Professional Documents
Culture Documents
هذا الكتاب
تدور أحداث هذه الرواية حول رحلة تق وم
به ا شخص ية خيالي ة ممتلئ ة بالحكم ة والعلم
والعقالني ة والس الم ،وله ا باإلض افة إلى ذل ك
قدرات فائق ة اس مها (معلم الس الم) م ع تلمي ذه
البس يط (الك اتب) ال ذي ت ألم لح ال فق ير من
الفق راء ،وث ارت في نفس ه اعتراض ات ش ديدة
على وض عه ،فأدخل ه معلم الس الم إلى أعم اق
وج دان الفق ير ال ذي ت ألم ل ه ليكتش ف الكن وز
العظيم ة ال تي يمتلئ به ا قلب ه ..وال تي تجعل ه
يعيش س الما داخلي ا عميق ا وعظيم ا ال يحلم
بمثله أثرياء المادة فقراء الروح.
1
رسائل السالم
()2
كنوز الفقراء
رواية
2015 – 1436
4
المقدمة
إن المعاناة النفسية التي يعيش99ها الفق99راء والمع99وزون وأص99حاب
اآلالم المختلفة أكبر بكث9ير من اآلالم الحس99ية والمادي99ة ال9تي تص99يبهم،
ذلك أن المعاناة المادية ال تمس إال أجسادهم أو جيوبهم ..بينما المعان9اة
النفسية تص99يب بس99هامها المس99مومة القاتل99ة أرواحهم وقل99وبهم وجمي99ع
لطائفهم ،فتملؤها بالصراع واأللم..
ولذلك كانت هذه الرواية حوارا عقليا ووجدانيا مع اللطائف التي
تتحكم في وعي اإلنسان وشعوره ،لتعيد له توازنه النفسي ،وتقول ل99ه:
ال تدع غيالن الفقر واأللم والصراع 9تؤثر على روح99ك بع99د أن أث99رت
على جسدك ..وال تدعها تتحكم في حياتك الحقيقية بع99د أن تحكمت في
حياتك الوهمية..
وتق99ول ل99ه :يمكن99ك – إذا أردت -أن تظف99ر بك99ل كن99وز الرض99ا
والقناعة واالستغناء واألمل التي ال تق99ل عن جمي99ع كن99وز ال99دنيا ..ب99ل
تفوقها ..بل ال يمكن مقارنة أي كنز من الكنوز بها.
وهي – في أح99داثها البس99يطة -ت99دور ح99ول رحل99ة تق99وم به99ا
شخصية خيالية ممتلئة بالحكمة والعلم والعقالنية ،وله99ا باإلض99افة إلى
ذلك قدرات فائقة اس99مها (معلم الس99الم) م99ع تلمي99ذه البس99يط (ال99راوي)
الذي تألم لحال فقير من الفقراء ،وثارت في نفس99ه اعتراض99ات ش99ديدة
على وضعه ،فأدخله معلم السالم إلى أعماق وجدان الفقير الذي تألم له
ليكتش99ف الكن99وز العظيم99ة ال99تي يمتلئ به99ا قلب99ه ..وال99تي تجعل99ه يعيش
سالما داخليا عميقا وعظيما ال يحلم بمثله أثرياء المادة فقراء الروح.
والرواي99ة من خالل تل99ك الح99وارات المبس99طة تح99اول أن ت99بين
شمولية اإلسالم في معالجته للفقر ،فهو ال يكتفي ب99العالج الم99ادي ،ب99ل
يضم إليه جميع أنواع العالج الروحية والنفسية واالجتماعية وغيرها.
5
معلم السالم
كنت مهموما حين زارني هذا المرة ـ ككل مرة ،من غ99ير ميع99اد
وال استئذان ـ قال لي :تبدو على سحنات وجهك هموم الحزن القاتل.
قلت :ومن ال يهتم في هذا الزمان؟
قال :أال تعلم أن الهم عدو السالم؟
قلت :ومن لي ب999أن ال أهتم ..وه999ل أم999ري بي999دي؟ ..إنم999ا أن999ا
كعصفورة عصفت بها الري99اح ،فلم99ا ه99دأت س99قطت في ش99باك أطف99ال
يسومونها سوء العذاب ،فإن نجت منهم ،هم بها نسر ليطعمه99ا أص99غر
أوالده.
قال :نعم ..لك أن ال تهتم.
قلت :كيف؟
قال :بعلم السالم ..أنسيت أني معلم السالم.
قلت :وما عالقة ما أنا فيه بالسالم؟
قال :ما سبب همك؟
قلت :رأيت اليوم مشهدا فتت قل99بي واعتص99ره ،ف99ذرفت من دمعي
أنهره.
قال :وما رأيت؟
قلت :رأيت فق99يرا مكس99ور الجن99اح ..ه99و تمام99ا كالعص99فورة ال99تي
حدثتك عنها ،ولكني مع ذلك لم أح99زن له99ذا ..إنم99ا ح99زنت على ش99للي
بين يديه ،فلم أستطع أن أقدم له أو أؤخر ..وم99ع ذل99ك لم أح99زن له99ذا..
إنما حزنت للنظرات القاسية التي كانت تتوجه إليه ،وكأن99ه مم99رور أو
مجذوم ،أو كأنه شيطان من الشياطين ،ال يعبس إال في وجهه.
قال :ولذلك قلت لك :لن تنجو من همك إال بتعلم السالم.
قلت :كيف؟
قال :ألن الحزن الذي يعتلج في صدرك سهام تح99ارب به99ا رحم99ة
ربك ،ادخل في أعماق وجدانك ،وقل لي ماذا ترى؟
دخلت أعماق وجداني ،فرأيت ظلمات قاسية هبت منه99ا ،فن99اداني،
التفت ،فإذا هو أمامي ،ق99ال لي :اس99ألها :م99ا محل99ك من أعم99اقي ،ومن
أدخلك في سراديب وجداني؟
6
سألتها ،فتكلمت بال حرف وال صوت ،قالت :أن99ا االع99تراض على
حكمة الحكيم ،ورحمة الرحيم ،وجود أكرم األكرمين.
قلت :فأي محل تملئين ،وألي سر تسترين؟
قالت :أس99تر حق99ائق الج99ود ،وخ99زائن اللط99ف ،ألنش99ر أوه99ام الهم
والحزن.
قلت :وما المخرج منك؟
قالت :أنا أضعف من أن أدلك على المخرج ،هو ذا المعلم أمام99ك،
فاسأله.
التفت إلى المعلم ،فقال :اخرج من أعماق99ك ،وهي99ا بن99ا إلى أعم99اق
الفقير الذي اهتممت له ،وحزنت عليه ،واعترضت 9على حكمة الحكيم
ورحمة الرحيم بسببه ،لتستخرج من أعماقه ( كنوز الفقراء )
قلت :ال طاقة لي بالتجول في أعماق الناس.
قال :دعك من هذا ،فالقدرة منه ال منك ،واألمر بيده ال بيدك.
ثم التفت إلي ،وقال :ال تنس قلمك ،فسننطلق من أعماق ذلك الفقير
الذي حزنت له لنسطر رس99الة من رس99ائل الس99الم ،تمس99ح الح99زن عن
آالم الفقراء ،وت99دلهم على الكن99وز ال99تي ي99دفنونها بأوه99امهم وأح99زانهم
واعتراضهم.
***
لم يكن أم99امي إال الخض99وع ألم99ره ،لك99ني قلت ل99ه من غ99ير أن
أشعر :هل نستقل سيارة للوص99ول إلي99ه ،أو نبحث في دف99اتر المع99دمين
عليه؟ فإني رأيته ولكني ال أعرفه.
قال :أغمض عينيك ،وافتحهما لتراه أمامك ،أو لترى نفسك أمامه،
ب أَنَا آتِيكَ بِ ِه قَب َْل أَ ْن
ال الَّ ِذي ِع ْن َدهُ ِع ْل ٌم ِمنَ ْال ِكتَا ِ
فقد قال الحق تعالى {:قَ َ
ك }(النمل)40 : يَرْ تَ َّد إِلَ ْيكَ طَرْ فُ َ
ما إن فتحت عيني بعد إغماضها حتى رأيته ،لست أدري ،هل أتى
به إلي ،أم حملني إليه!؟
قال لي :انظر إليه جيدا.
قلت :نعم لقد نظرت إلي99ه ،فنش99ر من الح99زن م99ا ك99ان كامن99ا ،ومن
الهم ما كان مدفونا.
ق99ال :انظ99ر إلي99ه ،وال تنظ99ر إلى ثياب99ه ،فالثي99اب كفن اإلنس99ان ،ال
7
روح اإلنسان.
نظرت إلى سحنة وجه99ه ،ف99إذا به99ا ش99احبة ق99د اعتص99رتها األي99ام،
وكأنها أكلت لحمه وعظمه ،ولم تبق له إال جلدة شاحبة تستر جمجمته.
قلت :لقد نظرت ،فما زادتني رؤيتي له إال هما.
ق99ال :انظ99ر إلي99ه إنس99انا ال جمجم99ة ،ألم تعلم أن اإلنس99ان ك99ل ال
يتجزأ ،وحقيقة ال تتعدد؟
نظرت إليه مجموع99ا ،فلم أزدد إال هم99ا ،لق99د رأيت قوام99ا ش99احبا،
ورجلين كعودين يقوم عليهما هيكل لو شاء النسيم العليل أن يه99وي ب99ه
لفعل.
ضحك ،وقال :لم تزدد إال هما.
قلت :كأني بك تمزح بي ،طلبت منك أن تمسح همي ،فزدتني هم99ا
على هم.
قال :ال ب9أس علي9ك سيمس9ح هم9ك ،اص9بر ،وإال قلت ل9ك م9ا قي9ل
صبْراً}(الكهف)67 9: لموسى {:إِنَّكَ لَ ْن تَ ْست َِطي َع َم ِع َي َ
قلت ،وق99د أص99ابتني رع99دة من أن يف99ارقني كم99ا ف99ارق الخض99ر
ك أَ ْم99راً} ص9ابِراً َوال أَ ْع ِ
ص 9ي ل َ َ 9 موس99ى َ {:س9تَ ِج ُدنِي إِ ْن َش9ا َء هَّللا ُ َ
(الكهف)69 :
ق99ال :انظ99ر إلى ذل99ك ال99ذي مألت قلب99ك غم99ا من أجل99ه ،لتنجلي
أحزانك.
نظرت ،فإذا بذلك الظل الذي ال قوام له ،والشبح الذي ال ظ99ل ل99ه،
يبتسم ابتسامة دونها ابتسامة الملوك ،ويصيح ملء فيه (:الحمد هلل رب
العالمين صاحب الفضل العظيم ..أطعمنا وسقانا ،وكفانا وآوان99ا ..ومن
كل شيء أعطانا )
كانت كلماته كألح99ان عذب9ة ..تف99وح ب99روائح عط9رة ..تش9رق مث99ل
آللئ البحر المكنون..
جلس إلى صبية له تب99دو عليهم عالئم الس99رور ،ومخاي99ل النجاب99ة،
فحدثهم وداعبهم وضحك إليهم وضحكوا له.
لم يكن في بيته شيء يستدعي افترار الثغر عن االبتسامة ،إنما هو
جدار بال ،وفراش بسيط ،وفي زاوية البيت فأس ورفش ،لس99ت أدري
ما عالقتهما بالبيت ،وما عالقة البيت بهما.
8
قال لي المعلم :اذهب إلى هذا الذي اهتممت له ،واسأله م99ا يش99كو،
وما يطلب ،وسأحقق له ـ بفضل هللا ـ طلبته.
فرحت ،فلعل في قدرات المعلم م99ا يرف99ع ج99داره ،ويرف99ه فراش99ه،
ويدسم طعامه ،ولم أدر إال وأنا أخاطب الفقير بقولي :ما ال99ذي تفتق99ده؟
وما الذي تريده؟ فإن عجزت عن إعطائك في الصباح ،فقد وجدت من
يعطيك في المساء.
التفت إلي باهتا ،وقال :وما الذي ينقصني حتى تكمل99ه؟ وم99ا ال99ذي
يعوزني حتى توجده؟
قلت :الم99ال وال99ثراء ،والقص99ور والم99راكب ،واللب99اس الجمي99ل..
والطعام اللذيذ.
ضحك ،وقال :عن أي لعب تتحدث؟
قلت :أي لعب!؟ ..أنا ال أتحدث عن لعب ،بل أريد نقل99ك من الفق99ر
الذي تعيشه إلى الغنى الذي ال تحلم به.
قال :ومن أخبرك بأني فقير؟
قلت :سحنة وجهك ،وأسمال ثيابك ،وجدار بيتك ..ك9ل م99ا في9ك ينم
عنك.
ضحك ،وقال :ألم يقل لك المعلم :انظر إلى اإلنسان ،ال إلى أش99ياء
اإلنسان؟
قلت :أتعرف المعلم؟
قال :كلهم يعرفونه ،وكلهم ينكرونه؟
قلت :كيف؟
قال :يدعوهم ،فال يستجيبون ..ويمد ي99ده إليهم ،فيقبض99ون أي99ديهم..
يصيح فيهم ،فيصخون آذانهم ،ويمألون األرض لغوا لكي ال يسمعوه،
ويمألوها ضبابا لكي ال يروه.
قلت :إالم يدعوهم؟
قال :إلى مدائن الغنى التي خبئت فيها كنوز الفقراء.
قلت :وهل دخلت إليها؟
قال :لم أخرج منها ،بل أنا ثري من أثريائها.
قلت باسما بسخرية مختلطة بهيبة :أنت ثري؟
ق99ال بج99رأة :نعم ،وأرج99وا من فق99رائكم ال99ذين ي99دفنون أنفس99هم في
9
ناطحات الس9حاب ،ويكفن9ون أرواحهم في أكف9ان الحري9ر ،أن يلتحق9وا
بمدائن الغنى لينهلوا من كنوزها ما يغنيهم عن مد اليد بالسؤال.
قلت مبتسما :أتتهم أغنياء العالم بالتسول؟
قال :وهل هناك متسول محترف أكثر منهم؟
قلت :بل هم الذين يمدون أيديهم للمتسولين بالعطاء.
قال :وهم الذين يمدون أيديهم لكل شيء بالفقر.
قلت :أهم يفتقرون إلى كل شيء!؟
قال :نعم ،ألن من لم يستغن به يفتقر إلى كل شيء ،ألم تسمع ق99ول
الحكيم (:ماذا وجد من فقدك )!؟
قلت :بلى ،وهو القائل (:وماذا فقد من وجدك )
قال :ما أكثر ما تحفظون ،وما أسرع ما تنسون.
هزني عتابه ،وشعرت أني بين يديه كنملة بين يدي فيل ،فق99ال لي:
بل أنت كتلميذ بين يدي أستاذ ،أو تائه بين يدي مرشد.
قلت :مرشد؟ ..إلى أي طريق؟ ..وفي أي متاهة؟
ق99ال :أن99ا المرش99د ال99ذي يس99ير بالس99الكين في م99دائن الغ99نى ،ليمأل
خزائنهم بكنوز الفقراء.
فقلت {:هَلْ أَتَّبِعُكَ َعلَى أَ ْن تُ َعلِّ َم ِن ِم َّما ُعلِّ ْمتَ ُر ْشداً}(الكهف)66 9:
ق99ال لي :لس99ت معلم الس99الم ،ذل99ك معلم الس99الم ،ال99ذي ش99رب من
عيون السالم.
قلت :وهل يمكن أن أشرب منها؟
قال :تلك رحلة طويلة ،فال تسأل عن شيء ح99تى ي99أتي زمان99ه ،ألم
تس99مع ق99ول الخض99ر {:فَ 9إ ِ ِن اتَّبَ ْعتَنِي فَال ت َْس 9أ َ ْلنِي ع َْن َش ْ 9ي ٍء َحتَّى
أُحْ ِد َ
ث لَكَ ِم ْنهُ ِذ ْكراً}(الكهف)709:؟
فج99أة ..لم أج99د أم99امي ش99يئا ،لس99ت أدري ه99ل انص99رفا ع99ني أم
انصرفت عنهما.
***
في الغ9د ج9اءني معلم الس9الم ،وق9ال لي :خ9ذ قلم9ك وقراطيس9ك،
فسنرحل إلى مدائن الغنى لنجمع كنوز الفقراء.
سال لعابي ،وحلمت بالثروة التي حرمت منها ،وص99حت من غ99ير
أن أشعر :أهي كنوز كثيرة؟
10
فقال :لقد { أَ ْلهَا ُك ُم التَّ َكاثُرُ}(التكاثر )1:حتى نسيتم الحقائق.
قلت :لقد خلق هللا األعداد ،فنحن نشتاق إلى األعداد.
قال :أربعة كنوز.
قلت :من الذهب أم من العقيق؟
قال :هي أغلى من الذهب والعقيق.
سال لعابي من جديد ،وقلت :كلها من صنف واحد.
قال :لكل كنز منها جواهره الخاصة.
قلت :فما الكنز األول؟
قال :كنز يغنيك عن الكل ،إن تقلدته حسدتك الآللئ ،وذهب بريق99ه
الذهب ،وانفضت عن محاسنها الفضة.
قلت :فما اسمه؟
قال :كنز ( االستغناء ) ،بريقه يمتد من العرش إلى الفرش.
قلت :وما الكنز الثاني؟
قال :كنز يمأل كل جوف ،ويسد كل خلة ،ويغطي كل حاجة ،بريقه
يمتد من األحشاء إلى األعين.
قلت :فما اسمه؟
قال :كنز ( القناعة ) ألم تسمع بأن القناعة كنز ال يفنى؟
قلت :بلى ..فما الكنز الثالث؟
قال :كنز يرفع هامتك بين الناس ،فتدوس بقدميك س9واري كس9رى
وقيصر ،فال تحن رقبتك إليه99ا ،وتتس99اقط أن99واع الآللئ والج99واهر بين
يديك ،فال تمد عينك إليها.
قلت :فما اسمه؟
قال :كنز ( االستعفاف ) ..ذاك الذي يغنيك عن الطواف.
قلت :عن الطواف بالبيت؟
قال :عن الطواف ببيوتهم.
قلت :فما الكنز الرابع؟
قال :كنز يح99رك جوراح99ك ،ويث99ير فض99ائلك ،ويجع99ل من عرق99ك
آللئ دونها آللئ الجيد الحسان.
قلت :ما اسمه؟
قال :كنز ( الفضل ) من حازه استغنى وأجر ،يمت99د بريق99ه ليش99مل
11
اآلفاق ،ويخترق أجره السبع الطباق.
قلت :فما سر كون هذه الكنوز أربعة ،لم لم تكن خمسة أو ثالثة؟
قال :ألن الفقير ينحصر فقره في هذه األربع ،فهو يبدأ من ش99عوره
بفقره وحزنه عليه ،فيسلمه ذلك للحرص والطمع ،وه99و م99ا يدفع99ه إلى
السؤال والشحاذة ،أو يدفعه إلى العمل والكسب.
قلت :وهذه الجواهر تسد منافذ الخلل التي حصلت للفقير؟
قال :كما يسد الطبيب منافذ العلة للمريض ..أرأيت لو كان جرحك
بيدك ،أيعالج الطبيب رجلك؟
قلت :بل يدي.
قال :فكذلك عالج الحكيم األوحد علل الناس ،فعالج الشعور ب99الفقر
والح99زن علي99ه باالس99تغناء باهلل ،وع99الج الطم99ع والح99رص بالقناع99ة،
وعالج السؤال والشحاذة واالنحناء أمام الجي99وب باالس99تعفاف ،وع99الج
القعود عن الثورة على الفقر بالحث على طلب فضل هللا بما شرع هللا.
قلت :ولكن البعض يذكر حلوال أيسر ،وأبسط؟
قال :فما يذكرون؟
قلت :يذكرون العمل والكسب والزكاة..
قال :والذي ال يكسب وال يعمل ويحرم من الزك99اة ..م99اذا يفع99ل؟..
هل يظل أسير أحزانه ..هل نقول له :أنت محروم من فض99ل هللا ،ومن
بركات الفقر الذي ابتليت به؟
ثم ما الفرق بين هذه الحلول والحلول التي وض99عها البش99ر للبش99ر،
أنساوي طب البشر بطب رب البشر؟
قلت :وهل في هذه الكنوز جواهر كثيرة؟
قال :في كل كنز أربعة ج99واهر ..ك99ل ج99وهرة منه99ا ب99ثروة الع99الم
جميعا ،بل بثروات العالم جميعا.
ثم انصرف ع99ني أو انص99رفت عن99ه ،وفي فمي ابتس99امة تش99ع من
أعماق قلبي ،وأمل يناطح الجوزاء ،قلت لنفس99ي (:أن99ا اآلن على عتب99ة
الغنى ،فوداعا أيها الفقر)
ص99اح من أعم99اقي (:ه99ات قلم99ك ،وتع99ال لن99دخل م99دائن الغ99نى،
ونستخرج كنوز الفقراء )
***
12
لست أدري ،هل سرت معه ،أم حلقت في األجواء ،أم غص99ت في
أعماق مجهولة ..لم يطل ال99وقت ..مج99رد طرف99ة عين ،ف99إذا بي أم99ام
مدينة عظيمة ،كل ما فيه99ا عقي99ق وج99واهر ..تربته99ا كالمس99ك األذف99ر،
صحت :أفي الجنة أنا؟
قال :ال ،أنت على األرض ..وعلى جزء ضئيل من األرض.
قلت :وهذا الجمال؟
قال :كنت ال تراه ،فأزحنا الغشاوة عن عينيك؟
نظرت إلى األجواء ،فإذا منارات عالية ،عليها رايات كتبت عليها
أسماء الكنوز ،كما تكتب على المحالت.
قلت لمعلم السالم :عهدي بالكنوز تخبأ ،وتدفن ،فال يهتدى إليها إال
بضروب الحيل ،ألم تقرأ جزيرة الكنز؟
قال :تلك كنوزهم ،أما هذه فكنوزنا.
قلت :وما الفرق بين كنوزكم وكنوزهم؟
قال :كنوزهم كن99وز األغني99اء من ملكه99ا ملكت99ه األش99ياء ،وكنوزن99ا
كنوز الفقراء من ملكها استغنى برب األشياء.
قلت :ولكني ال أرى للفقراء وجودا؟
قال :ألنهم أبوا إال أن ينافسوا األغني99اء في كن99وزهم ،وق99د ص99حت
فيهم ،فلم يسمعني أحد.
تذكرت صياحه الذي سمعت بعضه في رحالتي السابقة ،فقلت له:
إن صياحك ال يكاد يسمع أحدا ،وبالكاد أس99تطيع أن أس99معك ألكتب م99ا
تقول.
قال :ألني أخاطب القلوب ،والقلوب يؤذيها الصياح.
قلت :فلم ال تسمع اآلذان؟
قال :ألن اآلذان ،تطرب للكالم ،وال تسمع الكالم ،الحق أقول ل99ك:
من لم يسمع بقلبه فهو أصم ،ألم تس99مع ق99ول الح99ق تع9الىَ َ {:مثَُ 9ل الَّ ِذينَ
ي فَهُ ْم ق بِ َما ال يَ ْس َم ُع إِاَّل ُدعَا ًء َونِدَا ًء ُ
ص ٌّ 9م بُ ْك ٌم ُع ْم ٌ َكفَرُوا َك َمثَ ِل الَّ ِذي يَ ْن ِع ُ
ال يَ ْعقِلُونَ }(البقرة )1719:؟
قلت :فمن هؤالء؟
هَّللا
ت َم ْن يَ َش 9أ ِ ُ ُ ُّ
ص ٌّ 9م َوبُ ْك ٌم فِي الظل َم99ا ِ ق99الَ { :والَّ ِذينَ َك99ذبُوا بِآيَاتِنَ99ا ُ
َّ
اط ُم ْستَقِ ٍيم}(األنعام)39: ص َر ٍ يُضْ لِ ْلهُ َو َم ْن يَ َشأْ يَجْ َع ْلهُ َعلَى ِ
13
قلت :أال يمكن أن نخ99ترع أجه99زة نس99معهم به99ا ،فنحن في عص99ر
االختراعات؟
ك أَفَأ َ ْنتَ تُ ْس ِم ُع ُّ
الص َّ 9م َولَ99وْ ضحك ،وقالَ {:و ِم ْنهُ ْم َم ْن يَ ْستَ ِمعُونَ إِلَ ْي َ
َكانُوا ال يَ ْعقِلُونَ }(يونس)429:
14
أوال ـ كنز االستغناء
في صباح جميل في م9دائن الغ9نى ،قمت بص9حبة معلم الس9الم لنبحث
عن كنوز الفقراء.
كانت المدينة جميلة ،كل ما فيه99ا ه99ادئ وق99وي ومث99ير ..أرى الن99اس،
وكأني ال أراهم ،أحيانا يخيل إلي أنها خالية ،وأحيانا أراها مكتظ99ة ال يك99اد
المار يستطيع أن يسير في شوارعها.
لم تكن هن99اك أي رائح99ة للج99وع ،وال أي رائح99ة للتخم99ة ،ولم أر م99ع
طول سيري في شوارعها متسوال واحدا ،وال فقيرا واحدا.
فتعجبت ،وسألت معلم السالم :ألسنا نبحث عن كنوز الفقراء؟
قال :بلى ،ذاك ما خرجنا من أجله.
قلت :فأين الفقراء ،فإني ال أبصر إال األغني9اء ،أهم يزاحم9ون الفق9راء
كنوزهم في هذه الدار أيضا؟
قال :بل الفقراء هم الذين يزاحمون األغنياء كنوزهم ،فل99ذلك ال ت99راهم
هنا.
قلت :لو أذنت لي ألحضرت معي عمي ،فهو فقير جدا قد عضه الفقر
بنابه.
قال :لقد صحت فيه وفي أمثاله من99ذ آالف الس99نين ،ف99أبى ال99دخول إلى
هذه المدائن ،أتدري ما يقول الناس عن هذي المدائن؟
قلت :وما يقولون ،شأني معهم تشويه كل نعمة ،وإفساد كل صالح.
قال :يضحكون منها ،ويستهزئون بها ،ويسخرون من أهلها.
قلت :فهل رأوها؟
قال :وكيف يرونها ،وأعينهم مغمضة؟
قلت :نطلب منها فتحها.
قال :ألم تسمع ق9ول الح9ق تع9الىَ {:أ َف9أَ ْنتَ َتهِْ 9دي ْالع ُْم َي َو َل9وْ َك9انُوا ال
ْصرُونَ }(يونس)43 : يُب ِ
قلت :بلى ،فهمت لقد قلت مثل ه99ذا عن الس99مع ،اص99بر علي ي99ا معلم،
فإني أحيانا يبطئ فهمي.
قال :ذلك لخوفك على ما مألك قومك به من أوهام؟
قلت :كيف ،أنا ال أخاف قومي.
15
قال :ولكنك تخاف على معارفهم التي نشروها فيك.
قلت :لماذا أخاف عليها؟
قال :ألنك ـ مثلهم ـ تتص99ور الع99الم بص99ورة واح99دة ،فتخش99ى أن تك99ر
معارف الحقيقة على صور العالم.
قلت :فما الضير في هذا؟
قال :يصبح علمك جهال ،وحقائقك دعاوى.
قلت :فما المخرج من ذلك؟
قال :السالم.
قلت :لماذ السالم؟
قال :ألنه يحيل9ك ص9فحة بيض9اء ،يمكن أن يكتب فيه9ا ك9ل ش9يء ،أو
يحيلك مرآة صافية تحمل الحقائق وال تشوهها.
نظ99رت فج99أة ف99إذا بي أم99ام ب99اب قص99ر م99نيف ،ك99ل م99ا في99ه لطي99ف
وشريف ،لست أدري هل كان مرفوعا في الفضاء بأعمدة ال ترى ،أم كان
ارير} ص9رْ حٌ ُم َم9رَّ ٌد ِم ْن َق َ
9و ِ موضوعا على زجاج صاف ك9الهواء كأن9هَ {:
(النمل ،)44 :فصحت :يا هلل ،ما أحلى هذا القصر ،لمن هذا القصر؟
قال :ألغنياء الروح ..هنا يخبأ كنز االستغناء.
قلت :فهل يمكن الدخول إليه؟
قال :أجل ،ولكن بشرطه ،فالبواب يمنع من لم يتحقق بشرطه.
قلت :وما شرطه؟
قال :أن تكون فقيرا.
قلت :أنا متوسط الحال ،لست فقيرا ،ولست غنيا.
قال :ليس هناك إال الفقراء واألغنياء.
قلت :ولكنك قلت ،بأنه قصر األغنياء ،فكيف ال يدخل فيه إال الفقراء؟
فقال :من افتقر إلى هللا أغناه ،ومن نزل على هللا آواه ،ومن م99د ي99ده هلل
أعطاه ،ومن مد يده إلى غيره قاله.
مددت يدي ،وقلت :فها أنذا أمد يدي إلى هللا.
قال :إياك ودنس التشبيه ،مد يد روحك ،ال روح يدك.
مسح معلم السالم على صدري ،فأحسست قلبي يردد قوله تعالىَ {:ي99ا
9و ْال َغ ِن ُّي ْال َح ِميُ 9د}(ف9اطر ،)15 :وقول9ه: َأ ُّي َها النَّاسُ َأ ْنتُ ُم ْالفُ َق َ
9را ُء ِإ َلى هَّللا ِ َوهَّللا ُ هُ َ
{ َوهَّللا ُ ْال َغ ِن ُّي َو َأ ْنتُ ُم ْالفُ َق َرا ُء}(محمد)38 :
16
شعرت وكأني الفقر عينه ،ال أملك ش99يئا ..ال متاع99ا وال من99افع ..ح99تى
حلة الوجود شعرت بأنها تخل9ع م9ني ،ف9إذا بي في الع9الم ال9ذي لم أكن في9ه
شيئا مذكورا.
نظر إلي ،وقال :ادخل اآلن ،فقد تحققت بشرطه.
***
دخلت القص99ر المهيب ،ك99ل م99ا في99ه في منتهى الجم99ال ،ولكن آث99ار
الحالة التي استشعرتها حال دخولي جعلت بصري ص99احب هم99ة واح99دة،
فلم يزغ ولم يطغى.
غير أن بصري تسمر في فتى مهيب الطلعة ،جميل المحيا ،خلته أول
األمر يوسف ،وقد أوتي شطر الحسن ،لكني نظرت إلى ثيابه ،فقلت:
يوس9ف أزه9د من أن يلبس مث9ل ه9ذه الحل9ل والحلي ،لعل9ه أم9ير من
أمراء هذ القصر.
تقدمت إليه ،أو تقدم إلي ،هزني الفضول ،فسألته :من أنت؟
قال :أنا المرشد.
قلت :ألهذا القصر مرشد؟ إذن هو يشبه فنادق قومي.
ثم تمتمت بيني وبين نفس9ي (:ش9يء جمي9ل ..حض9ارة عريق9ة ..ح9تى
المرشد السياحي يوجد في قصورهم) ،ثم قلت له :من99ذ م99تى وأنت تش99تغل
مرشدا سياحيا في هذ القصر؟
قال :مرشد سياحي!؟ ..ما معنى هذ الكلمة ..ما بك؟ أال تعرفني؟
قلت :هذه أول مرة أتشرف بلقائك فيها.
قال :كيف؟ ألم نلتق أمس؟
قلت ـ وكأني أريد تقليد أسلوب المعلم في الكالم ـ :بلى ..لقد التقينا في
عالم الذر ،يوم{ َأ َلس ُ
ْت ِب َر ِّب ُكم}(ألعراف)172 :
قال :ال ،بل األمس القريب.
قلت :ال ..ال أذكر ذلك.
ق99ال :ألم أخ99برك أني مرش99د في م99دائن الغ99نى للب99احثين عن كن99وز
الفقراء؟
تذكرت ذلك الفقير ال99ذي ح99زنت ل99ه ،فقلت :أنت أنت!؟ ولكن وجه99ك
وقوامك وحديثك ولباسك..
قاطعني ،وق9ال :أال زلت تنظ9ر إلى أكف9ان اإلنس9ان ،ذل9ك قن9اعي ،أال
17
يلبس قومك أقنعة تنكرية؟
قلت :أجل ،وهم يلهون بذلك ويلعبون ..ولكن أي قناع تنكري هو ل99ك:
أهذا الذي أراه امامي ،أم ذلك الذي رأيته أمس؟
قال :كل ما تراه أقنعة ..أما الحقيقة ،ففوق ذلك كله.
لم أفهم ما قال ،ولكني طلبت منه أن نبدأ في جمع جواهر ه99ذا القص99ر
المهيب.
قال لي :أربعة جواهر ،فاحمل حقائبك ،وهات قلمك ،وتعال.
قلت :لم القلم؟
قال :ألست مع المعلم؟
لست معزوال:
قال لي معلم السالم ،وهو يشير إلى ن99ور ص99رف رأيت99ه أم99امي :ه99ذه
جواهر قوله تعالىَ {:ما َو َّدعَكَ َربُّكَ َو َما َق َلى}(الضحى)3 :
ثم قال :هذه أول جوهرة يناله99ا الفق99ير عن99دما ي99دخل قص99ر االس99تغناء
باهلل ..ذلك أن أكبر حزن يعيشه الفقير هو شعوره بالعزلة ،وأنه ف99رد ش99اذ
في هذا الوجود ،ال قيمة له إال كقيمة الحجارة والتراب ،بل أحيانا يشعر أن
الحج99ارة وال99تراب أهم من99ه ،فل99ذلك يحس99د ال99تراب ال99ذي يعم99ر بس99اتين
األغنياء ،والحجارة التي تبني قصورهم.
قلت :صدقت في ذلك ..فما اسم هذه الجوهرة ..أهي الك9بريت األحم9ر
أم األصفر أم األكهب ،أم هي العقيق ،أم هي الزبرجد أم..؟
قال :هذه جوهرة ليس لها اسم من كل ه99ذه األس99ماء ،وهي أجم99ل من
كل هذه األسماء ،إن اسمها ( لست معزوال )
كتمت ضحكة في قلبي ،وقلت في نفسي :ما هذا االسم الغ99ريب ،لعل99ه
مثل األسماء التي نتفنن بها في األطعمة كقولنا (:كل واسكت )
قال لي :ليست هذه ( كل واسكت ) إنها (:لست معزوال )
قلت :ال يهمنا اسمها ،وإنما تهمنا قيمته9ا ،وق9د ق9ال ذل9ك البخي9ل ال9ذي
ذكره الجاحظ (:أعطني المال ،وسمني بأي اسم شئت )
قال :فأنت اآلن في الطريق الصحيح ،إن قيمته9ا عظيم9ة ،فهي تحم9ل
بشرى وعزاء من هللا رب كل ش9يء ومليك9ه لقل9وب الفق9راء ،فتمس9ح عن
أعينهم الهوان الذي يرميهم الناس ب9ه ..إنه9ا تبش9ر من تناوله9ا ب9أن الن9اس
وإن أبعدوه ،فإنه ليس بعي9دا عن هللا ،وإن ك9انوا ق9د رم9وه ،ف9إن لط9ف هللا
18
يحتضنه.
قلت :ولكني ال أرى الناس يبعدون الفقير ،وال أراهم يطردونه.
قال :قد ال يطردونه ،ولكنهم يحرمونه.
قلت :من فتات موائدهم.
فقال :ال من فتات موائدهم فحسب ،بل من موائد هللا.
قلت :أريد شواهد على ذلك ،فأنت تعلم أني ال أقبل إال بشاهد عدل من
العقل أو النقل.
قال :إن شواهد هذه الجوهرة هي أشعتها ،كم99ا أن ش99اهد الش99مس ه99و
ضياؤها ،فخذ هذه األشعة ،فكل شعاع منها يكشف ظلمة ،وينير طريقا.
الشعاع األول:
قلت :فما الشعاع األول؟
قال :ألم تسمع الحق تعالى ،وهو يقولَ {:وال ت ْ
َطرُ ِد الَّ ِذينَ َيْ 99د ُعونَ َربَّه ُْم
ِب ْال َغدَا ِة َو ْال َع ِش ِّي ي ُِري ُدونَ َوجْ َههُ َما َع َل ْيكَ ِم ْن ِح َسا ِب ِه ْم ِم ْن َش ْي ٍء َو َما ِم ْن ِح َسا ِبكَ
الظا ِل ِمينَ }(األنعام)52 : َع َل ْي ِه ْم ِم ْن َش ْي ٍء َفت ْ
َطرُ َدهُ ْم َف َت ُكونَ ِمنَ َّ
قلت :بلى قرأته.
قال :وفهمته؟
قلت :أجل ،في هذه اآلية ينهى هللا تعالى عن التفكير الطبقي الذي ك99ان
يعمر أفئدة المشركين ،وكأنهم أرادوا أن ينعم ببعض االمتيازات لطبقة
االغني9اء ويفض9لهم على طبق9ة الفق9راء ،إذ ك9انوا ي9رون في جلوس9هم م9ع
الفقراء منقصة لهم.
ويبدو أن هذا تك9رر منهم وك9ثر إلح9احهم على رس9ول هللا إلى أن
جاء هذا األمر اإللهي الذي ال يخاطب رسول هللا فقط ،بل يخاطب كل
األمة.
ق99ال لي :نعم م99ا قلت ،ولكن نهي هللا تع99الى رس99وله عن متابع99ة
المشركين ،وأمرهم له بالحرص على هؤالء الفقراء ،ووصيته بهم وثنائ99ه
عليهم ،ولو على حساب بعض المكتسبات الظرفية ،أال يدل على شيء؟
قلت :على ماذا غير ما ذكرت ،وما ذكر المفسرون؟
قال :ما محل الشخص الذي تحرص عليه ،وتغ99ير أن يط99رد أو يه99ان
أو يرمى ،ولو كان في ذلك حصول مضرة لك.
قلت :أنا ال أفعل هذا إال م9ع أحب الن9اس إلي ،فمن الص9عب أن أف9رط
19
في مكاسبي إال إذا قهرني الحب على ذلك.
ق99ال :فاهلل تع99الى ال99ذي يوص99ي نبي99ه به99ؤالء ،وي99أمره ب99الحرص
عليهم ،أال ينطبق عيه ما قلنا!؟
قلت :بلى ،هي إشارة جميلة.
قال :ب9ل س9لوى عظيم9ة تط9رب له9ا نف9وس الفق9راء ،وأغني9ة جميل9ة
تبشرهم بأنهم ،وإن رموا وطردوا فإنهم عند هللا بمكان..
قلت :فهل هم رسول هللا بطردهم حتى نهي عن ذلك؟
قال :لقد ق9ف ش9عري مم9ا قلت ،كي9ف يك9ون ه9ذا؟ إن رس9ول هللا
أعظم من أن يفعل ذلك ،وكل سنته وحياته ترفض هذا.
قلت :فما تفسير توجيه الخطاب لرسول هللا ؟
قال :ومن قال :إن هذ الخطاب موجه لرسول هللا .
قلت :لكونه جاء بصيغة المخاطب المفرد ،وهو يع99ني من ن99زل علي99ه
القرآن الكريم؟
قال :وهل القرآن الكريم أنزل ألجل محمد فقط ،ألم يقول99وا (:اق99رأ
القرآن الكريم ،وكأنه أنزل عليك )
قلت :فما سر الخطاب بصيغة المفرد؟
قال :في ذلك إشارة لمخاطبة نفوس األفراد ،وكأن هللا تعالى ينهى ك99ل
فرد على حدة من أن يطرد هؤالء.
قلت :ولكن أصل الخطاب موجه لرسول هللا .
قال :وهل كل خطاب موجه لرسول هللا يعني أنه قد حصل منه ما
يستوجب ذلك الخطاب؟
قلت :ذاك هو األصل.
9ع ْال َك99ا ِف ِرينَ قال :فما تقول في قوله تعالىَ {:يا َأ ُّي َه99ا النَّ ِب ُّي اتَّ ِ
ق هَّللا َ َوال تُ ِطِ 9
َو ْال ُمنَا ِف ِقينَ ِإ َّن هَّللا َ َكانَ َع ِليماً َح ِكيم9اً}(األح9زاب ..)1 :فه9ل أط9اع الن9بي
الكافرين والمنافقين؟
الشعاع الثاني:
قلت :لقد ورد مثل هذا مع س9ائر الرس9ل ـ عليهم الص9الة والس9الم ـ،
9ار ِد الَّ ِذينَ آ َمنُ99وا
طِ 9بدءا من نوح ،فقد قال تعالى على لسانهَ {:و َم99ا َأ َن99ا ِب َ
ِإنَّه ُْم ُمالقُو َر ِّب ِه ْم َو َل ِك ِّني َأ َرا ُك ْم َقوْ ماً تَجْ َهلُونَ }(ه99ود ،)29 :وفي ذل99ك دالل99ة
على سنة قديمة خاطئة تقيم المرء على أساس ثروته.
20
ص9رُ ِني ِمنَ هَّللا ِ ِإ ْن قال :لقد قال هللا تعالى بعد تلك اآليةَ {:و َيا َق99وْ ِم َم ْن َي ْن ُ
ط َر ْدتُه ُْم َأ َفال َت َذ َّكرُونَ }(هود ،)30:أتعلم وجه اإلشارة فيها؟ َ
قلت :يخبر تعالى عن مقالة نبيه نوح ،وأن99ه ق99ال (:من يص99ونني
من99ه تع99الى وي99دفع ع99ني حل99ول س99خطه إن ط99ردتهم وأبع99دتهم ع99ني )،
فاالستفهام هن9ا لإلنك9ار ،أي ال ينص9رني أح9د من ذل9ك ،وفي الكالم م9ا ال
يخفى من تهويل أمر طردهم.
قال :أتدري السلوى التي يحملها هذا الكالم لقلوب الفقراء؟
قلت :ما هي غير ما ذكرت؟
قال :تصور الدرجة التي يحتلها النبي في سلم الكمال.
قلت :هي درجة عظيمة ال يمكن تصورها.
قال :أيمكن تشبيهها بدرجة الوزراء!؟
قلت :وأين تقع الوزارة أمام النبوة؟
قال :فإذا أرسل الملك إلى وزيره يهدده بالعزل أو بالس99قوط واالنهي99ار
أو بالهزيمة بسبب عامي من الناس ،أال يكون ل99ذلك الع99امي محال عظيم99ا
في نفس الملك!؟
قلت :أجل ،ألن تفريط الملك في وزيره الذي هو ساعد من سواعده ال
يكون إال بسبب وجيه ،وأمر خطير.
قال :فكذلك هذا ،وهلل المثل األعلى ..واحذر رعونة التش99بيه وأك99داره،
فقد أرسل هللا ملك المل9وك إلى األنبي9اء ال9ذين يعمل9ون ب9أمره يح9ذرهم من
المساس بهؤالء البسطاء.
قلت :وذلك ال يكون إال للمكانة العظيمة التي أقامها هللا لهم.
قال :مقابل المكانة التي وضعها البشر لهم ،فقد قال تع99الى عن موض99ع
9زد َِري َأ ْعيُنُ ُك ْم َل ْن
الفقير في دنيا البشر على لسان نوح َ {:وال َأقُولُ ِللَّ ِذينَ َتْ 9
الظا ِل ِمينَ }(هود)31 : ي ُْؤ ِت َيهُ ُم هَّللا ُ خَ يْراً هَّللا ُ َأ ْع َل ُم ِب َما ِفي َأ ْنفُ ِس ِه ْم ِإ ِّني ِإذاً َل ِمنَ َّ
قلت :نعم ،فقد أخبر هللا تعالى أن موقف البشر من هؤالء المح99رومين
هو االزدراء ،وهو االحتقار.
قال :أتدري لم نسب هللا تعالى االزدراء إلى األعين ،مع أن الحاس99ة ال
يتصور منها أن تعييب أحد؟
قلت :ألنه99ا س99بب االزدراء ،فل99رؤيتهم لهم بتل99ك الحال99ة احتق99روهم،
فاإلنسان مكرم لمظهره ،ومنبوذ به.
21
ق99ال :أج99ل ..وذل99ك ي99دل على أن الم99زدرين من ه99ؤالء األغني99اء ال
ينظرون إلى الحقائق ،بل يكتفون بالخيوط الواهية التي تكفن بها الحقائق.
قلت :أفي ذلك دعوة لشيء ما؟
قال :نعم ..في ذلك دعوتان.
قلت :لمن؟
قال :للفقير والغني.
قلت :ما حظ الفقير من اآلية؟
قال :أن ال ينشغل بما هو فيه من الفقر الذي ازدراه الن9اس بس9ببه ،ب9ل
يبحث عن مواطن الغنى التي ال يبصرونها.
قلت :وما حظ الغني؟
قال :أال يجعل حكمه على الناس قاصرا على ما تمليه عينه ،فق99د تدل99ه
أذنه أو جوارحه األخرى أو قلبه على كماالت في الفقير ينتفع بها في الدنيا
واآلخرة.
الشعاع الثالث:
قلت :فما الشعاع الثالث؟
قال :ما كفارة الظهار؟
ص َيا ُم َش 9ه َْري ِْن ُم َت َت99ا ِب َعي ِْن قلت :لقد نص عليها قوله تعالىَ {:ف َم ْن َل ْم َي ِج ْد َف ِ
ط َع99ا ُم ِسِّ 9تينَ ِم ْسِ 9كيناً َذ ِل99كَ ِلتُ ْؤ ِمنُ99وا ِباهَّلل ِ اس9ا َف َم ْن َل ْم َي ْس9ت َِط ْع َفإِ ْ 9ل َأ ْن َي َت َم َّ
ِم ْن َق ْبِ 9
َو َرسُو ِل ِه َو ِت ْلكَ حُ ُدو ُد هَّللا ِ َو ِل ْل َكا ِف ِرينَ َع َذابٌ َأ ِلي ٌم}(المجادلة)4 :
قال :فما كفارة من حنث في اليمين المعقدة؟
ُؤَاخ ُذ ُك ُم هَّللا ُ ِب99اللَّ ْغ ِو ِفي َأ ْي َم99ا ِن ُك ْم
قلت :لقد نص على ذلك قوله تعالى {:ال ي ِ
ط َعا ُم َع َش َر ِة َم َسا ِكينَ ِم ْن َأوْ َسِ 9ط َم9ا ارتُ ُه ِإ ُْؤَاخ ُذ ُك ْم ِب َما َعقَّ ْدتُ ُم اأْل َ ْي َمانَ َف َكفَّ َ
َو َل ِك ْن ي ِ
ص َيا ُم َثال َثِ 9ة َأي ٍَّام َذ ِل9كَ ط ِع ُمونَ َأ ْه ِلي ُك ْم َأوْ ِكس َْوتُه ُْم َأوْ تَحْ ِريرُ َر َق َب ٍة َف َم ْن َل ْم َي ِج ْد َف ِ تُ ْ
ظ999وا َأ ْي َم999ا َن ُك ْم َكَ 999ذ ِلكَ يُ َبي ُِّن هَّللا ُ َل ُك ْم آ َيا ِتِ 999ه َل َعلَّ ُك ْم ارةُ َأ ْي َم999ا ِن ُك ْم ِإ َذا َح َل ْفتُ ْم َواحْ َف ُ
َكفَّ َ
َت ْش ُكرُونَ }(المائدة)89 :
قال :فما كفارة صيد المحرم؟
قلت :لقد نص على ذلك قوله تعالىَ {:يا َأ ُّي َها الَّ ِذينَ آ َمنُوا ال َت ْقتُلُوا الصَّ ْي َد
َ9ل ِمنَ النَّ َع ِم َيحْ ُك ُم ِبِ 9ه َذ َوا َو َأ ْنتُ ْم حُرُ ٌم َو َم ْن َق َت َل9هُ ِم ْن ُك ْم ُم َت َع ِّمداً َف َج9زَا ٌء ِم ْث9لُ َم9ا َقت َ
ص َياماً ِل َي ُذو َق ط َعا ُم َم َسا ِكينَ َأوْ َع ْدلُ َذ ِلكَ ِ ارةٌ َ َع ْد ٍل ِم ْن ُك ْم َه ْدياً َبا ِل َغ ْال َكعْ َب ِة َأوْ َكفَّ َ
9ام} ي9ز ُذو ا ْن ِت َق ٍ ال َأ ْم ِر ِه َع َفا هَّللا ُ َع َّما َسَ 9لفَ َو َم ْن عَ9ا َد َف َي ْن َت ِق ُم هَّللا ُ ِم ْن9هُ َوهَّللا ُ ع َِز ٌ َو َب َ
22
(المائدة)95 :
قال :فما ترى في هذه النصوص جميعا؟
قلت :أراه999ا أنواع999ا من العقوب999ات رتبه999ا هللا تع999الى على بعض
المخالفات.
قال :هي تنبيهات ،وليست عقوبات ..فاهلل تعالى ينب99ه عب99اده وي99ؤدبهم
وال يعاقبهم.
قلت :أجل ..يمكن أن تقول ذلك ..ولكن م9ا عالق9ة ه9ذا به9ذا الش9عاع..
فنحن نبحث عن تخليص المساكين من العزلة ..وال نبحث في العقوبات أو
التنبيهات.
قال :هذه التنبيهات تحمل تنظيمات تشريعية تخلص الفقراء من العزلة
التي قد يضربها عليهم األغنياء.
قلت :كيف ذلك؟
قال :لقد كان في إمكان الشارع أن يرتب غرام9ة مالي9ة على ك9ل ذنب
من الذنوب تدفع لبيت المال الذي يتولى دفعها للفقراء ..أو ك99ان في إمكان9ه
أن يجعل نفس العقوبة ،ولكن يجعلها في مسكين واحد.
قلت :يمكن أن يكون ذلك ..بل قد قيل به.
قال :فما قيل؟
قلت :يقولون بجواز إعطاء نصيب الستين لشخص واحد؟
قال :من قال ذلك فقد أخطأ ،وال ينبغي الخروج عن ظاهر النص.
قلت :أراك ـ يا معلمي ـ حريصا على هذه الجزئية البسيطة ..فم99ا س99ر
ذلك؟ ..وما عالقته بما نحن فيه؟
قال :لقد جعل هللا كفارة الظه99ار وغ99يره إطع99ام س99تين مس99كينا ليك99ون
البحث عن المساكين المستحقين جزءا من الكفارة.
قلت :وما فائ9دة ذل9ك العن9اء ال9ذي يجع9ل الش9خص يبحث عن ه9ؤالء
المساكين؟
ق99ال :في بحث99ه عنهم تع99رف من99ه عليهم ..وفي تعرف99ه عليهم وتكافل99ه
معهم تخليص لهم من العزلة التي قد تفرض عليهم.
قلت :وعيت ه99ذا ..وه99و ح99ل تش99ريعي مث99الي يق99وي م99ا ورد من
التوجيهات.
***
23
ما قلت ه9ذا ح9تى ش9عرت بج9وهرة كريم9ة ت9نزل أعم9اق ص9دري،
تنجلي من نورها بعض الظلمات.
قلت في نفسي حين نزولها :نعم ..إن الفقير في الحقيقة ال يؤلمه فق99ره،
بقدر ما يؤلمه نظرات الناس وموقفه من نفسه ..ال يؤلمه جوعه وبرده فق9د
يصيب الغني من الجوع ما يصيب الفقير ،وقد يصيب الفقير من الشبع م99ا
يصيب الغني.
فلذلك إن رُفع هذا الوهم ،وقيل للفق99ير :فق99رك ليس عالم99ة إبع99اد..
كما أن غنى ج99ارك ليس عالم99ة ود ،فكالهم99ا ابتالء رب99اني لتمحيص
ان إِ َذا َما ا ْبتَالهُ َربُّهُ فَأ َ ْك َر َم 9هُ َونَ َّع َم 9هُ
القلوب ،كما قال تعالى {:فَأ َ َّما اأْل ِ ْن َس ُ
9ر َم ِن َوأَ َّما إِ َذا َم99ا ا ْبتَالهُ فَقَ َ 9د َر َعلَ ْي ِ 9ه ِر ْزقَ 9هُ فَيَقُ99و ُل َربِّي
فَيَقُ99و ُل َربِّي أَ ْكَ 9
أَهَان َِن}(الفجر )16:أي ليس كل من وس99عت علي99ه وأعطيت99ه أك99ون ق99د
أكرمته وال كل من ضيقت عليه وقترت أكون قد أهنته ،ف99اإلكرام أن
يكرم هللا العبد بطاعته واإليمان به ومحبته ومعرفته واإلهانة أن يسلبه
ذلك.
فإن هذه المعرفة تسد منافذ الهوان التي يشعر بها ،فالهوان أخط99ر
من الجوع ،والكرامة أع99ز من الش99بع ،وق99د ق99الت الع99رب في أمثاله99ا:
( تجوع الحرة وال تأكل بثدييها ) ،وق99ال أوس بن حارث99ة البن99ه مال99ك
فيما يوصيه به (:ي9ا مال99ك ،المني99ة وال الدني99ة ،وش99ر الفق99ر الخض99وع،
وخير الغنى القنوع)
قد تكون مختارا:
صعد بي المرشد طابقا آخر في قصر االستغناء ،فإذا بي أشاهد الفت99ة
مكتوبا عليها :هنا محل جوهرة عزيزة اسمها ( قد تكون مختارا )
س9ألت المرش9د عنه9ا ،فق9ال :أن9ا المرش9د ،ولس9ت المعلم ،اس9أل معلم
السالم.
أج99ابني من غ99ير أن أس99أله :ال يكفي أن تش99عر بأن99ك لس99ت مط99رودا
لتمتلئ بالسالم والسعادة؟
قلت :فما الذي ينقص الفقير حتى يشعر بسكينة أعظم ،وسالم أتم؟
قال :أن يشعر بأن في إمكانه أن يكون مختارا ومفضال وعظيم99ا ..أن
يشعر أن بإمكانه أن يصير غنيا غنى أبديا ،ال ظرفيا؟
قلت :اضرب لي مثاال على ذلك ،فأنت تعرف عجزي عن التجريد.
24
قال :يزعم قومك أنهم حرروا العبيد؟
قلت :نعم.
قال :ويزعمون أنهم تساووا معهم في اإلنسانية.
قلت :ذلك مما ال شك فيه.
قال :أيسمحون لهم بخوض االنتخابات الرئاسية؟
قلت :نعم.
قال :ولكن ال يسمحون لهم بتوليها.
قلت :نعم ،يؤكد ذلك الكثير ..فما مضرب هذا المثل؟
قال :إن هؤالء زعم99وا أنهم ال يط99ردونهم ،ولكنهم في نفس ال99وقت لم
يقربوهم ،وفرق كبير بين أن ال أط9ردك ،وبين أن أض9ع في إمكانيات9ك أن
تقرب.
قلت :فهل في النصوص إشارة إلى هذا.
ق99ال :إن ه99ذ الج99وهرة النفيس99ة تكتس99ب أش99عتها من العق99ل والنق99ل،
وسأذكر لك هنا أربعة أشعة كل شعاع منها يطفئ ظلمة ويحيي نورا.
الشعاع األول:
قلت :فما األول منها؟
َ9راكَ ِإاَّل َب َش9راً ُ
ال ْال َمأَل الَّ ِذينَ َك َف9رُوا ِم ْن َقوْ ِمِ 9ه َم9ا ن َ
قال :قوله تعالىَ {:ف َق َ
9رى َل ُك ْم َع َل ْي َن99ا ِم ْني َو َما َنَ 9 ِم ْث َلنَا َو َما ن ََراكَ اتَّ َب َعكَ ِإاَّل الَّ ِذينَ هُ ْم َأ َرا ِذلُنَا َبا ِد َ ْ
ي الرَّأ ِ
ظ ُّن ُك ْم َكا ِذ ِبينَ }(هود)27 : َفضْ ٍل َبلْ َن ُ
قلت :فما محل اإلشارة منها.
قال :ال تحل اإلشارة إال بعد العبارة ،وال يعرف الباطن إال بع99د إدراك
الظاهر ،فما الذي تفهمه منها؟
قلت :هللا تعالى في هذه اآلية يخبر عن الشبهات التي وقفت حجابا بين
المأل المتمالئين على األنبياء ـ عليهم الصالة والسالم ـ الذين مألوا القل99وب
هيبة والمجالس أبهة ـ وبين الوصول إلى الحق ..وأول تلك الشبهات ك99ون
نوح بشرا مثلهم ..والثانية كون9ه م9ا أتبع9ه إال أراذل الق9وم ..والثال9ة
كونهم ال يرون لهم فضال ،ال في العق99ل وال في رعاي99ة المص99الح العاجل99ة
وال في قوة الجدل (.)1
قال :وبم رد نوح على هذه الشبه؟
25
قلت :بما قصه علينا القرآن الكريم من أنه أخ9برهم أن9ه رس9ول من هّللا
ي99دعو إلى عب99ادة هّللا وح99ده ،وال يس99ألهم على ذل99ك أج99راً ،ثم ه99و ي99دعو
الشريف والوضيع ،فمن استجاب له فق99د نج99ا ..وأخ99برهم أن99ه ال ق99درة ل99ه
على التصرف في خزائن هّللا ،وال يعلم من الغيب إال م99ا أطلع99ه هّللا علي99ه،
وليس ه9و بمل9ك من المالئك9ة ،ب9ل ه9و بش9رٌ مرس9ل مؤي9د ب9المعجزات..
وأخبرهم ب9أن م9ا في نف9وس من تص9وروهم أراذل من قوم9ه ف9احتقروهم
وازدروهم ال يعلم حالهم عند هللا فإن كانوا مؤمنين ،فلهم جزاء الحسنى.
قال :وم9ا موض9ع اإلش9ارة من حكاي9ة ق9ول ن9وح بتفاص9يله م9ع
قومه؟
قلت :علي العبارة ،وعليك اإلشارة ،فبين لي كيف تك99ون ه99ذه اآلي99ات
سلوى وعزاء للفقراء والمستضعفين؟
ق99ال :إن أول من يستنش99ق ال99روائح العط99رة له99ذه اآلي99ات هم الفق99راء
والمستضعفون واألراذل.
قلت :كي999ف؟ والرس999ل إنم999ا ج999اءوا للتوحي999د ،ال لتس999لية الفق999راء
والمحرومين.
قال :أجل ،وهذا ما يعطي اإلشارة حقه9ا ،فانش9غال الن9بي بال9دفاع عن
المستضعفين ،وبيان قيمتهم وحرمتهم ومكانتهم عند هللا ،أال يدل ذل99ك على
الموضع الذي يحتله هؤالء!؟
قلت :وضح ما تريد.
قال :أال تستشهدون باقتران العم99ل الص99الح م99ع اإليم99ان في أك99ثر آي
القرآن الكريم على فضل العمل الصالح القترانه باإليمان الذي هو أش99رف
األعمال؟
قلت :بلى.
ق999ال :أال تستش999هدون بعظم ح999ق الوال999دين القترانهم999ا بتوحي999د هللا
وعبوديته؟
قلت :بلى ،كثيرا ما نفعل ذلك.
قال :فكذلك هنا ..أسألك سؤاال آخر؟
قلت :سل.
قال :كم لبث نوح في قومه؟
قلت :هو ما نص عليه القرآن الكريم ،قال تع9الىَ {:و َل َقْ 9د َأرْ َسْ 9لنَا نُوح9اً
26
خَم ِسينَ عَاماً }(العنكبوت)14 : ث ِفي ِه ْم َأ ْلفَ َس َن ٍة ِإاَّل ِْإ َلى َقوْ ِم ِه َف َل ِب َ
قال :فكم المدة التي كان يتكلم فيها مع قومه؟
قلت :وهذا أيضا وارد في القرآن الك9ريم ،فق9د ق9ال تع9الى حاكي9ا عن9ه:
ال َو َن َهاراً}(ن9وح ،)5 :وكأن9ه الجته9اده ت َقوْ ِمي َل ْي ًال َربِّ ِإ ِّني َدعَوْ ُ { َق َ
في الدعوة إلى هللا ال يسكت ليال أو نهارا.
قال :فكم ترى يكون قد تكلم من الكلمات؟
قلت :لو كتب كالمه كتبا لمأل بها سهول األرض وجبالها.
قال :فاختيار هللا تعالى لهذه الكلمات المدافع99ة عن المنب99وذين لي99ذكرها
في الق99رآن الك99ريم ،أال ي99دلك على المكان99ة ال99تي لهم؟ ..ال عن99د ن99وح
فحسب ،بل عن9د هللا ،ألن الق9رآن الك9ريم لم ي9نزل لي9ؤرخ لق9وم ن9وح
وإنما أنزل ليذكر الحقائق العظمى التي ينبني عليها الوجود.
قلت :ولكن ما سبب إقبال الفقراء على الحق وإعراض المأل أغنياءهم
وكبراءهم عنه؟ ولماذا يكون ه9ؤالء األراذل المستض9عفون أس9رع الن9اس
َ9راكَ اتَّ َب َع9كَ ِإاَّل الَّ ِذينَ هُ ْم إلى الحق ،فقد قال تعالى في اآليات الس9ابقةَ {:و َم9ا ن َ
الرَّأي}(هود)27 :؟ ي ْ َأ َرا ِذلُنَا َبا ِد َ
قال :أرأيت جواز دخولك إلى هذه القصور؟
قلت :نعم ،إنه جواز االفتقار ..ولكن ما عالقته بهذا ألمر؟
ق999ال :ألن الفض999ل ص999دقة هللا ،والص999دقات ال تك999ون إال للفق999راء
ين } 9ر ِاء َو ْال َم َس9ا ِك ِ ات ِل ْلفُ َق َ والمساكين ،ألم تس9مع قول9ه تع9الىِ {:إنَّ َم9ا َّ
الصَ 9د َق ُ
(التوبة)60 :
قلت :ولكن ما وجه اإلشارة في هذه اآلي9ة ،ف9إني ال أفهم منه9ا إال أنه99ا
تعدد أصناف المستحقين للزكاة؟
قال :هي كذلك ،ولكن الذي قالها يتصدق أيضا.
قلت :ذل99ك ص99حيح ..وق99د ورد في النص99وص م99ا يثبت ذل99ك ،ففي
الحديث ( :من نام عن حزبه وقد كان يريد أن يقوم ب9ه ،ف9إن نوم9ه ص9دقة
تصدق هللا بها عليه ،وله أجر حزبه)( ..)1ولكن ما عالقة هذا بما نحن فيه؟
قال :عالقته عظيمة ،فاألغيناء الذين سماهم القرآن الك99ريم مأل امتألوا
بغناهم وما لديهم من أش9ياء ،فل9ذلك ال يس9تطيعون تقب9ل ص9دقات هللا ال9تي
تمتلئ بها خزائنه ،والتي تفيض على كل الوجود ،بينما الفق99راء ،يش99عرون
27
بف99اقتهم الذاتي99ة ،وف99راغهم العظيم ،فل99ذلك ك99انوا مس99تعدين لص99دقات هللا،
ولذلك بمجرد أن يشع نور من أنوار هللا يكونون أسرع الناس إليه.
ثم التفت إلي ،وق99ال :أتعلم س99ر اش99تراط ج99واز االفتق99ار لل99دخول إلى
قصور مدائن الغنى؟
قلت :ال..
قال :ألنك لو دخلت ممتلئا ،فلن ترى ما ترى فيها من الجمال والكمال
والسعادة والسالم.
عجبت ،وقلت :أتعني أنه لو دخل اآلن معن9ا ث9ري لن ي9رى ش9يئا مم9ا
أرى؟
قال :قد يرى ما ترى أو أكثر مما ترى.
قلت :كيف؟ لم أفهم.
قال :ليست العبرة بكونه ثريا ،ب9ل الع9برة بش9عوره بثرائ9ه ،فق9د ت9رى
الفقير مستعليا ،وترى الغني متطامنا ،ولهذا قد يتحقق الغني باالفتقار الذي
يؤهله لدخول هذه القصور ،وقد يحرم الفقير الذي مأل عيني قلبه بما عجز
عن تحقيقه لجيوبه.
قلت :فعينه بصيرة ،ويده قصيرة.
قال :ويدل لذلك قوله (:ثالثة ال يكلمهم هللا يوم القيامة وال يزكيهم
والينظر إليهم ولهم عذاب أليم :شيخ زان ،وملك كذاب ،وعائل مس99تكبر )
()1
قلت :فاالفتق99ار إذن ه99و الس99بب في مب99ادرة ه99ؤالء المستض99عفين إلى
الحق ..فاالفتقار إذن نعمة أهلتهم الختيار هللا لهم.
الشعاع الثاني:
نبهني معلم السالم من شرودي ،وأخذ يرت9ل بص9وته الجمي9ل الخاش9ع
عْض ِل َيقُولُوا َأه َُؤ ِ
الء َم َّن هَّللا ُ َع َل ْي ِه ْم ِم ْن َب ْي ِننَا قوله تعالىَ {:و َك َذ ِلكَ َف َتنَّا َب َ
عْضه ُْم ِب َب ٍ
ْس هَّللا ُ ِبأَ ْع َل َم ِبال َّشا ِك ِرينَ }(األنعام)53 :
َأ َلي َ
قلت :هذا هو الشعاع الثاني ..فما وجه اإلشارة فيه؟
قال :ال تحل اإلشارة قبل العبارة ،وال يحل التأويل قبل التفسير.
قلت :أما التفسير ،فعلي ،فاهلل تعالى في هذه اآلية يخبر عن القص99د من
بالئه واختباره لعباده ،فه9و يبتليهم ب9الفقر والغ9نى ،ومن النت9ائج ال9تي تنتج
) )(1رواه النسائي.
28
الء َم َّن هَّللا ُ َع َل ْي ِه ْم ِم ْن عن ذلك البالء أن يقول المستكبرون المتعالونَ {:أه ُ
َ99ؤ ِ
َب ْي ِننَا } ،فرد هللا تعالى عليهم بكونه أعلم بالشاكرين.
قال :أما وجه اإلش9ارة ،والع9زاء للمستض9عفين ،فه9و م9ا يحمل9ه قول9ه
ْس هَّللا ُ ِبأَ ْع َل َم ِبال َّشا ِك ِرينَ } ،فإن هللا تع9الى يعل9ل منن9ه على عب9اده تعالىَ {:أ َلي َ
الذين قربهم بكونهم من الشاكرين.
قلت :لم يكون فضل هللا وجميل اختياره مرتبطا بالشاكرين؟
قال :أرأيت لو أنعمت على بعض إخوان99ك بنعم ،وق99دمت لهم خ99دمات
أرهقتك ،فنظر بعضهم إليك شزرا ،وانصرف ..وق99ال بعض99هم( :م99ا ه99ذه
الخدمات الحقيرة ،والعطايا الصغيرة ) ..وجاء بعضهم فقبل يديك ،ومس99ح
على رجليك ،وقال (:نحن في خدمتك ،فجزيت عنا كل خير ) ..أي هؤالء
تفضله بعد ذلك بالعطاء إذا سنحت لك السوانح ،ودر عليك اللطف؟
قلت :الشاكرين ..ال شك في ذلك ،فكيف يمت9د عط9ائي للجاح9دين ،ب9ل
إني لو استطعت أن أسلبهم م99ا أعطيتهم ،وأخ99رج طع99امي من بط99ونهم أو
أحوله سما لفعلت.
ق9ال :وك9ذلك الح9ق تع9الى م9ع كرم9ه العظيم ،فإن9ه ق9د يس9لب ه9ؤالء
ض9وا نعمهم ،كما قال تعالى عن قرى سبأ لما أعرض9وا عن ش9كر هللاَ {:فأَ ْع َر ُ
9ط َو َأ ْثٍ 9
9ل خَمٍ 99ل ْ 9ر ِم َو َب َّ 9د ْلنَاهُ ْم ِب َجنَّ َت ْي ِه ْم َجنَّ َتي ِْن َذ َوات َْي أُ ُكٍ 9
َفأَرْ َس ْ 9لنَا َع َل ْي ِه ْم َس 9ي َْل ْال َعِ 9
يل}(سـبأ)16 : َو َش ْي ٍء ِم ْن ِس ْد ٍر َق ِل ٍ
قلت :فما عالقة ذلك بالمستضعفين ،أليس الشكر مطلوبا من األغنياء،
والصبر مطلوبا من الفقراء؟
قال :بل الشكر والصبر مطلوب منهما جميعا.
قلت :لم أفهم.
قال :ألن الشكر والص9بر عبادت9ان ال تختلف9ان عن الص9وم والص9الة،
فهل قال أحد :إن الصالة خاصة باألغنياء ،والصوم خاص بالفقراء.
قلت :ال لم يقل أحد بذلك ..ولكن على ماذا يصبر األغنياء والنعم لديهم
متوافرة؟
قال :على عدم استفزاز النعم لهم استفزازا يجعلهم يعبدون أنفس99هم وال
يعبدون هللا.
قلت :وماذا يشكر الفقراء؟
قال :أقل شيء يشكرونه أن هللا لم يجعل لهم من الغنى ما يح99ول بينهم
29
وبين تبصر الحق.
قلت :وهل يحول الغنى بين اإلنسان وتبصر الحق؟
ْس هَّللا ُ ِب9أَ ْع َل َم
قال :أجل ،ولذلك عقب هللا تعالى اآلية السابقة بقول9ه َ {:أ َلي َ
ِبال َّشا ِك ِرينَ } ،فالغني قد ينشغل بالنعم وما تتطلبه عن شكرها.
قلت :أال ت99أتيني بش99واهد على ه99ذا ،فإنه99ا مس99ألة خط99يرة ال تقب99ل إال
بشاهد؟
قال :ألم تسمع إلى ربك ،وهو يخبرك عن مواجهة المترفين ألنبيائهم؟
قلت :بلى ،فاهلل تعالى ذكر ذل9ك في مواض9ع ع9دة من الق9رآن الك9ريم،
9ال ُم ْت َرفُوهَ9ا ِإنَّا ِب َم9اير ِإاَّل َق َ كقوله مبينا سنة ذلكَ {:و َما َأرْ َس ْلنَا ِفي َقرْ َي ٍة ِم ْن َن ِذ ٍ
أُرْ ِس ْلتُ ْم ِب ِه َكا ِفرُونَ }(سـبأ)34 :
قال :ألم تسمع إلى ربك ،وهو يربط بين مصير القرى والمترفين ،ب99ل
يبين أن المترفين هم سبب هالك األمم والحضارات؟
قلت :بلى ،فاهلل تعالى يقول مبينا هذا القانونَ {:و ِإ َذا َأ َر ْدنَا َأ ْن نُ ْه ِلكَ َقرْ َي ًة
ق َع َل ْي َها ْال َقوْ لُ َف َد َّمرْ نَاهَا َت ْد ِميراً}(االسراء)16 : َأ َمرْ نَا ُم ْت َر ِفي َها َف َف َسقُوا ِفي َها َف َح َّ
قال :أال تعلم السبب الذي جعل الترف حائال بين المترفين والحق؟
قلت :ما هو؟
قال :الترف ..فالمترف مستغرق في ترفه مستعبد له ،وقد قال تعالى{:
ُ
9رُون ِم ْن َق ْب ِل ُك ْم أولُ9و َب ِقيَّ ٍة َي ْن َه9وْ نَ ع َِن ْال َف َس9ا ِد ِفي اأْل َرْ ِ
ض ِإاَّل َف َلوْ ال َك9انَ ِمنَ ْالقُ ِ
ظ َل ُم9وا َم9ا أُ ْت ِرفُ9وا ِفيِ 9ه َو َك9انُوا ُمجِْ 9ر ِمينَ } ال ِم َّم ْن َأ ْن َج ْينَا ِم ْنه ُْم َواتَّ َبَ 9ع الَّ ِذينَ َ
َق ِلي ً
(هود ،)116 :فالمترفين استهواهم ترفهم ،فاستعبدهم من دون هللا.
قلت :لقد ذكرتني بقول9ه (:تعس عب9د ال9دينار وعب9د ال9درهم وعب9د
الخميص99ة إن أعطي رض99ي ،وإن لم يع99ط تعس وانتكس ،وإذا ش99يك فال
انتقش ) ()1
ق99ال :أكم99ل الح99ديث لت99درك ن99واحي الفض99ل ال99تي يحتويه99ا الفق99ر
والضعف.
قلت مكمال الحديث السابق (:طوبي لعبد أخ99ذ بعن99ان فرس99ه في س99بيل
هللا أشعث رأسه مغبرة قدماه إن ك9ان في الحراس9ة ك9ان في الحراس9ة وإن
في الساقة كان في الساقة إن استأذن لم يؤذن له وإن شفع لم يشفع )
قال :أتدري ما سر هذا االقتران؟
) )(1البخاري.
30
قلت :ما هو؟
قال :أما األول ،فإنه النشغاله بترفه ،وما يتطلبه ترفه عمي عن الكون
جميعا ،وعمي عن رسالته في هذا الوجود ،وأما الثاني الذي ال يملك شيئا،
فقد كان فقره سببا في رؤيته األشياء على حقيقتها.
قلت :فهمت ،ولكن أريد مثاال موضحا.
قال :ارأيت إن وضع مترف من المترفين في قصر عظيم ،له في ك99ل
لحظة زينة جديدة ،وطعام جديد ،فهو دائما في ظل الجديد ،أكان يمكن99ه أن
يجد الوقت لرؤية السماء ،أو شعاب الوادي ،أو فيافي الصحراء ،أو تأم99ل
النجوم في الليل.
قلت :ال يمكن99ه ذل99ك ،فلن يخ99رج من قص99ره الع99امر ليص99يبه غب99ار
الفيافي.
قال :فكذلك هؤالء المترفين ال9ذين عص9بوا عي9ونهم بخي9وط الحري9ر،
وكبلوا أقدامهم بقيود الذهب ،ووضعوا على رقابهم أغالل الآللئ.
قلت :والمستضعفين؟
قال :لقد أخبر أنه أشعث رأسه ،مغبرة قدماه ،إن كان في الحراسة
كان في الحراسة ،وإن كان في الساقة كان في الساقة ،فهو ال يبالي بشيء،
وال يخاف شيئا.
قلت :ولهذا السبب إذن كانت رؤية الفقير للحقائق أيسر.
قال :أجل ..ولهذا يقول تعالى لهؤالء الم9ترفين في اآلخ9رة مس9تهزئا {:ال
تَرْ ُكضُوا َوارْ ِجعُوا ِإ َلى َما أُ ْت ِر ْفتُ ْم ِفي ِه َو َم َسا ِك ِن ُك ْم َل َعلَّ ُك ْم تُسْأَلُونَ }(االنبياء،)13 :
ويقول معلال سر ما حصل لهمِ {:إنَّه ُْم َكانُوا َقب َْل َذ ِلكَ ُم ْت َر ِفينَ }(الواقعة)45 :
قلت :فالفقر إذن بما يرفعه من الحواجز نعمة تيس99ر الوص99ول للح99ق،
وتوفر سبل السلوك إليه.
الشعاع الثالث:
غرقت متفكرا في األثر الذي سيحدثه في نفس99ي الش99عاع الث99الث له99ذه
9ال ْال َمأَل ُ الَّ ِذينَ
الجوهرة النفيسة ،فإذ بصوت المعلم ،وهو يرتل بخشوعَ {:قَ 9
صا ِلحاً ُمرْ َسلٌ ا ْس َت ْك َبرُوا ِم ْن َقوْ ِم ِه ِللَّ ِذينَ ا ْستُضْ ِعفُوا ِل َم ْن آ َمنَ ِم ْنه ُْم َأتَعْ َل ُمونَ َأ َّن َ
اسَ 9ت ْك َبرُوا ِإنَّا ِبالَّ ِذي آ َم ْنتُ ْم ِبِ 9ه
9ال الَّ ِذينَ ِْم ْن َر ِّب ِه َقالُوا ِإنَّا ِب َما أُرْ ِس َل ِب ِه ُم ْؤ ِمنُونَ َق َ
َكا ِفرُونَ }(ألعراف 75 :ـ )76
قلت :هاتان اآليتان الكريمت9ان تتح9دثان عن مواق9ف ق9وم ص9الح
31
من رسالته ،أما المستضعفون ،فآمنوا به ،وأما المأل من المتك99برين فظل99وا
على كفرهم.
قال :أتدري ما سر إيمان المؤمنين؟
قلت :لقد عرفنا بأن سر ذلك هو االفتقار.
قال :ذلك ما أرشد إليه الشعاع السابق ،أما هذا ،فيدلنا على سر آخر.
قلت :ما هو؟
ق999ال :إن مقابل999ة المستض999عفين ب999المأل المتك999برين ي999دل على أن
المستضعفين قد تحققوا باالنكسار والتواضع الذي أهلهم ليظفروا باالختيار
اإللهي.
قلت :ألالنكسار هلل والتواضع كل هذه القيمة؟
ق999ال :أج999ل كم999ا أن المتك999بر أعظم اليائس999ين من رحم999ة هللا ،ف999إن
المتواضعين من أعظم الراجين لها.
قلت :ومن نطق بهذا الحكم الخطير؟
اسَ 9ت ْك َبرُوا َّ َّ
قال :ألم تسمع إلى قول الحق تعالىِ {:إ َّن ال ِذينَ َكذبُوا ِبآيا ِت َن99ا َو ْ
اء َوال َيْ 9د ُخلُونَ ْال َجنَّ َة َحتَّى َي ِل َج ْال َج َم99لُ ِفي َسِّ 9م 9وابُ َّ
السَ 9م ِ َع ْن َه99ا ال تُ َفتَّحُ َله ُْم َأ ْبَ 9
اط َو َك َذ ِلكَ نَجْ ِزي ْال ُمجْ ِر ِمينَ }(ألعراف)40 : ْال ِخ َي ِ
قلت :لقد شبه الحق استحالة دخول المتك9برين الجن9ة باس9تحالة دخ9ول
الجمل سم الخي9اط ( ،فجس9م الجم9ل أعظم األجس9ام ،وثقب اإلب9رة أض9يق
المنافذ ،فكان ولوج الجمل في تلك الثقبة الضيقة محاال )
قال :فلما وقف الحق تعالى دخولهم الجنة على حص99ول ه99ذا الش99رط،
وك99ان ه99ذا ش99رطا مح99اال ،وثبت في العق99ول أن الموق99وف على المح99ال
محال ،وجب أن يكون دخولهم الجنة مأيوسا منه قطعا(.)1
قلت :هذا هو حكم المتكبرين وشاهدهم ،فمن قال :إن االنكسار مق99رب
إلى هللا ،وما أرى االنكسار إال نوعا من الذلة والهوان والضعف.
قال :ذلك عندما يكون مع السوى ،أما معه ،فإنه القوة والكمال والعزة،
ألم تسمع قوله تعالى وهو يذكر هؤالء الذين انكسرت قلوبهم عندما لم يجدوا ما
ينفقون.
قلت :تقصد قوله تعالىَ {:وال َع َلى الَّ ِذينَ ِإ َذا َما َأ َتوْ كَ ِلتَحْ ِم َله ُْم قُ ْلتَ ال َأ ِجُ 99د
َما َأحْ ِملُ ُك ْم َع َل ْي ِه ت ََولَّوْ ا َو َأ ْعيُنُه ُْم َت ِفيضُ ِمنَ ال َّد ْم ِع َحزَن9اً َأاّل َي ِجُ 9دوا َم99ا يُ ْن ِفقُ99ونَ }
) )(1الفخر الرازي.
32
(التوبة)92 :
قال :نعم ،فهل هناك أعز من هذا الموقف ،لقد ذهبت أق9وام كث9يرة م9ع
رسول هللا وتحملوا الحر والعناء ،ولكنهم لم يفوزوا بمثل هذا الثناء.
قلت :ألهذا إذن يذكر األولياء كثيرا قيمة االنكس99ار وأث99ره ،ويحض99ون
مريديهم عليه!؟
قال :أجل ،فافتح أذني قلبك لتسمع ما يقولون.
التفت ،فإذا بي أرى جمعا من األنوار ،عليهم سيما األولياء.
قال األول :انكسار العاصي خير من صولة المطيع.
ال وافتقاراً ،خير من طاعة أورثت عزاً وقال الثاني :معصية أورثت ذ ً
واستكباراً.
قلت :عرفتك أنت ابن عطاء هللا ..أنا أحفظ حكمك حرفا حرف99ا ..ولكن
أليس في قولك هذا دعوة للمعصية!؟
ابتس99م ،وق99ال :الطاع99ة المض99مخة بس99م الكبري99اء قاتل99ة ،والمعص99ية
المشبعة بترياق الشفاء دواء ..واسأل المعلم ،فمنه تعلمنا.
قال المعلم :لو قدم لك أحدهم عسال مصفى ،أكان محسنا لك؟
قلت :وأي إحسان أعظم من هذا؟ ..إن العسل في بالدنا ال يك99اد يظف99ر
به إال ببذل األموال الطائلة.
قال :ولكنه لو خلط معه سما.
قلت :يكون حينها قاتال سواء مت من عسله ،أو لم أمت.
قال :هل يعتبر بذلك مجرما أم محسنا؟
قلت :وأي إجرام أعظم من جرمه ،بل إن في غش99ه لي بتق99ديم العس99ل
كمن يري99د أن أث99ني علي99ه وه99و يس99فك دمي ،أو كمن يرش99وني ليقبض
روحي.
قال :وال99ذي يق99دم ل99ك طعام9ا م99را ،ولكن تري9اق الش99فاء في9ه ،أيك99ون
محسنا أم مسيئا؟
قلت :بل يكون محسنا غاية اإلحس9ان ..ألم تس9مع قول9ه (:م9اذا في
األمرين من الشفاء :الثفاء والصبر )( ،)1فقد وصفهما ب99المرارة ،وه99و
يشير إلى ما تختزنه مرارتهما من العالج(.)2
33
قال :فإن العاصي الذي ينكس99ر هلل خ99ير من المطي99ع ال99ذي يت99ألى على
هللا.
قلت :ولكن ..أليس في هذا حضا على المعصية؟
قال :إنما يكون حضا لو كانت المعص9ية مج9ردة ،أم9ا اجتماعه9ا م9ع
ار َو ُز َلفاً ِمنَ اللَّ ْيِ 9
9ل االنكسار فيدخل في قوله تعالىَ {:و َأ ِق ِم الصَّال َة َ
ط َر َف ِي النَّ َه ِ
ت َذ ِلكَ ِذ ْك َرى ِلل َّذا ِك ِرينَ }(هود ،)114 :وي99دخل في ت ي ُْذ ِه ْبنَ ال َّس ِّيئَا ِ
ِإ َّن ْال َح َسنَا ِ
قوله (:يا معاذ أتبع السيئة الحسنة تمحها ،وخالق الناس بخلق حس99ن )
()1
قلت :ما سر هذه القيمة التي أولتها النصوص المقدسة لالنكسار؟
قال :االنكسار هو باب من أبواب العبودية ال يختلف عن االفتقار.
قلت :فما الفرق بينهما؟
قال :في االفتقار ال تملك شيئا ،فأنت عين الحاجة.
قلت :وفي االنكسار.
قال :أنت عين المذلة ..فاإلنسان قد ال يملك شيئا ،ولكن تكون ل99ه ع99زة
الملوك وكبرياء المأل ،وقد ق99ال (:ثالث99ة ال يكلمهم هللا ي99وم القيام99ة وال
يزكيهم والينظر إليهم ولهم ع9ذاب أليم :ش9يخ زان ،ومل9ك ك9ذاب ،وعائ9ل
مستكبر )()2
قلت :فطري99ق إخض99اع الع99زة اآلثم99ة ه99و االنكس99ار ،كم99ا أن طري99ق
إخضاع االستغناء الكاذب هو االفتقار.
قال :وفي كل ذلك مقابلة لصفات الربوبية بصفات العبودية.
قلت :لم أفهم.
قال :األستاذ من يعلم؟
قلت :الجاهل.
قال :والطبيب من يداوي؟
قلت :المريض.
قال :فمن جاء لطبيب ليذكر صحته وعافيته وجماله وقوته ،هل يض99ع
الطبيب عليه ترياقه ليداويه!؟
) )(1أحمد ،ورواه الترمذي برقم ( )1988وأوله :اتق هللا حيث ما كنت .عن أبي ذر وق99ال:
هذا حديث حسن صحيح ،وأخرجه أحمد والدارمي والحاكم في اإليم99ان وق9ال على ش99رطهما.
راجع تحفة األحوذي ()6/122
) )(2النسائي.
34
قلت :كال ..بل يطرده من عيادته.
قال :لماذا؟
قلت :لصالفته وعزته اآلثمة.
قال :فكذلك طرد المتكبرون.
قلت :ولذلك عولج ،ورحم المنكسرون.
غبت عما حولي متأمال النتيجة ال99تي وص99لنا إليه99ا من حوارن99ا ،وهي
نتيجة تسحق كل السعادة ،فقد وقى هللا الفقراء ما يحدثه الغنى وال99ترف في
أص99حابه من ك99براء ،ت99ذكرت حينه99ا قول99ه ،وه99و يتض99رع إلى هللا ال
ليعطي99ه الغ99نى ،وإنم99ا ليرزق99ه المس99كنة ،ق99ال (:اللهم أحي99ني مس99كينا
وأمتني مسكينا واحشرني في زمرة المساكين يوم القيامة )()1
وتذكرت حينها قوله وهو يخبر عن بني إسرائيل (:وك99انت ام9رأة
ترضع ابنا لها في بني إسرائيل فمر بها رجل راكب ذو شارة فقالت :اللهم
اجعل ابني مثله! فترك ثديها وأقب9ل على ال9راكب وق9ال :اللهم! ال تجعل9ني
مثله ،ثم أقبل على ثديها يمص99ه ،ثم م99ر بأم99ة فق9الت أم99ه :اللهم! ال تجع99ل
ابني مثل هذه ،فترك ثديها وقال :اللهم اجعلني مثلها! فقالت :لم ذاك؟ فقال:
الراكب جبار من الجبابرة ،وهذه األمة يقولون :سرقت زنت ،ولم تفع99ل )
()2
الشعاع الرابع:
فجأة صحوت من غيبتي ،ألسمع المعلم ،وهو يرت99ل بص99وته الخاش99ع
ار َق اأْل َرْ ِ
ض قول99ه تع99الىَ {:و َأوْ َر ْثنَ99ا ْال َق99وْ َم الَّ ِذينَ َك99انُوا يُ ْست ْ
َضَ 99عفُونَ َم َشِ 99
َار َب َها } (ألعراف)137 : َو َمغ ِ
قلت :أهذا هو الشعاع الرابع؟
قال :أجل ..فما تفهم منه؟
قلت :في ه99ذه اآلي99ة يخ99بر هللا تع99الى عن فض99له على المستض99عفين
بتمكينهم من األرض.
قال :وهي أعظم سلوى للفقراء ..فهي تنقلهم إلى الواق99ع لتخ99برهم ب9أن
حقائق إمكاني9ة اختي9ارهم ليس9ت فلس9فة مثالي9ة أو أحالم9ا جميل9ة ،ب9ل هي
حقيقة يمكن تحقيقها في كل حين.
قلت :بم؟
) )(1رواه الترمذي كتاب الزهد.
) )(2البخاري ومسلم.
35
قال :بالتحقق بحقائق االفتقار.
قلت :ولكن االفتقار قد يملؤهم بالهزيمة ..ويمأل نفوسهم بالعقد.
قال :افتقار العارفين ،ال افتقار المحجوبين.
قلت :فما الفرق بينهما؟
قال :افتقار العارفين قوة ،وافتقار المحجوبين ضعف.
قلت :لم؟
ق999ال :افتق999ار الع999ارفين هلل ..فل999ذلك يعط999ون من الق999وة م999ا ال يمكن
مواجهته ..وافتقار المحجوبين لألكوان ..فلذلك لن يجدوا من األكوان غ99ير
الخ9ذالن ..أال تعلم م9ا ق9ال الش9يطان للكف9ار ال9ذين افتق9روا إلي9ه واس9تندوا
لقوته؟
9ال ال ان َأ ْع َم99ا َله ُْم َو َقَ 9
ط ُالش ْ 9ي َقلت :بلى ..فق99د ق99ال تع99الىَ {:و ِإ ْذ زَ يَّنَ َلهُ ُم َّ
ص َع َلى َع ِق َب ْي ِه َان َن َك َ ت ْال ِف َئت ِ ب َل ُك ُم ْال َيوْ َم ِمنَ النَّ ِ
اس َو ِإ ِّني َجارٌ َل ُك ْم َف َل َّما ت ََرا َء ِ غَا ِل َ
ب} خَاف هَّللا َ َوهَّللا ُ َش ِدي ُد ْال ِع َق99ا ِ
ال ِإ ِّني َب ِري ٌء ِم ْن ُك ْم ِإ ِّني َأ َرى َما ال ت ََروْ نَ ِإ ِّني َأ ُ َو َق َ
(ألنفال)48 :
قال :فقد خذلهم أحوج ما كانوا إليه.
قلت :أجل ..فقد استندوا إلى ركن غير ركين.
قال :كل من استند لغير هللا ،فق99د اس99تند ل99ركن غ99ير ركين ..ألم تس99مع
ب َل ُك ْم َو ِإ ْن َي ْخُ 999ذ ْل ُك ْم َف َم ْن َذا الَّ ِذي ص999رْ ُك ُم هَّللا ُ َفال غَ999ا ِل َ قول999ه تع999الىِ {:إ ْن َي ْن ُ
َي ْنصُرُ ُك ْم ِم ْن َبعْ ِد ِه َو َع َلى هَّللا ِ َف ْل َيت ََو َّك ِل ْال ُم ْؤ ِمنُونَ }(آل عمران)160 :؟
قلت :بلى ..وقد رأيت من نصر هللا ألوليائه ما يدل على هذا.
قال :فالفقراء المتوجهون هلل منصورون بنصر هللا ،مؤيدون بمدد هللا..
فلذلك هم مختارون سواء عزلهم الخلق أو قربوهم.
قلت :فال فقر إذن.
قال :ال فقر إال الفقر الوهمي الذي يعيشه المحجوبون.
***
شعرت عن9د س9ماعي ه9ذا بج9وهرة كريم9ة ت9نزل أعم9اق ص9دري،
تنجلي من نورها بعض الظلمات.
قلت في نفسي بعدها :نعم إن الفقير في الحقيقة ال يؤلمه فقره ،بقدر م99ا
يؤلمه فوات الفرص والمكاس9ب ال9تي ي9رى األغني9اء ينزلونه9ا ويته9افتون
عليها ،بينما يبقى هو في المستنقعات يحلم بالجمال الذي ال يصل إلي99ه ،وال
36
يحلم بالوصول إليه ،فلذلك إن رُفع هذا الوهم ،وقيل للفقير :فقرك ال يحول
بينك وبين أي شيء ،فيمكنك أن تتربع على أي عرش ،وتتن9اول أي ح9ق،
بل يمكنك أن تجعل األغنياء الذين ترمقهم بعينين حسودتين يغبطونك على
ما حل ب9ك من النعم ..ب9ل يمكن9ك أن تق9ف بينهم ش9امخا جب9ارا يتط9اولون
للوصول إلى ما وصل إليه عنقك ،ويتوثبون للتحقق بما أدتك إليه همتك.
ثم قلت في نفسي :ليت الفق9راء يس9معون لمعلم الس9الم وه9و يخ9رجهم
من األوه99ام ،فينتقل99ون من الش99عور ب99النقص إلى الش99عور بالق99درة على
الكم99ال ،ومن الش99عور ب99العجز إلى الش99عور ب99القوة ال99تي ال تق99ف دونه99ا
الحواجز.
قال لي معلم السالم ،وكأنه يس9مع م9ا ي9دور في نفس9ي :أس9معهم قول9ه
ظ99ا ِل ِمي َأ ْنفُ ِسِ 99ه ْم َق99الُوا ِفي َم ُك ْنتُ ْم َق99الُوا ُكنَّا
تع99الىِ {:إ َّن الَّ ِذينَ ت ََوفَّاهُ ُم ْال َمال ِئ َك 99ةُ َ
اجرُوا ِفي َها َفأُو َل ِئكَ ض َقالُوا َأ َل ْم َت ُك ْن َأرْ ضُ هَّللا ِ َو ِ
اس َع ًة َفتُ َه ِ ُم ْستَضْ َع ِفينَ ِفي اأْل َرْ ِ
صيراً}(النساء)97 : ت َم ِ َم ْأ َواهُ ْم َج َهنَّ ُم َو َسا َء ْ
قلت :فما وجه اإلشارة في هذا؟
قال :هذه أكبر صفعة ينالها المستضعف العاجز؟
قلت :كيف؟
قال :إن أوهامه تجعله يتصور أنه وإن صار ذنبا ،فإنه لن يح99رق م99ع
الكبراء ،ألنه كان مستضعفا ،وكانوا متكبرين ،فاآلية تق99ول ل99ه (:لن تع99ذر
باستضعافك ألن هللا تعالى أعطاك القوة التي تخرج بها من ضعفك )
قلت :فبماذا ينتفع منها؟
قال :برفع الهمة ،والثورة على االستضعاف ،فالحقيقة المرة قد تك99ون
كالدواء المر ،فإنه وإن لم يكن لذيذا ،لكنه مفيد ..لكنه دواء.
قلت :ولكن م99ا ال99ذي يح99ول بين الفق99راء والمستض99عفين وتمل99ك ه99ذه
الجوهرة الثمينة؟
قال :إنه االتباع األعمى الناتج عن فراغ عظيم.
قلت :تقصد عقدة النقص التي تجعلهم يرون أنفسهم أصفارا ،فينمحون
أمام الكبار.
قال :سم ذلك ما شئت ،ولكن من عظم غير هللا ،وسكن لغ99ير هللا ابتاله
هللا باالستعباد لكل شيء.
قلت :أتذكر لهذا السبب شاهدا ،فأنت تعرف مدى غرامي بالشواهد؟
37
قال :القرآن الكريم كل99ه ش99واهد على ذل99ك ،ولكن اس99مع لم99ا يق99ول هللا
ص َد ْدنَا ُك ْم ع َِن ْالهُ9دَى َبعَْ 9د
ال الَّ ِذينَ ا ْس َت ْك َبرُوا ِللَّ ِذينَ ا ْستُضْ ِعفُوا َأنَحْ ُن َ
تعالىَ {:ق َ
ِإ ْذ َجا َء ُك ْم َبلْ ُك ْنتُ ْم ُمجْ ِر ِمينَ }(سـبأ)32 :
قلت :قرأت أمثال هذه اآلية كثيرا.
قال :ال يكفي أن تقرأها ..البد أن تسمعها.
قلت :فماذا تقول هذه اآليات ،ومن تخاطب؟
قال :إنها تخاطب ج99ذور أعم99اق الفق99راء والمستض99عفين ،لتق99ول لهم:
( إن هللا لم يخلقكم أذنابا ،بل خلقكم رؤوسا ،فإن أبيتم إال أن تكون99وا أذناب99ا،
فتحملوا ما يجركم إليه ذلك )
قلت :وما يجر إليه ذلك؟
ق99ال :إن رب99ط ش99خص نفس99ه في ذي99ل خ99نزير نجس ،أيمكن أن يبقى
طاهرا؟
قلت :وكيف يبقى طاهرا ،إن النجاسة الحقة به ال محالة.
قال :فكذلك من رمى نفسه في أتون المجرمين ،فإنه ال ينبغي أن يل99وم
أحدا إن احترق.
قلت :ألهذا يجمع هللا تعالى في دار العدل الكبراء مع المستضعفين؟
قال :ألن المستضعفين أبوا إال أن يبيعوا أنفسهم للكبراء.
قلت :إن هذه المعاني خطيرة ،وهي تحض على الثورة ..ثورة الفقراء
والمستضعفين.
ق9ال :والث9ورة هي بداي9ة الس9الم ،فال يمكن أن تتحق9ق بالس9الم ،وأنت
تقنع بالعجز.
قلت :ولكن الثورة تحتاج سالحا.
قال :فقد أعطى هللا الفقراء القدرة على حمل السالح.
قلت :ليواجهو به الكبراء والمستعلين؟
قال :ليواجهوا به قبل ذلك الظالم الذي يعمر أعماقهم ،والخراب ال99ذي
يمأل نفوسهم ،فمن الخطأ أن تلوم جارك على ش99يء تفعل99ه في بيت99ك ،ومن
البهتان أن تنقلب على رؤسائك ،وال تنقلب على أهوائك.
ماذا وجد من فقدك:
صعد بي المرشد طابقا أعلى في قصر االستغناء ،فإذا بي أشاهد الفتة
مكتوبا عليها (:هنا محل جوهرة عزيزة اسمها ( ماذا وجد من فقدك )
38
س9ألت المرش9د عنه9ا ،فق9ال :أن9ا المرش9د ،ولس9ت المعلم ،اس9أل معلم
السالم.
أجابني من غير أن أسأله :ال يكفي أن تشعر بأنك لس9ت مط9رودا ،وال
يكفي أن تشعر بأن في إمكانك أن تكون مختارا ،لتمتلئ بالسالم والسعادة؟
قلت :فما الذي ينقص الفقير حتى يشعر بسكينة أعظم وسالم أتم؟
قال :أن يشعر بأن كل ما في يد غيره من األغنياء والمستعلين هباء أو
كالهباء ،أو سراب أو كالسراب؟
قلت :وما فائدة هذا الشعور ،وما عالقته باالستغناء ،وم99ا عالقت99ه قب99ل
ذلك كله وبعده بالسالم؟
قال :ألن شعور الفقير بثروة الغني ،يجعله عبدا لها ،أو عبدا له.
قلت :كيف يكون ذلك ،وال بد من ذلك.
قال :فرق بين أن تراها ،وبين أن تعتبرها.
قلت :ال أرى فرقا بينهما.
قال :إذا كنت في صحراء واسعة ،ودب ثعبان الظم99أ ليس99تل روح99ك،
ورأيت سرابا بعيدا ،هل تراه أو تعتبره؟
قلت :أراه ،ولكني ال أعتبره.
قلت :وماذا لو اعتبرته؟
قلت :سأظل تائها في الصحراء ،أبحث عنه ،ثم لن أصل إليه أبدا.
قال :لم؟
قلت :ألنه غير موجود ،والبحث عن غير الموجود عناء.
قال :فكذلك ثروات األغنياء التي تراها.
قلت :ما الجامع بينهما؟
قال :إن نظرت إلى ما في أيديهم كما نظ99رت إلى الس99راب ،ض99حكت
عليهم ،وسخرت منهم ،ولم يستعبدوك.
قلت :قرب لي المث99ال ،ف9إني -كم99ا تعلم -منغمس في أوح99ال الكثاف99ة
يشتد علي التجريد.
قال :أرأيت إن كان لك جار ..هو فق99ير ..ربم99ا يك99ون أفق99ر من99ك ..ثم
ج99اء بج99وهرة مغشوش99ة ،فعلقه99ا في جي99د امرأت99ه ،أو ج99اءك بك99نز يلم99ع
كالذهب ،ولكنه ليس ذهبا ،ثم ذهب يتعالى عليك ،ماذا كنت تفعل؟
قلت :أرحمه ،أو أضحك عليه.
39
قال :أكنت تتمنى أن يكون لك مثله؟
قلت :ال ،ألنه ال يملك إال السراب والهباء ،ثم يغالط نفسه به.
قال :كيف يغالط نفسه به؟
قال :ألنه إذا جاء وقت الحاجة لن يغني عنه ذهبه شيئا.
آن َما ًء َحتَّى ِإ َذا َجا َءهُ َل ْم قال :إذن هو كذلك السراب الذي { َيحْ َسبُهُ َّ
الظ ْم ُ
َي ِج ْد ُه َشيْئاً }(النور)39 :
قلت :أجل ..هو كذلك.
قال :فأغني9اء الع99الم ال99ذين تمتلئ قل99وب الفق9راء حس9دا أو نقص9ا عن99د
رؤاهم ،هل تغنيهم أموالهم وذراريهم وقصورهم شيئا وقت الحاجة.
قلت :أما في الدنيا ،فنعم.
قال :ما الدنيا إال أيام تروح وتنقضي ،فبعد الدنيا.
قلت :ال تنفعهم ،فلم أر أحدا تدفن كنوزه معه.
قال :أرأيت لو دفنت كنوزه معه ،هل تغني عنه من أمره شيئا؟
قلت :كيف تغنيه ،وهو لن يطول به المقام ح9تى يأكل9ه ال9دود ،فيص9ير
هيكال عظميا ينخره التراب.
قال :أرأيت لو حنطوه ،وحفظوا جثته وزينوه99ا ب99الحلي والحل99ل ال99تي
جمعها ،أكان ذلك يغني عليه شيئا؟
قلت :كيف يغني عليه ،وهو رم9ة بالي9ة ،والحم9ار يظ9ل حم9ارا ،ول9و
كسي وزين ما زين.
قال :فخبرني ما فائدة هذا المال الذي ال تجده أحوج ما تكون إليه؟
قلت :وما البديل؟
قال :أن تبحث عن المال الذي تجده في كل وقت.
قلت :ما الفرق بينهما؟
ق9ال :األول س9راب ،والث9اني م9اء ،ومن أجه9د نفس9ه م9ع الس9راب لن
يصل إلى الماء.
قلت :وكيف أصل إلى الماء؟
ق99ال :ب99البحث عن رب الم99اء ،ألم تق99رأ قول99ه تع99الىَ {:والَّ ِذينَ َك َف99رُوا
آن َما ًء َحتَّى ِإ َذا َجا َءهُ َل ْم َي ِجْ 9دهُ َش9يْئاً َو َو َجَ 9د ب ِب ِقي َع ٍة َيحْ َسبُهُ َّ
الظ ْم ُ َأ ْع َمالُه ُْم َك َس َرا ٍ
ب}(النور)39 : هَّللا َ ِع ْن َد ُه َف َوفَّا ُه ِح َسا َبهُ َوهَّللا ُ َس ِري ُع ْال ِح َسا ِ
قلت :فمن فقد هللا؟
40
قال :لم يظفر إال بالسراب ،ولهذا كانت هذه الج99وهرة ج99وهرة (:م99اذا
وجد من فقدك )
قلت :هذا جزء من حكمة ابن عطاء هللا.
قال :هذه حكمة من حكم الوجود ،وسنة من سنن الك9ون ،و{ َو َل ْن ت َِجَ 9د
ال}(األحزاب)62 : ِل ُسنَّ ِة هَّللا ِ َت ْب ِدي ً
قلت :أريد الشواهد ،فأنت تعرف أني ال أقبل إال الشواهد.
قال :البصيرة خير الشواهد.
قلت :وكالم هللا نور البصيرة.
قال :إليك هذه األشعة األربعة.
الشعاع األول:
قلت :فما الشعاع األول؟
ُ
ق9ال :ه9و الش9عاع ال9ذي يض9يء من س9راج قول9ه تع9الىَ {:وأ ِحي9طَ
َاويَ9ةٌ َعلَى ُعر ِ
ُوش9هَا ق فِيهَا َو ِه َي خ ِ بِثَ َم ِر ِه فَأَصْ بَ َح يُقَلِّبُ َكفَّ ْي ِه َعلَى َما أَ ْنفَ َ
َويَقُو ُل يَا لَ ْيتَنِي لَ ْم أُ ْش ِر ْك بِ َربِّي أَ َحداً}(الكهف)42:
قلت :هذه قصة هالك مال رجل غره ماله.
قال :لم يغره ماله فق99ط ،ب99ل اس99تعبده من دون هللا ،ألم تس99مع قول99ه
بعد ندمه {:يَا لَ ْيتَنِي لَ ْم أُ ْش ِر ْك بِ َربِّي أَ َحداً}(الكهف)42:
قلت :فما في هذا من أشعة هذه الجوهرة؟
قال :ه9ذا الش9عاع يق9ول ل9ك :ك9ل م9ا امتلكت9ه من غ9ير هللا ف9ان أو
سيفنى.
قلت :ال شك في هذا ..فهذه حقيقة من حقائق األبد ،فقد قال تعالى{:
ع َم َع هَّللا ِ إِلَها ً آخ ََر ال إِلَ9هَ إِاَّل هَُ 9و ُك99لُّ َشْ 9ي ٍء هَالٌِ 9
ك إِاَّل َوجْ هَ9هُ لَ9هُ َوال تَ ْد ُ
ْال ُح ْك ُم َوإِلَ ْي ِه تُرْ َجعُونَ }(القصص)88:
ك ُذو ْال َج ِ
الل قال :وقال تعالىُ {:كلُّ َم ْن َعلَ ْيهَ99ا فٍَ 9
9ان َويَ ْبقَى َوجْ 9هُ َربِّ َ
َواأْل ِ ْك َر ِام}(الرحمن 269:ـ )27
قلت :فما األثر الذي يحدثه سماع هذه اآليات؟
قال :ال يتعلق بالهالك إال هالك ..وال يتعلق بالفاني إال الفاني.
قلت :وكلنا هالكون ،فلذلك ترانا نتعلق بالهالكين ..فه99ل علين99ا ل99وم
في ذلك؟
قال :نحن هالكون ،ولكن فطرنا مملوء ة بحب الحياة ،ألم تس99مع قول99ه
41
ال َيا آ َد ُم َهلْ َأ ُد ُّلكَ َع َلى َش َج َر ِة ْال ُخ ْل ِد َو ُم ْل ٍك الان َق َ
ط ُ س ِإ َل ْي ِه ال َّش ْي َ
تعالىَ {:ف َوس َْو َ
َي ْب َلى} (طـه)120 :
قلت :بلى ..فما في هذه اآلية من فطرة الخلود؟
قال :لوال أن هللا مأل فطرة اإلنسان بحب الخلود ما جاءه الش99يطان من
هذا الباب.
قلت :صدقت ..فالشيطان ال يرتع إال فيما يحمله اإلنس99ان من مع99اني..
فهو يبحث عنها ليقلب حقائقها.
قال :ولهذا ..فإن من أراد الحياة الخالدة يحتاج إلى التعلق بالخالد ال99ذي
9وت َو َس9بِّحْال يموت ،ألم تسمع قول99ه تع9الىَ {:وت ََو َّكلْ َع َلى ْال َح ِّي الَّ ِذي ال َي ُمُ 9
ب ِع َب99ا ِد ِه خَ ِب99يراً}(الفرق99ان ،)58 :ففي اآلي99ة إش99ارة ِب َح ْمِ 9د ِه َو َك َفى ِب ِ 9ه ِب ُ 9ذنُو ِ
ص99ريحة إلى ه99ذا الش99عاع ال99ذي يخرج99ك من األك99وان ليربط99ك ب99رب
األكوان.
قلت :ألهذا نرى النصوص الكثيرة تخبر عن هالك األم99وال ،وذه99اب
ف ِم ْن ط99افَ َع َل ْي َه99ا َ
ط99ا ِئ ٌ العز عن أهله ،كقوله تعالى عن أصحاب الجن9ةَ {:ف َ
الصَّر ِيم}(القلم 19 :ـ )20 ِ ت َك َربِّكَ َوهُ ْم نَا ِئ ُمونَ َفأَصْ َب َح ْ
قال :لقد كان ما حل بتلك الجنة من من أكبر نعم هللا عليهم.
قلت :كيف تقول هذا؟ ..هذه عقوبة ،وليست نعمة.
قال :كل نعمة تحجبك عنه عقوبة ..وكل عقوبة توصلك إليه نعمة.
قلت :ص99دقت ..فل99وال أن هللا تع99الى ابتالهم به99ذا البالء ،لم99ا ق99الوا:
ظا ِل ِمينَ }(القلم)29 : { ُسب َْحانَ َر ِّبنَا ِإنَّا ُكنَّا َ
قال :إن غلة هذه المقولة أعظم من كل غلة كان يمكن أن يظفروا بها.
الشعاع الثاني:
قلت :فما الشعاع الثاني؟
ص9بَ َح قال :هو الش99عاع ال99ذي يض99يء من س99راج قول99ه تع9الىَ {:وأَ ْ
ق لِ َم ْن يَ َش 9ا ُء س يَقُولُونَ َو ْي َك99أ َ َّن هَّللا َ يَب ُ
ْس 9طُ الْ 9
9رِّز َ الَّ ِذينَ تَ َمنَّوْ ا َم َكانَهُ بِاأْل َ ْم ِ
ِم ْن ِعبَ99ا ِد ِه َويَ ْقِ 99د ُر لَ99وْ ال أَ ْن َم َّن هَّللا ُ َعلَ ْينَ99ا لَ َخ َس99فَ بِنَ99ا َو ْي َكأَنَّهُ ال يُ ْفلِ ُح
ْال َكافِرُونَ }(القصص)82:
قلت :فما في هذا الشعاع من حقائق هذه الجوهرة؟
ق99ال :ه99ذا الش99عاع يق99ول ل99ك :إن لم تش99هد هالك مال99ك ،فستش99هد
هالكك ،وفي هالكك هالك مالك.
42
قلت :وضح لي ما تقصد.
قال :ما الغرض الذي تطلبه من األموال؟
قلت :االنتفاع بها ،واالستفادة منها.
قال :أرأيت إن منعت من هذه االستفادة ،وحرمت من هذا التمتع!؟
قلت :حينها سأعتبر نفسي خاليا من المال ،حتى ل9و عم9رت كن9وز
الدنيا خزائني.
قال :فهذا الشعاع يخاطبك من هذا الب9اب لي9نزع من قلب9ك عبودي9ة
الذهب والفضة ،وينزع من الفقير شوقه الذي استعبده للذهب والفضة.
قلت :يخاطبه بمنطق الفناء الذي خاطبه به الشعاع السابق.
قال :أجل ..فما أكثر الخلق الذين لم يش99هدوا هالك أم99والهم ..وك99ل
الخلق شهدوا هالكهم عن أموالهم.
قلت :فهل من فرق بينهما؟
ق99ال :في التحقي99ق ال ف99رق بينهم99ا ..فس99واء ذهب مال99ك عن99ك ،أو
ذهبت أنت عن مالك.
قلت :أي عزاء يحمله هذا المعنى للفقراء ..ألسنا نبحث عن س99لوى
الفقراء؟
قال :هذا المعنى يخلص الفقراء من عبودية الشعور بالفقر لألشياء
ليزج بهم في عبودية االفتقار هلل.
قلت :فكيف نتحقق به؟
قال :بذكر الموت ..فما حل الموت في كثير إال قلل99ه ،وال في قلي99ل
إال كثره.
قلت :أسمع هذا اللفظ كثيرا فما معناه.
ق99ال :ه99ذا اللف99ظ يخ99اطب الفق99راء ليق99ول لهم :إن م99ا عن99دكم كث99ير
يكفيكم ،فال تحزنوا ..ويقول لألغنياء :إن ما عن99دكم قلي99ل ،فال تغ99تروا
به.
قلت :إن هذا يضاد الحقيقة ..فم9ا عن9د الفق9راء قلي9ل ،وب9ه ص9اروا
فقراء ..وما عند األغنياء كثير ،وبه وجبت عليهم الزكاة.
قال :نحن نتكلم في الحقائق ال في الرس99وم ..فمن نظ99ر إلى مايس99د
الحاجة ،فالقليل كثير ..ومن نظر إلى مايسد طمعه فالكثير قليل.
قلت :فذكر الموت إذن عزاء للفقراء.
43
قال :وتربية لألغنياء.
الشعاع الثالث:
قلت :فما الشعاع الثالث؟
قال :هو الشعاع الذي يضيء من سراج قوله تعالى {:قَ99ا َل فَْ 9
9اذهَبْ
اس }(طـه)97 : فَإ ِ َّن لَكَ فِي ْال َحيَا ِة أَ ْن تَقُ َ
ول ال ِم َس َ
قلت :هذه اآلي99ة تتح99دث عن عقوب99ة الس99امري ..وال أرى فيه99ا أي
سلوى للفقراء ،وال أي تربية لألغنياء.
قال :اسمعها بعين الحقائق لتبصر الشعاع الذي ينطلق منها.
قلت :ليس في طاقة أذني أن تسمع غير الحروف واألصوات.
قال :أهذه هي عقوبة السامري؟
قلت :أجل ..لقد عاقبه هللا بمرض يحرمه من المجتمع ..فهو ال يود
أن يمس أحدا ،أويالقي أحدا.
قال :فعندما أراد هللا أن يع99اقب الس99امري بم99ا تقتض99يه فطرت99ه من
مخالطة المجتمع ،هل أزال المجتمع وحرمه منه.
قلت :ال ..المجتمع كان موجودا على مرمى بصره.
قال :فهل قبض هللا روحه ليحرمه من رؤية المجتمع؟
قلت :ال ..بل بقي موجودا.
قال :ولكن كيف حرم من المجتمع مع أنه كان في المجتمع؟
قلت :لقد ذكرت لك أنه ابتلي بمرض يحرمه من المجتم99ع م99ع أن99ه
في وسطه وبين أفراده.
قال :فافهم سر هذا الشعاع من هذا المعنى.
قلت :كيف؟
ق99ال :لق99د ع99رفت في الش99عاعين الس99ابقين أن الم99ال ال99ذي اس99تعبد
األغنياء والفقراء إما أن يذهب أو يذهب بصاحبه.
قلت :أجل ..وهذا الشعاع؟
قال :يقول لك:قد تبقى م99ع الم99ال ..ولكن99ه لن ينفع99ك ..ب99ل س99تمتلئ
حسرة وأنت تنظر إليه.
قلت :أأصير كالعيس في البيد يقتلها الظمأ؟
قال :أجل ..ولو كان الماء فوق ظهورها محمول.
قلت :نعم ..إني كثيرا ما أالحظ هذا ..فاألشياء قد تك99ون موج99ودة،
44
وبوفرة ..ولكنا ال نجد أي متعة ،ونحن نتناولها.
قال :ألن التلذذ ليس باألشياء ..وإنما بما يخلقه هللا فيك من السكينة
التي تستقبل التلذذ وتتمتع به ..الل99ذة من هللا ال من األش99ياء ..فق99د تأك99ل
كسرة يابسة ،ويضع هللا في لسانك من التلذذ بها ما ال تج99ده في أش99هى
المأكوالت.
قلت :صحيح هذا..
قال :بل هوحقيقة يشير إليها ،بل يصرح بها قوله تع9الى {:قُ ْلنَ9ا َي9ا َن9ارُ
ُكو ِني َبرْ داً َو َسالماً َع َلى ِإب َْرا ِهي َم}(االنبياء ..)69 :فاهلل تعالى لم يطفئ النار،
وإنما جعل في إبراهيم من السكينة واإليمان ما تتحول به الن99ار ب99ردا
وسالما.
قلت :صحيح هذا ..وقد أشار القرآن الك9ريم إلى ه9ذا المع9نى في قول9ه
ال َو َلوْ َأ َرا َكه ُْم َك ِثيراً َل َف ِش ْلتُ ْم َو َل َتن ْ
َ99ازَعتُ ْم ِفي تعالىِ {:إ ْذ ي ُِري َكهُ ُم هَّللا ُ ِفي َمن َِامكَ َق ِلي ً
ور}(ألنف99ال،)43 :فاهلل تع99الى جع99ل ت الصُّ ُد ِ اأْل َ ْم ِر َو َل ِك َّن هَّللا َ َسلَّ َم ِإنَّهُ َع ِلي ٌم ِب َذا ِ
في هذه الرؤيا ما يطمئن القلوب ويملؤها بالثقة.
قال :ليس األمر قاصرا على الرؤى ،بل هو شامل للواقع ..لكل واقع..
ألم تس99مع قول99ه تع9الىَ {:و ِإ ْذ ي ُِري ُك ُم99وهُ ْم ِإ ِذ ْال َت َق ْيتُ ْم ِفي َأ ْعيُ ِن ُك ْم َق ِلي ً
ال َويُ َق ِّللُ ُك ْم ِفي
ال َو ِإ َلى هَّللا ِ تُرْ َج ُع اأْل ُ ُمورُ}(ألنفال)44 : ض َي هَّللا ُ َأ ْمراً َكانَ َم ْفعُو ً َأ ْعيُ ِن ِه ْم ِل َي ْق ِ
قلت :أجل ..لقد وعيت هذا..
قال :فاعبر من99ه إلى س99ائر الح9واس ..فاهلل ال99ذي يتص99رف في األعين
يتصرف في اللسان واآلذان وفي كل جوارح اإلنسان ولطائفه.
قلت :أيمكن إذن أن يرزق هللا الفق9راء بمعيش9تهم البس9يطة من الراح9ة
واللذة والسلوان ما ال يجده األغنياء؟
ق9ال :أج9ل ..ف9الخلق خل9ق هللا ..والل9ذات نعم من نعم9ه ،يوزعه9ا لمن
يشاء ،وكيف يشاء.
قلت :أال عالقة لها باألشياء؟
قال :ال عالقة لها باألش9ياء ..ألم تس9مع قول9ه تع9الىَ {:و َل9وْ ال َأ ْن َي ُك9ونَ
9ار َج
ضٍ 9ة َو َم َعِ 9 اح َد ًة َل َج َع ْلنَا ِل َم ْن َي ْكفُرُ ِبالرَّحْ َم ِن ِلبُيُ99و ِت ِه ْم ُس9قُفاً ِم ْن ِف َّ النَّاسُ أُ َّم ًة َو ِ
ظ َهرُونَ َو ِلبُيُو ِت ِه ْم َأب َْواباً َوسُرُراً َع َل ْي َها َيتَّ ِكئُونَ َو ُز ْخرُفاً َو ِإ ْن ُكلُّ َذ ِلكَ َل َّما َع َل ْي َها َي ْ
َمتَا ُع ْال َح َيا ِة ال ُّد ْن َيا َواآْل ِخ َرةُ ِع ْن َد َربِّكَ ِل ْل ُمتَّ ِقينَ }(الزخرف 33 :ـ )35؟
قلت :بلى ..سمعتها ..فما عالقتها بهذا؟
45
قال :إن هللا يخبرنا بأن السعادة ليست في األشياء..
يشً 9ة ض ع َْن ِذ ْك ِ
9ري َف9إِ َّن َل9هُ َم ِع َ قلت :أهي مثل قوله تعالىَ {:و َم ْن َأ ْع َ
9ر َ
ض ْنكاً َونَحْ ُشرُ هُ َيوْ َم ْال ِق َيا َم ِة َأ ْع َمى}(طـه)124 :؟
َ
قال :أج9ل ..وق9د ع9بر عن ه9ذا الض9يق بالض9نك ليش9ير إلى أن حي9اة
هؤالء قد تكون واسعة من حيث األشياء ..ولكنه9ا ض9يقة ،ب9ل ض9يقة ج9دا
من حيث بركات األشياء ،وما فيها من أصناف اللذات.
الشعاع الرابع:
قلت :فما الشعاع الرابع؟
قال :هو الشعاع المستمد من قوله تعالى على لسان الذي يكتشف حقيقة
األش9ياء ال9تي ك9ان يزه9و به9ا في ال9دنياَ {:م99ا أَ ْغنَى َعنِّي َمالِيَْ 9ه هَلَ99كَ َعنِّي
س ُْلطَانِيَهْ} (الحاقة 28:ـ)29
قلت :فما يقصد هذا الشعاع؟
ق9ال :ه9ذا الش9عاع ي9ذهب الزه9و ال9ذي يمأل قل9وب األغني9اء ،وهم
ينظرون إلى أموالهم ،فيمتلئون استغناء بها عن هللا.
قلت :فما يقول لهم؟
ق99ال :يق99ول لهم :إن ه99ذه األم99وال ال99تي ش99غلتكم عن هللا لن تنفعكم
أحوج ما تكونون إليها.
قلت :لق99د ض99رب هللا ل99ذلك مثال في الق99رآن الك99ريم ،فق99ال تع99الى:
ب تَجْ ِ 9ري ِم ْن تَحْ تِهَ99ا { أَيَ َو ُّد أَ َح ُد ُك ْم أَ ْن تَ ُك99ونَ لَ 9هُ َجنَّةٌ ِم ْن ن َِخي ٍ 9ل َوأَ ْعنَ99ا ٍ
ض َ 9عفَا ُء ص 9ابَهُ ْال ِكبَ ُ 9ر َولَ 9هُ ُذ ِّريَّةٌ ُ ت َوأَ َ اأْل َ ْنهَ99ا ُر لَ 9هُ فِيهَ99ا ِم ْن ُكِّ 9ل الثَّ َمَ 9را ِ
ت لَ َعلَّ ُك ْم
ك يُبَي ُِّن هَّللا ُ لَ ُك ُم اآْل ي99ا ِ
ت َكَ 9ذلِ َ ص 9ا ٌر فِي ِ 9ه نَ99ا ٌر فَ99احْ تَ َرقَ ْ
صابَهَا إِ ْع َفَأ َ َ
تَتَفَ َّكرُونَ } (البقرة)2669:
قال :أجل ..فهذا قد ذهب عنه ماله أحوج ما كان إليه ..أتدري ما مثله؟
قلت :ما مثله؟
قال :مثل رجل أفنى عمره في بناء س9فينة ض9خمة وض9ع فيه9ا جمي9ع
جهده وجميع ما يحتاجه ..وضيع في سبيلها كل شيء ..لكنه م99ا إن توس99ط
البحر اللجي حتى نبع من وسطها عيون أغرقتها وأغرقته معها.
قلت :ما أجدره لو مأل نفسه بالراحة ،وحفظ عالقاته.
قال :هو تمنى لو حصل منه ذلك ،ولكن الت ساعة مندم.
قلت :لقد أخبر تعالى عن الح9ال ال9تي يك9ون عليه9ا ه9ؤالء في زحم9ة
46
ب َيوْ ِم ِئٍ 9ذ ِب َب ِنيِ 9ه9و ُّد ْال ُمجِْ 9ر ُم َل9وْ َي ْفتَِ 9دي ِم ْن عََ 9ذا ِ
األهوال ،فقال {:يُ َبصَّرُو َنه ُْم َي َ
ض َج ِميع9اً ثُ َّم يُ ْن ِجيِ 9ه} ص9ي َل ِت ِه الَّ ِتي تُ ْؤ ِويِ 9ه َو َم ْن ِفي اأْل َرْ ِاح َب ِت ِه َو َأ ِخيِ 9ه َو َف ِ
صِ 9
َو َ
(المعارج11 :ـ)14
قال :وقد أخبر عن النتيجة التي يتقنع بها األغنياء والفقراء الذين أفن99وا
اف ِر َج 9ا ً
ال 9ر ِ صَ 9حابُ اأْل َ ْع َ
أعمارهم بحث9ا عم9ا ال يغ9نيهم ،فق9الَ {:ونَ9ادَى َأ ْ
عْرفُ999و َنه ُْم ِب ِس999ي َماهُ ْم َق999الُوا َم999ا َأ ْغنَى َع ْن ُك ْم َج ْم ُع ُك ْم َو َم999ا ُك ْنتُ ْم ت َْسَ 999ت ْك ِبرُونَ }
َي ِ
(ألعراف)48 :
قلت :فما في هذا الشعاع من السلوى للفقراء والتربية لألغنياء؟
قال :يقول لهما :ال تنشغال بهذا الغنى الوهمي عن الغنى الحقيقي ..فم9ا
تجمعونه من أموال ،أو ما تحزنون عليه من أموال اليساوي حسنة واح99دة
في ميزان رجل مؤمن.
قلت :إن هذا يجعل األغنياء والفقراء يتسابقون إلى الحسنات..
قال :وحينذاك يذهب زهو الغني وكبرياؤه وغفلته.
قلت :والفقير!..؟
قال :ال يضر الفقير شيء مثل الغني الجاح9د ..ف9إن آمن الغ9ني اغت9نى
الفقير.
قلت :لم؟
قال :ألن ثروة الغني سينتفع بها الفق9ير ..وح9ق الفق9ير ال يتس9لط علي9ه
الغني.
قلت :نستطيع بهذا أن نمحو الفقر والغنى.
قال :أجل ..بالتنافس على الخير يزول الغنى والفقر ..فالفقير من خفت
موازينه من حسنات هللا.
قلت :لقد ذكرتني بحديث في الزمن األول ..حين كان الن9اس ينظ9رون
إلى ما تكتب المالئكة ال إلى ما تكتب الخزنة ،فقد روي أن ناس99ا ق99الوا :ي99ا
رسول هللا ،ذهب أهل الدثور باألجور ،يص9لون كم9ا نص9لي ،ويص9ومون
كما نصوم ،ويتصدقون بفضول أموالهم ،قال (:أوليس قد جع9ل هللا لكم م9ا
تصدقون به :إن بكل تسبيحة ص9دقة ،وك9ل تكب9يرة ص9دقة ،وك9ل تحمي9دة
صدقة ،وكل تهليل9ة ص9دقة ،وأم9ر ب9المعروف ص9دقة ،ونهي عن المنك9ر
صدقة ،وفي بضع أحدكم صدقة ) ،قالوا :يا رسول هللا ،أيأتي أحدنا شهوته
ويكون له فيها أجر؟ قال (:أرأيتم لو وض9عها في ح9رام أك99ان علي99ه وزر؟
47
فكذلك إذا وضعها في الحالل كان له أجر )
()1
***
ما قلت ه9ذا ح9تى ش9عرت بج9وهرة كريم9ة ت9نزل أعم9اق ص9دري،
تنجلي من نورها بعض الظلمات.
قلت في نفسي حين نزولها :نعم ..إن الفقير في الحقيقة ال يؤلمه فق99ره،
وإنا يؤلمه شعوره بأن غيره يملك ما ال يمل9ك ،فه9و ينط9وي على حس9د ال
شعوري يجعله يمتلئ حزنا وأسفا.
فإذا علم هذا الفقير أن الكل فق9ير ،وأن أب9واب الغ9نى الحقيقي مفتوح9ة
للجميع ،وأن ذلك الغني الذي يتألم لغناه ما هو إال فقير من الفقراء ..ب9ل ق9د
يكون أذل الفقراء وأحوجهم ،فإنه سيعيش ممتلئا بغناه سعيدا بغناه.
لست أدري كيف خطر على بالي إبراهيم بن أدهم ،وقد ك99ان من أه9ل
النعم بخراسان؟ فبـينما هو يشرف من قصر له ذات يوم إذ نظر إلى رجل
في فناء القصر وفي يده رغيف يأكله ،فلما أكل ن9ام ،فق9ال لبعض غلمان9ه:
إذا قام فجئني به ،فلما قام ج9اء ب9ه إلي9ه ،فق9ال إب9راهيم :أيه9ا الرج9ل أكلت
الرغي99ف وأنت ج99ائع؟ ق99ال :نعم .ق99ال :فش99بعت؟ ق99ال :نعم ،ق99ال :ثم نمت
طيباً؟ قال :نعم .فقال إبراهيم في نفسه ،فما أص99نع أن99ا بال99دنيا والنفس تقن99ع
بهذا القدر.
وذكرت عامر بن عبد القيس حين مر عليه رجل ،وهو يأكل ملحا ً
وبقالً ،فقال له :يا عبد هللا أرضيت من الدنيا بهذا؟ فقال :أال أدل99ك على
من رضي بشر من هذا؟ قال :بلى .قال :من رضي بالدنيا عوض99ا ً عن
اآلخرة.
وذكرت محمدا بن واسع حين كان يخرج خبزاً يابس9ا ً فيبل9ه بالم9اء
ويأكله بالملح ويقول :من رضي من الدنيا بهذا لم يحتج إلى أحد.
ماذا فقد من وجدك:
صعد بي المرشد طابقا أعلى في قصر االستغناء ،ه99و قم99ة طوابقه99ا،
فالحت أنوار عظيمة جميلة ال يمكن وصفها كادت تخط9ف بص9ري ،قلت
للمعلم :ما هذا؟
ق99ال :ه99ذه منطق99ة (:ق99دس األق99داس ) ،ف99احرص على األدبَ { ،فال
َتسْأَ ْل ِني ع َْن َش ْي ٍء َحتَّى أُحْ ِد َ
ث َلكَ ِم ْنهُ ِذ ْكراً}(الكهف)70 :
) )(1مسلم.
48
صي َلكَ َأ ْمراً}(الكهف)69 :صا ِبر ًا َوال َأ ْع ِ
قلتَ {:ست َِج ُد ِني ِإ ْن َشا َء هَّللا ُ َ
ارت9د إلي ط9رفي ،فأبص9رت ج9وهرة ال يمكن وص9فها ..نوره9ا يك9اد
يغمر كل شيء ،بل كدت أحس أني شعاع من أشعة نورها ،سألت المرشد
عن هذه الجوهرة العزيزة ،فقال :هذه جوهرة (:ماذا وجد من فقدك )
قلت :ما معنى ذلك؟
قال :أنا المرشد ،ولست المعلم ،اسأل معلم السالم.
أجابني من غير أن أسأله :ال يكفي أن تشعر بأنك لست مط99رودا ..وال
يكفي أن تشعر بأن في إمكانك أن تكون مختارا ..وال يكفي أن تش99عر ب99أن
كل ما يملك غيرك سراب وهباء ،لتمتلئ بالسالم والسعادة؟
قلت :فما الذي ينقص الفقير حتى يشعر بسكينة أعظم وسالم أتم؟
قال :أن يشعر بأنه يملك كل شيء ،وأنه ال ينقصه شيء.
قلت :وما فائدة هذا الشعور ،وما عالقته باالستغناء ،وم99ا عالقت99ه قب99ل
ذلك كله وبعده بالسالم؟
ق99ال :ألن افتق99اره إلى أي ش99يء يع99ني دوام حاجت99ه وفاقت99ه ونقص99ه،
واالستغناء يقتضي الغنى المحض.
قلت :فما عالقة ذلك بالسالم.
قال :ألن الفقر نقص وض9عف ،والس9الم ال يج9اور الض9عفاء ،وأعظم
الضعف الكفر ،ألم تسمع قوله (:كاد الفق99ر أن يك99ون كف99را )( ..)1أتفهم
وجه اإلشارة في هذا الحديث؟
قلت :أفهم معناه الظاهر ،وهو ما يستدل به قومي في حربهم للفقر.
قال :أما معناه الخفي الذي قد يغفل9ون عن9ه ،فه9و أن الفق9ر يع9ني ع9دم
الشعور بنعم هللا ،وعدم الشعور بها يعني كفرانها وجحودها.
قلت :فالفقر إذن كفر؟
قال :الفقير الذي تملكه األشياء ،وال يملك األشياء.
قلت :فكيف يملك كل شيء؟ ومن لدي99ه الطاق99ة ألن يمل99ك ك99ل ش99يء؟
ذلك هللا فهو ملك كل شيء ومالك كل شيء.
قال :ومن عرف هللا ملك كل شيء.
قلت :لم أفهم.
) )(1أورده العجلوني في كشف الخفاء ( ،)108 9/ 2وقال :في سنده يزيد الرقاشي ضعيف،
ورواه الطبراني بسند فيه ضعيف مرفوعا.
49
قال :من عرف هللا وااله وناصره وأحبه وعبده ..أليس كذلك؟
قلت :بلى.
قال :ومن والى هللا وااله ،ومن أحبه أحبه ،ومن نصره نص99ره ..أليس
كذلك؟
قلت :بلى.
قال :فمن كان كذلك أيحتاج شيئا من هللا ،فيبخل عليه به؟
قلت :معاذ هللا.
قال :فمن لم يعز عليه شيء ،ولم تطلبه نفسه شيئا إال وجده ،أال يعت99بر
واجدا لكل شي مالكا لكل شيء!؟
قلت :ربما ،ولكن الملك شيء ،واالنتفاع شيء آخر.
قال :وما فائدة الملك غير االنتفاع؟
قلت :لم أفهم ما تقصده.
قال :أرأيت ل9و ملكت آالف القص9ور ،وك9انت ل9ك آالف المط9اعم ،ثم
انقبضت نفسك أو سدت شهيتها ،أو حالت الحوائل بين99ك وبين الته99ام ذل99ك
الطعام الذي أعد لك ،أكنت تفرح بامتالكك له؟
قلت :ال أظنني سأفرح ،بل ربما أحسد آخر طباخ يأكل فض99الت ذل99ك
الطعام الذي حرمت منه.
قال :فقد فهمت إذن.
قلت :وماذا فهمت؟
قال :بأن العبرة في االنتفاع ال بالملك.
قلت :ولكن ما عالقة ذلك بهذه الجوهرة النفيسة.
قال :نور هذه الجوهرة يمتد في الصدور ليش9عرها ب9أن مج9رد وج9ود
هللا والتعرف عليه والوصول إلي99ه والق99رب من99ه ك99اف في الحص99ول على
الغنى التام الذي ال يفتقر صاحبه إلى شيء.
قلت :فما أنوار أشعتها؟
قال :أشعتها كثيرة ،ولكن يكفيك هنا هذه األربع.
الشعاع األول:
قلت :فما الشعاع األول؟
قال :مريم ـ عليها السالم ـ
قلت :ما شأنها؟
50
ُ9ول َح َسٍ 9ن َو َأ ْن َب َت َه9ا
قال :اسمع ما يقوله تعالى في حقهاَ {:ف َت َقبَّ َل َه9ا َر ُّب َه9ا ِب َقب ٍ
اب َو َجَ 9د ِع ْنَ 9دهَا ِر ْزق 9اً َخَل َع َل ْي َها زَ َك ِريَّا ْال ِمحْ َر َ َن َباتاً َح َسناً َو َكفَّ َل َها زَ َك ِريَّا ُكلَّ َما د َ
ق َم ْن َي َش9ا ُء ِب َغ ْيِ 9
9ر 9و ِم ْن ِع ْنِ 9د هَّللا ِ ِإ َّن هَّللا َ َي99رْ ُز ُ ال َيا َمرْ َي ُم َأنَّى َل ِك َه َذا َق99ا َل ْ
ت هَُ 9 َق َ
ب}(آل عمران)37 : ِح َسا ٍ
قلت :هذه اآلية أعرفها ،فما محل الشاهد منها؟
قال :أرأيت لو أن ملكا يملك كل مزراع الدنيا ومص9انع أغ9ذيتها طلب
من فالحيه وعلمائه أن يأتوه بفاكهة واحدة من الفواك99ه ال99تي ك99انت تأكله99ا
مريم ـ عليها السالم ـ وهي في محرابها ،أكانوا يطيقون؟
قلت :كال ،فطعامهم من الشهادة ،وذلك من الغيب ،وما أبعد البون بين
الغيب والشهادة.
قال :فمريم ـ عليها السالم ـ أغنى منهم؟
قلت :في هذه الحالة ،يمكن أن نقول :نعم.
قال :وفي غيرها ،يمكن أن تقول :نعم أيضا ،ألن الذي أعطى الطع99ام
يمكن أن يعطي غيره.
قلت :فما سر هذا؟
قال :سأضرب لك مثاال يوضح لك ه99ذا :ل99و رأيت بس9تانا جميال ،في9ه
من الفواكه والثمار م9ا في9ه ،ونازعت9ك نفس9ك إلى ثم9اره ،فم9ا ه9و أق9رب
طريق إلى ذلك؟
قلت :أقرب طريق إلى ذلك أن أستأذن صاحبه في األخذ منه.
ق9ال :ول9و أن9ك تق9ربت من ص9احبه من غ9ير أن تطلب من9ه ش9يئا ،ثم
وفرت من األسباب ما يجعلك حبيبا في عينيه وقلبه.
قلت :سيغدق علي حينها ثمارا كثيرة وفواكه لذيذة.
قال :فلو كان تقربك أعظم ،وكان هذا البستان الذي يملك99ه ذل99ك الغ99ني
جزءا من مائة ألف جزء من بساتينه؟
قلت :حينها سيعطيني البستان جميعا ،بل ربما يعطيني بساتين أخ99رى
أفضل وأعظم.
قال :فهكذت فعلت مريم ـ عليها السالم ـ
قلت :وماذا فعل أغنياء قومي الذين يتيهون بغناهم؟
قال :اغتنموا ظالم الليل ،فسطوا على شجرة من أشجار ذلك البستان،
فاقتطفوا ثمرة من ثمارها ،ثم اقتتلوا فيما بينهم أيهم يملكها.
51
قلت :لقد ك9ان في إمك9انهم أن يأخ9ذوها في ض9وء النه9ار ،وب9دون أن
يقتتلوا؟
ق99ال :ألنهم لم يتعلم999وا الس99الم ..لق99د تعلم999وا أن ال ين99الوا ش99يئا إال
بالصراع.
الشعاع الثاني:
قلت :وعيت هذا ..فما الشعاع الثاني؟
قال :شعاع المعية.
قلت :فما شعاع المعية؟
قال :إنه شعاع ينبع نوره من قوله تعالى على لسان موس9ى َ {:كاَّل
ين}(الشعراء)62 : ِإ َّن َم ِع َي َربِّي َس َي ْه ِد ِ
قلت :هذه اآلية تخ9بر عن موق9ف موس9ى عن9دما خ9رج بص9حبة
بني إس9رائيل ،فاش9تد حن9ق فرع9ون عليهم ،فأرس9ل في الم9دائن حاش9رين
يجمعون له جنوده من أقاليمه ،فركب وراءهم في أبهة عظيمة وجي9وش {
ال َأصْ َحابُ ُمو َسى ِإنَّا َل ُم ْد َر ُكونَ }(الشعراء)61 : ان َق َ َف َل َّما ت ََرا َءى ْال َج ْم َع ِ
ين}(الشعراء)62 : وحينها قال موسى َ {:كاَّل ِإ َّن َم ِع َي َربِّي َس َي ْه ِد ِ
قال :وحينها ماذا حصل؟
قلت :بمج99رد أن قاله99ا أم99ره هّللا تع99الى أن يض99رب البح99ر بعص99اه،
فضربه فانفلق ،فكان كل فرق كالطود العظيم ،فنجا موسى ومن معه
أجمعون.
قال :وماذا حصل لفرعون؟
آل ِفرْ َع99وْ نَ َوالَّ ِذينَ ِم ْن
ب ِ قلت :ما قصه القرآن الكريم ،قال تعالىَ {:كد َْأ ِ
آل ِفرْ عَ9وْ نَ َو ُك9لٌّ َك9انُوا ت َر ِّب ِه ْم َفأَ ْه َل ْكنَ9اهُ ْم ِبُ 9ذنُو ِب ِه ْم َو َأ ْغ َر ْقنَ9ا ََق ْب ِل ِه ْم َك َّذبُوا ِبآي9ا ِ
ظا ِل ِمينَ } (ألنفال)54: َ
قال :فكيف انتصر موسى على فرعون؟
قلت :بقوة هللا وتأييده ،فلم يكن لموس9ى حينه9ا أي ق9وة تمنع9ه من
بطش فرعون.
قال :ولم يكن له كذلك أي مفر ،ف99البحر أمام99ه ،والع99دو وراءه ..ولكن
لماذا خاف قوم موسى فقالواِ {:إنَّا َل ُمْ 9د َر ُكونَ }(الش9عراء ،)61 :بينم9ا
لم يهتز لموسى عصب ،ولم يخفق له قلب؟
قلت :إلدراكه أن هللا معه.
52
قال :ومن كان هللا معه هل تقاومه جيوش الدنيا؟
قلت :كي99ف يك99ون ذل99ك ،وهللا رب ال99دنيا ورب جيوش99ها ،ب99ل إن هللا
يرسل أضعف جنوده ليحفظ من يشاء ،ويهلك من يشاء.
قال :فمن كان صاحب جيش عرمرم يحميه أينما حل ،وأينم99ا ارتح99ل
من دون أن يكلفه شيئا ال طعامه وال شرابه وال أجرته ،أيعتبر فقيرا؟
قلت :بل هو في درجة أعلى من الغنى ..إنه في درجة الملوك.
قال :بل هو في درجة أعلى من الملوك.
قلت :كيف؟
قال :جيوش الملوك يحركه99ا الطم99ع في أج99ر المل99وك ،وق99د يس99تفزها
الطمع فتنقلب على الملوك ،فيعيش الملك في حمايتها خائفا من جنايتها.
قلت :ومن كان في حماية هللا وجنود هللا.
قال :تكون نصرته بحسب كينونته معه ،وأمن9ه بحس9ب حض9وره م9ع
هللا ..ألم تسمع إليه وهو في أحرج المواقف التي مر بها ،وهو في غار
ثور ،ولو أن أحدا من الشركين رمى ببصره لرآه ،ماذا قال حينها ؟
َصَ 9رهُ هَّللا ُ ِإ ْذص9رُوهُ َف َقْ 9د ن َ ال َت ْن ُ قلت :قال ما قص9ه علين9ا قول9ه تع9الىِ {:إ ّ
زَن ِإ َّن اح ِب ِه ال تَحْ ْ ص ِ َار ِإ ْذ َيقُولُ ِل َ َأ ْخ َر َجهُ الَّ ِذينَ َك َفرُوا َثا ِن َي ْاث َني ِْن ِإ ْذ هُ َما ِفي ْالغ ِ
زَل هَّللا ُ َس ِكي َن َتهُ َع َل ْي ِه َو َأيَّ َدهُ ِبجُ نُو ٍد َل ْم ت ََروْ هَا َو َج َع َل َك ِل َم َة الَّ ِذينَ َك َف9رُوا
هَّللا َ َم َعنَا َفأَ ْن َ
يز َح ِكي ٌم}(التوبة)40 : ال ُّس ْف َلى َو َك ِل َمةُ هَّللا ِ ِه َي ْالع ُْل َيا َوهَّللا ُ ع َِز ٌ
ص9رُو ُه َف َقْ 9د قال :أتعلم قدر البشارات ال9تي يحمله9ا قول9ه تع9الىِ {:إ ّ
ال َت ْن ُ
َص َرهُ هَّللا ُ } ن َ
قلت :إنها بشارة عظيمة وال شك.
قال :ولكن ال يمكن تصورها ..إنها جواز حماي99ة من هللا لرس99وله ،
ومن كان هللا معه كانت جنود ال99دنيا جميع99ا مع99ه ،ق9ال تع9الىَ {:وهَّلِل ِ جُ نُ99و ُد
ض َو َكانَ هَّللا ُ ع َِزيزاً َح ِكيماً}(الفتح)7 : ت َواأْل َرْ ِ ال َّس َم َ
اوا ِ
قلت :ما أكثر ما يملك رسول هللا إذن من جنود.
قال :بل ما أعظم ما يملك كل مس9تغن باهلل فق9ير إلى هللا من جن9ود ،ألم
ص9رْ ُك ْم َويُ َثب ِّْت ص9رُوا هَّللا َ َي ْن ُ تسمع قول الحق تعالىَ {:يا َأ ُّي َها الَّ ِذينَ آ َمنُوا ِإ ْن َت ْن ُ
َأ ْقدَا َم ُك ْم} (محمد)7 :؟
قلت :بلى ..ومن كان هللا في نصرته ال يغلب.
ص9رُ ُك ْم ب َل ُك ْم َو ِإ ْن َي ْخُ 9ذ ْل ُك ْم َف َم ْن َذا الَّ ِذي َي ْن ُقالِ { :إ ْن َي ْنصُرْ ُك ُم هَّللا ُ َفال غَا ِل َ
53
ِم ْن َبعْ ِد ِه َو َع َلى هَّللا ِ َف ْل َيت ََو َّك ِل ْال ُم ْؤ ِم ُنونَ }(آل عمران)160 :
قلت :ومن تخلى هللا عنه ال ينصر ،ولو ملك جميع جيوش األرض.
ص99رُ ُك ْم ِم ْن ُد ِ
ون ال99رَّحْ َم ِن ِإ ِن ق99الَ { :أ َّم ْن هََ 99ذا الَّ ِذي هُ َ
99و جُ ْنٌ 99د َل ُك ْم َي ْن ُ
رُور}(الملك)20 : ْال َكا ِفرُونَ ِإاَّل ِفي ُغ ٍ
قلت :فمن وجد هللا إذن ال يستغني بالرزق فقط ،ب9ل يس99تغني بالحماي9ة
والرعاية والحفظ.
***
تأملت ما يحمله هذا الشعاع من بش9ارات ،وت9ذكرت مواق9ف األنبي9اء
واألولياء الذين لم تتزعزع قلوبهم ،وهم يرون المشانق منصوبة لهم.
تذكرت إبراهيم ،وهو يلقى في المنجنيق ليرمى به إلى ما أضْ َرم
ل99ه أع99داء هللا من الن99ار ،فلم يتح99رك قلب99ه ،ولم ترتع99د فرائص99ه ،ب99ل بقي
كالطود األشم ال تزعزعه الرياح ،بل سرت السكينة من باطنه إلى ظاهره
إلى ما حوله ،فأطفأت ببرودتها وسالمها نار النمروذ وزبانيته.
جمعوا الحطب شهرا ثم أوقدوها ،واشتعلت واشتدت ،حتى أن الطائر
كان يمر بجنباتها فيحترق من شدة وهجها.
ثم قي9دوا إب9راهيم ووض9عوه في المنج9نيق مغل9وال ،وغفل9وا أن يقي9دوا
سكينته ،أو عجزوا أن يقيدوها.
وحينذاك ضجت السموات واألرض ضجة واحدة :ربنا! إبراهيم ليس
في األرض أحد يعبدك غيره يحرق فيك فأذن لنا في نصرته.
وكان هللا يعلم ما في قلب إبراهيم ،فقال ـ كما يروي المفسرون ـ (:إن
استغاث بشيء منكم أو دع9اه فلينص9ره فق9د أذنت ل9ه في ذل9ك وإن لم ي9دع
غيري فأنا أعلم به وأنا وليه )
فلما أرادوا إلقاءه في النار ،أتاه خزان الماء -وهو في الهواء -فقالوا:
يا إبراهيم إن أردت أخمدنا النار بالماء .فقال :ال حاجة لي إليكم.
وأتاه ملك الريح فقال :لو شئت طيرت النار .فقال :ال.
ثم رفع رأسه إلى السماء فقال (:حسبي هللا ونعم الوكيل )
وحينها جعل هللا من هذا الذي أرادوا حرقه به بردا وسالما وبشارة.
الشعاع الثالث:
قلت :وعيت هذا ..فما الشعاع الثالث؟
قال :إنه ش9عاع ينب9ع ن9وره من قول9ه تع9الى على لس9ان ام9رأة فرع9ون:
54
{ َربِّ اب ِْن ِلي ِع ْندَكَ َبيْتاً ِفي ْال َجنَّ ِة}(التحريم)11 :
قلت :فما فيه من االستغناء باهلل؟
قال :أال ترى أنها طلبت الجار قبل الدار؟
قلت :أجل ..وقد كان ذلك من أدبها.
قال :ليس ذلك من األدب فقط ..بل قد ع99برت عن حقيق99ة من الحق99ائق
الكبرى.
قلت :فما هي؟
قال :ال لذة للجنة ..وال ألي شيء من غير هللا ..فلوال هللا ،وحضور هللا
لكانت الجنة خرابا على أهلها.
قلت :أجل ..فقد سمعت هللا ،وهو يتوعد الجاح99دين بالحج99اب ،فيق99ول:
{ َكاَّل ِإنَّه ُْم ع َْن َر ِّب ِه ْم َيوْ َم ِئ ٍذ َل َمحْ جُوبُونَ }(المطففين..)15 :
ق9ال :وله9ذا ق9ال الع9ارفون (:ليس خوفن9ا من ن9ار جهنم ،وال رجاؤن9ا
للحور العين ،وإنما مطالبنا اللقاء ،ومهربنا من الحجاب )
قلت :أهم يستهينون بالجنة ،أم تراهم يحتقرون النار؟
قال :ال ..ولكن معنى هذه الحقيقة شغلتهم عن كل شيء ،فلم يتصوروا
سعادة من دون هللا ..أال ترى المحبين كيف يغفلون عند رؤية مح99بيهم عن
اآلالم التي تحيط بهم!؟
قلت :أجل ..وقد عانيت بعض ذلك.
قال :فما وجدت؟
قلت :وجدت ما قال الشاعر:
أحر نار الجحيم أبردها وفي فؤاد المحب نار جوى
قال :فهل تستنكر ذلك؟
قلت :كي99ف لي أن أس99تنكر م99ا أعلم99ه من نفس99ي ..إن ن99ار الف99راق إذا
استولت على القلب غلبت النار المحرقة لألجسام ،فإن نار الف99راق ن99ار هللا
الموقدة التي تطلع على األفئدة ،ونار جهنم ال ش99غل له99ا إال م99ع األجس99ام..
وألم األجسام يستحقر مع ألم الفؤاد.
وليس هذا في اآلخرة فحسب ،بل في الدنيا شهادات كثيرة عليه ( ،فقد
رؤي من غلب علي99ه الوج99د ،فغ99دا على الن99ار وعلى أص99ول القص99ب
الجارحة القدم وهو ال يحس به لفرط غلب99ة م99ا في قلب99ه ،وت99رى الغض99بان
يستولي عليه الغضب في القتال فتصيبه جراح99ات وه99و ال يش99عر به99ا في
55
الح99ال ألن الغض99ب ن99ار في القلب ،واح99تراق الف99ؤاد أش99د من اح99تراق
األجساد ،واألشد يبط99ل اإلحس99اس باألض99عف كم99ا ت99راه فليس الهالك من
النار والسيف إال من حيث إن9ه يف9رق بين ج9زأين يرتب9ط أح9دهما ب9اآلخر
برابطة التأليف الممكن في األجسام ،فالذي يف99رق بين القلب وبين محبوب99ه
الذي يرتبط به برابط9ه ت9أليف أش9د إحكام9اً من ت9أليف األجس9ام فه9و أش9د
إيالما ً )()1
قال :صدق الغزالي ..فقد عبر عن هذه الحقيقة خير تعبير.
قلت :كل الربانيين عبروا عنها.
قال :أتدري سر لهج أهل الجنة بالتسبيح؟
قلت :لقد ورد النص على لهجهم بالتسبيح ،قال (:يأكل أهل الجن99ة
فيها ويشربون ،وال يتغوطون ،وال يتمخطون ،وال يبولون ،ولكن طعامهم
ذاك جشاء كرشح المسك ،يلهمون التسبيح والتحمي99د كم99ا يلهم99ون النفس)
( ..)2فما سر ذلك؟
قال :سر ذلك أنه ال لذة لشيء يخلو من ذكر هللا ..فل99ذلك يك99ون تس99بيح
أهل الجنة بمثاب99ة النفس عن9دنا ..ول99وال التنفس لم نتنعم بطع9ام وال ش99راب
وال متاع.
قلت :أال نس99تطيع أن نعمم ه99ذا على ارتب99اط الكث99ير من التص99رفات
العادية بذكر هللا؟
قال :أجل ..فالعارفون ال يفهمون من ه99ذه األوام99ر والس99نن إال ذل99ك..
أما الغافلون ،فيعتبرونها من التكاليف التي تنوء بها ظهورهم.
قلت :أذكرنا هلل نعمة إذن؟
قال :وهل يرتاح المحب إال لذكر حبيبه؟
قلت :لقد ذكرتني باعتباره الصالة قرة عينه.
قال :أجل ..فالصالة هي الموعد الذي يلقى فيه الحبيب حبيبه.
قلت :أرأيت لو حيل بين أرواح األولياء الطاهرة ،وبين هذه العندية؟
قال :يعدم كل موجود ،ويفنى ك99ل حي ،وييبس ك99ل مخض99ر ..أال تعلم
ما قال حاديهم؟
لم أدر إال وأنا أقول :أجل ..فقد قال أبو مدين:
فل99999999999وال مع9999999999انيكم تراه9999999999ا قلوبنا
) )(1إحياء علوم الدين.
) )( 2مسلم.
56
إذا نحن أيق9999999999اظ وفي الن9999999999وم إن غبنا
لمتن9999999ا أس9999999ى من بع9999999دكم وص9999999بابة
ولكن في المع999999999999ني مع999999999999انيكم معنا
الشعاع الرابع:
قلت :وعيت هذا ..فما الشعاع الرابع؟
9ار ِإ ْذ َيقُ99ولُ
قال :هو شعاع ينبع من ن99ور قول99ه تع9الىِْ {:إذ هُ َم99ا ِفي ْال َغِ 9
زَن ِإ َّن هَّللا َ َم َعنَا}(التوبة)40 :
اح ِب ِه ال تَحْ ْ
ص ِِل َ
قلت :فما في هذا الشعاع من حقائق االستغناء؟
قال :معية الوجود.
قلت :فما معية الوجود؟
قال :أرأيت لو أن رجال له ولد هو أحب الناس إلي99ه ال يس99تطيع فراق99ه
مع أنه ال ينتظر أي نصرة من9ه ..ثم غ9اب ول9ده غياب9ا ط9ويال جعل9ه يك9اد
ييأس منه ،ثم ظفر به ..ما هو أعظم ما يسليه إن أصابته األحزان؟
قلت :إن رؤيته لولده أو تذكيره به أكبر ما يمأل قلبه مسرة وفرحا.
قال :فكذلك األمر في هذا ..وهلل المثل األعلى.
قلت :ولكن هللا حاضر لم يغب ..فكيف تضرب هذا المثال؟
قال :هو حاضر لم يغب ..ولكن القلوب هي الغافلة الغائب99ة ..فل99ذلك إن
مألها هللا باإليمان والمحبة ،فلن تتأسف على شيء تفقده:
لكل شيء إذا فارقته عوض وليس هلل أن فارقت من عوض
قلت :أجل ..لقد ذكرتني بصنوف من الحكمة ذكره99ا األولي99اء ،ونش99ر
عطرها الصالحون.
قال :فما قالوا؟
قلت :لق99د ذك99روا في اإلش99ارة عن هللا تع99الى (:ال ت99ركنن إلى ش99ئ
دوني فإنه وبال عليك وقاتل ل99ك ،ف99إن ركنت إلى العلم تتبعن99اه علي99ك،
وإن آويت إلى العمل رددناه إليك ،وإن وثقت بالحال وقفناك معه ،وإن
آنست بالوجد استدرجناك في99ه ،وإن لحظت الخل99ق وكلن99اك إليهم ،وإن
اغتررت بالمعرفة نكرناها علي99ك ..ف99أي حيل99ة ل99ك ،وأي ق99وة مع99ك..
57
فارضنا لك ربا حتى نرضاك لنا عبداً)
وسئل أبو سليمان الداراني عن أفض99ل م99ا يتق99رب ب99ه إلى هللا،
فقال (:أقرب ما يتقرب ب99ه إلى هللا أن يطل99ع على قلب99ك ،وه99و ال يري99د
من الدنيا واآلخرة سواه )
قال :فالغارقون في بحر هذا الحب ال ي99رون غ99ير محب99وبهم ،وه99و ال
يغيب عنهم أبدا ..فلذلك ال يشعرون بالفاقة التي تمأل نفوس الخالئق.
قلت :أجل ..وقد قال قائلهم:
58
ب َع َل ْي ِه ْم َوال الضَّا ِّلينَ }(الفاتح99ة:ط الَّ ِذينَ َأ ْن َع ْمتَ َع َل ْي ِه ْم َغي ِْر ْال َم ْغضُو ِ ص َرا َ{ ِ
)7
قال :أال ترى فيهم األغنياء؟
قلت :ولكنهم بمنطق الق9رآن الك9ريم ليس لهم ح9ظ من ه9ذه النعم ..فهم
فقراء من هذه الزاوية.
قال :فلماذا تودون أن تكونوا مثلهم؟
قلت :نحن ننظر إلى الزخارف ال إلى الحقائق.
ق99ال :فع99د بن99ا إلى المنعم عليهم ل99ترى حق99ائق النعم وأص99ناف المنعم
عليهم.
قلت :إن المنعم عليهم في الق9رآن الك9ريم ليس9وا أثري9اء الع9الم الكب9ار،
وإنم99ا هم حفن99ة من من عب99اد هللا الص99الحين ال99ذين ق99د يحتق99رهم الخل99ق
لبذاذتهم ،وقد يرمونهم بالتخلف لسوء حالهم ،ولكن هللا أنعم عليهم ،وأطنب
ول في في ذكرهم ،فذكرهم إجماال في قوله تع99الىَ { :و َم ْن ي ُِطِ 9ع هَّللا َ َو ُ
الرَّسَ 9
َاء َو َّ
الص9ا ِل ِحينَ الشَ 9هد ِ َفأُو َل ِئكَ َم َع الَّ ِذينَ َأ ْن َع َم هَّللا ُ َع َل ْي ِه ْم ِمنَ النَّ ِبيِّينَ َو ِّ
الص9دِّي ِقينَ َو ُّ
َو َحسُنَ أُو َل ِئكَ َر ِفيقاً} (النساء)69 :
59
ثانيا ـ كنز القناعة
خرجت من قص9ر االس9تغناء ،وق9د جمعت ث9روة طائل9ة من ج9واهره
النفيسة..سرت مع المعلم في أرج9اء م9دائن الغ9نى بحث9ا عن قص9ر جدي9د،
لجمع جواهر جديدة.
فجأة وقفنا أمام قصر مهيب ،كل ما في99ه جمي99ل ،مس99تغن بم99ا في99ه عن
المدينة وأهل المدينة ،وكأنه معزول عنها تماما ،سألت المعلم عن سر ه9ذا
القصر ،فقال :هذا قصر القناعة ..فالقنوع مكتف بم9ا عن9ده ،ال تمت9د عين9اه
لغيره.
دخلت القص99ر ،فق99د ك99ان معي ج99واز االفتق99ار ،وإذا بي أرى مرش99د
القصر في حلة جميلة وطلعة بهي9ة ال تق9ل عن حل9ة وطلع9ة مرش9د قص9ر
االستغناء ،فتقدمت إليه ،وسألته ،مح99اوال إظه99ار خ99برتي بتل99ك القص99ور،
قلت له :أنا لي عالق9ة طيب9ة بالمرش9دين ،وق9د ص9حبت في األي9ام الس9ابقة
مرشدا ،ليتك رأيت ما يتمتع به من طاقات.
قال :بلى ..أعرفه.
قلت :أهو قريب9ك إذن أم ص9ديقك ،فالحرف9ة الواح9دة تجع9ل أص9حابها
أصدقاء رغم أنوفهم؟
قال :أنا أعرفه ال لصداقة بيننا..
قلت :إذن هو قريبك ..ولكن الشبه بينكما بعيد.
قال :ليس هو قريبي ،بل..
قاطعته قائال :فكيف عرفته إذن؟
قال :أنا هو..
بهت متأمال صورته محاوال إيجاد شبه بينهما ،ثم قلت :أهو أنت محبة
ومودة ،أم هو أنت شحما ولحما؟
قال :ما بك يا هذا ،أال ترى اإلنسان إال شحما ولحما!؟
قلت :اعذرني ،فأنا من قوم يقولون مثل هذا الكالم ،ولكن اصدقني م99ا
المعنى المجازي في قولك (:هو أنا )
قال :ليس هناك معنى مجازيا ،كل ما في األمر أني هو ،وهو أنا.
قلت :والصورة مختلفة!؟
قال :ألم تسمع عن سوق الصور؟
60
قلت :بلى ،قرأت ما رواه المحدثون عنه (:إن في الجنة لس99وقا م99ا
فيها شراء وال بيع إال الصور من الرج99ال والنس99اء ،ف99إذا اش99تهى الرج99ل
صورة دخل فيها )()1
قال :فهذا من ذاك.
قلت :ولكن ذاك في الجنة ،ونحن في الدنيا.
ق9ال :ولكن ..ألم تس9مع ب9أن األولي9اء تعج9ل لهم جن9انهم في ال9دنيا ،ألم
تسمع قول من قال (:في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة اآلخرة )؟
قلت :بلى.
قال :فهذا كذلك من ذاك.
ثم التفت إلي ،وق9ال معاتب9ا :دع9ك من األقنع9ة ،واقن9ع بالحقيق9ة ،وهلم
لتجمع كنوز القناعة ،وال تنس قلمك.
***
التفت إلى المعلم ،وقلت :كم طوابق هذ القصر ،وكم جواهره؟
قال :أربع :التدبير ،واالقتصاد ،والكفاية ،واألمن.
قلت :فما سر كون هذه الجواهر أربع ..أهو مجرد غرام باألربع؟
قال :ألن القناعة عالج الطمع والحرص.
قلت :وما في ذلك؟
قال :ألن الطمع والحرص ناتج عن أربع علل ،كل عل99ة منه99ا ت99داوى
بأشعة جوهرة من الجواهر.
قلت :فما هي ،وما سر انحصارها؟
ق999ال :الطم999ع والح999رص ناتج999ان من ف999راغ عظيم يج999ده الط999امع
والحريص ،أال ترى أن حروف الطمع جميعه9ا جوف9اء ..هي تش9به تمام9ا
نفس الطامع..
قلت :لعل النبي أشار إلى ذلك بقوله (:لو ك99ان البن آدم واد ألحب
أن يكون له ثان ،ولو كان له واديان ألحب أن يكون إليهما ث99الث ،وال يمأل
جوف ابن آدم إال التراب ،ثم يتوب هللا على من تاب)()2
قال :صدق ،فقد أشار إلى علة الحرص والطمع أتم إشارة.
قلت :وهذه الصفة ..ما عالقتها بالعلل الربع؟
61
قال :إن الفراغ ال9ذي يعاني9ه الط9امع يجعل9ه حريص9ا على ملئ9ه ،كم9ا
أخبر بأنه إن كان له واديان ،ومأل بهما جوفه ،يشعر بأن جوفه ال زال
يحتمل المزيد ،فيظل حبيس فقره وحاجته وطمعه.
قلت :وهذا إلى ما يؤدي ..ال زلت حريصا على سر األربع.
ق99ال :يؤدي99ه ـ أوال ـ إلى اختالط في تص99رفاته ،وجش99ع في تن99اول
األش99ياء ،مثل99ه كمث99ل من أدخ99ل س99وقا ممل99وءا ب99الكنوز ،ثم أعطي س99اعة
ليجمع منها ما يشاء ..ف9تراه في تل9ك الس9اعة ،وق9د اختل9ط علي9ه أم9ره ..ال
يدري كيف يتصرف ..وال ماذا يجمع؟ ..وال أين يضع؟
قلت :هذا صحيح ،فبم يعالج هذا؟
قال :يعالج بالتدبير والتنظيم والتثبت.
قلت :فما العلة الثانية؟
قال :الفراغ الذي يعانيه يجعله يسرف في تن9اول األش99ياء ،ألن9ه يعتق99د
أن جوفه ال زال يحتمل المزيد ،أال ترى الشره كيف يأكل فوق حاجته إلى
أن يصاب بالتخمة ،ال لكونه جائعا ،وال لكونه مشتهيا ،وإنما للمرض الذي
يعانيه!؟
قلت :مرض فراغ الجوف.
ق99ال :وه99و م99رض ال يق99ل خط99ورة عن كث99ير من األم99راض ال99تي
يحرص قومك على طلب عالجها.
قلت :فبم يعالج هذا؟
قال :باالقتصاد ،ألم تسمع أن االقتصاد نصف المعيشة!؟
قلت :بلى ..فما العلة الثالثة؟
قال :الفراغ الذي يعانيه الطامع والحريص يجعله يطلب أش99ياء كث99يرة
ال حاجة له إليه99ا حرص99ا على مأل فراغ99ه ،ه99و كمن يري99د أن يمأل حف99رة
عميقه ،فوضع فيها التراب ،فلم يك99ف ،فوض99ع فيه99ا الحج99ارة ،فلم تك99ف،
فراح يضع المزابل والقمامات.
قلت :فما وجه التشيه في هذا؟
ق99ال :ه99ذا ال99ذي ك99ان طمع99ه س99بب فق99ره ،فلم ينظم حيات99ه ،ولم ي99دبر
معيش99ته ،ولم يقتص99د ..س99يؤديه ذل99ك ال محال99ة لمزاب99ل الن99اس وقمام99اتهم
وأيديهم ليمأل جوفه.
قلت :فبم تعالج هذه العلة؟
62
قال :تعالج بالكفاية والزهد.
قلت :ولك99ني س99معت أن الزه99د داء ال دواء ..ودخي99ل على ال99دين ال
أصيل.
ق9ال :ذل9ك م9ا أس9معك قوم9ك ..أم9ا الحقيق9ة فهي أن الزه9د ه9و ب9اب
الكمال ،ومفتاح الغنى.
قلت :ولكنه يدعوني إلى الجوع.
قال :بل يدعوك إلى أن تقتصر من حياتك على ما يكفيك ويغني99ك ،فال
تمتد عيناك لغير ما جعل هللا لك من حاجات ..أريد أن أسألك سؤاال.
قلت :سل.
قال :لماذا يخيط نساجو قومك السراويل برجلين فقط ،ولم99اذا يكتف99ون
بصناعة قدمين لألحذية.
ضحكت وقلت :وهل رأيت رجال بثالثة أرجل أو بأربعة أقدام؟
قال :لو فقهوا سر هذا لما وجد في الدنيا فقير واحد؟
قلت :كيف؟
قال :ألن سبب الفقر هو استيالء الغني على مائدة الفق99ير ليض99يف إلى
مائدته أصنافا جديدة ،ول9و أن9ه زه9د واكتفى بم9ا يحتاج9ه ،ولم تمت9د عين9اه
لمائدة أخيه لعاش الجميع بالكفاية ..فاهلل تعالى أن99زل من األرزاق م99ا يكفي
الجميع ..ألم تسمع الحق وهو يقولَ {:و َق َّد َر ِفي َها َأ ْق َوا َت َها ِفي َأرْ َب َع ِة َأي ٍَّام َس َ 9وا ًء
ِللسَّا ِئ ِلينَ }(فصلت )10 :؟
قلت :فالزهد والكفاية إذن عالج لمرض الفقر.
قال :بل سم لقتله ،ورصاصة في نحره ،وحربة في صدره.
قلت :ولكن هناك من يسيء فهمه.
قال :إساءة الفهم ال تقلب الحق99ائق ..أرأيت ل99و أن الن9اس أجمع9وا على
أن الشمس برتقالة كبيرة وض9عت في الفض9اء ،لغ9رامهم بالبرتق9ال ،أك9ان
ذلك يغير من حقيقة الشمس؟
قلت :لو كان ذلك كذلك ألجمعوا على أن حج99ارة الجب99ال كله99ا عقي99ق
وزبرجد وجواهر ،وأن تربة األرض كلها دراهم ودنانير.
قال :فال تسمع لما يقال ..وابحث عن الحقيقة ..واكتف بها.
قلت :أين؟
قال :في نور البصيرة ،وبصيرة النور ..في كتاب ربك ..وفي الفط99رة
63
التي نور هللا بها بصيرتك.
قلت :فما العلة الرابعة؟
ق99ال :الف99راغ ال99ذي يعاني99ه الط99امع والح99ريص يجعل99ه خائف99ا على
المس9تقبل ،وك9أن ال9ذي رزق9ه الي9وم ق9د يحرم9ه غ9دا ..أو كأن9ه أم9ام رب
مزاجي يتصرف بحسب ذوقه ،ال بحسب ما تتطلبه حاجات عباده.
قلت :فإالم يؤدي هذا؟
قال :يؤدي إلى نسيان الحريص ليومه ،وانشغاله بي99ده ،فه99و ال يق99ول:
( أنا لدي اليوم ما يكفيني ،فأنا غني بفضل هللا ) ،بل يق99ول (:ليس ل99دي في
غد ما يكفيني ..فأنا فقير )
قلت :لقد أش9ار إلى ذل9ك بقول9ه (:ابن آدم عن9دك م9ا يكفي9ك ،وأنت
تطلب ما يطغي99ك ،ابن آدم ال بقلي99ل تقن99ع ،وال من كث99ير تش99بع ،ابن آدم إذا
أصبحت معافى في جس9دك آمن9ا في س9ربك( )1عن9دك ق9وت يوم9ك ،فعلى
الدنيا العفاء )( ،)2وفي حديث آخر أو في لفظ آخر ،ق99ال (:من أص99بح
منكم آمنا في سربه معافى في جسده وعنده ق9وت يوم9ه فكأنم9ا ح9يزت ل9ه
الدنيا )()3
قال :هذا حديث عظيم ..لو عملتم به لقهرتم الجوع ،وقتلتم الفقر.
قلت :كيف؟
قال :ألن خزائن األغنياء مملوءة بطعام الفقراء.
قلت :لماذا؟
قال :ألنهم يخافون أن تغور مياه األرض ،أو تجف عيون الس99ماء ،أو
تقوم أعشاب األرض وأشجارها بإضراب ،فال تنبت كأل وال تثمر ثمرا.
قلت :ولكن الحاجات ليست طعاما فقط ،والفقير عندنا قد يجد ما يأكل،
والغني ال يشح عليه بذلك ..ولكن هناك مشاكل أخرى ..هناك السكن ،وهو
أخطر المشاكل.
قال :والغني ال يكتفي من المسكن بما يؤويه كما ال يكتفي بالطع9ام بم9ا
يكفيه.
قلت :لقد ذكرتني بحديث ال أعلم مدى صحته ،يقول فيه (:ي99ا أيه99ا
الناس! أم9ا تس9تحيون! تجمع9ون م9ا ال ت9أكلون ،وتبن9ون م9ا ال تعم9رون،
) )(1السرب :بكسر السين وسكون الراء :المأوى.
) )(2ابن عدي والبيهقي.
) )(3البخاري في األدب والترمذي وابن ماجة.
64
وتأملون ما ال تدركون ،أال تستحيون من ذلك )
()1
ق9ال :أرأيت ل9و أن األم9وال المبذول9ة في قص9ور األغني9اء ب9نيت به9ا
مساكن بسيطة للفقراء ،أكان ذلك يعالج ما تسميه بمشكلة السكن.
قلت :بل يكفي لبناء مساكن فارهة ال بسيطة.
قال :فحرصكم إذن هو الذي أوقعكم في الفقر ،ال فضل هللا.
قلت :فما عالج هذه العلة الرابعة.
قال :األمن.
قلت :وما األمن؟
ق99ال :الثق99ة في فض99ل هللا ،والرض99ى بتق99دير هللا وتقس99يمه وأن تعيش
يومك وتسأل هللا لغدك.
قلت :فكيف أتحقق بهذه األدوية األربع.
قال :بأن تمأل جوفك بهذه األدوية األربع.
قلت :وأين أجدها؟
ق99ال :في ه99ذا القص99ر ،وب99التعرض ألش99عة ج99واهره ،وتفهم أس99رار
حقائقه.
***
تأملت ما قاله ،فإذا بخاطر جميل يلوح لي يملؤني نشوة وي99نزع بعض
الكدر ،لق9د قلت لنفس9ي :إن أك9ثر من ت9راهم من الفق9راء ال9ذين تح9زن لهم
ليسوا فقراء ،وإنم9ا هي أج9وافهم ال9تي جعلوه9ا كهاوي9ة عميق9ة ال يملؤه9ا
شيء.
وتذكرت حينها قوله (:ليس الغنى عن كثرة العرض ،ولكن الغنى
غنى النفس )()2
وذك99رت قول99ه ناص99حا (:إن ه99ذا الم99ال خض99ر حل99و ،فمن أخ99ذه
بسخاوة نفس بورك ل9ه في9ه ،ومن أخ9ذه بإش9راف نفس لم يب9ارك ل9ه في9ه،
وكان كالذي يأكل وال يشبع؛ واليد العليا خير من اليد السفلى)()3
وتذكرت قول9ه وه9و ي9بين منب9ع من من9ابع الفالح (:ق99د أفلح من
أسلم ،ورزق كفافاً ،وقنعه هَّللا بما آتاه )()4
65
وعلمت أن الم99راد ب99الفالح هن99ا ليس م99ا نتوهم99ه من قص99ره على
اآلخرة ،بل المراد به النجاح في كال الحياتين :الحي9اة ال9دنيا واآلخ9رة ،فاهلل
رب الدنيا واآلخرة.
جوهرة التدبير:
وقفت م99ع المعلم أم99ام أول ج99وهرة من ج99واهر ك99نز القناع99ة ،ألمأل
جوفي بأشعتها ،قال لي المعلم :هذه جوهرة نفيسة ..حقيقتها تخل9ق ب9أخالق
هللا.
قلت :هذا كالم خطير ،فما عالقة القناعة والفقر بصفات هللا؟
قال :أليس هللا هو المدبر؟
قلت :بلى ،ولكن ت99دبير هللا مختل99ف ،فخ99زائن هللا ال تنف99ذ ..وخزائنن99ا
محدودة مقدرة.
قال :وهذا ما يزيد في عمق اإلشارة.
قلت :لم أفهم.
ق99ال :ألم تس99مع قول99ه لس99عد عن99دما رآه يتوض99أ ،ويس99رف في
الوضوء (:ما هذا السرف يا سعد؟) ،فقال سعد (:أفي الوض99وء س99رف؟)،
فقال (:نعم ،وإن كنت على نهر جار )()1
قلت :بلى ،ولكن ما عالقة ذلك باإلشارة؟
ق99ال :ألن الن99بي أراد أن ي99بين لن99ا أن اإلس99راف ال يرتب99ط بكم
األشياء ،وإنما هو خلق ،فقد تجد الفقير يسرف ،والغني يقتصد.
قلت :هذا ص9حيح وواق9ع ،ولعل9ه من أس9باب الفق9ر ،ولكن م9ا عالقت9ه
باإلشارة؟
قال :إن هللا تعالى يملك كل شيء ،ومع ذلك دبر الكون ت99دبيرا محكم99ا
بحيث ال نجد زيادة وال نقصا في أي محل.
اسَ 9ي ِم ْن َفوْ ِق َه9ا
9ل ِفي َه9ا َر َو ِ
قلت :أهذا ما يشير إلي9ه قول9ه تع9الىَ {:و َج َع َ
اركَ ِفي َها َو َق َّد َر ِفي َها َأ ْق َوا َت َها ِفي َأرْ َب َع ِة َأي ٍَّام َس َوا ًء ِللسَّا ِئ ِلينَ }(فصلت)10 :؟
َو َب َ
قال :ومن ه9ذه اآلي9ة يتخل9ق الم9ؤمن بخل9ق الت9دبير ال9ذي يمأل جوف9ه
بالحق ال بالباطل ،وبالخير ال بالشر.
قلت :كيف ،فال أرى في اآلية ما يش9ير إلى ه9ذا ،ب9ل هي تتح9دث عن
عظمة الربوبية وتصرفها في الكون.
66
قال :إن هللا قدر أقوات األرض في أربعة أيام.
قلت :ولكن ما عالقة هذه بتدبير هللا ،ثم م99ا عالق99ة ت99دبير هللا بت99دبيرنا،
وقبل ذلك ما حقيقة هذا التدبير؟
قال :اسأل خبراء قومك ،وسيجيبونك.
قلت :بلى ..وقد درسنا في مراحل تعليمنا المختلفة الكثير من ذلك..
قال :وباإلضافة إلى ذلك ،فإن هللا تعالى دبر لألرض من األق99وات في
جوفها ما تتنعمون به اآلن مما لم يظفر به أسالفكم.
قلت :ولعل من يأتي بعدنا سيظفر بأقوات لم نظفر بها نحن.
قال :إن ذلك لكائن ،فقد قال وهو يحدثنا عما يختزنه المس99تقبل من
أح9داث (:ثم يرس9ل هَّللا ع9ز وج9ل مط9راً ال ي ِك ّن من9ه بيت م9در وال وب9ر
كالز َل َق ِة ،ثم يقال لألرض أنبتي ثمرت99ك و ِدرّي فيغسل األرض حتى يتركها َّ
ويب9ارك في
َ بركتك .فيومئذ تأكل العصابة من الرمانة ويس9تظلون ب ِقحْ ِفه9ا،
الرِّسل حتى إن ال ِّل ْق َح َة من اإلبل لتكفي الفئام من الناس ،و ال ِّل ْق َحَ 9ة من البق99ر
ة من الغنم لتكفي الفخذ من الناس )()1 لتكفي القبيلة من الناس ،وال ِّل ْق َح َ
ثم تمتم بينه وبين نفسه :ومن رحمة هللا أن ستره عليكم كما س99تر على
من قبلكم.
قلت :لم؟ فاهلل هو الجواد الكريم.
قال :ألنه لو أظهره لما تركتم منه أخضر وال يابس.
قلت :لم أفهم إلى اآلن كيف يكون التدبير خلقا من أخالق هللا.
قال :كيف تدبر المرأة الحكيمة شؤون بيتها؟
قلت :تحاول أن تحول من القلي9ل كث9يرا ،ومن الص9غير كب9يرا ،وتنظم
مصاريف البيت بحيث ال تصل إلى ضرورة ،وال تضطر إلى حاجة.
قال :أريد توضيحا أكثر لما تقول.
أحسست بانشراح لتحولي معلما ،فاندفعت أق99ول :أرأيت ل99و أن عائ99ل
البيت لم يكن يتسوق ـ لفاقته أو لض9رورة ـ إال يوم9ا واح9دا في األس9بوع،
فأتى بما يكفي ذلك األس9بوع ،فم9ا هي الم9دة ال9تي ينبغي أن تتعام9ل معه9ا
المرأة المدبرة لذلك الرزق الذي سيق لها؟
قال :أسبوع.
قلت :هذا ما تفعله الم9رأة الحكيم9ة الم9دبرة ،أم9ا الخرق9اء ،وال9تي هي
) )(1مسلم.
67
سبب فقر زوجها ،فإنها قد تضعه جميعه في القدر في يوم واحد.
قال مندهشا :وسائر األسبوع ،ماذا تفعل فيه؟
قلت :تقترض من جيرانها ،أو تضطر زوجها للسؤال والشحاذة.
قال :فسبب الفقر إذن قد يكون سوء التدبير.
قلت :هذا صحيح.
ثم التفت ،وقلت :ولكني إلى اآلن ال زلت مصرا على سؤالي.
قال :تقصد العالقة بين تدبير هللا وتدبير العبد.
قلت :أقصد سر كون التدبير تخلقا من أخالق هللا.
قال :لقد ذكرت لك بأن هللا دبر أقوات األرض في أربع99ة أي99ام ،أي أن
هذه األقوات تنزل بقدر معين ،بل إن القرآن الكريم سماها أقواتا ،والق99وت
هو الرزق المحدود المعتدل.
قلت :فذلك يشبه إذن تدبير المرأة الحكيمة.
قال :بل إن ت9دبير الم9رأة الحكيم9ة ه9و ال9ذي يش9به ه9ذا الت9دبير ،فهي
متخلقة بأخالق هللا.
قلت :نعم لقد دبرهللا رزق الرضيع ت9دبيرا حكيم9ا ،ولكن9ه وك9ل ت9دبير
حياتنا نحن الكبار لنا ،فليته دبرها كما يدبر الرضيع.
قال :ل9و ك9ان األم9ر ك9ذلك لم9ا احتجتم إلى ش9يء ..ولكن البالء ال9ذي
اقتضته خالفتكم اقتضى أن يوكل بعض من رزقكم لبعض.
قلت :ليس بعض رزقن99ا فق99ط ،ب99ل ك99ل رزقن99ا ،فنحن تحت رحم99ة
األغنياء.
قال :لو كان كل رزقكم بيد األغنياء لما عشتم لحظة واحدة.
قلت :كيف؟
مد يده إلي ،فأغلق فمي وأنفي ،فصحت بيدي ،وقد كدت أختنق :لم99اذا
تحاول قتلي ،ألست تلميذك؟ وهل أخطأت في شيء؟
قال :لقد أجبتك عن سؤالك.
قلت :كيف تجيبني ،وأنت تخنقني.
قال :تصور لو أن هؤالء األغني9اء ال9ذين تت9وهمهم ق9د ملك9وا رزق9ك،
فمنع9وك من9ه ،ملك9وا ه9ذا اله9واء ال9ذي تتنفس9ه ،أكنت تعيش بع9ده لحظ9ة
واحدة؟
قلت :كال ..إال إذا استعبدوني لمصالحهم.
68
قلت :صدقت ..فاهلل هو المدبر ،ولوال تدبيره لهلك الخلق جميعا.
قال :فخذوا من تدبير هللا ،وتخلقوا به ،لتحفظوا وجودكم ،وتقتلوا الفقر
الكافر الذي يتربص بكم ويستعبدكم.
قلت :أي فقر يتربص بنا ،ونحن نختزن ثروة الع99الم ،ألم تعلم م99ا أف99اء
هللا على بالد المسلمين من ثروات النفط ..الذهب األسود؟
ق99ال :إن هللا لم ي99رزقكم ذل99ك ال99ذهب لتعلق99وه على أعن99اق الحس99ان،
وته99دروه في المواخ99ير ،وإنم99ا لتنص99روا ب99ه المستض99عف ،وتمألوا ب99ه
البطون الخاوية ،وتطعم9وا ب9ه األف9واه الجائع9ة ،وتحمل9وه معكم لتنص9روا
دين هللا ،وترفعوا راية هللا.
قلت :ولكن راية هللا نرفعها على أجسادنا وجماجمنا.
قال :قبل أن ترفعوها على جماجمكم ارفعوها على أموالكم وأرزاقكم،
فاهلل دعا إلى الجهاد بالمال والنفس ،ال بالنفس فقط.
قلت :ص99دقت ،فإن99ه م99ا ي99أتي الجه99اد في الق99رآن الك99ريم ب99النفس إال
َ9اجرُوا َو َجاهَُ 9دوا ِفيويقترن بالجهاد بالم9ال ،ق9ال تع9الى {:الَّ ِذينَ آ َمنُ9وا َوه َ
ظ ُم د ََر َج ًة ِع ْن َد هَّللا ِ َوأُو َل ِئكَ هُ ُم ْال َفا ِئ ُزونَ }(التوبة:
يل هَّللا ِ ِبأَ ْم َوا ِل ِه ْم َو َأ ْنفُ ِس ِه ْم َأ ْع َ
َس ِب ِ
)20
قال :بل يقدم الجهاد بالمال على الجهاد بالنفس.
قلت :وهل في ذلك سر؟
قال :ألن من قدم نفسه سوف لن يستطيع تقديم ماله.
قلت :كيف؟
قال :ألنه ال يستطيع أن يتكسب.
قلت :فماذا تريد هذه اآليات أن تقول إذن؟
ق99ال :تري99د أن تق99ول لكم :اب99ذلوا جمي99ع جه99ودكم الخ99يرة ،ثم اجعل99وا
خاتمتها موتكم في سبيل هللا ،أو هي تق9ول لكم (:قب9ل أن تموت9وا في س9بيل
هللا ،حاولوا أن تحيوا في سبيل هللا )
قلت :ألجل ه9ذا إذن ق9ال (:خ9ير الن9اس من ط9ال عم9ره وحس9ن
عمله ،وشر الناس من طال عمره وساء عمله )()1
قال :بل ورد في حديث آخر ما هو أعظم من هذا ،قال (:ليس أحد
أفضل عند هللا عز وج9ل من م9ؤمن يعم9ر في اإلس9الم ،لتكب9يره وتحمي9ده
69
()1 وتسبيحه وتهليله )
قلت :ولكن م9ا عالق9ة ه9ذا كل9ه بالت9دبير ..ألم نخ9رج إلى االس9تطراد،
وأنت تعلم عيوبه؟
قال :ال ..ذاك تدبير الطعام ،وهذا تدبير الحياة ..والحكيم هو الذي يدبر
لمستقبله كما يدبر لبطنه ،ويدبر لنشأته اآلخرة كما يدبر لنشأته الدنيا.
قلت :نعم ،فقد أخبر عن كيفية ت99دبير الم99ؤمن آلخرت99ه فق99ال (:إن
ال99دين يس99ر ولن يش99اد ال99دين أح99د إال غلب99ه ،فس99ددوا وق99اربوا وأبش99روا،
واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة )()2
قال :وهذا يشبه تدبير اإلنسان ألمر دني99اه بحيث يح99اول الموازن99ة بين
حاجاته ،فيسد بعضها ببعض.
قلت :ما أعظم ما تشير إليه النصوص من معان ..ولكن..
***
ما قلت هذا الكالم حتى شعرت بجوهرة كريمة تنزل أعماق صدري،
تنجلي من نورها بعض الظلمات.
قلت في نفسي بع9دها :ل9و أن أك9ثر الفق9راء ال9ذين مألوا نفوس9هم هم9ا
وحزنا ،ومألوا العالم بكاء وعويال ،لو عرفوا كيف يتعايشون مع ح99التهم،
واطمأنوا بها ،كما يتعايش المرضى مع أمراضهم ،فيتن99اولون من الحمي99ة
م999ا يس999د ف999اقتهم النتفى فق999رهم وع999ادت إليهم ك999رامتهم ولم يحجبهم
اعتراضهم.
ب9ل إن من األغني9اء من يبتلي9ه هللا ب9المرض ،فيعيش في حمي9ة قاس9ية
دونها حمية الفقراء ،فما أهمية امتالء جيوب األغنياء ،وخواء بطونهم؟
ثم لماذا ال يعتبر الفقير بم99ا يحص99ل له99ؤالء ،فيحم99د هللا لك99ون حميت99ه
بسبب خارجي ،ال بسبب داخلي ،ولكونها ممكن9ة ال9زوال ال مس9تقرة في9ه،
وبكونها ال تؤثر في سير حياته وال سالمة عقله وال طمأنينة ضميره؟
ثم تذكرت األغنياء المترفين الذي دعاهم ج99زعهم وهلعهم وحرص99هم
إلى تدبير ال يكفيهم فقط ،بل يكفي أمما من الناس ،فمن األغني9اء في الع9الم
من له ثروة توازي ميزاني9ات دول بحاله9ا ،ثم ه9و ال يقن9ع بك9ل ذل9ك ،ب9ل
يفعل ما قاله (:لو كان البن آدم واد ألحب أن يكون له ثان ولو كان ل99ه
70
واديان ألحب أن يكون إليهم9ا ث9الث وال يمأل ج9وف ابن آدم إال ال9تراب ثم
يتوب هللا على من تاب)()1
جوهرة االقتصاد:
صعدت مع المعلم طابقا آخر في قصر القناعة ،فوجدنا شعاعا عظيما
متأللئا ،سألت المرشد عنه ،فقال :هذه ج99وهرة نفيس99ة من جواهرالقناع99ة،
اسمها االقتصاد.
قلت :نحن نعرف هذا االسم ،فهو الذي يس99ير سياس9ات الع99الم ،ويحكم
على شعوبها بالتقدم والتأخر.
ق9ال :ذل9ك من تح9ريفكم للمع9اني ،ألن اقتص9ادكم يق9وم على أه99وائكم
وتغليب مصالحكم ،مبتوتا عن األخالق والمثل.
قلت :ذلك شأن كل شيء عندنا ..فما االقتصاد عند أهل السالم؟
قال :اقتصاد أهل الس99الم يق99وم على توزي99ع ث99روات هللا لخل99ق هللا بم99ا
يتوافق مع مصالحهم جميعا ،فال نجيع بطن9ا لنش9بع بطن9ا ،وال نف9رغ جيب9ا
لنمأل جيبا ،وال نبيد أم99ة لتعيش أم99ة أخ99رى على ت99راب جماجمه99ا ،وتمأل
أنهارها من خالص دمائها.
قلت :كيف ذلك؟
ق999ال :إن هللا خل999ق رزق الخل999ق ليكفي الخل999ق ،أليس ه999و الك999افي
والحسيب!؟
اف َع ْب َدهُ}(الزم9ر 9،)36 :وق9ال ْس هَّللا ُ ِب َك ٍ قلت :بلى ،فقد قال تعالىَ {:أ َلي َ
آالف ِمنَ ْال َمال ِئ َكِ 9ة
ٍ تعالىِ {:إ ْذ َتقُولُ ِل ْل ُم ْؤ ِم ِنينَ َأ َل ْن َي ْك ِف َي ُك ْم َأ ْن يُ ِم َّد ُك ْم َر ُّب ُك ْم ِب َثال َث ِة
ُم ْنزَ ِلينَ }(آل عمران)124 :
قال :ولكنكم ـ للفراغ ال99ذي تش99عرون ب99ه في أج99وافكم ـ اعت99ديتم على
األرزاق التي جعلها هللا لغيركم.
قلت :كيف ذلك ،وهل يملك أحد أن يأخذ رزق أحد؟
قال :أجل ..أال يعتبر السارق معتديا على رزق غيره ،آخذا له بطريق
الحرام؟
قلت :أجل ،ولهذا عاقبه الشرع بتلك العقوبة الخطيرة ،ليقول ل99ه :ه99ذه
اليد لم أخلقها لك لتأخذ رزق غيرك ،بل لتأخ99ذ رزق99ك ،وتس99عى لرزق99ك..
ولكن ما عالقة هذا ب9ذاك ،فأغنياؤن9ا لم يس9تولوا على أرزاق غ9يرهم ،ب9ل
71
كسبوها بالطرق الصحيحة التي أقرها الشرع؟
قال :ولكنهم صرفوها في غ9ير م9ا ش9رع هللا ،فأج9اعوا بطون9ا كث9يرة
ليمألوا الفراغ الذي تشعر به أجوافهم.
قلت :أشيوعي أنت؟ إني أسمع في صوتك نبرة شيوعية.
قال :الشيوعي يهدم القصر ،لين9بي على أطالل9ه الك9وخ ،وال9ذي يه9دم
مصارع ،والمصارع لم يتعلم السالم ..وأنا معلم السالم.
قلت :فالرأسمالية في نظرك إذن أشرف؟
قال :الرأسمالية التهدم القصر وال الكوخ ،ولكنه9ا تم9ارس ك9ل الحي9ل
لتجعل من حجارة الكوخ لبنات جديدة تزين بها القصر.
قلت :وأنت ..وأهل السالم؟
قال :أنا ال أهدم القصر وال الكوخ ،ألني صاحب سالم ،ولك99ني أطلب
من صاحب القصر أن يزين الكوخ لكي ال يش99وه جم99ال قص99ره ،وليحف99ظ
التناسق في الكون.
قلت :أليس في طلبك صراع واعتداء على الحرية الشخصية لصاحب
القصر؟
قال :ال ..ألنه لوال الكوخ ما بني القصر.
قلت :وهؤالء الذين هدموا الكوخ أو القصر م99ا س99ر ه99دمهم ل99ه ..وهم
يزعمون أنهم أعيان اقتصاد.
ق9ال :ألنهم نظ9روا إلى أج9وافهم الفارغ9ة ..ولم ينظ9روا إلى الحقيق9ة..
فأحالهم ذلك إلى اإلسراف.
قلت :وما اإلسراف؟
ق99ال :ه99و مج99اوزة االعت99دال والت99وازن ال99ذي طب99ع هللا بهم99ا األش99ياء
جميعا ،فلذلك ال ترى فيها أي فطور.
َ9رى ِفي ت ِط َباق9اً َم9ا ت َ اوا ٍقلت :صدق هللا العظيم {:الَّ ِذي خَ َل َق َسْ 9ب َع َسَ 9م َ
ور}(الملك)3 : ط ٍ ص َر َهلْ ت ََرى ِم ْن فُ ُ ت َفارْ ِج ِع ْال َب َ ق الرَّحْ َم ِن ِم ْن َت َف ُ
او ٍ خَل ِ ْ
9ع ْال َب َ
صَ 9ر َك9رَّ َتي ِْن قال :إن لم يكفك ذلك لتبصر هذه الحقيق9ة ،فـ { ارْ ِج ِ
خَاسئاً َوهُ َو َح ِسيرٌ}(الملك)4 : صرُ ِ َي ْن َق ِلبْ ِإ َل ْيكَ ْال َب َ
قلت :لك99أني ب99ك تري99د أن تقحم99ني في م99ا أقحمت99ني في99ه في الط99ابق
السابق ،فتزعم لي بأن االقتصاد خلق من أخالق هللا.
قال :ما قلت ذلك ،فال نسمي هللا إال بما سمى به نفسه.
72
قلت :فقد قال {:يُ َدبِّرُ اأْل َ ْم َر }(السجدة ،)5 :ولم يقل (:يقتصد)
ق99ال :وم99ع ذل99ك فه99و يحب المقتص99دين ،ويبغض المس99رفين ،ف99إن لم
تقصد التشبه به ،فتشبه بما يحبه.
قلت :كيف يحب المقتصدين؟
قال :ألم تسمع إلى الحق تعالى ،وه99و يق99ولَ {:وال تُ ْسِ 9رفُوا ِإنَّهُ ال ي ُِحبُّ
ْال ُم ْسِ 99ر ِفينَ }(األنع99ام ،)141 :وه99و يحض على تن99اول نعم99ه من غ99ير
اش َ 9ربُوا إسراف ،قال تعالىَ {:يا َب ِني آ َد َم ُخ ُذوا ِزي َن َت ُك ْم ِع ْن َد ُكلِّ َمس ِْج ٍد َو ُكلُوا َو ْ
َوال تُس ِْرفُوا ِإنَّهُ ال ي ُِحبُّ ْال ُمس ِْر ِفينَ }(ألعراف)31 :
وقد يأخذ اإلسراف أسماء أخرى ،كلها ال يحبه99ا هللا ،وال يحب أهله99ا،
يل هَّللا ِ الَّ ِذينَ يُ َق9ا ِتلُو َن ُك ْم َوال تَعْ تَُ 9دوا ِإ َّن هَّللا َ ال ي ُِحبُّ
قال تع9الىَ {:و َق9ا ِتلُوا ِفي َسِ 9ب ِ
ْال ُمعْ َتِ 9دينَ }(البق99رة ،)190 :فالمعت99دي ق99د تج99اوز ح99د االعت99دال إلى الظلم،
فصار مسرفا ،ولذلك تقوم الحروب بسبب اإلسراف.
9ولَّى واإلسراف نوع خطير من الفساد ال يحبه هللا ،قال تع99الىَ {:و ِإ َذا َتَ 9
ث َوالنَّ ْسَ 9ل َوهَّللا ُ ال ي ُِحبُّ ْال َف َس9ادَ} ض ِليُ ْف ِسَ 9د ِفي َه9ا َويُ ْه ِل9كَ ْال َح9رْ َ َس َعى ِفي اأْل َرْ ِ
(البقرة)205 :
قلت :وق9د أخ99بر تع9الى ب9أن المب99ذرين إخ9وان الش9ياطين ،فق99الِ {:إ َّن
ان ِل َر ِّب ِه َكفُوراً}(االسراء)27 : ط ُ ين َو َكانَ ال َّش ْي َ اط ِْال ُم َب ِّذ ِرينَ َكانُوا ِإ ْخ َوانَ ال َّش َي ِ
قال :إن القرآن الكريم ـ هنا ـ يجع9ل التب9ذير والكف9ر في س9لة واح9دة،
أتدري لم؟
قلت :لم؟
ق999ال :ألن المس999رف ال يع999رف نعم هللا ،أو أن إس999رافه يجعل999ه يلتهم
األشياء التهاما يشغله عن معرفة مص9درها ،فل99ذلك ال يب99الي المس99رف م99ا
مأل جوفه أمن حالل ،أم من حرام ،وال يبالي أفي9ه منفع9ة ،أم في9ه مض9رة،
وال يبالي ما عاقبة ما يتناوله أسجن أم زنزانة أم موت ..ك99ل هم99ه أن يمأل
جوفه.
قلت :فالمسرف إذن يضر مصالحه.
قال :ال يضر مصالحه فقط ،بل يضر مص99الحه ،ومص99الح المجتم99ع،
ومصالح الدنيا ،ومصالح اآلخرة.
قلت :فهال تفصل لي مظاهر هذا اإلضرار ،فإن قومي ال يخ99افون من
شيء كما يخافون على مصالحهم.
73
قال :س99نتحدث عن مض99ار اإلس99راف وض99رورة االقتص99اد في حف99ظ
المصالح الخاصة والعامة ،فالفقر فقر افراد وفقر مجتمع99ات ،ومن الخط99أ
أن نعالج الفرد ،ونترك المجموع لألويئة تلتهمها.
المصالح الخاصة:
قلت :فلنبدأ بأثر اإلسراف في تهديم مصالح النفس؟
قال :إن هللا تعالى خل9ق لنفس اإلنس9ان ال9تي هي جس9م وروح طاق9ات
معينة وح9دودا مح9ددة ،فمن جاوزه9ا وق9ع في اإلس9راف ..ق9ل لي :ل9و أن
جه99ازا من أجه99زتكم الكهربائي99ة يحت99اج فق99ط إلى ف99رق كم99ون ق99دره 12
ف99ولت ،فأوص99له ش99خص بتي99ار كهرب99ائي ق99دره 380فول99ط ،م99ا يك99ون
مصيره؟
قلت :التلف.
ق99ال :ف99إن هللا خل99ق ألجس99امكم وأرواحكم ال99تي هي حقيقتكم ح99دودا
معينة ،فمن جاوزها حصل له التلف ،ال من هللا ،بل بما كسبت أي99ديكم ،ألم
9ار
طِ 9 طعْ تُ ْم َأ ْن َت ْنفُُ 9ذوا ِم ْن َأ ْق َ تسمع قوله تعالىَ {:يا َمعْ َش َر ْال ِجنِّ َواأْل ِ ْن ِ
س ِإ ِن ا ْس َت َ
ان}(الرحمن)33 : ض َفا ْنفُ ُذوا ال َت ْنفُ ُذونَ ِإاَّل ِبس ُْل َ
ط ٍ ت َواأْل َرْ ِ ال َّس َم َ
اوا ِ
قلت :أجل ..ويستدل البعض بهذا على إمكانية غزو اإلنسان للفضاء.
َ9ار َونُ َح 9اسٌ
اظ ِم ْن ن ٍ قال :ولكن هللا تعالى قال بعدها {:يُرْ َسلُ َع َل ْي ُك َما ُش َو ٌ
ان}(الرحمن ،)35 :أتدري لم؟ َفال َت ْنت ِ
َص َر ِ
قلت :لعل في هذا تنبيها للمخاطر ال99تي تع99ترض اإلنس99ان إن فك99ر في
سلوك هذا السبيل.
قال :ألن هللا تع9الى خل9ق األرض لإلنس9ان ،ولم يخل9ق ل9ه أي ك9وكب
آخر ،فإن فكر في الخروج منها حصل ل9ه م9ا حص9ل للعب9د اآلب9ق ،أو م9ا
حصل للفراش المتهافت على النار ،يحسبه لؤلؤا أو ياقوتا.
قلت :هذا قد يحص9ل في المس9تقبل ،وق9د ي9راد باآلي9ة غ9ير م9ا فهمن9ا،
ولكن أري99د معرف99ة أن99واع الض99رر ال99تي يحمله99ا اإلس99راف على مص99الح
اإلنسان في جسمه وروحه.
قال :أما روحه ،وهي حقيقته ،فقد وضع هللا لها قانونا تسير عليه ،فإن
جاوزته وقعت في اإلسرف.
قلت :أله99ذا ي99رد ذك99ر اإلس99راف في الق99رآن الك99ريم في غ99ير المأك99ل
والمشرب؟
74
قال :لكل ما يضر الجسد الظاهر قرين يضر الجسد الباطن ،ولكل م99ا
يضر الروح الظاهرة مثال يضر الروح الباطنة ،فالروح كالجسد ،لكليهما
صانع واحد.
قلت :لقد كنت أحتار في هذا ،ف9أقول :كي9ف اعت9بر هللا فع9ل ق9وم ل9وط
اء َب9لْ َأ ْنتُ ْم َق9وْ ٌم
ون ال ِّن َسِ 9
ال َشه َْو ًة ِم ْن ُد ِالرِّج َ
َ إسرافا ،فقال تعالىِ {:إنَّ ُك ْم َلت َْأتُونَ
ُمس ِْرفُونَ }(ألعراف)81 :
ق9ال :ألن هللا تع9الى خل9ق ح9دودا لل9ذة تتناس9ب م9ع حاج9ات اإلنس9ان
ومصالحه ،فالخروج بها كما خرج قوم لوط ،أو كما خرج قومك ،إسراف
عظيم.
قلت :قومي ليسوا سدوما وال عمورية؟
قال :سدوم وعمورية مجرد ناديين صغيرين من نوادي حضارتكم.
تص99بب ع9رقي حي9اء ،وقلت :نعم ،إن ق9ومي أس9رفوا كث99يرا في ه9ذه
األنواع من االنحراف حتى ابتدعوا ما عجزت عنه سدوم وعمورية.
قال :فكيف تزعم احترامهم لالقتصاد.
قلت :االقتصاد عندهم ال عالقة له بهذا ..بل دوره الوحيد ملء خ99زائن
الكبراء ،وإفراغ جيوب الضعفاء.
قال :ومع ذلك فإنهم لو احترموا ه99ذا الن99وع من االقتص99اد ،لحق99ق لهم
مصالح ما يعرفون من االقتصاد؟
قلت :كيف؟
قال :إن أك9ثر م9ا يح9زن ل9ه الفق9ير من ب9ني قوم9ك أن9ه لم يكن ل9ه من
الشهوات ما يتمتع به الغني.
قلت :هذا هو مقياس الفقر عندنا.
قال :ولم ال ينظر الفقير إلى ما عنده من المتاع الذي ق9د ال يوج9د مثل9ه
في قصر كسرى وقيصر!؟
قلت :كيف هذا؟
ق99ال :أليس في بيت أك99ثر الن99اس م99ذياعا يس99مع ب99ه أخب99ار الع99الم،
ومصباحا يضيء عليه أرجاء بيته؟
قلت :ب99ل أش99ياء كث99يرة ال تنق99ل ل99ه األص99وات فق99ط ،ب99ل األص99وات
والصور ..ولكن ما عالقة هذا بالمصالح االقتصادية؟
قال :ألن أخطر م9ا يف9رغ جي9وب المستض9عفين ه9و ذل9ك االس9تهالك
75
العشوائي لكل األش99ياء ،فيعيش99ون في نهم لك99ل ش99يء ،وال يظف99رون ب99أي
شيء ،ولو أنهم تماس9كوا وقبض9وا أي9ديهم قليال ،وق9تروا نوع9ا من التقت9ير
لوفروا ألنفسهم من السعادة واالستقرار ما يوفر لهم من السعادة م99ا تعج99ز
عنه اللعب التي يتفانون في جمعها.
قلت :فلنفرض أنه حصل ذلك؟
قال :سيرتفع شبح الفقر ،وسيسعد الناس جميعا ال بعض الناس.
قلت :ولكن ذلك قد يجعل خزائن األغني9اء متوقف9ة في ح9دود معين9ة ال
تتجاوزها.
قال :ولكنها حدود تكفيهم وترضي نهمهم.
قلت :ولكن نهمهم ال حدود له ،ألم تقرأ علي قول99ه (:ل99و ك99ان البن
آدم واد ألحب أن يكون له ثان ولو كان ل9ه وادي9ان ألحب أن يك9ون إليهم9ا
ثالث وال يمأل جوف ابن آدم إال التراب ثم يتوب هللا على من تاب )
قال :ولكنا لو أطعن9ا ه9ذا النهم لجعلن9ا األرض جميع9ا مزرع9ة في ي9د
غني واحد ،وجعلنا أهلها جميعا عبيدا بين يديه.
قلت :هذه حقيقة.
قال :وهذا مبدأ الصراع.
قلت :لهذا صارعت الشيوعية.
قال :ولهذا تصارع الرأسمالية ،وكل من يصارع يهلك.
قلت :الشيوعية سقطت ،ولكن الرأسمالية في أوج عنفوانها.
قال :والرأسمالية سقطت في أوج عنفوانها؟
قلت :كيف؟
قال :ستبدي لك األيام ما كنت جاهال.
قلت :ويأتيك باألخبار من لم تزود ..هذا شعر وأنا أريد ن99ور البص99يرة
أو بصيرة النور؟
قال :إن هللا تعالى توعد المجتمعات المسرفة بالخراب.
قلت :أين؟وكيف؟
قال :سنعرف ذلك عند الحديث عن مضار االسراف العام99ة ،أم99ا آلن
فنحن في مضار اإلسراف الخاصة.
قلت :عرفت ضرر اإلسراف على مصالح الروح ،فم99ا مض99اره على
مصالح الجسد؟ فقومي أحرص على أجسادهم من كل شيء.
76
ق9ال :لق9د رب9ط الح9ق تع9الى بين تن9اول الش9هوات وبين االقتص9اد في
ت عْرُوش 9ا ٍ َ ت َم مواضع من القرآن الكريم ،فقال تعالىَ {:وهُ َو الَّ ِذي َأ ْن َش 9أَ َجنَّا ٍ
الز ْيتُ9ونَ َوالرُّ َّمانَ ُمت ََش9ا ِبهاً ال9زرْ َع ُم ْخ َت ِلف9اً أُ ُكلُ9هُ َو َّ
ت َوالنَّ ْخَ 9ل َو َّ َو َغي َْر َمعْرُو َشا ٍ
صا ِد ِه َوال تُس ِْرفُوا ِإنَّهُ ال َو َغي َْر ُم َت َشا ِب ٍه ُكلُوا ِم ْن َث َم ِر ِه ِإ َذا َأ ْث َم َر َوآتُوا َحقَّهُ َيوْ َم َح َ
ي ُِحبُّ ْال ُمس ِْر ِفينَ }(األنعام)141 :
قلت :لقد ذكر تعالى في هذه اآلية ما أنعم به على عب99اده من نعيم ،فاهلل
هو الذي خلق ان99واع البس99اتين والم99زارع الحاوي99ة على أن99واع األشـجـار
والنباتات ،فمنها ما يعتمد في موقفه على األعمدة والع99روش حيث تحم99ل
م99ا ل99ذ وط99اب من الـفـواكه والثم99ار ،وتخلب بمنظره99ا الس99احر العي99ون
واأللباب ،ومنها ما ال يحتاج الى عريش ،ب9ل ه9و قـائم على س9وقه يلقي
بظالل99ه الوارف99ة على رؤوس االدم99يين ،ويس99د بثم99اره المتنوع99ة حاج99ة
االنسان الى الغذاء.
قال :وبعد أن أغرى الحق تعالى عباده بتن99اول ه9ذه الش99هوات بين لهم
ضوابط تناولها ،وهي ثالثة :األكل منها واإلنفاق واالقتصاد.
قلت :كيف يكون األكل ضابطا من ضوابطها ،وهو ضرورة؟
قال :ليرد على الذين حرموا ما أحل هللا ،واعتقدوا الكم99ال في التعف99ف
عما رزق هللا من الطيبات ،ألم تسمع قول99ه تع9الى {:قُ99لْ َم ْن َح99رَّ َم ِزي َنَ 9ة هَّللا ِ
ق قُ9لْ ِه َي ِللَّ ِذينَ آ َمنُ9وا ِفي ْال َح َي9ا ِة الُّ 9د ْن َيا ْ
ال9رِّز ِ ت ِمنَ الَّ ِتي َأ ْخ َر َج ِل ِع َبا ِد ِه َو َّ
الط ِّي َبا ِ
ت ِل َقوْ ٍم َيعْ َل ُمونَ }(ألعراف)32 : ص ًة َيوْ َم ْال ِق َيا َم ِة َك َذ ِلكَ نُ َفصِّلُ اآْل يا ِ
خَا ِل َ
قلت :تقصد الزهاد.
ق9ال :ال ..الزه9اد من األولي9اء ،واألولي9اء يفهم9ون عن هللا وي9أتمرون
بأمر هللا ،وإنم9ا أقص9د الرهباني9ة ال9تي ق9ال الح9ق تع9الى فيه9اَ {:و َر ْه َبا ِنيَّ ًة
ا ْب َت َد ُعوهَا } (الحديد)27 :
قلت :ولكن من زهاد هذه األمة من وقع في مثل هذه الرهبانية.
قال :فال نسميه زاهدا.
قلت :فماذا نسميه؟
قال :راهبا ،كما سماه القرآن الكريم.
قلت :فما الضابط الثاني؟
قال :ترك اإلسراف ،ألن من أكل فوق حاجته كان كمن يري99د أن يمأل
خزان وقود سيارته بربطه بعين ماء مغدقة ،أو ببئر متدفق.
77
قلت :لعل هذا ما يشير إلي99ه قول99ه (:الم99ؤمن يأك99ل في معي واح99د
والمنافق يأكل في سبعة أمعاء)()1
قال :أتدري سر ذلك؟
قلت :وما سر ذلك؟
قال :ألن المؤمن ـ حقيقة اإليم99ان ـ ممتلئ ثق99ة بفض99ل هللا ،فال يش99عر
بالفراغ الذي يشعر به الكافر والجاحد والذي لم يكتب اإليمان في قلبه.
قلت :ألهذا إذن قال تعالىَ {:والَّ ِذينَ َك َفرُوا َي َت َمتَّ ُع99ونَ َو َي9ْ 9أ ُكلُونَ َك َم99ا ت َْأ ُك9لُ
اأْل َ ْن َعا ُم}(محمد ،)12 :أي هم في دنياهم يتمتعون بها وي9أكلون منه9ا كأك9ل
األنعام ،خضماً وقضماً ليس لهم همة إال في ذلك.
قال :ولهذا ربط هللا تعالى بين اإلسراف والكفر كما مر معن99ا ،فالك99افر
ال يرى في النعم9ة م9ا ي9راه الم9ؤمن من فض9ل هللا ،فينش9غل بتناوله9ا كم9ا
تنشغل البهائم بالرعي.
قلت :ولكنا نرى السمنة في بالد المسلمين فاشية ،بل تكاد ت99بز غيره99ا
من األمم ،فكيف يرتبط المفر باإلسراف؟
قال :نحن نتحدث عن الحقيقة ،وال يهمنا من تلبس بها أو عري عنه99ا،
وقد ورد في النصوص إنكار السمنة ،فال ينبغي غض الطرف عنها لكون
األمة مصابة بها ،فالحق أحق أن يتبع.
قلت :تقص99د قول99ه (:إن خ99يركم ق99رني ثم ال99ذين يل99ونهم ثم ال99ذين
يل9ونهم ثم يك9ون من بع9دهم ق9وم يش9هدون وال يستش9هدون ويخون9ون وال
يؤتمنون وينذرون وال يوفون ويظهر فيهم السمن )()2
قال :صدق رسول هللا .. هذا هو االقتصاد.
قلت :فالس99من إذن ظ99اهرة خط99يرة ..ولكن99ا يمكن أن نتخلص منه99ا
بالرياض99ة ،ب99ل هن99اك أدوي99ة كيمياوي99ة يكفي دهن الجل99د به99ا ليتخلص من
الدهون الزائدة.
قال :ولماذا يدخلها أصال حتى يبحث عن مخرجها؟
قلت :إنها شهوة المطعم ،فهل حرم هللا لذائذ األطعمة؟
ق99ال :أكلم99ا اش99تهى أح99د ش99يئا أكل99ه ،ألم تس99مع قول99ه (:إن من
اإلسراف أن تأكل كل ما اشتهيت)( .. )3وتجشأ بعضهم عند رسول هللا
) )(1البخاري وغيره.
) )(2الترمذي والحاكم.
) )(3ورد في سنن ابن ماجة.
78
فق9ال ل9ه (:أقص9ر عن9ا من جش9ائك ،إن أط9ول الن9اس جوع9اً ي9وم القيام9ة
أكثرهم شبعا ً في الدنيا )()1
قلت :فلنعد لم99ا ورد في اآلية()2من ض99وابط التعام99ل م99ع نعم هللا ،فق99د
ذكرنا األكل واإلسراف ،فم9ا مح9ل اإلنف9اق في ه9ذا المح9ل ،ولم9اذا رب9ط
باإلسراف؟
قال :ألن المسرف في األك9ل والش9رب وتن9اول الش9هوات لن يبقى ل9ه
من المال ما ينفق منه ،أو يبقى له ما ي9دخره لنفس9ه ال9تي ال تش9بع ..أو ه9و
في انشغاله بمأل الفراغ الذي يعاني منه ال يفكر في اإلخ9راج ب9ل يفك9ر في
اإلدخال ،وال يفكر في اإلطعام ،بل يفكر في االستطعام.
قلت :ألهذا قال (:طعام الواحد يكفي االثنين ،وطع99ام االث99نين يكفي
األربعة ،وطعام األربعة يكفي الثمانية )()3
قال :ولكن هذا ال يك9ون إال لمن م9رن نفس9ه ،فلم ي9دع الف9راغ النفس9ي
يؤثر فيه ،وال للشهوات أن تتحكم في سلوكه ..ارج99ع لقوم99ك ،وادعهم إلى
االشتغال باهلل ،وب99أمر هللا ،فس99يملؤون ك99ل ف99راغ ،ف99إن الش99ره يه99رب إلى
الطعام ليهرب من الحقيقة ،ولو أنه امتأل بها لكفته.
أال ترى أنك في انشغالك بفرح أو حزن ال تكاد تستقر اللقم9ة في فم9ك
حتى تنهض عن طعامك غير عابئ بلذته.
قلت :نعم ،ذلك صحيح ،وكل الناس يحصل منهم ه99ذا ..لق99د أرش99دتني
إلى دواء جديد للسمنة ،فالسمنة عندنا ظاهرة خطيرة.
ق99ال :ولكنكم تعالجونه99ا ـ كش99أنكم في ك99ل ش99يء ـ باالتج99ار فيه99ا،
فتنتج9ون العق99ارات والس9موم ،لتص9وركم أن اإلنس9ان مجموع99ة وظ99ائف
بيولوجية أو ظواهر فيزيائية ال حقيقة من الحقائق العليا.
قلت :فقد نهينا عن اإلسراف ،فما مضاره على أجسادنا؟
قال :ألم تعلم أن المعدة بيت الداء؟
قلت :كما أنها بيت الدواء.
قال :هي بيت الدواء إن احترمت ما ي99دخل إليه99ا ،أم99ا إذا لم تحترم99ه،
فستكون بيتا ال لداء واحد ،بل ألدواء كثيرة.
) )(1مجمع الزوائد للهيثمي.
ُ
ْرفوا إِنَّهُ ال ي ُِحبُّ
صا ِد ِه َوال تُس ِ َّ ْ َ
) )(2هي قوله تعالىُ :كلُوا ِم ْن ثَ َم ِر ِه إِ َذا أث َم َر َوآتُوا َحقهُ يَوْ َم َح َ
ْال ُمس ِ
ْرفِينَ (األنعام)141:
)(3مسلم.
79
قلت :أأنت تقول إذن ما قال ابن سينا؟
قال :وما قال ابن سينا؟
قلت :لقد قال:
ص999ر
وحُس999ن الق999و ِل في قِ َ جمعت الطبَّ في بي9999999تين ُ
جمع99999999999999999999999999999999999999999ا ً الكالم
تجنّب ،والش999999999999فا ُء في فقلّل إن اكلتَ وبع999د أكل
اإلنهض99999999999999999999999999999999999ام
الطع9999ام على
ِ من إدخ9999ال وليس على النف999وس أشُّ 999د
ح999999999999999999999999999999999999999999االً الطع999999999999999999999999999999999999999ام
قال :بل أقول ما قال طبيب األطباء وحكيم الحكم99اء (:م99ا مأل ابن
آدم وعاء شراً من بطنه ،بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه ،فإن كان البد
ال فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه)()1 فاع ً
المصالح العامة:
قلت :لقد عرفنا مضار اإلسراف ،ومحاس99ن االقتص99اد على المص99الح
الخاصة ،فما ضرره على المصالح العامة.
قال :المصالح العامة هي المصالح الخاص9ة ،وض9رر األف9راد ض9رر
المجتمع ،ألم يقل (:المؤمنون كرجل واح9د ،إن اش9تكى رأس9ه اش9تكى
كله ،وإن اشتكى عينه اشتكى كله )()2
قلت :ذلك للمؤمن ،ونحن نتحدث مع الناس جميعا م99ؤمنهم وك99افرهم،
فالمصالح العامة مصالح البشر جميعا.
قال :ألم يقل الحق تعالى لليهود ،وقد كانوا كفرة {:ثُ َّم َأ ْنتُ ْم ه َُؤ ِ
الء َت ْقتُلُونَ
َأ ْنفُ َس ُك ْم }(البق9رة ،)85 :فق9د ع9بر الح9ق تع9الى عن قتلهم لبعض9هم بعض9ا
بقتلهم ألنفسهم.
قلت :نعم ..فما األضرار المرتبطة بهذا الجانب.
قال :الهالك الذي توع99د هللا ب99ه المس99رفين ،والهالك إذا ح99ل بقري99ة لم
يميز صالحها من فاسدها ،وال طيبها من خبيثها.
) )(1أحمد والترمذي وابن ماجة والحاكم.
)(2مسلم.
80
قلت :تقص99د م99ا ورد في الق99رآن الك99ريم من اإلخب99ار بم99ا حص99ل
ص َد ْقنَاهُ ُم ْال َو ْعَ 9د َفأَ ْن َج ْي َن99اهُ ْم َو َم ْن ن ََش9ا ُء َو َأ ْه َل ْك َن99ا
للمسرفين ،كقوله تعالى {:ثُ َّم َ
ْال ُمس ِْر ِفينَ } (االنبياء ،)9 :وقولهُ {:م َس َّو َم ًة ِع ْنَ 9د َربِّكَ ِل ْل ُم ْسِ 9ر ِفينَ }(ال99ذريات:
)34
قال :ولذلك قال تعالىَ {:وال تُ ِطيعُوا َأ ْم َر ْال ُمس ِْر ِفينَ }(الشعراء)151 :
قلت :وما سر النهي عن طاعتهم ،وما عالقة ذلك بهالك األمم؟
قال :سر النهي عن طاعتهم هو م9ا ع9بر عن9ه الح9ق تع9الى بقول9ه في
ُصِ 999لحُونَ } ض َوال ي ْ اآلي999ة التالي999ة لتل999ك اآلي999ة {:الَّ ِذينَ يُ ْف ِسُ 999دونَ ِفي اأْل َرْ ِ
(الش9عراء ،)152 :فهم ال يكتف9ون باإلفس9اد فق9ط ،ب9ل يض9يفون إلي9ه ت9رك
اإلصالح.
قلت :كنت أتصور أن ذكر اإلفساد وحده كاف ،فلماذا ذكر مع99ه ت99رك
اإلصالح؟
قال :ألن اإلفساد قد يقع ،فيأتي اإلصالح فيسد مواق99ع الفس99اد ،ويحمي
الخلق من أضراره ،لكنه إن اجتمع اإلفساد مع ت99رك اإلص99الح ك99ان ذل99ك
الفساد شديدا.
9ار َو ُز َلف9اً قلت :فذلك ما يشير إليه قوله تعالىَ {:و َأ ِق ِم الصَّال َة َ
ط َر َف ِي النَّ َه ِ
ت َذ ِلكَ ِذ ْك َرى ِلل َّذا ِك ِرينَ }(هود)114 : ت ي ُْذ ِه ْبنَ ال َّس ِّيئَا ِ
ِمنَ اللَّي ِْل ِإ َّن ْال َح َسنَا ِ
ق99ال :نعم ..ألم أق99ل ل99ك إن الس99نن ال99تي تحكم األف99راد هي ال99تي تحكم
المجتمع99ات ،والس99نن ال99تي تحكم ال99دين هي ال99تي تحكم ال99دنيا ..ألن ربه99ا
جميعا واحد؟
قلت :فهمت ما تعلق بهذا في الدين ،ألنه أمر غيبي ،ولكني لم أفهم م99ا
يتعلق بذلك من الدنيا ،ومن مصالح الناس.
قال :قد وضع هللا في جميع مص9الح ال9دنيا من الف9رص م9ا يص9لح ب9ه
المخطئ ما أفسده ،فإن فعله سد منافذ الفساد ووقي المجتمع ش99ر انحراف99ه،
وإن ترك اإلصالح استقر الفساد ،واشتد عوده ،ح9تى يص9ل إلى درج9ة ال
يمكن أن يصلح أبدا.
قلت :فهال ضربت لي مثاال يوضح لي هذا المعنى.
قال :لو أن أحدهم رمى بعود ثقاب في غابة في حر ش99ديد ،أليس ذل99ك
إفسادا؟
قلت :نعم ،فلألشجار حرمة ال تقل عن حرمة البشر.
81
قال :فإن أس9رع وأطفأه9ا قب9ل أن تتمكن وتنتش9ر ،أال يك9ون ب9ذلك ق9د
واجه الفساد باإلصالح؟
قلت :أجل ،يكون قد عمل حسنة لتمحو أثر خطيئة.
قال :ولكنه إن تركها حتى انتشرت ،وعمت الغابة ،أكان يمل99ك حينه99ا
القدرة على اإلصالح؟
قلت :ال ..بل يخرج األمر من يده ،بل قد يخرج األمر من يد المطفئين
أنفس99هم ..فنحن نس99مع الحرائ99ق الهائل99ة ال99تي تعج99ز ال99دول العظمى عن
إطفائها.
قال :فلذلك أخ99بر هللا تع99الى عن المس99رفين أنهم ال يفس99دون فق99ط ،ب99ل
يفسدون ،ويتركون اإلصالح.
قلت :فليس ترك اإلصالح إذن مرادفا للفساد؟
قال :ليس في القرآن الك9ريم مرادف9ات وال تك9رارا ،ب9ل في ك9ل كلم9ة
معنى جديد ،وحقائق جدي9دة ،ألم تس9مع قول9ه تع9الى في وص9ف كتاب9ه {:ال
خَل ِف ِه َت ْن ِزيلٌ ِم ْن َح ِك ٍيم َح ِمي ٍد}(فصلت،)42 : اطلُ ِم ْن َبي ِْن َي َد ْي ِه َوال ِم ْن ْ َي ْأ ِتي ِه ْال َب ِ
والتكرار لغو ،واللغو باطل ،والقرآن الكريم منزه عن اللغو.
قلت :فهمت ه99ذا ..ولكن م99ا عالق99ة ذل99ك ب99الهالك الع99ام ال99ذي يحي99ق
بالمسرفين؟
قال :ألم تسمع رسول هللا ،وهو يقول (:يكون في آخ99ر ه99ذه األم99ة
خسف ومسخ وقذف ،قيل :ي9ا رس9ول هللا! أنهل9ك وفين9ا الص9الحون؟ ق9ال:
( نعم ،إذا كثر الخبث )( ،)1فقد اعتبر كثرة الخبث سببا للهالك العام.
بل أشار إلى هذا قوله تعالىَ {:و ِإ َذا َأ َر ْدنَا َأ ْن نُ ْه ِل9كَ َقرْ َيً 9ة َأ َمرْ نَ9ا ُم ْت َر ِفي َه9ا
ق َع َل ْي َه9ا ْال َق9وْ لُ َفَ 9د َّمرْ نَاهَا تَْ 9د ِميراً}(االس9راء ،)16 :فت9أمير َف َف َس9قُوا ِفي َه9ا َف َحَّ 9
المترفين أو تكثيرهم مؤذن بهالك القرى ،وهل المترفون إال المسرفون؟
قلت :اضرب لي أمثلة على هذا ،لعلي أعي ما تقول.
قال :سأضرب لك على هذا أربعة أمثلة.
المثال األول:
قلت :أعلم غرامك باألربع ،فهات المثال األول.
قال :أنتم تسرفون في السيارات.
قلت :السيارات ضرورة ،فهي من المراكب التي خلقها هللا لنا ،ألم يقل
) )(1الترمذي.
82
9ال َو ْال َح ِمَ 9
9ير ِلتَرْ َكبُو َه99ا َو ِزي َنً 9ة َو َي ْخلُ ُ 9
ق َم99ا ال 9ل َو ْال ِب َغَ 9 الح99ق تع99الىَ {:و ْالخَ ْيَ 9
تَعْ َل ُمونَ } (النحل)8 :
قال :وكذلك الطعام ،فهو من الخلق الذي خلقه هللا لنا ،وم99ع ذل99ك ك99ان
متعرضا لإلسراف.
قلت :فما اإلسراف في السيارات؟
ق99ال :ه99ذا الكم الهائ99ل من الس99يارت بأنواعه99ا المختلف99ة ،وأثمانه99ا
المرتفعة ،والتي ال يحتاج إلى أكثرها أال تؤذي ـ بالخراب الذي تنش99ره في
الجو ـ ماليين الرئات التي ال تتنفس هواء ،وإنما تتنفس سموما.
قلت :هذا صحيح ،فالبيئ9ة في خط9ر ،ولكن كي9ف يص9لحون لي9درؤوا
منافذ الفساد؟
قال :بترك اإلسراف ،فما حل اإلسراف في شيء إال أفسده ،ألم تس99مع
ت َأيِْ 9دي النَّ ِ
اس 9ر ْال َف َس9ا ُد ِفي ْال َب9رِّ َو ْال َبحِْ 9ر ِب َم9ا َك َسَ 9ب ْ ظ َه َقول الح9ق تع9الىَ {:
عْض الَّ ِذي َع ِملُوا َل َعلَّه ُْم َيرْ ِجعُونَ }(الروم)41 : ِليُ ِذي َقه ُْم َب َ
قلت :نعم ،فاهلل تعالى يرجع الفساد الذي ظهر في البر والبح99ر إلى م99ا
كسبت أيدي الناس.
قال :وهذه االختراعات الكثيرة التي تفخرون به99ا وتتك99اثرون به99ا من
هذا النوع من اإلفساد.
قلت :أفنحرم السيارات إذن على الناس؟
قال :الُ {:ق9لْ َم ْن َح9رَّ َم ِزينََ 9ة هَّللا ِ الَّ ِتي َأ ْخَ 9ر َج ِل ِع َب9ا ِد ِه}(ألع9راف،)32 :
ولكن نكف شرهم على الناس باإلصالح الذي أم99ر هللا ب99ه ،فال تمل99ك ه99ذه
المخترعات التي تجتمع فيها المص9الح م9ع المفاس9د إال بش9روط أهمه9ا أن
يصلح المفسد ما أداه إليه فساده.
قلت :أتقصد أن تغرم شركات السيارات واألفراد غرامات تص99لح من
البيئة ما فسد؟
ق99ال :ه99ذا ال يكفي ،فالفس99اد ليس متعلق99ا بالبيئ99ة وح99دها ،ب99ل إن ه99ذا
المثال ،وهو واحد من آالف األمثلة له عالقة بعقد الحياة جميعا.
قلت :فنأمرهم إذن بشراء دراجات هوائي99ة تغ99نيهم عن الع99وادم وعم99ا
تخلفه العوادم.
ابتسم ،وقال :إن قبلوا منك ذلك ،فانصحهم به.
المثال الثاني:
83
قلت :فما المثال الثاني؟
قال :هو ما عبر عنه بقوله (:وأن ترى الحفاة العراة العال99ة رع99اء
الشاء يتطاولون في البنيان )()1
قلت :هذا حديث عن عالمة من عالمات الساعة ،فما عالقته بهذا؟
قال :وهل عالمات الساعة إال عالمات لهالك األرض واألمم؟
قلت :ولكن هذه العالمات أخبار ،وهي ال تحم99ل أي مع99نى تش99ريعي،
فال يستطيع أحد أن يستدل بهذا على تحريم التطاول في البنيان.
قال :نحن ال نتحدث عن الحالل والحرام ..فذلك للفقهاء ..ولكنا نتحدث
عن أثر هذا النوع من اإلسراف في الخراب والفساد والهالك.
قلت :فال أرى في هذا أي فساد ،بل هو العمران والحض99ارة وال99رقي،
فلوال التقدم العلمي الذي وصلت إليه البشرية ما حققنا هذه المنجزات؟
قال :ولكن النبي لم يقل (:يطيلون البنيان ) وإنما ق9ال (:يتط99اولون
في البنيان ) وهو ما فعلتموه ،فوقعتم في اإلسراف.
قلت :أتقصد أن التفاخر في التطاول في البنيان هو اإلسراف ال إطال99ة
البنيان؟
ق99ال :نعم ،وه99و م99ا نط99ق ب99ه ،فليس محرم99ا أن يطي99ل الش99خص
ف ِم ْن بنيانه ،وقد قال تعالى في بني9ان الجن9ةَ {:ل ِك ِن الَّ ِذينَ اتَّ َق9وْ ا َربَّه ُْم َله ُْم ُغ َ
9ر ٌ
9ف هَّللا ُ ْال ِمي َع99ادَ}
ف َم ْب ِنيَّةٌ تَجْ ِري ِم ْن تَحْ ِت َه99ا اأْل َ ْن َه99ارُ َو ْعَ 9د هَّللا ِ ال ي ُْخ ِلُ 9
َفوْ ِق َها ُغ َر ٌ
(الزمر ،)20 :ولكن المحرم أن يتطاول في البنيان.
قلت :وما الفرق بينهما ما دامت النتيجة واحدة؟
قال :ال ..ليست النتيجة واح9دة ،فالمتط9اول في البني9ان ق9د يب9ني م9ا ال
حاجة له إليه ،ألن غرضه ليس مأل جوفه الفارغ فقط ،وإنما ليظهر انتفاخ
جوفه أمام جيرانه.
قلت :ذكرتني بقول ابن رشيق القيرواني:
ْتضِ 9د
مقت9در فيه99ا و ُمع ِ ٍ أسماء أرض
ِ مم99ا يزه99دني في
س أن9999999999999999999999999999999999999دل ٍ
ص9وْ لة ك99اله َّر يحكي انتفاخ9ا ً َ غ999ير
ِ ألق999ابُ مملكٍ 999ة في
موضِ 999999999999999999999999999999999عها األسِ 9999999999999999999999999999999999999999999د
)(1البخاري ومسلم.
84
المثال الثالث:
قال :صدق شاعركم ،وقد كانت تلك األلقاب المنتفخة التي أسرف فيها
حكام األندلس سببا في خراب األندلس.
ابتسمت وقلت :وهل في األلقاب أيضا إذن إسراف؟
ق99ال :نعم ..وأعظم إس99راف ..أليس99ت واجه99ات المحالت هي األلق99اب
التي تعرف بالمحالت؟
قلت :نعم.
قال :فكذلك األلقاب هي التي تع99رف بأص99حابها ،وت99دعو إليهم ،ألس99تم
توزعون األلقاب كما تشاءون ،فتسمون الجاهل بالحكيم ،والفاسق بالفن9ان،
والمرابي برجل األعمال؟
قلت :بلى.
ق999ال :وال تكتف999ون بألق999اب ال999دنيا ،فتض999يفون إليهم ألق999اب اآلخ999رة
وأجزيتها؟
قلت :كيف؟
ق99ال :أال تقول99ون عن ال99داعر الفاس99د ال99ذي يس99ب هللا في ظالم اللي99ل
وضوء النه9ار إذا م9ات (:تغم9ده هللا برحمت9ه ،وأس9كنه فس9يح جنان9ه ) فلم
ترضوا أن تسكنوه الجنة حتى أسكنتموه فسيحها.
قلت :أجل ،وما في ذلك؟
قال :ألم تسمع ما روي عن أم العالء -وك99انت ب99ايعت رس99ول هّللا
قالت (:طار لهم في السكنى حين اقترعت األنصار على سكنى المهاجرين
عثمان بن مظعون ،فاشتكى عثمان فمرَّضناه ح99تى إذا ت99وفي أدرجن99اه في
أثوابه ،ف9دخل علين9ا رس9ول هّللا ،فقلت (:رحم9ة هّللا علي9ك أب9ا الس9ائب
شهادتي عليك ،لقد أكرمك هّللا تعالى ،فقال رسول هّللا (:وما ي99دريك أن
هّللا تع99الى أكرم99ه؟) ،فقلت (:ال أدري ب99أبي أنت وأمي ) ،فق99ال رس99ول هّللا
(:أما هو فقد جاءه اليقين من ربه وأني ألرجو له الخير ،وهّللا ما أدري
وأنا رسول هّللا ما يفعل بي ) ،قالت ،فقلت (:وهّللا ال أزكي أحداً بعده أب99داً )
()1
فهذا رسول هللا يقول عن نفسه هذا ،وقد قال تعالى مش99يرا إلى ه99ذا
ت ِب ْدعاً ِمنَ الرُّ س ُِل َو َما َأ ْد ِري َما يُ ْف َع9لُ ِبي َوال ِب ُك ْم ِإ ْن َأتَّ ِبُ 9ع
المعنى {:قُلْ َما ُك ْن ُ
)(1البخاري.
85
ين} (االحقاف)9: ُوحى ِإ َل َّي َو َما َأنَا ِإاَّل َن ِذيرٌ ُم ِب ٌ
ِإاَّل َما ي َ
قلت :أهذا أيضا من اإلسراف؟
قال :ب9ل من أخط9ر اإلس9راف ،فمث9ل ه9ذا الق9ول ال9ذي يحم9ل روائح
التألي على هللا يجعل من أولئك األقزام الملطخين أولياء ص99الحين يته99افت
الخلق على االقتداء بهم.
قلت :لقد استطردنا ،فهات المثال الثالث.
قال :لم نستطرد ،بل هذا هو المثال الثالث.
قلت :أهو اإلسراف في األلقاب ،واإلسراف في توزيع الجنان.
ق99ال :ليس ه99ذا فحس99ب ،ب99ل تس99رفون في تعظيم عص99ركم وتبجيل99ه،
وتعتبرونه القمة التي وصل إليها التاريخ ،وكأن ما قبلكم مقدمات لكم وأنتم
النتيج9ة ،أو ك9أن م9ا قبلكم همج ب9دائيون ،وأنتم وح9دكم أرب9اب الحض9ارة
وصناعها ،وهذا كله مؤذن بهالككم.
قلت :كيف يكون سببا لهالكنا؟
قال :ألم يقل من قبلكم مثل قولكم ،فهلكوا؟
9ر ْال َحِّ 9ق ض ِب َغ ْيِ 9اس َ 9ت ْك َبرُوا ِفي اأْل َرْ ِ
قلت :أتقصد قوله تعالىَ {:فأَ َّما عَا ٌد َف ْ
َو َقالُوا َم ْن َأ َش ُّد ِمنَّا قُ َّو ًة}(فصلت ،)15 :فرد هللا عليهم بقولهَ {:أ َو َل ْم َي َروْ ا َأ َّن
هَّللا َ الَّ ِذي خَ َل َقه ُْم هُ َو َأ َش ُّد ِم ْنه ُْم قُ َّو ًة َو َكانُوا ِبآيا ِتنَا َيجْ َح ُدونَ } (فصلت)15 :
قال :بل أقصد قول كل جبار عنيد ..ألم يقل فرعون ما يقوله أسيادكم..
صَ 9ر َوهَِ 9ذ ِه اأْل َ ْن َه9ارُ تَجِْ 9ري ِم ْن تَحْ ِتي َأ َفال 9ك ِم ْ ْس ِلي ُم ْل ُ ألم يقلَ {:ي9ا َق9وْ ِم َأ َلي َ
ْصرُونَ } (الزخرف ،)51 :فما كان جزاؤه؟ تُب ِ
قلت :فخ99ر باألنه99ار ال99تي تج99ري من تحت99ه ،فأجراه99ا هللا من فوق99ه،
وكانت سببا لهالكه.
قال :فليعتبر قومك بفرعون وعاد ،فلم يذكرهما هللا في كتاب99ه قصص99ا
ولهوا ،وال أحداثا وتاريخا ،وإنما هي سنته في عباده.
المثال الرابع:
قلت :فهات المثال الرابع.
قال :أنت تسرفون في اللهو واللعب وفرص الراحة.
قلت :وهذا مما ال شك في إباحته إن انضبط بالضوابط الشرعية.
قال :كل شيء ينضبط بالضوابط الش99رعية مب99اح ،ولكن99ا نتح99دث عن
اإلس99راف ،ف99أنتم تمل99ؤون األرض بمئ99ات القن99وات الفض99ائية ،وآالف
86
المس99ارح والمالعب ،ومئ99ات اآلالف من دور الله99و ،وماليين اللعب من
كل األصناف.
قلت :وما الخطر في هذا؟
قال :أنتم تشغلون الناس عن حياتهم ورسالتهم وحق99ائقهم ،فتقتل99ونهم ال
بإهالك أجسادهم ،وإنما بقتل أرواحهم.
قلت :كيف ذلك ،وهل اللهو ـ الذي هو فرح الروح ـ قتل لها؟
ق999ال :ألم يق999ل الش999يطان {:ثُ َّم آَل ِت َينَّه ُْم ِم ْن َبي ِْن َأيِْ 999دي ِه ْم َو ِم ْن ْ
خَل ِف ِه ْم َوع َْن
َأ ْي َما ِن ِه ْم َوع َْن َش َما ِئ ِل ِه ْم َوال ت َِج ُد َأ ْك َث َرهُ ْم َشا ِك ِرينَ }(ألعراف ،)17 :فهذا تعب99ير
عن محاصرة الشيطان لإلنسان من كل الجهات وتوس99له إلى إغوائ99ه بك99ل
وسيلة ممكنة ،وسعيه في إضالله بكل طريق.
ق99ال :نحن نع99بر به99ذا األس99لوب في حياتن99ا اليومي99ة ،فنق99ول :فالن
حاصرته ال9ديون أواالم9راض من الجه9ات االرب9ع ،ولكن م9ا عالق9ة ه9ذا
بحياة اللهو اللعب التي نعتبرها من عالمات التحضر في هذا العصر؟
قال :لقد أجبت عن سؤالك ،فالذي يحاص99ر من الجه99ات األرب99ع ،ه99ل
يجد له وقتا يجلس فيه مع نفسه يفكر ويتأمل؟
قلت :كيف؟
قال :أنتم تمألون برامج يومكم مأل تاما ،فال تتركون لحظ99ة تتفرغ99ون
فيها لحقائقكم ،بل قد تعتبرون كث99يرا من القض99ايا ال99تي يس99أل عنه99ا العق99ل
السليم ،أو تتطلبها الفطرة النقية ،والتي جعلها هللا س99ببا لط99رق باب99ه ،ج99دال
فارغا ،أو ترهات ال معنى للبحث فيها.
قلت :أريد مثاال على هذا أكثر توضيحا.
ال الَّ ِذينَ َك َفرُوا ال َت ْس َمعُوا ِل َهَ 9ذا ْالقُ99رْ ِ
آن قال :أتعلم معنى قوله تعالىَ {:و َق َ
َو ْال َغوْ ا ِفي ِه َل َعلَّ ُك ْم ت َْغ ِلبُونَ }(فصلت)26 :
قلت :نعم ،فاهلل تعالى يخبر عن المشركين أنهم تواص99وا فيم9ا بينهم أن
ال يطيعوا القرآن وال ينقادوا ألوامره ،فإذا تلي ال يسمعوا له.
قال :وبماذا توسلوا إلى ذلك؟
قلت :باللغو ،وهو ـ كما قال مجاهد ـ المك99اء والص99فير والتخلي99ط في
المنط99ق على رس99ول هّللا إذا ق99رأ الق99رآن ..وك99انوا يلغ99ون بقص99ص
اسفنديار ورستم كما فع9ل مال9ك بن النض9ر ليص9رف الن9اس عن الق9رآن،
ويلغون بالصياح والهرج .ويلغون بالسجع والرجز..
87
قال :كل ذلك أساليب قديمة ،أم9ا في عص9ركم ،فق9د تط9ورت أس9اليب
الشيطان في المحاصرة كما تطورت أساليب سدنته في اللغو.
قلت :أتقصد أن كل هذه المحالت التي يوزع فيه99ا الله99و بالمج99ان هي
نوع من أنواع المحاصرة واللغو؟
قال :نعم ..هي زنازين تحاصر المدمنين عليها ..ليحيوا حياتهم جميع99ا
فال يعرفوا من أين ابتدأوا ،وال أين سينتهون.
قلت :أهذا هو خطر هذه الوسائل الحديثة؟
قال :هذا جزء من مخاطرها ..أم9ا خطره9ا األك9بر ،فهي أنه9ا ق9والب
كتلك القوالب التي تضعون فيه9ا الفخ9ار لتكون9وا منه9ا أواني ت9أكلون فيه9ا
وتشربون.
قلت :فهل اإلنسان آنية فخار ،حتى يوضع في القوالب؟
قال :نعم ألن أرباب المصالح من المترفين يأبون إال أن يشكلوا عقول
الناس وقلوبهم وأهواءهم بحسب ما تتطلبه خزائنهم من أم99وال ،وف99راغهم
من شغل.
قلت :كيف؟
قال :هم يمجدون الرذيلة ،إن كانت س99ببا لكس99ب ي99در عليهم األرب99اح،
وهم يحقرون الفضيلة ،ويرمونه99ا بأبش99ع التهم إن وقفت ح99ائال بينهم وبين
مآربهم.
قلت :فلو سمعوا بك إذن لقتلوك؟
ق99ال :هم ال يس99تطيعون قتلي ،ولكن يس99تطيعون التش99ويش علي ،ومن
شوش عليك خنق صوتك ،ومن خنق صوتك قتله.
قلت :ومن قتل صوتك قتلك.
قال :ال ..لن يستطيع ..يوشك أن يهلك الباطل ل99يرتفع ص99وت الح99ق،
اط 9لُ ِإ َّن فالحق ال يموت ،ألم تسمع قوله تعالىَ {:وقُلْ َج 9ا َء ْال َحُّ 9ق َوزَ هََ 9ق ْال َب ِ
اط َل َكانَ زَ هُوقاً}(االسراء)81 : ْال َب ِ
قلت :فكيف يكون هذا النوع من اإلسراف سببا للهالك؟
قال :لقد سمعت اآلية ،فالباطل الذي يصادم الحق ال بقاء له ،ألم تس99مع
ت َأوْ ِد َي9ةٌ اء َم9ا ًء َف َس9ا َل ْ 9زَل ِمنَ َّ
السَ 9م ِ هذا المث9ل ال9ذي ض9ربه هللا تع9الىَ {:أ ْن َ
ار ا ْب ِتغَ9ا َء ِح ْل َيٍ 9ة َأوْ
ِب َقد َِرهَا َفاحْ َت َم َل ال َّسيْلُ زَ َبداً َرا ِبياً َو ِم َّما يُو ِقُ 9دونَ َع َليِْ 9ه ِفي النَّ ِ
الز َب ُد َف َي ْذهَبُ جُ َفا ًء َو َأ َّما َمااط َل َفأَ َّما َّ
ق َو ْال َب َِاع زَ َب ٌد ِم ْثلُهُ َك َذ ِلكَ َيضْ ِربُ هَّللا ُ ْال َح َّ
َمت ٍ
88
ال}(الرعد)17 :؟ ض َك َذ ِلكَ َيضْ ِربُ هَّللا ُ اأْل َ ْم َث َث ِفي اأْل َرْ ِ
اس َف َي ْم ُك ُ
َي ْن َف ُع النَّ َ
قلت :فكيف يكون هذا الهالك ،أبخسف أم بمسخ؟
قال :ال يكون بخسف وال بمس99خ ،ولكن الباط99ل س99يقتل نفس99ه بنفس99ه..
سينتحر انتحارا بطيئا..
ثم غاب نظره في األفق البعي9د ،وق9ال بص9وت ال يك9اد يس9مع :لك9أني
أراه اآلن يمسك سكينا مسموما ،وهو يقط99ع أج9زاءه إرب9ا إرب9ا ،وه99و بين
ذلك يرسل ضحكات مختلطة بأنات كالمجنون.
قلت :يا معلم ،فهو اآلن إذن ينتحر.
قال :إن أول خطوة يخطوها كل باطل خطوة يتقدم بها نحو الموت.
قلت :لقد ذكرتني ،فقد أخبرت99ني عن هالك ه99ذا النظ99ام ال99ذي يس99تولي
على دفة العالم ،فكيف ذلك ،ونحن نراه في أوج قوته؟
قال :هو اآلخر ينتحر كانتحار كل باطل ،وال تزيده السنون التي يمهل
فيها إال سقوطا فوق سقوط وانحدارا فوق انحدار.
قلت :هم ال يقبلون هذا إال بأرقام.
قال :وهم ال يؤمنون باألرقام؟
قلت :بل هم ال يؤمنون إال بها ،ألسنا في عصر األرقام؟
قال :لو كانوا يؤمنون بها لوصولوا إلى الحقيقة من أقرب أبوابها؟
قلت :كيف؟
ق99ال :هي ذي اإلحص99ائيات أم99امهم ..االنتح99ار ..التل99وث ..اإلدم99ان..
الشذوذ ..العصابات ..الجرائم ..اإلبادة..
وغ99رق المعلم في الع99د ،فقلت :أظن أن99ني اقتنعت ،فاإلس99راف س99بب
الهالك.
قال :هالك الفقير والغني.
َّ ْ َ
قلت :ص99دق هللا العظيم إذ ق99الَ {:وال تُ ِطيعُ99وا أ ْم َ
99ر ال ُم ْسِ 99ر ِفينَ ال ِذينَ
ض َوال يُصْ ِلحُونَ }(الشعراء 151 :ـ )152 يُ ْف ِس ُدونَ ِفي اأْل َرْ ِ
جوهرة الزهد:
صعدت مع المعلم طابقا آخر في قصر القناعة ،فوجدنا شعاعا عظيما
متأللئا ،سألت المرشد عنه ،فقال :هذه جوهرة نفيسة من ج99واهر القناع99ة،
اسمها الزهد.
قلت :نحن نعرف هذا االسم ،لكن قومي يمقتونه ويسبونه ويض99حكون
89
على أهل999ه ،ويكتب999ون الكتب الكث999يرة في ال999رد عليهم ،ويحاض999رون
المحاضرات الطويلة ليحاصروهم ويحبسوهم.
قال :عن أي زهد يتحدثون؟
قلت :هم يطلقون القول إطالقا..
قال :أخطأ من أطلق ،فالحكمة تطلب التقييد ،ألم تسمع إلى الحق تعالى
ب أُ َّمةٌ َقا ِئ َم 9ةٌ َي ْتلُ99ونَ وهو يقول عن أهل الكتابَ {:ل ْيسُوا َس َوا ًء ِم ْن َأ ْه ِل ْال ِك َت99ا ِ
ت هَّللا ِ آنَا َء اللَّي ِْل َوهُ ْم َيسْجُ ُدونَ }(آل عمران)113 :؟ آ َيا ِ
ألم تسمع إلى القرآن الكريم في حديثه عن األعراب؟
قلت :اشتد عليهم القرآن الك99ريم اش99تدادا عظيم99ا ،لم99ا ص99در منهم من
أنواع االنحراف ،قال تعالى {:اأْل َ ْع َرابُ َأ َش ُّد ُك ْف9راً َو ِن َفاق9اً َو َأجْ 9دَرُ َأاّل َيعْ َل ُم9وا
زَل هَّللا ُ َع َلى َرسُو ِل ِه َوهَّللا ُ َع ِلي ٌم َح ِكي ٌم}(التوبة 9،)97 :وقال تع9الى{: حُ ُدو َد َما َأ ْن َ
9رةَُ9ربَّصُ ِب ُك ُم الَّ 9د َوا ِئ َر َع َل ْي ِه ْم دَا ِئ َ ق َم ْغ َرم9اً َو َيت َ ب َم ْن َيتَّ ِخ ُذ َم9ا يُ ْن ِفُ 9 َو ِمنَ اأْل َ ْع َرا ِ
ال َّسوْ ِء َوهَّللا ُ َس ِمي ٌع َع ِلي ٌم}(التوبة)98 :
قال :ولكن حكمة القرآن الكريم ت99أبى أخ99ذ ال99برئ ب99ذنب الج99اني ،فق99د
ب َم ْن ي ْ
ُ99ؤ ِم ُن أثنى هللا على األعراب ثناء عظيما ،فقال تعالىَ {:و ِمنَ اأْل َ ْع َرا ِ
ول َأال ِإنَّ َه9االرَّسِ 9 ُ تصَ 9ل َوا ِ ت ِع ْنَ 9د هَّللا ِ َو َ
ق قُرُ َب9ا ٍِباهَّلل ِ َو ْال َيوْ ِم اآْل ِخ ِر َو َيتَّ ِخ ُذ َما يُ ْن ِف ُ
قُرْ َبةٌ َله ُْم َسيُ ْد ِخلُهُ ُم هَّللا ُ ِفي َرحْ َم ِت ِه ِإ َّن هَّللا َ َغفُورٌ َر ِحي ٌم}(التوبة)99 :
قلت :ف99أنت تق99ول إذن ب99أن الزه99اد كأه99ل الكت99اب واألع99راب منهم
المحسن ،ومنهم المسيء.
قال :نحن ال نتحدث عن ه9ذا اآلن ،ف9ذلك موض9وع آخ9ر ..نحن نري9د
هنا تبيين دور الزهد بمعناه الص99حيح في تربي99ة النفس على القناع99ة ،وفي
مأل الف9راغ ال9ذي ينش9ئه الطم9ع ،وفي قت9ل الفق9ر ال9ذي يج9ر ص9احبه إلى
الكفر.
قلت :ولكن الحكم99اء من ق99ومي يقص99رون الزه99د على األغني99اء ،ففيم
يزهد الفقير!؟
ق99ال :الزه99د مق99ام من مقام99ات ال99دين ،وخل99ق من أخالق المرس99لين،
ووصف من أوصاف األولياء والصالحين ،ال يحرم منه مؤمن لفق99ره ،وال
يبعد عنه لغناه.
قلت :كي99ف ذل99ك ،ف99الفقير ليس لدي99ه م99ا يزه99د في99ه ،وق99د قي99ل لبعض
الصالحين :يا زاهد ،فقال (:الزاهد عمر بن عب99د العزي99ز ،إذ جاءت99ه ال99دنيا
90
راغمة فتركها ،وأما أنا ففيماذا زهدت )
قال :ما كان له أن يقول غير ذلك ،وإال لكان مدعيا.
قلت :إن قومي يفهمون من قوله هذا قصر الزهد على الكبراء.
قال :أصابوا وأخطأوا.
قلت :هذا تناقض ..أو بين لي فيم أصابوا ،وفيم أخطأوا؟
قال :أصابوا في كون الزهد ال يظهر وال يكمل معناه إال في األغني9اء،
وأخطأوا في حصره فيهم ،ففرق بين أن يكمل فيك الشيء ،وبين أن يكون
فيك أصله.
قلت :اضرب لي على ذلك مثاال.
ق9ال :أرأيت ل9و ك9ان في بيت9ك مائ9ة ص9رة من ال9ذهب الخ9الص ،ولم
يسمع بها أحد ،أكنت بها غنيا ال تحل لك الزكاة.
قلت :أجل ،ألني أستطيع صرفها في أي لحظة.
قال :ولكن الناس بسبب عدم رؤيتهم لها قد يعتبرونك فقيرا.
قلت :ذلك أرحم لي ،وال يضرني ما اعتقدوا.
قال :فإن أظهرتها بما اشتريت من المتاع.
قلت :خرجت من وصف الفقر إلى وصف الغنى.
قال :في نظرهم ،أم في حقيقة الحال؟
قلت :في نظرهم ،ألني كنت غنيا قبل نظرهم ،بدليل ع9دم ح9ل الزك9اة
لي.
قال :فكذلك الزهد.
قلت :فما وجه المقارنة؟
قال :أي س9لوك أو مق9ام من مقام9ات ال9دين ال ينف9ك عن ثالث9ة أم9ور:
العلم والحال والعم9ل ،ف9العلم دافعه9ا ،والح9ال حقيقته9ا ،والعم9ل مظهره9ا
وثمرتها.
قلت :اضرب لي مثاال على ذلك من الحس ،فإني ال أكاد أفهم المع99اني
المجردة.
قال :أرأيت لو قربت إلى نار لتحرق بلظاها ،ماذا كنت ستفعل؟
قلت :أصيح وأولول ،وأدفع بجهدي كله من يريد أن يلقيني فيها.
قال :فهذا العمل ،أتعلم أنه لم يكن ليحص9ل من9ك م9ا حص9ل ل9وال العلم
والحال.
91
قلت :كيف؟
قال :علمك بأن النار محرقة مأل نفسك رعبا منها ،وذلك ال99رعب ج99ر
إلى ذلك الصياح الذي وقعت فيه.
قلت :فهمت اآلن ،ولكن ما عالقة ذلك بزهد الفقراء واألغنياء.
قال :أرأيت لو أن ذلك العدو الذي أراد إلقاءك في النار لم يفع99ل ،أو لم
يوجد ،أتقول بأن حال الخوف من النار ال يوجد فيك؟
قلت :ال ،ب99دليل أني ل99و تعرض99ت في أي لحظ99ة ل99ذلك ألب99ديت نفس
السلوك.
قال :فكذلك الزهد ،فهو في الفقير قوة كامنة ،وفي الغني قوة ظاهرة.
قلت :ولذلك إذن نهاهم ذلك الصالح عن تلقيبه بالزاهد خشية أن يلقب99وا
به كل فقير.
قال :نعم ..فقد يكون الفقير أحرص على الدنيا من الغني ،ولكنه يس99تر
حرصه بإظهار الزهد.
قلت :فبين لي سر الزهد وحقيقته ،فقد شوقتني إليه.
قال :لقد عرفنا عند الحديث عن القناعة أن الطامع هم99ه من حيات99ه أن
يمأل جوفه.
قلت :نعم بدليل قوله (:لو كان البن آدم واد ألحب أن يكون له ثان
ولو كان له واديان ألحب أن يكون إليهما ث9الث وال يمأل ج9وف ابن آدم إال
التراب ،ثم يتوب هللا على من تاب )()1
قال :وذكرنا بأن الفراغ الذي يعانيه الط9امع والح9ريص يجعل9ه يطلب
أشياء كثيرة ال حاجة له إليها حرصا على مأل فراغه.
قلت :نعم ،وقد شبهته حينها بمن يري99د أن يمأل حف99رة عميق99ه ،فوض99ع
فيه99ا ال99تراب ،فلم يك99ف ،فوض99ع فيه99ا الحج99ارة ،فلم تك99ف ،ف99راح يض99ع
المزابل والقمامات.
قال :فهذا هو الفرق بين الزاهد والح99ريص ،فالزاه99د ال يش99عر بف99راغ
جوفه فلذلك يملؤه بالقوت من الحالل من غير أن تتشتت عليه نفسه ،وأم99ا
الحريص ،فيلجئه ذلك إلى كل باب ،ولو إلى قمامات الناس ومزابلهم.
قلت :لكأني بالزهد هو عين االقتصاد.
قال :ال ..االقتصاد يتناول الكم ،والزهد يتناول األنواع.
92
قلت :كيف؟
قال :المقتصد ال يسرف ،والزاهد ال يرغب.
قلت :كيف ال يرغب ،والرغبة فطرة.
قال :هو يرغب ،ولكن رغبة الزاهد تختلف عن رغبة الحريص.
قلت :كيف ذلك؟
قال :الحريص يرغب في المتاع ،والزاهد يرغب في متاع أعظم منه،
ألم تسمع قول9ه تع9الىَ {:و َشَ 9روْ هُ ِب َث َم ٍن َب ْخ ٍ
س د ََرا ِه َم َمعُْ 9دو َد ٍة َو َك9انُوا ِفيِ 9ه ِمنَ
َّ
الزا ِه ِدينَ }(يوسف)20 :
قلت :نعم ،هذه اآلية تتحدث عن إخوة يوسف ال99ذين ب99اعوه بثمن
قليل لزهدهم فيه.
قال :أرأيت لو أن أصحاب تلك القافل9ة لم يعط9وا ش9يئا إلخ9وة يوس9ف
،أكانوا سيبيعونه لهم؟
قلت :نعم ،ألن غرضهم التخلص منه.
قال :فسماهم هللا زاهدين.
قلت :نعم ،لقد زهدوا في أخيهم ،وفضلوا تلك الدراهم القليلة عليه.
قال :فكذلك الزاه9د ال9ذي تحق9ق به9ذا المق9ام من مقام9ات ال9دين ،فإن9ه
يقارن بين ما ادخر هللا له في اآلخرة إن أرضى هللا ،وبين المتاع الدنيوي،
فيرى عظمة ما ادخر بجانب ما يرى من متاع ،فتنصرف نفسه إلى مت99اع
اآلخرة ،زاهدا في متاع الدنيا.
قلت :أيسعد بذلك؟
ق9ال :ك9ل الس9عادة ..وله9ذا ع9الجت الش9ريعة آالم الفق9ير بحض9ه على
الزهد ،أي ترك الرغبة فيما لم يؤت ،وتوجيهه99ا إلى الرغب99ة في هللا وفيم99ا
في يد هللا.
قلت :فالذين يحرمون الفقير من الزهد يسيئون إليه.
قال :كل اإلساءة ..ألنهم حرموه من التسلي بما ادخر له عما لم يؤته.
قلت :فاضرب لي على ذلك مثاال.
قال :أرأيت إن كنت في سفر م9ع قافل9ة من القواف9ل ،وك9ان في القافل9ة
أمير محسن ،فوهب الكل هبات مختلفة ،ولكنك كنت المح99روم الوحي99د في
القافلة ..أكنت تحزن لذلك وتتأثر له؟
قلت :أجل ..خاصة إن فخروا علي بما أعطوا.
93
قال :وهل سيمتلئ قلبك حقدا على هذا الذي عمي بصره أن ي99راك ،أو
شحت خزائنه أن تصلك؟
قلت :أج99ل ..ب99ل سأس99أل نفس99ي كث99يرا عن عل99ة حرم99اني م99ع فيض
خزائنه.
قال :أرأيت إن استدعاك إلى جناب9ه ،ثم ص9رف الحج9اب ،وأس9ر ل9ك
قائال (:لقد ادخرت لك هدية عظيمة تفوق كل اله99دايا ال99تي وهبته99ا لجمي99ع
القافلة ،وهي من العظمة بحيث ال يمكن أن تأخذها هنا) ،أتفرح لذلك؟
قلت :أجل ،بل أقبل قدميه ،ويمتلئ قلبي محبة له.
قال :فإن فخر عليك رجال القافلة بما أوتوا ،وضحكوا على حرمانك.
قلت :أضحك عليهم في قلبي ،ألني أعلم أني ق99د أعطيت أض99عاف م99ا
أعطوا باإلضافة إلى القرب العظيم الذي نلته من أمير القافلة.
ق9ال :فطب9ق ه9ذا المث9ال على م9ا نحن في9ه ،فاهلل ق9د أعطى كث9يرا من
األغنياء من كل األموال ،فإن نظر الفقير إلى ما أعطوا حزن وتأسف ،بل
قد يؤديه ذلك إلى الكفر ،لكنه إن نظ99ر إلى م99ا ادخ99ر هللا ل99ه إن أطاع99ه ،ال
يلبث حتى ينال قسمته الموعودة.
قلت :لقد ذكرت9ني بح9ديث ل9ه عالق9ة به9ذا ،فق9د روي في الح9ديث أن
َرسُول هَّللا ِ كان إذا صلى بالناس يخر رجال من قامتهم في الص99الة من
الخصاصة( ،)1وهم أصحاب الصفة حتى يقول األعراب ه99ؤالء مج99انين.
فإذا صلى َرسُول هَّللا ِ انصرف إليهم فقال (:لو تعلم99ون م99ا لكم عن99د هَّللا
تعالى ألحببتم أن تزدادوا فاقة وحاجة )()2
ثم التفت إلى نفسي ،فإذا باالعتراض ال يزال مستقرا لم أستطع قلع99ه،
فقلت :ولكن القافلة في سفر قصير.
قال :والدنيا سفر ،وهي أقصر مما تصور ،ألم تسمع قول الحق تعالى:
خَس َ 9ر 9ارفُونَ َب ْي َنه ُْم َق ْ 9د ِ { َو َيوْ َم َيحْ ُشرُ هُ ْم َكأَ ْن َل ْم َي ْل َبثُوا ِإاَّل َسا َع ًة ِمنَ النَّ َه ِ
ار َي َت َعَ 9
اء هَّللا ِ َو َما َكانُوا ُم ْه َت ِدينَ }(يونس)45 : الَّ ِذينَ َك َّذبُوا ِب ِل َق ِ
َاصِ 9برْ
قلت :بل قد نص على هذا آيات من القرآن الكريم ،قال تعالىْ {:
9روْ نَ َم99ا َعْجلْ َله ُْم َك9أَنَّه ُْم َي9وْ َم َيَ 9
الرُّسِ 9ل َوال ت َْس9ت ِ
ُ 9ز ِم ِمنَ صَ 9ب َر أُولُ99وا ْال َع ْ َك َم9ا َ
اس9قُونَ } 9ك ِإاَّل ْال َق99وْ ُم ْال َف ِ يُو َع ُدونَ َل ْم َي ْل َبثُ9وا ِإاَّل َس9ا َع ًة ِم ْن َن َه ٍ
9ار َبال ٌغ َف َه99لْ يُ ْه َل ُ
94
(االحق99اف 9،)35:وق9ال تع9الىَ {:ك99أَنَّه ُْم َي99وْ َم َي َروْ َن َه99ا َل ْم َي ْل َبثُ99وا ِإاَّل ع َِش9يَّ ًة َأوْ
ضُحاهَا}(النازعـات)46 :
َ
قال :بل نطق بهذا رسول هللا ،فعن عب99د هَّللا بن مس99عود ق99ال :ن99ام
َرسُول هَّللا ِ على حصير فقام وقد أثر في جنب9ه .قلن9ا :ي9ا َر ُس9ول هَّللا ِ ل9و
اتخذنا لك وطاء .فقال (:ما لي وللدنيا! ما أنا في ال9دنيا إال ك9راكب اس9تظل
تحت شجرة ثم راح وتركها )()1
قال :فهذه الحقيقة العظيمة التي نطقت بها هذه النصوص أعظم سلوى
للفقير ،وأعظم دافع ل99ه على ت99رك الرغب99ة فيم99ا لم ي99ؤت ليتحق99ق بالزه99د،
ولينال عن طريقه ما ادخر له من الفضل.
قلت :لقد ذكرتني بقول ألبي يزيد ،قاله ألبى موسى عبد الرحيم ،ق99ال
له (:فى أى شىء تتكلم؟) ،قال (:فى الزهد ) ،قال (:فى أى شىء؟) ،قال(:
فى الدنيا ) ،فنفض يده وقال (:ظننت أنه يتكلم فى شىء ،وال9دنيا ال ش9ىء،
إيش يزهد فيها )
ثم التفت إلى المعلم ،وقلت :فقد حببت لي الزهد وعظمته ،فم99ا الس99بيل
إليه؟
قال :بأن تعلم الجوائز التي ينالها الزاهد في الدنيا قبل اآلخرة.
قلت :أينال الزاهد جوائزه في الدنيا أيضا؟
قال :باإلضافة إلى ما ادخر له في اآلخرة.
قلت :إن هذا س99يجعل ق9ومي يقبل99ون علي9ه ،ويتنفاس9ون في تحص99يله،
فإني أعلم مدى رغبتهم في الجوائز وحرصهم عليها ..فما هذه الجوائز؟
قال :أربع :الهمة ،والكمال ،والعزة ،والراحة ،كل ج9ائزة منه9ا بال9دنيا
وما فيها.
الهمة:
قلت :فما الجائزة األولى؟
قال :جائزة الهمة العالية التي يتحقق بها الزاهد.
قلت :لم أفهم.
قال :أرأيت من كان أمله في مستقبل حياته أن يكون حماال أو حطاب99ا،
أيتساوى مع من همته أن يص99ير وزي99را أو ملك99ا أو اس99تاذا كب99يرا وعالم99ا
خطيرا.
ال َح ِد ٌ
يث َح َس ٌن صحيح. ) )(1التِّر ِم ِذيُّ َوقَ َ
95
قلت :بل همة الثاني أعلى ..ولكن أنى له أن يتحقق بما يحلم به.
قال :أرأيت إن وجدت من يوفر لك دواعي الهمة الثاني99ة ،وييس99ر ل99ك
سبيلها ،أال يكون بذلك قد قد كافأك؟
قلت :أعظم مكافأة ،بل يكون ق9د ق9دم لي الخدم9ة ال9تي تحول9ني إنس9انا
آخر ،ففرق كبير بين أن أجمع الحطب للن99اس أو أحم99ل مت99اعهم ،وبين أن
أنال تلك المناصب الرفيعة.
قال :فإن هللا تعالى وفر للفقير الذي يهزأ الناس من فق99ره ،أو يرحم99وه
لفقره من الفرص ما يلتحق به مع أصحاب الهمم العالية لينال ما نالوه.
قلت :كيف؟
قال :أليست الهمة العالية هي طلب المعالي والترفع عن السفاسف؟
قلت :بلى.
قال :فإن الزهد في الدنيا ال يتحقق به إال أصحاب الهمم العالية.
قلت :كي9ف يك9ون ذل9ك ،وال أرى أح9دهم يحلم ب9أن يص9ير وزي9را أو
ملكا؟
قال :بلى ،هو يحلم بذلك ،بل يحلم بما هو أرفع من ذلك.
قلت :فهو راغب إذن ال فرق بينه وبين الحريص.
ق9ال :ه9و راغب ولكن رغبت9ه ليس في األحم9ال والحطب ،وليس في
الوزارة أو الملك ،وإنما في أمور أخطر وأعظم.
قلت :فيم يرغب ،ما دام لم يرغب في ه9ذه األم9ور ال9تي ي9رغب فيه9ا
الناس؟
قال :الزهاد نوعان :منهم من يرغب في هللا ويكتفي به ،ومن وج99د هللا
لم يفقد شيئا ..ومنهم من يرغب في مت9اع ال يتح9ول ،وزاد ال يتط9رق إلي9ه
الفساد ،نظر إلى الدنيا ،فأنفها وطلب دارا أجمل منها وأكمل.
قلت :أتقصد الدار اآلخرة ،والجنة.
قال :نعم ..فإن الزهاد قارنوا بين ه99ذه ال99دار وتل99ك ال99دار ،وعلم99وا أن
حرص9هم على ه9ذه ال9دار ق9د يبع9دهم عن تل9ك ال9دار ،فمألوا همتهم بتل9ك
الدار ،وزهدوا في هذه الدار.
قلت :لكأني بالقرآن الكريم يحث على الزهد.
قال :ب9ل يحث على أص9ل أص9ول الزه9د ،وه9و االطالع على حقيق9ة
الدنيا ،ومقارنتها بالدار التي ال تبيد ،والملك الذي ال يفنى.
96
قلت ،وكأني أتذكر شيئا كنت أعلمه ،ولك9ني كنت أجهل9ه :بلى ي9ا معلم
ق لكأني أول مرة أسمع الحق ،وهو يقولَ {:ما ِع ْنَ 9د ُك ْم َي ْن َفُ 9د َو َم9ا ِع ْنَ 9د هَّللا ِ َب9ا ٍ
ص َبرُوا َأجْ َرهُ ْم ِبأَحْ َس ِن َما َكانُوا َيعْ َملُونَ }(النحل)96 : َو َلنَجْ ِز َي َّن الَّ ِذينَ َ
ق99ال :نعم ،فق99د كنت تق99رأ ه99ذه اآلي99ة ،ولم تكن تس99معها ،فاهلل تع99الى
يرغبك في اآلخرة ببقائها ،ويزهد في الدنيا بفنائها ،ودينار دائم تملكه خ9ير
من عشرة آالف ما تستقر في يدك حتى تخرج منها.
قلت :بل إن هللا تع9الى ال يص9ف مت9اع ال9دنيا بالنف9اد فق9ط ،ب9ل يص9فه
بالقلة ،فمتاع الدنيا أقل من متاع اآلخرة ،قال تعالى {:قُ99لْ َم َت99ا ُع الُّ 9د ْن َيا َق ِلي99لٌ
َواآْل ِخ َرةُ خَ يْرٌ ِل َم ِن اتَّ َقى}(النساء)77 :
ق99ال :وفي ه99ذه اآلي99ة أعظم ال99رد على من يص99فون الزه99د بالس99لبية،
ويصفون الزاهد بالكسل.
قلت :كيف؟
ي9ل َله ُْم ُك ُّفوا َ9ر ِإ َلى الَّ ِذينَ ِق َ قال :ألم يق9ل هللا تع9الى في ه9ذه اآلي9ةَ {:أ َل ْم ت َ
ق ِم ْنه ُْم ب َع َل ْي ِه ُم ْال ِق َت99الُ ِإ َذا َف ِريٌ 9 الز َك99ا َة َف َل َّما ُك ِت َ َأ ْيِ 9د َي ُك ْم َو َأ ِقي ُم99وا َّ
الص9ال َة َوآتُ99وا َّ
9ال َل99وْ ال اس كَخَ ْش َي ِة هَّللا ِ َأوْ َأ َش َّد خَ ْش َي ًة َو َقالُوا َربَّنَا ِل َم َك َتبْتَ َع َل ْينَا ْال ِق َتَ 9 َي ْخ َشوْ نَ النَّ َ
9رةُ خَ ْي99رٌ ِل َم ِن اتَّ َقى َوال ب قُ99لْ َم َت99ا ُع الُّ 9د ْن َيا َق ِلي99لٌ َواآْل ِخَ 9 َأ َّخرْ َت َن99ا ِإ َلى َأ َجٍ 9ل َقِ 9
9ري ٍ
ال}(النساء)77 : ظ َل ُمونَ َف ِتي ًتُ ْ
قلت :نعم ،فاهلل تعالى يخبر عن علة كسل المتقاعدين وسلبيتهم.
قال :وال سبب لذلك يذكره إال حرصهم على الدنيا ورغبتهم في البق99اء
فيها ،فلذلك أخبرهم أن متاع ال9دنيا قلي9ل يس9تحق أن ي9رغب عن9ه ،ومت9اع
اآلخرة عظيم يستحق أن يرغب فيه.
قلت :ولهذا يعاتب هللا تعالى من آثر الحياة ال99دنيا على اآلخ99رة ،وي99بين
9رةُ له مبلغ الغبن الذي وقع فيه ،قال تعالىَ {:بلْ تُ ْؤ ِثرُونَ ْال َح َي9ا َة الُّ 9د ْن َيا َواآْل ِخ َ
خَ يْرٌ َو َأ ْب َقى} (األعلى)17 :
قال :ذلك أن اإلنسان يحب الخ9ير ودوام الخ9ير ،ول9ذلك أخ9بره تع9الى
بأن هذين الوصفين ال يتحققان بكمالهما إال في الدار اآلخرة.
قلت :أجل ،وقد ورد ذلك في مواضع من الق9رآن الك9ريم ،ق9ال تع9الى:
{ َوال َت ُم َّدنَ َع ْي َن ْيكَ ِإ َلى َما َمتَّعْ نَا ِب ِه َأ ْز َواجاً ِم ْنه ُْم زَ ْه َر َة ْال َح َيا ِة ال ُّد ْن َيا ِل َن ْف ِت َنه ُْم ِفيِ 99ه
ق َربِّكَ خَ يْرٌ َو َأ ْب َقى}(طـه)131 : َو ِر ْز ُ
قال :هذه اآلية تحض األمة عن طريق رسولها بالزهد حتى ال يغ99رهم
97
المتاع الموجود عن المتاع المدخر.
قلت :وقال تعالىَ {:و َما أُو ِتيتُ ْم ِم ْن َش ْي ٍء َف َمتَا ُع ْال َح َيا ِة ال ُّد ْن َيا َو ِزي َنتُ َه99ا َو َم99ا
ِع ْن َد هَّللا ِ خَ يْرٌ َو َأ ْب َقى َأ َفال تَعْ ِقلُونَ }(القصص)60 :
ق99ال :وفيه99ا ت99رغيب أعظم ،فاهلل تع99الى يص99ف م99ا في ال99دنيا من
الزخارف بكونه مجرد متاع للحياة الدنيا ،وهي الحياة البسيطة الحقيرة ،ثم
يختم ذلك بالدعوة للتأمل والتفك9ر ،فمن الغبن أن يب99اع الغ9الي ب9الرخيص،
والزهيد بالنفيس.
قلت :وقال تعالىَ {:ف َما أُو ِتيتُ ْم ِم ْن َش ْي ٍء َف َمتَا ُع ْال َح َيا ِة ال ُّ 9د ْن َيا َو َم99ا ِع ْنَ 9د هَّللا ِ
خَ يْرٌ َو َأ ْب َقى ِللَّ ِذينَ آ َمنُوا َو َع َلى َر ِّب ِه ْم َيت ََو َّكلُونَ }(الشورى)36 :
قال :بين لهم تعالى في هذه اآلية وصفا من أوص9اف الزاه9دين ،وه9و
اإليمان والتوكل ،فليس كل جائع زاهد ،بل الزاهد من زهد باهلل وهلل.
قلت :وله9ذا ق9ال تع9الى حاكي9ا عن س9حرة فرع9ون بع9د أن الق9وا ل9ذة
الس9حْ ِر َوهَّللا ُ طا َيانَا َو َما َأ ْك َر ْه َتنَا َع َل ْي ِه ِمنَ ِّ معرفة هللاِ {:إنَّا آ َمنَّا ِب َر ِّبنَا ِل َي ْغ ِف َر َلنَا خَ َ
خَ يْرٌ َو َأ ْب َقى}(طـه)73 :
قال :لق9د أش9اروا إلى أعظم الزه9د ،وه9و الرغب9ة في هللا ،وه9و زه9د
المقربين الذين انشغلوا بالنظر هلل عن النظر لكل شيء.
قلت :فهال تضرب لي أمثاال على هذه المعاني أنقلها لق9ومي ،فاألمث9ال
جند من جن99د هللا يص99ل بالمع99اني إلى خزان99ة الخي99ال ليض99عها في العق99ول
والقلوب.
قال :إن القرآن الكريم كفانا ضرب هذه األمثلة ،فهو يقرب صور هذه
اء َأ ْن ْ
زَلنَا ُه ِمنَ الحقائق باألمثال العظيمة ،قال تعالىِ {:إنَّ َما َم َثلُ ْال َح َيا ِة ال ُّد ْن َيا َك َم ٍ
ت ض ِم َّما َي ْأ ُك99لُ النَّاسُ َواأْل َ ْن َع99ا ُم َحتَّى ِإ َذا َأخََ 9ذ ِ 9ات اأْل َرْ ِ ط ِبِ 9ه َن َبُ 9 اء َف ْ
اخ َت َلَ 9 َّ
السَ 9م ِ
ال َأوْ
ظ َّن َأ ْهلُ َها َأنَّه ُْم َق9ا ِدرُونَ َع َل ْي َه9ا َأتَاهَ9ا َأ ْمرُ نَ9ا َل ْي ً ازيَّن َْت َو َ اأْل َرْ ضُ ُز ْخرُ َف َها َو َّ
ت ِل َق99وْ ٍم ص 9لُ اآْل ي99ا ِ س َكَ 9ذ ِلكَ نُ َف ِّ ص 9يداً َك99أَ ْن َل ْم ت َْغنَ ِب 9اأْل َ ْم ِ َن َه99اراً َف َج َع ْلنَا َه99ا َح ِ
اء َأ ْن ْ
زَل َن99اهُ َي َت َف َّكرُونَ }(يونس 9 ،)24 :وقالَ {:واضْ ِربْ َله ُْم َم َث َل ْال َح َيا ِة ال ُّد ْن َيا َك َم ٍ
صَ 9ب َح ه َِش9يماً ت َْ9ذرُو ُه الرِّ َي9احُ َو َك9انَ هَّللا ُ ض َفأَ ْات اأْل َرْ ِ ط ِب ِه َن َب ُ اء َف ْ
اخ َت َل َ ِمنَ ال َّس َم ِ
َع َلى ُكلِّ َش ْي ٍء ُم ْق َت ِدراً}(الكهف)45 :
قلت :فهال تقرب لي هذه األمثلة وتصورها لي؟
قال :ال يوجد ما هو أعظم من تصوير القرآن الكريم للحقائق.
قلت :ولكن الحقائق تحتاج أحيان9ا لتفس9يرها ،فمن الن9اس من ال يطي9ق
98
تفهم الحق99ائق لكثافت99ه وغالظ99ة طبع99ه ،وال أنك99ر أني مبتلى ببعض ه99ذا
الطبع.
قال :أخرجت إلى الحقول في الربيع الجميل؟
قلت :وكي9ف ال أخ9رج ،وه9ل ال9دنيا إال جم9ال الربي9ع وزه9ر الربي9ع
ونسائم الربيع.
قال :فهل رأيت األزهار المتفتحة ،واألعشاب النظرة..؟
قلت :والجمال المتدفق الحي الذي يش9رق من الجب9ال والوه9اد ،وك9أن
الدنيا كلها تبتسم ..بل ترسل ضحكات عريضة.
قال :فهل مررت به في الصيف عندما ترسل الشمس لهيبها؟
قلت :عن99دها يتح99ول الحي ميت99ا ،والجم99ال دمام99ة ،وتنقلب االبتس99امة
الجميلة آهات وأحزانا.
قال :فهذه هي الدنيا ..أيام معدودة من االبتسامة ..ثم يعقبها صيف األلم
وخريف األحزان.
قلت :واآلخرة؟
قال :اآلخرة ربيع دائم ،فه9ل تس9تبدل الربي9ع ال9ذي ال يس9تمر إال أيام9ا
معدودة بالربيع الذي ال تفنيه األيام ،وال تبلي ثيابه السنون.
قلت :فهمت المثال ..لكأني بنا قد غرقنا في نس99ائم زه9رة من زه9رات
هذا الربيع الفاني ،واستبدلنا بها ربيع األزل.
ق99ال :ب99ل أنتم فعلتم أخط99ر من ذل99ك ..بعتم هللا بالع99دم ،وبعتم الجن99ة
بالمستنقعات ..وبعتم السعادة باألحزان..
قلت :فما المخرج؟
قال :الزهد..
قلت :تقصد رفع الهمة عن الدنيا..
قال :إن استطعتم أن ترفعوا الهمة عن األكوان جميع99ا ،وتكتف99وا باهلل..
فستنالون من يديه ما ال يخطر لكم على بال ..وم99ا ال تس99تطيع أحالمكم أن
تفكر فيه.
الكمال:
قال لي المعلم ،وقد رآني مستغرقا فيما قال :هاك الج9ائزة الثاني9ة ال9تي
أنعم هللا بها على الزهاد.
مددت يدي ،وقلت :هاتها.
99
ابتسم ،وقال :امدد يد بصيرتك ،فما تمتد إليه يد جارحتك ينفد.
قلت :تعودنا أال نعرف المدد إال في اليد.
قال :ولذلك تنكرون الزهد ،وتنكرون فيوضات هللا وأمداده على عباده
الزاهدين الذين اصطفاهم بالكمال حين رفعوا هممهم إليه وإلى ما عنده.
قلت :فأنا في انتظار جائزة الكمال ،فما هي؟
قال :إن قومك في مجالسهم يميزون بين الكب99ار والص99غار ،فيجعل99ون
لكل منهم محله الخاص به.
قلت :نعم ،فللكبار كراسيهم التي تتناسب مع طولهم وعرض99هم ،بينم99ا
الصغار ال تتناسب معهم إال الكراسي الصغيرة لصغر أحجامهم.
ق99ال :أن99ا ال اتح99دث عن ص99غار الس99ن ،ب99ل عن الص99غار المحتق99رين
المستضعفين.
قلت :وأن99ا ال أتح99دث إال عنهم ،ف99إنهم في منط99ق الك99براء ،أو نتيج99ة
للهزال الذي عرضهم له الكبراء صارت كراسيهم ال تختل9ف عن كراس9ي
الصغار.
قال :ففي أي المجالس تحب أن تجلس أنت ،أو يحب أن يجلس قومك؟
قلت :إن أردت الصراحة ،فإنه ال أح99د من الن99اس إال ويحلم ب99الجلوس
على تلك الكراسي الوثيرة ،والركوب في تلك المراكب الفارهة ،وال99نزول
في تلك الفنادق الفخمة ذوات النجوم الكثيرة.
قال :فأنت إذن تحب مصاحبة الكبار..
قلت :لست وحدي في ذلك ،ب9ل ك9ل ق9ومي ..ب9ل أحس9ب ذل9ك طبيع9ة
إنسانية.
ق99ال :نعم هي طبيع99ة إنس99انية ..ب99ل طبيع99ة كوني99ة ،فالكم99ال محب99وب
بالطبع.
قلت :فما عالقة هذا بهذه الجائزة؟
قال :الزهد ه9و الطري9ق الوحي9د ال9ذي يض9عك م9ع الكب9ار ،ويجلس9ك
مجالسهم ،وينزلك فنادقهم.
قلت :كيف؟ فالزهد يمنعني من مجرد الرغبة ،والتفكير في ذلك.
قال :يمنعك من التلطخ ،وال يمنعك من التمتع.
قلت :اش99رح لي ..أو ب99األحرى مث99ل لي لم99ا تق99ول ..ف99إني ال أطي99ق
التجريد.
100
قال :سأضرب لك مثال من القرآن الكريم ،ض99ربه هللا تع99الى لمواق99ف
الن99اس من الك99براء ال99ذين كنت تحلم ب99القعود معهم ،بينم99ا هم ال يس99اوون
شيئا ،ألن ضخامتهم مجرد انتفاخ سرعان ما تعبث به رياح الزمان.
قلت :أفي القرآن الكريم الحديث عن هذا؟ ..لقد قرأت99ه وحفظت99ه وقلبت
الطرف في تفاسيره ،فلم أجد مثل هذا.
قال :لعلك قرأته ولم تسمعه ،ففي القرآن الكريم كل العلوم وكل حقائق
الكون ،ولكن لمن سمعه ال لمن قرأه.
قلت :فما هو هذا المثال؟
قال :قارون ،فقد جعل99ه هللا مث99اال على ه99ؤالء الك99براء ال99ذين ص99رفوا
الناس عن الزهد ،فمألوا قلوب الفقراء رغبة في ال9دنيا ،ف9أراد هللا أن ي9بين
لهم ما ينتظر ذلك الحرص والرغبة من جزاء.
وس 9ى َف َبغَى قلت :لقد قال هللا تعالى في شأنهِ {:إ َّن َقارُونَ َكانَ ِم ْن َقوْ ِم ُم َ
ُصَ 999ب ِة أُو ِلي ْالقُ َّ
999و ِة } 999وز َم999ا ِإ َّن َم َفا ِت َح 999هُ َل َتنُ999و ُء ِب ْالع ْ َع َل ْي ِه ْم َوآ َت ْينَ999اهُ ِمنَ ْال ُكنُ ِ
(القصص)76 :
قال :فماذا قال له الكمل من قومه من الذين آتاهم هللا العلم والزهد؟
9رحْ ِإ َّن هَّللا َ ال ي ُِحبُّ قلت :لقد قالوا له ـ كما نص القرآن الكريم ـ {:ال َت ْفَ 9
َصي َبكَ ِمنَ ال ُّ 9د ْن َيا َو َأحْ ِس ْ 9نسن ِ ار اآْل ِخ َر َة َوال َت ْن َ ْال َف ِر ِحينَ َوا ْبت َِغ ِفي َما آ َتاكَ هَّللا ُ ال َّد َ
ض ِإ َّن هَّللا َ ال ي ُِحبُّ ْال ُم ْف ِس ِ 9دينَ }
9غ ْال َف َس 9ا َد ِفي اأْل َرْ ِ َك َم99ا َأحْ َس 9نَ هَّللا ُ ِإ َل ْي99كَ َوال َت ْبِ 9
(القصص 76 :ـ)77
قال :فقد نصحوه بالزهد فيما آتاه هللا.
قلت :ولكنهم لم يحرموا عليه التمتع بما أوتي من الكنوز ،فقد قالوا ل9ه:
َصي َبكَ ِمنَ ال ُّد ْن َيا } سن ِ { َوال َت ْن َ
قال :ولكنهم حرموا عليه التلطخ بتلك الكنوز ،وقد قلن9ا:إن فرق9ا كب9يرا
بينهما.
قلت :كيف؟
قال :التلطخ أن تمأل الدنيا قلبك فتشغلك عن هللا ،وعن توظي99ف نعم هللا
فيما أمر هللا.
قلت :وهو ما نصح به هؤالء قارون فقد نصحوه باإلحسان بما تفضل
هللا عليه.
قال :عندما خرج قارون في زينت9ه تجلى موقف9ان من مواق9ف الن9اس،
101
هي في الحقيقة مواقف البشر جميعا من الرغبة والزهد.
قلت :نعم ،موقف ال9ذين يري9دون الحي9اة ال9دنيا ،وموق9ف ال9ذين أوت9وا
العلم.
قال :فما حكى القرآن الكريم عنهما؟
خَ9ر َج َع َلى قلت :أما موقف الفئة األولى ،فقد نص عليه قوله تع9الىَ {:ف َ
ال الَّ ِذينَ ي ُِري ُدونَ ْال َح َيا َة ال ُّد ْن َيا َيا َليْتَ َلنَا ِم ْث َل َم99ا أُو ِت َي َقُ 9
9ارُون َقوْ ِم ِه ِفي ِزي َن ِت ِه َق َ
َظ ٍيم}(القص99ص ،)79 :فق99د اعت9بروا ق9ارون ص9احب ح9ظ ظع ِ ِإنَّهُ َلُ 9ذو َحٍّ 9
عظيم ،فحسدوه على ما أوتي ،وتمنوا أن يكون له مثل ما أوتي.
قال :وما هو موقف الذين أوتوا العلم؟
ال الَّ ِذينَقلت :ما نصه علينا القرآن الكريم كذلك ،وهو قوله تعالىَ {:و َق َ
ص99ا ِلحاً َوال يُ َلقَّاهَ99ا ِإاَّل99ل َ99وابُ هَّللا ِ خَ يْ99رٌ ِل َم ْن آ َمنَ َو َع ِم َ أُوتُ99وا ْال ِع ْل َم َو ْي َل ُك ْم َث َ
الصَّا ِبرُونَ }(القصص)80 :
قال :فما كانت نهاية الحرص والرغبة الممثلة في قارون؟
خَسْ 9فنَا ِبِ 9ه قلت :هو ما قصه الق9رآن الك9ريم علين9ا أيض9ا حين ق9الَ {:ف َ
ون هَّللا ِ َو َم99ا َك99انَ ِمنَ ص 9رُو َنهُ ِم ْن ُد ِ ض َف َم99ا َك99انَ َل 9هُ ِم ْن ِف َئ ٍ 9ة َي ْن ُ َار ِه اأْل َرْ َ َو ِب9د ِ
َص ِرينَ }(القصص)81 : ْال ُم ْنت ِ
قال :فمن كس9ب الره9ان من الحريص9ين أو من الزاه9دين ،ومن ك9ان
الحق معه؟ ومن تحقق بالكمال؟
صَ 9ب َح َ
قلت :هو ما قصه علينا الق9رآن الك9ريم أيض9ا ،ق9ال تع9الىَ {:وأ ْ
ط ْ
الرِّز َق ِل َم ْن َي َشا ُء ِم ْن ِع َب99ا ِد ِه س َيقُولُونَ َو ْي َكأَ َّن هَّللا َ َي ْب ُس ُ الَّ ِذينَ َت َمنَّوْ ا َم َكا َنهُ ِباأْل َ ْم ِ
َو َي ْق ِدرُ َلوْ ال َأ ْن َم َّن هَّللا ُ َع َل ْينَا َلخَ َسفَ ِبنَا َو ْي َكأَنَّهُ ال يُ ْف ِلحُ ْال َك99ا ِفرُونَ } (القص99ص:
)82
قال :فالمفلح من؟ ..هل الزاهدون أم الحريصون؟
قلت :الزاهدون ،بل إن الحريصين حمدوا هللا على أنهم لم يؤت99وا مث99ل
ما أوتي قارون لئال يحل بهم ما حل به.
قال :فلماذا يصر قوم99ك على أن يلتحق99وا بالع99الم األول ،وهم يعلم99ون
حقيقته التي ال تختلف عن حقيقة قارون ،بل هم ي99رددون م99ا ردد ق99ارون:
{ ِإنَّ َما أُو ِتيتُهُ َع َلى ِع ْل ٍم ِع ْن ِدي}(القصص)78 :
قلت :ألنهم يعتقدون أن األولية والكمال في ذلك؟
رُون َم ْن هُ َو َأ َشُّ 9د ِم ْن9هُ قال :أو لم يعلمواَ {:أ َّن هَّللا َ َق ْد َأ ْه َلكَ ِم ْن َق ْب ِل ِه ِمنَ ْالقُ ِ
102
قُ َّو ًة َو َأ ْك َثرُ َج ْمعاً}(القصص)78 :؟
قلت :ولكن مطالبهم الدنيوية تتطلب منهم ذلك.
قال :ال ،بل الحرص الكاذب الذي يمليه فراغ أجوافهم هو الذي يطلب
منهم ذلك ،فالكمال في الحقيقة ال في المظاهر ،وفي الصدق ال في الزور.
قلت :فقد ذكرت لي مثاال من أمثلة الكمال في الزه9د ،ولكن ق9ومي ق9د
ال يفهمونه حق الفهم ،أو قد يؤولونه ،فما أسهل تأويل النصوص وإلباس99ها
أي لباس يشاءون.
قال :ولكن النص واضح.
قلت :ولكنهم لن يق99رؤوه ولن يفس99روه ،ب99ل س99يكتفون من99ه بعب99ارة
يجعلونها هي المحكم الوحيد فيه ،وما عداه متشابه.
قال :فما هذه العبارة التي نالت هذا الفضل عندهم دون من عداها؟
َصي َبكَ ِمنَ ال ُّد ْن َيا }(القصص)77 : سن ِ قلت :قوله تعالىَ {:وال َت ْن َ
قال :ويفعلون ذلك؟
قلت :بل فعلوه ،فإن هذه العبارة القرآني9ة أص9بحت مثال دارج9ا ي9ردده
العامة والخاصة ،وكأن القرآن الكريم جميعا اختصر فيها.
قال :فقد وقعتم فيما وقع فيه أهل الكتاب من التحريف ،فقد ق99ال تع99الى
ب َو َت ْكفُرُونَ ِب َبعْض}(البقرة،)85 : عْض ْال ِكتَا ِ في شأنهمَ {:أ َفتُ ْؤ ِمنُونَ ِب َب ِ
قلت :ولهذا أمر تعالى رسوله أن يحكم المؤمنين بجمي99ع م99ا أن99زل
زَل هَّللا ُ َوال َتتَّ ِبْ 9ع َأ ْه َ
9وا َءهُ ْم َواحَْ 9ذرْ هُ ْم عليه ،قال تعالىَ {:و َأ ِن احْ ُك ْم َب ْي َنه ُْم ِب َما َأ ْن َ
زَل هَّللا ُ ِإ َل ْيكَ }(المائدة)49 : عْض َما َأ ْن َ َأ ْن َي ْف ِتنُوكَ ع َْن َب ِ
قال :فهال اطلعوا على سنن األنبياء ـ عليهم الصالة والسالم ـ ،وكي99ف
كانت حياتهم مليئة بمواقف الزهد فيما في أيدي الن99اس ،والرغب99ة فيم99ا في
يد هللا.
قلت :هم يتخيرون من مواقفهم م9ا يخ9دمون ب9ه آراءهم ،فلن يعج9زهم
ذل99ك ،وق99د ق99ال تع99الى في أه99ل الكت99ابِ { :إ َّن الَّ ِذينَ َي ْكفُ99رُونَ ِباهَّلل ِ َو ُ
رُسِ 99ل ِه
عْض َو َن ْكفُ99رُ ِب َب ٍ
عْض رُس ِ 9ل ِه َو َيقُولُ99ونَ نُ9ْ 9ؤ ِم ُن ِب َب ٍ َوي ُِري ُ 9دونَ َأ ْن يُ َفرِّ قُ99وا َب ْينَ هَّللا ِ َو ُ
ال}(النس99اء ،)150 :فهم يؤمن99ون ببعض َوي ُِري ُدونَ َأ ْن َيتَّ ِخُ 9ذوا َب ْينَ َذ ِل99كَ َسِ 9بي ً
المواقف ويكفرون ببعض.
قال :أوصلت بهم الجرأة إلى الرسل ـ عليهم الصالة والسالم ـ
قلت :لق999د س999معت بعض999هم يتح999دث عن حب رس999ول هللا للحم
103
والحلواء وأنواع المآكل الف9اخرة م9ا يجعل9ك تتص9ور أن الس9نة في ارتي9اد
المطاعم الفاخرة إلحياء سنة أكل اللحم والحلواء.
قال :ألم يقرؤوا النصوص الواردة في مصادركم الصحيحة؟
قلت :فرق ـ يا معلمي ـ بين أن تقرأ وأن تسمع ألم تقل لي ذلك دائما.
العزة:
قال :أراك اقتنعت بما قلت.
قلت :أجل ..وبورك فيك ..فهات الجائزة الثالثة ..جائزة العزة.
قال :أرأيت إن قرب لك طع99ام لذي99ذ ،ثم رأيت ال99ذباب متس99اقطا علي99ه
متهافتا على أكله ،فهو ال يبالي في س99بيله أن تذب99ه أو تقلت99ه ،أك99انت نفس99ك
تشتهيه؟
قلت :لكأني بك تريد ما قال الشاعر:
تركت لك99ثرة الش99ركاء فيه إذا لم أت999رك الم999اء اتق999اء
رفعت يدي ونفسي تش9تهيه إذا وقع ال9ذباب على طع9ام
إذا ك99999ان الكالب يلغن فيه وتجتنب األسود ورود ماء
قال :هو ما أريده بالضبط ،فقد علمت غرامك بالشعر.
قلت :وكي99ف لي أن أش99ارك ال99ذباب طع99امهم ،فإن99ه إن لم يكن ذل99ك
مضرا بالصحة ،فإن النفس تعافه بالضرورة.
ق99ال :فك99ذلك الزه99د ،فالزاه99د ي99أنف من مش99اركة ال99ذباب ،وق99د قي99ل
لبعضهم :ما الذي زه9دك في ال9دنيا؟ ،فق9ال (:قل9ة وفائه9ا ،وك9ثرة جفائه9ا،
وخسة شركائها )
قلت :ولكن الدنيا ال يملكها الذباب.
قال :ولكن يملكها الالهثون وراء السراب.
قلت :فهناك فرق بينهما.
قال :ال فرق بينهم99ا ،وله99ذا س99اوى هللا تع99الى بين ال99ذباب والبش99ر في
اسَ 9ت ِمعُوا َل9هُ ِإ َّن الَّ ِذينَ ب َم َث9لٌ َف ْ الض9عف ،فق9ال تع9الىَ {:ي9ا َأ ُّي َه9ا النَّاسُ ُ
ضِ 9ر َ
الذ َبابُ َشيْئاً ال ون هَّللا ِ َل ْن َي ْخلُقُوا ُذ َباباً َو َل ِو اجْ َت َمعُوا َلهُ َو ِإ ْن َي ْسلُ ْبهُ ُم ُّ
َت ْد ُعونَ ِم ْن ُد ِ
طلُوبُ }(الحج)73 : الطا ِلبُ َو ْال َم ْ
ضعُفَ َّ َي ْس َت ْن ِق ُذوهُ ِم ْنهُ َ
104
قلت :صدقت ،فكالهما ضعيف الطالب والمطلوب.
قال :وأزيدك مثاال يجعلك ترى عالم الذباب بين يديك وملء بصرك.
قلت :هات.
قال :ذلك الطعام اللذيذ الذي قدم لك.
قلت :أتقصد ذلك الذي تهافت عليه الذباب؟
قال :أجل ..لماذا تهافت عليه؟
قلت :ألنه طعام دسم غني بما يشتهيه الذباب من المطاعم.
قال :فك9ذلك ه9ؤالء ال9ذين امتألت نفوس9هم رغب9ة في ال9دنيا يس9لط هللا
عليهم الذباب ليمتص رحيقهم.
قلت :ولكن قومي اخترعوا أنواع المبيدات.
قال :تلك ال تبيد هذا النوع من الذباب ،فإنه ذباب ل99ه من الح99ذق م99ا ال
يستطيع أحد ذبه أو قتله.
قلت :فهمت قص99دك ..تع99ني األص99دقاء المحيطين به99ؤالء الراغ99بين
ينافقونهم ويخادعونهم ليمتصوا بعض ما يمتصه الذباب من مآكل.
قال :نعم ،فقد صدق الشاعر في كل ما قال.
قلت :أول مرة أسمعك تصدق فيها شاعرا.
قال :ألم تسمع بقوله (:إن من الشعر حكما )()1
قلت :بلى ،سمعت ،وقد قال أبو تمام:
ولوال ِخاللٌ َسنَّها ال ِّشعْرُما درى بناةُ المعالي كيفَ تُبْنى المكار ُم
قال :ولكن ..ال كل الشعراء أقصد.
قلت :أجل ،فـ:
فاعلــمـن أربـع ْة فشاعرٌ يجري وال يُجـرى مع ْه َّ الشعرا ُء
ط المعمع ْه وشاعرٌ مـن َح ِّقه أن َتسْـ َم َع ْه وشاعـرٌ ينش ُد وسـ َ
وشاعرٌ من َح ِّق ِه أن تَصْ ــ َف َع ْه
قال :فاترك الشعر ،وعد بنا إلى جائزة العزة.
قلت :فهمت ..فإن العزة تاج فوق رؤوس الزهاد ال يراه الراغبون.
قال :والقرآن الكريم يدل على ذلك.
قلت :أفي القرآن الكريم هذا؟
قال :أجل ،فلنعد إلى قصة قارون ،م99ا ه9و موق99ف الرغ9بين في ال99دنيا
105
عندما رأوه؟
قلت :لقد سال لعابهم ،وهم يرون مراكبه الف9اخرة وزينت9ه ال9تي خ9رج
9ال الَّ ِذينَ ي ُِريُ 9دونَ ْال َح َي99ا َة خَر َج َع َلى َقوْ ِم ِه ِفي ِزي َن ِتِ 9ه َقَ 9 بها ،كما قال تعالىَ {:ف َ
َظ ٍيم}(القصص)79 : ظع ِ ال ُّد ْن َيا َيا َليْتَ َلنَا ِم ْث َل َما أُو ِت َي َق ُ
ارُون ِإنَّهُ َل ُذو َح ٍّ
قال :ولماذا خرج في زينته ما دام قومه سيحسدونه هذا الحسد؟
قلت :بل خرج ألجل أن يحسدوه ،فهو يكاد يشمت بهم بخروجه.
قال :وفي ذلك الحين الذي يراهم فيه مشدوهين نح99و طلعت99ه ومراكب99ه
وزينته ،ماذا كان يتصورهم؟
قلت :يراهم كالذباب المتهافت حول الطعام.
قال :هم أذالء إذن؟
قلت :بل أذل من الذباب ،ألن الذباب إن تهافت حول الطعام نال من99ه،
وهؤالء ال ينالون إال الحسرة واأللم.
قال :ول99و أن ه99ؤالء لم يلتفت99وا إلى زين99ة ق99ارون ،ولم ي99أبهوا ل99ه ،ولم
يعيروهم نظراتهم ،أكان يهتم بمثل هذه الزينة ،ويخرج بهذا الكبر.
قلت :ال أظن99ه س99يفعل ،فم99ا الفائ99دة ال99تي يجنيه99ا بخروج99ه بك99ل تل99ك
الزخارف ،بل سيخرج كما سيخرج سائر الناس؟
قال :أفال ترى أنهم بذلك الموقف الذليل الذي وقف99وه ج99ذروا في نفس99ه
كبرياءه ،وجذروا في نفوسهم الذلة؟
قلت :أجل ،وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا حين قال تعالىَ {:فا ْست َّ
َخَف
اس ِقينَ }(الزخرف)54 : َقوْ َمهُ َفأَ َ
طا ُعوهُ ِإنَّه ُْم َكانُوا َقوْ ماً َف ِ
ت َل ُك ْم قال :أفكان فرعون يجرؤ على أن يق99ولَ {:ي99ا َأ ُّي َه99ا ْال َمأَل ُ َم99ا َع ِل ْم ُ
ِم ْن ِإ َل ٍه َغي ِْري}(القصص ،)38 :ويق9ولَ {:أنَ9ا َر ُّب ُك ُم اأْل َ ْع َلى} (النازعـات:
)24لوال قلة عقول قومه وتهافتهم بين يديه كتهافت الفراش؟
قلت :ال ،فالذلة هي المحل الذي يمكن للكبراء ،ولو أن الناس أروا من
أنفسهم عزة لما تجرأ عليهم أح9د ..فالزه9د إذن ه9و م9ا يقي المؤم9نين من
مهاوي الذلة التي يوقعهم فيها الحكام.
قال :ليس الحكام فقط ،فقد كان قارون غنيا ،ولم يكن حاكما.
قلت :الحكام وأشباه الحكام.
قال :أال تقولون بأن العبرة بالخاتمة؟
قلت :ونقول بأن الناجح من يضحك أخيرا.
106
قال :فمن كان أعز الناس في قصة قارون؟
قلت :كانت لقارون بعض العزة عندما خرج بتلك الزينة.
قال :فما خاتمتها؟
ض َف َما َ
َار ِه اأْل رْ َ قلت :ما نص عليه القرآن الكريم بقولهَ {:فخَ َس ْفنَا ِب ِه َو ِبد ِ
َصِ 9رينَ }(القص9ص: ون هَّللا ِ َو َما َك9انَ ِمنَ ْال ُم ْنت ِ َكانَ َلهُ ِم ْن ِف َئ ٍة َي ْنصُرُو َنهُ ِم ْن ُد ِ
)81
قال :فنهايته إذن الذل المحض ،بل الهالك الذي هو فوق الذل.
قلت :نعم.
قال :فمن كان أعز الناس إذن؟
9ال الَّ ِذينَ أُوتُ9وا قلت :الذين أوتوا العلم ،فقد ق9ال تع9الى في ش9أنهمَ {:و َق َ
الص 9ا ِبرُونَ } َّ صا ِلحاً َوال يُ َلقَّا َه99ا ِإاَّل ْال ِع ْل َم َو ْي َل ُك ْم َث َوابُ هَّللا ِ خَ يْرٌ ِل َم ْن آ َمنَ َوع َِم َل َ
(القصص)80 :
قال :وهل كانوا حينها أعز من قارون؟
قلت :أجل ،ألن عزته بمراكبه ،وعزتهم بما أتاهم هللا من العلم.
قال :وهل جرهم علمهم إلى الدنيا أم زهدهم فيها؟
قلت :بل زهدهم فيها.
قال :ولو جرهم إلى الدنيا ،وإلى أبواب ق99ارون ه99ل س99يتحلون ب99العزة
التي تحلوا بها؟
قلت :ال.
قال :فعزتهم إذن ليس بعلومهم.
قلت :بم إذن؟
قال :بزهدهم ،فالزهد باب العزة.
قلت :في النفس من كالمك شيء.
َّ َ
قال :ألم تسمع قوله تعالىَ {:وا ْتلُ َع َل ْي ِه ْم َن َبأ ال ِذي آ َت ْينَا ُه آ َيا ِتنَا َفا ْن َس َلخَ ِم ْن َه99ا
َاوينَ َو َلوْ ِش ْئنَا َل َر َفعْ نَاهُ ِب َها َو َل ِكنَّهُ َأ ْخ َل َد ِإ َلى اأْل َرْ ِ
ض ان َف َكانَ ِمنَ ْالغ ِ ط ُ َفأَ ْت َب َعهُ ال َّش ْي َ
ث َذ ِل99كَ َم َث99لُ ث َأوْ َت ْترُ ْك 9هُ َي ْل َه ْ ب ِإ ْن تَحْ ِملْ َع َل ْيِ 9ه َي ْل َه َْواتَّ َب َع ه ََوا ُه َف َم َثلُهُ َك َم َث ِل ْال َك ْل ِ
ص َل َعلَّه ُْم َي َت َف َّكرُونَ }(ألعراف)176 : ص َ صُص ْال َق َ
ِ ْال َقوْ ِم الَّ ِذينَ َك َّذبُوا ِبآيا ِتنَا َفا ْق
قلت :بلى ،فهذه قصة بلعم بن باعوراء ،وقد ذكر المفسرون أنه ( كان
من علماء بني إسرائيل ،وكان مج99اب ال99دعوة يقدمون99ه في الش99دائد ،بعث99ه
نبي هّللا موسى إلى ملك م9دين ي9دعوه إلى هّللا فأقطع9ه وأعط9اه ،فتب9ع
107
دينه وترك دين موسى )
()1
ق99ال :دع99ك من القص99ص ،واعت99بر بالقص99ة كم99ا وردت في الق99رآن
الك99ريم ،فهي ليس99ت قص99ة بلعم وح99ده ،ب99ل قص99ة آالف وعش99رات آالف
البالعم.
قلت :ماذا تريد أن تقول؟
قال :ما الذي جعل هذا الذي آتاه هللا العلم ينسلخ عن علمه؟
قلت :هو ما ذكره القرآن الكريم من إخالده إلى األرض وسكونه إليها.
قال :فل9و أن9ه لم يخل9د إلى األرض ولم يس9كن إليه9ا ،ولم تش9تد رغبت9ه
فيها ،ما هي الجائزة التي كان سينالها؟
قلت :الرفعة والعزة ،كما ذكر القرآن الكريم ،ق9ال تع9الىَ {:و َل9وْ ِشْ 9ئنَا
َل َر َفعْ نَا ُه ِب َها ،ولكنه بس99بب خل99وده إلى األرض ص99ار ذليال ك99الكلب { ِإ ْن
ث ث َأوْ َت ْترُ ْكهُ َي ْل َه ْ تَحْ ِملْ َع َل ْي ِه َي ْل َه ْ
قال :أتدري لما شبهه هللا بالكلب؟
قلت :نعم ،فـهـو لـفرط اتباعه الهوى وتعلقه بع9الم الم99ادة انتابت99ه حال99ة
من التعطش الشديد غير المح9دود وراء لـذائذ الـدنـيـا ،وك9ل ذل9ك لم يكن
لحاجة ،ب9ل لحال9ة مرض9ية ،فه9و ك9الكلب المس9عور ال9ذي يظه9ر بحال9ة
عـطش ك99اذب ال يمكن إرواؤه99ا ،وهي حال99ة العبي99د ال99ذين ال يهمهم غ99ير
جمع المال واكتناز الثروة فال يحسون معه بشبع ابدا.
قال :فأيهما أرفع شأنا العالم الزاهد ،أم العالم الراغب؟
قلت :بل الزاهد.
قال :لماذا؟
قلت :لينال من العزة ما ال يظفر به الراغب.
قال :ليس ه9ذا فحس9ب ،ب9ل إن الرغب9ة والح9رص على ال9دنيا وت9رك
الزهد فيها هي السبب فيما حاق باألديان من أنواع التحريف.
قلت :هذه دعوى خطيرة ،فهل لها من بينات تقوم عليها؟
9ف َو ِرثُ9وا ْال ِكت َ
َ9اب خَل ٌق9ال :ألم تس9مع قول9ه تع9الىَ {:فخَ َل9فَ ِم ْن َبعِْ 9د ِه ْم ْ
ض َه َذا اأْل َ ْدنَى َو َيقُولُونَ َسي ُْغ َفرُ َلنَا َو ِإ ْن َي ْأ ِت ِه ْم ع ََرضٌ ِم ْثلُهُ َي ْأ ُخ ُذوهُ َي ْأ ُخ ُذونَ ع ََر َ
ق َود ََر ُس 9وا َم99ا ِفي ِ 9ه ب َأ ْن ال َيقُولُوا َع َلى هَّللا ِ ِإاَّل ْال َح َّ ق ْال ِكتَا ِ خَذ َع َل ْي ِه ْم ِمي َثا ُ َأ َل ْم ي ُْؤ ْ
َوال َّدارُ اآْل ِخ َرةُ خَ يْرٌ ِللَّ ِذينَ َيتَّقُونَ َأ َفال تَعْ ِقلُونَ }(ألعراف)169 :
108
قلت :بلى ،فما في اآلية مما تدعيه؟
قال :لقد ذكر تع9الى تمس9كهم بال9دنيا ،وأخ9ذهم بالمت9اع األدنى ،فبم9اذا
عاتبهم هللا تعالى بعد ذلك؟
قلت :عاتبهم على أنهم لم يوفوا بالميثاق الذي أخذ عليهم.
قال :وما هو؟
قلت :أال يقولوا على هللا إال الحق.
قال :فذلك يدل على أنهم لم يفعلوا ذلك.
قلت :نعم وإال لما عاتبهم هللا تعالى.
قال :فما الذي جرهم إلى ذلك؟
قلت :أول اآلية وآخرها يش9يران إلى أن عل9ة ذل9ك هي الح9رص على
ف َو ِرثُوا ْال ِكت َ
َ99اب الدنيا ،فقد قال تعالى في أول اآليةَ {:فخَ َلفَ ِم ْن َبعْ ِد ِه ْم ْ
خَل ٌ
9رةُ خَ ْي99رٌ ِللَّ ِذينَض َه َذا اأْل َ ْدنَى } ،وقال في آخرهاَ {:وال َّدارُ اآْل ِخ َ َي ْأ ُخ ُذونَ ع ََر َ
َيتَّقُونَ َأ َفال تَعْ ِقلُونَ }
قال :فهذه اآلية تدل على علة التحريف في دين هللا.
قلت :نعم.
قال :أزيدك آية أخرى ،ألم تسمع قول9ه تع9الىَ {:ي9ا َأ ُّي َه9ا الَّ ِذينَ آ َمنُ9وا ِإ َّن
صُّ 9دونَ ع َْن اس ِب ْال َب ِ
اطِ 9ل َو َي ُ ال النَّ ِ 9ان َل َي9ْ 9أ ُكلُونَ َأ ْمَ 9
9و َ َك ِث99يراً ِمنَ اأْل َحْ َب ِ
9ار َوالرُّ ْه َبِ 9
يل هَّللا ِ}(التوبة)34 : َس ِب ِ
قلت :أجل ،فقد جمع هللا في هذه اآلية بين أكلهم أموال الناس بالباط99ل،
وص99دهم عن س99بيل هللا ،وه99و يش99ير إلى أن الح99رص ح99ول من ه99ؤالء
األحبار والرهبان إلى تج9ار بض9اعتهم تحري9ف الكت9اب بم9ا يتناس9ب م9ع
األهواء.
قال :فانصح علماء قومك أن يحذورا من أبواب الس99الطين ،ف99إن العلم
يذل عند أبوابهم.
قلت :ولكنهم ينصحونهم ،وفي ذلك مصلحة الرعية.
ق999ال :فانص999حهم إذا ذهب999وا أن يطه999روا أرض قل999وبهم من ش999وك
الحرص ،وحجارة الرغبة ،لئال ينبتوا الحصرم والعلقم.
قلت :ومن أنا حتى يسمعوا لي!..؟
قال :إن عليك إال البالغ..
قلت :ومن لي بأن يصلهم صوتي!؟
109
قال :ذلك هلل ،فلله األمر من قبل ومن بعد.
الراحة:
قلت :جزاك هللا خيرا ..لقد اقتنعت بما قلت.
قال :فهلم ألخذ الجائزة الرابعة من جوائز الزهد.
قلت :لقد كف9اني م9ا نلت من الج9وائز ،فل9ذلك ال تهم9ني المش9اق ال99تي
أتحملها من أجل السعي لتحصيله ..خاصة بعد علمي بعالقته الخطيرة بم99ا
حاق باألديان من تحريف.
ق99ال :لن تتحم99ل أي مش99قة في تحص99يله ،ب99ل إن الزه99اد أك99ثر الن99اس
راحة.
قلت :كيف؟
قال :ألن الحرص ه99و ال99ذي يجلب التعب ألص99حابه ،أم99ا الزه99د ،فال
يجلب إال الراحة.
قلت :لكأني بك تقصد قول الشاعر:
يلبسُ الص9999وفَ ويه9999وى ليس بالزاهِ 9999د في ال9999دنيا
ام99999999999999999999999999999999999999999ر ٌؤ ال ُرقَعا
ع9999راض عنه9999ا
َ ورأى ا ِإل ك الُّ 9دنا ظَ َّن دينَ هّللا ِ في تَ99رْ ِ
أ ْنفعا
ق التق9999وى وعف9999افَ طلَ 9999 وهو لو جا َء ْت9هُ منه99ا بَ ْ 9د َرةٌ
ال َو َرعا
ض99لُعا َ
لكن الجُّ 99د ي99ذيبُ األ ْ ِ فهو ال ُز ْهداً بها عنها ن99أىْ
ص9نَعاف99رأى الراح9ةَ فيم99ا َ خ999افَ أن يس999عى في999دمي
رجلَه
ق9ال :ص9دق الغاليي9ني ،وم9ا أري9د ه9ذا ،فق9د ذكرن9ا إيجابي9ة الزاه9د،
وسنذكر طرقه ألبواب فضل هللا ،ولكن التعب ليس في الس99عي ،وإنم99ا في
الحرص.
110
قلت :كيف؟
ق99ال :عن99دما ال تك99ون ل99ك طاق99ة تحم99ل معين99ة ،فتحم99ل عليه99ا وال
تتجاوزها ،أيصيبك التعب لذلك؟
قلت :ال ،ألني لم أجاوز مقدار طاقتي.
قال :فالزاهد ال يجاوز مقدار طاقته التي وهبه هللا إياها ،أما الحريص،
فلحاجته لمأل الفراغ النفسي الذي يشكوا منه تج99ده يحم99ل نفس99ه م99ا تطي99ق
وما ال تطيق.
قلت :كيف؟
قال :هو يتصور الدنيا كمنجم ذهب مح9دود علي99ه يته99افت الراغب9ون،
فلو قعد لحظة واحدة لسبقه غيره ،وال يبقى له منه شيئا.
قلت :والزاهدون كيف يرون الدنيا؟
قال :بنظرة مختلفة تماما ،فهم ي9رون ال9دنيا دار ض9يافة إلهي9ة ال يع9دم
الساكن فيها من رزق يساق إليه ،فلذلك يتناوله هنيئا مطمئنا مرتاح99ا يق99ول
في نفسه :إن نفذ هذا ،فسيرسل إلي صاحب المائدة رزق99ا آخ99ر ،ق99د أص99ل
إليه بسعيي ،وقد يجيئني بسعيه إن قعد سعيي.
قلت :ولكن الناس ال يكتفون بالرزق القليل؟
قال :ولكن تضحياتهم في سبيل الكثير الذين يمألون به ف99راغ نفوس99هم
ال يقاوم ما ينالونه.
قلت :كيف ذلك؟
قال :أرأيت من ضحى بصحته وقوته وعرضه ودين99ه من أج99ل لقم99ة
شهية كاسبا أم خاسرا؟
قلت :بل خاسرا أعظم خسارة ،فم9ا تج9دي اللقم9ة أم9ام ك9ل م9ا ض9اع
منه ..بل هو كمن باع قصرا فخما بحجارة ال تغني وال تسمن من جوع.
قال :فهذا هو عناء الحريص ،وراحة الزاهد.
قلت :ولكن مع ذلك ..ال ينبغي أن نستنكر ما لتلك اللقمة من لذة.
قال :لذة مكتنفة بالغصص ،وال يعدم الزاهد مثلها ،أو أكثر منها مع ما
استفاده من الراحة واألمن.
قلت :الراحة واألمن؟
قال :فإن الزاهد ينعم من الراحة واألمن ما ال ينعم به الحريص.
قلت :فاضرب لي على ذلك مثاال.
111
قال :بل سأحكي لك عن كل منهم9ا حكاي9ة ،فالحكاي9ات كاألمث9ال جن9د
من جند هللا.
قلت :فما حكاية الراحة؟
قال :كان إبراهيم بن أدهم من أهل النعم بخراسان ،فبينما ه99و يش99رف
من قصر له ذات يوم إذ نظر إلى رجل فى فناء القصر ،وفى ي99ده رغي99ف
يأكله ،فلما أكل نام ،فقال لبعض غلمانه (:إذا قام فجئنى به ) ،فلما قام ج99اء
به إليه ،فقال إبراهيم (:أيها الرجل أكلت الرغي99ف وأنت ج99ائع ) ق99ال:نعم،
قال :فشبعت ،قال :نعم قال :ثم نمت طيبا قال :نعم فقال إب99راهيم فى نفس99ه:
فما أصنع أنا بالدنيا والنفس تقنع بهذا القدر.
قلت :لقد ذكرتني بعامر بن عبد القيس ،فقد مر برجل وهو يأكل ملح99ا
وبقال فقال له :يا عبد هللا أرضيت من الدنيا به99ذا؟ فق99ال :أال أدل99ك على من
رضى بشر من هذا؟ قال :بلى قال :من رضى بالدنيا عوضا عن اآلخرة.
وذكرتني بمحمد بن واسع فقد كان يخرج خ9بزا يابس9ا ،فيبل9ه بالم9اء،
ويأكله بالملح ويقول :من رضى من الدنيا بهذا لم يحتج إلى أحد.
قال :أما حكاية أمن الزاهد أمام المخاطر التي يتعرض لها الح99ريص،
فق99د روي أن99ه ص99حب رج99ل عيس99ى بن م99ريم فق99ال (:أك99ون مع99ك
وأصحابك) فانطلقا فانتهيا إلى ش9ط نه9ر ،فجلس9ا يتغ9ديان ،ومعهم9ا ثالث9ة
أرغفة ،ف99أكال رغيفين وبقي رغي99ف ث99الث ،فق99ام عيس99ى إلى النه99ر،
فشرب ،ثم رجع فلم يجد الرغيف ،فقال للرجل :من أخذ الرغيف ،فقال :ال
أدري .فهذا أول آثار الحرص.
فانطق ومعه صاحبه فرأى ظبية ومعها خشفان لها ،فدعا أحدهما فأتاه
فذبحه فاشتوى منه ،فأكل هو وذلك الرجل ،ثم قال للخشف (:قم بإذن هللا)،
فقام فذهب ،فقال للرجل (:أسألك بالذي أراك هذه اآلية من أخذ الرغيف )،
فقال :ال أدري ،ثم انتهيا إلى وادي م9اء ،فأخ9ذ عيس9ى بي9د الرج9ل ،فمش9يا
على الماء ،فلما ج9اوزا ق9ال ل9ه (:أس9ألك بال9ذي أراك ه9ذه اآلي9ة من أخ9ذ
الرغيف ) ،فقال:ال أدري ،فانتهي99ا إلى مف99ازة ،فجلس99ا ،فأخ99ذ عيس99ى
يجمع ترابا وكثيبا ،ثم قال (:كن ذهبا بإذن هللا تعالى ) ،فصار ذهب9ا فقس9مه
ثالثة أثالث ،ثم قال (:ثلث لي ،وثلث لك ،وثلث لمن أخذ الرغيف ) ،فقال:
( أنا الذي أخذت الرغيف ) ،فقال (:كله لك )
وفارق99ه عيس99ى ف99انتهى إلي99ه رجالن في المف99ازة ،ومع99ه الم99ال،
112
فأرادا أن يأخذاه منه ويقتاله ،فقال (:هو بينن99ا أثالث99ا ) ،ف99ابعثوا أح99دكم إلى
القرية حتى يشتري لنا طعاما نأكله ) ،فبعثوا أحدهم فقال الذي بعث (:ألي
شيء أقاسم هؤالء هذا المال ،لك99ني أض99ع في ه99ذا الطع99ام س99ما فأقتلهم99ا،
وآخذ المال وحدي ) ،ففعل وقال ذان9ك ال9رجالن (:ألي ش9يء نجع9ل له9ذا
ثلث المال ولكن إذا رجع قتلناه واقتس99منا الم9ال بينن9ا ) ،فلم99ا رج9ع إليهم99ا
قتاله ،وأكال الطعام ،فماتا ،فبقي ذلك المال في المفازة وأولئك الثالثة عنده
قتلى ،فمر بهم عيسى على تل9ك الحال9ة فق9ال ألص9حابه (:ه9ذه ال9دنيا
فاحذروها )
قلت :هذه قصة جميلة ..ولكن لست أدري هل هي صحيحة أم ال ،فق99د
قرأت العهد الجديد حرفا حرفا ،فم أرها؟
قال :وما يهمك أن تصح أو ال تصح ،كل البقلة وال تسأل عن البقال.
قلت :ولكن معناها صحيح ،فأكثر الناس تعرضا للج99رائم هم األغني99اء
طمعا في مالهم وثرائهم ،بل قد يقتلهم أقرب الناس إليهم.
قال :فإن حرصوا على ملء بطونهم من أصناف الشهوات.
قلت :ستقتلهم حينها شهواتهم ،أما سمعت بأمراض األثرياء.
ص 9بْ }(الش99رح،)7 : فجأة خطر على بالي قوله تعالىَ {:فإِ َذا َف َر ْغتَ َفا ْن َ
صبْ }(الشرح ،)7 :فكيف فقلت :يا معلم ،فقد قال هللا تعالىَ {:فإِ َذا َف َر ْغتَ َفا ْن َ
تحمد الراحة ،وهللا تعالى يأمرنا بالنصب؟
قال :فاقرأ ما بعدها.
قلتَ { :و ِإ َلى َربِّكَ َفارْ غَبْ }(الشرح)8 :
قال :كل نصب ال يرغب9ك في9ه ،وال يض9عك بباب9ه باط9ل ،ألن9ك تلهث
بذلك وراء السراب.
قلت :كيف؟
ُ َ َّ
قال :ألم تسمع قوله تعالىَ {:وال ِذينَ َك َفرُوا أ ْع َماله ُْم َك َس َرا ٍ
ب ِب ِقي َع ٍة َيحْ َسبُهُ
9آن َم9ا ًء َحتَّى ِإ َذا َج 9ا َءهُ َل ْم َي ِجْ 9دهُ َش9يْئاً َو َو َجَ 9د هَّللا َ ِع ْنَ 9دهُ َف َوفَّاهُ ِح َس9ا َبهُ َوهَّللا ُ َّ
الظ ْم ُ
ب}(النور)39 : َس ِري ُع ْال ِح َسا ِ
قلت :بلى ،ولكن ما الذي تعنيه؟
قال :السعي وراء السراب هدر.
قلت :ولكن الح99ريص ال يلهث وراء الس99راب ،ب99ل يلهث وراء ث99روة
حقيقية.
113
قال :ولماذا؟
قلت :ليرضي نهمه.
قال :وهل ينتهي نهمه؟
قلت :ال ،فال يمأل جوف ابن آدم إال التراب.
قال :فهو يجري وراء السراب إذن ،ومن جرى وراء الس99راب ،ك99ان
ث َأوْ َت ْترُ ْكهُ َي ْل َهث}(ألعراف)176 :
كالكلب { ِإ ْن تَحْ ِملْ َع َل ْي ِه َي ْل َه ْ
ثم التفت إلي ،وقال :وأزيدك أمرا آخ99ر ،في99ه ك99ل الراح99ة للزه99اد ،ألم
تسمع قوله (:من أصبح وهمه الدنيا شتت هللا عليه أمره ،وفرق علي99ه
ضيعته ،وجعل فقره بين عيني99ه ،ولم يأت99ه من ال99دنيا إال م99ا كتب ل99ه ،ومن
أصبح وهمه اآلخرة جمع هللا له همه ،وحفظ عليه ضيعته ،وجعل غناه في
قلبه ،وأتته الدنيا وهي راغمة )()1؟
قلت :هذه ناحية مهمة جدا ،فالض99ياع عن99دنا ش99ائع ،والتش99تت النفس99ي
منتشر.
قال :أتدري ما علة ذلك؟
قلت :ما نص عليه الحديث.
قال :ومثل هؤالء كمثل من وضع في مفازة ووض99ع ل99ه فيه99ا من ك99ل
أصفر وأبيض وأخضر ،فاحتار ما يأخذ وما يدع ،فتشتت عليه أم99ره ،ولم
ينل في األخير إال التعب والنصب.
ثم التفت إلي ،وقد رأى في بعض الوجوم :أزيدك أمرا آخر ،ألم تسمع
قوله عندما سئل (:أي الناس خير؟)
قلت :بلى ،لقد قال (:كل مؤمن محموم القلب ،صدوق اللسان )()2
قال :فمن هو محموم القلب؟
قلت :لقد عرفه بقوله (:التقي النقي ال9ذي ال غ9ل في9ه وال غش وال
بغى وال حسد )
قال :فهذا هو قلب الزاهد بدليل قوله بعد هذا لما سئل (:ي99ا رس99ول
هللا فمن على أثره؟) ،قال (:الذي يشنأ الدنيا ويحب اآلخرة )
قلت :ال أراني أعدم على هذا أمثلة ،فأكثر األمراض النفسية ناشئة من
ه9ذا ،فك9ل واح9د يري9د أن ينف9رد بجمي9ع رزق هللا ،وال يرض9ى لغ9يره أن
) )(1ابن ماجة من حديث زيد بن ثابت بسند جيد والترمذي من حديث أنس بسند ضعيف.
) )(2ابن ماجه بإسناد صحيح.
114
ينافسه فيه.
قال :وما سبب ذلك؟
قلت :الحرص ،بل قد ورد الحديث المؤكد لهذا ،ق99ال (:إن الن99ور
إذا دخل في القلب انشرح له الصدر وانفس9ح ) قي9ل (:ي9ا رس9ول هللا وه9ل
لذلك من عالم9ة؟) ،ق9ال (:نعم التج9افى عن دار الغ9رور واإلناب9ة إلى دار
الخلود واالستعداد للموت قبل نزوله )()1
قال :فما العالج؟
قلت :الزهد.
قال :فالزهد إذن راحة وصحة.
جوهرة األمن:
صعدت مع المعلم طابقا آخر في قصر القناعة ،فوجدنا شعاعا عظيما
متأللئا ،سألت المرشد عنه ،فقال :هذه جوهرة نفيسة من ج99واهر القناع99ة،
اسمها األمن.
التفت إلى المعلم ،وقلت :ذاك الذي تكفل به مجلس األمن؟
قال :أمنكم يبذر الشقاق ،وينبت الح9روب ،وه9ذا أمن يمس9ح ال9دموع،
ويسكن اآلهات ،ويشرح الصدور.
قلت :بماذا يمسح الدموع ،أبالمساعدات الغذائية التي ترميه9ا ط9ائرات
قومي من جو السماء.
ق999ال :وت999رمي بع999دها القناب999ل العنقودي999ة والنووي999ة والجرثومي999ة
والكيميائية..
قلت :لكأني بك تعلم مخترعاتنا من األسلحة.
قال :ومن ال يعلم مخترعاتكم منها ،حتى النمل في جحوره ،والحيت99ان
في أعم99اق المحيط99ات ،وال99ذرات في خالي99ا الفض99اء يعرف99ون أس99لحتكم،
ويمسهم الرعب منها.
قلت :ولكن على العموم ،فإن قومي يحسنون إذ يرس99لون ه99ذه األم9داد
من األغذية لهذه الشعوب المستضعفة.
ق99ال :هم يس99منوهم لي99أكلوهم س99مانا ال عجاف99ا ،كم99ا تس99منون ال99دجاج
واألرانب.
قلت :ولكن لوال تلك المس99اعدات ال99تي ت99نزل ك99ل حين لض99اعت تل99ك
) )(1الحاكم.
115
الشعوب ،بل لضاعت شعوبنا أيضا.
قال :وما الثمن الذي تقدمونه لذلك؟
قلت :كل ما يطلبون ..كرامتنا ..مواقفنا..
قال :ودينكم وحياتكم ومصيركم وربكم؟
قلت :لعلهم لو طلبوهم منا ألعطيناهم ال نساومهم في ذلك.
قال :فسيطلبون ذلك ..إن لم يكونوا قد فعلوا..
قلت :بلى ..لقد بدأو يجرؤون.
قال :أتدري ما سبب ذلك؟
قلت :ال أدري ..وال أدري لماذا نحن نتحدث عن هذا الموضوع اآلن،
أمام هذه الجوهرة النفيسة.
قال :هذا الحديث عنها ..فهي ج9وهرة األمن ..وخ9وفكم على أرزاقكم،
وعدم ظفركم بحقائق هذه الج99وهرة ه99و ال99ذي جعلكم تنح99درون ك99ل ذل99ك
االنحدار.
قلت :فحلل لي سبب ذلك خطوة خطوة حتى أفهم ما تقول.
9ع ْالهُ9دَى َم َع99كَ نُت َّ
ف ِم ْن َخَط ْ قال :ألم تسمع قول99ه تع9الىَ {:و َق99الُوا ِإ ْن َنتَّ ِبِ 9
ات ُك99لِّ َشْ 9ي ٍء ِر ْزق9اً ِم ْن َلُ 9دنَّا 9ر ُ ضنَا َأ َو َل ْم نُ َم ِّك ْن َله ُْم َح َرماً ِآمناً يُجْ َبى ِإ َل ْي ِه َث َمَ 9
َأرْ ِ
َو َل ِك َّن َأ ْك َث َرهُ ْم ال َيعْ َل ُمونَ }(القصص)57 :؟
قلت :بلى ،وقد ذكرهم هللا بم9ا أنعم عليهم في الح99رم من األمن ،فق99ال:
ف النَّاسُ ِم ْن َحوْ ِل ِه ْم َأ َف ِب ْال َب ِ
اط ِل ي ُْؤ ِمنُونَ َخَط ُ { َأ َو َل ْم َي َروْ ا َأنَّا َج َع ْلنَا َح َرماً ِآمناً َويُت َّ
َو ِب ِنعْ َم ِة هَّللا ِ َي ْكفُرُونَ }(العنكبوت)67 :
قال :فما هي العلة التي استند لها المش99ركون في ت99ركهم اتب99اع اله99دى
مع النبي ؟
قلت :ما نص عليه القرآن الكريم من خشيتهم على أنفسهم وأرزاقهم.
ق99ال :على أي أرزاق خ99افوا ،ه99ل على أرزاق حاض99رهم ،أم أرزاق
مستقبلهم؟
قلت :رزق حاضرهم يأكلونه ،فلن يخرج9ه أح9د من أف9واههم ،ورزق
ماضيهم أكلوه ،فال يمكن أن يسلبه منهم أحد ،فلم يبق إال رزق مستقبلهم.
قال :وبماذا طمأنهم هللا تعالى ،ونزع من قلوبهم المخافة؟
قلت :بذكر ما وف99ر لهم من النعم ،وال99تي تجعلهم في غني99ة عن مخاف99ة
التخطف أو ذهاب الرزق.
116
ق99ال :فه99ذه اآلي99ة إذن تش99ير إلى م99ا يحمل99ه الخ99وف على ال99رزق من
أضرار على حقيقة اإلنسان وحياة اإلنسان.
قلت :بلى ،وقد وجههم هللا بع99دها إلى توجي99ه المخاف99ة هلل وح99ده ،فق99ال
يشَ 9ت َها َف ِت ْل9كَ َم َس9ا ِكنُه ُْم َل ْم تُ ْسَ 9ك ْن ِم ْن
ت َم ِع َ تعالىَ {:و َك ْم َأ ْه َل ْكنَ9ا ِم ْن َقرْ َيٍ 9ة َب ِط َ
9ر ْ
ار ِثينَ }(القصص ،)58 :أي ال ينبغي أن تخ99افوا ال َو ُكنَّا نَحْ ُن ْال َو ِ َبعْ ِد ِه ْم ِإاَّل َق ِلي ً
إن اتبعتم الهدى أن يتخطفكم الناس ،ولكن خافوا إن لم تتبع99وه أن يتخطفكم
هللا.
قال :فتلك إشارة مؤكدة مكملة لإلشارة السابقة.
قلت :لكني ال أزال لم أفهم وجه العالقة بين األمن وكنز القناعة؟
ق99ال :لق99د ع99رفت أن الح99رص يجع99ل الح99ريص في هم دائم وبحث
دؤوب على كل ما يمأل جوفه.
قلت :أجل بدليل الحديث الذي عبر يه عن نفسية اإلنسان الطامع.
قال :وهذا اإلنسان الطامع الذي يسرف وال ي99دبر وال يزه99د ك99ل ذل99ك
حرصا على ملء الفراغ الذي يعانيه.
قلت :نعم ،وقد اقتنعت بكل ما ذكرته من ذلك ..ولكن ما جذور األمن،
وما عالقتها بالقناعة ،وكي9ف ك9ان ج99وهرة نفيس99ة من جواهره9ا ،ب99ل من
أعلى جواهرها وأغالها.
ق99ال :الح99ريص ال يفك99ر في لحظت99ه فق99ط ،ب99ل يفك99ر في المس99تقبل
الطويل ..ال يقول بمأل قلب99ه (:الحم99د هلل ،لق99د ش99بعت الي99وم ،وكفيت ) ،ب99ل
يقول (:لست أدي ما الذي سآكل السنة القادمة ،أو السنة التي بعدها )
قلت :فإذن هو ال يعيش لحظته ويومه.
قال :بل ال يعيش غده وشهره ،فهو يفكر ،ويتألم لما ينتظره.
قلت :والقانع.
قال :القانع فرح بالرزق الذي سيق إليه ،مطمئن بما وهب ،ويأم99ل أن
يوهب في مستقبله ما وهب في ماضيه.
قلت :فهو سعيد إذن.
قال :هو سعيد ومسالم.
قلت :وما عالقة ذلك بالسالم.
قال :ألم نكن نتحدث عن القنابل ومن أرس99ل القناب99ل ،أليس ذل99ك ولي99د
الحرص.
117
قلت :لم أفهم.
قال :أولئك الجناة المجرمون المصارعون لم يقتنعوا بما آت99اهم هللا من
ال99رزق ،فطلب99وا أراض99ي جدي99دة لتض99من المس99تقبل ال99ذي يخ99افون من99ه،
فراحوا يرمونكم ويرمون المستضعفين ،ثم يس99كتوكم أو يس99مموكم ببعض
السموم.
قلت :فلم سميت هذه الجوهرة باألمن؟
ق99ال :ألم تس99مع قول99ه تع99الىَ {:وال َت ْقتُلُ99وا َأوْ ال َد ُك ْم ْ
خَشَ 99ي َة ِإ ْمال ٍ
ق نَحْ ُن
طئاً َك ِبيراً}(االسراء)31 :؟ نَرْ ُزقُه ُْم َو ِإيَّا ُك ْم ِإ َّن َق ْت َله ُْم َكانَ ِخ ْ
قلت :بلى ،فاهلل تعالى ينهى المشركين عن قت99ل أوالدهم خش99ية الفق99ر،
ووعدهم بأنه سيرزقهم في مستقبل األيام.
قال :فقد كان الخوف إذن هو سبب قتل األوالد ..ومثله قتل الشعوب.
قلت :هذا صحيح.
ق99ال :فل99ذلك ك99انت ه99ذه الج99وهرة هي ج99وهرة األمن ال99ذي يمس99ح
المخاوف ،ويطمئن القلوب ،ويشعرها باالستقرار والسكينة.
قلت :نعم ،فق99د رغبت99ني في امتالك ه99ذه الج99وهرة النفيس99ة ،ف99بين لي
طريق تملكها.
قال :بأربعة حقائق ،إن تش99ربتها حلت في99ك الس99كينة ،ون99زل بس99احتك
األمن.
قلت :فما الحقيقة األولى؟
قال :أن تعلم بأن المكلف برزقك خزائنه ال تنف99د ،وه99و ال يغف99ل عن99ك
لحظه ،وهو مع ذلك رحيم بك لطيف ودود.
قلت :فيكف ينشئ هذا في نفسي األمن على رزقي؟
قال :الصبي الصغير الذي يعيش في كفالة والدين رحيمين غنين ،ه99ل
يفكر في مصدر رزقه ،أو يحزن على غداء غده؟
قلت :كال ..فلماذا يفكر ،فهو في كفالتهما؟ ..ولكنه م99ع ذل99ك ص99غير ال
طاقة له بحمل هموم الكبار.
قال :فالط9الب الكب9ير ال9ذي ينتمي إلى معه9د من المعاه9د ال9تي تتكف9ل
برزقه ،هل يحزن على رزق غده؟
قلت :كال ،فهو تحت كفالة معهد له ميزانيت99ه الغني99ة ،فل99ذلك ال يص99يبه
هم رزقه.
118
قال :فإذا علم العبد أن رزقه بي9د هللا ،وأن هللا غ9ني حمي9د ،وأن9ه ك9ريم
جواد ،وأنه ال تأخذه س9نة وال ن9وم ،وال تص9يبه غفل9ة وال نس9يان ،أيخ9اف
على رزقه؟
قلت :كال ،فهات الحقيقة الثانية.
قال :أال تعلم أن مطالب اإلنسان الحقيق9ة ال9تي يتطلبه9ا اس9تقراره على
هذه األرض لتأدية ما كلف ب9ه من وظ9ائف ال يس9تدعي ك9ل ذل9ك الكم من
الجهود ومن الحزن.
قلت :كيف؟ والضرورات كثيرة ،وكل ضرورة تؤدي إلى ضرورات
أخرى ..وهكذا تتعقد الحياة ومطالب الحياة.
قال :سبب ذلك ليس مطالب الحياة كما هي ،وكما خلقها هللا ،وإنما هي
مطالب األجواف الفارغة التي تستدعي وديانا كثيرة لتمألها.
قلت :فالمطالب إذن وهمية ،والض9رورات ليس9ت ض9رورات ..كي9ف
هذا؟
قال :سأبين لك هذا بتفاصيله ،ولكن ق9ل لي :من ك9انت ل9ه جه9ة غني9ة
تكفله ،ثم كان ال يحتاج إال إلى حاجات بسيطة أكان ذلك يجعله خائفا؟
قلت :اضرب لي مثاال على ذلك.
قال :رأيت قومك يحبون تربية القطط.
قلت :ويتفنون في تربيتها وأنواع طعامها.
قال :أرأيت لو أن شخصا ترك قط9ه عن99د ج99زار ،أو ص99احب مطعم،
أيخاف على قطه من الموت جوعا؟
قلت :كال ..فإنه وإن لم يلتفت الجزار أو ص99احب المطعم إلى حاج99ات
القط ،فإن غ9ذاء الق9ط بس9يط ،فيكيفي9ه أن يحم9ل أي عظم أو أي ش9يء في
األرض ليسد به رمقه.
قال :فكذلك اإلنسان في مل9ك هللا ،ف9إن مطالب9ه أق9ل بكث9ير من خ9زائن
الرزق التي جعلها هللا له.
قلت :فهمت ،فما الحقيقة الثالثة؟
ق99ال :إذا علمت أن لك99ل زم99ان رزق99ه الخ99اص ب99ه ،ال تح99زن على
المستقبل ،ألنه ال يأتي إال ومعه رزقه.
قلت :كيف؟
ق99ال :س99بب الخ99وف على المس99تقبل ه99و تص99ور خل99و المس99تقبل من
119
الرزق ،فإذا علمت أن لكل زمان رزقه الخ99اص ب99ه لم تح99زن ،كالرض99يع
الذي يسوق هللا له في كل لحظة من الرزق ما يتناسب مع حاجاته.
قلت :فما الحقيقة الرابعة؟
قال :إذا ركبت باخرة ضخمة ،وكان في الباخرة ك99ل وس99ائل األم99ان،
بما فيها الزوارق وقوارب النجاة ،وكنت تتقن السباحة ،وكان ال99بر قريب99ا،
أكنت تخاف؟
قلت :ال ..ولماذا أخ9اف ،فأن9ا ق9ريب أوال ،وق9وارب النج9اة موج9ودة،
ومع ذلك ،فإن مهارتي في السباحة قد تكفي لنجاتي.
قال :فكذلك هللا ،فقد زودك باإلضافة إلى ك99ل م9ا ذك99رت ق9وى لتعم9ل
بها ،فإن لم تكن لك قوى وفر دواعي اإلحسان في الخلق ليحسنوا إليك.
قلت :هذه الجملة ،فهات التفصيل.
الحقيقة األولى:
قلت :ففصل لي الحقيقة األولى.
قال :الحقيقة األولى وصفه ،واسمه ال99ذي ب99ه ين9ادى ،وفعل99ه ال99ذي ب99ه
يفيض األرزاق على خلقه.
ين}(ال99ذريات ،)58 :ففص99ل 9و ِة ْال َم ِت ُ
ق ُذو ْالقَُّ 9
9رَّزا ُقلت :نعم ،فاهلل {هُ َو الَّ 9
لي ما يشرح صدري لهذا االسم ،وما يمأل قلبي بحقيقته ،ف99إني وإن علمت
ذلك ولم أجحده إال أن حقيقته لم تصل قلبي ،فأجدني جزعا خائفا.
قال :الشأن في الحقيق9ة أن تالمس ش9غاف ال9روح ال أن تالمس خالي9ا
العقل ،فالعلم وحده ال يكفي ما لم يصحبه اليقين وطمأنينة القلب.
قلت :فما الطريق إلى ذلك؟
قال :طريق اليقين رس99مه هللا إلب99راهيم عن99دما س99أله أن ي99بين ل99ه
كيفية إحياء الموتى.
9را ِهي ُم َربِّ قلت :نعم ،لقد ق99ال هللا تع99الى حاكي99ا عن ذل99كَ {:و ِإ ْذ َقَ 9
9ال ِإ ْبَ 9
9ال َف ُخ ْ
9ذ ط َم ِئ َّن َق ْل ِبي َق َ ال َب َلى َو َل ِك ْن ِل َي ْ ال َأ َو َل ْم تُ ْؤ ِم ْن َق َ
َأ ِر ِني َك ْيفَ تُحْ ِيي ْال َموْ تَى َق َ
جُ9زءاً ثُ َّم ا ْد ُعه َُّن9ل ِم ْنه َُّن ْ الطي ِْر َفصُرْ هُ َّن ِإ َل ْيكَ ثُ َّم اجْ َعلْ َع َلى ُكلِّ َج َب ٍ َأرْ َب َع ًة ِمنَ َّ
يز َح ِكي ٌم}(البقرة)260 : َي ْأ ِتي َنكَ َسعْياً َو ْ
اع َل ْم َأ َّن هَّللا َ ع َِز ٌ
9را ِهي َم َم َل ُك9وتَ 9ري ِإ ْبَ 9 وله99ذا ق9ال تع99الى عن إب9راهيم َ {:و َكَ 9ذ ِلكَ نُ ِ
ض َو ِل َي ُكونَ ِمنَ ْال ُمو ِق ِنينَ }(األنعام)75 : ت َواأْل َرْ ِ اوا ِال َّس َم َ
قلت :ولكن هل نطلب من هللا تعالى معجزة مثلما طلب إبراهيم ؟
120
قال :وهل نفتقر إلى طلب المعجزات؟
قلت :وكيف نراها؟
قال :في ملك هللا وملكوته ..فهي من الكثرة بحيث ال تحد وال تعد.
قلت :لم أفهم ..فأنا لم أر في حياتي معجزة.
قال :بل ،لم تر في حياتك إال المعجزات.
قلت :فسر لي ،فإني ال أكاد أفهم.
قال :ألم تسمع تمهيد هللا تعالى لقصة أهل الكهف؟
9ف َوال99رَّ ِق ِيم َك99انُوا اب ْال َك ْهِ 9
قلت :بلى ،لقد قال فيهمَ {:أ ْم َح ِسبْتَ َأ َّن َأصْ َح َ
ِم ْن آ َيا ِتنَا ع ََجباً}(الكهف)9 :
قال :فما المراد منها؟
قلت :يخبر هللا أن له آيات أكثر عجبا من قصة أصحاب الكه99ف ال99تي
عجب لها الناس وخلدوها واهتموا بها.
قال :وفيم هذه اآليات ،وما محالها؟
قلت :في السماء واألرض ،وكل شيء.
قال :فقد أجبت عن سؤالك ،فرزق هللا آية اسمه الرزاق ،أو ه99و فيض
من فيوضات الرزاق ،وهذه الفيوضات تستدعي الظهور ح99تى ال ينكره99ا
أحد ،ولهذا لم ينكر المشركون كون هللا رزاقا.
ض َأ َّم ْناء َواأْل َرْ ِ قلت :نعم ،فقد قال هللا تعالى {:قُلْ َم ْن َيرْ ُزقُ ُك ْم ِمنَ َّ
الس َ 9م ِ
ت َوي ُْخِ 9رجُ ْال َم ِّيتَ ِمنَ ْال َح ِّي ار َو َم ْن ي ُْخِ 9رجُ ْال َح َّي ِمنَ ْال َم ِّي ِ
ْص َ َي ْم ِل ُك الس َّْم َع َواأْل َب َ
َو َم ْن يُ َدبِّرُ اأْل َ ْم َر َف َس َيقُولُونَ هَّللا ُ َفقُلْ َأ َفال َتتَّقُونَ }(يونس)31 :
ولكن ..فص99ل لي مظ99اهر رزق99ه ح99تى يطمئن قل99بي ،فل99و المس99ت
الطمأنينة لرزق هللا شغاف قلوب المشركين ما كفروا باهلل.
قال :سأكتفي بذكر آية من آيات رزق هللا ،وهي أن99ه وض99ع رزق99ه في
محال ال يطيق أحد نزعها.
قلت :لماذا ،وكيف؟
قال :أما لماذا ،فق9د دل علي9ه قول9ه تع9الىَ {:و َأ َّما ْال ِج 9دَارُ َف َك9انَ ِل ُغال َمي ِْن
ص9ا ِلحاً َف9أَ َرا َد َربُّكَ َأ ْن َي ِتي َمي ِْن ِفي ْال َم ِدي َن ِة َو َكانَ تَحْ َتهُ َك ْن ٌز َلهُ َم9ا َو َك9انَ َأبُوهُ َم9ا َ
9ري َذ ِل9كََي ْبلُغَا َأ ُش َّدهُ َما َو َي ْست َْخ ِر َجا َك ْنزَ هُ َما َرحْ َمً 9ة ِم ْن َربِّكَ َو َم9ا َف َع ْلتُ9هُ ع َْن َأ ْم ِ
صبْراً}(الكهف)82 : ت َْأ ِويلُ َما َل ْم َتس ِ
ْط ْع َع َل ْي ِه َ
قلت :ما وجه اإلشارة في هذا؟
121
قال :هذا الوالد المسن ألوالده ،لماذا خب9أ الك9نز في مك9ان ال ي9راه في9ه
أحد ،ما عدا أوالده؟
قلت :لئال يطمع فيه أحد ،فيسلبه منهم.
قال :فكذلك هللا تعالى وضع رزقه في محال بحيث ال يستطيع أح99د أن
يسلبها من الخلق.
قلت :فهال مثلت لما تقول ،فإني أكاد أفهم ،ولكني أريد أن أرى الحقيقة
ال أن أسمعها؟
قال :سأضرب لك مثاال قريبا من مثال الكنز.
قلت :أخبأ هللا كنوزا ،وما الحاجة إلى ذلك.
قال :ألم تسمع قوله وه9و يخ9بر عن عالم9ات الس9اعة ،فق9ال عن9د
ذكره لموت يأجوج ومأجوج (:فيرغب نبي هللا عيسى وأصحابه إلى
هللا عز وجل ،فيرسل عليهم طيرا كأعناق البخت فتحملهم فتط99رحهم حيث
شاء هللا تعالى ،ثم يرسل هللا عز وجل مطرا ال يكن منه بيت مدر وال وب9ر
فيغس99ل األرض ح99تى يتركه99ا كالزلف99ة ،ثم يق99ال لألرض :أنب99تي ثمرت99ك
وردي بركتك ،فيومئ9ذ تأك9ل العص9ابة من الرمان9ة ويس9تظلون بقحفها(،)1
ويب999ارك هللا في الرسل( )2ح999تى أن اللقحة( )3من اإلب999ل لتكفي الفئ999ام من
الناس ،واللقحة من البقر لتكفي القبيلة من الن99اس ،واللقح99ة من الغنم لتكفي
الفخذ من الناس )()4
قلت :بلى ،فما وجه اإلشارة فيه؟
قال :اإلشارة فيه عبارة ،فق9د أخ9بر عن إخ9راج األرض لبركاته9ا
قبل قيام الساعة ،بحيث يرى من بركاتها ما ال يخطر على بال.
قلت :وما في هذا؟
قال :لقد ادخر هللا تلك البركات لذلك الزمان حتى ال يموت آخر إنسان
على هذه األرض جوعا.
قلت :تلك بركات ذلك الزمان؟
قال :ولكل زمان بركاته.
قلت :كيف؟
أراد قشرها ،تشبيها بقحف الرأس ،وهو الذي فوق الدماغ. ) )(1
ما كان من االبل والغنم من عشر إلى خمس وعشرين. ) )(2
الناقة القريبة العهد بالنتاج. ) )(3
رواه أحمد والترمذي ومسلم. ) )(4
122
ق99ال :ألم يكن النف99ط ك99نزا عظيم99ا مخب99أ في ص99ناديق ال يص99لها أح99د
لتتنعموا به في هذا الزمان ،وال تمدوا أيديكم ألحد من الناس؟
قلت :بلى ،بل أصبحنا نحن الذين نمد أي9دينا للن9اس بالمعون9ة من غ9ير
حساب.
قال :فذاك كنز خبأه هللا لكم لينظر ماذا تعملون.
قلت :ولكن هذا الرزق محصور في بالد محدودة.
قال :وهي البالد التي تحتاج إليه لقلة موارد رزقها الظاهرة ،أال ت99رى
أن األب الرحيم قد يفضل ابنه الضعيف أو الم9ريض أو المحت9اج بالعطي9ة
ليسد حاجته ،ويكل األقوياء لقوتهم؟
قلت :بلى.
قال :فكذلك هللا تعالى برحمته جع99ل في البالد ال99تي تش99ح أرض99ها ،أو
يحبس قطرها من أسباب الرزق ما يسد حاجاتها.
قلت :إن في القرآن الكريم إشارة جميلة إلى ه9ذا ،فق9د ق9ال تع9الى على
ع ِع ْنَ 9د ْ9ر ِذي زَرْ ٍ 9وا ٍد َغي ِ ت ِم ْن ُذرِّ يَّ ِتي ِب َ لسان إب9راهيم َ {:ربَّنَ9ا ِإ ِّني َأ ْسَ 9ك ْن ُ
9وي ِإ َل ْي ِه ْم َوارْ ُز ْقه ُْم رَّم َربَّنَا ِليُ ِقي ُموا الصَّال َة َفاجْ َعلْ َأ ْف ِئ َد ًة ِمنَ النَّ ِ
اس َت ْهِ 9 َب ْي ِتكَ ْال ُم َح ِ
ت َل َعلَّه ُْم َي ْش ُكرُونَ }(ابراهيم ،)37 :فمك9ة المكرم9ة ب9واد غ9ير ذي ِمنَ الثَّ َم َرا ِ
زرع ،فحنن هللا القلوب إليها ،فإذا برزقها يفاض عليها من كل مكان.
قلت :تلك مكة المكرمة..
قال :ومثلها كثير من بالد هللا ،بل قد تجد أهل األرض الش99حيحة أك99ثر
غنى من أهل األرض السخية.
سكت ،فقال :سأعطيك مثاال لن يخالفك فيه أحد.
قلت :ما هو؟
قال :هذا الهواء الذي تتنفسه ،هل جعل هللا في طاقة البشر تملكه ومنع
العباد عنه؟
قلت :لو أطاقوا لحجزوه في قارورات ،وباعوه للناس.
قال :وه9ذا الم9اء ال9ذي تش9ربه ،وال9ذي تفيض ب9ه األنه9ار ،والودي9ان
والسماء.
قلت :هم كذلك ال يطيقون حبسه وال منعه عن الناس.
قال :فهذه أهم األرزاق ال يمنعها أحد.
قلت :ولكن الطعام.
123
قال :الطعام موجود مبثوث في كل مكان.
قلت :ولكن99ه بأي99ديهم يرفع99ون في99ه ويخفض99ون ،فيمتلك99ون ب99ه رق99اب
الناس.
قال :ال ..الطعام ال يختلف عن الماء والهواء ،ولكن الناس بما ابتدعوه
فيه سلموا رقابهم لمن يسقيهم الويالت بسببه.
قلت :كيف؟
قال :أنتم ال تأكلون ما يس9د ح9اجتهم ،ويحف99ظ ق99وامكم ،ولكنكم اتخ9ذتم
األكل حرفة ،تظل المرأة طول نهارها من أجل وجبة أو وجبات أك99ثر م99ا
فيها لغو وعلل.
قلت :نعم ..إني حينم9999ا أرى تل9999ك الجه9999ود المبذول999ة في التقطي9999ع
والتصفيف والمزج والتخليط أشعر بالضيق يدب إلى نفسي ،ألن كل ذل99ك
التخليط سينزل إلى المعدة ،وال يهمها أن يأيتيها مصففا أو غير مصفف.
قال :فأنتم الذي ضيقتم على أنفسكم ،أم99ا هللا ف99إن رحمت99ه وس99عت ك99ل
شيء ،ورزقه لم يحرم منه أحدا ،وسنرى تفاصيل هذا في الحقيقة الثانية.
قلت :فقد فهمت هذه اآلية ،فهل من آية أخرى؟
قال :ل9و ظللن9ا نع9د آي9ات هللا في رزق9ه لبقين9ا جمي9ع دهرن9ا أم9ام ه9ذه
الجوهرة ال نبرحها ،ولكن سأدلك على مالك ذلك كله.
قلت :فهات ،فما أحوجني إلى المجامع واألصول.
قال :أرأيت إن ضمنت ل9ك جه9ة م9ا رزق9ك ،بحيث يأتي9ك مياوم9ة أو
مشاهرة أو مسانهة ،أكنت تخاف عليه؟
قلت :وكيف أخاف عليه ،وهو يأتيني رغدا وبانتظام ،ولكن قد أخ99اف
إن لم تكن جهة موثوقة.
قال :فإن كانت جهة موثوقة.
قلت :قد ال أخاف على وعدها ووفائها وجميل صدقها ،ولك99ني أخ99اف
على التقلبات التي قد تحدث فتمنعها من الوفاء بما ضمنته.
قال :فإن كانت فوق التقلبات.
قلت :تقصد أن يأتيني رزقي من جهة ال دخل للوزارة فيها ..فالوزراء
يتحولون كل حين ،ويعزل كل جديد كل قديم.
قال :وال دخل للملوك واألمراء والرؤساء.
قلت :إذن أن99ام قري99ر العين ال أختل99ف عن المل99وك وال عن ال99وزراء
124
والرؤساء.
قال :فقد وعد هللا إذن عباده برزقه ،ووعده ال يتخلف ،ألم تس99مع قول99ه
ض ِإاَّل َع َلى هَّللا ِ ِر ْزقُ َه9999ا َو َيعْ َل ُم ُم ْسَ 9999ت َقرَّ هَا تع9999الىَ {:و َم9999ا ِم ْن دَابَّ ٍة ِفي اأْل َرْ ِ
ين}(هود ،)6 :فقد وعد هللا بت9نزل أرزاق9ه على ب ُم ِب ٍ َو ُم ْس َتوْ َد َع َها ُكلٌّ ِفي ِكتَا ٍ
كل ذي حياة على هذه األرض ،فهل ترى في هذا من تخلف؟
قلت :ال ،بل أرى أرزاق الحيوانات تساق إليهم عفوا ،ال يحت99اجون إال
إلى تناولها.
قال :ومثل ذلك أرزاق اإلنسان إال أنه ي9أبى إال أن يعق9د م9ا بس9ط هللا..
أتدري لم يحرم الموكل بأرزاق البشر بعض العباد رزقه؟
قلت :إن خالف الوزير أو األمير.
قال :أما هللا ،فإن رزقه ال يفرق بين مؤمن متعبد ،وكافر متعنت.
قلت :نعم ،ولهذا قال تعالى مجيبا إبراهيم عن9دما س9أل ال9رزق لعب9اد
طرُّ هُ ِإ َلى عََ 9ذا ِ
ب ضَ 9 ال ثُ َّم َأ ْ 9ر َفأُ َم ِّتعُ 9هُ َق ِلي ً هللا المؤمنين( )1دون غ9يرهم { َو َم ْن َك َف َ
صيرُ ( البقرة ،)126 :فأخبره هللاتعالى أن رزقه يناله الم99ؤمن س ْال َم ِ ار َو ِب ْئ َ
النَّ ِ
والكافر.
قال :وسأضرب لك مثاال على ذلك ..أال تعلم أنواع الجرائم والكفر التي وقع
فيها بنو إسرائيل بعد أن أنجاهم هللا؟
قلت :كثيرة ،بل إنهم بمجرد خروجهم وهالك عدوهم التفتوا فوجدوا قوما {
ال ِإ َّن ُك ْم َقوْ ٌم تَجْ َه ُل99ونَ } َيعْ ُك ُفونَ عَ َلى َأصْ ن ٍَام َله ُْم َقا ُلوا َيا ُمو َسى َ
اجْعلْ َلنَا ِإ َله ًا َك َما َله ُْم آ ِل َه ٌة َق َ
(ألعراف)138 :
قال :وهل استجابوا لقوله؟
قلت :كال ،فبمجرد غيبته عنهم أياما معدودات ،عب9دوا العج9ل ،ق9ال تع9الى:
ظا ِل ُمونَ }(البقرة)51 : جْل ِم ْن َبعْ ِد ِه َو َأ ْن ُت ْم َخَذ ُت ُم ْال ِع َ
اعَدنَا ُمو َسى َأرْ َب ِعينَ َل ْي َل ًة ُث َّم ا َّت ْ
{ َو ِإ ْذ َو ْ
قال :وعندما أمرهم بالدخول إلى األرض المقدسة ،بماذا أجابوا؟
وس9ى ِإنَّا َل ْن قلت :ما قصه علينا الق99رآن الك99ريم من قول99هَ {:ق99الُوا َي99ا ُم َ
اع ُدونَ }(المائدة: َن ْد ُخ َل َها َأ َبداً َما دَا ُموا ِفي َها َف ْاذ َهبْ َأ ْنتَ َو َربُّكَ َف َقا ِتال ِإنَّا هَاهُنَا َق ِ
)24
قال :فما هي العقوبة التي حاقت بهم بعد هذا القول؟
) )(1ونص قوله هوَ {:ربِّ اجْ َعلْ هَ َذا بَلَداً آ ِمن9ا ً َوارْ ُز ْق أَ ْهلَ9هُ ِمنَ الثَّ َمَ 9را ِ
ت َم ْن آ َمنَ ِم ْنهُ ْم بِاهَّلل ِ
َو ْاليَوْ ِم اآْل ِخ ِر } (البقرة)126:
125
9ال َفإِنَّ َه99ا ُم َحرَّ َم 9ةٌ َع َل ْي ِه ْم َأرْ َب ِعينَ َسَ 9ن ًة قلت :ما نص عليه قوله تعالىَ {:قَ 9
اس ِقينَ }(المائدة)26 : س َع َلى ْال َقوْ ِم ْال َف ِ ض َفال ت َْأ َ َي ِتيهُونَ ِفي اأْل َرْ ِ
قال :فكان دخولهم في التيه إذن عقوبة لهم؟
قلت :نعم.
قال :واألصل في العقوبة أن يشدد على صاحبها ،ويضيق عليه.
قلت :ال شك في ذلك ،ومن شك فعليه بزيارة السجون والمعتقالت.
ق99ال :ولكن اس99مع لم99ا أن99زل ال99رزاق الك99ريم على ه99ؤالء في ف99ترة
زَل َن99ا َع َل ْي ُك ُم ْال َم َّن
ظلَّ ْل َن99ا َع َل ْي ُك ُم ْال َغ َم99ا َم َو َأ ْن ْ
عقوبتهم ،قال تع9الى مخاطب9ا لهمَ {:و َ
ظ َل ُمو َن99ا َو َل ِك ْن َك99انُوا َأ ْنفُ َس 9ه ُْم ت َم99ا َرزَ ْق َن99ا ُك ْم َو َم99ا َ الس ْ 9ل َوى ُكلُ99وا ِم ْن َ
ط ِّي َب99ا ِ َو َّ
ظ ِل ُمونَ }(البقرة)57 : َي ْ
قلت :لقد ذكر هللا تعالى ثالث نعم عظمى :الغمام ،والمن ،والسلوى.
قال :فقد وقاهم هللا حر الشمس ،وصدى العطش ،ولهيب الجوع.
قلت :لم يقهم فقط ،بل متعهم ،فقد قال قتادة في المن (:ك9ان المن ي9نزل
محلهم س99قوط الثلج ،أش ّ 9د بياض 9اً من اللبن ،وأحلى من العس99ل، عليهم في ّ
يسقط عليهم من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس يأخذ الرجل منهم قدر م99ا
يكفيه يوم9ه ذل9ك ) ،وق9ال ابن عب9اس في الس9لوى (:الس9لوى ط9ائر يش9به
السماني كانوا يأكلون منه )
قال :وعندما عطشوا؟
قلت :لم يكلفهم بحف99ر آب99ار ليش99ربوا ،ب99ل خ99رق العوائ99د من أج99ل أن
صاكَ ْال َح َج َر يسقيهم ،قال تعالىَ {:و ِإ ِذ ا ْس َت ْس َقى ُمو َسى ِل َقوْ ِم ِه َفقُ ْلنَا اضْ ِربْ ِب َع َ
اشَ 9ربُوا ِم ْن س َم ْشَ 9ر َبه ُْم ُكلُ9وا َو ْ ت ِم ْنهُ ْاث َنتَا َع ْش َر َة َعيْناً َق ْد َع ِل َم ُك9لُّ أُنَ9ا ٍ َفا ْن َف َج َر ْ
ض ُم ْف ِس ِدينَ }(البقرة)60 : ق هَّللا ِ َوال تَعْ َثوْ ا ِفي اأْل َرْ ِ ِر ْز ِ
قال :وليس هذا فقط ،بل إن هللا تعالى يأمر عباده بأن يأكلوا من رزق99ه
ويعرض عليهم أصناف نعيمه كما يع99رض الض99يف الك99ريم طعام99ه على
ضيفه.
قلت :أجل ،فقد ورد ذلك في آي99ات كث99يرة ،ق99ال تع9الىَ {:ي99ا َأ ُّي َه99ا الَّ ِذينَ
ت َما َرزَ ْقنَا ُك ْم َوا ْش ُكرُوا هَّلِل ِ ِإ ْن ُك ْنتُ ْم ِإيَّاهُ تَعْ بُُ 9دونَ } (البق9رة: آ َمنُوا ُكلُوا ِم ْن َ
ط ِّي َبا ِ
ت عْرُوش9ا ٍَ ت َو َغي َ
ْ9ر َم َ
عْرُوش9ا ٍ ت َم 9،)172وقال تعالىَ {:وهُ َو الَّ ِذي َأ ْن َش9أَ َجنَّا ٍ
الز ْيتُونَ َوالرُّ َّمانَ ُم َت َشا ِبهاً َو َغي َْر ُم َت َشا ِب ٍه ُكلُوا ِم ْن الزرْ َع ُم ْخ َت ِلفاً أُ ُكلُهُ َو َّ
َوالنَّ ْخ َل َو َّ
ص9ا ِد ِه َوال تُ ْسِ 9رفُوا ِإنَّهُ ال ي ُِحبُّ ْال ُم ْسِ 9ر ِفينَ } 9ر َوآتُ9وا َحقَّهُ َي9وْ َم َح َ 9ر ِه ِإ َذا َأ ْث َم ََث َم ِ
126
(األنعام)141 :
قال :ومع ذلك كله ،فاهلل ال يغفل وال ينسى ،فهل يخ99اف من ع99رف هللا
على رزقه؟
الحقيقة الثانية:
قلت :كال ..وعيت ه99ذا فه99ات الحقيق99ة الثاني99ة ..وهي حقيق99ة ض99عف
مطالب اإلنسان وقلتها بجانب الرزق المفاض عليه.
ق9ال :أج9ل ،وق9د أش9ار إلى ه9ذه الحقيق9ة قول9ه (:من أص9بح منكم
معافى في جسده ،آمناً في سربه ،عنده قوت يومه ،فكأنهما حيزت له الدنيا
بحذافيرها )( ، )1وقد ورد في لفظ من ألفاظ الحديث ما هو أكثر داللة ،قال
(:ابن آدم عندك ما يكفي9ك ،وأنت تطلب م9ا يطغي9ك ،ابن آدم ال بقلي9ل
تقنع ،وال من كثير تشبع ،ابن آدم إذا أصبحت مع99افى في جس99دك آمن99ا في
سربك عندك قوت يومك ،فعلى الدنيا العفاء )
وس9ى ِل َقوْ ِمِ 9ه َي9ا َق9وْ ِم ْاذ ُك9رُوا 9ال ُم َقلت :ويشير إليها قوله تعالىَ {:و ِإ ْذ َق َ
ت َأ َح 9داً ِمنَ ِنعْ َم َة هَّللا ِ َع َل ْي ُك ْم ِإ ْذ َج َع َل ِفي ُك ْم َأ ْن ِب َيا َء َو َج َع َل ُك ْم ُملُوكاً َوآتَا ُك ْم َم99ا َل ْم يُ9ْ 9ؤ ِ
ْال َعا َل ِمينَ }(المائدة ،)20 :فقد أخبر هللا تعالى أنه جعلهم ملوك9ا م9ع أن المل9ك
لم يكن إال في بعضهم.
قال :أراك لم تكتف بهذا ..ألم تؤمن؟
قلت :بلى ،ولكن ليطمئن قلبي.
قال :فقارن بين حاجات اإلنس9ان الغذائي9ة البس9يطة ،وبين م9ا ك9نز في
البحر من أصناف األغذية.
قلت :نعم ،فقد قال تعالى وهو يعدد نعم9ه ال9تي جعله9ا في البح9ارَ {:وهُ َ
9و
ط ِريّاً َوت َْس9ت َْخ ِرجُوا ِم ْنُ 9ه ِح ْل َيً 9ة ت َْل َب ُس9و َن َها الَّ ِذي َس َّخ َر ْال َبحْ َر ِلت َْ9أ ُكلُوا ِم ْنُ 9ه َلحْ م9اً َ
اخ َر ِفي ِه َو ِل َت ْب َت ُغوا ِم ْن َفضْ ِل ِه َو َل َعلَّ ُك ْم َت ْش ُكرُونَ }(النحل)14 : َوت ََرى ْالفُ ْلكَ َم َو ِ
الحقيقة الثالثة:
قال :أما الحقيقة الثالثة ،فأن تعلم لكل زمان رزقه الخاص به.
قلت :وماذا تقول هذه الحقيقة؟
قال :تقول لك (:عش يومك ،وال تح9زن على المس9تقبل ،ألن9ه ال ي9أتي
إال ومعه رزقه )
قلت :كيف؟
127
ق99ال :س99بب الخ99وف على المس99تقبل ه99و تص99ور خل99و المس99تقبل من
الرزق ،فإذا علمت أن لكل زمان رزقه الخاص به لم تحزن.
قلت :فاضرب لي على ذلك مثاال.
قال :أال يرزق الجنين؟
قلت :بلى ،ولو توقف الرزق عنه لحظة هلك.
قال :وماهو رزقه؟
قلت :كل ما يتطلبه جسده لبنائه من مع9ادن وب9روتين وفيت9امين وغ9ير
ذلك من المكونات.
قال :ولو نقص أحد هذه المكونات؟
قلت :سيهلك الجنين ،أو سيخرج مش99وها ،وأحس99ن أحوال99ه أن يخ99رج
سقيما يحتاج إلى عالج.
قال :ولكن الجنين يمر بمراحل مختلفة.
قلت :أجل ،لقد نص على جميعها القرآن الكريم ،ق9ال تع9الىَ {:ي9ا َأ ُّي َه9ا
ب ثُ َّم ِم ْن نُ ْ
ط َفٍ 9ة ثُ َّم ِم ْن ث َفإِنَّا خَ َل ْق َن99ا ُك ْم ِم ْن تَُ 9
9را ٍ ب ِمنَ ْال َبعْ ِ النَّاسُ ِإ ْن ُك ْنتُ ْم ِفي َر ْي ٍ
َع َل َق ٍة ثُ َّم ِم ْن ُمضْ َغ ٍة ُمخَ لَّ َق ٍة َو َغي ِْر ُمخَ لَّ َقٍ 9ة ِلنُ َبيِّنَ َل ُك ْم َونُ ِق9رُّ ِفي اأْل َرْ َحِ 9ام َم9ا ن ََش9ا ُء
ِإ َلى َأ َج ٍل ُم َس ّم ًى }(الحج)5 :
قال :وهل يحتاج في كل المراحل إلى غذاء واحد؟
قلت :كال ،ففي كل مرحلة يحتاج غذاء خاصا.
قال :وهل يوفر له ذلك الغذاء الخاص؟
قلت :أجل ،مثلما يوفر الطعام في المطاعم بحسب رغبة الطاعم.
قال :ولكن الطاعم هنا ضعيف ليس له أي قدرة.
قلت :ولكن مطعمه يعلم حاجته ،ويوفرها له.
قال :تقصد أمه.
قلت :أمه ،ال تدري أي شيء عنه ،هو في رحمها ،لكنه غيب بالنس99بة
لها.
قال :فمن إذن؟
قلت :هللا الرزاق ذو القوة المتين.
قال :فقد فهمت إذن بأن لكل زمان رزقه.
قلت :نحن ال نخ9999اف على رزق الج9999نين ،ولكن نخ9999اف على رزق
الوليد ،ولهذا أخبر هللا تعالى عن قت99ل المش99ركين ألوالدهم ،ولم يخ99بر عن
128
إجهاضهم لنسائهم ،قال تع9الىَ {:وال َت ْقتُلُ9وا َأوْ ال َد ُك ْم ِم ْن ِإ ْمال ٍ
ق نَحْ ُن نَ9رْ ُزقُ ُك ْم
َو ِإيَّاهُ ْم} (األنعام)151 :
قال :فالوليد عند نزوله ،أيطيق أكل طعام الناس؟
قلت :كال.
قال :فهل وفر هللا له ما يقوم بغذائه؟
قلت :نعم ،لقد أدر هللا ثدي والدته لتسقيه من حليبها.
قال :فهل في لبن األم ما يكفي حاجة رضيعها؟
قلت :بل ما يكفي ويشفي.
قال :فهل يتناسب ذلك مع حاجاته المختلفة.
قلت :أجل ،فحلييب األم ـ كما يقرر الخبراء ـ يتطور تركيب99ه من ي99وم
آلخ99ر بم99ا يالئم حاج99ة الرض99يع الغذائي99ة ،وتحم99ل جس99مه ،و بم99ا يالئم
غريزته وأجهزته التي تتطور يوماً بعد يوم.
قال :ولكن الرضيع ليس بحاجة إلى الغ9ذاء فق9ط ،ب9ل ه9و بحاج9ة إلى
الدواء ،أو باألحرى تقوية جهاز مناعته ،ليواجه األعاصير ال99تي ت99تربص
به.
قلت :وذل99ك كل99ه موج99ود في لبن األم ،فه99و يح99وي أجس99اما ض99دية
نوعية ،تساعد الطفل على مقاومة األمراض.
ثم التفت إلى المعلم ،فرأيته ،وكأنه يحضر لي سؤاال ،فقلت :وأزي99دك،
فإنه زيادة على هذه الفوائد الصحية ،هناك فوائد نفسية واجتماعي99ة كث99يرة،
فقد أكد علماء النفس أن الرضاعة ليست مجرد إشباع حاجة عضوية إنما
هو موقف نفسي اجتماعي شامل ،تشمل الرض9يع واألم وه9و أول فرص9ة
للتفاع99ل االجتم99اعي ..وفي الرض99اعة يش99عر الطف99ل بالحن99ان والحب
والطمأنينة ويحدث اندماج في المشاعر بين الطفل وأمه.
قال :فأنت أقررت إذن بأن هللا تعالى وفر للرضيع كل ما يحتاجه.
قلت :ال شك في ذلك ،وذلك ليس كالمي ،بل هو كالم الخبراء.
قال :أفتدرك اآلن قيمة الرزق الذي س9اقه هللا له9ذا الرض9يع ،أليس في
هذا اللبن آية؟
قلت :نعم ،ب99ل آي99ة ك99برى ،فالمص99انع الض99خمة عن99دنا ،والخ99براء
الكثيرون لم يستطيعوا أن يكونوا قطرة واحدة من حليب األم.
قال :فاسمع إذن لما يقول الحق تعالى عن هذه اآلية ،قال تع99الىَ {:و ِإ َّن
129
ث َود ٍَم َل َبن9اً خَا ِلص9اً 9ر ًة نُ ْسِ 9قي ُك ْم ِم َّما ِفي بُ ُ
طو ِنِ 9ه ِم ْن َبي ِْن َف99رْ ٍ َل ُك ْم ِفي اأْل َ ْن َع ِام َل ِع ْبَ 9
ار ِبينَ } (النحل)66 : َسا ِئغاً ِلل َّش ِ
قلت :وله99ذا أم99ر هللا تع99الى تحقي99ق ش99كر ه99ذه النعم99ة باس99تخدامها ال
ض9عْ نَ َأوْ ال َدهُ َّن بتعويض99ها ب99أي ش99يء آخ99ر ،فق99ال تع9الىَ {:و ْال َوا ِل9د ُ
َات يُرْ ِ
الرَّضا َع َة } (البقرة)233 : َ ام َلي ِْن ِل َم ْن َأ َرا َد َأ ْن يُ ِت َّم َحوْ َلي ِْن َك ِ
قال :فإذا كبر الرضيع وفطم من أن يأتيه رزقه؟
قلت :لق99د جع99ل هللا من الرحم99ة في قل99وب والدي99ه م99ا يحي99ل عليهم99ا
التفريط في تغذيته وصحته ،بل إنهما يؤثرانه على نفسيهما ،ويطعمانه وال
يأبهان بما يعاملهما به من القسوة.
قال :فالرحمة الفطرية إذن هي التي توفر الدواعي على رزق الصبي
بعد فطامه؟
قلت :نعم ،وهي في أحيان كثيرة ال تقتصر على الوال9دين ،ب9ل إن ك9ل
من طلب منه صبي طعاما أو شيئا أعطاه عن طيب نفس.
قال :فرزق الصبي مساق إليه من غير تعب وال كد.
قلت :نعم ،بل يساق إليه أفضل الرزق ،هو تماما مثل دود الفواكه نائم
في وسط غذائه ،بل في أفضل غذاء على اإلطالق.
قال :فإذا كبر الصبي وشب؟
قلت :أعطاه هللا من القوة والجلد ما يتمكن به من جلب رزقه بال عن99اء
وال تعب.
قال :فإذا أصيب بآفة تحيط بقواه ،أو بكبر ينهش عظمه؟
قلت :ي99وفر ل99ه من ال99دواعي الفطري99ة في أقارب99ه أو في األبع99دين من
يتكفل به.
قال :فإذا مات؟
قلت :لن يعدم من يغسله ويكفنه ويدفنه.
قال :فإذن هو ال يحتاج إلى ش9يء ،ففي ك9ل زم9ان ل9ه من ال9رزق م9ا
يكفيه ويغنيه.
قلت :ولكن هناك مطالب أخ99رى أنتجته99ا الحض99ارة ق99د يعج99ز عنه99ا،
وبسببها يرمى في سلة الفقراء التي ال تختلف في نظ99ر المجتم99ع عن س99لة
المهمالت.
قال :ذاك شيء ساقه لنفسه ،وعقوبة جلد بها ذاته.
130
الحقيقة الرابعة:
قلت له :فما الحقيقة الرابعة؟
قال :من ألقاك في متاهة ،أيكون بذلك قد عاقبك؟
قلت :أعظم عقوبة ،بل لعله لم يرد إال قتلي ،ولكن9ه خش9ي تلطيخ يدي9ه
فاكتفى برميي للموت يلتهمني.
قال :فإن أعطاك بوصلة تهتدي بها ،وعلمك كيفية استخدامها؟
قلت :يكون قد أحسن لي بذلك ،ولكنه مع ذل9ك فق9د أس9اء ،فم9ا عس9اها
تصنع البوصلة لي ،أأركب عليها ،أم أشرب ماءها ،أم آكل طعامها؟
قال :فإن أعطاك كل ذلك :مركبا وزادا وماء؟
قلت :يكون إحسانه أعظم.
قال :وهل تأمن حينها.
قلت :نعم يزداد أمني ،ولكني مع ذلك أخاف السباع أن تعتدي علي.
قال :فإن أمنك من السباع ،أو أعطاك ما تقتل به السباع.
قلت :يكون قد أحسن إحسانا عظيما ،وأنقذني من الموت ،لكني سأظل
أتساءل عن علة وضعي في تلك المتاهة؟
قال :فإن أرسل لك بأنه لم يرد لك إال الخير ،وأنك إذا رجعت إلي99ه من
تلك المتاهة سيعطيك قصرا فخما ويتوجك ملكا.
قلت :سينتفي حقدي عليه حينها ،ولكني سأظل أتساءل عن علة ذلك.
قال :فإن أرسل لك يخبرك بأن غرضه أن يمرنك على مهمات الملك،
ويختبر مدى قدراتك.
قلت :حينها سأعظمه وأجله ..وأحبه.
قال :وتلك األدوات التي أعطاك ،أتستخدمها؟
قلت :كي9ف ال أس9تخدمها ،وهي وس9يلتي إلي9ه ،فل9وال البوص9لة لتهت،
ولوال السالح الفترست ،ولوال الطعام لهلكت جوعا.
قال :فهذه هي الحقيقة الرابعة.
قلت :أي حقيقة؟ فقد كنا نتحدث عن المتاهة.
قال :وهذ المتاهة هي الدنيا ،وال9ذي اخت9برك ه9و ربه9ا ،وج9زاؤك إن
رجعت إليه سالما هو الجنة.
قلت :والبوصلة واألدوات..؟
قال :تلك هي القوى التي منحك هللا إياها ،فإن استخدمتها نجوت ،وإال
131
هلكت.
132
ثالثا ـ كنز االستعفاف
سرت م99ع معلم الس99الم نبحث عن قص99ر االس99تعفاف ،الح لن99ا قص99ر
جميل ،يشبه في شكله ي9دا ممت9دة للس9ماء تتس9اقط عليه9ا أن9واع الج9واهر،
وتنتشر منها أصناف الروائح الطيبة.
قلت للمعلم :ما أروع هذا القصر ،لكأن الذي صممه فنان ال مهندس.
قال :كل مصممي هذه القصور يجمعون بين الفن والهندسة.
قلت :إذن هم تخرجوا من جامعة واحدة.
قال :نعم.
قلت :فأي جامعة هي ،فإن لي شوقا ألن أتعلم مثل هذه الفنون.
قال :هي جامعة موجودة في كل مكان.
قلت :في كل مكان ..أمتأكد أنت؟
ق999ال :نعم ..في الس999ماء واألرض ،والحق999ول وال999براري ،والبح999ار
والصحارى ..في كل مكان ،ب9ل في ك9ل خلي9ة تنبض بالحي9اة ،أو ك9ل ذرة
تمتلئ بالحركة.
قلت :فأنت تقصد شيئا ال أفهمه.
قال :أقصد الصنعة اإللهية ،فإن من أحب هللا تخلق بأخالق هللا.
قلت :ولكنها صنعة إلهية ،فكيف تقلد؟
قال :كل صنعة إلهية يجتم9ع فيه9ا كم9ال الهندس9ة م9ع كم9ال الفن ،فال
تعجب لكون كل مؤمن مهندسا وفنانا.
قلت :ولكن..
قال :دعنا من هذا ،فله محله الخ99اص في ه99ذه الرس99ائل ،ولن99دخل إلى
هذا القصر لنغنم جواهره.
قلت :ال شك أن ه99ذا ه99و قص99ر االس99تعفاف ،فالي99د ت99دل على الس99ؤال
والشحاذة ،والجواهر المتس9اقطة عليه9ا ت9دل على العطاي9ا الممنوح9ة له9ذه
اليد.
قال :نعم ،هذا هو قصر االستعفاف ،وفيه أربع9ة طواب9ق ،ك9ل ط9ابق
منها يرفع همتك ،ويحمل يدك ليضعها في موضعها الصحيح.
قلت :يدي هي في يدي ،فكيف يض99عها في موض99ع ص99حيح ..أتقص99د
أني لن أخرج من هذا القصر بيدي؟
133
قال :افهم الحقائق ،وال تناقش األلفاظ.
قلت :فما تريد بيدي ،أليست اليد غير الجارحة!؟
قال :يدك ال9تي يمت9د به9ا طم9ع عيني9ك إلى جي9وب الن9اس ،أو خ9زائن
الناس.
ابتس99مت ،وقلت :تقص99د ي99د الش99حاذين ال ي99دي ،فق99د عاف99اني هللا من
الشخاذة.
قال :هي حرفة يتقنها الكل ،ويتهرب منها الكل.
قلت :ما تقصد؟
قال :من هم الشحاذون بين قومك؟
قلت :الذين يقفون على عتبات المس99اجد واألس99واق يبك99ون ويولول99ون
ويبتكرون ص9نوف الحي9ل ال9تي تس9تدر عط9ف الن9اس ،فتس9تخرج م9ا في
جيوبهم ..إنهم الشحاذون الماهرون في جلب المال بال تعب.
قال :أهؤالء هم الشحاذون في تصورك؟
قلت :وفي تص99ور جمي99ع الن99اس ،إنهم ال99ذين حكى عنه99ا الحري99ري
والهمذاني في مقاماتهما.
قال :وسائر الناس؟
قلت :لقد عافاهم هللا من الشحاذة.
قال :وما أدراك أن هللا عافاهم منها؟
قلت :ألنهم ال يمدون أيديهم للناس.
ق99ال :ولكنهم يم99دون أعينهم وقل99وبهم ،ول99و اس99تطاعوا لخنق99وا الن99اس
ليستولوا على ثرواتهم.
قلت :كيف ..أنا ال أرى ما تقول.
قال :ما تقول في االستعمار؟
قلت :هم يقولون :جئنا لنعمر أرضكم.
قال :ولكنهم أبادوا شعوبكم ،ومرغوا كرامتكم ،ونهبوا ث99رواتكم ،ثم لم
يخرج99وا إال بع99د أن عاه99دتموهم على أن تض99عوا أي99ديكم المجروح99ة في
أيديهم اآلثمة.
قلت :كل ذلك صحيح ..ولكن األيام سرعان ما تطوي األحقاد.
ق9ال :أن9ا ال أتكلم عن األحق9اد ،ومعلم الس9الم يمأل القل9وب باإليم9ان ال
باألحقاد.
134
قلت :فلماذا نتحدث عن االستعمار إذن؟
قال :لنعرف نوعا خطيرا من أنواع الشحاذة التي يته9رب منه9ا الك9ل،
ويتقنها الكل.
قلت :ولكن االستعمار ولى ،ونحن اآلن تحت رحمة حكومات من99ا ،ال
تستجدينا وال تطمع في أموالنا.
قال :ولكني رأيت وزراء شحاذين.
خطر على بالي وزي9ر المالي9ة أو االقتص9اد وه9و يق9ف على ب9اب من
أب99واب المس99اجد يطلب الص99دقات ليمأل البن99وك ،فض99حكت ،فق99ال :أنت
تتعجب من تحول وزير المال إلى شحاذ.
قلت :أجل ..لقد عرفت ما يجول في خاطري.
قال :نعم ..ألم يمد يده للم99وظفين ليقب99ل رش99اواهم ،ألم يم99د ي99ده لعم99وم
الناس ليقبل مصالحهم؟
قلت :ذلك من الرسوم.
قال :أنتم تعرفون كيف تحولون المعاني بتحويل األلفاظ ،فتسمون قت9ل
الشعوب لالستيالء على ثرواته9ا اس9تعمارا ،وتس9مون أك9ل أم9وال الن9اس
بالباطل رسوما ،وتسمون الرشاوى هدايا..
قلت :لقد ذكرتني بقوله (:ليشربن أناس من أمتي الخم99ر يس99مونها
بغير اسمها )()1
قال :وقد وقع ما أخبر به .
قلت :أجل ،فنحن نسمي الخمور مشروبات روحية.
قال :ألم تكتفوا بتسميتها مشروبات حتى نسبتموها إلى الروح؟
قلت ..:فما الطريق ألتخلص من الشحاذة ،وأعف عن أموال الناس؟
قال :بقطعك هذه الطوابق األربع ،وجمعك لجواهرها.
قلت :فماذا أقطع في األول؟
قال :تقطع طمعك من نفسك ،فتيأس منها ،وال تمد يدك إليها.
قلت :ففي الثاني؟
قال :تقطع طمعك من الخلق ،فتيأس منهم ،وال تمد يدك إليهم.
قلت :ففي الثالث؟
قال :تمد أعناق طمعك كلها إلى هللا ،فال ترى مستحقا للتفضل غيره.
135
قلت :ففي الرابع؟
قال :تمد يدك إلى هللا الذي طمعت فيه ،وحينذاك تضع ي9دك موض9عها
الص9حيح ،وحين9ذاك س9ينعم علي9ك بالفض9ل ال9ذي تس9تغني ب9ه عن الك9ل،
وتمتزج يدك مع اليد التي رأيتها في هذا القصر.
ال أمل فيك :
وقفت مع المعلم أمام الجوهرة األولى من جواهر االستعفاف ،فس99ألت
المرشد عنها ،فقال :هذه جوهرة نفيسة ،ال يحل صعود طوابق القص99ر إال
بعد المرور عليها.
قلت :فما اسمها؟
قال :هي جوهرة ( ال أمل فيك )
ابتس99مت في نفس99ي من ه99ذه األس99ماء الغريب99ة ،ثم التفت إلى المعلم
ليش99رح لي حقائقه99ا ،فال يمكن أن أناله99ا ب99دون الوص99ول إلى حقيقته99ا
واالقتناع بها.
نظر إلي المعلم ،وقال :أال تعلم أول بيت يقصده الشحاذ ،وأول من يمد
إليه يده؟
فكرت قليال ،ثم قلت :ربما ..جاره ..ال ،فقد ال يريد أن يظهر بمظه99ر
الذلة أمام جاره ..لعله السوق أو المس99جد ..أو لعل99ه يخ99رج من بل99ده حفظ99ا
لكرامته ليمد يده للغادي والرائح.
قال :كل من ذكرتهم بعيدون ،والشحاذ ال يمد يده إليهم إال بع99د أن يم99د
يده إلى غيرهم.
قلت :فمن؟ لقد عجزت عن معرفته.
قال :أول من يمد الشحاذ يده إليه بالسؤال واالفتقار هو نفسه.
قلت :نفسه؟
ق99ال :ال99تي بين جنبي99ه ،فافتق99اره إلى الخل99ق يب99دأ من افتق99اره لنفس99ه،
وافتقاره لنفسه هو الذي يجعله يدق أبواب الخلق.
قلت :فكيف يمد يده لنفسه ..لم أر في حياتي رجال يقف في مكان خ99ال
أمام مرآة يضع يده ينتظر أن توضع فيها أي صدقة ..إال إذا كان مجنونا.
قال :بل كل الشحادين يقفون هذا الموقف ،ب9ل ك9ل من لم يم9د ي9ده إلى
هللا يمد يده إلى نفسه ،ويقف هذا الموقف الذي استنكرته.
قلت :لكني لم أر أحدا يفعل ذلك.
136
قال :الفقراء واألغنياء يفعلون ذلك.
قلت :اشرح لي ،فال أطيق اإللغاز.
قال :عندما يقرر الملك أمرا من األمور ،ويحب أن ينفذه ،ماذا يفعل؟
قلت :يستنجد بوزرائه وأعوانه.
قال :أيمد يده إليهم طالبا المعونة؟
قلت :نعم ،مثلم99ا قص الق99رآن الك99ريم على ملك99ة س99بأ ،حيث ق99الت
ون} اط َع ًة َأ ْم99راً َحتَّى ت َْش َ 9ه ُد ِ
ت َق ِلقومهاَ {:يا َأ ُّي َها ْال َمأَل ُ َأ ْفتُو ِني ِفي َأ ْم ِري َما ُك ْن ُ
(النمل)32 :
َ
أو مثلما ق9ال المل9ك في قص9ة يوس9ف ألعوان9هِ {:إ ِّني أ َرى َسْ 9ب َع
ت َيا َأ ُّي َه99ا ت ُخضْ ٍر َوأُ َ
خَر َيا ِب َسا ٍ ان َي ْأ ُكلُه َُّن َس ْب ٌع ِع َج ٌ
اف َو َس ْب َع ُس ْنبُال ٍ ت ِس َم ٍ َب َق َرا ٍ
لرُّؤيا تَعْ بُرُونَ }(يوسف)43 : ياي ِإ ْن ُك ْنتُ ْم ِل ْ ْال َمأَل ُ َأ ْفتُو ِني ِفي ْ
رُؤ َ
قال :وال حرج عليك أن تشبه ذل9ك بق9ول س9ليمان لحاش9يته {:ي9ا
َأ ُّي َها ْال َمأَل ُ َأ ُّي ُك ْم َي ْأ ِتي ِني ِب َعرْ ِش َها َقب َْل َأ ْن َي ْأتُو ِني ُم ْس ِل ِمينَ }(النمل)38 :
قلت :نعم ،ولكني خشيت أن تقول شيئا قد ال يتناسب مع مق99ام األنبي99اء
عليهم الصالة والسالم
ق99ال :ال ،ب99ل ه99ذا من كم99الهم ،فمن كم99ال المل99ك اس99تنجاده بأعوان99ه
واستشارته لهم.
قلت :فما في هذا؟
قال :قد نسمي الملك شحاذا في هذه الحالة.
قلت :نعم إن جعلنا الشحاذة هي كل مسألة أو كل طلب معونة.
قال :فإذا استقر رأي الملك وحاشيته على أمر.
قلت :يبدأون في تنفيذه.
قال :أين؟
قلت :حسبما خططوا.
قال :فإن ظهر ذلك األمر في الواقع ،فلمن ينسب؟
قلت :للملك والحاشية ،وقد ينسب للقصر نفسه.
قال :فالقصر إذن هو الباني والهادم ،وهو الذي يتخذ كل القرارات.
قلت :خاصة الصعبة منها ،ألن ما عداها قد تتكفل به األكواخ.
ق99ال :ألم تس99مع من الغ99زالي ب99أن اإلنس99ان م99ع لطائف99ه ،كالمل99ك م99ع
حاشيته؟
137
قلت :نعم ،لق9د مث9ل الغ9زالي نفس اإلنس9ان وعالقته9ا بقواه9ا بالمل9ك،
فقال (:مثل نفس اإلنسان في بدنه أعني ب99النفس اللطيف99ة الم99ذكورة ،كمث99ل
مل99ك في مدينت99ه ومملكت99ه ،ف99إن الب99دن مملك99ة النفس وعالمه99ا ومس99تقرها
وم99دينتها وجوارحه99ا ،وقواه99ا بمنزل99ة الص99ناع والعمل99ة ،والق99وة العقلي99ة
المفكرة له كالمشير الناصح وال9وزير العاق9ل ،والش9هوة ل9ه كالعب9د الس9وء
يجلب الطعام والميرة إلى المدينة ،والغضب والحمية له كصاحب الشرطة
)()1
قال :فل9و أن ه9ذا المل9ك اخت9ار بص9واب رأي9ه وم9ا أوتي من الحكم9ة
بطانة صالحة.
قلت :ستكون رعيته في أحسن حال ،ولن ينال منها ،ولن تنال من99ه إال
الخير ،وقد قال (:ما بعث هللا من نبي وال استخلف من خليفة إال ك9انت
له بطانتان :بطانة تأمره بالمعروف وتحضه علي99ه ،وبطان99ة ت99أمره بالش99ر
وتحضه عليه ،فالمعصوم من عصمه هللا )()2
وقد قال الشاعر ناصحا:
ت
أدرى بوجِ 999ه الص999الحا ِ واجع999لْ بطانت999كَ الك999را َم
ف99999999999999999999999999999999999999999إِنه ْم وأخ999999999999999999999999999999999999999ب ُر
وط999اب
َ ط999ابت ش999مائلُهم
ْ إِن الكري َم له الكرا ُم بطانَ99ةٌ
العنصُ 9999999999999999999999999999999999999ر
الح شٌ 9999999ر باعُ 9999999دوه أو َ الح خ9999999ي ٌر قَ َرب9999999وه
إِن َ
ويَ ْس9999999999999999999999999999999999999روا َو َّعس999999999999999999999999999999999999روا
قرنا ُء س99و ٍء ليس فيهم خيَّ ُر أم99ا الل99ئي ُم فحولَ99ه أمثالُ99هُ
الح ش ٌر قَرَّبوه ويَ َّس99روا أو َ الح خ999999ي ٌر باع999999دوهُ إِن َ
و َع َّس999999999999999999999999999999999999روا
) )(1اإلحياء.3/6 :
)(2البخاري والنسائي.
138
فقبيلُهُ من ِ
جنس 9ه والمعش ُ 9ر 9ات مثلُ 9هُ
9ون كائنٌ 9
ولك99ل كٍ 9
قال :فإذن م9ا يص9در من المل9ك وحاش9يته ه9و ال9ذي يظه9ر في البالد
وبين الرعية؟
قلت :نعم ،على حسب المثال الذي ذكره الغزالي.
قال :فمد الشحاذ يده للن99اس ،أليس موقف9ا من المواق9ف الخط9يرة ال99تي
اتخذها في حياته؟
قلت :أجل ،بل هو أخط99ر المواق99ف على اإلطالق ،فيكفي م99ا في99ه من
الذلة.
قال :فهل أرغم على ذلك ،أم اتخذ القرار بنفسه؟
قلت :قد يكون مرغما ،فقرار مثل هذا ال يكون عن طواعية.
قال :وكذلك مثل ق99رارات كث99ير من المل99وك ال99ذين ال ي99رون إال جه99ة
واحدة ،ثم يتصورون أنهم مضطرون.
قلت :فليسوا مضطرين إذن؟
قال :من رحم9ة هللا بعب9اده أو من ابتالئ9ه لهم أن يض9ع لهم الكث9ير من
الحلول ،ولكنهم يعمون أعينهم عنها ،ويتصورون أنهم مض9طرون ألبش9ع
الحلول.
قلت :فه9ذا الق9رار ال9ذي اتخ9ذه في نفس9ه س9واء ك9ان مكره9ا علي9ه أو
مختارا من لجأ إليه فيه.
قلت :إلى وزرائه وأعوانه وحاشيته.
قال :فقد وثق فيهم إذن عندما استشارهم.
قلت :لقد قال (:إن المستشار مؤتمن )()1
قال :ولكن المستشار قد يكون أخرق؟
قلت :أجل ،وحينذاك يكون من البطانة السيئة.
قال :فلماذا لم يمد يده إلى جهة عليا موثوقة يستشيرها.
قلت :لثقته بوزرائه.
قال :فقد رضي إذن عن نفسه حين مد يده إليها.
قلت :نعم.
ق99ال :فمب99دأ الش99حاذة إذن الرض99ى عن النفس وعن ق99رارات النفس،
139
ولذلك كان عالجها الحقيقي ال بنهي الشحاذ عن مد ي99ده إلى الن99اس ،وإنم99ا
نهيه عن مد يده إلى نفسه.
قلت :نعم ،لقد اقتنعت بهذا الكالم ،ولكن ما هو السبيل إلقناعه بعدم مد
يده إلى نفسه؟
قال :هو نفس السبيل الذي نقنع به الملك بعدم الثقة في مستش99اريه ..إن
أول خطوة تخطوها لقطع مد ي9دك إلى نفس9ك ه9و ع9دم ثقت9ك به9ا ،وع9دم
رضاك عنها.
قلت :لق99د ذكرت99ني بق99ول ابن عط99اء هللا (:أص99ل ك99ل معص99ية وغفل99ة
وشهوة الرضا عن النفس ،وأصل ك9ل طاع9ة ويقظ9ة وعف9ة ع9دم الرض9ا
منك عنه9ا .وألن تص9حب ج9اهال ال يرض9ى عن نفس9ه ،خ9ير ل9ك من أن
لع9الم يرض9ى عن نفس9ه؟ وأي ٍ تصحب عالماً يرضى عن نفسه ،ف9أي علم
جهل لجاهل ال يرضى عن نفسه؟ )
قال :لم نصحه بأن ال يرضى عن نفسه؟
قلت :لتبديلها الحقائق ،كما قال الشاعر:
وعين الرض9999999999ا عن ك9999999999ل عيب كليلة
كم99999ا أن عين الس99999خط تب99999دي المس99999اويا
قال :فهل يمكن أن يصلح من يرضى عن تصرفات نفسه.
قلت :ال ،فإن كل ما كسب من المحرمات ناتج عن الرضى عن النفس
والسماع ألوامرها ،كما قال تع9الى عن إخ9وة يوس9ف َ {:و َج 9ا ُءوا َع َلى
صبْرٌ َج ِمي99لٌ َوهَّللا ُ ْال ُم ْس َ 9ت َع ُ
ان ت َل ُك ْم َأ ْنفُ ُس ُك ْم َأ ْمراً َف َال َبلْ َس َّو َل ْ
ب َق َ َق ِم ِ
يص ِه ِبد ٍَم َك ِذ ٍ
َصفُونَ }(يوسف)18 : َع َلى َما ت ِ
ت ضُ 9ْص9رُوا ِبِ 9ه َف َق َب ْ ت ِب َم9ا َل ْم َيب ُص9رْ ُ9ال َب ُ وكما ق9ال عن الس9امريَ {:ق َ
ت ِلي َن ْف ِسي}(طـه)96 : ُول َف َن َب ْذتُ َها َو َك َذ ِلكَ َس َّو َل ْ
ْض ًة ِم ْن َأ َث ِر الرَّ س ِ
َقب َ
قال :ما سبب قتل ابن آدم األول ألخيه؟
قلت :لقد ذكر المفسرون في ذلك أقواال ،منها م99ا ق99ال الس99دي عن ابن
عباس وعن ابن مس9عود :أن9ه ك9ان ال يول9د آلدم مول9ود إال ومع9ه جاري9ة،
فكان يزوج غالم هذا البطن جارية هذا البطن اآلخر ،ويزوج جاري99ة ه99ذا
البطن غالم هذا البطن اآلخر ،حتى ولد له ابنان يقال لهم9ا هابي9ل وقابي9ل،
140
ك99ان قابي99ل ص99احب زرع ،وك99ان هابي99ل ص99احب ض99رع ،وك99ان قابي99ل
أكبرهما ،وكان له أخت أحسن من أخت هابيل ،وأن هابي99ل طلب أن ينكح
أخت قابي99ل ،ف99أبى علي99ه ،وق99ال هي أخ99تي ول99دت معي ،وهي أحس99ن من
ع9ز وج9لَّ أيهم9ا أختك ،وأنا أحق أن أتزوج بها ،وأنهما قربا قرباناً إلى هّللا َّ
أحق بالجارية ،قرب هابيل جذعة سمينة ،وقرب قابيل حزمة سنبل ،فوجد
فيه9ا س99نبلة عظيم9ة ففركه9ا وأكله99ا ،ف9نزلت الن9ار ف9أكلت قربان9ا هابي99ل،
وتركت قربان قابي9ل ،فغض9ب ،وق9ال ألقتلن9ك ح9تى ال تنكح أخ9تي ،فق9ال
هابيلِ {:إنَّ َما َي َت َقبَّلُ هَّللا ُ ِمنَ ْال ُ
متَّ ِقينَ }(المائدة)1() )27 :
قال :ولكن القرآن الكريم ذكر قوال واحدا؟
قلت :القرآن الكريم ذكر ذلك ..أين ،فأنا ال أراه؟
َت َلهُ َن ْف ُسهُ َق ْت َل َأ ِخي ِ 9ه َف َق َت َل 9هُط َّوع ْ
قال :ألم تسمع إلى قول الحق تعالىَ {:ف َ
خَاس ِرينَ }(المائدة ،)30 :فما سولت له نفسه من المعصية ه99و َفأَصْ َب َح ِمنَ ْال ِ
السبب ،أما ما ذكر من األسباب ،فمجرد خيوط عنكبوت ،ألنه إن لم يقتل99ه
بهذا السبب قتله بغيره.
قلت :فما عالقة هذا بمد اليد إلى النفس؟
قال :ألن النفس التي استطاعت أن تقهر صاحبها ،فيمد يده لقتل أخيه،
لن تعجز أن تسول له أن يمد يده للناس يستجديهم.
قلت :لق99د اقتنعت بم99ا قلت ،لكن أنى لي أن أتخلص من م99د ي99دي إلى
نفسي.
قال :بعلمك بتحقق نفسك بعدم أهليتها لالستشارة.
قلت :وكيف أعلم ذلك؟
قال :أربع9ة ص9فات في النفس إذا علمته9ا ارتفعت ثقت9ك فيه9ا ،وكففت
عن مد يدك إليها.
قلت :ما هي؟
قال :الجهل والظلم والهوى والخداع.
قلت :لماذا هذه األربع؟
قال :جهلها يجعلها تكذب عليك في نقل الحقائق.
قلت :وظلمها؟
قال :يجعلها تضع األشياء في غير مواضعها.
) )(1ابن جرير.
141
قلت :وهواها؟
قال :يجعلها تسترالروائح المنتنة ببعض العطور السامة.
قلت :وخداعها؟
قال :هو احتيال النفس على نفسها.
الجهل:
قلت :فكيف أعرف جهل نفسي؟ ولماذا أبحث عن جهله9ا؟ أال يزي9دني
ذلك حزنا وأسفا وألما؟ ..وكل ذلك ينافي السالم الذي تعلمني إياه.
قال :علمك بجهل نفس9ك ه9و ال9ذي ي9دعوك إلى الس9الم وإلى الس9عادة
وإلى الطمأنينة ،ويكف شر نفسك عنك.
قلت :كيف؟
قال :علمك بعلمك يدلك عليك ،وعلمك بجهلك يجعلك تبحث عنه.
قلت :زدني توضيحا.
قال :كالم هللا سيزيدك توضيحا ..بم99اذا أج99اب ق99ارون الص99الحين من
قومه عندما قالوا له {:ال َت ْف َرحْ ِإ َّن هَّللا َ ال ي ُِحبُّ ْال َف ِر ِحينَ }(القصص)76 :
قلت :أجابهم بقولهِ {:إنَّ َما أُو ِتيتُهُ َع َلى ِع ْل ٍم ِع ْن ِدي}(القصص)78 :
قال :فقد كان يعزل هللا إذن عن إعطائه ذلك المال.
قلت :أجل.
قال :فعلمه إذن كان ساترا لجهل عظيم له أثره الخطير في حياته.
قلت :نعم ،ول99ذلك رد الق99رآن الك99ريم علي99ه ق99ائالَ {:أ َو َل ْم َيعْ َل ْم َأ َّن هَّللا َ َقْ 9د
9و ًة َو َأ ْك َث9رُ َج ْمع9اً َوال ي ُْس9أَلُ ع َْن 9و َأ َشُّ 9د ِم ْن9هُ قُ َّ َأ ْه َلكَ ِم ْن َق ْب ِل ِه ِمنَ ْالقُ ِ
رُون َم ْن هُ َ
ُذنُو ِب ِه ُم }(القصص)78 :
قال :أتدري ما يقول له بهذا؟
قلت :نعم ،كأنه يق99ول ل99ه (:لم99اذا اكتفيت ب99ذلك العلم ،ولم99اذا لم تبحث
عن علم آخر أهم ،وه99و العلم بمص99اير األق99وام ال99ذين أبي99دوا ،وعن س99بب
إبادتهم ،ليكون لك ذلك موضع عبرة )
قال :صدقت ،ولكن لماذا لم يتعلم قارون هذا النوع من العلم؟
قلت :لعله لم يجد معلما.
قال :ال ..ولكنه لم يجد استعدادا من نفسه لتعلمه ..ولو وج99د االس99تعداد
ألرسل هللا له من يعلمه.
قلت :كيف؟
142
قال :إن العلم الذي عنده ،والذي هو في حقيقته جهل يستر علما ،منع9ه
من قبول غيره أي9ا ك9ان ذل9ك الغ9ير ،ألم تس9مع قول9ه تع9الىَ {:ف َل َّما َج 9ا َء ْته ُْم
ت َف ِرحُوا ِب َما ِع ْن َدهُ ْم ِمنَ ْال ِع ْل ِم َو َحا َق ِب ِه ْم َما َكانُوا ِب ِه َي ْس َته ِْزئُونَ } رُ ُسلُه ُْم ِب ْال َب ِّينَا ِ
(غافر)83 :
قلت :بلى ،فاهلل تعالى في هذه اآلية يخبر عن األمم المكذبة بالرسل في
قديم الدهر ،وماذا حل بهم من العذاب الشديد مع شدة قواهم ،وما أثروه في
األرض وجمعوه من األموال ،فما أغنى عنهم ذلك ش99يئاً وال رد عنهم ذرة
من بأس هّللا ،وذلك ألنهم لم9ا ج9اءتهم الرس9ل بالبين9ات لم يلتفت9وا إليهم وال
أقبل9وا عليهم ،واس9تغنوا بم9ا عن9دهم من العلم في زعمهم عم9ا ج9اءتهم ب9ه
الرسل.
قال :فقد أرسل هللا إلى ه99ؤالء من يعلمهم ،ولكنهم لتع99المهم ال99ذي ه99و
عين الجهل وأساس الجهل لم يقبلوا منه.
قلت :نعم ،ه99ذا ص99حيح ،وق99د وق99ع في99ه أك99ثر المنح99رفين عن هللا
المجادلين أولياء هللا.
قال :بل قل :وقع فيه كل المنحرفين عن هللا ،ف99أول خط99وة لالنح99راف
هي الجهل ،كما أن أول خطوة للتحقيق هي العلم.
قلت :ولهذا جعل هللا تعالى علة ما حاق بالقرى من هالك ه9و الجه9ل،
كما قال تعالىَ {:و َلوْ َأنَّنَا ن ََّز ْلنَا ِإ َل ْي ِه ُم ْال َمال ِئ َكَ 9ة َو َكلَّ َمهُ ُم ْال َم9وْ تَى َو َح َش9رْ نَا َع َل ْي ِه ْم
9رهُ ْم َيجْ َهلُ99ونَ } ال َم99ا َك99انُوا ِلي ُْؤ ِمنُ99وا ِإاَّل َأ ْن َي َش 9ا َء هَّللا ُ َو َل ِك َّن َأ ْك َثَ 9 ُك99لَّ َش ْ 9ي ٍء قُبُ ً
(األنعام)111 :
قال :أال ترى القوة التي يتمتع بها الجهل في الت99أثير في ص99احبه ،وفي
صده عن الحقائق؟
قلت :نعم.
قال :بل إن هللا تعالى يخبر بأن كل المعج9زات لن تس9تطيع الت9أثير في
اإلنسان الجاهل.
قلت :لماذا؟
قال :ألنه سيجد من الحلول ما يغير به الحقائق ،ألم تسمع قوله تعالى{:
ت ظ ُّلوا ِفي ِ 9ه َيعْرُجُ99ونَ َل َق99الُوا ِإنَّ َم99ا ُس ِّ 9ك َر ْ اء َف َ َو َل99وْ َفتَحْ َن99ا َع َل ْي ِه ْم َباب 9اً ِمنَ َّ
الس َ 9م ِ
ْصارُ نَا َبلْ نَحْ ُن َقوْ ٌم َم ْسحُورُونَ }(الحجر 14 :ـ )15 َأب َ
قلت :نعم ،فاهلل تعالى يخبر عن قوة كفرهم وعنادهم ومكابرتهم للح99ق
143
بحيث أنه ل9و فتح لهم باب9اً من الس9ماء فجعل9وا يص9عدون في9ه لم9ا ص9دقوا
بذلك ،بل بل أرجعوا ذلك إلى عماهم أو إلى السحر.
قال :فما سبب عمى أعينهم عن آيات هللا؟
قلت :ما جعل فيها من الغشاوة ،وما جعل في قل99وبهم من األكن99ة ،كم99ا
قال تعالىَ {:و ِم ْنه ُْم َم ْن َي ْست َِم ُع ِإ َل ْيكَ َو َج َع ْل َن99ا َع َلى قُلُ99و ِب ِه ْم َأ ِكنَّ ًة َأ ْن َي ْف َقهُ99وهُ َو ِفي
آ َذا ِن ِه ْم َو ْقراً َو ِإ ْن َي َروْ ا ُكلَّ آ َي ٍة ال ي ُْؤ ِمنُوا ِب َها َحتَّى ِإ َذا َج 9اءُوكَ ي َُجا ِدلُو َن99كَ َيقُ99ولُ
اطيرُ اأْل َ َّو ِلينَ }(األنعام)25 : الَّ ِذينَ َك َفرُوا ِإ ْن َه َذا ِإاَّل َأ َس ِ
قال :وتلك األكنة التي منعتهم من معرفة الحقائق ماذا تضع بدلها؟
قلت :األوه99ام ،والجه99ل ،بحيث تجعلهم يك99ابرون ك99ل ش99يء ح99تى
س َف َل َم ُس9وهُ
ط9ا ٍ المحسوس ،كما ق9ال تع9الىَ {:و َل9وْ ن ََّز ْلنَ9ا َع َل ْي9كَ ِكتَاب9اً ِفي ِقرْ َ
ين}(األنعام ،)7 :فهؤالء ك99ابروا ال الَّ ِذينَ َك َفرُوا ِإ ْن َه َذا ِإاَّل ِسحْ رٌ ُم ِب ٌ ِبأَ ْي ِدي ِه ْم َل َق َ
اء َس9ا ِقطاً َيقُولُ99وا السَ 9م ِ ما لمسوه بأيديهم ..وقال تعالىَ {:و ِإ ْن َي َروْ ا ِك ْس9فاً ِمنَ َّ
َس َحابٌ َمرْ ُكو ٌم}(الطور )44 :وهؤالء كابروا المرئي المشاهد.
قال :بل هم كابروا بحواسهم جميعا كل آيات هللا ،كما قال تعالىَ {:و ِإ ْن
ُعْرضُوا َو َيقُولُوا ِسحْ رٌ ُم ْس َت ِمرٌّ }(القمر)2 : َي َروْ ا آ َي ًة ي ِ
قلت :لقد اقتنعت بكل هذا ،وال أحسبني أخالف9ه ..ولك9ني لم أفهم عالق9ة
هذا باالستعفاف؟
قال :االستعفاف هو بذل الجهد لتحصيل العفاف عن أيدي الناس ،وق99د
عرفنا أن ذلك ال يكون إال بع99د االس99تعفاف عن النفس ،والنفس ال يس99تعف
عنها إال إذا علم جهلها ..أيمكن لملك عادل أن يسلم أي وزارة من وزاراته
لغير المختصين؟
قلت :هذا محال ..ألنهم سيفسدون وال يصلحون.
ق99ال :ف99إذا وك99ل اإلنس99ان لنفس99ه الجاهل99ة ت99دبير أم99ره ،أال تكل99ه إلى
الخراب؟
قلت :نعم ،مثل النفوس ال9تي خ9ربت بني9ان ق9ارون وفرع9ون وجمي9ع
المشركين والملحدين.
قال :بل تخريب ك9ل س9لوك ،ألم تس9مع قول9ه (:إن هَّللا ع9ز وج9ل
يقول يوم القيامة :يا ابن آدم مرضت فلم تعدني! قال :يا رب كيف أع99ودك
وأنت رب العالمين؟ قال :أما علمت أن عبدي فالن9اً م9رض فلم تع9ده؟ أم9ا
علمت أنك لو عدته لوج99دتني عن99ده؟ ي99ا ابن آدم اس99تطعمتك فلم تطعم99ني!
144
ق99ال :ي99ا رب كي99ف أطعم99ك وأنت رب الع99المين؟ ق99ال :أم99ا علمت أن99ه
استطعمك عبدي فالن فلم تطعمه؟ أما علمت أنك لو أطعمته لوج99دت ذل9ك
عندي؟ يا ابن آدم استس9قيتك فلم تس9قني! ق9ال :ي9ا رب كي9ف أس9قيك وأنت
رب الع9المين؟ ق9ال :استس9قاك عب9دي فالن فلم تس9قه! أم9ا إن9ك ل9و س9قيته
لوجدت ذلك عندي! )( ،)1فقد أرجع هللا جهل العبد بهذه المع9اني ه9و ال9ذي
أوصله إلى ذلك التقصير.
قلت :بل أخبر عن تأثير الجهل من الناحية االجتماعية ،فقال (:إن
هَّللا ال يقبض العلم انتزاع999اً ينتزع999ه من الن999اس ،ولكن يقبض العلم بقبض
العلماء ،حتى إذا لم يبق عالماً اتخذ الناس رؤوساً جها ً
ال فسئلوا فأفتوا بغير
علم فضلوا وأضلوا )( ،)2فقد أرجع سبب الضاللة إلى اتخاذ الرؤس99اء
الجهال.
وأخبر عن الهالك ال9ذي ح9اق ب9األمم نتيج9ة تعالمه9ا على كتبه9ا،
فقال (:إنما هلك من كان قبلكم بهذا ضربوا كتاب هللا بعضه بعض99ا ،وإنم99ا
نزل كتاب هللا يصدق بعضه بعضا وال يكذب بعضه بعضا ،م9ا علمتم في9ه
فقولوا وما جهلتم فكلوه إلى عالمه )()3
ق9ال :فل9ذلك ك9انت أول حلق9ة تقط9ع من سلس9لة الطم9ع في النفس هي
يقينك بجهلها ،فيقينك بجهلها يوصلك إلى التعلم منه ،فال يتعلم إال الجاهل.
قلت :لق99د ذكرت99ني بقول99ه (:ال ي99زال الرج99ل عالم99ا ح99تى يق99ول
علمت ،فإذا قالها فقد جهل)
الغرور:
قال :ألم تعلم ما الذي جعل فرعون يدعي األلوهية؟
َخَف َقوْ َمُ 9ه َفأَ َ
ط9ا ُعو ُه ِإنَّه ُْم َك9انُوا َقوْ م9اً قلت :قومه ،فقد قال تعالىَ {:ف ْ
اس9ت َّ
َف ِ
اس ِقينَ }(الزخرف)54 :
قال :وقبل قومه.
قلت :أنا لم أق9رأ ت9اريخ فرع9ون ح9تى أعلم مص9ادر ادعائ9ه الربوبي9ة
بالضبط ،فقد يكون تأثر في ذلك بالديانات الفارسية أو الهندية..
قال :ال ..فقد ذكر القرآن الكريم ذلك.
قلت :أين؟
) )(1مسلم.
) )(2البخاري ومسلم.
) )(3البيهقي ن ابن عمرو.
145
ت َل ُك ْم ِم ْن ال ِفرْ عَوْ ُن َيا َأ ُّي َها ْال َمأَل ُ َم99ا َع ِل ْم ُ قال :ألم تسمع قوله تعالىَ {:و َق َ
ط ِلُ 9ع ِإ َلىص9رْ حاً َل َع ِّلي َأ َّ ين َفاجْ َع9لْ ِلي َ ط ِ 9ان َع َلى ال ِّ ِإ َل ٍه َغي ِْري َفأَوْ ِق ْد ِلي َيا هَا َم ُ
ظ ُّنهُ ِمنَ ْال َكا ِذ ِبينَ }(القصص)38 : ِإ َل ِه ُمو َسى َو ِإ ِّني أَل َ ُ
قلت :بلى ،وقد ذكر القرآن الكريم ذلك في موض99ع آخ99ر ،ق99ال تع9الى:
ت اوا ِاب ال َّس َم َ اب َأ ْس َب َ
صرْ حاً َل َع ِّلي َأ ْبلُ ُغ اأْل َ ْس َب َ ان اب ِْن ِلي َ ال ِفرْ عَوْ ُن َيا هَا َم ُ { َو َق َ
ظ ُّنهُ َكا ِذباً َو َك َذ ِلكَ ُزيِّنَ ِل ِفرْ عَوْ نَ سُو ُء َع َم ِل ِه َوصُ َّد ط ِل َع ِإ َلى ِإ َل ِه ُمو َسى َو ِإ ِّني أَل َ ُ َفأَ َّ
ب}(غافر 36:ـ )37 يل َو َما َك ْي ُد ِفرْ عَوْ نَ ِإاَّل ِفي َت َبا ٍ ع َِن ال َّس ِب ِ
قال :فما هي العلة التي ذكرها القرآن الك99ريم ،وال99تي ك99انت س99بب م99ا
ادعاه من دعاوى؟
قلت :أليس هو الغرور الذي جعله يعتق99د أن99ه يعلم العلم ال99ذي ال جه99ل
فيه ،أو ال جهل معه.
قال :نعم ،فالجهل بالجهل يولد الغرور.
قلت :فالغرور إذن وليد الجهل.
قال :وقد يكون ولدا غير شرعي للعلم.
قلت :كيف؟
قال :إذا حبس في قفص علومه ،أو س9قط في مه9اوي معارف9ه ،أو ت9اه
في ظلمات كتبه وأوراقه.
قلت :ما أرى العلم إال نورا ،فكيف ترميه بالظالم ،وما أره إال حري99ة،
فكيف ترميه بالقفص ،وما أراه إال رقيا ،فكيف ترميه بالهاوية.
قال :ذلك هو العلم الذي ال يقف صاحبه عنده ،بل يظ99ل دائم99ا ص99فحة
بيضاء تنتظر أقالم األبد لتكتب عليها.
قلت :فسر لي هذا ،وما الفربق بين الجهل والغرور؟
قال :الجاهل قد يسأل ،فيتعلم ،ولكن المغرور ال يسأل وال يتعلم.
قلت :وإذا هداه هللا ،فسأل؟
قال :يسأل ليجادل ،ال ليتعلم.
قلت :فإذا هداه هللا ،وتعلم؟
قال :يتعلم ليضم إلى غروره كبرياءه.
قلت :فما عالقة هذا بمد اليد إلى النفس؟
قال :المغرور ال يمد يده إال إلى نفسه ،ألنه يرى ما عداه أي99اد مم99دودة
إليه.
146
قلت :إذن المغرور ال يكون شحاذا على عتبات المساجد.
قال :قد يكون كذلك ،ولكنه يتك9بر على الي9د ال9تي تم9ده بالعط9اء ،وق9د
يحاول قطعها إن استغنى واكتفى ،أترى استحالة ذلك؟
قلت :ربم99ا ،فم99ا أك99ثر م99ا نس99مع عن99ه من مقابل99ة الجمي99ل ب99الكفران،
واإلحسان باإلساءة.
قال :ولهذا كان الغرور هو منبع جميع األمراض النفسية.
قلت :كيف ..األمراض النفسية كثيرة جدا ،والمستش99فيات تس99تقبل ك99ل
يوم أنواعا جديدة من هذه األمراض.
ق99ال :ليس99ت المستش99فيات وح99دها هي ال99تي تس99تقبل ه99ذا الن99وع من
األمراض ،بل إن الشوارع تعج بها والمدارس والبيوت..
قلت :فكيف يكون الغرور منبعها؟
قال :اسمع القرآن الكريم ،وستجد كيف تدلى الخلق بحبال الغ99رور في
مهاوي السخط.
قلت :نعم ..القرآن الكريم يذكر كثيرا الغرور باعتباره سببا من أسباب
الكفر والضاللة ،فقد قال تعالى عن بني إسرائيل الذين تص99وروا أن الن99ار
تال تمسهم إال أياما معدودةَ {:ذ ِلكَ ِبأَنَّه ُْم َقالُوا َل ْن َت َم َّسنَا النَّارُ ِإاَّل َأيَّاماً َمعْ ُدودَا ٍ
َوغَرَّ هُ ْم ِفي ِدي ِن ِه ْم َما َكانُوا َي ْف َترُونَ }(آل عمران)24 :
قال :وتحسب ذلك خاصا ببني إسرائيل؟
قلت :ال أظن أن في هذه األمة المرحوم99ة من ادعى أن99ه لن يمكث في
النار إال أياما معدودات بسبب ذنوبه.
قال :إن كلمة ( األمة المرحومة ) التي ذكرتها منبع غرور للكثيرين.
قلت :كيف ،فهذه األمة مرحومة بالشك.
قال :ولكن كل من ولد في هذه األمة يتصور أنه من المرحومين ،ول99و
بغير عمل يعمله ،أو حسنة يقدمها ،ولعله يتصور نفس9ه يحم9ل في ص9دره
صكا من صكوك الغفران التي تقول له (:اعمل ما شئت فقد غفرت لك )
قلت :هذه حقيقة ،وكل المبشرات تدل على هذا.
9ل ْال ِكتَ9ا ِ
ب ْس ِبأَ َما ِن ِّي ُك ْم َوال َأ َم9ا ِن ِّي َأ ْه ِ
قال :وعلى ماذا يدل قوله تعالىَ {:لي َ
َص9يراً} (النس9اء: ون هَّللا ِ َو ِليّاً َوال ن ِ َم ْن َيعْ َملْ سُوءاً يُجْ زَ ِب ِه َوال َي ِج ْد َل9هُ ِم ْن ُد ِ
)123
قلت :نعم ..إن اآلية تقرر أن الجزاء اإللهي ال يخضع ألم99اني الن99اس،
147
بل يخضع لقانون واحد يشمل الجميع ..ولكن مع ذلك فنحن..
قاطعني ،وقال :هللا رب الجميع ،ألم تسمع قوله تع9الىَ {:ي99ا َأ ُّي َه99ا النَّاسُ
9ر َم ُك ْم ِع ْنَ 9د9ارفُوا ِإ َّن َأ ْكَ 9 9ل ِل َت َعَ 9ِإنَّا خَ َل ْقنَا ُك ْم ِم ْن َذ َك ٍر َوأُ ْن َثى َو َج َع ْلنَا ُك ْم ُشعُوباً َو َق َبا ِئَ 9
هَّللا ِ َأ ْت َقا ُك ْم ِإ َّن هَّللا َ َع ِلي ٌم خَ ِبيرٌ}(الحج9رات ،)13 :فه9ل ق9ال هللا تع9الى أك9رمكم
فالن أو فالن؟
قلت :لقد ذكرتني بقول ابن عباس (:ثالث آي9ات جح9د من الن9اس)
9ر َوأُ ْن َثى َو َج َع ْلنَ9ا ُك ْم وذكر منها قوله تعالىَ {:يا َأ ُّي َه9ا النَّاسُ ِإنَّا خَ َل ْقنَ9ا ُك ْم ِم ْن َذ َك ٍ
99ر َم ُك ْم ِع ْنَ 99د هَّللا ِ َأ ْت َق99ا ُك ْم ِإ َّن هَّللا َ َع ِلي ٌم خَ ِب99يرٌ }
99ارفُوا ِإ َّن َأ ْك َ99ل ِل َت َع َ ُش99عُوباً َو َق َبا ِئ َ
(الحجرات ،)13 :قال( :ويقولون :إن أكرمهم عند هّللا أعظمهم بيتاً )
قال :ثم تظن بعد هذا أن هذا الغرور خاص ببني إسرائيل ..إن كل م99ا
في القرآن الك9ريم له9ذه األم9ة ،ولكنكم ه9ربتم من الحق9ائق ال9تي ت9واجهكم
لتحولوه قصصا تسرد ،وحكايات تروى ،وأمثاال يلغز بها.
قلت :ي9ا معلم ،النس9ب إذن س9بب من أس9باب الغ9رور ،ولكن9ه خ9اص
بفئات محدودة ،وقومي ـ عموما ـ ال يكادون يعتبرونه.
قال :ولكنهم يعتبرون ما هو أخطر من النسب.
قلت :وماذا يعتبرون؟
قال :أم الخطايا.
قلت :لست أعرف للخطايا أما ،وال أبا.
قال :حب الدنيا ه9و رأس الخطاي9ا وأمه9ا وأص9ل أص9ولها ،ألم تس9مع
ت َو ِإنَّ َم9ا تُ َوفَّوْ نَ أُ َ
جُ9ور ُك ْم َي9وْ َم ْال ِق َيا َمِ 9ة َف َم ْن س َذا ِئ َق9ةُ ْال َم9وْ ِقوله تعالىُ {:كلُّ َن ْف ٍ
ُزحْ ز َح ع َِن النَّ ُ
9رُور}(آل ار َوأ ْد ِخ َل ْال َجنَّ َة َف َق ْد َفازَ َو َما ْال َح َياةُ ال ُّد ْن َيا ِإاَّل َمتَا ُع ْال ُغِ 9 ِ ِ
عمران)185 :
قلت :بلى ،فقد وردت اآلي9ات الكث9يرة المح9ذرة من االغ9ترار بال9دنيا،
فاهلل تعالى يقولَ {:يا َأ ُّي َها النَّاسُ ِإ َّن َو ْع َد هَّللا ِ َح ٌّق َفال َت ُغرَّ نَّ ُك ُم ْال َح َي99اةُ ال ُّ 9د ْن َيا َوال
َي ُغرَّ نَّ ُك ْم ِباهَّلل ِ ْال َغرُورُ }(فاطر)5 :
قال :أتعلم الحبال التي يتدلى منها الغررو بالدنيا؟
قلت :ما هي ..دلني عليها ألقطعها وأخلص الخلق منها؟
قال :هي حبال الشيطان ،ألم تس9مع قول9ه تع9الىَ {:ي ِعُ 9دهُ ْم َويُ َم ِّني ِه ْم َو َم9ا
ان ِإاَّل ُغ99رُوراً}(النس99اء .. )120 :ألم تس99مع قول99ه تع99الى: ط ُ َي ِعُ 9دهُ ُم َّ
الش ْ 9ي َ
ص999وْ ِتكَ َو َأجْ ِلبْ َع َل ْي ِه ْم ِبخَ ْي ِل999كَ َو َر ِج ِل999كَ طعْتَ ِم ْنه ُْم ِب َ اسَ 999ت َاسَ 999ت ْف ِز ْز َم ِن ْ { َو ْ
148
ان ِإاَّل ُغ99رُوراً} ال َواأْل َوْ ال ِد َو ِعْ 9دهُ ْم َو َم99ا َي ِعُ 9دهُ ُم َّ
الشْ 9ي َ
ط ُ ار ْكه ُْم ِفي اأْل َ ْم َ
9و ِ َو َشِ 9
(االسراء)64 :
قلت :ي9ا معلم ..لق9د جلن9ا جول9ة في رح9اب الق9رآن الك9ريم عرفن9ا من
خاللها خطر الغرور وثماره ،فما عالقة ذلك باالستعفاف ،وما عالقة ذل99ك
بالفقراء؟
قال :مد اليد بالسؤال علة خطيرة ال تكفي في معالجته99ا الم99راهم ال99تي
تداوون بها جراحكم ،بل ال بد من عملية ضخمة تبدأ من تص99حيح ال99ذات،
وتصحيح الذات ال يمكن إال بالتعرف عليها وعلى مواضع الغرور منها.
قلت :فاذكر لي مثاال على تأثير الغرور في هذا؟
ق99ال :اس99مع قول99ه تع99الى {:ال َي ُغرَّ نَّكَ َت َق ُّلبُ الَّ ِذينَ َك َف99رُوا ِفي ْال ِبال ِد}(آل
ت هَّللا ِ ِإاَّل الَّ ِذينَ َك َف99رُوا َفال َي ْغ99رُرْ كَ
عمران ،)196 :وقولهَ {:ما ي َُجا ِدلُ ِفي آ َيا ِ
َت َق ُّلبُه ُْم ِفي ْال ِبال ِد}(غافر)4 :
قلت :في هاتين اآليتين يحذر هللا تعالى من االغترار بما حصل للكفار
من أنواع المتاع الدنيوي ..ولكن لماذا حذر من هذا االغترار؟
قال :ألن الغرور هو نقطة الضعف التي يتسرب منه99ا الش99يطان ليمأل
قلب اإلنسان هما وحزنا على حاله الهزيل ،ويقارنه بح99ال المنتفخين ،ف99إذا
ما حصل االغترار طلب الهزي99ل أن ينتفخ بنفس األس99لوب ال99ذي انتفخ ب99ه
غيره ،فيقع فيما وقعوا فيه.
قلت :أريد توضيحا أكثر.
قال :أرأيت لو أن سلطانا عادال اتخذ وزيرا مغرورا ،أيمكن9ه أن ي9دير
دفة وزارته إدارة تتناسب مع عدل السلطان؟
قلت :ال ،بل قد يش9وه ع9دل الس9لطان ،ب9ل ق9د ي9رمى ب9الجور لغ9رور
وزيره.
قال :أرأيت ل99و أن وزي99ر الح99رب ك99ان ج9اهال بق99وة جيش الس99لطان،
ولكنه مع ذلك مغرور ،أيمكن أن يزف البالد إلى حرب ال طاقة لها بها؟
قلت :نعم ،ذل9ك ممكن ج9دا خاص9ة إذا تص9ور أن9ه لن يحق9ق ذات9ه إال
بخوض الحروب.
قال :فكذلك النفس لو أمرت عليها الغرور ،فإنها ستتردى في ح99روب
ال طاقة لها بها ،ليس مع ذاتها فقط ،بل مع ذاتها ومع الناس ومع هللا.
قلت :فما الحل؟
149
قال :أن تهرب منها إلى هللا ،فال تم9د ي9دك إال إلي9ه ،ألم تس9مع م9ا ق9ال
الصالح (:دع نفسك وتعال )
قلت :كيف أدع نفسي ،وهي أنا؟
قال :دع ما يحول بين9ك وبين رب9ك من نفس9ك ،فال يمكن أن تم9د ي9دك
إليه ويدك ممدودة إلى نفسك..
ثم التفت إلي ،فرأى تساؤالت كثيرة في عيني فقال :أتعلم م99ا ه99و أش99د
المواقف على رسول هللا في فترة رسالته األولى قبل البعثة.
قلت :أشدها ذهابه إلى الطائف ،حيث تقطن ثقيف ،وهي تبعد عن مكة
ال ،سارها محمد على قدميه جيئة وذهوباً ،فلما انتهى نحو الخمسين مي ً
إليه9ا قص9د إلى نف9ر من رجاالته9ا ال9ذين ينتهي إليهم أمره9ا ،ثم كلمهم في
اإلسالم ودعاهم إلى هللا ،فردوه -جميعاً -رداً منكراً ،وأغلظوا له الج99واب.
ومكث عشرة أيام ،يتردد على منازلهم دون جدوى.
فلما يئس الرسول من خيرهم قال لهم :إذا أبيتم ،فاكتموا َّ
علي ذل99ك
-كراهية أن يبلغ أهل مك9ة ،ف9تزداد ع9داوتهم وش9ماتتهم -لكن الق9وم ك9انوا
أخس مم99ا ينتظ99ر .ق99الوا ل99ه :اخ99رج من بل99دنا ،وحرّش99وا علي99ه الص99بيان
والرع9اع فوقف9وا ل9ه ص9فين يرمون9ه بالحج9ارة .وزي9د بن حارث9ة يح9اول
الدفاع عنه حتى شج في ذلك رأسه.
وأص99يب الرس99ول في أقدام99ه ،فس99الت منه99ا ال99دماء واض99طره
المطاردون إلى أن يلجأ إلى بستان لعتبة ،وشيبة ،ابني ربيع99ة ،حيث جلس
في ظل كرمة يلتمس الراحة واألمن(.)1
قال :وعندما استراح في ذلك البستان ،وهو في تلك الحال ،هل مد
يده إلى نفسه يطلب منها إغاثته بصنوف الحيل ليخرج من ذلك المأزق؟
قلت :ال ،بل روى علماء السير أنه بمجرد جلوسه في ظل الكرمة أخذ
يدعو هللا قائال (:اللهم إليك أشكو ضعف قوتي ،وقلة حيلتي ،وه99واني على
الناس..أنت أرحم الراحمين ،أنت رب المستض9عفين ،وأنت ربي ..إلى من
تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني ،أم إلى عدو ملكته أمري؟ إن لم يكن بك غضب
علي فال أبالي ،غير أن عافيتك هي أوس9ع لي ..أع9وذ بن9ور وجه9ك ال9ذي
أش99رقت ل99ه الظلم99ات ،وص99لح علي99ه أم99ر ال99دنيا واآلخ99رة ،أن يح99ل علي
غضبك ،أو أن ينزل بي سخطك .لك العتبى ح9تى ترض9ى ،وال ح9ول وال
150
قوة إال بك) ..
قال :فهل شكى رسول هللا الناس إلى ربه؟
قلت :ال ،بل شكى نفسه ،واستعاذ من غضب ربه عليه.
قال :فل9و ك9ان في ه9ذا الموق9ف مغ9رورا بنفس9ه معظم له9ا م9اذا ك9ان
سيفعل؟
رأيت أن أحس99ن وس99يلة لإلجاب99ة على س99ؤال المعلم هي أن أع99رض
نفسي على ذلك الموقف ألرى ما ال99ذي س99يمكن أن أفعل99ه ..لق99د تص99ورت
نفسي مادا يدي إلى هللا أسأله أن يدمرهم ويبي9د خض9راءهم ويقط9ع نس9لهم
ويشردهم ،فيذوقوا من األهوال أضعاف ما ذقت ..أو رأيتني أقول لنفس99ي:
( لئن تمكنت منهم ألرينهم شر ما صنعوا )
ق99ال لي معلم الس99الم ،وق99د رأى ش99رودي :وتبقى وح99دك بع99دها م99ع
وزيرك المغرور الذي حرم أمما من فضل هللا بس99بب موق99ف من مواق99ف
األنفة.
قلت :لقد ذكرتني بمتسول كان يمد يده إلى الن99اس ،وك99ان يختل99ف عن
س99ائر المتس99ولين في أن99ه ال ي99دعو لمن أعط99اه ،وإنم99ا ي99دعو على من لم
يعط99ه ..وك99ان م99ع ذل99ك أك99ثر المتس99ولين مكاس99ب ،فالن99اس يخ99افون من
دعوات السوء أكثر من رجائهم لدعوات الخير..
الهوى :
قال لي معلم السالم :الصفة الثالثة التي تجعلك تمد يدك إلى نفس99ك هي
الهوى.
قلت :ما الهوى؟
قال :هو وزير من وزراء النفس تعرض عليه الحلول المختلفة لجميع
المشاكل ،فال يبصر منها إال ما يوافق ذوقه.
قلت :وماذا يفعل بالحلول األخرى؟
قال :يرميها ،أو يتهمه99ا ،أو ينكره99ا ،أو يلتمس ص99نوف الحي99ل ليقن99ع
عقله بمخالفتها.
قلت :ولكن ال99دين أعظم من العق99ل ،فن99وره أك99ثر امت99دادا من امت99داد
العقل ،فلذلك قد تقتنع حقيقة اإلنسان بما يمليه الدين ،ويترك ما يمليه العق99ل
الذي سلم نفسه للهوى.
قال :ولكن الدين نفسه قد يصبح لعبة بيد صاحب الهوى.
151
قلت :ولكن الدين بيد هللا ،وال يمكن أن يصبح بيد أحد من الناس؟
قال :ألم تعلم بأن الهوى من أخطر أسباب تحريف األديان ،ومن أك99بر
سراديب االعتراض؟
قلت :بلى ،فقد قرأت في القرآن الكريم كثيرا من هذا ،قال تعالىَ {:فإِ ْن
ض9لُّ ِم َّم ِن اتَّ َبَ 9ع ه ََ9واهُ ِب َغي ِ
ْ9ر 9وا َءهُ ْم َو َم ْن َأ َ اع َل ْم َأنَّ َما َيتَّ ِبعُونَ َأ ْه َ
َل ْم َي ْست َِجيبُوا َلكَ َف ْ
الظا ِل ِمينَ }(القصص)50 : هُدىً ِمنَ هَّللا ِ ِإ َّن هَّللا َ ال َي ْه ِدي ْال َقوْ َم َّ
ثم أخ99ذت نفس9ا عميق99ا ،وقلت :الحم9د هلل لق9د من هللا على ه99ذه األم9ة،
فحفظ كتابها وسنة نبيها ،فلذلك لم تستطع كل شياطين الهوى أن تب99دل
هذا الدين أو تغيره.
ق99ال :نعم ،ه99ذا من رحم99ة هللا ،ولكن لله99وى س99لطانه على النف99وس،
فلذلك قد يفسر الحق الذي ال مرية فيه بالباطل الذي ال شك فيه ،أولم تسمع
نهي هللا لهذه األمة عن طريق نبيها من الجثو أمام األهواء ،ألم تسمع قول99ه
9وا َءهُ ْم َبعَْ 9د َم9ا َج 9ا َءكَ ِمنَ زَلنَاهُ حُ ْكماً ع ََر ِبيّاً َو َل ِئ ِن اتَّ َبعْتَ َأ ْه َ تعالىَ {:و َك َذ ِلكَ َأ ْن ْ
ق}(الرعد)37 : ْال ِع ْل ِم َما َلكَ ِمنَ هَّللا ِ ِم ْن َو ِل ٍّي َوال َوا ٍ
قلت :أيمكن للهوى أن يقلب الحقائق المستقرة؟
قال :في نفس صاحب الهوى تنقلب الحقائق انقالبا تاما.
قلت :لماذا؟
قال :ألم تعلم بأن الهوى قد يتحكم في اإلنس99ان فيص99ير معب99ودا ل99ه من
ض9لَّهُ هَّللا ُ َع َلى دون هللا ،ألم تسمع قوله تعالىَ {:أ َف َر َأيْتَ َم ِن اتَّخَ َذ ِإ َل َههُ ه ََ9وا ُه َو َأ َ
او ًة َف َم ْن َي ْه ِديِ 9ه ِم ْن َبعِْ 9د هَّللا ِ
ص ِر ِه ِغ َش َ ِع ْل ٍم َوخَ َت َم َع َلى َس ْم ِع ِه َو َق ْل ِب ِه َو َج َع َل َع َلى َب َ
َأ َفال َت َذ َّكرُونَ }(الجاثـية)23 :؟
قلت :بلى ،وقد س99معت أن هللا تع99الى ق9ال لموس99ى (:ي9ا موس99ى،
خالف هواك فإني ما خلقت خلقا نازعني في ملكي إال الهوى )
قال :فإذا انقلب وزير اله9وى على المل9ك إله9ا واس9توى على عرش9ه،
أيمكن ألحد أن يقنعه باتباع حق أو باالرتداع عن باطل؟
قلت :فكيف أنقلب على هواي؟
قال :برفع ثقتك من نفسك ،وبتركك األمل فيها ،وباللجوء إلى هللا.
قلت :فما مثل ذلك؟
قال :إذا أراد الوزير االنقالب على الملك ،ماذا يفعل؟
قلت :يستعين بالجند وبكل ما أمكنه من طاق9ات ..ولكن اله9وى أخط9ر
152
من الملك فهو يدعي األلوهية من دون هللا.
قال :فحاربه باهلل.
قلت :كيف؟
قال :بمد يدك إليه.
قلت :وكيف أمد يدي إليه؟
قال :بعدم مدها إلى نفسك ،ألم تسمع قوله تعالىَ {:و َأ َّما َم ْن خَ 9افَ َم َق99ا َم
س ع َِن ْال َه َوى َفإِ َّن ْال َجنَّ َة ِه َي ْال َم ْأ َوى (النازعـات)41 :َر ِّب ِه َو َن َهى النَّ ْف َ
الخداع:
قلت :وعيت هذا ..فما الصفة الرابعة التي تجعلني أمد يدي إلى نفسي؟
قال :هي قدرة نفسك العظيمة على الخداع.
قلت :وما الخداع؟
قال :هو وزير من وزراء النفس يضع لك الحيل المختلفة ،ويوجد ل99ك
الحلول لمختلفة ،ولكنها كلها ترمي بك في الهاوية.
قلت :لعلك تقص99د م99ا ق9ال الغ99زالي في ق99وى النفس (:والعب99د الج99الب
للميرة كذاب مك9ار خ9داع خ9بيث يتمث9ل بص9ورة الناص9ح وتحت نص9حه
الشر الهائل والسم القاتل وديدنه وعادته منازعة الوزير الناصح في آرائ99ه
وتدبيراته حتى ال يخلو من منازعته ومعارضته ساعة )()1
قال :نعم رحم هللا الغزالي ،فقد كان خبيرا بالنفوس.
قلت :ولكن كيف أكتشف خداع نفس99ي لي ،وكي99ف أف99رق بين نص99ائح
الوزير الناصح ،وخداع العبد المحتال؟
قال :بخروجك من نفسك ورفعك ثقتك عنها ،وعودتك إلى هللا.
قلت :أتضرب لي أمثلة على خداع النفس.
قال :نعم ،سأضرب لك مثالين على خداع النفس ،وتالعبها بصاحبها.
قلت :فما المثال األول؟
قال :خدعة اسمها ( خدعة اإلحسان السابق )
قلت :ما هي هذ الخدعة؟
قال :عبر عنها شاعركم بقوله:
كذلك يحسن فيما بقي لقد أحسن هللا فيما مضى
قلت :ه99ذا قي99اس ،ولع99ل معن99اه ص99حيح ،ف99إن ص99احب اإلحس99ان
) )(1اإلحياء.3/6 :
153
السابق ال يستغرب منه اإلحسان الالحق.
قال :والمخادع هو الذي يلبس لباس الح99ق ليش99تري ب99ه الباط99ل أو
ليبيع به الباطل.
قلت :فأي باطل هذا الذي يريد ببيعه أو شراءه؟
قال :ه99و باط99ل اله99وى ،فه99و كلم99ا ه99وى ش99يئا اش99تراه بمخادعت99ه
لنفسه ،ألم تسمع قوله تعالى في خ9بر ال99رجلين المتح99اورينَ {:و َم99ا أَظُ ُّن
ت إِلَى َربِّي أَل َ ِجد ََّن َخيْراً ِم ْنهَا ُم ْنقَلَب 9اً}(الكه99ف: السَّا َعةَ قَائِ َمةً َولَئِ ْن ُر ِد ْد ُ
)36؟
قلت :بلى ..ولكن كيف احتالت النفس على نفسها بهذه الحيلة؟
قال :هو قياس من أقيسة إبليس ..وذلك أنهم ينظرون مرة إلى نعم
هللا عليهم في الدنيا فيقيسون عليها نعم99ة اآلخ99رة ،وينظ99رون م99رة إلى
ت99أخير الع99ذاب عنهم فيقيس99ون علي99ه ع99ذاب اآلخ99رة ،كم99ا ق99ال تع9الى:
{ َويَقُولُونَ فِي أَ ْنفُ ِس ِه ْم لَوْ ال يُ َع ِّذبُنَا هَّللا ُ بِ َما نَقُ99و ُل }(المجادل99ة ،)8 :فق99ال
ص999يرُ} س ْال َم ِ تع999الى جواب999ا ً لق999ولهمَ {:ح ْس999بُهُ ْم َجهَنَّ ُم يَ ْ
ص999لَوْ نَهَا فَبِ ْئ َ
(المجادلة)8 :
وترتيب القياس الذي نظمه في قلوبهم أنهم يقول99ون :ق99د أحس99ن هللا
إلينا بنعيم الدنيا ،وكل محسن فهو محب ،وكل محب فإنه يحسن أيض 9ا ً
في المستقبل(.)1
قلت :أليس كل محسن محب ،أو لم تستدل أنت على كون هللا محبا
لنا بإحسانه إلينا؟
قال :بلى ..كل محس99ن محب ،ولكن من ق99ال لهم :إن ه99ذا إحس99ان
محب99ة ،ألم يجع99ل هللا ال99دنيا دارا لالبتالء ،كم99ا ق99ال تع99الىَ {:ونَ ْبلُ99و ُك ْم
بِال َّش ِّر َو ْال َخي ِْر فِ ْتنَةً}(االنبياء ،)35 :فاهلل تعالى يبتلي ب99الغنى كم99ا يبتلي
بالفقر ،ويبتلي بالقوة كما يبتلي بالعجز؟
قلت :لقد فهمت هذه الخدعة ،وما أكثر انتشارها بين قومي ،بل إن
القرآن الكريم نص عليه99ا باعتباره99ا مغالط99ة من المغالط99ات الك99برى
ال99تي ق99د يخ99دع به99ا ك99ل إنس99ان إال أول99و األلب99اب ،فق99ال تع9الى {:فأ َ َّما
ان إِ َذا َما ا ْبتَاَل هُ َربُّهُ فَأ َ ْك َر َمهُ َونَ َّع َمهُ فَيَقُو ُل َربِّي أَ ْك َر َم ِن َوأَ َّما إِ َذا َم99ا
اإْل ِ ن َس ُ
ا ْبتَالهُ فَقَ َد َر َعلَ ْي ِه ِر ْزقَهُ فَيَقُو ُل َربِّي أَهَانَ ِن}(الفجر 15:ـ )16
) )(1اإلحياء.3/283 :
154
قلت :لقد فهمت المث99ال األول ،ورأيت ن99وع المغالط99ة في99ه ،فه99ات
المثال الثاني.
قال :هذه الخدعة تسمى خدعة النعامة.
ضحكت ،وقلت :وما خدعة النعام؟
قال :أنتم تنسبون أشياء كثيرة للحيوانات ،فتسمون الرقص الماجن
( رقصة البجعة ) ،فكيف غابت عنكم ( خدعة النعامة )؟
قلت :ال أدري ..أرقصة هي كذلك؟
قال :هي نوع من رقص الشياطين على عقل اإلنسان.
قلت :أفيتحول عقل اإلنسان بذلك إلى مرقص.
قال :إن العقل الذي يس99تطيع أن يص9ير عرش9ا للمل99وك ،وجن9ة من
جنان الكمال ،وجامعة من جامعات العلم ،لن يستحيل علي99ه أن يص99ير
مرقصا أو مستنقعا أو ساحة حرب.
قلت :فاشرح لي هذه الخدعة حتى ال تنطلي علي.
قال :يحكى أنه قيل للنعامة ( إبل الطير ) :لـماذا ال تطيرين؟ فان99ك
وطوت جناحيها قائل9ةً :أن99ا لس99ت بط99ائر ب99ل
ْ ْ
فقبضت تـملكين الـجناح،
إب99ل ،ف99أدخلت رأس99ها في الرم99ل تارك99ةً جس99دها الضخـم للص99ياد،
ت إبال كما فاستهدفها ..ثم قالوا لـها :فاحـملي لنا إذن هذا الـحـمل إن كن ِ
ت ّدعين ،فعندها صفّت جناحيها ونشرتهـما قائلة :أن99ا ط99ائر ،وتفلت من
تعب الحمل .فظلت فريدة وحيدة دون غذاء وال حماية من أح99د وه99دفا ً
للصيادين.
قلت :هذه حكاية جميلة متداولة ،فما وجه الخدعة فيها؟
قال :هذا المثال ينطبق تماما على النفس المخادعة التي تح99اول أن
تته99رب من التك99اليف الحل99وة اللذي99ذة لتق99ع في الحف99ر ال99تي لم تحس99ب
حسابها.
ال أمل فيهم:
وقفت مع المعلم أمام الجوهرة الثانية من جواهر االس99تعفاف ،فس99ألت
المرشد عنها ،فقال :هذه جوهرة ( ال أمل فيهم )
ابتس99مت في نفس99ي من ه99ذه األس99ماء الغريب99ة ،ثم التفت إلى المعلم
ليش99رح لي حقائقه99ا ،فال يمكن أن أناله99ا ب99دون الوص99ول إلى حقيقته99ا
واالقتناع بها.
155
نظ99ر إلي المعلم ،وق99ال :إن أردت أن تي99أس مم9ا في أي99دهم فق99ل (:هم
فقراء ..هم عاجزون ..هم ظالمون ..هم بخالء )
قلت :هم فقراء ..هم عاجزون ..هم ظالمون ..هم بخالء ..لكن ي99ا معلم
ال أرى هذه الكلمات أغنتني شيئا.
قال :أنت تداوي جرح رجليك بمسح المرهم على يديك.
قلت :كيف؟
قال :ذلك الدواء الذي وصفته لك ال تأكله بفمك ..ب99ل دع قلب99ك يلتهم99ه
ليمسح عنه ذلك األمل الكاذب.
قلت :ولكن القلب ال يأكل وال يشرب ،وال تعتريه العوارض.
قال :بلى ..إن9ه يأك9ل ويش9رب ..يأك9ل الحكم9ة ويش9رب العلم ..لينبت
ب هَّللا ُ َم َث ً
ال َك ِل َمً 9ة ض َ 9ر َشجرة اإليمان التي قال هللا تعالى فيهاَ {:أ َل ْم ت ََر َك ْي99فَ َ
اء}(ابراهيم)24 : ت َو َفرْ ُع َها ِفي ال َّس َم ِ ط ِّي َب ٍة َأصْ لُ َها َثا ِب ٌ
ط ِّي َب ًة َك َش َج َر ٍة َ
َ
قلت :وكيف آكل تلك الكلمات ،وكيف أشربها؟
قال :بأن تتعلم م9ا فيه9ا من حق9ائق الحكم9ة ،فال يمكن ألش9عة ج9وهرة
( ال أمل فيهم ) أن تنزل على ص9درك لتحقق99ك بحق9ائق االس9تعفاف إال إذا
علمت ما فيها.
قلت :وما فيها؟
قلت :فيها الترياق الذي يرفع أملك عن الخالئق.
قلت :لماذا أرفع أملي من الخالئق؟
قال :لترفع يدك عنهم ،فإن يدك ال تمتد إال لمن تطمع فيه..
قلت :فلنفرض أني قطعت أملي من الخالئق؟
قال :تلك أول خطوة تحققك باالضطرار ،ألم تسمع الحق تع99الى وه99و
ف السُّو َء َو َيجْ َعلُ ُك ْم ُخ َل َفا َء اأْل َرْ ِ
ض يقولَ {:أ َّم ْن ي ُِجيبُ ْال ُمضْ َ
طرَّ ِإ َذا َدعَاهُ َو َي ْك ِش ُ
ال َما َت َذ َّكرُونَ }(النمل)62 :؟ َأ ِإ َلهٌ َم َع هَّللا ِ َق ِلي ً
قلت :أتحققي باالضطرار نعمة؟
قال :من أكبر نعم هللا علي99ك أن ال تحت99اج إال إلي99ه ،وأن ال تم99د أعن99اق
همتك إال إليه.
قلت :لك9أني ب9ك تقص9د ق9ول ابن عط9اء هللا (:ال تتع9د ني9ة همت9ك إلى
غيره ،فالكريم ال تتخطاه اآلمال)
قال :فمن الكريم هنا؟
156
قلت :هللا ،فهو الذي إذا قدر عف99ا ،وإذا وع99د وفى ،وإذا أعطى زاد
على منتهى الرجاء ،وال يبالي كم أعطى ،وال لمن أعطى ،وإن رفعت
حاجة إلى غيره ال يرضى ،وإذا جفي عاتب وما استقصى ،وال يضيع
من الذ به والتجا ،ويغنيه عن الوسائل والشفعاء.
قال :فهل يستحق هذه الصفات بكمالها أحد من خلق هللا؟
قلت :ال ..فذلك مستحيل ..فإن مثل هذا الكرم ال يمكن أن يكون إال
ممن خزائنه ال تنفذ ..أما خزائننا فسريعة النفاذ ..ولو امتألت ففين99ا من
البخل ما يمنع التكرم بها.
قال :فلم9اذا إذن تتخط9ون الرق9اب ،ولم9اذا ت9تركون ع9زة الم9ادين
أيديهم إلى هللا لتسحقوا في ذلة المادين أيديهم إلى خلقه.
ثم سكت هنيهة ،وأخذ يردد قول الشاعر الصالح:
ح99999999999999رام على من وح99999999999999د هللا ربه
وأف9999999رده أن يجت9999999دي أح9999999داً رف9999999دا
وي9999ا ص9999احبي ق9999ف بي م9999ع الح9999ق وقفة
أم9999وت به9999ا وج9999داً وأحي9999ا به9999ا وج9999دا
وق99999ل لمل99999وك األرض تجه99999د جه99999دها
ف99999ذا المل99999ك مل99999ك ال يب99999اع وال يه99999دى
ثم التفت إلي ،وقال :ألم تسمع ما قال الحكيم بعد تلك الحكمة؟
قلت :بلى ،فقد قال (:ال ترفعن إلى غيره حاجة هو موردها عليك،
فكيف يرفع غيره ما كان هو له واضعاً؟ من ال يستطيع أن يرفع حاجة
عن نفسه ،فكيف يستطيع أن يكون لها عن غير رافعاً؟ )
قال :فهذه الجوهرة شرح لتلك الحكمة.
قلت :فلماذا كانت هذه األربع هي التري9اق ال9ذي يقي9ني من م9د هم99تي
إلى الخالئق ..فقد ذكر هللا تعالى اإلنس9ان بس9لبيات كث9يرة غ9ير ه9ذه ،فق9د
157
ذكر أنه كثير النسيان ون9اكر للجمي9ل ،وأن9ه موج9ود ض9عيف ،وأن9ه ظ9الم
وكافر ،وأنه بخيل قتور ،وأنه عجول ،وأنه مجادل خص99يم ،وأن99ه موج99ود
قليل التحمل والصبر ،يبخل عند النعمة ،ويجزع عند البالء ،وأنه طاغي99ة
عند الغنى ..فلماذا اكتفيت بهذه األربع عن هذه الصفات جميعا؟
قال :خصائص اإلنسان كثيرة كما ذكرت ،بل هي أك99ثر مم99ا ذك99رت،
فإن كل صفة مذكورة يتفرع عنها صفات أخرى ،تجع9ل اإلنس9ان مس9تعدا
ألن ينزل أسفل سافلين ،ولكنا نتحدث هنا عن الصفات التي تيئسك مما في
أيديهم.
قلت :فما وجه الحصر في هذه الصفات؟
قال :إذا علمت مس9اواتهم ل99ك في الفق9ر لم تم99د ي9دك إليهم ،وه99ل يم9د
مريض يده لمريض مثله ..وهل يمد غريق يده إلى غريق؟
قلت :ولكن الناس ليسوا كلهم فقراء ،فلذلك ال أمد يدي إال إلى األغنياء
منهم.
ق9ال :فهم بخالء ..يك9نزون أم9والهم ،ويخ9افون إه9دارها علي9ك وعلى
أمثالك.
قلت :ولكن فيهم الكرام ،وهل عقمت األرحام أن يلدن مثل حاتم؟
قال :فهم ظالمون يضعون كرمهم في المواضع التي ال تصيبك.
قلت :سأعرفهم بحاجاتي التي أعرفها وأشرحها لهم.
ق99ال :فهم ع99اجزون ..ألن حاجات99ك أك99ثر من أن يس99دها فق99ير وظ99الم
وبخيل وعاجز.
قلت :يا معلم ،لدي شبهة هنا ،قد يتعلق بها من يتعلق.
قال :وما هي؟
قلت :إن هذه المعارف تحيلني يائسا قانطا ،أليس القنوط كفرا؟
قال :ذلك هو القنوط من هللا ،واليأس من رحمته ،فق99د ق99ال تع99الى على
ح هَّللا ِ ِإنَّهُ ال َي ْي99أَسُ ِم ْن َروْ ِ
ح هَّللا ِ ِإاَّل لس99ان يعق99وب َ {:وال َتيْأَ ُس 9وا ِم ْن َروْ ِ
ْال َقوْ ُم ْال َكا ِفرُونَ }(يوسف)87 :
قلت :ومع ذلك ،فقد يقاس اليأس من الخلق باليأس من رحمة هللا بن99وع
من القياس أليس الخلق واسطة من وسائط الفضل!؟ ..فالي99أس من وس99ائط
الفضل يأس من الموسوط صاحب الفضل.
قال :أال تعلم أن أول من قاس إبليس حين ق99الَ {:أ َن99ا خَ ْي99رٌ ِم ْن9هُ خَ َل ْق َت ِني
158
ين}(ألعراف)12 :؟ َار َوخَ َل ْق َتهُ ِم ْن ِط ٍ
ِم ْن ن ٍ
قلت :تخليت عن القياس ..فأنا ال أكاد أومن به ..ولكن ماذا يفي99دني أن
أعلم فقر الخالئق وعجزها وبخلها وجهلها.
قال :يخلصك من عبوديتهم واألم9ل مم9ا في أي9ديهم ويجع9ل أمل9ك في
هللا.
قلت :فكيف لقلبي أن يرفع األمل من الخلق ،ويتحق99ق بالي99أس مم99ا في
أيديهم.
قال :بتعلم حقائق هذه الكلمات ،فإن القلب ال يتغذى إال االكلمات النابعة
من منابع الحكمة.
الفقر:
قلت :فعلمني أولها.
قال :أول حقيقة يتشربها القلب لتبث في9ه الي9أس من أي9دي الخالئ9ق أن
يعلم فقرهم.
قلت :فالفقر إذن ليس خاصا بفالن من الناس ،وال بدولة من الدول.
قال :الفقر هو سمة الكون جميعا ..أما الغني الوحيد في هذا العالم فه99و
هللا تعالى ،ألم تسمع قوله تعالىَ {:يا َأ ُّي َه99ا النَّاسُ َأ ْنتُ ُم ْالفُ َقَ 9
9را ُء ِإ َلى هَّللا ِ َوهَّللا ُ هَُ 9
9و
ْال َغ ِن ُّي ْال َح ِمي ُد} (فاطر)15 :
قلت :فهال أفهمت بصيرتي ما تعنيه هذه اآلية.
قال :الفقر في حقيقته هو الحاجة ،وهي ليست مختصرة فيما اص99طلح
عليه الناس من أصناف الحاجات ،بل هي كل شيء وهبه هللا تعالى لعب99اده
ابتداء من وجودهم ،وانتهاء باألرزاق التي تفاض عليهم في كل حين.
قلت :فاض99رب لي أمثل99ة على ذل99ك تجعل99ني أتص99ور الحق99ائق ،فال
يمكنني تعقل الحقائق قبل تصورها.
قال :ما هي أصناف الحاجات التي يحتاج الخلق إلى سدها؟
قلت :هي كثيرة جدا ،ففي اإلنسان من الحاجات بحسب ع99دد خالي99اه..
بل بحسب عدد الذرات التي يتشكل منها بنيانه.
ق99ال :ففي اإلنس99ان من الفق99ر إذن بحس99ب ال99ذرات ال99تي يتش99كل منه99ا
بنيانه.
قلت :كيف؟
قال :ألن الفقر هو الحاجة ..ففي كل ذرة حاج99ة من الحاج99ات ..وفاق99ة
159
تستدعي أن تسد.
قلت :هذا صحيح ..ولكن لحاجات األغنياء ما يس99دها بخالف حاج99ات
الفقراء.
قال :األغني9اء يس9دون ج9زءا من ملي9ون ج9زء من حاج9اتهم ..أو ه9و
جزء ال يكاد يرى.
قلت :كي99ف؟ أك99ل تل99ك ال99ثروات ال99تي يمتلكونه99ا ..والخ99زائن ال99تي
يوصدونها ..واألموال التي يرصدونها ال يسدون بها إال حويجات قليلة.
قال :بل في الحقيق99ة ال يس99دون ش9يئا ،ألم تس9مع موعظ99ة ابن الس9ماك
حين دخل عل بعض الخلفاء..
قلت :وبيد الخليفة كوز ماء يشربه ،فق9ال ل9ه (:عظ9نى ) فق9ال (:ل9و لم
تعط ه99ذه الش99ربة إال بب99ذل جمي99ع أموال99ك وإال بقيت عطش99ان ،فه99ل كنت
تعطيه؟ قال :نعم فقال (:لو لم تعط إال بملكك كله ،فهل كنت تترك99ه؟ ق99ال:
نعم قال :فال تفرح بملك ال يساوى شربة ماء.
قال :فهل فهمت ما في هذه الحكمة من حكمة؟
قلت :هي واض99حة ،فنعم هللا على عب99اده ال تع99د وال تحص99ى ،وكأن99ه
يقول له :إن نعمة هللا تع9الى على العب9د فى ش9ربة م9اء عن9د العطش أعظم
من ملك األرض كلها.
قال :فنعم هللا إذن ال تعد ،وال تحصى؟
قلت :أجل ،بل قد ورد التنصيص على هذا مرتين في الق9رآن الك99ريم،
ظلُ99و ٌم َكفَّارٌ} ق99ال تع99الىَ {:و ِإ ْن َت ُعُّ 9دوا ِنعْ َمتَ هَّللا ِ ال تُحْ ُ
ص 9وهَا ِإ َّن اأْل ِ ْن َس 9انَ َل َ
(ابراهيم)34 :
قال :فلماذا تنزل نعم هللا؟
قلت :تنزل من فضل هللا وجوده ،فاهلل كريم جواد:
ضِ 99999999ل َد َج ِمي َع 99999999هُ بِالفَ ْ 999وا ُد فَجُ999و ُدهُ َع َّمالج َ َوهَُ 999و َ
َواإلحْ َس9999999999999999999999999999999999ا ِن ال ُوجُو
ان َولَ999وْ أنَّهُ ِم ْن أُ َّم ِة ال ُك ْف َ
999ر ِ 9999و ال َجَ 9999وا ُد فَال يُ َخيِّبُ َوهُ َ
َس99999999999999999999999999999999999999999ائِالً
قال :لم أسألك عن مصدر النعم ،وإنما سألتك عن علل نزولها.
160
قلت :هي تنزل لتسد حاجات الخالئق.
قال :كيف يكون ذلك؟
قلت :إن الجود اإللهي يسد فاقة الجوع باإلطعام ،كما يس99د فاق99ة ال99برد
باللباس ،كما قال في الح9ديث القدس9ي (:ي99ا عب9ادي كلكم ج9ائع إال من
أطعمت999ه فاس999تطعموني أطعمكم ،ي999ا عب999ادي كلكم ع999ار إال من كس999وته
فاستكسوني أكسكم )()1
قال :فأنت تقر إذن بأن نعم هللا ال تحصى ،وأن فضله ال يعد ،ثم ت99ذكر
بأن ذلك الفضل وتلك النعم غايتها سد حاجات الخلق.
قلت :كل هذا صحيح ،فما عالقته بفقر الخالئق؟
ق9ال :إن ه9ذا يوص9لك إلى حقيق9ة فاق9ة الخالئ9ق ،ألن9ه ل9وال حاج9اتهم
الكثيرة غير المحصورة لما نزلت النعم غير المحصورة ،والفاقة هي عين
الفقر.
البخل:
قلت :نعم فاقة الخالئ99ق ض99رورة ال ينفك99ون عنه99ا ،فم9ا بخلهم؟ وه99ل
البخل إال لمن يملك؟
قال :نعم يملكون.
قلت :كيف يملكون ..وهم فقراء ..أليس في ذلك تناقضا؟
قال :إن هللا بحكمته أعطى األغنياء بعض ما قد تمس إليه حاجة الفقير
9وليبتلي الغني بالفقير ،والفقير ب9الغني ،ألم تس9مع ق9ول الح9ق تع9الىَ {:وهُ َ
9و ُك ْم ِفي ت ِل َي ْبلَُ 9 عْض ُك ْم َف99وْ َق َب ٍ
عْض د ََر َج 9ا ٍ ض َو َر َف َع َب َ الَّ ِذي َج َع َل ُك ْم خَال ِئفَ اأْل َرْ ِ
ب َو ِإنَّهُ َل َغفُورٌ َر ِحي ٌم}(األنعام)165 :؟ َما آتَا ُك ْم ِإ َّن َربَّكَ َس ِري ُع ْال ِع َقا ِ
قلت :فما تحمل هذه اآلية من اإلشارة إلى هذا المعنى؟
قال :هذه اآلية تشير إلى الحقائق التي ينطوي عليها بخل اإلنسان.
قلت :كيف ذلك؟ ..ال أرى فيها ما تقول.
ض } ي9دل على أن َ
9و الَّ ِذي َج َع َل ُك ْم خَال ِئ9فَ اأْل رْ ِ
قال :قوله تع9الىَ {:وهُ َ
هللا تع99الى جع99ل في أي99دي بعض الن99اس م99ا يوص99لون ب99ه الفض99ل اإللهي
لعباده ،فهم خلفاء في توصيل هذا الفضل ،بدليل قوله تعالى بع9دهاَ {:و َر َفَ 9ع
ت عْض د ََر َجا ٍ عْض ُك ْم َفوْ َق َب ٍ َب َ
قلت :أي ف99اوت بينكم في األرزاق واألخالق والمحاس99ن والمس99اوي،
161
والمناظر واألشكال واأللوان ،وقد ورد مث9ل ه9ذا في الق9رآن الك9ريم ،ق9ال
يشَ 9ته ُْم ِفي ْال َح َي99ا ِة الُّ 9د ْن َيا َو َر َفعْ َن99ا َب َ
عْض9ه ُْم َف99وْ َق تع9الى {:نَحْ ُن َق َسْ 9منَا َب ْي َنه ُْم َم ِع َ
عْض9ه ُْم َبعْض9اً ُسْ 9خ ِر ّياً }(الزخ99رف 9،)32 :وق9ال: ت ِل َيتَّ ِخَ 9ذ َب ُ عْض د ََر َج 9ا ٍ
َب ٍ
َ
ت َوأ ْك َب99رُ َ عْض َو َلآْل ِخَ 9
9رةُ أ ْك َب99رُ د ََر َج 9ا ٍ عْض 9ه ُْم َع َلى َب ٍ ض 9لنَا َب َ ْ ُ
{ ا ْنظ99رْ َك ْي99فَ َف َّ
ال} (االسراء)21 : ضي ً َت ْف ِ
قال :ولكن أكثر الخالئق يحبسون هذا الفضل.
قلت :لماذا؟
ق999ال :لم999ا في طبعهم من البخ999ل ،ألم تس999مع ق999ول الح999ق تع999الى:
الش 9حَّ}(النس99اء ،)128 :فالش99ح طب99ع فيهم يغذون99ه ت اأْل َ ْنفُسُ ُّ ض َ 9ر ِ{ َوأُحْ ِ
بسلوكهم المنحرف.
قلت :ولكن لم99اذا غ99ذوا بالش99ح الفط99ري ،لم99اذا لم يغ99ذوا ب99الكريم
الفطري؟
ق99ال :ألن الك99رم ال99ذاتي من ص99فات الغ99ني ،وليس ذل99ك إال هللا ،أم99ا
الخالئ9ق فلفق9رهم وحاج9اتهم الالمتناهي99ة يخش99ون دائم9ا نف99اذ م9ا عن99دهم،
فيبخلون على الخالئق به.
قلت :والكرماء من الخلق ..كيف يكرمون؟
ق99ال :األولي99اء يكرم99ون من خ99زائن هللا ال من خ99زائنهم ،فل99ذلك ال
يعرفون البخل.
قلت :لماذا ،وما الفرق بينهم وبين سائر الناس؟
قال :ألن البخيل يبخل بما يملك ،وهم يعتقدون أنهم ال يملكون شيئا مع
هللا.
قلت :ولهذا ك9ان يق9ول (:أنف9ق ي9ا بالل وال تخش من ذي الع9رش
إقالال)()1
قال :أت9دري إلى أي ش9يء التفت رس9ول هللا عن9دما رب9ط بين ذي
العرش واإلنفاق؟
قلت :إالم؟
قال :التفت إلى عرش هللا العظيم ،فظهرت ل9ه األرض جميع9ا كش9يء
ال وجود له.
162
قلت :أجل ،فإن العلم يؤكد هذا ..فاألرض بالنسبة للكواكب والنجوم ال
تكاد تساوي شيئا..
قال :وهل اكتشفتم شيئا!؟ ..إن كل ما ذكره علماؤكم ال يعدو أن يك99ون
جزءا ضئيال من سماء الدنيا ،وأين السماء الثانية والثالثة إلى السابعة!؟
قلت :وما نسبة هذا كله إلى العرش الذي التفت إليه رسول هللا ؟
قال :إنها النس9بة ال9تي وردت به9ا النص9وص المقدس9ة ،فق9د ق9ال :
( والذي نفسي بيده ما السموات السبع واألرضون السبع عند الكرس9ي إال
كحلقة ملقاة بأرض فالة ،وإن فض99ل الع99رش على الكرس99ي كفض99ل الفالة
على تلك الحلقة )()1
قلت :وما عالقة هذا بما نحن فيه؟
ق99ال :لتع99رف به99ذا س99ر قول99ه (:أنف99ق ي99ا بالل وال تخش من ذي
العرش إقالال) ،فقد ذكر بوصفه صاحب العرش ،لي99ذكر بالال بأن99ه ال
ينفق من عنده ،وإنما ينفق من عند هللا.
قلت :وم99ا في ه99ذا من الع99زاء للفق99ير ،ومن تيئيس99ه مم99ا في أي99دي
الخالئق؟
ق99ال :في99ه الع99زاء العظيم ،ف99الفقير ال99ذي ينش99غل برؤي99ة ع99رش هللا،
وخ99زائن هللا ال يم99د ي99ده ألي أح99د من الن99اس ،ب99ل يكتفي بم99دها هلل ،فم99اذا
يساوي الخلق جميعا أمام أبسط مخلوقات هللا.
قلت :وهذا أيضا يجعل الفقير يشعر بفقر الخل99ق جميع99ا ،فال يحس99دهم
وال يسألهم ،وال يتمنى أن يحصل له ما حصل لهم ،كم99ا ق99ال تع99الىَ {:وال
عْض}(النساء)32 : ضَّل هَّللا ُ ِب ِه َب َ
عْض ُك ْم َع َلى َب ٍ َت َت َمنَّوْ ا َما َف َ
اس9أَلُوا هَّللا َ ِم ْن
قال :ألم تسمع الحق تعالى ،وهو يقول في هذه اآلي9ةَ {:و ْ
َفضْ ِل ِه}؟
قلت :بلى ،فما وجه عالقتها بالنهي عن التمني؟
قال :ألن التمني يبدأ بجحود فضل هللا ،وينتهي بتمني زوال فضل هللا،
فل99ذلك نص99حوا ب99دل الغ99رق في أودي99ة األم99اني أن يتوجه99وا إلى المعطي
والمتفضل ،فمن أعطى أوال يعطي آخرا ،ومن أعطى لفالن ال يعج99ز عن
العطاء لفالن.
قلت :فهذا إذن أكبر عالج للحسد الذي يقع من الفقراء لألغنياء.
163
قال :بل هو أكبر عالج ألمراض الطبقية االجتماعية ،فالطبقية ليس99ت
محصورة في الغنى والفقر.
ثم سكت هنيهة وقال :ليت بخلكم كان قاصرا على المال.
قلت :وهل هناك بخل أعظم من بخل المال؟
ق9ال :نعم بخلكم باالبتس9امة والبش9ر ،فإنه9ا وإن لم تش9بع بطن الفق9ير،
فإنها تطمئن قلبه ،وتخرجه من الكوابيس التي يعيشها ،ألم تسمع قوله :
( تبسمك في وجه أخيك صدقة )()1
قلت :صدقت ،فإن معاناة الفقير النفسية أخطر من معاناته المادية.
قال :فلذلك إن لم تطيقوا عالج جوعه ،فعالجوا نفسه.
قلت :والكمال في استعمال كال العالجين.
خطر على بالي حينها ما ذكره الشعراء في آداب المضيف من خدمته
ألضيافه وإظهار بسط الوجه لهم ،فقلت :يا معلم لقد ق9ال الش9عراء في ه9ذا
كالما جميال ،فهل أجزت لي ذكره؟
قال :اذكره ،فإن الحكمة أشرف من قائلها.
قلت :لقد نشر العرب في هذا مثال يقول:
فكيف بمن يأتي به وهو بشاشة وجه المرء خير من القرى
ضاحك
وقال اآلخر:
وإنا لنقري الضيف قبل نزوله ونشبعه بالبشر من وجه ضاحك
قال :لقد أشار القرآن الكريم إلى ك9ل ه9ذا ،فق9ال في خ9بر إب9راهيم
ت َف َب َّشرْ نَاهَا ِبإِ ْسَ 99حا َق عندما جاءه أضيافه من المالئكةَ {:و ْام َر َأتُهُ َقا ِئ َمةٌ َف َ
ض ِح َك ْ
وب} (هود ،)71 :فضحكها في هذا المحل ي99دل على َو ِم ْن َو َر ِاء ِإس َْحا َق َيعْ قُ َ
مدى البشر الذي القوا به أضيافهم.
ثم التفت إلى األف99ق البعي99د وص99اح من أعماق99ه هامس99ا ،أو همس من
أعماق99ه ص99ائحا (:ليت البخالء إذا خ99افوا على خ99زائنهم من الك99رم أن ال
يبخلوا بالبشر ،فهو ال يكلفهم دينارا وال درهما )
قلت :ولكنهم يخ99افون من ج99رأة الفق99راء عليهم ،فل99ذلك يعبس99ون في
وجوههم كما تعبس خزائنهم ،أو كي تعبس خزائنهم.
الظلم:
164
قال لي المعلم :أتعلم الصفة الثالثة التي ترفع أملك عن الخل99ق لتوجه99ه
إلى هللا؟
قلت :إنها الظلم ،لقد ذكرت لي ذلك ،ولكنها ص99فة الجب99ابرة ،وق99ل من
أراه يتصف بها.
ق99ال :ومن ق99ال ذل99ك؟ ألم يق99ل هللا تع99الى يص99ف البش99ر جميع99اِ {:إنَّا
ال َف9أَ َب ْينَ َأ ْن َيحْ ِم ْل َن َه9ا َو َأ ْشَ 9ف ْقنَض َو ْال ِج َب ِت َواأْل َرْ ِ ع ََرضْ نَا اأْل َ َما َن َة َع َلى ال َّس َم َ
اوا ِ
ال}(األحزاب)72 : ظلُوماً َجهُو ً ِم ْن َها َو َح َم َل َها اأْل ِ ْن َس ُ
ان ِإنَّهُ َكانَ َ
ثم التفت إلي ،وقال :أتدري ما الظلم ال9ذي وص9ف ب9ه البش9ر في ه9ذه
اآلية؟
قلت :هو ما قاله المفسرون من أنه وضع األشياء في غير مواضعها.
قال :كيف ذلك؟
قلت :كوضع القسوة بدل الرحم9ة ،واإلس9اءة ب9دل اإلحس9ان ،والجف9اء
بدل اللطف ،والعبوس بدل االبتسامة.
قال :فكيف يعامل أغنياء قومك فقراءهم؟
قلت :هناك من يكرمهم ،وهناك من يقهرهم.
قال :ومن يقهرهم ،كيف يقهرهم؟
قلت :بحرمانهم من حقهم.
قال :وبأخذ حقهم ،فلوال قه99ر األغني99اء وجش99عهم م99ا وق99ع الفق99راء في
مستنقعات الفقر؟
قلت :كيف ذلك؟
ق9ال :ل9و علم األغني9اء أن ه9ذا ال9رزق ال9ذي خلق9ه هللا خلق9ه للجمي9ع،
وعلموا أنهم فرد من ذلك الجميع أو أفراد من ذلك الجميع لم يستأثروا بنعم
هللا دون خلق هللا.
ثم التفت إلي ،وقال :أرأيت لو أن شخصا دعاك إلى وليمة ،ودع99ا له99ا
جمعا من الناس ،وكانت لك مالعق كثيرة تستطيع أن تنهب بها أك9بر ق9در
من الطعام ،أكنت تحضر معك تلك المالعق لتأك9ل بي9ديك جميع9ا ،ف9إن لم
تك99ف ي99داك لالس99تيالء على ذل99ك الطع99ام ،مألت من األواني م99ا ي99دع
المدعوين لشر المسغبة.
قلت :ال يمكن هذا ،وال أظن عاقال يفعل هذا.
قال :ولكنكم تفعلونه ،وتصرون على فعله ،بل وتبررونه.
165
قلت :كيف ذلك ،فأنا لم أر من يفعل هذا؟
قال :ما دور الملعقة في الطعام؟
قلت :هي وسيلة الطعام ،بها نوصل الطعام إلى أفواهنا؟
قال :وما التجارة والصناعة والفالحة؟
قلت :هي وسيلة ال9رزق ،فب9دونها ال يحض9ر الطع9ام ،كم9ا أن9ه ب9دون
المالعق ال يصل إلى األفواه.
قال :فم99ا الف99رق بين اس99تئثار األغني99اء بوس99ائل الكس99ب ،واس99تئثارهم
بالمالعق؟
قلت :ف99رق كب99ير ج99دا ،ف99المالعق يمكن أن يس99تعملها الغ99ني والفق99ير
والصبي والشيخ ،بينما وس9ائل الكس9ب ال يمكن أن يس9تعملها غ9ير من ل9ه
قدرات كبيرة في اإلدارة والتسيير ،باإلضافة إلى الصبر والمجاهدة.
قال :هذا صحح ،ولهذا خل9ق هللا األغني9اء والفق9راء ،ولكن ه9ل يص9ح
للغني الذي مكنه هللا من هذه الوسائل أن يستأثر بمنافعه9ا ب99دعوى أن99ه ه99و
المجتهد ،وهم الكسالى ،أو أنه هو الذكي وغيره بلداء.
قلت :ال ،وإال صار كق9ارون لم9ا ق9الِ {:إنَّ َم9ا أُو ِتيتُ9هُ َع َلى ِع ْل ٍم ِع ْنِ 9دي}
(القصص)78 :
قال :فعد إلى الثروات التي ينعم بها قومك ،وأخ99برني :ل99و أن خ9يرات
تلك الثروات وصلت الفقراء ،من دون أن نحرم األغنياء م99ا يملك99ون ه99ل
يبقى فقير واحد؟
قلت :ال ،فالثروة التي ينعم بها أفراد محدودون في العالم يمكنها تغطية
حاجيات الماليين من البشر إن لم نقل مالييرهم.
ق99ال :فاألغني99اء إذن لم يكتف99وا بحرم99ان الفق99راء ،ب99ل اس99تولوا على
طعامهم الذي أعد لهم في دار الضيافة اإللهية.
ثم التفت إلي وقال :ما نسبة هذا النوع من األغنياء من مجموعهم؟
قلت :هي نسبة عالية جدا.
قال :وال بد إن تكون عالية ،ول99و لم تكن عالي99ة لم99ا ظه99ر في األرض
فقير واحد.
قلت :ولكنهم ي99بررون ذل99ك ت99بريرات مختلف99ة بعض99ها يس99تند ألحك99ام
شرعية.
قال :هي ت9بريرات ال تختل9ف في كث9ير أو قلي9ل عن ت9يريرات س9لفهم
166
ي99ل َله ُْم َأ ْن ِفقُ99وا ِم َّما َرزَ َق ُك ُم هَّللا ُ َق َ
99ال الَّ ِذينَ األول ال99ذين ق99ال هللا فيهمَ {:و ِإ َذا ِق َ
ين} الل ُم ِب ٍ
ضٍ 9 ط َع َم 9هُ ِإ ْن َأ ْنتُ ْم ِإاَّل ِفي َ ط ِع ُم َم ْن َلوْ َي َشا ُء هَّللا ُ َأ ْ
َك َفرُوا ِللَّ ِذينَ آ َمنُوا َأنُ ْ
(يّـس)47 :
ثم التفت إلي ،وقال :ومن يكرمهم ،كيف يكرمهم؟
قلت :يختلف99ون ،منهم من يك99رمهم لوج99ه هللا ،كم99ا ق99ال تع99الىِ {:إنَّ َم99ا
ط ِع ُم ُك ْم ِل َوجْ ِه هَّللا ِ ال نُ ِري ُد ِم ْن ُك ْم َجزَا ًء َوال ُش ُ 9كوراً}(االنس99ان ،)9 :ومنهم من نُ ْ
يكرمهم لغير وجهه يبتغي بذلك قصائد تمدحه ،أو ثناء ينشر عليه.
قال :فتلك اآليات التي ذكرتها فيمن نزلت؟
قلت :في فئة محدودة من هذه األمة.
قال :وما نسبة تكرر هذه الثلة؟
قلت :أم99ا المقرب99ون ،فهم ثل99ة قليل99ة ،كم99ا ق99ال تع99الىَ {:و َق ِلي99لٌ ِمنَ
اآْل ِخ ِرينَ }(الواقعة ،)14 :وأما غيرهم ،فكثير بحمد هللا.
قال :فما نسبتهم في كل واقع؟
قلت :قليلة.
ق999ال :أنتم تتع999املون بمنط999ق النس999ب ،فتتف999اءلون للنس999ب العالي999ة،
وتتش9اءمون من النس9ب الض9عيفة ،فه99ل ه9ذه النس99بة تس99تدعي التف99اؤل أم
التشاؤم؟
قلت :التشاؤم ..فنسبة هؤالء ال تكاد تذكر ،بل لو كان في كل أل99ف من
األمة رجل من أمثال هؤالء الرتفعت األمة إلى آفاق عالية من الكمال.
قال :كيف؟
قلت :لو كان في كل ألف منا واحد من أولئك السابقين ،لصار في ك99ل
مليون ألفا ،وفي كل مليار مليونا ،ونحن اآلن نتجاوز المليار ،وال أظن أن
فينا مليونا من أولئك.
قال :فنلفرض صحة هذه النس9بة ال9تي ذكرته9ا ،فكم فيه9ا من األغني9اء
الذين يسمح لهم غناهم بالكرم األصيل العالي؟
قلت :نسبة قليلة هي األخرى ،ال تكاد تذكر.
ق99ال :ف99دعنا من ه99ؤالء إذن ،فال يمكن أن تتعل99ق القل99وب بمث99ل ه99ذه
النسب الضعيفة ..فأخبرني ،كيف يكرم كرماؤكم؟
قلت :يعطون المحتاجين؟
قال :وهل يبحث99ون عن المحت99اجين فيعط99وهم ،أم يم99دون أي99ديهم لك99ل
167
سائل؟
قلت :في العادة يمدون أيديهم لمن يسألهم.
قال :ولو كان من يسألهم ال يستحق العطاء.
قلت :يقول9ون :المهم أن أجرن9ا ق9د وص9ل بغض النظ9ر عمن نعطي9ه،
وربم99ا يتس99دلون بم99ا روي عن أبي يزي99د معن بن يزي99د بن األخنس ق99ال:
كان أبي يزيد أخرج دنانير يتصدق به9ا فوض9عها عن9د رج9ل في المس9جد
ال :وهَّللا ما إي99اك أردت! فخاص99مته ِإ َلى َر ُس 9ول فجئت فأخذتها فأتيته بها ف َق َ
هّللا ِ فقال (:لك ما نويت يا يزيد ولك ما أخذت يا معن )()1
قال :أنت تسيئون فهم أحاديث المصطفى .
قلت :كيف نسيء فهمها ،وظاهرها صريح؟
قال :لقد وضع األب صدقته في المسجد ليناله99ا المس99تحق ،فج9اء ابن99ه
وأخذها ال بسبب كونه ابنا له ،وإنما لكونه من المستحقين ،فلذلك أخبر
بقيول صدقة يزيد ،وحل ما أخذه معن.
َّ ْ
قلت :وله99ذا أرش99د هللا إلى المس99تحقين للزك99اة بقولهِ {:للفُ َق َ
99ر ِاء ال ِذينَ
ض َيحْ َس9بُهُ ُم ْال َجا ِه99لُ ض9رْ باً ِفي اأْل َرْ ِ يل هَّللا ِ ال َي ْس9ت َِطيعُونَ َ ص9رُوا ِفي َسِ 9ب ِ أُحْ ِ
اس ِإ ْل َحافاً َو َما تُ ْن ِفقُوا ِم ْن خَ ي ٍْر
َعْرفُه ُْم ِب ِسي َماهُ ْم ال َيسْأَلونَ النَّ َ
فت ِ َأ ْغ ِن َيا َء ِمنَ التَّ َع ُّف ِ
َفإِ َّن هَّللا َ ِب ِه َع ِلي ٌم}(البقرة)273 :
قال :دعنا من هذا ،فله99ذا محل99ه الخ99اص ،ولنع99د للظلم ال99ذي يق99ع في99ه
الكرماء.
قلت :لق99د تح99دثنا عن الظلم ال99ذي يجع99ل الك99رم موض99وعا في غ99ير
موضعه ،وبالتالي ال يحقق الغرض المقصود منه.
قال :وهناك ظلم أشنع منه.
قلت :أشنع منه ..ما هو؟
قال :أرأيت لو زرت طبيب9ا ليع9الج جرح9ا طفيف9ا أص9ابك ،فأخ9ذ ه9ذا
الجراح أدواته فداوى جرحك..
بادرته ،قائال :أشكره جزيل الشكر ،وأعطيه جزاءه على خدمته.
قال :لكنه لم يطلب جزاء ماديا على ذلك ،ب9ل جع9ل ج9زاءه أن يمس9ك
سكينه ويضع في قلبك جرحا بدل الجرح الذي في يدك.
قلت :أقاتل9ه إن هم ب9ذلك ،ف9إني أرض9ى أن تج9رح ي9داي جميع9ا ،ب9ل
) )(1البخاري.
168
جميع أط9رافي ،وال أرض9ى أن يج9رح قل9بي ،فه9و المح9رك ال9ذي يض9خ
الحياة ألعضائي وأجهزتي.
قال :وهكذا يفع9ل المتك9رم ال9ذي يض9ع بعض فض9الته في ي9د ه9ؤالء
المساكين ،ثم يمسك سكينه ،ويقطع قلوبهم إربا إربا.
قلت :فهمت قص999دك ،أنت تري999د المن واألذى ال999ذي يتعام999ل ب999ه
المكرمون مع المساكين.
ق9ال :نعم ،ف9إن المن أخط9ر من الفق9ر ،ف9المن يص9يب ال9روح والقلب
والحقيقة اإلنسانية ،بينما الفقر ال يصيب إال بعض أجزائك الظاهرة.
قلت :ذلك صحيح ،فقد اشتد القرآن الكريم في النهي عن كل ما يؤذي
الفقير.
قال :ألن هللا تعالى الرحيم يعلم دخيلة الفقير ،فهو ال يش99كو من الج99وع
بقدر ما يشكوا من الحرمان النفسي واالجتماعي.
قلت :ولهذا اعتبر هللا تعالى القول المعروف والكلمة الطيبة ال9تي تق9ال
للفقير تطمينا له واحتراما لشخصه أفض99ل من الص99دقة ال99تي يتبعه99ا أذى،
صَ 9د َق ٍة َي ْت َب ُع َه9ا َأذىً َوهَّللا ُ َغ ِن ٌّي 9رةٌ خَ يْ9رٌ ِم ْن َ عْ9رُوف َو َم ْغ ِف َ
ٌ قال تع9الىَ {:ق9وْ لٌ َم
َح ِلي ٌم}(البقرة)263 :
ق999ال :وله999ذا نهى هللا تع999الى عن المن واألذى ،واعت999بره محبط999ا
ص َد َقا ِت ُك ْم ِب ْال َمنِّ َواأْل َ َذى َكالَّ ِذي للصدقات ،فقالَ {:يا َأ ُّي َها الَّ ِذينَ آ َمنُوا ال تُب ِْطلُوا َ
ان َع َليِْ 9ه صْ 9ف َو ٍ 9ل َاس َوال ي ُْؤ ِم ُن ِباهَّلل ِ َو ْال َيوْ ِم اآْل ِخ ِر َف َم َثلُ9هُ َك َم َث ِ
ق َما َلهُ ِرئَا َء النَّ ِ يُ ْن ِف ُ
صْ 9لداً ال َي ْقِ 9درُونَ َع َلى َشْ 9ي ٍء ِم َّما َك َس9بُوا َوهَّللا ُ ال صا َبهُ َوا ِب9لٌ َفت ََر َك 9هُ َتُ َرابٌ َفأَ َ
َي ْه ِدي ْال َقوْ َم ْال َكا ِف ِرينَ }(البقرة)264 :
قلت :لقد ش9به هللا تع9الى ص9دقاتهم ب9التراب ال9ذي يك9ون على ص9خر
أملس ،يراه الناس ترابا غنيا ،ولكن مطر األذى إذا نزل عليه ترك99ه أملس
يابس9اً ،ال ش9يء علي9ه من ذل9ك ال9تراب ..وك9ذلك أعم9ال الم9رائين ت9ذهب
وتضمحل عند هّللا ،وإن ظهر لهم أعمال فيما يرى الناس كالتراب.
9و ُّد َأ َحُ 9د ُك ْم َأ ْن َت ُك99ونَ َل9هُ َجنَّةٌ ِم ْن قال :وشبه هللا مآل أعمالهم ،فق99الَ {:أ َيَ 9
صا َبهُ ْال ِك َبرُت َو َأ َ
ب تَجْ ِري ِم ْن تَحْ ِت َها اأْل َ ْن َهارُ َلهُ ِفي َها ِم ْن ُكلِّ الثَّ َم َرا ِ يل َو َأ ْعنَا ٍن َِخ ٍ
تت َك َذ ِلكَ يُ َبي ُِّن هَّللا ُ َل ُك ُم اآْل يا ِ صارٌ ِفي ِه نَارٌ َفاحْ ت ََر َق ْ صا َب َها ِإ ْع ََو َلهُ ُذرِّ يَّةٌ ضُ َع َفا ُء َفأَ َ
َل َعلَّ ُك ْم َت َت َف َّكرُونَ }(البقرة)266 :
ال ،ثم ينعكس قلت :هذا مثل ضربه القرآن الكريم لمن يحسن العم9ل أو ً
169
سيره فيبدل الحسنات بالسيئات ،فيبطل بعمل99ه الث99اني م99ا أس99لفه من العم99ل
الصالح ،فيخونه سلوكه هذا أحوج ما يكون إليه.
العجز:
قال :أتعلم الصفة الرابعة التي ترفع أملك عن الخلق لتوجهه إلى هللا؟
قلت :إنها العج9ز ،لق9د ذك9رت لي ذل9ك ،ولكنه9ا ص9فة المستض9عفين،
وهي بالفقراء ألص9ق ،فهم إن لم يقع9د بهم عج9ز ق9واهم الص9حي قع9د بهم
عجز جيوبهم ،فعيونهم بصيرة وجيوبهم قصيرة.
قال :بل الخلق كلهم عاجزون ،ال ينفعون وال يضرون ألم تس9مع قول9ه
لبعض أص99حابه (:ي99ا غالم إني أعلم99ك كلم99ات :احف99ظ هللا يحفظ99ك،
احفظ هللا تجده تجاه99ك ،إذا س99ألت فاس99أل هللا ،وإذا اس99تعنت فاس99تعن باهلل،
واعلم أن األمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إال بشيء ق99د
كتبه هللا لك ،وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يض99روك إال بش99يء
قد كتبه هللا عليك ،رفعت األقالم وجفت الصحف )()1
قلت :لقد قرأت الحديث وحفظته.
قال :ليس الشأن أن تحفظه ،ولكن الشأن أن تعيشه.
قلت :فكيف أعيشه؟
قال :تقرر معانيه في قلبك ،لتنتقل من كونه9ا علم99ا إلى كونه9ا حقيق9ة،
ومن كونها حقيقة إلى كونها معرفة.
قلت :فما الفرق بين كونها علما وكونها معرفة؟
قال :كالفرق بين رؤيتك للنار ولمسك لها.
قلت :فرق كبير ..فأنا أتمتع برؤية النار ،ولكني ال أطيق لمسها.
قال :فكذلك أنت تفهم عجز الخالئق ،ولكن ال تطي99ق االس99تغناء عنهم،
فلذلك تمد يدك ،بل يداك إليهم كل حين.
قلت :فكيف أعلم عجز الخالئق؟
قال :بأن تقارن قواهم بقوى غيرهم.
قلت :كيف ذلك؟
قال :كيف تعلم عجز المصارع؟
قلت :إذا صرعه من هو أقوى منه.
قال :أفيمكن للذي صرع أمامك أن يتيه عليك بقوته؟
170
قلت :ال ..بل إنه سيستحي من إظهار قوته ،ألنها ستنطق بعجزه.
قال :فقارن قوة الخلق ال99تي ي99تيهون به99ا ،ويتص99ورون أن لهم الق99درة
على مصارعة الكون بها بما تراه من مظاهر القوة في الكون.
قلت :إن عقلي ليتيه عندما يحاول إجراء مثل هذه المقارنة ،إن الك99ون
أعرض بكثير ،واإلنسان أضعف بكثير ..إنه يسحق سحقا.
قال :ومع ذلك ظهر فيكم من يدعي القوة التي يستعلي بها على هللا.
قلت :أجل ..وقد قص علينا الق9رآن الك9ريم نم9اذج من ذل9ك ،ف9ذكر
ق َوقَ99الُوا ض بِ َغي ِْر ْال َح ِّنموذج عاد ،فقال {:فَأ َ َّما عَا ٌد فَا ْستَ ْكبَرُوا فِي اأْل َرْ ِ
َم ْن أَ َش ُّد ِمنَّا قُ َّوةً أَ َولَ ْم يَ َروْ ا أَ َّن هَّللا َ الَّ ِذي َخلَقَهُ ْم هُ َو أَ َش ُّد ِم ْنهُ ْم قَُّ 9وةً َو َك99انُوا
بِآيَاتِنَا يَجْ َح ُدونَ (فصلت)159:
قال :وهل هناك خلفاء لعاد؟
قلت :هن99اك ثم99ود ،وفرع99ون ،والق99رى الكث99يرة ال99تي أش99ار إليه99ا
القرآن الكريم من غير أن يسميها.
قال :فما كان جزاؤها؟
قلت :هلكوا ،ولم تنفعهم قواهم ال99تي ت99اهوا به99ا على هللا ،كم99ا ق99ال
9وااًل َوأَوْ اَل دًا تع99الىَ {:كالَّ ِذينَ ِم ْن قَ ْبلِ ُك ْم َك99انُوا أَ َش َّ 9د ِم ْن ُك ْم قُ َّ 9وةً َوأَ ْكثَ َ 9ر أَ ْمَ 9
اس999تَ ْمتَ َع الَّ ِذينَ ِم ْن قَ ْبلِ ُك ْم اس999تَ ْمتَ ْعتُ ْم بِخَ اَل قِ ُك ْم َك َم999ا ْ
اس999تَ ْمتَعُوا بِخَاَل قِ ِه ْم فَ ْ
فَ ْ
ت أَ ْع َم99الُهُ ْم فِي الُّ 99د ْنيَا ك َحبِطَ ْ اض99وا أُوْ لَئَِ 99 ض99تُ ْم َكالَّ ِذي َخ ُ بِخَاَل قِ ِه ْم َو ُخ ْ
اسرُونَ }(التوبة)699: َواآْل ِخ َر ِة َوأُوْ لَئِكَ هُ ْم ْال َخ ِ
قال :ولكنكم ال تزالون تسيرون على خطاهم.
قلت :ذلك صحيح ،فال زلنا نتيه بالقوة ،ونخ99اف من األقوي99اء ،ب99ل
نس99مي الش99عوب ال99تي تض99خمت عض99التها بم99ا تملك99ه من أس99لحة بـ
( القوى العظمى )
قال :وأنتم ماذا تسمون؟
قلت :الشعوب المستضعفة.
قال :وتمدون أيدكم إليها.
قلت :نم99د أي99دينا إليهم بثرواتن99ا ،ويم99دون أي99ديهم إلين99ا بم99ا يش99بع
بطوننا.
قال :فاخرجوا من ضعفكم وعجزكم.
قلت :ال نمل99ك أس99لحة نووي99ة وال جرثومي99ة وال مص99انع جب99ارة
171
كمصانعهم.
قال :تخرجون من ذلك باالعتماد على ق99وة هللا ،وباعتق99اد عج99زهم
وفاقتهم وحاجتهم وضعفهم ..أال تسمع القرآن الكريم؟
قلت :بلى ..أسمعه من مقرئين يحركون الجبال بترانيمهم.
قال :اسمعه ممن يحرك روحك ،ال ممن يحرك الجبال.
قلت :ما تقصد؟
قال :لقد ضرب هللا لكم أمثاال عن الذين يستعبدونكم من دون هللا.
قلت :ما هي؟
قال :الذباب والعنكبوت.
ض99حكت وقلت :أه99ذه الق99وى العظمى ذب99اب وعن99اكب؟ ..أنت ال
تعرفها.
اس 9تَ ِمعُوا لَ 9هُ إِ َّنب َمثَ ٌل فَ ْ قال :اسمع قوله تعالى {:يَا أَيُّهَا النَّاسُ ض ِ
ُر َ
ون هَّللا ِ لَ ْن يَ ْخلُقُوا ُذبَابا ً َولَ ِو اجْ تَ َمعُوا لَ 9هُ َوإِ ْن يَ ْس 9لُ ْبهُ ُم
الَّ ِذينَ تَ ْد ُعونَ ِم ْن ُد ِ
طلُ9وبُ }(الحج،)739: ض9عُفَ الطَّالِبُ َو ْال َم ْ ال ُّذبَابُ َشيْئا ً ال يَ ْستَ ْنقِ ُذوهُ ِم ْن9هُ َ
توقوله تعالىَ {:مثَُ 9ل الَّ ِذينَ اتَّخَُ 9ذوا ِم ْن ُدو ِن هَّللا ِ أَوْ لِيَ99ا َء َك َمثَِ 9ل ْال َع ْن َكبُ99و ِ
ت لَ99وْ َك99انُوا يَ ْعلَ ُم99ونَ } ْت ْال َع ْن َكبُ99و ِ ت بَيْت 9ا ً َوإِ َّن أَوْ هَنَ ْالبُيُ99و ِ
ت لَبَي ُ اتَّ َخَ 9ذ ْ
(العنكبوت)41:
قلت :قرأت كال اآليتين ،ويقرؤهما جمي99ع الن99اس ،فم99ا ال99ذي يمكن
أن أسمعه منهما؟
قال :أما اآلي99ة األولى ،فاهلل تع99الى يتح99دى فيه99ا ق99واكم العظمى أن
تخلق ذبابة واحدة ،بل يتحداهم فيما هو دون ذل99ك أن يس99تنقذوا الطع99ام
الذي يسلبهم الذباب إياه.
قلت :ص9دقت في ه9ذا ..والعلم الح9ديث يق9ر ب9ذلك ..فم9ا إش9ارة اآلي9ة
الثانية؟
قال :إن البيوت التي تعتصمون بها أو تخافون منها ال تعدوا أن تك99ون
خيوط بيت عنكبوت ،فهل رأيت أوهن منها؟
قلت :ال ..إن بيته9ا ال9ذي تتفنن في بنائ9ه س9رعان م9ا يته9دم ب9داخل أو
بخارج ..وهي لغبائها ال تختار إال المداخل أو المخارج.
قال :وأنتم ال تختلفون عنها ،فإن قواكم التي منحكم هللا ال تضعونها إال
في المواطن التي تصيبكم بالهلكة.
172
قلت :كيف؟
قال :أنتم ال تستعملوها لترحموا المستض9عفين ،ب99ل لتقتل9وهم وتقض99وا
عليهم ،وتتفننون في ذلك أكثر من تفنن العناكب في صناعة بيوتها.
قلت :ولكن خيوط العناكب واهية.
قال :وخيوطكم أوهى ،ولكن الزمن الذي تتوهمون99ه ه99و ال99ذي يح99ول
بينكم وبين رؤية خيوطكم وهي تتقطع خيطا خيطا.
قلت :فكيف أتخلص من خي9وط العنكب9وت ال9تي أرتب9ط به9ا ،ويرتب9ط
الضعفاء بها؟
قال :بأن تعلم بأنها خيوط عنكبوت.
قلت :كيف؟
قال :أرأيت لو وقعت في البح9ر ،وح9ام ب9ك الم9وت ليلتهم9ك ،ف9رأيت
حبال متينا مرتبطا بسفينة ضخمة فيها كل وسائل اإلنقاذ ،أكنت تتعلق بذلك
الحبل الذي يوصلك إلى سفينة النجاة ،أم تتعلق بخيوط عنكبوت تراه99ا من
بعيد كما يرى الظمآن السراب؟
قلت :أحمق أنا إن التجأت لخيوط العنكبوت ،وتركت سفينة النجاة.
قال :وحمقى أنتم عندما تتعلقون باأليدي الفقيرة العاجزة وت99تركون ي99د
هللا الممدودة إليكم.
قلت :نعم ..لقد أدركت مدى ما نقع فيه من جهل عندما نرى الخلق وال
نرى هللا ،ونرى الخي9وط الواهي9ة ال9تي يم9دنا به9ا الخل9ق أو يغرونن9ا به9ا،
وننسى حبال هللا الممدودة إلينا.
األمل فيه :
ص99عدت طابق99ا آخ99ر في قص99ر االس99تعفاف ،ووقفت م99ع المعلم أم99ام
الجوهرة الثالثة من ج9واهره ،فس9ألت المرش9د عنه9ا ،فق9ال :ه9ذه ج9وهرة
نفيسة اسمها ( األمل فيه) من حازها حيزت له ال99دنيا بح99ذافيرها ،ب99ل ك99ل
شي بحذافيره.
ابتس99مت في نفس99ي من ه99ذه األس99ماء الغريب99ة ،ثم التفت إلى المعلم
ليشرح لي حقائقها.
نظر إلي المعلم ،وقال :هذه الجوهرة النفيسة لم تكن لتصل إليها ،لو لم
تنل الجوهرتين السابقتين.
قلت :لم؟
173
قال :ألم تقرأ ما ورد في بعض الكتب اإللهي9ة من أن هللا تع9الى يق9ول:
( وعزتي وجاللي ألقطعن أمل كل مؤمل غيري بالي9اس ،وأللبس9نه ث9وب
المذلة عن9د الن9اس ،وألخيبن9ه من ق9ربي وألبعدن9ه من وص9لي ،وألجعلن9ه
متفكرا حيران يؤمل غيري في الشدائد ،والشدائد بيدي ،وأنا الحي القي99وم،
ويرجو غيري ويطرق بالفكر أبواب غيري ،وبيدي مفاتيح األبواب ،وهي
مغلقة ،وبابي مفتوح لمن دعاني )
قلت :أنا ال أومن إال بما في كتاب99ه الخ99اتم وس99نة نبي99ه الص99حيحة ،أم99ا
سائر الكتب ،فقد عراها التحريف ،وال آمن كثيرا مما فيها.
قال :ألم تقرأ قوله في األثر اإللهي الص9حيح (:ق9ال هللا تع9الى :أن9ا
أغنى الشركاء عن الشرك ،من عمل عمال أشرك فيه معي غ99يري تركت99ه
وشركه )()1
قلت :بلى ،قرأته كثيرا ،وما أكثر ما خفت منه ،فم9ا وج9ه اإلش9ارة في
هذا.
ق99ال :األم99ل ه99و مفت99اح الطلب ،والطلب ه99و عن99وان االس99تعانة،
واالستعانة ال تكون إال به ،فلذلك من وضع أمله في الخلق وكل99ه هللا إليهم،
فإذا رفع يده عنهم وجد هللا أقرب إليه من نفسه.
قلت :نعم ،فهمت99ه ،لك99أني ب99ك ت99ذكرني بق99ول ابن عط99اء هللا (:كم99ا ال
يحب العمل المشترك ،كذلك ال يحب القلب المش9ترك ،العم9ل المش9ترك ال
يقبله ،والقلب المشترك ال يقبل عليه )
قال :بل أقصد ما ورد في القرآن الكريم ،وفي أم الكتاب ،السورة التي
اختزنت الحقائق.
ين}(الفاتحة)5: قلت :تقصد قوله تعالىِ {:إيَّاكَ نَعْ بُ ُد َو ِإيَّاكَ َن ْست َِع ُ
قال :ال ،بل أقصد السورة جميعا ،فما قبلها مق9دمات لم9ا ذك9رت ،وم9ا
بعدها متممات لها ،ألم تسمع قول علي (:لو ش9ئت ألوق9رت س9بعين بع9يرا
من تفسير فاتحة الكتاب )
قلت :صدقت ..فما هي الحقائق األربعة التي تنشر األمل في قلبي في
هللا ،فال أرى سواه ،وال أعتمد على غيره؟
قال :وما أدراك أنها أربعة.
قلت :عهدي بك تجعل األمور كلها أربعة.
) )(1مسلم.
174
ضحك ،وقال :أن9ا ال أجعله99ا ،ب9ل هي ك9ذلك ،أال ت9رى ج99دران بيت99ك
األربع؟
قلت :فاذكر لي جدران األمل في هللا األربع.
قال :الغنى والكرم والقرب واإلجابة.
قلت :فما وجه الحصر فيها؟
قال :ال يمكنك أن تأمل في فقير ،فالفقير يطلب منك ،ومن ك99ان يطلب
منك ال تطلب منه.
قلت :فالكرم؟
قال :ق9د يك9ون الغ9ني بخيال ،ال يص9يبك نوال9ه ،وال تمت9د إلي9ه أعن9اق
طمعك.
قلت :فالقرب؟
قال :قد يك99ون كريم99ا ،ولكن9ه بعي9د عن9ك ،تحب99ه وتعجب من س99يرته،
ولكن نواله يظل بعيدا بقدر بعده عنك.
قلت :فاإلجابة.
قال :قد يكون كريما وغنيا وقريبا ،ولكنه ال يلتفت إلي99ك وال يهتم ب99ك،
فمشاغله أكثر من أن تنحصر فيك.
قلت :فعلمني من الحكمة ما يقرر هذه الحقائق في نفسي.
قال :هذه الحكمة تتصل باهلل ،فالبس لها لباسها ،وأحرم لها إحرامها.
قلت :وما لباسها؟
قال :األدب ،فمن لم يتأدب عند الباب ،رد إلى سياسة الدواب.
قلت :وما إحرامها؟
قال :أن تحرم على قلبك االلتفات لغيره أو النظر لسواه ،ألم تسمع ثناء
هللا تعالى على أدب نبيه أم99ام الحض99رة اإللهي99ة ،حيث ق99الَ {:م99ا زَا َغ
طغَى}(لنجم)17 :؟ ْال َب َ
صرُ َو َما َ
الغنى:
قلت :علمت فقرهم ،فحدثني عن غناه.
قال :ال تطيقه.
قلت :فقرب لي.
قال :ما هي الوسائل التي يغتني بها قومك؟
قلت :يختلفون ،فمنهم من تدر عليه التجارة بشآبيب ال99ربح ،ومنهم من
175
تدر عليه الفالحة ،ومنهم من يكون حظه في الص99ناعة ..ومنهم من يك99ون
حظه في تجارة السالح ..ومنهم المخدارت ..ومنهم..
قال :فكم تدر عليهم؟
قلت :بالماليين أو بالماليير ،بحسب نشاطهم واجتهادهم.
قال :فلو أن أحدا منهم ملك طلسما بحيث ال يتعب نفسه في تج99ارة وال
صناعة وال شيء من ذلك ،بل يكتفي أن يذكر الشيء ،فيكون أمامه.
قلت :يبزهم بغناه ،بل يملكهم بغناه.
قال :فإذا ملك وسائل إنتاجهم بغناه.
قلت :يح99ولهم خ99دما لباب99ه ،ب99ل يتحول99ون فق99راء بين يدي99ه يس99تجدون
طلسمه كما يستجديهم الشحاذون.
قال :فإذا لم يملكهم فقط ،بل ملك الكواكب جميعا ،بل الس99ماء جميع99ا..
بل الكون جميعا ،ومع ذلك ال يفتقر إلى شيء منها.
قلت :ذلك هو الغني المحض.
َ
ضى أ ْمراً َفإِنَّ َم99اض َو ِإ َذا َق َ َ
ت َواأْل رْ ِ اوا ِ قال :ذلك هو هللا ،فإنه { َب ِدي ُع ال َّس َم َ
9ول َل9هُ ُك ْن ون}(البقرةِ {)117 :إنَّ َما َأ ْم9رُ هُ ِإ َذا َأ َرا َد َش9يْئاً َأ ْن َيقُ َ َيقُولُ َلهُ ُك ْن َف َي ُك ُ
ون}(يّـس)82 : َف َي ُك ُ
ثم التفت إلي ،وقال :فمن كان مدد خزائنه قوله { كن } أتنفذ خزائنه؟
قلت :ال ،فما أسرع أن يمألها إن نفذت.
ق99ال :أخ99برني عن خ99زائن قوم99ك ال99تي ي99تيهون به99ا ،وال99تي تجعلكم
تستجدونها.
قلت :فيها الذهب والجواهر الكريمة ..وفيها األرزاق المختلفة وأن99واع
المآكل والمشارب ..وفيها بعض أنواع المتع الطيبة والخبيثة ..وفيها بعض
األدوية التي تخفف اآلالم أو تقهرها.
قال :وهل فيها السكينة؟
قلت :دعهم أوال يجدوها ،فليس في األرض عقار صالح لتحقيقها.
قال :فهل فيها الخلود؟
قلت :ذلك حلم ،ما أجمله لو تحق99ق ،ولكن البش99ر يئس99وا من99ه ،ف99اكتفوا
بالتنعم بما عندهم من أنواع النعيم الزائل.
قال :فهل فيها الشباب الدائم؟
قلت :ال ،فذلك إكسير أحمر ،ما أسرع ما تهب عليه رياح الخريف.
176
قال :فهل فيها األمن الدائم والنعيم المقيم..؟
قلت :ما شأنك يما معلمي ..أراك مغرما بما ال يكون.
قال :فلماذا تتعلقون بالخزائن الخاوية التي تض99عون فيه99ا بعض اللعب
التي ال تختلف عن لعب األطفال.
قلت :لعب األطفال!
قال :نعم ما الفرق بين لعبكم ولعب األطفال ..األطفال يشتغلون بلعبهم
وقت الصبا ،وأنتم تشتغلون بها في ربيع العمر وخريفه.
قلت :فهل توجد خزائن تحوي الكنوز التي ذكرتها؟
ق99ال :نعم ..إنه99ا خ99زائن الغ99ني الحقيقي ،خ99زائن هللا ،ألم تس99مع قول99ه
9وم}(الحج99ر: تعالىَ {:و ِإ ْن ِم ْن َش ْي ٍء ِإاَّل ِع ْن َدنَا خَزَا ِئنُهُ َو َما نُن َِّزلُهُ ِإاَّل ِب َقد ٍَر َمعْ لٍُ 9
ب} 9ز ْال َوهَّا ِ ،)21ألم تسمع قوله تعالىَ {:أ ْم ِع ْن َدهُ ْم خَزَا ِئ ُن َرحْ َم ِة َربِّكَ ْال َع ِزيِ 9
(صّ ،)9 :فقد جعل للرحمة خزائن خاصة بها.
قلت :فأين هذه الخزائن؟
ض }(المنافقون)7 : َ
ت َواأْل رْ ِ اوا ِقالَ { :وهَّلِل ِ خَزَا ِئ ُن ال َّس َم َ
قلت :فمن يملك مفاتيح هذه الخزائن؟
قال :خزائن هللا ال مف9اتيح له9ا ،ب9ل هي متس9عة للك9ل ،ألم تس9مع قول9ه
تعالى {:قُلْ َل9وْ َأ ْنتُ ْم ت َْم ِل ُك9ونَ خَ9زَا ِئنَ َرحْ َمِ 9ة َربِّي ِإذاً أَل َ ْم َسْ 9كتُ ْم ْ
خَشَ 9ي َة اأْل ِ ْن َف ِ
9اق
ان َقتُوراً}(االسراء)100 : َو َكانَ اأْل ِ ْن َس ُ
قلت :فلماذا إذن نلجأ لغير باب هللا ،ونستمطر الخزائن الفارغة.
قال :ألنكم تصورتم أن خزائن هللا بيد عباده ،وهللا تعالى ينفي ذلك..
قاطعته قائال :بلى ..لقد سمعت الساعة هللا تعالى وهو يقولَ {:أ ْم ِع ْن َدهُ ْم
صي ِْطرُونَ }(الطور ،)37 :فخ9زائن هللا بي9د هللا ،ال بي9د خَزَا ِئ ُن َربِّكَ َأ ْم هُ ُم ْال ُم َ
أحد من الناس.
الكرم:
قال لي :أتعلم حقيقة الكرم.
قلت :أن تنيل المحتاج من فضلك ما يضطر به إلى شكرك.
قال :أال تعلم ما ينطوي عليه تعريفك هذا من البخل؟
قلت :كيف ،فهذا هو الكرم.
قال :انتظارك المحتاج إلى أن يحتاج بخ9ل ،وتنعم9ك علي9ه بفض9لك ال
برأس مالك بخل ،واضطراره إلى شكرك بخل..
177
قلت :فما الكرم؟
قال :الكريم ( هو الذي إذا ق99در عف99ا ،وإذا وع99د وفى ،وإذا أعطى زاد
على منتهى الرجاء ،وال يب9الي كم أعطى ولمن أعطى ،وإن رفعت حاج9ة
إلى غيره ال يرضى ،وإذا جفي عاتب وما استقصى ،وال يضيع من الذ به
والتجأ ويغنيه عن الوسائل والشفعاء ،فمن اجتمع له جميع ذلك ال بالتكلف،
فهو الكريم المطلق)()1
قلت :هذا هو تعريف الغزالي للكريم.
قال :وه9و ال يص9دق إال على هللا ،فه9و الك9ريم الحقيقي وغ9يره ك9ريم
على المجاز.
قلت :كيف يكون كريما على المجاز؟
ق9ال :ل9و أن كريم9ا من كرم9اء قوم9ك وك9ل ـ لس9عة أموال9ه ـ وكالء
ينوب99ون عن99ه في إيص99ال كرم99ه إلى الن99اس ..من يك99ون الك99ريم في نظ99ر
الناس :هل الوكالء ،أم من وكلهم؟
قلت :بل الكريم صاحب المال ،أما ال99وكالء فهم مج99رد عم99ال ين99الون
أجورهم ،بل هم يعيشون تحت ظل كرم ذلك الك9ريم ،فكي9ف يطمع9ون في
وصفه.
ق99ال :ولكنكم انش99غلتم بم99دح ال99وكالء ،وم99د أي99ديكم إليهم ،ونس99يتم من
وكلهم.
قلت :كيف؟
قال :من أين ينفق كرام قومك؟
قلت :من أموالهم.
قال :وهي من أين؟
قلت :منها ما ورثوه ،ومنها ما حصلوا عليه باجتهادهم.
ق99ال :أرك ت99ردد دائم99ا مقال99ة ق99ارونِ {:إنَّ َم99ا أُو ِتيتُ9هُ َع َلى ِعل ٍم ِع ْنِ 9دي}
ْ
(القصص)78 :
قلت :فما أقول؟
قال :قل مقالة القرآن الكريم.
قلت :وما هي؟
َّ ْ
ق99ال :الم99ال م99ال هللا ،ألم تس99مع هللا وه99و يق99ولَ {:ول َي ْس9تَعْ ِف ِ
ف ال ِذينَ ال
) )(1المقصد األسنى.
178
ت ض ِ 9ل ِه َوالَّ ِذينَ َي ْب َت ُغ99ونَ ْال ِك َتَ 9
9اب ِم َّما َم َل َك ْ َي ِجُ 9دونَ ِن َكاح 9اً َحتَّى ي ُْغ ِن َيهُ ُم هَّللا ُ ِم ْن َف ْ
َأ ْي َم99انُ ُك ْم َف َك99ا ِتبُوهُ ْم ِإ ْن َع ِل ْمتُ ْم ِفي ِه ْم خَ يْ99راً َوآتُ99وهُ ْم ِم ْن َم ِ
99ال هَّللا ِ الَّ ِذي آتَ99ا ُك ْم
(النور)33 :؟
قلت :فزدني تفصيال.
قال :أو لم تؤمن؟
قلت :بلى ،ولكن ليطمئن قلبي.
قال :ذكرنا سابقا نوعين للكرم ،أو ركنين للكرم.
قلت :نعم :الكرم النفسي ،والكرم المادي.
قال :فما منتهى الكرم النفسي؟
قلت :البشر واالبتسامة والكلمة الطيبة.
قال :فلو أذن لك مسؤول كب9ير في ال9دخول إلى مكتب9ه والح9ديث مع9ه
وتقديم طلباتك بين يديه؟
قلت :يكون قد أكرمني غاية اإلكرام ،بل ال أظن أن99ني سأنس99ى جمي99ل
صنعه ،وال كريم طبعه.
قال :فلو كانت المبادرة بالدعوة منه ال منك؟
قلت :يكون أكرم وأنبل.
قال :فلو تكرر ذلك منه كثيرا؟
قلت :ال طاقة لي حينها بشكره.
قال :فهل يكون بذلك قد أحسن إليك؟
قلت :يكفيني سلوكه هذا ليكون محسنا لي ،ولو لم أن9ل من9ه أي ش9يء،
فحسبي أن أنتسب إليه.
قال :فاهلل تعالى خالق كل شيء ـ والذي ال يشكل ذلك المس99ؤول ال99ذي
كان له ذلك الخطر في نفسك سوى شيء ضئيل ج99دا من ملك99ه ـ ي99دعوك
في كل لحظة ألن تقف بين يديه تكلمه ويكلمك بال حجاب وال رقيب ،فه99ل
هناك أكرم من هذا؟
قلت :ومع ذلك نظل نغلق األبواب بيننا وبينه.
قال :وتأبون إال الذلة على أبواب الذين يحتق99رونكم ،ويس99دون أب99وابهم
في وجوهكم ..أخبرني ه9ل ورد في الق9رآن الك9ريم م9ا ي9دل على حرم9ان
الفقراء من الحديث مع هللا؟
قلت :كال ..بل أراه يخبر عن فضلهم ،بل يث99ني عليهم من الثن99اء م99ا لم
179
ينل9ه غ9يرهم ،ق9ال تع9الىَ {:وال ت ْ
َط9رُ ِد الَّ ِذينَ َيْ 9د ُعونَ َربَّه ُْم ِب ْالغَ 9دَا ِة َو ْال َع ِشِّ 9ي
ي ُِري ُدونَ َوجْ َه9هُ َم9ا َع َل ْي9كَ ِم ْن ِح َس9ا ِب ِه ْم ِم ْن َشْ 9ي ٍء َو َم9ا ِم ْن ِح َس9ا ِبكَ َع َل ْي ِه ْم ِم ْن
الظا ِل ِمينَ }(األنعام)52 : َطرُ َدهُ ْم َف َت ُكونَ ِمنَ َّ َش ْي ٍء َفت ْ
ق99ال :فه99ؤالء هم الفق99راء إلى هللا على الحقيق99ة ش99غلتهم إرادة هللا عن
الط99واف ب99بيوت عب99اده ،وش99غلهم الرج99اء في هللا عن التعل99ق بغ99ير هللا،
وشغلهم النظر لما في يد هللا عن الطمع فيما في أيدي عباده.
قلت :صدقت في هذا..
قال :ما المدة التي يستطيع كرامكم ،حاتم وغيره ،أن يكرموا بها؟
قلت :مدة الضيافة ،وهي ثالث ،وقد تمتد أسابيع ،أو أشهرا.
قال :فلنفرض أنها تمتد العمر جميعا ..فماذا بعد ذلك؟
قلت :ال بد أن ينتهي الكرم في يوم ما.
قال :الكريم الحقيقي ال ينتهي كرمه ،بل يستمر أبد اآلباد ،بل إنه ادخر
كرمه الحقيقي إلى الوقت الذي ييأس فيه الخالئق من كرم بعضهم بعضا.
قلت :متى ذلك؟
قال :بعد الموت مباشرة تتدفق بحار كرمه على عب9اده الص9الحين بم9ا
ال قدرة على وصفه ،ألم تسمع قوله تعالىَ {:و ِإ ْن ِم ْن َش ْي ٍء ِإاَّل ِع ْن َدنَا خَزَا ِئنُهُ
وم}(الحجر)21 : َو َما نُن َِّزلُهُ ِإاَّل ِب َقد ٍَر َمعْ لُ ٍ
قلت :بلى ،فما وجه اإلشارة فيها؟
قال :إن كل ما تراه من خزائن الكرم ال يعدوا أن يكون ج99زءا ض99ئيال
جدا ال يكاد يرى من الكرم المعد في دار القرار.
القرب:
قال لي :لقد ذكرت لي بأن في قومك كراما.
قلت :ال أجحد ذلك ،ولو أني اقتنعت بأن لهم كرما مجازيا ال حقيقيا.
قال :فأين هم؟
قلت :هم في مناطق مختلفة من العالم ..منهم من يرم99ون ال99دراهم في
الطرقات لينالها الغ99ادي وال99رائح ،ومنهم من يرح99ل إلى أوروب99ا وأمريك99ا
حيث يتلذذ برؤية الشحاذين من األغنياء ،وهم ينحنون لجمعها.
قال :فهل يصلك منها شيء؟
قلت :تصلني أخبارها ،وقد تسمعني القنوات الفضائية رنينها.
قال :وفي األقدمين ،هل تعرف كراما؟
180
قلت :كثيرون هم ،يسرني ذكرهم ،وتنتشي روحي بأخبارهم.
قال :فهل يصلك نوالهم؟
قلت :كيف يصلني نوالهم ،وقد رمموا؟
ق9ال :فلم9اذا تش9غل قلب9ك بك9رم بعي9د إم9ا في أص9قاع األرض ،أو في
أطباق الثرى ،وتنسى الكريم الذي هو أقرب إليك منك.
قلت :هللا؟
قال :هللا ،فهو أكر م األكرمين ،وأقرب األقربين ،ألم تسمع قوله تعالى:
آن َوال تَعْ َملُ9ونَ ِم ْن َع َمٍ 9
9ل ِإاَّل ُكنَّا ون ِفي َش ْأ ٍن َو َم99ا َت ْتلُ9و ِم ْن9هُ ِم ْن ُق99رْ ٍ
{ َو َما َت ُك ُ
9ال َذرَّ ٍة ِفي اأْل َرْ ِ
ض عْزبُ ع َْن َربِّكَ ِم ْن ِم ْث َقِ 9 َع َل ْي ُك ْم ُشهُوداً ِإ ْذ تُ ِفيضُونَ ِفي ِه َو َما َي ُ
ين}(يونس)61 : اء َوال َأصْ غ ََر ِم ْن َذ ِلكَ َوال َأ ْك َب َر ِإاَّل ِفي ِكتَا ٍ
ب ُم ِب ٍ َوال ِفي ال َّس َم ِ
قلت :فما عالقة هذا القرب بالكرم؟
قال :القرب نفسه كرم ،فمن عرف ق99رب هللا أعط99اه هللا من الغ99نى
والس99عادة م99ا يحتق99ر ب99ه األحج99ار ال99تي تتب99اهون به99ا ،وتمألون به99ا
خزائنكم؟
قلت :فهل وجد المقربون هلل هذه الثمرة الزكية؟
ق99ال :وكي99ف ال يج99دونها ،وق99د عاش99وا به99ا ..فق99د عم99ر هللا عليهم
حياتهم ،فامتألت أنسا ،وعمر عليهم أنفاس99هم ،ف9امتألت ذك99را ،وش99غل
خواطرهم فلم يخطر عليها غيره.
ثم التفت إلي ،وق99ال :من ص99ادق منكم أم99يرا أو وزي99را أو ملك99ا
أيشعر بالفقر والحاجة ،أو الحزن واأللم؟
قلت :كيف يشعر بذلك ،وهو محل غبطة جميع الناس؟
قال :فمن كان في صحبة هللا ،كي9ف يش9عر ب9الفقر والحاج9ة ،أو كي9ف
تصيبه الذلة والهوان؟
اإلجابة:
قال لي المعلم :من المجيب من قومك؟
قلت :من إذا سألته أعطاني ،وإن ظرقت بابه فتح لي.
قال :ومن أعطاك قبل أن تسأله ،وفتح لك بابه قبل أن تطرقه؟
قلت :ذلك المجيب المطلق.
قال :فذلك هو هللا.
قلت :أبهذه النظرة كان ينظر ابن عطاء هللا حين قال (:طلبك منه اتهام
181
له )؟
قال :وبهذه النظرة نظر الع9ارفون حين رددوا م9ع الص9الحين ق9ولهم:
( ال يكن همك في دعائك الظف9ر بقض9اء حاجت9ك فتك9ون محجوب9اً ،وليكن
همك مناج99اة م99والك ) ،أو حين رددوا م99ع ابن عط99اء هللا قول99ه (:ال يكن
طلب99ك تس99بباً إلى العط99اء من99ه ،فيق99ل فهم99ك عن99ه .وليكن طلب99ك إلظه99ار
العبودية ،وقياماً بحقوق الربوبية)
قلت :أفنترك الدعاء لهذا؟
قال :ال تسئ فهم كالم العارفين ،فتحجب دون مقاماتهم.
قلت :لك99ني أس99مع كالم99ا ص99ريحا ال يحم99ل إال مع99نى واح99دا ،فه99ذا
الواسطي يقول (:أخشى إن دعوت أن يقال لي :إن سألتنا مال99ك عن99دنا فق99د
اتهمتنا ،وإن سألتنا ما ليس لك عندنا فقد أسأت الثن99اء علين99ا ،وإن رض99يت
أجرينا لك من األمور ما قضينا لك في الدهور )
قال :الواسطي يعبر عن حالة وجدانية ،ال عن حقيقة شرعية.
قلت :فكيف أجمع بينهما؟
قال :إذا توقف عالج علتك على دواء مسهل ،أتتناوله؟
قلت :كيف ال أتناوله ،وعليه يتوقف عالج علتي؟
قال :ولكنه سيصيبك بإسهال ،وهو علة أخرى.
قلت :ولكني سوف أحتال فأبادر اإلسهال بما يقيني منه.
قال :فهذا ما لحظه العارفون ،فقد خشوا أن يخطئ العامة فيس99يئوا فهم
الدعاء ،فيشبهوا هللا بخلقه.
قلت :كيف يكون التشبيه في هذا المحل ،وال أسمع يدا وال ساقا.
قال :التشبيه ال يتوقف على الي99د والس99اق ،ب99ل إن في قي99اس إجاب99ة هللا
بإجابة عباده رمي هلل ببخل العباد.
قلت :كيف ذلك؟
قال :ألن عناية هللا بعباده ال تفتقر إلى سؤالهم.
قلت :فلماذا أمرهم بسؤاله؟
قال :لتسوقهم حاجاتهم إلى هللا ،فيكون دعاؤهم أفضل من حاجاتهم.
قلت :فهال ضربت لي على ذلك مثاال.
ق9ال :أرأيت ل9و أن أب9ا رحيم9ا رأى في ول9ده تقص9يرا في طلب العلم،
ورأى انشغاله باللعب قد ملك عليه كل وقته ،فخشي إن نهره أن ينفلت منه
182
بالكلي99ة ،فبحث عن ش99يخ مرش99د ،وأعط99اه من اللعب ال99تي ي99رغب فيه99ا
الصبيان الكثير ،وقال له (:سيأتيك ابني طالبا اللعب ،فال تعطه اللعبة حتى
تعلمه علما) ،ثم قال البن9ه (:أي لعب9ة رغبت فيه9ا ..ف9افزع إلى فالن ،ف9إن
عنده ما تشتهي )
فكان ابنه يذهب إلى ذل99ك المعلم ليأخ99ذ اللعب ،فال يترك99ه المعلم ح99تى
يعلمه ما شاء من العلوم إلى أن زرع هللا محبة العلم في قلب9ه ،فج9اءه يوم9ا
ليقول له (:لم آتك اليوم لطلب اللعب ،وإنما أتيتك لطلب العلم )
قلت :فما محل هذا المثال من الدعاء؟
قال :لقد علم هللا حبنا للدنيا ولهوها ولعبها.
قلت :نعم ،فقد قال تعالى مع99برا عن طبيع99ة اإلنس99انَ {:و ِإنَّهُ ِلحُبِّ ْالخَ ْيِ 9
9ر
ال حُ ّباً َج ّماً}(الفجر)20: َل َش ِدي ٌد}(العاديات ،)8 :وقال تعالىَ {:وتُ ِحبُّونَ ْال َم َ
قال :فلو ق9ال لكم هللا تع9الى (:دع9وا أم9والكم وتع9الوا إلي ) لم تطيق9وا
ذلك ،لتصوركم أن أموالكم أعظم من هللا.
قلت :هذه حقيقة نعيشها ،وإن كنا ال نجرؤ على التصريح بها.
قال :فلذلك جع9ل االلتج9اء إلى باب9ه ،وط9رق خ9زائن كرم9ه أس9بابا ال
لرزقكم فقط ،فقد ضمن ذلك لكم ،وإنما لتس99عدوا بلقائ99ه ،وق99د يجعلكم ذل99ك
تطلبونه ،وال تكتفون بالطلب منه.
قلت :وما الفرق بينهما؟
قال :كالفرق بين الحقيقة والخيال.
قلت :وما الفرق بينهما؟
قال :كالفرق بين قامتك وظلها.
قلت :فما الفرق بينهما؟
قال :كالفرق بين الوجود والعدم.
قلت :ولكن ظلي موجود.
قال :بك ال به.
مد يدك إليه:
ص99عدت م99ع المعلم طابق99ا آخ99ر في قص99ر االس99تعفاف ،وه99و آخ99ر
طوابقه ،ومنه تمتد اليد التي رأيتها خارج القصر ،فوج99دنا ش99عاعا عظيم99ا
متأللئ99ا ،س99ألت المرش99د عن99ه ،فق99ال :ه99ذه ج99وهرة نفيس99ة من ج99واهر
االستعفاف اسمها ( مد يدك إليه )
183
التفت إلى المعلم ،وقلت :أفي هذا المحل أضع يدي كما ذكرت؟
قال :نعم ،في هذا المحل تضع يدك في محلها الصحيح.
قلت :أهناك حجر كالحجر األسود ألمسه في هذا القصر؟
قال :الحجر األسود حجر واحد تلتقي عنده أفئدة المؤمنين.
قلت :فأين أضع يدي إذن؟
قال :املك يدا أوال ،ثم اسأل عن المحل الذي تضعها فيه.
التفت إلى يدي ،وقلت :ها هي ذي يدي في جسدي ،فكيف أحت99اج إلى
امتالك يد.
قال :تحتاج للتحقق بحقائق هذه الجوهرة إلى امتالك أربعة أيد.
قلت :تقصد يدين ورجلين؟
قال :ال ..أربعة أيد ،لكل يد لسان يعبر عنها.
قلت :هذا وصف غريب ..لعلك تريد أن تحولني كائنا أسطوريا.
قال :ما فائدة اليد؟
قلت :إمساك النعمة.
قال :فكيف تأتيك النعمة؟
قلت :بسؤالها.
قال :فهل يمكن أن تمد يدك لبعض الناس من غير أن يتكلم لسانك بم99ا
تحتاج؟
قلت :ال ..ألنه ربما يظن أني أمد يدي لمصافحته ،ال لسؤاله..
قال :وربما يعطيك ما لم تسأل.
قلت :وربما يمد يده إلي ليبطش بي لتصوره أني مددتها للبطش به.
قال :فما الذي يعبر عن قصدك من مد يدك؟
قلت :لساني.
قال :ولذلك يستعمل الشحاذون ألسنتهم.
قلت :ولوالها لم ينالوا أي شيء.
قال :فمن أشطرهم؟
قلت :أقدرهم على إظهار اضطراره وفقره وعجزه ومسكنته.
قال :فكيف يظهر ذلك؟
قلت :لالضطرار لسانه ،ولالفتقار لس99انه ،وللعج99ز لس99انه ،وللمس99كنة
لسانها.
184
قال :فقد أقررت إذن باأللسنة األربع التي تعبر عن األيدي األربع.
قلت :نعم ..ذكرت األلسنة األربع ،ولكني لم أذكر األيدي األربع.
قال :كل يد تعبر عن حاجة من الحاج99ات ..إذا م99د الغري99ق ي99ده إلي99ك،
فوضعت فيها دينارا ،هل يقبله أم يظل يمد يديه إليك؟
قلت :بل لو أعطيته مليارا لرماه ،فما يغني عن9ه إن تلقف9ه الم9وت ،ب9ل
سيظل مادا يده إلي.
قال :وما يده التي يمدها؟
قلت :يد اضطراره.
قال :فقد أقررت إذن بأن لالضطرار يده التي تختلف عن يد االفتق99ار،
ومثل ذلك يد الضعف ويد المسكنة.
قلت :فكيف أتحقق بهذه األيدي؟
قال :بتحققك بألسنتها.
قلت :وكيف أتعلم ألسنتها ،وهل في الع9الم مدرس9ة لغ9ات ت9درس ه9ذه
األلسن؟
قال :في مدرسة القرآن الكريم تتعلم كل اللغات ال99تي ال يفهمه99ا البش99ر
فقط ،بل ال يفهمها الكون جميعا.
قلت :ولكن القرآن الكريم لم ينزل إال باللغة العربية؟
قال :تلك كس9وته ال9تي يمكن أن تص9بغ بلغ9ات الع9الم المختلف9ة ،ولكن
حقائقه تعلمك كي9ف تح9ل الش9يفرة ال9تي تفهم به9ا أس9رار الك9ون وأس9رار
التعامل مع الكون.
قلت :فعلم لساني هذه اللغات.
قال :التعليم للسان قلبك ،ال للسان فمك.
لسان االضطرار:
قلت :علمني لغة االضطرار.
قال :لن تتعلم لسان االضطرار حتى تعلم حقيقة االضطرار.
قلت :لكني أعلم حقيقة االضطرار.
قال :وما هي؟
قلت :أال يبقى لي من الخي9999ارات إال خي9999ار واح9999د ،فأض9999طر إلى
استعماله ،ولو كان ثقيال على قلبي.
قال :فاضرب لي مثاال على ذلك.
185
قلت :أقذر شيء إلى نفسي أن أتناول جيفة أو أشرب دما أو أذوق لحم
خنزير ،ومع ذلك ،فإني إذا اضطررت إلى تناولها تناولتها ألحفظ حي9اتي،
ُ
9ر هَّللا ِ
ير َو َما أ ِهلَّ ِل َغ ْيِ 9كما قال تعالىِ {:إنَّ َما َحرَّ َم َع َل ْي ُك ُم ْال َم ْي َت َة َوال َّد َم َو َلحْ َم ْال ِخ ْن ِز ِ
اغ َوال عَا ٍد َفإِ َّن هَّللا َ َغفُورٌ َر ِحي ٌم}(النحل)115 : طرَّ َغي َْر َب ٍِب ِه َف َم ِن اضْ ُ
قال :ولماذا اضطررت إلى هذه المستقذرات؟
قلت :لعزة غيرها ،وعدم ظفري به.
قال :ففي تلك الحالة التي تقف فيها على أعتاب الموت ماذا تشعر؟
قلت :أشعر بض99ياع عظيم وانح99دار عمي99ق ،ف9الموت بأش99باحه ينته99ز
فرصة غفلتي ليضمني إلى حزبه.
قال :أال تيأس في ذلك الحين؟
قلت :أيأس فقط؟ ..بل تجتمع في بحري كل أنه9ار الكآب9ة وك9ل س9يول
الحزن.
قال :في ذلك الحين يمكنك أن تتعلم لسان االضطرار؟
قلت :كيف؟
قال :لسان االضطرار يتولد من شعورك بعدم ك99ل ش99يء إال وج99وده،
وبفقد كل شيء إال رحمته ،وباليأس من كل شيء إال األمل فيه.
قلت :أهذا الشعور وليد ظرف خاص أمر به ،أم هو وليد كل ظرف؟
قال :أما العارفون ،فيعيشون االض99طرار ،وهم في بح99ار النعم ،ألنهم
ال يرون منعما غير هللا ،فال يضطرون لغير هللا.
قلت :لق99د ذكرت99ني بق99ول ابن عط99اء هللا (:م99ا طلب ل99ك ش99يء مث99ل
االضطرار ،وال أسرع بالمواهب إليك مثل الذلة واالفتقار )
ف طرَّ ِإ َذا َد َع99اهُ َو َي ْك ِشُ 9 ضَ 9 قال :بل ذكرتك بقوله تع9الىَ {:أ َّم ْن ي ُِجيبُ ْال ُم ْ
ال َم9ا تََ 9ذ َّكرُونَ }(النم9ل..)62 : ض َأ ِإ َل9هٌ َمَ 9ع هَّللا ِ َق ِلي ً السُّو َء َو َيجْ َعلُ ُك ْم ُخ َل َفا َء اأْل َرْ ِ
أتدري السر الذي جعل العارفين يشعرون باضطرارهم الدائم إلى هللا؟
قلت :ما هو؟
قال :هو ما عبر عنه الحق تعالى في هذه اآلية بقولهَ {:أ ِإ َلهٌ َم َع هَّللا ِ َق ِلي ً
ال
َما َت َذ َّكرُونَ }
قلت :هذا خطاب للمشركين يذكرهم باهلل.
قال :وه9و خط9اب للغ9افلين ي9دعوهم لتحطيم األص9نام ال9تي ترق9د في
جوانب كعباتهم ،وتحول بينهم وبين االضطرار هلل.
186
قلت :ال أعلم أن في األرض كعبة غير الكعبة.
قال :في قلب كل إنسان كعب9ة ،منهم من يعمره9ا بالتوحي99د ،ومنهم من
يملؤها باألصنام.
قلت :ولك99ني لم أفهم كي99ف يش99عر باالض99طرار من يعيش في بح99ار
النعم ،فال أعلم االضطرار إال في الوقت الذي يباح فيه أكل الميتة.
ق99ال :ولكن الع99ارفين يش99عرون دائم99ا أنهم في ح99ال من أبيح ل99ه أك99ل
الميتة.
قلت :لم أفهم ..فلم أس99مع أن الع99ارفين ي99بيحون ألنفس99هم أك99ل الميت99ة
باعتبارهم مضطرين.
قال :هم لم يضطروا للميت99ة ،ولن يض99طروا له99ا ،فخ99زائن هللا تغ99نيهم
عنها ،ولكنهم مضطرون هلل.
قلت :لم أفهم.
قال :ال يرون لحياتهم معنى وال وجودا من غير هللا.
قلت :كل الخلق كذلك ،فال يمكن أن يوجد موجود من غير إيجاد هللا.
قال :ولكنهم يعيشون هذا المعنى ويستشعرونه وال يكتفون بوضعه في
زاوية مهملة من زوايا عقولهم.
قلت :فكيف يستشعرون هذا؟
قال :أتضطر أنت إلى التنفس؟
قلت :وكيف ال أضطر ،ولواله الختنقت.
قال :فكذلك ضرورتهم إلى هللا ،بل هي أش99د في أنفس99هم من ض99رورة
الهواء والم9اء ،ألم تس9مع إلى بعض الص9الحين ،وق9د ج9اءه رج9ل ،فق9ال:
رأيت في المنام كأَنك تموت إلى سنة ،فقال الصالح :لق99د أجلت99نى إلى أج99ل َ
بعيد أعيش إلى سنة.
قلت :فهذا يتمنى الموت الذي نهانا أن نتمناه؟
قال :هذا يحب لقاء هللا الذي أمرنا هللا تعالى برجائ99ه ،فق99الَ {:م ْن َك99انَ
ت َوهُ َو الس َِّمي ُع ْال َع ِلي ُم}(العنكبوت .. )5 :ألم تعلم َيرْ جُو ِل َقا َء هَّللا ِ َفإِ َّن َأ َج َل هَّللا ِ آَل ٍ
بما اختبر هللا دعوى محبة اليهود هلل؟
قلت :بلى ،فقد قال تعالى {:قُلْ َيا َأ ُّي َها الَّ ِذينَ هَ9ا ُدوا ِإ ْن زَ ع َْمتُ ْم َأنَّ ُك ْم َأوْ ِل َي99ا ُء
صا ِد ِقينَ }(الجمعة)6 : اس َف َت َمنَّ ُوا ْال َموْ تَ ِإ ْن ُك ْنتُ ْم َ
ون النَّ ِ هَّلِل ِ ِم ْن ُد ِ
ق99ال :فل99ذلك ف99إن الع99ارفين ق99د يص99برون على ك99ل ش99يء ،ولكنهم ال
187
يصبرون عن هللا.
قلت :لقد ذكرتني ببعض الصالحين.
قال :حين وقف عليه رجل ،فقال :أي صبر أشد على الصابرين فقال:
الصبر في هللا قال السائل :ال ،فقال :الصبر هلل ،فقال :ال ،فقال :الصبر م99ع
هللا ،فقال :ال ،قال :فإيش هو قال :الصبر عن هللا ،فصرخ الصالح صرخة
كادت روحه تتلف.
قلت :قد فهمت اضطرار العارفين ،فما اضطرار غيرهم؟
ق99ال :أم99ا غ99يرهم ،فال يش99عرون باهلل إال عن99دما تض99يق بهم الس99بل،
9و الَّ ِذي وتوص9د في وج9وههم جمي9ع األب9واب ،ألم تس9مع قول9ه تع9الى {:هُ َ
يح َ
ط ِّي َب ٍ 9ة 9ر ْينَ ِب ِه ْم ِبِ 9
9ر ٍ 9ك َو َجَ 9 ي َُس 9يِّرُ ُك ْم ِفي ْال َب99رِّ َو ْال َبحْ ِ 9ر َحتَّى ِإ َذا ُك ْنتُ ْم ِفي ْالفُ ْلِ 9
ظ ُّنوا َأنَّه ُْم
9ان َو َف َو َج 9ا َءهُ ُم ْال َم9وْ جُ ِم ْن ُك9لِّ َم َك ٍ َو َف ِرحُوا ِب َها َجا َء ْت َها ِريحٌ ع ِ
َاص ٌ
ص99ينَ َل99هُ الِّ 99دينَ َل ِئ ْن َأ ْن َج ْي َتنَ99ا ِم ْن هَِ 99ذ ِه َل َن ُك99ون ََّن ِمنَ
َ99وا هَّللا َ ُم ْخ ِل ِ
ط ِب ِه ْم َدع ُ أُ ِحيَ 99
ال َّشا ِك ِرينَ }(يونس)22 :
قلت :بلى ،ولها نظيرات في القرآن الكريم ،فاهلل تعالى يقولَ {:و َما ِب ُك ْم
ِم ْن ِنعْ َم ٍة َف ِمنَ هَّللا ِ ثُ َّم ِإ َذا َم َّس ُك ُم الضُّرُّ َفإِ َل ْي ِه تَجْ أَرُونَ }(النحل)53 :
قال :ومع ذلك ،فإن هللا برحمته يجيب من دعاه بهذا اللس99ان ول99و ك99ان
ما كان ،وله9ذا ال تعجب م9ا يحكى من إجاب9ة دع9وات الك9افرين إن وقف9وا
مواقف االضطرار.
قلت :لقد ظللت زمنا محتارا في سبب هذا.
قال :إن هللا برحمت9ه ال9تي ال تع9د وبفض9له ال9ذي ال يح9د يمه9ل عب9اده
ويوفر لهم من السبل ما يدعوهم إلى لزوم باب9ه ،ف9أبواب هللا ال توص9د ،ألم
تسمع قوله (:ينزل هللا تعالى إلى السماء الدنيا لثلث الليل اآلخر ،فيقول
من يدعوني فأستجيب له ،أو يسألني فأعطي99ه ،ثم يبس99ط يدي99ه ويق99ول :من
يقرض غير عديم ،وال ظلوم )( .. )1ألم تسمع بفرح هللا برجوع عبده إليه؟
قلت :بلى ،فقد قال (:هلل أفرح بتوبة العبد من رجل نزل منزال وبه
مهلكة ومع99ه راحلت99ه ،عليه9ا طعام9ه وش99رابه ،فوض99ع رأس99ه فن9ام نوم99ة
فاستيقظ ،وقد ذهبت راحلته ،فطلبها ح99تى إذا اش99تد علي99ه الح99ر والعطش،
قال :أرجع إلى مكاني الذي كنت فيه ،فأنام حتى أموت فرج99ع فن99ام نوم9ة،
ثم رفع رأسه فإذا راحلت99ه عن99ده ،عليه99ا زاده وطعام99ه وش99رابه ،فاهلل أش99د
) )(1مسلم.
188
()1 فرحا بتوبة العبد المؤمن من هذا براحلته وزاده)
قال :فما يفهم قومك من هذا الحديث؟
قلت :يج99ادلون ويتص99ارعون في مع99نى الف99رح وعالقت99ه باهلل ،وه99ل
يفوض أم يؤول أم يشبه أم يعطل أم يثبت أم!..؟
قاطعني ،وقال :ألم تسمعوا قوله (:ما ض99ل ق99وم بع99د ه99دى ك99انوا
عليه إال أتوا الجدل )()2
قلت :بلى ،سمعوه.
قال :فماذا عملتم فيه.
قلت :اختلفوا فيه أيضا ..فأجازوه في علم الكالم.
قال :علم الكالم ،أم علم الخصام؟ ..انصحهم أن يتعلموا ب99دل ذل99ك علم
السالم.
قلت :فإالم ينظر علم السالم في فرح هللا بعبده؟
قال :إن من آتاه هللا السالم في قلبه ال ينشغل باأللفاظ ،فيتيه في الجدل،
ب99ل ينش99غل بالحقيق99ة والمع99اني ،فيستش99عر من الف99رح والس99رور والق99رب
واالتصال عند سماع هذا الحديث م99ا ال يستش99عره الغ99افلون المكفن99ون في
أكفان الحروف واألصوات.
قلت :فكيف يعبرون عن تلك المشاعر؟
قال :وهل يملك أحد أن يعبر عن مشاعره؟
قلت :أجل ،هناك من يعبر عن مشاعره.
قال :وهل يفهمها الجامدون ،أم ال يفهمها إال من يعيشها؟
قلت :بل يقتصر فهمها على من يعيشها.
قال :فما داموا متفقين على معايشتها ،فما الحاجة للتعبير عن ذلك؟
قلت :يعبرون بها للجامدين.
قال :وهل يملكون أن يفهموهم معناها؟
قلت :يقربون.
قال :فقد قرب ذلك إذن وكفانا ،فلنقتصر على ظواهر ما عبر.
لسان االفتقار:
قلت :علمتني لسان االضطرار ،فعلمني لسان االفتقار.
قال :لن تتعلم لسان االفتقار حتى تعلم حقيقة االفتقار.
) )(1البخاري ومسلم.
) )(2أحمد والترمذي وابن ماجة والحاكم.
189
قلت :االفتقار معروف.
قال :فما هو؟
قلت :أن تعود إلى بيتك خالي الوفاض ،وعليك ثياب مرقعة ،وأبن99اؤك
من حولك يتضاغون من الجوع.
قال :وحينها يراودك وحش الح9زن القات9ل ليبع9دك عن رب9ك ،وي9نزع
من قلبك االبتسامة.
قلت :ربما.
قال :فهذا افتقار كافر ،يحجبك عن ربك ،وال يقربك إليه.
قلت :فهل هناك افتقار مؤمن؟
قال :أجل ،هناك افتقار الصديقين.
قلت :ولكني علمت منك في كنز االستغناء أن الصديقين أغنياء باهلل.
قال :ال يتحقق الصديق بالغنى باهلل حتى يتحقق باالفتقار هلل.
قلت :فما لسان االفتقار؟
قال :هو عزل النفس عن مزاحمة الربوبية.
قلت :فهو السالم مع هللا إذن؟
قال :هو قمة السالم مع هللا.
قلت :كيف؟
قال :ألن من دخل على هللا مستغنيا خرج من عن9ده فق9يرا ،ومن دخ9ل
عنده فقيرا خرج مستغنيا.
قلت :ال أراك تفسر الغوامض إال بالغوامض ،فهال فسرت لي.
قال :أرأيت لو دخل عليك رجل يستجديك ،فقع99د يفخ99ر علي99ك بمعلق99ة
عمرو بن كلثوم أكنت تلتفت إليه؟
قلت :كنت أزدريه ،فمن قال ما قال عمرو ال ينبغي أن يستجدي.
قال :فكذلك أنتم تطلبون هللا ،وال تغض99ون أط99رافكم عن أنفس99كم ال99تي
تزاحم هللا.
قلت :كيف نزاحم هللا؟
قال :تدبرون وتعارضون وتناقشون وتجادلون.
قلت :نحن نفعل هذا مع هللا؟
قال :نعم ،أنتم تطلب9ون هللا ..ولكنكم تمتلئ9ون في نفوس9كم اس9تغناء عن
هللا ،ألم يقل هللا فيكمَ {:كاَّل ِإ َّن اأْل ِ ْن َس9انَ َل َي ْ
طغَى َأ ْن َرآهُ ْ
اس9ت َْغنَى} (العل99ق 6 :ـ
190
)7
قلت :فحقيق9ة الفق9ر إذن أال تك9ون لنفس9ك ،وال يك9ون له9ا من9ك ش9يء
بحيث تكون كلك هلل.
قال :أجل ،هذا هو االفتقار ،وهذا هو لسانه.
قلت :ولكن هذا حقيقة كونية ،فمن يجادل في أن العبد ليس له شيء إال
ما وهبه مواله.
قال :نعم ال أح9د يج9ادل في ذل9ك ،ولكن ق9ل من ي9ؤمن ب9ذلك ،ويعيش
لذلك.
قلت :هذا تناقض.
قال :أنتم تعيشونه.
قلت :لماذا؟
ق9ال :ألنكم تحبس9ون مع9ارفكم في زن99ازن ،وتقي99دونها ب9األغالل ،وال
ترجعون إليها إال في استجوابات كاستجوابات المحققين.
قلت :فيكف تعامل المعارف عند العارف؟
ق99ال :الع99ارف يعيش المع99ارف ،فيح99رر الحقيق99ة من زنزان99ة العق99ل،
ليضعها في رياض الوجدان.
قلت :فما تنبت؟
قال :تنبت كل األزهار ،وتثمر كل الثمار.
تذكرت كالم بعض الصالحين في ه99ذا ،فقلت :م99ا أحلى كالم األولي99اء
في هذا الباب.
قال :كل من اتصل باهلل حال كالمه.
قلت :لقد قال ابن عطاء هللا في هذا حكما.
قال :وما قال؟
قلت :قال (:كل كالم يبرز ،وعليه كسوة القلب الذي منه برز )
قال :فقلوب األولياء منورة بنور هللا ،فلذلك تلوح عليها أنوار اإليمان.
قلت :يا معلم ،لو قيل لي :لماذا نطرق أب99واب الفض99ل م99ا دام لالفتق99ار
هذا الفضل؟
ق99ال :فق99ل :إن هللا يقيم عب99ده في المواق99ف المختلف99ة ليعرف99ه في ك99ل
موقف ،فتتكامل ب9المواقف المختلف9ة م9ا أتيح ل9ه من معرف9ة هللا ،ألم تس9مع
مناجاة أولي9اء هللا ال9تي يقول9ون فيه9ا (:إلـهي! ق9د علمت ب9اختالف اآلث9ار
191
وتنقالت األطوار ،أن مرادك أن تتعرف إلي في كل شيء ،حتى ال أجهلك
في شيء )
قلت :ولكن خلو اليد من المال ب9اب للتجري9د ،وتجري9د الظ9اهر ميس9ر
لتجريد الباطن.
قال :ال ،فلم يكن هكذا سلوك األنبياء الذين جعلهم هللا قدوة لعب99اده ،وال
هكذا نصح األولياء ،ألم تسمع حكمة ابن عطاء هللا (:إرادتُ99كَ التجري َ 9د م99ع
إقام ِة هللا ِإيَّاكَ في األسباب من ال َّشهوة الخفي ِة ،وإرادتُكَ األسَ 9
9باب م99ع إقامِ 9ة
ٌ
انحطاط عن ال ِه َّم ِة ال َع َليَّ ِة )؟ هللا ِإيَّاكَ في التجريد
قلت :بلى ،ولكن..
قال :ألم تسمع قوله (:ثالث99ة ال يكلمهم هللا ع99ز وج99ل ي99وم القيام99ة:
الشيخ الزاني ،والعائل المزهو ،واإلمام الكذاب)()1
قلت :بلى.
قال :فقد اعتبر الفقير المتكبر بعيدا عن هللا قريبا من النار ،فإفراغ
الجيوب ليس ه9و الطري9ق ،ب9ل الطري9ق ه9و إف9راغ القلب من حب ال9دنيا
والرغبة فيها..
لسان العجز:
قلت :فعلمني أن أتكلم بلسان العجز.
قال :لن تتعلمه إال إذا تحققت بالعجز.
قلت :لقد عرفت في الجوهرة السابقة عجزي.
قال :ذلك عجز الخالئق ،فأين عجزك؟
قلت :أنا من الخالئق.
قال :هناك فرق كبير بين رؤيتك للخلق ،ورؤيتك لنفسك.
قلت :كيف ذلك؟
ق99ال :عج99زك وعج99ز الخالئ99ق ض99روري ،ولس99ان العج99ز يس99تدعي
شعورا ،فقد يعيش المرء أشل ،ولكنه يغيب عن شلله متصورا أن له ق99وى
المصارعين وحملة األثقال.
قلت :وكيف أتحقق بشعور العجز؟
قال :بأن ترى نفسك عبدا له ،ال تتح99رك إال بتحريك99ه ،وال تتوق99ف إال
بإيقافه ،ليس لك من ذاتك قوة ،وال لك من ذاتك حول.
192
قلت :تعني أن أقول (:ال حول وال قوة إال باهلل )
قال :تقولها ترجمة عن حقيقتك ،ال حروفا وأصواتا من لسانك.
قلت :فما ألحظ فيها؟
ق9ال :تلح9ظ قوت9ه ،فتطيش قوت9ك أم9ام قوت9ه ،وتلح9ظ حول9ه ،فيطيش
حولك أمام حوله.
قلت :فترجم ذلك لخيالي ليستوعبه وجداني.
قال :انظر إلى القوى التي تتيه بها.
قلت :قوة اإلرادة ،فهي القوة التي تدكدك الجبال ،وتفل الحديد ،و..
قال :أدبها بقوة هللا حتى ال توقعك في المهالك ،أو ترمي بك في أودي99ة
العجب والغرور.
قلت :وكيف أؤدبها؟
قال :ال تنسبها لنفسك ،بل تنسبها هلل.
قلت :كيف ،وأنا أشعر أنها قوتي وحيلتي.
قال :شعورك بها يدلك على االعتماد عليها ،واعتمادك عليه9ا يحجب9ك
عن هللا ،ألم تعرف أن هللا ال يقبل على القلب المشترك؟
قلت :بلى ،فق99د عرفن99ا حكم99ة ابن عط99اء هللا (:كم99ا ال يحب العم99ل
المشترك ،كذلك ال يحب القلب المشترك .العمل المشترك ال يقبل99ه ،والقلب
المشترك ال يقبل عليه )
قال :وهذا ما كان عليه أكبر العارفين.
قلت :تقصد الجنيد ،أم ..؟
قال :أقصد محمدا ،فما الجنيد وغيره إال أشعة من نور المصطفى
،وقط99رات من بح99ره ،ومف99ردات من فه99رس كماالت99ه ،فال تنش99غل
باألشعة عن الجواهر ،وبالقطرات عن البحار ،وبالمفردات عن الفهارس.
قلت :فكيف كان متحققا بهذا الشعور بالعجز أمام هللا؟
قال :ما هو دعاؤه الذي دعا به في الطائف؟
قلت :الدعاء معروف ،وقد س9بق أن ذكرن9اه في بعض مجالس9نا ،ومن
صيغه (:اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي ،وه99واني على الن99اس،
يا أرحم الراحمين إلى من تكلني؟ إلى عدو يتجهمني؟ أم إلى ق99ريب ملكت99ه
أمري ،إن لم تكن ساخطا علي فال أبالي ،غير أن عافيتك أوسع لي ،أع99وذ
بنور وجه9ك الك9ريم ال9ذي أض9اءت ل9ه الس9موات وأش9رقت ل9ه الظلم9ات
193
وص9لح علي99ه أم99ر ال99دنيا واآلخ9رة ،أن تح9ل علي غض9بك أو ت9نزل علي
سخطك ولك العتبى حتى ترضى ،وال حول وال قوة إال بك )()1
قال :كيف ترى النبي في هذا الحديث؟
قلت :أراه ملتجئا إلى هللا متضرعا إلي99ه ،كم99ا يلتجئ الص99بي الص99غير
الضعيف إلى والديه.
قال :وهل تاه بحيلة أو بقوة؟
قلت :ال ،بل تبرأ من كل حيلة أو ق9وة ،وأس9ند أم9ره كل9ه هلل ..ولكن ي9ا
معلم قد ك9ان ه9ذا في حال9ة ش9ديدة ،ونحن ق9د نلتجئ إلى هللا في مث9ل ه9ذه
األحوال ،ولكنا في مواقف العزة ننس99ى ذلتن99ا ،وفي مواق99ف الق99وة والش99دة
ننسى عجزنا.
قال :كان هذا حاله الدائم ،ألم تسمع إليه ،وهو يقول في ورد نوم99ه
ال9دائم (:اللهم أس9لمت نفس9ي إلي9ك ووجهت وجهي إلي9ك وفوض9ت أم9ري
إليك ،وألجأت ظهري إليك ،رغبة ورهبة إليك ،ال ملجأ وال منجى منك إال
إليك ،آمنت بكتابك الذي أنزلت ونبيك الذي أرسلت )()2
قلت :ولكن كثيرا من قومي استغنوا عنها بأوراد وضعوها ألنفسهم.
قال :أهم أعرف باهلل من رسوله ؟ أم لم يبلغهم ما ورد عنه ؟ أم
لم يكفهم ما ورد عنه ؟ أم يريدون التميز بأنفسهم عن أمته ؟
قلت :أهم مبتدعون؟
قال :أنا لس9ت قاض9يا ح9تى أحكم عليهم ،ولكن9ه ه9و رب9ان س9فينة
النجاة ،وهو ال9دليل في المتاه9ات ،فمن ابتع9د عن الرب9ان ق9د يغ9رق ،ومن
ابتعد عن الدليل ستلتهمه المفازات.
قلت :لكن يا معلم أال ترى أن هناك تعارضا بين مد اليد إلى هللا بلس99ان
العج9ز ،وبين اس9تعاذته من العج9ز ،فق9د ص9ح في الح9ديث قول9ه :
( اللهم إني أعوذ بك من العجز والكس99ل والجبن والبخ99ل واله99رم وع99ذاب
القبر وفتنة الدجال)( )3فقد استعاذ النبي من العجز ولواحقه.
وقد ورد في حديث آخر النهي عن العجز ،فقال (:الم99ؤمن الق99وى
وأحب ِإلى هللا من المؤمن الضعيف ،وفى كل خير)()4 خير َ
) )(1الطبراني في الكبير.
) )(2البخاري ومسلم.
) )(3مسلم.
رواه مسلم. )(4
194
قال :ليس هذا فقط ،بل ورد ذم العجز في القرآن الكريم ،فقد قال تعالى
مخ99برا عن عج99ز المن99افقين عن الجه99اد م99ع رس99ول هللا {:الَّ ِذينَ َق99الُوا
طا ُعونَا َما قُ ِتلُوا قُلْ َف9ا ْد َرأُوا ع َْن َأ ْنفُ ِسُ 9ك ُم ْال َم9وْ تَ ِإ ْن ُك ْنتُ ْم ِإل ْخ َوا ِن ِه ْم َو َق َع ُدوا َلوْ َأ َ
صا ِد ِقينَ }(آل عمران)168 : َ
قلت :إذن أنت تق99ر معي ب99ذم العج99ز ،فكي99ف يس99تقيم ه99ذا م99ع طلب
العجز ،ومد اليد بلسان العجز؟
ق9ال :العج9ز والق9وة أم9ران نس9بيان ،فق9د تظه9ر قوت9ك م9ع ش9خص،
وتظهر عجزك مع آخر ،فتكون قويا في األول عاجزا في الثاني.
قلت :هذا صحيح ،فإظهار قوتي مع من هو أق99وى م99ني فض99يحة لي،
وقد يجرني إلى المتاعب التي ال أتحملها.
قال :فكيف إذا كان هذا القوي الذي يفوقك قوة هو هللا؟
قلت :إظهار قوتي مع هللا حمق.
قال :وهذا هو الذي عناه األولياء بلسان العج9ز ،فهم ال يري9دون عج9ز
الكسل ،وإنما يريدون عجز األدب ..ألم تسمع قصة الصاحبين المتحاورين
في القرآن الكريم؟
قلت :بلى.
قال :فما هو المظهر الذي ظهر به الصاحب الذي رزقه هللا الجنتين؟
قلت :بمظهر الكبرياء واالعتزاز بالقوة ،كما قال تعالىَ {:و َكانَ َلهُ َث َمرٌ
9و َ9ز َن َف9راً َودَخََ 9ل َجنَّتَ9هُ َوهُ َ ال َو َأع ُّ اورُ ُه َأنَا َأ ْك َثرُ ِمنكَ َم9ا ًاح ِب ِه َوهُ َو ي َُح ِص ِ ال ِل َ َف َق َ
ت الس9ا َع َة َقا ِئ َمً 9ة َو َل ِئ ْن رُ ِد ْد ُ
ظ ُّن َّ ظ ُّن َأن َت ِبي َد َه ِذ ِه َأ َب9داً َو َم9ا َأ ُ
ال َما َأ ُ ظا ِل ٌم ِّل َن ْف ِس ِه َق ََ
ِإ َلى َربِّي أَل َ ِجد ََّن خَ يْراً ِم ْن َها ُم ْن َق َلباً}(الكهف 34 :ـ )36
قال :فإلى ماذا دله صاحبه الناصح؟
اورُ هُ 9و ي َُحِ 9 احبُهُ َوهَُ 9 صِ 9 ال َل9هُ َ قلت :إلى التواضع هلل ،كما قال تعالىَ {:ق َ
9و هَّللا ُ َربِّي ال َل ِكنَّا هَُ 9 ط َفٍ 9ة ثُ َّم َس9وَّاكَ َرجُ ً ب ثُ َّم ِمن ُّن ْ
9را ٍ َأ َك َفرْ تَ ِبالَّ ِذي خَ َل َقكَ ِمن تَُ 9
َوال أُ ْش ِر ُك ِب َربِّي َأ َحداً}(الكهف 37 :ـ )38
قال :وما هو الموقف الصحيح الذي دله عليه؟
قلت :ه9و م9ا نص علي9ه قول9ه تع9الى على لس9ان الص9احب الناص9ح:
9ر ِن َأنَ9ا َأ َق99لَّ ِمن9كَ َخَلتَ َجنَّ َتكَ قُ ْلتَ َما َشاء هَّللا ُ اَل قُ َّ
9و َة ِإاَّل ِباهَّلل ِ ِإن تُ َ { َو َلوْ اَل ِإ ْذ د ْ
ال َو َو َلداً َف َع َسى َربِّي َأن ي ُْؤ ِت َي ِن خَ ْي99راً ِّمن َجنَّ ِت99كَ َويُرْ ِسَ 9ل َع َل ْي َه99ا ْ
حُسَ 9باناً ِّمنَ َما ً
ط َلب9اً} اؤهَ9ا َغ9وْ راً َف َل ْن ت َْس9ت َِطي َع َل9هُ َ ُصِ 9ب َح َم ُ ص ِعيداً زَ َلق9اً َأوْ ي ْ اء َفتُصْ ِب َح َ ال َّس َم ِ
195
(الكهف 39 :ـ )41
قال :فما هي نتيجة مصارعة الكافر هلل؟
صَ 9ب َح يُ َق ِّلبُ َكفَّيِْ 9ه9ر ِه َفأَ ْ
ط ِب َث َم ِقلت :هو ما نص عليه قوله تع9الىَ {:وأُ ِحيَ 9
9ربِّي رُوش َها َو َيقُولُ َيا َل ْي َت ِني َل ْم أُ ْش ِ 9ر ْك ِبَ 9
خَاو َيةٌ َع َلى ُع ِ َع َلى َما َأن َف َق ِفي َها َو ِه َي ِ
َصراً}(الكه99ف 42 :ـ َأ َحداً َو َل ْم َت ُك ْن َلهُ ِف َئةٌ َي ْنصُرُو َنهُ ِم ْن ُد ِ
ون هَّللا ِ َو َما َكانَ ُم ْنت ِ
)43
قال :أتدري لم قالَ {:يا َل ْي َت ِني َل ْم أُ ْش ِر ْك ِب َربِّي َأ َحداً }؟
قلت :لم ،فلم يذكر القرآن الكريم أن هذا الصاحب من عباد األصنام.
قال :بلى ،فقد كان من عباد أخطر األص99نام ،وه99و ص99نم األن99ا ،ص99نم
القوة التي تريد أن تصارع هللا ،وتعجز هللا.
قلت :ألهذا إذن تكون عاقبة هؤالء الهالك الحتمي؟
قال :إذا جاء مصارع من المصارعين مدينة من الم9دن ،وتح9دى ك9ل
مصارعيها ،فسكتوا ،ولم ينبسوا ببنت شفة ،أال يعتقد أهل تلك المدينة ،ب99ل
غيرها من المدن ،بأن سكوتهم كان عن عجز؟
قلت :بلى.
ق99ال :فل99ذلك س99يأتي أبط99ال تل99ك المدين99ة بك99ل ق99واهم ليتح99دوا ذل99ك
المصارع ،ويعجزوه.
قلت :كل هذا صحيح.
قال :فلذلك كل من تحدى هللا يعجزه هللا ،ألم تسمع القرآن الك9ريم وه9و
يخبرنا بسقوط كل من تحدى هللا في أودية العجز والهالك؟
ض قلت :بلى ،فق9د ق9ال تع9الى مخاطب9ا المش9ركينَ {:ف ِس9يحُوا ِفي اأْل َرْ ِ
عْج ِزي هَّللا ِ َو َأ َّن هَّللا َ ُم ْخ ِزي ْال َكا ِف ِرينَ }(التوبة: اع َل ُموا َأنَّ ُك ْم َغيْرُ ُم ِ
َأرْ َب َع َة َأ ْشه ٍُر َو ْ
.. )2وخ99اطب ال99ذين تص99وروا عج99ز هللا عن أن يعي99دهم أحي99اء بع99د أن
9زينَ }(األنع9ام: ت َو َم9ا َأ ْنتُ ْم ِب ُم ِ
عْج ِ يصيروا ترابا ،فق9الِ {:إ َّن َم9ا تُوعَُ 9دونَ آَل ٍ
9،)134وقال تعالىَ {:و َي ْس َت ْن ِبئُو َنكَ َأ َح ٌّق هُ َو قُ99لْ ِإي َو َربِّي ِإنَّهُ َل َحٌّ 9ق َو َم99ا َأ ْنتُ ْم
عْج ِزينَ }(يونس)53 : ِب ُم ِ
لسان المسكنة:
قلت :يا معلم ،لقد تعلمت ثالثة ألسن أستطيع أن أمد به99ا ي99دي إلى هللا،
أفال يكفي ذلك؟
قال :ال ..حتى تمد يد التذلل مستشفعة بلسان المسكنة.
196
قلت :وما لسان المسكنة؟
قال :هو اللسان الذي تخفض به جناحك أمام هللا.
قلت :أفال يكفي االضطرار واالفتقار والعجز؟
قال :ال ..فقد يبقى في المضطر والفقير والع9اجز م9ا يتط9اول ب9ه على
ربه ويتكبر به عليه ،ألم تسمع قول9ه (:ثالث9ة ال يكلمهم هللا ي9وم القيام9ة
وال ي99زكيهم وال ينظ99ر إليهم ولهم ع99ذاب أليم :ش99يخ زان ،ومل99ك ك99ذاب،
وعائل مستكبر )()1؟
قلت :فكيف أتحقق بلسان المسكنة؟
ق99ال :باالفتق99ار إلى هللا طلب99ا له99ا ،ألم تس99مع قول99ه (:اللهم أحيي99ني
مسكينا وتوفني مسكينا واحشرني في زمرة المساكين فإن أش99قى األش99قياء
من جمع عليه فقر الدنيا وعذاب اآلخرة )()2
قلت :البعض يتهم هذا الحديث ،بل يرويه في الموضوعات(.)3
قال :من فعل ذلك فقد أوهم ،وما كان لنا أن نرد حديث المصطفى
بسبب سوء الفهم له.
قلت :ولكن هذا الحديث قد يعارض بما ورد في النص99وص من النهي
عن التذلل ،فقد قال ( :ال يحل لمؤمن أن يذل نفسه )()4
قال :هذا صحيح ،فإن المؤمن أعز من أن يذل نفسه.
قلت :فكيف يجمع بين النهي عن الذلة وطلبها؟
قال :كما جمع بين النهي عن العجز وطلبه.
قلت :أتعني أن الذلة محرمة مع الخلق واجبة مع هللا.
قال :ال أقول مثل هذه التعبيرات ،فهذه تعبيرات الفقهاء ،ولكني أق99ول:
المؤمن يذل نفسه هلل ،ولمن أمر هللا.
قلت :أجل ..لقد تذكرت ..هناك من أمرنا بالت9ذلل لهم ،كم9ا ق9ال تع9الى
َ9اح الُّ 9ذلِّ ِمنَ الرَّحْ َمِ 9ة َوقُ99لْ َربِّ في األمر بالتذلل للوالدينَ {:و ْ
اخ ِفضْ َلهُ َم9ا َجن َ
ص ِغيراً}(االسراء)24 : ارْ َح ْمهُ َما َك َما َربَّ َيا ِني َ
قال :ومع ذلك ،فإن التذلل إلى هللا يحمل كل معاني العزة.
قلت :كيف؟
النسائي. ) )(1
الحاكم وقال صحيح ووافقه الذهبي. ) )(2
مثل ابن الجوزي. ) )(3
ابن ماجه. ) )(4
197
قال :ألن التذلل إلى هللا انتساب له ،ومن انتس99ب إلى هللا أعط99اه هللا من
العزة ما يناطح السحاب.
قلت :ولكن ..يا معلم ،هذه حقيقة ..ولكن قومي يكادون يأبون عليها.
قال :وما يقولون؟
قلت :فيهم من يبالغون في المظاهر من لباس ومراكب وبني99ان بحج99ة
التعزز بها لنص9رة دين هلل ،ح9تى أن بعض9هم ق9ال (:ل9و ج9اء في ه9ذا
الزمان للبس بذلة عصرية ،وامتلك سيارة مرسيدس) ..
قال :وما مرسيدس؟
قلت :سيارة فخمة ،ال يملتكها إال الكبار.
قال :فقد أخطأ من قال ه99ذا ،ورس99ول هللا أعظم ش99أنا من أن نتكلم
عنه بهذا األسلوب ،فمن نحن حتى نملي على رسول هللا ما يفعل؟
ثم التفت إلي ،وقال :ألم يقرأوا كيف كانت حياة النبي ؟
قلت :بلى ،ولكنهم يقولون :ذلك واقع ،وهذا واقع ،وأحكام الدين تتغ99ير
بتغير الواقع.
قال :أي واقع هذا؟ أتنسخون ال9دين ب9الواقع؟ ..لق9د ك9ان في عه9ده
من أنواع الترف ما كان ،ولكنه آثر الحياة التي عاش99ها على ك99ل ذل99ك
الترف ،مؤثرا حياة العبودية.
قلت :بلى ،وقد رويت النصوص الكثيرة المؤيدة لهذا.
قال :فحذر قومك من س9راديب االع9تراض على النص9وص وتأويله9ا
والفرار من مستلزماتها ..فإن األديان ما حرفت إال باالعتراض.
قلت :فكيف أمد يدي بلسان المسكنة؟
قال :بالكيفية التي علمن99ا ،فق99د ك99ان يلج99أ إلى هللا مط99أطئ ال99رأس
متواضعا بين يدي هللا.
198
رابعا ـ كنز الفضل
سرت مع معلم السالم نبحث عن القصر الذي يتواجد به كنز الفض99ل،
الح لنا قصر جميل ،كله أبواب يؤدي بعض99ها إلى بعض99ه ،ب99ل ه99و نفس99ه
يشبه بابا كبيرا ،وقد غرست على جوانب القصر األربع أصناف األشجار
المثمرة والزروع اليانعة.
لقد كان القصر يشبه لوحده مدينة ضخمة تعج بالحياة ،التفت إلىالالفتة
المعلقة في بوابة القصر ،فإذا مكت99وب عليه99ا قول99ه تع99الى{ :ال َتْ 9د ُخلُوا ِم ْن
ب ُم َت َفرِّ َق ٍة }(يوسف)67 : اح ٍد َوا ْد ُخلُوا ِم ْن َأب َْوا ٍ
ب َو َِبا ٍ
سألت المرشد عن سر وضع هذه اآلية هنا ،فقال :هذا قص99ر الفض99ل،
وهذا القصر يعرفونه في مدائن الغنى بقصر األبواب ،فهو كثير األب99واب،
وهي متداخلة بعضها في بعض ،ولكن أبوابه الكبرى أربعة.
وقد وضعت هذه الالفتة هنا لتنبه ال99داخل إلى أن ال يلتمس باب99ا واح99دا
للدخول ،بل إذا وجد بابا مغلقا في وجهه يلتمس بابا آخر ،فال بد لكل داخل
لهذا القصر من أبواب مفتوحة ،ومن جواهر ينالها.
قلت :كي9ف؟ لم أفهم ..عه9دي في قص9ور ه9ذه الم9دائن أن أدخله9ا من
بابها ،ثم أرتقي طوابقها طابقا طابقا إلى الطابق الرابع.
قال :هذا القصر ليس فيه طوابق ،بل فيه ب99دل ذل99ك أب99واب ،ألم تس99مع
عن أبواب الجنة؟
ات َعْ 9د ٍن يَْ 9د ُخلُونَهَا قلت :بلى ،س99معت ،فق99د ق99ال تع99الى فيه99اَ ):جنَّ ُ
اج ِه ْم َو ُذ ِّريَّاتِ ِه ْم َو ْال َمالئِ َكةُ يَ ْد ُخلُونَ َعلَ ْي ِه ْم ِم ْن
صلَ َح ِم ْن آبَائِ ِه ْم َوأَ ْز َو ِ
َو َم ْن َ
ب}(الرعد)23: ُك ِّل بَا ٍ
قال :فما فائدة تلك األبواب؟
قلت :ال يدخل من كل باب من تلك األبواب إال المستحق ل99ه ،فق99د ق99ال
(:rلكل باب من أبواب ال9بر ب9اب ،من أب9واب الجن9ة ،وإن ب9اب الص9يام
يدعى الريان )()1
قال :أرأيت لو أن شخصا لم تتوفر فيه الخصال الكافية ل9دخول واح9د
من تلك األبواب ،أيؤذن له بدخوله؟
قلت :كال ،فالنصوص تدل على حرمانه منه.
) )(1الطبراني في الكبير.
199
ق9ال :فك9ذلك ه9ذه األب9واب ..فهي أب9واب لفض9ل هللا ،وهي أربع9ة ،ال
يجوز دخول أي واحد منها إال لمن استحق دخوله.
قلت :فما هي؟
قال :باب السعي ،وباب اإلحسان ،وباب االلتزام ،وب9اب الرج9اء ،أم9ا
هذان البابان األخيران ،فهما مفتوحان لكل داخل ،وأما باب السعي فمفتوح
لألقوياء فقط ،وأما باب اإلحسان ،فمفتوح للضعفاء فقط.
قلت :فأين جواهر هذا القصر؟
قال :هي في أبوابها ،فبمجرد تحقق9ك بم9ا يقتض9ي الب9اب من مع9ارف
تنال الجواهر التي تناسب ذلك الباب.
قلت :فلم كانت األبواب أربعة ،والجواهر أربعة؟
قال :ألن هللا تعالى جعل لفضله في هذه الدنيا هذه األبواب األربعة.
قلت :ولكن أبواب فضل هللا ال تحد وال تعد.
ق99ال :ولكنه99ا تجتم99ع في ه99ذه األرب99ع ال تع99دوها ،وكله99ا م99ذكورة في
القرآن الكريم ،ومفصلة في أحكام الشريعة.
جوهرة السعي:
كان أول ب9اب مقاب9ل لن9ا ب9اب كتب علي9ه ( ب9اب الس9عي ) ،ومكت9وب
بجانبه الفتة سجل عليها ( ال يدخله إال من له كسب ،أو قدرة على الكسب)
اق99تربت م99ع المعلم من ذل99ك الب99اب اللتم99اس الج99وهرة ال99تي يحت99وي
عليها ،فالحت لي جوهرة نفيسة دهشت لجمالها.
سألت المرشد عنها ،فقال :هذه جوهرة نفيس9ة ،ت9ؤنس تع9بي ،وتمس9ح
عرقي ،وتمدني بالقوة التي أحمل بها فأسي ومعولي.
ابتسمت ،وقلت :أتحمل أيها المرشد فأسا ومعوال ،أين؟ ..لم أرك تفعل
ذلك ..بل إن هندامك يدل على أن9ك ال تع9رف الف9أس وال المع9ول ..فكي9ف
تزعم أنك تحمله؟
قال :ما أسرع ما تنسى ،ألم أقل لك :إنني ذلك الرج9ل ال9ذي زرت9ه في
بيته ..ألم تر في البيت فأسا ومعوال؟
قلت :بلى.
قال :فأنا إذا ما أرهقني التعب ،جئت إلى هذه الجوهرة مستأنسا بها.
قلت :فما الحقائق ال9تي تنط9وي عليه9ا ،وال9تي تجع9ل له9ا ه9ذه الق9درة
العجيبة على تبديل التعب راحة ،واأللم لذة؟
200
قال :ذلك سؤال يجيب عن99ه المعلم ،ال أن99ا ،فق99د أذن ل99ه في الكالم ،ولم
يؤذن لي.
التفت إلى المعلم ،فقلت :ما الحقائق التي تنطوي عليها هذه الجوهرة؟
قال :حقائقها عظيمة ،ولكن الصراع ال99ذي تتع99املون ب99ه م99ع األش99ياء
أوقعكم في الغفلة عنها.
قلت :فعلمني ما أصارع به الصراع فأصرعه.
قال :السالم ال يعرف الصراع ،وال يعلم الصراع.
قلت :فكيف ينتهي الصراع إذن؟
ق99ال :ينتهي بالس99الم ..ينتهي بالنس99يم العلي99ل ال99ذي يهب على ص99فحة
البحار الهادرة ليجعلها مرآة تنتظم الحقائق.
قلت :فانفخ في بحار روحي الهادرة هذا النسيم العليل ،ألعيش السالم.
قال :ألم أقل لك :إنني ال طاقة لي ببناء وال هدم ،فكيف تكون لي طاق9ة
بالنفخ؟
قلت :فكيف أتحقق إذن؟
قال :بالحقيقة.
قلت :وكيف أصل إلى الحقيقة؟
قال :بالنور.
قلت :نور الشمس أم نور القمر؟
قال :بكليهما ،فنور الشمس يغذي نور القمر.
قلت :تقصد بالسراج المنير الحامل للحقائق ،وبالقلب الصافي المستعد
لتقبلها.
قال :أقصد نور هللا الهادي ،ونور اإليمان المستوعب.
قلت :فما الحقائق التي ينالها من يستلم هذه الجوهرة؟
قال :أربع ..كل واحد منها مرتبة ت9ؤدي إلى ال9تي تليه9ا ..أو ك9ل ب9اب
منها يؤدي إلى الباب الذي يليه.
قلت :ما هي؟
قال :التشجيع ،والتدريب ،والمال ،والعمل.
قلت :فعلمني علومها ..وفقهني من فقهها.
قال :لن تتعلم علومها هنا.
قلت :فأين تتعلمها؟
201
قال :عندما ترحل باحثا عن مفاتيح المدائن(.)1
جوهرة اإلحسان:
اقتربنا من الباب الثاني من أبواب الفضل ،فرأيت خيرا كثيرا يتس99اقط
كما يتساقط الثلج ،لكنه ثلج دافئ لطيف تنتش99ر من99ه روائح زكي99ة ،فس99ألت
المرشد عن هذا الباب ،فقال :هذا باب اإلحسان.
قلت :باب ( أن تعبد هللا كأنك تراه )؟
قال :ال ..هو مشتق من ذلك الباب ،وهو نور من أنواره ،ب99ل ه99و أول
نور من أنوره.
قلت :فما جهة اشتقاقه؟
سكت المرش99د ،فق99ال المعلم :ال يمكن99ك أن تع99رف هللا ،ثم يمتلئ قلب99ك
قسوة على خلقه ،فمن أحب هللا امتأل قلبه رحمة ورقة ومودة.
قلت :كيف ذلك؟
قال :ألم تقرأ القرآن الكريم؟
قلت :بلى ..فقد قرأته بحمد هللا ومنته.
قال :فكيف تحدث عن المساكين؟
اعبُُ 9دوا هَّللا َ
{و ْقلت :لقد ربط هللا تعالى حقوق المساكين بحقوق9ه ،فق9الَ :
ين } َوال تُ ْش ِر ُكوا ِب ِه َشيْئاً َو ِب ْال َوا ِل َدي ِْن ِإحْ َساناً َو ِب ِذي ْالقُ99رْ َبى َو ْال َي َت99ا َمى َو ْال َم َس9ا ِك ِ
(النساء)36 :
ق9ال :فه9ذا م9ا ي9دلك على أن أول ن9ور من أن9وار اإلحس9ان أن تش9مل
الخلق بما أعطاك هللا من فضل ..أال ترى السراج؟
قلت :ما به؟
قال :أيمكن أن ينشر السراج الظالم؟
قلت :لو فعل ذلك لم يبق سراجا.
قال :فكذلك المؤمن العارف بربه ال يمكن إال أن يكون محسنا.
قلت :ولكن انتظار اإلحسان من الخلق قد يمأل صدور الفقراء بالغفلة.
قال :أهل هللا من الفقراء لم يعنهم أن تصلهم األعطيات ال9تي رتبه9ا هللا
لهم ،وإنما مأل صدورهم أشواقا وراحة وس9رورا اق9ترانهم باإليم9ان باهلل ،
وبعبوديته ،فلذلك إذا نالهم ما نالهم من يد األغنياء قبضوها باسم هللا ،ومن
يد هللا ،فبورك لهم فيها.
202
جوهرة االلتزام:
اقتربن99ا من الب99اب الث99الث من أب99واب الفض99ل ،ف99رأيت رجال يمتلئ
خشوعا ،وهو يمسك بمسبحة يعد بها تسبيحاته ،ف99إذا م99ا انتهى من ع99دها،
ملئت جرة أمامه يواقيت وجواهير.
فقلت للمعلم :أهذا يطلب حسنات هللا ،وجواهر أهل هللا ،أم ت99راه يطلب
حسنات أهل الدنيا ،وجواهر أهل الغفلة.
قال :ال ..هذا رجل من أه99ل هللا ،فق99ه عن هللا ،وعلم أن هللا رب ال99دنيا
واآلخرة ،وله خزائن حسنات الدنيا واآلخرة ،فراح يمأل خزائنه منهما.
قلت :أال يقدح ذلك في إخالصه؟
ق99ال :وه99ل دع99ا األنبي99اء ـ عليهم الص99الة والس99الم ـ أق99وامهم لغ99ير
اإلخالص.
قلت :كال ..ولكن ما عالقة ذلك بهذا الرجل.
اس9ت َْغ ِفرُوا َربَّ ُك ْم ِإنَّهُ َك99انَ َغفَّاراً
قال :هذا رجل سمع ق99ول ن99وح ْ {:
يُرْ ِس ِل ال َّس َما َء َع َل ْي ُك ْم ِم ْد َراراً َوي ُْم ِد ْد ُك ْم ِبأَ ْم َو ٍ
ال َو َب ِنينَ َو َيجْ َعلْ َل ُك ْم َجنَّا ٍ
ت َو َيجْ َع99لْ
َل ُك ْم َأ ْن َه99اراً( ن99وح 10 :ـ ،)12فعلم أن99ه س99نة من س99نن هللا ،وس99حابة من
فضل هللا ،فراح يلتمس هذا السبب كما يلتمس غيره من األسباب.
قلت :إن قومي يعتبرون ه9ذا الب9اب من أب9واب فض9ل هللا من التواك9ل
المنهي عنه.
قال :أولئك هم الجاهلون الغافلون الذي استعبدتهم األسباب ،فال تس99لك
سبيلهم.
قلت :كيف ال أسلك سبيلهم ،وهو يقولون حقا كثيرا.
قال :فما الحق الذي يقولونه؟
قلت :لقد رأوا قوما التزموا المسابح ،وهجروا الفؤوس والمعاول.
قال :لق9د أخط9أ ه9ؤالء كم9ا أخط9أ أولئ9ك ،وال ينبغي تص9حيح الخط9أ
بالخطأ ،بل الخطأ يصحح بالصواب.
قلت :فما الصواب الذي يعالج أوهام الخطأ؟
قال :هو قرع كل أبواب هللا ،أبواب الف99ؤوس ،وأب99واب المس99ابح ..فال
يصح أن تهجر المسبحة ألجل الفأس ،وال أن تهجر الفأس ألجل المسبحة.
قلت :عرفت جدوى الفأس ،فما جدوى المسبحة؟
قال :ستعرف فضلها في رحلتك في عوالم الس9الم ،فال خ9ير في ي9د ال
203
تحمل مسبحة ،كما ال خير في يد ال تحمل فأسا.
قلت :أنت تدعو ألمرين لم ترد بهما النصوص ،فليس في النص99وص
ما يدل على سنية حمل الفأس والمسبحة.
قال :أما سنية الفأس ،فقد علمته9ا في ب9اب الفض9ل ،وس9تعلم تفاص9يلها
في مفاتيح المدائن ..وأما س99نية المس99بحة ،فك99ل رحلت99ك في ع99والم الس99الم
تعلمك كيف تحمل المسبحة.
قلت :فعلمني من علومها اآلن ما يملؤني قناع99ة بج99دوى المس99بحة في
رزق هللا ،وفي طرق أبواب فضل هللا.
ق َ َيجْ َعلْ َلهُ َم ْخ َرج 9اً َو َيرْ ُز ْق 9هُ ِم ْن هَّللا قال :ألم تسمع قوله تعالىَ {:و َم ْن َيتَّ ِ
ْث ال َيحْ ت َِسبُ َو َم ْن َيت ََو َّكلْ َع َلى هَّللا ِ َفه َُو َح ْسبُهُ ِإ َّن هَّللا َ َبا ِل ُغ َأ ْم ِر ِه َقْ 9د َج َعَ 9
9ل هَّللا ُ َحي ُ
ِل ُكلِّ َش ْي ٍء َق ْدراً ( الطالق 2 :ـ )3
قلت :بلى ..فما فيها من العلم؟
قال :هذه اآليات تبين لك سنة هللا مع األتقياء من عب99اده ،فه99و ي99رزقهم
من حيث يحتسبون ،ومن حيث ال يحتسبون.
قلت :ذلك صحيح ..وقد سمعت قوله تعالى عن مريم ـ عليها السالم ـ م99ا
ُ9ول َح َسٍ 9ن يمأل الصدر ثقة بفضل هللا ،فقد قال هللا تعالى فيهاَ {:ف َت َقبَّ َل َه9ا َر ُّب َه9ا ِب َقب ٍ
اب َو َج َد ِع ْنَ 99دهَا َخَل َع َل ْي َها زَ َك ِريَّا ْال ِمحْ َر َ َو َأ ْن َب َت َها َن َباتاً َح َسناً َو َكفَّ َل َها زَ َك ِريَّا ُكلَّ َما د َ
ق َم ْن َي َش9ا ُء 9و ِم ْن ِع ْنِ 9د هَّللا ِ ِإ َّن هَّللا َ َي9رْ ُز ُ ت هُ َ ال َيا َمرْ َي ُم َأنَّى َل ِك هََ 9ذا َق9ا َل ْ
ِر ْزقاً َق َ
ب( آل عمران ،)37 :ولكن ك99ل ذل99ك يك99اد يك99ون خاص99ا به99ا، ِب َغي ِْر ِح َسا ٍ
أليست أم المسيح ؟
قال :ومن قال ذلك؟ هللا عدل يعامل خلقه معاملة واحدة ..كونوا كمريم
طهارة وعفة ،وسيأتيكم من فضل هللا ما يغنيكم عن مد أيديكم لغيره.
قلت :أيمكن أن تحصل لنا من كرامات الرزق ما حصل لمريم ـ عليها
السالم ـ؟
قال :إذا اجتهدتم أن تكونوا مثلها ،فترزقون بمثل ما رزقت.
قلت :من الغيب؟
قال :من الغيب ،أو من الجيب ..فاهلل ربهما جميعا.
قلت :إن هذا سيشيع روح التواكل.
قال :من عرف هللا ووحده ال يخاف عليه من هذا الذي تخافونه.
قلت :إن خوفنا من تسلل مثل ذلك االنحراف جعلنا نوسوس في طرح
204
مثل هذه القضايا.
ق99ال :ووسوس99تكم جعلتكم ت99تيهون عن محكم99ات قرآني99ة كث99يرة ،ب99ل
تتيهون عن سنن كثيرة من س99نن هللا ،ب99ل ت99تيهون عن أب99واب عظيم99ة من
فضل هللا ..فحاق بكم من الجهل والغلظة ما حاق ب9القرى ..ألم تس9مع قول9ه
اءالسَ 9م ِ ت ِمنَ َّ 9رى آ َمنُ9وا َواتَّ َق9وْ ا َل َفتَحْ نَ9ا َع َل ْي ِه ْم َب َر َك9ا ٍ 9ل ْالقُ َ
تعالىَ {:و َل9وْ َأ َّن َأ ْه َ
خَذنَاهُ ْم ِب َما َكانُوا َي ْك ِسبُونَ ( ألعراف)96 : ض َو َل ِك ْن َك َّذبُوا َفأَ َْواأْل َرْ ِ
قلت :بلى ..وقد سمعت معها نموذج سبأ الذي ضربه هللا لهذه السنن.
قال :أرأيت كيف تغير جيوش المعاصي على النعم؟
قلت :أجل..ولكني أرى أقواما تصر على المعاصي ،ومع ذلك يتقاطر
عليها من فضل هللا ما يزيدها عتوا وعنادا.
قال :ومن قال بأن ما ينزل عليهم من فضل هللا.
قلت :إن أموالهم تتضاعف ،وخزائنهم ال تزيدها األيام إال انتفاخا.
قال :وقلوبهم؟
قلت :ال يزيدها امتالء خزائنهم إال قسوة.
قال :فليس هذا من فضل هللا ..فكل رزق حجبك عن هللا عذاب ..وليس
له من عاقبة إال الهالك ..هو أش99به بمن تن9اول من ال99دواء الخط99ير م99ا مأل
جسمه سموما.
قلت :صدقت ..لقد نص القرآن الكريم على ه9ذه الحقيق9ة ،فق9الَ {:أ َو َل ْم
َط َبُ 9ع صْ 9بنَاهُ ْم ِبُ 9ذنُو ِب ِه ْم َون ْ
ض ِم ْن َبعْ ِد َأ ْه ِل َها َأ ْن َلوْ َن َشا ُء َأ َ َي ْه ِد ِللَّ ِذينَ َي ِرثُونَ اأْل َرْ َ
َع َلى قُلُو ِب ِه ْم َفه ُْم ال َي ْس َمعُونَ } (ألعراف)100 :
قال :أفال تكفيكم هذه اآلي9ة لتزي9ل غ9دة عب9وديتكم لغ9يركم ،وانبه9اركم
بهم ،وذلتكم أمامهم.
قلت :نحن نتيه على غيرنا ،وال ننبهر به.
قال :ألي عالم ينتمي قومك؟
قلت :للعالم الثالث ..وبعضهم يصنفهم في الع9الم الراب9ع ..وبعض9هم لم
يضع لهم تصنيفا بعد.
قال :أليس قبولكم بهذا التصنيف جزءا من االنبهار؟
قلت :كيف ذلك؟
قال :أال تطمحون ألن تصبحوا العالم األول؟
قلت :ال حرج علينا في أن نطمح ،فاهلل يحب أصحاب الهمم العالية.
205
قال :فمن هو العالم األول في نظر قومك؟
قلت :العالم األول هو العالم األول.
قال :وهو عالم عاد وثمود وسبأ والروم والفرس واألندلس والـ..
قلت :حسبك لقد وعيت ما قلت.
قال :ال يكفي أن تعي ..بل عش الحقائق ،وبشر بها.
قلت :فألي عالم ننتمي ..أللعالم األول؟
قال :ال ..لن تص9لوا إلى ه9ذا الع9الم ح9تى تتخلص9وا من الحجب ال9تي
تحول بينكم وبين عوالم السالم.
قلت :فأين ننتمي اآلن؟
قال :ال انتماء إال بع9د س9ير ..ف9إن س9رتم انتميتم ..وك9انت أول خط9وة
صحيحة تسيرونها هي مفتاح وصولكم.
جوهرة الدعاء:
اقتربنا من الباب الرابع من أبواب الفضل ،فرأيت أي99د كث99يرة مم99دودة
إلى السماء ..ورأيت خيرا كث99يرا يتس99اقط على تل99ك األي99دي ..لس99ت أدري
كيف انشغلت عن المرشد والمعلم ..ولم أج9د نفس9ي إال وأن9ا أم9د ي9دي م9ع
أيديهم ..وأصيح بما بصيحون ..وأجأر إلى هللا بما يجأرون.
قال المعلم :ردد معي هذا الدعاء ،فقد روي عن بعض الصالحين أن99ه
قال (:ما دعا عبد قط بهذه الدعوات ،إال وسع هللا له في معيشته ،يا ذا المن
وال يمن عليه ،يا ذا الجالل واإلك99رام ،ي99ا ذا الط99ول ،ال إل99ه إال أنت ظه99ر
الالجين وجار المستجيرين ومأمن الخائفين ،إن كنت كتبتني في أم الكتاب
شقيا فامح عني اسم الشقاء ،وأثبتني عندك سعيدا ،وإن كنت كتبتني عن99دك
في أم الكت99اب محروم99ا مق99ترا علي رزقي ،ف99امح حرم99اني ويس99ر رزقي
وأثبت9ني عن9دك س9عيدا موفق9ا للخ9ير ،فإن9ك تق9ول في كتاب9ك ال9ذي أن9زلت
ب} (الرعد))39 : ت َو ِع ْن َدهُ أُ ُّم ْال ِكتَا ِ
{ َي ْمحُوا هَّللا ُ َما َي َشا ُء َوي ُْث ِب ُ
قلت :أتصدق مثل هذا يا معلمي؟
قال :وما الذي يمنعني من تصديقه؟
قلت :الص99الحون ك99انوا يطلب99ون هللا ،ويرش99دون إلى هللا ،ولم يكن
يطلبون الدنيا.
ق99ال :وطلب ال99دنيا وس99عتها حج99اب الغ99افلين عن هللا ،أم99ا الع99ارفون
الفاقهون عن هللا ،فلو وضعت الدنيا جميع9ا في خ9زائنهم م9ا ش9غلتتهم عن
206
هللا لحظة واحدة ..ألم تسمع مقالة سليمان ؟
قلت :أي مقالة؟
اغ ِف99رْ ِلي َو َهبْ ِلي ُم ْلك9اً ال
قال :لقد قال هلل ،وبإلحاح متض99رعَ {:ربِّ ْ
َي ْن َب ِغي أِل َ َح ٍد ِم ْن َبعْ ِدي ِإنَّكَ َأ ْنتَ ْال َوهَّابُ ( صّ )35 :
قلت :بلى ..وال زلت محتارا في سر هذا الطلب العجيب.
قال :ستفقه سره األوفى في مفاتيح المدائن ..أما هنا ف99اعلم أن س99ليمان
في غمرة ثقته بحب99ه هللا ،وامتالء قلب99ه ب99ه ،ق9ال :ي9ا رب ابتل9ني بم9ا
ش99ئت ..بالم99ال ..بالمل99ك ..ب99ل بالمل99ك ال99ذي ال يوج99د نظ99يره ..فلن يزي99غ
بصري عنك ،ولن يطغى.
قلت :لقد فقهت هذا ..ولكني ال أفقه أن أسأل هللا الرزق ..مع أنه رزاق
بذاته ..فما حاجتي للطلب؟
قال :هللا رزاق ،ومجيب ..فال ينبغي أن يحجبك اس9م عن اس9م ..اعب99د
هللا بأسمائه جميعا.
قلت :اشرح لي مرادك من هذا.
قال :هلل في كل اسم من أسمائه الحسنى عبودية تليق به ..والكام9ل ه9و
الذي نظر إلى كل اسم من أسماء هللا ،فبحث عن أسرار العبودية المرتبطة
به.
قلت :اضرب لي مثاال يوضح هذا ..فإني أكاد أفهمه.
قال :أرأيت لو أن شخصا آتاه هللا قدرات عجيبة ،فهو فقيه طبيب فلكي
مهندس ..وفوق ذلك هو مصارع قوي ،ووجيه له من الوجاه99ة م99ا يجع99ل
الخلق يبادرون لرغباته ،فال يرفضون له طلب99ا ،وال ي99ردون ل99ه ش99فاعة..
ومع كل هذا كان قريبا منك محبا لك ..وكان م99ع ذل99ك كل99ه كريم99ا خ99دوما
يحب أن تسأله وتتعلم على يديه ،وتستشفع به.
قلت :أراه كنزي الذي منه أنهل ..وب9ه أس9تعز ،وعلى يدي9ه أتعلم ،ب9ل
وبه تبرأ عللي ،وترفع أسقامي.
قال :فأنت تالحظ كل وصف فيه ،ثم تستفيد منه بقدر طاقتك.
قلت :ال ش999ك في ذل999ك ..وكلهم يفعل999ه ..فمن الغب999اء ع999دم اس999تثمار
الطاقات.
قال :فنزه ربك عن التشبيه ..ثم ارم بجنود هذا المثال على م99ا ذك99رت
من شبه ،وال أراك يصعب عليك تطبيقه.
207
قلت :لقد وعيت ما ذكرت ،فبورك فيك.
208
الخاتمة
بعد أن عدت من رحلتي العجيبة م9ع معلم الس9بالم ،ب9ادرني بقول9ه :لم
تسألني عن موقع هذه المدائن ،عهدي بك سؤوال؟
قلت :أعلم أن مل99ك هللا عظيم ،وق99د أخبرت99ني بأن99ا لم ن99برح األرض،
فاكتفيت بهذا ،وقلت :لعلها جزيرة من الجزائر المجهول99ة ،كتل99ك الجزي99رة
التي تحدث عنها سندباد البحري.
قال :ال ..لقد ذهبت بعيدا ،فال أحسب أن هناك جزي99رة لم تدس99ها أق99دام
قومك ،وهم يبحثون عن الذهب.
قلت :فأين كنا إذن ،أفي المريخ ،أم في القمر؟
قال :لقد كنا في مدينة واحدة من مدائن الغ99نى باهلل ،وك99ل تل99ك الكن99وز
التي رأيتها ،والتي سال لعابك لها كنوز رجل واحد.
قلت :كل تلك الثروة لرجل واحد ..ما أغناه ،ال أرى أن على البس99يطة
من هو أغنى منه ..هذا حقيق أن يحسد ..بل أخاف أن يقتل.
قال :ال تخف ..فالناس جميعا يحتق99رون ثروات99ه وال يتلفت99ون له99ا ،ب99ل
يضحكون منها ،ويهزؤون منه.
قلت :ما أبعدهم ..أليس لهم أعين يبصرون بها ،أو آذان يسمعون بها؟
قالَ { :له ُْم قُلُوبٌ ال َي ْف َقهُونَ ِب َها َو َله ُْم َأ ْعي ٌُن ال يُب ِ
ْصرُونَ ِب َه99ا َو َله ُْم آ َذ ٌ
ان ال
َي ْس َمعُونَ ِب َها }(ألعراف)179 :
قلت { :أُو َل ِئكَ َكاأْل َ ْن َع ِام ( ألعراف )179 :إذن.
ضلُّ أُو َل ِئكَ هُ ُم ْالغَا ِفلُونَ }(ألعراف)179 : قالَ { :بلْ هُ ْم َأ َ
قلت :فما حاله معهم؟
قال :هو منشغل بمدائنه يسوسها ويحفظها.
قلت :وحق له ذلك ،فمن كان ل99ه مث99ل ثورت99ه وملك99ه ال يلتفت للس99وقة
والرعاع.
ق99ال :ال تفهم كالمي خط99أ ،ه99و يلتفت إليهم ويحبهم ويم99د ي99ده إليهم
بالعط99اء ،ولكنهم يقبض99ون أي99ديهم ،ويطلب منهم أن يعم99روا ص99ناديقهم
بكنوزه ،ولكنهم يأنفون من كنوزه ،ويضحكون منه.
قلت :فهال ذهب إلى الفقراء ،فلألغنياء من عزة النفس ما يحول بينهم
وبين تقبل الصدقات ولو كانت كنوزا.
209
قال :ذهب للفقراء واألغنياء ،فالكل عنده سواء ،فالغنى غنى الروح.
قلت :فما فعل الفقراء؟
قال :رموه بالحجارة ،وسخروا من دعواته لهم بدخول مدائن الغنى.
قلت :فماذا فعل؟
قال :هو منشغل عنهم بمدائنه وفأسه.
قلت :وما عالقة فأسه بمدائنه؟ ..وأي فأس ه99ذا؟ ..أن99ا لم أر أي ف99أس
في مدائن األغنياء.
قال :لقد رأيته في بيته.
قلت :أي بيت؟
قال :بيت المرشد الذي كان دليلك في هذه المدائن.
قلت :نعم ..المرش99د موظ99ف في تل99ك الم99دائن ،ولكن م99ا عالق99ة ذل99ك
بفأسه.
قال :لم يكن المرشد موظفا في تلك المدائن ،بل كان هو المدائن.
قلت :والكنوز.
قال :تلك هي ثروته.
قلت :فأين كنا نحن؟
قال :في أعماقه ..ألم أقل لك :هي9ا نبحث في أعم9اق ذل9ك الفق9ير ال9ذي
حزنت له عن كنوز الفقراء؟
قلت :أكل ذلك الجمال ،وتلك الثروة في أعماق فقير واحد؟
قال :نعم ..ويمكنها أن تكون لك جميعا ..ب9ل لك9ل راغب فيه9ا ..فج9ود
هللا عظيم.
قلت :فكيف لي أن يكون في أعماقي ما رأينا في أعماقه؟
قال :بالحب واإلرادة والعزيمة.
قلت :فأنا أحب وأريد.
قال :ال يكفي ذلك ،بل ال بد أن تعزم ،ألم تسمع إلى الح9ق تع9الى وه9و
يقولَ {:و َل َق ْد َع ِه ْدنَا ِإ َلى آ َد َم ِم ْن َقبْلُ َفن َِس َي َو َل ْم ن َِجْ 9د َل9هُ ع َْزم9اً}(طـه،)115 :
فقد أحب آدم وأراد ،ولكن هللا عاتبه على أنه لم يعزم.
قلت :فقد عزمت.
ْ هَّللا هَّللا
َزَمتَ َفت ََو َّكلْ َع َلى ِ ِإ َّن َ ي ُِحبُّ ال ُمت ََ9و ِّك ِلينَ }(آل عم9ران:قالَ { :فإِ َذا ع ْ
)159
210
قلت :قد توكلت.
قال :حق التوكل ،ألم تسمع إلى قول نبيك (:لو أنكم تتوكل99ون على
هللا حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا ،وتروح بطانا )()1
قلت :قد توكلت على هللا حق توكله.
قال :ال تتخط رقاب الصديقين ..قل إن شاء هللا ..فالتحقق عظيم.
أحسست بأني ال شيء ،وأن منه ك9ل ش9يء ،فنطقت من أعم9اقي {:ال
ت ِمنَ َّ
الظا ِل ِمينَ }(االنبي99اءَ { )87 :و ِإاَّل ت َْغ ِف99رْ ِلي ِإ َل َه ِإاَّل َأ ْنتَ ُس9ب َْحا َنكَ ِإ ِّني ُك ْن ُ
خَاس ِرينَ }(هود))47 : َوتَرْ َح ْم ِني َأ ُك ْن ِمنَ ْال ِ
قال لي :أما اآلن ،فانزل إلى أعماقك ،وقل لي :ماذا ترى؟
نزلت إلى أعماقي ،فلم أجد الظلمة التي كنت وجدتها من قبل ،ق99ال لي
المعلم :لقد انجلت ظلمة االع9تراض ،فاهت9د بن9ور اليقين إلى م9دائن الغ9نى
التي تعمر أعماقك.
أخذت قطعة من نور التسليم التي وج99دتها في أعم99اقي ،وس99رت به99ا،
فإذ بي أرى مدائن الغنى ،عليها رايات كن99وز الفق99راء ،وعلى بابه99ا رج99ل
في جمال المرشد وبهائه ،فقلت له :أنت يوسف ،أم المرشد؟
فقال لي :أنا أنت.
قلت :أنت أنا؟ ..كيف هذا؟
قال :اسأل المعلم.
قلت :كيف هذا؟
قال :هذا درس من دروس السالم ..ستعرفه في حينه.
ثم التفت إلي ،وق99ال :ه99ل أعجبت99ك م99دائن الغ99نى ال99تي جعله99ا هللا في
أعماقك.
قلت :بلى ،فلله الحمد والمنة ،ولك الشكر والفضل.
قال :فاشتغل بالدعوة إليها ،كما يشتغلون بالدعوة إلى مصنوعاتهم.
قلت :كيف ،وليس لي أي وسيلة إعالم.
قال :انشر هذه الرسالة ،ودعها لوسائل اإلعالم.
قلت :وما أسميها.
قال :ما رأيته في أعماقك ،وما بحثت عنه في رحلتك.
قلت:كنوز الفقراء؟
211
قال :نعم ( ..كنوز الفقراء )
212
هذا الكتاب
تدور أحداث هذه الرواية حول رحلة تق99وم به99ا شخص99ية خيالي99ة
ممتلئ99ة بالحكم99ة والعلم والعقالني99ة والس99الم ،وله99ا باإلض99افة إلى ذل99ك
قدرات فائقة اسمها (معلم السالم) مع تلميذه البسيط (الكاتب) الذي تألم
لح99ال فق99ير من الفق99راء ،وث99ارت في نفس99ه اعتراض99ات ش99ديدة على
وضعه ،فأدخله معلم الس99الم إلى أعم99اق وج99دان الفق99ير ال99ذي ت99ألم ل99ه
ليكتش99ف الكن99وز العظيم99ة ال99تي يمتلئ به99ا قلب99ه ..وال99تي تجعل99ه يعيش
سالما داخليا عميقا وعظيما ال يحلم بمثله أثرياء المادة فقراء الروح.
213