Professional Documents
Culture Documents
أهداف التعليم:
-أن يكون الطالب قادرا على استيعاب املادة املقدمة ،وكذا التحكم يف تكنولوجيا اإلعالم و االتصال
للحصول على املعارف.
حمتوى املادة:
املراجع:
أسرار البالغة
2
الكشاف للزخمشري
3
مق ّدمة:
احلمد هلل رب العاملني ،والصالة والسالم على النيب الصادق األمني ،وعلى آله وصحابته أمجعني.
وبعد ...هذه حماضرات يف نظرية النظم اليت وضع أصوهلا وشرح مبادئها اإلمام عبد القاهر اجلرجاين يف القرن
اخلامس اهلجري ،فكانت تأسيسا ألركان الدرس البالغي العريب مبباحثه وعلومه اليت أسهم املتأخرون يف ضبط
مسائلها وشرح جزئياهتا وتفصيل جمملها ،ولكنهم مل يكادوا خيرجون عن املبادئ واألصول اليت وضعها عبد
القاهر.
إن نظرية النظم ملتقى لكثري من العلوم كاإلعجاز والبالغة والنقد وعلم الكالم ،وهذا أحد أسباب أمهيتها،
متخضت عنها مباحث اإلعجاز، يضاف إىل ذلك وجاهتها وصمودها يف اجململ أمام خمتلف التيارات اليت ّ
االّتاهات اليت عرفها مسار الدرس النقدي العريب.
و ّ
وتطور فكرة
وقد توزعت مادة هذه املطبوعة على أربع عشرة حماضرة؛ تناولت مق ّدمات حول قضية اإلعجاز ّ
النظم قبل عبد القاهر ،واألصول الفكرية للنظرية ،وأمهيتها البالغية والنقدية.
وتطرقنا فيما بعد لتتبع مبادئ نظرية النظم عند اجلرجاين ،مفهومها ،أسسها ،منطلقاهتا وعالقتها بتوخي
معاين النحو ،وفروع البالغة الثالث ،املعاين ،والبيان ،والبديع.
كما عرضنا فيها بعض تطبيقات النظم ومناذجه اليت ساقها اإلمام عبد القاهر يف ثنايا شرحه للنظرية ،من
خالل بعض املوضوعات العامة :كاإلسناد ،والتقدمي ،واحلذف ،والتعريف والتنكري ،والفصل ،والوصل.
وارتأينا فيها أيضا بيان تأثري نظرية النظم يف الدرس اإلعجازي عند اجلرجاين ،والفكر النقدي العريب احلديث،
وإبراز التقاطع املعريف بينها وبني النظريات اللغوية احلديثة.
وقد حرصنا على إيراد نصوص اجلرجاين من كتابه دالئل اإلعجاز بوصفه مصدرا لنظرية النظم وأساسها.
أسأل اهلل أن ينفع هبذا اجلهد عموم الطلبة والباحثني ،و احلمد هلل أوال وآخرا.
4
المحاضرة األولى:فكرة النظم في مباحث النقاد قبل اإلمام الجرجاني
-1اخلليل بن أمحد الفراهيدي ،كتاب العني ،تح :مهدي املخزومي ،وإبراهيم السامرائي ،دار ومكتبة اهلالل ،د ط ،د ت،ص 065 ،8
-2اجلوهري ،الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية ،تح :أمحد عبد الغفور عطار ،دار العلم للماليني ،بريوت ،لبنان ،ط0414 ،13 :ه .
0284م ،مادة (نظم) ،ص.9140 :
-3حممد بن أيب بكر بن عبد القادر الرازي ،خمتار الصحاح ،دار الكتاب العريب ،بريوت لبنان ،دط0410 ،ه0280،م.ص.668،
-4ابن منظور ،لسان العرب ،دار صادر ،ط9114 ،13 :م ،ص . ،09
-5أمحد بن حممد بن علي املقري الفيومي ،املصباح املنري يف غريب الشرح الكبري ،تح :عبد العظيم الشناوي ،دار املعارف ،ط، 9ص 609
.
-6صاحل بلعيد ،نظرية النظم :هناية اإلجياز يف دراية اإلعجاز ،نقال عن فخر الدين الرازي ،ص.060 :
-7عبد القاهر اجلرجاين ،دالئل اإلعجاز ،تح :السيد حممد رشيد رضا ،دار املعرفة ،بريوت ،لبنان ،ط0499 ، 3 :ه 9110 .م ،ص.63 :
5
ويقول الدكتور صاحل بلعيد" :هو تأليف وضم جمموعة من العناصر املتحدة يف العملية اللغوية ليكون الكالم حسنا
حسب خصائص معينة هي:
.0حسن االختيار األصوات الكلمة
.9تعليق الكلمة يف ذاهتا
.3تعليقها مبا جياورها وليس بضم الكلمات كيف ما جاءت
.4مراعاة املوقع النحوي األصيل حسب ما تقتضيه بيئة العريب.
.5مراعاة املعىن املباشر (السطحي) غري املنزاح ،واملعىن غري املباشر (املنزاح) .1
مما سبق يف املفهوم اللغوي واالصطالحي نستخلص ما يأيت :النظم :هو ضم الكلمات حسب ما يقتضيه احلال
وفق التقليد املأثور عن العرب باعتباره املقياس احلقيقي للبالغة .وهو التأليف يف الكالم ليصبح حسنا مقبوال.
مصطلح النظم في النقد العربي:
تكلم العرب اللغة العربية يف اجلاهلية سليقة ،وكانت فصاحتهم عالية وّتلى النظم عندهم يف متييز شاعر عن آخر،
ال يستند إىل منهجية ،وملا جاء القرآن الكرمي أهبر العرب ببالغته ونظمه العجيب وحسن سبکه؛ حىت قيل" :ومن
أعجب ما رأينا يف إعجاز القرآن وإحكام نظمه ،أنك حتسب ألفاظه هي اليت تنقاد ملعانيه ،مث تتعرف ذلك
وتتغلغل فيه ،فتنتهي إىل أن معانيه منقادة أللفاظه مث حتسب العكس ،وتتعرفه متثبتا فتصري منه إىل عكس ما
حسبت ،وما إن تزال مرتددا على منازعة اجلهتني كلتيهما ،حىت ترده إىل اهلل الذي خلق يف العرب فطرة اللغة ،مث
أخرج من هذه اللغة ما أعجز تلك الفطرة ، 2".وكان القرآن مصدر حتد هلم إذ حاول العرب عبثا أن يأتوا مبثله ملا
يف نظمه من أسرار ،ولقد كانت بعض جمالس األدب والسمر وحلقات اخللفاء موضع تدارس اإلعجاز القرآين،
ومن ذلك تأليف الكتب الكثرية اليت تبحث يف إعجاز القرآن الكرمي ،وما أدى إىل اهتمامهم بصناعة الكالم
وسالمة اللغة وعالقة األلفاظ ببعضها البعض ،وعالقتها باملعىن .ونتيجة لذلك ظهر يف األدب العريب فريقان
أحدمها انتصر للمعىن ،وأخر انتصر لفظ دون املعىن واحتدم الصراع.
ومع بداية العصر العباسي اختلط العرب بغريهم من األمم اجملاورة بسبب انتشار اإلسالم .فبدأ الذوق العريب
يتشوه وتفشي اللحن ،فكان القرآن الكرمي أول املصادر واملقاييس اليت يرجعون إليها يف تقومي لغتهم ،زيادة على
الشعر العريب (ديوان العرب) ،فوجدوا يف القرآن الكرمي دافعا آخر للبحث والتأليف فيه ويف األدب وأوجه البيان
-1سيبويه ،الكتاب ،تح :حممد عبد السالم هارون ،دار اجليل ،بريوت ،لبنان ،ط ،0 :دت ،ص . 8، 0
-2اجلاحظ ،البيان والتبيني ،تح :عبد السالم هارون ،ج0367 ، 4هـ ص .135
-3اجلاحظ ،،املرجع نفسه .ص037:
7
التعقيد ،ويبحث عن األلفاظ الكرمیة للمعاين الكرمیة .ويف القول الثاين يتحدث عن قرض الشعر فريى أنه جيب
على الشاعر أن يكون طبعيا مبتعدا عن الصنعة يف كالمه مبعىن أن يضع الكالم يف مواضعه ،وهذا كله إشارة إىل
مصطلح النظم الذي مل يذكره بشر.
.3الجاحظ ت211:ه:
فرق اجلاحظ بني نظم الكالم ونظم القرآن 1إن اجلاحظ مل يشر هو اآلخر إىل مصطلح النظم وإمنا أشار إىل
اآليت" :وأجود الشعر ما رأيته متالحم األجزاء سهل املخارج فيعلم بذلك أنه أفرغ إفراغا جيدا ،وسبك سبكا
واحدا .فهو جيري على اللسان كما جيري على الرهان 2فقد ذكر اجلاحظ (التالحم ،والسبك ،واإلفراغ) ،كما
حتدث عن اللفظة املفردة واشرتط فيه شروطا ،هي" :ومىت كان اللفظ أيضا کرمیا يف نفسه متخريا يف جنسه ،وكان
سليما من الفضول بريئا من التعقيد حبب إىل النفوس ،واتصل باألذهان والتحم بالعقول وهشت إليه األمساع
وارتاحت إليه القلوب وخف على ألسن الرواة"3؛ إن اجلاحظ جيعل تالحم أجزاء الكالم وحسن سبکه وإفراغه
واختيار ألفاظه وبعده عن التعقيد مما يسهل وصوله إىل النفوس وفهمه ،ومن هنا يربز لنا اهتمام اجلاحظ بالنظم.
-1حامت صاحل الضامن ،نظرية النظم تاريخ وتطور ،دار احلرية للطباعة ،بغداد (د ،ط) ،0272ص.16
-2حامت الضامن :املرجع نفسه ،ص.16
-3أبو هالل احلسن بن عبد اهلل العسكري ،الصناعتني الكتابة والشعر ،تح :مفيد قحيمة ،دار الكتب العلمية ،بريوت ،لبنان ،ط،0282 ،9
ص.072
-أبو هالل العسكري ،الصناعتني ،حتقيق وضبط مفيد قحيمة ،دار الكتب العلمية ،بريوت ،ط،0ص4.060
9
ويف سياق آخر يؤكد أن عدم اختيار األلفاظ املناسبة وسوء متوقعها يف الرتكيب يؤديان إىل اإلخالل بالنظم،
"…أن يكون لفظك شريفا عذبا ،وفخما سهال ،مركزها ،ومل تتصل بسلكها ،وكانت قلقة يف موضعها نافرة عن
مكاهنا ،فال تكرهها على اغتصاب األماكن ،والنزول يف غري أوطاهنا… وينبغي أن ترتب األلفاظ ترتيبا صحيحا
1
فنقدم منها ما حيسن تقدمیه ونؤخر منها ما حيسن تأخريه".
إن القول برتتيب األلفاظ ومناسبتها لبعضها بوضعها يف أماكنها ،وحسن تقدمیها أو تأخريها متثل إشارة
ضمنية إىل بعض قضايا النظم دون أن يصرح أبو هالل باملصطلح.
يف العصر العباسي ويف زمن املعتصم ظهرت فتنة خلق القرآن على يد وزيره أمحد بن أيب داود (سنة
991ه) وكان الرد عليه وبيان إعجاز القرآن الكرمي ،هو القول بالصرفة؛ أي أن اهلل "صرف اهلمم عن املعارضة،
وإن كانت مقدورا عليها وغري معجوز عنها ،إال أن العائق من حيث كان أمرا خارجا عن جماري العادات ،صار
كسائر املعجزات" 1.أو القول بصرف أنظار العرب وعجزهم عن اإلتيان مبا يشبه القرآن يف أسلوبه وتركيبه اللغوي
وهو ما ذهب إليه إبراهيم النظام
يقول مصطفى صادق الرافعي "فذهب شيطان املتكلمني أبو إسحاق إبراهيم النظام إىل أن اإلعجاز
كان بالصرفة ،وهي أن اهلل صرف العرب عن معارضة القرآن مع قدرهتم عليها ،فكان هذا الصرف خارقا
للعادة".قلنا وكأنه من هذا القبيل هو املعجزة ال القرآن"2.وإضافة إىل الصرفة يرى النظام أن اإلعجاز يكمن يف
اإلخبار عن األمور املاضية واآلتية.
إن القول بالصرفة إذا يهمل سر مجال اخلطاب القرآين وروعة بيانه ،وفصاحة ألفاظه ،ولذلك كان الرأي
السائد لدى العلماء -يف سياق الرد على مذهب الصرفة -أن القرآن مل يعجز العرب إال ألهنم غري قادرين على
اإلتيان مبثله أسلوبا وبيانا ،فاّته البحث إىل دراسة النص القرآين يف ذاته 3.يقول عبد احلميد هنداوي مبينا بطالن
مذهب الصرفة "فمنها أنه يلزم من القول بذلك أن اإلتيان مبثل كالم اهلل هو يف مقدور البشر واستطاعتهم لو
خلي بينهم وبني معارضته لوال صرف اهلل تعاىل هلم ،ويف هذا من البطالن ما فيه من إبطال وجه من أهم وجوه
إعجاز القرآن بال داع ،ومن القول بإمكان مشاهبة كالم املخلوق لكالم اخلالق الذي هو صفة له ،كما يلزم من
ذلك أيضا القول بعجزه سبحانه أن يأيت بكالم معجز ،ألنه على الزم كالمهم قد عجز عن أن يكون كالمه
4
معجزا بنفسه ،فأعجز الناس قهرا عن حماولة مشاهبته ومعارضته".
وهلذا السبب حتركت مهم العلماء للبحث يف وجوه إعجاز القرآن ،وكان الوجه الذي حضي باهتمام كبري
هو نظمه العجيب وأسلوبه الفريد ،وبالتايل فإن الكتب اليت ألفت يف إعجاز القرآن كان هلا أثرا بالغا يف تطور
-1اخلطايب محد بن حممد ،بيان إع جاز القرآن ،ضمن ثالث رسائل يف إعجاز القرآن ،تح :حممد خلق اهلل وحممد زغلول سالم ،دار املعارف،
القاهرة ،ط( ،4دت) ص.99
-2مصطفى صادق الرافعي ،إعجاز القرآن والبالغة النبوية ،دار الكتب العلمية ،بريوت ،لبنان ،ط ،9111 ،0ص.019
-3مسعود بودوخة ،نظرية النظم أصوهلا وتطبيقاهتا ،البدر الساطع للطباعة والنشر ،العلمة ،سطيف ،ط ،9106 ،0ص.8
-4عبد احلميد هنداوي :اإلعجاز الصويت يف القرآن الكرمي ،دار الثقافة للنشر ،ط ،9114 ،0ص.01
11
فكرة النظم ،بدليل أن البالغيني استثمروا نظرية النظم وهم يدرسون بالغة القرآن الكرمي يف أصغر صوره الرتكيبية
1
إىل أعظمها.
-0محمد بن يزيد الواسطي ت383ه :يقول الرافعي" :أول كتاب وضع لشرح اإلعجاز وبسط القول فيه
على طريقتهم يف التأليف ،إمنا هو فيما نعلم كتاب (إعجاز القرآن) أليب عبد اهلل حممد بن يزيد الواسطي املتوىف
سنة 316ه وال نضن الواسطي بين إال على ابتدأه اجلاحظ ،كما بني عبد القاهر يف (دالئل اإلعجاز على
2
الواسطي)".
-9أبو الحسن علي بن عيسى الرماني (ت 383ه) :هو أحد أشهر من تناول النظم واإلعجاز يف القرن
الرابع اهلجري وقد مساه التأليف يف رسالته "النكت يف إعجاز القرآن" يقول "داللة األمساء والصفات متناهية ،أما
داللة التأليف فليس هلا هناية ،كما أن املمكن من العدد ليس له هناية يقف عندها" 3.فبعدد هنائي من الكلمات
نؤلف عددا ال هنائيا من التأليفات (نظم اجلمل).
ومعىن هذا أن اإلبداعية تكمن يف النظم ال يف األلفاظ ،وحتدث يف الرسالة السابقة عن وجوه اإلعجاز
حيث يرى أن البالغة ثالث طبقات :عليا ودنيا ووسطى ،وجعل الطبقة العليا هي بالغة القرآن ،والطبقة الوسطى
خصصها بطبقة البلغاء والفصحاء ،والطبقة الدنيا وهي دون تلك الطبقات ،واألهم يف هذا التقسيم هو عنايته
4
باللفظ واملعىن ،والعالقة القائمة بينهما عند حديثه عن التالؤم بني اللفظ واملعىن املراد به حسن النظم.
النظم عند الرماين قائم على التالؤم ،وهو وصف استلهمه من كالم اجلاحظ عندما حتدث تنافر احلروف
5
والكلمات وما جيب أن يكون عليه النظم من تالحم حىت يبدو وكأنه سبك سبكا واحدا
-3أبو سليمان حمد بن محمد الخطابي( :ت 388ه) رد يف رسالته "بيان إعجاز القرآن" على القائلني
بالصرفة" ،إمنا يقوم الكالم هبذه األشياء الثالثة" لفظ حامل ،ومعىن به قائم ورباط هلما ناظم وإذا تأملت القرآن
وجدت هذه األمور منه يف غاية الشرف والفضيلة ،حىت ال ترى شيئا من األلفاظ أفصح وال أجزل وال أعذب من
-1حممد بوادي ،التفكري الداليل عند البالغيني العرب األوائل ،جملة العلوم االجتماعية ،جامعة سطيف ،العدد ،91جوان ،9105ص.23
-2مصطفى صادق الرافعي ،إعجاز القرآن والبالغة النبوية ،دار الكتاب العريب ،9117 ،ص.017
-3علي بن عيسى الرماين ،النكت يف إعجاز القرآن ،ضمن ثالث رسائل يف إعجاز ،حتقيق :حممد خلف اهلل ،وحممد زغلول سالم ،دار
املعارف ،القاهرة ،ط( ،4دت) ص.017
-4وليد حممد مراد ،نظرية النظم وقيمتها العلمية يف الدراسات اللغوية عند عبد القادر اجلرجاين ،دار الفكر دمشق ،ط ،0283 ،0ص.96
5شوقي ضيف ،البالغة تطور وتاريخ ،دار املعارف مبصر ،ط،3د ت ،ص .015
12
ألفاظه ،ال ترى نظما أحسن تأليفا وأشد تالؤما وتشاكال من نظمه" .1إن فصاحة ألفاظ القرآن وحسن نظمه
وتأليف تراكيبه اللغوية على نسق معني هي اليت كانت وراء إعجازه وليس الصرفة كما زعم النظام.
وباإلضافة إىل األلفاظ واملعاين حتدث اخلطايب عما مساه رسوم النظم عندما ما قال" :أما رسوم النظم
فاحلاجة إىل الثقافة واحلذق فيها أكثر ،أهنا جلام األلفاظ وزمام املعاين ،به تنتظم أجزاء الكالم ،ويلتئم بعضه ببعض
فتقوم له صورة يف النفس يتشكل هبا البيان" 2.فثقافة املتكلم ومهارته ّتعالنه يتحكم يف زمام األلفاظ ومعانيها
حبيث يؤلف نظما تلتحم ألفاظه وتتناسق .
من خالل ما سبق يتضح أن مجيع العلماء الذين دافعوا عن أمهية األلفاظ يف النظم هم من املعتزلة ،وقد
جاءت أقواهلم متطابقة مع عقيدهتم املقدسة لأللفاظ بعد القرآن كالم اهلل املخلوق ،وقد أعجز اهلل به البشر من
خالل نظمه أو نسيج تراكيبه اللغوية البليغة.
-4أبو بكر الباقالني( :ت 983ه) :يعد من أشهر من ألف يف اإلعجاز يف القرن اخلامس وهو أشعري
يشرتك مع عبد القاهر اجلرجاين يف مرحلة التأسيس والدفاع عن الفكر األشعري حيث قاد معركة لغوية من أجل
تأسيس نظرية أشعرية يف قضية البيان وإعجاز القرآن 3.يقول عنه شوقي ضيف" :وهو من أعالم املتكلمني على
مذهب األشاعرة ،وله مصنفات كثرية وجمادالت مع علماء الروم ،عنت هلا جهود معاصريه ،وكان لسنا بارعا يف
4
اجلدل واالحتجاج ،ومن األحباث اليت عين هبا مبحث اإلعجاز يف القرآن".
يرى الباقالين أن اإلعجاز يف القرآن الكرمي يكمن يف نظمه الذي خيالف ما هو شائع يف كالم العرب" :فأما
شأو نظم القرآن فليس له مثال حيتذى عليه … وقد تأملنا نظم القرآن ،فوجدنا مجيع ما يتصرف فيه من الوجوه
اليت قدمنا ذكرها على حد واحد يف حسن النظم ،وبديع التأليف والرصف… وليس اإلعجاز يف نفس احلروف،
وإمنا هو يف نظمها وإحكام رصفها وكوهنا على وزن ما أتى به النيب (صلى اهلل عليه وسلم) ،وليس نظمها أكثر
5
من وجودها متقدمة ومتأخرة ومرتتبة يف الوجود ،وليس هلا نظم سواها".
-1اخلطايب ،بيان إعجاز القرآن ضمن ثالث رسائل يف إعجاز القرآن ،تح :حممد خلق اهلل أمحد وحممد زغلول سالم ،دار املعارف ،مصر ،ط،3
،0276ص.97
-2اخلطايب ،بيان إعجاز القرآن ضمن ثالث رسائل يف إعجاز القرآن ،مرجع سابق ،ص.97
-3أمحد أبوزيد ،مقدمة يف األصول الفكرية للبالغة وإعجاز القرآن ،دار األمان ،املغرب ،الرباط ،ط0412 ،0هـ ،ص.84
-4شوقي ضيف ،البالغة تطور وتاريخ ،مرجع سابق ،ص. 84
-5الباقالين ،إعجاز القرآن ،املكتبة الثقافية ،بريوت ،لبنان ،0273 ،ص.009
13
فرصف الكلمات والتأليف بينها وترتيبها على نسق معني هو النظم ،يقول الباقالين يف قوله تعاىل:
ِ ِ
الكتَاب وال اإلمیَان َولَكِن َج َع ْلنَاهُ نُ ًورا نَـ ْهدي بِِه َمن ن َ
َّشاءُ
ك روحا ِمن أَم ِرنَا ما ُكْنت تَ ْد ِري ما ِ
َ َ ِ
ك أ َْو َحْيـنَا إلَْي َ ُ ً ْ ْ َ"وَك َذل َ
َ
ض أََال إِ َىل اهللِ تَ ِ
ص ُري السمو ِ
ات َوَما ِيف األ َْر ِ ِ ِ ِ ِمن ِعب ِادنَا وإن َ ِ ِ ِ ٍ ِ ٍ ِ
َّك لَتَـ ْهدي إ َىل صَراط ُّم ْستَقيم صَراط اهلل الذي لَهُ َما يف َّ َ َ ْ َ َ
األ ُُمور"]الشورى "[53 ،59 :فانظر إن شئت إىل شريف هذا النظم ،وبديع هذا التأليف وعظيم هذا الرصف،
1
كل كلمة يف هذه اآلية تامة ،وكل لفظ بديع واقع".
وهو متأثر بفكرة اجلاحظ اليت ذهب فيها إىل أن اإلعجاز يف القرآن يعود إىل نظمه وأسلوبه العجيب الذي
خيالف أساليب العرب يف الشعر والنثر وما تتضمنه من أسجاع ،كما تأثر بفكرة الرماين عندما جعل القرآن وحده
2
يف الطبقة العليا.
"وابْـتَ ِغ
وحىت املعاين والكلمات املتباعدة تكون مؤتلفة بفعل النظم "وكما قال الباقالين يف أية القصصَ :
الدنْـيا و ِ صيب َ ِ ِ
اآلخرة َوال تَـْن ِ ِ
ض َّ
إن َح َسنَا هلل إِلَْي َ
ك َوَال تَـْب ِغ ال َف َساد ِيف األ َْر ِ ك م َن ُّ َ ْ
أحسن َك َما أ ْ س نَ َ
َ اك اهللُ ال ّدار َ
يما أَتَ َ
فَ
ب امل ْف ِس ِدين"]القصص [77 :قال هي مخس كلمات متباعدة يف املواقع ،نائية املطارح قد جعلها النظم اهللَ َال ُِحي ُّ
3
ُ
البديع أشد تألقا من الشيء املؤتلف األصل ،وأحسن توافقا من املتطابق يف أول الوضع".
يفهم من هذه القوال أن الباقالين میيل يف تبيان إعجاز بالغة النظم القرآين إىل اللفظ؛ بتخري األلفاظ
املؤتلفة املرتبة على نسق حمكم بصياغتها وروعة تأليفها وجدير باإلشارة يف هذا السياق أن الباقالين يف دراسته
لإلعجاز القرآين حنى منحى خيتلف عن سابقيه يقول حممد حممد أبو موسى "والذي أغراين بالقول بأن الباقالين
يضع لبنات أساسية لدراسة اإلعجاز البالغي ويراها بديلة لبالغة البديع اليت قال هبا من سبقوه ومن عاشوا معه
س وال َق َمَر ُح ْسبَانًا م
ْ الش
َ و اًن ك
َ س
َ ليَْلال لعَ وج
َ اح
ِ َبصْ كالرماين هو تعليقه على قوله تعاىل يف سورة األنعام" :فَالِ ُق ا ِ
إل
َ
العلِي ِم"]األنعام [26 :قال انظر إىل هذه الكلمات األربع اليت ألف بينها واحتج هبا على ظهور الع ِزي ِز َ
ِ
ك تَـ ْقد ُير َ
ِ
َذل َ
قدرته ،ونفاذ أمره ،أليس كل كلمة منها يف نفسها غرة؟ ومبنفردها درة؟ … وجيمع السالسة إىل الرصانة،
والسالمة إىل املتانة …
إن الباقالين ال خيتلف عن ما سبقوه يف تفسري النظم ،فهو يعلي من شأن األلفاظ وجيعل ائتالفها كفيل
جبعل الكالم يتصف بالنظم .
-1حممد حممد أو موسى ،مراجعات يف أصول الدرس البالغي ،مرجع سابق ،ص.958 ،957
15
المحاضرة الرابعة:نظرية النظم عند عبد القاهر الجرجاني
قلنا سابقا أن اجلاحظ هو أول من وضع مصطلح النظم عندما علل به إعجاز القرآن الكرمي ومتسك به
األشاعرة ،وراح املعتزلة منذ أيب هاشم اجلبائي يضعون مكانه مصطلح الفصاحة اليت ردوها إىل حسن اللفظ
واملعىن.
وفسر القاضي عبد اجلبار فصاحة القرآن بأهنا تقود إىل األداء والصياغة النحوية للتعبري (بضم الكلمات إىل
بعضها).
وكان ذلك شعاعا مضيئا أهلم عبد القاهر اجلرجاين تفسريه للنظم مستمدا من عبد اجلبار دون أن يشري إىل
ذلك ،املر الذي جيعل القارئ يعتمد أن عبد القاهر هو أول من قال أن اإلعجاز يف القرآن يعود إىل تراكيب
الكالم وصياغته وخصائصه التعبريية 1.وبعبارة أخرى اإلعجاز يكمن يف النظم.
إن النظم يف جوهره هو النحو يف أحكامه ،فالناظم يراعي أثناء كالمه قوانني النحو وقواعده املختلفة،
كالتقدمي والتأخري ،واحلذف ،والتعريف والتنكري ،والفصل والوصل ،ومعرفته هلذه القواعد وعدم اإلخالل هبا شرط
أساسي لصحة النظم قول عبد القاهر" :اعلم أن ليس النظم إال أن تضع كالمك الوضع الذي يقتضيه علم النحو
وتعمل على قوانينه وأصوله وتعرف مناهجه اليت هنجت فال تزيغ عنها وحتفظ الرسوم اليت رمست لك فال ختل
2
بشيء منها ،وذلك أنا ال نعلم شيئا يبتغيه الناظم بنظمه غري أن ينظر يف وجوه كل باب وفروقه".
ويؤكد أن النظم هو النحو عندما يقول" :إذا كان ال يكون النظم شيئا غري توخي معاين النحو وأحكامه
فيما بني الكلم ،كان من أعجب العجب أن يزعم زاعم أنه يطلب املزية يف النظم ،مث ال يطلبها يف معاين النحو
3
وأحكامه اليت … ..النظم عبارة عن توخيها فيما بني الكلم".
وعلى هذا األساس فاملعايري النحوية هي اليت تفصل بينالنظم الصحيح والفاسد منه " هذا هو السبيل
فلست بواجد شيئا يرجع صوابه إن كان صوابا وخطؤه إن كان خطأ إىل النظم ،ويدخل حتت هذا االسم إال وهو
-1شوقي ضيف ،البالغة تطور وتاريخ ،دار املعارف ،القاهرة ،ط، 0ص.060
-2عبد القاهر اجلرجاين ،دالئل اإلعجاز ،حتقيق الشيخ حممد رشيد رضا ،املؤسسة الوطنية للفنون املطبعية ،وحدة الرغاية ،اجلزائر،0220 ،
ص.24
-3اجلرجاين:مصدر سابق ،ص 24
16
معىن من معاين النحو قد أصيب به موضعه ووضع يف حقه " . 1وكل تفاضل يف قواعد النحو جيعل النظم أفضل
بالغة ومجاال " فال ترى كالما قد وصف بصحة نظم أو فساده ،أو وصف مبزية وفضل فيه إال وأنت ّتد مرجع
2
تلك الصحة وذلك الفساد وتلك املزية وذلك الفضل إىل معاين النحو وأحكامه "
ومن األمثلة اليت ذكر اجلرجاين أن فساد النظم يعود إىل عدم توخي معاين النحو قول الفرزدق]من …[
يقول حممد حممد أبو موسى معلقا على رداءة النظم يف هذا البيت" :الفرزدق هنا أقام البيت على صورة
مل يصر على تشكيلها التشكيل الكلي الذي حيسن ترتيبها وتنسيقها وإمنا رمى هبا وهي أشكال معان جزئية،
وأنت حمتاج إىل أن تعيد نظامها كما تعيد نظام احلروف املتقطعة أو كما ّتمع أجزاء متناثرة من صورة تريد أن
تضبط متامها ،وكماهلا ومجاهلا ،ال بد لك أن تنقل كلمة (حي) وتضعها بإزاء كلمة (الناس) ،مث تنقل (يقاربه) بإزاء
3
(حي) ،فيكون الكالم وما مثله يف الناس حي يقاربه إال مملكا أبو أمه أبوه".
ومثل لصحة النظم واستقامته بسبب توخي معاين النحو بأبيات للبحرتي
وحسن النظم فيها يعود إىل قواعد النحو اليت اتبعها الشاعر وأمهها التقدمي والتأخري يف قوله (هو املرء
أبدت له احلادثات) فلو قال مثال" :املرء أبدت ،أو أبدت احلادثات للمرء لكان النظم رديئا ،كما أن تنكري كلمة
4
(سودد) وإضافة اخللقني هلا أسهما يف حسن النظم".
ويستدل على أمهية النظم عندما يبني أن مجال الصورة البيانية وروعتها يعود إىل الرتكيب النحوي قائال:
"االستعارة والكناية والتمثيل ،وسائر ضروب اجملاز من بعدها من مقتضيات النظم ،وعنها حيدث و هبا يكون،
الرأْ ُ
س َش ْيبًا"]مرمي [4:واليت يعتقد الناس فيها أن الشرف فيها يكمن يف مستشهدا باآلية الكرمیة "وا ْشتَـ َع َل َ
االستعارة واحلقيقة ليست كذلك ألننا قلبنا العبارة لتصبح واشتعل شيب الرأس لذهب ما فيها من روعة ،مع أن
االستعارة مل تزل قائمة ،فلم يبق إذا إال أن تكون الروعة تكمن يف العبارة من خالل إسناد فعل االشتعال إىل
الرأس ،واجمليء بالشيب الذي له الفعل منصوبا ،علما أن هذا التعبري يشحنها بدالالت مل تكن ممكنة لو أسند
االشتعال إىل الرأس يفيد باإلضافة إىل ملعان الشيب يف الرأس الشمول والشيوع ،ومن حسن النظم تعريف الرأس
باأللف والالم وإفادة معىن اإلضافة من غري إضاءة ،ول صرح باإلضافة فقيل واشتعل رأسي لذهب كثري من
2
حسنها.
إن نظرية النظم عند اجلرجاين تقوم على الرتكيب النحوى " "La syntaxeيف الكالم العادي أو الفين
البليغ ،لذلك ما لبث يصرح باستحالة االستغناء عن قواعد النحو يف تأليف الكالم "… ذاك ألننا قد علمنا علم
ضرورة أنا لو بقينا الدهر األطول نصعد ونصوب ،ونبحث وننقب ،نبتغي كلمة قد اتصلت بصاحبة هلا ،ولفظة قد
3
انتظمت مع أختها ،من غري أن نتوخى فيما بينهما معىن من معاين النحو ،طلبنا ممتنعا".
وهو ما جعل اجلرجاين يدافع عن النحو ويدعو الناس إىل تعلمه "وأما زهدهم يف النحو واحتقارهم له
4
وإصغارهم أمره وهتاوهنم به فصنيعهم يف ذلك … أشبه بأن يكون صدا عن كتاب هلل وعن معرفة معانيه".
نعين بأسس نظرية النظم أو أركان النظم أسس نظم الكالم ،أي :ما هي املراحل اليت متر هبا عملية إنتاج
الكالم؟ واليت ال میكن للكائن البشري االستغناء عنها يف صناعة الكالم وإنتاجه.
حتدث عبد القاهر عن ترتيب املعاين يف النفس كثريا ،وعده عنصرا أساسيا يف عملية النظم ،فهو يرى أن
املتكلم إذا فرغ من نظم املعاين يف النفس أوال فإن األلفاظ ترتتب يف النطق ثانيا يقول يف دالئل اإلعجاز "فإذا
إن القول برتتيب املعاين قبل األلفاظ جاء ردا على املعتزلة وعلى رأسهم اجلاحظ وعبد اجلبار القائلني بأن
النظم هو نظم األلفاظ "ودليل آخر وهو أنه لو كان القصد بالنظم إىل اللفظ نفسه دون أن يكون الغرض ترتيب
املعاين يف النفس ،مث النطق باأللفاظ على حذوهاـ لكان ينبغي أال خيتلف حال اثنني يف العلم حبسن النظم ،أو غري
احلسن فيه ألهنما حيسان بتوايل األلفاظ يف النطق إحساسا واحدا ،وال يعرف أحدمها يف ذلك شيئا جيهله
2
اآلخر".
وأشار إىل الرتتيب نفسه يف أسرار البالغة عندما قال "واأللفاظ ال تفيد حىت تؤلف ضربا خاصا من
التأليف ،ويعمد هبا إىل وجه دون وجه من الرتكيب والرتتيب" 3.مث "ذكر أن هذا الرتتيب والرتكيب إمنا وقع يف
األلفاظ على وفق املعاين املرتبة يف النفس واملنتظمة فيها على قضية العقل ،يعين أن هذا النسق اللفظي هو صورة
لنسق وراءه عقل انتظمه وأن بناء الكالم هو بناء فكر ،وعقل وأن ناطقية اإلنسان هي عقله وليست لسانه ،وما
دام هذا هو جوهر الكالم فيجب أن تقرأه من اجلهة اليت يقرأ منها وأن تتحسس فيه حركة العقل ونسق العقل،
وأن ترى به ،وفيه صفحة النفس اليت صاغته ألن النسق اللفظي جسم صوت جيب أن تتجاوزه بعد إحكامه إىل
ما وراءه من نسق فكري ،وأن كل شيء يف اللغة وراءه شيء يف العقل ،والنفس ،حىت النغمة ،و التوقيعة الصوتية،
هي جرس نفس وحلن عقل وفكر ،ال جيوز أبدا أن نتعامل مع الكالم شعرا أو بيانا على أنه شقشقة لسان ألن
4
هذا إهدار حلقيقته ،وال بد من أن نتعدى اللفظ واجلرس إىل ما يناجي فيه العقل النفس".
يوضح حممد أبو موسى ترتيب املعاين النحوية يف النفس أو العقل مث ترتيب األلفاظ على النسق النحوي
ومیثل لذلك قائال …" :وهي أننا عند التحقيق ال نرى صحة ما يقال من وجوب تقدمي بعض األلفاظ على بعض
كقولنا إن اخلرب واجب التقدمي يف مواضع كذا وأن املفعول واجب التقدمي يف مواضع كذا ،وأن الصفة جيب أن
تتقدم على املوصوف ،وأن االستفهام له الصدارة ،ألن ليس هناك حكم من هذه األحكام يتعلق بلفظ من حيث
هو لفظ ،ألن األلفاظ يف ذاهتا ليس فيها ما يوجب تقدمیها ،أو تأخريها ،أو حذفها أو ذكرها ،وإمنا كل ذلك
إذا املعاين املرتبة يف النفس ليست املعىن الذي هو قسيم اللفظ ،وال املعىن القاموسي ،أو الداليل الذي
يشمل عليه اللفظ ،وإمنا هو املعادل الذهين للمعاين النحوية 2يقول أمحد حسن صربة "وال يقصد عبد القاهر من
املعاين العامة للكالم ،أو املعاين العجمية أللفاظ اللغة ،وإمنا يعين املعىن النحوي الذي يكتسبه اللفظ يف السياق
والعالقات الناشئة بني الكلمات يف السياق (التأليف)" .3علما أن املعاين النحوية ليست املعىن اخلام ،وإمنا املعىن
اخلاص املصور الذي تشكل يف النفس ونظم فيها نظما خاصا 4والذي يوفر للمتكلم إمكانية التميز يف أسلوب
تعبريه واالختالف عن غريه يف طريقة نظم الكالم.
-التعلق النحوي:
يرى حممد أمحد حنلة أن التعلق النحوي هو األساس الثاين الذي تقوم عليه نظرية النظم حيث "قادته فكرة
ترتيب األلفاظ حسب ترتيب املعاين يف النفس إىل فكرة أخرى ،تعد فيما نرى الركن الثاين من أركان نظريته ،وهي
فكرة التعلق النحوي" 5.القائم على وضع الكلمات جبواز بعضها وفق عالقات حنوية يقول عبد القاهر" :واعلم
أنك إذا رجعت إىل نفسك علمت علما ال يعرتضه الشك ،أن ال نظم يف الكلم وال ترتيب حىت يعلق بعضها
ببعض ،وّتعل هذا بسبب من تلك ،هذا ما ال جيعله عاقل وال خيفى على أحد من الناس" 6.إن املعاين املرتبة يف
النفس يعضدها التعالق النحوي ،وبدونه ال نظم وال ترتيب للمعاين حيصالن .
يشرح اجلرجاين التعلق النحوي قائال "وإذا نظرنا يف ذلك علمنا أن ال حمصول هلا غري أنت تعمد إىل اسم
فتجعله فاعال لفعل أو مفعول ،أو تعمد إىل امسني فتجعل أحدمها خربا عن اآلخر ،أو تتبع االسم امسا على أن
يكون الثاين صفة لألول ،أو تأكيدا له ،أو بدال منه ،أو ّتيء باسم بعد متام كالمك على أن يكون الثاين صفة
أو حاال أو متييزا ،أو تتوخى يف كالم هو إلثبات معىن أن يصري نفيا ،أو استفهاما أو متنيا ،فتدخل عليه هذه
-1حممد حممد أبو موسى ،مدخل إىل كتايب عبد القاهر اجلرجاين ،مرجع سابق ،ص.65
-2أمحد أبوزيد ،مقدمة يف األصول الفكرية للبالغة وإعجاز القرآن ،مرجع سابق ص.27
-3أمحد حسن صربة ،التفكري االستعاري ،مكتبة الوادي ،بدمنهور ،ط ،9119 ،9ص.014
-4درويش اجلندي ،نظرية عبد القاهر يف النظم ،مكتبة هنضة ،مصر القاهرة ،0261 ،ص.74
-5حممود أمحد حنلة ،يف البالغة العربية ،علم املعاين ،دائرة العلوم العربية ،بريوت ،لبنان ،ط ،0221 ،0ص.98
-6اجلرجاين :دالئل اإلعجاز ،مصدر سابق ،ص.62
20
احلروف املوضوعة لذلك ،أو تريد يف فعلني أن ّتعل أحدمها شرطا يف اآلخر ،فتجيء هبما بعد احلرف املوضوع
هلذا املعىن ،أو بعد اسم من األمساء اليت ضمنت معىن ذلك احلرف وعلى هذا القياس"1.مقسما إياه إىل ثالثة
أقسام:
.0تعلق اسم باسم بأن يكون خربا أو حاال أو صفة أو بدال أو متييزا أو مضافا.
.9تعلق اسم بفعل كأن يكون فاعال أو مفعوال بأنواعه أو خربا لكان أو حاال أو متييزا.
إن التعلق بني الكلمات بضمها إىل بعضها هو العملية االسنادية للمعاين النحوية املرتبة يف النفس وهو
شرط ضروري حلصول النظم .ومن هنا كانت الكلمات املفردة دون إسنادها حنويا إىل غريها خارج دائرة النظم "
فال يتصور أن يتعلق الفكر مبعاين الكلم أفرادا وجمردة من معاين النحو ،فال يقوم يف وهم ،وال يصح يف عقل أن
يتفكر مفكر يف معىن (فعل) من غري أن يريد إعماله يف (اسم) وال أن يتفكر يف معىن (اسم) من غري أن يريد
إعمال (فعل) فيه وجعله فاعال أو مفعوال ،أو يريد منه حكما سوى ذلك من األحكام ،مثل أن يريد جعله مبتدأ
2
أو خربا أو صفة أو حاال ،أو ما شاكل ذلك".
وجيب اإلشارة يف هذا السياق أن التعلق عند اجلرجاين له مستويات :مستوى يقف عند الصواب ومستوى
يرقى إىل بالغة اخلطاب "فإذا قلت أ فليس هو كالما قد أطرد على الصواب وسلم من العيب"؟
أفما يكون يف كثرة الصواب فضيلة؟ قيل أما الصواب كما ترى فال ألنا لسنا يف ذكر تقومي اللسان،
والتحرر من اللحن ،وزيغ اإلعراب فنعتد مبثل هذا الصواب ،وإمنا حنن يف أمور تدرك بالفكر اللطيف ،ودقائق
يوصل إليها بثاقب الفهم ،فليس درك صوب دركا فيما حنن فيه حىت يشرف موضعه ،ويصعب الوصول إليه،
3
وكذلك ال يكون ترك خطأ تركا حىت حيتاج يف التحفظ منه إىل لطف نظر وفضل رؤية وقوة ذهن وشدة تيقظ".
يعلق عبد احلميد أمحد يوسف هنداوي عن هذين املستويني قائال" :واحلقيقة أن عبد القاهر يفرق يف
كالمه بني نوعني من الصواب يف الكالم واملعاين ،األول ما میكن أن نصطلح على تشميته بالصواب النمطي أو
وعليه فاملستوى الثاين هو املستوى الفين البالغي الراقي وما يقع فيه من عدول أو جماز يكونان مضبوطني
بقواعد حنوية.
-تخير الموقع:
يقرر عبد القاهر أن اللفظة املفردة ال فصاحة هلا وال مزية حىت تضم إىل أخواهتا يف تأليف دقيق وعلى
حنو خمصوص ،وألن التعلق ركن أساسي يف نظرية النظم ،فإنه جيب أن يراعي موقع الكلمة من بني أخواهتا؛ أي
لكل مكان لفظه املناسب ،حبيث لو حول ذلك اللفظ من مكانه ،أو أزيل عنه اختل النسق اللغوي وذهب رونق
النظم ومجاله "وإذا كان هذا كذلك فينبغي أن ينظر إىل الكلمة قبل دخوهلا يف التأليف ،وقبل أن تصري إىل الصورة
اليت يكون هبا الكلم إخبارا وأمرا وهنيا واستخبارا وتعجبا ،وتؤدي يف اجلملة معىن من املعاين اليت ال سبيل إليها إال
بضم كلمة إىل كلمة … وهل يقع يف وهم أحدهم –وإن جهد -أن تتفاضل املفردات من غري أن ينظر إىل
مكان تقعان فيه من التأليف والنظم بأكثر من أن هذه مألوفة مستعملة وتلك غريبة وحشية؟ …وهل ّتد أن
أحدا يقول :هذه اللفظة فصيحة إال وهو يعترب مكاهنا من النظم وحسن مالئمة معناها ملعاين جاراهتا ،وفضل
2
مؤانستها ألخواهتا".
إن الكلمة املفردة ال قيمة هلا ،وال میكن إدراك مجاهلا وفصاحتها إال من خالل موقعها يف النسق الرتكييب
وتناسق معناها ليتالءم مع معاين ما يسبقها وما يأيت بعدها من كلمات "قد اتضح اتضاحا ال يدع للشك جماال
أن األلفاظ ال تتفاضل من حيث هي ألفاظ تثبت هلا الفضيلة وخالفها يف مالئمة معىن اللفظة ملعىن اليت تليها أو
ما أشبه ذلك مما ال تعلق له بصريح اللفظ ،ومما يشهد لذلك أنك ترى الكلمة تروقك وتؤنسك يف موضع مث تراها
بعينها تثقل عليك وتوحشك يف موضع آخر" 3ألن موقعها ومعناها ال يناسبان غريها من الكلمات.
ويؤكد على صحة هذه الفكرة والدليل على ذلك أنك ّتد الرجلني يستعمالن نفس الكلمة ،فرتى
أحدمها قد أحسن اختيار املوقع وحسن النسق فبلغ مساء الفصاحة ،يف حني أن اآلخر وصل إىل احلضيض "…
-1أمحد يوسف هنداوي ،اإلعجاز الصريف يف القرآن الكرمي ،دراسة نظرية تطبيقية ،التوظيف البالغي لصيغة الكلمة ،املكتبة العصرية صيدا ،
بريوت ،9119 ،ص ص.79، 70
-2عبد القاهر اجلرجاين ،دالئل اإلعجاز ،مصدر سابق ،ص.58
-3عبد القاهر اجلرجاين ،دالئل اإلعجاز ،املصدر نفسه ،ص .61
22
فإنك ّتد مىت شئت الرجلني قد استمأل ……… .بأعياهنا ،مث ترى هذا قد فرع السماء ،وترى ذاك قد لصق
باحلضيض ،فلو كانت الكلمة حسنت ،حسنت من حيث هي لفظ ،وإذا استحقت املزية والشرف استحقت
ذلك يف ذاهتا وعلى انفرادها ،دون أن يكون السبب يف ذلك حال هلا مع أخواهتا اجملاورة هلا يف النظم ،ملا اختلف
هبا احلال ،ولكانت إما حتسن أبدا أو ال حتسن أبدا ،ومل تر قوال يضطرب على قائله حىت ال يدري كيف يعرب،
1
وكيف يورد ويصدر كهذا القول".
ويضرب مثاال ألمهية ختري املوقع قائال" :ومما يشهد لذلك أنك ترى الكلمة تروقك وتؤنسك يف موضع مث
2
تراها بيعنها تثقل عليك وتوحشك يف موضع آخر ،كلفظة االخدع يف بيت احلماسة.
وبيت البحرتي
فإن هلا يف هذين املكانني ما ال خيفى من احلسن ،مث أنك تتأملها يف بيت أيب متام:
فتجد هلا من الثقل على النفس ،والتنغيص ،والتنكري ،أضعاف ما وجدت هناك من الروح واخلفة
3
واإليناس والبهجة".
يتضح إذا أن معيار اختيار موقع الكلمة يف النظم يقوم على مالئمة معناها ملعاين الكلمات األخرى حىت
يرتقي النسق اللغوي جلملة ما إىل درجة عالية من البالغة.
-معاني النحو:
حتدث عنه صاحل بلعيد ضمن األركان العامة لنظرية النظم 1وذكره حممود أمحد حنلة فقال "وهو الركن
الرابع واألخري من أركان نظرية النظم عند عبد القاهر اجلرجاين ،وقد عين عبد القاهر هبذا الركن عناية بالغة ألنه
مثرة النظم و مصوله"2.ومسته … .محيد البيايت الوجوه والفروق وجعلته الركن الرابع من أركان هذه النظرية.
يتضح مبا ال يدع جماال للشك أن حسن النظم آت من جودة التصرف يف قواعد النحو ،وأن رداءته إمنا
تأيت من سوء التصرف فيه "وإن أردت أن ترى ذلك عيانا فاعمد إىل أي كالم شئت وأزل أجزاءه عن مواضعها
وضعها وضعا میتنع معه دخول شيء من معاين النحو فيها ،فقل يف (قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل) (من نبك
قفا حبيب ذكرى منزل) مث انظر هل يتعلق منك فكر مبعىن كلمة منها؟ واعلم أين لست أقول :إن الفكر ال يتعلق
مبعاين الكلم املفردة أصال ،ولكين أقول :إنه ال يتلق هبا جمردة من معاين النحو ،ومنطوقا هبا على وجه ال يتأيت معه
4
تقدير معاين النحو وتوخيها فيها ،كالذي أريتك".
میكن القول من خالل هذه األسس أن نظرية النظم اجلرجانية حنوية بامتياز تقوم على املقدرة ( الكفاءة )
النحوية اليت جيب أن میتلكها املتكلم ليس من أجل استقامة النظم العادي وصحته بل يف تفاضل األنساق اللغوية
وتفاوت حسنها وبالغتها ،ولذلك كان اهتمام اجلرجاين منصبا على النحو النسقي الذي يعاجل تركيب اجلملة
بدال من احلركة اإلعرابية على آخر الكلمة .
النظم :هو توخي معاين النحو فيما بني الكلم على حسب األغراض اليت يساق هلا الكالم.
إن العمود األساس الذي بنيت عليه نظرية النظم هو معاين النحو ،وسأنقل بعض ما ذكره اجلرجاين عن معاين
النحو ليتبني أهنا احملور الذي تدور عليه نظرية النظم..
قال اجلرجاين ":وكنا قد علمنا أن ليس النظم شيئا غري توخي معاين النحو وأحكامه فيما بني الكلم وأنا إن بقينا
الدهر جبهد أفكارنا حىت نعلم للكلم املفردة سلكا ينظمها وجامعا جيمع مشلها ويؤلفها وجيعل بعضها بسبب من
بعض غري توخي معاين النحو وأحكامه فيها طلبنا ما كل حمال دونه" .1وقال أيضا" :فلست بواجد شيئا يرجع
صوابه إن كان صوابا ،وخطؤه إن كان خطأ إىل النظم ،ويدخل حتت هذا االسم ،إال وهو معىن من معاين النحو
قد أصيب به موضعه ،ووضع يف حقه ،أو عوامل خبالف هذه املعاملة ،فأزيل عن موضعه ،واستعمل يف غري ما
ينبغي له ،فال ترى كالما قد وصف بصحة نظم أو فساده ،أو وصف مزية وفضل فيه إال وأنت ّتد مرجع تلك
الصحة وذلك الفساد ،وتلك املزية ،وذلك الفضل إىل معاين النحو وأحكامه ،ووجدته يدخل يف أصل من أصوله،
2
ويتصل باب من أبوابه ".
وقال :ملن يبحث عن دليل إعجاز القرآن الكرمي بأن اإلعجاز يف نظمه وليس النظم غري توخي معاين النحو:
"فإذا ثبت اآلن أن الشك وال مرية يف أن ليس النظم شيئا غري توخي معاين النحووأحكامه فيما بني معاين الكلم،
ثبت من ذلك أن طالب دليل اإلعجاز من نظم القرآن إذا هو مل يطلبه يف معاين النحو وأحكامه ووجوهه وفروقه
4
ومل يعلم أهنما معدنه و معانيه 3وموضعه ومكانه ،وأنه ال مستنبط له سواها ،وأن ال وجه لطلبه فيما عداها...
أما األعمدة األخرى اليت بنيت عليها نظرية النظم فقد عربت عنها املصطلحات اآلتية:
-0التعليق
-9الرتتيب
25
-3البناء
-4الوجوه والفروق
وسأنقل هنا بعض ما ذكره اجلرجاين عن هذه املصطلحات" :معلوم أن ليس النظم سوى تعليق الكلم بعضها
ببعض ،وجعل بعضها بسبب من بعض "" .1واعلم أنك إذا رجعت إىل نفسك علمت علما ال يعرتضه الشك أن
ال نظم يف الكلم وال ترتيب حىت يعلق بعضها ببعض ،ويبين بعضها على بعض ،وّتعل هذه بسبب من تلك .2
" وإذ قد عرفت أن مدار أمر النظم على معاين النحو وعلى الوجوه والفروق اليت من شأهنا أن تكون فيه ،فاعلم
3
أن الفروق والوجوه كثرية ،ليس هلا غاية تقف عندها ،ومحاية ال حتد هلما ازديادا بعدها"
ماذا يقصد اجلرجاين معاين النحو وكيف يتم الكشف عنها؟
يقصد اجلرجاين معاين النحو :املعاين ذات الدالالت العقلية ،معني املعان الذهنية اليت تتولد يف فكر املتكلم عند
نظم الكالم تلك املعاين اليت تنشأ من حتديد العالقات بني األشياء املعرب عنها بالكلم ،فرتبطها ببعضها كما يربط
السلك الشفاف حبات العقد ،لذلك يصبح الكالم نوعا من اهلذيان يف حالة فقداهنا" .4وقد أشار اجلرجاين إىل
ذلك بقوله" :واعلم أنك ّتد هؤالء الذين يشكون فيما قلناه ّتري على ألسنتهم ألفاظ وعبارات ال يصح هلا معىن
سوى توخي معاين النحو وأحكامه فيما بني معاين الكلم ،مث تراهم ال يعلمون ذلك.
فمن ذلك ما يقوله الناس قاطبة من أن العاقل يرتب يف نفسه ما يريد أن يتكلم به ،وإذا رجعنا إىل أنفسنا مل جند
لذلك معين سوى أن يقصد إىل قولك (ضرب) فيجعله خريا عن (زيد) وجيعل الضرب الذي أخرب بوقوعه منه
واقعا على (عمرو) وجيعل (يوم اجلمعة) زمانه الذي وقع فيه ،وجيعل (التأديب) غرضه الذي فعل الضرب من أجله
فيقول( :ضرب زيد عمروا يوم اجلمعة تأديبا له) .وهذا كما ترى هو توخي معاين النحو فيما بني معاين هذه
الكلم .ولو أنك فرضت أن ال تتوخي يف (ضرب) أن ّتعله خريا عن (زيد) ،ويف عمرو أن ّتعله مفعوال به
الضرب ،ويف يوم اجلمعة أن ّتعله زمانا هلذا الضرب ،ويف التأديب أن ّتعله غرض زيد من فعل الضرب ،ما تصور
يف عقل وال وقع يف وهم أن تكون مرتبا هلذه الكلم ،وإذ قد عرفت ذلك فهو العربة يف الكالم كله ،ظن ظنا يؤدي
إىل خالفه ظن ما خيرج به عن املعقول .5
-1مهدي املخزومي :يف النحو العريب نقد وتوجيه ،ط ،0بريوت ،لبنان0263 ،مص.37
-2جعفر دك الباب :املوجز يف شرح دالئل اإلعجاز يف علم املعاين ،ط 10مطبعة اجلليل ،دمشق ،سوريا0411 ،ه0281 -م ص .74
-3عبد القاهر اجلرجاين ،دالئل اإلعجاز ،مصدر سابق ،ص.78
-4عبد القاهر اجلرجاين ،املصدر نفسه ،ص 315
-5مهدي أسعد عرار :جدل اللفظ واملعىن ،دراسة يف داللة الكلمة العربية ،الطبعة األوىل ،دار وائل للنشر ،عمان ،األردن9119 ،ص .02
27
وأشار اجلرجاين إىل ذلك بقوله" :ليس الغرض بنظم الكلم أن توالت ألفاظها يف النطق ،بل أن تناسقت دالالهتا
وتالقت معانيها على الوجه الذي اقتضاه العقل" .1فاللغة إذن نظام لربط الكلم ببعضها وفقا ملقتضيات دالالهتا
العقلية وبفضل ذلك النظام تتمكن اللغة من القيام بوظيفتها األساسية كوسيلة االتصال الناس ببعضهم ،وقد أشار
اجلرجاين إىل وظيفة اللغة بقوله" :ما يعلم ببدائه العقول أن الناس إمنا يكلم بعضهم بعضا ليعرف السامع غرض
املتكلم ومقصوده" .2وهبذا يكون عبد القاهر اجلرجاين أول عامل لغوي يشري إىل أن معىن الكلمات ال يعرف إال
من ضمها إىل بعضها سواء قلنا إن أصل اللغة إهلام أو إن أصلها مواضعة وانطالقا من تلك الفكرة أشار اجلرجاين
يف املدخل إىل "دالئل اإلعجاز" إىل أن الكالم البد أن يشتمل على عنصرين حني قال "وخمتصر كل األمر أنه ال
يكون كالم من جزء واحد وأنه البد من مسند ومسند إليه" 3وهذا يعين أن اجلملة بعد أن يبين عليها أي بعد أن
يضاف إليها كلمات تزيد على جزأي اجلملة يف أبسط صيغة هلما يتغري معناها يف ذاته ،ألن املفهوم من جمموع
الكلمات املرتبطة ببعضها بالنظم هو معىن واحد ال عدة معان .4
فمعاين النحو إذن هي معان ذهنية ينجزها املتكلم عند نظم اجلملة تربط بني الكلم ،وحتدد العالقات فيما بينها،
ففي الفكر يتم اجناز املعاين الذهنية) ويف النظم هي (معان النحو) ويف الفكر يتم حتديد العالقات بني األشياء ويف
النظم هو تعليق الكلم بعضها ببعض وبناء بعضها على بعض وجعل هذه بسبب من تلك.
وبعد التفكري العميق يف كل ما قاله عبد القاهر اجلرجاين اكتشفنا ما يأيت :هناك نوعان من اجلمل:
-0النوع األول :اجلمل اليت متر يف ذهن املتكلم .مرحلتني عند نظمها وهي (اجلمل اخلريية املثبتة)
المرحلة األولى :وهي مرحلة حتديد العالقات بني األشياء ،أي حتديد املعاين الذهنية املسماة ب ـ ـ ـ ـ ــ' معاين النحو)
المرحلة الثانية :وهي مرحلة حتديد األلفاظ املناسبة .
ولتوضيح النوع األول من اجلمل حتاول أن نفكر ونتحسس ما جيري يف الذهن عند النطق جبملة (أفلح املؤمن).
حنس أوال أن الفكرة نشأت وهي أننا نريد أن نسند شيئا إىل شيء ،فاإلسناد 5يف هذه اجلملة أول عملية ذهنية
تنشأ بومضة من ومضات ذهن املتكلم لتحديد العالقة بني شيئني مث بعد ذلك أي يف املرحلة الذهنية الالحقة،
يتم حتديد األلفاظ املناسبة ،لإلسناد املطلوب ،فيتحدد الفعل (أفلح) من بني عدد كبري من األفعال املخزونة يف
-1عبد احلميد أمحد يوسف اهلنداوي :اإلعجاز الصريف يف القرآن الكرمي ،املكتبة العصرية ،صيدا ،بريوت0493 ،ه9119 ،مص .42
-2معاين النحو :مواقع وإعراب الكلمات يف اجلملة .
-3سناء محيد البياين :نظام اجلملة العربية ، ،ص 03-09
29
المرحلة الثالثة :وهي مرحلة حصر األشياء مبدلوالهتا ،ونعين بذلك حتديد األلفاظ املختارة املناسبة للفكرة .وهذه
املراحل الثالث تنتج عنها أنواع من اجلمل تشرتك يف كوها مجل تعرب عن املعاين العامة ،وختتلف فيما بينها مبا
يتميز به كل معنی عام من املعاين العامة األخرى.
ويتخذ كل معني عام أسلوبا للتعبري عنه ،وكل أسلوب حتدده األداة اليت تتصدره ،مثل أداة النفي اليت متيز أسلوب
النفي من غريه أو أداة االستفهام اليت متيز أسلوب االستفهام من غريه ،أو أداة الشرط أو غريها.
إن املراحل 1الذهنية السابقة هي ومضات يف الذهن ،وعمليات ذهنية غري مالحظة من قبل املتكلم ،وما میكن
أن يالحظه املتكلم ،النظم وتسلسله ألنه صورة ملا يتسلسل يف الفكر.
ولتوضيح النوع الثاين من احلمل ،أي اجلمل اليت يهيمن عليها معىن عام يسيطر على الفكرة بأكملها ،منذ
نشوئها ،فتتصدر هذا النوع من احلمل األدوات ،لتعرب عن جو الفكرة ،نأخذ مثال مجلة :هل ساعد حممد الفقري؟
حنس أوال أن هناك جوا عاما معينا يسيطر على الفكرة منذ نشوئها وهو جو االستفهام ،وجاءت أداة االستفهام
(هل) لتعرب عن هذا اجلو العام أي املعني العام الذي يكتنف الفكرة ويهيمن عليها ،يلي ذلك حتديد االستفهام يف
كونه استفهاما أي طلب الفهم 2عن شيء وهذا الشيء هو اإلسناد املعرب عنه باملساعدة املسندة إىل حممد ،مث
تعلق باإلسناد معني ذهن آخر ،هو (التخصيص) املعرب عنه ب (الفقري) فصار االستفهام ب (هل) عن املساعدة
املسندة إىل حممد واملختصة بـ ـ ـ ـ (الفقري).
ومما ّتدر مالحظته أن الكلمة اليت حتاور األداة هي اليت يتسلط عليها معىن األداة أي املعىن العام ،فاالستفهام يف
اجلملة السابقة متسلط على الفعل (ساعد) الذي يدل على الفاعل ببنائه ،ولو كانت اجلملة (أحممد ساعد
الفقري؟) لكان االستفهام متسلط على (حممد) ولكان الفعل متحققا ،لذلك يصح أن نقول:
( أحممد ساعد الفقري أم علي؟) ألن مساعدة الفقري متحققة و السؤال عن فاعلها أحممد أم علي؟
وال يصح أن نقول :أساعد حممد الفقري أم على؟
إن هذا التوضيح لعالقة اجلملة بفكر املتكلم ،واملراحل اليت متر هبا اجلملة يف الذهن أثناء النطق مبا ال يعين أن
هناك حدا زمنيا مالحظا يفصل بني الفكرة والرتكيب املعرب عنها ،فما إن ينشأ االستفهام حىت تعرب عنه األداة
(هل) وما إن تتحدد العالقات بني األشياء حىت تظهر يف النطق الكلمات املعربة عنها متعلقة ببعضها ببعض
وهكذا فإن كل معىن ذهين يقرتن بالكلمات اليت تعرب عنه ،والتعبري عن الفكرة يتم تقريبا يف وقت التفكري هبا
-1سناء محيد البيايت :قواعد النحو يف ضوء نظرية النظم ،مرجع سابق ،ص 91.-02
-2ابن فارس والرماين :احلدود يف النحو (رسائل يف النحو واللغة) ،حتقيق مصطفی جواد ويوسف يعقوب مسكوين ،بغداد0267 ،مص .49
30
نفسه .ولرمبا يكون اجلرجاين قد قصد هذا بقوله "وأعلم أن مما هو أصل يف أن يدق النظر ويغمض يف بعض
املسلك يف توخي املعاين اليت عرفت أن تتحد أجزاء الكالم ويدخل بعضها يف بعض ويشتد ارتباط ثان منها بأول
وأن حيتاج يف اجلمل إىل أن تضعها يف النفس وضعا واحدا وأن يكون حالك فيها حال البايب يضع بيمينه ها هنا
1
يف حال ما يضع بيساره هناك نعم و يف حال ما يبصر مكان ثالث ورابع يضعها بعد األولني
يتضح مما سبق أن (معان النحو) مرتبطة بالفكر ،ألهنا املعاين الذهنية اليت ينجز كل معىن منها بومضة من
ومضات دماغ اإلنسان وألهنا تنشأ يف الفكر أوال مث يعرب عنها بطريقة معينة يف النظم وكان اجلرجاين قد ذكر دور
الفكر يف النظم حني قال "ومعلوم أن اإلنسان يكون يف أن خيرب عن شيء بشيء أو يصف شيئا بشيء ،أو
يضيف شيئا إىل شيء ،أو يشرك شيئا يف حكم شيء ،أو خيرج شيئا من وجود شيء وعلى هذا السبيل ،وهذا
2
كله فکر يف أمور معلومة معقولة زائدة على اللفظ
ولرمبا حبد تلميحا إىل املراحل اليت متر كما امجلة يف الذهن عند نظمها يف قوله" :وإال فإنك إذ فكرت يف الفعلني
أو االمسني تريد أن خترب بأحدمها عن الشيء أيهما أوىل أن خترب به عنه ،وأشبه بغرضك مثل أن تنظر أيهما أمدح
3
وأذم وفكرت يف الشيئني تريد أن تشبه الشيء بأحدمها أيهما أشبه به ،كنت قد فكرت يف معان أنفس الكلم"
فهذا النص -كما يبدوا لنا -تلميح إىل مرحلة اختيار األلفاظ املناسبة وجند تلميحا إىل أن املرحلة املذكورة إمنا
هي عقب مرحلة (معاين النحو) حني يقول" :إال أن فكرك ذلك مل يكن إال من بعد إن توخيت فيها من معاين
النحو وهو أن أردت جعل االسم الذي فكرت فيه خربا عن شيء أردت فيه مدحا أو ذما أو تشبيها أو غري ذلك
من األغراض ومل ّتئ إىل فعل أو اسم ففكرت فيه فردا ومن غري أن كان لك قصد أن ّتعله خربا أو غري خرب
فاعرف ذلك" | .وقال أيضا" :وليت شعري كيف يتصور وقوع قصد منك إىل معىن كلمة من دون أن تريد
4
تعليقها معىن كلمة أخرى"
إن ربط دراسة نظم اجلملة وتأليفها بفكر املتكلم حقيقة البد منها خاصة بعد أن توصلت الدراسات التشرحيية
والدراسات الفيزيولوجية الدماغ اإلنسان إىل أن فيها مناطق خاصة للتكلم وربط الكالم ،ولكن مهما بلغت دقة
الدراسات التشرحيية والفيزيولوجية فإهنا لن تستطيع أن تصل إىل حتديد دقيق للعمليات الذهنية اليت تنجز يف ذهن
املتكلم لغرض ربط الكالم وال تستطيع أن تضع مسميات لتلك العمليات الرابطة للكالم ألن هذا األمر ال
-1سناء محيد البيايت :قواعد النحو يف ضوء نظرية النظم ،املرجع السابق ص 99
-2سار جنت :علم النفس احلديث ،تعريب منري البعلبكي دار العلم للماليني 0272مص .41
-3سار جنت ،املرجع نفسه ص 40
32
ويبدو أن اجلرجاين قد سبق علماء النفس احملدثني يف بعض ما توصلوا إليه خبصوص اخلربات العقلية ويتضح ذلك
من قوله" :إنا نعلم أن احلملة أبدا أسبق إىل النفوس من التفصيل وإنك ّتد الرؤية نفسها ال تصل بالبديهة إىل
التفصيل ولكنك ترى بالنظر األول الوصف على اجلملة مث ترى التفصيل عند إعادة النظر .1
وهذا ما أشار إليه عبد القاهر اجلرجاين بقوله" :واعلم أنك إذا رجعت إىل نفسك علمت علما يعرتضه الشك أن
ال نظم يف الكلم وال ترتيب حىت يعلق بعضها ببعض ،ويبىن بعضها على بعض وّتعل هذه بسبب من تلك ،هذا
ما ال جيهله عاقل وال خيفى على أحد من الناس ،وإذا كان كذلك فينا 2أن ننظر إىل التعليق فيها والبناء وجعل
الواحدة منها بسبب من صاحبتها ما معناه وما حمصوله ،وإذا نظرنا يف ذلك علمنا أن ال حمصول هلا غري أن تعمد
إىل اسم فتجعله فاعال لفعل أو مفعوال أو تعمد إىل امسني فتجعل أحدمها خربا عن اآلخر أو تتبع االسم امسا على
أن يكون الثاين صفة لألول أو تأكيدا له أو بدال منه أو حتيء باسم بعد متامكالمك على أن يكون الثاين صفة
أو حاال أو متييزا أو أن تتوخى يف كالم هو إلثبات معيين أن يصري تفيا أو إهباما أو متنيا فتدخل عليه احلروف
املوضوعة لذلك ،أو تريد يف فعلني أن ّتعل أحدمها شرطا يف اآلخر فتجئ مبا بعد احلرف املوضوع هذا املعني أو
بعد اسم من األمساء التيضمنت معىن ذلك احلرف وعلى هذا القياس .3الكالم وسيلة اإلنسان للتعبري عن أفكاره
وإيصاهلا لآلخرين ويالحظ عند حتليل الكالم يف أية لغة أن حيتوي على جمموعات ،كل جمموعة منها تؤدي معىن
وتعرب عن فكرة تامة بــ( اجلملة) ،وتبني اجلملة يف الغالب على اإلسناد أي على املسند واملسند إليه مما دعانا إىل
القول بأن اإلسناد هو األساس يف بناء اجلملة ومیكن أن تعد هذه اجملموعات الكالمية املسماة باجلمل األجزاء
األساسية يف الكالم.
"فباجلمل يتبادل املتكلمان احلديث بينهما وباجلمل حصلنا لغتنا ،وباجلمل نتكلم ،وباجلمل نفكر أيضا" .وقد
دعت احلاجة أن ينوع املتكلم اجلمل تبعا لتنوع دواعي الكالم ،ولذلك كان لكل داع أسلوب معني يعرب عنه
تتعارف عليه اجلماعة الناطقة باللغة فلإلثبات أسلوب وللنفي أسلوب آخر ،وللطلب أسلوب ثالث مغاير هلما
وللشرط أسلوب خيتلف عن األساليب السابقة ،وتغطي هذه األساليب حاجة املتكلم للتعبري عن أية فكرة يريد
إيصاهلا لآلخرين ،واجلمل يف اللغة تتباين يف أساليبها ولكنها تشرتك يف املعاين الذهنية املتكونة منها ،أي أهنا
تشرتك يف معاين النحو السابقة الذكر .وهبذا خترج معاين النحو عند عبد القاهر من مظهرها اجلاف القاصر على
-1عبد القادر اجلرجاين :أسرار البالغة ،تصحيح و تعليق الشيخ حممد عبده دار املعرفة بريوت ،لبنانص 037
-2يريد فجدير بنا.
-3عبد القادر اجلرجاين :دالئل اإلعجاز،مصدر سابق ،ص 61
33
اجلوانب اإلعرابية فقط إىل ما هو أمسى من ذلك بكثري حني تعتمد على الذوق الرفيع واحلس املرهف وتصبح من
وسائل التصوير والصياغة ومن املقاييس اليت يهتدي هبا يف الرباعة.1
ومل يكن اجلرجاين ليتحدث عن نظريته يف اإلعجاز هذه دون تعليل هلا أو تدليل عليها بل كان يدعم دائما فكرته
مبا يستعرضه من خمتلف النصوص األدبية والقرآنية ..وليس هذا فحسب بل
كان يتفرس األساليب ويتأمل بذوقه وحيها ،مث يأخذ يف التسجيل والتعليل ملا توصل إليه من نتائج هذا التأمل
حيثما رأى اجلمال يهزه ويطربه ..وكان كاملتجول يف روض نضري يستوقفه الورد الشذى والزهر الناظر ،میتع نفسه
وناظريه مبا هلا من تنسيق بديع ..وتكاد تكون كل استشهاداته وخاصة يف دالئل "اإلعجاز" تأكيدا وتدعيما ملا
ذهب إليه من فكرة النظم ...واضعا يف اعتباره أن هدفه األمسى هو الوصول إىل حقيقة اإلعجاز يف القرآن الكرمي.
-1صالح الدين حممد عبد التواب :النقد األديب دراسات نقدية وأدبية حول إعجاز القرآن ،ج ،0ط، 0دار الكتاب احلديث القاهرة -0493
9113م ص .046
34
المحاضرة السادسة :النظم وعالقته بعلم المعاني.
توطئة:
يلحظ الدارس لكتاب دالئل اإلعجاز اجلرجاين ميزته الرتكيبية املستقاة من الرتاث اللغوي العريب؛ فهو كتاب
بالغي جلل مواضيع تتناول علم املعاين وأمناطه ،من أحوال اإلسناد ،وقضايا الفصل والوصل ،والتقدمي والتأخري،
وأساليب اخلرب واإلنشاء فأوضح صاحب نظرته يف نظم الكالم ،و مقتضياته الداللية ،وهو ما يسمى بنظرية النظم
عنده؛ بدءا بنظام التعليق واإلحالة والربط مث قواعد نظم االستعمال.
وإن كانت مباحث الكتاب تتناول قضايا علم املعاين من منطلق التأسيسي لنظرية النظم يف علم املعاين،
فهذا ال يفصلها عن بعدها النحوي املتأصل ،بل إن علم املعاين ليس إال فلسفة النحو بغيتها الوقوف على
خصائص أساليب الكالم .فكيف تقرأ هذه القضايا البالغية االستعمال ،والنحوية املرجع؟ ،وما دورها يف حتديد
وظائف الكالم؟ .وهل ما ذهب إليه اجلرجاين يفضي إىل نظرية لسانية عربية حديثة يتجلى فيها البعد اللساين
الوظيفي والتداويل احلديث وفق ما يتناسب والطابع اللغوي العريب؟ وكيف تستثمر جهده يف كتاب دالئل اإلعجاز
املختص بعلم املعاين ؟.هذا ما سنعاجله يف هذه احملاضرة.
-قضايا علم المعاني في كتاب الجرجاني:
يف كتابه جند قضايا معينة أوىل هلا اجلرجاين -رمحه اهلل-اهتماما بالغا؛ بالوصف والشرح ،مبينا أمهيتها يف تراكيب
الكالم واستعماالته .ولنا يف الشطر أن نبينها كما يلي:
-التقديم والتأخير :وعنه علق املؤلف قائال" :هو باب كثري الفوائد ،جم احملاسن ،واسع التصرف ،بعيد الغاية،
ال يزال يفرت لك عن بديعة ،ويفضي بك إىل لطيفة ،وال تزال ترى شعرا يروقك مسمعه ،ويلطف لديك موقعه ،مث
تنظر سبب أن راقك ولطف عندك أن قدم فيه شيء وحول اللفظ ،عن مكان إىل مكان ،1فالتقدمي والتأخري
أسلوبان بالغيان داللتهما عن "التمكن يف الفصاحة وحسن التصرف يف الكالم ،ووضعه يف املوضع الذي يقتضيه
املعىن" ،2ال ريب أن اهتمام اجلرجاين وعنايته هبذا القسم من علم املعاين؛ مل تنشأ عن صدفة ،بل إن وقوعه وكثرة
استعماله ضمن كالم النحويني والبالغيني؛ عزز من أمهيته؛ كأسلوب كالمي وجب الوقوف عليه مجلة وتفصيال.
وللتقدمي أحوال ثابتة ال تتغري ،وهي:
.-1يوسف أبو العدوس ،مدخل إىل البالغة العربية ،علم املعاين ،علم البيان ،علم البديع ،مرجع سابق ،ص27
36
-الفصل والوصل :يوضح اجلرجاين أمهية هذا القسم من علم املعاين يف قوله" :اعلم أن العلم مبا ينبغي أن
يصنع يف اجلمل من عطف بعضها على بعض أو ترك العطف فيها ،واجمليء هبا منثورة تستأنف واحدة منها بعد
أخرى من أسرار البالغة ،ومما ال يتأتى لتمام الصواب فيه" ،1والفصل والوصل مها أسلوبان بالغيان رديفا
األساليب األخرى كأسلوب التقدمي والتأخري .فالوصل" :عطف مجلة فأكثر على مجلة أخرى بالواو خاصة ،لصلة
بينهما يف املبىن واملعىن ،أو دفع للبس میكن أن حيصل" ،2والفصل" :ترك العطف ،إما ألن اجلملتني متحدتان مبنی
ومعىن ،أو مبنزلة املتحدتني ،ألنه ال صلة بينهما يف املبىن أو يف املعىن " .3عن الوصل؛ حنو قولنا(( :جنح اجملتهد يف
دراسته ونال مرتبة راقية من العلم))؛ فاجلملة األوىل داللتها يف حال من أحوال املقصود بالقول وهو (اجملتهد)،
وتلتها اجلملة الثانية دالة هي األخرى على حال اجملتهد ،وترتبط بسابقتها داللة ومبىن ،والواسطة بينهما يف
الرتكيب هو حرف الواو العاطفة .ويف الفصل؛ نقدم(( :انتصر املسلمون يف معركتهم .عاد املقاتلون إىل بالدهم))؛
نلحظ التباين بني اجلملتني األوىل والثانية؛ فاألوىل بينت حال املسلمني يف املعركة ،يف حني أن الثانية تكلمت على
طرف آخر ال صلة باملسلمني ،وهم (الرجال) ،ومن الناحية الرتكيبية اجلملة الثانية هي مجلة ابتدائية استئنافية ال
صلة هلا باألوىل.
-الخبر واإلنشاء :يف هذا الباب مل يعنون اجلرجاين للخرب واإلنشاء مبسمى واضح ،أو عنوان ظاهر ،بلخصه
مبسائل هلا صلة بأساليب اخلرب واإلنشاء؛ كحديثه عن النفي ،ومسائل استعمال (إمنا) ،والتوكيد ،وحديثه عن
االستعارة ،والكناية ،والتشبيه ،واجملاز .ومن حديثه عن اخلرب قوله" :أول ما ينبغي أن يعلم منه أنه ينقسم إىل خرب
هو جزء من اجلملة ال تتم الفائدة دونه ،وخرب ليس جبزء من اجلملة ولكته زيادة يف خرب آخر سابق له .فاألول
خرب املبتدأ كمنطلق يف قولك :زيد منطلق .والفعل كقولك :خرج زيد .فكل واحد من هذين جزء اجلملة وهو
األصل يف الفائدة .والثاين هو احلال كقولك :جاءين زيد راكبا .وذاك أن احلال خرب يف احلقيقة من حيث أنك
تثبت هبا املعىن لذي احلال كما تثبت خبرب املبتدأ للمبتدأ ،وبالفعل للفاعل ،أال تراك قد أثبت الركوب يف قولك:
((جاءين زيد راكبا)) لزيد إال أن الفرق أنك جئت به لتزيد معىن يف إخبارك عنه باجمليء ،وهو أن ّتعله هبذه اهليئة
يف جميئه ،ومل ّترد إثباتك للركوب .4"..الواضح من كالمه مقصده البالغي يف حتديد وظيفة اخلرب واإلنشاء دالليا،
وأثر ذلك لدي املتلقي والسامع؛ وهو مثاله يف تقسيم اخلرب إىل خرب مبثابة جزء من اجلملة وجوده ضمنها حيقق
فائدة ،وخرب ليس جبزء من اجلملة يكون مرادفا خلرب سابق ووجوده ليس ضرورة؛ فمثال عن األول :اخلرب للمبتدأ:
38
المحاضرة السابعة :النظم وعالقته بعلم البيان.
هتدف هذه احملاضرة إىل بسط مجاليات النظرية البيانية عند عبد القاهر اجلرجاين أحد أئمة العربية ،فهو واضع
القواعد النظرية للمعاين والبيان يف كتابيه القيمني "دالئل اإلعجاز" و"أسرار البالغة" ،وقد أوىل ألوان البيان الثالثة
(التشبيه واالستعارة والكناية) أمهية ،و نظرته البالغية فيها عمق وإدراك میيز النظرية البيانية العربية ،فالتشبيه عنده
جيمل بدقة الفكر ،واالستعارة تنطوي على تأليف ونظم ينفرد هبا السياق التميز بالرتتيب النحوي املؤدي للمعىن
التصويري املرغوب إيصاله للمتلقي يف قالب مجايل مؤثر ،والكناية نوع بياين ينضوي على إثبات املعين بالدليل
والربهان ،ووظيفتها الداللية ميزان األصالة املبدع وكفاءته ،ويف كل هذه األلوان البالغية خصائص مجالية تنفرد هبا
النظرية البيانية اجلرجانية املتسمة بالتأمل العميق والتأثري احلي املتجدد].
أهم موضوعات أسرار البالغة" التشبيه واالستعارة والتمثيل ،وهي العناصر اجملازية اليت تشكل الصورة األدبية إال أن
عبد القاهر اجلرجاين (ت 470ه) يف مقدمة الكتاب تعرض لبعض األصناف البديعة كالتجنيس والسجع
واحلشو ،متوخيا يف ذكرها إبطال أن يكون احلسن فيها جملرد اللفظ دون املعىن ،حماربا بعد ذلك التيار اللفظي
الذي حفل باجلناس وغريه من البديعظنا منه أن مادته وقوامه إمنا هو يف األلفاظ وحدها ،دون أن يكون للمعىن يف
ذلك نصيب ،وبذلك رد للمعين دوره عادا األلفاظ تابعة للمعاين ،مثبتا أن اجلمال للنظم والصياغة مع مالحظة
املعىن ،غري أن البيان كان له احلظ األوفر واألغزر ضمن اهتمام عبد القاهر ،وسأعرض فيما يلي آراءه البالغية يف
األلوان البيانية الثالثة ومدى مجاليتها ،مث أخلص إىل استنتاج أهم اخلصائص الفنية واجلمالية اليت تتفرد هبا ضمن
التعبري األديب املؤثر فياملتلقي.
-ضوابط الصورة التشبيهية الجرجانية:
جعل عبد القاهر التشبيه على ضربني :أحدمها :أن يكون تشبيه الشيء بالشيء من جهة أمر بني ال حيتاج فيه إىل
تأول كالتشبيه من جهة الصورة إيل متيز اجلسم عن غريه وقدم أمثلة من حيث الشكل واهليئة واللون ...،مث التشبيه
من جهة الغريزة والطباع كتشبيه الرجل باألسد يف الشجاعة ،وكذلك كل تشبيه مجع بني شيئني فيما يدخل حتت
39
احلواس كتشبيه بعض الفواكه بالعسل والسكر ،واللني الناعم باخلز ،فالتشبيه يف هذا كله واضح ال جيري فيه
التأويل ،وال يفتقر إليه يف حتصيله 1وهذا النوع هو التشبيه الصريح أو العادي.
وثانيهما :هو أن يكون الشبه حمصال بضرب من التأول ،والتأول يكون بإرجاع وجه الشبه إىل معنی يکون متحققا
يف الطرفني بوجه من التلطف واحليلة ،كقولك :هذه حجة كالشمس ،فاحلجة كالشمس من جهة ظهورها ،وهذا
التشبيه ال يتم إال بالتأول وذلك بأن تقول :حقيقة ظهور الشمس وغريها من األجسام ،أال يكون دوهنا حجاب
وحنوه ،مما حتول بني العني ورؤيتها ،والشبهة نظري احلجاب فيما يدرك بالعقول ،ألهنا متنع القلب رؤية ما هي شبهة
فيه ،فإذا ارتفعت الشبهة وحصل العلم مبعىن الكالم الذي هو احلجة على احلكم ،قيل هذا ظاهر كالشمس ،فال
يشك ذو بصر أن الشمس طالعة إذا كانت كذلك.2
وإن طريقة التأول تتفاوت ،فمنه ما يقرب مأخذه ويسهل الوصول إليه ،حىت أنه يكاد يداخل الضرب األول
ويشاهبه مثل حجة كالشمس يف الظهور ،ومنه ما حيتاج إىل قدر من التأول كقوهلم :ألفاظه کالعسل يف احلالوة،
ومنه ما يدق ويغمض حىت حيتاج يف استخراجه إىل فضل روية ولطف فكرة مثل" :هم كاحللقة املفرغة ال يدري
أين طرفاها" 3وهذا ما يطلق عليه التمثيل.
والفرق بني النوعني أن التشبيه يطلق على الضربني كليهما ،والتشبيه عام أما التمثيل فإنه أخص منه ،فكل متثيل
5
تشبيه وليس كل تشبيه متثيال 4ففي قول ابن اخلطيم:
وقد الح يف الصبح الثريا ملن رأى كعنقود مالحية حني نورا
فهذا تشبيه حسن ،وال نقول هو متثيل لعدم حاجة وجه الشبه إىل تأول .بينما قول ابن املعتز:
اصرب على مضضاحلسو دفإن صربك قاتله
فالنار تأكل بعضه ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــا إن مل ّتد ما تأكله
فهو متثيل ألن تشبيه احلسود إذا صرب عليه وسکت عنه ،وترك غيضه يرتدد فيه ويعتمل يف صدره بالنار اليت ال
حتمد باحلطب أو الوقود حىت يأكل بعضها بعضا مما جيعل التعبري حيتاج إىل تأول بني ،ورأي عبد القاهر يف
-1عبد القاهر اجلرجاين ،أسرار البالغة ،تصحيح وتعليق حممد رشيد رضا ،دار املعرفة ،بريوت ،لبنان ،ص .79
-2عبد القاهر اجلرجاين ،املصدر نفسه ،ص .79
-3عبد القاهر اجلرجاين ،املصدر نفسه ،ص .75-74
-4عبد القاهر اجلرجاين ،املصدر نفسه ،ص .75
-5عبد القاهر اجلرجاين ،املصدر نفسه ،ص .75
40
التمثيل خيتلف عن رأي اجلمهور ،إذ أنه يرى أن التمثيل ما كان الوجه فيه حمتاجا إىل تأول أي منتزع من الزم
الصفة ،وال يكون كذلك إال إذا كان وجه الشبه فيه منتزعا من متعدد سواء أكان حسيا أو غري حسي.
والتشبيه الذي هو أوىل أن يسمى متثيال لبعده عن التشبيه الصريح الظاهر ،ما ّتده ال حيصل لك إال من مجلة من
الكالم أو مجلتني أو أكثر ،حىت أن التشبيه كلما كان أوغل يف كونه عقليا حمضا ،كانت احلاجة إىل اجلملة أكثر،1
إذ كلما كان التشبيه موغال يف العمق واحلاجة إىل الفكر احتيج فيه إىل ترکيب مجلي أكرب وأمشل ،كقوله تعاىل " :
إمنا مثل احلياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء ،فاختلط به نبات األرض مما يأكل الناس واألنعام ،حىت إذا أخذت
األرض زخرفها ،وازينت ،وظن أهلها أهنم قادرون عليها ،أتاها أمرنا ليال أو هنارا فجعلناها حصيدا كأن مل تغن
باألمس" 2وقد كثرت اجلمل فيه حىت إنك ترى يف هذه اآلية عشر مجل إذا فصلت ،وهي إن كان دخل بعضها
يف بعض ،حىت كأهنا مجلة واحدة ،مث إن الشبه منتزع من جمموعها من غري أن میكن فصل بعضها عن بعض ،وال
حذف شيء منها ،فلو حذفت منها مجلة واحدة من أي موضع كان أخل ذلك باملغزى من التشبيه ،3وينبغي أن
يكون الرتتيب اجلملي متميزا بتداخل عناصره وكذا عمق معانيه.
ويشري عبد القاهر إىل وجوب تقدم املشبه به يف اجلمل اليت يضرب هبا املثل ،وال میكن حذف املشبه به واالقتصار
على ذكر املشبه ،واجلملة إذا جاءت بعد املشبه به ،مل ختل من ثالثة أوجه :أحدها :أن يكون املشبه به معربا عنه
بلفظ موصول وتكون اجلملة صلة له ،كقوله تعاىل " :مثلهم كمثل الذي استوقد نارا ،فلما أضاءت ما حوله"...
4
والثاين :أن يكون املشبه به نكرة ،تقع اجلملة صفة له ،كقول النيب صلى اهلل عليه وسلم" :الناس كإبل مائة ال ّتد
فيها راحلة" والثالث :أن ّتيء اجلملةمستأنفة ،وذلك إذا كان املشبه به معرفة ومل يكن هناك (الذي) كقوله تعاىل
5
" :كمثل العنكبوت اختذت بيتا "...
ويتفرد عبد القاهر بإبراز اجلانب النفسي والتأثري اإلمجايل للتمثيل ،وإن للتمثيل عنده مظهرين ،أحدمها :أن يظهر
املعىن ابتداء يف صورة التمثيل ،واآلخر :ما اتفق العقالء عليه أن "التمثيل إذا جاء يف أعقاب املعاين أو برزت هي
باختصار يف معرضه ،ونقلت عن صورة األصلية إىل صورته ،كساها وأكسبها منقبة ،ورفع من أقدارها ،وشب من
-1البيت البن هرمة ،عن الصناعتني ،ص ،949املرجع نفسه ،ص 968
-2البيت كذلك البن هرمة عن احلماسة ج ،9ص .948نقال عن البالغة فنوهنا وأفناهنا ،ص 986
-3فضل حسن عباس ،البالغة فنوهنا وأفناهنا ،ص987
-4ديوان البحري ،شرح:يوسف الشيخ حممد ،دار الكتب العلمية ،بريوت9111 ،م ،ص ( ،007والبيت يف مدح الفتح بن خاقان)
-5ديوان البحرتي ،ص 061
-6فضل حسن عباس ،البالغة فنوهنا وأفناهنا ،ص .301
-7أمحد مجال العمري ،الباحث البالغية يف ضوء قضية اإلعجاز القرآين ،مكتبة اخلاجني ،القاهرة ،0221 ،ص.980
46
وما میكن التنويه به أن للكناية قيمة أسلوبية وفنية تتمثل يف اّتاهني مميزين هلا بوصفها لونا بيانيا ومها :سرت املعىن،
والتعبري التصويري.
ففي سرت املعين :فكأن املعين اخلفي يستنز داخل صدفة ،فال يصل إليه املتلقي إال بعد شقها ،وكل تسرت هو ميزة
فنية ،طاملا أن كل تصريح أو وضوح هو ميزة علمية وهبذا املعىن يقول مللرميه ( ": )Mallarméأن نسمي
الشيء بامسه ،يعين ذلك حذف ثالثة أرباع نشوة القصيدة ،هذه النشوة إيل تقوم على غبطة االكتشاف شيئا
1
فشيئا ،واإلحياء ،وهذا هو احللم كله"
والكناية وما تتسم به من خفاء تستمده من حيوية اجملاز والتخييل ،يقول اجلرجاين ":قد أمجع اجلميع على أن
الكناية أبلغ من اإلفصاح والتعريض أوقع من التصريح ،وأن لالستعارة مزية وفضال وأن اجملاز أبدا أبلغ من
2
احلقيقة"
أما التعبري التصويري للكناية فهو حبد ذاته أبلغ وأمجل من التعبري املباشر ،ويعلق اجلرجاين على هذا اجلانب الفين
يف الكناية فيقول" :إذا قلنا أن الكناية أبلغ من التصريح ،أي أنك ملا كنيت هذا املعىن ليس أنك زدت يف ذاته،
بل املعىن أنك زدت يف إثباته فجعلته أبلغ وأكد وأشد ،فليست الزية يف قوهلم :جم الرماد ،أنه دل على قرى
أكثر بل أنك أثبتت له القرى الكثري من وجه هو أبلغ و أوجبته إجيابا هو أشد ،وأدعيته دعوى أنت هبا أنطق
3
وبصحتها أوثق "
ومن مث فإن اعتماد الكناية على الصورة يف التعبري جيعلها مؤثرة يف القارئ من خالل إيصال الفكرة و املعىن إىل
الذهن ،فعندما يقال" کسر األنوف" للداللة على اإلرغام ،فتمثل اإلرغام ذلك املعىن اجملرد من خالل صورة
حمسوسة نتصورها واقعا أمام أعيننا ،وهذه الصورة ال تزيد يف معىن اإلرغام ،وإمنا تزيد يف طريقة التعبري عنه ،فتكون
بذلك فنية مؤثرة وذات بعد تعبريي بياين متميز.4
والكناية هبذا وسيلة من وسائل تصوير املعىن فنيا ،ألهنا تكشف عن احملاسن إيل تضفي على الصورة البيانية كثريا
من اإلمتاع و اجلمال ،ويتحقق هذا عندما تقوم بدوري الرمز والتلويح ،أو اإلشارة إىل املعىن األول أي أهنا وسيلة
إحيائية وهذا اإلحياء يقف عنده الناقد بالذوق واإلحساس و العقل ،كما
-1صبحي البستاين ،الصورة الشعرية يف الكتابة الفنية ،دار الفكر اللبناين ،الطبعة األوىل ،0286ص .068
-2عبد القاهر اجلرجاين ،دالئل اإلعجاز ،مصدر سابق،ص .71
-3عبد القاهر اجلرجاين ،املصدر نفسه ،ص .70
-4صبحي البستاين ،الصورة الشعرية ،مرجع سابق ص .062
47
أن هذا اإلحياء الكنائي يضفي على املعىن إشراقات ّتريدية ومن مث میكن أن تقول أن الكناية شأهنا شأن الرمز من
حيث الوضوح و الغموض ،ومرجع ذلك إىل ما تنطوي عليه الرموز اللغوية من املعاين ومدى ما هنالك من صلة
بني الرمز ومدلوله ،وهي على كل حال لون من ألوان التعبري اجلميل يف موضعه ،يبعث على التفكري وإعمال
الذهن إىل املعىن الثاين ،ومن مث إثبات الصفة فيه جيعلنا ننتقل من املعىن األول إىل املعىن الثاين املتولد عنه ،وهذان
احلدان يوجدان معا يف الذهن ،ويتألف التعبري الكنائي الفين من احتادمها ومن هنا كان للكناية وظيفة حتددها
قدرهتا التعبريية اليت ّتعل اجلمال منبثا يف املعىن الثاين امللوح به ،أو املوحى إليه ،فهي إذا " متثل للذهن املعىن اجملرد
1
بصورة جزئياته احملسوسة ،فيدرك من مث املعىن املقصود على أخصر طريق من غري استکراه وال عسر "
ويهمنا يف هذا كله املنهج الذي اصطنعه عبد القاهر اجلرجاين يف حبثه للكناية ،وهو منهج فريد مل يسلكه
البالغيون قبله ،إذ يغلب التكامل يف خطوات التناول ،سواء ما تعلق بتعريف الكناية أو تقسيمها على غري املعتاد،
أو بيان بالغتها وقيمتها التعبريية يف ضوء صور البيان األخرى كاالستعارة والتمثيل ،أو يف إبرازه للجزئيات املتناهية
واملكونة للفن الكنائي ،مستعينا يف ذلك بالتحليل الذي قوامه التذوق السليم لألدب العريب ،كما أن اجلرجاين مل
2
يهمل اإلشارة للقرآن واحلديث النبوي أثناء حديثه عن الكناية يف كتابه أسرار البالغة"
و ما میكن مالحظته أن عبد القاهر مل يعن ببعض فروع علم البيان کالكناية واالستعارة التمثيلية عنايته ببقية
الفنون األخرى ،ولكن يبقى أن ما ترکه من دراسة الفنون البيان ،ظل هو األساس الذي تنهض عليه نظرية البيان
إىل يومنا هذا ،ومل يكن النقد الذوقي عند عبد القاهر جبرد أحكام قيمية مطلقة أو عامة ،ولكنه مؤسس على
قواعد منهجية متينة ،وتعضده عوامل فكرية و وجدانية ّ ،تعله يسرب الفن کي يفاضل بني اجلميل واألمجل ،ألن
جمال الذوق مل يقتصر عنده على األدب فقط ،بل ّتاوزه إىل انتخاب النماذج اجليدة ايل تريب الذوق وتعمقه لدى
املتلقني ،وملكته الذوقية واألدبية بلغ شأوا ال يطال 3ومن مث" استطاع أن ينتخب األشعار اليت يستخدمها يف
شواهده... ،ويعرضها عليك بطريقة تبهرك ،وّتعلك حتس حقا أن طاقة تفكريك تتسع ،وكل صفحة وكل حتليل
البيت أو قطعة ،يؤكد البناء اهلندسي الذي وضعهفي أسرار البالغة ودالئل اإلعجاز ،فهنا وهناك تتالحق اللبنات
وتتعاقب القواعد واألصول ،فإذا بك أمام نظريتني متكاملتني :نظرية املعاين ونظرية البيان اللتني هبرتا العصور التالية
4
"
-1جرب ضومط ،فلسفة البالغة ،الطبعة العثمانية ،بعبدا ،لبنان 0828 ،م ،ص010
-1علي أبو ملحم" :اجلاحظ رائد اجلمالية العربية" ،حبلة الفكر العريب ،العدد 47السنة ،0287:ص .930
-2أبو هالل العسكري :الصناعتني ،حتقيق :علي حممد البجاوي وحممد أبو الفضل ابراهيم ،منشورات املكتبة العصرية ،بريوت ،لبنان 0286،
،ص.01
-3عبد القاهر اجلرجاين ،الدالئل ،مصدر سابق ص .512- 518
-4عبد القاهر اجلرجاين ،الدالئل ،املصدر نفسه ص .965
-5عبد القاهر اجلرجاين ،املصدر نفسه ،ص .493-499
49
ويف ضوء هذا التصور يصبح القول الشعري صورة يتضافر فيها املكون النحوي واجملازي إلحداث األثر اجلمايل يف
املتلقي .وقد أطلق عبد القاهر على هذا األثر مجلة من املصطلحات يكشف مجيعها األمهية اليت يوليها للمتلقي يف
صياغة تصوره مجالية الشعر ،ولتجليات اجلمالية اجلرجانية اليت تأتلف يف حمورين أساسيني مها:
-5التأثير - 2التأمل
فبالتأثري تتفاضل األساليب وتتمايز الصور ،ويعتمد اجلرجاين اعتمادا كبريا على تقدير األثر األديب وما حيدثه يف
النفس من وقع ،وتقاس اجلودة مبقدار هذا األثر ومدى إثارته لعواطف املتلقي فيقول ":وال يكون إلحدى العبارتني
مزية على األخرى حىت يكون هلا يف املعىن تأثري ال يكون لصاحبتها" 1 .ويف أكثر من موضع أورد عبد القاهر
ألفاظا تكشف عن األثر اجلمايل اللغة يف نفس املتلقي حيث يقول" :أفرتى لشيء من هذه اخلصائص ايل متلؤك
باإلعجاز روعة وحتضرك عن تصورها هيبة حتيط بالنفس من أقطارها" ، 2كما يقول معلقا على لفظة مل حيسن
استعماهلا يف هذا املوضع كما حسن استعماهلا يف موضع آخرّ .." :تد هلا من الثقل على النفس ،ومن التنغيص
3
والتكدير أضعاف ما وجدت هناك من الروح واخلفة ومن اإليناس والبهجة"...
واعتبار الوظيفة التأثريية خاصية من خصائص تلقي الشعر ،فكرة تعود جذورها يف الثقافة العربية إىل النص النبوي
الذي أحل على سحر البالغة ،حيث يقول صلى اهلل عليه ":إن من البيان لسحرا ،وإن من الشعر حلكمة" بل وإن
النص القرآين بداية ببالغته املعجزة قام على حتقيق الوظيفة التأثريية ،فيكون بذلك التأثري شعور بالنشوة والراحة
الوجدانية ،تسيطر على املتلقي حني يتلقى الصورة ،وهذا اإلمتاع التصويري ال حيصل إال إذا بالتأمل الذي ال
حيصل إال ببذل اجلهد لفهم السياق القويل وإيالئه األمهية الالزمة للغوص يف عمق معانيه " :ومن املركوز يف الطبع
أن الشيء إذا نيل بعد الطلب له واالشتياق إليه ومعاناة احلنني حنوه ،كان نيله أحلى وباملزية أوىل ،فكان موقعه
4
من النفس أجل وألطف ،وكانت به أضن وأشغف".
إن التفكري التدبر والتأمل املتأين يضفيان اسرتساال ذهنيا وجدانيا منيز به أصناف الكالم وقوالب القول حيث
إ نه":ما شرفت صنعة وال ذكر بالفضيلة عمل ،إال ألهنما حيتاجان من دقة الفكر ولطف النظر ،ونفاذ اخلاطر ،إىل
-1ابن منظور :لسان العرب :مادة (بدع) دار املعارف بالقاهرة ومؤسسة الرسالة بريوت 0417ه 0287 -م
-2اخلطيب القزويين :اإليضاح يف علوم البالغة ،ت حممد عبد املنعم خفاجي ،املكتبة األزهرية للرتاث0403ه 0223م ،ص 943
52
طريقه إىل أن يكون موضع قبول واستحسان ،أو موضع رد واسرتذال ،حىت صنفت يف فنونه كتب األدب والنقد،
ومن بعدها كتب البالغة فحسب ،حىت صار علما له خصائصه ومميزاته.
ومل يكن هذا املصطلح معروفا يف العصر اجلاهلي ،أو يف عصر صدر اإلسالم؛ وإمنا كان وليد فرتة أغرم
فيها احملدثون بتتبع فنون البديع يف الشعر العريب ،والنسج على منواهلا ،فأكثروا من هذه الفنون يف أشعارهم
ونثرهم ،حىت مسوها باسم (البديع) وذلك يف القرنني الثاين والثالث اهلجريني.
وكان إكثار الشعراء يف هذه الفرتة من ألوان البديع ،وتفننهم يف تزيني أشعارهم هبا مدعاة أليب عثمان
عمرو بن حبر اجلاحظ أن يقول" :والبديع مقصور على العرب ،ومن أجله فاقت لغتهم كل لغة ،وأربت على كل
لسان" 1على أن العرب مل تكن تفاضل بني الشعراء على أساس من (البديع)؛ وإمنا كانت تفاضل بينهم يف
اجلودة واحلسن ،كما يقول القاضي اجلرجاين" :بشرف املعىن وصحته ،وجزالة اللفظ واستقامته ،وتسلم السبق فيه
ملن وصف فأصاب ،وشبه فقارب ،وبده فأغزر ،وملن كثرت سوائر أمثاله ،وشوارد أبياته ،ومل تكن تعبأ بالتجنيس،
واملطابقة ،وال حتفل باإلبداعاإلتيان بالبديع) واالستعارة ،إذا حصل هلا عمود الشعر ،ونظام القريض ،وقد كان
يقع ذلك من خالل قصائدها ،ويتفق هلا يف البيت على غري تعمد وقصد ،فلما أفضى الشعر إىل احملدثني ،ورأوا
مواقع تلك األبيات من الغرابة واحلسن ،ومتيزها على أخواهتا يف الرشاقة واللطف ،تكلفوا االحتذاء عليها ،فسموه
2
(البديع) فمن حمسن ومسيء ،وحممود ومذموم ،ومقتصد ومفرط.
وعبارة القاضي اجلرجاين هذه على جانب كبري من األمهية يف جمال التأريخ لعلم البديع؛ فقد ربطت بني
املعىن اللغوي الكلمة (البديع) وهو :اجلديد واحلديث واملخرتع ،وبني املعىن الذي قصده العلماء الذين كان هلم
قصب السبق يف التأليف يف ميدانه.
فلم تكن العرب تعرف هذه التسمية لوجوه حتسني الكالم ،ال يف العصر اجلاهلي ،وال يف عصر صدر
اإلسالم؛ بل إهنا مل تكن حتفل ب (البديع) وال هتتم به؛ ألن أساس املفاضلة بني الشعراء مل يكن باستعمال
(البديع) ،وإمنا كان حبسن اإلصابة يف الوصف ،واملقاربة يف التشبيه ،وغزارة البديهة ،وكثرة األمثال السائرة ،ولكن
احملدثني من أمثال بشار بن برد ،ومسلم بن الوليد ،وأيب نواس هم الذين جروا وراء األبيات اليت كانت حتمل ألوانا
من ألوان البديع ،وتكلفوا شعرا على منواهلا ،ومسوه هبذا االسم.
-1للجاحظ :البيان والتبيني ،حتقيق عبد السالم هارون ط اخلاجني 0367 ،ه0248 -م ج ،4ص .55
-2القاضي اجلرجانی :الوساطة بني املتنيب وخصومه ،حتقيق د /حممد أبو الفضل إبراهيم على البجاوی ،عيسی احللبی۔ 0266م ،ص . 34
53
ويف النصف الثاين من القرن الثالث اهلجري عنيت طائفة املتفلسفة بشؤون البالغة متأثرة بكثرة ما نقل
عن اليونان من فلسفة؛ مما جعل الكثريين منهم يتخذون معايري البالغة اليونانية أساسا يف تقومي الشعر العريب،
ولكن البحرتي قد جأر بالشكوى منهم قائال:
كلفتمونا حدود منطقكم *** والشعر يغين عن صدقه كذبه
مل يكن ذو القروح يلهج *** باملنطق ما نوعه وما سببه
وناصر البحرتي أصحاب البالغة العربية اخلالصة ،ومضى يقول الشعر منتتبقا خطى األقدمني ،ومتأثرا يف
الوقت نفسه بطريقة أيب متام ،وهي الطريقة اليت كانت حتتفل مبحسنات البديع ،والفلسفة والفكر العميق ،ولكنه مل
يستسغ إغراق الشعر يف الفلسفة ،أو التعمق يف استخراج املعاين ،كما كان يصنع أبو متام ،ومل يكن كذلك يكثر
من استخدام البديع كما كان يكثر أبو متام ،وهبذا ظهر البحرتي ممثال ملذهب القدماء يف الشعر ،كما ظهر أبو
متام ممثال ملذهب اجملددين فيه ،وقد تعرض أبو متام حلمالت عنيفة من اللغويني احملافظني ،وأصحاب البالغة العربية
اخلالصة.
وها هو عبد اهلل بن املعتز يتجرد -يف سنة 974ه -للدفاع عن اللغويني ،والرد على املتفلسفة ،بتأليف
كتابه (البديع) معال غايته منذ السطور األوىل من كتابه ،وهي :أن يثبت للمحدثني ممن جيرون وراء الفلسفة،
ويتكلفون استخدام البديع ،أهنم مل خيرتعوا البديع الذي يلهجون به ،فيقول" :قد قدمنا يف أبواب كتابنا هذا بعض
ما وجدنا يف القرآن واللغة وأحاديث الرسول - -وكالم الصحابة واألعراب وغريهم وإعار املتقدمني ،من
الكالم الذي مساه احملدثون (البديع)؛ ليعلم أن شارا ومسلما وأبا نواس ومن تقيلهم ،وسلك سبيلهم ،مل يسبقوا
إىل هذا الفن ،ولكنه كثر يف أشعارهم ،فعرف يف زماهنم؛ حىت مسي هبذا االسم ،فأعرب عنه ،ودل عليه ،مث إن
حبيب بن أوس الطائي من بعدهم شغف به؛ حىت غلب عليه ،وتفرغ فيه ،وأكثر منه ،فأحسن يف بعض ذلك،
وأساء يف بعض ،وتلك عقيب اإلفراط ،ومثرة اإلسراف ،وإمنا كان يقول الشاعر يف هذا الفن البيت والبيتني يف
القصيدة ،ورمبا قرئت من شعر أحدهم قصائد من غري أن يوجد فيها بيت "بديع" ،وكان يستحسن ذلك منهم إذا
أتى نادرا ،ويزداد خطوة بني الكالم املرسل" 1وعلى هذا فإن أول من وضع هذا االسم حملسنات الكالم؛ إمنا هو:
عبد اهلل بن املعتز ،بتصنيفه كتاب (البديع) ،وهو وإن مل يقصد هبذه التسمية ما قصده املتأخرون من البالغيني -
كاخلطيب القزويين؛ إذ جعلها شاملة للجديد واملخرتع ،إال أنه جعل أنواع البديع مخسة ،وهي" :االستعارة،
والتجنيس ،واملطابقة ،ورد األعجاز على ما تقدمها ،واملذهب الكالمي" ،مث أتبعها بذكر بعض حماسن الكالم
والشعر ،فعد منها ثالثة عشر نوعا.
-1عبد اهلل بن املعتز :البديع يف البديع، ،تح عرفان مطوجي ،مؤسسة الكتب الثقافية بريوت ،ط ، ،0ص .0
54
على أن عبد اهلل بن املعتز -وإن مل يكن مقصده من كتابه هو وضع املعيار احلقيقي للشاعر يف نظمه ،أو
األديب يف نثره ،بل كان مقصده هو الرد على من يلهجون باستخدام البديع أنه أصيل يف اللغة العربية -إال أنه
كان شاعرا حساسا ،يعرف ما الفنون البديع من أثر يف نفوس السامعني ،ولكنه – يف الوقت نفسه -كان يعيب
اإلكثار منها ،واإلفراط يف تتبعها ،ويفهم من هذا أن معيار اجلودة عنده إمنا هو :حبسن موقع هذه األلوان البديعية
من الكالم ،وإمنا يكون ذلك إذا جاءت مناسبة ملكاهنا من اجلملة أو البيت ،دون عمد أو قصد من األديب أو
الشاعر.
وإذا كان أصحاب البالغة العربية اخلالصة قد وجدوا يف عبد اهلل بن املعتز مدافعا هلم عن مذهبهم
وطريقتهم ،فلقد وجد املتفلسفة ممن جيرون وراء معايري البالغة اليونانية يف قدامة بن جعفر املتوىف سنة 337هد
مؤيدا ملذهبهم ،ومدافعا عن طريقتهم؛ فقد ّترد هو اآلخر لتأليف كتابه "نقد الشعر" مبينا من أول صفحة من
كتابه أنه :مل جيد أحدا وضع يف نقد الشعر ،وختليص جيده من رديئه كتابا ،وأنه قد وجد الناس خيبطون يف ذلك
منذ تفقهوا يف العلم ،وقليال ما يصيبون ،وكأنه هبذا يقول :إن نقد الشعر علم مل يستطع فهمه أحد من قبله؛ ألنه
ال يكفي -يف نقد الشعر -أن تورد ألوانا من فنون البديع ،مستدال على وجودها يف الشعر اجلاهلي واإلسالمي،
والقرآن الكرمي ،والسنة النبوية الشريفة ،وكالم الصحابة ،وإمنا النقد احلقيقي للشعر هو :أن متيز جيده من رديئه.
وهلذا فإنه قد ذكر هدفه من تأليف كتابه ،وهو :ذكر أسباب اجلودة وأحواهلا؛ ليكون ما يوجد من الشعر قد
اجتمعت فيه األوصاف احملمودة كلها ،وخال من اخلالل املذمومة بأسرها ،يسمى شعرا يف غاية اجلودة ،وما يوجد
بضد هذه احلال يسمى شعرا يف غاية الرداءة ،وما جيتمع فيه من احلالني أسباب ينزل له اسم حبسب قربه من
1
اجليد أو من الرديء ،أو وقوفه يف الوسط الذي يقال ملا كان فيه صاحل ،أو متوسط ،أو ال جيد ،وال رديء"
ويف القرن الرابع اهلجري جند عصر املوازنة بني الشعراء ،والتوسط بينهم وبني خصومهم ،ومن الكتب اليت
اهتمت بالبديع يف تلك الفرتة :كتاب الوساطة بني املتنيب وخصومه ،للقاضي علي بن عبد العزيز اجلرجاين املتوىف
سنة 329ه .وقد سرد القاضي اجلرجاين يف هذا الكتاب ألوان البديع اليت كانت دائرة حىت عصره ،وهي:
التجنيس ،واملطابقة ،ومجع األوصاف ،والتقفية ،والرتصيع.
غري أن القاضي اجلرجاين مل يورد هذه األلوان البديعية ألنه جيعلها من معايريه البالغية والنقدية يف وساطته بني
املتنيب وخصومه ،وإمنا أوردها ليبني أهنا من ألوان الصنعة اليت أغرم هبا احملدثون – كأيب متام -فأكثروا منها،
فباعدت بينهم وبني طبعهم ،فلم يسرتسلوا له.
-1قدامه بن جعفر :نقد الشعر ،حتقيق د ،حممد عبد املنعم ،مكتبة الكليات األزهرية0411 .ه0281 -م ،ص . 07، 06
55
ذلك بأنه يف -وساطته -ال يؤلف كتابا يف البديع ،فذلك له جمال آخر وتعهد به القاضي اجلرجاين ،وال
ندري أويف بعهده أم ال؟ فقد قال بعد أن أورد يف هذه الفنون" :ولنا يف استيفاء هذا الكالم وحتديد هذه االضرب
قول ،سنفرد له كتابا حيتمل استعصاؤه فيه" 1وإمنا ذكر ما ذكر من ألوان البديع توطئة ملا يذكره على أثره ،وتدريبها
إىل ما بعده؛ ليكون كالشاهد املقبول قوله ،ومبنزلة املسلم أمره.
والدليل على أن القاضي اجلرجاين مل يكن يعجب بألوان البديع إعجابه باالسرتسال للطبع :أنه قارن
بني أبيات يف الغزل أليب متام ،قد مألها بألوان البديع والصنعة من :طباق ،وجناس ،واستعارة ،وبني أبيات ألعرايب
قد اسرتسل لطبعه ،وجرى على سجيته ،فلم حيفل بإبداع أو صنعة ،ففضل قول األعرايب على قول أيب متام.
على أننا جند بعض األدباء يف القرن اخلامس اهلجري ينصرف إىل تقنني البالغة ،وتفريع ألوان البديع،
كأيب هالل العسكري املتوىف سنة 325ه يف كتابه "الصناعتني" ،وابن رشيق القريواين املتوىف سنة 463ه يف
2
كتابه "العمدة يف صناعة الشعر ونقده"
أما أبو هالل فقد استقصى فنون البديع اليت سجلها النقاد من قبله ،وذكر أن فنون البديع مخسة وثالثون
فئا ،وأنه زاد على ما أورده السابقون ستة فنون ،والتقى بعبد اهلل بن املعتز يف عشرة فنون ،هي :االستعارة،
والتطبيق أو الطباق ،والتجنيس أو اجلناس ،والكناية ،والتعريض ،ورد األعجاز على الصدور ،وااللتفات،
واالعرتاض ،والرجوع ،وّتاهل العارف ،واملذهب الكالمي.
والتقى بقدامة يف اثين عشر فتا ،هي :املقابلة ،وصحة التقسيم ،وصحة التفسري ،واإلشارة ،واإلرداف
والتوابع ،والغلو ،واملبالغة ،والعكس والتبديل ،والرتصيع ،واإليغال ،والتوشيع والتكميل ،والتقسيم.
أما الستة اليت وضعها فهي :التشطري ،واجملاورة ،واالستشهاد واالحتجاج ،واملضاعفة ،والتلطف،
والتطريز.
وتبقى سبعة فنون مل يذكر هلا أصال ،ويبدو أنه نقلها من رسالة أيب أمحد العسكري "صناعة الشعر وتلك
الفنون هي :املماثلة ،والتذييل ،واالستطراد ،ومجع املؤتلف واملختلف ،والسلب واإلجياب ،واالستثناء ،والتعطف.
على أن الفنون الستة اليت ذكر أنه اكتشفها ،ومساها بأمسائها ،مل ّتد هلا جماال يف ميدان البديع ،ومن مث فإن
صنيعه هذا ال يعد اكتشافا ،وال يرقى إىل درجة االبتكار.
-1د .حسن إمساعيل عبد الرازق :من قضايا البالغة والنقد عند عبد القاهر اجلرجاين ،مكتبة الكليات األزهرية ط ، 0280-0419 ،0ص
056
-2حسن عبد الرازق :من قضايا البالغة والنقد عند عبد القاهر اجلرجاين ،مكتبة الكليات األزهرية ط ، 0280-0419 ، 0ص 057
56
غري أن التطريز -وهو :أن يقع يف أبيات متوالية من القصيدة كلمات متساوية يف الوزن ،فيكون فيها كالطراز
للثوب ،كما يف قول أمحد بن طاهر:
إذا أبو القاسم جانت لنا يده *** مل حيمد األجودان :البحر واملطر
وإن أضاءت لنا أنوار غرته * * * تضاءل النريان :الشمس والقمر
وإن مضى رأيه أو حد عزمته *** تأخر املاضيان :السيف والقدر
من مل يكن حذرا من حد صولته *** مل يدر ما املزعجان :اخلوف واحلذر
1
فهو ما میكن أن جند له مكانا بني احملسنات البديعية األخرى
وأما صاحب العمدة ،فإنه قد حتدث هو اآلخر من خالل كتابه يف فنون البديع ،وأضاف إليها أربعة ،هي:
االتساع ،واالطراد ،ونفي الشيء بإجيابه ،والتفريع.
وهكذا تعددت فنون البديع وتفرعت – قبل عبد القاهر اجلرجاين -ومل يكن القصد من تنويعها أو تفريعها يف
الغالب هو احلكم على النصوص األدبية باجلودة أو الرداءة -كما هو احلال عند اآلمدي والقاضي اجلرجاين -
وإمنا كان الغرض هو :إظهار مدى ما للمؤلفني من قدرة على اكتشاف األلوان البديعية املتناثرة بني ثنايا النصوص
األدبية ،كما هو احلال عند أيب هالل وابن رشيق.
-1شوقي ضيف :البالغة تطور وتاريخ ، :دار املعارف القاهرة ،ط( ،01دمت) ، 1ص 045
57
نطرة اإلمام عبد القاهر الجرجاني إلى علم البديع:
وضع عبد القاهر اجلرجاين (البديع) موضعه احلقيقي من علم البالغة؛ فقد جعل بعض فنونه -کاملزاوجة،
والتقسيم ،والعكس -من النمط األعلى من النظم ،وقد علمت أن النظم هو أساس البالغة اليت تفرعت منها
مسائل املعاين ،وصور البيان ،وقيم اجلمال البالغي املعنوية منها واللفظية على حد سواء.
وقد كانت ألوان البديع حىت عصر عبد القاهر اجلرجاين داخلة يف إطار علم البيان من حيث الدراسة والتصنيف،
بل إن بعض صور البيان كاالستعارة والتمثيل كانت معدودة من قبله يف فنون البديع.
على أن عبد القاهر اجلرجاين مل يكن جيعل البديع علما مستق ،بل إنه مل يكن جيعل فنون البديع إال صورا من
صور البيان ،تدخل يف إطار نظرية النظم مثلما تدخل صور البيان ،وهلذا فإنه يسلك املزاوجة ،والعكس،
والتقسيم ،والسجع ،واالستعارة ،والتشبيه يف عقد النظم ،وجيعلها من الذي يتحد يف الوضع ،ويدق فيه الصنع،
بل إنه ليمتدحه بأنه النمط العايل ،والباب األعظم ،والذي ال ترى سلطان املزية يعظم يف شيء كعظمه فيه ،ومما
هو أصل يف أن يدق النظر ،ويغض املسلك يف توخي املعاين :أن تتحد أجزاء الكالم ،ويدخل بعضها يف بعض،
ويشتد ارتباط ثان منها بأول ،وأن يكون حالك فيها حال الباين ،يضع بيمينه يف حال ما يضع بيساره هناك ،ويف
1
حال ما يبصر مكانا ثالثا ورابعا يضعهما بعد األولني.
فمن املزاوجة قول البحرتي:
إذا ما هنى الناهي فلج يب اهلوى *** أصاخت إىل الواشي فلج هبا اهلجر
ومن العكس قول سليمان بن داود القضاعي :
فبينا املرء يف علياء أهوى *** ومنحط أتيح له اعتالء
وبينا نعمة إذ حال بؤ *** س إذ تعقبه ثراء
ومن التقسيم -وخصوصا إذا قسمت مث مجعت -قول حسان بن ثابت:
قوم إذا حاربوا ضروا عدوهم *** أو حاولوا النفع يف أشياعهم نفعوا
سجينة تلك فيهم غري حمدثة *** إن اخلالئق -فاعلم -شرها البدغ
ومن تشبيه شيئني بشيئني قول الفرزدق:
والشيب ينهض يف الشباب كأنه *** ليل يصيح جبانبيه هنار
-1اإلمام عبد القاهر اجلرجاين :دالئل اإلعجاز ،تعليق حممود حممد شاكر ،اهليئة املصرية العامة للكتاب ،9111 ،ص 66
58
على أنه من الكالم ما ال حيتاج إىل فكر وروية لينتظم ،بل إنه ال حيتاج إىل أكثر من أن تضم بعضه إىل بعض،
صنيع من يعمد إىل آللئ لينظمها؛ حىت مینعها من التفرق ،كما يف قول النابغة يف الثناء املسجوع" :أيفاخرك امللك
اللخمي ؟ فو اهلل لقفاك خري من وجهه ،ولشمالك خري من میينه ،وخلمصك خري من رأسه ،وخلطؤك خري من
1
صوابه ،ولعيك خري من كالمه ،وخلدمك خري من قومه"
وهكذا يسلك عبد القاهر اجلرجاين فنون البديع يف عقد النظم ،وهلذا فإن املزية فيها إمنا هي حبسب املعاين اليت
وضعت هلا ،واألغراض اليت دعت إليها ،فليس لسهولة األلفاظ فيها ،وسالمتها مما يثقل على اللسان اعتداد حىت
2
يكون قد ألف منها كالم ،مث كان ذلك الكالم صحيحا يف نظمه ،والغرض الذي أريد به"
وهلذا ذم العلماء من حيمله تطلب السجع والتجنيس على أن يضيم هلا املعىن ،ويدخل اخللل عليه من أجلهما،
كالذي صنع أبو متام يف قوله:
ذهبث مبذهبه السماحة والتوث *** فيه الظنون أذهب أن مذهب ؟
فإذا نظرت إىل ّتنيسه يف ( أذهب أم مذهب ؟ ) فاستضعفته ،وإىل ّتنيس من قال :
ناظراه فيما جىن ناظراه *** أو دعاين أمت مبا أودعاين
فاستحسنته ،مل تشك حبال يف أن ذلك مل يكن األمر يرجع إىل اللفظ ،ولكن؛ ألنك رأيت الفائدة ضعفت يف
األول ،وقويت يف الثاين ،وذلك ألنك رأيت أبا متام مل يزدك مبذهب ومذهب ،على أن أمسعك حروفا مكررة ال
ّتد هلا فائدة -إن وجدت -إال مكلفة متحملة ،ورأيت اآلخر قد أعاد عليك اللفظة كأنه خيدعك عن الفائدة،
وقد أعطاها ،ويومهك أنه مل يزدك ،وقد أحسن الزيادة ووفاها ،وهلذه النكتة كان التجنيس وخصوصا املستويف منه
3
فعبد القاهر اجلرجاين ال يعترب فنون البديع علما مستق؛ ألنه مل يفردها بالذكر ،وإمنا يدخلها يف باب النمط العايل
من النظم الذي ال ّتد سلطان املزية يعظم يف شيء كعظمة فيه ،وال جيعل حسنها عرضيا ،بل جعله حسنا ذاتيا ؛
ألن اجلناس والسجع وغريمها مما يظن أن احلسن فيه راجع إىل اللفظ ،كل ذلك حسنه راجع إىل املعىن؛ ألنه ال
حيسن إال إذا كان املعىن هو الذي قد طلبه ،والبديع عند عبد القاهر اجلرجاين إمنا هو يف أكرم مكان من البالغة
وأرفعه؛ حيث إنه مل يقسم البالغة إىل علومها اليت نراها اليوم؛ بل إنه كان ينظر إليها على أهنا علم واحد ،وإن
تعددت قضاياه ،وتفرعت مسائله.
-1اإلمام عبد القاهر اجلرجاين :دالئل اإلعجاز ،تعليق حممود حممد شاكر ،اهليئة املصرية العامة للكتاب ،9111 ،ص 67
-2اإلمام عبد القاهر اجلرجاين ،مصدر سابق ،ص 330
-3اإلمام عبد القاهر اجلرجاين دالئل اإلعجاز،مصدرالسابق ،ص 339،
59
وهلذا فإنين أرى أن البالغة العربية جيب أن يسلك هبا السبيل الذي سلكه عبد القاهر اجلرجاين يف "دالئل
اإلعجاز " و أسرار البالغة" لدراسة علم البالغة ،وتقوم هذه الدراسة على أن نظرية النظم هي أساس البالغة،
وعن هذه النظرية تتفرع املعاين البالغية اليت نستلهمها من نظم الكالم ،وهذه املعاين تدرس فيما مسي ب "علم
املعاين" وإن مل يكن بنا حاجة إىل مثل تلك التسمية ،كما أن الصور البيانية اليت تصاغ من هذه املعاين املستوحاة
من النظم تربز املعىن الذي يقصده املتكلم وتوضحه ،وهي صور التشبيه ،واجملاز ،والكناية ،اليت تدرس فيما مسي
بعلم البيان ،وإن مل يكن بنا حاجة إىل مثل هذه التسمية.
على أن ألوان البديع داخلة هي األخرى يف الصميم من مسائل البالغة ،سواء أكانت معاين مستوحاة من النظم،
أم كانت صورا من صور البيان واإليضاح .وهبذا نعيد للبالغة عهد اإلشراق واالزدهار ،وخنلصها من ركام املنطق
والفلسفة والتكلف ،وتربزها خالصة ،ال غموض فيها وال تعقيد.
نظرة السكاكي والخطيب القزويني إلى علم البديع:
مل يعرض السكاكي األلوان البديع على أهنا علم مستقل عن علمي املعاين والبيان؛ بل عرض هلا على أهنا تشارك
مسائل العلمني يف تزيني الكالم بأهبى احللل ،والوصول به إىل أعلى درجات التحسني.
على أنه مل يشر إىل أن هناك فرق بني هذه األلوان وبني غريها من مباحث هذين العلمني ،بل إنه ذكر ضمن هذه
األلوان :االلتفات ،واإلجياز واإلطناب ،ونبه القارئ إىل أهنا سلفت يف علم املعاين.
على أن صنيع السكاكي بوضعه فنون البديع يف هذا املوضع الذي أشرنا إليه ،له ما يربره عنده؛ ذلك ألنه عندما
عرف علم املعاين بأنه" :تتبع خواص تراكيب الكالم يف اإلفادة وما يتصل هبا من االستحسان وغريه؛ ليحرتز
1
بالوقوف عليها عن اخلطأ يف تطبيق الكالم على ما يقتضي احلال ذكره"
وعرف علم البيان بأنه" :معرفة إيراد املعىن الواحد يف طرق خمتلفة بالزيادة يف وضوح الداللة عليه ،والنقصان ليحرتز
بالوقوف على ذلك عن اخلطأ يف مطابقة الكالم لتمام املراد منه" ،2مث حصر علم املعاين يف مسائله اليت عرض
هلا ،وكذلك حصر علم البيان ،هذا احلصر بعد هذا التحديد للعلمني ،وملا كان تعريفه البالغة بقوله" :هي بلوغ
املتكلم يف تأدية املعاين حدا له اختصاص بتوفية خواص الرتاكيب حقها ،وإيراد أنواع التشبيه ،واجملاز ،والكناية
على وجهها" 3شامال هلذه احملسنات جعلها متضافرة مع مسائل العلمني يف البلوغ بالكالم إىل أعلى درجات
التحسني والتزيني.
-1السكاکی :مفتاح العلوم حتقيق نعيم زرزور ،۔ دار الكتب العلمية -بريوت ،ط0413 ،0ه۔ 0283م ص .78
-2السكاكي ،ااملرجع نفسه :ص 039
-3السكاكي ،املرجع نفسه :ص 058
60
وهلذا فإنه بعد ما انتهى من علمي املعاين والبيان ،قال" :وإذ تقرر أن البالغة مبرجعيها ،وأن الفصاحة بنوعيها مما
يكسو الكالم حلة التزيني ،ويرقيه أعلى درجات التحسني ،فها هنا وجوه خمصوصة كثريا ما يصار إليها لقصد
حتسني الكالم ،فال علينا أن نشري إىل األعرف منها ،وهي قسمان :قسم يرجع إىل املعىن ،وقسم يرجع إىل
1
اللفظ"
وكأن السكاكي يشري بصنيعه هذا إىل أن من هذه احملسنات ما میكن رجوعه إىل علم املعاين ،كالطباق وحنوه،
ومنها ما میكن أن يرجع إىل مسائل البيان ،كاملشاكلة وحنوها.
ومیكن أن يقال -أيضا :-إن السكاكي بعد أن انتهى من علمي املعاين والبيان ،عرض لتعريف البالغة
والفصاحة ،ومها من قبيل املقدمات هلذين العلمني ،مث ضم إليهما هذه احملسنات.
وهذا الصنيع من السكاكي ،يشري إىل أن حمسنات البديع -عنده -من قبيل املقدمات اليت البد منها الطالب
2
علمي املعاين والبيان.
نظرة الخطيب القزويني إلى البديع :
خدعت طريقة السكاكي -هذه -يف عرضه لفنون البديع -اخلطيب القزويين ،فراح جيعل فنون البديع علما
مستقال عن علمي املعاين والبيان ،مع أن البديع قد خالط العلمني منذ بداية التأليف يف البالغة حىت عصر
اخلطيب القزويين.
ليس هذا فحسب؛ بل إنه قضى على ألوان البديع بأن تكون "حلي مزينة تكسو الكالم هبجة ،بعد رعاية
املطابقة ،ووضوح الداللة ،وأهنا عرضية ليست بالذاتية" ،3فكان هبذا العمل أول اجلانيني على البديع ممن ألفوا يف
البالغة ،فوضعه هذا املوضع الشائن البغيض.
يقول اخلطيب القزويين يف تعريفه لعلم البديع" :هو علم يعرف به وجوه حتسني الكالم بعد رعاية تطبيقه على
4
مقتضی احلال ،ووضوح الداللة"
وعلى ضوء اآلراء السالفة نستنتج:
61
أوال -مل يكن مصطلح البديع معروفا يف العصر اجلاهلي ،أو يف صدر اإلسالم؛ وإمنا كان وليد فرتة أغرم فيها
احملدثون بتتبع فنون البديع يف الشعر العريب ،والنسج على منواهلا ،فأكثروا من هذه الفنون يف أشعارهم ونثرهم،
حىت مسوها باسم البديع) وذلك يف القرنني الثاين والثالث اهلجريني.
ثانيا -إذا أردنا للبالغة العربية أن تويف النص األديب حقه ،فإنه جيب أال تدرس مبنأى عن النقد األديب؛ بل جيب
أن تكون البالغة العربية -دائما -عماد النقد األديب السليم ،وسد الفجوة املصطنعة بني مصطلحات البالغة
والنقد العريب القدمي ،وتوجيه النظر إىل استثمار تلك املصطلحات بعقلية تكاملية تزيد من فاعليتها على حتليل
النصوص ،وتراها ك" واحدة ملتحمة ،الغاية منه مقاربة النصوص واالكتفاء مبا يضيء النص ،ويكشف عوامله
املختلفة ،ال الرتف العقلي املضلل ،والتشريعات الكثرية ،والتحديدات العقلية ،واملباحث املنطقية اليت انتشرت يف
كتب البالغة املتأخرة.
ثالثا -جيب أن تصفي البالغة العربية مما شاهبا من بقايا فلسفة السكاكي ومنطقه؛ حىت يتسىن للناشئة وغريهم
استساغتها وتذوقها ،ومن مث تطبيقها على ما تنتجه القرائح ،وتعطيه األفكار ،وعلى ذلك فإن مبحث الدالالت
الذي يصدر به البالغيون -عادة -مباحث علم البيان ال فائدة منه على اإلطالق ،وجيب أن ينحى عن علم
البالغة ،وذلك ألنه أمر أقرب إىل املنطق منه إىل البالغة؛ بل بينه وبني البالغة بون شديد.
رابعا– جيب أال يقتصر يف تدريس البالغة على نصوص معينة من عصور معينة -كما درجت على ذلك املدرسة
السكاكية -بل تدرس نصوص من العصر احلديث ،كما تدرس نصوص من الشعر اجلاهلي ،والعصور اليت تلته
على حد سواء .
خامسا– جيب أال تقارن مقاييس البالغة العربية بغريها من املقاييس الغربية ،وذلك ليس تعصبا ما للغة العربية،
ولكن ألن املقاييس البالغية ألية لغة قد ال تصلح لغريها من اللغات األخرى؛ وذلك ألن اجلمال أمر اعتباري،
فما قد يكون مجيال عند أمة من األمم قد ال يكون مجيال عند غريها.
سادسا -إعادة قراءة مباحث البالغة العربية ،وما قدمته من أفكار ،وتطبيقات وفق نظرة تقوم على االحرتام،
والثقة بإمكاناهتا ،وقدراهتا؛ حيث يسلك بالبالغة العربية السبيل الذي سلكه اإلمام عبد القاهر اجلرجاين يف
"دالئل اإلعجاز " و أسرار البالغة لدراسة علم البالغة ،وتقوم هذه الدراسة على أن نظرية النظم هي أساس
البالغة ،وعن هذه النظرية تتفرع املعاين البالغية اليت نستلهمها من نظم الكالم ،وهذه املعاين تدرس فيما مسي ب
"علم املعاين" وإن مل يكن بنا حاجة إىل مثل تلك التسمية ،على أن ألوان البديع داخلة هي األخرى يف الصميم
من مسائل البالغة ،سواء أكانت معاين مستوحاة من النظم ،أم كانت صورا من صور البيان واإليضاح.
62
وهبذا نعيد للبالغة عهد اإلشراق واالزدهار ،وخنلصها من ركام املنطق والفلسفة والتكلف ،ونربزها خالصة ،ال
غموض فيهاوال تعقيد.
63
المحاضرة التاسعة:قيمة الذوق في نظرية النظم.
-0الذوق :
هو أول وأهم الشروط الالزمة للتلقي ويعرف بأنه " :قوة يقدر مبا األثر الفين أو هو ذلك االستعداد الفطري
املكتسب الذي نقدر به على تقدير اجلمال واالستمتاع به وحماكاته بقدر ما نستطيع يف أعمالنا وأفكارنا".1
والذوق " ال يعتمد على خلفية علمية میكن التعويل عليها واالحتكام إليها ،وإمنا هو كامن يف النفوس ،فمن
الناس من حاز متامه ،ومنهم من مل يتهيأ له شيء من أسبابه ،ومنهم من هو بني هذا وذاك ،مع تفاوت يف
املنزلة " . 2
فالذوق استعداد فطري موهوب ،أي أنه أمر كامن يف طبائع النفوس ال میكن للمعرفة العلمية أن هتديه إليك ما
مل تتوافر لك هذه احلاسة يف طبيعة نفسك .
ويعد الذوق عند عبد القاهر أداة مهمة يف تقدير العمل الفين ،فمن دونه ال میكن أن يستكنه املتلقي أبعاد النص
اجلمالية ومن مث يكون قادرا على االنفعال والتأثر به .
صحيح أن عبد القاهر مل يكن أول من حتدث عن أمهية الذوق يف الرتاث النقدي ،فقد سبقه إىل ذلك عدد من
النقاد كابن سالم واجلاحظ وابن طباطبا ،إال أن االعتداد بأمهيته وإطالة احلديث عنه هبذا التفصيل مل يتوافر عند
كثري ممن سبقه ،حىت إن الرجل أو شك أن يؤسس لنا من خالله نظرية يف تقييم األعمال الفنية وتقديرها .
ومما ّتدر اإلشارة إليه أن الذوق قد " يقرتن يف خطاب عبد القاهر اجلرجاين النقدي بالطبع ،وقد يرادف هذا
األخري يف اخلطاب ذاته األول فيفهم من هذا تداخل املصطلحني ،وتناوب أحدمها مناب اآلخر ،األمر الذي
يعين -بداهة -تالقي الداللة لكل منهما ،ويعين -ببداهة أشد -أن احلديث عن الذوق ال يفهم إال على أنه
حديث عن الطبع متاما كما أن احلديث عن الطبع ال يفهم هو اآلخر إال على أنه حديث عن الذوق " . 3
على هذا فإن الذوق أو الطبع موهبة ربانية جيب توافرها لدى الذات املتلقية حىت تكون قادرة على التعايش مع
النص وبالتايل حتصل على املتعة اجلمالية اليت يبعثها النص يف النفس .
-1حامد عبد القادر ،يف علم النفس ،ج ، 3ص ، 327نقال عن :أمحد الشايب ،أصول النقد األديب ،الطبعة العاشرة ( ،القاهرة :مكتبة
النهضة املصرية 0222 ،م) ،ص .091
-2د .حامد الربيعي ،القراءة الناقدة يف ضوء نظرية النظم ،معهد البحوث العلمية واحياء الرتاث االسالمي ،جامعة أم القرى ،مكة املكرمة،
0227م ص .58
)-3قاسم املومين " ،أداة الناقد :دراسة يف املوروث النقدي " جملة جامعة امللك سعود ،الرياض :اجمللد اخلامس 0403(،ه0223/م) ،ص
.59
64
فالذوق أو احلس النقدي ضرورة الزمة للمتلقي ال میكن االستغناء عنها ،فمن دونه ال میكن بأي حال من
األحوال أن تنفعل النفس مع مجاليات البيان ،فمن البيان ما خيفي موضعه فال يبني إال " إذا كان املتصفح للكالم
حساس ،يعرف وحي طبع الشعر ،وخفي حركته اليت هي كاحللس ،وكمسرى النفس يف النفس " . 1ودائما ما
يطوي يف أعماقه خفايا ودقائق " ال يبصرها إال ذوو األذهان الصافية ،والعقول النافذة ،والطباع السليمة ،
والنفوس املستعدة اليت تعي احلكمة ،وتعرف فصل اخلطاب " .2
فاملعرفة اللغوية والنقدية ال تكفي يف تلقي النصوص الشعرية ،ما مل يكن املتلقي مزودا هبذه احلاسة ؛ ألهنا هي
األساس األول ،فالبيان ال يذاق إال " باحلاسة املهيأة ملعرفة طعمه " . 3وبدوهنا لن يكون هناك تفاعل بني النص
ومتلقيه وبالتايل ال میكن أن يتحقق األثر النفسي املنشود .
والقارئ لتحليالت عبد القاهر سيجد أنه خياطب قارئة يفرتض فيه صحة الذوق أو الطبع حىت يكون قادرا على
اإلحساس جبمال النصوص واالنفعال معها ،فهو يريد من متلقيه أن تتأثر نفسه كما تأثرت نفسه هو ويرصد
مقدار هذا األثر الذي أصاهبا .
عبد القاهر يف موازناته بني الصور البيانية دائما حييل يف هذه املوازنات إىل احلس النقدي الذي هو من طبيعة
الن فس اإلنسانية " فإذا قلت " :ألقى حبله على غاربه " كان له مأخذ من القلب ال يكون إذا قلت " :هو
كالبعري الذي يلقى حبله على غاربه حىت يرعى كيف يشاء ويذهب حيث يريد ال جيهل املزية فيه إال عدمي احلس
ميت النفس " . 4فاملتلقي إذا مل يكن مزود بالذوق فإنه لن يستطيع أن يرصد مقدار األثر النفسي الذي تتفوق به
صورة على أخرى .
فالذوق استعداد فطري موهوب " ،ومن عدمه فال جدوى من التحدث معه لبيان مزايا الكالم البليغ ". 5
وبالتايل لن يكون مؤهال لوقوع األثر النفسي لديه " فلن يفهم األدب ويهتز له من عدم الذوق وفقد اإلحساس
والشعور مهما أويت من علم البالغة وقواعدها ،ومهما كد ذهنه وأجهد عقله"6؛ ألن صحة الذوق وسالمته شرط
للتناول النقدي ،وال بد أن يتمتع الناقد بذلك ،وإال فإن أحكامه تبقى عرضة للتجريح ،وموضعا إلعادة النظر
-1عبد القاهر اجلرجاين :أسرار البالغة ،تعليق عبد العزيز النجار ،مصر ،القاهرة0277،م.ص .312
-2عبد القاهر اجلرجاين ،مصدرسابق ،ص .66
-3عبد القاهر اجلرجاين ،املصدر نفسه ،ص .316
-4عبد القاهر اجلرجاين :دالئل اإلعجاز .تعليق حممد التنجي ،الطبعة الثالثة ،دار الكتاب العريب ،بريوت0491 ،ه0222-م ص.431
-5ليلى عبد الرمحن احلاج " ،الذوق األديب يف النقد القدمي " ( ،رسالة ماجستري ،قسم البالغة والنقد األديب ،كلية اللغة العربية ،جامعة أم
القرى ،مكة ،عام 0413ه 0414 -ه) ،ص.311
-6أمحد مطلوب ،أساليب بالغية الفصاحة -البالغة -املعاين ،الطبعة األوىل ( الكويت :وكالة املطبوعات ) ،ص.69
65
1
.فالذوق هو املتطلب األول الذي البد من توافره لدى الناقد ،وهو األساس الذي تقوم عليه كل ممارسة نقدية
.وهذا ما أكد عليه عبد القاهر يف غري موضع من كتاب " دالئل اإلعجاز " .فإدراك املزايا والسمات البالغية
عنده يتوقف على هذه امللكة واملوهبة اليت من شأهنا اإلحساس باألبعاد اجلمالية للنص األديب ،أما من عدم ذلك
فإنه سيعدم األثر اجلمايل الذي يرتكه النص يف النفس اإلنسانية .يقول عبد القاهر " :واعلم أنه اليصادف القول
يف هذا الباب موقعا من السامع ،وال جيد لديه قبوال ،حىت يكون من أهل الذوق واملعرفة ،وحيت يكون ممن
حتدثه نفسه بأن ملا يوميء إليه من احلسن واللطف أصال ،فيجد األرحيية تارة ،ويعرى منها أخرى ،وحىت إذا
عجبته عجب ،وإذا نبهته ملوضع املزية انتبه .
فأما من كان احلاالن والوجهان عنده أبدا على سواء ،وكان ال يتفقد من أمر النظم إال الصحة املطلقة ،وإال
إعرابا ظاهرا ،فما أقل ما جيدي الكالم معه فليكن من هذه صفته عندك مبنزلة من عدم اإلحساس بوزن الشعر،
والذوق الذي يقيمه به والطبع الذي میيز صحيحه من مكسوره ،و مزاحفه من سامله ،وما خرج من البحر مما مل
خيرج منه يف أنك ال تتصدىله ،وال تتكلف تعريفه لعلمك أنه قد عدم األداة اليت معها يعرف ،واحلاسة اليت هبا
جيد " .2
وقد كانت دعوة عبد القاهر إىل حتكيم الذوق واإلحساس الروحاين أظهر ما تكون يف هذه الصفحات األخرية من
كتاب " دالئل اإلعجاز " فقد بدا اعتداده فيها بالذوق وأمهيته واضحا ،فهو يرى أن اإلحساس النفسي الصادق
برفعة الكالم أو ضعته يعترب عامال مهما وأساسيا ،بل إننا أحيانا ال میكننا التعليل فال يوجد معنا سوى الذوق ،
فتكون الكلمة األوىل واألخرية له " فال منلك إال أن حنيل إىل هذا اإلحساس النفسي لصعوبة اإلحالة إىل شيء
حمدد يف النظم " . 3يقول عبد القاهر " :ولسنا نستطيع يف كشف الشبهة عنهم ،وتصوير الذي هو احلق
عندهم ،ما استطعناه يف نفس النظم ؛ ألنا ملكنا يف ذلك أن نضطرهم إىل أن يعلموا صحة ما نقول.
وليس األمر يف هذا كذلك ،فليس الداء فيه باهلني ،وال هو حبيث إذا رمت العالج منه وجدت اإلمكان فيه مع
كل أحد مسعف ،والسعي منجح ،ألن املزايا اليت حتتاج إىل أن تعلمهم مكاهنا وتصور هلم شأهنا ،أمور خفيه ،
ومعان روحانية ،أنت ال تستطيع أن تنبه السامع هلا ،وحتدث له علما هبا ،حىت يكون مهيئا إلدراكها ،وتكون
-1انظر :د .حامد الربيعي ،القراءة الناقدة ،مرجع سابق ص .57، 56
-2عبد القاهر اجلرجاين ،دالئل اإلعجاز ،مصدر سابق ص .920
-3سيد عبد الفتاح حجاب " ،نظرية النظم عند عبد القاهر اجلرجاين وصلتها بقضية اللفظ واملعىن " ،جملة كلية اللغة العربية جبامعة اإلمام حممد
بن سعود ،الرياض :العدد التاسع 0322 ( ،ه 0272 /م) ،ص.393
66
فيه طبيعة قابلة هلا ،ويكون له ذوق وقرحية جيد هلما يف نفسه إحساسا بأن من شأن هذه الوجوه والفروق أن
تعرض فيها املزية على اجلملة ،ومن إذا تصفح الكالم وتدبر الشعر ،فرق بني موقع شيء منها وشيء " .1
عبد القاهر يدرك أن هذا اإلحساس النفسي نادر يف الناس ومن احملال إحداثه يف نفس من يفتقر إليه بطبعه ؛ ألن
املعرفة العلمية والثقافية ال تكفي وحدها يف تذوق النصوص األدبية والتعايش معها لتحصل النفس على املتعة
اجلمالية اليت تبعثها ما مل يؤت املتذوق هذا اإلحساس املهم يف تقدير األعمال األدبية واالنفعال هبا ،لذلك فإن
من العبث أن حتاول إحداث هذا األثر يف نفس من مل يؤت هذه احلاسة .يقول عبد القاهر مصورة ذلك أحسن
تصوير:
"والبالء ،والداء الع ياء ،أن هذا اإلحساس قليل يف الناس ،حىت إنه ليكون أن يقع للرجل الشيء من هذه
الفروق والوجوه يف ش عر يقوله ،أو رسالة يكتبها ،املوقع احلسن .مث ال يعلم أنه قد أحسن .فأما اجلهل مبكان
اإلساءة فال تعدمه ،فلست متلك إذا من أمرك شيئا حىت تظفر مبن له طبع إذا قدحته وري ،وقلب إذا أريته رأي ،
فأما وصاحبك من ال يرى ما تريه ،وال يهتدي للذي تقديه ،فأنت رام يف غري مرمى ،ومعن نفسك يف غري
جدوى ،وكما ال تقيم الشعر يف نفس م ن ال ذوق له ،كذلك ال يفهم هذا الشأن من مل يؤت اآللة اليت هبا
يفهم ،إال أنه إمنا يكون البالء إذا ظن العادم هلا أنه أوتيها ،وأنه ممن يكمل للحكم ،ويصح منه القضاء ،فجعل
يقول القول لو علم ما فيه ال ستحى منه .فأما الذي حيس بالنقص من نفسه ،ويعلم أنه قد عدمعلما قد أوتيه
من سواه فأنت منه يف راحة ،وهو رجل عاقل قد محاه عقله أن يعدو طوره ،وأن يتكلف ما ليس بأهل له " .2
مث يبني عبد القاهر أن الناس قد خيتلفون ويتجادلون يف العلوم اليت عرفت قواعدها وقوانينها ،مث ترى املخطئ
منهم خياصم وحياجج وال ينصرف عن رأيه إن انصرف إال بعد التعب واجلهد ،فإذا كان هذا االختالف يف العلوم
اليت ضبطت أصوهلا وقوانينها ،فما بالك يف هذا املسلك الذي ال يعتمد على التقعيد والتقنني وإمنا املعول فيه
على اإلحساس النفسي وما يعرض على النفس اإلنسانية من أمارات األرحيية والطرب أو الوحشة والنفور ،فإن
كان جمادلك ممن ملك هذا اإلحساس فإن إقناعه أمر ممكن ،أما إن عدمه فإنه من احملال أن يوافقك ،وإن
رددته إىل هذا اإلحساس النفسي ،وأنه ممن مل تتوافر لديه حاسة الذوق ،رجع عليك وقال :بأن ذوقه أصح
وقرحيته أصفى .يقول عبد القاهر " :وإذا كانت العلوم اليت هلا أصول معروفة وقوانني مضبوطة قد اشرتك الناس
يف العلم هبا ،واتفقوا على أن البناء عليها ،إذا أخطأ فيها املخطى مث أعجب برأيه ،مل تستطع رده عن هواه،
وصرفه عن الرأي الذي رآه ،إال بعد اجلهد ،وإال بعد أن يكون حصيفا عاقال ثبت إذا نبه انتبه ،وإذا قيل :إن
عبد القاهر اجلرجاين (470-هـ) واحد من أشهر الرموز األدبية يف القرن اخلامس اهلجري ,وهو فقيه شافعي,
ومتكلّم أشعري ،1وقـّف حياته من أجل العلم والتعلم ,وأنفق فيها عصارة ذهنه وخالصة ثقافته ,ألف كثريا من
الكتب ,و(صنّف التصانيف اجلليلة )2؛ يف النحو ,والصرف والعروض ,والبالغة ,والنقد ,والدراسات القرآنية ,بيد
إن شهرته ذاعت ,وانتشر صيته من خالل كتابيه (دالئل اإلعجاز) ,و(أسرار البالغة) الذين میثالن دور االكتمال
اخلالق.
يف ثقافته عبد القاهر ,وتفكريه ّ
كان الباعث لتأليف (دالئل اإلعجاز)قضية مهمة شغلت بال الكثريين من علماء عصره بل وقبل عصره ,قضية
كم
إعجاز القرآن ,ولكي يعرض إىل هذه القضية وجد نفسه قد تطرق إىل الكثري من القضايا النقدية ,ووقف أمام ّ
هائل من النصوص األدبية حيللها حتليال أدبيا فنيا رائعا .حنويا وبالغيا ,بل ونقديا لذلك كان من احلق أن يعده
كثري من الباحثني رائدا لألسلوبية احلديثة ,ومؤسسا ألصوهلا.
"لقد خرج عبد القاهر بالنحو العريب من دائرته املغلقة ,ذلك إن معيارية العربية الفصحى يف القضايا الصوتية,
والصرفية ,والرتكيبية (النحوية) أمر مقرر حيفظ هلا دمیومتها ,وشرط التواصل بني القدمي وما يستحدث يف اآلماد
وجه إليه يف (دالئل اإلعجاز) هو الدرس التطبيقي التحليلي للكالم العريب, املتالحقة ,ولكن الباب الذي ّ
فالرتكيب تدرس حاالته النحوية :الرتتيبية يف التقدمي والتأخري ,والتوليدية بني البسائط من اجلمل واملركبات والنظر
يف العناصر املضافة ودورها وما يذكر وما حيذف ,والتكوينية يف التعريف والتنكري ,ويف التقرير واإلثبات من طرف,
واإلنشاء بضروبه من طرف آخر. 3كما درس الصورة الفنية ومجالياهتا ,والرتكيب اللغوي ومجالياته ,وحبث عن
القيمة املرتبطة باحتماالت بناء اجلملة ,وتوزع األدوار بني أجزائها يف نقل املواقف واإلحياءات ,فالقدرة التعبريية
املميزة تعطي النص حملة صافية ختلق التواصل فيسهم يف حتقيق البعد اجلمايل إفادة ومتعة على درجات حبسب
-1جالل الدين السيوطي ،حتـ :حممد أبو الفضل إبراهيم :بغية الوعاة يف أخبار النحاة ،مطبعة عيسى البايب احلليب ،القاهرة ،ص 9،016
-2القفطي :أنباء الرواة على أنباء النحاة ،حتـ :.حممد أبو الفضل إبراهيم ،:القاهرة 0286 ،ص .9
-3عبد القاهر اجلرجاين :دالئل اإلعجاز ،تح ـد .حممد رضوان الداية وفايز الداية ،مكتبة سعد الدين ،دمشق،ط.9،0287م ص– 09.
.03
69
سياق النص ,وقدرته التأثريية .إن دراسة عبد القاهر تتحول إىل دراسة أسلوبية تبحث عن مواطن اإلبداع ,وحتدد
تفرده ,وخصائص أسلوبه الذي میيزه عن غريه ,وحيكم له بالتفرد.لألديب مسة ّ
لقد تصدى عبد القاهر اجلرجاين للكثري من القضايا اليت شغلت الفكر املعاصر وأدعى فيها بعضهم السبق
والريادة ,ممهدا بذلك لدراسة منهجية جديدة تعتمد الذوق واجلمال يف تناول النصوص اإلبداعية ,وحتليلها حتليال
ينسجم مع النظرة املوضوعية يف التعامل مع األفكار اليت حتملها النصوص ,ومن أبرز تلك القضايا (قضية اللغة
صب (دي سوسري) علما عليها ,وتتلخص يف الفروق والكالم) تلك القضية اليت شغلت بال املعاصرين حىت نُ ّ
الدقيقة اليت متيز بني املصطلحني ,وبيان العالقة الذهنية والنفسية يف حركة الداللة اللغوية ,وإقامة الروابط بني
األلفاظ أصواتا وكتابة ,وانطباعاهتا التصورية ,ووقائعها املادية ,ومنعكساهتا اجملردة ,فاللغة عند سوسري "عنصر حمدد
مستخلص من خصائص لغوية متغايرة اخلواص عموما إنه النظام الذي أسسه نوع من االتفاق بني أعضاء اجملتمع
الذي وحده جيعل األمر ممكنا يف فهم بعضهم بعضا .."1 ،مبعىن إن الكالم يكون أوسع من اللغة من حيث
اختصاص اللغة بفئة معينة تربط بينهم روابط حمددة على حنو ما ذكرناه يف املبحث األول.
والواقع إن كالم سوسري هذا مل يكون إال ترديدا للقضية اليت تناوهلا عبد القاهر اجلرجاين من قبل بالدرس
والتحليل ,ووقف عندها يف أكثر من موضع يف كتابه (دالئل اإلعجاز) حني ميز بني اللغة والكالم متييزا دقيقا
موضحا الفروق األساسية بينهما ,فذكر إن اللغة خمتصة بالكلمات املفردة ومعانيها"2وإن العلم هبذه املعاين "ال
يعدو أن يكون علما باللغة ,وبأنفس الكلم املفردة ,ومبا طريقه احلفظ دون ما يستعان عليه بالنظر ,ويوصل إليه
3
يضم
بإعمال الفكر" ،وإن "األلفاظ املفردة اليت هي أوضاع اللغة مل توضع لتعرف معانيها يف أنفسها ,ولكن ألن ّ
بعضها إىل بعض"4،وأشار إىل أن الكالم هو وسيلة اإلنسان يف التعبري عن أغراضه ومقاصده ,قال( :ومجلة األمر
معان ينشئها اإلنسان يف نفسه ،ويصرفها يف فكره ،ويناجي به قلبه ،ويراجع فيها عقله، إن اخلرب ومجيع الكالم ٍ
وتوصف بأهنا مقاصد وأغراض...) 5،ولعله انطلق يف هذا من مسلمة أساسية مفادها إن اللغة مشرتكة بني
أصحاهبا ،فال يقع يف ألفاظها متايز بينهم ،وإمنا يقع يف الكالم ونظمه ،أي األسلوب.
-1بيريجريو،ترمجة د .منذر عياشي ،األسلوب واألسلوبية ،مركز اإلخاء القومي ،بريوت،لبنان ،د .ت.ص 35
-2عبد القاهر اجلرجاين :دالئل اإلعجاز ،تح ـد .حممد رضوان الداية وفايز الداية ، ،مكتبة سعد الدين ،دمشق،ط.9،0287م ص - 24
25
-3عبد القاهر اجلرجاين ،مصدر سابق،ص .361
-4عبد القاهر اجلرجاين ،املصدرنفسه ص .462
-5عبد القاهر اجلرجاين ،املصدرنفسه ص .460
70
ومثلما تطرق عبد القاهر إىل الفروق بني اللغة والكالم تطرق إىل العالقة الذهنية النفسية يف عملية الصياغة األدبية
ورأى إن املتكلم يصري الكلمات يف نفسه ,ويقلبها يف عقله قبل أن يصدرها إىل املتلقي ،قال" :وإذ كان ال يكون
يف الكلم نظم وال ترتيب إال بأن يصنع هبا هذا الصنيع وحنوه وكان ذلك كله مما ال يرجع منه إىل اللفظ شيء ومما
ال يتصور أن يكون فيه ومن صفته بان ذلك األمر على ما قلناه من ان اللفظ تبع للمعىن يف النظم ,وإن الكلم
ترتتب يف النطق بسبب ترتب معانيها يف النفس وإهنا لو خلت من معانيها حىت تتجرد أصواتا وأصداء حروف ملا
وقع يف ضمري ,وال هجس يف خاطر أن جيب فيها ترتيب ونظم..." 1وهذه نظرة ثاقبة من إنسان كرس حياته من
أجل العلم ,والتعلم ,مما جيعلنا على يقني بأصالة الفكرة األسلوبية بزيها العريب.
إن اللغة مادة النص األديب ,وهي األساس اليت يستند إليه يف حتقيق التعبري ,ومن هنا فأن مهمة املبدع –
شاعرا كان أم ناثرا -تكمن يف أن يصري من هذه اللغة مسات هتدف إىل الكشف عن العالقات اليت تربط بني
الظواهر واألشياء ,وصوال إىل حتقيق النص وظيفته التعبريية ,مرورا بالتعامل الدقيق مع معاين الكلم حيث تناسقت
داللتها يف هيئات جيري فيها الكالم يف وجوه كثرية من تقدمي وتأخري ,وتعريف وتنكري ,وذكر وحذف ,وما أشبه
ذلك2،وحينما يسعى الباحث إىل ّتاوز الفهم واإلبالغ فإنه جيعل من مواصفات اللغة مسات وإشارات الكشف
عن العالقات العقلية اليت تكفل له خصائصه الفنية وقد تكون هذه العالقات حقيقية وقد تكون مبتدعة يتصورها
الشاعر يف أوهامه ,ويتخيلها يف حياته منتزعة من ّتربته النفسية ,وعلى هذا فا ّن هناك نوعني من الداللة:
ويف رحاب هاتني الداللتني نكتشف مغرس اإلبداع ,ومنبع اخللق األديب ,وقيمة الصورة الفنية ,وتلك السمات هي
العناصر املؤثرة عند (شارل بايل) اليت هتدف إىل الكشف عن قيمة النص ,وتفرد األديب ,وإهنا ما يتجاوز هبا دائرة
اللغة 4وهذه القضية من بنات أفكار عبد القاهر إذ أشار إىل ذلك من قبل فقال "ينبغي أن ننظر إىل املتكلم –
هل يستطيع أن يزيد من عند نفسه يف اللفظ شيئا ليس هو يف اللغة حىت جيعل ذلك من صنيعة..." 5،وهذا يعين
إن دراسة األسلوب تتطلب أن نبحث يف اللغة عما ليس بلغوي وهو الزيادة املؤثرة فيه ومع إن هذه الفكرة قد
ولعل هذه الفكرة هي ما أشار إليها بالغيونا ونقادنا القدامى ,حينما وقفوا على نصوص ذاب منشؤوها
يف أحضان الطبيعة وما فيها من رياض وأزهار وأشجار مثمرة ,ومن األمثلة اليت طرقها عبد القاهر قول الشاعر:
"إمنا املعىن إنك ّتد منه يف حالة الرضا واملوافقة ما میلؤك سرورا وهبجة حسب ما جيد ذائق العسل من لذة
احلالوة "4واصطلح عليه بـ(التشبيه العقلي)5،يف حني يعده أصحاب املدرسة الرمزية من تراسل احلواس.
ومثة نظرة أخرى جاء هبا احملدثون تتعلق باالستعارة ,إذ قال عدد منهم إن االستعارة تكمن يف خلق فجوة بني
"كونني تصوريني ولغويني"،وإنه ال بد إن ينقل املعىن االستعاري من معىن آخر يرتبطان بصلة معينة ,أو مثلما يقول
-1د .فائق مصطفى ود .عبد الرضا علي :يف النقد األديب احلديث ،دار الكتب ،جامعة املوصل،ط.9111 ،9م،ص 78
-2د .فائق مصطفى ود .عبد الرضا علي ،املرجع نفسه ،ص 78
-3حممد مندور :يف األدب والنقد ،مكتبة النهضة،مصر ،القاهرة ،ط،5د.ت ،ص. 038
-4عبد القاهر اجلرجاين :أسرار البالغة ،تعليق عبد العزيز النجار ،مصر ،القاهرة.0277،م ص .68
-5عبد القاهر اجلرجاين :أسرار البالغة ،ااملصدرنفسه،ص .62
72
(ماكس بالك) إن الفجوة يف النظريات احلديثة لالستعارة تتعلق بـ(االبتكار املالئم هلذه النقلة)1،وتتشعب
املصطلحات عندهم فتارة هي (مسافة التوتر) ,وأخرى (التنافر الداليل) ,وتارة ثالثة (االنفصام اإلشاري) 2وهي
كلها تتعلق بالنظرة احلديثة للمفهوم االستعاري .ولعل هذه النظرة كلها موجودة يف كتابات عبد القاهر اجلرجاين
حني حد االستعارة بقوله" :أن يكون للفظ أصل يف الوضع اللغوي معروف تدل الشواهد على إنه اختص به حني
وضع مث يستهله الشاعر أو غري الشاعر يف غري ذلك األصل وينقله إليه نقال غري الزم فيكون هناك
كالعارية"3،...وقال" :وإما اجملاز [واالستعارة منه] فكل كلمة أريد هبا غري ما وضعت له يف وضع واضع ملالحظة
بني الثاين واألول 4.ومن القضايا اهلامة اليت تناوهلا احملدثون قضية اللفظ واملعىن ,أو الشكل واملضمون وجدلية
العالقة بينهما ,ففي حني قصر بعضهم األسلوب على الشكل كما هو احلال عند الشكالنيني الروس مثال,
اختلط األمر على غريهم ,فـ(كراهام هاف) مثال يصرح" :إن كال من طبيعة هذه القضية ,وحمدودية معرفيت تقف
حائال دون االستمرار يف مناقشة هذه املسألة"5بيد أنه يرى إمكانية إنقاذ مفهوم األسلوب بوساطة ثالث طرق :
"...
-0ال حاجة إلثبات وجود شيء امسه األسلوب ,بل يكفي اصطالح طبيعي ومناسب لالستعمال
وإن اجلميع يعرف عمليا عما يدور احلديث.
-9میكن للناقد أن يذكر مبدأ إن التعابري املختلفة شكال ختتلف يف املعىن دوما كما فعل آي .أ.
رجياردز يف كتابه (التفسري يف التعليم) ,وقد حيتاج ذلك شيئا من الرباعة يف إبداء اآلراء ولكنه من املمكن ترسيخ
املوضوع مبا يناسب األغراض األدبية.
-3ومیكن للناقد أن يتقبل هذا املبدأ على إن اختالف الشكل هو دائما اختالف املعىن ,ولكنه
يستطيع مع ذلك إنكار مبدأ اختالف األسلوب ,فهو مل خيتلف وإمنا أصبح مصنفا ضمن املعىن .إن األسلوب
6
جزء من املعىن ولكنه جزء میكن أن يناقش بصورة مناسبة وبدرجة معقولة".
ومن هنا يتضح قصور األسلوبني يف تصور مفهوم األسلوب ,يف الشكل كان أم يف املعىن ,حىت حدا ببعضهم إىل
1
الدعوة إللغائه أو أن يصبح (بناء افرتاضيا عدمي الفائدة.
اللفظاملعنىاألسلوباإلبداع األديب
وهذا يتيح لنا القول إن الصورة الفنية اليت أسهب يف تناوهلا احملدثون إمنا تتعلق بدراسة األسلوب وطبيعته,
ويبدو هذا واضحا يف كثري من الدراسات اليت تناولت الصورة الفنية منها (الصورة الفنية معيارا نقديا)
للدكتور عبد اإلله الصائغ ,إذ جعل الفصل اخلامس ,دراسة (الصورة الفنية من خالل األسلوب) 1،
و(الصورة الفنية يف املثل القرآين) للدكتور حممد حسني علي الصغري الذي ق ّدم بعدا تطبيقيا لعناصر الصورة
يف القرآن الكرمي 2 .ولتأكيد هذا القول نتابع كالم عبد القاهر اجلرجاين يف دالئله والذي يرى فيه إن
الصورة هي مزية باملتكلم يف إخراج املعىن،
"...وان اعرتف بأن ذلك يكون قلنا له :أخربنا عنك أتقول يف قوله:
وتأىب الطباع على ِ
الناقل إنه غاية يف الفصاحة؟ فإذا قال نعم ,قيل له :أو كان ذلك عندك من أجل
حروفه ام من أجل حسن ومزية حصال يف املعىن ,فإن قال من أجل حروفه ,دخل يف اهلذيان ,وإن قال
من أجل حسن ومزية حصال يف املعىن قيل له :فذاك ما أردناك عليه حني قلنا إن اللفظ يكون فصيحا من
أجل مزية تقع يف معناه ال من أجل جرسه وصداه) 3،ويوضح إن إخراج املعىن يف صورة هو مزية باملتكلم
نفسه قال( :قد علمنا علما ال4ومتام قوله يف الصورة" :وأعلم إن قولنا (الصورة) إمنا هو متثيل وقياس ملا
نعلمه بعقولنا على الذي نراه بأبصارنا ,فلما رأينا البينونة بني آحاد األجناس تكون من جهة الصورة فكان
5
بني إنسان من إنسان ,وفرس من فرس خبصوصية تكون يف صورة هذا ال تكون يف صورة ذاك"
وقد نتج عن ذلك أننا نرى املعىن الواحد يف صورتني خمتلفتني ,وكما يف قول أيب متام[ :من الطويل[
-1د .عبد اإلله الصائغ :الصورة الفنية معيارا نقديا ،دار الشؤون الثقافية ،بغداد ،العراق .0287 ،ص .433-360
-2حممد حسني علي الصغري:الصورة الفنية يف املثل القرآين ،دار الرشيد للنشر ،بغداد ،العراق.0280 ،م ،ص .990– 051
-3عبد القاهر اجلرجاين ،،دالئل اإلعجاز ،مصدر سابق ،ص .377
-4عبد القاهر اجلرجاين ،مصدر نفسه ص .364
-5عبد القاهر اجلرجاين،مصدر نفسه ص.445
75
حاكم
ُ غدا العفو منه وهو يف السيف إذا سيفه أضحى على اهلام حاكما
"فانظر اآلن نظر من نفى الغفلة عن نفسه فانك ترى عيانا إن للمعىن يف كل واحد من البيتني من مجيع
ذلك صورة وصفة غري صورته وصفته يف البيت اآلخر وإن العلماء مل يريدوا حيث قالوا( :إن املعىن يف هذا
املعىن يف ذاك ,إن الذي تعقل من هذا ال خيالف الذي تعقل من ذاك ,وإن املعىن عائد عليك يف البيت
الثاين على هيئته وصفته اليت كان عليها يف البيت األول ,وان ال فرق وال فصل وال تباين بوجه من الوجوه,
وإن حكم البيتني مثال حكم االمسني قد وضعا يف اللغة لشيء واحد كالليث واألسد ,ولكن قالوا ذلك
على حسب ما يقوله العقالء يف الشيئني جيمعهما جنس واحد ,مث يفرتقان خبواص ومزايا وصفات كاخلامت
واخلامت ,والشنف والشنف ,والسوار والسوار ,وسائر أصناف احللي اليت جيمعها جنس واحد مث يكون بينها
1
االختالف الشديد يف الصنعة والعمل".
وهكذا فالذي جنده يف أقوال عبد القاهر اجلرجاين ,وما يثار اليوم يف الدراسات األدبية جيعلنا نقول :إن
كل الدراسات اليوم يف ميدان الصورة الفنية مبجاهلا التطبيقي هي دراسات أسلوبية ,وإن (الصورة اليت
حتصل يف الذهن) ,و(الرسم املكتوب بالكلمات) وجهان لعملة واحدة ,قال د .زكي مبارك" :الصورة
الشعرية هي أثر الشاعر املفلق الذي يصف املرئيات وصفا جيعل القارئ ما يدري أيقرأ قصيدة مسطورة أم
يشاهد منظرا من مناظر الوجود ,والذي يصف الوجدانيات وصفا خييل للقارئ إنه يناجي نفسه ألنه يقرأ
قطعة لشاعر.2
وتبعا هلذا الكالم فقد ركز بعض األسلوبيني على قضية السياق ,ودوره يف حتقيق اإلبداع األديب ,وأفردوا لـه
منهجا خاصا مسوه (أسلوبية السياق)3ونصبوا ميكائيل ريفاتري علما عليها ,وسنتابع هذا املوضوع مع ما
كتبه (كراهام هاف) حيث قال:
"...,وإذا كان هذا كذلك فينبغي أن ينظر إىل الكلمة قبل دخوهلا يف التأليف وقبل أن تصري إىل الصورة
اليت هبا يكون الكلم أخبارا وأمرا وهنيا واستخبارا وتعجبا ,وتؤدي يف اجلملة معىن من املعاين اليت ال سبيل
إىل إفادهتا إال بضم كلمة إىل كلمة ,وبناء لفظة على لفظة2"...وذهب عبد القاهر أبعد من ذلك حينما
قال" :وهل ّتد أحد يقول :هذه اللفظة فصيحة إال وهو يعترب مكاهنا من النظم ,وحسن مالئمة معناها
ملعىن جاراهتا ,وفضل مؤانستها ألخواهتا"3،إىل أن انتهى إىل القول" :فقد اتضح إذن اتضاحا ال يدع
الشك إن األلفاظ ال تتفاضل من حيث هي ألفاظ جمردة وال من حيث هي كلم مفردة ,وإن األلفاظ
تثبت هلا الفضيلة وخالفها يف مالءمة معىن اللفظة ملعىن اليت تليها أو ما أشبه ذلك مما ال تعلق له بصريح
اللفظ ,ومما يشهد لذلك إنك ترى الكلمة تروقك وتؤنسك يف موضع مث تراها تثقل عليك وتوحشك يف
موضع آخر ,كلفظ األخدع يف بيت احلماسة":
]من الطويل]
-1بيريجريو :األسلوب واألسلوبية ،ترمجة د .منذر عياشي ،:مركز اإلخاء القومي ،بريوت ،لبنان ،د .ت .ص .96 – 95
-2عبد القاهر اجلرجاين ،،دالئل اإلعجاز ،مصدر سابق ،ص . 21
-3عبد القاهر اجلرجاين ،مصدر سابق ،ص 20
77
وجعت من اإلصغاء ليتا وأخدعا ت حنو احلي حىت وجدتين
تَـلَ َف ُّ
وبيت البحرتي[ :من الطويل[
فإن هلا يف هذين املكانني ما ال خيفى من احلسن ,مث إنك تتأملها يف بيت أيب متام:
[من الطويل[
ّتد هلا من الثقل على النفس ,ومن التنغيص والتكدير أضعاف ما وجدت هناك من الروح واخلفة1وما
ذلك إال لسياقات ورودها املختلفة اليت جعلت إحدامها مجيلة واألخرى قبيحة مستهجنة.
يتضح من كل ما سبق أصالة الفكرة األسلوبية ,ومنحاها التطبيقي يف فكر عبد القاهر اجلرجاين ,وبالتايل
أصالة تراثنا احلضاري والفكري الذي ظل متوارثا عرب األجيال ,وهو حباجة – اليوم – إىل البعث من
جديد الستلهامه فيكون لدينا ما يسمى (املنهج األسلويب العريب) بصفته األصيلة ,ومنابعه اخلالقة.
-نماذج من تحليالته:
-0قال عبد القاهر يف التعليق على اآلية الكرمیة:
(وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا مساء اقلعي وغيض املاء وقضي األمر واستوت على اجلودي وقيل بعدا
للقوم الظاملني) (هود )44/
"...أنك مل ّتد ما وجدت من املزيّة الظاهرة ,والفضيلة القاهرة إال ألمر يرجع إىل ارتباط هذه الكلم
بعضها ببعض ,وإن مل يعرض هلا احلسن والشرف إال من حيث القت األوىل بالثانية والثالثة والرابعة وهكذا
إىل أن تستقريها إىل آخرها ,وإن الفضل تناتج ما بينها ,وحصل من جمموعها ,إن شككت فتأمل! هل
ترى لفظة منها حبيث لو أخذت من بني أخواهتا ,وأفردت ألدت من الفصاحة ما تؤديه وهي يف مكاهنا
من اآلية؟ قل (ابلعي) واعتربها وحدها من غري أن تنظر إىل ما قبلها وإىل ما بعدها ,وكذلك فاعترب سائر
ما يليها ,وكيف بالشك يف ذلك ,ومعلوم إن مبدأ العظمة يف إن نوديت األرض ,مث أُمرت ,مث يف أن كان
(أي) حنو يا أيتها األرض ,مث إضافة املاء إىل الكاف دون أن يقال ابلعي املاء ,مث أن اتبع
النداء بـ(يا) دون ْ
فإنك ترى هذه االستعارة على لطفها وغرابتها إمنا مت هلا احلسن وانتهى إىل حيث انتهى مبا توخي يف وضع
الكالم من التقدمي والتأخري وّتدها قد ملحت ولطفت مبعاونة ذلك ومؤازرته هلا ,وإن شككت فاعمد إىل
كال منها عن مكانه الذي وضعه الشاعر فيه فقل :سالت شعاب احلي بوجوه اجلارين والظرف فأزل ّ
كالدنانري عليه حني دعا أنصاره ,مث انظر كيف يكون احلال وكيف يذهب احلسن واحلالوة ,وكيف تقدم
أرحييتك اليت كانت وكيف تذهب النشوة اليت كنت ّتدها.3"...
-1عبد القاهر اجلرجاين ،دالئل اإلعجاز مصدر سابق ،ص .29 – 20
-2عبد القاهر اجلرجاين ،املصدر نفسه ،ص .006
-3عبد القاهر اجلرجاين ،دالئل اإلعجاز،مصدر سابق ،ص . 030- 031
79
المحاضرة الحادية عشر:تطبيقات من النظم.
أورد عبد القاهر يف ثنايا كتابه (دالئل اإلعجاز) كثريا من النماذج التطبيقية ملـَا استنبطه من مبادئ نظريّة تتعلق
بفكرة النظم وفق معاين النحو.
والفكرة اليت سعى اجلرجاين إىل ترسيخها من حتليله تلك النماذج هي أن الوجوه اليت يكون عليها النظم
يبني
وتأليف الكالم من الكثرة والدقة والتأثري يف املعىن حبيث ال يقوم وجه منها مقام غريه يف تأدية معناه ،فكان ّ
يتوهم تكافؤها يف املعىن واالستعمال.
دقائق الفروق بني الرتاكيب املتقاربة اليت قد ّ
نوزع النماذج اليت ساقها عبد القاهر لشرح نظرية النظم على األبواب اآلتية:
ومیكن أن ّ
)0اإلسناد واخلرب
)9التقدمي والتأثري
)3احلذف والذكر
)4التعريف والتنكري
)5الفصل والوصل
)6استعمال (إن)
)5اإلسناد والخبر:
-اإلسناد شرط لتحقيق الفائدة يف الكالم ،فكان من الضروري أن يشتمل الكالم على جزءين؛
مسند ومسند إليه ،وقد أشار عبد القاهر إىل ذلك وهو يبني قيام اللغات على مبدأ الفائدة واملعىن عن
فسر به تعليم اهلل آدم األمساء ،حيث قال...":وإذا قلنا يف العلم
طريق اإلسناد مناقشا مفهوم اإلهلام الذي ّ
واللغات من مبتدأ األمر إنه كان إهلاماً ،فإن اإلهلام يف ذلك يكون بني شيئني يكون أحدمها مثبتاً واآلخر
ومنفي من غري
ّ يتصور مثبث من غري مثبت له،
مثبتاً له ،أو يكون أحدمها منفياً واآلخر منفياً عنه ،وأنه ال ّ
1
منفي عنه .فلما كان األمر كذلك وجب أن ال يعقل إال من جمموع مجلة فعل واسم كقولنا :خرج زيد". ّ
-عبد القاهر اجلرجاين ،دالئل اإلعجاز ،حتقيق :حممد رضوان مهنا ،مكتبة اإلمیان ،القاهرة( ،د ت) ، ،ص 1325
80
-يكون اإلسناد بامسني يسند أحدمها إىل اآلخر ،أو بفعل يسند إىل اسم ،وقد يق ّدر الفعل مكان
االسم ،ولكن هذا التقدير ال يعين استواء املعىن فيهما" ،كما نقول يف (زيد يقوم) إنه يف موضع (زيد
استويا هذا
قائم) ،فإن ذلك ال يقتضي أن يستوي املعىن فيها استواء ال يكون من بعده افرتاق؛ فإهنما لو َ
1
االستواء مل يكن أحدمها فعال واآلخر امسا ،بل كان ينبغي أن يكونا مجيعا فعلني أو يكونا امسني".
ومراد عبد القاهر من ذلك أن ما يبدو يف الظاهر من تكافؤ بعض العبارات ال يعين استواءمها يف املعاين
تؤديها تلك العبارات ،وأهنا من الدقة والتأثري يف املعىن حبيث ال يقوم وجه منها مقام غريه يف الوفاء
الدقيقة اليت ّ
حبقه ،وال يقوم مقامه يف تأدية الغرض ،وأنه جيب لذلك استعمال كل نوع من العبارة يف سياقه األنسب.
)2التقديم والتأخير:
موضوع التقدمي والتأخري -كأكثر مباحث علم املعاين -مشرتك بني النحو والبالغة؛ فقد حتدث عنه سيبويه يف
كتابه ،وأشار إىل سره يف الكالم ،وذكر أنه يأيت للعناية واالهتمام ،أو للتأكيد والتنبيه ،وأنه يكون أحيانا لغري علة
بالغية.3
ومن املؤّكد أن سيبويه -وهو الذي جعل سالمة الرتكيب غايته -مل يكن ليهتم ببحث األسرار الفنّية لظاهرة
التقدمي والتأخري كبحث البالغيني هلا ،ولكن مجهور اللغويني منذ سيبويه كانوا على وعي بأن التقدمي والتأخري
العامة يف ترتيب وحدات الرتكيب.
استثناء وخروج عن األصل أو القاعدة ّ
-وقد أثارت قضية التقدمي والتأخري -بوصفها ظاهرة أسلوبية يعدل إليها عن أصل مفرتض -نقاشا ّ
هاما بني
العلماء ،بني من يرى فيها عدوال يعتمد على االختيار ،ومن يع ّدها نوعا من االضطرار ،وهو اضطرار
تفرضه بعض القيود العروضية ،أو املناسبات اللفظية ،ولكن عبد القاهر يناصر الرأي األول ،فينفي طابع
العشوائية والالمعىن عن ظاهرة التقدمي والتأخري ،ويؤكد قيمتها األسلوبية وبعدها الفين بقوله" :واعلم أن من
إذا نُِز َع ْ
3
ت منها اهلمزةُ إخباراً به على ذلك الوجه".
جل جاءَين) مل(ر ٌ -يأخذ اإلخبار حكم االستفهام يف تقدمي االسم على الفعل أو تأخريه عنه؛ فِإذا َ
قلتَ :
رف أ ْن قد أتاككالمك مع َمن قد َع َ رجل ال امرأة ،ويكو َن ُ َن الذي جاءك ٌ علمه أ َّ
يد أَن تُ َ حىت تر َ يَصلُ ْح ّ
ٍ ِ
(رجل
ٌ قلت:
الفعل ،وكذلك إ ْن َ ِّم َ رجل) ،فتُـ َقد َتقول( :جاءَين ٌ اجب أن َ آت .فإن مل تُِرْد ذاك ،كان الو ُ
4
السامع قد ظَ َّن أنه قد أتاك أو َّنزلْتَه َم ْن ظَ َّن ذلك. ُ جاءَين) مل يستَ ِق ْم حىت يكو َن
-لتقدمي االسم على الفعل يف اخلرب املثبت أغراض ومعان دقيقة كإفادة التنبيه والتوكيد وزيادة
فقلت:
الفعل عليه َ ت َ ذكره ُمثَّ بَـنَـْي َ
ت َ بفعل فقدَّم َ أردت أن حت ّدث عنه ٍ عمدت إىل الذي َ َ اإلثبات" ،فِإذا
أن املعىن يف هذا ِ
الفاعل ،إال َّ القصد إىل
ُ فعلت) اقتضى ذلك أن يكو َن و(أنت َ َ ت)
فعل) و(أنا فَـ َع ْل ُ (زي ٌد قد َ
-1سيبويه عمرو بن عثمان ،الكتاب ،حتقيق :عبد السالم حممد هارون مرجع سابق ص.0،900 ،
-2عبد القاهر اجلرجاين،دالئل اإلعجاز ،مصدر سابق ،ص 025
91
املعىن ال حمالة :أن يرى مبصر حماسنه ،ويسمع واع أخباره وأوصافه ،ولكنك تعلم على ذلك أنه كأنه يسرق
علم ذلك من نفسه ،ويدفع صورته عن ومهه ليحصل له معىن شريف وغرض خاص ،وذاك أنه میدح خليفة
ويعرض خبليفة وهو املستعني ،فأراد أن يقول إن حماسن املعتز وفضائله يكفي فيها أن يقع عليها وهو املعتزّ ،
بصر ويعيَها مسع ،حىت يعلم أنه املستحق للخالفة ،والفرد الوحيد الذي ليس ألحد أن ينازعه مرتبتها ،فأنت
حساده وليس شيء أشجى هلم وأغيظ من علمهم بأن ههنا مبصرا يرى وسامعا يعي ،حىت ليتمنّون أن ال ترى ّ
يكون يف الدنيا من له عني يبصر هبا ،وأذن يعي معها،كي خيفى مكان استحقاقه لشرف اإلمامة ،فيجدوا
بذلك سبيال إىل منازعته إياها.
وهناك نوع آخر ،وهو أن يكون معك مفعول معلوم مقصود قصده قد علم أنه ليس للفعل الذي ذكرت
مفعول سواه بدليل احلال أو ما سبق من الكالم إال أنك تطّرحه وتتناساه ،وتدعه يلزم ضمري النفس لغرض
غري الذي مضى ،وذلك الغرض أن تتوفّر العناية على إثبات الفعل للفاعل ،وختلص له ،وتنصرف جبملتها
وكما هي إليه ،ومثاله قول عمرو بن َم ْعدي َك ِرب:
أجرت
فلو أن قومي أنطقتين رماحهم نطقت ولكن الرماح ّ
يتصور
أجرتين) ،وأنه ال ّ
أجرت :فعل متع ّد ،ومعلوم أنه لو ع ّداه ملا ع ّداه إال إىل ضمري املتكلّم حنو( :ولكن الرماح ّّ
أن يكون ههنا شيء آخر يتع ّدى إليه الستحالة أن يقول :فلو أن قومي أنطقتين رماحهم ،مث يقول :ولكن الرماح
أجرت غريي ،إال أنك ّتد املعىن يلزمك أن ال تنطق هبذا املفعول وال خترجه إىل لفظك ،والسبب يف ذلك أن ّ
تعديتك له توهم ما هو خالف الغرض ،وذلك أن الغرض هو أن تثبت أنه كان من الرماح إجرار ،وحبس األلسن
يتوهم أنه مل يـُ ْعن بأن يثبت للرماح إجرارا ،بل
(أجرتين) جاز أن ّ
تصحح وجود ذلك ،ولو قالّ : عن النطق ،وأن ّ
1
أجرته.
يبني أهنا ّالذي عناه أن ّ
أضربت زيدا؟ وأنت وسبب هذا الوهم احملتمل أن الفعل كثريا ما يذكر والغرض منه ذكر املفعول ،مثاله أنك تقولَ :
ال تنكر أن يكون كان من املخاطب ضرب ،وإمنا تنكر أن يكون وقع الضرب منه على زيد ،وأن يستجيز ذلك أو
(أجرت) ما يوهم ذلك ،وقف فلم يع ّد البتة ،ومل ينطق باملفعول ،لتخلص العناية يستطيعه ،فلما كان يف تعدية ّ
إلثبات اإلجرار للرماح ،وتصحيح أنه كان منها ،وتسلم بكلّيّتها لذلك ،ومثله قول جرير:
كت ضمري قليب مستهاما تر ِ ِ
وخلبت حىت ِ
أمنيت املىن
الغرض أن يثبت أنه كان منها متنيةٌ وخالبة ،وأن يقول هلا :أهكذا تصنعني؟ وهذه حيلتك يف فتنة
الناس؟
- 1عبد القاهر اجلرجاين :دالئل اإلعجاز ،مصدر سابق ،ص 053
92
ومن بارع ذلك ونادره ما ّتده يف هذه األبيات ،روى املرزباين يف كتاب الشعر بإسناد قال :ملا تشاغل أبو
الردة استبطأته األنصار فقال :إما كلّفتموين أخالق رسول اهلل ،فواهلل ما ذاك بكر الصديق رضي اهلل عنه بأهل ّ
مودةٍ لكم ،وال حس ِن رأي فيكم ،وكيف ال حنبكم عندي وال عند أحد من الناس ،ولكين واهلل ما أوتَى من ّ
فواهلل ما وجدت َمثَال لنا ولكم إال ما قال طفيل الغنوي لبين جعفر بن كالب:
تلقت بنا نعلُنا يف الـ ـ ـواطئني فزلّ ِجزى اهلل عنّا جعفرا حني أز ْ
تأبـ ـ ـ ـوا أن میَلّـ ـ ـ ـ ـ ـ ــونا ولو أ ّن أمـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــنا تالقي الذي القَوه منا مللّ ِ
َ ّ
تأدفأت وأَظَلّ ِ
ْ ُه ُم َخلَ ـ ـ ـ ـ ـ ــطونا بالنفـ ـ ــوس وأجلَـ ـ ـ ــؤوا إىل ُح ُجرات
ت؛ ألن أدفأت ،وأظلّ ِ
ت ،وأجلؤوا و ْ فيها حذف مفعول مقصود قَصده يف أربعة مواضع من قوله :مللّ ِ
َ
األصل :مللّتنا ،وأجلؤونا إىل حجرات أدفأتنا وأظلتنا ،إال أن احلال على ما ذكرت لك من أنه يف ح ّد
1
قصد شيء يقع عليه".املتناسى حىت كأ ْن ال قصد إىل مفعول ،وكأ ّن الفعل قد أُهبم أمره ،فلم يُقصد به ُ َ
ومن النماذج اليت ساقها عبد القاهر مبيّنا أسرار حذف املفعول فيها قول البحرتي وهو يذكر حماماة ممدوحه
عليه وصيانته له ودفعه نوائب الزمان عنه:
العظْ ِم ِ
حزْزن إىل َ وسورة أيّام ََ حتامل حادث دت عين من ُ وكم ذُ َ
قال" :األصل ال حمالة( :حززن اللحم إىل العظم) إال أن يف جميئه به حمذوفا ،وإسقاطه له من النطق ،وتركه يف
الضمري مزيّة عجيبة ،وفائدة جليلة؛ وذاك أن من حذق الشاعر أن يوقع املعىن يف نفس السامع إيقاعا مینعه به من
يتوهم يف بدء األمر شيئا غري املراد ،مث ينصرف إىل املراد ،ومعلوم أنه لو أظهر املفعول فقال( :وسورة أيام حززن أن ّ
اللحم إىل العظم) جلاز أن يقع يف وهم السامع أن هذا احلز كان يف بعض اللحم دون كلّه ،وأنه قَطَع ما يلي اجللد
ومل ينته إىل ما يلي العظم ،فلما كان كذلك ،ترك ذكر اللحم وأسقطه من اللفظ ليُْربىء السامع من هذا الوهم،
يرده
احلز مضى يف اللحم حىت مل ّ ويتصور يف نفسه من أول األمر أن ّ ّ وجيعله حبيث يقع املعىن منه يف أنف الفهم،
2
إال العظم".
شىت أمهّها إثبات معىن الفعل ذاته ،وصرف املتل ّقي عن املفعول وهكذا فإن حذف املفعول يكون ألغراض ّ
وربطه بالفعل ،وقد يكون الغرض املبالغة يف تصوير شدة احلدث ،وإيقاع معناه يف نفس املتل ّقي.
-أما حذف املبتدأ فقد تناوله عبد القاهر ،فذكر أن مما اعتيد فيه أن جييء خرباً قد بُين على مبتدأ حمذوف
أغر من صفته كيت وكيت. قوهلم بعد أن يذكرو الرجل :فىت من صفته كذا ،و ّ
ومن مناذج حذف املبتدأ قول الشاعر:
)9التعريف والتنكير:
-حت ّدث عبد القاهر عن تنكري اخلرب وتعريفه ّ
فبني أننا إذا ن ّكرنا اخلرب جاز أن نأيت مببتدأ ثان ،على
أخربنا به عن األول ،ومعىن هذا أن عطف املبتدأ الثاين على اخلرب
أن نشركه حبرف العطف يف املعىن الذي ْ
ال میكن إال إذا كان اخلرب ابتدائيا؛ فيجوز أن تقول( :زيد منطلق وعمرو) ،تريد( :وعمرو منطلق أيضا) وال
تقول( :زيد املنطلق وعمرو)؛ ألن املعىن مع التعريف ( أي يف حالة اخلرب غري االبتدائي) أنك أردت أن
يصح إثباته لعمرو.
تثبت انطالقا خمصوصا قد كان من واحد ،فإذا أثبته لزيد مل ّ
مث إن كان ذلك االنطالق من اثنني ،فإنه ينبغي أن ّتمع بينهما يف اخلرب فتقول :زيد وعمرو مها املنطلقان،
تفرق فتثبته أوال لزيد مث ّتيء فتثبته لعمرو.
ال أن ّ
ومن الواضح يف متثيل هذا النحو قولنا( :هو القائل بيت كذا) ،كقولك :جرير هو القائل:
وليس لسيفي يف العظام بقية
فأنت لو حاولت أن تشرك يف هذا اخلرب غريه فتقول :جرير هو القائل هذا البيت وفالن ،حاولت حماال؛
2
يتصور أن يشرك جريرا فيه غريه.
ألنه قوله بعينه ،فال ّ
)1الفصل والوصل:
-الفصلهو ترك العطف بني اجلملتني ،والوصل هو عطف اجلملة على اجلملة بأحد حروف العطف ،ال سيّما
أدق
وبني اتفاق أهل البالغة على تعظيم شأنه ،وكونه من ّ الواو ،ولقد تناول عبد القاهر موضوع الفصل والوصلّ ،
عطف بعضها على ٍ
بعض اجلمل من ِ صنَ َع يف ِ فنون البالغة وألطف مسائلها ،يقول اجلرجاين" :العلم مبا ينبغي أن يُ ْ
ف واحدةٌ منها بعد أخرى من أسرا ِر البالغة ،ومما ال يتأتَّى ِ ِ أو ِ
لتمام العطف فيها واجمليء هبا منثورًة تُ ْستَأْنَ ُ ترك
ِ
الكالم هم هبا أفر ٌاد، اب فيه إالَّ األعراب اخلُلَّص ،وإال قَـوم طُبِعوا على البالغة ،وأُوتُوا فنَّاً ِمن املعرفة يف ذ ِ
وق الصو ِ
َّ
َ ٌْ ُ ُ
-1سيد قطب ،يف ظالل القرآن ،دار الشروق ،القاهرة، 9100،ص . 64
-2عبد القاهر اجلرجاين ،دالئل اإلعجاز ،مصدر سابق ،ص 937
96
بلغ من ّقوة األمر يف ذلك َّأهنم جعلوهُ َح ّداً للبالغة؛ فقد جاء َع ْن بعضهم أنه ُسئِل عنها فقالَ :م ْع ِرفَةُ ال َف ِ
صل وقد َ
ْم ُل ِإلحرا ِز الفضيلة فيه أح ٌد إالَّ َك َم َل لسائِر معاين البالغة. ِ ِ ِ ِ
الوصل ،ذاك لغموضه ودقة َم ْسلكه ،وأّنَّه ال يَك ُ
1
من
َ
ِ بعضها على ٍ
موضع من
ٌ للمعطوف عليها أحدمها أن يكو َن
بعض على ضربنيُ : املعطوف ُ
َ -إن َ
اجلمل
ا ِإلعراب ،وإذا كانت كذلك كان حكمها حكم املفرد؛ إذ ال يكون للجملة موضع من اإلعراب حىت
عطف الثانية عليها جارياً َْجمرى ِ
موقع امل ْفَرد ،كان ُ موقع املفرد .وإذا كانت اجلملةُ األوىل واقعةً َ تكو َن واقعةً َ
ِ ِ
مررت ٍ
برجل قلتُ : عطف املفرد ،وكان وجه احلاجة إىل الواو ظاهراً ،وا ِإلشر ُاك هبا يف احلُ ْك ِم موجوداً؛ فإذا َ
احلكم كوُهنا يف موضع ُ كت اجلملَة الثانيةَ يف ُحك ِم األُوىل ،وذلك كنت قد أشر َ قبيحَ ، وخ ْلقه ٌُخلُقهُ َح َس ٌن َ
2
جر بأ ََّهنا صفةٌ للنكرة.
ٍّ
اجلملة العار ِية املوض ِع من ا ِإلعر ِ
اب ِ ف على ِ
الضرب الثاين؛ وذلك أن تَعط َ يشكل ُأمره هو لكن الذي
ُ ُ و ّ
َّعي أن الواو ِ
سبيل إىل أن ند َ قبيح ،فال َ اجلهل ٌ
حسن و ُ وعمرو قاع ٌد ،والع ْل ُم ٌ قائم ٌ مجلةً أخرى ،كقولك :زي ٌد ٌ
3
من الوجوه. ٍ ِ ٍ ِ
ب لألُوىل بوجه َ وج َ
أشركت الثانيةَ يف إعراب قد َ
ّ -أما من جهة حروف العطف فاإلشكال يف عطف اجلمل إّمنا يعرض مع الواو دون غريها من
الرتتيب ِم ْن َغري تر ٍاخُ ،
و(مثَّ) ب ِ مثل َّ تفيد مع ا ِإلشر ِ
َ أن الفاءَ توج ُ َ معاين
َ اك تلك ُ حروف العطف" ،ألَن َ
احد منها اجلملةَألحدمها ال بِعينِه .فِإذا عطفت بو ٍ تردد الفعل بني شيئني وّتعلُه ِ ِ
َ َْ ُ و(أو) ِّ ُ َ َ توجبُه َمع تر ٍاخْ ،
ِ
العطاء الشكر كان ُم ْع َقباً على أن ظهرت الفائدةُ ،فإذا قلت( :أعطاين فشكرت) ظهر ِ
بالفاء َّ ِ على اجلملة
َ ُ َ َ
ك ،وأن ُم ْهلَةً ِ
خروجه كان بَـ ْع َد خروج َ َ أفادت (مث) أن
ْ (خرجت مث خر َج زي ٌد)
ُ قلت:
ومسبَّباً عنه .وإذا َ
يفعل واحداً منهما ال بِ َعْينِه.
ت (أو) على أنه ُ يكسوك ،دلَّ ْ
َ يعطيك أو
َ قلت:
وقعت بينهما ،وإذا َ ْ
ِ ِ
األول؛
أتبعت فيه الثاينَ َ اب الذي َ معىن سوى اإلشراك يف احلك ِم الذي يَـ ْقتَضيه اإلعر ُ أما الواو فليس هلا ً
ٍ ِ ِ
أكثر من إشراك عم ٍرو يف اجمليء الذي أثبتَّه لزيد ،و ْ
اجلم ِع وعمرو ،مل تُف ْد بالواو شيئاً َ ٌ قلت :جاءين زي ٌد فإذا َ
يقع ذلك ا ِإلشر ُاك فيه .وإذا كا َن ذلك معىن ُحىت يكو َن هناك ً بني شيئني َّ صوُر إشر ٌاك َ
بينه وبينَه .وال يـُتَ َّ
ني هاتني اجلُملَتني فيه كت بَ َ
تزعم أن الواو أشر ْ
معىن ُ وعمرو قاع ٌد ً قائم ٌ كذلك ومل يكن َم َعنا يف قولنا :زي ٌد ٌ َ
4
إشكال املسألة".
ُ ت
ثـَبَ َ
)3استعمال (إ ّن):
ِ
-أشار عبد القاهر إلىى استعمال (إن) حبسب حال املخاطب وموقفه من اخلرب" ،فإذا كان اخلربُ
كائن غريُ كائ ٍن، ِِ بأم ٍر ليس للمخاطب ٌّ ِ ِ
تزعم أنَّه ٌ
ظن يف خالفه البتَّةَ ،وال يكو ُن قد َع َقد يف نفسه أن الذي ُ
ظن يفحتتاج إليها إذا كاَن له ٌّ ِ و َّ
حتتاج هناك إىل (إ ّن) ،وإمنا ُ
فأنت ال ُيكن كائ ٌنَ ، تزعم أنه مل ْ
أن الذي ُ
)7تطبيق عام:
ليستدل هبا على أثر استثمار قوانني النحو وإمكاناته يف
ّ من النماذج اليت حلّلها عبد القاهر اجلرجاين
حسن النظم وبالغة األسلوب ورونق الكالم نسوق منوذجني اثنني:
النموذج األول هو قول إبراهيم بن العباس:
وسلِّط أعداء وغاب نصري ُ فلو إذ نبا دهر وأُنكر صاحب
تكـ ــون عن األهواز داري بنجوة ولك ـ ْـن مقادير جرت وأمور
وإين ألرج ــو بعد هذا حم ـ ـ ـ ـم ـ ـ ــدا ألفضل ما يُرج ـ ـ ــى أخ ووزير
قال عبد القاهر يف حتليل األبيات والتنويه جبمال نظمها وتعليله":فإنك ترى ما ترى من الرونق
والطالوة ،ومن احلسن واحلالوة ،مث تتف ّقد السبب يف ذلك ،فتجده إّمنا كان من أجل تقدمیه الظرف الذي
هو (إذ نبا) على عامله الذي هو (تكون) ،وأن مل يقل( :فلو تكون عن األهواز داري بنجوة إذ نبا دهر)،
مث أن قال( :تكون) ومل يقل( :كان) ،مث أن ن ّكر الدهر ومل يقل( :فلو إذ نبا الدهر) ،مث أن ساق هذا
التنكري يف مجيع ما أتى به من بعد ،مث أن قال( :وأُنكر صاحب) ومل يقل( :وأنكرت صاحبا) .ال ترى يف
األولني شيئا غري الذي عددته لك ّتعله ُحسنا يف النظم ،وكلّه من معاين النحو كما ترى ،وهكذا البيتني ّ
2
السبيل أبدا يف كل حسن ومزيّة رأيتهما قد نسبا إىل النظم ،وفضل وشرف أحيل فيهما عليه".
-والنموذج اآلخر هو أبيات البحرتي :
بلونا ضرائب من قد نرى فما إن رأينا لفتح ضريبا
حيسن بنا يف ختام هذه احملاضرة املتعلقة بنظرية النظم أن نسرد طائفة من القوانني الضابطة للنظرية ،وهذه القوانني
تلخيص مناسب ملبادئها وأحكامها :
.5اإلعجاز هو أعلى مراتب البالغة والفصاحة ،ومرجعه إىل النظم.
.2النظم هو وضع الكالم الوضع الذي يقتضيه علم النحو وقوانينه وأحكامه.
يؤدي إىل تغ ّري يف املعىن ،وال تستوي العبارتان املختلفتان أدىن اختالف.
تغري يف املبىن ّ
كل ّّ .3
.9النظم هو اختيار أنسب مقال ّ
لكل حال وسياق ،عمال مببدأ (لكل مقام مقال).
.1فصاحة الكلمة ينظر فيها إىل سياقها وما جياورها من الكلمات ،ال إىل بنيتها.
.3ترتيب املعاين سابق على ترتيب األلفاظ .وترتيب األلفاظ يف الذكر يتبع ترتيب معانيها يف الذهن.
.7مقاصد املتكلّم وحال السامع مما يتح ّكم يف النظم.
تستقل جبماهلا عنه ،وينبغي أن يستدعيها املعىن
ّ .8اجلناس والطباق وسائر ّ
احملسنات اللفظية تابعة للنظم وال
متعسفا.
وال تفرض فرضا ّ
.4الكلمات إمنا جعلت ليؤلّف فيما بينها ويعلّق بعضها ببعض ،ومل ّتعل لتبقى معزولة ألهنا ال ّ
تؤدي الغرض
منها آنئذ.
املصور
العام أو أصل املعىن ،لكن العربة باملعىن اخلاص أو املعىن ّ
ليست العربة يف النظم باملعىن ّ .58
أحق به.
الذي خيتص به من أبدعه وجاء به ،فيكون ّ
103
المحاضرة الثانية عشر:أثر نظرية النظم في الدرس اإلعجازي بعد الجرجاني
-1اجلاحظ :احليوان ،حتقيق حممد باسل عيون السود ،دار الكتب العلمية ،ط ،9بريوت 9113م ،ج ،3ص .49-40
104
كان ال يتخيل أن جياوز حدود سالفيه ومعاصريه إىل حد بعيد .ولعل امتيازه من بني الكتب قد أدى عبد القاهر
إىل عنايته به تلك العناية.
ولئن ذهب الزمان بكتب "النظم" و"اإلعجاز" السالفة الذكر حىت احمت آثارها ،وانطفأت أنوارها ،فقد وفق
البقاء لكتب أخرى ثالثة ألفت يف القرن الرابع؛ أوهلا :كتاب "النكت يف إعجاز القرآن" أليب احلسن علي بن
عيسى الرماين ،وثانيها :كتاب "بيان إعجاز القرآن" أليب سليمان محد بن حممد بن إبراهيم اخلطايب ،وثالثها:
كتاب "إعجاز القرآن" للباقالين .وهذه الكتب الثالثة تكفينا املؤونة لنعرف منهج البحث عن قضية اإلعجاز يف
ذلك الزمن وقبله ،ألهنا متثل ما اندرست من الكتب كما ّتسم فكرة اإلعجاز يف عصرهم .ولقد حط اخلطايب عن
أقدار من سبقوه يف تأليف اإلعجاز أهنم "قد أكثروا الكالم يف هذا الباب قدمیا وحديثا ،وذهبوا فيه كل مذهب
من القول ،وما وجدناهم بعد صدروا من ري "1.فمن هنا نفهم أن املدافعني عن إعجاز القرآن البياين من
القدماء ،وإن أثبتوا اإلعجاز وأقنعوا بطريقة كالمية ومنهج جديل ودفعوا الصرفة ونقضوها فلم جييئوا مبا يروي
الغليل ،ويشفي العليل ،يف حتديد وجه إعجازه بالغة ،وذلك -كما يقول اخلطايب -لتعذر معرفة وجه اإلعجاز
يف القرآن ،ومعرفة األمر يف الوقوف على كيفيته.2
على أن أصحاب كتب اإلعجاز الثالثة املذكورة وإن استنفدوا جدهم ،وبذلوا جهدهم ،واستنزفوا قوهتم،
وشدوا وطأهتم ،إلدراك ما مل تدركه أوائلهم ،وإحاطة ما فاهتم يف بيان اإلعجاز القرآين ،من لدن الرماين إىل
الباقالين الذي زعم أنه ألف كتابه ليسقط الشبهات ،ويزيل الشكوك اليت تعرض للجهال ،وينتهي إىل ما خيطر
هلم ،ويعرض ألفهامهم ،فهم وإن أحسنوا ووفقوا يف كثري ،فما أغلقوا الباب على عقول املتشككني واملعارضني،
وما أصابوا بسهمهم نقطة اإلعجاز البياين إصابة القرطاس .ولذلك قد رد إىل الباقالين قوله الذي تنقص فيه
اجلاحظ أنه "مل يزد فيه على ما قاله املتكلمون قبله ،ومل يكتشف عما يلتبس يف أكثر هذا املعىن" 3.وإىل مثل
ذلك ذهب شوقي ضيف أن الباقالين "مل يستطع تفسري اإلعجاز القرآين من حيث نظمه تفسريا مفصال دقيقا
على الرغم من إطنابه وتفصيله"4وأنه "مل يستطع أن يبني حقا عن شيء من هذا املعىن ،ولكنه هو وأمثاله من
األشعرية إمنا كانوا يريدونه وعجزوا عن بيانه".5
-1اخلطايب" :بيان إعجاز القرآن" ،ضمن ثالث رسائل يف إعجاز القرآن ،حتقيق حممد خلف اهلل وحممد زغلول سالم ،دار املعارف ،ط،4
0220م ،ص .90
-2اخلطايب ،املرجع نفسه ،ص .90
-3الباقالين :إعجاز القرآن ،حتقيق أمحد صقر ،دار املعارف ،ط ،5القاهرة 0280م ،ص .6
-4شوقي ضيف :البالغة تطور وتاريخ ،دار املعارف ،ط ،2القاهرة 0225م ،ص .012
-5شوقي ضيف ،املرجع نفسه ،ص .007
105
وإىل هذه الدائرة ينضم القاضي عبد اجلبار إال أنه قد ارتقى أكثر من معاصريه وأورد مالحظات وإشارات جد
هامة يف تركيب الكالم ونظمه ووصل إىل إشارات حنوية مل تكن عند سالفيه حىت ملس بعض بذور نظرية النظم يف
جزء من كتابه "املغين" مساه "إعجاز القرآن" .ولكن عبد اجلبار مل يعط لذلك اهتماما عميقا میكن أن يقال بأنه
مؤصل لنظرية ما ،بل َسلَك ِس ْلك األولني ووفق يف مالحظاته إىل ما مل يتنبه له قدامه.
وهكذا كانت فكرة اإلعجاز وطيدة حىت جاء عبد القاهر اجلرجاين فكشف عن غوامض ما قد أحيط من
األقاويل يف نظم القرآن ،وأبرز من وجوه إعجازه ما أقنعت أهل اللغة والبالغة ،فأصبحت النظرية معروفة به يف
كتابه القيم "دالئل اإلعجاز" وهو أساس علم املعاين كما يعترب كتابه "أسرار البالغة" الذي بني فيه يف مواضع
متعددة وجوه البيان القرآين أساسا ل"علم البيان" .هذا مع أن عبد القاهر قد وضع إىل جانب كتابه "الدالئل"
رسالة مسماة ب"الرسالة الشافية" كما سلف ذكرها ،كان هدفه فيها تثبيت حقيقة اإلعجاز ال تبيني أسراره.
ومع عبد القاهر ،انتهى -كما يرى بعض الباحثني -الصراع بغلبة أصول املنهج القرآين الذي يرى أن سبب
إعجاز النص كامن يف نظمه وطريقة بنائه .وال غرو يف أن يقتصر خلفه على وضعه ونظريته ،فمد الزخمشري
النظرية واعتمد عليها إلبراز أسرار اإلعجاز يف تفسريه "الكشاف" ،مث جاء بعده السكاكي فقعد بواسطة كتايب
عبد القاهر قواعد علم البالغة يف "املفتاح" كما خلص الفخر الرازي "الدالئل" يف كتاب مساه "هناية اإلجياز يف
دراية اإلعجاز" .ومن هنا "أصبحت علوم البالغة قائمة بذاهتا متميزة املوضوع ،واضحة املنهج ،قريبة املورد ،وافية
اجلىن "1.فلم يأت املتأخرون بشيء جديد لوال الشرح والتلخيص ،واالختصار والتوضيح ،كما فعل القزويين
ب"املفتاح" يف كتابيه "اإليضاح" و"التلخيص".
ولئن كانت املعتزلة ومتكلمو األشاعرة أبرز من تصدى للكالم يف اإلعجاز والنظم ،فلم يقتصر اجملال عليهم
دون غريهم .فلقد اهتم باملوضوع بعض املفسرين يف تفاسريهم كالطربي الذي أشار إىل اهتمامه مبزايا األسلوب يف
تفسريه كما أبان بعده القرطيب مهته اهلامة لبالغة القرآن فذكر نكتا يف إعجاز القرآن وعدد له وجوها عديدة يف
مقدمة تفسريه .وهو نفس املنهج الذي سلكه أبو حيان يف "البحر احمليط" ،وابن عطية يف "احملرر الوجيز" ،إذ وقفا
أثناء تفسري اآليات على إبراز النكات البالغية ،واجلهات اإلعجازية ،كما متيز كتابامها بانضوائهما إىل اجلانب
اللغوي .ولقد أدىل بعض احملدثني بدلوهم كاخلطايب السالف الذكر ،وحىت الفقهاء كابن حزم يف "الفصل"
والقاضي عياض يف "الشف" .وذلك ألن قضية اإلعجاز بقيت زمنا طويال شغل الناس الشاغل ،وافرتق الناس يف
حتديد وجوهه الستبهامه عليهم .والفرق بني هؤالء املعتزلة واملتكلمني أصحاب العلوم الدخيلة ،وأولئك املختصني
بالعلوم األصيلة ،هو أن دراسة هؤالء لبالغة القرآن كانت دراسة غاية لديهم فأفردوا هلا كتبا مستقلة مبسوطة
-1حامد عوين :املنهاج الواضح يف البالغة ،املطابع األمريية ،القاهرة 0224م ،ص .01
106
ممدودة ،فلذلك يرجع الفضل األكرب يف قيام هذا العلم إليهم ،بينما كان أولئك يتكلمون فيه ضمن مؤلفاهتم،
نفس ما تراه يف مؤلفات "علوم القرآن" وكما فعل ابن قتيبة يف تصديه للطاعنني يف القرآن بشكل عام وملنكري
إعجازه بشكل خاص مفندا مزاعمهم وموقفا مطاعنهم ،يف كتابه "تأويل مشكل القرآن".
وهكذا تالطمت جهود العلماء وتتابعت حبوثهم عن حقيقة اإلعجاز النظمي يف رسائل وكتب مستقلة،
وضمن التفاسري والكتب العلمية حىت تشكلت فوق كل ذلك "نظرية النظم" اليت سامهت على ضوء كبري يف إنتاج
علم البالغة الذي قام على أسس وقواعد مضبوطة ،وأصبحت له اصطالحاته اخلاصة اليت مل يكن استعماهلا يف
أول الوهلة إال استعماال عاما ،فمهدت للمحدثني تبيني أسرار اللغة واإلعجاز على طريقة واضحة بسيطة.
نظرية النظم بين التحقيق والتطبيق: -2
لقد علمنا أن كلمة "النظم" ظهرت وتداولت منذ بداية التكلم عن موضوع اإلعجاز ،فجعله اجلاحظ عنوانا
لكتابه "نظم القرآن" ،وأخذ بأخذه كثري ممن جاءوا إثره مقتفني أثره هبذه التسمية ،واستعمله مؤلفو إعجاز القرآن
من دون أن حيددوا أمره ،ويتقنوا ضبطه ،وكأهنم مهما كثرت أقواهلم حول الكلمة ال يستعملوهنا إال يف مفهومه
العام ،ومل تكتمل كلمة النظم على كوهنا نظرية واضحة قائمة مستقلة إال مع عبد القاهر اجلرجاين .ولقد رأينا كيف
كان اللغويون الذين تقدموه يعيب آخرهم أوهلم "كلما دخلت أمة لعنت أخته" .فال يكاد جيهد عصر جهده
اجلاهد ويزعم ألهله حل مشكلة اإلعجاز وفسخ معضلته وأسنده إىل النظم إال وقد أثر عصر يرى النظم مستبهما
ومشتبها عليه يوكل إىل علمائه ضرورة التحقيق واملراجعة .ومع كل ذلك ال يزال الكالم يدور حول النظم ككونه
مرجع اإلعجاز القرآين مقبوال لدى الباحثني.
انطالقا من هذا كله نستطيع أن نقرر أن النظرية قد مرت مبرحلتني أساسيتني:
أوالمها :غامضة ،وهي متثل مرحلة تثبيت اإلعجاز وحتقيقه؛ وهي عصر ما بني اجلاحظ وعبد القاهر أي منالقرن
الثالث إىل القرن اخلامس اهلجريني.
أخرامها :واضحة بينة متثل مرحلة تطبيق النظرية يف نصوص دامغة؛ ومتتد من لدن عبد القاهر إىل ما وراءه.
-1أمحد مطلوب :أساليب بالغية ،وكالة املطبوعات ،ط ،0الكويت 0281م ،ص .71
-2محادي صمود :التفكري البالغي عند العرب ،املطبعة الرمسية للجمهورية التونسية ،تونس 0280م ،ص .424
109
كليهما ،فرأى البعض رجوعه إىل اللفظ تعلقا ببعض أقوال بعض األدباء والبلغاء كقول اجلاحظ" :واملعاين مطروحة
يف الطريق" ،فاحتكره اللفظيون أن اجلاحظ ال يرى فضل الكالم إال يف األلفاظ دون املعاين وجعلوا األلف والالم
لالستغراق .وانتصر فريق آخر للمعىن دون اللفظ ورأى أن قول اجلاحظ مقيد يف مناسبته اليت كان ينكر فيها أليب
عمرو الشيباين استجادته وتعجبه املفرط هلذين البيتني:
وإمنا املوت سؤال الرجال ال حتسنب املوت موت البلى ⁂
أشد من ذاك لذل السؤال ⁂ كالمها موت ولكن ذا
فقال اجلاحظ أن معاين البيتني هذين -يف رأي هذا الفريق -غري علية يعرفها العجمي والعريب والقروي
والبدوي1؛ كما أعاد أبو هاشم اجلبائي الفصاحة إما إىل اللفظ وإما إىل املعىن ال غري .فلما جاء عبد القاهر رد
على هؤالء وأولئك وعلى القائلني بأن ليس إال املعىن واللفظ وال ثالث ،معوال أمرهم أن مرد ذلك جهلهم لشأن
الصورة ،مث جعل اللفظ واملعىن كمنزلة اجلوهر واملعدن ،فال يستغين أحدمها عن اآلخر ،ألن األلفاظ خدم للمعاين،
وتابعة هلا والحقة هبا ،وأن العلم مبواقع املعاين يف النفس ،علم مبواقع األلفاظ الدالة عليها يف النطق .فال میكن أن
يكون اللفظ حمط الفضيلة وحده" ،ألنك ترى الكلمة تروقك وتؤنسك يف موضع ،مث تراها بعينها تثقل عليك،
وتوحشك يف موضع آخر ،2ففصاحة الكلم وبالغة اخلطاب ترجعان إذن إىل تأليف الكالم وعالقات عناصره؛
وما ذلك كله إال النظم .يقول شوقي ضيف بعد أن تكلم عن فصاحة األلفاظ وبالغتها" :وواضح من ذلك كله
أن عبد القاهر يرد إعجاز القرآن إىل خصائصه يف أسلوبه وراء مجال اللفظ ومجال املعىن ،أو بعبارة أخرى إىل
خصائص يف نظمه ،3هذا النظم الذي يريد عبد القاهر أال يعود اإلعجاز إال إليه .يقول بعد أن أبعد كل األنواع
األخرى" :فإذا بطل أن يكون الوصف الذي أعجزهم من القرآن يف شيء مما عددناه مل يبق إال أن يكون يف
االستعارة .وال میكن أن ّتعل االستعارة األصل يف اإلعجاز ،وأن يقصر عليها ،ألن ذلك يؤدي إىل أن يكون
اإلعجاز يف آي معدودة ،يف مواضع من السور الطوال خمصوصة .وإذا امتنع ذلك فيها مل يبق إال أن يكون يف
النظم والتأليف ،ألنه ليس من بعد ما أبطلنا أن يكون فيه إال النظم"4.
فما هذا النظم الذي هو مناط اإلعجاز إذن عنده؟ فهو جييب إىل أنه "ليس شيئا غري توخي معاين النحو
وأحكامه فيما بني الكلم ،وأنا إن بقينا الدهر جنهد أفكارنا حىت نعلم للكلم املفردة سلكا ينظمها ،وجامعا جيمع
-1اجلاحظ ،احليوان ،حتقيق وشرح عبد السالم هارون ،ج ،3شركة ومطبعة مصطفى البايب احلليب وأوالده ،مصر ،ط0265 ،9م .ص .67
-2عبد القاهر اجلرجاين :دالئل اإلعجاز ،حتقيق حممد رضوان الداية وفايز الداية ،مكتبة سعد الدين ،ط0287 ،0م ،ص .29
-3شوقي ضيف :البالغة تطور ونقد ،مرجع سابق ،ص .066
-4عبد القاهر اجلرجاين :دالئل اإلعجاز ،مصدر سابق ،ص .357
110
مشلها ويؤلفها ،وجيعل بعضها بسبب من بعض غري توخي معاين النحو وأحكامه فيها ،طلبنا ما كل حمال دونه،1
ونفهم من تعريف عبد القاهر للنظم أن النظم إن كان مستغلقا على سابقيه فألهنم كانوا يطلبونه يف غري موضعه
فأخطأوا وجه الصواب الذي مل يكن إال توخي معاين النحو بينما كان الكثري منهم يذهب فيه بوجهة أدبية ،وكأن
الباقالين وأصحابه من األشاعرة عندما جشموا إبراز اإلعجاز بالنظم فأعياهم ذلك كان يفوهتم هذا السر املكنون
الذي كشف عنه عبد القاهر ،ويف ذلك نفهم قوله" :كان من أعجب العجب حني يزعم زاعم أنه يطلب املزية يف
3:
النظم ،مث ال يطلبها يف معاين النحو وأحكامه اليت النظم عبارة عن توخيها فيما بني الكلم 2.ويف هذا قال شعرا
يف النظم إال مبا أصبحت أبديه ما من سبيل إىل إثبات معجزة ⁂
معىن سوى حكم إعراب تزجيه ⁂ فما لنظم كالم أنت ناظمه
حكم من النحو منضي يف توخيه وقد علمنا بأن النظم ليس سوى ⁂
معىن وصعد يعلو يف ترقيه لو نقب األرض باغ غري ذاك له ⁂
وال رأى غري غي يف تبغيه ⁂ ما عاد إال خبسر يف تطلبه
وتوخي معاين النحو يكون يف أحكامه وفروقه ووجوهه والعمل بقوانينه وأصوله ،وليست معاين النحو معاين
األلفاظ ،بل يظهر برتتيب األلفاظ واإلعراب .فاملعول يف كل ذلك عند عبد القاهر هو أن خيتار للفظ موضعه
األليق ترتيبا وتركيبا وتأليفا وصياغة ،فتحسن االختيار يف الكالم يف وضع كل حرف من احلروف النحوية مثال
حيث ينبغي أن تكون كالواو والفاء و"مث"" ،ألن يتأتى لك إذا نظمت شعرا ،وألفت رسالة أن حتسن التخري ،وأن
تعرف لكل من ذلك موضعه 4.وهذا التفريق الدقيق الذي يكون يف نظم الكالم والذي ينبه عنه عبد القاهر
نفهمه إذا رجعنا إىل غلط أيب العالية يف اآلية" :الذين هم عن صالهتم ساهون" ،قال :الذي ينصرف وال يدري
عن شفع أو وتر ،فرد عليه احلسن بأنه لو كان كذلك لقال" :الذين هم يف صالهتم ساهون ،فلم يفرق أبو العالية
بني "يف" و"عن" حىت تنبه له احلسن. 5وهذا الذي اشتبه على الكندي املتفلسف فزعم حشوا قوهلم" :عبد اهلل
قائم"" ،إن عبد اهلل قائم"" ،إن عبد اهلل لقائم" حىت يتنبه له أبو العباس املربد أن املعاين خمتلفة الختالف األلفاظ،
-1يقول عبد القاهر يف هذه القضية" :وإذا كان الكندي يذهب هذا عليه حىت يركب فيه ركوب مستفهم أو معرتض ،فما ظنك بالعامة ،ومن
هو يف عداد العامة ممن ال خيطر شبه هذا بباله" .راجع ،عبد القاهر اجلرجاين :دالئل االعجاز،مصدر سابق ص .928
-2عبد القاهر اجلرجاين،دالئل اإلعجاز ،مصدر سابق :ص .21
112
حنو :يا أيتها األرض .مث إضافة "املاء" إىل الكاف دون أن يقال :ابلعي املاء ،مث اتبع نداء األرض وأمرها مبا هو
من شأهنا ،ونداء السماء وأمرها كذلك مبا خيصها .مث أن قيل :وغيض املاء .فجاء الفعل على صيغة "فعل" الدالة
على أنه مل يغض إال بأمر آمر وقدرة قادر .مث تأكيد ذلك وتقريره بقوله تعاىل" :قضي األمر" .مث ذكر ما هو فائدة
هذه األمور ،وهو "استوت على اجلودي" ،مث إضمار السفينة قبل الذكر كما هو شرط الفخامة والداللة على عظم
1
الشأن .مث مقابلة "قيل" يف اخلامتة ب"قيل" يف الفاحتة.
فبالنمط الذي خطه عبد القاهر استطعنا أن جند من نظرية النظم ومن إعجاز القرآن اللغوي شيئا واضحا
ملموسا.
كثرية تلك الدراسات اليت تناولت عبد القاهر اجلرجاين ونظريته يف النظم ،وكم محلت هذه الدراسات آراء
متباينة مرة ومتفقة مرات متعددة ،وكم تضاربت األفكار حول فكرة النظم منذ أن تنبه الشيخ حممد عبده لكل من
كتاب":دالئل اإلعجاز" و"أسرار البالغة" وأخذ منهما دروسا يف رحاب جامع األزهر ،واعتربمها أوىل بالدراسة
من املتون وشروحها وحواشيها ،ملا اتسما به من دراسة عميقة للنصوص األدبية ،تقرب القارئ من تذوق البالغة
بأسلوب سهل وبسيط و ال صلة هلما باجلدل العقيم الذي ال نتيجة له ،وكان من أثر تدريسهما أن خرجا
مطبوعني مصححني إىل الوجود.
وتناول الدكتور طه حسين عبد القاهر اجلرجاين بالبحث يف متهيد كتاب " نقد النثر" لقدامة بن جعفر حتت
عنوان ":البيان العريب" ،وهو يرى أنه مت على يده التوفيق بني البيانني :العريب واليوناين بل أقر يف هناية حبثه أن من
يقرأ "دالئل اإلعجاز" ال يسعه" إال أن يعرتف مبا أنفق عبد القاهر من جهد صادق خصب ،يف التأليف بني
قواعد النحو العريب وبني آراء أرسطو العامة يف اجلملة واألسلوب والفصول ،وقد وفق عبد القاهر فيما حاول
توفيقا يدعو إىل اإلعجاب .وإذا كان اجلاحظ هو واضع أساس البيان العريب حقا فعبد القاهر هو الذي رفع
1
قواعده وأحكم بناءه"
ودرس الدكتور محمد مندور اجلرجاين ونظريته يف كتاب" النقد املنهجي عند العرب" ويف مؤلفه " امليزان
اجلديد" وهو أول من لفت االنتباه إىل األسس اللغوية ملنهج اجلرجاين قائال ":ويف احلق إن عبد القاهر قد اهتدى
يف العلوم اللغوية كلها إىل مذهب ال میكن أن نبالغ يف أمهيته ،مذهب يشهد لصاحبه بعبقرية لغوية منقطعة
النظري ،وعلى أساس هذا املذهب كون مبادئه يف إدراك دالئل اإلعجاز يف القرآن ،ويف النثر العريب و الشعر العريب
على السواء.
مذهب عبد القاهر هو أصح وأحدث ما وصل إليه علم اللغة يف أوروبا أليامنا هذه ،هو مذهب العامل
السويسري الثبت فردنا ند دي سوسير الذي تويف سنة 0203م ،وحنن ال يهمنا اآلن من هذا املذهب اخلطري
إال طريقة استخدامه كأس ملنهج لغوي "فيولوجي" يف نقد النصوص ،لقد فطن عبد القاهر إىل أن اللغة ليست
جمموعة من األلفاظ ،بل جمموعة من العالقات système de rapportsفقال" :اعلم أن هناك أصال أنت
ترى الناس فيه يف صورة من يعرف من جانب وينكر من آخر ،وهو أن األلفاظ املفردة اليت من أوضاع اللغة ،مل
توضع لتصرف معانيها يف أنفسها ولكن ألن يضم بعضها إىل بعض فيصرف فيما بينها فوائد ،وهذا علم شريف
-1قدامه بن جعفر :نقد الشعر ،حتقيق د ،حممد عبد املنعم ،مكتبة الكليات األزهرية0411 .ه0281 -م ،ص .31
114
وأصل عظيم ،والدليل على ذلك أنا إن زعمنا أن األلفاظ اليت هي أوضاع اللغة إمنا وضعت ليعرف هبا معانيها يف
أنفسها ،ألدى ذلك إىل ما ال يشك عاقل يف استحالته ،وهو أن يكونوا قد وضعوا لألجناس األمساء اليت وضعوها
هلا لتعرفها هبا ،حىت كأهنم لو مل يكونوا قالوا"فعل" و"يفعل" ملا كنا نعرف اخلرب يف نفسه ومن أصله ،ولو مل يكونوا
قد قالوا "افعل" ملا كنا نعرف األمر من أصله وال جنده يف نفوسنا ،وحىت لو مل يكونوا قد وصفوا احلروف لكنا
جنهل معانيها ،فال نعقل نفيا وال هنيا وال استفهاما و ال استثناء ،كيف و املواضعة ال تكون وال تتصور إال على
معلوم ،فمحال أن يوضع اسم أو غري اسم لغري معلوم ،وألن املواضعة كاإلشارة ،فكما أنك إذا قلت خذ ذاك مل
تكن هذه اإلشارة لتعرف السامع املشار إليه يف نفسه ،ولكن ليعلم أنه املقصود من بني سائر األشياء اليت تراها
وتبصرها ،كذلك حكم اللفظ مع ما وضع له ،ومن هذا الذي يشك أنا مل نعرف الرجل و الفرس و الضرب
والقتل إال من أساميها؟ لو كان ذلك مصاغا يف العقل ،لكان ينبغي إذا قيل "زيد" أن تعرف املسمى هبذا االسم
من غري أن تكون قد شاهدته أو ذكر ذلك بصفة...وإذ قد عرفت هذه اجلملة فاعلم أن معاين الكالم كلها معان
ال تتصور إال فيما بني شيأين ،واألصل و األول هو اخلرب وإذا أحكمت العلم هبذا املعىن فيه عرفته يف اجلميع،
ومن الثابت يف العقول و القائم يف النفوس أنه ال يكون خرب حىت يكون خمرب به وخمرب عنه ،ومن ذلك امتنع أن
يكون لك قصد إىل فعل من غري أن تريد إسناده إىل شيء .وكنت إذا قلت "اضرب" مل تستطيع أن تريد منه معىن
يف نفسك من غري أن تريد اخلرب به عن شيء مظهر أو مقدر ،وكان لفظك به إذ أنت مل ترد ذلك –
وصوت تصوته سواء( ،صفحة 988 -987كناب دالئل اإلعجاز).
و يف هذا النص البالغ األمهية حند فلسفة عبد القاهر اللغوية العميقة ،وعن هذه الفلسفة صدرت كل آرائه يف
نقد النصوص" ،1وقال يف موضع آخر " :منهج عبد القاهر يستند إىل نظرية يف اللغة ،أرى فيها ويرى معي من
میعن النظر أهنا متاشي ما وصل إليه علم اللسان احلديث من آراء.ونقطة البدء جندها يف آخر " دالئل اإلعجاز"
حيث يقرر املؤلف ما يقرره علماء اليوم من أن اللغة ليست جمموعة من األلفاظ بل جمموعة من
2
العالقات systemedes rapportsوعلى هذا األساس العام بىن عبد القاهر كل تفكريه اللغوي الفين"
وكتب الدكتور مصطفى ناصف عن النظم يف كتاب " دالئل اإلعجاز" يف مؤلفه "نظرية املعىن يف النقد
العريب " وهو يرى أن فكرة النظم يف كتاب "الدالئل" ذات بذور يف تفكري السلف ،ويشري إىل أن عبد القاهر
سبق إىل أن إعجاز القرآن لنظمه من قبل اجلاحظ والواسطي واخلطايب والرماين .ويتناول مذهب الصرفة وموقف
عبد القاهر الرافض له بقوله ":وقد رفض عبد القاهر مفهوم الصرفة ،ومل جيد فيه ما يدعو إىل طول اجلدال"...3
-1حممد مندور :النقد املنهجي عند العرب ،دار هنضة مصر للطبع والنشر ،الفجالة ،القاهرة ،ص .335-334
-2حممد منذور:يف امليزان اجلديد ،مكتبة هنضة ، ،ط ،0مصر 0288 ،م ،ص .075
-3مصطفى ناصف :نظرية املعىن يف النقد العريب ، ،دار األندلس،لبنان ،بريوت ،ص .92
115
ويأخذ على عبد القاهر أنه مل يعن بنصوص القرآن مبينا مدى تفوق القرآن على غريه من النصوص وذلك بقوله":
و الواقع أن صاحبنا مل حياول البتة أن يبني مدى تفوق العبارة القرآنية على غريها من العبارات ،ولو سألت أين
دالئل اإلعجاز يف كتاب عبد القاهر ملا كنت مسرفا.إن جهد عبد القاهر يف تبني مالمح العبارة القرآنية ال يكاد
يذكر خبري ذلك أن الكتاب أقرب يف جممله إىل حديث ما يف اللغة " 1.وخيتم احلديث عن نظرية النظم عند عبد
القاهر اجلرجاين بقوله " لسنا نريد أن نقصر من عمل عبد القاهر ،ولكن الفرق بني اللغة
وفلسفتها واالستيطيقا اللغوية مل يكن متماسكا يف عقل عبد القاهر فضال على من هم دونه"،2
وعقد الدكتور بدوي طبانة فصال حتت عنوان " بالغة عبد القاهر يف دالئل اإلعجاز وأسرار البالغة" يف كتابه
" البيان العريب" بدأه باملوازنة بني اّتاه عبد القاهر ومعاصره ابن سنان اخلفاجي صاحب " سر الفصاحة" وحتدث
عن املعاين و البيان يف كتايب عبد القاهر وختم حبديث مطول عن فكرة النظم "..و الواقع أن هذه الفكرة مل يكن
عبد القاهر خمرتعا هلا ،وإن كان هو الذي بسط فيها القول ،وأقام على أساسها فلسفة كتابه فقد سبقه إليها أبو
عبد اهلل حممد بن زيد الو اسطي املتكلم (ت 317هـ) الذي ألف كتابا مساه " إعجاز القرآن يف نظمه".
وظهرت هذه الفكرة واضحة يف الصراع الذي أثاره امتزاج الثقافات ،وتعصب محلة اليونانية لفلسفة اليونان
ومنطقهم ،ودفاع محلة العربية عن تراثهم وثقافتهم ،ومنها الثقافة النحوية.
ومن مظاهر هذا الصراع تلك املناظرة احلادة اليت قامت بني احلسن بن عبد اهلل املرزباين املعروف بأيب
سعيد السريايف وبني أيب بشر مىت بن يونس يف جملس الوزير أيب الفتح الفضل بن جعفر بن الفرات".3
ويقول يف موضع أخر" وإذا كان عبد القاهر يدين بفكرة النظم ،وال يعرتف جبزئياته ،فإن له لفتة موفقة إىل ما
4
ينبين على تلك الفكرة من أصول النقد الواعي" .
وعقد بعد ذلك فصال للفظ واملعىن عند عبد القاهر وحدد فصال لبالغة التقدمي والتأخري " ويرتب عبد القاهر
على هذا أن املزايا يف النظم إمنا تكون حبسب املعاين واألغراض ،بأن التقدمي والتأخري كله يقوم على هذا
األساس".5وختم حبديث مفصل عن الذكر واحلذف.6
ويتناول الدكتور محمد غنيمي هالل يف كتابه " النقد األديب احلديث "قضية اللفظ واملعىن عند عبد القاهر
ويؤكد يف النهاية قائال ":ونعتقد أن عبد القاهر مل يقر من رجحوا املعىن على اللفظ ،على حنو ما شرحنا من
-1مصطفى ناصف :نظرية املعىن يف النقد العريب ،املرجع نفسه ،ص 31
-2مصطفى ناصف،املرجع نفسه ،ص .30-31
-3بدوي طبانة :البيان العريب ،دار العودة ،ط ، 5بريوت ،ص .066-065
-4بدوي طبانة :البيان العريب ،املرجع نفسه ،ص .072
-5بدوي طبانة ،املرجع نفسه ،ص.074
-6بدوي طبانة،املرجع نفسه ،ص081
116
آرائهم فيما سبق ،بل كان من أنصار الصياغة من حيث داللة هذه الصياغة على جالء الصورة األدبية" 1مث
يتحدث عن النظم عند عبد القاهر ويرى أنه " قام يف هذا الباب جبهد عظيم اخلطر ،فهو يقصد بالنظم ما يطلق
عليه الغربيني علم الرتاكيب ( ،)syntaxeوهو عندهم أهم أجزاء النحو ،ويعرفه عبد القاهر بأنه :وضع
"كالمك الوضع الذي يقتضيه علم النحو".2..
ويتطرق بعد ذلك إىل التقومي اجلمايل وصلته باملضمون عند عبد القاهر ويذكر مناذج يف
نقد بندتو كروتشيه وآرائه يف علم اجلمال و يقول " :إمنا ذكرنا من نقد بندتوكروتشيه ما يتصل اتصاال وثيقا بنقد
عب د القاهر ،لنوضح فضل عبقرية عربية انتهت بعمق نظرياهتا يف النقد األديب إىل نتائج عاملية ذات قيمة خالدة
وهلا صلة بفلسفة اجلمال يف النقد احلديث".3
وألف الدكتور أحمد أحمد بدوي كتابا عن " عبد القاهر اجلرجاين وجهوده يف البالغة العربية" حتدث فيه عن
حياة عبد القاهر وآثاره وشعره وفصل القول يف نظرية النظم" ،4مث حتدث عن إعجاز القرآن قبل عبد القاهر،
وختم مبحور حول عبد القاهر بني معاصريه.
وتناول الدكتور شوقي ضيف عبد القاهر اجلرجاين يف كتابه " البالغة تطور وتاريخ" فخصص فصال لوضع عبد
القاهر لنظرية املعاين و آخر لوضعه لنظرية البيان .وقال معلقا ":ولعبد القاهر مكانة كبرية يف تاريخ البالغة ،إذ
استطاع أن يضع نظرييت علم املعاين و البيان وضعا دقيقا ،أما النظرية األوىل فخص بعرضها وتفصيلها كتابه "
دالئل اإلعجاز " وأما النظرية الثانية فخص هبا ومبباحثها كتاب " أسرار البالغة".5
وعقد الدكتور إحسان عباس فصال يف كتابه "" تاريخ النقد األديب عند العرب" حتدث فيه عن االنطالق من
فكرة اإلعجاز إىل إقرار قواعد النقد و البالغة مث حبث يف قضية اللفظ و املعىن حتت ضوء نظرية النظم اجلر جانية،
وانتهى إىل أن عبد القاهر ألف كتاب" دالئل اإلعجاز " أوال مث بعده كتاب " أسرار البالغة "فامسعه
يقول...":ومن مرحلة املعىن يتكون " علم املعاين " ومن مرحلة " معىن املعىن " جييء "علم البيان " ،وهلذا نستطيع
أن نقول إن عبد القاهر بعد أن انتهى من كتابه دالئل اإلعجاز الذي حتدث فيه حول املعىن ،حاول "أن خيصص
كتابا لدراسة معىن املعىن فكان من ذلك كتابه " أسرار البالغة ".6
-1حممد غنيمي هالل :النقد األديب احلديث ،دار الثقافة ،بريوت ،ص .968
-2حممد غنيمي هالل :النقد األديب احلديث ،املرجع نفسه ،ص .977
-3حممد غنيمي هالل ،املرجع نفسه ،ص .920
-4أمحد أمحد بدوي :عبد القاهر اجلرجاين وجهوده يف البالغة العربية ،سلسلة أعالم العرب ،ص .010
-5شوقي ضيف :البالغة تطور وتاريخ ،دار املعارف ،ط ،8.ص .061
-6إحسان عباس :تاريخ النقد األديب ، ،دار الثقافة ،بريوت ،لبنان ،ص .492
117
و حتدث سيد قطب عن نظرية النظم يف كتابه " النقد األديب أصوله و مناهجه فقال ":لقد حاول أن يضع
قواعد فنية للبالغة و اجلمال الفين يف كتابه " دالئل اإلعجاز" كما حاول أن يضع قواعد نفسية للبالغة يف كتابه
"أسرار البالغة"وقد تأثر بالفلسفة اإلغريقية وباملنطق" 1بل ذهب أبعد من ذلك فأقر أن عبد القاهر " أول من قرر
نظرية يف تاريخ النقد العريب ويصح أن نسميها نظرية النظم" 2و انتقد سيد قطب إمهال عبد القاهر لدراسة
اجلانب الصويت لأللفاظ ويف ذلك يقول ":ومع أننا خنتلف مع عبد القاهر يف كثري مما حتويه نظريته هذه بسبب
إغفاله التام لقيمة اللفظ الصوتية مفردا وجمتمعا مع غريه ،وهو ما عربنا عنه باإليقاع املوسيقي ،كما يغفل الظالل
اخليالية يف أحيان كثرية ،وهلا عندنا قيمة كربى يف العمل الفين ...مع هذا فإننا نعجب باستطاعته أن يقرر نظرية
هامة كهذه – عليها الطابع العلمي – دون أن خيل بنفاذ حسه الفين يف كثري مواضيع الكتاب".3
ومن من أخذ عليه إمهاله دراسة اجلانب الصويت أيضا د.محمد زكي العشماوي يف كتابه " قضايا النقد األديب
بني القدمي و احلديث قائال " :ولكن الذي نؤاخذ عليه عبد القاهر أنه يف حبثه هذا الطويل ،والذي يرتبط ارتباطا
وثيقا باللغة ومكوناهتا الشعورية و املعنوية مل يفسح اجملال لدراسة اجلانب الصويت يف اللغة ودالالته على املعىن
بشكل إجيايب ،فليس من شك يف أن جانبا هاما من التجربة يف الشعر مصدره الصوت و النغم" 4بل ذهب أبعد
من ذلك حني أكد أنه " ال ينبغي أن نكتفي يف منهج لغوي كهذا باإلشارة إىل هذا اجلانب جمرد إشارة ،بل إن
املوقف كان حيتم على عبد القاهر أن يكثف عالقة األصوات باللغة ووظيفتها يف أداء املعىن و على األخص أنه
متهم لفرط محاسته وغريته على تأكيد الوحدة بني اللفظ واملعىن ،بإغفاله جانب اللفظ وإنكاره لقيمته من حيث
هو صوت مسموع ،ومع إمیاننا بأن اللفظ املفرد ال يكتسب قيمته الصوتية أو الشعورية إال إذا جاء يف شكل
سياق ،إال أننا ال نذهب إىل إنكار قيمته الصوتية يف الشعر مجلة ،كما أننا ال ينبغي أن نكتفي مبجرد اإلشارة إىل
أن الصوت جزء من املعىن بل ينبغي أن حندد طبيعة العالقات اإلجيابية بني األصوات ومعانيها".5
وتطرق الدكتور تمام حسان يف كتابه" اللغة العربية معناها ومبناها"إىل نظرية النظم فقال ":ولقد كانت مبادرة
العالمة عبد القاهر رمحه اهلل بدراسة النظم وما يتصل به من بناء وترتيب وتعليق من أكرب اجلهود اليت بذلتها
الثقافة العربية قيمة يف سبيل إيضاح املعىن الوظيفي يف السياق أو الرتكيب.
-1سيد قطب :النقد األديب أصوله ومناهجه ،دار الشروق ،0283ص .096
-2سيد قطب :النقد األديب أصوله ومناهجه،املرجع نفسه ،ص .097
-3سيد قطب،املرجع نفسه ،ص .098
-4حممد زكي العشماوي :قضايا النقد األديب بني القدمي و احلديث ،دار النهضة املصرية بريوت ،0284ص.315
-5حممد زكي العشماوي :قضايا النقد األديب بني القدمي و احلديث ،املرجع نفسه ،ص .315
118
ومع قطع النظر من رأيي الشخصي يف قيمة البالغة العربية بعامة من حيث كوهنا منهجا من مناهج النقد
األديب وعن صالحيتها أو عدم صالحيتها يف هذا اجملال أجدين مدفوعا إىل املبادرة بتأكيد أن دراسة عبد القاهر
للنظم وما يتصل به تقف بكربياء كتفا إىل كتف مع أحدث النظريات اللغوية يف الغرب وتفوق معظمها يف جمال
فهم طرق الرتكيب اللغوي هذا مع الفارق الزمين الواسع الذي كان ينبغي أن يكون ميزة للجهود احملدثة على جهد
عبد القاهر".1
وأفرد الدكتور أحمد مطلوب لعبد القاهر اجلرجاين كتابا عنونه" عبد القاهر اجلرجاين بالغته ونقده" خصص
الفصل األول منه للتعريف بعبد القاهر و نشاطه الثقايف وإنتاجاته فعرف مبحتواها وذكر املصادر القدمیة اليت
أشارت إليها أو اعتمدهتا ،أما الفصل الثاين فقد خصه لنظرية النظم ،أما باقي الفصول فقد كانت ذات صبغة
بالغية وأدبية ترتبط بنظرية النظم.
وخيتم أمحد مطلوب بقوله " لقد حتدث عبد القاهر يف كتابه " دالئل اإلعجاز " وأسرار البالغة" عن كثري من
اللفظ و املعىن و التصوير األديب و السرقات و الذوق و التأثري النفسي ،وربطها بنظرية النظم اليت أطال الكالم
عليها ،وهدفه من ذلك الوصول إىل معرفة اإلعجاز وقد وفق فيما سعى إليه ونفع الدراسات األدبية بنظريته وآرائه
اليت بناها عليها ،وبذلك كان أعظم ناقد شهده النقد العريب القدمي ألنه التزم بفكرة واضحة وسعى إىل هدف
حمدد".2
ويرى األستاذ إبراهيم مصطفى يف كتاب " إحياء النحو " أن عبد القاهر اجلرجاين أعطى تصورا جديدا للبحث
النحوي يف كتاب "دالئل اإلعجاز" فلم يهتم بأواخر الكالم وعالمات اإلعراب ،بل بني أن للكالم نظما " وأن
رعاية هذا النظم وإتباع قوانينه هي السبيل إىل اإلبانة واإلفهام ،وأنه إذا عدل بالكالم عن سنن هذا النظم مل يكن
مفهما معناه ،وال دال على ما يراد منه" 3وانتهى األستاذ إبراهيم مصطفى إىل أن الذي شغل الناس عن نظم عبد
القاهر أمران مها:
أوال :احلالة اليت كان عليها العلم والعلماء يف القرن اخلامس اهلجري حيث كانت العقول قد اكتفت باجرتار
وتقليد األفكار املسبقة و احللول اجلاهزة فلم تقبل أي إبداع أو ّتديد.
-3أمحد مطلوب :عبد القاهر اجلرجانيبالغته ونقده " ،د ، .ط ،بريوت ،0273ص .392
119
ثانيا :املذهب الذوقي الذي ركز عليه عبد القاهر لسرب أغوار اللغة ومعرفة مكوناهتا" فقد تنبه احلس اللغوي لرنة
األساليب ،وضبط خصائصها يف زمن غلبت العجمة بغلبة األعاجم ،ووقف العلماء من علم العربية عند ظ²اهر
اللفظ "ال يبلغ هبم احلس اللغوي أن يتذوقوا ما ذاق عبد القاهر ،وال أن يدركوا ما أدرك".1
و عليه يؤكد األستاذ إبراهيم مصطفى" أنه قد آن ملذهب عبد القاهر أن حييا ،وأن يكون هو سبيل البحث
النحوي".2
وصنف األستاذ محمد عبد المنعم خفاجي كتابا عن " عبد القاهر والبالغة العربية" ،بدأه برتمجة وافية من
أمهات مصادر الرتاجم "كبغية الوعاة يف طبقات اللغويني والنحاة للشيخ جالل الدين السيوطي ،وفوات الوفيات
حملمد بن أمحد الكتيب ،وعقد األستاذ بعد ذلك فصال لعبد القاهر و الكتاب احملدثني اكتفى فيه بتلخيص كل ما
قيل عن عبد القاهر اجلرجاين دون أن يبدي رأيه.
وعرض املؤلف بعد ذلك فصال عن عبد القاهر وأثره يف وضع البيان العريب 3مث انتقل للحديث عن موضوع
كتاب " دالئل اإلعجاز" و كتاب أسرار البالغة و خلص إىل أن عبد القاهر "قد أساء عرض أفكاره يف كتابه"
األسرار" و كذا يف " الدالئل" ،فخرج تأليفه مشوها مضطربا ،معادا مكرورا ".4واليفوتنا أن نشري إىل أن املؤلف
أشار بإجياز إىل بعض األبواب اليت تعرض هلا عبد القاهر فدرس باب اجملاز بفرعيه :املرسل والعقلي ،والتشبيه
واالستعارة ،كما درس النظم ،ووقف على مذهب عبد القاهر يف تقدمي املسند إليه.
وختم كتابه باحلديث عن منهج عبد القاهر يف كتابيه وأكد أنه" منهج أديب"حمض يعرض فيه الرجل على
القارئ األساليب العربية وحيللها ،ويدرسها دراسة فهم وتذوق ونقد ،ويستنبط منها ما يشاء من القواعد األصول
" 5.وعليه دعا إىل ضرورة العودة إىل منهج عبد القاهر.
و الدكتور درويش الجندي ألف كتابا عن نظرية النظم عند عبد القاهر حتت عنوان" نظرية عبد القاهر يف
النظم" استهله بدراسة لبيئة عبد القاهر و عصره وثقافته ،وثىن بالتأريخ لقضية اإلعجاز من القرن األول إىل القرن
اخلامس اهلجري زمن عبد القاهر.
عرج الدكتور درويش اجلندي بعد ذلك للحديث عن نظرية النظم اجلرجانية مبينا أسسها ومعاملها شارحا
أهدافها املتمثلة يف:
-1إبراهيم مصطفى :إحياء النحو ،مطبعة جلنة التأليف و الرتمجة والنشر ،سنة ،0238ص .06
-2إبراهيم مصطفى :إحياء النحو ،املرجع السابق ،صفحة 02و .91
-3إبراهيم مصطفى ،املرجع السابق ،ص .91
-4حممد عبد املنعم خفاجي :عبد القاهر اجلرجاين و البالغة العربية،املطبعة املنرية ،ط 0سنة ،0259ص.34-07
-5حممد عبد املنعم خفاجي ،عبد القاهر اجلرجاين و البالغة العربية،املرجع نفسه صفحة .41
120
بيان أن جوهر الكالم هو املعىن القائم يف النفس. أ-
ب -ربط البالغة باإلعجاز.
واجلديد يف هذا البحث أنه استعان بالبحوث الكالمية يف تفسري نظرية عبد القاهر يف النظم وربط هذه النظرية
بتلك البحوث ربطا وثيقا.1
و يف كتاب " املذاهب النقدية " 2للدكتور ماهر حسن فهمي يتعرض لنظرية النظم ،فيحدث عن قضية اللفظ
و املعىن من حيث نشأهتا وأمهيتها ،ويؤكد أن مقاييس القدماء النقدية كانت مبنية على أساس موقفهم منها.و
يعترب عبد القاهر،إماما للمذهب التصويري ،وهو يبين رأيه هذا على أساس من قول لعبد القاهر يف األسرار ،
يربط فيه التصورات والتخيالت ويعترب ذلك بذرة املذهب التصويري عنده .ويشري كذلك إىل الصفة التحليلية يف
منهجه ،وكيف تطور النقد العلمي العريب على يده ،وعبد القاهر كان رائدا – وال شك –يف فهمه لطبيعة الصورة،
ولكن من الشطط أن نعده رائدا ملذهب أديب على ما ندرك من مفهوم "املذهب" يف أيامنا هذه.
واعترب األستاذ محمد خلف اهلل في كتابه " من الوجهة النفسية يف دراسة األدب ونقده" كتاب "
الدالئل" حبثا يف أسلوب تأليف الكالم ونظمه ،وترتيب معانيه ،وما يعرض هلا من مظاهر معنوية ،حماوال أن ينقل
االهتمام من جانب اللفظ إىل جانب املعىن ،ويشري إىل أن عبد القاهر متلجلج يف هذه القضية ،بينما يقوم "
األسرار" على فكرة أن "مقياس اجلودة األدبية تأثري الصورة البيانية يف نفس متذوقها" 3وهو جزء من تفكري
سيكولوجي أعم يطبع الكتاب بطابعه عن طريق " الفحص الباطن" وتأكيد اجلانب النفسي أي الطريقة النفسانية
اليت يسميها احملدثون " التأمل الباطين 4ويعقد حممد خلف اهلل فصال يدرس فيه تأثر عبد القاهر يف بعض نواحي
تفكريه البالغي و النقدي بالثقافة اإلغريقية وال سيما حبوث أرسطو...ويوجز أهم النواحي اليت تعرض هلا كتاباه":
الشعر واخلطابة" لكي يرى إىل أي مدى تأثر هبما عبد القاهر ،مث خيتم حبثه قائال ":غري أن هذا التأثري ال ينايف
األصالة ،وال ينفي عن عبد القاهر صفة العامل املبتكر ،وال يقلل من أمهية نظريته اليت مل يسبقه سابق إىل عرضها،
وحتقيقها ،وإفراد موضوعها بالدرس ،كما يفرد العامل احلديث موضوعا معينا للبحث و التنقيب يف رسالة خاصة،
فمنهجه وطريقة تأليفه إذن ،من أبرز املعامل يف الدراسات العربية النقدية ،وشخصيته العلمية يف نظريته واضحة
121
حقا جبانب شخصية "أرسطو" وإن قدرته على تسخري العلم يف كشف أسرار الذوق لدليل على أصالته كفيل
1
خبلوده ".
وألف الدكتور محمد بركات حمدي أبو علي كتابا يف نظرية النظم اجلرجانية حتث عنوان":معامل املنهج
البالغي عند عبد القاهر اجلرجاين " استهله بفصل عن عبد القاهر ونظرية النظم مؤكدا أن " املتتبع ملؤلفات عبد
القاهر يف الرسالة الشافية و الدالئل واألسرار يالحظ قلة الشواهد واآليات القرآنية وحتليلها ،وهذه املالحظة قد
وقف عليها األستاذ أمني اخلويل ،إذ حكم لعبد القاهر بالبالغة و األدب يف كتابه "األسرار" ولكنه يأخذ عليه يف
كتابه " الدالئل" أنه ال يتحدث يف قضية اإلعجاز بكثري و ال قليل ،بل ال يستشهد بالقرآن على نسبة كافية،
وكأنه يتحرى ترك ذلك ملا تشعر به من قلة الشواهد القرآنية يف كتابه هذا قلة ظاهرة.
وتابع األستاذ أمين الخولي يف هذه املالحظة الدكتور مصطفى ناصف ،يف أن عبد القاهر مل يعن بنصوص
القرآن يف كتابه األسرار ...ويرى الرأي نفسه الدكتور أمحد بدوي ويؤيده ،ولتوثيق هذا قمنا بإحصاء اآليات
القرآنية اليت استخدمها عبد القاهر يف رسالته وكتابيه ،فكانت كاآليت:
-0ورد يف الرسالة الشافية مثان آيات من مخس سور ،وتقع هذه الرسالة يف مخس وأربعني صفحة من
احلجم املتوسط.
-9و يف كتاب "دالئل اإلعجاز" يورد عبد القاهر مائة وستا وستني آية ،يف مخس وأربعني سورة ،ويقع
كتاب " الدالئل" يف حدود ثالمثائة وأربع وستني صفحة من احلجم املتوسط ،وقلة ورود اآليات ،وعدم
التعرض إىل تفسريها ،أمر واضح يف هذا الكتاب ،وال أظن أن عبد القاهر قد خالف بني عنوان الكتاب
وهو "دالئل اإلعجاز" وما جاء فيه على غري ذلك ،كما ظهر لبعض الباحثني.و ذلك ألن العنوان من
شقني ،األول يف " الدالئل" وهي العالمات و الوسائل و البدايات و األسس و الركائز مث إضافة "
الدالئل" إىل " اإلعجاز"وهو إعجاز القرآن ،ومعىن عنوان الكتاب أنه يف غري تفسري اإلعجاز القرآين ،وإمنا
يف وسائل هذا اإلعجاز و يف طرائق فهمه.
-3و يف كتابه"أسرار البالغة" نرى أن عبد القاهر قد أورد تسعا وثالثني آية من مخس وعشرين سورة،
وهذا يفسر ما ذهبنا إليه من أن عبد القاهر ما انشغل بتفسري البيان القرآين ،ولكنه اهتم بتفسري الوسيلة
وإيضاحها...
وهذا الفهم يؤدي إىل دفع هتمة" قصور عبد القاهر يف استخدام اآليات القرآنية ،وعدم تفسريه البيان
القرآين.2"..
-1حممد خلف اهلل :من الوجهة النفسية يف دراسة األدب ونقده ،معهد البحوث والدراسات العربية ،املرجع نفسه ،ص 43
-2حممد خلف اهلل ،معهد البحوث و الدراسات العربية ،املرجع نفسه ،ص .005
122
وبقصد تعريف القارئ بعلم من أعالم العرب ،تناول الدكتور أحمد علي دهمان " الصورة البالغية عند عبد
القاهر اجلرجاين منهجا وتطبيقا" بغية الوقوف على كيفية دراسة عبد القاهر للصورة البالغية يف ظل نظرية النظم و
تبيان طبيعتها ،لذا بدأ بالتفتيش عن األساس النظري لفكر عبد القاهر اللغوي و البالغي ليختم بتقومي منهجي
ملنهج عبد القاهر بني القدماء و احملدثني ،عن طريق الربط بني اجلانبني النظري و التطبيقي " ألن هذا الربط يعطي
قيمة كربى للدراسة تربر األصالة ،وتوضح جوانبها ،وال سيما عند ناقد ثبت مثل عبد القاهر ،الذي مل يقف فكره
النقدي عند " التنظري" وحده ،وإمنا جاوزه إىل التذوق و التحليل ،للوصول إىل القيم الفنية يف األثر األديب ،وردها
إىل عناصر يف صياغته ونظمه ،األمر الذي جعل لبحوثه قيمة خاصة ،ال نعثر على شبيه هلا يف مورثنا النقدي
والبالغي تقريبا".1
و درس الدكتور عبد العزيز عبد المعطي عرفة الذوق البالغي لدى عبد القاهر اجلرجاين يف ظل نظرية النظم
من خالل مؤلفه " تربية الذوق البالغي عند عبد القاهر اجلرجاين" استهله باحلديث عن الذوق البالغي قبل عبد
القاهر مث انتقل ألصالة الذوق البالغي مع عبد القاهر ويف ذلك يقول ":وجاء الشيخ عبد القاهر اجلرجاين ،ودرس
النظم ووضع يده على موطن الفكر يف النظم و الرتتيب ،و كشف عن اإلثبات و صوره العجيبة ،وحدد دورا
أللفاظ ،وموقف املعاين الشعرية ،ومكانة الصور اليت تربز فيها تلك املعاين.
و على ضوء نظريته يف النظم دفع أخطاء السابقني يف تفسري البيان العريب بعامة وناقش آراء اللفظيني ،وبني
فضل املفسر على التفسري ووحد موقف منشد النصوص".2
هذه جممل الدراسات احلديثة العامة اليت تناولت " نظرية النظم" عند عبد القاهر اجلرجاين ،وهي هتدف إىل
بيان عظمة عبد القاهر بالنسبة للدراسات املعاصرة من خالل دراسته القيمة للرتاث األديب ،وحتليله ومناقشته و
كيف تصرف املتكلم ،فأثبت ونفى ،وقيد وأطلق ،وعرف ونكر ،وقدم وآخر ،وفصل ووصل ،وفضل أداة على
أخرى ،ولفظا على آخر ،واستعار وشبه ،وكىن وصرح ،وذكر وأضمر ،و أوجز وأطنب ،إىل آخر تلك التصرفات
اليت ليس هلا حد وهناية كما يقول الشيخ نفسه .وقد ربط كل هذه الوجوه و الفروق بغرض الشاعر ومدى
التحامها به أو قرهبا أو بعدها منه ،كل ذلك بقرحية نفاذه ،وذوق بالغي سليم ،و معرفة واسعة بكالم العرب و
طرق القول عندهم.
-1حممد بركات محدي أبو علي :عامل املنهج البالغي عند عبد القاهر اجلرجاين ،طبعة دار الفكر ،عمان األردن ،0284 ،ص -05-04
.94
-2أمحد علي دمهان :الصورة البالغية عندعبد القاهر اجلرجاين ،ج 0طبعة دار طالس للدراسات و الرتمجة و النشر ،0286ص .03-09
123
هذا البحث البيبلوغرايف إذ يرجو لنفسه أن يقرب القارئ الكرمي من جممل البحوث احلديثة اليت تناولت نظرية
النظم اجلرجانية بالدرس و التحليل وحسيب أين حاولت و الكمال هلل وحده واهلل ويل التوفيق.
124
قراءة نقدية لنص من كتاب "دالئل اإلعجاز" لعبد القاهر الجرجاني:
هذه قراءة نقدية لنص من كتاب دالئل اإلعجاز لعبد القاهر اجلرجاين ،وهو كالتايل:
يقول عبد القاهر اجلرجاين يف كتاب " دالئل اإلعجاز يف علم املعاين":
" مث قال :وذهب الشيخ إىل استحسان املعاين واملعاين مطروحة يف الطريق يعرفها العجمي و العريب ،والقروي و
البدوي ،وإمنا الشأن يف إقامة الوزن ،وختري اللفظ ،وسهولة املخرج ،وصحة الطبع ،وكثرة املاء وجودة السبك ،وإمنا
الشعر صناعة وضرب من التصوير" :فقد تراه كيف أسقط أمر املعاين وأتى أن جيب هلا فضل فقال :وهي مطروحة
يف الطريق مث قال :وأنا أزعم أن صاحب هذين البيتني ال يقول شعرا أبدا :فأعلمك أن فضل الشعر بلفظه ال
مبعناه وأنه إذا عدم احلسن يف لفظه ونظمه مل يستحق هذا االسم باحلقيقة ،وأعاد طرفا من هذا احلديث يف(
البيان) فقال ":ولقد رأيت أبا عمرو الشيباين يكتب أشعارا من أفواه جلسائه ليدخلها يف باب التحفظ والتذكر،
ورمبا خيل إيل أن أبناء أولئك الشعراء ال يستطيعون أبدا أن يقولوا شعرا جيدا ملكان أعراقهم من أولئك اآلباء(:مث
قال) ولوال أن أكون عيابا مث للعلماء خاصة لصورت لك بعض ما مسعت من أيب عبيدة ومن هو أبعد يف ومهك
من أيب عبيدة":
واعلم أهنم مل يبلغوا يف إنكار هذا املذهب ما بلغوه إال ألن اخلطأ فيه عظيم وأنه يفضي بصاحبه إىل أن ينكر
اإلعجاز ويبطل التحدي من حيث ال يشعر ،وذلك أنه إن كان العمل على ما يذهبون إليه من أن ال جيب فضل
ومزية إال من جانب املعىن وحىت يكون قد قال حكمة أو أدبا واستخرج معىن غريبا أو شبيها نادرا فقد
وجب إطراح مجيع ما قاله الناس يف الفصاحة والبالغة ويف شأن النظم والتأليف وبطالن جيب بالنظم فضل وأن
تدخله املزية وأن تتفاوت فيه املنازل.إذا بطل ذلك فقد بطل أن يكون يف الكالم معجز وصار األمر إىل ما يقوله
1
اليهود ومن قال مبثل مقاهلم يف هذا الباب ودخل يف مثل تلك اجلهاالت ونعوذ باهلل من العمى بعد اإلبصار.
ال يكون إلحدى العبارتني مزية على األخرى ،حىت يكون هلا يف املعىن تأثري ال يكون لصاحبتها ،فإن قلت:فإذا
أفادت هذه ما ال تفيد تلك فليستا عبارتني عن معىن واحد بل مها عبارتان عن معنيني اثنني :قيل لك:إن قولنا "
املعىن" يف مثل هذا يراد به الغرض والذي أراد املتكلم أن يثبته أو ينفيه حنو أن تقصد تشبيه الرجل باألسد فتقول:
زيد كاألسد ،مث تريد هذا املعىن بعينه فتقول:كأن زيدا األسد .فتفيد تشبيهه أيضا باألسد إال أنك تزيد يف معىن
تشبيهه به زيادة مل تكن يف األول و هي أن ّتعله من فرط شجاعته وقوة قلبه وأنه ال يروعه شيء حبيث ال يتميز
عن األسد وال يقصر عنه حىت يتوهم أنه أسد يف صورة آدمي .وإذا كان هذا كذلك فانظر هل كانت هذه الزيادة
-1تربية الذوق البالغي عند عبد القاهر اجلرجاين عبد العزيز عبد املعطي عرفة ،ط 0سنة ،0283ص .6
125
وهذا الفرق إال مبا توخى يف نظم اللفظ وترتيبه حيث قدم الكاف إىل صدر الكالم وركبت مع "إن" وإذا مل يكن
ض نفسك على تفهم ذلك وتتبعه ،واجعل ور ْ
إىل الشك سبيل أن ذلك كان بالنظم فاجعله العربة يف الكالم كلهَ ُ
1
فيها أنك تزاول منه أمرا عظيما ال يقادر قدره ،وتدخل يف حبر عميق ال يدرك قعره.
تعد قضية "اللفظ و املعىن" من املشاكل املهمة يف علم اجلمال احلديث ،و شغل هبا النقد القدمي قبل أن
يعاجلها النقد احلديث و قد حتدث فيها النقاد على املعاين اجلمالية املوضوعية اليت تعد من أسس احلكم على
العمل األديب من الناحية الفنية ،وعلى الرغم من أن مادة التعبري األديب هي اجلمل مبا تشتمل عليه من ألفاظ
منظومة أو منثورة يستعان هبا على حماكاة األشياء و األعمال كما قرر ذلك أفالطون و أرسطو فليست القواعد
اجلمالية مقصورة على ما خيص اجلمل واألبيات املفردة ،بل إن منها ما خيص األجناس و القوالب الفنية ،أي
وحدة العمل األديب كله .وقد أوىل النقد العريب القدمي كبري اهتمام باملسألة و انقسم النقاد فيها فرقا و أقساما:
أصحاب اللفظ ،أصحاب املعىن مث الذين مجعوا بينهما وعبد القاهر اجلرجاين ممن نص على و جوب احتاد املعىن
باملعىن ،و امتزاج الصورة باملادة ،و تكافؤ الشكل مع املضمون مرد ذلك أنه نشأ نشأة لغوية و كانت له عناية
فائقة باللغة و النحو حىت لقب بعبد القاهر النحوي .إن أول ما يعرتضك يف هذا النص 2الذي بني أيدينا قوله:
"مث قال" :دليل على أن اإلمام ينهج منهجا جداليا يشبه باملنهج اجلديل عند املتكلمني و هذا طبيعي ألنه نشأ يف
بيئة كالمية صرفة منهجها بسط آراء املعرتضني مث الرد عليها.ويتبع ما سبق بقوله":وذهب الشيخ":ويقصد به:أبو
عمرو الشيباين ،واستعمل "ال"اليت تعطيه الوقار واالحرتام .
إن أول ما يستوقف عبد القاهر يف نص اجلاحظ أمرين:
-0اعتبار اجلاحظ أن سبيل الكالم هو سبيل التصوير و الصناعة " إمنا الشعر صناعة وضرب من
التصوير " وهو يف نظر عبد القاهر التصاق صرف باأللفاظ و اجلانب الشكلي من الكالم حيث أن ذلك
سلب للمزية و الفضيلة ألنه حمال إذا أردت أن تعرف مكان الفضل و املزية يف الكالم أن تنظر إىل جمرد
معناه ،كذلك ينبغي إذا فضلنا بيتا على بيت من أجل معناه أن ال يكون تفصيل له من حيث هو شعر
3
وكالم وهذا قاطع فاعرفه"
-1عبد القاهر اجلرجاين:دالئل اإلعجاز يف علم املعين،تصحيح اإلمام الشيخ حممد عبده و الشيخ حممد حممود ا الشنقيطي ،دار املعرفة لطباعة و
النشر ،بريوت ،لبنان ،ص .022-028
-2عبد القاهر اجلرجاين ،دالئل اإلعجاز ،مصدرسابق ،ص 022-028
-3عبد القاهر اجلرجاين :دالئل اإلعجاز ،املصدرنفسه ،ص .027
126
-9هو قولة اجلاحظ" :املعاين مطروحة يف الطريق " إذا انطلقنا من أن اجلاحظ أستاذ لعبد القاهر فهمنا
أنه يناصره وليس متعصبا وال مبالغا كما يذهب البعض ،ونالحظ أنه يردد نفس الكالم يف كتاب " البيان
والتبيني "قائال":كالم الناس يف طبقات كما أن الناس أنفسهم يف طبقات".1
لقد اعتربت كتب البالغة و النقد أن اجلاحظ من أنصار اللفظ ولكن عبد القاهر عندما درس ،كشف
النقاب عن رأيه (اجلاحظ)فنسب له يف البداية كما نالحظ يف النص أنه من أنصار اللفظ مث أضاف إليه كلمة
" النظم"وهو شيء مل يقل به اجلاحظ ،وما ذلك إال نابع من منهجية اجلرجاين التعليمية اليت هتدف أن توصل
إليك تدرجييا ،فأوضح عبد القاهر أنه ليس من أنصار اللفظ بعدما فتت النظرية اجلاحظية ،إذ اجلاحظ يرفض
أن يكون حسن الكالم من لفظه و ال يف معناه بل يف" تنسيقه" و" تركيبه" ويف تراصه ويتضح ذلك من قوله"
والشعر صناعة وضرب من التصوير".
فاملعاين مطروحة يف الطريق ،ولكن الفرق يرجع إىل الصياغة ،فاملسرح واحد ولكن الصور تتعدد وختتلف
باختالف الصياغة ،فاملعاين واحدة ال تتجدد وإمنا تصاغ بأحاسيس ومعاناة جديدة ،إن اجلديد يف هذه
األحاسيس و املعاناة هو" األنا " ألن شكلها منفرد وبيئتها خاصة ومعاناهتا مستقلة ،من مث فالتعبري عن مثل
هذا ال جيب أن يكون مثله.
وعبارة اجلاحظ كما ترى توهم كلها أن الفضيلة يف جانب األلفاظ عندما يستقيم وزهنا ،وتكون سهلة
املخارج جيدة السبك ،ويكون األديب يف هذه احلال كمن يقوم بالصنع وختري األلوان لتناسب بعضها بعضا،
أما املعاين فهي مطروحة يف الطريق.
وقد أوضح عبد القاهر السر يف جميء عبارة اجلاحظ عما وردت عليه ،بأنه ملا كانت املعاين إمنا تتبني
باأللفاظ ،وأن ال سبيل لرتتيبها ومجع مشلها إال ترتيب الكالم يف نطقه ،فكنّوا على ترتيب املعاين األلفاظ ،مث
2
باأللفاظ حبذف الرتتيب"
فاملراد من قوله ":ذهب الشيخ إىل استحسان املعاين " هو استحسان أيب عمرو الشيباين لقول من قال:
إنما الموت سؤال الرجال ال تحسبن الموت موت البلى
أفظع من ذاك لذل السؤال ك ــالهما م ـ ــوت ولك ــن ذا
ذلك أن ليس حتت هذين البيتني شيء يستحق أن يستحسن ،وإمنا حتيز هلما الشيخ ملا يف البيتني من معىن
الوعظ و التنفري من ذل السؤال ،فاملعاين اليت حكم اجلاحظ بإطراحها يف الطريق هي "أصول املعاين " املشرتكة بني
-1أبو عثمان عمرو اجلاحظ :البيان و التبيني ،مرجع سابق ،ج ،0ص .044
-2عبد القاهر اجلرجاين ،دالئل اإلعجاز،مرجع سابق ،ص .50
127
مجلة الناس عربيهم وعجميهم وبدويهم ومدنيهم ،ومن سوء التقدير أن خيطر بأوهام أحد الناس أن اجلاحظ
يسوى بني املعاين كلها عند الناس مجلة ،وهذا ما أورده عبد القاهر اجلرجاين يف دالئل اإلعجاز" ،1وأن ما
يتعارض مع هذا االدعاء قول اجلاحظ ":إمنا األلفاظ على أقدار املعاين فكثريها لكثريها وقليلها لقليلها ،وشريفها
لشريفها وسخفها لسخفها و املعاين املفردة البائنة بصورها حتتاج من األلفاظ إىل أقل مما حتتاج إليه املعاين املشرتكة
واجلهات امللتبسة" ،2فمعظم الدارسني املعاصرين يعتقدون أن اجلاحظ يضرب كالمه ،وينقض بعضه بعضا فهو
يزعم أن املعاين مطروحة يف الطريق ،مث يرجع ليقول إن فيها شريفا وسخيفا وكفى هبذا ضالال وجهال ،لكن
اجلاحظ إمنا قصد باملعاين املطروحة يف الطريق تلك املعاين اليت تشرتك فيها كافة الناس واليت هي" أصول املعاين"
ومعرفتها من قبيل الضروريات ،أو هي املعاين املفردة البائنة بصورها كما مساها اجلاحظ نفسه ،أما املعاين الشريفة
فهي تلك املعاين اليت ال میتلك ناصيتها إال خاصة من البلغاء و الفصحاء.
وأما قوله ":إمنا الشأن يف إقامة الوزن وختري اللفظ وسهولة املخرج وكثرة املاء و يف صحة الطبع وجودة السبك،
فإمنا الشعر صناعة وضرب من النسج وجنس من التصوير " 3فهذا من قبيل ما قاله عنه عبد القاهر مدافعا عن
العلماء األوائل – واجلاحظ واحد منهم – بأهنم وصفوا " اللفظ" يف ذلك بأوصاف ،علم أهنا ال تكون أوصافا له
من حيث هو لفظ كقوهلم :لفظ شريف وأنه قد زان املعىن ،وأنه له ديباجة وأن عليه طالوة ،وأن املعىن منه مثل
4
الوشي وأنه عليه كاحللي إىل أشباه ذلك مما يعلم ضرورة أنه ال يعين مبثله الصوت و احلرف.
لقد بني عبد القاهر اجلرجاين أن كالم اجلاحظ ليس على ظاهره وحجته أقوى وأدمغ من هذر بعض الباحثني
فنظر يف كالم اجلاحظ ومقدار صلته بالفصاحة أوال مث يف مقدار صلته باأللفاظ – من حيث هي األلفاظ -أم
للمعاين.
وأول ذلك قوله "/إقامة الوزن" وهو وجهان ،أوهلا :أوزان املفردات ،وهذا ال يدخل يف عداد البالغة والثاين:
وهو مراد اجلاحظ ،حسب ما حيدده سياق الكالم ،وهو أوزان الشعر ،فعليه مدار كالم اجلاحظ يف هذا النص،
وهذا أيضا ال مدخل له يف البالغة وال يف الفصاحة ،وقوله " ختري اللفظ" له وجهان:أوهلما:أن اللفظ يتخريه
املتكلم حسب معانيه ،اليت يريد إبالغها للسامعني و الثاين أن التخري يكون يف ألفاظ تؤدي املعىن ،مث تستجيب
فضال عن ذلك إىل أوزان الشعر الذي هو موضوع الكالم .أما" سهولة املخرج"فليس املراد منه األلفاظ املفردة،
128
آلن أكثر لغة العرب وسوادها األعظم هو سهل خمرجه ،وإمنا املراد منه الكالم املركب وهذا ال حيدث ذكره إال بعد
أن يكون الكالم يؤدي معانيه املطلوبة ،فأداء املعىن أسبق من تسهيل املخارج ،وكذلك قوله يف "كثرة املاء" بل إن
الكالم ال يكثر ماؤه ويسلس حىت يكون قد أوىف مبعناه ،أما " صحة الطبع " و الطبيعة إمنا ّتود باملعاين ،وليس
باأللفاظ.
أما " جودة السبك" فهده هي الصناعة والصياغة والنسج والتصوير ،كلها أمور عائدة إىل املعاين ،ال إىل األلفاظ،
فهو حني يرتب معانيه يف نفسه ويصورها للمستمعني يف ألفاظها ،خترج مسبوكة فتظهر فيها صناعته وصياغته،
ونسجه وتصويره ،فإن أحسن ترتيب املعاين يف النفس حسنت هذه تبعا هلا ،وإن أساء تلك ساءت هذه ،فإمنا
األلفاظ على أقدار املعاين .كل هذه األمور قد ذكرها اجلاحظ وهو يتكلم عن الشعر ،لذلك ختم كالمه بقوله":
فإمنا الشعر "..وهو قال ذلك تعليقا على اختيار أيب عمرو الشيباين للبيتني السابقني ،وهو مل يعب عليه اختياره
إيامها ،ألنه هو نفسه جعالمها يف خمتاراته يف " البيان والتبيني" ،وإمنا عاب عليه أنه مل يعترب يف اختياره إال املعىن،
كما أنه عاب على النحاة أهنم ال خيتارون من األشعار إال ما فيها من إعراب وعاب على رواة األخبار اقتصارهم
على ما فيها من شاهد ومثل.
إن مقياس اجلاحظ يف اختيار األشعار ليس هو املعىن فقط وال هو اإلعراب فقط وال هو الشاهد و املثل فقط،
بل هو كل ذلك مع إقامة وزنه ،وختري لفظه وسهولة خمرجه وكثرة مائه وجودة سبكه وصحة طبع قائله ...هذا مع
عدم إغفاله ألمرين ،أوهلما :هو ما يعود إىل الرتاكيب اليت جاءت يف كالم اجلاحظ وأهنا كلها عائدة إىل الكالم
املركب الذي ال يقوم إال على أساس املعىن وليس على أساس اللفظ املفرد ،والثاين :إن املعاين اليت يقصد إليها
اجلاحظ هنا هي" :أصول املعاين".
إن من اعتمد هذا النص املشهور من كالم اجلاحظ وجعله دليال على انتصاره لأللفاظ دون املعاين إمنا اعتقد
شبهة مت إسقاطها مبعونة من عبد القاهر ومن اجلاحظ نفسه وإمنا جاء هذا اخلطأ من قلة التدبري وسرعة احلكم
وتقليد السابقني ولو أهنم انتبهوا وتابعوا كالم اجلاحظ أللقوه يقول ":وقد قيل للخليل بن أمحد :ما لك ال تقول
الشعر؟ قال الذي جييئين ال أرضاه ،والذي أرضاه ال جييئين" 1واجلاحظ ما قال هذا الكالم عبثا بل ألن موضعه
مناسب له وهو كالم أغفله الباحثون ،فالذي جييء الفراهيدي ال يرضاه و الذي يرضاه ال جييئه ،قطعا ليس هي
األلفاظ ،ألن اخلليل موسوعة "لغوية ،حميط – أو يكاد – بألفاظ العربية مهملها ومستعملها وهو واضع أول
معجم يف العربية وهذا يدلنا على أن اجلاحظ كان على وعي من أن البالغة ليست متعلقة باأللفاظ من حيث هي
ألفاظ مفردة ،ألنه لو كان كذلك لكان اخلليل أفصح العرب وأشعرها ،بل الذي تقتضي الفصاحة هي املعاين
ذلك أن ما يرضاه اخلليل من املعاين الشعرية اليت تنظم فيها العبارة الراقية ،إىل املعىن الصادق ال تتهيأ له وما يتهيأ
130
أمهية النظم يف إضفاء اجلمالية على املعىن .وإذا حنن عاجلنا هذه القضية بالدقة الالزمة أدركنا أمهية املعىن يف
التأليف أو النظم ،وحىت نقف على صحة هذا الرأي نرى مجيعا درس اجلرجاين للمثالني البالغيني التاليني:
" زيد كاألسد" – " كان زيد األسد" ،أمهية املثالني تكمن يف أننا نبحث يف دائرة بالغية واحدة وهي التشبيه،
فمع أننا حددنا املعىن يف املثالني وذلك بأن شبهنا " زيدا " باألسد ،فاملعىن تقريبا واحد وهو التشبيه أي هو تشبيه
باألسد يف صورة إنسان ،غري أن اجلرجاين ال يقف عند هذا احلد مستسلما لصورة املعىن كما يفرضها الواقع ألول
وهلة ألنه الحظ تغريا يف النظم على أساسه ،يتغري املعىن مبجرد ما حولنا " الكاف " من املثال األول وأحلقناها
"بأن" يف املثال الثاين حتول املعىن فجاء على صورة أعمق مما كانت عليه الصورة الوسطي بني التشبيه واالستعارة،
هل هذا يعين أن تغري كلمة " أسد" بكلمة " ليث" میكن أن يؤدي إىل نفس التغري الذي وقفنا عنده اآلن ،قطعا
ال ،ألهنما لفظتان وضعتا أصال لتأدية املعىن فال مزية هلذه على تلك ،والسؤال املطروح هو :ملاذا مل يدخل
اجلرجاين التشبيه يف دائرة معىن املعىن؟ إن التشبيه قناة متر عربها االستعارة ،فهو مبثابة املعىن األول الذي يساهم يف
تشكيلها دون أن يصوغ صورهتا النهائية ،والواقع أن األلفاظ بالنسبة للداللة غري املباشرة ال حتمل قيمة يف ذاهتا،
ألهنا وضعت ألداء املعىن األول من خالل تعلق الكلمات بعضها ببعض ،ولكنها جاءت على تلك اهليئة
املخصوصة ألداء صورة معىن املعىن على وجه أكمل ،فلو أننا وضعنا مكان لفظة" األسد " لفظة " الليث " يف
مجلة "رأيت األسد" ملا كان لذلك من أثر على الغرض األصلي للجملة ،أما حينما يتغري النظم فإن املعىن سيتغري
ال حمالة ،فاجلرجاين ينكر أن تكون لفظة فصيحة يف حد ذاهتا ألنه ال توجد مفردة أفصح من مفردة ،فالفصاحة
ليست صفة للمفردة على اإلطالق ،فحني نسمع ابن الرومي يقول:
أعانقها والنفــس بع ــد مش ــوقة إليها وه ــل بعــد العن ــاق تداني؟
1
سوى أن ترى الروحان يمتزجان وكأن فؤادي ليس يشفى ر سيسه
فكلمة "رسيسه" هل هي كلمة فصيحة " هل نستطيع تبديلها بغريها وحنصل على نفس املعىن؟ فالرسيس هو
بقايا احلرقة واللوعة وعمق احلب و الصبابة ،فهي ال تبدل بغريها من عشرات الكلمات اليت جندها يف املعجم ،و
هذا ال يعين أهنا فصيحة وإمنا ما ارتبطت به من استعمال وسياق ونظم هو الذي أكسبها الفصاحة فإذا قلت إن
فصاحتها جاءت من حروفها فالقاموس مليء بالكلمات اليت هلا نفس الداللة ونفس املخارج الصوتية ولكنها غري
فصيحة "إن األلفاظ ال تتفاضل من حيث هي األلفاظ جمردة ،وال من حيث هي كلم مفردة ،وإن األلفاظ تثبت
هلا الفضيلة ،وخالفها يف مالءمة معىن اللفظة ملعىن اليت تليها أو ما أشبه ذلك مما ال تعلق له بصريح اللفظ".2
-1علي مهنا :ديوان ابن الرومي ،حتقيق عبد األمري ،منشورات دار و مكتبة اهلالل ،ج ،6ص .99
-2عبد القاهر اجلرجاين ،دالئل اإلعجاز ،مصدر سابق ،ص .38
131
ما كان يؤرق اجلرجاين ويشغله هو مكمن اإلعجاز يف القرآن الكرمي ،ماهو هذا الوصف الذي جعل من القرآن
نصا معجزا ؟ ما هي الشروط اجلمالية يف النص القرآين ؟ ما السر يف تفضيل كالم على كالم وتقدمي عبارة على
عبارة؟ .عن هذا السؤال قدم الشيخ إجابات خمتلفة متنوعة تناوهلا بالدرس و التحليل فجاء هبا على الشكل
التايل:
-0هل السر يف الكلم املفرد؟ ال ،ألن اعتبارها كذلك ضرب من احملال إذ تصبح اللفظة املثلوة يف القرآن
أفضل منها وهي مثلوة خارجه وهذا كالم ال يقبله العقل.
-9هل السر يف معاين األلفاظ؟ بالطبع ال ،ألنه لو كان األمر كذلك لكانت لفظة" اهلل" قبل نزول القرآن
أقل داللة من لفظة " الرب" ،مع أن معاين الكلم املفردة كلها تواضع واصطالح.
-3هل السر يف مقاطع اآلي وفواصلها ؟ ال،ألن الفواصل يف اآلي يقول اجلرجاين كالقوايف يف الشعر إن
مل يكن اإلعجاز يف كل هذه األشياء فما الذي هز الناس ومأل صدورهم وأعجزهم حني دخل عليهم
فخرسوا ومحلهم على هذا الوصف ":إن له حلالوة وإن عليه لطالوة" .وما الذي دفع اجلاحظ إىل هذا
القول ":ولو أن رجال قرأ على رجل من خطبائهم وبلغائهم سورة واحدة لتبني له يف نظامها وخمرجها من
لفظها وطابعها أنه عاجز عن مثلها ولو حتدى هبا أبلغ العرب ألظهر عجزه".
-4هل يكمن اإلعجاز يف االستعارة ؟ ال ،ألن ذلك يؤدي إىل أن يكون اإلعجاز يف مواضع معينة دون
غريها ،ويتضح ذلك عند مقارنتها هلذين الرتكيبيني":واشتعل الرأس شيبا " و" اشتعل شيب الرأس" ،فعلى
الرغم من اشرتاكها يف االستعارة فإن أحدمها يفضل اآلخر ويسمو عليه ،فلو كان األمر رهينا باالستعارة
لوجب أن يستوي قوله تعاىل يف اآلية بقول البشر ،وهذا محال ،فقولنا ":اشتعل شيب الرأس" معناه أن
الشيب غط جانبا من الرأس دون أن يشمل الرأس كله ،عكس قوله تعاىل ":واشتعل الرأس شيبا" فهي
مجلة تؤكد التوقد للرأس برمته ،من مت فهو مفهوم مشويل يشمل الرأس وصاحبه مبا يف ذلك فكره وسلوكه...
وعليه فاجلملتني خمتلفتني كليا .إن سر خلود اآلية الكرمیة يكمن يف نظمها ":وال نظم يف الكلم و ال ترتب
حىت يعلق بعضها ببعض ويبني بعضها على بعض" « ،1وأن ليس النظم إال أن تضع كالمك الوضع الذي
يقتضيه علم النحو وتعمل على قوانينه وأصوله" ،2نالحظ من خالل ما تقدم:
-1فرديناند دي سوسري :حماضرات يف علم اللسان احلديث ،ترمجة عبد القادر قنيين.ص.88 ،87 :
134
فإن هذه الرابطة تعد اعتباطية منذ اللحظة اليت تقبلها فيها اجملتمع .وهكذا كانت الدوال يف الظرف الطبيعي
1
اعتباطية لكنها صارت يف اجملتمع ثابتة"
تعالوا معنا نرى هذا يف الرتاث البالغي العريب ،وكتنبيه ال بد منه ،فنحن لسنا بأي حال من األحوال نريد أن
نؤسس شرعية املاضي العريب من خالل منظور غريب حديث ،فهذا أمر نستبعده وال نريد أن نقيس تراثا بالغيا
ضخما من خالل منظار ضيق ،نعود إىل اعتباطية الدليل اللغوي واليت سبق وأن حتدث عنها عبد القاهر اجلرجاين
يف القرن اخلامس اهلجري وإن كان مل يستعمل لفظ "االعتباطية" إال أنه كمفهوم كان راسخا ومتواجدا .قال "ومما
جيب إحكامه بعقب هذا الفصل الفرق بني قولنا "حروف منظومة" و"كلم منظومة" وذلك أن "نظم احلروف" هو
تواليها يف النطق ،وليس نظمها مبقتضى عن معىن ،وال الناظم هلا مبقتف يف ذلك رمسا من العقل اقتضى أن يتحرى
يف نظمه هلا ما حتراه :فلو أن واضع اللغة كان قد قال "ربض" مكان "ضرب" ملا كان يف ذلك ما يؤدي إىل فساد.
2
وأما "نظم الكالم فليس األمر فيه كذلك"
هكذا كان انتباه علمائنا هذه الظاهرة مبكرا وخالصتها أننا حينما نصدر الصوت أو امللفوظ ليدل على فكرة
معينة فإننا نكون متفقني اعتباطيا على تالزم تلك العالقة بني الدال واملدلول وكما أنه كان من املمكن أن يدل
ذلك الصوت على معىن آخر أو أن يكون ذلك املعىن معربا عنه بصوت آخر ،وهذا بالطبع كان ممكنا يف مرحلة
مبكرة ومن مث يكتسب قوة العرف االجتماعي.
نقطة ثانية يلتقي فيها عبد القاهر اجلرجاين مع اللغويني املعاصرين وهي مسألة تأليف الكالم أو النظم كما مساها
عبد القاهر أو النسق والنظام كما مساها الناقد األمريكي روبرت شواز : Robert Schols
الذي يقول" :جيب أن نؤكد أن النسق اللغوي ليس وجودا حمسوسا ،فاللغة االجنليزية ليست يف العامل أكثر من
وجود قوانني احلركة يف العامل ،ولكي تكون موضوعا للدراسة جيب بناء لغة ما ،أو منوذج هلا من شواهد الكالم
الفردي إن أمهية هذا املبدأ للدراسات البنيوية األخرى بالغة ،إن أي نظام إنساين لكي يصبح علما جيب أن ينتقل
من الظواهر اليت يسجلها إىل النسق الذي حتكمها ،من الكالم إىل اللغة ،ويف الطبع ال معىن ألي تصوت بالنسبة
ملتحدث ينقصه النسق اللغوي الذي حيكم معناه ،وما يعنيه هذا بالنسبة لألدب بالغ األمهية ،إذ ال میكن ملنطوق
3
أديب ،لعمل أديب ،أن يكون له إذا افتقدنا اإلحساس بالنسق األديب الذي ينتمي إليه"
-1عز الدين إمساعيل ( أما بعد) فصواللعدد األول ،اجمللد السادس (أكتوبر/نوبر/دجنرب) ،،0285ص.44 :
-2عبد القاهر اجلرجاين:دالئل اإلعجاز ،مصدر سابق ،ص.42 :
3- Robert Schols, structuralism in leterature, introduction (New Haven and london: yale,
op, 1971) translation: Abdelaziz Hamouda, p: 14/15.
135
فشولز يؤكد أن النسق ليس وجودا ماديا حمسوسا لكنه قانون حيكم عالقات الوحدات داخل النص كما أن
التصوت اللغوي ال معىن له من دون نسق حيكم عالقات وحداته ،فتحقق املعىن ال يتم من دون هذا النسق الذي
حيكم العالقة بني املرسل واملرسل إليه .هذا ما ذهب إليه شولز وال نراه يف هذا قدم أكثر مما قاله عبد القاهر سواء
يف تعريفه املوجز واملشهور معلوم أن النظم ليس سوى تعليق الكلم بعضها ببعض وجعل بعضها بسبب بعض ،أم
يف تعاريف أخرى مفصلة قال "واأللفاظ ال تفيد حىت تؤلف ضربا خاصا من التأليف ويعمد هبا إىل وجه دون وجه
من الرتكيب والرتكيب فلو أنك عمدت إىل بيت شعر أو فصل نثر فعددت كلماته عدا كيف جاء واتفق ،وأبطلت
نظامه الذي عليه بىن خبصوصيته أفاد كما أفاد ،وبنسقه املخصوص أبان املراد ،حنو أن تقول يف (قفا نبك من
ذكرى حبيب ومنزل) (منزل قفا ذكرى من نبك حبيب) أخرجته من كمال البيان إىل حمال اهلذيان ،نعم وأسقطت
نسبته من صاحبه وقطعت الرحم بينه وبني منشئه ...وهذا احلكم أعين االختصاص يف الرتتيب يقع يف األلفاظ
مرتبا على املعاين املرتتبة يف النفس ،املنتظمة فيها على قضية العقل".1
كتب عبد العزيز محودة شارحا قول عبد القاهر هذا" :فاأللفاظ ال تفيد" أي ال حتقق معىن أو داللة (حىت حتقق
ضربا خاصا من التأليف) والتأليف اخلاص الذي يقصده عبد القاهر هو (ترتيبه الذي خبصوصيته أفاد) مث هو أيضا
(االختصاص يف الرتتيب) فإذا خرجنا على (نظام) بيت الشعر وقلبنا (نسقه املخصوص) كانت النتيجة إخراج
البيت من كمال البيان وعدم حتقق املعىن ،أي حتقق الالمعىن .ولسنا حباجة هنا إىل التذكري مبصطلحني أساسيني
استخدمهما عبد القاهر يف هذا النص البالغ الثراء ومها (نسق ونظام) واملصطلحان على وجه التحديد مها جوهر
تعريفه املوجز السابق للنظم باعتباره ليس سوى تعليق الكلم بعضها ببعض وجعل بعضها بسبب بعض".2
وكثرية هي النقط اليت يلتقي فيها عبد القاهر اجلرجاين مع اللغويني املعاصرين والنموذج املوايل املكرس ملا نذهب
إليه هو ثنائية الكالم واللغة اليت حضيت وما تزال باهتمام كبري من طرف الباحثني قال سوسري معرفا اللغة بأهنا
"حصيلة اجتماعية يشرتك فيها اجملتمع بأسره ،أما الكالم فهو ذو طبيعة فردية للزمن املاضي وبديا أنه من اليسري
علينا أن منيز بني هذا النسق وبني تارخيه ،أي بني ما يوجد عليه اآلن وبني ما كان عليه ...وبالنسبة ملوقفنا ،فإنه
ال يوجد إال حل واحد جلميع هذه الصعوبات" ذلك أنه يتعني علينا أن نضع أقدامنا وأن نثبتها على أرض اللسان
وميدانه أوال فنجعله معيارا جلميع املظاهر األخرى للغة وال شك أن اللغة وحدها ،من بني كثري مما له ثنائية تكون
قابلة مهيأة لتعريف مستقل ،فيطمئن بذلك فكرنا إىل قبول هذا السناد وهذه الدعامة اليت تقدمها اللغة" 3وعرف
137
مكتبة المطبوعة:
المراجع:
.0أبو بشري عمرو بن عثمان بن قنرب سيبويه ،الكتاب ،تح :عبد السالم حممد هارون ،ج ،0اهليئة املصرية
للكتاب ،القاهرة ،ط0277 ،9م.
.9أبو هالل احلسن بن عبد اهلل العسكري ،الصناعتني الكتابة والشعر ،تح :مفيد قحيمة ،دار الكتب
العلمية ،بريوت ،لبنان ،ط0282 ،9م
.3الباقالين :إعجاز القرآن ،حتقيق أمحد صقر ،دار املعارف ،ط ،5القاهرة 0280م.
.4اجلاحظ :البيان و التبيني ،حتقيق عبد السالم هارون اخلاجني0367 ،ه0248 -م ،ج .4
.5اجلاحظ :احليوان ،حتقيق حممد باسل عيون السود ،دار الكتب العلمية ،ط ،9بريوت 9113م ،ج.3
.6جالل الدين السيوطي ،حتـ حممد أبو الفضل إبراهيم :بغية الوعاة يف أخبار النحاة ،مطبعة عيسى البايب
احلليب ،القاهرة.
.7اخلطايب محد بن حممد ،بيان إعجاز القرآن ،ضمن ثالث رسائل يف إعجاز القرآن ،تح :حممد خلف اهلل
وحممد زغلول سالم ،دار املعارف ،القاهرة ،ط0220 ،4م.
.8اخلطيب القزويين :اإليضاح يف علوم البالغة ،ت حممد عبد املنعم خفاجي ،املكتبة األزهرية للرتاث
0403ه 0223م.
.2الزركشي :الربهان يف علوم القرآن ،حتقيق أبو الفضل إبراهيم ،املكتبة العصرية ،بريوت 0228م.
.01السكاكي :مفتاح العلوم ،حتقيق نعيم زرزور ۔ دار الكتب العلمية -بريوت ،ط0413 ،0ه۔ 0283م.
.00سيبويه عمرو بن عثمان ،الكتاب ،حتقيق :عبد السالم حممد هارون ،مكتبة اخلاجني ،ط ،3القاهرة،
0406هـ0226،م.
.09القاضي اجلرجاين:الوساطة بني املتنيب وخصومه :حتقيق د /حممد أبو الفضل إبراهيم على البجاوی ۔
عيسی احللبی۔ 0266م.
.03قدامة بن جعفر :نقد الشعر،حتقيق د /حممد عبد املنعم خفاجی،مكتبة الكليات األزهرية0411 .ه-
0281م.
138
المراجع العربية الحديثة:
.0إبراهيم مصطفى :إحياء النحو ،مطبعة جلنة التأليف و الرتمجة والنشر ،سنة .0238
.9إحسان عباس :تاريخ النقد األديب ، ،دار الثقافة ،بريوت ،لبنان.
.3أمحد إبراهيم موسی :الصبغ البديعي يف اللغة العربية ،دار الكاتب العريب بالقاهرة 0388ه 0262م.
.4أمحد أبو زيدن مقدمة يف األصول الفكرية للبالغة وإعجاز القرآن ،دار األمان ،الرباط ،املغرب .
.5أمحد مجال العمري ،الباحث البالغية يف ضوء قضية اإلعجاز القرآين ،مكتبة اخلاجني ،القاهرة0221 ،م.
.6أمحد حسن صربة ،التفكري االستعاري ،مكتبة الوادي ،بدمنهور ،ط9119 ،9م.
.7أمحد عبد السيد الصاوي ،مفهوم االستعارة ،منشأة املعارف باإلسكندرية ،ط0288 ،0م.
.8أمحد علي الدمهان :الصورة البالغية عند عبد القاهر اجلرجاين ،منشورات وزارة الثقافة ،سورية ،ط ،9
9111م.
.2أمحد علي دمهان:عبد القاهر اجلرجاين :الصورة البالغية عند عبد القاهر اجلرجاين ،ج 0طبعة دار طالس
للدراسات و الرتمجة و النشر 0286م.
.01أمحد مطلوب :أساليب بالغية ،الفصاحة -البالغة -املعاين وكالة املطبوعات ،ط ،0الكويت
0281م.
.00أمحد يوسف هنداوي ،اإلعجاز الصريف يف القرآن الكرمي ،دراسة نظرية تطبيقية ،التوظيف البالغي
لصيغة الكلمة ،املكتبة العصرية صيدا ،بريوت 9119 ،م.
.09بدوي طبانة :البيان العريب ،ط 5دار العودة ،بريوت.
.03بشري کحيل ،الكناية يف البالغة العربية ،مكتبة اآلداب ،القاهرة ،الطبعة األوىل 9114،م.
.04متام حسان :اللغة العربية معناها ومبناها ،دار الثقافة ،الدار البيضاء
.05حامت صاحل الضامن ،نظرية النظم تاريخ وتطور ،دار احلرية للطباعة ،بغداد (د ،ط) 0272م.
.06حامد عبد القادر ،يف علم النفس ،ج ، 3ص ، 327نقال عن :أمحد الشايب ،أصول النقد
األديب ،الطبعة العاشرة ( ،القاهرة :مكتبة النهضة املصرية )0222 ،م.
.07حامد عوين :املنهاج الواضح يف البالغة ،املطابع األمريية ،القاهرة 0224م.
.08حسن إمساعيل عبد الرازق :من قضايا البالغة والنقد عند عبد القاهر اجلرجاين ،مكتبة الكليات
األزهرية ط 0280-0419 ،0م.
.02حسن عبد الرازق :من قضايا البالغة والنقد عند عبد القاهر اجلرجاين ،مكتبة الكليات األزهرية ط 0
0280-0419 ،م.
139
.91محادي صمود :التفكري البالغي عند العرب ،املطبعة الرمسية للجمهورية التونسية ،تونس 0280م.
.90درويش اجلندي :نظرية عبد القاهر يف النظم ،مكتبة هنضة ،مصر بالفوجانا 0261م.
.99زكي مبارك :املوازنة بني الشعراء ،القاهرة ،مصر،ط.0236 ،9م.
.93سناء محيد البيايت :قواعد النحو العريب ،يف ضوء نظرية النظم ، ،ط ،10دار وائل للنشر ،عمان،
األردن9113 ،م.
.94سيد عبد الفتاح حجاب " ،نظرية النظم عند عبد القاهر اجلرجاين وصلتها بقضية اللفظ واملعىن ،جملة
كلية اللغة العربية جبامعة اإلمام حممد بن سعود ،الرياض :العدد التاسع 0322 ( ،ه 0272 /م).
.95سيد قطب :النقد األديب أصوله ومناهجه ،دار الشروق ،القاهرة 0283 ،م.
.96شوقي ضيف :البالغة تطور وتاريخ ،دار املعارف ،ط ،2القاهرة0225 ،م.
.97شوقي ضيف:النقد ،من فنون األدب العريب ،دار املعارف القاهرة ،ط0264 ،9م.
.98صاحل بلعيد ،نظرية النظم ،دار هومة ،بوزريعة ،اجلزائر9114 ،م.
.92صبحي البستاين ،الصورة الشعرية يف الكتابة الفنية ،دار الفكر اللبناين ،الطبعة األوىل 0286م .
.31صالح الدين حممد عبد التواب :النقد األديب دراسات نقدية وأدبية حول إعجاز القرآن ،ج ،0ط0
،دار الكتاب احلديث القاهرة 9113-0493م.
.30عبد اإلله الصائغ :الصورة الفنية معيارا نقديا ،دار الشؤون الثقافية ،بغداد ،العراق0287 ،م .
.39عبد اإلله سليم :بنيات املشاهبة يف اللغة العربية -مقاربة معرفية -دار توبقال للنشر الدار
البيضاء،املغرب 9110 ،م.
.33عبد احلميد أمحد يوسف اهلنداوي :اإلعجاز الصريف يف القرآن الكرمي ،املكتبة العصرية ،صيدا ،بريوت،
0493ه9119 ،م
.34عبد السالم هارون :الكتاب سيبويه ،ج ، ،0طبعة دار العلم0385 ،ه0266 ،م.
.35عبد القاهر اجلرجاين:بالغته ونقده " ،د.أمحد مطلوب ،ط ،0بريوت 0273م.
.36عبد اهلل بن املعتز :البديع يف البديع، ،ت :عرفان مطوجي ،مؤسسة الكتب الثقافية ،بريوت ط.0
.37عبد املعطي عرفة :تربية الذوق البالغي عند عبد القاهر اجلرجاين عبد العزيز ،ط 0سنة 0283م.
.38عمر أوكان ،اللغة واخلطاب ،افريقيا الشرق ،املغرب 9110،م.
.32فائق مصطفى و .عبد الرضا علي :يف النقد األديب احلديث ،دار الكتب ،جامعة املوصل،ط،9
.9111م.
140
.41يف امليزان اجلديد ،حممد مندور ،ط ،9 :القاهرة مجيع احلقوق حمفوظة لدنيا الوطن © - 9113
9107
.40ماهر حسن فهمي :املذاهب النقدية ،مكتبة النهضة العربية ،القاهرة .0269،
.49حممد السيد شيخون ،األسلوب الكنائي -دار اهلداية للطباعة والنشر .،ط9،0224
.43حممد بركات محدي أبو علي :عامل املنهج البالغي عند عبد القاهر اجلرجاين ،طبعة دار الفكر ،عمان
األردن0284 ،م.
.44حممد بن عبد الغين املصري ،نظرية أيب عثمان عمرو بن حبر اجلاحظ يف النقد الديب ،دار جمدالوي،
عمان ،األردن ،ط0287 ،0م.
.45حممد حسني علي الصغري :لصورة الفنية يف املثل القرآين ،دار الرشيد للنشر ،بغداد ،العراق.0280 ،م.
.46حممد محاسة عبد اللطيف ،النحو والداللة مدخل لدراسة النحو الداليل ،دار غريب للطباعة والنشر
والتوزيع ،القاهرة9116 ،م.
.47حممد خلف اهلل :من الوجهة النفسية يف دراسة األدب ونقده ،معهد البحوث والدراسات العربية،
القاهرة0271 ،م.
.48حممد زكي العشماوي :قضايا النقد األديب بني القدمي و احلديث ،دار النهضة املصرية بريوت 0284م.
.42حممد عبد املطلب ،قضايا احلداثة عند عبد القاهر ،الشركة املصرية العاملية للنشر ،لوجنمان ،الطبعة
األوىل 0225م.
.51حممد عبد املنعم خفاجي :عبد القاهر اجلرجاين و البالغة العربية،املطبعة املنرية ،ط 0سنة .0259
.50حممد غنيمي هالل :النقد األديب احلديث ،دار الثقافة ،بريوت.
.59حممد حممد أبو موسى ،مدخل إىل كتايب عبد القاهر اجلرجاين ،مكتبة وهبة ،القاهرة ،مصر ،ط،0
0228م.
.53حممد حممد أو موسى ،مراجعات يف أصول الدرس البالغي ،مكتبة وهبة ،عابدين ،القاهرة ،مصر ،ط،0
9115م.
.54حممد مندور :يف األدب والنقد ،مكتبة النهضة،مصر ،القاهرة ،ط،5د.ت.
.55حممد منذور :يف امليزان اجلديد،ط ،3مكتبة هنضة مصر.
.56حممود أمحد حنلة ،يف البالغة العربية ،علم املعاين ،دائرة العلوم العربية ،بريوت ،لبنان ،ط0221 ،0م.
.57مصطفى صادق الرافعي ،إعجاز القرآن والبالغة النبوية ،دار الكتب العلمية ،بريوت ،لبنان ،ط،0
9111م.
141
.58مهدي أسعد عرار :جدل اللفظ واملعىن ،دراسة يف داللة الكلمة العربية ،الطبعة األوىل ،دار وائل
للنشر ،عمان ،األردن 9119 ،م.
.52مهدي املخزومي :يف النحو العريب نقد وتوجيه ،ط ،0بريوت ،لبنان0263 ،م.
.61وليد حممد مراد ،نظرية النظم وقيمتها العلمية يف الدراسات اللغوية عند عبد القادر اجلرجاين ،دار
الفكر دمشق ،ط0283 ،0م.
.60يوسف أبو العدوس ،مدخل إىل البالغة العربية ،علم املعاين ،علم البيان ،علم البديع ،دار املسرية
للنشر والتوزيع والطباعة عمان ،األردن ،الطبعة األوىل (0497ه9117 ،م).
-3المراجع المترجمة:
.0بيريجريو،ترمجة د .منذر عياشي :األسلوب واألسلوبية ،مركز اإلخاء القومي،بريوت ،لبنان،د .ت
.9فرديناند دي سوسري :حماضرات يف علم اللسان العام ،ترمجة عبد القادر قنيين
.3هنريش بليث :البالغة واألسلوبية (منوذج سيميائي لتحليل النص) ،ترمجة حممد العمري ،منشورات
دراسات ساك ،الدار البيضاء،ط.0282 ،0م .
.4سار جنت :علم النفس احلديث ،تعريب :منري البعلبكي ،دار العلم للماليني 0272،م .
-1المعاجم:
.0ابن منظور :لسان العرب ،دار املعارف بالقاهرة ،مؤسسة الرسالة ،بريوت 0417ه 0287 -م.
.9أبو بكر بن عبد القادر الرازي ،خمتار الصحاح ،ضبط وختريج ،مصطفى ديب البغا ،دار اهلدى ،اجلزائر .
.3الفريوز ابادي :القاموس احمليط ج ،4القاهرة 0289،م .
-6المجالت:
.0سيد عبد الفتاح حجاب " ،نظرية النظم عند عبد القاهر اجلرجاين وصلتها بقضية اللفظ واملعىن ،جملة
كلية اللغة العربية جبامعة اإلمام حممد بن سعود ،الرياض :العدد التاسع 0322 ( ،ه 0272 /م).
142
.9عبد العزيز محودة :املرايا املقعرة ، ،جملة عامل املعرفة ،العدد .979
.3عز الدين إمساعيل ( أما بعد) جملة فصواللعدد األول ،اجمللد السادس (أكتوبر/نوبر/دجنرب) .0285
.4علي أبو ملحم" :اجلاحظ رائد اجلمالية العربية" ،جملة الفكر العريب ،العدد 47السنة0287:م.
-7الرسائل الجامعية:
-0ليلى عبد الرمحن احلاج " ،الذوق األديب يف النقد القدمي " ( ،رسالة ماجستري ،قسم البالغة والنقد
األديب ،كلية اللغة العربية ،جامعة أم القرى ،مكة ،عام 0413ه 0414 -ه)
143