‪//‬رعية عام‪//‬ة تنطب‪//‬ق على‬

‫الوق‪//‬ائع‪ /‬والح‪//‬وادث ال‪//‬تي ت‪//‬دخل تحت موض‪//‬وعها) الم دخل لدراس ة الش ريعة اإلس المية‪ ،‬د‪ .‬عب دالكريم‬

‫زيدان‪( ،‬ص‪.)90‬‬

‫‪121‬‬
‫ومن األمثل ة على القواع د الفقهية‪(( :‬األصل في الكالم الحقيقة))‪((.‬األم‪//‬ور بمقاص‪//‬دها‪(( .))/‬اليقين ال ي‪//‬زول‬

‫بالشك))‪(( .‬ال اجتهاد في مورد‪ /‬النص))‪(( .‬األصل براءة الذمة))‪(( .‬المشقة تجلب التيسير))‪(( .‬الضرورات تبيح‬

‫المحظ‪///‬ورات))‪(( .‬الض‪///‬رورة تق‪///‬در بق‪///‬درها))‪(( .‬ال ض‪///‬رر‪ /‬وال ض‪///‬رار‪(( .))/‬درء المفاس‪///‬د أولى من جلب‬

‫المصالح))‪ ،‬وغيرها‪.‬‬

‫فالقواعد العامة وُ ضِ َع ْ‬
‫ت لتحقيق المصالح الضرورية والحاجية والتحسينية وفيها‪ /‬مب‪/‬احث ط‪/‬وال ق‪/‬د نوهن‪/‬ا‬

‫اليها من قبل ‪ ,‬ولكن أردنا إلقاء الضوء على أهمية هذه القواعد الفقهية في مجال السياسة الشرعية‪ ،‬أو م‪//‬ا‬

‫يسميه البعض الفقه السياسي‪ ،‬فإن لهذه القواعد مصادرها‪ /‬الخاصة‪ ،‬فق‪//‬د ُكتب الكث‪//‬ير في ه‪//‬ذا الب‪//‬اب ق‪/‬ديما ً‬

‫وحديثا ً منها على سبيل المث‪//‬ال ال الحص‪/‬ر‪(( /‬االش‪//‬باه والنظ‪//‬ائر))‪ ،‬للس‪//‬يوطي‪(( ،‬الف‪//‬روق))‪ ،‬للق‪//‬رافي‪(( ،‬إعالم‬

‫الموقعين))‪ ،‬البن القيم‪ ،‬و((االعتصام))‪ ،‬للشاطبي‪ ،‬وغيرها‬

‫الفقه السياسي‪:‬‬

‫(ه‪//‬و مجموع‪//‬ة األحك‪//‬ام الش‪//‬رعية ال‪//‬تي تتن‪//‬اول األحك‪//‬ام السياس‪//‬ية‪ ،‬ك‪//‬الحكم‪ ،‬وإدارة الدول‪//‬ة‪ ،‬والعالق‪//‬ات‬

‫الخارجية‪ .‬وهذه األحكام مس‪//‬تنبطة من مص‪//‬ادر الفق‪//‬ه اإلس‪//‬المي‪ ،‬باإلض‪//‬افة إلى األع‪//‬راف والتقالي‪//‬د ال‪//‬تي‬

‫درجت عليها الدولة اإلسالمية بما ال يتن‪//‬افى‪ /‬والمب‪//‬ادىء اإلس‪//‬المية)‪.‬الفق ه السياس ي اإلس المي‪ ،‬د‪ .‬خال د‬

‫الفهداوي‪( ،‬ص‪ ،)78 :‬الطبعة األولى‪2003( ،‬‬

‫ويعرفه األستاذ عبدالوهاب خالّف بقوله‪:‬‬

‫(إن علم السياسة الشرعية يُبحث فيه َعمّا ُت َدبّر فيه شؤون الدول اإلسالمية من الق‪//‬وانين والنظم ال‪//‬تي تتف‪//‬ق‬

‫وأص‪/‬ول اإلس‪/‬الم‪ ،‬وإن لم يقم على ك‪/‬ل ت‪/‬دبر دلي‪/‬ل خ‪/‬اص)‪.‬السياس ة الش رعية ونظ ام الدولة) (ص‪،)21‬‬

‫المطبعة السلفية‪ ،‬القاهرة‪1350 ،‬هـ‪.‬‬

‫مدى الحاجة لقواعد الفقه السياسي‪:‬‬

‫‪122‬‬
‫ال ش‪//‬ك أن الكت‪//‬اب والس‪//‬نة هم‪//‬ا رأس مص‪//‬ادر‪ /‬التش‪//‬ريع‪ /‬اإلس‪//‬المي‪ ،‬وال ش‪//‬ك ك‪//‬ذلك في ض‪//‬رورة ت‪//‬وفر‬

‫الضوابط واألصول‪ /‬العامة الستنباط األحكام الشرعية من أدلتها التفص‪//‬يلية‪ ،‬وه‪//‬ذه القواع‪//‬د واألص‪//‬ول ق‪//‬د‬

‫بسطت فيما يعرف‪ /‬بكتب أصول الفقه اإلسالمي‪ .‬وعلى طالب العلم أن يرجع إليها في مظانها ليستقيم أمر‬

‫الفقه لديه‪ ،‬ومنه فقه السياسة الشرعية الذي نحن بصدد دراسة بعض مباحثه وفقهه المعاصر‪.‬‬

‫(فقواع‪//‬د الفق‪//‬ه السياس ‪/‬ي‪ /‬اإلس‪//‬المي مرتبط‪//‬ة ارتباط ‪/‬ا َ وثيق ‪/‬ا ّ بتحقي‪//‬ق مقاص‪//‬د الش‪//‬ريعة وأه‪//‬دافها‪ /‬العام‪//‬ة‪.‬‬

‫والمصالح المرسلة تدخل ـ ضمنا َ ـ في مصادر تلقي األحك‪//‬ام الش‪//‬رعية المنض‪//‬بطة بقواع‪//‬د كلي‪//‬ة)المرج ع‬

‫السابق‪)78( ،‬‬

‫المشاكل السياسية وتأثيرها على ممارسة الفقه السياسى‬

‫تمهيد ‪:‬‬

‫لعل من بين أهم هذه األزمات والمشاكل] السياسية التي تحتاج إلى ملكة مقاصدية جريئة تجمع بين مقاصد‬

‫الشريعة ومقاصد] الحياة السياسية أزمة المشكلة الدستورية ممثلة في ذلك الصراع والصدام] المزمن بين‬

‫السلطة وبين الحرية‪ ،‬والذي كان المجتمع اإلنساني دائما وبصفة مستمرة مسرحا] لما يجري بينهما من‬

‫صدام؛ وبسبب هذا الصراع األبدي بينهما تمخضت جهود المفكرين الدستوريين] عن إيجاد مناهج‬

‫وضوابط] ومبادئ وقيم] ليوازنوا] بين حقوق األفراد] في أن يعيشوا] الحرية ويتنفسونها؛] وبين حق السلطة‬

‫العامة في التدخل في النشاط االجتماعي والسياسي] بالتنظيم والتقييد‪ ,‬بحيث تكون غاية ومقصد هذه المناهج‬

‫السامية بناء دولة قانونية يخضع فيها الحاكم والمحكومين للقانون بمفهومه الواسع؛ وترتيبا] على ذلك‬

‫صارت وظيفة مقاصد الشريعة والقانون معا إقامة وتنظيم] التعايش السلمي بين السلطة والحرية في إطار‬

‫الدولة واألمة‪ ،‬مما يعني أن أي نظام دستوري ناجح هو في الحقيقة محاولة لحل تلك المشكلة الدستورية‬

‫الخالدة‪ ،‬مشكلة الموازنة بين السلطة وحقها في فرض النظام وتقييد النشاط الفردي وبين حقوق أفراد‬

‫لشعب وعلى رأسها الحرية‪.‬‬

‫‪123‬‬
‫ومن هنا تأتي إشكالية هذه الورقة البحثية في تحديد مقاصد األحكام السلطانية كما يجب أن تكون عليه‬

‫انطالقا مما كانت عليه في عصر الحكومة النبوية والخالفة الراشدة؛ مع مراعاة تغير المعطيات السياسية‬

‫واالجتماعية والدولية المعاصرة؛ ليتم في خاتمة البحث معرفة مدى قدرة منظومة مقاصد الشريعة فيما‬

‫‪.‬يخص األمة على صياغة نظام دستوري] إسالمي يحقق التوازن والتوافق] بين ثنائية السلطة والحرية‬

‫وهذا ما سيتم معالجته من خالل هذا المبحث‬

‫مقاصد الشريعة وغايات الفقه السياسى‬

‫يش ّكل غياب فقه مقاصد الشريعة وبُعده عن فقه األحكام السلطانية أزمة واقعية أورثت جمودا فكريا] على‬

‫مستوى بناء دولة دستورية متوافقة مع مبادئ اإلسالم؛ فأصبحت األحكام الشرعية السلطانية نتيجة لهذا‬

‫الغياب قاصرة عن إيجاد صياغة متناسبة مع ظروف] كل عصر وزمان؛ فالكتابات السياسية والدستورية‬

‫السابقة كانت كتابات ظرفية تغترف من الواقع؛ كتعبير] وترجمة عن تفاعل المفكر وفهمه للواقع السياسي‬

‫‪.‬مع المبادئ التي تشكل قاعدة لقناعاته اإليمانية‬

‫فالفقه السياسي] اإلسالمي القديم لم يكن انعكاسا معبرا ومترجما لمبادئ] اإلسالم كما يجب أن تكون‪ ،‬بقدر ما‬

‫كان تكييفا لهذه المبادئ مع سلطان القوة وإمارة التغلب؛ وهذا ما عبر عنه المفكر مالك بن نبي عندما أكد‬

‫على أن "الحضارة اإلسالمية لم تنشأ عن مبادئ اإلسالم‪ ،‬ولكن المبادئ هي التي تكيفت مع سلطة زمنية‬

‫قاهرة" محمد بن المختار الشنقيطي الشرعية قبل الشريعة؛ مركز الراية للتنمية الفكرية" في دمشق أو‬

‫جدة‬

‫وهو تشخيص دقيق] لداء الفقه السياسي في الحضارة اإلسالميةففي اإلسالم من القيم العالمية ما يم ِّكن من‬

‫اإلجابة على كل أسئلة الواقع وعالج لكل أزمات المجتمع والحياة؛ فمبادئ اإلسالم وخصائصه في فن‬

‫السياسة والحكم قادرة على بناء هندسة دستورية واجتماعية واقعية للعمران الحضاري‪ ،‬فعلى سبيل المثال‬

‫‪124‬‬
‫تعتبر نظرية الدولة التي أنشأها الرسول ‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪ -‬من وجهة النظر الدستورية أقدم صورة‬

‫للدولة كتنظيم لالجتماع السياسي؛ ذلك أنه تقرر فيها ألول مرة مبدأ الشرعية وخضوع الدولة للقانون‪،‬‬

‫فاألحكام الشرعية التي جاء بها القرآن والسنة هي أحكام صادرة عن سلطة أعلى من سلطات الدولة‬

‫جميعاً‪ ،‬وألول مرة في التاريخ يتم الفصل بين إرادة الحاكم وبين القانون) د‪ .‬الغنوشي؛ الحريات العامة في‬

‫الدولة اإلسالمية بيروت‪ :‬مركز دراسات الوحدة العربية‪1993 ،‬؛ ص ‪28‬‬

‫ذلك أن الشريعة كما يقول اإلمام عالل الفاسي"أحكام تنطوي] على مقاصد؛ ومقاصد] تنطوي على أحكام)‬

‫عالل الفاسي؛ مقاصد الشريعة ومكارمها؛ ص‪7‬‬

‫وهذا كما يقول الريسوني (أحسن ما قيل في تصوير وتقرير] عالقة المقاصد باالجتهاد] واالستنباط‪ ]،‬ذلك أن‬

‫المقاصد تؤخذ من األحكام‪ ،‬وأن األحكام تؤخذ من المقاصد‪ ،‬بأن ننظر] في األحكام فنستنبط منها المقاصد‬

‫والغايات‪ ،‬وننظر في المقاصد فنستنبط] منها األحكام والقواعد والوسائل] واألوصاف] المناسبة لها‬

‫الريسوني؛ محاضرات في مقاصد الشريعة؛ ص‪103‬‬

‫ألن مقاصد الشريعة‪ ،‬تنطوي على كل ما يمكن أن يقع من حوادث وأحكام‪ ،‬والمقاصد جزء من المصادر](‬

‫األساسية للتّشريع] اإلسالمي‪ ،‬والحكم الذي نأخذه بطريق] المصلحة واالستحسان أو غير ذلك من ضروب]‬

‫المآخذ االجتهادية يعتبر حكما شرعيا‪ ،‬أي خطابا من هللا متعلّقا بأفعال المكلّفين‪ ،‬ألنّه نتيجة الخطاب‬

‫الشرعي الذي يتبين من تلك المقاصد التي هي أمارات لألحكام التي أرادها هللا‪ ،‬فحقيقة مقاصد شريعته هي‬

‫نفسها مصالح اإلنسان‪ ،‬وأن المصالح والمقاصد] وجهان لحقيقة واحدة هي سعادة اإلنسان في الدارين ابتداء‬

‫وانتهاء‪ ،‬وأن مقاصد الشريعة ال تقوم في الوجود والواقع] إال برعاية وتحقيق مصالح اإلنسان المختلفة‪ ،‬كما‬

‫عبد النور بزا؛ مصالح اإلنسان مقاربة ) أنه ال رعاية لمصالح اإلنسان دون استحضار لمقاصد الشرع‬

‫مقاصدية؛ الناشر المعهد العالمي للفكر اإلسالمي؛ط‪1‬؛ سنة ‪2008‬؛ ص ‪18‬‬

‫‪125‬‬
‫وقد بالغ الفقهاء كثيراً في دور المقاصد وأهميتها‪ ،‬حيث يكاد كل من يتكلم في المقاصد أن يركز على أنها(‬

‫مفتاح التنمية االجتماعية والسياسية دون عناية بالضوابط التي على رأسها أن ال تصادم] نصا قطعيا وأن‬

‫د‪ .‬إسماعيل السعيدات؛ مقاصد الشريعة )تكون مالئمة لمقصود الشرع وتصرفاته مما يشهد الشرع لجنسه‬

‫‪.‬عند اإلمام الغزالي؛ دارا لنفائس؛ ط‪1‬؛ ‪2011‬؛؛ ص ‪1،4‬‬

‫المطلب األول‪ :‬عالقة المصلحة العامة بمقاصد األحكام السلطانية وطرق إثباتها‬

‫يعيش الفقه السياسي] اإلسالمي تحديات كبيرة يتعيّن معها مراجعة فقه األحكام السلطانية‪ ،‬مراجعة تنطلق‬

‫من إعادة تركيب األصول وربطها] بمقاصدها في ضوء الواقع السياسي] الذي عليه المسلمون اليوم؛ فال‬

‫شك أن الدراسات المعاصرة في الفقه السياسي مازالت تركز على كليات النظام السياسي اإلسالمي وكيفية‬

‫بنائه‪ ،‬ولم تخطو] خطوات هامة نحو تقديم صيغ تنظيمية للقيم السياسية اإلسالمية‪ ،‬ولعل السبب في ذلك أن‬

‫الفقه السياسي المعاصر] قد اكتفى بما ت ّم إنجازه في فقه األحكام السلطانية من جهة‪ ،‬ومن جهة أخرى فإن‬

‫التجربة السياسية اإلسالمية المعاصرة لم تنضج بعد‪ ،‬ومازال خطابها] يركز على المبادئ‪ ،‬ولم ينتقل بعد‬

‫‪.‬إلى صياغة البرامج‬

‫ولعل أهم قضية يجب البدء بها في عملية المراجعة والنقد قضية تنظيم ممارسة السلطة وعالقتها] بمؤسسة‬

‫)رئاسة الدولة ومكانتها] في النظام السياسي اإلسالمي حتى ال تفضي إلى الديكتاتورية‬

‫‪(http://www.alshawkany.net/index.php?action=showDetails&id‬‬

‫)‪11-9- 2015‬‬

‫‪126‬‬
‫إال أن قيام الدولة الحديثة على غرار النموذج الغربي‪ ،‬فرض على التجربة السياسية اإلسالمية المعاصرة‬

‫األخذ بآليات العمل السياسي في المشاركة السياسية‪ ،‬واالهتمام] بموضوع] الحريات العامة‪ ،‬وتدعيم وجود]‬

‫المجتمع المدني‪ ،‬إلى غيرها من المواقف‪ ،‬األمر الذي يوجب على الفكر السياسي اإلسالمي المعاصر]‬

‫‪.‬تطوير البحث النظري في مثل هذه الموضوعات‪ ،‬وتقديم صيغ تنظيمية للقيم السياسية اإلسالمية‬

‫لكن ما يجب تأكيده هو أن تقديم صيغ تنظيمية هي مرحلة متأخرة في التنظير السياسي‪ ،‬يسبقها التحديد‬

‫الدقيق لمنهجية االجتهاد] في الفقه السياسي‪ ]..‬وفي هذا اإلطار يجب أن يتم التركيز على محاولة صياغة‬

‫النظرية السياسية اإلسالمية انطالقا من األصول الشرعية‪ :‬الكتاب والسنة‪ ،‬مع استيعاب التجربة السياسية‬

‫اإلسالمية؛ وانطالقا] من تلك الجهود التي قدمها] السابقون في مثل هذا البحث في مجال تحديد مقاصد سامية‬

‫‪.‬كلية لمقصود الشارع متمثلة في العبادة ثم الخالفة ثم العمارة؛ ثم التخريج عليها بما يناسب مقتضى الحال‬

‫المصلحة العامة‪ ،‬روح مقاصد األحكام‪ ‰‬السلطانية ‪1-‬‬

‫أهمية المقاصد بالنسبة للسياسة الشرعية وفقه األحكام السلطانية كأهمية الروح للجسد‪ ،‬فمقاصد الشريعة‬

‫هي روح السياسة الشرعية؛ "فالمقاصد‪ -‬كما يقول اإلمام الشاطبي ‪ -‬أرواح األعمال ) الشاطبي؛‬

‫الموافقات؛ ج‪2‬؛ ص ‪344‬‬

‫ألن جماع مقاصد الشريعة كما يقال دفع ونفع؛ قال الجويني]‪" :‬مجمل مقاصد الشريعة عبارة األغراض‬

‫الدفعية والنفعية) الجويني؛ البرهان؛ ج‪2‬؛ ص‪604‬‬

‫وهو المعنى المعبر عنه بعبارة جلب المصالح والمنافع ودرء المفاسد والمضار‪ ،‬وهو الذي تبناه الغزالي‬

‫وعبَّر عنه بقوله‪" :‬أما المقصود‪ ،‬فينقسم إلى ديني ودنيوي‪ .‬وكل واحد ينقسم إلى تحصيل وإبقاء وقد يعبر‬

‫عن التحصيل بجلب المنفعة‪ ،‬وقد] يعبر عن اإلبقاء بدفع المضرة) د‪ .‬اسماعيل السعيدات؛ مقاصد الشريعة‬

‫عند اإلمام الغزالي مرجع سابق؛ ص‪ 37‬نقال عن الغزالي؛ شفاء الغليل‪159‬‬

‫‪127‬‬
‫وقد برزت حاجة الفقه السياسي اإلسالمي لنظرية المقاصد الشرعية الستحداث أحكام شرعية تتناول‬

‫الواقع المستجد‪ ،‬فضال عن التأسيس لمشروعية األخذ االنتقائي من المؤسسات النظامية في الحضارة‬

‫الغربية‪ ،‬وهنا كان البد من استثمار نظرية المقاصد المبنية على استصالح الخلق بناء على جلب مصالح‬

‫الدا َريْن ودرء مفاسدهما‪ ،‬ومعرفة الحكم في النوازل السياسية من خالل توخي مناسبات األحكام‪ ،‬بعد فقه‬

‫الواقع وفقه التوقع ولو بظنٍّ غالب‪ ،‬سيراً منهم في ذلك على منهاج الشريعة وسياستها] التشريعية‪" ،‬فالعبرة‬

‫في القول بالمشروعية من عدمها في الوقائع النازلة هو بما يتضمنه الفع ُل من الصالح والفساد‪ ،‬وال ِعبرة‬

‫للفظه ومظهره"‪ .‬فكما أن معظم مصالح الدنيا ومفاسدها معروفة بالعقل‪ ،‬فكذلك معظم الشرائع والتكاليف؛‬

‫ال يخفى على عاقل وجه المصلحة فيها؛ ومن هنا قرر] اإلمام العز بن عبد السالم في قواعده ‪" :‬ان تحصيل‬

‫المصالح المحضة‪ ،‬ودرء المفاسد المحضة عن نفس اإلنسان وعن غيره محمود َح َسن‪ ،‬وأن تقديم أرجح‬

‫المصالح فأرجحها] محمود َح َسن‪ ،‬وأن درء أفسد] المفاسد فأفسدها محمود َح َسن‪ ،‬وأن تقديم المصالح‬

‫الراجحة على المفاسد المرجوحة محمود َح َسن‪ ،‬وأن درء المفاسد الراجحة على المصالح المرجوحة‬

‫صالحهم دون نكايتهم"‪ .‬يقول اإلمام القرافي "إن كل‬


‫َ‬ ‫محمود َح َسن‪ .‬تذكيراً لهم بأن ربهم ال يريد إال‬

‫تصرف ال يترتب عليه مقصوده ال يشرع ) اإلمام القرافي؛ الفروق؛ ج‪3‬ص‪ 135‬القاعدة ‪153‬‬

‫ومعناه أن أي قول أو فعل ال ينبني عليه ما يصلح حال المتصرف أو حال غيره‪ ،‬ال يعتبر تصرفا في‬

‫الشرع؛ فكان مما قرره الفقهاء قاعدة‪" :‬التصرف على الرعية منوط بالمصلحة" وهذا ما يستفاد من‬

‫استقرار ما كتبه في مقاصده؛ وفي أصول النظام االجتماعي في اإلسالم حيث يقول الطاهر بن عاشور‪:‬‬

‫"استقراء أدلة كثيرة من القرآن والسنة الصحيحة يوجب لنا اليقين بأن أحكام الشريعة اإلسالمية منوطة‬

‫بحكم وعلل راجعة للصالح العام للمجتمع واألفراد) الطاهر بن عاشور؛ مقاصد الشريعة؛ ص ‪190‬‬

‫فلم يخلق هللا وضعا] إال ليرتب عليه أحكاما مبنية على مقاصد تحقق مصالح العباد في المعاش والمعاد] على‬

‫أساس من العدل؛ ذلك أن األوامر والنواهي] في الخطاب الشرعي متجهة كلها إلى اكتساب المصالح أو‬

‫الوسائل المفضية إليها؛ والى درء المفاسد أو الوسائل المؤدية إلى درئها) الجويني؛ الغياثي؛ ص ‪140‬‬

‫‪128‬‬
‫ومن هنا يجب أن يكون واضحا لدى القائمين بالمهام] االستخالفية في األمة أن مقصود أعمالهم وتصرفاتهم‬

‫في الرعية منوط] بتحقيق الصالح العمراني المفضي إلى الصالح الفردي والجماعي بضبط تصرف]‬

‫الجماعات واألقاليم] بعضهم مع بعض على وجه يحفظ مصالح الجميع‪ ،‬ورعاية المصالح الكلية ا ِإلسالَ ِمية‪،‬‬

‫وحفظ المصلحة الجامعة عند معارضة المصلحة القاصرة؛ فعمدة االجتهاد المقاصدي في مجال األحكام‬

‫السلطانية مبني على حرية االستصالح المنضبط بضوابط] المصلحة ‪ ،‬فمثال ‪ -‬أن "الغرض من نصب‬

‫ستَطَ ْعت)‬ ‫اإلمام استصالح األمة) كما جاء على لسان شعيب عليه السالم(إِنْ أُ ِري ُد إِالَّ ا ِإل ْ‬
‫صالَ َح َما ا ْ‬

‫هود ‪88‬‬

‫تحدث ابن عاشور عن المصالح والمفاسد تلخيصا وتنقيحا وتتميما لما كتبه السابقون؛ خاصة الشاطبي؛‬

‫ولكن كانت له إضافات في هذا الباب‪ ،‬أهمها عنايته الفائقة بمصالح األمة والمقاصد الجماعية والمقاصد‬

‫العامة‪ .‬فبينما نجد العلماء السابقين على ابن عاشور كالغزالي والشاطبي] وغيرهما‪ ،‬غيبوا فقه األمة‬

‫ومقاصد األمة فإن ابن عاشور كلما صنف] أو عرَّف شيئا من المقاصد والمصالح والمفاسد‪ ،‬كان اعتبار‬

‫األمة ماثال ومعيارا] معتمدا‪ .‬فحتى حينما أراد تعريف] التحسينيات التي هي ألصق شيء باألفراد] وأذواقهم‪]،‬‬

‫عرفها بأنها هي المصالح التي تكون بها األمة ذات منظر وبهجة‪ ،‬تنجذب إليها األمم والشعوب األخرى‬

‫وتحترمها‪ ،‬وتهفو إليها نفوس الناس‬

‫وال شك أن التركيز على مقاصد الشريعة على مستوى] األمة هو األعلى واألولى] في ظل شيوع فقه‬

‫التمدن‪ ،‬وهو الذي يحتاج أن يأخذ مكانته الالئقة المستحقة؛ فقد الحظ ابن عاشور] أن مصالح األفراد أخذت‬

‫كامل العناية والرعاية من الفقهاء واألصوليين والمقاصديين‪ ،‬بخالف األمة ومصالحها ومقاصدها‪ ،‬فهي‬

‫ضامرة عند عامة علمائنا المتقدمين‪ .‬هذا مع العلم أن المصالح الفردية ال تفضي بالضرورة إلى تحقيق‬

‫مصالح األمة إال بشكل محدود‪ ،‬ولكن مصالح األمة تفضي بالضرورة إلى مصالح األفراد‪ ،‬فهي داخلة فيها‬

‫طرق إثبات مقاصد األحكام السلطانية‪2:‬‬

‫‪129‬‬
‫الشك أن أصعب مباحث مقاصد الشريعة كيفية إثباتها؛ فالقاعدة المقاصدية قاضية أن ال تقصيد بال دليل؛‬

‫ولكن باإلضافة إلى ما قرره أهل االختصاص من مسالك وطرق] للكشف عن إرادة الشارع من وراء‬

‫تشريعه‪ ،‬يالحظ أن مسلك االستقراء واالستبصار واالستشراف] المستقبلي أو ما يسمى بفقه التوقع يكاد‬

‫يكون أكثرها تعلقا باستخراج] مقاصد األحكام السلطانية‪ ،‬خصوصا] استقراء الوقائع التاريخية التي وقعت‬

‫زمن الحكومة النبوية والخالفة الراشدة بنماذجها] األربع؛ في مجال حفظ المجتمع ودولته الفتية‬

‫ويتجلى مضمون هذا المسلك االستقرائي الواقعي] من خالل النظر في مآالت تطبيق األحكام السلطانية‬

‫استدالال بما هو كائن على رسم ما ينبغي أن يكون لتفادي مفاسد وتحري مصالح؛ فإذا كانت مآالتها‬

‫معلومة يقينا أو بظن غالب حكم بما يتناسب معها‪ .‬ومن هذا القبيل ما حكاه اإلمام الشاطبي] وغيره من‬

‫سيرة عمر بن عبد العزيز لما تولى الملك؛ من أنه أجَّل تطبيق بعض أحكام الشريعة فلما استعجله ابنه في‬

‫ذلكقال (أخاف أن احمل الحق على الناس جملة فيدفعوه جملة ويكون من ذا فتنة) الغزالي؛ المرجع‬

‫السابق؛ ص‪99‬‬

‫ومن قبله تأجيل الخليفة عمر بن الخطاب قطع يد السارق] عام المجاعة؛ فقد كان من بين مقاصده النظر في‬

‫مآالته المستقبلية؛ فحر الجوع بحكم الطبيعة عامل غالب يطغى على النفس‪ ،‬ومن ثم فإقامة الحد مع حر‬

‫الجوع لن يحقق مقصد االرتداع] وال استتباب األمن على األموال؛ ومثله تأجيل تنفيذ األحكام القضائية‬

‫بالنظر إلى مآالتها الشرعية‪ ،‬مثل ما فعل الخليفة عثمان مع ابن الخليفة المغتال عمر بن الخطاب في‬

‫جريمة الثأر ألبيه بقتل غالبية العلوج الذي سكنوا المدينة فانه كان يستحق] القصاص ولكنه أجَّله‪ .‬ومن أمثلة‬

‫عدم تعجله صلى هللا عليه وسلم في معاقبة المنافقين مع علمه بدسائسهم] وهمهم باغتيال الرسول وزرع]‬

‫الفتنة بين المسلمين ومع ذلك لما أشير عليه ‪-‬عليه الصالة والسالم ‪ -‬بقتل من ظهر نفاقه وبدت نواياه‪،‬‬

‫حينها قال عبد هللا بن عبد هللا بن أب ّي للنبي ‪ -‬عليه الصالة والسالم؛ "إن أذنت لي في قتله قتلته؛ فقال النبي‬

‫عليه السالم؛ "بل نحسن صحبته ونترفق] به ما صحبنا‪ -‬أي ما لم يشكل حركة مسلحة متمردة‪-‬؛ وال يتحدث‬

‫‪130‬‬
‫الناس أن محمد يقتل أصحابه؛ ولكن بر أباك وأحسن صحبته"؛ كل ذلك مراعاة لمقصد حماية حرية‬

‫المعارضة؛ وتغليبا] لمصلحة سمعة النظام السياسي] في المجتمع الدولي في الحال والمآل‬

‫ولعل من أصول هذا المسلك في توخي تحقق مقصد األحكام السلطانية في استكشاف المآل واالستبصار]‬

‫سبُّو ْا الَّ ِذينَ يَ ْدعُونَ ِمن دُو ِن هّللا ِ فَيَ ُ‬


‫سبُّو ْا هّللا َ َعدْواً بِ َغ ْي ِر ِع ْل ٍم)‬ ‫المستقبلي بنتائجها الواقعية قوله تعالى‪َ ( :‬والَ تَ ُ‬

‫فقد ورد في بعض الروايات عند ابن عاشور في "التحرير] والتنوير"] أن سبب نزول هذه اآلية أن‬

‫المشركين قالوا للنبي صلى هللا عليه وسلم‪" :‬لئن لم تنته عن سب آلهتنا وشتمها لنهجون إلهك"؛ فنهى هللا‬

‫سب أوثان الجاهلية لما يترتب على ذلك بحكم العادة من تبادل السب والشتم‪ ،‬ونظير] ذلك ما تقوم به بعض‬

‫الحركات اإلسالمية دون تبصر] استشرافي] من تحريق] وتمزيق] ألعالم وصور] ومقدسات دول أجنبية أو‬

‫بث قنوات فضائية لسبهم‪ ،‬فإنه بالنظر إلى مآالتها الواقعية فإنها تفضي بحكم مبدأ المعاملة بالمثل إلى سب‬

‫‪.‬مقدساتها وتمزيق] كتابنا المقدس واالستهتار بنبينا وشريعتنا‬

‫ومن األمثلة التي كانت محل دراسة للبحث عن مدى مقصدية قاعدة حفظ النظام العام‪ ،‬فإنه باستقراء‬

‫القرارات التالية‪ :‬قرار النبي عليه السالم بهدم مسجد الضرار؛ قرار عدم معاقبة المنافقين؛ مسارعة‬

‫الصحابة إلى مبايعة أبي بكر خليفة قبل دفنه صلى هللا عليه وسلم؛ قرار الخليفة أبي بكر بمحاربة‬

‫المرتدين؛ وقراري الخليفة عمر بنفي نصر بن حجاج إلى البصرة؛ وإجراء الحجر الصحي في طاعون‬

‫عمواس‪ ،‬وقرار] المنع من اإلقامة الذي اتخذه الخليفة عثمان ضد الصحابي أبي ذر الغفاري؛ وقرار] اإلمام‬

‫علي تأجيل متابعة قتلة عثمان حتى يتم استتباب األمن العام‪ ،‬وقراره المواجهة المسلحة ضد الخوارج‬

‫المحاربين‪ ،‬يالحظ أنها كلها قرارات تجد أساسها في مقصد حفظ نظام األمة وتحقيق الوحدة وحماية الدين؛‬

‫ليتحدد بعدها مقاصدية النظام العام في الشريعة اإلسالمية كأهم المصالح الضرورية العامة التي يجب على‬

‫‪.‬الدولة مراعاتها من جانب الوجود ومن جانب العدم‬

‫المطلب الثاني‪ :‬القواعد المقاصدية الناظمة لتقييد السلطة السياسية‬

‫‪131‬‬
‫تنطلق هذه القواعد المقاصدية من قاعدة الوعي بالوسائل] المفضية للمقاصد؛ وهي بذلك تأخذ حكم المقاصد‬

‫ذاتها؛ ومن هنا جعل الفقه السياسي قيام] السلطة وسيلة ضرورية لقيام اإلنسان بمهمة الخالفة التي كلفه‬

‫الشارع الحكيم القيام بها؛ وقد] عبر اإلمام الغزالي عن هذا الترابط ما بين الدين والتنظيم السياسي أيما‬

‫تعبير مما يدل على تألق فقهه السياسي] حيث يقول‪" :‬الدين والملك توأمان؛ والدين أصل؛ والسلطان‬

‫حارس؛ وما ال أصل له فمهدوم؛ وما ال حارس له فضائع) الغزالي؛ المرجع السابق؛ ص‪99‬‬

‫ولهذا فال غرابة أن يعتبر بعض أئمة الفقه السياسي – كالجرجاني] ‪ -‬إقامة الدولة من أعظم مقاصد الدين‪،‬‬

‫فيقول "نصب اإلمام من أتم مصالح المسلمين وأعظم مقاصد الدين"؛ والى هذه النتيجة تقرر عند اإلمام‬

‫الشاطبي وغيره من المقاصديين إلى أن السلطة السياسية ضرورة من ضرورات الدين وأنها أي (اإلمامة)‬

‫أصل مقطوع به ال يفتقر في صحته؛ ومالءمته لتصرفات الشارع إلى شاهد ) الشاطبي؛ االعتصام؛ ص‪74‬‬

‫‪.‬مما يعني اعتبار تأسيس الدولة في اإلسالم أحد مقاصد الشريعة‬

‫وبهذا يجب االهتمام بالقواعد المقاصدية بغرض ضبط] السلطة السياسية بضوابط أصول الشريعة‪ ،‬ومن ثم‬

‫التأصيل السياسي للمصلحة العامة متمثلة في إقامة أمة قوية مرهوبة الجانب مطمئنة البال‪ ،‬وهذا يستلزم]‬

‫من والة األمور سن قوانين وإقامة جهاز تنفيذي يوكل إليه حمل الناس بالرغبة والرهبة على رعاية‬

‫مصالح األمة باعتبارها شخصية معنوية‪ ،‬وطريقة ذلك ما حدده ابن عاشور] في قوله‪" :‬وذلك بأن نتخيل‬

‫األمة اإلسالمية في صورة الفرد الواحد من المسلمين فنعرض أحوالها على األحكام الشرعية كما تعرض‬

‫أحوال الفرد‪ ،‬ويذكر] لذلك مثاال يجب االنتباه له عند النظر في األحوال العامة االجتماعية لألمة يتمثل في‬

‫باب الرخصة الشرعية‪ ،‬فيذكر] إن الفقهاء إنما فرضوا الرخص في خصوص أحوال األفراد؛ ولم يعرجوا‬

‫على إن مجموع األمة قد تعتريه مشاق اجتماعية تجعله بحاجة إلى الرخصة كما هو الحال في القول بسد‬

‫الذرائع ورعي المصالح المرسلة في تعلقها بمجموع األمة) الطاهر بن عاشور؛ المرجع السابق؛ ص‪293‬‬

‫حفظ دين الدولة وحماية األخالق العامة غاية ومقصود المجتمع اإلسالمي ‪1-‬‬

‫‪132‬‬
‫تحدث الفقهاء القدامى والمحدثون كثيرا عن حماية الدين وحوزة اإلسالم وبيضته كمجاز عن أمته‪ ،‬حيث‬

‫شبهت ببيضة الطائر في حرص وليّها على حفظها) طارق الشامخي؛ األمن الجماعي اإلسالمي‪ :‬مقاربة‬

‫مقاصدية‬

‫‪(22-6-2015 ) http://chamkhi.maktoobblog.com/765398/ 7‬‬

‫وهو ما يشير بلغة العصر إلى األمن القومي‪ ،‬وقد عرفها العالمة ابن عاشور] بقوله‪ " :‬وحماية البيضة هو‬

‫حفظ دين األمة اإلسالمية من اعتداء ع ّدوها عليها‪ ،‬وحفظ بالد اإلسالم من أن ينتزع ع ّدوها قطعة منها‪ ،‬أو‬

‫»…يتسرّب إليها؛ وهذا الدفاع من أوّل أعمال الحكومة اإلسالمية‬

‫ويدرج ابن عاشور] مسألة حفظ البيضة أو األمن القومي ضمن المقصد العام لحفظ الدين بالنسبة لعموم‬

‫األمة‪ ،‬بمعنى دفع كل ما من شأنه أن ينقض أصول الدين القطعية‪ ،‬ويدخل في ذلك حماية البيضة والذب‬

‫‪..‬عن الحوزة اإلسالمية‪ ،‬بإبقاء وسائل تلقي الدين من األمة حاضرها وآتيها‬

‫وفي الشريعة تكون السلطة الحاكمة بمختلف مؤسساتها] ملزمة بحفظ دين عموم األمة من خالل حراسته‬

‫وإقامة شعائره وليس مجرد احترامه؛ ودليل مراعاة حفظ دين األمة تشريع أحكام العبادات والشعائر التي‬

‫تؤدى جماعيا‪ ،‬كصالة الجمعة والجماعات والعيدين ومناسك الحج‪ ،‬حتى يستشعر] الجميع الرباط] العقائدي‬

‫والعبادي الذي يجمعهم ويوحدهم‪ .‬وجعل األمر بالمعروف] والنهي عن المنكر من الفروض الكفائية ليظل‬

‫هناك مدافعون عن القيم األساسية للمجتمع فال ينتشر الفساد واالنحالل ومن ثم فال يستحكم؛ مما يصعب‬

‫‪.‬معه العالج‬

‫كما جعل الشارع طلب العلم المتعلق بالعقيدة والعبادة واألخالق] فرضا عينيا باعتباره وسيلة لحسن‬

‫التعبدكمقصد من مقاصد الشريعة السامية والغائية عند من يرى عدم انحصار] المقاصد الضرورية في‬

‫‪.‬الكليات الخمس‬

‫‪133‬‬
‫أما األخالق كقيم ضابطة للسلوك الفردي والجماعي فيكفي للتدليل على أنها مقصود للشارع في تشريع‬

‫أحكامه وأنها مقصد عام تهدف إليه قوله عليه الصالة والسالم‪" :‬إنما بعثت ألتمم مكارم األخالق"‪ ،‬مما‬

‫يجعلها ذات أهمية محورية في كل أحكام الشريعةكالتزام الصدق في المعاملة مع اآلخر غير المسلم خاصة‬

‫معاهدات حسن الجوار] معهم‪ ،‬وعقود تأشيرة الدخول إلى ديارهم وااللتزام باألخالق] اإلسالمية في التعامل‬

‫معهم في األحوال الشخصية والمالية‪ ،‬وبهذا يتحقق مقصود الشارع ‪ -‬حسب تعبير الطاهر ابن عاشور ‪-‬‬

‫حتى تكون األمة اإلسالمية مرغوبا في االندماج فيها أو في التقرب منها؛ لما رأوه من حسن أخالق في‬

‫‪.‬التعايش مع أفرادها أثمر بهجة منظر للمجتمع اإلسالمي في مرأى بقية األمم‬

‫هذا ومن المناسب في هذا المقام اإلشارة إلى أن القواعد التشريعية والقواعد الخلقية في اإلسالم؛ جميعها‬

‫واردة في صيغة األمر في القرآن الكريم ال يختلف بعضها عن بعض في مفاهيمها وال في وظائفها؛ وال‬

‫في آثارها ألن القاعدة الخلقية إن هي إال قاعدة تشريعية‬

‫وعلى هذا فإن حفظ دين األمة؛ وحماية عقول أبنائها وفكرها] من االنحراف] والحفاظ على حياة اإلنسان‬

‫ماديا ومعنويا؛ وصيانة األعراض والحرمات من االنتهاك المؤدي إلى اختالط النسل‪ ،‬وصيانة األموال من‬

‫اإلتالف أو الضياع في أغراض غير مشروعة‪ ،‬والعمل على تنميتها واستثمارها‪ ]،‬هذه جميعا ً نعم ومصالح‬

‫‪.‬يتم بها بناء الحياة وعمارة الدنيا‬

‫فعلى سبيل المثال يعتبر الجهاد في فكر] جماعات العنف غاية وليس وسيلة‪ ،‬فبعضهم يريد الجهاد من اجل‬

‫الشهادة فحسب ولو على حساب األبرياء ممن ليسوا أهل قتال من األطفال والنساء والشيوخ ورجال األمن‬

‫من خالل القتل والتفجير بدعوى التترس وإهدار النفس لمصلحة تطبيق الشريعة) د‪ .‬عثمان عبد الرحيم؛‬

‫جماعات العنف ومقاصد التشريع؛ مقالة على األنترنت موقع الوحدة اإلسالمية‬

‫‪134‬‬
‫إلى غير ذلك من الصور] والمظاهر] التي يمارسها] أهل العنف والغلو وبعضهم يريد الجهاد حتى يظل‬

‫الجهاد ماضيا غير معطل؛ ولو على حساب األمة ومكتسباتها] وعهودها وأهل ذمتها؛ مع أن النصوص‬

‫‪،‬الشرعية كتابا وسنة تقرر وبكل وضوح إن الجهاد وسيلة مقصدية لحفظ الدين من العدم إلعالء كلمة هللا‬

‫قاعدة مقصد تحقيق الوحدة اإلسالمية ‪2-‬‬

‫أول مقصد من مقاصد األحكام السلطانية توخي تحقيق الوحدة اإلسالمية؛ فهي مقصد من المقاصد الكبرى‬

‫أن هذا المفهوم مقتبس من توحيد هللا عز وجل‪َّ ،‬‬


‫وأن‬ ‫ك َّ‬
‫على مستوى األمة في التشريع اإلسالم ِّي‪ ،‬وال ش َّ‬

‫سورة‬ ‫هذه األ َّمة أ َّمة توحيد واتحاد‪ ،‬واقرأ] قوله تعالى(إِنَّ َه ِذ ِه أُ َّمتُ ُك ْم أُ َّمةً َو ِ‬
‫اح َدةً َوأَنَا َربُّ ُكمفَا ْعبُدُون)‬

‫األنبياء‪ :‬اآلية ‪92‬‬

‫ففلسفة المقاصد تنطوي على أحكام تتناسب وتحقيق مقصود الشارع من خلقهم إخوة متعاونين‬

‫متحابينإن األزمة الحقيقية التي يمر بها الفكر السياسي اإلسالمي في عصورنا الراهنة هي أزمة‬

‫وعي بالدور] الحضاري لألمة التي أراد هللا – عز وجل‪ -‬أن تكون شاهدة على كل األمم وفي] كل‬

‫س تَأْ ُمرُونَ بِا ْل َم ْع ُر ِ‬


‫وف َوتَ ْن َه ْونَ ع َِن‬ ‫العصوريقول] الحق تبارك وتعالى] ( ُك ْنتُ ْم َخ ْي َر أُ َّم ٍة أُ ْخ ِر َجتْ لِلنَّا ِ‬

‫ا ْل ُم ْن َك ِر َوتُؤْ ِمنُونَ بِاهَّلل ِ) سورة آل عمران‪110:‬وقال سبحانه( َو َك َذلِكَ َج َع ْلنَا ُك ْ‪‰‬م أُ َّمةً َو َ‬
‫سطا ً لِتَ ُكونُوا‬
‫(سورة البقرة ‪143‬‬
‫سو ُل َعلَ ْي ُك ْم َ‬
‫ش ِهيداً‪..‬‬ ‫ش َهدَا َء َعلَى النَّا ِ‬
‫س َويَ ُكونَ ال َّر ُ‬ ‫ُ‬

‫فالخيرية التي ُوصفت بها األمة إنما هي معلّلة بالدور الذي يجب أن تؤديه لتلك المجتمعات‬

‫األرضية من أمر بالمعروف] بكل ما يشمله هذا المفهوم‪ ،‬وكذلك] النهي عن المنكر بنفس الشمول‬

‫أيضاً‪ ،‬وهذا المعنى الزائد عن الوصف هو من أهم األسس في شهودنا] الحضاري على األمم‪ ،‬وقد‬

‫نبه الخليفة عمر ‪-‬رضي هللا عنه‪ -‬على حقيقة هذا المفهوم الشامل الذي يتعدى األحكام الفردية إلى‬

‫الممارسات الحياتية المختلفة إلى الهيئات الخارجية للناس‪ ،‬لما قال‪" :‬يأيها الناس‪ ،‬من سره أن‬

‫‪135‬‬
‫يكون من تلك األمة فليؤد] شرط هللا منها)د‪/‬مسفر بن علي القحطاني؛ يقظة الوعي الحضاري‪..‬‬

‫هل يُنهي زمن الغفوة؟؛ على موقع اإلسالم اليوم بتاريخ األربعاء ‪04/10/2006‬‬

‫ورغم أهمية مقصد الوحدة إال أنه ظل غائبا عن منظومة األحكام السلطانية‪ ،‬إذ ال يوجد في حدود المراجع‬

‫المستقرأة من القدامى أومن المعاصرين من نبه صراحة إلى مقصد الشريعة في أن تتحول الدولة أو األمة‬

‫اإلسالمية إلى قوة عظمى‪ ،‬مثلما فعل المفكر ابن عاشور] رحمه اللَّه‪ ،‬فقد عقد فصالً خاصا في كتابه‬

‫«مقاصد الشريعة» عنونه بـ «مقصد الشريعة من نظام األمة أن تكون قوية مرهوبة الجانب مطمئنة‬

‫البال» وقد عبر عن ذلك في موضع آخر بـ «انتظام أمر األمة وجلب الصالح إليها‪ ،‬ودفع] الضر والفساد‬

‫»عنها‬

‫إشارة إلى دور االنفعال المتبادل ما بين مختلف مكونات األ ّمة لجلب الصالح العام‪ ،‬وإحقاق الشهود]‬

‫الحضاري على العالمين‪ ،‬لذلك نجد الطاهر بن عاشور يدعو في مقاصده إلى ضرورة رعاية مقصد‬

‫الشريعة من نظام األمة ووحدتها] وفي هذا يقول‪" :‬إننا بحاجة إلى علماء أهل نظر سديد في فقه الشريعة‬

‫وتمكن من معرفة مقاصدها؛ وخبرة بمواضع] الحاجة في األمة ومقدرة على إمدادها بالمعالجة الشرعية؛‬

‫الستبقاء عظمتها واسترفاء خروقها] ووضع الهناء بمواضع] النقب من أديمها )الطاهر بن عاشور؛ المرجع‬

‫نفسه؛ ص‪294‬‬

‫مقصد حفظ نظام األمة كقيد على السلطة ‪3:‬‬

‫رغم محورية قاعدة االستدالل بحفظ النظام ودورها الها ّم في تحديد موارد االستدالل بها ومركزيتها في‬

‫منظومة الفقه اإلسالمي وأصوله ومقاصده و قوانينه سعة وضيقاً؛ إال أنها بقيت مرسلة إرسال المسلّمات؛‬

‫ولم تشتغل بال الفقهاء وعلماء األصول والمقاصد] كما شغلتهم سائر] القواعد الفقهية واألصولية والمقاصدية‬

‫من حيث تأصيلها و مجاالت استثمارها] وبيان مستندها‪ ،‬مما يوحي أن الفقهاء القدامى كانوا يعتبرون حسن‬

‫حفظ النظام كامن في الكليات الخمس ومن ثم فهو مدرك من المدركات القطعية والمقررات] العقلية‬

‫‪136‬‬
‫الوجدانية المستغنية عن البرهان‪ ،‬مما يجعلها في مصاف القضايا الضرورية التي ال يش ّكك أحد في بداهتها‬

‫وال يتج ّشم] عناء االستدالل عليها‪ ،‬ألن العقل يدرك حُسن حفظ النظام وقبح اإلخالل به؛ وعليه فإذا ثبت‬

‫اعتبار حفظ النظام العام مقصدا ضروريا من حيث أثره على الحياة فان دليل إثباته مستمد من أدلة إثبات‬

‫الكليات الخمس التي اتفق الشاطبي] وغيره على اإلجماع على رعايتها فقال‪" :‬اتفقت األمة بل سائر الملل؛‬

‫على أن الشريعة وضعت للمحافظة على الضروريات] الخمس؛ وهي الدين والنفس والنسل والمال والعقل‪،‬‬

‫وعلمها عند األمة كالضروري؛ ولم يثبت لنا ذلك بدليل معين؛ وال شهد لنا أصل معين يمتاز برجوعها‬

‫إليه؛ بل علمت مال ءمتها للتشريع] بمجموع أدلة ال تنحصر في باب واحد)الشاطبي؛ الموافقات؛ ج‪1‬؛ ص‬

‫‪37.‬‬

‫وهو ما يعبر عنه قانونا] بالنظام العام المجسد ألهداف الجماعة في ظل القيم واألصول التي يؤمن بها أفراد‬

‫المجتمع؛ وهو ما يمكن أن نجد له تخريجا مقابال في منظومة مقاصد الشريعة على مستوى األمة وهو‬

‫مقصد حفظ نظام األمة؛ ويعتبر] المفكر المقاصدي] ابن عاشور أول المنظرين لفكرة مقاصدية النظام العام‬

‫في منظومة مقاصد الشريعة على مستوى الدولة بحيث تشكل مقصدا ضروريا في مباحث القانون العام‬

‫اإلسالمي أو فقه الدولة في الشريعة اإلسالمية؛ حيث يقول‪" :‬إذا نحن استقرينا موارد الشريعة الدالة على‬

‫مقاصدها من التشريع استبان لنا من كليات دالئلها ومن جزئياتها المستقرة أن المقصد العام من التشريع‬

‫فيها هو حفظ نظام األمة واستدامة صالحه بصالح المهيمن عليه؛ وهو نوع اإلنسان‪ "...‬ثم يقول بعد‬

‫استعراض ستة عشرة آية من القرآن‪" :‬ومن عموم هذه األدلة حصل لنا اليقين بأن الشريعة متطلبة لجلب‬

‫المصالح ودرأ المفاسد معتبرا ذلك قاعدة كلية ومقصدا] أعظما"‪ ...‬ثم يقول‪" :‬وقد استشعر] الفقهاء في الدين‬

‫كلهم هذا المعنى في خصوص صالح األفراد‪ ،‬ولم يتطرقوا] إلى بيانه وإثباته في صالح المجموع العام؛‬

‫ولكنهم ال ينكر أحد منهم أنه إذا كان صالح حال األفراد وانتظام أمورهم مقصد الشريعة؛ فان صالح‬

‫المجموع وانتظام] أمر الجامعة أسمى وأعظم‪ ...‬وهل يقصد إصالح البعض إال إلصالح الكلوقد] خصص‬

‫رحمة هللا عليه كتابا مستقال ألصول النظام االجتماعي في اإلسالم تحدث فيه بإسهاب عن أصول اإلصالح‬

‫‪137‬‬
‫االجتماعي؛ حيث أكد على أهمية مقصد حفظ نظام األمة وأن "مراد هللا في األديان كلها؛ منذ النشأة إلى‬

‫ختم الرسالة واحد؛ وهو حفظ نظام العالم وصالح أحوال أهله )الطاهر بن عاشور؛ مقاصد الشريعة؛ ص‬

‫‪190‬‬

‫ان جماع مقاصد الشريعة؛ بل أنها المقصد العام الجامع لكل التكاليف الشرعية؛ والذي ينحل إلى مقاصد‬

‫كلية تؤدي إليه؛ درج العلماء إلى تقسيمها إلى ثالثة أنواع‪ :‬ضرورية البد منها في قيام مصالح الدين‬

‫والدنيا؛ وحاجية يفتقر في التوسعة ورفع] الضيق؛ وتحسينية يلزم األخذ بها من باب محاسن العادات؛‬

‫وتنحل هذه المقاصد الكلية المتفرعة عن المقصد العام بدورها] إلى مقاصد جزئية وفرعية وهي المعروفة‬

‫بعلل األحكام التي تنتهي كلها إلى تحقيق المقصد العام كما حدده اإلمام الطاهر بن عاشور"‪ ].‬و مما قرره‬

‫عالل الفاسي في هذا الصدد أن المقصد العام للشريعة اإلسالمية هو"عمارة األرض وحفظ نظام التعايش‬

‫فيها وصالحها بصالح المستخلفين فيها وقيامهم بما كلفوا به من عدل واستقامة ومن صالح في العقل وفي]‬

‫العمل وإصالح في األرض واستنباط لخيراتها وتدبير] لمنافع الجميعوذلك] إنما يكون بتحصيل] المصالح‬

‫واجتناب المفاسد على حسب ما يتحقق به معنى المصلحة والمفسدة" عالل الفاسي؛ مقاصد الشريعة‬

‫ومكارمها؛ دار البيضاء؛ مكتبة الوحدة العربية؛ دون تاريخ نشر؛ ص‪41‬‬

‫‪.‬وهو في ذلك يسير على خطى اإلمام ابن عاشور] في تقرير مقاصدية النظام العام‬

‫لقد أبانت كتابات ابن عاشور] والفاسي أن هنالك مقاصد كلية خاصة بمصالح األمة وعلى رأسها الحرية‬

‫والمساواة والعدل وحفظ نظام األمة وتحقيق وحدتها‪ .‬ومن اآلثار التي تدلل على مقاصدية حفظ النظام العام‬

‫الشرعي مسارعة الصحابة‪ -‬رضوان هللا عليهم‪ -‬إلى مبايعة أبي بكر الصديق] ‪-‬رضي] هللا عنه‪ ،-‬فقد كان‬

‫مراعاة لمقصد شرعي أال وهو حفظ نظام] الدولة والحفاظ على هيبتها ووحدتها والعمل على استمرارها]‬

‫‪.‬والقيام بدورها في الدعوة إلى دين هللا‬

‫‪138‬‬
‫ولعل من بين أهم ما يمكن االستشهاد به في إثبات مقصدية حفظ النظام من جانب ما يحفظه من العدم‪،‬‬

‫قضية إسقاط حد الحرابة بالتوبة قبل القبض عليه‪ ،‬بأن ألقى السالح وترك ما هو عليه من المحاربة وأتى‬

‫للخليفة طائعا نادما تائبا؛ قبل أن يقدر عليهففي ذلك إرشاد من الشارع إلى والة األمر أن مقصوده من‬

‫إسقاط الحد هو حفظ النظام بوقف مصدر] اإلخالل والتهديد؛ فمتى توقف] بإرادته وتحقق الحفظ دون تدخل‬

‫الدولة بوسائل القهر واإلكراه سقط الحد إرشادا منه إلى أهمية استتباب النظام وعلو مكانته في االعتبار‬

‫الشرعي ولو بإسقاط تنفيذ حد الحرابة المتفق عليه؛ فال يصار إلى إجراءات المتابعة فيها ألن درء المفاسد‬

‫‪.‬مقدم على جلب المصالح‬

‫قاعدة مقصدية شرعية السلطة الحاكمة(ارادة الشعوب فى اختيار من يحكمها ) ‪4-‬‬

‫إن الوصول] إلى السلطة – على أهميته ‪ -‬ليس وصوال إلى الغاية؛ ومن ثم كان البد من ضبط آليات‬

‫الوصول إلى السلطة بالطرق السلمية الرضائية حيث يتم إشراك الشعب في اختيار ممثليه؛ وهو ما نجده‬

‫مغيبا ومهمال في كتب األحكام السلطانية في فقهنا السياسي‪ ،‬فمجال طرق التعبير عن اإلرادة العامة‬

‫‪.‬ضعيف جدا‪ ،‬ضاعت فيه األولويات] الشرعية‬

‫ومما زاد في ضعف الفقه السياسي] في مجال شرعية السلطة عدم اعتباره للبعد المقاصدي في االجتهاد‬

‫السياسي في مشروعية ما جاد به الغرب الديمقراطي من ميكانيزمات كيفية الوصول] للسلطة؛ ومن هذا‬

‫القبيل موقف اإلسالميين من الديمقراطية كوسيلة لشرعية السلطة؛ بين مكفر لها؛ ومنفر منها؛ ومؤطر] لها‬

‫فقد ظل السؤال‪" :‬هل قيم اإلسالم تنسجم مع مبادئ الديمقراطية"؟ يتردد صداه عقودا من الزمان‪،‬‬

‫وضاعت جهود علمية وطاقات ذهنية كثيرة في نقاشات لفظية ال تقدم وال تؤخر‪ ،‬مثل اإللحاح على‬

‫استعمال مصطلح "الشورى" اإلسالمي بدال من مصطلح "الديمقراطية"‪ ،‬وكأنهما] خطان ال يلتقيان‪ ،‬مما‬

‫يدل على عجز عن تفكيك المبدأ الديمقراطي] في مظهره القيمي وصيغه اإلجرائية‪ ،‬وهو عجز مصدره‬

‫‪139‬‬
‫غياب البعد المقاصدي) ينظر‪ :‬د‪ .‬محمد سليم العوا؛ في النظام السياسي للدولة اإلسالمية؛ ص ‪181‬؛‬

‫الشيخ الغنوشي؛ الحريات العامة في الدولة اإلسالمية؛ ج‪1‬؛ ص‪45‬‬

‫فالديمقراطية في أصلها ومقصودها] أنها وسيلة للعدل ومنع االستبداد ولترشيد تسيير الشؤون العامة؛‬

‫وسواء سمي ذلك ديمقراطية أم شورى] فالعبرة بالمقاصد والجواهر] ال بالوسائل والظواهر؛] إذ رغم‬

‫عورات الديمقراطية حتى عند أهلها إال أنها تبقى النظام األمثل للحيلولة دون وقوع] الناس في فرائس‬

‫الطغيان واالستبداد واالستئثار بالسلطة والثروة) د‪ .‬محمد سليم العوا؛ في النظام السياسي للدولة‬

‫اإلسالمية؛ ص ‪205‬‬

‫فهي أحسن الموجود؛ خصوصا] بعد عودة مظاهر] التأله البشري‪ ،‬وتسلط] اإلنسان على اإلنسان‪ ،‬تحت مظلة‬

‫‪.‬الدفاع عن حقوق اإلنسان‬

‫فرغم كثرة الدراسات المقارنة حول نظام الحكم في اإلسالم وطبيعته الدستورية؛ وهل هو نظام ديمقراطي]‬

‫أم ثيوقراطي‪ ،‬أم مزيج بينهما على نحو ما صاغه المودودي] في كتابه الحكومة اإلسالمية من خالل عبارة‬

‫الديمقراطية اإلسالمية؛ إال أنها بالرغم مما أكدته بعض تلك الدراسات من ذاتية النظام الدستوري]‬

‫اإلسالمي في فن الحكم وطرق ممارسة السلطة فيه؛ إال أنها كانت تبقى أفكا ًرا] ظرفية ممزوجة بواقع ما‬

‫عايشه فقهاء األحكام السلطانية؛ فال تعبر عن حقيقة الحكم اإلسالمي؛ ألن ببساطة كانت بعيدة عن مصادر‬

‫تول اهتماما كافيا لنظام الحكم في الحكومة النبوية ومقاصده؛ وال لحكومات‬
‫التأصيل والتخريج؛ فهي لم ِ‬

‫الخالفة الراشدة ومقاصدها؛ كونها كانت في الغالب تركز على مسألة الخالفة ومراسيمها] التطبيقية خالل‬

‫الحكم األموي] والعباسي؛ وهكذا أهملت طرق التعبير عن اإلرادة العامة في النظام الدستوري] اإلسالمي؛‬

‫حتى قال الشهرستاني‪" :‬ما سل سيف على قاعدة دينية مثل ما سل على اإلمامة في كل زمان" د‪ .‬هاشم‬

‫يحي المالح؛ حكومة الرسول – صلى هللا عليه وسلم‪-‬؛ دار الكتب العلمية؛ بيروت؛ ط‪1‬؛ سنة ‪2007‬؛‬

‫ص‪3‬‬

‫‪140‬‬
‫كتعبير عن انشغال الكافة حول مسألة الخالفة وانصرافهم] عن مسألة فرض النظام والوفاق‬

‫ومن ثم فانه يبدو للباحث أن موضوع] التعبير عن شرعية السلطة هو أحد أهم الموضوعات التي أصبحت‬

‫لها األولوية في التفكير الدستوري والسياسي المعاصر؛ من خالل ضرورة إعادة بناء مصدر] السيادة‬

‫الفعلية في الفقه اإلسالمي‪ ،‬وصوال إلى تحديد الطرق والوسائل] المعبرة بحق وصدق] عن اإلرادة العامة في‬

‫المجتمع السياسي] اإلسالمي؛ ألن كل ما كتب حول مفهوم السيادة أو الحاكمية؛ هو في الواقع نوع من‬

‫التنظير البعيد عن الواقع السياسي‪ ،‬وكأن بمنظِّري ومقعِّدي نظرية الحاكمية في الفقه اإلسالمي في‬

‫معرض الرد والدفاع] عن أصالة النظرية السياسية اإلسالمية؛ فكانوا] في تنظيرهم بمعزل عن صاحب‬

‫السيادة الفعلي في دنيا الناس‬

‫وهو يدفع الباحث إلى التساؤل عن‪ :‬ما مدى حاكمية ارادة الشعوب وطرق] التعبير عنها وحدودها] في الفقه‬

‫الدستوري] اإلسالمي؛ من خالل تجربة الحكومة النبوية والخالفة الراشدة؛ وهذا ما ال يمكن اإلجابة عنه‬

‫دون النظر المقاصدي الحصيف‪ ].‬فبمنظور] مقاصد الشريعة فانه رغم عدم وجود] نصوص صريحة في‬

‫وجوب تحكيم رأي األغلبية إال أن هناك من اإلشارات الكثيرة في السيرة النبوية ما يدل على أخذ النبي‬

‫صلى هللا عليه وسلم بحكمها؛ كما في استشارة القوم في مالقاة العدو في غزوة بدر؛ و استشارته صلى هللا‬

‫عليه وسلم في الخروج لغزوة أحد؛ وكذا في مالطفة ومصالحة قبيلة غطفان بثلث ثمار المدينة في غزوة‬

‫األحزاب كسرا للحصار] المضروب عليهم‪ .‬فكلها إشارات في وجوب تحكيم رأي األغلبية عند التعارض‬

‫والتزاحم من باب الترجيح ال من باب أن قولهم] هو الصواب؛ لقوله عليه الصالة والسالم‪" :‬عليكم بالسواد‬

‫األعظم) الريسوني؛ الشورى في معركة البناء؛ ط‪1‬؛ ‪208‬؛ الناشر المعهد العالمي للفكر اإلسالمي؛ ص‬

‫‪ 95‬وص‪98‬‬

‫بل إن فكرة مبدأ األغلبية نجد له تطبيقا عمليا من خالل نظام البيعة كأحد أهم وسائل التعبير عن اإلرادة‬

‫العامة في الفقه السياسي اإلسالمي؛ حيث يعتبره الغالبية العظمى من الفقهاء‪ -‬باستثناء الشيعة‪ -‬وسيلة إسناد‬

‫‪141‬‬
‫السلطة إلى الحاكم؛ وسند مباشرة السيادة نيابة عن األمة؛ إال انه لم يلق عناية كبيرة من جانبه المقاصدي‬

‫من حيث تطويره وتنويعه تنوع التنظيمات السياسية المعاصرة‪ ،‬يقول ابن خلدون‪" :‬واعلم أن البيعة هي‬

‫العهد على الطاعة؛ كأن المبايع يعاهد أميره على أن يسلم له في أمر نفسه؛ وأمور المسلمين؛ ال ينازعه في‬

‫شيء من ذلك؛ ويطيعه فيما يكلفه به من األمر على المنشط والمكره؛ وكانوا] إذا بايعوا األمير وعقدوا‬

‫عهده جعلوا أيديهم في يده تأكيدا للعهد ) ينظر ابن خلدون؛ المقدمة؛ ص ‪209‬‬

‫فدل ذلك على أن البيعة عقد رضائي] بين األمة صاحبة اإلرادة العامة؛ وبين الحاكم الذي يلتزم به وفقا‬

‫للكتاب والسنة وصالح األمةولعل المقصد الكبير هو إخضاع الحاكم لسلطان الشريعة؛‬

‫تنظيم السلطة وشكل نظام الحكم‪5- ‰‬‬

‫بالعودة إلى نصوص الشرع الحكيم في مجال تنظيم عمل السلطة‪ ،‬فقد جاءت اآليات القرآنية صريحة على‬

‫تقييد تصرّفات السلطة التنفيذية بالشورى وعدم اطالقها‬

‫آل عمران‪ :‬آية ‪َ ( 159‬وشَا ِو ْر ُه ْم فِي األَ ْم ِر) وفي] قوله تعالى‬

‫الشورى‪ :‬آية‪َ ( 38‬وأَ ْم ُر ُه ْم ش َ‬


‫ُورى بَ ْينَ ُه ْم)‬

‫وجاءت السيرة النبوية مطبّقة لذلك على وجه قطعي‪ ،‬إذ لم يكن صلّى هللا عليه وسلّم يقطع برأي في الشأن‬

‫السياسي إالّ عن مشورة من أصحابه‪ ،‬وكثيرا] ما كان يتص ّرف] بمقتضى رأيهم المخالف لرأيه‪ ،‬والتزم] ذلك‬

‫النهج الخلفاء الراشدون في عموم تص ّرفاتهم‪ ،‬بحيث يتقرر معه أن الزمن الذي منح فيه الفقه السياسي‬

‫‪142‬‬
‫لمنصب رئيس الدولة صالحيات واسعة هو بداية االستبداد] والملك العضوض‪ ،‬حيث أنتج ذلك المستبد في‬

‫‪.‬الحكم دون مشورة األ ّمة‬

‫فإذا كان فقه األحكام السلطانية قد أحاط منصب اإلمامة‪ -‬السلطة‪ -‬بهالة من المهابة والتقدير؛ بما كلفها به‬

‫من مهمة حراسة الدين؛ وسياسة الدنيا؛ وما فرض في حق متوليها من الطاعة والبيعة إلى حد تقديس‪ ،‬فإن‬

‫الفقه السياسي قد ضخم من ذلك المنصب إلى ما يغري الرئيس ألن يمارس االستبداد؛ متجاوزا بذلك‬

‫مقصود الشارع من نصب اإلمام ووالة األمور؛ والمتمثل في مقصد استتباب وحدة األ ّمة وحفظ نظامها‬

‫على أساس العدل المنتج للعمران؛ وتلك حقيقة يلحظها كل من درس الموروث] الفقهي من كتب األحكام‬

‫السلطانية والسياسة الشرعية‪ ،‬ففيها تضخيم كبير لمؤسّسة رئاسة الدولة‪ ،‬سواء من حيث شروط]‬

‫ومواصفات متوليهاأو من حيث االختصاصات] التي توكل إليه‪ ،‬كل ذلك على حساب تنظيم مبدأ الشورى]‬

‫ومؤسستها في مؤسسات رسمية كالبرلمان في تجربته الغربية؛حيث يجتمع نواب الشعب للتعبير عن‬

‫إرادته العامة وتمثيله في إدارة وسير شؤون الدولة؛ ومن ثم فهو المعبر عن المشاركة السياسية للشعب؛‬

‫لما يضطلع به من مهام تشريعية وأخرى] رقابية فضال عن مهامه المالية؛ وقبل هذا وذاك يترتب على هذا‬

‫أن يعتبر بحق عصب النظام النيابي في كل دولة ومستودع الفكر والخبرة؛ ومصدر قوة الدفع فيها؛ بسبب‬

‫مكانته العلية بين المؤسسات الدستورية في الدولة؛ ونظرة الشعب إليه وقد] استودعه وديعة التشريع؛‬

‫‪.‬وإقرار] السياسات ومساءلة الحكومة‬

‫وكذلك كان األمر أيضا بالنسبة لمسألة عزل اإلمام‪ ،‬حيث تعامل معها الفقه السياسي بحذر نظرا‬

‫للصالحيات الواسعة التي كان يتمتع بها‪ ،‬ومن ثم فقد كان تنظيره لمسالة العزل جاري مجرى التضييق]‬

‫البالغ‪ ،‬من خالل اشتراطات مش ّددة أوشكت أن تضفي على هذا المنصب صفة القداسة‪ ،‬الى حد اعتبار‬

‫مسألة إصابة الحاكم بمرض مفقد للعقل مسألة خالفية في عزل الحاكم‪ ،‬فإنه لكي يصبح سببا كافيا لعزله‬

‫غياب عقله مستديما ال تتخلّله إفاقة)( بيان مثال لذلك عند الفقهاء لقد ذهب‬
‫َ‬ ‫عن اإلمامة ينبغي أن يكون‬

‫الماوردي] إلى ّ‬
‫أن اإلمام إذا أصابه مرض يُفقده عقله بصفة مالزمة كالجنون والخبل فإنه لكي يصبح سببا‬

‫‪143‬‬
‫غياب عقل مستديما] ال تتخلّله إفاقة‪ ،‬أما إذا كان غيابا تتخلله إفاقة‬
‫َ‬ ‫كافيا لعزله عن اإلمامة ينبغي أن يكون‬

‫"فإن كان زمان الخبل أكثر من زمان اإلفاقة فهو] كالمستديم يُمنع من عقد اإلمامة واستدامتها‪ ،‬ويخرج‬

‫بحدوثه منها‪ ،‬وإن كان زمان اإلفاقة أكثر من زمان الخبل‪ ...‬فقيل يُمنع من استدامتها‪ ..‬وقيل ال يُمنع من‬

‫استدامة اإلمامة" الماوردي؛ األحكام السلطانية؛ المكتب اإلسالمي‪ ،‬بيروت ‪1996‬؛ ص ‪32‬‬

‫بيان رأى الباحث‪ :‬وأختلف مع ما ذهب اليه الماوردى‪ -‬رحمه هللا تعالى‪ -‬ألنه ما ذكره من احترازات‬

‫قاسية حول قضية العزل تكاد تضفى قداسة للحاكم وتأليها له وهى تعطل طاقات] خير أمة أخرجت للناس‬

‫هذه الطاقات المتجددة فى شبابها وشيوخها وكأن األمة عقمت أن تنجب مثله وفيه ترويج وتكريس‬

‫لخطيئة اإلستبداد] السياسى واإلستئثار] بالسلطة رغم الضعف والوهن ورغم انتفاء شروط اإلختيار‬

‫واإلجازة وفيه تفويت لمصلحة األمة فى تجديد عزمها لمواصلة رسالتها فى تعبيد الكون هلل سبحانه والذب‬

‫) عن بيضة اإلسالم‬

‫ومن مظاهر التش ّدد أيضا في عزل اإلمام ّ‬


‫أن العزل ال يت ّم إذا ما جُرحت عدالته‪ ،‬أو انحرفت عقيدته بتأويل‬

‫فاسد‬

‫ويبدو أن التش ّدد في عزل اإلمام على النحو السابق له أسباب لعل من أهمها التحسب لما قد يحدث عن‬

‫العزل من الفتنة التي تض ّر بمصلحة المسلمين عموما؛ ولهذا فقد نُظِّر وقُعِّد لنظرية العزل مقياس دقيق‬

‫مضبوط] بميزان المصلحة والمفسدة‪ ،‬فإذا ما كانت الفتنة الحاصلة منه أش ّد ضررا] من ضرر إخالل اإلمام‬

‫باألمانة فإنه ال يجوز‪ ،‬وإذا كان العزل يسبّب فتنة ضررها أق ّل مما يسببه البقاء على اإلمامة‪ ،‬فإن العزل‬

‫ولكن هذا المقياس على مشروعيته فإنّه آل أمره إلى شيء من التناسي‪ ،‬ويكاد] يكون قد استق ّر‬
‫ّ‬ ‫يكون جائزا‪.‬‬

‫الحال في الفقه السياسي على التشدد في العزل إلى ما يقارب المنع؛ مما يدل على أن الفقه السياسي‬

‫‪.‬اإلسالمي يشكو فقرا كبيرا وضعفا مخالّ‪ ،‬يدعو إلى المراجعة والنقد‬

‫‪144‬‬
‫ومن هذا المنطق أن الحاكم الذي ال يقوم بالتزاماته أو يخرج على حدودها] فليس له أن ينتظر] من الشعب‬

‫السمع والطاعة‪ ،‬وعليه أن يتنحى عن مركزه لمن هو أقدر منه على الحكم في حدود ما أنزل هللا‪ ،‬فإن لم‬

‫يتنح مختارا نحاه الشعب مكروها] واختار غيره‪ ،‬وهذا الذي عليه نصوص الشريعة الصريحة‪" :‬ال طاعة‬

‫لمخلوق في معصية الخالق‪ ،‬إنما الطاعة في المعروف"‪ ،‬ويقول الرسول عليه الصالة والسالم في والة‬

‫األمور‪" :‬من أمركم منهم بمعصية فال سمع له وال طاعة) أخرجه مسلم؛ الجامع الصحيح‪ ،‬كتاب اإلمارة؛‬

‫تحقيق فؤاد عبد الباقي؛ ج‪3‬؛ رقم ‪1839‬؛ ص ‪ .1429‬وينظر إلى هذه األقوال و الروايات؛ ابن سعد‪،‬‬

‫الطبقات الكبرى؛ ج‪3‬؛ ص ‪187‬‬

‫وبعد موت الرسول] عليه الصالة والسالم اختار المسلمون أبا بكر خليفة عليهم‪ ،‬فكانت أول خطبة يقولها‬

‫تطبيقا لهذه النصوص حيث يقول‪" :‬أيها الناس قد وليت عليكم ولست بخيركم؛ إن أحسنت فأعينوني] وإن‬

‫أسأت فقوموني‪ ،‬أطيعوني ما أطعت هللا ورسوله فإن عصيت هللا ورسوله فال طاعة لي عليكم"‪ .‬ولما ولي‬

‫عمر الفاروق رضي هللا عنه أمر المسلمين بعد أبي بكر رضي هللا عنه كان حريصا على إظهاره معاني‬

‫تلك النصوص وتثبيتها] في األذهان فخطب يوما قائال‪" :‬لو وددت أني وإياكم] في سفينة في لجة البحر‬

‫تذهب بنا شرقا وغربا؛ فلن يعجز الناس أن يولوا] رجال منهم فإن استقام اتبعوه‪ ،‬وان جنف قتلوه"‪ ،‬فقال‬

‫طلحة‪" :‬وما عليك لو قلت‪ :‬وإن عوج عزلوه؛ فقال‪ :‬ال القتل أنكل لمن بعـده‬

‫ولذا تجد بيننا من يتورع عن الوقوع] في أمور خالفية بسيطة جدا بالميزان الشرعي‪ ،‬لكنه ال يتورع] عن‬

‫ارتكاب موبقات سياسية بالمعيار الشرعي‪ ،‬مثل فرض نفسه قائدا أو رئيسا على قوم وهم له كارهون‪،‬‬

‫رغم أن النبي صلى هللا عليه وسلم] ع َّد من أشد الناس عذابا يوم القيامة (إمام قوم] وهم له كارهون ) رواه‬

‫الترمذي؛ أبواب الصالة؛ باب فيمن أم قوما وهم له كارهون؛ وصحح إسناده الشيخ أحمد شاكر؛ وقد‬

‫وردت أحاديث يعضد بعضها بعضا في الثبوت؛ يلعن فيها رسول هللا من أم قوما وهم له كارهون؛ ينظر‬

‫تعليقا مميزا على هذه األحاديث عند د‪ .‬الريسوني؛ الشورى في معركة البناء؛ ص ‪158‬‬

‫‪145‬‬
‫ولفظ "اإلمام"] في االصطالح النبوي] ليس إمام الصالة فقط‪ ،‬بل القائد السياسي] والعسكري] كذلك‪ ،‬ومثل‬

‫تولية شخص على قوم] وهو يجد أصلح منه‪ ،‬وهو ما اعتبره النبي صلى هللا عليه وسلم "خيانة هلل‬

‫ورسوله"‪ ،‬فقال صلى هللا عليه وسلم‪" :‬من ولي من أمر المسلمين شيئا‪ ،‬فولى] رجال وهو يجد من هو‬

‫أصلح للمسلمين منه فقد خان هللا ورسوله" رواه الحاكم‬

‫وما من شك أن التأمل في مقاصد القيم الديمقراطية التي أقرّها الفكر الدستوري] الغربي فيما يتعلّق‬

‫بضرورة الفصل بين السلطة واألشخاص الممارسين لها "رئاسة الدولة" من حيث اعتبار النيابة عن‬

‫الشعب والتداول على السلطة والرقابة والمحاسبة‪ ،‬وهي القيم التي يلتقي فيها الفقه السياسي الوضعي مع‬

‫ولكن الفقه السياسي الموروث] فيما أحدثه من تضخيم] للرئيس أ ّدى إلى هذا‬
‫ّ‬ ‫المبادئ السياسية اإلسالمية‪،‬‬

‫الوضع الذي عليه المسلمون في واقعهم] السياسي‪ ،‬وهو ما يدفع إلى مراجعة الفقه السياسي في مجال مكانة‬

‫مؤسسة رئاسة الدولة من خالل استبدالها] بفكرة الدولة كشخص معنوي] منفصل عن شخص الحاكم؛‬

‫كمجرد نائب عن األ ّمة تختاره بمحض إرادتها ليقوم وفقا إلرادتها بتنظيم] شؤون الحياة‪ ،‬وتراقبه في أداء‬

‫هذه األمانة‪ ،‬وتحاسبه عليها‪ ،‬وتعزله عنها إذا أخ ّل بشروط النيابة) يراجع حول هذا المعنى د‪ .‬يوسف‬

‫القرضاوي؛ من فقه الدولة في اإلسالم‪ 80 :‬وما بعدها‬

‫قاعدة مقصدية العدل أو "القضاء العادل ‪6-‬‬

‫من مقاصد القرآن والسنة إيجاب العدل وتحريم الظلم في كل المجاالت؛ العدل مع الرعية والعدل مع النفس‬

‫والعدل حتى مع األعداء‪ ،‬ومقصدها ليقوم الناس بالقسط؛ فالشريعة عدل هللا بين عباده‪ ،‬ورحمته بين خلقه‪،‬‬

‫ان)‬
‫س ِ‬ ‫وظله في أرضه وحكمته الدالة عليه؛ قال تعالى‪( :‬إِنَّ هّللا َ يَأْ ُم ُر بِا ْل َعد ِْل َو ِ‬
‫اإل ْح َ‬

‫س أَن ت َْح ُك ُمو ْا‬ ‫وقال عز وجل أيضا‪( :‬إِنَّ هّللا َ يَأْ ُم ُر ُك ْم أَن تُؤدُّو ْا األَ َمانَا ِ‬
‫ت إِلَى أَ ْهلِ َها َوإِ َذا َح َك ْمتُم بَيْنَ النَّا ِ‬

‫بِا ْل َعد ِْل)‬

‫شنَآنُ قَ ْو ٍم َعلَى أَالَّ تَ ْع ِدلُو ْا ا ْع ِدلُو ْا ه َُو أَ ْق َر ُ‬


‫ب لِلتَّ ْق َوى)‬ ‫وقال أيضا ‪َ (:‬والَ يَ ْج ِر َمنَّ ُك ْم َ‬
‫‪146‬‬
‫س ُك ْ‪‰‬م أَ ِو ا ْل َوالِ َد ْي ِن َواألَ ْق َربِينَ‬
‫ش َهدَاء هّلِل ِ َولَ ْو َعلَى أَنفُ ِ‬ ‫(يَا أَيُّ َها الَّ ِذينَ آ َمنُو ْا ُكونُو ْا قَ َّوا ِمينَ بِا ْلقِ ْ‬
‫س ِط ُ‬

‫‪ .‬فيستفاد من جملة هذه النصوص وغيرها أن المقصد من إرسال الرسل وإنزال الكتب أن يقوم الناس‬

‫بالقسط في حقوق هللا وحقوق] خلقه‬

‫فمن عدل عن الكتاب ق ِّوم] بالحديد على حد تعبير ابن تيميةفي سياسته الشرعية الذي اشتهر منها مقالته "إن‬

‫هللا ينصر الدولة العادلة وإن كانت كافرة‪ ،‬وال ينصر الدولة الظالمة وإن كانت مؤمنة" ابن تيمية؛‬

‫السياسة الشرعية؛ ص‪26‬‬

‫ومن بعده قرر تلميذه ابن القيم في طرقه الحكمية‪" :‬أن العدل هو المقصود من إرسال الرسل وإنزال الكتب‬

‫وأن السياسة العادلة جزء من الدين فإذا ظهرت أمارات العدل وأسفر وجهه بأي طريق] كان؛ فثم شرع هللا‬

‫ودينهأي] إرادته ومقصده؛)ابن القيم الجوزية؛ الطرق الحكمية؛ ص‪14‬‬

‫وإقامة العدل يكون بتطبيق] القانون وسيادته على الجميع فال عدل إذا تم التمييز بين المواطنين؛ فال فرق‬

‫بين حاكم ومحكوم بين قوي] وضعيف‪" :‬وأيم هللا لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها" فأساس‬

‫الشريعة العدل المستفاد من سيادة الشريعة على الجميع وكان جان جاك روسو يقول‪" :‬هذه هي المشكلة‬

‫الكبرى في السياسة‪ :‬إيجاد شكل من الحكم يضع القانون فوق اإلنسان" وبهذا التفكير استطاع] اإلنسان‬

‫الغربي أن يحقق العدل لنفسه في وطنه‪ ،‬رغم قصور قوانينه األرضية عن شريعة اإلسالم السماوية‪،‬‬

‫ورغم جوره في تعامله مع اآلخرين خارج حدود] أرض‪ .‬أما في تاريخ العرب والمسلمين وحاضرهم] فال‬

‫يزال الحاكم فوق] القانون ال يُسأل عما يُفعل حتى قيل انه ال يعدل في شيء مثل العدل في توزيع الظلم على‬

‫رعيتهوتجنبا] لهذا الظلم أو التعسف في استعمال السلطة ابتكر الفقه السياسي] ما عرف في النظم اإلسالمية‬

‫بديوان المظالم] المتخصص في المنازعات التي عجز عنها القضاة العاديون بسبب قوة أحد الخصوم لجاهه‬

‫أو ماله أو نفوذه‪ .‬فكانت عدالة قضاء المظالم توقفهم عند حدهم وتعتبر] أن أي اعتداء على الحريات‬

‫والحقوق هو من النظام العام الذي يجوز ألي احد أن يبلغ عنه القضاء اإلداري اإلسالمي ولهذا فال يحتاج‬

‫‪147‬‬
‫ناظر المظالم إلى شكوى] المتظلم وهذا ما يفهم من قوله عليه الصالة والسالم‪" :‬أبلغوني] حاجة من ال‬

‫يستطيع إبالغها؛ فانه من أبلغ ذا سلطان حاجة من ال يستطيع إبالغها ثبت هللا قدميه يوم تز ّل األقدام] )‬

‫وتطبيقا لذلك كان الرسول] يستمع لكل شكوى تأتيه من أي عامل من عماله؛ وبهذا الخصوص عزل العالء‬

‫بن الحضرمي عامله على البحرين نظرا لشكوى قدمها] وفد عبد القيس؛ وعين مكانه ابن سعيد واستوصاه‬

‫خيرا بعبد القيس؛ ينظر تفاصيل القصة كاملة عند د‪ .‬حمدي عبد المنعم؛ ديوان المظالم؛ ص‪ .53‬والحديث‬

‫أصله عند ابن سعد؛ الطبقات الكبرى؛ ج‪3‬؛ ص‪187‬‬

‫ومن ثم شكل قضاء المظالم وسيلة مقصدية هامة في تحقيق مقصد العدل بين السلطة وحقها في التنظيم‬

‫باإلكراه المنوط] بتحقيق المصلحة وبين حقوق األفراد وحرياتهم حتى في الظروف] االستثنائية من خالل‬

‫تركيزه على قاعدة التناسب بين اإلجراء المقيد للحرية أو المصادر لها وبين المصلحة العامة‪ ،‬فالضرورة‬

‫تقدر بقدرها؛ واالضطرار ال يسقط حق الغير؛ والضرر] يجب أن يزول ويرفع ولو كان ناشئا في حالة‬

‫الضرورة؛ ومن ثم يتقرر سبق الفقه اإلسالمي في تقرير حماية حقوق وحريات األفراد]‬

‫وتطبيقا لهذه السنة في تلقي شكاوي] المواطنين من والتهم] ومن عمال الدولة؛ كانت حكومات الدولة‬

‫الراشدة حافلة بالقضايا واألحكام والقرارات القضائية الصادرة ضد سلطة حفظ النظام حماية للحريات؛‬

‫نذكر منها مقولة أبي بكر الصديق‪" :‬الضعيف فيكم قوي] عندي حتى آخذ الحق له؛ والقوي فيكم ضعيف‬

‫عندي حتى آخذ الحق منه"؛ ومقولة الخليفة عمر لعماله ووالته على األمصار‪" ]:‬ما أرسلتكم] لتضربوا‬

‫أبشار الناس"‪ .‬ومن أشهر األقضية في حماية الحريات بما في ذلك حريات الموظفين ما روي من تعويض‬

‫الخليفة عمر لذلك الجندي الذي أكرهه قائده العسكري] في يوم شديد البرد على عبور نهر ليس به جسر؛‬

‫حتى يعرف] مدى إمكانية اجتياز الجيش له؛ فدخل الرجل فمات؛ فعوضه الخليفة باعتبار ذلك خطأ مرفقيا؛‬

‫وعزل القائد وقال‪" :‬ال تعمل لي عمال أبدا؛ وهو نوع من قضاء التعويض الذي كان يمارسه ناظر المظالم‬

‫في الدولة الراشدة‬

‫‪148‬‬
‫استثمار مبدأ الشورى في تفعيل سلطان األ ّمة ‪7- -‬‬

‫من قضايا الفقه السياسى التي تتطلب المراجعة الفقهية في الموروث السياسي] اإلسالمي؛ تهميش دور‬

‫األمة في ممارسة السيادة؛حيث تستبعد] األمة من مواقع االختيار] والقرار والمشاركة الفعلية‪ ،‬لدرجة انه‬

‫توجد في بعض المراجع عبارات استصغارية لدورها في اتخاذ القرار كنعتها بوصف العا ّمة والغوغاء‬

‫‪.‬والدهماء وأمثالها‬

‫الشورى قيمة أساسية في بناء دولة المشروعية؛ وتنظيمه واجب في مواطن النـزاع ومظان الصراع تجنبا‬

‫للفتن الحاثة للناس بقدر ما أحدثوا من فجور‪ ]،‬كما قال عمر بن عبد العزيز وذلك مما يرويه الطبري من‬

‫سيرته انه لما بويع له دعا عشرة من فقهاء المدينة فلما دخلوا عليه وجلسوا حمد هللا ثم قال‪" :‬إني دعوتكم]‬

‫ألمر تؤجرون عليه؛ وتكونوا] فيه أعوانا على الحق؛ ما أريد أن أقطع أمرا إال برأيكم أو رأي من حضر‬

‫منكم فان رأيتم أحدا يتعدى؛ أو بلغكم عن عامل ظالمة فأحرج هللا على من بلغه ذلك إال بلغني فخرجوا‬

‫يجزونه خيرا"‪ .‬يعلق د‪ .‬الريسوني] بأن ذلك فيه تنظيم الشورى] وإسنادها في مؤسسة نظامية تتكون من‬

‫عشرة مستشارين اختصاصاتها االجتهاد والمشاركة في الرأي؛ ومراقبة المجتمع وما يقع فيه من ظلم؛‬

‫ومراقبة عمل موظفي الدولة والتبليغ عن مظالمهم] ) أحمد الريسوني؛ الشورى في معركة البناء؛ ص‬

‫‪ 120‬ومات بعدها واإلمام الطبري؛ تاريخ األمم والملوك؛ ج‪7‬؛ ص‪61‬‬

‫ولهذا يسمي بعض الباحثين المعاصرين الحكومة اإلسالمية بحكومة الشورى؛ وشريعتها بشريعة‬

‫الشورى؛ تنبيها إلى أنها دولة الشورى] واالستشارة معا؛ لما يقوم به أهل الشورى] من مشاركة في تسيير‬

‫شؤون السلطة من خالل عقد البيعة الدستوريةفهم] يشكلون بحق مؤسسة دستورية قرآنية قائمة بذاتها‬

‫أوجبها هللا عز وجل فقال‪َ ( :‬وشَا ِو ْر ُه ْم فِي األَ ْم ِر فَإِ َذا َع َز ْمتَ فَت ََو َّك ْل َعلَى هّللا ِ)‪ ،‬ومتخصصة في استنباط] ما‬

‫عظم أمره وعجز عنه الحكام؛ يلجأ إليها الحاكم وجوبا] بحكم ما يتمتع به أهلها من علم ودراية وملكة فقهية‬

‫بأحكام اإلسالم؛ وفقه للواقع المعاش‪ .‬وألهمية هؤالء المستشارين] من أهل الشورى] ودورهم] الفعال في‬

‫‪149‬‬
‫توجيه السياسة العامة في الدولة أقدم الخليفة عمر بن الخطاب إلى منع كبار الصحابة من مغادرة عاصمة‬

‫الخالفة المدينة المنورة؛ حتى يرجع إليهم فيما أعضل عليه من مسائل خالفة طالبا للرأي ومشركا إياهم‬

‫مسؤولية الحكم‪ .‬ولذلك يجب أن يكون لكل دولة مسلمة هيئة شورية تضم صفوة األمة من العلماء وأهل‬

‫االختصاص في مختلف المجاالت التشريعية‪ .‬يلجأ إليهم تنفيذا لقوله تعالى‪َ ( :‬وإِ َذا َجاء ُه ْم أَ ْم ٌر ِّمنَ األَ ْم ِن أَ ِو‬

‫سو ِل َوإِلَى أُ ْولِي األَ ْم ِر ِم ْن ُه ْم لَ َعلِ َمهُ الَّ ِذينَ يَ ْ‬


‫ستَنبِطُونَهُ ِم ْن ُه ْم َولَ ْوالَ فَ ْ‬
‫ض ُل‬ ‫ف أَ َذاعُو ْا بِ ِه َولَ ْو َردُّوهُ إِلَى ال َّر ُ‬
‫ا ْل َخ ْو ِ‬

‫ش ْيطَانَ إِالَّ قَلِيالً) سورة النساء؛ آية ‪83‬‬


‫هّللا ِ َعلَ ْي ُك ْم َو َر ْح َمتُهُ الَتَّبَ ْعتُ ُم ال َّ‬

‫وتتمثل أمور األمن في مصالح وشؤون] األمة في وقت السلم في الظروف العادية‪ ،‬أما أمور الخوف(‬

‫فتتمثل في شؤون الجهاد والقتال في ظل الظروف] االستثنائية؛ ويشهد] لهذا المعنى ما ذكره اإلمام‬

‫الزمخشري] وغيره في تفسيرها " ولو ردوا وفوضوا تدبير] أمر السلم والحرب إلى الرسول حال حياته؛‬

‫والى أولي األمر أهل الحل والعقد لعلمها الذين يستنبطون تدبيرها وما يأتون منها وما يذرون بفطنتهم‬

‫وتجاربهم] ومعرفتهم بأمور] السلم ومقتضياتها والحرب ومكايدها"] ينظر الزمخشري؛] تفسير الكشاف؛ ج‪1‬؛‬

‫ص‪531‬‬

‫وباستثناء بعض المراجع التي تكيّف اإلمامة على أساس أنها عقد اجتماعي سياسي بين األمة وبين الحاكم‬

‫يصطلح عليه بعقد البيعة حيث يكون الحاكم نائب عن األ ّمة؛ وملتزم بتنفيذ إرادتها السياسية؛ فإن غالبية‬

‫أن الرأي الشائع في الفقه السياسي ّ‬


‫أن حق‬ ‫المراجع تهمش دور األمة في المشاركة السياسية‪ ،‬حيث نجد ّ‬

‫االختيار للرئيس الذي يُولّى عليها ليس بح ّ‬


‫ق عام لجميع أفرادها‪ ،‬بل هو ح ّ‬
‫ق مخوّل لعدد القليل من األفراد‬

‫قد ينتهي أحيانا إلى الفرد الواحد كما أشار إليه إمام الحرمين في قوله‪" :‬فإذا لم يُشترط اإلجماع في عقد‬

‫اإلمامة لم يثبت عدد معدود وال ح ّد محدود‪ ،‬فالوجه الحكم ّ‬


‫بأن اإلمامة تنعقد بعقد واحد من أهل الح ّل‬

‫والعقد) إمام الحرمين‪ :‬اإلرشاد؛ الناشر مؤسسة الكتب الثقافية؛ بيروت ‪1985‬؛ ص ‪357‬‬

‫‪150‬‬
‫صحيح أن الفقه السياسي اإلسالمي في شقه السني يكيف البيعة أو اإلمامة على أساس أنها عقد بالتراضي‪،‬‬

‫مضمونه تسليم مجموع األ ّمة لجماعة أهل الحل والعقد التي يكون هي العاقد الحقيقي في الترشيح للرئاسة‬

‫ثم عرضه على االختيار الشعبي‪ ،‬في تزكية ملزمة لالختيار مفرغة من حقيقة الرضا الشعبي؛ وهو ما‬

‫أوضحه الماوردي وتابعه فيه من جاء بعده من أغلب فقهاء السياسة الشرعية‪ ،‬إذ يقول متح ّدثا عن أهل‬

‫الح ّل والعقد‪" :‬فإذا] تبيّن لهم من بين الجماعة من أ ّداهم االجتهاد إلى اختياره عرضوها عليه‪ ،‬فإن أجاب‬

‫‪.‬إليها بايعوه عليها‪ ،‬وانعقدت بيعته له اإلمامة‪ ،‬فلزم كافّة األ ّمة الدخول في بيعته‪ ،‬واالنقياد لطاعته‬

‫حيث يظهر جليا إمكانية استبعاد األ ّمة عن ممارسة حقّها في االختيار الح ّر لرئيس الدولة الذي هو أمر يه ّم‬

‫‪.‬ك ّل فرد من أفرادها‬

‫إن هذا التأصيل الشرعي لقضية تقييد سلطة اإلمام بالشورى] الملزمة يدفع إلى ضرورة التأسيس لمؤسسات]‬

‫دستورية تكون لها الرقابة القبلية والبعدية عليه‪ ،‬بحيث تكون شريكا لسلطة اإلمام في ممارسة السلطة حتى‬

‫نضمن أن يتصرّف رئيس الدولة في شؤون األمة تصرفا] شوريا؛ وذلك باشتراط] شروط في اختياره كأن‬

‫يكون المر ّشح للرئاسة مؤمنا بالشورى معروفا بممارسته الفعلية لها من خالل السيرة الذاتية له في العمل‬

‫المدني والنضال السياسي أو العسكري‪ ،‬وأن يكون إخالله بالشورى سببا كافيا لعزله عن منصب الرئاسة‪،‬‬

‫يقول ابن عطية في تفسيره المحرر الوجيز‪" :‬والشورى من قواعد الشريعة وعزائم األحكام‪ ،‬ومن ال‬

‫يستشير أهل العلم والدين فعزله واجب ) ينظر ابن عطية؛ تفسير المحرر الوجيز‪ :‬طبعة قطر ‪1977‬؛ ج‬

‫‪3‬؛ ص ‪197‬‬

‫تعليق للباحث ‪:‬والشرط] الذي اختص ابن عطية بالنص عليه دون سواه في حدود ما نعلم‪ -‬مما يعني التأكيد‬

‫على أن للشورى] مدخال في التولية وفي العزل‪ ،‬وهو مبدأ دستوري] معاصر مسلم به حيث يشترط في‬

‫المترشح للرئاسة ان يكون محترما للخيار الديمقراطي] والحترام الدستور في ممارسة السلطة‬

‫‪151‬‬
‫ألن في االستبداد] بالرأي مفسدة بل انه جل المفاسد التي تنشأ في ممارسة الحكم متأتية منه‪ .‬وأمام هذا لم‬

‫نعدم من كبار العلماء من قرروا بصراحة ووضوح؛ أن إخالل اإلمام بالشورى] مبررا كافيا لعزله‪ ،‬فهو‬

‫رأي اإلمام القرطبي حيث يعتبر رائدا بالنسبة لما ساد في هذا الشأن في الفقه السياسي الشرعي؛ وعليه‬

‫فإن مبدأ الرقابة على تصرفات اإلمام ومحاسبته في أداء مهمته كان مهمال؛ ضعيفا في الفقه السياسي؛ وإن‬

‫وجد فانه لم يكن منظما في مؤسسات] محددة وهيئات معلومة وبصفة دورية‪ ،‬بل لم يكن يحظى] بمكانة‬

‫دستورية ملزمة حيث تكاد يقتصر على المناصحة الوعظية التي تخلو من معنى اإللزام؛ فال نجد في‬

‫التاريخ السياسي] اإلسالمي وجود مؤسسات دستورية توقف سلطة اإلمام عند حدود] المشروعية وتشارك‬

‫معه في ممارسة السلطة‪ ،‬سوى بعض المأثورات] من النصائح والمواعظ المتروكة لشجاعة العالم والواعظ‬

‫وهيبة القاضي‪ ،‬والتي كانت تقدم لبعض رؤساء] الدول اإلسالمية بصفة غير منظمة دستوريا مما أدى في‬

‫الكثير من األحيان إلى اعتبار ذلك اإلمام خارجا على السلطة موجبا للحد) راجع نماذج من ذلك في‪ :‬محمد‬

‫سليم العوا؛ في النظام السياسي للدولة اإلسالمية الناشر دار الشروق‪ ،‬القاهرة بيروت ‪1989‬‬

‫فبرغم مركزية الشورى في النظام السياسي اإلسالمي] إال أنها لم تحظ بدراسات مقاصدية سوى ما‬

‫ذكره بعض المفسرين من فوائدها‪ ]،‬قولهم أنها طريق الوصول إلى الرأي الصواب والتدبير‬

‫السديد؛ كما أنها طريق] الخروج من األهواء والمؤثرات] الذاتية التي تتسلط على الحاكم؛ غير أن‬

‫أعظم مقاصد الشورى] على حد تعبير د‪ .‬الريسوني منع االستبداد] والطغيان وانفراد باألمر؛‬

‫‪.‬فالشورى في مقصودها نقيض لالستبداد إذا حضرت غاب؛ وإذا غابت حضر‬

‫ورغم أهمية هذه المقاصد إال أن الفقه السياسي اإلسالمي غير جازم حول مسألة مدى إلزامية الشورى]‬

‫وهل هي لإلعالم أم لإللزام؛ وهي المسألة التي يترتب على الفصل فيها معرفة منـزلة قاعدة حكم األغلبية‪،‬‬

‫ألن القول بإلزامية الشورى] هو قول مآله إلى األخذ بمبدأ األغلبية؛ فرغم عدم وجود نصوص صريحة في‬

‫وجوب تحكيم رأي األغلبية إال أن هناك من اإلشارات الكثيرة في السيرة النبوية ما يدل على أخذ النبي‬

‫صلى هللا عليه وسلم بحكمها كما في استشارة القوم في مالقاة العدو في غزوة بدر‪ ،‬واستشارته صلى هللا‬

‫‪152‬‬
‫عليه وسلم في الخروج لغزوة احد؛ وكذا في مالطفة ومصالحة قبيلة غطفان بثلث ثمار المدينة في غزوة‬

‫األحزاب كسرا للحصار] المضروب عليهم‪ .‬فكلها إشارات في وجوب تحكيم رأي األغلبية عند التعارض‬

‫والتزاحم من باب الترجيح ال من باب أن قولهم] الصواب؛ لقوله عليه الصالة والسالم‪" :‬عليكم بالسواد]‬

‫)األعظم‬

‫القواعد المقاصدية و الحريات العامة ‪8-‬‬

‫إن الحقيقة الغائبة عن الفكر الغربي أن اإلسالم ميثاق عالمي إنسانيجوهره تحرير اإلنسان من ذل العبودية‬

‫وإخراجه إلى نور الحرية؛ على نحو يمكن أن نقول معه بأنه حرب ال هوادة فيها ضد االستئثار] واالستفراد‬

‫واالستبداد] السياسي؛ ومن ثم حق أن يوصف اإلسالم كثورة شاملة على األوضاع الفاسدة والمزرية التي‬

‫بلغتها اإلنسانية في وقت عز فيه الحق أن يطلب؛ فأهدرت] حقوق اإلنسان وحرياته العامة وامتهنت كرامته‬

‫إن هذا الجوهر المغيب في واقعنا هو سر انبهار أبناء جلدتنا بحضارة الغرب اليوم؛ ولألسف عرف الفكر‬

‫الحضاري الغربي كيف يتقمص دور المنقذ للبشرية من االستبداد برسالة حقوق اإلنسان وكرامتها]‬

‫وباستعمال] حق أو واجب التدخل اإلنساني الدولي‪ .‬وبنظرة سريعة إلى مقاصد الشريعة من وراء تشريع‬

‫يدفع إلى تقرير أن مصالح اإلنسان وحقوقه هي روح المقاصد الشرعيةونشر] الحرية بإسقاط األغالل وفك‬

‫القيود عن البشرية وتركها] حرة تختار الحضارة التي تريد دون إكراه أو ضغوط؛ ومن ما قاله المصلح‬

‫الجزائري ابن باديس‪" :‬فحق كل إنسان في الحرية كحقه في الحياة‪ ،‬ومقدار] ما عنده من حياة هو مقدار ما‬

‫عنده من حرية‪ ،‬و المعتدى] عليه في شيء من حريته كالمعتدى] عليه في شيء من حياته‪ ،‬وما أرسل هللا من‬

‫رسل وما شرع لهم من الشرع إال ليحيوا أحرارا‪ ،‬وليعرفوا كيف يأخذون بأسباب الحياة والحرية‪ ،‬وحتى‬

‫يستثمروا] تلك الحياة وتلك الحرية إلى أقصى] حدود االستثمار] النافع‪ ،‬وما انتشر اإلسالم في األمم إال لما‬
‫‪153‬‬
‫شاهدت فيه من تعظيم] للحياة والحرية‪ ،‬ومحافظة عليهما‪ ،‬وتسوية بين الناس فيهما‪ ،‬مما لم تعرفه تلك األمم‬

‫من قبل ملوكها‪ ،‬وال من أحبارها ورهبانها وكل من يقف أمام رسالة مصالح اإلنسان وعلى رأسها حقه في‬

‫‪".‬الحرية‬

‫وفي ظل إقصاء هذه الحقائق الناصعة من فكرنا وفقهنا] السياسي عاشت األمة اإلسالمية منمية لفقه األفراد]‬

‫والسلطة؛ ومغيبة لفقه الحرية؛ فقد نما فقه اآلداب السلطانية وأفل فقه الحريات السياسية‪ ،‬فكانت مسيرتنا]‬

‫الفكرية والحضارية والفقهية ناقصة من تناول مسألة الحرية وأحكامها الفقهية وتسعيرتها الشرعية‬

‫والمقاصدية‪ ،‬وإنها لها األولوية في العمل على التمكين لها قبل المطالبة بتطبيق] الشريعة وتطبيق الحدود؛‬

‫وقد آن األوان إلعادة التأسيس والبناء لفقه الحرية وبعث رسالة اإلسالم التحررية‪ .‬وإذا أُحسن استثمار‬

‫مقاصد التشريع وتفعيلها‪ ،‬من خالل وسائل تنميتها] وحفظها‪ ،‬فإن هذا سيفضي إلى تحقيق أكبر قدر من‬

‫التواصل اإلنساني مع أمم األرض وشعوبها؛ إذ ال خالف على كثير من تلك القيم اإلنسانية القارّة في‬

‫التشريع اإلسالمي؛ كحفظ النفس‪ ،‬والنسل‪ ،‬والعقل‪ ،‬والمال‪ ،‬وتحقيق الحرية‪ ،‬وإقامة العدل والمساواةولعل]‬

‫هذا هو ما نبه إليه علماء األمة‪ ،‬عندما قرروا] أن الضروريات الخمس هي محل اعتبار في جميع الملل‬

‫واألديان‪ ،‬ومن ذلك مثالً ما قاله الغزالي واآلمـدي والشاطبي‪" :‬فإن المقاصد الخمسة التي لم تخل من‬

‫رعايتها ملة من الملل‪ ،‬وال شريعة من الشرائع؛ وفي] هذا كله إمعان في تحقيق معنى الرحمة للعالمين‪،‬‬

‫التي جعلها هللا تعالى المقصد األسمى لبعثة النبي الكريم صلى هللا عليه وسلم في قوله تعالى(وما أرسلناك‬

‫اال رحمة للعالمين )األنبياء ‪107‬‬

‫فمقاصد الشريعة العليا يرجى منها أن تكون ركيزة أساسية من ركائز مشروع] نهضة األمة‪ ،‬واستئناف]‬

‫دورها‪ ،‬وإصالح أحوالها‬

‫خاتمة‬

‫‪154‬‬
‫ال شك أن الباحث في مقاصد الشريعة عموما وفي] مجال األحكام السلطانية خصوصا] عليه‪ ،‬كما يقول ابن‬

‫عاشور‪ ،‬أن يطيل التأمل ويجيد التثبت في إثبات مقصد شرعي؛ وعليه أن يحذر من التساهل والتسرع في‬

‫ذلك ألن تعيين مقصد شرعي كلي أو جزئي أمر تتفرع عنه أدلة وأحكام كثيرة في االستنباط‪ ،‬ففي الخطأ‬

‫فيه خطأ كبير؛ ومن ثم فعلى الباحث أن ال يعين مقصدا شرعيا إال بعد االستقراء لتصرفات الشريعة في‬

‫النوع الذي يريد انتزاع المقصد الشرعي منه‪.‬‬

‫إن مشكلة الفقه السياسي اإلسالمي تكمن في أن فقهاءه لم يقدموا لنا المنهج السياسي اإلسالمي الصحيح‬

‫كما طبقه النبي صلى هللا عليه وسلم؛ وخلفائه الراشدين‪ ،‬بل يقدمون النظرية السياسية في اإلسالم كما‬

‫تشكلت عبر األزمنة األموية والعباسية‪ ،‬فيسوء فهم النص المقدس الذي جرده التطبيق] النبوي والراشدي‪،‬‬

‫باآلراء التي ترعرعت في ظالل القمع وفيها] ما هو صواب يجب احترامه‪ ،‬وفيها ما هو خطأ‪ ،‬يجب أن‬

‫يملك أهل االختصاص الجرأة لتجاوزه لتحقيق مقاصد قادرة على أن تخطو خطوات هامة نحو تقديم صيغ‬

‫تنظيمية للقيم السياسية اإلسالمية؛ محكومة بمقاصد عليا بمثابة مخطط] بناء هندسة دستورية للعمران‬

‫‪.‬الحضاري‬

‫‪155‬‬
‫الباب السابع‬

‫نظام الحكم في اإلسالم أهميته ودعائمه‬

‫الفصل األول ‪:‬أهمية الحكم فى اإلسالم‬

‫الفصل الثانى ‪ :‬دعائم أنظمة الحكم‬

‫الفصل األول‬

‫‪:‬أهمية نظام الحكم فى اإلسالم‬

‫‪:‬مدخل وتمهيد‬

‫‪:‬يقول الماوردى رحمه هللا تعالى‬

‫(فليس دين زال سلطانه إال ُب ِّدلت أحكامه‪ُ ،‬‬


‫وطمست أعالمه‪ ،‬وكان لكل زعيم فيه بدعة‪ ،‬ولكل عصر في‬

‫وهيه أى ضعفه)أدب الدنيا والدين‪ ،‬للما وردي‪ ،‬ص ‪.)115‬‬

‫‪156‬‬
‫كلمة حكيمة من عالم خبير‪ ،‬لها ما يص ِّدقها من شواهد التاريخ البعيد والقريب على السواء‪ ،‬وهي من جهة‬

‫أخرى تبين الترابط الوثيق بين حفظ الدين وبين السلطان ـ النظام السياسي ـ؛ إذ السلطان حارس‪ ،‬وما ال‬

‫‪.‬حارس له فهو‪ /‬ضائع‪ ،‬أو يوشك أن يضيع‬

‫في أواخر النصف األول من القرن الرابع عشر الهجري‪ ،‬وأواخر الربع األول من القرن العشرين‬

‫الميالدي‪ ،‬نشبت معركة فكرية كبرى‪ ،‬تزعمها أحد الشيوخ هو الشيخ علي عبد الرازق‪ ،‬أحد علماء‬

‫األزهر الشريف‪ ،‬والقاضي الشرعي بمحكمة المنصورة‪ ،‬حيث كتب في ذلك الوقت كتابا ً باسم (اإلسالم‬

‫‪.‬وأصول‪ /‬الحكم) وهو الكتاب الوحيد الذى كتبه فهو‪ /‬يعد كبيضة الديك‪ ،‬وقد طبع عام (‪1344‬هـ‪1925/‬م)‬

‫أنكر فيها أن تكون هناك عالقة بين اإلسالم والسياسة أو الحكم‪ ،‬أو أن الدين يتدخل في إدارة الحياة‪، ،‬‬

‫ورأى أن الدين مسألة روحية فقط‪ ،‬وهو عالقة بين اإلنسان وربِّه وال يتعدى هذا اإلطار‪ ،‬وعلى إثر ذلك‬

‫انتفض العالم اإلسالمي‪ ،‬وقام علماؤه ير ُّدون على الشيخ ويبينون زيف رأيه وضالله وممن رد عليه‬

‫الشيخ محمد رشيد‪ /‬رضا صاحب مجلة المنار‪ ،‬والشيخ محمد شاكر وكيل األزهر‪ ،‬واألستاذ أمين‬

‫الرافعي‪ .‬وقد أفتى بردته ك ٌّل من الشيخ محمد شاكر‪ ،‬والشيخ يوسف الدجوي‪ ،‬والشيخ محمد بخيت مفتي‬

‫الديار المصرية‪ ،‬والشيخ محمد رشيد رضا‪ ،‬وقد ألَّف العلماء كتبا ً في الرد عليه‪ ،‬منهم الشيخ محمد‬

‫الخضر حسين ـ الذي صار فيما بعد شيخــا ً لألزهر ـ‪ ،‬والشيخ محمد بخيت‪ ،‬والشيخ محمد الطاهر بن‬

‫عاشور‪ ،‬ولم تنقطع الكتب في الرد عليه‪ ،،‬وقد‪ /‬بيَّن أهل العلم فيما كتبوه عالقة اإلسالم بالحكم‪ ،‬وأنه يشمل‬

‫‪.‬بنظره أمري الدنيا واآلخرة‬

‫وقد قيَّض هللا لجهود هؤالء العلماء النجاح‪ ،‬فإنها تمثل الحق الذي جاءت به نصوص الشريعة‪ ،‬وقد‪ /‬تمثلت‬

‫مظاهر النجاح في عدة أمور‬

‫ـ عُقدت محاكمة في األزهر من قِ َبل هيئة كبار العلماء برئاسة الشيخ محمد أبو الفضل شيخ الجامع‬

‫األزهر‪ ،‬وعضوية أربعة وعشرين عالما ً من كبار العلماء‪ ،‬وبحضور علي عبد الرازق نفسه‪ ،‬وقد‪ /‬تمت‬

‫‪157‬‬
‫مواجهته بما هو منسوب إليه في كتابه‪ ،‬واستمعت المحكمة لدفاعه عن نفسه‪ ،‬ثم خلصت الهيئـة إلى‬

‫الحكـم التالـي‪« :‬حكمنا ـ نحن شيخ األزهر ـ بإجماع أربعة وعشرين عالما ً معنا من هيئة كبار العلماء‪:‬‬

‫بإخراج الشيخ علي عبد الرازق أحد علماء الجامع األزهر والقاضي الشرعي بمحكمة المنصورة‬

‫االبتدائية الشرعية ومؤلف‪ /‬كتاب (اإلسالم وأصول‪ /‬الحكم) من زمرة العلماء» حكم هيئة كبار العلماءص‬

‫‪32)،‬‬

‫كما حكم مجلس تأديب القضاة الشرعيين بوزارة الحقانية (العدل) باإلجماع بفصله من القضاء الشرعي‬

‫انظر‪ :‬المرجع السابق‪ ،‬ص ‪40‬‬

‫ُف هذا الصوت النشاز بدرجة كبيرة‪ ،‬وانكسر‪ /‬الشيخ حتى إنه رفض إعادة طبع الكتاب مرة أخرى‬
‫ضع َ‬
‫ـ َ‬

‫‪.‬حينما عرض عليه ذلك‪ ،‬وهو الذي كان وعد في كتابه بمواصلة البحث في الموضوع‪/‬‬

‫وهناك من يزعم ـ من محبي الشيخ ـ أنه قد تراجع قبل وفاته عما تضمنه كتابه السابق‪ ،‬فإن كان هذا‬

‫التراجع صحيحاً؛ فلله الحمد على ذلك‪ ،‬وإن كان غير صحيح فهو على األقل يدل على عدم اقتناع محبيه‬

‫‪.‬بما ذهب إليه‬

‫ـ اضطرار بعض َمنْ ناصر الشيخ في رأيه السابق؛ ألن يعلن تراجعه عن رأيه في أن اإلسالم رسالة‬

‫‪.‬روحية فقط‪ ،‬واإل قرار بأن اإلسالم يرعى الدين والدولة معا ً‬

‫ـ اضطرار كثير من أصحاب ذلك التصور إلى عدم اإلفصاح الصريح عن تصوراتهم‪ ،‬والتخفي وراء‬

‫بعض العبارات اإلسالمية‪ ،‬بل إظهار‪ /‬أنفسهم بأنهم في الصف المعادي للعلمانية‪ ،‬وأنهم من المؤيدين‬

‫للمقولة المشهورة‪« :‬إن اإلسالم دين ودولة»‪ ،‬واالكتفاء في ترويج مذاهبهم بالدس في العبارات‪ ،‬وإن‬

‫‪.‬كانت حقيقة مواقفهم ال تخفى على الناقد البصير‪/‬‬

‫وإذا كان االتجاه العلماني ـ الذي يقوم على فصل الدنيا عن الدين‪ ،‬ومنع قيومية الدين على الحياة ـ قد‬

‫هُزم في مجال األفكار والتصورات‪ /‬وبناء النظريات؛ فإن هذا لم يمنع أن يكون هو المتغلب حقيقة على‬

‫‪158‬‬
‫الواقع السياسي في األغلب األعم من ديار المسلمين‪ ،‬فقد ألغيت الخالفة منذ أكثر من ثالثة أرباع قرن‪،‬‬

‫وتفككت أوصال دولها‪ ،‬وصارت تركيا ـ مركز دولة الخالفة ـ دولة قومية علمانية‪ ،‬تنص على ذلك في‬

‫‪.‬دستورها‪ ،‬وتحمي علمانيتها بالحديد والنار‬

‫وكذلك فإن الكيانات السياسية التي نشأت على أنقاض الخالفة المه َّدمة؛ هي أيضا ً من حيث الواقع‬

‫والممارسة دول علمانية‪ ،‬وإنْ نصَّ بعضها في دستور البالد على بعض األلفاظ التي قد توهم خالف‬

‫ذلك؛ مثل «مبادئ الشريعة اإلسالمية مصدر رئيسي للتشريع» أو «المصدر‪ /‬الرئيسي» أو نحو من ذلك‪،‬‬

‫فإنك ال تكاد تجد غير تلك العبارة في أي من مواد الدستور‪ /‬مما يثبت صلته ونسبه لإلسالم‪ ،‬بل تجد فيه‬

‫‪.‬ما ينص على أن الدولة ديمقراطية‪ ،‬أو قومية‪ ،‬أو اشتراكية‪ ،‬ونحو ذلك من تلك األمور‬

‫ولكن اإلسالم في حقيقته هو منهاج الحياة الكامل وهو الدين الذي بعث هللا به محمداً صلى هللا عليه وسلم‪/‬‬

‫‪.‬ليخرج الناس من الظلمات إلى النور‪ ،‬وليحقق لهم سعادة الدنيا واآلخرة‪ ،‬هو روح مهيمن ونظام‪ /‬شامل‬

‫نظام يتناول تحديد العالقة بين العبد وربه‪ ،‬وبينه وبين نفسه‪ ،‬وبين جنسه وسائر ما يتصل به‪ ،‬ويتناول‬

‫تحديد نظرته للحياة‪ ،‬ومسلكه فيها وتعيين ما له من حقوق وما عليه من واجبات‪ .‬وهو تزكية للنفس‬

‫وتربية للخلق‪ ،‬وعبادة هلل‪ ،‬وتنظيم للحياة‪ ،‬فيه تدبير المنزل ورباط األسرة وحقوق الرحم‪ ،‬وقانون‬

‫‪.‬المجتمع وسياسة الدولة‬

‫والمسلم مطالب بعلم ذلك والعمل به واإلحسان فيه قال تعالى) وابتغ فيما آتاك هللا الدار اآلخرة وال تنس‬

‫‪).‬نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن هللا إليك) القصص‪77:‬‬

‫ومن هنا يخطئ من يظن أن اإلسالم دين روحانية وعبادة فحسب‪ ،‬وال شأن له بتنظيم الحياة أو شؤون‬

‫الدنيا‪ .‬وهو خطأ قد ينتهي بصاحبه إلى الكفر بما أنزل هللا على رسوله‪ ،‬فاهلل الذي أمر بتوحيده وعبادته‬

‫‪159‬‬
‫وأمر بإقامة الصالة وإيتاء الزكاة هو الذي أحل البيع وحرَّ م‪ /‬الربا‪ ،‬وأمر بالمعروف‪ ،‬ونهى عن المنكر‪،‬‬

‫‪.‬وشرع‪ /‬القصاص وأنزل على رسوله (وأن احكم بينهم بما أنزل هللا) المائدة‪49:‬‬

‫نظام الحكم وأهميته‬

‫‪:‬تعريف النظام‬

‫النظام لغة‪ :‬الخيط الذي يُنظم به اللؤلؤ‪ ،‬وكل خيط يُنظم به لؤلؤ أو غيره فهو نظام‪ ،‬ونظام كل أمر‬

‫مالكه‪ ،‬وال َّن ْظم‪ /:‬نظمك الخرز بعضه إلى بعض في نظام واحد‪ ،‬كذلك هو في كل شيء حتى يقال‪ :‬ليس‬

‫ألمره نظام؛ أي ال تستقيم طريقته‪ ،‬وكل شيء قرنته بآخر أو ضممت بعضه إلى بعض فقد نظمته‪،‬‬

‫والنظام‪ :‬العقد من الجوهر والخـرز ونحــــوهما‪ ،‬والنظام‪ :‬الهدي والســيرة‪ ،‬وليس ألمرهم نظام؛ أي ليس‬

‫لهم هـــدي وال متعلــق وال استقامة‪ ،‬وما زال على نظام واحد؛ أي عادة)لسان العرب (باب الميم فصل‬

‫النون)‪ ،‬مادة نظم‪ ،)12/758( ،‬دار صادر‪ ،‬بيروت‬


‫‪160‬‬
‫يتبين بما تقدم أن لفظ «النظام» يُطلق لغة على األشياء المضموم‪ /‬بعضها‪ /‬إلى بعض‪ ،‬كما يطلق على‬

‫الشيء الجامع لتلك األشياء؛ على أن يراعى في ذلك الضم‪ :‬الترابط‪ /‬الذي ليس فيه تنافر‪ ،‬واالستقامة التي‬

‫ال يصحبها عوج‪ ،‬واالطراد الذي ال يعتريه ُخ ْلف‪ ،‬وبذلك يمكننا القول بأن النظام‪ :‬هو مجموع األشياء‬

‫‪.‬المترابطة المتناسقة المتآلفة التي يكون لها ثبات واطراد‪/‬‬

‫فإذا أردنا تعريف النظام السياسي بالنظر إلى لفظه؛ قلنا‪ :‬هو مجموعة الخطوات أو اإلجراءات المتناسقة‬

‫التي يتم من خاللها تدبير األمور وتسييرها بطريقة صالحة‪ .‬وإذا أردنا تعريفه بالنظر‪ /‬إلى أنه لقب على‬

‫كيفية حكم الدولة؛ قلنا‪ :‬هو مجموعة األحكام وما ينتج عنها من هيئات أو مؤسسات وتنظيمات‪ /‬متعلقة‬

‫بالدولة اإلسالمية من حيث إقامة الدولة وإدارتها والمحافظة عليها وتحقيق غايتها)هناك عدة تعريفات‬

‫للنظام السياسي في الفكر اإلنساني؛ منها‪« :‬مجموعة من القواعد واألجهزة المتناسقة المترابطة فيما‬

‫بينها‪ ،‬تبيِّن نظام الحكم ووسائل إسناد السلطة وأهدافها‪ /‬وطبيعتها‪ /‬ومركز الفرد منها‪ ،‬وضماناته قبلها‪ ،‬كما‬

‫تحدد عناصر القوى المختلفة التي تسيطر على الجماعة وكيفية تفاعلها مع بعضها‪ ،‬والدور الذي تقوم به‬

‫كل منها»‪( ،‬النظم السياسية)‪ ،‬د‪/‬ثروت بدوي‪( ،‬ص‪ ،)11‬ومنها‪« :‬القواعد األساسية التي يتعارف‪ /‬عليها‬

‫سكان كل دولة‪ ،‬واختيارهم‪ /‬لشكل الحكم فيها‪ ،‬والسلطات المخولة ألجهزتها اإلدارية عند مباشرتها‪/‬‬

‫الختصاصها‪ ،‬وسلطات‪ /‬الحاكم في عالقته بهم‪ ،‬ومدى حقوقهم‪ /‬والتزاماتهم‪ /‬قبل الدولة» (النظم السياسية‬

‫‪..‬والحريات‪ /‬العامة)‪ ،‬د‪ /‬أبو اليزيد على المتيت‪( ،‬ص ‪)5‬‬

‫فيدخل في إقامة الدولة األحكام المتعلقة ب َنصْ ب الخليفة؛ من حيث حكم توليته وشروطه وواجباته وحقوقه‬

‫‪.‬وكيفية اختياره‪ ،‬وصفات من يختاره‪ ،‬وكيفية انتقال السلطة وموجبات ذلك‪ ،‬وحدود‪ /‬صالحياته‬

‫كما يدخل في إدارتها‪ :‬األحكام المتعلقة بالسلطة؛ من حيث أنواعها‪ ،‬ومصدرها‪،‬والقيود‪ /‬التي ترد عليها‪،‬‬

‫وأحكام الوزارة و الواليات وتقسيم البلدان‪ ،‬وإنشاء المرافق العامة‪ ،‬وأحكام الشورى‪ ،‬وصفات من يتولون‬

‫‪.‬المناصب العامة‪ ،‬ويدخل في ذلك الحديث عن وضع أهل الذمة في النظام السياسي‪ ،‬وكذلك وضع المرأة‬

‫‪161‬‬
‫كما يدخل في المحافظة عليها وتحقيق غايتها األحكام المتعلقة بالعمران والتنمية‪ ،‬وحقوق الرعية‬

‫وواجباتها‪ ،‬كما يدخل في ذلك األحكام المتعلقة بأمن المجتمع؛ من حيث الجهاد واألمر بالمعروف‪ /‬والنهي‬

‫عن المنكر ونصب القضاة وإقامة الحدود‪ ،‬والرقابة والمتابعة (الحسبة)‪ ،‬كما يدخل في ذلك أحكام‬

‫‪.‬العالقات الخارجية‪ ،‬وكل ذلك يتضافر‪ /‬معا ً ليكون وحدة واحدة هي النظام‪ /‬السياسي‪ /‬اإلسالمي‬

‫وهذا التقسيم الذي أوردته إنما هو تقسيم اجتهادي‪ ،‬وإال فقد يدخل شيء مما ذكرته في موضع ما‪ ،‬تحت‬

‫موضع آخر‪ ،‬أو يدخل في أكثر من موضع الرتباطه وتشعبه‪ ،‬ويدخل تحت ما تقدم جزئيات وفرعيات‬

‫كثيرة ِّ‬
‫تمثل في مجموعها أحكام النظام السياسي في اإلسالم‪ ،‬وهذه األحكام وما تعلق بها من تنظيمات أو‬

‫هيئات مبثوثة في الكتب الشرعية‪ ،‬سواء منها ما يقتصر على األحكام الخاصة بالنظام‪ /‬السياسي والتي‬

‫عُرفت باسم األحكام السلطانية‬

‫أو ما يتعرض لألحكام الشرعية كلها؛ مثل كتب الفقه والتفسير وشروح الحديث النبوي الشريف‪ ،‬وهناك‬

‫طائفة كبيرة من هذه األحكام في الكتب التي تقدم وصايا ُخلقية أو إدارية للوزراء واألمراء‪ ،‬وكذلك كتب‬

‫‪.‬الخراج‬

‫أهمية نظام الحكم‬

‫الحكم أصل في اإلسالم‬

‫وبهذا تبين أن الحكم أصل في اإلسالم‪ ،‬وأن الحكومة ركن في بنائه‪ ،‬وقد‪ /‬جعله النبي صلى هللا عليه وسلم‬

‫عروة من عرى اإلسالم الوثقى‪ ،‬ففي الحديث الشريف "لتنقضن عرى اإلسالم عروة عروة‪ ،‬فأولها‪ /‬نقضا ً‬

‫الحكم‪ ،‬وآخرها نقضا ً الصالة‪ "...‬رواه أحمد وغيره وصححه الحاكم‪ ،‬وقال الهيثمي في مجمع الزوائد‪:‬‬

‫والترهيب‪.‬‬ ‫رجاله رجال الصحيح‪ .‬وصححه األلباني في صحيح الترغيب‬

‫وقد ذكره كثير من الفقهاء في كتب العقائد واألصول‪ ،‬ال الفقهيات والفروع‪/.‬‬

‫قال اإلمام الغزالي رحمه هللا‪ ..." :‬واعلم بأن الشريعة أصل والملك حارس‪ ،‬وما ال أصل له فمهدوم‪ ]،‬وما‬
‫ال حارس له فضائع] )شفاء الغليل في بيان الشبه والمخيل ومسائل التعليل‬

‫‪162‬‬
‫ـ الحكم ضرورة اجتماعية‪ :‬اإلنسان مدني بالطبع‪ ،‬أي ال غنى له عن االجتماع ببني جنسه‪ ،‬والناس‬

‫مختلفو المشارب والمذاهب‪ ،‬والقوى والرغبات‪ ،‬فما لم يكن لهم وازع يزعهم‪ ،‬وسلطان يحكمهم‪ ،‬أكل‬

‫‪:‬قويهم‪ /‬ضعيفهم‪ ،‬وسادت الفوضى‪ /‬بينهم‪ ،‬وقد أحسن الشاعر قديما ً تصوير‪ /‬هذه الحقيقة فقال‬

‫وال سراة إذا جهالهم سادوا‬ ‫ال يصلح الناس فوضى ال سراة لهم‬

‫فإن تولت فباألشرار‪ /‬تنقاد‬ ‫تبقى األمور بأهل الرأي ما صلحت‬

‫ـ الحكم ضرورة شرعية‪ :‬فاإلسالم‪ /‬منهج كامل‪ ،‬يشتمل العقائد والعبادات واآلداب والفضائل واألحكام‪/‬‬

‫والحدود‪ ،‬وهذه العقائد والعبادات تحتاج إلى من يحرسها ويثبت دعائمها ويقيم شعائرها‪ /،‬وهذه اآلداب‬

‫والفضائل تحتاج إلى من يتعهد غرسها ويذود عنها‪ ،‬وهذه األحكام تحتاج إلى من يقيمها ويفرض سلطانها‪/‬‬

‫وينفذها‪ ،‬وال يتم اإليمان وال يستقيم األمر إال بهذا‪ ،‬قال تعالى‪( :‬فال وربك‪ /‬ال يؤمنون حتى يحكموك فيما‬

‫شجر بينهم ثم ال يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما ) النساء‪65‬‬

‫(فاحكم‪ /‬بينهم بما أنزل هللا وال تتبع أهواءهم) المائدة‪48:‬‬

‫المائدة‪) 44‬ومن لم يحكم بما أنزل هللا فأولئك‪ /‬هم الكافرون(‬

‫فأوجب في هذه اآليات التحاكم إلى كتابه‪ ،‬واإلذعان له‪ ،‬والحكم به‪ ،‬وعدم الحكم بسواه‪ ،‬فصار‪ /‬من المتيقن‬

‫أن يوجد في المسلمين حاكم يحرس عقيدة األمة وشعائرها‪ /‬ويصون أخالقها وفضائلها‪ /،‬وينفذ أحكام هللا‬

‫ويقيم حدوده‪ ،‬ويحكم بين الناس بما أنزل هللا حتى ال تهن العقيدة وتضيع‪ /‬الفرائض‪ ،‬وتنحل األخالق‪،‬‬

‫وتتعطل األحكام والحدود‪ ،‬وتكون فتنة‪ .‬قال تعالى‪ (:‬الذين إن مكناهم في األرض أقاموا‪ /‬الصالة وآتوا‬

‫‪.‬الزكاة وأمروا بالمعروف‪ /‬ونهوا عن المنكر وهلل عاقبة األمور) الحج ‪41‬‬

‫‪163‬‬
‫فيتعين إقامة هذا الحاكم المسلم ليكون الظل الذي يفيء إليه المظلوم والمحروم‪ ،‬والحارس الذي يحفظ‬

‫حدود هللا ويحمي حرمات المسلمين‪ ،‬كما قال النبي صلى هللا عليه وسلم‪ ..." :‬إنما اإلمام جُنة يتقى به‪."...‬‬

‫(متفق عليه في حديث أبي هريرة)‪ .‬من أجل ذلك‪ ،‬عني أصحاب رسول‪ /‬هللا ص باختيار‪ /‬خليفة له فوراً‪/‬‬

‫عقب وفاته‪ ،‬وقدموا انتخابهم له على دفنه‪ ،‬ذلك ألن األمة ال يستقيم لها أمر إال بإمام‪ ،‬وأن الشريعة ال‬

‫‪.‬تنفذ إال بسلطان‬

‫الفصل الثانى‬

‫دعائم أنظمة الحكم فى اإلسالم‬

‫هنا نبحث عن الدعائم التي يقوم عليها الحكم في اإلسالم‪ ،‬ونعني بها األصول التي تحدد منهج الحكم‬

‫وغايته وعالقة الحاكم بالمحكوم‪ ،‬حتى ال ينحرف الحكم عن سواء السبيل‪ ،‬ويمكن تلخيصها في نقاط‬

‫‪:‬أربع هي‬

‫ـ السيادة للشرع‪1‬‬

‫‪164‬‬
‫ـ مسؤولية الحاكم‪2‬‬

‫ـ مسؤولية األمة‪3‬‬

‫ـ الشورى‪4‬‬

‫‪:‬أوالً ‪ :‬السيادة للشرع‬

‫‪.‬األصل في النظم السياسية المعروفة أن السيادة لألمة‪ ،‬تشرع لنفسها وتفعل ما تشاء‬

‫لكن األصل في اإلسالم أن السيادة لشرع هللا ودينه‪ ،‬فإن الحكم في األصل هلل وحده‪ ،‬ليس ألحد حكم وال‬

‫‪.‬شرع معه‪ ،‬وعلى األمة أن تتقيد وال تخالف أمره‬

‫وقديماً‪ /‬قال أرسطو‪" /:‬إن السيادة يجب أن تكون للقانون"‪ ،‬وخالف‪ /‬بذلك أستاذه أفالطون الذي قال‪" :‬إن‬

‫السيادة ينبغي أن تكون للحكام الفالسفة"‪ ،‬ومع الفارق بين الفكرتين‪ ،‬فإن القانون الذي يعنيه أرسطو‪ /‬هو‬

‫من وضع البشر سواء وضعه فرد أو جماعة‪ ،‬وهو مهما بلغ قاصر قصور‪ /‬اإلنسان الذي يجهل نفسه‪ ،‬وال‬

‫‪.‬يستطيع‪ /‬أن يضع لها منهجا ً يغنيهـا عن دين هللا الذي أحاط بكل شيء علما ً‬

‫والشرع الذي له السيادة عندنا هو القرآن الكريم وسنة نبينا محمد صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬قال تعالى‪:‬‬

‫‪(.‬وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم )(النحل‪)4:‬‬

‫فالقرآن الكريم هو دستور الحكم ودعامته األولى‪ ،‬فمن أجله أقيم‪ ،‬وعليه يعتمد في نظامه وإدارته‬

‫وسياسته‪ ،‬وطاعته‪ ،‬فهو‪ /‬مصدر السيادة‪ ،‬إليه يرد األمر عند الخالف‪ ،‬وبأحكامه وتعاليمه يلتزم الحاكم‬

‫والمحكوم‪ ،‬فهو الذي يحدد صورة الحكم ومادته‪ ،‬كما أنه األساس الذي تبنى عليه الحياة في الدولة كلها‬

‫وال تقدر الحقوق وال الواجبات‪ ،‬وال تنفذ القوانين والعقوبات إال بحكمه‪ ،‬وال تعلن حرب وال يجنح لسلم‪،‬‬

‫وال يعقد صلح‪ ،‬وال يبرم عهد إال باسمه ورسمه‪ ،‬هو الحاكم على اإلمام واألمة‪ ،‬وهو الحكيم في كل‬

‫‪:‬قضية‬

‫‪165‬‬
‫قال تعالى( وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا‪ /‬لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم‪ /‬بينهم بما أنزل‬

‫‪.‬هللا وال تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ) (المائدة‪)48:‬‬

‫ومن ث َّم فهو‪ /‬عصمة األمة‪ ،‬وجامع كلمتها‪ ،‬كما أنه نظامها وقانون سعادتها‪ ،‬وكل حكم أو نظام ال يقوم‬

‫‪.‬على أساسه أو يشذ عن أحكامه فهو باطل منهار‬

‫ثانيا ‪:‬مسؤولية الحاكم‬

‫األصل في نظام الحكم في اإلسالم أن رئيس الدولة هو المسؤول األول عن إدارة شؤونها‪ ،‬غير أن بعض‬

‫الفقهاء من المسلمين أجازوا‪ /‬لرئيس الدولة أن يفوّ ض لغيره مباشرة سلطته وتحمل مسؤوليته‪ ،‬مادام في‬

‫ذلك مصلحة عامة‪ ،‬واستدلوا بقوله تعالى حكاية على لسان نبيه موسى‪ /‬عليه السالم‪( :‬واجعل لي وزيرا‬

‫‪.‬من أهلي هارون أخي اشدد به أزري وأشركه في أمري) (طه ‪)32 -31- 30 – 29‬‬

‫قالوا‪ :‬فإذا جاز ذلك في النبوة كان في اإلمامة أجوز‪ ،‬واستدلوا‪ /‬بأن تدبير‪ /‬األمة ال يطيقه اإلمام إال‬

‫باستنابـة شخص أو وزارة تضطلع باألمر يسمُّونها‪ /‬وزارة تفويض أي يفوض إليها تدبير األمور‪/‬‬

‫‪.‬باجتهادها‪ ،‬وتكون هي المسؤولة بالنيابة‬

‫لكن ذلك ال يخلي اإلمام شرعا ً من المسؤولية وفي‪ /‬عنقه بيعة وأمانة‪ ،‬وهللا يقول‪ (:‬وال تزر وازرة وزر‬

‫‪.‬أخرى وإن تدع مثقلة إلى" حملها ال يحمل منه شيء ولو كان ذا قربى" فاطر‪18‬‬

‫فالحاكم مسؤول‪ /‬بحكم المسؤولية العامة‪ ،‬قال صلى هللا عليه وسلم‪ ..." :‬كلكم راع وكلكم مسؤول عن‬

‫صحيح البخاريكتاب العتق باب العبد راع في مال‬ ‫رعيته‪ ،‬فاإلمام‪ /‬راع وهو مسؤول عن رعيته‪( "...‬متفق عليه)‪.‬‬

‫سيده رقم ‪2419‬‬

‫من واجبات الحاكم المسلم‬

‫على الحاكم واجبات شرعية كثيرة كغيره من المسلمين‪ ،‬ولكن هناك واجبات خاصة به بمقتضى ما تكلفه‬

‫من قيامه بهذا األمر‪ ،‬وخالصتها الحفاظ على الدين وحراسته‪ ،‬وتحقيق مصالح المسلمين الشــرعية‬

‫‪166‬‬
‫والدنيوية ودرء المفاسد عنهم‪ ،‬وقد فصّل ذلك الماوردي ‪ -‬رحمه هللا ‪ -‬فى كتابه األحكام السلطانية (ص‬

‫‪ 17‬ـ ‪)18‬‬

‫فقال‪«:‬والذي يلزمه من األمور العامة عشرة أشياء‬

‫‪.‬أحدها‪ :‬حفظ الدين على أصوله المستقرة وما أجمع عليه سلف األمة‬

‫‪.‬الثاني‪ :‬تنفيذ األحكام بين المتشاجرين وقطع‪ /‬الخصام بين المتنازعين حتى تعم النصفة‬

‫‪.‬الثالث‪ :‬حماية البيضة والذب عن الحريم ليتصرف‪ /‬الناس في المعايش وينتشروا في األسفار آمنين‬

‫والرابع‪ :‬إقامة الحدود لتصان محارم‪ /‬هللا ـ تعالى ـ عن االنتهاك‪ ،‬وتحفظ حقوق عباده من إتالف‬

‫‪.‬واستهالك‪/‬‬

‫‪.‬والخامس‪ :‬تحصين الثغور بالعدة المانعة والقوة الدافعة؛ حتى ال تظفر األعداء بغرة ينتهكون فيها محرما ً‬

‫‪.‬والسادس‪ :/‬جهاد من عاند اإلسالم بعد الدعوة حتى يسلم أو يدخل في الذمة‬

‫‪.‬والسابع‪ :‬جباية الفيء والصدقات‪ /‬على ما أوجبه الشرع نصا ً واجتهاداً من غير خوف وال عسف‬

‫والثامن‪ :‬تقديــر العطايا وما يستحق من بيت المال من غير سرف‪ /‬وال تقتير‪ ،‬ودفعـــه في وقت ال تقديم‬

‫‪.‬فيــه وال تأخير‬

‫‪.‬التاسع‪ :‬استكفاء األمناء وتقليد النصحاء فيما يفوِّ ض إليهم من األعمال ويكله إليهم من األموال‬

‫العاشر‪ :‬أن يباشر بنفسه مشارفة األمور وتصفح األحوال؛ لينهض بسياسة األمة وحراسة الملة‪ ،‬وال‬

‫)يعوِّ ل على التفويض تشاغالً بلذة أو عبادة‪ ،‬فقد يخون األمين ويغش الناصح‬

‫وتحت هذه الواجبات العامة تفصيالت كثيرة‪ ،‬كما تحتاج إلى تنظيمات وترتيبات‪ /‬لتحقيق تلك الواجبات‬

‫على النحو المرضي‪ ،‬ومن مسؤولية ولي األمر القيام بهذه الواجبات واستحداث ما تحتاج إليه من‬

‫تنظيمات وترتيبات‬

‫إن الحكم في اإلسالم تكليف وليس تشريف وإنه عقد التزام وتوكيل‪ ،‬وإن الحاكم في اإلسالم مكلف‬

‫‪.‬ومسؤول‪ ،‬وعليه الوفاء بما التزمه أمام هللا واألمة التي وكلته‬

‫‪167‬‬
‫حقوق الخليفة على الرعية‬

‫وإزاء هذه المسؤولية المكلف بها الخليفة؛ فإن الشريعة جعلت له على الرعية حقوقاً؛ حتى تكون هذه‬

‫الحقوق معينة له على تحقيق واجباته ومقاصد الخالفة‪ ،‬قال الماوردي‪«:‬وإذا‪ /‬قام اإلمام بما ذكرته من‬

‫حقوق األمة؛ فقد أدى حق هللا ـ تعالى ـ فيما لهم وعليهم‪ ،‬ووجب له عليهم حقان‪ :‬الطاعة والنصرة؛ ما لم‬

‫‪.‬يتغير حاله)األحكام السلطانية‪( ،‬ص ‪)18‬‬

‫مسؤولية األمة‬

‫وهي الدعامة الثالثة من دعائم الحكم في اإلسالم‪ ،‬فاألمة هي المخاطب األول المطالب بتنفيذ األحكام‬

‫والمكلف شرعا ً باختيار‪ /‬اإلمام‪ ،‬وما اإلمام إال نائب عنها وموكل منها فهي مسؤولة عن معاونته ومتابعته‬

‫في إقامة حكم هللا وسيادة الشرع‪ .‬ويدل على هذه المسؤولية ويثبتها‪ /‬أمور منها‬

‫ـ أن خطاب هللا التكليفي موجه لألمة في القرآن الكريم‪ /‬ألنه يدور‪ /‬بين أمرين‪ :‬يا أيها النبي‪ ،‬يا أيها الذين‬

‫‪.‬آمنوا‬

‫ـ وأن أوامر هللا وأحكامه ووصاياه في القرآن موجهة لألمة كقوله تعالى‪ :‬فأصلحوا‪ ،‬فقاتلوا‪ ،‬فاجلدوا‪ ،‬وال‬

‫‪.‬تقبلوا‪ ،‬فاقطعوا‪ ،‬يوصيكم هللا في أوالدكم‬

‫‪.‬فالخطاب‪ /‬في جميع ذلك لألمة كلها ـ فهي المسؤول األول عن إقامة الحق وتنفيذ شرع هللا‬

‫ـ وأن هذه المسؤولية هي مقتضى عقد األخوة والمواالة التي جعلها هللا بين المؤمنين وأكدها‪ /‬بقوله تعالى‪:‬‬

‫‪.‬والمؤمنون والمؤمنات بعضهم‪ /‬أولياء بعض يأمرون بالمعروف‪ /‬وينهون عن المنكر (التوبة‪)71:‬‬

‫فمن ألزم صفاتها النصح‪ ،‬ومن أوجبها‪ /‬األمر بالمعروف‪ ،‬والنهي عن المنكر‪ ،‬والتعاون‪ /‬على التقوى‪ ،‬فقد‬

‫أوجب هللا على كل مسلم أن يهتم ألمر أخيه المسلم‪ ،‬ينصره ظالماً‪ :‬يكفه عن الظلم‪ ،‬وينصره مظلوماً‪/:‬‬

‫‪.‬بإعانته على الظالم للوصول إلى حقه‪ .‬بل أوجب ذلك على أمته كلها‬

‫قال عليه الصالة والسالم‪" /:‬من لم يهتم للمسلمين فليس منهم" (رواه الحاكم في "المستدرك" (‪)4/352‬‬

‫وابن الجوزي في "الموضوعات" (‪)3/132‬‬

‫‪168‬‬
‫األدلة الشرعية على وجوب تنصيب اإلمام‬

‫يراد باإلمام في االصطالح الشرعي‪ :‬من يتولى‪ /‬إمرة المسلمين أي رئاسة الدولة اإلسالمية ويسمى‪ /‬أيضا‬

‫‪".‬باإلمام ‪ ،‬فهو رئيس لدولة موصوفة بوصف اإلسالم‬

‫فمن فرائض هللا عز وجل على هذه األمة وجوب إقامة اإلمام وتنصيبه واالجتماع‪ /‬عليه ‪ ،‬وأن تتم توليته‬

‫بطريقة شرعية ‪ ،‬والسمع والطاعة له إذا لم يأمر بمعصية ‪ ،‬والواجب عليه أن يشاور‪ /‬أهل الرأي في‬

‫‪.‬األمة ‪ ،‬وأن يلتزم بأحكام اإلسالم‬

‫‪:‬األدلة الشرعية على وجوب تنصيب اإلمام‬

‫‪:‬أوال ‪ :‬القرآن الكريم‬

‫قوله تعالى‪( :‬يا أيها الذين آمنوا أطيعوا هللا وأطيعوا‪ /‬الرسول وأولى األمر منكم) النساء ‪59‬‬

‫وأولو األمر هم األمراء ‪ ،‬وأدخل بعضهم فى مفهوم أولى األمر العلماء أيضا‬

‫وولى األمر‪ :‬مفرد‪ :‬أولى األمر ‪ ..‬إذن فالمؤمنون مأمورون جميعا بطاعة ولى األمر وهو اإلمام ‪ ،‬فيجب‬

‫‪.‬تنصيبه أوال ثم طاعته‬

‫ثانيا‪ :‬السنة القولية‬

‫روى اإلمام مسلم فى صحيحة عن ابن عمر رضي‪ /‬هللا عنهما‬

‫ْس فِي ُع ُنقِ ِه َب ْي َع ٌة َم َ‬


‫ات مِي َت ًة َجا ِهلِي ًَّة) صحيح مسلم ‪ِ -‬ك َتاب‬ ‫ات َولَي َ‬
‫أنه صلى هللا عليه وسلم قال ‪َ ( :‬منْ َم َ‬

‫ُور ْالفِت َِن رقم ‪3447‬‬


‫وم ْال َج َما َع ِة َع ْن َد ظُه ِ]‬ ‫اإْل ِ َم َ‬
‫ار ِة األَ ْم ِر بِلُ ُز ِ‬

‫َّث ال َّناسُ ِبالَّتِي‬


‫ت عُرْ َوةٌ َت َشب َ‬ ‫ضنَّ ع َُرى اإْل ِسْ اَل ِم عُرْ َو ًة عُرْ َو ًة َف ُكلَّ َما ا ْن َت َق َ‬
‫ض ْ‬ ‫وقوله صلى هللا عليه وسلم (لَ ُي ْن َق َ‬
‫صاَل ةُ ) رواه أحمد وغيره وصححه الحاكم‪ ،‬وقال الهيثمي في مجمع‬ ‫َتلِي َها َوأَ َّولُهُنَّ َن ْق ً‬
‫ضا ْال ُح ْك ُم َوآ ِخ ُرهُنَّ ال َّ‬
‫‪.‬الزوائد‪ /:‬رجاله رجال الصحيح‪ .‬وصححه األلباني في صحيح الترغيب والترهيب‬

‫‪169‬‬
‫ويدخل في الحكم وجود الخليفة الذي يقوم بهذا الحكم ‪ ،‬والدليل على الوجوب هو اقترانه بالصالة وهى‬

‫‪.‬واجبة‬

‫أخرج البخاري عن محمد بن بشار حدثنا يحيى حدثنا شعبة قال حدثني أبو التياح عن أنس بن‬

‫مالك‬

‫صحيح‬ ‫عن النبي صلى هللا عليه وسلم قال (اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل حبشي كأن رأسه زبيبة)‬
‫البخاريكتاب األحكام ‪ -‬باب السمع والطاعة لإلمام ما لم تكن معصية رقم ‪6723‬‬

‫‪.‬واألحاديث‪ /‬التي تذكر األمير واألمراء كثيرة مشهورة‬

‫ثالثا ‪ :‬السنة الفعلية‬

‫إن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم أقام الدولة فى المدينة المنورة ومارس فيها كل سلطات الرياسة مثل‬

‫‪.‬إرسال السفراء وتجييش الجيوش وعقد المهاهدات ‪ ،‬وإقامة القضاء‪ ،‬وغيرها‬

‫رابعا‪ :‬اإلجماع‬

‫‪:‬قال الفقهاء‪ :‬نصب الخليفة واجب باإلجماع ‪ ،‬فمن أقوالهم‪ /:‬ما قاله الماوردى‪ /‬الشافعى وأبو يعلى الحنبلى‬

‫" األحكام السلطانية الجزء األول" عقد اإلمامة واجب باإلجماع‪ /‬لمن يقوم بها فى األمة‬
‫وفى مقدمة ابن خلدون‬

‫" إن نصب الخليفة واجب ‪ ،‬فقد عرف وجوبه فى الشرع بإجماع الصحابة والتابعين ألن أصحاب رسول‬

‫هللا صلى هللا عليه وسلم عند وفاته بادروا‪ /‬إلى بيعة أبى بكر رضي هللا عنه ‪ ،‬وإلى تسليم النظر إليه في‬

‫أمورهم ‪ ،‬وكذا في كل عصر من األعصار ‪ ،‬واستقر ذلك إجماعا داال على وجوب نصب اإلمام"‪.‬‬

‫المقدمة – ابن خلدون ج‪ ،2‬ص‪.519‬‬

‫ويقول ابن تيمية ‪ :‬تعليقا على حديث أَ ِبي َسعِي ٍد ْال ُخ ْد ِريِّ أَنَّ َرسُو َل هَّللا ِ َ‬
‫صلَّى هَّللا ُ َعلَ ْي ِه َو َسلَّ َم َقا َل‬

‫قال ‪).‬ا َذا َخ َر َج َثاَل َث ٌة فِي َس َف ٍر َف ْلي َُؤ ِّمرُوا‪ /‬أَ َح َد ُه ْم (‬

‫‪170‬‬
‫إذا كان قد أوجب في أقل الجماعات وأقصر‪ /‬االجتماعات أن يولى أحدهم كان هذا تنبيها على وجوب(‬
‫ذلك فيما هو أكثر من ذلك ولهذا كانت الوالية ‪ -‬لمن يتخذها دينا يتقرب به إلى هللا ويفعل فيها الواجب‬
‫مجموع فتاوى ابن تيمية ‪ -‬الفقه ‪ -‬الجهاد ‪-‬رسالة في الحسبة ‪ )-‬بحسب اإلمكان ‪ -‬من أفضل األعمال الصالحة‬
‫فصل الواليات اإلسالمية مقصودها األمر بالمعروف والنهي عن المنكر ‪ -‬فصل عموم الواليات وخصوصها وما يستفيده‬
‫‪.‬المتولي بالوالية ص‪65‬‬

‫خامسا‪ :‬العقل‬

‫تنفيذ أحكام الشريعة يحتاج إلى إمام وقوة وسلطان ‪ ،‬مثل أحكام الجهاد وإقامة الحدود‪ /‬والقصاص وإقامة‬

‫‪.‬العدل بين الناس‬

‫‪.‬ومعنى‪ /‬ذلك أن األمة هي صاحبة الحق في اختيار من تراه أهال لمنصب الخالفة‬

‫أساس حق األمة في اختيار الخليفة‬

‫هو كونها هي المخاطبة في القرآن الكريم‪ /‬بتنفيذ أحكام الشرع ‪ ،‬وإعالء كلمة هللا ‪ ،‬وإقامة المجتمع‬

‫‪:‬اإلسالمي الفاضل‪ .‬ففي نصوص القرآن تجد‬

‫قوله تعالى‪( :‬المؤمنون‪ /‬والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف‪ /‬وينهون‪ /‬عن المنكر ويقيمون‬

‫الصالة )التوبة ‪71‬‬

‫و قوله تعالى‪( :‬يا أيها الذين آمنوا كونوا‪ /‬قوامين بالقسط شهداء هلل ولو على أنفسكم أو الوالدين‬

‫واألقربين ‪)....‬النساء ‪135‬‬

‫و قوله تعالى‪( :‬والسارق‪ /‬والسارقة فاقطعوا أيديهما) المائدة ‪38‬‬

‫فهذه النصوص ‪ ،‬وأمثالها كثير تدل على مسئولية جماعة المسلمين عن تنفيذ أحكام هللا ‪ ،‬لكنها ال تستطيع‬

‫‪.‬ذلك بصفتها الجماعية ‪ ،‬لذا وجب أن تختار الحاكم لينوب عنها في تنفيذ هذه األحكام‬

‫طرق اختيار الحاكم أو الخليفة‬

‫‪171‬‬
‫الشخص الصالح لتولي الحكم هو من تتوافر‪ /‬فيه شروط الصالح لذلك ـ كما أسلفنا ـ‪ ،‬وال بد من التأكد من‬

‫توفر هذه الشروط‪ /‬قبل إسناد الحكم إليه‪ ،‬فتحقق الشروط مناط استحقاق الحكم‪ ،‬وعملية التأكد من توفر‪/‬‬

‫هذه الشروط في الشخص ُتسمَّى تحقيق المناط‪ ،‬وعلى ذلك فد َْور أهل االختيار الذين يختارون الحاكم هو‬

‫تحقيق المناط في الشخص‪ ،‬وإذا وجد أكثر من شخص تتحقق فيه تلك الشروط فتكون هنا المفاضلة بينهم‬

‫على أساس َمنْ منهم تتحقق فيه الشروط‪ /‬بصورة أكثر من اآلخرين‪ ،‬ويكون في الوقت نفسه أكثر مناسبة‬

‫من غيره لظروف‪ /‬العصر‪ ،‬وبالتالي‪ُ /‬تعقد له البيعة ويولى‪ /‬أمر الحكم‪ ،‬وعلى ذلك فتحقيق المناط يُتطلب‬

‫فيه أمران‬

‫األول‪ :‬النظر في الشروط التي ينبغي توافرها فيمن يراد جعله حاكما‪ ،‬وهذه مرجعها إلى الشرع؛ إذ هو‬

‫‪.‬الذي يحددها‬

‫الثاني‪ :‬النظر في وجود‪ /‬هذه الشروط‪ /‬وتحققها في آحاد الناس‪ ،‬وهذه ُتعلم من المعرفة بالشخص وأحواله‪،‬‬

‫فذلك نوع من االجتهاد في التحقق من وجود المناط في آحاد األشخاص)مجموع الفتاوى البن تيمية‪( ،‬‬

‫‪ .)19/16)(.‬االعتصام‪ ،‬للشاطبي‪2/161،‬‬

‫ومن البيّن أن طرق‪ /‬الكشف عن وجود‪ /‬المناط في آحاد األشخاص قد تتعدد وتتباين وتكون كلها صالحة‬

‫محققة للمقصود‪ ،‬وال يمكن ألحد أن ي َّدعي أنه ال يوجد إال طريق‪ /‬واحد لتحقيق المناط‪ ،‬فإن تحقيق المناط‬

‫تؤثر فيه عوامل كثيرة‪ ،‬منها طبيعة المناط نفسه من حيث الوضوح‪ /‬أو الخفاء‪ ،‬ومنها‪ /‬طبيعة الباحث نفسه‬

‫من حيث العلم والخبرة‪ ،‬ومنها طبيعة الظروف المحيطة بالموضوع‪ /،‬لهذا كله فقد يختلف تحقيق المناط‬

‫من بيئة إلى بيئة ثانية‪ ،‬ومن زمن إلى زمن آخر‪ ،‬بل قد يختلف في الزمن الواحد باختالف الظروف‬

‫المحيطة‪ ،‬من غير أن يؤثر ذلك على الحكم األصلي؛ ألن الذي يتغير هو جهد اإلنسان في الكشف عن‬

‫المناط‪ ،‬أما وجود المناط نفسه فال بد من تحققه في جميع الحاالت‪ ،‬وهذا يفسر تعدد طرق التولية التي‬

‫‪.‬حدثت في فترة الخالفة الراشدة‬

‫وقد عرف التاريخ السياسي للخالفة الراشدة عدة طرق في اختيار الخلفاء الراشدين‪ ،‬وهي‬

‫‪172‬‬
‫أ ـ االختيار بواسطة أهل االختيار‪( /‬الحل والعقد)‪ :‬وهو أن يختار أهل االختيار رجالً ممن تتوفر‪ /‬فيه‬

‫الشروط المطلوبة‪ ،‬وذلك بعد البحث وتقليب اآلراء‪ ،‬ثم االتفاق بعد التشاور فيما بينهم على الشخص‬

‫المناسب ومن ثم مبايعته‪ ،‬وال يضر ما يحدث من نقاش واختالف في هذه الحالة في أول األمر فذلك‬

‫شيء ال بد منه‪ ،‬وإنما العبرة بالنهاية حتى يتفق أهل االختيار‪ ،‬وقد حدث هذا في تولية أبي بكر رضي هللا‬

‫عنه‪ ،‬حيث اجتمع كبار الصحابة منهم أبو بكر وعمر وأبو عبيدة وسعد بن عبادة‪ ،‬وبعد محاورات تخللتها‬

‫بعض التباينات في وجهة النظر وقع االتفاق على أبي بكر الص ِّديق ـ رضي هللا عنه ـ وتمت بيعته‪ ،‬وهو‬

‫وهللا حقيق بها‪ ،‬وكذلك كان األمر في بيعة علي رضي هللا عنه)انظر في بيعة أبي بكر‪( :‬صحيح‬

‫البخاري)‪ ،‬كتاب الحدود ‪ /‬وفي بيعة علي‪ :‬الطبقات‪ ،‬البن سعد‪ ،)3/31( ،‬وتاريخ الطبري‪،)5/152( ،‬‬

‫‪.‬والتمهيد‪ ،‬للباقالني‪( ،‬ص ‪)227‬‬

‫ب ـ االستخالف‪ /:‬وهو أن يحدد الخليفة العدل إذا حضرته مقدمات الوفاة شخصا ً بعده للخالفة ممن تتوافر‬

‫فيه شروطها‪ /،‬وممن يسرع الناس إلى قبوله وبيعته‪ ،‬وذلك بعد أن يستشير‪ /‬أهل الحل والعقد فيما رأى من‬

‫ذلك‪ ،‬كما حدث ذلك في تولية عمر رضي هللا عنه‪ ،‬حيث اختاره أبو بكر الصديق‪ ،‬وعمر هو عمر‪..‬‬

‫فضائله معروفة مشهورة‪ ،‬وهو أفضل األمة بعد النبي صلى هللا عليه وسلم وبعد أبي بكر‪ ،‬تتوفر فيه‬

‫شروط الصالح لمنصب الخليفة على أعلى درجاتها‪ /،‬ومع ذلك فإن أبا بكر ‪ -‬رضي هللا عنه‪ -‬لم يولِّه‬

‫بمجرد ذلك‪ ،‬بل شاور في ذلك كبار الصحابة‪ ،‬واستمع لرأيهم‪ ،‬وقد أقر كل من استشارهم أبو بكر بفضل‬

‫عمر ‪ -‬رضي‪ /‬هللا عنه ‪ -‬وصالحه لذلك‪ ،‬غير أن بعضهم‪ /‬أشار إلى ما في عمر من غلظة‪ ،‬وقد بيّن لهم‬

‫أبو بكر ‪ -‬رضي هللا عنه ‪ -‬أن عمر هو أفضل المسلمين الموجودين على اإلطالق‪ ،‬وأن شدته ستخفّ‬

‫كثيراً بعد أن يصير األمر إليه (وقد كان)‪ ،‬وعلى ذلك تمت البيعة لعمر رضي هللا عنه) ُينظر في تفاصيل‬

‫ذلك‪ :‬سيرة عمر بن الخطاب‪ ،‬البن الجوزي‪( ،‬ص ‪ ،)44‬الطبقات‪ ،‬البن سعد‪ ،)3/122( ،‬تاريخ‬

‫‪.‬الطبري‪)4/51( ،‬‬

‫انظر في بيعة عثمان‪ :‬صحيح البخاري‪ ،‬كتاب األحكام ‪-‬‬

‫‪173‬‬
‫ج ـ أن يجعل الخليفة األمر بين جماعة ممن يستحقونها‪ :‬وهو أن يح ِّدد الخليفة العدل إذا حضرته مقدمات‬

‫الوفاة عدداً من األشخاص الذين تتوفر فيهم صفات الخليفة وممن لهم مكانة ومنزلة عند الناس؛ بحيث‬

‫يسرعون إلى الموافقة على أيٍّ منهم ومبايعته‪ ،‬على أن يختاروا من بينهم واحداً للخالفة‪ ،‬كما فعل عمر ـ‬

‫رضي هللا عنه ـ حين حضرته مقدمات الوفاة‪ ،‬حيث جعل األمر في ستة أشخاص هم‪ :‬عثمان‪ ،‬وعلي‪،‬‬

‫وعبد الرحمن بن عوف‪ ،‬وسعد بن أبي وقاص‪ ،‬وطلحة بن عبيد هللا‪ ،‬والزبير بن العوام‪ ،‬وهم الذين توفي‪/‬‬

‫رسول هللا صلى هللا عليه وسلم وهو عنهم راض‪ .‬وقد كان طلحة إذ ذاك غائباً‪ ،‬وعرض عليهم عبد‬

‫الرحمن أن يخرج منها ويختار لهم منهم واحداً فرضوا‪ ،‬وقد اجتهد عبد الرحمن في ذلك‪ ،‬وأخذ يستشير‪/‬‬

‫في ذلك المهاجرين وأهل السابقة والفضل من األنصار وأمراء األجناد‪ ،‬حتى يقول عبد الرحمن في ذلك‪:‬‬

‫«إني قد نظرت في أمر الناس؛ فلم أرهم يعدلون بعثمان»‪ ،‬وحينئذ‪ /‬بايع عبد الرحمن عثمان بالخالفة‪،‬‬

‫وبايعه المهاجرون‪ /‬واألنصار وأمراء األجناد والمسلمون‬

‫قال النووي‪ - /‬رحمه هللا ‪« :-‬إن المسلمين أجمعوا على أن الخليفة إذا حضرته مقدمات الموت ـ وقبل ذلك‬

‫ـ يجوز له االستخالف‪ /‬ويجوز له تركه‪ ،‬فإن تركه فقد اقتدى بالنبي صلى هللا عليه وسلم ‪ ،‬وإال فقد اقتدى‬

‫بأبي بكر‪ ،‬وأجمعوا على انعقاد الخالفة باالستخالف‪ ،‬وعلى انعقادها بعقد أهل الحل والعقد إلنسان إذا لم‬

‫يستخلف الخليفة‪ ،‬وأجمعوا‪ /‬على جواز جعل الخليفة األمر شورى بين جماعة‪ ،‬كما فعل عمر بالستة‪،‬‬

‫وأجمعوا على أنه يجب على المسلمين نصب خليفة)المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج‪ ،‬للنووي‪(،‬‬

‫‪)12/283.‬‬

‫ففيما تقدم من الطرق السابقة نجد قاسما ً مشتركا ً بينها جميعاً‪ ،‬يتمثل في أمرين‬

‫‪.‬األول‪ :‬توافر شروط‪ /‬استحقاق الخالفة في الشخص المختار لذلك‬

‫‪.‬الثاني‪ :‬موافقة أهل االختيار‪( /‬الحل والعقد) عليه‬

‫وعلى ذلك فكل طريقة لالختيار يتحقق فيها هذان األمران ـ من غير مخالفات شرعية ـ فهي طريق‪/‬‬

‫مقبول شرعاً‪ ،‬وليس يتحتم األخذ بكل التفاصيل الواردة في الطرق‪ /‬السابقة دون غيرها مما يحقق األمرين‬

‫المشار إليهما‪ ،‬فقد كان يكفي في عصر الصحابة ‪ -‬رضي هللا عنهم ‪ -‬مثالً أن يدور‪ /‬عبد الرحمن بن‬
‫‪174‬‬
‫عوف بنفسه على المهاجرين وأصحاب الفضل والسابقة في اإلسالم من األنصار‪ /‬وأمراء األجناد؛‬

‫ليتعرف آراءهم فيمن يختارون ويقدمون‪ ،‬ويرون‪ /‬أنه أحق بالخالفة‪ ،‬لكن هذه الطريقة العملية التي اتبعها‬

‫عبد الرحمن بن عـوف ‪ -‬رضـي هللا عنه ‪ -‬وإن كانت محققة للمقصود في زمنه فليست واجبة وجوبا ً‬

‫عاما ً تشمل عموم الزمان والمكان؛ ألنه لم يأت نص يُلزم بها‪ ،‬وإن كانت اجتهاداً موفقا ً ومسدداً‪ /‬من‬

‫‪.‬الصحابي‪ /‬الجليل عبد الرحمن بن عوف ـ رضي هللا عنه ـ في زمنه‬

‫الباب الثامن‬

‫نظام الحكم بين الدولة الدينية والمدنية‬

‫‪ :‬تمهيد‬

‫من األسئلة الكبرى المطروحة على الساحة العامة حاليا وليس فقط الساحة الفكرية سؤال‪ :‬ما شكل الدولة‬

‫التي نريدها‪ :‬دينية أم مدنية؟‬

‫‪175‬‬
‫يدور جدل واسع حول هذه الثنائية‪ :‬مدنية أم دينية‪ ،‬وأحيانا] مدنية أم إسالمية (إسالمية عند البعض تعني‬

‫دينية)‬

‫وأعيب على بعض اإلسالميين سياسة المواربة ومحاوالت تلبيس األمور ووصف] المصطلحات بغير‬

‫وصفها الشرعى الصحيح محاولة منا لتمريربعض النظريات] وكسب المواقف] على حساب الحق الذى‬

‫اليحتمل اال وجها واحدا هو الحق ذاته وظنا من بعضنا أنا بهذا نجمع وال نفرق ونكسب تعاطف الجماهير‬

‫مع فكرتنا] اإلسالمية ونحاول أن نرضى اآلخرين ولن يرضوا] عنا حتى نتبع ملتهم ونسلك] مسلكهم وقد‬

‫أثبت التجارب واألحداث أن الحق وحده هو الذى يبقى وأن المصارحة هى أحد أركان الحق الذى يؤلف‬

‫هللا به القلوب ويجمع به األنصار] قال تعالى ‪( :‬ثم جعلناك على شريعة من األمر فاتبعها وال تتبع أهواء‬

‫الذين ال يعلمون ) الجاثية آية ‪18‬‬

‫وقداحتدم] الجدل والنزاع] حول الدولة الدينية والدولة المدنية‪ ،‬والغرض منه هو ابعاد اإلسالم عن عقد‬

‫الحكم وتنظيم مسيرة البشرية كما أراده هللا سبحانه‬

‫وفي بداية األمر تم تقديم الدولة المدنية على أنها المقابِلة للدولة العسكرية‪ ،‬ثم تغيَّر الطرح فأصبحت الدولة‬

‫المدنية هي المقابِلة للدولة الدينية‪ ،‬حيث أعرب الكثير ِمن المنتمين للتيارات الليبرالية وال َعلمانية عن‬

‫‪.‬دعوتهم إلى ْ‬
‫أن تكون الدولة مدنية ال مرجعية للدين فيها‪ ،‬فال دخل للدين في السياسة بزعمهم‬

‫وتم الترويج للدولة المدنية على أنها رمز للتحرر والتقدم والحداثة‪ ،‬أما الدولة الدينية فهي رمز للتسلط‬

‫تعرف] في تاريخها] إال هذين النموذجين‪،‬وغاب عن بصيرتهم] نموذج‬ ‫َّ‬


‫وكأن البشرية لم ِ‬ ‫والطغيان والجمود‪،‬‬

‫الدولة اإلسالمية ال الدولة الدينية الكهونيتية وال الدولة المدنية العلمانية المتحررة من كل قيد أو شرط‬

‫يرجعوا] إلى أُصولهم] وهُويتهم‪ ،‬ونسوا] أو تناسوا أنه ال سبيل‬ ‫أن يفتشوا في تاريخهم‪ْ ،‬‬
‫وأن ِ‬ ‫وفات أولئك ْ‬

‫للنجاة إال باالعتصام بكتاب هللا وب ُسنَّة رسول] هللا صلى هللا عليه وسلم‬

‫‪:‬معنى الدولة‬

‫الدولة في اللغة‪ :‬قال ابن فارس‪ :‬الدال والواو‪ /‬والالم أصالن‪ :‬أح ُدهما يد ُّل على ُّ‬
‫تحول شي ٍء من مكان إلى‬
‫‪176‬‬
‫ضعْ فٍ واستِرخاء‪ .‬وال َّدولة وال ُّدولة لغتان‪ ،‬ويقال بل ال ُّدولة في المال وال َّدولة في‬
‫مكان‪ ،‬واآلخر‪ /‬يد ُّل على َ‬

‫الحرب‪ ،‬وقال الزجاج‪ :‬ال ُّدولة اسم الشيء الذي يُتداول‪ ،‬وال َّد ْول ُة الفعل واالنتقال من حال إِلى حال‪ ،‬وفي‪/‬‬

‫"الصحاح في اللغة"‪ :‬ال ُدولَ ُة والد َْولَ ُة لغتان بمعنىً ‪ .‬وأَدالَنا‪ /‬هللا من عدوّ نا من ْ‬
‫الدَولَةِ‪ .‬واإلدالَ ُة الغلب ُة‪ .‬يقال‪:‬‬

‫ُداولُها بين الناس‪ .‬و َت َ‬


‫داولَ ْت ُه األيدي‪،‬‬ ‫اللهم أَد ِْلني على فالن وانصرني‪ /‬عليه‪ .‬ودالَ ِ‬
‫ت األيّا ُم‪ ،‬أي دارت‪ ،‬وهللا ي ِ‬
‫‪.‬أي َ‬
‫أخذ ْت ُه هذه مرّ ًة وهذه َ‬
‫مر ًة‬

‫الدولة في االصطالح‪ :‬هي الهيئة المكونة من عناصر ثالثة مجتمعة‬

‫مكان من األرض يطلق عليه إقليم‪1-‬‬

‫طائفة من الناس تسكن اإلقليم يطلق عليهم شعب ‪2-‬‬

‫سلطة يخضع لها الشعب في اإلقليم يطلق عليها الحكومة تدبر عالقات الشعب الداخلية فيما بينهم‪3- ،‬‬

‫‪.‬وتدبر عالقاتهم الخارجية مع األقاليم األخرى‪ ،‬وتحمي حدوده ضد األعداء المحتملين‬

‫ويتفق المعني اللغوي مع المعنى االصطالحي‪ /‬في العنصر الثالث عنصر السلطة حيث من المعنى اللغوي‬

‫‪.‬للدولة‪-‬كما تقدم‪-‬الغلبة‪ ،‬والغلبة (القهر واإلكراه واحتكار‪ /‬القوة) العنصر الفعال في السلطة‬

‫تعبير الدولة الدينية والدولة المدنية ليس من مفردات السياسة الشرعية رغم إن األلفاظ المفردة المكونة‬

‫للتعبير ألفاظ عربية‪ ،‬هذا يدل على أنك لو فتشت فيما كتبه العلماء المسلمون فيما مضى لم تجد لهذه‬

‫‪.‬التعبيرات أثر‪ ،‬وهو مما يدل على أن هذه التعبيرات إنما وفدت من خارج البيئة اإلسالمية‬

‫لو نظرنا‪ /‬في المعنى اللغوي كان مصطلح الدولة الدينية يعني الدولة التي يكون دين الشعب المحرك‬

‫والمهيمن على كل أنشطتها‪ ،‬والدولة المدنية الدولة الحضارية التي فارقت البداوة والتخلف وأخذت‬

‫بأسباب الرقي‪ ،‬أو الدولة التي تباين الدولة العسكرية‪ ،‬ومن البين أنه في هذه الحالة ليس يمتنع أن تكون‬

‫الدولة دينية ومدنية في آن حيث ال تعارض بينهما‪ ،‬وهو ما يعني أن المعنى اللغوي لكال المصطلحين ال‬

‫إشكال فيه وليس في استخدامه لغويا ما يحذر‪ ،‬لكن األمر لم يقف عند هذا الحد‪ ،‬فقد شحن كال‬

‫المصطلحين بمعان وأضيفت له هوامش وشروحات مما جعل استخدام المصطلح في البيئة اإلسالمية‬
‫‪177‬‬
‫محفوفا بكثير من المخاطر واإلشكاليات‬

‫وعندما نرجع إلى مصطلح الدولة الدينية (الثيوقراطية) والدولة المدنية في البيئة التي نشأت فيها (البيئة‬

‫الوثنية والبيئة النصرانية) نجد أن األمر جد مختلف‪ ،‬فالدولة الدينية في تصورهم هي الدولة التي يكون‬

‫الحاكم فيها ذا طبيعة إلهية (إله أو ابن إله) أو أنه مختار بطريقة مباشرة أو غير مباشرة من هللا تعالى‬

‫حسب ما عرف بنظرية الحق اإللهي‪ ،‬ويترتب على ذلك أن يكون الحاكم في منزلة عالية ال يرقى‪ /‬إليها‬

‫أحد من أفراد الشعب‪ ،‬وأنه ال يعترض على أقواله أو أفعاله‪ ،‬وليس ألحد قبله حقوق أو التزامات بل‬

‫عليهم الخضوع التام إلرادة الحاكم حيث ال حق لهم في مقاومته أو االعتراض عليه‪ ،‬ومن البين أن هذا‬

‫التصور للحاكم ال وجود‪ /‬له في الفقه السياسي اإلسالمي‪ ،‬وال في التاريخ اإلسالمي‪ ،‬فالحاكم بشر خالص‬

‫ليس له عالقة باهلل إال عالقة العبودية والخضوع‪ /‬لبارئه‪ ،‬وللمسلمين الحق في متابعته ومراقبته‬

‫‪.‬ومحاسبته‪ ،‬وكذا مقاومته لو خرج عن حدود الشرع الذي يجب عليه التقيد به‬

‫وقد أوجد هذا التصور‪ /‬للدولة الدينية ردة فعل عنيفة عند مفكري تلك األمم وفالسفتهم‪ /‬مما أجبرهم إلى‬

‫اتخاذ موقف مناقض أشد المناقضة فلم يكفهم أن ينفوا المعاني الباطلة المتعلقة بذلك المصطلح‪ ،‬بل بالغوا‬

‫وغالوا ونفوا أن يكون للدين أي تدخل أو تعلق بالدولة‪ ،‬ومن ثم استعاضوا عن ذلك بوضع اإلنسان في‬

‫موضع الدين‪ ،‬فأصبح اإلنسان هو من يضع القوانين‬

‫وهو الذي ينظم األمور من غير أن يتقيد في ذلك بشيء من خارجه‪ ،‬والدولة التي يحل فيها اإلنسان محل‬

‫هللا‪-‬تعالى هللا عما يقولون ويتصورون ويصفون‪-‬هي الدولة المدنية في تصورهم‬

‫فالدولة المدنية ليست لها مرجعية سوى اإلنسان‪ ،‬ومن ثم فهي مناقضة لتدخل الدين في أي من شئونها‪/‬‬

‫وقضاياها‪ /،‬أي تقوم بفصل الدولة عن الدين فهي بذلك مرادفة للدولة العلمانية‪ ،‬وهذا يتضح بجالء عندما‬

‫نجد كل األطياف‪ /‬المعادية لإلسالم‪-‬في بالد المسلمين‪-‬على اختالفها‪ /‬وتنوعها‪ /‬تنادي بالدولة المدنية في‬

‫مقابل دعوات اإلسالميين لتحكيم الشريعة ألن الدولة المدنية في مفهومهم مناقضة للدولة اإلسالمية التي‬

‫ال يمثل اإلنسان فيها‪-‬رغم تكريم‪ /‬اإلسالم له‪-‬أية مرجعية تشريعية‪ ،‬بل المرجعية فيها لكتاب هللا تعالى‬
‫‪178‬‬
‫وسنة نبيه صلى هللا عليه وسلم‬

‫ومن هنا يتعجب الباحث ويستغرب مما يدعيه بعض اإلسالميين بقولهم‪" :‬الدولة اإلسالمية هي دولة‬

‫مدنية باألساس"‪ ،‬وهو مجرد كالم مرسل لم يقم عليه دليل‪ ،‬وهم في سبيل تمرير دعواهم الباطلة‪-‬التي ال‬

‫رصيد لها من النصوص أو الواقع‪-‬قاموا بعملية تزوير‪ /‬فاضحة حيث عمدوا لبعض التصورات اإلسالمية‬

‫الصحيحة وقاموا بنقلها وإلصاقها بالدولة المدنية دون أدنى برهان أو دليل‪ ،‬حيث يذكر بعضهم‪ /‬أن الدولة‬

‫المدنية "تقوم السلطة بها على ال َبيْعة واالختيار والشورى والحاكم‪ /‬فيها وكيل عن األمة أو أجير لها‪ ،‬ومن‬

‫حق األمة ـ م َّ‬


‫ُمثلة في أهل الح ِّل وال َع ْقد فيها ـ أن ُتحاسبه و ُتراقبه‪ ،‬وتأمره وتنهاه‪ ،‬و ُت َقوِّ مه إن أعوجَّ‪ ،‬وإال‬

‫عزلته‪ ،‬ومن حق كل مسلم‪ ،‬بل كل مواطن‪ ،‬أن ينكر على رئيس الدولة نفسه إذا رآه اقترف‪ /‬منكرً ا‪ ،‬أو‬

‫ضيَّع معرو ًفا‪ ،‬بل على الشعب أن يُعلن الثورة عليه إذا رأي كفرً ا َب َواحً ا عنده من هللا برهان" ويقول آخر‪:‬‬

‫"الدولة اإلسالمية هي أول دولة مدنية في التاريخ يخضع فيها الناس لسلطة النظام العام أو القانون‪ ،‬وال‬

‫تفتش في الضمائر‪ ،‬وال تملك سلطة حرمان أو غفران"‪ ،‬وهذا الكالم وسابقه ال عالقة له بالدولة المدنية‬

‫فالتعبيرات أو المفاهيم أو التصورات السابقة كلها إسالمية تجد في النصوص الشرعية دليلها وبرهانها‪،‬‬

‫والدولة المدنية في عرف أصحاب المصطلح ليست الدولة المتحضرة أو الدولة الراقية التي فارقت‬

‫البداوة وأخذت بكل أسباب الرقي‪ /‬والتمدن‪ ،‬أو التي فارقت الدولة العسكرية‪ ،‬بل الدولة المدنية عندهم هي‬

‫الدولة التي ال يكون للدين فيها أية مرجعية‪ ،‬ومما يمكن أن يستدل به على ذلك كالم اإلسالميين أنفسهم‬

‫حيث يقولون‪ :‬نحن نريد دولة مدنية بمرجعية إسالمية فهذا الطلب يدل على أنه ليس من معنى الدولة‬

‫المدنية تقيدها بدين الشعب ولو كان ذلك داخل في معناها أو جزء من معناها لم تكن هناك حاجة لذلك‬

‫القيد‪ ،‬ونحن عندما نراجع تعاريف العلماء في كتب األحكام السلطانية والسياسة الشرعية لتعريف الخالفة‬

‫التي تقابل السلطة أو الحكومة في الدولة نجد أن من أركانها متابعة الرسول صلى هللا عليه وسلم‬

‫والتمسك بالشريعة وسياسة الدنيا بها‪ ،‬وهذا ينفي ما يدعيه البعض بقولهم‪" :‬الدولة اإلسالمية هي دولة‬

‫مدنية باألساس"‪ ،‬ولو كانوا يريدون من ذلك الكالم التأكيد على أن الدولة في اإلسالم ليست دولة متخلفة‬
‫‪179‬‬
‫أو يغلب عليها البداوة بل تأخذ بكل أسباب التمدن والتحضر‪ /‬والرقي كان الصواب أن يستخدموا بدال منها‬

‫لفظ دولة متحضرة مثال وذلك لصدق هذا اللفظ عليها‪ ،‬ولكونه غير محمل بمعاني فاسدة كلفظ المدنية‬

‫الذي يستخدم‪ /‬في كال المعنيين الصحيح والفاسد‪ ،‬ولعل الحرص الشديد على تسويق‪ /‬مصطلح الدولة‬

‫المدنية والضغط‪ /‬على الحركة اإلسالمية كي تستخدمه إنما ذلك بغرض إدخال األفكار‪ /‬والتصورات‪/‬‬

‫العلمانية والتمكين لها بين المصطلحات اإلسالمية بعيدا عن مصطلح العلمانية الذي افتضح أمره وملته‬

‫النفوس السليمة‬

‫والمصطلح الذي ينبغي التمسك به والدعوة إليه في وصف‪ /‬دولتنا هو أن نصفها باإلسالمية‪ ،‬واإلسالم‬

‫أحكامه معروفة معلومة دل عليها الكتاب والسنة‪ ،‬فيكفي أن نقول الدولة اإلسالمية حتى يفهم المراد منها‬

‫وهذا المسلك الذي يحاول أصحابه أن ينتزع المعاني اإلسالمية ويكسي بها مصطلحات‪ /‬غير إسالمية‬

‫‪:‬مسلك غير راشد لعدة أمور‬

‫وضع المصطلح الدخيل في منزلة أعلى من المعاني التي دلت عليها الشريعة بدليل الركون إليه‪1-‬‬

‫وتقديمه عما عداه‬

‫التأسيس للمصطلح الدخيل والتمكين له بزي شرعي أو بلباس شرعي مما يمثل احتالال فكريا‪2-‬‬

‫نسبة أحكام شريعتنا لغيرها من المصطلحات الدخيلة‪3-‬‬

‫وكل هذا يعني انهزام القائلين به أمام المصطلحات الدخيلة مما يجعلها تنزل منزلة األصل بينما تكون‬

‫‪.‬المصطلحات الشرعية في منزلة التابع‬

‫وقد يستغرب الباحث حرص كثير من الدعاة على تغييب المصطلح اإلسالمي والخجل من الجهر به‬

‫والدعوة إليه في الوقت الذي يتبجح بعض دعاة مصطلح الدولة المدنية وال يخجلون من بيان علمانية‬

‫المدلول يقول أحدهم في صراحة‪" :‬الخيار بين الدولة المدنية والدولة الدينية هو خيار بين الحداثة وبين‬

‫العودة للماضي‪ ,‬الدولة المدنية هي الدولة العلمانية الديمقراطية الليبرالية‪ ,‬وهي تعتبر بحق نقيض للتيار‬

‫الرجعي السلفي‪ ,‬وتفضي للخالص النهائي من النعرات الدينية والطائفية والمذهبية بحكم موقفها‪ /‬المحايد‬

‫من كل المعتقدات‪ ,‬الدولة المدنية هي التي تحد من تسخير الدين لمصلحة الحاكمين‪ ,‬وهي الدولة التي‬
‫‪180‬‬
‫تهدف إلى إبعاد الدين عن السياسة" ‪ ،‬وهو ما يعني تعارض مدلول الدول المدنية مع ما هو مقرر وثابت‬

‫في شرعنا‬

‫س ُك ْ‪‰‬م أَ ِو ا ْل َوالِ َد ْي ِن َواألَ ْق َربِينَ (‬


‫ش َهدَاء هّلِل ِ َولَ ْو َعلَى أَنفُ ِ‬ ‫ومن ثم فال )يَا أَ ُّي َها الَّ ِذينَ آ َمنُو ْا ُكونُو ْا قَ َّوا ِمينَ بِا ْلقِ ْ‬
‫س ِط ُ‬

‫تصلح تلك المحاوالت التي يحاولها البعض من إضفاء مسحة إسالمية على هذا المصطلح وعليهم أن‬

‫يقلعوا عن تلك المحاولة التي ال يستفيد الدين منها شيئا‪ ).‬بتصرف من مقال الدكتور محمد بن شاكر الشريف‬

‫موقع صيد نت‬

‫ونختم بكالم شيخنا العالمة الدكتور القرضاوى (الدولة اإلسالمية دولة مدنية و ليست دولة دينية‪ ،‬فرق‬

‫كبير بين الدولة االسالمية أي الدولة التي تقوم على أساس اإلسالم‪ ،‬و"الدولة الدينية الثيوقراطية" التي‬

‫عرفها الغرب في العصور الوسطى‪ ...‬الخطأ كل الخطأ الظن بأن الدولة االسالمية دولة دينية‪ ،‬إنما الدولة‬

‫اإلسالمية إذا نظرنا] للمضمون ال الشكل وإلى المسمى ال االسم "دولة مدنية" مرجعها االسالم‪ ،‬وهي تقوم‬

‫على أساس االختيار والبيعة والشورى ومسؤولية الحاكم أمام األمة‪ ،‬وحق كل فرد في الرعية أن ينصح‬

‫لهذا الحاكم ويأمره بالمعروف] وينهاه عن المنكر‪ ،‬بل يعد اإلسالم هذا واجبا كفائيا على المسلمين‪ ،‬ويصبح‬

‫فرض عين إذا قدر عليه مسلم وعجز غيره عنه أو جبن عن أدائه‪ .‬والحاكم] في االسالم واحد من الناس‬

‫ليس بمعصوم] وال مقدس يجتهد لمصلحة األمة فيصيب ويخطئ‪ ..‬وهو يستمد] سلطته وبقاؤه في الحكم من‬

‫األرض ال من السماء ومن الناس ال من هللا‪ ،‬فاذا سحب الناس ثقتهم منه وسخطت أغلبيتهم عليه وجب‬

‫عزله بالطرق] الشرعية‪ ...‬والحاكم في االسالم ليس وكيل هللا بل هو وكيل األمة أو أجيرها‪ ،‬وكلته في‬

‫إدارة شئونها أو استأجرته لذلك كما قال أبو بكر بعد أن ولي الخالفة‪" :‬كنت أعمل لنفسي واليوم أعمل لكم‬

‫‪".‬فاصرفوا إلي من بيت مالكم ما يكفي لعيش رجل من قريش ليس بأعالهم وال أدناهم‬

‫والدولة االسالمية ال يقوم عليها رجال دين بالمعنى الكهنوتي المعروف‪ ]،‬إنما يوجد علماء دين من باب‬

‫الدراسة والتخصص وهذا باب مفتوح لكل من أراده وقدر عليه‪ ،‬وعالم الدين انما هو معلم ومرشد‪ ،‬وإذا‬
‫‪181‬‬
‫كان عالم الدين كفئا يمكن أن يكون من رجال الدولة بمؤهالته وكفايته ال بجبته وعمامته‪ ،‬فإنما تقوم الدولة‬

‫باألقوياء األمناء‪ ،‬الحفظاء العلماء)القرضاوي‪ ،‬التطرف] العلماني في مواجهة اإلسالم‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‬

‫‪ .75‬و القرضاوي‪ ]،‬من فقه الدولة في االسالم‪ ،‬القاهرة دار الشروق‪ ]،‬ط‪ ،2001 ،3‬ص ‪56‬‬

‫الباب التاسع‬

‫تعريف أهل الحل والعقد – صفاتهم – وشروطهم‬


‫أوال‪ :‬تعريف أهل الحل والعقد‬

‫مفهوم " أهل الحل والعقد" غيرمتفق عليه بين العلماءفلهم في تحديد المراد به أقوال واتجاهات مما يزيد‬

‫خطورة توظيف هذا المصطلح قال األستاذ محمدسليم العوا‪ ":‬وللعلماءفي‪ /‬مفهوم أهل الحل والعقد أراء‬

‫يمكن ردها إلى رأيين‪ :‬أولهما ‪ :‬أنهم رؤساءاألجناد ( قادةالجيوش) وزعماء القبائل ورؤوس العشائرممن‬

‫لهم طاعة من يليهم من الناس‪،‬وثانيهما‪ : /‬أنهم أهل العلم والفتيا واالجتهاد من حملة الشريعة اإلسالمية‬

‫وعلومها‪ .‬وبعض العلماء يرى أن الجمع بين الفريقين هوالذي يمثل أهل الحل والعقد " ( الفقه اإلسالمي‬

‫في طريق التجديد ص ‪) 67:‬‬


‫‪182‬‬
‫" وعلى هذا الرأي التوفيقي اتجهت الموسوعة الفقهية الكويتية حيث ذكرت تحت مادة " أهل الحل والعقد‬

‫يطلق لفظ أهل الحل والعقدعلى أهل الشوكة من العلماء والرؤساء ووجوه الناس الذين حصل بهم "‬

‫مقصود الوالية " واليخفى على أحد أنا لو نزلنا هذا التعريف على واقع الحركة لما تأهل أحد ليكون من‬

‫أهل الحل والعقد ؛فإنا إذا وجدنا في الحركة عالما أوأكثر يقاربون درجة االجتهاد فلن نجد فيها رؤساء‬

‫األجناد وزعماء القبائل ورؤوس العشائر ‪.....‬إذن البد من النظرإلى مفهوم أهل الحل والعقد نظرة أخرى‬

‫‪.‬بعيدة عن المفهوم التاريخي لها‬

‫‪:‬فوارق دقيقة بين المصطلحين‬

‫يختلط على كثيرمن الناس مفهوم" أهل الشورى" بمفهوم"أهل الحل والعقد" فيحسبهما بمعنى واحد‬

‫والتحقيق غيرذلك؛ فقد يكونان بمعنى وقد يختلفان والغالب ذلك‪ ،‬جاء في الموسوعة الفقهية الكويتية ‪،‬مادة‬

‫"‪:‬أهل الحل والعقد‬

‫المستقرئ لحوادث التاريخ يجد أن هناك فرقا‪ /‬بين أهل الشورى وأهل الحل والعقد؛ إذ الصفة البارزة في‬

‫أهل الشورى هي العلم‪ ،‬لكن الصفة البارزة في أهل الحل والعقد هي الشوكة " ‪ .‬وعلى هذا فالشورى‬

‫التي هي تداول اآلراء تحتاج إلى العلم والرأي ولكن " الحل والعقد" شيءغيرالعلم والرأي بل يبنى‬

‫عليهما‪،‬وهواتخاذ القرار وإبرام الرأي وهذا ما نعبر عنه بالصالحيات ؛أي أن أهل الحل والعقد هي الجهة‬

‫التي لها صالحية اتخاذ القرار في أمرمن األمو ريوضح هذ االمعنى ويبينه بجالء قول العالمة ابن‬

‫عابدين الحنفي ‪ " :‬ولما كانت الرياسة عند التحقيق ليست إال استحقاق التصرف؛ إذ معنى نصب أهل‬

‫الحل والعقد لإلمام ليس إال إثبات هذااالستحقاق‪ /‬عبراالستحقاق " ( حاشية رد المحتار البن عابدين ص‬

‫‪ ) 4/204‬والمقصود باستحقاق‪ /‬التصرف الصالحيات التي تعطى لإلمام بتنصيبه‪ ،‬فأهل الحل والعقد‬

‫يستعملون الصالحيات المخولة لهم لنصب اإلمام حتى يستحق الصالحيات المتعلقة بمنصبه؛وهذامعنى‪/‬‬

‫‪183‬‬
‫قوله ‪":‬ليس إالإثبات هذااالستحقاق‪ /‬عبراالستحقاق‪" /‬أي إثبات استحقاق اإلمام للتصرف (صالحياته)‬

‫عبراستعمالهم الستحقاقهم‬

‫إذا تبين أن "الحل والعقد" تعنى الصالحيات المخولة لجهة ما للنظر في القضايا المحددة فالبد أن يكون‬

‫واضحا أن هذا يقتضي فى قضية " الحل والعقد" أنها قضية نسبية تحددها التنظيمات واللوائح وليست‬

‫محصورة في جهازمعين أوهيئة محددة؛ بل قد تختلف جهات الحل والعقد في الدولة الواحدة وفي‪ /‬التنظيم‬

‫الواحد‬

‫بحسب االختصاص؛ فمثال اليمكن لمجلس ما أن يتخذ قرارا‪ /‬يحل ويعقد في قضية تتعلق باالقتصاد‪ /‬إذا‬

‫فرضنا‪ /‬أنه اليوجد في أعضائه اقتصادي‪ /‬واحد‪ ،‬فأهل الحل والعقد في القضايا االقتصادية هما‬

‫االقتصاديون وليس غيرهم‪ .‬قال ابن خويزمنداد‪ /‬المالكي ‪ ":‬واجب على الوالة مشاورة العلماء فيما‬

‫اليعلمون وفيما‪ /‬أشكل عليهم من أمورالدين ووجوه الجيش فيمايتعلق بالحرب ووجوه الناس فيما يتعلق‬

‫بالمصالح ووجوه الكتاب والوزراء والعمال فيما يتعلق بمصالح البالد وعمارتها"( تفسيرالقرطبي ‪:‬‬

‫‪ )4/240‬وهذا الموافق لهديه ـ صلى هللا عليه وسلم ـحيث كان يعمم الشورى إذاتعلق األمربعامةالناس‬

‫فكان يقول ‪ ":‬أشيرواأيهاالناس‪ ( ".....‬صحيح البخاري‪. 4/1780 .4/1531:‬صحيح مسلم ‪) 2/968:‬‬

‫وكان يخصص الشورىإ ذاتعلق األمربمسألة خاصة كمشاورته ـ صلىا هلل عليه وسلم ـ لوجوه األنصار‪ /‬في‬

‫مصالحة قبيلة غطفان في غزوة األحزاب‬

‫(سيرة ابن هشام ‪111-3/110 :‬‬

‫‪184‬‬
‫وقد تكلم علماء السلف عن أهل الشورى في سياق حديثهم عن الخالفة اإلمامة باعتبارهم الهيئة المنوط‬

‫بها اختيار الخليفة أو اإلمام بعد توافر الشروط المعتبرة فيه ‪ .‬أو عزله إذا دخل بإحداها ولم يتكلموا‬

‫عنهم بصفتهم هيئة تشريعية وقد عبروا عن هذه الهيئة بهذه الصفة المحددة بتعبيرات مختلفة ‪ :‬أهل‬

‫الحل والعقد كما سماهم الماوردى محدد إياهم بشروطهم ال بفئاتهم ‪ .‬أهل االجتهاد ‪ ،‬أهل اإلجماع أو‬

‫علماء األمة القادرين على االجتهاد واالستنباط وبعض علماء السلف قد حاول تعيين الفئات التي تتكون‬

‫منها هيئة االختيار ( أهل الشورى ) ففقهاء الحنفية يعتبرونهم األشراف واألعيان ‪ .‬واإلمام القرطبي‬

‫نقل عن ابن عطية أنهم أهل العلم والدين ونقل عن ابن خويز منداد أنهم العلماء ووجوه الناس ووجوه‬

‫الكتاب والوزراء ‪ .‬واإلمام النووي يعتبرهم العلماء والرؤساء ووجوه الناس ‪.‬‬

‫أما فقهاء اإلسالم المعاصرين فقد تكلموا عن أهل الشورى باعتبارهم الهيئة التي تنوب عن األمة في‬

‫مباشرة سلطات السيادة من اختيار وتشريع ورقابة ويعرفونهم بتعريفات تتفق في المدلول وتختلف في‬

‫التفصيل ‪ .‬فإلمام محمد عبده يعرفونه بأنهم ‪ ( :‬علماء األمة المجتهدين واألمراء والحكام ورؤساء‬

‫الجند وسائر الرؤساء والزعماء الذين يرجع إليهم الناس في الحاجات والمصالح العامة ) ‪.‬‬

‫ويقول السيد رشيد رضا ‪ ( :‬يجب أن يكون في األمة رجال أهل بصيرة ورأي في سياستها ومصالحها‬

‫االجتماعية وقدرة االستنباط يرد إليهم أمر األمن والخوف وسائر األمور االجتماعية والسياسية وهؤالء‬

‫هم الذين يسمون في اإلسالم أهل الشورى أهل الحل والعقد الذين يسمون عند األمم األخرى بنواب‬

‫األمة) ‪.‬‬

‫ويعرفهم الشيخ شلتوت بأنهم ‪ ( :‬أهل النظر الذين عرفوا في األمة بكمال االختصاص في بحث الشئون‬

‫وإدراك المصالح والغيرة عليها كأصحاب القضاء ‪ ،‬وقواد الجيش ورجال المال واالقتصاد والسياسة‬

‫وغيرهم من الذين عرفوا في تخصصهم بنضج اآلراء وعظيم اآلثار وطول الخبرة والمران ‪ ،‬فهؤالء‬

‫هم أولو األمر في األمة وهم الذين يجب على األمة أن تعرفهم بآثارهم وتمنحهم ثقتها و تنبيهم عنها في‬

‫نظمها وتشريعها والهيمنة على حياتها وهم الوسيلة الدائمة في نظر اإلسالم لمعرفة ما تسوس به األمة‬

‫‪185‬‬
‫أمورها فيما لم يرد من المصادر السماوية الحاسمة وهم أهل اإلجماع الذين يكون اتفاقهم حجة يجب‬

‫النزول عليها ) ‪.‬‬

‫ويقول األستاذ أبو األعلى المودودي ‪ ( :‬وهم الحائزون لثقة العامة الذين يطمئن إليهم الناس إلخالصهم‬

‫ونصحهم وأمانتهم وأهليتهم والذين تضمن مشاركتهم في أقضية الحكومة أن األمة ستمد إلى الحكومة‬

‫يد التعاون في تنفيذ هذه األقضية ) ‪.‬‬

‫وهذا ما انتهى إليه أيضًا رأي األستاذ عبد القادر عودة حيث يقول ‪ ( :‬ألولياء األمور مثالً أن يعرفوا‬

‫رأي الشعب عن طريق رؤساء األسر والعشائر أو عن طريق ممثلي الطوائف أن يأخذوا رأي األفراد‬

‫الذين تتوافر فيهم صفات معينة ) ‪.‬‬

‫ونحن إذا أردنا أن نحلل اآلراء السابقة لوجدنا أقربها إلى الصواب وأكثرها تحقيقًا لألهداف المنشودة‬

‫والتي ترمي إليها مرونة القواعد الشرعية والنصية والمستنبطة من مواءمة لمختلف األزمان والبيئات ‪،‬‬

‫هي اآلراء التي توسع من دائرة أهل الحل والعقد بحيث تشمل وجوه االختصاص في كل ناحية من‬

‫نواحي الحياة المختلفة حتى تأتي هذه الهيئة ممثلة لألمة أصدق تمث‬

‫ثانيا‪ :‬صفات أهل الحل والعقد كيفا وكما‬

‫شروط أهل الحل والعقد من حيث الكيف ‪:‬‬


‫قد يكون الماوردى هو أول من أوجب توافر شروط معينة في أهل الشورى في سياق حديثه عن‬

‫اختيار الخليفة أو اإلمام ‪ ،‬وهذه الشروط التي استلزمها تعتبر إجماال جامعًا لتفصيل أورده من جاء بعده‬

‫وذلك حيث يقول ‪ ( :‬أما أهل االختيار فالشروط المعتبرة فيهم ثالثة ‪ ،‬العدالة الجامعة لشروطهم ‪ ،‬العم‬

‫الذي يتوصل به إلى معرفة من يستحق اإلمامة على الشروط المعتبرة فيها ‪ ،‬الرأي والحكمة المؤديان‬

‫‪186‬‬
‫إلى اختيار من هو لإلمامة اصلح ‪).‬‬

‫واإلمام محمد عبده حين أوجب طاعتهم اشترط أن يكونوا منا أي من المسلمين ‪ ،‬وإال يخالفوا نصوص‬

‫القران والسنة ‪ ،‬وان يكونوا مختارين في آرائهم ‪.‬‬

‫ويقول الشيخ محمود شلتوت ‪ ( :‬أن يكونوا من أهل العلم والبصر بأمور الدين والدنيا ومن ذوي‬

‫الرأي والخبرة في نواحي الحياة المختلفة )‪.‬‬

‫وبعض المعاصرين لخصوا الشروط في شرطين فقط ‪( .‬العلم والقبول عند الناس ) ( األخالق الدينية‬

‫والثقافة العامة )‬

‫وهذا التلخيص معيب خاصة فيما يتعلق بالثقافة العامة إذ يجب أن تكون التعبيرات محددة وموضحه‬

‫والمقصود منها ‪ .‬ولقد عاب البعض على السلف إتيانهم بألفاظ مبهمة عند تحديدهم لفئات أو أوصاف‬

‫أهل الشورى مثل ( الرؤساء ) ‪ ،‬و (وجوه الناس )‬

‫ولكن الشروط التي قال بها علماء المسلمين من المرونة بحيث تسري في كل زمان ومكان إذ أنها تمثل‬

‫أساسا في العدالة التي هي األخالق الدينية الفاضلة والعلم بمتطلبات المهمة المنوطة بالعضو والرأي‬

‫المفضي إلى اتخاذ القرار السليم ‪ .‬ومن ثم فإن لوالة األمر أن يفصلوا هذه الشروط وان يزيدوا عليها‬

‫دون أن يمسوا بجوهرها ‪ .‬فلهم اشتراط مؤهل معين أو بلوغ سن معينة أو غير ذلك‬

‫ويرى البعض جوزا أن يكون من بين أولي األمر من هم على غير دين المسلمين خاصة من أهل‬

‫الكتاب ‪ :‬ألنهم يستطيعون أن يكونوا خبراء أهل تخصص في كثير من فروع النشاط المختلفة كغيرهم‬

‫من إخوانهم المسلمين ) ومع أن هذا الرأي قد استشهد بالقران الكريم الذي احل لنا طعامهم أباح لنا‬

‫التزوج منهم ‪ ،‬إال انه قد بنى رأيه على ما وصل إليه العصر الحديث من تقرير لحقوق اإلنسان التي ال‬

‫تأتي باختالف الجنس أو اللغة أو الدين ‪.‬‬

‫‪187‬‬
‫ونحن وان جاز لنا أن نجاري هذا الرأي في النتيجة التي يرمي إليها إال أننا ال نتفق معه في األساس‬

‫الذي اعتمد عليه ألننا لو سلمنا معه بان مبادئ حقوق اإلنسان التي وصل إليها العصر الحديث هي‬

‫التي تجيز لنا هذا االستثناء لكان معنى ذلك – بمفهوم المخالفة – أن شريعتنا اإلسالمية ال تجيز هذا‬

‫وإننا قد تلمسناه في غيرها وهذا ما يناقض روح الشريعة اإلسالمية وسوابقها العملية فالتسامح‬

‫اإلسالمي الذي يكفل حرية االعتقاد وحرية إقامة الشعائر والعبادات وإبداء الرأي والمساواة ‪ ،‬وهي‬

‫جماع األصول التي قامت عليها الديمقراطيات الحديثة وجاءت بها المبادئ التي تضمنها إعالن حقوق‬

‫اإلنسان ‪ ،‬قد سبق العمل بها في مراحل الخالفة اإلسالمية والتي يشير إليها بحث متخصص في هذا‬

‫الشأن ‪ (( .‬فقد تولى كثير من المسيحيين المناصب الكبرى في العصر العباسي فتولى أبو إسحاق‬

‫الصابي منصب الكاتب ( الوزير ) وكان من أسمى المناصب ‪ ،‬كما كان نصر بن هارون وزير عضد‬

‫الدولة مسيحيًا ‪ ،‬وتولى األقباط المصريون في ظل الحكومة اإلسالمية المناصب الكبيرة ومعظم‬

‫الوظائف اإلدارية ‪ ،‬ففي عصر عبدا لعزيز بن مروان كان هناك كاتبان أحدهما إلدارة مصر العليا أي‬

‫الوجه القبلي ‪ ،‬واآلخر إلدارة مصر السفلى أي الوجه البحري ‪ ،‬كما تولى األقباط مناصب والة األقاليم‬

‫فقد ذكر أن مسيحيًا تولى حكم اإلسكندرية في عهد الخليفة يزيد ‪.‬‬

‫وبذلك نستطيع القول بان التسامح اإلسالمي وسوابقه العملية التي ساعدت على انتشار ومكنت لحكمه‬

‫في فتوحاته الواسعة يجيز أن يكون من بين أهل الشورى من هم على غير ديننا من إخواننا من أهل‬

‫الكتاب‬

‫ماداموا مستوفين للشروط األخرى وذلك ألسباب أهمها ‪:‬‬

‫‪ .1‬أنهم يمثلون نسبة من المواطنين لهم مالنا وعليهم ما علينا ‪.‬‬

‫‪ .2‬أنهم أهل خبرة وتخصص في كثير من نشاطات الحياة المختلفة كغيرهم من إخوانهم المسلمين‬

‫‪188‬‬
‫‪ .3‬أن نسبتهم غالبًا ما تكون ضئيلة فال يخشى منها في اتخاذ قرار ‪.‬‬

‫‪ .4‬أن ذلك يقطع ألسنة من يريدون تجريح اإلسالم والنيل منه ‪ ،‬ويوصد الباب أمام من يتلمسون‬

‫أسانيدهم بعيدا عن روحه وأصوله‬

‫وما سبق من أقوال الفقهاء نوجز صفات أهل الحل والعقد ‪ ،‬فمن ذلك‪:‬‬

‫‪ -1‬التكليف‪ :‬أي يكون مسلمًا بالغًا عاقالً‪ ،‬فال يكون غير المسلم أو الصغير غير البالغ أو المجنون‬

‫غير العاقل من أهل شورى األمير ومجلسه‪.‬‬

‫‪ -2‬العدالة‪ :‬وهو أن يكون قائمًا باألركان والواجبات‪ ،‬متجافيًا عن الكبائر واآلثام العظام‪ ،‬وهي صفة‬

‫يظهر منها غلبة دين المسلم على الشبهات والشهوات‪ ،‬فاالستجابة للشبهات تجر إلى الوقوع في البدع‬

‫والضالالت‪ ،‬واالستجابة للشهوات تجر للوقوع في الفسق والمعصية والمجاهرة بهما‪ ،‬والعدالة من سلم‬

‫من كليهما من البدع المضلة والمعصية المهلكة‪ ،‬فالعدل هو المسلم الذي ملك قلبه وجوارحه فأدى‬

‫الواجبات‪ ،‬وترك الكبائر المحرمات‪ ،‬ولم يمل بقلبه إلى بدعة‪ ،‬أو يجاهر بمعصية‪ ،‬يتحكم في هواه؛ فهو‬

‫مأمون وقت الغضب والرضا‪ ،‬بعيد عن مواضع التهم‪.‬‬

‫‪ -3‬العلم والخبرة‪ :‬اللذان يُتوصل بهما إلى الصواب‪،‬قال ابن خويز منداد المالكي‪«:‬واجب على الوالة‬

‫مشاورة العلماء فيما ال يعلمون وفيما أُشكل عليهم من أمور الدين‪ ،‬ووجوه الجيش فيما يتعلق بالحرب‪،‬‬

‫ووجوه الناس فيما يتعلق بالمصالح‪ ،‬ووجوه الكتّاب والوزراء فيما يتعلق بمصالح البالد‬

‫وعمارتها»تفسير القرطبي‪..)4/250( ،‬وقال البخاري‪«:‬وكان القرَّاء أصحاب مجلس عمر ومشاورته‬

‫كهوالً كانوا أو شبانًا»(‪ ،‬و البخاري كتاب االعتصام‪ /‬باب قول اهلل ـ تعالى ـ ‪{ :‬وَأَمْرُهُمْ شُورَى‬

‫بَيْنَهُمْ}‪ ،‬فتح الباري‪.)13/351( ،‬‬

‫‪189‬‬
‫كان أبو بكر إذا أعياه أمر «دعا رؤوس المسلمين وعلماءهم واستشارهم»‪« :‬أخرج البيهقي بسند‬

‫صحيح عن ميمون بن مهران»‪ ،‬فذكره‪ ،‬فتح الباري‪.)13/354( ،‬‬

‫‪ -4‬األمانة والقوة‪ :‬صفتان مترابطتان ال بد منهما لمن تُسند إليه األمور المهمة‪ ،‬وقد وردتا في القرآن‬

‫في أكثر من موضع لتدل على هذه الحقيقة‪ ،‬فعندما طلبت ابنة الرجل الصالح من أبيها استئجار موسى‬

‫ـ عليه السالم ـ قالت في حديثها عنه فيما قصه اهلل علينا‪{ :‬يا َأبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَ ْأجَرْتَ‬

‫الْقَوِيُّ األَمِينُ} [القصص‪ ،]26 :‬وعندما أراد عفريت من الجن أن يأتي لسليمان ـ عليه السالم ـ‬

‫بعرش ملكة سبأ قال فيما يدعم به طلبه‪{ :‬وَإنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ} [النمل‪ .]39 :‬وقال اهلل ـ تـعالى ـ‬

‫في حق جبريل ـ عليه السالم ـ في تزكيته له‪{:‬ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ}‬

‫[التكوير‪.]21 - 20 :‬‬

‫والقوة هنا ليست قوة األبدان؛ وإنما قوة القلب ورباطة الجأش والثقة باهلل والتوكل عليه في الصدع‬

‫بالحق من غير تهيب وال وجل‪ ،‬واإلشارة بما يراه حقًا وصوابًا‪ ،‬وإن خالفه األكثر ون‪ ،‬فال يهاب قوة‬

‫المخالف‪ ،‬وال كثرة عدده‪ ،‬وقد «كانت األئمة بعـد النبي صلى اهلل عليه وسلم يستشيرون األمناء من‬

‫أهل العلم»صحيح البخاري‪ ،‬كتاب االعتصام‪ /‬باب قول اهلل ـ تعالى ـ‪ { :‬وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ }‪،‬‬

‫فتح الباري‪ )13/351( ،‬من كالم البخاري رحمه اهلل‪.‬‬

‫وقال ابن حجر ‪ -‬رحمه اهلل ‪« :-‬وأما تقييده باألمناء؛ فهي صفـة موضحـة؛ ألن غــير‬

‫المؤتمــن ال يُستشـــار وال يُلتفت لقوله»(‪ -‬فتح الباري‪.)13/354( ،‬‬

‫‪190‬‬
‫‪ -5‬الشوكة والشكيمة ‪ :‬وهى من الصفات الهامة ألهل الحل والعقد فهم وجوه الناس وساداتهم فالبد‬

‫لهم من ثأثير فى العامة يحترمون رأيهم وينزلون عليه فتأمن الفتن ويستقر المجتمع وال تتنازعه الفرقة‬

‫والخصومة‬

‫شروط أهل الحل والعقد من حيث الكم ‪:‬‬

‫تكلم علماء السلف عن أهل الشورى عند بحثهم للعدد المطلوب لصحة عقد اإلمامة من أهل الحل والعقد‬

‫‪ ،‬أو أهل االختيار ويبدوا أن الماوردى قد أجمل األقوال السابقة عليه والمعاصرة له بقوله‪ ( :‬اختلف‬

‫العلماء في عدد من تنعقد به اإلمامة منهم على مذاهب شتى فقالت طائفة ال تنعقد إال بجمهور أهل الحل‬

‫والعقد من كل بلد ليكون الرضا به عاما ً والتسليم إلمامته إجماعًا ) ثم يعقب على ذلك بقوله ‪ :‬وهذا‬

‫رأى مدفوع ببيعة أبى بطر الصديق رضي اهلل عنه على الخالفة باختيار من حضرها ولم ينتظر قدوم‬

‫غائب عنها ‪ .‬وقالت طائفة اقل تنعقد به اإلمامة خمسة يجتمعون على عقدها أو يعقدها أحدهم برضا‬

‫األربعة استدالال بأمرين ‪ ،‬أحدهما ‪ :‬أن بيعة أبى بكر رضي اهلل عنه انعقدت بخمسة اجتمعوا عليها ثم‬

‫تابعهم الناس فيها وهم عمر بن الخطاب وأبو عبيدة بن الجراح ‪ ،‬وأسيد بن حضير ‪ ،‬وبشير بن سعد ‪،‬‬

‫وسالم مولى ابن حذيفة ‪ .‬والثاني ‪ :‬أن عمر رضي اهلل عنه جعل الشورى في ستة ليعقدها أحدهم برضا‬

‫خمسة ‪ .‬وهذا قول أكثر الفقهاء والمتكلمين من أهل البصرة ‪ .‬وقد قال آخرون من علماء الكوفة تنعقد‬

‫بثالثة يتوالها أحدهم برضا االثنين ليكونوا حاكمًا وشاهدين كما يصح عقد النكاح بولي وشاهدين ‪.‬‬

‫وقالت طائفة تنعقد بواحد ألن العباس قال لعلي رضوان اهلل عليهما ‪ .‬امدد يدك أبايعك فبقول الناس عم‬

‫رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم بايع ابن عمه فال يختلف عليك اثنان ‪ .‬و ألنه حكم وحكم الواحد‬

‫نافذ ) ‪.‬‬

‫وقد ذهب أبو بكر األصم إلى أن اإلمامة ال تنعقد إال بإجماع األمة عن بكرة أبيهم ‪ .‬وهذا أيضا ما نقل‬

‫عن هشام بن عمر القوطي الذي قال أن اإلمامة ال تنعقد في أوقات الفتنة والخالف ‪.‬‬

‫‪191‬‬
‫وقال الثوبانية من المرجئة أن اإلمامة ال تثبت إال بإجماع األمة ‪ .‬وكان سليمان بن جرير الزيدي‬

‫الشيعي يقول أن اإلمامة شورى فيما بين الخلق ويصح أن تنعقد بعقد رجلين من خيار المسلمين ‪.‬‬

‫ويظهر مما حكاه ابن خلدون أن هذا كان رأي الصحابة الذين اعترضوا على مبايعة علي الفتراق باقي‬

‫الصحابة أهل الحل والعقد باآلفاق ولم يحضر إال قليل ‪.‬‬

‫وعند الشافعية أن اقل عدد يمكن أن تعقد به اإلمامة أربعون قياسًا على ما تصح به صالة الجمعة‪.‬‬

‫ونستطيع أن نحصر آراء العلماء في االتجاهات التالية ‪:‬‬

‫اتجاه أول‪ :‬يرى أن اختيار اإلمام البد أن يكون بإجماع األمة عن بكرة أبيها وهو بهذا يشبه‬

‫الديمقراطية المباشرة ‪.‬‬

‫واتجاه ثان ‪:‬يرى أن اإلمامة ال تنعقد إال باتفاق أهل الحل والعقد من كل بلد وهذا يشبه الديمقراطية‬

‫النيابية ‪.‬‬

‫واالتجاه الثالث‪ :‬هو الذي يحاول تحديد أهل االختيار بعدد محدد قياسًا على بعض العقود واألحكام ‪.‬‬

‫وقد انفرد اإلمام مالك باعتبار أهل الحل والعقد هم أهل الحرمين مكة والمدينة ‪ .‬وحدهم القالنسي‬

‫بعلماء األمة الذين يحضرون موضع اإلمام ‪.‬‬

‫وكل هذه االتجاهات تنصب أساسًا على أهل الحل والعقد باعتبارهم هيئة اختيار اإلمام أو الخليفة‬

‫‪.‬وتنوع هذه االتجاهات إنما يدل داللة قاطعة على ثراء الفقه اإلسالمي وشموله واتساعه بحيث تستطيع‬

‫كل بيئة ويستطيع كل عصر أن يأخذا منه ما يناسب كل منهما خاصة فيما يتعلق بتنصيب الحاكم‬

‫األعلى للدولة‬

‫وفى ختام هذا المبحث الشك أن أي مؤسسة من مؤسسات الدولة تستلزم نظمها أن تتوافر في أعضائها‬

‫شروطًا معينة سواء من ناحية الكيف بضرورة اكتسابهم ألوصاف معينة أو من ناحية الكم بتحديدهم‬

‫بعدد معين أو نسب محددة ‪.‬‬

‫وفقهاء الشريعة اإلسالمية لم يهملوا جانب الكيف بل ال نكون مبالغين إذا قلنا إنهم أول من طالب‬

‫‪192‬‬
‫بوجوب توافر شروط معينة في الحاكم األعلى للدولة أو الوزراء أهل الشورى وأصحاب القضاة‬

‫والوالء إلى غير ذلك ‪ .‬وهم في ذلك قد أفاضوا القول أحاطوا بكل الصفات الموضوعية التي ال يتأتي‬

‫معها قصور أو نقص ‪ ،‬ولكنهم في جانب الكم جاءت أقوالهم مبهمة في سياق الكالم عن انعقاد اإلمامة‬

‫والعدد الذي تنعقد به مما ال يمكن معه االستنتاج السليم في التحديد المطلوب ألهل الشورى‬

‫الباب العاشر‬

‫البيعة الشرعية مفهومها – صورها وأنماطها القديمة والحديثه‬

‫‪ 7‬عليها‬
‫شروط صحتها – واجبات مترتبة‬

‫الفصل األول‬

‫مفهوم البيعة وصورها‬

‫مفهوم البيعة‪:‬‬

‫البيعة في مفهومها‪ /‬اللغوي ‪ :‬إعطاء شيء مقابل ثمن معين ‪ .‬أو إعطاء العهد بقبول والية أو خالفة(‪:‬‬

‫المعجم العربي األساسي – ص ‪. )188‬‬

‫البيعة اصطالحا‪:‬‬

‫هي إعطاء العهد من المبايع على السمع والطاعة لإلمام في غير معصية‪ ،‬في المنشط والمكره والعسر‬

‫واليسر وعدم منازعته األمر وتفويض األمور إليه‪ ،‬وقد قال ابن خلدون في مقدمته‪" :‬اعلم أن البيعة هي‬

‫العهد على الطاعة‪ ،‬كأن المبايع يعاهد أميره على أن يسلم له النظر في أمور نفسه وأمور المسلمين‪ ،‬ال‬

‫‪193‬‬
‫ينازعه في شيء من ذلك‪ ،‬ويطيعه فيما يكلفه به من األمر على المنشط‪ /‬والمكره‪ ،‬وكانوا إذا بايعوا‪ /‬األمير‬

‫وعقدوا عهده جعلوا أيديهم‪ /‬في يده تأكيدا للعهد‪ ،‬فأشبه ذلك فعل البائع والمشتري‪ ،‬فسمي‪ /‬بيعة مصدر‬

‫باع‪ ،‬وصارت البيعة مصافحة باأليدي‪ ،‬هذا مدلولها في عرف اللغة ومعهود‪ /‬الشرع وهو المراد في‬

‫الحديث في بيعة النبي ‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪ -‬ليلة العقبة وعند الشجرة‪.‬‬

‫وتُعَدّ البيعة من مباحث الشورى ‪ ،‬من حيث يجري اختيار الحاكم وفق الشورى سواء في البيعة‬

‫الخاصة من أهل الحل والعقد‪ ،‬وهذه تقتضي الشورى الخاصة بينهم ‪ ،‬أو في البيعة العامة وهيبيعة‬

‫شعبية عامة للكافة من األمة‪ ،‬أي بيعة سائر المسلمين للخليفة‬

‫والتكن البيعة إال لولي أمر المسلمين ‪ .‬يبايعه أهل الحل والعقد ‪ ،‬وهم العلماء والفضالء ووجوه الناس ‪،‬‬

‫فإذا بايعوه ثبتت واليته ‪ ،‬وال يجب على عامة الناس أن يبايعوه بأنفسهم ‪ ،‬وإنما الواجب عليهم أن‬

‫يلتزموا طاعته في غير معصية اهلل تعالى ‪.‬‬

‫قَالَ الْمَازِرِيّ ‪ :‬يَكْفِي فِي بَيْعَةِ اإلِمَامِ أَنْ يَقَع مِنْ أَهْل الْحَلِّ وَالْعَقْدِ وَال يَجِب االسْتِيعَاب ‪ ,‬وَال يَلْزَم كُلّ‬

‫أَحَدٍ أَنْ يَحْضُرَ عِنْدَهُ وَيَضَع يَدَهُ فِي يَدِهِ ‪ ,‬بَلْ يَكْفِي اِلْتِزَامُ طَاعَتِهِ وَاالنْقِيَادُ لَهُ بِأَنْ ال يُخَالِفَهُ وَال يَشُقَّ‬

‫الْعَصَا عَلَيْهِ (نقالً من فتح الباري ‪).‬‬

‫وقال النووي رحمه اهلل في شرح صحيح مسلم ‪:‬‬

‫أَمَّا الْبَيْعَة ‪ :‬فَقَدْ اِتَّفَقَ الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّهُ ال يُشْتَرَط لِصِحَّتِهَا مُبَايَعَة كُلّ النَّاس ‪ ,‬وَال كُلَأ ّهْل الْحَلَو ّالْعِقْد ‪,‬‬

‫وَإِنَّمَا يُشْتَرَط مُبَايَعَة مَنْ تَيَسَّرَ إِجْمَاعهمْ مِنْ الْعُلَمَاء وَالرُّؤَسَاء وَوُجُوه النَّاس ‪ . . . ,‬وَال يَجِب عَلَى‬

‫كُلَو ّاحِد أَنْ يَأْتِيَ إِلَى األَمَام فَيَضَع يَده فِي يَده وَيُبَايِعهُ ‪ ,‬وَإِنَّمَا يَلْزَمهُ االنْقِيَادُ لَهُ ‪ ,‬وَأَال يُظْهِر خِالفًا ‪,‬‬

‫وَال يَشُقّ الْعَصَا )‬

‫‪194‬‬
‫وما ورد من األحاديث في السنة فيه ذكر البيعة فالمراد بيعة اإلمام ‪ ،‬كقوله صلى اهلل عليه وسلم ‪" :‬‬

‫ومن مات وليس في عنقه بيعة مات مِيتة جاهلية " رواه مسلم (‪.)1851‬‬

‫وقوله صلى اهلل عليه وسلم ‪ " :‬ومن بايع إماما فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فليطعه ما استطاع ‪ ،‬فإن‬

‫جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق اآلخر" رواه مسلم (‪.)1844‬‬

‫وقوله صلى اهلل عليه وسلم ‪ " :‬إذا بويع لخليفتين فاقتلوا اآلخر منهما " رواه مسلم (‪.)1853‬‬

‫فهذا كله في بيعة اإلمام وال شك‪.‬‬

‫والمعوّل عليه هو أنْ تكون الشورى مقدمة للبيعة ‪ ،‬حتى يكون اختيار الحاكم عن رضا وقبول من‬

‫الخاصة والكافة ‪ .‬وفي عقد البيعة نفسه ما يحد من استبداد الحكم الفردي ‪ ،‬حيث يلتزم الحاكم بطاعة‬

‫اهلل تعالى وذلك بطاعة أمره في الشرع‪ ،‬قرآنًا وسُنّة وإجماعًا ‪ ،‬كما يلتزم المحكومون بطاعة ولي األمر‬

‫ما دام هو طائعًا هلل تعالى‪.‬‬

‫وقد عَبَّرَ الخليفة األول أبو بكر الصديق عن عقد البيعة بقوله من خطبته األولى عقيب مبايعته‪:‬‬

‫[أطيعوني ما أطعت اهلل فيكم‪ ،‬فإنْ عصيته فال طاعة لي عليكم] خالفة الصديق والفاروق ‪-‬رضي اهلل‬

‫عنهما ‪ ،-‬تحقيق الدكتور صالح الخرفي ‪ ،‬دار ابن كثير دمشق ‪ -‬بيروت‪ ،‬الطبعة األولى ‪1418‬هـ‬

‫– ‪1998‬م ‪ ،‬ص‪.62‬‬

‫وهو عقد من أرفع مبادئ الحكم الصالح ‪ ،‬حيث الحاكم والمحكوم كالهما محتكمان لمرجعية (دستورية)‬

‫واحدة ‪ ،‬هي مناط العدل واإلحسان‪.‬‬

‫مستويات البيعة‬

‫تنقسم إجراءات البيعة إلى مستويين متتابعين متالزمين‪:‬‬


‫‪195‬‬
‫‪ -1‬بيعة االنعقاد‪ :‬وبموجبها ينعقد للشخص المبايع السلطان ويكون له بها الوالية الكبرى دون غيره‬

‫حسما للخالف حول من يتولى أمر المسلمين‪ ،‬وهذه البيعة هي التي يقوم بها أهل الحل والعقد‪ ،‬ودالئل‬

‫هذه البيعة واضحة تماما في انعقاد البيعة للخلفاء الراشدين ‪-‬رضي اهلل عنهم أجمعين‪ -‬فقد كان أهل‬

‫االختيار يقومون باختيار اإلمام ثم يبايعونه بيعة انعقاد أولية‪.‬‬

‫‪ -2‬البيعة العامة أو بيعة الطاعة‪ :‬وهي بيعة شعبية عامة للكافة من األمة‪ ،‬أي بيعة سائر المسلمين‬

‫للخليفة‪ ،‬وهذا ما تم بالنسبة للخلفاء الراشدين جميعا‪ ،‬فأبو بكر الصديق ‪-‬رضي اهلل عنه‪ -‬بعد أن بايعه‬

‫أهل الحل والعقد من المهاجرين واألنصار في سقيفة بني ساعدة‪ ،‬دُعِي المسلمون للبيعة العامة في‬

‫المسجد‪ ،‬فصعد المنبر بعد أن أخبرهم عمر بن الخطاب ‪-‬رضي اهلل عنه‪ -‬باختيارهم له‪ ،‬ومبايعتهم‬

‫إياه‪ ،‬وأمرهم بمبايعته فبايعه المسلمون‪ ،‬وما حدث مع أبي بكر الصديق حدث مع كل الخلفاء الراشدين‪،‬‬

‫وهي البيعة التي تمت تاريخيا في عاصمة الدولة ومركز الحكم ثم كان يطلب من كل وال من والة‬

‫األمصار أخذها للخليفة‪.‬‬

‫صور وصفات البيعة‬

‫وأما ما يتعلق بصفة البيعة لإلمام ‪ ،‬فإنها تكون في حق الرجال بالقول وبالفعل الذي هو المصافحة ‪.‬‬

‫وتقتصر في حق النساء على القول ‪ ،‬وهذا ثابت في أحاديث مبايعة الصحابة لرسول هللا صلى هللا عليه‬

‫وسلم ‪.‬‬

‫ومن ذلك قول عائشة رضي هللا عنها ‪ " :‬ال وهللا ما مست يد رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪ /‬يد امرأة قط‬

‫‪ ،‬غير أنه يبايعهن بالكالم" ( رواه البخاري ‪ 5288‬ومسلم ‪.)1866‬‬

‫‪196‬‬
‫قال النووي‪ /‬رحمه هللا في شرحه ‪ ( :‬فيه أن بيعة النساء بالكالم من غير أخذ كف ‪ .‬وفيه أن بيعة الرجال‬

‫بأخذ الكف مع الكالم‬

‫صور البيعة‬

‫للمتتبع في التاريخ اإلسالمي من النبى صلى هللا عليه وسلم‪ -‬حتى بداية هذا القرن الميالدي حين أسقطت‬

‫الخالفة أن يدرك أن للبيعة عدة صور منها‪:‬‬

‫‪ -1‬المصافحة والكالم‪ :‬وهذه هي الصورة الغالبة في المرات التي بايع فيها الناس النبي ‪-‬صلى هللا عليه‬

‫ك إِ َّن َما ُي َب ِايع َ‬


‫ُون هللاَ‬ ‫وسلم‪ -‬ومن ذلك بيعة الرضوان الشهيرة‪ ،‬والتي قال هللا تعالى فيها‪" :‬إِنَّ الَّذ َ‬
‫ِين ُي َب ِايعُو َن َ‪/‬‬

‫هللا َف ْو َق أَ ْيد ِ‬
‫ِيه ْم"‪.‬‬ ‫َي ُد ِ‬

‫‪ -2‬الكالم فقط‪ :‬وهذه تكون عادة في مبايعة النساء‪ ،‬ومن به عاهة ال تمكنه من المصافحة كالمجذوم الذي‬

‫قال له الرسول ‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪" :‬ارجع فقد بايعتك" رواه النسائي ومسلم‪.‬‬

‫‪ -3‬الكتابة‪ :‬وأفضل مثال على هذه المبايعة ما كتبه النجاشي إلى الرسول ‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪ -‬فقال‪:‬‬

‫"بسم هللا الرحمن الرحيم‪ ،‬إلى محمد رسول هللا ‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪ -‬من النجاشي‪ ،‬سالم عليك يا رسول‬

‫هللا ورحمة هللا وبركاته من هللا الذي ال إله إال هو الذي هداني لإلسالم‪ ،‬أما بعد‪ :‬فقد بلغني كتابك يا‬

‫رسول هللا فيما ذكرت من أمر عيسى"‪ ...‬إلى أن قال‪" :‬وقد بايعتك‪ ،‬وبايعت ابن عمك‪ ،‬وأصحابك‪،‬‬

‫وأسلمت على يديه هلل رب العالمين"‪.‬‬

‫‪ ‬وكبيعة عبد اهلل بن عمر ‪ -‬رضي اهلل عنهما ‪ -‬لعبد الملك بن مروان حيث كتب إليه يعلن لـه ببيعته‬

‫علَى سُنَّةِ اللَّهِ‬


‫وبيعة أبنائه‪ ،‬فقال في كتابه‪" :‬إِنِّي أُقِرُّ بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ لِعَبْدِ اللَّهِ عَبْدِ الْمَلِكِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ‪َ ،‬‬

‫وَسُنَّةِ رَسُولِهِ فِيمَا اسْتَطَعْتُ‪ ،‬وَإِنَّ بَنِيَّ قَدْ أَقَرُّوا بِذَلِكَ " صحيح البخاري ‪ ،‬كتاب األحكام‪ ،‬باب كيف يبايع‬

‫اإلمام الناس‪ ،‬برقم ‪6665‬‬

‫‪197‬‬
‫‪ - 4‬بيعة الوكالة‪ :‬ولها أمثلة كبيعة العقبة‪ ،‬وبيعة ضماد عن قومه‪ ،‬فقد جاء إلى النبي صلى اهلل عليه‬

‫وسلم فقال له‪( :‬هَاتِ يَدَكَ أُبَايِعْكَ عَلَى اإلِسْالمِ‪ ،‬قَالَ‪ :‬فَبَايَعَهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِصلى اهلل عليه وسلم‪ :‬وَعَلَى‬

‫قَوْمِكَ؟ قَالَ‪ :‬وَعَلَى قَوْمِي )( أخرجه مسلم‪ ،‬كتاب الجمعة‪ ،‬باب تخفيف الصالة والخطبة‪ ،‬برقم ‪.)8436‬‬

‫ثم إنّ هذه البيعة يمكن تكرارها وتجديد العهد بها بين الناس من وقت آلخر ومكان آلخر‪ ،‬على أنّ‬

‫انعقاد البيعة العامة بصيغها المعروفة واجتماع الناس عليها ال يمنع من تأكيدها وتجديدها باستخدام كل‬

‫وسائل قياس الرأي‪ ،‬واالنتخاب‪ ،‬واالختيار‪ ،‬واالستفتاء‪ ،‬وخاصة إذا كان ذلك مما التزمه الناس أو‬

‫اعتادوه أو استحسنوه‪.‬‬

‫والبيعة على تعدد صيغها ومناسباتها محكومة كلها ببيعة اإلمام ذي السلطان والشوكة والقوة‪ ،‬الحارس‬

‫للثغور‪ ،‬المطبق ألحكام الشريعة اإلسالمية‪ ،‬المقيم لحدود اهلل‪ ،‬وهو الذي تجب طاعته في المنشط‬

‫والمكره‪ ،‬وطاعته حينئذ من طاعة اهلل تعالى وطاعة رسوله صلى اهلل عليه وسلم‬

‫وتُعَدُّ البيعة لجماعة إسالمية تعاهدت على العمل والدعوة لدين هللا بالحكمة والموعظة الحسنة وفق‬

‫نظم وأعراف المجتمعات التى تعيش فيها ومن أجل رَدّ األمة إلى أصولها وتحكيم شرع اهلل من باب‬

‫البيعة الصغرى‬

‫‪198‬‬
‫وعليه‪ :‬فمتى قامت الدولة‪ ،‬وبُويع إمامها‪ ،‬لزم الجماعة نفسها وقيادتها‪ ،‬بالغًا ما بلغ جهدهم في قيام هذه‬

‫الدولة‪ ،‬لزمهم جميعًا الدخول في هذه البيعة الكبرى والتزام أحكامها ومقتضياتها‪ ،‬لكونها حاكمة على‬

‫البيعة الصغرى وما اتصل بها من العهود والمواثيق‬

‫الفصل الثانى‬

‫شروط صحة البيعة‬

‫حاول الفقهاء أن يضعوا‪ /‬شروطا‪ /‬لصحة عقد البيعة استنبطوها‪ /‬من األدلة الصحيحة لديهم‪ ،‬وانحصر‪/‬‬

‫اجتهادهم حول واقع البيعة في العصور‪ /‬المختلفة؛ فكانوا يقصدون بها بيعة اإلمام على السمع والطاعة‪،‬‬

‫وهذه الشروط هي‪:‬‬

‫‪ -1‬أن تجتمع في المأخوذ له البيعة شروط اإلمامة‪ ،‬فال تنعقد البيعة في حالة فقد واحد منها إال مع الشوكة‬

‫‪199‬‬
‫والغلبة‪ ،‬وهنا يكون الحديث عن بيعة المتغلب‪.‬‬

‫‪ -2‬أن يكون المتولي لعقد البيعة (بيعة االنعقاد) أهل الحل والعقد قبل البيعة العامة؛ فال عبرة لبيعة العامة‬

‫إن لم يبايع أهل الحل والعقد‪ ،‬ففي تقديرهم ضمان التوازنات والتحالفات داخل النخبة السياسية التى هي‬

‫شرط الستقرار األمر وعدم نقض البيعة والتنازع بعد البيعة‪ ،‬أي تأسيس البيعة على "شرعية واضحة" ‪،‬‬

‫وكان لزاما تمثيل أهل الحل والعقد للعامة تمثيال حقيقيا ال تحكمه األهواء والمصالح‪،‬‬

‫‪ -3‬أن يجيب المبا َيع إلى البيعة‪ ،‬فلو امتنع لم تنعقد إمامته‪ ،‬ولم يجبر عليها إال أن يكون ال يصلح أحد‬

‫لإلمامة إال هو؛ فيجبر عليها بال خالفوهذا‪ /‬ما قال به اإلمام النووي‪.‬‬

‫‪ -4‬أن تكون البيعة على كتاب هللا‪ ،‬وسنة رسوله ‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪ -‬قوال‪ ،‬وعمال‪ ،‬وعلى أن تكون‬

‫الطاعة ما دامت في هللا‪ ،‬وفي غير معصية؛ ألنه ال طاعة لمخلوق في معصية الخالق‪.‬‬

‫‪ -5‬أال تعقد البيعة ألكثر من واحد؛ ألنه إذا ادعى أحد الخالفة مع وجود‪ /‬الخليفة وجب قتل اآلخر‪ ،‬كما‬

‫روي عن رسول هللا ‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪ -‬في صحيح مسلم أنه قال‪" :‬إذا بويع لخليفتين فاقتلوا اآلخر‬

‫منهما"؛ أي التالي المنازع لمن تمت له البيعة بالفعل؛ ألن في هذا ش ًّقا لصف الجماعة وإثارة للفتنة ‪.‬فيدفع‬

‫اآلخر بالتي هي أحسن‪ :‬وذلك يكون بالتذكير باهلل واليوم اآلخر‪ ،‬والزجر‪ ،‬واإلعراض‪ ،‬وصرف الناس‬

‫عنه‪ ..‬وبكل ما تندفع به غوائل الفتنة ونذر الشر‪ ،‬وذلك مما يقتله معنويًا‪ ..‬ولعل هذا هو مقصود‬

‫الشارع بما ورد في األمر بذلك‪ ...‬ثم يكون آخر الدواء الكي‬

‫وعليه‪ :‬فليس المراد باألمر بالقتل في الحديث البدء بالقتل المباشر أو جعله غاية قبل استنفاد الوسائل‬

‫األخرى‪.‬‬

‫وهذا ما ذهب إليه األئمة المحدثون وشراح الحديث كاإلمام النووي حيث قال‪" :‬هذا ‪ -‬أي األمر بالقتل‬

‫‪ -‬محمول على ما إذا لم يندفع إالّ بقتله"انظر‪ :‬شرح النووي على مسلم‪12/242 ،‬‬

‫وقال اإلمام ابن حجر العسقالني‪" :‬وإنْ كان بعضهم قد أَوَّله ‪ -‬أي‪ :‬األمر بالقتل ‪ -‬بالخلع واإلعراض‬

‫‪200‬‬
‫عنه فيصير كمن قتل‪ ،‬وكذا قال الخطابي في قول عمر في حق سعد بن عباده‪ :‬اقتلوه‪ ،‬أي‪ :‬اجعلوه‬

‫كمن قتل‬

‫ابن حجر‪ :‬فتح الباري‪ )12/156 ،‬فاعتبره الخطابي قتال معنويا‬

‫‪ -6‬الحرية الكاملة للمبايع في البيعة كما فعل الصحابة ‪-‬رضوان هللا تعالى عليهم‪ -‬في بيعة الخلفاء‬

‫الراشدين‪ ،‬وألن البيعة عقد مراضاة واختيار‪ /‬ال سبيل فيها إلى اإلجبار واإلكراه‪.‬‬

‫‪ -7‬اإلشهاد على المبايعة‪ :‬وهذا شرط شرطه بعض العلماء لكي ال يدعي أحد أن اإلمامة عقدت له سرا‬

‫فيؤدي‪ /‬ذلك إلى الشقاق والفتنة‪ ،‬وهو ما يتم في العصر الحالي عبر النقل المباشر لسير العمليات‬

‫االنتخابية إعالميا‪ ،‬واإلعالن عن سيرها بشفافية والرقابة الشعبية والقانونية ‪ ،‬وإذا كان بعض العلماء قد‬

‫قالوا‪ :‬إنه ال يجب اإلشهاد ألنه ال دليل على ذلك‪ ،‬نقول‪ :‬في ظل الواقع الحديث أصبح من الواجب‬

‫اإلشهاد حتى ال تتكر عمليات التزوير‪ /‬وتغيير إرادة الشعب في النظم االستبدادية‪ ،‬وما ال يتم الواجب إال‬

‫به فهو‪ /‬واجب‪ ،‬وهناك أدلة من فعل الصحابة في اإلعالن واإلشهاد على البيعة إبان الخالفة الراشدة فيها‬

‫الغناء والشفاء‬

‫‪ ‬‬

‫حكم نكث البيعة‪:‬‬

‫فرض الشرع على المسلم الوفاء بالعهد‪ ،‬سواء كان ذلك بين المسلمين بعضهم وبعض‪ ،‬أم مع غير المسلم‬

‫ِين آ َم ُنوا أَ ْوفُوا ِب ْال ُعقُودِ"‪ ،‬وقال‪/‬‬


‫من أهل الكتاب‪ ،‬بل وكذلك مع الكافر‪ /‬إذا استقام‪ .‬فقد قال تعالى‪َ " :‬يا أَ ُّي َها الَّذ َ‬

‫هللا ُيحِبُّ‬ ‫"وأَ ْوفُوا ِب ْال َع ْه ِد إِنَّ ْال َع ْه َد َك َ‬


‫ان َمسْ ُئوالً"‪ ،‬وقال " َف َما اسْ َت َقامُوا لَ ُك ْم َفاسْ َتقِيمُوا‪ /‬لَ ُه ْم إِنَّ َ‬ ‫تعالى‪َ :‬‬

‫ْال ُم َّتق َ‬
‫ِين"‪ ،‬والبيعة بما أنها عقد وعهد بين المسلمين وخليفتهم فإنها‪ /‬داخلة في هذه اآليات‪ ،‬وباختالف أنواع‬

‫البيعة يختلف أيضا حكم نكثها من جهة الطرف الذي نكث هل هو الحاكم‪ ،‬أم المحكوم‬

‫ومن جهة نوع البيعة التي نكثت‪:‬‬

‫‪201‬‬
‫‪ -1‬فحكم من نكث البيعة على اإلسالم الكفر‪ ،‬واالرتداد باتفاق العلماء‪ ،‬وإن اختلفوا في عقوبته بحسب‬

‫حاله وحال األمة‪.‬‬

‫‪ -2‬وحكم من نكث البيعة على النصرة أو الجهاد أو السمع والطاعة دون أن يصدر عنه ما ينافي أصل‬

‫اإليمان فهو عاص مرتكب لكبيرة من الكبائر؛ ألنها نقض عهد‪ ،‬وقد توعد هللا من نقض العهد‪ ،‬ولكنها‪/‬‬

‫تختلف حرمتها باختالف موضوعها فأشدها‪ /‬حرمة نكث بيعة اإلمام الشرعي على السمع والطاعة في‬

‫غير معصية دون مبرر شرعي‪ ،‬وأما البيعة على النصرة والجهاد فهي تأتي في ظروف استثنائية‬

‫فلذلك نكثها أخف من نكث بيعة اإلمام التي وردت فيها أحاديث كثيرة تحرم نكثها أشهرها ما رواه عبد‬

‫هللا بن عمرو بن العاص ‪-‬رضي هللا عنهما‪ -‬عن النبي ‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪ -‬أنه قال‪" :‬من بايع إماما‬

‫فأعطاه صفقة يده‪ ،‬وثمرة قلبه فليطعه ما استطاع" (رواه مسلم)‪ ،‬كما أن في عدم الوفاء ببيعة الجهاد‬

‫خيانة لألمة سواء أكان بعدم الخروج للجهاد إذا دعا داعي الجهاد‪ ،‬أم كان توليا يوم الزحف فهو من‬

‫الكبائر السبع‬

‫‪ -3‬أما بيعة الهجرة فقد انقطعت بانقطاع الهجرة بعد فتح مكة الكبير‪ ،‬وهذا ال ينفي رأي الفقهاء بوجوب‬

‫الهجرة من بالد الكفار إلى بالد المسلمين لكن دون بيعة‪ ،‬ولكن هناك جهاد ونية‪ ،‬وإن اختلف الحال بعد‬

‫أن صار للمسلمين تواجد في الغرب وكفلت لهم حريات المواطنة وبقي عليهم السعي ألداء الواجبات‬

‫وضمان الحقوق‪.‬‬

‫‪ -4‬أما النكث في بيعة جماعة ما تعاهدت على العمل والدعوة لدين هللا وفق قوانين وأعراف المجتمعات‬

‫التى تعيش فيها كأن تخور‪ /‬قواه على مواصلة الطريق‪ /‬أو تختلف طبائعه وال تتطابق‪ /‬روحه مع العاملين‬

‫معه أو غير ذلك من المبررات فال حرج عليه إذا كان له من األعذار القهرية التى تعلل لذلك وعليه أن‬

‫يتعاون مع اخوانه على البر والتقوى قدر طاقته دون تجريح أو طعن أو تشويه للحق الذى خارعن حمله‬

‫أما إذا لم يكن له من العذر المقبول عند هللا فعليه إثم الحنث بالعهد وخلف الوعد وكل ذلك يكون أدنى من‬

‫نكثه بالبيعة الكبرى‬

‫‪202‬‬
‫هل تكون االنتخابات والتصويت الحديث بيعة ؟ "‬

‫إن أدوات مثل‪ :‬التصويت واالنتخابات طالما عبّرت عن جوهر البيعة‪ ،‬والتي تشير بشكل صحيح ومن‬

‫خالل اشتقاقها اللغوي إلى ارتباطها بالبيع ‪ ..‬وما دام البيع عقد فإن البيعة عقد يرد عليه ما يرد على‬

‫العقود من ضرورة توفر الرضا والعلم واالتفاق‪ ،‬وأن كل ما يشوب هذا العقد من إكراه وغش أو‬

‫تدليس إنما يؤثر في هذا العقد بناءً واستمرارًا وآثارًا ‪ ..‬فالحكمة في البيعة تكمن في الرضا واالختيار ‪،‬‬

‫وطالما تحقق ذلك الرضا واالختيار في أشكال وأساليب تنظمه‪ ،‬كانت تلك األساليب توافق رؤية‬

‫اإلسالم على الرغم من تسميتها بأسماء معاصرة ‪ ،‬والبيعة حينما تُؤْخذ إكراهًا تفقد معناها ‪،‬‬

‫واالنتخابات حينما تمارس تزويرًا تفقد معناها ‪ ،‬فالعبرة هنا بممارسة الشكل التنظيمي بما يحقق الرضا‬

‫واالطمئنان إلى تعبيره عن االختيار وال يوجد في القرآن والسنة صيغ محددة للحكم واختيار الحكام ‪..‬‬

‫وعلى ذلك يمكن أن تختلف هذه الصيغ باختالف الزمان والمكان‪ ،‬وحسب تطور المجتمعات طالما لم‬

‫تخالف نصا آمرا أوتتعارض معه ‪..‬‬

‫فيمكن هنا أن نأخذ من الديمقراطية أو نضيف إليها بما يتالءم مع ظروفنا ‪ ،‬وإذا كان نظام البيعة‬

‫سهال في المجتمع اإلسالمي األول البسيط فإن اجتهادنا يمكن أن يقودنا إلى القول بأن االنتخابات طالما‬

‫أجريت بنزاهة ودون تزوير وكانت تحقق إرادة الناخبين فقد أدت وظيفة البيعة ولكن البد أن نراعى‬

‫عدة اعتبارات منها أن البيعة – مثالً‪ -‬تفترض وجودالشروط والمواصفات الشرعية فى شخص أو‬

‫أشخاص من الناحية الدينية ‪ ،‬ومن ناحية القدرة على القيام باألعباء الدينية والدنيوية في إطار مقاصد‬

‫الشريعة ‪ ،‬أي أن للبيعة جانبًا دينيًا يقوم على شخصية المتولي للحكم وعلى برنامجه وعلى موقعه في‬

‫األمة ‪ ..‬فلكي تقترب االنتخابات من البيعة البد أن يكون فيها هذا الجانب الديني بمعنى أن يكون‬

‫واضحًا أن المرشحين للواليات العامة إنما يتجهون إلى وظيفة شرعية محكومة بأطر الشريعة ال بأطر‬

‫‪203‬‬
‫العلمانية التي ترد كل شيء إلى حرية الفرد حتى ولو خالفت الدين والفطرة السليمة فان صوتوا بأغلبية‬

‫على الشذوذ مثال كان لزاماعلى الدولة إن تسن قانونا يبيح الشذوذ‬

‫وكذلك يجب أن نراعى الصفات الدينية المطلوبة في المترشحين فال نترك الحبل على غاربه فيسطو‬

‫المال أو تسطو العصبية القبلية أو العرق أو غيره من أصناف الهوى ألن هؤالء المرشحون سيكونون‬

‫أهل الحل والعقد وعلى آرائهم واجتهادا تهم ينعقد مستقبل األمة‪ ،‬أي يجب أن يُصَفَّى نظام االنتخابات‬

‫مما نقل عن الغرب من وسائل التدليس على الناخبين ‪ ،‬وإعالء االعتبارات الشخصية أو النفعية عند‬

‫اختيار المرشح أو االعتماد على الحمالت اإلعالمية المضللة‪ ،‬والتي تبيع المرشح للناخبين كما تباع‬

‫"السلع المغشوشة" ‪ ..‬كما البد أن تصفى من أساليب التزوير والخداع وتبادل االتهامات‬

‫واجبات وحقوق‪:‬‬

‫وكما أنّ هذه البيعة العامة ملزمة وحاكمة للعامة فإنها كذلك تفرض على اإلمام المبايع واجبًا هو أعظم‬

‫التزامًا من التزام الناس نحوه‪ ،‬وهو أنْ يقوم بواجب البيعة تحكيمًا لها وحدها ال لمصالح حزبه الذي‬

‫يتقوى به أو جاء به إلى موقع المسؤولية‪ ،‬فإنها مسؤولية عامة‪ ،‬وأمانة هو مسؤول عنها وعن األمة‬

‫كلها‪ ،‬وذلك مقتضى العدل بين الناس كلهم‪ ،‬وأداء األمانات ألصحابها كما يأمرنا اهلل تعال(إِنَّ اللَهّ‬

‫يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ األَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَهّ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ‬

‫اللَهّ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا) [النساء‪.]58 :‬‬

‫وال يجوز بعد المبايعة أنْ يُنَازع اإلمام في واليته بل يكون له السمع والطاعة ما أطاع اهلل تعالى‬

‫ورسوله لقوله صلى اهلل عليه وسلم فيما يرويه عنه عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ‪ :‬بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى اهلل‬

‫علَيْنَا وَأَنْ ال نُنَازِعَ األَمْرَ‬


‫عليه وسلم عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي عُسْرِنَا وَيُسْرِنَا وَمَنْشَطِنَا وَمَكْرَهِنَا وَأَثَرَةٍ َ‬

‫أَهْلَهُ َوأَنْ نَقُومَ بِالْحَقِّ حَيْثُمَا كَانَ ال نَخَافُ فِي اللَّهِلَوْمَةَ الئِمٍ)أخرجه النسائي في كتاب البيعة برقم ‪.4084‬‬

‫‪204‬‬
‫الباب الحادى عشر‬

‫التعددية السياسية واألحزاب فى التصور اإلسالمى‬

‫الفصل األول ‪:‬تعريف ونشأة األحزاب فى التاريخ‬

‫الفصل الثانى ‪ :‬مناقشة اآلراء الفقهية فى التعددية السياسية‬

‫الفصل األول‬

‫تعريف ونشأة األحزاب فى التاريخ‬

‫التعددية في اإلسالم مصانة‬

‫إن الغرب الذي اشتهر بأنه " أبو الديمقراطية " هو الذي ال يعرفالتعددية في الدين وال يعرف التعددية‬

‫في الجنس ‪ ..‬حتى المسيحية خاضت مذاهبهاالمختلفة حروبًا ضد بعضها البعض ‪.‬‬

‫‪205‬‬
‫في األندلس لم يحتملوا أن يروا المسلمين فأبادوهم تمامًا ‪ ،‬ولم يبق منهم إنسان واحد ‪ ،‬وما حدث في‬

‫البوسنة وكوسوفا ويحدث اآلن في الشيشان من تطهير عرقي هو دليل على عدم قدرة الغرب على‬

‫استيعاب اآلخرالديني ‪ ،‬أما اإلسالم فقد حافظ على وجود األقليات الدينية والعرقية األخرى وحافظ على‬

‫حقوقها ‪ ،‬وتعدد اآلراء في اإلسالم ظهر في اختالف المذاهب الفقهية ‪ ،‬وترحيب المسلمين بهذا‬

‫االختالف ‪ ،‬ثم في اختالف المذاهب الفلسفية والكالمية ‪ ،‬ولم تحدث مجازر ألي طرف فأصل التعددية‬

‫عندنا مصون ‪ ،‬وفي نفس الوقت مهدر في الغرب ‪ ،‬والتعدديةهي لب الديمقراطية ‪ ،‬فاإلسالم الذي‬

‫يعيبون عليه أنه غير ديمقراطي يؤمن بالتعددية بكامل أنواعها ‪ ،‬أما في الغرب فال توجد هذه‬

‫التعددية ‪ ،‬ومع ذلك ال يخجل القوم بل يستمرون في مغالطاتهم ‪ ،‬وفي بالدنا يرفض العلمانيون وجود‬

‫اإلسالم كأحد الروافد األساسية ‪ ،‬وتحت اتهامات الرجعية والتخلف ينفونه تمامًا من الوجود ‪،‬‬

‫والعلمانيون حينما يصلون إلى الحكم يَسْتَبْعِدُون كل الفصائل اإلسالمية‪ ،‬أي أنهم غيرديمقراطيين‬

‫ويقولون خالف ما يعملون وفى بالد الغرب نفسها التى تتشدق ليل نهار بالحريات والديمقراطيات‬

‫تمارس أنماطا من العنصرية التى تقصى اآلخر وتكيل له بمئات المكاييل وال تقبل بوجوده كشريك‬

‫يبنى معها حضارتها مثل ما هو حاصل مع األقليات اإلسالمية بل ومع العالم اإلسالمى نفسه وأترك‬

‫الحديث ل آالن جريش" أحد أبرز المثقفين الفرنسيين‪ ،‬رئيس تحرير جريدة "لوموند ديبلوماتيك"‪،‬‬

‫والذي خص شبكة "إسالم أون الين‪.‬نت والذىيعرف نفسه بأنه "بال ديانة"؛ فهو فرنسي من أم يهودية‬

‫ومن أب قبطي مصري‪ ،‬اختار أن يطبق "مقاربة إنسانية مبنية على معرفة اآلخر" في دراسته لإلسالم‬

‫والمسلمين فانتهى إلى نتائج أقل ما يمكن أن يقال عنها إنها مستفزة للنظرة التقليدية الغربية للعالم‬

‫اإلسالمي‪ :‬ذلك هو "" بهذا الحديث الذي انطلق من تساؤالت عن كتابه الجديد "اإلسالم والجمهورية‬

‫والعالم" وانتهى إلى التساؤل عن الحركات اإلسالمية ومستقبلها ومستقبل صراع أمريكا مع اإلرهاب‬

‫ومكانة العلمانية في العالم اإلسالمي واألزمة العربية مع الحكم والديمقراطية‪.‬‬

‫‪206‬‬
‫تقولون في كتابكم "إنكم تعتمدون مقاربة إنسانية تتأسس على الرغبة في فهم اآلخر" لذلك قمت بشن‬

‫هجوم عنيف على بعض الكتابات والقراءات الفرنسية والغربية عامة التي تعتقدون أنها تحمل فهما‬

‫مغلوطا لإلسالم ونظرة عنصرية تجاه المسلمين‪ ،‬فهل نستطيع القول إن هناك "أزمة فهم" للثقافة العربية‬

‫اإلسالمية أحد أهم تجلياتها تفاقم اإلسالموفوبيا؟‪.‬‬

‫‪ -‬نعم‪ ..‬ولكن ما يجب االنتباه له هو أن هذا الفهم المغلوط لإلسالم والمسلمين في الغرب ليس بجديد؛‬

‫إذ كانت دائما هناك مفاهيم محرفة في الغرب تجاه اإلسالم وهي نتيجة اإلرث التاريخي والفترة‬

‫االستعمارية‪.‬‬

‫الجديد اليوم هو أننا أصبحنا تجاه ظاهرة جديدة في فرنسا وفي الغرب بصفة عامة وهي أن اإلسالم‬

‫أصبح مشكلة داخلية في الغرب وهو مشكلة خارجية في البلدان العربية واإلسالمية‪ ،‬حيث أصبح‬

‫بالنسبة لبعض باحثينا السياسيين بمثابة "خطر عالمي" يرتبط بمحفزات داخلية (مسلمي الغرب) وهو ما‬

‫ينتج عنه خوف كبير في الشعوب الغربية يؤدي بنا في نهاية المطاف لعدم فهم للمسلمين ولإلسالم‪.‬‬

‫ولكننا نلحظ في الفصل األول "صدام الحضارات" من كتابك ترددك في استعمال مصطلح‬

‫"اإلسالموفوبيا"؟‪.‬‬

‫‪ -‬ال يتعلق األمر بالتردد‪ ،‬ولكننا يجب أن نشير إلى أنه ال يوجد بالفعل أي مصطلح يعبر بشكل صريح‬

‫عن العنصرية أو التمييز تجاه المهاجرين من أصول مسلمة‪ .‬فمنذ ‪ 10‬سنوات ماضية في فرنسا نجد‬

‫أن مصطلح "مسلمين" لم يكن موجودا؛ إذ كنا نشير إلى هؤالء المهاجرين بمصطلح "مغاربيين" أو‬

‫"شمال إفريقيين" أو "عرب"‪ ..‬إذن فهذه العنصرية المعادية للعرب تواصل وجودها‪ ،‬ولهذا يجب االنتباه‬

‫عندما نقول إن "اإلسالموفوبيا" تغطي أمرا واقعا ولكنها ال تغطي كل مجموع األعمال العنصرية التي‬

‫تمس الكثافة المغاربية‪.‬‬

‫‪207‬‬
‫فعلى سبيل المثال إذا تقدم شاب يسمى "أحمد" بطلب للعمل فسيكون حظه أقل‪ -‬بالطبع‪ -‬من شاب آخر‬

‫يسمى "آالن" وليس األمر دائما باسم اإلسالم؛ إذ يمكن أن يكون األمر باسم العنصرية لكونه مغاربيا‪.‬‬

‫إذن فمصطلح اإلسالموفوبيا ال يغطي كل أشكال العنصرية‪ ،‬ولكنه من المهم القول إن المصطلح يعرف‬

‫ظاهرة جديدة لم توجد من قبل‪ .‬فمن الجائز أن يعرف شخص ما على كونه "عنصريا وإسالموفوبيا في‬

‫نفس الوقت‪ ،‬فبالنسبة لي هناك جزء من الناس يخفون عنصريتهم تحت مظلة اإلسالموفوبيا عندما يقولون‬

‫إنهم ليسوا ضد العرب لكنهم معادون لدينهم ويعيبون على العرب كونهم يتمسكون بدين يمنعهم من‬

‫االندماج ويضطهد المرأة ويعادي الجمهورية‪ )..‬انتهى نقال من حوار شبكة "إسالم أون الين‪.‬نت‪ 26‬من‬

‫ديسمبر ‪2004‬م‪.‬‬

‫إن اإلسالم في تعاليمه وتفاصيله وثوابته يسمح بالتعددية في النظم االقتصادية وفي السيطرة على رأس‬

‫المال وفي الحياة االجتماعية والسياسية الفكرية‪ ،‬وفي اإلطار الفكري رأينا على مدار التاريخ اإلسالم‬

‫يتعدد المذاهب الفكرية والفلسفية دون أن يضار أحد لفكره ‪.‬‬

‫األحزاب في التصور اإلسالمي‬

‫إن من حق علماء المسلمين االجتهاد في إطار الفقه اإلسالمي‪ ،‬ومع تغير الواقع وأنماط الحياة‬

‫واختالفها تكون الدعوة لالجتهاد أكبر ‪ ،‬فالميراث السياسي والفكري وربما الفقهي اعترض على وجود‬

‫األحزاب‪ ،‬غير أن المفكرين المعاصرين قالوا‪ :‬إن األصل في مسألة األحزاب أنها تبنى على مسألة‬

‫سابقة لها وهي التعددية ‪ ،‬فاهلل خلق الخلق كلهم متنوعين ؟‬

‫ولو نظرنا في القرآن والسنة لوجدنا أن اإلسالم لم يمنع األحزاب‪..‬بل نجد الحديث عن األحزاب التي‬

‫ناوأت الرسول صلى اهلل عليه وسلم فقط‪ ،‬وليس استخدام كلمة حزب في هذا السياق دليالً على منع قيام‬

‫حزب في النظام اإلسالمي ‪ ،‬فهناك كالم ثمين البن تيميه في مجموع الفتاوى (‪.)11/92‬عندما سئل‬

‫عن جماعة اتحدوا على رأي لهم‪ ،‬واتخذوا لهم رأسًا سموه رأس الحزب فهل هذا يجوز شرعًا ؟‬

‫فأجاب ‪" :‬إن كانوا لم يزيدوا في الشرع ولم ينقصوا منه فهم من األحزاب الذين امتدحهم اهلل بقوله‬
‫‪208‬‬
‫(أولئك حزب اهلل ) وإن كانوا زادوا من ذلك ونقصوا كالتعصب لحزبهم فهذا منهي عنه" ‪ ..‬فابن تيمية‬

‫لم يذم اجتهادهم السياسي ‪ ،‬وهذا يؤكد أن الحديث في التعددية واألحزاب ليس بعيدًا عن منطقة اإلسالم‬

‫‪.‬‬

‫مصطلح "الحزب"‪ ،‬في األصول اإلسالمية‬

‫‪ -‬قرآنا ‪ -‬وكذلك في تجربة الدولة اإلسالمية األولى‪ ،‬على عهد رسول اهلل‪ ،‬صلى اهلل عليه وسلم ليس‬

‫مرفوضًا لذاته‪ ،‬وبإطالق‪ ،‬وليس مقبوال لذاته‪ ،‬وبإطالق‪ ،‬لكن معيار القبول لمصطلح الحزب‪ ،‬ومن ثم‬

‫للتحزب‪ ،‬والتنظيم الحزبي‪ ،‬هو مضمون األهداف واألغراض والمقاصد والمبادئ التي قام لها وعليها‬

‫هذا الحزب‪.‬‬

‫فالشرك والمشركون حزب‪ ،‬ولكنه ملعون ومرفوض‪ ،‬وأولياء الشيطان حزب‪ ،‬ولكنه ملعون ومرفوض‪،‬‬

‫بينما نجد أولياء اهلل حزبا مقبوال وموضع ثناء‪ ،‬وكذلك المؤمنون‪ ،‬أنصار رسول اهلل‪ ،‬صلى اهلل عليه‬

‫وسلم هم حزبه‪ ،‬المنخرطون في الجهاد لنصرة الدين‪.‬‬

‫فصراع اإلسالم‪ ،‬قائم أبدًا بين "حزب" الشرك والكفر والشيطان‪ ،‬وبين "حزب" التوحيد واإليمان ‪-‬‬

‫حزب اهلل ‪ -‬فالمصطلح مقبول أو مرفوض باعتبار المبادئ والمقاصد‪ .‬والتحزب ‪ -‬أي انتظام الناس‬

‫في أحزاب ‪ -‬خاضع‪ ،‬من حيث القبول أو الرفض‪ ،‬إسالميا‪ ،‬باعتبار المعايير الحاكمة للتنظيم الحزبي‪،‬‬

‫وليس للمصطلح بإطالق‪ ،‬وال للتحزب والتنظيم الحزبي بإطالق‪.‬‬

‫لقد كان المشركون أحزابًا "ولما رأى المؤمنون األحزاب قالوا هذا ما وعدنا اهلل ورسوله وصدق اهلل‬

‫ورسوله وما زادهم إال إيمانا وتسليما" ( األحزاب‪ ..)22 :‬وكذلك كان حالهم عبر تاريخ الرساالت‬

‫السماوية‬
‫‪209‬‬
‫قال تعالى (جند ما هنالك مهزوم من األحزاب‪ ،‬كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وفرعون ذو األوتاد‪ .‬وثمود‬

‫وقوم لوط وأصحاب األيكة أولئك األحزاب) ( ص‪..)13 – 11 :‬‬

‫وفي دعاء النبي ‪ -‬صلى اهلل عليه وسلم – نقرأ( اللهم منزل الكتاب‪ ،‬ومجري السحاب‪ ،‬وهازم‬

‫األحزاب‪ ،‬اهزمهم وانصرنا عليهم رواه البخاري ومسلم وأبو داود ‪..-‬‬

‫وكما أن للشيطان حزبه "حزب الشيطان" وهو( يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير) ( فاطر‪) 6 :‬‬

‫فإن هلل‪ ،‬سبحانه وتعالى‪ ،‬حزبه ( ومن يتولّ اهلل ورسوله والذين آمنوا فإن حزب اهلل هم الغالبون)‬

‫المائدة‪) 56 :‬‬

‫( رضي اهلل عنهم ورضوا عنه أولئك حزب اهلل‪ ،‬أال إن حزب اهلل هم المفلحون ) المجادلة‪22 :‬‬

‫وفي أدبيات عصر النبوة أطلق مصطلح "األمير" على رسول اهلل ‪ -‬صلى اهلل عليه وسلم ‪ -‬باعتبار‬

‫رئاسته للدولة‪ ..‬وكذلك أطلق مصطلح "الحزب" على أنصاره ‪ ..‬ويروي أنس بن مالك أن األشعريين ‪-‬‬

‫وفيهم أبو موسى األشعري ‪ -‬عندما قدموا على رسول اهلل ‪ -‬صلى اهلل عليه وسلم ‪ " -‬ودنوا من‬

‫المدينة‪ ،‬كانوا يرتجزون‪ ،‬يقولون‪:‬‬

‫"غدا نلقى األحبة ‪ ...‬محمدًا وحزبه!"‬

‫بل‪ ،‬ويروي البخاري‪ ،‬عن عائشة رضي اهلل عنها‪ ،‬أن نساء رسول اهلل ‪ -‬صلى اهلل عليه وسلم ‪ -‬كُن‬

‫حزبين‪ ،‬فحزب فيه عائشة وحفصة وصفية وسودة‪ ،‬والحزب اآلخر أم سلمة وسائر نساء رسول اهلل‪...‬‬

‫!‬

‫هذا عن المصطلح‪ ،‬فهو مستخدم‪ ،‬ومعيار القبول له أو الرفض هو مقاصد الحزب وغايات التحزب‪.‬‬

‫مفهـوم الحزبيـة‪ ،‬ووظائفها‬

‫‪ 7‬الحزبية‪:‬‬
‫أوالً‪ :‬مفهوم‬

‫الحزب في اللغة‪:‬‬

‫‪210‬‬
‫الحزب‪ -‬وجمعه األحزاب ‪ -‬هو‪ :‬كل طائفة أو جماعة جمعهم االتجاه إلى غرض واحد سياسيا كان‬

‫ذلك الغرض‪ ،‬بالدرجة األولى‪ ،‬أو غير سياسي‪ ..‬وغلب ‪ -‬في الواقع الحديث والمعاصر ‪ -‬إطالق‬

‫مصطلح الحزب على التنظيم الذي يجمع جماعة من األفراد تشترك في تصور واحد لبعض المسائل‬

‫السياسية وتكون رأيا انتخابيا واحدا‪..‬‬

‫الحِزْبُ‪ :‬جماعة الناس؛ وحِزْبُ الرجل‪ :‬أصحابه وجنده الذين مع رأيه؛ والجمع‪ :‬أحزاب؛ واألحزاب‪:‬‬

‫جنود الكفار‪ ،‬تألبوا وتظاهروا على حزب النبي وفي الحديث‪ " :‬اللَّهُمَّ اهْزِم األَحْزَابَ‪ ،‬اللَّهُمَّ اهْزِم‬

‫األَحْزَابَ‪ ،‬وَزَلْزِلْهُمْ)‪ .‬أخرجه البخاري‪ :‬الصحيح (كتاب الجهاد والسير‪ ،‬باب الدعاء على المشركين‬

‫بالهزيمة والزلزلة ‪ 3/1072‬ح ‪2775‬‬

‫والحِزْبُ‪ :‬الصنف من الناس‪ ،‬قال ابن األعرابي‪ :‬الحزب الجماعة‪ ،‬وكل قوم تشاكلت قلوبهم وأعمالهم‪،‬‬

‫فهم أحزاب‪ ،‬وإن لم يلق بعضهم بعضًا(ابن منظور‪ :‬لسان العرب (‪ ،)309 -1/308‬مادة‪ :‬حزب‪).‬‬

‫والحِزْبُ أيضا‪ :‬الطائفة من الناس‪ ،‬وتَحَزَّبُوا‪ :‬تجمعوا وصاروا أحزابًا‪ ،‬وفي حديث ابن الزبير رضي‬

‫اهلل عنهما‪ " :‬يُرِيدُ أَنْ يُحَزِّبَهُمْ "( انظر‪ :‬ابن حجر‪ :‬فتح الباري (‪.)3/445‬‬

‫أي يقويهم ويشد منهم‪ ،‬ويجعلهم في حزبه‪ ،‬أو يجعلهم أحزابًا( ابن األثير‪ :‬النهاية في غريب الحديث (‬

‫‪.)1/376‬‬

‫الحزب السياسي في االصطالح‪:‬‬

‫تعددت تعريفات الحزب السياسي بين المفكرين‪ ،‬وكان من أهمها ما يلي‪:‬‬

‫‪ .1‬ما عرفه فرنسوا غوغيل وهو‪ " :‬مجموعة منظمة للمشاركة في الحياة السياسية‪ ،‬بهدف السيطرة‬

‫كليًا أو جزئيًا على السلطة‪ ،‬دفاعًا عن أفكار ومصالح محازبيها "شكر‪ :‬القانون الدستوري والمؤسسات‬

‫(ص‪.)132 :‬‬

‫‪211‬‬
‫‪ .2‬ويرى أندريه هوريد أنه‪ " :‬تنظيم دائم يتحرك على مستوى وطني‪ ،‬ومحلي‪ ،‬من أجل الحصول على‬

‫الدعم الشعبي‪ ،‬ويبغي الوصول إلى ممارسة السلطة‪ ،‬بغية تحقيق سياسة معينة)‪ .‬الوحيدي‪ :‬الفقه‬

‫السياسي الدستوري في اإلسالم (ص‪.)80 :‬‬

‫‪ .3‬وعرفه سليمان الطماوي‪ " :‬بأنه مجموعة متحدة من األفراد‪ ،‬تعمل بمختلف الوسائل الديمقراطية‬

‫للفوز بالحكم‪ ،‬بقصد تنفيذ برنامج سياسي معين "( الطماوي‪ :‬السلطات الثالث (ص‪.).)538 :‬‬

‫ويتضح من التعريفات السابقة أن الحزب السياسي يقوم على ثالثة عناصر أساسية‪:‬‬

‫‪  .1‬تنظيم سياسي له هيكل معين‪.‬‬

‫‪  .2‬أعضاء من الشعب ينتمون إلى هذا التنظيم‪ ،‬والدفاع عن مبادئه‪.‬‬

‫‪  .3‬هدف يتمثل في الوصول إلى الحكم‪ ،‬وممارسة السلطة‪ ،‬لتحقيق مبادئ الحزب‪ ،‬وتنفيذ برنامجه‬

‫السياسي (الوحيدي‪ :‬الفقه السياسي الدستوري في اإلسالم (ص‪).)80 :‬‬

‫ونحن ال نختلف مع هذه التعاريف في حقيقة الحزب وتكوينه‪ ،‬ولكن نختلف معها الشتمالها على بعض‬

‫الحقائق التي تتنافى مع الشريعة اإلسالمية الغراء‪ ،‬ومنها‪:‬‬

‫‪ .1‬إن الحزب في المفهوم اإلسالمي له أهداف‪ ،‬وتطلعات شرعية وسياسية مغايرة لما تبغيها األحزاب‬

‫الديمقراطية‪ ،‬فهو يسعى لتحكيم شريعة اهلل‪ ،‬وإرساء معالم اإلسالم‪.‬‬

‫‪ .2‬إن الوصول إلى الحكم‪ ،‬وممارسة السلطة ال يمثل هدفًا لقيام الحزب في اإلسالم‪ ،‬وإنما هو وسيلة‬

‫ضرورية من وسائل تحقيق أهدافه‪.‬‬

‫‪  .3‬إن الحزب في اإلسالم يعتمد وسائل مشروعـة في طريق تنفيـذ برنامجه‬

‫السياسي‪ ،‬بخالف غيره من األحزاب التي تسلك الوسائل الديمقراطية‪ ،‬حيث يخالف بعضها منهج‬

‫اإلسالم‪ ،‬والغاية ال تبرر الوسيلة‪.‬‬

‫‪212‬‬
‫يقول شيخ اإلسالم ابن تيمية ـ رحمه اهلل ـ‪ " :‬وأما رأس الحزب‪ ،‬فإنه رأس الطائفة التي تتحزب‪ ،‬أي‬

‫تصير حزبًا‪ ،‬فإن كانوا مجتمعين على ما أمر اهلل به ورسوله صلى اهلل عليه وسلم من غير زيادة وال‬

‫نقصان‪ ،‬فهم مؤمنون لهم ما لهم‪ ،‬وعليهم ما عليهم"( ابن تيمية‪ :‬مجموع الفتاوى (‪.).)11/92‬‬

‫وفي ضوء ما تقدم بات واضحًا مفهوم الحزب السياسي إال أنه يحتاج إلى تقييده بقيود تضبط مقاصده‬

‫ووسائله بضوابط اإلسالم‪.‬‬

‫وعليه فالحزب السياسي في اإلسالم هو‪ " :‬مجموعة منظمة اجتمعت على ما أمر اهلل به ورسوله‪،‬‬

‫للمشاركة في الحياة السياسية‪ ،‬بهدف إقامة الحق والعدل‪ ،‬ورعاية مصالح األمة"‪.‬‬

‫وهناك عدة وظائف وأغراض يهدف إليها نظام األحزاب‪ ،‬أحاول إبرازها فيما يلي‪:‬‬

‫ثانيًا‪ :‬وظائف األحزاب السياسية‪:‬‬

‫‪ 7‬في العالم اإلسالمي (ص‪)126 :‬‬


‫يقول عبد السالم أمين في كتابه‪ :‬أزمة الحكم‬

‫إن تعدد األحزاب السياسية أمر ضروري‪ ،‬وأساسي ألداء عدة وظائف ومهام سياسية‪ ،‬يصعب تحقيقها‬

‫في غياب تعدد األحزاب‪ ،‬بخاصة في ظل ظروف العصر الحديث‪ ،‬ومن أهم هذه الوظائف‪:‬‬

‫‪ .1‬إلقاء الضوء على المسائل الهامة التي تواجه المجتمع‪ ،‬والقيام بدور تنويري وترشيدي للمجتمع‪،‬‬

‫إلعانته على تحديد موقفه من القضايا المطروحة عليه‪ ،‬وهي بذلك تأخذ بيد الجماهير نحو دمجها في‬

‫العملية السياسية‪ ،‬وزيادة مشاركتها فيها‪.‬‬

‫‪ .2‬تقوم األحزاب عادة بمراقبة أعمال الحكومة‪ ،‬ومحاسبتها بالوسائل القانونية المشروعة‪ ،‬وتسعى‬

‫لفضح مساوئ سياسات الحكـومة أمام المجتمع‪ ،‬للضغط عليها‬

‫كي تتراجع عنها‪ ،‬فتدرأ عن المجتمع كثيرًا من المشكالت‪.‬‬

‫‪ .3‬تنظيم وسائل التعبير‪ ،‬وتوفير منابر لألفراد والفئات‪ ،‬وضبطها حتى ال تتحول االختالفات إلى‬

‫صدامات عنيفة تودي بوحدة المجتمع‪.‬‬

‫‪213‬‬
‫‪ .4‬إعداد القادة‪ ،‬وتقديم األشخاص المرشحين لالنتخابات‪ ،‬وكذلك البرامج السياسية التي تحدد سياسات‬

‫األحزاب والحكومات المقبلة‪ ،‬التي تشكلها هذه األحزاب في حالة النجاح‪ ،‬وباختيار األحزاب‬

‫للمرشحين‪ ،‬يخرج المرشح من دائرة الحرج إذا قام بطلب الوالية وتزكية نفسه بذلك‪.‬‬

‫‪ .5‬ويعد مبدأ تعدد األحزاب السياسية من أهم الضمانات والوسائل الحديثة في خدمة أي نظام سياسي‬

‫حر حسن النية‪ ،‬في سعيه لتحقيق الديمقراطية الشرعية‪ ،‬وحرصه على منع االستبداد ( المرجع السابق‬

‫ص‪129‬‬

‫‪ .6‬إيجاد مناخ صالح لنمو نظريات متنوعة في السياسة واالجتماع وازدهارها‪ ،‬وتقوم بدورها بعرض‬

‫هذه النظريات على المجتمع لمناقشتها‪ ،‬حتى يتم الوصول إلى ما هو أصلح‪ ،‬وتفتح بابًا لتبادل اآلراء‪،‬‬

‫التخاذ المواقف الصحيحة حول األوضاع الراهنة‪ ،‬والحوادث المستجدة(المباركفوري‪ :‬األحزاب‬

‫السياسية (ص‪.)13 :‬‬

‫‪ .7‬تنظيم االحتجاجات ضد الهيئة الحاكمة‪ ،‬وكفها عن العدوان والطغيان في ممارسة السلطة‪ ،‬وإعطاء‬

‫الشعب فرصة اختيار البديل‪ ،‬وفي نفس الوقت توفير الفرصة لمن يتطلعون إلى الحكم والسلطة أن‬

‫يرشحوا أنفسهم أو ممثلهم) المرجع‪ .‬السابق (ص‪.)14 -13 :‬‬

‫نشأة‪ ‬األحزاب السياسية في التاريخ اإلسالمي‬

‫سبب النشأة‪:‬اختالف حول طرق الحكم وليس في العقيدة‬

‫يقول الدكتور مصطفى& الشكعة إن‬

‫"الفرق اإلسالمية كانت عند نشأتها فرقا سياسية وليست دينية‪ ،‬واالختالف& بينها لم يكن اختالفا في‬

‫صلب العقيدة اإلسالمية وإ نما كان خالفا في الرأي حول طريقة الحكم واختيار الحاكم‪ ،‬ثم انقسمت كل‬

‫فرقة الى عدة فرق" إسالم بال مذاهب (القاهرة‪ ،‬دار القلم‪1961 ،‬م) ص‪86‬‬

‫‪214‬‬
‫إن األمة اإلسالمية واحدة قال تعالى‪( :‬إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون ) ( األنبياء‪)92 :‬‬

‫وفي إطار األمة الواحدة تقوم وتتمايز األمم‪ ،‬أي الجماعات‪ ،‬التي تجتمع على األمر بالمعروف والنهي‬

‫عن المنكر( ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم‬

‫المفلحون) آل عمران‪104 :‬‬

‫وإذا كان التمايز في التنظيم الحزبي‪ ،‬على النحو الذي نفهمه اليوم من مصطلح "الحزب"‪ ،‬هو من‬

‫ثمرات التطور في الحياة الفكرية والسياسية ‪ -‬وهو تطور تتمايز فيه الحضارات والعصور‬

‫والمجتمعات فإن التجربة السياسية لدولة اإلسالم األولى قد شهدت من "المؤسسات" ما "يشبه" التمايز‬

‫التنظيمي ‪ -‬وال نقول الحزبي ‪ -‬على نحو من األنحاء‪.‬‬

‫ف "هيئة المهاجرين األولين" ‪ -‬التي ضمت "القيادات القرشية" التي "سبقت إلى اإلسالم" ‪ -‬أبا بكر‪،‬‬

‫وعمر بن الخطاب‪ ،‬وعثمان بن عفان‪ ،‬وعلي ابن أبي طالب‪ ،‬وطلحة بن عبيد اهلل‪ ،‬والزبير بن العوام‪،‬‬

‫وعبد الرحمن بن عوف‪ ،‬وسعد بن أبي وقاص‪ ،‬وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل‪ ،‬وأبا عبيدة بن‬

‫الجراح ‪ -‬هيئة المهاجرين األولين هذه كانت تنظيمًا له اختصاصات دستورية في الخالفة والدولة‬

‫وشئون المجتمع اإلسالمي‪..‬‬

‫و "هيئة النقباء االثني عشر" ‪ -‬التي تكونت باالختيار من األنصار الذين عقدوا مع رسول اهلل‪ ،‬صلى‬

‫اهلل عليه وسلم‪ ،‬عقد تأسيس الدولة اإلسالمية في بيعة العقبة ‪ -‬هذه الهيئة ‪ -‬التي ضمت‪ :‬أبا أمامة‪،‬‬

‫وأسعد بن زرارة‪ ،‬وسعد بن الربيع‪ ،‬وعبد اهلل بن رواحة‪ ،‬ورافع بن مالك بن العجالن‪ ،‬والبراء بن‬

‫معرور‪ ،‬وعبد اهلل بن عمرو بن حرام‪ ،‬وسعد بن عبادة ابن دليم‪ ،‬والمنذر بن عمرو بن خنيس‪ ،‬وعبادة‬

‫بن الصامت‪ ،‬أسيد بن حضير‪ ،‬وسعد بن خيثمة بن الحارث‪ - ،‬هذه الهيئة قد كانت تنظيمًا ذا‬

‫اختصاصات دستورية في حياة الدولة اإلسالمية‪ ،‬لقد كانت هيئة الوزراء ‪ -‬المؤازرين ‪ -‬كما كانت‬

‫هيئة المهاجرين األولين هي هيئة األمراء ‪ -‬المتأمرين!‪.‬‬

‫‪215‬‬
‫وكذلك جماعة البدريين ‪ :‬الذين شهدوا بدرا خصهم النبي صلى اهلل عليه وسلم بخصيصة تظل معهم‬

‫إلى يوم يبعثون فعن علي بن أبي طالب رضي اهلل عنه قال‪ :‬بعثني رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وأبا‬

‫مرثد والزبير ‪ -‬وكلنا فارس ‪ -‬قال‪(( :‬انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ(روضة خاخ‪ :‬موضع بين مكة‬

‫والمدينة على بعد اثنا عشر ميال من المدينة‪ ).‬فإن بها امرأة من المشركين معها كتاب من حاطب بن‬

‫أبي بلتعة إلى المشركين))‪ ،‬فأدركناها تسير على بعير لها حيث قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪،‬‬

‫فقلنا‪ :‬الكتاب‪ ،‬فقالت‪ :‬ما معي كتاب‪ ،‬وأنخناها فالتمسنا فلم نر كتابًا‪ ،‬فقلنا‪ :‬ما كذب رسول اهلل صلى اهلل‬

‫عليه وسلم‪ ،‬لتخرجن الكتاب أو لنجردنك‪ ،‬فلما رأت الجد أهوت إلى حجزتها ـ وهي محتجزة بكساء‬

‫ـ فأخرجته‪ ،‬فانطلقنا بها إلى رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬فقال عمر‪ :‬يا رسول اهلل قد خان اهلل‬

‫ورسوله والمؤمنين فدعني فألضرب عنقه فقال النبي صلى اهلل عليه وسلم‪( :‬ما حملك؟) قال حاطب‪:‬‬

‫واهلل‪ ،‬ما بي أن ال أكون مؤمنًا باهلل ورسوله صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬أردت أن تكون لي عند القوم يد‬

‫يدفع اهلل به عن أهلي ومالي وليس أحد من أصحابك إال له هناك من عشيرته من يدفع اهلل به عن أهله‬

‫وماله‪ ،‬فقال النبي صلى اهلل عليه وسلم‪( :‬صدق‪ ،‬وال تقولوا له إال خيرًا) فقال عمر‪ :‬إنه قد خان اهلل‬

‫ورسوله والمؤمنين فدعني فأضرب عنقه فقال‪( :‬لعل اهلل اطلع على أهل بدر فقال‪ :‬اعملوا ما شئتم‪ ،‬فقد‬

‫وجبت لكم الجنة أو فقد غفر لكم) فدمعت عينا عمر وقال‪ :‬اهلل ورسوله أعلم‪ (.‬أخرجه البخاري في‬

‫كتاب الجمعة باب فرض الجمعة (‪ ،)876‬ومسلم في كتاب الجمعة باب‪ :‬هداية هذه األمة ليوم الجمعة‬

‫(‪ )855‬من حديث أبي هريرة رضي اهلل عنه‪.‬‬

‫قال الحافظ ابن حجر‪" :‬ووقع الخبر بألفاظ منها‪( :‬فقد غفرت لكم) ‪ ،‬ومنها‪( :‬فقد وجبت لكم الجنة) ‪،‬‬

‫ومنها‪( :‬لعل اهلل اطلع‪ ، )...‬لكن قال العلماء‪ :‬إن الترجي في كالم اهلل وكالم رسوله للوقوع" فتح‬

‫الباري (‪.)306-7/305‬‬

‫‪ -2‬وعن رفاعة بن رافع الزرقي عن أبيه ـ وكان أبوه من أهل بدر ـ قال‪ :‬جاء جبريل إلى النبي‬

‫صلى اهلل عليه وسلم فقال‪ :‬ما تعدون أهل بدر فيكم؟ قال‪( :‬من أفضل المسلمين) ـ أو كلمة نحوها ـ‬

‫‪216‬‬
‫قال‪ :‬وكذلك من شهد بدرًا من المالئكة" أخرجه البخاري في كتاب المغازي باب‪ :‬شهود المالئكة بدرًا (‬

‫‪ ،)3992‬وابن ماجة في المقدمة باب فضل أهل بدر (‪.)160‬‬

‫وكان عمر رضي اهلل عنه يخصم بالعطاء وكذلك غيره من الخلفاء‬

‫وفي ترجمة ابن األثير للصحابية الجليلة أسماء بنت يزيد بن السكن األنصارية (‪ 30‬هجرية ‪ 650‬م) ‪-‬‬

‫وكانت مبرزة في الشجاعة والخطابة ‪ -‬ما يشير إلى "جماعة نسائية"! لنساء المدينة‪ ،‬قامت وتألفت‬

‫للمطالبة بحقوقهن الموازية لما يبذلن في المجتمع الجديد من جهود!‪ ..‬وكانت أسماء هذه قائدة في هذه‬

‫"الجماعة"‪ ،‬وابن األثير يتحدث عن ذهابها إلى الرسول ‪ -‬صلى اهلل عليه وسلم ‪ -‬ممثلة لهذه "الجماعة"‪،‬‬

‫ومتحدثة باسمها فيقول‪ :‬إنها قد ذهبت إلى النبي ‪ -‬صلى اهلل عليه وسلم ‪ -‬وهو جالس مع الصحابة‪،‬‬

‫فقالت‪ :‬يا رسول اهلل‪" ،‬إني رسول من ورائي من جماعة نساء المسلمين‪ ،‬يقلن بقولي‪ ،‬وعلى مثل‬

‫رأيي ‪ .."....‬ثم عرضت قضيتهن ‪ ..‬وأجابها رسول اهلل ‪ -‬صلى اهلل عليه وسلم‪ ..‬وطلب منها إبالع‬

‫جوابه إلى "جماعتها" ‪" -‬انصرفي يا أسماء‪ ،‬وأعلمي من وراءك من النساء"!‪ .‬فنحن هنا أمام "جماعة‬

‫نسائية"‪ .‬وبعبارة الصحابية أسماء بنت يزيد‪ ،‬فهي "جماعة نساء المسلمين"!‪.‬‬

‫تلك إشارات ل "مؤسسات وتنظيمات وجماعات" في المجتمع اإلسالمي األول‪ ،‬على عهد رسول اهلل ‪-‬‬

‫صلى اهلل عليه وسلم‪.‬‬

‫ولقد شهدت هذه القسمة من قسمات الحياة الفكرية والسياسية ‪ -‬قسمة التنظيم ‪ ..‬األحزاب ‪ -‬تطورًا‬

‫مواكبًا لتطور الضرورات والمقاصد والغايات‪.‬‬

‫وكان لألحداث األليمة بين علي ومعاوية رضي اهلل عنهما‪ ،‬وما عقبها من حادثة التحكيم‪ ،‬دو ٌر بارزٌ في‬

‫نشوء التعددية الحزبية ببن أوساط المجتمع اإلسالمي‪ ،‬فقد أضحى كل حزب يتبنى رأيًا‪ ،‬ويتفانى في‬

‫سبيله‪.‬‬

‫ونحن إذا نظرنا إلى نشأة هذه األحزاب بالمفهوم الحديث للحزبية‪ ،‬لقلنا‪ :‬إنها مسألة سياسية خالصة‪،‬‬

‫فالصراع بين المسلمين كان صراعًا سياسيًا حول منصب الخالفة‪ ،‬وحول أحقية كل طرف من أطراف‬

‫‪217‬‬
‫النزاع في هذا المنصب‪ ،‬ولكن األمر لم يكن على هذا النحو في ذلك العصر‪ ،‬بل إن هذه األحزاب‬

‫السياسية قد اصطبغت بصبغة دينية قوية‪ ،‬نظرًا لما كان للدين من أثر ومكانة في النفوس في ذلك‬

‫العصر‪.‬‬

‫فكانت الفرق الكالمية تنظيمات سياسية‪ ،‬تميزت في "المقاالت" ‪ -‬أي "النظريات" ‪ -‬وفي الوسائل التي‬

‫اعتمدتها لوضع هذه "المقاالت" في الممارسة والتطبيق‪ ،‬فللخوارج مقاالت‪ ،‬ومنهج في الوصول لتحقيق‬

‫مقاالتهم‪ ،‬وكذلك الحال عند المعتزلة‪ ،‬وعند الشيعة‪ ،‬بفصائلها المتعددة‪ ،‬المعتدلة منها والمغالية‪ ،‬العلنية‬

‫منها والسرية‬

‫وأشهر هذه األحزاب الشيعة‪ ،‬والخوارج‪ ،‬وأهل السنة‪:‬‬

‫أوال ‪ :‬الشيعة‪:‬‬

‫الشيعة‪ :‬هم الذين شايعوا عليًا رضى اهلل عنه وكرم اهلل وجهه‪ ،‬وهم يقدمونه على سائر أصحاب‬

‫رسول اهلل‪ ،  ‬وهم أيضًا القائلون بإمامته نصًا ووصية‪ ،‬إما جليًا‪ ،‬وإما خفيًا‪ (.‬انظر الشهرستاني‪ :‬الملل‬

‫والنحل (‪.)1/117‬‬

‫وترجع نشأة هذا الحزب إلى الجماعة الذين رأوا بعد وفاة النبي أن أهل بيته أولى أن يخلفوه‪ ،‬وأولى‬

‫أهل البيت علي بن أبي طالب ولما جاء العصر األموي‪ ،‬ووقعت المظالم على آل البيت‪ ،‬واشتد نزول‬

‫أذى األمويين بهم‪ ،‬ظهرت دفائن المحبة لهم‪ ،‬والشفقة عليهم‪ ،‬ورأى الناس في علي وأوالده شهداء هذا‬

‫الظلم‪ ،‬فاتسع نطاق المذهب الشيعي‪ ،‬وكثر أنصاره‬

‫والتاريخ السياسي للشيعة كان عبارة عن ثورات متعددة‪ ،‬فقد جسدت الشيعة الرفض السياسي لبقاء‬

‫السلطة خارج أهل البيت‪.‬‬

‫آراء الشيعة‬

‫اختلف أصحاب المذهب الشيعي إلى فرق عدة‪ ،‬وأساس اختالفهم يرجع إلى االختالف في المبادئ‬

‫واآلراء‪ ،‬ومن أهم آرائهم‪:‬‬


‫‪218‬‬
‫‪ .1‬أن اإلمامة ليست من المصالح العامة التي تفوض إلى نظر األمة‪ ،‬بل هي ركن الدين‪ ،‬وقاعدة‬

‫اإلسالم‪ ،‬وال يجوز لنبي إغفالها‪ ،‬وال تفويضها إلى األمة‪ ،‬بل يجب عليه تعيين اإلمام لهم‪ ،‬ويكون‬

‫معصومًا من الكبائر والصغائر)‪ .‬ابن خلدون‪ :‬المقدمة (ص‪.)196 :‬‬

‫فاإلمامة أهم مسألة يدور فيها الخالف بين أهل السنة الذين يقولون‪ :‬إن اإلمامة طريقها الشورى‬

‫واالختيار‪ ،‬والبيعة من األمة‪ ،‬وليست شأنًا دينيًا سماويًا‪ ،‬سبيلها النص والوصية‪ ،‬والتعيين كما تقول‬

‫الشيعة(عمارة‪ :‬الوسيط في المذاهب والمصطلحات اإلسالمية (ص‪.).)78 :‬‬

‫‪ .2‬اإلمام عند اإلمامية في عصمته‪ ،‬وصفاته‪ ،‬وعلمه منذ صغره‪ ،‬وفي كبره هو معصوم من جميع‬

‫الرذائل والفواحش‪ ،‬ما ظهر منها وما بطن‪ ،‬عمدًا أو سهوًا‪ ،‬لذا يجب أن يكون أفضل الناس وأحلمهم‪،‬‬

‫وأشجعهم وأعلمهم‪.‬‬

‫يقول الخميني في ذلك‪ " :‬ونحن نعتقد أن المنصب الذي منحه األئمة للفقهاء‪ ،‬ال يزال محفوظًا؛ ألن‬

‫األئمة ال يتصور فيهم السهو أو الغفلة‪ ،‬نعتقد فيهم اإلحاطة بكل ما فيه مصلحة المسلمين(الخميني‪:‬‬

‫الحكومة اإلسالمية (ص‪.)91 :‬‬

‫بل وتَعتبِر اإلمامية أن منزلة األئمة ال تدانيها منزلة المالئكة والنبيين‪ ،‬يقول الخميني‪ " :‬وإن من‬

‫ضروريات مذهبنا‪ :‬أن ألئمتنا مكانًا ال يبلغه ملك مقرب‪ ،‬وال نبي مرسل "( المرجع السابق‪( :‬ص‪:‬‬

‫‪.)54‬‬

‫‪ .3‬إن اإلمامية يجوزون أن تجري خوارق العادة على يد اإلمام لتثبيت إمامته‪ ،‬ويسمون الخارق للعادة‬

‫الذي يجري على يديه معجزة‪ ،‬كما يسمى الخارق الذي يجري على أيدي أنبياء اهلل معجزة‪ (.‬محمد أبو‬

‫زهرة ‪ :‬تاريخ المذاهب اإلسالمية (ص‪.)52 :‬‬

‫‪219‬‬
‫‪ .4‬من الشيعة من غالوا في تقدير علي وبنيه ‪ ،‬حتى رفعوا عليًا إلى مرتبة األلوهية‪ ،‬ومنهم المعتدلون‬

‫المقتصدون الذين اقتصروا على تفضيله على كل الصحابة ‪ y‬من غير تكفير أحد‪ ،‬وال تقديس‬

‫له(المرجع السابق‪( :‬ص‪.)38 – 34 :‬‬

‫فرق الشيعة‪:‬‬

‫‪ .1‬السبئية‪ :‬وهم أتباع عبد اهلل بن سبأ‪ ،‬كان يهوديًا من أهل الحيرة أظهر اإلسالم‪ ،‬وكانت تنادي هذه‬

‫الفرقة بألوهية علي‪ ‬‬

‫‪ .2‬الغرابية‪ :‬وهذه الفرقة أوجبت النبوة بعد النبي صلى عليه وسلم‪ :‬إن محمـدًا كان أشبه بعلي رضى‬

‫اهلل عنه غـراب‪ ،‬وقالوا‪ :‬إن اهلل بعث جبريـل بالوحي إلى علي ‪ ،‬فغلط جبريل بمحمد‪(  ‬أبو زهرة‪:‬‬

‫تاريخ المذاهب اإلسالمية (ص‪)40 :‬‬

‫‪ .3‬الكيسانية‪ :‬وكانت تعتقد في إمامة محمد بن علي بن أبي طالب رضي اهلل عنهما‪ ،‬المعروف بابن‬

‫الحنفية‪ ،‬وتنسب هذه الفرقة إلى كيسان مولى أمير المؤمنين علي وكان على رأس الفرقة المختار بن‬

‫أبي عبيدة الثقفي‪.‬‬

‫‪ .4‬الزيدية‪ :‬وهم أصحاب زيد بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي وهم أقرب الفرق الشيعية إلى‬

‫جماعة المسلمين؛ لميلهم إلى القصد واالعتدال في اإلمامة‪ ،‬وهي أهم نقطة خالفية بين السنة‬

‫والشيعة(الشكعة‪ :‬اإلسالم بال مذاهب (ص‪.).)233 - 225 :‬‬

‫‪ .5‬اإلمامية (اإلثنا عشرية)‪ :‬وهذه الفرقة يدخل في عمومها أكثر مذاهب الشيعة القائمة اآلن في العالم‬

‫اإلسالمي‪ ،‬في إيران والعراق ولبنان والهند‪ ،‬وغيرها من البالد اإلسالمية‪ ،‬وعقيدتهم هي إيمانهم‬

‫المطلق بإمامة علي بن أبي طالب إيمانًا ظاهرًا كامالً‪ ،‬ووصفه بالوصي‪ ،‬وانتقال الوصايا إلى أبنائه من‬

‫بعده(أبو زهرة‪ :‬تاريخ المذاهب اإلسالمية (ص‪،)48 :‬‬

‫‪220‬‬
‫‪ .6‬اإلمامية (اإلسماعيلية)‪ :‬وهم ينتسبون إلى إسماعيل بن جعفر الصادق‪ ،‬وهؤالء كان لهم دولة‪،‬‬

‫فالفاطميون في مصر والشام منهم‪ ،‬والقرامطة الذين سيطروا وقتًا على عدة أقاليم إسالمية‪.‬‬

‫‪ .7‬الحاكمية والدروز‪ :‬الدروز فرقة إسماعيلية اتسمت بطابع الباطنية‪ ،‬حيث أخفوا عقيدتهم عن غيرهم‬

‫من الفرق اإلسالمية‪ ،‬وقد نشأوا في إبان العصر الفاطمي‪ ،‬وظلوا منطوين على أنفسهم وقتًا‪ ،‬وقد كانت‬

‫هذه السرية ـ التي تعد طريقة هذه الفرقة ـ سببًا في أن وجد الحاكمية‪ ،‬وعلى رأسهم الحاكم بأمر اهلل‬

‫الفاطمي‪ ،‬الذي ادعى أن اإلله قد حل فيه‪ ،‬ودعا إلى عبادته‪.‬‬

‫‪ .8‬النصيرية‪ :‬وهؤالء كانوا مع اإلثنا عشرية‪ ،‬أو هم يدعون االنتساب إليهم‪ ،‬ويعتقدون أن آل البيت‬

‫أوتوا المعرفة المطلقة‪ ،‬وأن عليًا لم يمت‪ ،‬وأنه إله قريب من اإلله‪(.‬لمرجع السابق(ص‪)58 :‬‬

‫تعالى اهلل عما يقولون علوًا كبيرًا‪.‬‬

‫ثانيا ‪:‬الخوارج‬

‫يقول ابن حجر‪ :‬فتح الباري (‪ ،)12/283‬الشوكاني‪ :‬نيل األوطار (‪.)7/339‬‬

‫الخوارج‪ :‬جمع خارجة‪ ،‬أي طائفة‪ ،‬وهم قوم مبتدعون‪ ،‬سموا بذلك لخروجهم عن الدين‪ ،‬وخروجهم عن‬

‫خيار المسلمين‪).‬‬

‫ويعتبر الخوارج أول حزب سياسي نشأ في اإلسالم‪ ،‬وظهر كقوة سياسية معارضة على األرض‪،‬‬

‫وتزامن ذلك مع ظهور الشيعة‪ ،‬إال أن الشيعة أسبق في فكرتها‪.‬‬

‫ومبدأ نشأة هذا الحزب فور إعالن نتيجة التحكيم بين أبي موسى األشعري‪ ،‬وعمرو بن العاص رضي‬

‫اهلل عنهما‪ ،‬بعد موقعة صفين بين علي ومعاوية رضي اهلل عنهما‪ ،‬إذ تعالت الهتافات من معسكر علي‪:‬‬

‫كَفَر الحكمان‪ ،‬ال حكم إال هلل‪ ،‬وانقلب المؤيدون أعداء‪ ،‬وأصبحوا أكثر خطرًا على علي من جيش‬

‫معاوية‪.‬‬

‫‪221‬‬
‫وكان موقف علي منهم أول األمر أال يحاربهم حتى يبدأوه بالحرب‪ ،‬فلما عمدوا إلى استعمال العنف‪،‬‬

‫وقتلوا عبد اهلل بن خباب وفي عنقه المصحف‪ ،‬ومعه امرأته‪ ،‬ولما ركبوا رؤوسهم‪ ،‬ولم يحاولوا أن‬

‫يستجيبوا لدعوة علي خرج إليهم في يوم النهروان‪ ،‬وأوقع بهم‪ ،‬وقتل منهم عددًا كبيرًا‪ ،‬وقتل زعيمهم‬

‫ابن وهب‪ ،‬وقد كان يمكن لعلي أن يقضي على الخوارج قضاء مبرمًا‪ ،‬ولكنهم ما لبثوا أن تربصوا به‪،‬‬

‫وأرسلوا إليه واحدًا منهم‪ ،‬وهو عبد الرحمن بن ملجم المرادي‪ ،‬فقتله في المسجد‪ ،‬وبعد مقتل علي اتسع‬

‫نشاط الخوارج‪ ،‬وخاضوا كثيرًا من المعامع في عهد معاوية‪.‬‬

‫وفي زمن العباسيين حاربوهم في قوة وصالبة وجَلَدٍ‪ ،‬كالذي في العصر األموي‪ ،‬وكثرت ثوراتهم في‬

‫كثير من البلدان‪ ،‬إال أن العباسيين انتصروا عليهم‪ ،‬وكانت هذه الهزائم المتوالية سببًا في ضعف أمرهم‪،‬‬

‫وقلة شأنهم‪ ،‬فلم يعد لهم من القوة والقتال أثر في التاريخ كبير‬

‫وتعد فرقة الخوارج أشد الفرق اإلسالمية دفاعًا عن مذهبها‪ ،‬وحماسة آلرائها‪ ،‬وأشدها تهورًا واندفاعًا‪،‬‬

‫وقد استرعت ألبابها كلمة ال حكم إال هلل‪ ،‬فاتخذوها دينًا ينادون به‪ ،‬وقد استهوتهم أيضًا فكرة البراءة من‬

‫سيدنا عثمان ‪ ،‬واإلمام علي ‪ ،‬والحكام الظالمين من بني أمية‪ ،‬وكانوا يمتازون بالتمسك بظواهر‬

‫األلفاظ‪ ،‬وحب الفداء‪ ،‬والحماسة‪ ،‬والرغبـة فـي الموت واالستهداف للمخاطر‪ .‬أبو زهرة‪ :‬تاريخ‬

‫المذاهب اإلسالمية (ص‪.)61 – 60 :‬‬

‫آراؤهم‪:‬‬

‫هناك آراء ومبادئ عامة قررها الخوارج‪ ،‬والتقوا حولها‪ ،‬ومن أهم اآلراء التي اعتنقها معظم الخوارج‬

‫ما يلي‪:‬‬

‫‪ .1‬إن الخليفة ال يكون إال بانتخاب حر صحيح يقوم به عامة المسلمين ال فريق منهم‪ ،‬ويستمر خليفة ما‬

‫دام قائمًا بالعدل‪ ،‬مقيمًا للشرع‪ ،‬مبتعدًا عن الخطأ والزيغ‪ ،‬فإن حاد وجب عزله وقتله‪.‬‬

‫‪ .2‬إن اإلمامة تجوز في غير قريش‪ ،‬وكل مَن ينصبونه برأيهم‪ ،‬وعاشر الناس على ما مثلوا له من‬

‫العدل واجتناب الجور‪ ،‬كان إمامًا‬


‫‪222‬‬
‫‪ .3‬إن النجدات من الخوارج يرون أن ال حاجة إلى إمام إذا أمكن الناس أن يتناصفوا فيما بينهم‪ ،‬فإن‬

‫رأوا أن التناصف ال يتم إال بإمام يحملهم على الحق فأقاموه جاز‪ ،‬فإقامة اإلمام في نظرهم ليست واجبة‬

‫بإيجاب الشرع‪ ،‬بل جائزة‪ ،‬وإذا وجبت فإنما تجب بحكم المصلحة والحاجة‪.‬‬

‫‪ .4‬أجمع الخوارج على أن كل كبيرة كفر‪ ،‬إال النجدات فلم يقولوا بذلك‪ ،‬وأجمعوا على أن اهلل يعذب‬

‫أصحاب الكبائر عذابًا دائمًا‪.‬‬

‫فرق الخوارج‪:‬‬

‫كان االختالف في الرأي بين الخوارج سببًا قويًا الختالفهم وتفرقهم إلى فرق عديدة‪ ،‬بلغت عشرين‬

‫فرقة‪ ،‬ومن أشهرها‪:‬‬

‫‪  .1‬األزارقة‪ :‬هم أتباع نافع بن األزرق الحنفي‪ ،‬المكنى بأبي راشد‪ ،‬وهم أكثر فرق الخوارج عددًا‪،‬‬

‫وأشدهم شوكة‪.‬‬

‫‪ .2‬النجدات‪ :‬وهم أتباع نجدة بن عويمر من بني حذيفة‪ ،‬وقد خالفوا األزارقة في تكفيـر قعدة‬

‫الخوارج‪ ،‬واستحالل قتل األطفال‪ ،‬ويرون أن إقامة اإلمام واجب وجوبًا مصلحيًا وليس شرعيًا‪،‬‬

‫ويقولون بمبدأ التقية‬

‫‪ .3‬الصفرية‪ :‬وهم أتباع زياد بن األصفر‪ ،‬وكانوا أميل إلى المسالمة من األزارقة‪ ،‬كما كانوا أقرب إلى‬

‫االعتدال‪ ،‬وأبعد عن التطرف في أحكامهم‪.‬‬

‫‪  .4‬العجاردة‪ :‬هم أتباع عبد الكريم بن عجرد أحد أتباع عطية بن األسود الحنفي الذي خرج على‬

‫نجدة‪.‬‬

‫‪  .5‬اإلباضية‪ :‬وهم أتباع عبد اهلل بن أباض‪ ،‬وهم أكثر الخوارج اعتداالً‪ ،‬وأقربهم‬

‫‪223‬‬
‫إلى الجماعة اإلسالمية تفكيرًا‪ ،‬فهم أبعدهم عن الشطط والغلو‪ ،‬وهم أشهر فرق الخوارج على اإلطالق؛‬

‫ألنهم ال يزالون إلى يومنا هذا في عُمَان‪ ،‬وزنجبار‪ ،‬وشمال أفريقيا (بو زهرة‪ :‬تاريخ المذاهب‬

‫اإلسالمية (ص‪ ،)78 :‬الشكعة‪ :‬إسالم بال مذهب (ص‪.)135 :‬‬

‫‪ ‬‬

‫ثالثا‪:‬أهل السنة‪:‬‬

‫يمكن القول‪ :‬إن أهل السنة هم االمتداد الطبيعي للمسلمين األوائل الذين تركهم رسول اهلل وهو عنهم‬

‫راض‪ ،‬وال نستطيع أن نحدد لهم بداية نقف عندها كما نفعل مع باقي الفرق‪ ،‬فأهل السنة هم األصل‬

‫الذي انشق عنه كل المخالفين‪ ،‬واألصل ال يحتاج إلى سمة خاصة تميزه‬

‫وقد سأل رجل اإلمام مالكًا ـ رحمه اهلل ـ عن تعريف أهل السنة؟‪ ،‬فقال‪ " :‬الذين ليس لهم لقب‬

‫يعرفون به‪ ،‬ال جهمي‪ ،‬وال رافضي‪ ،‬وال قدري‪ (.‬أبو زهرة‪ :‬اإلمام مالك (ص‪.)145 :‬‬

‫وأهل السنة على العكس من الجماعات التي انشقت عنهم‪ ،‬ظلوا على عهدهم محافظين‪ ،‬وبعرى‬

‫الجماعة موثقين‪ ،‬وذلك منذ وفاة الرسول وفي ظل خالفة الشيخين رضي اهلل عنهما‪ ،‬فال نسمع أصواتًا‬

‫معارضة ذات بال‪ ،‬فاإلجماع منعقد وتام‪ ،‬ثم انفرط عقد الجمع‪ ،‬واهتز في السنوات األخيرة من سني‬

‫عثمان‬

‫وقتها كان أهل السنة ـ والذين كانوا يعرفون باسم أهل الحديث‪ ،‬أو التابعين‪ ،‬أو العلماء‪ ،‬أو القراء ـ‬

‫مشتغلين بعلوم الحديث والفقه‪ ،‬وكانت عنايتهم موجهة إلى البحث في مسائل الفقه‪ ،‬أو يتجهون إلى‬

‫مسائل العقائد والكالم‪.‬‬

‫ولم يكن ألهل السنة آراء سياسية رغم تفرقهم‪ ،‬ويستنتج من ذلك أنهم كانوا راضين تمامًا عن سياسة‬

‫الحكم التي كانت تساس بها األمة من قِبل األمويين والعباسيين‪ ،‬ال بل إنهم اجتنبوا المسائل السياسية‬

‫بعدم الخوض فيها‪ ،‬لتجنب الفتن والوقوع في سفك الدماء‪.‬‬


‫‪224‬‬
‫ومن علماء السنة المتفرقين الذين اشتهروا‪ :‬اإلمام الحسن البصري‪ ،‬وسعيد بن المسيب‪ ،‬وسعيد بن‬

‫جبير في عصر بني أمية‪ ،‬وأبو حنيفة ومالك وأحمد في عهد بني العباس‪ ،‬وهؤالء كانوا معارضين‬

‫لسياسة الحكام واألمراء في عصورهم المختلفة‪ ،‬بل غير مقرين لنظم الحكم أنفسها التي بمقتضاها‬

‫وصل هؤالء إلى مرتبة األمر والنهي‪ ،‬وما سكتوا إال حرصًا على وحدة الجماعة‪.‬‬

‫إال أن علماءنا ـ رحمهم اهلل ـ سجلوا مواقف سياسية بطولية في مقاومة الحكام الظلمة‪ ،‬فهذا سعيد بن‬

‫المسيب ـ رحمه اهلل ـ امتنع عن الخوض في حق الصحابة كما كانت الشيعة‪ ،‬وقد جاهر برأيه أمام‬

‫الحجاج الثقفي دون خوف أو وجل‪ ،‬عندما سأله الحجاج ما تقول في عثمان وعلي رضي اهلل عنهما؟‪،‬‬

‫فأجابه‪ :‬قول من هو خير مني عند من هو شر منك‪ ،‬قال فرعون‪ :‬ما بال القرون األولى؟ قال علمها‬

‫عند ربي‪ ،‬فلم يعجب الحجاج‪ ،‬ولكن الرد ألجمه‪ ،‬فلم يجد مفرًا من االعتراف‪ :‬أنت سيد العلماء يا أبا‬

‫سعيد‬

‫وهذا أبو حنيفة ـ رحمه اهلل ـ تتعاقب فتاويه ضد الحكم القائم‪ ،‬فيحبسه أبو جعفر المنصور‪ ،‬ويعذبه‬

‫عذابًا قاسيًا حتى أشرف على الهالك‪ ،‬فأخرجه‪ ،‬ومات بعدها بقليل كما يموت الصديقون والشهداء(أبو‬

‫زهرة‪ :‬تاريخ المذاهب اإلسالمية (ص‪.374 – 372 :‬‬

‫وهذا ابن تيمية ـ رحمه اهلل ـ امتشق السيف للجهاد ضد التتار‪ ،‬وهو يوجه المسلمين إلى عزتهم‪،‬‬

‫وبعدها نزل به البالء بسبب آرائه الجريئة‪ ،‬فمات في الحبس(المرجع السابق (ص‪.)648 :‬‬

‫‪225‬‬
‫الفصل الثانى‬

‫مناقشة اآلراء الفقهية فى التعددية السياسية‬

‫حكم التعددية السياسية في اإلسالم‬

‫توطئة‪:‬‬

‫ان مشروعية التعدد في اآلراء والتوجهات‪ ،‬ال شك توجد مجتمعات تعتمد مشروعية "التعددية الفكرية"‬

‫وهي التي تؤدى الى االنتظام في أحزاب‪.‬متعددة المشارب واإلتجاهت‬

‫وإذا كان اإلسالم قد تحدث عن وحدة "الدين"‪ ،‬من لدن آدم إلى محمد‪ ،‬وعبر كل الرسل واألنبياء‪ ،‬عليهم‬

‫الصالة والسالم‪ ،‬فإنه قد تحدث عن التعددية في "الشرائع" ألمم الرساالت‪..‬‬

‫قال تعالى (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحًا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى‬

‫وعيسى أن أقيموا الدين وال تتفرقوا فيه ) (الشورى‪) 13 :‬‬

‫وقال تعالى ‪ ( :‬لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء اهلل لجعلكم أمة واحدة‪ )..‬المائدة‪48 :‬‬

‫فالدين واحد‪ ،‬أزال وأبدًا‪ ..‬والشرائع متعددة‪ ،‬أزالً وأبدًا‪ ،‬كذلك‪.‬‬

‫فهنا وحدة‪ ،‬وتعددية في إطار الوحدة!‬

‫واإلنسانية وحدة واحدة‪ ،‬من أب واحد وأم واحدة‪ ،‬لكنها تتعدد في اللغات واأللوان‪ ،‬أي في األقوام‪.‬‬

‫قال تعالى (يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجاال‬

‫كثيرًا ونساء) النساء‪1 :‬‬

‫(ومن آياته خلق السموات واألرض واختالف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك آليات للعالمين ) الروم‪22 :‬‬

‫‪226‬‬
‫فهنا‪ ،‬أيضا‪ ،‬وحدة في اإلنسانية‪ ،‬وتعددية في إطار هذه الوحدة!‬

‫لم يتعرض فقهاؤنا القدامى ـ رحمهم اهلل ـ لموضوع التعددية السياسية بالمفهوم الواسع‪ ،‬وبالشكل‬

‫المطروح حاليًا؛ إذ لم تكن الصورة المعاصرة للتعددية السياسية مطروحة على بساط الفقه قديمًا‪ ،‬فهي‬

‫صورة وحالة مستحدثة‪ ،‬فقد تطورت الحزبية بشكلها ومضمونها عما كان عليه األمر قديمًا‪ ،‬فهي تجد‬

‫سندها في الحرية السياسية التي كان يحظى بها المؤمنون في زمن النبي صلى اهلل عليه وسلم ‪ ،‬ومن‬

‫بعده‪ ،‬من جواز إبداء الرأي المخالف‪ ،‬ولو كان يتعلق بالحاكم‪.‬‬

‫فهذا الحباب بن المنذر ‪ -‬رضى اهلل عنه‪ -‬يسأل النبي صلى اهلل عليه وسلم في غزوة بدر ـ وقد نزل‬

‫صلى اهلل عليه وسلم بعسكره قريبًا من ماء بدر ـ‪ :‬يا رسول اهلل! أرأيت هذا المنزل‪ ،‬أمنزل أنزلكه اهلل‬

‫ليس لنا أن نتقدمه وال نتأخر عنه؟ أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟! فأجابه رسول اهلل صلى اهلل عليه‬

‫وسلم بأنه الرأي والحرب والمكيدة) ابن هشام‪ :‬السيرة النبوية (‪.)3/168‬‬

‫وهذا يمثل رأيًا سياسيًا‪ ،‬مخالفًا للقائد األعلى‪.‬‬

‫وفي غزوة األحزاب عندما وضع النبي صلى اهلل عليه وسلم حالً سياسيًا لتفكيك وحدة األحزاب‪،‬‬

‫ففاوض على ثلث ثمار المدينة مقابل خروج غطفان وأهل نجد من حلف قريش‪ ،‬واستشار السعدين سعد‬

‫بن معاذ سيد األوس‪ ،‬وسعد بن عبادة سيد الخزرج‪ ،‬ولما علما أنه ما هو إال شيء صنعه النبي لهم‪،‬‬

‫وليس من أمر اهلل قاال‪ :‬واهلل ال نعطيهم إال السيف حتى يحكم اهلل بيننا وبينهم) المرجع السابق (‬

‫‪ ،)4/180‬الطبري‪ :‬التاريخ (‪ .)2/94‬وما ذلك إال رأي سياسي‪.‬‬

‫وهكذا مضى المسلمون يبدون آراءهم في حرية تامة‪ ،‬ويعيشون قاعدة الشورى التي تمثل أساسًا وسندًا‬

‫للتعددية السياسية‪.‬‬

‫وفي وقتنا المعاصر مَسَّت الحاجة إلى تطور مفهوم الحزبية‪ ،‬بعد سقوط الخالفة الراشدة في أوائل‬

‫القرن العشرين‪ ،‬وإقصاء الشريعة اإلسالمية عن الحكم‪ ،‬مما حدا بالعلماء والقادة والمخلصين إلى‬

‫‪227‬‬
‫تشكيل األحزاب السياسية؛ للعمل على إعادة صرح الخالفة الراشدة‪ ،‬واستئناف الحياة اإلسالمية‪،‬‬

‫وانتشال األمة من براثن االستبداد‪.‬‬

‫فكان من أبرز الجماعات اإلسالمية التي اهتمت بالبعد السياسي جماعة اإلخوان المسلمين‪ ،‬التي أسسها‬

‫اإلمام الشهيد حسن البنا ـ رحمه اهلل ـ‪ ،‬وأول حزب‪ :‬حزب التحرير‪ ،‬الذي أسسه الشيخ تقي الدين‬

‫النبهاني ـ رحمه اهلل ـ وحينها أثيرت القضية‪ ،‬وثار الخالف بين الفقهاء والمفكريـن المسلميـن‬

‫فـي شرعية قيام هذه األحزاب والجماعات اإلسالمية‪.‬‬

‫موقف اإلمام حسن البنا ـ رحمه اهلل ـ من التعددية الحزبية‪:‬‬

‫أنكر اإلمام الشهيد الحزبية وتعدد األحزاب في اإلسالم‪ ،‬فقال‪ " :‬إن اإلسالم هو دين الوحدة في كل‬

‫شيء‪ ،‬ال يقر نظام الحزبية وال يرضاه‪ ،‬وال يوافق عليه " البنا‪ :‬مجموعة الرسائل (ص‪.)168 :‬‬

‫ويقول أيضًا‪ " :‬وأعتقد أن هذه األحزاب المصرية الحالية مصنوعة أكثر منها حقيقية‪ ،‬وأن العامل في‬

‫وجودها شخصي أكثر منه وطني‪ ،‬وأن المهمة والحوادث التي كونت هذه األحزاب قد انتهت‪ ،‬ويجب‬

‫أن ينتهي هذا النظام بانتهائها " المرجع السابق (ص‪.)167 :‬‬

‫وال بأس أن يخالف رأيي رأي اإلمام الشهيد‪ ،‬فهو لم يفرض ذلك على أحد‪ ،‬فقد استهل حديثه عن‬

‫الحزبية بقوله‪ " :‬وإن لي في الحزبية السياسية آراء هي لي خاصة‪ ،‬وال أحب أن أفرضها على الناس‪،‬‬

‫فإن ذلك ليس لي وال ألحد " المرجع لسابق (ص‪.)166 :‬‬

‫ويقول أيضًا في موضع آخر‪ " :‬إن الحزبية السياسية إن جازت في بعض الظروف في بعض البلدان‪،‬‬

‫فهي ال تجوز في كلها‪ ،‬وهي ال تجوز في مصر أبدًا‪ ،‬وبخاصة في هذا الوقت الذي نستفتح فيه عهدًا‬

‫جديدًا‪ ،‬ونريد أن نبني أمتنا بناء قويًا"‪ .‬المرجع السابق (ص‪.)166 :‬‬

‫وهذا الكالم إن دل فإنما يدل على أن رأيه مبني على السياسة الشرعية‪ ،‬وهذا مما ال تثريب فيه‪ ،‬السيما‬

‫وأنه كان يستبشر ـ رحمه اهلل ـ بقرب استئناف الخالفة اإلسالمية‪ ،‬وإعادة هيبتها‪ ،‬فيكون موقف‬

‫اإلمام الرافض ظرفيًا خاصًا بحالة مصر آنذاك‪.‬‬


‫‪228‬‬
‫يقول الدكتور يوسف القرضاوي‪ " :‬ولعله لو عاش اإلمام إلى اليوم لرأى ما رأينا من جواز التعددية‬

‫السياسية‪ ،‬خصوصًا وقد تغيرت الظروف‪ ،‬وتطورت األوضاع واألفكار‪ ،‬فإن الفتوى تتغير بتغير‬

‫الزمان والمكان والحال‪ ،‬والسيما في أمور السياسة الكثيرة التغيير " القرضاوي‪ :‬من فقه الدولة (ص‪:‬‬

‫‪.)157‬‬

‫ومن جهة أخرى ال أرى حديث اإلمام في تحريم الحزبية يشمل األحزاب اإلسالمية‪ ،‬إذ أنها ال تبعث‬

‫على الفرقة‪ ،‬وإنما كان حديثه يدور على ظاهرة مَرَضِيَّة تعيشها مصر بوجود أحزاب غير إسالمية‪،‬‬

‫ليس من مهامها استئناف الحياة اإلسالمية‪.‬‬

‫هذا وقد استطردنا في الحديث عن موقف اإلمام حسن البنا ـ رحمه اهلل ـ في مسألة الحزبية‪،‬‬

‫وخصصناه بذلك لما يحتله من مكانة سامية‪ ،‬ودرجة عالية في ريادة الحركة اإلسالمية المعاصرة‬

‫وتأسيسها‪ ،‬ولكشف الغموض واللبس في موقفه من الحزبية الذي أشكل على الكثير من أبناء الصحوة‪.‬‬

‫موقف الحركات واألحزاب اإلسالمية من الحزبية‪:‬‬

‫سارت الحركات واألحزاب اإلسالمية في عملها وهي تؤمن بالتعددية السياسية‪ ،‬واعتبارها فريضة‬

‫شرعية‪ ،‬أو ضرورة يفرضها الواقع‪ ،‬وقد عبر قادتها عن هذا الموقف‪ ،‬فقال فضيلة الشيخ عمر‬

‫التلمساني ـ المرشد العام الثالث لإلخوان المسلمين ـ رحمه اهلل ـ‪ " :‬إذا لم يكن من قيام الحزب بد؛‬

‫فمن العجز الفكري أن نقف حائرين‪ ،‬بل نسلك كل طريق مشروع يُمَكِّننا من نشر دعوتنا في كل‬

‫األوساط " التلمساني‪ :‬ذكريات ال مذكرات (ص‪.)186 :‬‬

‫وعندما جاء المرشد العام الرابع لإلخوان المسلمين الشيخ محمد حامد أبو النصر ـ رحمه اهلل ـ أكد‬

‫هذا التوجه‪ ،‬فقال‪ " :‬عندما أصبح اإلخوان عنصرًا فاعالً في الساحة السياسية واالجتماعية‪ ،‬كان ال بد‬

‫من إيجاد قناة قانونية للممارسة‪ ،‬ولذلك قرر اإلخوان تكوين حزب سياسي "(‪ .‬عدوان‪ :‬التحول إلى‬

‫التعددية الحزبية في الفكر السياسي اإلسالمي المعاصر (ص‪ ،)98 :‬بحث منشور في مجلة جامعة‬

‫‪229‬‬
‫النجاح لألبحاث ب " العلوم اإلنسانية " المجلد (‪ ،)16‬العدد األول‪ ،‬حزيران (‪ ،)2002‬نقالً عن جريدة‬

‫األحرار (ص‪8/8/1988 ،4 :‬م)‪.‬‬

‫ويبين الشيخ تقي الدين النبهاني ـ رحمه اهلل ـ موقف حزب التحرير من التعددية السياسية‪ ،‬وأنه‬

‫فرض كفاية على األمة‪ ،‬استنادًا إلى قوله تعالى‪( :‬وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ‬

‫عنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ‪ ).‬سورة آل عمران‪ :‬اآلية (‪.)104‬‬


‫بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ َ‬

‫فيقول‪ " :‬أما كون األمر في اآلية بإيجاد جماعة هو أمر بإقامة أحزاب سياسية‪ ،‬فذلك آت من كون اآلية‬

‫عنيت على عمل هذه الجماعة‪ ،‬وهو الدعوة إلى اإلسالم‪ ،‬واألمر بالمعروف‪ ،‬والنهي عن المنكر "‬

‫النبهاني‪ :‬نظام الحكم في اإلسالم (ص‪.)248 :‬‬

‫فالحركات واألحزاب تؤمن بالتعددية‪ ،‬وما تكوينهم األحزاب السياسية ودخولهم في المجالس النيابية إال‬

‫إقرار بهذه التعددية‪ ،‬والعمل في حقل الدعوة من خاللها‪ ،‬ومثال ذلك مثل تشكيل اإلخوان المسلمين في‬

‫األردن لجبهة العمل اإلسالمي‪ ،‬ودخولهم البرلمان من خاللها‪ ،‬وكذلك اإلخوان المسلمين في فلسطين‪،‬‬

‫وتشكيلهم لحزب الخالص الوطني اإلسالمي‪ ،‬وكذلك في السودان واليمن والجزائر وغيره‬

‫هذا وقد اختلف العلماء والمفكرون المعاصرون في حكم التعددية السياسية‪ ،‬إلى قولين‪:‬‬

‫القول األول‪ :‬إن التعددية السياسية حرام‪ ،‬وإليه ذهب بعض العلماء منهم‪ :‬الدكتور بكر أبو زيد‪ ،‬والشيخ‬

‫صفي الرحمن المباركفوري‪ ،‬والدكتور فتحي يكن‪ ،‬والشيخ وحيد الدين خان(أبو زيد‪ :‬حكم االنتماء إلى‬

‫الفرق واألحزاب والجماعات اإلسالمية (ص‪ ،)65 :‬المباركفوري‪ :‬األحزاب السياسية (ص‪،)35 :‬‬

‫يكن‪ :‬أبجديات التصور اإلسالمي (ص‪ ،)74 :‬خان‪ :‬اإلسالم والعصر الحديث (ص‪.).)45 :‬‬

‫‪230‬‬
‫القول الثاني‪ :‬إن التعددية السياسية جائزة‪ ،‬وإليه ذهب من العلماء‪ :‬الدكتور أحمد الفنجري‪ ،‬الشيخ تقي‬

‫الدين النبهاني‪ ،‬الشيخ راشد الغنوشي‪ ،‬الدكتور صالح سميع‪ ،‬الدكتور صادق أمين‪ ،‬الدكتور صالح‬

‫الصاوي‪ ،‬الدكتور عبد الرحمن عبد الخالق‪ ،‬والدكتور عبد اهلل النفيسي‪ ،‬والدكتور عبد الوهاب الديلمي‪،‬‬

‫والدكتور عدنان النحوي‪ ،‬والدكتور محمد أبو فارس‪ ،‬والدكتور محمد عمارة‪ ،‬والدكتور محمد العوا‪،‬‬

‫واألستاذ محمد العوضي‪ ،‬والدكتور يوسف القرضاوي(أبو فارس‪ :‬التعددية السياسية (ص‪ ،)29 :‬أمين‪:‬‬

‫الدعوة اإلسالمية فريضة شرعية وضرورة بشرية (ص‪ ،)38 :‬حوى‪ :‬جند اهلل تخطيطًا (ص‪،)18 :‬‬

‫الديلمي‪ :‬العمل الجماعي‪ :‬محاسنه وجوانب النقص فيه (ص‪ ،)22 :‬سميع‪ :‬أزمة الحرية السياسية (ص‪:‬‬

‫‪ ،)321‬الصاوي‪ :‬مدى شرعية االنتماء (ص‪ ،)50 :‬عبد الخالق‪ :‬مشروعية الجهاد الجماعي (ص‪:‬‬

‫‪ ،)15‬عمارة‪ :‬اإلسالم والتعددية (ص‪ ،)165 :‬العوا‪ :‬الفقه اإلسالمي في طريق التجديد (ص‪،)59 :‬‬

‫العوضي‪ :‬حكم المعارضة وإقامة األحزاب (ص‪ ،)72 :‬الغنوشي‪ :‬الحريات العامة في الدولة اإلسالمية‬

‫(ص‪ ،)249 :‬الفنجري‪ :‬التعددية السياسية (ص‪ ،)267 :‬القرضاوي‪ :‬من فقه الدولة (ص‪،)147 :‬‬

‫النبهاني‪ :‬نظام الحكم في اإلسالم (ص‪ ،)248 :‬النحوي‪ :‬الصحوة اإلسالمية إلى أين (ص‪،)96 :‬‬

‫النفيسي‪ :‬عندما يحكم اإلسالم (ص‪)8 :‬‬

‫األدلة‪:‬‬

‫أدلة القول األول‪:‬‬

‫أوالً‪ :‬القرآن الكريم‪:‬‬

‫‪ .1‬قال اهلل تعالى‪|( :‬إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ‬

‫يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ )( سورة األنعام‪ :‬اآلية (‪.))159‬‬

‫‪  .2‬قال اهلل تعالى‪( :‬وَال تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ~ مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ‬

‫فَرِحُونَ )‬

‫‪231‬‬
‫سورة الروم‪ :‬من اآلية (‪ ،)31‬واآلية (‪32‬‬

‫وجه الداللة ‪ :‬هاتان اآليتان صريحتان في النهي عن الفرقة‪ ،‬وأنها ليست من صفات المؤمنين‪ ،‬بل هي‬

‫من صفات المشركين‪ ،‬وأن رسول اهلل بريء من المقترفين لها‪ ،‬وال عالقة له بهم أبدًا‪.‬‬

‫واالختالف واالفتراق في اآليتين يراد به االختالف في العقيدة والشريعة‪ ،‬وكذلك افتراق األمة إلى‬

‫جماعات وأحزاب سياسية‪ ،‬وهذا الذي تقتضيه النصوص‪ ،‬فقد نهى اهلل تعالى عن مطلق التنازع‪ ،‬وجعله‬

‫سببًا لضعف المسلمين وذهاب شوكتهم‪( :‬وَال تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ) سورة األنفال‪ :‬من اآلية‬

‫(‪)46‬‬

‫وبهذا تكون األحزاب السياسية محرمة؛ ألن نتيجتها التفرق واالختالف(‪.‬المباركفوري‪ :‬األحزاب‬

‫السياسية في اإلسالم (ص‪ ،)35 :‬يكن‪ :‬أبجديات التصور الحركي للعمل اإلسالمي (ص‪.)74 :‬‬

‫‪  .3‬قال اهلل تعالى‪( :‬إِنَّ فِرْعَوْنَ عَال فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا )( سورة القصص‪ :‬من اآلية (‬

‫‪.).)4‬‬

‫وجه الداللة‪ :‬إن االنقسام إلى أحزاب يؤدي إلى فقدان القوة‪ ،‬مما يؤدي بدوره إلى تعريض الناس‬

‫لالستعباد‪ ،‬وهذه السنة استغلها فرعون في تفريق قومه إلى شيع‬

‫حتى يتسنى له استعبادهم وإذاللهم( إسحاق‪ :‬األحزاب السياسية ونمط القيادة في الدولة اإلسالمية (ص‪:‬‬

‫‪ ،)38‬بحث منشور في مجلة المسلم المعاصر (السنة ‪ 11‬العدد ‪ 44‬لسنة ‪ 1985 – 1405‬ترجمه‬

‫إلى العربية محمد رفقي عيسى)‪.‬‬

‫‪232‬‬
‫‪ .4‬قال اهلل تعالى‪( :‬وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَال تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً‬

‫فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُـمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَـا حُفْرَةٍ مِنَ النَّـارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا ) (سورة آل‬

‫عمران‪ :‬من اآلية (‪.)103‬‬

‫عذَابٌ‬
‫‪  .5‬وقال اهلل تعالى‪( :‬وَال تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ َ‬

‫عظِيمٌ‪ ).‬سورة آل عمران‪ :‬اآلية (‪105‬‬


‫َ‬

‫وجه الداللة‪ :‬أوجب اهلل على المسلمين لزوم الجماعة‪ ،‬واجتناب كل ما يؤدي إلى االفتراق؛ والحزبية‬

‫مظنة الفرقة‪ ،‬بل مئنة لها‪ ،‬وللبغضاء بين أهل اإلسالم‪ ،‬فتكون محرمة‪ ).‬أبو زيد‪ :‬حكم االنتماء إلى‬

‫الفرق واألحزاب والجماعات اإلسالمية‪( ،‬ص‪ ،)143 :‬المباركفوري‪ :‬األحزاب السياسية في اإلسالم‬

‫(ص‪.)38 :‬‬

‫‪ .6‬قال اهلل تعالى‪( :‬قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ‬

‫شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ ) سورة األنعام‪ :‬من اآلية (‪.)65‬‬

‫وجه الداللة‪ :‬إن التفرق إلى شيع وما يؤدي إليه ذلك من اقتتال وردة‪ ،‬وإن ما يؤدي إليه االنشقاق‪،‬‬

‫يعتبر عذابًا يوازي ما ورد في اآلية من أشكال العذاب‪ ،‬وأن واجبنا أن نتجنب أي خطوة في هذا‬

‫الطريق‪ ،‬مهما كان الجهد الذي نبذله في سبيل ذلك‪ ،‬وأن نتواصى بذلك‪ ،‬وندعو إليه)‬

‫إسحاق‪ :‬األحزاب السياسية ونمط القيادة في الدولة اإلسالمية (ص‪.)38 – 37 :‬‬

‫ثانيًا‪ :‬السنة‪:‬‬

‫‪  .1‬عن أبي هريرة رضى اهلل عنه قال‪ :‬قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪ " :‬مَنْ خَـرَجَ مَـن‬

‫الطَّـاعَةِ‪،‬‬

‫‪233‬‬
‫ق الجَمَاعَةِ‪ ،‬فَمَاتَ ‪ ..‬مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيِّةً‪ ،‬وَمَنْ قَاتَلَ تَحْتَ رَايَةٍ عُمِّيَّةٍ يَغْضَبُ لِعَصَبِةٍ‪ ،‬أَوْ يَدْعُو إِلَى‬
‫وَفَارَ َ‬

‫عصَبِةٍ‪ ،‬أَوْ يَنْصُرُ عَصَبِةً‪ ،‬فَقُتِلَ ‪ ..‬فَقِتْلَةٌ جَاهِلِيَّةٌ "‪ .‬أخرجه مسلم‪ :‬الصحيح (كتاب اإلمارة باب وجوب‬
‫َ‬

‫مالزمة جماعة المسلمين عند ظهور الفتن ‪3/1476‬ح‪.)1848‬‬

‫‪ .2‬عن ابن عباس رضي اهلل عنهما قال‪ :‬قال رسول اهلل ‪ " :‬مَنْ رَأَى مِنْ أَمِيرِهِ شَيْئًا يَكْرَهُهُ‪ ،‬فَلْيَصْبِرْ‪،‬‬

‫فَإِنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ يُفَارِقُ الجَمَاعَةَ شِبْرًا ‪ ..‬إِال مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً " أخرجه مسلم‪ :‬الصحيح (كتاب اإلمارة‬

‫باب وجوب مالزمة جماعة المسلمين عند ظهور الفتن ‪3/1477‬ح‪..)1849‬‬

‫‪ .3‬عن الحارث األشعري رضى اهلل عنه أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قال‪ ... " :‬أَنَا آمُرُكُمْ‬

‫بِخَمْسٍ‪ ،‬اهللُ أَمَرَنِي بِهِنَّ‪ :‬بِالجَمَاعَةِ‪ ،‬وَبالسَّمْعِ‪ ،‬وَالطَّاعَةِ‪ ،‬وَالهِجْرَةِ‪ ،‬وَالجِهَادِ فِي سَبِيلِ اهللِ‪ ،‬فَإِنَّهُ مَنْ خَرَجَ‬

‫عنُقِهِ إِال أَنْ يَرْجِعَ‪ ،‬وَمَنْ دَعَا بِدَعْوَى الجَاهِلِيَّةِ فَهُوَ مِنْ‬
‫مِن الجَمَاعَةِ قِيدَ شِبْرٍ‪ ،‬فَقَدْ خَلَعَ رِبْقَةَ اإلِسْالمِ مِنْ ُ‬

‫جُثَاءِ جَهَنَّمْ "‪ .‬قال‪ :‬قالوا‪ :‬يا رسول اهلل! وإن صام وصلى؟! قال‪ " :‬وَإِنْ صَامَ وَصَلَّى وَزَعَمَ أَنَّهُ‬

‫مُسْلِمٌ ‪ (" ...‬أخرجه أحمد‪ :‬المسند (مسند الشاميين‪ ،‬حديث حارث األشعري ‪ 4/202‬ح ‪،)17953‬‬

‫والحديث صحيح‪ ،‬األلباني‪ :‬صحيح سنن الترمذي (‪ 5/148‬ح ‪..)2863‬‬

‫‪ .4‬عن ابن عمر رضي اهلل عنهما قال‪ :‬خطبنا عمر رضى اهلل عنه بالجابية فقال‪ :‬يا أيها الناس إني‬

‫قمت فيكم كمقام رسول اهلل ‪ r‬فينا‪ ،‬فقال‪ ... " :‬عَلَيْكُمْ بِالجَمَاعَةِ‪ ،‬وَإِيَّاكُمْ وَالفُرْقَةِ‪ ،‬فَإِنَّ الشَّيْطَانَ مَعَ الوَاحِدِ‬

‫وَهُوَ ِمنَ االثْنَيْنِ أَبْعَدُ‪ ،‬مَنْ أَرَادَ بُحْبُوحَةَ الجَنَّةِ‪ ،‬فَلْيَلْزَم الجَمَاعَةِ " أخرجه الترمذي‪ :‬السنن (كتاب الفتن‬

‫باب ما جاء في لزوم الجماعة ‪ 4/465‬ح ‪ ،)2165‬والحديث صحيح‪ ،‬األلباني‪ :‬صحيح وضعيف‬

‫الترمذي (ص‪ 489 :‬ح ‪..)2165‬‬

‫وجه الداللة‪ :‬في هذه األحاديث أمر صريح بلزوم الجماعة‪ ،‬وتوعد صريح للمفارق للجماعة‪ ،‬ووصف‬

‫ميتته بالجاهلية‪ ،‬وذم العصبية والدعوة إليها ونصرتها‪ ،‬والتوعد والذم ال يكون إال على فعل محرم‪ ،‬أو‬

‫ترك واجب‪ ،‬فتكون األحزاب السياسية محرمة؛ ألنها تقوم على أساس العصبية ومفارقة الجماعة‪).‬‬

‫‪234‬‬
‫الصاوي‪ :‬التعددية السياسية (ص‪ ،)43 :‬العوضي‪ :‬حكم المعارضة وإقامة األحزاب السياسية في‬

‫اإلسالم (ص‪ ،)28 :‬المباركفوري‪ :‬األحزاب السياسية (ص‪.)41 – 39 :‬‬

‫‪ .5‬عن أنس بن مالك رضى اهلل عنه قال‪ :‬قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪ " :‬اسْمَعُواْ وَأَطِيعُواْ‪،‬‬

‫علَيْكُمْ عَبْدٌ حَبَشِيٌ كَأَنَّ رَأْسَهُ زَبِيبَةٌ " أخرجه البخاري‪ :‬الصحيح (كتاب األحكام‪ ،‬باب‬
‫وَإِنْ اسْتُعْمِـلَ َ‬

‫الطاعة لإلمام ما لم تكن معصية‪ 6/2612  ‬ح ‪..)6723‬‬

‫‪ .6‬عن عبد اهلل بن عمر رضي اهلل عنهما قال‪ :‬سمعت رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يقول‪ " :‬مَنْ‬

‫خَلَعَ يَدًا مِنْ طَاعَةٍ لَقِيَ اهللَ يَوْمَ القِيَامَةِ ال حُجَّةَ لَهُ‪ ،‬وَمَنْ مَاتَ وَلَيْسَ فِي عُنُقِهِ بَيْعَةٌ‪ ،‬مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً‬

‫"( أخرجه مسلم‪ :‬الصحيح (كتاب اإلمارة باب وجوب مالزمة جماعة المسلمين عند ظهور الفتن وفي‬

‫كل حال وتحريم الخروج على الطاعة ومفارقة الجماعة ‪ 3/1478‬ح ‪.)1851‬‬

‫وجه الداللة‪ :‬أوجب رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم على المسلمين طاعة أميرهم‪ ،‬ولو على كره‬

‫وغضاضة‪ ،‬ولم يسمح لهم بمعصيته إال إذا أمر بمعصية اهلل(المباركفوري‪ :‬األحزاب السياسية (ص‪:‬‬

‫‪.)56‬‬

‫فقد قال صلى اهلل عليه وسلم ‪ " :‬إِنَّمَا الطَّاعَةُ فِي المَعْرُوفِ"‬

‫(ومن المعلوم أن التعددية السياسية قائمة على التنافس في طلب الوالية‪ ،‬فالسعي إلى الحكم هو مفرق‬

‫الطرق بين األحزاب السياسيـة‪ ،‬وبين غيرهـا من التكتـالت البشرية األخرى‪ ،‬فأنى تتحقق‬

‫المشروعية لهذا النظام مع قيامه ابتداءًا على مناقضة هذه النصوص) الصاوي‪ :‬التعددية السياسية‬

‫(ص‪.)46 :‬‬

‫‪ .7‬عن حذيفة بن اليمان رضي اهلل عنهما قال‪ :‬كان الناس يسألون رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم عن‬

‫الخير‪ ،‬وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني‪ ،‬قال‪ :‬قلت يا رسول اهلل! إنا كنا في جاهلية وشر‪،‬‬

‫فجاءنا اهلل بهذا الخير‪ ،‬فهل بعد هذا الخير شر؟ قال‪ " :‬نَعَمْ "‪ ،‬قلت‪ :‬وهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال‪" :‬‬

‫نَعَمْ‪َ ،‬وفِيهِ دَخَنٌ " قلت‪ :‬وما دخنه؟ قال‪ " :‬قَوْمٌ يَسْتَنُّونَ بِغَيْرِ سُنَّتِي‪ ،‬وَيَهْدونَ بِغَيْرِ هَدْيِي تَعْرِفُ مِنْهُمْ‬

‫‪235‬‬
‫وَتُنْكِرُ " فقلت‪ :‬هل بعد ذلك الخير من شر؟ قال‪ " :‬نَعَمْ دُعَاةٌ عَلَى أَبْوَابِ جَهَنَّمَ‪ ،‬مَنْ أَجَابَهُمْ إِلَيْهَا قَذَفُوهُ‬

‫فِيهَا " فقلت‪ :‬يا رسول اهلل! صفهم لنا‪ ،‬قال‪ " :‬نَعَمْ قَوْمٌ مِنْ جِلْدَتِنَا وَيَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَتِنَا" قلت‪ :‬فما تأمرني‬

‫إن أدركني ذلك؟ قال‪ " :‬تَلْزَمُ جَمَاعَةَ المُسْلِمِينَ وَإِمَامَهُمْ " قلت‪ :‬فإن لم يكن لهم جماعة وال إمام؟ قال‪" :‬‬

‫علَى أَصْلِ شَجَرَةٍ حَتَّى يُدْرِكَكَ المَوْتُ وَأَنْتَ عَلَى ذَلِكَ "( أخرجه‬
‫فَاعْتَزِلْ تِلْكَ الفِرَقَ كُلَّهَا وَلَوْ أَنْ تَعَضَّ َ‬

‫البخاري‪ :‬الصحيح (كتاب المناقب‪ ،‬باب عالمات النبوة في اإلسالم ‪ 3/1319‬ح ‪ ،)3411‬مسلم‪:‬‬

‫الصحيح (كتاب اإلمارة‪ ،‬باب وجوب مالزمة جماعة المسلمين عند ظهور الفتن ‪ 3/1475‬ح‬

‫‪ ،)1847‬واللفظ له‪.‬‬

‫وجه الداللة‪ :‬السياق واضح أن الحوار الذي جرى بين الرسول صلى اهلل عليه وسلم وبين حذيفة‬

‫رضى اهلل عنه كان حول االجتماع واالفتراق في مجال السياسة‪ ،‬والسؤال األخير ينطبق تمامًا على‬

‫الظروف التي استجدت على ساحة العالم اإلسالمي في أواخر الخالفة العثمانية‪ ،‬وبعد إلغائها‪ ،‬والجواب‬

‫يوجب االلتزام بطاعة األمير واالنضمام إلى رايته‪ ،‬فإذا وصل الحال إلى انتهاء اإلمارة بال أمير‪،‬‬

‫وإعجاب كل ذي رأي برأيه‪ ،‬فالواجب االبتعاد عن جميع الجماعات والفرق التي تتناطح للحصول على‬

‫اإلمارة والسلطة‪ ،‬وكل هدفها هو السلطة وليس لها عقيدة واضحة‪ ،‬أما إذا ظهر إمام مسلم عادل‪،‬‬

‫فالواجب السير خلفه(المباركفوري‪ :‬األحزاب السياسية في اإلسالم (ص‪.)84 :‬‬

‫ثالثًا‪ :‬المعقول‪:‬‬

‫‪ .1‬إن قضية األحزاب السياسية متولدة من النظام الجمهوري أو الديمقراطي‪ ،‬الذي ساد العالم في ظل‬

‫العلمانية‪ ،‬فهي جزء من ذلك النظام وفرع من فروعه‪ ،‬وال يجوز اعتماده وال تطبيقه في دولة اإلسالم)‬

‫المرجع السابق (ص‪.)83 :‬‬

‫‪ .2‬إن هدف األحزاب السياسية الوصول إلى السلطة أو استخدامها‬

‫‪236‬‬
‫وقد فشلت التجارب الحزبية المعاصرة في أغلب البالد اإلسالمية‪ ،‬ودلت التجارب على أن هذه‬

‫األحزاب حينما دخلت إلى السلطة أفدحت المصائب‪ ،‬وكانت في الجملة وباالً على األمة وجرثومة تنخر‬

‫في كيانها‪ ،‬فسامت المواطنين المسلمين سـوء العـذاب‪ ،‬وتاجرت بالبالد في وقاحة تامة‬

‫المرجع السابق (ص‪ ،)29 ،28 :‬الصاوي‪ :‬التعددية السياسية (ص‪.)48 :‬‬

‫‪ .3‬لم يسبق في تاريخ اإلسالم على مدى القرون المتطاولة من خالفة رسالة اإلسالم سابقة واحدة من‬

‫هذا القبيل‪ ،‬فكان ذلك كاإلجماع من األمة على تركه‪ ،‬وإن انشقاق الفرق عن جماعة المسلمين هي‬

‫ظواهر مرضية اعترت الجسم اإلسالمي في فترة من الفترات‪ ،‬فارق بها أصحابها سبيل المؤمنين بما‬

‫تحزبوا عليه من األصول البدعية‪ ،‬أو شقوا عصاهم بما أحدثوه في األمة من منازعة األئمة‪ ،‬والخروج‬

‫عليهم‪ ،‬وكال الموقفين ممقوت ومردود(الصاوي‪ :‬التعددية السياسية (ص‪..)47 :‬‬

‫‪ .4‬جعل اإلسالم األخوة اإلسالمية هي أساس الوالء والبراء‪ ،‬فالمسلم ولي المسلم سواء أعرفه أم لم‬

‫يعرفه‪ ،‬وهذا يعني أن اإلسالم ال يتحمل في داخله تنظيمًا آخر بحيث تكون أسس ذلك التنظيم وقواعده‬

‫أساسًا للوالء؛ ألن هذا النوع من التنظيم يقتضي أن من انتظم فيه يستحق العون والنصرة واإلخاء‬

‫وغيرها من الحقوق‪ ،‬ومن ال ينتظم فيه ال يستحق تلك الحقوق‪ ،‬مع أن اإلسالم أعطى المسلم جميع هذه‬

‫الحقوق لمجرد كونه مسلمًا ال لسبب آخر(المباركفوري‪ :‬األحزاب السياسية (ص‪.)45 :‬‬

‫‪ .5‬إن التعددية الحزبية تقتضي التزام الفرد برأي الحزب المنتمي إليه‪ ،‬سواء أكان ذلك الرأي خطأ أم‬

‫صوابًا؛ ألن األحزاب قائمة بطبيعتها على التشيع والتمسك بشعار‪ " :‬انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا "‬

‫وإن لم تعترف صراحة بهذا الشعار( سميع‪ :‬أزمة الحرية السياسية في الوطن العربي (ص‪.)315 :‬‬

‫أدلة القول الثاني‪:‬‬

‫استدل القائلون بجواز التعددية‪ :‬بالقرآن‪ ،‬والسنة‪ ،‬وقواعد الشريعة ومقاصدها‪ ،‬وكذلك بالمعقول‪:‬‬

‫‪237‬‬
‫أوالً‪ :‬القرآن الكريم‪:‬‬

‫‪ .1‬قال اهلل تعالى‪|( :‬وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَـوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ‬

‫وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) سورة آل عمران‪ :‬اآلية (‪.)104‬‬

‫وجه الداللة‪ :‬يأمر اهلل تعالى جماعة من المسلمين أن تكون متصدية لوظيفة األمر بالمعروف والنهي‬

‫عن المنكر‪ ،‬فاألمر الرباني يفيد الوجوب في قوله‪ } :‬وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ { وأمة يقصد بها جماعة‪ ،‬وفي‬

‫هذا داللة على مشروعية العمل الجماعي‪ ،‬والناس بطبيعتهم يختلفون في األفكار والسياسات لتحقيق‬

‫أهدافهم‪ ،‬فتتشكل األحزاب السياسية كوسيلة شرعية للقيام بهذه الفريضة‪.‬‬

‫واألمة ليست مجموعة أفراد وال مجرد جماعة‪ ،‬جاء في تفسير المنار‪ " :‬والصواب أن األمة أخص من‬

‫الجماعة‪ ،‬فهي الجماعة المؤلفة من أفراد لهم رابطة تضمهم‪ ،‬ووحدة يكونون بها كاألعضاء في بنية‬

‫الشخص‪ ،‬والمراد بكون المؤمنين كافة مخاطبين بتكوين هذه األمة لهذا العمل‪ ،‬هو أن يكون لكل فرد‬

‫منهم إرادة‪ ،‬وعمل في إيجادها وإسعادها‪ ،‬ومراقبة سيرها بحسب االستطاعة " رضا‪ :‬تفسير المنار (‬

‫‪.)4/36‬‬

‫علَى اإلِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) سورة المائدة‪ :‬من‬


‫علَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَالَ تَعَاوَنُواْ َ‬
‫‪  .2‬قال اهلل تعالى‪( :‬وَتَعَاوَنُواْ َ‬

‫اآلية (‪)2‬‬

‫وجه الداللة‪ :‬أمر اهلل تعالى بالتعاون على البر والتقوى‪ ،‬فإذا اجتمع أفراد وأنشأوا حزبًا‪ ،‬أو جماعة‬

‫مسلمة على أساس من البر والتقوى‪ ،‬فال يجوز منعهم من ذلك؛ ألن في منعهم إبطال لعمل خير ال‬

‫ضرر فيه‪ ،‬ونهي عن المعروف‪ ،‬والنهي عن المعروف إثم وعدوان‪ ،‬فال يجوز‪ ،‬فيكون النهي عن‬

‫تشكيل أحزاب سياسية مسلمة غير جائز العوضي‪ :‬حكم المعارضة وإقامة األحزاب (ص‪.)74 :‬‬

‫جاء في تفسير القرطبي‪ " :‬ومن وجوه التعاون على البر والتقوى أن يكون المسلمون متظاهرين كاليد‬

‫الواحدة " القرطبي‪ :‬الجامع ألحكام القرآن (‪..)6/47‬‬

‫‪238‬‬
‫وأي حزب ينشأ فهو مأمور بالتصرف على نحو ال يضر بغيره‪ ،‬فردًا كان أو جماعة‪ ،‬ومنهي عن كل‬

‫تصرف يقصد به اإلضرار باآلخرين الدريني‪ :‬الحق ومدى سطان الدولة في تقييده (ص‪.)225 :‬‬

‫‪ .3‬قال اهلل تعالى‪( :‬وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَافَّةً فَلَوْالَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي‬

‫الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) سورة التوبة‪ :‬اآلية (‪)122‬‬

‫وجه الداللة‪ :‬في هذه اآلية إشارة واضحة إلى أنه ليس بطاقة المؤمنين أن ينفروا كافة لحمل األعباء‬

‫العامة‪ ،‬وفي المقابل إشارة إلى وجوب ذلك على كل مستعد‪ ،‬لتتحقق المصلحة العامة لألمة‪ ،‬فتتكون‬

‫طائفة مستعدة لتتولى هذه المهام‪ ،‬إذ أنها أساسًا مهام جماعية‪ ،‬وبذلك تكون األمة مكلفة بتشكيل‬

‫األحزاب السياسية التي تسعى إلى تحقيق ذلك‪ .‬الدريني‪ :‬الحق ومدى سطان الدولة في تقييده (ص‪:‬‬

‫‪.)225‬‬

‫‪  .4‬قال اهلل تعالى‪(:‬إِنَّ اللَهّ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ األَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ‬

‫بِالْعَدْلِ ) سورة النساء‪ :‬من اآلية (‪.)58‬‬

‫وجه الداللة‪ :‬تدل هذه اآلية على التكليف الجماعي في أداء األمانات إلى أهلها‪ ،‬ومن أهم األمانات‬

‫وأعظمها أن يتبوأ مقاليد الحكم أصحابه‪ ،‬فال يجوز أن يُمكَّن من هو ليس بأهل له‪ ،‬وهذه التكاليف‬

‫تحتاج إلى جماعة تنوب فيها عن األمة‪ ،‬فلربما يصل إلى السلطة من هو دونها‪ ،‬ويجور ويظلم‪ ،‬فتتولى‬

‫الجماعة رد الحق إلى أهله‪ ،‬فيكون إقامة األحزاب السياسية الزمًا " إذ األمر بالشيء أمر بما ال يتم‬

‫ذلك الشيء إال به " الرازي‪ :‬المحصول (‪ ،)2/317‬الغزالي‪ :‬المنخول (‪1/11‬‬

‫ثانيًا‪ :‬السنة‪:‬‬

‫‪ .1‬عن النعمان بن بشير رضي اهلل عنهما‪ :‬عن النبي ‪ r‬قال‪ " :‬مَثَلُ القَـائِمِ َ‬
‫علَى حُدُودِ اهللِ وَالوَاقِعِ فِيهَا‪،‬‬

‫كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُواْ عَلَى سَفِينَةٍ فَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَعْالهَا‪ ،‬وَبَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا‪ ،‬فَكَانَ الذِينَ فِي أَسْفَلِهَا إِذَا‬

‫اسْتَقَوْا مِن المَاءِ مَرُّواْ عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ‪ ،‬فَقَالُواْ‪ :‬لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا فِي نَصِيبِنَا خَرْقًَا‪ ،‬وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا‪ ،‬فَإِنْ‬
‫‪239‬‬
‫علَى أَيْدِيهِمْ نَجَوْا َونَجَوْا جَمِيعًا " أخرجه البخاري‪:‬‬
‫يَتْرُكُوهُمْ وَمَا أَرَادُواْ هَلَكُوا جَمِيعًا‪ ،‬وَإِنْ أَخَذُوا َ‬

‫الصحيح (كتاب الشركة باب هل يقرع في القسمة واالستهام فيه ‪ 2/882‬ح ‪)2361‬‬

‫وجه الداللة‪ :‬في هذا المثل الذي أورده الحديث أدق تصوير للمسئولية الفردية والجماعية‪ ،‬ولعقبى‬

‫التفريط فيها‪ ،‬فالشخص األخرق لو ترك يصنع ما يحلو له‪ ،‬فسيقود المجتمع كله خطوه في طريق‬

‫البوار‪ ،‬فإذا كثر هؤالء الخرقاء‪ ،‬وتعددت الخروق التي يصنعونها‪ ،‬فالمجتمع خارق ال محالة )‬

‫الغزالي‪ :‬اإلسالم واالستبداد السياسي (ص‪.)148 :‬‬

‫ومما ال ريب فيه أن المعارضة الفردية في وضع كهذا الوضع الذي ورد في الحديث الشريف‪ ،‬ال‬

‫تكون مجدية‪ ،‬وأن المعارضة الجماعية هي الوسيلة الفعالة التقاء الكوارث السياسية بكل تداعياتها‬

‫االقتصادية واالجتماعية ‪ ،...‬وحتى تكون هذه المعارضة الجماعية فعالة ومجدية‪ ،‬فال بد أن تكون‬

‫منظمة‪ ،‬وقد أثبت الفكر السياسي في تطوره الحديث أن األحزاب السياسية هي األطر األكثر صالحًا‬

‫لتنظيم وإعداد المعارضة الجماعية)‬

‫سميع‪ :‬أزمة الحرية السياسية (ص‪.)318 :‬‬

‫‪ .2‬عن حذيفة بن اليمان رضي اهلل عنهما عن النبي صلى اهلل عليه وسلم قال‪ " :‬وَالذِي نَفْسِي بِيَدِهِ‪،‬‬

‫ث عَلَيْكُمْ عِقَابًا مِنْهُ‪ ،‬ثُمَّ تَدْعُونَهُ‪ ،‬فَال‬


‫لَتَأْمُرُنَّ بِالمَعْرُوفِ‪ ،‬وَلَتَنْهَوُنَّ عَنْ المُنْكَرِ‪ ،‬أَوْ لَيُوشِكَنَّ اهللُ أَنْ يَبْعَ َ‬

‫يُسْتَجَابُ لَكُمْ " أخرجه الترمذي‪ :‬السنن (كتاب الفتن عن رسول اهلل‪ ،‬باب ما جاء في األمر بالمعروف‬

‫والنهي عن المنكر ‪ 4/468‬ح ‪ ،)2169‬وحسنه األلباني في المصدر نفسه‪...‬‬

‫‪  .3‬عن عبد اهلل بن مسعودرضى اهلل عنه أن رسول اهلل ‪ r‬قال‪ " :‬مَا مِـنْ نَبِيٍ بَعَثَهُ اهللُ‬

‫فِي أُمَّةٍ قَبْلِي إِال كَانَ لَهُ مِنْ أُمَّتِهِ حَوَارِيُّونَ وَأَصْحَابٌ يَأْخُذُونَ بِس َُّنتِهِ‪ ،‬وَيَقْتَدُونَ بِأَمْرِهِ‪ ،‬ثُمَّ إِنَّهَا تَخْلُفُ مِنْ‬

‫بَعْدِهِمْ خُلُوفٌ يَقُولُونَ مَا ال يَفْعَلُونَ‪ ،‬وَيَفْعَلُونَ مَا ال يُؤْمَرُونَ‪ ،‬فَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِيَدِهِ‪ ،‬فَهُوَ مُؤْمِنٌ‪ ،‬وَمَنْ‬

‫جَاهَدَهُمْ بِلِسَانِهِ‪ ،‬فَهُوَ مُؤْمِنٌ‪ ،‬وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِقَلْبِهِ‪ ،‬فَهُوَ مُؤْمِنٌ‪ ،‬وَلَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِن اإلِيمَانِ حَبَّةُ خَرْدَلٍ "‬

‫‪240‬‬
‫أخرجه مسلم‪ :‬الصحيح (كتاب اإليمان باب بيان كون النهي عن المنكر من اإليمان وأن اإليمان يزيد‬

‫وينقص وأن األمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبان ‪ 1/69‬ح ‪.)50‬‬

‫وجه الداللة‪ :‬تدل هذه األحاديث على التكليف الجماعي للقيام بفريضة األمر بالمعروف‪ ،‬والنهي عن‬

‫المنكر‪ ،‬وإن تنكل أو تلكؤ الجماعة في القيام بهذه المهمات األساسية‪ ،‬والواجبات العليا للتغيير‬

‫واإلصالح‪ ،‬يفضي إلى عقاب يعمهم من عند اهلل تعالى‪.‬‬

‫ثالثًا‪ :‬القواعد الشرعية‪:‬‬

‫‪ .1‬األصل في األشياء اإلباحة‪ ،‬واستصحاب الحِل‪ :‬والتعددية السياسية تفي بمتطلبات األمة وحاجاتها‪،‬‬

‫وتقيها من شر االستبداد بالحكم‪ ،‬كما أنها تقوي وحدة المجتمع من خالل التنظيم الذي يجمع في إطاره‬

‫من تبنى أفكاره؛ وال يوجد في الشريعة الغراء ما يمنع من هذه التعددية‪ ،‬ويحول بينها وبين إقامتها‪،‬‬

‫فتكون التعددية السياسية مباحة في أدنى درجاتها‪.‬‬

‫‪ .2‬قاعدة الذرائع والنظر إلى المآالت‪ :‬يقول الشاطبي ـ رحمه اهلل ـ‪ " :‬النظر في مآالت األفعال‬

‫معتبر مقصود شرعًا‪ ،‬كانت األفعال موافقة أو مخالفة‪ ،‬وذلك أن المجتهد ال يحكم على فعل من األفعال‬

‫الصادرة عن المكلفين باإلقدام أو اإلحجام إال بعد نظره إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل‪ ،‬فقد يكون مشروعًا‬

‫لمصلحة فيه تستجلب‪ ،‬أو لمفسدة تدرأ‪ ،‬ولكن له مآل على خالف ما قصد فيه‪ ،‬وقد يكون غير مشروع‬

‫لمفسدة تنشأ عنه‪ ،‬أو مصلحة تندفع به‪ ،‬ولكن له مآل على خالف ذلك " الشاطبي‪ :‬الموافقات ‪-4/194‬‬

‫‪.)195‬‬

‫فإذا استصحبنا هذه القاعدة في قضية التعددية السياسية‪ ،‬فإنها تقودنا إلى القول بمشروعية هذه التعددية‬

‫رغم ما قد يشوبها من بعض التجاوزات التي يمكن أن تغتفر اعتبارًا لقاعدة اعتبار المآل‪ ،‬وقاعدة‬

‫الموازنة بين المصالح والمفاسد‪.‬‬

‫‪241‬‬
‫فالتعددية ذريعة إلى منع االستبداد من ناحية‪ ،‬وإلى منع االضطرابات‪ ،‬والثورات المسلحة من ناحية‬

‫أخرى بما تشيعه من االستقرار النسبي في األوضاع السياسية‪ ،‬وبما تتيحه للمعارضة من المشاركة في‬

‫السلطة إلنقاذ برامجها‪ ،‬واختياراتها السياسية‪.‬‬

‫والوسائل والذرائع تأخذ حكم المقاصد أو الغايات حِالً وحرمة‪ ،‬يقول القرافي ـ رحمه اهلل ـ‪ " :‬الوسيلة‬

‫إلى أفضل المقاصد أفضل الوسائل‪ ،‬وإلى أقبح المقاصد أقبح الوسائل‪ ،‬وإلى ما يتوسط متوسطة‬

‫([القرافي‪ :‬الفروق (‪.)2/61‬‬

‫الصاوي‪ :‬التعددية السياسية (ص‪.)85 -82 :‬‬

‫رابعًا‪ :‬مقاصد الشريعة " السياسة الشرعية "‪:‬‬

‫السياسة الشرعية كما عرفها ابن عقيل ـ رحمه اهلل ـ فيما نقله عنه ابن القيم ـ رحمه اهلل ـ‪" :‬‬

‫السياسة ما كان فعالً يكون منه الناس أقرب إلى الصالح‪ ،‬وأبعد عن الفساد‪ ،‬وإن لم يضعه الرسول‬

‫صلى اهلل عليه وسلم وال نزل به وحي‪ ،‬ولكنه يوافق الشرع‪ ،‬وال يخالفه‪ ،‬كحرق علي بن أبي طالب‬

‫رضى اهلل عنه للزنادقة وتحريق عثمان رضى اهلل عنه للمصاحف ونفي عمر رضى اهلل عنه لنصر‬

‫بن حجاج " ابن القيم‪ :‬الطرق الحكمية (ص‪.)18 -17 :‬‬

‫‪ .1‬إن أحدًا ال ينكر أن للتعددية مثالبها‪ ،‬كما أن لحكم الفرد مثالبه كذلك‪ ،‬ولكن المفاسد التي تنجم عن‬

‫حكم الفرد من القهر والتسلط ومصادرة الحريات‪ ،‬وما قد يترتب عن ذلك من الثورات واالنقالبات‪،‬‬

‫أضعاف المفاسد التي تترتب على التعددية‪ ،‬فإذا علمنا أن مبنى الشريعة على تحقيق أكمل المصلحتين‪،‬‬

‫ودفع أعظم المفسدتين‪ ،‬وأنها قد تحتمل للمفسدة المرجوحة من أجل تحقيق المصلحة الراجحة‪ ،‬علمنا أن‬

‫القول بمشروعية التعددية هو األليق بمقاصد الشريعة‪ ،‬واألرجى تحقيقًا لمصالح األمة‪ ،‬وصيانة حقوقها‬

‫وحرياتها العامة)الصاوي‪ :‬التعددية السياسية (ص‪.)85 -84 :‬‬

‫‪ .2‬أقر أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضى اهلل عنه وجود حزب مخالف له في سياسته ومنهجه‪،‬‬

‫وهم الخوارج‪ ،‬وقال لهم‪ " :‬ولكم علينا ثالث‪ :‬أال نمنعكم مساجد اهلل‪ ،‬وال نحرمكم من الفيء ما دامت‬

‫‪242‬‬
‫أيديكم في أيدينـا‪ ،‬وال نبدأكم بقتـال " ابن عبد البر‪ :‬التمهيد (‪ ،)23/338‬الطبري‪ :‬التاريخ (‬

‫‪.)3/114‬‬

‫وعلق القرضاوى على كالم ابن عبد البر قائال (مع أنهم يمثلون المعارضـة المسلحة‪ ،‬والقوة التي‬

‫بلغت بها الشجاعة حد التهور ) ‪ :‬القرضاوي‪ :‬من فقه الدولة (ص‪..)157 :‬‬

‫خامسًا‪ :‬المعقول‪:‬‬

‫‪ .1‬إن التعدد الحاصل في الجماعات اإلسالمية هو تعدد تنوع وتخصص‪ ،‬تتكامل به الجهود‪ ،‬ويتكاتف‬

‫به الناس في أداء الفروض الكفائية‪ ،‬مع التوادد والتناصح‪ ،‬والتنسيق والتعاون وهو تعدد قامت عليه‬

‫الجماعات‪ ،‬وهي متفقة مع األصول مختلفة في الفـروع‪ ،‬أي أنها اتفقت في األهم‪ ،‬واختلفت في‬

‫الفروع‪ ،‬وهي أقل أهمية‬

‫وهذا هو مدلول ما يؤكده اإلمام الشهيد حسن البنا ـ رحمه اهلل ـ‪ " :‬فلنتعاون فيما اتفقنا عليه‪ ،‬وليعذر‬

‫بعضنا بعضًا فيما اختلفنا فيه " يقول الدكتور يوسف القرضاوي‪ :‬الصحوة اإلسالمية بين االختالف‬

‫المشروع والتفرق المذموم (ص‪ ":)159:‬هذه القاعدة الذهبية صاغها العالمة محمد رشيد رضا‬

‫رحمه اهلل‪ ،‬وكان اإلمام حسن البنا رحمه اهلل حفيًا بهذه القاعدة حريصًا على االلتزام بها فكرًا وعمالً‪،‬‬

‫حتى حسب كثير من تالمذته وأتباعه أنه واضعها "‬

‫‪ .2‬هناك فرق بين الجماعة العامة‪ ،‬والجماعة الخاصة‪ ،‬فالجماعة العامة واحدة‪ ،‬أما الجماعات الخاصة‪،‬‬

‫فيجوز تعددها بما يكفل سد الثغرات‪ ،‬والقيام بفروض الكفايات‪ ،‬وعندئذ ال يجب على كل مسلم مبايعة‬

‫هذه الجماعة الخاصة‪ ،‬بل من استحسن أمرها جاز له االلتزام بها) عبد الخالق‪ :‬مشروعية الجهاد‬

‫الجماعي (ص‪.)15 :‬‬

‫‪ .3‬ال خوف على اإلسالم في ظل تعدد األحزاب‪ ،‬إنما الخوف على ضياعه في ظل نظام الحزب‬

‫الواحد‪ ،‬فتعدد األحزاب السياسية إحدى الضمانات األساسية لحماية الحرية السياسية‪ ،‬وتحقيق االستقرار‬

‫‪243‬‬
‫السياسي‪ ،‬وإحدى الضمانات األساسية لضمان فاعلية وجدوى الفصل بين السلطات) عبد السالم‪ :‬أزمة‬

‫الحكم في العالم اإلسالمي (ص‪.)136 – 133 :‬‬

‫‪  .4‬يقول أبو الفتح البيانوني‪ " :‬إال أن إيجابيات التعدد تزداد وتغلب على السلبيات ومنها‪:‬‬

‫‌أ‪.‬استيعاب أكبر عدد من المسلمين في نطاق العمل اإلسالمي‪ ،‬فال يمكن لجماعة واحدة مهما بلغ شأنها‪،‬‬

‫وعال كعبها أن تستوعب الناس جميعًا على مختلف مذاهبهم ومشاربهم واجتهاداتهم‪.‬‬

‫‌ب‪.‬التعاون على تحقيق األهداف الكبرى‪.‬‬

‫‌ج‪.‬فسح المجال ألكثر من تجربة عملية في نطاق الدعوة اإلسالمية‪.‬‬

‫‌د‪.‬بروز روح التجديد والتطوير للعمل اإلسالمي‪.‬‬

‫‌ه‪.‬شيوع روح التنافس والتسابق إلى الكمال‪.‬‬

‫‌و‪.‬ضمان استمرارية العمل اإلسالمي في حاالت المحن والمصائب‪ ،‬فلو قدر لجماعة أن تمتحن قبل‬

‫غيرها‪،‬استمر العمل من قبل الجماعات األخرى)‪ .‬الشنتوت‪ :‬التربية السياسية (ص‪ ،)104 :‬نقالً عن‬

‫البيانوني‪ :‬وحدة العمل اإلسالمي (ص‪65 :‬‬

‫المناقشة‪:‬‬

‫مناقشة‪  ‬القائلين بتحريم التعددية الحزبية في اإلسالم‪:‬‬

‫أوالً‪ :‬مناقشة استداللهم بالقرآن الكريم‪:‬‬

‫‪ .1‬إن كلمة " شيعة " التي وردت في اآليات‪ ،‬تحمل نفس المعنى الذي تحمله كلمة حزب‪ ،‬أو طائفة‪ ،‬أو‬

‫فرقة‪ ،‬ولكن استخدام هذه الكلمات ال تصل بنا إلى نتيجة قطعية؛ ألنه كما استخدمت هذه المصطلحات‬

‫في مقام الذم في اآليات التي استدل بها أصحاب المذهب األول‪ ،‬فقد استخدمت في مقام المدح في آيات‬

‫أخرى‪ ،‬وتدل على الفئة الراشدة المهدية منها‪ :‬قال اهلل تعالى‪( :‬فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ‬

‫علَيْهِ ) سورة القصص‪ :‬من اآلية (‪.)15‬‬


‫عدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى َ‬
‫َ‬

‫‪244‬‬
‫وقال سبحانه‪(:‬وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ إلِبْرَاهِيمَ ) سورة الصافات‪ :‬اآلية (‪.)83‬‬

‫فجاءت في الموقع األول تشير إلى شيعة موسى‪ ،‬وفي الثاني إلى أن إبراهيم كان من شيعة نوح‪.‬‬

‫وكذلك األمر بالنسبة لكلمة حزب‪ ،‬فقد جاءت تشير إلى حزب اهلل‪( :‬وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ‬

‫آمَنُوا َفإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ‪ ).‬سورة المائدة‪ :‬اآلية (‪.)56‬‬

‫ويصدق األمر ذاته على الكلمتين األخريين‪.‬‬

‫‪ .2‬رغم أن القرآن الكريم قد حرم تفرقة الدين وما يؤول إليه من االنقسام إلى شيع‪ ،‬فقد توقع إمكانية‬

‫تواجد الخالف الذي قد يؤدي إلى االقتتال‪ ،‬وذلك في قوله تعالى‪( :‬وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا‬

‫فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا ) سورة الحجرات‪ :‬من اآلية (‪.)9‬‬

‫ومع هذا الخالف الذي وصل إلى درجة االقتتال‪ ،‬فقد أشار القرآن إلى الطوائف الثالث ـ الطائفتان‬

‫المقتتلتان‪ ،‬والطائفة الساعية إلى الصلح بينهما ـ باعتبارها من المؤمنين‪.‬‬

‫‪ .3‬إن االختالف في الرأي أمر حتمي بين البشر‪ ،‬وهو سنة اجتماعيـة قررهـا القرآن الكريم في‬

‫قوله‪  ‬تعالى‪( :‬وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَالَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِين ) سورة هود‪ :‬اآلية (‪.)118‬‬

‫‪ .4‬بالنسبة لألدلة القرآنية التي تنهى عن التفرق إلى شيع وفرق وأحزاب‪ ،‬وتحض على االجتماع‬

‫واالعتصام‪ ،‬فهذه تحمل على أساس االفتراق واالختالف في األصول الكلية‪.‬‬

‫وهذا التفرق محظور شرعًا؛ ألنه يفضي إلى زعزعة أركان ومقومات الدولة المسلمة‪ ،‬أما االختالف‬

‫الذي يكون في المسائل االجتهادية‪ ،‬أو في الوسائل والسياسات‪ ،‬أو يكون على أساس المنافسة في أعمال‬

‫الخير‪ ،‬فهذا ال ضير وال تثريب فيه‪ ،‬وال يتعارض وأحكام الشريعة الغراء‪ ،‬السيما أن االختالف في‬

‫الفروع وقع بين صحابة رسول اهلل ‪ r‬حتى وقع بين أبي بكر وعمر رضي اهلل عنهما‪.‬‬

‫قال الشاطبي ـ رحمه اهلل ـ‪ " :‬إنا نقطع بأن الخالف في مسائل االجتهاد واقع ممن جعل له محض‬

‫الرحمة‪ ،‬وهم الصحابة ومن اتبعهم بإحسان رضي اهلل عنهم‪ ،‬بحيث ال يصلح إدخالهم في قسم المختلفين‬

‫‪245‬‬
‫بوجه‪ ،‬فلو كان المخالف منهم في بعض المسائل معدودًا من أهل االختالف ولو بوجه ما‪ ،‬لم يصح‬

‫إطالق القول في حقه إنه من أهل الرحمة‪ ،‬وذلك باطل بإجماع أهل السنة‪ ،‬وبذلك فقد وسع اهلل على‬

‫األمة بوجود الخالف الفروعي فيهم‪ ،‬فكان فتح باب لألمة للدخول في هذه الرحمة‪ ،‬فكيف ال يدخلون‬

‫في قسم (مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ ) سورة هود‪ :‬من اآلية (‪.)119‬‬

‫فاختالفهم في الفروع كاتفاقهم فيها والحمد هلل " الشاطبي‪ :‬االعتصام (‪،171 -2/166‬‬

‫وها هي المذاهب الفقهية المختلفة قد تلقتها األمة بالقبول‪ ،‬ووصفـت أصحـابها‬

‫باإلمامة في الدين‪ ،‬ولم تعتبر خالفها من جنس التفرق في الدين أو الخالف المذموم الذي ينفي عن أهله‬

‫وصف الجماعة‪ ،‬ويحشرهم في دائرة أهل التفرق الذي حذرت منه النصوص‪ ،‬وتوعدت أهله بالفشل‬

‫وذهاب الريح‬

‫ومن أجمل ما قيل في هذا الشأن قول الدكتور يوسف القرضاوي ‪ " :t‬األحزاب مذاهب في السياسة‪،‬‬

‫والمذاهب أحزاب في الفقه " القرضاوي‪ :‬فقه الدولة (ص‪.)152 -151 :‬‬

‫ثانيًا‪ :‬مناقشة استداللهم بالسنة النبوية‪:‬‬

‫‪ .1‬األحاديث التي استدلوا بها في تحريم األحزاب السياسية في اإلسالم‪ ،‬وما شابهها مما لم يُذكر‪ ،‬غاية‬

‫ما فيها األمر بلزوم الجماعة‪ ،‬والنهي عن مفارقتها‪ ،‬وذم العصبية‪ ،‬وتحريم الدعوة إليها‪ ،‬والقتال عليها‪،‬‬

‫واألحزاب السياسية اإلسالمية من أهم أهدافها تحقيق معاني الجماعة‪ ،‬ومقاومة الفرقة واالختالف‪،‬‬

‫ومحاربة العصبية‪ ،‬وتعميق معاني األخوة بين المسلمين‪ ،‬ولو اتضح لدى المعترضين حقيقة عمل‬

‫األحزاب السياسية‪ ،‬وحدوده‪ ،‬واإلطار الذي تعمل داخله تلك األحزاب‪ ،‬لما حكموا بتحريمها‪ ،‬فإن حقيقة‬

‫عمل األحزاب السياسية المسلمة‪ ،‬وحدوده‪ ،‬واإلطار الذي تعمل بداخله ـ وهو العقيدة اإلسالمية‬

‫الصحيحة‪ ،‬والشريعة المنبثقة عنها ـ يتميز تمامًا عن حقيقة عمل األحزاب السياسية غير المسلمة‪،‬‬

‫وحدوده‪ ،‬واإلطار الذي تعمل فيه تلك األحزاب غير المسلمة) العوضي‪ :‬حكم المعارضة وإقامة‬

‫األحزاب (ص‪.)38 -37 :‬‬

‫‪246‬‬
‫‪ .2‬إن الذي يورث التفرق واالختالف في الحياة الحزبية هو التعصب المقيت‪ ،‬واعتقاد أهلها أنهم على‬

‫حق محض‪ ،‬وما دونهم باطل محض‪ ،‬وهذا االختالف ال يكون إال على أساس عقائدي‪ ،‬وبالتالي‬

‫فاألحزاب اإلسالمية هي دون ذلك فتعددها مشروع؛ ألنه تعدد في الوسائل والسياسيات‪ ،‬فيكون ال فرقة‬

‫فيه وال اختالف‪.‬‬

‫قال شيخ اإلسالم ابن تيمية ـ رحمه اهلل ـ‪ " :‬وأما رأس الحزب‪ ،‬فإنه رأس الطائفة التي تتحزب‪ ،‬أي‬

‫تصير حزبًا‪ ،‬فإن كانوا مجتمعين على ما أمر اهلل به ورسوله ‪ r‬من غير زيادة وال نقصان‪ ،‬فهم‬

‫مؤمنون لهم ما لهم‪ ،‬وعليهم ما عليهم‪ ،‬وإن كانوا قد زادوا في ذلك‪ ،‬ونقصوا‪ ،‬مثل التعصب لمن دخل‬

‫في حزبهم بالحق والباطل‪ ،‬واإلعراض عمن لم يدخل في حزبهم‪ ،‬سواء كان على الحق أو الباطل‪،‬‬

‫فهذا من التفرق الذي ذمه اهلل تعالى ورسوله " ابن تيمية‪ :‬مجموع الفتاوى (‪.)11/92‬‬

‫‪ .3‬بالنسبة لألدلة التي تنهى عن منازعة اإلمام والتزام الطاعة له‪ ،‬فال خالف فيه طالما أن الحاكم يحكم‬

‫بشريعة السماء‪ ،‬وبذلك تكون األدلة خارجة عن محل النزاع‪ ،‬فاألحزاب اإلسالمية ال تشق عصا‬

‫الطاعة عن الحاكم المسلم‪ ،‬بل إنها تعضد وتقوي بيعته‪ ،‬ويتمثل دورها في طرح البرامج السياسية‬

‫وغيرها‪ ،‬والسعي في طريق تنفيذها‪ ،‬كما أن قيام األحزاب السياسية في الدولة اإلسالمية ال يكون إال‬

‫بإذن اإلمام‪ ،‬إال إذا كان اإلمام جائرًا فتقضي الضرورة تشكيل معارضة سياسية‪ ،‬تقوم بفريضة التغيير‪،‬‬

‫وال تحتاج وقتها إلى إذن اإلمام لقوله صلى اهلل عليه وسلم ‪ " :‬إِنَّمَا الطَّاعَةُ فِي المَعْرُوفِ "‬

‫‪ .4‬أما حديث حذيفة بن اليمان رضي اهلل عنهما‪ ،‬فإن الفرق المأمور باعتزالها بقوله‪ " :‬فَاعْتَزِلْ تِلْكَ‬

‫الفِرَقَ كُلَّهَا " هي فرق الضالل والكفر‪ ،‬وال يصح حمل األمر " فَاعْتَزِلْ " في الحديث على الفرق‬

‫واألحزاب جميعها‪ ،‬فالحديث ال يأمر باعتزال األحزاب السياسية المسلمة‪ ،‬وإال لتناقض مع حديث‬

‫الرسول ‪ " :r‬ال تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي قَائِمَةٌ بِأَمْرِ اهللِ ال يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ‪ ،‬أَوْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ‬

‫اهللِ وَهُمْ ظَاهِرُونَ عَلَى النَّاسِ " أخرجه مسلم‪ :‬الصحيح (كتاب اإلمارة‪ ،‬باب قوله ‪ r‬ال تزال طائفة من‬

‫أمتي ‪ 3/1524‬ح ‪.)1923‬‬

‫‪247‬‬
‫ولزوم حزب أو جماعة مسلمة تدعو إلى الخير‪ ،‬وتأمر بالمعروف‪ ،‬وتنهى عن المنكر ال يتناقض‬

‫ولزوم جماعة المسلمين وإمامهم‪ ،‬فإذا أعملنا الحديثين فاعتزلنا فرق الضالل والكفر جميعها‪ ،‬وأنشأنا‬

‫حزبًا سياسيًا مسلمًا صرفًا يأخذ على عاتقه نصح الخليفة المسلم‪ ،‬وأمره بالمعروف‪ ،‬ونهيه عن المنكر‪،‬‬

‫ونصرته‪ ،‬وحض األمة على طاعته بالمعروف‪ ،‬واالستقامة إليه ما استقام لها‪ ،‬فعندئذ يتحقق في األمة‬

‫عنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللِهّ)‬


‫قول اهلل تعالى‪(:‬كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ َ‬

‫سورة آل عمران‪ :‬من اآلية (‪.)110‬‬

‫ثالثًا‪ :‬مناقشة استداللهم بالمعقول‪:‬‬

‫‪ .1‬بالنسبة لبعض األحزاب السياسية أنها نشأت تحت مظلة العلمانية‪ ،‬وهي متولدة من النظام‬

‫الديمقراطي‪ ،‬وال يجوز إطالق اعتمادها في دولة اإلسالم؛ ال نسلم أن مسألة األحزاب السياسية ال سند‬

‫لها في كتب فقهائنا‪ ،‬فهم قد تحدثوا ـ كما بينا سابقًا عن مراقبة اإلمام‪ ،‬ومحاسبته‪ ،‬بل وعزله إن‬

‫اقتضى األمر‪ ،‬وهذه المفاهيم لها ارتباط عميق بمفهوم األحزاب السياسية‪ ،‬السيما وأن الدولة ال ترتقي‬

‫إلى هذه الدرجة من المراقبة والمحاسبة والعزل إال بالجماعة؛ حتى لو تجاوزنا ذلك فإن مفهوم الرفض‬

‫المطلق لكل ما جاء من النظام الديمقراطي سواء أكان مالئمًا وموافقًا للشريعة الغراء‪ ،‬أم مخالفًا لها‬

‫ليس صحيحًا؛ فتلك أحزاب غير إسالمية نشأت في ظل أنظمة جمهورية أو ديمقراطية‪ ،‬ونحن نتحدث‬

‫عن أحزاب إسالمية نشأت تحت مظلة إسالمية‪.‬‬

‫‪ .2‬بالنسبة للقول بأن السلطة هي هدف األحزاب السياسية‪ ،‬وأن التجارب قد فشلت‪ ،‬وأن ما وصل منها‬

‫إلى الحكم صنعت الويالت؛ فنقول‪ :‬إن المنصف يستثني األحزاب اإلسالمية من هذا الحرص على‬

‫السلطة؛ ألن األمر أضحى معلومًا أن ذلك سمة األحزاب غير اإلسالمية التي تسعى لذات السلطة‪.‬‬

‫‪248‬‬
‫أما األحزاب اإلسالمية فمقصدها ليس كمقصد اآلخرين‪ ،‬فهي لم تأت طمعًا في زينة الدنيا‪ ،‬إنما قامت‬

‫لتنشئ مجتمعًا مسلمًا يقيم سلطة مسلمة‪ ،‬وهي ال تنازع سلطة منأصحابها‪ ،‬وإنما تعينهم على تحكيم‬

‫شرع اهلل‪.‬‬

‫ومن جهة أخرى ليس في اإلسالم ما يمنع األحزاب اإلسالمية التي تمتلك الكفاءة أن تسعى للمناصب‬

‫علَى خَزَائِنِ‬
‫التي تحقق من خاللها مصلحة اإلسالم والمسلمين‪ ،‬أخذًا بمبدأ يوسف عليه السالم‪(:‬اجْعَلْنِي َ‬

‫األَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ) سورة يوسف‪ :‬من اآلية (‪.)55‬‬

‫قال األلوسي ـ رحمه اهلل ـ‪ " :‬يجوز طلب الوالية إذا كان الطالب ممن يقدر على إقامة العدل‪،‬‬

‫وإجراء أحكام الشريعة‪ ،‬وإن كان من يد الجائر أو الكافر‪ ،‬وربما يجب عليه الطلب إذا توقف على‬

‫واليته إقامة واجب مثالً‪ ،‬وكان متعينًا لذلك "‪ .‬األلوسي‪ :‬روح المعاني (‪.)13/5‬‬

‫وأما عن فشل التجارب الحزبية المعاصرة‪ ،‬فهو مردود‪ ،‬فاألحزاب التي وصلت إلى سدة الحكم في‬

‫وقتنا المعاصر أحزاب علمانية‪ ،‬وهي التي أفدحت المصائب‪ ،‬وكانت وباالً على األمة‪ ،‬بل والحقت‬

‫العاملين لإلسالم حتى سامتهم سوء العذاب؛ وللحق‪ :‬إن األحزاب اإلسالمية لم تخض التجربة إال في‬

‫السودان‪ ،‬فقد تسلمت الجبهة القومية اإلسالمية زمام الحكم في عام ‪ 1989‬م‪ ،‬وبدأت خطاها وفق‬

‫شريعة اهلل‪ ،‬ولم تتجبر أو تظلم ـ مع بعض التحفظات على سياستها ـ ومن يومها نشأت قوى الشر‬

‫في طعنها ومحاربتها‪ ،‬ناهيك عن الحرب اإلعالمية العالمية الموجهة ضدها؛ أما باقي التجارب فما أن‬

‫وصلت األحزاب اإلسالمية إلى الحكم بمبايعة وانتخاب الجماهير لها‪ ،‬حتى قامت الحرب عليها‪،‬‬

‫وقمعت وسحقت‪ ،‬كما هو الشأن في الجزائر عندما فازت جبهة اإلنقاذ بقيادة عباس مدني‪.‬‬

‫‪ .3‬أما االحتجاج بانعدام السوابق التاريخية‪ ،‬فهنا ال بد من ضرورة التفريق بين الثوابت والمتغيرات في‬

‫هذا الباب‪ ،‬فمن الثوابت سيادة الشريعة‪ ،‬وسلطة األمة‪ ،‬والشورى‪ ،‬والحسبة‪ ،‬ونحوه وهذه من األصول‬

‫الثابتة التي ال يحل التفريط بها طرفة عين) الصاوي‪ :‬التعددية السياسية (ص‪.)67 :‬‬

‫‪249‬‬
‫فاإلسالم وضع أسسًا عامة لنظام الحكم‪ ،‬وترك التفصيالت للمسلمين‪ ،‬كما أن النبي ‪ r‬توفي ولم يعين‪،‬‬

‫ولم يشر إلى أسلوب معين لتحديد رئيس الدولة مثالً‪ ،‬مما جعل النظام السياسي مرنًا يتعاطى مع‬

‫المتغيرات‬

‫ولهذا فإن األصل في هذه الوسائل أنها من مسائل السياسة الشرعية‪ ،‬التي تتقرر شرعيتها في ضوء‬

‫الموازنة بين المصالح والمفاسد‪ ،‬وتتغير فيها الفتوى بتغير الزمان والمكان واألحوال‪ ،‬وال يعتبر ترك‬

‫أهل عصر لها حجة على بطالنها‪ ،‬وال إتيان أهل عصر آخر بها حجة على وجوبها(‪.‬‬

‫ومن جهة أخرى فإن المتتبع لحياة بعض األعالم من سلفنا الصالح‪ ،‬يجدهم قد جاهدوا ومارسوا دعوتهم‬

‫إلى اهلل في إطار جماعة خاصة‪ ،‬فهذا شيخ اإلسالم ابن تيمية ـ رحمه اهلل ـ كان قائد جماعة تلتزم‬

‫بأمره‪ ،‬وتعمل بمشورته‪ ،‬وتصدر عن رأيه‪ ،‬وتعيش في سرائه وضرائه‪ ،‬وتأخذها الظلمة بما ينقمون‬

‫على الشيخ‪ ،‬وتحارب تحت لوائه‪ ،‬وتتواصل معه بكل أنواع الصالت) راجع في ذلك عبد الخالق‪ :‬شيخ‬

‫اإلسالم ابن تيمية والعمل الجماعي (ص‪ ،)7 -2 :‬وقد كتبه ردًا على القائلين بأن اإلسالم لم يسبق‬

‫أن مارس العمل في جماعة‬

‫وإليك بعض رسائله التي كتبها في سجن اإلسكندرية إلى جماعته ويقول فيها‪( " :‬وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ‬

‫فَحَدِّثْ ) سورة الضحى‪ :‬اآلية (‪)11‬‬

‫والذي أعرف به الجماعة ـ أحسن اهلل إليهم في الدنيا واآلخرة‪ ،‬وأتم عليهم نعمه الظاهرة والباطنة ـ‬

‫واهلل العظيم الذي ال إله إال هو في نعمة من اهلل ما رأيت مثلها قط في عمري كله ‪ " ...‬ويستمر الشيخ‬

‫فيقول‪ " :‬وأنا في هذا المكان أعظم قدرًا‪ ،‬وأكثر عددًا ما لم يمكن حصره‪ ،‬وأكثر ما ينغص عليَّ‬

‫الجماعة‪ ،‬فأنا أحب لهم أن ينالوا من اللذة والسرور والنعيم ما تقر به أعينهم ‪ " ...‬ثم يواصل قائالً‬

‫لجماعته‪ " :‬والمقصود إخبار الجماعة بأن نعم اهلل علينا فوق ما كانت بكثير كثير‪ ،‬ونحن بحمد اهلل في‬

‫زيادة من نعم اهلل‪ ،‬وإن لم يكن خدمه الجماعة باللقاء‪ ،‬فأنا داع لهم بالليل والنهار قيامًا ببعض الواجب‬

‫في حقهم‪ ،‬وتقربًا إلى اهلل تعالى في معاملته فيهم ‪ " ...‬ثم يوجه لهم أوامره‪ " :‬والذي آمر به كل شخص‬

‫‪250‬‬
‫منهم أن يتقي اهلل‪ ،‬ويعمل هلل مستعينًا باهلل مجاهدًا في سبيل اهلل ‪" ...‬أ‪.‬هـ ابن تيمية‪ :‬مجموع الفتاوى‬

‫(‪.)46 -28/30‬‬

‫وأما االستدالل التاريخي بالفرق السياسية التي انشقت عن جماعة المسلمين‪ ،‬من الشيعة‪ ،‬والخوارج‪،‬‬

‫والمعتزلة‪ ،‬واعتبارها ظواهر مرضية الختالفها في أمور عقدية‪ ،‬فهو استدالل غير موفق‪ ،‬لما فيه من‬

‫التعميم‪ ،‬فهناك بعض األحزاب انطلقت كمحاولة جادة لترتيب الوضع اإلسالمي‪ ،‬وعلى الجملة‪ ،‬فال تعد‬

‫هذه األحزاب النموذج المنشود للتعددية الحزبية في الدولة اإلسالمية‪.‬‬

‫‪ .4‬مضمون الدليل الذي يقرر أن األحزاب تجعل أساس الوالء والنصرة واإلخاء‪ ،‬االنتظام في الحزب‪،‬‬

‫وهذا ال يقبله اإلسالم‪ ،‬فيحرم إنشاء األحزاب على هذا األساس‪ .‬فنقول‪ :‬إن اإلسالم ال يرتضي غير‬

‫الدخول فيه أساسًا للوالء والبراء‪ ،‬وأي حزب سياسي مسلم يجعل االنتظام فيه أساس الوالء والبراء‪،‬‬

‫وال يعتبر سائر المسلمين ممن هم خارج الحزب إخوانًا ألعضاء الحزب يجب لهم من المودة والمحبة‬

‫والنصرة ما ألعضاء الحزب‪ ،‬فإنه حزب مذموم ال يجوز والؤه وال نصرته‪ ،‬بل إن مجرد وجوده‬

‫يعتبر منكرًا تجب إزالته‪ ،‬ولكن ال يلزم من وجود مثل هذا الحزب تحريم إقامة أحزاب سياسية مسلمة‬

‫صرفة‪ ،‬تجعل أساس الوالء والبراء فيها اإليمان باهلل ربًا وباإلسالم دينًا وبمحمد صلى اهلل عليه وسلم‬

‫نبيًا رسوالً‪.‬‬

‫‪  .5‬حول القول بأن عمل األحزاب يقوم على أساس شعار‪ :‬انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا‪ ،‬وأن‬

‫التعددية الحزبية تقتضي التزام الفرد بكل ما تمليه عليه القيادة؛ فنقول‪ :‬ال شك أن هذه ظاهرة مرضية‬

‫تحياها األحزاب السياسية‪ ،‬وأن طبيعة العمل الحزبي هو إلزام أفراده برأيه‪ ،‬وتقييدهم تحت مظلته‪ ،‬إال‬

‫أن هذه الظاهرة ال تجد لها مكانًا في العمل اإلسالمي‪ ،‬فمفهومه يختلف كليًا؛ ألن القائمين على األحزاب‬

‫اإلسالمية يفترض أنهم قد رسخوا في علوم الشريعة‪ ،‬وارتقوا ورعًا وتقوى‪ ،‬والعضو قد تشرب العقيدة‬

‫والمفاهيم اإلسالمية الصحيحة‪ ،‬فيلتزم برأي حزبه وفق هذه القيادة‪ ،‬ويفهم إسالمه الذي يدعوه أال يساند‬

‫الظالم في ظلمه‪ ،‬وأن يكون مع الحق ضمن شعار اإلسالم الصحيح " انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا "‬

‫‪251‬‬
‫فقالوا‪ :‬يا رسول اهلل! فكيف ينصره ظالمًا؟ قال‪ " :‬تَأْخُذُ فَوْقَ يَدِهِ " أخرجه البخاري‪ :‬الصحيح (كتاب‬

‫المظالم‪ ،‬باب أعن أخاك ظالمًا أو مظلومًا ‪ 2/863‬ح ‪.)2312‬‬

‫والتعددية الحزبية التي أباحها اإلسالم تحرم على الجماعات اإلسالمية أن تربي أبناءها على معاداة ما‬

‫دونهم من المسلمين‪ ،‬فليحذروا من أن يقعوا في هذا اإليذاء‪( :‬وَالذِينَ يُؤْذُونَ المُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ‬

‫مَا اكْتَسَبُواْ فَقَد احْتَمَلُواْ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا) سورة األحزاب‪ :‬اآلية (‪.)58‬‬

‫فكل حزب يدعو أبناءه إلى االلتزام برأيه مطلقًا‪ ،‬يكون قد خالف الصواب‪ ،‬يقول ابن تيمية ـ رحمه‬

‫اهلل ـ‪ " :‬ومن حالف شخصًا على أن يوالي من وااله‪ ،‬ويعادي من عاداه‪ ...،‬كان من جنس المجاهدين‬

‫في سبيل الشيطان " ابن تيمية‪ :‬مجموع الفتاوى (‪.)28/20‬‬

‫فيتجلى لنا أن االحتجاج ليس في محل النزاع؛ ألن الشريعة هي األساس والقاعدة التي تبنى عليها‬

‫األحزاب اإلسالمية‪.‬‬

‫الترجيح‪:‬‬

‫من خالل عرض أدلة الفريقين‪ ،‬ومناقشة القائلين بتحريم التعددية السياسية في الدولة اإلسالمية‪ ،‬يظهر‬

‫جليًا مناصرتنا للفريق الثاني القاضي بمشروعية التعددية السياسية‪ ،‬وذلك لالعتبارات التالية‪:‬‬

‫‪  .1‬قوة األدلة التي استند إليها الفريق الثاني‪ ،‬والتي تحمل النزعة الجماعية في وجوب التغيير‪.‬‬

‫‪ .2‬إن أدلة الفريق األول التي بنو عليها رأيهم‪ ،‬والتي تدعو إلى عدم االفتراق واالختالف تحمل على‬

‫االختالف في األصول الكلية العامة للشريعة‪ ،‬والتعددية السياسية في الدولة اإلسالمية تعددها هو تعدد‬

‫تنوع وتخصص‪ ،‬واختالفها في الفروع والسياسات‪ ،‬وهذا مما ال تثريب فيه طالما أن الشريعة هي‬

‫القاعدة الصلبة للجميع‪ ،‬وأنهم متفقون على أسس عامة‪ ،‬ومنطلقات معتبرة‪ ،‬وضوابط محددة‪.‬‬

‫‪252‬‬
‫لذا ينبغي التحرر من فكرة القائلين ببدعية األحزاب السياسية‪ ،‬إذ أن ذلك هو الذي يورث الفرقة‬

‫واالختالف‪ ،‬ويشرذم الصف المسلم‪ ،‬ويؤثر على مسيرة العمل اإلسالمي‬

‫وكذلك التحرر من النظرة السطحية والقديمة لفكرة األحزاب على أنها شر محض‪ ،‬وتبعث الفرقة‬

‫والتباغض‪ ،‬وأن تتحول هذه النظرة وتتغير إلى ما يتوافق وشرعنا الحنيف‪ ،‬السيما وأن األحزاب‬

‫المؤطرة باإلسالم أضحت مصدر خير وفأل حرية واستقرار‬

‫‪253‬‬
‫الباب الثانى عشر‬

‫المرأة ودورها فى المشاركة السياسية‬

‫إن شريعة اهلل للناس لم تقم ‪-‬في الحقوق اإلنسانية العامة‪ -‬وزنًا للذكورة أو األنوثة‪ ،‬ألن من الظلم‬

‫ومجانية العدل الذي تنأى عنه شريعة خالق الذكر واألنثى‪ ،‬اعتماد هذه الفوارق القسرية التي ليست من‬

‫صنع اإلنسان حتى يحاسب عليها‪ ،‬وإنما جعلت ميزان الكرامة‪ :‬التقوى والعمل الصالح‪ ،‬قال تعالى‪( :‬يا‬

‫أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند اهلل‬

‫أتقــاكم ‪()...‬الحجرات‪ ،)13:‬وجاءت مشاركات المرأة وممارساتها في مرحلة السيرة تجسيدًا لهذه‬

‫الكرامة‪ ،‬وتنزيالً لألحكام الشرعية على محالها‪ ،‬حتى ال يكون هناك مجال للعبث أو التأويل الباطل‪،‬‬

‫وليكون ذلك دليالً ومعيارًا ألبعاد دور المرأة في الحياة اإلسالمية على مر العصور‪.‬‬

‫فلقد بايعت المرأة‪ ،‬وجاهدت‪ ،‬وهاجرت‪ ،‬ومرَّضت‪ ،‬وعلمت‪ ،‬وكانت من رواة األحاديث‪ ،‬واستدركت أم‬

‫المؤمنين عائشة رضي اهلل عنها على الصحابة‪ ،‬وقدمت أم المؤمنين أم سلمة رضي اهلل عنها المشورة‬

‫والرأي والحكمة للرسول صلى اهلل عليه وسلم ‪-‬الموحى إليه المستغني عن الشورى بالوحي‪ -‬في صلح‬

‫الحديبية عندما اختلطت الرؤية وكادت أن توقع في الهلكة‪ ،‬األمر الذي شكل منعطفًا تاريخيًا وكانت له‬

‫أبعاده الممتدة في التاريخ اإلسالمي‪.‬‬

‫‪254‬‬
‫لقد أقام اإلسالم العالقة بين الرجل والمرأة على المودة والرحمة‪ ،‬قال تعالى‪( :‬ومن آياته أن خلق لكم‬

‫من أنفسكم أزواجًا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك آليات لقوم يتفكرون ) (الروم‪:‬‬

‫‪ ،)21‬على عكس الفلسفات األخرى القائمة على الصراع والمواجهة بين الرجل والمرأة‪ ،‬وجعل القوامة‬

‫التي ناطها بالرجل درجة إشراف وإدارة وليس درجة تشريف وكرامة‪ ،‬ألن األكرم هو األتقى‪ ،‬كما قدم‬

‫كالً باختصاصه على اآلخر‪ ،‬وطلب التعامل باإلحسان بينهما حتى في حالة الكراهية قال تعالى‪...( :‬‬

‫فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئًا ويجعل اهلل فيه خيرًا كثيرًا ) (النساء‪ ،)19:‬وقال‪ ...( :‬وال‬

‫تنسوا الفضل بينكم‪() ...‬البقرة‪.)237:‬‬

‫وجعل األم المرأة أحق الناس بحسن الصحبة‪ ،‬فقد جاء رجل إلى رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم فقال‪:‬‬

‫ُم مَنْ؟‪ ،‬قال‪ :‬ثُمَّ أُمُّكَ‪ ،‬قال‪ :‬ثُمَّ مَن؟‪،‬‬


‫يا رسول اهلل من أحقُّ الناسِ بحُسنِ صَحَابَتِي؟ قال‪ :‬أُمُّكَ‪ ،‬قال‪ :‬ث َّ‬

‫قال‪ :‬ثُمَّ أُمُّكَ‪ ،‬قال‪ :‬ثُمَّ مَن؟‪ ،‬قال‪ :‬ثُمَّ أبُوك َ)(رواه البخاري)‪ ،‬كما جعل حق المرأة في الميراث بعد أن‬

‫كانت محرومة منه معيارًا لحق الرجل‪( :‬يوصيكم اهلل في أوالدكم للذكر مثل حظ األنثيين ‪( )...‬النساء‪:‬‬

‫‪.)11‬‬

‫لقد حرمت المرأة من بعض ما أعطاها اهلل من الحقوق باسم سد الذرائع‪ ..‬حرمت من المشاركة في‬

‫الحياة‪ ،‬والذهاب إلى دور العبادة والعلم‪ ،‬باسم حمايتها من الفتنة والفساد‪ ،‬فشاع الجهل وضعفت عرى'‬

‫التدين وفسدت التربية األسرية والتربية االجتماعية معًا‪ ،‬بسبب أمية المرأة وجهلها‪ ،‬وقد ال نحتاج لكثير‬

‫أمثلة‪ ،‬ألنها تمأل الواقع‪ ،‬وال يتسع المجال لإلتيان على ذكرها‪.‬‬

‫وقد ال نرى أنفسنا بحاجة إلى التأكيد على أن المدافعة بين الخير الشر والصالح والفساد‪ ،‬تؤدي إلى‬

‫النمو واالرتقاء وتحرير الحقيقة وتقود إلى النصر‪ ،‬وأن الضرب بين الحق والباطل هو من سنن الحياة‬

‫‪255‬‬
‫التي تحقق استمرارها‪ ،‬كما يؤدي إلى ثبات الحق وجفاء الزبد‪ ،‬قال تعالى‪( :‬وكذلك جعلنا لكل نبي عدوًا‬

‫من المجرمين وكفى بربك هاديًا ونصيرًا ) (الفرقان‪ ،)31:‬وقال تعالى‪ ...( :‬ولوال دفع اهلل الناس‬

‫بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم اهلل كثيرًا ولينصرن من ينصره‬

‫إن اهلل لقوي عزيز ) (الحج‪ ،)40:‬وقال‪ ...( :‬كذلك يضرب اهلل الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاء‬

‫وأما ما ينفع الناس فيمكث في األرض كذلك يضرب اهلل األمثال ) (الرعد‪.)17:‬‬

‫األدلة الشرعية بجواز مشاركة المرأة‪:‬‬

‫مـما يدل على جواز مشاركة المرأة في الشأن العام قوله تـعالى‪ (:‬وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ‬

‫عنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّالةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ‬


‫أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ َ‬

‫عزِيزٌ حَكِيمٌ‪[ ‬التوبة ‪ ]71 :‬وهذا يعني مشاركتها في أمر‬


‫وَرَسُوَلهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ َ‬

‫الشورى … وفيما يلي دالالت هذه المشاركة‪.‬‬

‫[‪ ]1‬يـجوز اشتراك المرأة في مجالس الشورى‪ ،‬حيث ال مانع شرعًا‪ ،‬والواقع أنّه ال أثر لشيء من‬

‫الذكورة أو األنوثة في مسألة الشورى والفتوى والتعليم ‪ ،‬إذ كل المطلوب هو‪ :‬العلم واألمانة والرأي‬

‫السديد ‪ ،‬وربما كانت المرأة أكثر علمًا كما يدل على ذلك حديث أبي بردة بن أبي موسى األشعري‬

‫أنّه قال‪( :‬ما أشكل علينا أمر فسألنا عنه عائشة إال وجدنا عندها فيه علمًا)‪ .‬سنن الترمذي المُجَلَّد‬

‫الخَامِس‪ .‬أبواب المَنَاقِب عَن رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّم‪.‬باب ما جَاءَ في فضل من رأى النبي‬

‫صلى اهلل عليه وسلم وصحبه‪ .‬الحديث رقم‪...3970 :‬‬

‫وقال عطاء‪ ( :‬كانت عائشة أفقه النّاس وأعلم النّاس وأحسن النّاس)‪ .‬ابن حجر العسقالني‪ :‬اإلصابة في‬

‫تمييز الصحابة‪. 4/392 ،‬‬

‫فما الذي يمنع المرأة من الشورى‪ ،‬وهي مأمورة بأنْ تنصح هلل وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر‪ ،‬بل‬

‫في السيرة النبوية ما يدل على استشارتها واألخذ بمشورتها كما كان من أم سلمة يوم الحديبية‪.‬‬

‫‪256‬‬
‫ومن خبر الصحابة في ممارستهم للشورى في اختيار الحاكم‪،‬ما أورده ابن تيمية ‪ :‬منهاج السنة‪،‬‬

‫‪ ، 3/233‬وابن كثير‪ :‬البداية والنهاية‪( 1/146 ،‬حتى خلص إلى النساء المخدرات في حجابهنّ)‪.‬‬

‫( أنّ عبد الرحمن ابن عوف بقي يشاور ثالثة أيام وأخبر أنّ النّاس ال يعدلون بعثمان‪ ،‬وأنه شاور‬

‫حتى العذارى في خدورهنّ‪).‬‬

‫ولعله يؤخذ من مبايعة النبي صلى اهلل عليه وسلم للنساء مبايعة خاصة مستقلة عن الرجال أنّ اإلسالم‬

‫يعتبرهنّ مسئوالت عن أنفسهنّ مسؤولية مستقلة عن الرجال ‪.‬‬

‫عنْهمَا ‪ -‬أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى اهلل عليه وسلم يَقُولُ‪( :‬كُلُّكُمْ‬
‫عنِ ابْنِ عُمَرَ ‪ -‬رَضِي اللَّه َ‬
‫عن عَبْدِ اللَّهِ َ‬

‫عنْ‬
‫عنْ رَعِيَّتِهِ‪ ،‬وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي أَهْلِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ َ‬
‫عنْ رَعِيَّتِهِ‪ ،‬اإلِمَامُ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ َ‬
‫رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ َ‬

‫عنْ‬
‫رَعِيَّتِهِ‪ ،‬وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا وَمَسْئُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا‪ ،‬وَالْخَادِمُ رَاعٍ فِي مَالِ سَيِّدِهِ وَمَسْئُولٌ َ‬

‫رَعِيَّتِهِ‪ .‬قَالَ‪ :‬وَحَسِبْتُ أَنْ قَدْ قَالَ‪ :‬وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي مَالِ أَبِيهِ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ‪ ،‬وَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ‬

‫عنْ رَعِيَّتِهِ)(‪ .)1‬صحيح البخاري‪ ،‬كتاب الجمعة‪ ،‬برقم ‪. 844‬‬


‫َ‬

‫عمَرَ بْنِ‬
‫[‪ ]2‬وداللة حديث أم هانئ‪ .:‬ونص الحديث كما في صحيح البخاري‪( :‬عَنْ أَبِي النَّضْرِ مَوْلَى ُ‬

‫عبَيْدِ اللَّهِ أَنَّ أَبَا مُرَّةَ مَوْلَى أُمِّ هَانِئٍ بِنْتِ أَبِي طَالِبٍ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَمِعَ أُمَّ هَانِئٍ بِنْتَ أَبِي طَالِبٍ تَقُولُ‪:‬‬
‫ُ‬

‫ذَهَبْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّه ِصلى اهلل عليه وسلم عَامَ الْفَتْحِ فَوَجَدْتُهُ يَغْتَسِلُ وَفَاطِمَةُ ابْنَتُهُ تَسْتُرُهُ‪ ،‬قَالَتْ‪ :‬فَسَلَّمْتُ‬

‫علَيْهِ‪ .‬فَقَالَ‪ :‬مَنْ هَذِهِ؟ فَقُلْتُ‪ :‬أَنَا أُمُّ هَانِئٍ بِنْتُ أَبِي طَالِبٍ؟ فَقَالَ‪ :‬مَرْحَبًا بِأُمِّ هَانِئٍ‪ ،‬فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ غُسْلِهِ قَامَ‬
‫َ‬

‫فَصَلَّى ثَمَانِيَ رَكَعَاتٍ مُلْتَحِفًا فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ‪ ،‬فَلَمَّا انْصَرَفَ قُلْتُ‪ :‬يَا رَسُولَ اللَّهِ زَعَمَ ابْنُ أُمِّي أَنَّهُ قَاتِلٌ‬

‫رَجُالً قَدْ أَجَرْتُهُ فُالنَ ابْنَ هُبَيْرَةَ فَقَالَ رَسُولُ ِصلى اهلل عليه وسلم اللَّهِ‪( :‬قَدْ أَجَرْنَا مَنْ أَجَرْتِ يَا أُمَّ هَانِئٍ)‬

‫‪1‬‬

‫‪257‬‬
‫قَالَتْ أُمُّ هَانِئٍ‪ :‬وَذَاكَ ضُحًى)أخرجه الشيخان‪ :‬البخاري في كتاب الصالة برقم ‪ ،344‬ومسلم في كتاب‬

‫صالة المسافرين وقصرها‪ ،‬برقم ‪1179‬‬

‫وفيه دليل أنّ المرأة لها حق اإلجارة‪ ،‬فهي مسؤولة كالرجل في تكافؤ الدماء والسعي بالذمة‪( :‬كما في‬

‫عنْ جَدِّهِ قَالَ‪ :‬قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ِصلى اهلل عليه وسلم (الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ‬
‫عنْ أَبِيهِ َ‬
‫عمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ َ‬
‫حديث َ‬

‫دِمَاؤُهُمْ يَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ ‪ .)..‬أخرجه أبو داود في سننه‪ ،‬كتاب الجهاد‪ ،‬برقم ‪2371‬‬

‫[‪ ]3‬وفي تاريخ الطبري ‪ :‬ما أشارت به نائلة بنت الفرافصة الكلبية لزوجها عثمان‪( :‬تتقي اهلل وحده ‪،‬‬

‫وتتبع سنة صاحبيك من قبلك) الطبري‪ :‬تاريخ األمم والملوك‪ ،‬دار الكتب العلمية‪ ،‬بيروت‪ ،‬ط‪،1/‬‬

‫‪1407‬هـ‪..2/659 ،‬‬

‫[‪ ]4‬عن ابن سيرين قال ‪( :‬كان عمر يستشير في األمر‪ ،‬حتى إنّه كان يستشير المرأة‪ ،‬فربما أبصر في‬

‫قولها الشيء فيستحسنه فيأخذ به) البيهقي‪ :‬السنن الكبرى‪ ،‬طبعة دار الفكر ‪10/113 ،‬‬

‫وليس فيما صح عن سُنَّة رسول اهلل ‪ ،‬ما يدل صراحة أو يشير بوضوح‪ ،‬إلى أنّ المرأة ال حق لها في‬

‫الشورى‪ .‬ولم يُعْرَف قط أنه صلى اهلل عليه وسلم تعمّد أنْ يتجنب مشاورة النساء في بعض ما يشاور‬

‫فيه الرجال‪.‬‬

‫أخرج البخاري في صحيحه أن النبي صلى اهلل عليه وسلم دخل يوم الحديبية على أم سلمة ‪ ،‬يشكو إليها‬

‫أنه أمر الصحابة بنحر هداياهم وحلق رؤوسهم فلم يفعلوا !‪ ..‬فقالت‪ :‬يا رسول اهلل أتحب ذلك ؟ اخرج‬

‫وال تكلم أحدًا منهم كلمة حتى تنحر بدنك وتدعو حالقك فيحلقك‪ .‬فخرج رسول اهلل وفعل ما أشارت به‬

‫أم سلمة‪).‬‬

‫‪258‬‬
‫ومما ال ريب فيه أنّ رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم في غنى ‪ -‬بما منحه اهلل من دراية وحكمة في‬

‫معالجة األمور وحل المشكالت ‪ -‬عن استشارة أم سلمة وغيرها ‪ -‬رضي اهلل عنهن ‪-‬ولكنه ‪ -‬كما قال‬

‫الحسن البصري وغيره‪ :‬أحب أنْ يقتدي الناس به في ذلك ونحوه وأنْ ال يلقى أحد منهم معرة في‬

‫مشاورة امرأة‪ ،‬قد يرى نفسه أوفر منها دراية وأنفذ بصيرة وفهمًا‪.‬‬

‫(‪ )5‬وقد صَحّ أنّ عمر كان يحيل على السيدة عائشة كل ما يتعلق بأحكام النساء وبأحوال بيت النبي‬

‫صلى اهلل عليه وسلم وقد استشارعمر ابنته حفصة في المدة التي ال تستطيع الزوجة أنْ تصبر فيها عن‬

‫بُعدِ زوجها عنها‪ ،‬فأمضى كالمها‪ ،‬واتخذ من رأيها في ذلك أجالً أقصى‪ ،‬للمكوث في الثغور ومواقع‬

‫الرباط في الغزوات ونحوها‪.‬‬

‫وقد كان عثمان بن عفان يستشير في خالفته النساء‪ ،‬وما أكثر ما استشار أم سلمة فأشارت عليه فأنس‬

‫برأيها وأخذ به‪.‬‬

‫(‪ )6‬ويرى جمهور الفقهاء أنّ الشورى تلتقي مع (الفتوى) في مناط واحد فكل من جاز له أنْ يفتي ‪-‬‬

‫بأن توافر لديه العلم بما يفتي به واتصف باألمانة واالستقامة – جاز له أنْ يشير ‪ ،‬وجاز لإلمام‬

‫وللقاضي أنْ يستشيره ويأخذ برأيه ‪.‬‬

‫ومعلوم أنّ الذكورة ليست شرطًا في صحة الفتوى وال منصبها عند بعض الفقهاء ‪.‬‬

‫فكل من صح له أنْ يفتي في الشرع ‪ ،‬جاز له أنْ يشاوره القاضي في األحكام‪ .‬فتعتبر فيه شروط‬

‫المفتي وال تعتبر فيه شروط القاضي‪ ،‬فيجوز أنْ يشاوِر المرأة‪ ،‬إذ يجوز أنْ تستفتى وتفتي‪.‬‬

‫‪259‬‬
‫أما الحنفية ‪ ،‬فهم يجيزون للمرأة أنْ تتولى القضاء أيضًا ‪ ،‬في كل ما يحق لها أنْ تشهد فيه ‪ ،‬فضالَ عن‬

‫الفتوى والشورى ‪ .‬ويقول صاحب "بدائع الصنائع"‪( :‬وأما الذكورة فليست من شرط جواز التقليد ـ أي‬

‫تقليد القضاء ـ في الجملة‪ ،‬ألنّ المرأة من أهل الشهادات في الجملة‪ ،‬إال أنها ال تقضي في الحدود‬

‫والقصاص ‪،‬‬

‫ألنه ال شهادة لها في ذلك‪ .‬وأهلية القضاء تدور مع أهلية الشهادة) ‪ .‬الكاساني‪ :‬بدائع الصنائع‪ ،‬دار‬

‫الكتب العلمية‪ ،‬بيروت‪ ،‬ط‪1406 ،2/‬هـ‪1986 -‬م‪.7/3 ،‬‬

‫وهذا مذهب الظاهرية أيضًا كما نص على ذلك ابن حزم ‪.‬‬

‫‪.‬وعندما يعطي ابن حزم رأي فهو يعطي نوع من القوة باعتبار أنه دائمًا يأخذ بظاهر النصوص فحينما‬
‫يأخذ بهذا الرأي دليل على أن النصوص الظاهرة معه تؤيده‪،‬‬

‫وقضية االحتساب وهى من فروع القضاء‪ ،‬سيدنا عمر ولى إحدى النساء من قبيلته الشفاء بنت عبد اهلل‬
‫العدوية والها محتسبة على السوق فهذا كله حسب الحاجة‪ ،‬فإذا وجدت المرأة المناسبة ووجدت الحاجة‬
‫فال مانع أن تسد المرأة الثغرة‪.‬‬
‫و ذكر ابن عبد البر أن الصحابية السمراء بنت مليك األسدية تولت الحسبة وهو نفسه يقول "وقضاء‬

‫الحسبة فرع من فروع القضاء" في مكة المكرمة أيام النبي صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬وكان لها صوت‬

‫تعنف به الغشاشين‬

‫(‪ )7‬وحول اشتراك المرأة في مؤسسات الشورى؛ يرى بعض الفقهاء المعاصرين أنّ األرجح عنده هو‬

‫(الجواز بإطالق‪ ،‬أي أنْ تكون المرأة ناخبة ومنتخبة‪ ،‬ألنّ كونها ناخبة ال يعدو أنْ تكون شاهدة‬

‫وهي أهل للشهادة باتفاق‪ .‬وأما كونها منتخبة فهو ال يفوق في أهميته أمر إفتاء المرأة واجتهادها‪ ،‬وهو‬

‫جائز باإلجماع) د‪ .‬أحمد عبيد الكبيسي‪ :‬رأي اإلسالم في إشراك المرأة في مؤسسات الشورى ‪ ،‬كتاب‬

‫الشورى في اإلسالم‪ ،‬المجمع الملكي لبحوث الحضارة اإلسالمية ‪ ،‬عمان ‪1989 ،‬م ‪.1106 ،‬‬

‫‪260‬‬
‫فتلك األخبار عن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وخلفائه الراشدين ‪ ،‬وهذه النصوص والنقول من‬

‫أمهات كتب الشريعة اإلسالمية وأمثلة ذلك كثيرة في سائر المصادر الفقهية على اختالف المذاهب كلها‬

‫تصدع بجواز المشاركة اإليجابية للمرأة فى كل مظاهر الشورى العامة تفعيال لدورها وإفادة لمجتمعها‪.‬‬

‫الباب الثالث عشر‬

‫الحرية ودورها فى ترسيخ أعمدة الحكم الرشيد‬

‫الفصل ااألول ‪:‬تعريف الحرية وبيان أهميتها‬

‫الفصل الثانى ‪:‬ضوابط الحرية‬

‫الفصل ااألول ‪:‬تعريف الحرية وبيان أهميتها‬

‫‪ :‬مقدمة وتمهيد‬

‫تعد الحرية والمساوة من أهم أعمدة الفقه السياسي اإلس]]المي فهى الغ]]ذاء لك]]ل أركان]]ه فال يمكن‬

‫بأى حال من األحوال تص]]ور قيام]]ه بمهام]]ه الحقيقي]]ة فى بن]]اء دول]]ة اس]]المية فى غي]]اب مع]]انى‬

‫الحرية والعدل ‪ ،‬ونصوص القرآن الكريم والسنة النبوية المطه]]رة مليئ]]ة بتقري]]ر ه]]ذه المب]اديء‬

‫وإقامتها بين بني البشر‪ .‬وما قرره اإلسالم من مئات السنين من مباديء إنس]]انية عام]]ة في نظ]]ام‬

‫الحكم هو جوهر كل نظام عادل وحضاري ترنو إليه النفوس السوية وإن تطورت اآلليات لتنفي]]ذ‬

‫‪261‬‬
‫هذه المباديء واتخذت أشكاال تناسب عص]]رنا وم]]ا وص]]ل إلي]]ه من تط]]ور في ش]]أن تط]]بيق ه]]ذه‬

‫المباديء‪ ،‬وكلها تحقق مقاصد الشارع فى اقامة نظم الحق والعدل والحرية‬

‫وال غروأن تجد فقهاءن]ا المعاص]رين ي]ذهبون إلى أن المقاص]د الش]رعية ليس]ت مح]دودة‪ ،‬فيم]ا‬

‫ع]رف ل]دى فقهائن]ا الق]دامى بالمحافظ]ة على الض]روريات الخمس أو م]ا يع]رف باس]م الكلي]ات‬

‫الخمس وهى ال]]دين والنفس والعق]]ل والنس]]ل والم]]ال ‪ ،‬وأن ه]]ذه الخمس ليس]]ت نهائي]]ة‪ ،‬فمقاص]]د‬

‫الشريعة قائمة مفتوحة ويمكن اإلضافة إليها ‪ ،‬و أن هناك مقاصد أخرى أو مصالح ض]]رورية لم‬

‫تستوعبها الكليات الخمس‪ ،‬من ذلك ما يتعلق بالقيم االجتماعي]]ة مث]]ل الحري]]ة والمس]]اواة واإلخ]]اء‬

‫والعدل والتكافل وحقوق اإلنسان‪ ،‬ومن ذلك ما يتعلق بتك]]وين المجتم]]ع واألم]]ة والدول]]ة‪ ]،‬كم]]ا أن‬

‫السماحة واليسر ودوام األخوة بين المسلمين‪ ،‬ونص]]رة المظل]]وم‪ ]،‬ودف]]ع الفس]]اد مقاص]]د ش]]رعية‪،‬‬

‫تضاف إلى رتب الضروريات‪.‬‬

‫ونرى أن أكبر ما يمس حياة اإلنسان هي حريته‪ ،‬ألنها تعادل حياته‪ ،‬ولذلك تقات]]ل الش]]عوب لتن]]ال‬

‫حريتها أو تموت دون ذلك وهذا ما لخصه الفاروق عمر رض]]ى هللا عن]]ه بقول]]ه (م]]تى اس]]تعبدتم‬

‫الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا )‬

‫إن الحرية مقصد شرعي استخدمها الشارع بألفاظ مترادفة مث]]ل الكرام]]ة والع]]زة وتح]]ريم القه]]ر‬

‫والنهر‪ ،‬وأن معناها منتشر فى تصرفات الشريعة مما لم يعد مع]]ه بمق]]دور منص]]ف أن ي]]رد ه]]ذا‬

‫الفهم‪ ،‬أو يتعامى عنه ‪.‬‬

‫وقد اتسعت رقعة الحرية في التطبيق الفقهي السياسي لدي فقهائنا القدامى والمعاص]]رين‪ ،‬وتجلت‬

‫أبعادها فى جوانب شتى تناولنا منها الشروط المتعلقة بالترش]]ح لمنص]]ب رئاس]]ة الدول]]ة‪ ،‬وط]]رق‬

‫‪262‬‬
‫اختيار رئيس الدولة‪ ،‬ومشاركة المرأة فى الحياة السياسية وت]]ولى الوالي]]ات العام]]ة‪ ،‬وق]]د عالجن]ا‬

‫ذلك فى مباحث سابقة‬

‫تعريف الحرية‬

‫ما هي الحرية؟‬

‫تعددت المذاهب في تعريف الحرية واختلفت اآلراء في تحديد مص]]طلح منض]]بط للحري]]ة‪ ،‬فق]]د ورد‬

‫في إعالن حقوق اإلنسان الصادر عام ‪ 1789‬إن الحرية‪ :‬هي «حق الفرد في أن يفع]]ل م]]ا ال يض]]ر‬

‫باآلخرين»‪.‬‬

‫تعريف الحرية في اإلسالم‪:‬‬

‫هي (ما وهبه هللا لإلنسان من مكنة التصرف الستيفاء حقه وأداء واجبه دون تعسف أو اعتداء)‬

‫تعريف الحرية عند الغرب‪:‬‬

‫«هي االنطالق بال قيد والتحرر من كل ض]ابط‪ ،‬والتخلص من ك]ل رقاب]ة‪ ،‬ول]و ك]انت تل]ك الرقاب]ة‬

‫نابعة من ذاته هو»‪.‬‬

‫‪263‬‬
‫فالحرية عندهم تعني أن تفعل ما تشاء وتأكل ما تشاء وتلبس ما تشاء وتعتقد ما تش]]اء وتن]]ام م]]ع من‬

‫تشاء فإذا كان هذا هو الحال فما هي النتيجة؟ الجواب مسموع ومشاهد ومعلوم للقاصي وال]]داني‪ ،‬إن‬

‫أعلى مع]]دالت الجريم]]ة والقت]]ل والس]]رقة واالختط]]اف واالغتص]]اب والش]]ذوذ والخيان]]ة والس]]كر‬

‫واالنحالل الخلقي الغير مسبوق هذا كله وأكثر موطن البالد الراعية والداعية إلى الحرية‪.‬‬

‫وحق الحرية عام وشامل وأصل لحقوق متعددة مث]]ل‪ :‬حري]ة االعتق]اد‪ ،‬والت]دين‪ ،‬وحري]]ة ال]ذات‪ ،‬أو‬

‫الحرية الشخص]]ية‪ ،‬وحري]]ة التفك]]ير‪ ،‬وحري]]ة ال]]رأي أو التعب]]ير‪ ،‬وحري]]ة العم]]ل والمس]]كن والتمل]]ك‬

‫واالنتفاع‪ ،‬والحرية السياسية‪ ،‬والحرية المدنية‪ ،‬حتى إن إنسانية اإلنسان رهن بحريته‬

‫‪..‬الحرية‪ :‬ضد العبودية‪ ..‬والحر‪ :‬ضد العبد‪ ..‬وتحرير الرقبة‪ :‬عتقها من الرق والعبودية‬

‫فالحرية‪ :‬هي اإلباحة التي تمكن اإلنسان من الفعل المعبر عن إرادته‪ ،‬في أي ميدان من ميادين الفعل‪،‬‬

‫‪.‬وبأي لون من ألوان التعبير‬

‫وفي المصطلح القرآني‪ ،‬الذي يقابل بين الحر والعبد‪{ :‬كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد‬

‫‪.‬بالعبد واألنثى باألنثى } [البقرة‪]178 :‬‬

‫ومن المأثورات اإلسالمية كلمات الراشد الثاني عمر بن الخطاب (‪40‬ق‪ .‬هـ ‪ 23 -‬هـ ‪644 -584 -‬م) التي‬

‫!يقول فيها‪ " :‬متى استعبدتم] الناس وقد] ولدتهم أمهاتهم أحراراً "؟‬

‫لم ترد كلمة الحرية في القرآن الكريم‪ .‬إنما الذي ورد هو مشتقات من كلمة الحرية‪ ،‬مثل كلمة‬

‫‪( :‬تحرير) في اآلية الكريمة‬

‫وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِالَّ خَطَأً وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى{‬

‫عدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مْؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ‬
‫أَهْلِهِ إِالَّ أَن يَصَّدَّقُوا فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ َ‬

‫‪264‬‬
‫وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ فَمَن لَّمْ َيجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّن‬

‫اهلل) النساء ‪92‬‬

‫وأيضًا كلمة (محررًا) التي تتحدث عن نذر أم السيدة مريم البتول حملها هلل في آية‪{ :‬إِذْ قَالَتِ‬

‫عمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} آل عمرن‬
‫امْرَأَتُ ِ‬

‫‪35‬‬

‫علَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ‬


‫وكلمة (الحر) في آية‪{ :‬يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ َ‬

‫بِالْعَبْ ِد وَاألُنْثَى بِاألُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ‬

‫‪.‬مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ}البقرة ‪178‬‬

‫وعلى طريقة القرآن في ضرب األمثال للناس؛ إليضاح المفاهيم الضرورية بإثارة وتحفيز‬

‫أدوات الفكر‪ ،‬وإعمال العقل فقد ضرب مثالً في سورة النحل‪ ،‬يعبر عن األهمية القصوى لقيمة‬

‫عبْدًا مَّمْلُوكًا الَّ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَن رَّزَقْنَاهُ‬


‫الحرية في مسيرة الناس‪ ،‬فقال تعالى‪{ :‬ضَرَبَ اهللُ مَثَالً َ‬

‫مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ هللِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ الَ يَعْلَمُونَ}النحل ‪75‬‬

‫فال تساوي بين من يتمتع بالحرية ويعيش بها وبين من سلبت منه الحرية‪ ،‬وهذا من أساسيات‬

‫‪.‬العلم‬

‫وهناك من يزعم أن عدم ورود كلمة الحرية في القرآن‪ ،‬وأن الذي ورد فحسب مشتقاتها مثل‬

‫كلمة (تحرير) والتي جاءت في صدد تكليف اإلنسان المخطئ بكفارة عن خطئه بتحرير إنسان من‬

‫عبودية الرق –تحرير رقبة‪ -‬هو دليل على أن اإلسالم لم يعرف لإلنسان حقوقًا‪ ،‬بل فرض عليه‬

‫‪.‬واجبات‪ ،‬أو كلفه بتكليفات فقط‬

‫بيد أن االرتفاع بالقيم اإلنسانية األساسية‪ ،‬وعلى رأسها الحرية –وهي التي تعنينا في هذا المقام–‬

‫من مستوى الحقوق لإلنسان‪ ،‬إلى مستوى التكليف أو االلتزام أو الشرط الكتمال إنسانية اإلنسان‪،‬‬

‫‪265‬‬
‫يدحض هذا الزعم بل يجعل الحرية من أبرز مقاصد وقيم اإلسالم‪ ،‬ويسلب مصداقية أية دعاوى باسم‬

‫الشرع تروّج لسلب حرية اإلنسان –أي إنسان– أو التغوّل عليها‪ ،‬أو تقييدها‪ ،‬أو التنازل عنها‪ ،‬أو‬

‫حتى القعود عن سبيل تحصيلها‪ ،‬باعتبارها مجرد حق يمكن التنازل عنه في مقابل تمجيد االستقرار‬

‫والسكون أو تكريس مفهوم الطاعة للسلطة‪ ،‬ومن أنواع السلطة التي حرر القرآن منها المؤمنين به‬

‫سلطة اآلباء‪ ،‬وسلطة المأل‪ ،‬وسلطة الفرعون‪ ،‬وأيضا سلطة الهوى بإيثار السالمة والخضوع وترك‬

‫السعي لتحصيل الكرامة والمساواة والحرية ولو استدعى األمر الهجرة في أرض اهلل الواسعة‬

‫ويبدو أن هذا المفهوم –رغم غياب كلمة الحرية من مفردات القرآن– كان غاية في الوضوح في‬

‫ذهن الرعيل األول من المسلمين‪ ،‬كما يظهر ذلك في قصة عمر بن الخطاب مع عمرو بن العاص‪،‬‬

‫ويتضح األمر بجالء في قول عمر‪" :‬متى استعبدتم الناس‪ ،‬وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا"‪ .‬كما نلمح‬

‫ذات التوجه في قصة ربعي بن عامر مع رستم ببالد الفرس‪ ،‬حين سأله رستم عن دوافع مجيء‬

‫العرب لقتال الفرس؟ فأجابه ربعي‪" :‬جئنا لنخرج الناس من عبادة العباد‪ ،‬إلى عبادة اهلل‪ ،‬ومن جور‬

‫األديان إلى عدل اإلسالم‪ ،‬ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا واآلخرة" الحرية إذن هي فريضة وواجب‬

‫والتزام وتكليف قبل أن تكون حقًّا‪ ،‬والمسئولية عن نشرها وتوفيرها وحمايتها يدخل ضمن هذا‬

‫التكليف لإلنسان المكلّف‪ ،‬وقد مثّل ذلك سياج الحركة والدعوة ومناط التوحيد الحق للصحابة‬

‫‪.‬والتابعين‬

‫وليس من واجب اإلنسان المكلّف فقط السعي للحصول على الحرية‪ ،‬والمحافظة عليها‪ ،‬والدفاع‬

‫عنها‪ ،‬وأال يسمح لنفسه أو لغيره باالفتئات عليها‪ ،‬بل إن عليه أيضًا إلزاما وواجبًا بالدفاع عن حق‬

‫اآلخر في الحصول على الفرصة العادلة للتعرف على مالمح الحرية‪ ،‬وأن يوفر لـه المناخ المناسب‬

‫لممارستها‪ ،‬وتذوق نتائجها وآثارها‪ ،‬وما فُرض الجهاد إال لذلك الهدف‪ ،‬تحرير الناس من الهيمنة‬

‫‪..‬على العقول والمقادير من قبل السلطة الباغية المستبدة‪ ،‬ثم بعدها من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر‬

‫‪266‬‬
‫وإذا كان الكون خلق لغاية وليس عبثًا‪ ،‬واإلنسان كائن مكلف‪ ،‬والعقل هو مناط التكليف‪ ،‬ومن‬

‫شروط قبول اإلنسان ذلك التكليف الحرية واالستطاعة والطاعة‪ ،‬فال يعني شرط الحرية هنا أن‬

‫لإلنسان من حيث المبدأ أن يرفض التكليف أو يقبله وال يتحمل تبعة االختيار؛ ألن اإلنسان قد سبق‬

‫وأقر بالتوحيد حين شهد هلل بالربوبية بنص {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ‬

‫علَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا‬
‫َ‬

‫‪.‬إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَ َ‬
‫ل الْمُبْطِلُونَ} [األعراف‪]173-172 :‬‬

‫فليست الحرية هنا والتي هي شرط للتكليف‪ ،‬تمارس في قبول التكليف أو رفضه؛ ألن التكليف‬

‫ليس موضوعًا للمساومة‪ ،‬وإنما مجال الحرية لإلنسان هو في العمل وفقًا لمتطلبات هذا التكليف أو‬

‫ترك العمل بها وتحمل مسئولية هذا االختيار بتقديم مشيئته في الكفر على مشيئة اهلل في استخالفه‬

‫وتكليفه وتحمل عواقب ذلك في الدنيا واآلخرة‪ ..‬فأمر التكليف لإلنسان محسوم فى قوله تعالى ‪{:‬يَا‬

‫أَيُّهَا اإلِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُالَقِيهِ}‪(.‬اإلنشقاق‪6‬‬

‫واإلنسان المكلف العاقل السميع البصير حر في العمل وفقًا للتكليف‪ ،‬أو لـه غير ذلك {أَلَمْ نَجْعَل‬

‫‪.‬لَّهُ َ‬
‫عيْنَيْنِ * وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَينِ} ( اآليات ‪ 10-8‬البلد)‬

‫‪ 7‬اإلسالمى‪ ‬‬
‫أهمية الحرية فى المفهوم‬

‫للحرية في اإلسالم مكانتها السامية‪ ،‬حيث أطلقها] هذا الدين الحنيف ح]تى في اختي]ار عقي]دة اإلس]الم‬

‫سبِي َل إِ َّما شَا ِك ًرا َوإِ َّما َكفُو ًرا}[اإلنسان آية ‪ ]3‬فهو سبحانه‬
‫كما نص على ذلك قوله تعالى‪ {:‬إِنَّا َه َد ْينَاهُ ال َّ‬

‫بذلك يقرر لإلنسان حريته بأمور اإليمان والعقيدة والتوحيد‪ ،‬وهي أس]]مى األم]]ور‪ ،‬وحمل]]ه مس]]ئولية‬

‫حريت]]ه في ذل]]ك‪ ،‬وه]]ذا ه]]و الع]]دل الت]]ام‪ ،‬وأق]]ام علي]]ه الحج]ة] بم]]ا أعط]]اه من حري]]ة قوامه]]ا اإلرادة‬

‫واالختيار والعقل‬

‫‪267‬‬
‫كما من أسرار الشريعة اإلسالمية حرصها على تصميم الحرية في اإلسالم بكيفية منتظمة‪ ،‬ف]]إن هللا‬

‫لما بعث رسوله بدين اإلسالم كانت العبودية متفشية في البشر‪ ،‬وأقيمت عليها ثروات كثيرة‪ ،‬وكانت‬

‫أس]]بابها متع]]ددة ومن أهمه]]ا ‪ :‬األس]]ر في الح]]رب‪ ،‬والخط]]ف في الغ]]ارات‪ ،‬وبي]]ع اآلب]]اء واألمه]]ات‬

‫أبناءهم‪ ،‬والرهائن‪،‬فأبطل اإلسالم جميع أسبابها عدا األسر‬

‫ومكانة الحرية في اإلسالم تتحقق من خالل الحقوق والواجبات باعتبارهما وجهين لعملة واحدة ألن‬

‫الحقوق من دون أن تقيد بالواجبات سيص]]بح الف]]رد غ]]ير مرتب]]ط ب]]اآلخرين وق]]د يع]]رف حقوق]]ه وال‬

‫يعرف حقوق اآلخرين عليه وبذلك يصبح انفراديا ً في تعامله قاصراً عن أداء واجباته‪.‬‬

‫وقد حرص اإلسالم على تطبق مبدأ الحرية في هذه الحدود وبهذه المناهج في مختلف شؤون الحياة‪،‬‬

‫وأخذ به في جميع النواحي التي تقتضي كرامة الفرد وأن يأخذ به في شؤونها وهي النواحي المدني]]ة‬

‫والدينية ونواحي التفكير والتعبير‪ ،‬ونواحي السياسة والحكم حتى وصل به في كل النواحي إلى شأن‬

‫رفيع لم تصل إلى مثله شريعة أخرى من شرائع العالم قديما ً وحديثاً‪.‬‬

‫فاإلسالم يرى أن إنسانية اإلنسان هي رهن حريته إذ ال يمكن أن تتحق]]ق إنس]]انيته ب]]دون حري]]ة وق]]د‬

‫عزز الرسول صلى هللا عليه وسلم في سنته المطهرة وس]]يرته العط]]رة ‪ ،‬مب]]دأ "الحري]]ة" س]]واء في‬

‫التفكير أم في التعبير أم في إعمال الرأي واالجتهاد في أمور الدين والدنيا‪ ،‬حرصا ً من]]ه على تك]]وين‬

‫الشخصية المستقلة المتماسكة القوية لدى المسلم‬

‫والتاريخ اإلسالمي مليء بقصص الحرية الواسعة األبواب في عهد الرس]]ول ص]]لى هللا علي]]ه وس]]لم‬

‫والخلفاء الراشدين من بعده‪.‬‬

‫فالرسول صلى هللا عليه وسلم عندما أراد أن يبعث الصحابي الفقيه "معاذ بن جبل" رض]]ي هللا عن]]ه‬

‫إلى اليمن ليعلم ال]]ذين دخل]]وا إلى اإلس]]الم ويفقههم‪ ،‬ق]]ال علي]]ه الص]]الة والس]]الم‪« :‬كي]]ف تقض]]ي إذا‬

‫‪268‬‬
‫عرض لك قضاء؟» قال‪ :‬أقضي بكتاب هللا قال‪« :‬فإن لم تجد في كتاب هللا» ق]]ال‪ :‬فبس]]نة رس]]ول هللا‬

‫صلى هللا عليه وسلم قال‪« :‬فإن لم تجد في سنة رسول هللا وال في كتاب هللا؟» قال‪ :‬أجتهد ب]]رأي وال‬

‫آلو‪ .‬فضرب رسول هللا صلى هللا عليه وسلم صدره وقال‪« :‬الحمد هلل ال]]ذي وف]]ق رس]]ول هللا إلى م]]ا‬

‫يرضي رسول هللا»‬

‫وقد نظر اإلسالم إلى الحرية نظرة متميزه‪ ،‬خاصة لو قمنا بعمل مقارنة بينها وبين نظرة الحضارة‬

‫‪:‬الغربية وبعض الحضارات الشرقية القديمة‪ ،‬ويتميز] المفهوم اإلسالمي للحرية في اآلتي‬

‫الحرية في النظرة اإلسالمية ضرورة من الضرورات] اإلنسانية‪ ،‬وفريضة إلهية وتكليف] شرعي ‪1-‬‬

‫واجب‪ ..‬وليست مجرد "حق" من الحقوق‪ ،‬يجوز] لصاحبه أن يتنازل عنه إن هو أراد !( المفهوم‬

‫اإلسالمي للحرية‪،‬د‪.‬محمد عمارة‪ ،‬مجلة األزهر ذوالقعدة ‪ 1433‬هـ‪ ،‬أكتوبر ‪2012‬م الجزء"‪ "11‬السنة"‬

‫‪)"1985‬‬

‫فمقام الحرية يبلغ في األهمية وسلم األولويات‪ ،‬مقام الحياة التي هي نقطة البدء والمنتهى‪ ،‬وجماع عالقة‬

‫‪..‬اإلنسان بوجوده الدنيوي]‬

‫لقد اعتبر اإلسالم "الرق" بمثابة "الموت"‪ ،‬واعتبر "الحرية" إحياء "وحياة"‪ ..‬فعتق الرقبة‪ ،‬أي تحرير]‬

‫العبد‪ ،‬هو إخراج له من الموت الحكمي إلى حكم الحياة‪ ..‬وهذا هو الذي جعل عتق الرقبة‪ -‬إحياءها‪-‬‬

‫كفارة للقتل الخطأ الذي أخرج به القاتل نفسا ً من إطار األحياء إلى عداد الموتى‪ ،‬فكان عليه‪ ،‬كفارة عن‬

‫‪:‬ذلك‪ ،‬أن يعيد الحياة إلى الرقيق بالعتق والتحرير]‬

‫‪].‬النساء‪ } [92:‬ومن قتل مؤمنا ً خطئا ً فتحرير] رقبة مؤمنة {‬

‫وبعبارة واحد من مفسري] القرآن الكريم‪ -‬اإلمام النسفي (‪ 719‬هـ ‪1310 /‬م)‪ " :-‬فإنه – أي القاتل‪ -‬لما‬

‫أخرج نفسا ً مؤمنة من جملة األحياء‪ ،‬لزمه أن يدخل نفسا ً مثلها في جملة األحرار‪ ،‬ألن إطالقها] من قيد‬

‫‪269‬‬
‫الرق كإحيائها‪ ،‬من قبل أن الرقيق ملحق باألموات‪ ،‬إذ الرق أثر من آثار الكفر‪ ،‬والكفر موت حكما ً "‬

‫وفي اآلية (‪ )122‬من سورة األنعام‪ { :‬أومن كان ميتا ً فأحييناه }‪ .‬تفسيرالنسفي (مدارج التنزيل وحقائق‬

‫التأويل) ط‪ 1‬ص‪.189‬طبعة القاهرة‪ 1344.‬هـ‬

‫لم يكن موقف] اإلسالم من "الحرية" وعداؤه "للعبودية" مجرد موقف"فكري"] "نظري"‪ ،‬وإنما تجسد ‪2-‬‬

‫على أرض الواقع تجربة "إصالحية ‪ -‬ثورية" شاملة غيرت المجتمع الذي ظهر فيه تغييراً جذرياً‪ -‬وذلك‬

‫هو الذي يحسب لإلسالم‪ ،‬وال تحسب عليه "الردة" التي حدثت عندما استشرى] االسترقاق] في فترات‬

‫الحقة من التاريخ !‪ (.‬المفهوم اإلسالمي للحرية‪،‬د‪.‬محمد عمارة‪ ،‬مجلة األزهر ذوالقعدة ‪ 1433‬هـ‪ ،‬أكتوبر‬

‫‪2012‬م الجزء"‪ "11‬السنة" ‪)1985‬‬

‫لقد ظهر اإلسالم ونظام الرق‪ -‬إن في شبه الجزيرة العربية أو فيما وراءها – نظام عام وراسخ وبالغ‬

‫القسوة ويمثل ركيزة من ركائز] النظامين االقتصادي واالجتماعي] لعالم ذلك التاريخ وفي كل‬

‫‪ !..‬الحضارات‪ ،‬حتى ال نغالي إذا قلنا‪ :‬إن الرقيق] كان العملة الدولية القتصاد] ذلك التاريخ‬

‫وقد بلغ من قسوتها] وشيوعها ما صنعته القيصرية الرومانية‪ ،‬والكسروية الفارسية‪ -‬القوى العظمى‬

‫‪ !..‬يومئ ٍذ‪ -‬من تحويل كل شعوب المستعمرات إلى رقيق] وبرابرة وأقنان‬

‫فلما جاء اإلسالم‪ ،‬وقامت دولته في المدينة المنورة‪ ،‬حرم وألغى كل المنابع والروافد التي تمد " نهر‬

‫الرقيق" بالجديد‪ ].‬ووسع المصبات التي تجفف هذا النهر‪ ،‬وذلك عندما حبب إلى الناس عتق األرقاء بل‬

‫جعله مصرفا ً من مصارف] األموال اإلسالمية العامة‪ ،‬وصدقات المسلمين وزكواتهم‪ ..‬وعندما جعل‬

‫العديد من الكفارات هي تحرير الرقبة‪ ..‬وعندما سن شرائع المساواة بين الرقيق] ومالكه وسيده في‬

‫المطعم والمشرب والملبس‪ ..‬ودعا إلى حسن معاملته والتخفيف عنه في األعمال‪ ..‬حتى لقد أصبح‬

‫‪ !.‬االسترقاق‪ -‬في ظل هذه التشريعات‪ -‬عبئا ً اقتصادياً] يزهد فيه الراغبون في الثراء‬

‫وبالعكس مما كان يفعله الدول األخرى‪ ،‬لقد وقف] اإلسالم من االسترقاق] عند أسرى الحرب المشروعة‪،‬‬

‫‪":‬ليبادلهم مع أسرى المسلمين‪ .‬بل وشرع لهذه الحاالت المحدودة العدد "المن والفداء‬

‫‪270‬‬
‫فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم] فشدوا الوثاق] فإما منا ً بعد وإما فداء حتى {‬

‫‪].‬محمد‪ } [4:‬تضع الحرب أوزارها‬

‫النظرة اإلسالمية للحرية قد ربطت قيمة الحرية باإلنسان مطلق اإلنسان‪ ،‬وليس باإلنسان المسلم ‪3-‬‬

‫وحده‪ ،‬وإذا كان الدين والتدين هو أغلى وأول ما يميز اإلنسان‪ ،‬فإن تقرير اإلسالم لحرية الضمير في‬

‫االعتقاد الديني لشاهد على تقديس حرية اإلنسان في كل الميادين‪ ..‬فهو حر حتى في أن يكفر‪ ،‬إذا كان‬

‫‪:‬الكفر هو خياره واختياره‬

‫‪].‬البقرة‪ }[256:‬ال إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي {‬

‫قال يا قوم أرئيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني رحمة من عنده فعميت عليكم أنلزمكموها وأنتم {‬

‫‪].‬هود‪} [28:‬لها كارهون‬

‫‪].‬يونس‪ }[99:‬ولو شاء ربك آلمن من في األرض كلّهم جميعا ً أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين {‬

‫لقد أراد هللا للناس الهدى واإليمان‪ ،‬لكنه – سبحانه‪ -‬جعل لهم‪ ،‬مع هذه اإلرادة اإللهية الحرية والتخيير‬

‫‪..‬والتمكين‪ ،‬فكان انتصار اإلسالم للحرية اإلنسانية في كل الميادين‬

‫النظرة اإلسالمية تحرر اإلنسان من كل الطواغيت‪ ،‬فشهادة التوحيد " ال إله إال هللا " هي جوهر ‪4-‬‬

‫التدين باإلسالم‪ ،‬فإنها في مفهومه ثورة تحرير اإلنسان من العبودية لكل الطواغيت‪ ،‬ومن كل األغيار‪،‬‬

‫فإفراد] هللا باأللوهية والعبودية هي جوهر تحرير اإلنسان من العبودية لغير هللا‪ ،‬إنها العبودية للذات‬

‫المنزهة عن المادة‪ ..‬ومن ثم فإنها هي المحققة لتحرير اإلنسان من كل ألوان الطواغيت المادية التي‬

‫‪.‬تستلب منه اإلرادة والحرية واالختيار]‬

‫بل إن اإلسالم عندما يدعو اإلنسان إلى االقتصاد] في االقتناء واالمتالك] – بتهذيبه لشهوات التملك‬

‫وغرائزه‪ -‬وبالوقوف] به عند حدود(االستخالف) و"االنتفاع" ال "ملكية الرقبة" و"االحتكار"] ‪ ..‬إن‬

‫‪271‬‬
‫اإلسالم بصنيعه هذا إنما ينجز إنجازاً عظيما ً على درب تحرير اإلنسان وانعتاقه من العبودية لألشياء‪،‬‬

‫‪.‬التي يحسبها مملوكة له‪ ،‬على حين أنها مملوكة هلل عزوجل‬

‫ولإلسالم مذهبا ً متميزاً في "نطاق" الحرية اإلنسانية و"آفاقها"] و"حدودها"‪ ،‬فاإلنسان خليفة هلل‪5- -‬‬

‫‪.‬سبحانه‪ -‬في عمارة الوجود‪ ،‬ومن ثم فإن حريته هي حرية الخليفة‪ ،‬وليست حرية سيد هذا الوجود‬

‫إنه سيد في هذا الوجود‪ ،‬وليس سيداً لهذا الوجود‪ ،‬وبعبارة األستاذ اإلمام محمد عبده(‪ 1323-1266‬هـ‬

‫‪1905-1849".‬م)‪ " :‬فاإلنسان عبد هلل وحده‪ ،‬وسيد لكل شيء بعده‬

‫فالحق –تبارك وتعالى‪ -‬سخر لإلنسان ظواهر] الطبيعة وقواها؛ ليتحرر] من العبودية لها‪ ،‬فإنه قد أقام‬

‫إخاء بين قوى اإلنسان وقوى الطبيعة‪ -‬الخليقة – لتمتزج حريته بهذا التسخير المتبادل‪ ،‬فهو] أخ لطبيعة‬

‫بين قواه وقواها] تسخير متبادل‪ ،‬هو أشبه ما يكون باالرتفاق‪ ،‬كل مرفق] مسخر للمرفق اآلخر‪ ،‬األمر‬

‫‪.‬الذي يجعل الحرية اإلنسانية حرية المخلوق المسئول ال حرية الذي ال يسأل عما يفعل‪ ..‬الفعال لما يريد‬

‫النظرة اإلسالمية للحرية تقوم على‪ :‬قيمة الحرية في الممارسة والتطبيق‪ ،‬وذلك عندما حرر اإلنسان ‪6-‬‬

‫من أغالل الجاهلية وظلمها] وظلماتها‪ ،‬وذلك بإعادة تربية هذا اإلنسان التربية اإلسالمية التي حررت‬

‫ملكاته وطاقاته حتى لقد أصبح " العالم األكبر" رغم أنه – ماديا ً – " جرم صغير "‪ ،‬وتمت تربية "‬

‫الجيل القرآني الفريد " الذي صنعه الرسول] صلى هللا عليه وسلم على عينه في " دار األرقم بن أبي‬

‫األرقم " التي كانت أولى مؤسسات الصناعة الثقيلة التي أقامها] اإلسالم إلعادة صياغة هذا اإلنسان‪ ..‬أي‬

‫أن منهاج اإلسالم في الحرية والتحرير] قد وضع "التربية" قبل "السياسة"‪ ،‬و"األمة" قبل "الدولة"؛ ألن‬

‫"األصول" البد أن تسبق"] الفروع"‪(.‬المرجع السابق)‬

‫غياب مباحث الحرية في فكر السلف؟‬

‫على الرغم من عدم ذكر الحرية بلفظها في القرآن الكريم‪ ،‬فإن الباحث بين جنباته‪ ،‬ومن خالل‬

‫آياته سوف يجد الحظ الوفير الذي أخذته دالالت ومعاني الحرية بأطيافها المختلفة‪ ،‬وقدر العناية‬

‫الفائقة التي أوالها القرآن لالحتفاء بها‪ .‬وحتى يمكننا تعقب ذلك الحضور األخاذ للحرية بمختلف‬

‫‪272‬‬
‫معاييرها وعناصرها ال بد أوالً من تصنيفها إلى فروعها المختلفة‪ ،‬وأنواعها التي تعارف عليها الفكر‬

‫اإلنساني‪ .‬أي المقصود هنا أنه لكي نتمكن من تتبع اآليات التي تحدد المفهوم القرآني للحرية‪ ،‬والتي‬

‫تشرح التوصيف اإللهي لها‪ ،‬يجب أن نحدد أوالً أصناف أو أنواع الحريات التي أجمعت الخبرة‬

‫اإلنسانية المتراكمة على أنها مطلوبة وضرورية لإلنسان‪ ،‬فإذا وضعنا أمامنا أصناف الحرية‬

‫وتقسيماتها التي انتهى إليها إعمال العقل البشري‪ ،‬والتي تطورت كحصيلة للتجارب اإلنسانية‬

‫المتراكمة‪ ،‬أمكننا استخراج اآليات التي تشير أو تدعّم أو توضح أو تضيف أو حتى تخالف هذه‬

‫‪.‬األصناف من الحرية وتراها مخالفة لمقصود اإلنسانية‪ ،‬من بين آيات القرآن الكريم‬

‫ومن البديهي أن نتجه أوالً إلى حصيلة الفكر اإلسالمي‪ ،‬وإلى المصادر اإلسالمية لمعرفة ما‬

‫‪.‬انتهى إليه الفقه في هذا المنحى‬

‫إن الفكر الوارد إلينا من خالل التاريخ اإلسالمي قد شابه القصور الشديد في اتجاه التنظير‬

‫للحرية‪ ،‬نتيجة ألسباب ال يتسع المقام هنا لمناقشتها‪ ،‬والتحدث عن أسبابها‪ ،‬والتي على رأسها‬

‫االستبداد السياسي الطويل الذي بدأ بمقتل الخليفة علي بن أبي طالب –رضي اهلل عنه‪ ،-‬وقد دفع هذا‬

‫االستبداد معظم العلماء والمفكرين المسلمين تاريخيًّا‪ ،‬بسبب الظروف السياسية إلى صرف جهودهم‬

‫في استنباط الحكم التشريعي من اآليات‪ ،‬دون الوقوف عند األهداف الكثيرة التي جاءت اآليات من‬

‫أجلها‪ ،‬وأُنزلت للفت النظر إليها‪ ،‬وإدراك أبعادها‪ ،‬والتزامها في الحياة‪ ،‬فجعلوا اآليات موضوع‬

‫الدراسة هي آيات األحكام حتى يتم حفظ الدين لألمة في معاشها دون صرف جهد كافٍ آليات السنن‬

‫وشروط البناء الحضاري ومقومات القيام بأعباء االستخالف اإلنساني‪ .‬وبقيت آيات القرآن العديدة‬

‫حول االستخالف والتوحيد وعالقتهما باإلنسان وتحريره وفلسفة السنن االجتماعية في قصص األنبياء‬

‫تتلى في العبادة فحسب‪ .‬حتى اآليات التي وردت لتبين أسباب سقوط األمم وانهيار الحضارات ليأخذ‬

‫المسلمون حذرهم‪ ،‬فال تتسرب إليهم إصابات األمم السابقة وعللها‪ ،‬جعلوها دليالً على تميز األمة‬

‫‪273‬‬
‫اإلسالمية وكأنها مبرأة من أن تسري عليها تلك السنن إن هي تولت وأهدرت العدل والحرية‬

‫‪.‬والمساواة‬

‫وقد أنفق الرسول –صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬قرابة الثالثة عشر عامًا وهي الفترة التي قضاها في‬

‫مكة‪ ،‬في إرساء العقيدة والتوحيد واإليمان في نفوس المسلمين‪ ،‬وكانت هي المرحلة التي يمكن أن‬

‫تسمى مرحلة بناء الذات الحرة الواعية العزيزة باهلل‪ ،‬وهي الذات الضرورية لتحمل تبعات القيام‬

‫بأعباء تأسيس األمة‪ ،‬ونشر الدعوة والدفاع عنها‪ ،‬لذلك نجد أن اآليات المكية من القرآن هي اآليات‬

‫التي تخدم البناء العقيدي واإلنساني والحضاري‪ ،‬بينما تأخرت آيات األحكام إلى المرحلة المدنية‪،‬‬

‫وذلك ألن الحكم التشريعي إنما يجيء ثمرة للوجود والبناء الذاتي اإلسالمي‪ .‬فالحكم التشريعي ال‬

‫ينشئ المسلم‪ ،‬وال ينشئ المجتمع‪ ،‬وإنما ينظمه ويحميه‪ ،‬ولعل ذلك كان سبب تأخر اآليات التشريعية‬

‫إلى الفترة المدنية؛ لتكون ثمرة لوجود فرد وجماعة وأمة وحضارة‪ ...‬أما أن يكون الحكم التشريعي‬

‫هو األول فعلى من سيتنزل؟ ومن سيطبقه بغية العدل والقسط إذا غاب الشهداء على الناس وتراجعت‬

‫خالفة اإلنسان بمعانيها وبحقها‬

‫ورغم ذلك االنصراف للعبادات والمعامالت دون السعي للعدل السياسي والدفاع عن الحريات‬

‫العامة فلم يسلم حتى األئمة األربعة أبو حنيفة ومالك والشافعي وابن حنبل من بطش الحكام‪ ،‬وساءت‬

‫عالقاتهم بالسالطين على الرغم من محاوالتهم لتجنبهم‪ ،‬فقد مات أبو حنيفة ‪-‬رحمه اهلل‪ -‬في السجن‪،‬‬

‫وعذب ابن حنبل في محنة خلق القرآن‪ ،‬وكسرت ذراع مالك في فتوى سياسية حين أفتى بأنه ال قيمة‬

‫إليمان التواطؤ على البيعة‪ ،‬أما الشافعي فقد سيق في القيد مع تسعة من العلويين وتقدم الشافعي‬

‫فصار في مواجهة الرشيد فلم يفقد اتزانه فزعًا‪ ،‬أو غضبًا أو يأسًا‪ ،‬ولم يتخل عن رباطة جأشه‪،‬‬

‫وينجو الشافعي بشهادة القاضي‪ ،‬فينجو بنجاته ذخر زاخر من اللغة واألدب والشعر فضالً عن علوم‬

‫‪.‬الدين‬

‫‪274‬‬
‫قبول األمر الواقع‪ ،‬دفع الفقهاء إلى مزيد من االنكباب واالستفاضة في شروح العبادات‬

‫والمعامالت على النحو الذي وصل إلينا‪ ،‬ولذا نجد هذا الثراء والغنى في فقه العبادات والمعامالت‪،‬‬

‫لكن في المقابل ضمور وضعف في الفقه السياسي والدستوري باستثناء كتابات معدودة ال توازي‬

‫‪.‬القرون العديدة وال تضاهي الفقه الغالب‬

‫أو كما يقول محمد الغزالي فى كتابه اإلسالم واإلستبداد السياسى ‪" :‬وتأثرت السياسة اإلسالمية‬

‫‪".‬تأثرًا بالغًا‪ ،‬وانهزمت الشورى انهزامًا واضحًا‪ ،‬ووقع لألمة ما وقع‬

‫ال يعني ما سبق محاولة لإلقالل من تأثير الحضارة اإلسالمية الهائلة على مسيرة البشرية‪ ،‬بل‬

‫وعلى الغرب الذي تسيطر حضارته على العالم منذ ثالثة قرون وإلى اآلن‪ ،‬لكننا نركز فيما سبق‬

‫على أسباب تضخم فقه العبادات‪ ،‬وانكماش ما عداه والذي ال يقل في األهمية لنشاط اإلنسان كخليفة‬

‫عن اهلل في أرضه‪ ،‬لذلك لم يكتمل بناء مفاهيم وتعريفات واضحة للحرية الفردية‪ ،‬وعالقات الحرية‬

‫بين السلطة والفرد في التراث اإلسالمي‪ ،‬أو يمكن القول بعدم وجود هذه التعريفات‪ .‬وليس يعني ذلك‬

‫أن المفكرين المسلمين لم ينشغلوا بعالقة الحاكم والمحكوم‪ ،‬فالواقع أنها شغلتهم دائمًا‪ ،‬وإنما من خالل‬

‫مفهوم آخر هو مفهوم العدالة‪ ،‬فالحاكم مخوّل بالحكم بشرط أن يكون عادالً في حكمه‪ ،‬ومن هنا شعار‬

‫(العدل أساس الملك)‪ ،‬لكن الوجه اآلخر هو تمتع الناس بالحرية ودفاعهم عن حقهم فيها‪ ،‬وهو ما قيده‬

‫الفقهاء خشية انفراط عقد األمة وحدوث الفتنة‪ ،‬فكانت فتنة االستبداد أم الفتن التي وقع فيها المسلمون‬

‫‪.‬فأجهضت نهضتهم وأثمرت تدهور حضارتهم وأنجحت مؤامرات عدوهم‬

‫‪275‬‬
‫الفصل الثانى‬

‫ضوابط الحرية‬

‫عالقة الحرية بالمسؤولية‬

‫حدود وضوابط‬

‫إن اإلسالم بين عالقة الحرية والمسؤولية في‪  ‬إنها عالقة تالزم وتكامل‪ ،‬لتكون حرية اإلنس]]ان إرادة خ]]يرة‬

‫فاعلة في مسؤولياته بالرغبة واالقتناع‪ ،‬وتكون المسؤولية استثمارا] عاقالً وناف ًع] ا] إلرادت]]ه الح]]رة‪ ،‬من أج]]ل‬

‫مصلحة الفرد والجماعة والمجتمع واألمة واإلنسانية جميعًا‪.‬‬

‫أما الحرية المطلقة بغير قيود] وال حدود‪ ،‬فهي سلوك بهيمي فوضوي مفسد ومدمر‪ ،‬اليليق بكرامة اإلنس]]ان‬

‫صاحب الرسالة‪ ،‬وال بحياته ومجتمعه‪ .‬إن حقيق]]ة التالزم بين الحري]]ة والمس]]ؤولية في حي]]اة اإلنس]]ان أش]]به‬

‫بحال السائق وقواعد] نظام السير‪ :‬فأنت حر أن تركب س]]يارتك من ذوق]ك] واختي]]ارك‪ ،‬وتس]]ير] حيث تش]]اء‪،‬‬

‫لكنك مطالب بمراعاة قواعد نظام السير واحترامها‪ ،‬حفاظا ً على سالمتك وسالمة غيرك‪ ،‬ولو أردتها حرية‬

‫مطلقة في الطريق] بغير التزام وال انضباط‪ ،‬ج]]نيت على نفس]]ك وعلى غ]يرك وعلى النظ]]ام الع]]ام‪ .‬والواق]ع]‬

‫شاهد بالمآسي المفجعة لحوادث السير على مغبة التهور والشطط وخرق] حدود الحرية وضوابطها‬

‫فالبد لحرية اإلنسان من ضوابط] تكبح جماحها وتلزمها سمت االعت]]دال وتروض]]ها على التفاع]]ل اإليج]]ابي‬

‫مع الواجب والمسؤولية‪ ,‬فمهما كانت حريتك حقا مشروعا‪ ،‬فهي تنتهي حيث تبدأ حري]]ة غ]]يرك‪ ،‬وأيً]]ا ك]]ان‬

‫حقك فيها فهو قرين الواجب نحو غيرك‪ ،‬وتلك ض]رورة الحي]اة االجتماعي]ة اإلنس]انية ال]تي ال تس]تقيم على‬

‫األمن واالستقرار بغير انضباط] والتزام‪.‬‬

‫‪276‬‬
‫وبهذا تزول مظ]]اهر] الخل]]ط واالض]]طراب وااللتب]]اس] الحاص]]لة في ه]]ذا الموض]]وع‪ ،‬ألن كث]]يرا من الن]]اس‬

‫يحكمون أهواءهم وأنانياتهم في فهم الحرية وتقدير المسؤولية وممارستهما‪ .‬وإنما فسدت أحوال المجتمعات‬

‫واضطربت] وضاعت المصالح واألمن واالستقرار] بعاملين رئيسيين‪:‬‬

‫أحدهما‪ :‬اإلفراط والغل]]و والش]]طط في طلب الحري]]ة وممارس]]ة حقه]]ا‪ ،‬بغ]]ير ض]]وابط] عقلي]]ة وال ديني]]ة وال‬

‫خلقية‪ ،‬فتصبح تهورا وتمردا] تعقبه الشرور والمفاسد‪.‬‬

‫وثانيهما‪ :‬التفريط والتقصير] في أداء واجب المسؤولية‪ ،‬عن جهل أو تجاهل أو تمرُّ د‪ ،‬مما يؤدي إلى ضياع‬

‫الحقوق والمصالح‪ .‬له]]ذا يح]]رص اإلس]]الم بتش]]ريعه الربَّاني] الحكيم على التالزم والت]]وازن واالعت]]دال بين‬

‫س لت]]وازن الحي]]اة اإلنس]]انية أخالقي]]ا‬


‫الحري]]ة والمس]]ؤولية وم]]ا يتعل]]ق بهم]]ا من الحق]]وق والواجب]]ات‪ ،‬كأس]]ا ٍ‬

‫واجتماعيا وحضارياً]‬

‫‪ ‬فحين يرعى اإلسالم حرية اإلنسان‪ ،‬فانه يؤسسها] بداية على تحري]]ره ه]]و من ك]]ل م]]ا يكب]]ل إرادت]]ه ويلغي‬

‫إنسانيته وكرامته‪ .‬يحرره في قلبه ومشاعره من سيطرة األهواء وال]]دوافع] الش]]يطانية االنحرافي]]ة‪ ,‬ويح]]رره‬

‫في عقله وتفكيره من قيود األوهام والخرافات واالنحرافات الفكرية‪ ,‬ويحرره في بدن]]ه وكيان]]ه من عناص]]ر‬

‫الظلم والقهر واالستعباد والمهانة‪ ,‬وذلك من أجل أن تبقى كل معاني العبودية والخضوع خالصة هلل وح]]ده‪،‬‬

‫{ولَقَ ْد َك َّر ْمنَ‪‰‰‬ا بَنِي آ َد َم َو َح َم ْلنَ‪‰‰‬ا ُه ْم فِي ا ْلبَ‪ِّ ‰‬‬


‫‪‰‬ر‬ ‫وهو الذي أراد لعباده حياة التحرر والكرامة واالمتياز] قال تعالى‪َ :‬‬

‫ض ْلنَا ُه ْم َعلَى َكثِي ٍر ِّم َّمنْ َخلَ ْقنَا تَ ْف ِ‬


‫ضيالً}[اإلسراء آية ‪ .]70‬ويأتي في ه]]ذا‬ ‫َوا ْلبَ ْح ِر َو َر َز ْقنَاهُم ِّمنَ الطَّيِّبَا ِ‬
‫ت َوفَ َّ‬

‫السياق مقولة عمر بن الخطاب ‪-‬رضي هللا عنه‪ -‬المشهورة وهي من حكمة اإلسالم‪« :‬متى استعبدتم] الن]]اس‬

‫وقد ولَّدتهم أمهاتهم] أحراراً»‪.‬‬

‫وحين يرعى مسؤوليته‪ ،‬فإنه يربيه على تقديرها وتعظيم شأنها باعتبارها أمانة‪ :‬وعه]]داً مرعي ]اً‪ ،‬وذل]]ك من‬

‫خصال اإليمان قال تعالى‪َ { :‬والَّ ِذينَ ُه ْم أِل َ َمانَاتِ ِه ْم َو َع ْه ِد ِه ْم َرا ُع‪‰‰‬ونَ }[المؤمن‪‰‰‬ون آي‪‰‰‬ة ‪.]8‬وفي] الح]]ديث عن‬

‫أنس بن مالك‪ ،‬قال ما خطبنا نبي هللا إال وقال صلى هللا عليه وسلم‪« ::‬ال إيمان لمن ال أمانة له وال دين لمن‬

‫‪277‬‬
‫ال عهد له»[أخرجهأحمد فى مسنده]‪ ,‬بل يعتبر] اإلسالم الن]]اس جميع]]ا مس]]ؤولين‪ ،‬ك]]ل في دائرت]]ه وبحس]]ب‬

‫استطاعته ووسعه‬

‫كما هو البيان الصريح للحديث الصحيح عن عبد هللا ابن مسعود] عن الرسول صلى هللا عليه وسلمأنه ق]]ال‪:‬‬

‫«كلكم راع وكلكم مس]]ؤول] عن رعيت]]ه‪ ،‬فاإلم]]ام] راع وه]]و مس]]ؤول] عن رعيت]]ه‪ ،‬والرج]]ل راع في أهل]]ه‬

‫ومسؤول] عن رعيته‪ ،‬والمرأة راعية في بيت زوجه]ا] ومس]]ؤولة عن رعيته]]ا‪ ،‬والخ]]ادم راع في م]]ال س]]يده‬

‫ومسؤول] عن رعيته‪ ،‬وكلكم] راع وكلكم مسؤول] عن رعيته»[البخارى – كتاب العتق –ب‪‰‰‬اب العب‪‰‰‬د راع فى‬

‫مال سيده]‪.‬‬

‫وإنما سميت المسؤولية كذلك ووصف] اإلنسان بها ألنه متبوع بالمس]اءلة والحس]اب بم]]وازين ال]دنيا أوالً ثم‬

‫يوم القيامة‪ ،‬فان أفلت من األولى فال مفر من موازين الحق يوم القيامة مصدقاً] لقوله تعالى‪{ :‬يَ‪ْ ‰‬‬
‫‪‰‬و َم ت َِج‪ُ ‰‬د ُك‪ُّ ‰‬ل‬

‫س َو ٍء تَ َو ُّد لَ ْو أَنَّ بَ ْينَ َها َوبَ ْينَهُ أَ َمدًا بَ ِعيدًا َويُ َح ِّذ ُر ُك ُم هّللا ُ نَ ْف َ‬
‫سهُ‬ ‫ض ًرا َو َما َع ِملَتْ ِمن ُ‬ ‫نَ ْف ٍ‬
‫س َّما َع ِملَتْ ِمنْ َخ ْي ٍر ُّم ْح َ‬

‫س‪‰‰‬أَلَنَّ ُه ْم أَ ْج َم ِعيْنَ‬
‫َوهّللا ُ َر ُؤوفُ بِا ْل ِعبَا ِد}[آل عمران ‪ ,]30‬يوم المحكمة الربانية العادلة‪ ،‬قال تعالى‪{ :‬فَ َو َربِّكَ لَنَ ْ‬

‫* َع َّما َكانُوا يَ ْع َملُونَ }[الحجر آية ‪]93-92‬‬

‫لذلك البد في مقياس تحمل المسؤولية من وج]]ود] ش]]رطين متك]]املين وهم]]ا األهلي]]ة‪ ،‬واألمان]]ة‪ ،‬ق]]ال تع]]الى‪:‬‬

‫ض َونَ ْج َعلَ ُه ْم أَئِ َّمةً َونَ ْج َعلَ ُه ُم ا ْل َوا ِرثِينَ }[القصص ‪.]28‬‬
‫ُض ِعفُوا‪ِ ‰‬في اأْل َ ْر ِ‬ ‫{ َونُ ِري ُد أَن نَّ ُمنَّ َعلَى الَّ ِذينَ ا ْ‬
‫ست ْ‬

‫وفي صحيح مسلم أن أبا ذر ‪-‬رضي] هللا عنه‪ -‬قال‪ :‬قلت‪ :‬يا رس]]ول هللا‪ ،‬أال تس]]تعملني‪ ،‬ق]]ال‪ :‬فض]]رب] بي]]ده‬

‫على منكبي ثم قال‪ :‬يا أبا ذر‪ :‬أنك ض]]عيف‪ ،‬وأنه]ا أمان]]ة‪ ،‬وأنه]]ا ي]وم القيام]]ة خ]زي وندام]]ة‪ ،‬إال من أخ]ذها‬

‫بحقها وأدى الذي عليه فيها‪(.‬‬

‫لذلك يعلمنا رسول هللا صلى هللا عليه وسلم أن نقدر أمان]]ة المس]]ؤولية‪ ،‬وإال نس]]تهين به]]ا‪ ،‬خاص]]ة إذا ك]]انت‬

‫إشرافا ً على مصالح الناس وحقوقهم‪ ،‬فبقدر] ما تعظم تكاليفها يعظم حملها ويشتد] حسابها يوم القيام]]ة‪« :‬إنه]]ا‬

‫يوم القيامة خزي وندامة» لهذا ال يجوز التجرؤ على المسؤوليات] بغير اقتدار على إنجازها بصدق وكفاي]]ة‬

‫وأمانة «إال من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها»‪.‬‬

‫‪278‬‬
‫ما أحوج األمة اإلسالمية اليوم‪ ،‬بل العالم كله‪ ،‬إلى فهم الحرية والمسؤولية وممارستهما على نور من‬

‫شريعة هللا تعالى‪ ،‬شريعة الحق والعدل والرحمة والكمال والتوسط واالعتدال‪ .‬الدين الذي يكلف العباد في‬

‫ُؤَاخ ْذنَا إِن نَّ ِ‬


‫سينَا‬ ‫{‪...‬ربَّنَا الَ ت ِ‬
‫غير ما حرج وال مشقة وال اعنات‪ ،‬وال يحاسبهم بما فوق طاقاتهم قال تعالى‪َ :‬‬

‫أَ ْو أَ ْخطَأْنَا ‪[}...‬البقرة ‪ ،]286‬وال يؤاخذهم] بالخطأ والنسيان واإلكراه ولنتذكر أننا بقدر ما نحن أحرار‪،‬‬

‫‪.‬فنحن مسؤولون أيضا ً‬

‫مفاهيم خاطئة للحرية‬

‫إن اإلس]]الم جع]]ل الحري]]ة ح]]ق من حق]]وق اإلنس]]ان‪ ،‬ب]]ل وجعله]]ا فريض]]ة وواجب]اً] ش]]رعياً‪ ،‬وض]]رورة من‬

‫الضرورات‪ ،‬ال يحل لإلنسان أن يتنازل عنها‪ ،‬فهي بمثاب]]ة الحي]]اة ل]]ه‪ ،‬وهي من أهم المكتس]]بات ال]]تي يجب‬

‫الحفاظ عليها‪ ،‬لذلك من الضروري أن نفهم معنى الحرية‪ ،‬وأن نمارسها] بالشكل الصحيح‪ ،‬فهي ال تع]]ني أن‬

‫نتخطى على حدود اآلخرين‪ ،‬وال أن أسير عكس االتجاه‪ ،‬وال تعني أن رأيي فقط ه]]و الس]]ليم‪ ،‬كم]]ا ال تع]]ني‬

‫أن ال نتفهم ظروف] اآلخرين‬

‫لذلك ال يوجد حرية مطلقة في اإلسالم‪ ،‬وإال ما كان للعبودية هلل وحده معنى‪ ،‬ألن الحري]]ة المطلق]]ة تقتض]]ي‬

‫أال تقيد بأي قيد قال صلى هللا عليه وسلم‪« :‬ال ضرر وال ضرار»[أخرجه البخارى فى صحيحه] بمعنى إنه‬

‫ال ضرر بالنفس وال ضرار] بالغير‪ ،‬حيث إن بعض الناس يفهم الجزء الثاني من الحديث [ال ضرار] يعني‪:‬‬

‫ال يجوز أن تضر بغيرك فقط‪ ،‬إما نفسك فال بأس باإلضرار] بها‪ ،‬وهذا غير متحق]]ق في مفه]]وم الحري]]ة في‬

‫دينار اإلسالمي‬

‫بش]جر‪ ،‬عم]ود كهرب]]اء‪ ،‬اعتق]د بم]]ا تش]]اء‪ ،‬بال‬


‫ٍ‬ ‫لذلك يقولون‪ :‬حرية االعتقاد‪ ،‬اعتقد بما تشاء‪ ،‬اعتقد بحج]ر‪،‬‬

‫دين‪ ،‬تكون يهودياً‪ ،‬نصرانياً‪ ،‬بوذياً‪ ،‬سيخياً‪ ،‬هندوسياً‪ ،‬كن ما شئت‪ ،‬حرية اعتقاد‪ ،‬هذا غير موج]]ود] في دين‬

‫سالَ ِم ِدينًا فَلَن يُ ْقبَ َل ِم ْن ‪‰‬هُ‬ ‫اإلسالم‪ ،‬فاإلسالم] يوجب على الناس أن يعبدوا] هللا ويسلموا له‪َ { :‬و َمن يَ ْبت َِغ َغ ْي َر ِ‬
‫اإل ْ‬

‫س ِرينَ }[آل عمران ‪ ]85‬فعاقب هللا أقواما ً على أنهم أش]]ركوا ب]]ه‪ ،‬وكف]]روا‪ ،‬فع]]اقب‬
‫َو ُه َو ِفي اآل ِخ َر ِة ِمنَ ا ْل َخا ِ‬

‫قوم عاد‪ ،‬وثمود‪ ،‬وقوم] لوط‪ ،‬وشعيب‪.‬‬

‫‪279‬‬
‫وكثير من الناس يتكلمون عن حرية الرأي‪ ،‬ويدخلون فيها حرية الكفر‪ ،‬ويخلطون بين حرية الفكر‪ ،‬وحرية‬

‫الكفر‪ ،‬ويسمحون بحرية الكفر ضمن حرية الفكر‪ ،‬وأن تعتقد ما تشاء من المذاهب الض]]الة‪ ،‬ول]]ذلك عن]]دهم‬

‫مشكلة حقيقية في حد الردة‪ ،‬وفي حديث‪« :‬من بدل دين]]ه ف]]اقتلوه» والمقص]]ود بدين]]ه دين اإلس]]الم‪ ،‬كم]]ا بين‬

‫العلماء في شرح الحديث‪ ،‬فيقولون‪ :‬من أراد أن يخرج من ال]]دين فليخ]]رج‪ ،‬ولكن في اإلس]]الم ال]]ذي يخ]]رج‬

‫من الدين يقتل‪ ،‬وإال يصبح الدين بوابة بال بواب‪ ،‬وال راع‪ ،‬وال حارس‪ ،‬ويجترئ] الن]]اس على ت]]رك ال]]دين‪،‬‬

‫وعلى ترك اإلسالم‪ ،‬وهكذا يصبح الدين ألعوبة‪ ،‬من شاء دخل ومن شاء ترك‪.‬‬

‫كما إن االعتداء على النفس أو الملك الشخصي] ال تعت]بر] حري]ة لإلنس]]ان‪ ،‬ل]ذلك ح]رم اإلس]]الم االنتح]ار أو‬

‫اإلضرار بشيء من الجسد أو الملك في غير مص]]لحة ص]]حيحة‪ ،‬كم]ا ال يُعت]بر االعت]]داء على الغ]ير س]]واء‬

‫باللسان كالسب أو األركان كالضرب من الحرية‪ .‬فمن فعل ذلك فهو من األش]]رار] ال األح]]رار‪ ].‬ومن ح]]دود]‬

‫سى أَن يَ ُكونُ‪‰‰‬وا َخ ْي‪ً ‰‬را ِّم ْن ُه ْم َواَل نِ َ‬


‫س‪‰‬اء‬ ‫الحرية‪ :‬قول هللا تعالى‪{ :‬يَا أَ ُّي َها الَّ ِذينَ آ َمنُوا اَل يَ ْ‬
‫س َخ ْر قَو ٌم ِّمن قَ ْو ٍم َع َ‬

‫ق بَ ْع‪َ ‰‬د‬ ‫س‪ُ ‰‬م ا ْلفُ ُ‬


‫س‪‰‬و ُ‬ ‫اال ْ‬
‫ْس ِ‬ ‫س‪ُ ‰‬ك ْم َواَل تَنَ‪‰‬ابَ ُزوا بِاأْل َ ْلقَ‪‰‬ا ِ‬
‫ب بِئ َ‬ ‫َس‪‰‬ى أَن يَ ُكنَّ َخ ْي‪ً ‰‬را ِّم ْن ُهنَّ َواَل تَ ْل ِم‪ُ ‰‬زوا أَنفُ َ‬ ‫ِّمن نِّ َ‬
‫س‪‰‬اء ع َ‬

‫ض الظَّنِّ إِ ْث ٌم‬ ‫ان َو َمن لَّ ْم يَت ُْب فَأ ُ ْولَئِكَ ُه ُم الظَّالِ ُمونَ *يَا أَيُّ َها الَّ ِذينَ آ َمنُوا ْ‬
‫اجتَنِبُوا‪َ ‰‬كثِ‪‰‰‬ي ًرا ِّمنَ الظَّنِّ إِنَّ بَ ْع َ‬ ‫اإْل ِ ي َم ِ‬

‫ض‪‰‬ا أَيُ ِح ُّب أَ َح‪ُ ‰‬د ُك ْم أَن يَأْ ُك‪َ ‰‬ل لَ ْح َم أَ ِخي‪ِ ‰‬ه َم ْيتً‪‰‬ا فَ َك ِر ْهتُ ُم‪‰‬وهُ َواتَّقُ‪‰‬وا‪ ‰‬هَّللا َ إِنَّ هَّللا َ‬ ‫سوا َواَل يَ ْغتَب بَّ ْع ُ‬
‫ض‪ُ ‰‬كم بَ ْع ً‬ ‫َواَل ت ََج َّ‬
‫س ُ‬

‫‪‰‬ارفُوا إِنَّ أَ ْك َ‬
‫‪‰‬ر َم ُك ْ‪‰‬م ِعن‪َ ‰‬د‬ ‫اس إِنَّا َخلَ ْقنَا ُكم ِّمن َذ َك ٍر َوأُنثَى َو َج َع ْلنَا ُك ْم ُ‬
‫ش ُعوبًا َوقَبَائِ‪َ ‰‬ل لِتَ َع َ‬ ‫اب َّر ِحي ٌم * يَا أَيُّ َها النَّ ُ‬
‫تَ َّو ٌ‬

‫هَّللا ِ أَ ْتقَا ُك ْم إِنَّ هَّللا َ َعلِي ٌم َخبِي ٌر}[الحجرات آية ‪.]11‬‬

‫الحري]]ة في اإلس]]الم ليس]]ت س]]ائبة وال مطلق]]ة ح]]تى ته]]وي بص]]احبها إلى ق]]اع الض]]الل ال]]روحي ودرك]‬

‫االنحطاط األخالقي‪ ،‬بل هي حرية واعية منضبطة‪ ،‬فإذا خرج بها اإلنسان عن أحكام ال]]دين ونط]]اق العق]]ل‬

‫وحدود األخالق ومصلحة الجماعة‪ ،‬تمت مساءلته ومحاسبته وإيقافه عند حده ورده عن غيه‪ ،‬منع]ا ً لض]]رر‬

‫الفرد والجماعة‪ ،‬وفساد] الدين والدنيا‬

‫‪280‬‬
‫(‪ )7‬وحول اشتراك المرأة في مؤسسات الشورى؛ يرى بعض الفقهاء المعاصرين أنّ األرجح عنده هو‬

‫(الجواز بإطالق‪ ،‬أي أنْ تكون المرأة ناخبة ومنتخبة‪ ،‬ألنّ كونها ناخبة ال يعدو أنْ تكون شاهدة‬

‫وهي أهل للشهادة باتفاق‪ .‬وأما كونها منتخبة فهو ال يفوق في أهميته أمر إفتاء المرأة واجتهادها‪ ،‬وهو‬

‫جائز باإلجماع) د‪ .‬أحمد عبيد الكبيسي‪ :‬رأي اإلسالم في إشراك المرأة في مؤسسات الشورى‪ ،‬كتاب‬

‫الشورى في اإلسالم‪ ،‬المجمع الملكي لبحوث الحضارة اإلسالمية ‪ ،‬عمان ‪1989 ،‬م ‪.1106 ،‬‬

‫فتلك األخبار عن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وخلفائه الراشدين ‪ ،‬وهذه النصوص والنقول من‬

‫أمهات كتب الشريعة اإلسالمية وأمثلة ذلك كثيرة في سائر المصادر الفقهية على اختالف المذاهب كلها‬

‫تصدع بجواز المشاركة اإليجابية للمرأة فى كل مظاهر الشورى العامة تفعيال لدورها وإفادة لمجتمعها‪.‬‬

‫الباب الرابع عشر‬

‫‪281‬‬
‫الحوار ودوره فى صياغة الحكم الرشيد‬

‫الفصل األول‬

‫مكانة الحوار فى اإلسالم‬

‫ميادين الحوار‬

‫أوال ‪ :‬مكانة الحوار فى اإلسالم‬

‫الحوار الهادف الجاد يهىء التربة الصالحة للشورى& ‪ ،‬فالشورى ثمرة الحوار المخلص الذي يهتدي‬

‫بهدى السماء ‪ ،‬ويسترشد& بنور الحق ‪ ،‬والشورى& ثمرته اليانعة على الشجرة الوارفة والحوار& هو‬

‫رعايتها من سقى وحرث والمجتمع& شجرة باسقة وارفة الغصون نضرة يتحاور أفرادها في جو من‬

‫الحب واإلخالص وكلما قوى الحوار& كلما قويت الشجرة وأينعت الثمرة وكانت النفوس مهيأة للوصول‬

‫إلى أفضل القرارات التى تأخذ بيد األمة إلى طريقها الذي رسمه القرآن لها تحقيقا لقوله تعالى ( كنتم‬

‫خير أمة أخرجت الناس) آل عمران اآلية ‪ 110‬فكان حرى بنا أن نعطف بالبحث لنقف على ‪:‬‬

‫الحوار في اإلسالم‬

‫خص اللَّه سبحانه وتعالى اإلنسان بنعمتي العقل واللسان‪ ،‬تكريمًا وتفضيالً له على سائر المخلوقات‪،‬‬

‫قال تعالى‪{ :‬ولقد كرمنا بني آدمَ وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضَّلناهم على كثير‬

‫مِمَّنْ خلقنا تفضيالً} (سورة اإلسراء‪ ،‬اآلية‪ ،)70 :‬وعن طريق اللسان والعقل وبواسطتهما يستطيع‬

‫اإلنسان أن يناقش أموره بشكل أفضل مع محيطه‪ ،‬وأن يتدارس مشكالته‪ ،‬ويشرح قضاياه‪ ،‬ويدافع‬

‫‪282‬‬
‫عنها؛ وهو في تخاطبه مع أبناء جنسه يتدارس أموره‪ ،‬بشأن ماتثيره من قضايا فكرية واقتصادية‬

‫وغيرها‪ ،‬مما تختلف فيه األفهام أو تتعارض المصالح‪ ،‬ويتحاور في شأن نقط الخالف بينه وبين غيره‪،‬‬

‫وهو من خالل هذا الحوار‬

‫قد يصل إلى االتفاق‪ ،‬كما قد يظل االختالف بينه وبين محاوره قائمًا‪ ،‬وفي هذه الحالة الشك أنه‬

‫سيدافع عن قضية ويجادل بشأنها‪ ،‬ومن هنا يقوم الترابط بين المشاورة والمحاورة والمجادلة‬

‫والمناظرة‪.‬‬

‫الحوار لغة واصطالحا ‪:‬‬

‫الحوار والمحاورة مصدر حاور يحاور‪ ،‬ومعناه لغة الجواب والمجادلة‪ ،‬قال ابن منظور "وهم‬

‫يتحاورون أي يتراجعون الكالم‪ ،‬والمحاورة مراجعة المنطق والكالم في المخاطبة‪ ،‬والمَحُورَةُ من‬

‫المُحاوَرةِ مصدر كالمَشُورةِ مِن المُشاورةِ"‪.‬‬

‫والحوار كلمة تستوعب كل أنواع وأساليب التخاطب سواء كانت منبعثة من خالف بين المتحاورين أو‬

‫عن غير خالف‪ ،‬ألنها إنما تعني المجاوبة والمراجعة في المسألة موضوع التخاطب‪ ،‬وهو وليد تفاهم‬

‫وتعاطف وتجارب كالصداقة‪ ،‬وبعبارة أخرى‪ ،‬فإن الحوار اليمكن أن يكون إال بين أطراف متكافئة‬

‫تجمعها رغبة مشتركة في التفاهم‪ ،‬واليكون نتيجة ضغط أو ترغيب‪ ،‬ولذلك كان الحوار أعم من‬

‫االختالف ومن الجدل‪ ،‬وصار له معنى حضاري بعيد عن الصراع‪ ،‬إذ الحوار كلمة تتسع لكل معاني‬

‫التخاطب والسؤال والجواب‪.‬‬

‫وقد ورد لفظ الحوار في القرآن الكريم في ثالثة مواضع‪ ،‬اثنان منها في صيغة الفعل وهما قوله تعالى‪،‬‬

‫في سورة الكهف ‪{ :‬فقال لصاحبهِ وهو يحاورهُ أنا أكثر منك ماالً وأعز نفرًا} (من اآلية‪ ،)34:‬وقوله‬

‫تعالى في نفس السورة‪{ :‬قال له صاحبه وهو يحاورهُ أكفرتَ بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم‬

‫سواك رجالً} (من اآلية‪)37 :‬‬

‫‪283‬‬
‫والثالث في صيغة المصدر في قوله تعالى في سورة المجادلة ‪{ :‬قد سمع اللَّه قولَ التي تُجادلك في‬

‫زوجها وتشتكي إلى اللَّه واللَّه يسمعُ تحاورَكما} (سورة المجادلة‪ ،‬من اآلية‪)1:‬‬

‫بينما ورد لفظ االختالف ومشتقاته في القرآن تسعًا وثالثين مرة‪.‬‬

‫أما لفظ الجدل ومشتقاته‪ ،‬فقد ورد في القرآن الكريم في تسعة وعشرين موضعا ً‪.‬‬

‫في حين أن لفظ الشورى ورد في القرآن الكريم أربع مرات‪.‬‬

‫ثانيا ‪:‬ميدان الحوار ‪:‬‬

‫البد لكل حوار يراد له النجاح من أن ينطلق من مبدإ أساس يومىء إلى هدف ثابت‪ :‬هو البحث عن‬

‫الحقيقة من وجهة نظر الطرف األخر‪ ،‬باعتبار أن إيمان الشخص بصواب رأيه اليعني أن رأي‬

‫الطرف اآلخر غير صواب؛ ومتى تحقق هذا المنهج وتلك الرغبة أمكن القول إن ميدان الحوار واسع‬

‫فسيح‪:‬‬

‫فهناك حوار الحياة الذي يعني االهتمام بالطرف اآلخر وبخصوصياته وأفكاره وظروفه الخاصة‪ ،‬سعيًا‬

‫إليجاد قواسم مشتركة معه‪.‬‬

‫وهناك حوار العمل‪ ،‬الذي يعني تضافر الجهود لتحقيق كل ماهو في صالح اإلنسانية والصالح العام من‬

‫الوجهات االقتصادية واالجتماعية واإلنسانية‪.‬‬

‫وهناك حوار العقل والفكر والعقيدة الذي يعني تفهم أوجه التباين بين مختلف الديانات‪ ،‬واستغالل‬

‫القواسم المشتركة بينها‪.‬‬

‫وهناك حوار التجارب وتبادل المعلومات والخبراتعليه الصالة والسالم‪.‬‬

‫وإذا تتبعنا حركة الحوار في اإلسالم وجدنا أن ميدانه متسع زمانًا ومكانًا‪.‬‬

‫فمن حيث الزمان بدأ الحوار منذ عهد النبوة‪ ،‬وما يزال قائمًا إلى اآلن‪ ،‬وسيظل كذلك إلى أن يرث اللَّه‬

‫األرض ومن عليها‪ ،‬وهو خير الوارثين‪.‬‬

‫‪284‬‬
‫ومن حيث المكان‪ :‬فإن الحوار اإلسالمي اليقف عند حدود معينة بل إنه يخاطب سائر بني البشر أينما‬

‫وجدوا‪ ،‬دونما نظر إلى لون أو شكل أو لغة أو دين‪{ :‬ماخَلْقُكم والَبعْثُكم إال كنفسٍ واحدةٍ} (سورة لقمان‪،‬‬

‫من اآلية‪.)28 :‬‬

‫ثم إنه بالنظر إلى شخصية الطرف الذي تقع المحاورة معه وعقيدته نجد أن الحوار يتجه صوب جميع‬

‫الطوائف واألفراد‪ ،‬وهكذا نجد‪ :‬حوار الرجل مع أهله‪ ،‬وحوار الصديق مع صديقه‪ ،‬وحوار المسلم مع‬

‫المسلم‪ ،‬وحوار المسلم مع المشرك‪ ،‬وحوار المسلم مع الملحد‪ ،‬وحوار المسلم مع أهل الكتاب‪.‬‬

‫وفي كل هذه المجاالت يضع اإلسالم ضوابط وشروطا ًللحوار الهدف منها تحقيق الصالح العام‪،‬‬

‫والسعي إلى التوفيق بين مختلف اآلراء‪ ،‬وتجنب أسباب التفرق والنفور‪.‬‬

‫منهج اإلسالم في الحوار‬

‫اهتم اإلسالم اهتماما كبيرًا بالحوار والتشاور واالختالف والجدل‪ ،‬ووضع أسس التخاطب والتشاور‬

‫والتحاور‪ ،‬وتبادل أوجه الرأي وإنهاء المنازعات بين األفراد والجماعات عن طريق التفاوض‪ ،‬فجاء‬

‫في الحوار بمنهج تحاور وتفاهم وسالم‪ ،‬وليس منهج عصبية وشقاق ولدَدٍ‪ ،‬يتجلى هذا في الرجوع إلى‬

‫السيرة النبوية‪ ،‬وتاريخ اإلسالم‪ ،‬وعهد النبي عليه الصالة والسالم ‪ ،‬ومعرفة األسلوب الذي كان ينهجه‬

‫عليه الصالة والسالم ‪ ،‬في تبليغ الدعوة إلى األفراد والجماعات واألمم‪ ،‬واألسلوب الذي لقنه القرآن‬

‫الكريم في هذا المجال‬

‫مثل قوله تعالى‪{ :‬قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواءٍ بيننا وبينكم أال نعبد إال اللَّه والنشرك به شيئًا‬

‫وال يتخذ بعضُنا بعضًا أربابًا من دونِ اللَّهِ}‬

‫وقوله تعالى‪{ :‬ادعُ إلى سبيل ربك بالحكمةِ والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن}‬

‫وقوله عز من قائل‪{ :‬الينهاكمُ اللَّهُ عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يُخرجوكم من دياركم أنْ تبروهم‬

‫وتقْسِطوا إليهم إن اللَّه يحب المقسطين} (سورة الممتحنة ‪ ،‬اآلية‪)7 :‬‬


‫‪285‬‬
‫أسس الحوار في اإلسالم ‪:‬‬

‫إنه باستقراء اآليات القرآنية واألحاديث النبوية ووقائع وتاريخ اإلسالم في مسألة الحوار واالختالف‬

‫نجد أن أسس الحوار اإلسالمي تقوم على مبادىء وثوابت أهمها‪:‬‬

‫أوالً‪:‬اإلخالص والتجرد من الهوى‬

‫صالِحًا َواَل يُ ْش ِر ْك بِ ِعبَا َد ِة َربِّ ِه أَ َحدًا )الكهف‬


‫قال هللا عز وجل ‪ ( :‬فَ َم ْن َكانَ يَرْ جُو لِقَا َء َربِّ ِه فَ ْليَ ْع َملْ َع َماًل َ‬

‫ق ْال َموْ تَ َو ْال َحيَاةَ لِيَ ْبلُ َو ُك ْ]م أَيُّ ُك ْم أَحْ َسنُ َع َماًل ) الملك ‪،‬اآلية ‪ 2 :‬قال الفضيل‬
‫اآلية ‪ 110:‬وقوله ‪ ( :‬الَّ ِذي خَ لَ َ‬

‫بن عياض ‪ :‬أيكم أحسن عمالً ‪ ،‬أي ‪ :‬أخلصه وأصوبه ‪.‬‬

‫قال داود الطائي ‪ :‬رأيت الخير كله إنما يجمعه حسن النية ‪ ،‬وكفاك بها خيراً وإن لم تصب‬

‫ثانيا ‪ :‬التعامل في ظل هذا اإليمان بالمثل دون تعال أو جور‪{ :‬قل يا أهل الكتاب تعالَوا إلى كلمةٍ سواء‬

‫بيننا وبينكم أال نعبدَ إال اللَّه وال نشرك به شيئًا واليتخذُ بعضُنا بعضًا أربابًا من دون اللَّه} (سورة آل‬

‫عمران‪ ،‬من اآلية‪.)64 :‬‬

‫ثالثا‪ :‬التحلي باألخالق الحميدة التي جاء بها اإلسالم ونبذ العصبية‪{ :‬ادعُ إلى سبيل ربك بالحكمة‬

‫والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن } (سورة النحل‪ ،‬من اآلية‪.)125 :‬‬

‫رابعا‪ :‬جعل الحق واإلنصاف والعدل هو أساس وهدف كل خطاب بين المسلم والمسلم وبين المسلم‬

‫وغير المسلم‪ ،‬ونبذ أسباب التعصب‪ ،‬مع التمسك باللين والحكمة في الخطاب‪{ :‬ادفعْ بالتي هي أحسن‬

‫فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه وليّ حميم} (سورة فصلت‪ ،‬من اآلية‪.)34 :‬‬

‫خامسا ‪ :‬مراعاة شخصية الطرف اآلخر في الحوار‪.‬‬

‫‪286‬‬
‫من العناصر التي يضعها اإلسالم للحوار مراعاة شخصية طرفي الحوار وإيجاد األجواء المناسبة له‬

‫بغية التأمين للوصول إلى الهدف المنشود‪ ،‬وذلك بنبذ التعصب واالنفعال سواء كانت فكرة الطرف‬

‫اآلخر وموقفه مؤيدة أو معارضة‪.‬‬

‫سادسًا‪ :‬العلم واإللمام الكامل بموضوع الحوار واإلعداد له‪.‬‬

‫إن من عناصر الحوار اإللمام بالموضوع الذي يجري فيه‪ ،‬واستيعاب الفكرة التي يحوم حولها ويجري‬

‫فيها‪.‬‬

‫سابعًا‪ :‬اختيار لغة وأسلوب الحوار‪.‬‬

‫ومن عناصره‪ ،‬أيضا‪ ً،‬اختيار لغة الحوار‪ ،‬ومصداق ذلك قوله تعالى‪{ :‬أدعُ إلى سبيل ربك بالحكمة‬

‫والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن}‪ .‬وقوله تعالى‪{ :‬ومن أحسن قوالً ممن دعا إلى اللَّه وعمل‬

‫صالحًا وقال إنني من المسلمين وال تستوي الحسنة وال السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك‬

‫وبينه عداوة كأنه ولي حميم وما يُلقّاها إال الذين صبروا‪ ،‬ومايلقاها إال ذو حظ عظيم}(سورة فصلت‪،‬‬

‫اآليات‪.)33-35 :‬‬

‫موضوعية اإلسالم في منهجية الحوار‬

‫إن نظرة اإلسالم إلى الحوار نظرة موضوعية تقوم على احترام الرأي اآلخر‪ ،‬ونبذ كل تعصب أو‬

‫تنطع في الرأي‪ ،‬وتتبين موضوعية نظرة اإلسالم في أن موقفه من الجدل العقيم‪ ،‬هوهو‪ ،‬سواء كان‬

‫المجادل مؤمنًا أو غير مؤمن‪.‬‬

‫ففي نبذ الجدال غير المجدي الصادر عن طائفة مؤمنة‪ ،‬يقول الحق سبحانه‪{ :‬كما أخرجك ربّك من‬

‫بيتك بالحق وإن فريقًا من المؤمنين لكارهون يجادلونك في الحق بعد ما تبين كأنما يساقون إلى الموت‬

‫وهم ينظرون} (سورة األنفال‪ ،‬اآليتان‪.)5-6 :‬‬

‫‪287‬‬
‫وفي نبذ الجدل العقيم أو العصبي الصادر عن طائفة غير مؤمنة‪ ،‬يقول الحق سبحانه‪{ :‬ولما ضُربَ ابنُ‬

‫مريمَ مثالً إذا قومك منه يصدون قالوا أآلهُتنا خير أم هو ماضربوه لك إال جدالً بل هم قوم خَصمون إن‬

‫هو إال عبد أنعمنا عليه وجعلناه مثالً لبني إسرائيل} (سورة الزخرف‪ ،‬اآليتان‪.)57-58 :‬‬

‫بل إن القرآن الكريم يمضي بعيدًا في نبذ الجدل بالباطل‪ ،‬فيقول تعالى‪{ :‬وإن الشياطين ليوحون إلى‬

‫أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون} (سورة األنعام‪ ،‬من اآلية‪.)121:‬‬

‫بل إن اإلسالم يمضي في نفس السياق‪ ،‬فينهى عن الخوض في الجدل عندما يصل إلى حد الخيانة‪:‬‬

‫روى ابن مردويه عن ابن عباس ‪ :‬أن نفرا من األنصار غزو مع رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم فى‬

‫بعض غزواته فسرقت درع أحدهم فأظن بها رجل من األنصار فأتى صاحب الدرع رسول اهلل صلى‬

‫اهلل عليه وسلم فقال ‪ :‬ان ( طعمة بن أبيرق) سرق درعى فلما رأى السارق ذلك عمد اليها فألقاها فى‬

‫بيت رجل برىء وقال لنفر من عشيرته ‪ :‬انى غيبت الدرع وألقيتها فى بيت فالن وستوجد عنده‬

‫فانطلقوا لنبى اهلل ليال فقالوا‪ :‬يانبى اهلل ان صاحبنا برىء‬

‫وان صاحب الدرع فالن وقد أحطنا بذلك علما فاعذر صاحبنا على رؤوس الناس وجادل عنه فانه ان‬

‫لم يعصمه اهلل بك يهلك فقام رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم فبرأه وعذره على رؤوس الناس فأنزل اهلل‬

‫تعالى( وال تُجادل عن الذين يختانون أنفسهم إن اللَّه اليحب من كان خوانًا أثيمًايستخفون من الناس‬

‫واليستخفون من اللَّه وهو معهم إذ يُبيّتون ما اليرضى من القول وكان اللَّه بما يعملون محيطًا هاأنتم‬

‫هؤالء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا فمن يجادل اللَّهَ عنهم يوم القيامة أم من يكون عليهم وكيالً} (سورة‬

‫النساء‪ ،‬اآليات‪.)109-107 :‬مختصر تفسير ابن كثير – تحقيق محمد على الصابوني‪ -‬المجلد األول‬

‫‪-‬ص‪ – 433‬ط دار القرآن ‪ -‬بيروت‬

‫ومن هنا ندرك مدى القيمة التي يعطيها اإلسالم للفكر وللعقل في مجال الحوار‪ ،‬إذ بذلك أقام صرح‬

‫الحوار على أسس أصيلة من العدل تعطي لإلنسان حق الدفاع عن نفسه وعن رأيه وموقفه بل أمام‬

‫‪288‬‬
‫الحق سبحانه وتعالى‪{ :‬يوم تأتي كلٍسفن ّ تُجادِل ُعن نفسِها وتُوفَّى كل نفسٍ ما عَملِتْ وهم ال يُظلمون }‬

‫(سورة النحل‪ ،‬اآلية‪.)111 :‬‬

‫الفصل الثانى‬

‫ضوابط اإلختالف‬

‫فقه االختالف في الحوار ‪:‬‬

‫االختالفهو التباين في الرأي والمغايرة في الطرح وقد ورد فعل االختالف كثيرًا في القرآن الكريم قال‬

‫تعالى‪" :‬فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ" [مريم‪]37 :‬‬

‫وقال تعالى‪" :‬يَحْكُمُبَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ" [البقرة‪،]113 :‬وقال تعالى‪" :‬وَمَا اخْتَلَفَ‬

‫فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ" [البقرة‪،]213:‬‬

‫وقال تعالى‪" :‬وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ‪[ "...‬الشورى‪.]10:‬‬

‫عنْهُ"‬
‫أما الخالف فهو مصدر من خالف إذا عارضه‪ ،‬قال تعالى‪" :‬وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ َ‬

‫[هود‪]88:‬‬

‫عنْ أَمْرِه" [النور‪.]63:‬‬


‫وقال تعالى‪" :‬فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ َ‬

‫وجاء بصيغة المصدر قال تعالى "ال يَلْبَثُونَ خِالفَكَ إِلَّا قَلِيالً" [االسراء‪ ،]76 :‬وقال تعالى "وَأَ ْرجُلُهُمْ مِنْ‬

‫خِالفٍ" [المائدة‪.]33:‬‬

‫واالختالفقد يوحي بشيء من التكامل والتناغم كما في قوله تعالى "فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَ ْلوَانُهَا‬

‫وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا" [فاطر‪.]27:‬‬

‫‪289‬‬
‫وأماالخالف فإنه ال يوحي بذلك وينصب االختالف غالبًا على الرأي اختلف فالن مع فالن في كذا‬

‫والخالف ينصب على الشخص‪.‬‬

‫ثم إن االختالف ال يدل على القطيعة بل قد يدل على بداية الحوار فإن ابن مسعود اختلف مع أمير‬

‫المؤمنين عثمان في مسألة إتمام الصالة في سفر الحج ولكنه لم يخالف بل أتم معه وقال‪ :‬الخالف شر‪.‬‬

‫االختالف ال يتضمن معنى المنازعة‬

‫االختالف ال يحمل معنى المنازعة‪ ،‬وإنما المراد منه أن تختلف الوسيلة مع كون الهدف واحدًا‪ ،‬وهو‬

‫مغاير للخالف الذي ينطوي على معنى الشقاق والنزاع والتباين في الرأي دون دليل‪.‬‬

‫قال ابن العربي عند قوله تعالى‪{ :‬والتكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ماجاهم البينات) سورة آل‬

‫عمران‪ ،‬من اآلية‪ ،)105 :‬التفرق المنهي عنه يحتمل ثالثة أوجه‪:‬‬

‫األول‪ :‬التفرق في العقائد‪.‬‬

‫الثاني‪ ( :‬التفرق في القلوب)‪ .‬قوله‪ ،‬عليه السالم (ال تحاسدوا والتدابروا )‬

‫الثالث‪ :‬ترك التخطئة في الفرع والتبري فيها‪ ،‬فإن الكل بحبل اللَّه معتصم‪ ،‬وبدليله عامل‪ ،‬وقد قال‪ ‬‬

‫عليه الصالة والسالم كما جاء في الصحيحين‪( ،‬ال يصلين أحد منكم العصر إال في بني قريظة )‪.‬فقد‬

‫صالها بعضهم بالمدينة ولم يصلها العض اآلخر إال وقت صالة العشاء‬

‫إنهاالتربية النبوية للصحابة ليتصرفوا داخل دائرة الشريعة حسب جهدهم طبقًا الجتهادهم‪.‬‬

‫وبعده عليه الصالة والسالم كانت بينهم اختالفات حسمت أحيانا كثيرة باالتفاق كما في اختالفهم حول‬

‫الخليفة بعده صلى اهلل عليه وسلم‪.‬‬

‫‪290‬‬
‫وكما في اختالفهم حول قتال مانعي الزكاة وحول جمع القرآن الكريم ورجوع عمر إلى قول علي‬

‫مسألة المنكوحة في العدة‬

‫والحكمة في ذلك أن االختالف والتفرق المنهي عنه‪ ،‬إنما هو المؤدي إلى الفتنة والتعصب وتشتيت‬

‫الجماعة‪ ،‬فأما االختالف في الفروع فهو من محاسن الشريعة‬

‫ضوابط االختالف‪:‬‬

‫االختالف من طبائع العقول‪ ،‬وقد كان الفقهاء والمحدثون يختلفون دون أن يكون الختالفهم أي أثر في‬

‫قلوبهم ودون أن يزدري أحد منهم صاحبه؛ بل إن االختالف لم يزدهم إال محبة ومرحمة‪.‬‬

‫وما ذلك إال أن أسباب االختالف بينهم لم تكن أسبابًا شخصية قائمة على أمور ذاتية‪ ،‬بل إنها كانت تقوم‬

‫على أمور موضوعية؛ وكتب األصول زاخرة بأسباب االختالف‪ ،‬والمتتبع لذلك يجد األسباب ترجع‬

‫إما إلى اختالف في معنى النص عندما يحمله البعض على الحقيقة‪ ،‬ويحمله البعض اآلخر على‬

‫المجاز‪ ،‬أو في مدى ذلك النص حينما يحمله البعض على العموم‪ ،‬ويحمله البعض اآلخر على‬

‫الخصوص‪ ،‬أو يعتبره البعض مطلقًا ويقيده البعض اآلخر‪ ،‬وهكذا‪.‬‬

‫على أنه ينبغي أن ال يفهم مما سبق أن األمر فوضى في فهم النصوص‪ ،‬بحيث يسوغ لكل من انتسب‬

‫إلى الفقه أن يقول بأي رأي يراه دون ضوابط والشروط؛ بل إن لالختالف ضوابط أهمها‪:‬‬

‫(‪ ) 1‬التسليم بآراء األئمة المجتهدين‪ ،‬ألن هذه اآلراء لم تصدر إال بعد تمحص ومعاناة‪ ،‬فصارت‬

‫ثوابت أقيمت على أسس متينة من قواعد استنباط األحكام‪.‬‬

‫(‪ ) 2‬تجنُّب اللددِ واإلنكار في المسائل الخالفية‪ ،‬ألن احترام الرأي اآلخر أمر محمود‪ ،‬وألن التعصب‬

‫في الرأي يؤدي إلى التفرق والشـــقاق المنهي عنـه‪ ،‬بقـوله تـعالى‪{ :‬والتكونوا كالذين تفرقوا‬

‫واختلفوا من بعد ماجاءهم البينات} (سورة آل عمران‪ ،‬من اآلية‪.)105 :‬‬

‫‪291‬‬
‫عدم اعتبار الخالف وسيلة لالحتجاج‪ ،‬ألن المحاججة إنما تقع بالقول المستند إلى نص أو إجماع وليس‬

‫إلى مجرد الهوى‪.‬‬

‫(‪ ) 3‬إتباع منهج العلماء في االختالف‬

‫يقواللحافظ بن رجب‪( :‬ولما كثر اختالف الناس في مسائل الدين وكثر تفرقهم كثر بسبب ذلك تباغضهم‬

‫وتالعنهم وكل منهم يظن أنه يبغض هلل وقد يكون في نفس األمر معذورًا وقد ال يكون معذورًا بل‬

‫يكون متبعًا لهواه مقصرًا في البحث عن معرفة ما يبغض فإن كثيرًا كذلك إنما يقع لمخالفة متبوع يظن‬

‫أنه ال يقول إال الحق وهذا الظن قد يخطئ ويصيب وقد يكون الحامل على الميل إليه مجرد الهوى‬

‫واأللفة أو العادة وكل هذا يقدح في أن يكون هذا البغض هلل فالواجب على المسلم أن ينصح لنفسه‬

‫ويتحرز في هذا غاية التحرز وما أشكل منه فال يدخل نفسه فيه خشية أن يقع فيما نهى عنه من البغض‬

‫المحرم‪.‬‬

‫وها هنا أمر خفي ينبغي التفطن له وهو أن كثيرًا من أئمة الدين قد يقول قوالً مرجوحًا ويكون فيه‬

‫مجتهدًا مأجورًا على اجتهاده فيه موضوعًا عنه خطؤه فيه وال يكون المنتصر لمقاتلته تلك بمنزلته في‬

‫هذه الدرجة ألنه قد ال ينتصر لهذا القول إال لكون متبوعه قد قاله بحيث لو أنه قد قاله غيره من أئمة‬

‫الدين لما قبله وال انتصر له وال والى من يوافقه وال عادى من خالفه وهو مع هذا يظن أنه إنما انتصر‬

‫للحق بمنزلة متبوعه وليس كذلك فإن متبوعه إنما كان قصد االنتصار للحق وإن أخطأ في اجتهاده‪.‬‬

‫وأما هذا التابع فقد شاب انتصاره لما يظن أنه الحق إرادة علو متبوعه وظهور كلمته وأنه ال ينسب إلى‬

‫الخطأ وهذه دسيسة تقدح في قصده االنتصار للحق فافهم هذا فإنه مهم عظيم واهلل يهدي من يشاء إلى‬

‫صراط مستقيم‪.‬‬

‫انتهى كالم الحافظ وهم كالم في غاية الفضل‪.‬‬

‫قااللشافعي‪" :‬أال يستقيم أن نكون إخوانًا وإن لم نتفق في مسألة"‬

‫‪292‬‬
‫وقال‪" :‬ما ناظرت أحدًا إال قلت اللهم أجر الحق على قلبه ولسانه فإن كان الحق معي اتبعني وإذا كان‬

‫‪ 7‬في إصالح األنام – العز ابن عبد السالم)‬


‫الحق معه اتبعته" – ( كتاب قواعد األحكام‬

‫رفض مالك حمل الناس على الموطأ!‬

‫قال مالك للخليفة العباسي –حينما أرد حمل الناس على الموطأ وهو كتاب مالك وخالصة اختياره في‬

‫الحديث والفقه– ال تفعل يا أمير المؤمنين معتبرًا أن لكل قطر علماءه وآراءه الفقهية فرجع الخليفة عن‬

‫موقفه بسبب هذا الموقف الرفيع من مالك في احترام رأي المخالف وإفساح المجال له‪.‬‬

‫قالت عائشة عن بعض الصحابة وقد اختلفت معه‪ :‬أما إنه لم يكذب ولكنه نسي أو أخطأ‪.‬‬

‫الذهبي العالم المنصف‪.‬‬

‫قال الذهبي عن الشيخ عبد الستار المقدسي الحنبلي رحمه اهلل تعالى‪" :‬أنه قل من سمع منه ألنه كان‬

‫فيه زعارة وكان فيه غلو في السنة" وقال عنه‪" :‬وعني بالسنة وجمع فيها وناظر الخصوم وكفرهم‬

‫وكان صاحب حزبية وتحرق على األشعرية فرموه بالتجسيم ثم كان منابذًا ألصحابه الحنابلة وفيه‬

‫شراسة أخالق مع صالح ودين يابس"‪.‬‬

‫اعتبرالذهبي ذلك حزبية‪.‬‬

‫وقااللذهبي عن القاضي أبي بكر بن العربي‪" :‬لم ينصف القاضي أبو بكر رحمه اهلل شيخ أبيه في العلم‬

‫وال تكلم فيه بالقسط وبالغ في االستخفاف به وأبو بكر على عظمته في العلم ال يبلغ رتبة أبي محمد وال‬

‫يكاد فرحمهما اهلل وغفر لهما"‪.‬‬

‫وقاالبن تيمية‪" :‬االعتصام بالجماعة واالئتالف من أصول الدين والفرع المتنازع فيه من الفروع الخفية‬

‫فكيف يقدح في األصل بحفظ الفرع"‪( .‬الفتاوى ‪)254-22‬‬

‫‪293‬‬
‫(‪ ) 4‬اإلنصاف في العلم‪ ،‬ألن االعتراف بالحق فضيلة‪ ،‬وفي هذا قال اإلمام الشاطبي‪ ،‬رحمه اللَّه‬

‫"اجعل طلب الحق لك نحلة واالعتراف به ألهله مِِلََّةِ‪ ،‬التشرب مشرب العصبية‪ ،‬وال تأنف من اإلذعان‬

‫للحق إذا الح وجه القضية‪."...‬‬

‫(‪ ) 5‬مراعاة حاجة المجتمع والناس في االختالف‪ ،‬ألن من القواعد الكلية أنه "الينكر تغير األحكام‬

‫بتغير األزمان"‪.‬‬

‫من آداب االختالف‬

‫(‪ )1‬معرفة أن االختالف رحمة وتوسعة‪ ،‬إذ اختالف األمة في أحكام الحوادث والنوازل يسر ورحمة‪،‬‬

‫قال الذهبي‪":‬وبين األئمة اختالف كبير في الفروع وبعض األصول‪ ،‬وللقليل منهم غلطات وزلقات‬

‫ومفردات منكرة‪ ،‬وإنما أمرنا باتباع أكثرهم صوابًا‪ ،‬ونجزم بأن غرضهم ليس إال اتباع الكتاب والسنة‪،‬‬

‫وكل ما خالفوا فيه القياسٍ أو تأويل‪ .‬وإذا رأيت فقيهًا خالف حديثًا أو حرّف معناه فال تبادر لتغليطه‪،‬‬

‫فقد قال علي كرم اهلل وجهه‪ ( :‬لمن قال له‪ :‬أتظن أن طلحة والزبير كانا على باطل)‪ :‬يا هذا‪ ،‬إنه‬

‫ملبوس عليك‪ ،‬إن الحق اليعرف بالرجال‪ ،‬اعرف الحق تعرف أهله"‪.‬‬

‫(‪ )2‬معرفة أن االختالف في المسألة اليعني أن أحد المختلفين خاطىء‪ ،‬قال الطحاوي "المراد‪ :‬أن ما‬

‫ذهب إليه إمامنا صواب عنده مع احتمال الخطأ‪ ،‬إذ كل مجتهد يصيب ويخطىء في نفس األمر‪ ،‬وأما‬

‫‪294‬‬
‫بالنظر إلينا فكل واحد من األربعة مصيب في اجتهاده‪ ،‬فكل مقلد يقول هذه العبارة لو سئل عن مذهبه‬

‫على لسان إمامه الذي قلده‪ ،‬وليس المراد أن يكلف كل مقلد اعتقاد خطإ المجتهد اآلخر الذي لم يقلده"‪.‬‬

‫(‪)3‬العذر بالجهل !‬

‫يقول ابن تيمية‪ :‬وكثير من المؤمنين قد يجهل هذا فال يكون كافرا ( الفتاوى‪.)411-11‬‬

‫وفي حديث ابن ماجة عن حذيفة "يدرس اإلسالم كما يدرس وشي الثوب حتى ال يدري ما صيام وال‬

‫صالة وال نسك وال صدقة وليسرى على كتاب اهلل عز وجل في ليلة فال يبقى في األرض منه آية‬

‫وتبقى طوائف من الناس الشيخ الكبير والعجوز يقولون أدركنا آباءنا على هذه الكلمة ال إله إال اهلل‬

‫فنحن نقولها فيقول صلة بن زفر لحذيفة راوي الحديث ما تغنى عنهم ال إله إال اهلل وهم ال يدرون ما‬

‫صالة وال صيام وال نسك وال صدقة؟ فأعرض عنه حذيفة ثم أقبل عليه في الثالثة فقال يا صلة تنجيهم‬

‫من النار‪ .‬ثالثًا" رواه الحاكم‬

‫(‪ )4‬التأدب مع المخالف‪ ،‬ألن الخالف إنما هو ناشىء عن اختالف النظر العن اختالف الهدف‪،‬‬

‫فالمختلفان مختلفان في األفكار متفقان في القلوب وفي الهدف‪.‬‬

‫اإلسالم ينهى عن الجدل العقيم‬

‫قال أبو بكر بن العربي‪ :‬عند قوله تعالى‪{ :‬ومن الناس من يعجبك قولُه في الحياة الدنيا وُيشهدُ اللَّه على‬

‫ما في قلبه وهو ألدُ الخِصامِ} (سورة البقرة‪ ،‬اآلية‪ )204 :‬ما نصه‪:‬‬

‫قوله تعالى‪{ :‬وهو ألد الخصام}‪ ،‬يعني ذا جدال إذا كلمك وراجعك رأيت لكالمه طالوة وباطنه باطل‪،‬‬

‫وهذا يدل على أن الجدال ال يجوز إال بما ظاهره وباطنه سواء‪ .‬وقد روى البخاري وغيره أن النبي‪ ‬‬

‫عليه الصالة والسالم‪  ‬قال‪( :‬أبغض الرجال إلى اللَّه األلدُّ الخَصِم )‬

‫‪295‬‬
‫(‪ )5‬الرفق بالحوار والمعاملة‬

‫والرفق أصل من أصول الدعوة ومبدأ من مبادئ الشريعة ففي حديث الرجل الذي بال في المسجد‬

‫وزجره أصحاب النبي صلى اهلل عليه وسلم فنهاهم عليه الصالة والسالم قائالً‪ :‬ال تزمروه –أي ال‬

‫تقطعوا بوله– وأتبعوه ذنوبا من ماء وقال للرجل إن هذه المساجد ال تصلح لشيء من هذه القاذورات‪.‬‬

‫وحديث خوات بن جبير رضي اهلل عنه حين راءاه مع نسوة فقال ماذا تبغي هاهنا قال التمس بعيرًا لي‬

‫شاردا‪ .‬ثم حسن إسالمه وخلصت توبته فمازحه عليه الصالة والسالم قائال‪ :‬ماذا فعل بعيرك الشارد‬

‫قال‪ :‬قيده اإلسالم يا رسول اهلل‪.‬‬

‫وحديثاألعرابي الذي أعطاه فقال له أحسنت عليك فقال كالما غير الئق فهم به الصحابة فنهاهم عليه‬

‫الصالة والسالم وأدخله في البيت فأعطاه ثم خرج به وقال هل أحسنت فقال أحسنت علي وفعلت‬

‫وفعلت فضحك عليه الصالة والسالم وضرب مثالً بصاحب الراحلة الشاردة‪.‬‬

‫الباب الخامس عشر‬


‫أهل الذمة فى الدولة اإلسالمية‬

‫‪ :‬أوال‪ :‬مقدمة وتمهيد‬


‫وتنوعها سنة اهلل في الكون وناموسه الثابت‪ ،‬فطبيعة الوجود& في الكون أساسها‬
‫التعدد في المخلوقات& ّ‬
‫إن ّ‬

‫عدد‪.‬‬
‫نوع والتّ ّ‬
‫التّ ّ‬

‫واإلنسانية خلقها اهلل وفق هذه السنة الكونية‪ ،‬فاختلف البشر إلى أجناس مختلفة وطبائع شتى‪ ،‬وك ّل من‬

‫تجاهل وتجاوز& أو رفض هذه السُّنة الماضية هلل في خلقه‪ ،‬فقد ناقض الفطرة وأنكر& المحسوس‪.‬‬

‫‪296‬‬
‫واختالف البشر في شرائعهم& هو أيضاً واقع بمشيئة اهلل تعالى ومرتبط بحكمته‪ ،‬يقول اهلل‪[ :‬لكل جعلنا‬

‫منكم شرعة ومنهاجاً& ولو شاء اهلل لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم فيما آتاكم فاستبقوا& الخيرات إلى اهلل‬

‫مرجعكم جميعاً] (المائدة‪.)48 :‬‬

‫قال ابن كثير ‪" :‬هذا إخبار عن األمم المختلفة األديان باعتبار ما بعث اللّه به رسله الكرام من الشرائع‬

‫المختلفة في األحكام المتفقة في التوحيد "‪ [.‬تفسير القرآن العظيم> (‪])2/67‬‬

‫وقال تعالى‪[ :‬ولو شاء ربك لجعل الناس أمةً واحدةً وال يزالون مختلفين إال من رحم ربك ولذلك‬

‫خلقهم ] ( هود ‪.)119 –118 :‬‬

‫قال ابن حزم‪" :‬وقد نص تعالى على أن االختالف ليس من عنده‪ ،‬ومعنى& ذلك أنه تعالى لم يرض به‪،‬‬

‫وإ نما أراده تعالى إرادة ٍ‬


‫كون‪ ،‬كما أراد الكفر وسائر المعاصي"‪ [.‬اإلحكام في أصول األحكام> (‪].)2/64‬‬

‫وقال ابن كثيرعن قول اهلل [وال يزالون مختلفين * إال من رحم ربك] ‪" :‬أي‪ :‬وال يزال الخلف بين‬

‫الناس في أديانهم واعتقادات مللهم ونحلهم& ومذاهبهم& وآرائهم ‪ ..‬قال الحسن البصري‪ :‬الناس مختلفون‬

‫على أديان شتى إال من رحم ربك‪ ،‬فمن رحم ربك غير مختلف"‪ [.‬تفسير القرآن العظيم (‪])2/466‬‬

‫عدد كلية‪ ،‬فإنما يروم محاالً‬


‫فإن الذي يسعى إللغاء هذا التّ ّ‬
‫عدد آية من آيات اهلل‪ّ ،‬‬
‫ولما كان االختالف والتّ ّ‬

‫ويطلب ممتنعاً‪ ،‬لذا كان البد من االعتراف باالختالف‪.‬‬

‫‪297‬‬
‫مهمة المسلمين الدعوة والبالغ وليس فرض اإلسالم‬

‫لقد أدرك المسلمون أن هداية الجميع من المحال‪ ،‬وأن أكثر الناس ال يؤمنون‪ ،‬وأن واجب الدعاة الدأب‬

‫في دعوتهم وطلب أسباب هدايتهم‪ .‬فإنما مهمتهم هي البالغ فحسب‪ ،‬واهلل يتولى حساب المعرضين في‬

‫اآلخرة‪ ،‬قال اهلل مخاطباً نبيه ‪ ‬صلى اهلل عليه وسلم ‪( :‬فإن تولوا فإنما& عليك البالغ)(النحل‪ .)82 :‬وقال‬

‫بصير بالعباد] (آل عمران‪.)20 :‬‬


‫ٌ‬ ‫تعالى‪[ :‬فإن أسلموا فقد اهتدوا وإ ن تولوا فإنما عليك البالغ واهلل‬

‫قال القرطبي‪ " :‬فإن تولوا أي أعرضوا& عن النظر واالستدالل واإليمان؛ فإنما عليك البالغ‪ ،‬أي ليس‬

‫عليك إال التبليغ‪ ،‬وأما الهداية فإلينا"‪ [.‬الجامع ألحكام القرآن (‪].)10/161‬‬

‫قال الشوكاني في سياق شرحه لقول اهلل تعالى‪ [ :‬فإنما عليك البالغ وعلينا الحساب] (الرعد‪" :)40 :‬‬

‫أي‪ :‬فليس عليك إال تبليغ أحكام الرسالة‪ ،‬وال يلزمك حصول اإلجابة منهم‪ ،‬لما بلّغته إليهم‪[ ،‬وعلينا‬

‫الحساب] أي‪ :‬محاسبتهم& بأعمالهم ومجازاتهم عليها‪ ،‬وليس ذلك عليك"‪  [.‬فتح القدير (‪].)3/90‬‬

‫‪ ‬وقال تعالى‪[ :‬فذكر إنما أنت مذكر * لست عليهم بمسيطر] (الغاشية‪.)22-21 :‬‬

‫ولذلك فإن المسلم ال يشعر بحالة الصراع مع شخص ذلك الذي تنكب الهداية وأعرض عن أسبابها‪،‬‬

‫فإنما حسابه على اهلل في يوم القيامة ‪ ،‬فقد قال اهلل تعالى لنبيه ‪ ‬صلى اهلل عليه وسلم‪[ :‬ليس عليك هداهم‬

‫ولكن اهلل يهدي من يشاء ] (البقرة‪.)272 :‬‬

‫‪298‬‬
‫وقال له ولألمة من بعده‪[ :‬فلذلك فادع واستقم كما أمرت وال تتبع أهواءهم وقل آمنت بما أنزل اهلل من‬

‫كتاب وأمرت ألعدل بينكم اهلل ربنا وربكم لنا أعمالنا ولكم أعمالكم ال حجة بيننا وبينكم& اهلل يجمع بيننا‬

‫وإ ليه المصير]& (الشورى‪.)15 :‬‬

‫خلق اهلل اإلنسان‪ ،‬ومنحه عدم اإلكراه على الدين‬

‫خلق اهلل آدم عليه السالم‪ ،‬وأسجد له مالئكته [ وإ ذ قلنا للمالئكة اسجدوا& آلدم فسجدوا& إال إبليس قال‬

‫أأسجد لمن خلقت طيناً [ (اإلسراء‪،)61 :‬‬

‫وندبه وذريته من بعده إلى عمارة األرض بمنهج اهلل‪( :‬إني جاعل في األرض خليفة] (البقرة‪.)30 :‬‬

‫ووفق& هذه الغاية كرم اهلل الجنس البشري& على سائر& مخلوقات اهلل [ ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم& في‬

‫البر والبحر ورزقناهم& من الطيبات وفضلناهم& على ٍ‬


‫كثير ممن خلقنا تفضيالً ] (اإلسراء‪.)70 :‬‬

‫وأكد نبينا ‪ ‬صلى اهلل عليه وسلم& ‪ ‬وصحبه احترام النفس اإلنسانية ‪ ،‬ففي الخبر أن سهل بن حنيف وقيس‬

‫بن سعد كانا قاعدين بالقادسية‪ ،‬فمروا عليهما بجنازة فقاما‪ ،‬فقيل لهما‪ :‬إنها من أهل األرض‪ ،‬أي من‬

‫أهل الذمة فقاال‪ :‬إن النبي ‪ ‬صلى اهلل عليه وسلم& ‪ ‬مرت به جنازة فقام‪ .‬فقيل له‪ :‬إنها جنازة يهودي؟!‬

‫فقال‪(( :‬أليست نفساً))‪ [.‬رواه البخاري ح (‪ ،)1313‬ومسلم ح (‪].)961‬‬

‫‪ ‬ومن تكريم اهلل للجنس البشري ما وهبه من العقل الذي يميز به بين الحق والباطل {وهديناه النجدين }‬

‫‪299‬‬
‫(البلد‪)10 :‬‬

‫وبموجبه وهبه الحرية واإلرادة الحرة الختيار& ما يشاء { إنا هديناه السبيل إما شاكراً وإ ما كفوراً }‬

‫(اإلنسان‪ { )3 :‬ولو شاء ربك آلمن من في األرض كلهم جميعاً أفأنت تكره الناس حتى يكونوا& مؤمنين‬

‫} (يونس‪.)99 :‬‬

‫وعليه فاإلنسان يختار& ما يشاء من المعتقد{ ال إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي} (البقرة‪:‬‬

‫‪، )256‬‬

‫واهلل يتولى& في اآلخرة حسابه {وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر إنا أعتدنا‬

‫للظالمين ناراً أحاط بهم سرادقها} ‪( ‬الكهف‪.)29 :‬‬

‫أحدا على الدخول في دين اإلسالم‪ ،‬فإنه َبيِّن واضح‪ ،‬جلي دالئله‬ ‫قال ابن كثير ‪" :‬أي ال تُ ِ‬
‫كرهوا ً‬
‫وبراهينه‪ ،‬ال يحتاج إلى أن يكره أحد على الدخول فيه‪ ،‬بل من هداه اهلل لإلسالم وشرح صدره ونور‬

‫بصيرته؛ دخل فيه على بينة‪ ،‬ومن أعمى اهلل قلبه وختم على سمعه وبصره؛ فإنه ال يفيده الدخول في‬

‫الدين مكرهاً مقسوراً&"‬

‫‪ [.‬تفسير القرآن العظيم> (‪] .)1/416‬‬

‫و يقول تعالى‪{ :‬قل اهلل أعبد مخلصاً له ديني * فاعبدوا ما شئتم من دونه قل إن الخاسرين الذين‬

‫خسروا أنفسهم و أهليهم‪  ‬يوم القيامة أال ذلك هو الخسران المبين} ‪( ‬الزمر‪ ،)15 -14 :‬ويقول‪[ :‬وإ ن‬

‫‪300‬‬
‫جادلوك فقل اهلل أعلم بما تعملون * اهلل يحكم بينكم يوم القيامة فيما كنتم فيه تختلفون] (الحج‪-68 :‬‬

‫‪.)69‬‬

‫وقد امتثل سلفنا هدي اهلل‪ ،‬فلم يلزموا أحداً باإلسالم إكراهاً‪ ،‬ومن ذلك أن عمر بن الخطاب قال لعجوز‬

‫إلي! فقال‬
‫نصرانية‪ :‬أسلمي تسلمي‪ ،‬إن اهلل بعث محمداً بالحق قالت‪ :‬أنا عجوز كبيرة‪ ،‬والموت أقرب ّ‬

‫عمر‪ :‬اللهم اشهد‪ ،‬وتال‪ [ :‬ال إكراه في الدين] (البقرة‪ [.)256 :‬المحلى (‪].)11/196‬‬

‫واإليمان ابتداء هو عمل قلبي‪ ،‬فليس بمؤمن من لم ينطو قلبه على اإليمان‪ ،‬ولو نطق به كرهاً فإنه ال‬

‫يغير في حقيقة قائله وال حكمه‪ ،‬وعليه فالمكره على اإلسالم ال يصح إسالمه‪ ،‬وال تلزمه أحكامه في‬

‫الدنيا‪ ،‬وال ينفعه في اآلخرة‪.‬‬

‫قال اإلمام محمد بن الحسن الشيباني تلميذ أبي حنيفة‪" :‬لم ينقل عن النبي ‪ ‬صلى اهلل عليه وسلم ‪ ‬وال عن‬

‫أحد من خلفائه؛ أنه أجبر أحداً من أهل الذمة على اإلسالم ‪ ...‬وإ ذا أكره على اإلسالم من ال يجوز‬

‫إكراهه كالذمي والمستأمن فأسلم؛ لم يثبت له حكم اإلسالم حتى يوجد منه ما يدل على إسالمه طوعاً؛‬

‫مثل أن يثبت على اإلسالم بعد زوال اإلكراه عنه‪ ،‬وإ ن مات قبل ذلك فحكمه حكم الكفار‪ ،‬وإ ن رجع‬

‫إلى دين الكفر لم يجز قتله وال إكراهه على اإلسالم ‪ ..‬ولنا أنه أكره على ما ال يجوز إكراهه عليه‪ ،‬فلم‬

‫يثبت حكمه في حقه‪ ،‬كالمسلم إذا أكره على الكفر والدليل على تحريم اإلكراه قول اهلل تعالى ‪ [ :‬ال‬

‫إكراه في الدين ] (البقرة‪ [.")256 :‬السير الكبير (‪] .)10/103‬‬


‫‪301‬‬
‫وبمثله قال الفقيه الحنبلي ابن قدامة‪" :‬وإ ذا أكره على اإلسالم من ال يجوز إكراهه كالذمي والمستأمن‬

‫فأسلم؛ لم يثبت له حكم اإلسالم حتى يوجد منه ما يدل على إسالمه طوعاً"‪ [.‬المغني (‪ ،)9/29‬وانظر‬

‫كشاف القناع للبهوتي (‪].)6/180‬‬

‫وهذا ما حصل بالفعل زمن الحاكم بأمر اهلل الذي يصفه ترتون بالخبل والجنون‪ ،‬وقد كان من خبله أن‬

‫أكره كثيرين من أهل الذمة على اإلسالم‪ ،‬فسمح لهم الخليفة الظاهر بالعودة إلى دينهم‪ ،‬فارتد منهم كثير‬

‫سنة ‪418‬هـ‪[ .‬أهل الذمة في اإلسالم‪ ،‬د‪ .‬أ س ترتون (‪].)214‬‬

‫ولما أُجبر على التظاهر باإلسالم موسى بن ميمون فر إلى مصر‪ ،‬وعاد إلى دينه‪ ،‬ولم يعتبره القاضي‬

‫عبد الرحمن البيساني مرتداً‪ ،‬بل قال‪" :‬رجل يكره على اإلسالم‪ ،‬ال يصح إسالمه شرعاً"‪ ،‬وعلق عليها‬

‫الدكتور ترتون بقوله‪" :‬وهذه عبارة تنطوي& على التسامح الجميل"‪ [.‬أهل الذمة في اإلسالم‪ ،‬د‪ .‬أ س‬

‫ترتون (‪].)214‬‬

‫لقد فقه المسلمون هذا ووعوه‪ ،‬فتركوا& لرعاياهم من غير المسلمين حرية االعتقاد وممارسة الشعائر‬

‫التعبدية‪ ،‬ولم يأمروا أحداً باعتناق اإلسالم قسراً وكرهاً‪.‬‬

‫ثانيا ‪ :‬تعريف أهل الذمة فى اإلسالم‬

‫‪302‬‬
‫الذمة في اللغة هي العهد واألمان والضمان‪ .‬وأهل الذمة هم المستوطنون في بالد اإلسالم من غير‬

‫المسلمين‪ ,‬وسُموا بهذا اإلسم ألنهم دفعوا الجزية فأمّنوا على أرواحهم وأعراضهم وأموالهم‪ ,‬وأصبحوا‬

‫في ذمة المسلمين‬

‫وأهل الذمّة في اإلسالم هم اليهود و النصارى‪ ، /‬أو هم األشخاص الذين يقتنون ديانات أخرى غير‬

‫اإلسالم ويعيشون في ظل ال ّدولة االسالمية و الحكم اإلسالمي‪ .‬و سبب تسميتهم‪ /‬بأهل الذمة يعود‪ /‬إلى أنهم‬

‫تحت حماية الدولة اإلسالميّة وأ ّنهم‪ /‬محميون من األذى سواءاً من مسلم أو من غيرهم من ال ّنصارى و‬

‫اليهود‪ ،‬و من األمثلة على إلتزام الحكم اإلسالمي بحماية أهل الذمّة ‪ ،‬موقف‪ /‬ابن تيميّة ‪ ،‬عندما فاوض‬

‫المغول على األسرى‪ ، /‬فقال المفوض‪ : ‬أهل الذمّة أي أ ّنه كان يطالب بتسليم ال ّنصارى‪ /‬و اليهود قبل‬

‫المسلمين‪.‬‬

‫وأول عهد استعمل فيه المسلمون كلمة (الذمة) ه‪//‬و عه‪//‬د رس‪//‬ول هللا إلى نص‪//‬ارى‪ /‬أه‪//‬ل نج‪//‬ران‪ ،‬فق‪//‬د كتب‬

‫لهم‪:‬‬

‫«ولنجران وحاش‪//‬يتها ج‪//‬وار هللا وذم‪//‬ة محم‪//‬د الن‪//‬بي رس‪//‬ول هللا‪ ،‬على أم‪//‬والهم وأنفس‪//‬هم وأرض‪//‬هم وملتهم‪/‬‬

‫وغائبهم وش‪//‬اهدهم‪ ،‬وك‪//‬ل م‪//‬ا تحت أي‪//‬ديهم من قلي‪//‬ل أو كث‪//‬ير‪ ،‬ال يغ‪//‬ير أس‪//‬قف من أس‪//‬قفيته وال راهب من‬

‫رهبانيته وال كاهن من كهانته‪ ،‬وال يطأ أرضهم جيش‪ ،‬ومن سأل منهم حق‪//‬ا ف‪//‬بينهم‪ /‬النص‪//‬ف غ‪/‬ير ظ‪//‬المين‬

‫وال مظلومين‪».‬‬

‫ونجد مثل ذلك النص في كتاب خالد بن الوليد إلى أهل الحيرة وقد‪ /‬أقره الخليفة عمر بن الخطاب‪،‬‬
‫واعتبره الفقهاء ‪ -‬بتعبير اإلمام القاضي أبي يوسف صاحب أبي حنيفة ‪ -‬نافذا على ما أنفذه عمر إلى يوم‬
‫القيامة‬

‫(كتاب الخراج ألبي يوسف‪ ،‬ص ‪78‬و‪155‬و‪)159‬‬

‫‪303‬‬
‫فالذمة هي ذمة هللا ورسوله‪ ،‬وليست ذمة أحد من الناس‪ .‬بقاؤه‪//‬ا لض‪//‬مان الحق‪//‬وق ال إه‪//‬دارها‪ ،‬والح‪//‬ترام‪/‬‬

‫الدين المخالف لإلسالم ال إلهانته‪ ،‬وإلقرار أهل األديان على أدي‪//‬انهم ونظمه‪/‬ا‪ /‬ال لحملهم على الزه‪//‬د فيه‪//‬ا‬

‫أو الرجوع عنها‪ .‬ومع ذلك فهي عقد ال وضع‪.‬‬

‫ثالثا ‪ :‬حقوق أهلالذمةورد بعض الشبهات‬

‫جرى العرف اإلسالمي على تسمية المواطنين من غير المسلمين في المجتمع اإلسالمي باسم "أهل‬

‫الذمة" أو "الذميين"‪ ،‬و"الذمة" كلمة معناها العهد والضمان واألمان‪ ،‬وإنما سموا بذلك؛ ألن لهم عهد هللا‬

‫وعهد الرسول‪ ،‬وعهد جماعة المسلمين‪ :‬أن يعيشوا في حماية اإلسالم‪ ،‬وفي‪ /‬كنف المجتمع اإلسالمي‬

‫آمنين مطمئنين‪ ،‬فهم في أمان المسلمين وضمانهم‪ ،‬بناء على "عقد الذمة" بينهم وبين أهل اإلسالم ‪ .‬فهذه‬

‫الذمة تعطي أهلها "من غير المسلمين" ما يشبه في عصرنا "الجنسية" السياسية التي تعطيها الدولة‬

‫‪.‬لرعاياها‪ ،‬فيكتسبون بذلكحقوقالمواطنين ويلتزمون بواجباتهم‪/‬‬

‫فالذمي على هذا األساس من "أهل دار اإلسالم" كما يعبر الفقهاء (انظر شرح السير الكبير للسرخسي ج‬

‫ـ ‪ 1‬ص‪ 140‬والبدائع للكاساني ج ـ ‪ 5‬ص ‪ 281‬والمغني البن قدامة ج ـ ‪ 5‬ص ‪ )516‬أو من حاملي‬

‫"الجنسية اإلسالمية" كما يعبر المعاصرون ‪(.‬انظر التشريع الجنائي اإلسالمي للشهيد عبد القادر عودة ج‬

‫ـ ‪ 1‬ص ‪ 307‬فقرة ‪ ،232‬وأحكام الذميين والمستأمنين في دار اإلسالم‪ ،‬للدكتور عبد الكريم زيدان ص‬

‫‪ 66 - 63.‬فقرة ‪)51 - 49‬‬

‫وعقد الذمة عقد مؤبد‪ ،‬يتضمن إقرار‪ /‬غير المسلمين على دينهم‪ ،‬وتمتعهم بحماية الجماعة ورعايتها‪،‬‬

‫بشرط بذلهم "الجزية" والتزامهم أحكام القانون اإلسالمي في غير الشئون الدينية‪ ،‬وبهذا يصيرون من‬

‫‪".‬أهل "دار اإلسالم‬

‫فهذا العقد ينشئ حقو ًقا متبادلة لكل من الطرفين‪ :‬المسلمين وأهل ذمتهم‪ ،‬بإزاء ما عليه من واجبات‪ ،‬فما‬

‫الحقوق التي كفلها الشرع ألهل الذمة؟‬

‫‪304‬‬
‫أوال‪:‬حــق الحماية‬

‫القاعدة األولى في معاملة أهل الذمة في "دار اإلسالم" أن لهم من الحقوق مثل ما للمسلمين‪ ،‬إال في أمور‪/‬‬

‫‪.‬محددة مستثناة‪ ،‬كما أن عليهم ما على المسلمين من الواجبات إال ما استثني‬

‫فأول هذه الحقوق هو حق تمتعهم بحماية الدولة اإلسالمية والمجتمع اإلسالمي ‪ .‬وهذه الحماية تشمل‬

‫‪.‬حمايتهم من كل عدوان خارجي‪ ،‬ومن كل ظلم داخلي‪ ،‬حتى ينعموا باألمان واالستقرار‬

‫أ ‪ -‬الحماية من االعتداء الخارجي‬

‫أما الحماية من االعتداء الخارجي‪ ،‬فيجب لهم ما يجب للمسلمين‪ ،‬وعلى اإلمام أو ولي األمر في‬

‫المسلمين‪ ،‬بما له من سُلطة شرعية‪ ،‬وما لديه من قوة عسكرية‪ ،‬أن يوفر‪ /‬لهم هذه الحماية‪ ،‬قال في‬

‫"مطالب أولي النهى" ـ من كتب الحنابلة ـ ‪" :‬يجب على اإلمام حفظ أهل الذمة ومنع َمن يؤذيهم‪ ،‬وفك‬

‫‪".‬أسرهم‪ ،‬ودفع‪َ /‬من قصدهم‪ /‬بأذى إن لم يكونوا‪ /‬بدار حرب‪ ،‬بل كانوا بدارنا‪ ،‬ولو كانوا منفردين ببلد‬

‫وعلل ذلك بأنهم‪" :‬جرت عليهم أحكام اإلسالم وتأبد عقدهم‪ ،‬فلزمه ذلك كما يلزمه للمسلمين" (مطالب‬

‫‪.‬أولي النهى ج ـ ‪ 2‬ص ‪)603 - 602‬‬

‫وينقل اإلمام القرافي المالكي في كتابه "الفروق" قول اإلمام الظاهري‪ /‬ابن حزم في كتابه "مراتب‬

‫اإلجماع"‪" :‬إن من كان في الذمة‪ ،‬وجاء أهل الحرب إلى بالدنا يقصدونه‪ ،‬وجب علينا أن نخرج لقتالهم‬

‫بالكراع والسالح‪ ،‬ونموت دون ذلك‪ ،‬صوناً‪ /‬لمن هو في ذمة هللا تعالى وذمة رسوله ‪ -‬صلى هللا عليه‬

‫وسلم ‪ ،-‬فإن تسليمه دون ذلك إهمال لعقد الذمة"‪( .‬الفروق ج ـ ‪ 3‬ص ‪ - 15 - 14‬الفرق التاسع عشر‬

‫‪.‬والمائة)‪ .‬وحكى في ذلك إجماع األمة‬

‫وعلق على ذلك القرافي بقوله‪" :‬فعقد يؤدي‪ /‬إلى إتالف النفوس واألموال ‪-‬صوناً‪ /‬لمقتضاه عن الضياع‪-‬‬

‫‪.‬إنه لعظيم"‪( .‬نفس المصدر‪ /‬السابق)‬

‫ومن المواقف‪ /‬التطبيقية لهذا المبدأ اإلسالمي‪ ،‬موقف‪ /‬شيخ اإلسالم ابن تيمية‪ ،‬حينما تغلب التتار على‬

‫‪305‬‬
‫الشام‪ ،‬وذهب الشيخ ليكلم "قطلوشاه" في إطالق األسرى‪ ،‬فسمح القائد التتري للشيخ بإطالق أسرى‬

‫المسلمين‪ ،‬وأبى أن يسمح له بإطالق أهل الذمة‪ ،‬فما كان من شيخ اإلسالم إال أن قال‪ :‬ال نرضى‪ /‬إال‬

‫بافتكاك جميع األسارى من اليهود والنصارى‪ ،‬فهم أهل ذمتنا‪ ،‬وال ندع أسيراً‪ ،‬ال من أهل الذمة‪ ،‬وال من‬

‫‪.‬أهل الملة‪ ،‬فلما رأى إصراره وتشدده أطلقهم له‬

‫ب‪ -‬الحماية من الظلم الداخلي‬

‫وأما الحماية من الظلم الداخلي‪ ،‬فهو أمر يوجبه اإلسالم ويشدد‪ /‬في وجوبه‪ ،‬ويحذر المسلمين أن يمدوا‬

‫أيديهم أو ألسنتهم إلى أهل الذمة بأذى أو عدوان‪ ،‬فاهلل تعالى ال يحب الظالمين وال يهديهم‪ ،‬بل يعاجلهم‬

‫‪.‬بعذابه في الدنيا‪ ،‬أو يؤخر‪ /‬لهم العقاب مضاعفا ً في اآلخرة‬

‫وقد تكاثرت اآليات واألحاديث الواردة في تحريم الظلم وتقبيحه‪ ،‬وبيان آثاره الوخيمة في اآلخرة‬

‫‪.‬واألولى‪ ،‬وجاءت أحاديث خاصة تحذر من ظلم غير المسلمين من أهل العهد والذمة‬

‫يقول الرسول ‪ -‬صلى هللا عليه وسلم‪ " :- /‬من ظلم معاه ًدا أو انتقصه ح ًقا أو كلفه فوق طاقته أو أخذ منه‬

‫شي ًئا بغير طيب نفس منه‪ ،‬فأنا حجيجه يوم القيامة" ‪(.‬رواه أبو داود والبيهقي ‪ .‬انظر‪ :‬السنن الكبرى ج ـ‬

‫‪ 5.‬ص ‪)205‬‬

‫ويروى‪ /‬عنه‪" :‬من آذى ِذمِّيا ً فأنا خصمه‪ ،‬ومن كنت خصمه خصمته يوم القيامة" ‪(.‬رواه الخطيب بإسناد‬

‫‪.‬حسن)‬

‫‪.‬وعنه أيضً ا‪" :‬من آذى ذميًا فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى هللا" ‪(.‬رواه الطبراني في األوسط بإسناد‪ /‬حسن‬

‫بظلم آخر" ‪(.‬رواه أبو‬


‫ِ‬ ‫وفي عهد النبي ‪ -‬صلى هللا عليه وسلم ‪ -‬ألهل نجران أنه‪" :‬ال يؤخذ منهم رجل‬

‫‪.‬يوسف في الخراج ص ‪)73 - 72‬‬

‫ولهذا كله اشتدت عناية المسلمين منذ عهد الخلفاء الراشدين‪ ،‬بدفع الظلم عن أهل الذمة‪ ،‬وكف األذى‬

‫‪.‬عنهم‪ ،‬والتحقيق في كل شكوى‪ /‬تأتي من قِ َبلِهم‬

‫كان عمر رضي هللا عنه يسأل الوافدين عليه من األقاليم‪ /‬عن حال أهل الذمة‪ ،‬خشية أن يكون أحد من‬

‫المسلمين قد أفضى إليهم بأذى‪ ،‬فيقولون له‪ " :‬ما نعلم إال وفاءً" (تاريخ الطبري‪ /‬ج ـ ‪ 4‬ص ‪ )218‬أي‬
‫‪306‬‬
‫‪.‬بمقتضى العهد والعقد الذي بينهم وبين المسلمين‪ ،‬وهذا يقتضي أن كالً من الطرفين‪ /‬و َّفى‪ /‬بما عليه‬

‫وعليٌّ بن أبي طالب رضي هللا عنه يقول‪" :‬إنما بذلوا الجزية لتكون أموالهم‪ /‬كأموالنا‪ ،‬ودماؤهم كدمائنا"‬

‫‪(.‬المغني ج ـ ‪ 8‬ص ‪ ،445‬البدائع ج ـ ‪ 7‬ص ‪ 111‬نقالً عن أحكام الذميين والمستأمنين ص ‪89‬‬

‫وفقهاء المسلمين من جميع المذاهب االجتهادية صرَّ حوا وأكدوا‪ /‬بأن على المسلمين دفع الظلم عن أهل‬

‫الذمة والمحافظة عليهم؛ ألن المسلمين حين أعطوهم الذمة قد التزموا دفع الظلم عنهم‪ ،‬وهم صاروا‪ /‬به‬

‫من أهل دار اإلسالم‪ ،‬بل صرَّ ح بعضهم بأن ظلم الذمي أشد من ظلم المسلم إثمًا (ذكر ذلك ابن عابدين في‬

‫حاشيته‪ ،‬وهو مبني على أن الذمي في دار اإلسالم أضعف شوكة عادة‪ ،‬وظلم القوي للضعيف أعظم في‬

‫‪.‬اإلثم)‬

‫ج‪ -‬حماية الدماء واألبدان‬

‫وحق الحماية المقرر ألهل الذمة يتضمن حماية دمائهم وأنفسهم وأبدانهم‪ /،‬كما يتضمن حماية أموالهم‪/‬‬

‫‪ ..‬وأعراضهم‬

‫فدماؤهم‪ /‬وأنفسهم معصومة باتفاق المسلمين‪ ،‬وقتلهم حرام باإلجماع ؛ يقول الرسول ‪ -‬صلى هللا عليه‬

‫ً‬
‫معاهدا لم يرح رائحة الجنة‪ ،‬وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عامًا" ‪(.‬رواه أحمد‬ ‫وسلم ‪" :-‬من قتل‬

‫‪ .‬والبخاري‪ /‬في الجزية‪ ،‬والنسائي‪ /‬وابن ماجة في الديات من حديث عبد هللا بن عمرو‬

‫والمعاهد كما قال ابن األثير‪ :‬أكثر ما يطلق على أهل الذمة‪ ،‬وقد‪ /‬يطلق على غيرهم من الكفار إذا‬

‫‪).‬صولحوا‪ /‬على ترك الحرب ‪-‬فيض القدير ج ـ ‪ 6‬ص ‪153‬‬

‫ولهذا أجمع فقهاء اإلسالم على أن قتل الذمي كبيرة من كبائر‪ /‬المحرمات لهذا الوعيد في الحديث ولكنهم‬

‫‪.‬اختلفوا‪ :‬هل يُقتل المسلم بالذمي إذا قتله؟‬

‫ذهب جمهور الفقهاء ومنهم الشافعي وأحمد إلى أن المسلم ال يُقتل بالذمي مستدلين بالحديث الصحيح‪" :‬ال‬

‫يُقتل مسلم بكافر"‪( ،‬رواه أحمد والبخاري والنسائي وأبو داود والترمذي‪ /‬من حديث علي‪ ،‬كما في المنتقى‬

‫وشرحه ‪.‬انظر‪ :‬نيل األوطار ج ـ ‪ 7‬ص ‪ 15‬ط ‪.‬دار الجيل) والحديث اآلخر‪" :‬أال ال يُقتل مؤمن بكافر‬

‫‪307‬‬
‫وال ذو عهد في عهده" (رواه أحمد والنسائي‪ /‬وأبو داود عن علي أيضً ا‪ ،‬والحاكم وصححه في المنتقى‬

‫‪.‬وشرحه المرجع السابق)‬

‫وقال مالك والليث‪ :‬إذا قتل المسلم الذمي غيلة يُقتل به وإال لم يُقتل به (نيل األوطار ج ـ ‪ 7‬ص ‪)154‬‬

‫وهو الذي فعله أ َبان بن عثمان حين كان أميرً ا على المدينة‪ ،‬وقتل رجل مسلم رجالً من القبط‪ ،‬قتله غيلة‪،‬‬

‫‪.‬فقتله به‪ ،‬وأ َبان معدود‪ /‬من فقهاء المدينة‪( .‬انظر‪ :‬الجوهر النقي مع السنن الكبرى ج ـ ‪ 8‬ص ‪34‬‬

‫وذهب الشعبي والنخعي‪ /‬وابن أبي ليلى وعثمان البتي وأبو حنيفة وأصحابه إلى أن المسلم يُقتل بالذمي‪،‬‬

‫لعموم النصوص الموجبة للقصاص من الكتاب والسنة‪ ،‬والستوائها في عصمة الدم المؤبدة‪ ،‬ولما روي‬

‫أن النبي ‪ -‬صلى هللا عليه وسلم ‪ -‬قتل مسلمًا بمعاهد‪ .‬وقال‪" :‬أنا أكرم من و َّفى بذمته" (رواه عبد الرزاق‬

‫والبيهقي) (ضعَّف البيهقي هذا الخبر كما في السنن ج ـ ‪ 8‬ص ‪ ،30‬وانظر تعقيب ابن التركماني‪ /‬في‬

‫‪".‬الجوهر‪ /‬النقي" حاشية السنن الكبرى"‪ ،‬وانظر‪ :‬المصنف ج ـ ‪ 10‬ص ‪)101‬‬

‫وما روي أن عل ًّيا أُتي برجل من المسلمين قتل رجالً من أهل الذمة‪ ،‬فقامت عليه البيِّنة‪ ،‬فأمر بقتله‪ ،‬فجاء‬

‫أخوه فقال‪ :‬إني قد عفوت‪ ،‬قال‪ :‬فلعلهم هددوك وفرقوك‪ ،‬قال‪ :‬ال‪ ،‬ولكن قتله ال يرد علَيَّ أخي‪ ،‬وعوَّ ضوا‪/‬‬

‫ُ‬
‫ورضيت ‪ .‬قال‪ :‬أنت أعلم؛ من كانت له ذمتنا فدمه كدمنا‪ ،‬وديته كديتنا‪( .‬أخرجه الطبراني‪/‬‬ ‫لي‬

‫‪.‬والبيهقي) ‪(.‬السنن الكبرى ج ـ ‪ 8‬ص ‪)34‬‬

‫‪".‬وفي رواية أنه قال‪" :‬إنما بذلوا الجزية لتكون دماؤهم كدمائنا‪ ،‬وأموالهم‪ /‬كأموالنا‬

‫وقد صح عن عمر بن عبد العزيز‪ :‬أنه كتب إلى بعض أمرائه في مسلم قتل ذم ًّيا‪ ،‬فأمره أن يدفعه إلى‬

‫وليه‪ ،‬فإن شاء قتله‪ ،‬وإن شاء عفا عنه ‪ . .‬ف ُدف َِع إليه فضرب عنقه ‪( .‬المصنف‪ /‬لعبد الرزاق ج ـ ‪ 10‬ص‬

‫‪)101،102.‬‬

‫قالوا‪ :‬ولهذا يُقطع المسلم بسرقة مال الذمي‪ ،‬مع أن أمر المال أهون من النفس‪ ،‬وأما قوله ‪ -‬صلى هللا‬

‫عليه وسلم ‪" :-‬ال يُقتل مسلم بكافر"‪ ،‬فالمراد بالكافر‪ /‬الحربي‪ ،‬وبذلك تتفق النصوص وال تختلف ‪( .‬يراجع‬

‫في ذلك ما كتبه اإلمام الجصاص في كتابه "أحكام القرآن" ج ـ ‪ 1‬باب قتل المسلم بالكافر‪ /‬ص ‪140‬‬

‫‪ 144.‬ط ‪ .‬استنابول‪ /‬طبعة مصورة في بيروت)‬


‫‪308‬‬
‫وهذا هو المذهب الذي اعتمدته الخالفة العثمانية ونفذته في أقاليمها المختلفة منذ عدة قرون‪ ،‬إلى أن‬

‫‪ُ .‬هدِمت الخالفة في هذا القرن‪ ،‬بسعي أعداء اإلسالم‬

‫وكما حمى اإلسالم أنفسهم من القتل حمى أبدانهم من الضرب والتعذيب فال يجوز إلحاق األذى‬

‫بأجسامهم‪ ،‬ولو تأخروا أو امتنعوا عن أداء الواجبات المالية المقررة عليهم كالجزية والخراج‪ ،‬هذا مع أن‬

‫‪.‬اإلسالم تشدد كل التشدد مع المسلمين إذا منعوا الزكاة‬

‫ولم ُي ِج ْز الفقهاء في أمر الذميين المانعين أكثر من أن يُح َبسوا‪ /‬تأديبًا لهم‪ ،‬بدون أن يصحب الحبس أي‬

‫تعذيب أو أشغال شاقة‪ ،‬وفي‪ /‬ذلك يكتب أبو يوسف‪ :‬أن حكيم بن هشام أحد الصحابة رضي‪ /‬هللا عنه رأى‬

‫رجالً (وهو على حمص) يشمِّس ناسً ا من النبط (أي يوقفهم تحت حر الشمس) في أداء الجزية فقال‪ :‬ما‬

‫هذا!‍ سمعت رسول هللا ‪ -‬صلى هللا عليه وسلم ‪ -‬يقول‪" :‬إن هللا عز وجل ي ِّ‬
‫ُعذب الذين يعذبون الناس في‬

‫الدنيا"‪ ،‬وقد رواه مسلم في الصحيح ‪( .‬الخراج ألبي يوسف‪ /‬ص ‪ ،125‬وانظر‪ /:‬السنن الكبرى للبيهقي ج‬

‫‪.‬ـ ‪ 9‬ص ‪)205‬‬

‫َ‬
‫قدمت عليهم فال تبيعن لهم كسوة شتا ًء وال‬ ‫وكتب عليٌّ رضي هللا عنه إلى بعض والته على الخراج‪" :‬إذا‬

‫ً‬
‫واحدا في درهم‪ ،‬وال تقمه‬ ‫ً‬
‫سوطا‪/‬‬ ‫صي ًفا‪ ،‬وال رز ًقا يأكلونه‪ ،‬وال دابة يعملون عليها‪ ،‬وال تضربن ً‬
‫أحدا منهم‬

‫على رجله في طلب درهم‪ ،‬وال تبع ألحد منهم َعرضً ا (متاعً ا) في شيء من الخراج‪ ،‬فإنما أُمِرنا أن نأخذ‬

‫َ‬
‫خالفت ما أمرتك به‪ ،‬يأخذك هللا به دوني‪ ،‬وإن بلغني عنك خالف ذلك عزلتك" ‪ .‬قال‬ ‫منهم العفو‪ ،‬فإن أنت‬

‫َ‬
‫رجعت‬ ‫الوالي‪ :‬إذن أرجع إليك كما خرجت من عندك! (يعني أن الناس ال يُدفعون إال بالشدة) قال‪ :‬وإن‬

‫ضا ج ـ ‪ 9‬ص ‪)205‬‬ ‫َ‬


‫خرجت" ‪( .‬الخراج ألبي يوسف ص ‪ ،16 - 15‬وانظر‪ :‬السنن الكبرى أي ً‬ ‫‪.‬كما‬

‫د‪-‬حماية األموال‬

‫ومثل حماية األنفس واألبدان حماية األموال‪ ،‬هذا مما اتفق عليه المسلمون في جميع المذاهب‪ ،‬وفي‪ /‬جميع‬

‫‪.‬األقطار‪ ،‬ومختلف العصور‪/‬‬

‫روى أبو يوسف في "الخراج" ما جاء في عهد النبي ‪ -‬صلى هللا عليه وسلم ‪ -‬ألهل نجران‪" :‬ولنجران‬

‫وب َيعهم‪،‬‬
‫وحاشيتها‪ /‬جوار هللا‪ ،‬وذمة محمد النبي رسول هللا ‪ -‬صلى هللا عليه وسلم ‪ -‬على أموالهم‪ /‬وملتهم ِ‬
‫‪309‬‬
‫‪.‬وكل ما تحت أيديهم من قليل أو كثير‪( ." ...‬الخراج ص ‪)72‬‬

‫وفي عهد عمر إلى أبي عبيدة بن الجراح رضي‪ /‬هللا عنهما أن‪" :‬امنع المسلمين من ظلمهم واإلضرار‪/‬‬

‫بهم‪ ،‬وأكل أموالهم إال بحلها"‪ .‬وقد مرَّ بنا قول علي ‪ -‬رضي هللا عنه ‪" -‬إنما بذلوا الجزية لتكون دماؤهم‪/‬‬

‫‪.‬كدمائنا‪ ،‬وأموالهم كأموالنا" وعلى هذا استقر عمل المسلمين طوال العصور‬

‫ف َمن سرق مال ذمي قُطعت يده‪ ،‬و َمن غصبه ع ُِّزر‪ ،‬وأعيد المال إلى صاحبه‪ ،‬و َمن استدان من ذمي فعليه‬

‫أن يقضي دينه‪ ،‬فإن مطله وهو غني حبسه الحاكم حتى يؤدي ما عليه‪ ،‬شأنه في ذلك شأن المسلم وال‬

‫‪.‬فرق‬

‫وبلغ من رعاية اإلسالم لحرمة أموالهم وممتلكاتهم‪ /‬أنه يحترم‪ /‬ما يعدونه ‪-‬حسب دينهم‪ -‬ماالً وإن لم يكن‬

‫‪.‬ماالً في نظر المسلمين‬

‫فالخمر والخنزير‪ /‬ال يعتبران عند المسلمين ماالً مُت َق َّومًا‪ ،‬و َمن أتلف لمسلم خمرً ا أو خنزيرً ا‪ /‬ال غرامة عليه‬

‫وال تأديب‪ ،‬بل هو مثاب مأجور‪ /‬على ذلك‪ ،‬ألنه يُغيِّر منكرً ا في دينه‪ ،‬يجب عليه تغييره أو يستحب‪،‬‬

‫‪.‬حسب استطاعته‪ ،‬وال يجوز للمسلم أن يمتلك هذين الشيئين ال لنفسه وال ليبيعها للغير‬

‫أما الخمر والخنزير‪ /‬إذا ملكهما غير المسلم‪ ،‬فهما ماالن عنده‪ ،‬بل من أنفس األموال‪ ،‬كما قال فقهاء‬

‫‪.‬الحنفية‪ ،‬فمن أتلفهما على الذمي ُغرِّ َم قيمتهما‪( . /‬اختلف الفقهاء في ذلك‪ ،‬والذي ذكر هو مذهب الحنفية)‬

‫و‪ -‬حماية األعراض‬

‫ويحمي اإلسالم عِ رض الذمي وكرامته‪ ،‬كما يحمي عِ رض المسلم وكرامته‪ ،‬فال يجوز‪ /‬ألحد أن يسبه أو‬

‫يتهمه بالباطل‪ ،‬أو يشنع عليه بالكذب‪ ،‬أو يغتابه‪ ،‬ويذكره بما يكره‪ ،‬في نفسه‪ ،‬أو نسبه‪ ،‬أو َخ ْلقِه‪ ،‬أو ُخلُقه‬

‫‪.‬أو غير ذلك مما يتعلق به‬

‫يقول الفقيه األصولي‪ /‬المالكي شهاب الدين القرافي‪ /‬في كتاب "الفروق"‪" :‬إن عقد الذمة يوجب لهم حقو ًقا‬

‫علينا‪ ،‬ألنهم في جوارنا وفي‪ /‬خفارتنا‪( /‬حمايتنا) وذمتنا وذمة هللا تعالى‪ ،‬وذمة رسول هللا ‪ -‬صلى هللا عليه‬

‫وسلم ‪ ،-‬ودين اإلسالم‪ ،‬فمن اعتدى عليهم ولو بكلمة سوء أو غيبة‪ ،‬فقد ضيَّع ذمة هللا‪ ،‬وذمة رسوله ‪-‬‬

‫‪.‬صلى هللا عليه وسلم ‪ ،-‬وذمة دين اإلسالم" ‪(.‬الفروق ج ـ ‪ 3‬ص ‪ 14‬الفرق التاسع عشر والمائة)‬
‫‪310‬‬
‫‪".‬وفي الدر المختار ‪-‬من كتب الحنفية‪ " :-‬يجب كف األذى عن الذمي وتحرم غيبته كالمسلم‬

‫ويعلق العالمة ابن عابدين على ذلك بقوله‪ :‬ألنه بعقد الذمة وجب له ما لنا‪ ،‬فإذا حرمت غيبة المسلم‬

‫حرمت غيبته‪ ،‬بل قالوا‪ /:‬إن ظلم الذمي أشد ‪( .‬الدر المختار وحاشية ابن عابدين عليه ج ـ ‪ 3‬ص ‪- 244‬‬

‫‪ 246.‬ط ‪ .‬استانبول‪)/‬‬

‫ثانياالتأمين عند العجز والشيخوخة والفقر‬

‫وأكثر من ذلك أن اإلسالم ضمن لغير المسلمين في ظل دولته‪ ،‬كفالة المعيشة المالئمة لهم ولمن يعولونه‪،‬‬

‫ألنهم رعية للدولة المسلمة وهي مسئولة عن كل رعاياها‪ ،‬قال رسول هللا ‪ -‬صلى هللا عليه وسلم ‪" :-‬كلكم‬

‫راع وكل راع مسئول عن رعيته" ‪( .‬متفق عليه من حديث ابن عمر)‪.‬وهذا ما مضت به ُس َّنة الراشدين‬

‫‪.‬و َمن بعدهم‬

‫ففي عقد الذمة الذي كتبه خالد بن الوليد ألهل الحيرة بالعراق‪ ،‬وكانوا‪ /‬من النصارى‪" /:‬وجعلت لهم‪ ،‬أيما‬

‫شيخ ضعف عن العمل‪ ،‬أو أصابته آفة من اآلفات‪ ،‬أو كان غن ًّيا فافتقر وصار‪ /‬أهل دينه يتصدقون عليه‪،‬‬

‫طرحت جزيته وعِ يل من بيت مال المسلمين هو وعياله" ‪(. .‬رواه أبو يوسف‪ /‬في "الخراج" ص ‪)144‬‬

‫ص ِّديق‪/‬‬
‫ص ِّديق‪ ،‬وبحضرة عدد كبير من الصحابة‪ ،‬وقد كتب خالد به إلى ال ِّ‬
‫وكان هذا في عهد أبي بكر ال ِّ‬

‫‪.‬ولم ينكر عليه أحد‪ ،‬ومثل هذا ي َُعد إجماعًا‬

‫ورأى عمر بن الخطاب ً‬


‫شيخا يهوديًا يسأل الناس‪ ،‬فسأله عن ذلك‪ ،‬فعرف‪ /‬أن الشيخوخة والحاجة ألجأتاه‬

‫إلى ذلك‪ ،‬فأخذه وذهب به إلى خازن بيت مال المسلمين‪ ،‬وأمره أن يفرض له وألمثاله من بيت المال ما‬

‫يكفيهم ويصلح شأنهم‪ ،‬وقال في ذلك‪ :‬ما أنصفناه إذ أخذنا منه الجزية شابًا‪ ،‬ثم نخذله عند الهرم! (المصدر‪/‬‬

‫‪.‬السابق ص ‪)126‬‬

‫وعند مقدم ِه "الجابية" من أرض دمشق َمرَّ في طريقه بقوم مجذومين من النصارى‪ ،‬فأمر أن يعطوا من‬

‫الصدقات‪ ،‬وأن يجرى عليهم القوت (البالذري‪ /‬في فتوح البلدان ص ‪ 177‬ط ‪ .‬بيروت) ‪ .‬ـ أي تتولى‬

‫‪.‬الدولة القيام بطعامهم‪ /‬ومؤونتهم بصفة منتظمة‬


‫‪311‬‬
‫وبهذا تقرر الضمان االجتماعي في اإلسالم‪ ،‬باعتباره "مبدأً عامًا" يشمل أبناء المجتمع جمي ًعا‪ ،‬مسلمين‬

‫وغير مسلمين‪ ،‬وال يجوز أن يبقى في المجتمع المسلم إنسان محروم‪ /‬من الطعام أو الكسوة أو المأوى أو‬

‫‪.‬العالج‪ ،‬فإن دفع الضرر‪ /‬عنه واجب ديني‪ ،‬مسلمًا كان أو ذميًا‬

‫وذكر اإلمام النووي في "المنهاج" أن من فروض الكفاية‪ :‬دفع ضرر‪ /‬المسلمين ككسوة عار‪ ،‬أو إطعام‬

‫‪.‬جائع إذا لم يندفع بزكاة وبيت مال‬

‫ووضح العالمة شمس الدين الرملي الشافعي في "نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج" أن أهل الذمة‬

‫‪.‬كالمسلمين في ذلك‪ ،‬فدفع الضرر‪ /‬عنهم واجب‬

‫ثم بحث الشيخ الرملي رحمه هللا في تحديد معنى دفع الضرر‪ /‬فقال‪" :‬وهل المراد بدفع ضرر‪َ /‬من ذكر‪ ،‬ما‬

‫يسد الرمق أو الكفاية؟ قوالن‪ ،‬أصحهما ثانيهما ؛ فيجب في الكسوة ما يستر‪ /‬كل البدن على حسب ما يليق‬

‫بالحال من شتاء وصيف‪ /،‬ويلحق‪ /‬بالطعام والكسوة ما في معناهما‪ ،‬كأجرة طبيب‪ ،‬وثمن دواء‪ ،‬وخادم‪/‬‬

‫‪".‬منقطع ‪ ..‬كما هو واضح‬

‫قال‪" :‬ومما يندفع به ضرر‪ /‬المسلمين والذميين فك أسراهم" ‪ .‬نهاية (المحتاج إلى شرح المنهاج للرملي ج‬

‫‪.‬ـ ‪ 8‬ص ‪ 46‬كتاب "السير")‬

‫ثالثا حرية التدين‬

‫‪.‬ويحمي اإلسالم فيما يحميه من حقوق أهل الذمة حق الحرية‬

‫وأول هذه الحريات‪ :‬حرية االعتقاد والتعبد‪ ،‬فلكل ذي دين دينه ومذهبه‪ ،‬ال يُجبر على تركه إلى غيره‪،‬‬

‫‪.‬وال يُضغط‪ /‬عليه ليتحول منه إلى اإلسالم‬

‫وأساس هذا الحق قوله تعالى‪( :‬ال إكراه في الدين‪ ،‬قد تبين الرشد من الغي)‪( ،‬البقرة‪ )256 :‬وقوله‬

‫‪.‬سبحانه‪( :‬أفأنت ُت ِ‬
‫كره الناس حتى يكونوا‪ /‬مؤمنين)؟ (يونس‪)99 :‬‬

‫قال ابن كثير في تفسير اآلية األولى‪ :‬أي ال ُت ِ‬


‫كرهوا أح ًدا على الدخول في دين اإلسالم‪ ،‬فإنه َبيِّن واضح‪،‬‬

‫‪.‬جلي دالئله وبراهينه‪ ،‬ال يحتاج إلى أن يكره أحد على الدخول فيه‬

‫وسبب نزول اآلية كما ذكر المفسرون يبين جانبًا من إعجاز هذا الدين‪ ،‬فقد رووا عن ابن عباس قال‪:‬‬
‫‪312‬‬
‫كانت المرأة تكون مقالة ‪-‬قليلة النسل‪ -‬فتجعل على نفسها إن عاش لها ولد أن ُت َهوِّ دَ ه (كان يفعل ذلك نساء‬

‫األنصار في الجاهلية) فلما أُجليت بنو النضير كان فيهم من أبناء األنصار‪ ،‬فقال آباؤهم‪ :‬ال ندع أبناءنا‬

‫(يعنون‪ :‬ال ندعهم يعتنقون اليهودية) فأنزل هللا عز وجل هذه اآلية‪( :‬ال إكراه في الدين)‪( .‬نسبه ابن كثير‬

‫إلى ابن جرير‪ ،‬قال‪" :‬قد رواه أبو داود والنسائي‪ /‬وابن أبي حاتم وابن حيان في صحيحه وهكذا ذكر‬

‫مجاهد وسعيد‪ /‬بن جبير والشعبي‪ /‬والحسن البصري‪ /‬وغيرهم أنها نزلت في ذلك ‪ " . .‬تفسير ابن كثير ج ـ‬

‫‪ 1.‬ص ‪)310‬‬

‫فرغم أن محاوالت اإلكراه كانت من آباء يريدون حماية أبنائهم من التبعية ألعدائهم المحاربين الذين‬

‫يخالفونهم في دينهم وقوميتهم‪ ،‬ورغم الظروف الخاصة التي دخل بها األبناء دين اليهودية وهم صغار‪،‬‬

‫ورغم ما كان يسود العالم كله حينذاك من موجات التعب واالضطهاد للمخالفين في المذهب‪ ،‬فضالً عن‬

‫الدين‪ ،‬كما كان في مذهب الدولة الرومانية التي خيَّرت رعاياها حي ًنا بين التنصر والقتل‪ ،‬فلما تبنت‬

‫‪.‬المذهب "الملكاني" أقامت المذابح لكل َمن ال يدين به من المسيحيين من اليعاقبة وغيرهم‬

‫ونور بصيرته دخل فيه على بيِّنة‪،‬‬


‫رغم كل هذا‪ ،‬رفض القرآن اإلكراه‪ ،‬بل َمن هداه هللا وشرح صدره َّ‬

‫ُكرهًا مقسورً ا ـ كما قال‬


‫و َمن أعمى هللا قلبه‪ ،‬وختم على سمعه وبصره‪ ،‬فإنه ال يفيده الدخول في الدين م َ‬

‫ابن كثيرـ ‪ .‬فاإليمان عند المسلمين ليس مجرد كلمة ُتلفظ باللسان أو طقوس ُتؤ َّدى باألبدان‪ ،‬بل أساسه‬

‫‪.‬إقرار القلب وإذعانه وتسليمه‬

‫ولهذا لم يعرف التاريخ شعبًا مسلمًا حاول إجبار أهل الذمة على اإلسالم‪ ،‬كما أقر بذلك المؤرخون‬

‫‪.‬الغربيون أنفسهم‬

‫وكذلك صان اإلسالم لغير المسلمين معابدهم ورعى حرمة شعائرهم‪ ،‬بل جعل القرآن من أسباب اإلذن‬

‫في القتال حماية حرية العبادة‪ ،‬وذلك في قوله تعالى‪( :‬أُذِن للذين يقاتلون بأنهم ُ‬
‫ظلموا‪ ،‬وإن هللا على‬

‫نصرهم لقدير * الذين أُخرجوا من ديارهم بغير حق إال أن يقولوا ربناهللا‪ ،‬ولوال دفع هللا الناس بعضهم‪/‬‬

‫‪.‬ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد‪ /‬يذكر فيها اسم هللا كثيرً ا)‪( .‬الحج‪)40 - 39 :‬‬

‫وقد رأينا كيف اشتمل عهد النبي ‪ -‬صلى هللا عليه وسلم ‪ -‬إلى أهل نجران‪ ،‬أن لهم جوار هللا وذمة رسوله‬
‫‪313‬‬
‫‪.‬على أموالهم وملَّتهم ِ‬
‫وب َيعهم‬

‫وفي عهد عمر بن الخطاب إلى أهل إيلياء (القدس) نص على حُريتهم‪ /‬الدينية‪ ،‬وحرمة معابدهم‬

‫وشعائرهم‪" /:‬هذا ما أعطى عبد هللا عمر أمير المؤمنين أهل إيلياء من األمان‪ :‬أعطاهم أما ًنا ألنفسهم‬

‫وأموالهم وكنائسهم وصلبانهم وسائر‪ /‬ملَّتها‪ ،‬ال ُتسكن كنائسهم‪ ،‬وال ُتهدم وال ينتقص منها‪ ،‬وال من حيزها‪،‬‬

‫وال من صليبها‪ ،‬وال من شيء من أموالهم‪ ،‬وال يُكرهون على دينهم‪ ،‬وال يُضار أحد منهم‪ .‬وال يسكن‬

‫بإيلياء معهم أحد من اليهود ‪ " . .‬كما رواه الطبري ‪( .‬تاريخ الطبري‪ /‬ط ‪ .‬دار المعارف‪ /‬بمصر ج ـ ‪3‬‬

‫‪.‬ص ‪609‬‬

‫وفي عهد خالد بن الوليد ألهل عانات‪" :‬ولهم أن يضربوا‪ /‬نواقيسهم‪ /‬في أي ساعة شاءوا من ليل أو نهار‪،‬‬

‫‪.‬إال في أوقات الصالة‪ ،‬وأن يخرجوا‪ /‬الصلبان في أيام عيدهم" ‪(.‬الخراج ألبي يوسف ص ‪)146‬‬

‫وكل ما يطلبه اإلسالم من غير المسلمين أن يراعوا مشاعر المسلمين‪ ،‬وحُرمة دينهم‪ ،‬فال يظهروا‪/‬‬

‫شعائرهم وصلبانهم في األمصار اإلسالمية‪ ،‬وال يحدثوا كنيسة في مدينة إسالمية لم يكن لهم فيها كنيسة‬

‫‪.‬من قبل‪ ،‬وذلك لما في اإلظهار‪ /‬واإلحداث من تحدي الشعور اإلسالمي مما قد يؤدي‪ /‬إلى فتنة واضطراب‪/‬‬

‫والب َيع وغيرها من المعابد في األمصار‪/‬‬


‫على أن من فقهاء المسلمين َمن أجاز ألهل الذمة إنشاء الكنائس ِ‬

‫اإلسالمية‪ ،‬وفي البالد التي فتحها المسلمون عنوة‪ ،‬أي أن أهلها حاربوا المسلمين ولم يسلموا‪ /‬لهم إال بحد‬

‫‪.‬السيف إذا أذن لهم إمام المسلمين بذلك‪ ،‬بناء على مصلحة رآها‪ ،‬ما دام اإلسالم يقرهم على عقائدهم‬

‫وقد ذهب إلى ذلك الزيدية واإلمام ابن القاسم من أصحاب مالك (انظر‪ :‬أحكام الذميين والمستأمنين ص‬

‫‪)99 - 96.‬‬

‫ويبدو أن العمل جرى على هذا في تاريخ المسلمين‪ ،‬وذلك منذ عهد مبكر‪ ،‬فقد ُبنِيت في مصر عدة كنائس‬

‫في القرن األول الهجري‪ ،‬مثل كنيسة "مار مرقص" باإلسكندرية ما بين (‪ 56 - 39‬هـ) ‪.‬كما ُبنِيت أول‬

‫كنيسة بالفسطاط في حارة الروم‪ ،‬في والية مسلمة بن مخلد على مصر بين عامي (‪ 68 - 47‬هـ ) كما‬

‫سمح عبد العزيز بن مروان حين أنشأ مدينة "حلوان" ببناء كنيسة فيها‪ ،‬وسمح كذلك لبعض األساقفة ببناء‬

‫‪.‬ديرين‬
‫‪314‬‬
‫وهناك أمثلة أخرى كثيرة‪ ،‬وقد‪ /‬ذكر المؤرخ المقريزي في كتابه "الخِطط" أمثلة عديدة‪ ،‬ثم ختم حديثه‬

‫بقوله‪ :‬وجميع كنائس القاهرة المذكورة محدَثة في اإلسالم بال خالف (انظر‪ :‬اإلسالم وأهل الذمة للدكتور‬

‫علي حسني الخربوطلي‪ /‬ص ‪ ،139‬وأيضاً‪" /:‬الدعوة إلى اإلسالم" تأليف توماس ‪ .‬و ‪ .‬أرنولد ص ‪- 84‬‬

‫‪ 86.‬ط ‪ .‬ثالثة ‪ .‬ترجمة د ‪ .‬حسن إبراهيم‪ /‬وزميليه)‬

‫أما في القرى والمواضع‪ /‬التي ليست من أمصار المسلمين فال يُمنعون من إظهار‪ /‬شعائرهم الدينية وتجديد‪/‬‬

‫‪.‬كنائسهم القديمة وبناء ما تدعو حاجتهم إلى بنائه‪ ،‬نظرً ا لتكاثر عددهم‬

‫وهذا التسامح مع المخالفين في الدين من قوم قامت حياتهم كلها على الدين‪ ،‬وتم لهم به النصر والغلبة‪،‬‬

‫‪.‬أمر لم يُعهد في تاريخ الديانات‪ ،‬وهذا ما شهد به الغربيون أنفسهم‬

‫يقول العالمة الفرنسي جوستاف‪ /‬لوبون‪" :‬رأينا من آي القرآن التي ذكرناها آن ًفا أن مسامحة محمد لليهود‬

‫والنصارى‪ /‬كانت عظيمة إلى الغاية‪ ،‬وأنه لم يقل بمثلها مؤسسو األديان التي ظهرت قبله كاليهودية‬

‫والنصرانية على وجه الخصوص‪ ،‬وسنرى كيف سار خلفاؤه على سنته" وقد‪ /‬اعترف بذلك التسامح‬

‫بعض علماء أوروبا المرتابون أو المؤمنون القليلون الذين أمعنوا النظر في تاريخ العرب‪ ،‬والعبارات‪/‬‬

‫اآلتية التي أقتطفها من كتب الكثيرين منهم تثبت أن رأينا في هذه المسألة ليس خاصً ا بنا‪ .‬قال روبرتسن‬

‫في كتابه "تاريخ شارلكن"‪" :‬إن المسلمين وحدهم‪ /‬الذين جمعوا بين الغيرة لدينهم وروح‪ /‬التسامح نحو‬

‫أتباع األديان األخرى وأنهم مع امتشاقهم‪ /‬الحسام نشرً ا لدينهم‪ ،‬تركوا َمن لم يرغبوا فيه أحرارً ا في‬

‫التمسك بتعاليمهم الدينية" ‪( .‬حاشية من صفحة ‪ 128‬من كتاب "حضارة العرب" لجوستاف لوبون)‬

‫رابعا حرية العمل والكسب‬

‫لغير المسلمين حرية العمل والكسب‪ ،‬بالتعاقد مع غيرهم‪ ،‬أو بالعمل لحساب أنفسهم‪ ،‬ومزاولة ما‬

‫يختارون من المهن الحرة‪ ،‬ومباشرة ما يريدون‪ /‬من ألوان النشاط االقتصادي‪ ،‬شأنهم في ذلك شأن‬

‫‪.‬المسلمين‬

‫فقد قرر‪ /‬الفقهاء أن أهل الذمة في البيوع والتجارات وسائر‪ /‬العقود والمعامالت المالية كالمسلمين‪ ،‬ولم‬

‫يستثنوا من ذلك إال عقد الربا‪ ،‬فإنه محرم عليهم كالمسلمين وقد ر ُِوي‪ /‬أن النبي ‪ -‬صلى هللا عليه وسلم ‪-‬‬
‫‪315‬‬
‫‪".‬كتب إلى مجوس هجر‪" :‬إما أن تذروا الربا أو تأذنوا بحرب من هللا ورسوله‬

‫كما يمنع أهل الذمة من بيع الخمور والخنازير في أمصار المسلمين‪ ،‬وفتح الحانات فيها لشرب الخمر‬

‫وتسهيل تداولها أو إدخالها إلى أمصار المسلمين على وجه الشهرة والظهور‪ ،‬ولو كان ذلك الستمتاعهم‬

‫سدا لذريعة الفساد وإغال ًقا لباب الفتنة‬


‫‪.‬الخاص‪ً ،‬‬

‫وفيما عدا هذه األمور المحدودة‪ ،‬يتمتع الذميون بتمام حريتهم‪ ،‬في مباشرة التجارات والصناعات‬

‫والح َِرف المختلفة ‪ .‬وهذا ما جرى عليه األمر‪ ،‬ونطق به تاريخ المسلمين في َش َّتى األزمان ‪ .‬وكادت‬

‫بعض المهن تكون مقصورة عليهم كالصيرفة والصيدلة وغيرها ‪ .‬واستمر ذلك إلى وقت قريب في كثير‬

‫من بالد اإلسالم ‪ .‬وقد جمعوا من وراء ذلك ثروات طائلة معفاة من الزكاة ومن كل ضريبة إال الجزية‪،‬‬

‫‪.‬وهي ضريبة على األشخاص القادرين على حمل السالح‪ ،‬كما سيأتي‪ ،‬وهي مقدار جد زهيد‬

‫قال آدم ميتز‪" :‬ولم يكن في التشريع اإلسالمي ما يغلق دون أهل الذمة أي باب من أبواب األعمال‪،‬‬

‫وكانت قدمهم راسخة في الصنائع التي تدر األرباح الوافرة‪ ،‬فكانوا‪ /‬صيارفة وتجارً ا وأصحاب ضياع‬

‫ً‬
‫يهودا‪ . /‬على‬ ‫وأطباء‪ ،‬بل إن أهل الذمة نظموا أنفسهم‪ ،‬بحيث كان معظم الصيارفة الجهابذة في الشام مثالً‬

‫حين كان أكثر األطباء والكتبة نصارى‪ . /‬وكان رئيس النصارى ببغداد هو طبيب الخليفة‪ ،‬وكان رؤساء‬

‫اليهود وجهابذتهم‪ /‬عنده " "الحضارة اإلسالمية في القرن الرابع الهجري" لألستاذ آدم ميتز أستاذ اللغات‬

‫الشرقية بجامعة "بازل" بسويسرا‪ . /‬ترجمة األستاذ محمد عبدالهادي أبو ريدة الطبعة الرابعة‪ ،‬فصل‪:‬‬

‫‪").‬اليهود والنصارى" ج‪ 1‬ص‪86‬‬

‫خامسا تولي وظائف الدولة‬

‫وألهل الذمة الحق في تولى وظائف‪ /‬الدولة كالمسلمين ‪ .‬إال ما غلب عليه الصبغة الدينية كاإلمامة ورئاسة‬

‫‪.‬الدولة والقيادة في الجيش*‪ ،‬والقضاء بين المسلمين‪ ،‬والوالية على الصدقات‪ /‬ونحو ذلك‬

‫فاإلمامة أو الخالفة رياسة عامة في الدين والدنيا‪ ،‬خالفة عن النبي ‪ -‬صلى هللا عليه وسلم ‪ -‬وال يجوز أن‬

‫‪.‬يخلف النبي في ذلك إال مسلم‪ ،‬وال يعقل أن ينفذ أحكام اإلسالم ويرعاها إال مسلم‬

‫وقيادة الجيش ليست عمالً مدنيًا صر ًفا‪ ،‬بل هي عمل من أعمال العبادة في اإلسالم إذ الجهاد في قمة‬
‫‪316‬‬
‫‪.‬العبادات اإلسالمية‬

‫‪.‬والقضاء إنما هو حكم بالشريعة اإلسالمية‪ ،‬وال يطلب من غير المسلم أن يحكم بما ال يؤمن به‬

‫‪.‬ومثل ذلك الوالية على الصدقات ونحوها‪ /‬من الوظائف‪ /‬الدينية‬

‫وماعدا ذلك من وظائف الدولة يجوز إسناده إلى أهل الذمة إذا تحققت فيهم الشروط التي ال بد منها من‬

‫الكفاية واألمانة واإلخالص للدولة ‪ .‬بخالف الحاقدين الذين تدل الدالئل على بغض مستحكم منهم‬

‫للمسلمين‪ ،‬كالذين قال هللا فيهم‪( /:‬يأيها الذين آمنوا ال تتخذوا بطانة من دونكم ال يألونكم‪ /‬خباالً ودوا ما‬

‫عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم‪ /‬وما تخفي صدورهم‪ /‬أكبر‪ ،‬قد بينا لكم اآليات إن كنتم تعقلون) (آل‬

‫‪.‬عمران‪)118 :‬‬

‫وقد بلغ التسامح بالمسلمين أن صرح فقهاء كبار ‪-‬مثل الماوردي‪ /‬في "األحكام السلطانية"‪ -‬بجواز تقليد‬

‫الذمي "وزارة التنفيذ"‪ .‬ووزير‪ /‬التنفيذ هو الذي يبلغ أوامر اإلمام ويقوم بتنفيذها ويمضي‪ /‬ما يصدر عنه‬

‫‪.‬من أحكام‬

‫وهذا بخالف "وزارة التفويض" التي يكل فيها اإلمام إلى الوزير‪ /‬تدبير‪ /‬األمور السياسية واإلدارية‬

‫‪.‬واالقتصادية بما يراه‬

‫وقد تولى الوزارة في زمن العباسيين بعض النصارى‪ /‬أكثر من مرة‪ ،‬منهم نصر بن هارون سنة ‪369‬‬

‫هـ‪ ،‬وعيسى بن نسطورس‪ /‬سنة ‪380‬هـ ‪ .‬وقبل ذلك كان لمعاوية بن أبي سفيان كاتب نصراني‪ /‬اسمه‬

‫‪.‬سرجون‬

‫وقد بلغ تسامح المسلمين في هذا األمر أحيا ًنا إلى حد المبالغة والجور على حقوق المسلمين‪ ،‬مما جعل‬

‫‪.‬المسلمين في بعض العصور‪ ،‬يشكون من تسلط اليهود والنصارى عليهم بغيرحق‪/‬‬

‫وقد قال المؤرخ الغربي آدم ميتز في كتابه "الحضارة اإلسالمية في القرن الرابع الهجري" (الجزء األول‬

‫ص‪" :)105‬من األمور التي نعجب لها كثرة عدد العمال (الوالة وكبار‪ /‬الموظفين) والمتصرفين غير‬

‫المسلمين في الدولة اإلسالمية‪ ،‬فكأن النصارى‪ /‬هم الذين يحكمون المسلمين في بالد اإلسالم والشكوى‪ /‬من‬

‫‪".‬تحكيم أهل الذمة في أبشار المسلمين شكوى‪ /‬قديمة‬


‫‪317‬‬
‫يقول أحد الشعراء المصريين (هو الحسن بن خاقان‪ ،‬كما في "حسن المحاضرة" للسيوطي‪ 2 /‬ص‪117‬‬

‫‪:‬وانظر الحضارة اإلسالمية آلدم ميتز ج‪ 1‬ص‪ )118‬في يهود عصره وسيطرتهم على حكامه‬

‫يهود هذا الزمان قد بلغــواغاية آمالهم وقد ملكـوا‬

‫المجد فيهم والمال عندهمــوومنهم المستشار‪ /‬والملك‬

‫ُ‬
‫نصحت لكمتهودوا‪ ،‬قد تهود الفلك‬ ‫يا أهل مصر‪ ،‬إني‬

‫وقال آخر بيتين َّ‬


‫تمثل بهما الفقيه الحنفي الشهير "ابن عابدين" لما رأى من استئثار‪ /‬غير المسلمين في‬

‫زمنه على المسلمين‪ ،‬حتى إنهم يتحكمون في الفقهاء والعلماء وغيرهم‪ .‬قال (حاشية ابن عابدين ج‪ 3‬ص‬

‫‪)379:‬‬

‫كثيرةوأمر منها رفعة السفهـاء‬


‫ّ‪/‬‬ ‫أحبابنـا‪ ،‬نوب الزمان‬

‫فمتى يفيق الدهر من سكراتهوأرى اليهود بذلة الفقهاء‬

‫وهذا من أثر الجهل واالنحراف‪ ،‬واالضطراب الذي أصاب المجتمع اإلسالمي‪ /‬في عصور االنحطاط‪،‬‬

‫‪.‬حتى انتهى األمر إلى عزة اليهود‪ /‬وذلة الفقهاء‬

‫وآخر ما سجَّ له التاريخ من ذلك ما سارت عليه الدولة العثمانية في عهدها األخير بحيث أسندت كثيرً ا من‬

‫وظائفها الهامة والحساسة إلى رعاياها من غير المسلمين‪ ،‬ممن ال يألونها‪ /‬خباالً‪ ،‬وجعلت أكثر سفرائها‬

‫‪.‬ووكالئها‪ /‬في بالد األجانب من النصارى‬

‫وصايا نبوية بأقباط مصر خاصة‬

‫وأما أقباط مصر فلهم شأن خاص ومنزلة متميزة‪ ،‬فقد أوصى بهم رسول هللا ‪ -‬صلى هللا عليه وسلم ‪-‬‬

‫‪.‬وصية خاصة‪ ،‬يعيها عقل كل مسلم ويضعها‪ /‬في السويداء من قلبه‬

‫فقد روت أم المؤمنين أم سلمة رضي هللا عنها أن رسول هللا ‪ -‬صلى هللا عليه وسلم ‪ -‬أوصى‪ /‬عند وفاته‬

‫فقال‪" :‬هللا هللا في قبط مصر‪ ،‬فإنكم ستظهرون عليهم‪ ،‬ويكونون لكم عدة وأعوا ًنا في سبيل هللا" (أورده‬

‫‪.‬الهيثمي في مجمع الزوائد ج‪ 10‬ص‪ ،62‬وقال‪ :‬رواه الطبراني‪ /‬ورجاله رجال الصحيح)‬

‫وفي حديث آخر عن أبي عبد الرحمن الحبلي ـ عبد هللا بن يزيد ـ‪ ،‬وعمرو بن حريث‪ ،‬أن رسول‪ /‬هللا ‪-‬‬
‫‪318‬‬
‫صلى هللا عليه وسلم ‪ -‬قال‪..." :‬فاستوصوا‪ /‬بهم خيرً ا‪ ،‬فإنهم قوة لكم‪ ،‬وبالغ إلى عدوكم بإذن هللا" يعني‬

‫قبط مصر (رواه ابن حبان في صحيحه كما في الموارد (‪ )2315‬وقال الهيثمي ج‪ 10‬ص‪ :64‬رواه أبو‬

‫‪.‬يعلى ورجاله رجال الصحيح)‬

‫وقد ص َّد َق الواقع التاريخي ما نبأ به الرسول ‪ -‬صلى هللا عليه وسلم ‪ ،-‬فقد رحب األقباط بالمسلمين‬

‫الفاتحين‪ ،‬وفتحوا لهم صدورهم‪ ،‬رغم أن الروم الذين كانوا يحكمونهم‪ /‬كانوا نصارى مثلهم‪ ،‬ودخل‬

‫األقباط في دين هللا أفواجً ا‪ ،‬حتى إن بعض والة بني أمية فرض الجزية على َمن أسلم منهم‪ ،‬لكثرة من‬

‫‪.‬اعتنق اإلسالم‬

‫‪.‬مصر بوابة اإلسالم إلى إفريقيا كلها‪ ،‬وغدا أهلها ُع َّدة وأعوا ًنا في سبيل هللا‬

‫وعن أبي ذر رضي‪ /‬هللا عنه أن رسول هللا ‪ -‬صلى هللا عليه وسلم‪ - /‬قال‪" :‬إنكم ستفتحون أرضً ا يُذكر فيها‬

‫‪".‬القيراط‪ ،‬فاستوصوا‪ /‬بأهلها خيرً ا‪ ،‬فإن لهم ذمة ورحمًا‬

‫وفي رواية‪" :‬إنكم ستفتحون مصر‪ ،‬وهي أرض يسمى فيها القيراط (القيراط‪ :‬جزء من أجزاء الدرهم‬

‫والدينار وغيرهما‪ ،‬وكان أهل مصر يكثرون من استعماله والتكلم به‪ ،‬بل هم ال يزالون كذلك بالنسبة‬

‫ً‬
‫قيراطا)‪ ،‬فإذا فتحتموها‪ /‬فأحسنوا إلى‬ ‫للمساحة والصاغة وغيرها‪ ،‬وكل شيء قابل ألن يقسم إلى ‪24‬‬

‫أهلها‪ ،‬فإن لهم ذمة ورحمًا"‪ ،‬أو قال‪" :‬ذمة وصهرً ا" (الحديث بروايتيه في صحيح مسلم رقم (‪،)2543‬‬

‫‪.‬باب وصية النبي ‪ -‬صلى هللا عليه وسلم‪ - /‬بأهل مصر‪ ،‬وفي مسند أحمد ج‪ 5‬ص‪)174‬‬

‫قال العلماء‪ :‬الرحم التي لهم‪ :‬كون هاجر أم إسماعيل عليه السالم منهم‪ ،‬والصهر‪ :‬كون مارية أم إبراهيم‬

‫ابن رسول‪ /‬هللا ‪ -‬صلى هللا عليه وسلم ‪ -‬منهم‪( .‬ذكر ذلك النووي في رياض الصالحين‪ :‬حديث (‪ )334‬ط‬

‫‪ ..‬المكتب اإلسالمي)‬

‫وال غرو أن ذكر اإلمام النووي هذا الحديث في كتابه "رياض الصالحين" في باب‪" :‬بر الوالدين وصلة‬

‫األرحام" إشارة إلى هذه الرحم التي أمر هللا ورسوله بها أن توصل بين المسلمين وبين أهل مصر‪ ،‬حتى‬

‫‪.‬قبل أن يسلموا‬

‫سمعت رسول هللا ‪ -‬صلى هللا عليه وسلم‪ - /‬يقول‪" :‬إذا فُتِحت مصر‬
‫ُ‬ ‫وعن كعب بن مالك األنصاري قال‪:‬‬
‫‪319‬‬
‫فاستوصوا بالقبط خيرً ا‪ ،‬فإن لهم دما ً ورحمًا" ‪ .‬وفي‪ /‬رواية‪" :‬إن لهم ذمة ورحمًا" يعني أن أم إسماعيل‬

‫منهم ‪(.‬أورده الهيثمي ج ـ ‪ 10‬ص ‪ ،62‬وقال‪ :‬رواه الطبراني بإسنادين ورجال أحدهما رجال الصحيح‪،‬‬

‫كما رواه الحاكم بالرواية الثانية وصححه على شرط الشيخين ووافقه الذهبي ج ـ ‪ 2‬ص ‪ ،753‬وعند‬

‫‪.‬الزهري‪" :‬الرحم" بأن أم إسماعيل منهم)‬

‫والرسول يجعل للقبط هنا من الحقوق أكثر مما لغيرهم‪ ،‬فلهم الذمة أي عهد هللا ورسوله وعهد جماعة‬

‫المسلمين وهو عهد جدير أن يُر َعى ويُصان ‪ .‬ولهم رحم ودم وقرابة ليست لغيرهم‪ ،‬فقد كانت هاجر أم‬

‫إسماعيل أبي العرب المستعربة منهم باإلضافة إلى مارية القبطية التي أنجب منها عليه الصالة والسالم‬

‫‪.‬ابنه إبراهيم‬

‫سادسا ضمانات الوفاء بهذه الحقوق‬

‫لقد قررت الشريعة اإلسالمية لغير المسلمين كل تلك الحقوق‪ ،‬وكفلت لهم كل تلك الحريات‪ ،‬وزادت على‬

‫‪.‬ذلك بتأكيد الوصية بحسن معاملتهم ومعاشرتهم‪ /‬بالتي هي أحسن‬

‫ولكن َمن الذي يضمن الوفاء بتنفيذ هذه الحقوق‪ ،‬وتحقيق هذه الوصايا؟ وبخاصة أن المخالفة في الدين‬

‫ً‬
‫حاجزا دون ذلك؟‬ ‫كثيرً ا ما تقف‬

‫وهذا الكالم حق وصدق بالنظر إلى الدساتير األرضية والقوانين الوضعية التي تنص على المساواة بين‬

‫المواطنين في الحقوق والواجبات‪ ،‬ثم تظل حبرً ا على ورق‪ ،‬لغلبة األهواء والعصبيات‪ ،‬التي لم تستطع‬

‫القوانين أن تنتصر‪ /‬عليها؛ ألن الشعب ال يشعر بقدسيتها‪ ،‬وال يؤمن في قرارة نفسه بوجوب الخضوع‪ /‬لها‬

‫‪.‬واالنقياد لحكمها‬

‫ضمان العقيدة‬

‫أما الشريعة اإلسالمية فهي شريعة هللا وقانون السماء‪ ،‬الذي ال تبديل لكلماته‪ ،‬وال جور في أحكامه‪ ،‬وال‬

‫يتم اإليمان إال بطاعته‪ ،‬والرضا‪ /‬به ‪ .‬قال تعالى‪( :‬وما كان لمؤمن وال مؤمنة إذا قضى هللا ورسوله أمرً ا‬

‫‪.‬أن يكون لهم الخيرة من أمرهم) (األحزاب‪)36 :‬‬

‫‪320‬‬
‫ولهذا يحرص كل مسلم يتمسك بدينه على تنفيذ أحكام هذه الشريعة ووصاياها‪ ،‬ليرضي ربه وينال ثوابه‪،‬‬

‫ال يمنعه من ذلك عواطف القرابة والمو َّدة‪ ،‬وال مشاعر العداوة والشنآن ‪..‬قال تعالى‪( :‬يا أيها الذين آمنوا‬

‫‪.‬كونوا قوامين بالقسط شهداء هلل ولو على أنفسكم أو الوالدين واألقربين) (النساء‪)135 :‬‬

‫وقال سبحانه وتعالى‪( :‬يا أيها الذين آمنوا كونوا‪ /‬قوامين هلل شهداء بالقسط‪ ،‬وال يجرمنكم‪ /‬شنآن قوم على‬

‫‪.‬أال تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى‪ ،‬واتقوا هللا‪ ،‬إن هللا خبير بما تعملون) (المائدة‪)8 :‬‬

‫ضمان المجتمع المسلم‬

‫والمجتمع اإلسالمي مسئول بالتضامن عن تنفيذ الشريعة‪ ،‬وتطبيق أحكامها في كل األمور‪ ،‬ومنها ما‬

‫صر‪ /‬بعض الناس أو انحرف أو جار وتعدى‪ ،‬وجد في المجتمع َمن يرده إلى‬
‫يتعلق بغير المسلمين ؛ فإذا ق َّ‬

‫الحق‪ ،‬ويأمره بالمعروف‪ ،‬وينهاه عن المنكر‪ ،‬ويقف بجانب المظلوم المعتدَى عليه‪ ،‬ولو كان مخال ًفا له في‬

‫‪.‬الدين‬

‫قد يوجد‪ /‬هذا كله دون أن يشكو الذمي إلى أحد‪ ،‬وقد يشكو ما وقع عليه من ظلم‪ ،‬فيجد َمن يسمع لشكواه‪،‬‬

‫‪.‬وينصفه من ظالمه‪ ،‬مهما يكن مركزه ومكانه في دنيا الناس‬

‫فله أن يشكو إلى الوالي أو الحاكم المحلي‪ ،‬فيجد عنده ال ُنصفة والحماية‪ ،‬فإن لم ينصفه فله أن يلجأ إلى‬

‫َمن هو فوقه ؛ إلى خليفة المسلمين وأمير‪ /‬المؤمنين‪ ،‬فيجد عنده الضمان واألمان‪ ،‬حتى لو كانت القضية‬

‫بينه وبين الخليفة نفسه‪ ،‬فإنه يجد الضمان لدى القضاء المستقل العادل‪ ،‬الذي له حق محاكمة أي ُمدَّعىً‬

‫عليه‪ ،‬ولو كان أكبر رأس في الدولة (الخليفة)! وضمان آخر‪ :‬عند الفقهاء‪ ،‬الذين هم حماة الشريعة‪،‬‬

‫‪.‬وموجهو‪ /‬الرأي العام‬

‫وضمان أعم وأشمل يتمثل في "الضمير اإلسالمي" العام‪ ،‬الذي صنعته عقيدة اإلسالم وتربية اإلسالم‪،‬‬

‫‪.‬وتقاليد اإلسالم‬

‫والتاريخ اإلسالمي مليء بالوقائع‪ /‬التي تدل على التزام المجتمع اإلسالمي بحماية أهل الذمة من كل ظلم‬

‫‪.‬يمس حقوقهم المقررة‪ ،‬أو حرماتهم المصونة‪ ،‬أو حرياتهم‪ /‬المكفولة‬

‫فإذا كان الظلم من أحد أفراد المسلمين إلى ذمي‪ ،‬فإن والي اإلقليم سرعان ما ينصفه ويرفع‪ /‬الظلم عنه‪،‬‬
‫‪321‬‬
‫‪.‬بمجرد شكواه أو علمه بقضيته من أي طريق‬

‫وقد شكا أحد رهبان النصارى‪ /‬في مصر إلى الوالي أحمد بن طولون أحد َّقواده‪ ،‬ألنه ظلمه وأخذ منه‬

‫َّ‬
‫وعزره وأخذ منه المال‪،‬‬ ‫مبل ًغا من المال بغير حق‪ ،‬فما كان من ابن طولون إال أن أحضر هذا القائد وأ َّنبه‬

‫َ‬
‫ادعيت عليه أضعاف هذا المبلغ أللزمته به‪ ،‬وفتح بابه لكل متظلم من‬ ‫ورده إلى النصراني ‪ .‬وقال له‪ :‬لو‬

‫القواد وموظفي‪ /‬الدولة‬


‫‪.‬أهل الذمة‪ ،‬ولو كان المشكو من كبار َّ‬

‫وإن كان الظلم واقعً ا‪ /‬من الوالي نفسه أو من ذويه وحاشيته ؛ فإن إمام المسلمين وخليفتهم هو الذي يتولى‬

‫‪.‬ردعه ورد‪ /‬الحق إلى أهله‬

‫وأشهر األمثلة على ذلك قصة القبطي مع عمرو بن العاص والي مصر ؛ حيث ضرب ابن عمرو ابن‬

‫القبطي بالسوط‪ /‬وقال له‪ :‬أنا ابن األكرمين! فما كان من القبطي إال أن ذهب إلى أمير المؤمنين عمر بن‬

‫الخطاب في المدينة وشكا إليه‪ ،‬فاستدعى الخليفة عمرو بن العاص وابنه‪ ،‬وأعطى السوط البن القبطي‬

‫وقال له‪ :‬اضرب ابن األكرمين‪ ،‬فلما انتهى من ضربه التفت إليه عمر وقال له‪ :‬أدرها على صلعة عمرو‬

‫ُ‬
‫ضربت َمن ضربني‪ . /‬ثم التفت عمر إلى عمرو وقال كلمته‬ ‫فإنما ضربك بسلطانه‪ ،‬فقال القبطي‪ :‬إنما‬

‫‪.‬الشهيرة‪" :‬يا عمرو‪ ،‬متى استعبدتم‪ /‬الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارً ا"؟‬

‫ومما يستحق التسجيل في هذه القصة‪ :‬أن الناس قد شعروا بكرامتهم‪ /‬وإنسانيتهم‪ /‬في ظل اإلسالم‪ ،‬حتى إن‬

‫لطمة يُل َطمها أحدهم بغير حق‪ ،‬يستنكرها ويستقبحها‪ ،‬وقد كانت تقع آالف مثل هذه الحادثة وما هو أكبر‬

‫منها في عهد الرومان وغيرهم‪ ،‬فال يحرك بها أحد رأسً ا‪ ،‬ولكن شعور‪ /‬الفرد بحقه وكرامته في كنف‬

‫الدولة اإلسالمية جعل المظلوم‪ /‬يركب المشاق‪ ،‬ويتجشم‪ /‬وعثاء السفر الطويل من مصر إلى المدينة‬

‫‪.‬المنوَّ رة‪ ،‬واثقا ً بأن حقه لن يضيع‪ ،‬وأن شكاته ستجد أذ ًنا صاغية‬

‫وإذا لم يصل أمر الذمي إلى الخليفة‪ ،‬أو كان الخليفة نفسه على طريقة واليه‪ ،‬فإن الرأي العام اإلسالمي‬

‫‪.‬الذي يتمثل في فقهاء المسلمين‪ ،‬وفي المتدينين كافة يقف بجوار المظلوم‪ /‬من أهل الذمة ويسانده‬

‫ومن األمثلة البارزة على ذلك‪ :‬موقف اإلمام األوزاعي من الوالي العباسي في زمنه‪ ،‬عندما أجلى قو ًما‪/‬‬

‫من أهل الذمة من جبل لبنان‪ ،‬لخروج فريق‪ /‬منهم على عامل الخراج ‪ .‬وكان الوالي هذا أحد أقارب‬
‫‪322‬‬
‫الخليفة وعصبته‪ ،‬وهو صالح بن عليٍّ بن عبد هللا بن عباس ‪ .‬فكتب إليه األوزاعي رسالة طويلة‪ ،‬كان‬

‫ُخرجوا من ديارهم وأموالهم؟‪ /‬وحكم هللا تعالى‪:‬‬


‫مما قال فيها‪" :‬فكيف تؤخذ عامة بذنوب خاصة‪ ،‬حتى ي َ‬

‫(أال تزر وازرة وزر أخرى) (النجم‪ ،)38 :‬وهو أحق ما وقف عنده واقتدى‪ /‬به ‪ .‬وأحق الوصايا أن تحفظ‬

‫وترعى وصية رسول هللا ‪ -‬صلى هللا عليه وسلم ‪ -‬فإنه قال‪" :‬من ظلم ذميًا أو كلَّفه فوق‪ /‬طاقته فأنا‬

‫فتكون في حل من تحويلهم‪ /‬من بلد إلى بلد‪،‬‬


‫َ‬ ‫حجيجه"… إلى أن يقول في رسالته‪" :‬فإنهم ليسوا بعبيد‪،‬‬

‫ولكنهم أحرار أه ُل ذمة" ‪( .‬انظر‪ :‬فتوح البلدان للبالذري ص ‪ ،222‬واألموال‪ /‬ألبي عبيد ص ‪- 170‬‬

‫‪171‬‬

‫ولم يعرف تاريخ المسلمين ظلمًا وقع على أهل الذمة واستمر طويالَ‪ ،‬فقد كان الرأي العام والفقهاء معه‬

‫‪.‬دائمًا ضد الظلمة والمنحرفين‪ ،‬وسرعان ما يعود الحق إلى نصابه‬

‫أخذ الوليد بن عبد الملك كنيسة "يوحنا" من النصارى‪ ،‬وأدخلها‪ /‬في المسجد ‪ .‬فلما اسْ ُت ْخل َ‬
‫ِف عمر بن عبد‬

‫العزيز شكا النصارى إليه ما فعل الوليد بهم في كنيستهم‪ /،‬فكتب إلى عامله برد ما زاده في المسجد‬

‫ُعوضوا‪ /‬بما يرضيهم‪( . /‬فتوح البلدان ص ‪171‬‬


‫عليهم‪ ،‬لوال أنهم تراضوا مع الوالي على أساس أن ي َّ‬

‫‪ . 172‬وقصة هذه الكنيسة كما يحكيها البالذري أن خلفاء بني أمية منذ عهد معاوية‪ ،‬ثم عبد الملك‪،‬‬

‫حاولوا أن يسترضوا‪ /‬النصارى ليزيدوا‪ /‬مساحتها‪ /‬في المسجد األموي‪ ،‬واسترضوهم‪ /‬عنها‪ ،‬فرفضوا‪ ،‬وفي‪/‬‬

‫أيام الوليد‪ ،‬جمعهم وبذل لهم ماالً عظيمًا على أن يعطوه إياها فأبوا‪ ،‬فقال‪ :‬لئن لم تفعلوا ألهدمنها فقال‬

‫بعضهم‪ :‬يا أمير المؤمنين‪ ،‬إن َمن هدم كنيسة جُنَّ وأصابته عاهة! فأغضبه قولهم‪ ،‬ودعا بمعول وجعل‬

‫يهدم بعض حيطانها بيده‪ ،‬ثم جمع الفعلة والنقاضين‪ ،‬فهدموها‪ . /‬وأدخلها في المسجد‪ ،‬فلما اسْ ُت ْخلِف عمر‬

‫بن عبد العزيز‪ /‬شكا إليه النصارى ما فعل بهم الوليد في كنيستهم‪ . /‬فكتب إلى عامله يأمره برد ما زاده في‬

‫المسجد عليهم! (أي بهدمه وإعادته كنيسة) فكره أهل دمشق ذلك وقالوا‪ :‬نهدم مسجدنا بعد أن َّأذ َّنا فيه‬

‫وصلينا دبر نبيه وفيهم‪ /‬يومئذ‪ /‬سليمان بن حبيب المحاربي وغيره من الفقهاء وأقبلوا على النصارى‬

‫يسترضونهم‪ . /‬فسألوهم أن يعطوا جميع كنائس الغوطة التي أُخذت عنوة (أي عند الفتح) وصارت‪ /‬في‬

‫أيدي المسلمين‪ ،‬على أن يصفحوا عن كنيسة يوحنا‪ ،‬ويمسكوا‪ /‬عن المطالبة بها‪ ،‬فرضوا بذلك وأعجبهم ‪.‬‬
‫‪323‬‬
‫‪.‬فكتب بذلك إلى عمر فسره وأمضاه)‬

‫وأجلى الوليد بن يزيد َمن كان بقبرص من الذميين‪ ،‬وأرسلهم إلى الشام مخافة حملة الروم‪ ،‬ورغم أنه لم‬

‫ً‬
‫واحتياطا‪ /‬لها في نظره‪ ،‬فقد غضب عليه الفقهاء وعامة المسلمين واستعظموا‬ ‫يفعل ذلك إال حماية للدولة‪،‬‬

‫ذلك منه ‪ .‬فلما جاء يزيد بن الوليد ور َّدهم إلى قبرص‪ ،‬استحسنه المسلمون‪ ،‬وعدوه من العدل وذكروه في‬

‫‪.‬مناقبه ‪ .‬كما يروي ذلك المؤرخ البالذري ‪( .‬نفس المرجع ص ‪)214‬‬

‫ومن مفاخر النظام اإلسالمي ما منحه من سُلطة واستقالل للقضاء‪ ،‬ففي رحاب القضاء اإلسالمي الحق‪،‬‬

‫يجد المظلوم‪ /‬والمغبون ‪-‬أ ّيا ً كان دينه وجنسه‪ -‬الضمان واألمان‪ ،‬لينتصف من ظالمه‪ ،‬ويأخذ حقه من‬

‫‪.‬غاصبه‪ ،‬ولو كان هو أمير المؤمنين بهيبته وسلطانه‬

‫وفي تاريخ القضاء اإلسالمي أمثلة ووقائع كثيرة وقف‪ /‬فيها السلطان أو الخليفة أمام القاضي ُم َّدعيًا أو‬

‫ُمدَّعىً عليه‪ ،‬وفي كثير منها كان الحكم على الخليفة أو السلطان لصالح فرد من أفراد الشعب‪ ،‬ال حول له‬

‫‪.‬وال طول‪ ،‬ونكتفي هنا بمثال واحد له داللته الواضحة في موضوعنا‪/‬‬

‫سقطت درع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي‪ /‬هللا عنه‪ ،‬فوجدها‪ /‬عند رجل نصراني‪ /‬فاختصما إلى‬

‫القاضي شريح ‪ .‬قال علي‪ :‬الدرع درعي‪ ،‬ولم أبع ولم أهب ‪.‬فسأل القاضي ذلك النصراني‪ /‬في ما يقول‬

‫‪.‬أمير المؤمنين‪ ،‬فقال النصراني‪ /:‬ما الدرع إال درعي‪ ،‬وما أمير المؤمنين عندي بكاذب‬

‫فالتفت شريح إلى علي يسأله‪:‬يا أمير المؤمنين‪ ،‬هل لك من بيِّنة؟ فضحك‪ /‬علي وقال‪ :‬أصاب شريح‪ ،‬ما لي‬

‫بيِّنة ‪ .‬وقضى شريح للنصراني بالدرع‪ ،‬ألنه صاحب اليد عليها‪ ،‬ولم تقم بينة عليّ بخالف ذلك ‪ .‬فأخذها‬

‫هذا الرجل ومضى‪ /،‬ولم يمش خطوات‪ ،‬حتى عاد يقول‪ :‬أما إني أشهد أن هذه أحكام أنبياء! أمير المؤمنين‬

‫يدينني إلى قاضيه فيقضي لي عليه! أشهد أن ال إله إال هللا وأن محم ًدا رسول هللا‪ ،‬الدرع درعك يا أمير‬

‫‪.‬المؤمنين‪ ،‬اتبعت الجيش وأنت منطلق من صفين‪ ،‬فخرجت من بعيرك األورق‪/‬‬

‫فقال علي رضي هللا عنه‪ :‬أما إذ أسلمت فهي لك! (البداية والنهاية البن كثير ج ـ ‪ 8‬ص ‪)5- 4‬‬

‫منقول بتصرف‪ /‬من موقع‪ /‬القرضاوى – صفحة الشريعة والحياة ‪2016-9-12‬‬

‫رابعا ‪ :‬المواطنة وتسمية غير المسلمين فى مجتمعاتنا بأهل الذمة‬


‫‪324‬‬
‫‪،‬ويثار] من حين آلخر اعتراض بعض المسيحيين على هذا االسم "أهل الذمة" ويعتبرونه انتقاصا منهم‬

‫وقد اشار الى هذا كثير من فقهائنا المعاصرين وبعض المفكرين من أمثال عالمة العصر الدكتور‬

‫القرضاوى والدكتور عبد الكريم زيدان والشيخ راشد الغنوشى والدكتور محمد سليم العوا وغيرهم الى‬

‫جواز تغيير هذا اإلسم اذا كان يسبب حرجا فالعبر ة بالمعانى ال المبانى والعبرة بالمضامين والمقاصد ال‬

‫بالقشور والسطحيات‪ /‬فيقول القرضاوى‪( /:‬يجب أن نراعي هنا مقاصد الشارع الحكيم‪ ،‬وننظر] إلى‬

‫النصوص الجزئية في ضوء المقاصد الكلية‪ ،‬ونربط] النصوص بعضها ببعض‪ ،‬وها هو القرآن يقول‪{:‬ال‬

‫ينهاكم هللا عن الذين لم يقاتلوكم] في الدين ولم يخرجوكم من دياركم] أن تبروهم] وتقسطوا إليهم إن هللا يحب‬

‫المقسطين} الممتحنة‪ .8:‬فهذا هو األصل‪ ،‬وهو الدستور‪ .‬إذا وجدنا] أهل الذمة اليوم يتأذون من هذه الكلمة‬

‫(أهل الذمة)‪ .‬ويقولون‪ :‬ال نريد أن نسمى أهل الذمة‪ ،‬بل نريد أن نسمى (مواطنين)‪ .‬فبماذا نجيبهم؟‬

‫وجوابنا‪ :‬أن الفقهاء المسلمين جميعا قالوا‪ :‬إن أهل الذمة من أهل دار اإلسالم‪ ،‬ومعنى] ذلك بالتعبير الحديث‬

‫أنهم‪( :‬مواطنون)‪ ،‬فلماذا ال نتنازل عن هذه الكلمة (أهل الذمة) التي تسوءهم‪ ،‬ونقول‪ :‬هم (مواطنون)‪ ،‬في‬

‫حين أن عمر تنازل عما هو أهم من كلمة الذمة؟! تنازل عن كلمة (الجزية) المذكورة في القرآن‪ ،‬حينما‬

‫جاءه عرب بني تغلب‪ ،‬وقالوا له‪ :‬نحن قوم عرب نأنف من كلمة الجزية‪ ،‬فخذ منا ما تأخذ باسم الصدقة ولو‬

‫مضاعفة‪ ،‬فنحن مستعدون لذلك‪ .‬فتردد] عمر في البداية‪ .‬ثم قال له أصحابه‪ :‬هؤالء قوم] ذوو بأس‪ ،‬ولو‬

‫تركناهم اللتحقوا بالروم‪ ،‬وكانوا] ضررا علينا‪ ،‬فقبل منهم وقال‪ :‬هؤالء القوم حمقى‪ ،‬رضوا المعنى وأبوا‬

‫االسم)‬

‫(غير المسلمين في المجتمع اإلسالمي) للشيخ يوسف القرضاوي ص‪ 51‬طبعة مكتبة وهبة‬

‫‪325‬‬
‫ويقول الشيخ راشد الغنوشى (ورغم أن مفهوم الذمة شابته شوائب استغلت في تشويهه إال أنه يظل‬

‫معلما بارزا من معالم السماحة والتحضر في حضارة اإلسالم التي تأسست على مبدأ "ال إكراه في‬

‫"الدين‬

‫)البقرة‪(256-‬‬

‫‪.‬وأيضا "لكم دينكم ولي دين" (الكافرون‪)6-‬‬

‫ومع ذلك فإن هذا المفهوم ليس من ألفاظ الشريعة الملزمة‪ ،‬فإذا غدا يلقي ظالال من التحقير على جزء‬

‫من مواطني الدولة غير المسلمين فيمكن االستعاضة عنه بأي مفهوم آخر تجنّبا للبس‪ ،‬مثل مفهوم‬

‫المواطنة‪ ،‬مادام يحقق المبدأ اإلسالمي في المساواة بين المواطنين‪ ،‬وذلك على قاعدة "لهم ما لنا وعليهم‬

‫ما علينا") موقع الجزيرة نت‬

‫ويرى الشيخ راشد الغنوشى] حفظه هللا‬

‫(أنه في السياق اإلسالمي تمتّع أهل ديانات وأعراق مختلفة بحقوق المواطنة أو بكثير منها في ظل‬

‫حكومات إسالمية عبر تاريخ اإلسالم الذي برئ من حروب اإلبادة واالضطهاد الديني أو العرقي‪ ،‬بدءا‬

‫بدولة المدينة التي تأسست على دستور مكتوب اعترف بحقوق المواطنة لجميع المكونات الدينية‬

‫والعرقية للسكان باعتبارهم" أمة من دون الناس" حسب تعبير دستور المدينة المعروف باسم "الصحيفة"‬

‫(سيرة ابن هشام) حيث نصت على أن "اليهود أمة والمسلمين أمة" (أي أمة العقيدة) وأن "المسلمين‬

‫واليهود أمة" (هي أمة السياسة أو المواطنة) بالتعبير الحديث أي شركاء في نظام سياسي واحد يخولهم‬

‫حقوقا متساوية باعتبارهم أهل كتاب وأهل ذمة أي مواطنين حاملين لجنسية الدولة المسلمة من غير‬

‫المسلمين‪ .‬قال عنهم أحد أكبر أًئمة اإلسالم الخليفة الراشد الرابع علي كرم اهلل وجهه "إنما أعطوا الذمة‬

‫ليكون لهم مالنا وعليهم ما علينا"‪.‬‬

‫‪326‬‬
‫لقد تمتع سكان المدينة من غير المسلمين بحقوق المواطنة ومنها حماية الدولة لهم‪ ،‬مقابل أدائهم‬

‫واجباتهم في الدفاع عنها‪ ،‬وكان إخالل بعض يهود المدينة بذلك الواجب‪ ،‬إذ تحالفوا سرا مع العدو‬

‫القرشي الذي غزا المدينة مستهدفا اإلجهاز على نظامها الوليد‪ ،‬هو مبرر محاربتهم وإجالئهم‪ ،‬وليس‬

‫بسبب دينهم‪ ،‬بينما تمتعوا في مختلف إمارات المسلمين على امتداد تاريخ اإلسالم بحقوق غبطهم عليها‬

‫حتى أهل اإلسالم‪ ،‬فلم يكن جزاؤهم غير الكيد للمسلمين بأشد مما فعل أوائلهم‪ ،‬وما فعل صهاينتهم‬

‫ويفعلون في فلسطين شاهد‪ ،‬وهم أشد الضاربين على طبول الحرب على المسلمين في العالم‪ ،‬مما‬

‫سيؤول بهم ال محالة إلى نفس المصير‪.‬‬

‫وبينما تمتع كل األقوام وأتباع الديانات ممن يقيم في أرض الدولة بحقوق المواطنة ومنها جنسية الدولة‬

‫اإلسالمية وبذل النصرة والحماية لهم من كل عدو يستهدفهم‪ ،‬فإن المسلمين الذين لم يلتحقوا بأرض‬

‫الدولة اإلسالمية‪ ،‬مجال سيادتها‪ ،‬ال يتمتعون بهذا الحق بإطالق‪ ،‬بل إن حق التناصر بين المؤمن وأخيه‬

‫تأتيه الدولة اإلسالمية إذن في حدود ما تسمح به مصالحها العليا ومواثيقها الدولية‪ ،‬وهو ما نصت عليه‬

‫آية األنفال التي ميزت بوضوح بين مؤمنين التحقوا بأرض الدولة اإلسالمية ومجال سيادتها‪ ،‬فهؤالء‬

‫لهم الوالء والحماية الكاملين وليس ذلك لغيرهم‪.‬‬

‫قال تعالى‪" :‬إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل اهلل والذين آووا ونصروا‬

‫أولئك بعضهم أولياء بعض‪ ،‬والذين آمنوا ولم يهاجروا مالكم من واليتهم من شيء حتى يهاجروا‪ ،‬وإن‬

‫استنصروكم في الدين فعليكم النصر إال على قوم بينكم وبينهم ميثاق‪ ،‬واهلل بما تعملون بصير" (األنفال‪-‬‬

‫‪ .)72‬وهو ما يجعل مقالة اإلمام الشهيد سيد قطب الشهيرة "جنسية المؤمن عقيدته" ليست ثابتة‪ ،‬فجنسية‬

‫الدولة اإلسالمية(المواطنة)ال تثبت إال باإلقامة في أرض الدولة‪ ،‬من قبل المسلم أو غير المسلم‪ ،‬الذمي‪.‬‬

‫‪327‬‬
‫وأجلى معاني العدل‪ ،‬كما ذكر صاحب التحرير والتنوير الشيخ ابن عاشور المساواة‪ ،‬بما يجعل تحقيق‬

‫هذه القيمة في العالقات بين البشرية مقصدا أسني من مقاصد اإلسالم‪ ،‬وما يجعل المسلمين أول من‬

‫يسعد بكل ميثاق لحقوق اإلنسان ينتصر لكرامته‪.‬‬

‫فإذا كانت هذه هي المواطنة قد تحققت في التجربة الغربية في سياق الدولة القومية العلمانية‪ ،‬فتلك‬

‫واقعة وليست قانونا ألنها قد تحققت قبل ذلك على نحو أو آخر في سياق التجربة اإلسالمية وحسبما‬

‫سمح به مستوى التطور البشري بتصرف من مقال موقع الجزيرة نت ‪2016 -9 –13‬‬

‫‪328‬‬
‫خاتمة البحث‬

‫ال شك أن الباحث في مجال الشريعة بأصولها] الفقهية ومقاصدها] الشرعية عموما و فى مجال الفقه‬

‫السياسى خصوصا] عليه أن يطيل النظر ويحسن التمعن والتأمل والصمت الناظر العميق قبل أن يصدر]‬

‫حكما أو يرسى تصورا] أو يضفى ظالال معينة فى مسألة معينة أو يوجه رأيا يبنى عليه تأسيس نظم أو‬

‫ارساء قواعد عمل تتوجه بهااألمة وتكون سنة سابقة يقتدى بها األجيال من بعد‬

‫عليه قبل كل هذا أن يتأنى وأن يحيط باألمر من كل جوانبه فكما يقول ابن عاشور‪ ،‬أن يطيل التأمل ويجيد]‬

‫التثبت في إثبات مقصد شرعي؛ وعليه أن يحذر من التساهل والتسرع] في ذلك ألن تعيين مقصد شرعي‬

‫كلي أو جزئي أمر تتفرع عنه أدلة وأحكام كثيرة في االستنباط‪ ،‬ففي فالخطأ فيه خطأ كبير؛ ومن ثم فعلى‬

‫الباحث أن ال يعين مقصدا شرعيا إال بعد االستقراء لتصرفات الشريعة في النوع الذي يريد انتزاع المقصد‬

‫الشرعي منه‪ ،‬ولذلك كان البد من االنطالق من مقاصد األحكام الشرعية فى نظم الحكم كنظرية هامة في‬

‫تحديد شكل نظام الحكم الذي يقصده اإلسالم من خالل فهم حقيقي لمراد الشرع الحنيف من التكاليف‬

‫‪،‬والخطابات] الموجهة لألمة‪ ،‬وهو الجانب المغيب في الفقه اإلسالمي‬

‫مما جعل فقه الدولة والفقه السياسى والشريعة‪ -‬من منظور الغير‪ -‬قاصرة عن تنظيم حياة الناس السياسية‬

‫والدستورية‪ ،‬وهو ما تم التنبه له من خالل شرح أبواب وفصول] هذه الرسالة فى طرح محاوالت الفقه‬

‫اإلسالمى عموما والفكر المقاصدي منه خصوصا فى فهم مقاصد الشريعة في بناء الحكم الرشيد والدولة‬

‫اإلسالمية المدنية التى تتكيف فى نظمها ومنطلقاتها] ووسائلها] مع كل العصور تحت ظالل مقاصد القرآن‬

‫والسنة من االجتماع السياسي وفقه الدولة فى كل مؤسساتها‪ ،‬انطالقا] من تحقيق مقصودها] العام الكامن في‬

‫"حفظ نظام األمة واستدامة صالح هذا النظام الشامل بصالح المهيمن عليه‪ ،‬وهو النوع اإلنساني"] كما قال‬

‫اإلمام الطاهر بن عاشور ‪-‬رحمه هللا‪ -‬في معرض ذكره عن المقصد الرئيس لهذه الشريعة‪ ،‬على اعتبار أن‬

‫المقاصد ال تبحث في األحكام ولكن في ثمرات األحكام ومآالتها ال َّشرعية‬

‫‪329‬‬
‫إن مشكلة الفقه السياسي اإلسالمي تكمن في أن فقهاءه لم يقدموا لنا المنهج السياسي اإلسالمي الصحيح من‬

‫معينه األول الصافى البعيد عن الهوى كما طبقه النبي صلى هللا عليه وسلم؛ وخلفاؤه الراشدون‪ ،‬بل قدموه‬

‫لنا عبر تجارب الدولة األموية والعباسية وما بعدها من عصور فى ظالل آراء وتجارب اختلط فيها العدل‬

‫مع الجور والسفه مع الرشد وفى] أجواء طغى فيها القمع وخفت فيها نور العدل‬

‫ومن هنا يظهر] سوء فهم لدى األجيال للنص القرآنى والنبوى] ويلتبس عليهم التطبيق النبوي والراشدي‬

‫الذى جرده أصحابه من الهوى وعصمته النفوس الطاهرة من الدنس والخلط] ألنه كانوا يتعبدون الى هللا‬

‫بتطبيقه والحرص عليه كما يتعبدون بالصالة وسائر] العبادات وعلى هذا يجب أن يملك أهل االختصاص‬

‫الجرأة لتجاوزهذه الفترة المختلطة فى التطبيق ويقدموا] النموذج الصافى من معينه األول بعيدا عن أيدى‬

‫الهوى والعبث والخلط]‬

‫فما أحوج أمتنا فى هذه األيام العصيبة الى معرفة هذا النوع الهام من الفقه ( الفقه السياسى)‬

‫الذى يتناول عروة من أهم عرى اإلسالم وهى عروة الحكم نظاما‪ /‬وسياسة وممارسة وتصورا‪ /‬وفكرا‬

‫هذه العروة من األهمية والخطورة بمكان عظيم فالمتأمل من الباحثين والمهتمين بهذا الشأن الجليل ال‬

‫تخطىء عيونهم اال أن ترى بيانا عيانا أن األمة ال تؤتى اال من فساد حكامها وأمرائها‪ /‬وخنوع‪ /‬علمائها‬

‫ومصلحيها‪/‬‬

‫فترى الطغاة يستحمرون الجماهير المغفلة ويمتطوها كالحميرليحققوا‪ /‬بها مآربهم‪ /‬الدنيئة حتى ألهوا‬

‫أنفسهم من دون هللا فما فرعون مصر منا ببعيد‬

‫واشفاقا علينا أن نحذو حذوه أو نسلك دربه فتكون عاقبتنا عاقبته حذرنا القآن أشد تحذير وضرب األمثال‬

‫ين َك َذل َِك َوأَ ْو َر ْث َنا َها‬


‫ُوع َو َم َق ٍام َك ِر ٍيم َو َنعْ َم ٍة َكا ُنوا فِي َها َفاك ِِه َ‬
‫ُون َو ُزر ٍ‬ ‫قال تعالى ‪( :‬ك ْم َت َر ُكوا مِن َج َّنا ٍ‬
‫ت َو ُعي ٍ‬

‫ين) الدخان ‪29 -25‬‬ ‫ت َعلَي ِْه ُم ال َّس َماء َواألَرْ ضُ َو َما َكا ُنوا م َ‬
‫ُنظ ِر َ‬ ‫ين* َف َما َب َك ْ‬ ‫َق ْومًا َ‬
‫آخ ِر َ‬

‫‪330‬‬
‫وكذلك ال ترى دماء سالت وأرواحا‪ /‬أزهقت بغير حق اال من تنازع ومقاتلة حول شهوة الحكم وهى من‬

‫أعظم الشهوات وأخسها فهى تجمع فى طياتها شهوات خبيثىة كالبغى وحب الرئاسة وشهوة المال‬

‫والنساء والعلو واإلستكبار‪ /‬فى األرض بغير الحق‬

‫فجاءت الشريعة الغراء بمقاصدها قواعدها لتحد حدودا‪ /‬وترسم معالما وترسى‪ /‬قواعدا لنظام حكم اسالمى‬

‫رشيد ليس خياال وانما واقعا‪ /‬متناغما مع الفطرة واإلنسان فى كل بيئة وزمان ومكان مراعيا فقه الحال‬

‫والمآل‬

‫فال غرو أن تجد القرآن يصدح بأسمى آيات العدل واإلحسان اجماال تاركا التفاصيل لكل عصر ومكان‬

‫ليحقق الناس مقاصد ربهم قال تعالى ‪ (:‬ان هللا يأمر بالعدل واإلحسان ) النحل ‪90‬ليس عدال مجردا بل‬

‫احسانا فى صياغته واتقانا فى أدائه‬

‫هذه كانت دوافعى وغايتى من تقديم بحثى هللا أسأل أن يجرده من الهوى وأن يكتب لها القبول فى قلوب‬

‫الخلق وأن ينفع به أمتنا لتحقق رسالتها فى الدنيا فى تعبيد الكون هلل عز وجل (كنتم خير أمة أخرجت‬

‫للناس تأمرون بالمعروف‪ /‬وتنهون عن المنكر وتؤمنون باهلل ) آل عمران ‪110‬‬

‫و فى الختام أصارح نفسى كما صارحتها من قبل وأكررعليها‪ /‬مرارا كما قدمت فى المقدمة أنى عبد فقير‬

‫الى مواله ال حول وال قوة له اال به سبحانه فهووحده المتفضل باإلحسان وهو الحنان المنان فما كان من‬

‫توفيق‪ /‬فمن هللا وحده وما كان من خطأ وتقصير فمن نفسى ومن الشيطان ( وما بكم من نعنمة فمن هللا ثم‬

‫اذا مسكم الضر فاليه تجئرون )النحل ‪5‬‬

‫نتائج البحث واقتراحات حول بحوث مستقبلية‪‰‬‬

‫‪331‬‬
‫وفى ختام البحث أود أن الفت النظر الى أن مشكلة الفقه السياسي اإلسالمي] تكمن في أن فقهاءه لم يقدموا‬

‫لنا المنهج السياسي] اإلسالمي الصحيح من معينه األول الصافى البعيد عن الهوى كما طبقه النبي صلى‬

‫هللا عليه وسلم؛ وخلفاؤه الراشدون‪ ،‬بل قدموه لنا عبر تجارب الدولة األموية والعباسية وما بعدها من‬

‫عصور فى ظالل آراء وتجارب اختلط فيها العدل مع الجور والسفه مع الرشد وفى أجواء طغى فيها القمع‬

‫وخفت فيها نور العدل‬

‫ومن هنا يسوء لدى األجيال فهم النص القرآنى والنبوى] ويلتبس عليهم التطبيق النبوي والراشدي الذى‬

‫جرده أصحابه من الهوى وعصمته النفوس الطاهرة من الدنس والخلط ألنهم كانوا يتعبدون الى هللا‬

‫بتطبيقه والحرص عليه كما يتعبدون بالصالة وسائر] العبادات وعلى هذا يجب أن يملك أهل االختصاص‬

‫الجرأة لتجاوزهذه الفترة المختلطة فى التطبيق ويقدموا] النموذج الصافى من معينه األول بعيدا عن أيدى‬

‫الهوى والعبث والخلط]‬

‫فما أحوج أمتنا فى هذه األيام العصيبة الى معرفة هذا النوع الهام من الفقه ( الفقه السياسى)‬
‫الذى يتناول عروة من أهم عرى اإلسالم وهى عروة الحكم نظاما‪ /‬وسياسة وممارسة وتصورا‪ /‬وفكرا‬
‫هذه العروة من األهمية والخطورة بمكان عظيم فالمتأمل من الباحثين المخلصين والمهتمين بهذا الشأن‬
‫الجليل ال تخطىء عيونهم اال أن ترى بيانا عيانا أن األمة ال تؤتى اال من فساد حكامها وأمرائها‪ /‬وخنوع‬
‫علمائها ومصلحيها‪/‬‬

‫ومن ثم جاءت الشريعة الغراء بمقاصدها قواعدها لتحد حدودا‪ /‬وترسم معالما وترسى‪ /‬قواعدا لنظام حكم‬
‫اسالمى رشيد ليس خياال وانما واقعا‪ /‬متناغما مع الفطرة واإلنسان فى كل بيئة وزمان ومكان مراعيا فقه‬
‫الحال والمآل‬

‫وفى خالصة البحث أريد أن أسجل نتائج البحث وأريد أن أضيف بعض مالحظات حول بحوث‬
‫ومجاالت أخرى تتعلق بموضوع البحث لعل الفائدة تعم على جميع الباحثين فى هذا المجال‬
‫أوال ‪ :‬النتائج المتعلقة بالبحث‬

‫‪332‬‬
‫من النتائج المتعلقة بالبحث ما استطعت رصده فى النقاط التالية‬

‫وضوح الرؤية حول أهمية الفقه السياسى فى حياتنا المعاصرة ‪1-‬‬

‫وضوح معانى شمولية اإلسالم وصالحه لكل زمان ومكان وقدرته على اصالح ‪2-‬‬

‫البشرية فى حاضرها ومستقبلها‪ /‬فى دنياها وآخرتها‪ /‬ألن مصدره ربانى وتشريعاته‬

‫ربانية فيها كل الخير للبالد والعباد‪( /‬تنزيل من حكيم حميد )‬

‫وضوح مدى خسارة البشرية جميعا بغياب العدل وشيوع‪ /‬الظلم واإلستبداد ‪3-‬‬

‫وضوح حق المرأة واهليتها فى المشاركة السياسية بما يعود بالنفع لها وألمتها‪4- /‬‬

‫وضوح موقف‪ /‬ا إلسالم من التعددية الحزبية بشروطها‪ /‬ومواصفاتها‪5- /‬‬

‫بيان أهمية الحرية الفكرية ودورها فى انضاج مجتمع قادر على اختياره حكامه ‪6-‬‬

‫وقادر‪ /‬على حماية اختياره‬

‫الوقوف‪ /‬بجالء على عظمة اإلسالم فى أسمى معانيه وبيان أهمية الفقه المقاصدى الذى ينفذ الى ‪7-‬‬

‫المضامين والحكم‪ /‬والغايات بعيدا عن السطحيات والقشريات‬

‫وضوح قيمة الحوار فى اإلسالم وما فيها من تالقح العقول التى ال محالة تنتج خير األفكار التى تؤدى ‪8-‬‬

‫بمجتمعاتنا الى أرشد طريق وأهدى سبيل‬

‫ثانيا ‪ :‬مالحظات واقتراحات حول بحوث مستقبلية‬

‫‪:‬أريد أن أسجل بعض اإلقتراحات‪ /‬لحقول مستقبلية تتعلق بموضوع‪ /‬البحث الذى قدمته منها‬

‫المعارضة ودورها فى الدولة اسالمية ‪1-‬‬

‫المعهادات الدولية ومكانتها فى الدولة اإلسالمية ‪2-‬‬

‫‪333‬‬
‫العالقات الدولية واإلنفتاح على اإلنسانية وبناء جسور التواصل الحضارى فى ضوء رسالة اإلسالم ‪3-‬‬

‫العالمية‬

‫معامالت السلم والحرب فى الدولة اإلسالمية ‪4-‬‬

‫وفى الختام ال أدعى أنى أتيت بكل ما هو جديد أوأنى فعلت ما لم يفعله األوائل فما نحن اال عيال على‬
‫فقهائنا القدامى والمعاصرين وما نحن اال طالب علم نحاول تجديد ما نستطيع ونحاول مواكبة المستجدات‬
‫الحادثة وما هذا اال من فيض ربى العليم الحكيم وأين هذه العلوم جميعا من علمه اللدنى الذى امتن به‬
‫على أنبيائه وأوليائه فقد امتن سبحانه وتعالى‪ /‬على يعقوب ‪-‬عليه السالم‪ -‬وعلى غيره من عباده فقال‬
‫سبحانه ( وانه لذوعلم لما علمناه ولكن أكثر الناس ال يعلمون) يوسف آية ‪68‬‬

‫قائمة المراجع‬

‫‪334‬‬
‫األحزاب السياسية فى اإلسالم – المباركفوري‪ -‬دار سبيل المؤمنين – القاهرة ط‪1433-1‬ه ‪1-‬‬

‫اإلحكام في أصول األحكام ‪ -‬اآلمدى‪ -‬دار الكتاب العربي ‪ -‬بيروت ‪ -‬الطبعة األولى ‪2- 1404 ،‬‬

‫‪ -3‬األحكام السلطانية‪ -‬الماوردى‪ -‬تحقيق أحمد البغدادى‪-‬مكتبة بن تيمية –ط‪1989-1‬م ه‬

‫‪-‬اإلرشاد‪ -‬امام الحرمين ‪ -‬الناشر مؤسسة الكتب الثقافية‪ -‬بيروت‪4- 19855 -‬‬

‫اإلسالم بال مذاهب‪ -‬مصطفى الشكعة – مكتبة مصطفى البابى الحلبى –ط‪2000-14‬م ‪5-‬‬

‫اإلسالم عقيدة وشريعة‪ -‬محمود‪ /‬شلتوت– دار الشروق – ‪2007‬م ‪6-‬‬

‫أصول الفقه اإلسالمي‪ -‬د‪ .‬وهبة الزحيلي‪ -‬دار الفكر – بيروت‪ – /‬ط‪2011 -4‬م ‪7-‬‬

‫االعتصام‪ -‬الشاطبى] –دار ابن عفان‪ -‬السعودية –تحقيق سليم بن عيد الهاللى‪ -‬ط‪1992-1‬م ‪8-‬‬

‫إعالم الموقعين عن رب العالمين‪ -‬ابن القيم‪ -‬دارمصر‪ /‬للطباعة‪ -‬مكتبة األزهر‪ -‬ط‪1358-2‬ه ‪9-‬‬

‫أهل الذمة في اإلسالم‪ -‬ا‪ .‬س ترتون – ترجمة حسن حبش‪ -‬مكتبة ألسرة –ط‪1994-1‬م ‪10-‬‬

‫بحث منشور في مجلة جامعة النجاح لألبحاث ب " العلوم اإلنسانية " المجلد (‪ ،)16‬العدد ‪11-‬‬

‫األول ‪2002-‬‬

‫‪،‬بدائع الصنائع‪ -،‬الكاسانى ‪ -‬دار الكتب العلمية‪ ،‬بيروت‪ ،‬ط‪1406 ،2/‬هـ‪1986 -‬م ‪12-‬‬

‫البرهان فى أصول الفقه ‪ -‬الجوينى‪ – /‬دار الوفاء – المنصورة ‪ -‬مصر– ط‪1418-4‬ه ‪13-‬‬

‫بغية المرتاد‪ -‬ابن تيمية – مكتبة العلوم والحكم – ط‪1408 -1‬ه ‪14-‬‬

‫تاج العروس‪ -‬الزبيدي‪ -‬المطبعة الخيرية – القاهرة – مكتبة المصطفى اإلكترونية – ‪1888‬م ‪15-‬‬

‫‪،‬تاريخ األمم والملوك‪ –،‬الطبرى] ‪ -‬دار الكتب العلمية‪ ،‬بيروت‪ ،‬ط‪1407 ،1/‬هـ ‪16-‬‬

‫تاريخ الطبرى‪ – /‬ابن جرير الطبرى ‪ -‬دار التراث – بيروت – ط‪1387-2‬ه ‪17-‬‬

‫‪335‬‬
‫تاريخ المذاهب اإلسالمية‪ -‬محمد أبوزهرة – دار الفكر العربى –ط‪1992 -1‬م ‪18-‬‬

‫تبيين كذب المفتري ‪ -‬ابن عساكر‪ -‬دار الجيل للطبع والنشر‪1995 - /‬م ‪19-‬‬

‫التشريع الجنائي اإلسالمي ‪-‬عبد القادر عودة‪ -‬النشر والتوزيع اإلسالمية ‪ -‬القاهرة – ط ‪20- - 3‬‬

‫‪2006‬م‬

‫التطرف العلماني في مواجهة اإلسالم ‪ -‬القرضاوي‪ -‬دار الشروق] – ط‪2006 -2‬م ‪21-‬‬

‫تفسير التحرير والتنوير‪ -‬محمد الطاهر ابن عاشور‪ -‬الدار التونسية‪-‬المكتبة الوقفية ‪2008-‬م ‪22-‬‬

‫التفسير الكبير ومفاتيح الغيب ‪ -‬الفخر الرازى ‪ -‬دار الفكر ‪ -‬بيروت – ط‪1401 -1‬هجرية ‪23-‬‬

‫تفسير المحرر الوجيز‪ :‬ابن عطية؛ طبعة قطر] ‪24- 1977‬‬

‫تفسير المنار – محمد رشيد ر ضا – المكتبة الوقفية –ط‪1947-2‬م ‪25-‬‬

‫تهذيب الموافقات للشاطبى‪ - /‬محمد حسين الجيزاني ‪ -‬المكتبة الوقفية‪ -‬ط‪2009 – 3‬م ‪26-‬‬

‫التوقيف‪ /‬على مهمات التعاريف‪ -‬المناوى‪ -‬دار الفكرالمعاصر‪– /‬بيروت – ‪2011‬م ‪27-‬‬

‫جامع الرسائل‪ -‬ابن تيمية – المكتبة الوقفية المصورة – دار العطاء – ‪2001‬م ‪28-‬‬

‫الجامع ألحكام القرآن ‪-‬القرطبى‪ -‬مصر ‪ -‬ط دار الغد العربي‪29- 1990 -‬‬

‫الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي‪ -‬ابن القيم‪ -‬دار المعر فة ‪1997-‬م ‪30-‬‬

‫حاشية ردالمحتارعلى‪ /‬الدررالمختار‪- /‬البن عابدين – دار الكتب العلمية‪ -‬ط‪1999 –1‬م ‪31-‬‬

‫الحاوي‪ -‬السيوطي‪ /-‬دار الفكر ‪ -‬بيروت – ‪1424‬ه ‪32-‬‬

‫الحريات العامة في الدولة اإلسالمية‪ -‬الغنوشي ‪ -‬بيروت‪ :‬مركز دراسات الوحدة العربية ‪33-‬‬

‫حضارة العرب‪-‬غوستاف‪ /‬لوبون‪ -‬ت‪ .‬عادل زعيتر – الهيئة المصرية للكتاب –ط‪1969 -1‬م ‪34-‬‬

‫الحكومة اإلسالمية – الخمينى – مكتبة نرجس – ط‪ – 3‬بدون سنة للنشر ‪35-‬‬

‫‪336‬‬
‫حكومة الرسول‪ -‬صلى هللا عليه وسلم ‪-‬د‪ .‬هاشم يحى المالح ‪ -‬دار الكتب العلمي‪ -‬بيروت‪ -‬ط‪36- -1‬‬

‫‪2007‬‬

‫الخراج – أبو يوسف‪ /‬األنصارى‪ – /‬المكتبة األزهرية للتراث – بدون تاريخ للنشر ‪37-‬‬

‫خالفة الصديق والفاروق ‪-‬رضي اهلل عنهما ‪ -‬تحقيق صالح الخرفي ‪ -‬دار ابن كثير دمشق ‪38-‬‬

‫‪1418 -‬هـ‬

‫دراسة في فقه مقاصد الشريعة – القرضاوى‪ -‬دار الشر وق – ط‪2008 -4‬م ‪39-‬‬

‫الدواء العاجل في دفع العدو الصائل‪ -‬محمد بن علي الشوكاني‪ -‬المكتبة الوقفية– ط‪1410 -5‬ه ‪40-‬‬

‫ديوان الشوكاني‪ -‬أسالك الجوهر‪ -‬محمد بن علي الشوكاني‪-‬دار الفكر‪ -‬بيروت –ط‪1986-2‬م ‪41-‬‬

‫روضة الطالبين وعمدة المفتين ‪ -‬النووي‪ -‬دار ابن حزم‪ -‬بيروت – ط‪1991- 3‬م ‪42-‬‬

‫السلطات الثالث فى الدساتير العربية المعاصرة – سليمان الطماوى‪ -‬دار الفكر العربى – ط ‪43-‬‬

‫‪1979 -4‬م‬

‫سنن ابن ماجة – محمد بن يزيدالقزوينى‪– /‬دار احياء الكتب العربية –المكتبة الوقفية‪2009 -‬م ‪44-‬‬

‫سنن أبو داوود‪ -‬سليمان ابن األشعث األزدى‪ -‬دار الرسالة العالمية –المكتبة الوقفية – ‪2009‬م ‪45-‬‬

‫سنن البيهقى – البيهقى – دار الكتب العلمية‪ -‬المكتبة الوقفية – ط‪2003 -3‬م ‪46-‬‬

‫سنن الترمذى(الجامع الكبير) – أبوعيسى الترمذى‪– /‬دار الغرب اإلسالمى – ط‪1996 -1‬م ‪47-‬‬

‫السياسة الشرعية في ضوء نصوص الشريعة ومقاصده‪ -‬القرضاوى‪ /-‬مكتبة وهبة‪ -‬ط‪48- -4‬‬

‫‪2011‬م‬

‫‪.‬السياسة الشرعية ونظام‪ /‬الدولة‪ -‬عبدالوهاب خالف‪ -‬المطبعة السلفية‪ ،‬القاهرة‪1350 ،‬هـ ‪49-‬‬

‫السير الكبير – محمد ابن أحمد السرخسى‪ - /‬دار الكتب العلمية – ط‪1997 -1‬م ‪50-‬‬

‫السيرة النبوية– أبو عبد الملك بن هشام ‪ -‬دار الفكر ‪ -‬بيروت ‪51-‬‬

‫‪337‬‬
‫‪.‬شبكة "إسالم أون الين‪.‬نت‪ 26‬من ديسمبر ‪2004‬م ‪52-‬‬

‫شرح جمع الجوامع‪ -‬تاج الدين السبكى ‪ -‬مؤسسة الرسالة – ط‪1427 -1‬ه ‪53-‬‬

‫شفاء العليل فى مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل‪ -‬ابن القيم‪ -‬دار التراث‪ -‬القاهرة ‪54- -‬‬

‫‪2010‬م‬

‫شفاء الغليل في بيان الشبه والمخيل‪ ،‬ومسالك التعليل‪ -‬الغزالى‪ -‬وزراة األوقاف العراقية‪ ،‬عام ‪55-‬‬

‫‪1971‬م‬

‫الشورى في اإلسالم‪ ،‬المجمع الملكي لبحوث الحضارة اإلسالمية – د‪ .‬أحمد الكبيسى عمان ‪56- ،‬‬

‫‪1989 ،‬م‬

‫الشورى في معركة البناء‪ -‬الريسونى ؛ الناشر المعهد العالمي للفكر اإلسالمي‪ --‬ط‪1‬؛ ‪2008‬م ‪57-‬‬

‫صحيح البخارى – محمد اسماعيل البخارى – دار ابن كثير – ط‪1993 -1‬م ‪58-‬‬

‫صحيح مسلم – مسلم بن الحجاج النيسابورى‪– /‬دار الجيل للطبع ط‪2009-1‬م ‪59-‬‬

‫ضوابط المصلحة فى الشريعة اإلسالمية ‪ -‬محمد سعيد البوطى‪ – /‬مؤسسة الرسالة –ط‪60- -2‬‬

‫‪1973‬م‬

‫طبقات الشافعية‪ -‬تاج الدين السبكي‪ -‬المطبعةالحسينية – القاهر ة ‪1324-‬ه ‪61-‬‬

‫الطرق الحكمية فى السياسة الشرعية ‪ -‬ابن القيم الجوزية‪-‬مجمع لفقه بجدة –ط‪1428-1‬ه ‪62-‬‬

‫غياث األمم فى التياث الظلم (الغياثى )–الجوينى] –طبعة دار المنهاج ‪63-‬‬

‫غير المسلمين في المجتمع اإلسالمي‪ -‬يوسف القرضاوي ‪ -‬مكتبة وهبة‪ -‬القاهرة ‪64-‬‬

‫فتح الباري شرح صحيح البخارى ‪ -‬ابن حجرالعسقالنى‪ -‬دار المعرفة – ق ‪.‬محمد عبد الباقى] ‪65- -‬‬

‫‪1379‬‬

‫فتح القدير ‪ -‬الشوكانى ‪ -‬ط‪ –1‬سوريا‪ - /‬مطبعة مصطفى‪ /‬البابى الحلبى ‪66-‬‬

‫‪338‬‬
‫فتوح البلدان‪-‬البالذري‪ -‬دار ومكتبة الهالل – بيروت ‪1988-‬م ‪67-‬‬

‫الفروق‪ -‬اإلمام القرافي‪ -‬تحقيق خليل المنصور] –دار الكتب العلمية –بيروت – ‪1998‬م ‪68-‬‬

‫الفقه السياسي اإلسالمي‪ ،‬د‪ .‬خالد الفهداوي‪ -‬دار البشائرللنشر‪-‬دمشق‪ -‬ط‪2008-3‬م ‪69-‬‬

‫الفقه السياسي الدستوري في اإلسالم‪ -‬د‪ .‬فتحى الوحيدى ‪ -‬غزة – مطابه الهيئة الخيرية‪70- -‬‬

‫‪1988‬م‬

‫في النظام السياسي للدولة اإلسالمية‪ -‬د‪ .‬محمد سليم العوا‪-‬دار الشروق] – ط‪1975-1‬م ‪71-‬‬

‫في ظالل القرآن – سيد قطب ‪ -‬ط دار الشروق – القاهرة ‪1992‬م ‪72-‬‬

‫القاموس المحيط ‪ -‬الفيروزآبادي‪ -‬تحقيق محمد العرقسوسى‪ -‬المكتبة الوقفية – ط‪2005 -5‬م ‪73-‬‬

‫القرآن الكريم‪74- /‬‬

‫قواطع األدلة في أصول الفقه‪ -‬منصور‪ /‬بن محمد السمعانى‪ -‬مكتبة التوبة –ط‪1998- 1‬م ‪75-‬‬

‫قواعد األحكام في مصالح األنام‪ -‬عز الدين عبد العزيز بن عبد السالم‪ -‬دار الكتب العلمية ‪76- -‬‬

‫‪1991‬م‬

‫قواعد المقاصد عند اإلمام الشاطبي‪ -‬المؤتمر العالمى للفكراإلسالمى‪ -‬األردن‪2013 -‬م ‪77-‬‬

‫لسان العرب‪ -‬ابن منظور‪ -‬طبعة دار صادر‪ - /‬بيروت – ‪1374‬ه ‪78-‬‬

‫مجموع الفتاوى‪ -‬ابن تيمية – دار أصول السلف – ط‪2003 -1‬م ‪79-‬‬

‫مجموعة الرسائل – اإلمام الشهيد حسن البنا – دار افريقيا للنشر – ط‪2007-1‬م ‪80-‬‬

‫المحلى باآلثار‪ -‬أبو محمد ابن حزم الظاهرى‪-‬دار الفكر‪ -‬بيروت‪ -‬المكتبة الشاملة ‪81-‬‬

‫مختصر تفسير ابن كثير – تحقيق محمد على الصابوني‪ –--‬ط دار القرآن – بيروت‪82- -‬‬

‫‪1981‬م‬

‫‪339‬‬
‫المختصر فى أصول مذهب اإلمام أحمد– تحقيق على أبو الحسن – مكة ‪83-‬‬

‫مدارج التنزيل وحقائق التأويل‪ -‬النسفى – دار الكلم الطيب ‪ -‬ط‪.1‬طبعة القاهرة‪1998 -‬م ‪84-‬‬

‫المدخل لدراسة الشريعة اإلسالمية‪ ،‬د‪ .‬عبدالكريم زيدان‪ -‬مؤسسة الرسالة العالمية –ط‪85- -2‬‬

‫‪2002‬م‬

‫مذكرة في أصول الفقه ‪ -‬الشنقيطي–مجمع‪ /‬الفقه اإلسالمى بجدة‪ -‬دار عالم الفوائد –ط‪86- -1‬‬

‫‪1426‬ه‬

‫المستصفى من علم األصول‪ – /‬الغزالي‪ -‬شركة المدينة المنورة للطباعة – المكتبة الوقفية – ‪87-‬‬

‫‪2008‬م‬

‫مسند أحمد بن حنبل – تحقيق شعيب األرناؤوط –مؤسسة الرسالة العالمية – ‪2009‬م ‪88-‬‬

‫مصالح اإلنسان مقاربة مقاصدية‪ -‬عبد النور بزا‪ -‬الناشر المعهد العالمي للفكر اإلسالمي؛ط‪89- -1‬‬

‫‪2008‬‬

‫المصالح المرسلة‪ -‬محمد أمين الشنقيطي‪ -‬الجامعة إلسالمية‪ -‬ط‪1410-1‬ه ‪90-‬‬

‫المصنف ‪-‬عبد الرزاق‪ /‬الصنعانى ‪ -‬ت‪ .‬األعظمى‪ -‬المجلس العلمى –جنوب افريقيا‪1970-‬م ‪91-‬‬

‫مطالب أولي فى شرح غاية المنتهى – حسن الشطى – المكتب االسالمى –ط‪1961-1‬م ‪92-‬‬

‫المعجم العربي األساسي‪ -‬المنظمة العربية للتربية والثقافة – دار الفكر – بيروت‪1989 -‬م ‪93-‬‬

‫المغنى ‪ -‬ابن قدامة ‪ -‬دار حياء التراث العربى – ط‪1985 -1‬م ‪94-‬‬

‫المفردات في غريب القرآن – الراغب األصفهانى ‪ -‬مصر ‪ -‬المطبعة الميمنية ‪1324‬هجرية ‪95-‬‬

‫المفهوم اإلسالمي للحرية‪،‬د‪.‬محمد عمارة‪ ،‬مجلة األزهر ذوالقعدة ‪ 1433‬هـ‪ ،‬أكتوبر ‪2012‬م ‪96-‬‬

‫"الجزء"‪11‬‬

‫مقاصد الشريعة اإلسالمية‪ -‬ابن عاشور‪ -‬دار القلم‪ -‬دمشق ‪1429-‬ه ‪97-‬‬

‫‪340‬‬
‫مقاصد الشريعة اإلسالمية وعالقتها‪ /‬باألدلة الشرعية‪ -‬محمد اليوبي‪ -‬دار الهجرة – ط‪98- -1‬‬

‫‪1998‬م‬

‫مقاصد الشريعة اإلسالمية ومكارمه‪ -‬عالل الفاسى ‪ -‬دار البيضاء‪ -‬مكتبة الوحدة العربية ‪99-‬‬

‫مقاصد الشريعة عند ابن تيمية‪ -‬يوسف‪ /‬البدوي‪ -‬دار النفائس – ط‪ 2000-1‬م ‪100-‬‬

‫مقاصد الشريعة عند اإلمام الغزالي ‪ -‬د‪ .‬إسماعيل السعيدات ‪ -‬دارا لنفائس‪ -‬ط‪101- 2011-1‬‬

‫مقاصد المكلفين عند األصوليين‪ -‬فتحي الدريني‪ -‬مكتبة الفالح –ط‪1981 -1‬م ‪102-‬‬

‫مقال يقظة الوعي الحضاري] د‪/‬مسفر بن علي القحطاني‪ -‬على موقع اإلسالم اليوم ‪103-‬‬

‫‪04/10/2006‬‬

‫مقاييس اللغة‪ -‬ابن فارس–دار‪ /‬الفكر – بيروت‪ 1979- /‬م ‪104-‬‬

‫مقدمة شرح مختصر الروضة‪ -‬نجم الدين الطوفى –مؤسسة الرسالة ‪1987-‬م ‪105-‬‬

‫الملل والنحل – الشهرستاني – دار الكتب العلمية – ط‪1992-2‬م ‪106-‬‬

‫من فقه الدولة في اإلسالم‪ -‬د‪ .‬يوسف] القرضاوي‪ -‬دار الشروق – ‪2009‬ه ‪107-‬‬

‫مناقب اإلمام الشافعي–‪ /‬الرازي‪ -‬تحقيق أحمد السقا –مكتبة الكليات األزهرية‪ -‬ط‪1986 -1‬م ‪108-‬‬

‫المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج‪ -‬للنووي‪-‬ط‪1994-2‬م ‪109-‬‬

‫الموافقات‪ -‬الشاطبي‪ -‬تحقيق محمد عبد هللا دراز‪ -‬دار الكتب العلمية –ط‪2004 -1‬م ‪110-‬‬

‫الموسوعة الفقهية‪ -‬دارالكتب العلمية – بيروت ‪111-‬‬

‫الموطأ – االمام مالك بن أنس‪ -‬دار احياء التراث العربى –بيروت – المكتبة الوقفية – ‪112-‬‬

‫‪1985‬م‬

‫نظام الحكم في اإلسالم ‪ -‬الدكتور‪ /‬محمد يوسف موسى ‪ -‬ط دار المعرفة ‪ ،‬ط‪1964 ، 2‬م ‪113-‬‬

‫نظرات في الشريعة‪ -‬عبد الكريم زيدان‪ -‬مؤسسة الرسالة – ‪2011‬م ‪114-‬‬


‫‪341‬‬
‫النظريات السياسية اإلسالمية – ضياء الدين الريس‪ -‬مكتبة دار التراث ‪ ،‬ط ‪1979 ، 7‬م ‪115-‬‬

‫نظرية المقاصد عند الشاطبي‪ -‬د‪.‬أحمدالريسوني‪ -‬المعهد العالمى للفكر اإلسالمى – ط‪116- -1‬‬

‫‪1995‬م‬

‫النظم السياسية‪ -‬د‪ .‬ثروت بدوى‪ -‬دار النهضة –القاهرة –ط‪1972 -1‬م ‪117-‬‬

‫النظم السياسية والحريات العامة‪ -‬أبواليزيدالمتيت‪ -‬مؤسسة شباب الجامعة ‪ -‬اإلسكنرية‪-‬ط‪118- -3‬‬

‫‪1989‬م‬

‫النهاية في غريب الحديث‪ -‬ابن األثير‪ -‬المكتبة العلمية‪ -‬بيروت – ‪1979‬م ‪119-‬‬

‫نهايةالمحتاج إلى شرح المنهاج‪ -‬شمس الدين أبى العباس الرملى‪ -‬دار الفكر –ط‪1984-8‬م ‪120-‬‬

‫نيل األوطار‪ -‬الشوكانى – دارالحديث‪ -‬ط‪1993 -1‬م ‪121-‬‬

‫الوجيز في أصول الفقه اإلسالمي‪ -‬د‪.‬وهبة الزحيلى‪ -‬دار الخير للطباعة – دمشق‪-‬ط‪122- -2‬‬

‫‪2006‬م‬

‫الوسيط في المذاهب والمصطلحات اإلسالمية‪-‬د‪.‬محمد عمارة – مكتبة المنارة األزهرية ‪123-‬‬

‫‪342‬‬
.

343

You might also like