You are on page 1of 214

0

‫هذا الكتاب‬
‫تدور أحداث هذه الرواية حول رحلة تق وم‬
‫به ا شخص ية خيالي ة ممتلئ ة بالحكم ة والعلم‬
‫والعقالني ة والس الم‪ ،‬وله ا باإلض افة إلى ذل ك‬
‫قدرات فائق ة اس مها (معلم الس الم) م ع تلمي ذه‬
‫البس يط (الك اتب) ال ذي ت ألم لح ال فق ير من‬
‫الفق راء‪ ،‬وث ارت في نفس ه اعتراض ات ش ديدة‬
‫على وض عه‪ ،‬فأدخل ه معلم الس الم إلى أعم اق‬
‫وج دان الفق ير ال ذي ت ألم ل ه ليكتش ف الكن وز‬
‫العظيم ة ال تي يمتلئ به ا قلب ه‪ ..‬وال تي تجعل ه‬
‫يعيش س الما داخلي ا عميق ا وعظيم ا ال يحلم‬
‫بمثله أثرياء المادة فقراء الروح‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫رسائل السالم‬

‫(‪)2‬‬

‫كنوز الفقراء‬
‫رواية‬

‫د‪ .‬نور الدين أبو لحية‬


‫الطبعة الثانية‬

‫‪2015 – 1436‬‬

‫دار األنوار للنشر والتوزيع‬



3
‫فهرس المحتويات‬
‫المقدمة‬
‫معلم السالم‬
‫أوال ـ كنز االستغناء‬
‫لست معزوال‪:‬‬
‫قد تكون مختارا‪:‬‬
‫ماذا وجد من فقدك‪:‬‬
‫ماذا فقد من وجدك‪:‬‬
‫ثانيا ـ كنز القناعة‬
‫جوهرة التدبير‪:‬‬
‫جوهرة االقتصاد‪:‬‬
‫جوهرة الزهد‪:‬‬
‫جوهرة األمن‪:‬‬
‫ثالثا ـ كنز االستعفاف‬
‫ال أمل فيك ‪:‬‬
‫ال أمل فيهم‪:‬‬
‫األمل فيه ‪:‬‬
‫مد يدك إليه‪:‬‬
‫رابعا ـ كنز الفضل‬
‫جوهرة السعي‪:‬‬
‫جوهرة اإلحسان‪:‬‬
‫جوهرة االلتزام‪:‬‬
‫جوهرة الدعاء‪:‬‬
‫الخاتمة‬

‫‪4‬‬
‫المقدمة‬
‫إن المعاناة النفسية التي يعيش‪99‬ها الفق‪99‬راء والمع‪99‬وزون وأص‪99‬حاب‬
‫اآلالم المختلفة أكبر بكث‪9‬ير من اآلالم الحس‪99‬ية والمادي‪99‬ة ال‪9‬تي تص‪99‬يبهم‪،‬‬
‫ذلك أن المعاناة المادية ال تمس إال أجسادهم أو جيوبهم‪ ..‬بينما المعان‪9‬اة‬
‫النفسية تص‪99‬يب بس‪99‬هامها المس‪99‬مومة القاتل‪99‬ة أرواحهم وقل‪99‬وبهم وجمي‪99‬ع‬
‫لطائفهم‪ ،‬فتملؤها بالصراع واأللم‪..‬‬
‫ولذلك كانت هذه الرواية حوارا عقليا ووجدانيا مع اللطائف التي‬
‫تتحكم في وعي اإلنسان وشعوره‪ ،‬لتعيد له توازنه النفسي‪ ،‬وتقول ل‪99‬ه‪:‬‬
‫ال تدع غيالن الفقر واأللم والصراع‪ 9‬تؤثر على روح‪99‬ك بع‪99‬د أن أث‪99‬رت‬
‫على جسدك‪ ..‬وال تدعها تتحكم في حياتك الحقيقية بع‪99‬د أن تحكمت في‬
‫حياتك الوهمية‪..‬‬
‫وتق‪99‬ول ل‪99‬ه‪ :‬يمكن‪99‬ك – إذا أردت‪ -‬أن تظف‪99‬ر بك‪99‬ل كن‪99‬وز الرض‪99‬ا‬
‫والقناعة واالستغناء واألمل التي ال تق‪99‬ل عن جمي‪99‬ع كن‪99‬وز ال‪99‬دنيا‪ ..‬ب‪99‬ل‬
‫تفوقها‪ ..‬بل ال يمكن مقارنة أي كنز من الكنوز بها‪.‬‬
‫وهي – في أح‪99‬داثها البس‪99‬يطة ‪ -‬ت‪99‬دور ح‪99‬ول رحل‪99‬ة تق‪99‬وم به‪99‬ا‬
‫شخصية خيالية ممتلئة بالحكمة والعلم والعقالنية‪ ،‬وله‪99‬ا باإلض‪99‬افة إلى‬
‫ذلك قدرات فائقة اس‪99‬مها (معلم الس‪99‬الم) م‪99‬ع تلمي‪99‬ذه البس‪99‬يط (ال‪99‬راوي)‬
‫الذي تألم لحال فقير من الفقراء‪ ،‬وثارت في نفس‪99‬ه اعتراض‪99‬ات ش‪99‬ديدة‬
‫على وضعه‪ ،‬فأدخله معلم السالم إلى أعماق وجدان الفقير الذي تألم له‬
‫ليكتش‪99‬ف الكن‪99‬وز العظيم‪99‬ة ال‪99‬تي يمتلئ به‪99‬ا قلب‪99‬ه‪ ..‬وال‪99‬تي تجعل‪99‬ه يعيش‬
‫سالما داخليا عميقا وعظيما ال يحلم بمثله أثرياء المادة فقراء الروح‪.‬‬
‫والرواي‪99‬ة من خالل تل‪99‬ك الح‪99‬وارات المبس‪99‬طة تح‪99‬اول أن ت‪99‬بين‬
‫شمولية اإلسالم في معالجته للفقر‪ ،‬فهو ال يكتفي ب‪99‬العالج الم‪99‬ادي‪ ،‬ب‪99‬ل‬
‫يضم إليه جميع أنواع العالج الروحية والنفسية واالجتماعية وغيرها‪.‬‬

‫‪5‬‬
‫معلم السالم‬
‫كنت مهموما حين زارني هذا المرة ـ ككل مرة‪ ،‬من غ‪99‬ير ميع‪99‬اد‬
‫وال استئذان ـ قال لي‪ :‬تبدو على سحنات وجهك هموم الحزن القاتل‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ومن ال يهتم في هذا الزمان؟‬
‫قال‪ :‬أال تعلم أن الهم عدو السالم؟‬
‫قلت‪ :‬ومن لي ب‪999‬أن ال أهتم‪ ..‬وه‪999‬ل أم‪999‬ري بي‪999‬دي؟‪ ..‬إنم‪999‬ا أن‪999‬ا‬
‫كعصفورة عصفت بها الري‪99‬اح‪ ،‬فلم‪99‬ا ه‪99‬دأت س‪99‬قطت في ش‪99‬باك أطف‪99‬ال‬
‫يسومونها سوء العذاب‪ ،‬فإن نجت منهم‪ ،‬هم بها نسر ليطعمه‪99‬ا أص‪99‬غر‬
‫أوالده‪.‬‬
‫قال‪ :‬نعم‪ ..‬لك أن ال تهتم‪.‬‬
‫قلت‪ :‬كيف؟‬
‫قال‪ :‬بعلم السالم‪ ..‬أنسيت أني معلم السالم‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وما عالقة ما أنا فيه بالسالم؟‬
‫قال‪ :‬ما سبب همك؟‬
‫قلت‪ :‬رأيت اليوم مشهدا فتت قل‪99‬بي واعتص‪99‬ره‪ ،‬ف‪99‬ذرفت من دمعي‬
‫أنهره‪.‬‬
‫قال‪ :‬وما رأيت؟‬
‫قلت‪ :‬رأيت فق‪99‬يرا مكس‪99‬ور الجن‪99‬اح‪ ..‬ه‪99‬و تمام‪99‬ا كالعص‪99‬فورة ال‪99‬تي‬
‫حدثتك عنها‪ ،‬ولكني مع ذلك لم أح‪99‬زن له‪99‬ذا‪ ..‬إنم‪99‬ا ح‪99‬زنت على ش‪99‬للي‬
‫بين يديه‪ ،‬فلم أستطع أن أقدم له أو أؤخر‪ ..‬وم‪99‬ع ذل‪99‬ك لم أح‪99‬زن له‪99‬ذا‪..‬‬
‫إنما حزنت للنظرات القاسية التي كانت تتوجه إليه‪ ،‬وكأن‪99‬ه مم‪99‬رور أو‬
‫مجذوم‪ ،‬أو كأنه شيطان من الشياطين‪ ،‬ال يعبس إال في وجهه‪.‬‬
‫قال‪ :‬ولذلك قلت لك‪ :‬لن تنجو من همك إال بتعلم السالم‪.‬‬
‫قلت‪ :‬كيف؟‬
‫قال‪ :‬ألن الحزن الذي يعتلج في صدرك سهام تح‪99‬ارب به‪99‬ا رحم‪99‬ة‬
‫ربك‪ ،‬ادخل في أعماق وجدانك‪ ،‬وقل لي ماذا ترى؟‬
‫دخلت أعماق وجداني‪ ،‬فرأيت ظلمات قاسية هبت منه‪99‬ا‪ ،‬فن‪99‬اداني‪،‬‬
‫التفت‪ ،‬فإذا هو أمامي‪ ،‬ق‪99‬ال لي‪ :‬اس‪99‬ألها‪ :‬م‪99‬ا محل‪99‬ك من أعم‪99‬اقي‪ ،‬ومن‬
‫أدخلك في سراديب وجداني؟‬

‫‪6‬‬
‫سألتها‪ ،‬فتكلمت بال حرف وال صوت‪ ،‬قالت‪ :‬أن‪99‬ا االع‪99‬تراض على‬
‫حكمة الحكيم‪ ،‬ورحمة الرحيم‪ ،‬وجود أكرم األكرمين‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فأي محل تملئين‪ ،‬وألي سر تسترين؟‬
‫قالت‪ :‬أس‪99‬تر حق‪99‬ائق الج‪99‬ود‪ ،‬وخ‪99‬زائن اللط‪99‬ف‪ ،‬ألنش‪99‬ر أوه‪99‬ام الهم‬
‫والحزن‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وما المخرج منك؟‬
‫قالت‪ :‬أنا أضعف من أن أدلك على المخرج‪ ،‬هو ذا المعلم أمام‪99‬ك‪،‬‬
‫فاسأله‪.‬‬
‫التفت إلى المعلم‪ ،‬فقال‪ :‬اخرج من أعماق‪99‬ك‪ ،‬وهي‪99‬ا بن‪99‬ا إلى أعم‪99‬اق‬
‫الفقير الذي اهتممت له‪ ،‬وحزنت عليه‪ ،‬واعترضت‪ 9‬على حكمة الحكيم‬
‫ورحمة الرحيم بسببه‪ ،‬لتستخرج من أعماقه ( كنوز الفقراء )‬
‫قلت‪ :‬ال طاقة لي بالتجول في أعماق الناس‪.‬‬
‫قال‪ :‬دعك من هذا‪ ،‬فالقدرة منه ال منك‪ ،‬واألمر بيده ال بيدك‪.‬‬
‫ثم التفت إلي‪ ،‬وقال‪ :‬ال تنس قلمك‪ ،‬فسننطلق من أعماق ذلك الفقير‬
‫الذي حزنت له لنسطر رس‪99‬الة من رس‪99‬ائل الس‪99‬الم‪ ،‬تمس‪99‬ح الح‪99‬زن عن‬
‫آالم الفقراء‪ ،‬وت‪99‬دلهم على الكن‪99‬وز ال‪99‬تي ي‪99‬دفنونها بأوه‪99‬امهم وأح‪99‬زانهم‬
‫واعتراضهم‪.‬‬
‫***‬
‫لم يكن أم‪99‬امي إال الخض‪99‬وع ألم‪99‬ره‪ ،‬لك‪99‬ني قلت ل‪99‬ه من غ‪99‬ير أن‬
‫أشعر‪ :‬هل نستقل سيارة للوص‪99‬ول إلي‪99‬ه‪ ،‬أو نبحث في دف‪99‬اتر المع‪99‬دمين‬
‫عليه؟ فإني رأيته ولكني ال أعرفه‪.‬‬
‫قال‪ :‬أغمض عينيك‪ ،‬وافتحهما لتراه أمامك‪ ،‬أو لترى نفسك أمامه‪،‬‬
‫ب أَنَا آتِيكَ بِ ِه قَب َْل أَ ْن‬
‫ال الَّ ِذي ِع ْن َدهُ ِع ْل ٌم ِمنَ ْال ِكتَا ِ‬
‫فقد قال الحق تعالى‪ {:‬قَ َ‬
‫ك }(النمل‪)40 :‬‬ ‫يَرْ تَ َّد إِلَ ْيكَ طَرْ فُ َ‬
‫ما إن فتحت عيني بعد إغماضها حتى رأيته‪ ،‬لست أدري‪ ،‬هل أتى‬
‫به إلي‪ ،‬أم حملني إليه!؟‬
‫قال لي‪ :‬انظر إليه جيدا‪.‬‬
‫قلت‪ :‬نعم لقد نظرت إلي‪99‬ه‪ ،‬فنش‪99‬ر من الح‪99‬زن م‪99‬ا ك‪99‬ان كامن‪99‬ا‪ ،‬ومن‬
‫الهم ما كان مدفونا‪.‬‬
‫ق‪99‬ال‪ :‬انظ‪99‬ر إلي‪99‬ه‪ ،‬وال تنظ‪99‬ر إلى ثياب‪99‬ه‪ ،‬فالثي‪99‬اب كفن اإلنس‪99‬ان‪ ،‬ال‬

‫‪7‬‬
‫روح اإلنسان‪.‬‬
‫نظرت إلى سحنة وجه‪99‬ه‪ ،‬ف‪99‬إذا به‪99‬ا ش‪99‬احبة ق‪99‬د اعتص‪99‬رتها األي‪99‬ام‪،‬‬
‫وكأنها أكلت لحمه وعظمه‪ ،‬ولم تبق له إال جلدة شاحبة تستر جمجمته‪.‬‬
‫قلت‪ :‬لقد نظرت‪ ،‬فما زادتني رؤيتي له إال هما‪.‬‬
‫ق‪99‬ال‪ :‬انظ‪99‬ر إلي‪99‬ه إنس‪99‬انا ال جمجم‪99‬ة‪ ،‬ألم تعلم أن اإلنس‪99‬ان ك‪99‬ل ال‬
‫يتجزأ‪ ،‬وحقيقة ال تتعدد؟‬
‫نظرت إليه مجموع‪99‬ا‪ ،‬فلم أزدد إال هم‪99‬ا‪ ،‬لق‪99‬د رأيت قوام‪99‬ا ش‪99‬احبا‪،‬‬
‫ورجلين كعودين يقوم عليهما هيكل لو شاء النسيم العليل أن يه‪99‬وي ب‪99‬ه‬
‫لفعل‪.‬‬
‫ضحك‪ ،‬وقال‪ :‬لم تزدد إال هما‪.‬‬
‫قلت‪ :‬كأني بك تمزح بي‪ ،‬طلبت منك أن تمسح همي‪ ،‬فزدتني هم‪99‬ا‬
‫على هم‪.‬‬
‫قال‪ :‬ال ب‪9‬أس علي‪9‬ك سيمس‪9‬ح هم‪9‬ك‪ ،‬اص‪9‬بر‪ ،‬وإال قلت ل‪9‬ك م‪9‬ا قي‪9‬ل‬
‫صبْراً}(الكهف‪)67 9:‬‬ ‫لموسى ‪ {:‬إِنَّكَ لَ ْن تَ ْست َِطي َع َم ِع َي َ‬
‫قلت‪ ،‬وق‪99‬د أص‪99‬ابتني رع‪99‬دة من أن يف‪99‬ارقني كم‪99‬ا ف‪99‬ارق الخض‪99‬ر‬
‫ك أَ ْم‪99‬راً}‬ ‫ص‪9‬ابِراً َوال أَ ْع ِ‬
‫ص ‪9‬ي ل َ ‪َ 9‬‬ ‫موس‪99‬ى ‪َ {:‬س‪9‬تَ ِج ُدنِي إِ ْن َش‪9‬ا َء هَّللا ُ َ‬
‫(الكهف‪)69 :‬‬
‫ق‪99‬ال‪ :‬انظ‪99‬ر إلى ذل‪99‬ك ال‪99‬ذي مألت قلب‪99‬ك غم‪99‬ا من أجل‪99‬ه‪ ،‬لتنجلي‬
‫أحزانك‪.‬‬
‫نظرت‪ ،‬فإذا بذلك الظل الذي ال قوام له‪ ،‬والشبح الذي ال ظ‪99‬ل ل‪99‬ه‪،‬‬
‫يبتسم ابتسامة دونها ابتسامة الملوك‪ ،‬ويصيح ملء فيه‪ (:‬الحمد هلل رب‬
‫العالمين صاحب الفضل العظيم‪ ..‬أطعمنا وسقانا‪ ،‬وكفانا وآوان‪99‬ا‪ ..‬ومن‬
‫كل شيء أعطانا )‬
‫كانت كلماته كألح‪99‬ان عذب‪9‬ة‪ ..‬تف‪99‬وح ب‪99‬روائح عط‪9‬رة‪ ..‬تش‪9‬رق مث‪99‬ل‬
‫آللئ البحر المكنون‪..‬‬
‫جلس إلى صبية له تب‪99‬دو عليهم عالئم الس‪99‬رور‪ ،‬ومخاي‪99‬ل النجاب‪99‬ة‪،‬‬
‫فحدثهم وداعبهم وضحك إليهم وضحكوا له‪.‬‬
‫لم يكن في بيته شيء يستدعي افترار الثغر عن االبتسامة‪ ،‬إنما هو‬
‫جدار بال‪ ،‬وفراش بسيط‪ ،‬وفي زاوية البيت فأس ورفش‪ ،‬لس‪99‬ت أدري‬
‫ما عالقتهما بالبيت‪ ،‬وما عالقة البيت بهما‪.‬‬

‫‪8‬‬
‫قال لي المعلم‪ :‬اذهب إلى هذا الذي اهتممت له‪ ،‬واسأله م‪99‬ا يش‪99‬كو‪،‬‬
‫وما يطلب‪ ،‬وسأحقق له ـ بفضل هللا ـ طلبته‪.‬‬
‫فرحت‪ ،‬فلعل في قدرات المعلم م‪99‬ا يرف‪99‬ع ج‪99‬داره‪ ،‬ويرف‪99‬ه فراش‪99‬ه‪،‬‬
‫ويدسم طعامه‪ ،‬ولم أدر إال وأنا أخاطب الفقير بقولي‪ :‬ما ال‪99‬ذي تفتق‪99‬ده؟‬
‫وما الذي تريده؟ فإن عجزت عن إعطائك في الصباح‪ ،‬فقد وجدت من‬
‫يعطيك في المساء‪.‬‬
‫التفت إلي باهتا‪ ،‬وقال‪ :‬وما الذي ينقصني حتى تكمل‪99‬ه؟ وم‪99‬ا ال‪99‬ذي‬
‫يعوزني حتى توجده؟‬
‫قلت‪ :‬الم‪99‬ال وال‪99‬ثراء‪ ،‬والقص‪99‬ور والم‪99‬راكب‪ ،‬واللب‪99‬اس الجمي‪99‬ل‪..‬‬
‫والطعام اللذيذ‪.‬‬
‫ضحك‪ ،‬وقال‪ :‬عن أي لعب تتحدث؟‬
‫قلت‪ :‬أي لعب!؟‪ ..‬أنا ال أتحدث عن لعب‪ ،‬بل أريد نقل‪99‬ك من الفق‪99‬ر‬
‫الذي تعيشه إلى الغنى الذي ال تحلم به‪.‬‬
‫قال‪ :‬ومن أخبرك بأني فقير؟‬
‫قلت‪ :‬سحنة وجهك‪ ،‬وأسمال ثيابك‪ ،‬وجدار بيتك‪ ..‬ك‪9‬ل م‪99‬ا في‪9‬ك ينم‬
‫عنك‪.‬‬
‫ضحك‪ ،‬وقال‪ :‬ألم يقل لك المعلم‪ :‬انظر إلى اإلنسان‪ ،‬ال إلى أش‪99‬ياء‬
‫اإلنسان؟‬
‫قلت‪ :‬أتعرف المعلم؟‬
‫قال‪ :‬كلهم يعرفونه‪ ،‬وكلهم ينكرونه؟‬
‫قلت‪ :‬كيف؟‬
‫قال‪ :‬يدعوهم‪ ،‬فال يستجيبون‪ ..‬ويمد ي‪99‬ده إليهم‪ ،‬فيقبض‪99‬ون أي‪99‬ديهم‪..‬‬
‫يصيح فيهم‪ ،‬فيصخون آذانهم‪ ،‬ويمألون األرض لغوا لكي ال يسمعوه‪،‬‬
‫ويمألوها ضبابا لكي ال يروه‪.‬‬
‫قلت‪ :‬إالم يدعوهم؟‬
‫قال‪ :‬إلى مدائن الغنى التي خبئت فيها كنوز الفقراء‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وهل دخلت إليها؟‬
‫قال‪ :‬لم أخرج منها‪ ،‬بل أنا ثري من أثريائها‪.‬‬
‫قلت باسما بسخرية مختلطة بهيبة‪ :‬أنت ثري؟‬
‫ق‪99‬ال بج‪99‬رأة‪ :‬نعم‪ ،‬وأرج‪99‬وا من فق‪99‬رائكم ال‪99‬ذين ي‪99‬دفنون أنفس‪99‬هم في‬

‫‪9‬‬
‫ناطحات الس‪9‬حاب‪ ،‬ويكفن‪9‬ون أرواحهم في أكف‪9‬ان الحري‪9‬ر‪ ،‬أن يلتحق‪9‬وا‬
‫بمدائن الغنى لينهلوا من كنوزها ما يغنيهم عن مد اليد بالسؤال‪.‬‬
‫قلت مبتسما‪ :‬أتتهم أغنياء العالم بالتسول؟‬
‫قال‪ :‬وهل هناك متسول محترف أكثر منهم؟‬
‫قلت‪ :‬بل هم الذين يمدون أيديهم للمتسولين بالعطاء‪.‬‬
‫قال‪ :‬وهم الذين يمدون أيديهم لكل شيء بالفقر‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أهم يفتقرون إلى كل شيء!؟‬
‫قال‪ :‬نعم‪ ،‬ألن من لم يستغن به يفتقر إلى كل شيء‪ ،‬ألم تسمع ق‪99‬ول‬
‫الحكيم‪ (:‬ماذا وجد من فقدك )!؟‬
‫قلت‪ :‬بلى‪ ،‬وهو القائل‪ (:‬وماذا فقد من وجدك )‬
‫قال‪ :‬ما أكثر ما تحفظون‪ ،‬وما أسرع ما تنسون‪.‬‬
‫هزني عتابه‪ ،‬وشعرت أني بين يديه كنملة بين يدي فيل‪ ،‬فق‪99‬ال لي‪:‬‬
‫بل أنت كتلميذ بين يدي أستاذ‪ ،‬أو تائه بين يدي مرشد‪.‬‬
‫قلت‪ :‬مرشد؟‪ ..‬إلى أي طريق؟‪ ..‬وفي أي متاهة؟‬
‫ق‪99‬ال‪ :‬أن‪99‬ا المرش‪99‬د ال‪99‬ذي يس‪99‬ير بالس‪99‬الكين في م‪99‬دائن الغ‪99‬نى‪ ،‬ليمأل‬
‫خزائنهم بكنوز الفقراء‪.‬‬
‫فقلت‪ {:‬هَلْ أَتَّبِعُكَ َعلَى أَ ْن تُ َعلِّ َم ِن ِم َّما ُعلِّ ْمتَ ُر ْشداً}(الكهف‪)66 9:‬‬
‫ق‪99‬ال لي‪ :‬لس‪99‬ت معلم الس‪99‬الم‪ ،‬ذل‪99‬ك معلم الس‪99‬الم‪ ،‬ال‪99‬ذي ش‪99‬رب من‬
‫عيون السالم‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وهل يمكن أن أشرب منها؟‬
‫قال‪ :‬تلك رحلة طويلة‪ ،‬فال تسأل عن شيء ح‪99‬تى ي‪99‬أتي زمان‪99‬ه‪ ،‬ألم‬
‫تس‪99‬مع ق‪99‬ول الخض‪99‬ر ‪ {:‬فَ ‪9‬إ ِ ِن اتَّبَ ْعتَنِي فَال ت َْس ‪9‬أ َ ْلنِي ع َْن َش ‪ْ 9‬ي ٍء َحتَّى‬
‫أُحْ ِد َ‬
‫ث لَكَ ِم ْنهُ ِذ ْكراً}(الكهف‪)709:‬؟‬
‫فج‪99‬أة‪ ..‬لم أج‪99‬د أم‪99‬امي ش‪99‬يئا‪ ،‬لس‪99‬ت أدري ه‪99‬ل انص‪99‬رفا ع‪99‬ني أم‬
‫انصرفت عنهما‪.‬‬
‫***‬
‫في الغ‪9‬د ج‪9‬اءني معلم الس‪9‬الم‪ ،‬وق‪9‬ال لي‪ :‬خ‪9‬ذ قلم‪9‬ك وقراطيس‪9‬ك‪،‬‬
‫فسنرحل إلى مدائن الغنى لنجمع كنوز الفقراء‪.‬‬
‫سال لعابي‪ ،‬وحلمت بالثروة التي حرمت منها‪ ،‬وص‪99‬حت من غ‪99‬ير‬
‫أن أشعر‪ :‬أهي كنوز كثيرة؟‬

‫‪10‬‬
‫فقال‪ :‬لقد { أَ ْلهَا ُك ُم التَّ َكاثُرُ}(التكاثر‪ )1:‬حتى نسيتم الحقائق‪.‬‬
‫قلت‪ :‬لقد خلق هللا األعداد‪ ،‬فنحن نشتاق إلى األعداد‪.‬‬
‫قال‪ :‬أربعة كنوز‪.‬‬
‫قلت‪ :‬من الذهب أم من العقيق؟‬
‫قال‪ :‬هي أغلى من الذهب والعقيق‪.‬‬
‫سال لعابي من جديد‪ ،‬وقلت‪ :‬كلها من صنف واحد‪.‬‬
‫قال‪ :‬لكل كنز منها جواهره الخاصة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فما الكنز األول؟‬
‫قال‪ :‬كنز يغنيك عن الكل‪ ،‬إن تقلدته حسدتك الآللئ‪ ،‬وذهب بريق‪99‬ه‬
‫الذهب‪ ،‬وانفضت عن محاسنها الفضة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فما اسمه؟‬
‫قال‪ :‬كنز ( االستغناء )‪ ،‬بريقه يمتد من العرش إلى الفرش‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وما الكنز الثاني؟‬
‫قال‪ :‬كنز يمأل كل جوف‪ ،‬ويسد كل خلة‪ ،‬ويغطي كل حاجة‪ ،‬بريقه‬
‫يمتد من األحشاء إلى األعين‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فما اسمه؟‬
‫قال‪ :‬كنز ( القناعة ) ألم تسمع بأن القناعة كنز ال يفنى؟‬
‫قلت‪ :‬بلى ‪ ..‬فما الكنز الثالث؟‬
‫قال‪ :‬كنز يرفع هامتك بين الناس‪ ،‬فتدوس بقدميك س‪9‬واري كس‪9‬رى‬
‫وقيصر‪ ،‬فال تحن رقبتك إليه‪99‬ا‪ ،‬وتتس‪99‬اقط أن‪99‬واع الآللئ والج‪99‬واهر بين‬
‫يديك‪ ،‬فال تمد عينك إليها‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فما اسمه؟‬
‫قال‪ :‬كنز ( االستعفاف )‪ ..‬ذاك الذي يغنيك عن الطواف‪.‬‬
‫قلت‪ :‬عن الطواف بالبيت؟‬
‫قال‪ :‬عن الطواف ببيوتهم‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فما الكنز الرابع؟‬
‫قال‪ :‬كنز يح‪99‬رك جوراح‪99‬ك‪ ،‬ويث‪99‬ير فض‪99‬ائلك‪ ،‬ويجع‪99‬ل من عرق‪99‬ك‬
‫آللئ دونها آللئ الجيد الحسان‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ما اسمه؟‬
‫قال‪ :‬كنز ( الفضل ) من حازه استغنى وأجر‪ ،‬يمت‪99‬د بريق‪99‬ه ليش‪99‬مل‬

‫‪11‬‬
‫اآلفاق‪ ،‬ويخترق أجره السبع الطباق‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فما سر كون هذه الكنوز أربعة‪ ،‬لم لم تكن خمسة أو ثالثة؟‬
‫قال‪ :‬ألن الفقير ينحصر فقره في هذه األربع‪ ،‬فهو يبدأ من ش‪99‬عوره‬
‫بفقره وحزنه عليه‪ ،‬فيسلمه ذلك للحرص والطمع‪ ،‬وه‪99‬و م‪99‬ا يدفع‪99‬ه إلى‬
‫السؤال والشحاذة‪ ،‬أو يدفعه إلى العمل والكسب‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وهذه الجواهر تسد منافذ الخلل التي حصلت للفقير؟‬
‫قال‪ :‬كما يسد الطبيب منافذ العلة للمريض‪ ..‬أرأيت لو كان جرحك‬
‫بيدك‪ ،‬أيعالج الطبيب رجلك؟‬
‫قلت‪ :‬بل يدي‪.‬‬
‫قال‪ :‬فكذلك عالج الحكيم األوحد علل الناس‪ ،‬فعالج الشعور ب‪99‬الفقر‬
‫والح‪99‬زن علي‪99‬ه باالس‪99‬تغناء باهلل‪ ،‬وع‪99‬الج الطم‪99‬ع والح‪99‬رص بالقناع‪99‬ة‪،‬‬
‫وعالج السؤال والشحاذة واالنحناء أمام الجي‪99‬وب باالس‪99‬تعفاف‪ ،‬وع‪99‬الج‬
‫القعود عن الثورة على الفقر بالحث على طلب فضل هللا بما شرع هللا‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ولكن البعض يذكر حلوال أيسر‪ ،‬وأبسط؟‬
‫قال‪ :‬فما يذكرون؟‬
‫قلت‪ :‬يذكرون العمل والكسب والزكاة‪..‬‬
‫قال‪ :‬والذي ال يكسب وال يعمل ويحرم من الزك‪99‬اة‪ ..‬م‪99‬اذا يفع‪99‬ل؟‪..‬‬
‫هل يظل أسير أحزانه‪ ..‬هل نقول له‪ :‬أنت محروم من فض‪99‬ل هللا‪ ،‬ومن‬
‫بركات الفقر الذي ابتليت به؟‬
‫ثم ما الفرق بين هذه الحلول والحلول التي وض‪99‬عها البش‪99‬ر للبش‪99‬ر‪،‬‬
‫أنساوي طب البشر بطب رب البشر؟‬
‫قلت‪ :‬وهل في هذه الكنوز جواهر كثيرة؟‬
‫قال‪ :‬في كل كنز أربعة ج‪99‬واهر‪ ..‬ك‪99‬ل ج‪99‬وهرة منه‪99‬ا ب‪99‬ثروة الع‪99‬الم‬
‫جميعا‪ ،‬بل بثروات العالم جميعا‪.‬‬
‫ثم انصرف ع‪99‬ني أو انص‪99‬رفت عن‪99‬ه‪ ،‬وفي فمي ابتس‪99‬امة تش‪99‬ع من‬
‫أعماق قلبي‪ ،‬وأمل يناطح الجوزاء‪ ،‬قلت لنفس‪99‬ي‪ (:‬أن‪99‬ا اآلن على عتب‪99‬ة‬
‫الغنى‪ ،‬فوداعا أيها الفقر)‬
‫ص‪99‬اح من أعم‪99‬اقي‪ (:‬ه‪99‬ات قلم‪99‬ك‪ ،‬وتع‪99‬ال لن‪99‬دخل م‪99‬دائن الغ‪99‬نى‪،‬‬
‫ونستخرج كنوز الفقراء )‬
‫***‬

‫‪12‬‬
‫لست أدري‪ ،‬هل سرت معه‪ ،‬أم حلقت في األجواء‪ ،‬أم غص‪99‬ت في‬
‫أعماق مجهولة‪ ..‬لم يطل ال‪99‬وقت‪ ..‬مج‪99‬رد طرف‪99‬ة عين‪ ،‬ف‪99‬إذا بي أم‪99‬ام‬
‫مدينة عظيمة‪ ،‬كل ما فيه‪99‬ا عقي‪99‬ق وج‪99‬واهر‪ ..‬تربته‪99‬ا كالمس‪99‬ك األذف‪99‬ر‪،‬‬
‫صحت‪ :‬أفي الجنة أنا؟‬
‫قال‪ :‬ال‪ ،‬أنت على األرض‪ ..‬وعلى جزء ضئيل من األرض‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وهذا الجمال؟‬
‫قال‪ :‬كنت ال تراه‪ ،‬فأزحنا الغشاوة عن عينيك؟‬
‫نظرت إلى األجواء‪ ،‬فإذا منارات عالية‪ ،‬عليها رايات كتبت عليها‬
‫أسماء الكنوز‪ ،‬كما تكتب على المحالت‪.‬‬
‫قلت لمعلم السالم‪ :‬عهدي بالكنوز تخبأ‪ ،‬وتدفن‪ ،‬فال يهتدى إليها إال‬
‫بضروب الحيل‪ ،‬ألم تقرأ جزيرة الكنز؟‬
‫قال‪ :‬تلك كنوزهم‪ ،‬أما هذه فكنوزنا‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وما الفرق بين كنوزكم وكنوزهم؟‬
‫قال‪ :‬كنوزهم كن‪99‬وز األغني‪99‬اء من ملكه‪99‬ا ملكت‪99‬ه األش‪99‬ياء‪ ،‬وكنوزن‪99‬ا‬
‫كنوز الفقراء من ملكها استغنى برب األشياء‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ولكني ال أرى للفقراء وجودا؟‬
‫قال‪ :‬ألنهم أبوا إال أن ينافسوا األغني‪99‬اء في كن‪99‬وزهم‪ ،‬وق‪99‬د ص‪99‬حت‬
‫فيهم‪ ،‬فلم يسمعني أحد‪.‬‬
‫تذكرت صياحه الذي سمعت بعضه في رحالتي السابقة‪ ،‬فقلت له‪:‬‬
‫إن صياحك ال يكاد يسمع أحدا‪ ،‬وبالكاد أس‪99‬تطيع أن أس‪99‬معك ألكتب م‪99‬ا‬
‫تقول‪.‬‬
‫قال‪ :‬ألني أخاطب القلوب‪ ،‬والقلوب يؤذيها الصياح‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فلم ال تسمع اآلذان؟‬
‫قال‪ :‬ألن اآلذان‪ ،‬تطرب للكالم‪ ،‬وال تسمع الكالم‪ ،‬الحق أقول ل‪99‬ك‪:‬‬
‫من لم يسمع بقلبه فهو أصم‪ ،‬ألم تس‪99‬مع ق‪99‬ول الح‪99‬ق تع‪9‬الى‪َ َ {:‬مثَ‪ُ 9‬ل الَّ ِذينَ‬
‫ي فَهُ ْم‬ ‫ق بِ َما ال يَ ْس َم ُع إِاَّل ُدعَا ًء َونِدَا ًء ُ‬
‫ص ‪ٌّ 9‬م بُ ْك ٌم ُع ْم ٌ‬ ‫َكفَرُوا َك َمثَ ِل الَّ ِذي يَ ْن ِع ُ‬
‫ال يَ ْعقِلُونَ }(البقرة‪ )1719:‬؟‬
‫قلت‪ :‬فمن هؤالء؟‬
‫هَّللا‬
‫ت َم ْن يَ َش ‪9‬أ ِ ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُّ‬
‫ص ‪ٌّ 9‬م َوبُ ْك ٌم فِي الظل َم‪99‬ا ِ‬ ‫ق‪99‬ال‪َ { :‬والَّ ِذينَ َك‪99‬ذبُوا بِآيَاتِنَ‪99‬ا ُ‬
‫َّ‬
‫اط ُم ْستَقِ ٍيم}(األنعام‪)39:‬‬ ‫ص َر ٍ‬ ‫يُضْ لِ ْلهُ َو َم ْن يَ َشأْ يَجْ َع ْلهُ َعلَى ِ‬

‫‪13‬‬
‫قلت‪ :‬أال يمكن أن نخ‪99‬ترع أجه‪99‬زة نس‪99‬معهم به‪99‬ا‪ ،‬فنحن في عص‪99‬ر‬
‫االختراعات؟‬
‫ك أَفَأ َ ْنتَ تُ ْس ِم ُع ُّ‬
‫الص ‪َّ 9‬م َولَ‪99‬وْ‬ ‫ضحك‪ ،‬وقال‪َ {:‬و ِم ْنهُ ْم َم ْن يَ ْستَ ِمعُونَ إِلَ ْي َ‬
‫َكانُوا ال يَ ْعقِلُونَ }(يونس‪)429:‬‬

‫‪14‬‬
‫أوال ـ كنز االستغناء‬
‫في صباح جميل في م‪9‬دائن الغ‪9‬نى‪ ،‬قمت بص‪9‬حبة معلم الس‪9‬الم لنبحث‬
‫عن كنوز الفقراء‪.‬‬
‫كانت المدينة جميلة‪ ،‬كل ما فيه‪99‬ا ه‪99‬ادئ وق‪99‬وي ومث‪99‬ير‪ ..‬أرى الن‪99‬اس‪،‬‬
‫وكأني ال أراهم‪ ،‬أحيانا يخيل إلي أنها خالية‪ ،‬وأحيانا أراها مكتظ‪99‬ة ال يك‪99‬اد‬
‫المار يستطيع أن يسير في شوارعها‪.‬‬
‫لم تكن هن‪99‬اك أي رائح‪99‬ة للج‪99‬وع‪ ،‬وال أي رائح‪99‬ة للتخم‪99‬ة‪ ،‬ولم أر م‪99‬ع‬
‫طول سيري في شوارعها متسوال واحدا‪ ،‬وال فقيرا واحدا‪.‬‬
‫فتعجبت‪ ،‬وسألت معلم السالم‪ :‬ألسنا نبحث عن كنوز الفقراء؟‬
‫قال‪ :‬بلى‪ ،‬ذاك ما خرجنا من أجله‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فأين الفقراء‪ ،‬فإني ال أبصر إال األغني‪9‬اء‪ ،‬أهم يزاحم‪9‬ون الفق‪9‬راء‬
‫كنوزهم في هذه الدار أيضا؟‬
‫قال‪ :‬بل الفقراء هم الذين يزاحمون األغنياء كنوزهم‪ ،‬فل‪99‬ذلك ال ت‪99‬راهم‬
‫هنا‪.‬‬
‫قلت‪ :‬لو أذنت لي ألحضرت معي عمي‪ ،‬فهو فقير جدا قد عضه الفقر‬
‫بنابه‪.‬‬
‫قال‪ :‬لقد صحت فيه وفي أمثاله من‪99‬ذ آالف الس‪99‬نين‪ ،‬ف‪99‬أبى ال‪99‬دخول إلى‬
‫هذه المدائن‪ ،‬أتدري ما يقول الناس عن هذي المدائن؟‬
‫قلت‪ :‬وما يقولون‪ ،‬شأني معهم تشويه كل نعمة‪ ،‬وإفساد كل صالح‪.‬‬
‫قال‪ :‬يضحكون منها‪ ،‬ويستهزئون بها‪ ،‬ويسخرون من أهلها‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فهل رأوها؟‬
‫قال‪ :‬وكيف يرونها‪ ،‬وأعينهم مغمضة؟‬
‫قلت‪ :‬نطلب منها فتحها‪.‬‬
‫قال‪ :‬ألم تسمع ق‪9‬ول الح‪9‬ق تع‪9‬الى‪َ {:‬أ َف‪9‬أَ ْنتَ َتهْ‪ِ 9‬دي ْالع ُْم َي َو َل‪9‬وْ َك‪9‬انُوا ال‬
‫ْصرُونَ }(يونس‪)43 :‬‬ ‫يُب ِ‬
‫قلت‪ :‬بلى‪ ،‬فهمت لقد قلت مثل ه‪99‬ذا عن الس‪99‬مع‪ ،‬اص‪99‬بر علي ي‪99‬ا معلم‪،‬‬
‫فإني أحيانا يبطئ فهمي‪.‬‬
‫قال‪ :‬ذلك لخوفك على ما مألك قومك به من أوهام؟‬
‫قلت‪ :‬كيف‪ ،‬أنا ال أخاف قومي‪.‬‬

‫‪15‬‬
‫قال‪ :‬ولكنك تخاف على معارفهم التي نشروها فيك‪.‬‬
‫قلت‪ :‬لماذا أخاف عليها؟‬
‫قال‪ :‬ألنك ـ مثلهم ـ تتص‪99‬ور الع‪99‬الم بص‪99‬ورة واح‪99‬دة‪ ،‬فتخش‪99‬ى أن تك‪99‬ر‬
‫معارف الحقيقة على صور العالم‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فما الضير في هذا؟‬
‫قال‪ :‬يصبح علمك جهال‪ ،‬وحقائقك دعاوى‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فما المخرج من ذلك؟‬
‫قال‪ :‬السالم‪.‬‬
‫قلت‪ :‬لماذ السالم؟‬
‫قال‪ :‬ألنه يحيل‪9‬ك ص‪9‬فحة بيض‪9‬اء‪ ،‬يمكن أن يكتب فيه‪9‬ا ك‪9‬ل ش‪9‬يء‪ ،‬أو‬
‫يحيلك مرآة صافية تحمل الحقائق وال تشوهها‪.‬‬
‫نظ‪99‬رت فج‪99‬أة ف‪99‬إذا بي أم‪99‬ام ب‪99‬اب قص‪99‬ر م‪99‬نيف‪ ،‬ك‪99‬ل م‪99‬ا في‪99‬ه لطي‪99‬ف‬
‫وشريف‪ ،‬لست أدري هل كان مرفوعا في الفضاء بأعمدة ال ترى‪ ،‬أم كان‬
‫ارير}‬ ‫ص‪9‬رْ حٌ ُم َم‪9‬رَّ ٌد ِم ْن َق َ‬
‫‪9‬و ِ‬ ‫موضوعا على زجاج صاف ك‪9‬الهواء كأن‪9‬ه‪َ {:‬‬
‫(النمل‪ ،)44 :‬فصحت‪ :‬يا هلل‪ ،‬ما أحلى هذا القصر‪ ،‬لمن هذا القصر؟‬
‫قال‪ :‬ألغنياء الروح‪ ..‬هنا يخبأ كنز االستغناء‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فهل يمكن الدخول إليه؟‬
‫قال‪ :‬أجل‪ ،‬ولكن بشرطه‪ ،‬فالبواب يمنع من لم يتحقق بشرطه‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وما شرطه؟‬
‫قال‪ :‬أن تكون فقيرا‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أنا متوسط الحال‪ ،‬لست فقيرا‪ ،‬ولست غنيا‪.‬‬
‫قال‪ :‬ليس هناك إال الفقراء واألغنياء‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ولكنك قلت‪ ،‬بأنه قصر األغنياء‪ ،‬فكيف ال يدخل فيه إال الفقراء؟‬
‫فقال‪ :‬من افتقر إلى هللا أغناه‪ ،‬ومن نزل على هللا آواه‪ ،‬ومن م‪99‬د ي‪99‬ده هلل‬
‫أعطاه‪ ،‬ومن مد يده إلى غيره قاله‪.‬‬
‫مددت يدي‪ ،‬وقلت‪ :‬فها أنذا أمد يدي إلى هللا‪.‬‬
‫قال‪ :‬إياك ودنس التشبيه‪ ،‬مد يد روحك‪ ،‬ال روح يدك‪.‬‬
‫مسح معلم السالم على صدري‪ ،‬فأحسست قلبي يردد قوله تعالى‪َ {:‬ي‪99‬ا‬
‫‪9‬و ْال َغ ِن ُّي ْال َح ِمي‪ُ 9‬د}(ف‪9‬اطر‪ ،)15 :‬وقول‪9‬ه‪:‬‬ ‫َأ ُّي َها النَّاسُ َأ ْنتُ ُم ْالفُ َق َ‬
‫‪9‬را ُء ِإ َلى هَّللا ِ َوهَّللا ُ هُ َ‬
‫{ َوهَّللا ُ ْال َغ ِن ُّي َو َأ ْنتُ ُم ْالفُ َق َرا ُء}(محمد‪)38 :‬‬

‫‪16‬‬
‫شعرت وكأني الفقر عينه‪ ،‬ال أملك ش‪99‬يئا‪ ..‬ال متاع‪99‬ا وال من‪99‬افع‪ ..‬ح‪99‬تى‬
‫حلة الوجود شعرت بأنها تخل‪9‬ع م‪9‬ني‪ ،‬ف‪9‬إذا بي في الع‪9‬الم ال‪9‬ذي لم أكن في‪9‬ه‬
‫شيئا مذكورا‪.‬‬
‫نظر إلي‪ ،‬وقال‪ :‬ادخل اآلن‪ ،‬فقد تحققت بشرطه‪.‬‬
‫***‬
‫دخلت القص‪99‬ر المهيب‪ ،‬ك‪99‬ل م‪99‬ا في‪99‬ه في منتهى الجم‪99‬ال‪ ،‬ولكن آث‪99‬ار‬
‫الحالة التي استشعرتها حال دخولي جعلت بصري ص‪99‬احب هم‪99‬ة واح‪99‬دة‪،‬‬
‫فلم يزغ ولم يطغى‪.‬‬
‫غير أن بصري تسمر في فتى مهيب الطلعة‪ ،‬جميل المحيا‪ ،‬خلته أول‬
‫األمر يوسف ‪ ،‬وقد أوتي شطر الحسن‪ ،‬لكني نظرت إلى ثيابه‪ ،‬فقلت‪:‬‬
‫يوس‪9‬ف ‪ ‬أزه‪9‬د من أن يلبس مث‪9‬ل ه‪9‬ذه الحل‪9‬ل والحلي‪ ،‬لعل‪9‬ه أم‪9‬ير من‬
‫أمراء هذ القصر‪.‬‬
‫تقدمت إليه‪ ،‬أو تقدم إلي‪ ،‬هزني الفضول‪ ،‬فسألته‪ :‬من أنت؟‬
‫قال‪ :‬أنا المرشد‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ألهذا القصر مرشد؟ إذن هو يشبه فنادق قومي‪.‬‬
‫ثم تمتمت بيني وبين نفس‪9‬ي‪ (:‬ش‪9‬يء جمي‪9‬ل‪ ..‬حض‪9‬ارة عريق‪9‬ة‪ ..‬ح‪9‬تى‬
‫المرشد السياحي يوجد في قصورهم)‪ ،‬ثم قلت له‪ :‬من‪99‬ذ م‪99‬تى وأنت تش‪99‬تغل‬
‫مرشدا سياحيا في هذ القصر؟‬
‫قال‪ :‬مرشد سياحي!؟‪ ..‬ما معنى هذ الكلمة‪ ..‬ما بك؟ أال تعرفني؟‬
‫قلت‪ :‬هذه أول مرة أتشرف بلقائك فيها‪.‬‬
‫قال‪ :‬كيف؟ ألم نلتق أمس؟‬
‫قلت ـ وكأني أريد تقليد أسلوب المعلم في الكالم ـ‪ :‬بلى ‪ ..‬لقد التقينا في‬
‫عالم الذر‪ ،‬يوم{ َأ َلس ُ‬
‫ْت ِب َر ِّب ُكم}(ألعراف‪)172 :‬‬
‫قال‪ :‬ال‪ ،‬بل األمس القريب‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ال‪ ..‬ال أذكر ذلك‪.‬‬
‫ق‪99‬ال‪ :‬ألم أخ‪99‬برك أني مرش‪99‬د في م‪99‬دائن الغ‪99‬نى للب‪99‬احثين عن كن‪99‬وز‬
‫الفقراء؟‬
‫تذكرت ذلك الفقير ال‪99‬ذي ح‪99‬زنت ل‪99‬ه‪ ،‬فقلت‪ :‬أنت أنت!؟ ولكن وجه‪99‬ك‬
‫وقوامك وحديثك ولباسك‪..‬‬
‫قاطعني‪ ،‬وق‪9‬ال‪ :‬أال زلت تنظ‪9‬ر إلى أكف‪9‬ان اإلنس‪9‬ان‪ ،‬ذل‪9‬ك قن‪9‬اعي‪ ،‬أال‬

‫‪17‬‬
‫يلبس قومك أقنعة تنكرية؟‬
‫قلت‪ :‬أجل‪ ،‬وهم يلهون بذلك ويلعبون‪ ..‬ولكن أي قناع تنكري هو ل‪99‬ك‪:‬‬
‫أهذا الذي أراه امامي‪ ،‬أم ذلك الذي رأيته أمس؟‬
‫قال‪ :‬كل ما تراه أقنعة‪ ..‬أما الحقيقة‪ ،‬ففوق ذلك كله‪.‬‬
‫لم أفهم ما قال‪ ،‬ولكني طلبت منه أن نبدأ في جمع جواهر ه‪99‬ذا القص‪99‬ر‬
‫المهيب‪.‬‬
‫قال لي‪ :‬أربعة جواهر‪ ،‬فاحمل حقائبك‪ ،‬وهات قلمك‪ ،‬وتعال‪.‬‬
‫قلت‪ :‬لم القلم؟‬
‫قال‪ :‬ألست مع المعلم؟‬
‫لست معزوال‪:‬‬
‫قال لي معلم السالم‪ ،‬وهو يشير إلى ن‪99‬ور ص‪99‬رف رأيت‪99‬ه أم‪99‬امي‪ :‬ه‪99‬ذه‬
‫جواهر قوله تعالى‪َ {:‬ما َو َّدعَكَ َربُّكَ َو َما َق َلى}(الضحى‪)3 :‬‬
‫ثم قال‪ :‬هذه أول جوهرة يناله‪99‬ا الفق‪99‬ير عن‪99‬دما ي‪99‬دخل قص‪99‬ر االس‪99‬تغناء‬
‫باهلل‪ ..‬ذلك أن أكبر حزن يعيشه الفقير هو شعوره بالعزلة‪ ،‬وأنه ف‪99‬رد ش‪99‬اذ‬
‫في هذا الوجود‪ ،‬ال قيمة له إال كقيمة الحجارة والتراب‪ ،‬بل أحيانا يشعر أن‬
‫الحج‪99‬ارة وال‪99‬تراب أهم من‪99‬ه‪ ،‬فل‪99‬ذلك يحس‪99‬د ال‪99‬تراب ال‪99‬ذي يعم‪99‬ر بس‪99‬اتين‬
‫األغنياء‪ ،‬والحجارة التي تبني قصورهم‪.‬‬
‫قلت‪ :‬صدقت في ذلك‪ ..‬فما اسم هذه الجوهرة‪ ..‬أهي الك‪9‬بريت األحم‪9‬ر‬
‫أم األصفر أم األكهب‪ ،‬أم هي العقيق‪ ،‬أم هي الزبرجد أم‪..‬؟‬
‫قال‪ :‬هذه جوهرة ليس لها اسم من كل ه‪99‬ذه األس‪99‬ماء‪ ،‬وهي أجم‪99‬ل من‬
‫كل هذه األسماء‪ ،‬إن اسمها ( لست معزوال )‬
‫كتمت ضحكة في قلبي‪ ،‬وقلت في نفسي‪ :‬ما هذا االسم الغ‪99‬ريب‪ ،‬لعل‪99‬ه‬
‫مثل األسماء التي نتفنن بها في األطعمة كقولنا‪ (:‬كل واسكت )‬
‫قال لي‪ :‬ليست هذه ( كل واسكت ) إنها‪ (:‬لست معزوال )‬
‫قلت‪ :‬ال يهمنا اسمها‪ ،‬وإنما تهمنا قيمته‪9‬ا‪ ،‬وق‪9‬د ق‪9‬ال ذل‪9‬ك البخي‪9‬ل ال‪9‬ذي‬
‫ذكره الجاحظ‪ (:‬أعطني المال‪ ،‬وسمني بأي اسم شئت )‬
‫قال‪ :‬فأنت اآلن في الطريق الصحيح‪ ،‬إن قيمته‪9‬ا عظيم‪9‬ة‪ ،‬فهي تحم‪9‬ل‬
‫بشرى وعزاء من هللا رب كل ش‪9‬يء ومليك‪9‬ه لقل‪9‬وب الفق‪9‬راء‪ ،‬فتمس‪9‬ح عن‬
‫أعينهم الهوان الذي يرميهم الناس ب‪9‬ه‪ ..‬إنه‪9‬ا تبش‪9‬ر من تناوله‪9‬ا ب‪9‬أن الن‪9‬اس‬
‫وإن أبعدوه‪ ،‬فإنه ليس بعي‪9‬دا عن هللا‪ ،‬وإن ك‪9‬انوا ق‪9‬د رم‪9‬وه‪ ،‬ف‪9‬إن لط‪9‬ف هللا‬

‫‪18‬‬
‫يحتضنه‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ولكني ال أرى الناس يبعدون الفقير‪ ،‬وال أراهم يطردونه‪.‬‬
‫قال‪ :‬قد ال يطردونه‪ ،‬ولكنهم يحرمونه‪.‬‬
‫قلت‪ :‬من فتات موائدهم‪.‬‬
‫فقال‪ :‬ال من فتات موائدهم فحسب‪ ،‬بل من موائد هللا‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أريد شواهد على ذلك‪ ،‬فأنت تعلم أني ال أقبل إال بشاهد عدل من‬
‫العقل أو النقل‪.‬‬
‫قال‪ :‬إن شواهد هذه الجوهرة هي أشعتها‪ ،‬كم‪99‬ا أن ش‪99‬اهد الش‪99‬مس ه‪99‬و‬
‫ضياؤها‪ ،‬فخذ هذه األشعة‪ ،‬فكل شعاع منها يكشف ظلمة‪ ،‬وينير طريقا‪.‬‬
‫الشعاع األول‪:‬‬
‫قلت‪ :‬فما الشعاع األول؟‬
‫قال‪ :‬ألم تسمع الحق تعالى‪ ،‬وهو يقول‪َ {:‬وال ت ْ‬
‫َطرُ ِد الَّ ِذينَ َي‪ْ 99‬د ُعونَ َربَّه ُْم‬
‫ِب ْال َغدَا ِة َو ْال َع ِش ِّي ي ُِري ُدونَ َوجْ َههُ َما َع َل ْيكَ ِم ْن ِح َسا ِب ِه ْم ِم ْن َش ْي ٍء َو َما ِم ْن ِح َسا ِبكَ‬
‫الظا ِل ِمينَ }(األنعام‪)52 :‬‬ ‫َع َل ْي ِه ْم ِم ْن َش ْي ٍء َفت ْ‬
‫َطرُ َدهُ ْم َف َت ُكونَ ِمنَ َّ‬
‫قلت‪ :‬بلى قرأته‪.‬‬
‫قال‪ :‬وفهمته؟‬
‫قلت‪ :‬أجل‪ ،‬في هذه اآلية ينهى هللا تعالى عن التفكير الطبقي الذي ك‪99‬ان‬
‫يعمر أفئدة المشركين‪ ،‬وكأنهم أرادوا أن ينعم ‪ ‬ببعض االمتيازات لطبقة‬
‫االغني‪9‬اء ويفض‪9‬لهم على طبق‪9‬ة الفق‪9‬راء‪ ،‬إذ ك‪9‬انوا ي‪9‬رون في جلوس‪9‬هم م‪9‬ع‬
‫الفقراء منقصة لهم‪.‬‬
‫ويبدو أن هذا تك‪9‬رر منهم وك‪9‬ثر إلح‪9‬احهم على رس‪9‬ول هللا ‪ ‬إلى أن‬
‫جاء هذا األمر اإللهي الذي ال يخاطب رسول هللا ‪ ‬فقط‪ ،‬بل يخاطب كل‬
‫األمة‪.‬‬
‫ق‪99‬ال لي‪ :‬نعم م‪99‬ا قلت‪ ،‬ولكن نهي هللا تع‪99‬الى رس‪99‬وله ‪ ‬عن متابع‪99‬ة‬
‫المشركين‪ ،‬وأمرهم له بالحرص على هؤالء الفقراء‪ ،‬ووصيته بهم وثنائ‪99‬ه‬
‫عليهم‪ ،‬ولو على حساب بعض المكتسبات الظرفية‪ ،‬أال يدل على شيء؟‬
‫قلت‪ :‬على ماذا غير ما ذكرت‪ ،‬وما ذكر المفسرون؟‬
‫قال‪ :‬ما محل الشخص الذي تحرص عليه‪ ،‬وتغ‪99‬ير أن يط‪99‬رد أو يه‪99‬ان‬
‫أو يرمى‪ ،‬ولو كان في ذلك حصول مضرة لك‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أنا ال أفعل هذا إال م‪9‬ع أحب الن‪9‬اس إلي‪ ،‬فمن الص‪9‬عب أن أف‪9‬رط‬

‫‪19‬‬
‫في مكاسبي إال إذا قهرني الحب على ذلك‪.‬‬
‫ق‪99‬ال‪ :‬فاهلل تع‪99‬الى ال‪99‬ذي يوص‪99‬ي نبي‪99‬ه ‪ ‬به‪99‬ؤالء‪ ،‬وي‪99‬أمره ب‪99‬الحرص‬
‫عليهم‪ ،‬أال ينطبق عيه ما قلنا!؟‬
‫قلت‪ :‬بلى‪ ،‬هي إشارة جميلة‪.‬‬
‫قال‪ :‬ب‪9‬ل س‪9‬لوى عظيم‪9‬ة تط‪9‬رب له‪9‬ا نف‪9‬وس الفق‪9‬راء‪ ،‬وأغني‪9‬ة جميل‪9‬ة‬
‫تبشرهم بأنهم‪ ،‬وإن رموا وطردوا فإنهم عند هللا بمكان‪..‬‬
‫قلت‪ :‬فهل هم رسول هللا ‪ ‬بطردهم حتى نهي عن ذلك؟‬
‫قال‪ :‬لقد ق‪9‬ف ش‪9‬عري مم‪9‬ا قلت‪ ،‬كي‪9‬ف يك‪9‬ون ه‪9‬ذا؟ إن رس‪9‬ول هللا ‪‬‬
‫أعظم من أن يفعل ذلك‪ ،‬وكل سنته وحياته ترفض هذا‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فما تفسير توجيه الخطاب لرسول هللا ‪‬؟‬
‫قال‪ :‬ومن قال‪ :‬إن هذ الخطاب موجه لرسول هللا ‪.‬‬
‫قلت‪ :‬لكونه جاء بصيغة المخاطب المفرد‪ ،‬وهو يع‪99‬ني من ن‪99‬زل علي‪99‬ه‬
‫القرآن الكريم؟‬
‫قال‪ :‬وهل القرآن الكريم أنزل ألجل محمد ‪ ‬فقط‪ ،‬ألم يقول‪99‬وا‪ (:‬اق‪99‬رأ‬
‫القرآن الكريم‪ ،‬وكأنه أنزل عليك )‬
‫قلت‪ :‬فما سر الخطاب بصيغة المفرد؟‬
‫قال‪ :‬في ذلك إشارة لمخاطبة نفوس األفراد‪ ،‬وكأن هللا تعالى ينهى ك‪99‬ل‬
‫فرد على حدة من أن يطرد هؤالء‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ولكن أصل الخطاب موجه لرسول هللا ‪.‬‬
‫قال‪ :‬وهل كل خطاب موجه لرسول هللا ‪ ‬يعني أنه قد حصل منه ما‬
‫يستوجب ذلك الخطاب؟‬
‫قلت‪ :‬ذاك هو األصل‪.‬‬
‫‪9‬ع ْال َك‪99‬ا ِف ِرينَ‬ ‫قال‪ :‬فما تقول في قوله تعالى‪َ {:‬يا َأ ُّي َه‪99‬ا النَّ ِب ُّي اتَّ ِ‬
‫ق هَّللا َ َوال تُ ِط‪ِ 9‬‬
‫َو ْال ُمنَا ِف ِقينَ ِإ َّن هَّللا َ َكانَ َع ِليماً َح ِكيم‪9‬اً}(األح‪9‬زاب‪ ..)1 :‬فه‪9‬ل أط‪9‬اع الن‪9‬بي ‪‬‬
‫الكافرين والمنافقين؟‬
‫الشعاع الثاني‪:‬‬
‫قلت‪ :‬لقد ورد مثل هذا مع س‪9‬ائر الرس‪9‬ل ـ عليهم الص‪9‬الة والس‪9‬الم ـ‪،‬‬
‫‪9‬ار ِد الَّ ِذينَ آ َمنُ‪99‬وا‬
‫ط‪ِ 9‬‬‫بدءا من نوح ‪ ،‬فقد قال تعالى على لسانه‪َ {:‬و َم‪99‬ا َأ َن‪99‬ا ِب َ‬
‫ِإنَّه ُْم ُمالقُو َر ِّب ِه ْم َو َل ِك ِّني َأ َرا ُك ْم َقوْ ماً تَجْ َهلُونَ }(ه‪99‬ود‪ ،)29 :‬وفي ذل‪99‬ك دالل‪99‬ة‬
‫على سنة قديمة خاطئة تقيم المرء على أساس ثروته‪.‬‬

‫‪20‬‬
‫ص‪9‬رُ ِني ِمنَ هَّللا ِ ِإ ْن‬ ‫قال‪ :‬لقد قال هللا تعالى بعد تلك اآلية‪َ {:‬و َيا َق‪99‬وْ ِم َم ْن َي ْن ُ‬
‫ط َر ْدتُه ُْم َأ َفال َت َذ َّكرُونَ }(هود‪ ،)30:‬أتعلم وجه اإلشارة فيها؟‬ ‫َ‬
‫قلت‪ :‬يخبر تعالى عن مقالة نبيه نوح ‪ ،‬وأن‪99‬ه ق‪99‬ال‪ (:‬من يص‪99‬ونني‬
‫من‪99‬ه تع‪99‬الى وي‪99‬دفع ع‪99‬ني حل‪99‬ول س‪99‬خطه إن ط‪99‬ردتهم وأبع‪99‬دتهم ع‪99‬ني )‪،‬‬
‫فاالستفهام هن‪9‬ا لإلنك‪9‬ار‪ ،‬أي ال ينص‪9‬رني أح‪9‬د من ذل‪9‬ك‪ ،‬وفي الكالم م‪9‬ا ال‬
‫يخفى من تهويل أمر طردهم‪.‬‬
‫قال‪ :‬أتدري السلوى التي يحملها هذا الكالم لقلوب الفقراء؟‬
‫قلت‪ :‬ما هي غير ما ذكرت؟‬
‫قال‪ :‬تصور الدرجة التي يحتلها النبي في سلم الكمال‪.‬‬
‫قلت‪ :‬هي درجة عظيمة ال يمكن تصورها‪.‬‬
‫قال‪ :‬أيمكن تشبيهها بدرجة الوزراء!؟‬
‫قلت‪ :‬وأين تقع الوزارة أمام النبوة؟‬
‫قال‪ :‬فإذا أرسل الملك إلى وزيره يهدده بالعزل أو بالس‪99‬قوط واالنهي‪99‬ار‬
‫أو بالهزيمة بسبب عامي من الناس‪ ،‬أال يكون ل‪99‬ذلك الع‪99‬امي محال عظيم‪99‬ا‬
‫في نفس الملك!؟‬
‫قلت‪ :‬أجل‪ ،‬ألن تفريط الملك في وزيره الذي هو ساعد من سواعده ال‬
‫يكون إال بسبب وجيه‪ ،‬وأمر خطير‪.‬‬
‫قال‪ :‬فكذلك هذا‪ ،‬وهلل المثل األعلى‪ ..‬واحذر رعونة التش‪99‬بيه وأك‪99‬داره‪،‬‬
‫فقد أرسل هللا ملك المل‪9‬وك إلى األنبي‪9‬اء ال‪9‬ذين يعمل‪9‬ون ب‪9‬أمره يح‪9‬ذرهم من‬
‫المساس بهؤالء البسطاء‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وذلك ال يكون إال للمكانة العظيمة التي أقامها هللا لهم‪.‬‬
‫قال‪ :‬مقابل المكانة التي وضعها البشر لهم‪ ،‬فقد قال تع‪99‬الى عن موض‪99‬ع‬
‫‪9‬زد َِري َأ ْعيُنُ ُك ْم َل ْن‬
‫الفقير في دنيا البشر على لسان نوح ‪َ {:‬وال َأقُولُ ِللَّ ِذينَ َت‪ْ 9‬‬
‫الظا ِل ِمينَ }(هود‪)31 :‬‬ ‫ي ُْؤ ِت َيهُ ُم هَّللا ُ خَ يْراً هَّللا ُ َأ ْع َل ُم ِب َما ِفي َأ ْنفُ ِس ِه ْم ِإ ِّني ِإذاً َل ِمنَ َّ‬
‫قلت‪ :‬نعم‪ ،‬فقد أخبر هللا تعالى أن موقف البشر من هؤالء المح‪99‬رومين‬
‫هو االزدراء‪ ،‬وهو االحتقار‪.‬‬
‫قال‪ :‬أتدري لم نسب هللا تعالى االزدراء إلى األعين‪ ،‬مع أن الحاس‪99‬ة ال‬
‫يتصور منها أن تعييب أحد؟‬
‫قلت‪ :‬ألنه‪99‬ا س‪99‬بب االزدراء‪ ،‬فل‪99‬رؤيتهم لهم بتل‪99‬ك الحال‪99‬ة احتق‪99‬روهم‪،‬‬
‫فاإلنسان مكرم لمظهره‪ ،‬ومنبوذ به‪.‬‬

‫‪21‬‬
‫ق‪99‬ال‪ :‬أج‪99‬ل ‪ ..‬وذل‪99‬ك ي‪99‬دل على أن الم‪99‬زدرين من ه‪99‬ؤالء األغني‪99‬اء ال‬
‫ينظرون إلى الحقائق‪ ،‬بل يكتفون بالخيوط الواهية التي تكفن بها الحقائق‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أفي ذلك دعوة لشيء ما؟‬
‫قال‪ :‬نعم‪ ..‬في ذلك دعوتان‪.‬‬
‫قلت‪ :‬لمن؟‬
‫قال‪ :‬للفقير والغني‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ما حظ الفقير من اآلية؟‬
‫قال‪ :‬أن ال ينشغل بما هو فيه من الفقر الذي ازدراه الن‪9‬اس بس‪9‬ببه‪ ،‬ب‪9‬ل‬
‫يبحث عن مواطن الغنى التي ال يبصرونها‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وما حظ الغني؟‬
‫قال‪ :‬أال يجعل حكمه على الناس قاصرا على ما تمليه عينه‪ ،‬فق‪99‬د تدل‪99‬ه‬
‫أذنه أو جوارحه األخرى أو قلبه على كماالت في الفقير ينتفع بها في الدنيا‬
‫واآلخرة‪.‬‬
‫الشعاع الثالث‪:‬‬
‫قلت‪ :‬فما الشعاع الثالث؟‬
‫قال‪ :‬ما كفارة الظهار؟‬
‫ص َيا ُم َش ‪9‬ه َْري ِْن ُم َت َت‪99‬ا ِب َعي ِْن‬ ‫قلت‪ :‬لقد نص عليها قوله تعالى‪َ {:‬ف َم ْن َل ْم َي ِج ْد َف ِ‬
‫ط َع‪99‬ا ُم ِس‪ِّ 9‬تينَ ِم ْس‪ِ 9‬كيناً َذ ِل‪99‬كَ ِلتُ ْؤ ِمنُ‪99‬وا ِباهَّلل ِ‬ ‫اس‪9‬ا َف َم ْن َل ْم َي ْس‪9‬ت َِط ْع َفإِ ْ‬ ‫‪9‬ل َأ ْن َي َت َم َّ‬
‫ِم ْن َق ْب‪ِ 9‬‬
‫َو َرسُو ِل ِه َو ِت ْلكَ حُ ُدو ُد هَّللا ِ َو ِل ْل َكا ِف ِرينَ َع َذابٌ َأ ِلي ٌم}(المجادلة‪)4 :‬‬
‫قال‪ :‬فما كفارة من حنث في اليمين المعقدة؟‬
‫ُؤَاخ ُذ ُك ُم هَّللا ُ ِب‪99‬اللَّ ْغ ِو ِفي َأ ْي َم‪99‬ا ِن ُك ْم‬
‫قلت‪ :‬لقد نص على ذلك قوله تعالى‪ {:‬ال ي ِ‬
‫ط َعا ُم َع َش َر ِة َم َسا ِكينَ ِم ْن َأوْ َس‪ِ 9‬ط َم‪9‬ا‬ ‫ارتُ ُه ِإ ْ‬‫ُؤَاخ ُذ ُك ْم ِب َما َعقَّ ْدتُ ُم اأْل َ ْي َمانَ َف َكفَّ َ‬
‫َو َل ِك ْن ي ِ‬
‫ص َيا ُم َثال َث‪ِ 9‬ة َأي ٍَّام َذ ِل‪9‬كَ‬ ‫ط ِع ُمونَ َأ ْه ِلي ُك ْم َأوْ ِكس َْوتُه ُْم َأوْ تَحْ ِريرُ َر َق َب ٍة َف َم ْن َل ْم َي ِج ْد َف ِ‬ ‫تُ ْ‬
‫ظ‪999‬وا َأ ْي َم‪999‬ا َن ُك ْم َك‪َ 999‬ذ ِلكَ يُ َبي ُِّن هَّللا ُ َل ُك ْم آ َيا ِت‪ِ 999‬ه َل َعلَّ ُك ْم‬ ‫ارةُ َأ ْي َم‪999‬ا ِن ُك ْم ِإ َذا َح َل ْفتُ ْم َواحْ َف ُ‬
‫َكفَّ َ‬
‫َت ْش ُكرُونَ }(المائدة‪)89 :‬‬
‫قال‪ :‬فما كفارة صيد المحرم؟‬
‫قلت‪ :‬لقد نص على ذلك قوله تعالى‪َ {:‬يا َأ ُّي َها الَّ ِذينَ آ َمنُوا ال َت ْقتُلُوا الصَّ ْي َد‬
‫َ‪9‬ل ِمنَ النَّ َع ِم َيحْ ُك ُم ِب‪ِ 9‬ه َذ َوا‬ ‫َو َأ ْنتُ ْم حُرُ ٌم َو َم ْن َق َت َل‪9‬هُ ِم ْن ُك ْم ُم َت َع ِّمداً َف َج‪9‬زَا ٌء ِم ْث‪9‬لُ َم‪9‬ا َقت َ‬
‫ص َياماً ِل َي ُذو َق‬ ‫ط َعا ُم َم َسا ِكينَ َأوْ َع ْدلُ َذ ِلكَ ِ‬ ‫ارةٌ َ‬ ‫َع ْد ٍل ِم ْن ُك ْم َه ْدياً َبا ِل َغ ْال َكعْ َب ِة َأوْ َكفَّ َ‬
‫‪9‬ام}‬ ‫ي‪9‬ز ُذو ا ْن ِت َق ٍ‬ ‫ال َأ ْم ِر ِه َع َفا هَّللا ُ َع َّما َس‪َ 9‬لفَ َو َم ْن عَ‪9‬ا َد َف َي ْن َت ِق ُم هَّللا ُ ِم ْن‪9‬هُ َوهَّللا ُ ع َِز ٌ‬ ‫َو َب َ‬

‫‪22‬‬
‫(المائدة‪)95 :‬‬
‫قال‪ :‬فما ترى في هذه النصوص جميعا؟‬
‫قلت‪ :‬أراه‪999‬ا أنواع‪999‬ا من العقوب‪999‬ات رتبه‪999‬ا هللا تع‪999‬الى على بعض‬
‫المخالفات‪.‬‬
‫قال‪ :‬هي تنبيهات‪ ،‬وليست عقوبات‪ ..‬فاهلل تعالى ينب‪99‬ه عب‪99‬اده وي‪99‬ؤدبهم‬
‫وال يعاقبهم‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أجل‪ ..‬يمكن أن تقول ذلك‪ ..‬ولكن م‪9‬ا عالق‪9‬ة ه‪9‬ذا به‪9‬ذا الش‪9‬عاع‪..‬‬
‫فنحن نبحث عن تخليص المساكين من العزلة‪ ..‬وال نبحث في العقوبات أو‬
‫التنبيهات‪.‬‬
‫قال‪ :‬هذه التنبيهات تحمل تنظيمات تشريعية تخلص الفقراء من العزلة‬
‫التي قد يضربها عليهم األغنياء‪.‬‬
‫قلت‪ :‬كيف ذلك؟‬
‫قال‪ :‬لقد كان في إمكان الشارع أن يرتب غرام‪9‬ة مالي‪9‬ة على ك‪9‬ل ذنب‬
‫من الذنوب تدفع لبيت المال الذي يتولى دفعها للفقراء‪ ..‬أو ك‪99‬ان في إمكان‪9‬ه‬
‫أن يجعل نفس العقوبة‪ ،‬ولكن يجعلها في مسكين واحد‪.‬‬
‫قلت‪ :‬يمكن أن يكون ذلك‪ ..‬بل قد قيل به‪.‬‬
‫قال‪ :‬فما قيل؟‬
‫قلت‪ :‬يقولون بجواز إعطاء نصيب الستين لشخص واحد؟‬
‫قال‪ :‬من قال ذلك فقد أخطأ‪ ،‬وال ينبغي الخروج عن ظاهر النص‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أراك ـ يا معلمي ـ حريصا على هذه الجزئية البسيطة‪ ..‬فم‪99‬ا س‪99‬ر‬
‫ذلك؟‪ ..‬وما عالقته بما نحن فيه؟‬
‫قال‪ :‬لقد جعل هللا كفارة الظه‪99‬ار وغ‪99‬يره إطع‪99‬ام س‪99‬تين مس‪99‬كينا ليك‪99‬ون‬
‫البحث عن المساكين المستحقين جزءا من الكفارة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وما فائ‪9‬دة ذل‪9‬ك العن‪9‬اء ال‪9‬ذي يجع‪9‬ل الش‪9‬خص يبحث عن ه‪9‬ؤالء‬
‫المساكين؟‬
‫ق‪99‬ال‪ :‬في بحث‪99‬ه عنهم تع‪99‬رف من‪99‬ه عليهم‪ ..‬وفي تعرف‪99‬ه عليهم وتكافل‪99‬ه‬
‫معهم تخليص لهم من العزلة التي قد تفرض عليهم‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وعيت ه‪99‬ذا‪ ..‬وه‪99‬و ح‪99‬ل تش‪99‬ريعي مث‪99‬الي يق‪99‬وي م‪99‬ا ورد من‬
‫التوجيهات‪.‬‬
‫***‬

‫‪23‬‬
‫ما قلت ه‪9‬ذا ح‪9‬تى ش‪9‬عرت بج‪9‬وهرة كريم‪9‬ة ت‪9‬نزل أعم‪9‬اق ص‪9‬دري‪،‬‬
‫تنجلي من نورها بعض الظلمات‪.‬‬
‫قلت في نفسي حين نزولها‪ :‬نعم‪ ..‬إن الفقير في الحقيقة ال يؤلمه فق‪99‬ره‪،‬‬
‫بقدر ما يؤلمه نظرات الناس وموقفه من نفسه‪ ..‬ال يؤلمه جوعه وبرده فق‪9‬د‬
‫يصيب الغني من الجوع ما يصيب الفقير‪ ،‬وقد يصيب الفقير من الشبع م‪99‬ا‬
‫يصيب الغني‪.‬‬
‫فلذلك إن رُفع هذا الوهم‪ ،‬وقيل للفق‪99‬ير‪ :‬فق‪99‬رك ليس عالم‪99‬ة إبع‪99‬اد‪..‬‬
‫كما أن غنى ج‪99‬ارك ليس عالم‪99‬ة ود‪ ،‬فكالهم‪99‬ا ابتالء رب‪99‬اني لتمحيص‬
‫ان إِ َذا َما ا ْبتَالهُ َربُّهُ فَأ َ ْك َر َم‪ 9‬هُ َونَ َّع َم‪ 9‬هُ‬
‫القلوب‪ ،‬كما قال تعالى‪ {:‬فَأ َ َّما اأْل ِ ْن َس ُ‬
‫‪9‬ر َم ِن َوأَ َّما إِ َذا َم‪99‬ا ا ْبتَالهُ فَقَ ‪َ 9‬د َر َعلَ ْي ‪ِ 9‬ه ِر ْزقَ ‪9‬هُ فَيَقُ‪99‬و ُل َربِّي‬
‫فَيَقُ‪99‬و ُل َربِّي أَ ْك‪َ 9‬‬
‫أَهَان َِن}(الفجر‪ )16:‬أي ليس كل من وس‪99‬عت علي‪99‬ه وأعطيت‪99‬ه أك‪99‬ون ق‪99‬د‬
‫أكرمته وال كل من ضيقت عليه وقترت أكون قد أهنته‪ ،‬ف‪99‬اإلكرام أن‬
‫يكرم هللا العبد بطاعته واإليمان به ومحبته ومعرفته واإلهانة أن يسلبه‬
‫ذلك‪.‬‬
‫فإن هذه المعرفة تسد منافذ الهوان التي يشعر بها‪ ،‬فالهوان أخط‪99‬ر‬
‫من الجوع‪ ،‬والكرامة أع‪99‬ز من الش‪99‬بع‪ ،‬وق‪99‬د ق‪99‬الت الع‪99‬رب في أمثاله‪99‬ا‪:‬‬
‫( تجوع الحرة وال تأكل بثدييها )‪ ،‬وق‪99‬ال أوس بن حارث‪99‬ة البن‪99‬ه مال‪99‬ك‬
‫فيما يوصيه به‪ (:‬ي‪9‬ا مال‪99‬ك‪ ،‬المني‪99‬ة وال الدني‪99‬ة‪ ،‬وش‪99‬ر الفق‪99‬ر الخض‪99‬وع‪،‬‬
‫وخير الغنى القنوع)‬
‫قد تكون مختارا‪:‬‬
‫صعد بي المرشد طابقا آخر في قصر االستغناء‪ ،‬فإذا بي أشاهد الفت‪99‬ة‬
‫مكتوبا عليها‪ :‬هنا محل جوهرة عزيزة اسمها ( قد تكون مختارا )‬
‫س‪9‬ألت المرش‪9‬د عنه‪9‬ا‪ ،‬فق‪9‬ال‪ :‬أن‪9‬ا المرش‪9‬د‪ ،‬ولس‪9‬ت المعلم‪ ،‬اس‪9‬أل معلم‬
‫السالم‪.‬‬
‫أج‪99‬ابني من غ‪99‬ير أن أس‪99‬أله‪ :‬ال يكفي أن تش‪99‬عر بأن‪99‬ك لس‪99‬ت مط‪99‬رودا‬
‫لتمتلئ بالسالم والسعادة؟‬
‫قلت‪ :‬فما الذي ينقص الفقير حتى يشعر بسكينة أعظم‪ ،‬وسالم أتم؟‬
‫قال‪ :‬أن يشعر بأن في إمكانه أن يكون مختارا ومفضال وعظيم‪99‬ا‪ ..‬أن‬
‫يشعر أن بإمكانه أن يصير غنيا غنى أبديا‪ ،‬ال ظرفيا؟‬
‫قلت‪ :‬اضرب لي مثاال على ذلك‪ ،‬فأنت تعرف عجزي عن التجريد‪.‬‬

‫‪24‬‬
‫قال‪ :‬يزعم قومك أنهم حرروا العبيد؟‬
‫قلت‪ :‬نعم‪.‬‬
‫قال‪ :‬ويزعمون أنهم تساووا معهم في اإلنسانية‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ذلك مما ال شك فيه‪.‬‬
‫قال‪ :‬أيسمحون لهم بخوض االنتخابات الرئاسية؟‬
‫قلت‪ :‬نعم‪.‬‬
‫قال‪ :‬ولكن ال يسمحون لهم بتوليها‪.‬‬
‫قلت‪ :‬نعم‪ ،‬يؤكد ذلك الكثير‪ ..‬فما مضرب هذا المثل؟‬
‫قال‪ :‬إن هؤالء زعم‪99‬وا أنهم ال يط‪99‬ردونهم‪ ،‬ولكنهم في نفس ال‪99‬وقت لم‬
‫يقربوهم‪ ،‬وفرق كبير بين أن ال أط‪9‬ردك‪ ،‬وبين أن أض‪9‬ع في إمكانيات‪9‬ك أن‬
‫تقرب‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فهل في النصوص إشارة إلى هذا‪.‬‬
‫ق‪99‬ال‪ :‬إن ه‪99‬ذ الج‪99‬وهرة النفيس‪99‬ة تكتس‪99‬ب أش‪99‬عتها من العق‪99‬ل والنق‪99‬ل‪،‬‬
‫وسأذكر لك هنا أربعة أشعة كل شعاع منها يطفئ ظلمة ويحيي نورا‪.‬‬
‫الشعاع األول‪:‬‬
‫قلت‪ :‬فما األول منها؟‬
‫َ‪9‬راكَ ِإاَّل َب َش‪9‬راً‬ ‫ُ‬
‫ال ْال َمأَل الَّ ِذينَ َك َف‪9‬رُوا ِم ْن َقوْ ِم‪ِ 9‬ه َم‪9‬ا ن َ‬
‫قال‪ :‬قوله تعالى‪َ {:‬ف َق َ‬
‫‪9‬رى َل ُك ْم َع َل ْي َن‪99‬ا ِم ْن‬‫ي َو َما َن‪َ 9‬‬ ‫ِم ْث َلنَا َو َما ن ََراكَ اتَّ َب َعكَ ِإاَّل الَّ ِذينَ هُ ْم َأ َرا ِذلُنَا َبا ِد َ ْ‬
‫ي الرَّأ ِ‬
‫ظ ُّن ُك ْم َكا ِذ ِبينَ }(هود‪)27 :‬‬ ‫َفضْ ٍل َبلْ َن ُ‬
‫قلت‪ :‬فما محل اإلشارة منها‪.‬‬
‫قال‪ :‬ال تحل اإلشارة إال بعد العبارة‪ ،‬وال يعرف الباطن إال بع‪99‬د إدراك‬
‫الظاهر‪ ،‬فما الذي تفهمه منها؟‬
‫قلت‪ :‬هللا تعالى في هذه اآلية يخبر عن الشبهات التي وقفت حجابا بين‬
‫المأل المتمالئين على األنبياء ـ عليهم الصالة والسالم ـ الذين مألوا القل‪99‬وب‬
‫هيبة والمجالس أبهة ـ وبين الوصول إلى الحق‪ ..‬وأول تلك الشبهات ك‪99‬ون‬
‫نوح ‪ ‬بشرا مثلهم‪ ..‬والثانية كون‪9‬ه م‪9‬ا أتبع‪9‬ه إال أراذل الق‪9‬وم ‪ ..‬والثال‪9‬ة‬
‫كونهم ال يرون لهم فضال‪ ،‬ال في العق‪99‬ل وال في رعاي‪99‬ة المص‪99‬الح العاجل‪99‬ة‬
‫وال في قوة الجدل (‪.)1‬‬
‫قال‪ :‬وبم رد نوح ‪ ‬على هذه الشبه؟‬

‫‪ )(1‬انظر‪ :‬تفسير الرازي‪ ،‬مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير (‪)337 /17‬‬

‫‪25‬‬
‫قلت‪ :‬بما قصه علينا القرآن الكريم من أنه أخ‪9‬برهم أن‪9‬ه رس‪9‬ول من هّللا‬
‫ي‪99‬دعو إلى عب‪99‬ادة هّللا وح‪99‬ده‪ ،‬وال يس‪99‬ألهم على ذل‪99‬ك أج‪99‬راً‪ ،‬ثم ه‪99‬و ي‪99‬دعو‬
‫الشريف والوضيع‪ ،‬فمن استجاب له فق‪99‬د نج‪99‬ا‪ ..‬وأخ‪99‬برهم أن‪99‬ه ال ق‪99‬درة ل‪99‬ه‬
‫على التصرف في خزائن هّللا ‪ ،‬وال يعلم من الغيب إال م‪99‬ا أطلع‪99‬ه هّللا علي‪99‬ه‪،‬‬
‫وليس ه‪9‬و بمل‪9‬ك من المالئك‪9‬ة‪ ،‬ب‪9‬ل ه‪9‬و بش‪9‬رٌ مرس‪9‬ل مؤي‪9‬د ب‪9‬المعجزات‪..‬‬
‫وأخبرهم ب‪9‬أن م‪9‬ا في نف‪9‬وس من تص‪9‬وروهم أراذل من قوم‪9‬ه ف‪9‬احتقروهم‬
‫وازدروهم ال يعلم حالهم عند هللا فإن كانوا مؤمنين‪ ،‬فلهم جزاء الحسنى‪.‬‬
‫قال‪ :‬وم‪9‬ا موض‪9‬ع اإلش‪9‬ارة من حكاي‪9‬ة ق‪9‬ول ن‪9‬وح ‪ ‬بتفاص‪9‬يله م‪9‬ع‬
‫قومه؟‬
‫قلت‪ :‬علي العبارة‪ ،‬وعليك اإلشارة‪ ،‬فبين لي كيف تك‪99‬ون ه‪99‬ذه اآلي‪99‬ات‬
‫سلوى وعزاء للفقراء والمستضعفين؟‬
‫ق‪99‬ال‪ :‬إن أول من يستنش‪99‬ق ال‪99‬روائح العط‪99‬رة له‪99‬ذه اآلي‪99‬ات هم الفق‪99‬راء‬
‫والمستضعفون واألراذل‪.‬‬
‫قلت‪ :‬كي‪999‬ف؟ والرس‪999‬ل إنم‪999‬ا ج‪999‬اءوا للتوحي‪999‬د‪ ،‬ال لتس‪999‬لية الفق‪999‬راء‬
‫والمحرومين‪.‬‬
‫قال‪ :‬أجل‪ ،‬وهذا ما يعطي اإلشارة حقه‪9‬ا‪ ،‬فانش‪9‬غال الن‪9‬بي بال‪9‬دفاع عن‬
‫المستضعفين‪ ،‬وبيان قيمتهم وحرمتهم ومكانتهم عند هللا‪ ،‬أال يدل ذل‪99‬ك على‬
‫الموضع الذي يحتله هؤالء!؟‬
‫قلت‪ :‬وضح ما تريد‪.‬‬
‫قال‪ :‬أال تستشهدون باقتران العم‪99‬ل الص‪99‬الح م‪99‬ع اإليم‪99‬ان في أك‪99‬ثر آي‬
‫القرآن الكريم على فضل العمل الصالح القترانه باإليمان الذي هو أش‪99‬رف‬
‫األعمال؟‬
‫قلت‪ :‬بلى‪.‬‬
‫ق‪999‬ال‪ :‬أال تستش‪999‬هدون بعظم ح‪999‬ق الوال‪999‬دين القترانهم‪999‬ا بتوحي‪999‬د هللا‬
‫وعبوديته؟‬
‫قلت‪ :‬بلى‪ ،‬كثيرا ما نفعل ذلك‪.‬‬
‫قال‪ :‬فكذلك هنا‪ ..‬أسألك سؤاال آخر؟‬
‫قلت‪ :‬سل‪.‬‬
‫قال‪ :‬كم لبث نوح ‪ ‬في قومه؟‬
‫قلت‪ :‬هو ما نص عليه القرآن الكريم‪ ،‬قال تع‪9‬الى‪َ {:‬و َل َق‪ْ 9‬د َأرْ َس‪ْ 9‬لنَا نُوح‪9‬اً‬

‫‪26‬‬
‫خَم ِسينَ عَاماً }(العنكبوت‪)14 :‬‬ ‫ث ِفي ِه ْم َأ ْلفَ َس َن ٍة ِإاَّل ْ‬‫ِإ َلى َقوْ ِم ِه َف َل ِب َ‬
‫قال‪ :‬فكم المدة التي كان يتكلم فيها مع قومه؟‬
‫قلت‪ :‬وهذا أيضا وارد في القرآن الك‪9‬ريم‪ ،‬فق‪9‬د ق‪9‬ال تع‪9‬الى حاكي‪9‬ا عن‪9‬ه‪:‬‬
‫ال َو َن َهاراً}(ن‪9‬وح‪ ،)5 :‬وكأن‪9‬ه ‪ ‬الجته‪9‬اده‬ ‫ت َقوْ ِمي َل ْي ً‬‫ال َربِّ ِإ ِّني َدعَوْ ُ‬ ‫{ َق َ‬
‫في الدعوة إلى هللا ال يسكت ليال أو نهارا‪.‬‬
‫قال‪ :‬فكم ترى يكون قد تكلم من الكلمات؟‬
‫قلت‪ :‬لو كتب كالمه كتبا لمأل بها سهول األرض وجبالها‪.‬‬
‫قال‪ :‬فاختيار هللا تعالى لهذه الكلمات المدافع‪99‬ة عن المنب‪99‬وذين لي‪99‬ذكرها‬
‫في الق‪99‬رآن الك‪99‬ريم‪ ،‬أال ي‪99‬دلك على المكان‪99‬ة ال‪99‬تي لهم؟‪ ..‬ال عن‪99‬د ن‪99‬وح ‪‬‬
‫فحسب‪ ،‬بل عن‪9‬د هللا‪ ،‬ألن الق‪9‬رآن الك‪9‬ريم لم ي‪9‬نزل لي‪9‬ؤرخ لق‪9‬وم ن‪9‬وح ‪‬‬
‫وإنما أنزل ليذكر الحقائق العظمى التي ينبني عليها الوجود‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ولكن ما سبب إقبال الفقراء على الحق وإعراض المأل أغنياءهم‬
‫وكبراءهم عنه؟ ولماذا يكون ه‪9‬ؤالء األراذل المستض‪9‬عفون أس‪9‬رع الن‪9‬اس‬
‫َ‪9‬راكَ اتَّ َب َع‪9‬كَ ِإاَّل الَّ ِذينَ هُ ْم‬ ‫إلى الحق‪ ،‬فقد قال تعالى في اآليات الس‪9‬ابقة‪َ {:‬و َم‪9‬ا ن َ‬
‫الرَّأي}(هود‪)27 :‬؟‬ ‫ي ْ‬ ‫َأ َرا ِذلُنَا َبا ِد َ‬
‫قال‪ :‬أرأيت جواز دخولك إلى هذه القصور؟‬
‫قلت‪ :‬نعم‪ ،‬إنه جواز االفتقار‪ ..‬ولكن ما عالقته بهذا ألمر؟‬
‫ق‪999‬ال‪ :‬ألن الفض‪999‬ل ص‪999‬دقة هللا ‪ ،‬والص‪999‬دقات ال تك‪999‬ون إال للفق‪999‬راء‬
‫ين }‬ ‫‪9‬ر ِاء َو ْال َم َس‪9‬ا ِك ِ‬ ‫ات ِل ْلفُ َق َ‬ ‫والمساكين‪ ،‬ألم تس‪9‬مع قول‪9‬ه تع‪9‬الى‪ِ {:‬إنَّ َم‪9‬ا َّ‬
‫الص‪َ 9‬د َق ُ‬
‫(التوبة‪)60 :‬‬
‫قلت‪ :‬ولكن ما وجه اإلشارة في هذه اآلي‪9‬ة‪ ،‬ف‪9‬إني ال أفهم منه‪9‬ا إال أنه‪99‬ا‬
‫تعدد أصناف المستحقين للزكاة؟‬
‫قال‪ :‬هي كذلك‪ ،‬ولكن الذي قالها يتصدق أيضا‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ذل‪99‬ك ص‪99‬حيح‪ ..‬وق‪99‬د ورد في النص‪99‬وص م‪99‬ا يثبت ذل‪99‬ك‪ ،‬ففي‬
‫الحديث‪ ( :‬من نام عن حزبه وقد كان يريد أن يقوم ب‪9‬ه‪ ،‬ف‪9‬إن نوم‪9‬ه ص‪9‬دقة‬
‫تصدق هللا بها عليه‪ ،‬وله أجر حزبه)(‪ ..)1‬ولكن ما عالقة هذا بما نحن فيه؟‬
‫قال‪ :‬عالقته عظيمة‪ ،‬فاألغيناء الذين سماهم القرآن الك‪99‬ريم مأل امتألوا‬
‫بغناهم وما لديهم من أش‪9‬ياء‪ ،‬فل‪9‬ذلك ال يس‪9‬تطيعون تقب‪9‬ل ص‪9‬دقات هللا ال‪9‬تي‬
‫تمتلئ بها خزائنه‪ ،‬والتي تفيض على كل الوجود‪ ،‬بينما الفق‪99‬راء‪ ،‬يش‪99‬عرون‬

‫‪ )(1‬رواه أبو نعيم في الحلية‪.‬‬

‫‪27‬‬
‫بف‪99‬اقتهم الذاتي‪99‬ة‪ ،‬وف‪99‬راغهم العظيم‪ ،‬فل‪99‬ذلك ك‪99‬انوا مس‪99‬تعدين لص‪99‬دقات هللا‪،‬‬
‫ولذلك بمجرد أن يشع نور من أنوار هللا يكونون أسرع الناس إليه‪.‬‬
‫ثم التفت إلي‪ ،‬وق‪99‬ال‪ :‬أتعلم س‪99‬ر اش‪99‬تراط ج‪99‬واز االفتق‪99‬ار لل‪99‬دخول إلى‬
‫قصور مدائن الغنى؟‬
‫قلت‪ :‬ال‪..‬‬
‫قال‪ :‬ألنك لو دخلت ممتلئا‪ ،‬فلن ترى ما ترى فيها من الجمال والكمال‬
‫والسعادة والسالم‪.‬‬
‫عجبت‪ ،‬وقلت‪ :‬أتعني أنه لو دخل اآلن معن‪9‬ا ث‪9‬ري لن ي‪9‬رى ش‪9‬يئا مم‪9‬ا‬
‫أرى؟‬
‫قال‪ :‬قد يرى ما ترى أو أكثر مما ترى‪.‬‬
‫قلت‪ :‬كيف؟ لم أفهم‪.‬‬
‫قال‪ :‬ليست العبرة بكونه ثريا‪ ،‬ب‪9‬ل الع‪9‬برة بش‪9‬عوره بثرائ‪9‬ه‪ ،‬فق‪9‬د ت‪9‬رى‬
‫الفقير مستعليا‪ ،‬وترى الغني متطامنا‪ ،‬ولهذا قد يتحقق الغني باالفتقار الذي‬
‫يؤهله لدخول هذه القصور‪ ،‬وقد يحرم الفقير الذي مأل عيني قلبه بما عجز‬
‫عن تحقيقه لجيوبه‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فعينه بصيرة‪ ،‬ويده قصيرة‪.‬‬
‫قال‪ :‬ويدل لذلك قوله ‪ (:‬ثالثة ال يكلمهم هللا يوم القيامة وال يزكيهم‬
‫والينظر إليهم ولهم عذاب أليم‪ :‬شيخ زان‪ ،‬وملك كذاب‪ ،‬وعائل مس‪99‬تكبر )‬
‫(‪)1‬‬
‫قلت‪ :‬فاالفتق‪99‬ار إذن ه‪99‬و الس‪99‬بب في مب‪99‬ادرة ه‪99‬ؤالء المستض‪99‬عفين إلى‬
‫الحق‪ ..‬فاالفتقار إذن نعمة أهلتهم الختيار هللا لهم‪.‬‬
‫الشعاع الثاني‪:‬‬
‫نبهني معلم السالم من شرودي‪ ،‬وأخذ يرت‪9‬ل بص‪9‬وته الجمي‪9‬ل الخاش‪9‬ع‬
‫عْض ِل َيقُولُوا َأه َُؤ ِ‬
‫الء َم َّن هَّللا ُ َع َل ْي ِه ْم ِم ْن َب ْي ِننَا‬ ‫قوله تعالى‪َ {:‬و َك َذ ِلكَ َف َتنَّا َب َ‬
‫عْضه ُْم ِب َب ٍ‬
‫ْس هَّللا ُ ِبأَ ْع َل َم ِبال َّشا ِك ِرينَ }(األنعام‪)53 :‬‬
‫َأ َلي َ‬
‫قلت‪ :‬هذا هو الشعاع الثاني‪ ..‬فما وجه اإلشارة فيه؟‬
‫قال‪ :‬ال تحل اإلشارة قبل العبارة‪ ،‬وال يحل التأويل قبل التفسير‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أما التفسير‪ ،‬فعلي‪ ،‬فاهلل تعالى في هذه اآلية يخبر عن القص‪99‬د من‬
‫بالئه واختباره لعباده‪ ،‬فه‪9‬و يبتليهم ب‪9‬الفقر والغ‪9‬نى‪ ،‬ومن النت‪9‬ائج ال‪9‬تي تنتج‬

‫‪ ) )(1‬رواه النسائي‪.‬‬

‫‪28‬‬
‫الء َم َّن هَّللا ُ َع َل ْي ِه ْم ِم ْن‬ ‫عن ذلك البالء أن يقول المستكبرون المتعالون‪َ {:‬أه ُ‬
‫َ‪99‬ؤ ِ‬
‫َب ْي ِننَا }‪ ،‬فرد هللا تعالى عليهم بكونه أعلم بالشاكرين‪.‬‬
‫قال‪ :‬أما وجه اإلش‪9‬ارة‪ ،‬والع‪9‬زاء للمستض‪9‬عفين‪ ،‬فه‪9‬و م‪9‬ا يحمل‪9‬ه قول‪9‬ه‬
‫ْس هَّللا ُ ِبأَ ْع َل َم ِبال َّشا ِك ِرينَ }‪ ،‬فإن هللا تع‪9‬الى يعل‪9‬ل منن‪9‬ه على عب‪9‬اده‬ ‫تعالى‪َ {:‬أ َلي َ‬
‫الذين قربهم بكونهم من الشاكرين‪.‬‬
‫قلت‪ :‬لم يكون فضل هللا وجميل اختياره مرتبطا بالشاكرين؟‬
‫قال‪ :‬أرأيت لو أنعمت على بعض إخوان‪99‬ك بنعم‪ ،‬وق‪99‬دمت لهم خ‪99‬دمات‬
‫أرهقتك‪ ،‬فنظر بعضهم إليك شزرا‪ ،‬وانصرف‪ ..‬وق‪99‬ال بعض‪99‬هم‪( :‬م‪99‬ا ه‪99‬ذه‬
‫الخدمات الحقيرة‪ ،‬والعطايا الصغيرة )‪ ..‬وجاء بعضهم فقبل يديك‪ ،‬ومس‪99‬ح‬
‫على رجليك‪ ،‬وقال‪ (:‬نحن في خدمتك‪ ،‬فجزيت عنا كل خير )‪ ..‬أي هؤالء‬
‫تفضله بعد ذلك بالعطاء إذا سنحت لك السوانح‪ ،‬ودر عليك اللطف؟‬
‫قلت‪ :‬الشاكرين‪ ..‬ال شك في ذلك‪ ،‬فكيف يمت‪9‬د عط‪9‬ائي للجاح‪9‬دين‪ ،‬ب‪9‬ل‬
‫إني لو استطعت أن أسلبهم م‪99‬ا أعطيتهم‪ ،‬وأخ‪99‬رج طع‪99‬امي من بط‪99‬ونهم أو‬
‫أحوله سما لفعلت‪.‬‬
‫ق‪9‬ال‪ :‬وك‪9‬ذلك الح‪9‬ق تع‪9‬الى م‪9‬ع كرم‪9‬ه العظيم‪ ،‬فإن‪9‬ه ق‪9‬د يس‪9‬لب ه‪9‬ؤالء‬
‫ض‪9‬وا‬ ‫نعمهم‪ ،‬كما قال تعالى عن قرى سبأ لما أعرض‪9‬وا عن ش‪9‬كر هللا‪َ {:‬فأَ ْع َر ُ‬
‫‪9‬ط َو َأ ْث‪ٍ 9‬‬
‫‪9‬ل‬ ‫خَم‪ٍ 9‬‬‫‪9‬ل ْ‬ ‫‪9‬ر ِم َو َب ‪َّ 9‬د ْلنَاهُ ْم ِب َجنَّ َت ْي ِه ْم َجنَّ َتي ِْن َذ َوات َْي أُ ُك‪ٍ 9‬‬
‫َفأَرْ َس ‪ْ 9‬لنَا َع َل ْي ِه ْم َس ‪9‬ي َْل ْال َع‪ِ 9‬‬
‫يل}(سـبأ‪)16 :‬‬ ‫َو َش ْي ٍء ِم ْن ِس ْد ٍر َق ِل ٍ‬
‫قلت‪ :‬فما عالقة ذلك بالمستضعفين‪ ،‬أليس الشكر مطلوبا من األغنياء‪،‬‬
‫والصبر مطلوبا من الفقراء؟‬
‫قال‪ :‬بل الشكر والصبر مطلوب منهما جميعا‪.‬‬
‫قلت‪ :‬لم أفهم‪.‬‬
‫قال‪ :‬ألن الشكر والص‪9‬بر عبادت‪9‬ان ال تختلف‪9‬ان عن الص‪9‬وم والص‪9‬الة‪،‬‬
‫فهل قال أحد‪ :‬إن الصالة خاصة باألغنياء‪ ،‬والصوم خاص بالفقراء‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ال لم يقل أحد بذلك‪ ..‬ولكن على ماذا يصبر األغنياء والنعم لديهم‬
‫متوافرة؟‬
‫قال‪ :‬على عدم استفزاز النعم لهم استفزازا يجعلهم يعبدون أنفس‪99‬هم وال‬
‫يعبدون هللا‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وماذا يشكر الفقراء؟‬
‫قال‪ :‬أقل شيء يشكرونه أن هللا لم يجعل لهم من الغنى ما يح‪99‬ول بينهم‬

‫‪29‬‬
‫وبين تبصر الحق‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وهل يحول الغنى بين اإلنسان وتبصر الحق؟‬
‫ْس هَّللا ُ ِب‪9‬أَ ْع َل َم‬
‫قال‪ :‬أجل‪ ،‬ولذلك عقب هللا تعالى اآلية السابقة بقول‪9‬ه ‪َ {:‬أ َلي َ‬
‫ِبال َّشا ِك ِرينَ }‪ ،‬فالغني قد ينشغل بالنعم وما تتطلبه عن شكرها‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أال ت‪99‬أتيني بش‪99‬واهد على ه‪99‬ذا‪ ،‬فإنه‪99‬ا مس‪99‬ألة خط‪99‬يرة ال تقب‪99‬ل إال‬
‫بشاهد؟‬
‫قال‪ :‬ألم تسمع إلى ربك‪ ،‬وهو يخبرك عن مواجهة المترفين ألنبيائهم؟‬
‫قلت‪ :‬بلى‪ ،‬فاهلل تعالى ذكر ذل‪9‬ك في مواض‪9‬ع ع‪9‬دة من الق‪9‬رآن الك‪9‬ريم‪،‬‬
‫‪9‬ال ُم ْت َرفُوهَ‪9‬ا ِإنَّا ِب َم‪9‬ا‬‫ير ِإاَّل َق َ‬ ‫كقوله مبينا سنة ذلك‪َ {:‬و َما َأرْ َس ْلنَا ِفي َقرْ َي ٍة ِم ْن َن ِذ ٍ‬
‫أُرْ ِس ْلتُ ْم ِب ِه َكا ِفرُونَ }(سـبأ‪)34 :‬‬
‫قال‪ :‬ألم تسمع إلى ربك‪ ،‬وهو يربط بين مصير القرى والمترفين‪ ،‬ب‪99‬ل‬
‫يبين أن المترفين هم سبب هالك األمم والحضارات؟‬
‫قلت‪ :‬بلى‪ ،‬فاهلل تعالى يقول مبينا هذا القانون‪َ {:‬و ِإ َذا َأ َر ْدنَا َأ ْن نُ ْه ِلكَ َقرْ َي ًة‬
‫ق َع َل ْي َها ْال َقوْ لُ َف َد َّمرْ نَاهَا َت ْد ِميراً}(االسراء‪)16 :‬‬ ‫َأ َمرْ نَا ُم ْت َر ِفي َها َف َف َسقُوا ِفي َها َف َح َّ‬
‫قال‪ :‬أال تعلم السبب الذي جعل الترف حائال بين المترفين والحق؟‬
‫قلت‪ :‬ما هو؟‬
‫قال‪ :‬الترف‪ ..‬فالمترف مستغرق في ترفه مستعبد له‪ ،‬وقد قال تعالى‪{:‬‬
‫ُ‬
‫‪9‬رُون ِم ْن َق ْب ِل ُك ْم أولُ‪9‬و َب ِقيَّ ٍة َي ْن َه‪9‬وْ نَ ع َِن ْال َف َس‪9‬ا ِد ِفي اأْل َرْ ِ‬
‫ض ِإاَّل‬ ‫َف َلوْ ال َك‪9‬انَ ِمنَ ْالقُ ِ‬
‫ظ َل ُم‪9‬وا َم‪9‬ا أُ ْت ِرفُ‪9‬وا ِفي‪ِ 9‬ه َو َك‪9‬انُوا ُمجْ‪ِ 9‬ر ِمينَ }‬ ‫ال ِم َّم ْن َأ ْن َج ْينَا ِم ْنه ُْم َواتَّ َب‪َ 9‬ع الَّ ِذينَ َ‬
‫َق ِلي ً‬
‫(هود‪ ،)116 :‬فالمترفين استهواهم ترفهم‪ ،‬فاستعبدهم من دون هللا‪.‬‬
‫قلت‪ :‬لقد ذكرتني بقول‪9‬ه ‪ (:‬تعس عب‪9‬د ال‪9‬دينار وعب‪9‬د ال‪9‬درهم وعب‪9‬د‬
‫الخميص‪99‬ة إن أعطي رض‪99‬ي‪ ،‬وإن لم يع‪99‬ط تعس وانتكس‪ ،‬وإذا ش‪99‬يك فال‬
‫انتقش ) (‪)1‬‬
‫ق‪99‬ال‪ :‬أكم‪99‬ل الح‪99‬ديث لت‪99‬درك ن‪99‬واحي الفض‪99‬ل ال‪99‬تي يحتويه‪99‬ا الفق‪99‬ر‬
‫والضعف‪.‬‬
‫قلت مكمال الحديث السابق‪ (:‬طوبي لعبد أخ‪99‬ذ بعن‪99‬ان فرس‪99‬ه في س‪99‬بيل‬
‫هللا أشعث رأسه مغبرة قدماه إن ك‪9‬ان في الحراس‪9‬ة ك‪9‬ان في الحراس‪9‬ة وإن‬
‫في الساقة كان في الساقة إن استأذن لم يؤذن له وإن شفع لم يشفع )‬
‫قال‪ :‬أتدري ما سر هذا االقتران؟‬

‫‪ ) )(1‬البخاري‪.‬‬

‫‪30‬‬
‫قلت‪ :‬ما هو؟‬
‫قال‪ :‬أما األول‪ ،‬فإنه النشغاله بترفه‪ ،‬وما يتطلبه ترفه عمي عن الكون‬
‫جميعا‪ ،‬وعمي عن رسالته في هذا الوجود‪ ،‬وأما الثاني الذي ال يملك شيئا‪،‬‬
‫فقد كان فقره سببا في رؤيته األشياء على حقيقتها‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فهمت‪ ،‬ولكن أريد مثاال موضحا‪.‬‬
‫قال‪ :‬ارأيت إن وضع مترف من المترفين في قصر عظيم‪ ،‬له في ك‪99‬ل‬
‫لحظة زينة جديدة‪ ،‬وطعام جديد‪ ،‬فهو دائما في ظل الجديد‪ ،‬أكان يمكن‪99‬ه أن‬
‫يجد الوقت لرؤية السماء‪ ،‬أو شعاب الوادي‪ ،‬أو فيافي الصحراء‪ ،‬أو تأم‪99‬ل‬
‫النجوم في الليل‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ال يمكن‪99‬ه ذل‪99‬ك‪ ،‬فلن يخ‪99‬رج من قص‪99‬ره الع‪99‬امر ليص‪99‬يبه غب‪99‬ار‬
‫الفيافي‪.‬‬
‫قال‪ :‬فكذلك هؤالء المترفين ال‪9‬ذين عص‪9‬بوا عي‪9‬ونهم بخي‪9‬وط الحري‪9‬ر‪،‬‬
‫وكبلوا أقدامهم بقيود الذهب‪ ،‬ووضعوا على رقابهم أغالل الآللئ‪.‬‬
‫قلت‪ :‬والمستضعفين؟‬
‫قال‪ :‬لقد أخبر ‪ ‬أنه أشعث رأسه‪ ،‬مغبرة قدماه‪ ،‬إن كان في الحراسة‬
‫كان في الحراسة‪ ،‬وإن كان في الساقة كان في الساقة‪ ،‬فهو ال يبالي بشيء‪،‬‬
‫وال يخاف شيئا‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ولهذا السبب إذن كانت رؤية الفقير للحقائق أيسر‪.‬‬
‫قال‪ :‬أجل‪ ..‬ولهذا يقول تعالى لهؤالء الم‪9‬ترفين في اآلخ‪9‬رة مس‪9‬تهزئا‪ {:‬ال‬
‫تَرْ ُكضُوا َوارْ ِجعُوا ِإ َلى َما أُ ْت ِر ْفتُ ْم ِفي ِه َو َم َسا ِك ِن ُك ْم َل َعلَّ ُك ْم تُسْأَلُونَ }(االنبياء‪،)13 :‬‬
‫ويقول معلال سر ما حصل لهم‪ِ {:‬إنَّه ُْم َكانُوا َقب َْل َذ ِلكَ ُم ْت َر ِفينَ }(الواقعة‪)45 :‬‬
‫قلت‪ :‬فالفقر إذن بما يرفعه من الحواجز نعمة تيس‪99‬ر الوص‪99‬ول للح‪99‬ق‪،‬‬
‫وتوفر سبل السلوك إليه‪.‬‬
‫الشعاع الثالث‪:‬‬
‫غرقت متفكرا في األثر الذي سيحدثه في نفس‪99‬ي الش‪99‬عاع الث‪99‬الث له‪99‬ذه‬
‫‪9‬ال ْال َمأَل ُ الَّ ِذينَ‬
‫الجوهرة النفيسة‪ ،‬فإذ بصوت المعلم‪ ،‬وهو يرتل بخشوع‪َ {:‬ق‪َ 9‬‬
‫صا ِلحاً ُمرْ َسلٌ‬ ‫ا ْس َت ْك َبرُوا ِم ْن َقوْ ِم ِه ِللَّ ِذينَ ا ْستُضْ ِعفُوا ِل َم ْن آ َمنَ ِم ْنه ُْم َأتَعْ َل ُمونَ َأ َّن َ‬
‫اس‪َ 9‬ت ْك َبرُوا ِإنَّا ِبالَّ ِذي آ َم ْنتُ ْم ِب‪ِ 9‬ه‬
‫‪9‬ال الَّ ِذينَ ْ‬‫ِم ْن َر ِّب ِه َقالُوا ِإنَّا ِب َما أُرْ ِس َل ِب ِه ُم ْؤ ِمنُونَ َق َ‬
‫َكا ِفرُونَ }(ألعراف‪ 75 :‬ـ ‪)76‬‬
‫قلت‪ :‬هاتان اآليتان الكريمت‪9‬ان تتح‪9‬دثان عن مواق‪9‬ف ق‪9‬وم ص‪9‬الح ‪‬‬

‫‪31‬‬
‫من رسالته‪ ،‬أما المستضعفون‪ ،‬فآمنوا به‪ ،‬وأما المأل من المتك‪99‬برين فظل‪99‬وا‬
‫على كفرهم‪.‬‬
‫قال‪ :‬أتدري ما سر إيمان المؤمنين؟‬
‫قلت‪ :‬لقد عرفنا بأن سر ذلك هو االفتقار‪.‬‬
‫قال‪ :‬ذلك ما أرشد إليه الشعاع السابق‪ ،‬أما هذا‪ ،‬فيدلنا على سر آخر‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ما هو؟‬
‫ق‪999‬ال‪ :‬إن مقابل‪999‬ة المستض‪999‬عفين ب‪999‬المأل المتك‪999‬برين ي‪999‬دل على أن‬
‫المستضعفين قد تحققوا باالنكسار والتواضع الذي أهلهم ليظفروا باالختيار‬
‫اإللهي‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ألالنكسار هلل والتواضع كل هذه القيمة؟‬
‫ق‪999‬ال‪ :‬أج‪999‬ل كم‪999‬ا أن المتك‪999‬بر أعظم اليائس‪999‬ين من رحم‪999‬ة هللا‪ ،‬ف‪999‬إن‬
‫المتواضعين من أعظم الراجين لها‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ومن نطق بهذا الحكم الخطير؟‬
‫اس‪َ 9‬ت ْك َبرُوا‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬
‫قال‪ :‬ألم تسمع إلى قول الحق تعالى‪ِ {:‬إ َّن ال ِذينَ َكذبُوا ِبآيا ِت َن‪99‬ا َو ْ‬
‫اء َوال َي‪ْ 9‬د ُخلُونَ ْال َجنَّ َة َحتَّى َي ِل َج ْال َج َم‪99‬لُ ِفي َس‪ِّ 9‬م‬ ‫‪9‬وابُ َّ‬
‫الس‪َ 9‬م ِ‬ ‫َع ْن َه‪99‬ا ال تُ َفتَّحُ َله ُْم َأ ْب‪َ 9‬‬
‫اط َو َك َذ ِلكَ نَجْ ِزي ْال ُمجْ ِر ِمينَ }(ألعراف‪)40 :‬‬ ‫ْال ِخ َي ِ‬
‫قلت‪ :‬لقد شبه الحق استحالة دخول المتك‪9‬برين الجن‪9‬ة باس‪9‬تحالة دخ‪9‬ول‬
‫الجمل سم الخي‪9‬اط‪ ( ،‬فجس‪9‬م الجم‪9‬ل أعظم األجس‪9‬ام‪ ،‬وثقب اإلب‪9‬رة أض‪9‬يق‬
‫المنافذ‪ ،‬فكان ولوج الجمل في تلك الثقبة الضيقة محاال )‬
‫قال‪ :‬فلما وقف الحق تعالى دخولهم الجنة على حص‪99‬ول ه‪99‬ذا الش‪99‬رط‪،‬‬
‫وك‪99‬ان ه‪99‬ذا ش‪99‬رطا مح‪99‬اال‪ ،‬وثبت في العق‪99‬ول أن الموق‪99‬وف على المح‪99‬ال‬
‫محال‪ ،‬وجب أن يكون دخولهم الجنة مأيوسا منه قطعا(‪.)1‬‬
‫قلت‪ :‬هذا هو حكم المتكبرين وشاهدهم‪ ،‬فمن قال‪ :‬إن االنكسار مق‪99‬رب‬
‫إلى هللا‪ ،‬وما أرى االنكسار إال نوعا من الذلة والهوان والضعف‪.‬‬
‫قال‪ :‬ذلك عندما يكون مع السوى‪ ،‬أما معه‪ ،‬فإنه القوة والكمال والعزة‪،‬‬
‫ألم تسمع قوله تعالى وهو يذكر هؤالء الذين انكسرت قلوبهم عندما لم يجدوا ما‬
‫ينفقون‪.‬‬
‫قلت‪ :‬تقصد قوله تعالى‪َ {:‬وال َع َلى الَّ ِذينَ ِإ َذا َما َأ َتوْ كَ ِلتَحْ ِم َله ُْم قُ ْلتَ ال َأ ِج‪ُ 99‬د‬
‫َما َأحْ ِملُ ُك ْم َع َل ْي ِه ت ََولَّوْ ا َو َأ ْعيُنُه ُْم َت ِفيضُ ِمنَ ال َّد ْم ِع َحزَن‪9‬اً َأاّل َي ِج‪ُ 9‬دوا َم‪99‬ا يُ ْن ِفقُ‪99‬ونَ }‬

‫‪ ) )(1‬الفخر الرازي‪.‬‬

‫‪32‬‬
‫(التوبة‪)92 :‬‬
‫قال‪ :‬نعم‪ ،‬فهل هناك أعز من هذا الموقف‪ ،‬لقد ذهبت أق‪9‬وام كث‪9‬يرة م‪9‬ع‬
‫رسول هللا ‪ ‬وتحملوا الحر والعناء‪ ،‬ولكنهم لم يفوزوا بمثل هذا الثناء‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ألهذا إذن يذكر األولياء كثيرا قيمة االنكس‪99‬ار وأث‪99‬ره‪ ،‬ويحض‪99‬ون‬
‫مريديهم عليه!؟‬
‫قال‪ :‬أجل‪ ،‬فافتح أذني قلبك لتسمع ما يقولون‪.‬‬
‫التفت‪ ،‬فإذا بي أرى جمعا من األنوار‪ ،‬عليهم سيما األولياء‪.‬‬
‫قال األول‪ :‬انكسار العاصي خير من صولة المطيع‪.‬‬
‫ال وافتقاراً‪ ،‬خير من طاعة أورثت عزاً‬ ‫وقال الثاني‪ :‬معصية أورثت ذ ً‬
‫واستكباراً‪.‬‬
‫قلت‪ :‬عرفتك أنت ابن عطاء هللا‪ ..‬أنا أحفظ حكمك حرفا حرف‪99‬ا‪ ..‬ولكن‬
‫أليس في قولك هذا دعوة للمعصية!؟‬
‫ابتس‪99‬م‪ ،‬وق‪99‬ال‪ :‬الطاع‪99‬ة المض‪99‬مخة بس‪99‬م الكبري‪99‬اء قاتل‪99‬ة‪ ،‬والمعص‪99‬ية‬
‫المشبعة بترياق الشفاء دواء‪ ..‬واسأل المعلم‪ ،‬فمنه تعلمنا‪.‬‬
‫قال المعلم‪ :‬لو قدم لك أحدهم عسال مصفى‪ ،‬أكان محسنا لك؟‬
‫قلت‪ :‬وأي إحسان أعظم من هذا؟‪ ..‬إن العسل في بالدنا ال يك‪99‬اد يظف‪99‬ر‬
‫به إال ببذل األموال الطائلة‪.‬‬
‫قال‪ :‬ولكنه لو خلط معه سما‪.‬‬
‫قلت‪ :‬يكون حينها قاتال سواء مت من عسله‪ ،‬أو لم أمت‪.‬‬
‫قال‪ :‬هل يعتبر بذلك مجرما أم محسنا؟‬
‫قلت‪ :‬وأي إجرام أعظم من جرمه‪ ،‬بل إن في غش‪99‬ه لي بتق‪99‬ديم العس‪99‬ل‬
‫كمن يري‪99‬د أن أث‪99‬ني علي‪99‬ه وه‪99‬و يس‪99‬فك دمي‪ ،‬أو كمن يرش‪99‬وني ليقبض‬
‫روحي‪.‬‬
‫قال‪ :‬وال‪99‬ذي يق‪99‬دم ل‪99‬ك طعام‪9‬ا م‪99‬را‪ ،‬ولكن تري‪9‬اق الش‪99‬فاء في‪9‬ه‪ ،‬أيك‪99‬ون‬
‫محسنا أم مسيئا؟‬
‫قلت‪ :‬بل يكون محسنا غاية اإلحس‪9‬ان‪ ..‬ألم تس‪9‬مع قول‪9‬ه ‪ (:‬م‪9‬اذا في‬
‫األمرين من الشفاء‪ :‬الثفاء والصبر )(‪ ،)1‬فقد وصفهما ‪ ‬ب‪99‬المرارة‪ ،‬وه‪99‬و‬
‫يشير إلى ما تختزنه مرارتهما من العالج(‪.)2‬‬

‫‪ ) )(1‬أبو داود في مراسليه والبيهقي‪.‬‬


‫‪ ) )(2‬انظر‪ :‬ابتسامة األنين‪ ،‬الجزء الثالث‪.‬‬

‫‪33‬‬
‫قال‪ :‬فإن العاصي الذي ينكس‪99‬ر هلل خ‪99‬ير من المطي‪99‬ع ال‪99‬ذي يت‪99‬ألى على‬
‫هللا‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ولكن‪ ..‬أليس في هذا حضا على المعصية؟‬
‫قال‪ :‬إنما يكون حضا لو كانت المعص‪9‬ية مج‪9‬ردة‪ ،‬أم‪9‬ا اجتماعه‪9‬ا م‪9‬ع‬
‫ار َو ُز َلفاً ِمنَ اللَّ ْي‪ِ 9‬‬
‫‪9‬ل‬ ‫االنكسار فيدخل في قوله تعالى‪َ {:‬و َأ ِق ِم الصَّال َة َ‬
‫ط َر َف ِي النَّ َه ِ‬
‫ت َذ ِلكَ ِذ ْك َرى ِلل َّذا ِك ِرينَ }(هود‪ ،)114 :‬وي‪99‬دخل في‬ ‫ت ي ُْذ ِه ْبنَ ال َّس ِّيئَا ِ‬
‫ِإ َّن ْال َح َسنَا ِ‬
‫قوله ‪ (:‬يا معاذ أتبع السيئة الحسنة تمحها‪ ،‬وخالق الناس بخلق حس‪99‬ن )‬
‫(‪)1‬‬
‫قلت‪ :‬ما سر هذه القيمة التي أولتها النصوص المقدسة لالنكسار؟‬
‫قال‪ :‬االنكسار هو باب من أبواب العبودية ال يختلف عن االفتقار‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فما الفرق بينهما؟‬
‫قال‪ :‬في االفتقار ال تملك شيئا‪ ،‬فأنت عين الحاجة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وفي االنكسار‪.‬‬
‫قال‪ :‬أنت عين المذلة‪ ..‬فاإلنسان قد ال يملك شيئا‪ ،‬ولكن تكون ل‪99‬ه ع‪99‬زة‬
‫الملوك وكبرياء المأل‪ ،‬وقد ق‪99‬ال ‪ (:‬ثالث‪99‬ة ال يكلمهم هللا ي‪99‬وم القيام‪99‬ة وال‬
‫يزكيهم والينظر إليهم ولهم ع‪9‬ذاب أليم‪ :‬ش‪9‬يخ زان‪ ،‬ومل‪9‬ك ك‪9‬ذاب‪ ،‬وعائ‪9‬ل‬
‫مستكبر )(‪)2‬‬
‫قلت‪ :‬فطري‪99‬ق إخض‪99‬اع الع‪99‬زة اآلثم‪99‬ة ه‪99‬و االنكس‪99‬ار‪ ،‬كم‪99‬ا أن طري‪99‬ق‬
‫إخضاع االستغناء الكاذب هو االفتقار‪.‬‬
‫قال‪ :‬وفي كل ذلك مقابلة لصفات الربوبية بصفات العبودية‪.‬‬
‫قلت‪ :‬لم أفهم‪.‬‬
‫قال‪ :‬األستاذ من يعلم؟‬
‫قلت‪ :‬الجاهل‪.‬‬
‫قال‪ :‬والطبيب من يداوي؟‬
‫قلت‪ :‬المريض‪.‬‬
‫قال‪ :‬فمن جاء لطبيب ليذكر صحته وعافيته وجماله وقوته‪ ،‬هل يض‪99‬ع‬
‫الطبيب عليه ترياقه ليداويه!؟‬

‫‪ ) )(1‬أحمد ‪ ،‬ورواه الترمذي برقم (‪ )1988‬وأوله‪ :‬اتق هللا حيث ما كنت‪ .‬عن أبي ذر وق‪99‬ال‪:‬‬
‫هذا حديث حسن صحيح‪ ،‬وأخرجه أحمد والدارمي والحاكم في اإليم‪99‬ان وق‪9‬ال على ش‪99‬رطهما‪.‬‬
‫راجع تحفة األحوذي (‪)6/122‬‬
‫‪ ) )(2‬النسائي‪.‬‬

‫‪34‬‬
‫قلت‪ :‬كال‪ ..‬بل يطرده من عيادته‪.‬‬
‫قال‪ :‬لماذا؟‬
‫قلت‪ :‬لصالفته وعزته اآلثمة‪.‬‬
‫قال‪ :‬فكذلك طرد المتكبرون‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ولذلك عولج‪ ،‬ورحم المنكسرون‪.‬‬
‫غبت عما حولي متأمال النتيجة ال‪99‬تي وص‪99‬لنا إليه‪99‬ا من حوارن‪99‬ا‪ ،‬وهي‬
‫نتيجة تسحق كل السعادة‪ ،‬فقد وقى هللا الفقراء ما يحدثه الغنى وال‪99‬ترف في‬
‫أص‪99‬حابه من ك‪99‬براء‪ ،‬ت‪99‬ذكرت حينه‪99‬ا قول‪99‬ه ‪ ،‬وه‪99‬و يتض‪99‬رع إلى هللا ال‬
‫ليعطي‪99‬ه الغ‪99‬نى‪ ،‬وإنم‪99‬ا ليرزق‪99‬ه المس‪99‬كنة‪ ،‬ق‪99‬ال ‪ (:‬اللهم أحي‪99‬ني مس‪99‬كينا‬
‫وأمتني مسكينا واحشرني في زمرة المساكين يوم القيامة )(‪)1‬‬
‫وتذكرت حينها قوله ‪ ‬وهو يخبر عن بني إسرائيل‪ (:‬وك‪99‬انت ام‪9‬رأة‬
‫ترضع ابنا لها في بني إسرائيل فمر بها رجل راكب ذو شارة فقالت‪ :‬اللهم‬
‫اجعل ابني مثله! فترك ثديها وأقب‪9‬ل على ال‪9‬راكب وق‪9‬ال‪ :‬اللهم! ال تجعل‪9‬ني‬
‫مثله‪ ،‬ثم أقبل على ثديها يمص‪99‬ه‪ ،‬ثم م‪99‬ر بأم‪99‬ة فق‪9‬الت أم‪99‬ه‪ :‬اللهم! ال تجع‪99‬ل‬
‫ابني مثل هذه‪ ،‬فترك ثديها وقال‪ :‬اللهم اجعلني مثلها! فقالت‪ :‬لم ذاك؟ فقال‪:‬‬
‫الراكب جبار من الجبابرة‪ ،‬وهذه األمة يقولون‪ :‬سرقت زنت‪ ،‬ولم تفع‪99‬ل )‬
‫(‪)2‬‬
‫الشعاع الرابع‪:‬‬
‫فجأة صحوت من غيبتي‪ ،‬ألسمع المعلم‪ ،‬وهو يرت‪99‬ل بص‪99‬وته الخاش‪99‬ع‬
‫ار َق اأْل َرْ ِ‬
‫ض‬ ‫قول‪99‬ه تع‪99‬الى‪َ {:‬و َأوْ َر ْثنَ‪99‬ا ْال َق‪99‬وْ َم الَّ ِذينَ َك‪99‬انُوا يُ ْست ْ‬
‫َض‪َ 99‬عفُونَ َم َش‪ِ 99‬‬
‫َار َب َها } (ألعراف‪)137 :‬‬ ‫َو َمغ ِ‬
‫قلت‪ :‬أهذا هو الشعاع الرابع؟‬
‫قال‪ :‬أجل‪ ..‬فما تفهم منه؟‬
‫قلت‪ :‬في ه‪99‬ذه اآلي‪99‬ة يخ‪99‬بر هللا تع‪99‬الى عن فض‪99‬له على المستض‪99‬عفين‬
‫بتمكينهم من األرض‪.‬‬
‫قال‪ :‬وهي أعظم سلوى للفقراء‪ ..‬فهي تنقلهم إلى الواق‪99‬ع لتخ‪99‬برهم ب‪9‬أن‬
‫حقائق إمكاني‪9‬ة اختي‪9‬ارهم ليس‪9‬ت فلس‪9‬فة مثالي‪9‬ة أو أحالم‪9‬ا جميل‪9‬ة‪ ،‬ب‪9‬ل هي‬
‫حقيقة يمكن تحقيقها في كل حين‪.‬‬
‫قلت‪ :‬بم؟‬
‫‪ ) )(1‬رواه الترمذي كتاب الزهد‪.‬‬
‫‪ ) )(2‬البخاري ومسلم‪.‬‬

‫‪35‬‬
‫قال‪ :‬بالتحقق بحقائق االفتقار‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ولكن االفتقار قد يملؤهم بالهزيمة‪ ..‬ويمأل نفوسهم بالعقد‪.‬‬
‫قال‪ :‬افتقار العارفين‪ ،‬ال افتقار المحجوبين‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فما الفرق بينهما؟‬
‫قال‪ :‬افتقار العارفين قوة‪ ،‬وافتقار المحجوبين ضعف‪.‬‬
‫قلت‪ :‬لم؟‬
‫ق‪999‬ال‪ :‬افتق‪999‬ار الع‪999‬ارفين هلل‪ ..‬فل‪999‬ذلك يعط‪999‬ون من الق‪999‬وة م‪999‬ا ال يمكن‬
‫مواجهته‪ ..‬وافتقار المحجوبين لألكوان‪ ..‬فلذلك لن يجدوا من األكوان غ‪99‬ير‬
‫الخ‪9‬ذالن‪ ..‬أال تعلم م‪9‬ا ق‪9‬ال الش‪9‬يطان للكف‪9‬ار ال‪9‬ذين افتق‪9‬روا إلي‪9‬ه واس‪9‬تندوا‬
‫لقوته؟‬
‫‪9‬ال ال‬ ‫ان َأ ْع َم‪99‬ا َله ُْم َو َق‪َ 9‬‬
‫ط ُ‬‫الش ‪ْ 9‬ي َ‬‫قلت‪ :‬بلى‪ ..‬فق‪99‬د ق‪99‬ال تع‪99‬الى‪َ {:‬و ِإ ْذ زَ يَّنَ َلهُ ُم َّ‬
‫ص َع َلى َع ِق َب ْي ِه‬ ‫َان َن َك َ‬ ‫ت ْال ِف َئت ِ‬ ‫ب َل ُك ُم ْال َيوْ َم ِمنَ النَّ ِ‬
‫اس َو ِإ ِّني َجارٌ َل ُك ْم َف َل َّما ت ََرا َء ِ‬ ‫غَا ِل َ‬
‫ب}‬ ‫خَاف هَّللا َ َوهَّللا ُ َش ِدي ُد ْال ِع َق‪99‬ا ِ‬
‫ال ِإ ِّني َب ِري ٌء ِم ْن ُك ْم ِإ ِّني َأ َرى َما ال ت ََروْ نَ ِإ ِّني َأ ُ‬ ‫َو َق َ‬
‫(ألنفال‪)48 :‬‬
‫قال‪ :‬فقد خذلهم أحوج ما كانوا إليه‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أجل‪ ..‬فقد استندوا إلى ركن غير ركين‪.‬‬
‫قال‪ :‬كل من استند لغير هللا‪ ،‬فق‪99‬د اس‪99‬تند ل‪99‬ركن غ‪99‬ير ركين‪ ..‬ألم تس‪99‬مع‬
‫ب َل ُك ْم َو ِإ ْن َي ْخ‪ُ 999‬ذ ْل ُك ْم َف َم ْن َذا الَّ ِذي‬ ‫ص‪999‬رْ ُك ُم هَّللا ُ َفال غَ‪999‬ا ِل َ‬ ‫قول‪999‬ه تع‪999‬الى‪ِ {:‬إ ْن َي ْن ُ‬
‫َي ْنصُرُ ُك ْم ِم ْن َبعْ ِد ِه َو َع َلى هَّللا ِ َف ْل َيت ََو َّك ِل ْال ُم ْؤ ِمنُونَ }(آل عمران‪)160 :‬؟‬
‫قلت‪ :‬بلى‪ ..‬وقد رأيت من نصر هللا ألوليائه ما يدل على هذا‪.‬‬
‫قال‪ :‬فالفقراء المتوجهون هلل منصورون بنصر هللا‪ ،‬مؤيدون بمدد هللا‪..‬‬
‫فلذلك هم مختارون سواء عزلهم الخلق أو قربوهم‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فال فقر إذن‪.‬‬
‫قال‪ :‬ال فقر إال الفقر الوهمي الذي يعيشه المحجوبون‪.‬‬
‫***‬
‫شعرت عن‪9‬د س‪9‬ماعي ه‪9‬ذا بج‪9‬وهرة كريم‪9‬ة ت‪9‬نزل أعم‪9‬اق ص‪9‬دري‪،‬‬
‫تنجلي من نورها بعض الظلمات‪.‬‬
‫قلت في نفسي بعدها‪ :‬نعم إن الفقير في الحقيقة ال يؤلمه فقره‪ ،‬بقدر م‪99‬ا‬
‫يؤلمه فوات الفرص والمكاس‪9‬ب ال‪9‬تي ي‪9‬رى األغني‪9‬اء ينزلونه‪9‬ا ويته‪9‬افتون‬
‫عليها‪ ،‬بينما يبقى هو في المستنقعات يحلم بالجمال الذي ال يصل إلي‪99‬ه‪ ،‬وال‬

‫‪36‬‬
‫يحلم بالوصول إليه‪ ،‬فلذلك إن رُفع هذا الوهم‪ ،‬وقيل للفقير‪ :‬فقرك ال يحول‬
‫بينك وبين أي شيء‪ ،‬فيمكنك أن تتربع على أي عرش‪ ،‬وتتن‪9‬اول أي ح‪9‬ق‪،‬‬
‫بل يمكنك أن تجعل األغنياء الذين ترمقهم بعينين حسودتين يغبطونك على‬
‫ما حل ب‪9‬ك من النعم‪ ..‬ب‪9‬ل يمكن‪9‬ك أن تق‪9‬ف بينهم ش‪9‬امخا جب‪9‬ارا يتط‪9‬اولون‬
‫للوصول إلى ما وصل إليه عنقك‪ ،‬ويتوثبون للتحقق بما أدتك إليه همتك‪.‬‬
‫ثم قلت في نفسي‪ :‬ليت الفق‪9‬راء يس‪9‬معون لمعلم الس‪9‬الم وه‪9‬و يخ‪9‬رجهم‬
‫من األوه‪99‬ام‪ ،‬فينتقل‪99‬ون من الش‪99‬عور ب‪99‬النقص إلى الش‪99‬عور بالق‪99‬درة على‬
‫الكم‪99‬ال‪ ،‬ومن الش‪99‬عور ب‪99‬العجز إلى الش‪99‬عور ب‪99‬القوة ال‪99‬تي ال تق‪99‬ف دونه‪99‬ا‬
‫الحواجز‪.‬‬
‫قال لي معلم السالم‪ ،‬وكأنه يس‪9‬مع م‪9‬ا ي‪9‬دور في نفس‪9‬ي‪ :‬أس‪9‬معهم قول‪9‬ه‬
‫ظ‪99‬ا ِل ِمي َأ ْنفُ ِس‪ِ 99‬ه ْم َق‪99‬الُوا ِفي َم ُك ْنتُ ْم َق‪99‬الُوا ُكنَّا‬
‫تع‪99‬الى‪ِ {:‬إ َّن الَّ ِذينَ ت ََوفَّاهُ ُم ْال َمال ِئ َك‪ 99‬ةُ َ‬
‫اجرُوا ِفي َها َفأُو َل ِئكَ‬ ‫ض َقالُوا َأ َل ْم َت ُك ْن َأرْ ضُ هَّللا ِ َو ِ‬
‫اس َع ًة َفتُ َه ِ‬ ‫ُم ْستَضْ َع ِفينَ ِفي اأْل َرْ ِ‬
‫صيراً}(النساء‪)97 :‬‬ ‫ت َم ِ‬ ‫َم ْأ َواهُ ْم َج َهنَّ ُم َو َسا َء ْ‬
‫قلت‪ :‬فما وجه اإلشارة في هذا؟‬
‫قال‪ :‬هذه أكبر صفعة ينالها المستضعف العاجز؟‬
‫قلت‪ :‬كيف؟‬
‫قال‪ :‬إن أوهامه تجعله يتصور أنه وإن صار ذنبا‪ ،‬فإنه لن يح‪99‬رق م‪99‬ع‬
‫الكبراء‪ ،‬ألنه كان مستضعفا‪ ،‬وكانوا متكبرين‪ ،‬فاآلية تق‪99‬ول ل‪99‬ه‪ (:‬لن تع‪99‬ذر‬
‫باستضعافك ألن هللا تعالى أعطاك القوة التي تخرج بها من ضعفك )‬
‫قلت‪ :‬فبماذا ينتفع منها؟‬
‫قال‪ :‬برفع الهمة‪ ،‬والثورة على االستضعاف‪ ،‬فالحقيقة المرة قد تك‪99‬ون‬
‫كالدواء المر‪ ،‬فإنه وإن لم يكن لذيذا‪ ،‬لكنه مفيد‪ ..‬لكنه دواء‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ولكن م‪99‬ا ال‪99‬ذي يح‪99‬ول بين الفق‪99‬راء والمستض‪99‬عفين وتمل‪99‬ك ه‪99‬ذه‬
‫الجوهرة الثمينة؟‬
‫قال‪ :‬إنه االتباع األعمى الناتج عن فراغ عظيم‪.‬‬
‫قلت‪ :‬تقصد عقدة النقص التي تجعلهم يرون أنفسهم أصفارا‪ ،‬فينمحون‬
‫أمام الكبار‪.‬‬
‫قال‪ :‬سم ذلك ما شئت‪ ،‬ولكن من عظم غير هللا‪ ،‬وسكن لغ‪99‬ير هللا ابتاله‬
‫هللا باالستعباد لكل شيء‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أتذكر لهذا السبب شاهدا‪ ،‬فأنت تعرف مدى غرامي بالشواهد؟‬

‫‪37‬‬
‫قال‪ :‬القرآن الكريم كل‪99‬ه ش‪99‬واهد على ذل‪99‬ك‪ ،‬ولكن اس‪99‬مع لم‪99‬ا يق‪99‬ول هللا‬
‫ص َد ْدنَا ُك ْم ع َِن ْالهُ‪9‬دَى َبعْ‪َ 9‬د‬
‫ال الَّ ِذينَ ا ْس َت ْك َبرُوا ِللَّ ِذينَ ا ْستُضْ ِعفُوا َأنَحْ ُن َ‬
‫تعالى‪َ {:‬ق َ‬
‫ِإ ْذ َجا َء ُك ْم َبلْ ُك ْنتُ ْم ُمجْ ِر ِمينَ }(سـبأ‪)32 :‬‬
‫قلت‪ :‬قرأت أمثال هذه اآلية كثيرا‪.‬‬
‫قال‪ :‬ال يكفي أن تقرأها‪ ..‬البد أن تسمعها‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فماذا تقول هذه اآليات‪ ،‬ومن تخاطب؟‬
‫قال‪ :‬إنها تخاطب ج‪99‬ذور أعم‪99‬اق الفق‪99‬راء والمستض‪99‬عفين‪ ،‬لتق‪99‬ول لهم‪:‬‬
‫( إن هللا لم يخلقكم أذنابا‪ ،‬بل خلقكم رؤوسا‪ ،‬فإن أبيتم إال أن تكون‪99‬وا أذناب‪99‬ا‪،‬‬
‫فتحملوا ما يجركم إليه ذلك )‬
‫قلت‪ :‬وما يجر إليه ذلك؟‬
‫ق‪99‬ال‪ :‬إن رب‪99‬ط ش‪99‬خص نفس‪99‬ه في ذي‪99‬ل خ‪99‬نزير نجس‪ ،‬أيمكن أن يبقى‬
‫طاهرا؟‬
‫قلت‪ :‬وكيف يبقى طاهرا‪ ،‬إن النجاسة الحقة به ال محالة‪.‬‬
‫قال‪ :‬فكذلك من رمى نفسه في أتون المجرمين‪ ،‬فإنه ال ينبغي أن يل‪99‬وم‬
‫أحدا إن احترق‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ألهذا يجمع هللا تعالى في دار العدل الكبراء مع المستضعفين؟‬
‫قال‪ :‬ألن المستضعفين أبوا إال أن يبيعوا أنفسهم للكبراء‪.‬‬
‫قلت‪ :‬إن هذه المعاني خطيرة‪ ،‬وهي تحض على الثورة‪ ..‬ثورة الفقراء‬
‫والمستضعفين‪.‬‬
‫ق‪9‬ال‪ :‬والث‪9‬ورة هي بداي‪9‬ة الس‪9‬الم‪ ،‬فال يمكن أن تتحق‪9‬ق بالس‪9‬الم‪ ،‬وأنت‬
‫تقنع بالعجز‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ولكن الثورة تحتاج سالحا‪.‬‬
‫قال‪ :‬فقد أعطى هللا الفقراء القدرة على حمل السالح‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ليواجهو به الكبراء والمستعلين؟‬
‫قال‪ :‬ليواجهوا به قبل ذلك الظالم الذي يعمر أعماقهم‪ ،‬والخراب ال‪99‬ذي‬
‫يمأل نفوسهم‪ ،‬فمن الخطأ أن تلوم جارك على ش‪99‬يء تفعل‪99‬ه في بيت‪99‬ك‪ ،‬ومن‬
‫البهتان أن تنقلب على رؤسائك‪ ،‬وال تنقلب على أهوائك‪.‬‬
‫ماذا وجد من فقدك‪:‬‬
‫صعد بي المرشد طابقا أعلى في قصر االستغناء‪ ،‬فإذا بي أشاهد الفتة‬
‫مكتوبا عليها‪ (:‬هنا محل جوهرة عزيزة اسمها ( ماذا وجد من فقدك )‬

‫‪38‬‬
‫س‪9‬ألت المرش‪9‬د عنه‪9‬ا‪ ،‬فق‪9‬ال‪ :‬أن‪9‬ا المرش‪9‬د‪ ،‬ولس‪9‬ت المعلم‪ ،‬اس‪9‬أل معلم‬
‫السالم‪.‬‬
‫أجابني من غير أن أسأله‪ :‬ال يكفي أن تشعر بأنك لس‪9‬ت مط‪9‬رودا‪ ،‬وال‬
‫يكفي أن تشعر بأن في إمكانك أن تكون مختارا‪ ،‬لتمتلئ بالسالم والسعادة؟‬
‫قلت‪ :‬فما الذي ينقص الفقير حتى يشعر بسكينة أعظم وسالم أتم؟‬
‫قال‪ :‬أن يشعر بأن كل ما في يد غيره من األغنياء والمستعلين هباء أو‬
‫كالهباء‪ ،‬أو سراب أو كالسراب؟‬
‫قلت‪ :‬وما فائدة هذا الشعور‪ ،‬وما عالقته باالستغناء‪ ،‬وم‪99‬ا عالقت‪99‬ه قب‪99‬ل‬
‫ذلك كله وبعده بالسالم؟‬
‫قال‪ :‬ألن شعور الفقير بثروة الغني‪ ،‬يجعله عبدا لها‪ ،‬أو عبدا له‪.‬‬
‫قلت‪ :‬كيف يكون ذلك‪ ،‬وال بد من ذلك‪.‬‬
‫قال‪ :‬فرق بين أن تراها‪ ،‬وبين أن تعتبرها‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ال أرى فرقا بينهما‪.‬‬
‫قال‪ :‬إذا كنت في صحراء واسعة‪ ،‬ودب ثعبان الظم‪99‬أ ليس‪99‬تل روح‪99‬ك‪،‬‬
‫ورأيت سرابا بعيدا‪ ،‬هل تراه أو تعتبره؟‬
‫قلت‪ :‬أراه‪ ،‬ولكني ال أعتبره‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وماذا لو اعتبرته؟‬
‫قلت‪ :‬سأظل تائها في الصحراء‪ ،‬أبحث عنه‪ ،‬ثم لن أصل إليه أبدا‪.‬‬
‫قال‪ :‬لم؟‬
‫قلت‪ :‬ألنه غير موجود‪ ،‬والبحث عن غير الموجود عناء‪.‬‬
‫قال‪ :‬فكذلك ثروات األغنياء التي تراها‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ما الجامع بينهما؟‬
‫قال‪ :‬إن نظرت إلى ما في أيديهم كما نظ‪99‬رت إلى الس‪99‬راب‪ ،‬ض‪99‬حكت‬
‫عليهم‪ ،‬وسخرت منهم‪ ،‬ولم يستعبدوك‪.‬‬
‫قلت‪ :‬قرب لي المث‪99‬ال‪ ،‬ف‪9‬إني ‪ -‬كم‪99‬ا تعلم ‪ -‬منغمس في أوح‪99‬ال الكثاف‪99‬ة‬
‫يشتد علي التجريد‪.‬‬
‫قال‪ :‬أرأيت إن كان لك جار‪ ..‬هو فق‪99‬ير‪ ..‬ربم‪99‬ا يك‪99‬ون أفق‪99‬ر من‪99‬ك‪ ..‬ثم‬
‫ج‪99‬اء بج‪99‬وهرة مغشوش‪99‬ة‪ ،‬فعلقه‪99‬ا في جي‪99‬د امرأت‪99‬ه‪ ،‬أو ج‪99‬اءك بك‪99‬نز يلم‪99‬ع‬
‫كالذهب‪ ،‬ولكنه ليس ذهبا‪ ،‬ثم ذهب يتعالى عليك‪ ،‬ماذا كنت تفعل؟‬
‫قلت‪ :‬أرحمه‪ ،‬أو أضحك عليه‪.‬‬

‫‪39‬‬
‫قال‪ :‬أكنت تتمنى أن يكون لك مثله؟‬
‫قلت‪ :‬ال‪ ،‬ألنه ال يملك إال السراب والهباء‪ ،‬ثم يغالط نفسه به‪.‬‬
‫قال‪ :‬كيف يغالط نفسه به؟‬
‫قال‪ :‬ألنه إذا جاء وقت الحاجة لن يغني عنه ذهبه شيئا‪.‬‬
‫آن َما ًء َحتَّى ِإ َذا َجا َءهُ َل ْم‬ ‫قال‪ :‬إذن هو كذلك السراب الذي { َيحْ َسبُهُ َّ‬
‫الظ ْم ُ‬
‫َي ِج ْد ُه َشيْئاً }(النور‪)39 :‬‬
‫قلت‪ :‬أجل‪ ..‬هو كذلك‪.‬‬
‫قال‪ :‬فأغني‪9‬اء الع‪99‬الم ال‪99‬ذين تمتلئ قل‪99‬وب الفق‪9‬راء حس‪9‬دا أو نقص‪9‬ا عن‪99‬د‬
‫رؤاهم‪ ،‬هل تغنيهم أموالهم وذراريهم وقصورهم شيئا وقت الحاجة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أما في الدنيا‪ ،‬فنعم‪.‬‬
‫قال‪ :‬ما الدنيا إال أيام تروح وتنقضي‪ ،‬فبعد الدنيا‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ال تنفعهم‪ ،‬فلم أر أحدا تدفن كنوزه معه‪.‬‬
‫قال‪ :‬أرأيت لو دفنت كنوزه معه‪ ،‬هل تغني عنه من أمره شيئا؟‬
‫قلت‪ :‬كيف تغنيه‪ ،‬وهو لن يطول به المقام ح‪9‬تى يأكل‪9‬ه ال‪9‬دود‪ ،‬فيص‪9‬ير‬
‫هيكال عظميا ينخره التراب‪.‬‬
‫قال‪ :‬أرأيت لو حنطوه‪ ،‬وحفظوا جثته وزينوه‪99‬ا ب‪99‬الحلي والحل‪99‬ل ال‪99‬تي‬
‫جمعها‪ ،‬أكان ذلك يغني عليه شيئا؟‬
‫قلت‪ :‬كيف يغني عليه‪ ،‬وهو رم‪9‬ة بالي‪9‬ة‪ ،‬والحم‪9‬ار يظ‪9‬ل حم‪9‬ارا‪ ،‬ول‪9‬و‬
‫كسي وزين ما زين‪.‬‬
‫قال‪ :‬فخبرني ما فائدة هذا المال الذي ال تجده أحوج ما تكون إليه؟‬
‫قلت‪ :‬وما البديل؟‬
‫قال‪ :‬أن تبحث عن المال الذي تجده في كل وقت‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ما الفرق بينهما؟‬
‫ق‪9‬ال‪ :‬األول س‪9‬راب‪ ،‬والث‪9‬اني م‪9‬اء‪ ،‬ومن أجه‪9‬د نفس‪9‬ه م‪9‬ع الس‪9‬راب لن‬
‫يصل إلى الماء‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وكيف أصل إلى الماء؟‬
‫ق‪99‬ال‪ :‬ب‪99‬البحث عن رب الم‪99‬اء‪ ،‬ألم تق‪99‬رأ قول‪99‬ه تع‪99‬الى‪َ {:‬والَّ ِذينَ َك َف‪99‬رُوا‬
‫آن َما ًء َحتَّى ِإ َذا َجا َءهُ َل ْم َي ِج‪ْ 9‬دهُ َش‪9‬يْئاً َو َو َج‪َ 9‬د‬ ‫ب ِب ِقي َع ٍة َيحْ َسبُهُ َّ‬
‫الظ ْم ُ‬ ‫َأ ْع َمالُه ُْم َك َس َرا ٍ‬
‫ب}(النور‪)39 :‬‬ ‫هَّللا َ ِع ْن َد ُه َف َوفَّا ُه ِح َسا َبهُ َوهَّللا ُ َس ِري ُع ْال ِح َسا ِ‬
‫قلت‪ :‬فمن فقد هللا؟‬

‫‪40‬‬
‫قال‪ :‬لم يظفر إال بالسراب‪ ،‬ولهذا كانت هذه الج‪99‬وهرة ج‪99‬وهرة‪ (:‬م‪99‬اذا‬
‫وجد من فقدك )‬
‫قلت‪ :‬هذا جزء من حكمة ابن عطاء هللا‪.‬‬
‫قال‪ :‬هذه حكمة من حكم الوجود‪ ،‬وسنة من سنن الك‪9‬ون‪ ،‬و{ َو َل ْن ت َِج‪َ 9‬د‬
‫ال}(األحزاب‪)62 :‬‬ ‫ِل ُسنَّ ِة هَّللا ِ َت ْب ِدي ً‬
‫قلت‪ :‬أريد الشواهد‪ ،‬فأنت تعرف أني ال أقبل إال الشواهد‪.‬‬
‫قال‪ :‬البصيرة خير الشواهد‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وكالم هللا نور البصيرة‪.‬‬
‫قال‪ :‬إليك هذه األشعة األربعة‪.‬‬
‫الشعاع األول‪:‬‬
‫قلت‪ :‬فما الشعاع األول؟‬
‫ُ‬
‫ق‪9‬ال‪ :‬ه‪9‬و الش‪9‬عاع ال‪9‬ذي يض‪9‬يء من س‪9‬راج قول‪9‬ه تع‪9‬الى‪َ {:‬وأ ِحي‪9‬طَ‬
‫َاويَ‪9‬ةٌ َعلَى ُعر ِ‬
‫ُوش‪9‬هَا‬ ‫ق فِيهَا َو ِه َي خ ِ‬ ‫بِثَ َم ِر ِه فَأَصْ بَ َح يُقَلِّبُ َكفَّ ْي ِه َعلَى َما أَ ْنفَ َ‬
‫َويَقُو ُل يَا لَ ْيتَنِي لَ ْم أُ ْش ِر ْك بِ َربِّي أَ َحداً}(الكهف‪)42:‬‬
‫قلت‪ :‬هذه قصة هالك مال رجل غره ماله‪.‬‬
‫قال‪ :‬لم يغره ماله فق‪99‬ط‪ ،‬ب‪99‬ل اس‪99‬تعبده من دون هللا‪ ،‬ألم تس‪99‬مع قول‪99‬ه‬
‫بعد ندمه‪ {:‬يَا لَ ْيتَنِي لَ ْم أُ ْش ِر ْك بِ َربِّي أَ َحداً}(الكهف‪)42:‬‬
‫قلت‪ :‬فما في هذا من أشعة هذه الجوهرة؟‬
‫قال‪ :‬ه‪9‬ذا الش‪9‬عاع يق‪9‬ول ل‪9‬ك‪ :‬ك‪9‬ل م‪9‬ا امتلكت‪9‬ه من غ‪9‬ير هللا ف‪9‬ان أو‬
‫سيفنى‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ال شك في هذا‪ ..‬فهذه حقيقة من حقائق األبد‪ ،‬فقد قال تعالى‪{:‬‬
‫ع َم َع هَّللا ِ إِلَها ً آخ ََر ال إِلَ‪9‬هَ إِاَّل هُ‪َ 9‬و ُك‪99‬لُّ َش‪ْ 9‬ي ٍء هَالِ‪ٌ 9‬‬
‫ك إِاَّل َوجْ هَ‪9‬هُ لَ‪9‬هُ‬ ‫َوال تَ ْد ُ‬
‫ْال ُح ْك ُم َوإِلَ ْي ِه تُرْ َجعُونَ }(القصص‪)88:‬‬
‫ك ُذو ْال َج ِ‬
‫الل‬ ‫قال‪ :‬وقال تعالى‪ُ {:‬كلُّ َم ْن َعلَ ْيهَ‪99‬ا فَ‪ٍ 9‬‬
‫‪9‬ان َويَ ْبقَى َوجْ‪ 9‬هُ َربِّ َ‬
‫َواأْل ِ ْك َر ِام}(الرحمن‪ 269:‬ـ ‪)27‬‬
‫قلت‪ :‬فما األثر الذي يحدثه سماع هذه اآليات؟‬
‫قال‪ :‬ال يتعلق بالهالك إال هالك‪ ..‬وال يتعلق بالفاني إال الفاني‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وكلنا هالكون‪ ،‬فلذلك ترانا نتعلق بالهالكين‪ ..‬فه‪99‬ل علين‪99‬ا ل‪99‬وم‬
‫في ذلك؟‬
‫قال‪ :‬نحن هالكون‪ ،‬ولكن فطرنا مملوء ة بحب الحياة‪ ،‬ألم تس‪99‬مع قول‪99‬ه‬

‫‪41‬‬
‫ال َيا آ َد ُم َهلْ َأ ُد ُّلكَ َع َلى َش َج َر ِة ْال ُخ ْل ِد َو ُم ْل ٍك ال‬‫ان َق َ‬
‫ط ُ‬ ‫س ِإ َل ْي ِه ال َّش ْي َ‬
‫تعالى‪َ {:‬ف َوس َْو َ‬
‫َي ْب َلى} (طـه‪)120 :‬‬
‫قلت‪ :‬بلى‪ ..‬فما في هذه اآلية من فطرة الخلود؟‬
‫قال‪ :‬لوال أن هللا مأل فطرة اإلنسان بحب الخلود ما جاءه الش‪99‬يطان من‬
‫هذا الباب‪.‬‬
‫قلت‪ :‬صدقت‪ ..‬فالشيطان ال يرتع إال فيما يحمله اإلنس‪99‬ان من مع‪99‬اني‪..‬‬
‫فهو يبحث عنها ليقلب حقائقها‪.‬‬
‫قال‪ :‬ولهذا‪ ..‬فإن من أراد الحياة الخالدة يحتاج إلى التعلق بالخالد ال‪99‬ذي‬
‫‪9‬وت َو َس‪9‬بِّحْ‬‫ال يموت‪ ،‬ألم تسمع قول‪99‬ه تع‪9‬الى‪َ {:‬وت ََو َّكلْ َع َلى ْال َح ِّي الَّ ِذي ال َي ُم‪ُ 9‬‬
‫ب ِع َب‪99‬ا ِد ِه خَ ِب‪99‬يراً}(الفرق‪99‬ان‪ ،)58 :‬ففي اآلي‪99‬ة إش‪99‬ارة‬ ‫ِب َح ْم‪ِ 9‬د ِه َو َك َفى ِب ‪ِ 9‬ه ِب ‪ُ 9‬ذنُو ِ‬
‫ص‪99‬ريحة إلى ه‪99‬ذا الش‪99‬عاع ال‪99‬ذي يخرج‪99‬ك من األك‪99‬وان ليربط‪99‬ك ب‪99‬رب‬
‫األكوان‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ألهذا نرى النصوص الكثيرة تخبر عن هالك األم‪99‬وال‪ ،‬وذه‪99‬اب‬
‫ف ِم ْن‬ ‫ط‪99‬افَ َع َل ْي َه‪99‬ا َ‬
‫ط‪99‬ا ِئ ٌ‬ ‫العز عن أهله‪ ،‬كقوله تعالى عن أصحاب الجن‪9‬ة‪َ {:‬ف َ‬
‫الصَّر ِيم}(القلم‪ 19 :‬ـ ‪)20‬‬ ‫ِ‬ ‫ت َك‬ ‫َربِّكَ َوهُ ْم نَا ِئ ُمونَ َفأَصْ َب َح ْ‬
‫قال‪ :‬لقد كان ما حل بتلك الجنة من من أكبر نعم هللا عليهم‪.‬‬
‫قلت‪ :‬كيف تقول هذا؟‪ ..‬هذه عقوبة‪ ،‬وليست نعمة‪.‬‬
‫قال‪ :‬كل نعمة تحجبك عنه عقوبة‪ ..‬وكل عقوبة توصلك إليه نعمة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ص‪99‬دقت‪ ..‬فل‪99‬وال أن هللا تع‪99‬الى ابتالهم به‪99‬ذا البالء‪ ،‬لم‪99‬ا ق‪99‬الوا‪:‬‬
‫ظا ِل ِمينَ }(القلم‪)29 :‬‬ ‫{ ُسب َْحانَ َر ِّبنَا ِإنَّا ُكنَّا َ‬
‫قال‪ :‬إن غلة هذه المقولة أعظم من كل غلة كان يمكن أن يظفروا بها‪.‬‬
‫الشعاع الثاني‪:‬‬
‫قلت‪ :‬فما الشعاع الثاني؟‬
‫ص‪9‬بَ َح‬ ‫قال‪ :‬هو الش‪99‬عاع ال‪99‬ذي يض‪99‬يء من س‪99‬راج قول‪99‬ه تع‪9‬الى‪َ {:‬وأَ ْ‬
‫ق لِ َم ْن يَ َش ‪9‬ا ُء‬ ‫س يَقُولُونَ َو ْي َك‪99‬أ َ َّن هَّللا َ يَب ُ‬
‫ْس ‪9‬طُ ال‪ْ 9‬‬
‫‪9‬رِّز َ‬ ‫الَّ ِذينَ تَ َمنَّوْ ا َم َكانَهُ بِاأْل َ ْم ِ‬
‫ِم ْن ِعبَ‪99‬ا ِد ِه َويَ ْق‪ِ 99‬د ُر لَ‪99‬وْ ال أَ ْن َم َّن هَّللا ُ َعلَ ْينَ‪99‬ا لَ َخ َس‪99‬فَ بِنَ‪99‬ا َو ْي َكأَنَّهُ ال يُ ْفلِ ُح‬
‫ْال َكافِرُونَ }(القصص‪)82:‬‬
‫قلت‪ :‬فما في هذا الشعاع من حقائق هذه الجوهرة؟‬
‫ق‪99‬ال‪ :‬ه‪99‬ذا الش‪99‬عاع يق‪99‬ول ل‪99‬ك‪ :‬إن لم تش‪99‬هد هالك مال‪99‬ك‪ ،‬فستش‪99‬هد‬
‫هالكك‪ ،‬وفي هالكك هالك مالك‪.‬‬

‫‪42‬‬
‫قلت‪ :‬وضح لي ما تقصد‪.‬‬
‫قال‪ :‬ما الغرض الذي تطلبه من األموال؟‬
‫قلت‪ :‬االنتفاع بها‪ ،‬واالستفادة منها‪.‬‬
‫قال‪ :‬أرأيت إن منعت من هذه االستفادة‪ ،‬وحرمت من هذا التمتع!؟‬
‫قلت‪ :‬حينها سأعتبر نفسي خاليا من المال‪ ،‬حتى ل‪9‬و عم‪9‬رت كن‪9‬وز‬
‫الدنيا خزائني‪.‬‬
‫قال‪ :‬فهذا الشعاع يخاطبك من هذا الب‪9‬اب لي‪9‬نزع من قلب‪9‬ك عبودي‪9‬ة‬
‫الذهب والفضة‪ ،‬وينزع من الفقير شوقه الذي استعبده للذهب والفضة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬يخاطبه بمنطق الفناء الذي خاطبه به الشعاع السابق‪.‬‬
‫قال‪ :‬أجل‪ ..‬فما أكثر الخلق الذين لم يش‪99‬هدوا هالك أم‪99‬والهم‪ ..‬وك‪99‬ل‬
‫الخلق شهدوا هالكهم عن أموالهم‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فهل من فرق بينهما؟‬
‫ق‪99‬ال‪ :‬في التحقي‪99‬ق ال ف‪99‬رق بينهم‪99‬ا‪ ..‬فس‪99‬واء ذهب مال‪99‬ك عن‪99‬ك‪ ،‬أو‬
‫ذهبت أنت عن مالك‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أي عزاء يحمله هذا المعنى للفقراء‪ ..‬ألسنا نبحث عن س‪99‬لوى‬
‫الفقراء؟‬
‫قال‪ :‬هذا المعنى يخلص الفقراء من عبودية الشعور بالفقر لألشياء‬
‫ليزج بهم في عبودية االفتقار هلل‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فكيف نتحقق به؟‬
‫قال‪ :‬بذكر الموت‪ ..‬فما حل الموت في كثير إال قلل‪99‬ه‪ ،‬وال في قلي‪99‬ل‬
‫إال كثره‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أسمع هذا اللفظ كثيرا فما معناه‪.‬‬
‫ق‪99‬ال‪ :‬ه‪99‬ذا اللف‪99‬ظ يخ‪99‬اطب الفق‪99‬راء ليق‪99‬ول لهم‪ :‬إن م‪99‬ا عن‪99‬دكم كث‪99‬ير‬
‫يكفيكم‪ ،‬فال تحزنوا‪ ..‬ويقول لألغنياء‪ :‬إن ما عن‪99‬دكم قلي‪99‬ل‪ ،‬فال تغ‪99‬تروا‬
‫به‪.‬‬
‫قلت‪ :‬إن هذا يضاد الحقيقة‪ ..‬فم‪9‬ا عن‪9‬د الفق‪9‬راء قلي‪9‬ل‪ ،‬وب‪9‬ه ص‪9‬اروا‬
‫فقراء‪ ..‬وما عند األغنياء كثير‪ ،‬وبه وجبت عليهم الزكاة‪.‬‬
‫قال‪ :‬نحن نتكلم في الحقائق ال في الرس‪99‬وم‪ ..‬فمن نظ‪99‬ر إلى مايس‪99‬د‬
‫الحاجة‪ ،‬فالقليل كثير‪ ..‬ومن نظر إلى مايسد طمعه فالكثير قليل‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فذكر الموت إذن عزاء للفقراء‪.‬‬

‫‪43‬‬
‫قال‪ :‬وتربية لألغنياء‪.‬‬
‫الشعاع الثالث‪:‬‬
‫قلت‪ :‬فما الشعاع الثالث؟‬
‫قال‪ :‬هو الشعاع الذي يضيء من سراج قوله تعالى‪ {:‬قَ‪99‬ا َل فَ‪ْ 9‬‬
‫‪9‬اذهَبْ‬
‫اس }(طـه‪)97 :‬‬ ‫فَإ ِ َّن لَكَ فِي ْال َحيَا ِة أَ ْن تَقُ َ‬
‫ول ال ِم َس َ‬
‫قلت‪ :‬هذه اآلي‪99‬ة تتح‪99‬دث عن عقوب‪99‬ة الس‪99‬امري‪ ..‬وال أرى فيه‪99‬ا أي‬
‫سلوى للفقراء‪ ،‬وال أي تربية لألغنياء‪.‬‬
‫قال‪ :‬اسمعها بعين الحقائق لتبصر الشعاع الذي ينطلق منها‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ليس في طاقة أذني أن تسمع غير الحروف واألصوات‪.‬‬
‫قال‪ :‬أهذه هي عقوبة السامري؟‬
‫قلت‪ :‬أجل‪ ..‬لقد عاقبه هللا بمرض يحرمه من المجتمع‪ ..‬فهو ال يود‬
‫أن يمس أحدا‪ ،‬أويالقي أحدا‪.‬‬
‫قال‪ :‬فعندما أراد هللا أن يع‪99‬اقب الس‪99‬امري بم‪99‬ا تقتض‪99‬يه فطرت‪99‬ه من‬
‫مخالطة المجتمع‪ ،‬هل أزال المجتمع وحرمه منه‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ال‪ ..‬المجتمع كان موجودا على مرمى بصره‪.‬‬
‫قال‪ :‬فهل قبض هللا روحه ليحرمه من رؤية المجتمع؟‬
‫قلت‪ :‬ال‪ ..‬بل بقي موجودا‪.‬‬
‫قال‪ :‬ولكن كيف حرم من المجتمع مع أنه كان في المجتمع؟‬
‫قلت‪ :‬لقد ذكرت لك أنه ابتلي بمرض يحرمه من المجتم‪99‬ع م‪99‬ع أن‪99‬ه‬
‫في وسطه وبين أفراده‪.‬‬
‫قال‪ :‬فافهم سر هذا الشعاع من هذا المعنى‪.‬‬
‫قلت‪ :‬كيف؟‬
‫ق‪99‬ال‪ :‬لق‪99‬د ع‪99‬رفت في الش‪99‬عاعين الس‪99‬ابقين أن الم‪99‬ال ال‪99‬ذي اس‪99‬تعبد‬
‫األغنياء والفقراء إما أن يذهب أو يذهب بصاحبه‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أجل‪ ..‬وهذا الشعاع؟‬
‫قال‪ :‬يقول لك‪:‬قد تبقى م‪99‬ع الم‪99‬ال‪ ..‬ولكن‪99‬ه لن ينفع‪99‬ك‪ ..‬ب‪99‬ل س‪99‬تمتلئ‬
‫حسرة وأنت تنظر إليه‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أأصير كالعيس في البيد يقتلها الظمأ؟‬
‫قال‪ :‬أجل‪ ..‬ولو كان الماء فوق ظهورها محمول‪.‬‬
‫قلت‪ :‬نعم‪ ..‬إني كثيرا ما أالحظ هذا‪ ..‬فاألشياء قد تك‪99‬ون موج‪99‬ودة‪،‬‬

‫‪44‬‬
‫وبوفرة‪ ..‬ولكنا ال نجد أي متعة‪ ،‬ونحن نتناولها‪.‬‬
‫قال‪ :‬ألن التلذذ ليس باألشياء‪ ..‬وإنما بما يخلقه هللا فيك من السكينة‬
‫التي تستقبل التلذذ وتتمتع به‪ ..‬الل‪99‬ذة من هللا ال من األش‪99‬ياء‪ ..‬فق‪99‬د تأك‪99‬ل‬
‫كسرة يابسة‪ ،‬ويضع هللا في لسانك من التلذذ بها ما ال تج‪99‬ده في أش‪99‬هى‬
‫المأكوالت‪.‬‬
‫قلت‪ :‬صحيح هذا‪..‬‬
‫قال‪ :‬بل هوحقيقة يشير إليها‪ ،‬بل يصرح بها قوله تع‪9‬الى‪ {:‬قُ ْلنَ‪9‬ا َي‪9‬ا َن‪9‬ارُ‬
‫ُكو ِني َبرْ داً َو َسالماً َع َلى ِإب َْرا ِهي َم}(االنبياء‪ ..)69 :‬فاهلل تعالى لم يطفئ النار‪،‬‬
‫وإنما جعل في إبراهيم ‪ ‬من السكينة واإليمان ما تتحول به الن‪99‬ار ب‪99‬ردا‬
‫وسالما‪.‬‬
‫قلت‪ :‬صحيح هذا‪ ..‬وقد أشار القرآن الك‪9‬ريم إلى ه‪9‬ذا المع‪9‬نى في قول‪9‬ه‬
‫ال َو َلوْ َأ َرا َكه ُْم َك ِثيراً َل َف ِش ْلتُ ْم َو َل َتن ْ‬
‫َ‪99‬ازَعتُ ْم ِفي‬ ‫تعالى‪ِ {:‬إ ْذ ي ُِري َكهُ ُم هَّللا ُ ِفي َمن َِامكَ َق ِلي ً‬
‫ور}(ألنف‪99‬ال‪،)43 :‬فاهلل تع‪99‬الى جع‪99‬ل‬ ‫ت الصُّ ُد ِ‬ ‫اأْل َ ْم ِر َو َل ِك َّن هَّللا َ َسلَّ َم ِإنَّهُ َع ِلي ٌم ِب َذا ِ‬
‫في هذه الرؤيا ما يطمئن القلوب ويملؤها بالثقة‪.‬‬
‫قال‪ :‬ليس األمر قاصرا على الرؤى‪ ،‬بل هو شامل للواقع‪ ..‬لكل واقع‪..‬‬
‫ألم تس‪99‬مع قول‪99‬ه تع‪9‬الى‪َ {:‬و ِإ ْذ ي ُِري ُك ُم‪99‬وهُ ْم ِإ ِذ ْال َت َق ْيتُ ْم ِفي َأ ْعيُ ِن ُك ْم َق ِلي ً‬
‫ال َويُ َق ِّللُ ُك ْم ِفي‬
‫ال َو ِإ َلى هَّللا ِ تُرْ َج ُع اأْل ُ ُمورُ}(ألنفال‪)44 :‬‬ ‫ض َي هَّللا ُ َأ ْمراً َكانَ َم ْفعُو ً‬ ‫َأ ْعيُ ِن ِه ْم ِل َي ْق ِ‬
‫قلت‪ :‬أجل‪ ..‬لقد وعيت هذا‪..‬‬
‫قال‪ :‬فاعبر من‪99‬ه إلى س‪99‬ائر الح‪9‬واس‪ ..‬فاهلل ال‪99‬ذي يتص‪99‬رف في األعين‬
‫يتصرف في اللسان واآلذان وفي كل جوارح اإلنسان ولطائفه‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أيمكن إذن أن يرزق هللا الفق‪9‬راء بمعيش‪9‬تهم البس‪9‬يطة من الراح‪9‬ة‬
‫واللذة والسلوان ما ال يجده األغنياء؟‬
‫ق‪9‬ال‪ :‬أج‪9‬ل‪ ..‬ف‪9‬الخلق خل‪9‬ق هللا‪ ..‬والل‪9‬ذات نعم من نعم‪9‬ه‪ ،‬يوزعه‪9‬ا لمن‬
‫يشاء‪ ،‬وكيف يشاء‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أال عالقة لها باألشياء؟‬
‫قال‪ :‬ال عالقة لها باألش‪9‬ياء‪ ..‬ألم تس‪9‬مع قول‪9‬ه تع‪9‬الى‪َ {:‬و َل‪9‬وْ ال َأ ْن َي ُك‪9‬ونَ‬
‫‪9‬ار َج‬
‫ض‪ٍ 9‬ة َو َم َع‪ِ 9‬‬ ‫اح َد ًة َل َج َع ْلنَا ِل َم ْن َي ْكفُرُ ِبالرَّحْ َم ِن ِلبُيُ‪99‬و ِت ِه ْم ُس‪9‬قُفاً ِم ْن ِف َّ‬ ‫النَّاسُ أُ َّم ًة َو ِ‬
‫ظ َهرُونَ َو ِلبُيُو ِت ِه ْم َأب َْواباً َوسُرُراً َع َل ْي َها َيتَّ ِكئُونَ َو ُز ْخرُفاً َو ِإ ْن ُكلُّ َذ ِلكَ َل َّما‬ ‫َع َل ْي َها َي ْ‬
‫َمتَا ُع ْال َح َيا ِة ال ُّد ْن َيا َواآْل ِخ َرةُ ِع ْن َد َربِّكَ ِل ْل ُمتَّ ِقينَ }(الزخرف‪ 33 :‬ـ ‪)35‬؟‬
‫قلت‪ :‬بلى‪ ..‬سمعتها‪ ..‬فما عالقتها بهذا؟‬

‫‪45‬‬
‫قال‪ :‬إن هللا يخبرنا بأن السعادة ليست في األشياء‪..‬‬
‫يش‪ً 9‬ة‬ ‫ض ع َْن ِذ ْك ِ‬
‫‪9‬ري َف‪9‬إِ َّن َل‪9‬هُ َم ِع َ‬ ‫قلت‪ :‬أهي مثل قوله تعالى‪َ {:‬و َم ْن َأ ْع َ‬
‫‪9‬ر َ‬
‫ض ْنكاً َونَحْ ُشرُ هُ َيوْ َم ْال ِق َيا َم ِة َأ ْع َمى}(طـه‪)124 :‬؟‬
‫َ‬
‫قال‪ :‬أج‪9‬ل‪ ..‬وق‪9‬د ع‪9‬بر عن ه‪9‬ذا الض‪9‬يق بالض‪9‬نك ليش‪9‬ير إلى أن حي‪9‬اة‬
‫هؤالء قد تكون واسعة من حيث األشياء‪ ..‬ولكنه‪9‬ا ض‪9‬يقة‪ ،‬ب‪9‬ل ض‪9‬يقة ج‪9‬دا‬
‫من حيث بركات األشياء‪ ،‬وما فيها من أصناف اللذات‪.‬‬
‫الشعاع الرابع‪:‬‬
‫قلت‪ :‬فما الشعاع الرابع؟‬
‫قال‪ :‬هو الشعاع المستمد من قوله تعالى على لسان الذي يكتشف حقيقة‬
‫األش‪9‬ياء ال‪9‬تي ك‪9‬ان يزه‪9‬و به‪9‬ا في ال‪9‬دنيا‪َ {:‬م‪99‬ا أَ ْغنَى َعنِّي َمالِيَ‪ْ 9‬ه هَلَ‪99‬كَ َعنِّي‬
‫س ُْلطَانِيَهْ} (الحاقة‪ 28:‬ـ‪)29‬‬
‫قلت‪ :‬فما يقصد هذا الشعاع؟‬
‫ق‪9‬ال‪ :‬ه‪9‬ذا الش‪9‬عاع ي‪9‬ذهب الزه‪9‬و ال‪9‬ذي يمأل قل‪9‬وب األغني‪9‬اء‪ ،‬وهم‬
‫ينظرون إلى أموالهم‪ ،‬فيمتلئون استغناء بها عن هللا‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فما يقول لهم؟‬
‫ق‪99‬ال‪ :‬يق‪99‬ول لهم‪ :‬إن ه‪99‬ذه األم‪99‬وال ال‪99‬تي ش‪99‬غلتكم عن هللا لن تنفعكم‬
‫أحوج ما تكونون إليها‪.‬‬
‫قلت‪ :‬لق‪99‬د ض‪99‬رب هللا ل‪99‬ذلك مثال في الق‪99‬رآن الك‪99‬ريم‪ ،‬فق‪99‬ال تع‪99‬الى‪:‬‬
‫ب تَجْ ‪ِ 9‬ري ِم ْن تَحْ تِهَ‪99‬ا‬ ‫{ أَيَ َو ُّد أَ َح ُد ُك ْم أَ ْن تَ ُك‪99‬ونَ لَ ‪9‬هُ َجنَّةٌ ِم ْن ن َِخي ‪ٍ 9‬ل َوأَ ْعنَ‪99‬ا ٍ‬
‫ض ‪َ 9‬عفَا ُء‬ ‫ص ‪9‬ابَهُ ْال ِكبَ ‪ُ 9‬ر َولَ ‪9‬هُ ُذ ِّريَّةٌ ُ‬ ‫ت َوأَ َ‬ ‫اأْل َ ْنهَ‪99‬ا ُر لَ ‪9‬هُ فِيهَ‪99‬ا ِم ْن ُك‪ِّ 9‬ل الثَّ َم‪َ 9‬را ِ‬
‫ت لَ َعلَّ ُك ْم‬
‫ك يُبَي ُِّن هَّللا ُ لَ ُك ُم اآْل ي‪99‬ا ِ‬
‫ت َك‪َ 9‬ذلِ َ‬ ‫ص ‪9‬ا ٌر فِي ‪ِ 9‬ه نَ‪99‬ا ٌر فَ‪99‬احْ تَ َرقَ ْ‬
‫صابَهَا إِ ْع َ‬‫فَأ َ َ‬
‫تَتَفَ َّكرُونَ } (البقرة‪)2669:‬‬
‫قال‪ :‬أجل‪ ..‬فهذا قد ذهب عنه ماله أحوج ما كان إليه‪ ..‬أتدري ما مثله؟‬
‫قلت‪ :‬ما مثله؟‬
‫قال‪ :‬مثل رجل أفنى عمره في بناء س‪9‬فينة ض‪9‬خمة وض‪9‬ع فيه‪9‬ا جمي‪9‬ع‬
‫جهده وجميع ما يحتاجه‪ ..‬وضيع في سبيلها كل شيء‪ ..‬لكنه م‪99‬ا إن توس‪99‬ط‬
‫البحر اللجي حتى نبع من وسطها عيون أغرقتها وأغرقته معها‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ما أجدره لو مأل نفسه بالراحة‪ ،‬وحفظ عالقاته‪.‬‬
‫قال‪ :‬هو تمنى لو حصل منه ذلك‪ ،‬ولكن الت ساعة مندم‪.‬‬
‫قلت‪ :‬لقد أخبر تعالى عن الح‪9‬ال ال‪9‬تي يك‪9‬ون عليه‪9‬ا ه‪9‬ؤالء في زحم‪9‬ة‬

‫‪46‬‬
‫ب َيوْ ِم ِئ‪ٍ 9‬ذ ِب َب ِني‪ِ 9‬ه‬‫‪9‬و ُّد ْال ُمجْ‪ِ 9‬ر ُم َل‪9‬وْ َي ْفتَ‪ِ 9‬دي ِم ْن عَ‪َ 9‬ذا ِ‬
‫األهوال‪ ،‬فقال‪ {:‬يُ َبصَّرُو َنه ُْم َي َ‬
‫ض َج ِميع‪9‬اً ثُ َّم يُ ْن ِجي‪ِ 9‬ه}‬ ‫ص‪9‬ي َل ِت ِه الَّ ِتي تُ ْؤ ِوي‪ِ 9‬ه َو َم ْن ِفي اأْل َرْ ِ‬‫اح َب ِت ِه َو َأ ِخي‪ِ 9‬ه َو َف ِ‬
‫ص‪ِ 9‬‬
‫َو َ‬
‫(المعارج‪11 :‬ـ‪)14‬‬
‫قال‪ :‬وقد أخبر عن النتيجة التي يتقنع بها األغنياء والفقراء الذين أفن‪99‬وا‬
‫اف ِر َج‪ 9‬ا ً‬
‫ال‬ ‫‪9‬ر ِ‬ ‫ص‪َ 9‬حابُ اأْل َ ْع َ‬
‫أعمارهم بحث‪9‬ا عم‪9‬ا ال يغ‪9‬نيهم‪ ،‬فق‪9‬ال‪َ {:‬ونَ‪9‬ادَى َأ ْ‬
‫عْرفُ‪999‬و َنه ُْم ِب ِس‪999‬ي َماهُ ْم َق‪999‬الُوا َم‪999‬ا َأ ْغنَى َع ْن ُك ْم َج ْم ُع ُك ْم َو َم‪999‬ا ُك ْنتُ ْم ت َْس‪َ 999‬ت ْك ِبرُونَ }‬
‫َي ِ‬
‫(ألعراف‪)48 :‬‬
‫قلت‪ :‬فما في هذا الشعاع من السلوى للفقراء والتربية لألغنياء؟‬
‫قال‪ :‬يقول لهما‪ :‬ال تنشغال بهذا الغنى الوهمي عن الغنى الحقيقي‪ ..‬فم‪9‬ا‬
‫تجمعونه من أموال‪ ،‬أو ما تحزنون عليه من أموال اليساوي حسنة واح‪99‬دة‬
‫في ميزان رجل مؤمن‪.‬‬
‫قلت‪ :‬إن هذا يجعل األغنياء والفقراء يتسابقون إلى الحسنات‪..‬‬
‫قال‪ :‬وحينذاك يذهب زهو الغني وكبرياؤه وغفلته‪.‬‬
‫قلت‪ :‬والفقير‪!..‬؟‬
‫قال‪ :‬ال يضر الفقير شيء مثل الغني الجاح‪9‬د‪ ..‬ف‪9‬إن آمن الغ‪9‬ني اغت‪9‬نى‬
‫الفقير‪.‬‬
‫قلت‪ :‬لم؟‬
‫قال‪ :‬ألن ثروة الغني سينتفع بها الفق‪9‬ير‪ ..‬وح‪9‬ق الفق‪9‬ير ال يتس‪9‬لط علي‪9‬ه‬
‫الغني‪.‬‬
‫قلت‪ :‬نستطيع بهذا أن نمحو الفقر والغنى‪.‬‬
‫قال‪ :‬أجل‪ ..‬بالتنافس على الخير يزول الغنى والفقر‪ ..‬فالفقير من خفت‬
‫موازينه من حسنات هللا‪.‬‬
‫قلت‪ :‬لقد ذكرتني بحديث في الزمن األول‪ ..‬حين كان الن‪9‬اس ينظ‪9‬رون‬
‫إلى ما تكتب المالئكة ال إلى ما تكتب الخزنة‪ ،‬فقد روي أن ناس‪99‬ا ق‪99‬الوا‪ :‬ي‪99‬ا‬
‫رسول هللا‪ ،‬ذهب أهل الدثور باألجور‪ ،‬يص‪9‬لون كم‪9‬ا نص‪9‬لي‪ ،‬ويص‪9‬ومون‬
‫كما نصوم‪ ،‬ويتصدقون بفضول أموالهم‪ ،‬قال‪ (:‬أوليس قد جع‪9‬ل هللا لكم م‪9‬ا‬
‫تصدقون به‪ :‬إن بكل تسبيحة ص‪9‬دقة‪ ،‬وك‪9‬ل تكب‪9‬يرة ص‪9‬دقة‪ ،‬وك‪9‬ل تحمي‪9‬دة‬
‫صدقة‪ ،‬وكل تهليل‪9‬ة ص‪9‬دقة‪ ،‬وأم‪9‬ر ب‪9‬المعروف ص‪9‬دقة‪ ،‬ونهي عن المنك‪9‬ر‬
‫صدقة‪ ،‬وفي بضع أحدكم صدقة )‪ ،‬قالوا‪ :‬يا رسول هللا‪ ،‬أيأتي أحدنا شهوته‬
‫ويكون له فيها أجر؟ قال‪ (:‬أرأيتم لو وض‪9‬عها في ح‪9‬رام أك‪99‬ان علي‪99‬ه وزر؟‬

‫‪47‬‬
‫فكذلك إذا وضعها في الحالل كان له أجر )‬
‫(‪)1‬‬
‫***‬
‫ما قلت ه‪9‬ذا ح‪9‬تى ش‪9‬عرت بج‪9‬وهرة كريم‪9‬ة ت‪9‬نزل أعم‪9‬اق ص‪9‬دري‪،‬‬
‫تنجلي من نورها بعض الظلمات‪.‬‬
‫قلت في نفسي حين نزولها‪ :‬نعم‪ ..‬إن الفقير في الحقيقة ال يؤلمه فق‪99‬ره‪،‬‬
‫وإنا يؤلمه شعوره بأن غيره يملك ما ال يمل‪9‬ك‪ ،‬فه‪9‬و ينط‪9‬وي على حس‪9‬د ال‬
‫شعوري يجعله يمتلئ حزنا وأسفا‪.‬‬
‫فإذا علم هذا الفقير أن الكل فق‪9‬ير‪ ،‬وأن أب‪9‬واب الغ‪9‬نى الحقيقي مفتوح‪9‬ة‬
‫للجميع‪ ،‬وأن ذلك الغني الذي يتألم لغناه ما هو إال فقير من الفقراء‪ ..‬ب‪9‬ل ق‪9‬د‬
‫يكون أذل الفقراء وأحوجهم‪ ،‬فإنه سيعيش ممتلئا بغناه سعيدا بغناه‪.‬‬
‫لست أدري كيف خطر على بالي إبراهيم بن أدهم‪ ،‬وقد ك‪99‬ان من أه‪9‬ل‬
‫النعم بخراسان؟ فبـينما هو يشرف من قصر له ذات يوم إذ نظر إلى رجل‬
‫في فناء القصر وفي يده رغيف يأكله‪ ،‬فلما أكل ن‪9‬ام‪ ،‬فق‪9‬ال لبعض غلمان‪9‬ه‪:‬‬
‫إذا قام فجئني به‪ ،‬فلما قام ج‪9‬اء ب‪9‬ه إلي‪9‬ه‪ ،‬فق‪9‬ال إب‪9‬راهيم‪ :‬أيه‪9‬ا الرج‪9‬ل أكلت‬
‫الرغي‪99‬ف وأنت ج‪99‬ائع؟ ق‪99‬ال‪ :‬نعم‪ .‬ق‪99‬ال‪ :‬فش‪99‬بعت؟ ق‪99‬ال‪ :‬نعم‪ ،‬ق‪99‬ال‪ :‬ثم نمت‬
‫طيباً؟ قال‪ :‬نعم‪ .‬فقال إبراهيم في نفسه‪ ،‬فما أص‪99‬نع أن‪99‬ا بال‪99‬دنيا والنفس تقن‪99‬ع‬
‫بهذا القدر‪.‬‬
‫وذكرت عامر بن عبد القيس حين مر عليه رجل‪ ،‬وهو يأكل ملحا ً‬
‫وبقالً‪ ،‬فقال له‪ :‬يا عبد هللا أرضيت من الدنيا بهذا؟ فقال‪ :‬أال أدل‪99‬ك على‬
‫من رضي بشر من هذا؟ قال‪ :‬بلى‪ .‬قال‪ :‬من رضي بالدنيا عوض‪99‬ا ً عن‬
‫اآلخرة‪.‬‬
‫وذكرت محمدا بن واسع حين كان يخرج خبزاً يابس‪9‬ا ً فيبل‪9‬ه بالم‪9‬اء‬
‫ويأكله بالملح ويقول‪ :‬من رضي من الدنيا بهذا لم يحتج إلى أحد‪.‬‬
‫ماذا فقد من وجدك‪:‬‬
‫صعد بي المرشد طابقا أعلى في قصر االستغناء‪ ،‬ه‪99‬و قم‪99‬ة طوابقه‪99‬ا‪،‬‬
‫فالحت أنوار عظيمة جميلة ال يمكن وصفها كادت تخط‪9‬ف بص‪9‬ري‪ ،‬قلت‬
‫للمعلم‪ :‬ما هذا؟‬
‫ق‪99‬ال‪ :‬ه‪99‬ذه منطق‪99‬ة‪ (:‬ق‪99‬دس األق‪99‬داس )‪ ،‬ف‪99‬احرص على األدب‪َ { ،‬فال‬
‫َتسْأَ ْل ِني ع َْن َش ْي ٍء َحتَّى أُحْ ِد َ‬
‫ث َلكَ ِم ْنهُ ِذ ْكراً}(الكهف‪)70 :‬‬

‫‪ ) )(1‬مسلم‪.‬‬

‫‪48‬‬
‫صي َلكَ َأ ْمراً}(الكهف‪)69 :‬‬‫صا ِبر ًا َوال َأ ْع ِ‬
‫قلت‪َ {:‬ست َِج ُد ِني ِإ ْن َشا َء هَّللا ُ َ‬
‫ارت‪9‬د إلي ط‪9‬رفي‪ ،‬فأبص‪9‬رت ج‪9‬وهرة ال يمكن وص‪9‬فها‪ ..‬نوره‪9‬ا يك‪9‬اد‬
‫يغمر كل شيء‪ ،‬بل كدت أحس أني شعاع من أشعة نورها‪ ،‬سألت المرشد‬
‫عن هذه الجوهرة العزيزة‪ ،‬فقال‪ :‬هذه جوهرة‪ (:‬ماذا وجد من فقدك )‬
‫قلت‪ :‬ما معنى ذلك؟‬
‫قال‪ :‬أنا المرشد‪ ،‬ولست المعلم‪ ،‬اسأل معلم السالم‪.‬‬
‫أجابني من غير أن أسأله‪ :‬ال يكفي أن تشعر بأنك لست مط‪99‬رودا‪ ..‬وال‬
‫يكفي أن تشعر بأن في إمكانك أن تكون مختارا‪ ..‬وال يكفي أن تش‪99‬عر ب‪99‬أن‬
‫كل ما يملك غيرك سراب وهباء‪ ،‬لتمتلئ بالسالم والسعادة؟‬
‫قلت‪ :‬فما الذي ينقص الفقير حتى يشعر بسكينة أعظم وسالم أتم؟‬
‫قال‪ :‬أن يشعر بأنه يملك كل شيء‪ ،‬وأنه ال ينقصه شيء‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وما فائدة هذا الشعور‪ ،‬وما عالقته باالستغناء‪ ،‬وم‪99‬ا عالقت‪99‬ه قب‪99‬ل‬
‫ذلك كله وبعده بالسالم؟‬
‫ق‪99‬ال‪ :‬ألن افتق‪99‬اره إلى أي ش‪99‬يء يع‪99‬ني دوام حاجت‪99‬ه وفاقت‪99‬ه ونقص‪99‬ه‪،‬‬
‫واالستغناء يقتضي الغنى المحض‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فما عالقة ذلك بالسالم‪.‬‬
‫قال‪ :‬ألن الفقر نقص وض‪9‬عف‪ ،‬والس‪9‬الم ال يج‪9‬اور الض‪9‬عفاء‪ ،‬وأعظم‬
‫الضعف الكفر‪ ،‬ألم تسمع قوله ‪ (:‬كاد الفق‪99‬ر أن يك‪99‬ون كف‪99‬را )(‪ ..)1‬أتفهم‬
‫وجه اإلشارة في هذا الحديث؟‬
‫قلت‪ :‬أفهم معناه الظاهر‪ ،‬وهو ما يستدل به قومي في حربهم للفقر‪.‬‬
‫قال‪ :‬أما معناه الخفي الذي قد يغفل‪9‬ون عن‪9‬ه‪ ،‬فه‪9‬و أن الفق‪9‬ر يع‪9‬ني ع‪9‬دم‬
‫الشعور بنعم هللا‪ ،‬وعدم الشعور بها يعني كفرانها وجحودها‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فالفقر إذن كفر؟‬
‫قال‪ :‬الفقير الذي تملكه األشياء‪ ،‬وال يملك األشياء‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فكيف يملك كل شيء؟ ومن لدي‪99‬ه الطاق‪99‬ة ألن يمل‪99‬ك ك‪99‬ل ش‪99‬يء؟‬
‫ذلك هللا فهو ملك كل شيء ومالك كل شيء‪.‬‬
‫قال‪ :‬ومن عرف هللا ملك كل شيء‪.‬‬
‫قلت‪ :‬لم أفهم‪.‬‬

‫‪ ) )(1‬أورده العجلوني في كشف الخفاء (‪ ،)108 9/ 2‬وقال‪ :‬في سنده يزيد الرقاشي ضعيف‪،‬‬
‫ورواه الطبراني بسند فيه ضعيف مرفوعا‪.‬‬

‫‪49‬‬
‫قال‪ :‬من عرف هللا وااله وناصره وأحبه وعبده‪ ..‬أليس كذلك؟‬
‫قلت‪ :‬بلى‪.‬‬
‫قال‪ :‬ومن والى هللا وااله‪ ،‬ومن أحبه أحبه‪ ،‬ومن نصره نص‪99‬ره‪ ..‬أليس‬
‫كذلك؟‬
‫قلت‪ :‬بلى‪.‬‬
‫قال‪ :‬فمن كان كذلك أيحتاج شيئا من هللا‪ ،‬فيبخل عليه به؟‬
‫قلت‪ :‬معاذ هللا‪.‬‬
‫قال‪ :‬فمن لم يعز عليه شيء‪ ،‬ولم تطلبه نفسه شيئا إال وجده‪ ،‬أال يعت‪99‬بر‬
‫واجدا لكل شي مالكا لكل شيء!؟‬
‫قلت‪ :‬ربما‪ ،‬ولكن الملك شيء‪ ،‬واالنتفاع شيء آخر‪.‬‬
‫قال‪ :‬وما فائدة الملك غير االنتفاع؟‬
‫قلت‪ :‬لم أفهم ما تقصده‪.‬‬
‫قال‪ :‬أرأيت ل‪9‬و ملكت آالف القص‪9‬ور‪ ،‬وك‪9‬انت ل‪9‬ك آالف المط‪9‬اعم‪ ،‬ثم‬
‫انقبضت نفسك أو سدت شهيتها‪ ،‬أو حالت الحوائل بين‪99‬ك وبين الته‪99‬ام ذل‪99‬ك‬
‫الطعام الذي أعد لك‪ ،‬أكنت تفرح بامتالكك له؟‬
‫قلت‪ :‬ال أظنني سأفرح‪ ،‬بل ربما أحسد آخر طباخ يأكل فض‪99‬الت ذل‪99‬ك‬
‫الطعام الذي حرمت منه‪.‬‬
‫قال‪ :‬فقد فهمت إذن‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وماذا فهمت؟‬
‫قال‪ :‬بأن العبرة في االنتفاع ال بالملك‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ولكن ما عالقة ذلك بهذه الجوهرة النفيسة‪.‬‬
‫قال‪ :‬نور هذه الجوهرة يمتد في الصدور ليش‪9‬عرها ب‪9‬أن مج‪9‬رد وج‪9‬ود‬
‫هللا والتعرف عليه والوصول إلي‪99‬ه والق‪99‬رب من‪99‬ه ك‪99‬اف في الحص‪99‬ول على‬
‫الغنى التام الذي ال يفتقر صاحبه إلى شيء‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فما أنوار أشعتها؟‬
‫قال‪ :‬أشعتها كثيرة‪ ،‬ولكن يكفيك هنا هذه األربع‪.‬‬
‫الشعاع األول‪:‬‬
‫قلت‪ :‬فما الشعاع األول؟‬
‫قال‪ :‬مريم ـ عليها السالم ـ‬
‫قلت‪ :‬ما شأنها؟‬

‫‪50‬‬
‫ُ‪9‬ول َح َس‪ٍ 9‬ن َو َأ ْن َب َت َه‪9‬ا‬
‫قال‪ :‬اسمع ما يقوله تعالى في حقها‪َ {:‬ف َت َقبَّ َل َه‪9‬ا َر ُّب َه‪9‬ا ِب َقب ٍ‬
‫اب َو َج‪َ 9‬د ِع ْن‪َ 9‬دهَا ِر ْزق ‪9‬اً‬ ‫َخَل َع َل ْي َها زَ َك ِريَّا ْال ِمحْ َر َ‬ ‫َن َباتاً َح َسناً َو َكفَّ َل َها زَ َك ِريَّا ُكلَّ َما د َ‬
‫ق َم ْن َي َش‪9‬ا ُء ِب َغ ْي‪ِ 9‬‬
‫‪9‬ر‬ ‫‪9‬و ِم ْن ِع ْن‪ِ 9‬د هَّللا ِ ِإ َّن هَّللا َ َي‪99‬رْ ُز ُ‬ ‫ال َيا َمرْ َي ُم َأنَّى َل ِك َه َذا َق‪99‬ا َل ْ‬
‫ت هُ‪َ 9‬‬ ‫َق َ‬
‫ب}(آل عمران‪)37 :‬‬ ‫ِح َسا ٍ‬
‫قلت‪ :‬هذه اآلية أعرفها‪ ،‬فما محل الشاهد منها؟‬
‫قال‪ :‬أرأيت لو أن ملكا يملك كل مزراع الدنيا ومص‪9‬انع أغ‪9‬ذيتها طلب‬
‫من فالحيه وعلمائه أن يأتوه بفاكهة واحدة من الفواك‪99‬ه ال‪99‬تي ك‪99‬انت تأكله‪99‬ا‬
‫مريم ـ عليها السالم ـ وهي في محرابها‪ ،‬أكانوا يطيقون؟‬
‫قلت‪ :‬كال‪ ،‬فطعامهم من الشهادة‪ ،‬وذلك من الغيب‪ ،‬وما أبعد البون بين‬
‫الغيب والشهادة‪.‬‬
‫قال‪ :‬فمريم ـ عليها السالم ـ أغنى منهم؟‬
‫قلت‪ :‬في هذه الحالة‪ ،‬يمكن أن نقول‪ :‬نعم‪.‬‬
‫قال‪ :‬وفي غيرها‪ ،‬يمكن أن تقول‪ :‬نعم أيضا‪ ،‬ألن الذي أعطى الطع‪99‬ام‬
‫يمكن أن يعطي غيره‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فما سر هذا؟‬
‫قال‪ :‬سأضرب لك مثاال يوضح لك ه‪99‬ذا‪ :‬ل‪99‬و رأيت بس‪9‬تانا جميال‪ ،‬في‪9‬ه‬
‫من الفواكه والثمار م‪9‬ا في‪9‬ه‪ ،‬ونازعت‪9‬ك نفس‪9‬ك إلى ثم‪9‬اره‪ ،‬فم‪9‬ا ه‪9‬و أق‪9‬رب‬
‫طريق إلى ذلك؟‬
‫قلت‪ :‬أقرب طريق إلى ذلك أن أستأذن صاحبه في األخذ منه‪.‬‬
‫ق‪9‬ال‪ :‬ول‪9‬و أن‪9‬ك تق‪9‬ربت من ص‪9‬احبه من غ‪9‬ير أن تطلب من‪9‬ه ش‪9‬يئا‪ ،‬ثم‬
‫وفرت من األسباب ما يجعلك حبيبا في عينيه وقلبه‪.‬‬
‫قلت‪ :‬سيغدق علي حينها ثمارا كثيرة وفواكه لذيذة‪.‬‬
‫قال‪ :‬فلو كان تقربك أعظم‪ ،‬وكان هذا البستان الذي يملك‪99‬ه ذل‪99‬ك الغ‪99‬ني‬
‫جزءا من مائة ألف جزء من بساتينه؟‬
‫قلت‪ :‬حينها سيعطيني البستان جميعا‪ ،‬بل ربما يعطيني بساتين أخ‪99‬رى‬
‫أفضل وأعظم‪.‬‬
‫قال‪ :‬فهكذت فعلت مريم ـ عليها السالم ـ‬
‫قلت‪ :‬وماذا فعل أغنياء قومي الذين يتيهون بغناهم؟‬
‫قال‪ :‬اغتنموا ظالم الليل‪ ،‬فسطوا على شجرة من أشجار ذلك البستان‪،‬‬
‫فاقتطفوا ثمرة من ثمارها‪ ،‬ثم اقتتلوا فيما بينهم أيهم يملكها‪.‬‬

‫‪51‬‬
‫قلت‪ :‬لقد ك‪9‬ان في إمك‪9‬انهم أن يأخ‪9‬ذوها في ض‪9‬وء النه‪9‬ار‪ ،‬وب‪9‬دون أن‬
‫يقتتلوا؟‬
‫ق‪99‬ال‪ :‬ألنهم لم يتعلم‪999‬وا الس‪99‬الم‪ ..‬لق‪99‬د تعلم‪999‬وا أن ال ين‪99‬الوا ش‪99‬يئا إال‬
‫بالصراع‪.‬‬
‫الشعاع الثاني‪:‬‬
‫قلت‪ :‬وعيت هذا ‪ ..‬فما الشعاع الثاني؟‬
‫قال‪ :‬شعاع المعية‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فما شعاع المعية؟‬
‫قال‪ :‬إنه شعاع ينبع نوره من قوله تعالى على لسان موس‪9‬ى ‪َ {:‬كاَّل‬
‫ين}(الشعراء‪)62 :‬‬ ‫ِإ َّن َم ِع َي َربِّي َس َي ْه ِد ِ‬
‫قلت‪ :‬هذه اآلية تخ‪9‬بر عن موق‪9‬ف موس‪9‬ى ‪ ‬عن‪9‬دما خ‪9‬رج بص‪9‬حبة‬
‫بني إس‪9‬رائيل‪ ،‬فاش‪9‬تد حن‪9‬ق فرع‪9‬ون عليهم‪ ،‬فأرس‪9‬ل في الم‪9‬دائن حاش‪9‬رين‬
‫يجمعون له جنوده من أقاليمه‪ ،‬فركب وراءهم في أبهة عظيمة وجي‪9‬وش {‬
‫ال َأصْ َحابُ ُمو َسى ِإنَّا َل ُم ْد َر ُكونَ }(الشعراء‪)61 :‬‬ ‫ان َق َ‬ ‫َف َل َّما ت ََرا َءى ْال َج ْم َع ِ‬
‫ين}(الشعراء‪)62 :‬‬ ‫وحينها قال موسى ‪َ {:‬كاَّل ِإ َّن َم ِع َي َربِّي َس َي ْه ِد ِ‬
‫قال‪ :‬وحينها ماذا حصل؟‬
‫قلت‪ :‬بمج‪99‬رد أن قاله‪99‬ا أم‪99‬ره هّللا تع‪99‬الى أن يض‪99‬رب البح‪99‬ر بعص‪99‬اه‪،‬‬
‫فضربه فانفلق‪ ،‬فكان كل فرق كالطود العظيم‪ ،‬فنجا موسى ‪ ‬ومن معه‬
‫أجمعون‪.‬‬
‫قال‪ :‬وماذا حصل لفرعون؟‬
‫آل ِفرْ َع‪99‬وْ نَ َوالَّ ِذينَ ِم ْن‬
‫ب ِ‬ ‫قلت‪ :‬ما قصه القرآن الكريم‪ ،‬قال تعالى‪َ {:‬كد َْأ ِ‬
‫آل ِفرْ عَ‪9‬وْ نَ َو ُك‪9‬لٌّ َك‪9‬انُوا‬ ‫ت َر ِّب ِه ْم َفأَ ْه َل ْكنَ‪9‬اهُ ْم ِب‪ُ 9‬ذنُو ِب ِه ْم َو َأ ْغ َر ْقنَ‪9‬ا َ‬‫َق ْب ِل ِه ْم َك َّذبُوا ِبآي‪9‬ا ِ‬
‫ظا ِل ِمينَ } (ألنفال‪)54:‬‬ ‫َ‬
‫قال‪ :‬فكيف انتصر موسى ‪ ‬على فرعون؟‬
‫قلت‪ :‬بقوة هللا وتأييده‪ ،‬فلم يكن لموس‪9‬ى ‪ ‬حينه‪9‬ا أي ق‪9‬وة تمنع‪9‬ه من‬
‫بطش فرعون‪.‬‬
‫قال‪ :‬ولم يكن له كذلك أي مفر‪ ،‬ف‪99‬البحر أمام‪99‬ه‪ ،‬والع‪99‬دو وراءه‪ ..‬ولكن‬
‫لماذا خاف قوم موسى ‪ ‬فقالوا‪ِ {:‬إنَّا َل ُم‪ْ 9‬د َر ُكونَ }(الش‪9‬عراء‪ ،)61 :‬بينم‪9‬ا‬
‫لم يهتز لموسى ‪ ‬عصب‪ ،‬ولم يخفق له قلب؟‬
‫قلت‪ :‬إلدراكه أن هللا معه‪.‬‬

‫‪52‬‬
‫قال‪ :‬ومن كان هللا معه هل تقاومه جيوش الدنيا؟‬
‫قلت‪ :‬كي‪99‬ف يك‪99‬ون ذل‪99‬ك‪ ،‬وهللا رب ال‪99‬دنيا ورب جيوش‪99‬ها‪ ،‬ب‪99‬ل إن هللا‬
‫يرسل أضعف جنوده ليحفظ من يشاء‪ ،‬ويهلك من يشاء‪.‬‬
‫قال‪ :‬فمن كان صاحب جيش عرمرم يحميه أينما حل‪ ،‬وأينم‪99‬ا ارتح‪99‬ل‬
‫من دون أن يكلفه شيئا ال طعامه وال شرابه وال أجرته‪ ،‬أيعتبر فقيرا؟‬
‫قلت‪ :‬بل هو في درجة أعلى من الغنى‪ ..‬إنه في درجة الملوك‪.‬‬
‫قال‪ :‬بل هو في درجة أعلى من الملوك‪.‬‬
‫قلت‪ :‬كيف؟‬
‫قال‪ :‬جيوش الملوك يحركه‪99‬ا الطم‪99‬ع في أج‪99‬ر المل‪99‬وك‪ ،‬وق‪99‬د يس‪99‬تفزها‬
‫الطمع فتنقلب على الملوك‪ ،‬فيعيش الملك في حمايتها خائفا من جنايتها‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ومن كان في حماية هللا وجنود هللا‪.‬‬
‫قال‪ :‬تكون نصرته بحسب كينونته معه‪ ،‬وأمن‪9‬ه بحس‪9‬ب حض‪9‬وره م‪9‬ع‬
‫هللا‪ ..‬ألم تسمع إليه ‪ ‬وهو في أحرج المواقف التي مر بها‪ ،‬وهو في غار‬
‫ثور‪ ،‬ولو أن أحدا من الشركين رمى ببصره لرآه‪ ،‬ماذا قال حينها ‪‬؟‬
‫َص‪َ 9‬رهُ هَّللا ُ ِإ ْذ‬‫ص‪9‬رُوهُ َف َق‪ْ 9‬د ن َ‬ ‫ال َت ْن ُ‬ ‫قلت‪ :‬قال ما قص‪9‬ه علين‪9‬ا قول‪9‬ه تع‪9‬الى‪ِ {:‬إ ّ‬
‫زَن ِإ َّن‬ ‫اح ِب ِه ال تَحْ ْ‬ ‫ص ِ‬ ‫َار ِإ ْذ َيقُولُ ِل َ‬ ‫َأ ْخ َر َجهُ الَّ ِذينَ َك َفرُوا َثا ِن َي ْاث َني ِْن ِإ ْذ هُ َما ِفي ْالغ ِ‬
‫زَل هَّللا ُ َس ِكي َن َتهُ َع َل ْي ِه َو َأيَّ َدهُ ِبجُ نُو ٍد َل ْم ت ََروْ هَا َو َج َع َل َك ِل َم َة الَّ ِذينَ َك َف‪9‬رُوا‬
‫هَّللا َ َم َعنَا َفأَ ْن َ‬
‫يز َح ِكي ٌم}(التوبة‪)40 :‬‬ ‫ال ُّس ْف َلى َو َك ِل َمةُ هَّللا ِ ِه َي ْالع ُْل َيا َوهَّللا ُ ع َِز ٌ‬
‫ص‪9‬رُو ُه َف َق‪ْ 9‬د‬ ‫قال‪ :‬أتعلم قدر البشارات ال‪9‬تي يحمله‪9‬ا قول‪9‬ه تع‪9‬الى‪ِ {:‬إ ّ‬
‫ال َت ْن ُ‬
‫َص َرهُ هَّللا ُ }‬ ‫ن َ‬
‫قلت‪ :‬إنها بشارة عظيمة وال شك‪.‬‬
‫قال‪ :‬ولكن ال يمكن تصورها‪ ..‬إنها جواز حماي‪99‬ة من هللا لرس‪99‬وله ‪،‬‬
‫ومن كان هللا معه كانت جنود ال‪99‬دنيا جميع‪99‬ا مع‪99‬ه‪ ،‬ق‪9‬ال تع‪9‬الى‪َ {:‬وهَّلِل ِ جُ نُ‪99‬و ُد‬
‫ض َو َكانَ هَّللا ُ ع َِزيزاً َح ِكيماً}(الفتح‪)7 :‬‬ ‫ت َواأْل َرْ ِ‬ ‫ال َّس َم َ‬
‫اوا ِ‬
‫قلت‪ :‬ما أكثر ما يملك رسول هللا ‪ ‬إذن من جنود‪.‬‬
‫قال‪ :‬بل ما أعظم ما يملك كل مس‪9‬تغن باهلل فق‪9‬ير إلى هللا من جن‪9‬ود‪ ،‬ألم‬
‫ص‪9‬رْ ُك ْم َويُ َثب ِّْت‬ ‫ص‪9‬رُوا هَّللا َ َي ْن ُ‬ ‫تسمع قول الحق تعالى‪َ {:‬يا َأ ُّي َها الَّ ِذينَ آ َمنُوا ِإ ْن َت ْن ُ‬
‫َأ ْقدَا َم ُك ْم} (محمد‪)7 :‬؟‬
‫قلت‪ :‬بلى ‪ ..‬ومن كان هللا في نصرته ال يغلب‪.‬‬
‫ص‪9‬رُ ُك ْم‬ ‫ب َل ُك ْم َو ِإ ْن َي ْخ‪ُ 9‬ذ ْل ُك ْم َف َم ْن َذا الَّ ِذي َي ْن ُ‬‫قال‪ِ { :‬إ ْن َي ْنصُرْ ُك ُم هَّللا ُ َفال غَا ِل َ‬

‫‪53‬‬
‫ِم ْن َبعْ ِد ِه َو َع َلى هَّللا ِ َف ْل َيت ََو َّك ِل ْال ُم ْؤ ِم ُنونَ }(آل عمران‪)160 :‬‬
‫قلت‪ :‬ومن تخلى هللا عنه ال ينصر‪ ،‬ولو ملك جميع جيوش األرض‪.‬‬
‫ص‪99‬رُ ُك ْم ِم ْن ُد ِ‬
‫ون ال‪99‬رَّحْ َم ِن ِإ ِن‬ ‫ق‪99‬ال‪َ { :‬أ َّم ْن هَ‪َ 99‬ذا الَّ ِذي هُ َ‬
‫‪99‬و جُ ْن‪ٌ 99‬د َل ُك ْم َي ْن ُ‬
‫رُور}(الملك‪)20 :‬‬ ‫ْال َكا ِفرُونَ ِإاَّل ِفي ُغ ٍ‬
‫قلت‪ :‬فمن وجد هللا إذن ال يستغني بالرزق فقط‪ ،‬ب‪9‬ل يس‪99‬تغني بالحماي‪9‬ة‬
‫والرعاية والحفظ‪.‬‬
‫***‬
‫تأملت ما يحمله هذا الشعاع من بش‪9‬ارات‪ ،‬وت‪9‬ذكرت مواق‪9‬ف األنبي‪9‬اء‬
‫واألولياء الذين لم تتزعزع قلوبهم‪ ،‬وهم يرون المشانق منصوبة لهم‪.‬‬
‫تذكرت إبراهيم ‪ ،‬وهو يلقى في المنجنيق ليرمى به إلى ما أضْ َرم‬
‫ل‪99‬ه أع‪99‬داء هللا من الن‪99‬ار‪ ،‬فلم يتح‪99‬رك قلب‪99‬ه‪ ،‬ولم ترتع‪99‬د فرائص‪99‬ه‪ ،‬ب‪99‬ل بقي‬
‫كالطود األشم ال تزعزعه الرياح‪ ،‬بل سرت السكينة من باطنه إلى ظاهره‬
‫إلى ما حوله‪ ،‬فأطفأت ببرودتها وسالمها نار النمروذ وزبانيته‪.‬‬
‫جمعوا الحطب شهرا ثم أوقدوها‪ ،‬واشتعلت واشتدت‪ ،‬حتى أن الطائر‬
‫كان يمر بجنباتها فيحترق من شدة وهجها‪.‬‬
‫ثم قي‪9‬دوا إب‪9‬راهيم ووض‪9‬عوه في المنج‪9‬نيق مغل‪9‬وال‪ ،‬وغفل‪9‬وا أن يقي‪9‬دوا‬
‫سكينته‪ ،‬أو عجزوا أن يقيدوها‪.‬‬
‫وحينذاك ضجت السموات واألرض ضجة واحدة‪ :‬ربنا! إبراهيم ليس‬
‫في األرض أحد يعبدك غيره يحرق فيك فأذن لنا في نصرته‪.‬‬
‫وكان هللا يعلم ما في قلب إبراهيم‪ ،‬فقال ـ كما يروي المفسرون ـ‪ (:‬إن‬
‫استغاث بشيء منكم أو دع‪9‬اه فلينص‪9‬ره فق‪9‬د أذنت ل‪9‬ه في ذل‪9‬ك وإن لم ي‪9‬دع‬
‫غيري فأنا أعلم به وأنا وليه )‬
‫فلما أرادوا إلقاءه في النار‪ ،‬أتاه خزان الماء ‪ -‬وهو في الهواء ‪ -‬فقالوا‪:‬‬
‫يا إبراهيم إن أردت أخمدنا النار بالماء‪ .‬فقال‪ :‬ال حاجة لي إليكم‪.‬‬
‫وأتاه ملك الريح فقال‪ :‬لو شئت طيرت النار‪ .‬فقال‪ :‬ال‪.‬‬
‫ثم رفع رأسه إلى السماء فقال‪ (:‬حسبي هللا ونعم الوكيل )‬
‫وحينها جعل هللا من هذا الذي أرادوا حرقه به بردا وسالما وبشارة‪.‬‬
‫الشعاع الثالث‪:‬‬
‫قلت‪ :‬وعيت هذا‪ ..‬فما الشعاع الثالث؟‬
‫قال‪ :‬إنه ش‪9‬عاع ينب‪9‬ع ن‪9‬وره من قول‪9‬ه تع‪9‬الى على لس‪9‬ان ام‪9‬رأة فرع‪9‬ون‪:‬‬

‫‪54‬‬
‫{ َربِّ اب ِْن ِلي ِع ْندَكَ َبيْتاً ِفي ْال َجنَّ ِة}(التحريم‪)11 :‬‬
‫قلت‪ :‬فما فيه من االستغناء باهلل؟‬
‫قال‪ :‬أال ترى أنها طلبت الجار قبل الدار؟‬
‫قلت‪ :‬أجل‪ ..‬وقد كان ذلك من أدبها‪.‬‬
‫قال‪ :‬ليس ذلك من األدب فقط‪ ..‬بل قد ع‪99‬برت عن حقيق‪99‬ة من الحق‪99‬ائق‬
‫الكبرى‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فما هي؟‬
‫قال‪ :‬ال لذة للجنة‪ ..‬وال ألي شيء من غير هللا‪ ..‬فلوال هللا‪ ،‬وحضور هللا‬
‫لكانت الجنة خرابا على أهلها‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أجل‪ ..‬فقد سمعت هللا‪ ،‬وهو يتوعد الجاح‪99‬دين بالحج‪99‬اب‪ ،‬فيق‪99‬ول‪:‬‬
‫{ َكاَّل ِإنَّه ُْم ع َْن َر ِّب ِه ْم َيوْ َم ِئ ٍذ َل َمحْ جُوبُونَ }(المطففين‪..)15 :‬‬
‫ق‪9‬ال‪ :‬وله‪9‬ذا ق‪9‬ال الع‪9‬ارفون‪ (:‬ليس خوفن‪9‬ا من ن‪9‬ار جهنم‪ ،‬وال رجاؤن‪9‬ا‬
‫للحور العين‪ ،‬وإنما مطالبنا اللقاء‪ ،‬ومهربنا من الحجاب )‬
‫قلت‪ :‬أهم يستهينون بالجنة‪ ،‬أم تراهم يحتقرون النار؟‬
‫قال‪ :‬ال‪ ..‬ولكن معنى هذه الحقيقة شغلتهم عن كل شيء‪ ،‬فلم يتصوروا‬
‫سعادة من دون هللا‪ ..‬أال ترى المحبين كيف يغفلون عند رؤية مح‪99‬بيهم عن‬
‫اآلالم التي تحيط بهم!؟‬
‫قلت‪ :‬أجل‪ ..‬وقد عانيت بعض ذلك‪.‬‬
‫قال‪ :‬فما وجدت؟‬
‫قلت‪ :‬وجدت ما قال الشاعر‪:‬‬
‫أحر نار الجحيم أبردها‬ ‫وفي فؤاد المحب نار جوى‬
‫قال‪ :‬فهل تستنكر ذلك؟‬
‫قلت‪ :‬كي‪99‬ف لي أن أس‪99‬تنكر م‪99‬ا أعلم‪99‬ه من نفس‪99‬ي‪ ..‬إن ن‪99‬ار الف‪99‬راق إذا‬
‫استولت على القلب غلبت النار المحرقة لألجسام‪ ،‬فإن نار الف‪99‬راق ن‪99‬ار هللا‬
‫الموقدة التي تطلع على األفئدة‪ ،‬ونار جهنم ال ش‪99‬غل له‪99‬ا إال م‪99‬ع األجس‪99‬ام‪..‬‬
‫وألم األجسام يستحقر مع ألم الفؤاد‪.‬‬
‫وليس هذا في اآلخرة فحسب‪ ،‬بل في الدنيا شهادات كثيرة عليه‪ ( ،‬فقد‬
‫رؤي من غلب علي‪99‬ه الوج‪99‬د‪ ،‬فغ‪99‬دا على الن‪99‬ار وعلى أص‪99‬ول القص‪99‬ب‬
‫الجارحة القدم وهو ال يحس به لفرط غلب‪99‬ة م‪99‬ا في قلب‪99‬ه‪ ،‬وت‪99‬رى الغض‪99‬بان‬
‫يستولي عليه الغضب في القتال فتصيبه جراح‪99‬ات وه‪99‬و ال يش‪99‬عر به‪99‬ا في‬

‫‪55‬‬
‫الح‪99‬ال ألن الغض‪99‬ب ن‪99‬ار في القلب‪ ،‬واح‪99‬تراق الف‪99‬ؤاد أش‪99‬د من اح‪99‬تراق‬
‫األجساد‪ ،‬واألشد يبط‪99‬ل اإلحس‪99‬اس باألض‪99‬عف كم‪99‬ا ت‪99‬راه فليس الهالك من‬
‫النار والسيف إال من حيث إن‪9‬ه يف‪9‬رق بين ج‪9‬زأين يرتب‪9‬ط أح‪9‬دهما ب‪9‬اآلخر‬
‫برابطة التأليف الممكن في األجسام‪ ،‬فالذي يف‪99‬رق بين القلب وبين محبوب‪99‬ه‬
‫الذي يرتبط به برابط‪9‬ه ت‪9‬أليف أش‪9‬د إحكام‪9‬اً من ت‪9‬أليف األجس‪9‬ام فه‪9‬و أش‪9‬د‬
‫إيالما ً )(‪)1‬‬
‫قال‪ :‬صدق الغزالي‪ ..‬فقد عبر عن هذه الحقيقة خير تعبير‪.‬‬
‫قلت‪ :‬كل الربانيين عبروا عنها‪.‬‬
‫قال‪ :‬أتدري سر لهج أهل الجنة بالتسبيح؟‬
‫قلت‪ :‬لقد ورد النص على لهجهم بالتسبيح‪ ،‬قال ‪ (:‬يأكل أهل الجن‪99‬ة‬
‫فيها ويشربون‪ ،‬وال يتغوطون‪ ،‬وال يتمخطون‪ ،‬وال يبولون‪ ،‬ولكن طعامهم‬
‫ذاك جشاء كرشح المسك‪ ،‬يلهمون التسبيح والتحمي‪99‬د كم‪99‬ا يلهم‪99‬ون النفس)‬
‫(‪ ..)2‬فما سر ذلك؟‬
‫قال‪ :‬سر ذلك أنه ال لذة لشيء يخلو من ذكر هللا‪ ..‬فل‪99‬ذلك يك‪99‬ون تس‪99‬بيح‬
‫أهل الجنة بمثاب‪99‬ة النفس عن‪9‬دنا‪ ..‬ول‪99‬وال التنفس لم نتنعم بطع‪9‬ام وال ش‪99‬راب‬
‫وال متاع‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أال نس‪99‬تطيع أن نعمم ه‪99‬ذا على ارتب‪99‬اط الكث‪99‬ير من التص‪99‬رفات‬
‫العادية بذكر هللا؟‬
‫قال‪ :‬أجل‪ ..‬فالعارفون ال يفهمون من ه‪99‬ذه األوام‪99‬ر والس‪99‬نن إال ذل‪99‬ك‪..‬‬
‫أما الغافلون‪ ،‬فيعتبرونها من التكاليف التي تنوء بها ظهورهم‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أذكرنا هلل نعمة إذن؟‬
‫قال‪ :‬وهل يرتاح المحب إال لذكر حبيبه؟‬
‫قلت‪ :‬لقد ذكرتني باعتباره ‪ ‬الصالة قرة عينه‪.‬‬
‫قال‪ :‬أجل‪ ..‬فالصالة هي الموعد الذي يلقى فيه الحبيب حبيبه‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أرأيت لو حيل بين أرواح األولياء الطاهرة‪ ،‬وبين هذه العندية؟‬
‫قال‪ :‬يعدم كل موجود‪ ،‬ويفنى ك‪99‬ل حي‪ ،‬وييبس ك‪99‬ل مخض‪99‬ر‪ ..‬أال تعلم‬
‫ما قال حاديهم؟‬
‫لم أدر إال وأنا أقول‪ :‬أجل‪ ..‬فقد قال أبو مدين‪:‬‬
‫فل‪99999999999‬وال مع‪9999999999‬انيكم تراه‪9999999999‬ا قلوبنا‬
‫‪ ) )(1‬إحياء علوم الدين‪.‬‬
‫‪ ) )( 2‬مسلم‪.‬‬

‫‪56‬‬
‫‪ ‬‬
‫إذا نحن أيق‪9999999999‬اظ وفي الن‪9999999999‬وم إن غبنا‬
‫‪  ‬‬
‫لمتن‪9999999‬ا أس‪9999999‬ى من بع‪9999999‬دكم وص‪9999999‬بابة‬
‫‪ ‬‬
‫ولكن في المع‪999999999999‬ني مع‪999999999999‬انيكم معنا‬
‫‪  ‬‬
‫الشعاع الرابع‪:‬‬
‫قلت‪ :‬وعيت هذا ‪ ..‬فما الشعاع الرابع؟‬
‫‪9‬ار ِإ ْذ َيقُ‪99‬ولُ‬
‫قال‪ :‬هو شعاع ينبع من ن‪99‬ور قول‪99‬ه تع‪9‬الى‪ِْ {:‬إذ هُ َم‪99‬ا ِفي ْال َغ‪ِ 9‬‬
‫زَن ِإ َّن هَّللا َ َم َعنَا}(التوبة‪)40 :‬‬
‫اح ِب ِه ال تَحْ ْ‬
‫ص ِ‬‫ِل َ‬
‫قلت‪ :‬فما في هذا الشعاع من حقائق االستغناء؟‬
‫قال‪ :‬معية الوجود‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فما معية الوجود؟‬
‫قال‪ :‬أرأيت لو أن رجال له ولد هو أحب الناس إلي‪99‬ه ال يس‪99‬تطيع فراق‪99‬ه‬
‫مع أنه ال ينتظر أي نصرة من‪9‬ه‪ ..‬ثم غ‪9‬اب ول‪9‬ده غياب‪9‬ا ط‪9‬ويال جعل‪9‬ه يك‪9‬اد‬
‫ييأس منه‪ ،‬ثم ظفر به‪ ..‬ما هو أعظم ما يسليه إن أصابته األحزان؟‬
‫قلت‪ :‬إن رؤيته لولده أو تذكيره به أكبر ما يمأل قلبه مسرة وفرحا‪.‬‬
‫قال‪ :‬فكذلك األمر في هذا‪ ..‬وهلل المثل األعلى‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ولكن هللا حاضر لم يغب‪ ..‬فكيف تضرب هذا المثال؟‬
‫قال‪ :‬هو حاضر لم يغب‪ ..‬ولكن القلوب هي الغافلة الغائب‪99‬ة‪ ..‬فل‪99‬ذلك إن‬
‫مألها هللا باإليمان والمحبة‪ ،‬فلن تتأسف على شيء تفقده‪:‬‬
‫لكل شيء إذا فارقته عوض وليس هلل أن فارقت من عوض‬
‫قلت‪ :‬أجل‪ ..‬لقد ذكرتني بصنوف من الحكمة ذكره‪99‬ا األولي‪99‬اء‪ ،‬ونش‪99‬ر‬
‫عطرها الصالحون‪.‬‬
‫قال‪ :‬فما قالوا؟‬
‫قلت‪ :‬لق‪99‬د ذك‪99‬روا في اإلش‪99‬ارة عن هللا تع‪99‬الى‪ (:‬ال ت‪99‬ركنن إلى ش‪99‬ئ‬
‫دوني فإنه وبال عليك وقاتل ل‪99‬ك‪ ،‬ف‪99‬إن ركنت إلى العلم تتبعن‪99‬اه علي‪99‬ك‪،‬‬
‫وإن آويت إلى العمل رددناه إليك‪ ،‬وإن وثقت بالحال وقفناك معه‪ ،‬وإن‬
‫آنست بالوجد استدرجناك في‪99‬ه‪ ،‬وإن لحظت الخل‪99‬ق وكلن‪99‬اك إليهم‪ ،‬وإن‬
‫اغتررت بالمعرفة نكرناها علي‪99‬ك‪ ..‬ف‪99‬أي حيل‪99‬ة ل‪99‬ك‪ ،‬وأي ق‪99‬وة مع‪99‬ك‪..‬‬

‫‪57‬‬
‫فارضنا لك ربا حتى نرضاك لنا عبداً)‬
‫وسئل أبو سليمان الداراني ‪ ‬عن أفض‪99‬ل م‪99‬ا يتق‪99‬رب ب‪99‬ه إلى هللا‪،‬‬
‫فقال‪ (:‬أقرب ما يتقرب ب‪99‬ه إلى هللا أن يطل‪99‬ع على قلب‪99‬ك‪ ،‬وه‪99‬و ال يري‪99‬د‬
‫من الدنيا واآلخرة سواه )‬
‫قال‪ :‬فالغارقون في بحر هذا الحب ال ي‪99‬رون غ‪99‬ير محب‪99‬وبهم‪ ،‬وه‪99‬و ال‬
‫يغيب عنهم أبدا‪ ..‬فلذلك ال يشعرون بالفاقة التي تمأل نفوس الخالئق‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أجل‪ ..‬وقد قال قائلهم‪:‬‬

‫إليهم‬ ‫أحن‬ ‫أني‬ ‫عجب‬ ‫ومن‬


‫‪ ‬‬
‫وأس‪9999999999999999999999‬أل عنهم من أرى وهم معي‬
‫‪  ‬‬
‫وتطلبهم عي‪999999999999‬ني وهم في س‪999999999999‬وادها‬
‫‪ ‬‬
‫ويش‪99999999‬تاقهم قل‪99999999‬بي وهم بين أض‪99999999‬لعي‬
‫‪  ‬‬
‫قال‪ :‬فبشر الفق‪99‬راء ب‪99‬أن يجعل‪99‬وا غن‪99‬اهم باهلل‪ ..‬وبش‪99‬ر األغني‪99‬اء بم‪99‬ا‬
‫فاتهم من الحظوظ بابتعادهم عن هللا‪.‬‬
‫قلت‪ :‬إذا بشرتهم جميعا تساوى األغنياء والفقراء!؟‬
‫قال‪ :‬من شعر بفق‪99‬ره لألش‪99‬ياء لن يص‪99‬ل إلى هللا‪ ..‬ومن ش‪99‬عر بغن‪99‬اه‬
‫عن هللا مات في أودية الفقر‪.‬‬
‫***‬
‫ما قال هذا حتى شعرت بجوهرة كريمة تنزل أعماق ص‪99‬دري‪ ،‬تنجلي‬
‫من نورها بعض الظلمات‪.‬‬
‫قال‪ :‬فقد أدركت سر النعم ولبابها‪ ..‬أال تعلم معنى النعم؟‬
‫قلت‪ :‬بلى‪ ..‬فالنعم هي الفضل العظيم الذي يمن هللا به على عباده‪.‬‬
‫قال‪ :‬فمن وصف هللا به في القرآن الكريم؟‬
‫قلت‪ :‬لقد وصف هللا به أصنافا من الناس‪.‬‬
‫قال‪ :‬فمن هم؟‬
‫قلت‪:‬هم أوال غ‪99‬ير المغض‪99‬وب عليهم وال الض‪99‬الين‪ ،‬كم‪99‬ا ق‪99‬ال تع‪99‬الى‪:‬‬

‫‪58‬‬
‫ب َع َل ْي ِه ْم َوال الضَّا ِّلينَ }(الفاتح‪99‬ة‪:‬‬‫ط الَّ ِذينَ َأ ْن َع ْمتَ َع َل ْي ِه ْم َغي ِْر ْال َم ْغضُو ِ‬ ‫ص َرا َ‬‫{ ِ‬
‫‪)7‬‬
‫قال‪ :‬أال ترى فيهم األغنياء؟‬
‫قلت‪ :‬ولكنهم بمنطق الق‪9‬رآن الك‪9‬ريم ليس لهم ح‪9‬ظ من ه‪9‬ذه النعم‪ ..‬فهم‬
‫فقراء من هذه الزاوية‪.‬‬
‫قال‪ :‬فلماذا تودون أن تكونوا مثلهم؟‬
‫قلت‪ :‬نحن ننظر إلى الزخارف ال إلى الحقائق‪.‬‬
‫ق‪99‬ال‪ :‬فع‪99‬د بن‪99‬ا إلى المنعم عليهم ل‪99‬ترى حق‪99‬ائق النعم وأص‪99‬ناف المنعم‬
‫عليهم‪.‬‬
‫قلت‪ :‬إن المنعم عليهم في الق‪9‬رآن الك‪9‬ريم ليس‪9‬وا أثري‪9‬اء الع‪9‬الم الكب‪9‬ار‪،‬‬
‫وإنم‪99‬ا هم حفن‪99‬ة من من عب‪99‬اد هللا الص‪99‬الحين ال‪99‬ذين ق‪99‬د يحتق‪99‬رهم الخل‪99‬ق‬
‫لبذاذتهم‪ ،‬وقد يرمونهم بالتخلف لسوء حالهم‪ ،‬ولكن هللا أنعم عليهم‪ ،‬وأطنب‬
‫ول‬ ‫في في ذكرهم‪ ،‬فذكرهم إجماال في قوله تع‪99‬الى‪َ { :‬و َم ْن ي ُِط‪ِ 9‬ع هَّللا َ َو ُ‬
‫الرَّس‪َ 9‬‬
‫َاء َو َّ‬
‫الص‪9‬ا ِل ِحينَ‬ ‫الش‪َ 9‬هد ِ‬ ‫َفأُو َل ِئكَ َم َع الَّ ِذينَ َأ ْن َع َم هَّللا ُ َع َل ْي ِه ْم ِمنَ النَّ ِبيِّينَ َو ِّ‬
‫الص‪9‬دِّي ِقينَ َو ُّ‬
‫َو َحسُنَ أُو َل ِئكَ َر ِفيقاً} (النساء‪)69 :‬‬

‫‪59‬‬
‫ثانيا ـ كنز القناعة‬
‫خرجت من قص‪9‬ر االس‪9‬تغناء‪ ،‬وق‪9‬د جمعت ث‪9‬روة طائل‪9‬ة من ج‪9‬واهره‬
‫النفيسة‪..‬سرت مع المعلم في أرج‪9‬اء م‪9‬دائن الغ‪9‬نى بحث‪9‬ا عن قص‪9‬ر جدي‪9‬د‪،‬‬
‫لجمع جواهر جديدة‪.‬‬
‫فجأة وقفنا أمام قصر مهيب‪ ،‬كل ما في‪99‬ه جمي‪99‬ل‪ ،‬مس‪99‬تغن بم‪99‬ا في‪99‬ه عن‬
‫المدينة وأهل المدينة‪ ،‬وكأنه معزول عنها تماما‪ ،‬سألت المعلم عن سر ه‪9‬ذا‬
‫القصر‪ ،‬فقال‪ :‬هذا قصر القناعة‪ ..‬فالقنوع مكتف بم‪9‬ا عن‪9‬ده‪ ،‬ال تمت‪9‬د عين‪9‬اه‬
‫لغيره‪.‬‬
‫دخلت القص‪99‬ر‪ ،‬فق‪99‬د ك‪99‬ان معي ج‪99‬واز االفتق‪99‬ار‪ ،‬وإذا بي أرى مرش‪99‬د‬
‫القصر في حلة جميلة وطلعة بهي‪9‬ة ال تق‪9‬ل عن حل‪9‬ة وطلع‪9‬ة مرش‪9‬د قص‪9‬ر‬
‫االستغناء‪ ،‬فتقدمت إليه‪ ،‬وسألته‪ ،‬مح‪99‬اوال إظه‪99‬ار خ‪99‬برتي بتل‪99‬ك القص‪99‬ور‪،‬‬
‫قلت له‪ :‬أنا لي عالق‪9‬ة طيب‪9‬ة بالمرش‪9‬دين‪ ،‬وق‪9‬د ص‪9‬حبت في األي‪9‬ام الس‪9‬ابقة‬
‫مرشدا‪ ،‬ليتك رأيت ما يتمتع به من طاقات‪.‬‬
‫قال‪ :‬بلى‪ ..‬أعرفه‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أهو قريب‪9‬ك إذن أم ص‪9‬ديقك‪ ،‬فالحرف‪9‬ة الواح‪9‬دة تجع‪9‬ل أص‪9‬حابها‬
‫أصدقاء رغم أنوفهم؟‬
‫قال‪ :‬أنا أعرفه ال لصداقة بيننا‪..‬‬
‫قلت‪ :‬إذن هو قريبك‪ ..‬ولكن الشبه بينكما بعيد‪.‬‬
‫قال‪ :‬ليس هو قريبي‪ ،‬بل‪..‬‬
‫قاطعته قائال‪ :‬فكيف عرفته إذن؟‬
‫قال‪ :‬أنا هو‪..‬‬
‫بهت متأمال صورته محاوال إيجاد شبه بينهما‪ ،‬ثم قلت‪ :‬أهو أنت محبة‬
‫ومودة‪ ،‬أم هو أنت شحما ولحما؟‬
‫قال‪ :‬ما بك يا هذا‪ ،‬أال ترى اإلنسان إال شحما ولحما!؟‬
‫قلت‪ :‬اعذرني‪ ،‬فأنا من قوم يقولون مثل هذا الكالم‪ ،‬ولكن اصدقني م‪99‬ا‬
‫المعنى المجازي في قولك‪ (:‬هو أنا )‬
‫قال‪ :‬ليس هناك معنى مجازيا‪ ،‬كل ما في األمر أني هو‪ ،‬وهو أنا‪.‬‬
‫قلت‪ :‬والصورة مختلفة!؟‬
‫قال‪ :‬ألم تسمع عن سوق الصور؟‬

‫‪60‬‬
‫قلت‪ :‬بلى‪ ،‬قرأت ما رواه المحدثون عنه ‪ (:‬إن في الجنة لس‪99‬وقا م‪99‬ا‬
‫فيها شراء وال بيع إال الصور من الرج‪99‬ال والنس‪99‬اء‪ ،‬ف‪99‬إذا اش‪99‬تهى الرج‪99‬ل‬
‫صورة دخل فيها )(‪)1‬‬
‫قال‪ :‬فهذا من ذاك‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ولكن ذاك في الجنة‪ ،‬ونحن في الدنيا‪.‬‬
‫ق‪9‬ال‪ :‬ولكن‪ ..‬ألم تس‪9‬مع ب‪9‬أن األولي‪9‬اء تعج‪9‬ل لهم جن‪9‬انهم في ال‪9‬دنيا‪ ،‬ألم‬
‫تسمع قول من قال‪ (:‬في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة اآلخرة )؟‬
‫قلت‪ :‬بلى‪.‬‬
‫قال‪ :‬فهذا كذلك من ذاك‪.‬‬
‫ثم التفت إلي‪ ،‬وق‪9‬ال معاتب‪9‬ا‪ :‬دع‪9‬ك من األقنع‪9‬ة‪ ،‬واقن‪9‬ع بالحقيق‪9‬ة‪ ،‬وهلم‬
‫لتجمع كنوز القناعة‪ ،‬وال تنس قلمك‪.‬‬
‫***‬
‫التفت إلى المعلم‪ ،‬وقلت‪ :‬كم طوابق هذ القصر‪ ،‬وكم جواهره؟‬
‫قال‪ :‬أربع‪ :‬التدبير‪ ،‬واالقتصاد‪ ،‬والكفاية‪ ،‬واألمن‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فما سر كون هذه الجواهر أربع‪ ..‬أهو مجرد غرام باألربع؟‬
‫قال‪ :‬ألن القناعة عالج الطمع والحرص‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وما في ذلك؟‬
‫قال‪ :‬ألن الطمع والحرص ناتج عن أربع علل‪ ،‬كل عل‪99‬ة منه‪99‬ا ت‪99‬داوى‬
‫بأشعة جوهرة من الجواهر‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فما هي‪ ،‬وما سر انحصارها؟‬
‫ق‪999‬ال‪ :‬الطم‪999‬ع والح‪999‬رص ناتج‪999‬ان من ف‪999‬راغ عظيم يج‪999‬ده الط‪999‬امع‬
‫والحريص‪ ،‬أال ترى أن حروف الطمع جميعه‪9‬ا جوف‪9‬اء‪ ..‬هي تش‪9‬به تمام‪9‬ا‬
‫نفس الطامع‪..‬‬
‫قلت‪ :‬لعل النبي ‪ ‬أشار إلى ذلك بقوله‪ (:‬لو ك‪99‬ان البن آدم واد ألحب‬
‫أن يكون له ثان‪ ،‬ولو كان له واديان ألحب أن يكون إليهما ث‪99‬الث‪ ،‬وال يمأل‬
‫جوف ابن آدم إال التراب‪ ،‬ثم يتوب هللا على من تاب)(‪)2‬‬
‫قال‪ :‬صدق ‪ ،‬فقد أشار إلى علة الحرص والطمع أتم إشارة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وهذه الصفة‪ ..‬ما عالقتها بالعلل الربع؟‬

‫‪ ) )(1‬الترمذي‪ ،‬وقال‪ :‬هذا حديث غريب‪.‬‬


‫‪ ) )(2‬البخاري ومسلم والترمذي‪.‬‬

‫‪61‬‬
‫قال‪ :‬إن الفراغ ال‪9‬ذي يعاني‪9‬ه الط‪9‬امع يجعل‪9‬ه حريص‪9‬ا على ملئ‪9‬ه‪ ،‬كم‪9‬ا‬
‫أخبر ‪ ‬بأنه إن كان له واديان‪ ،‬ومأل بهما جوفه‪ ،‬يشعر بأن جوفه ال زال‬
‫يحتمل المزيد‪ ،‬فيظل حبيس فقره وحاجته وطمعه‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وهذا إلى ما يؤدي‪ ..‬ال زلت حريصا على سر األربع‪.‬‬
‫ق‪99‬ال‪ :‬يؤدي‪99‬ه ـ أوال ـ إلى اختالط في تص‪99‬رفاته ‪ ،‬وجش‪99‬ع في تن‪99‬اول‬
‫األش‪99‬ياء‪ ،‬مثل‪99‬ه كمث‪99‬ل من أدخ‪99‬ل س‪99‬وقا ممل‪99‬وءا ب‪99‬الكنوز‪ ،‬ثم أعطي س‪99‬اعة‬
‫ليجمع منها ما يشاء‪ ..‬ف‪9‬تراه في تل‪9‬ك الس‪9‬اعة‪ ،‬وق‪9‬د اختل‪9‬ط علي‪9‬ه أم‪9‬ره‪ ..‬ال‬
‫يدري كيف يتصرف‪ ..‬وال ماذا يجمع؟‪ ..‬وال أين يضع؟‬
‫قلت‪ :‬هذا صحيح‪ ،‬فبم يعالج هذا؟‬
‫قال‪ :‬يعالج بالتدبير والتنظيم والتثبت‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فما العلة الثانية؟‬
‫قال‪ :‬الفراغ الذي يعانيه يجعله يسرف في تن‪9‬اول األش‪99‬ياء‪ ،‬ألن‪9‬ه يعتق‪99‬د‬
‫أن جوفه ال زال يحتمل المزيد‪ ،‬أال ترى الشره كيف يأكل فوق حاجته إلى‬
‫أن يصاب بالتخمة‪ ،‬ال لكونه جائعا‪ ،‬وال لكونه مشتهيا‪ ،‬وإنما للمرض الذي‬
‫يعانيه!؟‬
‫قلت‪ :‬مرض فراغ الجوف‪.‬‬
‫ق‪99‬ال‪ :‬وه‪99‬و م‪99‬رض ال يق‪99‬ل خط‪99‬ورة عن كث‪99‬ير من األم‪99‬راض ال‪99‬تي‬
‫يحرص قومك على طلب عالجها‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فبم يعالج هذا؟‬
‫قال‪ :‬باالقتصاد‪ ،‬ألم تسمع أن االقتصاد نصف المعيشة!؟‬
‫قلت‪ :‬بلى ‪ ..‬فما العلة الثالثة؟‬
‫قال‪ :‬الفراغ الذي يعانيه الطامع والحريص يجعله يطلب أش‪99‬ياء كث‪99‬يرة‬
‫ال حاجة له إليه‪99‬ا حرص‪99‬ا على مأل فراغ‪99‬ه‪ ،‬ه‪99‬و كمن يري‪99‬د أن يمأل حف‪99‬رة‬
‫عميقه‪ ،‬فوضع فيها التراب‪ ،‬فلم يك‪99‬ف‪ ،‬فوض‪99‬ع فيه‪99‬ا الحج‪99‬ارة‪ ،‬فلم تك‪99‬ف‪،‬‬
‫فراح يضع المزابل والقمامات‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فما وجه التشيه في هذا؟‬
‫ق‪99‬ال‪ :‬ه‪99‬ذا ال‪99‬ذي ك‪99‬ان طمع‪99‬ه س‪99‬بب فق‪99‬ره‪ ،‬فلم ينظم حيات‪99‬ه‪ ،‬ولم ي‪99‬دبر‬
‫معيش‪99‬ته‪ ،‬ولم يقتص‪99‬د‪ ..‬س‪99‬يؤديه ذل‪99‬ك ال محال‪99‬ة لمزاب‪99‬ل الن‪99‬اس وقمام‪99‬اتهم‬
‫وأيديهم ليمأل جوفه‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فبم تعالج هذه العلة؟‬

‫‪62‬‬
‫قال‪ :‬تعالج بالكفاية والزهد‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ولك‪99‬ني س‪99‬معت أن الزه‪99‬د داء ال دواء‪ ..‬ودخي‪99‬ل على ال‪99‬دين ال‬
‫أصيل‪.‬‬
‫ق‪9‬ال‪ :‬ذل‪9‬ك م‪9‬ا أس‪9‬معك قوم‪9‬ك‪ ..‬أم‪9‬ا الحقيق‪9‬ة فهي أن الزه‪9‬د ه‪9‬و ب‪9‬اب‬
‫الكمال‪ ،‬ومفتاح الغنى‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ولكنه يدعوني إلى الجوع‪.‬‬
‫قال‪ :‬بل يدعوك إلى أن تقتصر من حياتك على ما يكفيك ويغني‪99‬ك‪ ،‬فال‬
‫تمتد عيناك لغير ما جعل هللا لك من حاجات‪ ..‬أريد أن أسألك سؤاال‪.‬‬
‫قلت‪ :‬سل‪.‬‬
‫قال‪ :‬لماذا يخيط نساجو قومك السراويل برجلين فقط‪ ،‬ولم‪99‬اذا يكتف‪99‬ون‬
‫بصناعة قدمين لألحذية‪.‬‬
‫ضحكت وقلت‪ :‬وهل رأيت رجال بثالثة أرجل أو بأربعة أقدام؟‬
‫قال‪ :‬لو فقهوا سر هذا لما وجد في الدنيا فقير واحد؟‬
‫قلت‪ :‬كيف؟‬
‫قال‪ :‬ألن سبب الفقر هو استيالء الغني على مائدة الفق‪99‬ير ليض‪99‬يف إلى‬
‫مائدته أصنافا جديدة‪ ،‬ول‪9‬و أن‪9‬ه زه‪9‬د واكتفى بم‪9‬ا يحتاج‪9‬ه‪ ،‬ولم تمت‪9‬د عين‪9‬اه‬
‫لمائدة أخيه لعاش الجميع بالكفاية‪ ..‬فاهلل تعالى أن‪99‬زل من األرزاق م‪99‬ا يكفي‬
‫الجميع‪ ..‬ألم تسمع الحق وهو يقول‪َ {:‬و َق َّد َر ِفي َها َأ ْق َوا َت َها ِفي َأرْ َب َع ِة َأي ٍَّام َس ‪َ 9‬وا ًء‬
‫ِللسَّا ِئ ِلينَ }(فصلت‪ )10 :‬؟‬
‫قلت‪ :‬فالزهد والكفاية إذن عالج لمرض الفقر‪.‬‬
‫قال‪ :‬بل سم لقتله‪ ،‬ورصاصة في نحره‪ ،‬وحربة في صدره‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ولكن هناك من يسيء فهمه‪.‬‬
‫قال‪ :‬إساءة الفهم ال تقلب الحق‪99‬ائق‪ ..‬أرأيت ل‪99‬و أن الن‪9‬اس أجمع‪9‬وا على‬
‫أن الشمس برتقالة كبيرة وض‪9‬عت في الفض‪9‬اء‪ ،‬لغ‪9‬رامهم بالبرتق‪9‬ال‪ ،‬أك‪9‬ان‬
‫ذلك يغير من حقيقة الشمس؟‬
‫قلت‪ :‬لو كان ذلك كذلك ألجمعوا على أن حج‪99‬ارة الجب‪99‬ال كله‪99‬ا عقي‪99‬ق‬
‫وزبرجد وجواهر‪ ،‬وأن تربة األرض كلها دراهم ودنانير‪.‬‬
‫قال‪ :‬فال تسمع لما يقال‪ ..‬وابحث عن الحقيقة‪ ..‬واكتف بها‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أين؟‬
‫قال‪ :‬في نور البصيرة‪ ،‬وبصيرة النور‪ ..‬في كتاب ربك‪ ..‬وفي الفط‪99‬رة‬

‫‪63‬‬
‫التي نور هللا بها بصيرتك‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فما العلة الرابعة؟‬
‫ق‪99‬ال‪ :‬الف‪99‬راغ ال‪99‬ذي يعاني‪99‬ه الط‪99‬امع والح‪99‬ريص يجعل‪99‬ه خائف‪99‬ا على‬
‫المس‪9‬تقبل‪ ،‬وك‪9‬أن ال‪9‬ذي رزق‪9‬ه الي‪9‬وم ق‪9‬د يحرم‪9‬ه غ‪9‬دا‪ ..‬أو كأن‪9‬ه أم‪9‬ام رب‬
‫مزاجي يتصرف بحسب ذوقه‪ ،‬ال بحسب ما تتطلبه حاجات عباده‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فإالم يؤدي هذا؟‬
‫قال‪ :‬يؤدي إلى نسيان الحريص ليومه‪ ،‬وانشغاله بي‪99‬ده‪ ،‬فه‪99‬و ال يق‪99‬ول‪:‬‬
‫( أنا لدي اليوم ما يكفيني‪ ،‬فأنا غني بفضل هللا )‪ ،‬بل يق‪99‬ول‪ (:‬ليس ل‪99‬دي في‬
‫غد ما يكفيني‪ ..‬فأنا فقير )‬
‫قلت‪ :‬لقد أش‪9‬ار ‪ ‬إلى ذل‪9‬ك بقول‪9‬ه‪ (:‬ابن آدم عن‪9‬دك م‪9‬ا يكفي‪9‬ك‪ ،‬وأنت‬
‫تطلب ما يطغي‪99‬ك‪ ،‬ابن آدم ال بقلي‪99‬ل تقن‪99‬ع‪ ،‬وال من كث‪99‬ير تش‪99‬بع‪ ،‬ابن آدم إذا‬
‫أصبحت معافى في جس‪9‬دك آمن‪9‬ا في س‪9‬ربك(‪ )1‬عن‪9‬دك ق‪9‬وت يوم‪9‬ك‪ ،‬فعلى‬
‫الدنيا العفاء )(‪ ،)2‬وفي حديث آخر أو في لفظ آخر‪ ،‬ق‪99‬ال ‪ (:‬من أص‪99‬بح‬
‫منكم آمنا في سربه معافى في جسده وعنده ق‪9‬وت يوم‪9‬ه فكأنم‪9‬ا ح‪9‬يزت ل‪9‬ه‬
‫الدنيا )(‪)3‬‬
‫قال‪ :‬هذا حديث عظيم‪ ..‬لو عملتم به لقهرتم الجوع‪ ،‬وقتلتم الفقر‪.‬‬
‫قلت‪ :‬كيف؟‬
‫قال‪ :‬ألن خزائن األغنياء مملوءة بطعام الفقراء‪.‬‬
‫قلت‪ :‬لماذا؟‬
‫قال‪ :‬ألنهم يخافون أن تغور مياه األرض‪ ،‬أو تجف عيون الس‪99‬ماء‪ ،‬أو‬
‫تقوم أعشاب األرض وأشجارها بإضراب‪ ،‬فال تنبت كأل وال تثمر ثمرا‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ولكن الحاجات ليست طعاما فقط‪ ،‬والفقير عندنا قد يجد ما يأكل‪،‬‬
‫والغني ال يشح عليه بذلك‪ ..‬ولكن هناك مشاكل أخرى‪ ..‬هناك السكن‪ ،‬وهو‬
‫أخطر المشاكل‪.‬‬
‫قال‪ :‬والغني ال يكتفي من المسكن بما يؤويه كما ال يكتفي بالطع‪9‬ام بم‪9‬ا‬
‫يكفيه‪.‬‬
‫قلت‪ :‬لقد ذكرتني بحديث ال أعلم مدى صحته‪ ،‬يقول فيه ‪ (:‬ي‪99‬ا أيه‪99‬ا‬
‫الناس! أم‪9‬ا تس‪9‬تحيون! تجمع‪9‬ون م‪9‬ا ال ت‪9‬أكلون‪ ،‬وتبن‪9‬ون م‪9‬ا ال تعم‪9‬رون‪،‬‬
‫‪ ) )(1‬السرب‪ :‬بكسر السين وسكون الراء‪ :‬المأوى‪.‬‬
‫‪ ) )(2‬ابن عدي والبيهقي‪.‬‬
‫‪ ) )(3‬البخاري في األدب والترمذي وابن ماجة‪.‬‬

‫‪64‬‬
‫وتأملون ما ال تدركون‪ ،‬أال تستحيون من ذلك )‬
‫(‪)1‬‬
‫ق‪9‬ال‪ :‬أرأيت ل‪9‬و أن األم‪9‬وال المبذول‪9‬ة في قص‪9‬ور األغني‪9‬اء ب‪9‬نيت به‪9‬ا‬
‫مساكن بسيطة للفقراء‪ ،‬أكان ذلك يعالج ما تسميه بمشكلة السكن‪.‬‬
‫قلت‪ :‬بل يكفي لبناء مساكن فارهة ال بسيطة‪.‬‬
‫قال‪ :‬فحرصكم إذن هو الذي أوقعكم في الفقر‪ ،‬ال فضل هللا‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فما عالج هذه العلة الرابعة‪.‬‬
‫قال‪ :‬األمن‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وما األمن؟‬
‫ق‪99‬ال‪ :‬الثق‪99‬ة في فض‪99‬ل هللا‪ ،‬والرض‪99‬ى بتق‪99‬دير هللا وتقس‪99‬يمه وأن تعيش‬
‫يومك وتسأل هللا لغدك‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فكيف أتحقق بهذه األدوية األربع‪.‬‬
‫قال‪ :‬بأن تمأل جوفك بهذه األدوية األربع‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وأين أجدها؟‬
‫ق‪99‬ال‪ :‬في ه‪99‬ذا القص‪99‬ر‪ ،‬وب‪99‬التعرض ألش‪99‬عة ج‪99‬واهره‪ ،‬وتفهم أس‪99‬رار‬
‫حقائقه‪.‬‬
‫***‬
‫تأملت ما قاله‪ ،‬فإذا بخاطر جميل يلوح لي يملؤني نشوة وي‪99‬نزع بعض‬
‫الكدر‪ ،‬لق‪9‬د قلت لنفس‪9‬ي‪ :‬إن أك‪9‬ثر من ت‪9‬راهم من الفق‪9‬راء ال‪9‬ذين تح‪9‬زن لهم‬
‫ليسوا فقراء‪ ،‬وإنم‪9‬ا هي أج‪9‬وافهم ال‪9‬تي جعلوه‪9‬ا كهاوي‪9‬ة عميق‪9‬ة ال يملؤه‪9‬ا‬
‫شيء‪.‬‬
‫وتذكرت حينها قوله ‪ (:‬ليس الغنى عن كثرة العرض‪ ،‬ولكن الغنى‬
‫غنى النفس )(‪)2‬‬
‫وذك‪99‬رت قول‪99‬ه ‪ ‬ناص‪99‬حا‪ (:‬إن ه‪99‬ذا الم‪99‬ال خض‪99‬ر حل‪99‬و‪ ،‬فمن أخ‪99‬ذه‬
‫بسخاوة نفس بورك ل‪9‬ه في‪9‬ه‪ ،‬ومن أخ‪9‬ذه بإش‪9‬راف نفس لم يب‪9‬ارك ل‪9‬ه في‪9‬ه‪،‬‬
‫وكان كالذي يأكل وال يشبع؛ واليد العليا خير من اليد السفلى)(‪)3‬‬
‫وتذكرت قول‪9‬ه ‪ ‬وه‪9‬و ي‪9‬بين منب‪9‬ع من من‪9‬ابع الفالح‪ (:‬ق‪99‬د أفلح من‬
‫أسلم‪ ،‬ورزق كفافاً‪ ،‬وقنعه هَّللا بما آتاه )(‪)4‬‬

‫الطبراني والديلمي‪.‬‬ ‫‪) )(1‬‬


‫البخاري ومسلم‪.‬‬ ‫‪) )(2‬‬
‫البخاري ومسلم‪.‬‬ ‫‪) )(3‬‬
‫مسلم‪.‬‬ ‫‪) )(4‬‬

‫‪65‬‬
‫وعلمت أن الم‪99‬راد ب‪99‬الفالح هن‪99‬ا ليس م‪99‬ا نتوهم‪99‬ه من قص‪99‬ره على‬
‫اآلخرة‪ ،‬بل المراد به النجاح في كال الحياتين‪ :‬الحي‪9‬اة ال‪9‬دنيا واآلخ‪9‬رة‪ ،‬فاهلل‬
‫رب الدنيا واآلخرة‪.‬‬
‫جوهرة التدبير‪:‬‬
‫وقفت م‪99‬ع المعلم أم‪99‬ام أول ج‪99‬وهرة من ج‪99‬واهر ك‪99‬نز القناع‪99‬ة‪ ،‬ألمأل‬
‫جوفي بأشعتها‪ ،‬قال لي المعلم‪ :‬هذه جوهرة نفيسة‪ ..‬حقيقتها تخل‪9‬ق ب‪9‬أخالق‬
‫هللا‪.‬‬
‫قلت‪ :‬هذا كالم خطير‪ ،‬فما عالقة القناعة والفقر بصفات هللا؟‬
‫قال‪ :‬أليس هللا هو المدبر؟‬
‫قلت‪ :‬بلى‪ ،‬ولكن ت‪99‬دبير هللا مختل‪99‬ف‪ ،‬فخ‪99‬زائن هللا ال تنف‪99‬ذ‪ ..‬وخزائنن‪99‬ا‬
‫محدودة مقدرة‪.‬‬
‫قال‪ :‬وهذا ما يزيد في عمق اإلشارة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬لم أفهم‪.‬‬
‫ق‪99‬ال‪ :‬ألم تس‪99‬مع قول‪99‬ه ‪ ‬لس‪99‬عد عن‪99‬دما رآه يتوض‪99‬أ‪ ،‬ويس‪99‬رف في‬
‫الوضوء‪ (:‬ما هذا السرف يا سعد؟)‪ ،‬فقال سعد‪ (:‬أفي الوض‪99‬وء س‪99‬رف؟)‪،‬‬
‫فقال ‪ (:‬نعم‪ ،‬وإن كنت على نهر جار )(‪)1‬‬
‫قلت‪ :‬بلى‪ ،‬ولكن ما عالقة ذلك باإلشارة؟‬
‫ق‪99‬ال‪ :‬ألن الن‪99‬بي ‪ ‬أراد أن ي‪99‬بين لن‪99‬ا أن اإلس‪99‬راف ال يرتب‪99‬ط بكم‬
‫األشياء‪ ،‬وإنما هو خلق‪ ،‬فقد تجد الفقير يسرف‪ ،‬والغني يقتصد‪.‬‬
‫قلت‪ :‬هذا ص‪9‬حيح وواق‪9‬ع‪ ،‬ولعل‪9‬ه من أس‪9‬باب الفق‪9‬ر‪ ،‬ولكن م‪9‬ا عالقت‪9‬ه‬
‫باإلشارة؟‬
‫قال‪ :‬إن هللا تعالى يملك كل شيء‪ ،‬ومع ذلك دبر الكون ت‪99‬دبيرا محكم‪99‬ا‬
‫بحيث ال نجد زيادة وال نقصا في أي محل‪.‬‬
‫اس‪َ 9‬ي ِم ْن َفوْ ِق َه‪9‬ا‬
‫‪9‬ل ِفي َه‪9‬ا َر َو ِ‬
‫قلت‪ :‬أهذا ما يشير إلي‪9‬ه قول‪9‬ه تع‪9‬الى‪َ {:‬و َج َع َ‬
‫اركَ ِفي َها َو َق َّد َر ِفي َها َأ ْق َوا َت َها ِفي َأرْ َب َع ِة َأي ٍَّام َس َوا ًء ِللسَّا ِئ ِلينَ }(فصلت‪)10 :‬؟‬
‫َو َب َ‬
‫قال‪ :‬ومن ه‪9‬ذه اآلي‪9‬ة يتخل‪9‬ق الم‪9‬ؤمن بخل‪9‬ق الت‪9‬دبير ال‪9‬ذي يمأل جوف‪9‬ه‬
‫بالحق ال بالباطل‪ ،‬وبالخير ال بالشر‪.‬‬
‫قلت‪ :‬كيف‪ ،‬فال أرى في اآلية ما يش‪9‬ير إلى ه‪9‬ذا‪ ،‬ب‪9‬ل هي تتح‪9‬دث عن‬
‫عظمة الربوبية وتصرفها في الكون‪.‬‬

‫رواه أحمد‪.‬‬ ‫‪)(1‬‬

‫‪66‬‬
‫قال‪ :‬إن هللا قدر أقوات األرض في أربعة أيام‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ولكن ما عالقة هذه بتدبير هللا‪ ،‬ثم م‪99‬ا عالق‪99‬ة ت‪99‬دبير هللا بت‪99‬دبيرنا‪،‬‬
‫وقبل ذلك ما حقيقة هذا التدبير؟‬
‫قال‪ :‬اسأل خبراء قومك‪ ،‬وسيجيبونك‪.‬‬
‫قلت‪ :‬بلى ‪ ..‬وقد درسنا في مراحل تعليمنا المختلفة الكثير من ذلك‪..‬‬
‫قال‪ :‬وباإلضافة إلى ذلك‪ ،‬فإن هللا تعالى دبر لألرض من األق‪99‬وات في‬
‫جوفها ما تتنعمون به اآلن مما لم يظفر به أسالفكم‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ولعل من يأتي بعدنا سيظفر بأقوات لم نظفر بها نحن‪.‬‬
‫قال‪ :‬إن ذلك لكائن‪ ،‬فقد قال ‪ ‬وهو يحدثنا عما يختزنه المس‪99‬تقبل من‬
‫أح‪9‬داث‪ (:‬ثم يرس‪9‬ل هَّللا ع‪9‬ز وج‪9‬ل مط‪9‬راً ال ي ِك ّن من‪9‬ه بيت م‪9‬در وال وب‪9‬ر‬
‫كالز َل َق ِة‪ ،‬ثم يقال لألرض أنبتي ثمرت‪99‬ك و ِدرّي‬ ‫فيغسل األرض حتى يتركها َّ‬
‫ويب‪9‬ارك في‬
‫َ‬ ‫بركتك‪ .‬فيومئذ تأكل العصابة من الرمانة ويس‪9‬تظلون ب ِقحْ ِفه‪9‬ا‪،‬‬
‫الرِّسل حتى إن ال ِّل ْق َح َة من اإلبل لتكفي الفئام من الناس‪ ،‬و ال ِّل ْق َح‪َ 9‬ة من البق‪99‬ر‬
‫ة من الغنم لتكفي الفخذ من الناس )(‪)1‬‬ ‫لتكفي القبيلة من الناس‪ ،‬وال ِّل ْق َح َ‬
‫ثم تمتم بينه وبين نفسه‪ :‬ومن رحمة هللا أن ستره عليكم كما س‪99‬تر على‬
‫من قبلكم‪.‬‬
‫قلت‪ :‬لم؟ فاهلل هو الجواد الكريم‪.‬‬
‫قال‪ :‬ألنه لو أظهره لما تركتم منه أخضر وال يابس‪.‬‬
‫قلت‪ :‬لم أفهم إلى اآلن كيف يكون التدبير خلقا من أخالق هللا‪.‬‬
‫قال‪ :‬كيف تدبر المرأة الحكيمة شؤون بيتها؟‬
‫قلت‪ :‬تحاول أن تحول من القلي‪9‬ل كث‪9‬يرا‪ ،‬ومن الص‪9‬غير كب‪9‬يرا‪ ،‬وتنظم‬
‫مصاريف البيت بحيث ال تصل إلى ضرورة‪ ،‬وال تضطر إلى حاجة‪.‬‬
‫قال‪ :‬أريد توضيحا أكثر لما تقول‪.‬‬
‫أحسست بانشراح لتحولي معلما‪ ،‬فاندفعت أق‪99‬ول‪ :‬أرأيت ل‪99‬و أن عائ‪99‬ل‬
‫البيت لم يكن يتسوق ـ لفاقته أو لض‪9‬رورة ـ إال يوم‪9‬ا واح‪9‬دا في األس‪9‬بوع‪،‬‬
‫فأتى بما يكفي ذلك األس‪9‬بوع‪ ،‬فم‪9‬ا هي الم‪9‬دة ال‪9‬تي ينبغي أن تتعام‪9‬ل معه‪9‬ا‬
‫المرأة المدبرة لذلك الرزق الذي سيق لها؟‬
‫قال‪ :‬أسبوع‪.‬‬
‫قلت‪ :‬هذا ما تفعله الم‪9‬رأة الحكيم‪9‬ة الم‪9‬دبرة‪ ،‬أم‪9‬ا الخرق‪9‬اء‪ ،‬وال‪9‬تي هي‬

‫‪ ) )(1‬مسلم‪.‬‬

‫‪67‬‬
‫سبب فقر زوجها‪ ،‬فإنها قد تضعه جميعه في القدر في يوم واحد‪.‬‬
‫قال مندهشا‪ :‬وسائر األسبوع‪ ،‬ماذا تفعل فيه؟‬
‫قلت‪ :‬تقترض من جيرانها‪ ،‬أو تضطر زوجها للسؤال والشحاذة‪.‬‬
‫قال‪ :‬فسبب الفقر إذن قد يكون سوء التدبير‪.‬‬
‫قلت‪ :‬هذا صحيح‪.‬‬
‫ثم التفت‪ ،‬وقلت‪ :‬ولكني إلى اآلن ال زلت مصرا على سؤالي‪.‬‬
‫قال‪ :‬تقصد العالقة بين تدبير هللا وتدبير العبد‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أقصد سر كون التدبير تخلقا من أخالق هللا‪.‬‬
‫قال‪ :‬لقد ذكرت لك بأن هللا دبر أقوات األرض في أربع‪99‬ة أي‪99‬ام‪ ،‬أي أن‬
‫هذه األقوات تنزل بقدر معين‪ ،‬بل إن القرآن الكريم سماها أقواتا‪ ،‬والق‪99‬وت‬
‫هو الرزق المحدود المعتدل‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فذلك يشبه إذن تدبير المرأة الحكيمة‪.‬‬
‫قال‪ :‬بل إن ت‪9‬دبير الم‪9‬رأة الحكيم‪9‬ة ه‪9‬و ال‪9‬ذي يش‪9‬به ه‪9‬ذا الت‪9‬دبير‪ ،‬فهي‬
‫متخلقة بأخالق هللا‪.‬‬
‫قلت‪ :‬نعم لقد دبرهللا رزق الرضيع ت‪9‬دبيرا حكيم‪9‬ا‪ ،‬ولكن‪9‬ه وك‪9‬ل ت‪9‬دبير‬
‫حياتنا نحن الكبار لنا‪ ،‬فليته دبرها كما يدبر الرضيع‪.‬‬
‫قال‪ :‬ل‪9‬و ك‪9‬ان األم‪9‬ر ك‪9‬ذلك لم‪9‬ا احتجتم إلى ش‪9‬يء‪ ..‬ولكن البالء ال‪9‬ذي‬
‫اقتضته خالفتكم اقتضى أن يوكل بعض من رزقكم لبعض‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ليس بعض رزقن‪99‬ا فق‪99‬ط‪ ،‬ب‪99‬ل ك‪99‬ل رزقن‪99‬ا‪ ،‬فنحن تحت رحم‪99‬ة‬
‫األغنياء‪.‬‬
‫قال‪ :‬لو كان كل رزقكم بيد األغنياء لما عشتم لحظة واحدة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬كيف؟‬
‫مد يده إلي‪ ،‬فأغلق فمي وأنفي‪ ،‬فصحت بيدي‪ ،‬وقد كدت أختنق‪ :‬لم‪99‬اذا‬
‫تحاول قتلي‪ ،‬ألست تلميذك؟ وهل أخطأت في شيء؟‬
‫قال‪ :‬لقد أجبتك عن سؤالك‪.‬‬
‫قلت‪ :‬كيف تجيبني‪ ،‬وأنت تخنقني‪.‬‬
‫قال‪ :‬تصور لو أن هؤالء األغني‪9‬اء ال‪9‬ذين تت‪9‬وهمهم ق‪9‬د ملك‪9‬وا رزق‪9‬ك‪،‬‬
‫فمنع‪9‬وك من‪9‬ه‪ ،‬ملك‪9‬وا ه‪9‬ذا اله‪9‬واء ال‪9‬ذي تتنفس‪9‬ه‪ ،‬أكنت تعيش بع‪9‬ده لحظ‪9‬ة‬
‫واحدة؟‬
‫قلت‪ :‬كال‪ ..‬إال إذا استعبدوني لمصالحهم‪.‬‬

‫‪68‬‬
‫قلت‪ :‬صدقت‪ ..‬فاهلل هو المدبر‪ ،‬ولوال تدبيره لهلك الخلق جميعا‪.‬‬
‫قال‪ :‬فخذوا من تدبير هللا‪ ،‬وتخلقوا به‪ ،‬لتحفظوا وجودكم‪ ،‬وتقتلوا الفقر‬
‫الكافر الذي يتربص بكم ويستعبدكم‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أي فقر يتربص بنا‪ ،‬ونحن نختزن ثروة الع‪99‬الم‪ ،‬ألم تعلم م‪99‬ا أف‪99‬اء‬
‫هللا على بالد المسلمين من ثروات النفط‪ ..‬الذهب األسود؟‬
‫ق‪99‬ال‪ :‬إن هللا لم ي‪99‬رزقكم ذل‪99‬ك ال‪99‬ذهب لتعلق‪99‬وه على أعن‪99‬اق الحس‪99‬ان‪،‬‬
‫وته‪99‬دروه في المواخ‪99‬ير‪ ،‬وإنم‪99‬ا لتنص‪99‬روا ب‪99‬ه المستض‪99‬عف‪ ،‬وتمألوا ب‪99‬ه‬
‫البطون الخاوية‪ ،‬وتطعم‪9‬وا ب‪9‬ه األف‪9‬واه الجائع‪9‬ة‪ ،‬وتحمل‪9‬وه معكم لتنص‪9‬روا‬
‫دين هللا‪ ،‬وترفعوا راية هللا‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ولكن راية هللا نرفعها على أجسادنا وجماجمنا‪.‬‬
‫قال‪ :‬قبل أن ترفعوها على جماجمكم ارفعوها على أموالكم وأرزاقكم‪،‬‬
‫فاهلل دعا إلى الجهاد بالمال والنفس‪ ،‬ال بالنفس فقط‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ص‪99‬دقت‪ ،‬فإن‪99‬ه م‪99‬ا ي‪99‬أتي الجه‪99‬اد في الق‪99‬رآن الك‪99‬ريم ب‪99‬النفس إال‬
‫َ‪9‬اجرُوا َو َجاهَ‪ُ 9‬دوا ِفي‬‫ويقترن بالجهاد بالم‪9‬ال‪ ،‬ق‪9‬ال تع‪9‬الى‪ {:‬الَّ ِذينَ آ َمنُ‪9‬وا َوه َ‬
‫ظ ُم د ََر َج ًة ِع ْن َد هَّللا ِ َوأُو َل ِئكَ هُ ُم ْال َفا ِئ ُزونَ }(التوبة‪:‬‬
‫يل هَّللا ِ ِبأَ ْم َوا ِل ِه ْم َو َأ ْنفُ ِس ِه ْم َأ ْع َ‬
‫َس ِب ِ‬
‫‪)20‬‬
‫قال‪ :‬بل يقدم الجهاد بالمال على الجهاد بالنفس‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وهل في ذلك سر؟‬
‫قال‪ :‬ألن من قدم نفسه سوف لن يستطيع تقديم ماله‪.‬‬
‫قلت‪ :‬كيف؟‬
‫قال‪ :‬ألنه ال يستطيع أن يتكسب‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فماذا تريد هذه اآليات أن تقول إذن؟‬
‫ق‪99‬ال‪ :‬تري‪99‬د أن تق‪99‬ول لكم‪ :‬اب‪99‬ذلوا جمي‪99‬ع جه‪99‬ودكم الخ‪99‬يرة‪ ،‬ثم اجعل‪99‬وا‬
‫خاتمتها موتكم في سبيل هللا‪ ،‬أو هي تق‪9‬ول لكم‪ (:‬قب‪9‬ل أن تموت‪9‬وا في س‪9‬بيل‬
‫هللا‪ ،‬حاولوا أن تحيوا في سبيل هللا )‬
‫قلت‪ :‬ألجل ه‪9‬ذا إذن ق‪9‬ال ‪ (:‬خ‪9‬ير الن‪9‬اس من ط‪9‬ال عم‪9‬ره وحس‪9‬ن‬
‫عمله‪ ،‬وشر الناس من طال عمره وساء عمله )(‪)1‬‬
‫قال‪ :‬بل ورد في حديث آخر ما هو أعظم من هذا‪ ،‬قال ‪ (:‬ليس أحد‬
‫أفضل عند هللا عز وج‪9‬ل من م‪9‬ؤمن يعم‪9‬ر في اإلس‪9‬الم‪ ،‬لتكب‪9‬يره وتحمي‪9‬ده‬

‫‪ ) )(1‬أحمد والترمذي‪ ،‬وقال‪ :‬حسن صحيح‪ ،‬والحاكم‪.‬‬

‫‪69‬‬
‫(‪)1‬‬ ‫وتسبيحه وتهليله )‬
‫قلت‪ :‬ولكن م‪9‬ا عالق‪9‬ة ه‪9‬ذا كل‪9‬ه بالت‪9‬دبير‪ ..‬ألم نخ‪9‬رج إلى االس‪9‬تطراد‪،‬‬
‫وأنت تعلم عيوبه؟‬
‫قال‪ :‬ال‪ ..‬ذاك تدبير الطعام‪ ،‬وهذا تدبير الحياة‪ ..‬والحكيم هو الذي يدبر‬
‫لمستقبله كما يدبر لبطنه‪ ،‬ويدبر لنشأته اآلخرة كما يدبر لنشأته الدنيا‪.‬‬
‫قلت‪ :‬نعم‪ ،‬فقد أخبر ‪ ‬عن كيفية ت‪99‬دبير الم‪99‬ؤمن آلخرت‪99‬ه فق‪99‬ال‪ (:‬إن‬
‫ال‪99‬دين يس‪99‬ر ولن يش‪99‬اد ال‪99‬دين أح‪99‬د إال غلب‪99‬ه‪ ،‬فس‪99‬ددوا وق‪99‬اربوا وأبش‪99‬روا‪،‬‬
‫واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة )(‪)2‬‬
‫قال‪ :‬وهذا يشبه تدبير اإلنسان ألمر دني‪99‬اه بحيث يح‪99‬اول الموازن‪99‬ة بين‬
‫حاجاته‪ ،‬فيسد بعضها ببعض‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ما أعظم ما تشير إليه النصوص من معان‪ ..‬ولكن‪..‬‬
‫***‬
‫ما قلت هذا الكالم حتى شعرت بجوهرة كريمة تنزل أعماق صدري‪،‬‬
‫تنجلي من نورها بعض الظلمات‪.‬‬
‫قلت في نفسي بع‪9‬دها‪ :‬ل‪9‬و أن أك‪9‬ثر الفق‪9‬راء ال‪9‬ذين مألوا نفوس‪9‬هم هم‪9‬ا‬
‫وحزنا‪ ،‬ومألوا العالم بكاء وعويال‪ ،‬لو عرفوا كيف يتعايشون مع ح‪99‬التهم‪،‬‬
‫واطمأنوا بها‪ ،‬كما يتعايش المرضى مع أمراضهم‪ ،‬فيتن‪99‬اولون من الحمي‪99‬ة‬
‫م‪999‬ا يس‪999‬د ف‪999‬اقتهم النتفى فق‪999‬رهم وع‪999‬ادت إليهم ك‪999‬رامتهم ولم يحجبهم‬
‫اعتراضهم‪.‬‬
‫ب‪9‬ل إن من األغني‪9‬اء من يبتلي‪9‬ه هللا ب‪9‬المرض‪ ،‬فيعيش في حمي‪9‬ة قاس‪9‬ية‬
‫دونها حمية الفقراء‪ ،‬فما أهمية امتالء جيوب األغنياء‪ ،‬وخواء بطونهم؟‬
‫ثم لماذا ال يعتبر الفقير بم‪99‬ا يحص‪99‬ل له‪99‬ؤالء‪ ،‬فيحم‪99‬د هللا لك‪99‬ون حميت‪99‬ه‬
‫بسبب خارجي‪ ،‬ال بسبب داخلي‪ ،‬ولكونها ممكن‪9‬ة ال‪9‬زوال ال مس‪9‬تقرة في‪9‬ه‪،‬‬
‫وبكونها ال تؤثر في سير حياته وال سالمة عقله وال طمأنينة ضميره؟‬
‫ثم تذكرت األغنياء المترفين الذي دعاهم ج‪99‬زعهم وهلعهم وحرص‪99‬هم‬
‫إلى تدبير ال يكفيهم فقط‪ ،‬بل يكفي أمما من الناس‪ ،‬فمن األغني‪9‬اء في الع‪9‬الم‬
‫من له ثروة توازي ميزاني‪9‬ات دول بحاله‪9‬ا‪ ،‬ثم ه‪9‬و ال يقن‪9‬ع بك‪9‬ل ذل‪9‬ك‪ ،‬ب‪9‬ل‬
‫يفعل ما قاله ‪ (:‬لو كان البن آدم واد ألحب أن يكون له ثان ولو كان ل‪99‬ه‬

‫‪ ) )(1‬أحمد وعبد بن حميد‪.‬‬


‫‪ ) )(2‬البخاري والنسائي‪.‬‬

‫‪70‬‬
‫واديان ألحب أن يكون إليهم‪9‬ا ث‪9‬الث وال يمأل ج‪9‬وف ابن آدم إال ال‪9‬تراب ثم‬
‫يتوب هللا على من تاب)(‪)1‬‬
‫جوهرة االقتصاد‪:‬‬
‫صعدت مع المعلم طابقا آخر في قصر القناعة‪ ،‬فوجدنا شعاعا عظيما‬
‫متأللئا‪ ،‬سألت المرشد عنه‪ ،‬فقال‪ :‬هذه ج‪99‬وهرة نفيس‪99‬ة من جواهرالقناع‪99‬ة‪،‬‬
‫اسمها االقتصاد‪.‬‬
‫قلت‪ :‬نحن نعرف هذا االسم‪ ،‬فهو الذي يس‪99‬ير سياس‪9‬ات الع‪99‬الم‪ ،‬ويحكم‬
‫على شعوبها بالتقدم والتأخر‪.‬‬
‫ق‪9‬ال‪ :‬ذل‪9‬ك من تح‪9‬ريفكم للمع‪9‬اني‪ ،‬ألن اقتص‪9‬ادكم يق‪9‬وم على أه‪99‬وائكم‬
‫وتغليب مصالحكم‪ ،‬مبتوتا عن األخالق والمثل‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ذلك شأن كل شيء عندنا‪ ..‬فما االقتصاد عند أهل السالم؟‬
‫قال‪ :‬اقتصاد أهل الس‪99‬الم يق‪99‬وم على توزي‪99‬ع ث‪99‬روات هللا لخل‪99‬ق هللا بم‪99‬ا‬
‫يتوافق مع مصالحهم جميعا‪ ،‬فال نجيع بطن‪9‬ا لنش‪9‬بع بطن‪9‬ا‪ ،‬وال نف‪9‬رغ جيب‪9‬ا‬
‫لنمأل جيبا‪ ،‬وال نبيد أم‪99‬ة لتعيش أم‪99‬ة أخ‪99‬رى على ت‪99‬راب جماجمه‪99‬ا‪ ،‬وتمأل‬
‫أنهارها من خالص دمائها‪.‬‬
‫قلت‪ :‬كيف ذلك؟‬
‫ق‪999‬ال‪ :‬إن هللا خل‪999‬ق رزق الخل‪999‬ق ليكفي الخل‪999‬ق‪ ،‬أليس ه‪999‬و الك‪999‬افي‬
‫والحسيب!؟‬
‫اف َع ْب َدهُ}(الزم‪9‬ر‪ 9،)36 :‬وق‪9‬ال‬ ‫ْس هَّللا ُ ِب َك ٍ‬ ‫قلت‪ :‬بلى‪ ،‬فقد قال تعالى‪َ {:‬أ َلي َ‬
‫آالف ِمنَ ْال َمال ِئ َك‪ِ 9‬ة‬
‫ٍ‬ ‫تعالى‪ِ {:‬إ ْذ َتقُولُ ِل ْل ُم ْؤ ِم ِنينَ َأ َل ْن َي ْك ِف َي ُك ْم َأ ْن يُ ِم َّد ُك ْم َر ُّب ُك ْم ِب َثال َث ِة‬
‫ُم ْنزَ ِلينَ }(آل عمران‪)124 :‬‬
‫قال‪ :‬ولكنكم ـ للفراغ ال‪99‬ذي تش‪99‬عرون ب‪99‬ه في أج‪99‬وافكم ـ اعت‪99‬ديتم على‬
‫األرزاق التي جعلها هللا لغيركم‪.‬‬
‫قلت‪ :‬كيف ذلك‪ ،‬وهل يملك أحد أن يأخذ رزق أحد؟‬
‫قال‪ :‬أجل‪ ..‬أال يعتبر السارق معتديا على رزق غيره‪ ،‬آخذا له بطريق‬
‫الحرام؟‬
‫قلت‪ :‬أجل‪ ،‬ولهذا عاقبه الشرع بتلك العقوبة الخطيرة‪ ،‬ليقول ل‪99‬ه‪ :‬ه‪99‬ذه‬
‫اليد لم أخلقها لك لتأخذ رزق غيرك‪ ،‬بل لتأخ‪99‬ذ رزق‪99‬ك‪ ،‬وتس‪99‬عى لرزق‪99‬ك‪..‬‬
‫ولكن ما عالقة هذا ب‪9‬ذاك‪ ،‬فأغنياؤن‪9‬ا لم يس‪9‬تولوا على أرزاق غ‪9‬يرهم‪ ،‬ب‪9‬ل‬

‫‪ ) )(1‬البخاري ومسلم والترمذي‪.‬‬

‫‪71‬‬
‫كسبوها بالطرق الصحيحة التي أقرها الشرع؟‬
‫قال‪ :‬ولكنهم صرفوها في غ‪9‬ير م‪9‬ا ش‪9‬رع هللا‪ ،‬فأج‪9‬اعوا بطون‪9‬ا كث‪9‬يرة‬
‫ليمألوا الفراغ الذي تشعر به أجوافهم‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أشيوعي أنت؟ إني أسمع في صوتك نبرة شيوعية‪.‬‬
‫قال‪ :‬الشيوعي يهدم القصر‪ ،‬لين‪9‬بي على أطالل‪9‬ه الك‪9‬وخ‪ ،‬وال‪9‬ذي يه‪9‬دم‬
‫مصارع‪ ،‬والمصارع لم يتعلم السالم‪ ..‬وأنا معلم السالم‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فالرأسمالية في نظرك إذن أشرف؟‬
‫قال‪ :‬الرأسمالية التهدم القصر وال الكوخ‪ ،‬ولكنه‪9‬ا تم‪9‬ارس ك‪9‬ل الحي‪9‬ل‬
‫لتجعل من حجارة الكوخ لبنات جديدة تزين بها القصر‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وأنت‪ ..‬وأهل السالم؟‬
‫قال‪ :‬أنا ال أهدم القصر وال الكوخ‪ ،‬ألني صاحب سالم‪ ،‬ولك‪99‬ني أطلب‬
‫من صاحب القصر أن يزين الكوخ لكي ال يش‪99‬وه جم‪99‬ال قص‪99‬ره‪ ،‬وليحف‪99‬ظ‬
‫التناسق في الكون‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أليس في طلبك صراع واعتداء على الحرية الشخصية لصاحب‬
‫القصر؟‬
‫قال‪ :‬ال‪ ..‬ألنه لوال الكوخ ما بني القصر‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وهؤالء الذين هدموا الكوخ أو القصر م‪99‬ا س‪99‬ر ه‪99‬دمهم ل‪99‬ه‪ ..‬وهم‬
‫يزعمون أنهم أعيان اقتصاد‪.‬‬
‫ق‪9‬ال‪ :‬ألنهم نظ‪9‬روا إلى أج‪9‬وافهم الفارغ‪9‬ة‪ ..‬ولم ينظ‪9‬روا إلى الحقيق‪9‬ة‪..‬‬
‫فأحالهم ذلك إلى اإلسراف‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وما اإلسراف؟‬
‫ق‪99‬ال‪ :‬ه‪99‬و مج‪99‬اوزة االعت‪99‬دال والت‪99‬وازن ال‪99‬ذي طب‪99‬ع هللا بهم‪99‬ا األش‪99‬ياء‬
‫جميعا‪ ،‬فلذلك ال ترى فيها أي فطور‪.‬‬
‫َ‪9‬رى ِفي‬ ‫ت ِط َباق‪9‬اً َم‪9‬ا ت َ‬ ‫اوا ٍ‬‫قلت‪ :‬صدق هللا العظيم‪ {:‬الَّ ِذي خَ َل َق َس‪ْ 9‬ب َع َس‪َ 9‬م َ‬
‫ور}(الملك‪)3 :‬‬ ‫ط ٍ‬ ‫ص َر َهلْ ت ََرى ِم ْن فُ ُ‬ ‫ت َفارْ ِج ِع ْال َب َ‬ ‫ق الرَّحْ َم ِن ِم ْن َت َف ُ‬
‫او ٍ‬ ‫خَل ِ‬ ‫ْ‬
‫‪9‬ع ْال َب َ‬
‫ص‪َ 9‬ر َك‪9‬رَّ َتي ِْن‬ ‫قال‪ :‬إن لم يكفك ذلك لتبصر هذه الحقيق‪9‬ة‪ ،‬فـ { ارْ ِج ِ‬
‫خَاسئاً َوهُ َو َح ِسيرٌ}(الملك‪)4 :‬‬ ‫صرُ ِ‬ ‫َي ْن َق ِلبْ ِإ َل ْيكَ ْال َب َ‬
‫قلت‪ :‬لك‪99‬أني ب‪99‬ك تري‪99‬د أن تقحم‪99‬ني في م‪99‬ا أقحمت‪99‬ني في‪99‬ه في الط‪99‬ابق‬
‫السابق‪ ،‬فتزعم لي بأن االقتصاد خلق من أخالق هللا‪.‬‬
‫قال‪ :‬ما قلت ذلك‪ ،‬فال نسمي هللا إال بما سمى به نفسه‪.‬‬

‫‪72‬‬
‫قلت‪ :‬فقد قال‪ {:‬يُ َدبِّرُ اأْل َ ْم َر }(السجدة‪ ،)5 :‬ولم يقل‪ (:‬يقتصد)‬
‫ق‪99‬ال‪ :‬وم‪99‬ع ذل‪99‬ك فه‪99‬و يحب المقتص‪99‬دين‪ ،‬ويبغض المس‪99‬رفين‪ ،‬ف‪99‬إن لم‬
‫تقصد التشبه به‪ ،‬فتشبه بما يحبه‪.‬‬
‫قلت‪ :‬كيف يحب المقتصدين؟‬
‫قال‪ :‬ألم تسمع إلى الحق تعالى‪ ،‬وه‪99‬و يق‪99‬ول‪َ {:‬وال تُ ْس‪ِ 9‬رفُوا ِإنَّهُ ال ي ُِحبُّ‬
‫ْال ُم ْس‪ِ 99‬ر ِفينَ }(األنع‪99‬ام‪ ،)141 :‬وه‪99‬و يحض على تن‪99‬اول نعم‪99‬ه من غ‪99‬ير‬
‫اش ‪َ 9‬ربُوا‬ ‫إسراف‪ ،‬قال تعالى‪َ {:‬يا َب ِني آ َد َم ُخ ُذوا ِزي َن َت ُك ْم ِع ْن َد ُكلِّ َمس ِْج ٍد َو ُكلُوا َو ْ‬
‫َوال تُس ِْرفُوا ِإنَّهُ ال ي ُِحبُّ ْال ُمس ِْر ِفينَ }(ألعراف‪)31 :‬‬
‫وقد يأخذ اإلسراف أسماء أخرى‪ ،‬كلها ال يحبه‪99‬ا هللا‪ ،‬وال يحب أهله‪99‬ا‪،‬‬
‫يل هَّللا ِ الَّ ِذينَ يُ َق‪9‬ا ِتلُو َن ُك ْم َوال تَعْ تَ‪ُ 9‬دوا ِإ َّن هَّللا َ ال ي ُِحبُّ‬
‫قال تع‪9‬الى‪َ {:‬و َق‪9‬ا ِتلُوا ِفي َس‪ِ 9‬ب ِ‬
‫ْال ُمعْ َت‪ِ 9‬دينَ }(البق‪99‬رة‪ ،)190 :‬فالمعت‪99‬دي ق‪99‬د تج‪99‬اوز ح‪99‬د االعت‪99‬دال إلى الظلم‪،‬‬
‫فصار مسرفا‪ ،‬ولذلك تقوم الحروب بسبب اإلسراف‪.‬‬
‫‪9‬ولَّى‬ ‫واإلسراف نوع خطير من الفساد ال يحبه هللا‪ ،‬قال تع‪99‬الى‪َ {:‬و ِإ َذا َت‪َ 9‬‬
‫ث َوالنَّ ْس‪َ 9‬ل َوهَّللا ُ ال ي ُِحبُّ ْال َف َس‪9‬ادَ}‬ ‫ض ِليُ ْف ِس‪َ 9‬د ِفي َه‪9‬ا َويُ ْه ِل‪9‬كَ ْال َح‪9‬رْ َ‬ ‫َس َعى ِفي اأْل َرْ ِ‬
‫(البقرة‪)205 :‬‬
‫قلت‪ :‬وق‪9‬د أخ‪99‬بر تع‪9‬الى ب‪9‬أن المب‪99‬ذرين إخ‪9‬وان الش‪9‬ياطين‪ ،‬فق‪99‬ال‪ِ {:‬إ َّن‬
‫ان ِل َر ِّب ِه َكفُوراً}(االسراء‪)27 :‬‬ ‫ط ُ‬ ‫ين َو َكانَ ال َّش ْي َ‬ ‫اط ِ‬‫ْال ُم َب ِّذ ِرينَ َكانُوا ِإ ْخ َوانَ ال َّش َي ِ‬
‫قال‪ :‬إن القرآن الكريم ـ هنا ـ يجع‪9‬ل التب‪9‬ذير والكف‪9‬ر في س‪9‬لة واح‪9‬دة‪،‬‬
‫أتدري لم؟‬
‫قلت‪ :‬لم؟‬
‫ق‪999‬ال‪ :‬ألن المس‪999‬رف ال يع‪999‬رف نعم هللا‪ ،‬أو أن إس‪999‬رافه يجعل‪999‬ه يلتهم‬
‫األشياء التهاما يشغله عن معرفة مص‪9‬درها‪ ،‬فل‪99‬ذلك ال يب‪99‬الي المس‪99‬رف م‪99‬ا‬
‫مأل جوفه أمن حالل‪ ،‬أم من حرام‪ ،‬وال يبالي أفي‪9‬ه منفع‪9‬ة‪ ،‬أم في‪9‬ه مض‪9‬رة‪،‬‬
‫وال يبالي ما عاقبة ما يتناوله أسجن أم زنزانة أم موت‪ ..‬ك‪99‬ل هم‪99‬ه أن يمأل‬
‫جوفه‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فالمسرف إذن يضر مصالحه‪.‬‬
‫قال‪ :‬ال يضر مصالحه فقط‪ ،‬بل يضر مص‪99‬الحه‪ ،‬ومص‪99‬الح المجتم‪99‬ع‪،‬‬
‫ومصالح الدنيا‪ ،‬ومصالح اآلخرة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فهال تفصل لي مظاهر هذا اإلضرار‪ ،‬فإن قومي ال يخ‪99‬افون من‬
‫شيء كما يخافون على مصالحهم‪.‬‬

‫‪73‬‬
‫قال‪ :‬س‪99‬نتحدث عن مض‪99‬ار اإلس‪99‬راف وض‪99‬رورة االقتص‪99‬اد في حف‪99‬ظ‬
‫المصالح الخاصة والعامة‪ ،‬فالفقر فقر افراد وفقر مجتمع‪99‬ات‪ ،‬ومن الخط‪99‬أ‬
‫أن نعالج الفرد‪ ،‬ونترك المجموع لألويئة تلتهمها‪.‬‬
‫المصالح الخاصة‪:‬‬
‫قلت‪ :‬فلنبدأ بأثر اإلسراف في تهديم مصالح النفس؟‬
‫قال‪ :‬إن هللا تعالى خل‪9‬ق لنفس اإلنس‪9‬ان ال‪9‬تي هي جس‪9‬م وروح طاق‪9‬ات‬
‫معينة وح‪9‬دودا مح‪9‬ددة‪ ،‬فمن جاوزه‪9‬ا وق‪9‬ع في اإلس‪9‬راف‪ ..‬ق‪9‬ل لي‪ :‬ل‪9‬و أن‬
‫جه‪99‬ازا من أجه‪99‬زتكم الكهربائي‪99‬ة يحت‪99‬اج فق‪99‬ط إلى ف‪99‬رق كم‪99‬ون ق‪99‬دره ‪12‬‬
‫ف‪99‬ولت‪ ،‬فأوص‪99‬له ش‪99‬خص بتي‪99‬ار كهرب‪99‬ائي ق‪99‬دره ‪ 380‬فول‪99‬ط‪ ،‬م‪99‬ا يك‪99‬ون‬
‫مصيره؟‬
‫قلت‪ :‬التلف‪.‬‬
‫ق‪99‬ال‪ :‬ف‪99‬إن هللا خل‪99‬ق ألجس‪99‬امكم وأرواحكم ال‪99‬تي هي حقيقتكم ح‪99‬دودا‬
‫معينة‪ ،‬فمن جاوزها حصل له التلف‪ ،‬ال من هللا‪ ،‬بل بما كسبت أي‪99‬ديكم‪ ،‬ألم‬
‫‪9‬ار‬
‫ط‪ِ 9‬‬ ‫طعْ تُ ْم َأ ْن َت ْنفُ‪ُ 9‬ذوا ِم ْن َأ ْق َ‬ ‫تسمع قوله تعالى‪َ {:‬يا َمعْ َش َر ْال ِجنِّ َواأْل ِ ْن ِ‬
‫س ِإ ِن ا ْس َت َ‬
‫ان}(الرحمن‪)33 :‬‬ ‫ض َفا ْنفُ ُذوا ال َت ْنفُ ُذونَ ِإاَّل ِبس ُْل َ‬
‫ط ٍ‬ ‫ت َواأْل َرْ ِ‬ ‫ال َّس َم َ‬
‫اوا ِ‬
‫قلت‪ :‬أجل‪ ..‬ويستدل البعض بهذا على إمكانية غزو اإلنسان للفضاء‪.‬‬
‫َ‪9‬ار َونُ َح‪ 9‬اسٌ‬
‫اظ ِم ْن ن ٍ‬ ‫قال‪ :‬ولكن هللا تعالى قال بعدها‪ {:‬يُرْ َسلُ َع َل ْي ُك َما ُش َو ٌ‬
‫ان}(الرحمن‪ ،)35 :‬أتدري لم؟‬ ‫َفال َت ْنت ِ‬
‫َص َر ِ‬
‫قلت‪ :‬لعل في هذا تنبيها للمخاطر ال‪99‬تي تع‪99‬ترض اإلنس‪99‬ان إن فك‪99‬ر في‬
‫سلوك هذا السبيل‪.‬‬
‫قال‪ :‬ألن هللا تع‪9‬الى خل‪9‬ق األرض لإلنس‪9‬ان‪ ،‬ولم يخل‪9‬ق ل‪9‬ه أي ك‪9‬وكب‬
‫آخر‪ ،‬فإن فكر في الخروج منها حصل ل‪9‬ه م‪9‬ا حص‪9‬ل للعب‪9‬د اآلب‪9‬ق‪ ،‬أو م‪9‬ا‬
‫حصل للفراش المتهافت على النار‪ ،‬يحسبه لؤلؤا أو ياقوتا‪.‬‬
‫قلت‪ :‬هذا قد يحص‪9‬ل في المس‪9‬تقبل‪ ،‬وق‪9‬د ي‪9‬راد باآلي‪9‬ة غ‪9‬ير م‪9‬ا فهمن‪9‬ا‪،‬‬
‫ولكن أري‪99‬د معرف‪99‬ة أن‪99‬واع الض‪99‬رر ال‪99‬تي يحمله‪99‬ا اإلس‪99‬راف على مص‪99‬الح‬
‫اإلنسان في جسمه وروحه‪.‬‬
‫قال‪ :‬أما روحه‪ ،‬وهي حقيقته‪ ،‬فقد وضع هللا لها قانونا تسير عليه‪ ،‬فإن‬
‫جاوزته وقعت في اإلسرف‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أله‪99‬ذا ي‪99‬رد ذك‪99‬ر اإلس‪99‬راف في الق‪99‬رآن الك‪99‬ريم في غ‪99‬ير المأك‪99‬ل‬
‫والمشرب؟‬

‫‪74‬‬
‫قال‪ :‬لكل ما يضر الجسد الظاهر قرين يضر الجسد الباطن‪ ،‬ولكل م‪99‬ا‬
‫يضر الروح الظاهرة مثال يضر الروح الباطنة‪ ،‬فالروح كالجسد‪ ،‬لكليهما‬
‫صانع واحد‪.‬‬
‫قلت‪ :‬لقد كنت أحتار في هذا‪ ،‬ف‪9‬أقول‪ :‬كي‪9‬ف اعت‪9‬بر هللا فع‪9‬ل ق‪9‬وم ل‪9‬وط‬
‫اء َب‪9‬لْ َأ ْنتُ ْم َق‪9‬وْ ٌم‬
‫ون ال ِّن َس‪ِ 9‬‬
‫ال َشه َْو ًة ِم ْن ُد ِ‬‫الرِّج َ‬
‫َ‬ ‫إسرافا‪ ،‬فقال تعالى‪ِ {:‬إنَّ ُك ْم َلت َْأتُونَ‬
‫ُمس ِْرفُونَ }(ألعراف‪)81 :‬‬
‫ق‪9‬ال‪ :‬ألن هللا تع‪9‬الى خل‪9‬ق ح‪9‬دودا لل‪9‬ذة تتناس‪9‬ب م‪9‬ع حاج‪9‬ات اإلنس‪9‬ان‬
‫ومصالحه‪ ،‬فالخروج بها كما خرج قوم لوط‪ ،‬أو كما خرج قومك‪ ،‬إسراف‬
‫عظيم‪.‬‬
‫قلت‪ :‬قومي ليسوا سدوما وال عمورية؟‬
‫قال‪ :‬سدوم وعمورية مجرد ناديين صغيرين من نوادي حضارتكم‪.‬‬
‫تص‪99‬بب ع‪9‬رقي حي‪9‬اء‪ ،‬وقلت‪ :‬نعم‪ ،‬إن ق‪9‬ومي أس‪9‬رفوا كث‪99‬يرا في ه‪9‬ذه‬
‫األنواع من االنحراف حتى ابتدعوا ما عجزت عنه سدوم وعمورية‪.‬‬
‫قال‪ :‬فكيف تزعم احترامهم لالقتصاد‪.‬‬
‫قلت‪ :‬االقتصاد عندهم ال عالقة له بهذا‪ ..‬بل دوره الوحيد ملء خ‪99‬زائن‬
‫الكبراء‪ ،‬وإفراغ جيوب الضعفاء‪.‬‬
‫قال‪ :‬ومع ذلك فإنهم لو احترموا ه‪99‬ذا الن‪99‬وع من االقتص‪99‬اد‪ ،‬لحق‪99‬ق لهم‬
‫مصالح ما يعرفون من االقتصاد؟‬
‫قلت‪ :‬كيف؟‬
‫قال‪ :‬إن أك‪9‬ثر م‪9‬ا يح‪9‬زن ل‪9‬ه الفق‪9‬ير من ب‪9‬ني قوم‪9‬ك أن‪9‬ه لم يكن ل‪9‬ه من‬
‫الشهوات ما يتمتع به الغني‪.‬‬
‫قلت‪ :‬هذا هو مقياس الفقر عندنا‪.‬‬
‫قال‪ :‬ولم ال ينظر الفقير إلى ما عنده من المتاع الذي ق‪9‬د ال يوج‪9‬د مثل‪9‬ه‬
‫في قصر كسرى وقيصر!؟‬
‫قلت‪ :‬كيف هذا؟‬
‫ق‪99‬ال‪ :‬أليس في بيت أك‪99‬ثر الن‪99‬اس م‪99‬ذياعا يس‪99‬مع ب‪99‬ه أخب‪99‬ار الع‪99‬الم‪،‬‬
‫ومصباحا يضيء عليه أرجاء بيته؟‬
‫قلت‪ :‬ب‪99‬ل أش‪99‬ياء كث‪99‬يرة ال تنق‪99‬ل ل‪99‬ه األص‪99‬وات فق‪99‬ط‪ ،‬ب‪99‬ل األص‪99‬وات‬
‫والصور‪ ..‬ولكن ما عالقة هذا بالمصالح االقتصادية؟‬
‫قال‪ :‬ألن أخطر م‪9‬ا يف‪9‬رغ جي‪9‬وب المستض‪9‬عفين ه‪9‬و ذل‪9‬ك االس‪9‬تهالك‬

‫‪75‬‬
‫العشوائي لكل األش‪99‬ياء‪ ،‬فيعيش‪99‬ون في نهم لك‪99‬ل ش‪99‬يء‪ ،‬وال يظف‪99‬رون ب‪99‬أي‬
‫شيء‪ ،‬ولو أنهم تماس‪9‬كوا وقبض‪9‬وا أي‪9‬ديهم قليال‪ ،‬وق‪9‬تروا نوع‪9‬ا من التقت‪9‬ير‬
‫لوفروا ألنفسهم من السعادة واالستقرار ما يوفر لهم من السعادة م‪99‬ا تعج‪99‬ز‬
‫عنه اللعب التي يتفانون في جمعها‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فلنفرض أنه حصل ذلك؟‬
‫قال‪ :‬سيرتفع شبح الفقر‪ ،‬وسيسعد الناس جميعا ال بعض الناس‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ولكن ذلك قد يجعل خزائن األغني‪9‬اء متوقف‪9‬ة في ح‪9‬دود معين‪9‬ة ال‬
‫تتجاوزها‪.‬‬
‫قال‪ :‬ولكنها حدود تكفيهم وترضي نهمهم‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ولكن نهمهم ال حدود له‪ ،‬ألم تقرأ علي قول‪99‬ه ‪ (:‬ل‪99‬و ك‪99‬ان البن‬
‫آدم واد ألحب أن يكون له ثان ولو كان ل‪9‬ه وادي‪9‬ان ألحب أن يك‪9‬ون إليهم‪9‬ا‬
‫ثالث وال يمأل جوف ابن آدم إال التراب ثم يتوب هللا على من تاب )‬
‫قال‪ :‬ولكنا لو أطعن‪9‬ا ه‪9‬ذا النهم لجعلن‪9‬ا األرض جميع‪9‬ا مزرع‪9‬ة في ي‪9‬د‬
‫غني واحد‪ ،‬وجعلنا أهلها جميعا عبيدا بين يديه‪.‬‬
‫قلت‪ :‬هذه حقيقة‪.‬‬
‫قال‪ :‬وهذا مبدأ الصراع‪.‬‬
‫قلت‪ :‬لهذا صارعت الشيوعية‪.‬‬
‫قال‪ :‬ولهذا تصارع الرأسمالية‪ ،‬وكل من يصارع يهلك‪.‬‬
‫قلت‪ :‬الشيوعية سقطت‪ ،‬ولكن الرأسمالية في أوج عنفوانها‪.‬‬
‫قال‪ :‬والرأسمالية سقطت في أوج عنفوانها؟‬
‫قلت‪ :‬كيف؟‬
‫قال‪ :‬ستبدي لك األيام ما كنت جاهال‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ويأتيك باألخبار من لم تزود‪ ..‬هذا شعر وأنا أريد ن‪99‬ور البص‪99‬يرة‬
‫أو بصيرة النور؟‬
‫قال‪ :‬إن هللا تعالى توعد المجتمعات المسرفة بالخراب‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أين؟وكيف؟‬
‫قال‪ :‬سنعرف ذلك عند الحديث عن مضار االسراف العام‪99‬ة‪ ،‬أم‪99‬ا آلن‬
‫فنحن في مضار اإلسراف الخاصة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬عرفت ضرر اإلسراف على مصالح الروح‪ ،‬فم‪99‬ا مض‪99‬اره على‬
‫مصالح الجسد؟ فقومي أحرص على أجسادهم من كل شيء‪.‬‬

‫‪76‬‬
‫ق‪9‬ال‪ :‬لق‪9‬د رب‪9‬ط الح‪9‬ق تع‪9‬الى بين تن‪9‬اول الش‪9‬هوات وبين االقتص‪9‬اد في‬
‫ت‬ ‫عْرُوش ‪9‬ا ٍ‬ ‫َ‬ ‫ت َم‬ ‫مواضع من القرآن الكريم‪ ،‬فقال تعالى‪َ {:‬وهُ َو الَّ ِذي َأ ْن َش ‪9‬أَ َجنَّا ٍ‬
‫الز ْيتُ‪9‬ونَ َوالرُّ َّمانَ ُمت ََش‪9‬ا ِبهاً‬ ‫ال‪9‬زرْ َع ُم ْخ َت ِلف‪9‬اً أُ ُكلُ‪9‬هُ َو َّ‬
‫ت َوالنَّ ْخ‪َ 9‬ل َو َّ‬ ‫َو َغي َْر َمعْرُو َشا ٍ‬
‫صا ِد ِه َوال تُس ِْرفُوا ِإنَّهُ ال‬ ‫َو َغي َْر ُم َت َشا ِب ٍه ُكلُوا ِم ْن َث َم ِر ِه ِإ َذا َأ ْث َم َر َوآتُوا َحقَّهُ َيوْ َم َح َ‬
‫ي ُِحبُّ ْال ُمس ِْر ِفينَ }(األنعام‪)141 :‬‬
‫قلت‪ :‬لقد ذكر تعالى في هذه اآلية ما أنعم به على عب‪99‬اده من نعيم‪ ،‬فاهلل‬
‫هو الذي خلق ان‪99‬واع البس‪99‬اتين والم‪99‬زارع الحاوي‪99‬ة على أن‪99‬واع األشـجـار‬
‫والنباتات ‪ ،‬فمنها ما يعتمد في موقفه على األعمدة والع‪99‬روش حيث تحم‪99‬ل‬
‫م‪99‬ا ل‪99‬ذ وط‪99‬اب من الـفـواكه والثم‪99‬ار‪ ،‬وتخلب بمنظره‪99‬ا الس‪99‬احر العي‪99‬ون‬
‫واأللباب ‪ ،‬ومنها ما ال يحتاج الى عريش ‪ ،‬ب‪9‬ل ه‪9‬و قـائم على س‪9‬وقه يلقي‬
‫بظالل‪99‬ه الوارف‪99‬ة على رؤوس االدم‪99‬يين ‪ ،‬ويس‪99‬د بثم‪99‬اره المتنوع‪99‬ة حاج‪99‬ة‬
‫االنسان الى الغذاء‪.‬‬
‫قال‪ :‬وبعد أن أغرى الحق تعالى عباده بتن‪99‬اول ه‪9‬ذه الش‪99‬هوات بين لهم‬
‫ضوابط تناولها‪ ،‬وهي ثالثة‪ :‬األكل منها واإلنفاق واالقتصاد‪.‬‬
‫قلت‪ :‬كيف يكون األكل ضابطا من ضوابطها‪ ،‬وهو ضرورة؟‬
‫قال‪ :‬ليرد على الذين حرموا ما أحل هللا‪ ،‬واعتقدوا الكم‪99‬ال في التعف‪99‬ف‬
‫عما رزق هللا من الطيبات‪ ،‬ألم تسمع قول‪99‬ه تع‪9‬الى‪ {:‬قُ‪99‬لْ َم ْن َح‪99‬رَّ َم ِزي َن‪َ 9‬ة هَّللا ِ‬
‫ق قُ‪9‬لْ ِه َي ِللَّ ِذينَ آ َمنُ‪9‬وا ِفي ْال َح َي‪9‬ا ِة ال‪ُّ 9‬د ْن َيا‬ ‫ْ‬
‫ال‪9‬رِّز ِ‬ ‫ت ِمنَ‬ ‫الَّ ِتي َأ ْخ َر َج ِل ِع َبا ِد ِه َو َّ‬
‫الط ِّي َبا ِ‬
‫ت ِل َقوْ ٍم َيعْ َل ُمونَ }(ألعراف‪)32 :‬‬ ‫ص ًة َيوْ َم ْال ِق َيا َم ِة َك َذ ِلكَ نُ َفصِّلُ اآْل يا ِ‬
‫خَا ِل َ‬
‫قلت‪ :‬تقصد الزهاد‪.‬‬
‫ق‪9‬ال‪ :‬ال‪ ..‬الزه‪9‬اد من األولي‪9‬اء‪ ،‬واألولي‪9‬اء يفهم‪9‬ون عن هللا وي‪9‬أتمرون‬
‫بأمر هللا‪ ،‬وإنم‪9‬ا أقص‪9‬د الرهباني‪9‬ة ال‪9‬تي ق‪9‬ال الح‪9‬ق تع‪9‬الى فيه‪9‬ا‪َ {:‬و َر ْه َبا ِنيَّ ًة‬
‫ا ْب َت َد ُعوهَا } (الحديد‪)27 :‬‬
‫قلت‪ :‬ولكن من زهاد هذه األمة من وقع في مثل هذه الرهبانية‪.‬‬
‫قال‪ :‬فال نسميه زاهدا‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فماذا نسميه؟‬
‫قال‪ :‬راهبا‪ ،‬كما سماه القرآن الكريم‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فما الضابط الثاني؟‬
‫قال‪ :‬ترك اإلسراف‪ ،‬ألن من أكل فوق حاجته كان كمن يري‪99‬د أن يمأل‬
‫خزان وقود سيارته بربطه بعين ماء مغدقة‪ ،‬أو ببئر متدفق‪.‬‬

‫‪77‬‬
‫قلت‪ :‬لعل هذا ما يشير إلي‪99‬ه قول‪99‬ه ‪ (:‬الم‪99‬ؤمن يأك‪99‬ل في معي واح‪99‬د‬
‫والمنافق يأكل في سبعة أمعاء)(‪)1‬‬
‫قال‪ :‬أتدري سر ذلك؟‬
‫قلت‪ :‬وما سر ذلك؟‬
‫قال‪ :‬ألن المؤمن ـ حقيقة اإليم‪99‬ان ـ ممتلئ ثق‪99‬ة بفض‪99‬ل هللا‪ ،‬فال يش‪99‬عر‬
‫بالفراغ الذي يشعر به الكافر والجاحد والذي لم يكتب اإليمان في قلبه‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ألهذا إذن قال تعالى‪َ {:‬والَّ ِذينَ َك َفرُوا َي َت َمتَّ ُع‪99‬ونَ َو َي‪9ْ 9‬أ ُكلُونَ َك َم‪99‬ا ت َْأ ُك‪9‬لُ‬
‫اأْل َ ْن َعا ُم}(محمد‪ ،)12 :‬أي هم في دنياهم يتمتعون بها وي‪9‬أكلون منه‪9‬ا كأك‪9‬ل‬
‫األنعام‪ ،‬خضماً وقضماً ليس لهم همة إال في ذلك‪.‬‬
‫قال‪ :‬ولهذا ربط هللا تعالى بين اإلسراف والكفر كما مر معن‪99‬ا‪ ،‬فالك‪99‬افر‬
‫ال يرى في النعم‪9‬ة م‪9‬ا ي‪9‬راه الم‪9‬ؤمن من فض‪9‬ل هللا‪ ،‬فينش‪9‬غل بتناوله‪9‬ا كم‪9‬ا‬
‫تنشغل البهائم بالرعي‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ولكنا نرى السمنة في بالد المسلمين فاشية‪ ،‬بل تكاد ت‪99‬بز غيره‪99‬ا‬
‫من األمم‪ ،‬فكيف يرتبط المفر باإلسراف؟‬
‫قال‪ :‬نحن نتحدث عن الحقيقة‪ ،‬وال يهمنا من تلبس بها أو عري عنه‪99‬ا‪،‬‬
‫وقد ورد في النصوص إنكار السمنة‪ ،‬فال ينبغي غض الطرف عنها لكون‬
‫األمة مصابة بها‪ ،‬فالحق أحق أن يتبع‪.‬‬
‫قلت‪ :‬تقص‪99‬د قول‪99‬ه ‪ (:‬إن خ‪99‬يركم ق‪99‬رني ثم ال‪99‬ذين يل‪99‬ونهم ثم ال‪99‬ذين‬
‫يل‪9‬ونهم ثم يك‪9‬ون من بع‪9‬دهم ق‪9‬وم يش‪9‬هدون وال يستش‪9‬هدون ويخون‪9‬ون وال‬
‫يؤتمنون وينذرون وال يوفون ويظهر فيهم السمن )(‪)2‬‬
‫قال‪ :‬صدق رسول هللا ‪ .. ‬هذا هو االقتصاد‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فالس‪99‬من إذن ظ‪99‬اهرة خط‪99‬يرة‪ ..‬ولكن‪99‬ا يمكن أن نتخلص منه‪99‬ا‬
‫بالرياض‪99‬ة‪ ،‬ب‪99‬ل هن‪99‬اك أدوي‪99‬ة كيمياوي‪99‬ة يكفي دهن الجل‪99‬د به‪99‬ا ليتخلص من‬
‫الدهون الزائدة‪.‬‬
‫قال‪ :‬ولماذا يدخلها أصال حتى يبحث عن مخرجها؟‬
‫قلت‪ :‬إنها شهوة المطعم‪ ،‬فهل حرم هللا لذائذ األطعمة؟‬
‫ق‪99‬ال‪ :‬أكلم‪99‬ا اش‪99‬تهى أح‪99‬د ش‪99‬يئا أكل‪99‬ه‪ ،‬ألم تس‪99‬مع قول‪99‬ه ‪ (:‬إن من‬
‫اإلسراف أن تأكل كل ما اشتهيت)(‪ .. )3‬وتجشأ بعضهم عند رسول هللا ‪‬‬
‫‪ ) )(1‬البخاري وغيره‪.‬‬
‫‪ ) )(2‬الترمذي والحاكم‪.‬‬
‫‪ ) )(3‬ورد في سنن ابن ماجة‪.‬‬

‫‪78‬‬
‫فق‪9‬ال ل‪9‬ه‪ (:‬أقص‪9‬ر عن‪9‬ا من جش‪9‬ائك‪ ،‬إن أط‪9‬ول الن‪9‬اس جوع‪9‬اً ي‪9‬وم القيام‪9‬ة‬
‫أكثرهم شبعا ً في الدنيا )(‪)1‬‬
‫قلت‪ :‬فلنعد لم‪99‬ا ورد في اآلية(‪)2‬من ض‪99‬وابط التعام‪99‬ل م‪99‬ع نعم هللا‪ ،‬فق‪99‬د‬
‫ذكرنا األكل واإلسراف‪ ،‬فم‪9‬ا مح‪9‬ل اإلنف‪9‬اق في ه‪9‬ذا المح‪9‬ل ‪،‬ولم‪9‬اذا رب‪9‬ط‬
‫باإلسراف؟‬
‫قال‪ :‬ألن المسرف في األك‪9‬ل والش‪9‬رب وتن‪9‬اول الش‪9‬هوات لن يبقى ل‪9‬ه‬
‫من المال ما ينفق منه‪ ،‬أو يبقى له ما ي‪9‬دخره لنفس‪9‬ه ال‪9‬تي ال تش‪9‬بع‪ ..‬أو ه‪9‬و‬
‫في انشغاله بمأل الفراغ الذي يعاني منه ال يفكر في اإلخ‪9‬راج ب‪9‬ل يفك‪9‬ر في‬
‫اإلدخال‪ ،‬وال يفكر في اإلطعام‪ ،‬بل يفكر في االستطعام‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ألهذا قال ‪ (:‬طعام الواحد يكفي االثنين‪ ،‬وطع‪99‬ام االث‪99‬نين يكفي‬
‫األربعة‪ ،‬وطعام األربعة يكفي الثمانية )(‪)3‬‬
‫قال‪ :‬ولكن هذا ال يك‪9‬ون إال لمن م‪9‬رن نفس‪9‬ه‪ ،‬فلم ي‪9‬دع الف‪9‬راغ النفس‪9‬ي‬
‫يؤثر فيه‪ ،‬وال للشهوات أن تتحكم في سلوكه‪ ..‬ارج‪99‬ع لقوم‪99‬ك‪ ،‬وادعهم إلى‬
‫االشتغال باهلل‪ ،‬وب‪99‬أمر هللا‪ ،‬فس‪99‬يملؤون ك‪99‬ل ف‪99‬راغ‪ ،‬ف‪99‬إن الش‪99‬ره يه‪99‬رب إلى‬
‫الطعام ليهرب من الحقيقة‪ ،‬ولو أنه امتأل بها لكفته‪.‬‬
‫أال ترى أنك في انشغالك بفرح أو حزن ال تكاد تستقر اللقم‪9‬ة في فم‪9‬ك‬
‫حتى تنهض عن طعامك غير عابئ بلذته‪.‬‬
‫قلت‪ :‬نعم‪ ،‬ذلك صحيح‪ ،‬وكل الناس يحصل منهم ه‪99‬ذا‪ ..‬لق‪99‬د أرش‪99‬دتني‬
‫إلى دواء جديد للسمنة‪ ،‬فالسمنة عندنا ظاهرة خطيرة‪.‬‬
‫ق‪99‬ال‪ :‬ولكنكم تعالجونه‪99‬ا ـ كش‪99‬أنكم في ك‪99‬ل ش‪99‬يء ـ باالتج‪99‬ار فيه‪99‬ا‪،‬‬
‫فتنتج‪9‬ون العق‪99‬ارات والس‪9‬موم‪ ،‬لتص‪9‬وركم أن اإلنس‪9‬ان مجموع‪99‬ة وظ‪99‬ائف‬
‫بيولوجية أو ظواهر فيزيائية ال حقيقة من الحقائق العليا‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فقد نهينا عن اإلسراف‪ ،‬فما مضاره على أجسادنا؟‬
‫قال‪ :‬ألم تعلم أن المعدة بيت الداء؟‬
‫قلت‪ :‬كما أنها بيت الدواء‪.‬‬
‫قال‪ :‬هي بيت الدواء إن احترمت ما ي‪99‬دخل إليه‪99‬ا‪ ،‬أم‪99‬ا إذا لم تحترم‪99‬ه‪،‬‬
‫فستكون بيتا ال لداء واحد‪ ،‬بل ألدواء كثيرة‪.‬‬
‫‪ ) )(1‬مجمع الزوائد للهيثمي‪.‬‬
‫ُ‬
‫ْرفوا إِنَّهُ ال ي ُِحبُّ‬
‫صا ِد ِه َوال تُس ِ‬ ‫َّ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫‪ ) )(2‬هي قوله تعالى‪ُ  :‬كلُوا ِم ْن ثَ َم ِر ِه إِ َذا أث َم َر َوآتُوا َحقهُ يَوْ َم َح َ‬
‫ْال ُمس ِ‬
‫ْرفِينَ ‪(‬األنعام‪)141:‬‬
‫‪ )(3‬مسلم‪.‬‬

‫‪79‬‬
‫قلت‪ :‬أأنت تقول إذن ما قال ابن سينا؟‬
‫قال‪ :‬وما قال ابن سينا؟‬
‫قلت‪ :‬لقد قال‪:‬‬
‫ص‪999‬ر‬
‫وحُس‪999‬ن الق‪999‬و ِل في قِ َ‬ ‫جمعت الطبَّ في بي‪9999999‬تين‬ ‫ُ‬
‫جمع‪99999999999999999999999999999999999999999‬ا ً الكالم‬
‫‪  ‬‬ ‫‪ ‬‬
‫تجنّب‪ ،‬والش‪999999999999‬فا ُء في‬ ‫فقلّل إن اكلتَ وبع‪999‬د أكل‬
‫اإلنهض‪99999999999999999999999999999999999‬ام‬ ‫‪ ‬‬
‫‪  ‬‬
‫الطع‪9999‬ام على‬
‫ِ‬ ‫من إدخ‪9999‬ال‬ ‫وليس على النف‪999‬وس أش‪ُّ 999‬د‬
‫ح‪999999999999999999999999999999999999999999‬االً الطع‪999999999999999999999999999999999999999‬ام‬
‫‪  ‬‬ ‫‪ ‬‬
‫قال‪ :‬بل أقول ما قال طبيب األطباء وحكيم الحكم‪99‬اء ‪ (:‬م‪99‬ا مأل ابن‬
‫آدم وعاء شراً من بطنه‪ ،‬بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه‪ ،‬فإن كان البد‬
‫ال فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه)(‪)1‬‬ ‫فاع ً‬
‫المصالح العامة‪:‬‬
‫قلت‪ :‬لقد عرفنا مضار اإلسراف‪ ،‬ومحاس‪99‬ن االقتص‪99‬اد على المص‪99‬الح‬
‫الخاصة‪ ،‬فما ضرره على المصالح العامة‪.‬‬
‫قال‪ :‬المصالح العامة هي المصالح الخاص‪9‬ة‪ ،‬وض‪9‬رر األف‪9‬راد ض‪9‬رر‬
‫المجتمع‪ ،‬ألم يقل ‪ (:‬المؤمنون كرجل واح‪9‬د‪ ،‬إن اش‪9‬تكى رأس‪9‬ه اش‪9‬تكى‬
‫كله‪ ،‬وإن اشتكى عينه اشتكى كله )(‪)2‬‬
‫قلت‪ :‬ذلك للمؤمن‪ ،‬ونحن نتحدث مع الناس جميعا م‪99‬ؤمنهم وك‪99‬افرهم‪،‬‬
‫فالمصالح العامة مصالح البشر جميعا‪.‬‬
‫قال‪ :‬ألم يقل الحق تعالى لليهود‪ ،‬وقد كانوا كفرة‪ {:‬ثُ َّم َأ ْنتُ ْم ه َُؤ ِ‬
‫الء َت ْقتُلُونَ‬
‫َأ ْنفُ َس ُك ْم }(البق‪9‬رة‪ ،)85 :‬فق‪9‬د ع‪9‬بر الح‪9‬ق تع‪9‬الى عن قتلهم لبعض‪9‬هم بعض‪9‬ا‬
‫بقتلهم ألنفسهم‪.‬‬
‫قلت‪ :‬نعم‪ ..‬فما األضرار المرتبطة بهذا الجانب‪.‬‬
‫قال‪ :‬الهالك الذي توع‪99‬د هللا ب‪99‬ه المس‪99‬رفين‪ ،‬والهالك إذا ح‪99‬ل بقري‪99‬ة لم‬
‫يميز صالحها من فاسدها‪ ،‬وال طيبها من خبيثها‪.‬‬
‫‪ ) )(1‬أحمد والترمذي وابن ماجة والحاكم‪.‬‬
‫‪ )(2‬مسلم‪.‬‬

‫‪80‬‬
‫قلت‪ :‬تقص‪99‬د م‪99‬ا ورد في الق‪99‬رآن الك‪99‬ريم من اإلخب‪99‬ار بم‪99‬ا حص‪99‬ل‬
‫ص َد ْقنَاهُ ُم ْال َو ْع‪َ 9‬د َفأَ ْن َج ْي َن‪99‬اهُ ْم َو َم ْن ن ََش‪9‬ا ُء َو َأ ْه َل ْك َن‪99‬ا‬
‫للمسرفين‪ ،‬كقوله تعالى‪ {:‬ثُ َّم َ‬
‫ْال ُمس ِْر ِفينَ } (االنبياء‪ ،)9 :‬وقوله‪ُ {:‬م َس َّو َم ًة ِع ْن‪َ 9‬د َربِّكَ ِل ْل ُم ْس‪ِ 9‬ر ِفينَ }(ال‪99‬ذريات‪:‬‬
‫‪)34‬‬
‫قال‪ :‬ولذلك قال تعالى‪َ {:‬وال تُ ِطيعُوا َأ ْم َر ْال ُمس ِْر ِفينَ }(الشعراء‪)151 :‬‬
‫قلت‪ :‬وما سر النهي عن طاعتهم‪ ،‬وما عالقة ذلك بهالك األمم؟‬
‫قال‪ :‬سر النهي عن طاعتهم هو م‪9‬ا ع‪9‬بر عن‪9‬ه الح‪9‬ق تع‪9‬الى بقول‪9‬ه في‬
‫ُص‪ِ 999‬لحُونَ }‬ ‫ض َوال ي ْ‬ ‫اآلي‪999‬ة التالي‪999‬ة لتل‪999‬ك اآلي‪999‬ة‪ {:‬الَّ ِذينَ يُ ْف ِس‪ُ 999‬دونَ ِفي اأْل َرْ ِ‬
‫(الش‪9‬عراء‪ ،)152 :‬فهم ال يكتف‪9‬ون باإلفس‪9‬اد فق‪9‬ط‪ ،‬ب‪9‬ل يض‪9‬يفون إلي‪9‬ه ت‪9‬رك‬
‫اإلصالح‪.‬‬
‫قلت‪ :‬كنت أتصور أن ذكر اإلفساد وحده كاف‪ ،‬فلماذا ذكر مع‪99‬ه ت‪99‬رك‬
‫اإلصالح؟‬
‫قال‪ :‬ألن اإلفساد قد يقع‪ ،‬فيأتي اإلصالح فيسد مواق‪99‬ع الفس‪99‬اد‪ ،‬ويحمي‬
‫الخلق من أضراره‪ ،‬لكنه إن اجتمع اإلفساد مع ت‪99‬رك اإلص‪99‬الح ك‪99‬ان ذل‪99‬ك‬
‫الفساد شديدا‪.‬‬
‫‪9‬ار َو ُز َلف‪9‬اً‬ ‫قلت‪ :‬فذلك ما يشير إليه قوله تعالى‪َ {:‬و َأ ِق ِم الصَّال َة َ‬
‫ط َر َف ِي النَّ َه ِ‬
‫ت َذ ِلكَ ِذ ْك َرى ِلل َّذا ِك ِرينَ }(هود‪)114 :‬‬ ‫ت ي ُْذ ِه ْبنَ ال َّس ِّيئَا ِ‬
‫ِمنَ اللَّي ِْل ِإ َّن ْال َح َسنَا ِ‬
‫ق‪99‬ال‪ :‬نعم‪ ..‬ألم أق‪99‬ل ل‪99‬ك إن الس‪99‬نن ال‪99‬تي تحكم األف‪99‬راد هي ال‪99‬تي تحكم‬
‫المجتمع‪99‬ات‪ ،‬والس‪99‬نن ال‪99‬تي تحكم ال‪99‬دين هي ال‪99‬تي تحكم ال‪99‬دنيا‪ ..‬ألن ربه‪99‬ا‬
‫جميعا واحد؟‬
‫قلت‪ :‬فهمت ما تعلق بهذا في الدين‪ ،‬ألنه أمر غيبي‪ ،‬ولكني لم أفهم م‪99‬ا‬
‫يتعلق بذلك من الدنيا‪ ،‬ومن مصالح الناس‪.‬‬
‫قال‪ :‬قد وضع هللا في جميع مص‪9‬الح ال‪9‬دنيا من الف‪9‬رص م‪9‬ا يص‪9‬لح ب‪9‬ه‬
‫المخطئ ما أفسده‪ ،‬فإن فعله سد منافذ الفساد ووقي المجتمع ش‪99‬ر انحراف‪99‬ه‪،‬‬
‫وإن ترك اإلصالح استقر الفساد‪ ،‬واشتد عوده‪ ،‬ح‪9‬تى يص‪9‬ل إلى درج‪9‬ة ال‬
‫يمكن أن يصلح أبدا‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فهال ضربت لي مثاال يوضح لي هذا المعنى‪.‬‬
‫قال‪ :‬لو أن أحدهم رمى بعود ثقاب في غابة في حر ش‪99‬ديد‪ ،‬أليس ذل‪99‬ك‬
‫إفسادا؟‬
‫قلت‪ :‬نعم‪ ،‬فلألشجار حرمة ال تقل عن حرمة البشر‪.‬‬

‫‪81‬‬
‫قال‪ :‬فإن أس‪9‬رع وأطفأه‪9‬ا قب‪9‬ل أن تتمكن وتنتش‪9‬ر‪ ،‬أال يك‪9‬ون ب‪9‬ذلك ق‪9‬د‬
‫واجه الفساد باإلصالح؟‬
‫قلت‪ :‬أجل‪ ،‬يكون قد عمل حسنة لتمحو أثر خطيئة‪.‬‬
‫قال‪ :‬ولكنه إن تركها حتى انتشرت‪ ،‬وعمت الغابة‪ ،‬أكان يمل‪99‬ك حينه‪99‬ا‬
‫القدرة على اإلصالح؟‬
‫قلت‪ :‬ال‪ ..‬بل يخرج األمر من يده‪ ،‬بل قد يخرج األمر من يد المطفئين‬
‫أنفس‪99‬هم‪ ..‬فنحن نس‪99‬مع الحرائ‪99‬ق الهائل‪99‬ة ال‪99‬تي تعج‪99‬ز ال‪99‬دول العظمى عن‬
‫إطفائها‪.‬‬
‫قال‪ :‬فلذلك أخ‪99‬بر هللا تع‪99‬الى عن المس‪99‬رفين أنهم ال يفس‪99‬دون فق‪99‬ط‪ ،‬ب‪99‬ل‬
‫يفسدون‪ ،‬ويتركون اإلصالح‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فليس ترك اإلصالح إذن مرادفا للفساد؟‬
‫قال‪ :‬ليس في القرآن الك‪9‬ريم مرادف‪9‬ات وال تك‪9‬رارا‪ ،‬ب‪9‬ل في ك‪9‬ل كلم‪9‬ة‬
‫معنى جديد‪ ،‬وحقائق جدي‪9‬دة‪ ،‬ألم تس‪9‬مع قول‪9‬ه تع‪9‬الى في وص‪9‬ف كتاب‪9‬ه‪ {:‬ال‬
‫خَل ِف ِه َت ْن ِزيلٌ ِم ْن َح ِك ٍيم َح ِمي ٍد}(فصلت‪،)42 :‬‬ ‫اطلُ ِم ْن َبي ِْن َي َد ْي ِه َوال ِم ْن ْ‬ ‫َي ْأ ِتي ِه ْال َب ِ‬
‫والتكرار لغو‪ ،‬واللغو باطل‪ ،‬والقرآن الكريم منزه عن اللغو‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فهمت ه‪99‬ذا‪ ..‬ولكن م‪99‬ا عالق‪99‬ة ذل‪99‬ك ب‪99‬الهالك الع‪99‬ام ال‪99‬ذي يحي‪99‬ق‬
‫بالمسرفين؟‬
‫قال‪ :‬ألم تسمع رسول هللا ‪ ،‬وهو يقول‪ (:‬يكون في آخ‪99‬ر ه‪99‬ذه األم‪99‬ة‬
‫خسف ومسخ وقذف‪ ،‬قيل‪ :‬ي‪9‬ا رس‪9‬ول هللا! أنهل‪9‬ك وفين‪9‬ا الص‪9‬الحون؟ ق‪9‬ال‪:‬‬
‫( نعم‪ ،‬إذا كثر الخبث )(‪ ،)1‬فقد اعتبر ‪ ‬كثرة الخبث سببا للهالك العام‪.‬‬
‫بل أشار إلى هذا قوله تعالى‪َ {:‬و ِإ َذا َأ َر ْدنَا َأ ْن نُ ْه ِل‪9‬كَ َقرْ َي‪ً 9‬ة َأ َمرْ نَ‪9‬ا ُم ْت َر ِفي َه‪9‬ا‬
‫ق َع َل ْي َه‪9‬ا ْال َق‪9‬وْ لُ َف‪َ 9‬د َّمرْ نَاهَا تَ‪ْ 9‬د ِميراً}(االس‪9‬راء‪ ،)16 :‬فت‪9‬أمير‬ ‫َف َف َس‪9‬قُوا ِفي َه‪9‬ا َف َح‪َّ 9‬‬
‫المترفين أو تكثيرهم مؤذن بهالك القرى‪ ،‬وهل المترفون إال المسرفون؟‬
‫قلت‪ :‬اضرب لي أمثلة على هذا‪ ،‬لعلي أعي ما تقول‪.‬‬
‫قال‪ :‬سأضرب لك على هذا أربعة أمثلة‪.‬‬
‫المثال األول‪:‬‬
‫قلت‪ :‬أعلم غرامك باألربع‪ ،‬فهات المثال األول‪.‬‬
‫قال‪ :‬أنتم تسرفون في السيارات‪.‬‬
‫قلت‪ :‬السيارات ضرورة‪ ،‬فهي من المراكب التي خلقها هللا لنا‪ ،‬ألم يقل‬

‫‪ ) )(1‬الترمذي‪.‬‬

‫‪82‬‬
‫‪9‬ال َو ْال َح ِم‪َ 9‬‬
‫‪9‬ير ِلتَرْ َكبُو َه‪99‬ا َو ِزي َن‪ً 9‬ة َو َي ْخلُ ‪ُ 9‬‬
‫ق َم‪99‬ا ال‬ ‫‪9‬ل َو ْال ِب َغ‪َ 9‬‬ ‫الح‪99‬ق تع‪99‬الى‪َ {:‬و ْالخَ ْي‪َ 9‬‬
‫تَعْ َل ُمونَ } (النحل‪)8 :‬‬
‫قال‪ :‬وكذلك الطعام‪ ،‬فهو من الخلق الذي خلقه هللا لنا‪ ،‬وم‪99‬ع ذل‪99‬ك ك‪99‬ان‬
‫متعرضا لإلسراف‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فما اإلسراف في السيارات؟‬
‫ق‪99‬ال‪ :‬ه‪99‬ذا الكم الهائ‪99‬ل من الس‪99‬يارت بأنواعه‪99‬ا المختلف‪99‬ة‪ ،‬وأثمانه‪99‬ا‬
‫المرتفعة‪ ،‬والتي ال يحتاج إلى أكثرها أال تؤذي ـ بالخراب الذي تنش‪99‬ره في‬
‫الجو ـ ماليين الرئات التي ال تتنفس هواء‪ ،‬وإنما تتنفس سموما‪.‬‬
‫قلت‪ :‬هذا صحيح‪ ،‬فالبيئ‪9‬ة في خط‪9‬ر‪ ،‬ولكن كي‪9‬ف يص‪9‬لحون لي‪9‬درؤوا‬
‫منافذ الفساد؟‬
‫قال‪ :‬بترك اإلسراف‪ ،‬فما حل اإلسراف في شيء إال أفسده‪ ،‬ألم تس‪99‬مع‬
‫ت َأيْ‪ِ 9‬دي النَّ ِ‬
‫اس‬ ‫‪9‬ر ْال َف َس‪9‬ا ُد ِفي ْال َب‪9‬رِّ َو ْال َبحْ‪ِ 9‬ر ِب َم‪9‬ا َك َس‪َ 9‬ب ْ‬ ‫ظ َه َ‬‫قول الح‪9‬ق تع‪9‬الى‪َ {:‬‬
‫عْض الَّ ِذي َع ِملُوا َل َعلَّه ُْم َيرْ ِجعُونَ }(الروم‪)41 :‬‬ ‫ِليُ ِذي َقه ُْم َب َ‬
‫قلت‪ :‬نعم‪ ،‬فاهلل تعالى يرجع الفساد الذي ظهر في البر والبح‪99‬ر إلى م‪99‬ا‬
‫كسبت أيدي الناس‪.‬‬
‫قال‪ :‬وهذه االختراعات الكثيرة التي تفخرون به‪99‬ا وتتك‪99‬اثرون به‪99‬ا من‬
‫هذا النوع من اإلفساد‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أفنحرم السيارات إذن على الناس؟‬
‫قال‪ :‬ال‪ُ {:‬ق‪9‬لْ َم ْن َح‪9‬رَّ َم ِزينَ‪َ 9‬ة هَّللا ِ الَّ ِتي َأ ْخ‪َ 9‬ر َج ِل ِع َب‪9‬ا ِد ِه}(ألع‪9‬راف‪،)32 :‬‬
‫ولكن نكف شرهم على الناس باإلصالح الذي أم‪99‬ر هللا ب‪99‬ه‪ ،‬فال تمل‪99‬ك ه‪99‬ذه‬
‫المخترعات التي تجتمع فيها المص‪9‬الح م‪9‬ع المفاس‪9‬د إال بش‪9‬روط أهمه‪9‬ا أن‬
‫يصلح المفسد ما أداه إليه فساده‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أتقصد أن تغرم شركات السيارات واألفراد غرامات تص‪99‬لح من‬
‫البيئة ما فسد؟‬
‫ق‪99‬ال‪ :‬ه‪99‬ذا ال يكفي‪ ،‬فالفس‪99‬اد ليس متعلق‪99‬ا بالبيئ‪99‬ة وح‪99‬دها‪ ،‬ب‪99‬ل إن ه‪99‬ذا‬
‫المثال‪ ،‬وهو واحد من آالف األمثلة له عالقة بعقد الحياة جميعا‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فنأمرهم إذن بشراء دراجات هوائي‪99‬ة تغ‪99‬نيهم عن الع‪99‬وادم وعم‪99‬ا‬
‫تخلفه العوادم‪.‬‬
‫ابتسم‪ ،‬وقال‪ :‬إن قبلوا منك ذلك‪ ،‬فانصحهم به‪.‬‬
‫المثال الثاني‪:‬‬

‫‪83‬‬
‫قلت‪ :‬فما المثال الثاني؟‬
‫قال‪ :‬هو ما عبر عنه ‪ ‬بقوله‪ (:‬وأن ترى الحفاة العراة العال‪99‬ة رع‪99‬اء‬
‫الشاء يتطاولون في البنيان )(‪)1‬‬
‫قلت‪ :‬هذا حديث عن عالمة من عالمات الساعة‪ ،‬فما عالقته بهذا؟‬
‫قال‪ :‬وهل عالمات الساعة إال عالمات لهالك األرض واألمم؟‬
‫قلت‪ :‬ولكن هذه العالمات أخبار‪ ،‬وهي ال تحم‪99‬ل أي مع‪99‬نى تش‪99‬ريعي‪،‬‬
‫فال يستطيع أحد أن يستدل بهذا على تحريم التطاول في البنيان‪.‬‬
‫قال‪ :‬نحن ال نتحدث عن الحالل والحرام‪ ..‬فذلك للفقهاء‪ ..‬ولكنا نتحدث‬
‫عن أثر هذا النوع من اإلسراف في الخراب والفساد والهالك‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فال أرى في هذا أي فساد‪ ،‬بل هو العمران والحض‪99‬ارة وال‪99‬رقي‪،‬‬
‫فلوال التقدم العلمي الذي وصلت إليه البشرية ما حققنا هذه المنجزات؟‬
‫قال‪ :‬ولكن النبي ‪ ‬لم يقل‪ (:‬يطيلون البنيان ) وإنما ق‪9‬ال‪ (:‬يتط‪99‬اولون‬
‫في البنيان ) وهو ما فعلتموه‪ ،‬فوقعتم في اإلسراف‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أتقصد أن التفاخر في التطاول في البنيان هو اإلسراف ال إطال‪99‬ة‬
‫البنيان؟‬
‫ق‪99‬ال‪ :‬نعم‪ ،‬وه‪99‬و م‪99‬ا نط‪99‬ق ب‪99‬ه ‪ ،‬فليس محرم‪99‬ا أن يطي‪99‬ل الش‪99‬خص‬
‫ف ِم ْن‬ ‫بنيانه‪ ،‬وقد قال تعالى في بني‪9‬ان الجن‪9‬ة‪َ {:‬ل ِك ِن الَّ ِذينَ اتَّ َق‪9‬وْ ا َربَّه ُْم َله ُْم ُغ َ‬
‫‪9‬ر ٌ‬
‫‪9‬ف هَّللا ُ ْال ِمي َع‪99‬ادَ}‬
‫ف َم ْب ِنيَّةٌ تَجْ ِري ِم ْن تَحْ ِت َه‪99‬ا اأْل َ ْن َه‪99‬ارُ َو ْع‪َ 9‬د هَّللا ِ ال ي ُْخ ِل‪ُ 9‬‬
‫َفوْ ِق َها ُغ َر ٌ‬
‫(الزمر‪ ،)20 :‬ولكن المحرم أن يتطاول في البنيان‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وما الفرق بينهما ما دامت النتيجة واحدة؟‬
‫قال‪ :‬ال‪ ..‬ليست النتيجة واح‪9‬دة‪ ،‬فالمتط‪9‬اول في البني‪9‬ان ق‪9‬د يب‪9‬ني م‪9‬ا ال‬
‫حاجة له إليه‪ ،‬ألن غرضه ليس مأل جوفه الفارغ فقط‪ ،‬وإنما ليظهر انتفاخ‬
‫جوفه أمام جيرانه‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ذكرتني بقول ابن رشيق القيرواني‪:‬‬
‫ْتض‪ِ 9‬د‬
‫مقت‪9‬در فيه‪99‬ا و ُمع ِ‬ ‫ٍ‬ ‫أسماء‬ ‫أرض‬
‫ِ‬ ‫مم‪99‬ا يزه‪99‬دني في‬
‫س ‪  ‬‬ ‫أن‪9999999999999999999999999999999999999‬دل ٍ‬
‫‪ ‬‬
‫ص‪9‬وْ لة‬ ‫ك‪99‬اله َّر يحكي انتفاخ‪9‬ا ً َ‬ ‫غ‪999‬ير‬
‫ِ‬ ‫ألق‪999‬ابُ مملك‪ٍ 999‬ة في‬
‫موض‪ِ 999999999999999999999999999999999‬عها األس‪ِ 9999999999999999999999999999999999999999999‬د‬

‫‪ )(1‬البخاري ومسلم‪.‬‬

‫‪84‬‬
‫‪  ‬‬ ‫‪ ‬‬
‫المثال الثالث‪:‬‬
‫قال‪ :‬صدق شاعركم‪ ،‬وقد كانت تلك األلقاب المنتفخة التي أسرف فيها‬
‫حكام األندلس سببا في خراب األندلس‪.‬‬
‫ابتسمت وقلت‪ :‬وهل في األلقاب أيضا إذن إسراف؟‬
‫ق‪99‬ال‪ :‬نعم‪ ..‬وأعظم إس‪99‬راف‪ ..‬أليس‪99‬ت واجه‪99‬ات المحالت هي األلق‪99‬اب‬
‫التي تعرف بالمحالت؟‬
‫قلت‪ :‬نعم‪.‬‬
‫قال‪ :‬فكذلك األلقاب هي التي تع‪99‬رف بأص‪99‬حابها‪ ،‬وت‪99‬دعو إليهم‪ ،‬ألس‪99‬تم‬
‫توزعون األلقاب كما تشاءون‪ ،‬فتسمون الجاهل بالحكيم‪ ،‬والفاسق بالفن‪9‬ان‪،‬‬
‫والمرابي برجل األعمال؟‬
‫قلت‪ :‬بلى‪.‬‬
‫ق‪999‬ال‪ :‬وال تكتف‪999‬ون بألق‪999‬اب ال‪999‬دنيا‪ ،‬فتض‪999‬يفون إليهم ألق‪999‬اب اآلخ‪999‬رة‬
‫وأجزيتها؟‬
‫قلت‪ :‬كيف؟‬
‫ق‪99‬ال‪ :‬أال تقول‪99‬ون عن ال‪99‬داعر الفاس‪99‬د ال‪99‬ذي يس‪99‬ب هللا في ظالم اللي‪99‬ل‬
‫وضوء النه‪9‬ار إذا م‪9‬ات‪ (:‬تغم‪9‬ده هللا برحمت‪9‬ه‪ ،‬وأس‪9‬كنه فس‪9‬يح جنان‪9‬ه ) فلم‬
‫ترضوا أن تسكنوه الجنة حتى أسكنتموه فسيحها‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أجل‪ ،‬وما في ذلك؟‬
‫قال‪ :‬ألم تسمع ما روي عن أم العالء ‪ -‬وك‪99‬انت ب‪99‬ايعت رس‪99‬ول هّللا ‪‬‬
‫قالت‪ (:‬طار لهم في السكنى حين اقترعت األنصار على سكنى المهاجرين‬
‫عثمان بن مظعون‪ ،‬فاشتكى عثمان فمرَّضناه ح‪99‬تى إذا ت‪99‬وفي أدرجن‪99‬اه في‬
‫أثوابه‪ ،‬ف‪9‬دخل علين‪9‬ا رس‪9‬ول هّللا ‪ ،‬فقلت‪ (:‬رحم‪9‬ة هّللا علي‪9‬ك أب‪9‬ا الس‪9‬ائب‬
‫شهادتي عليك‪ ،‬لقد أكرمك هّللا تعالى‪ ،‬فقال رسول هّللا ‪ (:‬وما ي‪99‬دريك أن‬
‫هّللا تع‪99‬الى أكرم‪99‬ه؟)‪ ،‬فقلت‪ (:‬ال أدري ب‪99‬أبي أنت وأمي )‪ ،‬فق‪99‬ال رس‪99‬ول هّللا‬
‫‪ (:‬أما هو فقد جاءه اليقين من ربه وأني ألرجو له الخير‪ ،‬وهّللا ما أدري‬
‫وأنا رسول هّللا ما يفعل بي )‪ ،‬قالت‪ ،‬فقلت‪ (:‬وهّللا ال أزكي أحداً بعده أب‪99‬داً )‬
‫(‪)1‬‬
‫فهذا رسول هللا ‪ ‬يقول عن نفسه هذا‪ ،‬وقد قال تعالى مش‪99‬يرا إلى ه‪99‬ذا‬
‫ت ِب ْدعاً ِمنَ الرُّ س ُِل َو َما َأ ْد ِري َما يُ ْف َع‪9‬لُ ِبي َوال ِب ُك ْم ِإ ْن َأتَّ ِب‪ُ 9‬ع‬
‫المعنى‪ {:‬قُلْ َما ُك ْن ُ‬
‫‪ )(1‬البخاري‪.‬‬

‫‪85‬‬
‫ين} (االحقاف‪)9:‬‬ ‫ُوحى ِإ َل َّي َو َما َأنَا ِإاَّل َن ِذيرٌ ُم ِب ٌ‬
‫ِإاَّل َما ي َ‬
‫قلت‪ :‬أهذا أيضا من اإلسراف؟‬
‫قال‪ :‬ب‪9‬ل من أخط‪9‬ر اإلس‪9‬راف‪ ،‬فمث‪9‬ل ه‪9‬ذا الق‪9‬ول ال‪9‬ذي يحم‪9‬ل روائح‬
‫التألي على هللا يجعل من أولئك األقزام الملطخين أولياء ص‪99‬الحين يته‪99‬افت‬
‫الخلق على االقتداء بهم‪.‬‬
‫قلت‪ :‬لقد استطردنا‪ ،‬فهات المثال الثالث‪.‬‬
‫قال‪ :‬لم نستطرد‪ ،‬بل هذا هو المثال الثالث‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أهو اإلسراف في األلقاب‪ ،‬واإلسراف في توزيع الجنان‪.‬‬
‫ق‪99‬ال‪ :‬ليس ه‪99‬ذا فحس‪99‬ب‪ ،‬ب‪99‬ل تس‪99‬رفون في تعظيم عص‪99‬ركم وتبجيل‪99‬ه‪،‬‬
‫وتعتبرونه القمة التي وصل إليها التاريخ‪ ،‬وكأن ما قبلكم مقدمات لكم وأنتم‬
‫النتيج‪9‬ة‪ ،‬أو ك‪9‬أن م‪9‬ا قبلكم همج ب‪9‬دائيون‪ ،‬وأنتم وح‪9‬دكم أرب‪9‬اب الحض‪9‬ارة‬
‫وصناعها‪ ،‬وهذا كله مؤذن بهالككم‪.‬‬
‫قلت‪ :‬كيف يكون سببا لهالكنا؟‬
‫قال‪ :‬ألم يقل من قبلكم مثل قولكم‪ ،‬فهلكوا؟‬
‫‪9‬ر ْال َح‪ِّ 9‬ق‬ ‫ض ِب َغ ْي‪ِ 9‬‬‫اس ‪َ 9‬ت ْك َبرُوا ِفي اأْل َرْ ِ‬
‫قلت‪ :‬أتقصد قوله تعالى‪َ {:‬فأَ َّما عَا ٌد َف ْ‬
‫َو َقالُوا َم ْن َأ َش ُّد ِمنَّا قُ َّو ًة}(فصلت‪ ،)15 :‬فرد هللا عليهم بقوله‪َ {:‬أ َو َل ْم َي َروْ ا َأ َّن‬
‫هَّللا َ الَّ ِذي خَ َل َقه ُْم هُ َو َأ َش ُّد ِم ْنه ُْم قُ َّو ًة َو َكانُوا ِبآيا ِتنَا َيجْ َح ُدونَ } (فصلت‪)15 :‬‬
‫قال‪ :‬بل أقصد قول كل جبار عنيد‪ ..‬ألم يقل فرعون ما يقوله أسيادكم‪..‬‬
‫ص‪َ 9‬ر َوهَ‪ِ 9‬ذ ِه اأْل َ ْن َه‪9‬ارُ تَجْ‪ِ 9‬ري ِم ْن تَحْ ِتي َأ َفال‬ ‫‪9‬ك ِم ْ‬ ‫ْس ِلي ُم ْل ُ‬ ‫ألم يقل‪َ {:‬ي‪9‬ا َق‪9‬وْ ِم َأ َلي َ‬
‫ْصرُونَ } (الزخرف‪ ،)51 :‬فما كان جزاؤه؟‬ ‫تُب ِ‬
‫قلت‪ :‬فخ‪99‬ر باألنه‪99‬ار ال‪99‬تي تج‪99‬ري من تحت‪99‬ه‪ ،‬فأجراه‪99‬ا هللا من فوق‪99‬ه‪،‬‬
‫وكانت سببا لهالكه‪.‬‬
‫قال‪ :‬فليعتبر قومك بفرعون وعاد‪ ،‬فلم يذكرهما هللا في كتاب‪99‬ه قصص‪99‬ا‬
‫ولهوا‪ ،‬وال أحداثا وتاريخا‪ ،‬وإنما هي سنته في عباده‪.‬‬
‫المثال الرابع‪:‬‬
‫قلت‪ :‬فهات المثال الرابع‪.‬‬
‫قال‪ :‬أنت تسرفون في اللهو واللعب وفرص الراحة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وهذا مما ال شك في إباحته إن انضبط بالضوابط الشرعية‪.‬‬
‫قال‪ :‬كل شيء ينضبط بالضوابط الش‪99‬رعية مب‪99‬اح‪ ،‬ولكن‪99‬ا نتح‪99‬دث عن‬
‫اإلس‪99‬راف‪ ،‬ف‪99‬أنتم تمل‪99‬ؤون األرض بمئ‪99‬ات القن‪99‬وات الفض‪99‬ائية‪ ،‬وآالف‬

‫‪86‬‬
‫المس‪99‬ارح والمالعب‪ ،‬ومئ‪99‬ات اآلالف من دور الله‪99‬و‪ ،‬وماليين اللعب من‬
‫كل األصناف‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وما الخطر في هذا؟‬
‫قال‪ :‬أنتم تشغلون الناس عن حياتهم ورسالتهم وحق‪99‬ائقهم‪ ،‬فتقتل‪99‬ونهم ال‬
‫بإهالك أجسادهم‪ ،‬وإنما بقتل أرواحهم‪.‬‬
‫قلت‪ :‬كيف ذلك‪ ،‬وهل اللهو ـ الذي هو فرح الروح ـ قتل لها؟‬
‫ق‪999‬ال‪ :‬ألم يق‪999‬ل الش‪999‬يطان‪ {:‬ثُ َّم آَل ِت َينَّه ُْم ِم ْن َبي ِْن َأيْ‪ِ 999‬دي ِه ْم َو ِم ْن ْ‬
‫خَل ِف ِه ْم َوع َْن‬
‫َأ ْي َما ِن ِه ْم َوع َْن َش َما ِئ ِل ِه ْم َوال ت َِج ُد َأ ْك َث َرهُ ْم َشا ِك ِرينَ }(ألعراف‪ ،)17 :‬فهذا تعب‪99‬ير‬
‫عن محاصرة الشيطان لإلنسان من كل الجهات وتوس‪99‬له إلى إغوائ‪99‬ه بك‪99‬ل‬
‫وسيلة ممكنة ‪ ،‬وسعيه في إضالله بكل طريق‪.‬‬
‫ق‪99‬ال‪ :‬نحن نع‪99‬بر به‪99‬ذا األس‪99‬لوب في حياتن‪99‬ا اليومي‪99‬ة‪ ،‬فنق‪99‬ول‪ :‬فالن‬
‫حاصرته ال‪9‬ديون أواالم‪9‬راض من الجه‪9‬ات االرب‪9‬ع‪ ،‬ولكن م‪9‬ا عالق‪9‬ة ه‪9‬ذا‬
‫بحياة اللهو اللعب التي نعتبرها من عالمات التحضر في هذا العصر؟‬
‫قال‪ :‬لقد أجبت عن سؤالك‪ ،‬فالذي يحاص‪99‬ر من الجه‪99‬ات األرب‪99‬ع‪ ،‬ه‪99‬ل‬
‫يجد له وقتا يجلس فيه مع نفسه يفكر ويتأمل؟‬
‫قلت‪ :‬كيف؟‬
‫قال‪ :‬أنتم تمألون برامج يومكم مأل تاما‪ ،‬فال تتركون لحظ‪99‬ة تتفرغ‪99‬ون‬
‫فيها لحقائقكم‪ ،‬بل قد تعتبرون كث‪99‬يرا من القض‪99‬ايا ال‪99‬تي يس‪99‬أل عنه‪99‬ا العق‪99‬ل‬
‫السليم‪ ،‬أو تتطلبها الفطرة النقية‪ ،‬والتي جعلها هللا س‪99‬ببا لط‪99‬رق باب‪99‬ه‪ ،‬ج‪99‬دال‬
‫فارغا‪ ،‬أو ترهات ال معنى للبحث فيها‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أريد مثاال على هذا أكثر توضيحا‪.‬‬
‫ال الَّ ِذينَ َك َفرُوا ال َت ْس َمعُوا ِل َه‪َ 9‬ذا ْالقُ‪99‬رْ ِ‬
‫آن‬ ‫قال‪ :‬أتعلم معنى قوله تعالى‪َ {:‬و َق َ‬
‫َو ْال َغوْ ا ِفي ِه َل َعلَّ ُك ْم ت َْغ ِلبُونَ }(فصلت‪)26 :‬‬
‫قلت‪ :‬نعم‪ ،‬فاهلل تعالى يخبر عن المشركين أنهم تواص‪99‬وا فيم‪9‬ا بينهم أن‬
‫ال يطيعوا القرآن وال ينقادوا ألوامره‪ ،‬فإذا تلي ال يسمعوا له‪.‬‬
‫قال‪ :‬وبماذا توسلوا إلى ذلك؟‬
‫قلت‪ :‬باللغو‪ ،‬وهو ـ كما قال مجاهد ـ المك‪99‬اء والص‪99‬فير والتخلي‪99‬ط في‬
‫المنط‪99‬ق على رس‪99‬ول هّللا ‪ ‬إذا ق‪99‬رأ الق‪99‬رآن‪ ..‬وك‪99‬انوا يلغ‪99‬ون بقص‪99‬ص‬
‫اسفنديار ورستم كما فع‪9‬ل مال‪9‬ك بن النض‪9‬ر ليص‪9‬رف الن‪9‬اس عن الق‪9‬رآن‪،‬‬
‫ويلغون بالصياح والهرج‪ .‬ويلغون بالسجع والرجز‪..‬‬

‫‪87‬‬
‫قال‪ :‬كل ذلك أساليب قديمة‪ ،‬أم‪9‬ا في عص‪9‬ركم‪ ،‬فق‪9‬د تط‪9‬ورت أس‪9‬اليب‬
‫الشيطان في المحاصرة كما تطورت أساليب سدنته في اللغو‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أتقصد أن كل هذه المحالت التي يوزع فيه‪99‬ا الله‪99‬و بالمج‪99‬ان هي‬
‫نوع من أنواع المحاصرة واللغو؟‬
‫قال‪ :‬نعم‪ ..‬هي زنازين تحاصر المدمنين عليها‪ ..‬ليحيوا حياتهم جميع‪99‬ا‬
‫فال يعرفوا من أين ابتدأوا‪ ،‬وال أين سينتهون‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أهذا هو خطر هذه الوسائل الحديثة؟‬
‫قال‪ :‬هذا جزء من مخاطرها‪ ..‬أم‪9‬ا خطره‪9‬ا األك‪9‬بر‪ ،‬فهي أنه‪9‬ا ق‪9‬والب‬
‫كتلك القوالب التي تضعون فيه‪9‬ا الفخ‪9‬ار لتكون‪9‬وا منه‪9‬ا أواني ت‪9‬أكلون فيه‪9‬ا‬
‫وتشربون‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فهل اإلنسان آنية فخار‪ ،‬حتى يوضع في القوالب؟‬
‫قال‪ :‬نعم ألن أرباب المصالح من المترفين يأبون إال أن يشكلوا عقول‬
‫الناس وقلوبهم وأهواءهم بحسب ما تتطلبه خزائنهم من أم‪99‬وال‪ ،‬وف‪99‬راغهم‬
‫من شغل‪.‬‬
‫قلت‪ :‬كيف؟‬
‫قال‪ :‬هم يمجدون الرذيلة‪ ،‬إن كانت س‪99‬ببا لكس‪99‬ب ي‪99‬در عليهم األرب‪99‬اح‪،‬‬
‫وهم يحقرون الفضيلة‪ ،‬ويرمونه‪99‬ا بأبش‪99‬ع التهم إن وقفت ح‪99‬ائال بينهم وبين‬
‫مآربهم‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فلو سمعوا بك إذن لقتلوك؟‬
‫ق‪99‬ال‪ :‬هم ال يس‪99‬تطيعون قتلي‪ ،‬ولكن يس‪99‬تطيعون التش‪99‬ويش علي‪ ،‬ومن‬
‫شوش عليك خنق صوتك‪ ،‬ومن خنق صوتك قتله‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ومن قتل صوتك قتلك‪.‬‬
‫قال‪ :‬ال‪ ..‬لن يستطيع‪ ..‬يوشك أن يهلك الباطل ل‪99‬يرتفع ص‪99‬وت الح‪99‬ق‪،‬‬
‫اط‪ 9‬لُ ِإ َّن‬ ‫فالحق ال يموت‪ ،‬ألم تسمع قوله تعالى‪َ {:‬وقُلْ َج‪ 9‬ا َء ْال َح‪ُّ 9‬ق َوزَ هَ‪َ 9‬ق ْال َب ِ‬
‫اط َل َكانَ زَ هُوقاً}(االسراء‪)81 :‬‬ ‫ْال َب ِ‬
‫قلت‪ :‬فكيف يكون هذا النوع من اإلسراف سببا للهالك؟‬
‫قال‪ :‬لقد سمعت اآلية‪ ،‬فالباطل الذي يصادم الحق ال بقاء له‪ ،‬ألم تس‪99‬مع‬
‫ت َأوْ ِد َي‪9‬ةٌ‬ ‫اء َم‪9‬ا ًء َف َس‪9‬ا َل ْ‬ ‫‪9‬زَل ِمنَ َّ‬
‫الس‪َ 9‬م ِ‬ ‫هذا المث‪9‬ل ال‪9‬ذي ض‪9‬ربه هللا تع‪9‬الى‪َ {:‬أ ْن َ‬
‫ار ا ْب ِتغَ‪9‬ا َء ِح ْل َي‪ٍ 9‬ة َأوْ‬
‫ِب َقد َِرهَا َفاحْ َت َم َل ال َّسيْلُ زَ َبداً َرا ِبياً َو ِم َّما يُو ِق‪ُ 9‬دونَ َع َليْ‪ِ 9‬ه ِفي النَّ ِ‬
‫الز َب ُد َف َي ْذهَبُ جُ َفا ًء َو َأ َّما َما‬‫اط َل َفأَ َّما َّ‬
‫ق َو ْال َب ِ‬‫َاع زَ َب ٌد ِم ْثلُهُ َك َذ ِلكَ َيضْ ِربُ هَّللا ُ ْال َح َّ‬
‫َمت ٍ‬

‫‪88‬‬
‫ال}(الرعد‪)17 :‬؟‬ ‫ض َك َذ ِلكَ َيضْ ِربُ هَّللا ُ اأْل َ ْم َث َ‬‫ث ِفي اأْل َرْ ِ‬
‫اس َف َي ْم ُك ُ‬
‫َي ْن َف ُع النَّ َ‬
‫قلت‪ :‬فكيف يكون هذا الهالك‪ ،‬أبخسف أم بمسخ؟‬
‫قال‪ :‬ال يكون بخسف وال بمس‪99‬خ‪ ،‬ولكن الباط‪99‬ل س‪99‬يقتل نفس‪99‬ه بنفس‪99‬ه‪..‬‬
‫سينتحر انتحارا بطيئا‪..‬‬
‫ثم غاب نظره في األفق البعي‪9‬د‪ ،‬وق‪9‬ال بص‪9‬وت ال يك‪9‬اد يس‪9‬مع‪ :‬لك‪9‬أني‬
‫أراه اآلن يمسك سكينا مسموما‪ ،‬وهو يقط‪99‬ع أج‪9‬زاءه إرب‪9‬ا إرب‪9‬ا‪ ،‬وه‪99‬و بين‬
‫ذلك يرسل ضحكات مختلطة بأنات كالمجنون‪.‬‬
‫قلت‪ :‬يا معلم‪ ،‬فهو اآلن إذن ينتحر‪.‬‬
‫قال‪ :‬إن أول خطوة يخطوها كل باطل خطوة يتقدم بها نحو الموت‪.‬‬
‫قلت‪ :‬لقد ذكرتني‪ ،‬فقد أخبرت‪99‬ني عن هالك ه‪99‬ذا النظ‪99‬ام ال‪99‬ذي يس‪99‬تولي‬
‫على دفة العالم‪ ،‬فكيف ذلك‪ ،‬ونحن نراه في أوج قوته؟‬
‫قال‪ :‬هو اآلخر ينتحر كانتحار كل باطل‪ ،‬وال تزيده السنون التي يمهل‬
‫فيها إال سقوطا فوق سقوط وانحدارا فوق انحدار‪.‬‬
‫قلت‪ :‬هم ال يقبلون هذا إال بأرقام‪.‬‬
‫قال‪ :‬وهم ال يؤمنون باألرقام؟‬
‫قلت‪ :‬بل هم ال يؤمنون إال بها‪ ،‬ألسنا في عصر األرقام؟‬
‫قال‪ :‬لو كانوا يؤمنون بها لوصولوا إلى الحقيقة من أقرب أبوابها؟‬
‫قلت‪ :‬كيف؟‬
‫ق‪99‬ال‪ :‬هي ذي اإلحص‪99‬ائيات أم‪99‬امهم‪ ..‬االنتح‪99‬ار‪ ..‬التل‪99‬وث‪ ..‬اإلدم‪99‬ان‪..‬‬
‫الشذوذ‪ ..‬العصابات‪ ..‬الجرائم‪ ..‬اإلبادة‪..‬‬
‫وغ‪99‬رق المعلم في الع‪99‬د‪ ،‬فقلت‪ :‬أظن أن‪99‬ني اقتنعت‪ ،‬فاإلس‪99‬راف س‪99‬بب‬
‫الهالك‪.‬‬
‫قال‪ :‬هالك الفقير والغني‪.‬‬
‫َّ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫قلت‪ :‬ص‪99‬دق هللا العظيم إذ ق‪99‬ال‪َ {:‬وال تُ ِطيعُ‪99‬وا أ ْم َ‬
‫‪99‬ر ال ُم ْس‪ِ 99‬ر ِفينَ ال ِذينَ‬
‫ض َوال يُصْ ِلحُونَ }(الشعراء‪ 151 :‬ـ ‪)152‬‬ ‫يُ ْف ِس ُدونَ ِفي اأْل َرْ ِ‬
‫جوهرة الزهد‪:‬‬
‫صعدت مع المعلم طابقا آخر في قصر القناعة‪ ،‬فوجدنا شعاعا عظيما‬
‫متأللئا‪ ،‬سألت المرشد عنه‪ ،‬فقال‪ :‬هذه جوهرة نفيسة من ج‪99‬واهر القناع‪99‬ة‪،‬‬
‫اسمها الزهد‪.‬‬
‫قلت‪ :‬نحن نعرف هذا االسم‪ ،‬لكن قومي يمقتونه ويسبونه ويض‪99‬حكون‬

‫‪89‬‬
‫على أهل‪999‬ه‪ ،‬ويكتب‪999‬ون الكتب الكث‪999‬يرة في ال‪999‬رد عليهم‪ ،‬ويحاض‪999‬رون‬
‫المحاضرات الطويلة ليحاصروهم ويحبسوهم‪.‬‬
‫قال‪ :‬عن أي زهد يتحدثون؟‬
‫قلت‪ :‬هم يطلقون القول إطالقا‪..‬‬
‫قال‪ :‬أخطأ من أطلق‪ ،‬فالحكمة تطلب التقييد‪ ،‬ألم تسمع إلى الحق تعالى‬
‫ب أُ َّمةٌ َقا ِئ َم‪ 9‬ةٌ َي ْتلُ‪99‬ونَ‬ ‫وهو يقول عن أهل الكتاب‪َ {:‬ل ْيسُوا َس َوا ًء ِم ْن َأ ْه ِل ْال ِك َت‪99‬ا ِ‬
‫ت هَّللا ِ آنَا َء اللَّي ِْل َوهُ ْم َيسْجُ ُدونَ }(آل عمران‪)113 :‬؟‬ ‫آ َيا ِ‬
‫ألم تسمع إلى القرآن الكريم في حديثه عن األعراب؟‬
‫قلت‪ :‬اشتد عليهم القرآن الك‪99‬ريم اش‪99‬تدادا عظيم‪99‬ا‪ ،‬لم‪99‬ا ص‪99‬در منهم من‬
‫أنواع االنحراف‪ ،‬قال تعالى‪ {:‬اأْل َ ْع َرابُ َأ َش ُّد ُك ْف‪9‬راً َو ِن َفاق‪9‬اً َو َأجْ‪ 9‬دَرُ َأاّل َيعْ َل ُم‪9‬وا‬
‫زَل هَّللا ُ َع َلى َرسُو ِل ِه َوهَّللا ُ َع ِلي ٌم َح ِكي ٌم}(التوبة‪ 9،)97 :‬وقال تع‪9‬الى‪{:‬‬ ‫حُ ُدو َد َما َأ ْن َ‬
‫‪9‬رةُ‬‫َ‪9‬ربَّصُ ِب ُك ُم ال‪َّ 9‬د َوا ِئ َر َع َل ْي ِه ْم دَا ِئ َ‬ ‫ق َم ْغ َرم‪9‬اً َو َيت َ‬ ‫ب َم ْن َيتَّ ِخ ُذ َم‪9‬ا يُ ْن ِف‪ُ 9‬‬ ‫َو ِمنَ اأْل َ ْع َرا ِ‬
‫ال َّسوْ ِء َوهَّللا ُ َس ِمي ٌع َع ِلي ٌم}(التوبة‪)98 :‬‬
‫قال‪ :‬ولكن حكمة القرآن الكريم ت‪99‬أبى أخ‪99‬ذ ال‪99‬برئ ب‪99‬ذنب الج‪99‬اني‪ ،‬فق‪99‬د‬
‫ب َم ْن ي ْ‬
‫ُ‪99‬ؤ ِم ُن‬ ‫أثنى هللا على األعراب ثناء عظيما‪ ،‬فقال تعالى‪َ {:‬و ِمنَ اأْل َ ْع َرا ِ‬
‫ول َأال ِإنَّ َه‪9‬ا‬‫الرَّس‪ِ 9‬‬ ‫ُ‬ ‫ت‬‫ص‪َ 9‬ل َوا ِ‬ ‫ت ِع ْن‪َ 9‬د هَّللا ِ َو َ‬
‫ق قُرُ َب‪9‬ا ٍ‬‫ِباهَّلل ِ َو ْال َيوْ ِم اآْل ِخ ِر َو َيتَّ ِخ ُذ َما يُ ْن ِف ُ‬
‫قُرْ َبةٌ َله ُْم َسيُ ْد ِخلُهُ ُم هَّللا ُ ِفي َرحْ َم ِت ِه ِإ َّن هَّللا َ َغفُورٌ َر ِحي ٌم}(التوبة‪)99 :‬‬
‫قلت‪ :‬ف‪99‬أنت تق‪99‬ول إذن ب‪99‬أن الزه‪99‬اد كأه‪99‬ل الكت‪99‬اب واألع‪99‬راب منهم‬
‫المحسن‪ ،‬ومنهم المسيء‪.‬‬
‫قال‪ :‬نحن ال نتحدث عن ه‪9‬ذا اآلن‪ ،‬ف‪9‬ذلك موض‪9‬وع آخ‪9‬ر‪ ..‬نحن نري‪9‬د‬
‫هنا تبيين دور الزهد بمعناه الص‪99‬حيح في تربي‪99‬ة النفس على القناع‪99‬ة‪ ،‬وفي‬
‫مأل الف‪9‬راغ ال‪9‬ذي ينش‪9‬ئه الطم‪9‬ع‪ ،‬وفي قت‪9‬ل الفق‪9‬ر ال‪9‬ذي يج‪9‬ر ص‪9‬احبه إلى‬
‫الكفر‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ولكن الحكم‪99‬اء من ق‪99‬ومي يقص‪99‬رون الزه‪99‬د على األغني‪99‬اء‪ ،‬ففيم‬
‫يزهد الفقير!؟‬
‫ق‪99‬ال‪ :‬الزه‪99‬د مق‪99‬ام من مقام‪99‬ات ال‪99‬دين‪ ،‬وخل‪99‬ق من أخالق المرس‪99‬لين‪،‬‬
‫ووصف من أوصاف األولياء والصالحين‪ ،‬ال يحرم منه مؤمن لفق‪99‬ره‪ ،‬وال‬
‫يبعد عنه لغناه‪.‬‬
‫قلت‪ :‬كي‪99‬ف ذل‪99‬ك‪ ،‬ف‪99‬الفقير ليس لدي‪99‬ه م‪99‬ا يزه‪99‬د في‪99‬ه‪ ،‬وق‪99‬د قي‪99‬ل لبعض‬
‫الصالحين‪ :‬يا زاهد‪ ،‬فقال‪ (:‬الزاهد عمر بن عب‪99‬د العزي‪99‬ز‪ ،‬إذ جاءت‪99‬ه ال‪99‬دنيا‬

‫‪90‬‬
‫راغمة فتركها‪ ،‬وأما أنا ففيماذا زهدت )‬
‫قال‪ :‬ما كان له أن يقول غير ذلك‪ ،‬وإال لكان مدعيا‪.‬‬
‫قلت‪ :‬إن قومي يفهمون من قوله هذا قصر الزهد على الكبراء‪.‬‬
‫قال‪ :‬أصابوا وأخطأوا‪.‬‬
‫قلت‪ :‬هذا تناقض‪ ..‬أو بين لي فيم أصابوا‪ ،‬وفيم أخطأوا؟‬
‫قال‪ :‬أصابوا في كون الزهد ال يظهر وال يكمل معناه إال في األغني‪9‬اء‪،‬‬
‫وأخطأوا في حصره فيهم‪ ،‬ففرق بين أن يكمل فيك الشيء‪ ،‬وبين أن يكون‬
‫فيك أصله‪.‬‬
‫قلت‪ :‬اضرب لي على ذلك مثاال‪.‬‬
‫ق‪9‬ال‪ :‬أرأيت ل‪9‬و ك‪9‬ان في بيت‪9‬ك مائ‪9‬ة ص‪9‬رة من ال‪9‬ذهب الخ‪9‬الص‪ ،‬ولم‬
‫يسمع بها أحد‪ ،‬أكنت بها غنيا ال تحل لك الزكاة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أجل‪ ،‬ألني أستطيع صرفها في أي لحظة‪.‬‬
‫قال‪ :‬ولكن الناس بسبب عدم رؤيتهم لها قد يعتبرونك فقيرا‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ذلك أرحم لي‪ ،‬وال يضرني ما اعتقدوا‪.‬‬
‫قال‪ :‬فإن أظهرتها بما اشتريت من المتاع‪.‬‬
‫قلت‪ :‬خرجت من وصف الفقر إلى وصف الغنى‪.‬‬
‫قال‪ :‬في نظرهم‪ ،‬أم في حقيقة الحال؟‬
‫قلت‪ :‬في نظرهم‪ ،‬ألني كنت غنيا قبل نظرهم‪ ،‬بدليل ع‪9‬دم ح‪9‬ل الزك‪9‬اة‬
‫لي‪.‬‬
‫قال‪ :‬فكذلك الزهد‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فما وجه المقارنة؟‬
‫قال‪ :‬أي س‪9‬لوك أو مق‪9‬ام من مقام‪9‬ات ال‪9‬دين ال ينف‪9‬ك عن ثالث‪9‬ة أم‪9‬ور‪:‬‬
‫العلم والحال والعم‪9‬ل‪ ،‬ف‪9‬العلم دافعه‪9‬ا‪ ،‬والح‪9‬ال حقيقته‪9‬ا‪ ،‬والعم‪9‬ل مظهره‪9‬ا‬
‫وثمرتها‪.‬‬
‫قلت‪ :‬اضرب لي مثاال على ذلك من الحس‪ ،‬فإني ال أكاد أفهم المع‪99‬اني‬
‫المجردة‪.‬‬
‫قال‪ :‬أرأيت لو قربت إلى نار لتحرق بلظاها‪ ،‬ماذا كنت ستفعل؟‬
‫قلت‪ :‬أصيح وأولول‪ ،‬وأدفع بجهدي كله من يريد أن يلقيني فيها‪.‬‬
‫قال‪ :‬فهذا العمل‪ ،‬أتعلم أنه لم يكن ليحص‪9‬ل من‪9‬ك م‪9‬ا حص‪9‬ل ل‪9‬وال العلم‬
‫والحال‪.‬‬

‫‪91‬‬
‫قلت‪ :‬كيف؟‬
‫قال‪ :‬علمك بأن النار محرقة مأل نفسك رعبا منها‪ ،‬وذلك ال‪99‬رعب ج‪99‬ر‬
‫إلى ذلك الصياح الذي وقعت فيه‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فهمت اآلن‪ ،‬ولكن ما عالقة ذلك بزهد الفقراء واألغنياء‪.‬‬
‫قال‪ :‬أرأيت لو أن ذلك العدو الذي أراد إلقاءك في النار لم يفع‪99‬ل‪ ،‬أو لم‬
‫يوجد‪ ،‬أتقول بأن حال الخوف من النار ال يوجد فيك؟‬
‫قلت‪ :‬ال‪ ،‬ب‪99‬دليل أني ل‪99‬و تعرض‪99‬ت في أي لحظ‪99‬ة ل‪99‬ذلك ألب‪99‬ديت نفس‬
‫السلوك‪.‬‬
‫قال‪ :‬فكذلك الزهد‪ ،‬فهو في الفقير قوة كامنة‪ ،‬وفي الغني قوة ظاهرة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ولذلك إذن نهاهم ذلك الصالح عن تلقيبه بالزاهد خشية أن يلقب‪99‬وا‬
‫به كل فقير‪.‬‬
‫قال‪ :‬نعم‪ ..‬فقد يكون الفقير أحرص على الدنيا من الغني‪ ،‬ولكنه يس‪99‬تر‬
‫حرصه بإظهار الزهد‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فبين لي سر الزهد وحقيقته‪ ،‬فقد شوقتني إليه‪.‬‬
‫قال‪ :‬لقد عرفنا عند الحديث عن القناعة أن الطامع هم‪99‬ه من حيات‪99‬ه أن‬
‫يمأل جوفه‪.‬‬
‫قلت‪ :‬نعم بدليل قوله ‪ (:‬لو كان البن آدم واد ألحب أن يكون له ثان‬
‫ولو كان له واديان ألحب أن يكون إليهما ث‪9‬الث وال يمأل ج‪9‬وف ابن آدم إال‬
‫التراب‪ ،‬ثم يتوب هللا على من تاب )(‪)1‬‬
‫قال‪ :‬وذكرنا بأن الفراغ الذي يعانيه الط‪9‬امع والح‪9‬ريص يجعل‪9‬ه يطلب‬
‫أشياء كثيرة ال حاجة له إليها حرصا على مأل فراغه‪.‬‬
‫قلت‪ :‬نعم‪ ،‬وقد شبهته حينها بمن يري‪99‬د أن يمأل حف‪99‬رة عميق‪99‬ه‪ ،‬فوض‪99‬ع‬
‫فيه‪99‬ا ال‪99‬تراب‪ ،‬فلم يك‪99‬ف‪ ،‬فوض‪99‬ع فيه‪99‬ا الحج‪99‬ارة‪ ،‬فلم تك‪99‬ف‪ ،‬ف‪99‬راح يض‪99‬ع‬
‫المزابل والقمامات‪.‬‬
‫قال‪ :‬فهذا هو الفرق بين الزاهد والح‪99‬ريص‪ ،‬فالزاه‪99‬د ال يش‪99‬عر بف‪99‬راغ‬
‫جوفه فلذلك يملؤه بالقوت من الحالل من غير أن تتشتت عليه نفسه‪ ،‬وأم‪99‬ا‬
‫الحريص‪ ،‬فيلجئه ذلك إلى كل باب‪ ،‬ولو إلى قمامات الناس ومزابلهم‪.‬‬
‫قلت‪ :‬لكأني بالزهد هو عين االقتصاد‪.‬‬
‫قال‪ :‬ال‪ ..‬االقتصاد يتناول الكم‪ ،‬والزهد يتناول األنواع‪.‬‬

‫‪ ) )(1‬البخاري ومسلم والترمذي‪.‬‬

‫‪92‬‬
‫قلت‪ :‬كيف؟‬
‫قال‪ :‬المقتصد ال يسرف‪ ،‬والزاهد ال يرغب‪.‬‬
‫قلت‪ :‬كيف ال يرغب‪ ،‬والرغبة فطرة‪.‬‬
‫قال‪ :‬هو يرغب‪ ،‬ولكن رغبة الزاهد تختلف عن رغبة الحريص‪.‬‬
‫قلت‪ :‬كيف ذلك؟‬
‫قال‪ :‬الحريص يرغب في المتاع‪ ،‬والزاهد يرغب في متاع أعظم منه‪،‬‬
‫ألم تسمع قول‪9‬ه تع‪9‬الى‪َ {:‬و َش‪َ 9‬روْ هُ ِب َث َم ٍن َب ْخ ٍ‬
‫س د ََرا ِه َم َمعْ‪ُ 9‬دو َد ٍة َو َك‪9‬انُوا ِفي‪ِ 9‬ه ِمنَ‬
‫َّ‬
‫الزا ِه ِدينَ }(يوسف‪)20 :‬‬
‫قلت‪ :‬نعم‪ ،‬هذه اآلية تتحدث عن إخوة يوسف ‪ ‬ال‪99‬ذين ب‪99‬اعوه بثمن‬
‫قليل لزهدهم فيه‪.‬‬
‫قال‪ :‬أرأيت لو أن أصحاب تلك القافل‪9‬ة لم يعط‪9‬وا ش‪9‬يئا إلخ‪9‬وة يوس‪9‬ف‬
‫‪ ،‬أكانوا سيبيعونه لهم؟‬
‫قلت‪ :‬نعم‪ ،‬ألن غرضهم التخلص منه‪.‬‬
‫قال‪ :‬فسماهم هللا زاهدين‪.‬‬
‫قلت‪ :‬نعم‪ ،‬لقد زهدوا في أخيهم‪ ،‬وفضلوا تلك الدراهم القليلة عليه‪.‬‬
‫قال‪ :‬فكذلك الزاه‪9‬د ال‪9‬ذي تحق‪9‬ق به‪9‬ذا المق‪9‬ام من مقام‪9‬ات ال‪9‬دين‪ ،‬فإن‪9‬ه‬
‫يقارن بين ما ادخر هللا له في اآلخرة إن أرضى هللا‪ ،‬وبين المتاع الدنيوي‪،‬‬
‫فيرى عظمة ما ادخر بجانب ما يرى من متاع‪ ،‬فتنصرف نفسه إلى مت‪99‬اع‬
‫اآلخرة‪ ،‬زاهدا في متاع الدنيا‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أيسعد بذلك؟‬
‫ق‪9‬ال‪ :‬ك‪9‬ل الس‪9‬عادة‪ ..‬وله‪9‬ذا ع‪9‬الجت الش‪9‬ريعة آالم الفق‪9‬ير بحض‪9‬ه على‬
‫الزهد‪ ،‬أي ترك الرغبة فيما لم يؤت‪ ،‬وتوجيهه‪99‬ا إلى الرغب‪99‬ة في هللا وفيم‪99‬ا‬
‫في يد هللا‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فالذين يحرمون الفقير من الزهد يسيئون إليه‪.‬‬
‫قال‪ :‬كل اإلساءة‪ ..‬ألنهم حرموه من التسلي بما ادخر له عما لم يؤته‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فاضرب لي على ذلك مثاال‪.‬‬
‫قال‪ :‬أرأيت إن كنت في سفر م‪9‬ع قافل‪9‬ة من القواف‪9‬ل‪ ،‬وك‪9‬ان في القافل‪9‬ة‬
‫أمير محسن‪ ،‬فوهب الكل هبات مختلفة‪ ،‬ولكنك كنت المح‪99‬روم الوحي‪99‬د في‬
‫القافلة‪ ..‬أكنت تحزن لذلك وتتأثر له؟‬
‫قلت‪ :‬أجل‪ ..‬خاصة إن فخروا علي بما أعطوا‪.‬‬

‫‪93‬‬
‫قال‪ :‬وهل سيمتلئ قلبك حقدا على هذا الذي عمي بصره أن ي‪99‬راك‪ ،‬أو‬
‫شحت خزائنه أن تصلك؟‬
‫قلت‪ :‬أج‪99‬ل‪ ..‬ب‪99‬ل سأس‪99‬أل نفس‪99‬ي كث‪99‬يرا عن عل‪99‬ة حرم‪99‬اني م‪99‬ع فيض‬
‫خزائنه‪.‬‬
‫قال‪ :‬أرأيت إن استدعاك إلى جناب‪9‬ه‪ ،‬ثم ص‪9‬رف الحج‪9‬اب‪ ،‬وأس‪9‬ر ل‪9‬ك‬
‫قائال‪ (:‬لقد ادخرت لك هدية عظيمة تفوق كل اله‪99‬دايا ال‪99‬تي وهبته‪99‬ا لجمي‪99‬ع‬
‫القافلة‪ ،‬وهي من العظمة بحيث ال يمكن أن تأخذها هنا)‪ ،‬أتفرح لذلك؟‬
‫قلت‪ :‬أجل‪ ،‬بل أقبل قدميه‪ ،‬ويمتلئ قلبي محبة له‪.‬‬
‫قال‪ :‬فإن فخر عليك رجال القافلة بما أوتوا‪ ،‬وضحكوا على حرمانك‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أضحك عليهم في قلبي‪ ،‬ألني أعلم أني ق‪99‬د أعطيت أض‪99‬عاف م‪99‬ا‬
‫أعطوا باإلضافة إلى القرب العظيم الذي نلته من أمير القافلة‪.‬‬
‫ق‪9‬ال‪ :‬فطب‪9‬ق ه‪9‬ذا المث‪9‬ال على م‪9‬ا نحن في‪9‬ه‪ ،‬فاهلل ق‪9‬د أعطى كث‪9‬يرا من‬
‫األغنياء من كل األموال‪ ،‬فإن نظر الفقير إلى ما أعطوا حزن وتأسف‪ ،‬بل‬
‫قد يؤديه ذلك إلى الكفر‪ ،‬لكنه إن نظ‪99‬ر إلى م‪99‬ا ادخ‪99‬ر هللا ل‪99‬ه إن أطاع‪99‬ه‪ ،‬ال‬
‫يلبث حتى ينال قسمته الموعودة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬لقد ذكرت‪9‬ني بح‪9‬ديث ل‪9‬ه عالق‪9‬ة به‪9‬ذا‪ ،‬فق‪9‬د روي في الح‪9‬ديث أن‬
‫َرسُول هَّللا ِ ‪ ‬كان إذا صلى بالناس يخر رجال من قامتهم في الص‪99‬الة من‬
‫الخصاصة(‪ ،)1‬وهم أصحاب الصفة حتى يقول األعراب ه‪99‬ؤالء مج‪99‬انين‪.‬‬
‫فإذا صلى َرسُول هَّللا ِ ‪ ‬انصرف إليهم فقال‪ (:‬لو تعلم‪99‬ون م‪99‬ا لكم عن‪99‬د هَّللا‬
‫تعالى ألحببتم أن تزدادوا فاقة وحاجة )(‪)2‬‬
‫ثم التفت إلى نفسي‪ ،‬فإذا باالعتراض ال يزال مستقرا لم أستطع قلع‪99‬ه‪،‬‬
‫فقلت‪ :‬ولكن القافلة في سفر قصير‪.‬‬
‫قال‪ :‬والدنيا سفر‪ ،‬وهي أقصر مما تصور‪ ،‬ألم تسمع قول الحق تعالى‪:‬‬
‫خَس ‪َ 9‬ر‬ ‫‪9‬ارفُونَ َب ْي َنه ُْم َق ‪ْ 9‬د ِ‬ ‫{ َو َيوْ َم َيحْ ُشرُ هُ ْم َكأَ ْن َل ْم َي ْل َبثُوا ِإاَّل َسا َع ًة ِمنَ النَّ َه ِ‬
‫ار َي َت َع‪َ 9‬‬
‫اء هَّللا ِ َو َما َكانُوا ُم ْه َت ِدينَ }(يونس‪)45 :‬‬ ‫الَّ ِذينَ َك َّذبُوا ِب ِل َق ِ‬
‫َاص‪ِ 9‬برْ‬
‫قلت‪ :‬بل قد نص على هذا آيات من القرآن الكريم‪ ،‬قال تعالى‪ْ {:‬‬
‫‪9‬روْ نَ َم‪99‬ا‬ ‫َعْجلْ َله ُْم َك‪9‬أَنَّه ُْم َي‪9‬وْ َم َي‪َ 9‬‬
‫الرُّس‪ِ 9‬ل َوال ت َْس‪9‬ت ِ‬
‫ُ‬ ‫‪9‬ز ِم ِمنَ‬ ‫ص‪َ 9‬ب َر أُولُ‪99‬وا ْال َع ْ‬ ‫َك َم‪9‬ا َ‬
‫اس‪9‬قُونَ }‬ ‫‪9‬ك ِإاَّل ْال َق‪99‬وْ ُم ْال َف ِ‬ ‫يُو َع ُدونَ َل ْم َي ْل َبثُ‪9‬وا ِإاَّل َس‪9‬ا َع ًة ِم ْن َن َه ٍ‬
‫‪9‬ار َبال ٌغ َف َه‪99‬لْ يُ ْه َل ُ‬

‫‪ ) )(1‬الفاقة والجوع الشديد‪.‬‬


‫‪ ) )(2‬التِّر ِم ِذيُّ وقال حديث صحيح‪.‬‬

‫‪94‬‬
‫(االحق‪99‬اف‪ 9،)35:‬وق‪9‬ال تع‪9‬الى‪َ {:‬ك‪99‬أَنَّه ُْم َي‪99‬وْ َم َي َروْ َن َه‪99‬ا َل ْم َي ْل َبثُ‪99‬وا ِإاَّل ع َِش‪9‬يَّ ًة َأوْ‬
‫ضُحاهَا}(النازعـات‪)46 :‬‬
‫َ‬
‫قال‪ :‬بل نطق بهذا رسول هللا ‪ ،‬فعن عب‪99‬د هَّللا بن مس‪99‬عود ق‪99‬ال‪ :‬ن‪99‬ام‬
‫َرسُول هَّللا ِ ‪ ‬على حصير فقام وقد أثر في جنب‪9‬ه‪ .‬قلن‪9‬ا‪ :‬ي‪9‬ا َر ُس‪9‬ول هَّللا ِ ل‪9‬و‬
‫اتخذنا لك وطاء‪ .‬فقال‪ (:‬ما لي وللدنيا! ما أنا في ال‪9‬دنيا إال ك‪9‬راكب اس‪9‬تظل‬
‫تحت شجرة ثم راح وتركها )(‪)1‬‬
‫قال‪ :‬فهذه الحقيقة العظيمة التي نطقت بها هذه النصوص أعظم سلوى‬
‫للفقير‪ ،‬وأعظم دافع ل‪99‬ه على ت‪99‬رك الرغب‪99‬ة فيم‪99‬ا لم ي‪99‬ؤت ليتحق‪99‬ق بالزه‪99‬د‪،‬‬
‫ولينال عن طريقه ما ادخر له من الفضل‪.‬‬
‫قلت‪ :‬لقد ذكرتني بقول ألبي يزيد‪ ،‬قاله ألبى موسى عبد الرحيم‪ ،‬ق‪99‬ال‬
‫له‪ (:‬فى أى شىء تتكلم؟)‪ ،‬قال‪ (:‬فى الزهد )‪ ،‬قال‪ (:‬فى أى شىء؟)‪ ،‬قال‪(:‬‬
‫فى الدنيا )‪ ،‬فنفض يده وقال‪ (:‬ظننت أنه يتكلم فى شىء‪ ،‬وال‪9‬دنيا ال ش‪9‬ىء‪،‬‬
‫إيش يزهد فيها )‬
‫ثم التفت إلى المعلم‪ ،‬وقلت‪ :‬فقد حببت لي الزهد وعظمته‪ ،‬فم‪99‬ا الس‪99‬بيل‬
‫إليه؟‬
‫قال‪ :‬بأن تعلم الجوائز التي ينالها الزاهد في الدنيا قبل اآلخرة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أينال الزاهد جوائزه في الدنيا أيضا؟‬
‫قال‪ :‬باإلضافة إلى ما ادخر له في اآلخرة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬إن هذا س‪99‬يجعل ق‪9‬ومي يقبل‪99‬ون علي‪9‬ه‪ ،‬ويتنفاس‪9‬ون في تحص‪99‬يله‪،‬‬
‫فإني أعلم مدى رغبتهم في الجوائز وحرصهم عليها‪ ..‬فما هذه الجوائز؟‬
‫قال‪ :‬أربع‪ :‬الهمة‪ ،‬والكمال‪ ،‬والعزة‪ ،‬والراحة‪ ،‬كل ج‪9‬ائزة منه‪9‬ا بال‪9‬دنيا‬
‫وما فيها‪.‬‬
‫الهمة‪:‬‬
‫قلت‪ :‬فما الجائزة األولى؟‬
‫قال‪ :‬جائزة الهمة العالية التي يتحقق بها الزاهد‪.‬‬
‫قلت‪ :‬لم أفهم‪.‬‬
‫قال‪ :‬أرأيت من كان أمله في مستقبل حياته أن يكون حماال أو حطاب‪99‬ا‪،‬‬
‫أيتساوى مع من همته أن يص‪99‬ير وزي‪99‬را أو ملك‪99‬ا أو اس‪99‬تاذا كب‪99‬يرا وعالم‪99‬ا‬
‫خطيرا‪.‬‬

‫ال َح ِد ٌ‬
‫يث َح َس ٌن صحيح‪.‬‬ ‫‪ ) )(1‬التِّر ِم ِذيُّ َوقَ َ‬

‫‪95‬‬
‫قلت‪ :‬بل همة الثاني أعلى‪ ..‬ولكن أنى له أن يتحقق بما يحلم به‪.‬‬
‫قال‪ :‬أرأيت إن وجدت من يوفر لك دواعي الهمة الثاني‪99‬ة‪ ،‬وييس‪99‬ر ل‪99‬ك‬
‫سبيلها‪ ،‬أال يكون بذلك قد قد كافأك؟‬
‫قلت‪ :‬أعظم مكافأة‪ ،‬بل يكون ق‪9‬د ق‪9‬دم لي الخدم‪9‬ة ال‪9‬تي تحول‪9‬ني إنس‪9‬انا‬
‫آخر‪ ،‬ففرق كبير بين أن أجمع الحطب للن‪99‬اس أو أحم‪99‬ل مت‪99‬اعهم‪ ،‬وبين أن‬
‫أنال تلك المناصب الرفيعة‪.‬‬
‫قال‪ :‬فإن هللا تعالى وفر للفقير الذي يهزأ الناس من فق‪99‬ره‪ ،‬أو يرحم‪99‬وه‬
‫لفقره من الفرص ما يلتحق به مع أصحاب الهمم العالية لينال ما نالوه‪.‬‬
‫قلت‪ :‬كيف؟‬
‫قال‪ :‬أليست الهمة العالية هي طلب المعالي والترفع عن السفاسف؟‬
‫قلت‪ :‬بلى‪.‬‬
‫قال‪ :‬فإن الزهد في الدنيا ال يتحقق به إال أصحاب الهمم العالية‪.‬‬
‫قلت‪ :‬كي‪9‬ف يك‪9‬ون ذل‪9‬ك‪ ،‬وال أرى أح‪9‬دهم يحلم ب‪9‬أن يص‪9‬ير وزي‪9‬را أو‬
‫ملكا؟‬
‫قال‪ :‬بلى‪ ،‬هو يحلم بذلك‪ ،‬بل يحلم بما هو أرفع من ذلك‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فهو راغب إذن ال فرق بينه وبين الحريص‪.‬‬
‫ق‪9‬ال‪ :‬ه‪9‬و راغب ولكن رغبت‪9‬ه ليس في األحم‪9‬ال والحطب‪ ،‬وليس في‬
‫الوزارة أو الملك‪ ،‬وإنما في أمور أخطر وأعظم‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فيم يرغب‪ ،‬ما دام لم يرغب في ه‪9‬ذه األم‪9‬ور ال‪9‬تي ي‪9‬رغب فيه‪9‬ا‬
‫الناس؟‬
‫قال‪ :‬الزهاد نوعان‪ :‬منهم من يرغب في هللا ويكتفي به‪ ،‬ومن وج‪99‬د هللا‬
‫لم يفقد شيئا‪ ..‬ومنهم من يرغب في مت‪9‬اع ال يتح‪9‬ول‪ ،‬وزاد ال يتط‪9‬رق إلي‪9‬ه‬
‫الفساد‪ ،‬نظر إلى الدنيا‪ ،‬فأنفها وطلب دارا أجمل منها وأكمل‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أتقصد الدار اآلخرة‪ ،‬والجنة‪.‬‬
‫قال‪ :‬نعم‪ ..‬فإن الزهاد قارنوا بين ه‪99‬ذه ال‪99‬دار وتل‪99‬ك ال‪99‬دار‪ ،‬وعلم‪99‬وا أن‬
‫حرص‪9‬هم على ه‪9‬ذه ال‪9‬دار ق‪9‬د يبع‪9‬دهم عن تل‪9‬ك ال‪9‬دار‪ ،‬فمألوا همتهم بتل‪9‬ك‬
‫الدار‪ ،‬وزهدوا في هذه الدار‪.‬‬
‫قلت‪ :‬لكأني بالقرآن الكريم يحث على الزهد‪.‬‬
‫قال‪ :‬ب‪9‬ل يحث على أص‪9‬ل أص‪9‬ول الزه‪9‬د‪ ،‬وه‪9‬و االطالع على حقيق‪9‬ة‬
‫الدنيا‪ ،‬ومقارنتها بالدار التي ال تبيد‪ ،‬والملك الذي ال يفنى‪.‬‬

‫‪96‬‬
‫قلت‪ ،‬وكأني أتذكر شيئا كنت أعلمه‪ ،‬ولك‪9‬ني كنت أجهل‪9‬ه‪ :‬بلى ي‪9‬ا معلم‬
‫ق‬ ‫لكأني أول مرة أسمع الحق‪ ،‬وهو يقول‪َ {:‬ما ِع ْن‪َ 9‬د ُك ْم َي ْن َف‪ُ 9‬د َو َم‪9‬ا ِع ْن‪َ 9‬د هَّللا ِ َب‪9‬ا ٍ‬
‫ص َبرُوا َأجْ َرهُ ْم ِبأَحْ َس ِن َما َكانُوا َيعْ َملُونَ }(النحل‪)96 :‬‬ ‫َو َلنَجْ ِز َي َّن الَّ ِذينَ َ‬
‫ق‪99‬ال‪ :‬نعم‪ ،‬فق‪99‬د كنت تق‪99‬رأ ه‪99‬ذه اآلي‪99‬ة‪ ،‬ولم تكن تس‪99‬معها‪ ،‬فاهلل تع‪99‬الى‬
‫يرغبك في اآلخرة ببقائها‪ ،‬ويزهد في الدنيا بفنائها‪ ،‬ودينار دائم تملكه خ‪9‬ير‬
‫من عشرة آالف ما تستقر في يدك حتى تخرج منها‪.‬‬
‫قلت‪ :‬بل إن هللا تع‪9‬الى ال يص‪9‬ف مت‪9‬اع ال‪9‬دنيا بالنف‪9‬اد فق‪9‬ط‪ ،‬ب‪9‬ل يص‪9‬فه‬
‫بالقلة‪ ،‬فمتاع الدنيا أقل من متاع اآلخرة‪ ،‬قال تعالى‪ {:‬قُ‪99‬لْ َم َت‪99‬ا ُع ال‪ُّ 9‬د ْن َيا َق ِلي‪99‬لٌ‬
‫َواآْل ِخ َرةُ خَ يْرٌ ِل َم ِن اتَّ َقى}(النساء‪)77 :‬‬
‫ق‪99‬ال‪ :‬وفي ه‪99‬ذه اآلي‪99‬ة أعظم ال‪99‬رد على من يص‪99‬فون الزه‪99‬د بالس‪99‬لبية‪،‬‬
‫ويصفون الزاهد بالكسل‪.‬‬
‫قلت‪ :‬كيف؟‬
‫ي‪9‬ل َله ُْم ُك ُّفوا‬ ‫َ‪9‬ر ِإ َلى الَّ ِذينَ ِق َ‬ ‫قال‪ :‬ألم يق‪9‬ل هللا تع‪9‬الى في ه‪9‬ذه اآلي‪9‬ة‪َ {:‬أ َل ْم ت َ‬
‫ق ِم ْنه ُْم‬ ‫ب َع َل ْي ِه ُم ْال ِق َت‪99‬الُ ِإ َذا َف ِري‪ٌ 9‬‬ ‫الز َك‪99‬ا َة َف َل َّما ُك ِت َ‬ ‫َأ ْي‪ِ 9‬د َي ُك ْم َو َأ ِقي ُم‪99‬وا َّ‬
‫الص‪9‬ال َة َوآتُ‪99‬وا َّ‬
‫‪9‬ال َل‪99‬وْ ال‬ ‫اس كَخَ ْش َي ِة هَّللا ِ َأوْ َأ َش َّد خَ ْش َي ًة َو َقالُوا َربَّنَا ِل َم َك َتبْتَ َع َل ْينَا ْال ِق َت‪َ 9‬‬ ‫َي ْخ َشوْ نَ النَّ َ‬
‫‪9‬رةُ خَ ْي‪99‬رٌ ِل َم ِن اتَّ َقى َوال‬ ‫ب قُ‪99‬لْ َم َت‪99‬ا ُع ال‪ُّ 9‬د ْن َيا َق ِلي‪99‬لٌ َواآْل ِخ‪َ 9‬‬ ‫َأ َّخرْ َت َن‪99‬ا ِإ َلى َأ َج‪ٍ 9‬ل َق‪ِ 9‬‬
‫‪9‬ري ٍ‬
‫ال}(النساء‪)77 :‬‬ ‫ظ َل ُمونَ َف ِتي ً‬‫تُ ْ‬
‫قلت‪ :‬نعم‪ ،‬فاهلل تعالى يخبر عن علة كسل المتقاعدين وسلبيتهم‪.‬‬
‫قال‪ :‬وال سبب لذلك يذكره إال حرصهم على الدنيا ورغبتهم في البق‪99‬اء‬
‫فيها‪ ،‬فلذلك أخبرهم أن متاع ال‪9‬دنيا قلي‪9‬ل يس‪9‬تحق أن ي‪9‬رغب عن‪9‬ه‪ ،‬ومت‪9‬اع‬
‫اآلخرة عظيم يستحق أن يرغب فيه‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ولهذا يعاتب هللا تعالى من آثر الحياة ال‪99‬دنيا على اآلخ‪99‬رة‪ ،‬وي‪99‬بين‬
‫‪9‬رةُ‬ ‫له مبلغ الغبن الذي وقع فيه‪ ،‬قال تعالى‪َ {:‬بلْ تُ ْؤ ِثرُونَ ْال َح َي‪9‬ا َة ال‪ُّ 9‬د ْن َيا َواآْل ِخ َ‬
‫خَ يْرٌ َو َأ ْب َقى} (األعلى‪)17 :‬‬
‫قال‪ :‬ذلك أن اإلنسان يحب الخ‪9‬ير ودوام الخ‪9‬ير‪ ،‬ول‪9‬ذلك أخ‪9‬بره تع‪9‬الى‬
‫بأن هذين الوصفين ال يتحققان بكمالهما إال في الدار اآلخرة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أجل‪ ،‬وقد ورد ذلك في مواضع من الق‪9‬رآن الك‪9‬ريم‪ ،‬ق‪9‬ال تع‪9‬الى‪:‬‬
‫{ َوال َت ُم َّدنَ َع ْي َن ْيكَ ِإ َلى َما َمتَّعْ نَا ِب ِه َأ ْز َواجاً ِم ْنه ُْم زَ ْه َر َة ْال َح َيا ِة ال ُّد ْن َيا ِل َن ْف ِت َنه ُْم ِفي‪ِ 99‬ه‬
‫ق َربِّكَ خَ يْرٌ َو َأ ْب َقى}(طـه‪)131 :‬‬ ‫َو ِر ْز ُ‬
‫قال‪ :‬هذه اآلية تحض األمة عن طريق رسولها بالزهد حتى ال يغ‪99‬رهم‬

‫‪97‬‬
‫المتاع الموجود عن المتاع المدخر‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وقال تعالى‪َ {:‬و َما أُو ِتيتُ ْم ِم ْن َش ْي ٍء َف َمتَا ُع ْال َح َيا ِة ال ُّد ْن َيا َو ِزي َنتُ َه‪99‬ا َو َم‪99‬ا‬
‫ِع ْن َد هَّللا ِ خَ يْرٌ َو َأ ْب َقى َأ َفال تَعْ ِقلُونَ }(القصص‪)60 :‬‬
‫ق‪99‬ال‪ :‬وفيه‪99‬ا ت‪99‬رغيب أعظم‪ ،‬فاهلل تع‪99‬الى يص‪99‬ف م‪99‬ا في ال‪99‬دنيا من‬
‫الزخارف بكونه مجرد متاع للحياة الدنيا‪ ،‬وهي الحياة البسيطة الحقيرة‪ ،‬ثم‬
‫يختم ذلك بالدعوة للتأمل والتفك‪9‬ر‪ ،‬فمن الغبن أن يب‪99‬اع الغ‪9‬الي ب‪9‬الرخيص‪،‬‬
‫والزهيد بالنفيس‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وقال تعالى‪َ {:‬ف َما أُو ِتيتُ ْم ِم ْن َش ْي ٍء َف َمتَا ُع ْال َح َيا ِة ال ‪ُّ 9‬د ْن َيا َو َم‪99‬ا ِع ْن‪َ 9‬د هَّللا ِ‬
‫خَ يْرٌ َو َأ ْب َقى ِللَّ ِذينَ آ َمنُوا َو َع َلى َر ِّب ِه ْم َيت ََو َّكلُونَ }(الشورى‪)36 :‬‬
‫قال‪ :‬بين لهم تعالى في هذه اآلية وصفا من أوص‪9‬اف الزاه‪9‬دين‪ ،‬وه‪9‬و‬
‫اإليمان والتوكل‪ ،‬فليس كل جائع زاهد‪ ،‬بل الزاهد من زهد باهلل وهلل‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وله‪9‬ذا ق‪9‬ال تع‪9‬الى حاكي‪9‬ا عن س‪9‬حرة فرع‪9‬ون بع‪9‬د أن الق‪9‬وا ل‪9‬ذة‬
‫الس‪9‬حْ ِر َوهَّللا ُ‬ ‫طا َيانَا َو َما َأ ْك َر ْه َتنَا َع َل ْي ِه ِمنَ ِّ‬ ‫معرفة هللا‪ِ {:‬إنَّا آ َمنَّا ِب َر ِّبنَا ِل َي ْغ ِف َر َلنَا خَ َ‬
‫خَ يْرٌ َو َأ ْب َقى}(طـه‪)73 :‬‬
‫قال‪ :‬لق‪9‬د أش‪9‬اروا إلى أعظم الزه‪9‬د‪ ،‬وه‪9‬و الرغب‪9‬ة في هللا‪ ،‬وه‪9‬و زه‪9‬د‬
‫المقربين الذين انشغلوا بالنظر هلل عن النظر لكل شيء‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فهال تضرب لي أمثاال على هذه المعاني أنقلها لق‪9‬ومي‪ ،‬فاألمث‪9‬ال‬
‫جند من جن‪99‬د هللا يص‪99‬ل بالمع‪99‬اني إلى خزان‪99‬ة الخي‪99‬ال ليض‪99‬عها في العق‪99‬ول‬
‫والقلوب‪.‬‬
‫قال‪ :‬إن القرآن الكريم كفانا ضرب هذه األمثلة‪ ،‬فهو يقرب صور هذه‬
‫اء َأ ْن ْ‬
‫زَلنَا ُه ِمنَ‬ ‫الحقائق باألمثال العظيمة‪ ،‬قال تعالى‪ِ {:‬إنَّ َما َم َثلُ ْال َح َيا ِة ال ُّد ْن َيا َك َم ٍ‬
‫ت‬ ‫ض ِم َّما َي ْأ ُك‪99‬لُ النَّاسُ َواأْل َ ْن َع‪99‬ا ُم َحتَّى ِإ َذا َأخَ‪َ 9‬ذ ِ‬ ‫‪9‬ات اأْل َرْ ِ‬ ‫ط ِب‪ِ 9‬ه َن َب‪ُ 9‬‬ ‫اء َف ْ‬
‫اخ َت َل‪َ 9‬‬ ‫َّ‬
‫الس‪َ 9‬م ِ‬
‫ال َأوْ‬
‫ظ َّن َأ ْهلُ َها َأنَّه ُْم َق‪9‬ا ِدرُونَ َع َل ْي َه‪9‬ا َأتَاهَ‪9‬ا َأ ْمرُ نَ‪9‬ا َل ْي ً‬ ‫ازيَّن َْت َو َ‬ ‫اأْل َرْ ضُ ُز ْخرُ َف َها َو َّ‬
‫ت ِل َق‪99‬وْ ٍم‬ ‫ص ‪9‬لُ اآْل ي‪99‬ا ِ‬ ‫س َك‪َ 9‬ذ ِلكَ نُ َف ِّ‬ ‫ص ‪9‬يداً َك‪99‬أَ ْن َل ْم ت َْغنَ ِب ‪9‬اأْل َ ْم ِ‬ ‫َن َه‪99‬اراً َف َج َع ْلنَا َه‪99‬ا َح ِ‬
‫اء َأ ْن ْ‬
‫زَل َن‪99‬اهُ‬ ‫َي َت َف َّكرُونَ }(يونس‪ 9 ،)24 :‬وقال‪َ {:‬واضْ ِربْ َله ُْم َم َث َل ْال َح َيا ِة ال ُّد ْن َيا َك َم ٍ‬
‫ص‪َ 9‬ب َح ه َِش‪9‬يماً ت َْ‪9‬ذرُو ُه الرِّ َي‪9‬احُ َو َك‪9‬انَ هَّللا ُ‬ ‫ض َفأَ ْ‬‫ات اأْل َرْ ِ‬ ‫ط ِب ِه َن َب ُ‬ ‫اء َف ْ‬
‫اخ َت َل َ‬ ‫ِمنَ ال َّس َم ِ‬
‫َع َلى ُكلِّ َش ْي ٍء ُم ْق َت ِدراً}(الكهف‪)45 :‬‬
‫قلت‪ :‬فهال تقرب لي هذه األمثلة وتصورها لي؟‬
‫قال‪ :‬ال يوجد ما هو أعظم من تصوير القرآن الكريم للحقائق‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ولكن الحقائق تحتاج أحيان‪9‬ا لتفس‪9‬يرها‪ ،‬فمن الن‪9‬اس من ال يطي‪9‬ق‬

‫‪98‬‬
‫تفهم الحق‪99‬ائق لكثافت‪99‬ه وغالظ‪99‬ة طبع‪99‬ه‪ ،‬وال أنك‪99‬ر أني مبتلى ببعض ه‪99‬ذا‬
‫الطبع‪.‬‬
‫قال‪ :‬أخرجت إلى الحقول في الربيع الجميل؟‬
‫قلت‪ :‬وكي‪9‬ف ال أخ‪9‬رج‪ ،‬وه‪9‬ل ال‪9‬دنيا إال جم‪9‬ال الربي‪9‬ع وزه‪9‬ر الربي‪9‬ع‬
‫ونسائم الربيع‪.‬‬
‫قال‪ :‬فهل رأيت األزهار المتفتحة‪ ،‬واألعشاب النظرة‪..‬؟‬
‫قلت‪ :‬والجمال المتدفق الحي الذي يش‪9‬رق من الجب‪9‬ال والوه‪9‬اد‪ ،‬وك‪9‬أن‬
‫الدنيا كلها تبتسم‪ ..‬بل ترسل ضحكات عريضة‪.‬‬
‫قال‪ :‬فهل مررت به في الصيف عندما ترسل الشمس لهيبها؟‬
‫قلت‪ :‬عن‪99‬دها يتح‪99‬ول الحي ميت‪99‬ا‪ ،‬والجم‪99‬ال دمام‪99‬ة‪ ،‬وتنقلب االبتس‪99‬امة‬
‫الجميلة آهات وأحزانا‪.‬‬
‫قال‪ :‬فهذه هي الدنيا‪ ..‬أيام معدودة من االبتسامة‪ ..‬ثم يعقبها صيف األلم‬
‫وخريف األحزان‪.‬‬
‫قلت‪ :‬واآلخرة؟‬
‫قال‪ :‬اآلخرة ربيع دائم‪ ،‬فه‪9‬ل تس‪9‬تبدل الربي‪9‬ع ال‪9‬ذي ال يس‪9‬تمر إال أيام‪9‬ا‬
‫معدودة بالربيع الذي ال تفنيه األيام‪ ،‬وال تبلي ثيابه السنون‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فهمت المثال‪ ..‬لكأني بنا قد غرقنا في نس‪99‬ائم زه‪9‬رة من زه‪9‬رات‬
‫هذا الربيع الفاني‪ ،‬واستبدلنا بها ربيع األزل‪.‬‬
‫ق‪99‬ال‪ :‬ب‪99‬ل أنتم فعلتم أخط‪99‬ر من ذل‪99‬ك‪ ..‬بعتم هللا بالع‪99‬دم‪ ،‬وبعتم الجن‪99‬ة‬
‫بالمستنقعات‪ ..‬وبعتم السعادة باألحزان‪..‬‬
‫قلت‪ :‬فما المخرج؟‬
‫قال‪ :‬الزهد‪..‬‬
‫قلت‪ :‬تقصد رفع الهمة عن الدنيا‪..‬‬
‫قال‪ :‬إن استطعتم أن ترفعوا الهمة عن األكوان جميع‪99‬ا‪ ،‬وتكتف‪99‬وا باهلل‪..‬‬
‫فستنالون من يديه ما ال يخطر لكم على بال‪ ..‬وم‪99‬ا ال تس‪99‬تطيع أحالمكم أن‬
‫تفكر فيه‪.‬‬
‫الكمال‪:‬‬
‫قال لي المعلم‪ ،‬وقد رآني مستغرقا فيما قال‪ :‬هاك الج‪9‬ائزة الثاني‪9‬ة ال‪9‬تي‬
‫أنعم هللا بها على الزهاد‪.‬‬
‫مددت يدي‪ ،‬وقلت‪ :‬هاتها‪.‬‬

‫‪99‬‬
‫ابتسم‪ ،‬وقال‪ :‬امدد يد بصيرتك‪ ،‬فما تمتد إليه يد جارحتك ينفد‪.‬‬
‫قلت‪ :‬تعودنا أال نعرف المدد إال في اليد‪.‬‬
‫قال‪ :‬ولذلك تنكرون الزهد‪ ،‬وتنكرون فيوضات هللا وأمداده على عباده‬
‫الزاهدين الذين اصطفاهم بالكمال حين رفعوا هممهم إليه وإلى ما عنده‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فأنا في انتظار جائزة الكمال‪ ،‬فما هي؟‬
‫قال‪ :‬إن قومك في مجالسهم يميزون بين الكب‪99‬ار والص‪99‬غار‪ ،‬فيجعل‪99‬ون‬
‫لكل منهم محله الخاص به‪.‬‬
‫قلت‪ :‬نعم‪ ،‬فللكبار كراسيهم التي تتناسب مع طولهم وعرض‪99‬هم‪ ،‬بينم‪99‬ا‬
‫الصغار ال تتناسب معهم إال الكراسي الصغيرة لصغر أحجامهم‪.‬‬
‫ق‪99‬ال‪ :‬أن‪99‬ا ال اتح‪99‬دث عن ص‪99‬غار الس‪99‬ن‪ ،‬ب‪99‬ل عن الص‪99‬غار المحتق‪99‬رين‬
‫المستضعفين‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وأن‪99‬ا ال أتح‪99‬دث إال عنهم‪ ،‬ف‪99‬إنهم في منط‪99‬ق الك‪99‬براء‪ ،‬أو نتيج‪99‬ة‬
‫للهزال الذي عرضهم له الكبراء صارت كراسيهم ال تختل‪9‬ف عن كراس‪9‬ي‬
‫الصغار‪.‬‬
‫قال‪ :‬ففي أي المجالس تحب أن تجلس أنت‪ ،‬أو يحب أن يجلس قومك؟‬
‫قلت‪ :‬إن أردت الصراحة‪ ،‬فإنه ال أح‪99‬د من الن‪99‬اس إال ويحلم ب‪99‬الجلوس‬
‫على تلك الكراسي الوثيرة‪ ،‬والركوب في تلك المراكب الفارهة‪ ،‬وال‪99‬نزول‬
‫في تلك الفنادق الفخمة ذوات النجوم الكثيرة‪.‬‬
‫قال‪ :‬فأنت إذن تحب مصاحبة الكبار‪..‬‬
‫قلت‪ :‬لست وحدي في ذلك‪ ،‬ب‪9‬ل ك‪9‬ل ق‪9‬ومي‪ ..‬ب‪9‬ل أحس‪9‬ب ذل‪9‬ك طبيع‪9‬ة‬
‫إنسانية‪.‬‬
‫ق‪99‬ال‪ :‬نعم هي طبيع‪99‬ة إنس‪99‬انية‪ ..‬ب‪99‬ل طبيع‪99‬ة كوني‪99‬ة‪ ،‬فالكم‪99‬ال محب‪99‬وب‬
‫بالطبع‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فما عالقة هذا بهذه الجائزة؟‬
‫قال‪ :‬الزهد ه‪9‬و الطري‪9‬ق الوحي‪9‬د ال‪9‬ذي يض‪9‬عك م‪9‬ع الكب‪9‬ار‪ ،‬ويجلس‪9‬ك‬
‫مجالسهم‪ ،‬وينزلك فنادقهم‪.‬‬
‫قلت‪ :‬كيف؟ فالزهد يمنعني من مجرد الرغبة‪ ،‬والتفكير في ذلك‪.‬‬
‫قال‪ :‬يمنعك من التلطخ‪ ،‬وال يمنعك من التمتع‪.‬‬
‫قلت‪ :‬اش‪99‬رح لي‪ ..‬أو ب‪99‬األحرى مث‪99‬ل لي لم‪99‬ا تق‪99‬ول‪ ..‬ف‪99‬إني ال أطي‪99‬ق‬
‫التجريد‪.‬‬

‫‪100‬‬
‫قال‪ :‬سأضرب لك مثال من القرآن الكريم‪ ،‬ض‪99‬ربه هللا تع‪99‬الى لمواق‪99‬ف‬
‫الن‪99‬اس من الك‪99‬براء ال‪99‬ذين كنت تحلم ب‪99‬القعود معهم‪ ،‬بينم‪99‬ا هم ال يس‪99‬اوون‬
‫شيئا‪ ،‬ألن ضخامتهم مجرد انتفاخ سرعان ما تعبث به رياح الزمان‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أفي القرآن الكريم الحديث عن هذا؟‪ ..‬لقد قرأت‪99‬ه وحفظت‪99‬ه وقلبت‬
‫الطرف في تفاسيره‪ ،‬فلم أجد مثل هذا‪.‬‬
‫قال‪ :‬لعلك قرأته ولم تسمعه‪ ،‬ففي القرآن الكريم كل العلوم وكل حقائق‬
‫الكون‪ ،‬ولكن لمن سمعه ال لمن قرأه‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فما هو هذا المثال؟‬
‫قال‪ :‬قارون‪ ،‬فقد جعل‪99‬ه هللا مث‪99‬اال على ه‪99‬ؤالء الك‪99‬براء ال‪99‬ذين ص‪99‬رفوا‬
‫الناس عن الزهد‪ ،‬فمألوا قلوب الفقراء رغبة في ال‪9‬دنيا‪ ،‬ف‪9‬أراد هللا أن ي‪9‬بين‬
‫لهم ما ينتظر ذلك الحرص والرغبة من جزاء‪.‬‬
‫وس ‪9‬ى َف َبغَى‬ ‫قلت‪ :‬لقد قال هللا تعالى في شأنه‪ِ {:‬إ َّن َقارُونَ َكانَ ِم ْن َقوْ ِم ُم َ‬
‫ُص‪َ 999‬ب ِة أُو ِلي ْالقُ َّ‬
‫‪999‬و ِة }‬ ‫‪999‬وز َم‪999‬ا ِإ َّن َم َفا ِت َح‪ 999‬هُ َل َتنُ‪999‬و ُء ِب ْالع ْ‬ ‫َع َل ْي ِه ْم َوآ َت ْينَ‪999‬اهُ ِمنَ ْال ُكنُ ِ‬
‫(القصص‪)76 :‬‬
‫قال‪ :‬فماذا قال له الكمل من قومه من الذين آتاهم هللا العلم والزهد؟‬
‫‪9‬رحْ ِإ َّن هَّللا َ ال ي ُِحبُّ‬ ‫قلت‪ :‬لقد قالوا له ـ كما نص القرآن الكريم ـ‪ {:‬ال َت ْف‪َ 9‬‬
‫َصي َبكَ ِمنَ ال ‪ُّ 9‬د ْن َيا َو َأحْ ِس ‪ْ 9‬ن‬‫سن ِ‬ ‫ار اآْل ِخ َر َة َوال َت ْن َ‬ ‫ْال َف ِر ِحينَ َوا ْبت َِغ ِفي َما آ َتاكَ هَّللا ُ ال َّد َ‬
‫ض ِإ َّن هَّللا َ ال ي ُِحبُّ ْال ُم ْف ِس ‪ِ 9‬دينَ }‬
‫‪9‬غ ْال َف َس ‪9‬ا َد ِفي اأْل َرْ ِ‬ ‫َك َم‪99‬ا َأحْ َس ‪9‬نَ هَّللا ُ ِإ َل ْي‪99‬كَ َوال َت ْب‪ِ 9‬‬
‫(القصص‪ 76 :‬ـ‪)77‬‬
‫قال‪ :‬فقد نصحوه بالزهد فيما آتاه هللا‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ولكنهم لم يحرموا عليه التمتع بما أوتي من الكنوز‪ ،‬فقد قالوا ل‪9‬ه‪:‬‬
‫َصي َبكَ ِمنَ ال ُّد ْن َيا }‬ ‫سن ِ‬ ‫{ َوال َت ْن َ‬
‫قال‪ :‬ولكنهم حرموا عليه التلطخ بتلك الكنوز‪ ،‬وقد قلن‪9‬ا‪:‬إن فرق‪9‬ا كب‪9‬يرا‬
‫بينهما‪.‬‬
‫قلت‪ :‬كيف؟‬
‫قال‪ :‬التلطخ أن تمأل الدنيا قلبك فتشغلك عن هللا‪ ،‬وعن توظي‪99‬ف نعم هللا‬
‫فيما أمر هللا‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وهو ما نصح به هؤالء قارون فقد نصحوه باإلحسان بما تفضل‬
‫هللا عليه‪.‬‬
‫قال‪ :‬عندما خرج قارون في زينت‪9‬ه تجلى موقف‪9‬ان من مواق‪9‬ف الن‪9‬اس‪،‬‬

‫‪101‬‬
‫هي في الحقيقة مواقف البشر جميعا من الرغبة والزهد‪.‬‬
‫قلت‪ :‬نعم‪ ،‬موقف ال‪9‬ذين يري‪9‬دون الحي‪9‬اة ال‪9‬دنيا‪ ،‬وموق‪9‬ف ال‪9‬ذين أوت‪9‬وا‬
‫العلم‪.‬‬
‫قال‪ :‬فما حكى القرآن الكريم عنهما؟‬
‫خَ‪9‬ر َج َع َلى‬ ‫قلت‪ :‬أما موقف الفئة األولى‪ ،‬فقد نص عليه قوله تع‪9‬الى‪َ {:‬ف َ‬
‫ال الَّ ِذينَ ي ُِري ُدونَ ْال َح َيا َة ال ُّد ْن َيا َيا َليْتَ َلنَا ِم ْث َل َم‪99‬ا أُو ِت َي َق‪ُ 9‬‬
‫‪9‬ارُون‬ ‫َقوْ ِم ِه ِفي ِزي َن ِت ِه َق َ‬
‫َظ ٍيم}(القص‪99‬ص‪ ،)79 :‬فق‪99‬د اعت‪9‬بروا ق‪9‬ارون ص‪9‬احب ح‪9‬ظ‬ ‫ظع ِ‬ ‫ِإنَّهُ َل‪ُ 9‬ذو َح‪ٍّ 9‬‬
‫عظيم‪ ،‬فحسدوه على ما أوتي‪ ،‬وتمنوا أن يكون له مثل ما أوتي‪.‬‬
‫قال‪ :‬وما هو موقف الذين أوتوا العلم؟‬
‫ال الَّ ِذينَ‬‫قلت‪ :‬ما نصه علينا القرآن الكريم كذلك‪ ،‬وهو قوله تعالى‪َ {:‬و َق َ‬
‫ص‪99‬ا ِلحاً َوال يُ َلقَّاهَ‪99‬ا ِإاَّل‬‫‪99‬ل َ‬‫‪99‬وابُ هَّللا ِ خَ يْ‪99‬رٌ ِل َم ْن آ َمنَ َو َع ِم َ‬ ‫أُوتُ‪99‬وا ْال ِع ْل َم َو ْي َل ُك ْم َث َ‬
‫الصَّا ِبرُونَ }(القصص‪)80 :‬‬
‫قال‪ :‬فما كانت نهاية الحرص والرغبة الممثلة في قارون؟‬
‫خَس‪ْ 9‬فنَا ِب‪ِ 9‬ه‬ ‫قلت‪ :‬هو ما قصه الق‪9‬رآن الك‪9‬ريم علين‪9‬ا أيض‪9‬ا حين ق‪9‬ال‪َ {:‬ف َ‬
‫ون هَّللا ِ َو َم‪99‬ا َك‪99‬انَ ِمنَ‬ ‫ص ‪9‬رُو َنهُ ِم ْن ُد ِ‬ ‫ض َف َم‪99‬ا َك‪99‬انَ َل ‪9‬هُ ِم ْن ِف َئ ‪ٍ 9‬ة َي ْن ُ‬ ‫َار ِه اأْل َرْ َ‬ ‫َو ِب‪9‬د ِ‬
‫َص ِرينَ }(القصص‪)81 :‬‬ ‫ْال ُم ْنت ِ‬
‫قال‪ :‬فمن كس‪9‬ب الره‪9‬ان من الحريص‪9‬ين أو من الزاه‪9‬دين‪ ،‬ومن ك‪9‬ان‬
‫الحق معه؟ ومن تحقق بالكمال؟‬
‫ص‪َ 9‬ب َح‬ ‫َ‬
‫قلت‪ :‬هو ما قصه علينا الق‪9‬رآن الك‪9‬ريم أيض‪9‬ا‪ ،‬ق‪9‬ال تع‪9‬الى‪َ {:‬وأ ْ‬
‫ط ْ‬
‫الرِّز َق ِل َم ْن َي َشا ُء ِم ْن ِع َب‪99‬ا ِد ِه‬ ‫س َيقُولُونَ َو ْي َكأَ َّن هَّللا َ َي ْب ُس ُ‬ ‫الَّ ِذينَ َت َمنَّوْ ا َم َكا َنهُ ِباأْل َ ْم ِ‬
‫َو َي ْق ِدرُ َلوْ ال َأ ْن َم َّن هَّللا ُ َع َل ْينَا َلخَ َسفَ ِبنَا َو ْي َكأَنَّهُ ال يُ ْف ِلحُ ْال َك‪99‬ا ِفرُونَ } (القص‪99‬ص‪:‬‬
‫‪)82‬‬
‫قال‪ :‬فالمفلح من؟‪ ..‬هل الزاهدون أم الحريصون؟‬
‫قلت‪ :‬الزاهدون‪ ،‬بل إن الحريصين حمدوا هللا على أنهم لم يؤت‪99‬وا مث‪99‬ل‬
‫ما أوتي قارون لئال يحل بهم ما حل به‪.‬‬
‫قال‪ :‬فلماذا يصر قوم‪99‬ك على أن يلتحق‪99‬وا بالع‪99‬الم األول‪ ،‬وهم يعلم‪99‬ون‬
‫حقيقته التي ال تختلف عن حقيقة قارون‪ ،‬بل هم ي‪99‬رددون م‪99‬ا ردد ق‪99‬ارون‪:‬‬
‫{ ِإنَّ َما أُو ِتيتُهُ َع َلى ِع ْل ٍم ِع ْن ِدي}(القصص‪)78 :‬‬
‫قلت‪ :‬ألنهم يعتقدون أن األولية والكمال في ذلك؟‬
‫رُون َم ْن هُ َو َأ َش‪ُّ 9‬د ِم ْن‪9‬هُ‬ ‫قال‪ :‬أو لم يعلموا‪َ {:‬أ َّن هَّللا َ َق ْد َأ ْه َلكَ ِم ْن َق ْب ِل ِه ِمنَ ْالقُ ِ‬

‫‪102‬‬
‫قُ َّو ًة َو َأ ْك َثرُ َج ْمعاً}(القصص‪)78 :‬؟‬
‫قلت‪ :‬ولكن مطالبهم الدنيوية تتطلب منهم ذلك‪.‬‬
‫قال‪ :‬ال‪ ،‬بل الحرص الكاذب الذي يمليه فراغ أجوافهم هو الذي يطلب‬
‫منهم ذلك‪ ،‬فالكمال في الحقيقة ال في المظاهر‪ ،‬وفي الصدق ال في الزور‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فقد ذكرت لي مثاال من أمثلة الكمال في الزه‪9‬د‪ ،‬ولكن ق‪9‬ومي ق‪9‬د‬
‫ال يفهمونه حق الفهم‪ ،‬أو قد يؤولونه‪ ،‬فما أسهل تأويل النصوص وإلباس‪99‬ها‬
‫أي لباس يشاءون‪.‬‬
‫قال‪ :‬ولكن النص واضح‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ولكنهم لن يق‪99‬رؤوه ولن يفس‪99‬روه‪ ،‬ب‪99‬ل س‪99‬يكتفون من‪99‬ه بعب‪99‬ارة‬
‫يجعلونها هي المحكم الوحيد فيه‪ ،‬وما عداه متشابه‪.‬‬
‫قال‪ :‬فما هذه العبارة التي نالت هذا الفضل عندهم دون من عداها؟‬
‫َصي َبكَ ِمنَ ال ُّد ْن َيا }(القصص‪)77 :‬‬ ‫سن ِ‬ ‫قلت‪ :‬قوله تعالى‪َ {:‬وال َت ْن َ‬
‫قال‪ :‬ويفعلون ذلك؟‬
‫قلت‪ :‬بل فعلوه‪ ،‬فإن هذه العبارة القرآني‪9‬ة أص‪9‬بحت مثال دارج‪9‬ا ي‪9‬ردده‬
‫العامة والخاصة‪ ،‬وكأن القرآن الكريم جميعا اختصر فيها‪.‬‬
‫قال‪ :‬فقد وقعتم فيما وقع فيه أهل الكتاب من التحريف‪ ،‬فقد ق‪99‬ال تع‪99‬الى‬
‫ب َو َت ْكفُرُونَ ِب َبعْض}(البقرة‪،)85 :‬‬ ‫عْض ْال ِكتَا ِ‬ ‫في شأنهم‪َ {:‬أ َفتُ ْؤ ِمنُونَ ِب َب ِ‬
‫قلت‪ :‬ولهذا أمر تعالى رسوله ‪ ‬أن يحكم المؤمنين بجمي‪99‬ع م‪99‬ا أن‪99‬زل‬
‫زَل هَّللا ُ َوال َتتَّ ِب‪ْ 9‬ع َأ ْه َ‬
‫‪9‬وا َءهُ ْم َواحْ‪َ 9‬ذرْ هُ ْم‬ ‫عليه‪ ،‬قال تعالى‪َ {:‬و َأ ِن احْ ُك ْم َب ْي َنه ُْم ِب َما َأ ْن َ‬
‫زَل هَّللا ُ ِإ َل ْيكَ }(المائدة‪)49 :‬‬ ‫عْض َما َأ ْن َ‬ ‫َأ ْن َي ْف ِتنُوكَ ع َْن َب ِ‬
‫قال‪ :‬فهال اطلعوا على سنن األنبياء ـ عليهم الصالة والسالم ـ‪ ،‬وكي‪99‬ف‬
‫كانت حياتهم مليئة بمواقف الزهد فيما في أيدي الن‪99‬اس‪ ،‬والرغب‪99‬ة فيم‪99‬ا في‬
‫يد هللا‪.‬‬
‫قلت‪ :‬هم يتخيرون من مواقفهم م‪9‬ا يخ‪9‬دمون ب‪9‬ه آراءهم‪ ،‬فلن يعج‪9‬زهم‬
‫ذل‪99‬ك‪ ،‬وق‪99‬د ق‪99‬ال تع‪99‬الى في أه‪99‬ل الكت‪99‬اب‪ِ { :‬إ َّن الَّ ِذينَ َي ْكفُ‪99‬رُونَ ِباهَّلل ِ َو ُ‬
‫رُس‪ِ 99‬ل ِه‬
‫عْض َو َن ْكفُ‪99‬رُ ِب َب ٍ‬
‫عْض‬ ‫رُس ‪ِ 9‬ل ِه َو َيقُولُ‪99‬ونَ نُ‪9ْ 9‬ؤ ِم ُن ِب َب ٍ‬ ‫َوي ُِري ‪ُ 9‬دونَ َأ ْن يُ َفرِّ قُ‪99‬وا َب ْينَ هَّللا ِ َو ُ‬
‫ال}(النس‪99‬اء‪ ،)150 :‬فهم يؤمن‪99‬ون ببعض‬ ‫َوي ُِري ُدونَ َأ ْن َيتَّ ِخ‪ُ 9‬ذوا َب ْينَ َذ ِل‪99‬كَ َس‪ِ 9‬بي ً‬
‫المواقف ويكفرون ببعض‪.‬‬
‫قال‪ :‬أوصلت بهم الجرأة إلى الرسل ـ عليهم الصالة والسالم ـ‬
‫قلت‪ :‬لق‪999‬د س‪999‬معت بعض‪999‬هم يتح‪999‬دث عن حب رس‪999‬ول هللا ‪ ‬للحم‬

‫‪103‬‬
‫والحلواء وأنواع المآكل الف‪9‬اخرة م‪9‬ا يجعل‪9‬ك تتص‪9‬ور أن الس‪9‬نة في ارتي‪9‬اد‬
‫المطاعم الفاخرة إلحياء سنة أكل اللحم والحلواء‪.‬‬
‫قال‪ :‬ألم يقرؤوا النصوص الواردة في مصادركم الصحيحة؟‬
‫قلت‪ :‬فرق ـ يا معلمي ـ بين أن تقرأ وأن تسمع ألم تقل لي ذلك دائما‪.‬‬
‫العزة‪:‬‬
‫قال‪ :‬أراك اقتنعت بما قلت‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أجل‪ ..‬وبورك فيك‪ ..‬فهات الجائزة الثالثة‪ ..‬جائزة العزة‪.‬‬
‫قال‪ :‬أرأيت إن قرب لك طع‪99‬ام لذي‪99‬ذ‪ ،‬ثم رأيت ال‪99‬ذباب متس‪99‬اقطا علي‪99‬ه‬
‫متهافتا على أكله‪ ،‬فهو ال يبالي في س‪99‬بيله أن تذب‪99‬ه أو تقلت‪99‬ه‪ ،‬أك‪99‬انت نفس‪99‬ك‬
‫تشتهيه؟‬
‫قلت‪ :‬لكأني بك تريد ما قال الشاعر‪:‬‬
‫تركت لك‪99‬ثرة الش‪99‬ركاء فيه‬ ‫إذا لم أت‪999‬رك الم‪999‬اء اتق‪999‬اء‬
‫‪  ‬‬ ‫‪ ‬‬
‫رفعت يدي ونفسي تش‪9‬تهيه‬ ‫إذا وقع ال‪9‬ذباب على طع‪9‬ام‬
‫‪  ‬‬ ‫‪ ‬‬
‫إذا ك‪99999‬ان الكالب يلغن فيه‬ ‫وتجتنب األسود ورود ماء‬
‫‪  ‬‬ ‫‪ ‬‬
‫قال‪ :‬هو ما أريده بالضبط‪ ،‬فقد علمت غرامك بالشعر‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وكي‪99‬ف لي أن أش‪99‬ارك ال‪99‬ذباب طع‪99‬امهم‪ ،‬فإن‪99‬ه إن لم يكن ذل‪99‬ك‬
‫مضرا بالصحة‪ ،‬فإن النفس تعافه بالضرورة‪.‬‬
‫ق‪99‬ال‪ :‬فك‪99‬ذلك الزه‪99‬د‪ ،‬فالزاه‪99‬د ي‪99‬أنف من مش‪99‬اركة ال‪99‬ذباب‪ ،‬وق‪99‬د قي‪99‬ل‬
‫لبعضهم‪ :‬ما الذي زه‪9‬دك في ال‪9‬دنيا؟‪ ،‬فق‪9‬ال‪ (:‬قل‪9‬ة وفائه‪9‬ا‪ ،‬وك‪9‬ثرة جفائه‪9‬ا‪،‬‬
‫وخسة شركائها )‬
‫قلت‪ :‬ولكن الدنيا ال يملكها الذباب‪.‬‬
‫قال‪ :‬ولكن يملكها الالهثون وراء السراب‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فهناك فرق بينهما‪.‬‬
‫قال‪ :‬ال فرق بينهم‪99‬ا‪ ،‬وله‪99‬ذا س‪99‬اوى هللا تع‪99‬الى بين ال‪99‬ذباب والبش‪99‬ر في‬
‫اس‪َ 9‬ت ِمعُوا َل‪9‬هُ ِإ َّن الَّ ِذينَ‬ ‫ب َم َث‪9‬لٌ َف ْ‬ ‫الض‪9‬عف‪ ،‬فق‪9‬ال تع‪9‬الى‪َ {:‬ي‪9‬ا َأ ُّي َه‪9‬ا النَّاسُ ُ‬
‫ض‪ِ 9‬ر َ‬
‫الذ َبابُ َشيْئاً ال‬ ‫ون هَّللا ِ َل ْن َي ْخلُقُوا ُذ َباباً َو َل ِو اجْ َت َمعُوا َلهُ َو ِإ ْن َي ْسلُ ْبهُ ُم ُّ‬
‫َت ْد ُعونَ ِم ْن ُد ِ‬
‫طلُوبُ }(الحج‪)73 :‬‬ ‫الطا ِلبُ َو ْال َم ْ‬
‫ضعُفَ َّ‬ ‫َي ْس َت ْن ِق ُذوهُ ِم ْنهُ َ‬

‫‪104‬‬
‫قلت‪ :‬صدقت‪ ،‬فكالهما ضعيف الطالب والمطلوب‪.‬‬
‫قال‪ :‬وأزيدك مثاال يجعلك ترى عالم الذباب بين يديك وملء بصرك‪.‬‬
‫قلت‪ :‬هات‪.‬‬
‫قال‪ :‬ذلك الطعام اللذيذ الذي قدم لك‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أتقصد ذلك الذي تهافت عليه الذباب؟‬
‫قال‪ :‬أجل‪ ..‬لماذا تهافت عليه؟‬
‫قلت‪ :‬ألنه طعام دسم غني بما يشتهيه الذباب من المطاعم‪.‬‬
‫قال‪ :‬فك‪9‬ذلك ه‪9‬ؤالء ال‪9‬ذين امتألت نفوس‪9‬هم رغب‪9‬ة في ال‪9‬دنيا يس‪9‬لط هللا‬
‫عليهم الذباب ليمتص رحيقهم‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ولكن قومي اخترعوا أنواع المبيدات‪.‬‬
‫قال‪ :‬تلك ال تبيد هذا النوع من الذباب‪ ،‬فإنه ذباب ل‪99‬ه من الح‪99‬ذق م‪99‬ا ال‬
‫يستطيع أحد ذبه أو قتله‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فهمت قص‪99‬دك‪ ..‬تع‪99‬ني األص‪99‬دقاء المحيطين به‪99‬ؤالء الراغ‪99‬بين‬
‫ينافقونهم ويخادعونهم ليمتصوا بعض ما يمتصه الذباب من مآكل‪.‬‬
‫قال‪ :‬نعم‪ ،‬فقد صدق الشاعر في كل ما قال‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أول مرة أسمعك تصدق فيها شاعرا‪.‬‬
‫قال‪ :‬ألم تسمع بقوله ‪ (:‬إن من الشعر حكما )(‪)1‬‬
‫قلت‪ :‬بلى‪ ،‬سمعت‪ ،‬وقد قال أبو تمام‪:‬‬
‫ولوال ِخاللٌ َسنَّها ال ِّشعْرُما درى بناةُ المعالي كيفَ تُبْنى المكار ُم‬
‫قال‪ :‬ولكن‪ ..‬ال كل الشعراء أقصد‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أجل‪ ،‬فـ‪:‬‬
‫فاعلــمـن أربـع ْة فشاعرٌ يجري وال يُجـرى مع ْه‬ ‫َّ‬ ‫الشعرا ُء‬
‫ط المعمع ْه وشاعرٌ مـن َح ِّقه أن َتسْـ َم َع ْه‬ ‫وشاعـرٌ ينش ُد وسـ َ‬
‫وشاعرٌ من َح ِّق ِه أن تَصْ ــ َف َع ْه‬
‫قال‪ :‬فاترك الشعر‪ ،‬وعد بنا إلى جائزة العزة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فهمت‪ ..‬فإن العزة تاج فوق رؤوس الزهاد ال يراه الراغبون‪.‬‬
‫قال‪ :‬والقرآن الكريم يدل على ذلك‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أفي القرآن الكريم هذا؟‬
‫قال‪ :‬أجل‪ ،‬فلنعد إلى قصة قارون‪ ،‬م‪99‬ا ه‪9‬و موق‪99‬ف الرغ‪9‬بين في ال‪99‬دنيا‬

‫‪ ) )(1‬الترمذي‪ ،‬وقال‪ :‬حسن صحيح‪ ،‬وابن ماجة‪.‬‬

‫‪105‬‬
‫عندما رأوه؟‬
‫قلت‪ :‬لقد سال لعابهم‪ ،‬وهم يرون مراكبه الف‪9‬اخرة وزينت‪9‬ه ال‪9‬تي خ‪9‬رج‬
‫‪9‬ال الَّ ِذينَ ي ُِري‪ُ 9‬دونَ ْال َح َي‪99‬ا َة‬ ‫خَر َج َع َلى َقوْ ِم ِه ِفي ِزي َن ِت‪ِ 9‬ه َق‪َ 9‬‬ ‫بها‪ ،‬كما قال تعالى‪َ {:‬ف َ‬
‫َظ ٍيم}(القصص‪)79 :‬‬ ‫ظع ِ‬ ‫ال ُّد ْن َيا َيا َليْتَ َلنَا ِم ْث َل َما أُو ِت َي َق ُ‬
‫ارُون ِإنَّهُ َل ُذو َح ٍّ‬
‫قال‪ :‬ولماذا خرج في زينته ما دام قومه سيحسدونه هذا الحسد؟‬
‫قلت‪ :‬بل خرج ألجل أن يحسدوه‪ ،‬فهو يكاد يشمت بهم بخروجه‪.‬‬
‫قال‪ :‬وفي ذلك الحين الذي يراهم فيه مشدوهين نح‪99‬و طلعت‪99‬ه ومراكب‪99‬ه‬
‫وزينته‪ ،‬ماذا كان يتصورهم؟‬
‫قلت‪ :‬يراهم كالذباب المتهافت حول الطعام‪.‬‬
‫قال‪ :‬هم أذالء إذن؟‬
‫قلت‪ :‬بل أذل من الذباب‪ ،‬ألن الذباب إن تهافت حول الطعام نال من‪99‬ه‪،‬‬
‫وهؤالء ال ينالون إال الحسرة واأللم‪.‬‬
‫قال‪ :‬ول‪99‬و أن ه‪99‬ؤالء لم يلتفت‪99‬وا إلى زين‪99‬ة ق‪99‬ارون‪ ،‬ولم ي‪99‬أبهوا ل‪99‬ه‪ ،‬ولم‬
‫يعيروهم نظراتهم‪ ،‬أكان يهتم بمثل هذه الزينة‪ ،‬ويخرج بهذا الكبر‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ال أظن‪99‬ه س‪99‬يفعل‪ ،‬فم‪99‬ا الفائ‪99‬دة ال‪99‬تي يجنيه‪99‬ا بخروج‪99‬ه بك‪99‬ل تل‪99‬ك‬
‫الزخارف‪ ،‬بل سيخرج كما سيخرج سائر الناس؟‬
‫قال‪ :‬أفال ترى أنهم بذلك الموقف الذليل الذي وقف‪99‬وه ج‪99‬ذروا في نفس‪99‬ه‬
‫كبرياءه‪ ،‬وجذروا في نفوسهم الذلة؟‬
‫قلت‪ :‬أجل‪ ،‬وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا حين قال تعالى‪َ {:‬فا ْست َّ‬
‫َخَف‬
‫اس ِقينَ }(الزخرف‪)54 :‬‬ ‫َقوْ َمهُ َفأَ َ‬
‫طا ُعوهُ ِإنَّه ُْم َكانُوا َقوْ ماً َف ِ‬
‫ت َل ُك ْم‬ ‫قال‪ :‬أفكان فرعون يجرؤ على أن يق‪99‬ول‪َ {:‬ي‪99‬ا َأ ُّي َه‪99‬ا ْال َمأَل ُ َم‪99‬ا َع ِل ْم ُ‬
‫ِم ْن ِإ َل ٍه َغي ِْري}(القصص‪ ،)38 :‬ويق‪9‬ول‪َ {:‬أنَ‪9‬ا َر ُّب ُك ُم اأْل َ ْع َلى} (النازعـات‪:‬‬
‫‪ )24‬لوال قلة عقول قومه وتهافتهم بين يديه كتهافت الفراش؟‬
‫قلت‪ :‬ال‪ ،‬فالذلة هي المحل الذي يمكن للكبراء‪ ،‬ولو أن الناس أروا من‬
‫أنفسهم عزة لما تجرأ عليهم أح‪9‬د‪ ..‬فالزه‪9‬د إذن ه‪9‬و م‪9‬ا يقي المؤم‪9‬نين من‬
‫مهاوي الذلة التي يوقعهم فيها الحكام‪.‬‬
‫قال‪ :‬ليس الحكام فقط‪ ،‬فقد كان قارون غنيا‪ ،‬ولم يكن حاكما‪.‬‬
‫قلت‪ :‬الحكام وأشباه الحكام‪.‬‬
‫قال‪ :‬أال تقولون بأن العبرة بالخاتمة؟‬
‫قلت‪ :‬ونقول بأن الناجح من يضحك أخيرا‪.‬‬

‫‪106‬‬
‫قال‪ :‬فمن كان أعز الناس في قصة قارون؟‬
‫قلت‪ :‬كانت لقارون بعض العزة عندما خرج بتلك الزينة‪.‬‬
‫قال‪ :‬فما خاتمتها؟‬
‫ض َف َما‬ ‫َ‬
‫َار ِه اأْل رْ َ‬ ‫قلت‪ :‬ما نص عليه القرآن الكريم بقوله‪َ {:‬فخَ َس ْفنَا ِب ِه َو ِبد ِ‬
‫َص‪ِ 9‬رينَ }(القص‪9‬ص‪:‬‬ ‫ون هَّللا ِ َو َما َك‪9‬انَ ِمنَ ْال ُم ْنت ِ‬ ‫َكانَ َلهُ ِم ْن ِف َئ ٍة َي ْنصُرُو َنهُ ِم ْن ُد ِ‬
‫‪)81‬‬
‫قال‪ :‬فنهايته إذن الذل المحض‪ ،‬بل الهالك الذي هو فوق الذل‪.‬‬
‫قلت‪ :‬نعم‪.‬‬
‫قال‪ :‬فمن كان أعز الناس إذن؟‬
‫‪9‬ال الَّ ِذينَ أُوتُ‪9‬وا‬ ‫قلت‪ :‬الذين أوتوا العلم‪ ،‬فقد ق‪9‬ال تع‪9‬الى في ش‪9‬أنهم‪َ {:‬و َق َ‬
‫الص ‪9‬ا ِبرُونَ }‬ ‫َّ‬ ‫صا ِلحاً َوال يُ َلقَّا َه‪99‬ا ِإاَّل‬ ‫ْال ِع ْل َم َو ْي َل ُك ْم َث َوابُ هَّللا ِ خَ يْرٌ ِل َم ْن آ َمنَ َوع َِم َل َ‬
‫(القصص‪)80 :‬‬
‫قال‪ :‬وهل كانوا حينها أعز من قارون؟‬
‫قلت‪ :‬أجل‪ ،‬ألن عزته بمراكبه‪ ،‬وعزتهم بما أتاهم هللا من العلم‪.‬‬
‫قال‪ :‬وهل جرهم علمهم إلى الدنيا أم زهدهم فيها؟‬
‫قلت‪ :‬بل زهدهم فيها‪.‬‬
‫قال‪ :‬ولو جرهم إلى الدنيا‪ ،‬وإلى أبواب ق‪99‬ارون ه‪99‬ل س‪99‬يتحلون ب‪99‬العزة‬
‫التي تحلوا بها؟‬
‫قلت‪ :‬ال‪.‬‬
‫قال‪ :‬فعزتهم إذن ليس بعلومهم‪.‬‬
‫قلت‪ :‬بم إذن؟‬
‫قال‪ :‬بزهدهم‪ ،‬فالزهد باب العزة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬في النفس من كالمك شيء‪.‬‬
‫َّ‬ ‫َ‬
‫قال‪ :‬ألم تسمع قوله تعالى‪َ {:‬وا ْتلُ َع َل ْي ِه ْم َن َبأ ال ِذي آ َت ْينَا ُه آ َيا ِتنَا َفا ْن َس َلخَ ِم ْن َه‪99‬ا‬
‫َاوينَ َو َلوْ ِش ْئنَا َل َر َفعْ نَاهُ ِب َها َو َل ِكنَّهُ َأ ْخ َل َد ِإ َلى اأْل َرْ ِ‬
‫ض‬ ‫ان َف َكانَ ِمنَ ْالغ ِ‬ ‫ط ُ‬ ‫َفأَ ْت َب َعهُ ال َّش ْي َ‬
‫ث َذ ِل‪99‬كَ َم َث‪99‬لُ‬ ‫ث َأوْ َت ْترُ ْك‪ 9‬هُ َي ْل َه ْ‬ ‫ب ِإ ْن تَحْ ِملْ َع َل ْي‪ِ 9‬ه َي ْل َه ْ‬‫َواتَّ َب َع ه ََوا ُه َف َم َثلُهُ َك َم َث ِل ْال َك ْل ِ‬
‫ص َل َعلَّه ُْم َي َت َف َّكرُونَ }(ألعراف‪)176 :‬‬ ‫ص َ‬ ‫صُص ْال َق َ‬
‫ِ‬ ‫ْال َقوْ ِم الَّ ِذينَ َك َّذبُوا ِبآيا ِتنَا َفا ْق‬
‫قلت‪ :‬بلى‪ ،‬فهذه قصة بلعم بن باعوراء‪ ،‬وقد ذكر المفسرون أنه ( كان‬
‫من علماء بني إسرائيل‪ ،‬وكان مج‪99‬اب ال‪99‬دعوة يقدمون‪99‬ه في الش‪99‬دائد‪ ،‬بعث‪99‬ه‬
‫نبي هّللا موسى ‪ ‬إلى ملك م‪9‬دين ي‪9‬دعوه إلى هّللا فأقطع‪9‬ه وأعط‪9‬اه‪ ،‬فتب‪9‬ع‬

‫‪107‬‬
‫دينه وترك دين موسى ‪) ‬‬
‫(‪)1‬‬
‫ق‪99‬ال‪ :‬دع‪99‬ك من القص‪99‬ص‪ ،‬واعت‪99‬بر بالقص‪99‬ة كم‪99‬ا وردت في الق‪99‬رآن‬
‫الك‪99‬ريم‪ ،‬فهي ليس‪99‬ت قص‪99‬ة بلعم وح‪99‬ده‪ ،‬ب‪99‬ل قص‪99‬ة آالف وعش‪99‬رات آالف‬
‫البالعم‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ماذا تريد أن تقول؟‬
‫قال‪ :‬ما الذي جعل هذا الذي آتاه هللا العلم ينسلخ عن علمه؟‬
‫قلت‪ :‬هو ما ذكره القرآن الكريم من إخالده إلى األرض وسكونه إليها‪.‬‬
‫قال‪ :‬فل‪9‬و أن‪9‬ه لم يخل‪9‬د إلى األرض ولم يس‪9‬كن إليه‪9‬ا‪ ،‬ولم تش‪9‬تد رغبت‪9‬ه‬
‫فيها‪ ،‬ما هي الجائزة التي كان سينالها؟‬
‫قلت‪ :‬الرفعة والعزة‪ ،‬كما ذكر القرآن الكريم‪ ،‬ق‪9‬ال تع‪9‬الى‪َ {:‬و َل‪9‬وْ ِش‪ْ 9‬ئنَا‬
‫َل َر َفعْ نَا ُه ِب َها ‪ ،‬ولكنه بس‪99‬بب خل‪99‬وده إلى األرض ص‪99‬ار ذليال ك‪99‬الكلب { ِإ ْن‬
‫ث‪‬‬ ‫ث َأوْ َت ْترُ ْكهُ َي ْل َه ْ‬ ‫تَحْ ِملْ َع َل ْي ِه َي ْل َه ْ‬
‫قال‪ :‬أتدري لما شبهه هللا بالكلب؟‬
‫قلت‪ :‬نعم‪ ،‬فـهـو لـفرط اتباعه الهوى وتعلقه بع‪9‬الم الم‪99‬ادة انتابت‪99‬ه حال‪99‬ة‬
‫من التعطش الشديد غير المح‪9‬دود وراء لـذائذ الـدنـيـا‪ ،‬وك‪9‬ل ذل‪9‬ك لم يكن‬
‫لحاجة ‪ ،‬ب‪9‬ل لحال‪9‬ة مرض‪9‬ية ‪ ،‬فه‪9‬و ك‪9‬الكلب المس‪9‬عور ال‪9‬ذي يظه‪9‬ر بحال‪9‬ة‬
‫عـطش ك‪99‬اذب ال يمكن إرواؤه‪99‬ا‪ ،‬وهي حال‪99‬ة العبي‪99‬د ال‪99‬ذين ال يهمهم غ‪99‬ير‬
‫جمع المال واكتناز الثروة فال يحسون معه بشبع ابدا‪.‬‬
‫قال‪ :‬فأيهما أرفع شأنا العالم الزاهد‪ ،‬أم العالم الراغب؟‬
‫قلت‪ :‬بل الزاهد‪.‬‬
‫قال‪ :‬لماذا؟‬
‫قلت‪ :‬لينال من العزة ما ال يظفر به الراغب‪.‬‬
‫قال‪ :‬ليس ه‪9‬ذا فحس‪9‬ب‪ ،‬ب‪9‬ل إن الرغب‪9‬ة والح‪9‬رص على ال‪9‬دنيا وت‪9‬رك‬
‫الزهد فيها هي السبب فيما حاق باألديان من أنواع التحريف‪.‬‬
‫قلت‪ :‬هذه دعوى خطيرة‪ ،‬فهل لها من بينات تقوم عليها؟‬
‫‪9‬ف َو ِرثُ‪9‬وا ْال ِكت َ‬
‫َ‪9‬اب‬ ‫خَل ٌ‬‫ق‪9‬ال‪ :‬ألم تس‪9‬مع قول‪9‬ه تع‪9‬الى‪َ {:‬فخَ َل‪9‬فَ ِم ْن َبعْ‪ِ 9‬د ِه ْم ْ‬
‫ض َه َذا اأْل َ ْدنَى َو َيقُولُونَ َسي ُْغ َفرُ َلنَا َو ِإ ْن َي ْأ ِت ِه ْم ع ََرضٌ ِم ْثلُهُ َي ْأ ُخ ُذوهُ‬ ‫َي ْأ ُخ ُذونَ ع ََر َ‬
‫ق َود ََر ُس ‪9‬وا َم‪99‬ا ِفي ‪ِ 9‬ه‬ ‫ب َأ ْن ال َيقُولُوا َع َلى هَّللا ِ ِإاَّل ْال َح َّ‬ ‫ق ْال ِكتَا ِ‬ ‫خَذ َع َل ْي ِه ْم ِمي َثا ُ‬ ‫َأ َل ْم ي ُْؤ ْ‬
‫َوال َّدارُ اآْل ِخ َرةُ خَ يْرٌ ِللَّ ِذينَ َيتَّقُونَ َأ َفال تَعْ ِقلُونَ }(ألعراف‪)169 :‬‬

‫‪ ) )(1‬هذا قول مالك بن دينار‪.‬‬

‫‪108‬‬
‫قلت‪ :‬بلى‪ ،‬فما في اآلية مما تدعيه؟‬
‫قال‪ :‬لقد ذكر تع‪9‬الى تمس‪9‬كهم بال‪9‬دنيا‪ ،‬وأخ‪9‬ذهم بالمت‪9‬اع األدنى‪ ،‬فبم‪9‬اذا‬
‫عاتبهم هللا تعالى بعد ذلك؟‬
‫قلت‪ :‬عاتبهم على أنهم لم يوفوا بالميثاق الذي أخذ عليهم‪.‬‬
‫قال‪ :‬وما هو؟‬
‫قلت‪ :‬أال يقولوا على هللا إال الحق‪.‬‬
‫قال‪ :‬فذلك يدل على أنهم لم يفعلوا ذلك‪.‬‬
‫قلت‪ :‬نعم وإال لما عاتبهم هللا تعالى‪.‬‬
‫قال‪ :‬فما الذي جرهم إلى ذلك؟‬
‫قلت‪ :‬أول اآلية وآخرها يش‪9‬يران إلى أن عل‪9‬ة ذل‪9‬ك هي الح‪9‬رص على‬
‫ف َو ِرثُوا ْال ِكت َ‬
‫َ‪99‬اب‬ ‫الدنيا‪ ،‬فقد قال تعالى في أول اآلية‪َ {:‬فخَ َلفَ ِم ْن َبعْ ِد ِه ْم ْ‬
‫خَل ٌ‬
‫‪9‬رةُ خَ ْي‪99‬رٌ ِللَّ ِذينَ‬‫ض َه َذا اأْل َ ْدنَى }‪ ،‬وقال في آخرها‪َ {:‬وال َّدارُ اآْل ِخ َ‬ ‫َي ْأ ُخ ُذونَ ع ََر َ‬
‫َيتَّقُونَ َأ َفال تَعْ ِقلُونَ }‬
‫قال‪ :‬فهذه اآلية تدل على علة التحريف في دين هللا‪.‬‬
‫قلت‪ :‬نعم‪.‬‬
‫قال‪ :‬أزيدك آية أخرى‪ ،‬ألم تسمع قول‪9‬ه تع‪9‬الى‪َ {:‬ي‪9‬ا َأ ُّي َه‪9‬ا الَّ ِذينَ آ َمنُ‪9‬وا ِإ َّن‬
‫ص‪ُّ 9‬دونَ ع َْن‬ ‫اس ِب ْال َب ِ‬
‫اط‪ِ 9‬ل َو َي ُ‬ ‫ال النَّ ِ‬ ‫‪9‬ان َل َي‪9ْ 9‬أ ُكلُونَ َأ ْم‪َ 9‬‬
‫‪9‬و َ‬ ‫َك ِث‪99‬يراً ِمنَ اأْل َحْ َب ِ‬
‫‪9‬ار َوالرُّ ْه َب‪ِ 9‬‬
‫يل هَّللا ِ}(التوبة‪)34 :‬‬ ‫َس ِب ِ‬
‫قلت‪ :‬أجل‪ ،‬فقد جمع هللا في هذه اآلية بين أكلهم أموال الناس بالباط‪99‬ل‪،‬‬
‫وص‪99‬دهم عن س‪99‬بيل هللا‪ ،‬وه‪99‬و يش‪99‬ير إلى أن الح‪99‬رص ح‪99‬ول من ه‪99‬ؤالء‬
‫األحبار والرهبان إلى تج‪9‬ار بض‪9‬اعتهم تحري‪9‬ف الكت‪9‬اب بم‪9‬ا يتناس‪9‬ب م‪9‬ع‬
‫األهواء‪.‬‬
‫قال‪ :‬فانصح علماء قومك أن يحذورا من أبواب الس‪99‬الطين‪ ،‬ف‪99‬إن العلم‬
‫يذل عند أبوابهم‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ولكنهم ينصحونهم‪ ،‬وفي ذلك مصلحة الرعية‪.‬‬
‫ق‪999‬ال‪ :‬فانص‪999‬حهم إذا ذهب‪999‬وا أن يطه‪999‬روا أرض قل‪999‬وبهم من ش‪999‬وك‬
‫الحرص‪ ،‬وحجارة الرغبة‪ ،‬لئال ينبتوا الحصرم والعلقم‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ومن أنا حتى يسمعوا لي‪!..‬؟‬
‫قال‪ :‬إن عليك إال البالغ‪..‬‬
‫قلت‪ :‬ومن لي بأن يصلهم صوتي!؟‬

‫‪109‬‬
‫قال‪ :‬ذلك هلل‪ ،‬فلله األمر من قبل ومن بعد‪.‬‬
‫الراحة‪:‬‬
‫قلت‪ :‬جزاك هللا خيرا ‪ ..‬لقد اقتنعت بما قلت‪.‬‬
‫قال‪ :‬فهلم ألخذ الجائزة الرابعة من جوائز الزهد‪.‬‬
‫قلت‪ :‬لقد كف‪9‬اني م‪9‬ا نلت من الج‪9‬وائز‪ ،‬فل‪9‬ذلك ال تهم‪9‬ني المش‪9‬اق ال‪99‬تي‬
‫أتحملها من أجل السعي لتحصيله‪ ..‬خاصة بعد علمي بعالقته الخطيرة بم‪99‬ا‬
‫حاق باألديان من تحريف‪.‬‬
‫ق‪99‬ال‪ :‬لن تتحم‪99‬ل أي مش‪99‬قة في تحص‪99‬يله‪ ،‬ب‪99‬ل إن الزه‪99‬اد أك‪99‬ثر الن‪99‬اس‬
‫راحة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬كيف؟‬
‫قال‪ :‬ألن الحرص ه‪99‬و ال‪99‬ذي يجلب التعب ألص‪99‬حابه‪ ،‬أم‪99‬ا الزه‪99‬د‪ ،‬فال‬
‫يجلب إال الراحة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬لكأني بك تقصد قول الشاعر‪:‬‬
‫يلبسُ الص‪9999‬وفَ ويه‪9999‬وى‬ ‫ليس بالزاه‪ِ 9999‬د في ال‪9999‬دنيا‬
‫ام‪99999999999999999999999999999999999999999‬ر ٌؤ ال ُرقَعا‬
‫‪  ‬‬ ‫‪ ‬‬
‫ع‪9999‬راض عنه‪9999‬ا‬
‫َ‬ ‫ورأى ا ِإل‬ ‫ك ال‪ُّ 9‬دنا‬ ‫ظَ َّن دينَ هّللا ِ في تَ‪99‬رْ ِ‬
‫أ ْنفعا‬ ‫‪ ‬‬
‫‪  ‬‬
‫ق التق‪9999‬وى وعف‪9999‬افَ‬ ‫طل‪َ 9999‬‬ ‫وهو لو جا َء ْت‪9‬هُ منه‪99‬ا بَ ‪ْ 9‬د َرةٌ‬
‫ال َو َرعا‬ ‫‪ ‬‬
‫‪  ‬‬
‫ض‪99‬لُعا‬ ‫َ‬
‫لكن الج‪ُّ 99‬د ي‪99‬ذيبُ األ ْ‬ ‫ِ‬ ‫فهو ال ُز ْهداً بها عنها ن‪99‬أىْ‬
‫‪  ‬‬ ‫‪ ‬‬
‫ص‪9‬نَعا‬‫ف‪99‬رأى الراح‪9‬ةَ فيم‪99‬ا َ‬ ‫خ‪999‬افَ أن يس‪999‬عى في‪999‬دمي‬
‫‪  ‬‬ ‫رجلَه‬
‫‪ ‬‬
‫ق‪9‬ال‪ :‬ص‪9‬دق الغاليي‪9‬ني‪ ،‬وم‪9‬ا أري‪9‬د ه‪9‬ذا‪ ،‬فق‪9‬د ذكرن‪9‬ا إيجابي‪9‬ة الزاه‪9‬د‪،‬‬
‫وسنذكر طرقه ألبواب فضل هللا‪ ،‬ولكن التعب ليس في الس‪99‬عي‪ ،‬وإنم‪99‬ا في‬
‫الحرص‪.‬‬

‫‪110‬‬
‫قلت‪ :‬كيف؟‬
‫ق‪99‬ال‪ :‬عن‪99‬دما ال تك‪99‬ون ل‪99‬ك طاق‪99‬ة تحم‪99‬ل معين‪99‬ة‪ ،‬فتحم‪99‬ل عليه‪99‬ا وال‬
‫تتجاوزها‪ ،‬أيصيبك التعب لذلك؟‬
‫قلت‪ :‬ال‪ ،‬ألني لم أجاوز مقدار طاقتي‪.‬‬
‫قال‪ :‬فالزاهد ال يجاوز مقدار طاقته التي وهبه هللا إياها‪ ،‬أما الحريص‪،‬‬
‫فلحاجته لمأل الفراغ النفسي الذي يشكوا منه تج‪99‬ده يحم‪99‬ل نفس‪99‬ه م‪99‬ا تطي‪99‬ق‬
‫وما ال تطيق‪.‬‬
‫قلت‪ :‬كيف؟‬
‫قال‪ :‬هو يتصور الدنيا كمنجم ذهب مح‪9‬دود علي‪99‬ه يته‪99‬افت الراغب‪9‬ون‪،‬‬
‫فلو قعد لحظة واحدة لسبقه غيره‪ ،‬وال يبقى له منه شيئا‪.‬‬
‫قلت‪ :‬والزاهدون كيف يرون الدنيا؟‬
‫قال‪ :‬بنظرة مختلفة تماما‪ ،‬فهم ي‪9‬رون ال‪9‬دنيا دار ض‪9‬يافة إلهي‪9‬ة ال يع‪9‬دم‬
‫الساكن فيها من رزق يساق إليه‪ ،‬فلذلك يتناوله هنيئا مطمئنا مرتاح‪99‬ا يق‪99‬ول‬
‫في نفسه‪ :‬إن نفذ هذا‪ ،‬فسيرسل إلي صاحب المائدة رزق‪99‬ا آخ‪99‬ر‪ ،‬ق‪99‬د أص‪99‬ل‬
‫إليه بسعيي‪ ،‬وقد يجيئني بسعيه إن قعد سعيي‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ولكن الناس ال يكتفون بالرزق القليل؟‬
‫قال‪ :‬ولكن تضحياتهم في سبيل الكثير الذين يمألون به ف‪99‬راغ نفوس‪99‬هم‬
‫ال يقاوم ما ينالونه‪.‬‬
‫قلت‪ :‬كيف ذلك؟‬
‫قال‪ :‬أرأيت من ضحى بصحته وقوته وعرضه ودين‪99‬ه من أج‪99‬ل لقم‪99‬ة‬
‫شهية كاسبا أم خاسرا؟‬
‫قلت‪ :‬بل خاسرا أعظم خسارة‪ ،‬فم‪9‬ا تج‪9‬دي اللقم‪9‬ة أم‪9‬ام ك‪9‬ل م‪9‬ا ض‪9‬اع‬
‫منه‪ ..‬بل هو كمن باع قصرا فخما بحجارة ال تغني وال تسمن من جوع‪.‬‬
‫قال‪ :‬فهذا هو عناء الحريص‪ ،‬وراحة الزاهد‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ولكن مع ذلك‪ ..‬ال ينبغي أن نستنكر ما لتلك اللقمة من لذة‪.‬‬
‫قال‪ :‬لذة مكتنفة بالغصص‪ ،‬وال يعدم الزاهد مثلها‪ ،‬أو أكثر منها مع ما‬
‫استفاده من الراحة واألمن‪.‬‬
‫قلت‪ :‬الراحة واألمن؟‬
‫قال‪ :‬فإن الزاهد ينعم من الراحة واألمن ما ال ينعم به الحريص‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فاضرب لي على ذلك مثاال‪.‬‬

‫‪111‬‬
‫قال‪ :‬بل سأحكي لك عن كل منهم‪9‬ا حكاي‪9‬ة‪ ،‬فالحكاي‪9‬ات كاألمث‪9‬ال جن‪9‬د‬
‫من جند هللا‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فما حكاية الراحة؟‬
‫قال‪ :‬كان إبراهيم بن أدهم من أهل النعم بخراسان‪ ،‬فبينما ه‪99‬و يش‪99‬رف‬
‫من قصر له ذات يوم إذ نظر إلى رجل فى فناء القصر‪ ،‬وفى ي‪99‬ده رغي‪99‬ف‬
‫يأكله‪ ،‬فلما أكل نام‪ ،‬فقال لبعض غلمانه‪ (:‬إذا قام فجئنى به )‪ ،‬فلما قام ج‪99‬اء‬
‫به إليه‪ ،‬فقال إبراهيم‪ (:‬أيها الرجل أكلت الرغي‪99‬ف وأنت ج‪99‬ائع ) ق‪99‬ال‪:‬نعم‪،‬‬
‫قال‪ :‬فشبعت‪ ،‬قال‪ :‬نعم قال‪ :‬ثم نمت طيبا قال‪ :‬نعم فقال إب‪99‬راهيم فى نفس‪99‬ه‪:‬‬
‫فما أصنع أنا بالدنيا والنفس تقنع بهذا القدر‪.‬‬
‫قلت‪ :‬لقد ذكرتني بعامر بن عبد القيس‪ ،‬فقد مر برجل وهو يأكل ملح‪99‬ا‬
‫وبقال فقال له‪ :‬يا عبد هللا أرضيت من الدنيا به‪99‬ذا؟ فق‪99‬ال‪ :‬أال أدل‪99‬ك على من‬
‫رضى بشر من هذا؟ قال‪ :‬بلى قال‪ :‬من رضى بالدنيا عوضا عن اآلخرة‪.‬‬
‫وذكرتني بمحمد بن واسع فقد كان يخرج خ‪9‬بزا يابس‪9‬ا‪ ،‬فيبل‪9‬ه بالم‪9‬اء‪،‬‬
‫ويأكله بالملح ويقول‪ :‬من رضى من الدنيا بهذا لم يحتج إلى أحد‪.‬‬
‫قال‪ :‬أما حكاية أمن الزاهد أمام المخاطر التي يتعرض لها الح‪99‬ريص‪،‬‬
‫فق‪99‬د روي أن‪99‬ه ص‪99‬حب رج‪99‬ل عيس‪99‬ى بن م‪99‬ريم ‪ ‬فق‪99‬ال‪ (:‬أك‪99‬ون مع‪99‬ك‬
‫وأصحابك) فانطلقا فانتهيا إلى ش‪9‬ط نه‪9‬ر‪ ،‬فجلس‪9‬ا يتغ‪9‬ديان‪ ،‬ومعهم‪9‬ا ثالث‪9‬ة‬
‫أرغفة‪ ،‬ف‪99‬أكال رغيفين وبقي رغي‪99‬ف ث‪99‬الث‪ ،‬فق‪99‬ام عيس‪99‬ى ‪ ‬إلى النه‪99‬ر‪،‬‬
‫فشرب‪ ،‬ثم رجع فلم يجد الرغيف‪ ،‬فقال للرجل‪ :‬من أخذ الرغيف‪ ،‬فقال‪ :‬ال‬
‫أدري‪ .‬فهذا أول آثار الحرص‪.‬‬
‫فانطق ومعه صاحبه فرأى ظبية ومعها خشفان لها‪ ،‬فدعا أحدهما فأتاه‬
‫فذبحه فاشتوى منه‪ ،‬فأكل هو وذلك الرجل‪ ،‬ثم قال للخشف‪ (:‬قم بإذن هللا)‪،‬‬
‫فقام فذهب‪ ،‬فقال للرجل‪ (:‬أسألك بالذي أراك هذه اآلية من أخذ الرغيف )‪،‬‬
‫فقال‪ :‬ال أدري‪ ،‬ثم انتهيا إلى وادي م‪9‬اء‪ ،‬فأخ‪9‬ذ عيس‪9‬ى بي‪9‬د الرج‪9‬ل‪ ،‬فمش‪9‬يا‬
‫على الماء‪ ،‬فلما ج‪9‬اوزا ق‪9‬ال ل‪9‬ه‪ (:‬أس‪9‬ألك بال‪9‬ذي أراك ه‪9‬ذه اآلي‪9‬ة من أخ‪9‬ذ‬
‫الرغيف )‪ ،‬فقال‪:‬ال أدري‪ ،‬فانتهي‪99‬ا إلى مف‪99‬ازة‪ ،‬فجلس‪99‬ا‪ ،‬فأخ‪99‬ذ عيس‪99‬ى ‪‬‬
‫يجمع ترابا وكثيبا‪ ،‬ثم قال‪ (:‬كن ذهبا بإذن هللا تعالى )‪ ،‬فصار ذهب‪9‬ا فقس‪9‬مه‬
‫ثالثة أثالث‪ ،‬ثم قال‪ (:‬ثلث لي‪ ،‬وثلث لك‪ ،‬وثلث لمن أخذ الرغيف )‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫( أنا الذي أخذت الرغيف )‪ ،‬فقال‪ (:‬كله لك )‬
‫وفارق‪99‬ه عيس‪99‬ى ‪ ‬ف‪99‬انتهى إلي‪99‬ه رجالن في المف‪99‬ازة‪ ،‬ومع‪99‬ه الم‪99‬ال‪،‬‬

‫‪112‬‬
‫فأرادا أن يأخذاه منه ويقتاله‪ ،‬فقال‪ (:‬هو بينن‪99‬ا أثالث‪99‬ا )‪ ،‬ف‪99‬ابعثوا أح‪99‬دكم إلى‬
‫القرية حتى يشتري لنا طعاما نأكله )‪ ،‬فبعثوا أحدهم فقال الذي بعث‪ (:‬ألي‬
‫شيء أقاسم هؤالء هذا المال‪ ،‬لك‪99‬ني أض‪99‬ع في ه‪99‬ذا الطع‪99‬ام س‪99‬ما فأقتلهم‪99‬ا‪،‬‬
‫وآخذ المال وحدي )‪ ،‬ففعل وقال ذان‪9‬ك ال‪9‬رجالن‪ (:‬ألي ش‪9‬يء نجع‪9‬ل له‪9‬ذا‬
‫ثلث المال ولكن إذا رجع قتلناه واقتس‪99‬منا الم‪9‬ال بينن‪9‬ا )‪ ،‬فلم‪99‬ا رج‪9‬ع إليهم‪99‬ا‬
‫قتاله‪ ،‬وأكال الطعام‪ ،‬فماتا‪ ،‬فبقي ذلك المال في المفازة وأولئك الثالثة عنده‬
‫قتلى‪ ،‬فمر بهم عيسى ‪ ‬على تل‪9‬ك الحال‪9‬ة فق‪9‬ال ألص‪9‬حابه‪ (:‬ه‪9‬ذه ال‪9‬دنيا‬
‫فاحذروها )‬
‫قلت‪ :‬هذه قصة جميلة‪ ..‬ولكن لست أدري هل هي صحيحة أم ال‪ ،‬فق‪99‬د‬
‫قرأت العهد الجديد حرفا حرفا‪ ،‬فم أرها؟‬
‫قال‪ :‬وما يهمك أن تصح أو ال تصح‪ ،‬كل البقلة وال تسأل عن البقال‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ولكن معناها صحيح‪ ،‬فأكثر الناس تعرضا للج‪99‬رائم هم األغني‪99‬اء‬
‫طمعا في مالهم وثرائهم‪ ،‬بل قد يقتلهم أقرب الناس إليهم‪.‬‬
‫قال‪ :‬فإن حرصوا على ملء بطونهم من أصناف الشهوات‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ستقتلهم حينها شهواتهم‪ ،‬أما سمعت بأمراض األثرياء‪.‬‬
‫ص ‪9‬بْ }(الش‪99‬رح‪،)7 :‬‬ ‫فجأة خطر على بالي قوله تعالى‪َ {:‬فإِ َذا َف َر ْغتَ َفا ْن َ‬
‫صبْ }(الشرح‪ ،)7 :‬فكيف‬ ‫فقلت‪ :‬يا معلم‪ ،‬فقد قال هللا تعالى‪َ {:‬فإِ َذا َف َر ْغتَ َفا ْن َ‬
‫تحمد الراحة‪ ،‬وهللا تعالى يأمرنا بالنصب؟‬
‫قال‪ :‬فاقرأ ما بعدها‪.‬‬
‫قلت‪َ { :‬و ِإ َلى َربِّكَ َفارْ غَبْ }(الشرح‪)8 :‬‬
‫قال‪ :‬كل نصب ال يرغب‪9‬ك في‪9‬ه‪ ،‬وال يض‪9‬عك بباب‪9‬ه باط‪9‬ل‪ ،‬ألن‪9‬ك تلهث‬
‫بذلك وراء السراب‪.‬‬
‫قلت‪ :‬كيف؟‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬
‫قال‪ :‬ألم تسمع قوله تعالى‪َ {:‬وال ِذينَ َك َفرُوا أ ْع َماله ُْم َك َس َرا ٍ‬
‫ب ِب ِقي َع ٍة َيحْ َسبُهُ‬
‫‪9‬آن َم‪9‬ا ًء َحتَّى ِإ َذا َج‪ 9‬ا َءهُ َل ْم َي ِج‪ْ 9‬دهُ َش‪9‬يْئاً َو َو َج‪َ 9‬د هَّللا َ ِع ْن‪َ 9‬دهُ َف َوفَّاهُ ِح َس‪9‬ا َبهُ َوهَّللا ُ‬ ‫َّ‬
‫الظ ْم ُ‬
‫ب}(النور‪)39 :‬‬ ‫َس ِري ُع ْال ِح َسا ِ‬
‫قلت‪ :‬بلى‪ ،‬ولكن ما الذي تعنيه؟‬
‫قال‪ :‬السعي وراء السراب هدر‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ولكن الح‪99‬ريص ال يلهث وراء الس‪99‬راب‪ ،‬ب‪99‬ل يلهث وراء ث‪99‬روة‬
‫حقيقية‪.‬‬

‫‪113‬‬
‫قال‪ :‬ولماذا؟‬
‫قلت‪ :‬ليرضي نهمه‪.‬‬
‫قال‪ :‬وهل ينتهي نهمه؟‬
‫قلت‪ :‬ال‪ ،‬فال يمأل جوف ابن آدم إال التراب‪.‬‬
‫قال‪ :‬فهو يجري وراء السراب إذن‪ ،‬ومن جرى وراء الس‪99‬راب‪ ،‬ك‪99‬ان‬
‫ث َأوْ َت ْترُ ْكهُ َي ْل َهث}(ألعراف‪)176 :‬‬
‫كالكلب { ِإ ْن تَحْ ِملْ َع َل ْي ِه َي ْل َه ْ‬
‫ثم التفت إلي‪ ،‬وقال‪ :‬وأزيدك أمرا آخ‪99‬ر‪ ،‬في‪99‬ه ك‪99‬ل الراح‪99‬ة للزه‪99‬اد‪ ،‬ألم‬
‫تسمع قوله ‪ (:‬من أصبح وهمه الدنيا شتت هللا عليه أمره‪ ،‬وفرق علي‪99‬ه‬
‫ضيعته‪ ،‬وجعل فقره بين عيني‪99‬ه‪ ،‬ولم يأت‪99‬ه من ال‪99‬دنيا إال م‪99‬ا كتب ل‪99‬ه‪ ،‬ومن‬
‫أصبح وهمه اآلخرة جمع هللا له همه‪ ،‬وحفظ عليه ضيعته‪ ،‬وجعل غناه في‬
‫قلبه‪ ،‬وأتته الدنيا وهي راغمة )(‪)1‬؟‬
‫قلت‪ :‬هذه ناحية مهمة جدا‪ ،‬فالض‪99‬ياع عن‪99‬دنا ش‪99‬ائع‪ ،‬والتش‪99‬تت النفس‪99‬ي‬
‫منتشر‪.‬‬
‫قال‪ :‬أتدري ما علة ذلك؟‬
‫قلت‪ :‬ما نص عليه الحديث‪.‬‬
‫قال‪ :‬ومثل هؤالء كمثل من وضع في مفازة ووض‪99‬ع ل‪99‬ه فيه‪99‬ا من ك‪99‬ل‬
‫أصفر وأبيض وأخضر‪ ،‬فاحتار ما يأخذ وما يدع‪ ،‬فتشتت عليه أم‪99‬ره‪ ،‬ولم‬
‫ينل في األخير إال التعب والنصب‪.‬‬
‫ثم التفت إلي‪ ،‬وقد رأى في بعض الوجوم‪ :‬أزيدك أمرا آخر‪ ،‬ألم تسمع‬
‫قوله ‪ ‬عندما سئل‪ (:‬أي الناس خير؟)‬
‫قلت‪ :‬بلى‪ ،‬لقد قال‪ (:‬كل مؤمن محموم القلب‪ ،‬صدوق اللسان )(‪)2‬‬
‫قال‪ :‬فمن هو محموم القلب؟‬
‫قلت‪ :‬لقد عرفه ‪ ‬بقوله‪ (:‬التقي النقي ال‪9‬ذي ال غ‪9‬ل في‪9‬ه وال غش وال‬
‫بغى وال حسد )‬
‫قال‪ :‬فهذا هو قلب الزاهد بدليل قوله ‪ ‬بعد هذا لما سئل‪ (:‬ي‪99‬ا رس‪99‬ول‬
‫هللا فمن على أثره؟)‪ ،‬قال‪ (:‬الذي يشنأ الدنيا ويحب اآلخرة )‬
‫قلت‪ :‬ال أراني أعدم على هذا أمثلة‪ ،‬فأكثر األمراض النفسية ناشئة من‬
‫ه‪9‬ذا‪ ،‬فك‪9‬ل واح‪9‬د يري‪9‬د أن ينف‪9‬رد بجمي‪9‬ع رزق هللا‪ ،‬وال يرض‪9‬ى لغ‪9‬يره أن‬

‫‪ ) )(1‬ابن ماجة من حديث زيد بن ثابت بسند جيد والترمذي من حديث أنس بسند ضعيف‪.‬‬
‫‪ ) )(2‬ابن ماجه بإسناد صحيح‪.‬‬

‫‪114‬‬
‫ينافسه فيه‪.‬‬
‫قال‪ :‬وما سبب ذلك؟‬
‫قلت‪ :‬الحرص‪ ،‬بل قد ورد الحديث المؤكد لهذا‪ ،‬ق‪99‬ال ‪ (:‬إن الن‪99‬ور‬
‫إذا دخل في القلب انشرح له الصدر وانفس‪9‬ح ) قي‪9‬ل‪ (:‬ي‪9‬ا رس‪9‬ول هللا وه‪9‬ل‬
‫لذلك من عالم‪9‬ة؟)‪ ،‬ق‪9‬ال‪ (:‬نعم التج‪9‬افى عن دار الغ‪9‬رور واإلناب‪9‬ة إلى دار‬
‫الخلود واالستعداد للموت قبل نزوله )(‪)1‬‬
‫قال‪ :‬فما العالج؟‬
‫قلت‪ :‬الزهد‪.‬‬
‫قال‪ :‬فالزهد إذن راحة وصحة‪.‬‬
‫جوهرة األمن‪:‬‬
‫صعدت مع المعلم طابقا آخر في قصر القناعة‪ ،‬فوجدنا شعاعا عظيما‬
‫متأللئا‪ ،‬سألت المرشد عنه‪ ،‬فقال‪ :‬هذه جوهرة نفيسة من ج‪99‬واهر القناع‪99‬ة‪،‬‬
‫اسمها األمن‪.‬‬
‫التفت إلى المعلم‪ ،‬وقلت‪ :‬ذاك الذي تكفل به مجلس األمن؟‬
‫قال‪ :‬أمنكم يبذر الشقاق‪ ،‬وينبت الح‪9‬روب‪ ،‬وه‪9‬ذا أمن يمس‪9‬ح ال‪9‬دموع‪،‬‬
‫ويسكن اآلهات‪ ،‬ويشرح الصدور‪.‬‬
‫قلت‪ :‬بماذا يمسح الدموع‪ ،‬أبالمساعدات الغذائية التي ترميه‪9‬ا ط‪9‬ائرات‬
‫قومي من جو السماء‪.‬‬
‫ق‪999‬ال‪ :‬وت‪999‬رمي بع‪999‬دها القناب‪999‬ل العنقودي‪999‬ة والنووي‪999‬ة والجرثومي‪999‬ة‬
‫والكيميائية‪..‬‬
‫قلت‪ :‬لكأني بك تعلم مخترعاتنا من األسلحة‪.‬‬
‫قال‪ :‬ومن ال يعلم مخترعاتكم منها‪ ،‬حتى النمل في جحوره‪ ،‬والحيت‪99‬ان‬
‫في أعم‪99‬اق المحيط‪99‬ات‪ ،‬وال‪99‬ذرات في خالي‪99‬ا الفض‪99‬اء يعرف‪99‬ون أس‪99‬لحتكم‪،‬‬
‫ويمسهم الرعب منها‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ولكن على العموم‪ ،‬فإن قومي يحسنون إذ يرس‪99‬لون ه‪99‬ذه األم‪9‬داد‬
‫من األغذية لهذه الشعوب المستضعفة‪.‬‬
‫ق‪99‬ال‪ :‬هم يس‪99‬منوهم لي‪99‬أكلوهم س‪99‬مانا ال عجاف‪99‬ا‪ ،‬كم‪99‬ا تس‪99‬منون ال‪99‬دجاج‬
‫واألرانب‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ولكن لوال تلك المس‪99‬اعدات ال‪99‬تي ت‪99‬نزل ك‪99‬ل حين لض‪99‬اعت تل‪99‬ك‬

‫‪ ) )(1‬الحاكم‪.‬‬

‫‪115‬‬
‫الشعوب‪ ،‬بل لضاعت شعوبنا أيضا‪.‬‬
‫قال‪ :‬وما الثمن الذي تقدمونه لذلك؟‬
‫قلت‪ :‬كل ما يطلبون‪ ..‬كرامتنا‪ ..‬مواقفنا‪..‬‬
‫قال‪ :‬ودينكم وحياتكم ومصيركم وربكم؟‬
‫قلت‪ :‬لعلهم لو طلبوهم منا ألعطيناهم ال نساومهم في ذلك‪.‬‬
‫قال‪ :‬فسيطلبون ذلك‪ ..‬إن لم يكونوا قد فعلوا‪..‬‬
‫قلت‪ :‬بلى‪ ..‬لقد بدأو يجرؤون‪.‬‬
‫قال‪ :‬أتدري ما سبب ذلك؟‬
‫قلت‪ :‬ال أدري‪ ..‬وال أدري لماذا نحن نتحدث عن هذا الموضوع اآلن‪،‬‬
‫أمام هذه الجوهرة النفيسة‪.‬‬
‫قال‪ :‬هذا الحديث عنها‪ ..‬فهي ج‪9‬وهرة األمن‪ ..‬وخ‪9‬وفكم على أرزاقكم‪،‬‬
‫وعدم ظفركم بحقائق هذه الج‪99‬وهرة ه‪99‬و ال‪99‬ذي جعلكم تنح‪99‬درون ك‪99‬ل ذل‪99‬ك‬
‫االنحدار‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فحلل لي سبب ذلك خطوة خطوة حتى أفهم ما تقول‪.‬‬
‫‪9‬ع ْالهُ‪9‬دَى َم َع‪99‬كَ نُت َّ‬
‫ف ِم ْن‬ ‫َخَط ْ‬ ‫قال‪ :‬ألم تسمع قول‪99‬ه تع‪9‬الى‪َ {:‬و َق‪99‬الُوا ِإ ْن َنتَّ ِب‪ِ 9‬‬
‫ات ُك‪99‬لِّ َش‪ْ 9‬ي ٍء ِر ْزق‪9‬اً ِم ْن َل‪ُ 9‬دنَّا‬ ‫‪9‬ر ُ‬ ‫ضنَا َأ َو َل ْم نُ َم ِّك ْن َله ُْم َح َرماً ِآمناً يُجْ َبى ِإ َل ْي ِه َث َم‪َ 9‬‬
‫َأرْ ِ‬
‫َو َل ِك َّن َأ ْك َث َرهُ ْم ال َيعْ َل ُمونَ }(القصص‪)57 :‬؟‬
‫قلت‪ :‬بلى‪ ،‬وقد ذكرهم هللا بم‪9‬ا أنعم عليهم في الح‪99‬رم من األمن‪ ،‬فق‪99‬ال‪:‬‬
‫ف النَّاسُ ِم ْن َحوْ ِل ِه ْم َأ َف ِب ْال َب ِ‬
‫اط ِل ي ُْؤ ِمنُونَ‬ ‫َخَط ُ‬ ‫{ َأ َو َل ْم َي َروْ ا َأنَّا َج َع ْلنَا َح َرماً ِآمناً َويُت َّ‬
‫َو ِب ِنعْ َم ِة هَّللا ِ َي ْكفُرُونَ }(العنكبوت‪)67 :‬‬
‫قال‪ :‬فما هي العلة التي استند لها المش‪99‬ركون في ت‪99‬ركهم اتب‪99‬اع اله‪99‬دى‬
‫مع النبي ‪‬؟‬
‫قلت‪ :‬ما نص عليه القرآن الكريم من خشيتهم على أنفسهم وأرزاقهم‪.‬‬
‫ق‪99‬ال‪ :‬على أي أرزاق خ‪99‬افوا‪ ،‬ه‪99‬ل على أرزاق حاض‪99‬رهم‪ ،‬أم أرزاق‬
‫مستقبلهم؟‬
‫قلت‪ :‬رزق حاضرهم يأكلونه‪ ،‬فلن يخرج‪9‬ه أح‪9‬د من أف‪9‬واههم‪ ،‬ورزق‬
‫ماضيهم أكلوه‪ ،‬فال يمكن أن يسلبه منهم أحد‪ ،‬فلم يبق إال رزق مستقبلهم‪.‬‬
‫قال‪ :‬وبماذا طمأنهم هللا تعالى‪ ،‬ونزع من قلوبهم المخافة؟‬
‫قلت‪ :‬بذكر ما وف‪99‬ر لهم من النعم‪ ،‬وال‪99‬تي تجعلهم في غني‪99‬ة عن مخاف‪99‬ة‬
‫التخطف أو ذهاب الرزق‪.‬‬

‫‪116‬‬
‫ق‪99‬ال‪ :‬فه‪99‬ذه اآلي‪99‬ة إذن تش‪99‬ير إلى م‪99‬ا يحمل‪99‬ه الخ‪99‬وف على ال‪99‬رزق من‬
‫أضرار على حقيقة اإلنسان وحياة اإلنسان‪.‬‬
‫قلت‪ :‬بلى‪ ،‬وقد وجههم هللا بع‪99‬دها إلى توجي‪99‬ه المخاف‪99‬ة هلل وح‪99‬ده‪ ،‬فق‪99‬ال‬
‫يش‪َ 9‬ت َها َف ِت ْل‪9‬كَ َم َس‪9‬ا ِكنُه ُْم َل ْم تُ ْس‪َ 9‬ك ْن ِم ْن‬
‫ت َم ِع َ‬ ‫تعالى‪َ {:‬و َك ْم َأ ْه َل ْكنَ‪9‬ا ِم ْن َقرْ َي‪ٍ 9‬ة َب ِط َ‬
‫‪9‬ر ْ‬
‫ار ِثينَ }(القصص‪ ،)58 :‬أي ال ينبغي أن تخ‪99‬افوا‬ ‫ال َو ُكنَّا نَحْ ُن ْال َو ِ‬ ‫َبعْ ِد ِه ْم ِإاَّل َق ِلي ً‬
‫إن اتبعتم الهدى أن يتخطفكم الناس‪ ،‬ولكن خافوا إن لم تتبع‪99‬وه أن يتخطفكم‬
‫هللا‪.‬‬
‫قال‪ :‬فتلك إشارة مؤكدة مكملة لإلشارة السابقة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬لكني ال أزال لم أفهم وجه العالقة بين األمن وكنز القناعة؟‬
‫ق‪99‬ال‪ :‬لق‪99‬د ع‪99‬رفت أن الح‪99‬رص يجع‪99‬ل الح‪99‬ريص في هم دائم وبحث‬
‫دؤوب على كل ما يمأل جوفه‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أجل بدليل الحديث الذي عبر يه ‪ ‬عن نفسية اإلنسان الطامع‪.‬‬
‫قال‪ :‬وهذا اإلنسان الطامع الذي يسرف وال ي‪99‬دبر وال يزه‪99‬د ك‪99‬ل ذل‪99‬ك‬
‫حرصا على ملء الفراغ الذي يعانيه‪.‬‬
‫قلت‪ :‬نعم‪ ،‬وقد اقتنعت بكل ما ذكرته من ذلك‪ ..‬ولكن ما جذور األمن‪،‬‬
‫وما عالقتها بالقناعة‪ ،‬وكي‪9‬ف ك‪9‬ان ج‪99‬وهرة نفيس‪99‬ة من جواهره‪9‬ا‪ ،‬ب‪99‬ل من‬
‫أعلى جواهرها وأغالها‪.‬‬
‫ق‪99‬ال‪ :‬الح‪99‬ريص ال يفك‪99‬ر في لحظت‪99‬ه فق‪99‬ط‪ ،‬ب‪99‬ل يفك‪99‬ر في المس‪99‬تقبل‬
‫الطويل‪ ..‬ال يقول بمأل قلب‪99‬ه‪ (:‬الحم‪99‬د هلل‪ ،‬لق‪99‬د ش‪99‬بعت الي‪99‬وم‪ ،‬وكفيت )‪ ،‬ب‪99‬ل‬
‫يقول‪ (:‬لست أدي ما الذي سآكل السنة القادمة‪ ،‬أو السنة التي بعدها )‬
‫قلت‪ :‬فإذن هو ال يعيش لحظته ويومه‪.‬‬
‫قال‪ :‬بل ال يعيش غده وشهره‪ ،‬فهو يفكر‪ ،‬ويتألم لما ينتظره‪.‬‬
‫قلت‪ :‬والقانع‪.‬‬
‫قال‪ :‬القانع فرح بالرزق الذي سيق إليه‪ ،‬مطمئن بما وهب‪ ،‬ويأم‪99‬ل أن‬
‫يوهب في مستقبله ما وهب في ماضيه‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فهو سعيد إذن‪.‬‬
‫قال‪ :‬هو سعيد ومسالم‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وما عالقة ذلك بالسالم‪.‬‬
‫قال‪ :‬ألم نكن نتحدث عن القنابل ومن أرس‪99‬ل القناب‪99‬ل‪ ،‬أليس ذل‪99‬ك ولي‪99‬د‬
‫الحرص‪.‬‬

‫‪117‬‬
‫قلت‪ :‬لم أفهم‪.‬‬
‫قال‪ :‬أولئك الجناة المجرمون المصارعون لم يقتنعوا بما آت‪99‬اهم هللا من‬
‫ال‪99‬رزق‪ ،‬فطلب‪99‬وا أراض‪99‬ي جدي‪99‬دة لتض‪99‬من المس‪99‬تقبل ال‪99‬ذي يخ‪99‬افون من‪99‬ه‪،‬‬
‫فراحوا يرمونكم ويرمون المستضعفين‪ ،‬ثم يس‪99‬كتوكم أو يس‪99‬مموكم ببعض‬
‫السموم‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فلم سميت هذه الجوهرة باألمن؟‬
‫ق‪99‬ال‪ :‬ألم تس‪99‬مع قول‪99‬ه تع‪99‬الى‪َ {:‬وال َت ْقتُلُ‪99‬وا َأوْ ال َد ُك ْم ْ‬
‫خَش‪َ 99‬ي َة ِإ ْمال ٍ‬
‫ق نَحْ ُن‬
‫طئاً َك ِبيراً}(االسراء‪)31 :‬؟‬ ‫نَرْ ُزقُه ُْم َو ِإيَّا ُك ْم ِإ َّن َق ْت َله ُْم َكانَ ِخ ْ‬
‫قلت‪ :‬بلى‪ ،‬فاهلل تعالى ينهى المشركين عن قت‪99‬ل أوالدهم خش‪99‬ية الفق‪99‬ر‪،‬‬
‫ووعدهم بأنه سيرزقهم في مستقبل األيام‪.‬‬
‫قال‪ :‬فقد كان الخوف إذن هو سبب قتل األوالد‪ ..‬ومثله قتل الشعوب‪.‬‬
‫قلت‪ :‬هذا صحيح‪.‬‬
‫ق‪99‬ال‪ :‬فل‪99‬ذلك ك‪99‬انت ه‪99‬ذه الج‪99‬وهرة هي ج‪99‬وهرة األمن ال‪99‬ذي يمس‪99‬ح‬
‫المخاوف‪ ،‬ويطمئن القلوب‪ ،‬ويشعرها باالستقرار والسكينة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬نعم‪ ،‬فق‪99‬د رغبت‪99‬ني في امتالك ه‪99‬ذه الج‪99‬وهرة النفيس‪99‬ة‪ ،‬ف‪99‬بين لي‬
‫طريق تملكها‪.‬‬
‫قال‪ :‬بأربعة حقائق‪ ،‬إن تش‪99‬ربتها حلت في‪99‬ك الس‪99‬كينة‪ ،‬ون‪99‬زل بس‪99‬احتك‬
‫األمن‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فما الحقيقة األولى؟‬
‫قال‪ :‬أن تعلم بأن المكلف برزقك خزائنه ال تنف‪99‬د‪ ،‬وه‪99‬و ال يغف‪99‬ل عن‪99‬ك‬
‫لحظه‪ ،‬وهو مع ذلك رحيم بك لطيف ودود‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فيكف ينشئ هذا في نفسي األمن على رزقي؟‬
‫قال‪ :‬الصبي الصغير الذي يعيش في كفالة والدين رحيمين غنين‪ ،‬ه‪99‬ل‬
‫يفكر في مصدر رزقه‪ ،‬أو يحزن على غداء غده؟‬
‫قلت‪ :‬كال‪ ..‬فلماذا يفكر‪ ،‬فهو في كفالتهما؟‪ ..‬ولكنه م‪99‬ع ذل‪99‬ك ص‪99‬غير ال‬
‫طاقة له بحمل هموم الكبار‪.‬‬
‫قال‪ :‬فالط‪9‬الب الكب‪9‬ير ال‪9‬ذي ينتمي إلى معه‪9‬د من المعاه‪9‬د ال‪9‬تي تتكف‪9‬ل‬
‫برزقه‪ ،‬هل يحزن على رزق غده؟‬
‫قلت‪ :‬كال‪ ،‬فهو تحت كفالة معهد له ميزانيت‪99‬ه الغني‪99‬ة‪ ،‬فل‪99‬ذلك ال يص‪99‬يبه‬
‫هم رزقه‪.‬‬

‫‪118‬‬
‫قال‪ :‬فإذا علم العبد أن رزقه بي‪9‬د هللا‪ ،‬وأن هللا غ‪9‬ني حمي‪9‬د‪ ،‬وأن‪9‬ه ك‪9‬ريم‬
‫جواد‪ ،‬وأنه ال تأخذه س‪9‬نة وال ن‪9‬وم‪ ،‬وال تص‪9‬يبه غفل‪9‬ة وال نس‪9‬يان‪ ،‬أيخ‪9‬اف‬
‫على رزقه؟‬
‫قلت‪ :‬كال‪ ،‬فهات الحقيقة الثانية‪.‬‬
‫قال‪ :‬أال تعلم أن مطالب اإلنسان الحقيق‪9‬ة ال‪9‬تي يتطلبه‪9‬ا اس‪9‬تقراره على‬
‫هذه األرض لتأدية ما كلف ب‪9‬ه من وظ‪9‬ائف ال يس‪9‬تدعي ك‪9‬ل ذل‪9‬ك الكم من‬
‫الجهود ومن الحزن‪.‬‬
‫قلت‪ :‬كيف؟ والضرورات كثيرة‪ ،‬وكل ضرورة تؤدي إلى ضرورات‬
‫أخرى‪ ..‬وهكذا تتعقد الحياة ومطالب الحياة‪.‬‬
‫قال‪ :‬سبب ذلك ليس مطالب الحياة كما هي‪ ،‬وكما خلقها هللا‪ ،‬وإنما هي‬
‫مطالب األجواف الفارغة التي تستدعي وديانا كثيرة لتمألها‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فالمطالب إذن وهمية‪ ،‬والض‪9‬رورات ليس‪9‬ت ض‪9‬رورات‪ ..‬كي‪9‬ف‬
‫هذا؟‬
‫قال‪ :‬سأبين لك هذا بتفاصيله‪ ،‬ولكن ق‪9‬ل لي‪ :‬من ك‪9‬انت ل‪9‬ه جه‪9‬ة غني‪9‬ة‬
‫تكفله‪ ،‬ثم كان ال يحتاج إال إلى حاجات بسيطة أكان ذلك يجعله خائفا؟‬
‫قلت‪ :‬اضرب لي مثاال على ذلك‪.‬‬
‫قال‪ :‬رأيت قومك يحبون تربية القطط‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ويتفنون في تربيتها وأنواع طعامها‪.‬‬
‫قال‪ :‬أرأيت لو أن شخصا ترك قط‪9‬ه عن‪99‬د ج‪99‬زار‪ ،‬أو ص‪99‬احب مطعم‪،‬‬
‫أيخاف على قطه من الموت جوعا؟‬
‫قلت‪ :‬كال‪ ..‬فإنه وإن لم يلتفت الجزار أو ص‪99‬احب المطعم إلى حاج‪99‬ات‬
‫القط‪ ،‬فإن غ‪9‬ذاء الق‪9‬ط بس‪9‬يط‪ ،‬فيكيفي‪9‬ه أن يحم‪9‬ل أي عظم أو أي ش‪9‬يء في‬
‫األرض ليسد به رمقه‪.‬‬
‫قال‪ :‬فكذلك اإلنسان في مل‪9‬ك هللا‪ ،‬ف‪9‬إن مطالب‪9‬ه أق‪9‬ل بكث‪9‬ير من خ‪9‬زائن‬
‫الرزق التي جعلها هللا له‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فهمت‪ ،‬فما الحقيقة الثالثة؟‬
‫ق‪99‬ال‪ :‬إذا علمت أن لك‪99‬ل زم‪99‬ان رزق‪99‬ه الخ‪99‬اص ب‪99‬ه‪ ،‬ال تح‪99‬زن على‬
‫المستقبل‪ ،‬ألنه ال يأتي إال ومعه رزقه‪.‬‬
‫قلت‪ :‬كيف؟‬
‫ق‪99‬ال‪ :‬س‪99‬بب الخ‪99‬وف على المس‪99‬تقبل ه‪99‬و تص‪99‬ور خل‪99‬و المس‪99‬تقبل من‬

‫‪119‬‬
‫الرزق‪ ،‬فإذا علمت أن لكل زمان رزقه الخ‪99‬اص ب‪99‬ه لم تح‪99‬زن‪ ،‬كالرض‪99‬يع‬
‫الذي يسوق هللا له في كل لحظة من الرزق ما يتناسب مع حاجاته‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فما الحقيقة الرابعة؟‬
‫قال‪ :‬إذا ركبت باخرة ضخمة‪ ،‬وكان في الباخرة ك‪99‬ل وس‪99‬ائل األم‪99‬ان‪،‬‬
‫بما فيها الزوارق وقوارب النجاة‪ ،‬وكنت تتقن السباحة‪ ،‬وكان ال‪99‬بر قريب‪99‬ا‪،‬‬
‫أكنت تخاف؟‬
‫قلت‪ :‬ال‪ ..‬ولماذا أخ‪9‬اف‪ ،‬فأن‪9‬ا ق‪9‬ريب أوال‪ ،‬وق‪9‬وارب النج‪9‬اة موج‪9‬ودة‪،‬‬
‫ومع ذلك‪ ،‬فإن مهارتي في السباحة قد تكفي لنجاتي‪.‬‬
‫قال‪ :‬فكذلك هللا‪ ،‬فقد زودك باإلضافة إلى ك‪99‬ل م‪9‬ا ذك‪99‬رت ق‪9‬وى لتعم‪9‬ل‬
‫بها‪ ،‬فإن لم تكن لك قوى وفر دواعي اإلحسان في الخلق ليحسنوا إليك‪.‬‬
‫قلت‪ :‬هذه الجملة‪ ،‬فهات التفصيل‪.‬‬
‫الحقيقة األولى‪:‬‬
‫قلت‪ :‬ففصل لي الحقيقة األولى‪.‬‬
‫قال‪ :‬الحقيقة األولى وصفه‪ ،‬واسمه ال‪99‬ذي ب‪99‬ه ين‪9‬ادى‪ ،‬وفعل‪99‬ه ال‪99‬ذي ب‪99‬ه‬
‫يفيض األرزاق على خلقه‪.‬‬
‫ين}(ال‪99‬ذريات‪ ،)58 :‬ففص‪99‬ل‬ ‫‪9‬و ِة ْال َم ِت ُ‬
‫ق ُذو ْالقُ‪َّ 9‬‬
‫‪9‬رَّزا ُ‬‫قلت‪ :‬نعم‪ ،‬فاهلل {هُ َو ال‪َّ 9‬‬
‫لي ما يشرح صدري لهذا االسم‪ ،‬وما يمأل قلبي بحقيقته‪ ،‬ف‪99‬إني وإن علمت‬
‫ذلك ولم أجحده إال أن حقيقته لم تصل قلبي‪ ،‬فأجدني جزعا خائفا‪.‬‬
‫قال‪ :‬الشأن في الحقيق‪9‬ة أن تالمس ش‪9‬غاف ال‪9‬روح ال أن تالمس خالي‪9‬ا‬
‫العقل‪ ،‬فالعلم وحده ال يكفي ما لم يصحبه اليقين وطمأنينة القلب‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فما الطريق إلى ذلك؟‬
‫قال‪ :‬طريق اليقين رس‪99‬مه هللا إلب‪99‬راهيم ‪ ‬عن‪99‬دما س‪99‬أله أن ي‪99‬بين ل‪99‬ه‬
‫كيفية إحياء الموتى‪.‬‬
‫‪9‬را ِهي ُم َربِّ‬ ‫قلت‪ :‬نعم‪ ،‬لقد ق‪99‬ال هللا تع‪99‬الى حاكي‪99‬ا عن ذل‪99‬ك‪َ {:‬و ِإ ْذ َق‪َ 9‬‬
‫‪9‬ال ِإ ْب‪َ 9‬‬
‫‪9‬ال َف ُخ ْ‬
‫‪9‬ذ‬ ‫ط َم ِئ َّن َق ْل ِبي َق َ‬ ‫ال َب َلى َو َل ِك ْن ِل َي ْ‬ ‫ال َأ َو َل ْم تُ ْؤ ِم ْن َق َ‬
‫َأ ِر ِني َك ْيفَ تُحْ ِيي ْال َموْ تَى َق َ‬
‫جُ‪9‬زءاً ثُ َّم ا ْد ُعه َُّن‬‫‪9‬ل ِم ْنه َُّن ْ‬ ‫الطي ِْر َفصُرْ هُ َّن ِإ َل ْيكَ ثُ َّم اجْ َعلْ َع َلى ُكلِّ َج َب ٍ‬ ‫َأرْ َب َع ًة ِمنَ َّ‬
‫يز َح ِكي ٌم}(البقرة‪)260 :‬‬ ‫َي ْأ ِتي َنكَ َسعْياً َو ْ‬
‫اع َل ْم َأ َّن هَّللا َ ع َِز ٌ‬
‫‪9‬را ِهي َم َم َل ُك‪9‬وتَ‬ ‫‪9‬ري ِإ ْب‪َ 9‬‬ ‫وله‪99‬ذا ق‪9‬ال تع‪99‬الى عن إب‪9‬راهيم ‪َ {:‬و َك‪َ 9‬ذ ِلكَ نُ ِ‬
‫ض َو ِل َي ُكونَ ِمنَ ْال ُمو ِق ِنينَ }(األنعام‪)75 :‬‬ ‫ت َواأْل َرْ ِ‬ ‫اوا ِ‬‫ال َّس َم َ‬
‫قلت‪ :‬ولكن هل نطلب من هللا تعالى معجزة مثلما طلب إبراهيم ‪‬؟‬

‫‪120‬‬
‫قال‪ :‬وهل نفتقر إلى طلب المعجزات؟‬
‫قلت‪ :‬وكيف نراها؟‬
‫قال‪ :‬في ملك هللا وملكوته‪ ..‬فهي من الكثرة بحيث ال تحد وال تعد‪.‬‬
‫قلت‪ :‬لم أفهم‪ ..‬فأنا لم أر في حياتي معجزة‪.‬‬
‫قال‪ :‬بل‪ ،‬لم تر في حياتك إال المعجزات‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فسر لي‪ ،‬فإني ال أكاد أفهم‪.‬‬
‫قال‪ :‬ألم تسمع تمهيد هللا تعالى لقصة أهل الكهف؟‬
‫‪9‬ف َوال‪99‬رَّ ِق ِيم َك‪99‬انُوا‬ ‫اب ْال َك ْه‪ِ 9‬‬
‫قلت‪ :‬بلى‪ ،‬لقد قال فيهم‪َ {:‬أ ْم َح ِسبْتَ َأ َّن َأصْ َح َ‬
‫ِم ْن آ َيا ِتنَا ع ََجباً}(الكهف‪)9 :‬‬
‫قال‪ :‬فما المراد منها؟‬
‫قلت‪ :‬يخبر هللا أن له آيات أكثر عجبا من قصة أصحاب الكه‪99‬ف ال‪99‬تي‬
‫عجب لها الناس وخلدوها واهتموا بها‪.‬‬
‫قال‪ :‬وفيم هذه اآليات‪ ،‬وما محالها؟‬
‫قلت‪ :‬في السماء واألرض‪ ،‬وكل شيء‪.‬‬
‫قال‪ :‬فقد أجبت عن سؤالك‪ ،‬فرزق هللا آية اسمه الرزاق‪ ،‬أو ه‪99‬و فيض‬
‫من فيوضات الرزاق‪ ،‬وهذه الفيوضات تستدعي الظهور ح‪99‬تى ال ينكره‪99‬ا‬
‫أحد‪ ،‬ولهذا لم ينكر المشركون كون هللا رزاقا‪.‬‬
‫ض َأ َّم ْن‬‫اء َواأْل َرْ ِ‬ ‫قلت‪ :‬نعم‪ ،‬فقد قال هللا تعالى‪ {:‬قُلْ َم ْن َيرْ ُزقُ ُك ْم ِمنَ َّ‬
‫الس ‪َ 9‬م ِ‬
‫ت َوي ُْخ‪ِ 9‬رجُ ْال َم ِّيتَ ِمنَ ْال َح ِّي‬ ‫ار َو َم ْن ي ُْخ‪ِ 9‬رجُ ْال َح َّي ِمنَ ْال َم ِّي ِ‬
‫ْص َ‬ ‫َي ْم ِل ُك الس َّْم َع َواأْل َب َ‬
‫َو َم ْن يُ َدبِّرُ اأْل َ ْم َر َف َس َيقُولُونَ هَّللا ُ َفقُلْ َأ َفال َتتَّقُونَ }(يونس‪)31 :‬‬
‫ولكن‪ ..‬فص‪99‬ل لي مظ‪99‬اهر رزق‪99‬ه ح‪99‬تى يطمئن قل‪99‬بي‪ ،‬فل‪99‬و المس‪99‬ت‬
‫الطمأنينة لرزق هللا شغاف قلوب المشركين ما كفروا باهلل‪.‬‬
‫قال‪ :‬سأكتفي بذكر آية من آيات رزق هللا‪ ،‬وهي أن‪99‬ه وض‪99‬ع رزق‪99‬ه في‬
‫محال ال يطيق أحد نزعها‪.‬‬
‫قلت‪ :‬لماذا‪ ،‬وكيف؟‬
‫قال‪ :‬أما لماذا‪ ،‬فق‪9‬د دل علي‪9‬ه قول‪9‬ه تع‪9‬الى‪َ {:‬و َأ َّما ْال ِج‪ 9‬دَارُ َف َك‪9‬انَ ِل ُغال َمي ِْن‬
‫ص‪9‬ا ِلحاً َف‪9‬أَ َرا َد َربُّكَ َأ ْن‬ ‫َي ِتي َمي ِْن ِفي ْال َم ِدي َن ِة َو َكانَ تَحْ َتهُ َك ْن ٌز َلهُ َم‪9‬ا َو َك‪9‬انَ َأبُوهُ َم‪9‬ا َ‬
‫‪9‬ري َذ ِل‪9‬كَ‬‫َي ْبلُغَا َأ ُش َّدهُ َما َو َي ْست َْخ ِر َجا َك ْنزَ هُ َما َرحْ َم‪ً 9‬ة ِم ْن َربِّكَ َو َم‪9‬ا َف َع ْلتُ‪9‬هُ ع َْن َأ ْم ِ‬
‫صبْراً}(الكهف‪)82 :‬‬ ‫ت َْأ ِويلُ َما َل ْم َتس ِ‬
‫ْط ْع َع َل ْي ِه َ‬
‫قلت‪ :‬ما وجه اإلشارة في هذا؟‬

‫‪121‬‬
‫قال‪ :‬هذا الوالد المسن ألوالده‪ ،‬لماذا خب‪9‬أ الك‪9‬نز في مك‪9‬ان ال ي‪9‬راه في‪9‬ه‬
‫أحد‪ ،‬ما عدا أوالده؟‬
‫قلت‪ :‬لئال يطمع فيه أحد‪ ،‬فيسلبه منهم‪.‬‬
‫قال‪ :‬فكذلك هللا تعالى وضع رزقه في محال بحيث ال يستطيع أح‪99‬د أن‬
‫يسلبها من الخلق‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فهال مثلت لما تقول‪ ،‬فإني أكاد أفهم‪ ،‬ولكني أريد أن أرى الحقيقة‬
‫ال أن أسمعها؟‬
‫قال‪ :‬سأضرب لك مثاال قريبا من مثال الكنز‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أخبأ هللا كنوزا‪ ،‬وما الحاجة إلى ذلك‪.‬‬
‫قال‪ :‬ألم تسمع قوله ‪ ‬وه‪9‬و يخ‪9‬بر عن عالم‪9‬ات الس‪9‬اعة‪ ،‬فق‪9‬ال عن‪9‬د‬
‫ذكره لموت يأجوج ومأجوج‪ (:‬فيرغب نبي هللا عيسى ‪ ‬وأصحابه إلى‬
‫هللا عز وجل‪ ،‬فيرسل عليهم طيرا كأعناق البخت فتحملهم فتط‪99‬رحهم حيث‬
‫شاء هللا تعالى‪ ،‬ثم يرسل هللا عز وجل مطرا ال يكن منه بيت مدر وال وب‪9‬ر‬
‫فيغس‪99‬ل األرض ح‪99‬تى يتركه‪99‬ا كالزلف‪99‬ة‪ ،‬ثم يق‪99‬ال لألرض‪ :‬أنب‪99‬تي ثمرت‪99‬ك‬
‫وردي بركتك‪ ،‬فيومئ‪9‬ذ تأك‪9‬ل العص‪9‬ابة من الرمان‪9‬ة ويس‪9‬تظلون بقحفها(‪،)1‬‬
‫ويب‪999‬ارك هللا في الرسل(‪ )2‬ح‪999‬تى أن اللقحة(‪ )3‬من اإلب‪999‬ل لتكفي الفئ‪999‬ام من‬
‫الناس‪ ،‬واللقحة من البقر لتكفي القبيلة من الن‪99‬اس‪ ،‬واللقح‪99‬ة من الغنم لتكفي‬
‫الفخذ من الناس )(‪)4‬‬
‫قلت‪ :‬بلى‪ ،‬فما وجه اإلشارة فيه؟‬
‫قال‪ :‬اإلشارة فيه عبارة‪ ،‬فق‪9‬د أخ‪9‬بر ‪ ‬عن إخ‪9‬راج األرض لبركاته‪9‬ا‬
‫قبل قيام الساعة‪ ،‬بحيث يرى من بركاتها ما ال يخطر على بال‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وما في هذا؟‬
‫قال‪ :‬لقد ادخر هللا تلك البركات لذلك الزمان حتى ال يموت آخر إنسان‬
‫على هذه األرض جوعا‪.‬‬
‫قلت‪ :‬تلك بركات ذلك الزمان؟‬
‫قال‪ :‬ولكل زمان بركاته‪.‬‬
‫قلت‪ :‬كيف؟‬
‫أراد قشرها‪ ،‬تشبيها بقحف الرأس‪ ،‬وهو الذي فوق الدماغ‪.‬‬ ‫‪) )(1‬‬
‫ما كان من االبل والغنم من عشر إلى خمس وعشرين‪.‬‬ ‫‪) )(2‬‬
‫الناقة القريبة العهد بالنتاج‪.‬‬ ‫‪) )(3‬‬
‫رواه أحمد والترمذي ومسلم‪.‬‬ ‫‪) )(4‬‬

‫‪122‬‬
‫ق‪99‬ال‪ :‬ألم يكن النف‪99‬ط ك‪99‬نزا عظيم‪99‬ا مخب‪99‬أ في ص‪99‬ناديق ال يص‪99‬لها أح‪99‬د‬
‫لتتنعموا به في هذا الزمان‪ ،‬وال تمدوا أيديكم ألحد من الناس؟‬
‫قلت‪ :‬بلى‪ ،‬بل أصبحنا نحن الذين نمد أي‪9‬دينا للن‪9‬اس بالمعون‪9‬ة من غ‪9‬ير‬
‫حساب‪.‬‬
‫قال‪ :‬فذاك كنز خبأه هللا لكم لينظر ماذا تعملون‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ولكن هذا الرزق محصور في بالد محدودة‪.‬‬
‫قال‪ :‬وهي البالد التي تحتاج إليه لقلة موارد رزقها الظاهرة‪ ،‬أال ت‪99‬رى‬
‫أن األب الرحيم قد يفضل ابنه الضعيف أو الم‪9‬ريض أو المحت‪9‬اج بالعطي‪9‬ة‬
‫ليسد حاجته‪ ،‬ويكل األقوياء لقوتهم؟‬
‫قلت‪ :‬بلى‪.‬‬
‫قال‪ :‬فكذلك هللا تعالى برحمته جع‪99‬ل في البالد ال‪99‬تي تش‪99‬ح أرض‪99‬ها‪ ،‬أو‬
‫يحبس قطرها من أسباب الرزق ما يسد حاجاتها‪.‬‬
‫قلت‪ :‬إن في القرآن الكريم إشارة جميلة إلى ه‪9‬ذا‪ ،‬فق‪9‬د ق‪9‬ال تع‪9‬الى على‬
‫ع ِع ْن‪َ 9‬د‬ ‫ْ‪9‬ر ِذي زَرْ ٍ‬ ‫‪9‬وا ٍد َغي ِ‬ ‫ت ِم ْن ُذرِّ يَّ ِتي ِب َ‬ ‫لسان إب‪9‬راهيم ‪َ {:‬ربَّنَ‪9‬ا ِإ ِّني َأ ْس‪َ 9‬ك ْن ُ‬
‫‪9‬وي ِإ َل ْي ِه ْم َوارْ ُز ْقه ُْم‬ ‫رَّم َربَّنَا ِليُ ِقي ُموا الصَّال َة َفاجْ َعلْ َأ ْف ِئ َد ًة ِمنَ النَّ ِ‬
‫اس َت ْه‪ِ 9‬‬ ‫َب ْي ِتكَ ْال ُم َح ِ‬
‫ت َل َعلَّه ُْم َي ْش ُكرُونَ }(ابراهيم‪ ،)37 :‬فمك‪9‬ة المكرم‪9‬ة ب‪9‬واد غ‪9‬ير ذي‬ ‫ِمنَ الثَّ َم َرا ِ‬
‫زرع‪ ،‬فحنن هللا القلوب إليها‪ ،‬فإذا برزقها يفاض عليها من كل مكان‪.‬‬
‫قلت‪ :‬تلك مكة المكرمة‪..‬‬
‫قال‪ :‬ومثلها كثير من بالد هللا‪ ،‬بل قد تجد أهل األرض الش‪99‬حيحة أك‪99‬ثر‬
‫غنى من أهل األرض السخية‪.‬‬
‫سكت‪ ،‬فقال‪ :‬سأعطيك مثاال لن يخالفك فيه أحد‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ما هو؟‬
‫قال‪ :‬هذا الهواء الذي تتنفسه‪ ،‬هل جعل هللا في طاقة البشر تملكه ومنع‬
‫العباد عنه؟‬
‫قلت‪ :‬لو أطاقوا لحجزوه في قارورات‪ ،‬وباعوه للناس‪.‬‬
‫قال‪ :‬وه‪9‬ذا الم‪9‬اء ال‪9‬ذي تش‪9‬ربه‪ ،‬وال‪9‬ذي تفيض ب‪9‬ه األنه‪9‬ار‪ ،‬والودي‪9‬ان‬
‫والسماء‪.‬‬
‫قلت‪ :‬هم كذلك ال يطيقون حبسه وال منعه عن الناس‪.‬‬
‫قال‪ :‬فهذه أهم األرزاق ال يمنعها أحد‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ولكن الطعام‪.‬‬

‫‪123‬‬
‫قال‪ :‬الطعام موجود مبثوث في كل مكان‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ولكن‪99‬ه بأي‪99‬ديهم يرفع‪99‬ون في‪99‬ه ويخفض‪99‬ون‪ ،‬فيمتلك‪99‬ون ب‪99‬ه رق‪99‬اب‬
‫الناس‪.‬‬
‫قال‪ :‬ال‪ ..‬الطعام ال يختلف عن الماء والهواء‪ ،‬ولكن الناس بما ابتدعوه‬
‫فيه سلموا رقابهم لمن يسقيهم الويالت بسببه‪.‬‬
‫قلت‪ :‬كيف؟‬
‫قال‪ :‬أنتم ال تأكلون ما يس‪9‬د ح‪9‬اجتهم‪ ،‬ويحف‪99‬ظ ق‪99‬وامكم‪ ،‬ولكنكم اتخ‪9‬ذتم‬
‫األكل حرفة‪ ،‬تظل المرأة طول نهارها من أجل وجبة أو وجبات أك‪99‬ثر م‪99‬ا‬
‫فيها لغو وعلل‪.‬‬
‫قلت‪ :‬نعم‪ ..‬إني حينم‪9999‬ا أرى تل‪9999‬ك الجه‪9999‬ود المبذول‪999‬ة في التقطي‪9999‬ع‬
‫والتصفيف والمزج والتخليط أشعر بالضيق يدب إلى نفسي‪ ،‬ألن كل ذل‪99‬ك‬
‫التخليط سينزل إلى المعدة‪ ،‬وال يهمها أن يأيتيها مصففا أو غير مصفف‪.‬‬
‫قال‪ :‬فأنتم الذي ضيقتم على أنفسكم‪ ،‬أم‪99‬ا هللا ف‪99‬إن رحمت‪99‬ه وس‪99‬عت ك‪99‬ل‬
‫شيء‪ ،‬ورزقه لم يحرم منه أحدا‪ ،‬وسنرى تفاصيل هذا في الحقيقة الثانية‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فقد فهمت هذه اآلية‪ ،‬فهل من آية أخرى؟‬
‫قال‪ :‬ل‪9‬و ظللن‪9‬ا نع‪9‬د آي‪9‬ات هللا في رزق‪9‬ه لبقين‪9‬ا جمي‪9‬ع دهرن‪9‬ا أم‪9‬ام ه‪9‬ذه‬
‫الجوهرة ال نبرحها‪ ،‬ولكن سأدلك على مالك ذلك كله‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فهات‪ ،‬فما أحوجني إلى المجامع واألصول‪.‬‬
‫قال‪ :‬أرأيت إن ضمنت ل‪9‬ك جه‪9‬ة م‪9‬ا رزق‪9‬ك‪ ،‬بحيث يأتي‪9‬ك مياوم‪9‬ة أو‬
‫مشاهرة أو مسانهة‪ ،‬أكنت تخاف عليه؟‬
‫قلت‪ :‬وكيف أخاف عليه‪ ،‬وهو يأتيني رغدا وبانتظام‪ ،‬ولكن قد أخ‪99‬اف‬
‫إن لم تكن جهة موثوقة‪.‬‬
‫قال‪ :‬فإن كانت جهة موثوقة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬قد ال أخاف على وعدها ووفائها وجميل صدقها‪ ،‬ولك‪99‬ني أخ‪99‬اف‬
‫على التقلبات التي قد تحدث فتمنعها من الوفاء بما ضمنته‪.‬‬
‫قال‪ :‬فإن كانت فوق التقلبات‪.‬‬
‫قلت‪ :‬تقصد أن يأتيني رزقي من جهة ال دخل للوزارة فيها‪ ..‬فالوزراء‬
‫يتحولون كل حين‪ ،‬ويعزل كل جديد كل قديم‪.‬‬
‫قال‪ :‬وال دخل للملوك واألمراء والرؤساء‪.‬‬
‫قلت‪ :‬إذن أن‪99‬ام قري‪99‬ر العين ال أختل‪99‬ف عن المل‪99‬وك وال عن ال‪99‬وزراء‬

‫‪124‬‬
‫والرؤساء‪.‬‬
‫قال‪ :‬فقد وعد هللا إذن عباده برزقه‪ ،‬ووعده ال يتخلف‪ ،‬ألم تس‪99‬مع قول‪99‬ه‬
‫ض ِإاَّل َع َلى هَّللا ِ ِر ْزقُ َه‪9999‬ا َو َيعْ َل ُم ُم ْس‪َ 9999‬ت َقرَّ هَا‬ ‫تع‪9999‬الى‪َ {:‬و َم‪9999‬ا ِم ْن دَابَّ ٍة ِفي اأْل َرْ ِ‬
‫ين}(هود‪ ،)6 :‬فقد وعد هللا بت‪9‬نزل أرزاق‪9‬ه على‬ ‫ب ُم ِب ٍ‬ ‫َو ُم ْس َتوْ َد َع َها ُكلٌّ ِفي ِكتَا ٍ‬
‫كل ذي حياة على هذه األرض‪ ،‬فهل ترى في هذا من تخلف؟‬
‫قلت‪ :‬ال‪ ،‬بل أرى أرزاق الحيوانات تساق إليهم عفوا‪ ،‬ال يحت‪99‬اجون إال‬
‫إلى تناولها‪.‬‬
‫قال‪ :‬ومثل ذلك أرزاق اإلنسان إال أنه ي‪9‬أبى إال أن يعق‪9‬د م‪9‬ا بس‪9‬ط هللا‪..‬‬
‫أتدري لم يحرم الموكل بأرزاق البشر بعض العباد رزقه؟‬
‫قلت‪ :‬إن خالف الوزير أو األمير‪.‬‬
‫قال‪ :‬أما هللا‪ ،‬فإن رزقه ال يفرق بين مؤمن متعبد‪ ،‬وكافر متعنت‪.‬‬
‫قلت‪ :‬نعم‪ ،‬ولهذا قال تعالى مجيبا إبراهيم ‪ ‬عن‪9‬دما س‪9‬أل ال‪9‬رزق لعب‪9‬اد‬
‫طرُّ هُ ِإ َلى عَ‪َ 9‬ذا ِ‬
‫ب‬ ‫ض‪َ 9‬‬ ‫ال ثُ َّم َأ ْ‬ ‫‪9‬ر َفأُ َم ِّتعُ‪ 9‬هُ َق ِلي ً‬ ‫هللا المؤمنين(‪ )1‬دون غ‪9‬يرهم { َو َم ْن َك َف َ‬
‫صيرُ ‪( ‬البقرة‪ ،)126 :‬فأخبره هللاتعالى أن رزقه يناله الم‪99‬ؤمن‬ ‫س ْال َم ِ‬ ‫ار َو ِب ْئ َ‬
‫النَّ ِ‬
‫والكافر‪.‬‬
‫قال‪ :‬وسأضرب لك مثاال على ذلك‪ ..‬أال تعلم أنواع الجرائم والكفر التي وقع‬
‫فيها بنو إسرائيل بعد أن أنجاهم هللا؟‬
‫قلت‪ :‬كثيرة‪ ،‬بل إنهم بمجرد خروجهم وهالك عدوهم التفتوا فوجدوا قوما {‬
‫ال ِإ َّن ُك ْم َقوْ ٌم تَجْ َه ُل‪99‬ونَ }‬ ‫َيعْ ُك ُفونَ عَ َلى َأصْ ن ٍَام َله ُْم َقا ُلوا َيا ُمو َسى َ‬
‫اجْعلْ َلنَا ِإ َله ًا َك َما َله ُْم آ ِل َه ٌة َق َ‬
‫(ألعراف‪)138 :‬‬
‫قال‪ :‬وهل استجابوا لقوله؟‬
‫قلت‪ :‬كال‪ ،‬فبمجرد غيبته عنهم أياما معدودات‪ ،‬عب‪9‬دوا العج‪9‬ل‪ ،‬ق‪9‬ال تع‪9‬الى‪:‬‬
‫ظا ِل ُمونَ }(البقرة‪)51 :‬‬ ‫جْل ِم ْن َبعْ ِد ِه َو َأ ْن ُت ْم َ‬‫خَذ ُت ُم ْال ِع َ‬
‫اعَدنَا ُمو َسى َأرْ َب ِعينَ َل ْي َل ًة ُث َّم ا َّت ْ‬
‫{ َو ِإ ْذ َو ْ‬
‫قال‪ :‬وعندما أمرهم بالدخول إلى األرض المقدسة‪ ،‬بماذا أجابوا؟‬
‫وس‪9‬ى ِإنَّا َل ْن‬ ‫قلت‪ :‬ما قصه علينا الق‪99‬رآن الك‪99‬ريم من قول‪99‬ه‪َ {:‬ق‪99‬الُوا َي‪99‬ا ُم َ‬
‫اع ُدونَ }(المائدة‪:‬‬ ‫َن ْد ُخ َل َها َأ َبداً َما دَا ُموا ِفي َها َف ْاذ َهبْ َأ ْنتَ َو َربُّكَ َف َقا ِتال ِإنَّا هَاهُنَا َق ِ‬
‫‪)24‬‬
‫قال‪ :‬فما هي العقوبة التي حاقت بهم بعد هذا القول؟‬

‫‪ ) )(1‬ونص قوله هو‪َ {:‬ربِّ اجْ َعلْ هَ َذا بَلَداً آ ِمن‪9‬ا ً َوارْ ُز ْق أَ ْهلَ‪9‬هُ ِمنَ الثَّ َم‪َ 9‬را ِ‬
‫ت َم ْن آ َمنَ ِم ْنهُ ْم بِاهَّلل ِ‬
‫َو ْاليَوْ ِم اآْل ِخ ِر } (البقرة‪)126:‬‬

‫‪125‬‬
‫‪9‬ال َفإِنَّ َه‪99‬ا ُم َحرَّ َم‪ 9‬ةٌ َع َل ْي ِه ْم َأرْ َب ِعينَ َس‪َ 9‬ن ًة‬ ‫قلت‪ :‬ما نص عليه قوله تعالى‪َ {:‬ق‪َ 9‬‬
‫اس ِقينَ }(المائدة‪)26 :‬‬ ‫س َع َلى ْال َقوْ ِم ْال َف ِ‬ ‫ض َفال ت َْأ َ‬ ‫َي ِتيهُونَ ِفي اأْل َرْ ِ‬
‫قال‪ :‬فكان دخولهم في التيه إذن عقوبة لهم؟‬
‫قلت‪ :‬نعم‪.‬‬
‫قال‪ :‬واألصل في العقوبة أن يشدد على صاحبها‪ ،‬ويضيق عليه‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ال شك في ذلك‪ ،‬ومن شك فعليه بزيارة السجون والمعتقالت‪.‬‬
‫ق‪99‬ال‪ :‬ولكن اس‪99‬مع لم‪99‬ا أن‪99‬زل ال‪99‬رزاق الك‪99‬ريم على ه‪99‬ؤالء في ف‪99‬ترة‬
‫زَل َن‪99‬ا َع َل ْي ُك ُم ْال َم َّن‬
‫ظلَّ ْل َن‪99‬ا َع َل ْي ُك ُم ْال َغ َم‪99‬ا َم َو َأ ْن ْ‬
‫عقوبتهم‪ ،‬قال تع‪9‬الى مخاطب‪9‬ا لهم‪َ {:‬و َ‬
‫ظ َل ُمو َن‪99‬ا َو َل ِك ْن َك‪99‬انُوا َأ ْنفُ َس ‪9‬ه ُْم‬ ‫ت َم‪99‬ا َرزَ ْق َن‪99‬ا ُك ْم َو َم‪99‬ا َ‬ ‫الس ‪ْ 9‬ل َوى ُكلُ‪99‬وا ِم ْن َ‬
‫ط ِّي َب‪99‬ا ِ‬ ‫َو َّ‬
‫ظ ِل ُمونَ }(البقرة‪)57 :‬‬ ‫َي ْ‬
‫قلت‪ :‬لقد ذكر هللا تعالى ثالث نعم عظمى‪ :‬الغمام‪ ،‬والمن‪ ،‬والسلوى‪.‬‬
‫قال‪ :‬فقد وقاهم هللا حر الشمس‪ ،‬وصدى العطش‪ ،‬ولهيب الجوع‪.‬‬
‫قلت‪ :‬لم يقهم فقط‪ ،‬بل متعهم‪ ،‬فقد قال قتادة في المن‪ (:‬ك‪9‬ان المن ي‪9‬نزل‬
‫محلهم س‪99‬قوط الثلج‪ ،‬أش ‪ّ 9‬د بياض ‪9‬اً من اللبن‪ ،‬وأحلى من العس‪99‬ل‪،‬‬ ‫عليهم في ّ‬
‫يسقط عليهم من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس يأخذ الرجل منهم قدر م‪99‬ا‬
‫يكفيه يوم‪9‬ه ذل‪9‬ك )‪ ،‬وق‪9‬ال ابن عب‪9‬اس في الس‪9‬لوى‪ (:‬الس‪9‬لوى ط‪9‬ائر يش‪9‬به‬
‫السماني كانوا يأكلون منه )‬
‫قال‪ :‬وعندما عطشوا؟‬
‫قلت‪ :‬لم يكلفهم بحف‪99‬ر آب‪99‬ار ليش‪99‬ربوا‪ ،‬ب‪99‬ل خ‪99‬رق العوائ‪99‬د من أج‪99‬ل أن‬
‫صاكَ ْال َح َج َر‬ ‫يسقيهم‪ ،‬قال تعالى‪َ {:‬و ِإ ِذ ا ْس َت ْس َقى ُمو َسى ِل َقوْ ِم ِه َفقُ ْلنَا اضْ ِربْ ِب َع َ‬
‫اش‪َ 9‬ربُوا ِم ْن‬ ‫س َم ْش‪َ 9‬ر َبه ُْم ُكلُ‪9‬وا َو ْ‬ ‫ت ِم ْنهُ ْاث َنتَا َع ْش َر َة َعيْناً َق ْد َع ِل َم ُك‪9‬لُّ أُنَ‪9‬ا ٍ‬ ‫َفا ْن َف َج َر ْ‬
‫ض ُم ْف ِس ِدينَ }(البقرة‪)60 :‬‬ ‫ق هَّللا ِ َوال تَعْ َثوْ ا ِفي اأْل َرْ ِ‬ ‫ِر ْز ِ‬
‫قال‪ :‬وليس هذا فقط‪ ،‬بل إن هللا تعالى يأمر عباده بأن يأكلوا من رزق‪99‬ه‬
‫ويعرض عليهم أصناف نعيمه كما يع‪99‬رض الض‪99‬يف الك‪99‬ريم طعام‪99‬ه على‬
‫ضيفه‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أجل‪ ،‬فقد ورد ذلك في آي‪99‬ات كث‪99‬يرة‪ ،‬ق‪99‬ال تع‪9‬الى‪َ {:‬ي‪99‬ا َأ ُّي َه‪99‬ا الَّ ِذينَ‬
‫ت َما َرزَ ْقنَا ُك ْم َوا ْش ُكرُوا هَّلِل ِ ِإ ْن ُك ْنتُ ْم ِإيَّاهُ تَعْ بُ‪ُ 9‬دونَ } (البق‪9‬رة‪:‬‬ ‫آ َمنُوا ُكلُوا ِم ْن َ‬
‫ط ِّي َبا ِ‬
‫ت‬ ‫عْرُوش‪9‬ا ٍ‬‫َ‬ ‫ت َو َغي َ‬
‫ْ‪9‬ر َم‬ ‫َ‬
‫عْرُوش‪9‬ا ٍ‬ ‫ت َم‬ ‫‪ 9،)172‬وقال تعالى‪َ {:‬وهُ َو الَّ ِذي َأ ْن َش‪9‬أَ َجنَّا ٍ‬
‫الز ْيتُونَ َوالرُّ َّمانَ ُم َت َشا ِبهاً َو َغي َْر ُم َت َشا ِب ٍه ُكلُوا ِم ْن‬ ‫الزرْ َع ُم ْخ َت ِلفاً أُ ُكلُهُ َو َّ‬
‫َوالنَّ ْخ َل َو َّ‬
‫ص‪9‬ا ِد ِه َوال تُ ْس‪ِ 9‬رفُوا ِإنَّهُ ال ي ُِحبُّ ْال ُم ْس‪ِ 9‬ر ِفينَ }‬ ‫‪9‬ر َوآتُ‪9‬وا َحقَّهُ َي‪9‬وْ َم َح َ‬ ‫‪9‬ر ِه ِإ َذا َأ ْث َم َ‬‫َث َم ِ‬

‫‪126‬‬
‫(األنعام‪)141 :‬‬
‫قال‪ :‬ومع ذلك كله‪ ،‬فاهلل ال يغفل وال ينسى‪ ،‬فهل يخ‪99‬اف من ع‪99‬رف هللا‬
‫على رزقه؟‬
‫الحقيقة الثانية‪:‬‬
‫قلت‪ :‬كال‪ ..‬وعيت ه‪99‬ذا فه‪99‬ات الحقيق‪99‬ة الثاني‪99‬ة‪ ..‬وهي حقيق‪99‬ة ض‪99‬عف‬
‫مطالب اإلنسان وقلتها بجانب الرزق المفاض عليه‪.‬‬
‫ق‪9‬ال‪ :‬أج‪9‬ل‪ ،‬وق‪9‬د أش‪9‬ار إلى ه‪9‬ذه الحقيق‪9‬ة قول‪9‬ه ‪ (:‬من أص‪9‬بح منكم‬
‫معافى في جسده‪ ،‬آمناً في سربه‪ ،‬عنده قوت يومه‪ ،‬فكأنهما حيزت له الدنيا‬
‫بحذافيرها )(‪ ، )1‬وقد ورد في لفظ من ألفاظ الحديث ما هو أكثر داللة‪ ،‬قال‬
‫‪ (:‬ابن آدم عندك ما يكفي‪9‬ك‪ ،‬وأنت تطلب م‪9‬ا يطغي‪9‬ك‪ ،‬ابن آدم ال بقلي‪9‬ل‬
‫تقنع‪ ،‬وال من كثير تشبع‪ ،‬ابن آدم إذا أصبحت مع‪99‬افى في جس‪99‬دك آمن‪99‬ا في‬
‫سربك عندك قوت يومك‪ ،‬فعلى الدنيا العفاء )‬
‫وس‪9‬ى ِل َقوْ ِم‪ِ 9‬ه َي‪9‬ا َق‪9‬وْ ِم ْاذ ُك‪9‬رُوا‬ ‫‪9‬ال ُم َ‬‫قلت‪ :‬ويشير إليها قوله تعالى‪َ {:‬و ِإ ْذ َق َ‬
‫ت َأ َح‪ 9‬داً ِمنَ‬ ‫ِنعْ َم َة هَّللا ِ َع َل ْي ُك ْم ِإ ْذ َج َع َل ِفي ُك ْم َأ ْن ِب َيا َء َو َج َع َل ُك ْم ُملُوكاً َوآتَا ُك ْم َم‪99‬ا َل ْم يُ‪9ْ 9‬ؤ ِ‬
‫ْال َعا َل ِمينَ }(المائدة‪ ،)20 :‬فقد أخبر هللا تعالى أنه جعلهم ملوك‪9‬ا م‪9‬ع أن المل‪9‬ك‬
‫لم يكن إال في بعضهم‪.‬‬
‫قال‪ :‬أراك لم تكتف بهذا‪ ..‬ألم تؤمن؟‬
‫قلت‪ :‬بلى‪ ،‬ولكن ليطمئن قلبي‪.‬‬
‫قال‪ :‬فقارن بين حاجات اإلنس‪9‬ان الغذائي‪9‬ة البس‪9‬يطة‪ ،‬وبين م‪9‬ا ك‪9‬نز في‬
‫البحر من أصناف األغذية‪.‬‬
‫قلت‪ :‬نعم‪ ،‬فقد قال تعالى وهو يعدد نعم‪9‬ه ال‪9‬تي جعله‪9‬ا في البح‪9‬ار‪َ {:‬وهُ َ‬
‫‪9‬و‬
‫ط ِريّاً َوت َْس‪9‬ت َْخ ِرجُوا ِم ْن‪ُ 9‬ه ِح ْل َي‪ً 9‬ة ت َْل َب ُس‪9‬و َن َها‬ ‫الَّ ِذي َس َّخ َر ْال َبحْ َر ِلت َْ‪9‬أ ُكلُوا ِم ْن‪ُ 9‬ه َلحْ م‪9‬اً َ‬
‫اخ َر ِفي ِه َو ِل َت ْب َت ُغوا ِم ْن َفضْ ِل ِه َو َل َعلَّ ُك ْم َت ْش ُكرُونَ }(النحل‪)14 :‬‬ ‫َوت ََرى ْالفُ ْلكَ َم َو ِ‬
‫الحقيقة الثالثة‪:‬‬
‫قال‪ :‬أما الحقيقة الثالثة‪ ،‬فأن تعلم لكل زمان رزقه الخاص به‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وماذا تقول هذه الحقيقة؟‬
‫قال‪ :‬تقول لك‪ (:‬عش يومك‪ ،‬وال تح‪9‬زن على المس‪9‬تقبل‪ ،‬ألن‪9‬ه ال ي‪9‬أتي‬
‫إال ومعه رزقه )‬
‫قلت‪ :‬كيف؟‬

‫‪ ) )(1‬البخاري في األدب والترمذي وابن ماجة ‪.‬‬

‫‪127‬‬
‫ق‪99‬ال‪ :‬س‪99‬بب الخ‪99‬وف على المس‪99‬تقبل ه‪99‬و تص‪99‬ور خل‪99‬و المس‪99‬تقبل من‬
‫الرزق‪ ،‬فإذا علمت أن لكل زمان رزقه الخاص به لم تحزن‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فاضرب لي على ذلك مثاال‪.‬‬
‫قال‪ :‬أال يرزق الجنين؟‬
‫قلت‪ :‬بلى‪ ،‬ولو توقف الرزق عنه لحظة هلك‪.‬‬
‫قال‪ :‬وماهو رزقه؟‬
‫قلت‪ :‬كل ما يتطلبه جسده لبنائه من مع‪9‬ادن وب‪9‬روتين وفيت‪9‬امين وغ‪9‬ير‬
‫ذلك من المكونات‪.‬‬
‫قال‪ :‬ولو نقص أحد هذه المكونات؟‬
‫قلت‪ :‬سيهلك الجنين‪ ،‬أو سيخرج مش‪99‬وها‪ ،‬وأحس‪99‬ن أحوال‪99‬ه أن يخ‪99‬رج‬
‫سقيما يحتاج إلى عالج‪.‬‬
‫قال‪ :‬ولكن الجنين يمر بمراحل مختلفة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أجل‪ ،‬لقد نص على جميعها القرآن الكريم‪ ،‬ق‪9‬ال تع‪9‬الى‪َ {:‬ي‪9‬ا َأ ُّي َه‪9‬ا‬
‫ب ثُ َّم ِم ْن نُ ْ‬
‫ط َف‪ٍ 9‬ة ثُ َّم ِم ْن‬ ‫ث َفإِنَّا خَ َل ْق َن‪99‬ا ُك ْم ِم ْن تُ‪َ 9‬‬
‫‪9‬را ٍ‬ ‫ب ِمنَ ْال َبعْ ِ‬ ‫النَّاسُ ِإ ْن ُك ْنتُ ْم ِفي َر ْي ٍ‬
‫َع َل َق ٍة ثُ َّم ِم ْن ُمضْ َغ ٍة ُمخَ لَّ َق ٍة َو َغي ِْر ُمخَ لَّ َق‪ٍ 9‬ة ِلنُ َبيِّنَ َل ُك ْم َونُ ِق‪9‬رُّ ِفي اأْل َرْ َح‪ِ 9‬ام َم‪9‬ا ن ََش‪9‬ا ُء‬
‫ِإ َلى َأ َج ٍل ُم َس ّم ًى }(الحج‪)5 :‬‬
‫قال‪ :‬وهل يحتاج في كل المراحل إلى غذاء واحد؟‬
‫قلت‪ :‬كال‪ ،‬ففي كل مرحلة يحتاج غذاء خاصا‪.‬‬
‫قال‪ :‬وهل يوفر له ذلك الغذاء الخاص؟‬
‫قلت‪ :‬أجل‪ ،‬مثلما يوفر الطعام في المطاعم بحسب رغبة الطاعم‪.‬‬
‫قال‪ :‬ولكن الطاعم هنا ضعيف ليس له أي قدرة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ولكن مطعمه يعلم حاجته‪ ،‬ويوفرها له‪.‬‬
‫قال‪ :‬تقصد أمه‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أمه‪ ،‬ال تدري أي شيء عنه‪ ،‬هو في رحمها‪ ،‬لكنه غيب بالنس‪99‬بة‬
‫لها‪.‬‬
‫قال‪ :‬فمن إذن؟‬
‫قلت‪ :‬هللا الرزاق ذو القوة المتين‪.‬‬
‫قال‪ :‬فقد فهمت إذن بأن لكل زمان رزقه‪.‬‬
‫قلت‪ :‬نحن ال نخ‪9999‬اف على رزق الج‪9999‬نين‪ ،‬ولكن نخ‪9999‬اف على رزق‬
‫الوليد‪ ،‬ولهذا أخبر هللا تعالى عن قت‪99‬ل المش‪99‬ركين ألوالدهم‪ ،‬ولم يخ‪99‬بر عن‬

‫‪128‬‬
‫إجهاضهم لنسائهم‪ ،‬قال تع‪9‬الى‪َ {:‬وال َت ْقتُلُ‪9‬وا َأوْ ال َد ُك ْم ِم ْن ِإ ْمال ٍ‬
‫ق نَحْ ُن نَ‪9‬رْ ُزقُ ُك ْم‬
‫َو ِإيَّاهُ ْم} (األنعام‪)151 :‬‬
‫قال‪ :‬فالوليد عند نزوله‪ ،‬أيطيق أكل طعام الناس؟‬
‫قلت‪ :‬كال‪.‬‬
‫قال‪ :‬فهل وفر هللا له ما يقوم بغذائه؟‬
‫قلت‪ :‬نعم‪ ،‬لقد أدر هللا ثدي والدته لتسقيه من حليبها‪.‬‬
‫قال‪ :‬فهل في لبن األم ما يكفي حاجة رضيعها؟‬
‫قلت‪ :‬بل ما يكفي ويشفي‪.‬‬
‫قال‪ :‬فهل يتناسب ذلك مع حاجاته المختلفة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أجل‪ ،‬فحلييب األم ـ كما يقرر الخبراء ـ يتطور تركيب‪99‬ه من ي‪99‬وم‬
‫آلخ‪99‬ر بم‪99‬ا يالئم حاج‪99‬ة الرض‪99‬يع الغذائي‪99‬ة‪ ،‬وتحم‪99‬ل جس‪99‬مه‪ ،‬و بم‪99‬ا يالئم‬
‫غريزته وأجهزته التي تتطور يوماً بعد يوم‪.‬‬
‫قال‪ :‬ولكن الرضيع ليس بحاجة إلى الغ‪9‬ذاء فق‪9‬ط‪ ،‬ب‪9‬ل ه‪9‬و بحاج‪9‬ة إلى‬
‫الدواء‪ ،‬أو باألحرى تقوية جهاز مناعته‪ ،‬ليواجه األعاصير ال‪99‬تي ت‪99‬تربص‬
‫به‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وذل‪99‬ك كل‪99‬ه موج‪99‬ود في لبن األم‪ ،‬فه‪99‬و يح‪99‬وي أجس‪99‬اما ض‪99‬دية‬
‫نوعية‪ ،‬تساعد الطفل على مقاومة األمراض‪.‬‬
‫ثم التفت إلى المعلم‪ ،‬فرأيته‪ ،‬وكأنه يحضر لي سؤاال‪ ،‬فقلت‪ :‬وأزي‪99‬دك‪،‬‬
‫فإنه زيادة على هذه الفوائد الصحية‪ ،‬هناك فوائد نفسية واجتماعي‪99‬ة كث‪99‬يرة‪،‬‬
‫فقد أكد علماء النفس أن الرضاعة ليست مجرد إشباع حاجة عضوية إنما‬
‫هو موقف نفسي اجتماعي شامل‪ ،‬تشمل الرض‪9‬يع واألم وه‪9‬و أول فرص‪9‬ة‬
‫للتفاع‪99‬ل االجتم‪99‬اعي ‪ ..‬وفي الرض‪99‬اعة يش‪99‬عر الطف‪99‬ل بالحن‪99‬ان والحب‬
‫والطمأنينة ويحدث اندماج في المشاعر بين الطفل وأمه‪.‬‬
‫قال‪ :‬فأنت أقررت إذن بأن هللا تعالى وفر للرضيع كل ما يحتاجه‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ال شك في ذلك‪ ،‬وذلك ليس كالمي‪ ،‬بل هو كالم الخبراء‪.‬‬
‫قال‪ :‬أفتدرك اآلن قيمة الرزق الذي س‪9‬اقه هللا له‪9‬ذا الرض‪9‬يع‪ ،‬أليس في‬
‫هذا اللبن آية؟‬
‫قلت‪ :‬نعم‪ ،‬ب‪99‬ل آي‪99‬ة ك‪99‬برى‪ ،‬فالمص‪99‬انع الض‪99‬خمة عن‪99‬دنا‪ ،‬والخ‪99‬براء‬
‫الكثيرون لم يستطيعوا أن يكونوا قطرة واحدة من حليب األم‪.‬‬
‫قال‪ :‬فاسمع إذن لما يقول الحق تعالى عن هذه اآلية‪ ،‬قال تع‪99‬الى‪َ {:‬و ِإ َّن‬

‫‪129‬‬
‫ث َود ٍَم َل َبن‪9‬اً خَا ِلص‪9‬اً‬ ‫‪9‬ر ًة نُ ْس‪ِ 9‬قي ُك ْم ِم َّما ِفي بُ ُ‬
‫طو ِن‪ِ 9‬ه ِم ْن َبي ِْن َف‪99‬رْ ٍ‬ ‫َل ُك ْم ِفي اأْل َ ْن َع ِام َل ِع ْب‪َ 9‬‬
‫ار ِبينَ } (النحل‪)66 :‬‬ ‫َسا ِئغاً ِلل َّش ِ‬
‫قلت‪ :‬وله‪99‬ذا أم‪99‬ر هللا تع‪99‬الى تحقي‪99‬ق ش‪99‬كر ه‪99‬ذه النعم‪99‬ة باس‪99‬تخدامها ال‬
‫ض‪9‬عْ نَ َأوْ ال َدهُ َّن‬ ‫بتعويض‪99‬ها ب‪99‬أي ش‪99‬يء آخ‪99‬ر‪ ،‬فق‪99‬ال تع‪9‬الى‪َ {:‬و ْال َوا ِل‪9‬د ُ‬
‫َات يُرْ ِ‬
‫الرَّضا َع َة } (البقرة‪)233 :‬‬ ‫َ‬ ‫ام َلي ِْن ِل َم ْن َأ َرا َد َأ ْن يُ ِت َّم‬ ‫َحوْ َلي ِْن َك ِ‬
‫قال‪ :‬فإذا كبر الرضيع وفطم من أن يأتيه رزقه؟‬
‫قلت‪ :‬لق‪99‬د جع‪99‬ل هللا من الرحم‪99‬ة في قل‪99‬وب والدي‪99‬ه م‪99‬ا يحي‪99‬ل عليهم‪99‬ا‬
‫التفريط في تغذيته وصحته‪ ،‬بل إنهما يؤثرانه على نفسيهما‪ ،‬ويطعمانه وال‬
‫يأبهان بما يعاملهما به من القسوة‪.‬‬
‫قال‪ :‬فالرحمة الفطرية إذن هي التي توفر الدواعي على رزق الصبي‬
‫بعد فطامه؟‬
‫قلت‪ :‬نعم‪ ،‬وهي في أحيان كثيرة ال تقتصر على الوال‪9‬دين‪ ،‬ب‪9‬ل إن ك‪9‬ل‬
‫من طلب منه صبي طعاما أو شيئا أعطاه عن طيب نفس‪.‬‬
‫قال‪ :‬فرزق الصبي مساق إليه من غير تعب وال كد‪.‬‬
‫قلت‪ :‬نعم‪ ،‬بل يساق إليه أفضل الرزق‪ ،‬هو تماما مثل دود الفواكه نائم‬
‫في وسط غذائه‪ ،‬بل في أفضل غذاء على اإلطالق‪.‬‬
‫قال‪ :‬فإذا كبر الصبي وشب؟‬
‫قلت‪ :‬أعطاه هللا من القوة والجلد ما يتمكن به من جلب رزقه بال عن‪99‬اء‬
‫وال تعب‪.‬‬
‫قال‪ :‬فإذا أصيب بآفة تحيط بقواه‪ ،‬أو بكبر ينهش عظمه؟‬
‫قلت‪ :‬ي‪99‬وفر ل‪99‬ه من ال‪99‬دواعي الفطري‪99‬ة في أقارب‪99‬ه أو في األبع‪99‬دين من‬
‫يتكفل به‪.‬‬
‫قال‪ :‬فإذا مات؟‬
‫قلت‪ :‬لن يعدم من يغسله ويكفنه ويدفنه‪.‬‬
‫قال‪ :‬فإذن هو ال يحتاج إلى ش‪9‬يء‪ ،‬ففي ك‪9‬ل زم‪9‬ان ل‪9‬ه من ال‪9‬رزق م‪9‬ا‬
‫يكفيه ويغنيه‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ولكن هناك مطالب أخ‪99‬رى أنتجته‪99‬ا الحض‪99‬ارة ق‪99‬د يعج‪99‬ز عنه‪99‬ا‪،‬‬
‫وبسببها يرمى في سلة الفقراء التي ال تختلف في نظ‪99‬ر المجتم‪99‬ع عن س‪99‬لة‬
‫المهمالت‪.‬‬
‫قال‪ :‬ذاك شيء ساقه لنفسه‪ ،‬وعقوبة جلد بها ذاته‪.‬‬

‫‪130‬‬
‫الحقيقة الرابعة‪:‬‬
‫قلت له‪ :‬فما الحقيقة الرابعة؟‬
‫قال‪ :‬من ألقاك في متاهة‪ ،‬أيكون بذلك قد عاقبك؟‬
‫قلت‪ :‬أعظم عقوبة‪ ،‬بل لعله لم يرد إال قتلي‪ ،‬ولكن‪9‬ه خش‪9‬ي تلطيخ يدي‪9‬ه‬
‫فاكتفى برميي للموت يلتهمني‪.‬‬
‫قال‪ :‬فإن أعطاك بوصلة تهتدي بها‪ ،‬وعلمك كيفية استخدامها؟‬
‫قلت‪ :‬يكون قد أحسن لي بذلك‪ ،‬ولكنه مع ذل‪9‬ك فق‪9‬د أس‪9‬اء‪ ،‬فم‪9‬ا عس‪9‬اها‬
‫تصنع البوصلة لي‪ ،‬أأركب عليها‪ ،‬أم أشرب ماءها‪ ،‬أم آكل طعامها؟‬
‫قال‪ :‬فإن أعطاك كل ذلك‪ :‬مركبا وزادا وماء؟‬
‫قلت‪ :‬يكون إحسانه أعظم‪.‬‬
‫قال‪ :‬وهل تأمن حينها‪.‬‬
‫قلت‪ :‬نعم يزداد أمني‪ ،‬ولكني مع ذلك أخاف السباع أن تعتدي علي‪.‬‬
‫قال‪ :‬فإن أمنك من السباع‪ ،‬أو أعطاك ما تقتل به السباع‪.‬‬
‫قلت‪ :‬يكون قد أحسن إحسانا عظيما‪ ،‬وأنقذني من الموت‪ ،‬لكني سأظل‬
‫أتساءل عن علة وضعي في تلك المتاهة؟‬
‫قال‪ :‬فإن أرسل لك بأنه لم يرد لك إال الخير‪ ،‬وأنك إذا رجعت إلي‪99‬ه من‬
‫تلك المتاهة سيعطيك قصرا فخما ويتوجك ملكا‪.‬‬
‫قلت‪ :‬سينتفي حقدي عليه حينها‪ ،‬ولكني سأظل أتساءل عن علة ذلك‪.‬‬
‫قال‪ :‬فإن أرسل لك يخبرك بأن غرضه أن يمرنك على مهمات الملك‪،‬‬
‫ويختبر مدى قدراتك‪.‬‬
‫قلت‪ :‬حينها سأعظمه وأجله‪ ..‬وأحبه‪.‬‬
‫قال‪ :‬وتلك األدوات التي أعطاك‪ ،‬أتستخدمها؟‬
‫قلت‪ :‬كي‪9‬ف ال أس‪9‬تخدمها‪ ،‬وهي وس‪9‬يلتي إلي‪9‬ه‪ ،‬فل‪9‬وال البوص‪9‬لة لتهت‪،‬‬
‫ولوال السالح الفترست‪ ،‬ولوال الطعام لهلكت جوعا‪.‬‬
‫قال‪ :‬فهذه هي الحقيقة الرابعة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أي حقيقة؟ فقد كنا نتحدث عن المتاهة‪.‬‬
‫قال‪ :‬وهذ المتاهة هي الدنيا‪ ،‬وال‪9‬ذي اخت‪9‬برك ه‪9‬و ربه‪9‬ا‪ ،‬وج‪9‬زاؤك إن‬
‫رجعت إليه سالما هو الجنة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬والبوصلة واألدوات‪..‬؟‬
‫قال‪ :‬تلك هي القوى التي منحك هللا إياها‪ ،‬فإن استخدمتها نجوت ‪ ،‬وإال‬

‫‪131‬‬
‫هلكت‪.‬‬

‫‪132‬‬
‫ثالثا ـ كنز االستعفاف‬
‫سرت م‪99‬ع معلم الس‪99‬الم نبحث عن قص‪99‬ر االس‪99‬تعفاف‪ ،‬الح لن‪99‬ا قص‪99‬ر‬
‫جميل‪ ،‬يشبه في شكله ي‪9‬دا ممت‪9‬دة للس‪9‬ماء تتس‪9‬اقط عليه‪9‬ا أن‪9‬واع الج‪9‬واهر‪،‬‬
‫وتنتشر منها أصناف الروائح الطيبة‪.‬‬
‫قلت للمعلم‪ :‬ما أروع هذا القصر‪ ،‬لكأن الذي صممه فنان ال مهندس‪.‬‬
‫قال‪ :‬كل مصممي هذه القصور يجمعون بين الفن والهندسة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬إذن هم تخرجوا من جامعة واحدة‪.‬‬
‫قال‪ :‬نعم‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فأي جامعة هي‪ ،‬فإن لي شوقا ألن أتعلم مثل هذه الفنون‪.‬‬
‫قال‪ :‬هي جامعة موجودة في كل مكان‪.‬‬
‫قلت‪ :‬في كل مكان‪ ..‬أمتأكد أنت؟‬
‫ق‪999‬ال‪ :‬نعم‪ ..‬في الس‪999‬ماء واألرض‪ ،‬والحق‪999‬ول وال‪999‬براري‪ ،‬والبح‪999‬ار‬
‫والصحارى‪ ..‬في كل مكان‪ ،‬ب‪9‬ل في ك‪9‬ل خلي‪9‬ة تنبض بالحي‪9‬اة‪ ،‬أو ك‪9‬ل ذرة‬
‫تمتلئ بالحركة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فأنت تقصد شيئا ال أفهمه‪.‬‬
‫قال‪ :‬أقصد الصنعة اإللهية‪ ،‬فإن من أحب هللا تخلق بأخالق هللا‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ولكنها صنعة إلهية‪ ،‬فكيف تقلد؟‬
‫قال‪ :‬كل صنعة إلهية يجتم‪9‬ع فيه‪9‬ا كم‪9‬ال الهندس‪9‬ة م‪9‬ع كم‪9‬ال الفن‪ ،‬فال‬
‫تعجب لكون كل مؤمن مهندسا وفنانا‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ولكن‪..‬‬
‫قال‪ :‬دعنا من هذا‪ ،‬فله محله الخ‪99‬اص في ه‪99‬ذه الرس‪99‬ائل‪ ،‬ولن‪99‬دخل إلى‬
‫هذا القصر لنغنم جواهره‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ال شك أن ه‪99‬ذا ه‪99‬و قص‪99‬ر االس‪99‬تعفاف‪ ،‬فالي‪99‬د ت‪99‬دل على الس‪99‬ؤال‬
‫والشحاذة‪ ،‬والجواهر المتس‪9‬اقطة عليه‪9‬ا ت‪9‬دل على العطاي‪9‬ا الممنوح‪9‬ة له‪9‬ذه‬
‫اليد‪.‬‬
‫قال‪ :‬نعم‪ ،‬هذا هو قصر االستعفاف‪ ،‬وفيه أربع‪9‬ة طواب‪9‬ق‪ ،‬ك‪9‬ل ط‪9‬ابق‬
‫منها يرفع همتك‪ ،‬ويحمل يدك ليضعها في موضعها الصحيح‪.‬‬
‫قلت‪ :‬يدي هي في يدي‪ ،‬فكيف يض‪99‬عها في موض‪99‬ع ص‪99‬حيح‪ ..‬أتقص‪99‬د‬
‫أني لن أخرج من هذا القصر بيدي؟‬

‫‪133‬‬
‫قال‪ :‬افهم الحقائق‪ ،‬وال تناقش األلفاظ‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فما تريد بيدي‪ ،‬أليست اليد غير الجارحة!؟‬
‫قال‪ :‬يدك ال‪9‬تي يمت‪9‬د به‪9‬ا طم‪9‬ع عيني‪9‬ك إلى جي‪9‬وب الن‪9‬اس‪ ،‬أو خ‪9‬زائن‬
‫الناس‪.‬‬
‫ابتس‪99‬مت‪ ،‬وقلت‪ :‬تقص‪99‬د ي‪99‬د الش‪99‬حاذين ال ي‪99‬دي‪ ،‬فق‪99‬د عاف‪99‬اني هللا من‬
‫الشخاذة‪.‬‬
‫قال‪ :‬هي حرفة يتقنها الكل‪ ،‬ويتهرب منها الكل‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ما تقصد؟‬
‫قال‪ :‬من هم الشحاذون بين قومك؟‬
‫قلت‪ :‬الذين يقفون على عتبات المس‪99‬اجد واألس‪99‬واق يبك‪99‬ون ويولول‪99‬ون‬
‫ويبتكرون ص‪9‬نوف الحي‪9‬ل ال‪9‬تي تس‪9‬تدر عط‪9‬ف الن‪9‬اس‪ ،‬فتس‪9‬تخرج م‪9‬ا في‬
‫جيوبهم‪ ..‬إنهم الشحاذون الماهرون في جلب المال بال تعب‪.‬‬
‫قال‪ :‬أهؤالء هم الشحاذون في تصورك؟‬
‫قلت‪ :‬وفي تص‪99‬ور جمي‪99‬ع الن‪99‬اس‪ ،‬إنهم ال‪99‬ذين حكى عنه‪99‬ا الحري‪99‬ري‬
‫والهمذاني في مقاماتهما‪.‬‬
‫قال‪ :‬وسائر الناس؟‬
‫قلت‪ :‬لقد عافاهم هللا من الشحاذة‪.‬‬
‫قال‪ :‬وما أدراك أن هللا عافاهم منها؟‬
‫قلت‪ :‬ألنهم ال يمدون أيديهم للناس‪.‬‬
‫ق‪99‬ال‪ :‬ولكنهم يم‪99‬دون أعينهم وقل‪99‬وبهم‪ ،‬ول‪99‬و اس‪99‬تطاعوا لخنق‪99‬وا الن‪99‬اس‬
‫ليستولوا على ثرواتهم‪.‬‬
‫قلت‪ :‬كيف‪ ..‬أنا ال أرى ما تقول‪.‬‬
‫قال‪ :‬ما تقول في االستعمار؟‬
‫قلت‪ :‬هم يقولون‪ :‬جئنا لنعمر أرضكم‪.‬‬
‫قال‪ :‬ولكنهم أبادوا شعوبكم‪ ،‬ومرغوا كرامتكم‪ ،‬ونهبوا ث‪99‬رواتكم‪ ،‬ثم لم‬
‫يخرج‪99‬وا إال بع‪99‬د أن عاه‪99‬دتموهم على أن تض‪99‬عوا أي‪99‬ديكم المجروح‪99‬ة في‬
‫أيديهم اآلثمة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬كل ذلك صحيح‪ ..‬ولكن األيام سرعان ما تطوي األحقاد‪.‬‬
‫ق‪9‬ال‪ :‬أن‪9‬ا ال أتكلم عن األحق‪9‬اد‪ ،‬ومعلم الس‪9‬الم يمأل القل‪9‬وب باإليم‪9‬ان ال‬
‫باألحقاد‪.‬‬

‫‪134‬‬
‫قلت‪ :‬فلماذا نتحدث عن االستعمار إذن؟‬
‫قال‪ :‬لنعرف نوعا خطيرا من أنواع الشحاذة التي يته‪9‬رب منه‪9‬ا الك‪9‬ل‪،‬‬
‫ويتقنها الكل‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ولكن االستعمار ولى‪ ،‬ونحن اآلن تحت رحمة حكومات من‪99‬ا‪ ،‬ال‬
‫تستجدينا وال تطمع في أموالنا‪.‬‬
‫قال‪ :‬ولكني رأيت وزراء شحاذين‪.‬‬
‫خطر على بالي وزي‪9‬ر المالي‪9‬ة أو االقتص‪9‬اد وه‪9‬و يق‪9‬ف على ب‪9‬اب من‬
‫أب‪99‬واب المس‪99‬اجد يطلب الص‪99‬دقات ليمأل البن‪99‬وك‪ ،‬فض‪99‬حكت‪ ،‬فق‪99‬ال‪ :‬أنت‬
‫تتعجب من تحول وزير المال إلى شحاذ‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أجل‪ ..‬لقد عرفت ما يجول في خاطري‪.‬‬
‫قال‪ :‬نعم‪ ..‬ألم يمد يده للم‪99‬وظفين ليقب‪99‬ل رش‪99‬اواهم‪ ،‬ألم يم‪99‬د ي‪99‬ده لعم‪99‬وم‬
‫الناس ليقبل مصالحهم؟‬
‫قلت‪ :‬ذلك من الرسوم‪.‬‬
‫قال‪ :‬أنتم تعرفون كيف تحولون المعاني بتحويل األلفاظ‪ ،‬فتسمون قت‪9‬ل‬
‫الشعوب لالستيالء على ثرواته‪9‬ا اس‪9‬تعمارا‪ ،‬وتس‪9‬مون أك‪9‬ل أم‪9‬وال الن‪9‬اس‬
‫بالباطل رسوما‪ ،‬وتسمون الرشاوى هدايا‪..‬‬
‫قلت‪ :‬لقد ذكرتني بقوله ‪ (:‬ليشربن أناس من أمتي الخم‪99‬ر يس‪99‬مونها‬
‫بغير اسمها )(‪)1‬‬
‫قال‪ :‬وقد وقع ما أخبر به ‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أجل‪ ،‬فنحن نسمي الخمور مشروبات روحية‪.‬‬
‫قال‪ :‬ألم تكتفوا بتسميتها مشروبات حتى نسبتموها إلى الروح؟‬
‫قلت‪ ..:‬فما الطريق ألتخلص من الشحاذة‪ ،‬وأعف عن أموال الناس؟‬
‫قال‪ :‬بقطعك هذه الطوابق األربع‪ ،‬وجمعك لجواهرها‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فماذا أقطع في األول؟‬
‫قال‪ :‬تقطع طمعك من نفسك‪ ،‬فتيأس منها‪ ،‬وال تمد يدك إليها‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ففي الثاني؟‬
‫قال‪ :‬تقطع طمعك من الخلق‪ ،‬فتيأس منهم‪ ،‬وال تمد يدك إليهم‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ففي الثالث؟‬
‫قال‪ :‬تمد أعناق طمعك كلها إلى هللا‪ ،‬فال ترى مستحقا للتفضل غيره‪.‬‬

‫‪ ) )(1‬أحمد وأبو داود‪.‬‬

‫‪135‬‬
‫قلت‪ :‬ففي الرابع؟‬
‫قال‪ :‬تمد يدك إلى هللا الذي طمعت فيه‪ ،‬وحينذاك تضع ي‪9‬دك موض‪9‬عها‬
‫الص‪9‬حيح‪ ،‬وحين‪9‬ذاك س‪9‬ينعم علي‪9‬ك بالفض‪9‬ل ال‪9‬ذي تس‪9‬تغني ب‪9‬ه عن الك‪9‬ل‪،‬‬
‫وتمتزج يدك مع اليد التي رأيتها في هذا القصر‪.‬‬
‫ال أمل فيك ‪:‬‬
‫وقفت مع المعلم أمام الجوهرة األولى من جواهر االستعفاف‪ ،‬فس‪99‬ألت‬
‫المرشد عنها‪ ،‬فقال‪ :‬هذه جوهرة نفيسة‪ ،‬ال يحل صعود طوابق القص‪99‬ر إال‬
‫بعد المرور عليها‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فما اسمها؟‬
‫قال‪ :‬هي جوهرة ( ال أمل فيك )‬
‫ابتس‪99‬مت في نفس‪99‬ي من ه‪99‬ذه األس‪99‬ماء الغريب‪99‬ة‪ ،‬ثم التفت إلى المعلم‬
‫ليش‪99‬رح لي حقائقه‪99‬ا‪ ،‬فال يمكن أن أناله‪99‬ا ب‪99‬دون الوص‪99‬ول إلى حقيقته‪99‬ا‬
‫واالقتناع بها‪.‬‬
‫نظر إلي المعلم‪ ،‬وقال‪ :‬أال تعلم أول بيت يقصده الشحاذ‪ ،‬وأول من يمد‬
‫إليه يده؟‬
‫فكرت قليال ‪ ،‬ثم قلت‪ :‬ربما‪ ..‬جاره‪ ..‬ال‪ ،‬فقد ال يريد أن يظهر بمظه‪99‬ر‬
‫الذلة أمام جاره‪ ..‬لعله السوق أو المس‪99‬جد‪ ..‬أو لعل‪99‬ه يخ‪99‬رج من بل‪99‬ده حفظ‪99‬ا‬
‫لكرامته ليمد يده للغادي والرائح‪.‬‬
‫قال‪ :‬كل من ذكرتهم بعيدون‪ ،‬والشحاذ ال يمد يده إليهم إال بع‪99‬د أن يم‪99‬د‬
‫يده إلى غيرهم‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فمن؟ لقد عجزت عن معرفته‪.‬‬
‫قال‪ :‬أول من يمد الشحاذ يده إليه بالسؤال واالفتقار هو نفسه‪.‬‬
‫قلت‪ :‬نفسه؟‬
‫ق‪99‬ال‪ :‬ال‪99‬تي بين جنبي‪99‬ه‪ ،‬فافتق‪99‬اره إلى الخل‪99‬ق يب‪99‬دأ من افتق‪99‬اره لنفس‪99‬ه‪،‬‬
‫وافتقاره لنفسه هو الذي يجعله يدق أبواب الخلق‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فكيف يمد يده لنفسه‪ ..‬لم أر في حياتي رجال يقف في مكان خ‪99‬ال‬
‫أمام مرآة يضع يده ينتظر أن توضع فيها أي صدقة‪ ..‬إال إذا كان مجنونا‪.‬‬
‫قال‪ :‬بل كل الشحادين يقفون هذا الموقف‪ ،‬ب‪9‬ل ك‪9‬ل من لم يم‪9‬د ي‪9‬ده إلى‬
‫هللا يمد يده إلى نفسه‪ ،‬ويقف هذا الموقف الذي استنكرته‪.‬‬
‫قلت‪ :‬لكني لم أر أحدا يفعل ذلك‪.‬‬

‫‪136‬‬
‫قال‪ :‬الفقراء واألغنياء يفعلون ذلك‪.‬‬
‫قلت‪ :‬اشرح لي‪ ،‬فال أطيق اإللغاز‪.‬‬
‫قال‪ :‬عندما يقرر الملك أمرا من األمور‪ ،‬ويحب أن ينفذه‪ ،‬ماذا يفعل؟‬
‫قلت‪ :‬يستنجد بوزرائه وأعوانه‪.‬‬
‫قال‪ :‬أيمد يده إليهم طالبا المعونة؟‬
‫قلت‪ :‬نعم‪ ،‬مثلم‪99‬ا قص الق‪99‬رآن الك‪99‬ريم على ملك‪99‬ة س‪99‬بأ‪ ،‬حيث ق‪99‬الت‬
‫ون}‬ ‫اط َع ًة َأ ْم‪99‬راً َحتَّى ت َْش ‪َ 9‬ه ُد ِ‬
‫ت َق ِ‬‫لقومها‪َ {:‬يا َأ ُّي َها ْال َمأَل ُ َأ ْفتُو ِني ِفي َأ ْم ِري َما ُك ْن ُ‬
‫(النمل‪)32 :‬‬
‫َ‬
‫أو مثلما ق‪9‬ال المل‪9‬ك في قص‪9‬ة يوس‪9‬ف ‪ ‬ألعوان‪9‬ه‪ِ {:‬إ ِّني أ َرى َس‪ْ 9‬ب َع‬
‫ت َيا َأ ُّي َه‪99‬ا‬ ‫ت ُخضْ ٍر َوأُ َ‬
‫خَر َيا ِب َسا ٍ‬ ‫ان َي ْأ ُكلُه َُّن َس ْب ٌع ِع َج ٌ‬
‫اف َو َس ْب َع ُس ْنبُال ٍ‬ ‫ت ِس َم ٍ‬ ‫َب َق َرا ٍ‬
‫لرُّؤيا تَعْ بُرُونَ }(يوسف‪)43 :‬‬ ‫ياي ِإ ْن ُك ْنتُ ْم ِل ْ‬ ‫ْال َمأَل ُ َأ ْفتُو ِني ِفي ْ‬
‫رُؤ َ‬
‫قال‪ :‬وال حرج عليك أن تشبه ذل‪9‬ك بق‪9‬ول س‪9‬ليمان ‪ ‬لحاش‪9‬يته‪ {:‬ي‪9‬ا‬
‫َأ ُّي َها ْال َمأَل ُ َأ ُّي ُك ْم َي ْأ ِتي ِني ِب َعرْ ِش َها َقب َْل َأ ْن َي ْأتُو ِني ُم ْس ِل ِمينَ }(النمل‪)38 :‬‬
‫قلت‪ :‬نعم‪ ،‬ولكني خشيت أن تقول شيئا قد ال يتناسب مع مق‪99‬ام األنبي‪99‬اء‬
‫عليهم الصالة والسالم‬
‫ق‪99‬ال‪ :‬ال‪ ،‬ب‪99‬ل ه‪99‬ذا من كم‪99‬الهم‪ ،‬فمن كم‪99‬ال المل‪99‬ك اس‪99‬تنجاده بأعوان‪99‬ه‬
‫واستشارته لهم‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فما في هذا؟‬
‫قال‪ :‬قد نسمي الملك شحاذا في هذه الحالة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬نعم إن جعلنا الشحاذة هي كل مسألة أو كل طلب معونة‪.‬‬
‫قال‪ :‬فإذا استقر رأي الملك وحاشيته على أمر‪.‬‬
‫قلت‪ :‬يبدأون في تنفيذه‪.‬‬
‫قال‪ :‬أين؟‬
‫قلت‪ :‬حسبما خططوا‪.‬‬
‫قال‪ :‬فإن ظهر ذلك األمر في الواقع‪ ،‬فلمن ينسب؟‬
‫قلت‪ :‬للملك والحاشية‪ ،‬وقد ينسب للقصر نفسه‪.‬‬
‫قال‪ :‬فالقصر إذن هو الباني والهادم‪ ،‬وهو الذي يتخذ كل القرارات‪.‬‬
‫قلت‪ :‬خاصة الصعبة منها‪ ،‬ألن ما عداها قد تتكفل به األكواخ‪.‬‬
‫ق‪99‬ال‪ :‬ألم تس‪99‬مع من الغ‪99‬زالي ب‪99‬أن اإلنس‪99‬ان م‪99‬ع لطائف‪99‬ه‪ ،‬كالمل‪99‬ك م‪99‬ع‬
‫حاشيته؟‬

‫‪137‬‬
‫قلت‪ :‬نعم‪ ،‬لق‪9‬د مث‪9‬ل الغ‪9‬زالي نفس اإلنس‪9‬ان وعالقته‪9‬ا بقواه‪9‬ا بالمل‪9‬ك‪،‬‬
‫فقال‪ (:‬مثل نفس اإلنسان في بدنه أعني ب‪99‬النفس اللطيف‪99‬ة الم‪99‬ذكورة‪ ،‬كمث‪99‬ل‬
‫مل‪99‬ك في مدينت‪99‬ه ومملكت‪99‬ه‪ ،‬ف‪99‬إن الب‪99‬دن مملك‪99‬ة النفس وعالمه‪99‬ا ومس‪99‬تقرها‬
‫وم‪99‬دينتها وجوارحه‪99‬ا‪ ،‬وقواه‪99‬ا بمنزل‪99‬ة الص‪99‬ناع والعمل‪99‬ة‪ ،‬والق‪99‬وة العقلي‪99‬ة‬
‫المفكرة له كالمشير الناصح وال‪9‬وزير العاق‪9‬ل‪ ،‬والش‪9‬هوة ل‪9‬ه كالعب‪9‬د الس‪9‬وء‬
‫يجلب الطعام والميرة إلى المدينة‪ ،‬والغضب والحمية له كصاحب الشرطة‬
‫)(‪)1‬‬
‫قال‪ :‬فل‪9‬و أن ه‪9‬ذا المل‪9‬ك اخت‪9‬ار بص‪9‬واب رأي‪9‬ه وم‪9‬ا أوتي من الحكم‪9‬ة‬
‫بطانة صالحة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ستكون رعيته في أحسن حال‪ ،‬ولن ينال منها‪ ،‬ولن تنال من‪99‬ه إال‬
‫الخير‪ ،‬وقد قال ‪ (:‬ما بعث هللا من نبي وال استخلف من خليفة إال ك‪9‬انت‬
‫له بطانتان‪ :‬بطانة تأمره بالمعروف وتحضه علي‪99‬ه‪ ،‬وبطان‪99‬ة ت‪99‬أمره بالش‪99‬ر‬
‫وتحضه عليه‪ ،‬فالمعصوم من عصمه هللا )(‪)2‬‬
‫وقد قال الشاعر ناصحا‪:‬‬
‫ت‬
‫أدرى بوج‪ِ 999‬ه الص‪999‬الحا ِ‬ ‫واجع‪999‬لْ بطانت‪999‬كَ الك‪999‬را َم‬
‫ف‪99999999999999999999999999999999999999999‬إِنه ْم وأخ‪999999999999999999999999999999999999999‬ب ُر‬
‫‪  ‬‬ ‫‪ ‬‬
‫وط‪999‬اب‬
‫َ‬ ‫ط‪999‬ابت ش‪999‬مائلُهم‬
‫ْ‬ ‫إِن الكري َم له الكرا ُم بطانَ‪99‬ةٌ‬
‫العنص‪ُ 9999999999999999999999999999999999999‬ر‬ ‫‪ ‬‬
‫‪  ‬‬
‫الح ش‪ٌ 9999999‬ر باع‪ُ 9999999‬دوه‬ ‫أو َ‬ ‫الح خ‪9999999‬ي ٌر قَ َرب‪9999999‬وه‬
‫إِن َ‬
‫ويَ ْس‪9999999999999999999999999999999999999‬روا َو َّعس‪999999999999999999999999999999999999‬روا‬
‫‪  ‬‬ ‫‪ ‬‬
‫قرنا ُء س‪99‬و ٍء ليس فيهم خيَّ ُر‬ ‫أم‪99‬ا الل‪99‬ئي ُم فحولَ‪99‬ه أمثالُ‪99‬هُ‬
‫‪  ‬‬ ‫‪ ‬‬
‫الح ش ٌر قَرَّبوه ويَ َّس‪99‬روا‬ ‫أو َ‬ ‫الح خ‪999999‬ي ٌر باع‪999999‬دوهُ‬ ‫إِن َ‬
‫و َع َّس‪999999999999999999999999999999999999‬روا ‪  ‬‬
‫‪ ‬‬

‫‪ ) )(1‬اإلحياء‪.3/6 :‬‬
‫‪ )(2‬البخاري والنسائي‪.‬‬

‫‪138‬‬
‫فقبيلُهُ من ِ‬
‫جنس ‪9‬ه والمعش ‪ُ 9‬ر‬ ‫‪9‬ات مثلُ ‪9‬هُ‬
‫‪9‬ون كائن‪ٌ 9‬‬
‫ولك‪99‬ل ك‪ٍ 9‬‬
‫‪  ‬‬ ‫‪ ‬‬
‫قال‪ :‬فإذن م‪9‬ا يص‪9‬در من المل‪9‬ك وحاش‪9‬يته ه‪9‬و ال‪9‬ذي يظه‪9‬ر في البالد‬
‫وبين الرعية؟‬
‫قلت‪ :‬نعم‪ ،‬على حسب المثال الذي ذكره الغزالي‪.‬‬
‫قال‪ :‬فمد الشحاذ يده للن‪99‬اس‪ ،‬أليس موقف‪9‬ا من المواق‪9‬ف الخط‪9‬يرة ال‪99‬تي‬
‫اتخذها في حياته؟‬
‫قلت‪ :‬أجل‪ ،‬بل هو أخط‪99‬ر المواق‪99‬ف على اإلطالق‪ ،‬فيكفي م‪99‬ا في‪99‬ه من‬
‫الذلة‪.‬‬
‫قال‪ :‬فهل أرغم على ذلك‪ ،‬أم اتخذ القرار بنفسه؟‬
‫قلت‪ :‬قد يكون مرغما‪ ،‬فقرار مثل هذا ال يكون عن طواعية‪.‬‬
‫قال‪ :‬وكذلك مثل ق‪99‬رارات كث‪99‬ير من المل‪99‬وك ال‪99‬ذين ال ي‪99‬رون إال جه‪99‬ة‬
‫واحدة‪ ،‬ثم يتصورون أنهم مضطرون‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فليسوا مضطرين إذن؟‬
‫قال‪ :‬من رحم‪9‬ة هللا بعب‪9‬اده أو من ابتالئ‪9‬ه لهم أن يض‪9‬ع لهم الكث‪9‬ير من‬
‫الحلول‪ ،‬ولكنهم يعمون أعينهم عنها‪ ،‬ويتصورون أنهم مض‪9‬طرون ألبش‪9‬ع‬
‫الحلول‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فه‪9‬ذا الق‪9‬رار ال‪9‬ذي اتخ‪9‬ذه في نفس‪9‬ه س‪9‬واء ك‪9‬ان مكره‪9‬ا علي‪9‬ه أو‬
‫مختارا من لجأ إليه فيه‪.‬‬
‫قلت‪ :‬إلى وزرائه وأعوانه وحاشيته‪.‬‬
‫قال‪ :‬فقد وثق فيهم إذن عندما استشارهم‪.‬‬
‫قلت‪ :‬لقد قال ‪ (:‬إن المستشار مؤتمن )(‪)1‬‬
‫قال‪ :‬ولكن المستشار قد يكون أخرق؟‬
‫قلت‪ :‬أجل‪ ،‬وحينذاك يكون من البطانة السيئة‪.‬‬
‫قال‪ :‬فلماذا لم يمد يده إلى جهة عليا موثوقة يستشيرها‪.‬‬
‫قلت‪ :‬لثقته بوزرائه‪.‬‬
‫قال‪ :‬فقد رضي إذن عن نفسه حين مد يده إليها‪.‬‬
‫قلت‪ :‬نعم‪.‬‬
‫ق‪99‬ال‪ :‬فمب‪99‬دأ الش‪99‬حاذة إذن الرض‪99‬ى عن النفس وعن ق‪99‬رارات النفس‪،‬‬

‫‪ ) )(1‬الترمذي وقال‪ :‬حديث حسن‪.‬‬

‫‪139‬‬
‫ولذلك كان عالجها الحقيقي ال بنهي الشحاذ عن مد ي‪99‬ده إلى الن‪99‬اس‪ ،‬وإنم‪99‬ا‬
‫نهيه عن مد يده إلى نفسه‪.‬‬
‫قلت‪ :‬نعم‪ ،‬لقد اقتنعت بهذا الكالم‪ ،‬ولكن ما هو السبيل إلقناعه بعدم مد‬
‫يده إلى نفسه؟‬
‫قال‪ :‬هو نفس السبيل الذي نقنع به الملك بعدم الثقة في مستش‪99‬اريه‪ ..‬إن‬
‫أول خطوة تخطوها لقطع مد ي‪9‬دك إلى نفس‪9‬ك ه‪9‬و ع‪9‬دم ثقت‪9‬ك به‪9‬ا‪ ،‬وع‪9‬دم‬
‫رضاك عنها‪.‬‬
‫قلت‪ :‬لق‪99‬د ذكرت‪99‬ني بق‪99‬ول ابن عط‪99‬اء هللا‪ (:‬أص‪99‬ل ك‪99‬ل معص‪99‬ية وغفل‪99‬ة‬
‫وشهوة الرضا عن النفس‪ ،‬وأصل ك‪9‬ل طاع‪9‬ة ويقظ‪9‬ة وعف‪9‬ة ع‪9‬دم الرض‪9‬ا‬
‫منك عنه‪9‬ا‪ .‬وألن تص‪9‬حب ج‪9‬اهال ال يرض‪9‬ى عن نفس‪9‬ه‪ ،‬خ‪9‬ير ل‪9‬ك من أن‬
‫لع‪9‬الم يرض‪9‬ى عن نفس‪9‬ه؟ وأي‬ ‫ٍ‬ ‫تصحب عالماً يرضى عن نفسه‪ ،‬ف‪9‬أي علم‬
‫جهل لجاهل ال يرضى عن نفسه؟ )‬
‫قال‪ :‬لم نصحه بأن ال يرضى عن نفسه؟‬
‫قلت‪ :‬لتبديلها الحقائق‪ ،‬كما قال الشاعر‪:‬‬
‫وعين الرض‪9999999999‬ا عن ك‪9999999999‬ل عيب كليلة‬
‫‪ ‬‬
‫كم‪99999‬ا أن عين الس‪99999‬خط تب‪99999‬دي المس‪99999‬اويا‬
‫‪  ‬‬
‫قال‪ :‬فهل يمكن أن يصلح من يرضى عن تصرفات نفسه‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ال‪ ،‬فإن كل ما كسب من المحرمات ناتج عن الرضى عن النفس‬
‫والسماع ألوامرها‪ ،‬كما قال تع‪9‬الى عن إخ‪9‬وة يوس‪9‬ف ‪َ {:‬و َج‪ 9‬ا ُءوا َع َلى‬
‫صبْرٌ َج ِمي‪99‬لٌ َوهَّللا ُ ْال ُم ْس ‪َ 9‬ت َع ُ‬
‫ان‬ ‫ت َل ُك ْم َأ ْنفُ ُس ُك ْم َأ ْمراً َف َ‬‫ال َبلْ َس َّو َل ْ‬
‫ب َق َ‬ ‫َق ِم ِ‬
‫يص ِه ِبد ٍَم َك ِذ ٍ‬
‫َصفُونَ }(يوسف‪)18 :‬‬ ‫َع َلى َما ت ِ‬
‫ت‬ ‫ض‪ُ 9‬‬‫ْص‪9‬رُوا ِب‪ِ 9‬ه َف َق َب ْ‬ ‫ت ِب َم‪9‬ا َل ْم َيب ُ‬‫ص‪9‬رْ ُ‬‫‪9‬ال َب ُ‬ ‫وكما ق‪9‬ال عن الس‪9‬امري‪َ {:‬ق َ‬
‫ت ِلي َن ْف ِسي}(طـه‪)96 :‬‬ ‫ُول َف َن َب ْذتُ َها َو َك َذ ِلكَ َس َّو َل ْ‬
‫ْض ًة ِم ْن َأ َث ِر الرَّ س ِ‬
‫َقب َ‬
‫قال‪ :‬ما سبب قتل ابن آدم األول ألخيه؟‬
‫قلت‪ :‬لقد ذكر المفسرون في ذلك أقواال‪ ،‬منها م‪99‬ا ق‪99‬ال الس‪99‬دي عن ابن‬
‫عباس وعن ابن مس‪9‬عود‪ :‬أن‪9‬ه ك‪9‬ان ال يول‪9‬د آلدم مول‪9‬ود إال ومع‪9‬ه جاري‪9‬ة‪،‬‬
‫فكان يزوج غالم هذا البطن جارية هذا البطن اآلخر‪ ،‬ويزوج جاري‪99‬ة ه‪99‬ذا‬
‫البطن غالم هذا البطن اآلخر‪ ،‬حتى ولد له ابنان يقال لهم‪9‬ا هابي‪9‬ل وقابي‪9‬ل‪،‬‬

‫‪140‬‬
‫ك‪99‬ان قابي‪99‬ل ص‪99‬احب زرع‪ ،‬وك‪99‬ان هابي‪99‬ل ص‪99‬احب ض‪99‬رع‪ ،‬وك‪99‬ان قابي‪99‬ل‬
‫أكبرهما‪ ،‬وكان له أخت أحسن من أخت هابيل‪ ،‬وأن هابي‪99‬ل طلب أن ينكح‬
‫أخت قابي‪99‬ل‪ ،‬ف‪99‬أبى علي‪99‬ه‪ ،‬وق‪99‬ال هي أخ‪99‬تي ول‪99‬دت معي‪ ،‬وهي أحس‪99‬ن من‬
‫ع‪9‬ز وج‪9‬لَّ أيهم‪9‬ا‬ ‫أختك‪ ،‬وأنا أحق أن أتزوج بها‪ ،‬وأنهما قربا قرباناً إلى هّللا َّ‬
‫أحق بالجارية‪ ،‬قرب هابيل جذعة سمينة‪ ،‬وقرب قابيل حزمة سنبل‪ ،‬فوجد‬
‫فيه‪9‬ا س‪99‬نبلة عظيم‪9‬ة ففركه‪9‬ا وأكله‪99‬ا‪ ،‬ف‪9‬نزلت الن‪9‬ار ف‪9‬أكلت قربان‪9‬ا هابي‪99‬ل‪،‬‬
‫وتركت قربان قابي‪9‬ل‪ ،‬فغض‪9‬ب‪ ،‬وق‪9‬ال ألقتلن‪9‬ك ح‪9‬تى ال تنكح أخ‪9‬تي‪ ،‬فق‪9‬ال‬
‫هابيل‪ِ {:‬إنَّ َما َي َت َقبَّلُ هَّللا ُ ِمنَ ْال ُ‬
‫متَّ ِقينَ }(المائدة‪)1() )27 :‬‬
‫قال‪ :‬ولكن القرآن الكريم ذكر قوال واحدا؟‬
‫قلت‪ :‬القرآن الكريم ذكر ذلك‪ ..‬أين‪ ،‬فأنا ال أراه؟‬
‫َت َلهُ َن ْف ُسهُ َق ْت َل َأ ِخي ‪ِ 9‬ه َف َق َت َل ‪9‬هُ‬‫ط َّوع ْ‬
‫قال‪ :‬ألم تسمع إلى قول الحق تعالى‪َ {:‬ف َ‬
‫خَاس ِرينَ }(المائدة‪ ،)30 :‬فما سولت له نفسه من المعصية ه‪99‬و‬ ‫َفأَصْ َب َح ِمنَ ْال ِ‬
‫السبب‪ ،‬أما ما ذكر من األسباب‪ ،‬فمجرد خيوط عنكبوت‪ ،‬ألنه إن لم يقتل‪99‬ه‬
‫بهذا السبب قتله بغيره‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فما عالقة هذا بمد اليد إلى النفس؟‬
‫قال‪ :‬ألن النفس التي استطاعت أن تقهر صاحبها‪ ،‬فيمد يده لقتل أخيه‪،‬‬
‫لن تعجز أن تسول له أن يمد يده للناس يستجديهم‪.‬‬
‫قلت‪ :‬لق‪99‬د اقتنعت بم‪99‬ا قلت‪ ،‬لكن أنى لي أن أتخلص من م‪99‬د ي‪99‬دي إلى‬
‫نفسي‪.‬‬
‫قال‪ :‬بعلمك بتحقق نفسك بعدم أهليتها لالستشارة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وكيف أعلم ذلك؟‬
‫قال‪ :‬أربع‪9‬ة ص‪9‬فات في النفس إذا علمته‪9‬ا ارتفعت ثقت‪9‬ك فيه‪9‬ا‪ ،‬وكففت‬
‫عن مد يدك إليها‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ما هي؟‬
‫قال‪ :‬الجهل والظلم والهوى والخداع‪.‬‬
‫قلت‪ :‬لماذا هذه األربع؟‬
‫قال‪ :‬جهلها يجعلها تكذب عليك في نقل الحقائق‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وظلمها؟‬
‫قال‪ :‬يجعلها تضع األشياء في غير مواضعها‪.‬‬

‫‪ ) )(1‬ابن جرير‪.‬‬

‫‪141‬‬
‫قلت‪ :‬وهواها؟‬
‫قال‪ :‬يجعلها تسترالروائح المنتنة ببعض العطور السامة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وخداعها؟‬
‫قال‪ :‬هو احتيال النفس على نفسها‪.‬‬
‫الجهل‪:‬‬
‫قلت‪ :‬فكيف أعرف جهل نفسي؟ ولماذا أبحث عن جهله‪9‬ا؟ أال يزي‪9‬دني‬
‫ذلك حزنا وأسفا وألما؟‪ ..‬وكل ذلك ينافي السالم الذي تعلمني إياه‪.‬‬
‫قال‪ :‬علمك بجهل نفس‪9‬ك ه‪9‬و ال‪9‬ذي ي‪9‬دعوك إلى الس‪9‬الم وإلى الس‪9‬عادة‬
‫وإلى الطمأنينة‪ ،‬ويكف شر نفسك عنك‪.‬‬
‫قلت‪ :‬كيف؟‬
‫قال‪ :‬علمك بعلمك يدلك عليك‪ ،‬وعلمك بجهلك يجعلك تبحث عنه‪.‬‬
‫قلت‪ :‬زدني توضيحا‪.‬‬
‫قال‪ :‬كالم هللا سيزيدك توضيحا‪ ..‬بم‪99‬اذا أج‪99‬اب ق‪99‬ارون الص‪99‬الحين من‬
‫قومه عندما قالوا له‪ {:‬ال َت ْف َرحْ ِإ َّن هَّللا َ ال ي ُِحبُّ ْال َف ِر ِحينَ }(القصص‪)76 :‬‬
‫قلت‪ :‬أجابهم بقوله‪ِ {:‬إنَّ َما أُو ِتيتُهُ َع َلى ِع ْل ٍم ِع ْن ِدي}(القصص‪)78 :‬‬
‫قال‪ :‬فقد كان يعزل هللا إذن عن إعطائه ذلك المال‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أجل‪.‬‬
‫قال‪ :‬فعلمه إذن كان ساترا لجهل عظيم له أثره الخطير في حياته‪.‬‬
‫قلت‪ :‬نعم‪ ،‬ول‪99‬ذلك رد الق‪99‬رآن الك‪99‬ريم علي‪99‬ه ق‪99‬ائال‪َ {:‬أ َو َل ْم َيعْ َل ْم َأ َّن هَّللا َ َق‪ْ 9‬د‬
‫‪9‬و ًة َو َأ ْك َث‪9‬رُ َج ْمع‪9‬اً َوال ي ُْس‪9‬أَلُ ع َْن‬ ‫‪9‬و َأ َش‪ُّ 9‬د ِم ْن‪9‬هُ قُ َّ‬ ‫َأ ْه َلكَ ِم ْن َق ْب ِل ِه ِمنَ ْالقُ ِ‬
‫رُون َم ْن هُ َ‬
‫ُذنُو ِب ِه ُم }(القصص‪)78 :‬‬
‫قال‪ :‬أتدري ما يقول له بهذا؟‬
‫قلت‪ :‬نعم‪ ،‬كأنه يق‪99‬ول ل‪99‬ه‪ (:‬لم‪99‬اذا اكتفيت ب‪99‬ذلك العلم‪ ،‬ولم‪99‬اذا لم تبحث‬
‫عن علم آخر أهم‪ ،‬وه‪99‬و العلم بمص‪99‬اير األق‪99‬وام ال‪99‬ذين أبي‪99‬دوا‪ ،‬وعن س‪99‬بب‬
‫إبادتهم‪ ،‬ليكون لك ذلك موضع عبرة )‬
‫قال‪ :‬صدقت‪ ،‬ولكن لماذا لم يتعلم قارون هذا النوع من العلم؟‬
‫قلت‪ :‬لعله لم يجد معلما‪.‬‬
‫قال‪ :‬ال‪ ..‬ولكنه لم يجد استعدادا من نفسه لتعلمه‪ ..‬ولو وج‪99‬د االس‪99‬تعداد‬
‫ألرسل هللا له من يعلمه‪.‬‬
‫قلت‪ :‬كيف؟‬

‫‪142‬‬
‫قال‪ :‬إن العلم الذي عنده‪ ،‬والذي هو في حقيقته جهل يستر علما‪ ،‬منع‪9‬ه‬
‫من قبول غيره أي‪9‬ا ك‪9‬ان ذل‪9‬ك الغ‪9‬ير‪ ،‬ألم تس‪9‬مع قول‪9‬ه تع‪9‬الى‪َ {:‬ف َل َّما َج‪ 9‬ا َء ْته ُْم‬
‫ت َف ِرحُوا ِب َما ِع ْن َدهُ ْم ِمنَ ْال ِع ْل ِم َو َحا َق ِب ِه ْم َما َكانُوا ِب ِه َي ْس َته ِْزئُونَ }‬ ‫رُ ُسلُه ُْم ِب ْال َب ِّينَا ِ‬
‫(غافر‪)83 :‬‬
‫قلت‪ :‬بلى‪ ،‬فاهلل تعالى في هذه اآلية يخبر عن األمم المكذبة بالرسل في‬
‫قديم الدهر‪ ،‬وماذا حل بهم من العذاب الشديد مع شدة قواهم‪ ،‬وما أثروه في‬
‫األرض وجمعوه من األموال‪ ،‬فما أغنى عنهم ذلك ش‪99‬يئاً وال رد عنهم ذرة‬
‫من بأس هّللا ‪ ،‬وذلك ألنهم لم‪9‬ا ج‪9‬اءتهم الرس‪9‬ل بالبين‪9‬ات لم يلتفت‪9‬وا إليهم وال‬
‫أقبل‪9‬وا عليهم‪ ،‬واس‪9‬تغنوا بم‪9‬ا عن‪9‬دهم من العلم في زعمهم عم‪9‬ا ج‪9‬اءتهم ب‪9‬ه‬
‫الرسل‪.‬‬
‫قال‪ :‬فقد أرسل هللا إلى ه‪99‬ؤالء من يعلمهم‪ ،‬ولكنهم لتع‪99‬المهم ال‪99‬ذي ه‪99‬و‬
‫عين الجهل وأساس الجهل لم يقبلوا منه‪.‬‬
‫قلت‪ :‬نعم‪ ،‬ه‪99‬ذا ص‪99‬حيح‪ ،‬وق‪99‬د وق‪99‬ع في‪99‬ه أك‪99‬ثر المنح‪99‬رفين عن هللا‬
‫المجادلين أولياء هللا‪.‬‬
‫قال‪ :‬بل قل‪ :‬وقع فيه كل المنحرفين عن هللا‪ ،‬ف‪99‬أول خط‪99‬وة لالنح‪99‬راف‬
‫هي الجهل‪ ،‬كما أن أول خطوة للتحقيق هي العلم‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ولهذا جعل هللا تعالى علة ما حاق بالقرى من هالك ه‪9‬و الجه‪9‬ل‪،‬‬
‫كما قال تعالى‪َ {:‬و َلوْ َأنَّنَا ن ََّز ْلنَا ِإ َل ْي ِه ُم ْال َمال ِئ َك‪َ 9‬ة َو َكلَّ َمهُ ُم ْال َم‪9‬وْ تَى َو َح َش‪9‬رْ نَا َع َل ْي ِه ْم‬
‫‪9‬رهُ ْم َيجْ َهلُ‪99‬ونَ }‬ ‫ال َم‪99‬ا َك‪99‬انُوا ِلي ُْؤ ِمنُ‪99‬وا ِإاَّل َأ ْن َي َش ‪9‬ا َء هَّللا ُ َو َل ِك َّن َأ ْك َث‪َ 9‬‬ ‫ُك‪99‬لَّ َش ‪ْ 9‬ي ٍء قُبُ ً‬
‫(األنعام‪)111 :‬‬
‫قال‪ :‬أال ترى القوة التي يتمتع بها الجهل في الت‪99‬أثير في ص‪99‬احبه‪ ،‬وفي‬
‫صده عن الحقائق؟‬
‫قلت‪ :‬نعم‪.‬‬
‫قال‪ :‬بل إن هللا تعالى يخبر بأن كل المعج‪9‬زات لن تس‪9‬تطيع الت‪9‬أثير في‬
‫اإلنسان الجاهل‪.‬‬
‫قلت‪ :‬لماذا؟‬
‫قال‪ :‬ألنه سيجد من الحلول ما يغير به الحقائق‪ ،‬ألم تسمع قوله تعالى‪{:‬‬
‫ت‬ ‫ظ ُّلوا ِفي ‪ِ 9‬ه َيعْرُجُ‪99‬ونَ َل َق‪99‬الُوا ِإنَّ َم‪99‬ا ُس ‪ِّ 9‬ك َر ْ‬ ‫اء َف َ‬ ‫َو َل‪99‬وْ َفتَحْ َن‪99‬ا َع َل ْي ِه ْم َباب ‪9‬اً ِمنَ َّ‬
‫الس ‪َ 9‬م ِ‬
‫ْصارُ نَا َبلْ نَحْ ُن َقوْ ٌم َم ْسحُورُونَ }(الحجر‪ 14 :‬ـ ‪)15‬‬ ‫َأب َ‬
‫قلت‪ :‬نعم‪ ،‬فاهلل تعالى يخبر عن قوة كفرهم وعنادهم ومكابرتهم للح‪99‬ق‬

‫‪143‬‬
‫بحيث أنه ل‪9‬و فتح لهم باب‪9‬اً من الس‪9‬ماء فجعل‪9‬وا يص‪9‬عدون في‪9‬ه لم‪9‬ا ص‪9‬دقوا‬
‫بذلك‪ ،‬بل بل أرجعوا ذلك إلى عماهم أو إلى السحر‪.‬‬
‫قال‪ :‬فما سبب عمى أعينهم عن آيات هللا؟‬
‫قلت‪ :‬ما جعل فيها من الغشاوة‪ ،‬وما جعل في قل‪99‬وبهم من األكن‪99‬ة‪ ،‬كم‪99‬ا‬
‫قال تعالى‪َ {:‬و ِم ْنه ُْم َم ْن َي ْست َِم ُع ِإ َل ْيكَ َو َج َع ْل َن‪99‬ا َع َلى قُلُ‪99‬و ِب ِه ْم َأ ِكنَّ ًة َأ ْن َي ْف َقهُ‪99‬وهُ َو ِفي‬
‫آ َذا ِن ِه ْم َو ْقراً َو ِإ ْن َي َروْ ا ُكلَّ آ َي ٍة ال ي ُْؤ ِمنُوا ِب َها َحتَّى ِإ َذا َج‪ 9‬اءُوكَ ي َُجا ِدلُو َن‪99‬كَ َيقُ‪99‬ولُ‬
‫اطيرُ اأْل َ َّو ِلينَ }(األنعام‪)25 :‬‬ ‫الَّ ِذينَ َك َفرُوا ِإ ْن َه َذا ِإاَّل َأ َس ِ‬
‫قال‪ :‬وتلك األكنة التي منعتهم من معرفة الحقائق ماذا تضع بدلها؟‬
‫قلت‪ :‬األوه‪99‬ام‪ ،‬والجه‪99‬ل‪ ،‬بحيث تجعلهم يك‪99‬ابرون ك‪99‬ل ش‪99‬يء ح‪99‬تى‬
‫س َف َل َم ُس‪9‬وهُ‬
‫ط‪9‬ا ٍ‬ ‫المحسوس‪ ،‬كما ق‪9‬ال تع‪9‬الى‪َ {:‬و َل‪9‬وْ ن ََّز ْلنَ‪9‬ا َع َل ْي‪9‬كَ ِكتَاب‪9‬اً ِفي ِقرْ َ‬
‫ين}(األنعام‪ ،)7 :‬فهؤالء ك‪99‬ابروا‬ ‫ال الَّ ِذينَ َك َفرُوا ِإ ْن َه َذا ِإاَّل ِسحْ رٌ ُم ِب ٌ‬ ‫ِبأَ ْي ِدي ِه ْم َل َق َ‬
‫اء َس‪9‬ا ِقطاً َيقُولُ‪99‬وا‬ ‫الس‪َ 9‬م ِ‬ ‫ما لمسوه بأيديهم‪ ..‬وقال تعالى‪َ {:‬و ِإ ْن َي َروْ ا ِك ْس‪9‬فاً ِمنَ َّ‬
‫َس َحابٌ َمرْ ُكو ٌم}(الطور‪ )44 :‬وهؤالء كابروا المرئي المشاهد‪.‬‬
‫قال‪ :‬بل هم كابروا بحواسهم جميعا كل آيات هللا‪ ،‬كما قال تعالى‪َ {:‬و ِإ ْن‬
‫ُعْرضُوا َو َيقُولُوا ِسحْ رٌ ُم ْس َت ِمرٌّ }(القمر‪)2 :‬‬ ‫َي َروْ ا آ َي ًة ي ِ‬
‫قلت‪ :‬لقد اقتنعت بكل هذا‪ ،‬وال أحسبني أخالف‪9‬ه‪ ..‬ولك‪9‬ني لم أفهم عالق‪9‬ة‬
‫هذا باالستعفاف؟‬
‫قال‪ :‬االستعفاف هو بذل الجهد لتحصيل العفاف عن أيدي الناس‪ ،‬وق‪99‬د‬
‫عرفنا أن ذلك ال يكون إال بع‪99‬د االس‪99‬تعفاف عن النفس‪ ،‬والنفس ال يس‪99‬تعف‬
‫عنها إال إذا علم جهلها‪ ..‬أيمكن لملك عادل أن يسلم أي وزارة من وزاراته‬
‫لغير المختصين؟‬
‫قلت‪ :‬هذا محال‪ ..‬ألنهم سيفسدون وال يصلحون‪.‬‬
‫ق‪99‬ال‪ :‬ف‪99‬إذا وك‪99‬ل اإلنس‪99‬ان لنفس‪99‬ه الجاهل‪99‬ة ت‪99‬دبير أم‪99‬ره‪ ،‬أال تكل‪99‬ه إلى‬
‫الخراب؟‬
‫قلت‪ :‬نعم‪ ،‬مثل النفوس ال‪9‬تي خ‪9‬ربت بني‪9‬ان ق‪9‬ارون وفرع‪9‬ون وجمي‪9‬ع‬
‫المشركين والملحدين‪.‬‬
‫قال‪ :‬بل تخريب ك‪9‬ل س‪9‬لوك‪ ،‬ألم تس‪9‬مع قول‪9‬ه ‪ (:‬إن هَّللا ع‪9‬ز وج‪9‬ل‬
‫يقول يوم القيامة‪ :‬يا ابن آدم مرضت فلم تعدني! قال‪ :‬يا رب كيف أع‪99‬ودك‬
‫وأنت رب العالمين؟ قال‪ :‬أما علمت أن عبدي فالن‪9‬اً م‪9‬رض فلم تع‪9‬ده؟ أم‪9‬ا‬
‫علمت أنك لو عدته لوج‪99‬دتني عن‪99‬ده؟ ي‪99‬ا ابن آدم اس‪99‬تطعمتك فلم تطعم‪99‬ني!‬

‫‪144‬‬
‫ق‪99‬ال‪ :‬ي‪99‬ا رب كي‪99‬ف أطعم‪99‬ك وأنت رب الع‪99‬المين؟ ق‪99‬ال‪ :‬أم‪99‬ا علمت أن‪99‬ه‬
‫استطعمك عبدي فالن فلم تطعمه؟ أما علمت أنك لو أطعمته لوج‪99‬دت ذل‪9‬ك‬
‫عندي؟ يا ابن آدم استس‪9‬قيتك فلم تس‪9‬قني! ق‪9‬ال‪ :‬ي‪9‬ا رب كي‪9‬ف أس‪9‬قيك وأنت‬
‫رب الع‪9‬المين؟ ق‪9‬ال‪ :‬استس‪9‬قاك عب‪9‬دي فالن فلم تس‪9‬قه! أم‪9‬ا إن‪9‬ك ل‪9‬و س‪9‬قيته‬
‫لوجدت ذلك عندي! )(‪ ،)1‬فقد أرجع هللا جهل العبد بهذه المع‪9‬اني ه‪9‬و ال‪9‬ذي‬
‫أوصله إلى ذلك التقصير‪.‬‬
‫قلت‪ :‬بل أخبر ‪ ‬عن تأثير الجهل من الناحية االجتماعية‪ ،‬فقال‪ (:‬إن‬
‫هَّللا ال يقبض العلم انتزاع‪999‬اً ينتزع‪999‬ه من الن‪999‬اس‪ ،‬ولكن يقبض العلم بقبض‬
‫العلماء‪ ،‬حتى إذا لم يبق عالماً اتخذ الناس رؤوساً جها ً‬
‫ال فسئلوا فأفتوا بغير‬
‫علم فضلوا وأضلوا )(‪ ،)2‬فقد أرجع ‪ ‬سبب الضاللة إلى اتخاذ الرؤس‪99‬اء‬
‫الجهال‪.‬‬
‫وأخبر ‪ ‬عن الهالك ال‪9‬ذي ح‪9‬اق ب‪9‬األمم نتيج‪9‬ة تعالمه‪9‬ا على كتبه‪9‬ا‪،‬‬
‫فقال‪ (:‬إنما هلك من كان قبلكم بهذا ضربوا كتاب هللا بعضه بعض‪99‬ا‪ ،‬وإنم‪99‬ا‬
‫نزل كتاب هللا يصدق بعضه بعضا وال يكذب بعضه بعضا‪ ،‬م‪9‬ا علمتم في‪9‬ه‬
‫فقولوا وما جهلتم فكلوه إلى عالمه )(‪)3‬‬
‫ق‪9‬ال‪ :‬فل‪9‬ذلك ك‪9‬انت أول حلق‪9‬ة تقط‪9‬ع من سلس‪9‬لة الطم‪9‬ع في النفس هي‬
‫يقينك بجهلها‪ ،‬فيقينك بجهلها يوصلك إلى التعلم منه‪ ،‬فال يتعلم إال الجاهل‪.‬‬
‫قلت‪ :‬لق‪99‬د ذكرت‪99‬ني بقول‪99‬ه ‪ (:‬ال ي‪99‬زال الرج‪99‬ل عالم‪99‬ا ح‪99‬تى يق‪99‬ول‬
‫علمت‪ ،‬فإذا قالها فقد جهل)‬
‫الغرور‪:‬‬
‫قال‪ :‬ألم تعلم ما الذي جعل فرعون يدعي األلوهية؟‬
‫َخَف َقوْ َم‪ُ 9‬ه َفأَ َ‬
‫ط‪9‬ا ُعو ُه ِإنَّه ُْم َك‪9‬انُوا َقوْ م‪9‬اً‬ ‫قلت‪ :‬قومه‪ ،‬فقد قال تعالى‪َ {:‬ف ْ‬
‫اس‪9‬ت َّ‬
‫َف ِ‬
‫اس ِقينَ }(الزخرف‪)54 :‬‬
‫قال‪ :‬وقبل قومه‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أنا لم أق‪9‬رأ ت‪9‬اريخ فرع‪9‬ون ح‪9‬تى أعلم مص‪9‬ادر ادعائ‪9‬ه الربوبي‪9‬ة‬
‫بالضبط‪ ،‬فقد يكون تأثر في ذلك بالديانات الفارسية أو الهندية‪..‬‬
‫قال‪ :‬ال‪ ..‬فقد ذكر القرآن الكريم ذلك‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أين؟‬
‫‪ ) )(1‬مسلم‪.‬‬
‫‪ ) )(2‬البخاري ومسلم‪.‬‬
‫‪ ) )(3‬البيهقي ن ابن عمرو‪.‬‬

‫‪145‬‬
‫ت َل ُك ْم ِم ْن‬ ‫ال ِفرْ عَوْ ُن َيا َأ ُّي َها ْال َمأَل ُ َم‪99‬ا َع ِل ْم ُ‬ ‫قال‪ :‬ألم تسمع قوله تعالى‪َ {:‬و َق َ‬
‫ط ِل‪ُ 9‬ع ِإ َلى‬‫ص‪9‬رْ حاً َل َع ِّلي َأ َّ‬ ‫ين َفاجْ َع‪9‬لْ ِلي َ‬ ‫ط ِ‬ ‫‪9‬ان َع َلى ال ِّ‬ ‫ِإ َل ٍه َغي ِْري َفأَوْ ِق ْد ِلي َيا هَا َم ُ‬
‫ظ ُّنهُ ِمنَ ْال َكا ِذ ِبينَ }(القصص‪)38 :‬‬ ‫ِإ َل ِه ُمو َسى َو ِإ ِّني أَل َ ُ‬
‫قلت‪ :‬بلى‪ ،‬وقد ذكر القرآن الكريم ذلك في موض‪99‬ع آخ‪99‬ر‪ ،‬ق‪99‬ال تع‪9‬الى‪:‬‬
‫ت‬ ‫اوا ِ‬‫اب ال َّس َم َ‬ ‫اب َأ ْس َب َ‬
‫صرْ حاً َل َع ِّلي َأ ْبلُ ُغ اأْل َ ْس َب َ‬ ‫ان اب ِْن ِلي َ‬ ‫ال ِفرْ عَوْ ُن َيا هَا َم ُ‬ ‫{ َو َق َ‬
‫ظ ُّنهُ َكا ِذباً َو َك َذ ِلكَ ُزيِّنَ ِل ِفرْ عَوْ نَ سُو ُء َع َم ِل ِه َوصُ َّد‬ ‫ط ِل َع ِإ َلى ِإ َل ِه ُمو َسى َو ِإ ِّني أَل َ ُ‬ ‫َفأَ َّ‬
‫ب}(غافر‪ 36:‬ـ ‪)37‬‬ ‫يل َو َما َك ْي ُد ِفرْ عَوْ نَ ِإاَّل ِفي َت َبا ٍ‬ ‫ع َِن ال َّس ِب ِ‬
‫قال‪ :‬فما هي العلة التي ذكرها القرآن الك‪99‬ريم‪ ،‬وال‪99‬تي ك‪99‬انت س‪99‬بب م‪99‬ا‬
‫ادعاه من دعاوى؟‬
‫قلت‪ :‬أليس هو الغرور الذي جعله يعتق‪99‬د أن‪99‬ه يعلم العلم ال‪99‬ذي ال جه‪99‬ل‬
‫فيه‪ ،‬أو ال جهل معه‪.‬‬
‫قال‪ :‬نعم‪ ،‬فالجهل بالجهل يولد الغرور‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فالغرور إذن وليد الجهل‪.‬‬
‫قال‪ :‬وقد يكون ولدا غير شرعي للعلم‪.‬‬
‫قلت‪ :‬كيف؟‬
‫قال‪ :‬إذا حبس في قفص علومه‪ ،‬أو س‪9‬قط في مه‪9‬اوي معارف‪9‬ه‪ ،‬أو ت‪9‬اه‬
‫في ظلمات كتبه وأوراقه‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ما أرى العلم إال نورا‪ ،‬فكيف ترميه بالظالم‪ ،‬وما أره إال حري‪99‬ة‪،‬‬
‫فكيف ترميه بالقفص‪ ،‬وما أراه إال رقيا‪ ،‬فكيف ترميه بالهاوية‪.‬‬
‫قال‪ :‬ذلك هو العلم الذي ال يقف صاحبه عنده‪ ،‬بل يظ‪99‬ل دائم‪99‬ا ص‪99‬فحة‬
‫بيضاء تنتظر أقالم األبد لتكتب عليها‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فسر لي هذا‪ ،‬وما الفربق بين الجهل والغرور؟‬
‫قال‪ :‬الجاهل قد يسأل‪ ،‬فيتعلم‪ ،‬ولكن المغرور ال يسأل وال يتعلم‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وإذا هداه هللا‪ ،‬فسأل؟‬
‫قال‪ :‬يسأل ليجادل‪ ،‬ال ليتعلم‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فإذا هداه هللا‪ ،‬وتعلم؟‬
‫قال‪ :‬يتعلم ليضم إلى غروره كبرياءه‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فما عالقة هذا بمد اليد إلى النفس؟‬
‫قال‪ :‬المغرور ال يمد يده إال إلى نفسه‪ ،‬ألنه يرى ما عداه أي‪99‬اد مم‪99‬دودة‬
‫إليه‪.‬‬

‫‪146‬‬
‫قلت‪ :‬إذن المغرور ال يكون شحاذا على عتبات المساجد‪.‬‬
‫قال‪ :‬قد يكون كذلك‪ ،‬ولكنه يتك‪9‬بر على الي‪9‬د ال‪9‬تي تم‪9‬ده بالعط‪9‬اء‪ ،‬وق‪9‬د‬
‫يحاول قطعها إن استغنى واكتفى‪ ،‬أترى استحالة ذلك؟‬
‫قلت‪ :‬ربم‪99‬ا‪ ،‬فم‪99‬ا أك‪99‬ثر م‪99‬ا نس‪99‬مع عن‪99‬ه من مقابل‪99‬ة الجمي‪99‬ل ب‪99‬الكفران‪،‬‬
‫واإلحسان باإلساءة‪.‬‬
‫قال‪ :‬ولهذا كان الغرور هو منبع جميع األمراض النفسية‪.‬‬
‫قلت‪ :‬كيف‪ ..‬األمراض النفسية كثيرة جدا‪ ،‬والمستش‪99‬فيات تس‪99‬تقبل ك‪99‬ل‬
‫يوم أنواعا جديدة من هذه األمراض‪.‬‬
‫ق‪99‬ال‪ :‬ليس‪99‬ت المستش‪99‬فيات وح‪99‬دها هي ال‪99‬تي تس‪99‬تقبل ه‪99‬ذا الن‪99‬وع من‬
‫األمراض‪ ،‬بل إن الشوارع تعج بها والمدارس والبيوت‪..‬‬
‫قلت‪ :‬فكيف يكون الغرور منبعها؟‬
‫قال‪ :‬اسمع القرآن الكريم‪ ،‬وستجد كيف تدلى الخلق بحبال الغ‪99‬رور في‬
‫مهاوي السخط‪.‬‬
‫قلت‪ :‬نعم‪ ..‬القرآن الكريم يذكر كثيرا الغرور باعتباره سببا من أسباب‬
‫الكفر والضاللة‪ ،‬فقد قال تعالى عن بني إسرائيل الذين تص‪99‬وروا أن الن‪99‬ار‬
‫ت‬‫ال تمسهم إال أياما معدودة‪َ {:‬ذ ِلكَ ِبأَنَّه ُْم َقالُوا َل ْن َت َم َّسنَا النَّارُ ِإاَّل َأيَّاماً َمعْ ُدودَا ٍ‬
‫َوغَرَّ هُ ْم ِفي ِدي ِن ِه ْم َما َكانُوا َي ْف َترُونَ }(آل عمران‪)24 :‬‬
‫قال‪ :‬وتحسب ذلك خاصا ببني إسرائيل؟‬
‫قلت‪ :‬ال أظن أن في هذه األمة المرحوم‪99‬ة من ادعى أن‪99‬ه لن يمكث في‬
‫النار إال أياما معدودات بسبب ذنوبه‪.‬‬
‫قال‪ :‬إن كلمة ( األمة المرحومة ) التي ذكرتها منبع غرور للكثيرين‪.‬‬
‫قلت‪ :‬كيف‪ ،‬فهذه األمة مرحومة بالشك‪.‬‬
‫قال‪ :‬ولكن كل من ولد في هذه األمة يتصور أنه من المرحومين‪ ،‬ول‪99‬و‬
‫بغير عمل يعمله‪ ،‬أو حسنة يقدمها‪ ،‬ولعله يتصور نفس‪9‬ه يحم‪9‬ل في ص‪9‬دره‬
‫صكا من صكوك الغفران التي تقول له‪ (:‬اعمل ما شئت فقد غفرت لك )‬
‫قلت‪ :‬هذه حقيقة‪ ،‬وكل المبشرات تدل على هذا‪.‬‬
‫‪9‬ل ْال ِكتَ‪9‬ا ِ‬
‫ب‬ ‫ْس ِبأَ َما ِن ِّي ُك ْم َوال َأ َم‪9‬ا ِن ِّي َأ ْه ِ‬
‫قال‪ :‬وعلى ماذا يدل قوله تعالى‪َ {:‬لي َ‬
‫َص‪9‬يراً} (النس‪9‬اء‪:‬‬ ‫ون هَّللا ِ َو ِليّاً َوال ن ِ‬ ‫َم ْن َيعْ َملْ سُوءاً يُجْ زَ ِب ِه َوال َي ِج ْد َل‪9‬هُ ِم ْن ُد ِ‬
‫‪)123‬‬
‫قلت‪ :‬نعم‪ ..‬إن اآلية تقرر أن الجزاء اإللهي ال يخضع ألم‪99‬اني الن‪99‬اس‪،‬‬

‫‪147‬‬
‫بل يخضع لقانون واحد يشمل الجميع‪ ..‬ولكن مع ذلك فنحن‪..‬‬
‫قاطعني‪ ،‬وقال‪ :‬هللا رب الجميع‪ ،‬ألم تسمع قوله تع‪9‬الى‪َ {:‬ي‪99‬ا َأ ُّي َه‪99‬ا النَّاسُ‬
‫‪9‬ر َم ُك ْم ِع ْن‪َ 9‬د‬‫‪9‬ارفُوا ِإ َّن َأ ْك‪َ 9‬‬ ‫‪9‬ل ِل َت َع‪َ 9‬‬‫ِإنَّا خَ َل ْقنَا ُك ْم ِم ْن َذ َك ٍر َوأُ ْن َثى َو َج َع ْلنَا ُك ْم ُشعُوباً َو َق َبا ِئ‪َ 9‬‬
‫هَّللا ِ َأ ْت َقا ُك ْم ِإ َّن هَّللا َ َع ِلي ٌم خَ ِبيرٌ}(الحج‪9‬رات‪ ،)13 :‬فه‪9‬ل ق‪9‬ال هللا تع‪9‬الى أك‪9‬رمكم‬
‫فالن أو فالن؟‬
‫قلت‪ :‬لقد ذكرتني بقول ابن عباس ‪ (:‬ثالث آي‪9‬ات جح‪9‬د من الن‪9‬اس)‬
‫‪9‬ر َوأُ ْن َثى َو َج َع ْلنَ‪9‬ا ُك ْم‬ ‫وذكر منها قوله تعالى‪َ {:‬يا َأ ُّي َه‪9‬ا النَّاسُ ِإنَّا خَ َل ْقنَ‪9‬ا ُك ْم ِم ْن َذ َك ٍ‬
‫‪99‬ر َم ُك ْم ِع ْن‪َ 99‬د هَّللا ِ َأ ْت َق‪99‬ا ُك ْم ِإ َّن هَّللا َ َع ِلي ٌم خَ ِب‪99‬يرٌ }‬
‫‪99‬ارفُوا ِإ َّن َأ ْك َ‬‫‪99‬ل ِل َت َع َ‬ ‫ُش‪99‬عُوباً َو َق َبا ِئ َ‬
‫(الحجرات‪ ،)13 :‬قال‪( :‬ويقولون‪ :‬إن أكرمهم عند هّللا أعظمهم بيتاً )‬
‫قال‪ :‬ثم تظن بعد هذا أن هذا الغرور خاص ببني إسرائيل‪ ..‬إن كل م‪99‬ا‬
‫في القرآن الك‪9‬ريم له‪9‬ذه األم‪9‬ة‪ ،‬ولكنكم ه‪9‬ربتم من الحق‪9‬ائق ال‪9‬تي ت‪9‬واجهكم‬
‫لتحولوه قصصا تسرد‪ ،‬وحكايات تروى‪ ،‬وأمثاال يلغز بها‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ي‪9‬ا معلم‪ ،‬النس‪9‬ب إذن س‪9‬بب من أس‪9‬باب الغ‪9‬رور‪ ،‬ولكن‪9‬ه خ‪9‬اص‬
‫بفئات محدودة‪ ،‬وقومي ـ عموما ـ ال يكادون يعتبرونه‪.‬‬
‫قال‪ :‬ولكنهم يعتبرون ما هو أخطر من النسب‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وماذا يعتبرون؟‬
‫قال‪ :‬أم الخطايا‪.‬‬
‫قلت‪ :‬لست أعرف للخطايا أما‪ ،‬وال أبا‪.‬‬
‫قال‪ :‬حب الدنيا ه‪9‬و رأس الخطاي‪9‬ا وأمه‪9‬ا وأص‪9‬ل أص‪9‬ولها‪ ،‬ألم تس‪9‬مع‬
‫ت َو ِإنَّ َم‪9‬ا تُ َوفَّوْ نَ أُ َ‬
‫جُ‪9‬ور ُك ْم َي‪9‬وْ َم ْال ِق َيا َم‪ِ 9‬ة َف َم ْن‬ ‫س َذا ِئ َق‪9‬ةُ ْال َم‪9‬وْ ِ‬‫قوله تعالى‪ُ {:‬كلُّ َن ْف ٍ‬
‫ُزحْ ز َح ع َِن النَّ ُ‬
‫‪9‬رُور}(آل‬ ‫ار َوأ ْد ِخ َل ْال َجنَّ َة َف َق ْد َفازَ َو َما ْال َح َياةُ ال ُّد ْن َيا ِإاَّل َمتَا ُع ْال ُغ‪ِ 9‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫عمران‪)185 :‬‬
‫قلت‪ :‬بلى‪ ،‬فقد وردت اآلي‪9‬ات الكث‪9‬يرة المح‪9‬ذرة من االغ‪9‬ترار بال‪9‬دنيا‪،‬‬
‫فاهلل تعالى يقول‪َ {:‬يا َأ ُّي َها النَّاسُ ِإ َّن َو ْع َد هَّللا ِ َح ٌّق َفال َت ُغرَّ نَّ ُك ُم ْال َح َي‪99‬اةُ ال ‪ُّ 9‬د ْن َيا َوال‬
‫َي ُغرَّ نَّ ُك ْم ِباهَّلل ِ ْال َغرُورُ }(فاطر‪)5 :‬‬
‫قال‪ :‬أتعلم الحبال التي يتدلى منها الغررو بالدنيا؟‬
‫قلت‪ :‬ما هي‪ ..‬دلني عليها ألقطعها وأخلص الخلق منها؟‬
‫قال‪ :‬هي حبال الشيطان‪ ،‬ألم تس‪9‬مع قول‪9‬ه تع‪9‬الى‪َ {:‬ي ِع‪ُ 9‬دهُ ْم َويُ َم ِّني ِه ْم َو َم‪9‬ا‬
‫ان ِإاَّل ُغ‪99‬رُوراً}(النس‪99‬اء‪ .. )120 :‬ألم تس‪99‬مع قول‪99‬ه تع‪99‬الى‪:‬‬ ‫ط ُ‬ ‫َي ِع‪ُ 9‬دهُ ُم َّ‬
‫الش ‪ْ 9‬ي َ‬
‫ص‪999‬وْ ِتكَ َو َأجْ ِلبْ َع َل ْي ِه ْم ِبخَ ْي ِل‪999‬كَ َو َر ِج ِل‪999‬كَ‬ ‫طعْتَ ِم ْنه ُْم ِب َ‬ ‫اس‪َ 999‬ت َ‬‫اس‪َ 999‬ت ْف ِز ْز َم ِن ْ‬ ‫{ َو ْ‬

‫‪148‬‬
‫ان ِإاَّل ُغ‪99‬رُوراً}‬ ‫ال َواأْل َوْ ال ِد َو ِع‪ْ 9‬دهُ ْم َو َم‪99‬ا َي ِع‪ُ 9‬دهُ ُم َّ‬
‫الش‪ْ 9‬ي َ‬
‫ط ُ‬ ‫ار ْكه ُْم ِفي اأْل َ ْم َ‬
‫‪9‬و ِ‬ ‫َو َش‪ِ 9‬‬
‫(االسراء‪)64 :‬‬
‫قلت‪ :‬ي‪9‬ا معلم‪ ..‬لق‪9‬د جلن‪9‬ا جول‪9‬ة في رح‪9‬اب الق‪9‬رآن الك‪9‬ريم عرفن‪9‬ا من‬
‫خاللها خطر الغرور وثماره‪ ،‬فما عالقة ذلك باالستعفاف‪ ،‬وما عالقة ذل‪99‬ك‬
‫بالفقراء؟‬
‫قال‪ :‬مد اليد بالسؤال علة خطيرة ال تكفي في معالجته‪99‬ا الم‪99‬راهم ال‪99‬تي‬
‫تداوون بها جراحكم‪ ،‬بل ال بد من عملية ضخمة تبدأ من تص‪99‬حيح ال‪99‬ذات‪،‬‬
‫وتصحيح الذات ال يمكن إال بالتعرف عليها وعلى مواضع الغرور منها‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فاذكر لي مثاال على تأثير الغرور في هذا؟‬
‫ق‪99‬ال‪ :‬اس‪99‬مع قول‪99‬ه تع‪99‬الى‪ {:‬ال َي ُغرَّ نَّكَ َت َق ُّلبُ الَّ ِذينَ َك َف‪99‬رُوا ِفي ْال ِبال ِد}(آل‬
‫ت هَّللا ِ ِإاَّل الَّ ِذينَ َك َف‪99‬رُوا َفال َي ْغ‪99‬رُرْ كَ‬
‫عمران‪ ،)196 :‬وقوله‪َ {:‬ما ي َُجا ِدلُ ِفي آ َيا ِ‬
‫َت َق ُّلبُه ُْم ِفي ْال ِبال ِد}(غافر‪)4 :‬‬
‫قلت‪ :‬في هاتين اآليتين يحذر هللا تعالى من االغترار بما حصل للكفار‬
‫من أنواع المتاع الدنيوي‪ ..‬ولكن لماذا حذر من هذا االغترار؟‬
‫قال‪ :‬ألن الغرور هو نقطة الضعف التي يتسرب منه‪99‬ا الش‪99‬يطان ليمأل‬
‫قلب اإلنسان هما وحزنا على حاله الهزيل‪ ،‬ويقارنه بح‪99‬ال المنتفخين‪ ،‬ف‪99‬إذا‬
‫ما حصل االغترار طلب الهزي‪99‬ل أن ينتفخ بنفس األس‪99‬لوب ال‪99‬ذي انتفخ ب‪99‬ه‬
‫غيره‪ ،‬فيقع فيما وقعوا فيه‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أريد توضيحا أكثر‪.‬‬
‫قال‪ :‬أرأيت لو أن سلطانا عادال اتخذ وزيرا مغرورا‪ ،‬أيمكن‪9‬ه أن ي‪9‬دير‬
‫دفة وزارته إدارة تتناسب مع عدل السلطان؟‬
‫قلت‪ :‬ال‪ ،‬بل قد يش‪9‬وه ع‪9‬دل الس‪9‬لطان‪ ،‬ب‪9‬ل ق‪9‬د ي‪9‬رمى ب‪9‬الجور لغ‪9‬رور‬
‫وزيره‪.‬‬
‫قال‪ :‬أرأيت ل‪99‬و أن وزي‪99‬ر الح‪99‬رب ك‪99‬ان ج‪9‬اهال بق‪99‬وة جيش الس‪99‬لطان‪،‬‬
‫ولكنه مع ذلك مغرور‪ ،‬أيمكن أن يزف البالد إلى حرب ال طاقة لها بها؟‬
‫قلت‪ :‬نعم‪ ،‬ذل‪9‬ك ممكن ج‪9‬دا خاص‪9‬ة إذا تص‪9‬ور أن‪9‬ه لن يحق‪9‬ق ذات‪9‬ه إال‬
‫بخوض الحروب‪.‬‬
‫قال‪ :‬فكذلك النفس لو أمرت عليها الغرور‪ ،‬فإنها ستتردى في ح‪99‬روب‬
‫ال طاقة لها بها‪ ،‬ليس مع ذاتها فقط‪ ،‬بل مع ذاتها ومع الناس ومع هللا‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فما الحل؟‬

‫‪149‬‬
‫قال‪ :‬أن تهرب منها إلى هللا‪ ،‬فال تم‪9‬د ي‪9‬دك إال إلي‪9‬ه‪ ،‬ألم تس‪9‬مع م‪9‬ا ق‪9‬ال‬
‫الصالح‪ (:‬دع نفسك وتعال )‬
‫قلت‪ :‬كيف أدع نفسي‪ ،‬وهي أنا؟‬
‫قال‪ :‬دع ما يحول بين‪9‬ك وبين رب‪9‬ك من نفس‪9‬ك‪ ،‬فال يمكن أن تم‪9‬د ي‪9‬دك‬
‫إليه ويدك ممدودة إلى نفسك‪..‬‬
‫ثم التفت إلي‪ ،‬فرأى تساؤالت كثيرة في عيني فقال‪ :‬أتعلم م‪99‬ا ه‪99‬و أش‪99‬د‬
‫المواقف على رسول هللا ‪ ‬في فترة رسالته األولى قبل البعثة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أشدها ذهابه إلى الطائف‪ ،‬حيث تقطن ثقيف‪ ،‬وهي تبعد عن مكة‬
‫ال‪ ،‬سارها محمد ‪ ‬على قدميه جيئة وذهوباً‪ ،‬فلما انتهى‬ ‫نحو الخمسين مي ً‬
‫إليه‪9‬ا قص‪9‬د إلى نف‪9‬ر من رجاالته‪9‬ا ال‪9‬ذين ينتهي إليهم أمره‪9‬ا‪ ،‬ثم كلمهم في‬
‫اإلسالم ودعاهم إلى هللا‪ ،‬فردوه ‪-‬جميعاً‪ -‬رداً منكراً‪ ،‬وأغلظوا له الج‪99‬واب‪.‬‬
‫ومكث عشرة أيام‪ ،‬يتردد على منازلهم دون جدوى‪.‬‬
‫فلما يئس الرسول ‪ ‬من خيرهم قال لهم‪ :‬إذا أبيتم‪ ،‬فاكتموا َّ‬
‫علي ذل‪99‬ك‬
‫‪-‬كراهية أن يبلغ أهل مك‪9‬ة‪ ،‬ف‪9‬تزداد ع‪9‬داوتهم وش‪9‬ماتتهم‪ -‬لكن الق‪9‬وم ك‪9‬انوا‬
‫أخس مم‪99‬ا ينتظ‪99‬ر‪ .‬ق‪99‬الوا ل‪99‬ه‪ :‬اخ‪99‬رج من بل‪99‬دنا‪ ،‬وحرّش‪99‬وا علي‪99‬ه الص‪99‬بيان‬
‫والرع‪9‬اع فوقف‪9‬وا ل‪9‬ه ص‪9‬فين يرمون‪9‬ه بالحج‪9‬ارة‪ .‬وزي‪9‬د بن حارث‪9‬ة يح‪9‬اول‬
‫الدفاع عنه حتى شج في ذلك رأسه‪.‬‬
‫وأص‪99‬يب الرس‪99‬ول ‪ ‬في أقدام‪99‬ه‪ ،‬فس‪99‬الت منه‪99‬ا ال‪99‬دماء واض‪99‬طره‬
‫المطاردون إلى أن يلجأ إلى بستان لعتبة‪ ،‬وشيبة‪ ،‬ابني ربيع‪99‬ة‪ ،‬حيث جلس‬
‫في ظل كرمة يلتمس الراحة واألمن(‪.)1‬‬
‫قال‪ :‬وعندما استراح في ذلك البستان‪ ،‬وهو في تلك الحال‪ ،‬هل مد ‪‬‬
‫يده إلى نفسه يطلب منها إغاثته بصنوف الحيل ليخرج من ذلك المأزق؟‬
‫قلت‪ :‬ال‪ ،‬بل روى علماء السير أنه بمجرد جلوسه في ظل الكرمة أخذ‬
‫يدعو هللا قائال‪ (:‬اللهم إليك أشكو ضعف قوتي‪ ،‬وقلة حيلتي‪ ،‬وه‪99‬واني على‬
‫الناس‪..‬أنت أرحم الراحمين‪ ،‬أنت رب المستض‪9‬عفين‪ ،‬وأنت ربي‪ ..‬إلى من‬
‫تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني‪ ،‬أم إلى عدو ملكته أمري؟ إن لم يكن بك غضب‬
‫علي فال أبالي‪ ،‬غير أن عافيتك هي أوس‪9‬ع لي‪ ..‬أع‪9‬وذ بن‪9‬ور وجه‪9‬ك ال‪9‬ذي‬
‫أش‪99‬رقت ل‪99‬ه الظلم‪99‬ات‪ ،‬وص‪99‬لح علي‪99‬ه أم‪99‬ر ال‪99‬دنيا واآلخ‪99‬رة‪ ،‬أن يح‪99‬ل علي‬
‫غضبك‪ ،‬أو أن ينزل بي سخطك‪ .‬لك العتبى ح‪9‬تى ترض‪9‬ى‪ ،‬وال ح‪9‬ول وال‬

‫‪ ) )(1‬فقه السيرة للغزالي‪.‬‬

‫‪150‬‬
‫قوة إال بك‪) ..‬‬
‫قال‪ :‬فهل شكى رسول هللا ‪ ‬الناس إلى ربه؟‬
‫قلت‪ :‬ال‪ ،‬بل شكى نفسه‪ ،‬واستعاذ من غضب ربه عليه‪.‬‬
‫قال‪ :‬فل‪9‬و ك‪9‬ان في ه‪9‬ذا الموق‪9‬ف مغ‪9‬رورا بنفس‪9‬ه معظم له‪9‬ا م‪9‬اذا ك‪9‬ان‬
‫سيفعل؟‬
‫رأيت أن أحس‪99‬ن وس‪99‬يلة لإلجاب‪99‬ة على س‪99‬ؤال المعلم هي أن أع‪99‬رض‬
‫نفسي على ذلك الموقف ألرى ما ال‪99‬ذي س‪99‬يمكن أن أفعل‪99‬ه‪ ..‬لق‪99‬د تص‪99‬ورت‬
‫نفسي مادا يدي إلى هللا أسأله أن يدمرهم ويبي‪9‬د خض‪9‬راءهم ويقط‪9‬ع نس‪9‬لهم‬
‫ويشردهم‪ ،‬فيذوقوا من األهوال أضعاف ما ذقت‪ ..‬أو رأيتني أقول لنفس‪99‬ي‪:‬‬
‫( لئن تمكنت منهم ألرينهم شر ما صنعوا )‬
‫ق‪99‬ال لي معلم الس‪99‬الم‪ ،‬وق‪99‬د رأى ش‪99‬رودي‪ :‬وتبقى وح‪99‬دك بع‪99‬دها م‪99‬ع‬
‫وزيرك المغرور الذي حرم أمما من فضل هللا بس‪99‬بب موق‪99‬ف من مواق‪99‬ف‬
‫األنفة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬لقد ذكرتني بمتسول كان يمد يده إلى الن‪99‬اس‪ ،‬وك‪99‬ان يختل‪99‬ف عن‬
‫س‪99‬ائر المتس‪99‬ولين في أن‪99‬ه ال ي‪99‬دعو لمن أعط‪99‬اه‪ ،‬وإنم‪99‬ا ي‪99‬دعو على من لم‬
‫يعط‪99‬ه‪ ..‬وك‪99‬ان م‪99‬ع ذل‪99‬ك أك‪99‬ثر المتس‪99‬ولين مكاس‪99‬ب‪ ،‬فالن‪99‬اس يخ‪99‬افون من‬
‫دعوات السوء أكثر من رجائهم لدعوات الخير‪..‬‬
‫الهوى ‪:‬‬
‫قال لي معلم السالم‪ :‬الصفة الثالثة التي تجعلك تمد يدك إلى نفس‪99‬ك هي‬
‫الهوى‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ما الهوى؟‬
‫قال‪ :‬هو وزير من وزراء النفس تعرض عليه الحلول المختلفة لجميع‬
‫المشاكل‪ ،‬فال يبصر منها إال ما يوافق ذوقه‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وماذا يفعل بالحلول األخرى؟‬
‫قال‪ :‬يرميها‪ ،‬أو يتهمه‪99‬ا‪ ،‬أو ينكره‪99‬ا‪ ،‬أو يلتمس ص‪99‬نوف الحي‪99‬ل ليقن‪99‬ع‬
‫عقله بمخالفتها‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ولكن ال‪99‬دين أعظم من العق‪99‬ل‪ ،‬فن‪99‬وره أك‪99‬ثر امت‪99‬دادا من امت‪99‬داد‬
‫العقل‪ ،‬فلذلك قد تقتنع حقيقة اإلنسان بما يمليه الدين‪ ،‬ويترك ما يمليه العق‪99‬ل‬
‫الذي سلم نفسه للهوى‪.‬‬
‫قال‪ :‬ولكن الدين نفسه قد يصبح لعبة بيد صاحب الهوى‪.‬‬

‫‪151‬‬
‫قلت‪ :‬ولكن الدين بيد هللا‪ ،‬وال يمكن أن يصبح بيد أحد من الناس؟‬
‫قال‪ :‬ألم تعلم بأن الهوى من أخطر أسباب تحريف األديان‪ ،‬ومن أك‪99‬بر‬
‫سراديب االعتراض؟‬
‫قلت‪ :‬بلى‪ ،‬فقد قرأت في القرآن الكريم كثيرا من هذا‪ ،‬قال تعالى‪َ {:‬فإِ ْن‬
‫ض‪9‬لُّ ِم َّم ِن اتَّ َب‪َ 9‬ع ه ََ‪9‬واهُ ِب َغي ِ‬
‫ْ‪9‬ر‬ ‫‪9‬وا َءهُ ْم َو َم ْن َأ َ‬ ‫اع َل ْم َأنَّ َما َيتَّ ِبعُونَ َأ ْه َ‬
‫َل ْم َي ْست َِجيبُوا َلكَ َف ْ‬
‫الظا ِل ِمينَ }(القصص‪)50 :‬‬ ‫هُدىً ِمنَ هَّللا ِ ِإ َّن هَّللا َ ال َي ْه ِدي ْال َقوْ َم َّ‬
‫ثم أخ‪99‬ذت نفس‪9‬ا عميق‪99‬ا‪ ،‬وقلت‪ :‬الحم‪9‬د هلل لق‪9‬د من هللا على ه‪99‬ذه األم‪9‬ة‪،‬‬
‫فحفظ كتابها وسنة نبيها ‪ ،‬فلذلك لم تستطع كل شياطين الهوى أن تب‪99‬دل‬
‫هذا الدين أو تغيره‪.‬‬
‫ق‪99‬ال‪ :‬نعم‪ ،‬ه‪99‬ذا من رحم‪99‬ة هللا‪ ،‬ولكن لله‪99‬وى س‪99‬لطانه على النف‪99‬وس‪،‬‬
‫فلذلك قد يفسر الحق الذي ال مرية فيه بالباطل الذي ال شك فيه‪ ،‬أولم تسمع‬
‫نهي هللا لهذه األمة عن طريق نبيها من الجثو أمام األهواء‪ ،‬ألم تسمع قول‪99‬ه‬
‫‪9‬وا َءهُ ْم َبعْ‪َ 9‬د َم‪9‬ا َج‪ 9‬ا َءكَ ِمنَ‬ ‫زَلنَاهُ حُ ْكماً ع ََر ِبيّاً َو َل ِئ ِن اتَّ َبعْتَ َأ ْه َ‬ ‫تعالى‪َ {:‬و َك َذ ِلكَ َأ ْن ْ‬
‫ق}(الرعد‪)37 :‬‬ ‫ْال ِع ْل ِم َما َلكَ ِمنَ هَّللا ِ ِم ْن َو ِل ٍّي َوال َوا ٍ‬
‫قلت‪ :‬أيمكن للهوى أن يقلب الحقائق المستقرة؟‬
‫قال‪ :‬في نفس صاحب الهوى تنقلب الحقائق انقالبا تاما‪.‬‬
‫قلت‪ :‬لماذا؟‬
‫قال‪ :‬ألم تعلم بأن الهوى قد يتحكم في اإلنس‪99‬ان فيص‪99‬ير معب‪99‬ودا ل‪99‬ه من‬
‫ض‪9‬لَّهُ هَّللا ُ َع َلى‬ ‫دون هللا‪ ،‬ألم تسمع قوله تعالى‪َ {:‬أ َف َر َأيْتَ َم ِن اتَّخَ َذ ِإ َل َههُ ه ََ‪9‬وا ُه َو َأ َ‬
‫او ًة َف َم ْن َي ْه ِدي‪ِ 9‬ه ِم ْن َبعْ‪ِ 9‬د هَّللا ِ‬
‫ص ِر ِه ِغ َش َ‬ ‫ِع ْل ٍم َوخَ َت َم َع َلى َس ْم ِع ِه َو َق ْل ِب ِه َو َج َع َل َع َلى َب َ‬
‫َأ َفال َت َذ َّكرُونَ }(الجاثـية‪)23 :‬؟‬
‫قلت‪ :‬بلى‪ ،‬وقد س‪99‬معت أن هللا تع‪99‬الى ق‪9‬ال لموس‪99‬ى ‪ (:‬ي‪9‬ا موس‪99‬ى‪،‬‬
‫خالف هواك فإني ما خلقت خلقا نازعني في ملكي إال الهوى )‬
‫قال‪ :‬فإذا انقلب وزير اله‪9‬وى على المل‪9‬ك إله‪9‬ا واس‪9‬توى على عرش‪9‬ه‪،‬‬
‫أيمكن ألحد أن يقنعه باتباع حق أو باالرتداع عن باطل؟‬
‫قلت‪ :‬فكيف أنقلب على هواي؟‬
‫قال‪ :‬برفع ثقتك من نفسك‪ ،‬وبتركك األمل فيها‪ ،‬وباللجوء إلى هللا‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فما مثل ذلك؟‬
‫قال‪ :‬إذا أراد الوزير االنقالب على الملك‪ ،‬ماذا يفعل؟‬
‫قلت‪ :‬يستعين بالجند وبكل ما أمكنه من طاق‪9‬ات‪ ..‬ولكن اله‪9‬وى أخط‪9‬ر‬

‫‪152‬‬
‫من الملك فهو يدعي األلوهية من دون هللا‪.‬‬
‫قال‪ :‬فحاربه باهلل‪.‬‬
‫قلت‪ :‬كيف؟‬
‫قال‪ :‬بمد يدك إليه‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وكيف أمد يدي إليه؟‬
‫قال‪ :‬بعدم مدها إلى نفسك‪ ،‬ألم تسمع قوله تعالى‪َ {:‬و َأ َّما َم ْن خَ ‪ 9‬افَ َم َق‪99‬ا َم‬
‫س ع َِن ْال َه َوى َفإِ َّن ْال َجنَّ َة ِه َي ْال َم ْأ َوى ‪(‬النازعـات‪)41 :‬‬‫َر ِّب ِه َو َن َهى النَّ ْف َ‬
‫الخداع‪:‬‬
‫قلت‪ :‬وعيت هذا‪ ..‬فما الصفة الرابعة التي تجعلني أمد يدي إلى نفسي؟‬
‫قال‪ :‬هي قدرة نفسك العظيمة على الخداع‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وما الخداع؟‬
‫قال‪ :‬هو وزير من وزراء النفس يضع لك الحيل المختلفة‪ ،‬ويوجد ل‪99‬ك‬
‫الحلول لمختلفة‪ ،‬ولكنها كلها ترمي بك في الهاوية‪.‬‬
‫قلت‪ :‬لعلك تقص‪99‬د م‪99‬ا ق‪9‬ال الغ‪99‬زالي في ق‪99‬وى النفس‪ (:‬والعب‪99‬د الج‪99‬الب‬
‫للميرة كذاب مك‪9‬ار خ‪9‬داع خ‪9‬بيث يتمث‪9‬ل بص‪9‬ورة الناص‪9‬ح وتحت نص‪9‬حه‬
‫الشر الهائل والسم القاتل وديدنه وعادته منازعة الوزير الناصح في آرائ‪99‬ه‬
‫وتدبيراته حتى ال يخلو من منازعته ومعارضته ساعة )(‪)1‬‬
‫قال‪ :‬نعم رحم هللا الغزالي‪ ،‬فقد كان خبيرا بالنفوس‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ولكن كيف أكتشف خداع نفس‪99‬ي لي‪ ،‬وكي‪99‬ف أف‪99‬رق بين نص‪99‬ائح‬
‫الوزير الناصح‪ ،‬وخداع العبد المحتال؟‬
‫قال‪ :‬بخروجك من نفسك ورفعك ثقتك عنها‪ ،‬وعودتك إلى هللا‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أتضرب لي أمثلة على خداع النفس‪.‬‬
‫قال‪ :‬نعم‪ ،‬سأضرب لك مثالين على خداع النفس‪ ،‬وتالعبها بصاحبها‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فما المثال األول؟‬
‫قال‪ :‬خدعة اسمها ( خدعة اإلحسان السابق )‬
‫قلت‪ :‬ما هي هذ الخدعة؟‬
‫قال‪ :‬عبر عنها شاعركم بقوله‪:‬‬
‫كذلك يحسن فيما بقي‬ ‫لقد أحسن هللا فيما مضى‬
‫قلت‪ :‬ه‪99‬ذا قي‪99‬اس‪ ،‬ولع‪99‬ل معن‪99‬اه ص‪99‬حيح‪ ،‬ف‪99‬إن ص‪99‬احب اإلحس‪99‬ان‬

‫‪ ) )(1‬اإلحياء‪.3/6 :‬‬

‫‪153‬‬
‫السابق ال يستغرب منه اإلحسان الالحق‪.‬‬
‫قال‪ :‬والمخادع هو الذي يلبس لباس الح‪99‬ق ليش‪99‬تري ب‪99‬ه الباط‪99‬ل أو‬
‫ليبيع به الباطل‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فأي باطل هذا الذي يريد ببيعه أو شراءه؟‬
‫قال‪ :‬ه‪99‬و باط‪99‬ل اله‪99‬وى‪ ،‬فه‪99‬و كلم‪99‬ا ه‪99‬وى ش‪99‬يئا اش‪99‬تراه بمخادعت‪99‬ه‬
‫لنفسه‪ ،‬ألم تسمع قوله تعالى في خ‪9‬بر ال‪99‬رجلين المتح‪99‬اورين‪َ {:‬و َم‪99‬ا أَظُ ُّن‬
‫ت إِلَى َربِّي أَل َ ِجد ََّن َخيْراً ِم ْنهَا ُم ْنقَلَب ‪9‬اً}(الكه‪99‬ف‪:‬‬ ‫السَّا َعةَ قَائِ َمةً َولَئِ ْن ُر ِد ْد ُ‬
‫‪)36‬؟‬
‫قلت‪ :‬بلى ‪ ..‬ولكن كيف احتالت النفس على نفسها بهذه الحيلة؟‬
‫قال‪ :‬هو قياس من أقيسة إبليس ‪ ..‬وذلك أنهم ينظرون مرة إلى نعم‬
‫هللا عليهم في الدنيا فيقيسون عليها نعم‪99‬ة اآلخ‪99‬رة‪ ،‬وينظ‪99‬رون م‪99‬رة إلى‬
‫ت‪99‬أخير الع‪99‬ذاب عنهم فيقيس‪99‬ون علي‪99‬ه ع‪99‬ذاب اآلخ‪99‬رة‪ ،‬كم‪99‬ا ق‪99‬ال تع‪9‬الى‪:‬‬
‫{ َويَقُولُونَ فِي أَ ْنفُ ِس ِه ْم لَوْ ال يُ َع ِّذبُنَا هَّللا ُ بِ َما نَقُ‪99‬و ُل }(المجادل‪99‬ة‪ ،)8 :‬فق‪99‬ال‬
‫ص‪999‬يرُ}‬ ‫س ْال َم ِ‬ ‫تع‪999‬الى جواب‪999‬ا ً لق‪999‬ولهم‪َ {:‬ح ْس‪999‬بُهُ ْم َجهَنَّ ُم يَ ْ‬
‫ص‪999‬لَوْ نَهَا فَبِ ْئ َ‬
‫(المجادلة‪)8 :‬‬
‫وترتيب القياس الذي نظمه في قلوبهم أنهم يقول‪99‬ون‪ :‬ق‪99‬د أحس‪99‬ن هللا‬
‫إلينا بنعيم الدنيا‪ ،‬وكل محسن فهو محب‪ ،‬وكل محب فإنه يحسن أيض ‪9‬ا ً‬
‫في المستقبل(‪.)1‬‬
‫قلت‪ :‬أليس كل محسن محب‪ ،‬أو لم تستدل أنت على كون هللا محبا‬
‫لنا بإحسانه إلينا؟‬
‫قال‪ :‬بلى ‪ ..‬كل محس‪99‬ن محب‪ ،‬ولكن من ق‪99‬ال لهم‪ :‬إن ه‪99‬ذا إحس‪99‬ان‬
‫محب‪99‬ة‪ ،‬ألم يجع‪99‬ل هللا ال‪99‬دنيا دارا لالبتالء‪ ،‬كم‪99‬ا ق‪99‬ال تع‪99‬الى‪َ {:‬ونَ ْبلُ‪99‬و ُك ْم‬
‫بِال َّش ِّر َو ْال َخي ِْر فِ ْتنَةً}(االنبياء‪ ،)35 :‬فاهلل تعالى يبتلي ب‪99‬الغنى كم‪99‬ا يبتلي‬
‫بالفقر‪ ،‬ويبتلي بالقوة كما يبتلي بالعجز؟‬
‫قلت‪ :‬لقد فهمت هذه الخدعة‪ ،‬وما أكثر انتشارها بين قومي‪ ،‬بل إن‬
‫القرآن الكريم نص عليه‪99‬ا باعتباره‪99‬ا مغالط‪99‬ة من المغالط‪99‬ات الك‪99‬برى‬
‫ال‪99‬تي ق‪99‬د يخ‪99‬دع به‪99‬ا ك‪99‬ل إنس‪99‬ان إال أول‪99‬و األلب‪99‬اب‪ ،‬فق‪99‬ال تع‪9‬الى‪ {:‬فأ َ َّما‬
‫ان إِ َذا َما ا ْبتَاَل هُ َربُّهُ فَأ َ ْك َر َمهُ َونَ َّع َمهُ فَيَقُو ُل َربِّي أَ ْك َر َم ِن َوأَ َّما إِ َذا َم‪99‬ا‬
‫اإْل ِ ن َس ُ‬
‫ا ْبتَالهُ فَقَ َد َر َعلَ ْي ِه ِر ْزقَهُ فَيَقُو ُل َربِّي أَهَانَ ِن}(الفجر‪ 15:‬ـ ‪)16‬‬

‫‪ ) )(1‬اإلحياء‪.3/283 :‬‬

‫‪154‬‬
‫قلت‪ :‬لقد فهمت المث‪99‬ال األول‪ ،‬ورأيت ن‪99‬وع المغالط‪99‬ة في‪99‬ه‪ ،‬فه‪99‬ات‬
‫المثال الثاني‪.‬‬
‫قال‪ :‬هذه الخدعة تسمى خدعة النعامة‪.‬‬
‫ضحكت‪ ،‬وقلت‪ :‬وما خدعة النعام؟‬
‫قال‪ :‬أنتم تنسبون أشياء كثيرة للحيوانات‪ ،‬فتسمون الرقص الماجن‬
‫( رقصة البجعة )‪ ،‬فكيف غابت عنكم ( خدعة النعامة )؟‬
‫قلت‪ :‬ال أدري‪ ..‬أرقصة هي كذلك؟‬
‫قال‪ :‬هي نوع من رقص الشياطين على عقل اإلنسان‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أفيتحول عقل اإلنسان بذلك إلى مرقص‪.‬‬
‫قال‪ :‬إن العقل الذي يس‪99‬تطيع أن يص‪9‬ير عرش‪9‬ا للمل‪99‬وك‪ ،‬وجن‪9‬ة من‬
‫جنان الكمال‪ ،‬وجامعة من جامعات العلم‪ ،‬لن يستحيل علي‪99‬ه أن يص‪99‬ير‬
‫مرقصا أو مستنقعا أو ساحة حرب‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فاشرح لي هذه الخدعة حتى ال تنطلي علي‪.‬‬
‫قال‪ :‬يحكى أنه قيل للنعامة ( إبل الطير )‪ :‬لـماذا ال تطيرين؟ فان‪99‬ك‬
‫وطوت جناحيها قائل‪9‬ةً‪ :‬أن‪99‬ا لس‪99‬ت بط‪99‬ائر ب‪99‬ل‬
‫ْ‬ ‫ْ‬
‫فقبضت‬ ‫تـملكين الـجناح‪،‬‬
‫إب‪99‬ل‪ ،‬ف‪99‬أدخلت رأس‪99‬ها في الرم‪99‬ل تارك‪99‬ةً جس‪99‬دها الضخـم للص‪99‬ياد‪،‬‬
‫ت إبال كما‬ ‫فاستهدفها‪ ..‬ثم قالوا لـها‪ :‬فاحـملي لنا إذن هذا الـحـمل إن كن ِ‬
‫ت ّدعين‪ ،‬فعندها صفّت جناحيها ونشرتهـما قائلة‪ :‬أن‪99‬ا ط‪99‬ائر‪ ،‬وتفلت من‬
‫تعب الحمل‪ .‬فظلت فريدة وحيدة دون غذاء وال حماية من أح‪99‬د وه‪99‬دفا ً‬
‫للصيادين‪.‬‬
‫قلت‪ :‬هذه حكاية جميلة متداولة‪ ،‬فما وجه الخدعة فيها؟‬
‫قال‪ :‬هذا المثال ينطبق تماما على النفس المخادعة التي تح‪99‬اول أن‬
‫تته‪99‬رب من التك‪99‬اليف الحل‪99‬وة اللذي‪99‬ذة لتق‪99‬ع في الحف‪99‬ر ال‪99‬تي لم تحس‪99‬ب‬
‫حسابها‪.‬‬
‫ال أمل فيهم‪:‬‬
‫وقفت مع المعلم أمام الجوهرة الثانية من جواهر االس‪99‬تعفاف‪ ،‬فس‪99‬ألت‬
‫المرشد عنها‪ ،‬فقال‪ :‬هذه جوهرة ( ال أمل فيهم )‬
‫ابتس‪99‬مت في نفس‪99‬ي من ه‪99‬ذه األس‪99‬ماء الغريب‪99‬ة‪ ،‬ثم التفت إلى المعلم‬
‫ليش‪99‬رح لي حقائقه‪99‬ا‪ ،‬فال يمكن أن أناله‪99‬ا ب‪99‬دون الوص‪99‬ول إلى حقيقته‪99‬ا‬
‫واالقتناع بها‪.‬‬

‫‪155‬‬
‫نظ‪99‬ر إلي المعلم‪ ،‬وق‪99‬ال‪ :‬إن أردت أن تي‪99‬أس مم‪9‬ا في أي‪99‬دهم فق‪99‬ل‪ (:‬هم‬
‫فقراء‪ ..‬هم عاجزون‪ ..‬هم ظالمون‪ ..‬هم بخالء )‬
‫قلت‪ :‬هم فقراء‪ ..‬هم عاجزون‪ ..‬هم ظالمون‪ ..‬هم بخالء‪ ..‬لكن ي‪99‬ا معلم‬
‫ال أرى هذه الكلمات أغنتني شيئا‪.‬‬
‫قال‪ :‬أنت تداوي جرح رجليك بمسح المرهم على يديك‪.‬‬
‫قلت‪ :‬كيف؟‬
‫قال‪ :‬ذلك الدواء الذي وصفته لك ال تأكله بفمك‪ ..‬ب‪99‬ل دع قلب‪99‬ك يلتهم‪99‬ه‬
‫ليمسح عنه ذلك األمل الكاذب‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ولكن القلب ال يأكل وال يشرب‪ ،‬وال تعتريه العوارض‪.‬‬
‫قال‪ :‬بلى ‪ ..‬إن‪9‬ه يأك‪9‬ل ويش‪9‬رب‪ ..‬يأك‪9‬ل الحكم‪9‬ة ويش‪9‬رب العلم‪ ..‬لينبت‬
‫ب هَّللا ُ َم َث ً‬
‫ال َك ِل َم‪ً 9‬ة‬ ‫ض ‪َ 9‬ر َ‬‫شجرة اإليمان التي قال هللا تعالى فيها‪َ {:‬أ َل ْم ت ََر َك ْي‪99‬فَ َ‬
‫اء}(ابراهيم‪)24 :‬‬ ‫ت َو َفرْ ُع َها ِفي ال َّس َم ِ‬ ‫ط ِّي َب ٍة َأصْ لُ َها َثا ِب ٌ‬
‫ط ِّي َب ًة َك َش َج َر ٍة َ‬
‫َ‬
‫قلت‪ :‬وكيف آكل تلك الكلمات‪ ،‬وكيف أشربها؟‬
‫قال‪ :‬بأن تتعلم م‪9‬ا فيه‪9‬ا من حق‪9‬ائق الحكم‪9‬ة‪ ،‬فال يمكن ألش‪9‬عة ج‪9‬وهرة‬
‫( ال أمل فيهم ) أن تنزل على ص‪9‬درك لتحقق‪99‬ك بحق‪9‬ائق االس‪9‬تعفاف إال إذا‬
‫علمت ما فيها‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وما فيها؟‬
‫قلت‪ :‬فيها الترياق الذي يرفع أملك عن الخالئق‪.‬‬
‫قلت‪ :‬لماذا أرفع أملي من الخالئق؟‬
‫قال‪ :‬لترفع يدك عنهم‪ ،‬فإن يدك ال تمتد إال لمن تطمع فيه‪..‬‬
‫قلت‪ :‬فلنفرض أني قطعت أملي من الخالئق؟‬
‫قال‪ :‬تلك أول خطوة تحققك باالضطرار‪ ،‬ألم تسمع الحق تع‪99‬الى وه‪99‬و‬
‫ف السُّو َء َو َيجْ َعلُ ُك ْم ُخ َل َفا َء اأْل َرْ ِ‬
‫ض‬ ‫يقول‪َ {:‬أ َّم ْن ي ُِجيبُ ْال ُمضْ َ‬
‫طرَّ ِإ َذا َدعَاهُ َو َي ْك ِش ُ‬
‫ال َما َت َذ َّكرُونَ }(النمل‪)62 :‬؟‬ ‫َأ ِإ َلهٌ َم َع هَّللا ِ َق ِلي ً‬
‫قلت‪ :‬أتحققي باالضطرار نعمة؟‬
‫قال‪ :‬من أكبر نعم هللا علي‪99‬ك أن ال تحت‪99‬اج إال إلي‪99‬ه‪ ،‬وأن ال تم‪99‬د أعن‪99‬اق‬
‫همتك إال إليه‪.‬‬
‫قلت‪ :‬لك‪9‬أني ب‪9‬ك تقص‪9‬د ق‪9‬ول ابن عط‪9‬اء هللا‪ (:‬ال تتع‪9‬د ني‪9‬ة همت‪9‬ك إلى‬
‫غيره‪ ،‬فالكريم ال تتخطاه اآلمال)‬
‫قال‪ :‬فمن الكريم هنا؟‬

‫‪156‬‬
‫قلت‪ :‬هللا‪ ،‬فهو الذي إذا قدر عف‪99‬ا‪ ،‬وإذا وع‪99‬د وفى‪ ،‬وإذا أعطى زاد‬
‫على منتهى الرجاء‪ ،‬وال يبالي كم أعطى‪ ،‬وال لمن أعطى‪ ،‬وإن رفعت‬
‫حاجة إلى غيره ال يرضى‪ ،‬وإذا جفي عاتب وما استقصى‪ ،‬وال يضيع‬
‫من الذ به والتجا‪ ،‬ويغنيه عن الوسائل والشفعاء‪.‬‬
‫قال‪ :‬فهل يستحق هذه الصفات بكمالها أحد من خلق هللا؟‬
‫قلت‪ :‬ال‪ ..‬فذلك مستحيل‪ ..‬فإن مثل هذا الكرم ال يمكن أن يكون إال‬
‫ممن خزائنه ال تنفذ‪ ..‬أما خزائننا فسريعة النفاذ‪ ..‬ولو امتألت ففين‪99‬ا من‬
‫البخل ما يمنع التكرم بها‪.‬‬
‫قال‪ :‬فلم‪9‬اذا إذن تتخط‪9‬ون الرق‪9‬اب‪ ،‬ولم‪9‬اذا ت‪9‬تركون ع‪9‬زة الم‪9‬ادين‬
‫أيديهم إلى هللا لتسحقوا في ذلة المادين أيديهم إلى خلقه‪.‬‬
‫ثم سكت هنيهة‪ ،‬وأخذ يردد قول الشاعر الصالح‪:‬‬
‫ح‪99999999999999‬رام على من وح‪99999999999999‬د هللا ربه‬
‫‪ ‬‬
‫وأف‪9999999‬رده أن يجت‪9999999‬دي أح‪9999999‬داً رف‪9999999‬دا‬
‫‪  ‬‬
‫وي‪9999‬ا ص‪9999‬احبي ق‪9999‬ف بي م‪9999‬ع الح‪9999‬ق وقفة‬
‫‪ ‬‬
‫أم‪9999‬وت به‪9999‬ا وج‪9999‬داً وأحي‪9999‬ا به‪9999‬ا وج‪9999‬دا‬
‫‪  ‬‬
‫وق‪99999‬ل لمل‪99999‬وك األرض تجه‪99999‬د جه‪99999‬دها‬
‫‪ ‬‬
‫ف‪99999‬ذا المل‪99999‬ك مل‪99999‬ك ال يب‪99999‬اع وال يه‪99999‬دى‬
‫‪  ‬‬
‫ثم التفت إلي‪ ،‬وقال‪ :‬ألم تسمع ما قال الحكيم بعد تلك الحكمة؟‬
‫قلت‪ :‬بلى‪ ،‬فقد قال‪ (:‬ال ترفعن إلى غيره حاجة هو موردها عليك‪،‬‬
‫فكيف يرفع غيره ما كان هو له واضعاً؟ من ال يستطيع أن يرفع حاجة‬
‫عن نفسه‪ ،‬فكيف يستطيع أن يكون لها عن غير رافعاً؟ )‬
‫قال‪ :‬فهذه الجوهرة شرح لتلك الحكمة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فلماذا كانت هذه األربع هي التري‪9‬اق ال‪9‬ذي يقي‪9‬ني من م‪9‬د هم‪99‬تي‬
‫إلى الخالئق‪ ..‬فقد ذكر هللا تعالى اإلنس‪9‬ان بس‪9‬لبيات كث‪9‬يرة غ‪9‬ير ه‪9‬ذه‪ ،‬فق‪9‬د‬

‫‪157‬‬
‫ذكر أنه كثير النسيان ون‪9‬اكر للجمي‪9‬ل‪ ،‬وأن‪9‬ه موج‪9‬ود ض‪9‬عيف‪ ،‬وأن‪9‬ه ظ‪9‬الم‬
‫وكافر‪ ،‬وأنه بخيل قتور‪ ،‬وأنه عجول‪ ،‬وأنه مجادل خص‪99‬يم‪ ،‬وأن‪99‬ه موج‪99‬ود‬
‫قليل التحمل والصبر‪ ،‬يبخل عند النعمة ‪ ،‬ويجزع عند البالء‪ ،‬وأنه طاغي‪99‬ة‬
‫عند الغنى‪ ..‬فلماذا اكتفيت بهذه األربع عن هذه الصفات جميعا؟‬
‫قال‪ :‬خصائص اإلنسان كثيرة كما ذكرت‪ ،‬بل هي أك‪99‬ثر مم‪99‬ا ذك‪99‬رت‪،‬‬
‫فإن كل صفة مذكورة يتفرع عنها صفات أخرى‪ ،‬تجع‪9‬ل اإلنس‪9‬ان مس‪9‬تعدا‬
‫ألن ينزل أسفل سافلين‪ ،‬ولكنا نتحدث هنا عن الصفات التي تيئسك مما في‬
‫أيديهم‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فما وجه الحصر في هذه الصفات؟‬
‫قال‪ :‬إذا علمت مس‪9‬اواتهم ل‪99‬ك في الفق‪9‬ر لم تم‪99‬د ي‪9‬دك إليهم‪ ،‬وه‪99‬ل يم‪9‬د‬
‫مريض يده لمريض مثله‪ ..‬وهل يمد غريق يده إلى غريق؟‬
‫قلت‪ :‬ولكن الناس ليسوا كلهم فقراء‪ ،‬فلذلك ال أمد يدي إال إلى األغنياء‬
‫منهم‪.‬‬
‫ق‪9‬ال‪ :‬فهم بخالء‪ ..‬يك‪9‬نزون أم‪9‬والهم‪ ،‬ويخ‪9‬افون إه‪9‬دارها علي‪9‬ك وعلى‬
‫أمثالك‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ولكن فيهم الكرام‪ ،‬وهل عقمت األرحام أن يلدن مثل حاتم؟‬
‫قال‪ :‬فهم ظالمون يضعون كرمهم في المواضع التي ال تصيبك‪.‬‬
‫قلت‪ :‬سأعرفهم بحاجاتي التي أعرفها وأشرحها لهم‪.‬‬
‫ق‪99‬ال‪ :‬فهم ع‪99‬اجزون‪ ..‬ألن حاجات‪99‬ك أك‪99‬ثر من أن يس‪99‬دها فق‪99‬ير وظ‪99‬الم‬
‫وبخيل وعاجز‪.‬‬
‫قلت‪ :‬يا معلم‪ ،‬لدي شبهة هنا‪ ،‬قد يتعلق بها من يتعلق‪.‬‬
‫قال‪ :‬وما هي؟‬
‫قلت‪ :‬إن هذه المعارف تحيلني يائسا قانطا‪ ،‬أليس القنوط كفرا؟‬
‫قال‪ :‬ذلك هو القنوط من هللا‪ ،‬واليأس من رحمته‪ ،‬فق‪99‬د ق‪99‬ال تع‪99‬الى على‬
‫ح هَّللا ِ ِإنَّهُ ال َي ْي‪99‬أَسُ ِم ْن َروْ ِ‬
‫ح هَّللا ِ ِإاَّل‬ ‫لس‪99‬ان يعق‪99‬وب ‪َ {:‬وال َتيْأَ ُس ‪9‬وا ِم ْن َروْ ِ‬
‫ْال َقوْ ُم ْال َكا ِفرُونَ }(يوسف‪)87 :‬‬
‫قلت‪ :‬ومع ذلك‪ ،‬فقد يقاس اليأس من الخلق باليأس من رحمة هللا بن‪99‬وع‬
‫من القياس أليس الخلق واسطة من وسائط الفضل!؟‪ ..‬فالي‪99‬أس من وس‪99‬ائط‬
‫الفضل يأس من الموسوط صاحب الفضل‪.‬‬
‫قال‪ :‬أال تعلم أن أول من قاس إبليس حين ق‪99‬ال‪َ {:‬أ َن‪99‬ا خَ ْي‪99‬رٌ ِم ْن‪9‬هُ خَ َل ْق َت ِني‬

‫‪158‬‬
‫ين}(ألعراف‪)12 :‬؟‬ ‫َار َوخَ َل ْق َتهُ ِم ْن ِط ٍ‬
‫ِم ْن ن ٍ‬
‫قلت‪ :‬تخليت عن القياس‪ ..‬فأنا ال أكاد أومن به ‪ ..‬ولكن ماذا يفي‪99‬دني أن‬
‫أعلم فقر الخالئق وعجزها وبخلها وجهلها‪.‬‬
‫قال‪ :‬يخلصك من عبوديتهم واألم‪9‬ل مم‪9‬ا في أي‪9‬ديهم ويجع‪9‬ل أمل‪9‬ك في‬
‫هللا‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فكيف لقلبي أن يرفع األمل من الخلق‪ ،‬ويتحق‪99‬ق بالي‪99‬أس مم‪99‬ا في‬
‫أيديهم‪.‬‬
‫قال‪ :‬بتعلم حقائق هذه الكلمات‪ ،‬فإن القلب ال يتغذى إال االكلمات النابعة‬
‫من منابع الحكمة‪.‬‬
‫الفقر‪:‬‬
‫قلت‪ :‬فعلمني أولها‪.‬‬
‫قال‪ :‬أول حقيقة يتشربها القلب لتبث في‪9‬ه الي‪9‬أس من أي‪9‬دي الخالئ‪9‬ق أن‬
‫يعلم فقرهم‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فالفقر إذن ليس خاصا بفالن من الناس‪ ،‬وال بدولة من الدول‪.‬‬
‫قال‪ :‬الفقر هو سمة الكون جميعا‪ ..‬أما الغني الوحيد في هذا العالم فه‪99‬و‬
‫هللا تعالى‪ ،‬ألم تسمع قوله تعالى‪َ {:‬يا َأ ُّي َه‪99‬ا النَّاسُ َأ ْنتُ ُم ْالفُ َق‪َ 9‬‬
‫‪9‬را ُء ِإ َلى هَّللا ِ َوهَّللا ُ هُ‪َ 9‬‬
‫‪9‬و‬
‫ْال َغ ِن ُّي ْال َح ِمي ُد} (فاطر‪)15 :‬‬
‫قلت‪ :‬فهال أفهمت بصيرتي ما تعنيه هذه اآلية‪.‬‬
‫قال‪ :‬الفقر في حقيقته هو الحاجة‪ ،‬وهي ليست مختصرة فيما اص‪99‬طلح‬
‫عليه الناس من أصناف الحاجات‪ ،‬بل هي كل شيء وهبه هللا تعالى لعب‪99‬اده‬
‫ابتداء من وجودهم‪ ،‬وانتهاء باألرزاق التي تفاض عليهم في كل حين‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فاض‪99‬رب لي أمثل‪99‬ة على ذل‪99‬ك تجعل‪99‬ني أتص‪99‬ور الحق‪99‬ائق‪ ،‬فال‬
‫يمكنني تعقل الحقائق قبل تصورها‪.‬‬
‫قال‪ :‬ما هي أصناف الحاجات التي يحتاج الخلق إلى سدها؟‬
‫قلت‪ :‬هي كثيرة جدا‪ ،‬ففي اإلنسان من الحاجات بحسب ع‪99‬دد خالي‪99‬اه‪..‬‬
‫بل بحسب عدد الذرات التي يتشكل منها بنيانه‪.‬‬
‫ق‪99‬ال‪ :‬ففي اإلنس‪99‬ان من الفق‪99‬ر إذن بحس‪99‬ب ال‪99‬ذرات ال‪99‬تي يتش‪99‬كل منه‪99‬ا‬
‫بنيانه‪.‬‬
‫قلت‪ :‬كيف؟‬
‫قال‪ :‬ألن الفقر هو الحاجة‪ ..‬ففي كل ذرة حاج‪99‬ة من الحاج‪99‬ات‪ ..‬وفاق‪99‬ة‬

‫‪159‬‬
‫تستدعي أن تسد‪.‬‬
‫قلت‪ :‬هذا صحيح‪ ..‬ولكن لحاجات األغنياء ما يس‪99‬دها بخالف حاج‪99‬ات‬
‫الفقراء‪.‬‬
‫قال‪ :‬األغني‪9‬اء يس‪9‬دون ج‪9‬زءا من ملي‪9‬ون ج‪9‬زء من حاج‪9‬اتهم‪ ..‬أو ه‪9‬و‬
‫جزء ال يكاد يرى‪.‬‬
‫قلت‪ :‬كي‪99‬ف؟ أك‪99‬ل تل‪99‬ك ال‪99‬ثروات ال‪99‬تي يمتلكونه‪99‬ا‪ ..‬والخ‪99‬زائن ال‪99‬تي‬
‫يوصدونها‪ ..‬واألموال التي يرصدونها ال يسدون بها إال حويجات قليلة‪.‬‬
‫قال‪ :‬بل في الحقيق‪99‬ة ال يس‪99‬دون ش‪9‬يئا‪ ،‬ألم تس‪9‬مع موعظ‪99‬ة ابن الس‪9‬ماك‬
‫حين دخل عل بعض الخلفاء‪..‬‬
‫قلت‪ :‬وبيد الخليفة كوز ماء يشربه‪ ،‬فق‪9‬ال ل‪9‬ه‪ (:‬عظ‪9‬نى ) فق‪9‬ال‪ (:‬ل‪9‬و لم‬
‫تعط ه‪99‬ذه الش‪99‬ربة إال بب‪99‬ذل جمي‪99‬ع أموال‪99‬ك وإال بقيت عطش‪99‬ان‪ ،‬فه‪99‬ل كنت‬
‫تعطيه؟ قال‪ :‬نعم فقال‪ (:‬لو لم تعط إال بملكك كله‪ ،‬فهل كنت تترك‪99‬ه؟ ق‪99‬ال‪:‬‬
‫نعم قال‪ :‬فال تفرح بملك ال يساوى شربة ماء‪.‬‬
‫قال‪ :‬فهل فهمت ما في هذه الحكمة من حكمة؟‬
‫قلت‪ :‬هي واض‪99‬حة‪ ،‬فنعم هللا على عب‪99‬اده ال تع‪99‬د وال تحص‪99‬ى‪ ،‬وكأن‪99‬ه‬
‫يقول له‪ :‬إن نعمة هللا تع‪9‬الى على العب‪9‬د فى ش‪9‬ربة م‪9‬اء عن‪9‬د العطش أعظم‬
‫من ملك األرض كلها‪.‬‬
‫قال‪ :‬فنعم هللا إذن ال تعد‪ ،‬وال تحصى؟‬
‫قلت‪ :‬أجل‪ ،‬بل قد ورد التنصيص على هذا مرتين في الق‪9‬رآن الك‪99‬ريم‪،‬‬
‫ظلُ‪99‬و ٌم َكفَّارٌ}‬ ‫ق‪99‬ال تع‪99‬الى‪َ {:‬و ِإ ْن َت ُع‪ُّ 9‬دوا ِنعْ َمتَ هَّللا ِ ال تُحْ ُ‬
‫ص ‪9‬وهَا ِإ َّن اأْل ِ ْن َس ‪9‬انَ َل َ‬
‫(ابراهيم‪)34 :‬‬
‫قال‪ :‬فلماذا تنزل نعم هللا؟‬
‫قلت‪ :‬تنزل من فضل هللا وجوده‪ ،‬فاهلل كريم جواد‪:‬‬
‫ض‪ِ 99999999‬ل‬ ‫َد َج ِمي َع‪ 99999999‬هُ بِالفَ ْ‬ ‫‪999‬وا ُد فَجُ‪999‬و ُدهُ َع َّم‬‫الج َ‬ ‫َوهُ‪َ 999‬و َ‬
‫َواإلحْ َس‪9999999999999999999999999999999999‬ا ِن‬ ‫ال ُوجُو‬
‫‪  ‬‬ ‫‪ ‬‬
‫ان‬ ‫َولَ‪999‬وْ أنَّهُ ِم ْن أُ َّم ِة ال ُك ْف َ‬
‫‪999‬ر ِ‬ ‫‪9999‬و ال َج‪َ 9999‬وا ُد فَال يُ َخيِّبُ‬ ‫َوهُ َ‬
‫َس‪99999999999999999999999999999999999999999‬ائِالً ‪  ‬‬
‫‪ ‬‬
‫قال‪ :‬لم أسألك عن مصدر النعم‪ ،‬وإنما سألتك عن علل نزولها‪.‬‬

‫‪160‬‬
‫قلت‪ :‬هي تنزل لتسد حاجات الخالئق‪.‬‬
‫قال‪ :‬كيف يكون ذلك؟‬
‫قلت‪ :‬إن الجود اإللهي يسد فاقة الجوع باإلطعام‪ ،‬كما يس‪99‬د فاق‪99‬ة ال‪99‬برد‬
‫باللباس‪ ،‬كما قال ‪ ‬في الح‪9‬ديث القدس‪9‬ي‪ (:‬ي‪99‬ا عب‪9‬ادي كلكم ج‪9‬ائع إال من‬
‫أطعمت‪999‬ه فاس‪999‬تطعموني أطعمكم‪ ،‬ي‪999‬ا عب‪999‬ادي كلكم ع‪999‬ار إال من كس‪999‬وته‬
‫فاستكسوني أكسكم )(‪)1‬‬
‫قال‪ :‬فأنت تقر إذن بأن نعم هللا ال تحصى‪ ،‬وأن فضله ال يعد‪ ،‬ثم ت‪99‬ذكر‬
‫بأن ذلك الفضل وتلك النعم غايتها سد حاجات الخلق‪.‬‬
‫قلت‪ :‬كل هذا صحيح‪ ،‬فما عالقته بفقر الخالئق؟‬
‫ق‪9‬ال‪ :‬إن ه‪9‬ذا يوص‪9‬لك إلى حقيق‪9‬ة فاق‪9‬ة الخالئ‪9‬ق‪ ،‬ألن‪9‬ه ل‪9‬وال حاج‪9‬اتهم‬
‫الكثيرة غير المحصورة لما نزلت النعم غير المحصورة‪ ،‬والفاقة هي عين‬
‫الفقر‪.‬‬
‫البخل‪:‬‬
‫قلت‪ :‬نعم فاقة الخالئ‪99‬ق ض‪99‬رورة ال ينفك‪99‬ون عنه‪99‬ا‪ ،‬فم‪9‬ا بخلهم؟ وه‪99‬ل‬
‫البخل إال لمن يملك؟‬
‫قال‪ :‬نعم يملكون‪.‬‬
‫قلت‪ :‬كيف يملكون‪ ..‬وهم فقراء‪ ..‬أليس في ذلك تناقضا؟‬
‫قال‪ :‬إن هللا بحكمته أعطى األغنياء بعض ما قد تمس إليه حاجة الفقير‬
‫‪9‬و‬‫ليبتلي الغني بالفقير‪ ،‬والفقير ب‪9‬الغني‪ ،‬ألم تس‪9‬مع ق‪9‬ول الح‪9‬ق تع‪9‬الى‪َ {:‬وهُ َ‬
‫‪9‬و ُك ْم ِفي‬ ‫ت ِل َي ْبلُ‪َ 9‬‬ ‫عْض ُك ْم َف‪99‬وْ َق َب ٍ‬
‫عْض د ََر َج‪ 9‬ا ٍ‬ ‫ض َو َر َف َع َب َ‬ ‫الَّ ِذي َج َع َل ُك ْم خَال ِئفَ اأْل َرْ ِ‬
‫ب َو ِإنَّهُ َل َغفُورٌ َر ِحي ٌم}(األنعام‪)165 :‬؟‬ ‫َما آتَا ُك ْم ِإ َّن َربَّكَ َس ِري ُع ْال ِع َقا ِ‬
‫قلت‪ :‬فما تحمل هذه اآلية من اإلشارة إلى هذا المعنى؟‬
‫قال‪ :‬هذه اآلية تشير إلى الحقائق التي ينطوي عليها بخل اإلنسان‪.‬‬
‫قلت‪ :‬كيف ذلك؟‪ ..‬ال أرى فيها ما تقول‪.‬‬
‫ض } ي‪9‬دل على أن‬ ‫َ‬
‫‪9‬و الَّ ِذي َج َع َل ُك ْم خَال ِئ‪9‬فَ اأْل رْ ِ‬
‫قال‪ :‬قوله تع‪9‬الى‪َ {:‬وهُ َ‬
‫هللا تع‪99‬الى جع‪99‬ل في أي‪99‬دي بعض الن‪99‬اس م‪99‬ا يوص‪99‬لون ب‪99‬ه الفض‪99‬ل اإللهي‬
‫لعباده‪ ،‬فهم خلفاء في توصيل هذا الفضل‪ ،‬بدليل قوله تعالى بع‪9‬دها‪َ {:‬و َر َف‪َ 9‬ع‬
‫ت‪‬‬ ‫عْض د ََر َجا ٍ‬ ‫عْض ُك ْم َفوْ َق َب ٍ‬ ‫َب َ‬
‫قلت‪ :‬أي ف‪99‬اوت بينكم في األرزاق واألخالق والمحاس‪99‬ن والمس‪99‬اوي‪،‬‬

‫رواه مسلم‪.‬‬ ‫‪)(1‬‬

‫‪161‬‬
‫والمناظر واألشكال واأللوان‪ ،‬وقد ورد مث‪9‬ل ه‪9‬ذا في الق‪9‬رآن الك‪9‬ريم‪ ،‬ق‪9‬ال‬
‫يش‪َ 9‬ته ُْم ِفي ْال َح َي‪99‬ا ِة ال‪ُّ 9‬د ْن َيا َو َر َفعْ َن‪99‬ا َب َ‬
‫عْض‪9‬ه ُْم َف‪99‬وْ َق‬ ‫تع‪9‬الى‪ {:‬نَحْ ُن َق َس‪ْ 9‬منَا َب ْي َنه ُْم َم ِع َ‬
‫عْض‪9‬ه ُْم َبعْض‪9‬اً ُس‪ْ 9‬خ ِر ّياً }(الزخ‪99‬رف‪ 9،)32 :‬وق‪9‬ال‪:‬‬ ‫ت ِل َيتَّ ِخ‪َ 9‬ذ َب ُ‬ ‫عْض د ََر َج‪ 9‬ا ٍ‬
‫َب ٍ‬
‫َ‬
‫ت َوأ ْك َب‪99‬رُ‬ ‫َ‬ ‫عْض َو َلآْل ِخ‪َ 9‬‬
‫‪9‬رةُ أ ْك َب‪99‬رُ د ََر َج‪ 9‬ا ٍ‬ ‫عْض ‪9‬ه ُْم َع َلى َب ٍ‬ ‫ض ‪9‬لنَا َب َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬
‫{ ا ْنظ‪99‬رْ َك ْي‪99‬فَ َف َّ‬
‫ال} (االسراء‪)21 :‬‬ ‫ضي ً‬ ‫َت ْف ِ‬
‫قال‪ :‬ولكن أكثر الخالئق يحبسون هذا الفضل‪.‬‬
‫قلت‪ :‬لماذا؟‬
‫ق‪999‬ال‪ :‬لم‪999‬ا في طبعهم من البخ‪999‬ل‪ ،‬ألم تس‪999‬مع ق‪999‬ول الح‪999‬ق تع‪999‬الى‪:‬‬
‫الش ‪9‬حَّ}(النس‪99‬اء‪ ،)128 :‬فالش‪99‬ح طب‪99‬ع فيهم يغذون‪99‬ه‬ ‫ت اأْل َ ْنفُسُ ُّ‬ ‫ض ‪َ 9‬ر ِ‬‫{ َوأُحْ ِ‬
‫بسلوكهم المنحرف‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ولكن لم‪99‬اذا غ‪99‬ذوا بالش‪99‬ح الفط‪99‬ري‪ ،‬لم‪99‬اذا لم يغ‪99‬ذوا ب‪99‬الكريم‬
‫الفطري؟‬
‫ق‪99‬ال‪ :‬ألن الك‪99‬رم ال‪99‬ذاتي من ص‪99‬فات الغ‪99‬ني‪ ،‬وليس ذل‪99‬ك إال هللا‪ ،‬أم‪99‬ا‬
‫الخالئ‪9‬ق فلفق‪9‬رهم وحاج‪9‬اتهم الالمتناهي‪99‬ة يخش‪99‬ون دائم‪9‬ا نف‪99‬اذ م‪9‬ا عن‪99‬دهم‪،‬‬
‫فيبخلون على الخالئق به‪.‬‬
‫قلت‪ :‬والكرماء من الخلق‪ ..‬كيف يكرمون؟‬
‫ق‪99‬ال‪ :‬األولي‪99‬اء يكرم‪99‬ون من خ‪99‬زائن هللا ال من خ‪99‬زائنهم‪ ،‬فل‪99‬ذلك ال‬
‫يعرفون البخل‪.‬‬
‫قلت‪ :‬لماذا‪ ،‬وما الفرق بينهم وبين سائر الناس؟‬
‫قال‪ :‬ألن البخيل يبخل بما يملك‪ ،‬وهم يعتقدون أنهم ال يملكون شيئا مع‬
‫هللا‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ولهذا ك‪9‬ان ‪ ‬يق‪9‬ول‪ (:‬أنف‪9‬ق ي‪9‬ا بالل وال تخش من ذي الع‪9‬رش‬
‫إقالال)(‪)1‬‬
‫قال‪ :‬أت‪9‬دري إلى أي ش‪9‬يء التفت رس‪9‬ول هللا ‪ ‬عن‪9‬دما رب‪9‬ط بين ذي‬
‫العرش واإلنفاق؟‬
‫قلت‪ :‬إالم؟‬
‫قال‪ :‬التفت إلى عرش هللا العظيم‪ ،‬فظهرت ل‪9‬ه األرض جميع‪9‬ا كش‪9‬يء‬
‫ال وجود له‪.‬‬

‫‪ ) )(1‬أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (‪ )3/126‬وق‪9‬ال‪ :‬رواه الط‪99‬براني في الكب‪9‬ير ‪ ..‬ورواه‬


‫الطبراني في األوسط بإسناد حسن‪.‬‬

‫‪162‬‬
‫قلت‪ :‬أجل‪ ،‬فإن العلم يؤكد هذا‪ ..‬فاألرض بالنسبة للكواكب والنجوم ال‬
‫تكاد تساوي شيئا‪..‬‬
‫قال‪ :‬وهل اكتشفتم شيئا!؟‪ ..‬إن كل ما ذكره علماؤكم ال يعدو أن يك‪99‬ون‬
‫جزءا ضئيال من سماء الدنيا‪ ،‬وأين السماء الثانية والثالثة إلى السابعة!؟‬
‫قلت‪ :‬وما نسبة هذا كله إلى العرش الذي التفت إليه رسول هللا ‪‬؟‬
‫قال‪ :‬إنها النس‪9‬بة ال‪9‬تي وردت به‪9‬ا النص‪9‬وص المقدس‪9‬ة‪ ،‬فق‪9‬د ق‪9‬ال ‪:‬‬
‫( والذي نفسي بيده ما السموات السبع واألرضون السبع عند الكرس‪9‬ي إال‬
‫كحلقة ملقاة بأرض فالة‪ ،‬وإن فض‪99‬ل الع‪99‬رش على الكرس‪99‬ي كفض‪99‬ل الفالة‬
‫على تلك الحلقة )(‪)1‬‬
‫قلت‪ :‬وما عالقة هذا بما نحن فيه؟‬
‫ق‪99‬ال‪ :‬لتع‪99‬رف به‪99‬ذا س‪99‬ر قول‪99‬ه ‪ (:‬أنف‪99‬ق ي‪99‬ا بالل وال تخش من ذي‬
‫العرش إقالال)‪ ،‬فقد ذكر ‪ ‬بوصفه صاحب العرش‪ ،‬لي‪99‬ذكر بالال بأن‪99‬ه ال‬
‫ينفق من عنده‪ ،‬وإنما ينفق من عند هللا‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وم‪99‬ا في ه‪99‬ذا من الع‪99‬زاء للفق‪99‬ير‪ ،‬ومن تيئيس‪99‬ه مم‪99‬ا في أي‪99‬دي‬
‫الخالئق؟‬
‫ق‪99‬ال‪ :‬في‪99‬ه الع‪99‬زاء العظيم‪ ،‬ف‪99‬الفقير ال‪99‬ذي ينش‪99‬غل برؤي‪99‬ة ع‪99‬رش هللا‪،‬‬
‫وخ‪99‬زائن هللا ال يم‪99‬د ي‪99‬ده ألي أح‪99‬د من الن‪99‬اس‪ ،‬ب‪99‬ل يكتفي بم‪99‬دها هلل‪ ،‬فم‪99‬اذا‬
‫يساوي الخلق جميعا أمام أبسط مخلوقات هللا‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وهذا أيضا يجعل الفقير يشعر بفقر الخل‪99‬ق جميع‪99‬ا‪ ،‬فال يحس‪99‬دهم‬
‫وال يسألهم‪ ،‬وال يتمنى أن يحصل له ما حصل لهم‪ ،‬كم‪99‬ا ق‪99‬ال تع‪99‬الى‪َ {:‬وال‬
‫عْض}(النساء‪)32 :‬‬ ‫ضَّل هَّللا ُ ِب ِه َب َ‬
‫عْض ُك ْم َع َلى َب ٍ‬ ‫َت َت َمنَّوْ ا َما َف َ‬
‫اس‪9‬أَلُوا هَّللا َ ِم ْن‬
‫قال‪ :‬ألم تسمع الحق تعالى‪ ،‬وهو يقول في هذه اآلي‪9‬ة‪َ {:‬و ْ‬
‫َفضْ ِل ِه}؟‬
‫قلت‪ :‬بلى‪ ،‬فما وجه عالقتها بالنهي عن التمني؟‬
‫قال‪ :‬ألن التمني يبدأ بجحود فضل هللا‪ ،‬وينتهي بتمني زوال فضل هللا‪،‬‬
‫فل‪99‬ذلك نص‪99‬حوا ب‪99‬دل الغ‪99‬رق في أودي‪99‬ة األم‪99‬اني أن يتوجه‪99‬وا إلى المعطي‬
‫والمتفضل‪ ،‬فمن أعطى أوال يعطي آخرا‪ ،‬ومن أعطى لفالن ال يعج‪99‬ز عن‬
‫العطاء لفالن‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فهذا إذن أكبر عالج للحسد الذي يقع من الفقراء لألغنياء‪.‬‬

‫رواه ابن حبان‪.‬‬ ‫‪)(1‬‬

‫‪163‬‬
‫قال‪ :‬بل هو أكبر عالج ألمراض الطبقية االجتماعية‪ ،‬فالطبقية ليس‪99‬ت‬
‫محصورة في الغنى والفقر‪.‬‬
‫ثم سكت هنيهة وقال‪ :‬ليت بخلكم كان قاصرا على المال‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وهل هناك بخل أعظم من بخل المال؟‬
‫ق‪9‬ال‪ :‬نعم بخلكم باالبتس‪9‬امة والبش‪9‬ر‪ ،‬فإنه‪9‬ا وإن لم تش‪9‬بع بطن الفق‪9‬ير‪،‬‬
‫فإنها تطمئن قلبه‪ ،‬وتخرجه من الكوابيس التي يعيشها‪ ،‬ألم تسمع قوله ‪:‬‬
‫( تبسمك في وجه أخيك صدقة )(‪)1‬‬
‫قلت‪ :‬صدقت‪ ،‬فإن معاناة الفقير النفسية أخطر من معاناته المادية‪.‬‬
‫قال‪ :‬فلذلك إن لم تطيقوا عالج جوعه‪ ،‬فعالجوا نفسه‪.‬‬
‫قلت‪ :‬والكمال في استعمال كال العالجين‪.‬‬
‫خطر على بالي حينها ما ذكره الشعراء في آداب المضيف من خدمته‬
‫ألضيافه وإظهار بسط الوجه لهم‪ ،‬فقلت‪ :‬يا معلم لقد ق‪9‬ال الش‪9‬عراء في ه‪9‬ذا‬
‫كالما جميال‪ ،‬فهل أجزت لي ذكره؟‬
‫قال‪ :‬اذكره‪ ،‬فإن الحكمة أشرف من قائلها‪.‬‬
‫قلت‪ :‬لقد نشر العرب في هذا مثال يقول‪:‬‬
‫فكيف بمن يأتي به وهو‬ ‫بشاشة وجه المرء خير من القرى‬
‫ضاحك‬
‫وقال اآلخر‪:‬‬
‫وإنا لنقري الضيف قبل نزوله ونشبعه بالبشر من وجه ضاحك‬
‫قال‪ :‬لقد أشار القرآن الكريم إلى ك‪9‬ل ه‪9‬ذا‪ ،‬فق‪9‬ال في خ‪9‬بر إب‪9‬راهيم ‪‬‬
‫ت َف َب َّشرْ نَاهَا ِبإِ ْس‪َ 99‬حا َق‬ ‫عندما جاءه أضيافه من المالئكة‪َ {:‬و ْام َر َأتُهُ َقا ِئ َمةٌ َف َ‬
‫ض ِح َك ْ‬
‫وب} (هود‪ ،)71 :‬فضحكها في هذا المحل ي‪99‬دل على‬ ‫َو ِم ْن َو َر ِاء ِإس َْحا َق َيعْ قُ َ‬
‫مدى البشر الذي القوا به أضيافهم‪.‬‬
‫ثم التفت إلى األف‪99‬ق البعي‪99‬د وص‪99‬اح من أعماق‪99‬ه هامس‪99‬ا‪ ،‬أو همس من‬
‫أعماق‪99‬ه ص‪99‬ائحا‪ (:‬ليت البخالء إذا خ‪99‬افوا على خ‪99‬زائنهم من الك‪99‬رم أن ال‬
‫يبخلوا بالبشر‪ ،‬فهو ال يكلفهم دينارا وال درهما )‬
‫قلت‪ :‬ولكنهم يخ‪99‬افون من ج‪99‬رأة الفق‪99‬راء عليهم‪ ،‬فل‪99‬ذلك يعبس‪99‬ون في‬
‫وجوههم كما تعبس خزائنهم‪ ،‬أو كي تعبس خزائنهم‪.‬‬
‫الظلم‪:‬‬

‫‪ ) )(1‬البخاري في األدب والترمذي وابن حبان‪.‬‬

‫‪164‬‬
‫قال لي المعلم‪ :‬أتعلم الصفة الثالثة التي ترفع أملك عن الخل‪99‬ق لتوجه‪99‬ه‬
‫إلى هللا؟‬
‫قلت‪ :‬إنها الظلم‪ ،‬لقد ذكرت لي ذلك‪ ،‬ولكنها ص‪99‬فة الجب‪99‬ابرة‪ ،‬وق‪99‬ل من‬
‫أراه يتصف بها‪.‬‬
‫ق‪99‬ال‪ :‬ومن ق‪99‬ال ذل‪99‬ك؟ ألم يق‪99‬ل هللا تع‪99‬الى يص‪99‬ف البش‪99‬ر جميع‪99‬ا‪ِ {:‬إنَّا‬
‫ال َف‪9‬أَ َب ْينَ َأ ْن َيحْ ِم ْل َن َه‪9‬ا َو َأ ْش‪َ 9‬ف ْقنَ‬‫ض َو ْال ِج َب ِ‬‫ت َواأْل َرْ ِ‬ ‫ع ََرضْ نَا اأْل َ َما َن َة َع َلى ال َّس َم َ‬
‫اوا ِ‬
‫ال}(األحزاب‪)72 :‬‬ ‫ظلُوماً َجهُو ً‬ ‫ِم ْن َها َو َح َم َل َها اأْل ِ ْن َس ُ‬
‫ان ِإنَّهُ َكانَ َ‬
‫ثم التفت إلي‪ ،‬وقال‪ :‬أتدري ما الظلم ال‪9‬ذي وص‪9‬ف ب‪9‬ه البش‪9‬ر في ه‪9‬ذه‬
‫اآلية؟‬
‫قلت‪ :‬هو ما قاله المفسرون من أنه وضع األشياء في غير مواضعها‪.‬‬
‫قال‪ :‬كيف ذلك؟‬
‫قلت‪ :‬كوضع القسوة بدل الرحم‪9‬ة‪ ،‬واإلس‪9‬اءة ب‪9‬دل اإلحس‪9‬ان‪ ،‬والجف‪9‬اء‬
‫بدل اللطف‪ ،‬والعبوس بدل االبتسامة‪.‬‬
‫قال‪ :‬فكيف يعامل أغنياء قومك فقراءهم؟‬
‫قلت‪ :‬هناك من يكرمهم‪ ،‬وهناك من يقهرهم‪.‬‬
‫قال‪ :‬ومن يقهرهم‪ ،‬كيف يقهرهم؟‬
‫قلت‪ :‬بحرمانهم من حقهم‪.‬‬
‫قال‪ :‬وبأخذ حقهم‪ ،‬فلوال قه‪99‬ر األغني‪99‬اء وجش‪99‬عهم م‪99‬ا وق‪99‬ع الفق‪99‬راء في‬
‫مستنقعات الفقر؟‬
‫قلت‪ :‬كيف ذلك؟‬
‫ق‪9‬ال‪ :‬ل‪9‬و علم األغني‪9‬اء أن ه‪9‬ذا ال‪9‬رزق ال‪9‬ذي خلق‪9‬ه هللا خلق‪9‬ه للجمي‪9‬ع‪،‬‬
‫وعلموا أنهم فرد من ذلك الجميع أو أفراد من ذلك الجميع لم يستأثروا بنعم‬
‫هللا دون خلق هللا‪.‬‬
‫ثم التفت إلي‪ ،‬وقال‪ :‬أرأيت لو أن شخصا دعاك إلى وليمة‪ ،‬ودع‪99‬ا له‪99‬ا‬
‫جمعا من الناس‪ ،‬وكانت لك مالعق كثيرة تستطيع أن تنهب بها أك‪9‬بر ق‪9‬در‬
‫من الطعام‪ ،‬أكنت تحضر معك تلك المالعق لتأك‪9‬ل بي‪9‬ديك جميع‪9‬ا‪ ،‬ف‪9‬إن لم‬
‫تك‪99‬ف ي‪99‬داك لالس‪99‬تيالء على ذل‪99‬ك الطع‪99‬ام‪ ،‬مألت من األواني م‪99‬ا ي‪99‬دع‬
‫المدعوين لشر المسغبة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ال يمكن هذا‪ ،‬وال أظن عاقال يفعل هذا‪.‬‬
‫قال‪ :‬ولكنكم تفعلونه‪ ،‬وتصرون على فعله‪ ،‬بل وتبررونه‪.‬‬

‫‪165‬‬
‫قلت‪ :‬كيف ذلك‪ ،‬فأنا لم أر من يفعل هذا؟‬
‫قال‪ :‬ما دور الملعقة في الطعام؟‬
‫قلت‪ :‬هي وسيلة الطعام‪ ،‬بها نوصل الطعام إلى أفواهنا؟‬
‫قال‪ :‬وما التجارة والصناعة والفالحة؟‬
‫قلت‪ :‬هي وسيلة ال‪9‬رزق‪ ،‬فب‪9‬دونها ال يحض‪9‬ر الطع‪9‬ام‪ ،‬كم‪9‬ا أن‪9‬ه ب‪9‬دون‬
‫المالعق ال يصل إلى األفواه‪.‬‬
‫قال‪ :‬فم‪99‬ا الف‪99‬رق بين اس‪99‬تئثار األغني‪99‬اء بوس‪99‬ائل الكس‪99‬ب‪ ،‬واس‪99‬تئثارهم‬
‫بالمالعق؟‬
‫قلت‪ :‬ف‪99‬رق كب‪99‬ير ج‪99‬دا‪ ،‬ف‪99‬المالعق يمكن أن يس‪99‬تعملها الغ‪99‬ني والفق‪99‬ير‬
‫والصبي والشيخ‪ ،‬بينما وس‪9‬ائل الكس‪9‬ب ال يمكن أن يس‪9‬تعملها غ‪9‬ير من ل‪9‬ه‬
‫قدرات كبيرة في اإلدارة والتسيير‪ ،‬باإلضافة إلى الصبر والمجاهدة‪.‬‬
‫قال‪ :‬هذا صحح‪ ،‬ولهذا خل‪9‬ق هللا األغني‪9‬اء والفق‪9‬راء‪ ،‬ولكن ه‪9‬ل يص‪9‬ح‬
‫للغني الذي مكنه هللا من هذه الوسائل أن يستأثر بمنافعه‪9‬ا ب‪99‬دعوى أن‪99‬ه ه‪99‬و‬
‫المجتهد‪ ،‬وهم الكسالى‪ ،‬أو أنه هو الذكي وغيره بلداء‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ال‪ ،‬وإال صار كق‪9‬ارون لم‪9‬ا ق‪9‬ال‪ِ {:‬إنَّ َم‪9‬ا أُو ِتيتُ‪9‬هُ َع َلى ِع ْل ٍم ِع ْن‪ِ 9‬دي}‬
‫(القصص‪)78 :‬‬
‫قال‪ :‬فعد إلى الثروات التي ينعم بها قومك‪ ،‬وأخ‪99‬برني‪ :‬ل‪99‬و أن خ‪9‬يرات‬
‫تلك الثروات وصلت الفقراء‪ ،‬من دون أن نحرم األغنياء م‪99‬ا يملك‪99‬ون ه‪99‬ل‬
‫يبقى فقير واحد؟‬
‫قلت‪ :‬ال‪ ،‬فالثروة التي ينعم بها أفراد محدودون في العالم يمكنها تغطية‬
‫حاجيات الماليين من البشر إن لم نقل مالييرهم‪.‬‬
‫ق‪99‬ال‪ :‬فاألغني‪99‬اء إذن لم يكتف‪99‬وا بحرم‪99‬ان الفق‪99‬راء‪ ،‬ب‪99‬ل اس‪99‬تولوا على‬
‫طعامهم الذي أعد لهم في دار الضيافة اإللهية‪.‬‬
‫ثم التفت إلي وقال‪ :‬ما نسبة هذا النوع من األغنياء من مجموعهم؟‬
‫قلت‪ :‬هي نسبة عالية جدا‪.‬‬
‫قال‪ :‬وال بد إن تكون عالية‪ ،‬ول‪99‬و لم تكن عالي‪99‬ة لم‪99‬ا ظه‪99‬ر في األرض‬
‫فقير واحد‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ولكنهم ي‪99‬بررون ذل‪99‬ك ت‪99‬بريرات مختلف‪99‬ة بعض‪99‬ها يس‪99‬تند ألحك‪99‬ام‬
‫شرعية‪.‬‬
‫قال‪ :‬هي ت‪9‬بريرات ال تختل‪9‬ف في كث‪9‬ير أو قلي‪9‬ل عن ت‪9‬يريرات س‪9‬لفهم‬

‫‪166‬‬
‫ي‪99‬ل َله ُْم َأ ْن ِفقُ‪99‬وا ِم َّما َرزَ َق ُك ُم هَّللا ُ َق َ‬
‫‪99‬ال الَّ ِذينَ‬ ‫األول ال‪99‬ذين ق‪99‬ال هللا فيهم‪َ {:‬و ِإ َذا ِق َ‬
‫ين}‬ ‫الل ُم ِب ٍ‬
‫ض‪ٍ 9‬‬ ‫ط َع َم‪ 9‬هُ ِإ ْن َأ ْنتُ ْم ِإاَّل ِفي َ‬ ‫ط ِع ُم َم ْن َلوْ َي َشا ُء هَّللا ُ َأ ْ‬
‫َك َفرُوا ِللَّ ِذينَ آ َمنُوا َأنُ ْ‬
‫(يّـس‪)47 :‬‬
‫ثم التفت إلي‪ ،‬وقال‪ :‬ومن يكرمهم‪ ،‬كيف يكرمهم؟‬
‫قلت‪ :‬يختلف‪99‬ون‪ ،‬منهم من يك‪99‬رمهم لوج‪99‬ه هللا‪ ،‬كم‪99‬ا ق‪99‬ال تع‪99‬الى‪ِ {:‬إنَّ َم‪99‬ا‬
‫ط ِع ُم ُك ْم ِل َوجْ ِه هَّللا ِ ال نُ ِري ُد ِم ْن ُك ْم َجزَا ًء َوال ُش ‪ُ 9‬كوراً}(االنس‪99‬ان‪ ،)9 :‬ومنهم من‬ ‫نُ ْ‬
‫يكرمهم لغير وجهه يبتغي بذلك قصائد تمدحه‪ ،‬أو ثناء ينشر عليه‪.‬‬
‫قال‪ :‬فتلك اآليات التي ذكرتها فيمن نزلت؟‬
‫قلت‪ :‬في فئة محدودة من هذه األمة‪.‬‬
‫قال‪ :‬وما نسبة تكرر هذه الثلة؟‬
‫قلت‪ :‬أم‪99‬ا المقرب‪99‬ون‪ ،‬فهم ثل‪99‬ة قليل‪99‬ة‪ ،‬كم‪99‬ا ق‪99‬ال تع‪99‬الى‪َ {:‬و َق ِلي‪99‬لٌ ِمنَ‬
‫اآْل ِخ ِرينَ }(الواقعة‪ ،)14 :‬وأما غيرهم‪ ،‬فكثير بحمد هللا‪.‬‬
‫قال‪ :‬فما نسبتهم في كل واقع؟‬
‫قلت‪ :‬قليلة‪.‬‬
‫ق‪999‬ال‪ :‬أنتم تتع‪999‬املون بمنط‪999‬ق النس‪999‬ب‪ ،‬فتتف‪999‬اءلون للنس‪999‬ب العالي‪999‬ة‪،‬‬
‫وتتش‪9‬اءمون من النس‪9‬ب الض‪9‬عيفة‪ ،‬فه‪99‬ل ه‪9‬ذه النس‪99‬بة تس‪99‬تدعي التف‪99‬اؤل أم‬
‫التشاؤم؟‬
‫قلت‪ :‬التشاؤم‪ ..‬فنسبة هؤالء ال تكاد تذكر‪ ،‬بل لو كان في كل أل‪99‬ف من‬
‫األمة رجل من أمثال هؤالء الرتفعت األمة إلى آفاق عالية من الكمال‪.‬‬
‫قال‪ :‬كيف؟‬
‫قلت‪ :‬لو كان في كل ألف منا واحد من أولئك السابقين‪ ،‬لصار في ك‪99‬ل‬
‫مليون ألفا‪ ،‬وفي كل مليار مليونا‪ ،‬ونحن اآلن نتجاوز المليار‪ ،‬وال أظن أن‬
‫فينا مليونا من أولئك‪.‬‬
‫قال‪ :‬فنلفرض صحة هذه النس‪9‬بة ال‪9‬تي ذكرته‪9‬ا‪ ،‬فكم فيه‪9‬ا من األغني‪9‬اء‬
‫الذين يسمح لهم غناهم بالكرم األصيل العالي؟‬
‫قلت‪ :‬نسبة قليلة هي األخرى‪ ،‬ال تكاد تذكر‪.‬‬
‫ق‪99‬ال‪ :‬ف‪99‬دعنا من ه‪99‬ؤالء إذن‪ ،‬فال يمكن أن تتعل‪99‬ق القل‪99‬وب بمث‪99‬ل ه‪99‬ذه‬
‫النسب الضعيفة‪ ..‬فأخبرني‪ ،‬كيف يكرم كرماؤكم؟‬
‫قلت‪ :‬يعطون المحتاجين؟‬
‫قال‪ :‬وهل يبحث‪99‬ون عن المحت‪99‬اجين فيعط‪99‬وهم‪ ،‬أم يم‪99‬دون أي‪99‬ديهم لك‪99‬ل‬

‫‪167‬‬
‫سائل؟‬
‫قلت‪ :‬في العادة يمدون أيديهم لمن يسألهم‪.‬‬
‫قال‪ :‬ولو كان من يسألهم ال يستحق العطاء‪.‬‬
‫قلت‪ :‬يقول‪9‬ون‪ :‬المهم أن أجرن‪9‬ا ق‪9‬د وص‪9‬ل بغض النظ‪9‬ر عمن نعطي‪9‬ه‪،‬‬
‫وربم‪99‬ا يتس‪99‬دلون بم‪99‬ا روي عن أبي يزي‪99‬د معن بن يزي‪99‬د بن األخنس ق‪99‬ال‪:‬‬
‫كان أبي يزيد أخرج دنانير يتصدق به‪9‬ا فوض‪9‬عها عن‪9‬د رج‪9‬ل في المس‪9‬جد‬
‫ال‪ :‬وهَّللا ما إي‪99‬اك أردت! فخاص‪99‬مته ِإ َلى َر ُس ‪9‬ول‬ ‫فجئت فأخذتها فأتيته بها ف َق َ‬
‫هّللا ِ ‪ ‬فقال‪ (:‬لك ما نويت يا يزيد ولك ما أخذت يا معن )(‪)1‬‬
‫قال‪ :‬أنت تسيئون فهم أحاديث المصطفى ‪.‬‬
‫قلت‪ :‬كيف نسيء فهمها‪ ،‬وظاهرها صريح؟‬
‫قال‪ :‬لقد وضع األب صدقته في المسجد ليناله‪99‬ا المس‪99‬تحق‪ ،‬فج‪9‬اء ابن‪99‬ه‬
‫وأخذها ال بسبب كونه ابنا له‪ ،‬وإنما لكونه من المستحقين‪ ،‬فلذلك أخبر ‪‬‬
‫بقيول صدقة يزيد‪ ،‬وحل ما أخذه معن‪.‬‬
‫َّ‬ ‫ْ‬
‫قلت‪ :‬وله‪99‬ذا أرش‪99‬د هللا إلى المس‪99‬تحقين للزك‪99‬اة بقوله‪ِ {:‬للفُ َق َ‬
‫‪99‬ر ِاء ال ِذينَ‬
‫ض َيحْ َس‪9‬بُهُ ُم ْال َجا ِه‪99‬لُ‬ ‫ض‪9‬رْ باً ِفي اأْل َرْ ِ‬ ‫يل هَّللا ِ ال َي ْس‪9‬ت َِطيعُونَ َ‬ ‫ص‪9‬رُوا ِفي َس‪ِ 9‬ب ِ‬ ‫أُحْ ِ‬
‫اس ِإ ْل َحافاً َو َما تُ ْن ِفقُوا ِم ْن خَ ي ٍْر‬
‫َعْرفُه ُْم ِب ِسي َماهُ ْم ال َيسْأَلونَ النَّ َ‬
‫فت ِ‬ ‫َأ ْغ ِن َيا َء ِمنَ التَّ َع ُّف ِ‬
‫َفإِ َّن هَّللا َ ِب ِه َع ِلي ٌم}(البقرة‪)273 :‬‬
‫قال‪ :‬دعنا من هذا‪ ،‬فله‪99‬ذا محل‪99‬ه الخ‪99‬اص‪ ،‬ولنع‪99‬د للظلم ال‪99‬ذي يق‪99‬ع في‪99‬ه‬
‫الكرماء‪.‬‬
‫قلت‪ :‬لق‪99‬د تح‪99‬دثنا عن الظلم ال‪99‬ذي يجع‪99‬ل الك‪99‬رم موض‪99‬وعا في غ‪99‬ير‬
‫موضعه‪ ،‬وبالتالي ال يحقق الغرض المقصود منه‪.‬‬
‫قال‪ :‬وهناك ظلم أشنع منه‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أشنع منه‪ ..‬ما هو؟‬
‫قال‪ :‬أرأيت لو زرت طبيب‪9‬ا ليع‪9‬الج جرح‪9‬ا طفيف‪9‬ا أص‪9‬ابك‪ ،‬فأخ‪9‬ذ ه‪9‬ذا‬
‫الجراح أدواته فداوى جرحك‪..‬‬
‫بادرته‪ ،‬قائال‪ :‬أشكره جزيل الشكر‪ ،‬وأعطيه جزاءه على خدمته‪.‬‬
‫قال‪ :‬لكنه لم يطلب جزاء ماديا على ذلك‪ ،‬ب‪9‬ل جع‪9‬ل ج‪9‬زاءه أن يمس‪9‬ك‬
‫سكينه ويضع في قلبك جرحا بدل الجرح الذي في يدك‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أقاتل‪9‬ه إن هم ب‪9‬ذلك‪ ،‬ف‪9‬إني أرض‪9‬ى أن تج‪9‬رح ي‪9‬داي جميع‪9‬ا‪ ،‬ب‪9‬ل‬

‫‪ ) )(1‬البخاري‪.‬‬

‫‪168‬‬
‫جميع أط‪9‬رافي‪ ،‬وال أرض‪9‬ى أن يج‪9‬رح قل‪9‬بي‪ ،‬فه‪9‬و المح‪9‬رك ال‪9‬ذي يض‪9‬خ‬
‫الحياة ألعضائي وأجهزتي‪.‬‬
‫قال‪ :‬وهكذا يفع‪9‬ل المتك‪9‬رم ال‪9‬ذي يض‪9‬ع بعض فض‪9‬الته في ي‪9‬د ه‪9‬ؤالء‬
‫المساكين‪ ،‬ثم يمسك سكينه‪ ،‬ويقطع قلوبهم إربا إربا‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فهمت قص‪999‬دك‪ ،‬أنت تري‪999‬د المن واألذى ال‪999‬ذي يتعام‪999‬ل ب‪999‬ه‬
‫المكرمون مع المساكين‪.‬‬
‫ق‪9‬ال‪ :‬نعم‪ ،‬ف‪9‬إن المن أخط‪9‬ر من الفق‪9‬ر‪ ،‬ف‪9‬المن يص‪9‬يب ال‪9‬روح والقلب‬
‫والحقيقة اإلنسانية‪ ،‬بينما الفقر ال يصيب إال بعض أجزائك الظاهرة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ذلك صحيح‪ ،‬فقد اشتد القرآن الكريم في النهي عن كل ما يؤذي‬
‫الفقير‪.‬‬
‫قال‪ :‬ألن هللا تعالى الرحيم يعلم دخيلة الفقير‪ ،‬فهو ال يش‪99‬كو من الج‪99‬وع‬
‫بقدر ما يشكوا من الحرمان النفسي واالجتماعي‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ولهذا اعتبر هللا تعالى القول المعروف والكلمة الطيبة ال‪9‬تي تق‪9‬ال‬
‫للفقير تطمينا له واحتراما لشخصه أفض‪99‬ل من الص‪99‬دقة ال‪99‬تي يتبعه‪99‬ا أذى‪،‬‬
‫ص‪َ 9‬د َق ٍة َي ْت َب ُع َه‪9‬ا َأذىً َوهَّللا ُ َغ ِن ٌّي‬ ‫‪9‬رةٌ خَ يْ‪9‬رٌ ِم ْن َ‬ ‫عْ‪9‬رُوف َو َم ْغ ِف َ‬
‫ٌ‬ ‫قال تع‪9‬الى‪َ {:‬ق‪9‬وْ لٌ َم‬
‫َح ِلي ٌم}(البقرة‪)263 :‬‬
‫ق‪999‬ال‪ :‬وله‪999‬ذا نهى هللا تع‪999‬الى عن المن واألذى‪ ،‬واعت‪999‬بره محبط‪999‬ا‬
‫ص َد َقا ِت ُك ْم ِب ْال َمنِّ َواأْل َ َذى َكالَّ ِذي‬ ‫للصدقات‪ ،‬فقال‪َ {:‬يا َأ ُّي َها الَّ ِذينَ آ َمنُوا ال تُب ِْطلُوا َ‬
‫ان َع َليْ‪ِ 9‬ه‬ ‫ص‪ْ 9‬ف َو ٍ‬ ‫‪9‬ل َ‬‫اس َوال ي ُْؤ ِم ُن ِباهَّلل ِ َو ْال َيوْ ِم اآْل ِخ ِر َف َم َثلُ‪9‬هُ َك َم َث ِ‬
‫ق َما َلهُ ِرئَا َء النَّ ِ‬ ‫يُ ْن ِف ُ‬
‫ص‪ْ 9‬لداً ال َي ْق‪ِ 9‬درُونَ َع َلى َش‪ْ 9‬ي ٍء ِم َّما َك َس‪9‬بُوا َوهَّللا ُ ال‬ ‫صا َبهُ َوا ِب‪9‬لٌ َفت ََر َك‪ 9‬هُ َ‬‫تُ َرابٌ َفأَ َ‬
‫َي ْه ِدي ْال َقوْ َم ْال َكا ِف ِرينَ }(البقرة‪)264 :‬‬
‫قلت‪ :‬لقد ش‪9‬به هللا تع‪9‬الى ص‪9‬دقاتهم ب‪9‬التراب ال‪9‬ذي يك‪9‬ون على ص‪9‬خر‬
‫أملس‪ ،‬يراه الناس ترابا غنيا‪ ،‬ولكن مطر األذى إذا نزل عليه ترك‪99‬ه أملس‬
‫يابس‪9‬اً‪ ،‬ال ش‪9‬يء علي‪9‬ه من ذل‪9‬ك ال‪9‬تراب‪ ..‬وك‪9‬ذلك أعم‪9‬ال الم‪9‬رائين ت‪9‬ذهب‬
‫وتضمحل عند هّللا ‪ ،‬وإن ظهر لهم أعمال فيما يرى الناس كالتراب‪.‬‬
‫‪9‬و ُّد َأ َح‪ُ 9‬د ُك ْم َأ ْن َت ُك‪99‬ونَ َل‪9‬هُ َجنَّةٌ ِم ْن‬ ‫قال‪ :‬وشبه هللا مآل أعمالهم‪ ،‬فق‪99‬ال‪َ {:‬أ َي‪َ 9‬‬
‫صا َبهُ ْال ِك َبرُ‬‫ت َو َأ َ‬
‫ب تَجْ ِري ِم ْن تَحْ ِت َها اأْل َ ْن َهارُ َلهُ ِفي َها ِم ْن ُكلِّ الثَّ َم َرا ِ‬ ‫يل َو َأ ْعنَا ٍ‬‫ن َِخ ٍ‬
‫ت‬‫ت َك َذ ِلكَ يُ َبي ُِّن هَّللا ُ َل ُك ُم اآْل يا ِ‬ ‫صارٌ ِفي ِه نَارٌ َفاحْ ت ََر َق ْ‬ ‫صا َب َها ِإ ْع َ‬‫َو َلهُ ُذرِّ يَّةٌ ضُ َع َفا ُء َفأَ َ‬
‫َل َعلَّ ُك ْم َت َت َف َّكرُونَ }(البقرة‪)266 :‬‬
‫ال‪ ،‬ثم ينعكس‬ ‫قلت‪ :‬هذا مثل ضربه القرآن الكريم لمن يحسن العم‪9‬ل أو ً‬

‫‪169‬‬
‫سيره فيبدل الحسنات بالسيئات‪ ،‬فيبطل بعمل‪99‬ه الث‪99‬اني م‪99‬ا أس‪99‬لفه من العم‪99‬ل‬
‫الصالح‪ ،‬فيخونه سلوكه هذا أحوج ما يكون إليه‪.‬‬
‫العجز‪:‬‬
‫قال‪ :‬أتعلم الصفة الرابعة التي ترفع أملك عن الخلق لتوجهه إلى هللا؟‬
‫قلت‪ :‬إنها العج‪9‬ز‪ ،‬لق‪9‬د ذك‪9‬رت لي ذل‪9‬ك‪ ،‬ولكنه‪9‬ا ص‪9‬فة المستض‪9‬عفين‪،‬‬
‫وهي بالفقراء ألص‪9‬ق‪ ،‬فهم إن لم يقع‪9‬د بهم عج‪9‬ز ق‪9‬واهم الص‪9‬حي قع‪9‬د بهم‬
‫عجز جيوبهم‪ ،‬فعيونهم بصيرة وجيوبهم قصيرة‪.‬‬
‫قال‪ :‬بل الخلق كلهم عاجزون‪ ،‬ال ينفعون وال يضرون ألم تس‪9‬مع قول‪9‬ه‬
‫‪ ‬لبعض أص‪99‬حابه‪ (:‬ي‪99‬ا غالم إني أعلم‪99‬ك كلم‪99‬ات‪ :‬احف‪99‬ظ هللا يحفظ‪99‬ك‪،‬‬
‫احفظ هللا تجده تجاه‪99‬ك‪ ،‬إذا س‪99‬ألت فاس‪99‬أل هللا‪ ،‬وإذا اس‪99‬تعنت فاس‪99‬تعن باهلل‪،‬‬
‫واعلم أن األمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إال بشيء ق‪99‬د‬
‫كتبه هللا لك‪ ،‬وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يض‪99‬روك إال بش‪99‬يء‬
‫قد كتبه هللا عليك‪ ،‬رفعت األقالم وجفت الصحف )(‪)1‬‬
‫قلت‪ :‬لقد قرأت الحديث وحفظته‪.‬‬
‫قال‪ :‬ليس الشأن أن تحفظه‪ ،‬ولكن الشأن أن تعيشه‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فكيف أعيشه؟‬
‫قال‪ :‬تقرر معانيه في قلبك‪ ،‬لتنتقل من كونه‪9‬ا علم‪99‬ا إلى كونه‪9‬ا حقيق‪9‬ة‪،‬‬
‫ومن كونها حقيقة إلى كونها معرفة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فما الفرق بين كونها علما وكونها معرفة؟‬
‫قال‪ :‬كالفرق بين رؤيتك للنار ولمسك لها‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فرق كبير‪ ..‬فأنا أتمتع برؤية النار‪ ،‬ولكني ال أطيق لمسها‪.‬‬
‫قال‪ :‬فكذلك أنت تفهم عجز الخالئق‪ ،‬ولكن ال تطي‪99‬ق االس‪99‬تغناء عنهم‪،‬‬
‫فلذلك تمد يدك‪ ،‬بل يداك إليهم كل حين‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فكيف أعلم عجز الخالئق؟‬
‫قال‪ :‬بأن تقارن قواهم بقوى غيرهم‪.‬‬
‫قلت‪ :‬كيف ذلك؟‬
‫قال‪ :‬كيف تعلم عجز المصارع؟‬
‫قلت‪ :‬إذا صرعه من هو أقوى منه‪.‬‬
‫قال‪ :‬أفيمكن للذي صرع أمامك أن يتيه عليك بقوته؟‬

‫‪ ) )(1‬الترمذي وقال‪ :‬حديث حسن صحيح‪.‬‬

‫‪170‬‬
‫قلت‪ :‬ال‪ ..‬بل إنه سيستحي من إظهار قوته‪ ،‬ألنها ستنطق بعجزه‪.‬‬
‫قال‪ :‬فقارن قوة الخلق ال‪99‬تي ي‪99‬تيهون به‪99‬ا‪ ،‬ويتص‪99‬ورون أن لهم الق‪99‬درة‬
‫على مصارعة الكون بها بما تراه من مظاهر القوة في الكون‪.‬‬
‫قلت‪ :‬إن عقلي ليتيه عندما يحاول إجراء مثل هذه المقارنة‪ ،‬إن الك‪99‬ون‬
‫أعرض بكثير‪ ،‬واإلنسان أضعف بكثير‪ ..‬إنه يسحق سحقا‪.‬‬
‫قال‪ :‬ومع ذلك ظهر فيكم من يدعي القوة التي يستعلي بها على هللا‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أجل‪ ..‬وقد قص علينا الق‪9‬رآن الك‪9‬ريم نم‪9‬اذج من ذل‪9‬ك‪ ،‬ف‪9‬ذكر‬
‫ق َوقَ‪99‬الُوا‬ ‫ض بِ َغي ِْر ْال َح ِّ‬‫نموذج عاد‪ ،‬فقال‪ {:‬فَأ َ َّما عَا ٌد فَا ْستَ ْكبَرُوا فِي اأْل َرْ ِ‬
‫َم ْن أَ َش ُّد ِمنَّا قُ َّوةً أَ َولَ ْم يَ َروْ ا أَ َّن هَّللا َ الَّ ِذي َخلَقَهُ ْم هُ َو أَ َش ُّد ِم ْنهُ ْم قُ‪َّ 9‬وةً َو َك‪99‬انُوا‬
‫بِآيَاتِنَا يَجْ َح ُدونَ ‪(‬فصلت‪)159:‬‬
‫قال‪ :‬وهل هناك خلفاء لعاد؟‬
‫قلت‪ :‬هن‪99‬اك ثم‪99‬ود‪ ،‬وفرع‪99‬ون‪ ،‬والق‪99‬رى الكث‪99‬يرة ال‪99‬تي أش‪99‬ار إليه‪99‬ا‬
‫القرآن الكريم من غير أن يسميها‪.‬‬
‫قال‪ :‬فما كان جزاؤها؟‬
‫قلت‪ :‬هلكوا‪ ،‬ولم تنفعهم قواهم ال‪99‬تي ت‪99‬اهوا به‪99‬ا على هللا‪ ،‬كم‪99‬ا ق‪99‬ال‬
‫‪9‬وااًل َوأَوْ اَل دًا‬ ‫تع‪99‬الى‪َ {:‬كالَّ ِذينَ ِم ْن قَ ْبلِ ُك ْم َك‪99‬انُوا أَ َش ‪َّ 9‬د ِم ْن ُك ْم قُ ‪َّ 9‬وةً َوأَ ْكثَ ‪َ 9‬ر أَ ْم‪َ 9‬‬
‫اس‪999‬تَ ْمتَ َع الَّ ِذينَ ِم ْن قَ ْبلِ ُك ْم‬ ‫اس‪999‬تَ ْمتَ ْعتُ ْم بِخَ اَل قِ ُك ْم َك َم‪999‬ا ْ‬
‫اس‪999‬تَ ْمتَعُوا بِخَاَل قِ ِه ْم فَ ْ‬
‫فَ ْ‬
‫ت أَ ْع َم‪99‬الُهُ ْم فِي ال‪ُّ 99‬د ْنيَا‬ ‫ك َحبِطَ ْ‬ ‫اض‪99‬وا أُوْ لَئِ‪َ 99‬‬ ‫ض‪99‬تُ ْم َكالَّ ِذي َخ ُ‬ ‫بِخَاَل قِ ِه ْم َو ُخ ْ‬
‫اسرُونَ }(التوبة‪)699:‬‬ ‫َواآْل ِخ َر ِة َوأُوْ لَئِكَ هُ ْم ْال َخ ِ‬
‫قال‪ :‬ولكنكم ال تزالون تسيرون على خطاهم‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ذلك صحيح‪ ،‬فال زلنا نتيه بالقوة‪ ،‬ونخ‪99‬اف من األقوي‪99‬اء‪ ،‬ب‪99‬ل‬
‫نس‪99‬مي الش‪99‬عوب ال‪99‬تي تض‪99‬خمت عض‪99‬التها بم‪99‬ا تملك‪99‬ه من أس‪99‬لحة بـ‬
‫( القوى العظمى )‬
‫قال‪ :‬وأنتم ماذا تسمون؟‬
‫قلت‪ :‬الشعوب المستضعفة‪.‬‬
‫قال‪ :‬وتمدون أيدكم إليها‪.‬‬
‫قلت‪ :‬نم‪99‬د أي‪99‬دينا إليهم بثرواتن‪99‬ا‪ ،‬ويم‪99‬دون أي‪99‬ديهم إلين‪99‬ا بم‪99‬ا يش‪99‬بع‬
‫بطوننا‪.‬‬
‫قال‪ :‬فاخرجوا من ضعفكم وعجزكم‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ال نمل‪99‬ك أس‪99‬لحة نووي‪99‬ة وال جرثومي‪99‬ة وال مص‪99‬انع جب‪99‬ارة‬

‫‪171‬‬
‫كمصانعهم‪.‬‬
‫قال‪ :‬تخرجون من ذلك باالعتماد على ق‪99‬وة هللا‪ ،‬وباعتق‪99‬اد عج‪99‬زهم‬
‫وفاقتهم وحاجتهم وضعفهم‪ ..‬أال تسمع القرآن الكريم؟‬
‫قلت‪ :‬بلى‪ ..‬أسمعه من مقرئين يحركون الجبال بترانيمهم‪.‬‬
‫قال‪ :‬اسمعه ممن يحرك روحك‪ ،‬ال ممن يحرك الجبال‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ما تقصد؟‬
‫قال‪ :‬لقد ضرب هللا لكم أمثاال عن الذين يستعبدونكم من دون هللا‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ما هي؟‬
‫قال‪ :‬الذباب والعنكبوت‪.‬‬
‫ض‪99‬حكت وقلت‪ :‬أه‪99‬ذه الق‪99‬وى العظمى ذب‪99‬اب وعن‪99‬اكب؟‪ ..‬أنت ال‬
‫تعرفها‪.‬‬
‫اس ‪9‬تَ ِمعُوا لَ ‪9‬هُ إِ َّن‬‫ب َمثَ ٌل فَ ْ‬ ‫قال‪ :‬اسمع قوله تعالى‪ {:‬يَا أَيُّهَا النَّاسُ ض ِ‬
‫ُر َ‬
‫ون هَّللا ِ لَ ْن يَ ْخلُقُوا ُذبَابا ً َولَ ِو اجْ تَ َمعُوا لَ ‪9‬هُ َوإِ ْن يَ ْس ‪9‬لُ ْبهُ ُم‬
‫الَّ ِذينَ تَ ْد ُعونَ ِم ْن ُد ِ‬
‫طلُ‪9‬وبُ }(الحج‪،)739:‬‬ ‫ض‪9‬عُفَ الطَّالِبُ َو ْال َم ْ‬ ‫ال ُّذبَابُ َشيْئا ً ال يَ ْستَ ْنقِ ُذوهُ ِم ْن‪9‬هُ َ‬
‫ت‬‫وقوله تعالى‪َ {:‬مثَ‪ُ 9‬ل الَّ ِذينَ اتَّخَ‪ُ 9‬ذوا ِم ْن ُدو ِن هَّللا ِ أَوْ لِيَ‪99‬ا َء َك َمثَ‪ِ 9‬ل ْال َع ْن َكبُ‪99‬و ِ‬
‫ت لَ‪99‬وْ َك‪99‬انُوا يَ ْعلَ ُم‪99‬ونَ }‬ ‫ْت ْال َع ْن َكبُ‪99‬و ِ‬ ‫ت بَيْت ‪9‬ا ً َوإِ َّن أَوْ هَنَ ْالبُيُ‪99‬و ِ‬
‫ت لَبَي ُ‬ ‫اتَّ َخ‪َ 9‬ذ ْ‬
‫(العنكبوت‪)41:‬‬
‫قلت‪ :‬قرأت كال اآليتين‪ ،‬ويقرؤهما جمي‪99‬ع الن‪99‬اس‪ ،‬فم‪99‬ا ال‪99‬ذي يمكن‬
‫أن أسمعه منهما؟‬
‫قال‪ :‬أما اآلي‪99‬ة األولى‪ ،‬فاهلل تع‪99‬الى يتح‪99‬دى فيه‪99‬ا ق‪99‬واكم العظمى أن‬
‫تخلق ذبابة واحدة‪ ،‬بل يتحداهم فيما هو دون ذل‪99‬ك أن يس‪99‬تنقذوا الطع‪99‬ام‬
‫الذي يسلبهم الذباب إياه‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ص‪9‬دقت في ه‪9‬ذا‪ ..‬والعلم الح‪9‬ديث يق‪9‬ر ب‪9‬ذلك‪ ..‬فم‪9‬ا إش‪9‬ارة اآلي‪9‬ة‬
‫الثانية؟‬
‫قال‪ :‬إن البيوت التي تعتصمون بها أو تخافون منها ال تعدوا أن تك‪99‬ون‬
‫خيوط بيت عنكبوت‪ ،‬فهل رأيت أوهن منها؟‬
‫قلت‪ :‬ال‪ ..‬إن بيته‪9‬ا ال‪9‬ذي تتفنن في بنائ‪9‬ه س‪9‬رعان م‪9‬ا يته‪9‬دم ب‪9‬داخل أو‬
‫بخارج‪ ..‬وهي لغبائها ال تختار إال المداخل أو المخارج‪.‬‬
‫قال‪ :‬وأنتم ال تختلفون عنها‪ ،‬فإن قواكم التي منحكم هللا ال تضعونها إال‬
‫في المواطن التي تصيبكم بالهلكة‪.‬‬

‫‪172‬‬
‫قلت‪ :‬كيف؟‬
‫قال‪ :‬أنتم ال تستعملوها لترحموا المستض‪9‬عفين‪ ،‬ب‪99‬ل لتقتل‪9‬وهم وتقض‪99‬وا‬
‫عليهم‪ ،‬وتتفننون في ذلك أكثر من تفنن العناكب في صناعة بيوتها‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ولكن خيوط العناكب واهية‪.‬‬
‫قال‪ :‬وخيوطكم أوهى‪ ،‬ولكن الزمن الذي تتوهمون‪99‬ه ه‪99‬و ال‪99‬ذي يح‪99‬ول‬
‫بينكم وبين رؤية خيوطكم وهي تتقطع خيطا خيطا‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فكيف أتخلص من خي‪9‬وط العنكب‪9‬وت ال‪9‬تي أرتب‪9‬ط به‪9‬ا‪ ،‬ويرتب‪9‬ط‬
‫الضعفاء بها؟‬
‫قال‪ :‬بأن تعلم بأنها خيوط عنكبوت‪.‬‬
‫قلت‪ :‬كيف؟‬
‫قال‪ :‬أرأيت لو وقعت في البح‪9‬ر‪ ،‬وح‪9‬ام ب‪9‬ك الم‪9‬وت ليلتهم‪9‬ك‪ ،‬ف‪9‬رأيت‬
‫حبال متينا مرتبطا بسفينة ضخمة فيها كل وسائل اإلنقاذ‪ ،‬أكنت تتعلق بذلك‬
‫الحبل الذي يوصلك إلى سفينة النجاة‪ ،‬أم تتعلق بخيوط عنكبوت تراه‪99‬ا من‬
‫بعيد كما يرى الظمآن السراب؟‬
‫قلت‪ :‬أحمق أنا إن التجأت لخيوط العنكبوت‪ ،‬وتركت سفينة النجاة‪.‬‬
‫قال‪ :‬وحمقى أنتم عندما تتعلقون باأليدي الفقيرة العاجزة وت‪99‬تركون ي‪99‬د‬
‫هللا الممدودة إليكم‪.‬‬
‫قلت‪ :‬نعم‪ ..‬لقد أدركت مدى ما نقع فيه من جهل عندما نرى الخلق وال‬
‫نرى هللا‪ ،‬ونرى الخي‪9‬وط الواهي‪9‬ة ال‪9‬تي يم‪9‬دنا به‪9‬ا الخل‪9‬ق أو يغرونن‪9‬ا به‪9‬ا‪،‬‬
‫وننسى حبال هللا الممدودة إلينا‪.‬‬
‫األمل فيه ‪:‬‬
‫ص‪99‬عدت طابق‪99‬ا آخ‪99‬ر في قص‪99‬ر االس‪99‬تعفاف‪ ،‬ووقفت م‪99‬ع المعلم أم‪99‬ام‬
‫الجوهرة الثالثة من ج‪9‬واهره‪ ،‬فس‪9‬ألت المرش‪9‬د عنه‪9‬ا‪ ،‬فق‪9‬ال‪ :‬ه‪9‬ذه ج‪9‬وهرة‬
‫نفيسة اسمها ( األمل فيه) من حازها حيزت له ال‪99‬دنيا بح‪99‬ذافيرها‪ ،‬ب‪99‬ل ك‪99‬ل‬
‫شي بحذافيره‪.‬‬
‫ابتس‪99‬مت في نفس‪99‬ي من ه‪99‬ذه األس‪99‬ماء الغريب‪99‬ة‪ ،‬ثم التفت إلى المعلم‬
‫ليشرح لي حقائقها‪.‬‬
‫نظر إلي المعلم‪ ،‬وقال‪ :‬هذه الجوهرة النفيسة لم تكن لتصل إليها‪ ،‬لو لم‬
‫تنل الجوهرتين السابقتين‪.‬‬
‫قلت‪ :‬لم؟‬

‫‪173‬‬
‫قال‪ :‬ألم تقرأ ما ورد في بعض الكتب اإللهي‪9‬ة من أن هللا تع‪9‬الى يق‪9‬ول‪:‬‬
‫( وعزتي وجاللي ألقطعن أمل كل مؤمل غيري بالي‪9‬اس‪ ،‬وأللبس‪9‬نه ث‪9‬وب‬
‫المذلة عن‪9‬د الن‪9‬اس‪ ،‬وألخيبن‪9‬ه من ق‪9‬ربي وألبعدن‪9‬ه من وص‪9‬لي‪ ،‬وألجعلن‪9‬ه‬
‫متفكرا حيران يؤمل غيري في الشدائد‪ ،‬والشدائد بيدي‪ ،‬وأنا الحي القي‪99‬وم‪،‬‬
‫ويرجو غيري ويطرق بالفكر أبواب غيري‪ ،‬وبيدي مفاتيح األبواب‪ ،‬وهي‬
‫مغلقة‪ ،‬وبابي مفتوح لمن دعاني )‬
‫قلت‪ :‬أنا ال أومن إال بما في كتاب‪99‬ه الخ‪99‬اتم وس‪99‬نة نبي‪99‬ه الص‪99‬حيحة‪ ،‬أم‪99‬ا‬
‫سائر الكتب‪ ،‬فقد عراها التحريف‪ ،‬وال آمن كثيرا مما فيها‪.‬‬
‫قال‪ :‬ألم تقرأ قوله ‪ ‬في األثر اإللهي الص‪9‬حيح‪ (:‬ق‪9‬ال هللا تع‪9‬الى‪ :‬أن‪9‬ا‬
‫أغنى الشركاء عن الشرك‪ ،‬من عمل عمال أشرك فيه معي غ‪99‬يري تركت‪99‬ه‬
‫وشركه )(‪)1‬‬
‫قلت‪ :‬بلى‪ ،‬قرأته كثيرا‪ ،‬وما أكثر ما خفت منه‪ ،‬فم‪9‬ا وج‪9‬ه اإلش‪9‬ارة في‬
‫هذا‪.‬‬
‫ق‪99‬ال‪ :‬األم‪99‬ل ه‪99‬و مفت‪99‬اح الطلب‪ ،‬والطلب ه‪99‬و عن‪99‬وان االس‪99‬تعانة‪،‬‬
‫واالستعانة ال تكون إال به‪ ،‬فلذلك من وضع أمله في الخلق وكل‪99‬ه هللا إليهم‪،‬‬
‫فإذا رفع يده عنهم وجد هللا أقرب إليه من نفسه‪.‬‬
‫قلت‪ :‬نعم‪ ،‬فهمت‪99‬ه‪ ،‬لك‪99‬أني ب‪99‬ك ت‪99‬ذكرني بق‪99‬ول ابن عط‪99‬اء هللا‪ (:‬كم‪99‬ا ال‬
‫يحب العمل المشترك‪ ،‬كذلك ال يحب القلب المش‪9‬ترك‪ ،‬العم‪9‬ل المش‪9‬ترك ال‬
‫يقبله‪ ،‬والقلب المشترك ال يقبل عليه )‬
‫قال‪ :‬بل أقصد ما ورد في القرآن الكريم‪ ،‬وفي أم الكتاب‪ ،‬السورة التي‬
‫اختزنت الحقائق‪.‬‬
‫ين}(الفاتحة‪)5:‬‬ ‫قلت‪ :‬تقصد قوله تعالى‪ِ {:‬إيَّاكَ نَعْ بُ ُد َو ِإيَّاكَ َن ْست َِع ُ‬
‫قال‪ :‬ال‪ ،‬بل أقصد السورة جميعا‪ ،‬فما قبلها مق‪9‬دمات لم‪9‬ا ذك‪9‬رت‪ ،‬وم‪9‬ا‬
‫بعدها متممات لها‪ ،‬ألم تسمع قول علي‪ (:‬لو ش‪9‬ئت ألوق‪9‬رت س‪9‬بعين بع‪9‬يرا‬
‫من تفسير فاتحة الكتاب )‬
‫قلت‪ :‬صدقت ‪ ..‬فما هي الحقائق األربعة التي تنشر األمل في قلبي في‬
‫هللا‪ ،‬فال أرى سواه‪ ،‬وال أعتمد على غيره؟‬
‫قال‪ :‬وما أدراك أنها أربعة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬عهدي بك تجعل األمور كلها أربعة‪.‬‬

‫‪ ) )(1‬مسلم‪.‬‬

‫‪174‬‬
‫ضحك‪ ،‬وقال‪ :‬أن‪9‬ا ال أجعله‪99‬ا‪ ،‬ب‪9‬ل هي ك‪9‬ذلك‪ ،‬أال ت‪9‬رى ج‪99‬دران بيت‪99‬ك‬
‫األربع؟‬
‫قلت‪ :‬فاذكر لي جدران األمل في هللا األربع‪.‬‬
‫قال‪ :‬الغنى والكرم والقرب واإلجابة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فما وجه الحصر فيها؟‬
‫قال‪ :‬ال يمكنك أن تأمل في فقير‪ ،‬فالفقير يطلب منك‪ ،‬ومن ك‪99‬ان يطلب‬
‫منك ال تطلب منه‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فالكرم؟‬
‫قال‪ :‬ق‪9‬د يك‪9‬ون الغ‪9‬ني بخيال‪ ،‬ال يص‪9‬يبك نوال‪9‬ه‪ ،‬وال تمت‪9‬د إلي‪9‬ه أعن‪9‬اق‬
‫طمعك‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فالقرب؟‬
‫قال‪ :‬قد يك‪99‬ون كريم‪99‬ا‪ ،‬ولكن‪9‬ه بعي‪9‬د عن‪9‬ك‪ ،‬تحب‪99‬ه وتعجب من س‪99‬يرته‪،‬‬
‫ولكن نواله يظل بعيدا بقدر بعده عنك‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فاإلجابة‪.‬‬
‫قال‪ :‬قد يكون كريما وغنيا وقريبا‪ ،‬ولكنه ال يلتفت إلي‪99‬ك وال يهتم ب‪99‬ك‪،‬‬
‫فمشاغله أكثر من أن تنحصر فيك‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فعلمني من الحكمة ما يقرر هذه الحقائق في نفسي‪.‬‬
‫قال‪ :‬هذه الحكمة تتصل باهلل‪ ،‬فالبس لها لباسها‪ ،‬وأحرم لها إحرامها‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وما لباسها؟‬
‫قال‪ :‬األدب‪ ،‬فمن لم يتأدب عند الباب‪ ،‬رد إلى سياسة الدواب‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وما إحرامها؟‬
‫قال‪ :‬أن تحرم على قلبك االلتفات لغيره أو النظر لسواه‪ ،‬ألم تسمع ثناء‬
‫هللا تعالى على أدب نبيه ‪ ‬أم‪99‬ام الحض‪99‬رة اإللهي‪99‬ة‪ ،‬حيث ق‪99‬ال‪َ {:‬م‪99‬ا زَا َغ‬
‫طغَى}(لنجم‪)17 :‬؟‬ ‫ْال َب َ‬
‫صرُ َو َما َ‬
‫الغنى‪:‬‬
‫قلت‪ :‬علمت فقرهم‪ ،‬فحدثني عن غناه‪.‬‬
‫قال‪ :‬ال تطيقه‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فقرب لي‪.‬‬
‫قال‪ :‬ما هي الوسائل التي يغتني بها قومك؟‬
‫قلت‪ :‬يختلفون‪ ،‬فمنهم من تدر عليه التجارة بشآبيب ال‪99‬ربح‪ ،‬ومنهم من‬

‫‪175‬‬
‫تدر عليه الفالحة‪ ،‬ومنهم من يكون حظه في الص‪99‬ناعة‪ ..‬ومنهم من يك‪99‬ون‬
‫حظه في تجارة السالح‪ ..‬ومنهم المخدارت‪ ..‬ومنهم‪..‬‬
‫قال‪ :‬فكم تدر عليهم؟‬
‫قلت‪ :‬بالماليين أو بالماليير‪ ،‬بحسب نشاطهم واجتهادهم‪.‬‬
‫قال‪ :‬فلو أن أحدا منهم ملك طلسما بحيث ال يتعب نفسه في تج‪99‬ارة وال‬
‫صناعة وال شيء من ذلك‪ ،‬بل يكتفي أن يذكر الشيء‪ ،‬فيكون أمامه‪.‬‬
‫قلت‪ :‬يبزهم بغناه‪ ،‬بل يملكهم بغناه‪.‬‬
‫قال‪ :‬فإذا ملك وسائل إنتاجهم بغناه‪.‬‬
‫قلت‪ :‬يح‪99‬ولهم خ‪99‬دما لباب‪99‬ه‪ ،‬ب‪99‬ل يتحول‪99‬ون فق‪99‬راء بين يدي‪99‬ه يس‪99‬تجدون‬
‫طلسمه كما يستجديهم الشحاذون‪.‬‬
‫قال‪ :‬فإذا لم يملكهم فقط‪ ،‬بل ملك الكواكب جميعا‪ ،‬بل الس‪99‬ماء جميع‪99‬ا‪..‬‬
‫بل الكون جميعا‪ ،‬ومع ذلك ال يفتقر إلى شيء منها‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ذلك هو الغني المحض‪.‬‬
‫َ‬
‫ضى أ ْمراً َفإِنَّ َم‪99‬ا‬‫ض َو ِإ َذا َق َ‬ ‫َ‬
‫ت َواأْل رْ ِ‬ ‫اوا ِ‬ ‫قال‪ :‬ذلك هو هللا‪ ،‬فإنه { َب ِدي ُع ال َّس َم َ‬
‫‪9‬ول َل‪9‬هُ ُك ْن‬ ‫ون}(البقرة‪ِ {)117 :‬إنَّ َما َأ ْم‪9‬رُ هُ ِإ َذا َأ َرا َد َش‪9‬يْئاً َأ ْن َيقُ َ‬ ‫َيقُولُ َلهُ ُك ْن َف َي ُك ُ‬
‫ون}(يّـس‪)82 :‬‬ ‫َف َي ُك ُ‬
‫ثم التفت إلي‪ ،‬وقال‪ :‬فمن كان مدد خزائنه قوله { كن } أتنفذ خزائنه؟‬
‫قلت‪ :‬ال‪ ،‬فما أسرع أن يمألها إن نفذت‪.‬‬
‫ق‪99‬ال‪ :‬أخ‪99‬برني عن خ‪99‬زائن قوم‪99‬ك ال‪99‬تي ي‪99‬تيهون به‪99‬ا‪ ،‬وال‪99‬تي تجعلكم‬
‫تستجدونها‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فيها الذهب والجواهر الكريمة‪ ..‬وفيها األرزاق المختلفة وأن‪99‬واع‬
‫المآكل والمشارب‪ ..‬وفيها بعض أنواع المتع الطيبة والخبيثة‪ ..‬وفيها بعض‬
‫األدوية التي تخفف اآلالم أو تقهرها‪.‬‬
‫قال‪ :‬وهل فيها السكينة؟‬
‫قلت‪ :‬دعهم أوال يجدوها‪ ،‬فليس في األرض عقار صالح لتحقيقها‪.‬‬
‫قال‪ :‬فهل فيها الخلود؟‬
‫قلت‪ :‬ذلك حلم‪ ،‬ما أجمله لو تحق‪99‬ق‪ ،‬ولكن البش‪99‬ر يئس‪99‬وا من‪99‬ه‪ ،‬ف‪99‬اكتفوا‬
‫بالتنعم بما عندهم من أنواع النعيم الزائل‪.‬‬
‫قال‪ :‬فهل فيها الشباب الدائم؟‬
‫قلت‪ :‬ال‪ ،‬فذلك إكسير أحمر‪ ،‬ما أسرع ما تهب عليه رياح الخريف‪.‬‬

‫‪176‬‬
‫قال‪ :‬فهل فيها األمن الدائم والنعيم المقيم‪..‬؟‬
‫قلت‪ :‬ما شأنك يما معلمي‪ ..‬أراك مغرما بما ال يكون‪.‬‬
‫قال‪ :‬فلماذا تتعلقون بالخزائن الخاوية التي تض‪99‬عون فيه‪99‬ا بعض اللعب‬
‫التي ال تختلف عن لعب األطفال‪.‬‬
‫قلت‪ :‬لعب األطفال!‬
‫قال‪ :‬نعم ما الفرق بين لعبكم ولعب األطفال‪ ..‬األطفال يشتغلون بلعبهم‬
‫وقت الصبا‪ ،‬وأنتم تشتغلون بها في ربيع العمر وخريفه‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فهل توجد خزائن تحوي الكنوز التي ذكرتها؟‬
‫ق‪99‬ال‪ :‬نعم‪ ..‬إنه‪99‬ا خ‪99‬زائن الغ‪99‬ني الحقيقي‪ ،‬خ‪99‬زائن هللا‪ ،‬ألم تس‪99‬مع قول‪99‬ه‬
‫‪9‬وم}(الحج‪99‬ر‪:‬‬ ‫تعالى‪َ {:‬و ِإ ْن ِم ْن َش ْي ٍء ِإاَّل ِع ْن َدنَا خَزَا ِئنُهُ َو َما نُن َِّزلُهُ ِإاَّل ِب َقد ٍَر َمعْ لُ‪ٍ 9‬‬
‫ب}‬ ‫‪9‬ز ْال َوهَّا ِ‬ ‫‪ ،)21‬ألم تسمع قوله تعالى‪َ {:‬أ ْم ِع ْن َدهُ ْم خَزَا ِئ ُن َرحْ َم ِة َربِّكَ ْال َع ِزي‪ِ 9‬‬
‫(صّ ‪ ،)9 :‬فقد جعل للرحمة خزائن خاصة بها‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فأين هذه الخزائن؟‬
‫ض }(المنافقون‪)7 :‬‬ ‫َ‬
‫ت َواأْل رْ ِ‬ ‫اوا ِ‬‫قال‪َ { :‬وهَّلِل ِ خَزَا ِئ ُن ال َّس َم َ‬
‫قلت‪ :‬فمن يملك مفاتيح هذه الخزائن؟‬
‫قال‪ :‬خزائن هللا ال مف‪9‬اتيح له‪9‬ا‪ ،‬ب‪9‬ل هي متس‪9‬عة للك‪9‬ل‪ ،‬ألم تس‪9‬مع قول‪9‬ه‬
‫تعالى‪ {:‬قُلْ َل‪9‬وْ َأ ْنتُ ْم ت َْم ِل ُك‪9‬ونَ خَ‪9‬زَا ِئنَ َرحْ َم‪ِ 9‬ة َربِّي ِإذاً أَل َ ْم َس‪ْ 9‬كتُ ْم ْ‬
‫خَش‪َ 9‬ي َة اأْل ِ ْن َف ِ‬
‫‪9‬اق‬
‫ان َقتُوراً}(االسراء‪)100 :‬‬ ‫َو َكانَ اأْل ِ ْن َس ُ‬
‫قلت‪ :‬فلماذا إذن نلجأ لغير باب هللا‪ ،‬ونستمطر الخزائن الفارغة‪.‬‬
‫قال‪ :‬ألنكم تصورتم أن خزائن هللا بيد عباده‪ ،‬وهللا تعالى ينفي ذلك‪..‬‬
‫قاطعته قائال‪ :‬بلى‪ ..‬لقد سمعت الساعة هللا تعالى وهو يقول‪َ {:‬أ ْم ِع ْن َدهُ ْم‬
‫صي ِْطرُونَ }(الطور‪ ،)37 :‬فخ‪9‬زائن هللا بي‪9‬د هللا‪ ،‬ال بي‪9‬د‬ ‫خَزَا ِئ ُن َربِّكَ َأ ْم هُ ُم ْال ُم َ‬
‫أحد من الناس‪.‬‬
‫الكرم‪:‬‬
‫قال لي‪ :‬أتعلم حقيقة الكرم‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أن تنيل المحتاج من فضلك ما يضطر به إلى شكرك‪.‬‬
‫قال‪ :‬أال تعلم ما ينطوي عليه تعريفك هذا من البخل؟‬
‫قلت‪ :‬كيف‪ ،‬فهذا هو الكرم‪.‬‬
‫قال‪ :‬انتظارك المحتاج إلى أن يحتاج بخ‪9‬ل‪ ،‬وتنعم‪9‬ك علي‪9‬ه بفض‪9‬لك ال‬
‫برأس مالك بخل‪ ،‬واضطراره إلى شكرك بخل‪..‬‬

‫‪177‬‬
‫قلت‪ :‬فما الكرم؟‬
‫قال‪ :‬الكريم ( هو الذي إذا ق‪99‬در عف‪99‬ا‪ ،‬وإذا وع‪99‬د وفى‪ ،‬وإذا أعطى زاد‬
‫على منتهى الرجاء‪ ،‬وال يب‪9‬الي كم أعطى ولمن أعطى‪ ،‬وإن رفعت حاج‪9‬ة‬
‫إلى غيره ال يرضى‪ ،‬وإذا جفي عاتب وما استقصى‪ ،‬وال يضيع من الذ به‬
‫والتجأ ويغنيه عن الوسائل والشفعاء‪ ،‬فمن اجتمع له جميع ذلك ال بالتكلف‪،‬‬
‫فهو الكريم المطلق)(‪)1‬‬
‫قلت‪ :‬هذا هو تعريف الغزالي للكريم‪.‬‬
‫قال‪ :‬وه‪9‬و ال يص‪9‬دق إال على هللا‪ ،‬فه‪9‬و الك‪9‬ريم الحقيقي وغ‪9‬يره ك‪9‬ريم‬
‫على المجاز‪.‬‬
‫قلت‪ :‬كيف يكون كريما على المجاز؟‬
‫ق‪9‬ال‪ :‬ل‪9‬و أن كريم‪9‬ا من كرم‪9‬اء قوم‪9‬ك وك‪9‬ل ـ لس‪9‬عة أموال‪9‬ه ـ وكالء‬
‫ينوب‪99‬ون عن‪99‬ه في إيص‪99‬ال كرم‪99‬ه إلى الن‪99‬اس‪ ..‬من يك‪99‬ون الك‪99‬ريم في نظ‪99‬ر‬
‫الناس‪ :‬هل الوكالء‪ ،‬أم من وكلهم؟‬
‫قلت‪ :‬بل الكريم صاحب المال‪ ،‬أما ال‪99‬وكالء فهم مج‪99‬رد عم‪99‬ال ين‪99‬الون‬
‫أجورهم‪ ،‬بل هم يعيشون تحت ظل كرم ذلك الك‪9‬ريم‪ ،‬فكي‪9‬ف يطمع‪9‬ون في‬
‫وصفه‪.‬‬
‫ق‪99‬ال‪ :‬ولكنكم انش‪99‬غلتم بم‪99‬دح ال‪99‬وكالء‪ ،‬وم‪99‬د أي‪99‬ديكم إليهم‪ ،‬ونس‪99‬يتم من‬
‫وكلهم‪.‬‬
‫قلت‪ :‬كيف؟‬
‫قال‪ :‬من أين ينفق كرام قومك؟‬
‫قلت‪ :‬من أموالهم‪.‬‬
‫قال‪ :‬وهي من أين؟‬
‫قلت‪ :‬منها ما ورثوه‪ ،‬ومنها ما حصلوا عليه باجتهادهم‪.‬‬
‫ق‪99‬ال‪ :‬أرك ت‪99‬ردد دائم‪99‬ا مقال‪99‬ة ق‪99‬ارون‪ِ {:‬إنَّ َم‪99‬ا أُو ِتيتُ‪9‬هُ َع َلى ِعل ٍم ِع ْن‪ِ 9‬دي}‬
‫ْ‬
‫(القصص‪)78 :‬‬
‫قلت‪ :‬فما أقول؟‬
‫قال‪ :‬قل مقالة القرآن الكريم‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وما هي؟‬
‫َّ‬ ‫ْ‬
‫ق‪99‬ال‪ :‬الم‪99‬ال م‪99‬ال هللا‪ ،‬ألم تس‪99‬مع هللا وه‪99‬و يق‪99‬ول‪َ {:‬ول َي ْس‪9‬تَعْ ِف ِ‬
‫ف ال ِذينَ ال‬

‫‪ ) )(1‬المقصد األسنى‪.‬‬

‫‪178‬‬
‫ت‬ ‫ض ‪ِ 9‬ل ِه َوالَّ ِذينَ َي ْب َت ُغ‪99‬ونَ ْال ِك َت‪َ 9‬‬
‫‪9‬اب ِم َّما َم َل َك ْ‬ ‫َي ِج‪ُ 9‬دونَ ِن َكاح ‪9‬اً َحتَّى ي ُْغ ِن َيهُ ُم هَّللا ُ ِم ْن َف ْ‬
‫َأ ْي َم‪99‬انُ ُك ْم َف َك‪99‬ا ِتبُوهُ ْم ِإ ْن َع ِل ْمتُ ْم ِفي ِه ْم خَ يْ‪99‬راً َوآتُ‪99‬وهُ ْم ِم ْن َم ِ‬
‫‪99‬ال هَّللا ِ الَّ ِذي آتَ‪99‬ا ُك ْم ‪‬‬
‫(النور‪)33 :‬؟‬
‫قلت‪ :‬فزدني تفصيال‪.‬‬
‫قال‪ :‬أو لم تؤمن؟‬
‫قلت‪ :‬بلى‪ ،‬ولكن ليطمئن قلبي‪.‬‬
‫قال‪ :‬ذكرنا سابقا نوعين للكرم‪ ،‬أو ركنين للكرم‪.‬‬
‫قلت‪ :‬نعم‪ :‬الكرم النفسي‪ ،‬والكرم المادي‪.‬‬
‫قال‪ :‬فما منتهى الكرم النفسي؟‬
‫قلت‪ :‬البشر واالبتسامة والكلمة الطيبة‪.‬‬
‫قال‪ :‬فلو أذن لك مسؤول كب‪9‬ير في ال‪9‬دخول إلى مكتب‪9‬ه والح‪9‬ديث مع‪9‬ه‬
‫وتقديم طلباتك بين يديه؟‬
‫قلت‪ :‬يكون قد أكرمني غاية اإلكرام‪ ،‬بل ال أظن أن‪99‬ني سأنس‪99‬ى جمي‪99‬ل‬
‫صنعه‪ ،‬وال كريم طبعه‪.‬‬
‫قال‪ :‬فلو كانت المبادرة بالدعوة منه ال منك؟‬
‫قلت‪ :‬يكون أكرم وأنبل‪.‬‬
‫قال‪ :‬فلو تكرر ذلك منه كثيرا؟‬
‫قلت‪ :‬ال طاقة لي حينها بشكره‪.‬‬
‫قال‪ :‬فهل يكون بذلك قد أحسن إليك؟‬
‫قلت‪ :‬يكفيني سلوكه هذا ليكون محسنا لي‪ ،‬ولو لم أن‪9‬ل من‪9‬ه أي ش‪9‬يء‪،‬‬
‫فحسبي أن أنتسب إليه‪.‬‬
‫قال‪ :‬فاهلل تعالى خالق كل شيء ـ والذي ال يشكل ذلك المس‪99‬ؤول ال‪99‬ذي‬
‫كان له ذلك الخطر في نفسك سوى شيء ضئيل ج‪99‬دا من ملك‪99‬ه ـ ي‪99‬دعوك‬
‫في كل لحظة ألن تقف بين يديه تكلمه ويكلمك بال حجاب وال رقيب‪ ،‬فه‪99‬ل‬
‫هناك أكرم من هذا؟‬
‫قلت‪ :‬ومع ذلك نظل نغلق األبواب بيننا وبينه‪.‬‬
‫قال‪ :‬وتأبون إال الذلة على أبواب الذين يحتق‪99‬رونكم‪ ،‬ويس‪99‬دون أب‪99‬وابهم‬
‫في وجوهكم‪ ..‬أخبرني ه‪9‬ل ورد في الق‪9‬رآن الك‪9‬ريم م‪9‬ا ي‪9‬دل على حرم‪9‬ان‬
‫الفقراء من الحديث مع هللا؟‬
‫قلت‪ :‬كال‪ ..‬بل أراه يخبر عن فضلهم‪ ،‬بل يث‪99‬ني عليهم من الثن‪99‬اء م‪99‬ا لم‬

‫‪179‬‬
‫ينل‪9‬ه غ‪9‬يرهم‪ ،‬ق‪9‬ال تع‪9‬الى‪َ {:‬وال ت ْ‬
‫َط‪9‬رُ ِد الَّ ِذينَ َي‪ْ 9‬د ُعونَ َربَّه ُْم ِب ْالغَ‪ 9‬دَا ِة َو ْال َع ِش‪ِّ 9‬ي‬
‫ي ُِري ُدونَ َوجْ َه‪9‬هُ َم‪9‬ا َع َل ْي‪9‬كَ ِم ْن ِح َس‪9‬ا ِب ِه ْم ِم ْن َش‪ْ 9‬ي ٍء َو َم‪9‬ا ِم ْن ِح َس‪9‬ا ِبكَ َع َل ْي ِه ْم ِم ْن‬
‫الظا ِل ِمينَ }(األنعام‪)52 :‬‬ ‫َطرُ َدهُ ْم َف َت ُكونَ ِمنَ َّ‬ ‫َش ْي ٍء َفت ْ‬
‫ق‪99‬ال‪ :‬فه‪99‬ؤالء هم الفق‪99‬راء إلى هللا على الحقيق‪99‬ة ش‪99‬غلتهم إرادة هللا عن‬
‫الط‪99‬واف ب‪99‬بيوت عب‪99‬اده‪ ،‬وش‪99‬غلهم الرج‪99‬اء في هللا عن التعل‪99‬ق بغ‪99‬ير هللا‪،‬‬
‫وشغلهم النظر لما في يد هللا عن الطمع فيما في أيدي عباده‪.‬‬
‫قلت‪ :‬صدقت في هذا‪..‬‬
‫قال‪ :‬ما المدة التي يستطيع كرامكم‪ ،‬حاتم وغيره‪ ،‬أن يكرموا بها؟‬
‫قلت‪ :‬مدة الضيافة‪ ،‬وهي ثالث‪ ،‬وقد تمتد أسابيع‪ ،‬أو أشهرا‪.‬‬
‫قال‪ :‬فلنفرض أنها تمتد العمر جميعا‪ ..‬فماذا بعد ذلك؟‬
‫قلت‪ :‬ال بد أن ينتهي الكرم في يوم ما‪.‬‬
‫قال‪ :‬الكريم الحقيقي ال ينتهي كرمه‪ ،‬بل يستمر أبد اآلباد‪ ،‬بل إنه ادخر‬
‫كرمه الحقيقي إلى الوقت الذي ييأس فيه الخالئق من كرم بعضهم بعضا‪.‬‬
‫قلت‪ :‬متى ذلك؟‬
‫قال‪ :‬بعد الموت مباشرة تتدفق بحار كرمه على عب‪9‬اده الص‪9‬الحين بم‪9‬ا‬
‫ال قدرة على وصفه‪ ،‬ألم تسمع قوله تعالى‪َ {:‬و ِإ ْن ِم ْن َش ْي ٍء ِإاَّل ِع ْن َدنَا خَزَا ِئنُهُ‬
‫وم}(الحجر‪)21 :‬‬ ‫َو َما نُن َِّزلُهُ ِإاَّل ِب َقد ٍَر َمعْ لُ ٍ‬
‫قلت‪ :‬بلى‪ ،‬فما وجه اإلشارة فيها؟‬
‫قال‪ :‬إن كل ما تراه من خزائن الكرم ال يعدوا أن يكون ج‪99‬زءا ض‪99‬ئيال‬
‫جدا ال يكاد يرى من الكرم المعد في دار القرار‪.‬‬
‫القرب‪:‬‬
‫قال لي‪ :‬لقد ذكرت لي بأن في قومك كراما‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ال أجحد ذلك‪ ،‬ولو أني اقتنعت بأن لهم كرما مجازيا ال حقيقيا‪.‬‬
‫قال‪ :‬فأين هم؟‬
‫قلت‪ :‬هم في مناطق مختلفة من العالم ‪ ..‬منهم من يرم‪99‬ون ال‪99‬دراهم في‬
‫الطرقات لينالها الغ‪99‬ادي وال‪99‬رائح‪ ،‬ومنهم من يرح‪99‬ل إلى أوروب‪99‬ا وأمريك‪99‬ا‬
‫حيث يتلذذ برؤية الشحاذين من األغنياء‪ ،‬وهم ينحنون لجمعها‪.‬‬
‫قال‪ :‬فهل يصلك منها شيء؟‬
‫قلت‪ :‬تصلني أخبارها‪ ،‬وقد تسمعني القنوات الفضائية رنينها‪.‬‬
‫قال‪ :‬وفي األقدمين‪ ،‬هل تعرف كراما؟‬

‫‪180‬‬
‫قلت‪ :‬كثيرون هم‪ ،‬يسرني ذكرهم‪ ،‬وتنتشي روحي بأخبارهم‪.‬‬
‫قال‪ :‬فهل يصلك نوالهم؟‬
‫قلت‪ :‬كيف يصلني نوالهم‪ ،‬وقد رمموا؟‬
‫ق‪9‬ال‪ :‬فلم‪9‬اذا تش‪9‬غل قلب‪9‬ك بك‪9‬رم بعي‪9‬د إم‪9‬ا في أص‪9‬قاع األرض‪ ،‬أو في‬
‫أطباق الثرى‪ ،‬وتنسى الكريم الذي هو أقرب إليك منك‪.‬‬
‫قلت‪ :‬هللا؟‬
‫قال‪ :‬هللا‪ ،‬فهو أكر م األكرمين‪ ،‬وأقرب األقربين‪ ،‬ألم تسمع قوله تعالى‪:‬‬
‫آن َوال تَعْ َملُ‪9‬ونَ ِم ْن َع َم‪ٍ 9‬‬
‫‪9‬ل ِإاَّل ُكنَّا‬ ‫ون ِفي َش ْأ ٍن َو َم‪99‬ا َت ْتلُ‪9‬و ِم ْن‪9‬هُ ِم ْن ُق‪99‬رْ ٍ‬
‫{ َو َما َت ُك ُ‬
‫‪9‬ال َذرَّ ٍة ِفي اأْل َرْ ِ‬
‫ض‬ ‫عْزبُ ع َْن َربِّكَ ِم ْن ِم ْث َق‪ِ 9‬‬ ‫َع َل ْي ُك ْم ُشهُوداً ِإ ْذ تُ ِفيضُونَ ِفي ِه َو َما َي ُ‬
‫ين}(يونس‪)61 :‬‬ ‫اء َوال َأصْ غ ََر ِم ْن َذ ِلكَ َوال َأ ْك َب َر ِإاَّل ِفي ِكتَا ٍ‬
‫ب ُم ِب ٍ‬ ‫َوال ِفي ال َّس َم ِ‬
‫قلت‪ :‬فما عالقة هذا القرب بالكرم؟‬
‫قال‪ :‬القرب نفسه كرم‪ ،‬فمن عرف ق‪99‬رب هللا أعط‪99‬اه هللا من الغ‪99‬نى‬
‫والس‪99‬عادة م‪99‬ا يحتق‪99‬ر ب‪99‬ه األحج‪99‬ار ال‪99‬تي تتب‪99‬اهون به‪99‬ا‪ ،‬وتمألون به‪99‬ا‬
‫خزائنكم؟‬
‫قلت‪ :‬فهل وجد المقربون هلل هذه الثمرة الزكية؟‬
‫ق‪99‬ال‪ :‬وكي‪99‬ف ال يج‪99‬دونها‪ ،‬وق‪99‬د عاش‪99‬وا به‪99‬ا‪ ..‬فق‪99‬د عم‪99‬ر هللا عليهم‬
‫حياتهم‪ ،‬فامتألت أنسا‪ ،‬وعمر عليهم أنفاس‪99‬هم‪ ،‬ف‪9‬امتألت ذك‪99‬را‪ ،‬وش‪99‬غل‬
‫خواطرهم فلم يخطر عليها غيره‪.‬‬
‫ثم التفت إلي‪ ،‬وق‪99‬ال‪ :‬من ص‪99‬ادق منكم أم‪99‬يرا أو وزي‪99‬را أو ملك‪99‬ا‬
‫أيشعر بالفقر والحاجة‪ ،‬أو الحزن واأللم؟‬
‫قلت‪ :‬كيف يشعر بذلك‪ ،‬وهو محل غبطة جميع الناس؟‬
‫قال‪ :‬فمن كان في صحبة هللا‪ ،‬كي‪9‬ف يش‪9‬عر ب‪9‬الفقر والحاج‪9‬ة‪ ،‬أو كي‪9‬ف‬
‫تصيبه الذلة والهوان؟‬
‫اإلجابة‪:‬‬
‫قال لي المعلم‪ :‬من المجيب من قومك؟‬
‫قلت‪ :‬من إذا سألته أعطاني‪ ،‬وإن ظرقت بابه فتح لي‪.‬‬
‫قال‪ :‬ومن أعطاك قبل أن تسأله‪ ،‬وفتح لك بابه قبل أن تطرقه؟‬
‫قلت‪ :‬ذلك المجيب المطلق‪.‬‬
‫قال‪ :‬فذلك هو هللا‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أبهذه النظرة كان ينظر ابن عطاء هللا حين قال‪ (:‬طلبك منه اتهام‬

‫‪181‬‬
‫له )؟‬
‫قال‪ :‬وبهذه النظرة نظر الع‪9‬ارفون حين رددوا م‪9‬ع الص‪9‬الحين ق‪9‬ولهم‪:‬‬
‫( ال يكن همك في دعائك الظف‪9‬ر بقض‪9‬اء حاجت‪9‬ك فتك‪9‬ون محجوب‪9‬اً‪ ،‬وليكن‬
‫همك مناج‪99‬اة م‪99‬والك ) ‪ ،‬أو حين رددوا م‪99‬ع ابن عط‪99‬اء هللا قول‪99‬ه‪ (:‬ال يكن‬
‫طلب‪99‬ك تس‪99‬بباً إلى العط‪99‬اء من‪99‬ه‪ ،‬فيق‪99‬ل فهم‪99‬ك عن‪99‬ه‪ .‬وليكن طلب‪99‬ك إلظه‪99‬ار‬
‫العبودية‪ ،‬وقياماً بحقوق الربوبية)‬
‫قلت‪ :‬أفنترك الدعاء لهذا؟‬
‫قال‪ :‬ال تسئ فهم كالم العارفين‪ ،‬فتحجب دون مقاماتهم‪.‬‬
‫قلت‪ :‬لك‪99‬ني أس‪99‬مع كالم‪99‬ا ص‪99‬ريحا ال يحم‪99‬ل إال مع‪99‬نى واح‪99‬دا‪ ،‬فه‪99‬ذا‬
‫الواسطي يقول‪ (:‬أخشى إن دعوت أن يقال لي‪ :‬إن سألتنا مال‪99‬ك عن‪99‬دنا فق‪99‬د‬
‫اتهمتنا‪ ،‬وإن سألتنا ما ليس لك عندنا فقد أسأت الثن‪99‬اء علين‪99‬ا‪ ،‬وإن رض‪99‬يت‬
‫أجرينا لك من األمور ما قضينا لك في الدهور )‬
‫قال‪ :‬الواسطي يعبر عن حالة وجدانية‪ ،‬ال عن حقيقة شرعية‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فكيف أجمع بينهما؟‬
‫قال‪ :‬إذا توقف عالج علتك على دواء مسهل‪ ،‬أتتناوله؟‬
‫قلت‪ :‬كيف ال أتناوله‪ ،‬وعليه يتوقف عالج علتي؟‬
‫قال‪ :‬ولكنه سيصيبك بإسهال‪ ،‬وهو علة أخرى‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ولكني سوف أحتال فأبادر اإلسهال بما يقيني منه‪.‬‬
‫قال‪ :‬فهذا ما لحظه العارفون‪ ،‬فقد خشوا أن يخطئ العامة فيس‪99‬يئوا فهم‬
‫الدعاء‪ ،‬فيشبهوا هللا بخلقه‪.‬‬
‫قلت‪ :‬كيف يكون التشبيه في هذا المحل‪ ،‬وال أسمع يدا وال ساقا‪.‬‬
‫قال‪ :‬التشبيه ال يتوقف على الي‪99‬د والس‪99‬اق‪ ،‬ب‪99‬ل إن في قي‪99‬اس إجاب‪99‬ة هللا‬
‫بإجابة عباده رمي هلل ببخل العباد‪.‬‬
‫قلت‪ :‬كيف ذلك؟‬
‫قال‪ :‬ألن عناية هللا بعباده ال تفتقر إلى سؤالهم‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فلماذا أمرهم بسؤاله؟‬
‫قال‪ :‬لتسوقهم حاجاتهم إلى هللا‪ ،‬فيكون دعاؤهم أفضل من حاجاتهم‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فهال ضربت لي على ذلك مثاال‪.‬‬
‫ق‪9‬ال‪ :‬أرأيت ل‪9‬و أن أب‪9‬ا رحيم‪9‬ا رأى في ول‪9‬ده تقص‪9‬يرا في طلب العلم‪،‬‬
‫ورأى انشغاله باللعب قد ملك عليه كل وقته‪ ،‬فخشي إن نهره أن ينفلت منه‬

‫‪182‬‬
‫بالكلي‪99‬ة‪ ،‬فبحث عن ش‪99‬يخ مرش‪99‬د‪ ،‬وأعط‪99‬اه من اللعب ال‪99‬تي ي‪99‬رغب فيه‪99‬ا‬
‫الصبيان الكثير‪ ،‬وقال له‪ (:‬سيأتيك ابني طالبا اللعب‪ ،‬فال تعطه اللعبة حتى‬
‫تعلمه علما)‪ ،‬ثم قال البن‪9‬ه‪ (:‬أي لعب‪9‬ة رغبت فيه‪9‬ا‪ ..‬ف‪9‬افزع إلى فالن‪ ،‬ف‪9‬إن‬
‫عنده ما تشتهي )‬
‫فكان ابنه يذهب إلى ذل‪99‬ك المعلم ليأخ‪99‬ذ اللعب‪ ،‬فال يترك‪99‬ه المعلم ح‪99‬تى‬
‫يعلمه ما شاء من العلوم إلى أن زرع هللا محبة العلم في قلب‪9‬ه‪ ،‬فج‪9‬اءه يوم‪9‬ا‬
‫ليقول له‪ (:‬لم آتك اليوم لطلب اللعب‪ ،‬وإنما أتيتك لطلب العلم )‬
‫قلت‪ :‬فما محل هذا المثال من الدعاء؟‬
‫قال‪ :‬لقد علم هللا حبنا للدنيا ولهوها ولعبها‪.‬‬
‫قلت‪ :‬نعم‪ ،‬فقد قال تعالى مع‪99‬برا عن طبيع‪99‬ة اإلنس‪99‬ان‪َ {:‬و ِإنَّهُ ِلحُبِّ ْالخَ ْي‪ِ 9‬‬
‫‪9‬ر‬
‫ال حُ ّباً َج ّماً}(الفجر‪)20:‬‬ ‫َل َش ِدي ٌد}(العاديات‪ ،)8 :‬وقال تعالى‪َ {:‬وتُ ِحبُّونَ ْال َم َ‬
‫قال‪ :‬فلو ق‪9‬ال لكم هللا تع‪9‬الى‪ (:‬دع‪9‬وا أم‪9‬والكم وتع‪9‬الوا إلي ) لم تطيق‪9‬وا‬
‫ذلك‪ ،‬لتصوركم أن أموالكم أعظم من هللا‪.‬‬
‫قلت‪ :‬هذه حقيقة نعيشها‪ ،‬وإن كنا ال نجرؤ على التصريح بها‪.‬‬
‫قال‪ :‬فلذلك جع‪9‬ل االلتج‪9‬اء إلى باب‪9‬ه‪ ،‬وط‪9‬رق خ‪9‬زائن كرم‪9‬ه أس‪9‬بابا ال‬
‫لرزقكم فقط‪ ،‬فقد ضمن ذلك لكم‪ ،‬وإنما لتس‪99‬عدوا بلقائ‪99‬ه‪ ،‬وق‪99‬د يجعلكم ذل‪99‬ك‬
‫تطلبونه‪ ،‬وال تكتفون بالطلب منه‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وما الفرق بينهما؟‬
‫قال‪ :‬كالفرق بين الحقيقة والخيال‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وما الفرق بينهما؟‬
‫قال‪ :‬كالفرق بين قامتك وظلها‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فما الفرق بينهما؟‬
‫قال‪ :‬كالفرق بين الوجود والعدم‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ولكن ظلي موجود‪.‬‬
‫قال‪ :‬بك ال به‪.‬‬
‫مد يدك إليه‪:‬‬
‫ص‪99‬عدت م‪99‬ع المعلم طابق‪99‬ا آخ‪99‬ر في قص‪99‬ر االس‪99‬تعفاف‪ ،‬وه‪99‬و آخ‪99‬ر‬
‫طوابقه‪ ،‬ومنه تمتد اليد التي رأيتها خارج القصر‪ ،‬فوج‪99‬دنا ش‪99‬عاعا عظيم‪99‬ا‬
‫متأللئ‪99‬ا‪ ،‬س‪99‬ألت المرش‪99‬د عن‪99‬ه‪ ،‬فق‪99‬ال‪ :‬ه‪99‬ذه ج‪99‬وهرة نفيس‪99‬ة من ج‪99‬واهر‬
‫االستعفاف اسمها ( مد يدك إليه )‬

‫‪183‬‬
‫التفت إلى المعلم‪ ،‬وقلت‪ :‬أفي هذا المحل أضع يدي كما ذكرت؟‬
‫قال‪ :‬نعم‪ ،‬في هذا المحل تضع يدك في محلها الصحيح‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أهناك حجر كالحجر األسود ألمسه في هذا القصر؟‬
‫قال‪ :‬الحجر األسود حجر واحد تلتقي عنده أفئدة المؤمنين‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فأين أضع يدي إذن؟‬
‫قال‪ :‬املك يدا أوال‪ ،‬ثم اسأل عن المحل الذي تضعها فيه‪.‬‬
‫التفت إلى يدي‪ ،‬وقلت‪ :‬ها هي ذي يدي في جسدي‪ ،‬فكيف أحت‪99‬اج إلى‬
‫امتالك يد‪.‬‬
‫قال‪ :‬تحتاج للتحقق بحقائق هذه الجوهرة إلى امتالك أربعة أيد‪.‬‬
‫قلت‪ :‬تقصد يدين ورجلين؟‬
‫قال‪ :‬ال‪ ..‬أربعة أيد‪ ،‬لكل يد لسان يعبر عنها‪.‬‬
‫قلت‪ :‬هذا وصف غريب‪ ..‬لعلك تريد أن تحولني كائنا أسطوريا‪.‬‬
‫قال‪ :‬ما فائدة اليد؟‬
‫قلت‪ :‬إمساك النعمة‪.‬‬
‫قال‪ :‬فكيف تأتيك النعمة؟‬
‫قلت‪ :‬بسؤالها‪.‬‬
‫قال‪ :‬فهل يمكن أن تمد يدك لبعض الناس من غير أن يتكلم لسانك بم‪99‬ا‬
‫تحتاج؟‬
‫قلت‪ :‬ال‪ ..‬ألنه ربما يظن أني أمد يدي لمصافحته‪ ،‬ال لسؤاله‪..‬‬
‫قال‪ :‬وربما يعطيك ما لم تسأل‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وربما يمد يده إلي ليبطش بي لتصوره أني مددتها للبطش به‪.‬‬
‫قال‪ :‬فما الذي يعبر عن قصدك من مد يدك؟‬
‫قلت‪ :‬لساني‪.‬‬
‫قال‪ :‬ولذلك يستعمل الشحاذون ألسنتهم‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ولوالها لم ينالوا أي شيء‪.‬‬
‫قال‪ :‬فمن أشطرهم؟‬
‫قلت‪ :‬أقدرهم على إظهار اضطراره وفقره وعجزه ومسكنته‪.‬‬
‫قال‪ :‬فكيف يظهر ذلك؟‬
‫قلت‪ :‬لالضطرار لسانه‪ ،‬ولالفتقار لس‪99‬انه‪ ،‬وللعج‪99‬ز لس‪99‬انه‪ ،‬وللمس‪99‬كنة‬
‫لسانها‪.‬‬

‫‪184‬‬
‫قال‪ :‬فقد أقررت إذن باأللسنة األربع التي تعبر عن األيدي األربع‪.‬‬
‫قلت‪ :‬نعم‪ ..‬ذكرت األلسنة األربع‪ ،‬ولكني لم أذكر األيدي األربع‪.‬‬
‫قال‪ :‬كل يد تعبر عن حاجة من الحاج‪99‬ات‪ ..‬إذا م‪99‬د الغري‪99‬ق ي‪99‬ده إلي‪99‬ك‪،‬‬
‫فوضعت فيها دينارا‪ ،‬هل يقبله أم يظل يمد يديه إليك؟‬
‫قلت‪ :‬بل لو أعطيته مليارا لرماه‪ ،‬فما يغني عن‪9‬ه إن تلقف‪9‬ه الم‪9‬وت‪ ،‬ب‪9‬ل‬
‫سيظل مادا يده إلي‪.‬‬
‫قال‪ :‬وما يده التي يمدها؟‬
‫قلت‪ :‬يد اضطراره‪.‬‬
‫قال‪ :‬فقد أقررت إذن بأن لالضطرار يده التي تختلف عن يد االفتق‪99‬ار‪،‬‬
‫ومثل ذلك يد الضعف ويد المسكنة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فكيف أتحقق بهذه األيدي؟‬
‫قال‪ :‬بتحققك بألسنتها‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وكيف أتعلم ألسنتها‪ ،‬وهل في الع‪9‬الم مدرس‪9‬ة لغ‪9‬ات ت‪9‬درس ه‪9‬ذه‬
‫األلسن؟‬
‫قال‪ :‬في مدرسة القرآن الكريم تتعلم كل اللغات ال‪99‬تي ال يفهمه‪99‬ا البش‪99‬ر‬
‫فقط‪ ،‬بل ال يفهمها الكون جميعا‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ولكن القرآن الكريم لم ينزل إال باللغة العربية؟‬
‫قال‪ :‬تلك كس‪9‬وته ال‪9‬تي يمكن أن تص‪9‬بغ بلغ‪9‬ات الع‪9‬الم المختلف‪9‬ة‪ ،‬ولكن‬
‫حقائقه تعلمك كي‪9‬ف تح‪9‬ل الش‪9‬يفرة ال‪9‬تي تفهم به‪9‬ا أس‪9‬رار الك‪9‬ون وأس‪9‬رار‬
‫التعامل مع الكون‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فعلم لساني هذه اللغات‪.‬‬
‫قال‪ :‬التعليم للسان قلبك‪ ،‬ال للسان فمك‪.‬‬
‫لسان االضطرار‪:‬‬
‫قلت‪ :‬علمني لغة االضطرار‪.‬‬
‫قال‪ :‬لن تتعلم لسان االضطرار حتى تعلم حقيقة االضطرار‪.‬‬
‫قلت‪ :‬لكني أعلم حقيقة االضطرار‪.‬‬
‫قال‪ :‬وما هي؟‬
‫قلت‪ :‬أال يبقى لي من الخي‪9999‬ارات إال خي‪9999‬ار واح‪9999‬د‪ ،‬فأض‪9999‬طر إلى‬
‫استعماله‪ ،‬ولو كان ثقيال على قلبي‪.‬‬
‫قال‪ :‬فاضرب لي مثاال على ذلك‪.‬‬

‫‪185‬‬
‫قلت‪ :‬أقذر شيء إلى نفسي أن أتناول جيفة أو أشرب دما أو أذوق لحم‬
‫خنزير‪ ،‬ومع ذلك‪ ،‬فإني إذا اضطررت إلى تناولها تناولتها ألحفظ حي‪9‬اتي‪،‬‬
‫ُ‬
‫‪9‬ر هَّللا ِ‬
‫ير َو َما أ ِهلَّ ِل َغ ْي‪ِ 9‬‬‫كما قال تعالى‪ِ {:‬إنَّ َما َحرَّ َم َع َل ْي ُك ُم ْال َم ْي َت َة َوال َّد َم َو َلحْ َم ْال ِخ ْن ِز ِ‬
‫اغ َوال عَا ٍد َفإِ َّن هَّللا َ َغفُورٌ َر ِحي ٌم}(النحل‪)115 :‬‬ ‫طرَّ َغي َْر َب ٍ‬‫ِب ِه َف َم ِن اضْ ُ‬
‫قال‪ :‬ولماذا اضطررت إلى هذه المستقذرات؟‬
‫قلت‪ :‬لعزة غيرها‪ ،‬وعدم ظفري به‪.‬‬
‫قال‪ :‬ففي تلك الحالة التي تقف فيها على أعتاب الموت ماذا تشعر؟‬
‫قلت‪ :‬أشعر بض‪99‬ياع عظيم وانح‪99‬دار عمي‪99‬ق‪ ،‬ف‪9‬الموت بأش‪99‬باحه ينته‪99‬ز‬
‫فرصة غفلتي ليضمني إلى حزبه‪.‬‬
‫قال‪ :‬أال تيأس في ذلك الحين؟‬
‫قلت‪ :‬أيأس فقط؟‪ ..‬بل تجتمع في بحري كل أنه‪9‬ار الكآب‪9‬ة وك‪9‬ل س‪9‬يول‬
‫الحزن‪.‬‬
‫قال‪ :‬في ذلك الحين يمكنك أن تتعلم لسان االضطرار؟‬
‫قلت‪ :‬كيف؟‬
‫قال‪ :‬لسان االضطرار يتولد من شعورك بعدم ك‪99‬ل ش‪99‬يء إال وج‪99‬وده‪،‬‬
‫وبفقد كل شيء إال رحمته‪ ،‬وباليأس من كل شيء إال األمل فيه‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أهذا الشعور وليد ظرف خاص أمر به‪ ،‬أم هو وليد كل ظرف؟‬
‫قال‪ :‬أما العارفون‪ ،‬فيعيشون االض‪99‬طرار‪ ،‬وهم في بح‪99‬ار النعم‪ ،‬ألنهم‬
‫ال يرون منعما غير هللا‪ ،‬فال يضطرون لغير هللا‪.‬‬
‫قلت‪ :‬لق‪99‬د ذكرت‪99‬ني بق‪99‬ول ابن عط‪99‬اء هللا‪ (:‬م‪99‬ا طلب ل‪99‬ك ش‪99‬يء مث‪99‬ل‬
‫االضطرار‪ ،‬وال أسرع بالمواهب إليك مثل الذلة واالفتقار )‬
‫ف‬ ‫طرَّ ِإ َذا َد َع‪99‬اهُ َو َي ْك ِش‪ُ 9‬‬ ‫ض‪َ 9‬‬ ‫قال‪ :‬بل ذكرتك بقوله تع‪9‬الى‪َ {:‬أ َّم ْن ي ُِجيبُ ْال ُم ْ‬
‫ال َم‪9‬ا تَ‪َ 9‬ذ َّكرُونَ }(النم‪9‬ل‪..)62 :‬‬ ‫ض َأ ِإ َل‪9‬هٌ َم‪َ 9‬ع هَّللا ِ َق ِلي ً‬ ‫السُّو َء َو َيجْ َعلُ ُك ْم ُخ َل َفا َء اأْل َرْ ِ‬
‫أتدري السر الذي جعل العارفين يشعرون باضطرارهم الدائم إلى هللا؟‬
‫قلت‪ :‬ما هو؟‬
‫قال‪ :‬هو ما عبر عنه الحق تعالى في هذه اآلية بقوله‪َ {:‬أ ِإ َلهٌ َم َع هَّللا ِ َق ِلي ً‬
‫ال‬
‫َما َت َذ َّكرُونَ }‬
‫قلت‪ :‬هذا خطاب للمشركين يذكرهم باهلل‪.‬‬
‫قال‪ :‬وه‪9‬و خط‪9‬اب للغ‪9‬افلين ي‪9‬دعوهم لتحطيم األص‪9‬نام ال‪9‬تي ترق‪9‬د في‬
‫جوانب كعباتهم‪ ،‬وتحول بينهم وبين االضطرار هلل‪.‬‬

‫‪186‬‬
‫قلت‪ :‬ال أعلم أن في األرض كعبة غير الكعبة‪.‬‬
‫قال‪ :‬في قلب كل إنسان كعب‪9‬ة‪ ،‬منهم من يعمره‪9‬ا بالتوحي‪99‬د‪ ،‬ومنهم من‬
‫يملؤها باألصنام‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ولك‪99‬ني لم أفهم كي‪99‬ف يش‪99‬عر باالض‪99‬طرار من يعيش في بح‪99‬ار‬
‫النعم‪ ،‬فال أعلم االضطرار إال في الوقت الذي يباح فيه أكل الميتة‪.‬‬
‫ق‪99‬ال‪ :‬ولكن الع‪99‬ارفين يش‪99‬عرون دائم‪99‬ا أنهم في ح‪99‬ال من أبيح ل‪99‬ه أك‪99‬ل‬
‫الميتة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬لم أفهم‪ ..‬فلم أس‪99‬مع أن الع‪99‬ارفين ي‪99‬بيحون ألنفس‪99‬هم أك‪99‬ل الميت‪99‬ة‬
‫باعتبارهم مضطرين‪.‬‬
‫قال‪ :‬هم لم يضطروا للميت‪99‬ة‪ ،‬ولن يض‪99‬طروا له‪99‬ا‪ ،‬فخ‪99‬زائن هللا تغ‪99‬نيهم‬
‫عنها‪ ،‬ولكنهم مضطرون هلل‪.‬‬
‫قلت‪ :‬لم أفهم‪.‬‬
‫قال‪ :‬ال يرون لحياتهم معنى وال وجودا من غير هللا‪.‬‬
‫قلت‪ :‬كل الخلق كذلك‪ ،‬فال يمكن أن يوجد موجود من غير إيجاد هللا‪.‬‬
‫قال‪ :‬ولكنهم يعيشون هذا المعنى ويستشعرونه وال يكتفون بوضعه في‬
‫زاوية مهملة من زوايا عقولهم‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فكيف يستشعرون هذا؟‬
‫قال‪ :‬أتضطر أنت إلى التنفس؟‬
‫قلت‪ :‬وكيف ال أضطر‪ ،‬ولواله الختنقت‪.‬‬
‫قال‪ :‬فكذلك ضرورتهم إلى هللا‪ ،‬بل هي أش‪99‬د في أنفس‪99‬هم من ض‪99‬رورة‬
‫الهواء والم‪9‬اء‪ ،‬ألم تس‪9‬مع إلى بعض الص‪9‬الحين‪ ،‬وق‪9‬د ج‪9‬اءه رج‪9‬ل‪ ،‬فق‪9‬ال‪:‬‬
‫رأيت في المنام كأَنك تموت إلى سنة‪ ،‬فقال الصالح‪ :‬لق‪99‬د أجلت‪99‬نى إلى أج‪99‬ل‬ ‫َ‬
‫بعيد أعيش إلى سنة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فهذا يتمنى الموت الذي نهانا ‪ ‬أن نتمناه؟‬
‫قال‪ :‬هذا يحب لقاء هللا الذي أمرنا هللا تعالى برجائ‪99‬ه‪ ،‬فق‪99‬ال‪َ {:‬م ْن َك‪99‬انَ‬
‫ت َوهُ َو الس َِّمي ُع ْال َع ِلي ُم}(العنكبوت‪ .. )5 :‬ألم تعلم‬ ‫َيرْ جُو ِل َقا َء هَّللا ِ َفإِ َّن َأ َج َل هَّللا ِ آَل ٍ‬
‫بما اختبر هللا دعوى محبة اليهود هلل؟‬
‫قلت‪ :‬بلى‪ ،‬فقد قال تعالى‪ {:‬قُلْ َيا َأ ُّي َها الَّ ِذينَ هَ‪9‬ا ُدوا ِإ ْن زَ ع َْمتُ ْم َأنَّ ُك ْم َأوْ ِل َي‪99‬ا ُء‬
‫صا ِد ِقينَ }(الجمعة‪)6 :‬‬ ‫اس َف َت َمنَّ ُوا ْال َموْ تَ ِإ ْن ُك ْنتُ ْم َ‬
‫ون النَّ ِ‬ ‫هَّلِل ِ ِم ْن ُد ِ‬
‫ق‪99‬ال‪ :‬فل‪99‬ذلك ف‪99‬إن الع‪99‬ارفين ق‪99‬د يص‪99‬برون على ك‪99‬ل ش‪99‬يء‪ ،‬ولكنهم ال‬

‫‪187‬‬
‫يصبرون عن هللا‪.‬‬
‫قلت‪ :‬لقد ذكرتني ببعض الصالحين‪.‬‬
‫قال‪ :‬حين وقف عليه رجل‪ ،‬فقال‪ :‬أي صبر أشد على الصابرين فقال‪:‬‬
‫الصبر في هللا قال السائل‪ :‬ال‪ ،‬فقال‪ :‬الصبر هلل‪ ،‬فقال‪ :‬ال‪ ،‬فقال‪ :‬الصبر م‪99‬ع‬
‫هللا‪ ،‬فقال‪ :‬ال‪ ،‬قال‪ :‬فإيش هو قال‪ :‬الصبر عن هللا‪ ،‬فصرخ الصالح صرخة‬
‫كادت روحه تتلف‪.‬‬
‫قلت‪ :‬قد فهمت اضطرار العارفين‪ ،‬فما اضطرار غيرهم؟‬
‫ق‪99‬ال‪ :‬أم‪99‬ا غ‪99‬يرهم‪ ،‬فال يش‪99‬عرون باهلل إال عن‪99‬دما تض‪99‬يق بهم الس‪99‬بل‪،‬‬
‫‪9‬و الَّ ِذي‬ ‫وتوص‪9‬د في وج‪9‬وههم جمي‪9‬ع األب‪9‬واب‪ ،‬ألم تس‪9‬مع قول‪9‬ه تع‪9‬الى‪ {:‬هُ َ‬
‫يح َ‬
‫ط ِّي َب ‪ٍ 9‬ة‬ ‫‪9‬ر ْينَ ِب ِه ْم ِب‪ِ 9‬‬
‫‪9‬ر ٍ‬ ‫‪9‬ك َو َج‪َ 9‬‬ ‫ي َُس ‪9‬يِّرُ ُك ْم ِفي ْال َب‪99‬رِّ َو ْال َبحْ ‪ِ 9‬ر َحتَّى ِإ َذا ُك ْنتُ ْم ِفي ْالفُ ْل‪ِ 9‬‬
‫ظ ُّنوا َأنَّه ُْم‬
‫‪9‬ان َو َ‬‫ف َو َج‪ 9‬ا َءهُ ُم ْال َم‪9‬وْ جُ ِم ْن ُك‪9‬لِّ َم َك ٍ‬ ‫َو َف ِرحُوا ِب َها َجا َء ْت َها ِريحٌ ع ِ‬
‫َاص ٌ‬
‫ص‪99‬ينَ َل‪99‬هُ ال‪ِّ 99‬دينَ َل ِئ ْن َأ ْن َج ْي َتنَ‪99‬ا ِم ْن هَ‪ِ 99‬ذ ِه َل َن ُك‪99‬ون ََّن ِمنَ‬
‫َ‪99‬وا هَّللا َ ُم ْخ ِل ِ‬
‫ط ِب ِه ْم َدع ُ‬ ‫أُ ِحي‪َ 99‬‬
‫ال َّشا ِك ِرينَ }(يونس‪)22 :‬‬
‫قلت‪ :‬بلى‪ ،‬ولها نظيرات في القرآن الكريم‪ ،‬فاهلل تعالى يقول‪َ {:‬و َما ِب ُك ْم‬
‫ِم ْن ِنعْ َم ٍة َف ِمنَ هَّللا ِ ثُ َّم ِإ َذا َم َّس ُك ُم الضُّرُّ َفإِ َل ْي ِه تَجْ أَرُونَ }(النحل‪)53 :‬‬
‫قال‪ :‬ومع ذلك‪ ،‬فإن هللا برحمته يجيب من دعاه بهذا اللس‪99‬ان ول‪99‬و ك‪99‬ان‬
‫ما كان‪ ،‬وله‪9‬ذا ال تعجب م‪9‬ا يحكى من إجاب‪9‬ة دع‪9‬وات الك‪9‬افرين إن وقف‪9‬وا‬
‫مواقف االضطرار‪.‬‬
‫قلت‪ :‬لقد ظللت زمنا محتارا في سبب هذا‪.‬‬
‫قال‪ :‬إن هللا برحمت‪9‬ه ال‪9‬تي ال تع‪9‬د وبفض‪9‬له ال‪9‬ذي ال يح‪9‬د يمه‪9‬ل عب‪9‬اده‬
‫ويوفر لهم من السبل ما يدعوهم إلى لزوم باب‪9‬ه‪ ،‬ف‪9‬أبواب هللا ال توص‪9‬د‪ ،‬ألم‬
‫تسمع قوله ‪ (:‬ينزل هللا تعالى إلى السماء الدنيا لثلث الليل اآلخر‪ ،‬فيقول‬
‫من يدعوني فأستجيب له‪ ،‬أو يسألني فأعطي‪99‬ه‪ ،‬ثم يبس‪99‬ط يدي‪99‬ه ويق‪99‬ول‪ :‬من‬
‫يقرض غير عديم‪ ،‬وال ظلوم )(‪ .. )1‬ألم تسمع بفرح هللا برجوع عبده إليه؟‬
‫قلت‪ :‬بلى‪ ،‬فقد قال ‪ (:‬هلل أفرح بتوبة العبد من رجل نزل منزال وبه‬
‫مهلكة ومع‪99‬ه راحلت‪99‬ه‪ ،‬عليه‪9‬ا طعام‪9‬ه وش‪99‬رابه‪ ،‬فوض‪99‬ع رأس‪99‬ه فن‪9‬ام نوم‪99‬ة‬
‫فاستيقظ‪ ،‬وقد ذهبت راحلته‪ ،‬فطلبها ح‪99‬تى إذا اش‪99‬تد علي‪99‬ه الح‪99‬ر والعطش‪،‬‬
‫قال‪ :‬أرجع إلى مكاني الذي كنت فيه‪ ،‬فأنام حتى أموت فرج‪99‬ع فن‪99‬ام نوم‪9‬ة‪،‬‬
‫ثم رفع رأسه فإذا راحلت‪99‬ه عن‪99‬ده‪ ،‬عليه‪99‬ا زاده وطعام‪99‬ه وش‪99‬رابه‪ ،‬فاهلل أش‪99‬د‬

‫‪ ) )(1‬مسلم‪.‬‬

‫‪188‬‬
‫(‪)1‬‬ ‫فرحا بتوبة العبد المؤمن من هذا براحلته وزاده)‬
‫قال‪ :‬فما يفهم قومك من هذا الحديث؟‬
‫قلت‪ :‬يج‪99‬ادلون ويتص‪99‬ارعون في مع‪99‬نى الف‪99‬رح وعالقت‪99‬ه باهلل‪ ،‬وه‪99‬ل‬
‫يفوض أم يؤول أم يشبه أم يعطل أم يثبت أم‪!..‬؟‬
‫قاطعني‪ ،‬وقال‪ :‬ألم تسمعوا قوله ‪ (:‬ما ض‪99‬ل ق‪99‬وم بع‪99‬د ه‪99‬دى ك‪99‬انوا‬
‫عليه إال أتوا الجدل )(‪)2‬‬
‫قلت‪ :‬بلى‪ ،‬سمعوه‪.‬‬
‫قال‪ :‬فماذا عملتم فيه‪.‬‬
‫قلت‪ :‬اختلفوا فيه أيضا‪ ..‬فأجازوه في علم الكالم‪.‬‬
‫قال‪ :‬علم الكالم‪ ،‬أم علم الخصام؟‪ ..‬انصحهم أن يتعلموا ب‪99‬دل ذل‪99‬ك علم‬
‫السالم‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فإالم ينظر علم السالم في فرح هللا بعبده؟‬
‫قال‪ :‬إن من آتاه هللا السالم في قلبه ال ينشغل باأللفاظ‪ ،‬فيتيه في الجدل‪،‬‬
‫ب‪99‬ل ينش‪99‬غل بالحقيق‪99‬ة والمع‪99‬اني‪ ،‬فيستش‪99‬عر من الف‪99‬رح والس‪99‬رور والق‪99‬رب‬
‫واالتصال عند سماع هذا الحديث م‪99‬ا ال يستش‪99‬عره الغ‪99‬افلون المكفن‪99‬ون في‬
‫أكفان الحروف واألصوات‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فكيف يعبرون عن تلك المشاعر؟‬
‫قال‪ :‬وهل يملك أحد أن يعبر عن مشاعره؟‬
‫قلت‪ :‬أجل‪ ،‬هناك من يعبر عن مشاعره‪.‬‬
‫قال‪ :‬وهل يفهمها الجامدون‪ ،‬أم ال يفهمها إال من يعيشها؟‬
‫قلت‪ :‬بل يقتصر فهمها على من يعيشها‪.‬‬
‫قال‪ :‬فما داموا متفقين على معايشتها‪ ،‬فما الحاجة للتعبير عن ذلك؟‬
‫قلت‪ :‬يعبرون بها للجامدين‪.‬‬
‫قال‪ :‬وهل يملكون أن يفهموهم معناها؟‬
‫قلت‪ :‬يقربون‪.‬‬
‫قال‪ :‬فقد قرب ‪ ‬ذلك إذن وكفانا‪ ،‬فلنقتصر على ظواهر ما عبر‪.‬‬
‫لسان االفتقار‪:‬‬
‫قلت‪ :‬علمتني لسان االضطرار‪ ،‬فعلمني لسان االفتقار‪.‬‬
‫قال‪ :‬لن تتعلم لسان االفتقار حتى تعلم حقيقة االفتقار‪.‬‬
‫‪ ) )(1‬البخاري ومسلم‪.‬‬
‫‪ ) )(2‬أحمد والترمذي وابن ماجة والحاكم‪.‬‬

‫‪189‬‬
‫قلت‪ :‬االفتقار معروف‪.‬‬
‫قال‪ :‬فما هو؟‬
‫قلت‪ :‬أن تعود إلى بيتك خالي الوفاض‪ ،‬وعليك ثياب مرقعة‪ ،‬وأبن‪99‬اؤك‬
‫من حولك يتضاغون من الجوع‪.‬‬
‫قال‪ :‬وحينها يراودك وحش الح‪9‬زن القات‪9‬ل ليبع‪9‬دك عن رب‪9‬ك‪ ،‬وي‪9‬نزع‬
‫من قلبك االبتسامة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ربما‪.‬‬
‫قال‪ :‬فهذا افتقار كافر‪ ،‬يحجبك عن ربك‪ ،‬وال يقربك إليه‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فهل هناك افتقار مؤمن؟‬
‫قال‪ :‬أجل‪ ،‬هناك افتقار الصديقين‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ولكني علمت منك في كنز االستغناء أن الصديقين أغنياء باهلل‪.‬‬
‫قال‪ :‬ال يتحقق الصديق بالغنى باهلل حتى يتحقق باالفتقار هلل‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فما لسان االفتقار؟‬
‫قال‪ :‬هو عزل النفس عن مزاحمة الربوبية‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فهو السالم مع هللا إذن؟‬
‫قال‪ :‬هو قمة السالم مع هللا‪.‬‬
‫قلت‪ :‬كيف؟‬
‫قال‪ :‬ألن من دخل على هللا مستغنيا خرج من عن‪9‬ده فق‪9‬يرا‪ ،‬ومن دخ‪9‬ل‬
‫عنده فقيرا خرج مستغنيا‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ال أراك تفسر الغوامض إال بالغوامض‪ ،‬فهال فسرت لي‪.‬‬
‫قال‪ :‬أرأيت لو دخل عليك رجل يستجديك‪ ،‬فقع‪99‬د يفخ‪99‬ر علي‪99‬ك بمعلق‪99‬ة‬
‫عمرو بن كلثوم أكنت تلتفت إليه؟‬
‫قلت‪ :‬كنت أزدريه‪ ،‬فمن قال ما قال عمرو ال ينبغي أن يستجدي‪.‬‬
‫قال‪ :‬فكذلك أنتم تطلبون هللا‪ ،‬وال تغض‪99‬ون أط‪99‬رافكم عن أنفس‪99‬كم ال‪99‬تي‬
‫تزاحم هللا‪.‬‬
‫قلت‪ :‬كيف نزاحم هللا؟‬
‫قال‪ :‬تدبرون وتعارضون وتناقشون وتجادلون‪.‬‬
‫قلت‪ :‬نحن نفعل هذا مع هللا؟‬
‫قال‪ :‬نعم‪ ،‬أنتم تطلب‪9‬ون هللا‪ ..‬ولكنكم تمتلئ‪9‬ون في نفوس‪9‬كم اس‪9‬تغناء عن‬
‫هللا‪ ،‬ألم يقل هللا فيكم‪َ {:‬كاَّل ِإ َّن اأْل ِ ْن َس‪9‬انَ َل َي ْ‬
‫طغَى َأ ْن َرآهُ ْ‬
‫اس‪9‬ت َْغنَى} (العل‪99‬ق‪ 6 :‬ـ‬

‫‪190‬‬
‫‪)7‬‬
‫قلت‪ :‬فحقيق‪9‬ة الفق‪9‬ر إذن أال تك‪9‬ون لنفس‪9‬ك‪ ،‬وال يك‪9‬ون له‪9‬ا من‪9‬ك ش‪9‬يء‬
‫بحيث تكون كلك هلل‪.‬‬
‫قال‪ :‬أجل‪ ،‬هذا هو االفتقار‪ ،‬وهذا هو لسانه‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ولكن هذا حقيقة كونية‪ ،‬فمن يجادل في أن العبد ليس له شيء إال‬
‫ما وهبه مواله‪.‬‬
‫قال‪ :‬نعم ال أح‪9‬د يج‪9‬ادل في ذل‪9‬ك‪ ،‬ولكن ق‪9‬ل من ي‪9‬ؤمن ب‪9‬ذلك‪ ،‬ويعيش‬
‫لذلك‪.‬‬
‫قلت‪ :‬هذا تناقض‪.‬‬
‫قال‪ :‬أنتم تعيشونه‪.‬‬
‫قلت‪ :‬لماذا؟‬
‫ق‪9‬ال‪ :‬ألنكم تحبس‪9‬ون مع‪9‬ارفكم في زن‪99‬ازن‪ ،‬وتقي‪99‬دونها ب‪9‬األغالل‪ ،‬وال‬
‫ترجعون إليها إال في استجوابات كاستجوابات المحققين‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فيكف تعامل المعارف عند العارف؟‬
‫ق‪99‬ال‪ :‬الع‪99‬ارف يعيش المع‪99‬ارف‪ ،‬فيح‪99‬رر الحقيق‪99‬ة من زنزان‪99‬ة العق‪99‬ل‪،‬‬
‫ليضعها في رياض الوجدان‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فما تنبت؟‬
‫قال‪ :‬تنبت كل األزهار‪ ،‬وتثمر كل الثمار‪.‬‬
‫تذكرت كالم بعض الصالحين في ه‪99‬ذا‪ ،‬فقلت‪ :‬م‪99‬ا أحلى كالم األولي‪99‬اء‬
‫في هذا الباب‪.‬‬
‫قال‪ :‬كل من اتصل باهلل حال كالمه‪.‬‬
‫قلت‪ :‬لقد قال ابن عطاء هللا في هذا حكما‪.‬‬
‫قال‪ :‬وما قال؟‬
‫قلت‪ :‬قال‪ (:‬كل كالم يبرز‪ ،‬وعليه كسوة القلب الذي منه برز )‬
‫قال‪ :‬فقلوب األولياء منورة بنور هللا‪ ،‬فلذلك تلوح عليها أنوار اإليمان‪.‬‬
‫قلت‪ :‬يا معلم‪ ،‬لو قيل لي‪ :‬لماذا نطرق أب‪99‬واب الفض‪99‬ل م‪99‬ا دام لالفتق‪99‬ار‬
‫هذا الفضل؟‬
‫ق‪99‬ال‪ :‬فق‪99‬ل‪ :‬إن هللا يقيم عب‪99‬ده في المواق‪99‬ف المختلف‪99‬ة ليعرف‪99‬ه في ك‪99‬ل‬
‫موقف‪ ،‬فتتكامل ب‪9‬المواقف المختلف‪9‬ة م‪9‬ا أتيح ل‪9‬ه من معرف‪9‬ة هللا‪ ،‬ألم تس‪9‬مع‬
‫مناجاة أولي‪9‬اء هللا ال‪9‬تي يقول‪9‬ون فيه‪9‬ا‪ (:‬إلـهي! ق‪9‬د علمت ب‪9‬اختالف اآلث‪9‬ار‬

‫‪191‬‬
‫وتنقالت األطوار‪ ،‬أن مرادك أن تتعرف إلي في كل شيء‪ ،‬حتى ال أجهلك‬
‫في شيء )‬
‫قلت‪ :‬ولكن خلو اليد من المال ب‪9‬اب للتجري‪9‬د‪ ،‬وتجري‪9‬د الظ‪9‬اهر ميس‪9‬ر‬
‫لتجريد الباطن‪.‬‬
‫قال‪ :‬ال‪ ،‬فلم يكن هكذا سلوك األنبياء الذين جعلهم هللا قدوة لعب‪99‬اده‪ ،‬وال‬
‫هكذا نصح األولياء‪ ،‬ألم تسمع حكمة ابن عطاء هللا‪ (:‬إرادتُ‪99‬كَ التجري ‪َ 9‬د م‪99‬ع‬
‫إقام ِة هللا ِإيَّاكَ في األسباب من ال َّشهوة الخفي ِة‪ ،‬وإرادتُكَ األس‪َ 9‬‬
‫‪9‬باب م‪99‬ع إقام‪ِ 9‬ة‬
‫ٌ‬
‫انحطاط عن ال ِه َّم ِة ال َع َليَّ ِة )؟‬ ‫هللا ِإيَّاكَ في التجريد‬
‫قلت‪ :‬بلى‪ ،‬ولكن‪..‬‬
‫قال‪ :‬ألم تسمع قوله ‪ (:‬ثالث‪99‬ة ال يكلمهم هللا ع‪99‬ز وج‪99‬ل ي‪99‬وم القيام‪99‬ة‪:‬‬
‫الشيخ الزاني‪ ،‬والعائل المزهو‪ ،‬واإلمام الكذاب)(‪)1‬‬
‫قلت‪ :‬بلى‪.‬‬
‫قال‪ :‬فقد اعتبر ‪ ‬الفقير المتكبر بعيدا عن هللا قريبا من النار‪ ،‬فإفراغ‬
‫الجيوب ليس ه‪9‬و الطري‪9‬ق‪ ،‬ب‪9‬ل الطري‪9‬ق ه‪9‬و إف‪9‬راغ القلب من حب ال‪9‬دنيا‬
‫والرغبة فيها‪..‬‬
‫لسان العجز‪:‬‬
‫قلت‪ :‬فعلمني أن أتكلم بلسان العجز‪.‬‬
‫قال‪ :‬لن تتعلمه إال إذا تحققت بالعجز‪.‬‬
‫قلت‪ :‬لقد عرفت في الجوهرة السابقة عجزي‪.‬‬
‫قال‪ :‬ذلك عجز الخالئق‪ ،‬فأين عجزك؟‬
‫قلت‪ :‬أنا من الخالئق‪.‬‬
‫قال‪ :‬هناك فرق كبير بين رؤيتك للخلق‪ ،‬ورؤيتك لنفسك‪.‬‬
‫قلت‪ :‬كيف ذلك؟‬
‫ق‪99‬ال‪ :‬عج‪99‬زك وعج‪99‬ز الخالئ‪99‬ق ض‪99‬روري‪ ،‬ولس‪99‬ان العج‪99‬ز يس‪99‬تدعي‬
‫شعورا‪ ،‬فقد يعيش المرء أشل‪ ،‬ولكنه يغيب عن شلله متصورا أن له ق‪99‬وى‬
‫المصارعين وحملة األثقال‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وكيف أتحقق بشعور العجز؟‬
‫قال‪ :‬بأن ترى نفسك عبدا له‪ ،‬ال تتح‪99‬رك إال بتحريك‪99‬ه‪ ،‬وال تتوق‪99‬ف إال‬
‫بإيقافه‪ ،‬ليس لك من ذاتك قوة‪ ،‬وال لك من ذاتك حول‪.‬‬

‫رواه البزار ‪.‬‬ ‫‪)(1‬‬

‫‪192‬‬
‫قلت‪ :‬تعني أن أقول‪ (:‬ال حول وال قوة إال باهلل )‬
‫قال‪ :‬تقولها ترجمة عن حقيقتك‪ ،‬ال حروفا وأصواتا من لسانك‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فما ألحظ فيها؟‬
‫ق‪9‬ال‪ :‬تلح‪9‬ظ قوت‪9‬ه‪ ،‬فتطيش قوت‪9‬ك أم‪9‬ام قوت‪9‬ه‪ ،‬وتلح‪9‬ظ حول‪9‬ه‪ ،‬فيطيش‬
‫حولك أمام حوله‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فترجم ذلك لخيالي ليستوعبه وجداني‪.‬‬
‫قال‪ :‬انظر إلى القوى التي تتيه بها‪.‬‬
‫قلت‪ :‬قوة اإلرادة‪ ،‬فهي القوة التي تدكدك الجبال‪ ،‬وتفل الحديد‪ ،‬و‪..‬‬
‫قال‪ :‬أدبها بقوة هللا حتى ال توقعك في المهالك‪ ،‬أو ترمي بك في أودي‪99‬ة‬
‫العجب والغرور‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وكيف أؤدبها؟‬
‫قال‪ :‬ال تنسبها لنفسك‪ ،‬بل تنسبها هلل‪.‬‬
‫قلت‪ :‬كيف‪ ،‬وأنا أشعر أنها قوتي وحيلتي‪.‬‬
‫قال‪ :‬شعورك بها يدلك على االعتماد عليها‪ ،‬واعتمادك عليه‪9‬ا يحجب‪9‬ك‬
‫عن هللا‪ ،‬ألم تعرف أن هللا ال يقبل على القلب المشترك؟‬
‫قلت‪ :‬بلى‪ ،‬فق‪99‬د عرفن‪99‬ا حكم‪99‬ة ابن عط‪99‬اء هللا‪ (:‬كم‪99‬ا ال يحب العم‪99‬ل‬
‫المشترك‪ ،‬كذلك ال يحب القلب المشترك‪ .‬العمل المشترك ال يقبل‪99‬ه‪ ،‬والقلب‬
‫المشترك ال يقبل عليه )‬
‫قال‪ :‬وهذا ما كان عليه أكبر العارفين‪.‬‬
‫قلت‪ :‬تقصد الجنيد‪ ،‬أم‪ ..‬؟‬
‫قال‪ :‬أقصد محمدا ‪ ،‬فما الجنيد وغيره إال أشعة من نور المصطفى‬
‫‪ ،‬وقط‪99‬رات من بح‪99‬ره‪ ،‬ومف‪99‬ردات من فه‪99‬رس كماالت‪99‬ه‪ ،‬فال تنش‪99‬غل‬
‫باألشعة عن الجواهر‪ ،‬وبالقطرات عن البحار‪ ،‬وبالمفردات عن الفهارس‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فكيف كان ‪ ‬متحققا بهذا الشعور بالعجز أمام هللا؟‬
‫قال‪ :‬ما هو دعاؤه ‪ ‬الذي دعا به في الطائف؟‬
‫قلت‪ :‬الدعاء معروف‪ ،‬وقد س‪9‬بق أن ذكرن‪9‬اه في بعض مجالس‪9‬نا‪ ،‬ومن‬
‫صيغه‪ (:‬اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي‪ ،‬وه‪99‬واني على الن‪99‬اس‪،‬‬
‫يا أرحم الراحمين إلى من تكلني؟ إلى عدو يتجهمني؟ أم إلى ق‪99‬ريب ملكت‪99‬ه‬
‫أمري‪ ،‬إن لم تكن ساخطا علي فال أبالي‪ ،‬غير أن عافيتك أوسع لي‪ ،‬أع‪99‬وذ‬
‫بنور وجه‪9‬ك الك‪9‬ريم ال‪9‬ذي أض‪9‬اءت ل‪9‬ه الس‪9‬موات وأش‪9‬رقت ل‪9‬ه الظلم‪9‬ات‬

‫‪193‬‬
‫وص‪9‬لح علي‪99‬ه أم‪99‬ر ال‪99‬دنيا واآلخ‪9‬رة‪ ،‬أن تح‪9‬ل علي غض‪9‬بك أو ت‪9‬نزل علي‬
‫سخطك ولك العتبى حتى ترضى‪ ،‬وال حول وال قوة إال بك )(‪)1‬‬
‫قال‪ :‬كيف ترى النبي ‪ ‬في هذا الحديث؟‬
‫قلت‪ :‬أراه ملتجئا إلى هللا متضرعا إلي‪99‬ه‪ ،‬كم‪99‬ا يلتجئ الص‪99‬بي الص‪99‬غير‬
‫الضعيف إلى والديه‪.‬‬
‫قال‪ :‬وهل تاه ‪ ‬بحيلة أو بقوة؟‬
‫قلت‪ :‬ال‪ ،‬بل تبرأ من كل حيلة أو ق‪9‬وة‪ ،‬وأس‪9‬ند أم‪9‬ره كل‪9‬ه هلل‪ ..‬ولكن ي‪9‬ا‬
‫معلم قد ك‪9‬ان ه‪9‬ذا في حال‪9‬ة ش‪9‬ديدة‪ ،‬ونحن ق‪9‬د نلتجئ إلى هللا في مث‪9‬ل ه‪9‬ذه‬
‫األحوال‪ ،‬ولكنا في مواقف العزة ننس‪99‬ى ذلتن‪99‬ا‪ ،‬وفي مواق‪99‬ف الق‪99‬وة والش‪99‬دة‬
‫ننسى عجزنا‪.‬‬
‫قال‪ :‬كان هذا حاله ‪ ‬الدائم‪ ،‬ألم تسمع إليه‪ ،‬وهو يقول في ورد نوم‪99‬ه‬
‫ال‪9‬دائم‪ (:‬اللهم أس‪9‬لمت نفس‪9‬ي إلي‪9‬ك ووجهت وجهي إلي‪9‬ك وفوض‪9‬ت أم‪9‬ري‬
‫إليك‪ ،‬وألجأت ظهري إليك‪ ،‬رغبة ورهبة إليك‪ ،‬ال ملجأ وال منجى منك إال‬
‫إليك‪ ،‬آمنت بكتابك الذي أنزلت ونبيك الذي أرسلت )(‪)2‬‬
‫قلت‪ :‬ولكن كثيرا من قومي استغنوا عنها بأوراد وضعوها ألنفسهم‪.‬‬
‫قال‪ :‬أهم أعرف باهلل من رسوله ‪‬؟ أم لم يبلغهم ما ورد عنه ‪‬؟ أم‬
‫لم يكفهم ما ورد عنه ‪‬؟ أم يريدون التميز بأنفسهم عن أمته ‪‬؟‬
‫قلت‪ :‬أهم مبتدعون؟‬
‫قال‪ :‬أنا لس‪9‬ت قاض‪9‬يا ح‪9‬تى أحكم عليهم‪ ،‬ولكن‪9‬ه ‪ ‬ه‪9‬و رب‪9‬ان س‪9‬فينة‬
‫النجاة‪ ،‬وهو ال‪9‬دليل في المتاه‪9‬ات‪ ،‬فمن ابتع‪9‬د عن الرب‪9‬ان ق‪9‬د يغ‪9‬رق‪ ،‬ومن‬
‫ابتعد عن الدليل ستلتهمه المفازات‪.‬‬
‫قلت‪ :‬لكن يا معلم أال ترى أن هناك تعارضا بين مد اليد إلى هللا بلس‪99‬ان‬
‫العج‪9‬ز‪ ،‬وبين اس‪9‬تعاذته ‪ ‬من العج‪9‬ز‪ ،‬فق‪9‬د ص‪9‬ح في الح‪9‬ديث قول‪9‬ه ‪:‬‬
‫( اللهم إني أعوذ بك من العجز والكس‪99‬ل والجبن والبخ‪99‬ل واله‪99‬رم وع‪99‬ذاب‬
‫القبر وفتنة الدجال)(‪ )3‬فقد استعاذ النبي ‪ ‬من العجز ولواحقه‪.‬‬
‫وقد ورد في حديث آخر النهي عن العجز‪ ،‬فقال ‪ (:‬الم‪99‬ؤمن الق‪99‬وى‬
‫وأحب ِإلى هللا من المؤمن الضعيف‪ ،‬وفى كل خير)(‪)4‬‬ ‫خير َ‬
‫‪ ) )(1‬الطبراني في الكبير‪.‬‬
‫‪ ) )(2‬البخاري ومسلم‪.‬‬
‫‪ ) )(3‬مسلم‪.‬‬
‫رواه مسلم‪.‬‬ ‫‪)(4‬‬

‫‪194‬‬
‫قال‪ :‬ليس هذا فقط‪ ،‬بل ورد ذم العجز في القرآن الكريم‪ ،‬فقد قال تعالى‬
‫مخ‪99‬برا عن عج‪99‬ز المن‪99‬افقين عن الجه‪99‬اد م‪99‬ع رس‪99‬ول هللا ‪ {:‬الَّ ِذينَ َق‪99‬الُوا‬
‫طا ُعونَا َما قُ ِتلُوا قُلْ َف‪9‬ا ْد َرأُوا ع َْن َأ ْنفُ ِس‪ُ 9‬ك ُم ْال َم‪9‬وْ تَ ِإ ْن ُك ْنتُ ْم‬ ‫ِإل ْخ َوا ِن ِه ْم َو َق َع ُدوا َلوْ َأ َ‬
‫صا ِد ِقينَ }(آل عمران‪)168 :‬‬ ‫َ‬
‫قلت‪ :‬إذن أنت تق‪99‬ر معي ب‪99‬ذم العج‪99‬ز‪ ،‬فكي‪99‬ف يس‪99‬تقيم ه‪99‬ذا م‪99‬ع طلب‬
‫العجز‪ ،‬ومد اليد بلسان العجز؟‬
‫ق‪9‬ال‪ :‬العج‪9‬ز والق‪9‬وة أم‪9‬ران نس‪9‬بيان‪ ،‬فق‪9‬د تظه‪9‬ر قوت‪9‬ك م‪9‬ع ش‪9‬خص‪،‬‬
‫وتظهر عجزك مع آخر‪ ،‬فتكون قويا في األول عاجزا في الثاني‪.‬‬
‫قلت‪ :‬هذا صحيح‪ ،‬فإظهار قوتي مع من هو أق‪99‬وى م‪99‬ني فض‪99‬يحة لي‪،‬‬
‫وقد يجرني إلى المتاعب التي ال أتحملها‪.‬‬
‫قال‪ :‬فكيف إذا كان هذا القوي الذي يفوقك قوة هو هللا؟‬
‫قلت‪ :‬إظهار قوتي مع هللا حمق‪.‬‬
‫قال‪ :‬وهذا هو الذي عناه األولياء بلسان العج‪9‬ز‪ ،‬فهم ال يري‪9‬دون عج‪9‬ز‬
‫الكسل‪ ،‬وإنما يريدون عجز األدب‪ ..‬ألم تسمع قصة الصاحبين المتحاورين‬
‫في القرآن الكريم؟‬
‫قلت‪ :‬بلى‪.‬‬
‫قال‪ :‬فما هو المظهر الذي ظهر به الصاحب الذي رزقه هللا الجنتين؟‬
‫قلت‪ :‬بمظهر الكبرياء واالعتزاز بالقوة‪ ،‬كما قال تعالى‪َ {:‬و َكانَ َلهُ َث َمرٌ‬
‫‪9‬و‬ ‫َ‪9‬ز َن َف‪9‬راً َودَخَ‪َ 9‬ل َجنَّتَ‪9‬هُ َوهُ َ‬ ‫ال َو َأع ُّ‬ ‫اورُ ُه َأنَا َأ ْك َثرُ ِمنكَ َم‪9‬ا ً‬‫اح ِب ِه َوهُ َو ي َُح ِ‬‫ص ِ‬ ‫ال ِل َ‬ ‫َف َق َ‬
‫ت‬ ‫الس‪9‬ا َع َة َقا ِئ َم‪ً 9‬ة َو َل ِئ ْن رُ ِد ْد ُ‬
‫ظ ُّن َّ‬ ‫ظ ُّن َأن َت ِبي َد َه ِذ ِه َأ َب‪9‬داً َو َم‪9‬ا َأ ُ‬
‫ال َما َأ ُ‬ ‫ظا ِل ٌم ِّل َن ْف ِس ِه َق َ‬‫َ‬
‫ِإ َلى َربِّي أَل َ ِجد ََّن خَ يْراً ِم ْن َها ُم ْن َق َلباً}(الكهف‪ 34 :‬ـ ‪)36‬‬
‫قال‪ :‬فإلى ماذا دله صاحبه الناصح؟‬
‫اورُ هُ‬ ‫‪9‬و ي َُح‪ِ 9‬‬ ‫احبُهُ َوهُ‪َ 9‬‬ ‫ص‪ِ 9‬‬ ‫ال َل‪9‬هُ َ‬ ‫قلت‪ :‬إلى التواضع هلل‪ ،‬كما قال تعالى‪َ {:‬ق َ‬
‫‪9‬و هَّللا ُ َربِّي‬ ‫ال َل ِكنَّا هُ‪َ 9‬‬ ‫ط َف‪ٍ 9‬ة ثُ َّم َس‪9‬وَّاكَ َرجُ ً‬ ‫ب ثُ َّم ِمن ُّن ْ‬
‫‪9‬را ٍ‬ ‫َأ َك َفرْ تَ ِبالَّ ِذي خَ َل َقكَ ِمن تُ‪َ 9‬‬
‫َوال أُ ْش ِر ُك ِب َربِّي َأ َحداً}(الكهف‪ 37 :‬ـ ‪)38‬‬
‫قال‪ :‬وما هو الموقف الصحيح الذي دله عليه؟‬
‫قلت‪ :‬ه‪9‬و م‪9‬ا نص علي‪9‬ه قول‪9‬ه تع‪9‬الى على لس‪9‬ان الص‪9‬احب الناص‪9‬ح‪:‬‬
‫‪9‬ر ِن َأنَ‪9‬ا َأ َق‪99‬لَّ ِمن‪9‬كَ‬ ‫َخَلتَ َجنَّ َتكَ قُ ْلتَ َما َشاء هَّللا ُ اَل قُ َّ‬
‫‪9‬و َة ِإاَّل ِباهَّلل ِ ِإن تُ َ‬ ‫{ َو َلوْ اَل ِإ ْذ د ْ‬
‫ال َو َو َلداً َف َع َسى َربِّي َأن ي ُْؤ ِت َي ِن خَ ْي‪99‬راً ِّمن َجنَّ ِت‪99‬كَ َويُرْ ِس‪َ 9‬ل َع َل ْي َه‪99‬ا ْ‬
‫حُس‪َ 9‬باناً ِّمنَ‬ ‫َما ً‬
‫ط َلب‪9‬اً}‬ ‫اؤهَ‪9‬ا َغ‪9‬وْ راً َف َل ْن ت َْس‪9‬ت َِطي َع َل‪9‬هُ َ‬ ‫ُص‪ِ 9‬ب َح َم ُ‬ ‫ص ِعيداً زَ َلق‪9‬اً َأوْ ي ْ‬ ‫اء َفتُصْ ِب َح َ‬ ‫ال َّس َم ِ‬

‫‪195‬‬
‫(الكهف‪ 39 :‬ـ ‪)41‬‬
‫قال‪ :‬فما هي نتيجة مصارعة الكافر هلل؟‬
‫ص‪َ 9‬ب َح يُ َق ِّلبُ َكفَّيْ‪ِ 9‬ه‬‫‪9‬ر ِه َفأَ ْ‬
‫ط ِب َث َم ِ‬‫قلت‪ :‬هو ما نص عليه قوله تع‪9‬الى‪َ {:‬وأُ ِحي‪َ 9‬‬
‫‪9‬ربِّي‬ ‫رُوش َها َو َيقُولُ َيا َل ْي َت ِني َل ْم أُ ْش ‪ِ 9‬ر ْك ِب‪َ 9‬‬
‫خَاو َيةٌ َع َلى ُع ِ‬ ‫َع َلى َما َأن َف َق ِفي َها َو ِه َي ِ‬
‫َصراً}(الكه‪99‬ف‪ 42 :‬ـ‬ ‫َأ َحداً َو َل ْم َت ُك ْن َلهُ ِف َئةٌ َي ْنصُرُو َنهُ ِم ْن ُد ِ‬
‫ون هَّللا ِ َو َما َكانَ ُم ْنت ِ‬
‫‪)43‬‬
‫قال‪ :‬أتدري لم قال‪َ {:‬يا َل ْي َت ِني َل ْم أُ ْش ِر ْك ِب َربِّي َأ َحداً }؟‬
‫قلت‪ :‬لم‪ ،‬فلم يذكر القرآن الكريم أن هذا الصاحب من عباد األصنام‪.‬‬
‫قال‪ :‬بلى‪ ،‬فقد كان من عباد أخطر األص‪99‬نام‪ ،‬وه‪99‬و ص‪99‬نم األن‪99‬ا‪ ،‬ص‪99‬نم‬
‫القوة التي تريد أن تصارع هللا‪ ،‬وتعجز هللا‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ألهذا إذن تكون عاقبة هؤالء الهالك الحتمي؟‬
‫قال‪ :‬إذا جاء مصارع من المصارعين مدينة من الم‪9‬دن‪ ،‬وتح‪9‬دى ك‪9‬ل‬
‫مصارعيها‪ ،‬فسكتوا‪ ،‬ولم ينبسوا ببنت شفة‪ ،‬أال يعتقد أهل تلك المدينة‪ ،‬ب‪99‬ل‬
‫غيرها من المدن‪ ،‬بأن سكوتهم كان عن عجز؟‬
‫قلت‪ :‬بلى‪.‬‬
‫ق‪99‬ال‪ :‬فل‪99‬ذلك س‪99‬يأتي أبط‪99‬ال تل‪99‬ك المدين‪99‬ة بك‪99‬ل ق‪99‬واهم ليتح‪99‬دوا ذل‪99‬ك‬
‫المصارع‪ ،‬ويعجزوه‪.‬‬
‫قلت‪ :‬كل هذا صحيح‪.‬‬
‫قال‪ :‬فلذلك كل من تحدى هللا يعجزه هللا‪ ،‬ألم تسمع القرآن الك‪9‬ريم وه‪9‬و‬
‫يخبرنا بسقوط كل من تحدى هللا في أودية العجز والهالك؟‬
‫ض‬ ‫قلت‪ :‬بلى‪ ،‬فق‪9‬د ق‪9‬ال تع‪9‬الى مخاطب‪9‬ا المش‪9‬ركين‪َ {:‬ف ِس‪9‬يحُوا ِفي اأْل َرْ ِ‬
‫عْج ِزي هَّللا ِ َو َأ َّن هَّللا َ ُم ْخ ِزي ْال َكا ِف ِرينَ }(التوبة‪:‬‬ ‫اع َل ُموا َأنَّ ُك ْم َغيْرُ ُم ِ‬
‫َأرْ َب َع َة َأ ْشه ٍُر َو ْ‬
‫‪ .. )2‬وخ‪99‬اطب ال‪99‬ذين تص‪99‬وروا عج‪99‬ز هللا عن أن يعي‪99‬دهم أحي‪99‬اء بع‪99‬د أن‬
‫‪9‬زينَ }(األنع‪9‬ام‪:‬‬ ‫ت َو َم‪9‬ا َأ ْنتُ ْم ِب ُم ِ‬
‫عْج ِ‬ ‫يصيروا ترابا‪ ،‬فق‪9‬ال‪ِ {:‬إ َّن َم‪9‬ا تُوعَ‪ُ 9‬دونَ آَل ٍ‬
‫‪ 9،)134‬وقال تعالى‪َ {:‬و َي ْس َت ْن ِبئُو َنكَ َأ َح ٌّق هُ َو قُ‪99‬لْ ِإي َو َربِّي ِإنَّهُ َل َح‪ٌّ 9‬ق َو َم‪99‬ا َأ ْنتُ ْم‬
‫عْج ِزينَ }(يونس‪)53 :‬‬ ‫ِب ُم ِ‬
‫لسان المسكنة‪:‬‬
‫قلت‪ :‬يا معلم‪ ،‬لقد تعلمت ثالثة ألسن أستطيع أن أمد به‪99‬ا ي‪99‬دي إلى هللا‪،‬‬
‫أفال يكفي ذلك؟‬
‫قال‪ :‬ال‪ ..‬حتى تمد يد التذلل مستشفعة بلسان المسكنة‪.‬‬

‫‪196‬‬
‫قلت‪ :‬وما لسان المسكنة؟‬
‫قال‪ :‬هو اللسان الذي تخفض به جناحك أمام هللا‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أفال يكفي االضطرار واالفتقار والعجز؟‬
‫قال‪ :‬ال‪ ..‬فقد يبقى في المضطر والفقير والع‪9‬اجز م‪9‬ا يتط‪9‬اول ب‪9‬ه على‬
‫ربه ويتكبر به عليه‪ ،‬ألم تسمع قول‪9‬ه ‪ (:‬ثالث‪9‬ة ال يكلمهم هللا ي‪9‬وم القيام‪9‬ة‬
‫وال ي‪99‬زكيهم وال ينظ‪99‬ر إليهم ولهم ع‪99‬ذاب أليم‪ :‬ش‪99‬يخ زان‪ ،‬ومل‪99‬ك ك‪99‬ذاب‪،‬‬
‫وعائل مستكبر )(‪)1‬؟‬
‫قلت‪ :‬فكيف أتحقق بلسان المسكنة؟‬
‫ق‪99‬ال‪ :‬باالفتق‪99‬ار إلى هللا طلب‪99‬ا له‪99‬ا‪ ،‬ألم تس‪99‬مع قول‪99‬ه ‪ (:‬اللهم أحيي‪99‬ني‬
‫مسكينا وتوفني مسكينا واحشرني في زمرة المساكين فإن أش‪99‬قى األش‪99‬قياء‬
‫من جمع عليه فقر الدنيا وعذاب اآلخرة )(‪)2‬‬
‫قلت‪ :‬البعض يتهم هذا الحديث‪ ،‬بل يرويه في الموضوعات(‪.)3‬‬
‫قال‪ :‬من فعل ذلك فقد أوهم‪ ،‬وما كان لنا أن نرد حديث المصطفى ‪‬‬
‫بسبب سوء الفهم له‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ولكن هذا الحديث قد يعارض بما ورد في النص‪99‬وص من النهي‬
‫عن التذلل‪ ،‬فقد قال ‪( :‬ال يحل لمؤمن أن يذل نفسه )(‪)4‬‬
‫قال‪ :‬هذا صحيح‪ ،‬فإن المؤمن أعز من أن يذل نفسه‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فكيف يجمع بين النهي عن الذلة وطلبها؟‬
‫قال‪ :‬كما جمع بين النهي عن العجز وطلبه‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أتعني أن الذلة محرمة مع الخلق واجبة مع هللا‪.‬‬
‫قال‪ :‬ال أقول مثل هذه التعبيرات‪ ،‬فهذه تعبيرات الفقهاء‪ ،‬ولكني أق‪99‬ول‪:‬‬
‫المؤمن يذل نفسه هلل‪ ،‬ولمن أمر هللا‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أجل‪ ..‬لقد تذكرت‪ ..‬هناك من أمرنا بالت‪9‬ذلل لهم‪ ،‬كم‪9‬ا ق‪9‬ال تع‪9‬الى‬
‫َ‪9‬اح ال‪ُّ 9‬ذلِّ ِمنَ الرَّحْ َم‪ِ 9‬ة َوقُ‪99‬لْ َربِّ‬ ‫في األمر بالتذلل للوالدين‪َ {:‬و ْ‬
‫اخ ِفضْ َلهُ َم‪9‬ا َجن َ‬
‫ص ِغيراً}(االسراء‪)24 :‬‬ ‫ارْ َح ْمهُ َما َك َما َربَّ َيا ِني َ‬
‫قال‪ :‬ومع ذلك‪ ،‬فإن التذلل إلى هللا يحمل كل معاني العزة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬كيف؟‬
‫النسائي‪.‬‬ ‫‪) )(1‬‬
‫الحاكم وقال صحيح ووافقه الذهبي‪.‬‬ ‫‪) )(2‬‬
‫مثل ابن الجوزي‪.‬‬ ‫‪) )(3‬‬
‫ابن ماجه‪.‬‬ ‫‪) )(4‬‬

‫‪197‬‬
‫قال‪ :‬ألن التذلل إلى هللا انتساب له‪ ،‬ومن انتس‪99‬ب إلى هللا أعط‪99‬اه هللا من‬
‫العزة ما يناطح السحاب‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ولكن‪ ..‬يا معلم‪ ،‬هذه حقيقة‪ ..‬ولكن قومي يكادون يأبون عليها‪.‬‬
‫قال‪ :‬وما يقولون؟‬
‫قلت‪ :‬فيهم من يبالغون في المظاهر من لباس ومراكب وبني‪99‬ان بحج‪99‬ة‬
‫التعزز بها لنص‪9‬رة دين هلل‪ ،‬ح‪9‬تى أن بعض‪9‬هم ق‪9‬ال‪ (:‬ل‪9‬و ج‪9‬اء ‪ ‬في ه‪9‬ذا‬
‫الزمان للبس بذلة عصرية‪ ،‬وامتلك سيارة مرسيدس‪) ..‬‬
‫قال‪ :‬وما مرسيدس؟‬
‫قلت‪ :‬سيارة فخمة‪ ،‬ال يملتكها إال الكبار‪.‬‬
‫قال‪ :‬فقد أخطأ من قال ه‪99‬ذا‪ ،‬ورس‪99‬ول هللا ‪ ‬أعظم ش‪99‬أنا من أن نتكلم‬
‫عنه بهذا األسلوب‪ ،‬فمن نحن حتى نملي على رسول هللا ‪ ‬ما يفعل؟‬
‫ثم التفت إلي‪ ،‬وقال‪ :‬ألم يقرأوا كيف كانت حياة النبي ‪‬؟‬
‫قلت‪ :‬بلى‪ ،‬ولكنهم يقولون‪ :‬ذلك واقع‪ ،‬وهذا واقع‪ ،‬وأحكام الدين تتغ‪99‬ير‬
‫بتغير الواقع‪.‬‬
‫قال‪ :‬أي واقع هذا؟ أتنسخون ال‪9‬دين ب‪9‬الواقع؟‪ ..‬لق‪9‬د ك‪9‬ان في عه‪9‬ده ‪‬‬
‫من أنواع الترف ما كان‪ ،‬ولكنه ‪ ‬آثر الحياة التي عاش‪99‬ها على ك‪99‬ل ذل‪99‬ك‬
‫الترف‪ ،‬مؤثرا حياة العبودية‪.‬‬
‫قلت‪ :‬بلى‪ ،‬وقد رويت النصوص الكثيرة المؤيدة لهذا‪.‬‬
‫قال‪ :‬فحذر قومك من س‪9‬راديب االع‪9‬تراض على النص‪9‬وص وتأويله‪9‬ا‬
‫والفرار من مستلزماتها‪ ..‬فإن األديان ما حرفت إال باالعتراض‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فكيف أمد يدي بلسان المسكنة؟‬
‫قال‪ :‬بالكيفية التي علمن‪99‬ا ‪ ،‬فق‪99‬د ك‪99‬ان يلج‪99‬أ إلى هللا مط‪99‬أطئ ال‪99‬رأس‬
‫متواضعا بين يدي هللا‪.‬‬

‫‪198‬‬
‫رابعا ـ كنز الفضل‬
‫سرت مع معلم السالم نبحث عن القصر الذي يتواجد به كنز الفض‪99‬ل‪،‬‬
‫الح لنا قصر جميل‪ ،‬كله أبواب يؤدي بعض‪99‬ها إلى بعض‪99‬ه‪ ،‬ب‪99‬ل ه‪99‬و نفس‪99‬ه‬
‫يشبه بابا كبيرا‪ ،‬وقد غرست على جوانب القصر األربع أصناف األشجار‬
‫المثمرة والزروع اليانعة‪.‬‬
‫لقد كان القصر يشبه لوحده مدينة ضخمة تعج بالحياة‪ ،‬التفت إلىالالفتة‬
‫المعلقة في بوابة القصر‪ ،‬فإذا مكت‪99‬وب عليه‪99‬ا قول‪99‬ه تع‪99‬الى‪{ :‬ال َت‪ْ 9‬د ُخلُوا ِم ْن‬
‫ب ُم َت َفرِّ َق ٍة }(يوسف‪)67 :‬‬ ‫اح ٍد َوا ْد ُخلُوا ِم ْن َأب َْوا ٍ‬
‫ب َو ِ‬‫َبا ٍ‬
‫سألت المرشد عن سر وضع هذه اآلية هنا‪ ،‬فقال‪ :‬هذا قص‪99‬ر الفض‪99‬ل‪،‬‬
‫وهذا القصر يعرفونه في مدائن الغنى بقصر األبواب‪ ،‬فهو كثير األب‪99‬واب‪،‬‬
‫وهي متداخلة بعضها في بعض‪ ،‬ولكن أبوابه الكبرى أربعة‪.‬‬
‫وقد وضعت هذه الالفتة هنا لتنبه ال‪99‬داخل إلى أن ال يلتمس باب‪99‬ا واح‪99‬دا‬
‫للدخول‪ ،‬بل إذا وجد بابا مغلقا في وجهه يلتمس بابا آخر‪ ،‬فال بد لكل داخل‬
‫لهذا القصر من أبواب مفتوحة‪ ،‬ومن جواهر ينالها‪.‬‬
‫قلت‪ :‬كي‪9‬ف؟ لم أفهم‪ ..‬عه‪9‬دي في قص‪9‬ور ه‪9‬ذه الم‪9‬دائن أن أدخله‪9‬ا من‬
‫بابها‪ ،‬ثم أرتقي طوابقها طابقا طابقا إلى الطابق الرابع‪.‬‬
‫قال‪ :‬هذا القصر ليس فيه طوابق‪ ،‬بل فيه ب‪99‬دل ذل‪99‬ك أب‪99‬واب‪ ،‬ألم تس‪99‬مع‬
‫عن أبواب الجنة؟‬
‫ات َع‪ْ 9‬د ٍن يَ‪ْ 9‬د ُخلُونَهَا‬ ‫قلت‪ :‬بلى‪ ،‬س‪99‬معت‪ ،‬فق‪99‬د ق‪99‬ال تع‪99‬الى فيه‪99‬ا‪َ ):‬جنَّ ُ‬
‫اج ِه ْم َو ُذ ِّريَّاتِ ِه ْم َو ْال َمالئِ َكةُ يَ ْد ُخلُونَ َعلَ ْي ِه ْم ِم ْن‬
‫صلَ َح ِم ْن آبَائِ ِه ْم َوأَ ْز َو ِ‬
‫َو َم ْن َ‬
‫ب}(الرعد‪)23:‬‬ ‫ُك ِّل بَا ٍ‬
‫قال‪ :‬فما فائدة تلك األبواب؟‬
‫قلت‪ :‬ال يدخل من كل باب من تلك األبواب إال المستحق ل‪99‬ه‪ ،‬فق‪99‬د ق‪99‬ال‬
‫‪ (:r‬لكل باب من أبواب ال‪9‬بر ب‪9‬اب‪ ،‬من أب‪9‬واب الجن‪9‬ة‪ ،‬وإن ب‪9‬اب الص‪9‬يام‬
‫يدعى الريان )(‪)1‬‬
‫قال‪ :‬أرأيت لو أن شخصا لم تتوفر فيه الخصال الكافية ل‪9‬دخول واح‪9‬د‬
‫من تلك األبواب‪ ،‬أيؤذن له بدخوله؟‬
‫قلت‪ :‬كال‪ ،‬فالنصوص تدل على حرمانه منه‪.‬‬
‫‪ ) )(1‬الطبراني في الكبير‪.‬‬

‫‪199‬‬
‫ق‪9‬ال‪ :‬فك‪9‬ذلك ه‪9‬ذه األب‪9‬واب‪ ..‬فهي أب‪9‬واب لفض‪9‬ل هللا‪ ،‬وهي أربع‪9‬ة‪ ،‬ال‬
‫يجوز دخول أي واحد منها إال لمن استحق دخوله‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فما هي؟‬
‫قال‪ :‬باب السعي‪ ،‬وباب اإلحسان‪ ،‬وباب االلتزام‪ ،‬وب‪9‬اب الرج‪9‬اء‪ ،‬أم‪9‬ا‬
‫هذان البابان األخيران‪ ،‬فهما مفتوحان لكل داخل‪ ،‬وأما باب السعي فمفتوح‬
‫لألقوياء فقط‪ ،‬وأما باب اإلحسان‪ ،‬فمفتوح للضعفاء فقط‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فأين جواهر هذا القصر؟‬
‫قال‪ :‬هي في أبوابها‪ ،‬فبمجرد تحقق‪9‬ك بم‪9‬ا يقتض‪9‬ي الب‪9‬اب من مع‪9‬ارف‬
‫تنال الجواهر التي تناسب ذلك الباب‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فلم كانت األبواب أربعة‪ ،‬والجواهر أربعة؟‬
‫قال‪ :‬ألن هللا تعالى جعل لفضله في هذه الدنيا هذه األبواب األربعة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ولكن أبواب فضل هللا ال تحد وال تعد‪.‬‬
‫ق‪99‬ال‪ :‬ولكنه‪99‬ا تجتم‪99‬ع في ه‪99‬ذه األرب‪99‬ع ال تع‪99‬دوها‪ ،‬وكله‪99‬ا م‪99‬ذكورة في‬
‫القرآن الكريم‪ ،‬ومفصلة في أحكام الشريعة‪.‬‬
‫جوهرة السعي‪:‬‬
‫كان أول ب‪9‬اب مقاب‪9‬ل لن‪9‬ا ب‪9‬اب كتب علي‪9‬ه ( ب‪9‬اب الس‪9‬عي )‪ ،‬ومكت‪9‬وب‬
‫بجانبه الفتة سجل عليها ( ال يدخله إال من له كسب‪ ،‬أو قدرة على الكسب)‬
‫اق‪99‬تربت م‪99‬ع المعلم من ذل‪99‬ك الب‪99‬اب اللتم‪99‬اس الج‪99‬وهرة ال‪99‬تي يحت‪99‬وي‬
‫عليها‪ ،‬فالحت لي جوهرة نفيسة دهشت لجمالها‪.‬‬
‫سألت المرشد عنها‪ ،‬فقال‪ :‬هذه جوهرة نفيس‪9‬ة‪ ،‬ت‪9‬ؤنس تع‪9‬بي‪ ،‬وتمس‪9‬ح‬
‫عرقي‪ ،‬وتمدني بالقوة التي أحمل بها فأسي ومعولي‪.‬‬
‫ابتسمت‪ ،‬وقلت‪ :‬أتحمل أيها المرشد فأسا ومعوال‪ ،‬أين؟‪ ..‬لم أرك تفعل‬
‫ذلك‪ ..‬بل إن هندامك يدل على أن‪9‬ك ال تع‪9‬رف الف‪9‬أس وال المع‪9‬ول‪ ..‬فكي‪9‬ف‬
‫تزعم أنك تحمله؟‬
‫قال‪ :‬ما أسرع ما تنسى‪ ،‬ألم أقل لك‪ :‬إنني ذلك الرج‪9‬ل ال‪9‬ذي زرت‪9‬ه في‬
‫بيته‪ ..‬ألم تر في البيت فأسا ومعوال؟‬
‫قلت‪ :‬بلى‪.‬‬
‫قال‪ :‬فأنا إذا ما أرهقني التعب‪ ،‬جئت إلى هذه الجوهرة مستأنسا بها‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فما الحقائق ال‪9‬تي تنط‪9‬وي عليه‪9‬ا‪ ،‬وال‪9‬تي تجع‪9‬ل له‪9‬ا ه‪9‬ذه الق‪9‬درة‬
‫العجيبة على تبديل التعب راحة‪ ،‬واأللم لذة؟‬

‫‪200‬‬
‫قال‪ :‬ذلك سؤال يجيب عن‪99‬ه المعلم‪ ،‬ال أن‪99‬ا‪ ،‬فق‪99‬د أذن ل‪99‬ه في الكالم‪ ،‬ولم‬
‫يؤذن لي‪.‬‬
‫التفت إلى المعلم‪ ،‬فقلت‪ :‬ما الحقائق التي تنطوي عليها هذه الجوهرة؟‬
‫قال‪ :‬حقائقها عظيمة‪ ،‬ولكن الصراع ال‪99‬ذي تتع‪99‬املون ب‪99‬ه م‪99‬ع األش‪99‬ياء‬
‫أوقعكم في الغفلة عنها‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فعلمني ما أصارع به الصراع فأصرعه‪.‬‬
‫قال‪ :‬السالم ال يعرف الصراع‪ ،‬وال يعلم الصراع‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فكيف ينتهي الصراع إذن؟‬
‫ق‪99‬ال‪ :‬ينتهي بالس‪99‬الم‪ ..‬ينتهي بالنس‪99‬يم العلي‪99‬ل ال‪99‬ذي يهب على ص‪99‬فحة‬
‫البحار الهادرة ليجعلها مرآة تنتظم الحقائق‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فانفخ في بحار روحي الهادرة هذا النسيم العليل‪ ،‬ألعيش السالم‪.‬‬
‫قال‪ :‬ألم أقل لك‪ :‬إنني ال طاقة لي ببناء وال هدم‪ ،‬فكيف تكون لي طاق‪9‬ة‬
‫بالنفخ؟‬
‫قلت‪ :‬فكيف أتحقق إذن؟‬
‫قال‪ :‬بالحقيقة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وكيف أصل إلى الحقيقة؟‬
‫قال‪ :‬بالنور‪.‬‬
‫قلت‪ :‬نور الشمس أم نور القمر؟‬
‫قال‪ :‬بكليهما‪ ،‬فنور الشمس يغذي نور القمر‪.‬‬
‫قلت‪ :‬تقصد بالسراج المنير الحامل للحقائق‪ ،‬وبالقلب الصافي المستعد‬
‫لتقبلها‪.‬‬
‫قال‪ :‬أقصد نور هللا الهادي‪ ،‬ونور اإليمان المستوعب‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فما الحقائق التي ينالها من يستلم هذه الجوهرة؟‬
‫قال‪ :‬أربع‪ ..‬كل واحد منها مرتبة ت‪9‬ؤدي إلى ال‪9‬تي تليه‪9‬ا‪ ..‬أو ك‪9‬ل ب‪9‬اب‬
‫منها يؤدي إلى الباب الذي يليه‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ما هي؟‬
‫قال‪ :‬التشجيع‪ ،‬والتدريب‪ ،‬والمال‪ ،‬والعمل‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فعلمني علومها‪ ..‬وفقهني من فقهها‪.‬‬
‫قال‪ :‬لن تتعلم علومها هنا‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فأين تتعلمها؟‬

‫‪201‬‬
‫قال‪ :‬عندما ترحل باحثا عن مفاتيح المدائن(‪.)1‬‬
‫جوهرة اإلحسان‪:‬‬
‫اقتربنا من الباب الثاني من أبواب الفضل‪ ،‬فرأيت خيرا كثيرا يتس‪99‬اقط‬
‫كما يتساقط الثلج‪ ،‬لكنه ثلج دافئ لطيف تنتش‪99‬ر من‪99‬ه روائح زكي‪99‬ة‪ ،‬فس‪99‬ألت‬
‫المرشد عن هذا الباب‪ ،‬فقال‪ :‬هذا باب اإلحسان‪.‬‬
‫قلت‪ :‬باب ( أن تعبد هللا كأنك تراه )؟‬
‫قال‪ :‬ال‪ ..‬هو مشتق من ذلك الباب‪ ،‬وهو نور من أنواره‪ ،‬ب‪99‬ل ه‪99‬و أول‬
‫نور من أنوره‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فما جهة اشتقاقه؟‬
‫سكت المرش‪99‬د‪ ،‬فق‪99‬ال المعلم‪ :‬ال يمكن‪99‬ك أن تع‪99‬رف هللا‪ ،‬ثم يمتلئ قلب‪99‬ك‬
‫قسوة على خلقه‪ ،‬فمن أحب هللا امتأل قلبه رحمة ورقة ومودة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬كيف ذلك؟‬
‫قال‪ :‬ألم تقرأ القرآن الكريم؟‬
‫قلت‪ :‬بلى‪ ..‬فقد قرأته بحمد هللا ومنته‪.‬‬
‫قال‪ :‬فكيف تحدث عن المساكين؟‬
‫اعبُ‪ُ 9‬دوا هَّللا َ‬
‫{و ْ‬‫قلت‪ :‬لقد ربط هللا تعالى حقوق المساكين بحقوق‪9‬ه‪ ،‬فق‪9‬ال‪َ :‬‬
‫ين }‬ ‫َوال تُ ْش ِر ُكوا ِب ِه َشيْئاً َو ِب ْال َوا ِل َدي ِْن ِإحْ َساناً َو ِب ِذي ْالقُ‪99‬رْ َبى َو ْال َي َت‪99‬ا َمى َو ْال َم َس‪9‬ا ِك ِ‬
‫(النساء‪)36 :‬‬
‫ق‪9‬ال‪ :‬فه‪9‬ذا م‪9‬ا ي‪9‬دلك على أن أول ن‪9‬ور من أن‪9‬وار اإلحس‪9‬ان أن تش‪9‬مل‬
‫الخلق بما أعطاك هللا من فضل‪ ..‬أال ترى السراج؟‬
‫قلت‪ :‬ما به؟‬
‫قال‪ :‬أيمكن أن ينشر السراج الظالم؟‬
‫قلت‪ :‬لو فعل ذلك لم يبق سراجا‪.‬‬
‫قال‪ :‬فكذلك المؤمن العارف بربه ال يمكن إال أن يكون محسنا‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ولكن انتظار اإلحسان من الخلق قد يمأل صدور الفقراء بالغفلة‪.‬‬
‫قال‪ :‬أهل هللا من الفقراء لم يعنهم أن تصلهم األعطيات ال‪9‬تي رتبه‪9‬ا هللا‬
‫لهم‪ ،‬وإنما مأل صدورهم أشواقا وراحة وس‪9‬رورا اق‪9‬ترانهم باإليم‪9‬ان باهلل ‪،‬‬
‫وبعبوديته‪ ،‬فلذلك إذا نالهم ما نالهم من يد األغنياء قبضوها باسم هللا ‪ ،‬ومن‬
‫يد هللا‪ ،‬فبورك لهم فيها‪.‬‬

‫‪ ) )(1‬انظر التفاصيل المرتبطة بهذه األبواب في رواية‪ ( :‬مفاتيح المدائن)‬

‫‪202‬‬
‫جوهرة االلتزام‪:‬‬
‫اقتربن‪99‬ا من الب‪99‬اب الث‪99‬الث من أب‪99‬واب الفض‪99‬ل‪ ،‬ف‪99‬رأيت رجال يمتلئ‬
‫خشوعا‪ ،‬وهو يمسك بمسبحة يعد بها تسبيحاته‪ ،‬ف‪99‬إذا م‪99‬ا انتهى من ع‪99‬دها‪،‬‬
‫ملئت جرة أمامه يواقيت وجواهير‪.‬‬
‫فقلت للمعلم‪ :‬أهذا يطلب حسنات هللا‪ ،‬وجواهر أهل هللا‪ ،‬أم ت‪99‬راه يطلب‬
‫حسنات أهل الدنيا‪ ،‬وجواهر أهل الغفلة‪.‬‬
‫قال‪ :‬ال‪ ..‬هذا رجل من أه‪99‬ل هللا ‪ ،‬فق‪99‬ه عن هللا‪ ،‬وعلم أن هللا رب ال‪99‬دنيا‬
‫واآلخرة‪ ،‬وله خزائن حسنات الدنيا واآلخرة‪ ،‬فراح يمأل خزائنه منهما‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أال يقدح ذلك في إخالصه؟‬
‫ق‪99‬ال‪ :‬وه‪99‬ل دع‪99‬ا األنبي‪99‬اء ـ عليهم الص‪99‬الة والس‪99‬الم ـ أق‪99‬وامهم لغ‪99‬ير‬
‫اإلخالص‪.‬‬
‫قلت‪ :‬كال‪ ..‬ولكن ما عالقة ذلك بهذا الرجل‪.‬‬
‫اس‪9‬ت َْغ ِفرُوا َربَّ ُك ْم ِإنَّهُ َك‪99‬انَ َغفَّاراً‬
‫قال‪ :‬هذا رجل سمع ق‪99‬ول ن‪99‬وح ‪ْ {:‬‬
‫يُرْ ِس ِل ال َّس َما َء َع َل ْي ُك ْم ِم ْد َراراً َوي ُْم ِد ْد ُك ْم ِبأَ ْم َو ٍ‬
‫ال َو َب ِنينَ َو َيجْ َعلْ َل ُك ْم َجنَّا ٍ‬
‫ت َو َيجْ َع‪99‬لْ‬
‫َل ُك ْم َأ ْن َه‪99‬اراً‪( ‬ن‪99‬وح‪ 10 :‬ـ ‪ ،)12‬فعلم أن‪99‬ه س‪99‬نة من س‪99‬نن هللا‪ ،‬وس‪99‬حابة من‬
‫فضل هللا‪ ،‬فراح يلتمس هذا السبب كما يلتمس غيره من األسباب‪.‬‬
‫قلت‪ :‬إن قومي يعتبرون ه‪9‬ذا الب‪9‬اب من أب‪9‬واب فض‪9‬ل هللا من التواك‪9‬ل‬
‫المنهي عنه‪.‬‬
‫قال‪ :‬أولئك هم الجاهلون الغافلون الذي استعبدتهم األسباب‪ ،‬فال تس‪99‬لك‬
‫سبيلهم‪.‬‬
‫قلت‪ :‬كيف ال أسلك سبيلهم‪ ،‬وهو يقولون حقا كثيرا‪.‬‬
‫قال‪ :‬فما الحق الذي يقولونه؟‬
‫قلت‪ :‬لقد رأوا قوما التزموا المسابح‪ ،‬وهجروا الفؤوس والمعاول‪.‬‬
‫قال‪ :‬لق‪9‬د أخط‪9‬أ ه‪9‬ؤالء كم‪9‬ا أخط‪9‬أ أولئ‪9‬ك‪ ،‬وال ينبغي تص‪9‬حيح الخط‪9‬أ‬
‫بالخطأ‪ ،‬بل الخطأ يصحح بالصواب‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فما الصواب الذي يعالج أوهام الخطأ؟‬
‫قال‪ :‬هو قرع كل أبواب هللا‪ ،‬أبواب الف‪99‬ؤوس ‪ ،‬وأب‪99‬واب المس‪99‬ابح‪ ..‬فال‬
‫يصح أن تهجر المسبحة ألجل الفأس‪ ،‬وال أن تهجر الفأس ألجل المسبحة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬عرفت جدوى الفأس‪ ،‬فما جدوى المسبحة؟‬
‫قال‪ :‬ستعرف فضلها في رحلتك في عوالم الس‪9‬الم‪ ،‬فال خ‪9‬ير في ي‪9‬د ال‬

‫‪203‬‬
‫تحمل مسبحة‪ ،‬كما ال خير في يد ال تحمل فأسا‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أنت تدعو ألمرين لم ترد بهما النصوص ‪ ،‬فليس في النص‪99‬وص‬
‫ما يدل على سنية حمل الفأس والمسبحة‪.‬‬
‫قال‪ :‬أما سنية الفأس‪ ،‬فقد علمته‪9‬ا في ب‪9‬اب الفض‪9‬ل‪ ،‬وس‪9‬تعلم تفاص‪9‬يلها‬
‫في مفاتيح المدائن‪ ..‬وأما س‪99‬نية المس‪99‬بحة‪ ،‬فك‪99‬ل رحلت‪99‬ك في ع‪99‬والم الس‪99‬الم‬
‫تعلمك كيف تحمل المسبحة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فعلمني من علومها اآلن ما يملؤني قناع‪99‬ة بج‪99‬دوى المس‪99‬بحة في‬
‫رزق هللا‪ ،‬وفي طرق أبواب فضل هللا‪.‬‬
‫ق َ َيجْ َعلْ َلهُ َم ْخ َرج ‪9‬اً َو َيرْ ُز ْق ‪9‬هُ ِم ْن‬ ‫هَّللا‬ ‫قال‪ :‬ألم تسمع قوله تعالى‪َ {:‬و َم ْن َيتَّ ِ‬
‫ْث ال َيحْ ت َِسبُ َو َم ْن َيت ََو َّكلْ َع َلى هَّللا ِ َفه َُو َح ْسبُهُ ِإ َّن هَّللا َ َبا ِل ُغ َأ ْم ِر ِه َق‪ْ 9‬د َج َع‪َ 9‬‬
‫‪9‬ل هَّللا ُ‬ ‫َحي ُ‬
‫ِل ُكلِّ َش ْي ٍء َق ْدراً ‪( ‬الطالق‪ 2 :‬ـ ‪)3‬‬
‫قلت‪ :‬بلى‪ ..‬فما فيها من العلم؟‬
‫قال‪ :‬هذه اآليات تبين لك سنة هللا مع األتقياء من عب‪99‬اده‪ ،‬فه‪99‬و ي‪99‬رزقهم‬
‫من حيث يحتسبون ‪ ،‬ومن حيث ال يحتسبون‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ذلك صحيح‪ ..‬وقد سمعت قوله تعالى عن مريم ـ عليها السالم ـ م‪99‬ا‬
‫ُ‪9‬ول َح َس‪ٍ 9‬ن‬ ‫يمأل الصدر ثقة بفضل هللا‪ ،‬فقد قال هللا تعالى فيها‪َ {:‬ف َت َقبَّ َل َه‪9‬ا َر ُّب َه‪9‬ا ِب َقب ٍ‬
‫اب َو َج َد ِع ْن‪َ 99‬دهَا‬ ‫َخَل َع َل ْي َها زَ َك ِريَّا ْال ِمحْ َر َ‬ ‫َو َأ ْن َب َت َها َن َباتاً َح َسناً َو َكفَّ َل َها زَ َك ِريَّا ُكلَّ َما د َ‬
‫ق َم ْن َي َش‪9‬ا ُء‬ ‫‪9‬و ِم ْن ِع ْن‪ِ 9‬د هَّللا ِ ِإ َّن هَّللا َ َي‪9‬رْ ُز ُ‬ ‫ت هُ َ‬ ‫ال َيا َمرْ َي ُم َأنَّى َل ِك هَ‪َ 9‬ذا َق‪9‬ا َل ْ‬
‫ِر ْزقاً َق َ‬
‫ب‪( ‬آل عمران‪ ،)37 :‬ولكن ك‪99‬ل ذل‪99‬ك يك‪99‬اد يك‪99‬ون خاص‪99‬ا به‪99‬ا‪،‬‬ ‫ِب َغي ِْر ِح َسا ٍ‬
‫أليست أم المسيح ‪‬؟‬
‫قال‪ :‬ومن قال ذلك؟ هللا عدل يعامل خلقه معاملة واحدة‪ ..‬كونوا كمريم‬
‫طهارة وعفة ‪ ،‬وسيأتيكم من فضل هللا ما يغنيكم عن مد أيديكم لغيره‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أيمكن أن تحصل لنا من كرامات الرزق ما حصل لمريم ـ عليها‬
‫السالم ـ؟‬
‫قال‪ :‬إذا اجتهدتم أن تكونوا مثلها‪ ،‬فترزقون بمثل ما رزقت‪.‬‬
‫قلت‪ :‬من الغيب؟‬
‫قال‪ :‬من الغيب‪ ،‬أو من الجيب‪ ..‬فاهلل ربهما جميعا‪.‬‬
‫قلت‪ :‬إن هذا سيشيع روح التواكل‪.‬‬
‫قال‪ :‬من عرف هللا ووحده ال يخاف عليه من هذا الذي تخافونه‪.‬‬
‫قلت‪ :‬إن خوفنا من تسلل مثل ذلك االنحراف جعلنا نوسوس في طرح‬

‫‪204‬‬
‫مثل هذه القضايا‪.‬‬
‫ق‪99‬ال‪ :‬ووسوس‪99‬تكم جعلتكم ت‪99‬تيهون عن محكم‪99‬ات قرآني‪99‬ة كث‪99‬يرة‪ ،‬ب‪99‬ل‬
‫تتيهون عن سنن كثيرة من س‪99‬نن هللا‪ ،‬ب‪99‬ل ت‪99‬تيهون عن أب‪99‬واب عظيم‪99‬ة من‬
‫فضل هللا‪ ..‬فحاق بكم من الجهل والغلظة ما حاق ب‪9‬القرى‪ ..‬ألم تس‪9‬مع قول‪9‬ه‬
‫اء‬‫الس‪َ 9‬م ِ‬ ‫ت ِمنَ َّ‬ ‫‪9‬رى آ َمنُ‪9‬وا َواتَّ َق‪9‬وْ ا َل َفتَحْ نَ‪9‬ا َع َل ْي ِه ْم َب َر َك‪9‬ا ٍ‬ ‫‪9‬ل ْالقُ َ‬
‫تعالى‪َ {:‬و َل‪9‬وْ َأ َّن َأ ْه َ‬
‫خَذنَاهُ ْم ِب َما َكانُوا َي ْك ِسبُونَ ‪( ‬ألعراف‪)96 :‬‬ ‫ض َو َل ِك ْن َك َّذبُوا َفأَ ْ‬‫َواأْل َرْ ِ‬
‫قلت‪ :‬بلى‪ ..‬وقد سمعت معها نموذج سبأ الذي ضربه هللا لهذه السنن‪.‬‬
‫قال‪ :‬أرأيت كيف تغير جيوش المعاصي على النعم؟‬
‫قلت‪ :‬أجل‪..‬ولكني أرى أقواما تصر على المعاصي‪ ،‬ومع ذلك يتقاطر‬
‫عليها من فضل هللا ما يزيدها عتوا وعنادا‪.‬‬
‫قال‪ :‬ومن قال بأن ما ينزل عليهم من فضل هللا‪.‬‬
‫قلت‪ :‬إن أموالهم تتضاعف‪ ،‬وخزائنهم ال تزيدها األيام إال انتفاخا‪.‬‬
‫قال‪ :‬وقلوبهم؟‬
‫قلت‪ :‬ال يزيدها امتالء خزائنهم إال قسوة‪.‬‬
‫قال‪ :‬فليس هذا من فضل هللا‪ ..‬فكل رزق حجبك عن هللا عذاب‪ ..‬وليس‬
‫له من عاقبة إال الهالك‪ ..‬هو أش‪99‬به بمن تن‪9‬اول من ال‪99‬دواء الخط‪99‬ير م‪99‬ا مأل‬
‫جسمه سموما‪.‬‬
‫قلت‪ :‬صدقت‪ ..‬لقد نص القرآن الكريم على ه‪9‬ذه الحقيق‪9‬ة‪ ،‬فق‪9‬ال‪َ {:‬أ َو َل ْم‬
‫َط َب‪ُ 9‬ع‬ ‫ص‪ْ 9‬بنَاهُ ْم ِب‪ُ 9‬ذنُو ِب ِه ْم َون ْ‬
‫ض ِم ْن َبعْ ِد َأ ْه ِل َها َأ ْن َلوْ َن َشا ُء َأ َ‬ ‫َي ْه ِد ِللَّ ِذينَ َي ِرثُونَ اأْل َرْ َ‬
‫َع َلى قُلُو ِب ِه ْم َفه ُْم ال َي ْس َمعُونَ } (ألعراف‪)100 :‬‬
‫قال‪ :‬أفال تكفيكم هذه اآلي‪9‬ة لتزي‪9‬ل غ‪9‬دة عب‪9‬وديتكم لغ‪9‬يركم‪ ،‬وانبه‪9‬اركم‬
‫بهم‪ ،‬وذلتكم أمامهم‪.‬‬
‫قلت‪ :‬نحن نتيه على غيرنا ‪ ،‬وال ننبهر به‪.‬‬
‫قال‪ :‬ألي عالم ينتمي قومك؟‬
‫قلت‪ :‬للعالم الثالث‪ ..‬وبعضهم يصنفهم في الع‪9‬الم الراب‪9‬ع‪ ..‬وبعض‪9‬هم لم‬
‫يضع لهم تصنيفا بعد‪.‬‬
‫قال‪ :‬أليس قبولكم بهذا التصنيف جزءا من االنبهار؟‬
‫قلت‪ :‬كيف ذلك؟‬
‫قال‪ :‬أال تطمحون ألن تصبحوا العالم األول؟‬
‫قلت‪ :‬ال حرج علينا في أن نطمح‪ ،‬فاهلل يحب أصحاب الهمم العالية‪.‬‬

‫‪205‬‬
‫قال‪ :‬فمن هو العالم األول في نظر قومك؟‬
‫قلت‪ :‬العالم األول هو العالم األول‪.‬‬
‫قال‪ :‬وهو عالم عاد وثمود وسبأ والروم والفرس واألندلس والـ‪..‬‬
‫قلت‪ :‬حسبك لقد وعيت ما قلت‪.‬‬
‫قال‪ :‬ال يكفي أن تعي‪ ..‬بل عش الحقائق‪ ،‬وبشر بها‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فألي عالم ننتمي‪ ..‬أللعالم األول؟‬
‫قال‪ :‬ال‪ ..‬لن تص‪9‬لوا إلى ه‪9‬ذا الع‪9‬الم ح‪9‬تى تتخلص‪9‬وا من الحجب ال‪9‬تي‬
‫تحول بينكم وبين عوالم السالم‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فأين ننتمي اآلن؟‬
‫قال‪ :‬ال انتماء إال بع‪9‬د س‪9‬ير‪ ..‬ف‪9‬إن س‪9‬رتم انتميتم‪ ..‬وك‪9‬انت أول خط‪9‬وة‬
‫صحيحة تسيرونها هي مفتاح وصولكم‪.‬‬
‫جوهرة الدعاء‪:‬‬
‫اقتربنا من الباب الرابع من أبواب الفضل‪ ،‬فرأيت أي‪99‬د كث‪99‬يرة مم‪99‬دودة‬
‫إلى السماء‪ ..‬ورأيت خيرا كث‪99‬يرا يتس‪99‬اقط على تل‪99‬ك األي‪99‬دي‪ ..‬لس‪99‬ت أدري‬
‫كيف انشغلت عن المرشد والمعلم‪ ..‬ولم أج‪9‬د نفس‪9‬ي إال وأن‪9‬ا أم‪9‬د ي‪9‬دي م‪9‬ع‬
‫أيديهم‪ ..‬وأصيح بما بصيحون‪ ..‬وأجأر إلى هللا بما يجأرون‪.‬‬
‫قال المعلم‪ :‬ردد معي هذا الدعاء ‪ ،‬فقد روي عن بعض الصالحين أن‪99‬ه‬
‫قال‪ (:‬ما دعا عبد قط بهذه الدعوات‪ ،‬إال وسع هللا له في معيشته‪ ،‬يا ذا المن‬
‫وال يمن عليه‪ ،‬يا ذا الجالل واإلك‪99‬رام‪ ،‬ي‪99‬ا ذا الط‪99‬ول‪ ،‬ال إل‪99‬ه إال أنت ظه‪99‬ر‬
‫الالجين وجار المستجيرين ومأمن الخائفين‪ ،‬إن كنت كتبتني في أم الكتاب‬
‫شقيا فامح عني اسم الشقاء‪ ،‬وأثبتني عندك سعيدا‪ ،‬وإن كنت كتبتني عن‪99‬دك‬
‫في أم الكت‪99‬اب محروم‪99‬ا مق‪99‬ترا علي رزقي‪ ،‬ف‪99‬امح حرم‪99‬اني ويس‪99‬ر رزقي‬
‫وأثبت‪9‬ني عن‪9‬دك س‪9‬عيدا موفق‪9‬ا للخ‪9‬ير‪ ،‬فإن‪9‬ك تق‪9‬ول في كتاب‪9‬ك ال‪9‬ذي أن‪9‬زلت‬
‫ب} (الرعد‪))39 :‬‬ ‫ت َو ِع ْن َدهُ أُ ُّم ْال ِكتَا ِ‬
‫{ َي ْمحُوا هَّللا ُ َما َي َشا ُء َوي ُْث ِب ُ‬
‫قلت‪ :‬أتصدق مثل هذا يا معلمي؟‬
‫قال‪ :‬وما الذي يمنعني من تصديقه؟‬
‫قلت‪ :‬الص‪99‬الحون ك‪99‬انوا يطلب‪99‬ون هللا ‪ ،‬ويرش‪99‬دون إلى هللا ‪ ،‬ولم يكن‬
‫يطلبون الدنيا‪.‬‬
‫ق‪99‬ال‪ :‬وطلب ال‪99‬دنيا وس‪99‬عتها حج‪99‬اب الغ‪99‬افلين عن هللا‪ ،‬أم‪99‬ا الع‪99‬ارفون‬
‫الفاقهون عن هللا ‪ ،‬فلو وضعت الدنيا جميع‪9‬ا في خ‪9‬زائنهم م‪9‬ا ش‪9‬غلتتهم عن‬

‫‪206‬‬
‫هللا لحظة واحدة‪ ..‬ألم تسمع مقالة سليمان ‪‬؟‬
‫قلت‪ :‬أي مقالة؟‬
‫اغ ِف‪99‬رْ ِلي َو َهبْ ِلي ُم ْلك‪9‬اً ال‬
‫قال‪ :‬لقد قال هلل ‪ ،‬وبإلحاح متض‪99‬رع‪َ {:‬ربِّ ْ‬
‫َي ْن َب ِغي أِل َ َح ٍد ِم ْن َبعْ ِدي ِإنَّكَ َأ ْنتَ ْال َوهَّابُ ‪( ‬صّ ‪)35 :‬‬
‫قلت‪ :‬بلى‪ ..‬وال زلت محتارا في سر هذا الطلب العجيب‪.‬‬
‫قال‪ :‬ستفقه سره األوفى في مفاتيح المدائن‪ ..‬أما هنا ف‪99‬اعلم أن س‪99‬ليمان‬
‫‪ ‬في غمرة ثقته بحب‪99‬ه هللا‪ ،‬وامتالء قلب‪99‬ه ب‪99‬ه ‪ ،‬ق‪9‬ال‪ :‬ي‪9‬ا رب ابتل‪9‬ني بم‪9‬ا‬
‫ش‪99‬ئت‪ ..‬بالم‪99‬ال‪ ..‬بالمل‪99‬ك‪ ..‬ب‪99‬ل بالمل‪99‬ك ال‪99‬ذي ال يوج‪99‬د نظ‪99‬يره‪ ..‬فلن يزي‪99‬غ‬
‫بصري عنك ‪ ،‬ولن يطغى‪.‬‬
‫قلت‪ :‬لقد فقهت هذا‪ ..‬ولكني ال أفقه أن أسأل هللا الرزق‪ ..‬مع أنه رزاق‬
‫بذاته‪ ..‬فما حاجتي للطلب؟‬
‫قال‪ :‬هللا رزاق ‪ ،‬ومجيب‪ ..‬فال ينبغي أن يحجبك اس‪9‬م عن اس‪9‬م‪ ..‬اعب‪99‬د‬
‫هللا بأسمائه جميعا‪.‬‬
‫قلت‪ :‬اشرح لي مرادك من هذا‪.‬‬
‫قال‪ :‬هلل في كل اسم من أسمائه الحسنى عبودية تليق به‪ ..‬والكام‪9‬ل ه‪9‬و‬
‫الذي نظر إلى كل اسم من أسماء هللا‪ ،‬فبحث عن أسرار العبودية المرتبطة‬
‫به‪.‬‬
‫قلت‪ :‬اضرب لي مثاال يوضح هذا‪ ..‬فإني أكاد أفهمه‪.‬‬
‫قال‪ :‬أرأيت لو أن شخصا آتاه هللا قدرات عجيبة‪ ،‬فهو فقيه طبيب فلكي‬
‫مهندس‪ ..‬وفوق ذلك هو مصارع قوي‪ ،‬ووجيه له من الوجاه‪99‬ة م‪99‬ا يجع‪99‬ل‬
‫الخلق يبادرون لرغباته ‪ ،‬فال يرفضون له طلب‪99‬ا‪ ،‬وال ي‪99‬ردون ل‪99‬ه ش‪99‬فاعة‪..‬‬
‫ومع كل هذا كان قريبا منك محبا لك‪ ..‬وكان م‪99‬ع ذل‪99‬ك كل‪99‬ه كريم‪99‬ا خ‪99‬دوما‬
‫يحب أن تسأله وتتعلم على يديه‪ ،‬وتستشفع به‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أراه كنزي الذي منه أنهل‪ ..‬وب‪9‬ه أس‪9‬تعز ‪ ،‬وعلى يدي‪9‬ه أتعلم‪ ،‬ب‪9‬ل‬
‫وبه تبرأ عللي ‪ ،‬وترفع أسقامي‪.‬‬
‫قال‪ :‬فأنت تالحظ كل وصف فيه ‪ ،‬ثم تستفيد منه بقدر طاقتك‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ال ش‪999‬ك في ذل‪999‬ك‪ ..‬وكلهم يفعل‪999‬ه‪ ..‬فمن الغب‪999‬اء ع‪999‬دم اس‪999‬تثمار‬
‫الطاقات‪.‬‬
‫قال‪ :‬فنزه ربك عن التشبيه‪ ..‬ثم ارم بجنود هذا المثال على م‪99‬ا ذك‪99‬رت‬
‫من شبه‪ ،‬وال أراك يصعب عليك تطبيقه‪.‬‬

‫‪207‬‬
‫قلت‪ :‬لقد وعيت ما ذكرت ‪ ،‬فبورك فيك‪.‬‬

‫‪208‬‬
‫الخاتمة‬
‫بعد أن عدت من رحلتي العجيبة م‪9‬ع معلم الس‪9‬بالم‪ ،‬ب‪9‬ادرني بقول‪9‬ه‪ :‬لم‬
‫تسألني عن موقع هذه المدائن‪ ،‬عهدي بك سؤوال؟‬
‫قلت‪ :‬أعلم أن مل‪99‬ك هللا عظيم‪ ،‬وق‪99‬د أخبرت‪99‬ني بأن‪99‬ا لم ن‪99‬برح األرض‪،‬‬
‫فاكتفيت بهذا‪ ،‬وقلت‪ :‬لعلها جزيرة من الجزائر المجهول‪99‬ة‪ ،‬كتل‪99‬ك الجزي‪99‬رة‬
‫التي تحدث عنها سندباد البحري‪.‬‬
‫قال‪ :‬ال‪ ..‬لقد ذهبت بعيدا‪ ،‬فال أحسب أن هناك جزي‪99‬رة لم تدس‪99‬ها أق‪99‬دام‬
‫قومك‪ ،‬وهم يبحثون عن الذهب‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فأين كنا إذن‪ ،‬أفي المريخ‪ ،‬أم في القمر؟‬
‫قال‪ :‬لقد كنا في مدينة واحدة من مدائن الغ‪99‬نى باهلل‪ ،‬وك‪99‬ل تل‪99‬ك الكن‪99‬وز‬
‫التي رأيتها‪ ،‬والتي سال لعابك لها كنوز رجل واحد‪.‬‬
‫قلت‪ :‬كل تلك الثروة لرجل واحد‪ ..‬ما أغناه‪ ،‬ال أرى أن على البس‪99‬يطة‬
‫من هو أغنى منه‪ ..‬هذا حقيق أن يحسد‪ ..‬بل أخاف أن يقتل‪.‬‬
‫قال‪ :‬ال تخف‪ ..‬فالناس جميعا يحتق‪99‬رون ثروات‪99‬ه وال يتلفت‪99‬ون له‪99‬ا‪ ،‬ب‪99‬ل‬
‫يضحكون منها‪ ،‬ويهزؤون منه‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ما أبعدهم‪ ..‬أليس لهم أعين يبصرون بها‪ ،‬أو آذان يسمعون بها؟‬
‫قال‪َ { :‬له ُْم قُلُوبٌ ال َي ْف َقهُونَ ِب َها َو َله ُْم َأ ْعي ٌُن ال يُب ِ‬
‫ْصرُونَ ِب َه‪99‬ا َو َله ُْم آ َذ ٌ‬
‫ان ال‬
‫َي ْس َمعُونَ ِب َها }(ألعراف‪)179 :‬‬
‫قلت‪ { :‬أُو َل ِئكَ َكاأْل َ ْن َع ِام ‪( ‬ألعراف‪ )179 :‬إذن‪.‬‬
‫ضلُّ أُو َل ِئكَ هُ ُم ْالغَا ِفلُونَ }(ألعراف‪)179 :‬‬ ‫قال‪َ { :‬بلْ هُ ْم َأ َ‬
‫قلت‪ :‬فما حاله معهم؟‬
‫قال‪ :‬هو منشغل بمدائنه يسوسها ويحفظها‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وحق له ذلك‪ ،‬فمن كان ل‪99‬ه مث‪99‬ل ثورت‪99‬ه وملك‪99‬ه ال يلتفت للس‪99‬وقة‬
‫والرعاع‪.‬‬
‫ق‪99‬ال‪ :‬ال تفهم كالمي خط‪99‬أ‪ ،‬ه‪99‬و يلتفت إليهم ويحبهم ويم‪99‬د ي‪99‬ده إليهم‬
‫بالعط‪99‬اء‪ ،‬ولكنهم يقبض‪99‬ون أي‪99‬ديهم‪ ،‬ويطلب منهم أن يعم‪99‬روا ص‪99‬ناديقهم‬
‫بكنوزه‪ ،‬ولكنهم يأنفون من كنوزه‪ ،‬ويضحكون منه‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فهال ذهب إلى الفقراء‪ ،‬فلألغنياء من عزة النفس ما يحول بينهم‬
‫وبين تقبل الصدقات ولو كانت كنوزا‪.‬‬

‫‪209‬‬
‫قال‪ :‬ذهب للفقراء واألغنياء‪ ،‬فالكل عنده سواء‪ ،‬فالغنى غنى الروح‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فما فعل الفقراء؟‬
‫قال‪ :‬رموه بالحجارة‪ ،‬وسخروا من دعواته لهم بدخول مدائن الغنى‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فماذا فعل؟‬
‫قال‪ :‬هو منشغل عنهم بمدائنه وفأسه‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وما عالقة فأسه بمدائنه؟‪ ..‬وأي فأس ه‪99‬ذا؟‪ ..‬أن‪99‬ا لم أر أي ف‪99‬أس‬
‫في مدائن األغنياء‪.‬‬
‫قال‪ :‬لقد رأيته في بيته‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أي بيت؟‬
‫قال‪ :‬بيت المرشد الذي كان دليلك في هذه المدائن‪.‬‬
‫قلت‪ :‬نعم‪ ..‬المرش‪99‬د موظ‪99‬ف في تل‪99‬ك الم‪99‬دائن‪ ،‬ولكن م‪99‬ا عالق‪99‬ة ذل‪99‬ك‬
‫بفأسه‪.‬‬
‫قال‪ :‬لم يكن المرشد موظفا في تلك المدائن‪ ،‬بل كان هو المدائن‪.‬‬
‫قلت‪ :‬والكنوز‪.‬‬
‫قال‪ :‬تلك هي ثروته‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فأين كنا نحن؟‬
‫قال‪ :‬في أعماقه‪ ..‬ألم أقل لك‪ :‬هي‪9‬ا نبحث في أعم‪9‬اق ذل‪9‬ك الفق‪9‬ير ال‪9‬ذي‬
‫حزنت له عن كنوز الفقراء؟‬
‫قلت‪ :‬أكل ذلك الجمال‪ ،‬وتلك الثروة في أعماق فقير واحد؟‬
‫قال‪ :‬نعم‪ ..‬ويمكنها أن تكون لك جميعا‪ ..‬ب‪9‬ل لك‪9‬ل راغب فيه‪9‬ا‪ ..‬فج‪9‬ود‬
‫هللا عظيم‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فكيف لي أن يكون في أعماقي ما رأينا في أعماقه؟‬
‫قال‪ :‬بالحب واإلرادة والعزيمة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فأنا أحب وأريد‪.‬‬
‫قال‪ :‬ال يكفي ذلك‪ ،‬بل ال بد أن تعزم‪ ،‬ألم تسمع إلى الح‪9‬ق تع‪9‬الى وه‪9‬و‬
‫يقول‪َ {:‬و َل َق ْد َع ِه ْدنَا ِإ َلى آ َد َم ِم ْن َقبْلُ َفن َِس َي َو َل ْم ن َِج‪ْ 9‬د َل‪9‬هُ ع َْزم‪9‬اً}(طـه‪،)115 :‬‬
‫فقد أحب آدم ‪ ‬وأراد‪ ،‬ولكن هللا عاتبه على أنه لم يعزم‪.‬‬
‫قلت‪ :‬فقد عزمت‪.‬‬
‫ْ‬ ‫هَّللا‬ ‫هَّللا‬
‫َزَمتَ َفت ََو َّكلْ َع َلى ِ ِإ َّن َ ي ُِحبُّ ال ُمت ََ‪9‬و ِّك ِلينَ }(آل عم‪9‬ران‪:‬‬‫قال‪َ { :‬فإِ َذا ع ْ‬
‫‪)159‬‬

‫‪210‬‬
‫قلت‪ :‬قد توكلت‪.‬‬
‫قال‪ :‬حق التوكل‪ ،‬ألم تسمع إلى قول نبيك ‪ (:‬لو أنكم تتوكل‪99‬ون على‬
‫هللا حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا‪ ،‬وتروح بطانا )(‪)1‬‬
‫قلت‪ :‬قد توكلت على هللا حق توكله‪.‬‬
‫قال‪ :‬ال تتخط رقاب الصديقين‪ ..‬قل إن شاء هللا‪ ..‬فالتحقق عظيم‪.‬‬
‫أحسست بأني ال شيء‪ ،‬وأن منه ك‪9‬ل ش‪9‬يء‪ ،‬فنطقت من أعم‪9‬اقي‪ {:‬ال‬
‫ت ِمنَ َّ‬
‫الظا ِل ِمينَ }(االنبي‪99‬اء‪َ { )87 :‬و ِإاَّل ت َْغ ِف‪99‬رْ ِلي‬ ‫ِإ َل َه ِإاَّل َأ ْنتَ ُس‪9‬ب َْحا َنكَ ِإ ِّني ُك ْن ُ‬
‫خَاس ِرينَ }(هود‪))47 :‬‬ ‫َوتَرْ َح ْم ِني َأ ُك ْن ِمنَ ْال ِ‬
‫قال لي‪ :‬أما اآلن‪ ،‬فانزل إلى أعماقك‪ ،‬وقل لي‪ :‬ماذا ترى؟‬
‫نزلت إلى أعماقي‪ ،‬فلم أجد الظلمة التي كنت وجدتها من قبل‪ ،‬ق‪99‬ال لي‬
‫المعلم‪ :‬لقد انجلت ظلمة االع‪9‬تراض‪ ،‬فاهت‪9‬د بن‪9‬ور اليقين إلى م‪9‬دائن الغ‪9‬نى‬
‫التي تعمر أعماقك‪.‬‬
‫أخذت قطعة من نور التسليم التي وج‪99‬دتها في أعم‪99‬اقي‪ ،‬وس‪99‬رت به‪99‬ا‪،‬‬
‫فإذ بي أرى مدائن الغنى‪ ،‬عليها رايات كن‪99‬وز الفق‪99‬راء‪ ،‬وعلى بابه‪99‬ا رج‪99‬ل‬
‫في جمال المرشد وبهائه‪ ،‬فقلت له‪ :‬أنت يوسف‪ ،‬أم المرشد؟‬
‫فقال لي‪ :‬أنا أنت‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أنت أنا؟‪ ..‬كيف هذا؟‬
‫قال‪ :‬اسأل المعلم‪.‬‬
‫قلت‪ :‬كيف هذا؟‬
‫قال‪ :‬هذا درس من دروس السالم‪ ..‬ستعرفه في حينه‪.‬‬
‫ثم التفت إلي‪ ،‬وق‪99‬ال‪ :‬ه‪99‬ل أعجبت‪99‬ك م‪99‬دائن الغ‪99‬نى ال‪99‬تي جعله‪99‬ا هللا في‬
‫أعماقك‪.‬‬
‫قلت‪ :‬بلى‪ ،‬فلله الحمد والمنة‪ ،‬ولك الشكر والفضل‪.‬‬
‫قال‪ :‬فاشتغل بالدعوة إليها‪ ،‬كما يشتغلون بالدعوة إلى مصنوعاتهم‪.‬‬
‫قلت‪ :‬كيف‪ ،‬وليس لي أي وسيلة إعالم‪.‬‬
‫قال‪ :‬انشر هذه الرسالة‪ ،‬ودعها لوسائل اإلعالم‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وما أسميها‪.‬‬
‫قال‪ :‬ما رأيته في أعماقك‪ ،‬وما بحثت عنه في رحلتك‪.‬‬
‫قلت‪:‬كنوز الفقراء؟‬

‫‪ )(1‬أحمد والترمذي وابن ماجة والحاكم‪.‬‬

‫‪211‬‬
‫قال‪ :‬نعم‪ ( ..‬كنوز الفقراء )‬

‫‪212‬‬
‫هذا الكتاب‬
‫تدور أحداث هذه الرواية حول رحلة تق‪99‬وم به‪99‬ا شخص‪99‬ية خيالي‪99‬ة‬
‫ممتلئ‪99‬ة بالحكم‪99‬ة والعلم والعقالني‪99‬ة والس‪99‬الم‪ ،‬وله‪99‬ا باإلض‪99‬افة إلى ذل‪99‬ك‬
‫قدرات فائقة اسمها (معلم السالم) مع تلميذه البسيط (الكاتب) الذي تألم‬
‫لح‪99‬ال فق‪99‬ير من الفق‪99‬راء‪ ،‬وث‪99‬ارت في نفس‪99‬ه اعتراض‪99‬ات ش‪99‬ديدة على‬
‫وضعه‪ ،‬فأدخله معلم الس‪99‬الم إلى أعم‪99‬اق وج‪99‬دان الفق‪99‬ير ال‪99‬ذي ت‪99‬ألم ل‪99‬ه‬
‫ليكتش‪99‬ف الكن‪99‬وز العظيم‪99‬ة ال‪99‬تي يمتلئ به‪99‬ا قلب‪99‬ه‪ ..‬وال‪99‬تي تجعل‪99‬ه يعيش‬
‫سالما داخليا عميقا وعظيما ال يحلم بمثله أثرياء المادة فقراء الروح‪.‬‬

‫‪213‬‬

You might also like