You are on page 1of 144

‫الجمهورية الجزائرية الديمقراطية الشعبية‬

‫‪République Algérienne Démocratique et Populaire‬‬


‫وزارة التعليم العالي والبحث العلمي جامعة ‪ 8‬ماي ‪ 5491‬قالمة‬
‫‪Ministère de L’enseignement Supérieur Et de la recherche‬‬
‫‪scientifique‬‬

‫‪Université 8 Mai 1945‬‬ ‫جامعة ‪ 88‬ماي ‪ 5491‬قالمة‬


‫‪Guelma‬‬
‫‪faculté:des lettres et des langues‬‬ ‫الل ـغـ ـ ــات و اآلداب كليـ ـ ــة‬

‫قسم اللغة واألدب العربي‬

‫محاضرات في نظرية النظم‬


‫‪-‬موجهة إلى طلبة السنة الثالثة ليسانس (لسانيات عامة)‬

‫إعداد الدكتورة ‪:‬‬


‫وفـاء دبيش‬

‫الموسم الجامعي‪9191-9102 :‬‬


‫السداسي الخامس‬

‫وحدة التعليم ‪ :‬االستكشافية‬

‫المادة‪ :‬نظرية النظم‬

‫الرصيد ‪85 :‬‬

‫المعامل ‪85 :‬‬

‫أهداف التعليم‪:‬‬

‫‪ -‬التحكم يف مادة مقياس مشافهة وحتريرا‬


‫‪ -‬التمكن من املعارف العلمية املتعلقة باملقياس‬
‫‪ -‬الوصول بالطالب إىل القدرة على استثمار معارفه يف اجملال‪.‬‬

‫المعارف المسبقة المطلوبة‬

‫‪ -‬أن يكون الطالب قادرا على استيعاب املادة املقدمة ‪ ،‬وكذا التحكم يف تكنولوجيا اإلعالم و االتصال‬
‫للحصول على املعارف‪.‬‬

‫حمتوى املادة‪:‬‬

‫‪ :‬الرصيد‪10 :‬‬ ‫مادة النص‪ :‬نظرية املعامل‬ ‫السداسي اخلامس‬


‫‪10‬‬ ‫النظم‬ ‫وحدة التعليم استكشافية‬
‫أعمال موجهة‬
‫أعمال تطبيقية‬ ‫دروس‬
‫فكرة النظم يف مباحث النقاد‬ ‫‪0‬‬
‫قبل اإلمام اجلرجاين‬
‫فكرة النظم لدى بعض‬ ‫‪9‬‬
‫اللغويني‪.‬‬
‫فكرة النظم لدى املتكلمني‬ ‫‪3‬‬
‫وأصحاب اإلعجاز قبل اإلمام‬
‫‪1‬‬
‫عبد القاهر اجلرجاين‬
‫نظرية النظم عند اإلمام عبد‬ ‫‪4‬‬
‫القاهر اجلرجاين‪ :‬مفهومها ‪،‬‬
‫أسسها ومنطلقاهتا ‪.‬‬
‫النظم وتوخي معاين النحو‬ ‫‪5‬‬
‫النظم وعالقته بعلم املعاين‬ ‫‪6‬‬
‫النظم وعالقته بعلم البيان‬ ‫‪7‬‬
‫النظم وعالقته بعلم البديع‬ ‫‪8‬‬
‫قيمة الذوق يف نظرية النظم‬ ‫‪2‬‬

‫النظم و األسلوب‬ ‫‪01‬‬

‫تطبيقات من النظم ( مناذج‬ ‫‪00‬‬


‫من الشواهد الشعرية اليت‬
‫ساقها اجلرجاين مع الشرح و‬
‫التعليق‬
‫أثر نظرية النظم يف الدرس‬ ‫‪09‬‬
‫االعجازي بعد اجلرجاين‬
‫تأثري نظرية النظم يف الفكر‬ ‫‪03‬‬
‫النقدي العريب احلديث‬
‫التقاطع املعريف بني نظرية النظم‬ ‫‪04‬‬
‫والنظريات اللغوية احلديثة‬
‫طريقة التقييم‪ :‬املراقبة ‪ +‬امتحان السداسي‬

‫املراجع‪:‬‬

‫( كتب ومطبوعات‪ ،‬مواقع االنرتت‪ ،‬إخل) دالئل اإلعجاز للجرجاين‬

‫أسرار البالغة‬

‫‪2‬‬
‫الكشاف للزخمشري‬

‫مفتاح العلوم للسكاكي‬

‫البالغة و األسلوبية ألمحد عبد املطلب‬

‫املوجز يف شرح دالئل اإلعجاز جلعفر دك الباب‬

‫‪3‬‬
‫مق ّدمة‪:‬‬

‫احلمد هلل رب العاملني‪ ،‬والصالة والسالم على النيب الصادق األمني‪ ،‬وعلى آله وصحابته أمجعني‪.‬‬

‫وبعد ‪ ...‬هذه حماضرات يف نظرية النظم اليت وضع أصوهلا وشرح مبادئها اإلمام عبد القاهر اجلرجاين يف القرن‬
‫اخلامس اهلجري‪ ،‬فكانت تأسيسا ألركان الدرس البالغي العريب مبباحثه وعلومه اليت أسهم املتأخرون يف ضبط‬
‫مسائلها وشرح جزئياهتا وتفصيل جمملها‪ ،‬ولكنهم مل يكادوا خيرجون عن املبادئ واألصول اليت وضعها عبد‬
‫القاهر‪.‬‬

‫إن نظرية النظم ملتقى لكثري من العلوم كاإلعجاز والبالغة والنقد وعلم الكالم‪ ،‬وهذا أحد أسباب أمهيتها‪،‬‬
‫متخضت عنها مباحث اإلعجاز‪،‬‬ ‫يضاف إىل ذلك وجاهتها وصمودها يف اجململ أمام خمتلف التيارات اليت ّ‬
‫االّتاهات اليت عرفها مسار الدرس النقدي العريب‪.‬‬
‫و ّ‬

‫وتطور فكرة‬
‫وقد توزعت مادة هذه املطبوعة على أربع عشرة حماضرة؛ تناولت مق ّدمات حول قضية اإلعجاز ّ‬
‫النظم قبل عبد القاهر‪ ،‬واألصول الفكرية للنظرية‪ ،‬وأمهيتها البالغية والنقدية‪.‬‬
‫وتطرقنا فيما بعد لتتبع مبادئ نظرية النظم عند اجلرجاين‪ ،‬مفهومها‪ ،‬أسسها‪ ،‬منطلقاهتا وعالقتها بتوخي‬
‫معاين النحو‪ ،‬وفروع البالغة الثالث‪ ،‬املعاين‪ ،‬والبيان‪ ،‬والبديع‪.‬‬
‫كما عرضنا فيها بعض تطبيقات النظم ومناذجه اليت ساقها اإلمام عبد القاهر يف ثنايا شرحه للنظرية‪ ،‬من‬
‫خالل بعض املوضوعات العامة‪ :‬كاإلسناد‪ ،‬والتقدمي‪ ،‬واحلذف‪ ،‬والتعريف والتنكري‪ ،‬والفصل‪ ،‬والوصل‪.‬‬
‫وارتأينا فيها أيضا بيان تأثري نظرية النظم يف الدرس اإلعجازي عند اجلرجاين‪ ،‬والفكر النقدي العريب احلديث‪،‬‬
‫وإبراز التقاطع املعريف بينها وبني النظريات اللغوية احلديثة‪.‬‬
‫وقد حرصنا على إيراد نصوص اجلرجاين من كتابه دالئل اإلعجاز بوصفه مصدرا لنظرية النظم وأساسها‪.‬‬
‫أسأل اهلل أن ينفع هبذا اجلهد عموم الطلبة والباحثني‪ ،‬و احلمد هلل أوال وآخرا‪.‬‬

‫‪4‬‬
‫المحاضرة األولى‪:‬فكرة النظم في مباحث النقاد قبل اإلمام الجرجاني‬

‫‪ ‬مصطلح النظم في النقد العربي القديم‪:‬‬


‫‪ -‬مفهوم النظم لغة واصطالحا‪:‬‬
‫جاء يف معجم العني‪" :‬نظم‪ :‬النظم نظمك خرزا بعضه إىل بعض يف نظام واحد‪ ،‬وهو يف كل شيء حىت قيل ‪:‬‬
‫ليس ألمره نظام أي ال تستقيم طريقته‪ .‬والنظام‪ :‬كل خيط ينظم به لؤلؤ أو غريه فهو نظام‪ 1".‬ويف صحاح العربية‪:‬‬
‫"نظمت اللؤلؤ‪ ،‬أي مجعته يف السلك والتنظيم مثله‪ ،‬ومنه نظمت الشعر ونظمته‪ ،‬والنظام‪ :‬اخليط الذي ينظم به‬
‫‪2‬‬
‫اللؤلؤ‪ ...‬ويقال لثالثة كواكب من اجلوزاء‪ :‬نظم"‪.‬‬
‫وجاء يف خمتار الصحاح‪" :‬انظم‪ :‬اللؤلؤ مجعه يف السلك وبابه ضرب‪ .‬ونظمه تنظيما مثله ومنه نظم الشعر ونظمه‬
‫والنظام اخليط الذي ينظم به اللؤلؤ‪ .‬ونظم من لؤلؤ وهو يف األصل مصدر‪ .‬والنظام االتساق‪3 .‬ويف لسان العرب ‪:‬‬
‫انظم‪ :‬النظم‪ :‬التأليف نظمه ينظمه نظما ونظمه فانتظم وتنظم‪ ،‬نظمت اللؤلؤ أي مجعته يف السلك‪ .‬والتنظيم مثله‬
‫ومنه نظم الشعر نظمته‪ ،‬ونظم األمر على املثل‪ .‬وكل شيء قرنته بأخر أو ضممت بعضه إىل بعض فقد نظمته‪...‬‬
‫والنظام كما نظمت فيه الشيء من خيط وغريه وكل شعبه منه وأصل نظام‪ .‬ونظام كل أمر مالكه‪ ،‬واجلمع أنظمة‬
‫‪4‬‬
‫وأناظيم ونظم‪.‬‬
‫ويف املصباح املنري‪" :‬نظمت اخلرز نظما من باب ضرب‪ .‬جعلته يف سلك‪ .‬ونظمت األمر فانتظم أي أقمته‬
‫فاستقام وهو على نظام واحد؛ أي هنج غري خمتلف‪ .‬ونظمت الشعر نظما"‪ 5‬مصطلح النظم اصطالحا‪ :‬قال فخر‬
‫‪6‬‬
‫الدين الرازي‪" :‬خلوص الكالم من التعقيد‪ .‬وأصله من الفصيح وهو اللنب الذي أخذت منه الرغوة‪.‬‬
‫ويعرفه اجلرجاين بقوله‪" :‬واعلم أن ليس النظم إال أن تضع كالمك الوضع الذي يقتضيه علم النحو‪ ،‬وتعمل على‬
‫‪7‬‬
‫قوانينه وأصوله وتعرف مناهجه اليت هنجت‪ ،‬فال تزيغ عنها‪ .‬وحتفظ الرسوم اليت رمست لك فال ختل بشيء منها ‪".‬‬

‫‪ -1‬اخلليل بن أمحد الفراهيدي‪ ،‬كتاب العني‪ ،‬تح‪ :‬مهدي املخزومي‪ ،‬وإبراهيم السامرائي‪ ،‬دار ومكتبة اهلالل‪ ،‬د ط‪ ،‬د ت‪،‬ص ‪065 ،8‬‬
‫‪ -2‬اجلوهري‪ ،‬الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية‪ ،‬تح‪ :‬أمحد عبد الغفور عطار‪ ،‬دار العلم للماليني‪ ،‬بريوت‪ ،‬لبنان‪ ،‬ط‪0414 ،13 :‬ه ‪.‬‬
‫‪0284‬م‪ ،‬مادة (نظم)‪ ،‬ص‪.9140 :‬‬
‫‪ -3‬حممد بن أيب بكر بن عبد القادر الرازي‪ ،‬خمتار الصحاح‪ ،‬دار الكتاب العريب‪ ،‬بريوت لبنان‪ ،‬دط‪0410 ،‬ه‪0280،‬م‪.‬ص‪.668،‬‬
‫‪ -4‬ابن منظور‪ ،‬لسان العرب‪ ،‬دار صادر‪ ،‬ط‪9114 ،13 :‬م ‪ ،‬ص ‪. ،09‬‬
‫‪-5‬أمحد بن حممد بن علي املقري الفيومي‪ ،‬املصباح املنري يف غريب الشرح الكبري ‪،‬تح ‪ :‬عبد العظيم الشناوي ‪ ،‬دار املعارف ‪ ،‬ط‪، 9‬ص ‪609‬‬
‫‪.‬‬
‫‪ -6‬صاحل بلعيد‪ ،‬نظرية النظم ‪ :‬هناية اإلجياز يف دراية اإلعجاز ‪ ،‬نقال عن فخر الدين الرازي‪ ،‬ص‪.060 :‬‬
‫‪ -7‬عبد القاهر اجلرجاين‪ ،‬دالئل اإلعجاز‪ ،‬تح‪ :‬السيد حممد رشيد رضا‪ ،‬دار املعرفة‪ ،‬بريوت‪ ،‬لبنان‪ ،‬ط‪0499 ، 3 :‬ه ‪9110 .‬م‪ ،‬ص‪.63 :‬‬
‫‪5‬‬
‫ويقول الدكتور صاحل بلعيد‪" :‬هو تأليف وضم جمموعة من العناصر املتحدة يف العملية اللغوية ليكون الكالم حسنا‬
‫حسب خصائص معينة هي‪:‬‬
‫‪ .0‬حسن االختيار األصوات الكلمة‬
‫‪ .9‬تعليق الكلمة يف ذاهتا‬
‫‪ .3‬تعليقها مبا جياورها وليس بضم الكلمات كيف ما جاءت‬
‫‪ .4‬مراعاة املوقع النحوي األصيل حسب ما تقتضيه بيئة العريب‪.‬‬
‫‪ .5‬مراعاة املعىن املباشر (السطحي) غري املنزاح‪ ،‬واملعىن غري املباشر (املنزاح) ‪.1‬‬
‫مما سبق يف املفهوم اللغوي واالصطالحي نستخلص ما يأيت‪ :‬النظم‪ :‬هو ضم الكلمات حسب ما يقتضيه احلال‬
‫وفق التقليد املأثور عن العرب باعتباره املقياس احلقيقي للبالغة‪ .‬وهو التأليف يف الكالم ليصبح حسنا مقبوال‪.‬‬
‫‪ ‬مصطلح النظم في النقد العربي‪:‬‬
‫تكلم العرب اللغة العربية يف اجلاهلية سليقة‪ ،‬وكانت فصاحتهم عالية وّتلى النظم عندهم يف متييز شاعر عن آخر‪،‬‬
‫ال يستند إىل منهجية‪ ،‬وملا جاء القرآن الكرمي أهبر العرب ببالغته ونظمه العجيب وحسن سبکه؛ حىت قيل‪" :‬ومن‬
‫أعجب ما رأينا يف إعجاز القرآن وإحكام نظمه‪ ،‬أنك حتسب ألفاظه هي اليت تنقاد ملعانيه‪ ،‬مث تتعرف ذلك‬
‫وتتغلغل فيه‪ ،‬فتنتهي إىل أن معانيه منقادة أللفاظه مث حتسب العكس‪ ،‬وتتعرفه متثبتا فتصري منه إىل عكس ما‬
‫حسبت‪ ،‬وما إن تزال مرتددا على منازعة اجلهتني كلتيهما‪ ،‬حىت ترده إىل اهلل الذي خلق يف العرب فطرة اللغة‪ ،‬مث‬
‫أخرج من هذه اللغة ما أعجز تلك الفطرة‪ ، 2".‬وكان القرآن مصدر حتد هلم إذ حاول العرب عبثا أن يأتوا مبثله ملا‬
‫يف نظمه من أسرار‪ ،‬ولقد كانت بعض جمالس األدب والسمر وحلقات اخللفاء موضع تدارس اإلعجاز القرآين‪،‬‬
‫ومن ذلك تأليف الكتب الكثرية اليت تبحث يف إعجاز القرآن الكرمي‪ ،‬وما أدى إىل اهتمامهم بصناعة الكالم‬
‫وسالمة اللغة وعالقة األلفاظ ببعضها البعض‪ ،‬وعالقتها باملعىن‪ .‬ونتيجة لذلك ظهر يف األدب العريب فريقان‬
‫أحدمها انتصر للمعىن‪ ،‬وأخر انتصر لفظ دون املعىن واحتدم الصراع‪.‬‬
‫ومع بداية العصر العباسي اختلط العرب بغريهم من األمم اجملاورة بسبب انتشار اإلسالم‪ .‬فبدأ الذوق العريب‬
‫يتشوه وتفشي اللحن‪ ،‬فكان القرآن الكرمي أول املصادر واملقاييس اليت يرجعون إليها يف تقومي لغتهم‪ ،‬زيادة على‬
‫الشعر العريب (ديوان العرب)‪ ،‬فوجدوا يف القرآن الكرمي دافعا آخر للبحث والتأليف فيه ويف األدب وأوجه البيان‬

‫‪ -1‬صاحل بلعيد‪ ،‬نظرية النظم‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.23 :‬‬


‫‪ -2‬مصطفى صادق الرافعي‪ ،‬إعجاز القرآن والبالغة النبوية‪ ،‬دار الكتاب العريب‪ ، 9117 ،‬ص‪.48 :‬‬
‫‪6‬‬
‫والنظم‪ .‬تردد مصطلح (النظم) كثريا يف كتب العلماء حناة وبالغيني قبل اجلرجاين مبئات السنني الذي تبلورت على‬
‫يديه نظرية بالغية نقدية قائمة بذاهتا‪ ،‬لكن هذا املصطلح مل يكن بلفظه وإمنا كان بألفاظ خمتلفة ويف ما يأيت‬
‫سنتطرق إىل ذلك املسار التارخيي للمصطلح‪.‬‬
‫‪ .5‬سيبويه ت‪ 588 :‬ه‪:‬‬
‫حتدث سيبويه عن ائتالف الكالم‪ ،‬وقد جعل مدار الكالم على تأليف العبارة وعالقة األلفاظ بعضها ببعض‪،‬‬
‫حيث يرى أن وضع األلفاظ يف مواضعها دليل على حسن ائتالف الكالم (النظم)‪ ،‬ووضعها يف غري موضعها‬
‫دليل على فساده؛ حيث قال‪" :‬هذا باب االستقامة من الكالم واإلحالة فمنه مستقيم حسن‪ ،‬ومستقيم حمال‪،‬‬
‫ومستقيم كذب‪ ،‬ومستقيم قبيح‪ ،‬وما هو حمال كنب‪ ،‬فأما املستقيم احلسن فقولك‪ :‬سأتيك غدا‪ ،...‬وأما احملال‬
‫فأن تنتقد أول كالمك بأخره فتقول‪ :‬أتيتك غدا ‪ ،...‬وأما املستقيم الكذب فقولك‪ :‬محلت جبال ‪ ،...‬وأما‬
‫املستقيم القبيح كأن توضع اللفظ يف غري موضعه حنو قد زيدا رأيت‪ ،...‬وأما احملال الكذب فأنت تقول‪ :‬سوف‬
‫‪1‬‬
‫أشرب ماء البحر أمس‪".‬‬
‫إن سيبويه يف هذا الكالم مل يشر إىل مصطلح النظم ولكنه ملح وأشار إليه بكلمة االستقامة‪ ،‬وكان ذلك انطالقا‬
‫من املفردة لضمها يف شكل كتل وجمموعات (كالم مفهوم وتراكيب)‪ ،‬منطلقا مما تفوه به العرب السليقيون وبذلك‬
‫كان سيبويه أول من أقام للكالم اجليد أسسا من أبنية مفردات اللغة‪ ،‬وتوصل إىل وضع األسس األوىل للنظرية‬
‫اللغوية يف مسألة حسن الكالم بوضع‪ ،‬ضوابط الكالم من كالم العرب‪.‬‬
‫‪ . 2‬بشر بن المعتمر ت‪ 258:‬ه‪:‬‬
‫إن بشر بن املعتمر حتدث عن عالقة اللفظ باملعىن حيث قال يف صحيفته‪" :‬وإياك والتوعر فإن التوعر يسلمك إىل‬
‫التعقيد‪ ،‬والتعقيد هو الذي يستهلك معانيك ويشني ألفاظك‪ ،‬ومن أراد املعنی کرمیا فليلتمس له لفظا كرمیا‪ ،‬فإن‬
‫حقاملعىن الشريف اللفظ الشريف‪ ،‬ومن حقهما أن تصوهنما عما يفسدمها ويهجنهما "‪ ،2‬ويستأنف‪…" :‬وّتد‬
‫اللفظة مل تقع موقعها‪ ،‬ومل تصر إىل قرارها‪ ،‬وإىل حقها من أماكنها املقسومة هلا‪ ،‬والقافية مل حتل يف مركزها‪ ،‬ويف‬
‫نصاهبا‪ ،‬ومل تصل بشكلها‪ ،‬وكانت قلقة يف مكاهنا نافرة من موضعها فال تكرهها على اغتصاب األماكن والنزول‬
‫يف غري أوطاهنا‪ ،‬فإنك إذن مل تتعاط قرض الشعر املوزون"‪ 3‬إن ما جاء به بشر بن املعتمر إمنا يدور حول عالقة‬
‫اللفظ باملعىن‪ ،‬فهو يرى يف القول األول على املتكلم أن يبتعد عن التوعر أي الوحشي من الكالم الذي يسلم إىل‬

‫‪ -1‬سيبويه‪ ،‬الكتاب‪ ،‬تح‪ :‬حممد عبد السالم هارون‪ ،‬دار اجليل‪ ،‬بريوت‪ ،‬لبنان‪ ،‬ط‪ ،0 :‬دت‪ ،‬ص ‪. 8، 0‬‬
‫‪ -2‬اجلاحظ‪ ،‬البيان والتبيني‪ ،‬تح ‪:‬عبد السالم هارون‪ ،‬ج‪0367 ، 4‬هـ ص ‪.135‬‬
‫‪ -3‬اجلاحظ‪ ،،‬املرجع نفسه‪ .‬ص‪037:‬‬
‫‪7‬‬
‫التعقيد‪ ،‬ويبحث عن األلفاظ الكرمیة للمعاين الكرمیة‪ .‬ويف القول الثاين يتحدث عن قرض الشعر فريى أنه جيب‬
‫على الشاعر أن يكون طبعيا مبتعدا عن الصنعة يف كالمه مبعىن أن يضع الكالم يف مواضعه‪ ،‬وهذا كله إشارة إىل‬
‫مصطلح النظم الذي مل يذكره بشر‪.‬‬
‫‪ .3‬الجاحظ ت‪211:‬ه‪:‬‬
‫فرق اجلاحظ بني نظم الكالم ونظم القرآن ‪ 1‬إن اجلاحظ مل يشر هو اآلخر إىل مصطلح النظم وإمنا أشار إىل‬
‫اآليت‪" :‬وأجود الشعر ما رأيته متالحم األجزاء سهل املخارج فيعلم بذلك أنه أفرغ إفراغا جيدا‪ ،‬وسبك سبكا‬
‫واحدا‪ .‬فهو جيري على اللسان كما جيري على الرهان ‪ 2‬فقد ذكر اجلاحظ (التالحم‪ ،‬والسبك‪ ،‬واإلفراغ)‪ ،‬كما‬
‫حتدث عن اللفظة املفردة واشرتط فيه شروطا‪ ،‬هي‪" :‬ومىت كان اللفظ أيضا کرمیا يف نفسه متخريا يف جنسه‪ ،‬وكان‬
‫سليما من الفضول بريئا من التعقيد حبب إىل النفوس‪ ،‬واتصل باألذهان والتحم بالعقول وهشت إليه األمساع‬
‫وارتاحت إليه القلوب وخف على ألسن الرواة"‪3‬؛ إن اجلاحظ جيعل تالحم أجزاء الكالم وحسن سبکه وإفراغه‬
‫واختيار ألفاظه وبعده عن التعقيد مما يسهل وصوله إىل النفوس وفهمه‪ ،‬ومن هنا يربز لنا اهتمام اجلاحظ بالنظم‪.‬‬

‫‪-1‬يذكر أن للجاحظ كتابا مساه نظم القرآن لكنه مل يصل إلينا‪.‬‬


‫‪ -2‬اجلاحظ‪ :‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.51-42 :‬‬
‫‪ -3‬اجلاحظ‪ ،‬البيان والتبيني‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.907‬‬
‫‪8‬‬
‫المحاضرة الثانية ‪:‬مفهوم النظم في الدراسات اللغوية البالغية‬

‫‪ ‬مفهوم النظم في الدراسات اللغوية البالغية‪:‬‬


‫أشار كثري من الدارسني إىل النظم‪ ،‬وذلك من خالل حديثهم عن الكالم وحتليله ودراسة اجلملة ‪ ،‬وما‬
‫حيدث فيها من تقدمي وتأخري أو حذف أو ذكر أو فصل‪ ،‬وفيما يلي ذكر ملن حبث أو ألف فيه‪ ،‬وهو إحصاء‬
‫‪1‬‬
‫شامل مرتب ترتيبا زمنيا يشري إىل بذور هذه الفكرة عند النحاة والبالغني ومؤلفي كتب اإلعجاز‪.‬‬
‫‪ -0‬أبو محمد عبد اهلل بن المقفع (ت‪592‬ه) میثل أقدم من أشارت إليه الكتب العربية‪ ،‬يقول عن صياغة‬
‫الكالم‪" :‬فإذا خرج الناس من أن يكون هلم عمل أصيل وأن يقوال قوال بديعا‪ ،‬فليعلم الواصفون املخربون ‪-‬أن‬
‫أحدهم وإن أحسن وأبلغ‪ -‬ليس زائدا على أن يكون كصاحب فصوص وجد ياقوتا وزبرجدا ومرجانا فنظمه قالئد‬
‫ومسوطا وأكاليل‪ ،‬ووضع كل فص موضعه‪ ،‬ومجع إىل كل لون شبهه وما يزيد بذلك حسنا فسمى بذلك صائغا‬
‫‪2‬‬
‫رقيقا‪ ،‬وكصياغة الذهب والفضة صنعوا منها ما يعجب الناس من احللي واآلنية"‪.‬‬
‫شبه إذا ابن املقفع النظم حببات اللؤلؤ اليت يضعها الصائغ منظمة واضعا كل لون يف مكانه املناسب‪،‬‬
‫واألمر نفسه بالنسبة إىل الكالم فمىت كانت الكلمات يف موضعها مرتبة منتظمة كان الكالم مستحسنا من الناس‬
‫لنظمه ونسقه‪.‬‬
‫‪ -9‬كلثوم بن عمرو العتابي (ت ‪228‬ه) جعل ثنائية األلفاظ للمعاين مثل األجساد لألرواح وأن وضع‬
‫اللفظ للمعىن املناسب "األلفاظ أجساد واملعاين أرواح‪ ،‬وإمنا تراها بعيون القلوب‪ ،‬فإذا قدمت منها مؤخرا أو‬
‫أخرت منها مقدما أفسدت الصورة وغريت املعىن‪ ،‬كما لو حول رأس إىل موضع يد‪ ،‬أو يد إىل موضع رجل‪،‬‬
‫لتحولت اخللقة وتغريت احللية"‪3.‬فمراعاة ترتيب األلفاظ هو الذي حيقق النظم بدليل أن أي تغري يف ترتيبها يؤدي‬
‫إىل اإلخالل يف نظم الكالم‪ ،‬أو تشويهه‪.‬‬
‫‪ -3‬أبو هالل الحسن بن عبد اهلل العسكري (ت ‪341‬ه) حتدث عن النظم يف كتابه "الصناعتني" حني‬
‫عقد بابا يف البيان عن رداءة التأليف وحسن التأليف أو جودة الرصف والسبك وخالف ذلك قائال " "وحسن‬
‫‪4‬‬
‫التأليف يزيد املعىن وضوحا وشرحا‪ ،‬ومع سوء التأليف ورداءة الرصف والرتكيب شعبة من التعمية"‪.‬‬

‫‪ -1‬حامت صاحل الضامن‪ ،‬نظرية النظم تاريخ وتطور‪ ،‬دار احلرية للطباعة‪ ،‬بغداد (د‪ ،‬ط) ‪ ،0272‬ص‪.16‬‬
‫‪ -2‬حامت الضامن‪ :‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.16‬‬
‫‪ -3‬أبو هالل احلسن بن عبد اهلل العسكري‪ ،‬الصناعتني الكتابة والشعر‪ ،‬تح‪ :‬مفيد قحيمة‪ ،‬دار الكتب العلمية‪ ،‬بريوت‪ ،‬لبنان‪ ،‬ط‪،0282 ،9‬‬
‫ص‪.072‬‬
‫‪-‬أبو هالل العسكري ‪ ،‬الصناعتني ‪ ،‬حتقيق وضبط مفيد قحيمة ‪ ،‬دار الكتب العلمية‪ ،‬بريوت ‪ ،‬ط‪،0‬ص‪4.060‬‬
‫‪9‬‬
‫ويف سياق آخر يؤكد أن عدم اختيار األلفاظ املناسبة وسوء متوقعها يف الرتكيب يؤديان إىل اإلخالل بالنظم‪،‬‬
‫"…أن يكون لفظك شريفا عذبا‪ ،‬وفخما سهال‪ ،‬مركزها‪ ،‬ومل تتصل بسلكها‪ ،‬وكانت قلقة يف موضعها نافرة عن‬
‫مكاهنا‪ ،‬فال تكرهها على اغتصاب األماكن‪ ،‬والنزول يف غري أوطاهنا… وينبغي أن ترتب األلفاظ ترتيبا صحيحا‬
‫‪1‬‬
‫فنقدم منها ما حيسن تقدمیه ونؤخر منها ما حيسن تأخريه"‪.‬‬
‫إن القول برتتيب األلفاظ ومناسبتها لبعضها بوضعها يف أماكنها‪ ،‬وحسن تقدمیها أو تأخريها متثل إشارة‬
‫ضمنية إىل بعض قضايا النظم دون أن يصرح أبو هالل باملصطلح‪.‬‬

‫‪ -1‬العسكري‪ :‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.059‬‬


‫‪10‬‬
‫المحاضرة الثالثة‪:‬نظرية النظم واإلعجاز القرآني‬

‫‪ ‬مفهوم النظم واإلعجاز القرآني‪:‬‬

‫يف العصر العباسي ويف زمن املعتصم ظهرت فتنة خلق القرآن على يد وزيره أمحد بن أيب داود (سنة‬
‫‪991‬ه) وكان الرد عليه وبيان إعجاز القرآن الكرمي‪ ،‬هو القول بالصرفة؛ أي أن اهلل "صرف اهلمم عن املعارضة‪،‬‬
‫وإن كانت مقدورا عليها وغري معجوز عنها‪ ،‬إال أن العائق من حيث كان أمرا خارجا عن جماري العادات‪ ،‬صار‬
‫كسائر املعجزات"‪ 1.‬أو القول بصرف أنظار العرب وعجزهم عن اإلتيان مبا يشبه القرآن يف أسلوبه وتركيبه اللغوي‬
‫وهو ما ذهب إليه إبراهيم النظام‬

‫يقول مصطفى صادق الرافعي "فذهب شيطان املتكلمني أبو إسحاق إبراهيم النظام إىل أن اإلعجاز‬
‫كان بالصرفة‪ ،‬وهي أن اهلل صرف العرب عن معارضة القرآن مع قدرهتم عليها‪ ،‬فكان هذا الصرف خارقا‬
‫للعادة"‪.‬قلنا وكأنه من هذا القبيل هو املعجزة ال القرآن"‪2.‬وإضافة إىل الصرفة يرى النظام أن اإلعجاز يكمن يف‬
‫اإلخبار عن األمور املاضية واآلتية‪.‬‬

‫إن القول بالصرفة إذا يهمل سر مجال اخلطاب القرآين وروعة بيانه‪ ،‬وفصاحة ألفاظه‪ ،‬ولذلك كان الرأي‬
‫السائد لدى العلماء ‪ -‬يف سياق الرد على مذهب الصرفة ‪ -‬أن القرآن مل يعجز العرب إال ألهنم غري قادرين على‬
‫اإلتيان مبثله أسلوبا وبيانا‪ ،‬فاّته البحث إىل دراسة النص القرآين يف ذاته‪ 3.‬يقول عبد احلميد هنداوي مبينا بطالن‬
‫مذهب الصرفة "فمنها أنه يلزم من القول بذلك أن اإلتيان مبثل كالم اهلل هو يف مقدور البشر واستطاعتهم لو‬
‫خلي بينهم وبني معارضته لوال صرف اهلل تعاىل هلم‪ ،‬ويف هذا من البطالن ما فيه من إبطال وجه من أهم وجوه‬
‫إعجاز القرآن بال داع‪ ،‬ومن القول بإمكان مشاهبة كالم املخلوق لكالم اخلالق الذي هو صفة له‪ ،‬كما يلزم من‬
‫ذلك أيضا القول بعجزه سبحانه أن يأيت بكالم معجز‪ ،‬ألنه على الزم كالمهم قد عجز عن أن يكون كالمه‬
‫‪4‬‬
‫معجزا بنفسه‪ ،‬فأعجز الناس قهرا عن حماولة مشاهبته ومعارضته"‪.‬‬

‫وهلذا السبب حتركت مهم العلماء للبحث يف وجوه إعجاز القرآن‪ ،‬وكان الوجه الذي حضي باهتمام كبري‬
‫هو نظمه العجيب وأسلوبه الفريد‪ ،‬وبالتايل فإن الكتب اليت ألفت يف إعجاز القرآن كان هلا أثرا بالغا يف تطور‬

‫‪ -1‬اخلطايب محد بن حممد‪ ،‬بيان إع جاز القرآن‪ ،‬ضمن ثالث رسائل يف إعجاز القرآن‪ ،‬تح‪ :‬حممد خلق اهلل وحممد زغلول سالم‪ ،‬دار املعارف‪،‬‬
‫القاهرة‪ ،‬ط‪( ،4‬دت) ص‪.99‬‬
‫‪ -2‬مصطفى صادق الرافعي‪ ،‬إعجاز القرآن والبالغة النبوية‪ ،‬دار الكتب العلمية‪ ،‬بريوت‪ ،‬لبنان‪ ،‬ط‪ ،9111 ،0‬ص‪.019‬‬
‫‪ -3‬مسعود بودوخة‪ ،‬نظرية النظم أصوهلا وتطبيقاهتا‪ ،‬البدر الساطع للطباعة والنشر‪ ،‬العلمة‪ ،‬سطيف‪ ،‬ط‪ ،9106 ،0‬ص‪.8‬‬
‫‪ -4‬عبد احلميد هنداوي‪ :‬اإلعجاز الصويت يف القرآن الكرمي‪ ،‬دار الثقافة للنشر‪ ،‬ط‪ ،9114 ،0‬ص‪.01‬‬
‫‪11‬‬
‫فكرة النظم‪ ،‬بدليل أن البالغيني استثمروا نظرية النظم وهم يدرسون بالغة القرآن الكرمي يف أصغر صوره الرتكيبية‬
‫‪1‬‬
‫إىل أعظمها‪.‬‬

‫‪ -0‬محمد بن يزيد الواسطي ت‪383‬ه‪ :‬يقول الرافعي‪" :‬أول كتاب وضع لشرح اإلعجاز وبسط القول فيه‬
‫على طريقتهم يف التأليف‪ ،‬إمنا هو فيما نعلم كتاب (إعجاز القرآن) أليب عبد اهلل حممد بن يزيد الواسطي املتوىف‬
‫سنة ‪316‬ه وال نضن الواسطي بين إال على ابتدأه اجلاحظ‪ ،‬كما بني عبد القاهر يف (دالئل اإلعجاز على‬
‫‪2‬‬
‫الواسطي)"‪.‬‬
‫‪ -9‬أبو الحسن علي بن عيسى الرماني (ت ‪383‬ه)‪ :‬هو أحد أشهر من تناول النظم واإلعجاز يف القرن‬
‫الرابع اهلجري وقد مساه التأليف يف رسالته "النكت يف إعجاز القرآن" يقول "داللة األمساء والصفات متناهية‪ ،‬أما‬
‫داللة التأليف فليس هلا هناية‪ ،‬كما أن املمكن من العدد ليس له هناية يقف عندها"‪ 3.‬فبعدد هنائي من الكلمات‬
‫نؤلف عددا ال هنائيا من التأليفات (نظم اجلمل)‪.‬‬

‫ومعىن هذا أن اإلبداعية تكمن يف النظم ال يف األلفاظ‪ ،‬وحتدث يف الرسالة السابقة عن وجوه اإلعجاز‬
‫حيث يرى أن البالغة ثالث طبقات‪ :‬عليا ودنيا ووسطى‪ ،‬وجعل الطبقة العليا هي بالغة القرآن‪ ،‬والطبقة الوسطى‬
‫خصصها بطبقة البلغاء والفصحاء‪ ،‬والطبقة الدنيا وهي دون تلك الطبقات‪ ،‬واألهم يف هذا التقسيم هو عنايته‬
‫‪4‬‬
‫باللفظ واملعىن‪ ،‬والعالقة القائمة بينهما عند حديثه عن التالؤم بني اللفظ واملعىن املراد به حسن النظم‪.‬‬

‫النظم عند الرماين قائم على التالؤم‪ ،‬وهو وصف استلهمه من كالم اجلاحظ عندما حتدث تنافر احلروف‬
‫‪5‬‬
‫والكلمات وما جيب أن يكون عليه النظم من تالحم حىت يبدو وكأنه سبك سبكا واحدا‬

‫‪ -3‬أبو سليمان حمد بن محمد الخطابي‪( :‬ت ‪388‬ه) رد يف رسالته "بيان إعجاز القرآن" على القائلني‬
‫بالصرفة‪" ،‬إمنا يقوم الكالم هبذه األشياء الثالثة" لفظ حامل‪ ،‬ومعىن به قائم ورباط هلما ناظم وإذا تأملت القرآن‬
‫وجدت هذه األمور منه يف غاية الشرف والفضيلة‪ ،‬حىت ال ترى شيئا من األلفاظ أفصح وال أجزل وال أعذب من‬

‫‪ -1‬حممد بوادي‪ ،‬التفكري الداليل عند البالغيني العرب األوائل‪ ،‬جملة العلوم االجتماعية‪ ،‬جامعة سطيف‪ ،‬العدد‪ ،91‬جوان ‪ ،9105‬ص‪.23‬‬
‫‪ -2‬مصطفى صادق الرافعي‪ ،‬إعجاز القرآن والبالغة النبوية‪ ،‬دار الكتاب العريب‪ ،9117 ،‬ص‪.017‬‬
‫‪ -3‬علي بن عيسى الرماين‪ ،‬النكت يف إعجاز القرآن‪ ،‬ضمن ثالث رسائل يف إعجاز‪ ،‬حتقيق‪ :‬حممد خلف اهلل‪ ،‬وحممد زغلول سالم‪ ،‬دار‬
‫املعارف‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ط‪( ،4‬دت) ص‪.017‬‬
‫‪ -4‬وليد حممد مراد‪ ،‬نظرية النظم وقيمتها العلمية يف الدراسات اللغوية عند عبد القادر اجلرجاين‪ ،‬دار الفكر دمشق‪ ،‬ط‪ ،0283 ،0‬ص‪.96‬‬
‫‪5‬شوقي ضيف ‪ ،‬البالغة تطور وتاريخ ‪،‬دار املعارف مبصر ‪،‬ط‪،3‬د ت ‪ ،‬ص ‪.015‬‬
‫‪12‬‬
‫ألفاظه‪ ،‬ال ترى نظما أحسن تأليفا وأشد تالؤما وتشاكال من نظمه"‪ .1‬إن فصاحة ألفاظ القرآن وحسن نظمه‬
‫وتأليف تراكيبه اللغوية على نسق معني هي اليت كانت وراء إعجازه وليس الصرفة كما زعم النظام‪.‬‬

‫وباإلضافة إىل األلفاظ واملعاين حتدث اخلطايب عما مساه رسوم النظم عندما ما قال‪" :‬أما رسوم النظم‬
‫فاحلاجة إىل الثقافة واحلذق فيها أكثر‪ ،‬أهنا جلام األلفاظ وزمام املعاين‪ ،‬به تنتظم أجزاء الكالم‪ ،‬ويلتئم بعضه ببعض‬
‫فتقوم له صورة يف النفس يتشكل هبا البيان"‪ 2.‬فثقافة املتكلم ومهارته ّتعالنه يتحكم يف زمام األلفاظ ومعانيها‬
‫حبيث يؤلف نظما تلتحم ألفاظه وتتناسق ‪.‬‬

‫من خالل ما سبق يتضح أن مجيع العلماء الذين دافعوا عن أمهية األلفاظ يف النظم هم من املعتزلة‪ ،‬وقد‬
‫جاءت أقواهلم متطابقة مع عقيدهتم املقدسة لأللفاظ بعد القرآن كالم اهلل املخلوق‪ ،‬وقد أعجز اهلل به البشر من‬
‫خالل نظمه أو نسيج تراكيبه اللغوية البليغة‪.‬‬

‫‪ -4‬أبو بكر الباقالني‪( :‬ت ‪983‬ه)‪ :‬يعد من أشهر من ألف يف اإلعجاز يف القرن اخلامس وهو أشعري‬
‫يشرتك مع عبد القاهر اجلرجاين يف مرحلة التأسيس والدفاع عن الفكر األشعري حيث قاد معركة لغوية من أجل‬
‫تأسيس نظرية أشعرية يف قضية البيان وإعجاز القرآن‪ 3.‬يقول عنه شوقي ضيف‪" :‬وهو من أعالم املتكلمني على‬
‫مذهب األشاعرة‪ ،‬وله مصنفات كثرية وجمادالت مع علماء الروم‪ ،‬عنت هلا جهود معاصريه‪ ،‬وكان لسنا بارعا يف‬
‫‪4‬‬
‫اجلدل واالحتجاج‪ ،‬ومن األحباث اليت عين هبا مبحث اإلعجاز يف القرآن"‪.‬‬

‫يرى الباقالين أن اإلعجاز يف القرآن الكرمي يكمن يف نظمه الذي خيالف ما هو شائع يف كالم العرب‪" :‬فأما‬
‫شأو نظم القرآن فليس له مثال حيتذى عليه … وقد تأملنا نظم القرآن‪ ،‬فوجدنا مجيع ما يتصرف فيه من الوجوه‬
‫اليت قدمنا ذكرها على حد واحد يف حسن النظم‪ ،‬وبديع التأليف والرصف… وليس اإلعجاز يف نفس احلروف‪،‬‬
‫وإمنا هو يف نظمها وإحكام رصفها وكوهنا على وزن ما أتى به النيب (صلى اهلل عليه وسلم)‪ ،‬وليس نظمها أكثر‬
‫‪5‬‬
‫من وجودها متقدمة ومتأخرة ومرتتبة يف الوجود‪ ،‬وليس هلا نظم سواها"‪.‬‬

‫‪ -1‬اخلطايب‪ ،‬بيان إعجاز القرآن ضمن ثالث رسائل يف إعجاز القرآن‪ ،‬تح‪ :‬حممد خلق اهلل أمحد وحممد زغلول سالم‪ ،‬دار املعارف‪ ،‬مصر‪ ،‬ط‪،3‬‬
‫‪ ،0276‬ص‪.97‬‬
‫‪ -2‬اخلطايب‪ ،‬بيان إعجاز القرآن ضمن ثالث رسائل يف إعجاز القرآن‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.97‬‬
‫‪ -3‬أمحد أبوزيد‪ ،‬مقدمة يف األصول الفكرية للبالغة وإعجاز القرآن‪ ،‬دار األمان ‪ ،‬املغرب‪ ،‬الرباط‪ ،‬ط‪0412 ،0‬هـ‪ ،‬ص‪.84‬‬
‫‪ -4‬شوقي ضيف‪ ،‬البالغة تطور وتاريخ‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪. 84‬‬
‫‪ -5‬الباقالين‪ ،‬إعجاز القرآن‪ ،‬املكتبة الثقافية‪ ،‬بريوت‪ ،‬لبنان‪ ،0273 ،‬ص‪.009‬‬
‫‪13‬‬
‫فرصف الكلمات والتأليف بينها وترتيبها على نسق معني هو النظم‪ ،‬يقول الباقالين يف قوله تعاىل‪:‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫الكتَاب وال اإلمیَان َولَكِن َج َع ْلنَاهُ نُ ًورا نَـ ْهدي بِِه َمن ن َ‬
‫َّشاءُ‬
‫ك روحا ِمن أَم ِرنَا ما ُكْنت تَ ْد ِري ما ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬
‫ك أ َْو َحْيـنَا إلَْي َ ُ ً ْ ْ َ‬‫"وَك َذل َ‬
‫َ‬
‫ض أََال إِ َىل اهللِ تَ ِ‬
‫ص ُري‬ ‫السمو ِ‬
‫ات َوَما ِيف األ َْر ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِمن ِعب ِادنَا وإن َ ِ ِ ِ ٍ ِ ٍ ِ‬
‫َّك لَتَـ ْهدي إ َىل صَراط ُّم ْستَقيم صَراط اهلل الذي لَهُ َما يف َّ َ َ‬ ‫ْ َ َ‬
‫األ ُُمور"]الشورى‪ "[53 ،59 :‬فانظر إن شئت إىل شريف هذا النظم‪ ،‬وبديع هذا التأليف وعظيم هذا الرصف‪،‬‬
‫‪1‬‬
‫كل كلمة يف هذه اآلية تامة‪ ،‬وكل لفظ بديع واقع"‪.‬‬

‫وهو متأثر بفكرة اجلاحظ اليت ذهب فيها إىل أن اإلعجاز يف القرآن يعود إىل نظمه وأسلوبه العجيب الذي‬
‫خيالف أساليب العرب يف الشعر والنثر وما تتضمنه من أسجاع‪ ،‬كما تأثر بفكرة الرماين عندما جعل القرآن وحده‬
‫‪2‬‬
‫يف الطبقة العليا‪.‬‬

‫"وابْـتَ ِغ‬
‫وحىت املعاين والكلمات املتباعدة تكون مؤتلفة بفعل النظم "وكما قال الباقالين يف أية القصص‪َ :‬‬
‫الدنْـيا و ِ‬ ‫صيب َ ِ‬ ‫ِ‬
‫اآلخرة َوال تَـْن ِ‬ ‫ِ‬
‫ض َّ‬
‫إن‬ ‫َح َسنَا هلل إِلَْي َ‬
‫ك َوَال تَـْب ِغ ال َف َساد ِيف األ َْر ِ‬ ‫ك م َن ُّ َ ْ‬
‫أحسن َك َما أ ْ‬ ‫س نَ َ‬
‫َ‬ ‫اك اهللُ ال ّدار َ‬
‫يما أَتَ َ‬
‫فَ‬
‫ب امل ْف ِس ِدين"]القصص‪ [77 :‬قال هي مخس كلمات متباعدة يف املواقع‪ ،‬نائية املطارح قد جعلها النظم‬ ‫اهللَ َال ُِحي ُّ‬
‫‪3‬‬
‫ُ‬
‫البديع أشد تألقا من الشيء املؤتلف األصل‪ ،‬وأحسن توافقا من املتطابق يف أول الوضع"‪.‬‬

‫يفهم من هذه القوال أن الباقالين میيل يف تبيان إعجاز بالغة النظم القرآين إىل اللفظ؛ بتخري األلفاظ‬
‫املؤتلفة املرتبة على نسق حمكم بصياغتها وروعة تأليفها وجدير باإلشارة يف هذا السياق أن الباقالين يف دراسته‬
‫لإلعجاز القرآين حنى منحى خيتلف عن سابقيه يقول حممد حممد أبو موسى "والذي أغراين بالقول بأن الباقالين‬
‫يضع لبنات أساسية لدراسة اإلعجاز البالغي ويراها بديلة لبالغة البديع اليت قال هبا من سبقوه ومن عاشوا معه‬
‫س وال َق َمَر ُح ْسبَانًا‬ ‫م‬
‫ْ‬ ‫الش‬
‫َ‬ ‫و‬ ‫ا‬‫ً‬‫ن‬ ‫ك‬
‫َ‬ ‫س‬
‫َ‬ ‫ل‬‫ي‬‫ْ‬‫َ‬‫ل‬‫ال‬ ‫ل‬‫ع‬‫َ‬ ‫وج‬
‫َ‬ ‫اح‬
‫ِ‬ ‫َ‬‫ب‬‫ص‬‫ْ‬ ‫كالرماين هو تعليقه على قوله تعاىل يف سورة األنعام‪" :‬فَالِ ُق ا ِ‬
‫إل‬
‫َ‬
‫العلِي ِم"]األنعام‪ [26 :‬قال انظر إىل هذه الكلمات األربع اليت ألف بينها واحتج هبا على ظهور‬ ‫الع ِزي ِز َ‬
‫ِ‬
‫ك تَـ ْقد ُير َ‬
‫ِ‬
‫َذل َ‬
‫قدرته‪ ،‬ونفاذ أمره‪ ،‬أليس كل كلمة منها يف نفسها غرة؟ ومبنفردها درة؟ … وجيمع السالسة إىل الرصانة‪،‬‬
‫والسالمة إىل املتانة …‬

‫‪ -1‬الباقالين‪ :‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.087‬‬


‫‪ -2‬شوقي ضيف‪ ،‬البالغة تطور وتاريخ‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.012 ،018‬‬
‫‪ -3‬حممد حممد أو موسى‪ ،‬مراجعات يف أصول الدرس البالغي‪ ،‬مكتبة وهبة‪ ،‬عابدين‪ ،‬القاهرة‪ ،‬مصر‪ ،‬ط‪ ،9115 ،0‬ص‪.956‬‬
‫‪14‬‬
‫ولست أقول إنه مشل األطباق املليح‪ ،‬واإلجياز اللطيف‪ ،‬والتعديل والتمثيل … وإن كان قد مجع ذلك‬
‫وأكثر منه ألن العجيب ما بينا من انفراد كل كلمة بنفسها حىت تصلح أن تكون عني رسالة‪ ،‬أو خطبة‪ ،‬أو وجه‬
‫‪1‬‬
‫قصيدة‪ ،‬أو فقرة‪ ،‬فإذا ألفت ازدادت به حسنا وإحسانا‪ ،‬وزادتك إذا تأملت معرفة وإمیانا"‪.‬‬

‫إن الباقالين ال خيتلف عن ما سبقوه يف تفسري النظم ‪ ،‬فهو يعلي من شأن األلفاظ وجيعل ائتالفها كفيل‬
‫جبعل الكالم يتصف بالنظم ‪.‬‬

‫‪ -1‬حممد حممد أو موسى‪ ،‬مراجعات يف أصول الدرس البالغي‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.958 ،957‬‬
‫‪15‬‬
‫المحاضرة الرابعة‪:‬نظرية النظم عند عبد القاهر الجرجاني‬

‫‪ ‬نظرية النظم عند عبد القاهر الجرجاني‪:‬‬

‫قلنا سابقا أن اجلاحظ هو أول من وضع مصطلح النظم عندما علل به إعجاز القرآن الكرمي ومتسك به‬
‫األشاعرة‪ ،‬وراح املعتزلة منذ أيب هاشم اجلبائي يضعون مكانه مصطلح الفصاحة اليت ردوها إىل حسن اللفظ‬
‫واملعىن‪.‬‬

‫وفسر القاضي عبد اجلبار فصاحة القرآن بأهنا تقود إىل األداء والصياغة النحوية للتعبري (بضم الكلمات إىل‬
‫بعضها)‪.‬‬

‫وكان ذلك شعاعا مضيئا أهلم عبد القاهر اجلرجاين تفسريه للنظم مستمدا من عبد اجلبار دون أن يشري إىل‬
‫ذلك‪ ،‬املر الذي جيعل القارئ يعتمد أن عبد القاهر هو أول من قال أن اإلعجاز يف القرآن يعود إىل تراكيب‬
‫الكالم وصياغته وخصائصه التعبريية‪ 1.‬وبعبارة أخرى اإلعجاز يكمن يف النظم‪.‬‬

‫إن النظم يف جوهره هو النحو يف أحكامه‪ ،‬فالناظم يراعي أثناء كالمه قوانني النحو وقواعده املختلفة‪،‬‬
‫كالتقدمي والتأخري‪ ،‬واحلذف‪ ،‬والتعريف والتنكري‪ ،‬والفصل والوصل‪ ،‬ومعرفته هلذه القواعد وعدم اإلخالل هبا شرط‬
‫أساسي لصحة النظم قول عبد القاهر‪" :‬اعلم أن ليس النظم إال أن تضع كالمك الوضع الذي يقتضيه علم النحو‬
‫وتعمل على قوانينه وأصوله وتعرف مناهجه اليت هنجت فال تزيغ عنها وحتفظ الرسوم اليت رمست لك فال ختل‬
‫‪2‬‬
‫بشيء منها‪ ،‬وذلك أنا ال نعلم شيئا يبتغيه الناظم بنظمه غري أن ينظر يف وجوه كل باب وفروقه"‪.‬‬

‫ويؤكد أن النظم هو النحو عندما يقول‪" :‬إذا كان ال يكون النظم شيئا غري توخي معاين النحو وأحكامه‬
‫فيما بني الكلم‪ ،‬كان من أعجب العجب أن يزعم زاعم أنه يطلب املزية يف النظم‪ ،‬مث ال يطلبها يف معاين النحو‬
‫‪3‬‬
‫وأحكامه اليت …‪ ..‬النظم عبارة عن توخيها فيما بني الكلم"‪.‬‬

‫وعلى هذا األساس فاملعايري النحوية هي اليت تفصل بينالنظم الصحيح والفاسد منه " هذا هو السبيل‬
‫فلست بواجد شيئا يرجع صوابه إن كان صوابا وخطؤه إن كان خطأ إىل النظم ‪ ،‬ويدخل حتت هذا االسم إال وهو‬

‫‪ -1‬شوقي ضيف‪ ،‬البالغة تطور وتاريخ‪ ،‬دار املعارف ‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ط‪، 0‬ص‪.060‬‬
‫‪ -2‬عبد القاهر اجلرجاين‪ ،‬دالئل اإلعجاز‪ ،‬حتقيق الشيخ حممد رشيد رضا‪ ،‬املؤسسة الوطنية للفنون املطبعية‪ ،‬وحدة الرغاية‪ ،‬اجلزائر‪،0220 ،‬‬
‫ص‪.24‬‬
‫‪ -3‬اجلرجاين‪:‬مصدر سابق‪ ،‬ص ‪24‬‬
‫‪16‬‬
‫معىن من معاين النحو قد أصيب به موضعه ووضع يف حقه " ‪ . 1‬وكل تفاضل يف قواعد النحو جيعل النظم أفضل‬
‫بالغة ومجاال " فال ترى كالما قد وصف بصحة نظم أو فساده ‪ ،‬أو وصف مبزية وفضل فيه إال وأنت ّتد مرجع‬
‫‪2‬‬
‫تلك الصحة وذلك الفساد وتلك املزية وذلك الفضل إىل معاين النحو وأحكامه "‬

‫ومن األمثلة اليت ذكر اجلرجاين أن فساد النظم يعود إىل عدم توخي معاين النحو قول الفرزدق]من …[‬

‫أبو أمه حي أبوه يقاربه‬ ‫وما مثله في الناس إال مملكا‬

‫يقول حممد حممد أبو موسى معلقا على رداءة النظم يف هذا البيت‪" :‬الفرزدق هنا أقام البيت على صورة‬
‫مل يصر على تشكيلها التشكيل الكلي الذي حيسن ترتيبها وتنسيقها وإمنا رمى هبا وهي أشكال معان جزئية‪،‬‬
‫وأنت حمتاج إىل أن تعيد نظامها كما تعيد نظام احلروف املتقطعة أو كما ّتمع أجزاء متناثرة من صورة تريد أن‬
‫تضبط متامها‪ ،‬وكماهلا ومجاهلا‪ ،‬ال بد لك أن تنقل كلمة (حي) وتضعها بإزاء كلمة (الناس)‪ ،‬مث تنقل (يقاربه) بإزاء‬
‫‪3‬‬
‫(حي)‪ ،‬فيكون الكالم وما مثله يف الناس حي يقاربه إال مملكا أبو أمه أبوه"‪.‬‬

‫ومثل لصحة النظم واستقامته بسبب توخي معاين النحو بأبيات للبحرتي‬

‫ت عزما وشيكا ورأيا صليبا‬ ‫هو المرء أبدت له الحادثا‬

‫سماحا مرجى وبأسا مهيبا‬ ‫تنقل في خلقي سودد‬

‫وكالبحر إن جئته مستثنيا‬ ‫فكا للسيف إن جئته صارحا‬

‫وحسن النظم فيها يعود إىل قواعد النحو اليت اتبعها الشاعر وأمهها التقدمي والتأخري يف قوله (هو املرء‬
‫أبدت له احلادثات) فلو قال مثال‪" :‬املرء أبدت‪ ،‬أو أبدت احلادثات للمرء لكان النظم رديئا‪ ،‬كما أن تنكري كلمة‬
‫‪4‬‬
‫(سودد) وإضافة اخللقني هلا أسهما يف حسن النظم"‪.‬‬

‫ويستدل على أمهية النظم عندما يبني أن مجال الصورة البيانية وروعتها يعود إىل الرتكيب النحوي قائال‪:‬‬
‫"االستعارة والكناية والتمثيل‪ ،‬وسائر ضروب اجملاز من بعدها من مقتضيات النظم‪ ،‬وعنها حيدث و هبا يكون‪،‬‬

‫‪ 1‬اجلرجاين‪:‬املصدر نفسه ‪ ،‬ص ‪. 25‬‬


‫‪ 2‬اجلرجاين‪:‬املصدر نفسه ‪ ،‬ص ‪.25‬‬
‫‪ -3‬حممد حممد أبو موسى‪ ،‬مدخل إىل كتاب عبد القاهر اجلرجاين‪ ،‬مكتبة وهبة‪ ،‬القاهرة‪ ،‬مصر‪ ،‬ط‪ ،0228 ،0‬ص ‪79‬‬
‫‪ -4‬حممد حممد أبو موسى‪ ،‬مدخل إىل كتاب عبد القاهر اجلرجاين‪ ،‬املصدر نفسه‪ ،‬ص‪73.‬‬
‫‪17‬‬
‫ألنه ال يتصور أن يدخل شيء منها يف الكلم‪ ،‬وهي أفراد مل يتوخ فيما بينها حكم من أحكام النحو‪ ،‬فال يتصور‬
‫‪1‬‬
‫أن يكون ههنا فعل أو اسم قد دخلته االستعارة من دون أن يكون قد ألف مع غريه"‪.‬‬

‫الرأْ ُ‬
‫س َش ْيبًا"]مرمي‪ [4:‬واليت يعتقد الناس فيها أن الشرف فيها يكمن يف‬ ‫مستشهدا باآلية الكرمیة "وا ْشتَـ َع َل َ‬
‫االستعارة واحلقيقة ليست كذلك ألننا قلبنا العبارة لتصبح واشتعل شيب الرأس لذهب ما فيها من روعة‪ ،‬مع أن‬
‫االستعارة مل تزل قائمة‪ ،‬فلم يبق إذا إال أن تكون الروعة تكمن يف العبارة من خالل إسناد فعل االشتعال إىل‬
‫الرأس‪ ،‬واجمليء بالشيب الذي له الفعل منصوبا‪ ،‬علما أن هذا التعبري يشحنها بدالالت مل تكن ممكنة لو أسند‬
‫االشتعال إىل الرأس يفيد باإلضافة إىل ملعان الشيب يف الرأس الشمول والشيوع‪ ،‬ومن حسن النظم تعريف الرأس‬
‫باأللف والالم وإفادة معىن اإلضافة من غري إضاءة‪ ،‬ول صرح باإلضافة فقيل واشتعل رأسي لذهب كثري من‬
‫‪2‬‬
‫حسنها‪.‬‬

‫إن نظرية النظم عند اجلرجاين تقوم على الرتكيب النحوى "‪ "La syntaxe‬يف الكالم العادي أو الفين‬
‫البليغ‪ ،‬لذلك ما لبث يصرح باستحالة االستغناء عن قواعد النحو يف تأليف الكالم "… ذاك ألننا قد علمنا علم‬
‫ضرورة أنا لو بقينا الدهر األطول نصعد ونصوب‪ ،‬ونبحث وننقب‪ ،‬نبتغي كلمة قد اتصلت بصاحبة هلا‪ ،‬ولفظة قد‬
‫‪3‬‬
‫انتظمت مع أختها‪ ،‬من غري أن نتوخى فيما بينهما معىن من معاين النحو‪ ،‬طلبنا ممتنعا"‪.‬‬

‫وهو ما جعل اجلرجاين يدافع عن النحو ويدعو الناس إىل تعلمه "وأما زهدهم يف النحو واحتقارهم له‬
‫‪4‬‬
‫وإصغارهم أمره وهتاوهنم به فصنيعهم يف ذلك … أشبه بأن يكون صدا عن كتاب هلل وعن معرفة معانيه"‪.‬‬

‫أسس نظرية النظم‪:‬‬ ‫‪‬‬

‫نعين بأسس نظرية النظم أو أركان النظم أسس نظم الكالم‪ ،‬أي‪ :‬ما هي املراحل اليت متر هبا عملية إنتاج‬
‫الكالم؟ واليت ال میكن للكائن البشري االستغناء عنها يف صناعة الكالم وإنتاجه‪.‬‬

‫‪ -‬ترتيب المعاني في النفس‪:‬‬

‫حتدث عبد القاهر عن ترتيب املعاين يف النفس كثريا‪ ،‬وعده عنصرا أساسيا يف عملية النظم‪ ،‬فهو يرى أن‬
‫املتكلم إذا فرغ من نظم املعاين يف النفس أوال فإن األلفاظ ترتتب يف النطق ثانيا يقول يف دالئل اإلعجاز "فإذا‬

‫‪ -1‬عبد القاهر اجلرجاين‪ ،‬دالئل اإلعجاز‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص‪.357-356‬‬


‫‪ -2‬عبد القاهر اجلرجاين‪ ،‬دالئل اإلعجاز‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص ص‪.012-018‬‬
‫‪ -3‬عبد القاهر اجلرجاين‪ ،‬دالئل اإلعجاز‪ ،‬املصدر نفسه‪ ،‬ص‪.356‬‬
‫‪ -4‬عبد القاهر اجلرجاين‪ ،‬دالئل اإلعجاز‪ ،‬املصدر نفسه‪ ،‬ص‪.43‬‬
‫‪18‬‬
‫وجب ملعىن أن يكون أوال يف النفس‪ ،‬وجب للفظ الدال عليه أن يكون مثله يف النطق‪ ،‬فأما أن تتصور يف األلفاظ‬
‫أن تكون املقصودة قبل املعاين بالنظم والرتتيب‪ ،‬وأن يكون الفكر يف النظم الذي يتواصفه البلغاء فكرا يف نظم‬
‫‪1‬‬
‫األلفاظ‪ ،‬أو أن حتتاج بعد املعاين إىل فكر تستأنفه ألن ّتري باأللفاظ على نسقها فباطل من الظن"‪.‬‬

‫إن القول برتتيب املعاين قبل األلفاظ جاء ردا على املعتزلة وعلى رأسهم اجلاحظ وعبد اجلبار القائلني بأن‬
‫النظم هو نظم األلفاظ "ودليل آخر وهو أنه لو كان القصد بالنظم إىل اللفظ نفسه دون أن يكون الغرض ترتيب‬
‫املعاين يف النفس‪ ،‬مث النطق باأللفاظ على حذوهاـ لكان ينبغي أال خيتلف حال اثنني يف العلم حبسن النظم‪ ،‬أو غري‬
‫احلسن فيه ألهنما حيسان بتوايل األلفاظ يف النطق إحساسا واحدا‪ ،‬وال يعرف أحدمها يف ذلك شيئا جيهله‬
‫‪2‬‬
‫اآلخر"‪.‬‬

‫وأشار إىل الرتتيب نفسه يف أسرار البالغة عندما قال "واأللفاظ ال تفيد حىت تؤلف ضربا خاصا من‬
‫التأليف‪ ،‬ويعمد هبا إىل وجه دون وجه من الرتكيب والرتتيب"‪ 3.‬مث "ذكر أن هذا الرتتيب والرتكيب إمنا وقع يف‬
‫األلفاظ على وفق املعاين املرتبة يف النفس واملنتظمة فيها على قضية العقل‪ ،‬يعين أن هذا النسق اللفظي هو صورة‬
‫لنسق وراءه عقل انتظمه وأن بناء الكالم هو بناء فكر‪ ،‬وعقل وأن ناطقية اإلنسان هي عقله وليست لسانه‪ ،‬وما‬
‫دام هذا هو جوهر الكالم فيجب أن تقرأه من اجلهة اليت يقرأ منها وأن تتحسس فيه حركة العقل ونسق العقل‪،‬‬
‫وأن ترى به‪ ،‬وفيه صفحة النفس اليت صاغته ألن النسق اللفظي جسم صوت جيب أن تتجاوزه بعد إحكامه إىل‬
‫ما وراءه من نسق فكري‪ ،‬وأن كل شيء يف اللغة وراءه شيء يف العقل‪ ،‬والنفس‪ ،‬حىت النغمة‪ ،‬و التوقيعة الصوتية‪،‬‬
‫هي جرس نفس وحلن عقل وفكر‪ ،‬ال جيوز أبدا أن نتعامل مع الكالم شعرا أو بيانا على أنه شقشقة لسان ألن‬
‫‪4‬‬
‫هذا إهدار حلقيقته‪ ،‬وال بد من أن نتعدى اللفظ واجلرس إىل ما يناجي فيه العقل النفس"‪.‬‬

‫يوضح حممد أبو موسى ترتيب املعاين النحوية يف النفس أو العقل مث ترتيب األلفاظ على النسق النحوي‬
‫ومیثل لذلك قائال‪ …" :‬وهي أننا عند التحقيق ال نرى صحة ما يقال من وجوب تقدمي بعض األلفاظ على بعض‬
‫كقولنا إن اخلرب واجب التقدمي يف مواضع كذا وأن املفعول واجب التقدمي يف مواضع كذا‪ ،‬وأن الصفة جيب أن‬
‫تتقدم على املوصوف‪ ،‬وأن االستفهام له الصدارة‪ ،‬ألن ليس هناك حكم من هذه األحكام يتعلق بلفظ من حيث‬
‫هو لفظ‪ ،‬ألن األلفاظ يف ذاهتا ليس فيها ما يوجب تقدمیها‪ ،‬أو تأخريها‪ ،‬أو حذفها أو ذكرها‪ ،‬وإمنا كل ذلك‬

‫‪ -1‬عبد القاهر اجلرجاين‪ ،‬دالئل اإلعجاز‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص‪.68‬‬


‫‪ -2‬عبد القاهر اجلرجاين‪ ،‬دالئل اإلعجاز ‪،‬املصدر نفسه‪ ،‬ص‪.26‬‬
‫‪ -3‬عبد القاهر اجلرجاين‪ ،‬أسرار البالغة‪ ،‬حتقيق الشيخ حممد عبد والشيخ حممد رشيد رضا ‪ ،‬دار املعرفة ‪ ،‬بريوت ‪ ،‬لبنان‪ ،‬ص ‪.61‬‬
‫‪ -4‬حممد حممد أبو موسى‪ ،‬مدخل إىل كتايب عبد القاهر اجلرجاين‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.69، 60‬‬
‫‪19‬‬
‫راجع إىل مقتضيات عقلية‪ ،‬أوجبت ترتيب املعاين يف النفس‪ ،‬وانتظمت على قضية العقل‪ ،‬فما وجب تقدمیه يف‬
‫العقل قدم يف اللفظ‪ ،‬وما وجب تأخريه يف العقل آخر يف اللفظ‪ ،‬فاالقتضاءات العقلية هي الفصل وهي القانون‬
‫‪1‬‬
‫وهي القاعدة"‪.‬‬

‫إذا املعاين املرتبة يف النفس ليست املعىن الذي هو قسيم اللفظ‪ ،‬وال املعىن القاموسي‪ ،‬أو الداليل الذي‬
‫يشمل عليه اللفظ‪ ،‬وإمنا هو املعادل الذهين للمعاين النحوية‪ 2‬يقول أمحد حسن صربة "وال يقصد عبد القاهر من‬
‫املعاين العامة للكالم‪ ،‬أو املعاين العجمية أللفاظ اللغة‪ ،‬وإمنا يعين املعىن النحوي الذي يكتسبه اللفظ يف السياق‬
‫والعالقات الناشئة بني الكلمات يف السياق (التأليف)"‪ .3‬علما أن املعاين النحوية ليست املعىن اخلام‪ ،‬وإمنا املعىن‬
‫اخلاص املصور الذي تشكل يف النفس ونظم فيها نظما خاصا‪ 4‬والذي يوفر للمتكلم إمكانية التميز يف أسلوب‬
‫تعبريه واالختالف عن غريه يف طريقة نظم الكالم‪.‬‬

‫‪ -‬التعلق النحوي‪:‬‬

‫يرى حممد أمحد حنلة أن التعلق النحوي هو األساس الثاين الذي تقوم عليه نظرية النظم حيث "قادته فكرة‬
‫ترتيب األلفاظ حسب ترتيب املعاين يف النفس إىل فكرة أخرى‪ ،‬تعد فيما نرى الركن الثاين من أركان نظريته‪ ،‬وهي‬
‫فكرة التعلق النحوي"‪ 5.‬القائم على وضع الكلمات جبواز بعضها وفق عالقات حنوية يقول عبد القاهر‪" :‬واعلم‬
‫أنك إذا رجعت إىل نفسك علمت علما ال يعرتضه الشك‪ ،‬أن ال نظم يف الكلم وال ترتيب حىت يعلق بعضها‬
‫ببعض‪ ،‬وّتعل هذا بسبب من تلك‪ ،‬هذا ما ال جيعله عاقل وال خيفى على أحد من الناس"‪ 6.‬إن املعاين املرتبة يف‬
‫النفس يعضدها التعالق النحوي‪ ،‬وبدونه ال نظم وال ترتيب للمعاين حيصالن ‪.‬‬

‫يشرح اجلرجاين التعلق النحوي قائال "وإذا نظرنا يف ذلك علمنا أن ال حمصول هلا غري أنت تعمد إىل اسم‬
‫فتجعله فاعال لفعل أو مفعول‪ ،‬أو تعمد إىل امسني فتجعل أحدمها خربا عن اآلخر‪ ،‬أو تتبع االسم امسا على أن‬
‫يكون الثاين صفة لألول‪ ،‬أو تأكيدا له‪ ،‬أو بدال منه‪ ،‬أو ّتيء باسم بعد متام كالمك على أن يكون الثاين صفة‬
‫أو حاال أو متييزا‪ ،‬أو تتوخى يف كالم هو إلثبات معىن أن يصري نفيا‪ ،‬أو استفهاما أو متنيا‪ ،‬فتدخل عليه هذه‬

‫‪ -1‬حممد حممد أبو موسى‪ ،‬مدخل إىل كتايب عبد القاهر اجلرجاين‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.65‬‬
‫‪ -2‬أمحد أبوزيد‪ ،‬مقدمة يف األصول الفكرية للبالغة وإعجاز القرآن‪ ،‬مرجع سابق ص‪.27‬‬
‫‪ -3‬أمحد حسن صربة‪ ،‬التفكري االستعاري‪ ،‬مكتبة الوادي‪ ،‬بدمنهور‪ ،‬ط‪ ،9119 ،9‬ص‪.014‬‬
‫‪ -4‬درويش اجلندي‪ ،‬نظرية عبد القاهر يف النظم‪ ،‬مكتبة هنضة‪ ،‬مصر القاهرة‪ ،0261 ،‬ص‪.74‬‬
‫‪ -5‬حممود أمحد حنلة‪ ،‬يف البالغة العربية‪ ،‬علم املعاين‪ ،‬دائرة العلوم العربية‪ ،‬بريوت‪ ،‬لبنان‪ ،‬ط‪ ،0221 ،0‬ص‪.98‬‬
‫‪ -6‬اجلرجاين‪ :‬دالئل اإلعجاز‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص‪.62‬‬
‫‪20‬‬
‫احلروف املوضوعة لذلك‪ ،‬أو تريد يف فعلني أن ّتعل أحدمها شرطا يف اآلخر‪ ،‬فتجيء هبما بعد احلرف املوضوع‬
‫هلذا املعىن‪ ،‬أو بعد اسم من األمساء اليت ضمنت معىن ذلك احلرف وعلى هذا القياس"‪1.‬مقسما إياه إىل ثالثة‬
‫أقسام‪:‬‬

‫‪ .0‬تعلق اسم باسم بأن يكون خربا أو حاال أو صفة أو بدال أو متييزا أو مضافا‪.‬‬

‫‪ .9‬تعلق اسم بفعل كأن يكون فاعال أو مفعوال بأنواعه أو خربا لكان أو حاال أو متييزا‪.‬‬

‫‪ .3‬تعلق احلرف هبما‬

‫ويتضح من هذا التقسيم استحالة تعلق فعل مع فعل أو حرف مع آخر‪.‬‬

‫إن التعلق بني الكلمات بضمها إىل بعضها هو العملية االسنادية للمعاين النحوية املرتبة يف النفس وهو‬
‫شرط ضروري حلصول النظم ‪ .‬ومن هنا كانت الكلمات املفردة دون إسنادها حنويا إىل غريها خارج دائرة النظم "‬
‫فال يتصور أن يتعلق الفكر مبعاين الكلم أفرادا وجمردة من معاين النحو‪ ،‬فال يقوم يف وهم‪ ،‬وال يصح يف عقل أن‬
‫يتفكر مفكر يف معىن (فعل) من غري أن يريد إعماله يف (اسم) وال أن يتفكر يف معىن (اسم) من غري أن يريد‬
‫إعمال (فعل) فيه وجعله فاعال أو مفعوال‪ ،‬أو يريد منه حكما سوى ذلك من األحكام‪ ،‬مثل أن يريد جعله مبتدأ‬
‫‪2‬‬
‫أو خربا أو صفة أو حاال‪ ،‬أو ما شاكل ذلك"‪.‬‬

‫وجيب اإلشارة يف هذا السياق أن التعلق عند اجلرجاين له مستويات‪ :‬مستوى يقف عند الصواب ومستوى‬
‫يرقى إىل بالغة اخلطاب "فإذا قلت أ فليس هو كالما قد أطرد على الصواب وسلم من العيب"؟‬

‫أفما يكون يف كثرة الصواب فضيلة؟ قيل أما الصواب كما ترى فال ألنا لسنا يف ذكر تقومي اللسان‪،‬‬
‫والتحرر من اللحن‪ ،‬وزيغ اإلعراب فنعتد مبثل هذا الصواب‪ ،‬وإمنا حنن يف أمور تدرك بالفكر اللطيف‪ ،‬ودقائق‬
‫يوصل إليها بثاقب الفهم‪ ،‬فليس درك صوب دركا فيما حنن فيه حىت يشرف موضعه‪ ،‬ويصعب الوصول إليه‪،‬‬
‫‪3‬‬
‫وكذلك ال يكون ترك خطأ تركا حىت حيتاج يف التحفظ منه إىل لطف نظر وفضل رؤية وقوة ذهن وشدة تيقظ"‪.‬‬

‫يعلق عبد احلميد أمحد يوسف هنداوي عن هذين املستويني قائال‪" :‬واحلقيقة أن عبد القاهر يفرق يف‬
‫كالمه بني نوعني من الصواب يف الكالم واملعاين‪ ،‬األول ما میكن أن نصطلح على تشميته بالصواب النمطي أو‬

‫‪ -1‬اجلرجاين‪ :‬دالئل اإلعجاز‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص‪.71-62:‬‬


‫‪ -2‬اجلرجاين‪ :‬دالئل اإلعجاز‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص‪.09‬‬
‫‪ -3‬اجلرجاين‪ :‬دالئل اإلعجاز‪ ،‬املصدر نفسه ‪ ،‬ص‪.016‬‬
‫‪21‬‬
‫الصواب النحوي‪ ،‬والتايل هو ما حقق ذلك الصواب وزاد عليه حبسن الصياغة‪ ،‬وهذا الثاين هو اجلدير بأن‬
‫‪1‬‬
‫يستدرك يف نظر اجلرجاين ويف نظر البالغيني قاطبة كذلك"‪.‬‬

‫وعليه فاملستوى الثاين هو املستوى الفين البالغي الراقي وما يقع فيه من عدول أو جماز يكونان مضبوطني‬
‫بقواعد حنوية‪.‬‬

‫‪ -‬تخير الموقع‪:‬‬

‫يقرر عبد القاهر أن اللفظة املفردة ال فصاحة هلا وال مزية حىت تضم إىل أخواهتا يف تأليف دقيق وعلى‬
‫حنو خمصوص‪ ،‬وألن التعلق ركن أساسي يف نظرية النظم‪ ،‬فإنه جيب أن يراعي موقع الكلمة من بني أخواهتا؛ أي‬
‫لكل مكان لفظه املناسب‪ ،‬حبيث لو حول ذلك اللفظ من مكانه‪ ،‬أو أزيل عنه اختل النسق اللغوي وذهب رونق‬
‫النظم ومجاله "وإذا كان هذا كذلك فينبغي أن ينظر إىل الكلمة قبل دخوهلا يف التأليف‪ ،‬وقبل أن تصري إىل الصورة‬
‫اليت يكون هبا الكلم إخبارا وأمرا وهنيا واستخبارا وتعجبا‪ ،‬وتؤدي يف اجلملة معىن من املعاين اليت ال سبيل إليها إال‬
‫بضم كلمة إىل كلمة … وهل يقع يف وهم أحدهم –وإن جهد‪ -‬أن تتفاضل املفردات من غري أن ينظر إىل‬
‫مكان تقعان فيه من التأليف والنظم بأكثر من أن هذه مألوفة مستعملة وتلك غريبة وحشية؟ …وهل ّتد أن‬
‫أحدا يقول‪ :‬هذه اللفظة فصيحة إال وهو يعترب مكاهنا من النظم وحسن مالئمة معناها ملعاين جاراهتا‪ ،‬وفضل‬
‫‪2‬‬
‫مؤانستها ألخواهتا"‪.‬‬

‫إن الكلمة املفردة ال قيمة هلا‪ ،‬وال میكن إدراك مجاهلا وفصاحتها إال من خالل موقعها يف النسق الرتكييب‬
‫وتناسق معناها ليتالءم مع معاين ما يسبقها وما يأيت بعدها من كلمات "قد اتضح اتضاحا ال يدع للشك جماال‬
‫أن األلفاظ ال تتفاضل من حيث هي ألفاظ تثبت هلا الفضيلة وخالفها يف مالئمة معىن اللفظة ملعىن اليت تليها أو‬
‫ما أشبه ذلك مما ال تعلق له بصريح اللفظ‪ ،‬ومما يشهد لذلك أنك ترى الكلمة تروقك وتؤنسك يف موضع مث تراها‬
‫بعينها تثقل عليك وتوحشك يف موضع آخر"‪ 3‬ألن موقعها ومعناها ال يناسبان غريها من الكلمات‪.‬‬

‫ويؤكد على صحة هذه الفكرة والدليل على ذلك أنك ّتد الرجلني يستعمالن نفس الكلمة‪ ،‬فرتى‬
‫أحدمها قد أحسن اختيار املوقع وحسن النسق فبلغ مساء الفصاحة‪ ،‬يف حني أن اآلخر وصل إىل احلضيض "…‬

‫‪ -1‬أمحد يوسف هنداوي‪ ،‬اإلعجاز الصريف يف القرآن الكرمي ‪ ،‬دراسة نظرية تطبيقية ‪ ،‬التوظيف البالغي لصيغة الكلمة ‪ ،‬املكتبة العصرية صيدا ‪،‬‬
‫بريوت ‪ ،9119 ،‬ص ص‪.79، 70‬‬
‫‪ -2‬عبد القاهر اجلرجاين‪ ،‬دالئل اإلعجاز‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص‪.58‬‬
‫‪ -3‬عبد القاهر اجلرجاين‪ ،‬دالئل اإلعجاز‪ ،‬املصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.61‬‬
‫‪22‬‬
‫فإنك ّتد مىت شئت الرجلني قد استمأل ………‪ .‬بأعياهنا‪ ،‬مث ترى هذا قد فرع السماء‪ ،‬وترى ذاك قد لصق‬
‫باحلضيض‪ ،‬فلو كانت الكلمة حسنت‪ ،‬حسنت من حيث هي لفظ‪ ،‬وإذا استحقت املزية والشرف استحقت‬
‫ذلك يف ذاهتا وعلى انفرادها‪ ،‬دون أن يكون السبب يف ذلك حال هلا مع أخواهتا اجملاورة هلا يف النظم‪ ،‬ملا اختلف‬
‫هبا احلال‪ ،‬ولكانت إما حتسن أبدا أو ال حتسن أبدا‪ ،‬ومل تر قوال يضطرب على قائله حىت ال يدري كيف يعرب‪،‬‬
‫‪1‬‬
‫وكيف يورد ويصدر كهذا القول"‪.‬‬

‫ويضرب مثاال ألمهية ختري املوقع قائال‪" :‬ومما يشهد لذلك أنك ترى الكلمة تروقك وتؤنسك يف موضع مث‬
‫‪2‬‬
‫تراها بيعنها تثقل عليك وتوحشك يف موضع آخر‪ ،‬كلفظة االخدع يف بيت احلماسة‪.‬‬

‫وجعت اإلصغاء ليت واخدعا‬ ‫تلفت نحو الحي حتى وجدتني‬

‫وبيت البحرتي‬

‫وأعتقت من رق المطامع أخدعي‬ ‫وإني وإن بلغتني شرف الغنى‬

‫فإن هلا يف هذين املكانني ما ال خيفى من احلسن‪ ،‬مث أنك تتأملها يف بيت أيب متام‪:‬‬

‫أضججت هذا األنام من خرقك‬ ‫يا دهر قوم من اخدعيك فقد‬

‫فتجد هلا من الثقل على النفس‪ ،‬والتنغيص‪ ،‬والتنكري‪ ،‬أضعاف ما وجدت هناك من الروح واخلفة‬
‫‪3‬‬
‫واإليناس والبهجة"‪.‬‬

‫يتضح إذا أن معيار اختيار موقع الكلمة يف النظم يقوم على مالئمة معناها ملعاين الكلمات األخرى حىت‬
‫يرتقي النسق اللغوي جلملة ما إىل درجة عالية من البالغة‪.‬‬

‫‪ -‬معاني النحو‪:‬‬

‫حتدث عنه صاحل بلعيد ضمن األركان العامة لنظرية النظم‪ 1‬وذكره حممود أمحد حنلة فقال "وهو الركن‬
‫الرابع واألخري من أركان نظرية النظم عند عبد القاهر اجلرجاين‪ ،‬وقد عين عبد القاهر هبذا الركن عناية بالغة ألنه‬
‫مثرة النظم و مصوله"‪2.‬ومسته …‪ .‬محيد البيايت الوجوه والفروق وجعلته الركن الرابع من أركان هذه النظرية‪.‬‬

‫‪ -1‬عبد القاهر اجلرجاين‪ ،‬دالئل اإلعجاز‪ ،‬مصدر سابق‪ :‬ص‪.60‬‬


‫‪ -2‬البيت للصمة بن عبد اهلل بن طفيل بن احلارث بن قرة بن هبرية بن عامر بن سلمة اخلري ابن قشري بن كعب‬
‫‪ -3‬عبد القاهر اجلرجاين‪ ،‬دالئل اإلعجاز‪ ،‬مصدر سابق ‪ ،‬ص‪.61‬‬
‫‪23‬‬
‫يشرح اجلرجاين الوجوه النحوية وفروقها اليت جيب على الناظم معرفتها ألهنا توفر له إمكانية توظيفها يف‬
‫بنية النظم بوصفه متثيال لألنساق النحوية واملعاين النحوية "وذلك أنا ال نعلم شيئا يبتغيه الناظم بنظمه غري أن‬
‫ينظر يف وجوه كل باب وفروقه‪ ،‬فينظر يف اخلرب إىل الوجوه اليت تراها يف قولك‪ :‬إن خترج أخرج‪ ،‬وإن خرجت‬
‫خرجت‪ ،‬وإن خترج فأنا خارج‪ ،‬وأنا خارج إن خرجت‪ ،‬وأنا إن خرجت خارج… فال ترى كالما قد وصف بصفة‬
‫نظم أو فساده‪ ،‬أو وصف مبزية وفضل نية إال وأنت ّتد مرجع تلك الصحة وذلك الفساد‪ ،‬وتلك املزية وذلك‬
‫‪3‬‬
‫الفضل إىل معاين النحو وأحكامه"‪.‬‬

‫يتضح مبا ال يدع جماال للشك أن حسن النظم آت من جودة التصرف يف قواعد النحو‪ ،‬وأن رداءته إمنا‬
‫تأيت من سوء التصرف فيه "وإن أردت أن ترى ذلك عيانا فاعمد إىل أي كالم شئت وأزل أجزاءه عن مواضعها‬
‫وضعها وضعا میتنع معه دخول شيء من معاين النحو فيها‪ ،‬فقل يف (قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل) (من نبك‬
‫قفا حبيب ذكرى منزل) مث انظر هل يتعلق منك فكر مبعىن كلمة منها؟ واعلم أين لست أقول‪ :‬إن الفكر ال يتعلق‬
‫مبعاين الكلم املفردة أصال‪ ،‬ولكين أقول‪ :‬إنه ال يتلق هبا جمردة من معاين النحو‪ ،‬ومنطوقا هبا على وجه ال يتأيت معه‬
‫‪4‬‬
‫تقدير معاين النحو وتوخيها فيها‪ ،‬كالذي أريتك"‪.‬‬

‫میكن القول من خالل هذه األسس أن نظرية النظم اجلرجانية حنوية بامتياز تقوم على املقدرة ( الكفاءة )‬
‫النحوية اليت جيب أن میتلكها املتكلم ليس من أجل استقامة النظم العادي وصحته بل يف تفاضل األنساق اللغوية‬
‫وتفاوت حسنها وبالغتها ‪ ،‬ولذلك كان اهتمام اجلرجاين منصبا على النحو النسقي الذي يعاجل تركيب اجلملة‬
‫بدال من احلركة اإلعرابية على آخر الكلمة ‪.‬‬

‫‪ -1‬صاحل بلعيد‪ ،‬نظرية النظم‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.78‬‬


‫‪ -2‬حممود أمحد حنلة‪ ،‬يف البالغة العربية‪ ،‬علم املعاين‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.39‬‬
‫‪ -3‬عبد القاهر اجلرجاين‪ ،‬دالئل اإلعجاز‪ ،‬مصدر سابق ‪ ،‬ص ‪.25، 24‬‬
‫‪ -4‬عبد القاهر اجلرجاين‪ ،‬دالئل اإلعجاز‪ ،‬مصدر سابق ‪ ،‬ص ‪. 967، 966‬‬
‫‪24‬‬
‫المحاضرة الخامسة‪ :‬النظم وتوخي معاني النحو‪.‬‬

‫‪ ‬النظم و توخي معاني النحو‪:‬‬

‫النظم‪ :‬هو توخي معاين النحو فيما بني الكلم على حسب األغراض اليت يساق هلا الكالم‪.‬‬
‫إن العمود األساس الذي بنيت عليه نظرية النظم هو معاين النحو‪ ،‬وسأنقل بعض ما ذكره اجلرجاين عن معاين‬
‫النحو ليتبني أهنا احملور الذي تدور عليه نظرية النظم‪..‬‬
‫قال اجلرجاين ‪ ":‬وكنا قد علمنا أن ليس النظم شيئا غري توخي معاين النحو وأحكامه فيما بني الكلم وأنا إن بقينا‬
‫الدهر جبهد أفكارنا حىت نعلم للكلم املفردة سلكا ينظمها وجامعا جيمع مشلها ويؤلفها وجيعل بعضها بسبب من‬
‫بعض غري توخي معاين النحو وأحكامه فيها طلبنا ما كل حمال دونه"‪ .1‬وقال أيضا‪" :‬فلست بواجد شيئا يرجع‬
‫صوابه إن كان صوابا‪ ،‬وخطؤه إن كان خطأ إىل النظم‪ ،‬ويدخل حتت هذا االسم‪ ،‬إال وهو معىن من معاين النحو‬
‫قد أصيب به موضعه‪ ،‬ووضع يف حقه‪ ،‬أو عوامل خبالف هذه املعاملة‪ ،‬فأزيل عن موضعه‪ ،‬واستعمل يف غري ما‬
‫ينبغي له‪ ،‬فال ترى كالما قد وصف بصحة نظم أو فساده‪ ،‬أو وصف مزية وفضل فيه إال وأنت ّتد مرجع تلك‬
‫الصحة وذلك الفساد‪ ،‬وتلك املزية‪ ،‬وذلك الفضل إىل معاين النحو وأحكامه‪ ،‬ووجدته يدخل يف أصل من أصوله‪،‬‬
‫‪2‬‬
‫ويتصل باب من أبوابه "‪.‬‬
‫وقال‪ :‬ملن يبحث عن دليل إعجاز القرآن الكرمي بأن اإلعجاز يف نظمه وليس النظم غري توخي معاين النحو‪:‬‬
‫"فإذا ثبت اآلن أن الشك وال مرية يف أن ليس النظم شيئا غري توخي معاين النحووأحكامه فيما بني معاين الكلم‪،‬‬
‫ثبت من ذلك أن طالب دليل اإلعجاز من نظم القرآن إذا هو مل يطلبه يف معاين النحو وأحكامه ووجوهه وفروقه‬
‫‪4‬‬
‫ومل يعلم أهنما معدنه و معانيه ‪ 3‬وموضعه ومكانه‪ ،‬وأنه ال مستنبط له سواها‪ ،‬وأن ال وجه لطلبه فيما عداها‪...‬‬
‫أما األعمدة األخرى اليت بنيت عليها نظرية النظم فقد عربت عنها املصطلحات اآلتية‪:‬‬
‫‪ -0‬التعليق‬
‫‪ -9‬الرتتيب‬

‫‪ -1‬عبد القاهر اجلرجاين ‪ :‬دالئل اإلعجاز‪ .‬مصدر سابق‪ ،‬ص ‪.923‬‬


‫‪ -2‬عبد القاهر اجلرجاين ‪،‬املصدرنفسه‪ ،‬ص ‪78‬‬
‫‪ -3‬املعان‪ :‬املنزل‬
‫‪ -4‬عبد القاهر اجلرجاين‪ :‬دالئل اإلعجاز ‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص ‪389‬‬

‫‪25‬‬
‫‪ -3‬البناء‬
‫‪ -4‬الوجوه والفروق‬
‫وسأنقل هنا بعض ما ذكره اجلرجاين عن هذه املصطلحات‪" :‬معلوم أن ليس النظم سوى تعليق الكلم بعضها‬
‫ببعض‪ ،‬وجعل بعضها بسبب من بعض "‪" .1‬واعلم أنك إذا رجعت إىل نفسك علمت علما ال يعرتضه الشك أن‬
‫ال نظم يف الكلم وال ترتيب حىت يعلق بعضها ببعض‪ ،‬ويبين بعضها على بعض‪ ،‬وّتعل هذه بسبب من تلك ‪.2‬‬
‫" وإذ قد عرفت أن مدار أمر النظم على معاين النحو وعلى الوجوه والفروق اليت من شأهنا أن تكون فيه‪ ،‬فاعلم‬
‫‪3‬‬
‫أن الفروق والوجوه كثرية‪ ،‬ليس هلا غاية تقف عندها‪ ،‬ومحاية ال حتد هلما ازديادا بعدها"‬
‫ماذا يقصد اجلرجاين معاين النحو وكيف يتم الكشف عنها؟‬
‫يقصد اجلرجاين معاين النحو‪ :‬املعاين ذات الدالالت العقلية‪ ،‬معني املعان الذهنية اليت تتولد يف فكر املتكلم عند‬
‫نظم الكالم تلك املعاين اليت تنشأ من حتديد العالقات بني األشياء املعرب عنها بالكلم‪ ،‬فرتبطها ببعضها كما يربط‬
‫السلك الشفاف حبات العقد‪ ،‬لذلك يصبح الكالم نوعا من اهلذيان يف حالة فقداهنا"‪ .4‬وقد أشار اجلرجاين إىل‬
‫ذلك بقوله‪" :‬واعلم أنك ّتد هؤالء الذين يشكون فيما قلناه ّتري على ألسنتهم ألفاظ وعبارات ال يصح هلا معىن‬
‫سوى توخي معاين النحو وأحكامه فيما بني معاين الكلم‪ ،‬مث تراهم ال يعلمون ذلك‪.‬‬
‫فمن ذلك ما يقوله الناس قاطبة من أن العاقل يرتب يف نفسه ما يريد أن يتكلم به‪ ،‬وإذا رجعنا إىل أنفسنا مل جند‬
‫لذلك معين سوى أن يقصد إىل قولك (ضرب) فيجعله خريا عن (زيد) وجيعل الضرب الذي أخرب بوقوعه منه‬
‫واقعا على (عمرو) وجيعل (يوم اجلمعة) زمانه الذي وقع فيه‪ ،‬وجيعل (التأديب) غرضه الذي فعل الضرب من أجله‬
‫فيقول‪( :‬ضرب زيد عمروا يوم اجلمعة تأديبا له)‪ .‬وهذا كما ترى هو توخي معاين النحو فيما بني معاين هذه‬
‫الكلم‪ .‬ولو أنك فرضت أن ال تتوخي يف (ضرب) أن ّتعله خريا عن (زيد)‪ ،‬ويف عمرو أن ّتعله مفعوال به‬
‫الضرب‪ ،‬ويف يوم اجلمعة أن ّتعله زمانا هلذا الضرب‪ ،‬ويف التأديب أن ّتعله غرض زيد من فعل الضرب‪ ،‬ما تصور‬
‫يف عقل وال وقع يف وهم أن تكون مرتبا هلذه الكلم‪ ،‬وإذ قد عرفت ذلك فهو العربة يف الكالم كله‪ ،‬ظن ظنا يؤدي‬
‫إىل خالفه ظن ما خيرج به عن املعقول ‪.5‬‬

‫‪ -1‬عبد القاهر اجلرجاين ‪،‬دالئل اإلعجاز ‪ ،‬مصدر سابق ‪ ،‬ص‪. 03.‬‬


‫‪ -2‬عبد القاهر اجلرجاين‪ ،‬املصدر نفسه ‪ ،‬ص‪.52‬‬
‫‪ -3‬عبد القاهر اجلرجاين ‪،‬املصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.89‬‬
‫‪ -4‬سناء محيد البيايت ‪:‬قواعد النحو العريب‪ ،‬يف ضوء نظرية النظم‪ ، ،‬ط ‪ ،10‬دار وائل للنشر‪ ،‬عمان‪ ،‬األردن‪9113 ،‬م ص‪05‬‬
‫‪ -5‬عبد القاهر اجلرجاين ‪:‬دالئل اإلعجاز‪،‬مصدر سابق ص ‪311.‬‬
‫‪26‬‬
‫وملا كانت اجلملة "وحدة الكالم الصغرى واملركب الذي حيمل يف ثناياه فكرة تامة ‪،1‬لذلك فإننا إذا أردنا أن‬
‫نكشف عن معاين النحو اليت تتألف منها اجلملة البد من معرفة املعاير الذهنية اليت تتألف منها الفكرة وهذا‬
‫يطلب التوغل يف الذهن لكي تتحسس ما جيري يف الذهن عند نظم احلمل وهذا ما أشار إليه اجلرجاين حني قال‬
‫يف (ضرب زيد) أن (ضرب) خرب عن (زيد) أي أن معىن الفعل أن يكون (خربا) عن الفاعل ومعني الفاعل أن‬
‫يكون ‪ (.‬خمربا عنه بالفعل‪ .‬وهذا يظهر ارتباط التفكري باللغة‪ .‬فالسامع يستطيع أن يفهم قصد املتكلم عن طريق‬
‫‪2‬‬
‫إدراك تلك الدالالت العقلية اليت يشري إليها نظم الكلمات و ترتيبها‬
‫ويؤكد اجلرجاين أن أجزاء الكالم تتحد بالنظم مع بعضها وتصبح وضعا واحدا کالبناء‪ ،‬فيقول‪" :‬واعلم أن مما هو‬
‫أصل يف أن يدق النظر‪ ،‬ويغمض املسلك يف توخي املعاين اليت عرفت أن تتحد أجزاء الكالم‪ ،‬ويدخل بعضها يف‬
‫بعض‪ ،‬ويشتد ارتباط ثان منها بأول‪ ،‬وأن حيتاج يف اجلملة إىل أن تضعها يف النفس وضعا واحدا وأن يكون حالك‬
‫فيها حال الباين‪ ،‬يضع بيمينه ها هنا يف حال ما يضع بيساره هناك‪ ،‬نعم و يف حال ما يبصر مكان ثالث ورابع‬
‫يضعهما بعد األولني‪ .‬وليس ملا شأنه أن جييء على هذا الوصف حد حيصره و قانون حييط به‪ ،‬فإنه جييء على‬
‫‪3‬‬
‫وجوه شىت وأحناء خمتلفة‪" ...‬‬
‫وأشار اجلرجاين إىل أن املفهوم من جمموع الكلم املرتبطة ببعضها بالنظم هو معىن واحد ال عدة معان وهذا املعن‬
‫الواحد هو ما يقصد إليه املتكلم من كالمه فقال‪ :‬واعلم أن مثل واضع الكالم مثل من يأخذ قطعا من الذهب أو‬
‫الفضة‪ ،‬فيذيب بعضها يف بعض حىت تصري قطعة واحدة‪ ،‬وذلك أنك إذا قلت‪ :‬ضرب زيد عمروا يوم اجلمعة ضربا‬
‫شديدا تأديبا له‪ ،‬فإنك حتصل من جمموع هذه الكلم كلها على مفهوم هو معىن واحد ال عدة معان‪ ،‬كما يتومهه‬
‫الناس وذلكألنك مل تأت هبذه الكلم لتفيده أنفس معانيها‪ ،‬وإذا كان ذلك كذلك بان منه وثبت أن املفهوم من‬
‫جمموع الكلم معىن واحد ال عدة معان‪ ،‬وهو إثباتك زيدا فاعال ضربا لعمرو يف وقت كذا‪ ،‬وعلى صفة كذا‪،‬‬
‫‪4‬‬
‫ولغرض كذا وهلذا املعىن نقول‪ ،‬إنه كالم واحد‪ ،‬وإذ قد عرفت هذا فهو العربة أبدا‬
‫وهذا يعين أن اللغة هي نظام لربط الكلمات بعضها ببعض‪ ،‬ويقوم ذلك النظام اللغوي ‪ 5‬على ربط الكلمات‬
‫ببعضها ليس كما اتفق بل وفقا ملقتضيات دالالهتا العقلية ‪.‬‬

‫‪ -1‬مهدي املخزومي ‪:‬يف النحو العريب نقد وتوجيه‪ ،‬ط‪ ،0‬بريوت‪ ،‬لبنان‪0263 ،‬مص‪.37‬‬
‫‪ -2‬جعفر دك الباب ‪:‬املوجز يف شرح دالئل اإلعجاز يف علم املعاين‪ ،‬ط ‪ 10‬مطبعة اجلليل‪ ،‬دمشق‪ ،‬سوريا‪0411 ،‬ه‪0281 -‬م ص ‪.74‬‬
‫‪ -3‬عبد القاهر اجلرجاين ‪ ،‬دالئل اإلعجاز‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص‪.78‬‬
‫‪ -4‬عبد القاهر اجلرجاين ‪،‬املصدر نفسه‪ ،‬ص ‪315‬‬
‫‪ -5‬مهدي أسعد عرار‪ :‬جدل اللفظ واملعىن‪ ،‬دراسة يف داللة الكلمة العربية‪ ،‬الطبعة األوىل‪ ،‬دار وائل للنشر‪ ،‬عمان‪ ،‬األردن‪9119 ،‬ص ‪.02‬‬
‫‪27‬‬
‫وأشار اجلرجاين إىل ذلك بقوله‪" :‬ليس الغرض بنظم الكلم أن توالت ألفاظها يف النطق‪ ،‬بل أن تناسقت دالالهتا‬
‫وتالقت معانيها على الوجه الذي اقتضاه العقل"‪ .1‬فاللغة إذن نظام لربط الكلم ببعضها وفقا ملقتضيات دالالهتا‬
‫العقلية وبفضل ذلك النظام تتمكن اللغة من القيام بوظيفتها األساسية كوسيلة االتصال الناس ببعضهم‪ ،‬وقد أشار‬
‫اجلرجاين إىل وظيفة اللغة بقوله‪" :‬ما يعلم ببدائه العقول أن الناس إمنا يكلم بعضهم بعضا ليعرف السامع غرض‬
‫املتكلم ومقصوده"‪ .2‬وهبذا يكون عبد القاهر اجلرجاين أول عامل لغوي يشري إىل أن معىن الكلمات ال يعرف إال‬
‫من ضمها إىل بعضها سواء قلنا إن أصل اللغة إهلام أو إن أصلها مواضعة وانطالقا من تلك الفكرة أشار اجلرجاين‬
‫يف املدخل إىل "دالئل اإلعجاز" إىل أن الكالم البد أن يشتمل على عنصرين حني قال "وخمتصر كل األمر أنه ال‬
‫يكون كالم من جزء واحد وأنه البد من مسند ومسند إليه"‪ 3‬وهذا يعين أن اجلملة بعد أن يبين عليها أي بعد أن‬
‫يضاف إليها كلمات تزيد على جزأي اجلملة يف أبسط صيغة هلما يتغري معناها يف ذاته‪ ،‬ألن املفهوم من جمموع‬
‫الكلمات املرتبطة ببعضها بالنظم هو معىن واحد ال عدة معان ‪.4‬‬
‫فمعاين النحو إذن هي معان ذهنية ينجزها املتكلم عند نظم اجلملة تربط بني الكلم‪ ،‬وحتدد العالقات فيما بينها‪،‬‬
‫ففي الفكر يتم اجناز املعاين الذهنية) ويف النظم هي (معان النحو) ويف الفكر يتم حتديد العالقات بني األشياء ويف‬
‫النظم هو تعليق الكلم بعضها ببعض وبناء بعضها على بعض وجعل هذه بسبب من تلك‪.‬‬
‫وبعد التفكري العميق يف كل ما قاله عبد القاهر اجلرجاين اكتشفنا ما يأيت‪ :‬هناك نوعان من اجلمل‪:‬‬
‫‪ -0‬النوع األول‪ :‬اجلمل اليت متر يف ذهن املتكلم ‪ .‬مرحلتني عند نظمها وهي (اجلمل اخلريية املثبتة)‬
‫المرحلة األولى‪ :‬وهي مرحلة حتديد العالقات بني األشياء‪ ،‬أي حتديد املعاين الذهنية املسماة ب ـ ـ ـ ـ ــ' معاين النحو)‬
‫المرحلة الثانية‪ :‬وهي مرحلة حتديد األلفاظ املناسبة ‪.‬‬
‫ولتوضيح النوع األول من اجلمل حتاول أن نفكر ونتحسس ما جيري يف الذهن عند النطق جبملة (أفلح املؤمن)‪.‬‬
‫حنس أوال أن الفكرة نشأت وهي أننا نريد أن نسند شيئا إىل شيء‪ ،‬فاإلسناد‪ 5‬يف هذه اجلملة أول عملية ذهنية‬
‫تنشأ بومضة من ومضات ذهن املتكلم لتحديد العالقة بني شيئني مث بعد ذلك أي يف املرحلة الذهنية الالحقة‪،‬‬
‫يتم حتديد األلفاظ املناسبة‪ ،‬لإلسناد املطلوب‪ ،‬فيتحدد الفعل (أفلح) من بني عدد كبري من األفعال املخزونة يف‬

‫‪ -1‬عبد القاهر اجلرجاين‪ ،‬دالئل اإلعجاز‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص ‪.56‬‬


‫‪ -2‬عبد القاهر اجلرجاين ‪،‬املصدر نفسه‪،‬ص ‪. 385‬‬
‫‪ -3‬عبد القاهر اجلرجاين‪،‬املصدر نفسه‪ ،‬ص ‪06.‬‬
‫‪ -4‬جعفر دك الباب‪ ،‬املوجز يف شرح دالئل اإلعجاز‪ ،‬يف علم املعاين‪ ،‬املرجع السابق‪ ،‬ص‪77.‬‬
‫‪ -5‬عبد السالم هارون ‪:‬الكتاب سيبويه‪ ،‬ج‪ ، ،0‬طبعة دار العلم‪0385 ،‬ه‪0266 ،‬م ص ‪.93‬‬
‫‪28‬‬
‫الذهن وكذلك تتحدد كلمة (املؤمن) من بني عدد كبري يف األمساء املوجودة يف الذهن فيخرج اإلسناد هباتني‬
‫الكلمتني احملددتني املختارتني‪ .‬وهذا يعين أن التفكري باإلسناد كان أوال مث تاله التفكري بتعيني الكلمات واختيارها‪.‬‬
‫ولو حتسسنا مجلة أخرى أكثر تعقيدا وفكرنا بطريقة نظمها مثل مجلة (يعبد اإلنسان العاقل خالق الكون) لوجدنا‬
‫أن هذه اجلملة قد صدرت عن معان ذهنية متعددة أجنزها الذهن‪ ،‬وانطلقت منه وهي املسماة بـ ــ(معاين النحو)‬
‫وهي األصل يف بناء اجلملة وكانت املعاين الذهنية ‪ 1‬أي (معاين النحو) اليت أجنزت هذه اجلملة هي‪:‬‬
‫‪ -‬اإلسناد‪ :‬الذي حدد العالقة بني (يعبد) و (اإلنسان العاقل) وربطهما ببعضهمـ ـ ـ ــا‪.‬‬
‫‪ -‬اإلتباع‪ :‬الذي حدد العالقة بني اإلنسان) و (العاقل) وربطهما ببعضهمـ ـ ـ ــا‪.‬‬
‫‪ -‬التخصيص ‪ :‬الذي حدد العالقة بني (يعبد) و (خالق الكون) وربطهما ببعضهمـ ــا‪.‬‬
‫‪ -‬اإلضافة‪ :‬اليت حددت العالقة بني (خالق) و (الكون) وربطتهما ببعضهمـ ـ ــا‪.‬‬
‫فهذه اجلملة مل تقتصر على اإلسناد‪ ،‬أي مل تقتصر على معىن ذهين (حنوي) واحد يف التعبري عن الفكرة وإمنا‬
‫أجنزهتما معان ذهنية متعددة‪ ،‬وقد حددت هذه املعاين الذهنية العالقات بني الكلم‪ ،‬وربطت بعضها ببعض‪ ،‬وهذه‬
‫املعاين الذهنية هي (معاين النحو) ‪2‬اليت أحل عليها اجلرجاين يف نظريته املشهورة ب‪( :‬نظرية النظم)‪.‬‬
‫‪-2‬النوع الثاني‪:‬‬
‫اجلمل ‪3‬اليت متر يف ذهن املتكلم بثالث مراحل عند نضمها وهي اجلمل اليت تتميز بأسلوب خاص کاجلمل املنفية‬
‫أو اجلمل االستفهامية ‪...‬‬
‫المرحلة األولى‪ :‬وهي مرحلة حتديد املفهوم العام‪ ،‬أي املعىن العام الذي حيدد جو الفكرة فتشري إىل ذلك اجلو‬
‫األداة اليت تتصدر اجلملة كأداة النفي أو االستفهام أو الشرط أو غريها‪ ،‬فيتحدد بذلك أسلوب اجلملة‪.‬‬
‫المرحلة الثانية‪ :‬مرحلة حصر املفهوم العام أي املعىن العام بشيء وتعليقه أو تسليطه عن شيء كحصر النفي مثال‬
‫باإلسناد أو مبعىن آخر من معاين النحو وتعليقه به وتسليطه يف الوقت ذاته على الطرف احملاور لألداة‪ ،‬فمجاورة‬
‫كلمة معينة لألداة يعين تسليط املعىن العام عليها‪ ،‬على وجه اخلصوص‪ ،‬وأهنا هي اليت يفكر املتكلم بنفيها عنها‬
‫بصورة خاصة‪ .‬وينبغي أن نالحظ أن هذه املرحلة هي املرحلة املشرتكة يف الدراسة النحوية بني النوعني من اجلمل‪،‬‬
‫فالنظم يف أية مجلة إما أن يبدأ منها أو میر هبا‪.‬‬

‫‪ -1‬عبد احلميد أمحد يوسف اهلنداوي ‪:‬اإلعجاز الصريف يف القرآن الكرمي ‪ ،‬املكتبة العصرية‪ ،‬صيدا‪ ،‬بريوت‪0493 ،‬ه‪9119 ،‬مص ‪.42‬‬
‫‪ -2‬معاين النحو‪ :‬مواقع وإعراب الكلمات يف اجلملة ‪.‬‬
‫‪ -3‬سناء محيد البياين ‪ :‬نظام اجلملة العربية‪ ، ،‬ص ‪03-09‬‬
‫‪29‬‬
‫المرحلة الثالثة‪ :‬وهي مرحلة حصر األشياء مبدلوالهتا‪ ،‬ونعين بذلك حتديد األلفاظ املختارة املناسبة للفكرة‪ .‬وهذه‬
‫املراحل الثالث تنتج عنها أنواع من اجلمل تشرتك يف كوها مجل تعرب عن املعاين العامة‪ ،‬وختتلف فيما بينها مبا‬
‫يتميز به كل معنی عام من املعاين العامة األخرى‪.‬‬
‫ويتخذ كل معني عام أسلوبا للتعبري عنه‪ ،‬وكل أسلوب حتدده األداة اليت تتصدره‪ ،‬مثل أداة النفي اليت متيز أسلوب‬
‫النفي من غريه أو أداة االستفهام اليت متيز أسلوب االستفهام من غريه‪ ،‬أو أداة الشرط أو غريها‪.‬‬
‫إن املراحل‪ 1‬الذهنية السابقة هي ومضات يف الذهن‪ ،‬وعمليات ذهنية غري مالحظة من قبل املتكلم‪ ،‬وما میكن‬
‫أن يالحظه املتكلم‪ ،‬النظم وتسلسله ألنه صورة ملا يتسلسل يف الفكر‪.‬‬
‫ولتوضيح النوع الثاين من احلمل‪ ،‬أي اجلمل اليت يهيمن عليها معىن عام يسيطر على الفكرة بأكملها‪ ،‬منذ‬
‫نشوئها‪ ،‬فتتصدر هذا النوع من احلمل األدوات‪ ،‬لتعرب عن جو الفكرة‪ ،‬نأخذ مثال مجلة ‪ :‬هل ساعد حممد الفقري؟‬
‫حنس أوال أن هناك جوا عاما معينا يسيطر على الفكرة منذ نشوئها وهو جو االستفهام‪ ،‬وجاءت أداة االستفهام‬
‫(هل) لتعرب عن هذا اجلو العام أي املعني العام الذي يكتنف الفكرة ويهيمن عليها‪ ،‬يلي ذلك حتديد االستفهام يف‬
‫كونه استفهاما أي طلب الفهم ‪ 2‬عن شيء وهذا الشيء هو اإلسناد املعرب عنه باملساعدة املسندة إىل حممد‪ ،‬مث‬
‫تعلق باإلسناد معني ذهن آخر‪ ،‬هو (التخصيص) املعرب عنه ب (الفقري) فصار االستفهام ب (هل) عن املساعدة‬
‫املسندة إىل حممد واملختصة بـ ـ ـ ـ (الفقري)‪.‬‬
‫ومما ّتدر مالحظته أن الكلمة اليت حتاور األداة هي اليت يتسلط عليها معىن األداة أي املعىن العام‪ ،‬فاالستفهام يف‬
‫اجلملة السابقة متسلط على الفعل (ساعد) الذي يدل على الفاعل ببنائه‪ ،‬ولو كانت اجلملة (أحممد ساعد‬
‫الفقري؟) لكان االستفهام متسلط على (حممد) ولكان الفعل متحققا‪ ،‬لذلك يصح أن نقول‪:‬‬
‫( أحممد ساعد الفقري أم علي؟) ألن مساعدة الفقري متحققة و السؤال عن فاعلها أحممد أم علي؟‬
‫وال يصح أن نقول‪ :‬أساعد حممد الفقري أم على؟‬
‫إن هذا التوضيح لعالقة اجلملة بفكر املتكلم‪ ،‬واملراحل اليت متر هبا اجلملة يف الذهن أثناء النطق مبا ال يعين أن‬
‫هناك حدا زمنيا مالحظا يفصل بني الفكرة والرتكيب املعرب عنها‪ ،‬فما إن ينشأ االستفهام حىت تعرب عنه األداة‬
‫(هل) وما إن تتحدد العالقات بني األشياء حىت تظهر يف النطق الكلمات املعربة عنها متعلقة ببعضها ببعض‬
‫وهكذا فإن كل معىن ذهين يقرتن بالكلمات اليت تعرب عنه‪ ،‬والتعبري عن الفكرة يتم تقريبا يف وقت التفكري هبا‬

‫‪ -1‬سناء محيد البيايت‪ :‬قواعد النحو يف ضوء نظرية النظم‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪91.-02‬‬
‫‪-2‬ابن فارس والرماين ‪ :‬احلدود يف النحو (رسائل يف النحو واللغة) ‪ ،‬حتقيق مصطفی جواد ويوسف يعقوب مسكوين‪ ،‬بغداد‪0267 ،‬مص ‪.49‬‬
‫‪30‬‬
‫نفسه‪ .‬ولرمبا يكون اجلرجاين قد قصد هذا بقوله "وأعلم أن مما هو أصل يف أن يدق النظر ويغمض يف بعض‬
‫املسلك يف توخي املعاين اليت عرفت أن تتحد أجزاء الكالم ويدخل بعضها يف بعض ويشتد ارتباط ثان منها بأول‬
‫وأن حيتاج يف اجلمل إىل أن تضعها يف النفس وضعا واحدا وأن يكون حالك فيها حال البايب يضع بيمينه ها هنا‬
‫‪1‬‬
‫يف حال ما يضع بيساره هناك نعم و يف حال ما يبصر مكان ثالث ورابع يضعها بعد األولني‬
‫يتضح مما سبق أن (معان النحو) مرتبطة بالفكر‪ ،‬ألهنا املعاين الذهنية اليت ينجز كل معىن منها بومضة من‬
‫ومضات دماغ اإلنسان وألهنا تنشأ يف الفكر أوال مث يعرب عنها بطريقة معينة يف النظم وكان اجلرجاين قد ذكر دور‬
‫الفكر يف النظم حني قال "ومعلوم أن اإلنسان يكون يف أن خيرب عن شيء بشيء أو يصف شيئا بشيء‪ ،‬أو‬
‫يضيف شيئا إىل شيء‪ ،‬أو يشرك شيئا يف حكم شيء‪ ،‬أو خيرج شيئا من وجود شيء وعلى هذا السبيل‪ ،‬وهذا‬
‫‪2‬‬
‫كله فکر يف أمور معلومة معقولة زائدة على اللفظ‬
‫ولرمبا حبد تلميحا إىل املراحل اليت متر كما امجلة يف الذهن عند نظمها يف قوله‪" :‬وإال فإنك إذ فكرت يف الفعلني‬
‫أو االمسني تريد أن خترب بأحدمها عن الشيء أيهما أوىل أن خترب به عنه‪ ،‬وأشبه بغرضك مثل أن تنظر أيهما أمدح‬
‫‪3‬‬
‫وأذم وفكرت يف الشيئني تريد أن تشبه الشيء بأحدمها أيهما أشبه به‪ ،‬كنت قد فكرت يف معان أنفس الكلم"‬
‫فهذا النص ‪ -‬كما يبدوا لنا‪ -‬تلميح إىل مرحلة اختيار األلفاظ املناسبة وجند تلميحا إىل أن املرحلة املذكورة إمنا‬
‫هي عقب مرحلة (معاين النحو) حني يقول‪" :‬إال أن فكرك ذلك مل يكن إال من بعد إن توخيت فيها من معاين‬
‫النحو وهو أن أردت جعل االسم الذي فكرت فيه خربا عن شيء أردت فيه مدحا أو ذما أو تشبيها أو غري ذلك‬
‫من األغراض ومل ّتئ إىل فعل أو اسم ففكرت فيه فردا ومن غري أن كان لك قصد أن ّتعله خربا أو غري خرب‬
‫فاعرف ذلك"‪ | .‬وقال أيضا‪" :‬وليت شعري كيف يتصور وقوع قصد منك إىل معىن كلمة من دون أن تريد‬
‫‪4‬‬
‫تعليقها معىن كلمة أخرى"‬
‫إن ربط دراسة نظم اجلملة وتأليفها بفكر املتكلم حقيقة البد منها خاصة بعد أن توصلت الدراسات التشرحيية‬
‫والدراسات الفيزيولوجية الدماغ اإلنسان إىل أن فيها مناطق خاصة للتكلم وربط الكالم‪ ،‬ولكن مهما بلغت دقة‬
‫الدراسات التشرحيية والفيزيولوجية فإهنا لن تستطيع أن تصل إىل حتديد دقيق للعمليات الذهنية اليت تنجز يف ذهن‬
‫املتكلم لغرض ربط الكالم وال تستطيع أن تضع مسميات لتلك العمليات الرابطة للكالم ألن هذا األمر ال‬

‫‪-1‬عبد القادر اجلرحاين ‪،‬دالئل اإلعجاز‪،‬مصدر سابق ‪،‬ص ‪.78‬‬


‫‪ -2‬عبد القادر اجلرحاين‪،‬املصدر نفسه ‪،‬ص ‪.317‬‬
‫‪ -3‬عبد القادر اجلرحاين ‪،‬املصدر نفسه‪ ،‬ص ‪. 314.‬‬
‫‪ -4‬عبد القادر اجلرحاين ‪،‬مصدر سابق ‪ ،‬ص ‪.315‬‬
‫‪31‬‬
‫يتمكن منه إال عامل اللغة الذي يتوصل إىل حتديد العمليات الذهنية املنجزة للكالم فيضع هلا املسميات باإلسناد‬
‫‪1‬‬
‫إىل وظائفها اللغوية‬
‫وفيما يأيت رسم ختطيطي للجملة اليت متر يف ذهن املتكلم بثالث مراحل عند نظمها‪.‬‬
‫‪ -‬هل تدبر اإلنسان القرآن؟‬
‫ويف ضوء ما ذكرنا فإن نظم اجلملة اليت يراد منها التفاهم ينبغي أن يتوفر له بعد نشوء الفكرة ما يأيت‪:‬‬
‫‪ - 0‬املعاين الذهنية أي معاين النحو) اليت حتدد العالقات بني األشياء‪.‬‬
‫‪ -9‬ما تتطلبه املعاين الذهنية من استخدام صحيح ألقسام الكلم املستعملة يف اللغة وهذا يتحقق نظام تأليف‬
‫اجلملة يف الكالم الذي غرضه التفاهم‪.‬‬
‫وعند حصر املعاين الذهنية (معاين النحو) اليت حتدد العالقات بني الكلم وتربط بعضها بعض يف كل اجلمل‪ ،‬أيا‬
‫كانت جندها ال تزيد على أربعة وهي‪:‬‬
‫‪ -9‬التخصيص‬ ‫‪ -0‬اإلسناد‬
‫‪ -4‬اإلضافة‬ ‫‪-3‬اإلتباع‬
‫إن معاين النحو املذكورة متثل حالة (الصفر) يف الكالم بعد نشوء الفكرة و كما أن الصفر هو نقطة انطالق‬
‫األعداد كذلك هذه املعاين الذهنية هي نقطة انطالق اجلمل كافة‪.‬‬
‫وينبغي التنبه إىل أن الفكرة اليت يريد املتكلم التعبري عنها إمنا تنشأ كاملة يف الذهن ويقوم الذهن بإجنازها معتمدا‬
‫على العملية الذهنية الرئيسية (اإلسناد) وما قد يتعلق باإلسناد ويرتبط به من عمليات ذهنية (معان حنوية) لغرض‬
‫إمتام التعبري عن الفكرة اليت ينتهي التعبري عنها يف هناية احلملة‪ .‬إن نشوء الفكرة كاملة يف ذهن املتكلم قبل البدء‬
‫ببنائها وربط أجزائها يتفق مع ما ذهبت إليه املدارس السيكولوجية احلديثة حيث تؤكد على دراسة اخلربة النفسية‬
‫ككل وإذا كان البد من درس األجزاء فيجب أن يتم ذلك من حيث عالقتها بالکل ال من حيث عالقتها‬
‫بالبعض "‪ .2‬ويرى علم النفس احلديث "أن علينا أن ندرك لكي نفهم اخلربات العقلية ‪ -‬أن لكل من هذه‬
‫اخلربات نوعا من الكلية تنظمها منذ اللحظة اليت يواجه اإلنسان حالة ما حىت اللحظة اليت يستجيب فيها لتلك‬
‫‪3‬‬
‫احلالة "‬

‫‪ -1‬سناء محيد البيايت‪ :‬قواعد النحو يف ضوء نظرية النظم ‪ ،‬املرجع السابق ص ‪99‬‬
‫‪ -2‬سار جنت ‪ :‬علم النفس احلديث‪ ،‬تعريب منري البعلبكي دار العلم للماليني ‪0272‬مص ‪.41‬‬
‫‪ -3‬سار جنت‪ ،‬املرجع نفسه ص ‪40‬‬
‫‪32‬‬
‫ويبدو أن اجلرجاين قد سبق علماء النفس احملدثني يف بعض ما توصلوا إليه خبصوص اخلربات العقلية ويتضح ذلك‬
‫من قوله‪" :‬إنا نعلم أن احلملة أبدا أسبق إىل النفوس من التفصيل وإنك ّتد الرؤية نفسها ال تصل بالبديهة إىل‬
‫التفصيل ولكنك ترى بالنظر األول الوصف على اجلملة مث ترى التفصيل عند إعادة النظر ‪.1‬‬
‫وهذا ما أشار إليه عبد القاهر اجلرجاين بقوله‪" :‬واعلم أنك إذا رجعت إىل نفسك علمت علما يعرتضه الشك أن‬
‫ال نظم يف الكلم وال ترتيب حىت يعلق بعضها ببعض‪ ،‬ويبىن بعضها على بعض وّتعل هذه بسبب من تلك‪ ،‬هذا‬
‫ما ال جيهله عاقل وال خيفى على أحد من الناس‪ ،‬وإذا كان كذلك فينا ‪ 2‬أن ننظر إىل التعليق فيها والبناء وجعل‬
‫الواحدة منها بسبب من صاحبتها ما معناه وما حمصوله‪ ،‬وإذا نظرنا يف ذلك علمنا أن ال حمصول هلا غري أن تعمد‬
‫إىل اسم فتجعله فاعال لفعل أو مفعوال أو تعمد إىل امسني فتجعل أحدمها خربا عن اآلخر أو تتبع االسم امسا على‬
‫أن يكون الثاين صفة لألول أو تأكيدا له أو بدال منه أو حتيء باسم بعد متامكالمك على أن يكون الثاين صفة‬
‫أو حاال أو متييزا أو أن تتوخى يف كالم هو إلثبات معيين أن يصري تفيا أو إهباما أو متنيا فتدخل عليه احلروف‬
‫املوضوعة لذلك‪ ،‬أو تريد يف فعلني أن ّتعل أحدمها شرطا يف اآلخر فتجئ مبا بعد احلرف املوضوع هذا املعني أو‬
‫بعد اسم من األمساء التيضمنت معىن ذلك احلرف وعلى هذا القياس‪ .3‬الكالم وسيلة اإلنسان للتعبري عن أفكاره‬
‫وإيصاهلا لآلخرين ويالحظ عند حتليل الكالم يف أية لغة أن حيتوي على جمموعات‪ ،‬كل جمموعة منها تؤدي معىن‬
‫وتعرب عن فكرة تامة بــ( اجلملة)‪ ،‬وتبني اجلملة يف الغالب على اإلسناد أي على املسند واملسند إليه مما دعانا إىل‬
‫القول بأن اإلسناد هو األساس يف بناء اجلملة ومیكن أن تعد هذه اجملموعات الكالمية املسماة باجلمل األجزاء‬
‫األساسية يف الكالم‪.‬‬
‫"فباجلمل يتبادل املتكلمان احلديث بينهما وباجلمل حصلنا لغتنا‪ ،‬وباجلمل نتكلم‪ ،‬وباجلمل نفكر أيضا"‪ .‬وقد‬
‫دعت احلاجة أن ينوع املتكلم اجلمل تبعا لتنوع دواعي الكالم‪ ،‬ولذلك كان لكل داع أسلوب معني يعرب عنه‬
‫تتعارف عليه اجلماعة الناطقة باللغة فلإلثبات أسلوب وللنفي أسلوب آخر‪ ،‬وللطلب أسلوب ثالث مغاير هلما‬
‫وللشرط أسلوب خيتلف عن األساليب السابقة‪ ،‬وتغطي هذه األساليب حاجة املتكلم للتعبري عن أية فكرة يريد‬
‫إيصاهلا لآلخرين‪ ،‬واجلمل يف اللغة تتباين يف أساليبها ولكنها تشرتك يف املعاين الذهنية املتكونة منها‪ ،‬أي أهنا‬
‫تشرتك يف معاين النحو السابقة الذكر‪ .‬وهبذا خترج معاين النحو عند عبد القاهر من مظهرها اجلاف القاصر على‬

‫‪ -1‬عبد القادر اجلرجاين ‪:‬أسرار البالغة‪ ،‬تصحيح و تعليق الشيخ حممد عبده دار املعرفة بريوت‪ ،‬لبنانص ‪037‬‬
‫‪ -2‬يريد فجدير بنا‪.‬‬
‫‪ -3‬عبد القادر اجلرجاين ‪:‬دالئل اإلعجاز‪،‬مصدر سابق ‪ ،‬ص ‪61‬‬
‫‪33‬‬
‫اجلوانب اإلعرابية فقط إىل ما هو أمسى من ذلك بكثري حني تعتمد على الذوق الرفيع واحلس املرهف وتصبح من‬
‫وسائل التصوير والصياغة ومن املقاييس اليت يهتدي هبا يف الرباعة‪.1‬‬
‫ومل يكن اجلرجاين ليتحدث عن نظريته يف اإلعجاز هذه دون تعليل هلا أو تدليل عليها بل كان يدعم دائما فكرته‬
‫مبا يستعرضه من خمتلف النصوص األدبية والقرآنية‪ ..‬وليس هذا فحسب بل‬
‫كان يتفرس األساليب ويتأمل بذوقه وحيها‪ ،‬مث يأخذ يف التسجيل والتعليل ملا توصل إليه من نتائج هذا التأمل‬
‫حيثما رأى اجلمال يهزه ويطربه‪ ..‬وكان كاملتجول يف روض نضري يستوقفه الورد الشذى والزهر الناظر‪ ،‬میتع نفسه‬
‫وناظريه مبا هلا من تنسيق بديع‪ ..‬وتكاد تكون كل استشهاداته وخاصة يف دالئل "اإلعجاز" تأكيدا وتدعيما ملا‬
‫ذهب إليه من فكرة النظم‪ ...‬واضعا يف اعتباره أن هدفه األمسى هو الوصول إىل حقيقة اإلعجاز يف القرآن الكرمي‪.‬‬

‫‪ -1‬صالح الدين حممد عبد التواب ‪:‬النقد األديب دراسات نقدية وأدبية حول إعجاز القرآن‪ ،‬ج‪ ،0‬ط‪، 0‬دار الكتاب احلديث القاهرة ‪-0493‬‬
‫‪9113‬م ص ‪.046‬‬

‫‪34‬‬
‫المحاضرة السادسة‪ :‬النظم وعالقته بعلم المعاني‪.‬‬

‫توطئة‪:‬‬
‫يلحظ الدارس لكتاب دالئل اإلعجاز اجلرجاين ميزته الرتكيبية املستقاة من الرتاث اللغوي العريب؛ فهو كتاب‬
‫بالغي جلل مواضيع تتناول علم املعاين وأمناطه‪ ،‬من أحوال اإلسناد‪ ،‬وقضايا الفصل والوصل‪ ،‬والتقدمي والتأخري‪،‬‬
‫وأساليب اخلرب واإلنشاء فأوضح صاحب نظرته يف نظم الكالم‪ ،‬و مقتضياته الداللية‪ ،‬وهو ما يسمى بنظرية النظم‬
‫عنده؛ بدءا بنظام التعليق واإلحالة والربط مث قواعد نظم االستعمال‪.‬‬
‫وإن كانت مباحث الكتاب تتناول قضايا علم املعاين من منطلق التأسيسي لنظرية النظم يف علم املعاين‪،‬‬
‫فهذا ال يفصلها عن بعدها النحوي املتأصل ‪ ،‬بل إن علم املعاين ليس إال فلسفة النحو بغيتها الوقوف على‬
‫خصائص أساليب الكالم‪ .‬فكيف تقرأ هذه القضايا البالغية االستعمال‪ ،‬والنحوية املرجع؟‪ ،‬وما دورها يف حتديد‬
‫وظائف الكالم؟‪ .‬وهل ما ذهب إليه اجلرجاين يفضي إىل نظرية لسانية عربية حديثة يتجلى فيها البعد اللساين‬
‫الوظيفي والتداويل احلديث وفق ما يتناسب والطابع اللغوي العريب؟ وكيف تستثمر جهده يف كتاب دالئل اإلعجاز‬
‫املختص بعلم املعاين ؟‪.‬هذا ما سنعاجله يف هذه احملاضرة‪.‬‬
‫‪ -‬قضايا علم المعاني في كتاب الجرجاني‪:‬‬
‫يف كتابه جند قضايا معينة أوىل هلا اجلرجاين ‪-‬رمحه اهلل‪-‬اهتماما بالغا؛ بالوصف والشرح‪ ،‬مبينا أمهيتها يف تراكيب‬
‫الكالم واستعماالته‪ .‬ولنا يف الشطر أن نبينها كما يلي‪:‬‬
‫‪ -‬التقديم والتأخير‪ :‬وعنه علق املؤلف قائال‪" :‬هو باب كثري الفوائد‪ ،‬جم احملاسن‪ ،‬واسع التصرف‪ ،‬بعيد الغاية‪،‬‬
‫ال يزال يفرت لك عن بديعة‪ ،‬ويفضي بك إىل لطيفة‪ ،‬وال تزال ترى شعرا يروقك مسمعه‪ ،‬ويلطف لديك موقعه‪ ،‬مث‬
‫تنظر سبب أن راقك ولطف عندك أن قدم فيه شيء وحول اللفظ‪ ،‬عن مكان إىل مكان‪ ،1‬فالتقدمي والتأخري‬
‫أسلوبان بالغيان داللتهما عن "التمكن يف الفصاحة وحسن التصرف يف الكالم‪ ،‬ووضعه يف املوضع الذي يقتضيه‬
‫املعىن"‪ ،2‬ال ريب أن اهتمام اجلرجاين وعنايته هبذا القسم من علم املعاين؛ مل تنشأ عن صدفة‪ ،‬بل إن وقوعه وكثرة‬
‫استعماله ضمن كالم النحويني والبالغيني؛ عزز من أمهيته؛ كأسلوب كالمي وجب الوقوف عليه مجلة وتفصيال‪.‬‬
‫وللتقدمي أحوال ثابتة ال تتغري‪ ،‬وهي‪:‬‬

‫‪-1‬عبد القاهر اجلرجاين‪ ،‬دالئل اإلعجاز‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص‪043‬‬


‫‪.-2‬يوسف أبو العدوس‪ ،‬مدخل إىل البالغة العربية‪ ،‬علم املعاين‪ ،‬علم البيان‪ ،‬علم البديع‪ ،‬دار املسرية للنشر والتوزيع والطباعة عمان‪ ،‬األردن‪،‬‬
‫الطبعة األوىل (‪0497‬ه‪9117 ،‬م)‪ ،‬ص‪27‬‬
‫‪35‬‬
‫"‪-0‬تقدم العلة عن معلوهلا عند القائلني هبا؛ كتقدم الكون عن الكائنية والعلم عن العاملية‪.‬‬
‫‪-9‬التقدم بالذات؛ كتقدم الواحد على االثنني‪.‬‬
‫‪ -3‬التقدم بالشرف؛ كتقدم األنبياء على األتباع‪.‬‬
‫‪ -4‬التقدم باملكان؛ كتقدم اإلمام على املأموم‪.‬‬
‫‪ -5‬التقدم بالزمان؛ كتقدم األب على االبن"‪.1‬‬
‫ويف حاالته األخرى املتغرية لدواعي معينة؛ حيث يقدم فيها املسند‪ ،‬و يؤخر املسند إليه‪ ،‬وهي‪ :‬أ‪ -‬تقديم‬
‫المسند‪ :‬األصل يف استعمال الكالم أن يؤخر املسند‪ :‬وفيه استثناءات لدواع معينة‪ ،‬وهي‪:‬‬
‫‪ -0‬التخصيص؛ كقولك‪(( :‬االجتهاد أنا أهله))‪ ،‬فاملسند هنا‪( :‬االجتهاد وقدم لداعي التخصيص املباشر‪.‬‬
‫واملسند إليه‪(( :‬الضمري البارز‪ :‬أنا))‪.‬‬
‫‪ -9‬التنبيه؛ مثل‪(( :‬هتاونك يا خالد)) فاملسند هنا‪( :‬هتاونك)‪ ،‬واملسند إليه (خالد) وتؤول بعبارة (يا خالد‬
‫احذرهتاونك)‪.‬‬
‫‪ -3‬التشويق؛ كقولنا‪(( :‬جنح ثالثة طلبة وهم‪ :‬حممد‪ ،‬صاحل‪ ،‬وأنت يا عمر))‪ .‬نلحظ ورود عمر يف القائمة‬
‫األخرية كتشويق له‪.‬‬
‫‪-4‬التفاؤل‪(( :‬ممتاز عملك فريد ستنجح بإذن اهلل تعاىل )) املسند إليه توسط الكالم (فريد) وكلمة (ممتاز)‬
‫للتشجيع والتفاؤل وهي املسند‪.‬‬
‫‪-5‬اإلفادة؛ وتكون بداللة االختصار املفيد؛ مثل‪(( :‬اقرأ تتعلم))؛ فاملسند‪ :‬حمذوف دل عليه ضمري املتكلم‬
‫يف الفعلني‪ ،‬املسند إليه (الفعل اقرأ‪ ،‬أو الفعلني معا)‪.‬‬
‫‪ -6‬التأنيب واجلزر؛ مثل‪(( :‬بطلت أعمالك يا حاسد))؛ فاملسند‪( :‬احلاسد)‪ ،‬واملسند إليه‪( :‬بطلت)‪ .‬والشيء‬
‫امللحوظ يف هذه األحوال للتقدمي والتأخري أهنا متغرية بعكس ما أشرنا إليه يف احلاالت الستة‬
‫األوىل‪.‬‬
‫وهذا التغري احلاصل يف هذا األسلوب رمبا األصل فيه كما قال اجلرجاين‪( :‬واسع التصرف‪ ،‬بعيد الغاية) مبعنی متغري‬
‫االستعمال لدواعي املتكلم مراعاة للمخاطب وأحواله يف الكالم‪.‬‬

‫‪ .-1‬يوسف أبو العدوس ‪ ،‬مدخل إىل البالغة العربية‪ ،‬علم املعاين‪ ،‬علم البيان‪ ،‬علم البديع ‪،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪27‬‬
‫‪36‬‬
‫‪ -‬الفصل والوصل‪ :‬يوضح اجلرجاين أمهية هذا القسم من علم املعاين يف قوله‪" :‬اعلم أن العلم مبا ينبغي أن‬
‫يصنع يف اجلمل من عطف بعضها على بعض أو ترك العطف فيها‪ ،‬واجمليء هبا منثورة تستأنف واحدة منها بعد‬
‫أخرى من أسرار البالغة‪ ،‬ومما ال يتأتى لتمام الصواب فيه"‪ ،1‬والفصل والوصل مها أسلوبان بالغيان رديفا‬
‫األساليب األخرى كأسلوب التقدمي والتأخري‪ .‬فالوصل‪" :‬عطف مجلة فأكثر على مجلة أخرى بالواو خاصة‪ ،‬لصلة‬
‫بينهما يف املبىن واملعىن‪ ،‬أو دفع للبس میكن أن حيصل"‪ ،2‬والفصل‪" :‬ترك العطف‪ ،‬إما ألن اجلملتني متحدتان مبنی‬
‫ومعىن‪ ،‬أو مبنزلة املتحدتني‪ ،‬ألنه ال صلة بينهما يف املبىن أو يف املعىن "‪ .3‬عن الوصل؛ حنو قولنا‪(( :‬جنح اجملتهد يف‬
‫دراسته ونال مرتبة راقية من العلم))؛ فاجلملة األوىل داللتها يف حال من أحوال املقصود بالقول وهو (اجملتهد)‪،‬‬
‫وتلتها اجلملة الثانية دالة هي األخرى على حال اجملتهد‪ ،‬وترتبط بسابقتها داللة ومبىن‪ ،‬والواسطة بينهما يف‬
‫الرتكيب هو حرف الواو العاطفة‪ .‬ويف الفصل؛ نقدم‪(( :‬انتصر املسلمون يف معركتهم‪ .‬عاد املقاتلون إىل بالدهم))؛‬
‫نلحظ التباين بني اجلملتني األوىل والثانية؛ فاألوىل بينت حال املسلمني يف املعركة‪ ،‬يف حني أن الثانية تكلمت على‬
‫طرف آخر ال صلة باملسلمني‪ ،‬وهم (الرجال)‪ ،‬ومن الناحية الرتكيبية اجلملة الثانية هي مجلة ابتدائية استئنافية ال‬
‫صلة هلا باألوىل‪.‬‬
‫‪-‬الخبر واإلنشاء‪ :‬يف هذا الباب مل يعنون اجلرجاين للخرب واإلنشاء مبسمى واضح‪ ،‬أو عنوان ظاهر‪ ،‬بلخصه‬
‫مبسائل هلا صلة بأساليب اخلرب واإلنشاء؛ كحديثه عن النفي‪ ،‬ومسائل استعمال (إمنا)‪ ،‬والتوكيد‪ ،‬وحديثه عن‬
‫االستعارة‪ ،‬والكناية‪ ،‬والتشبيه‪ ،‬واجملاز‪ .‬ومن حديثه عن اخلرب قوله‪" :‬أول ما ينبغي أن يعلم منه أنه ينقسم إىل خرب‬
‫هو جزء من اجلملة ال تتم الفائدة دونه‪ ،‬وخرب ليس جبزء من اجلملة ولكته زيادة يف خرب آخر سابق له‪ .‬فاألول‬
‫خرب املبتدأ كمنطلق يف قولك‪ :‬زيد منطلق‪ .‬والفعل كقولك‪ :‬خرج زيد‪ .‬فكل واحد من هذين جزء اجلملة وهو‬
‫األصل يف الفائدة‪ .‬والثاين هو احلال كقولك‪ :‬جاءين زيد راكبا‪ .‬وذاك أن احلال خرب يف احلقيقة من حيث أنك‬
‫تثبت هبا املعىن لذي احلال كما تثبت خبرب املبتدأ للمبتدأ‪ ،‬وبالفعل للفاعل‪ ،‬أال تراك قد أثبت الركوب يف قولك‪:‬‬
‫((جاءين زيد راكبا)) لزيد إال أن الفرق أنك جئت به لتزيد معىن يف إخبارك عنه باجمليء‪ ،‬وهو أن ّتعله هبذه اهليئة‬
‫يف جميئه‪ ،‬ومل ّترد إثباتك للركوب‪ .4"..‬الواضح من كالمه مقصده البالغي يف حتديد وظيفة اخلرب واإلنشاء دالليا‪،‬‬
‫وأثر ذلك لدي املتلقي والسامع؛ وهو مثاله يف تقسيم اخلرب إىل خرب مبثابة جزء من اجلملة وجوده ضمنها حيقق‬
‫فائدة‪ ،‬وخرب ليس جبزء من اجلملة يكون مرادفا خلرب سابق ووجوده ليس ضرورة؛ فمثال عن األول‪ :‬اخلرب للمبتدأ‪:‬‬

‫‪ -1‬عبد القاهر اجلرجاين‪ ،‬دالئل اإلعجاز‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص‪939‬‬


‫‪ -2‬يوسف أبو العدوس‪ ،‬مدخل إىل البالغة العربية‪،‬مرجع سابق ص ‪002‬‬
‫‪ -3‬يوسف أبو العدوس‪ :‬املرجع نفسه‪ ،‬ص ‪002‬‬
‫‪ -4‬عبد القاهر اجلرجاين‪ ،‬دالئل اإلعجاز‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص‪.020‬‬
‫‪37‬‬
‫زيد منطلق‪ ،‬والثاين‪ :‬جاءين زيد راكبا‪ ،‬فاألول وظيفته حتقيق اإلخبار؛ ألناملبتدأ بدونه يظل منهما‪ ،‬أما الثاين‪:‬‬
‫وظيفته الزيادة يف توظيف املعىن‪ ،‬وهو ال میثل ضرورة يف ذكره ضمن اجلملة‪.‬‬
‫‪-‬تخصيصه لبعض القضايا دون غيرها‪ :‬مل يستثن عبد القاهر اجلرجاين مباحث بالغية أخرى ضمن کتابه؛ بل‬
‫تعدی مباحث علم املعاين‪ ،‬وانتقل إىل علم البيان؛ كحديثه عن االستعارة والكناية‪ ،‬وكان كتابه شروحا وتفسريات‬
‫املباحث علم املعاين‪ ،‬وخص فيه قضايا حمددة؛ ((التقدمي والتأخري‪ ،‬والوصل والفصل‪ ،‬وأسلويب اخلرب واإلنشاء))؛‬
‫ألن هذه القضايا متثل أحوال اإلسناد يف نظم الكالم ومعرفة خصائصه التعبريية‪ .‬وهذا ما توحي إليه نظرية النظم؛‬
‫اليت خصها بوافر كالمه ضمن كتاب دالئل اإلعجاز‪.‬‬
‫‪ -‬قراءته لقضايا علم المعاني‪ ،‬ومرجعه في ذلك‪ :‬اجلرجاين اعتمد منطية الشرح والقياس والتفسري املنطقي يف‬
‫تقدمیه لقضايا علم املعاين مواضيع كتابه حنوية من جانب الدور الوظيفي الرتكييب األصلي‪ ،‬وبالغية من جانب‬
‫االستعمال يف حتقيق األداء الكالمي؛ قدم قراءته وفق نظرته اجلديدة واملتمثلة يف نظرية النظم؛ وكأنه استنطق قواعد‬
‫النحو وكساها رؤية وظيفية بالغية جديدة؛ تعتمد املقارنة بني االستعمال القاعدي األول والتحول الكالمي يف‬
‫أساليب كالم العرب‪ .‬فكان حماورا لألصل الكالمي النحوي؛ وجمددا ملنفذ كالميا بالغيا يعرب عن قراءة فلسفية‬
‫حتولية ضمن حمطات البالغة العربية‪ .‬فقد تبىن آلية موازية لعلوم املنطق يف قراءة الرتاث النحوي والبالغي معا‬
‫أفضت 'نظرية يف اللغة' مبثابة انطالقة حنو قراءة جديدة‪.‬‬
‫‪ -‬قضايا علم المعاني؛ بين النحو والبالغة‪ :‬ما من علم وإال له منطلقات نظرية وبواعث فكرية؛ فال ختلوا‬
‫مباحث البالغة‪ ،‬وإن تعددت من أواصل النحو؛ فقضايا علم املعاين ال خترج عن التعريف هلا من كوهنا فلسفة‬
‫النحو ومعانية املكنونة ضمن نسق الكالم‪ ،‬وغايته املنشودة الوقوف عن املؤول من الكالم ومعرفة خصائصه‬
‫البالغية‪ ،‬وتتبع أحوال الرتكيب من تقدمي وتأخري ‪ ،‬ووصل وفصل‪ ،‬وكل ما يؤثر يف انعطافات العملية الكالمية بني‬
‫ال فاعل ((القائل))‪ ،‬واملتلقي ((املستمع))‪ .‬ومنه؛ فهذه القضايا يف أصلها ما اتفق عليه العرب يف تنحية كالمهم‬
‫ونظمه‪ ،‬فهي قواعد النحو ‪ .‬فإن حبثنا يف طبيعتها الوظيفية كمفردة ومجلة؛ يف قواعد حنوية ذو وظيفية تركيبية ال‬
‫خترج عن نظامها النحوي‪ .‬وإن نظرنا إليها من ناحية مجالية أدائية؛ فهي قواعد بالغية اهلدف منها الوقوف عن‬
‫خصائص نظام الكالم ضمن عملية التواصل بني املتكلم والسامع أو املتلقي‪ .‬واملستخلص هنا أن قواعد علم‬
‫املعاين حنوية الرتكيب بالغية االستعمال‪.‬‬

‫‪38‬‬
‫المحاضرة السابعة‪ :‬النظم وعالقته بعلم البيان‪.‬‬

‫هتدف هذه احملاضرة إىل بسط مجاليات النظرية البيانية عند عبد القاهر اجلرجاين أحد أئمة العربية‪ ،‬فهو واضع‬
‫القواعد النظرية للمعاين والبيان يف كتابيه القيمني "دالئل اإلعجاز" و"أسرار البالغة"‪ ،‬وقد أوىل ألوان البيان الثالثة‬
‫(التشبيه واالستعارة والكناية) أمهية ‪ ،‬و نظرته البالغية فيها عمق وإدراك میيز النظرية البيانية العربية‪ ،‬فالتشبيه عنده‬
‫جيمل بدقة الفكر‪ ،‬واالستعارة تنطوي على تأليف ونظم ينفرد هبا السياق التميز بالرتتيب النحوي املؤدي للمعىن‬
‫التصويري املرغوب إيصاله للمتلقي يف قالب مجايل مؤثر‪ ،‬والكناية نوع بياين ينضوي على إثبات املعين بالدليل‬
‫والربهان‪ ،‬ووظيفتها الداللية ميزان األصالة املبدع وكفاءته‪ ،‬ويف كل هذه األلوان البالغية خصائص مجالية تنفرد هبا‬
‫النظرية البيانية اجلرجانية املتسمة بالتأمل العميق والتأثري احلي املتجدد‪].‬‬
‫أهم موضوعات أسرار البالغة" التشبيه واالستعارة والتمثيل‪ ،‬وهي العناصر اجملازية اليت تشكل الصورة األدبية إال أن‬
‫عبد القاهر اجلرجاين (ت ‪ 470‬ه) يف مقدمة الكتاب تعرض لبعض األصناف البديعة كالتجنيس والسجع‬
‫واحلشو‪ ،‬متوخيا يف ذكرها إبطال أن يكون احلسن فيها جملرد اللفظ دون املعىن‪ ،‬حماربا بعد ذلك التيار اللفظي‬
‫الذي حفل باجلناس وغريه من البديعظنا منه أن مادته وقوامه إمنا هو يف األلفاظ وحدها‪ ،‬دون أن يكون للمعىن يف‬
‫ذلك نصيب‪ ،‬وبذلك رد للمعين دوره عادا األلفاظ تابعة للمعاين‪ ،‬مثبتا أن اجلمال للنظم والصياغة مع مالحظة‬
‫املعىن‪ ،‬غري أن البيان كان له احلظ األوفر واألغزر ضمن اهتمام عبد القاهر‪ ،‬وسأعرض فيما يلي آراءه البالغية يف‬
‫األلوان البيانية الثالثة ومدى مجاليتها‪ ،‬مث أخلص إىل استنتاج أهم اخلصائص الفنية واجلمالية اليت تتفرد هبا ضمن‬
‫التعبري األديب املؤثر فياملتلقي‪.‬‬
‫‪ -‬ضوابط الصورة التشبيهية الجرجانية‪:‬‬
‫جعل عبد القاهر التشبيه على ضربني‪ :‬أحدمها‪ :‬أن يكون تشبيه الشيء بالشيء من جهة أمر بني ال حيتاج فيه إىل‬
‫تأول كالتشبيه من جهة الصورة إيل متيز اجلسم عن غريه وقدم أمثلة من حيث الشكل واهليئة واللون‪ ...،‬مث التشبيه‬
‫من جهة الغريزة والطباع كتشبيه الرجل باألسد يف الشجاعة‪ ،‬وكذلك كل تشبيه مجع بني شيئني فيما يدخل حتت‬

‫‪39‬‬
‫احلواس كتشبيه بعض الفواكه بالعسل والسكر‪ ،‬واللني الناعم باخلز‪ ،‬فالتشبيه يف هذا كله واضح ال جيري فيه‬
‫التأويل‪ ،‬وال يفتقر إليه يف حتصيله ‪ 1‬وهذا النوع هو التشبيه الصريح أو العادي‪.‬‬
‫وثانيهما‪ :‬هو أن يكون الشبه حمصال بضرب من التأول‪ ،‬والتأول يكون بإرجاع وجه الشبه إىل معنی يکون متحققا‬
‫يف الطرفني بوجه من التلطف واحليلة‪ ،‬كقولك‪ :‬هذه حجة كالشمس‪ ،‬فاحلجة كالشمس من جهة ظهورها‪ ،‬وهذا‬
‫التشبيه ال يتم إال بالتأول وذلك بأن تقول‪ :‬حقيقة ظهور الشمس وغريها من األجسام‪ ،‬أال يكون دوهنا حجاب‬
‫وحنوه‪ ،‬مما حتول بني العني ورؤيتها‪ ،‬والشبهة نظري احلجاب فيما يدرك بالعقول‪ ،‬ألهنا متنع القلب رؤية ما هي شبهة‬
‫فيه‪ ،‬فإذا ارتفعت الشبهة وحصل العلم مبعىن الكالم الذي هو احلجة على احلكم‪ ،‬قيل هذا ظاهر كالشمس‪ ،‬فال‬
‫يشك ذو بصر أن الشمس طالعة إذا كانت كذلك‪.2‬‬
‫وإن طريقة التأول تتفاوت‪ ،‬فمنه ما يقرب مأخذه ويسهل الوصول إليه‪ ،‬حىت أنه يكاد يداخل الضرب األول‬
‫ويشاهبه مثل حجة كالشمس يف الظهور‪ ،‬ومنه ما حيتاج إىل قدر من التأول كقوهلم‪ :‬ألفاظه کالعسل يف احلالوة‪،‬‬
‫ومنه ما يدق ويغمض حىت حيتاج يف استخراجه إىل فضل روية ولطف فكرة مثل‪" :‬هم كاحللقة املفرغة ال يدري‬
‫أين طرفاها" ‪3‬وهذا ما يطلق عليه التمثيل‪.‬‬
‫والفرق بني النوعني أن التشبيه يطلق على الضربني كليهما‪ ،‬والتشبيه عام أما التمثيل فإنه أخص منه‪ ،‬فكل متثيل‬
‫‪5‬‬
‫تشبيه وليس كل تشبيه متثيال‪ 4‬ففي قول ابن اخلطيم‪:‬‬
‫وقد الح يف الصبح الثريا ملن رأى كعنقود مالحية حني نورا‬
‫فهذا تشبيه حسن‪ ،‬وال نقول هو متثيل لعدم حاجة وجه الشبه إىل تأول‪ .‬بينما قول ابن املعتز‪:‬‬
‫اصرب على مضضاحلسو دفإن صربك قاتله‬
‫فالنار تأكل بعضه ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــا إن مل ّتد ما تأكله‬
‫فهو متثيل ألن تشبيه احلسود إذا صرب عليه وسکت عنه‪ ،‬وترك غيضه يرتدد فيه ويعتمل يف صدره بالنار اليت ال‬
‫حتمد باحلطب أو الوقود حىت يأكل بعضها بعضا مما جيعل التعبري حيتاج إىل تأول بني‪ ،‬ورأي عبد القاهر يف‬

‫‪ -1‬عبد القاهر اجلرجاين‪ ،‬أسرار البالغة‪ ،‬تصحيح وتعليق حممد رشيد رضا ‪ ،‬دار املعرفة ‪ ،‬بريوت‪ ،‬لبنان‪ ،‬ص ‪.79‬‬
‫‪ -2‬عبد القاهر اجلرجاين ‪،‬املصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.79‬‬
‫‪-3‬عبد القاهر اجلرجاين ‪،‬املصدر نفسه ‪ ،‬ص ‪.75-74‬‬
‫‪-4‬عبد القاهر اجلرجاين ‪،‬املصدر نفسه ‪ ،‬ص ‪.75‬‬
‫‪-5‬عبد القاهر اجلرجاين ‪،‬املصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.75‬‬
‫‪40‬‬
‫التمثيل خيتلف عن رأي اجلمهور‪ ،‬إذ أنه يرى أن التمثيل ما كان الوجه فيه حمتاجا إىل تأول أي منتزع من الزم‬
‫الصفة‪ ،‬وال يكون كذلك إال إذا كان وجه الشبه فيه منتزعا من متعدد سواء أكان حسيا أو غري حسي‪.‬‬
‫والتشبيه الذي هو أوىل أن يسمى متثيال لبعده عن التشبيه الصريح الظاهر‪ ،‬ما ّتده ال حيصل لك إال من مجلة من‬
‫الكالم أو مجلتني أو أكثر‪ ،‬حىت أن التشبيه كلما كان أوغل يف كونه عقليا حمضا‪ ،‬كانت احلاجة إىل اجلملة أكثر‪،1‬‬
‫إذ كلما كان التشبيه موغال يف العمق واحلاجة إىل الفكر احتيج فيه إىل ترکيب مجلي أكرب وأمشل‪ ،‬كقوله تعاىل ‪" :‬‬
‫إمنا مثل احلياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء‪ ،‬فاختلط به نبات األرض مما يأكل الناس واألنعام‪ ،‬حىت إذا أخذت‬
‫األرض زخرفها‪ ،‬وازينت‪ ،‬وظن أهلها أهنم قادرون عليها‪ ،‬أتاها أمرنا ليال أو هنارا فجعلناها حصيدا كأن مل تغن‬
‫باألمس" ‪ 2‬وقد كثرت اجلمل فيه حىت إنك ترى يف هذه اآلية عشر مجل إذا فصلت‪ ،‬وهي إن كان دخل بعضها‬
‫يف بعض‪ ،‬حىت كأهنا مجلة واحدة‪ ،‬مث إن الشبه منتزع من جمموعها من غري أن میكن فصل بعضها عن بعض‪ ،‬وال‬
‫حذف شيء منها‪ ،‬فلو حذفت منها مجلة واحدة من أي موضع كان أخل ذلك باملغزى من التشبيه‪ ،3‬وينبغي أن‬
‫يكون الرتتيب اجلملي متميزا بتداخل عناصره وكذا عمق معانيه‪.‬‬
‫ويشري عبد القاهر إىل وجوب تقدم املشبه به يف اجلمل اليت يضرب هبا املثل‪ ،‬وال میكن حذف املشبه به واالقتصار‬
‫على ذكر املشبه‪ ،‬واجلملة إذا جاءت بعد املشبه به‪ ،‬مل ختل من ثالثة أوجه‪ :‬أحدها‪ :‬أن يكون املشبه به معربا عنه‬
‫بلفظ موصول وتكون اجلملة صلة له‪ ،‬كقوله تعاىل ‪ " :‬مثلهم كمثل الذي استوقد نارا‪ ،‬فلما أضاءت ما حوله‪"...‬‬
‫‪4‬‬

‫والثاين‪ :‬أن يكون املشبه به نكرة‪ ،‬تقع اجلملة صفة له‪ ،‬كقول النيب صلى اهلل عليه وسلم‪" :‬الناس كإبل مائة ال ّتد‬
‫فيها راحلة" والثالث‪ :‬أن ّتيء اجلملةمستأنفة‪ ،‬وذلك إذا كان املشبه به معرفة ومل يكن هناك (الذي) كقوله تعاىل‬
‫‪5‬‬
‫‪" :‬كمثل العنكبوت اختذت بيتا ‪"...‬‬
‫ويتفرد عبد القاهر بإبراز اجلانب النفسي والتأثري اإلمجايل للتمثيل‪ ،‬وإن للتمثيل عنده مظهرين‪ ،‬أحدمها‪ :‬أن يظهر‬
‫املعىن ابتداء يف صورة التمثيل‪ ،‬واآلخر‪ :‬ما اتفق العقالء عليه أن "التمثيل إذا جاء يف أعقاب املعاين أو برزت هي‬
‫باختصار يف معرضه‪ ،‬ونقلت عن صورة األصلية إىل صورته‪ ،‬كساها وأكسبها منقبة‪ ،‬ورفع من أقدارها‪ ،‬وشب من‬

‫‪-1‬عبد القاهر اجلرجاين ‪،‬أسرار البالغة ‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص ‪.87‬‬


‫‪ -2‬سورة يونس‪ ،‬اآلية‪.94:‬‬
‫‪ -3‬عبد القاهر اجلرجاين‪ ،‬أسرار البالغة‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص‪87‬‬
‫‪ -4‬سورة البقرة‪ ،‬اآلية‪.07:‬‬
‫‪ -5‬سورة العنكبوت ‪ ،‬اآلية‪.40 :‬‬
‫‪41‬‬
‫نارها وضاعف قواها يف حتريك النفوس هلا‪ ،‬ودعا القلب إليها‪ ،‬واستثار هلا من أقاصي األفئدة صبابة وكلفا وقسر‬
‫‪1‬‬
‫الطباع على أن تعطيها حمبة وشغفا"‬
‫وحني نتأمل قول أيب متام‪:‬‬
‫وإذا أراد اهلل نشر فضيلة طويت ‪ ،‬أتاح هلا لسان حسود‬
‫لوال اشتعال النار فيما جاورت ما كان يعرف طيب عرف العود‬
‫فقد نشر املعىن حلته‪ ،‬وأظهر املكنون من حسنه وزينته‪ ،‬واستكمل فضله يف النفس ونبله واستحق التقدمي بالبيت‬
‫‪2‬‬
‫األخري‪ ،‬وما فيه من التمثيل والتصوير‬
‫فجمالية النظرية البيانية عند اجلرجاين يف إطار التشبيه متتد إىل أغوار اللغة ودررها‪ ،‬وأول اجلمال أنس النفوس مع‬
‫هذه الرتكيبات التشبيهية إيل تنقلنا من العقل إىل اإلحساس أو من اخلفي إىل اجللي‪ ،‬وما يعلم بالفكر إىل ما يعلم‬
‫باالضطرار والطبع‪ ،‬ونلمح هنا هذا التمازج الرائع بني الذوق املرهف األصيل يف النقد والتعمق يف غايات الكالم‬
‫واملدرك يف الوقت نفسه لتأثري مجالية التصوير البالغي البياين من جهة‪ ،‬ومن جهة أخرى وبني ذهن ناقد يرجع‬
‫اجلمال يف التشبيه والتمثيل إىل قدرته التصويرية على تقدمي املعىن أمام األعني ويف األذهان‪ ،‬مما حيدث االقرتان بني‬
‫املعنوي واحلسي وبني اجملرد وامللموس وهذا ما ينتج اجلمالية واإلبداع اللذين حيققان املتعة احلية النابضة بزخم‬
‫التجدد‪ ،‬وهذا التوجه میثل‪" :‬دقة بالغة يف إدراك احلقائق األدبية‪ ،‬بل احلقائق النفسية‪ ،‬إذ تنبه إىل أن اإلنسان‬
‫يتمثل احلسيات بأقوى مما يتمثل العقليات لتقدمها يف مدركاته ولشدة ألف النفس هلا‪ ،‬حىت لتصبح كأهنا عشرية‬
‫‪3‬‬
‫أو صديقة "‬
‫ضوابط التصوير االستعاري عند الجرجاني‪:‬‬
‫من مباحث النظرية البيانية اجلرجانية االستعارة وحدها عنده " أن تريد تشبيه الشيء بالشيء فتدع أن تفصح‬
‫‪4‬‬
‫بالتشبيه وتظهره وّتيء إىل اسم املشبه به فتعريه الشبه وحتريه عليه‪"...‬‬

‫‪ -1‬عبد القاهر اجلرجاين ‪ ،‬أسرار البالغة‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص ‪23‬‬


‫‪ ، -2‬عبد القاهر اجلرجاين ‪ ،‬أسرار البالغة‪ ،‬مصدر سابق ص ‪011‬‬
‫‪ -3‬شوقي ضيف ‪ -‬البالغة تطور وتاريخ‪ ،‬دار املعارف‪ ،‬مصر‪ ،‬ص ‪.028‬‬
‫‪ -4‬عبد القاهر اجلرجاين‪ ،‬دالئل اإلعجاز ‪ ،‬تقدمي‪ :‬حممود حممد شاكر‪ ،‬مکتبة اخلاجني للطباعة والنشر‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ط‪0403، 3‬ه‪0229-‬م ‪ ،‬ص‬
‫‪.67‬‬
‫‪42‬‬
‫كما تناوهلا يف أسرار البالغة وفصل الشرح فيها مبينا أقسامها بأوجه متعددة فقال‪ " :‬اعلم أن االستعارة يف اجلملة‬
‫أن يكون لفظ األصل يف الوضع اللغوي معروفا تدل عليه الشواهد على أنه اختص به حني وضع‪ ،‬مث يستعمله‬
‫‪1‬‬
‫الشاعر أو غري الشاعر يف غري ذلك األصل‪ ،‬وينقله إليه نقال غري الزم‪ ،‬فيكون هناك كالعارية"‬
‫وقد بني عبد القاهر أن االستعارة وإن كانت يف الظاهر من صفة اللفظ‪ ،‬فإن حقيقة األمر أن القصد هبا يكون إىل‬
‫املعىن‪ ،‬بإثبات صفة الشجاعة عندما نقول ‪ :‬جعلته أسدا‪ ،‬ومجال االستعارة يعود إىل ما توخي يف مجلتها من النظم‬
‫ووضع للكالم برتتيب وترکيب خاص‪ ،‬ومع أن اجملاز أعم من االستعارة‪ ،‬والتشبيه كاألصل فيها‪ ،‬وهي شبيهة‬
‫بالفرع له‪ ،‬إال أنه درس االستعارة أوال وقدمها على األلوان البيانية األخرى مما جعلها حتتل مكانة رفيعة بني فنون‬
‫القول اجملازي فهي ‪" :‬أمد ميدانا‪ ،‬وأشد افتنانا ‪ ،‬وأكثر جريانا‪ ،‬وأعجب حسنا وإحسانا‪ ،‬وأوسع سعة وأبعد غورا‪،‬‬
‫وأذهب جندا يف الصناعة ‪ ،‬وغورا‪ ،‬من أن ّتمع شعوهبا وحتصر فنوهنا وضروهبا ‪ ،‬وأسحر سحرا‪ ،‬وأماال بكل ما میال‬
‫صدرا‪ ،‬ومیتع عقال‪ ،‬ويؤنس نفسا‪ ،‬ويوفر أنسا‪ ،‬وأهدى إىل أن هتدى إليك عذارى قد ختري هلا اجلمال وعن هبا‬
‫‪2‬‬
‫الكمال‪"...‬‬
‫ويتكامل املعىن عند عبد القاهر بتطبيق نظرية النظم إيل ترتبط بالسياق والرتكيب النحوي‪ ،‬كاأللفاظ "فقد وصل‬
‫بني اللفظة يف االستعارة والنظم‪ ،‬وأكد أن األوصاف إيل تضاف إىل اللفظة ليست إال أوصافا للمعىن الذي تدل‬
‫‪3‬‬
‫عليه"‬
‫كما فرق بني االستعارة املفيدة وغري املفيدة‪ ،‬وفيما يرد فيها وجه الشبه حقيقيا وما يكون عقليا‪ ،‬وأشار إىل‬
‫االستعارة احلسنة‪ ،‬واالستعارة املعيبة واملستهجنة حيث يقول‪ ":‬اعلم أن من شأن هذه األجناس أن ّتري فيها‬
‫الفضيلة وان تتفاوت التفاوت الشديد‪ ،‬أفال ترى يف االستعارة العامي املبتذل كقولنا رأيت أسدا ‪ ،‬ووردت حبرا‪،‬‬
‫ولقيت بدرا‪ ،‬واخلاصي النادر الذي ال جنده إال يف کالم الفحول‪ ،‬وال يقوى عليه ال أفراد الرجال كقوله‪...:‬‬
‫‪4‬‬
‫وسالت بأعناق املطي األباطح‬
‫"أراد أهنا سارت سريا حثيثا يف غاية السرعة‪ ،‬وكانت السرعة يف لني وسالسة كأهنا كانت سيوال وقعت يف تلك‬
‫‪5‬‬
‫األباطح فجرت فيها "‬

‫‪ -1‬عبد القاهر اجلرجاين ‪ ،‬أسرار البالغة‪ ،‬مصدر سابق‪،‬ص ‪99‬‬


‫‪ -2‬عبد القاهر اجلرجاين ‪:‬أسرار البالغة‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص ‪39‬‬
‫‪ .-3‬أمحد عبد السيد الصاوي ‪ ،‬مفهوم االستعارة‪ ،‬منشأة املعارف باإلسكندرية‪ ،‬ط‪0288 ،0‬م ص ‪83‬‬
‫‪ -4‬ديوان كثري عزة ص ‪ ، 595‬وشطره األول هو‪ :‬أخذنا بأطراف احلديث بيننا ‪ ،‬نقال عن إميل يعقوب ‪ -‬شواهد اللغة العربية ‪ ،‬اجمللد ‪ ،9‬ص‬
‫‪019‬‬
‫‪ -5‬عبد القاهر اجلرجاين‪ ،‬دالئل اإلعجاز‪ ،‬مصدر سابق‪،‬ص ‪.74‬‬
‫‪43‬‬
‫أما عنوان مناقب االستعارة ‪ -‬حسب رأي عبد القاهر‪ -‬فهو"أهنا تعطيك الكثري من املعاين باليسري من اللفظ حىت‬
‫خترج من الصدفة الواحدة عدة من الدرر وحتني من الغصن الواحد أنواعا من الثمر"‪. 1‬‬
‫فجمال االستعارة عند عبد القاهر قمة يف التأثري وغاية يف األلق‪ ،‬فبها تری اجلماد حيا ناطقا‪ ،‬واألعجم فصيحا‪،‬‬
‫واملعاين اخلفية بادية جلية‪ ،‬ومن خصائصها أهنا ترينا املعاين اللطيفة ايل هي من خبايا العقل‪ ،‬كأهنا قد جسمت‬
‫‪2‬‬
‫حىت رأهتا العيون‪ ،‬وهي تلطف األوصاف اجلسمانية حىت تعود روحانية جمردة تدركها العقول النرية‪.‬‬
‫وهبذا املفهوم اجلرجاين لالستعارة املؤثرة يف املتلقي نكون أمام لغة شعرية هلا كثافة حتجب النظر عندها‪ ،‬وال تسمح‬
‫له باخرتاقها‪ ،‬وهو شيء قريب من السحر‪ ،‬ألنه يتحرك خارج إطار العقل حيث خيتصر بعد ما بني املشرق‬
‫واملغرب‪ ،‬وجيمع ما بني املشئم واملعرق‪ ،‬وهو يريك املعاين املمثلة باألوهام شبها باألشخاص املاثلة‪ ... ،‬فيأتيك‬
‫باحلياة واملوت جمموعني واملاء والنار جمتمعني‪ ... ،‬فلغة املفارقة تكاد تتحول إىل لغة متاثلية بفعل النسق الذي‬
‫احتواها‪ ...‬حيث تالشت حدود الواقع‪ ،‬فلم تعد هناك منطقة داللية تتوقف عندها لنقول عندها هنا تنتهي‬
‫حدود النار‪ ،‬وهنا تبدأ حدود املاء‪ ...،‬وهذا من وجهة نظر عبد القاهر لون من السحر التعبريي ‪.3‬‬
‫وتتجلى قدرة املبدعني االستثنائية على استثمار ملكة املشاهبة يف أهنم میيلون إىل بناء تشکيالت بالغية‪ ،‬بواسطة‬
‫بناء استعارة على أخرى أو أكثر‪...،‬ويستطيعون كذلك صهر االستعارات داخل شبكات أسلوبية تضم أكثر من‬
‫تعبري واحد‪ ،‬فيشكلون تعبريا أسلوبية ‪..4‬‬
‫‪ -‬ضوابط األسلوب الكنائي عند الجرجاني‪:‬‬
‫الكناية يف اللغة‪ :‬مصدر کنی يكي‪ ،‬فيكون يائي الالم أو كنا يکنو فيکون واوي الالم ‪ ،5‬واملعىن العام هلذا‬
‫‪6‬‬
‫املصطلح البالغي‪ :‬هو أن تتكلم بشيءوتريد غريه‬
‫وعرف القدامى الكناية صورة يف خياهلم‪ ،‬توضح الفكرة وتزين األسلوب‪ ،‬ومل يعرفوها لونا بالغيا حمددا واضح‬
‫املعاين بني السمات ‪ ، 7‬ولقد درج اخلطاب اللغوي يف أغلب اللغات اإلنسانية على أن يتواضع أهله على‬

‫‪-1‬عبد القاهر اجلرجاين‪ ،‬أسرار البالغة‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص ‪.33‬‬


‫‪-2‬عبد القاهراجلرجاين‪ ،‬أسرار البالغة‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص ‪.33‬‬
‫‪ -3‬حممد عبد املطلب‪ ،‬قضايا احلداثة عند عبد القاهر‪ ،‬الشركة املصرية العاملية للنشر‪ ،‬لوجنمان ‪ ،‬الطبعة األوىل ‪ ،0225‬ص ‪.015-014‬‬
‫‪ -4‬عبد اإلله سليم ‪:‬بنيات املشاهبة يف اللغة العربية ‪ -‬مقاربة معرفية ‪ -‬دار توبقال للنشر الدار البيضاء‪،‬املغرب‪ 9110 ،‬ص ‪004‬‬
‫‪ -5‬ابن منظور ‪ -‬لسان العرب‪ -‬مادة كنی ‪ -‬ج‪ ،91‬قدم له‪:‬عبد اهلل العاليلي‪ ،‬إعداد‪:‬يوسف اخلياط‪ ،‬دراسات العرب ‪ ،‬بريوت ‪ ،‬لبنان ص‬
‫‪ ،28‬والقاموس احمليط ج‪ ،4‬القاهرة‪ 0289،‬ص ‪.386‬‬
‫‪ -6‬الرازي‪ ،‬خمتار الصحاح‪ ،‬مادة کنی ‪ ،‬ضبط وختريج‪:‬مصطفى ديب البغا‪ ،‬دار اهلدى ‪ ،‬اجلزائر‪ .‬ص ‪520‬‬
‫‪ -7‬حممد السيد شيخون‪ ،‬األسلوب الكنائي ‪ -‬دار اهلداية للطباعة والنشر ‪ ،‬ط‪ ،90224‬ص ‪.17‬‬
‫‪44‬‬
‫التداولبألفاظ قد تعين ما يفهم منها يف الظاهر‪ ،‬أو أن يراد ببعضها يف مواقف معينة املعىن البعيد املخفي‪ ...‬أو‬
‫الكنائي‪.‬‬
‫ولعلماء البالغة تعريفات عديدة للكناية منها ما أورده عبد القاهر اجلرجاين يف قوله‪" :‬واملراد بالكناية أن يريد‬
‫املتكلم إثبات معىن من املعاين فال يذكره باللفظ املوضوع له يف اللغة‪ ،‬ولكن جييء إىل معىن هو تاليه وردفه يف‬
‫الوجود‪ ،‬فيومئ به إليه‪ ،‬وجيعله دليال عليه‪ ،‬مثال ذلك قوهلم‪":‬هو طويل النجاد" يريدون طول القامة‪ ،‬وهي "نؤوم‬
‫الضحى" واملراد أهنا " مرتفة خمدومة هلا من يكفيها أمرها‪ ،‬فقد أرادوا معىن مث مل يذكروه‪ ،‬بلفظه اخلاص به ‪،‬‬
‫‪1‬‬
‫ولكنهم توصلوا إليه بذكر معىن آخر من شأنه أن يردفه يف الوجود وأن يكون إذا كان"‬
‫فعبد القاهر اجلرجاين ينص هنا على ثنائية املعىن الكنائي‪ ،‬وعلى تعلقهما ببعضهما‪ ،‬حىت ليصري املعىن الثاين تابعا‬
‫‪2‬‬
‫لألول ‪ ... ،‬ولعل ما میيز الكناية هذا اخلفاء العجيب الذي يصور املعاين ويربزها يف أفخم تعبري وأبدع صورة‬
‫ولكي تطمئن نفس املرء إىل ذلك جيب أن يعرف سببه وعلته‪ ،‬وتكمن مزية الكناية يف طريق إثبات املعىن الذي‬
‫يقصد إليه املتكلم‪ ،‬فزيادة إثبات املعىن جيعله أبلغ وآكد وأشد‪ ،‬ومزية اإلثبات بالكناية تؤدي إىل إثبات الصفة‬
‫بإثبات دليلها وإجيابه مبا هو شاهد على وجودها‪ ،‬ولذلك فإن اللفظ يف الكناية يدل على معىن‪ ،‬وهذا املعىن يدل‬
‫‪3‬‬
‫على املعىن املراد من الكناية‪ ،‬فهي إذا دالالت املعاين على املعاين‪.‬‬
‫ويؤكد عبد القاهر أن شرط البالغة أن املعىن األول الذي حتمله دليال على املعىن الثاين ووسيطا بينك وبينه‪،‬‬
‫متمكنا يف داللته‪ ،‬مستقال بواسطته يسفر بينك وبينه أحسن سفارة‪ ،‬ويشري لك إليه أبني إشارة‪ ،‬حىت خييل إليك‬
‫أنك فهمته كقوله‪:‬‬
‫‪4‬‬
‫ال أمتع العوذ بالفصال وال أبتاع إال قريبة األجل‬
‫فهو ال يرتك الفصيل ألمه ‪ ،‬بل يقدمه للضيفان ‪ ،‬وهذا املعىن يوصلنا بيسر إىل أن هذا الرجل الكرمي يذبح لطاليب‬
‫قراه‪ ،‬كما أنه ال يشرتي إال الناقة ايل تذبح بعد شرائها‪ ،‬فهي قريبة األجل‪ ،‬فاملعىن األول دليل على املعىن الثاين‪،‬‬
‫وهو معىن املعىن املعقول من اللفظ وداللته‪ ،‬وهذا كناية عن الصفة كما يسميها عبد القاهر اجلرجاين‪ ،‬ومن ذلك‬
‫قول الشاعر ‪:‬‬
‫‪1‬‬
‫وما يك يف من عيب فإين جبان الكلب مهزول الفصيل‬

‫‪ -1‬عبد القاهر اجلرجاين ‪ -‬دالئل اإلعجاز ‪ ،‬مصدر سابق ص ‪.66‬‬


‫‪ -2‬بشري کحيل ‪ ،‬الكناية يف البالغة العربية ‪ ،‬مكتبة اآلداب ‪ ،‬القاهرة‪ ،‬الطبعة األوىل ‪ ،9114،‬ص ‪.10‬‬
‫‪ -3‬عبد القاهر اجلرجاين ‪ -‬دالئل اإلعجاز مصدر سابق ص ‪.70‬‬
‫‪(-4‬البيت البن هرمة)‪ ،‬نقال عن‪ :‬فضل حسن عباس‪ ،‬البالغة فنوهنا وأفناهنا‪،‬دار النفائس‪،‬عمان‪ ،‬األردن‪ ،‬ط‪،9112 ،09‬ص ‪986‬‬
‫‪45‬‬
‫وأبدع من هذا قول شاعر آخر‪:‬‬
‫‪2‬‬
‫يكاد إذا ما أبصر الضيف مقباليكلمه من حبه وهو أعجم‬
‫فانظ ر إىل هذه املبالغة يف الكناية كيف جعل الكلب يكاد يكلم الضيفان‪ ،‬ويرحب هبم مع أنه ال ينطق‪ ،‬أما‬
‫مهزول الفصيل ‪-‬يف البيت الذي قبله ‪ -‬فهو كناية عن الكرم كذلك‪ ،‬فالفصيل ابن الناقة إال أن كثرة الضيوف وما‬
‫يشربونه من لنب النياق ّتعل الفصيل مهزوال ألنه ال يشبع حليب أمه‪.‬‬
‫واألسلوب الكنائي مع إمتاعه میتاز باإلقناع‪ ،‬ألنه ال يأتيك بالدعوى إال ومعها دليلها‪ ،‬أال ترى أن قوهلم كثري‬
‫الرماد ايل يکنون هبا عن الكرم إمنا جاءت دليال حمسوسا إلثبات هذا الكرم‪ ،‬وكذلك كل كناية ّتد أهنا جاءت‬
‫دليال على املعىن املراد منها‪.‬‬
‫ويقول علي اجلارم ‪":‬الكناية مظهر من مظاهر البالغة‪ ،‬وغاية ال يصل إليها إال من لطف طبعه‪ ،‬وصفت قرحيته‪،‬‬
‫والسر يف بالغتها أهنا يف صور كثرية تعطيك احلقيقة مصحوبة بدليلها‪ ،‬والقضية ويف طيها برهاهنا" ‪ 3‬كقول‬
‫‪4‬‬
‫البحرتي يف املدح يغضون فضل اللحظ من حيث ما بدا هلم عن مهيب يف الصدور حمبب‬
‫فإنه کنی عن إكبار الناس للممدوح وهيبتهم إياه بغض األبصار الذي هو يف احلقيقة برهان على اهليبة واإلجالل‪.‬‬
‫ومن أسباب بالغة الكناية كذلك أهنا تضع لك املعاين يف صورة احملسنات‪ ،‬مثل قول البحرتي ‪:‬‬
‫‪5‬‬
‫أو ما رأيت اجملد ألقى رحله يف آل طلحة مث مل يتحول‬
‫‪6‬‬
‫وهنا الكناية عن نسبة الشرف إىل آل طلحة‪ ،‬وكل ذلك يربز املعاين يف صورة تشاهدها وترتاح نفسك إليها‪.‬‬
‫وأما الكناية عن موصوف فإن عبد القاهر‪ ،‬مل يتعرض هلا بالتحليل وال التمثيل‪.‬‬
‫ومل يغفل عبد القاهر احلديث عن قرينة الكناية‪ ،‬فوضح أن قوهلم "هو کثري رماد القدر" ال يفيد غرضك الذي‬
‫تقصده من جمرد اللفظ‪ ،‬لكن يدل اللفظ على معناه الذي يوجبه ظاهره‪ ،‬مث يعقل السامع من ذلك املعىن علىسبيل‬
‫‪7‬‬
‫االستدالل معىن ثانيا هو غرضك كمعرفتك من كثري رماد القدر أنه مضياف ‪.‬‬

‫‪ -1‬البيت البن هرمة‪ ،‬عن الصناعتني‪ ،‬ص ‪ ،949‬املرجع نفسه ‪ ،‬ص ‪968‬‬
‫‪-2‬البيت كذلك البن هرمة عن احلماسة ج‪ ،9‬ص‪ .948‬نقال عن البالغة فنوهنا وأفناهنا‪ ،‬ص ‪986‬‬
‫‪ -3‬فضل حسن عباس‪ ،‬البالغة فنوهنا وأفناهنا‪ ،‬ص‪987‬‬
‫‪ -4‬ديوان البحري‪ ،‬شرح‪:‬يوسف الشيخ حممد‪ ،‬دار الكتب العلمية ‪ ،‬بريوت‪9111 ،‬م ‪ ،‬ص ‪( ،007‬والبيت يف مدح الفتح بن خاقان)‬
‫‪ -5‬ديوان البحرتي ‪ ،‬ص ‪061‬‬
‫‪ -6‬فضل حسن عباس‪ ،‬البالغة فنوهنا وأفناهنا‪ ،‬ص ‪.301‬‬
‫‪ -7‬أمحد مجال العمري‪ ،‬الباحث البالغية يف ضوء قضية اإلعجاز القرآين‪ ،‬مكتبة اخلاجني‪ ،‬القاهرة‪ ،0221 ،‬ص‪.980‬‬
‫‪46‬‬
‫وما میكن التنويه به أن للكناية قيمة أسلوبية وفنية تتمثل يف اّتاهني مميزين هلا بوصفها لونا بيانيا ومها‪ :‬سرت املعىن‪،‬‬
‫والتعبري التصويري‪.‬‬
‫ففي سرت املعين‪ :‬فكأن املعين اخلفي يستنز داخل صدفة‪ ،‬فال يصل إليه املتلقي إال بعد شقها‪ ،‬وكل تسرت هو ميزة‬
‫فنية‪ ،‬طاملا أن كل تصريح أو وضوح هو ميزة علمية وهبذا املعىن يقول مللرميه (‪ ": )Mallarmé‬أن نسمي‬
‫الشيء بامسه‪ ،‬يعين ذلك حذف ثالثة أرباع نشوة القصيدة‪ ،‬هذه النشوة إيل تقوم على غبطة االكتشاف شيئا‬
‫‪1‬‬
‫فشيئا‪ ،‬واإلحياء‪ ،‬وهذا هو احللم كله"‬
‫والكناية وما تتسم به من خفاء تستمده من حيوية اجملاز والتخييل‪ ،‬يقول اجلرجاين‪ ":‬قد أمجع اجلميع على أن‬
‫الكناية أبلغ من اإلفصاح والتعريض أوقع من التصريح ‪ ،‬وأن لالستعارة مزية وفضال وأن اجملاز أبدا أبلغ من‬
‫‪2‬‬
‫احلقيقة"‬
‫أما التعبري التصويري للكناية فهو حبد ذاته أبلغ وأمجل من التعبري املباشر‪ ،‬ويعلق اجلرجاين على هذا اجلانب الفين‬
‫يف الكناية فيقول‪" :‬إذا قلنا أن الكناية أبلغ من التصريح‪ ،‬أي أنك ملا كنيت هذا املعىن ليس أنك زدت يف ذاته‪،‬‬
‫بل املعىن أنك زدت يف إثباته فجعلته أبلغ وأكد وأشد ‪ ،‬فليست الزية يف قوهلم‪ :‬جم الرماد‪ ،‬أنه دل على قرى‬
‫أكثر بل أنك أثبتت له القرى الكثري من وجه هو أبلغ و أوجبته إجيابا هو أشد‪ ،‬وأدعيته دعوى أنت هبا أنطق‬
‫‪3‬‬
‫وبصحتها أوثق "‬
‫ومن مث فإن اعتماد الكناية على الصورة يف التعبري جيعلها مؤثرة يف القارئ من خالل إيصال الفكرة و املعىن إىل‬
‫الذهن‪ ،‬فعندما يقال" کسر األنوف" للداللة على اإلرغام‪ ،‬فتمثل اإلرغام ذلك املعىن اجملرد من خالل صورة‬
‫حمسوسة نتصورها واقعا أمام أعيننا‪ ،‬وهذه الصورة ال تزيد يف معىن اإلرغام‪ ،‬وإمنا تزيد يف طريقة التعبري عنه‪ ،‬فتكون‬
‫بذلك فنية مؤثرة وذات بعد تعبريي بياين متميز‪.4‬‬
‫والكناية هبذا وسيلة من وسائل تصوير املعىن فنيا‪ ،‬ألهنا تكشف عن احملاسن إيل تضفي على الصورة البيانية كثريا‬
‫من اإلمتاع و اجلمال‪ ،‬ويتحقق هذا عندما تقوم بدوري الرمز والتلويح‪ ،‬أو اإلشارة إىل املعىن األول أي أهنا وسيلة‬
‫إحيائية وهذا اإلحياء يقف عنده الناقد بالذوق واإلحساس و العقل ‪ ،‬كما‬

‫‪-1‬صبحي البستاين‪ ،‬الصورة الشعرية يف الكتابة الفنية‪ ،‬دار الفكر اللبناين‪ ،‬الطبعة األوىل ‪ ،0286‬ص ‪.068‬‬
‫‪-2‬عبد القاهر اجلرجاين‪ ،‬دالئل اإلعجاز‪ ،‬مصدر سابق‪،‬ص ‪.71‬‬
‫‪-3‬عبد القاهر اجلرجاين‪ ،‬املصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.70‬‬
‫‪ -4‬صبحي البستاين‪ ،‬الصورة الشعرية‪ ،‬مرجع سابق ص ‪.062‬‬
‫‪47‬‬
‫أن هذا اإلحياء الكنائي يضفي على املعىن إشراقات ّتريدية ومن مث میكن أن تقول أن الكناية شأهنا شأن الرمز من‬
‫حيث الوضوح و الغموض‪ ،‬ومرجع ذلك إىل ما تنطوي عليه الرموز اللغوية من املعاين ومدى ما هنالك من صلة‬
‫بني الرمز ومدلوله‪ ،‬وهي على كل حال لون من ألوان التعبري اجلميل يف موضعه ‪ ،‬يبعث على التفكري وإعمال‬
‫الذهن إىل املعىن الثاين‪ ،‬ومن مث إثبات الصفة فيه جيعلنا ننتقل من املعىن األول إىل املعىن الثاين املتولد عنه‪ ،‬وهذان‬
‫احلدان يوجدان معا يف الذهن‪ ،‬ويتألف التعبري الكنائي الفين من احتادمها ومن هنا كان للكناية وظيفة حتددها‬
‫قدرهتا التعبريية اليت ّتعل اجلمال منبثا يف املعىن الثاين امللوح به‪ ،‬أو املوحى إليه‪ ،‬فهي إذا " متثل للذهن املعىن اجملرد‬
‫‪1‬‬
‫بصورة جزئياته احملسوسة‪ ،‬فيدرك من مث املعىن املقصود على أخصر طريق من غري استکراه وال عسر "‬
‫ويهمنا يف هذا كله املنهج الذي اصطنعه عبد القاهر اجلرجاين يف حبثه للكناية‪ ،‬وهو منهج فريد مل يسلكه‬
‫البالغيون قبله‪ ،‬إذ يغلب التكامل يف خطوات التناول‪ ،‬سواء ما تعلق بتعريف الكناية أو تقسيمها على غري املعتاد‪،‬‬
‫أو بيان بالغتها وقيمتها التعبريية يف ضوء صور البيان األخرى كاالستعارة والتمثيل‪ ،‬أو يف إبرازه للجزئيات املتناهية‬
‫واملكونة للفن الكنائي‪ ،‬مستعينا يف ذلك بالتحليل الذي قوامه التذوق السليم لألدب العريب‪ ،‬كما أن اجلرجاين مل‬
‫‪2‬‬
‫يهمل اإلشارة للقرآن واحلديث النبوي أثناء حديثه عن الكناية يف كتابه أسرار البالغة"‬
‫و ما میكن مالحظته أن عبد القاهر مل يعن ببعض فروع علم البيان کالكناية واالستعارة التمثيلية عنايته ببقية‬
‫الفنون األخرى‪ ،‬ولكن يبقى أن ما ترکه من دراسة الفنون البيان‪ ،‬ظل هو األساس الذي تنهض عليه نظرية البيان‬
‫إىل يومنا هذا‪ ،‬ومل يكن النقد الذوقي عند عبد القاهر جبرد أحكام قيمية مطلقة أو عامة‪ ،‬ولكنه مؤسس على‬
‫قواعد منهجية متينة‪ ،‬وتعضده عوامل فكرية و وجدانية ‪ّ ،‬تعله يسرب الفن کي يفاضل بني اجلميل واألمجل‪ ،‬ألن‬
‫جمال الذوق مل يقتصر عنده على األدب فقط‪ ،‬بل ّتاوزه إىل انتخاب النماذج اجليدة ايل تريب الذوق وتعمقه لدى‬
‫املتلقني ‪ ،‬وملكته الذوقية واألدبية بلغ شأوا ال يطال‪ 3‬ومن مث" استطاع أن ينتخب األشعار اليت يستخدمها يف‬
‫شواهده‪... ،‬ويعرضها عليك بطريقة تبهرك‪ ،‬وّتعلك حتس حقا أن طاقة تفكريك تتسع‪ ،‬وكل صفحة وكل حتليل‬
‫البيت أو قطعة‪ ،‬يؤكد البناء اهلندسي الذي وضعهفي أسرار البالغة ودالئل اإلعجاز‪ ،‬فهنا وهناك تتالحق اللبنات‬
‫وتتعاقب القواعد واألصول‪ ،‬فإذا بك أمام نظريتني متكاملتني‪ :‬نظرية املعاين ونظرية البيان اللتني هبرتا العصور التالية‬
‫‪4‬‬
‫"‬

‫‪ -1‬جرب ضومط‪ ،‬فلسفة البالغة‪ ،‬الطبعة العثمانية‪ ،‬بعبدا‪ ،‬لبنان‪ 0828 ،‬م‪ ،‬ص‪010‬‬

‫‪ -2‬بشري کحيل‪ ،‬الكناية يف البالغة العربية‪ ،‬ص ‪.85‬‬


‫‪-3‬أمحد علي الدمهان‪ :‬الصورة البالغية عند عبد القاهر اجلرجاين‪ ،‬منشورات وزارة الثقافة‪ ،‬سورية‪ ،‬ط ‪9111 ،9‬م‪ ،‬ص‪.414‬‬
‫‪-4‬شوقي ضيف‪:‬النقد‪ /‬من فنون األدب العريب‪ ،‬دار املعارف القاهرة‪ ،‬ط‪ ،9 ،0264‬ص ‪.25‬‬
‫‪48‬‬
‫‪ -‬خصائص األثر الجمالي البياني‪:‬‬
‫عندما حاول اجلاحظ حتديد اجلمال وجد صعوبة دفعته إىل القول "إن أمر احلسن أدق وأرق من أن يدركه كل من‬
‫أبصره" ‪ ، 1‬وقد عرف أبو هالل العسكري البالغة بقوله‪ " :‬البالغة كل ما تبلغ به املعىن قلب السامع فتمكنه يف‬
‫‪2‬‬
‫نفسه كتمكنه يف نفسك مع صورة مقبولة ومعرض حسن"‬
‫كما أعاد عبد القاهر يف كتاباته صياغة قضية اللفظ واملعىن من منظور جديد يتبىن فيه رأي اجلاحظ الذي يرى‬
‫الشعر قوال نوعيا خمصوصا متيزه الصياغة والتصوير أو النظم‪" :‬إمنا الشعر صياغة وضرب من التصوير" ‪ 3‬وليس‬
‫النظم يف تصور عبد القاهر إال معنی مشکال تشكيال فنيا يقوم يف جوهره على الغرابة‪ ،‬وقد سعى عبد القاهر‬
‫جاهدا لتجاوز هذه الثنائية بني اللفظ واملعىن‪ ،‬حنو بناء تصور ناضج لنمط القول الشعري‪ ،‬وقد تطلبت هذه‬
‫احملاولة إعادة قراءة املوروث البالغي والنقدي من أجل حتديد مجلة من املصطلحات املمثلة للمفهومات األساس‬
‫للنظرية البيانية اجلرجانية‪.‬‬
‫فمثال میيز اجلرجاين بني املعىن الذي هو "الغرض" واملعىن الذي هو "الصورة" ‪ ،‬فالغرض عنده هو املعىن املفارق‬
‫للهيئة اللغوية (البناء النحوي واجملازي)‪ ،‬أما الصورة فهي املعىن الذي ال حنصل عليه إال بواسطة اهليئة اللغوية‪،‬‬
‫والبناء النحوي اجملازي جزء ال ينفصل عن الصورة‪ ،‬ويف ذلك يقول " ‪...‬ومجلة األمر أن صور املعاين ال تتغري‬
‫بنقلها من لفظ إىل لفظ حىت يكون هناك اتساع وجباز‪ ،...‬واعلم أن هذا كذلك ما دام النظم واحدا‪ ،‬فأما إذا‬
‫‪4‬‬
‫تغري النظم فال بد حينئذ من أن يتغري املعين"‪.‬‬
‫واملعىن الشعري عند عبد القاهر صياغة لغوية تنطوي على قدر كبري من الصنعة‪ ،‬واحلذف والغرابة والتعجيب‪،‬‬
‫ويتفوق البليغ احلاذق حبسن التوظيف للفظ املنضوي على املعىن‪ ،‬وهنا يكمن الفرق " سبيل املعاين‪ ،‬أن ترى‬
‫الواحد منها غفال ساذجا عاميا موجودا يف كالم الناس كلهم‪ ،‬مث تراه نفسه وقد عمد إليه البصري بشأن البالغة‬
‫وإحداث الصور يف املعاين فيصنع فيه ما يصنع الصانع احلاذق حىت يغرب يف الصنعة‪ ،‬ويدق يف العمل‪ ،‬ويبدع‬
‫‪5‬‬
‫فيالصياغة "‬

‫‪-1‬علي أبو ملحم‪" :‬اجلاحظ رائد اجلمالية العربية"‪ ،‬حبلة الفكر العريب‪ ،‬العدد ‪ 47‬السنة‪ ،0287:‬ص ‪.930‬‬
‫‪ -2‬أبو هالل العسكري‪ :‬الصناعتني ‪ ،‬حتقيق‪ :‬علي حممد البجاوي وحممد أبو الفضل ابراهيم‪ ،‬منشورات املكتبة العصرية‪ ،‬بريوت‪ ،‬لبنان ‪0286،‬‬
‫‪ ،‬ص‪.01‬‬
‫‪-3‬عبد القاهر اجلرجاين ‪ ،‬الدالئل ‪ ،‬مصدر سابق ص ‪.512- 518‬‬
‫‪-4‬عبد القاهر اجلرجاين‪ ،‬الدالئل ‪،‬املصدر نفسه ص ‪.965‬‬
‫‪-5‬عبد القاهر اجلرجاين‪ ،‬املصدر نفسه ‪ ،‬ص ‪.493-499‬‬
‫‪49‬‬
‫ويف ضوء هذا التصور يصبح القول الشعري صورة يتضافر فيها املكون النحوي واجملازي إلحداث األثر اجلمايل يف‬
‫املتلقي‪ .‬وقد أطلق عبد القاهر على هذا األثر مجلة من املصطلحات يكشف مجيعها األمهية اليت يوليها للمتلقي يف‬
‫صياغة تصوره مجالية الشعر‪ ،‬ولتجليات اجلمالية اجلرجانية اليت تأتلف يف حمورين أساسيني مها‪:‬‬
‫‪ -5‬التأثير ‪ - 2‬التأمل‬
‫فبالتأثري تتفاضل األساليب وتتمايز الصور‪ ،‬ويعتمد اجلرجاين اعتمادا كبريا على تقدير األثر األديب وما حيدثه يف‬
‫النفس من وقع‪ ،‬وتقاس اجلودة مبقدار هذا األثر ومدى إثارته لعواطف املتلقي فيقول‪ ":‬وال يكون إلحدى العبارتني‬
‫مزية على األخرى حىت يكون هلا يف املعىن تأثري ال يكون لصاحبتها"‪ 1 .‬ويف أكثر من موضع أورد عبد القاهر‬
‫ألفاظا تكشف عن األثر اجلمايل اللغة يف نفس املتلقي حيث يقول‪" :‬أفرتى لشيء من هذه اخلصائص ايل متلؤك‬
‫باإلعجاز روعة وحتضرك عن تصورها هيبة حتيط بالنفس من أقطارها" ‪ ، 2‬كما يقول معلقا على لفظة مل حيسن‬
‫استعماهلا يف هذا املوضع كما حسن استعماهلا يف موضع آخر‪ّ .." :‬تد هلا من الثقل على النفس‪ ،‬ومن التنغيص‬
‫‪3‬‬
‫والتكدير أضعاف ما وجدت هناك من الروح واخلفة ومن اإليناس والبهجة‪"...‬‬
‫واعتبار الوظيفة التأثريية خاصية من خصائص تلقي الشعر‪ ،‬فكرة تعود جذورها يف الثقافة العربية إىل النص النبوي‬
‫الذي أحل على سحر البالغة ‪ ،‬حيث يقول صلى اهلل عليه‪ ":‬إن من البيان لسحرا‪ ،‬وإن من الشعر حلكمة" بل وإن‬
‫النص القرآين بداية ببالغته املعجزة قام على حتقيق الوظيفة التأثريية‪ ،‬فيكون بذلك التأثري شعور بالنشوة والراحة‬
‫الوجدانية‪ ،‬تسيطر على املتلقي حني يتلقى الصورة ‪ ،‬وهذا اإلمتاع التصويري ال حيصل إال إذا بالتأمل الذي ال‬
‫حيصل إال ببذل اجلهد لفهم السياق القويل وإيالئه األمهية الالزمة للغوص يف عمق معانيه ‪" :‬ومن املركوز يف الطبع‬
‫أن الشيء إذا نيل بعد الطلب له واالشتياق إليه ومعاناة احلنني حنوه ‪ ،‬كان نيله أحلى وباملزية أوىل ‪ ،‬فكان موقعه‬
‫‪4‬‬
‫من النفس أجل وألطف‪ ،‬وكانت به أضن وأشغف"‪.‬‬
‫إن التفكري التدبر والتأمل املتأين يضفيان اسرتساال ذهنيا وجدانيا منيز به أصناف الكالم وقوالب القول حيث‬
‫إ نه‪":‬ما شرفت صنعة وال ذكر بالفضيلة عمل‪ ،‬إال ألهنما حيتاجان من دقة الفكر ولطف النظر‪ ،‬ونفاذ اخلاطر‪ ،‬إىل‬

‫‪-1‬عبد القاهر اجلرجاين‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص ‪.958‬‬


‫‪-2‬عبد القاهر اجلرجاين ‪ ،‬املصدر نفسه ‪ ،‬ص ‪46‬‬
‫‪-3‬عبد القاهر اجلرجاين‪ ،‬املصدر نفسه ص ‪.47‬‬
‫‪-4‬عبد القاهر اجلرجاين ‪ ،‬أسرار البالغة‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص ‪.008،‬‬
‫‪50‬‬
‫ماال حيتاج إليه غريمها ‪ 1‬حيث إن األمور اخلفية و املعاين الروحانية ال میكن أن حيصل للمتلقي علم هبا‪ ":‬حىت‬
‫‪2‬‬
‫يكون مهيئا إلدراكها‪ ،‬وتكون فيه طبيعة قابلة هلا‪ ،‬ويكون له ذوق و قرحية "‪.‬‬
‫فالتأمل أحد خصائص األثر اجلمايل فيتلقي الشعر ‪ ،‬كما أن النص الديين يدعو إىل إعمال العقل و النظر و‬
‫االجتهاد وامتحان القدرة وذلك يف آيات قرآنية عدة تستعمل ‪":‬أويل األلباب" ‪" ،‬أفال تعقلون "و"أفال يتدبرون "‬
‫و "أويل النهى"‪...،‬‬
‫و تنسج البالغة اجلرجانية عالقة وطيدة مع الدرس اللغوي احلديث‪،...‬وذلك انطالقا من اهتمامها بالداللة يف‬
‫عالقتها بالرتكيب و التداول‪ ،‬وكذلك اهتمامها باألفعال االجنازية و االستلزام احلواري ‪ ...‬وهذا ما جعلها حتظى‬
‫باهتمام الدارسني احملدثني و إعجاهبم (كمال أبو ديب ‪ ،‬أدونيس ‪ ،‬حممد العمري ‪ ،‬حممد املتوكل ‪ ،‬طه عبد‬
‫الرمحن ‪ ،‬نصر حامد أبوزيد ‪ ، ).. ،‬و ترتكز هذه البالغة النصية يف مقابل البالغة التواصلية عند اجلاحظ على‬
‫نظرية النظم اليت ّتعل الكالم األديب خمالفا للكالم العادي ‪ ،‬فالنظم جوهر الشاعرية يف القول الفن ‪.3‬‬
‫إن النظرية البيانية اجلرجانية ترتكز على أسس بالغية هلا خصوصياهتا ايل بسطها اجلرجاين يف كتابيه‪ :‬دالئل‬
‫اإلعجاز وأسرار البالغة‪ ،‬وبضوابطه اجلمالية اليت أوالها للصور البيانية؛ فأعطى تصورا شامال ملنهجه البالغي‬
‫واملتمثل يف العناصر املستنتجة اآلتية‪:‬‬
‫‪ .0‬فعنده التشبيه صورة عقلية تستوجب تأويال ومشاركة من املتلقي فيالفهم واالستيعاب فيقول‪":‬إن ما طريقه‬
‫التأول يتفاوت تفاوتا شديدا‪ ،‬فمنه ما يقرب مأخذه‪ ،‬ومنه ما حيتاج فيه إىل قدر من التأمل‪ ،‬وفيه ما يدق ويغمض‬
‫حىت حيتاج يف استخراجه إىل فضل روية ولطففكرة " ‪ ،4‬وأوىل أمهية للتمثيل وفصل يف تأثريه‪.‬‬
‫‪ .9‬التأليف بني شيئني خمتلفني يف اجلنس أبرز مقياس لتحقيق األثراجلمايل للصورة ‪ ،‬فال تكون التشبيهات ذات‬
‫وقع قوي إال باجلمع بني املختلفات‪ ،‬إذ ال يقع هبا اعتداد‪ ،‬وال يكون هلا موقع من السامعني‪ ،‬وال هتز وال حترك‬
‫حىت يكون الشبه مقررا بني شيئني خمتلفني يف اجلنس‪ ،‬والتباعد بني الشيئني كلما كان أشد‪ ،‬كان إىل النفوس‬
‫أعجب ‪5‬ويقول كذلك‪" :‬كلما كانت األجزاء أشد اختالفا يف الشكل واهليئة‪ ،‬كان التالؤم بينها مع ذلك أمت‪،‬‬
‫‪6‬‬
‫واالئتالف أبني‪ ،‬وكان شأهنا أعجب ‪ ،‬و احلذق ملصورها أوجب"‬

‫‪-1‬عبد القاهر اجلرجاين ‪،‬املصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.097‬‬


‫‪-2‬عبد القاهر اجلرجاين ‪ ،‬دالئل اإلعجاز‪ ،‬مصدر سابق ص ‪.547‬‬
‫‪ -3‬عمر أوكان ‪ ،‬اللغة واخلطاب‪ ،‬افريقيا الشرق‪ ،‬املغرب ‪ 9110،‬ص ‪.005‬‬
‫‪-4‬عبد القاهر اجلرجاين ‪ ،‬أسرار البالغة ‪ ،‬مصدر سابق ‪،‬ص ‪.73‬‬
‫‪-5‬عبد القاهر اجلرجاين‪ ،‬املصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.097‬‬
‫‪-6‬عبد القاهر اجلرجاين ‪ ،‬املصدرنفسه ‪ ،‬ص ‪.000‬‬
‫‪51‬‬
‫‪ .3‬كما اعتمد عبد القاهر االستعارة متخذا إياها عنصرا أساسيا يف خلق التأثري اجلمايل‪ ،‬ويرى أن املشاهبة يف‬
‫االستعارات اخلالصة صورة عقلية ال تدرك إال بغريزة العقل وال نعقلها إال بنظر القلب‪ .4 .‬إن من شرط البالغة أن‬
‫يكون املعىن األول الذي جيعله دليال على املعىن الثاين يف الصورة الكنائية متمكنا يف داللته‪ ،‬مستقال بواسطته‪،‬‬
‫يسفر بني املبدع واملتلقي أحسن سفارة‪ ،‬ويشري أبني إشارة‪ ،‬وهذه هي وظيفة الكناية‪ ،‬كأسلوب مؤثر مجاليا يف‬
‫التذوق ملا هلا من إحياء‪ ،‬ومن هنا جاء التصوير الكنائي صورة بيانية تقدم املعىن يف إطار يف مجيل‪ .5 .‬وإن احلذق‬
‫البالغي الذي أوتيه عبد القاهر جعل العناصر اجلمالية‪،‬من تأثري وتأمل وغريمها‪ّ ،‬تتمع له على شكل آليات‬
‫يقتضيها التنظري البياين الذي خول له صياغة أفكاره البالغية الدقيقة ‪ ،‬و من مث متييز أصناف الكالم بالصرب على‬
‫التأمل واملواظبة على التدبر مث الوصول بعدها إىل الغاية اليت تثلج الصدر وتأنس هبا الروح‪ ،‬ويستعذهبا الذوق‬
‫اجلمايل‪.‬‬

‫المحاضرة الثامنة‪:‬النظم وعالقته بعلم البديع‪.‬‬


‫مراحل البحث في علم البديع ‪:‬‬
‫البديع مشتقة من‪ :‬بدع الشيء يبدعه بدعا وابتدعه أي‪ :‬أنشأه وبدأه‪ ،‬والبدعة‪ :‬احلدث‪ ،‬وما ابتدع‬
‫من الدين بعد االكتمال‪ ،‬واملبتدع‪ :‬الذي يأيت أمرا على شبه مل يكن ابتدأه إياه‪ ،‬وفالن بدع يف هذا األمر أي ‪:‬‬
‫أول مل يسبقه أحد‪ .‬والبديع‪ :‬احملدث العجيب‪ ،‬والبديع‪ :‬املبدع‪ ،‬وأبدعت الشيء‪ :‬اخرتعته ال على مثال‪.‬‬
‫وأبدعت اإلبل‪ :‬بركت يف الطريق من هزال‪ ،‬أو داء‪ ،‬أو كالل‪ ،‬قال ابن بري ‪ :‬ال يقدر احلمس على‬
‫جبابه‪ ،‬إال بطول السري واجنذابه‪ ،‬وترك ما أبدع من ركابه‪ ،‬ويف احلديث أن رجال أتى النيب – ‪ -‬فقال ‪ :‬يا رسول‬
‫اهلل " إين أبدع يب فامحلين أي‪ :‬انقطع يب لكالل راحليت ‪ "...‬كأنه قد جعل انقطاعها عما كانت مستمرة عليه من‬
‫عادة السري إبداعا‪ ،‬أي‪ :‬إنشاء أمر خارج عما أعتيد منها‪ 1 .‬ومن هنا نستطيع أن نعرف سر تسمية هذا العلم‬
‫الذي عرفه املتأخرون بأنه علم " يعرف به وجوه حتسني الكالم بعد رعاية تطبيقه على مقتضى احلال‪ ،‬ووضوح‬
‫الداللة على املعىن املراد " ‪ 2‬كما أنه میكننا – أيضا – أن نضع أيدينا على نقطة البداية اليت منها عرف " البديع "‬

‫‪-1‬ابن منظور ‪:‬لسان العرب‪ :‬مادة (بدع) دار املعارف بالقاهرة ومؤسسة الرسالة بريوت ‪0417‬ه ‪0287 -‬م‬
‫‪ -2‬اخلطيب القزويين ‪:‬اإليضاح يف علوم البالغة ‪ ،‬ت حممد عبد املنعم خفاجي‪ ،‬املكتبة األزهرية للرتاث‪0403‬ه ‪0223‬م ‪ ،‬ص ‪943‬‬
‫‪52‬‬
‫طريقه إىل أن يكون موضع قبول واستحسان‪ ،‬أو موضع رد واسرتذال‪ ،‬حىت صنفت يف فنونه كتب األدب والنقد‪،‬‬
‫ومن بعدها كتب البالغة فحسب‪ ،‬حىت صار علما له خصائصه ومميزاته‪.‬‬
‫ومل يكن هذا املصطلح معروفا يف العصر اجلاهلي‪ ،‬أو يف عصر صدر اإلسالم؛ وإمنا كان وليد فرتة أغرم‬
‫فيها احملدثون بتتبع فنون البديع يف الشعر العريب‪ ،‬والنسج على منواهلا‪ ،‬فأكثروا من هذه الفنون يف أشعارهم‬
‫ونثرهم‪ ،‬حىت مسوها باسم (البديع) وذلك يف القرنني الثاين والثالث اهلجريني‪.‬‬
‫وكان إكثار الشعراء يف هذه الفرتة من ألوان البديع‪ ،‬وتفننهم يف تزيني أشعارهم هبا مدعاة أليب عثمان‬
‫عمرو بن حبر اجلاحظ أن يقول‪" :‬والبديع مقصور على العرب‪ ،‬ومن أجله فاقت لغتهم كل لغة‪ ،‬وأربت على كل‬
‫لسان" ‪ 1‬على أن العرب مل تكن تفاضل بني الشعراء على أساس من (البديع)؛ وإمنا كانت تفاضل بينهم يف‬
‫اجلودة واحلسن‪ ،‬كما يقول القاضي اجلرجاين‪" :‬بشرف املعىن وصحته‪ ،‬وجزالة اللفظ واستقامته‪ ،‬وتسلم السبق فيه‬
‫ملن وصف فأصاب‪ ،‬وشبه فقارب‪ ،‬وبده فأغزر‪ ،‬وملن كثرت سوائر أمثاله‪ ،‬وشوارد أبياته‪ ،‬ومل تكن تعبأ بالتجنيس‪،‬‬
‫واملطابقة‪ ،‬وال حتفل باإلبداعاإلتيان بالبديع) واالستعارة‪ ،‬إذا حصل هلا عمود الشعر‪ ،‬ونظام القريض‪ ،‬وقد كان‬
‫يقع ذلك من خالل قصائدها‪ ،‬ويتفق هلا يف البيت على غري تعمد وقصد‪ ،‬فلما أفضى الشعر إىل احملدثني‪ ،‬ورأوا‬
‫مواقع تلك األبيات من الغرابة واحلسن‪ ،‬ومتيزها على أخواهتا يف الرشاقة واللطف‪ ،‬تكلفوا االحتذاء عليها‪ ،‬فسموه‬
‫‪2‬‬
‫(البديع) فمن حمسن ومسيء‪ ،‬وحممود ومذموم‪ ،‬ومقتصد ومفرط‪.‬‬
‫وعبارة القاضي اجلرجاين هذه على جانب كبري من األمهية يف جمال التأريخ لعلم البديع؛ فقد ربطت بني‬
‫املعىن اللغوي الكلمة (البديع) وهو‪ :‬اجلديد واحلديث واملخرتع‪ ،‬وبني املعىن الذي قصده العلماء الذين كان هلم‬
‫قصب السبق يف التأليف يف ميدانه‪.‬‬
‫فلم تكن العرب تعرف هذه التسمية لوجوه حتسني الكالم‪ ،‬ال يف العصر اجلاهلي‪ ،‬وال يف عصر صدر‬
‫اإلسالم؛ بل إهنا مل تكن حتفل ب (البديع) وال هتتم به؛ ألن أساس املفاضلة بني الشعراء مل يكن باستعمال‬
‫(البديع)‪ ،‬وإمنا كان حبسن اإلصابة يف الوصف‪ ،‬واملقاربة يف التشبيه‪ ،‬وغزارة البديهة‪ ،‬وكثرة األمثال السائرة‪ ،‬ولكن‬
‫احملدثني من أمثال بشار بن برد‪ ،‬ومسلم بن الوليد‪ ،‬وأيب نواس هم الذين جروا وراء األبيات اليت كانت حتمل ألوانا‬
‫من ألوان البديع‪ ،‬وتكلفوا شعرا على منواهلا‪ ،‬ومسوه هبذا االسم‪.‬‬

‫‪ -1‬للجاحظ‪ :‬البيان والتبيني ‪،‬حتقيق عبد السالم هارون ط اخلاجني ‪0367 ،‬ه‪0248 -‬م ج ‪ ،4‬ص ‪.55‬‬
‫‪-2‬القاضي اجلرجانی ‪:‬الوساطة بني املتنيب وخصومه ‪ ،‬حتقيق د‪ /‬حممد أبو الفضل إبراهيم على البجاوی ‪،‬عيسی احللبی۔ ‪0266‬م‪ ،‬ص ‪. 34‬‬
‫‪53‬‬
‫ويف النصف الثاين من القرن الثالث اهلجري عنيت طائفة املتفلسفة بشؤون البالغة متأثرة بكثرة ما نقل‬
‫عن اليونان من فلسفة؛ مما جعل الكثريين منهم يتخذون معايري البالغة اليونانية أساسا يف تقومي الشعر العريب‪،‬‬
‫ولكن البحرتي قد جأر بالشكوى منهم قائال‪:‬‬
‫كلفتمونا حدود منطقكم *** والشعر يغين عن صدقه كذبه‬
‫مل يكن ذو القروح يلهج *** باملنطق ما نوعه وما سببه‬
‫وناصر البحرتي أصحاب البالغة العربية اخلالصة‪ ،‬ومضى يقول الشعر منتتبقا خطى األقدمني‪ ،‬ومتأثرا يف‬
‫الوقت نفسه بطريقة أيب متام‪ ،‬وهي الطريقة اليت كانت حتتفل مبحسنات البديع‪ ،‬والفلسفة والفكر العميق‪ ،‬ولكنه مل‬
‫يستسغ إغراق الشعر يف الفلسفة‪ ،‬أو التعمق يف استخراج املعاين‪ ،‬كما كان يصنع أبو متام‪ ،‬ومل يكن كذلك يكثر‬
‫من استخدام البديع كما كان يكثر أبو متام‪ ،‬وهبذا ظهر البحرتي ممثال ملذهب القدماء يف الشعر‪ ،‬كما ظهر أبو‬
‫متام ممثال ملذهب اجملددين فيه‪ ،‬وقد تعرض أبو متام حلمالت عنيفة من اللغويني احملافظني‪ ،‬وأصحاب البالغة العربية‬
‫اخلالصة‪.‬‬
‫وها هو عبد اهلل بن املعتز يتجرد ‪ -‬يف سنة ‪ 974‬ه ‪ -‬للدفاع عن اللغويني‪ ،‬والرد على املتفلسفة‪ ،‬بتأليف‬
‫كتابه (البديع) معال غايته منذ السطور األوىل من كتابه‪ ،‬وهي‪ :‬أن يثبت للمحدثني ممن جيرون وراء الفلسفة‪،‬‬
‫ويتكلفون استخدام البديع‪ ،‬أهنم مل خيرتعوا البديع الذي يلهجون به‪ ،‬فيقول‪" :‬قد قدمنا يف أبواب كتابنا هذا بعض‬
‫ما وجدنا يف القرآن واللغة وأحاديث الرسول ‪ - -‬وكالم الصحابة واألعراب وغريهم وإعار املتقدمني‪ ،‬من‬
‫الكالم الذي مساه احملدثون (البديع)؛ ليعلم أن شارا ومسلما وأبا نواس ومن تقيلهم‪ ،‬وسلك سبيلهم‪ ،‬مل يسبقوا‬
‫إىل هذا الفن‪ ،‬ولكنه كثر يف أشعارهم‪ ،‬فعرف يف زماهنم؛ حىت مسي هبذا االسم‪ ،‬فأعرب عنه‪ ،‬ودل عليه‪ ،‬مث إن‬
‫حبيب بن أوس الطائي من بعدهم شغف به؛ حىت غلب عليه‪ ،‬وتفرغ فيه‪ ،‬وأكثر منه‪ ،‬فأحسن يف بعض ذلك‪،‬‬
‫وأساء يف بعض‪ ،‬وتلك عقيب اإلفراط‪ ،‬ومثرة اإلسراف‪ ،‬وإمنا كان يقول الشاعر يف هذا الفن البيت والبيتني يف‬
‫القصيدة‪ ،‬ورمبا قرئت من شعر أحدهم قصائد من غري أن يوجد فيها بيت "بديع"‪ ،‬وكان يستحسن ذلك منهم إذا‬
‫أتى نادرا‪ ،‬ويزداد خطوة بني الكالم املرسل"‪ 1‬وعلى هذا فإن أول من وضع هذا االسم حملسنات الكالم؛ إمنا هو‪:‬‬
‫عبد اهلل بن املعتز‪ ،‬بتصنيفه كتاب (البديع)‪ ،‬وهو وإن مل يقصد هبذه التسمية ما قصده املتأخرون من البالغيني ‪-‬‬
‫كاخلطيب القزويين؛ إذ جعلها شاملة للجديد واملخرتع‪ ،‬إال أنه جعل أنواع البديع مخسة‪ ،‬وهي‪" :‬االستعارة‪،‬‬
‫والتجنيس‪ ،‬واملطابقة‪ ،‬ورد األعجاز على ما تقدمها‪ ،‬واملذهب الكالمي"‪ ،‬مث أتبعها بذكر بعض حماسن الكالم‬
‫والشعر‪ ،‬فعد منها ثالثة عشر نوعا‪.‬‬

‫‪ -1‬عبد اهلل بن املعتز ‪:‬البديع يف البديع‪، ،‬تح عرفان مطوجي‪ ،‬مؤسسة الكتب الثقافية بريوت ‪،‬ط‪ ، ،0‬ص ‪.0‬‬
‫‪54‬‬
‫على أن عبد اهلل بن املعتز ‪ -‬وإن مل يكن مقصده من كتابه هو وضع املعيار احلقيقي للشاعر يف نظمه‪ ،‬أو‬
‫األديب يف نثره‪ ،‬بل كان مقصده هو الرد على من يلهجون باستخدام البديع أنه أصيل يف اللغة العربية ‪ -‬إال أنه‬
‫كان شاعرا حساسا‪ ،‬يعرف ما الفنون البديع من أثر يف نفوس السامعني‪ ،‬ولكنه – يف الوقت نفسه ‪ -‬كان يعيب‬
‫اإلكثار منها‪ ،‬واإلفراط يف تتبعها‪ ،‬ويفهم من هذا أن معيار اجلودة عنده إمنا هو‪ :‬حبسن موقع هذه األلوان البديعية‬
‫من الكالم‪ ،‬وإمنا يكون ذلك إذا جاءت مناسبة ملكاهنا من اجلملة أو البيت‪ ،‬دون عمد أو قصد من األديب أو‬
‫الشاعر‪.‬‬
‫وإذا كان أصحاب البالغة العربية اخلالصة قد وجدوا يف عبد اهلل بن املعتز مدافعا هلم عن مذهبهم‬
‫وطريقتهم‪ ،‬فلقد وجد املتفلسفة ممن جيرون وراء معايري البالغة اليونانية يف قدامة بن جعفر املتوىف سنة ‪ 337‬هد‬
‫مؤيدا ملذهبهم‪ ،‬ومدافعا عن طريقتهم؛ فقد ّترد هو اآلخر لتأليف كتابه "نقد الشعر" مبينا من أول صفحة من‬
‫كتابه أنه‪ :‬مل جيد أحدا وضع يف نقد الشعر‪ ،‬وختليص جيده من رديئه كتابا‪ ،‬وأنه قد وجد الناس خيبطون يف ذلك‬
‫منذ تفقهوا يف العلم‪ ،‬وقليال ما يصيبون‪ ،‬وكأنه هبذا يقول‪ :‬إن نقد الشعر علم مل يستطع فهمه أحد من قبله؛ ألنه‬
‫ال يكفي ‪ -‬يف نقد الشعر ‪ -‬أن تورد ألوانا من فنون البديع‪ ،‬مستدال على وجودها يف الشعر اجلاهلي واإلسالمي‪،‬‬
‫والقرآن الكرمي‪ ،‬والسنة النبوية الشريفة‪ ،‬وكالم الصحابة‪ ،‬وإمنا النقد احلقيقي للشعر هو‪ :‬أن متيز جيده من رديئه‪.‬‬
‫وهلذا فإنه قد ذكر هدفه من تأليف كتابه‪ ،‬وهو‪ :‬ذكر أسباب اجلودة وأحواهلا؛ ليكون ما يوجد من الشعر قد‬
‫اجتمعت فيه األوصاف احملمودة كلها‪ ،‬وخال من اخلالل املذمومة بأسرها‪ ،‬يسمى شعرا يف غاية اجلودة‪ ،‬وما يوجد‬
‫بضد هذه احلال يسمى شعرا يف غاية الرداءة‪ ،‬وما جيتمع فيه من احلالني أسباب ينزل له اسم حبسب قربه من‬
‫‪1‬‬
‫اجليد أو من الرديء‪ ،‬أو وقوفه يف الوسط الذي يقال ملا كان فيه صاحل‪ ،‬أو متوسط‪ ،‬أو ال جيد‪ ،‬وال رديء"‬
‫ويف القرن الرابع اهلجري جند عصر املوازنة بني الشعراء‪ ،‬والتوسط بينهم وبني خصومهم‪ ،‬ومن الكتب اليت‬
‫اهتمت بالبديع يف تلك الفرتة‪ :‬كتاب الوساطة بني املتنيب وخصومه‪ ،‬للقاضي علي بن عبد العزيز اجلرجاين املتوىف‬
‫سنة ‪ 329‬ه‪ .‬وقد سرد القاضي اجلرجاين يف هذا الكتاب ألوان البديع اليت كانت دائرة حىت عصره‪ ،‬وهي‪:‬‬
‫التجنيس‪ ،‬واملطابقة‪ ،‬ومجع األوصاف‪ ،‬والتقفية‪ ،‬والرتصيع‪.‬‬
‫غري أن القاضي اجلرجاين مل يورد هذه األلوان البديعية ألنه جيعلها من معايريه البالغية والنقدية يف وساطته بني‬
‫املتنيب وخصومه‪ ،‬وإمنا أوردها ليبني أهنا من ألوان الصنعة اليت أغرم هبا احملدثون – كأيب متام ‪ -‬فأكثروا منها‪،‬‬
‫فباعدت بينهم وبني طبعهم‪ ،‬فلم يسرتسلوا له‪.‬‬

‫‪ -1‬قدامه بن جعفر‪ :‬نقد الشعر‪ ،‬حتقيق د‪ ،‬حممد عبد املنعم ‪ ،‬مكتبة الكليات األزهرية‪0411 .‬ه‪0281 -‬م ‪ ،‬ص ‪. 07، 06‬‬
‫‪55‬‬
‫ذلك بأنه يف ‪ -‬وساطته ‪ -‬ال يؤلف كتابا يف البديع‪ ،‬فذلك له جمال آخر وتعهد به القاضي اجلرجاين‪ ،‬وال‬
‫ندري أويف بعهده أم ال؟ فقد قال بعد أن أورد يف هذه الفنون‪" :‬ولنا يف استيفاء هذا الكالم وحتديد هذه االضرب‬
‫قول‪ ،‬سنفرد له كتابا حيتمل استعصاؤه فيه"‪ 1‬وإمنا ذكر ما ذكر من ألوان البديع توطئة ملا يذكره على أثره‪ ،‬وتدريبها‬
‫إىل ما بعده؛ ليكون كالشاهد املقبول قوله‪ ،‬ومبنزلة املسلم أمره‪.‬‬
‫والدليل على أن القاضي اجلرجاين مل يكن يعجب بألوان البديع إعجابه باالسرتسال للطبع‪ :‬أنه قارن‬
‫بني أبيات يف الغزل أليب متام‪ ،‬قد مألها بألوان البديع والصنعة من‪ :‬طباق‪ ،‬وجناس‪ ،‬واستعارة‪ ،‬وبني أبيات ألعرايب‬
‫قد اسرتسل لطبعه‪ ،‬وجرى على سجيته‪ ،‬فلم حيفل بإبداع أو صنعة‪ ،‬ففضل قول األعرايب على قول أيب متام‪.‬‬
‫على أننا جند بعض األدباء يف القرن اخلامس اهلجري ينصرف إىل تقنني البالغة‪ ،‬وتفريع ألوان البديع‪،‬‬
‫كأيب هالل العسكري املتوىف سنة ‪ 325‬ه يف كتابه "الصناعتني"‪ ،‬وابن رشيق القريواين املتوىف سنة ‪ 463‬ه يف‬
‫‪2‬‬
‫كتابه "العمدة يف صناعة الشعر ونقده"‬
‫أما أبو هالل فقد استقصى فنون البديع اليت سجلها النقاد من قبله‪ ،‬وذكر أن فنون البديع مخسة وثالثون‬
‫فئا‪ ،‬وأنه زاد على ما أورده السابقون ستة فنون‪ ،‬والتقى بعبد اهلل بن املعتز يف عشرة فنون‪ ،‬هي‪ :‬االستعارة‪،‬‬
‫والتطبيق أو الطباق‪ ،‬والتجنيس أو اجلناس‪ ،‬والكناية‪ ،‬والتعريض‪ ،‬ورد األعجاز على الصدور‪ ،‬وااللتفات‪،‬‬
‫واالعرتاض‪ ،‬والرجوع‪ ،‬وّتاهل العارف‪ ،‬واملذهب الكالمي‪.‬‬
‫والتقى بقدامة يف اثين عشر فتا‪ ،‬هي‪ :‬املقابلة‪ ،‬وصحة التقسيم‪ ،‬وصحة التفسري‪ ،‬واإلشارة‪ ،‬واإلرداف‬
‫والتوابع‪ ،‬والغلو‪ ،‬واملبالغة‪ ،‬والعكس والتبديل‪ ،‬والرتصيع‪ ،‬واإليغال‪ ،‬والتوشيع والتكميل‪ ،‬والتقسيم‪.‬‬
‫أما الستة اليت وضعها فهي‪ :‬التشطري‪ ،‬واجملاورة‪ ،‬واالستشهاد واالحتجاج‪ ،‬واملضاعفة‪ ،‬والتلطف‪،‬‬
‫والتطريز‪.‬‬
‫وتبقى سبعة فنون مل يذكر هلا أصال‪ ،‬ويبدو أنه نقلها من رسالة أيب أمحد العسكري "صناعة الشعر وتلك‬
‫الفنون هي‪ :‬املماثلة‪ ،‬والتذييل‪ ،‬واالستطراد‪ ،‬ومجع املؤتلف واملختلف‪ ،‬والسلب واإلجياب‪ ،‬واالستثناء‪ ،‬والتعطف‪.‬‬
‫على أن الفنون الستة اليت ذكر أنه اكتشفها‪ ،‬ومساها بأمسائها‪ ،‬مل ّتد هلا جماال يف ميدان البديع‪ ،‬ومن مث فإن‬
‫صنيعه هذا ال يعد اكتشافا‪ ،‬وال يرقى إىل درجة االبتكار‪.‬‬

‫‪-1‬د‪ .‬حسن إمساعيل عبد الرازق ‪:‬من قضايا البالغة والنقد عند عبد القاهر اجلرجاين ‪ ،‬مكتبة الكليات األزهرية ط ‪ ، 0280-0419 ،0‬ص‬
‫‪056‬‬
‫‪-2‬حسن عبد الرازق ‪:‬من قضايا البالغة والنقد عند عبد القاهر اجلرجاين ‪ ،‬مكتبة الكليات األزهرية ط ‪ ، 0280-0419 ، 0‬ص ‪057‬‬
‫‪56‬‬
‫غري أن التطريز ‪ -‬وهو‪ :‬أن يقع يف أبيات متوالية من القصيدة كلمات متساوية يف الوزن‪ ،‬فيكون فيها كالطراز‬
‫للثوب‪ ،‬كما يف قول أمحد بن طاهر‪:‬‬
‫إذا أبو القاسم جانت لنا يده *** مل حيمد األجودان‪ :‬البحر واملطر‬
‫وإن أضاءت لنا أنوار غرته * * * تضاءل النريان ‪ :‬الشمس والقمر‬
‫وإن مضى رأيه أو حد عزمته *** تأخر املاضيان‪ :‬السيف والقدر‬
‫من مل يكن حذرا من حد صولته *** مل يدر ما املزعجان‪ :‬اخلوف واحلذر‬
‫‪1‬‬
‫فهو ما میكن أن جند له مكانا بني احملسنات البديعية األخرى‬
‫وأما صاحب العمدة‪ ،‬فإنه قد حتدث هو اآلخر من خالل كتابه يف فنون البديع‪ ،‬وأضاف إليها أربعة‪ ،‬هي‪:‬‬
‫االتساع‪ ،‬واالطراد‪ ،‬ونفي الشيء بإجيابه‪ ،‬والتفريع‪.‬‬
‫وهكذا تعددت فنون البديع وتفرعت – قبل عبد القاهر اجلرجاين ‪ -‬ومل يكن القصد من تنويعها أو تفريعها يف‬
‫الغالب هو احلكم على النصوص األدبية باجلودة أو الرداءة ‪ -‬كما هو احلال عند اآلمدي والقاضي اجلرجاين ‪-‬‬
‫وإمنا كان الغرض هو‪ :‬إظهار مدى ما للمؤلفني من قدرة على اكتشاف األلوان البديعية املتناثرة بني ثنايا النصوص‬
‫األدبية‪ ،‬كما هو احلال عند أيب هالل وابن رشيق‪.‬‬

‫‪ -1‬شوقي ضيف ‪:‬البالغة تطور وتاريخ‪ ، :‬دار املعارف القاهرة‪ ،‬ط‪( ،01‬دمت)‪ ، 1‬ص ‪045‬‬
‫‪57‬‬
‫نطرة اإلمام عبد القاهر الجرجاني إلى علم البديع‪:‬‬
‫وضع عبد القاهر اجلرجاين (البديع) موضعه احلقيقي من علم البالغة؛ فقد جعل بعض فنونه ‪-‬کاملزاوجة‪،‬‬
‫والتقسيم‪ ،‬والعكس ‪ -‬من النمط األعلى من النظم‪ ،‬وقد علمت أن النظم هو أساس البالغة اليت تفرعت منها‬
‫مسائل املعاين‪ ،‬وصور البيان‪ ،‬وقيم اجلمال البالغي املعنوية منها واللفظية على حد سواء‪.‬‬
‫وقد كانت ألوان البديع حىت عصر عبد القاهر اجلرجاين داخلة يف إطار علم البيان من حيث الدراسة والتصنيف‪،‬‬
‫بل إن بعض صور البيان كاالستعارة والتمثيل كانت معدودة من قبله يف فنون البديع‪.‬‬
‫على أن عبد القاهر اجلرجاين مل يكن جيعل البديع علما مستق‪ ،‬بل إنه مل يكن جيعل فنون البديع إال صورا من‬
‫صور البيان‪ ،‬تدخل يف إطار نظرية النظم مثلما تدخل صور البيان‪ ،‬وهلذا فإنه يسلك املزاوجة‪ ،‬والعكس‪،‬‬
‫والتقسيم‪ ،‬والسجع‪ ،‬واالستعارة‪ ،‬والتشبيه يف عقد النظم‪ ،‬وجيعلها من الذي يتحد يف الوضع‪ ،‬ويدق فيه الصنع‪،‬‬
‫بل إنه ليمتدحه بأنه النمط العايل‪ ،‬والباب األعظم‪ ،‬والذي ال ترى سلطان املزية يعظم يف شيء كعظمه فيه‪ ،‬ومما‬
‫هو أصل يف أن يدق النظر‪ ،‬ويغض املسلك يف توخي املعاين‪ :‬أن تتحد أجزاء الكالم‪ ،‬ويدخل بعضها يف بعض‪،‬‬
‫ويشتد ارتباط ثان منها بأول‪ ،‬وأن يكون حالك فيها حال الباين‪ ،‬يضع بيمينه يف حال ما يضع بيساره هناك‪ ،‬ويف‬
‫‪1‬‬
‫حال ما يبصر مكانا ثالثا ورابعا يضعهما بعد األولني‪.‬‬
‫فمن املزاوجة قول البحرتي‪:‬‬
‫إذا ما هنى الناهي فلج يب اهلوى *** أصاخت إىل الواشي فلج هبا اهلجر‬
‫ومن العكس قول سليمان بن داود القضاعي ‪:‬‬
‫فبينا املرء يف علياء أهوى *** ومنحط أتيح له اعتالء‬
‫وبينا نعمة إذ حال بؤ *** س إذ تعقبه ثراء‬
‫ومن التقسيم ‪ -‬وخصوصا إذا قسمت مث مجعت ‪ -‬قول حسان بن ثابت‪:‬‬
‫قوم إذا حاربوا ضروا عدوهم *** أو حاولوا النفع يف أشياعهم نفعوا‬
‫سجينة تلك فيهم غري حمدثة *** إن اخلالئق ‪ -‬فاعلم ‪ -‬شرها البدغ‬
‫ومن تشبيه شيئني بشيئني قول الفرزدق‪:‬‬
‫والشيب ينهض يف الشباب كأنه *** ليل يصيح جبانبيه هنار‬

‫‪-1‬اإلمام عبد القاهر اجلرجاين ‪:‬دالئل اإلعجاز ‪ ،‬تعليق حممود حممد شاكر‪ ،‬اهليئة املصرية العامة للكتاب‪ ،9111 ،‬ص ‪66‬‬
‫‪58‬‬
‫على أنه من الكالم ما ال حيتاج إىل فكر وروية لينتظم‪ ،‬بل إنه ال حيتاج إىل أكثر من أن تضم بعضه إىل بعض‪،‬‬
‫صنيع من يعمد إىل آللئ لينظمها؛ حىت مینعها من التفرق‪ ،‬كما يف قول النابغة يف الثناء املسجوع‪" :‬أيفاخرك امللك‬
‫اللخمي ؟ فو اهلل لقفاك خري من وجهه‪ ،‬ولشمالك خري من میينه‪ ،‬وخلمصك خري من رأسه‪ ،‬وخلطؤك خري من‬
‫‪1‬‬
‫صوابه‪ ،‬ولعيك خري من كالمه‪ ،‬وخلدمك خري من قومه"‬
‫وهكذا يسلك عبد القاهر اجلرجاين فنون البديع يف عقد النظم‪ ،‬وهلذا فإن املزية فيها إمنا هي حبسب املعاين اليت‬
‫وضعت هلا‪ ،‬واألغراض اليت دعت إليها‪ ،‬فليس لسهولة األلفاظ فيها‪ ،‬وسالمتها مما يثقل على اللسان اعتداد حىت‬
‫‪2‬‬
‫يكون قد ألف منها كالم‪ ،‬مث كان ذلك الكالم صحيحا يف نظمه‪ ،‬والغرض الذي أريد به"‬
‫وهلذا ذم العلماء من حيمله تطلب السجع والتجنيس على أن يضيم هلا املعىن‪ ،‬ويدخل اخللل عليه من أجلهما‪،‬‬
‫كالذي صنع أبو متام يف قوله‪:‬‬
‫ذهبث مبذهبه السماحة والتوث *** فيه الظنون أذهب أن مذهب ؟‬
‫فإذا نظرت إىل ّتنيسه يف ( أذهب أم مذهب ؟ ) فاستضعفته‪ ،‬وإىل ّتنيس من قال ‪:‬‬
‫ناظراه فيما جىن ناظراه *** أو دعاين أمت مبا أودعاين‬
‫فاستحسنته‪ ،‬مل تشك حبال يف أن ذلك مل يكن األمر يرجع إىل اللفظ‪ ،‬ولكن؛ ألنك رأيت الفائدة ضعفت يف‬
‫األول‪ ،‬وقويت يف الثاين‪ ،‬وذلك ألنك رأيت أبا متام مل يزدك مبذهب ومذهب‪ ،‬على أن أمسعك حروفا مكررة ال‬
‫ّتد هلا فائدة ‪ -‬إن وجدت ‪ -‬إال مكلفة متحملة‪ ،‬ورأيت اآلخر قد أعاد عليك اللفظة كأنه خيدعك عن الفائدة‪،‬‬
‫وقد أعطاها‪ ،‬ويومهك أنه مل يزدك‪ ،‬وقد أحسن الزيادة ووفاها‪ ،‬وهلذه النكتة كان التجنيس وخصوصا املستويف منه‬
‫‪3‬‬

‫فعبد القاهر اجلرجاين ال يعترب فنون البديع علما مستق؛ ألنه مل يفردها بالذكر‪ ،‬وإمنا يدخلها يف باب النمط العايل‬
‫من النظم الذي ال ّتد سلطان املزية يعظم يف شيء كعظمة فيه‪ ،‬وال جيعل حسنها عرضيا‪ ،‬بل جعله حسنا ذاتيا ؛‬
‫ألن اجلناس والسجع وغريمها مما يظن أن احلسن فيه راجع إىل اللفظ‪ ،‬كل ذلك حسنه راجع إىل املعىن؛ ألنه ال‬
‫حيسن إال إذا كان املعىن هو الذي قد طلبه‪ ،‬والبديع عند عبد القاهر اجلرجاين إمنا هو يف أكرم مكان من البالغة‬
‫وأرفعه؛ حيث إنه مل يقسم البالغة إىل علومها اليت نراها اليوم؛ بل إنه كان ينظر إليها على أهنا علم واحد‪ ،‬وإن‬
‫تعددت قضاياه‪ ،‬وتفرعت مسائله‪.‬‬

‫‪-1‬اإلمام عبد القاهر اجلرجاين ‪:‬دالئل اإلعجاز ‪ ،‬تعليق حممود حممد شاكر‪ ،‬اهليئة املصرية العامة للكتاب‪ ،9111 ،‬ص ‪67‬‬
‫‪ -2‬اإلمام عبد القاهر اجلرجاين ‪،‬مصدر سابق ‪ ،‬ص ‪330‬‬
‫‪ -3‬اإلمام عبد القاهر اجلرجاين دالئل اإلعجاز‪،‬مصدرالسابق ‪ ،‬ص ‪339،‬‬
‫‪59‬‬
‫وهلذا فإنين أرى أن البالغة العربية جيب أن يسلك هبا السبيل الذي سلكه عبد القاهر اجلرجاين يف "دالئل‬
‫اإلعجاز " و أسرار البالغة" لدراسة علم البالغة‪ ،‬وتقوم هذه الدراسة على أن نظرية النظم هي أساس البالغة‪،‬‬
‫وعن هذه النظرية تتفرع املعاين البالغية اليت نستلهمها من نظم الكالم‪ ،‬وهذه املعاين تدرس فيما مسي ب "علم‬
‫املعاين" وإن مل يكن بنا حاجة إىل مثل تلك التسمية‪ ،‬كما أن الصور البيانية اليت تصاغ من هذه املعاين املستوحاة‬
‫من النظم تربز املعىن الذي يقصده املتكلم وتوضحه‪ ،‬وهي صور التشبيه‪ ،‬واجملاز‪ ،‬والكناية‪ ،‬اليت تدرس فيما مسي‬
‫بعلم البيان‪ ،‬وإن مل يكن بنا حاجة إىل مثل هذه التسمية‪.‬‬
‫على أن ألوان البديع داخلة هي األخرى يف الصميم من مسائل البالغة‪ ،‬سواء أكانت معاين مستوحاة من النظم‪،‬‬
‫أم كانت صورا من صور البيان واإليضاح‪ .‬وهبذا نعيد للبالغة عهد اإلشراق واالزدهار‪ ،‬وخنلصها من ركام املنطق‬
‫والفلسفة والتكلف‪ ،‬وتربزها خالصة‪ ،‬ال غموض فيها وال تعقيد‪.‬‬
‫نظرة السكاكي والخطيب القزويني إلى علم البديع‪:‬‬
‫مل يعرض السكاكي األلوان البديع على أهنا علم مستقل عن علمي املعاين والبيان؛ بل عرض هلا على أهنا تشارك‬
‫مسائل العلمني يف تزيني الكالم بأهبى احللل‪ ،‬والوصول به إىل أعلى درجات التحسني‪.‬‬
‫على أنه مل يشر إىل أن هناك فرق بني هذه األلوان وبني غريها من مباحث هذين العلمني‪ ،‬بل إنه ذكر ضمن هذه‬
‫األلوان ‪ :‬االلتفات‪ ،‬واإلجياز واإلطناب‪ ،‬ونبه القارئ إىل أهنا سلفت يف علم املعاين‪.‬‬
‫على أن صنيع السكاكي بوضعه فنون البديع يف هذا املوضع الذي أشرنا إليه‪ ،‬له ما يربره عنده؛ ذلك ألنه عندما‬
‫عرف علم املعاين بأنه‪" :‬تتبع خواص تراكيب الكالم يف اإلفادة وما يتصل هبا من االستحسان وغريه؛ ليحرتز‬
‫‪1‬‬
‫بالوقوف عليها عن اخلطأ يف تطبيق الكالم على ما يقتضي احلال ذكره"‬
‫وعرف علم البيان بأنه‪" :‬معرفة إيراد املعىن الواحد يف طرق خمتلفة بالزيادة يف وضوح الداللة عليه‪ ،‬والنقصان ليحرتز‬
‫بالوقوف على ذلك عن اخلطأ يف مطابقة الكالم لتمام املراد منه" ‪ ،2‬مث حصر علم املعاين يف مسائله اليت عرض‬
‫هلا‪ ،‬وكذلك حصر علم البيان‪ ،‬هذا احلصر بعد هذا التحديد للعلمني‪ ،‬وملا كان تعريفه البالغة بقوله‪" :‬هي بلوغ‬
‫املتكلم يف تأدية املعاين حدا له اختصاص بتوفية خواص الرتاكيب حقها‪ ،‬وإيراد أنواع التشبيه‪ ،‬واجملاز‪ ،‬والكناية‬
‫على وجهها" ‪ 3‬شامال هلذه احملسنات جعلها متضافرة مع مسائل العلمني يف البلوغ بالكالم إىل أعلى درجات‬
‫التحسني والتزيني‪.‬‬

‫‪ -1‬السكاکی‪ :‬مفتاح العلوم حتقيق نعيم زرزور ‪،‬۔ دار الكتب العلمية‪ -‬بريوت‪ ،‬ط‪0413 ،0‬ه۔ ‪0283‬م ص ‪.78‬‬
‫‪ -2‬السكاكي ‪،‬ااملرجع نفسه‪ :‬ص ‪039‬‬
‫‪ -3‬السكاكي ‪ ،‬املرجع نفسه‪ :‬ص ‪058‬‬
‫‪60‬‬
‫وهلذا فإنه بعد ما انتهى من علمي املعاين والبيان‪ ،‬قال‪" :‬وإذ تقرر أن البالغة مبرجعيها‪ ،‬وأن الفصاحة بنوعيها مما‬
‫يكسو الكالم حلة التزيني‪ ،‬ويرقيه أعلى درجات التحسني‪ ،‬فها هنا وجوه خمصوصة كثريا ما يصار إليها لقصد‬
‫حتسني الكالم‪ ،‬فال علينا أن نشري إىل األعرف منها‪ ،‬وهي قسمان‪ :‬قسم يرجع إىل املعىن‪ ،‬وقسم يرجع إىل‬
‫‪1‬‬
‫اللفظ"‬
‫وكأن السكاكي يشري بصنيعه هذا إىل أن من هذه احملسنات ما میكن رجوعه إىل علم املعاين‪ ،‬كالطباق وحنوه‪،‬‬
‫ومنها ما میكن أن يرجع إىل مسائل البيان‪ ،‬كاملشاكلة وحنوها‪.‬‬
‫ومیكن أن يقال ‪ -‬أيضا ‪ :-‬إن السكاكي بعد أن انتهى من علمي املعاين والبيان‪ ،‬عرض لتعريف البالغة‬
‫والفصاحة‪ ،‬ومها من قبيل املقدمات هلذين العلمني‪ ،‬مث ضم إليهما هذه احملسنات‪.‬‬
‫وهذا الصنيع من السكاكي‪ ،‬يشري إىل أن حمسنات البديع ‪ -‬عنده ‪ -‬من قبيل املقدمات اليت البد منها الطالب‬
‫‪2‬‬
‫علمي املعاين والبيان‪.‬‬
‫نظرة الخطيب القزويني إلى البديع ‪:‬‬
‫خدعت طريقة السكاكي‪ -‬هذه ‪ -‬يف عرضه لفنون البديع ‪ -‬اخلطيب القزويين‪ ،‬فراح جيعل فنون البديع علما‬
‫مستقال عن علمي املعاين والبيان‪ ،‬مع أن البديع قد خالط العلمني منذ بداية التأليف يف البالغة حىت عصر‬
‫اخلطيب القزويين‪.‬‬
‫ليس هذا فحسب؛ بل إنه قضى على ألوان البديع بأن تكون "حلي مزينة تكسو الكالم هبجة‪ ،‬بعد رعاية‬
‫املطابقة‪ ،‬ووضوح الداللة‪ ،‬وأهنا عرضية ليست بالذاتية" ‪ ،3‬فكان هبذا العمل أول اجلانيني على البديع ممن ألفوا يف‬
‫البالغة‪ ،‬فوضعه هذا املوضع الشائن البغيض‪.‬‬
‫يقول اخلطيب القزويين يف تعريفه لعلم البديع‪" :‬هو علم يعرف به وجوه حتسني الكالم بعد رعاية تطبيقه على‬
‫‪4‬‬
‫مقتضی احلال‪ ،‬ووضوح الداللة"‬
‫وعلى ضوء اآلراء السالفة نستنتج‪:‬‬

‫‪ -1‬السكاكي‪ :‬مفتاح العلوم ‪ ،‬املرجع السابق‪ :‬ص‪911‬‬


‫‪-2‬أمحد إبراهيم موسی ‪:‬الصبغ البديعي يف اللغة العربية ‪ ،‬دار الكاتب العريب بالقاهرة ‪0388‬ه ‪0262‬م ‪ ،‬ص ‪953 ، 959‬‬
‫‪ -3‬أمحد إبراهيم موسی ‪:‬الصبغ البديعي يف اللغة العربية‪،‬املرجع السابق ‪ :‬ص ‪314‬‬
‫‪ -4‬اخلطيب القزويين ‪:‬اإليضاح يف علوم البالغة ‪ ،‬تح‪ :‬حممد عبد املنعم خفاجي‪ ،‬املكتبة األزهرية للرتاث ‪0403‬ه ‪0223‬م ص ‪943‬‬

‫‪61‬‬
‫أوال‪ -‬مل يكن مصطلح البديع معروفا يف العصر اجلاهلي‪ ،‬أو يف صدر اإلسالم؛ وإمنا كان وليد فرتة أغرم فيها‬
‫احملدثون بتتبع فنون البديع يف الشعر العريب‪ ،‬والنسج على منواهلا‪ ،‬فأكثروا من هذه الفنون يف أشعارهم ونثرهم‪،‬‬
‫حىت مسوها باسم البديع) وذلك يف القرنني الثاين والثالث اهلجريني‪.‬‬
‫ثانيا‪ -‬إذا أردنا للبالغة العربية أن تويف النص األديب حقه‪ ،‬فإنه جيب أال تدرس مبنأى عن النقد األديب؛ بل جيب‬
‫أن تكون البالغة العربية ‪ -‬دائما ‪ -‬عماد النقد األديب السليم‪ ،‬وسد الفجوة املصطنعة بني مصطلحات البالغة‬
‫والنقد العريب القدمي‪ ،‬وتوجيه النظر إىل استثمار تلك املصطلحات بعقلية تكاملية تزيد من فاعليتها على حتليل‬
‫النصوص‪ ،‬وتراها ك" واحدة ملتحمة‪ ،‬الغاية منه مقاربة النصوص واالكتفاء مبا يضيء النص‪ ،‬ويكشف عوامله‬
‫املختلفة‪ ،‬ال الرتف العقلي املضلل‪ ،‬والتشريعات الكثرية‪ ،‬والتحديدات العقلية‪ ،‬واملباحث املنطقية اليت انتشرت يف‬
‫كتب البالغة املتأخرة‪.‬‬
‫ثالثا‪ -‬جيب أن تصفي البالغة العربية مما شاهبا من بقايا فلسفة السكاكي ومنطقه؛ حىت يتسىن للناشئة وغريهم‬
‫استساغتها وتذوقها‪ ،‬ومن مث تطبيقها على ما تنتجه القرائح‪ ،‬وتعطيه األفكار‪ ،‬وعلى ذلك فإن مبحث الدالالت‬
‫الذي يصدر به البالغيون ‪ -‬عادة ‪ -‬مباحث علم البيان ال فائدة منه على اإلطالق‪ ،‬وجيب أن ينحى عن علم‬
‫البالغة‪ ،‬وذلك ألنه أمر أقرب إىل املنطق منه إىل البالغة؛ بل بينه وبني البالغة بون شديد‪.‬‬
‫رابعا– جيب أال يقتصر يف تدريس البالغة على نصوص معينة من عصور معينة ‪ -‬كما درجت على ذلك املدرسة‬
‫السكاكية ‪ -‬بل تدرس نصوص من العصر احلديث‪ ،‬كما تدرس نصوص من الشعر اجلاهلي‪ ،‬والعصور اليت تلته‬
‫على حد سواء ‪.‬‬
‫خامسا– جيب أال تقارن مقاييس البالغة العربية بغريها من املقاييس الغربية‪ ،‬وذلك ليس تعصبا ما للغة العربية‪،‬‬
‫ولكن ألن املقاييس البالغية ألية لغة قد ال تصلح لغريها من اللغات األخرى؛ وذلك ألن اجلمال أمر اعتباري‪،‬‬
‫فما قد يكون مجيال عند أمة من األمم قد ال يكون مجيال عند غريها‪.‬‬
‫سادسا‪ -‬إعادة قراءة مباحث البالغة العربية‪ ،‬وما قدمته من أفكار‪ ،‬وتطبيقات وفق نظرة تقوم على االحرتام‪،‬‬
‫والثقة بإمكاناهتا‪ ،‬وقدراهتا؛ حيث يسلك بالبالغة العربية السبيل الذي سلكه اإلمام عبد القاهر اجلرجاين يف‬
‫"دالئل اإلعجاز " و أسرار البالغة لدراسة علم البالغة‪ ،‬وتقوم هذه الدراسة على أن نظرية النظم هي أساس‬
‫البالغة‪ ،‬وعن هذه النظرية تتفرع املعاين البالغية اليت نستلهمها من نظم الكالم‪ ،‬وهذه املعاين تدرس فيما مسي ب‬
‫"علم املعاين" وإن مل يكن بنا حاجة إىل مثل تلك التسمية‪ ،‬على أن ألوان البديع داخلة هي األخرى يف الصميم‬
‫من مسائل البالغة‪ ،‬سواء أكانت معاين مستوحاة من النظم‪ ،‬أم كانت صورا من صور البيان واإليضاح‪.‬‬

‫‪62‬‬
‫وهبذا نعيد للبالغة عهد اإلشراق واالزدهار‪ ،‬وخنلصها من ركام املنطق والفلسفة والتكلف‪ ،‬ونربزها خالصة‪ ،‬ال‬
‫غموض فيهاوال تعقيد‪.‬‬

‫‪63‬‬
‫المحاضرة التاسعة‪:‬قيمة الذوق في نظرية النظم‪.‬‬

‫‪ -0‬الذوق ‪:‬‬
‫هو أول وأهم الشروط الالزمة للتلقي ويعرف بأنه ‪ " :‬قوة يقدر مبا األثر الفين أو هو ذلك االستعداد الفطري‬
‫املكتسب الذي نقدر به على تقدير اجلمال واالستمتاع به وحماكاته بقدر ما نستطيع يف أعمالنا وأفكارنا"‪.1‬‬
‫والذوق " ال يعتمد على خلفية علمية میكن التعويل عليها واالحتكام إليها ‪ ،‬وإمنا هو كامن يف النفوس ‪ ،‬فمن‬
‫الناس من حاز متامه ‪ ،‬ومنهم من مل يتهيأ له شيء من أسبابه ‪ ،‬ومنهم من هو بني هذا وذاك ‪ ،‬مع تفاوت يف‬
‫املنزلة " ‪. 2‬‬
‫فالذوق استعداد فطري موهوب ‪ ،‬أي أنه أمر كامن يف طبائع النفوس ال میكن للمعرفة العلمية أن هتديه إليك ما‬
‫مل تتوافر لك هذه احلاسة يف طبيعة نفسك ‪.‬‬
‫ويعد الذوق عند عبد القاهر أداة مهمة يف تقدير العمل الفين ‪ ،‬فمن دونه ال میكن أن يستكنه املتلقي أبعاد النص‬
‫اجلمالية ومن مث يكون قادرا على االنفعال والتأثر به ‪.‬‬
‫صحيح أن عبد القاهر مل يكن أول من حتدث عن أمهية الذوق يف الرتاث النقدي ‪ ،‬فقد سبقه إىل ذلك عدد من‬
‫النقاد كابن سالم واجلاحظ وابن طباطبا ‪ ،‬إال أن االعتداد بأمهيته وإطالة احلديث عنه هبذا التفصيل مل يتوافر عند‬
‫كثري ممن سبقه ‪ ،‬حىت إن الرجل أو شك أن يؤسس لنا من خالله نظرية يف تقييم األعمال الفنية وتقديرها ‪.‬‬
‫ومما ّتدر اإلشارة إليه أن الذوق قد " يقرتن يف خطاب عبد القاهر اجلرجاين النقدي بالطبع ‪ ،‬وقد يرادف هذا‬
‫األخري يف اخلطاب ذاته األول فيفهم من هذا تداخل املصطلحني ‪ ،‬وتناوب أحدمها مناب اآلخر ‪ ،‬األمر الذي‬
‫يعين ‪ -‬بداهة ‪ -‬تالقي الداللة لكل منهما ‪ ،‬ويعين ‪ -‬ببداهة أشد ‪ -‬أن احلديث عن الذوق ال يفهم إال على أنه‬
‫حديث عن الطبع متاما كما أن احلديث عن الطبع ال يفهم هو اآلخر إال على أنه حديث عن الذوق " ‪. 3‬‬
‫على هذا فإن الذوق أو الطبع موهبة ربانية جيب توافرها لدى الذات املتلقية حىت تكون قادرة على التعايش مع‬
‫النص وبالتايل حتصل على املتعة اجلمالية اليت يبعثها النص يف النفس ‪.‬‬

‫‪ -1‬حامد عبد القادر ‪ ،‬يف علم النفس ‪ ،‬ج ‪ ، 3‬ص ‪ ، 327‬نقال عن ‪ :‬أمحد الشايب ‪ ،‬أصول النقد األديب‪ ،‬الطبعة العاشرة ‪( ،‬القاهرة‪ :‬مكتبة‬
‫النهضة املصرية ‪0222 ،‬م)‪ ،‬ص ‪.091‬‬
‫‪-2‬د‪ .‬حامد الربيعي ‪ ،‬القراءة الناقدة يف ضوء نظرية النظم ‪ ،‬معهد البحوث العلمية واحياء الرتاث االسالمي ‪ ،‬جامعة أم القرى ‪ ،‬مكة املكرمة‪،‬‬
‫‪0227‬م ص ‪.58‬‬
‫‪ )-3‬قاسم املومين ‪ " ،‬أداة الناقد ‪ :‬دراسة يف املوروث النقدي " جملة جامعة امللك سعود ‪ ،‬الرياض ‪ :‬اجمللد اخلامس ‪0403(،‬ه‪0223/‬م)‪ ،‬ص‬
‫‪.59‬‬
‫‪64‬‬
‫فالذوق أو احلس النقدي ضرورة الزمة للمتلقي ال میكن االستغناء عنها ‪ ،‬فمن دونه ال میكن بأي حال من‬
‫األحوال أن تنفعل النفس مع مجاليات البيان ‪ ،‬فمن البيان ما خيفي موضعه فال يبني إال " إذا كان املتصفح للكالم‬
‫حساس ‪ ،‬يعرف وحي طبع الشعر ‪ ،‬وخفي حركته اليت هي كاحللس ‪ ،‬وكمسرى النفس يف النفس " ‪ . 1‬ودائما ما‬
‫يطوي يف أعماقه خفايا ودقائق " ال يبصرها إال ذوو األذهان الصافية ‪ ،‬والعقول النافذة ‪ ،‬والطباع السليمة ‪،‬‬
‫والنفوس املستعدة اليت تعي احلكمة ‪ ،‬وتعرف فصل اخلطاب " ‪.2‬‬
‫فاملعرفة اللغوية والنقدية ال تكفي يف تلقي النصوص الشعرية ‪ ،‬ما مل يكن املتلقي مزودا هبذه احلاسة ؛ ألهنا هي‬
‫األساس األول ‪ ،‬فالبيان ال يذاق إال " باحلاسة املهيأة ملعرفة طعمه "‪ . 3‬وبدوهنا لن يكون هناك تفاعل بني النص‬
‫ومتلقيه وبالتايل ال میكن أن يتحقق األثر النفسي املنشود ‪.‬‬
‫والقارئ لتحليالت عبد القاهر سيجد أنه خياطب قارئة يفرتض فيه صحة الذوق أو الطبع حىت يكون قادرا على‬
‫اإلحساس جبمال النصوص واالنفعال معها ‪ ،‬فهو يريد من متلقيه أن تتأثر نفسه كما تأثرت نفسه هو ويرصد‬
‫مقدار هذا األثر الذي أصاهبا ‪.‬‬
‫عبد القاهر يف موازناته بني الصور البيانية دائما حييل يف هذه املوازنات إىل احلس النقدي الذي هو من طبيعة‬
‫الن فس اإلنسانية " فإذا قلت ‪ " :‬ألقى حبله على غاربه " كان له مأخذ من القلب ال يكون إذا قلت ‪ " :‬هو‬
‫كالبعري الذي يلقى حبله على غاربه حىت يرعى كيف يشاء ويذهب حيث يريد ال جيهل املزية فيه إال عدمي احلس‬
‫ميت النفس "‪ . 4‬فاملتلقي إذا مل يكن مزود بالذوق فإنه لن يستطيع أن يرصد مقدار األثر النفسي الذي تتفوق به‬
‫صورة على أخرى ‪.‬‬
‫فالذوق استعداد فطري موهوب ‪ " ،‬ومن عدمه فال جدوى من التحدث معه لبيان مزايا الكالم البليغ "‪. 5‬‬
‫وبالتايل لن يكون مؤهال لوقوع األثر النفسي لديه " فلن يفهم األدب ويهتز له من عدم الذوق وفقد اإلحساس‬
‫والشعور مهما أويت من علم البالغة وقواعدها ‪ ،‬ومهما كد ذهنه وأجهد عقله"‪6‬؛ ألن صحة الذوق وسالمته شرط‬
‫للتناول النقدي ‪ ،‬وال بد أن يتمتع الناقد بذلك ‪ ،‬وإال فإن أحكامه تبقى عرضة للتجريح ‪ ،‬وموضعا إلعادة النظر‬

‫‪ -1‬عبد القاهر اجلرجاين ‪ :‬أسرار البالغة ‪ ،‬تعليق عبد العزيز النجار‪ ،‬مصر ‪ ،‬القاهرة‪0277،‬م‪.‬ص ‪.312‬‬
‫‪ -2‬عبد القاهر اجلرجاين ‪ ،‬مصدرسابق ‪ ،‬ص ‪.66‬‬
‫‪-3‬عبد القاهر اجلرجاين ‪ ،‬املصدر نفسه ‪ ،‬ص ‪.316‬‬
‫‪-4‬عبد القاهر اجلرجاين ‪ :‬دالئل اإلعجاز‪ .‬تعليق حممد التنجي‪ ،‬الطبعة الثالثة‪ ،‬دار الكتاب العريب‪ ،‬بريوت‪0491 ،‬ه‪0222-‬م ص‪.431‬‬
‫‪-5‬ليلى عبد الرمحن احلاج ‪ " ،‬الذوق األديب يف النقد القدمي " ‪ ( ،‬رسالة ماجستري ‪ ،‬قسم البالغة والنقد األديب‪ ،‬كلية اللغة العربية ‪ ،‬جامعة أم‬
‫القرى ‪ ،‬مكة ‪ ،‬عام ‪0413‬ه ‪0414 -‬ه)‪ ،‬ص‪.311‬‬
‫‪ -6‬أمحد مطلوب ‪ ،‬أساليب بالغية الفصاحة ‪ -‬البالغة ‪ -‬املعاين ‪ ،‬الطبعة األوىل ( الكويت ‪ :‬وكالة املطبوعات )‪ ،‬ص‪.69‬‬
‫‪65‬‬
‫‪1‬‬
‫‪ .‬فالذوق هو املتطلب األول الذي البد من توافره لدى الناقد ‪ ،‬وهو األساس الذي تقوم عليه كل ممارسة نقدية‬
‫‪ .‬وهذا ما أكد عليه عبد القاهر يف غري موضع من كتاب " دالئل اإلعجاز " ‪ .‬فإدراك املزايا والسمات البالغية‬
‫عنده يتوقف على هذه امللكة واملوهبة اليت من شأهنا اإلحساس باألبعاد اجلمالية للنص األديب ‪ ،‬أما من عدم ذلك‬
‫فإنه سيعدم األثر اجلمايل الذي يرتكه النص يف النفس اإلنسانية ‪ .‬يقول عبد القاهر ‪ " :‬واعلم أنه اليصادف القول‬
‫يف هذا الباب موقعا من السامع ‪ ،‬وال جيد لديه قبوال ‪ ،‬حىت يكون من أهل الذوق واملعرفة ‪ ،‬وحيت يكون ممن‬
‫حتدثه نفسه بأن ملا يوميء إليه من احلسن واللطف أصال ‪ ،‬فيجد األرحيية تارة ‪ ،‬ويعرى منها أخرى ‪ ،‬وحىت إذا‬
‫عجبته عجب ‪ ،‬وإذا نبهته ملوضع املزية انتبه ‪.‬‬
‫فأما من كان احلاالن والوجهان عنده أبدا على سواء ‪ ،‬وكان ال يتفقد من أمر النظم إال الصحة املطلقة ‪ ،‬وإال‬
‫إعرابا ظاهرا‪ ،‬فما أقل ما جيدي الكالم معه فليكن من هذه صفته عندك مبنزلة من عدم اإلحساس بوزن الشعر‪،‬‬
‫والذوق الذي يقيمه به والطبع الذي میيز صحيحه من مكسوره ‪ ،‬و مزاحفه من سامله ‪ ،‬وما خرج من البحر مما مل‬
‫خيرج منه يف أنك ال تتصدىله ‪ ،‬وال تتكلف تعريفه لعلمك أنه قد عدم األداة اليت معها يعرف ‪ ،‬واحلاسة اليت هبا‬
‫جيد " ‪.2‬‬
‫وقد كانت دعوة عبد القاهر إىل حتكيم الذوق واإلحساس الروحاين أظهر ما تكون يف هذه الصفحات األخرية من‬
‫كتاب " دالئل اإلعجاز " فقد بدا اعتداده فيها بالذوق وأمهيته واضحا ‪ ،‬فهو يرى أن اإلحساس النفسي الصادق‬
‫برفعة الكالم أو ضعته يعترب عامال مهما وأساسيا ‪ ،‬بل إننا أحيانا ال میكننا التعليل فال يوجد معنا سوى الذوق ‪،‬‬
‫فتكون الكلمة األوىل واألخرية له " فال منلك إال أن حنيل إىل هذا اإلحساس النفسي لصعوبة اإلحالة إىل شيء‬
‫حمدد يف النظم " ‪ . 3‬يقول عبد القاهر ‪ " :‬ولسنا نستطيع يف كشف الشبهة عنهم ‪ ،‬وتصوير الذي هو احلق‬
‫عندهم ‪ ،‬ما استطعناه يف نفس النظم ؛ ألنا ملكنا يف ذلك أن نضطرهم إىل أن يعلموا صحة ما نقول‪.‬‬
‫وليس األمر يف هذا كذلك ‪ ،‬فليس الداء فيه باهلني ‪ ،‬وال هو حبيث إذا رمت العالج منه وجدت اإلمكان فيه مع‬
‫كل أحد مسعف ‪ ،‬والسعي منجح ‪ ،‬ألن املزايا اليت حتتاج إىل أن تعلمهم مكاهنا وتصور هلم شأهنا‪ ،‬أمور خفيه ‪،‬‬
‫ومعان روحانية‪ ،‬أنت ال تستطيع أن تنبه السامع هلا ‪ ،‬وحتدث له علما هبا ‪ ،‬حىت يكون مهيئا إلدراكها‪ ،‬وتكون‬

‫‪ -1‬انظر ‪ :‬د‪ .‬حامد الربيعي ‪ ،‬القراءة الناقدة ‪،‬مرجع سابق ص ‪.57، 56‬‬
‫‪-2‬عبد القاهر اجلرجاين ‪ ،‬دالئل اإلعجاز ‪ ،‬مصدر سابق ص ‪.920‬‬
‫‪ -3‬سيد عبد الفتاح حجاب ‪ " ،‬نظرية النظم عند عبد القاهر اجلرجاين وصلتها بقضية اللفظ واملعىن " ‪ ،‬جملة كلية اللغة العربية جبامعة اإلمام حممد‬
‫بن سعود ‪ ،‬الرياض ‪ :‬العدد التاسع ‪ 0322 ( ،‬ه ‪0272 /‬م)‪ ،‬ص‪.393‬‬
‫‪66‬‬
‫فيه طبيعة قابلة هلا ‪ ،‬ويكون له ذوق وقرحية جيد هلما يف نفسه إحساسا بأن من شأن هذه الوجوه والفروق أن‬
‫تعرض فيها املزية على اجلملة ‪ ،‬ومن إذا تصفح الكالم وتدبر الشعر ‪ ،‬فرق بني موقع شيء منها وشيء " ‪.1‬‬
‫عبد القاهر يدرك أن هذا اإلحساس النفسي نادر يف الناس ومن احملال إحداثه يف نفس من يفتقر إليه بطبعه ؛ ألن‬
‫املعرفة العلمية والثقافية ال تكفي وحدها يف تذوق النصوص األدبية والتعايش معها لتحصل النفس على املتعة‬
‫اجلمالية اليت تبعثها ما مل يؤت املتذوق هذا اإلحساس املهم يف تقدير األعمال األدبية واالنفعال هبا ‪ ،‬لذلك فإن‬
‫من العبث أن حتاول إحداث هذا األثر يف نفس من مل يؤت هذه احلاسة ‪ .‬يقول عبد القاهر مصورة ذلك أحسن‬
‫تصوير‪:‬‬
‫"والبالء ‪ ،‬والداء الع ياء ‪ ،‬أن هذا اإلحساس قليل يف الناس ‪ ،‬حىت إنه ليكون أن يقع للرجل الشيء من هذه‬
‫الفروق والوجوه يف ش عر يقوله ‪ ،‬أو رسالة يكتبها ‪ ،‬املوقع احلسن ‪ .‬مث ال يعلم أنه قد أحسن ‪ .‬فأما اجلهل مبكان‬
‫اإلساءة فال تعدمه‪ ،‬فلست متلك إذا من أمرك شيئا حىت تظفر مبن له طبع إذا قدحته وري‪ ،‬وقلب إذا أريته رأي ‪،‬‬
‫فأما وصاحبك من ال يرى ما تريه ‪ ،‬وال يهتدي للذي تقديه‪ ،‬فأنت رام يف غري مرمى‪ ،‬ومعن نفسك يف غري‬
‫جدوى ‪ ،‬وكما ال تقيم الشعر يف نفس م ن ال ذوق له‪ ،‬كذلك ال يفهم هذا الشأن من مل يؤت اآللة اليت هبا‬
‫يفهم ‪ ،‬إال أنه إمنا يكون البالء إذا ظن العادم هلا أنه أوتيها‪ ،‬وأنه ممن يكمل للحكم ‪ ،‬ويصح منه القضاء ‪ ،‬فجعل‬
‫يقول القول لو علم ما فيه ال ستحى منه ‪ .‬فأما الذي حيس بالنقص من نفسه‪ ،‬ويعلم أنه قد عدمعلما قد أوتيه‬
‫من سواه فأنت منه يف راحة ‪ ،‬وهو رجل عاقل قد محاه عقله أن يعدو طوره ‪ ،‬وأن يتكلف ما ليس بأهل له " ‪.2‬‬
‫مث يبني عبد القاهر أن الناس قد خيتلفون ويتجادلون يف العلوم اليت عرفت قواعدها وقوانينها ‪ ،‬مث ترى املخطئ‬
‫منهم خياصم وحياجج وال ينصرف عن رأيه إن انصرف إال بعد التعب واجلهد ‪ ،‬فإذا كان هذا االختالف يف العلوم‬
‫اليت ضبطت أصوهلا وقوانينها ‪ ،‬فما بالك يف هذا املسلك الذي ال يعتمد على التقعيد والتقنني وإمنا املعول فيه‬
‫على اإلحساس النفسي وما يعرض على النفس اإلنسانية من أمارات األرحيية والطرب أو الوحشة والنفور ‪ ،‬فإن‬
‫كان جمادلك ممن ملك هذا اإلحساس فإن إقناعه أمر ممكن ‪ ،‬أما إن عدمه فإنه من احملال أن يوافقك ‪ ،‬وإن‬
‫رددته إىل هذا اإلحساس النفسي ‪ ،‬وأنه ممن مل تتوافر لديه حاسة الذوق ‪ ،‬رجع عليك وقال ‪ :‬بأن ذوقه أصح‬
‫وقرحيته أصفى ‪ .‬يقول عبد القاهر ‪ " :‬وإذا كانت العلوم اليت هلا أصول معروفة وقوانني مضبوطة قد اشرتك الناس‬
‫يف العلم هبا ‪ ،‬واتفقوا على أن البناء عليها ‪ ،‬إذا أخطأ فيها املخطى مث أعجب برأيه ‪ ،‬مل تستطع رده عن هواه‪،‬‬
‫وصرفه عن الرأي الذي رآه ‪ ،‬إال بعد اجلهد ‪ ،‬وإال بعد أن يكون حصيفا عاقال ثبت إذا نبه انتبه ‪ ،‬وإذا قيل ‪ :‬إن‬

‫‪ -1‬عبد القاهر اجلرجاين ‪ ،‬دالئل اإلعجاز ‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص ‪.547‬‬


‫‪ -2‬عبد القاهر اجلرجاين ‪،‬املصدر نفسه ‪ ،‬ص ‪. 542‬‬
‫‪67‬‬
‫عليك بقية من النظر ‪ ،‬وقف وأصغى وخشي أن يكون قد غر ‪ ،‬فاحتاط باستماع ما يقال له ‪ ،‬وأنف من أن يلج‬
‫من غري بي نة ‪ ،‬ويستطيلبغري حجة ‪ ،‬وكان من هذا وصفه يعز ويقل فكيف بأن ترد الناس عن رأيهم يف هذا‬
‫الشأن‪ ،‬وأصلك الذي تردهم إليه ‪ ،‬وتعول يف حماجتهم عليه ‪ ،‬استشهاد القرائح ‪ ،‬وسرب النفوس وفليها ‪ ،‬وما‬
‫يعرض فيها من األرحيية عندما تسمع ‪ ،‬وكانذلك الذي يفتح لك مسعهم ‪ ،‬ويكشف الغطاء عن أعينهم ‪،‬‬
‫ويصرف إليك أوجههم ‪ ،‬وهم ال يضعون أنفسهم من يرى الرأي ويفيت ويقضي ‪ ،‬إال وعندهم أهنم ممن صفت‬
‫قرحيته وصح ذوقه ومتت أداته ‪ .‬فإذا قلت هلم ‪ " :‬إنكم قد أتيتم من أنفسكم" ‪ ،‬ردوا عليك مثله وقالوا ‪" :‬ال ‪،‬‬
‫بل قرائحنا أصح ‪ ،‬ونظرنا أصدق ‪ ،‬وحسنا أذكى وإمنا اآلفة فيكم ألنكمخيلتم إىل أنفسكم أمور ال حاصل هلا ‪،‬‬
‫وأومهكم اهلوى وامليل أن توجبوا األحد النظمني املتساويني فضال على اآلخر‪ .‬من غري أن يكون ذلك الفضل‬
‫معقوال " فتبقى يف أيديهم حسرية ال متلك غري التعجب ‪.‬‬
‫فليس الكالم إذن مبغن عنك ‪ ،‬وال القول بنافع ‪ ،‬وال احلجة مسموعة حىت ّتد من فيه عون لك على نفسه ‪،‬‬
‫ومن إذا أيب عليك ‪ ،‬أيب ذاك طبعه فرده إليك وفتح مسعه لك ‪ ،‬ورفع احلجاب بينك وبينه ‪ ،‬وأخذ به إىل حيث‬
‫أنت ‪ ،‬وصرف ناظره إىل اجلهة اليت إليها أومأت ‪ ،‬فاستبدل بالنفار أنسا‪ ،‬وأراك من بعد اإلباء قبوال " ‪.1‬‬

‫‪ -1‬عبد القاهر اجلرجاين‪،‬دالئل اإلعجاز‪،‬مصدر سابق ‪ ،‬ص‪.550، 551‬‬


‫‪68‬‬
‫المحاضرة العاشرة‪:‬النظم و األسلوب‬

‫‪ -‬عبد القاهر الجرجاني رائد األسلوبية العربية‪:‬‬

‫عبد القاهر اجلرجاين (‪470-‬هـ) واحد من أشهر الرموز األدبية يف القرن اخلامس اهلجري‪ ,‬وهو فقيه شافعي‪,‬‬
‫ومتكلّم أشعري‪ ،1‬وقـّف حياته من أجل العلم والتعلم‪ ,‬وأنفق فيها عصارة ذهنه وخالصة ثقافته‪ ,‬ألف كثريا من‬
‫الكتب‪ ,‬و(صنّف التصانيف اجلليلة‪ )2‬؛ يف النحو‪ ,‬والصرف والعروض‪ ,‬والبالغة‪ ,‬والنقد‪ ,‬والدراسات القرآنية‪ ,‬بيد‬
‫إن شهرته ذاعت‪ ,‬وانتشر صيته من خالل كتابيه (دالئل اإلعجاز)‪ ,‬و(أسرار البالغة) الذين میثالن دور االكتمال‬
‫اخلالق‪.‬‬
‫يف ثقافته عبد القاهر‪ ,‬وتفكريه ّ‬
‫كان الباعث لتأليف (دالئل اإلعجاز)قضية مهمة شغلت بال الكثريين من علماء عصره بل وقبل عصره‪ ,‬قضية‬
‫كم‬
‫إعجاز القرآن‪ ,‬ولكي يعرض إىل هذه القضية وجد نفسه قد تطرق إىل الكثري من القضايا النقدية‪ ,‬ووقف أمام ّ‬
‫هائل من النصوص األدبية حيللها حتليال أدبيا فنيا رائعا‪ .‬حنويا وبالغيا‪ ,‬بل ونقديا لذلك كان من احلق أن يعده‬
‫كثري من الباحثني رائدا لألسلوبية احلديثة‪ ,‬ومؤسسا ألصوهلا‪.‬‬

‫"لقد خرج عبد القاهر بالنحو العريب من دائرته املغلقة‪ ,‬ذلك إن معيارية العربية الفصحى يف القضايا الصوتية‪,‬‬
‫والصرفية‪ ,‬والرتكيبية (النحوية) أمر مقرر حيفظ هلا دمیومتها‪ ,‬وشرط التواصل بني القدمي وما يستحدث يف اآلماد‬
‫وجه إليه يف (دالئل اإلعجاز) هو الدرس التطبيقي التحليلي للكالم العريب‪,‬‬ ‫املتالحقة‪ ,‬ولكن الباب الذي ّ‬
‫فالرتكيب تدرس حاالته النحوية‪ :‬الرتتيبية يف التقدمي والتأخري‪ ,‬والتوليدية بني البسائط من اجلمل واملركبات والنظر‬
‫يف العناصر املضافة ودورها وما يذكر وما حيذف‪ ,‬والتكوينية يف التعريف والتنكري‪ ,‬ويف التقرير واإلثبات من طرف‪,‬‬
‫واإلنشاء بضروبه من طرف آخر‪. 3‬كما درس الصورة الفنية ومجالياهتا‪ ,‬والرتكيب اللغوي ومجالياته‪ ,‬وحبث عن‬
‫القيمة املرتبطة باحتماالت بناء اجلملة‪ ,‬وتوزع األدوار بني أجزائها يف نقل املواقف واإلحياءات‪ ,‬فالقدرة التعبريية‬
‫املميزة تعطي النص حملة صافية ختلق التواصل فيسهم يف حتقيق البعد اجلمايل إفادة ومتعة على درجات حبسب‬

‫‪ -1‬جالل الدين السيوطي‪ ،‬حتـ‪ :‬حممد أبو الفضل إبراهيم ‪:‬بغية الوعاة يف أخبار النحاة ‪،‬مطبعة عيسى البايب احلليب ‪،‬القاهرة‪ ،‬ص ‪9،016‬‬
‫‪-2‬القفطي‪ :‬أنباء الرواة على أنباء النحاة ‪،‬حتـ‪ :.‬حممد أبو الفضل إبراهيم ‪،:‬القاهرة‪ 0286 ،‬ص ‪.9‬‬
‫‪ -3‬عبد القاهر اجلرجاين‪ :‬دالئل اإلعجاز ‪ ،‬تح ـد‪ .‬حممد رضوان الداية وفايز الداية ‪ ،‬مكتبة سعد الدين‪ ،‬دمشق‪،‬ط‪.9،0287‬م ص‪– 09.‬‬
‫‪.03‬‬

‫‪69‬‬
‫سياق النص‪ ,‬وقدرته التأثريية‪ .‬إن دراسة عبد القاهر تتحول إىل دراسة أسلوبية تبحث عن مواطن اإلبداع‪ ,‬وحتدد‬
‫تفرده‪ ,‬وخصائص أسلوبه الذي میيزه عن غريه‪ ,‬وحيكم له بالتفرد‪.‬‬‫لألديب مسة ّ‬
‫لقد تصدى عبد القاهر اجلرجاين للكثري من القضايا اليت شغلت الفكر املعاصر وأدعى فيها بعضهم السبق‬
‫والريادة‪ ,‬ممهدا بذلك لدراسة منهجية جديدة تعتمد الذوق واجلمال يف تناول النصوص اإلبداعية‪ ,‬وحتليلها حتليال‬
‫ينسجم مع النظرة املوضوعية يف التعامل مع األفكار اليت حتملها النصوص‪ ,‬ومن أبرز تلك القضايا (قضية اللغة‬
‫صب (دي سوسري) علما عليها‪ ,‬وتتلخص يف الفروق‬ ‫والكالم) تلك القضية اليت شغلت بال املعاصرين حىت نُ ّ‬
‫الدقيقة اليت متيز بني املصطلحني‪ ,‬وبيان العالقة الذهنية والنفسية يف حركة الداللة اللغوية‪ ,‬وإقامة الروابط بني‬
‫األلفاظ أصواتا وكتابة‪ ,‬وانطباعاهتا التصورية‪ ,‬ووقائعها املادية‪ ,‬ومنعكساهتا اجملردة‪ ,‬فاللغة عند سوسري "عنصر حمدد‬
‫مستخلص من خصائص لغوية متغايرة اخلواص عموما إنه النظام الذي أسسه نوع من االتفاق بني أعضاء اجملتمع‬
‫الذي وحده جيعل األمر ممكنا يف فهم بعضهم بعضا ‪.."1 ،‬مبعىن إن الكالم يكون أوسع من اللغة من حيث‬
‫اختصاص اللغة بفئة معينة تربط بينهم روابط حمددة على حنو ما ذكرناه يف املبحث األول‪.‬‬

‫والواقع إن كالم سوسري هذا مل يكون إال ترديدا للقضية اليت تناوهلا عبد القاهر اجلرجاين من قبل بالدرس‬
‫والتحليل‪ ,‬ووقف عندها يف أكثر من موضع يف كتابه (دالئل اإلعجاز) حني ميز بني اللغة والكالم متييزا دقيقا‬
‫موضحا الفروق األساسية بينهما‪ ,‬فذكر إن اللغة خمتصة بالكلمات املفردة ومعانيها‪"2‬وإن العلم هبذه املعاين "ال‬
‫يعدو أن يكون علما باللغة‪ ,‬وبأنفس الكلم املفردة‪ ,‬ومبا طريقه احلفظ دون ما يستعان عليه بالنظر‪ ,‬ويوصل إليه‬
‫‪3‬‬
‫يضم‬
‫بإعمال الفكر"‪ ،‬وإن "األلفاظ املفردة اليت هي أوضاع اللغة مل توضع لتعرف معانيها يف أنفسها‪ ,‬ولكن ألن ّ‬
‫بعضها إىل بعض"‪4،‬وأشار إىل أن الكالم هو وسيلة اإلنسان يف التعبري عن أغراضه ومقاصده‪ ,‬قال‪( :‬ومجلة األمر‬
‫معان ينشئها اإلنسان يف نفسه‪ ،‬ويصرفها يف فكره‪ ،‬ويناجي به قلبه‪ ،‬ويراجع فيها عقله‪،‬‬ ‫إن اخلرب ومجيع الكالم ٍ‬
‫وتوصف بأهنا مقاصد وأغراض‪...) 5،‬ولعله انطلق يف هذا من مسلمة أساسية مفادها إن اللغة مشرتكة بني‬
‫أصحاهبا‪ ،‬فال يقع يف ألفاظها متايز بينهم‪ ،‬وإمنا يقع يف الكالم ونظمه‪ ،‬أي األسلوب‪.‬‬

‫‪ -1‬بيريجريو‪،‬ترمجة د‪ .‬منذر عياشي ‪ ،‬األسلوب واألسلوبية‪ ،‬مركز اإلخاء القومي‪ ،‬بريوت‪،‬لبنان‪ ،‬د‪ .‬ت‪.‬ص ‪35‬‬
‫‪ -2‬عبد القاهر اجلرجاين ‪ :‬دالئل اإلعجاز‪ ،‬تح ـد‪ .‬حممد رضوان الداية وفايز الداية ‪ ، ،‬مكتبة سعد الدين‪ ،‬دمشق‪،‬ط‪.9،0287‬م ص ‪- 24‬‬
‫‪25‬‬
‫‪ -3‬عبد القاهر اجلرجاين‪ ،‬مصدر سابق‪،‬ص ‪.361‬‬
‫‪ -4‬عبد القاهر اجلرجاين ‪ ،‬املصدرنفسه ص ‪.462‬‬
‫‪ -5‬عبد القاهر اجلرجاين ‪ ،‬املصدرنفسه ص ‪.460‬‬
‫‪70‬‬
‫ومثلما تطرق عبد القاهر إىل الفروق بني اللغة والكالم تطرق إىل العالقة الذهنية النفسية يف عملية الصياغة األدبية‬
‫ورأى إن املتكلم يصري الكلمات يف نفسه‪ ,‬ويقلبها يف عقله قبل أن يصدرها إىل املتلقي‪ ،‬قال‪" :‬وإذ كان ال يكون‬
‫يف الكلم نظم وال ترتيب إال بأن يصنع هبا هذا الصنيع وحنوه وكان ذلك كله مما ال يرجع منه إىل اللفظ شيء ومما‬
‫ال يتصور أن يكون فيه ومن صفته بان ذلك األمر على ما قلناه من ان اللفظ تبع للمعىن يف النظم‪ ,‬وإن الكلم‬
‫ترتتب يف النطق بسبب ترتب معانيها يف النفس وإهنا لو خلت من معانيها حىت تتجرد أصواتا وأصداء حروف ملا‬
‫وقع يف ضمري‪ ,‬وال هجس يف خاطر أن جيب فيها ترتيب ونظم‪..." 1‬وهذه نظرة ثاقبة من إنسان كرس حياته من‬
‫أجل العلم‪ ,‬والتعلم‪ ,‬مما جيعلنا على يقني بأصالة الفكرة األسلوبية بزيها العريب‪.‬‬

‫إن اللغة مادة النص األديب‪ ,‬وهي األساس اليت يستند إليه يف حتقيق التعبري‪ ,‬ومن هنا فأن مهمة املبدع –‬
‫شاعرا كان أم ناثرا‪ -‬تكمن يف أن يصري من هذه اللغة مسات هتدف إىل الكشف عن العالقات اليت تربط بني‬
‫الظواهر واألشياء‪ ,‬وصوال إىل حتقيق النص وظيفته التعبريية‪ ,‬مرورا بالتعامل الدقيق مع معاين الكلم حيث تناسقت‬
‫داللتها يف هيئات جيري فيها الكالم يف وجوه كثرية من تقدمي وتأخري‪ ,‬وتعريف وتنكري‪ ,‬وذكر وحذف‪ ,‬وما أشبه‬
‫ذلك‪2،‬وحينما يسعى الباحث إىل ّتاوز الفهم واإلبالغ فإنه جيعل من مواصفات اللغة مسات وإشارات الكشف‬
‫عن العالقات العقلية اليت تكفل له خصائصه الفنية وقد تكون هذه العالقات حقيقية وقد تكون مبتدعة يتصورها‬
‫الشاعر يف أوهامه‪ ,‬ويتخيلها يف حياته منتزعة من ّتربته النفسية‪ ,‬وعلى هذا فا ّن هناك نوعني من الداللة‪:‬‬

‫‪ -‬داللة تعبريية ذات قيمة مفهومية‪.‬‬


‫‪3‬‬
‫‪ -‬داللة مبتدعة من خيال الشاعر وبيئته‪.‬‬

‫ويف رحاب هاتني الداللتني نكتشف مغرس اإلبداع‪ ,‬ومنبع اخللق األديب‪ ,‬وقيمة الصورة الفنية‪ ,‬وتلك السمات هي‬
‫العناصر املؤثرة عند (شارل بايل) اليت هتدف إىل الكشف عن قيمة النص‪ ,‬وتفرد األديب‪ ,‬وإهنا ما يتجاوز هبا دائرة‬
‫اللغة ‪ 4‬وهذه القضية من بنات أفكار عبد القاهر إذ أشار إىل ذلك من قبل فقال "ينبغي أن ننظر إىل املتكلم –‬
‫هل يستطيع أن يزيد من عند نفسه يف اللفظ شيئا ليس هو يف اللغة حىت جيعل ذلك من صنيعة‪..." 5،‬وهذا يعين‬
‫إن دراسة األسلوب تتطلب أن نبحث يف اللغة عما ليس بلغوي وهو الزيادة املؤثرة فيه ومع إن هذه الفكرة قد‬

‫‪ -1‬عبد القاهر اجلرجاين ‪ ،‬املصدر نفسه ص ‪28‬‬


‫‪ -2‬عبد القاهر اجلرجاين ‪ ،‬دالئل اإلعجاز‪،‬مصدر سابق‪ ،‬ص ‪.007‬‬
‫‪ -3‬د‪ .‬عبد السالم املس ّدي ‪ :‬التفكري اللساين يف احلضارة العربية ‪ ،‬الدار العربية للكتاب‪ ،‬تونس‪.0280 ،‬م ص ‪.021‬‬
‫‪ -4‬بيريجريو‪،‬ترمجة د‪ .‬منذر عياشي ‪،‬األسلوب واألسلوبية‪ ،‬مرجع سابق ‪.،‬ص ‪99‬‬
‫‪ -5‬عبد القاهر اجلرجاين ‪،‬دالئل اإلعجاز‪ ،‬مصدر سابق ‪ ،‬ص ‪.957‬‬
‫‪71‬‬
‫رسخت يف فكر عبد القاهر اجلرجاين – منذ القدم‪ , -‬جند كثريا من احملدثني يضيقون ذرعا مبصطلحات الرتاث‬
‫العريب‪ ,‬ويؤثرون مصطلحات جديدة تتوافق – حبسب رأيهم – مع متطلبات احلداثة واملعاصرة‪ ,‬ومن تلك‬
‫املصطلحات (تراسل احلواس) اليت جاءت به املدرسة الرمزية‪ ,‬وتعين به وصف مدركات كل حاسة من احلواس‬
‫بصفات مدركات احلاسة األخرى ‪ ,‬ومن مث (اخللط بني وظائف ومعطيات احلواس اخلمس وتداخله‪1،‬ا )من أجل‬
‫"خلق جو غامض يوحي بأحاسيسهم وأحالمهم‪ ,‬ورؤاهم الغامضة ‪"2،‬ومن أمثلته عندهم قول ماال راميه يف‬
‫قصيدة البعث‪:‬‬

‫إن شفقا أبيض يربد حتت مججميت‪.‬‬

‫اليت تعصبها حلقة من احلديد وكأهنا قرب قدمي‬

‫وأهيم حزنا خلف حلم غامض مجيل‪.‬‬

‫خالل احلقول اليت يزدهر فيها عصري ال هناية‪.3‬‬

‫ولعل هذه الفكرة هي ما أشار إليها بالغيونا ونقادنا القدامى‪ ,‬حينما وقفوا على نصوص ذاب منشؤوها‬
‫يف أحضان الطبيعة وما فيها من رياض وأزهار وأشجار مثمرة ‪ ,‬ومن األمثلة اليت طرقها عبد القاهر قول الشاعر‪:‬‬

‫عسل األخالق إذا ما ياسرته فإذا عاسرته زقت السلعا‬

‫علق عليه عبد القاهر‪:‬‬

‫"إمنا املعىن إنك ّتد منه يف حالة الرضا واملوافقة ما میلؤك سرورا وهبجة حسب ما جيد ذائق العسل من لذة‬
‫احلالوة ‪"4‬واصطلح عليه بـ(التشبيه العقلي‪)5،‬يف حني يعده أصحاب املدرسة الرمزية من تراسل احلواس‪.‬‬

‫ومثة نظرة أخرى جاء هبا احملدثون تتعلق باالستعارة‪ ,‬إذ قال عدد منهم إن االستعارة تكمن يف خلق فجوة بني‬
‫"كونني تصوريني ولغويني‪"،‬وإنه ال بد إن ينقل املعىن االستعاري من معىن آخر يرتبطان بصلة معينة‪ ,‬أو مثلما يقول‬

‫‪ -1‬د‪ .‬فائق مصطفى ود‪ .‬عبد الرضا علي‪ :‬يف النقد األديب احلديث ‪،‬دار الكتب‪ ،‬جامعة املوصل‪،‬ط‪.9111 ،9‬م‪،‬ص ‪78‬‬
‫‪ -2‬د‪ .‬فائق مصطفى ود‪ .‬عبد الرضا علي ‪ ،‬املرجع نفسه ‪،‬ص ‪78‬‬
‫‪ -3‬حممد مندور‪ :‬يف األدب والنقد ‪،‬مكتبة النهضة‪،‬مصر‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ط‪،5‬د‪.‬ت ‪ ،‬ص‪. 038‬‬
‫‪ -4‬عبد القاهر اجلرجاين ‪ :‬أسرار البالغة ‪ ،‬تعليق عبد العزيز النجار‪ ،‬مصر ‪ ،‬القاهرة‪.0277،‬م ص ‪.68‬‬
‫‪ -5‬عبد القاهر اجلرجاين ‪ :‬أسرار البالغة ‪ ،‬ااملصدرنفسه‪،‬ص ‪.62‬‬
‫‪72‬‬
‫(ماكس بالك) إن الفجوة يف النظريات احلديثة لالستعارة تتعلق بـ(االبتكار املالئم هلذه النقلة)‪1،‬وتتشعب‬
‫املصطلحات عندهم فتارة هي (مسافة التوتر)‪ ,‬وأخرى (التنافر الداليل)‪ ,‬وتارة ثالثة (االنفصام اإلشاري)‪ 2‬وهي‬
‫كلها تتعلق بالنظرة احلديثة للمفهوم االستعاري‪ .‬ولعل هذه النظرة كلها موجودة يف كتابات عبد القاهر اجلرجاين‬
‫حني حد االستعارة بقوله‪" :‬أن يكون للفظ أصل يف الوضع اللغوي معروف تدل الشواهد على إنه اختص به حني‬
‫وضع مث يستهله الشاعر أو غري الشاعر يف غري ذلك األصل وينقله إليه نقال غري الزم فيكون هناك‬
‫كالعارية"‪3،...‬وقال‪" :‬وإما اجملاز [واالستعارة منه] فكل كلمة أريد هبا غري ما وضعت له يف وضع واضع ملالحظة‬
‫بني الثاين واألول ‪4.‬ومن القضايا اهلامة اليت تناوهلا احملدثون قضية اللفظ واملعىن‪ ,‬أو الشكل واملضمون وجدلية‬
‫العالقة بينهما‪ ,‬ففي حني قصر بعضهم األسلوب على الشكل كما هو احلال عند الشكالنيني الروس مثال‪,‬‬
‫اختلط األمر على غريهم‪ ,‬فـ(كراهام هاف) مثال يصرح‪" :‬إن كال من طبيعة هذه القضية‪ ,‬وحمدودية معرفيت تقف‬
‫حائال دون االستمرار يف مناقشة هذه املسألة‪"5‬بيد أنه يرى إمكانية إنقاذ مفهوم األسلوب بوساطة ثالث طرق ‪:‬‬
‫‪"...‬‬

‫‪ -0‬ال حاجة إلثبات وجود شيء امسه األسلوب‪ ,‬بل يكفي اصطالح طبيعي ومناسب لالستعمال‬
‫وإن اجلميع يعرف عمليا عما يدور احلديث‪.‬‬
‫‪ -9‬میكن للناقد أن يذكر مبدأ إن التعابري املختلفة شكال ختتلف يف املعىن دوما كما فعل آي‪ .‬أ‪.‬‬
‫رجياردز يف كتابه (التفسري يف التعليم)‪ ,‬وقد حيتاج ذلك شيئا من الرباعة يف إبداء اآلراء ولكنه من املمكن ترسيخ‬
‫املوضوع مبا يناسب األغراض األدبية‪.‬‬
‫‪ -3‬ومیكن للناقد أن يتقبل هذا املبدأ على إن اختالف الشكل هو دائما اختالف املعىن‪ ,‬ولكنه‬
‫يستطيع مع ذلك إنكار مبدأ اختالف األسلوب‪ ,‬فهو مل خيتلف وإمنا أصبح مصنفا ضمن املعىن‪ .‬إن األسلوب‬
‫‪6‬‬
‫جزء من املعىن ولكنه جزء میكن أن يناقش بصورة مناسبة وبدرجة معقولة"‪.‬‬

‫ومن هنا يتضح قصور األسلوبني يف تصور مفهوم األسلوب‪ ,‬يف الشكل كان أم يف املعىن‪ ,‬حىت حدا ببعضهم إىل‬
‫‪1‬‬
‫الدعوة إللغائه أو أن يصبح (بناء افرتاضيا عدمي الفائدة‪.‬‬

‫‪-1‬اجلرجاين‪ :‬املصدر نفسه‪ ،‬ص‪.033 :‬‬


‫‪-2‬اجلرجاين‪ :‬املصدر نفسه‪ ،‬ص‪.034-033 :‬‬
‫‪ -3‬عبد القاهر اجلرجاين ‪ :‬أسرار البالغة ‪ ،‬تعليق عبد العزيز النجار‪ ،‬مصر‪ ،‬القاهرة‪.0277 ،‬م‪،‬ص ‪. 92‬‬
‫‪ -4‬عبد القاهر اجلرجاين‪،‬مصدر سابق ص ‪.395‬‬
‫‪ -5‬بيريجريو‪ :‬األسلوب واألسلوبية ‪،‬ترمجة د‪ .‬منذر عياشي‪،‬مركز اإلخاء القومي‪،‬بريوت‪ ،‬لبنان‪،‬د‪ .‬ت ‪،‬ص ‪. 93‬‬
‫‪ -6‬بيريجريو ‪،‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪. 93‬‬
‫‪73‬‬
‫إن األسلوبيني املعاصرين يدركون أمهية األسلوب يف عملية الصياغة األدبية ولكنهم ينكرون استقالليته عن املعىن‪,‬‬
‫أو يعدونه بناءً افرتاضيا ال میت إىل الواقع بصلة‪ ,‬وهم خمطئون يف كال احلالتني‪ ,‬وإمنا هو على ما انتهى إليه عبد‬
‫القاهر اجلرجاين حني رأى ان األسلوب يتمثل يف الصورة الناشئة عن ائتالف اللفظ واملعىن معا‪ ,‬وع ّد (األسلوب)‬
‫عنصرا ثالثا جبنبهما‪ ,‬قال‪" :‬وذلك إهنم ملا جهلوا شأن الصورة‪ ,‬وضعوا ألنفسهم أساسا وبنوا على قاعدة‪ ,‬فقالوا‪:‬‬
‫إنه ليس إال اللفظ واملعىن وال ثالث‪ ,‬وإنه إذا كان كذلك وجب إذا كان ألحد الكالمني فضيلة ال تكون لآلخر‪,‬‬
‫مث كان الغرض من أحدمها هو الغرض من صاحبه أن يكون مرجع تلك الفضيلة إىل اللفظ خاصة‪ ,‬وأن ال يكون‬
‫هلا مرجع إىل املعىن من حيث إن ذلك زعموا يؤدي إىل التناقض‪ ,‬وأن يكون معناها متغايرا وغري متغاير‬
‫معا‪..."2‬وقال‪" :‬ومعلوم أن سبيل الكالم سبيل التصوير والصياغة‪..."3‬ومعىن ذلك إن عبد القاهر جيعل الكالم‬
‫مبنيا على ثالثة عناصر رئيسة‪:‬‬

‫‪ -‬اللفظ‪ ,‬ويعين به اإلطار اخلارجي للنص‪.‬‬


‫‪ -‬املعىن‪ ,‬ويعين به ما تشري إليه ألفاظ النص‪.‬‬
‫‪ -‬األسلوب‪ ,‬ويعين به االئتالف احلاصل بني اللفظ واملعىن (الصورة)‪.‬‬

‫وقد عرض لذلك عدة أمثلة نورد منها هذين املثالني‪:‬‬

‫قال أبو متام‪[ :‬من الكامل‪[.‬‬


‫الصبح مشهور بغري دالئل من غريه ابتغيت وال ِ‬
‫أعالم‬

‫وقال املتنيب‪[ :‬من الكامل‪[.‬‬


‫يصح يف األذهان شيء إذا احتاج النهار إىل ِ‬
‫دليل‬ ‫وليس ّ‬
‫علق عبد القاهر اجلرجاين عليهما‪ ,‬فقال‪" :‬فأنت ترى أحد الشاعرين فيه قد أتى باملعىن غفال ساذجاً‪,‬‬
‫وترى اآلخر يف صورة ترق وتعجب‪"4‬فاملعنيان يكادان أن يكونا متشاهبني إىل حد ما‪ ,‬ولكن طريقة‬
‫الصياغة حكمت للمتنيب باجلودة‪ ,‬وحكمت لآلخر بالرداءة‪ ,‬وهذا شأن األسلوب‪.‬‬

‫‪ -1‬بيريجريو ‪ ،‬املرجع نفسه ص‪.90‬‬


‫‪ -2‬عبد القاهر اجلرجاين ‪،،‬دالئل اإلعجاز ‪،‬مصدر سابق ‪ ،‬ص ‪. 402‬‬
‫‪ -3‬عبد القاهر اجلرجاين ‪،‬مصدر سابق ‪،‬ص ‪.950‬‬
‫‪ -4‬عبد القاهر اجلرجاين ‪،‬مصدر سابقص‪.496– 495‬‬
‫‪74‬‬
‫وحبسب هذه الفكرة فإن اإلبداع األديب يتحقق من خالل اجتماع اللفظ واملعىن واألسلوب معا وكما‬
‫موضح يف اخلطاطة اآلتية‪:‬‬

‫اللفظاملعنىاألسلوباإلبداع األديب‬

‫وهذا يتيح لنا القول إن الصورة الفنية اليت أسهب يف تناوهلا احملدثون إمنا تتعلق بدراسة األسلوب وطبيعته‪,‬‬
‫ويبدو هذا واضحا يف كثري من الدراسات اليت تناولت الصورة الفنية منها (الصورة الفنية معيارا نقديا)‬
‫للدكتور عبد اإلله الصائغ‪ ,‬إذ جعل الفصل اخلامس‪ ,‬دراسة (الصورة الفنية من خالل األسلوب‪) 1،‬‬
‫و(الصورة الفنية يف املثل القرآين) للدكتور حممد حسني علي الصغري الذي ق ّدم بعدا تطبيقيا لعناصر الصورة‬
‫يف القرآن الكرمي ‪2 .‬ولتأكيد هذا القول نتابع كالم عبد القاهر اجلرجاين يف دالئله والذي يرى فيه إن‬
‫الصورة هي مزية باملتكلم يف إخراج املعىن‪،‬‬

‫قال عبد القاهر‪:‬‬

‫‪"...‬وان اعرتف بأن ذلك يكون قلنا له‪ :‬أخربنا عنك أتقول يف قوله‪:‬‬
‫وتأىب الطباع على ِ‬
‫الناقل إنه غاية يف الفصاحة؟ فإذا قال نعم‪ ,‬قيل له‪ :‬أو كان ذلك عندك من أجل‬
‫حروفه ام من أجل حسن ومزية حصال يف املعىن‪ ,‬فإن قال من أجل حروفه‪ ,‬دخل يف اهلذيان‪ ,‬وإن قال‬
‫من أجل حسن ومزية حصال يف املعىن قيل له‪ :‬فذاك ما أردناك عليه حني قلنا إن اللفظ يكون فصيحا من‬
‫أجل مزية تقع يف معناه ال من أجل جرسه وصداه‪) 3،‬ويوضح إن إخراج املعىن يف صورة هو مزية باملتكلم‬
‫نفسه قال‪( :‬قد علمنا علما ال‪4‬ومتام قوله يف الصورة‪" :‬وأعلم إن قولنا (الصورة) إمنا هو متثيل وقياس ملا‬
‫نعلمه بعقولنا على الذي نراه بأبصارنا‪ ,‬فلما رأينا البينونة بني آحاد األجناس تكون من جهة الصورة فكان‬
‫‪5‬‬
‫بني إنسان من إنسان‪ ,‬وفرس من فرس خبصوصية تكون يف صورة هذا ال تكون يف صورة ذاك"‬

‫وقد نتج عن ذلك أننا نرى املعىن الواحد يف صورتني خمتلفتني‪ ,‬وكما يف قول أيب متام‪[ :‬من الطويل[‬

‫‪ -1‬د‪ .‬عبد اإلله الصائغ ‪:‬الصورة الفنية معيارا نقديا ‪ ،‬دار الشؤون الثقافية‪ ،‬بغداد‪ ،‬العراق‪ .0287 ،‬ص ‪.433-360‬‬
‫‪ -2‬حممد حسني علي الصغري‪:‬الصورة الفنية يف املثل القرآين ‪ ،‬دار الرشيد للنشر‪ ،‬بغداد‪ ،‬العراق‪.0280 ،‬م‪ ،‬ص ‪.990– 051‬‬
‫‪ -3‬عبد القاهر اجلرجاين ‪،،‬دالئل اإلعجاز ‪،‬مصدر سابق ‪ ،‬ص ‪.377‬‬
‫‪ -4‬عبد القاهر اجلرجاين ‪،‬مصدر نفسه ص ‪.364‬‬
‫‪ -5‬عبد القاهر اجلرجاين‪،‬مصدر نفسه ص‪.445‬‬

‫‪75‬‬
‫حاكم‬
‫ُ‬ ‫غدا العفو منه وهو يف السيف‬ ‫إذا سيفه أضحى على اهلام حاكما‬

‫وقول املتنيب‪[ :‬من الطويل[‬

‫ومن عادةِ اإلحسان والص ّفح ُ‬


‫غامد‬ ‫له من كرمي الطبع يف احلرب منتض‬

‫علق عليها عبد القاهر فقال‪:‬‬

‫"فانظر اآلن نظر من نفى الغفلة عن نفسه فانك ترى عيانا إن للمعىن يف كل واحد من البيتني من مجيع‬
‫ذلك صورة وصفة غري صورته وصفته يف البيت اآلخر وإن العلماء مل يريدوا حيث قالوا‪( :‬إن املعىن يف هذا‬
‫املعىن يف ذاك‪ ,‬إن الذي تعقل من هذا ال خيالف الذي تعقل من ذاك‪ ,‬وإن املعىن عائد عليك يف البيت‬
‫الثاين على هيئته وصفته اليت كان عليها يف البيت األول‪ ,‬وان ال فرق وال فصل وال تباين بوجه من الوجوه‪,‬‬
‫وإن حكم البيتني مثال حكم االمسني قد وضعا يف اللغة لشيء واحد كالليث واألسد‪ ,‬ولكن قالوا ذلك‬
‫على حسب ما يقوله العقالء يف الشيئني جيمعهما جنس واحد‪ ,‬مث يفرتقان خبواص ومزايا وصفات كاخلامت‬
‫واخلامت‪ ,‬والشنف والشنف‪ ,‬والسوار والسوار‪ ,‬وسائر أصناف احللي اليت جيمعها جنس واحد مث يكون بينها‬
‫‪1‬‬
‫االختالف الشديد يف الصنعة والعمل"‪.‬‬

‫وهكذا فالذي جنده يف أقوال عبد القاهر اجلرجاين‪ ,‬وما يثار اليوم يف الدراسات األدبية جيعلنا نقول‪ :‬إن‬
‫كل الدراسات اليوم يف ميدان الصورة الفنية مبجاهلا التطبيقي هي دراسات أسلوبية‪ ,‬وإن (الصورة اليت‬
‫حتصل يف الذهن)‪ ,‬و(الرسم املكتوب بالكلمات) وجهان لعملة واحدة‪ ,‬قال د‪ .‬زكي مبارك‪" :‬الصورة‬
‫الشعرية هي أثر الشاعر املفلق الذي يصف املرئيات وصفا جيعل القارئ ما يدري أيقرأ قصيدة مسطورة أم‬
‫يشاهد منظرا من مناظر الوجود‪ ,‬والذي يصف الوجدانيات وصفا خييل للقارئ إنه يناجي نفسه ألنه يقرأ‬
‫قطعة لشاعر‪.2‬‬

‫وتبعا هلذا الكالم فقد ركز بعض األسلوبيني على قضية السياق‪ ,‬ودوره يف حتقيق اإلبداع األديب‪ ,‬وأفردوا لـه‬
‫منهجا خاصا مسوه (أسلوبية السياق)‪3‬ونصبوا ميكائيل ريفاتري علما عليها‪ ,‬وسنتابع هذا املوضوع مع ما‬
‫كتبه (كراهام هاف) حيث قال‪:‬‬

‫‪ -1‬عبد القاهر اجلرجاين‪،‬دالئل اإلعجاز‪،‬امصدر سابقص ‪. 444-443‬‬


‫‪-2‬د‪ .‬زكي مبارك‪ :‬املوازنة بني الشعراء‪ ،‬القاهرة‪ ،‬مصر‪،‬ط‪.0236 ،9‬م‪ ،‬ص ‪. 64‬‬
‫‪ -3‬هنريش بليث ‪ :‬البالغة واألسلوبية (منوذج سيميائي لتحليل النص) ‪ ،‬ترمجة حممد العمري‪ ،‬منشورات دراسات ساك‪ ،‬الدار البيضاء‪،‬ط‪،0‬‬
‫‪.0282‬م‪ .‬ص ‪.38‬‬
‫‪76‬‬
‫"إن الوحدة العضوية للعمل األديب ليست شيئا جاهزا‪ ,‬وليست حجرا كرمیا صافيا ملقى يف الطبيعة‬
‫مهال‪ ,‬إمنا هي شيء منجز‪ ,‬ومیكن الوصول إىل هذا الكل العضوي بطرق متنوعة‪ ,‬فقد يكون أحيانا يف‬
‫فكر الشاعر الغنائي وزن شعري قبل معرفته بالكلمات اليت توافق ذلك اإليقاع‪ ...‬تتضمن أغلب الكتابة‬
‫عملية تنقيح تتم أما على الورق أو يف الذهن قبل تدوين أي شيء‪ ,‬ومثة شاهد إن الكتاب املختلفني‬
‫ينظرون إىل هذه العملية من التنقيح يف ضوء خمتلف‪ ,‬فرياها بعضهم على أهنا ّتسيد للمعىن املتصور سلفا‬
‫تغري مستمر وحتوير يف املعىن نفسه‪ ,‬ومن األفضل يف كلتا‬
‫بصورة أكثر دقة‪ ,‬ويراها بعضهم على إهنا ّ‬
‫احلالتني للناقد أن يويل املسألة نظرة مستقبلية‪ ,‬فالعلم األديب مشروع إذا كمل فإن النتيجة تكون وحدة‬
‫كاملة ومتكونة من عناصر لغوية نعرفها حنن أيضا يف ارتباطات أخرى‪ ,‬لذلك میكننا بعملية ّتريد أن‬
‫ندركها بشكل منفصل ونناقشها باعتبارها مكونات هلذه الوحدة الكاملة‪ .‬وإن الكلمة السحرية يف بيت‬
‫سحري معني قد تكون خاملة متاما يف مجلة خمتلفة‪ ,‬وإن الرتكيب غري البارع يف سياق من السياقات قد‬
‫يكون له تأثري فعال يف سياق آخر‪ ,‬ودراسة األسلوب هتتم مبثل هذه الظواهر مهما كانت فلسفتنا للمعىن‪,‬‬
‫ومهما كانت نظريتنا يف سيكولوجية العملية اخلالقة‪". 1‬ولعل هذه الفكرة واحدة من األسس الرئيسة اليت‬
‫أقام عليها اجلرجاين نظريته يف النظم فقال‪:‬‬

‫‪"...,‬وإذا كان هذا كذلك فينبغي أن ينظر إىل الكلمة قبل دخوهلا يف التأليف وقبل أن تصري إىل الصورة‬
‫اليت هبا يكون الكلم أخبارا وأمرا وهنيا واستخبارا وتعجبا‪ ,‬وتؤدي يف اجلملة معىن من املعاين اليت ال سبيل‬
‫إىل إفادهتا إال بضم كلمة إىل كلمة‪ ,‬وبناء لفظة على لفظة‪2"...‬وذهب عبد القاهر أبعد من ذلك حينما‬
‫قال‪" :‬وهل ّتد أحد يقول‪ :‬هذه اللفظة فصيحة إال وهو يعترب مكاهنا من النظم‪ ,‬وحسن مالئمة معناها‬
‫ملعىن جاراهتا‪ ,‬وفضل مؤانستها ألخواهتا"‪3،‬إىل أن انتهى إىل القول‪" :‬فقد اتضح إذن اتضاحا ال يدع‬
‫الشك إن األلفاظ ال تتفاضل من حيث هي ألفاظ جمردة وال من حيث هي كلم مفردة‪ ,‬وإن األلفاظ‬
‫تثبت هلا الفضيلة وخالفها يف مالءمة معىن اللفظة ملعىن اليت تليها أو ما أشبه ذلك مما ال تعلق له بصريح‬
‫اللفظ‪ ,‬ومما يشهد لذلك إنك ترى الكلمة تروقك وتؤنسك يف موضع مث تراها تثقل عليك وتوحشك يف‬
‫موضع آخر‪ ,‬كلفظ األخدع يف بيت احلماسة"‪:‬‬

‫]من الطويل]‬

‫‪ -1‬بيريجريو‪ :‬األسلوب واألسلوبية ‪،‬ترمجة د‪ .‬منذر عياشي‪ ،:‬مركز اإلخاء القومي‪ ،‬بريوت‪ ،‬لبنان‪ ،‬د‪ .‬ت‪ .‬ص ‪.96 – 95‬‬
‫‪ -2‬عبد القاهر اجلرجاين ‪،،‬دالئل اإلعجاز ‪،‬مصدر سابق ‪ ،‬ص ‪. 21‬‬
‫‪ -3‬عبد القاهر اجلرجاين ‪ ،‬مصدر سابق ‪ ،‬ص ‪20‬‬
‫‪77‬‬
‫وجعت من اإلصغاء ليتا وأخدعا‬ ‫ت حنو احلي حىت وجدتين‬
‫تَـلَ َف ُّ‬
‫وبيت البحرتي‪[ :‬من الطويل[‬

‫وأعتقت من رق املطامع أخدعي‬ ‫وإين وإن بلّغتين شرف الغىن‬

‫فإن هلا يف هذين املكانني ما ال خيفى من احلسن‪ ,‬مث إنك تتأملها يف بيت أيب متام‪:‬‬

‫[من الطويل[‬

‫يا دهر ّقوم من أخدعيك فقدأضججت هذا األنام من خرقك‬

‫ّتد هلا من الثقل على النفس‪ ,‬ومن التنغيص والتكدير أضعاف ما وجدت هناك من الروح واخلفة‪1‬وما‬
‫ذلك إال لسياقات ورودها املختلفة اليت جعلت إحدامها مجيلة واألخرى قبيحة مستهجنة‪.‬‬

‫يتضح من كل ما سبق أصالة الفكرة األسلوبية‪ ,‬ومنحاها التطبيقي يف فكر عبد القاهر اجلرجاين‪ ,‬وبالتايل‬
‫أصالة تراثنا احلضاري والفكري الذي ظل متوارثا عرب األجيال‪ ,‬وهو حباجة – اليوم – إىل البعث من‬
‫جديد الستلهامه فيكون لدينا ما يسمى (املنهج األسلويب العريب) بصفته األصيلة‪ ,‬ومنابعه اخلالقة‪.‬‬

‫‪ -‬نماذج من تحليالته‪:‬‬
‫‪ -0‬قال عبد القاهر يف التعليق على اآلية الكرمیة‪:‬‬

‫(وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا مساء اقلعي وغيض املاء وقضي األمر واستوت على اجلودي وقيل بعدا‬
‫للقوم الظاملني) (هود ‪)44/‬‬

‫‪"...‬أنك مل ّتد ما وجدت من املزيّة الظاهرة‪ ,‬والفضيلة القاهرة إال ألمر يرجع إىل ارتباط هذه الكلم‬
‫بعضها ببعض‪ ,‬وإن مل يعرض هلا احلسن والشرف إال من حيث القت األوىل بالثانية والثالثة والرابعة وهكذا‬
‫إىل أن تستقريها إىل آخرها‪ ,‬وإن الفضل تناتج ما بينها‪ ,‬وحصل من جمموعها‪ ,‬إن شككت فتأمل! هل‬
‫ترى لفظة منها حبيث لو أخذت من بني أخواهتا‪ ,‬وأفردت ألدت من الفصاحة ما تؤديه وهي يف مكاهنا‬
‫من اآلية؟ قل (ابلعي) واعتربها وحدها من غري أن تنظر إىل ما قبلها وإىل ما بعدها‪ ,‬وكذلك فاعترب سائر‬
‫ما يليها‪ ,‬وكيف بالشك يف ذلك‪ ,‬ومعلوم إن مبدأ العظمة يف إن نوديت األرض‪ ,‬مث أُمرت‪ ,‬مث يف أن كان‬
‫(أي) حنو يا أيتها األرض‪ ,‬مث إضافة املاء إىل الكاف دون أن يقال ابلعي املاء‪ ,‬مث أن اتبع‬
‫النداء بـ(يا) دون ْ‬

‫‪ -1‬عبد القاهر اجلرجاين ‪،‬دالئل اإلعجازاملرجع السابق‪ ،‬ص ‪. 23 – 29‬‬


‫‪78‬‬
‫نداء األرض وأمرها مبا هو يف شأهنا‪ ,‬ونداء السماء وأمرها كذلك مبا خيصها مث قيل (وغيض املاء) فجاء‬
‫الفعل على صيغة (فُعِ َل) الدالة على إنه مل يغض إال بأمر آمر‪ ,‬وقدرة قادر‪ ,‬مث تأكيد ذلك وتقريره بقوله‬
‫تعاىل (وقضي األمر) مث ذكر ما فائدة هذه األمور وهو (استوت على اجلودي) مث إضمار السفينة قبل‬
‫الذكر كما هو شرط الفخامة والداللة على عظم الشأن‪ ,‬مث مقابلة (قيل) يف اخلامتة بـ(قيل) يف الفاحتة‪,‬‬
‫تصورك هيبة حتيط بالنفس من‬ ‫أفرتى لشيء من هذه اخلصائص اليت متلؤك باإلعجاز روعة‪ ,‬وحتضرك عند ّ‬
‫أقطارها تعلقا باللفظ من حيث هو صوت مسموع وحروف تتواىل يف النطق؟ أم كل ذلك ملا بني معاين‬
‫األلفاظ من االتساق العجيب‪".1‬‬

‫‪ -9‬قال عبد القاهر يف التعليق على بيت امرئألقيس‪:‬‬


‫ِ‬
‫بكلكل‬ ‫فقلت له ملّا متطّى بصلبهوأردف إعجازا وناءَ‬
‫"ملا جعل لليل صلبا قد متطّى بصلبه به ّثىن ذلك فجعل له إعجازا قد أردف هلا الصلب وثلّث فجعل له‬
‫كلكال قد ناء به‪ ,‬فاستوىف له مجلة أركان الشخص‪ ,‬وراعى ما يراه الناظر يف سواده إذا نظر ق ّدامه‪ ,‬وإذا‬
‫نظر إىل ما خلفه‪ ,‬وإذا رفع بصره‪ ,‬ومدده يف عرض اجلو‪."2‬‬

‫‪ -3‬قال عبد القاهر‪:‬‬

‫"وان أردت أعجب من ذلكفيما ذكرت لك فانظر إىل قوله‪:‬‬

‫سالت عليه شعاب احلي حيندعا أنصاره بوجوه كالدنانري‬

‫فإنك ترى هذه االستعارة على لطفها وغرابتها إمنا مت هلا احلسن وانتهى إىل حيث انتهى مبا توخي يف وضع‬
‫الكالم من التقدمي والتأخري وّتدها قد ملحت ولطفت مبعاونة ذلك ومؤازرته هلا‪ ,‬وإن شككت فاعمد إىل‬
‫كال منها عن مكانه الذي وضعه الشاعر فيه فقل‪ :‬سالت شعاب احلي بوجوه‬ ‫اجلارين والظرف فأزل ّ‬
‫كالدنانري عليه حني دعا أنصاره‪ ,‬مث انظر كيف يكون احلال وكيف يذهب احلسن واحلالوة‪ ,‬وكيف تقدم‬
‫أرحييتك اليت كانت وكيف تذهب النشوة اليت كنت ّتدها‪.3"...‬‬

‫‪ -1‬عبد القاهر اجلرجاين ‪،‬دالئل اإلعجاز مصدر سابق ‪ ،‬ص ‪.29 – 20‬‬
‫‪ -2‬عبد القاهر اجلرجاين ‪،‬املصدر نفسه ‪ ،‬ص ‪.006‬‬
‫‪ -3‬عبد القاهر اجلرجاين ‪،‬دالئل اإلعجاز‪،‬مصدر سابق ‪ ،‬ص ‪. 030- 031‬‬
‫‪79‬‬
‫المحاضرة الحادية عشر‪:‬تطبيقات من النظم‪.‬‬
‫أورد عبد القاهر يف ثنايا كتابه (دالئل اإلعجاز) كثريا من النماذج التطبيقية ملـَا استنبطه من مبادئ نظريّة تتعلق‬
‫بفكرة النظم وفق معاين النحو‪.‬‬
‫والفكرة اليت سعى اجلرجاين إىل ترسيخها من حتليله تلك النماذج هي أن الوجوه اليت يكون عليها النظم‬
‫يبني‬
‫وتأليف الكالم من الكثرة والدقة والتأثري يف املعىن حبيث ال يقوم وجه منها مقام غريه يف تأدية معناه‪ ،‬فكان ّ‬
‫يتوهم تكافؤها يف املعىن واالستعمال‪.‬‬
‫دقائق الفروق بني الرتاكيب املتقاربة اليت قد ّ‬
‫نوزع النماذج اليت ساقها عبد القاهر لشرح نظرية النظم على األبواب اآلتية‪:‬‬
‫ومیكن أن ّ‬
‫‪ )0‬اإلسناد واخلرب‬
‫‪ )9‬التقدمي والتأثري‬
‫‪ )3‬احلذف والذكر‬
‫‪ )4‬التعريف والتنكري‬
‫‪ )5‬الفصل والوصل‬
‫‪ )6‬استعمال (إن)‬

‫‪ )5‬اإلسناد والخبر‪:‬‬
‫‪ -‬اإلسناد شرط لتحقيق الفائدة يف الكالم‪ ،‬فكان من الضروري أن يشتمل الكالم على جزءين؛‬
‫مسند ومسند إليه‪ ،‬وقد أشار عبد القاهر إىل ذلك وهو يبني قيام اللغات على مبدأ الفائدة واملعىن عن‬
‫فسر به تعليم اهلل آدم األمساء‪ ،‬حيث قال‪...":‬وإذا قلنا يف العلم‬
‫طريق اإلسناد مناقشا مفهوم اإلهلام الذي ّ‬
‫واللغات من مبتدأ األمر إنه كان إهلاماً‪ ،‬فإن اإلهلام يف ذلك يكون بني شيئني يكون أحدمها مثبتاً واآلخر‬
‫ومنفي من غري‬
‫ّ‬ ‫يتصور مثبث من غري مثبت له‪،‬‬
‫مثبتاً له‪ ،‬أو يكون أحدمها منفياً واآلخر منفياً عنه‪ ،‬وأنه ال ّ‬
‫‪1‬‬
‫منفي عنه‪ .‬فلما كان األمر كذلك وجب أن ال يعقل إال من جمموع مجلة فعل واسم كقولنا‪ :‬خرج زيد‪".‬‬ ‫ّ‬

‫‪ -‬عبد القاهر اجلرجاين‪ ،‬دالئل اإلعجاز‪ ،‬حتقيق‪ :‬حممد رضوان مهنا‪ ،‬مكتبة اإلمیان‪ ،‬القاهرة‪( ،‬د ت)‪ ، ،‬ص ‪1325‬‬
‫‪80‬‬
‫‪ -‬يكون اإلسناد بامسني يسند أحدمها إىل اآلخر‪ ،‬أو بفعل يسند إىل اسم‪ ،‬وقد يق ّدر الفعل مكان‬
‫االسم‪ ،‬ولكن هذا التقدير ال يعين استواء املعىن فيهما‪" ،‬كما نقول يف (زيد يقوم) إنه يف موضع (زيد‬
‫استويا هذا‬
‫قائم)‪ ،‬فإن ذلك ال يقتضي أن يستوي املعىن فيها استواء ال يكون من بعده افرتاق؛ فإهنما لو َ‬
‫‪1‬‬
‫االستواء مل يكن أحدمها فعال واآلخر امسا‪ ،‬بل كان ينبغي أن يكونا مجيعا فعلني أو يكونا امسني‪".‬‬

‫ومراد عبد القاهر من ذلك أن ما يبدو يف الظاهر من تكافؤ بعض العبارات ال يعين استواءمها يف املعاين‬
‫تؤديها تلك العبارات‪ ،‬وأهنا من الدقة والتأثري يف املعىن حبيث ال يقوم وجه منها مقام غريه يف الوفاء‬
‫الدقيقة اليت ّ‬
‫حبقه‪ ،‬وال يقوم مقامه يف تأدية الغرض‪ ،‬وأنه جيب لذلك استعمال كل نوع من العبارة يف سياقه األنسب‪.‬‬

‫يدل على التج ّدد‬


‫يفرق بني االسم والفعل‪ ،‬أن االسم يدل على الثبوت‪ ،‬والفعل ّ‬ ‫‪ -‬من أهم ما ّ‬
‫واالستمرار‪ ،‬ف ــ"موضوع االسم على أن يثبت به املعىن للشيء من غري أن يقتضي ّت ّدده شيئا بعد شيء‪،‬‬
‫وأما الفعل فموضوعه على أنه يقتضي ّت ّدد املعىن املثبت به شيئا بعد شيء؛ فإذا قلت‪( :‬زيد منطلق) فقد‬
‫أثبت االنطالق فعال له من غري أن ّتعله يتج ّدد وحيدث منه شيئا فشيئا‪ ،‬بل يكون املعىن فيه كاملعىن يف‬
‫ّ‬
‫قولك‪( :‬زيد طويل وعمرو قصري)‪ ،‬فكما ال تقصد ههنا إىل أن ّتعل الطول أو القصر يتج ّدد وحيدث‪ ،‬بل‬
‫تتعرض يف قولك‪( :‬زيد منطلق) ألكثر‬ ‫توجبهما وتثبتهما فقط‪ ،‬وتقضي بوجودمها على اإلطالق‪ ،‬كذلك ال ّ‬
‫من إثباته لزيد‪ ،‬وأما الفعل فإنه يقصد فيه إىل ذلك؛ فإذا قلت‪( :‬زيد ها هو ذا ينطلق) فقد زعمت أن‬
‫حتس الفرق بينهما من حيث يلطف‬ ‫االنطالق يقع منه جزءا فجزءا‪ ،‬وجعلته يزاوله ويزجيه‪ ،‬وإن شئت أن ّ‬
‫فتأمل هذا البيت البسيط‪:‬‬
‫میر عليها وهو منطلق‬
‫لكن ّ‬
‫ْ‬ ‫رهم املضروب ِخرقتنا‬
‫يألف ال ّد ُ‬
‫ال ُ‬
‫هذا هو احلسن الالئق باملعىن ولو قلته بالفعل‪( :‬لكن میر عليها وهو ينطلق) مل حيسن‪ ،‬وإذا أردت أن‬
‫تعتربه حبيث ال خيفى أ ّن أحدمها ال يصلح يف موضع صاحبه فانظر إىل قوله تعاىل‪( :‬وكلبهم باسط ذراعيه‬
‫بالوصيد ) فإن أحدا ال يشك يف امتناع الفعل ههنا وأن قولنا‪( :‬كلبهم يبسط ذراعيه) ال يؤدي الغرض‪،‬‬
‫وليس ذلك إال ألن الفعل يقتضي مزاولة وّت ّدد الصفة يف الوقت‪ ،‬ويقتضي االسم ثبوت الصفة وحصوهلا‬
‫‪2‬‬
‫من غري أن يكون هناك مزاولة وتزجية فعل ومعىن حيدث شيئا فشيئا‪".‬‬
‫‪ -‬هناك فرق بني اخلرب االبتدائي واخلرب غري االبتدائي‪ ،‬فاخلرب االبتدائي مل يسبق للسامع به معرفة وال‬
‫بشيء يتعلق به‪ ،‬خبالف اخلرب غري االبتدائي‪ ،‬فـ ـ "إذا قلت‪( :‬زيد منطلق)كان كالمك مع من مل يعلم أن‬

‫‪ -1‬عبد القاهر اجلرجاين‪،‬دالئل اإلعجاز‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص ‪063‬‬


‫‪-2‬عبد القاهر اجلرجاين‪ ،‬دالئل اإلعجاز‪،‬املصدر نفسه ‪ ،‬ص ‪064‬‬
‫‪81‬‬
‫انطالقا كان ال من زيد وال من عمرو‪ ،‬فأنت تفيده ذلك ابتداء‪ ،‬وإذا قلت‪( :‬زيد املنطلق) كان كالمك مع‬
‫من عرف أن انطالقا كان إما من زيد وإما من عمرو‪ ،‬فأنت تُعلمه أنه كان من زيد دون غريه‪ ،‬والنكتة أنك‬
‫تثبت يف األول الذي هو قولك‪( :‬زيد منطلق) فعال مل يعلم السامع من أصله أنه كان‪ ،‬وتثبت يف الثاين‬
‫‪1‬‬
‫الذي هو (زيد املنطلق) فعال قد علم السامع أنه كان‪ ،‬ولكنه مل يعلمه لزيد‪ ،‬فأفدته ذلك‪".‬‬
‫‪ -‬ال میكن االعتماد يف معرفة مبتدأ اخلرب االبتدائي على الرتبة وحدها‪ ،‬بل على احلكم واإلسناد‬
‫مذكور بعد املبتدأ‪ ،‬بل‬‫ٌ‬ ‫واملعىن املراد‪ ،‬فـ ـ "املبتدأ مل يكن مبتدأً ألنه منطو ٌق به ّأوالً‪ ،‬وال كان اخلَبَـ ُر خرباً ألنه‬
‫بت له املعىن‪ ،‬واخلربُ خرباً ألنه ُم ْسنَ ٌد ومثبت به املعىن؛ تفسريُ ذلك‬ ‫ومثَ ٌ‬‫كان املبتدأ مبتدأ ألنه مسن ٌد إليه ُ‬
‫مثبت‬ ‫ِ‬ ‫َ ٍ‬
‫ت له‪ ،‬و(منطل ٌق) ٌ‬ ‫االنطالق لزيد وأسندتَه إليه‪ ،‬فــ(زي ٌد) ُمثْبَ ٌ‬ ‫أثبت‬
‫منطلق) فقد َّ‬ ‫ٌ‬ ‫قلت‪( :‬زي ٌد‬
‫أنَّك إذا َ‬
‫هذه اجلهة؛ أي من ج ِهة أ ْن كان املبتدأُ هو الذي‬ ‫به‪ ،‬وأما تقدُّم املبتدأ على اخل ِرب لفظاً فحكم واجب من ِ‬
‫ٌ‬ ‫ٌ‬
‫يثبت له املعىن ويسند إليه‪ ،‬واخلرب هو الذي يثبت به املعىن ويسند‪ ،‬ولو كان املبتدأ مبتدأ ألنه يف اللفظ‬
‫لوجب أن يكو َن قوُهلم إن‬ ‫(منطلق زي ٌد)‪ ،‬و َ‬ ‫ٌ‬ ‫مقد ٌم مبدوءٌ به‪ ،‬لكان يَنبغي أن خير َج عن كونِه مبتدأ بأن َ‬
‫يقال‪:‬‬ ‫َّ‬
‫‪2‬‬ ‫اخلرب مقدَّم يف ِ‬
‫اللفظ والنيةُ به التأخريُ ُحماالً‪".‬‬ ‫َ ٌ‬
‫ني فجعلتَهما مبتدأ وخرباً‬ ‫جئت مبعرفت ِ‬‫حمكمة ومعتربة‪ ،‬فــ"إذا َ‬ ‫‪ -‬أما اخلرب غري االبتدائي فإن الرتبة فيه َّ‬
‫(أخوك)‬
‫َ‬ ‫أثبت بـ ـ ـ‬
‫كنت قد َّ‬
‫قلت‪( :‬زي ٌد أخوك) َ‬ ‫معىن لألول‪ ،‬فإذا َ‬ ‫وجب وجوباً أن تكو َن ُمثبِتاً بالثاين ً‬ ‫فقد َ‬
‫ـ(أخوك)‪ ،‬وإالّ‬
‫معىن لـ َ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫وجب أن تكو َن ُمثبتاً بـ ــ(زيد) ً‬
‫رت فقلت‪( :‬أخوك زي ٌد) َ‬ ‫أخ َ‬‫مت و ّ‬‫معىن ل ــ(زيد)‪ .‬وإذا ق ّد َ‬
‫ً‬
‫ِ‬
‫وألدى إىل أن ال يكو َن لقوهلم‬ ‫معىن‪َّ ،‬‬ ‫كان تسميتُك له اآلن مبتدأ وإذ ذاك خرباً تغيرياً لالسم عليه من غري ً‬
‫كل واحد منهما حبك ٍم ال‬ ‫ينفرد ُّ‬‫اسم يف اللفظ على اس ٍم‪ ،‬من غ ِري أن َ‬ ‫يتقدم ٌ‬ ‫غري أن َ‬ ‫(املبتدأ واخلرب) فائدةٌ َ‬
‫‪3‬‬
‫ك يف سقوطه‪".‬‬ ‫ِ‬
‫لصاحبه‪ ،‬وذلك مما ال يُ َش ُّ‬ ‫يكون‬
‫لكن تكافؤ االمسني يف التعريف ال يقتضي عدم اختالف املعىن بالتقدمي والتأخري بينهما‪ ،‬مع أن‬ ‫‪ -‬و ّ‬
‫كنت‬
‫اجتمعتا َ‬ ‫َ‬ ‫يتوهم ذلك‪ ،‬ال سيما إذا نظر إىل قول النحويني (يف باب كان) إن املعرفتني إذا‬
‫بعضهم قد ّ‬
‫ِ‬
‫باخليا ِر يف َج ْع ِل أيِّهما َ‬
‫شئت امساً واآلخ ِر خرباً‪ ،‬كقولك‪( :‬كان زي ٌد أخاك) و(كان أخوك زيداً)‪ ،‬فيُظَ ُّن أن‬
‫خيتلف املعىن بأن تبدأ هبذا وتُـثَـ ِّين بذاك‪ ،‬حىت كأن الرتتيب الذي‬
‫َ‬ ‫تكافُـ َؤ االمس ِ‬
‫ني يف التعريف يقتضي أن ال‬

‫‪ -1‬عبد القاهر اجلرجاين‪ ،‬دالئل اإلعجاز‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص‪066‬‬


‫‪-2‬عبد القاهر اجلرجاين‪،‬املصدر نفسه‪ ،‬ص ‪073 ،079‬‬
‫‪-3‬عبد القاهر اجلرجاين‪،‬املصدر نفسه‪ ، ،‬ص ‪063‬‬
‫‪82‬‬
‫يوضع هلما يف املنزلِة يف التقدم والتأخر يَ ْسق ُ‬
‫ط ويرتَِف ُع إذا كان اجلزآن معاً‬ ‫بني املبتدأ واخلرب وما َ‬ ‫يُدَّعى َ‬
‫‪1‬‬
‫معرفتني‪".‬‬
‫ويستدل عبد القاهر على هذا مبا بني‬
‫ّ‬ ‫املعرفني‪،‬‬
‫بتغري ترتيب املبتدأ واخلرب ّ‬
‫تغري دقيق يف املعىن ّ‬ ‫هناك ‪-‬إذاً‪ّ -‬‬
‫فصل بينك‬
‫(احلبيب أنت) أنّه ال َ‬
‫ُ‬ ‫أن معىن‬‫احلبيب) من فرق يف املعىن؛ وذاك َّ‬
‫ُ‬ ‫و(أنت‬
‫َ‬ ‫تني‪(:‬احلبيب أنت)‬
‫ُ‬ ‫العبار‬
‫يقتسمها شخصان‪ ،‬كما جاء عن بعض‬ ‫ني َمثَل ٍ‬
‫نفس‬ ‫ِ‬ ‫وبني من حتبُّه إذا ص َدقَ ِ‬
‫ت احملبَّةُ‪ ،‬و َّ‬
‫ُ‬ ‫ثل املتحابـَّ ْ ُ‬
‫أن َم َ‬ ‫َ‬ ‫َ َْ‬
‫لت أن‬
‫لطيف ونكتةٌ شريفةٌ‪ ،‬ولو حاو َ‬
‫فرق ٌ‬ ‫أنت إال أنه غريُك‪ ،‬فهذا ‪ -‬كما َترى ‪ٌ -‬‬ ‫احلبيب َ‬
‫ُ‬ ‫احلكماء أنه قال‪:‬‬
‫احلبيب) هو ما عناه‬
‫ُ‬ ‫قل من قولك‪( :‬أنت‬ ‫يصح‪َّ ،‬‬
‫ألن الذي يـُ ْع ُ‬ ‫لت ما ال ّ‬ ‫احلبيب) حاو َ‬ ‫ُ‬ ‫فيدها بقولك‪( :‬أنت‬ ‫تُ َ‬
‫املتنيب يف قوله ‪:‬‬
‫ّ‬
‫وب‬ ‫ّ َ ُ‬ ‫ْ‬ ‫احلبيب ولِ ِّ‬
‫كين أَعُوذُ ِبه ‪ِ ...‬من أ ْن أَ ُكو َن ُِحمباً غري َْحمب ِ‬
‫ُ‬ ‫أَنْ َ‬
‫ت‬
‫صه باحملبّة ِم ْن بني‬
‫َختَ ُّ‬
‫احلبيب) أنك أنت الذي أ ْ‬
‫ُ‬ ‫بني الغرضني؛ فاملعىن يف قولك‪( :‬أنت‬ ‫وال َخيفى بـُ ْع ُد ما َ‬
‫مبعىن‬
‫جيوز أن يكون (أخوك زيد) و(زيد أخوك) ً‬ ‫اجب أبداً‪ ،‬وأنه ال ُ‬ ‫الفرق و ٌ‬ ‫عرفت أن َ‬ ‫الناس‪ ،‬وإذا كان كذلك َ‬
‫‪2‬‬
‫واحد‪".‬‬

‫‪ )2‬التقديم والتأخير‪:‬‬
‫موضوع التقدمي والتأخري ‪-‬كأكثر مباحث علم املعاين‪ -‬مشرتك بني النحو والبالغة؛ فقد حتدث عنه سيبويه يف‬
‫كتابه‪ ،‬وأشار إىل سره يف الكالم‪ ،‬وذكر أنه يأيت للعناية واالهتمام‪ ،‬أو للتأكيد والتنبيه‪ ،‬وأنه يكون أحيانا لغري علة‬
‫بالغية‪.3‬‬
‫ومن املؤّكد أن سيبويه ‪-‬وهو الذي جعل سالمة الرتكيب غايته‪ -‬مل يكن ليهتم ببحث األسرار الفنّية لظاهرة‬
‫التقدمي والتأخري كبحث البالغيني هلا‪ ،‬ولكن مجهور اللغويني منذ سيبويه كانوا على وعي بأن التقدمي والتأخري‬
‫العامة يف ترتيب وحدات الرتكيب‪.‬‬
‫استثناء وخروج عن األصل أو القاعدة ّ‬
‫‪ -‬وقد أثارت قضية التقدمي والتأخري ‪-‬بوصفها ظاهرة أسلوبية يعدل إليها عن أصل مفرتض‪ -‬نقاشا ّ‬
‫هاما بني‬
‫العلماء‪ ،‬بني من يرى فيها عدوال يعتمد على االختيار‪ ،‬ومن يع ّدها نوعا من االضطرار‪ ،‬وهو اضطرار‬
‫تفرضه بعض القيود العروضية‪ ،‬أو املناسبات اللفظية‪ ،‬ولكن عبد القاهر يناصر الرأي األول‪ ،‬فينفي طابع‬
‫العشوائية والالمعىن عن ظاهرة التقدمي والتأخري‪ ،‬ويؤكد قيمتها األسلوبية وبعدها الفين بقوله‪" :‬واعلم أن من‬

‫‪-1‬عبد القاهر اجلرجاين‪،‬املصدر نفسه‪ ،‬ص ‪079‬‬


‫‪-2‬عبد القاهر اجلرجاين‪ ،‬دالئل اإلعجاز‪،‬مصدر سابق‪ ،‬ص ‪074‬‬
‫‪-3‬سيبويه عمرو بن عثمان‪ ،‬الكتاب‪ ،‬حتقيق‪ :‬عبد السالم حممد هارون‪ ،‬مكتبة اخلاجني‪ ،‬ط‪ ،3‬القاهرة‪0406 ،‬هـ‪0226،‬م‪ ،‬ص‪.0،34‬‬
‫‪83‬‬
‫يقسم األمر يف تقدمي الشيء وتأخريه قسمني؛ فيجعل مفيدا يف بعض الكالم‪ ،‬وغري مفيد يف‬ ‫اخلطإ أن ّ‬
‫بعض‪ ،‬وأن يعلّل تارة بالعناية‪ ،‬وأخرى بأنه توسعة على الشاعر والكاتب حىت تطّرد هلذا قوافيه‪ ،‬ولذلك‬
‫سجعه‪ ،‬ذاك ألن من البعيد أن يكون يف مجلة النظم ما يدل تارة وال يدل أخرى"‪.1‬‬
‫قسم‬ ‫كل تقدمي ينبغي أن يكون لغرض ولفائدة‪ ،‬وتلك قاعدة مطّردة‪ ،‬و"من اخلطأ أن يُ َّ‬ ‫‪ -‬وهكذا فإ ّن ّ‬
‫وغري مفيد يف بعض‪ ،‬وأ ْن يعلَّ َل تارًة‬ ‫ِ‬ ‫ني‪ ،‬فيجعل مفيداً يف ِ‬ ‫الشيء وتأخريه قسم ِ‬ ‫ِ‬ ‫األمر يف ِ‬
‫بعض الكالم َ‬ ‫تقدمي‬ ‫ُ‬
‫من‬ ‫افيه ولذاك سجعُه؛ ذاك َّ‬ ‫بالعناية‪ ،‬وأخرى بأنه توسعةٌ على الشاع ِر والكاتب‪ ،‬حىت تطَّرد هلذا قو ِ‬
‫ألن َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ِ‬
‫املفعول مثالً على الفعل‬ ‫ِ‬ ‫ثبت يف ِ‬
‫تقدمي‬ ‫يدل تارةً وال ُّ‬ ‫ِ‬
‫البعيد أ ْن يكو َن يف مجلة النظم ما ُّ‬
‫يدل أخرى‪ ،‬فمىت َ‬
‫وجب أن تكو َن تلك‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫يف كث ٍري من‬
‫مع التأخري‪ ،‬فقد َ‬ ‫اختص بفائدة ال تكو ُن تلك الفائدةُ َ‬ ‫َّ‬ ‫الكالم أنه قد‬
‫‪2‬‬
‫كل حال‪".‬‬ ‫ٍ‬
‫كل شيء و ّ‬ ‫قضيةً يف َ‬
‫الناس أنه يكفي‬ ‫ظنون ِ‬‫‪ -‬ال يكفي التعويل على االهتمام يف تفسري غرض التقدمي‪ ،‬خبالف ما وقع يف ِ‬
‫َ‬
‫أهم؟ وقد‬ ‫ْكر ِمن أين كانت تلك العنايةُ؟ ومبَ كان َّ‬ ‫أهم‪ ،‬من غري أن يُذ َ‬ ‫ذكره ُّ‬ ‫وألن َ‬‫يقال إِنه قُ ّدم للعناية‪َّ ،‬‬ ‫أن َ‬
‫أع َىن)‪،‬‬
‫بشأنه ْ‬‫أهم هلم وهم ِ‬ ‫(كأهنم يق ّدمون الذي بيانُه ُّ‬ ‫أورد اجلرجاين قول سيبويه يف تعليل تقدمي املفعول‪َّ :‬‬
‫فرأى أنه غري كاف يف اإلحاطة بأغراض التقدمي وأسراره‪ ،‬وذلك حبسب غرض املتكلّم وما يريد إبالغه وما‬
‫نسان ِ‬
‫بعينه‪ ،‬وال‬ ‫فعل ما أن يقع بِإ ٍ‬ ‫يهمه من أمر اخلرب الذي يريد إبالغه‪ ،‬ف ــ"قد تكون أغراض الناس يف ٍ‬
‫َ‬ ‫ّ‬
‫يعيث ويـُ ْف ِس ُد ويكثُر يف األذى أ ّهنم‬ ‫حاهلم يف ِ‬ ‫كمثل ما يعلم من ِ‬
‫اخلارجي َخيُرج فَ ُ‬‫ّ‬ ‫حال‬ ‫يُبالو َن من أوقَعه؛ ِ ُ‬
‫خبار بذلك فِإنه‬ ‫ِ‬
‫القتل منه‪ ،‬وال يَعنيهم منه شيءٌ‪ .‬فإذا قُتل وأر َاد مري ٌد ا ِإل َ‬ ‫يريدون قتلَه‪ ،‬وال يُبالون َم ْن كان ُ‬
‫للناس يف أ ْن‬‫اخلارجي زي ٌد‪ ،‬وال يقول‪ :‬قتل زي ٌد اخلارجي‪ ،‬ألنه يعلم أن ليس ِ‬ ‫َّ‬ ‫اخلارجي فيقول‪ :‬قَـتَ َل‬
‫َّ‬ ‫ذكر‬
‫قدم َ‬ ‫يُ َ‬
‫ّ‬ ‫َ‬
‫أن الذي‬ ‫مبسرِهتم‪ ،‬ويعلم ِمن ِ‬
‫حاهلم َّ‬ ‫ويهمهم ويتصل َّ‬ ‫ذكره ُّ‬ ‫ِ‬
‫ُ‬ ‫القاتل له زي ٌد جدوى وفائدة فيعنيهم ُ‬ ‫يعلموا أن َ‬
‫شره وختلّصوا‬ ‫املفس ِد‪ ،‬وأَهنم قد ُك ُفوا َّ‬ ‫القتل باخلارجي ِ‬
‫َّ‬ ‫هم متوقّعون له ومتطلّعون إِليه‪ ،‬مىت يكو ُن وقوعُ ِ‬
‫‪3‬‬
‫منه‪".‬‬
‫أقررتَه‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫‪ -‬التقدمي نوعان‪ :‬تقدمي على نية التأخري‪ ،‬وتقدمي ال على نية التأخري‪ ،‬فأما‬
‫التقدمي على نيَّة التأخري فهو ما ْ‬
‫جنسه الذي كا َن فيه‪ ،‬كخ ِرب املبتدأ إِذا قَد َّْمتَه على املبتدأ‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫كمه الذي كان عليه‪ ،‬ويف‬ ‫التقدمي على ح ِ‬ ‫ِ‬ ‫مع‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫فمعلوم أن (منطلق) و(عمراً) مل‬ ‫و(ضرب عمراً زي ٌد)‪،‬‬ ‫(منطلق زي ٌد)‬
‫ٌ‬ ‫املفعول إِذا قدمتَه على الفاعل‪ ،‬كقولك‬ ‫و ِ‬
‫ٌ‬ ‫َ‬

‫‪-1‬عبد القاهر اجلرجانيدالئل اإلعجاز‪،‬مصدر سابق‪ ،‬ص‪.091‬‬


‫‪ -2‬عبد القاهر اجلرجاين‪،‬دالئل اإلعجاز‪ ،‬مصدر سابق ‪ ،‬ص ‪091‬‬
‫‪-3‬عبد القاهر اجلرجاين‪،‬املصدر نفسه‪ ،‬ص ‪002‬‬
‫‪84‬‬
‫كون ذلك مفعوالً ومنصوباً من أجله‬ ‫كون هذا خرب مبتدأ ومرفوعاً بذلك‪ ،‬و ِ‬
‫عما كانا عليه من ِ‬ ‫َخيرجا بالتقدمي َّ‬
‫َ‬
‫‪1‬‬
‫رت‪.‬‬
‫أخ َ‬‫كما يكو ُن إِذا َّ‬
‫غري‬ ‫ِ ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬
‫غري بابه‪ ،‬وإعراباً َ‬ ‫وّتعل له باباً َ‬
‫تنقل الشيءَ عن ُحكم إىل حكم‪َ ،‬‬ ‫وأما التقدمي ال على نيَّة التأخري فهو أن َ‬
‫اآلخر خرباً له‪ ،‬فتق ّد ُم تارةً هذا‬ ‫ويكون‬ ‫ً‬
‫أ‬ ‫مبتد‬ ‫ن‬
‫َ‬ ‫يكو‬ ‫أن‬ ‫منهما‬ ‫كل و ٍ‬
‫احد‬ ‫حيتمل ُّ‬ ‫ابه؛ وذلك أن ّتيء إىل امس ِ‬
‫ني‬ ‫إِعر ِ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫‪2‬‬
‫على ذاك‪ ،‬وأخرى ذاك على هذا‪".‬‬
‫ويفرق يف االستفهام بني اخلرب االبتدائي واخلرب غري االبتدائي من حيث إن اخلرب االبتدائي ال يكون املخاطَب‬‫‪ّ -‬‬
‫عاملا بوقوعه أصال‪ ،‬أما اخلرب غري االبتدائي فيكون املخاطَب على علم به‪ ،‬ولكنّه يسأل عن تفصيل يتعلّق به‪.‬‬
‫يف اخلرب االبتدائي يق ّدم الفعل‪ ،‬ويف اخلرب غري االبتدائي يق ّدم احمل ّدث عنه بالفعل‪ ،‬وهذا هو الفرق بني (أفعلت)‬
‫ِ‬
‫استفهامك‬ ‫غرضك من‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫و(أأنت فعلت)‪ ،‬فِإذا قلت‪:‬‬
‫الشك يف الفعل نفسه‪ ،‬وكان ُ‬‫فبدأت بالفعل كان ُّ‬ ‫َ‬ ‫(أفعلت؟)‬
‫َ‬
‫الشك يف ِ‬
‫الفاعل َمن هو‪ ،‬وكان‬ ‫فبدأت باالس ِم‪ ،‬كان ُّ‬
‫َ‬ ‫فعلت)؟‬
‫(أأنت َ‬
‫قلت‪َ :‬‬ ‫وجوده (فهو ابتدائي)‪ ،‬وإِذا َ‬
‫تعلم َ‬ ‫أن َ‬
‫الرتد ُد فيه‪( 3،‬وهو يف هذه احلالة غري ابتدائي)‪.‬‬
‫ُّ‬

‫بت زيداً وال ضربَه أح ٌد‬


‫قلت هذا وال قالَه أح ٌد من الناس)‪ ،‬و(ما ضر ُ‬
‫تقول‪( :‬ما ُ‬ ‫يصح لك أن َ‬ ‫وعلى ذلك ّ‬
‫بت‬ ‫ِ‬
‫قلت هذا وال قالَه أح ٌد من الناس)‪ ،‬و(ما أنا ضر ُ‬
‫قلت‪( :‬ما أنا ُ‬
‫يصح ذلك يف الوجه اآلخر؛ فلو َ‬ ‫سواي)‪ ،‬وال ّ‬
‫الضارب زيداً ِ‬
‫أمس)‪،‬‬ ‫َ‬ ‫(لست‬
‫ُ‬ ‫َّناقض مبنز ِلة أن َ‬
‫تقول‪:‬‬ ‫زيداً وال ضربه أح ٌد سواي) كان ُخ ْلفاً من القول‪ ،‬وكان يف الت ِ‬
‫فتقول من‬
‫ضرب‪ ،‬مث ّتيءُ ُ‬ ‫فتثبت أنه قد ُ‬
‫ضربه أح ٌد من الناس)‪ُ ،‬‬ ‫تقول من بَعده‪( :‬ما َ‬ ‫ضرب مث ُ‬ ‫ت أنه قد ُ‬‫فَـتُثْبِ ُ‬
‫بعده‪( :‬وما ضربه أح ٌد من الناس)‪.‬‬

‫بت إالّ‬ ‫بت إِالّ زيداً)‪ ،‬فيكو ُن كالماً مستقيماً‪ ،‬ولو َ‬


‫قلت‪( :‬ما أنا ضر ُ‬ ‫تقول‪( :‬ما ضر ُ‬ ‫من األمرين أنّك ُ‬‫والثاين َ‬
‫ضمريك وإِيالؤه‬
‫بت زيداً‪ ،‬وتقدمیُك َ‬ ‫نقض النَّفي بــ(إِالّ) يقتضي أن تكو َن ضر َ‬
‫من القول‪ ،‬وذلك ألن َ‬ ‫زيداً)كان لَ ْغواً َ‬
‫‪4‬‬
‫نفي أن تكو َن ضربتَه‪ ،‬فهما يتدافعان‪".‬‬
‫حرف النفي يقتضي َ‬ ‫َ‬
‫املستفهم عنه يف اخلرب غ ِري االبتدائي حبسب قصد الكالم وما يدل عليه من اللفظ‪ ،‬فإذا قلنا يف مثل‪:‬‬
‫َ‬ ‫‪ -‬يكون‬
‫أتاك؟ ولكنَّا‬
‫الرجل أم املرأة َ‬
‫يقال‪ُ :‬‬ ‫أتاك أم امرأة؟) إن السؤ َال عن اجلنس مل نُِرْد بذلك أنه مبنز ِلة أن َ‬
‫(أرجل َ‬
‫ٌ‬
‫جنس النساء؟ فالنكرةُ إذاً على أصلها‬ ‫ِ‬
‫الرجال أم ِ‬ ‫سألت عن اآليت‪ ،‬أهو من جنس‬ ‫نعين أن املعىن على أنك َ‬
‫وإمنا وقع إىل ِ‬ ‫ِ‬ ‫كوهنا لو ٍ‬
‫من ِ‬
‫كونه من جنس‬ ‫يقع إىل كونه واحداً‪َ َّ ،‬‬ ‫القصد منك مل ْ‬ ‫َ‬ ‫احد من اجلنس‪ ،‬إالّ َّ‬
‫أن‬

‫‪-1‬عبد القاهر اجلرجاين‪،‬املصدر نفسه‪ ، ،‬ص ‪008‬‬


‫‪-2‬عبد القاهر اجلرجاين‪،‬املصدر نفسه‪ ، ،‬ص ‪008‬‬
‫‪-3‬عبد القاهر اجلرجاين‪،‬دالئل اإلعجاز‪ ،‬مصدر سابق‪ ، ،‬ص ‪090‬‬
‫‪-3‬عبد القاهر اجلرجاين‪،‬املصدر نفسه‪ ،‬ص ‪033‬‬
‫‪85‬‬
‫القصد منك إىل كونِه واحداً دون كونِه‬ ‫ُ‬ ‫(أرجل أتاك أم رجالن) كان‬ ‫ٌ‬ ‫قلت‪:‬‬
‫وعكس هذا أنك إذا َ‬ ‫ُ‬ ‫الرجال‪،‬‬
‫القصد إىل ِ‬
‫أحدمها دو َن‬ ‫ُ‬ ‫دليل على أمري ِن‪ ،‬مث ُ‬
‫يقع‬ ‫رجالً‪ ،‬فاعرف ذلك أصالً؛ وهو أنه قد يكو ُن يف اللفظ ٌ‬
‫‪1‬‬
‫داللة اللفظ‪".‬‬‫القصد كأنَّه مل يدخل يف ِ‬ ‫ِ‬ ‫اآلخر بأن مل يَ ْد ُخ ْل يف‬ ‫ِ‬
‫ْ‬ ‫اآلخر‪ ،‬فيصريُ ُ‬
‫‪ -‬واملعىن يف ترتيب عناصر اجلملة مع مهزة االستفهام يبقى قائما حني تكون اهلمزة للتقرير‪" ،‬فِإذا‬
‫قول منروذ ‪(:‬‬ ‫يبني ذلك قوله تعاىل حكايةً عن ِ‬ ‫تقرَره بأنه الفاعل‪ُّ ،‬‬
‫ُ‬ ‫غرضك أن ّ‬ ‫فعلت ذاك) كان ُ‬ ‫قلت (أأنت َ‬ ‫َ‬
‫ْت هذا بآلِ َهتِنا يَا إِبْـ َر ِاه ْي ُم )‪ ،‬ال ُشْبـ َهةَ يف َّأهنم مل يقولوا ذلك له ‪-‬عليه السالم‪ -‬وهم يريدون أن‬ ‫ت فَـ َعل َ‬ ‫أَأَنْ َ‬
‫بأن كسر األصنام قد كا َن‪ ،‬ولكن أن ي ِقَّر بأنَّه منه كان‪ ،‬وقد أشاروا له إِىل ِ‬ ‫ِ‬
‫قوهلم‪(:‬أأنت‬
‫َ‬ ‫الفعل يف‬ ‫ُ‬ ‫يُقَّر هلم َّ َ‬
‫ِ‬
‫بالفعل لكان‬ ‫كبيرهم هذا)‪ ،‬ولو كان التقر ُير‬ ‫فعلت هذا)‪ ،‬وقال هو عليه السالم يف اجلواب ‪(:‬بل فعلَهُ ُ‬ ‫َ‬
‫‪2‬‬
‫(فعلت) أو (مل أَفْـ َع ْل)‪".‬‬
‫ُ‬ ‫اب‬
‫اجلو ُ‬
‫وهكذا فإن ترتيب اجلملة يف االستفهام يناظر ترتيبها يف اخلرب‪ ،‬وال جيوز أن يكون لنظم الكالم وترتيب‬
‫من‬
‫طلب َ‬ ‫استخبار‪ ،‬واالستخبار هو ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫االستفهام‬
‫َ‬ ‫أجزائه يف االستفهام معىن ال يكون له يف اخلرب‪" ،‬وذاك َّ‬
‫أن‬
‫ِ‬
‫االستفهام‪،‬‬ ‫تقدمي االس ِم وتأخريهِ يف‬‫بني ِ‬ ‫احلال َ‬
‫يفرتق ُ‬ ‫املخاطب أن ُخيربك‪ ،‬فِإذا كان كذلك‪ ،‬كان ُحماالً أن َ‬
‫اق يف اخلرب‪ ،‬ويكون‬ ‫‪(:‬أقام زي ٌد)‪ ،‬مث ال يكو ُن هذا االفرت ُ‬ ‫َ‬ ‫قلت‬
‫غريه إذا َ‬
‫قلت‪( :‬أزي ٌد قام) َ‬ ‫فيكون املعىن إذا َ‬
‫اب‪ ،‬وأن‬ ‫قولُك‪( :‬زي ٌد قام) و(قام زي ٌد) سواء؛ ذاك ألنه يؤدي إىل أن تستعــلِمه أمراً ال سبيل فيه إىل جو ٍ‬
‫َ‬
‫تستثبتَه املعىن على وج ٍه ليس عنده عبارة يثبتُه َ‬
‫‪3‬‬
‫لك هبا على ذلك الوجه‪".‬‬
‫علم بالذي‬ ‫الرجل‪ :‬ليس يل ٌ‬ ‫يقول ُ‬ ‫‪ -‬يق ّدم االسم على الفعل يف ما سبق فيه إنكار من ُمْنك ٍر‪ ،‬حنو أن َ‬
‫أقول‪ ،‬ولكنك متيل إىل خصمي‪ ،‬وكقول الناس‪ :‬هو يعلم ذاك‬ ‫األمر على ما ُ‬ ‫أن َ‬ ‫تعلم َّ‬
‫أنت ُ‬ ‫فتقول له‪َ :‬‬ ‫تقول‪ُ ،‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ب فيما قال وإ ْن حلَف عليه‪ ،‬وكقوله تعاىل‪َ (:‬ويَـ ُقولُو َن على اللَّه ال َكذ َ‬
‫ب َو ُه ْم‬ ‫علم ال َكذ َ‬‫وإن أنكر‪ ،‬وهو يَ ُ‬
‫يَـ ْعلَ ُمو َن) سورة آل عمران اآلية‪ّ ، 78‬أما ما ال يكون فيه شك وال إنكار‪ ،‬فال يق ّدم فيه االسم على الفعل‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫"فِإذا‬
‫حتتج إىل أن‬ ‫قلت‪( :‬قد خر َج)‪ ،‬ومل ْ‬ ‫كل غداة َ‬ ‫رج ٍل من عادته أن خير َج يف َ‬ ‫أخربت باخلروج مثالً عن ُ‬ ‫َ‬
‫ذكر‬ ‫ٍ‬
‫فتحتاج أن حت ّق َقه‪ ،‬وإىل أن تق ّد َم فيه َ‬ ‫ُ‬ ‫ك فيه السامع‬ ‫بشيء يَ ُش ُّ‬ ‫ليس‬
‫تقول‪( :‬هو قد خر َج)‪ ،‬ذاك ألنه َ‬ ‫َ‬
‫شك‬‫املضي إىل موض ٍع‪ ،‬ومل يكن ٌّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ٍ‬ ‫ِ‬
‫السامع من حال رجل أنه على نيَّة الركوب و ّ‬ ‫ُ‬ ‫علم‬
‫احملدَّث عنه‪ ،‬وكذلك إذا َ‬
‫ِ‬
‫كب)‪ ،‬فإِن َ‬
‫جئت‬ ‫تقول ‪(:‬هو قد ر َ‬ ‫ب)‪ ،‬وال ُ‬ ‫تقول‪( :‬قد رك َ‬‫ب كان خربُك فيه أن َ‬ ‫ب أو ال يرَك ُ‬ ‫تردد أنه يرَك ُ‬ ‫و ُّ‬
‫حينئذ؛ وذلك قولُك‪( :‬جئتُه وهو قد ركب)‪ ،‬وذاك َّ‬
‫أن‬ ‫كالم ووضعته بعد واو احلال حسن ٍ‬ ‫صلة ٍ‬ ‫مبثل هذا يف ِ‬ ‫ِ‬
‫َ َُ‬ ‫َ‬

‫‪-1‬عبد القاهر اجلرجاين‪،‬املصدر نفسه‪ ،‬ص ‪045‬‬


‫‪-2‬عبد القاهر اجلرجاين‪،‬دالئل اإلعجاز‪،‬مصدر سابق ص ‪094 ،093‬‬
‫‪-3‬عبد القاهر اجلرجاين‪،‬املصدر نفسه‪ ، ،‬ص ‪043 ،049‬‬
‫‪86‬‬
‫األمر مبع ِرض الشك‪ ،‬وذاك أنه إِمنا ُ‬
‫يقول هذا‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫احلكم يتغريُ إذا صارت اجلملةُ يف مثل هذا املوضع‪ ،‬ويصريُ ُ‬ ‫َ‬
‫ِ‬
‫يصل إليه من قَـْب ِل أ ْن ير َ‬
‫‪1‬‬
‫كب‪".‬‬ ‫من ظَ َّن أنه يصادفُه يف منزله‪ ،‬وأن َ‬
‫‪ -‬كما يتق ّدم ذكر االسم على الفعل فيما كان خربا على خالف العادة‪ ،‬ويف الوعد و ِ‬
‫املدح‪ ،‬حنو أن‬
‫العظيم وهو يَـ ْع ََي باليس ِري‪ ،‬ويزعم أنه شجاعٌ وهو يَـ ْفَزع من أدىن شيء‪.‬‬
‫َ‬ ‫ب من فالن ي ّدعي‬
‫تعج ُ‬
‫نقول‪ :‬أال َ‬
‫َ‬
‫أقوم هبذا األمر‪،‬‬ ‫ِوممّا َْحيسن ذلك فيه ويكْثُر الو ْع ُد والضَّما ُن‪ِ ،‬‬
‫أكفيك‪ ،‬أنا ُ‬ ‫َ‬ ‫أعطيك‪ ،‬أنا‬
‫َ‬ ‫كقول الرجل‪ :‬أنا‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫الوعد‪ ،‬ويف ِ‬ ‫متام ِ‬ ‫الشك يف ِ‬ ‫شأن من تَعِ ُده‬‫أن ِمن ِ‬
‫أحوج‬
‫الوفاء به‪ ،‬فهو من ِ‬ ‫يعرتضه ّ‬ ‫َ‬ ‫وتضمن له أن‬‫ُ‬ ‫وذلك َّ ْ‬
‫ّتود‬ ‫يل‪ ،‬أنت تفري يف امل ِ‬ ‫ٍ‬
‫حل‪ ،‬أنت ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ز‬ ‫اجل‬ ‫عطي‬ ‫ت‬
‫ُ‬ ‫أنت‬ ‫لك‪:‬‬ ‫و‬ ‫كق‬ ‫‪،‬‬ ‫املدح‬
‫ِ‬ ‫يف‬ ‫ر‬
‫ُ‬ ‫ـ‬
‫ُ‬‫ث‬ ‫ك‬
‫ْ‬ ‫ي‬ ‫كذلك‬ ‫و‬ ‫َّأكيد‪،‬‬ ‫ت‬ ‫ال‬ ‫إىل‬ ‫شيء‬
‫جيود أحد‪ ،‬وكما قال‪:‬‬ ‫حني ال ُ‬ ‫َ‬
‫ض ال َق ْوِم َخيْلُ ُق مثّ ال يَـ ْفري‬ ‫ت وبعـ ـ ُ‬ ‫ت تَـ ْفري ما َخلَ ْق َ‬ ‫وألَنْ َ‬
‫وكقول اآلخر ‪:‬‬
‫‪2‬‬
‫َْحن ُن يف امل ْشتاةِ نَ ْدعُو اجلََفلى ‪...‬‬
‫َ‬
‫‪ -‬حكم الفعل املضارع تقدمیا وتأخريا يف سياق االستفهام باهلمزة هو حكم الفعل املاضي؛ بيان‬
‫احلال‬
‫أردت َ‬‫احلال أواالستقبال‪ ،‬فِإ ْن َ‬ ‫يد َ‬ ‫عل؟) مل خيْ ُل من أن تر َ‬ ‫‪(:‬أتفعل؟)‪ ،‬و(أأنت تَـ ْف ُ‬ ‫ُ‬ ‫ذلك "أنك إِذا َ‬
‫قلت‬
‫تقرَره ٍ‬
‫بفعل هو‬ ‫أردت أن ّ‬‫(أتفعل؟) كان املعىن على أنك َ‬ ‫ُ‬ ‫كان املعىن َشبيهاً مبا مضى يف املاضي‪ ،‬فِإذا َ‬
‫قلت‪:‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫تفعل؟) كان املعىن على‬‫‪(:‬أأنت ُ‬ ‫قلت َ‬ ‫الفعل كائن‪ ،‬وإِذا َ‬ ‫أن َ‬ ‫باحلقيقة َّ‬ ‫يعلم‬
‫كنت كمن يُوهم أنه ال ُ‬ ‫يفعلُه‪ ،‬و َ‬
‫وجوده ظاهراً حبيث ال ُحيتاج إِىل ا ِإلقرا ِر بأنه كائن‪ ،‬وإِن‬ ‫يد أن تقرره بأنه الفاعل‪ ،‬وكان أمر الفعل يف ِ‬ ‫أنك تر ُ‬
‫ُْ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬
‫وتزعم‬ ‫ِ ِِ‬ ‫ِ‬ ‫املستقبل كان املعىن إِذا َ‬
‫بالفعل على أنّك تعمد باإلنكار إىل الفعل نفسه‪ُ ،‬‬ ‫بدأت‬ ‫َ‬ ‫أردت بـ ـ ـ (أتفعل؟)‬ ‫َ‬
‫أنّه ال يكو ُن‪ ،‬أو أنَّه ال يَـْنبغي أ ْن يكون‪ ،‬فمثال األول‪:‬‬
‫ياب أَ ْغ َو ِال‬
‫اجعي ‪ ...‬ومسنُونَةٌ ُزر ٌق َكأَنْ ِ‬ ‫يف مض ِ‬
‫ْ‬ ‫َْ‬ ‫أَيَـ ْقتُـلُِين وامل ْشَرِ ُّ ُ َ‬
‫ِ‬ ‫ٍ‬
‫ويستطيعه‪.‬‬
‫َ‬ ‫يقدر على ذلك‬ ‫نكار أن َ‬ ‫تكذيب منه ِإلنسان َهتدَّدهُ بالقتل‪ ،‬وإ ُ‬ ‫ٌ‬ ‫فهذا‬
‫مقيم على ما‬ ‫ومثلُه أن يطمع طامع يف أم ٍر ال يكو ُن مثلُه فتجهله يف ِ‬
‫عنك فال ٌن وأنت ٌ‬ ‫طمعه فتقول‪ :‬أيرضى َ‬ ‫ّ‬ ‫َ ٌ‬
‫موها وأنتُ ْم لها كا ِرهون)‪ُ ،‬‬
‫ومثال‬ ‫وصنعت؟ وعلى ذلك قولُه تعاىل‪(:‬أنُـ ْل ِزُم ُك َ‬
‫َ‬ ‫فعلت‬
‫حتب وقد َ‬‫عنده ما ُّ‬
‫أّتد َ‬ ‫يكرهُ؟ ُ‬
‫ك للرجل‬ ‫الوقت؟ أتذهب يف غ ِري الطَّريق؟ أتغرر ِ‬
‫بنفسك؟ وقولُ َ‬ ‫للرجل يركب اخلَطر‪( :‬أخترج يف هذا ِ‬
‫الثّاين قولُك َّ‬
‫ُّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫معهُ أل ْن تغيَّـَر الزما ُن؟ كما قال‪:‬‬ ‫حسان فُ ٍ‬
‫احلق‪ :‬أَتَـْنسى قَدمي إِ ِ‬
‫وتتغري عن حالك َ‬ ‫صحبتَه َّ‬
‫أترتك ُ‬
‫الن؟ ُ‬ ‫َ‬ ‫ضيع َّ َ‬ ‫يُ ُ‬

‫‪-1‬عبد القاهر اجلرجاين‪،‬املصدر نفسه‪ ،‬ص ‪040‬‬


‫‪-2‬عبد القاهر اجلرجاين‪،‬دالئل اإلعجاز‪،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪035‬‬
‫‪87‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ٍِ‬
‫ـئيم‬
‫يارتَـ ـ ـ ــهُ إنـّ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــي إذاً لَلَـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُ‬ ‫أَأَتْـ ُرك إِ ْن قَـلَّ ْ‬
‫ت َدراه ُم خالد ‪ِ ...‬ز َ‬
‫يفعل‬
‫(أهو ُ‬
‫قلت‪َ :‬‬
‫(أأنت تَـ ْف َع ُل؟) أو َ‬ ‫بدأت باالس ِم َ‬
‫فقلت‪َ :‬‬ ‫الفعل‪ ،‬فِإن َ‬ ‫مجُْلةُ األمر أنَّك تَـْنحو با ِإلنكا ِر حنو ِ‬
‫‪1‬‬
‫الفعل‪".‬‬ ‫نفس املذكوِر‪ ،‬و َ‬ ‫نكار إِىل ِ‬
‫ت ا ِإل َ‬
‫أبيت أن تكو َن مبوض ِع أ ْن جييءَ منه ُ‬ ‫)كنت َو َّج ْه َ‬
‫َ‬
‫‪ -‬تقدمي الفعل مع النفي جيعل اخلرب ابتدائيا‪ ،‬أما تقدمي االسم فيجعل اخلرب غري ابتدائي‪" ،‬ومما هو‬
‫وجود الفعل قولُه ‪:‬‬
‫مثال بَـ ّني يف أ ّن تقدميَ االسم يقتضي َ‬
‫ت يف ال َق ْل ِ‬
‫ب نارا‬ ‫ت ِج ْسمي بِِه ‪َ ...‬وال أنا أ ْ‬
‫َضَرْم ُ‬ ‫َس َق ْم ُ‬
‫وما أنا أ ْ‬ ‫َ‬
‫لكن إىل أن يكو َن هو اجلالب له‪ ،‬ويكون قد‬ ‫القصد بالنفي إليه‪ ،‬و ْ‬ ‫ُ‬ ‫موجود‪ ،‬وليس‬
‫ٌ‬ ‫ثابت‬
‫قم ٌ‬ ‫الس َ‬‫فاملعىن‪ :‬أن ُّ‬
‫َجَّره إىل نفسه‪.‬‬
‫الوضوح قولُه ‪:‬‬
‫ِ‬ ‫ومثلُه يف‬
‫الشعر كلَّهُ‬‫قلت ذا ّ‬ ‫وحدي ُ‬ ‫وما أنا ْ‬
‫‪2‬‬
‫القائل له‪".‬‬
‫وحده َ‬ ‫مقول على ال َقطْع‪ ،‬والنفَّي أل ْن يكو َن هو َ‬ ‫فالشعر ٌ‬ ‫ُ‬
‫حرف‬
‫أن "املعىن يف إدخالك َ‬ ‫يتماثل ترتيب اجلملة بني االستفهام واجلواب حبسب غرض املستف ِهم‪ ،‬وذلك َّ‬
‫ملة من الكالم هو أنّك تطلب أن ي ِق َفك يف معىن تلك اجلملة ومؤَّداها على ٍ‬
‫إثبات أو نَـ ْفي‪،‬‬ ‫االستفهام على اجل ِ‬
‫ََ‬ ‫ُ َ‬ ‫ُ‬
‫منطلق)‪ ،‬وإذا كان‬
‫ٌ‬ ‫يقول ‪( :‬ال‪ ،‬ما هو‬ ‫منطلق) أو َ‬ ‫ٌ‬ ‫يقول لك‪(:‬نَـ َعم هو‬ ‫فأنت تطلب أ ْن َ‬ ‫منطلق؟) َ‬ ‫ٌ‬ ‫قلت‪( :‬أزي ٌد‬‫فِإذا َ‬
‫وجه ال تكو ُن هي‬‫ذلك كذلك‪ ،‬كان ُحماالً أن ال تكو َن اجلملةُ إذا دخلْتها مهزةُ االستفهام استخباراً ع ِن املعىن على ٍ‬

‫إذا نُِز َع ْ‬
‫‪3‬‬
‫ت منها اهلمزةُ إخباراً به على ذلك الوجه‪".‬‬
‫جل جاءَين) مل‬‫(ر ٌ‬ ‫‪ -‬يأخذ اإلخبار حكم االستفهام يف تقدمي االسم على الفعل أو تأخريه عنه؛ فِإذا َ‬
‫قلت‪َ :‬‬
‫رف أ ْن قد أتاك‬‫كالمك مع َمن قد َع َ‬ ‫رجل ال امرأة‪ ،‬ويكو َن ُ‬ ‫َن الذي جاءك ٌ‬ ‫علمه أ َّ‬
‫يد أَن تُ َ‬ ‫حىت تر َ‬ ‫يَصلُ ْح ّ‬
‫ٍ ِ‬
‫(رجل‬
‫ٌ‬ ‫قلت‪:‬‬
‫الفعل‪ ،‬وكذلك إ ْن َ‬ ‫ِّم َ‬ ‫رجل)‪ ،‬فتُـ َقد َ‬‫تقول‪( :‬جاءَين ٌ‬ ‫اجب أن َ‬ ‫آت‪ .‬فإن مل تُِرْد ذاك‪ ،‬كان الو ُ‬
‫‪4‬‬
‫السامع قد ظَ َّن أنه قد أتاك أو َّنزلْتَه َم ْن ظَ َّن ذلك‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫جاءَين) مل يستَ ِق ْم حىت يكو َن‬
‫‪ -‬لتقدمي االسم على الفعل يف اخلرب املثبت أغراض ومعان دقيقة كإفادة التنبيه والتوكيد وزيادة‬
‫فقلت‪:‬‬
‫الفعل عليه َ‬ ‫ت َ‬ ‫ذكره ُمثَّ بَـنَـْي َ‬
‫ت َ‬ ‫بفعل فقدَّم َ‬ ‫أردت أن حت ّدث عنه ٍ‬ ‫عمدت إىل الذي َ‬ ‫َ‬ ‫اإلثبات‪" ،‬فِإذا‬
‫أن املعىن يف هذا‬ ‫ِ‬
‫الفاعل‪ ،‬إال َّ‬ ‫القصد إىل‬
‫ُ‬ ‫فعلت) اقتضى ذلك أن يكو َن‬ ‫و(أنت َ‬ ‫َ‬ ‫ت)‬
‫فعل) و(أنا فَـ َع ْل ُ‬ ‫(زي ٌد قد َ‬

‫‪-1‬عبد القاهر اجلرجاين‪،‬املرجع نفسه‪ ،‬ص ‪098‬‬


‫‪-2‬عبد القاهر اجلرجاين‪ ،‬دالئل اإلعجاز‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص ‪039‬‬
‫‪-3‬عبد القاهر اجلرجاين‪،‬املصدر نفسه‪ ،‬ص ‪044‬‬
‫‪-4‬عبد القاهر اجلرجاين‪،‬املصدر نفسه‪ ،‬ص ‪044‬‬
‫‪88‬‬
‫تنص فيه على‬ ‫أردت أن َّ‬ ‫ِ‬
‫الفعل فعالً قد َ‬ ‫ُ‬ ‫يكون‬ ‫أن‬ ‫وهو‬ ‫‪،‬‬ ‫كل‬
‫ُ‬ ‫ش‬
‫ْ‬ ‫ي‬ ‫ال‬ ‫جلي‬
‫ٌّ‬ ‫ا‬ ‫أحدمه‬
‫ُ‬ ‫قسمني‪:‬‬ ‫ينقسم‬
‫ُ‬ ‫القصد‬
‫كتبت يف‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫تقول‪( :‬أنا ُ‬ ‫ومثال ذلك أن َ‬ ‫كل أحد‪ُ ،‬‬ ‫وتزعم أنه فاعلُهُ دو َن واحد آخر‪ ،‬أو دو َن ّ‬ ‫واحد فتجعلُه له‪ُ ،‬‬
‫وترد‬
‫يل االشتباهَ فيه‪َّ ،‬‬ ‫االستبداد به‪ ،‬وتُز َ‬
‫َ‬ ‫عي االنفر َاد بذلك و‬ ‫يد أن ت ّد َ‬‫ت يف بابه) تر ُ‬ ‫شفع ُ‬
‫معىن فالن)‪ ،‬و(أنا ْ‬
‫‪1‬‬
‫ب فيه كما كتبت‪.‬‬ ‫أن غريك قد َكتَ َ‬ ‫أن ذلك كان من غ ِريك‪ ،‬أو َّ‬ ‫زعم َّ‬‫على من َ‬
‫تأخر عنه‪ ،‬ف ــ"إِذا‬‫االسم النكرة على الفعل يف سياق االستفهام‪ ،‬أفاد معىن غري املعىن إذا ّ‬ ‫ُ‬ ‫‪ -‬إذا تق ّدم‬
‫الر ِ‬ ‫يد أن تسأله ‪:‬هل كا َن جميء ِمن ٍ‬
‫َّمت االسم‬ ‫جال إليه‪ ،‬فِإن قد َ‬ ‫أحد من ِّ‬ ‫ٌ ْ‬ ‫ُ‬ ‫رجل؟) فأنت تر ُ‬ ‫قلت‪( :‬أجاءَك ٌ‬ ‫َ‬
‫ِ‬
‫ك إِذا َ‬
‫كنت‬ ‫أرجل هو أم امرأة‪ ،‬ويكو ُن هذا مْن َ‬‫فأنت تسالُه عن جْنس َم ْن جاءه‪ٌ ،‬‬ ‫(أرجل جاءك؟) َ‬ ‫ٌ‬ ‫فقلت ‪:‬‬
‫َ‬
‫تعرف‬
‫أردت أن َ‬ ‫ٍ‬
‫جنس ذلك اآليت‪ ،‬فسبيلُك يف ذلك سبيلُك إذا َ‬ ‫تعلم َ‬ ‫علمت أنه قد أتاه آت‪ ،‬ولكنَّك مل ْ‬ ‫َ‬
‫املسألة األوىل؛ ألَن تقدميَ االسم‬‫ِ‬ ‫جيوز تقدميُ االسم يف‬ ‫عمرو؟)‪ ،‬وال ُ‬ ‫ني اآليت فقلت‪( :‬أزي ٌد جاءك أم ٌ‬ ‫َع ْ َ‬
‫ثالث‪ ،‬وإِذا‬
‫جنسه وال َ‬ ‫عينه أو عن ِ‬ ‫يكون إِذا كان السؤ ُال عن الفاعل‪ ،‬والسؤ ُال ع ِن الفاعل يكو ُن إما عن ِ‬
‫ّ‬ ‫َ‬
‫يد السؤ َال عن اجلنس‪ ،‬ألَنَّه ال يكو ُن لسؤالك‬ ‫أنت ال تر ُ‬ ‫االسم النكرةَ و َ‬
‫َ‬ ‫ِّم‬
‫كان كذلك كان ُحماالً أن تُـ َقد َ‬
‫فيسأل هبا عنه‪ ،‬فِإ ْن‬ ‫ني ٍ‬ ‫دل على ع ِ‬ ‫بعد اجلنس إالّ العني‪ ،‬والنكرةُ ال تَ ُّ‬ ‫ٍ‬
‫ُ‬ ‫شيء‬ ‫ث ال يبقى َ‬ ‫حينئذ متعلَّ ٌق من َحْي ُ‬
‫الرجال أم قِصا ِرهم‪ ،‬فإِن‬
‫جنس ِطو ِال ِ‬ ‫طويل جاءَ َك أم قصري؟) كان السؤ ُال عن أن اجلائي من ِ‬ ‫(أرجل ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫قلت‪:‬‬
‫َ‬
‫رجل مل تعرفه؟) كان السؤ ُال عن‬ ‫أعطاك هذا أم ٌ‬ ‫َ‬ ‫كنت عرفتَه من قَـْب ُل‬
‫‪(:‬أرجل َ‬
‫ٌ‬ ‫فقلت‬
‫وصفت النكرَة باجلملة َ‬ ‫َ‬
‫‪2‬‬
‫قبل أم كان إنساناً مل تتقدم منه معرفةٌ‪".‬‬
‫املعطي أكان ممّن عرفَه ُ‬
‫ْ‬
‫‪ -‬ومن ظواهر التقدمي والتأخري تقدمي املفعوالت حبسب املعىن املراد‪ ،‬كما يف قوله تعاىل‪(:‬وجعلوا هلل‬
‫الجن) ف ــ"ليس خباف أن لتقدمي الشركاء حسناً وروعة ومأخذاً من القلوب أنت ال ّتد شيئاً منه إن‬
‫كاء َّ‬
‫شر َ‬
‫أخرت فقلت‪( :‬وجعلوا اجلن شركاء هلل) ‪ ...‬والسبب يف أن كان ذلك كذلك هو أن للتقدمي فائدة‬ ‫أنت ّ‬
‫شريفة‪ ،‬ومعىن جليالً ال سبيل إليه مع التأخري؛ بيانه أنا وإن كنا نرى مجلة املعىن وحمصوله أهنم جعلوا اجلن‬
‫شركاء‪ ،‬وعبدوهم مع اهلل تعاىل‪ ،‬وكان هذا املعىن حيصل مع التأخري حصوله مع التقدمي‪ ،‬فإن تقدمي الشركاء‬
‫اجلن وال غري‬
‫يفيد هذا املعىن‪ ،‬ويفيد معه معىن آخر‪ ،‬وهو أنه ما كان ينبغي أن يكون هلل شريك‪ ،‬ال من ّ‬
‫ُخر فقيل‪( :‬جعلوا اجلن شركاء هلل)‪ ،‬مل يفد ذلك‪ ،‬ومل يكن يف شيء أكثر من اإلخبار عنهم‬ ‫اجلن‪ ،‬وإذا أ ّ‬
‫ّ‬
‫بأهنم عبدوا اجلن مع اهلل تعاىل‪ ،‬فأما إنكار أن يعبد مع اهلل غريه وأن يكون له شريك من اجلن وغري اجلن‪،‬‬
‫‪3‬‬
‫فال يكون يف اللفظ مع تأخري الشركاء دليل عليه‪".‬‬

‫‪-1‬عبد القاهر اجلرجاين‪،‬املصدر نفسه‪ ،‬ص ‪035‬‬


‫‪-2‬عبد القاهر اجلرجاين‪ ،‬دالئل اإلعجاز‪ ،‬مصدر سابق ‪ ،‬ص ‪044‬‬
‫‪-3‬عبد القاهر اجلرجاين‪،‬املصدر نفسه‪ ،‬ص ‪935‬‬
‫‪89‬‬
90
‫‪ )3‬الحذف والذكر‪:‬‬
‫ظاهرة احلذف من بني أهم الظواهر اليت تعرتي الرتكيب اللغوي‪ ،‬وإذا كان التقدمي والتأخري تغيريا لرتبة الوحدات‬
‫والعناصر املكونة للرتكيب‪ ،‬فإن احلذف هو تغييب هلذه الوحدات‪ ،‬حيث يطوى ذكرها لغايات أسلوبية ومجالية عديدة‪،‬‬
‫مع افرتاض وجودها يف األصل كما يبدو من حتليل البالغيني للظاهرة‪ .‬وقد تناول سيبويه احلذف‪ ،‬و ّبني السبب الذي أجلأ‬
‫العرب إليه‪ ،‬وهو إما طلب اخلفة على اللسان‪ ،‬وإما اتّساع الكالم واالختصار‪ ،‬واشرتط يف احملذوف أن يكون معلوما‬
‫‪1‬‬
‫سيتوصل إليه لداللة الكالم عليه‪.‬‬
‫ّ‬ ‫لدى السامع‪ ،‬وأنه‬
‫‪ -‬وقد حت ّدث عبد القاهر عن حذف املفعول‪ ،‬فذكر أن أغراض الناس ختتلف يف حذف املفعوالت‪ ،‬فقد‬
‫تعرض لذكر املفعولني‪ ،‬فإذا كان األمر كذلك كان‬
‫يكون الغرض االقتصار على إثبات معاين األفعال من غري ّ‬
‫الفعل املتع ّدي كغري املتعدي مثال يف أنك ال ترى مفعوال‪ ،‬ال لفظا وال تقديرا‪ ،‬ومثال ذلك قول الناس‪ :‬فالن‬
‫ويضر وينفع‪ ،‬وكقوهلم‪ :‬هو يعطي وجيزل‪ ،‬ويُقري ويضيف‪ ،‬املعىن يف مجيع ذلك على‬
‫حيل ويعقد‪ ،‬ويأمر وينهى‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬
‫يتعرض حلديث املفعول‪ ،‬حىت كأنك‬ ‫إثبات املعىن يف نفسه للشيء على اإلطالق وعلى اجلملة من غري أن ّ‬
‫وضر ونفع‪ ،‬وعلى ذلك قوله‬‫حل وعقد وأمر وهني ّ‬ ‫قلت‪ :‬صار إليه احلل والعقد‪ ،‬وصار حبيث يكون منه ّ‬
‫تعاىل‪(:‬قل هل يستوي الذين يعلمون والذين ال يعلمون)‪ ،‬املعىن‪ :‬هل يستوي من له علم ومن ال علم له‪ ،‬من‬
‫غري أن يقصد النص على معلوم‪ .‬وكذلك قوله تعاىل‪( :‬وأنه هو أضحك وأبكى وأنه هو أمات وأحيا)‪،‬‬
‫وقوله‪(:‬وأنه هو أغنى وأقنى)‪ ،‬املعىن‪ :‬هو الذي منه اإلحياء واإلماتة‪ ،‬واإلغناء واإلقناء‪ ،‬وهكذا كل موضع كان‬
‫القصد فيه أن يثبت املعىن يف نفسه فعال للشيء‪ ،‬وأن خيرب بأ ّن من شأنه أن يكون منه‪ ،‬أو ال يكون إال منه‪ ،‬أو‬
‫‪2‬‬
‫وتغري املعىن‪.‬‬
‫ال يكون منه‪ ،‬فإن الفعل ال يع ّدى هناك‪ ،‬ألن تعديته تنقض الغرض ّ‬
‫وخفي‬
‫جلي ال صنعة فيه‪ّ ،‬‬‫‪ -‬وهناك نوع من املفعول حيذف من اللفظ لدليل احلال عليه‪ ،‬وينقسم إىل ّ‬
‫اجللي قوهلم‪:‬أصغيت إليه‪ ،‬وهم يريدون‪ :‬أذين‪( ،‬مبعىن أصغيت إليه جفين)‪ ،‬وأغضيت‬
‫تدخله الصنعة‪ ،‬فمثال ّ‬
‫عليه‪ ،‬واملعىن‪ :‬جفين‪( ،‬مبعىن أغضيت عليه جفين)‪.‬‬
‫ويتنوع؛ فنوع منه أن تذكر الفعل ويف نفسك له مفعول خمصوص‬ ‫اخلفي الذي تدخله الصنعة فيتفنّن ّ‬ ‫وأما ّ‬
‫قد عُلم مكانه‪ ،‬إما جلري ذكر أو دليل حال‪ ،‬إال أنك تنسيه نفسك وختفيه‪ ،‬وتوهم أنك مل تذكر ذلك الفعل‬
‫إال ألن تثبت نفس معناه من غري أن تع ّديه إىل شيء‪ ،‬أو تعرض فيه ملفعول‪ ،‬ومثاله قول البحرتي‪:‬‬
‫سمع و ٍاع‬ ‫ِ‬
‫ظ عداه أن يَرى مبصر ويَ َ‬ ‫حس ِاده وغي ُ‬
‫شجو ّ‬
‫ُ‬

‫‪-1‬سيبويه عمرو بن عثمان‪ ،‬الكتاب‪ ،‬حتقيق‪ :‬عبد السالم حممد هارون مرجع سابق ص‪.0،900 ،‬‬
‫‪-2‬عبد القاهر اجلرجاين‪،‬دالئل اإلعجاز‪ ،‬مصدر سابق ‪ ،‬ص ‪025‬‬
‫‪91‬‬
‫املعىن ال حمالة‪ :‬أن يرى مبصر حماسنه‪ ،‬ويسمع واع أخباره وأوصافه‪ ،‬ولكنك تعلم على ذلك أنه كأنه يسرق‬
‫علم ذلك من نفسه‪ ،‬ويدفع صورته عن ومهه ليحصل له معىن شريف وغرض خاص‪ ،‬وذاك أنه میدح خليفة‬
‫ويعرض خبليفة وهو املستعني‪ ،‬فأراد أن يقول إن حماسن املعتز وفضائله يكفي فيها أن يقع عليها‬ ‫وهو املعتز‪ّ ،‬‬
‫بصر ويعيَها مسع‪ ،‬حىت يعلم أنه املستحق للخالفة‪ ،‬والفرد الوحيد الذي ليس ألحد أن ينازعه مرتبتها‪ ،‬فأنت‬
‫حساده وليس شيء أشجى هلم وأغيظ من علمهم بأن ههنا مبصرا يرى وسامعا يعي‪ ،‬حىت ليتمنّون أن ال‬ ‫ترى ّ‬
‫يكون يف الدنيا من له عني يبصر هبا‪ ،‬وأذن يعي معها‪،‬كي خيفى مكان استحقاقه لشرف اإلمامة‪ ،‬فيجدوا‬
‫بذلك سبيال إىل منازعته إياها‪.‬‬
‫وهناك نوع آخر‪ ،‬وهو أن يكون معك مفعول معلوم مقصود قصده قد علم أنه ليس للفعل الذي ذكرت‬
‫مفعول سواه بدليل احلال أو ما سبق من الكالم إال أنك تطّرحه وتتناساه‪ ،‬وتدعه يلزم ضمري النفس لغرض‬
‫غري الذي مضى‪ ،‬وذلك الغرض أن تتوفّر العناية على إثبات الفعل للفاعل‪ ،‬وختلص له‪ ،‬وتنصرف جبملتها‬
‫وكما هي إليه‪ ،‬ومثاله قول عمرو بن َم ْعدي َك ِرب‪:‬‬
‫أجرت‬
‫فلو أن قومي أنطقتين رماحهم نطقت ولكن الرماح ّ‬
‫يتصور‬
‫أجرتين)‪ ،‬وأنه ال ّ‬
‫أجرت‪ :‬فعل متع ّد‪ ،‬ومعلوم أنه لو ع ّداه ملا ع ّداه إال إىل ضمري املتكلّم حنو‪( :‬ولكن الرماح ّ‬‫ّ‬
‫أن يكون ههنا شيء آخر يتع ّدى إليه الستحالة أن يقول‪ :‬فلو أن قومي أنطقتين رماحهم‪ ،‬مث يقول‪ :‬ولكن الرماح‬
‫أجرت غريي‪ ،‬إال أنك ّتد املعىن يلزمك أن ال تنطق هبذا املفعول وال خترجه إىل لفظك‪ ،‬والسبب يف ذلك أن‬ ‫ّ‬
‫تعديتك له توهم ما هو خالف الغرض‪ ،‬وذلك أن الغرض هو أن تثبت أنه كان من الرماح إجرار‪ ،‬وحبس األلسن‬
‫يتوهم أنه مل يـُ ْعن بأن يثبت للرماح إجرارا‪ ،‬بل‬
‫(أجرتين) جاز أن ّ‬
‫تصحح وجود ذلك‪ ،‬ولو قال‪ّ :‬‬ ‫عن النطق‪ ،‬وأن ّ‬
‫‪1‬‬
‫أجرته‪.‬‬
‫يبني أهنا ّ‬‫الذي عناه أن ّ‬
‫أضربت زيدا؟ وأنت‬ ‫وسبب هذا الوهم احملتمل أن الفعل كثريا ما يذكر والغرض منه ذكر املفعول‪ ،‬مثاله أنك تقول‪َ :‬‬
‫ال تنكر أن يكون كان من املخاطب ضرب‪ ،‬وإمنا تنكر أن يكون وقع الضرب منه على زيد‪ ،‬وأن يستجيز ذلك أو‬
‫(أجرت) ما يوهم ذلك‪ ،‬وقف فلم يع ّد البتة‪ ،‬ومل ينطق باملفعول‪ ،‬لتخلص العناية‬ ‫يستطيعه‪ ،‬فلما كان يف تعدية ّ‬
‫إلثبات اإلجرار للرماح‪ ،‬وتصحيح أنه كان منها‪ ،‬وتسلم بكلّيّتها لذلك‪ ،‬ومثله قول جرير‪:‬‬
‫كت ضمري قليب مستهاما‬ ‫تر ِ‬ ‫ِ‬
‫وخلبت حىت‬ ‫ِ‬
‫أمنيت املىن‬
‫الغرض أن يثبت أنه كان منها متنيةٌ وخالبة‪ ،‬وأن يقول هلا‪ :‬أهكذا تصنعني؟ وهذه حيلتك يف فتنة‬
‫الناس؟‬

‫‪- 1‬عبد القاهر اجلرجاين‪ :‬دالئل اإلعجاز‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص ‪053‬‬
‫‪92‬‬
‫ومن بارع ذلك ونادره ما ّتده يف هذه األبيات‪ ،‬روى املرزباين يف كتاب الشعر بإسناد قال‪ :‬ملا تشاغل أبو‬
‫الردة استبطأته األنصار فقال‪ :‬إما كلّفتموين أخالق رسول اهلل‪ ،‬فواهلل ما ذاك‬ ‫بكر الصديق رضي اهلل عنه بأهل ّ‬
‫مودةٍ لكم‪ ،‬وال حس ِن رأي فيكم‪ ،‬وكيف ال حنبكم‬ ‫عندي وال عند أحد من الناس‪ ،‬ولكين واهلل ما أوتَى من ّ‬
‫فواهلل ما وجدت َمثَال لنا ولكم إال ما قال طفيل الغنوي لبين جعفر بن كالب‪:‬‬
‫ت‬‫لقت بنا نعلُنا يف الـ ـ ـواطئني فزلّ ِ‬‫جزى اهلل عنّا جعفرا حني أز ْ‬
‫ت‬‫أبـ ـ ـ ـوا أن میَلّـ ـ ـ ـ ـ ـ ــونا ولو أ ّن أمـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــنا تالقي الذي القَوه منا مللّ ِ‬
‫َ‬ ‫ّ‬
‫ت‬‫أدفأت وأَظَلّ ِ‬
‫ْ‬ ‫ُه ُم َخلَ ـ ـ ـ ـ ـ ــطونا بالنفـ ـ ــوس وأجلَـ ـ ـ ــؤوا إىل ُح ُجرات‬
‫ت؛ ألن‬ ‫أدفأت‪ ،‬وأظلّ ِ‬
‫ت‪ ،‬وأجلؤوا و ْ‬ ‫فيها حذف مفعول مقصود قَصده يف أربعة مواضع من قوله‪ :‬مللّ ِ‬
‫َ‬
‫األصل‪ :‬مللّتنا‪ ،‬وأجلؤونا إىل حجرات أدفأتنا وأظلتنا‪ ،‬إال أن احلال على ما ذكرت لك من أنه يف ح ّد‬
‫‪1‬‬
‫قصد شيء يقع عليه‪".‬‬‫املتناسى حىت كأ ْن ال قصد إىل مفعول‪ ،‬وكأ ّن الفعل قد أُهبم أمره‪ ،‬فلم يُقصد به ُ‬ ‫َ‬
‫ومن النماذج اليت ساقها عبد القاهر مبيّنا أسرار حذف املفعول فيها قول البحرتي وهو يذكر حماماة ممدوحه‬
‫عليه وصيانته له ودفعه نوائب الزمان عنه‪:‬‬
‫العظْ ِم‬ ‫ِ‬
‫حزْزن إىل َ‬ ‫وسورة أيّام َ‬‫َ‬ ‫حتامل حادث‬ ‫دت عين من ُ‬ ‫وكم ذُ َ‬
‫قال‪" :‬األصل ال حمالة‪( :‬حززن اللحم إىل العظم) إال أن يف جميئه به حمذوفا‪ ،‬وإسقاطه له من النطق‪ ،‬وتركه يف‬
‫الضمري مزيّة عجيبة‪ ،‬وفائدة جليلة؛ وذاك أن من حذق الشاعر أن يوقع املعىن يف نفس السامع إيقاعا مینعه به من‬
‫يتوهم يف بدء األمر شيئا غري املراد‪ ،‬مث ينصرف إىل املراد‪ ،‬ومعلوم أنه لو أظهر املفعول فقال‪( :‬وسورة أيام حززن‬ ‫أن ّ‬
‫اللحم إىل العظم) جلاز أن يقع يف وهم السامع أن هذا احلز كان يف بعض اللحم دون كلّه‪ ،‬وأنه قَطَع ما يلي اجللد‬
‫ومل ينته إىل ما يلي العظم‪ ،‬فلما كان كذلك‪ ،‬ترك ذكر اللحم وأسقطه من اللفظ ليُْربىء السامع من هذا الوهم‪،‬‬
‫يرده‬
‫احلز مضى يف اللحم حىت مل ّ‬ ‫ويتصور يف نفسه من أول األمر أن ّ‬ ‫ّ‬ ‫وجيعله حبيث يقع املعىن منه يف أنف الفهم‪،‬‬
‫‪2‬‬
‫إال العظم‪".‬‬
‫شىت أمهّها إثبات معىن الفعل ذاته‪ ،‬وصرف املتل ّقي عن املفعول‬ ‫وهكذا فإن حذف املفعول يكون ألغراض ّ‬
‫وربطه بالفعل‪ ،‬وقد يكون الغرض املبالغة يف تصوير شدة احلدث‪ ،‬وإيقاع معناه يف نفس املتل ّقي‪.‬‬
‫‪ -‬أما حذف املبتدأ فقد تناوله عبد القاهر‪ ،‬فذكر أن مما اعتيد فيه أن جييء خرباً قد بُين على مبتدأ حمذوف‬
‫أغر من صفته كيت وكيت‪.‬‬ ‫قوهلم بعد أن يذكرو الرجل‪ :‬فىت من صفته كذا‪ ،‬و ّ‬
‫ومن مناذج حذف املبتدأ قول الشاعر‪:‬‬

‫‪-1‬عبد القاهر اجلرجاين‪،‬دالئل اإلعجاز‪ ،‬مصدر سابق ص ‪055‬‬


‫‪-2‬عبد القاهر اجلرجاين‪،‬املصدر نفسه‪ ،‬ص ‪069‬‬
‫‪93‬‬
‫أيادي مل متـ ـ ــنن وإن هـ ـ ـ ــي جـ ــلت‬
‫َ‬ ‫سأشأكر عـ ـ ـ ــمراً إن تراخت منييت‬
‫حمجوب الغىن عن صديقه وال مظهر الشكوى إذا النعل زلّ ِ‬
‫ت‬ ‫ِ‬
‫ُ‬ ‫فىت غريُ‬
‫عم له موسر سأله فمنعه ولطمه‪:‬‬ ‫وقول األُقيشر يف ابن ّ‬
‫يع إىل ابن العم يلطم وجهه ‪ ...‬وليس إىل داعي الندى بسريع‬ ‫سر ٌ‬
‫ح ـ ـ ـ ـ ـ ـريص على الدنيا م ِ‬
‫ضيع لدينه ‪ ...‬ولي ـ ـ ـ ــس ملا يف بيته مبضيع‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫قال عبد القاهر معلّقا‪" :‬فتأمل اآلن هذه األبيات كلها ‪ ...‬وانظر إىل موقعها يف نفسك‪ ،‬وإىل ما ّتده من‬
‫حتس به‪ ،‬مث‬
‫اللطف والظرف إذا أنت مررت مبوضع احلذف منها‪ ،‬مث قلبت النفس فيما ّتد‪ ،‬وألطفت النظر فيما ّ‬
‫ترد ما حذف الشاعر‪ ،‬وأن خترجه على لفظك‪ ،‬وتوقعه يف مسعك‪ ،‬فإنّك تعلم أن الذي قلت كما‬ ‫تكلّف أن ّ‬
‫‪1‬‬
‫رب حذف هو قالدة اجليد‪ ،‬وقاعدة التجويد‪".‬‬ ‫قلت‪ ،‬وأن ّ‬

‫‪ )9‬التعريف والتنكير‪:‬‬
‫‪ -‬حت ّدث عبد القاهر عن تنكري اخلرب وتعريفه ّ‬
‫فبني أننا إذا ن ّكرنا اخلرب جاز أن نأيت مببتدأ ثان‪ ،‬على‬
‫أخربنا به عن األول‪ ،‬ومعىن هذا أن عطف املبتدأ الثاين على اخلرب‬
‫أن نشركه حبرف العطف يف املعىن الذي ْ‬
‫ال میكن إال إذا كان اخلرب ابتدائيا؛ فيجوز أن تقول‪( :‬زيد منطلق وعمرو)‪ ،‬تريد‪( :‬وعمرو منطلق أيضا) وال‬
‫تقول‪( :‬زيد املنطلق وعمرو)؛ ألن املعىن مع التعريف ( أي يف حالة اخلرب غري االبتدائي) أنك أردت أن‬
‫يصح إثباته لعمرو‪.‬‬
‫تثبت انطالقا خمصوصا قد كان من واحد‪ ،‬فإذا أثبته لزيد مل ّ‬
‫مث إن كان ذلك االنطالق من اثنني‪ ،‬فإنه ينبغي أن ّتمع بينهما يف اخلرب فتقول‪ :‬زيد وعمرو مها املنطلقان‪،‬‬
‫تفرق فتثبته أوال لزيد مث ّتيء فتثبته لعمرو‪.‬‬
‫ال أن ّ‬
‫ومن الواضح يف متثيل هذا النحو قولنا‪( :‬هو القائل بيت كذا)‪ ،‬كقولك‪ :‬جرير هو القائل‪:‬‬
‫وليس لسيفي يف العظام بقية‬
‫فأنت لو حاولت أن تشرك يف هذا اخلرب غريه فتقول‪ :‬جرير هو القائل هذا البيت وفالن‪ ،‬حاولت حماال؛‬
‫‪2‬‬
‫يتصور أن يشرك جريرا فيه غريه‪.‬‬
‫ألنه قوله بعينه‪ ،‬فال ّ‬

‫‪-1‬عبد القاهر اجلرجاين‪،‬دالئل اإلعجاز‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص ‪051‬‬


‫‪-2‬عبد القاهر اجلرجاين‪ ،‬املصدر نفسه‪ ،‬ص ‪067‬‬
‫‪94‬‬
‫‪ -‬ولكن هناك حاالت خاصة لتعريف اخلرب االبتدائي للمبالغة وحنوها‪" ،‬وذلك قولك‪( :‬زيد هو‬
‫اجلواد وعمرو هو الشجاع) تريد أنه الكامل‪ ،‬إال أنك خترج الكالم يف صورة توهم أن اجلود والشجاعة مل‬
‫توجد إال فيه‪...‬‬
‫والوجه الثاين أن تقصر جنس املعىن الذي تفيده باخلرب على املخرب عنه‪ ،‬ال على معىن املبالغة وترك االعتداد‬
‫دت املعىن بشيء‬‫بوجوده يف غري املخرب عنه‪ ،‬بل على دعوى أنه ال يوجد إال منه‪ ،‬وال يكون ذلك إال إذا قيّ َ‬
‫تظن نفس‬
‫الويف حني ال ّ‬
‫خيصصه وجيعله يف حكم نوع برأسه‪ ،‬وذلك كنحو أن يقيّد باحلال والوقت‪ ،‬كقولك‪( :‬هو ّ‬ ‫ّ‬
‫بنفس خريا)‪ ،‬وهكذا إذا كان اخلرب مبعىن يتع ّدى مث اشرتطت له مفعوال خمصوصا‪ ،‬كقول األعشى‪:‬‬
‫وإما عشارا‬
‫ّإما خماضا ّ‬ ‫اهب املئة املصطفاة‬
‫هو الو ُ‬
‫والوجه الثالث أن ال تقصد قصر املعىن يف جنسه على املذكور‪ ،‬ال كما كان يف (زيد هو الشجاع) تريد أن ال‬
‫تعت ّد بشجاعة غريه‪ ،‬وال كما ترى يف قوله‪( :‬هو الواهب املئة املصطفاة) لكن على وجه ثالث‪ ،‬وهو الذي عليه‬
‫قول اخلنساء‪:‬‬
‫إذا قبُح البكاء على قتيل رأيت بكاءَك احلَ َس َن اجلميال‬
‫فيتصور أن يقصر على البكاء كما‬
‫ّ‬ ‫مل تُرد أ ّن ما عدا البكاء عليه فليس حبسن وال مجيل‪ ،‬ومل تقيّد احلسن بشيء‬
‫الظاهر الذي ال ينكره‬
‫ُ‬ ‫سن‬
‫قصر األعشى هبة املئة على املمدوح‪ ،‬ولكنّها أرادت أن تقرنه يف جنس ما ُحسنُه احلُ ُ‬
‫‪1‬‬
‫شاك‪".‬‬
‫يشك فيه ّ‬
‫أحد‪ ،‬وال ّ‬
‫يدل فيها التنكري على بعض املعاين الدقيقة والدالالت اللطيفة‪ ،‬كما يف قوله‬
‫حاالت ّ‬
‫ٌ‬ ‫‪ -‬وهناك‬
‫تعاىل‪( ":‬ولتجدنّهم أحرص الناس على حياة)‪ ،‬فإن هلذا التنكري ُحسناً وروعة ولطف موقع‪ ،‬ال يوجد مع‬
‫التعريف‪ ،‬والسبب يف ذلك أن املعىن على االزدياد من احلياة‪ ،‬ال احلياة من أصلها‪ ،‬وذلك ال حيرص عليه‬
‫يصح منه احلرص على احلياة وال على غريها‪ ،‬وإذا كان كذلك صار كأنه‬ ‫احلي‪ ،‬فأما العادم للحياة فال ّ‬
‫إال ّ‬
‫قيل‪ :‬ولتجد ّهنم أحرص الناس‪ ،‬ولو عاشوا ما عاشوا على أن يزدادوا إىل حياهتم يف ماضي الوقت وراهنه‬
‫حياة يف الذي يستقبل‪ ،‬فكما أنك ال تقول ههنا‪ :‬أن يزدادوا إىل حياهتم احلياة بالتعريف‪ ،‬وإمنا تقول‬
‫حيب احلياة ويكره املوت‪،‬‬
‫(حياة) إذ كان التعريف يصلح حيث تراد احلياة على اإلطالق كقولنا‪ :‬كل أحد ّ‬
‫كذلك احلكم يف اآلية‪ ،‬فاملعىن الذي يوصف اإلنسان باحلرص عليه ‪-‬إذا كان موجوداً حال وصفك له‬
‫يتصور أن ّتعله حريصاً عليه من أصله‪ ،‬كيف وال حيرص على الراهن وال املاضي‪ ،‬وإّمنا‬
‫باحلرص عليه‪ -‬مل ّ‬
‫‪2‬‬
‫يكون احلرص على ما مل يوجد بعد‪.‬‬

‫‪-1‬عبد القاهر اجلرجاين‪،‬دالئل اإلعجاز‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص ‪077‬‬


‫‪-2‬عبد القاهر اجلرجاين‪ ،‬املصدر نفسه‪ ،‬ص ‪936‬‬
‫‪95‬‬
‫التامة اليت‬
‫ومیكن أن نلمس يف التنكري معىن آخر لطيفا هو أن هؤالء احلريصني ال حيرصون على احلياة ّ‬
‫يؤدون ح ّقها‪ ،‬وإّمنا هم حريصون على أي حياة ولو كانت حياة بؤس وشقاء وضنك‪ .‬يقول سيد قطب يف‬ ‫ّ‬
‫يهم أن تكون حياة كرمیة‪ ،‬وال حياة مميّزة‬
‫بيان معىن الضعة الذي يستشف من تنكري احلياة‪ ...":‬أيّة حياة‪ ،‬ال ّ‬
‫على اإلطالق! حياة فقط! حياة هبذا التنكري والتحقري! حياة ديدان أو حشرات! حياة والسالم! ‪ ...‬ذلك‬
‫حتس‬
‫حيسون أن هلم حياة غري هذه احلياة‪ ،‬وما أقصر احلياة الدنيا وما أضيقها حني ّ‬
‫ّأهنم ال يرجون لقاء اهلل‪ ،‬وال ّ‬
‫‪1‬‬
‫النفس اإلنسانية أ ّهنا ال تتّصل حبياة سواها‪ ،‬وال تطمع يف غري أنفاس وساعات على األرض معدودة‪".‬‬
‫‪ -‬أما تنكري لفظ (حياة) يف قوله تعاىل‪( :‬ولكم في القصاص حياة)‪ ،‬فسببه أنه ملا كان اإلنسان إذا علم أنه‬
‫فسلِم صاحبه صارت حياة هذا املهموم بقتله يف مستأنف الوقت مستفادة‬ ‫إذا قتل ارتدع بذلك عن القتل‪َ ،‬‬
‫بالقصاص‪ ،‬وصار كأنه قد حيِ َي يف باقي عمره به‪ ،‬أي بالقصاص‪ ،‬وبذلك امتنع التعريف من حيث كان‬
‫التعريف يقتضي أن تكون احلياة قد كانت بالقصاص من أصلها‪ ،‬وأن يكون القصاص قد كان سبباً يف‬
‫‪2‬‬
‫كوهنا يف كافة األوقات‪ ،‬وذلك خالف املعىن‪ ،‬وغري ما هو املقصود‬
‫ومیكن أن نستشف من تنكري لفظ احلياة هنا معىن آخر لطيفا‪ ،‬وهو أن هذه احلياة اليت تتح ّقق‬
‫تطمئن نفوسهم وحتفظ أمواهلم‬
‫ّ‬ ‫بالقصاص حياة ذات شأن عظيم يف جلب األمن للناس وحت ّقق ما به‬
‫وأعراضهم وأنفسهم‪ ،‬وبذلك قد يكون يف هذا التنكري معىن من معاين التنويه والتعظيم‪.‬‬
‫ونوه بأثرها يف مجال‬‫ولقد أشاد عبد القاهر بالتنكري وسائر ظواهر النظم وفق معاين النحو وقوانينه‪ّ ،‬‬
‫الرتكيب وحسن األسلوب ورشاقة املعىن‪ ،‬فهذه التقنيات النظمية هي علّة ما جيده املتل ّقي من أرحيية‬
‫واستحسان‪ ،‬وإعجاب وتأثر‪.‬‬

‫‪ )1‬الفصل والوصل‪:‬‬
‫‪ -‬الفصلهو ترك العطف بني اجلملتني‪ ،‬والوصل هو عطف اجلملة على اجلملة بأحد حروف العطف‪ ،‬ال سيّما‬
‫أدق‬
‫وبني اتفاق أهل البالغة على تعظيم شأنه‪ ،‬وكونه من ّ‬ ‫الواو‪ ،‬ولقد تناول عبد القاهر موضوع الفصل والوصل‪ّ ،‬‬
‫عطف بعضها على ٍ‬
‫بعض‬ ‫اجلمل من ِ‬ ‫صنَ َع يف ِ‬ ‫فنون البالغة وألطف مسائلها‪ ،‬يقول اجلرجاين‪" :‬العلم مبا ينبغي أن يُ ْ‬
‫ف واحدةٌ منها بعد أخرى من أسرا ِر البالغة‪ ،‬ومما ال يتأتَّى ِ‬ ‫ِ‬ ‫أو ِ‬
‫لتمام‬ ‫العطف فيها واجمليء هبا منثورًة تُ ْستَأْنَ ُ‬ ‫ترك‬
‫ِ‬
‫الكالم هم هبا أفر ٌاد‪،‬‬ ‫اب فيه إالَّ األعراب اخلُلَّص‪ ،‬وإال قَـوم طُبِعوا على البالغة‪ ،‬وأُوتُوا فنَّاً ِمن املعرفة يف ذ ِ‬
‫وق‬ ‫الصو ِ‬
‫َّ‬
‫َ‬ ‫ٌْ ُ‬ ‫ُ‬

‫‪-1‬سيد قطب‪ ،‬يف ظالل القرآن‪ ،‬دار الشروق‪ ،‬القاهرة‪، 9100،‬ص ‪. 64‬‬
‫‪-2‬عبد القاهر اجلرجاين‪ ،‬دالئل اإلعجاز‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص ‪937‬‬
‫‪96‬‬
‫بلغ من ّقوة األمر يف ذلك َّأهنم جعلوهُ َح ّداً للبالغة؛ فقد جاء َع ْن بعضهم أنه ُسئِل عنها فقال‪َ :‬م ْع ِرفَةُ ال َف ِ‬
‫صل‬ ‫وقد َ‬
‫ْم ُل ِإلحرا ِز الفضيلة فيه أح ٌد إالَّ َك َم َل لسائِر معاين البالغة‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫الوصل‪ ،‬ذاك لغموضه ودقة َم ْسلكه‪ ،‬وأّنَّه ال يَك ُ‬
‫‪1‬‬
‫من‬
‫َ‬
‫ِ‬ ‫بعضها على ٍ‬
‫موضع من‬
‫ٌ‬ ‫للمعطوف عليها‬ ‫أحدمها أن يكو َن‬
‫بعض على ضربني‪ُ :‬‬ ‫املعطوف ُ‬
‫َ‬ ‫‪ -‬إن َ‬
‫اجلمل‬
‫ا ِإلعراب‪ ،‬وإذا كانت كذلك كان حكمها حكم املفرد؛ إذ ال يكون للجملة موضع من اإلعراب حىت‬
‫عطف الثانية عليها جارياً َْجمرى‬ ‫ِ‬
‫موقع امل ْفَرد‪ ،‬كان ُ‬ ‫موقع املفرد‪ .‬وإذا كانت اجلملةُ األوىل واقعةً َ‬ ‫تكو َن واقعةً َ‬
‫ِ ِ‬
‫مررت ٍ‬
‫برجل‬ ‫قلت‪ُ :‬‬ ‫عطف املفرد‪ ،‬وكان وجه احلاجة إىل الواو ظاهراً‪ ،‬وا ِإلشر ُاك هبا يف احلُ ْك ِم موجوداً؛ فإذا َ‬
‫احلكم كوُهنا يف موضع‬ ‫ُ‬ ‫كت اجلملَة الثانيةَ يف ُحك ِم األُوىل‪ ،‬وذلك‬ ‫كنت قد أشر َ‬ ‫قبيح‪َ ،‬‬ ‫وخ ْلقه ٌ‬‫ُخلُقهُ َح َس ٌن َ‬
‫‪2‬‬
‫جر بأ ََّهنا صفةٌ للنكرة‪.‬‬
‫ٍّ‬
‫اجلملة العار ِية املوض ِع من ا ِإلعر ِ‬
‫اب‬ ‫ِ‬ ‫ف على‬ ‫ِ‬
‫الضرب الثاين؛ وذلك أن تَعط َ‬ ‫يشكل ُأمره هو‬ ‫لكن الذي‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫و ّ‬
‫َّعي أن الواو‬ ‫ِ‬
‫سبيل إىل أن ند َ‬ ‫قبيح‪ ،‬فال َ‬ ‫اجلهل ٌ‬
‫حسن و ُ‬ ‫وعمرو قاع ٌد‪ ،‬والع ْل ُم ٌ‬ ‫قائم ٌ‬ ‫مجلةً أخرى‪ ،‬كقولك‪ :‬زي ٌد ٌ‬
‫‪3‬‬
‫من الوجوه‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫ِ ٍ‬ ‫ِ‬
‫ب لألُوىل بوجه َ‬ ‫وج َ‬
‫أشركت الثانيةَ يف إعراب قد َ‬
‫‪ّ -‬أما من جهة حروف العطف فاإلشكال يف عطف اجلمل إّمنا يعرض مع الواو دون غريها من‬
‫الرتتيب ِم ْن َغري تر ٍاخ‪ُ ،‬‬
‫و(مثَّ)‬ ‫ب‬ ‫ِ‬ ‫مثل َّ‬ ‫تفيد مع ا ِإلشر ِ‬
‫َ‬ ‫أن الفاءَ توج ُ‬ ‫َ‬ ‫معاين‬
‫َ‬ ‫اك‬ ‫تلك ُ‬ ‫حروف العطف‪" ،‬ألَن َ‬
‫احد منها اجلملةَ‬‫ألحدمها ال بِعينِه‪ .‬فِإذا عطفت بو ٍ‬ ‫تردد الفعل بني شيئني وّتعلُه ِ‬ ‫ِ‬
‫َ‬ ‫َْ‬ ‫ُ‬ ‫و(أو) ِّ ُ َ َ‬ ‫توجبُه َمع تر ٍاخ‪ْ ،‬‬
‫ِ‬
‫العطاء‬ ‫الشكر كان ُم ْع َقباً على‬ ‫أن‬ ‫ظهرت الفائدةُ‪ ،‬فإذا قلت‪( :‬أعطاين فشكرت) ظهر ِ‬
‫بالفاء َّ‬ ‫ِ‬ ‫على اجلملة‬
‫َ‬ ‫ُ َ‬ ‫َ‬
‫ك‪ ،‬وأن ُم ْهلَةً‬ ‫ِ‬
‫خروجه كان بَـ ْع َد خروج َ‬ ‫َ‬ ‫أفادت (مث) أن‬
‫ْ‬ ‫(خرجت مث خر َج زي ٌد)‬
‫ُ‬ ‫قلت‪:‬‬
‫ومسبَّباً عنه‪ .‬وإذا َ‬
‫يفعل واحداً منهما ال بِ َعْينِه‪.‬‬
‫ت (أو) على أنه ُ‬ ‫يكسوك‪ ،‬دلَّ ْ‬
‫َ‬ ‫يعطيك أو‬
‫َ‬ ‫قلت‪:‬‬
‫وقعت بينهما‪ ،‬وإذا َ‬ ‫ْ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫األول؛‬
‫أتبعت فيه الثاينَ َ‬ ‫اب الذي َ‬ ‫معىن سوى اإلشراك يف احلك ِم الذي يَـ ْقتَضيه اإلعر ُ‬ ‫أما الواو فليس هلا ً‬
‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫أكثر من إشراك عم ٍرو يف اجمليء الذي أثبتَّه لزيد‪ ،‬و ْ‬
‫اجلم ِع‬ ‫وعمرو‪ ،‬مل تُف ْد بالواو شيئاً َ‬ ‫ٌ‬ ‫قلت‪ :‬جاءين زي ٌد‬ ‫فإذا َ‬
‫يقع ذلك ا ِإلشر ُاك فيه‪ .‬وإذا كا َن ذلك‬ ‫معىن ُ‬‫حىت يكو َن هناك ً‬ ‫بني شيئني َّ‬ ‫صوُر إشر ٌاك َ‬
‫بينه وبينَه‪ .‬وال يـُتَ َّ‬
‫ني هاتني اجلُملَتني فيه‬ ‫كت بَ َ‬
‫تزعم أن الواو أشر ْ‬
‫معىن ُ‬ ‫وعمرو قاع ٌد ً‬ ‫قائم ٌ‬ ‫كذلك ومل يكن َم َعنا يف قولنا‪ :‬زي ٌد ٌ‬ ‫َ‬
‫‪4‬‬
‫إشكال املسألة‪".‬‬
‫ُ‬ ‫ت‬
‫ثـَبَ َ‬

‫‪-1‬عبد القاهر اجلرجاين‪،‬املصدر نفسه‪ ،‬ص ‪023‬‬


‫‪-2‬عبد القاهر اجلرجاين‪،‬دالئل اإلعجاز‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص ‪029‬‬
‫‪-3‬عبد القاهر اجلرجاين‪،‬املصدر نفسه‪ ،‬ص ‪024‬‬
‫‪-4‬عبد القاهر اجلرجاين‪،‬املصدر نفسه‪024 ،‬‬
‫‪97‬‬
‫سوغ اجلمع‬ ‫‪ -‬وهكذا فإن العطف بالواو يقتضي اشرتاك املتعاطفني يف احلكم بوجه من الوجوه يُ ّ‬
‫يد‪ ،‬وحىت يكونا‬ ‫نقول‪ :‬زي ٌد قائم وعمرو قاع ٌد‪ ،‬حىت يكو َن عمرو بسبب من ز ٍ‬ ‫بينهما؛ "وذلك أَنّا ال ُ‬
‫ٌ‬ ‫ٌ ٌ‬
‫ذلك‬
‫ك على َ‬ ‫حال الثّاين‪ .‬يدلُّ َ‬
‫يعرف َ‬ ‫األول عناه أن َ‬ ‫حال َّ‬‫السامع َ‬‫عرف ُ‬ ‫ني‪ ،‬وحبيث إذا َ‬ ‫كالنَّظريي ِن والشري َك ْ ِ‬
‫َّص ُل حديثُه حبديِثه مل‬‫بسبب‪ ،‬وال هو مما ي ْذ َكر بذك ِره ويت ِ‬ ‫فعطفت على األ ََّول شيئاً ليس منه ٍ‬ ‫جئت‬
‫ُ ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َّك إ ْن َ‬ ‫أن َ‬
‫ك منه‪،‬‬ ‫ض َح ُ‬
‫قلت ما يُ ْ‬
‫بيت كذا‪َ ،‬‬ ‫يقول َ‬ ‫أحسن الذي ُ‬ ‫قلت‪ :‬و َ‬ ‫اليوم من داري‪ ،‬مث َ‬ ‫خرجت َ‬ ‫ُ‬ ‫قلت‪:‬‬
‫يست ْقم‪ ،‬فلو َ‬
‫ومن ههنا عابوا أبا ٍ‬
‫متام يف قوله‪:‬‬ ‫ُ‬
‫صِربٌ و َّ‬
‫أن أبا احلُس ْ ِ‬ ‫ال والذي هو ِ‬
‫عاملٌ َّ‬
‫ني كرميٌ‬ ‫َ‬ ‫أن النـ ََّوى ‪َ ...‬‬ ‫ُ‬
‫ِ ‪1‬‬
‫َحدمها باآلخر‪.‬‬ ‫وذلك ألنه ال مناسبةَ بني َكرِم أيب احلسني ومرا ِرة النَّوى‪ ،‬وال تعلُّق أل ِ‬
‫َ‬ ‫َ َ‬
‫َّقيض للخرب عن‬ ‫ِ‬
‫الشبيه والنظ ِري أوالن ِ‬ ‫ومن أوجه التعلّق بني اجلملتني أ ْن يكو َن اخلربُ عن الثاين مما َْجي ِري َْجمرى‬
‫طول ِ‬ ‫بني ِ‬ ‫ِ‬
‫القامة وبني‬ ‫شاعر‪ ،‬كان ُخ ْلفا‪ ،‬ألنه ال ُمشاكلَةَ وال تعلُّق َ‬ ‫وعمرو ٌ‬ ‫طويل القامة ٌ‬ ‫قلت ‪ :‬زي ٌد ُ‬ ‫األول‪" ،‬فلو َ‬
‫الشع ِر‪ ،‬وإمنا الو ُ‬
‫‪2‬‬
‫وعمرو قصريٌ‪.‬‬
‫طويل القامة ٌ‬ ‫شاعر‪ ،‬وزي ٌد ُ‬ ‫وعمرو ٌ‬ ‫كاتب ٌ‬ ‫يقال‪ :‬زي ٌد ٌ‬ ‫اجب أن َ‬ ‫ِّ‬
‫صل من‬ ‫‪ -‬حت ّدث عبد القاهر عن الفصل بني اجلمل (عدم استعمال الواو)‪ ،‬فذكر أن اجلملة قد تتّ ُ‬
‫عطف يربُطها إذا كانت الالحقة مؤِّكدةً لليت‬ ‫ف ٍ‬ ‫بط معناها هلا عن حر ِ‬ ‫ذات نفسها باليت قَبلها‪ ،‬وتَستغين بر ِ‬ ‫ِ‬
‫َْ‬
‫فيه ) بيا ٌن وتوكي ٌد‬ ‫الكتاب ال ريب فيه)‪ ،‬فقولُه‪ (:‬ال ريب ِ‬
‫َْ َ‬ ‫ُ َْ َ‬
‫ك ِ‬ ‫قبلها ومبينِّةً هلا‪ ،‬كقوله تعاىل‪( :‬ألم ذلِ َ‬
‫الكتاب‪،‬‬
‫ُ‬ ‫الكتاب‪ ،‬هو ذلك‬ ‫ُ‬ ‫تقول‪ :‬هو ذلك‬ ‫بيت له مبنزلِة أ ْن َ‬ ‫وحتقيق لقولِه‪( :‬ذلك الكتاب)‪ ،‬وزيادةُ تَـثْ ٍ‬
‫ُ‬ ‫ٌ‬
‫ض ُّمه إليه‬‫ضام يَ ُ‬ ‫فيحتاج إىل ٍّ‬ ‫غري اخل ِرب وال َشيءَ يتميّـ ُز به عنه‬ ‫فتعيده مرًة ثانيةً لتُثْبِتَه‪ ،‬وليس تَـثْ ُ ِ‬
‫ُ‬ ‫بيت اخلرب َ‬ ‫ُ‬
‫الذين َك َفروا َسواءٌ َعلَْي ِهم أأنْ َذ ْرتَـ ُه ْم أ َْم لَ ْم تُـ ْن ِذ ْرُه ْم ال‬
‫إن َ‬ ‫يعط ُفه عليه‪ ،‬ومثل ذلك قولُه تعاىل‪َّ (:‬‬
‫ُ‬
‫وعاطف ِ‬ ‫ٍ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫عظيم )‪ ،‬فقولُه‬ ‫ٌ‬ ‫ذاب‬
‫شاوةٌ َولَ ُه ْم َع ٌ‬ ‫هم وعلى أبْصا ِرهم غ َ‬ ‫يُـ ْؤمنُو َن َختَم اللَّهُ على قلوبِهم وعلى َس ْمع ْ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫تعاىل‪( :‬ال يُـ ْؤمنُو َن) تأكي ٌد لقوله‪َ ( :‬س َواءٌ َعلَْي ِه ْم أَأَنْ َذ ْرتَـ ُه ْم أ َْم لَ ْم تُـ ْنذ ْرُهم) وقولُه ‪َ ( :‬ختَ َم اهلل َعلَى قُلوبِ ْ‬
‫هم‬
‫مثل حالِه إذا مل يُن َذ ْر كا َن يف غاية‬ ‫َ‬ ‫ر‬‫َ‬
‫ألن من كان حالُه إذا أُنْ ِ‬
‫ذ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫ول‪،‬‬ ‫األ‬ ‫من‬ ‫أبلغ‬
‫ُ‬ ‫ثان‬ ‫د‬
‫ٌ‬ ‫تأكي‬ ‫)‬ ‫م‬
‫ْ‬ ‫وعلى َس ْم ِع ِ‬
‫ه‬ ‫َ‬
‫‪3‬‬
‫اجلَ ْهل‪ ،‬وكان مطبوعاً على قَـ ْلبِه ال حمالةَ‪.‬‬
‫املسوغ للفصل هو أن تكون الثانية جوابا لسؤال يق ّدر بعد اجلملة األوىل‪ ،‬ومن‬ ‫‪ -‬والسبب الثاين ّ‬
‫ذلك قول الشاعر‪:‬‬
‫لك ْن َغ ْمَرِيت ال تَـْن َجلِي‬
‫زعم العو ِاذ ُل أَن َِّين يف َغمرةٍ ‪ ...‬ص َدقُوا و ِ‬
‫َ‬ ‫َْ‬ ‫َََ َ‬

‫‪-1‬عبد القاهر اجلرجاين‪،‬املصدر نفسه‪ ،‬ص ‪025‬‬


‫‪-2‬عبد القاهر اجلرجاين‪،‬دالئل اإلعجاز‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص ‪025‬‬
‫‪-3‬عبد القاهر اجلرجاين‪،‬املصدر نفسه‪ ،‬ص ‪027‬‬
‫‪98‬‬
‫ا‪(:‬هو يف َغ ْمَرةٍ)‪ ،‬وكان ذلك مما ِّ‬ ‫ِِ‬
‫ك يف‬ ‫فيقول‪ :‬فما قولُ َ‬
‫ألن يسأله َ‬ ‫السامع َّ‬
‫َ‬ ‫حيرك‬ ‫"ملــّا َح َكى عن العواذل َّأهنم قالو ُ‬
‫ِ‬
‫ص َدقُوا‪ ،‬أنا كما‬ ‫صار كأنَّه قال‪ :‬أقول‪َ :‬‬ ‫ذلك قَ ْد قيل له‪ ،‬و َ‬ ‫الكالم خمَْر َجهُ إِذا كان َ‬ ‫َ‬ ‫َخَر َج‬ ‫ذلك؟ وما جوابُك َعْنه؟ أ ْ‬ ‫َ‬
‫قالوا‪ ،‬ولكن ال مطْمع هلم يف ِ‬
‫يصح يف‬ ‫وص َدقُوا لكا َن يكو ُن مل ّ‬ ‫اذل أنين يف َغ ْمرةٍ َ‬ ‫زعم العو ُ‬ ‫قال ‪َ :‬‬ ‫فالحي‪ ،‬ولو َ‬ ‫ْ َ ََ‬
‫جميب‪:‬‬ ‫كالم ٍ‬ ‫كالمه ُ‬ ‫مسؤول‪ ،‬وأن َ‬ ‫ٌ‬ ‫نَـ ْف ِس ِه أَنَّه‬
‫اآلخ ِر يف احلماسة‪:‬‬ ‫قول َ‬ ‫ومثْـلُه ُ‬
‫ت‬‫ت وأ ُِمجَّ ِ‬ ‫ت عُّريَ ْ‬ ‫نوب خب ٍ‬
‫ب ‪ ...‬جبَ ِ َ ْ‬ ‫زعم العو ِاذل أ َّن ناقَـ ـ ـ ـ ـةَ ج ـ ـ ـ ـْن َد ٍ‬
‫ُ‬ ‫ََ َ‬
‫ت‬ ‫َك َذب العو ِاذ ُل لو رأَين منَاخنا ‪ ...‬بال َق ـ ـ ِ‬
‫ـادسيَّ ِة قُـ ْلن َجلَّ وذلَّ ِ‬
‫َ‬ ‫َْ ُ َ‬ ‫َ َ‬
‫املضمر فقال‪:‬‬ ‫موضع ْ‬ ‫االستئناف وتقدير اجلواب تأكيداً بأ ْن وضع ِ‬
‫الظاهَر‬ ‫ِ‬ ‫أمر القط ِع و‬
‫َ‬ ‫ََ‬ ‫َ‬ ‫وقد ز َاد هذا َ‬
‫أقوى‪ ،‬لكونِه‬ ‫اذل ظاهراً كان ذلك أَبْـ ََ‬ ‫أعاد ِذ ْكر العو ِ‬
‫ني و َ‬ ‫اذل‪ ،‬ومل يَـ ُق ْل‪َ ( :‬ك َذبْ َن)‪ ،‬وذلك أنَّه ملــّا َ َ‬ ‫ك َذب العو ُ‬
‫كالماً مستأَنفاً ِم ْن َحْي ُ‬
‫‪1‬‬
‫كالم‪.‬‬
‫حيتاج فيه إىل ما قَـْبـلَه‪ ،‬وأتى فيه مأتَى ما لَْيس قبلَه ٌ‬ ‫وضعاً ال ُ‬ ‫ض َعه ْ‬ ‫ث َو َ‬
‫ثالثة ِ‬
‫أضرب‪:‬‬ ‫‪ -‬ويلخص عبد القاهر حاالت الفصل والوصل بني اجلمل بقوله‪ ":‬اجلمل على ِ‬
‫ّ‬
‫لش ِبه‬
‫العطف البتَّةَ َ‬
‫ُ‬ ‫التأكيد مع املؤَّك ِد‪ ،‬فال يكو ُن فيها‬
‫املوصوف‪ ،‬و ِ‬ ‫ِ‬ ‫مع‬ ‫ِ‬
‫حال الصفة َ‬ ‫مجلةٌ حا ُهلا مع اليت قبلَها ُ‬
‫الشيء على نفسه‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫بعطف‬ ‫ت‪-‬‬ ‫ِ‬
‫العطف فيها ‪-‬لو عُط َف ْ‬
‫ويدخل معه يف معىن‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫غري الذي قبلَه‪ ،‬إال أنه يشا ِرُكه يف حك ٍم‪،‬‬ ‫ِ‬
‫ومجلةٌ حاهلا مع اليت قبلها حا ُل االسم يكو ُن َ‬
‫ني فاعالً أو مفعوالً أو مضافاً إليه‪ ،‬فيكون حقُّها العطف‪.‬‬ ‫مثل أن يكون كِال االمس ِ‬
‫ومجلةٌ ليست يف شيء ِمن احلالني‪ ،‬بل سبيلُها مع اليت قبلها سبيل االسم مع االسم ال يكو ُن منه يف ٍ‬
‫شيء‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫ينفرد به‪ ،‬ويكو ُن ِذ ْك ُر الذي قَـْبـلَه‬ ‫معىن‪ ،‬بل هو شيءٌ إن ذُكر مل يُ ْذ َكر إال بأم ٍر ُ‬ ‫فال يكو ُن إياهُ‪ ،‬وال مشاركاً له يف ً‬
‫العطف يكو ُن َّإما‬ ‫ِ‬ ‫فرتك‬ ‫ِ‬
‫العطف البتَّةَ‪ُ ،‬‬ ‫ترك‬
‫وحق هذا ُ‬ ‫التعلق بينه وبينَه رأسا‪ُّ ،‬‬ ‫الذ ْكر سواءٌ يف حالِه لعدم ِ‬ ‫رك ِّ‬ ‫وتَ ُ‬
‫‪)2‬‬
‫بني حالني‪".‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫حال َ‬ ‫بني األمرين‪ ،‬وكا َن له ٌ‬ ‫العطف ملا هو واسطَةٌ َ‬ ‫لالتصال إىل الغاية‪ ،‬أو االنفصال إىل الغاية‪ ،‬و ُ‬

‫‪ )3‬استعمال (إ ّن)‪:‬‬
‫ِ‬
‫‪ -‬أشار عبد القاهر إلىى استعمال (إن) حبسب حال املخاطب وموقفه من اخلرب‪" ،‬فإذا كان اخلربُ‬
‫كائن غريُ كائ ٍن‪،‬‬ ‫ِِ‬ ‫بأم ٍر ليس للمخاطب ٌّ ِ ِ‬
‫تزعم أنَّه ٌ‬
‫ظن يف خالفه البتَّةَ‪ ،‬وال يكو ُن قد َع َقد يف نفسه أن الذي ُ‬
‫ظن يف‬‫حتتاج إليها إذا كاَن له ٌّ‬ ‫ِ‬ ‫و َّ‬
‫حتتاج هناك إىل (إ ّن)‪ ،‬وإمنا ُ‬
‫فأنت ال ُ‬‫يكن كائ ٌن‪َ ،‬‬ ‫تزعم أنه مل ْ‬
‫أن الذي ُ‬

‫‪-1‬عبد القاهر اجلرجاين‪،‬دالئل اإلعجاز‪ ،‬مصدر سابق ‪،‬ص ‪919‬‬


‫‪ -0‬عبد القاهر اجلرجاين‪،‬املصدرنفسه‪ ،‬ص ‪916‬‬
‫‪99‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫تزداد حسناً إذا كان اخلربُ بأم ٍر‬
‫ت أو إثبات ما تَـْنفي‪ ،‬ولذلك تراها ُ‬ ‫قلب على نف ِي ما تُـثْبِ ُ‬ ‫وع ْق ُد ٍ‬
‫اخلالف‪َ ،‬‬
‫ِ‬
‫خبالفه‪ ،‬كقول أيب نـُ َواس‪:‬‬ ‫جرت عادةُ الناس‬ ‫ٍ‬
‫الظن‪ ،‬وبشيء قد ْ‬ ‫يَـْبـعُ ُد مثلُه يف ِّ‬
‫ك يف اليَ ِ‬
‫اس ‪...‬‬ ‫إِ َّن ِغىن نَـ ْف ِس َ‬
‫الغالب على الناس أهنم ال َحي ِملون‬ ‫َ‬ ‫ليس ذلك إالّ َّ‬
‫ألن‬ ‫ِ‬
‫قبول النفس هلا‪ ،‬و َ‬ ‫حسن موقعها وكيف ُ‬ ‫َ‬ ‫فقد ترى‬
‫أن الغىن يف اليأس‪ ،‬فلما كان‬ ‫كل أحد وال يَسلِّم َّ‬‫يعرتف ُّ‬
‫ُ‬ ‫مع‪ ،‬وال‬‫أنفسهم على اليأس‪ ،‬وال يَ َدعو َن الرجاءَ والطَّ َ‬ ‫َ‬
‫‪1‬‬
‫التأكيد‪ ،‬فلذلك كان من ُحسنِها ما ترى‪".‬‬ ‫ِ‬ ‫موضع احلاجة إىل‬ ‫املوضع‬ ‫كذلك‪ ،‬كان‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫"روي عن ابن‬ ‫وقد أورد اجلرجاين حادثة تدل على غموض استعمال (إن) وسائر حروف التوكيد‪ ،‬قال‪ُ :‬‬
‫كالم العرب َح ْشواً‪ :‬فقال‬‫ف إىل أيب العباس وقال له‪ :‬إين أل َِج ُد يف ِ‬ ‫ِ‬
‫دي املتفلس ُ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ب الكْن ّ‬ ‫األَنباري أنه قال‪َ :‬رك َ‬
‫إن عبد‬ ‫قائم‪ ،‬مث يقولون‪َّ :‬‬ ‫ِ‬
‫عبد اهلل ٌ‬ ‫العرب يقولون‪ُ :‬‬ ‫وجدت ذلك فقال‪ :‬أَج ُد َ‬ ‫َ‬ ‫أي موض ِع‬‫له أبو العباس‪ :‬يف ِّ‬
‫متكررةٌ واملعىن واح ٌد‪ ،‬فقال أبوالعباس‪ :‬بل املعاين خمتلِفةٌ‬‫لقائم‪ ،‬فاأللفاظ ِّ‬ ‫قائم‪ ،‬مث يقولو َن‪ :‬إن عبد اهللَ ٌ‬ ‫اهلل ٌ‬
‫قائم‪ ،‬جواٌب عن سؤ ِال‬ ‫إخبار عن قيامه‪ ،‬وقوُهلم‪َّ :‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫إن عبد اهلل ٌ‬ ‫عبد اهلل قائ ٌم‪ٌ ،‬‬ ‫األلفاظ؛ فقوُهلم‪ُ :‬‬ ‫الختالف‬
‫لتكرِر املعاين‪".‬‬ ‫تكر ِ‬ ‫ِ‬
‫اب عن إنكا ِر منك ٍر َ‬ ‫سائل‪ ،‬وقوُهلم‪َّ :‬‬ ‫ٍ‬
‫‪2‬‬
‫ظ ُّ‬ ‫رت األلفا ُ‬ ‫قيامه‪ ،‬فقد َّ‬ ‫لقائم‪ ،‬جو ٌ‬ ‫عبد اهلل ٌ‬ ‫إن َ‬
‫‪ -‬وقد ذكر عبد القاهر أن استعمال (إن) إذا كانت جوابا للقسم له أصل يف استعمال البلغاء ويف‬
‫ألزموها اجلملةَ من املبتدأ واخلرب إذا كانت جواباً لل َقس ِم حنو‪ :‬واهللِ َّ‬
‫إن‬ ‫القرآن الكرمي‪ ،‬قال‪":‬فإنَّا رأيناهم قد َ‬
‫الم وجدنا األ َْمَر بيِّـنًا يف الكثري‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫استَقرينا ال َك َ‬ ‫لق‪ ،‬مث إنّا إذا ْ‬ ‫منطلق‪ ،‬وامتنعوا من أن يقولوا‪ :‬واهلل زي ٌد منط ٌ‬ ‫زيداً ٌ‬
‫ِ‬
‫ك َع ْن ِذي ال َق ْرنَـ ْي ِن قُ ْل َسأَتْـلُو علَْي ُك ْم م ْنهُ‬ ‫اب كقو ِله تعاىل‪َ ( :‬ويَ ْسأَلُونَ َ‬ ‫من مواقِعها أنه ُ‬
‫يقصد هبا إىل اجلو ِ‬
‫بالح ِّق إنّـ ُه ْم‬
‫ك نَبأ َُه ْم َ‬ ‫ص َعلَْي َ‬ ‫وجل يف أ ََّوِل السورة ‪( :‬نَ ْح ُن نَـ ُق ُّ‬ ‫عز َّ‬ ‫ض ) وكقولِه َّ‬ ‫ِذ ْكراً إِنَّا َم َّكنّا لَهُ في األ َْر ِ‬
‫ص ْو َك فَـ ُق ْل إنّي بَ ِرىءٌ ِم َّما تَـ ْع َملُو َن) وقولِه تعاىل‪ ( :‬قُ ْل إنّي‬ ‫آمنُوا بَِربِّهم ) وكقوله تعاىل‪ ( :‬فِإ ْن َع َ‬ ‫ف ْتـيَةٌ َ‬
‫ِ‬
‫ِ‬ ‫ون اهلل ) وقولِِه‪ ( :‬وقل إنّي أَنا النَّذير ِ‬ ‫ت أ ْن أَ ْعب َد الذين تَ ْدعُو َن ِمن ُد ِ‬
‫ين) وأشباه ذلك ممّا يُ ُ‬
‫علم‬ ‫المب ُ‬‫ُ ُ‬ ‫َ ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫هي ُ‬‫نُ ْ‬
‫‪3‬‬
‫بعض ما جادلوا وناظَروا فيه‪".‬‬ ‫الكفار يف ِ‬ ‫جييب به‬ ‫ِ‬
‫َ‬ ‫النيب بأن ُ‬ ‫كالم أُمَر ُّ‬‫به أنه ٌ‬
‫يؤدي أ ْن ال‬ ‫‪ -‬ولكن عبد القاهر نبّه على أن استعمال (إن) ال میكن أن يكون يف كل جواب "ألنه ِّ‬
‫أين هو؟ أن تقول‪ :‬يف الدار‪ ،‬وأن ال‬ ‫ِ‬
‫تقول‪ :‬صاحلٌ‪ ،‬وإذا قال‪َ :‬‬ ‫كيف زيد؟ أن َ‬ ‫الرجل‪َ :‬‬
‫ُ‬ ‫يستقيم لنا إذا قال‬‫َ‬
‫‪4‬‬
‫تقول‪ :‬إنه صاحل‪ ،‬وإنه يف الدار‪ ،‬وذلك ما ال يقولُه أح ٌد‪".‬‬ ‫حىت َ‬ ‫يصح ّ‬ ‫ّ‬

‫‪-1‬عبد القاهر اجلرجاين‪ ،‬دالئل اإلعجاز‪ ،‬املصدر نفسه ‪ ،‬ص ‪.961‬‬


‫‪-2‬عبد القاهر اجلرجاين‪ ،‬دالئل اإلعجاز‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص ‪954‬‬
‫‪-3‬عبد القاهر اجلرجاين‪،‬املصدر نفسه‪ ،‬ص ‪961‬‬
‫‪–4‬عبد القاهر اجلرجاين‪،‬املصدر نفسه‪ ،‬ص ‪960‬‬
‫‪100‬‬
‫عبد اهلل لقائم‪ ،‬ألنَّه "إذا كان‬
‫إن َ‬ ‫ولكن قد يصح اجلمع بينها وبني الالم يف خطاب ِ‬
‫املنكر‪ ،‬حنو‪َّ :‬‬ ‫ّ‬
‫ِ‬
‫التأكيد أشدَّ‪ ،‬وذلك أنك أحوج ما تكو ُن إىل الزيادة يف تثبيت خ ِ‬ ‫ِ‬
‫ربك إذا كا َن‬ ‫َ‬ ‫َُ‬ ‫الكالم مع املنك ِر كانت احلَ َ‬
‫اجةُ إىل‬ ‫ُ‬
‫‪1‬‬
‫صحتَه‪".‬‬
‫وينكر َّ‬
‫هناك من يَدفعُه ُ‬

‫‪ )7‬تطبيق عام‪:‬‬
‫ليستدل هبا على أثر استثمار قوانني النحو وإمكاناته يف‬
‫ّ‬ ‫من النماذج اليت حلّلها عبد القاهر اجلرجاين‬
‫حسن النظم وبالغة األسلوب ورونق الكالم نسوق منوذجني اثنني‪:‬‬
‫النموذج األول هو قول إبراهيم بن العباس‪:‬‬
‫وسلِّط أعداء وغاب نصري‬ ‫ُ‬ ‫فلو إذ نبا دهر وأُنكر صاحب‬
‫تكـ ــون عن األهواز داري بنجوة ولك ـ ْـن مقادير جرت وأمور‬
‫وإين ألرج ــو بعد هذا حم ـ ـ ـ ـم ـ ـ ــدا ألفضل ما يُرج ـ ـ ــى أخ ووزير‬
‫قال عبد القاهر يف حتليل األبيات والتنويه جبمال نظمها وتعليله‪":‬فإنك ترى ما ترى من الرونق‬
‫والطالوة‪ ،‬ومن احلسن واحلالوة‪ ،‬مث تتف ّقد السبب يف ذلك‪ ،‬فتجده إّمنا كان من أجل تقدمیه الظرف الذي‬
‫هو (إذ نبا) على عامله الذي هو (تكون)‪ ،‬وأن مل يقل‪( :‬فلو تكون عن األهواز داري بنجوة إذ نبا دهر)‪،‬‬
‫مث أن قال‪( :‬تكون) ومل يقل‪( :‬كان)‪ ،‬مث أن ن ّكر الدهر ومل يقل‪( :‬فلو إذ نبا الدهر)‪ ،‬مث أن ساق هذا‬
‫التنكري يف مجيع ما أتى به من بعد‪ ،‬مث أن قال‪( :‬وأُنكر صاحب) ومل يقل‪( :‬وأنكرت صاحبا)‪ .‬ال ترى يف‬
‫األولني شيئا غري الذي عددته لك ّتعله ُحسنا يف النظم‪ ،‬وكلّه من معاين النحو كما ترى‪ ،‬وهكذا‬ ‫البيتني ّ‬
‫‪2‬‬
‫السبيل أبدا يف كل حسن ومزيّة رأيتهما قد نسبا إىل النظم‪ ،‬وفضل وشرف أحيل فيهما عليه‪".‬‬
‫‪ -‬والنموذج اآلخر هو أبيات البحرتي ‪:‬‬
‫بلونا ضرائب من قد نرى فما إن رأينا لفتح ضريبا‬

‫ت عزما وشيكا ورأيا صليبا‬


‫ُ‬ ‫هو املرء أبدت له احلادثا‬

‫رج ـ ـ ـ ـ ــى وبأسا َمهيبا‬


‫مساحا ُم َّ‬ ‫تن ّقل يف ُخلَُق ـ ـ ـ ـ ـ ــي سؤدد‬

‫وكالبحر إن جئته مستثيبا‬ ‫فكالسيف إن جئته صارخا‬

‫‪-1‬عبد القاهر اجلرجاين‪،‬املصدر نفسه‪ ،‬ص ‪960‬‬


‫‪-‬عبد القاهر اجلرجاين‪ ،‬دالئل اإلعجاز‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص ‪2015‬‬
‫‪101‬‬
‫تضمنته من طرائق النظم وظواهره‪" :‬فإذا رأيتها قد راقتك‬
‫قال عبد القاهر مبيّنا رجوع حسنها إىل ما ّ‬
‫وكثرت عندك‪ ،‬ووجدت هلا اهتزازا يف نفسك فعد فانظر يف السبب‪ ،‬واستقص يف النظر‪ ،‬فإنك تعلم ضرورة‬
‫وتوخى على اجلملة وجها من‬ ‫كرر‪ّ ،‬‬ ‫وعرف ون ّكر‪ ،‬وحذف وأضمر‪ ،‬وأعاد و ّ‬ ‫أخر‪ّ ،‬‬‫أن ليس إال أنه ق ّدم و ّ‬
‫الوجوه اليت يقتضيها علم النحو‪ ،‬فأصاب يف ذلك كلّه‪ ،‬مث لطف موضع صوابه‪ ،‬وأتى مأتى يوجب الفضيلة؛‬
‫أفال ترى أن ّأول شيء يروقك منها قوله‪( :‬هو املرء أبدت له احلادثات)‪ ،‬مث قوله‪( :‬تن ّقل يف خل َقي سؤدد)‪،‬‬
‫بتنكري السؤدد وإضافة اخللقني إليه‪ ،‬مث قوله‪( :‬فكالسيف)‪ ،‬وعطفه بالفاء مع حذفه املبتدأ‪ ،‬ألن املعىن ال‬
‫حمالة (فهو كالسيف)‪ ،‬مث تكريره الكاف يف قوله‪( :‬وكالبحر)‪ ،‬مث أن قرن إىل كل واحد من التشبيهني شرطا‬
‫جوابه فيه‪ ،‬مث أن أخرج من كل واحد من الشرطني حاال على مثال ما أخرج من اآلخر‪ ،‬وذلك قوله‪:‬‬
‫(صارخا) هناك و(مستثيبا) ههنا‪ ،‬ال ترى حسنا تنسبه إىل النظم ليس سببه ما عددت أو ما هو يف حكم‬
‫‪1‬‬
‫ما عددت‪".‬‬

‫حيسن بنا يف ختام هذه احملاضرة املتعلقة بنظرية النظم أن نسرد طائفة من القوانني الضابطة للنظرية‪ ،‬وهذه القوانني‬
‫تلخيص مناسب ملبادئها وأحكامها ‪:‬‬
‫‪ .5‬اإلعجاز هو أعلى مراتب البالغة والفصاحة‪ ،‬ومرجعه إىل النظم‪.‬‬
‫‪ .2‬النظم هو وضع الكالم الوضع الذي يقتضيه علم النحو وقوانينه وأحكامه‪.‬‬
‫يؤدي إىل تغ ّري يف املعىن‪ ،‬وال تستوي العبارتان املختلفتان أدىن اختالف‪.‬‬
‫تغري يف املبىن ّ‬
‫كل ّ‬‫‪ّ .3‬‬
‫‪ .9‬النظم هو اختيار أنسب مقال ّ‬
‫لكل حال وسياق‪ ،‬عمال مببدأ (لكل مقام مقال)‪.‬‬
‫‪ .1‬فصاحة الكلمة ينظر فيها إىل سياقها وما جياورها من الكلمات‪ ،‬ال إىل بنيتها‪.‬‬
‫‪ .3‬ترتيب املعاين سابق على ترتيب األلفاظ‪ .‬وترتيب األلفاظ يف الذكر يتبع ترتيب معانيها يف الذهن‪.‬‬
‫‪ .7‬مقاصد املتكلّم وحال السامع مما يتح ّكم يف النظم‪.‬‬
‫تستقل جبماهلا عنه‪ ،‬وينبغي أن يستدعيها املعىن‬
‫ّ‬ ‫‪ .8‬اجلناس والطباق وسائر ّ‬
‫احملسنات اللفظية تابعة للنظم وال‬
‫متعسفا‪.‬‬
‫وال تفرض فرضا ّ‬
‫‪ .4‬الكلمات إمنا جعلت ليؤلّف فيما بينها ويعلّق بعضها ببعض‪ ،‬ومل ّتعل لتبقى معزولة ألهنا ال ّ‬
‫تؤدي الغرض‬
‫منها آنئذ‪.‬‬
‫املصور‬
‫العام أو أصل املعىن‪ ،‬لكن العربة باملعىن اخلاص أو املعىن ّ‬
‫ليست العربة يف النظم باملعىن ّ‬ ‫‪.58‬‬
‫أحق به‪.‬‬
‫الذي خيتص به من أبدعه وجاء به‪ ،‬فيكون ّ‬

‫‪-‬عبد القاهر اجلرجاين‪،‬املصدر نفسه‪ ،‬ص ‪1014‬‬


‫‪102‬‬
‫املسميات يف ذاهتا ولكن وضعت لتكون عالمات عليها متيّزها‬
‫لتعرفنا حبقيقة ّ‬
‫مل توضع األمساء ّ‬ ‫‪.55‬‬
‫فيسهل اإلخبار هبا أو عنها‪.‬‬
‫االستعارة وسائر أنواع اجملاز ليست مبعزل عن النظم بل هي داخلة فيه حبيث يستوعبها وال‬ ‫‪.52‬‬
‫تستوعبه‪.‬‬
‫لي‪ ،‬من حيث إن العربة فيه بإتقان التفاصيل وحسن‬
‫نظم الكالم شبيه بالتصوير والنسج وصوغ احلُ ّ‬ ‫‪.53‬‬
‫املواءمة بني األجزاء ‪.‬‬
‫النظم الفين نظم جيمع بني االبتكار والتجديد‪ ،‬والدقة والتناسب‪ ،‬والقوة واإلقناع‪ ،‬والعذوبة‬ ‫‪.59‬‬
‫والرشاقة‪ ،‬والتلميح واإلحياء‪ ،‬إنه باختصار مزج موفّق بني اإلقناع واإلمتاع‪.‬‬

‫‪103‬‬
‫المحاضرة الثانية عشر‪:‬أثر نظرية النظم في الدرس اإلعجازي بعد الجرجاني‬

‫تطور بيان اإلعجاز وازدهار علم البالغة‪:‬‬ ‫‪-1‬‬


‫لقد عرفنا أن علم البالغة قد نشأ نشأته األوىل على طريقة الردود املتكاثرة حول فكرة الصرفة‪ ،‬فكان أول من‬
‫انربى للرد عليها فيما عرفت من الكتب أبو عثمان اجلاحظ فألف كتابا مساه "نظم القرآن"‪ ،‬وهو كتاب مفقود‪،‬‬
‫غري أن املؤلف نفسه قد أشار إىل الكتاب يف رسالته املسماة ب"حجج النبوة" كما أشار إليه غريه‪ .‬ولكن رأي‬
‫املؤلف يف نظم القرآن وإعجازه يبدو جليا يف إشاراته املقتضبة من كتابيه "احليوان" و"البيان والتبيني"‪ .‬مث اقتفى أثر‬
‫اجلاحظ يف تسميته بعض من قاموا بعده للدفاع عن نظم القرآن املعجز كأيب بكر عبد اهلل بن أيب داود‬
‫السجستاين الذي مسى كتابه "نظم القرآن"‪ ،‬ووضع بعده العامل املتفلسف أبو زيد البلخي كتابا مساه كذلك "نظم‬
‫القرآن" كما أشار إىل لطف كالمه ودقته أبو حيان يف "البصائر والذخائر"‪ ،‬مث بىن بعد ذلك أمحد بن علي‬
‫املعروف بابن اإلخشيد املعتزيل كتابه "نظم القرآن" على طراز سابقيه‪.‬‬
‫وأول من ألف كتابا مستقال بعنوان يشتمل لفظ "اإلعجاز" أبو عبد اهلل حممد بن يزيد الواسطي مساه "إعجاز‬
‫القرآن يف نظمه وتأليفه"‪ .‬ولقد قام بشرحه عبد القاهر اجلرجاين شرحا وافيا مبسوطا مساه "املعتضد" مث شرحا آخر‬
‫خمتصرا‪.‬‬
‫وكل هذه الكتب املؤلفة قبل القرن الرابع اهلجري يف إعجاز القرآن مل تصل إلينا‪ .‬ولكن توجد قرائن نستفيد‬
‫منها‪ ،‬ألن مؤلفات القوم يف إعجاز القرآن كانت حمدودة وقتئذ يف الناحية النقدية‪ .‬ولقد أشار اجلاحظ يف غري‬
‫موضع من كتبه إشارات تدل على أن منهجه يف إقرار اإلعجاز وحماولة إبرازه كانت حمصورة يف بيان املعاين الغزيرة‬
‫يف اآليات القرآنية القليلة الكلمات‪ .‬فإذا اعتمدنا على ما ورد يف كتب اجلاحظ اليت بني أيدينا‪ ،‬فلنا أن نقطع أن‬
‫سر اإلعجاز عنده يعود غالبا إىل ما خيتص باإلجياز أو إجياز القصر‪ .‬ولقد نبه عن ذلك يف رسائله كما ورد يف‬
‫كتابه "احليوان" قوله‪" :‬ويل كتاب مجعت فيه آيا من القرآن؛ لتعرف هبا فصل ما بني اإلجياز واحلذف‪ ،‬وبني الزوائد‬
‫والفضول واالستعارات‪ ،‬فإذا قرأهتا رأيت فضلها يف اإلجياز واجلمع للمعاين الكثرية باأللفاظ القليلة‪ ،‬فمنها قوله‬
‫حني وصف مخر أهل اجلنة‪" :‬ال يصدعون عنها وال ينزفون" وهاتان الكلمتان قد مجعتا مجيع عيوب مخر أهل‬
‫الدنيا‪ ،‬وقوله عز وجل حني ذكر فاكهة أهل اجلنة فقال‪" :‬ال مقطوعة وال ممنوعة" مجع هباتني الكلمتني مجيع تلك‬
‫املعاين‪ .‬وهذا كثري قد دللتك عليه‪ ،‬فإن أردته فموضعه مشهور ‪"1.‬ولكنا وإن جزمنا أن مؤلفي "نظم القرآن" ممن‬
‫ساروا على هنج اجلاحظ مل خيرجوا عن إطار ما جاء به‪ ،‬فأغلب الظن أن الواسطي مل يكن كذلك يف إعجازه وإن‬

‫‪ -1‬اجلاحظ‪ :‬احليوان‪ ،‬حتقيق حممد باسل عيون السود‪ ،‬دار الكتب العلمية‪ ،‬ط‪ ،9‬بريوت ‪9113‬م‪ ،‬ج‪ ،3‬ص ‪.49-40‬‬
‫‪104‬‬
‫كان ال يتخيل أن جياوز حدود سالفيه ومعاصريه إىل حد بعيد‪ .‬ولعل امتيازه من بني الكتب قد أدى عبد القاهر‬
‫إىل عنايته به تلك العناية‪.‬‬
‫ولئن ذهب الزمان بكتب "النظم" و"اإلعجاز" السالفة الذكر حىت احمت آثارها‪ ،‬وانطفأت أنوارها‪ ،‬فقد وفق‬
‫البقاء لكتب أخرى ثالثة ألفت يف القرن الرابع؛ أوهلا‪ :‬كتاب "النكت يف إعجاز القرآن" أليب احلسن علي بن‬
‫عيسى الرماين‪ ،‬وثانيها‪ :‬كتاب "بيان إعجاز القرآن" أليب سليمان محد بن حممد بن إبراهيم اخلطايب‪ ،‬وثالثها‪:‬‬
‫كتاب "إعجاز القرآن" للباقالين‪ .‬وهذه الكتب الثالثة تكفينا املؤونة لنعرف منهج البحث عن قضية اإلعجاز يف‬
‫ذلك الزمن وقبله‪ ،‬ألهنا متثل ما اندرست من الكتب كما ّتسم فكرة اإلعجاز يف عصرهم‪ .‬ولقد حط اخلطايب عن‬
‫أقدار من سبقوه يف تأليف اإلعجاز أهنم "قد أكثروا الكالم يف هذا الباب قدمیا وحديثا‪ ،‬وذهبوا فيه كل مذهب‬
‫من القول‪ ،‬وما وجدناهم بعد صدروا من ري ‪"1.‬فمن هنا نفهم أن املدافعني عن إعجاز القرآن البياين من‬
‫القدماء‪ ،‬وإن أثبتوا اإلعجاز وأقنعوا بطريقة كالمية ومنهج جديل ودفعوا الصرفة ونقضوها فلم جييئوا مبا يروي‬
‫الغليل‪ ،‬ويشفي العليل‪ ،‬يف حتديد وجه إعجازه بالغة‪ ،‬وذلك ‪ -‬كما يقول اخلطايب ‪ -‬لتعذر معرفة وجه اإلعجاز‬
‫يف القرآن‪ ،‬ومعرفة األمر يف الوقوف على كيفيته‪.2‬‬
‫على أن أصحاب كتب اإلعجاز الثالثة املذكورة وإن استنفدوا جدهم‪ ،‬وبذلوا جهدهم‪ ،‬واستنزفوا قوهتم‪،‬‬
‫وشدوا وطأهتم‪ ،‬إلدراك ما مل تدركه أوائلهم‪ ،‬وإحاطة ما فاهتم يف بيان اإلعجاز القرآين‪ ،‬من لدن الرماين إىل‬
‫الباقالين الذي زعم أنه ألف كتابه ليسقط الشبهات‪ ،‬ويزيل الشكوك اليت تعرض للجهال‪ ،‬وينتهي إىل ما خيطر‬
‫هلم‪ ،‬ويعرض ألفهامهم‪ ،‬فهم وإن أحسنوا ووفقوا يف كثري‪ ،‬فما أغلقوا الباب على عقول املتشككني واملعارضني‪،‬‬
‫وما أصابوا بسهمهم نقطة اإلعجاز البياين إصابة القرطاس‪ .‬ولذلك قد رد إىل الباقالين قوله الذي تنقص فيه‬
‫اجلاحظ أنه "مل يزد فيه على ما قاله املتكلمون قبله‪ ،‬ومل يكتشف عما يلتبس يف أكثر هذا املعىن‪" 3.‬وإىل مثل‬
‫ذلك ذهب شوقي ضيف أن الباقالين "مل يستطع تفسري اإلعجاز القرآين من حيث نظمه تفسريا مفصال دقيقا‬
‫على الرغم من إطنابه وتفصيله‪"4‬وأنه "مل يستطع أن يبني حقا عن شيء من هذا املعىن‪ ،‬ولكنه هو وأمثاله من‬
‫األشعرية إمنا كانوا يريدونه وعجزوا عن بيانه‪".5‬‬

‫‪ -1‬اخلطايب‪" :‬بيان إعجاز القرآن"‪ ،‬ضمن ثالث رسائل يف إعجاز القرآن‪ ،‬حتقيق حممد خلف اهلل وحممد زغلول سالم‪ ،‬دار املعارف‪ ،‬ط‪،4‬‬
‫‪0220‬م‪ ،‬ص ‪.90‬‬
‫‪ -2‬اخلطايب ‪ ،‬املرجع نفسه ‪ ،‬ص ‪.90‬‬
‫‪ -3‬الباقالين‪ :‬إعجاز القرآن‪ ،‬حتقيق أمحد صقر‪ ،‬دار املعارف‪ ،‬ط‪ ،5‬القاهرة ‪0280‬م‪ ،‬ص ‪.6‬‬
‫‪ -4‬شوقي ضيف‪ :‬البالغة تطور وتاريخ‪ ،‬دار املعارف‪ ،‬ط‪ ،2‬القاهرة ‪0225‬م‪ ،‬ص ‪.012‬‬
‫‪ -5‬شوقي ضيف‪ ،‬املرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.007‬‬
‫‪105‬‬
‫وإىل هذه الدائرة ينضم القاضي عبد اجلبار إال أنه قد ارتقى أكثر من معاصريه وأورد مالحظات وإشارات جد‬
‫هامة يف تركيب الكالم ونظمه ووصل إىل إشارات حنوية مل تكن عند سالفيه حىت ملس بعض بذور نظرية النظم يف‬
‫جزء من كتابه "املغين" مساه "إعجاز القرآن"‪ .‬ولكن عبد اجلبار مل يعط لذلك اهتماما عميقا میكن أن يقال بأنه‬
‫مؤصل لنظرية ما‪ ،‬بل َسلَك ِس ْلك األولني ووفق يف مالحظاته إىل ما مل يتنبه له قدامه‪.‬‬
‫وهكذا كانت فكرة اإلعجاز وطيدة حىت جاء عبد القاهر اجلرجاين فكشف عن غوامض ما قد أحيط من‬
‫األقاويل يف نظم القرآن‪ ،‬وأبرز من وجوه إعجازه ما أقنعت أهل اللغة والبالغة‪ ،‬فأصبحت النظرية معروفة به يف‬
‫كتابه القيم "دالئل اإلعجاز" وهو أساس علم املعاين كما يعترب كتابه "أسرار البالغة" الذي بني فيه يف مواضع‬
‫متعددة وجوه البيان القرآين أساسا ل"علم البيان"‪ .‬هذا مع أن عبد القاهر قد وضع إىل جانب كتابه "الدالئل"‬
‫رسالة مسماة ب"الرسالة الشافية" كما سلف ذكرها‪ ،‬كان هدفه فيها تثبيت حقيقة اإلعجاز ال تبيني أسراره‪.‬‬
‫ومع عبد القاهر‪ ،‬انتهى ‪ -‬كما يرى بعض الباحثني ‪ -‬الصراع بغلبة أصول املنهج القرآين الذي يرى أن سبب‬
‫إعجاز النص كامن يف نظمه وطريقة بنائه‪ .‬وال غرو يف أن يقتصر خلفه على وضعه ونظريته‪ ،‬فمد الزخمشري‬
‫النظرية واعتمد عليها إلبراز أسرار اإلعجاز يف تفسريه "الكشاف"‪ ،‬مث جاء بعده السكاكي فقعد بواسطة كتايب‬
‫عبد القاهر قواعد علم البالغة يف "املفتاح" كما خلص الفخر الرازي "الدالئل" يف كتاب مساه "هناية اإلجياز يف‬
‫دراية اإلعجاز"‪ .‬ومن هنا "أصبحت علوم البالغة قائمة بذاهتا متميزة املوضوع‪ ،‬واضحة املنهج‪ ،‬قريبة املورد‪ ،‬وافية‬
‫اجلىن ‪"1.‬فلم يأت املتأخرون بشيء جديد لوال الشرح والتلخيص‪ ،‬واالختصار والتوضيح‪ ،‬كما فعل القزويين‬
‫ب"املفتاح" يف كتابيه "اإليضاح" و"التلخيص‪".‬‬
‫ولئن كانت املعتزلة ومتكلمو األشاعرة أبرز من تصدى للكالم يف اإلعجاز والنظم‪ ،‬فلم يقتصر اجملال عليهم‬
‫دون غريهم‪ .‬فلقد اهتم باملوضوع بعض املفسرين يف تفاسريهم كالطربي الذي أشار إىل اهتمامه مبزايا األسلوب يف‬
‫تفسريه كما أبان بعده القرطيب مهته اهلامة لبالغة القرآن فذكر نكتا يف إعجاز القرآن وعدد له وجوها عديدة يف‬
‫مقدمة تفسريه‪ .‬وهو نفس املنهج الذي سلكه أبو حيان يف "البحر احمليط"‪ ،‬وابن عطية يف "احملرر الوجيز"‪ ،‬إذ وقفا‬
‫أثناء تفسري اآليات على إبراز النكات البالغية‪ ،‬واجلهات اإلعجازية‪ ،‬كما متيز كتابامها بانضوائهما إىل اجلانب‬
‫اللغوي‪ .‬ولقد أدىل بعض احملدثني بدلوهم كاخلطايب السالف الذكر‪ ،‬وحىت الفقهاء كابن حزم يف "الفصل"‬
‫والقاضي عياض يف "الشف"‪ .‬وذلك ألن قضية اإلعجاز بقيت زمنا طويال شغل الناس الشاغل‪ ،‬وافرتق الناس يف‬
‫حتديد وجوهه الستبهامه عليهم‪ .‬والفرق بني هؤالء املعتزلة واملتكلمني أصحاب العلوم الدخيلة‪ ،‬وأولئك املختصني‬
‫بالعلوم األصيلة‪ ،‬هو أن دراسة هؤالء لبالغة القرآن كانت دراسة غاية لديهم فأفردوا هلا كتبا مستقلة مبسوطة‬

‫‪-1‬حامد عوين‪ :‬املنهاج الواضح يف البالغة‪ ،‬املطابع األمريية‪ ،‬القاهرة ‪0224‬م‪ ،‬ص ‪.01‬‬
‫‪106‬‬
‫ممدودة‪ ،‬فلذلك يرجع الفضل األكرب يف قيام هذا العلم إليهم‪ ،‬بينما كان أولئك يتكلمون فيه ضمن مؤلفاهتم‪،‬‬
‫نفس ما تراه يف مؤلفات "علوم القرآن" وكما فعل ابن قتيبة يف تصديه للطاعنني يف القرآن بشكل عام وملنكري‬
‫إعجازه بشكل خاص مفندا مزاعمهم وموقفا مطاعنهم‪ ،‬يف كتابه "تأويل مشكل القرآن‪".‬‬
‫وهكذا تالطمت جهود العلماء وتتابعت حبوثهم عن حقيقة اإلعجاز النظمي يف رسائل وكتب مستقلة‪،‬‬
‫وضمن التفاسري والكتب العلمية حىت تشكلت فوق كل ذلك "نظرية النظم" اليت سامهت على ضوء كبري يف إنتاج‬
‫علم البالغة الذي قام على أسس وقواعد مضبوطة‪ ،‬وأصبحت له اصطالحاته اخلاصة اليت مل يكن استعماهلا يف‬
‫أول الوهلة إال استعماال عاما‪ ،‬فمهدت للمحدثني تبيني أسرار اللغة واإلعجاز على طريقة واضحة بسيطة‪.‬‬
‫نظرية النظم بين التحقيق والتطبيق‪:‬‬ ‫‪-2‬‬
‫لقد علمنا أن كلمة "النظم" ظهرت وتداولت منذ بداية التكلم عن موضوع اإلعجاز‪ ،‬فجعله اجلاحظ عنوانا‬
‫لكتابه "نظم القرآن"‪ ،‬وأخذ بأخذه كثري ممن جاءوا إثره مقتفني أثره هبذه التسمية‪ ،‬واستعمله مؤلفو إعجاز القرآن‬
‫من دون أن حيددوا أمره‪ ،‬ويتقنوا ضبطه‪ ،‬وكأهنم مهما كثرت أقواهلم حول الكلمة ال يستعملوهنا إال يف مفهومه‬
‫العام‪ ،‬ومل تكتمل كلمة النظم على كوهنا نظرية واضحة قائمة مستقلة إال مع عبد القاهر اجلرجاين‪ .‬ولقد رأينا كيف‬
‫كان اللغويون الذين تقدموه يعيب آخرهم أوهلم "كلما دخلت أمة لعنت أخته"‪ .‬فال يكاد جيهد عصر جهده‬
‫اجلاهد ويزعم ألهله حل مشكلة اإلعجاز وفسخ معضلته وأسنده إىل النظم إال وقد أثر عصر يرى النظم مستبهما‬
‫ومشتبها عليه يوكل إىل علمائه ضرورة التحقيق واملراجعة‪ .‬ومع كل ذلك ال يزال الكالم يدور حول النظم ككونه‬
‫مرجع اإلعجاز القرآين مقبوال لدى الباحثني‪.‬‬
‫انطالقا من هذا كله نستطيع أن نقرر أن النظرية قد مرت مبرحلتني أساسيتني‪:‬‬
‫أوالمها‪ :‬غامضة‪ ،‬وهي متثل مرحلة تثبيت اإلعجاز وحتقيقه؛ وهي عصر ما بني اجلاحظ وعبد القاهر أي منالقرن‬
‫الثالث إىل القرن اخلامس اهلجريني‪.‬‬

‫أخرامها‪ :‬واضحة بينة متثل مرحلة تطبيق النظرية يف نصوص دامغة؛ ومتتد من لدن عبد القاهر إىل ما وراءه‪.‬‬

‫أ ‪ -‬النظم قبل عبد القاهر‪:‬‬


‫لقد ذكر البالغيون وجوها عديدة خيتبئ فيها سر اإلعجاز‪ ،‬وحنن ال هنتم إال مبا خيص الناحية اللغوية والبالغية من‬
‫بني تلك الوجوه‪ .‬ونلخص ما أعادوا إليه اإلعجاز يف هذا اجلانب فنقول‪ :‬إن وجهه يعود عندهم إىل فصاحة‬
‫القرآن‪ ،‬وغرابة أسلوبه‪ ،‬وترصيفه وتأليفه‪ ،‬وصحة معانيه‪ ،‬وسالمة ألفاظه من العيوب‪ ،‬وعلو بالغته اليت تعم كل‬
‫نواحيها‪ ،‬ورقة صياغته‪ ،‬وروعة تعبريه وبيانه‪ ،‬ويف خواص تركيبه وصوره‪ ،‬ومجعه بني صفيت اجلزالة والعذوبة‪،‬‬
‫والسالسة والسهولة‪ ،‬واحلالوة واملهابة‪ ،‬والروعة والفخامة‪ ،‬وتفرده يف جنسه اخلارج عن أساليب العرب املألوفة‬
‫‪107‬‬
‫عندهم من الشعر‪ ،‬والنثر‪ ،‬واخلطابة‪ ،‬والسجع‪ ،‬إذ القرآن متضمن فواصل‪ ،‬والفواصل ‪ -‬كما قال الرماين ‪ -‬تابعة‬
‫للمعاين خبالف األسجاع اليت املعاين تابعة هلا‪ ،‬مثل النون وامليم يف "عم يتساءلون‪ ،‬عن النبإ العظيم‪"1‬ويف الدال‬
‫والباء يف قوله "ق‪ ،‬والقرآن اجمليد‪ ،‬بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم فقال الكافرون هذا شيء عجيب‪"2‬كما ترى‬
‫التفاوت البارز النائي يف مدى السياق‪ ،‬ويف مثل قوله‪" :‬يوم تكون السماء كاملهل‪ ،‬وتكون اجلبال كالعهن‪ ،"3‬وكل‬
‫هذا خمالف لنمط السجع املعروف عند العرب‪ ،‬وأما عدم كون القرآن شعرا يف وزنه وأسلوبه‪ ،‬فهذا أبرز من أن‬
‫يتكلم فيه‪ .‬لذلك قد نفى الباقالين البديع وأصنافه عن وجوه اإلعجاز اليت ادعوها يف الشعر أنه میكن استدراكه‬
‫بالتعلم والتصنع؛ قال‪" :‬فأما شأو نظم القرآن‪ ،‬فليس له مثال حيتذى عليه‪ ،‬وال إمام يقتدى به‪"4.‬‬
‫فهذه مجلة مما أفصحوا عن وجوه اإلعجاز‪ ،‬فإذا تأملناها وأعدنا االستنباط ال جندها خترج بشكل عام عن دائرة‬
‫النظم الذي قد أمجعوا أو كادوا جيمعون على كونه املرجع األساس لإلعجاز‪ .‬ولكنهم وإن أثبتوا وجوده وحققوا‪،‬‬
‫فلم حيددوا ومل يضبطوا‪" ،‬ولذلك صاروا إذا سئلوا عن حتديد هذه البالغة اليت اختص هبا القرآن‪ ،‬الفائق يف وصفها‬
‫سائر البالغات‪ ،‬وعن املعىن الذي يتميز به عن وصفها سائر البالغات‪ ،‬وعن املعىن الذي يتميز به عن سائر أنواع‬
‫الكالم املوصوف بالبالغة‪ ،‬قالوا إنه ال میكننا تصويره وال حتديده بأمر ظاهر نعلم به مباينة القرآن غريه من الكالم‪،‬‬
‫وإمنا يعرفه العاملون به عند مساعه ضربا من املعرفة ال میكن حتديده ‪"5.‬فالقدماء الذين سبقوا عبد القاهر مل ينبهوا‬
‫يف إثبات بالغة النظم إال عما يتعلق مبرتادفات األلفاظ حبيث يوضع ‪ -‬كما هو عند اخلطايب ‪" -‬كل نوع من‬
‫األلفاظ اليت تشتمل عليها فصول الكالم موضعه األخص األشكل به‪ ،‬الذي إذا أبدل مكانه غريه جاء منه‪ :‬إما‬
‫تبدل املعىن الذي يكون منه فساد الكالم‪ ،‬وإما ذهاب الرونق الذي يكون معه سقوط البالغة"‪6.‬وذلك ألن‬
‫البالغة ‪ -‬كما هو املعروف ‪ -‬إمنا تعين مطابقة الكالم ملقتضى احلال ودقة اللفظ يف انطباقه على املعىن املراد‪.‬‬
‫والكلمات وإن ترادفت لدى أذهان الناس ففيها اختالفات دقيقة ال يتنبه هلا يف غالب األحيان ويف كل األوضاع‬
‫واألحوال مثل ما بني‪ :‬قام وهنض‪ ،‬وثار وهاج‪ ،‬وشك وارتاب‪ ،‬وجلس وقعد‪ ،‬ونام ورقد‪ ...‬إخل‪ .‬وهذا ما ال‬
‫يستطيع إنسان أن میيزه بدقة يف كل حني‪ ،‬وال يستطيع كذلك أن يعرف كل املرتادفات املوجودة يف كل لفظ يلفظه‬
‫أو يكتبه‪ .‬ومما أشار إليه القدماء إشارة يسرية يف حتقيق اإلعجاز بنظمه يف هذا اجلانب طريقة اإلجياز واالختصار‪،‬‬
‫وهذا وجه تفطنوا له منذ زمن مبكر كما وقفوا على بعض اخلصائص البالغية اليت تفوق هبا القرآن دون أن يتعمقوا‬

‫‪-1‬سورة النبأ‪ ،‬اآليات ‪.9-0‬‬


‫‪-2‬سورة "ق"‪ ،‬اآليات ‪.9-0‬‬
‫‪-3‬سورة املعارج‪ ،‬اآليات ‪.2-8‬‬
‫‪-4‬الباقالين‪ :‬إعجاز القرآن‪ ،‬مرجع سابق‪،‬ص ‪.009-000‬‬
‫‪-5‬اخلطايب‪" :‬بيان إعجاز القرآن"‪ ،‬ضمن ثالث رسائل يف إعجاز القرآن‪ ،‬مرجع سابق ‪،‬ص ‪.94‬‬
‫‪ -6‬اخلطايب‪:‬املرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.92‬‬
‫‪108‬‬
‫يف التماسه‪ .‬ومل يسلك العلماء القدامى يف حماولة حتقيقهم لإلعجاز وإبراز وجوهه مسلكا لغويا صرفا بل أدبيا‬
‫على غرار ما ألف وعرف يف عصرهم وما قبله من النقد الذي كان مستعمال يف املوازنات‪ ،‬واملعارضات‪،‬‬
‫واملناقضات‪ ،‬واملساجالت‪ ،‬واملقارضات‪ ،‬كما يظهر ذلك يف منهج الباقالين‪.‬‬
‫ومن هنا نعرف أن عصر ما قبل عبد القاهر مل يفد من نظرية النظم ضبط اإلعجاز وإن أقره وأثبت حقيقته‪.‬‬
‫وهذا أمر ظاهر لكل من درس مؤلفات القوم كما الحظ أمحد مطلوب أن "يف كتب اإلعجاز اليت وصلت حديثا‬
‫عن النظم‪ ،‬ولكنه ال جيلو الصورة وال يوضح اهلدف‪ ،‬وإمنا هو ومضات يف الطريق سار عليها البالغيون"‪ ،1‬كما‬
‫صرح مثله مؤلف "التفكري" أن املهتمني بإعجاز القرآن قبل عبد القاهر "تعرضوا للمصطلح (أي النظم) يف صورة‬
‫جمملة‪ ،‬ومل يعطوه مضمونا مضبوطا ملموسا‪ ،‬ومل حيللوه حتليال لغويا يكشف عن طاقات اللغة‪ ،‬وما توفره‬
‫للمستعمل من إمكانيات الرتكيب والتأليف"‪.2‬‬
‫وهكذا كان "النظم" حىت جاء عبد القاهر فأبرز غوامضه‪ ،‬ومجع نواحيه‪ ،‬وفسره على طريقة لغوية قام فيما بعد‬
‫نظرية مطبقة استفاد منه من جاءوا بعده‪ ،‬فأصبحوا يلتمسون إعجاز القرآن الذي مل يكن القدماء يفسرونه إال‬
‫بالذوق على ضوء علمي عبد القاهر "البيان" و"املعاين" فأصبح منهج البحث عن اإلعجاز منهجا تطبيقيا‪ ،‬كما‬
‫ظهر يف قول السكاكي أنه ال يدرك وال میكن وصف اإلعجاز إال بإتقان علمي املعاين والبيان‪ .‬وهذا الذي صرح‬
‫به الزخمشري يف مقدمة تفسريه أن الفقيه‪ ،‬واملتكلم‪ ،‬وحافظ القصص واألخبار‪ ،‬والواعظ‪ ،‬والنحوي‪ ،‬واللغوي‪،‬‬
‫مهما مسا وسبق أقرانه يف ميدان علمه‪ ،‬فال يتصدى منهم أحد‪ ،‬لسلوك تلك الطرائق‪ ،‬وال يغوص على شيء من‬
‫تلك احلقائق‪ ،‬إال من برع يف علمني خمتصني بالقرآن‪ ،‬ومها‪ :‬علم املعاين وعلم البيان‪.‬‬
‫ب ‪ -‬نظرية النظم الجرجانية‪:‬‬
‫لئن كانت نظرية النظم معروفة ومقرتنة بعبد القاهر‪ ،‬فإن بذورها وجذورها قد ظهرت منذ بداية الصراع بني‬
‫الصرفة واإلعجاز البياين‪ .‬ويف ذلك صنفت كتب "النظم" و"اإلعجاز"‪ ،‬فذكر كل من اجلاحظ والباقالين وعبد‬
‫اجلبار أن املعول يف اإلعجاز يعود إىل النظم وكيفيات الصياغة وخصائص األسلوب‪ ،‬وإن اختلف مجلة مذهبهم يف‬
‫حماولة توضيح ذلك‪ ،‬وقصرت استطاعتهم عن إدراك جوانب هذه السمات‪ .‬غري أن عبد القاهر قد نقح ‪ -‬فيما‬
‫ال يشك فيه ‪ -‬وفحص مقاالت من سبقوه يف موضوع النظم واستطاع ببصريته الوقادة وشحاذة حذقه وعمق‬
‫تأمله أن يصل إىل تكوين املصطلح نظرية قائمة راسية‪ .‬فكان أول ما اهتم به ثنائية اللفظ واملعىن والعالقة بينهما؛‬
‫وهو موضوع طاملا تنازع فيه القدماء ملعرفة ما إذا كانت فصاحة الكالم وبالغته راجعتني إىل هذا أم ذاك أم إىل‬

‫‪ -1‬أمحد مطلوب‪ :‬أساليب بالغية‪ ،‬وكالة املطبوعات‪ ،‬ط‪ ،0‬الكويت ‪0281‬م‪ ،‬ص ‪.71‬‬
‫‪ -2‬محادي صمود‪ :‬التفكري البالغي عند العرب‪ ،‬املطبعة الرمسية للجمهورية التونسية‪ ،‬تونس ‪0280‬م‪ ،‬ص ‪.424‬‬
‫‪109‬‬
‫كليهما‪ ،‬فرأى البعض رجوعه إىل اللفظ تعلقا ببعض أقوال بعض األدباء والبلغاء كقول اجلاحظ‪" :‬واملعاين مطروحة‬
‫يف الطريق"‪ ،‬فاحتكره اللفظيون أن اجلاحظ ال يرى فضل الكالم إال يف األلفاظ دون املعاين وجعلوا األلف والالم‬
‫لالستغراق‪ .‬وانتصر فريق آخر للمعىن دون اللفظ ورأى أن قول اجلاحظ مقيد يف مناسبته اليت كان ينكر فيها أليب‬
‫عمرو الشيباين استجادته وتعجبه املفرط هلذين البيتني‪:‬‬
‫وإمنا املوت سؤال الرجال‬ ‫ال حتسنب املوت موت البلى ⁂‬
‫أشد من ذاك لذل السؤال‬ ‫⁂‬ ‫كالمها موت ولكن ذا‬
‫فقال اجلاحظ أن معاين البيتني هذين ‪ -‬يف رأي هذا الفريق ‪ -‬غري علية يعرفها العجمي والعريب والقروي‬
‫والبدوي‪1‬؛ كما أعاد أبو هاشم اجلبائي الفصاحة إما إىل اللفظ وإما إىل املعىن ال غري‪ .‬فلما جاء عبد القاهر رد‬
‫على هؤالء وأولئك وعلى القائلني بأن ليس إال املعىن واللفظ وال ثالث‪ ،‬معوال أمرهم أن مرد ذلك جهلهم لشأن‬
‫الصورة‪ ،‬مث جعل اللفظ واملعىن كمنزلة اجلوهر واملعدن‪ ،‬فال يستغين أحدمها عن اآلخر‪ ،‬ألن األلفاظ خدم للمعاين‪،‬‬
‫وتابعة هلا والحقة هبا‪ ،‬وأن العلم مبواقع املعاين يف النفس‪ ،‬علم مبواقع األلفاظ الدالة عليها يف النطق‪ .‬فال میكن أن‬
‫يكون اللفظ حمط الفضيلة وحده‪" ،‬ألنك ترى الكلمة تروقك وتؤنسك يف موضع‪ ،‬مث تراها بعينها تثقل عليك‪،‬‬
‫وتوحشك يف موضع آخر‪ ،2‬ففصاحة الكلم وبالغة اخلطاب ترجعان إذن إىل تأليف الكالم وعالقات عناصره؛‬
‫وما ذلك كله إال النظم‪ .‬يقول شوقي ضيف بعد أن تكلم عن فصاحة األلفاظ وبالغتها‪" :‬وواضح من ذلك كله‬
‫أن عبد القاهر يرد إعجاز القرآن إىل خصائصه يف أسلوبه وراء مجال اللفظ ومجال املعىن‪ ،‬أو بعبارة أخرى إىل‬
‫خصائص يف نظمه‪ ،3‬هذا النظم الذي يريد عبد القاهر أال يعود اإلعجاز إال إليه‪ .‬يقول بعد أن أبعد كل األنواع‬
‫األخرى‪" :‬فإذا بطل أن يكون الوصف الذي أعجزهم من القرآن يف شيء مما عددناه مل يبق إال أن يكون يف‬
‫االستعارة‪ .‬وال میكن أن ّتعل االستعارة األصل يف اإلعجاز‪ ،‬وأن يقصر عليها‪ ،‬ألن ذلك يؤدي إىل أن يكون‬
‫اإلعجاز يف آي معدودة‪ ،‬يف مواضع من السور الطوال خمصوصة‪ .‬وإذا امتنع ذلك فيها مل يبق إال أن يكون يف‬
‫النظم والتأليف‪ ،‬ألنه ليس من بعد ما أبطلنا أن يكون فيه إال النظم‪"4.‬‬
‫فما هذا النظم الذي هو مناط اإلعجاز إذن عنده؟ فهو جييب إىل أنه "ليس شيئا غري توخي معاين النحو‬
‫وأحكامه فيما بني الكلم‪ ،‬وأنا إن بقينا الدهر جنهد أفكارنا حىت نعلم للكلم املفردة سلكا ينظمها‪ ،‬وجامعا جيمع‬

‫‪-1‬اجلاحظ‪ ،‬احليوان‪ ،‬حتقيق وشرح عبد السالم هارون ‪ ،‬ج‪ ،3‬شركة ومطبعة مصطفى البايب احلليب وأوالده ‪،‬مصر ‪ ،‬ط‪0265 ،9‬م‪ .‬ص ‪.67‬‬
‫‪ -2‬عبد القاهر اجلرجاين‪ :‬دالئل اإلعجاز‪ ،‬حتقيق حممد رضوان الداية وفايز الداية‪ ،‬مكتبة سعد الدين‪ ،‬ط‪0287 ،0‬م‪ ،‬ص ‪.29‬‬
‫‪ -3‬شوقي ضيف‪ :‬البالغة تطور ونقد‪ ،‬مرجع سابق ‪،‬ص ‪.066‬‬
‫‪ -4‬عبد القاهر اجلرجاين‪ :‬دالئل اإلعجاز‪ ،‬مصدر سابق ‪،‬ص ‪.357‬‬
‫‪110‬‬
‫مشلها ويؤلفها‪ ،‬وجيعل بعضها بسبب من بعض غري توخي معاين النحو وأحكامه فيها‪ ،‬طلبنا ما كل حمال دونه‪،1‬‬
‫ونفهم من تعريف عبد القاهر للنظم أن النظم إن كان مستغلقا على سابقيه فألهنم كانوا يطلبونه يف غري موضعه‬
‫فأخطأوا وجه الصواب الذي مل يكن إال توخي معاين النحو بينما كان الكثري منهم يذهب فيه بوجهة أدبية‪ ،‬وكأن‬
‫الباقالين وأصحابه من األشاعرة عندما جشموا إبراز اإلعجاز بالنظم فأعياهم ذلك كان يفوهتم هذا السر املكنون‬
‫الذي كشف عنه عبد القاهر‪ ،‬ويف ذلك نفهم قوله‪" :‬كان من أعجب العجب حني يزعم زاعم أنه يطلب املزية يف‬
‫‪3:‬‬
‫النظم‪ ،‬مث ال يطلبها يف معاين النحو وأحكامه اليت النظم عبارة عن توخيها فيما بني الكلم ‪2.‬ويف هذا قال شعرا‬
‫يف النظم إال مبا أصبحت أبديه‬ ‫ما من سبيل إىل إثبات معجزة ⁂‬
‫معىن سوى حكم إعراب تزجيه‬ ‫⁂‬ ‫فما لنظم كالم أنت ناظمه‬
‫حكم من النحو منضي يف توخيه‬ ‫وقد علمنا بأن النظم ليس سوى ⁂‬
‫معىن وصعد يعلو يف ترقيه‬ ‫لو نقب األرض باغ غري ذاك له ⁂‬
‫وال رأى غري غي يف تبغيه‬ ‫⁂‬ ‫ما عاد إال خبسر يف تطلبه‬
‫وتوخي معاين النحو يكون يف أحكامه وفروقه ووجوهه والعمل بقوانينه وأصوله‪ ،‬وليست معاين النحو معاين‬
‫األلفاظ‪ ،‬بل يظهر برتتيب األلفاظ واإلعراب‪ .‬فاملعول يف كل ذلك عند عبد القاهر هو أن خيتار للفظ موضعه‬
‫األليق ترتيبا وتركيبا وتأليفا وصياغة‪ ،‬فتحسن االختيار يف الكالم يف وضع كل حرف من احلروف النحوية مثال‬
‫حيث ينبغي أن تكون كالواو والفاء و"مث"‪" ،‬ألن يتأتى لك إذا نظمت شعرا‪ ،‬وألفت رسالة أن حتسن التخري‪ ،‬وأن‬
‫تعرف لكل من ذلك موضعه ‪4.‬وهذا التفريق الدقيق الذي يكون يف نظم الكالم والذي ينبه عنه عبد القاهر‬
‫نفهمه إذا رجعنا إىل غلط أيب العالية يف اآلية‪" :‬الذين هم عن صالهتم ساهون"‪ ،‬قال‪ :‬الذي ينصرف وال يدري‬
‫عن شفع أو وتر‪ ،‬فرد عليه احلسن بأنه لو كان كذلك لقال‪" :‬الذين هم يف صالهتم ساهون‪ ،‬فلم يفرق أبو العالية‬
‫بني "يف" و"عن" حىت تنبه له احلسن‪. 5‬وهذا الذي اشتبه على الكندي املتفلسف فزعم حشوا قوهلم‪" :‬عبد اهلل‬
‫قائم"‪" ،‬إن عبد اهلل قائم"‪" ،‬إن عبد اهلل لقائم" حىت يتنبه له أبو العباس املربد أن املعاين خمتلفة الختالف األلفاظ‪،‬‬

‫‪ -1‬عبد القاهر اجلرجاين‪ ،‬ااملصدرنفسه ‪،‬ص ‪357‬‬


‫‪ -2‬عبد القاهر اجلرجاين ‪،‬دالئل اإلعجاز‪ ،‬مصدر سابقص ‪.358-357‬‬
‫‪ -3‬وهذه األبيات من قصيدة مكونة بعشرين بيتا ونيف‪ ،‬راجعها يف‪ ،‬عبد القاهر‪" :‬املدخل إىل إعجاز القرآن"‪ ،‬دالئل اإلعجاز‪ ،‬ص ‪.53-59‬‬
‫‪ -4‬عبد القاهراجلرجاين‪ :‬دالئل اإلعجاز‪ ،‬مصدر سابق ‪،‬ص ‪.946‬‬
‫‪ -5‬انظر ذلك يف‪ ،‬الزركشي‪ :‬الربهان يف علوم القرآن‪ ،‬حتقيق أبو الفضل إبراهيم‪ ،‬املكتبة العصرية‪ ،‬بريوت ‪0228‬م‪ ،‬ص ‪.015‬‬
‫‪111‬‬
‫فقوهلم‪" :‬عبد اهلل قائم" إخبار عن قيامه‪ ،‬وقوهلم‪" :‬إن عبد اهلل قائم" جواب عن سؤال سائل‪ ،‬وقوهلم‪" :‬إن عبد‬
‫‪1‬‬
‫اهلل لقائم" جواب عن إنكار منكر قيامه‪ ،‬فقد تكررت األلفاظ لتكرر املعاين‪.‬‬
‫ويرى عبد القاهر أن النظم میيز لك على الوجه األصح كل تصرفات اجلمل وما يتعلق هبا من تقدمي وتأخري‪،‬‬
‫وتعريف وتنكري‪ ،‬وإضمار وإظهار‪ ،‬وحذف وتكرار‪ ،‬وفصل ووصل‪ ،‬حىت تبينت لك يف النظم الفروق اخلربية يف‬
‫مثل‪" :‬زيد منطلق"‪ ،‬و"زيد ينطلق"‪ ،‬و"ينطلق زيد"‪ ،‬و"منطلق زيد"‪ ،‬و"زيد املنطلق"‪ ،‬و"املنطلق زيد"‪ ،‬و"زيد هو‬
‫املنطلق"‪ ،‬و"زيد هو منطلق"‪ ،‬فيجب على الناظم أن يضع كل كالم موضعه الذي يقتضيه علم النحو بال اعوجاج‬
‫وال زيغان حىت يصيب رغم اختالف الوجوه املتعددة املعىن اخلاص يف مثل هذه اجلمل املتكونة من شرط وجزاء‪:‬‬
‫"إن خترج أخرج"‪ ،‬و"إن خرجت خرجت"‪ ،‬و"إن خترج فأنا خارج"‪ ،‬و"أنا خارج إن خرجت"‪ ،‬و"أنا إن خرجت‬
‫خارج"‪ .‬وكذلك األمر مع الوجوه احلالية رغم تعددها فيفهم معىن كل عبارة ويعيه ويضبطه ويعرف لكل لفظ من‬
‫ألفاظها موضعه‪ ،‬وجييء به حيث ينبغي له يف مثل قوله‪" :‬جاءين زيد مسرع"‪ ،‬و"جاءين يسرع"‪ ،‬و"جاءين وهو‬
‫مسرع"‪ ،‬أو "هو يسرع"‪ ،‬و"جاءين قد أسرع"‪ ،‬و"جاءين وقد أسرع‪".‬‬
‫فبهذه الدقة يتعذر على إنسان أن يراعي كالمه من املعوجات يف كل حني‪ ،‬يقول‪" :‬وال جهة الستعمال هذه‬
‫اخلصال غري أن يؤتى املعىن من اجلهة اليت هي أصح لتأديته‪ ،‬وخيتار له اللفظ الذي هو أخص به‪ ،‬وأكشف عنه‬
‫وأمت له‪ ،‬وأحرى بأن يكسبه نبال‪ ،‬ويظهر فيه مزية"‪2.‬فإذا كان ذلك كذلك نفهم أن القرآن مل يدع شيئا من كل‬
‫هذا‪ ،‬وأن كل فعل وحرف وحركة وكلمة وضعت يف مكان خيتص به يف الرتكيب على سائر األصناف‪.‬‬
‫فلنأخذ مثال اآلية اليت طاملا أفصح الفصحاء عن فصاحته‪ ،‬وبالغت البلغاء يف تنويه بالغته‪ ،‬لننظر كيف حاول‬
‫عبد القاهر أن يطبق النظرية يف تفصيله‪" :‬وهل تشك إذا فكرت يف قوله تعاىل‪" :‬وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا‬
‫مساء أقلعي وغيض املاء وقضي األمر واستوت على اجلودي وقيل بعدا للقوم الظاملني"‪ .‬فتجلى لك منها اإلعجاز‪،‬‬
‫وهبرك الذي ترى وتسمع! أنك مل ّتد ما وجدت من املزية الظاهرة‪ ،‬والفضيلة القاهرة‪ ،‬إال ألمر يرجع إىل ارتباط‬
‫هذه الكلم بعضها ببعض‪ ،‬وأن مل يعرض هلا احلسن والشرف إال من حيث القت األوىل بالثانية والثالثة بالرابعة؟‬
‫وهكذا‪ ،‬إىل أن تستقريها إىل آخرها‪ ،‬وأن الفضل تناتج ما بينها‪ ،‬وحصل من جمموعها‪ .‬إن شككت فتأمل! هل‬
‫ترى لفظة منها حبيث لو أخذت من بني أخواهتا‪ ،‬وأفردت ألدت من الفصاحة ما تؤديه وهي يف مكاهنا من اآلية؟‬
‫قل‪" :‬ابلعي"‪ ،‬واعتربها وحدها من غري أن تنظر إىل ما قبلها وإىل ما بعدها‪ ،‬وكذلك فاعترب سائر ما يليها‪ .‬وكيف‬
‫بالشك يف ذلك ومعلوم أن مبدأ العظمة يف أن نوديت األرض‪ ،‬مث أمرت‪ ،‬مث يف أن كان النداء ب"ي" دون "أي"‬

‫‪ -1‬يقول عبد القاهر يف هذه القضية‪" :‬وإذا كان الكندي يذهب هذا عليه حىت يركب فيه ركوب مستفهم أو معرتض‪ ،‬فما ظنك بالعامة‪ ،‬ومن‬
‫هو يف عداد العامة ممن ال خيطر شبه هذا بباله"‪ .‬راجع‪ ،‬عبد القاهر اجلرجاين ‪ :‬دالئل االعجاز‪،‬مصدر سابق ص ‪.928‬‬
‫‪ -2‬عبد القاهر اجلرجاين‪،‬دالئل اإلعجاز‪ ،‬مصدر سابق‪ :‬ص ‪.21‬‬
‫‪112‬‬
‫حنو‪ :‬يا أيتها األرض‪ .‬مث إضافة "املاء" إىل الكاف دون أن يقال‪ :‬ابلعي املاء‪ ،‬مث اتبع نداء األرض وأمرها مبا هو‬
‫من شأهنا‪ ،‬ونداء السماء وأمرها كذلك مبا خيصها‪ .‬مث أن قيل‪ :‬وغيض املاء‪ .‬فجاء الفعل على صيغة "فعل" الدالة‬
‫على أنه مل يغض إال بأمر آمر وقدرة قادر‪ .‬مث تأكيد ذلك وتقريره بقوله تعاىل‪" :‬قضي األمر"‪ .‬مث ذكر ما هو فائدة‬
‫هذه األمور‪ ،‬وهو "استوت على اجلودي"‪ ،‬مث إضمار السفينة قبل الذكر كما هو شرط الفخامة والداللة على عظم‬
‫‪1‬‬
‫الشأن‪ .‬مث مقابلة "قيل" يف اخلامتة ب"قيل" يف الفاحتة‪.‬‬
‫فبالنمط الذي خطه عبد القاهر استطعنا أن جند من نظرية النظم ومن إعجاز القرآن اللغوي شيئا واضحا‬
‫ملموسا‪.‬‬

‫‪ -1‬عبد القاهر اجلرجاين‪ ،‬دالئل اإلعجاز‪ ،‬مصدر سابق ص ‪.29-20‬‬


‫‪113‬‬
‫المحاضرة الثالثة عشر‪:‬تأثير نظرية النظم في الفكري النقدي العربي الحديث‪.‬‬

‫كثرية تلك الدراسات اليت تناولت عبد القاهر اجلرجاين ونظريته يف النظم‪ ،‬وكم محلت هذه الدراسات آراء‬
‫متباينة مرة ومتفقة مرات متعددة‪ ،‬وكم تضاربت األفكار حول فكرة النظم منذ أن تنبه الشيخ حممد عبده لكل من‬
‫كتاب‪":‬دالئل اإلعجاز" و"أسرار البالغة" وأخذ منهما دروسا يف رحاب جامع األزهر‪ ،‬واعتربمها أوىل بالدراسة‬
‫من املتون وشروحها وحواشيها‪ ،‬ملا اتسما به من دراسة عميقة للنصوص األدبية‪ ،‬تقرب القارئ من تذوق البالغة‬
‫بأسلوب سهل وبسيط و ال صلة هلما باجلدل العقيم الذي ال نتيجة له‪ ،‬وكان من أثر تدريسهما أن خرجا‬
‫مطبوعني مصححني إىل الوجود‪.‬‬
‫وتناول الدكتور طه حسين عبد القاهر اجلرجاين بالبحث يف متهيد كتاب " نقد النثر" لقدامة بن جعفر حتت‬
‫عنوان‪ ":‬البيان العريب"‪ ،‬وهو يرى أنه مت على يده التوفيق بني البيانني‪ :‬العريب واليوناين بل أقر يف هناية حبثه أن من‬
‫يقرأ "دالئل اإلعجاز" ال يسعه" إال أن يعرتف مبا أنفق عبد القاهر من جهد صادق خصب‪ ،‬يف التأليف بني‬
‫قواعد النحو العريب وبني آراء أرسطو العامة يف اجلملة واألسلوب والفصول‪ ،‬وقد وفق عبد القاهر فيما حاول‬
‫توفيقا يدعو إىل اإلعجاب‪ .‬وإذا كان اجلاحظ هو واضع أساس البيان العريب حقا فعبد القاهر هو الذي رفع‬
‫‪1‬‬
‫قواعده وأحكم بناءه"‬
‫ودرس الدكتور محمد مندور اجلرجاين ونظريته يف كتاب" النقد املنهجي عند العرب" ويف مؤلفه " امليزان‬
‫اجلديد" وهو أول من لفت االنتباه إىل األسس اللغوية ملنهج اجلرجاين قائال‪ ":‬ويف احلق إن عبد القاهر قد اهتدى‬
‫يف العلوم اللغوية كلها إىل مذهب ال میكن أن نبالغ يف أمهيته‪ ،‬مذهب يشهد لصاحبه بعبقرية لغوية منقطعة‬
‫النظري‪ ،‬وعلى أساس هذا املذهب كون مبادئه يف إدراك دالئل اإلعجاز يف القرآن‪ ،‬ويف النثر العريب و الشعر العريب‬
‫على السواء‪.‬‬
‫مذهب عبد القاهر هو أصح وأحدث ما وصل إليه علم اللغة يف أوروبا أليامنا هذه‪ ،‬هو مذهب العامل‬
‫السويسري الثبت فردنا ند دي سوسير الذي تويف سنة ‪ 0203‬م‪ ،‬وحنن ال يهمنا اآلن من هذا املذهب اخلطري‬
‫إال طريقة استخدامه كأس ملنهج لغوي "فيولوجي" يف نقد النصوص‪ ،‬لقد فطن عبد القاهر إىل أن اللغة ليست‬
‫جمموعة من األلفاظ‪ ،‬بل جمموعة من العالقات‪ système de rapports‬فقال‪" :‬اعلم أن هناك أصال أنت‬
‫ترى الناس فيه يف صورة من يعرف من جانب وينكر من آخر‪ ،‬وهو أن األلفاظ املفردة اليت من أوضاع اللغة‪ ،‬مل‬
‫توضع لتصرف معانيها يف أنفسها ولكن ألن يضم بعضها إىل بعض فيصرف فيما بينها فوائد‪ ،‬وهذا علم شريف‬

‫‪ -1‬قدامه بن جعفر‪ :‬نقد الشعر‪ ،‬حتقيق د‪ ،‬حممد عبد املنعم ‪ ،‬مكتبة الكليات األزهرية‪0411 .‬ه‪0281 -‬م ‪،‬ص ‪.31‬‬

‫‪114‬‬
‫وأصل عظيم‪ ،‬والدليل على ذلك أنا إن زعمنا أن األلفاظ اليت هي أوضاع اللغة إمنا وضعت ليعرف هبا معانيها يف‬
‫أنفسها‪ ،‬ألدى ذلك إىل ما ال يشك عاقل يف استحالته‪ ،‬وهو أن يكونوا قد وضعوا لألجناس األمساء اليت وضعوها‬
‫هلا لتعرفها هبا‪ ،‬حىت كأهنم لو مل يكونوا قالوا"فعل" و"يفعل" ملا كنا نعرف اخلرب يف نفسه ومن أصله‪ ،‬ولو مل يكونوا‬
‫قد قالوا "افعل" ملا كنا نعرف األمر من أصله وال جنده يف نفوسنا‪ ،‬وحىت لو مل يكونوا قد وصفوا احلروف لكنا‬
‫جنهل معانيها‪ ،‬فال نعقل نفيا وال هنيا وال استفهاما و ال استثناء‪ ،‬كيف و املواضعة ال تكون وال تتصور إال على‬
‫معلوم‪ ،‬فمحال أن يوضع اسم أو غري اسم لغري معلوم‪ ،‬وألن املواضعة كاإلشارة‪ ،‬فكما أنك إذا قلت خذ ذاك مل‬
‫تكن هذه اإلشارة لتعرف السامع املشار إليه يف نفسه‪ ،‬ولكن ليعلم أنه املقصود من بني سائر األشياء اليت تراها‬
‫وتبصرها‪ ،‬كذلك حكم اللفظ مع ما وضع له‪ ،‬ومن هذا الذي يشك أنا مل نعرف الرجل و الفرس و الضرب‬
‫والقتل إال من أساميها؟ لو كان ذلك مصاغا يف العقل‪ ،‬لكان ينبغي إذا قيل "زيد" أن تعرف املسمى هبذا االسم‬
‫من غري أن تكون قد شاهدته أو ذكر ذلك بصفة‪...‬وإذ قد عرفت هذه اجلملة فاعلم أن معاين الكالم كلها معان‬
‫ال تتصور إال فيما بني شيأين‪ ،‬واألصل و األول هو اخلرب وإذا أحكمت العلم هبذا املعىن فيه عرفته يف اجلميع‪،‬‬
‫ومن الثابت يف العقول و القائم يف النفوس أنه ال يكون خرب حىت يكون خمرب به وخمرب عنه‪ ،‬ومن ذلك امتنع أن‬
‫يكون لك قصد إىل فعل من غري أن تريد إسناده إىل شيء‪ .‬وكنت إذا قلت "اضرب" مل تستطيع أن تريد منه معىن‬
‫يف نفسك من غري أن تريد اخلرب به عن شيء مظهر أو مقدر‪ ،‬وكان لفظك به إذ أنت مل ترد ذلك –‬
‫وصوت تصوته سواء‪( ،‬صفحة ‪ 988 -987‬كناب دالئل اإلعجاز)‪.‬‬
‫و يف هذا النص البالغ األمهية حند فلسفة عبد القاهر اللغوية العميقة‪ ،‬وعن هذه الفلسفة صدرت كل آرائه يف‬
‫نقد النصوص" ‪ ،1‬وقال يف موضع آخر‪ " :‬منهج عبد القاهر يستند إىل نظرية يف اللغة‪ ،‬أرى فيها ويرى معي من‬
‫میعن النظر أهنا متاشي ما وصل إليه علم اللسان احلديث من آراء‪.‬ونقطة البدء جندها يف آخر " دالئل اإلعجاز"‬
‫حيث يقرر املؤلف ما يقرره علماء اليوم من أن اللغة ليست جمموعة من األلفاظ بل جمموعة من‬
‫‪2‬‬
‫العالقات‪ systemedes rapports‬وعلى هذا األساس العام بىن عبد القاهر كل تفكريه اللغوي الفين"‬
‫وكتب الدكتور مصطفى ناصف عن النظم يف كتاب " دالئل اإلعجاز" يف مؤلفه "نظرية املعىن يف النقد‬
‫العريب " وهو يرى أن فكرة النظم يف كتاب "الدالئل" ذات بذور يف تفكري السلف‪ ،‬ويشري إىل أن عبد القاهر‬
‫سبق إىل أن إعجاز القرآن لنظمه من قبل اجلاحظ والواسطي واخلطايب والرماين‪ .‬ويتناول مذهب الصرفة وموقف‬
‫عبد القاهر الرافض له بقوله‪ ":‬وقد رفض عبد القاهر مفهوم الصرفة‪ ،‬ومل جيد فيه ما يدعو إىل طول اجلدال"‪...3‬‬

‫‪-1‬حممد مندور‪ :‬النقد املنهجي عند العرب‪ ،‬دار هنضة مصر للطبع والنشر‪ ،‬الفجالة‪ ،‬القاهرة ‪ ،‬ص ‪.335-334‬‬
‫‪-2‬حممد منذور‪:‬يف امليزان اجلديد‪ ،‬مكتبة هنضة ‪، ،‬ط ‪،0‬مصر‪ 0288 ،‬م ‪ ،‬ص ‪.075‬‬
‫‪-3‬مصطفى ناصف ‪:‬نظرية املعىن يف النقد العريب‪ ، ،‬دار األندلس‪،‬لبنان‪ ،‬بريوت‪ ،‬ص ‪.92‬‬
‫‪115‬‬
‫ويأخذ على عبد القاهر أنه مل يعن بنصوص القرآن مبينا مدى تفوق القرآن على غريه من النصوص وذلك بقوله‪":‬‬
‫و الواقع أن صاحبنا مل حياول البتة أن يبني مدى تفوق العبارة القرآنية على غريها من العبارات‪ ،‬ولو سألت أين‬
‫دالئل اإلعجاز يف كتاب عبد القاهر ملا كنت مسرفا‪.‬إن جهد عبد القاهر يف تبني مالمح العبارة القرآنية ال يكاد‬
‫يذكر خبري ذلك أن الكتاب أقرب يف جممله إىل حديث ما يف اللغة "‪ 1.‬وخيتم احلديث عن نظرية النظم عند عبد‬
‫القاهر اجلرجاين بقوله " لسنا نريد أن نقصر من عمل عبد القاهر‪ ،‬ولكن الفرق بني اللغة‬
‫وفلسفتها واالستيطيقا اللغوية مل يكن متماسكا يف عقل عبد القاهر فضال على من هم دونه"‪،2‬‬
‫وعقد الدكتور بدوي طبانة فصال حتت عنوان " بالغة عبد القاهر يف دالئل اإلعجاز وأسرار البالغة" يف كتابه‬
‫" البيان العريب" بدأه باملوازنة بني اّتاه عبد القاهر ومعاصره ابن سنان اخلفاجي صاحب " سر الفصاحة" وحتدث‬
‫عن املعاين و البيان يف كتايب عبد القاهر وختم حبديث مطول عن فكرة النظم‪ "..‬و الواقع أن هذه الفكرة مل يكن‬
‫عبد القاهر خمرتعا هلا‪ ،‬وإن كان هو الذي بسط فيها القول‪ ،‬وأقام على أساسها فلسفة كتابه فقد سبقه إليها أبو‬
‫عبد اهلل حممد بن زيد الو اسطي املتكلم (ت ‪ 317‬هـ) الذي ألف كتابا مساه " إعجاز القرآن يف نظمه"‪.‬‬
‫وظهرت هذه الفكرة واضحة يف الصراع الذي أثاره امتزاج الثقافات‪ ،‬وتعصب محلة اليونانية لفلسفة اليونان‬
‫ومنطقهم‪ ،‬ودفاع محلة العربية عن تراثهم وثقافتهم ‪ ،‬ومنها الثقافة النحوية‪.‬‬
‫ومن مظاهر هذا الصراع تلك املناظرة احلادة اليت قامت بني احلسن بن عبد اهلل املرزباين املعروف بأيب‬
‫سعيد السريايف وبني أيب بشر مىت بن يونس يف جملس الوزير أيب الفتح الفضل بن جعفر بن الفرات"‪.3‬‬
‫ويقول يف موضع أخر" وإذا كان عبد القاهر يدين بفكرة النظم‪ ،‬وال يعرتف جبزئياته‪ ،‬فإن له لفتة موفقة إىل ما‬
‫‪4‬‬
‫ينبين على تلك الفكرة من أصول النقد الواعي" ‪.‬‬
‫وعقد بعد ذلك فصال للفظ واملعىن عند عبد القاهر وحدد فصال لبالغة التقدمي والتأخري " ويرتب عبد القاهر‬
‫على هذا أن املزايا يف النظم إمنا تكون حبسب املعاين واألغراض‪ ،‬بأن التقدمي والتأخري كله يقوم على هذا‬
‫األساس"‪.5‬وختم حبديث مفصل عن الذكر واحلذف‪.6‬‬
‫ويتناول الدكتور محمد غنيمي هالل يف كتابه " النقد األديب احلديث "قضية اللفظ واملعىن عند عبد القاهر‬
‫ويؤكد يف النهاية قائال‪ ":‬ونعتقد أن عبد القاهر مل يقر من رجحوا املعىن على اللفظ‪ ،‬على حنو ما شرحنا من‬

‫‪-1‬مصطفى ناصف ‪:‬نظرية املعىن يف النقد العريب‪ ،‬املرجع نفسه‪ ،‬ص ‪31‬‬
‫‪-2‬مصطفى ناصف‪،‬املرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.30-31‬‬
‫‪-3‬بدوي طبانة‪ :‬البيان العريب‪ ،‬دار العودة‪ ،‬ط ‪ ، 5‬بريوت‪ ،‬ص ‪.066-065‬‬
‫‪-4‬بدوي طبانة‪ :‬البيان العريب‪ ،‬املرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.072‬‬
‫‪-5‬بدوي طبانة‪ ،‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.074‬‬
‫‪-6‬بدوي طبانة‪،‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪081‬‬
‫‪116‬‬
‫آرائهم فيما سبق‪ ،‬بل كان من أنصار الصياغة من حيث داللة هذه الصياغة على جالء الصورة األدبية" ‪ 1‬مث‬
‫يتحدث عن النظم عند عبد القاهر ويرى أنه " قام يف هذا الباب جبهد عظيم اخلطر‪ ،‬فهو يقصد بالنظم ما يطلق‬
‫عليه الغربيني علم الرتاكيب (‪ ،)syntaxe‬وهو عندهم أهم أجزاء النحو‪ ،‬ويعرفه عبد القاهر بأنه‪ :‬وضع‬
‫"كالمك الوضع الذي يقتضيه علم النحو"‪.2..‬‬
‫ويتطرق بعد ذلك إىل التقومي اجلمايل وصلته باملضمون عند عبد القاهر ويذكر مناذج يف‬
‫نقد بندتو كروتشيه وآرائه يف علم اجلمال و يقول‪ " :‬إمنا ذكرنا من نقد بندتوكروتشيه ما يتصل اتصاال وثيقا بنقد‬
‫عب د القاهر‪ ،‬لنوضح فضل عبقرية عربية انتهت بعمق نظرياهتا يف النقد األديب إىل نتائج عاملية ذات قيمة خالدة‬
‫وهلا صلة بفلسفة اجلمال يف النقد احلديث"‪.3‬‬
‫وألف الدكتور أحمد أحمد بدوي كتابا عن " عبد القاهر اجلرجاين وجهوده يف البالغة العربية" حتدث فيه عن‬
‫حياة عبد القاهر وآثاره وشعره وفصل القول يف نظرية النظم"‪ ،4‬مث حتدث عن إعجاز القرآن قبل عبد القاهر‪،‬‬
‫وختم مبحور حول عبد القاهر بني معاصريه‪.‬‬
‫وتناول الدكتور شوقي ضيف عبد القاهر اجلرجاين يف كتابه " البالغة تطور وتاريخ" فخصص فصال لوضع عبد‬
‫القاهر لنظرية املعاين و آخر لوضعه لنظرية البيان‪ .‬وقال معلقا‪ ":‬ولعبد القاهر مكانة كبرية يف تاريخ البالغة‪ ،‬إذ‬
‫استطاع أن يضع نظرييت علم املعاين و البيان وضعا دقيقا‪ ،‬أما النظرية األوىل فخص بعرضها وتفصيلها كتابه "‬
‫دالئل اإلعجاز " وأما النظرية الثانية فخص هبا ومبباحثها كتاب " أسرار البالغة"‪.5‬‬
‫وعقد الدكتور إحسان عباس فصال يف كتابه "" تاريخ النقد األديب عند العرب" حتدث فيه عن االنطالق من‬
‫فكرة اإلعجاز إىل إقرار قواعد النقد و البالغة مث حبث يف قضية اللفظ و املعىن حتت ضوء نظرية النظم اجلر جانية‪،‬‬
‫وانتهى إىل أن عبد القاهر ألف كتاب" دالئل اإلعجاز " أوال مث بعده كتاب " أسرار البالغة "فامسعه‬
‫يقول‪...":‬ومن مرحلة املعىن يتكون " علم املعاين " ومن مرحلة " معىن املعىن " جييء "علم البيان "‪ ،‬وهلذا نستطيع‬
‫أن نقول إن عبد القاهر بعد أن انتهى من كتابه دالئل اإلعجاز الذي حتدث فيه حول املعىن‪ ،‬حاول "أن خيصص‬
‫كتابا لدراسة معىن املعىن فكان من ذلك كتابه " أسرار البالغة "‪.6‬‬

‫‪ -1‬حممد غنيمي هالل‪ :‬النقد األديب احلديث‪ ،‬دار الثقافة‪ ،‬بريوت ‪،‬ص ‪.968‬‬
‫‪ -2‬حممد غنيمي هالل‪ :‬النقد األديب احلديث‪ ،‬املرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.977‬‬
‫‪ -3‬حممد غنيمي هالل‪ ،‬املرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.920‬‬
‫‪-4‬أمحد أمحد بدوي ‪ :‬عبد القاهر اجلرجاين وجهوده يف البالغة العربية ‪ ،‬سلسلة أعالم العرب ‪،‬ص ‪.010‬‬
‫‪ -5‬شوقي ضيف ‪:‬البالغة تطور وتاريخ‪ ،‬دار املعارف‪ ،‬ط‪ ،8.‬ص ‪.061‬‬
‫‪-6‬إحسان عباس‪ :‬تاريخ النقد األديب‪ ، ،‬دار الثقافة‪ ،‬بريوت‪ ،‬لبنان‪ ،‬ص ‪.492‬‬
‫‪117‬‬
‫و حتدث سيد قطب عن نظرية النظم يف كتابه " النقد األديب أصوله و مناهجه فقال‪ ":‬لقد حاول أن يضع‬
‫قواعد فنية للبالغة و اجلمال الفين يف كتابه " دالئل اإلعجاز" كما حاول أن يضع قواعد نفسية للبالغة يف كتابه‬
‫"أسرار البالغة"وقد تأثر بالفلسفة اإلغريقية وباملنطق"‪ 1‬بل ذهب أبعد من ذلك فأقر أن عبد القاهر " أول من قرر‬
‫نظرية يف تاريخ النقد العريب ويصح أن نسميها نظرية النظم"‪ 2‬و انتقد سيد قطب إمهال عبد القاهر لدراسة‬
‫اجلانب الصويت لأللفاظ ويف ذلك يقول‪ ":‬ومع أننا خنتلف مع عبد القاهر يف كثري مما حتويه نظريته هذه بسبب‬
‫إغفاله التام لقيمة اللفظ الصوتية مفردا وجمتمعا مع غريه‪ ،‬وهو ما عربنا عنه باإليقاع املوسيقي‪ ،‬كما يغفل الظالل‬
‫اخليالية يف أحيان كثرية‪ ،‬وهلا عندنا قيمة كربى يف العمل الفين‪ ...‬مع هذا فإننا نعجب باستطاعته أن يقرر نظرية‬
‫هامة كهذه – عليها الطابع العلمي – دون أن خيل بنفاذ حسه الفين يف كثري مواضيع الكتاب"‪.3‬‬
‫ومن من أخذ عليه إمهاله دراسة اجلانب الصويت أيضا د‪.‬محمد زكي العشماوي يف كتابه " قضايا النقد األديب‬
‫بني القدمي و احلديث قائال‪ " :‬ولكن الذي نؤاخذ عليه عبد القاهر أنه يف حبثه هذا الطويل‪ ،‬والذي يرتبط ارتباطا‬
‫وثيقا باللغة ومكوناهتا الشعورية و املعنوية مل يفسح اجملال لدراسة اجلانب الصويت يف اللغة ودالالته على املعىن‬
‫بشكل إجيايب‪ ،‬فليس من شك يف أن جانبا هاما من التجربة يف الشعر مصدره الصوت و النغم" ‪ 4‬بل ذهب أبعد‬
‫من ذلك حني أكد أنه " ال ينبغي أن نكتفي يف منهج لغوي كهذا باإلشارة إىل هذا اجلانب جمرد إشارة‪ ،‬بل إن‬
‫املوقف كان حيتم على عبد القاهر أن يكثف عالقة األصوات باللغة ووظيفتها يف أداء املعىن و على األخص أنه‬
‫متهم لفرط محاسته وغريته على تأكيد الوحدة بني اللفظ واملعىن‪ ،‬بإغفاله جانب اللفظ وإنكاره لقيمته من حيث‬
‫هو صوت مسموع‪ ،‬ومع إمیاننا بأن اللفظ املفرد ال يكتسب قيمته الصوتية أو الشعورية إال إذا جاء يف شكل‬
‫سياق‪ ،‬إال أننا ال نذهب إىل إنكار قيمته الصوتية يف الشعر مجلة‪ ،‬كما أننا ال ينبغي أن نكتفي مبجرد اإلشارة إىل‬
‫أن الصوت جزء من املعىن بل ينبغي أن حندد طبيعة العالقات اإلجيابية بني األصوات ومعانيها"‪.5‬‬
‫وتطرق الدكتور تمام حسان يف كتابه" اللغة العربية معناها ومبناها"إىل نظرية النظم فقال‪ ":‬ولقد كانت مبادرة‬
‫العالمة عبد القاهر رمحه اهلل بدراسة النظم وما يتصل به من بناء وترتيب وتعليق من أكرب اجلهود اليت بذلتها‬
‫الثقافة العربية قيمة يف سبيل إيضاح املعىن الوظيفي يف السياق أو الرتكيب‪.‬‬

‫‪-1‬سيد قطب‪ :‬النقد األديب أصوله ومناهجه‪ ،‬دار الشروق ‪،0283‬ص ‪.096‬‬
‫‪ -2‬سيد قطب‪ :‬النقد األديب أصوله ومناهجه‪،‬املرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.097‬‬
‫‪ -3‬سيد قطب‪،‬املرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.098‬‬
‫‪ -4‬حممد زكي العشماوي‪ :‬قضايا النقد األديب بني القدمي و احلديث ‪ ،‬دار النهضة املصرية بريوت ‪ ،0284‬ص‪.315‬‬

‫‪ -5‬حممد زكي العشماوي‪ :‬قضايا النقد األديب بني القدمي و احلديث ‪،‬املرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.315‬‬
‫‪118‬‬
‫ومع قطع النظر من رأيي الشخصي يف قيمة البالغة العربية بعامة من حيث كوهنا منهجا من مناهج النقد‬
‫األديب وعن صالحيتها أو عدم صالحيتها يف هذا اجملال أجدين مدفوعا إىل املبادرة بتأكيد أن دراسة عبد القاهر‬
‫للنظم وما يتصل به تقف بكربياء كتفا إىل كتف مع أحدث النظريات اللغوية يف الغرب وتفوق معظمها يف جمال‬
‫فهم طرق الرتكيب اللغوي هذا مع الفارق الزمين الواسع الذي كان ينبغي أن يكون ميزة للجهود احملدثة على جهد‬
‫عبد القاهر"‪.1‬‬
‫وأفرد الدكتور أحمد مطلوب لعبد القاهر اجلرجاين كتابا عنونه" عبد القاهر اجلرجاين بالغته ونقده" خصص‬
‫الفصل األول منه للتعريف بعبد القاهر و نشاطه الثقايف وإنتاجاته فعرف مبحتواها وذكر املصادر القدمیة اليت‬
‫أشارت إليها أو اعتمدهتا‪ ،‬أما الفصل الثاين فقد خصه لنظرية النظم‪ ،‬أما باقي الفصول فقد كانت ذات صبغة‬
‫بالغية وأدبية ترتبط بنظرية النظم‪.‬‬
‫وخيتم أمحد مطلوب بقوله " لقد حتدث عبد القاهر يف كتابه " دالئل اإلعجاز " وأسرار البالغة" عن كثري من‬
‫اللفظ و املعىن و التصوير األديب و السرقات و الذوق و التأثري النفسي‪ ،‬وربطها بنظرية النظم اليت أطال الكالم‬
‫عليها‪ ،‬وهدفه من ذلك الوصول إىل معرفة اإلعجاز وقد وفق فيما سعى إليه ونفع الدراسات األدبية بنظريته وآرائه‬
‫اليت بناها عليها‪ ،‬وبذلك كان أعظم ناقد شهده النقد العريب القدمي ألنه التزم بفكرة واضحة وسعى إىل هدف‬
‫حمدد"‪.2‬‬
‫ويرى األستاذ إبراهيم مصطفى يف كتاب " إحياء النحو " أن عبد القاهر اجلرجاين أعطى تصورا جديدا للبحث‬
‫النحوي يف كتاب "دالئل اإلعجاز" فلم يهتم بأواخر الكالم وعالمات اإلعراب‪ ،‬بل بني أن للكالم نظما " وأن‬
‫رعاية هذا النظم وإتباع قوانينه هي السبيل إىل اإلبانة واإلفهام‪ ،‬وأنه إذا عدل بالكالم عن سنن هذا النظم مل يكن‬
‫مفهما معناه‪ ،‬وال دال على ما يراد منه"‪ 3‬وانتهى األستاذ إبراهيم مصطفى إىل أن الذي شغل الناس عن نظم عبد‬
‫القاهر أمران مها‪:‬‬
‫أوال‪ :‬احلالة اليت كان عليها العلم والعلماء يف القرن اخلامس اهلجري حيث كانت العقول قد اكتفت باجرتار‬
‫وتقليد األفكار املسبقة و احللول اجلاهزة فلم تقبل أي إبداع أو ّتديد‪.‬‬

‫‪-1‬حممد زكي العشماوي‪،‬املرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.315‬‬


‫‪ -2‬متام حسان ‪ :‬اللغة العربية معناها ومبناها‪ ،‬دار الثقافة‪ ،‬الدار البيضاء‪ ،‬ص ‪.02-08‬‬

‫‪-3‬أمحد مطلوب ‪ :‬عبد القاهر اجلرجانيبالغته ونقده "‪ ،‬د‪ ، .‬ط‪ ،‬بريوت ‪ ،0273‬ص ‪.392‬‬
‫‪119‬‬
‫ثانيا ‪ :‬املذهب الذوقي الذي ركز عليه عبد القاهر لسرب أغوار اللغة ومعرفة مكوناهتا" فقد تنبه احلس اللغوي لرنة‬
‫األساليب‪ ،‬وضبط خصائصها يف زمن غلبت العجمة بغلبة األعاجم‪ ،‬ووقف العلماء من علم العربية عند ظ‪²‬اهر‬
‫اللفظ "ال يبلغ هبم احلس اللغوي أن يتذوقوا ما ذاق عبد القاهر‪ ،‬وال أن يدركوا ما أدرك"‪.1‬‬
‫و عليه يؤكد األستاذ إبراهيم مصطفى" أنه قد آن ملذهب عبد القاهر أن حييا‪ ،‬وأن يكون هو سبيل البحث‬
‫النحوي"‪.2‬‬
‫وصنف األستاذ محمد عبد المنعم خفاجي كتابا عن " عبد القاهر والبالغة العربية"‪ ،‬بدأه برتمجة وافية من‬
‫أمهات مصادر الرتاجم "كبغية الوعاة يف طبقات اللغويني والنحاة للشيخ جالل الدين السيوطي‪ ،‬وفوات الوفيات‬
‫حملمد بن أمحد الكتيب‪ ،‬وعقد األستاذ بعد ذلك فصال لعبد القاهر و الكتاب احملدثني اكتفى فيه بتلخيص كل ما‬
‫قيل عن عبد القاهر اجلرجاين دون أن يبدي رأيه‪.‬‬
‫وعرض املؤلف بعد ذلك فصال عن عبد القاهر وأثره يف وضع البيان العريب ‪ 3‬مث انتقل للحديث عن موضوع‬
‫كتاب " دالئل اإلعجاز" و كتاب أسرار البالغة و خلص إىل أن عبد القاهر "قد أساء عرض أفكاره يف كتابه"‬
‫األسرار" و كذا يف " الدالئل"‪ ،‬فخرج تأليفه مشوها مضطربا‪ ،‬معادا مكرورا ‪ ".4‬واليفوتنا أن نشري إىل أن املؤلف‬
‫أشار بإجياز إىل بعض األبواب اليت تعرض هلا عبد القاهر فدرس باب اجملاز بفرعيه‪ :‬املرسل والعقلي‪ ،‬والتشبيه‬
‫واالستعارة‪ ،‬كما درس النظم‪ ،‬ووقف على مذهب عبد القاهر يف تقدمي املسند إليه‪.‬‬
‫وختم كتابه باحلديث عن منهج عبد القاهر يف كتابيه وأكد أنه" منهج أديب"حمض يعرض فيه الرجل على‬
‫القارئ األساليب العربية وحيللها‪ ،‬ويدرسها دراسة فهم وتذوق ونقد‪ ،‬ويستنبط منها ما يشاء من القواعد األصول‬
‫"‪ 5.‬وعليه دعا إىل ضرورة العودة إىل منهج عبد القاهر‪.‬‬
‫و الدكتور درويش الجندي ألف كتابا عن نظرية النظم عند عبد القاهر حتت عنوان" نظرية عبد القاهر يف‬
‫النظم" استهله بدراسة لبيئة عبد القاهر و عصره وثقافته‪ ،‬وثىن بالتأريخ لقضية اإلعجاز من القرن األول إىل القرن‬
‫اخلامس اهلجري زمن عبد القاهر‪.‬‬
‫عرج الدكتور درويش اجلندي بعد ذلك للحديث عن نظرية النظم اجلرجانية مبينا أسسها ومعاملها شارحا‬
‫أهدافها املتمثلة يف‪:‬‬

‫‪-1‬إبراهيم مصطفى ‪:‬إحياء النحو ‪ ،‬مطبعة جلنة التأليف و الرتمجة والنشر‪ ،‬سنة ‪ ،0238‬ص ‪.06‬‬
‫‪ -2‬إبراهيم مصطفى ‪:‬إحياء النحو‪ ،‬املرجع السابق‪ ،‬صفحة ‪ 02‬و ‪.91‬‬
‫‪-3‬إبراهيم مصطفى ‪ ،‬املرجع السابق‪ ،‬ص ‪.91‬‬
‫‪-4‬حممد عبد املنعم خفاجي ‪:‬عبد القاهر اجلرجاين و البالغة العربية‪،‬املطبعة املنرية ‪،‬ط ‪ 0‬سنة ‪ ،0259‬ص‪.34-07‬‬
‫‪ -5‬حممد عبد املنعم خفاجي ‪،‬عبد القاهر اجلرجاين و البالغة العربية‪،‬املرجع نفسه صفحة ‪.41‬‬

‫‪120‬‬
‫بيان أن جوهر الكالم هو املعىن القائم يف النفس‪.‬‬ ‫أ‪-‬‬
‫ب‪ -‬ربط البالغة باإلعجاز‪.‬‬
‫واجلديد يف هذا البحث أنه استعان بالبحوث الكالمية يف تفسري نظرية عبد القاهر يف النظم وربط هذه النظرية‬
‫بتلك البحوث ربطا وثيقا‪.1‬‬
‫و يف كتاب " املذاهب النقدية "‪ 2‬للدكتور ماهر حسن فهمي يتعرض لنظرية النظم‪ ،‬فيحدث عن قضية اللفظ‬
‫و املعىن من حيث نشأهتا وأمهيتها‪ ،‬ويؤكد أن مقاييس القدماء النقدية كانت مبنية على أساس موقفهم منها‪.‬و‬
‫يعترب عبد القاهر‪،‬إماما للمذهب التصويري ‪ ،‬وهو يبين رأيه هذا على أساس من قول لعبد القاهر يف األسرار ‪،‬‬
‫يربط فيه التصورات والتخيالت ويعترب ذلك بذرة املذهب التصويري عنده‪ .‬ويشري كذلك إىل الصفة التحليلية يف‬
‫منهجه‪ ،‬وكيف تطور النقد العلمي العريب على يده‪ ،‬وعبد القاهر كان رائدا – وال شك –يف فهمه لطبيعة الصورة‪،‬‬
‫ولكن من الشطط أن نعده رائدا ملذهب أديب على ما ندرك من مفهوم "املذهب" يف أيامنا هذه‪.‬‬
‫واعترب األستاذ محمد خلف اهلل في كتابه " من الوجهة النفسية يف دراسة األدب ونقده" كتاب "‬
‫الدالئل" حبثا يف أسلوب تأليف الكالم ونظمه‪ ،‬وترتيب معانيه‪ ،‬وما يعرض هلا من مظاهر معنوية‪ ،‬حماوال أن ينقل‬
‫االهتمام من جانب اللفظ إىل جانب املعىن‪ ،‬ويشري إىل أن عبد القاهر متلجلج يف هذه القضية‪ ،‬بينما يقوم "‬
‫األسرار" على فكرة أن "مقياس اجلودة األدبية تأثري الصورة البيانية يف نفس متذوقها" ‪ 3‬وهو جزء من تفكري‬
‫سيكولوجي أعم يطبع الكتاب بطابعه عن طريق " الفحص الباطن" وتأكيد اجلانب النفسي أي الطريقة النفسانية‬
‫اليت يسميها احملدثون " التأمل الباطين‪ 4‬ويعقد حممد خلف اهلل فصال يدرس فيه تأثر عبد القاهر يف بعض نواحي‬
‫تفكريه البالغي و النقدي بالثقافة اإلغريقية وال سيما حبوث أرسطو‪...‬ويوجز أهم النواحي اليت تعرض هلا كتاباه‪":‬‬
‫الشعر واخلطابة" لكي يرى إىل أي مدى تأثر هبما عبد القاهر‪ ،‬مث خيتم حبثه قائال‪ ":‬غري أن هذا التأثري ال ينايف‬
‫األصالة‪ ،‬وال ينفي عن عبد القاهر صفة العامل املبتكر‪ ،‬وال يقلل من أمهية نظريته اليت مل يسبقه سابق إىل عرضها‪،‬‬
‫وحتقيقها‪ ،‬وإفراد موضوعها بالدرس‪ ،‬كما يفرد العامل احلديث موضوعا معينا للبحث و التنقيب يف رسالة خاصة‪،‬‬
‫فمنهجه وطريقة تأليفه إذن ‪ ،‬من أبرز املعامل يف الدراسات العربية النقدية‪ ،‬وشخصيته العلمية يف نظريته واضحة‬

‫‪ -1‬حممد عبد املنعم خفاجي ‪،‬املرجع نفسه‪،‬ص ‪.038‬‬


‫‪ -2‬درويش اجلندي‪ :‬نظرية عبد القاهر يف النظم‪ ،‬مكتبة هنضة ‪،‬مصر بالفوجانا ‪ ،0261‬ص ‪.00‬‬
‫‪ -3‬ماهر حسن فهمي ‪:‬املذاهب النقدية‪ ،‬مكتبة النهضة العربية ‪،‬القاهرة ‪.0269،‬‬
‫‪-4‬حممد خلف اهلل ‪:‬من الوجهة النفسية يف دراسة األدب ونقده‪ ،‬معهد البحوث والدراسات العربية‪ ،‬القاهرة‪،0271 ،‬ص ‪.43-49‬‬

‫‪121‬‬
‫حقا جبانب شخصية "أرسطو" وإن قدرته على تسخري العلم يف كشف أسرار الذوق لدليل على أصالته كفيل‬
‫‪1‬‬
‫خبلوده ‪".‬‬
‫وألف الدكتور محمد بركات حمدي أبو علي كتابا يف نظرية النظم اجلرجانية حتث عنوان‪":‬معامل املنهج‬
‫البالغي عند عبد القاهر اجلرجاين " استهله بفصل عن عبد القاهر ونظرية النظم مؤكدا أن " املتتبع ملؤلفات عبد‬
‫القاهر يف الرسالة الشافية و الدالئل واألسرار يالحظ قلة الشواهد واآليات القرآنية وحتليلها‪ ،‬وهذه املالحظة قد‬
‫وقف عليها األستاذ أمني اخلويل‪ ،‬إذ حكم لعبد القاهر بالبالغة و األدب يف كتابه "األسرار" ولكنه يأخذ عليه يف‬
‫كتابه " الدالئل" أنه ال يتحدث يف قضية اإلعجاز بكثري و ال قليل‪ ،‬بل ال يستشهد بالقرآن على نسبة كافية‪،‬‬
‫وكأنه يتحرى ترك ذلك ملا تشعر به من قلة الشواهد القرآنية يف كتابه هذا قلة ظاهرة‪.‬‬
‫وتابع األستاذ أمين الخولي يف هذه املالحظة الدكتور مصطفى ناصف‪ ،‬يف أن عبد القاهر مل يعن بنصوص‬
‫القرآن يف كتابه األسرار‪ ...‬ويرى الرأي نفسه الدكتور أمحد بدوي ويؤيده‪ ،‬ولتوثيق هذا قمنا بإحصاء اآليات‬
‫القرآنية اليت استخدمها عبد القاهر يف رسالته وكتابيه‪ ،‬فكانت كاآليت‪:‬‬
‫‪ -0‬ورد يف الرسالة الشافية مثان آيات من مخس سور‪ ،‬وتقع هذه الرسالة يف مخس وأربعني صفحة من‬
‫احلجم املتوسط‪.‬‬
‫‪ -9‬و يف كتاب "دالئل اإلعجاز" يورد عبد القاهر مائة وستا وستني آية‪ ،‬يف مخس وأربعني سورة‪ ،‬ويقع‬
‫كتاب " الدالئل" يف حدود ثالمثائة وأربع وستني صفحة من احلجم املتوسط‪ ،‬وقلة ورود اآليات‪ ،‬وعدم‬
‫التعرض إىل تفسريها‪ ،‬أمر واضح يف هذا الكتاب‪ ،‬وال أظن أن عبد القاهر قد خالف بني عنوان الكتاب‬
‫وهو "دالئل اإلعجاز" وما جاء فيه على غري ذلك‪ ،‬كما ظهر لبعض الباحثني‪.‬و ذلك ألن العنوان من‬
‫شقني‪ ،‬األول يف " الدالئل" وهي العالمات و الوسائل و البدايات و األسس و الركائز مث إضافة "‬
‫الدالئل" إىل " اإلعجاز"وهو إعجاز القرآن‪ ،‬ومعىن عنوان الكتاب أنه يف غري تفسري اإلعجاز القرآين‪ ،‬وإمنا‬
‫يف وسائل هذا اإلعجاز و يف طرائق فهمه‪.‬‬
‫‪ -3‬و يف كتابه"أسرار البالغة" نرى أن عبد القاهر قد أورد تسعا وثالثني آية من مخس وعشرين سورة‪،‬‬
‫وهذا يفسر ما ذهبنا إليه من أن عبد القاهر ما انشغل بتفسري البيان القرآين‪ ،‬ولكنه اهتم بتفسري الوسيلة‬
‫وإيضاحها‪...‬‬
‫وهذا الفهم يؤدي إىل دفع هتمة" قصور عبد القاهر يف استخدام اآليات القرآنية‪ ،‬وعدم تفسريه البيان‬
‫القرآين‪.2"..‬‬

‫‪ -1‬حممد خلف اهلل ‪:‬من الوجهة النفسية يف دراسة األدب ونقده ‪ ،‬معهد البحوث والدراسات العربية‪ ،‬املرجع نفسه‪ ،‬ص ‪43‬‬
‫‪ -2‬حممد خلف اهلل‪ ،‬معهد البحوث و الدراسات العربية ‪،‬املرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.005‬‬
‫‪122‬‬
‫وبقصد تعريف القارئ بعلم من أعالم العرب‪ ،‬تناول الدكتور أحمد علي دهمان " الصورة البالغية عند عبد‬
‫القاهر اجلرجاين منهجا وتطبيقا" بغية الوقوف على كيفية دراسة عبد القاهر للصورة البالغية يف ظل نظرية النظم و‬
‫تبيان طبيعتها‪ ،‬لذا بدأ بالتفتيش عن األساس النظري لفكر عبد القاهر اللغوي و البالغي ليختم بتقومي منهجي‬
‫ملنهج عبد القاهر بني القدماء و احملدثني‪ ،‬عن طريق الربط بني اجلانبني النظري و التطبيقي " ألن هذا الربط يعطي‬
‫قيمة كربى للدراسة تربر األصالة‪ ،‬وتوضح جوانبها‪ ،‬وال سيما عند ناقد ثبت مثل عبد القاهر‪ ،‬الذي مل يقف فكره‬
‫النقدي عند " التنظري" وحده‪ ،‬وإمنا جاوزه إىل التذوق و التحليل‪ ،‬للوصول إىل القيم الفنية يف األثر األديب‪ ،‬وردها‬
‫إىل عناصر يف صياغته ونظمه‪ ،‬األمر الذي جعل لبحوثه قيمة خاصة‪ ،‬ال نعثر على شبيه هلا يف مورثنا النقدي‬
‫والبالغي تقريبا"‪.1‬‬
‫و درس الدكتور عبد العزيز عبد المعطي عرفة الذوق البالغي لدى عبد القاهر اجلرجاين يف ظل نظرية النظم‬
‫من خالل مؤلفه " تربية الذوق البالغي عند عبد القاهر اجلرجاين" استهله باحلديث عن الذوق البالغي قبل عبد‬
‫القاهر مث انتقل ألصالة الذوق البالغي مع عبد القاهر ويف ذلك يقول‪ ":‬وجاء الشيخ عبد القاهر اجلرجاين‪ ،‬ودرس‬
‫النظم ووضع يده على موطن الفكر يف النظم و الرتتيب‪ ،‬و كشف عن اإلثبات و صوره العجيبة‪ ،‬وحدد دورا‬
‫أللفاظ‪ ،‬وموقف املعاين الشعرية‪ ،‬ومكانة الصور اليت تربز فيها تلك املعاين‪.‬‬
‫و على ضوء نظريته يف النظم دفع أخطاء السابقني يف تفسري البيان العريب بعامة وناقش آراء اللفظيني‪ ،‬وبني‬
‫فضل املفسر على التفسري ووحد موقف منشد النصوص"‪.2‬‬
‫هذه جممل الدراسات احلديثة العامة اليت تناولت " نظرية النظم" عند عبد القاهر اجلرجاين‪ ،‬وهي هتدف إىل‬
‫بيان عظمة عبد القاهر بالنسبة للدراسات املعاصرة من خالل دراسته القيمة للرتاث األديب‪ ،‬وحتليله ومناقشته و‬
‫كيف تصرف املتكلم‪ ،‬فأثبت ونفى‪ ،‬وقيد وأطلق‪ ،‬وعرف ونكر‪ ،‬وقدم وآخر‪ ،‬وفصل ووصل‪ ،‬وفضل أداة على‬
‫أخرى‪ ،‬ولفظا على آخر‪ ،‬واستعار وشبه‪ ،‬وكىن وصرح‪ ،‬وذكر وأضمر‪ ،‬و أوجز وأطنب‪ ،‬إىل آخر تلك التصرفات‬
‫اليت ليس هلا حد وهناية كما يقول الشيخ نفسه‪ .‬وقد ربط كل هذه الوجوه و الفروق بغرض الشاعر ومدى‬
‫التحامها به أو قرهبا أو بعدها منه‪ ،‬كل ذلك بقرحية نفاذه‪ ،‬وذوق بالغي سليم‪ ،‬و معرفة واسعة بكالم العرب و‬
‫طرق القول عندهم‪.‬‬

‫‪ -1‬حممد بركات محدي أبو علي ‪:‬عامل املنهج البالغي عند عبد القاهر اجلرجاين‪ ،‬طبعة دار الفكر ‪،‬عمان األردن‪ ،0284 ،‬ص ‪-05-04‬‬
‫‪.94‬‬

‫‪-2‬أمحد علي دمهان ‪:‬الصورة البالغية عندعبد القاهر اجلرجاين ‪ ،‬ج ‪ 0‬طبعة دار طالس للدراسات و الرتمجة و النشر ‪ ،0286‬ص ‪.03-09‬‬

‫‪123‬‬
‫هذا البحث البيبلوغرايف إذ يرجو لنفسه أن يقرب القارئ الكرمي من جممل البحوث احلديثة اليت تناولت نظرية‬
‫النظم اجلرجانية بالدرس و التحليل وحسيب أين حاولت و الكمال هلل وحده واهلل ويل التوفيق‪.‬‬

‫‪124‬‬
‫قراءة نقدية لنص من كتاب "دالئل اإلعجاز" لعبد القاهر الجرجاني‪:‬‬
‫هذه قراءة نقدية لنص من كتاب دالئل اإلعجاز لعبد القاهر اجلرجاين‪ ،‬وهو كالتايل‪:‬‬
‫يقول عبد القاهر اجلرجاين يف كتاب " دالئل اإلعجاز يف علم املعاين"‪:‬‬
‫" مث قال‪ :‬وذهب الشيخ إىل استحسان املعاين واملعاين مطروحة يف الطريق يعرفها العجمي و العريب‪ ،‬والقروي و‬
‫البدوي‪ ،‬وإمنا الشأن يف إقامة الوزن‪ ،‬وختري اللفظ‪ ،‬وسهولة املخرج‪ ،‬وصحة الطبع‪ ،‬وكثرة املاء وجودة السبك‪ ،‬وإمنا‬
‫الشعر صناعة وضرب من التصوير"‪ :‬فقد تراه كيف أسقط أمر املعاين وأتى أن جيب هلا فضل فقال‪ :‬وهي مطروحة‬
‫يف الطريق مث قال‪ :‬وأنا أزعم أن صاحب هذين البيتني ال يقول شعرا أبدا‪ :‬فأعلمك أن فضل الشعر بلفظه ال‬
‫مبعناه وأنه إذا عدم احلسن يف لفظه ونظمه مل يستحق هذا االسم باحلقيقة‪ ،‬وأعاد طرفا من هذا احلديث يف(‬
‫البيان) فقال‪ ":‬ولقد رأيت أبا عمرو الشيباين يكتب أشعارا من أفواه جلسائه ليدخلها يف باب التحفظ والتذكر‪،‬‬
‫ورمبا خيل إيل أن أبناء أولئك الشعراء ال يستطيعون أبدا أن يقولوا شعرا جيدا ملكان أعراقهم من أولئك اآلباء‪(:‬مث‬
‫قال) ولوال أن أكون عيابا مث للعلماء خاصة لصورت لك بعض ما مسعت من أيب عبيدة ومن هو أبعد يف ومهك‬
‫من أيب عبيدة"‪:‬‬
‫واعلم أهنم مل يبلغوا يف إنكار هذا املذهب ما بلغوه إال ألن اخلطأ فيه عظيم وأنه يفضي بصاحبه إىل أن ينكر‬
‫اإلعجاز ويبطل التحدي من حيث ال يشعر‪ ،‬وذلك أنه إن كان العمل على ما يذهبون إليه من أن ال جيب فضل‬
‫ومزية إال من جانب املعىن وحىت يكون قد قال حكمة أو أدبا واستخرج معىن غريبا أو شبيها نادرا فقد‬
‫وجب إطراح مجيع ما قاله الناس يف الفصاحة والبالغة ويف شأن النظم والتأليف وبطالن جيب بالنظم فضل وأن‬
‫تدخله املزية وأن تتفاوت فيه املنازل‪.‬إذا بطل ذلك فقد بطل أن يكون يف الكالم معجز وصار األمر إىل ما يقوله‬
‫‪1‬‬
‫اليهود ومن قال مبثل مقاهلم يف هذا الباب ودخل يف مثل تلك اجلهاالت ونعوذ باهلل من العمى بعد اإلبصار‪.‬‬

‫ال يكون إلحدى العبارتني مزية على األخرى‪ ،‬حىت يكون هلا يف املعىن تأثري ال يكون لصاحبتها‪ ،‬فإن قلت‪:‬فإذا‬
‫أفادت هذه ما ال تفيد تلك فليستا عبارتني عن معىن واحد بل مها عبارتان عن معنيني اثنني‪ :‬قيل لك‪:‬إن قولنا "‬
‫املعىن" يف مثل هذا يراد به الغرض والذي أراد املتكلم أن يثبته أو ينفيه حنو أن تقصد تشبيه الرجل باألسد فتقول‪:‬‬
‫زيد كاألسد‪ ،‬مث تريد هذا املعىن بعينه فتقول‪:‬كأن زيدا األسد‪ .‬فتفيد تشبيهه أيضا باألسد إال أنك تزيد يف معىن‬
‫تشبيهه به زيادة مل تكن يف األول و هي أن ّتعله من فرط شجاعته وقوة قلبه وأنه ال يروعه شيء حبيث ال يتميز‬
‫عن األسد وال يقصر عنه حىت يتوهم أنه أسد يف صورة آدمي‪ .‬وإذا كان هذا كذلك فانظر هل كانت هذه الزيادة‬

‫‪ -1‬تربية الذوق البالغي عند عبد القاهر اجلرجاين عبد العزيز عبد املعطي عرفة‪ ،‬ط‪ 0‬سنة ‪ ،0283‬ص ‪.6‬‬
‫‪125‬‬
‫وهذا الفرق إال مبا توخى يف نظم اللفظ وترتيبه حيث قدم الكاف إىل صدر الكالم وركبت مع "إن" وإذا مل يكن‬
‫ض نفسك على تفهم ذلك وتتبعه‪ ،‬واجعل‬ ‫ور ْ‬
‫إىل الشك سبيل أن ذلك كان بالنظم فاجعله العربة يف الكالم كلهَ ُ‬
‫‪1‬‬
‫فيها أنك تزاول منه أمرا عظيما ال يقادر قدره‪ ،‬وتدخل يف حبر عميق ال يدرك قعره‪.‬‬
‫تعد قضية "اللفظ و املعىن" من املشاكل املهمة يف علم اجلمال احلديث‪ ،‬و شغل هبا النقد القدمي قبل أن‬
‫يعاجلها النقد احلديث و قد حتدث فيها النقاد على املعاين اجلمالية املوضوعية اليت تعد من أسس احلكم على‬
‫العمل األديب من الناحية الفنية‪ ،‬وعلى الرغم من أن مادة التعبري األديب هي اجلمل مبا تشتمل عليه من ألفاظ‬
‫منظومة أو منثورة يستعان هبا على حماكاة األشياء و األعمال كما قرر ذلك أفالطون و أرسطو فليست القواعد‬
‫اجلمالية مقصورة على ما خيص اجلمل واألبيات املفردة‪ ،‬بل إن منها ما خيص األجناس و القوالب الفنية‪ ،‬أي‬
‫وحدة العمل األديب كله‪ .‬وقد أوىل النقد العريب القدمي كبري اهتمام باملسألة و انقسم النقاد فيها فرقا و أقساما‪:‬‬
‫أصحاب اللفظ‪ ،‬أصحاب املعىن مث الذين مجعوا بينهما وعبد القاهر اجلرجاين ممن نص على و جوب احتاد املعىن‬
‫باملعىن‪ ،‬و امتزاج الصورة باملادة‪ ،‬و تكافؤ الشكل مع املضمون مرد ذلك أنه نشأ نشأة لغوية و كانت له عناية‬
‫فائقة باللغة و النحو حىت لقب بعبد القاهر النحوي‪ .‬إن أول ما يعرتضك يف هذا النص‪ 2‬الذي بني أيدينا قوله‪:‬‬
‫"مث قال"‪ :‬دليل على أن اإلمام ينهج منهجا جداليا يشبه باملنهج اجلديل عند املتكلمني و هذا طبيعي ألنه نشأ يف‬
‫بيئة كالمية صرفة منهجها بسط آراء املعرتضني مث الرد عليها‪.‬ويتبع ما سبق بقوله‪":‬وذهب الشيخ"‪:‬ويقصد به‪:‬أبو‬
‫عمرو الشيباين‪ ،‬واستعمل "ال"اليت تعطيه الوقار واالحرتام ‪.‬‬
‫إن أول ما يستوقف عبد القاهر يف نص اجلاحظ أمرين‪:‬‬
‫‪ -0‬اعتبار اجلاحظ أن سبيل الكالم هو سبيل التصوير و الصناعة " إمنا الشعر صناعة وضرب من‬
‫التصوير " وهو يف نظر عبد القاهر التصاق صرف باأللفاظ و اجلانب الشكلي من الكالم حيث أن ذلك‬
‫سلب للمزية و الفضيلة ألنه حمال إذا أردت أن تعرف مكان الفضل و املزية يف الكالم أن تنظر إىل جمرد‬
‫معناه‪ ،‬كذلك ينبغي إذا فضلنا بيتا على بيت من أجل معناه أن ال يكون تفصيل له من حيث هو شعر‬
‫‪3‬‬
‫وكالم وهذا قاطع فاعرفه"‬

‫‪ -1‬عبد القاهر اجلرجاين‪:‬دالئل اإلعجاز يف علم املعين‪،‬تصحيح اإلمام الشيخ حممد عبده و الشيخ حممد حممود ا الشنقيطي‪ ،‬دار املعرفة لطباعة و‬
‫النشر‪ ،‬بريوت‪ ،‬لبنان‪ ،‬ص ‪.022-028‬‬
‫‪ -2‬عبد القاهر اجلرجاين‪ ،‬دالئل اإلعجاز ‪،‬مصدرسابق‪ ،‬ص ‪022-028‬‬
‫‪ -3‬عبد القاهر اجلرجاين‪ :‬دالئل اإلعجاز‪ ،‬املصدرنفسه‪ ،‬ص ‪.027‬‬
‫‪126‬‬
‫‪ -9‬هو قولة اجلاحظ‪" :‬املعاين مطروحة يف الطريق " إذا انطلقنا من أن اجلاحظ أستاذ لعبد القاهر فهمنا‬
‫أنه يناصره وليس متعصبا وال مبالغا كما يذهب البعض‪ ،‬ونالحظ أنه يردد نفس الكالم يف كتاب " البيان‬
‫والتبيني "قائال‪":‬كالم الناس يف طبقات كما أن الناس أنفسهم يف طبقات"‪.1‬‬
‫لقد اعتربت كتب البالغة و النقد أن اجلاحظ من أنصار اللفظ ولكن عبد القاهر عندما درس‪ ،‬كشف‬
‫النقاب عن رأيه (اجلاحظ)فنسب له يف البداية كما نالحظ يف النص أنه من أنصار اللفظ مث أضاف إليه كلمة‬
‫" النظم"وهو شيء مل يقل به اجلاحظ‪ ،‬وما ذلك إال نابع من منهجية اجلرجاين التعليمية اليت هتدف أن توصل‬
‫إليك تدرجييا‪ ،‬فأوضح عبد القاهر أنه ليس من أنصار اللفظ بعدما فتت النظرية اجلاحظية‪ ،‬إذ اجلاحظ يرفض‬
‫أن يكون حسن الكالم من لفظه و ال يف معناه بل يف" تنسيقه" و" تركيبه" ويف تراصه ويتضح ذلك من قوله"‬
‫والشعر صناعة وضرب من التصوير"‪.‬‬
‫فاملعاين مطروحة يف الطريق‪ ،‬ولكن الفرق يرجع إىل الصياغة‪ ،‬فاملسرح واحد ولكن الصور تتعدد وختتلف‬
‫باختالف الصياغة‪ ،‬فاملعاين واحدة ال تتجدد وإمنا تصاغ بأحاسيس ومعاناة جديدة‪ ،‬إن اجلديد يف هذه‬
‫األحاسيس و املعاناة هو" األنا " ألن شكلها منفرد وبيئتها خاصة ومعاناهتا مستقلة‪ ،‬من مث فالتعبري عن مثل‬
‫هذا ال جيب أن يكون مثله‪.‬‬
‫وعبارة اجلاحظ كما ترى توهم كلها أن الفضيلة يف جانب األلفاظ عندما يستقيم وزهنا‪ ،‬وتكون سهلة‬
‫املخارج جيدة السبك‪ ،‬ويكون األديب يف هذه احلال كمن يقوم بالصنع وختري األلوان لتناسب بعضها بعضا‪،‬‬
‫أما املعاين فهي مطروحة يف الطريق‪.‬‬
‫وقد أوضح عبد القاهر السر يف جميء عبارة اجلاحظ عما وردت عليه‪ ،‬بأنه ملا كانت املعاين إمنا تتبني‬
‫باأللفاظ‪ ،‬وأن ال سبيل لرتتيبها ومجع مشلها إال ترتيب الكالم يف نطقه‪ ،‬فكنّوا على ترتيب املعاين األلفاظ‪ ،‬مث‬
‫‪2‬‬
‫باأللفاظ حبذف الرتتيب"‬
‫فاملراد من قوله‪ ":‬ذهب الشيخ إىل استحسان املعاين " هو استحسان أيب عمرو الشيباين لقول من قال‪:‬‬
‫إنما الموت سؤال الرجال‬ ‫ال تحسبن الموت موت البلى‬
‫أفظع من ذاك لذل السؤال‬ ‫ك ــالهما م ـ ــوت ولك ــن ذا‬

‫ذلك أن ليس حتت هذين البيتني شيء يستحق أن يستحسن‪ ،‬وإمنا حتيز هلما الشيخ ملا يف البيتني من معىن‬
‫الوعظ و التنفري من ذل السؤال‪ ،‬فاملعاين اليت حكم اجلاحظ بإطراحها يف الطريق هي "أصول املعاين " املشرتكة بني‬

‫‪ -1‬أبو عثمان عمرو اجلاحظ ‪:‬البيان و التبيني‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ج‪ ،0‬ص ‪.044‬‬
‫‪ -2‬عبد القاهر اجلرجاين ‪،‬دالئل اإلعجاز‪،‬مرجع سابق ‪ ،‬ص ‪.50‬‬
‫‪127‬‬
‫مجلة الناس عربيهم وعجميهم وبدويهم ومدنيهم‪ ،‬ومن سوء التقدير أن خيطر بأوهام أحد الناس أن اجلاحظ‬
‫يسوى بني املعاين كلها عند الناس مجلة‪ ،‬وهذا ما أورده عبد القاهر اجلرجاين يف دالئل اإلعجاز" ‪ ،1‬وأن ما‬
‫يتعارض مع هذا االدعاء قول اجلاحظ‪ ":‬إمنا األلفاظ على أقدار املعاين فكثريها لكثريها وقليلها لقليلها‪ ،‬وشريفها‬
‫لشريفها وسخفها لسخفها و املعاين املفردة البائنة بصورها حتتاج من األلفاظ إىل أقل مما حتتاج إليه املعاين املشرتكة‬
‫واجلهات امللتبسة"‪ ،2‬فمعظم الدارسني املعاصرين يعتقدون أن اجلاحظ يضرب كالمه‪ ،‬وينقض بعضه بعضا فهو‬
‫يزعم أن املعاين مطروحة يف الطريق‪ ،‬مث يرجع ليقول إن فيها شريفا وسخيفا وكفى هبذا ضالال وجهال‪ ،‬لكن‬
‫اجلاحظ إمنا قصد باملعاين املطروحة يف الطريق تلك املعاين اليت تشرتك فيها كافة الناس واليت هي" أصول املعاين"‬
‫ومعرفتها من قبيل الضروريات‪ ،‬أو هي املعاين املفردة البائنة بصورها كما مساها اجلاحظ نفسه‪ ،‬أما املعاين الشريفة‬
‫فهي تلك املعاين اليت ال میتلك ناصيتها إال خاصة من البلغاء و الفصحاء‪.‬‬
‫وأما قوله‪ ":‬إمنا الشأن يف إقامة الوزن وختري اللفظ وسهولة املخرج وكثرة املاء و يف صحة الطبع وجودة السبك‪،‬‬
‫فإمنا الشعر صناعة وضرب من النسج وجنس من التصوير "‪ 3‬فهذا من قبيل ما قاله عنه عبد القاهر مدافعا عن‬
‫العلماء األوائل – واجلاحظ واحد منهم – بأهنم وصفوا " اللفظ" يف ذلك بأوصاف‪ ،‬علم أهنا ال تكون أوصافا له‬
‫من حيث هو لفظ كقوهلم‪ :‬لفظ شريف وأنه قد زان املعىن‪ ،‬وأنه له ديباجة وأن عليه طالوة‪ ،‬وأن املعىن منه مثل‬
‫‪4‬‬
‫الوشي وأنه عليه كاحللي إىل أشباه ذلك مما يعلم ضرورة أنه ال يعين مبثله الصوت و احلرف‪.‬‬
‫لقد بني عبد القاهر اجلرجاين أن كالم اجلاحظ ليس على ظاهره وحجته أقوى وأدمغ من هذر بعض الباحثني‬
‫فنظر يف كالم اجلاحظ ومقدار صلته بالفصاحة أوال مث يف مقدار صلته باأللفاظ – من حيث هي األلفاظ‪ -‬أم‬
‫للمعاين‪.‬‬
‫وأول ذلك قوله ‪ "/‬إقامة الوزن" وهو وجهان‪ ،‬أوهلا‪ :‬أوزان املفردات‪ ،‬وهذا ال يدخل يف عداد البالغة والثاين‪:‬‬
‫وهو مراد اجلاحظ‪ ،‬حسب ما حيدده سياق الكالم‪ ،‬وهو أوزان الشعر‪ ،‬فعليه مدار كالم اجلاحظ يف هذا النص‪،‬‬
‫وهذا أيضا ال مدخل له يف البالغة وال يف الفصاحة‪ ،‬وقوله " ختري اللفظ" له وجهان‪:‬أوهلما‪:‬أن اللفظ يتخريه‬
‫املتكلم حسب معانيه‪ ،‬اليت يريد إبالغها للسامعني و الثاين أن التخري يكون يف ألفاظ تؤدي املعىن‪ ،‬مث تستجيب‬
‫فضال عن ذلك إىل أوزان الشعر الذي هو موضوع الكالم‪ .‬أما" سهولة املخرج"فليس املراد منه األلفاظ املفردة‪،‬‬

‫‪ -1‬عبد القاهر اجلرجاين ‪،‬املصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.915‬‬


‫‪ -2‬اجلاحظ‪:.‬احليوان ‪ ،‬حتقيق عبد السالم حممد هارون‪:‬مرجع سابق ص ‪،300‬‬
‫‪ -3‬اجلاحظ‪:.‬احليوان ‪،‬املرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.039‬‬

‫‪ -4‬عبد القاهر اجلرجاين‪ ،‬دالئل اإلعجاز ‪ ،‬مصدر سابق ‪،‬ص ‪024‬‬

‫‪128‬‬
‫آلن أكثر لغة العرب وسوادها األعظم هو سهل خمرجه‪ ،‬وإمنا املراد منه الكالم املركب وهذا ال حيدث ذكره إال بعد‬
‫أن يكون الكالم يؤدي معانيه املطلوبة‪ ،‬فأداء املعىن أسبق من تسهيل املخارج‪ ،‬وكذلك قوله يف "كثرة املاء" بل إن‬
‫الكالم ال يكثر ماؤه ويسلس حىت يكون قد أوىف مبعناه‪ ،‬أما " صحة الطبع " و الطبيعة إمنا ّتود باملعاين‪ ،‬وليس‬
‫باأللفاظ‪.‬‬
‫أما " جودة السبك" فهده هي الصناعة والصياغة والنسج والتصوير‪ ،‬كلها أمور عائدة إىل املعاين‪ ،‬ال إىل األلفاظ‪،‬‬
‫فهو حني يرتب معانيه يف نفسه ويصورها للمستمعني يف ألفاظها‪ ،‬خترج مسبوكة فتظهر فيها صناعته وصياغته‪،‬‬
‫ونسجه وتصويره‪ ،‬فإن أحسن ترتيب املعاين يف النفس حسنت هذه تبعا هلا‪ ،‬وإن أساء تلك ساءت هذه‪ ،‬فإمنا‬
‫األلفاظ على أقدار املعاين‪ .‬كل هذه األمور قد ذكرها اجلاحظ وهو يتكلم عن الشعر‪ ،‬لذلك ختم كالمه بقوله‪":‬‬
‫فإمنا الشعر‪ "..‬وهو قال ذلك تعليقا على اختيار أيب عمرو الشيباين للبيتني السابقني‪ ،‬وهو مل يعب عليه اختياره‬
‫إيامها‪ ،‬ألنه هو نفسه جعالمها يف خمتاراته يف " البيان والتبيني"‪ ،‬وإمنا عاب عليه أنه مل يعترب يف اختياره إال املعىن‪،‬‬
‫كما أنه عاب على النحاة أهنم ال خيتارون من األشعار إال ما فيها من إعراب وعاب على رواة األخبار اقتصارهم‬
‫على ما فيها من شاهد ومثل‪.‬‬
‫إن مقياس اجلاحظ يف اختيار األشعار ليس هو املعىن فقط وال هو اإلعراب فقط وال هو الشاهد و املثل فقط‪،‬‬
‫بل هو كل ذلك مع إقامة وزنه‪ ،‬وختري لفظه وسهولة خمرجه وكثرة مائه وجودة سبكه وصحة طبع قائله‪ ...‬هذا مع‬
‫عدم إغفاله ألمرين‪ ،‬أوهلما‪ :‬هو ما يعود إىل الرتاكيب اليت جاءت يف كالم اجلاحظ وأهنا كلها عائدة إىل الكالم‬
‫املركب الذي ال يقوم إال على أساس املعىن وليس على أساس اللفظ املفرد‪ ،‬والثاين‪ :‬إن املعاين اليت يقصد إليها‬
‫اجلاحظ هنا هي‪" :‬أصول املعاين"‪.‬‬
‫إن من اعتمد هذا النص املشهور من كالم اجلاحظ وجعله دليال على انتصاره لأللفاظ دون املعاين إمنا اعتقد‬
‫شبهة مت إسقاطها مبعونة من عبد القاهر ومن اجلاحظ نفسه وإمنا جاء هذا اخلطأ من قلة التدبري وسرعة احلكم‬
‫وتقليد السابقني ولو أهنم انتبهوا وتابعوا كالم اجلاحظ أللقوه يقول‪ ":‬وقد قيل للخليل بن أمحد‪ :‬ما لك ال تقول‬
‫الشعر؟ قال الذي جييئين ال أرضاه‪ ،‬والذي أرضاه ال جييئين" ‪ 1‬واجلاحظ ما قال هذا الكالم عبثا بل ألن موضعه‬
‫مناسب له وهو كالم أغفله الباحثون‪ ،‬فالذي جييء الفراهيدي ال يرضاه و الذي يرضاه ال جييئه‪ ،‬قطعا ليس هي‬
‫األلفاظ‪ ،‬ألن اخلليل موسوعة "لغوية‪ ،‬حميط – أو يكاد – بألفاظ العربية مهملها ومستعملها وهو واضع أول‬
‫معجم يف العربية وهذا يدلنا على أن اجلاحظ كان على وعي من أن البالغة ليست متعلقة باأللفاظ من حيث هي‬
‫ألفاظ مفردة‪ ،‬ألنه لو كان كذلك لكان اخلليل أفصح العرب وأشعرها‪ ،‬بل الذي تقتضي الفصاحة هي املعاين‬
‫ذلك أن ما يرضاه اخلليل من املعاين الشعرية اليت تنظم فيها العبارة الراقية‪ ،‬إىل املعىن الصادق ال تتهيأ له وما يتهيأ‬

‫‪-1‬اجلاحظ‪:.‬احليوان مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.039‬‬


‫‪129‬‬
‫له منها ال يرضاه‪ ،‬وذلك ملا جيد فيه من التكلف و اخللو من اإلحساس الصادق والبناء الفين الرصني‪ ،‬وهذا ما‬
‫خلص إليه اجلرجاين عندما حتدث عن املفاضلة بني العبارتني فالفاصل يف ذلك هو التأثري يف النفس والتالؤم بني‬
‫األلفاظ اليت هي أوعية للمعاين‪.‬‬
‫إننا إذا دققنا النظر يف هذا النص جند أن كال من اجلاحظ وعبد القاهر ينحيان منحى واحدا‪ ،‬لقد انتهى‬
‫اجلرجاين إىل نتيجة مفادها أن اجلاحظ يف هذا النص مل يتطرق إىل اللفظ من حيث هو لفظ مفرد وإمنا معىن‬
‫املعىن‪ ،‬وما يزيد هذا األمر إثباتا قول اجلاحظ السابق‪ ":‬إمنا األلفاظ على أقدار املعاين فكثريها لكثريها وقليلها‬
‫لقليلها‪ ،‬وشريفها لشريفها‪ ،‬وسخيفها لسخيفها‪1 "..‬أليس هذا الكالم حيمل حملة إىل ما أدار عليه عبد القاهر‬
‫كتابه" الدالئل" ؟ أليس فيه أن األلفاظ تابعة للمعاين؟‪ ،‬أليست أقدار األلفاظ تابعة ألقدار املعاين‪ ،‬وال تكون‬
‫األلفاظ كثرية و ال شريفة و ال سخيفة إال وهي يف كل ذلك تابعة للمعاين؟‬
‫وشيوع فكرة أن اجلاحظ من أنصار اللفظ ترجع إىل‪:‬‬
‫‪ -0‬أن األوائل الذين جاءوا هبا قد أخطأوا‪ ،‬ألن منطلقهم كان هو أن اللفظ وحي معجز‪ ،‬وأن اللغة توفيقا‬
‫وليس اصطالحا – وهذا حمال – وقد أثار هذا املوضوع جالل الدين السيوطي يف كتابه" املزهر"‪ ،‬وإذا‬
‫اقرتضنا أن اللغة موقوفة‪ ،‬فكيف يتجرأ بعضنا على صنع وخلق لغات مثل " لغة اإلسربنتو" واللغة"‬
‫العربية احلديثة"‪ ،‬واللغة "الرتكية " اليت مت حتديثها‪ ،‬فأين إذا الوقف من هذه اللغات ؟ وعليه فكل اللغات‬
‫من صنع البشر فكيف تربط هذا بقوله تعاىل‪" :‬وعلم آدام األسماء كلها"‪ ،‬املقصود هو أن اهلل قوى‬
‫اإلنسان على خلق اللغة وجعله قادرا على ذلك يف أي وقت شاء ألنه علمه األمساء كلها‪...‬‬
‫‪ -9‬أن اجلرجاين مل يدرس يف اجلامعات واملعاهد‪ ،‬فلم يدرس إال يف عصر النهضة مع األستاذ حممد عبده‬
‫جبامع األزهر الشريف‪ ،‬وذلك لكون اجلرجاين كان مشكوكا يف إمیانه‪.‬‬
‫يف اجلزء الثالث من النص جند أن عبد القاهر مل يكن يطمئن كل االطمئنان للرأي الذي يعلي من‬
‫شأن التشابيه الغريبة أو املعاين النادرة يف الشعر‪ ،‬أو الرأي الذي يصور االستعارة يف شكلها اللفظي فقط دون‬
‫حتديد مكامن احلسن فيها‪ ،‬مل يكن يكرتث بكل هذه اآلراء إمیانا منه بأن ال فائدة من إثقال كاهل الشعراء مبا ال‬
‫طاقة هلم به‪ ،‬ألن مجالية القول الشعري ال تنحصر يف املعىن النادر أو التشبيه الغريب‪ ،‬وإمنا تكمن أساسا يف حسن‬
‫التأليف والتناغم بني األجزاء‪ .‬و على الباحث أن يوجه كل اهتماماته للنظم ألنه سر اإلعجاز وموطن مجالية‬
‫القول بصفة عامة‪ ،‬على أن البحث ينبغي أن يكون على درجة كبرية من الدقة و املوضوعية حىت تتبني عن قرب‬

‫‪ -1‬اجلاحظ‪:.‬احليوان ‪ ،‬املرجع نفسه‪ ،‬ص ‪300‬‬

‫‪130‬‬
‫أمهية النظم يف إضفاء اجلمالية على املعىن‪ .‬وإذا حنن عاجلنا هذه القضية بالدقة الالزمة أدركنا أمهية املعىن يف‬
‫التأليف أو النظم‪ ،‬وحىت نقف على صحة هذا الرأي نرى مجيعا درس اجلرجاين للمثالني البالغيني التاليني‪:‬‬
‫" زيد كاألسد" – " كان زيد األسد"‪ ،‬أمهية املثالني تكمن يف أننا نبحث يف دائرة بالغية واحدة وهي التشبيه‪،‬‬
‫فمع أننا حددنا املعىن يف املثالني وذلك بأن شبهنا " زيدا " باألسد‪ ،‬فاملعىن تقريبا واحد وهو التشبيه أي هو تشبيه‬
‫باألسد يف صورة إنسان‪ ،‬غري أن اجلرجاين ال يقف عند هذا احلد مستسلما لصورة املعىن كما يفرضها الواقع ألول‬
‫وهلة ألنه الحظ تغريا يف النظم على أساسه‪ ،‬يتغري املعىن مبجرد ما حولنا " الكاف " من املثال األول وأحلقناها‬
‫"بأن" يف املثال الثاين حتول املعىن فجاء على صورة أعمق مما كانت عليه الصورة الوسطي بني التشبيه واالستعارة‪،‬‬
‫هل هذا يعين أن تغري كلمة " أسد" بكلمة " ليث" میكن أن يؤدي إىل نفس التغري الذي وقفنا عنده اآلن‪ ،‬قطعا‬
‫ال‪ ،‬ألهنما لفظتان وضعتا أصال لتأدية املعىن فال مزية هلذه على تلك‪ ،‬والسؤال املطروح هو‪ :‬ملاذا مل يدخل‬
‫اجلرجاين التشبيه يف دائرة معىن املعىن؟ إن التشبيه قناة متر عربها االستعارة‪ ،‬فهو مبثابة املعىن األول الذي يساهم يف‬
‫تشكيلها دون أن يصوغ صورهتا النهائية‪ ،‬والواقع أن األلفاظ بالنسبة للداللة غري املباشرة ال حتمل قيمة يف ذاهتا‪،‬‬
‫ألهنا وضعت ألداء املعىن األول من خالل تعلق الكلمات بعضها ببعض‪ ،‬ولكنها جاءت على تلك اهليئة‬
‫املخصوصة ألداء صورة معىن املعىن على وجه أكمل‪ ،‬فلو أننا وضعنا مكان لفظة" األسد " لفظة " الليث " يف‬
‫مجلة "رأيت األسد" ملا كان لذلك من أثر على الغرض األصلي للجملة‪ ،‬أما حينما يتغري النظم فإن املعىن سيتغري‬
‫ال حمالة‪ ،‬فاجلرجاين ينكر أن تكون لفظة فصيحة يف حد ذاهتا ألنه ال توجد مفردة أفصح من مفردة‪ ،‬فالفصاحة‬
‫ليست صفة للمفردة على اإلطالق‪ ،‬فحني نسمع ابن الرومي يقول‪:‬‬
‫أعانقها والنفــس بع ــد مش ــوقة إليها وه ــل بعــد العن ــاق تداني؟‬
‫‪1‬‬
‫سوى أن ترى الروحان يمتزجان‬ ‫وكأن فؤادي ليس يشفى ر سيسه‬

‫فكلمة "رسيسه" هل هي كلمة فصيحة " هل نستطيع تبديلها بغريها وحنصل على نفس املعىن؟ فالرسيس هو‬
‫بقايا احلرقة واللوعة وعمق احلب و الصبابة‪ ،‬فهي ال تبدل بغريها من عشرات الكلمات اليت جندها يف املعجم‪ ،‬و‬
‫هذا ال يعين أهنا فصيحة وإمنا ما ارتبطت به من استعمال وسياق ونظم هو الذي أكسبها الفصاحة فإذا قلت إن‬
‫فصاحتها جاءت من حروفها فالقاموس مليء بالكلمات اليت هلا نفس الداللة ونفس املخارج الصوتية ولكنها غري‬
‫فصيحة "إن األلفاظ ال تتفاضل من حيث هي األلفاظ جمردة‪ ،‬وال من حيث هي كلم مفردة‪ ،‬وإن األلفاظ تثبت‬
‫هلا الفضيلة‪ ،‬وخالفها يف مالءمة معىن اللفظة ملعىن اليت تليها أو ما أشبه ذلك مما ال تعلق له بصريح اللفظ"‪.2‬‬

‫‪-1‬علي مهنا ‪ :‬ديوان ابن الرومي ‪ ،‬حتقيق عبد األمري ‪ ،‬منشورات دار و مكتبة اهلالل‪ ،‬ج ‪ ،6‬ص ‪.99‬‬
‫‪ -2‬عبد القاهر اجلرجاين ‪ ،‬دالئل اإلعجاز‪ ،‬مصدر سابق ‪ ،‬ص ‪.38‬‬
‫‪131‬‬
‫ما كان يؤرق اجلرجاين ويشغله هو مكمن اإلعجاز يف القرآن الكرمي‪ ،‬ماهو هذا الوصف الذي جعل من القرآن‬
‫نصا معجزا ؟ ما هي الشروط اجلمالية يف النص القرآين ؟ ما السر يف تفضيل كالم على كالم وتقدمي عبارة على‬
‫عبارة؟‪ .‬عن هذا السؤال قدم الشيخ إجابات خمتلفة متنوعة تناوهلا بالدرس و التحليل فجاء هبا على الشكل‬
‫التايل‪:‬‬
‫‪ -0‬هل السر يف الكلم املفرد؟ ال‪ ،‬ألن اعتبارها كذلك ضرب من احملال إذ تصبح اللفظة املثلوة يف القرآن‬
‫أفضل منها وهي مثلوة خارجه وهذا كالم ال يقبله العقل‪.‬‬
‫‪ -9‬هل السر يف معاين األلفاظ؟ بالطبع ال‪ ،‬ألنه لو كان األمر كذلك لكانت لفظة" اهلل" قبل نزول القرآن‬
‫أقل داللة من لفظة " الرب"‪ ،‬مع أن معاين الكلم املفردة كلها تواضع واصطالح‪.‬‬
‫‪ -3‬هل السر يف مقاطع اآلي وفواصلها ؟ ال‪،‬ألن الفواصل يف اآلي يقول اجلرجاين كالقوايف يف الشعر إن‬
‫مل يكن اإلعجاز يف كل هذه األشياء فما الذي هز الناس ومأل صدورهم وأعجزهم حني دخل عليهم‬
‫فخرسوا ومحلهم على هذا الوصف‪ ":‬إن له حلالوة وإن عليه لطالوة"‪ .‬وما الذي دفع اجلاحظ إىل هذا‬
‫القول‪ ":‬ولو أن رجال قرأ على رجل من خطبائهم وبلغائهم سورة واحدة لتبني له يف نظامها وخمرجها من‬
‫لفظها وطابعها أنه عاجز عن مثلها ولو حتدى هبا أبلغ العرب ألظهر عجزه"‪.‬‬
‫‪ -4‬هل يكمن اإلعجاز يف االستعارة ؟ ال‪ ،‬ألن ذلك يؤدي إىل أن يكون اإلعجاز يف مواضع معينة دون‬
‫غريها‪ ،‬ويتضح ذلك عند مقارنتها هلذين الرتكيبيني‪":‬واشتعل الرأس شيبا " و" اشتعل شيب الرأس"‪ ،‬فعلى‬
‫الرغم من اشرتاكها يف االستعارة فإن أحدمها يفضل اآلخر ويسمو عليه‪ ،‬فلو كان األمر رهينا باالستعارة‬
‫لوجب أن يستوي قوله تعاىل يف اآلية بقول البشر‪ ،‬وهذا محال‪ ،‬فقولنا‪ ":‬اشتعل شيب الرأس" معناه أن‬
‫الشيب غط جانبا من الرأس دون أن يشمل الرأس كله‪ ،‬عكس قوله تعاىل‪ ":‬واشتعل الرأس شيبا" فهي‬
‫مجلة تؤكد التوقد للرأس برمته‪ ،‬من مت فهو مفهوم مشويل يشمل الرأس وصاحبه مبا يف ذلك فكره وسلوكه‪...‬‬
‫وعليه فاجلملتني خمتلفتني كليا‪ .‬إن سر خلود اآلية الكرمیة يكمن يف نظمها‪ ":‬وال نظم يف الكلم و ال ترتب‬
‫حىت يعلق بعضها ببعض ويبني بعضها على بعض"‪ « ،1‬وأن ليس النظم إال أن تضع كالمك الوضع الذي‬
‫يقتضيه علم النحو وتعمل على قوانينه وأصوله" ‪ ،2‬نالحظ من خالل ما تقدم‪:‬‬

‫‪ -1‬عبد القاهر اجلرجاين ‪ ،‬دالئل اإلعجاز‪ ،‬مصدر سابق ‪ ،‬ص ‪.44‬‬


‫‪ -2‬عبد القاهر اجلرجاين ‪ ،‬املصدر نفسه ص ‪.64‬‬
‫‪132‬‬
‫إن خصائص النظم هي يف احلقيقة جزء ال يتجزأ من معاين النحو‪ ،‬ففي قوله تعاىل‪":‬وقيل يا أرض ابلعي‬
‫ماءك ويا مساء أقلعي وغيض املاء وقضي األمر و استوت على اجلودي وقيل بعدا للقوم الظاملني "‪ ،‬يرجع عبد‬
‫القاهر ‪ 1‬مجال اآلية إىل املواضع التالية‪ ،‬إذا حنن أدركناها بأذواقنا أدركنا سر العظمة يف اآلية وهي‪:‬‬
‫‪ -0‬أن نوديت األرض مث أمرت‪ :‬يا أرض ابلعي‪.‬‬
‫‪ -9‬أن كان النداء " بيا" دون" أي"‪ :‬يا أرض – يا مساء‪.‬‬
‫‪ -3‬إضافة املاء إىل الكاف‪ :‬ماءك‪.‬‬
‫‪ -4‬أن نادى األرض وأمرها مبا خيصها وماهو من شأهنا كذلك‪.‬‬
‫‪ -5‬استخدام املبين للمجهول يف لفظة " وغيض"‪.‬‬
‫‪ -6‬التأكيد والتقرير يف " وقضي األمر"‪.‬‬
‫‪ -7‬إضمار السفينة يف قوله" واستوت على اجلودي"‪.‬‬
‫‪ -8‬مقابلة " قيل " يف الفاحتة مع "قيل" يف اخلامتة " قيل يا أرض‪ ..‬وقيل بعدا للقوم الظاملني"‪...‬هكذا‬
‫نفتخر بأن شيخنا الفاضل سبق ما وصلت إليه العقلية الغربية مع اللسانيات التوليدية يف إطار ما مسو‬
‫بنظرية " متاسك النص"‪...‬‬
‫املالحظ أن عبد القاهر اعتمد يف ذلك‪ ،‬الذوق الناضج السليم املمتاز‪ ،‬و القرحية الوقادة اليت ال میسها ماس إال‬
‫شحن من كهربائها لكي يردك أسرار اجلمال‪ ،‬حىت إنه ليحسن أن املعىن يتأمل ويتظلم إذا مل يؤد بالعبارة الصاحلة‪،‬‬
‫فذوقه علمي‪ ،‬ولكن ليس العلمية مبعناها الرياضي املنتمي للعلوم احملضة ولكنها مبعناها اإلدراكي القادر على‬
‫تفتيت الشيء وتذوق حلوه ومره مما جعل نظريته تتجاوز حلظة والدهتا فقفزت من القرن اخلامس اهلجري لتعايش‬
‫أحدث النظريات يف القرن الواحد والعشرين‪ ،‬فرحم اهلل عبد القاهر فأثره أكرب من أن میحى وفضله أكثر من أن‬
‫ينسى‪.‬‬

‫‪ -1‬عبد القاهر اجلرجاين ‪،‬املصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.37-36‬‬


‫‪133‬‬
‫المحاضرة الرابعة عشر‪:‬التقاطع المعرفي بين نظرية النظم والنظريات اللسانيات العربية الحديثة‪.‬‬
‫سنحاول يف هذه احملاضرة أن نعرف كيف أن العقل العريب مل يستثمر هذا الرصيد اللغوي الكبري الذي تركه‬
‫عبد القاهر وغريه يف حماولة إجياد نظرية لغوية عربية متكننا من قراءة نصوصنا اإلبداعية‪ ،‬بعيدا عن إخضاعها ملناهج‬
‫غربية قد تكون تعسفية أكثر منها حتليلية‪ .‬صحيح أن احلديث اآلن عن نظرية لغوية عربية متكاملة باملعىن العلمي‬
‫األكادمیي‪ ،‬أمر يبدو يف غاية الصعوبة لكون الرتاث البالغي العريب مشتت بني مصادر ومضان كثرية‪ ،‬ثانيا أن هذا‬
‫اإلنتاج اللغوي مل يكن متواصل احللقات ومر مبرحلة فراغ يبدو أهنا طالت كثريا وهي ما يعرف بـ"عصور االحنطاط"‬
‫فقد بذلك هذا اإلنتاج اللغوي إيقاعه التصاعدي فدخل يف دوامة من االجرتار والركود وغاب االجتهاد ومعه الروح‬
‫اإلبداعية القادرة على إنتاج نظرية لغوية‪ .‬لكن أصبح اليوم وأكثر من أي وقت مضى ويف ظل تنامي النظريات‬
‫اللغوية الغربية واليت مل تقدم حلد اآلن إجابات مقنعة أصبح لزاما علينا التفكري يف إجياد هذه النظرية اليت قد ّتد‬
‫كثريا من املعارضني واجلاحدين هبا‪ ،‬لكن أمل تتعرض آراء سوسري املبكرة للتعديل والتفسري واإلضافة من طرف عدة‬
‫نقاد كـ‪: Culler‬و ‪ Godell‬دون أن ينسف ذلك كله النظرية اللغوية اليت قدمها املفكر السويسري أو يبطل‬
‫وجودها؟ ويف انتظار حتقق حلم نظرية لغوية عربية سنحاول رصد بعض نقاط التشابه بني ما تضمنته كتابات عبد‬
‫القاهر اجلرجاين وما وصلت إليه النظريات اللغوية احلديثة‪ .‬فما هي إذن نقط تقاطع عبد القاهر مع اللغويني‬
‫احملدثني وخاصة دي سوسري وشولز؟‬
‫أول مسألة میكن الوقوف عندها هنا هي مسألة اعتباطية العالقة بني شطري العالمة اللغوية‪ .‬كتب فردناند‬
‫دي سوسري قائال‪" :‬إن العالقة اليت تربط الداللة باملدلول هي عالقة اعتباطية‪ ،‬أو بعابرة أخرى‪ ،‬ملا كنا نقصد‬
‫بالداللة الكل احلاصل من اجتماع الدال واحتاده باملدلول فإننا نستطيع أن نقول على وجه االختصار‪ :‬إن الداللة‬
‫اللسانية اعتباطية‪ ،‬وهكذا فإن لفظ األخت ‪ sœur‬ليس مرتبطا بأية عالقة قد نتخيلها موجودة داخل سلسلة‬
‫أخرى من األصوات تكون دالة وكربهان على ذلك أن اخلصائص املتباينة لأللسنة تكون متضاربة فيها بينها‬
‫وباألوىل وجود ألسنة خمتلفة‪ ،‬فمدلول الثور ‪ bœuf‬يكون له داله الصويت ‪ b-o-f‬داخل حدود بالد معينة‪ ،‬وله‬
‫أيضا دال صوت آخر هو )‪ o-k-s (= ohs‬وراء احلدود"‪.1‬‬
‫كتب عز الدين إمساعيل شارحا ما جاء به سوسري خبصوص اعتباطية العالقة بني الدال واملدلول "وكل ما قصد‬
‫إليه سوسري هو أن العالقة بني املدلول والدال‪ .‬كما هي احلال يف مفهوم "اخلبز" وكلمة اخلبز الدالة عليه‪ ،‬كانت يف‬
‫األصل اعتباطية‪ ،‬من حيث إن ذلك املفهوم مل يكن ليستتبع بالضرورة تلك الكلمة‪ ،‬ومع ذلك فإن سوسري يوضح‬
‫غاية الوضوح على الرغم من أن كلمة "خبز" قد ربط بينها يف ظرف طبيعي موغل يف القدم وبني مفهوم "اخلبز"‬

‫‪-1‬فرديناند دي سوسري ‪ :‬حماضرات يف علم اللسان احلديث ‪ ،‬ترمجة عبد القادر قنيين‪.‬ص‪.88 ،87 :‬‬
‫‪134‬‬
‫فإن هذه الرابطة تعد اعتباطية منذ اللحظة اليت تقبلها فيها اجملتمع‪ .‬وهكذا كانت الدوال يف الظرف الطبيعي‬
‫‪1‬‬
‫اعتباطية لكنها صارت يف اجملتمع ثابتة"‬
‫تعالوا معنا نرى هذا يف الرتاث البالغي العريب‪ ،‬وكتنبيه ال بد منه‪ ،‬فنحن لسنا بأي حال من األحوال نريد أن‬
‫نؤسس شرعية املاضي العريب من خالل منظور غريب حديث‪ ،‬فهذا أمر نستبعده وال نريد أن نقيس تراثا بالغيا‬
‫ضخما من خالل منظار ضيق‪ ،‬نعود إىل اعتباطية الدليل اللغوي واليت سبق وأن حتدث عنها عبد القاهر اجلرجاين‬
‫يف القرن اخلامس اهلجري وإن كان مل يستعمل لفظ "االعتباطية" إال أنه كمفهوم كان راسخا ومتواجدا‪ .‬قال "ومما‬
‫جيب إحكامه بعقب هذا الفصل الفرق بني قولنا "حروف منظومة" و"كلم منظومة" وذلك أن "نظم احلروف" هو‬
‫تواليها يف النطق‪ ،‬وليس نظمها مبقتضى عن معىن‪ ،‬وال الناظم هلا مبقتف يف ذلك رمسا من العقل اقتضى أن يتحرى‬
‫يف نظمه هلا ما حتراه‪ :‬فلو أن واضع اللغة كان قد قال "ربض" مكان "ضرب" ملا كان يف ذلك ما يؤدي إىل فساد‪.‬‬
‫‪2‬‬
‫وأما "نظم الكالم فليس األمر فيه كذلك"‬
‫هكذا كان انتباه علمائنا هذه الظاهرة مبكرا وخالصتها أننا حينما نصدر الصوت أو امللفوظ ليدل على فكرة‬
‫معينة فإننا نكون متفقني اعتباطيا على تالزم تلك العالقة بني الدال واملدلول وكما أنه كان من املمكن أن يدل‬
‫ذلك الصوت على معىن آخر أو أن يكون ذلك املعىن معربا عنه بصوت آخر‪ ،‬وهذا بالطبع كان ممكنا يف مرحلة‬
‫مبكرة ومن مث يكتسب قوة العرف االجتماعي‪.‬‬
‫نقطة ثانية يلتقي فيها عبد القاهر اجلرجاين مع اللغويني املعاصرين وهي مسألة تأليف الكالم أو النظم كما مساها‬
‫عبد القاهر أو النسق والنظام كما مساها الناقد األمريكي روبرت شواز ‪: Robert Schols‬‬
‫الذي يقول‪" :‬جيب أن نؤكد أن النسق اللغوي ليس وجودا حمسوسا‪ ،‬فاللغة االجنليزية ليست يف العامل أكثر من‬
‫وجود قوانني احلركة يف العامل‪ ،‬ولكي تكون موضوعا للدراسة جيب بناء لغة ما‪ ،‬أو منوذج هلا من شواهد الكالم‬
‫الفردي إن أمهية هذا املبدأ للدراسات البنيوية األخرى بالغة‪ ،‬إن أي نظام إنساين لكي يصبح علما جيب أن ينتقل‬
‫من الظواهر اليت يسجلها إىل النسق الذي حتكمها‪ ،‬من الكالم إىل اللغة‪ ،‬ويف الطبع ال معىن ألي تصوت بالنسبة‬
‫ملتحدث ينقصه النسق اللغوي الذي حيكم معناه‪ ،‬وما يعنيه هذا بالنسبة لألدب بالغ األمهية‪ ،‬إذ ال میكن ملنطوق‬
‫‪3‬‬
‫أديب‪ ،‬لعمل أديب‪ ،‬أن يكون له إذا افتقدنا اإلحساس بالنسق األديب الذي ينتمي إليه"‬

‫‪-1‬عز الدين إمساعيل ( أما بعد) فصواللعدد األول‪ ،‬اجمللد السادس (أكتوبر‪/‬نوبر‪/‬دجنرب) ‪ ،،0285‬ص‪.44 :‬‬
‫‪-2‬عبد القاهر اجلرجاين‪:‬دالئل اإلعجاز‪ ،‬مصدر سابق ‪ ،‬ص‪.42 :‬‬
‫‪3- Robert Schols, structuralism in leterature, introduction (New Haven and london: yale,‬‬
‫‪op, 1971) translation: Abdelaziz Hamouda, p: 14/15.‬‬

‫‪135‬‬
‫فشولز يؤكد أن النسق ليس وجودا ماديا حمسوسا لكنه قانون حيكم عالقات الوحدات داخل النص كما أن‬
‫التصوت اللغوي ال معىن له من دون نسق حيكم عالقات وحداته‪ ،‬فتحقق املعىن ال يتم من دون هذا النسق الذي‬
‫حيكم العالقة بني املرسل واملرسل إليه‪ .‬هذا ما ذهب إليه شولز وال نراه يف هذا قدم أكثر مما قاله عبد القاهر سواء‬
‫يف تعريفه املوجز واملشهور معلوم أن النظم ليس سوى تعليق الكلم بعضها ببعض وجعل بعضها بسبب بعض‪ ،‬أم‬
‫يف تعاريف أخرى مفصلة قال "واأللفاظ ال تفيد حىت تؤلف ضربا خاصا من التأليف ويعمد هبا إىل وجه دون وجه‬
‫من الرتكيب والرتكيب فلو أنك عمدت إىل بيت شعر أو فصل نثر فعددت كلماته عدا كيف جاء واتفق‪ ،‬وأبطلت‬
‫نظامه الذي عليه بىن خبصوصيته أفاد كما أفاد‪ ،‬وبنسقه املخصوص أبان املراد‪ ،‬حنو أن تقول يف (قفا نبك من‬
‫ذكرى حبيب ومنزل) (منزل قفا ذكرى من نبك حبيب) أخرجته من كمال البيان إىل حمال اهلذيان‪ ،‬نعم وأسقطت‬
‫نسبته من صاحبه وقطعت الرحم بينه وبني منشئه‪ ...‬وهذا احلكم أعين االختصاص يف الرتتيب يقع يف األلفاظ‬
‫مرتبا على املعاين املرتتبة يف النفس‪ ،‬املنتظمة فيها على قضية العقل"‪.1‬‬
‫كتب عبد العزيز محودة شارحا قول عبد القاهر هذا‪" :‬فاأللفاظ ال تفيد" أي ال حتقق معىن أو داللة (حىت حتقق‬
‫ضربا خاصا من التأليف) والتأليف اخلاص الذي يقصده عبد القاهر هو (ترتيبه الذي خبصوصيته أفاد) مث هو أيضا‬
‫(االختصاص يف الرتتيب) فإذا خرجنا على (نظام) بيت الشعر وقلبنا (نسقه املخصوص) كانت النتيجة إخراج‬
‫البيت من كمال البيان وعدم حتقق املعىن‪ ،‬أي حتقق الالمعىن‪ .‬ولسنا حباجة هنا إىل التذكري مبصطلحني أساسيني‬
‫استخدمهما عبد القاهر يف هذا النص البالغ الثراء ومها (نسق ونظام) واملصطلحان على وجه التحديد مها جوهر‬
‫تعريفه املوجز السابق للنظم باعتباره ليس سوى تعليق الكلم بعضها ببعض وجعل بعضها بسبب بعض"‪.2‬‬
‫وكثرية هي النقط اليت يلتقي فيها عبد القاهر اجلرجاين مع اللغويني املعاصرين والنموذج املوايل املكرس ملا نذهب‬
‫إليه هو ثنائية الكالم واللغة اليت حضيت وما تزال باهتمام كبري من طرف الباحثني قال سوسري معرفا اللغة بأهنا‬
‫"حصيلة اجتماعية يشرتك فيها اجملتمع بأسره‪ ،‬أما الكالم فهو ذو طبيعة فردية للزمن املاضي وبديا أنه من اليسري‬
‫علينا أن منيز بني هذا النسق وبني تارخيه‪ ،‬أي بني ما يوجد عليه اآلن وبني ما كان عليه‪ ...‬وبالنسبة ملوقفنا‪ ،‬فإنه‬
‫ال يوجد إال حل واحد جلميع هذه الصعوبات" ذلك أنه يتعني علينا أن نضع أقدامنا وأن نثبتها على أرض اللسان‬
‫وميدانه أوال فنجعله معيارا جلميع املظاهر األخرى للغة وال شك أن اللغة وحدها‪ ،‬من بني كثري مما له ثنائية تكون‬
‫قابلة مهيأة لتعريف مستقل‪ ،‬فيطمئن بذلك فكرنا إىل قبول هذا السناد وهذه الدعامة اليت تقدمها اللغة"‪ 3‬وعرف‬

‫‪-1‬عبد القاهر اجلرجاين ‪ :‬أسرار البالغة‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص‪9 :‬‬


‫‪-2‬عبد العزيز محودة ‪:‬املرايا املقعرة‪ ،‬جملة عامل املعرفة‪ ،‬العدد ‪ ،979‬ص‪.998 :‬‬
‫‪-3‬دي سوسري حماضرات يف علم اللسان احلديث ‪ ، ،‬ص‪.08/07 :‬‬
‫‪136‬‬
‫الكالم بقوله‪( :‬فاإلجناز أو التحقق هو دائما فردي ويكون الفرد دائما هو املتكفل هبذا اإلجناز ونسمي هذا‬
‫األخري بالكالم ‪: parole...‬فعل فردي متعلق باإلرادة والذكاء)‪.1‬‬
‫فسوسري میيز بني اللغة والكالم باعتباره األوىل خاصية اجتماعية أما الكالم فهو ذو طبيعة فردية خاصة‪ ،‬والشيء‬
‫نفسه تقريبا جنده عند عبد القاهر اجلرجاين حني قال "ومجلة األمر أنه ال يرى النقص يدخل على صاحبه يف ذلك‬
‫إال من جهة نقصه يف علم اللغة‪ ،‬ال يعلم أن ههنا دقائق وأسرارا طريق العلم هبا الروية والفكر‪ ،‬ولطائف مستقاها‬
‫العقل‪ ،‬وخصائص معان ينفرد هبا قوم قد هدوا إليها‪ ،‬ودلوا عليها‪ ،‬وكشف هلم عنها‪ ،‬ورفعت احلجب بينهم‬
‫وبينها‪ ،‬وإهنا السبب يف أن عرفت املزية يف الكالم‪ ،‬ووجب أن يفضل بعضه بعضا"‪.2‬‬
‫فثنائية الكالم‪/‬اللغة اليت توقف عندها سوسري وغريه مل تكن غريبة بالكامل عن وعي العقل البالغي العريب شأهنا‬
‫يف ذلك شأن العديد من األركان اللغوية احلديثة‪ ،‬كتب حممد مندور يف "امليزان اجلديد" عن عبد القاهر اجلرجاين‬
‫قائال‪" :‬إنه يستند إىل نظرية يف اللغة أرى فيها ويرى معي كل من میعن النظر‪ ،‬أهنا متاشي ما وصل إليه علم اللسان‬
‫احلديث من آراء‪ ،‬ونقطة البدء ّتدها يف دالئل اإلعجاز حيث يقرر املؤلف ما قرره علماء اليوم من أن اللغة‬
‫ليست جمموعة من األلفاظ بل جمموعة من العالمات ‪ système de ropports‬وعلى هذا األساس العام بىن‬
‫‪3‬‬
‫عبد القاهر كل تفكريه اللغوي‬
‫واحلماس نفسه جنده يف كتاب له آخر حني قال‪" :‬ومذهب عبد القاهر هو أصح وأحدث ما وصل إليه علم اللغة‬
‫يف أوربة أليامنا هذه وهو مذهب العامل السويسري الثبت فرديناند دي سوسري‪" .‬‬
‫وختاما نؤكد أنه مل يكن قصدنا من خالل ما ذهبنا إىل توضيحه يف هذه احملاضرة‪ ،‬أن ندعي سبق العقل األوريب‬
‫احلديث إىل تطوير مدرسة لغوية حديثة‪ ،‬بل القصد هو التنبيه على أن الدراسات اللغوية العربية قدمت الكثري مما‬
‫كان میكن لو متت غربلته وتصفيته بعيدا عن اإلحساس بدونية العقل العريب‪ ،‬أن يطور إىل علم لغويات عريب‬
‫حديث‪.‬‬

‫‪-1‬دي سوسري ‪ ،‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.93 :‬‬


‫‪-2‬عبد القاهر اجلرجاين ‪ :‬دالئل اإلعجاز‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص‪01 :‬‬
‫‪-3‬حممد مندور ‪ :‬يف امليزان اجلديد‪ ،‬ط‪ ،9 :‬القاهرةمجيع احلقوق حمفوظة لدنيا الوطن ‪ ،9107 - 9113‬ص‪.48 :‬‬

‫‪137‬‬
‫مكتبة المطبوعة‪:‬‬

‫‪ -‬املصحف الشريف برواية ورش عن اإلمام نافع ‪.‬‬

‫المراجع‪:‬‬

‫المراجع العربية القديمة‪:‬‬

‫‪ .0‬أبو بشري عمرو بن عثمان بن قنرب سيبويه‪ ،‬الكتاب‪ ،‬تح‪ :‬عبد السالم حممد هارون‪ ،‬ج‪ ،0‬اهليئة املصرية‬
‫للكتاب‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ط‪0277 ،9‬م‪.‬‬
‫‪ .9‬أبو هالل احلسن بن عبد اهلل العسكري‪ ،‬الصناعتني الكتابة والشعر‪ ،‬تح‪ :‬مفيد قحيمة‪ ،‬دار الكتب‬
‫العلمية‪ ،‬بريوت‪ ،‬لبنان‪ ،‬ط‪0282 ،9‬م‬
‫‪ .3‬الباقالين‪ :‬إعجاز القرآن‪ ،‬حتقيق أمحد صقر‪ ،‬دار املعارف‪ ،‬ط‪ ،5‬القاهرة ‪0280‬م‪.‬‬
‫‪ .4‬اجلاحظ‪ :‬البيان و التبيني‪ ،‬حتقيق عبد السالم هارون اخلاجني‪0367 ،‬ه‪0248 -‬م‪ ،‬ج ‪.4‬‬
‫‪ .5‬اجلاحظ‪ :‬احليوان‪ ،‬حتقيق حممد باسل عيون السود‪ ،‬دار الكتب العلمية‪ ،‬ط‪ ،9‬بريوت ‪9113‬م‪ ،‬ج‪.3‬‬
‫‪ .6‬جالل الدين السيوطي‪ ،‬حتـ حممد أبو الفضل إبراهيم ‪ :‬بغية الوعاة يف أخبار النحاة ‪،‬مطبعة عيسى البايب‬
‫احلليب ‪،‬القاهرة‪.‬‬
‫‪ .7‬اخلطايب محد بن حممد‪ ،‬بيان إعجاز القرآن‪ ،‬ضمن ثالث رسائل يف إعجاز القرآن‪ ،‬تح‪ :‬حممد خلف اهلل‬
‫وحممد زغلول سالم‪ ،‬دار املعارف‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ط‪0220 ،4‬م‪.‬‬
‫‪ .8‬اخلطيب القزويين ‪:‬اإليضاح يف علوم البالغة ‪ ،‬ت حممد عبد املنعم خفاجي‪ ،‬املكتبة األزهرية للرتاث‬
‫‪0403‬ه ‪0223‬م‪.‬‬
‫‪ .2‬الزركشي‪ :‬الربهان يف علوم القرآن‪ ،‬حتقيق أبو الفضل إبراهيم‪ ،‬املكتبة العصرية‪ ،‬بريوت ‪0228‬م‪.‬‬
‫‪ .01‬السكاكي‪ :‬مفتاح العلوم‪ ،‬حتقيق نعيم زرزور ۔ دار الكتب العلمية‪ -‬بريوت‪ ،‬ط‪0413 ،0‬ه۔ ‪0283‬م‪.‬‬
‫‪ .00‬سيبويه عمرو بن عثمان‪ ،‬الكتاب‪ ،‬حتقيق‪ :‬عبد السالم حممد هارون‪ ،‬مكتبة اخلاجني‪ ،‬ط‪ ،3‬القاهرة‪،‬‬
‫‪0406‬هـ‪0226،‬م‪.‬‬
‫‪ .09‬القاضي اجلرجاين‪:‬الوساطة بني املتنيب وخصومه‪ :‬حتقيق د‪ /‬حممد أبو الفضل إبراهيم على البجاوی ۔‬
‫عيسی احللبی۔ ‪0266‬م‪.‬‬
‫‪ .03‬قدامة بن جعفر‪ :‬نقد الشعر‪،‬حتقيق د‪ /‬حممد عبد املنعم خفاجی‪،‬مكتبة الكليات األزهرية‪0411 .‬ه‪-‬‬
‫‪0281‬م‪.‬‬

‫‪138‬‬
‫المراجع العربية الحديثة‪:‬‬

‫‪ .0‬إبراهيم مصطفى ‪:‬إحياء النحو ‪ ،‬مطبعة جلنة التأليف و الرتمجة والنشر‪ ،‬سنة ‪.0238‬‬
‫‪ .9‬إحسان عباس‪ :‬تاريخ النقد األديب‪ ، ،‬دار الثقافة‪ ،‬بريوت‪ ،‬لبنان‪.‬‬
‫‪ .3‬أمحد إبراهيم موسی ‪:‬الصبغ البديعي يف اللغة العربية ‪ ،‬دار الكاتب العريب بالقاهرة ‪0388‬ه ‪0262‬م‪.‬‬
‫‪ .4‬أمحد أبو زيدن مقدمة يف األصول الفكرية للبالغة وإعجاز القرآن‪ ،‬دار األمان‪ ،‬الرباط‪ ،‬املغرب ‪.‬‬
‫‪ .5‬أمحد مجال العمري‪ ،‬الباحث البالغية يف ضوء قضية اإلعجاز القرآين‪ ،‬مكتبة اخلاجني‪ ،‬القاهرة‪0221 ،‬م‪.‬‬
‫‪ .6‬أمحد حسن صربة‪ ،‬التفكري االستعاري‪ ،‬مكتبة الوادي‪ ،‬بدمنهور‪ ،‬ط‪9119 ،9‬م‪.‬‬
‫‪ .7‬أمحد عبد السيد الصاوي ‪ ،‬مفهوم االستعارة‪ ،‬منشأة املعارف باإلسكندرية‪ ،‬ط‪0288 ،0‬م‪.‬‬
‫‪ .8‬أمحد علي الدمهان‪ :‬الصورة البالغية عند عبد القاهر اجلرجاين‪ ،‬منشورات وزارة الثقافة‪ ،‬سورية‪ ،‬ط ‪،9‬‬
‫‪9111‬م‪.‬‬
‫‪ .2‬أمحد علي دمهان‪:‬عبد القاهر اجلرجاين‪ :‬الصورة البالغية عند عبد القاهر اجلرجاين‪ ،‬ج ‪ 0‬طبعة دار طالس‬
‫للدراسات و الرتمجة و النشر ‪0286‬م‪.‬‬
‫‪ .01‬أمحد مطلوب‪ :‬أساليب بالغية‪ ،‬الفصاحة ‪ -‬البالغة ‪ -‬املعاين وكالة املطبوعات‪ ،‬ط‪ ،0‬الكويت‬
‫‪0281‬م‪.‬‬
‫‪ .00‬أمحد يوسف هنداوي‪ ،‬اإلعجاز الصريف يف القرآن الكرمي ‪ ،‬دراسة نظرية تطبيقية ‪ ،‬التوظيف البالغي‬
‫لصيغة الكلمة ‪ ،‬املكتبة العصرية صيدا ‪ ،‬بريوت ‪9119 ،‬م‪.‬‬
‫‪ .09‬بدوي طبانة ‪ :‬البيان العريب‪ ،‬ط ‪ 5‬دار العودة‪ ،‬بريوت‪.‬‬
‫‪ .03‬بشري کحيل ‪ ،‬الكناية يف البالغة العربية ‪ ،‬مكتبة اآلداب ‪ ،‬القاهرة‪ ،‬الطبعة األوىل ‪9114،‬م‪.‬‬
‫‪ .04‬متام حسان ‪ :‬اللغة العربية معناها ومبناها‪ ،‬دار الثقافة‪ ،‬الدار البيضاء‬
‫‪ .05‬حامت صاحل الضامن‪ ،‬نظرية النظم تاريخ وتطور‪ ،‬دار احلرية للطباعة‪ ،‬بغداد (د‪ ،‬ط) ‪ 0272‬م‪.‬‬
‫‪ .06‬حامد عبد القادر ‪ ،‬يف علم النفس ‪ ،‬ج ‪ ، 3‬ص ‪ ، 327‬نقال عن ‪ :‬أمحد الشايب ‪ ،‬أصول النقد‬
‫األديب‪ ،‬الطبعة العاشرة ‪( ،‬القاهرة‪ :‬مكتبة النهضة املصرية )‪0222 ،‬م‪.‬‬
‫‪ .07‬حامد عوين‪ :‬املنهاج الواضح يف البالغة‪ ،‬املطابع األمريية‪ ،‬القاهرة ‪0224‬م‪.‬‬
‫‪ .08‬حسن إمساعيل عبد الرازق ‪:‬من قضايا البالغة والنقد عند عبد القاهر اجلرجاين ‪ ،‬مكتبة الكليات‬
‫األزهرية ط ‪ 0280-0419 ،0‬م‪.‬‬
‫‪ .02‬حسن عبد الرازق ‪:‬من قضايا البالغة والنقد عند عبد القاهر اجلرجاين ‪ ،‬مكتبة الكليات األزهرية ط ‪0‬‬
‫‪ 0280-0419 ،‬م‪.‬‬
‫‪139‬‬
‫‪ .91‬محادي صمود‪ :‬التفكري البالغي عند العرب‪ ،‬املطبعة الرمسية للجمهورية التونسية‪ ،‬تونس ‪0280‬م‪.‬‬
‫‪ .90‬درويش اجلندي‪ :‬نظرية عبد القاهر يف النظم‪ ،‬مكتبة هنضة ‪،‬مصر بالفوجانا ‪0261‬م‪.‬‬
‫‪ .99‬زكي مبارك‪ :‬املوازنة بني الشعراء‪ ،‬القاهرة‪ ،‬مصر‪،‬ط‪.0236 ،9‬م‪.‬‬
‫‪ .93‬سناء محيد البيايت ‪:‬قواعد النحو العريب‪ ،‬يف ضوء نظرية النظم‪ ، ،‬ط ‪ ،10‬دار وائل للنشر‪ ،‬عمان‪،‬‬
‫األردن‪9113 ،‬م‪.‬‬
‫‪ .94‬سيد عبد الفتاح حجاب ‪ " ،‬نظرية النظم عند عبد القاهر اجلرجاين وصلتها بقضية اللفظ واملعىن ‪ ،‬جملة‬
‫كلية اللغة العربية جبامعة اإلمام حممد بن سعود ‪ ،‬الرياض ‪ :‬العدد التاسع ‪ 0322 ( ،‬ه ‪0272 /‬م)‪.‬‬
‫‪ .95‬سيد قطب‪ :‬النقد األديب أصوله ومناهجه‪ ،‬دار الشروق‪ ،‬القاهرة‪ 0283 ،‬م‪.‬‬
‫‪ .96‬شوقي ضيف‪ :‬البالغة تطور وتاريخ‪ ،‬دار املعارف‪ ،‬ط‪ ،2‬القاهرة‪0225 ،‬م‪.‬‬
‫‪ .97‬شوقي ضيف‪:‬النقد‪ ،‬من فنون األدب العريب‪ ،‬دار املعارف القاهرة‪ ،‬ط‪0264 ،9‬م‪.‬‬
‫‪ .98‬صاحل بلعيد‪ ،‬نظرية النظم‪ ،‬دار هومة‪ ،‬بوزريعة‪ ،‬اجلزائر‪9114 ،‬م‪.‬‬
‫‪ .92‬صبحي البستاين‪ ،‬الصورة الشعرية يف الكتابة الفنية‪ ،‬دار الفكر اللبناين‪ ،‬الطبعة األوىل ‪0286‬م ‪.‬‬
‫‪ .31‬صالح الدين حممد عبد التواب ‪:‬النقد األديب دراسات نقدية وأدبية حول إعجاز القرآن‪ ،‬ج‪ ،0‬ط‪0‬‬
‫‪،‬دار الكتاب احلديث القاهرة ‪9113-0493‬م‪.‬‬
‫‪ .30‬عبد اإلله الصائغ ‪:‬الصورة الفنية معيارا نقديا ‪ ،‬دار الشؤون الثقافية‪ ،‬بغداد‪ ،‬العراق‪0287 ،‬م ‪.‬‬
‫‪ .39‬عبد اإلله سليم ‪:‬بنيات املشاهبة يف اللغة العربية ‪ -‬مقاربة معرفية ‪ -‬دار توبقال للنشر الدار‬
‫البيضاء‪،‬املغرب‪ 9110 ،‬م‪.‬‬
‫‪ .33‬عبد احلميد أمحد يوسف اهلنداوي ‪:‬اإلعجاز الصريف يف القرآن الكرمي ‪ ،‬املكتبة العصرية‪ ،‬صيدا‪ ،‬بريوت‪،‬‬
‫‪0493‬ه‪9119 ،‬م‬
‫‪ .34‬عبد السالم هارون ‪:‬الكتاب سيبويه‪ ،‬ج‪ ، ،0‬طبعة دار العلم‪0385 ،‬ه‪0266 ،‬م‪.‬‬
‫‪ .35‬عبد القاهر اجلرجاين‪:‬بالغته ونقده "‪ ،‬د‪.‬أمحد مطلوب ‪ ،‬ط‪ ،0‬بريوت ‪0273‬م‪.‬‬
‫‪ .36‬عبد اهلل بن املعتز ‪:‬البديع يف البديع‪، ،‬ت‪ :‬عرفان مطوجي‪ ،‬مؤسسة الكتب الثقافية‪ ،‬بريوت ط‪.0‬‬
‫‪ .37‬عبد املعطي عرفة‪ :‬تربية الذوق البالغي عند عبد القاهر اجلرجاين عبد العزيز‪ ،‬ط‪ 0‬سنة ‪0283‬م‪.‬‬
‫‪ .38‬عمر أوكان ‪ ،‬اللغة واخلطاب‪ ،‬افريقيا الشرق‪ ،‬املغرب ‪ 9110،‬م‪.‬‬
‫‪ .32‬فائق مصطفى و‪ .‬عبد الرضا علي‪ :‬يف النقد األديب احلديث‪ ،‬دار الكتب‪ ،‬جامعة املوصل‪،‬ط‪،9‬‬
‫‪.9111‬م‪.‬‬

‫‪140‬‬
‫‪ .41‬يف امليزان اجلديد‪ ،‬حممد مندور‪ ،‬ط‪ ،9 :‬القاهرة مجيع احلقوق حمفوظة لدنيا الوطن © ‪- 9113‬‬
‫‪9107‬‬
‫‪ .40‬ماهر حسن فهمي ‪:‬املذاهب النقدية‪ ،‬مكتبة النهضة العربية ‪،‬القاهرة ‪.0269،‬‬
‫‪ .49‬حممد السيد شيخون‪ ،‬األسلوب الكنائي ‪ -‬دار اهلداية للطباعة والنشر ‪.،‬ط‪9،0224‬‬
‫‪ .43‬حممد بركات محدي أبو علي ‪:‬عامل املنهج البالغي عند عبد القاهر اجلرجاين‪ ،‬طبعة دار الفكر ‪،‬عمان‬
‫األردن‪0284 ،‬م‪.‬‬
‫‪ .44‬حممد بن عبد الغين املصري‪ ،‬نظرية أيب عثمان عمرو بن حبر اجلاحظ يف النقد الديب‪ ،‬دار جمدالوي‪،‬‬
‫عمان‪ ،‬األردن‪ ،‬ط‪0287 ،0‬م‪.‬‬
‫‪ .45‬حممد حسني علي الصغري‪ :‬لصورة الفنية يف املثل القرآين ‪ ،‬دار الرشيد للنشر‪ ،‬بغداد‪ ،‬العراق‪.0280 ،‬م‪.‬‬
‫‪ .46‬حممد محاسة عبد اللطيف‪ ،‬النحو والداللة مدخل لدراسة النحو الداليل‪ ،‬دار غريب للطباعة والنشر‬
‫والتوزيع‪ ،‬القاهرة‪9116 ،‬م‪.‬‬
‫‪ .47‬حممد خلف اهلل ‪:‬من الوجهة النفسية يف دراسة األدب ونقده‪ ،‬معهد البحوث والدراسات العربية‪،‬‬
‫القاهرة‪0271 ،‬م‪.‬‬
‫‪ .48‬حممد زكي العشماوي‪ :‬قضايا النقد األديب بني القدمي و احلديث ‪ ،‬دار النهضة املصرية بريوت ‪0284‬م‪.‬‬
‫‪ .42‬حممد عبد املطلب‪ ،‬قضايا احلداثة عند عبد القاهر‪ ،‬الشركة املصرية العاملية للنشر‪ ،‬لوجنمان ‪ ،‬الطبعة‬
‫األوىل ‪0225‬م‪.‬‬
‫‪ .51‬حممد عبد املنعم خفاجي ‪:‬عبد القاهر اجلرجاين و البالغة العربية‪،‬املطبعة املنرية ‪،‬ط ‪ 0‬سنة ‪.0259‬‬
‫‪ .50‬حممد غنيمي هالل‪ :‬النقد األديب احلديث‪ ،‬دار الثقافة‪ ،‬بريوت‪.‬‬
‫‪ .59‬حممد حممد أبو موسى‪ ،‬مدخل إىل كتايب عبد القاهر اجلرجاين‪ ،‬مكتبة وهبة‪ ،‬القاهرة‪ ،‬مصر‪ ،‬ط‪،0‬‬
‫‪0228‬م‪.‬‬
‫‪ .53‬حممد حممد أو موسى‪ ،‬مراجعات يف أصول الدرس البالغي‪ ،‬مكتبة وهبة‪ ،‬عابدين‪ ،‬القاهرة‪ ،‬مصر‪ ،‬ط‪،0‬‬
‫‪9115‬م‪.‬‬
‫‪ .54‬حممد مندور‪ :‬يف األدب والنقد ‪،‬مكتبة النهضة‪،‬مصر‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ط‪،5‬د‪.‬ت‪.‬‬
‫‪ .55‬حممد منذور‪ :‬يف امليزان اجلديد‪،‬ط ‪ ،3‬مكتبة هنضة مصر‪.‬‬
‫‪ .56‬حممود أمحد حنلة‪ ،‬يف البالغة العربية‪ ،‬علم املعاين‪ ،‬دائرة العلوم العربية‪ ،‬بريوت‪ ،‬لبنان‪ ،‬ط‪0221 ،0‬م‪.‬‬
‫‪ .57‬مصطفى صادق الرافعي‪ ،‬إعجاز القرآن والبالغة النبوية‪ ،‬دار الكتب العلمية‪ ،‬بريوت‪ ،‬لبنان‪ ،‬ط‪،0‬‬
‫‪9111‬م‪.‬‬
‫‪141‬‬
‫‪ .58‬مهدي أسعد عرار‪ :‬جدل اللفظ واملعىن‪ ،‬دراسة يف داللة الكلمة العربية‪ ،‬الطبعة األوىل‪ ،‬دار وائل‬
‫للنشر‪ ،‬عمان‪ ،‬األردن‪ 9119 ،‬م‪.‬‬
‫‪ .52‬مهدي املخزومي ‪:‬يف النحو العريب نقد وتوجيه‪ ،‬ط‪ ،0‬بريوت‪ ،‬لبنان‪0263 ،‬م‪.‬‬
‫‪ .61‬وليد حممد مراد‪ ،‬نظرية النظم وقيمتها العلمية يف الدراسات اللغوية عند عبد القادر اجلرجاين‪ ،‬دار‬
‫الفكر دمشق‪ ،‬ط‪0283 ،0‬م‪.‬‬
‫‪ .60‬يوسف أبو العدوس‪ ،‬مدخل إىل البالغة العربية‪ ،‬علم املعاين‪ ،‬علم البيان‪ ،‬علم البديع‪ ،‬دار املسرية‬
‫للنشر والتوزيع والطباعة عمان‪ ،‬األردن‪ ،‬الطبعة األوىل (‪0497‬ه‪9117 ،‬م)‪.‬‬

‫‪ -3‬المراجع المترجمة‪:‬‬

‫‪ .0‬بيريجريو‪،‬ترمجة د‪ .‬منذر عياشي ‪:‬األسلوب واألسلوبية ‪،‬مركز اإلخاء القومي‪،‬بريوت‪ ،‬لبنان‪،‬د‪ .‬ت‬
‫‪ .9‬فرديناند دي سوسري ‪ :‬حماضرات يف علم اللسان العام ‪ ،‬ترمجة عبد القادر قنيين‬
‫‪ .3‬هنريش بليث ‪ :‬البالغة واألسلوبية (منوذج سيميائي لتحليل النص) ‪ ،‬ترمجة حممد العمري‪ ،‬منشورات‬
‫دراسات ساك‪ ،‬الدار البيضاء‪،‬ط‪.0282 ،0‬م ‪.‬‬
‫‪ .4‬سار جنت ‪ :‬علم النفس احلديث‪ ،‬تعريب ‪ :‬منري البعلبكي ‪ ،‬دار العلم للماليني ‪0272،‬م ‪.‬‬

‫‪ -9‬المراجع االجنبية ‪:‬‬

‫‪1- Robert Schols, structuralism in leterature, introduction (New Haven‬‬


‫‪and london: yale, op, 1971)translation: Abdelaziz Hamouda,‬‬

‫‪ -1‬المعاجم‪:‬‬

‫‪ .0‬ابن منظور ‪ :‬لسان العرب‪ ،‬دار املعارف بالقاهرة ‪،‬مؤسسة الرسالة ‪،‬بريوت ‪0417‬ه ‪0287 -‬م‪.‬‬
‫‪ .9‬أبو بكر بن عبد القادر الرازي‪ ،‬خمتار الصحاح‪ ،‬ضبط وختريج ‪،‬مصطفى ديب البغا‪ ،‬دار اهلدى ‪ ،‬اجلزائر ‪.‬‬
‫‪ .3‬الفريوز ابادي ‪ :‬القاموس احمليط ج‪ ،4‬القاهرة‪ 0289،‬م ‪.‬‬

‫‪ -6‬المجالت‪:‬‬

‫‪ .0‬سيد عبد الفتاح حجاب ‪ " ،‬نظرية النظم عند عبد القاهر اجلرجاين وصلتها بقضية اللفظ واملعىن ‪ ،‬جملة‬
‫كلية اللغة العربية جبامعة اإلمام حممد بن سعود ‪ ،‬الرياض ‪ :‬العدد التاسع ‪ 0322 ( ،‬ه ‪0272 /‬م)‪.‬‬

‫‪142‬‬
‫‪ .9‬عبد العزيز محودة‪ :‬املرايا املقعرة‪ ، ،‬جملة عامل املعرفة‪ ،‬العدد ‪.979‬‬
‫‪ .3‬عز الدين إمساعيل ( أما بعد) جملة فصواللعدد األول‪ ،‬اجمللد السادس (أكتوبر‪/‬نوبر‪/‬دجنرب) ‪.0285‬‬
‫‪ .4‬علي أبو ملحم‪" :‬اجلاحظ رائد اجلمالية العربية"‪ ،‬جملة الفكر العريب‪ ،‬العدد ‪ 47‬السنة‪0287:‬م‪.‬‬

‫‪ -7‬الرسائل الجامعية‪:‬‬

‫‪-0‬ليلى عبد الرمحن احلاج ‪ " ،‬الذوق األديب يف النقد القدمي " ‪ ( ،‬رسالة ماجستري ‪ ،‬قسم البالغة والنقد‬
‫األديب‪ ،‬كلية اللغة العربية ‪ ،‬جامعة أم القرى ‪ ،‬مكة ‪ ،‬عام ‪0413‬ه ‪0414 -‬ه)‬

‫‪143‬‬

You might also like