You are on page 1of 43

‫الفصل األول‬

‫اإلرشاد الفلسفي‪ ،‬مفهومه وتارخيه‬

‫مقدمة‬
‫العالج النفسي التقليدي‬
‫اإلرشاد الرعوي‬
‫الفلسفة التقليدية‬
‫اإلرشاد الفلسفي‬
‫تعريف اإلرشاد الفلسفي‬
‫الجذور التاريخية لإلرشاد الفلسفي‬
‫اإلرشاد النفسي شكل من أشكال اإلرشاد الفلسفي‬
‫الفرق بين اإلرشاد النفسي والفلسفي‬
‫اإلرشاد الفلسفي علم وفن‬
‫الخالصة‬
- 22 -
‫الفصل األول‬
‫اإلرشاد الفلسفي‪ ،‬مفهومه وتارخيه‬

‫ثمة سؤال يطرح من قبل بعض الفالسفة‪ ،‬مفاده ‪ :‬كيف يمكن للفلسفة أن تساعدنا على عيش‬
‫حياة كريمة وتحقق لنا السعادة والرفاهية؟ هناك العديد من الدراسات املعاصرة ذات الصلة تحاول‬
‫استخدام الفلسفة‪ -‬وعلى وجه الخصوص الفلسفة العملية‪ -‬في املمارسة اإلرشادية للحد من مآس ي‬
‫اإلنسان املعقدة كما نادى بها الفالسفة القدماء‪ .‬وهذا الجانب أشار إليه العديد من الباحثين‬
‫املعاصرين بالفلسفة كإرشاد أو عالج‪.‬‬
‫وقد وصفت املمارسة الفلسفية أو اإلرشادية كمجموعة من الطرق لعالج املشكالت اليومية واملآزق‬
‫من خالل وسائل الفلسفية‪ .‬على الرغم من مجموعة متنوعة من األساليب‪ ،‬يبدو املرشدون الفلسفيون‬
‫حتى ينجوا في عملهم عليهم املشاركة في املبادئ التالية‪ .1 :‬استقاللية املسننح أو املسرششد؛ ‪ -2‬تقديم‬
‫اإلرشاد الفلسفي الذي يختلف عن اإلرشاد النفس ي و‪- 3‬تقديم اإلرشاد الفلسفي الفعال في حل املآزق‪.‬‬
‫يظهر الفحص النقدي هذا أن تكون اإلشكالية في هذا العمل في املستويين النظري والعملي على حد‬
‫سواء‪ .‬ويمكن أن تكون املمارسة الفلسفية أن تقدم إسهاما قيما كل من الفلسفة وعلم النفس‪ ،‬وإن‬
‫لم يكن يخلو من املخاطر وسوء الستخدام املحتمل‪ ،‬ويمكن للمرشد الفلسفي إعادة النظر في صحة‬
‫النظرية التجريبية ملعتقداته‪ ،‬وذلك باستخدام النهج تجريبي كمرشد فلسفي‪،‬‬

‫مقدمة‬
‫وفقا لتوماس كون ‪ Thomas Kuhn‬ظهر نظام علمي جديد إلى حيز الوجود عندما‬
‫تتبنى مجموعة من العلماء نموذجا مشتركا إلجراء البحوث يساعد اعتماد هذا النموذج‬
‫أعضاء المجموعات على تتبنى أساليب وأهداف مماثلة مما يسمح للنظام بالتقدم بسرعة‪ .‬في‬
‫هذا الفصل‪ ،‬اتباعا لقيادة كون‪ ،‬يجادل الفيلسوف "روجر بادين" بأن اإلرشاد الفلسفي يمر‬
‫بمرحلة "ما قبل النموذج" ويحتاج إلى تعريف محوره النموذج إذا أراد تطوير الهوية والتقدم‬
‫بسرعة‪ .‬وفقا لذلك‪ ،‬يحاول "بادين" تقديم مثل هذا التعريف من خالل فحص المجاالت ذات‬
‫الصلة بالعالج النفسي واإلرشاد الرعوي‪.Pastoral Counseling‬‬
‫وفقا لتوماس كون‪ ،‬يظهر نظام علمي جديد إلى حيز الوجود عندما تتبنى مجموعة من‬
‫العلماء نموذجا مشتركا يتم من خالله إجراء البحوث ‪.‬‬
‫‪- 1‬يعمل اعتماد هذا النموذج على تركيز انتباه أعضاء المجموعة على المهمة التفسيرية‬
‫الشائعة اآلن‪ ،‬يقودهم إلى تبني أساليب وأهداف مماثلة‪ ،‬مما يجعل من الممكن أنشطة حل‬

‫‪- 23 -‬‬
‫األلغاز القياسية التي تشكل علما عاديا‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬يجادل "كون" في فترات ما قبل النموذج‬
‫وأثناء المراحل الثورية‪ ،‬ال ينخرط العلماء بحق في مثل هذا السلوك أحادي التفكير لحل‬
‫األلغاز‪ ،‬حيث يتم وضع النموذج نفسه موضع تساؤل‪ .‬بدال من ذلك‪ ،‬خالل هذه الفترات‪،‬‬
‫يصبحون على األقل انعكاسا ذاتيا جزئيا حيث يصبحون مهتمين بفهم طبيعة تخصصهم‬
‫وعالقاته بالتخصصات األخرى‪ .‬وغالبا ما يلجؤون إلى دراسة الفلسفة للحصول على‬
‫البصيرة‪.‬‬
‫‪- 2‬واألهم من ذلك‪ ،‬خالل هذه الفترات‪ ،‬يقضي العلماء وقتا طويال في كتابة البيانات‪،‬‬
‫وتشكيل مجتمعات جديدة‪ ،‬وتسمية علوم جديدة‪ ،‬في محاولة لتحديد أو إعادة تعريف مجالهم‪.‬‬
‫فبعض هذه العلوم الجديدة هي الوريثة الوحيدة لعلوم "الوالدين" القديمة‪ ،‬في حين إن‬
‫البعض اآلخر جديد تماما‪ .‬ال يزال البعض اآلخر‪" ،‬مثل الكيمياء الحيوية ‪ ...‬تنشأ عن‬
‫طريق تقسيم واعادة دمج التخصصات التي نضجت بالفعل‪ ".‬ويجادل كون‪ ،‬في هذه‬
‫الحاالت األخيرة‪" ،‬يتطلب استقبال نموذج جديد في كثير من األحيان إعادة تعريف ذات‬
‫الصلة بالعلوم التي قد تُنزل فيها بعض المشكالت القديمة إلى علم آخر (موجود) (في حين‬
‫أن البعض اآلخر قد ُيعلن) تماما أنه "غير علمي"‪ .‬وقد وصف ستيفن تولمين‪ Toulmin‬هذا‬
‫النوع من التطور لعلم جديد عن غيره من التخصصات الناضجة بمصطلحات تطورية‪،‬‬
‫بحجة أنه مثل األنواع الجديدة والثقافات الجديدة‪ ،‬تتطلب العلوم الجديدة درجة معينة من‬
‫العزلة من أجل تطوير هويتها الخاصة‪ .‬ويوافق كوهن نفسه بتطبيق هذا التحليل على العلوم‪،‬‬
‫على الرغم من أنه يبدو أحيانا على استعداد لتطبيقه على أنواع أخرى من التخصصات‬
‫الفكرية‪.‬‬
‫في هذا الفصل‪ ،‬سوف نطبق رؤى كون على اإلرشاد الفلسفي‪ .‬هذا الشكل من اإلرشاد‬
‫هو نظام جديد نسبيا‪ ،‬وال يزال غير متأكد من هويته‪ ،‬وأهدافه وأساليبه‪ ،‬وعالقته المفاهيمية‬
‫والقانونية مع التخصصات األخرى ذات الصلة‪ .‬وغالبا ما تُعزى بداياته الحديثة إلى جيرد‬
‫آخنباخ ‪ ،Gerd Achenbach‬الذي أسس أول حديث الممارسة الفلسفية خارج مدينة كولن‬
‫بألمانيا في عام(‪ .)1981‬ومع ذلك‪ ،‬فقد ربط البعض هذه الممارسة الحديثة بعمل مجموعة‬
‫متنوعة من الفالسفة في اليونان القديمة‪ ،‬مثل السينكس‪ ،‬والرواقيين‪ ،‬وحتى سقراط نفسه‪.‬‬
‫حاليا‪ ،‬يعمل المرشدون الفلسفيون مع العمالء األفراد والمؤسسات؛ ويستخدمون تقنيات‬
‫مستوحاة من مجموعة متنوعة من األساليب الفلسفية‪ ،‬وكذلك من الخبرة العملية؛ وهم‬
‫‪- 24 -‬‬
‫يطورون ببطء بدايات الهيكل المهني الضروري إذا كان مثل هذا االنضباط للبقاء واالزدهار‬
‫في مجمعنا‪ -‬ناهيك عن التقاضي ‪-‬المجتمع‪ .‬على الرغم من هذه التطورات‪ ،‬إال أنني أزعم‬
‫أن هذا االنضباط ال يزال يفتقر إلى نموذج ثابت؛ وهذا‪ ،‬في اعتقادي‪ ،‬يعيق تطورها‪ .‬في‬
‫هذا المقال‪ ،‬آمل أن أبدي بعض المالحظات التي ستساعد في إنشاء مثل هذا النموذج‪.‬‬
‫ستهدف مالحظاتي إلى ما يعتبر‪ ،‬بالنسبة لكون‪ ،‬مهمة مركزية لفترة ما قبل النموذج‪ ،‬أي‬
‫تطوير تعريف لالنضباط‪ -‬وهو تعريف يمكن‪ ،‬وفقا لتولمين‪ ،‬المساعدة في عزل نظام جديد‬
‫من الناحية المفاهيمية عن أقرب أقرباؤه‪ .‬إذا كان التشابه بين التخصصات العلمية والعالجية‬
‫صحيحا‪ ،‬فسيكون مثل هذا التعريف مفيدا في المساعدة على إنشاء نموذج لالنضباط وفي‬
‫المهام العملية األكثر أهمية المتمثلة في تحديد األهداف وتطوير األساليب وانشاء مكانة‬
‫مهنية لالنضباط‪.‬‬
‫في مقاربة لهذا المشروع‪ ،‬سأحذو حذو كل من سقراط وأرسطو‪ .‬في مزاج سقراطي‪،‬‬
‫سأطلب "التعريف الفلسفي" المناسب لإلرشاد الفلسفي‪ ،‬الذي‪ ،‬عن طريق "قطع المفاصل‪"،‬‬
‫سيفصل اإلرشاد الفلسفي بشكل صحيح عن التخصصات األخرى وثيقة الصلة‪ .‬في الحالة‬
‫المزاجية األرسطية‪ ،‬سأفترض أن مثل هذا التعريف يجب أن يصاغ من حيث كل من‬
‫الجنس الذي ينتمي إليه هذا النشاط والخاصية األساسية التي تميز اإلرشاد الفلسفي عن‬
‫أقرب أبناء عمومته‪ .‬لتبسيط مهمتي‪ ،‬سأضع عدة افتراضات أخرى‪ .‬سأبدأ بافتراض مشترك‬
‫على نطاق واسع ‪ -‬وهو االفتراض الذي آمل أن أبرره الحقا في هذا الفصل ‪ -‬أن اإلرشاد‬
‫الفلسفي هو عضو في فئة أوسع من التخصصات يشار إليها على نطاق واسع باسم "المهن‬
‫المساعدة"‪ .‬سأفترض أن المهن المساعدة تسعى لمساعدة عمالئها في حل "مشكالت‬
‫حياتهم"؛ أي مع تلك المشكالت التي تؤدي بشكل عام إلى "عدم القدرة على العمل‪ ،‬أو‬
‫االعتناء بالنفس‪ ،‬أو التواجد حول األشخاص‪ ،‬أو االنخراط في عالقات طويلة األمد"‪ .‬بالنظر‬
‫إلى هذا االفتراض‪ ،‬يترتب على ذلك أن المهنتين األكثر ارتباطا باإلرشاد الفلسفي هما‬
‫العالج النفسي (بما في ذلك العالج النفسي "التقليدي" والعالج النفسي اإلنساني) واإلرشاد‬
‫الرعوي‪ .‬وتعمل هذه االفتراضات على تبسيط المهمة المطروحة إلى حد كبير‪ ،‬حيث إن كل‬
‫ما يلزم القيام به من أجل تحديد اإلرشاد الفلسفي هو تحديد فئة محدودة إلى حد ما تتضمن‬
‫هذه المهن الثالث‪ ،‬ومن ثم تمييز اإلرشاد الفلسفي عن اآلخر‪ .‬اثنان ‪ -‬ومن الفلسفة‬

‫‪- 25 -‬‬
‫"التقليدية" أيضا‪ .‬لسوء الحظ‪ ،‬هذا ليس سهال كما قد يبدو‪ ،‬ألن كال من العالج النفسي‬
‫واإلرشاد الرعوي‪ 1‬من الصعب تحديدهما‪.‬‬
‫العالج النفسي التقليدي‬
‫تنشأ صعوبة تعريف العالج النفسي التقليدي من حقيقة وجود أنواع مختلفة من العالجات‬
‫النفسية لكل منها افتراضاته وطرقه وأهدافه‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬أود أن أقترح أن إلقاء نظرة على‬
‫تاريخ العالج النفسي قد يجلب بعض النظام لهذه الفوضى الظاهرة‪.‬‬
‫فقد تطور العالج النفسي في سياق مهنة طبية ناجحة نسبيا كانت هي نفسها خالل‬
‫السنوات األخيرة من القرن التاسع عشر‪ ،‬وبدأت في بناء عالجاتها على فهم علمي‬
‫للشخص‪ .‬ونتيجة لذلك‪ ،‬صاغ العالج النفسي التقليدي نفسه على غرار ممارسة الطب‪ ،‬مع‬
‫األخذ في االعتبار التفسير السببي أو "العلمي" لـ "المرض العقلي" وعالجه الطبي‪ .‬ووفقا لهذا‬
‫الرأي‪ ،‬فإن التفسيرات العلمية للمرض النفسي يجب أن تُطرح من منظور قوانين نفسية‬
‫سببية‪ ،‬وهذه القوانين‪ ،‬بدورها‪ ،‬يجب اكتشافها من خالل نوع من البحوث التجريبية المماثلة‬
‫في جميع النواحي المهمة تقريبا للبحث التجريبي عن علوم اآلخرين‪ .‬عالوة على ذلك‪ ،‬فإن‬
‫عالج األمراض التي كشف عنها هذا الجهد العلمي يجب أن يكون على أساس ما يمكن أن‬
‫يسمى "النموذج الطبي في علم األمراض والتي بموجبها يكون دور الطبيب (أو المعالج‬
‫النفسي) هو المساعدة في الحفاظ على صحة مرضاه أو استعادتها‪.‬‬
‫من الواضح‪ ،‬في هذا النموذج‪ ،‬أن مفاهيم "المرض" و "الصحة" تؤدي دو ار رئيسيا في‬
‫تحديد أهداف وممارسات العالج النفسي‪" .‬المرض"‪ ،‬وفقا لتحليل شائع على نطاق واسع‬
‫صاغه تشارلز كولفر وبرنارد جيرت‪ ،‬هو عضو في فئة أوسع من "األمراض"‪ .‬فئة تشمل‬
‫أيضا اإلصابات واإلعاقات وحتى الموت نفسه‪ .‬ما هو مشترك بين كل هذه األمراض هو‬
‫أنه ُينظر إليها على أنها نوع معين من "الشر"‪ ،‬وتتميز بأنها تسبب "فقدان القدرة"‪ ،‬والذي قد‬
‫يكون مصحوبا بألم أو خطر على الحياة نفسها‪ .‬واذا كان هذا هو الحال‪ ،‬فيجب عندئذ فهم‬
‫األمراض مقابل مفاهيم الخلفية مثل "الصحة" أو "األداء الطبيعي"‪ ،‬حيث يتم إعطاء هذه‬
‫المفاهيم محتوى بالرجوع إلى كل من السوية اإلحصائية وبعض المفاهيم شبه األرسطية عن‬
‫األداء البشري‪ .‬لذلك‪ ،‬فإن "األمراض" هي ظروف موجودة بطريقة ما "داخل" الكائن الحي‪،‬‬

‫‪1‬‬
‫‪- Pastoral Counseling‬‬

‫‪- 26 -‬‬
‫والتي تمنعه من العمل بطريقة طبيعية بالنسبة لنوعه‪ .‬في النموذج الطبي‪ ،‬بالتالي‪،‬‬
‫الممارسات الطبية‪ -‬بما في ذلك العالج النفسي‪ُ -‬يعتقد أنها "قواعد تنظيمية طبيعية" تسعى‬
‫إلى المساعدة في إعادة الفرد إلى "حالة صحية طبيعية"‪ .‬ويتم ذلك عن طريق مكافحة‬
‫المرض‪ ،‬والذي يتم تحقيقه بدوره عن طريق إزالة تلك العوائق الداخلية التي تمنع الفرد من‬
‫العمل فوق الحد األدنى الذي يحدد األداء الطبيعي جزئيا‪ .‬فقد يكون من األفضل صياغة‬
‫تعريف للعالج النفسي التقليدي من حيث التاريخ المبكر‪ .‬في الواقع‪ ،‬التعريف الذي طوره‬
‫فيليب كوشمان‪ Philip Cushman‬يصف هذا بالضبط‪:‬‬
‫"قبل كل شيء‪ ،‬فإن القاسم المشترك الذي يجمع كل هذه العصور التاريخية ونظرياتها‬
‫النفسية هو مفهوم المعالج النفسي كطبيب داخلي‪ .‬هذا صحيح ليس فقط بالنسبة للنظريات‬
‫الدينامية النفسية ولكن أيضا على طرائق حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية باعتبارها‬
‫متنوعة نظريا مثل ‪ ...‬علم النفس الذاتي وعلم النفس المعرفي‪ .‬ويقوم المعالجون النفسيون‬
‫بتشكيل وصيانة وعالج عالم الخاص الذي وضعه العصر الحديث داخل كل فرد قائم‬
‫بذاته"‪.‬‬
‫العالج النفسي التقليدي‪ :‬أي‪ ،‬يسعى إلى عالج المرضى النفسيين عن طريق إزالة‬
‫أسبابهم الداخلية‪ ،‬وبالتالي السماح للفرد بالعمل في مستوى اجتماعي "طبيعي" مقبول‪.‬‬
‫العالج النفسي اإلنساني‪ :‬خالل الجزء األوسط من هذا القرن‪ ،‬كان هذا الفهم المشترك على‬
‫نطاق واسع لطبيعة العالج النفسي إذ تعرض للهجوم من الجانبين‪ .‬من ناحية‪ ،‬هاجم توماس‬
‫س ازز ‪ Szasz‬وحركة "علم النفس الراديكالي" بشكل عام فكرة المرض النفسي‪ .‬وكان لهذا‬
‫الهجوم أوجه عديدة‪ .‬وكان من أكثرها فاعلية اعتداءها على فكرة "الحياة الطبيعية"‪ .‬وفقا‬
‫عرفة اجتماعيا‪ ،‬وبالتالي فهي نسبية اجتماعيا‪ .‬عالوة على‬
‫لس ازز‪ ،‬فإن "الحياة الطبيعية" ُم َّ‬
‫ذلك‪ ،‬فهو مفهوم معياري أو ذو قيمة ال يسمي أي شرط موضوعي‪ .‬بدال من ذلك‪ ،‬يشير‬
‫إلى مجموعة متنوعة من السلوكيات‪ ،‬مجمعة معا من قبل المجتمع المهيمن الذي يهتم فقط‬
‫بإنتاج الثروة والحفاظ على النظام االجتماعي‪ .‬لذلك‪ ،‬جادل س ازز‪ ،‬فإن فكرة المرض النفسي‬
‫تجسد خطأ "االنحراف"‪ -‬أي الفشل في تلبية الحد األدنى من المعايير االجتماعية‪ -‬وغالبا‬
‫ما تؤدي إلى إساءة المعاملة الجسيمة‪ ،‬وحتى "االضطهاد"‪ ،‬ألولئك الذين يوصفون بأنهم‬
‫مرضى عقليين‪ .‬لذلك‪ ،‬جادل س ازز‪ ،‬يجب نبذ فكرة "مرض النفسي" تماما‪ .‬وعلى الجانب‬
‫اآلخر‪ ،‬هاجم السلوكيون فكرة المرض النفسي‪ ،‬مجادلين على أسس فلسفية وقائمة على‬
‫‪- 27 -‬‬
‫المالحظة بأن التعجيل الحقيقي والحفاظ على أسباب كل ما يمكن العثور على االضطرابات‬
‫النفسية خارج الفرد تماما‪ .‬أدى هذا الخط من الهجوم إلى االهتمام بالحاالت المسببة‬
‫لألمراض‪ ،‬بدال من العمليات العقلية للفرد‪ ،‬مما أدى إلى فكرة أن "المرض العقلي" يجب‬
‫"معالجته" من خالل تعديل البيئة االجتماعية‪ .‬فالسلوك المرضي‪ ،‬من وجهة النظر هذه‪،‬‬
‫ليس سوى عرض من أعراض المواقف االجتماعية المسببة لألمراض‪ ،‬ويجب أن يكون هذا‬
‫السلوك هو محور العالج فقط إذا كان الموقف نفسه ال يمكن تغييره‪.‬‬
‫وقد أدت خطوط الهجوم هذه مجتمعة إلى تراجع تأثير النموذج الطبي الذي مهد بدوره‬
‫الطريق لعدد من التطورات‪ ،‬بما في ذلك تطوير ما أصبح يعرف باسم "العالج النفسي‬
‫اإلنساني"‪ .‬ما يميز هذا النوع من العالج هو‪ ،‬أوال‪ ،‬رفضه لتركيز النموذج الطبي الحصري‬
‫على "المرض"‪ .‬بدال من التركيز فقط على التغلب على اإلعاقة والمساعدة في الحفاظ على‬
‫بعض الحالة الصحية "المتجانسة"‪ ،‬اكتشف علم النفس اإلنساني أيضا إمكانية توسيع‬
‫القدرات البشرية أو "اإلمكانات"‪ ،‬فالدافع الداخلي يحركه نحو تحقيق الذات والسمو الذاتي‪.‬‬
‫السمة المميزة الثانية لهذه الحركة كانت تركيزها على "الوعي التأملي" بدال من العمليات‬
‫الالشعورية‪ .‬في وصف العالج النفسي اإلنساني‪ ،‬يرى تاجسون ‪ Tageson‬بأنه "مهما كانت‬
‫المصطلحات المفضلة‪ ،‬يبدو أن جميع (علماء النفس اإلنساني) متفقون على التفرد الذي ال‬
‫مفر منه للوعي البشري وعلى أهمية فهم تصور [العميل] للواقع إذا كان علينا أن نفهم نتيجة‬
‫لهذه األفكار‪ ،‬تبنى المعالجون النفسيون اإلنسانيون‪ ،‬ما أسماه كارل روجرز‪ ،‬نهج" العالج‬
‫الذي يركز على العميل" (أو "يركز على الشخص")‪ ،‬مما يؤكد استقاللية العميل‪.‬‬
‫فاالستقاللية ال تعني فقط أن العميل هو العامل المركزي في عملية العالج (المعالج الذي‬
‫يتم تخفيض درجته إلى مرتبة "الميسر")‪ ،‬ولكن يعني أن العميل هو "خبير" في حاالته‬
‫الداخلية‪ .‬كما قال أحد المؤلفين‪:‬‬
‫"يركز العالج النفسي اإلنساني أوال‪ ،‬على عملية اكتشاف العميل بدال من (تفسير‬
‫المعالج)‪ .‬ويتم تشجيع العمالء على تحديد ورمز تجربتهم الداخلية ألنفسهم‪ ،‬بدال من جعل‬
‫المعالج يقدم رمو از لهم لمساعدتهم على فهم معنى تجربتهم‪ .‬ثانيا‪ُ ،‬ينظر إلى العمالء على‬
‫أنهم يتمتعون بامتياز الوصول إلى وعيهم الداخلي الفريد‪ ،‬وبالتالي ُينظر إليهم على أنهم‬
‫خبراء في تجربتهم الخاصة ؛ لم يتم إجراء أية محاوالت لمعارضة أو معارضة أو تشكيل‬
‫محتوى تجربة العميل"‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬إذا كان العميل هو الخبير في هذه األمور‪ ،‬فيترتب على‬

‫‪- 28 -‬‬
‫ذلك أن يكون العميل أيضا هو الشخص الذي يحدد طبيعة مشكلته (ال ُيفهم على أنها‬
‫مرض‪ ،‬ولكن ككتلة تمنع المزيد من النمو) أيضا كمدة العالج وحتى مساره ‪ .‬لذلك‪ ،‬يختلف‬
‫العالج النفسي اإلنساني عن العالج النفسي التقليدي من حيث إنه ال يسعى إلى التغلب‬
‫على المرض‪ ،‬ولكنه يسعى إلى توسيع اإلمكانات البشرية من خالل السماح للعميل بالتعرف‬
‫على اإلمكانات الكامنة لديه‪ ،‬مما يسهل عملية تحقيق الذات‪ .‬ويمكن أن يكون هذا بمثابة‬
‫تعريف للعالج النفسي اإلنساني‪.‬‬
‫على الرغم من أن علم النفس اإلنساني يمثل من نواح كثيرة تقدما عن األشكال السابقة‬
‫للعالج النفسي‪ ،‬إال أنه عانى العديد من الصعوبات‪ .‬كان أولها مفهومه غير النقدي للوعي‬
‫ونهجه غير العلمي ‪ -‬وحتى المناهض للعلم ‪ -‬في المعرفة‪ .‬وتميل هذه المشاكل إلى عزل‬
‫علم النفس اإلنساني عن علم النفس النظري السائد وتأخير تطوره‪ .‬األهم من ذلك بالنسبة‬
‫لتطورها المستقبلي‪ ،‬عالقتها اإلشكالية بالطب والنموذج الطبي‪.‬‬
‫كما جادل)‪" )Gary VandenBos et al ,2012‬كان من الواضح بحلول الستينيات أن‬
‫الجدوى االقتصادية طويلة األجل للعالج النفسي تعتمد على اعتراف طرف ثالث بالعالج‬
‫النفسي كونه مصروفا طبيا قابال للسداد ومهني الصحة النفسية كمقدمي خدمات الرعاية‬
‫الصحية القابلة لالسترداد‪ .‬مع التوسع األخير في الرعاية الصحية المدارة‪ ،‬فإن الجدوى‬
‫االقتصادية طويلة األجل للعالج النفسي تعتمد اآلن‪ ،‬كما يمكنني القول‪ ،‬مباشرة على‬
‫اعتراف شركات التأمين بحقيقة أن العالج النفسي يوفر بعض الفوائد الطبية القابلة للقياس‬
‫والتي يمكن تبريرها بتكلفة نموذج صالح‪ .‬أعتقد أن هذا الضغط االقتصادي الخاص كان له‬
‫بالفعل تأثير على معدل نمو المهنة‪ .‬في المستقبل‪ ،‬سوف تؤثر أيضا على تكوينها‪ .‬على‬
‫وجه الخصوص‪ ،‬أعتقد أنه سيؤدي إلى إعادة تأسيس النموذج الطبي‪ ،‬وبالتالي‪ ،‬إلى تدهور‬
‫سريع في الوضع االقتصادي والمهني للعالج النفسي اإلنساني‪ .‬في النهاية‪ ،‬سيؤثر هذا على‬
‫االنضباط نفسه‪ .‬في حين سيتم االحتفاظ ببعض تقنيات العالج النفسي اإلنساني في هذا‬
‫النظام الجديد‪ ،‬فإن التركيز على األمراض المحددة واالنحرافات المرضية سيعود‪ ،‬كما أعتقد‪،‬‬
‫لالنتقام‪.‬‬

‫‪- 29 -‬‬
‫اإلرشاد الرعوي‪:‬‬
‫يكاد يكون من الصعب تعريف اإلرشاد الرعوي كتعريف العالج النفسي‪ .‬مرة أخرى‪،‬‬
‫سأسعى الكتشاف تعريف لهذا المجال من خالل فحص تاريخه‪ .‬وقد تطور اإلرشاد الرعوي‬
‫أيضا في إطار مؤسسي محدد‪ ،‬أي داخل الكنائس المسيحية المختلفة‪ .‬وقد حاولت هذه‬
‫الكنائس‪ ،‬بالطبع‪ ،‬دائما أن تخدم أرواح أعضائها‪ .‬في الواقع‪ ،‬تشير الدراسات إلى أنه حتى‬
‫عام (‪ )1955‬تلقى( ‪ )٪42‬من أولئك الذين يطلبون المساعدة في مشكالت نفسية المشورة‬
‫من رجال الدين (مقارنة بـ ‪ ٪18‬ممن تلقوا المشورة من قبل علماء النفس أو األطباء‬
‫النفسيين)‪ .‬ال شك أن "االستشارة" التي تلقوها كانت تهدف في المقام األول إلى حل‬
‫مشكالتهم العملية المباشرة‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬فإن مهمة خدمة أرواح أبناء الرعية كانت تُفسر دائما‪،‬‬
‫على األقل جزئيا من حيث تحقيق هدف مركزي محدد دينيا‪.‬‬
‫لسنوات عديدة‪ ،‬أبقت الكنائس العالج النفسي بعيدا عن متناول اليد‪ .‬قد يكون من‬
‫اإلنصاف القول إن موقف رجال الدين تجاه العالج النفسي العلمي كان مشابها لموقفهم تجاه‬
‫االشتراكية العلمية‪ :‬كالهما بدا علمانيا بشكل خبيث وربما إلحاديا؛ في الواقع‪ ،‬كما قال أحد‬
‫المرشدين الرعويين‪" ،‬العالجات" التي تدعو إلى الذات‪ .‬التعزيز على حساب اآلخرين‪ ،‬أو‬
‫الذي يحاول تعليم السيطرة العقلية على االنفعاالت واألفعال ‪ ...‬يبدو أنه يؤوي إيديولوجيات‬
‫غريبة عن التأكيدات المسيحية حول الخدمة‪ ،‬والمجتمع‪ ،‬وكمال الشخص"‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬مع‬
‫الظاهر‪ ،‬الحديث زيادة المشكالت "النفسية"‪ ،‬إلى جانب تراجع سلطة المؤسسات التقليدية‪،‬‬
‫بما في ذلك الكنيسة (كالهما نتج‪ ،‬بال شك‪ ،‬عن طريق مزيج من التقدم التكنولوجي‪،‬‬
‫والتحضر‪ ،‬والعلمنة‪ ،‬والنمو غير المقيد للرأسمالية)‪ ،‬سعى القساوسة إلى مساعدة العلم لزيادة‬
‫كل من قدرتهم وسلطتهم على معالجة هذه المشكالت‪ .‬وقد أدى ذلك إلى تبني أدوات العالج‬
‫النفسي التقليدي بالجملة وغير النقدية‪ .‬ولكن في اآلونة األخيرة‪ ،‬بدأ اإلرشاد الرعوي في‬
‫العودة إلى جذوره الدينية‪ .‬وقدم كاليد ستيكل ‪ ،Clyde Steckel‬على سبيل المثال مالحظات‬
‫حول "استعادة الطابع الالهوتي واألخالقي للنظام‪ ".‬مع مالحظة أن بعض "قد يجادل ستيكل‬
‫في أن هذه لم تُفقد أبدا" ‪ ...‬من الواضح أن االتجاه اليوم يسير في اتجاه إعادة التأكيد على‬
‫األبعاد الدينية والالهوتية المميزة لإلرشاد الرعوي‪" .‬‬

‫‪- 30 -‬‬
‫ويعمل هذا التركيز الديني على التمييز بين المرشدين الرعويين وأبناء عمومتهم‬
‫المعالجين النفسيين على سطرين‪ .‬أوال‪ ،‬من خالل افتراض غرض مهيمن على الحياة‬
‫البشرية‪ ،‬فإنه يقدم المشورة الرعوية بهدف عالجي فريد ‪ -‬الهدف المتمثل في عيش حياة‬
‫مسيحية بنجاح‪ ،‬والتي‪ ،‬بشكل ملحوظ‪ ،‬ال يتم تعريفها من الناحية الطبية وال من خالل‬
‫المصطلحات المفتوحة لزيادة " اإلمكانات البشرية "‪ .‬ثانيا‪ ،‬يزود المرشدين الرعويين بتفسير‬
‫ديني محدد لطبيعة وأصل المشكالت النفسية‪ .‬وبالتالي‪ ،‬فإن المرشدين الرعويين‪ ،‬بالمقارنة‬
‫مع المعالجين النفسيين‪ ،‬هم أكثر عرضة لتحديد أصول أي مشكلة حياتية معينة في‬
‫الخيارات التي يتخذها عمالؤهم (أو األشخاص المرتبطون بهم) أكثر من بعض األسباب‬
‫النفسية الالشعورية‪ .‬عالوة على ذلك‪ ،‬من المحتمل أن يتتبعوا هذه االختيارات إلغراء ضمني‬
‫للتركيز على الذات المشترك بين البشرية جمعاء‪ .‬هذا اإلغراء‪ ،‬بالطبع‪ ،‬متأصل في حالتنا‬
‫"الساقطة"‪ ،‬في "الخطيئة"‪ .‬نتيجة لذلك‪ ،‬غالبا ما يتبنى المرشدون الرعويون مقاربة أخالقية‬
‫صريحة‪ .‬في الواقع‪ ،‬جادل براوننج ‪ Browning‬بأن "اإلرشاد الرعوي ينتمي إلى األخالق‬
‫الالهوتية‪ ،‬بسبب اهتمامها الواضح بمعايير وأساليب الحياة المسيحية"‪.‬‬
‫لذلك‪ ،‬يمكن تعريف اإلرشاد الرعوي بأنه شكل من أشكال اإلرشاد األخالقي الذي‬
‫يحاول مساعدة عمالءه على تحقيق هدف شامل محدد دينيا باستخدام كل من التأويل‬
‫الديني وبعض تقنيات العالج النفسي من أجل المساعدة في حل مشكالت الحياة الخاصة‬
‫به‪ .‬العمالء من خالل مساعدتهم على اكتساب نظرة ثاقبة على الطبيعة الحقيقية لكل من‬
‫أنفسهم ومشكالتهم في العرض‪ .‬في النهاية‪ُ ،‬يفهم أن هذه المشكالت تنشأ من األفعال‬
‫الطوعية المتجذرة في الطبيعة البشرية الساقطة‪ .‬وسيتضمن قرارهم جزئيا اعتماد فهم ونهج‬
‫معتمدين دينيا للحياة‪.‬‬
‫الفلسفة التقليدية‬
‫قبل محاولة تعريف اإلرشاد الفلسفي‪ ،‬قد يكون من المفيد إلقاء نظرة سريعة على‬
‫الممارسة األكثر تقليدية للفلسفة‪ .‬بالطبع‪ ،‬ثبت أيضا أن تحديد الفلسفة صعب للغاية‪ .‬على‬
‫الرغم من المحاوالت العرضية التي جرت لتعريف الفلسفة بمصطلحات عالجية ‪ -‬وأكثرها‬
‫شهرة هو ادعاء فيتجنشتاين بأن هدف الفلسفة هو "إظهار الطريق للخروج من زجاجة " ‪-‬‬
‫إال أن معظم التعريفات تركز بدرجة أقل على عملية الفلسفة بدال من نتائجها‪ ،‬تُفهم على أنها‬

‫‪- 31 -‬‬
‫نوع خاص من المعرفة "العاكسة للذات"‪ .‬وتعكس هذه التعريفات المتمحورة حول المعرفة‬
‫بدقة ممارسة الفلسفة في العالم الحديث‪ ،‬في جزء كبير منه‪ ،‬يقوم الفالسفة المحترفون‬
‫بأمرين‪ :‬يدرسون ويعلمون؛ أي أنها تنتج وتنشر نوعا معينا من المعرفة العاكسة‪.‬‬
‫نتيجة لذلك‪ ،‬تُصنف الفلسفة عادة ضمن مجموعة من التخصصات المعروفة باسم‬
‫"العلوم اإلنسانية"‪ .‬وتعكس هذه التخصصات الطبيعة العامة للحالة البشرية وتتميز عن‬
‫بعضها البعض من خالل األساليب أو األدوات أو الوسائط التي يستخدمونها في سياق هذه‬
‫االنعكاسات‪ .‬وعلى الرغم من أن نتائج هذه االنعكاسات تُفهم عموما على أنها ذات قيمة‬
‫جوهرية ‪ -‬الكلمات "الجميلة" و"العميقة" و"الملهمة" هي الكلمات المستخدمة للتعبير عن هذه‬
‫القيمة ‪ -‬إال أنه من المفهوم أيضا أنها ذات قيمة عملية قليلة أو معدومة‪ .‬عالوة على ذلك‪،‬‬
‫من المفترض أن تكون قيمتها الجوهرية "خالدة"‪ ،‬حيث ُيعتقد أنها تروق لجميع األشخاص‬
‫الذين تكون قدراتهم ناضجة بما فيه الكفاية ومثل هؤالء األشخاص طوال حياتهم البالغة‪.‬‬
‫وهذا يعني أن الرغبة في المعرفة التأملية الذاتية ليست وظيفة ألي موقف معين أو مشكلة‬
‫حياتية‪ ،‬بل هي حاجة عامة بالكامل‪ .‬نتيجة لهذا التصور الذاتي‪ ،‬تُدرس الفلسفة والعلوم‬
‫اإلنسانية األخرى عادة في الجامعات والكليات للطالب الذين تتميز سماتهم الوحيدة بأنهم‬
‫وصلوا إلى السن الذي يمكنهم (من المفترض) القيام به والتقدير الكامل لمشروع الحياة من‬
‫االنضباط‪ -‬التأمل الذاتي‪ .‬بالطبع‪ ،‬لن يتمكن البعض من القيام بذلك بشكل جيد‪ ،‬بينما‬
‫سيجد البعض اآلخر المشروع جذابا بشكل خاص‪ .‬عالوة على ذلك‪ ،‬سيجد البعض أن‬
‫إحدى العلوم اإلنسانية أكثر مالءمة ألذواقهم وقدراتهم من غيرها‪ .‬فأولئك الذين يستمتعون أو‬
‫يتفوقون في الوصف التفصيلي ‪ -‬وان كان مجردا ‪ -‬للحالة اإلنسانية‪ ،‬أو أولئك القادرين‬
‫بشكل استثنائي على التحليل المفاهيمي أو الحجة المنطقية يصبحون فالسفة‪.‬‬
‫لذلك‪ ،‬يمكن تعريف الفلسفة التقليدية على أنها فرع في العلوم اإلنسانية الذي يسعى إلى‬
‫تطوير واصدار نوع معين من المعرفة ذات القيمة الجوهرية‪ ،‬ولكن غير المجدية (بالمعنى‬
‫العملي أو التطبيقي)‪ ،‬والتأمل الذاتي من خالل استخدام األدوات الفلسفية القياسية‪ ،‬مثل‬
‫الوصف التفصيلي والتحليل المفاهيمي والوجودي والحجة المنطقية‪.‬‬

‫‪- 32 -‬‬
‫اإلرشاد الفلسفي‪:‬‬
‫يمكن وصف الممارسة الفلسفية أو اإلرشاد الفلسفي)‪Philosophical Counseling (PC‬‬
‫كمجموعة من الطرق لعالج المشكالت وأحداث الحياة اليومية لدى البشر باألساليب‬
‫الفلسفية‪ .‬فاإلرشاد الفلسفي هو نوع مبتكر من اإلرشاد يستخدم المهارات الفلسفية واألفكار‬
‫المنطقية لمساعدة الناس على كيفية التفكير في شؤون حياتهم‪ .‬ومن المثير للدهشة إلى حد‬
‫ما‪ ،‬أن الفالسفة والمرشدين النفسيين لم يكن لديهم أكثر من تاريخ مميز من التعاون‪ ،‬فقد‬
‫نشعر بالقلق‪-‬على حد سواء‪ -‬من التخصصات التي تهتم باإلنسان وأسلوب حياته‬
‫ومعيشته‪ .‬فقد الحظ األطباء النفسيون األهمية المركزية للفلسفة في الممارسة المهنية‬
‫الخاصة بهم‪ ،‬واالعتماد عليها كمصدر لفهم مشكالت مرضاهم‪ .‬ولألسف‪ ،‬هذا لم يكن‬
‫الحال‪ ،‬فاألطباء على العموم قد أهملوا دراسة الفلسفة واعتبروها غير ذات صلة‬
‫باختصاصهم‪ ،‬وتحول مجال الطب وعلم النفس إلى التخصصات المرجعية للنظرية الخاصة‬
‫بهم‪ ،‬وقد يكون السبب هو ارتفاع مستوى التجريد لكثير من الفالسفة الغربيين‪ .‬هذه هي‬
‫السخرية بدال من الفلسفة الهلنستية باعتبارها بحث منضبط لحياة اإلنسان الذي يسعى إلى‬
‫كيفية عيش حياته أو أنها جديرة بالعيش‪ .‬ثم اقترحوا شكال من أشكال النقاش الجدلي‪ ،‬إذ‬
‫شجعوا األفراد في السعي إلى توضيح معتقداتهم من أجل الوصول إلى فهم أفضل‬
‫للصراعات وأهداف وجودهم في الحياة(‪.)Nussbaum 1994, Vlastos 1991‬‬
‫وهنا‪ ،‬يتبادر إلى الذهن التساؤل اآلتي‪ :‬هل هناك إرشاد أو عالج يمكن أن تقدمه‬
‫الفلسفة لإلنسان في ظل المشكالت المعقدة التي يعاني منها على المستوى الصحي والنفسي‬
‫واالجتماعي واألخالقي؟ وهل الفلسفة العملية أو البراجماتية يمكن أن تسهم إلى جانب‬
‫تخصصات الصحة النفسية المختلفة في الحد من المشكالت الوجودية التي أرهقت كاهل‬
‫اإلنسان في هذا العصر؟ يرى النشار(‪ )2010,35‬في هذا‪ ،‬أن الفلسفة هي أصل كل العلوم‬
‫التي ازدهرت في عصرنا‪ ،‬حيث تناسى المختصون في العلوم المختلفة أن الفلسفة هي‬
‫األصل‪ ،‬وهي السند الذي لواله ما نجحوا في الكشف عن أي جديد‪ ،‬وهي األداة الضرورية‬
‫لإلبداع واإلقناع‪ .‬كما أن اإلرشاد أو العالج الفلسفي قديم قدم الفلسفة نفسها‪ ،‬إذ لم ينشأ إال‬
‫من خالل اإلجابة عن تساؤالت جوهرية أرقت اإلنسان وأرهقت عقله‪ ،‬مثل البحث عن‬
‫الوجود الذي يعيش فيه وعن أصله ومصيره‪ .‬لقد كانت تلك التساؤالت مثيرة لقلق اإلنسان‪،‬‬
‫ولم يتم الوصول إلى إجابات إال عن طريق الفالسفة الذين نجحوا من خالل تأمالتهم‬

‫‪- 33 -‬‬
‫وعقولهم للوصول إلى إدراك الكثير من الحقائق حول هذا الوجود‪ ،‬وحول ماهية اإلنسان وما‬
‫يعانيه من مشكالت‪.‬‬
‫ونتيجة لهذا‪ ،‬فقدت الفلسفة إلى حد كبير مهمتها الخاصة في فهم وتوضيح واقع البشر‪،‬‬
‫كما أصبحت العلوم مبتعدة عن أهدافها السابقة بشكل متزايد‪ .‬ويتضح ذلك في المنطق‬
‫الوضعي‪ .‬ومع ذلك كان هناك ارتباطا واضحا بالفلسفة التي تهتم بقضايا اإلنسان‪ ،‬وهي‬
‫الفلسفة األخالقية‪ .‬وهناك عدد من الفالسفة أمثال‪ :‬كانط وروسو وسبينيوزا‪ ،‬وهيوم‪ ،‬وهيجل‬
‫قدموا إسهامات مهمة في هذا المجال‪ ،‬وكتاباتهم يجب أن تكون مرجعا لتدريب المرشدين‬
‫النفسيين‪.‬إالأن دفعة جديدة من الفالسفة الوجوديين‪ ،‬مثل كيركيجارد(‪ (1844‬ونيتشه(‪)1881‬‬
‫أصبحت مهمتهم المباشرة البحث عن المسائل الملموسة للوجود اإلنساني‪ ،‬حيث لفتوا االنتباه‬
‫إلى الحياة الشخصية للفرد‪ .‬وبهذه الطريقة وفروا أساسا ممي از لهذا النوع من الفلسفة التي‬
‫يمكن أن تثري ممارسة اإلرشاد النفسي‪ .‬ومع ظهور هوسرل(‪ )1900‬وهايدغر (‪،)1927‬‬
‫وسارتر(‪ ،)1939‬ومرلوبونتي(‪ )1945‬أصبحت الوجودية حركة شعبية ذات أهمية للناس‬
‫العاديين‪ .‬فقد كان اهتمام الفالسفة في الماضي مرك از على الخيارات األخالقية‪ ،‬واألزمات‬
‫الوجودية‪ ،‬والتحديات المستمرة التي تواجه البشر في حياتهم‪ ،‬لكن أظهرت الفلسفة اليوم القدرة‬
‫على توفير منتدى للنقاش من حيث إلقاء الضوء على متغيرات بعيدة المدى لزيادة التصالح‬
‫أو التفاوض مع اإلنسان ما بعد الحداثة‪ .‬لذلك‪ ،‬يمكن التنبؤ بأن الوجودية ينبغي أن تبني‬
‫نموذجا جديدا لإلرشاد الفلسفي من خالل استبدال االعتبارات الطبية بأخرى للتعامل مع‬
‫مشكالت اإلنسان المعاصر ‪.‬‬
‫لقد حان الوقت اآلن لتطبيق هذه التعريفات التأديبية المختلفة‪ .‬بالنظر إلى افتراضاتي‬
‫األصلية‪ ،‬يترتب على ذلك أنه إذا كانت "اإلرشاد الفلسفي" تشير إلى تخصص متميز‪ ،‬فال‬
‫من اإلشارة إلى تمييزه من الناحية المفاهيمية عن التخصصات األخرى وثيقة الصلة التي‬
‫نوقشت أعاله‪ .‬من األفضل أن تبدأ هذه المهمة بتمييز اإلرشاد الفلسفي عن الممارسة‬
‫التقليدية للفلسفة‪ .‬أود أن أزعم أن االختالف المركزي بين هذين المجالين يجب أال يكمن في‬
‫الطبيعة االنعكاسية الذاتية للمعرفة التي ينتجونها أو في األدوات الفلسفية التي يستخدمونها‪.‬‬
‫بدال من ذلك‪ ،‬يجب أن يكمن االختالف في االستخدام الذي يتم من أجله وضع هذه‬
‫المعرفة‪ .‬كشكل من أشكال اإلرشاد‪ ،‬ال يسعى اإلرشاد الفلسفي إلى "التنوير" الفلسفي العام‬
‫لجميع األشخاص الناضجين المهتمين‪ ،‬ولكنها تبحث عن رؤى فلسفية محددة قد تكون مفيدة‬

‫‪- 34 -‬‬
‫في مساعدة األفراد (أو المؤسسات) على التغلب على مشاكل الحياة المحددة التي يجلبونها‬
‫إلى المرشد‪ .‬وهذا يعني أن الهدف من اإلرشاد الفلسفي يجب أن يكون استخدام األساليب‬
‫الفلسفية لمساعدة العمالء على التفكير النقدي في األفكار ووجهات النظر العالمية المرتبطة‬
‫بمشكالت الحياة العملية الحالية‪ .‬بسبب هذا التركيز على الفرد "المضطرب"‪ ،‬يجب أن‬
‫يختلف اإلعداد المؤسسي لممارسة اإلرشاد الفلسفي عن الفلسفة التقليدية‪.‬‬
‫فالمرشدون الفلسفيون ليسوا معلمين يقدمون بعض المناهج المحددة للجمهور العام‪ ،‬بل‬
‫يجب عليهم االستجابة (وان كان ذلك بشكل غير مباشر) للمشكالت المحددة لعمالئهم‪.‬‬
‫وعلى الرغم من أن المرشدين الفلسفيين سيستفيدون من نفس مجموعة األدوات التي‬
‫يستخدمها الفيلسوف التقليدي ويهدفون إلى إنتاج معرفة ذاتية االنعكاس‪ ،‬فإن تلك األدوات‬
‫عرض معينة‪ ،‬وليس ألنها بشكل عام‬
‫وهذه المعرفة تهم العميل بسبب عالقتها بمشكالت أ ا‬
‫مفيد في حياة الدراسة والتفكير‪ .‬وبالتالي‪ ،‬فإن اإلرشاد الفلسفي‪ ،‬على عكس الفلسفة التقليدية‪،‬‬
‫يجب أن يكون‪ ،‬كما افترض سابقا‪ ،‬عضوا في المهن المساعدة؛ وهي تشبه إلى حد كبير‬
‫تلك المهن المساعدة‪ ،‬مثل العالج النفسي والمشورة الرعوية‪ ،‬التي تسعى لمساعدة عمالئها‬
‫على فهم مشكالت حياتهم‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬يجب أن يختلف اإلرشاد الفلسفي أيضا عن المهن‬
‫المساعدة األخرى‪ .‬بالنظر إلى االختالفات في التدريب المقدم للفالسفة والمعالجين النفسيين‪،‬‬
‫أود أن أزعم أن اإلرشاد الفلسفي يجب أن يختلف عن العالج النفسي من حيث إنه ال يتعهد‬
‫بمعالجة "المرض النفسي"‪ .‬وبشكل أكثر تحديدا‪ ،‬يجب أن يختلف عن العالج النفسي من‬
‫حيث إنه ال يمكن أن يعتمد على النموذج الطبي‪ .‬هذا له نتيجتان‪ .‬أوال‪ ،‬يجب أن يكون‬
‫اإلرشاد الفلسفي مشروعا فلسفيا وليس مشروعا علميا‪ .‬نتيجة لذلك‪ ،‬ال يمكن أن تهتم بأسباب‬
‫الحياة ومشكالتها‪ ،‬إذا تم فهم هذه األسباب من حيث بعض العمليات الديناميكية النفسية أو‬
‫االجتماعية أو العضوية األساسية‪ .‬بدال من ذلك‪ ،‬يجب أن يهتم اإلرشاد الفلسفي باألسباب‬
‫التي تؤدي إلى المعتقدات والمواقف والسلوك اإلشكالي‪ .‬وبالتالي‪ ،‬إذا كان اإلرشاد الفلسفي‬
‫يختلف عن العالج النفسي‪ ،‬فيجب أن يفترض أن األفكار والمعتقدات ووجهات النظر‬
‫العالمية تؤدي غالبا إلى مشكالت في الحياة‪ ،‬وأن التحليل النقدي ومراجعة تلك األفكار يمكن‬
‫أن يساعد في حل هذه المشكالت‪ .‬لذلك‪ ،‬أتفق مع " الهاف" الذي اقترح أن اإلرشاد الفلسفي‬
‫يجب أن يتسم بالتحليل النقدي لـ"وجهات النظر العالمية" الضمنية (والمتخلفة)‬
‫لعمالئها(‪ )Lahav ,1995‬ثانيا‪ ،‬إذا كان فلسفيا ال يمكن أن يستند اإلرشاد إلى النموذج‬

‫‪- 35 -‬‬
‫الطبي‪ ،‬بل يجب أن ترفض "الصحة" باعتبارها نموذجا معياريا‪ .‬ال يمكن أن يكون الهدف‬
‫من اإلرشاد الفلسفي هو إعادة عمالئها إلى حد أدنى من مستوى األداء االجتماعي (أو‬
‫البيولوجي) المحدد ؛ وال يمكن عالج االنحراف‪ .‬وال يمكن أن تكون اإلرشاد الفلسفي نظاما‬
‫سويا‪.‬‬
‫بالنظر إلى ذلك‪ ،‬يبدو أن اإلرشاد الفلسفي يشبه إلى حد بعيد المشورة الرعوية‪ .‬على‬
‫عكس العالج النفسي‪ ،‬تركز كل من اإلرشاد الرعوي واإلرشاد الفلسفي على معتقدات‬
‫العمالء‪ ،‬بما في ذلك معتقداتهم‪ .‬مثل اإلرشاد الرعوي‪ ،‬ينصب تركيز اإلرشاد الفلسفي على‬
‫االختيارات الواعية للعميل‪ ،‬وليس على أي عمليات نفسية دينامية أساسية‪ .‬عالوة على ذلك‪،‬‬
‫مثل اإلرشاد الرعوي‪ ،‬فإن اإلرشاد الفلسفي يهتم بشكل خاص بالجوانب األخالقية لهذه‬
‫المعتقدات‪ ،‬وال سيما في فهم العميل ألهداف الحياة‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬فإن اإلرشاد الفلسفي‪ ،‬إذا‬
‫أريد له أن يكون له هويته الخاصة‪ ،‬يجب أن يختلف أيضا عن المشورة الرعوية‪ .‬هذا‬
‫االختالف‪ ،‬كما يرى(‪ )Roger Padin‬يجب أن يكمن في حقيقة أن اإلرشاد الفلسفي مستقل‬
‫عن جميع المؤسسات الدينية‪ .‬ونتيجة لذلك‪ ،‬ال يلزم أن تكون ملزمة بنظرة أي دين للعالم‪،‬‬
‫وعلى وجه الخصوص‪ ،‬ال يجب أن تبدأ بافتراض أن أي نمط حياة معين (مسموح به دينيا)‬
‫هو بالضرورة أفضل من جميع اآلخرين‪ .‬وهكذا‪ ،‬على الرغم من أن اإلرشاد الفلسفي ال‬
‫يمكن أن يكون مؤسسة عادية أو سوية مثل العالج النفسي‪ ،‬إال أنه ال يمكن أن يجلب‬
‫لممارستها رؤية جوهرية (ذات أسس دينية) للحياة الجيدة‪ .‬عالوة على ذلك‪ ،‬فهو ال يحتاج‬
‫إلى اعتماد تفسير ديني للعالم وال أسباب مشكالت الحياة‪ ،‬ونتيجة لذلك‪ ،‬ال تحتاج إلى‬
‫االعتماد على التأويل الديني كأداة مركزية‪.‬‬
‫تعريف اإلرشاد الفلسفي‪:‬‬
‫أكثر من العالج النفسي أو المشورة الرعوية‪ ،‬يجب أن يترك اإلرشاد الفلسفي التعريف‬
‫األولي للحياة الجيدة للعميل‪ .‬أي أن المرشد الفلسفي ال يمكنه فرض آ ارءه الموضوعية على‬
‫طبيعة الحياة الجيدة على العميل‪ .‬بدال من ذلك‪ ،‬يجب السماح للعمالء بتحديد أهدافهم‬
‫األولية (وبالتالي تحديد مشكالت الخاصة)‪ ،‬وعلى الرغم من أن هذه األهداف قد تخضع‬
‫للتفكير الفلسفي‪ ،‬ال يمكن للمرشد اعتماد أي هدف موضوعي يتجاوز التفكير النقدي في‬
‫األفكار ووجهات النظر العالمية المرتبطة بـالمشكلة التي يعرضها العميل (بشكل تأملي)‪.‬‬
‫بهذه الطريقة‪ ،‬فإن اإلرشاد الفلسفي يشبه إلى حد بعيد ممارسة العالج النفسي اإلنساني‪.‬‬
‫‪- 36 -‬‬
‫عالوة على ذلك‪ ،‬مثل العالج النفسي اإلنساني‪ ،‬فإن اإلرشاد الفلسفي ليس تخصصا‬
‫"علميا"‪ .‬إنه مهتم بالحياة الواعية لعمالئه‪ ،‬ويتتبع العديد من مشكالت الحياة إلى العناصر‬
‫اإلشكالية لعقل العميل الواعي‪ .‬باإلضافة إلى ذلك‪ ،‬فهي أيضا "تتمحور حول العميل" بمعنى‬
‫أنها تحترم استقاللية العميل في تحديد التعريف األصلي للمشكلة‪ .‬أخي ار‪ ،‬مثل العالج النفسي‬
‫اإلنساني‪ ،‬اإلرشاد الفلسفي ليس نظام تطبيع‪ .‬بدال من ذلك‪ ،‬فهو مهتم بمساعدة العمالء في‬
‫توضيح وتقييم تلك األفكار ووجهات النظر العالمية المرتبطة بمشكالتهم في العرض‪.‬‬
‫إن الفلسفة ليست حب الحكمة كما يشير إليها كثير من المنظرين الفلسفيين‪ ،‬لكنها تعني‬
‫عيش المرء حياة الحكمة وحياة الرفاهية‪ ،‬والفالسفة الرواقيين واألبيقوريين على وجه‬
‫الخصوص ركزوا على استخدام التفكير الفلسفي للتقليل من االضطرابات االنفعالية‪،‬‬
‫واستعادة الهدوء االنفعالي‪ ،‬وزيادة الشعور بالراحة كونه نتيجة طبيعية للحياة الحكيمة التي‬
‫تستحق أن يسعى المرء لذاتها‪ .‬والفالسفة لديهم المصادر الكافية لمساعدة الناس أكثر من‬
‫الممارسين المهنيين اآلخرين على فهم خبراتهم الشخصية والتوافق مع واقعهم ووجودهم في‬
‫الحياة؛ وأن التطبيق العملي للفلسفة هو مهارة أساسية تحتاج إلى تطوير عمل الممارس‬
‫الفلسفي كخبير مدرب‪ ،‬يمكن أن يساعد اآلخرين على تقييم قيمهم الشخصية ومشاعرهم‬
‫بطريقة براجماتية‪ ،‬وبالتالي مساعدتهم على التخفيف من انفعاالتهم السلبية‪ ،‬والسعي إلى‬
‫تحسين جودة حياتهم‪.‬‬
‫علمي منظم قائم على‬ ‫ويقصد بمصطلح اإلرشاد ‪Counseling‬عموما ‪ ":‬أسلوب‬
‫مجموعة من التقنيات واألساليب التي توفر حال للتخفيف من معاناة اإلنسان من األمراض‬
‫التي قد تصيبه في جسده وعقله"‪ .‬كما يعني باللغة الالتينية المداواة أو" عالج الجراح‬
‫وتضميدها"‪ ،‬وهو محاولة لعالج مشكلة صحية‪ ،‬ويتم عادة بعد تشخيص حالة الفرد‬
‫بينما يعني مفهوم اإلرشاد الفلسفي ‪Philosophic‬‬ ‫المرضية( العاسمي‪.(17،2015 ،‬‬
‫‪ Counseling‬والذي يسمى أحيانا بالممارسة الفلسفية‪ ، Philosophical Practice‬كمجال‬
‫جديد في الفلسفة‪ ،‬نشأ كفرع من فروع الفلسفة المعروفة باسم "الفلسفة العملية أو التطبيقية"‬
‫‪ Applied Philosophy‬الذي ينطوي على تطبيق مجاالت خاصة من المعرفة الفلسفية في‬
‫مجاالت أخرى للمساعدة على حل مشكالت اإلنسان‪ " .‬حيث بدأت هذا الحركة العلمية‬
‫كممارسة تطبيقية في الظهور منذ عام (‪ )1980‬على يد كل من جيرد آخينباخ‪ ،‬مارينوف‪،‬‬
‫كوهين‪ ،‬ورابي‪ ،‬روزنر (‪ )Rosner ,2004‬وكثي ار ما قيل أن الحركة تكون متجذرة في تقليد‬

‫‪- 37 -‬‬
‫السقراطي‪ Socratic tradition‬التي ينظر إليها كفلسفة البحث عن الخير والحياة الطيبة‪ ،‬وأن‬
‫الحياة بدون األخالق ليست جديرة باالهتمام والعيش حسب رأي سقراط‪ .‬والفلسفة‪ ،‬هي‬
‫عالج بالمعنى األصلي للكلمة‪ .‬فالعالج يأتي من الكلمة اليونانية "‪ "Therapeuein‬والتي‬
‫تعني "الحضور" أو "المساعدة"‪ .‬وفي هذا المعنى‪ ،‬يمكن اعتبار الفلسفة شكال من أشكال‬
‫العالج‪ .‬فالفيلسوف الجيد ‪ -‬حسب رأي سقراط‪ -‬يساعد وهو القادر على كشف الحقيقة‬
‫التي تقع داخل الفرد‪ .‬وينحصر دوره في إيقاظ قدرة الشخص على التفلسف‪ .‬واألفكار التي‬
‫يتم اكتشافها تساعد الشخص على تطوير مواهبه الطبيعية الخاصة‪ ،‬وتحركه بوعي واتزان‬
‫نحو أهدافه‪.‬‬
‫ويرى تايلور)‪ )Taylor,2002‬أن اإلرشاد الفلسفي غالبا ما يتبع نسبه إلى سقراط من‬
‫خالل محاولته التأكيد على قضايا العدالة والمعرفة‪ .‬وهذا اللون من اإلرشاد يتم تقديمه كحل‬
‫بديل لبعض المشكالت التي تحاصر اإلنسان في حياته اليومية في ظل عدم كفاية‬
‫العالجات األخرى؛ فقد تساعد المعرفة الفلسفية البشر على فهم أنفسهم والعالم المحيط بهم‪.‬‬
‫ويمكن أن تساعدهم أيضا على توفير اإلرشادات الالزمة لحل مشكالت واضطرابات كثيرة‬
‫يعانون منها‪ ،‬والتي تنضوي ضمن العالجات الدوائية والنفسية بالمعنى الدقيق للكلمة‪.‬‬
‫عرف اإلرشاد الفلسفي‪ ،‬بأنه استخدام وتطبيق مبادئ المعايشة الفلسفية‬
‫وغالبا ما ُي َّ‬
‫وأساليب فهم الواقع النهائي لحياة البشر في حل مشكالتهم وخبراتهم السلبية المؤلمة التي‬
‫يعانون منها في حياتهم اليومية‪ .‬ويعرف رابي)‪ )Raabe,2002‬اإلرشاد الفلسفي بوصفه‬
‫عملية لمساعدة الشخص الذي يعاني من مشكلة أو مسألة تثير قلقا لديه‪ .‬كما أشار إلى أن‬
‫المستنصح ‪ Counselee‬يكون لديه تضارب في القيم‪ -‬في كثير من األحيان‪ -‬والتي قد‬
‫تؤثر في تفكيره وسلوكه بطريقة مؤلمة جدا‪ .‬وفي ضوء عملية التفاعل الفلسفي مع المستنصح‬
‫يتحقق لديه تقدير جيد بقيمته‪ ،‬وبالتالي يجعله يرى بعض القضايا األساسية المتعلقة بقيمه‬
‫من رؤية واضحة‪ ،‬كالتعرف على المشكلة واالنفعاالت المصاحبة وتحليل وتقييم الخيارات‬
‫المتاحة إيجاد حل لها‪ ،‬ووضع تصور كامل لتطوير وجهة نظر متكاملة وموضوعية عن‬
‫المشكلة والحلول الممكنة‪ ،‬وبالتالي التوصل إلى حلول لها‪.‬‬

‫ويرى مارينوف )‪ )Marinoff,2003‬أن اإلرشاد الفلسفي هو عالج محتمل لكثير من أنواع‬


‫الشخصية الحدية ‪ Borderline Personality‬كنتيجة خاطئة لمشكالت نفسية‪ .‬ويرى أن أنواع‬
‫كثيرة من الشكاوى االنفعالية هي أعراض لرؤية العالم الفلسفي غير المتوافقة‪ .‬وبناء على‬

‫‪- 38 -‬‬
‫لذلك‪ ،‬ينبغي أن يكون التدخل الفعال تحت إشراف خبير مهتم بهذه المسائل‪ .‬ويقول‬
‫"مارينوف" في هذا الصدد‪ ":‬يجب على الناس التعرف إلى أنفسهم طبيا لكي يكونوا قادرين‬
‫على الحفاظ على صحتهم البدنية‪ -‬بما في ذلك األداء السليم للقدرات العقلية‪ ،‬من خالل‬
‫مراجعة األطباء والمعالجين النفسيين للتأكد من سالمتهم العقلية‪ ،‬وتقديم الدعم والمساعدة‬
‫لتنمية هذه القدرات‪ ،‬أو الحد من تدهورها واضطرابها‪ .‬وبالمثل‪ ،‬يجب على الناس في‬
‫األوضاع الطبيعية التعرف إلى سماتهم النفسية من أجل المحافظة على رفاهيتهم االنفعالية‪.‬‬
‫أي فهم السلوكيات واألفكار واالنفعاالت التي لها تأثير على شخصيتهم‪ ،‬مثل‪ :‬والعادات‪،‬‬
‫والحب‪ ،‬والكره‪ ،‬والطموحات‪ ،‬التنافر المعرفي والوجداني‪...‬الخ وهذا الفهم والوعي الذاتي للفرد‬
‫أمر ضروري لنمو الشخصية السوية‪ .‬ولكن السؤال الذي ُيطرح نفسه هنا‪ :‬ماذا يفعل‬
‫الشخص عندما يكون مستق ار طبيا ونفسيا‪ ،‬لكنه يعاني من مشكالت تؤرقه وتضايقه؟‬
‫ولإلجابة عن هذا السؤال يرى المرشدون الفلسفيون أن هذه المشكلة ‪ -‬في هذه الحالة ‪ -‬تقع‬
‫ضمن مجال عمل المرشد الفلسفي والذي يقوم بمعالجة القضايا الوجودية لهذا الشخص بدال‬
‫من العالج الطبي أو النفسي‪ ،‬ألن اإلرشاد الفلسفي هو عالج للعاقل وليس لشخص مريض‬
‫)‪.) Marinoff,2003,11‬‬
‫بينما ُيعرف روزنر (‪ )Rosner (2004‬اإلرشاد الفلسفي كمصدر للرؤية ضمن منهجيات‬
‫فلسفية في اإلعداد اإلرشادي‪ ،‬بهدف االقتراب من مشكالت المستنصحين‪ ،‬حيث يستخدم‬
‫المرشد الفلسفي الطريقة التقليدية في التفكير النقدي في معالجة القضايا ذات االهتمام‬
‫األساسي عن حالة المستنصح‪ .‬وقد أشار روزنر إلى أن المشكالت التي تهم اإلرشاد‬
‫الفلسفي هي خارج تضاريس كل من الطب النفسي وعلم النفس (اإلرشاد النفسي) اللذان‬
‫يتعامال مع االضطرابات النفسية والعقلية وأمراض أخرى ‪ .‬فالعديد من هذه المشكالت هي‬
‫أبعد عن اإلرشاد النفسي التقليدي؛ كمشكالت الحياة التي تشكلت عن طريق المفاهيم‬
‫الخاطئة التي يمكن أن تجلب عدم راحة البال على المدى الطويل‪ ،‬حيث تبدأ عادة بخبرة‬
‫القلق واألرق‪ ،‬وبالتالي غالبا ما تؤدي إلى أزمة في الحياة‪ .‬والحاجة لمناقشة مثل هذه القضايا‬
‫في السياق الفلسفي هي قضايا مهمة للفالسفة الذين لديهم فهم أساسي حول الوجود‬
‫اإلنساني‪.‬‬

‫ووفقا لـ والش )‪ )Walsh,2005‬يعني اإلرشاد الفلسفي التفاعل مع الفالسفة الذين تم‬


‫تدريبهم على األساليب الفلسفية‪ ،‬والقادرين على رؤية ما يحدث وكيف يحدث‪ .‬إن هذا األمر‬

‫‪- 39 -‬‬
‫يمكن تطبيقه بشكل واضح ومتميز لتخفيف معاناة مشكالت البشر‪ .‬ويشير هذا التعريف إلى‬
‫حقيقة مفادها‪ :‬إن معرفة الفلسفة وفهمها يمكن استخدامها في حل قضايا الحياة الواقعية‬
‫للبشر‪ .‬بينما يرى جوانز )‪(Gowans ,2010‬أن اإلرشاد الفلسفي هو مماثل لتلقي اإلرشاد‬
‫الطبي‪ ،‬ألنه قادر على تعديل معتقدات الشخص بحيث يمكنه التغلب على المرض النفسي‬
‫وتحقيق الصحة النفسية‪ .‬ويدلل على ذلك أن الفلسفة البوذية والتقاليد اإلغريقية وضعت نهج‬
‫مماثل لها‪ ،‬كالنهج الطبي في التعامل مع بعض مشكالت العقل والروح والجسد‪.‬‬

‫ويبدو من هذا‪ ،‬أن تعريف اإلرشاد الفلسفي يساعد الناس على فهم أنفسهم وعالمهم‬
‫الداخلي والخارجي‪ ،‬من خالل رؤية واضحة لمعنى الحياة وقيمتها‪ .‬وهذه األساليب والحوارات‬
‫التي يستخدمها المرشد الفلسفي مع المستنصحين ضمن عالقة قائمة على االحترام والتقبل‪،‬‬
‫واالستقاللية الذاتية لكل منهما‪ ،‬توفر أساس واضح لمواجهة العديد من المشكالت التي‬
‫تحاصر المستنصحين في حياتهم اليومية عندما تكون األساليب الطبية والنفسية األخرى‬
‫غير كافية في حلها‪ .‬وبناء على ذلك‪ ،‬وضعت مارينوف(‪ )Marinoff (1999‬كتابا أسمته‬
‫"أفالطون وليس بروزاك" ‪" Plato, Not Prozac‬العتقادها أن مثل هذه المشكالت التي تواجه‬
‫كثير من الناس ال عالقة لها باالضطرابات النفسية أو العقلية أو البيولوجية‪ ،‬ويمكن أن‬
‫تكون تلك المشكالت في األساس بمثابة تصور خاطئ للمستنصح عن مشكالت الحياة‪.‬‬
‫وهذا هو األساس في دعوتها لإلرشاد الفلسفي بدال من بروزاك‪ .‬ألن بعض مشكالت‬
‫اإلنسان قد تكون راجعة إلى عدم وجود رؤية فلسفية سليمة‪ ،‬كما يؤكد "روزنر" وجهة نظر‬
‫مارينوف بالقول‪ :‬إن اإلرشاد الفلسفي يمكن اعتباره ثاني أقدم مهنة في العالم‪ .‬فالمرشد‬
‫الفلسفي يساعد المستنصحين على التوضيح‪ ،‬والتعبير‪ ،‬واالستكشاف‪ ،‬والفهم للجوانب‬
‫الفلسفية في أنظمة معتقداتهم عن العالم والمشكالت الفلسفية المتعلقة بمسائل‪ ،‬مثل‪ :‬أزمات‬
‫منتصف العمر‪ ،‬والتغيرات الوظيفية‪ ،‬والضغوط‪ ،‬والعواطف‪ ،‬وتأكيد الذات‪ ،‬األمراض‬
‫الجسدية‪ ،‬والموت‪ ،‬والشيخوخة‪ ،‬ومعنى الحياة‪ ،‬واألخالق‪ .‬بمعنى آخر‪ ،‬يتعامل اإلرشاد‬
‫الفلسفي مع األصحاء وليس مع المرضى‪ ،‬وينظر إلى المستنصح بأنه شخص غير قادر‬
‫على حل مشكالته بطريقة سليمة‪.‬‬
‫ونظ ار ألن مفهوم اإلرشاد الفلسفي لم يستأثر باهتمام دارسي الفلسفة في الجامعات‬
‫العربية‪ ،‬فإننا نسعى من خالل هذه المحاولة للتعرف على مفهوم اإلرشاد الفلسفي ومجاالت‬
‫عمله وحدوده وعالقته باإلرشاد والعالج النفسي‪ ،‬انطالقا من التساؤالت اآلتية‪ :‬بأي معنى‬

‫‪- 40 -‬‬
‫من المعاني تُعد الفلسفة عالجا أو إرشادا؟ وما هو الدور الذي يمكن أن يؤديه المرشد‬
‫الفلسفي في أثناء التدخل العالجي؟ ما عالقة اإلرشاد الفلسفي باإلرشاد النفسي‪ ،‬هل ثمة‬
‫صراع بينهما أم تعاون وتكامل من الناحية المنهية لتقديم المساعدة المتكاملة للشخص الذي‬
‫يحتاج إلى التبصر بذاته وبقدراته للوصول إلى درجة من الرضا عن ذاته والعالم المحيط به؟‬
‫وفي ضوء ذلك‪ ،‬يرى ديرك(‪)Dirk,2009‬أنه يمكن تلخيص مجموعة واسعة من‬
‫المحاوالت لتوضيح مفهوم اإلرشاد الفلسفي ومجاالت عمله‪ ،‬وفقا لثالث مجموعات متداخلة‪،‬‬
‫هي‪:‬‬
‫إذا اختلف اإلرشاد الفلسفي عن العالج النفسي اإلنساني‪ ،‬فيجب أن يكمن هذا‬
‫االختالف في مفهوم العقل الذي ينطوي عليه كل تخصص‪ .‬في حين إن العالج النفسي‬
‫‪Brute‬‬ ‫اإلنساني يركز تقليديا على ما يمكن تسميته بـ "الظواهر الوحشية للوعي"‬
‫‪ Phenomena of Consciousness‬التي تحدث في "القلعة الداخلية" للعقل ‪،Inner Citadel‬‬
‫يجب أن يركز اإلرشاد الفلسفية على الجوانب المعرفية أو المقصودة للوعي‪ ،‬في المقام األول‬
‫على األفكار‪ ،‬وليس مجرد فهم نوع آخر من الظواهر الواعية‪ ،‬ولكن مثل تقديم مزاعم‬
‫الحقيقة‪ ،‬والتعبير عن النظريات‪ ،‬وعكس وجهات النظر العالمية‪ .‬وبالتالي‪ ،‬فإن اإلرشاد‬
‫الفلسفي‪ ،‬على عكس العالج النفسي اإلنساني‪ ،‬يجب أن يفهم عمالءه على أنهم مخلوقات‬
‫"عقالنية" تتصرف ألسباب ترتكز على وجهات نظر شاملة مبررة (محتملة)‪ ،‬بدال من‬
‫التصرف على أساس الدافع الالشعوري أو خبرات الطفولة المبكرة‪ .‬هذا الفهم لعمالئها له‬
‫عواقب عديدة‪ .‬نظ ار ألن العميل‪ ،‬وفقا لوجهة النظر هذه‪ ،‬يطمح (ضمنيا) إلى العقالنية‪،‬‬
‫فمن الممكن الحكم على أفكار العميل‪ -‬وحتى إلى الدرجة التي تحتوي على محتوى معرفي‪،‬‬
‫وانفعالي أيضا ‪ -‬من خالل معايير مثل الصدق والدقة واالتساق والحدة‪ .‬كما تدعي الحقيقة‪،‬‬
‫تهدف إلى العالم وتحمل معهم معاييرهم الخاصة للكفاية‪ ،‬هذه األفكار تتجاوز العميل‪ .‬نتيجة‬
‫لذلك‪ ،‬ال يمكن أن يكون العمالء "الخبراء" الذين يأخذهم العالج النفسي اإلنساني ليكونوا‬
‫كذلك‪ .‬نظ ار ألن األفكار ليست ظواهر ذاتية بحتة‪ ،‬فال يمكن للعمالء أن يكونوا خبراء وال‬
‫يمكن أن يكون المرشدين الفلسفيين "أطباء داخليين"‪ .‬بدال من ذلك‪ ،‬يجب أن يكونوا منتقدين‬
‫للمعتقدات واألفكار ووجهات النظر العالمية‪ .‬نتيجة لذلك‪ ،‬يجب أن يقدر كالهما التفكير‬
‫الواضح والوصف الدقيق والتفكير الجيد‪ ،‬ليس كأهداف في حد ذاتها‪ ،‬ولكن كمعايير تحكم‬

‫‪- 41 -‬‬
‫عملية اإلرشاد‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬فإن وجود هذه األهداف يزيل مركز العميل بالنسبة إلى علم‬
‫النفس اإلنساني‪ ،‬ويضع التركيز على جودة تفكير العميل‪.‬‬
‫بالنظر إلى هذا التعريف لإلرشاد الفلسفي‪ ،‬قد يبدو مشابها جدا لشكل من أشكال‬
‫العالج المعروف باسم "العالج العقالني االنفعالي السلوكي" أو(‪ )Ellis, 1967) ) REBT‬في‬
‫الواقع‪ ،‬هما متشابهان جدا‪ .‬فقد تم تطوير العالج العقالني االنفعالي السلوكي في األصل‬
‫من قبل ألبرت إليس‪ ،‬فهو معالج نفسي مدرب على التحليل النفسي والذي توصل إلى‬
‫االعتقاد بأن أصول العديد من المشكالت االنفعالية والسلوكية لمرضاه تكمن‪ ،‬ليس في‬
‫بعض العيوب في آلية نفسية غير واعية‪ ،‬بل في عمليات التفكير غير الواعية ‪ .‬على وجه‬
‫الخصوص‪ ،‬توصل إليس إلى االعتقاد ‪ -‬وأصبح هذا أحد االفتراضات المركزية لـ ‪REBT‬‬
‫‪ -‬أن السبب األساسي للعديد من المشكالت االنفعاليى والسلوكية هو المعتقدات غير‬
‫المنطقية ‪ .‬لذلك‪ ،‬طور إليس شكال من العالج لمعالجة هذه المعتقدات بشكل مباشر‪ .‬في‬
‫برنامج العالج العقالني االنفعالي السلوكي (‪ ،)REBT‬يحاول المعالج الكشف عن المعتقدات‬
‫غير العقالنية التي تسبب مشاكل العميل‪ ،‬ليثبت للعميل أن هذه المعتقدات ليست عقالنية‬
‫فحسب‪ ،‬بل هي سبب المشكالت االنفعالية والسلوكية للعميل‪ ،‬والعمل مع العميل الستبدال‬
‫هذه المعتقدات بمعتقدات أكثر عقالنية‪ .‬من الناحية النظرية‪ ،‬يمكن للمعالجين العقالنيين‬
‫تطبيق هذه الطريقة على جميع أنواع المعتقدات غير المنطقية‪ .‬لكن في الممارسة العملية‪،‬‬
‫فإنهم يميلون إلى التركيز أكثر على المعتقدات المعيارية غير العقالنية‪ ،‬ألن هذه هي‬
‫المعتقدات األكثر ارتباطا باالنفعاالت والسلوك‪.‬‬
‫من الواضح أن اإلرشاد الفلسفي يشترك في الكثير من األمور المشتركة مع العالج‬
‫السلوكي العقالني االنفعالي‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬هناك بعض االختالفات الهامة‪ .‬أعتقد أن‬
‫االختالف األكثر أهمية هو أن المرشد الفلسفي يجلب عادة إلى عالقة اإلرشاد فهما أكثر‬
‫تطو ار لطبيعة المعتقدات وطبيعة العقالنية‪ ،‬وهو فهم مستمد من عمل الفالسفة التقليديين‪.‬‬
‫وفقا لهذا الفهم‪ ،‬تحدث المعتقدات‪ ،‬ليس بمعزل عن غيرها‪ ،‬ولكن كجزء من مجموعة أكبر ‪-‬‬
‫في حدود وجهات النظر العالمية‪ .‬هذه العالقة بين المعتقدات ووجهات النظر للعالم معقدة‪.‬‬
‫على وجه الخصوص‪ ،‬يمكن أن تشمل معايير العقالنية الداخلية في النظرة العالمية التي يتم‬
‫من خاللها تقييم المعتقدات‪ .‬نتيجة لذلك‪ ،‬بينما يميل المعالج العقالني إلى فهم "الالعقالنية"‬
‫من منظور معيار عالمي "للصالبة" و "عدم المرونة"‪ ،‬يفهم المرشدون الفلسفيون أنه يجب‬

‫‪- 42 -‬‬
‫تعريف العقالنية‪ ،‬جزئيا‪ ،‬باستخدام معايير داخلية لنظرة العميل للعالم‪ .‬وهكذا‪ ،‬فإن نهج‬
‫المرشدون الفلسفيين هو أكثر "فلسفية"‪ ،‬وهو أكثر شمولية وسياقية من النهج األكثر تقنية‬
‫للمعالج العقالني االنفعالي‪ .‬أعتقد أن هذا صحيح بشكل خاص في حالة المعتقدات‬
‫األخالقية‪ .‬في هذه الحاالت‪ ،‬يسمح فهم المرشد الفلسفي األكثر تطو ار لالدعاءات المعيارية‬
‫للمرشد باكتشاف مجموعة متنوعة من المعتقدات المعيارية اإلشكالية أكثر مما يمكن للمعالج‬
‫العقالني االنفعالي الذي يميل إلى التركيز فقط على المعتقدات المعيارية "العقائدية"‪ .‬أخي ار‪،‬‬
‫بالنظر إلى المفردات الفلسفية األكثر تعقيدا‪ ،‬يكون المرشد الفلسفي أكثر قدرة على مناقشة‬
‫المشكالت الفلسفية البحتة التي قد تزعج العميل‪ ،‬حتى عندما ال تؤدي إلى مشكالت سلوكية‬
‫أو انفعالية‪ .‬في حين إن المرشد الفلسفي لديه وجهة نظر أكثر تعقيدا لطبيعة أنظمة‬
‫المعتقدات من المعالج العقالني االنفعالي‪ ،‬أعتقد أن المعالج العقالني االنفعالي لديه فهم‬
‫أكثر تطو ار لكيفية تأثير نظام المعتقدات على السلوك والعاطفة‪ .‬هذا يعني أن قد يكون‬
‫المعالج العقالني عامل تغيير أكثر فعالية من المرشد‪ .‬ونتيجة لذلك‪ ،‬أعتقد أن المرشد‬
‫الفلسفي قد يكون قاد ار على تعلم الكثير من المعالج العقالني االنفعالي‪ .‬في جذور القدرات‬
‫العظيمة للمعالج االنفعالي العقالني تكمن فكرة أن المعتقدات ليست مجرد أفكار‪ ،‬ولكنها‬
‫أيضا عادات اإلدراك والعمل واألحكام‪ .‬لتغيير رأي الشخص‪ ،‬من الضروري تغيير عاداته‪.‬‬
‫بينما طور المرشدون الفلسفيون القدرة على اكتشاف المشكالت المعقدة في وجهات النظر‬
‫العالمية‪ ،‬فإن البصيرة ليست سوى الخطوة األولى في عملية التغيير‪ .‬يجب أن يتعلم‬
‫المرشدون تحويل األفكار إلى عادات جديدة‪ ،‬وقد طور العالج العقالني االنفعالي العديد من‬
‫التقنيات لتسريع مثل هذه التغييرات‪.‬‬
‫بالنظر إلى هذه المناقشة‪ ،‬من الممكن قول بضع كلمات حول األدوات والتقنيات المتاحة‬
‫حاليا للمرشدين الفلسفيين‪ ،‬وحول العالقة العالجية األكثر مالءمة لممارستها‪ .‬يمكن أن تكون‬
‫التقنيات الفريدة لإلرشاد الفلسفي هي تلك األساليب القياسية للوصف والتحليل والتأمل الذاتي‬
‫والحجة التي تم تطويرها على نحو كامل في إطار ممارسة الفلسفة التقليدية‪ .‬كون الفيلسوف‪،‬‬
‫المرشد الفلسفي ال يمكن أن يدعي أي قدرات خاصة أخرى‪ :‬المرشدون الفلسفيون غير‬
‫مدربين على التحليل السردي‪ ،‬وليس لديهم نظرة ثاقبة على العمليات الالواعية‪ ،‬وال هم‬
‫جيدون بشكل خاص في الكشف عن ذكريات الطفولة المبكرة‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬باإلضافة إلى‬
‫استخدام األدوات الفلسفية القياسية‪ ،‬يجب على المرشد الفلسفي أيضا استخدام بعض التقنيات‬

‫‪- 43 -‬‬
‫إلنشاء عالقة عالجية يمكن من خاللها متابعة التحليل الفلسفي‪ .‬أود أن أزعم أن النهج الذي‬
‫يركز على العميل الذي طوره روجرز‪ ،‬والذي يتضمن إنشاء عالقة داعمة وغير مهددة‬
‫يشعر فيها العميل بالراحة بما يكفي لفحص افتراضاته األساسية‪ ،‬يمكن أن يخدم المرشدين‬
‫الفلسفيين جيدا‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬بينما يجادل روجرز بأن هذا يتطلب من المعالج أن يمنح العميل‬
‫"احت ارما إيجابيا غير مشروط"‪ ،‬فإن مثل هذا الموقف لن يكون متوافقا مع اإلرشاد الفلسفي‪.‬‬
‫بالنظر إلى طبيعة اإلرشاد الفلسفي‪ ،‬يجب تعديل نهج روجرز‪ .‬ويجب أن يحصل العميل‬
‫على دعم عاطفي‪ ،‬بالتأكيد‪ .‬يجب أن يشعر أو تشعر بالراحة واألمان من الهجوم الشخصي‪.‬‬
‫ومع ذلك‪ ،‬يجب أيضا معاملة العميل ككائن عقالني زميل‪ ،‬شخص يجب عليه بالضرورة‬
‫تقديم ادعاءات حول العالم‪ ،‬وفهم أن هذه االدعاءات قد تكون صحيحة أو خاطئة‪ ،‬ويقدر‬
‫الحقيقة‪ .‬بقدرما يتبنى العميل هذا الموقف‪ ،‬فإنه يستحق االحترام‪ .‬بقدر ما يفشل العميل في‬
‫تبني هذا الموقف‪ ،‬فإنه يحتاج إلى عناية دقيقة لمساعدته أو مساعدتها في اكتساب هذا‬
‫الموقف‪ .‬وبقدر ما يكون العميل غير قادر أو غير راغب في تبني هذا الموقف‪ ،‬فلن يتمكن‬
‫من االستفادة من المشورة الفلسفية ويجب إحالته إلى أنواع أخرى من المرشدين‪ .‬وبالتالي‪،‬‬
‫على الرغم من أن أفكار العميل قد تكون خاطئة أو مشوشة‪ ،‬يجب احترام كل عميل باعتباره‬
‫مخلوقا عقالنيا‪ .‬على وجه الخصوص‪ ،‬يجب إظهار الصعوبات في رؤيته لعالم العميل‬
‫الداخلي؛ ال يمكن للمرشد أن يملي فقط من الخارج‪ .‬يجب على المرشد الفلسفي أن يتبنى‬
‫تجاه عمالئه موقفا من االحترام الكانطي‪ ،‬يخفف من الدفء الروجري‪ .‬من ناحية أخرى‪،‬‬
‫يجب أال يعمي موقف االحترام هذا المرشد الفلسفي عن محاولة العميل التالعب بالعالقة أو‬
‫إحباطها إذا كان هذا التفسير لإلرشاد الفلسفي دقيقا‪ ،‬فسيتبع ذلك العديد من النتائج العملية‪.‬‬
‫ولعل األهم من بين هؤالء هو أن المرشدين الفلسفيين سيكون لديهم التزام بتعريف أنفسهم‬
‫كمرشدين فلسفيين‪ ،‬لشرح طبيعة وحدود هذا العالج‪ ،‬وتجنب تقديم اإلرشاد لألشخاص الذين‬
‫تكون مشكالتهم نتيجة ألسباب عضوية‪ ،‬ديناميكية نفسية‪ ،‬اجتماعية‪ .‬وبالتالي‪ ،‬يجب أن‬
‫يكون المرشدون الفلسفيون على دراية بوجود هذه المشاكل‪ ،‬ويجب أن يكونوا قادرين على‬
‫تحديد العمالء الذين يعانون منها‪ ،‬ويجب عليهم إحالة عمالئهم إلى المهنة المناسبة إذا‬
‫اتضح أنهم يعانون من هذه المشكالت‪ .‬ثانيا‪ ،‬بينما يجب على المرشدين الفلسفيين احترام‬
‫استقاللية عمالئهم‪ ،‬وبينما يجب على المرشد‪ ،‬على وجه الخصوص‪ ،‬أن يسمح للعمالء‬
‫بتحديد طبيعة مشاكلهم‪ ،‬يجب أال ُينظر إلى هذه التعريفات على أنها غير قابلة للتحدي‪.‬‬

‫‪- 44 -‬‬
‫يجب أن يحتفظ المرشدون بحرية التفكير في هذه األهداف‪ .‬على وجه الخصوص‪ ،‬هذا‬
‫يعني أن المرشد ال يحتاج إلى مساعدة العميل في القيام بأشياء غير قانونية أو يعتقد المرشد‬
‫أنها غير أخالقية أو ضارة‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬قد يبدو لزاما على المرشد أن يقدم للعميل بعض‬
‫أسباب هذا الرفض‪ ،‬على الرغم من أن هذه األسباب قد ال يعتبرها العميل قاطعة‪ .‬بعبارة‬
‫أخرى‪ ،‬االحترام طريق ذو اتجاهين‪.‬‬
‫أخي ار‪ ،‬من المهم أن يوضح المرشد للعميل حدود اإلرشاد الفلسفي‪ .‬وتنشأ العديد من‬
‫مشكالت الحياة من مواقف خارجة عن سيطرة العميل‪ ،‬وخارج نطاق اإلرشاد الفعال‪ .‬ونتيجة‬
‫لذلك‪ ،‬ال يمكن حل بعض مشكالت الحياة‪ ،‬وأحيانا ال يمكن تحقيق السعادة حتى للناس‬
‫الطيبين والحكماء‪ .‬ال يستطيع المرشدون دائما إنتاج "عالج في وسط مجتمع مريض"‪،‬‬
‫وعليهم توعية عمالئهم بهذه الحقيقة‪ .‬عالوة على ذلك‪ ،‬فإن الهدف من اإلرشاد الفلسفي ليس‬
‫مجرد إسعاد أو إرضاء عمالئها‪ .‬بدال من ذلك‪ ،‬الهدف هو توضيح وتحسين أفكار العميل‬
‫ووجهات نظره للعالم من خالل عملية التفكير النقدي‪ .‬من المفترض ‪ -‬ولكن ليس مضمونا‬
‫‪ -‬أن هذا التفكير يمكن أن يؤدي غالبا إلى حل لمشكالت تقديم العميل‪ ،‬وربما حتى‬
‫السعادة‪ ،‬ولكن يجب أن يركز المرشدون الفلسفيون على تحليل وجهات النظر العالمية‬
‫المرتبطة بمشاكل حياة العميل‪ ،‬وليس على الحياة‪ -‬مشاكل أنفسهم‪ .‬غالبا ما يكون توضيح‬
‫هذه األفكار ووجهات النظر العالمية وتحسينها مرضيا في جوهره‪ .‬عالوة على ذلك‪ ،‬قد تحل‬
‫مثل هذه التوضيحات بعض مشاكل العرض‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬بالنظر إلى تعريف اإلرشاد الفلسفي‬
‫الذي دافعت عنه في هذا المقال‪ ،‬يجب فهم اإلرشاد الفلسفي بعبارات متواضعة إلى حد ما‪.‬‬
‫يمكن للمرشدين الفلسفيين أن يأملوا في تقديم خدمات فريدة وقيمة ‪ -‬التحليل النقدي لألفكار‬
‫اإلشكالية ووجهات النظر العالمية‪ -‬لكن اإلرشاد الفلسفي ليس عالجا نفسيا أو إرشادا‬
‫رعوية‪ .‬ويمكن أن يعد نوعا من الحكمة العملية‪ ،‬لكنها ال تعد بالسعادة‪.‬‬
‫اجلذور التارخيية لإلرشاد الفلسفي‪:‬‬
‫إن اإلرشاد الفلسفي مفهوم قديم‪ ،‬قدم الفلسفة نفسها‪ ،‬وخصوصا أنه كان يمارس من قبل‬
‫سقراط في سياق حواره مع السفسطائيين ‪ ،Sophists‬إذ ربط سقراط الفلسفة بممارسة الطب‪،‬‬
‫والهدف من الفلسفة هو تحسين النفس البشرية وتخليصها من األفكار الكاذبة التي تصيبها‪،‬‬
‫وأصبح هذا الهدف التحدي األساسي في الفلسفة كونه يتناول الجوانب األخالقية في حياة‬
‫الناس من الجانب النظري‪ ،‬لكن الشق اآلخر من الفلسفة يتمثل في "الجانب العملي" لمعالجة‬

‫‪- 45 -‬‬
‫هذه القضايا التي تتعلق بمصير اإلنسان الذي لم يوليه الفالسفة االهتمام الالزم منذ بدايات‬
‫القرن العشرين وحتى ظهور هذا المفهوم على الساحة العلمية‪ .‬بالرغم من أن المدرسة‬
‫السقراطية والهلنستية في الفلسفة تصدت لمهمة إيجاد حل لهذا التحدي‪ .‬وظلت هاتان‬
‫المدرستان الفلسفيتان بارزتان إلنجاز هذا الهدف (إنقاذ للحياة) أو المهمة "إلنقاذ الروح" عن‬
‫طريق الفلسفة‪ .‬بينما أظهرت مدرسة أبيقور‪ -‬األبيقورية‪ ،‬والمدرسة الرواقية محاوالت جادة‬
‫لتشخيص مشكالت اإلنسان وتقديم بعض األساليب اإلرشادية لها‪ ،‬إذ أصبحت تلك الفلسفة‬
‫تعالج أعداد كبيرة من المشكالت التي تحاصر حياة اإلنسان‪.‬‬
‫ويعتقد أن أبيقور‪ - Epicurus‬مؤسس المدرسة األبيقورية ‪ Epicureanism‬والذي ُيعد أول‬
‫من وضع أسس الفلسفة كعالج‪ -‬أن الفيلسوف الذي يقدم اإلرشاد للحد من المعاناة اإلنسانية‬
‫بدال من أي استخدام في اإلرشاد الطبي إذا كان ال يعاني من األمراض الجسدية؛ فكذلك ال‬
‫توجد أية قيمة الستخدام الفلسفة إذا لم تعالج معاناة الروح ( ‪(Long & Sedley, 1987,‬‬
‫‪ .155‬ويعتقد أبيقور ‪ Epicurus‬بقوة أن الفلسفة يمكن أن تجلب الهدوء إلى النفوس‬
‫المضطربة من البشر‪ .‬وقد انتشرت مثل هذه األفكار والممارسات في فترة الفلسفة الهلنستية‬
‫والعديد من المدارس حول أحداث الحياة الضاغطة التي تواجه اإلنسان‪ .‬ويعد سقراط فيلسوفا‬
‫رائدا في العالج الفلسفي‪ ،‬حيث يعتقد أن طريقة إدراك البشر حول حياتهم يمكن أن تشكل‬
‫البؤس بالنسبة لهم‪ ،‬وأن الفلسفة سوف تساعدنا على تخليص حياتنا من هذه المآسي ‪.‬‬
‫وبهدف وصول بالمستنصح أو المسترشد(‪ )Client or Counselee‬إلى قناعة بأن "الحياة ال‬
‫تستحق أن تعاش"‪ ،‬وبالتالي حث العمالء على معرفة أنفسهم بشكل جيد‪ .‬هذا هو اإلرشاد‬
‫الفلسفي الذي يساعد العمالء في إعطاء فكرة واحدة حول الحياة وما يتعلق بمعانيها بشكل‬
‫عام‪ .‬أي‪ ،‬إنه يساعد في توضيح القيم وجعل الحياة" تستحق أن تعاش"‪.‬‬
‫ويعتقد سينيكا‪- Seneca‬وهو من أقطاب المدرسة الرواقية في الفلسفة الذي شارك بجدية‬
‫في البحث عن مشكالت لحالة اإلنسان‪ -‬أن موضوع الفلسفة هو البشر‪ ،‬وأن اإلرشاد‬
‫الفلسفي يعالج األرواح التي أزهقت العقل‪ ،‬وذلك عن طريق تنمية األمل والمساندة‬
‫االجتماعية‪ .‬كما يعتقد أن الفلسفة تساعد على فهم وتقدير أكثر للقيم في الحياة‪ ،‬وذلك‬
‫لمعرفة ما يستحق المتابعة في حياة الهدوء داخل النفس البشرية‪ .‬وأخر المتحمسون لفكرة‬
‫اإلرشاد الفلسفي‪" ،‬شيشرون" في كتابه ‪ ،Disputations Tusculum‬والذي يقوم على "فن‬
‫شفاء الروح"‪ ،‬وشدد على أن هذا الفن يجب السعي إليه بكل ما أوتينا من مصادر القوة حتى‬

‫‪- 46 -‬‬
‫نتمكن من أن يكون الطبيب الخاص بنا‪ .‬عالوة على أنه يساعد الشخص كي يصبح طبيب‬
‫نفسه‪ ،‬أو من ناحية أخرى يلعب دور الطبيب لشخص آخر من خالل تقديم اإلرشاد‬
‫الفلسفي‪.‬‬
‫نشأته العلمية‪:‬‬
‫إن الرؤية اإلرشادية واألسلوب الفلسفي كانا غارقين بطريقة أو بأخرى في فترة العصور‬
‫الوسطى عندما ذهب الفالسفة إلى الحديث عن المسائل النظرية والتجريدية‪ ،‬كالقيم‪،‬‬
‫واإلخالص‪ ،‬الحكمة‪ ،‬والدين‪ ،‬والروح‪ ،‬واهلل‪ ....‬لكن هذا األمر لم يدم طويال‪ ،‬إذ سعى كثير‬
‫من الفالسفة في العصر الحديث إلعادة توجيه الفلسفة لتصبح عملية أكثر فعالية‪ ،‬كما‬
‫كانت في بدايتها( نظرية وعملية) إذ الحظ ديكارت‪ ،Descartes‬وكانط ‪ ، Kant‬ونيتشه‬
‫‪ ،Nietzsche‬وديوي ‪ Dewey‬أن الفلسفة قد انحرفت عن مسارها عندما أبعدت الجانب‬
‫العملي من أهدافها‪ ،‬وكان من رأي هؤالء الفالسفة أنه ينبغي للفلسفة أن تواجه أسئلة مهمة‬
‫في الحياة اليومية‪ ،‬ويبدو أن هذا هو طريق العودة إلى العقل من خالل مسار اإلرشاد‬
‫الفلسفي‪ ،‬وبالتالي العودة إلى المسار الطبيعي أو األصلي للتعامل مع المشكالت التي تواجه‬
‫البشر‪ ،‬من خالل توضيح وجهات النظر التي قد تؤدي إلى التباس في ظروف البشر‪.‬‬
‫وهذه الحركة الناشئة في العصر الحديث ولدت كمحاولة لعودة الفلسفة إلى مهمتها‬
‫األصلية في معالجة مشكالت الحياة البشرية‪ ،‬وليست ثمرة للعالج النفسي‪ ،‬أي محاولة‬
‫إلنزال الفلسفة من برجها العاجي (النظري) إلى أرض الواقع( العملي)‪ .‬وهكذا‪ ،‬فإن الفلسفة‬
‫لديها اآلن القدرة والكفاءة على المشاركة عمليا خارج الجدران األربعة للمؤسسات األكاديمية‪،‬‬
‫على اعتبار أن لديها اآلن ُبعد إكلينيكي (عالجي) بطريقة أو بأخرى كأحد أبعاد المهن‬
‫اإلرشادية‪ .‬ومنذ عام (‪ )1970‬بدأت الجهود الحثيثة لجعل اإلرشاد الفلسفي مجاال متمي از‬
‫للممارسة في الفلسفة األكاديمية في الفصول الدراسية‪ ،‬ووفقا لرأي رابي)‪ )Raabe,2002‬فقد‬
‫دفع هذا المسعى عن طريق نشر بيتر)‪ )Peter Koestenbaum,1971‬كتابا بعنوان "صور‬
‫جديدة للشخص"‪ ،‬وُيعد هذا الكتاب بحق أحد الممارسات لتطبيق اإلرشاد الفلسفي‪ .‬كما‬
‫تبلورت الحركة اإلرشادية الفلسفية في وقت الحق عام (‪ )1981‬عندما افتتح جيرد آخيتباخ‬
‫‪ Gerd Achenbach‬مكتبا لممارسة اإلرشاد الفلسفي في مدينة كولونيا األلمانية‪ ،‬وبعدها‬
‫أسس في عام(‪ )1982‬جمعية براكيس الفلسفية‪ . Philosophical Praxis‬وفي الواليات‬

‫‪- 47 -‬‬
‫المتحدة تُعد جمعية اإلرشاد والممارسة الفلسفية التي أصبحت منذ عام (‪ )1992‬تسمى‬
‫بالرابطة األمريكية لإلرشاد واإلرشاد الفلسفي(‪American 2Society for )NPCA‬‬
‫‪ Philosophy, Counseling, and Psychotherapy‬مرجعا حقيقيا للعالج الفلسفي‪ ،‬شارك‬
‫في تأسيسها ثالثة فالسفة‪ :‬إليوت كوهين ‪ ،Elliot. Cohen‬وبول شاركي‪،Paul Sharkey‬‬
‫وتوماس ماجنيل‪ Thomas Magnell‬كما تأسست في مدينة نيويوك بأمريكا عام (‪)1998‬‬
‫جمعية الممارسين الفلسفيين (‪ )APPA‬من قبل مارينوف ‪ ،Marinoff‬إذ تقدم هذه الجمعية‬
‫برنامجا في إرشاد للباحثين الحاصلين على درجات متقدمة في فلسفة الذين يرغبون في‬
‫ممارسة اإلرشاد الفلسفي‪ .‬كما أسس مارينوف ‪ Marinoff‬في عام (‪ )2004‬مركز الجدل‬
‫‪ Center of‬لممارسة اإلرشاد الفلسفي في كلية مدينة نيويورك‬ ‫‪Controversy‬‬
‫(‪.)Marinoff,2002‬‬
‫ومنذ ذلك الحين أصبحت العيادات الفلسفية في أوروبا وأمريكا الشمالية تقدم خدمات‬
‫اإلرشاد واإلرشاد النفسي للعديد من المستنصحين أو المسترشدين حسب النموذج الفلسفي‪.‬‬
‫كما وجدت أدبيات وأدلة مرجعية كثيرة حول هذا الموضوع‪ ،‬فكتاب مارينوف‬
‫)‪ )Marinoff,1999‬المسطر بعنوان" أفالطون وليس بروزاك"‪ )Plato not Prozaic) 3‬من‬
‫أكثر الكتب مبيعا في أوروبا وأمريكا‪ .‬ونظ ار إلخفاق هذه األدوية في عالج حاالت‬
‫اضطرابات المزاج والقلق واالكتئاب‪ ،‬إال أن الخالف ما زال قائما بين المرشدين حول ما إذا‬
‫كانت مثل هذه األمراض هي نتيجة الختالل التوازن الكيميائي في الدماغ أم مشكالت في‬
‫بناء مفهوم لواقع الحياة‪ .‬وهكذا يبدو أن مثل هذه المشكالت الحياتية ليست مسائل كيمياء‬
‫الجسم‪ ،‬ويمكن أن يكون لها تصور خطئ عن الحياة‪ .‬ويرى مارينوف)‪)Marinoff,2004‬‬
‫مدلال على أن بعض مشكالت البشر يمكن أن تكون راجعة إلى عدم وجود رؤية فلسفية‬
‫سليمة‪ .‬وحتى يصبح اإلرشاد مهنة ال بد للممارس من تدريب خاص في الفلسفة‪ ،‬وهذا يعني‬
‫أنه على المرشد الفلسفي تكوين العديد من الخطابات الفلسفية الواسعة التي يمكن أن تكون‬
‫قابلة للتطبيق لحل المشكالت المختلفة التي تواجه الناس‪ ،‬كما يمكن تصميم المناهج‬

‫‪2‬‬
‫= تأسست عام ‪ ،1992‬وتتمحور فكرتها بأن األشكال الفلسفية والنفسية المشورة هي السبل المتكاملة والمترابطة‬
‫لمساعدة الناس على مواجهة مشكالت حياتهم‪ ،‬حيث سعت منذ إنشائها لجلب الفالسفة والممارسين في الصحة‬
‫النفسية بما في ذلك العاملين االجتماعيين واألخصائيين النفسيين ومرشدي للصحة النفسية‪.‬‬
‫=البروزاك‪ :‬هو االسم التجاري لعالج االكتئاب‪ ،‬إضافة إلى عقار ريتالين ‪.Ritalin‬‬
‫‪3‬‬

‫‪- 48 -‬‬
‫األكاديمية من منظور آخر لتدريب الممارسين الشباب(الطالب) على أساليب اإلرشاد‬
‫الفلسفي‪.‬‬
‫ويوجد حاليا العديد من الجمعيات المهنية لتقديم اإلرشاد الفلسفية في جميع أنحاء العالم‪،‬‬
‫بما في ذلك فرنسا‪ ،‬بلجيكا‪ ،‬ألمانيا‪ ،‬النمسا‪ ،‬سويسرا‪ ،‬بريطانيا‪ ،‬إيطاليا‪ ،‬إسبانيا‪ ،‬اليونان‪،‬‬
‫هولندا‪ ،‬النرويج‪ ،‬الدنمارك‪ ،‬فنلندا‪ ،‬لوكسمبورغ‪ ،‬كندا‪ ،‬جنوب أفريقيا‪ ،‬أستراليا‪ ،‬الب ارزيل‪،‬‬
‫البرتغال‪ ،‬كوريا‪ ،‬تركيا‪ ،‬اليابان‪ ،‬والواليات المتحدة‪ .‬ونأمل في الوقت القريب أن تمتد هذه‬
‫الحركة لتشمل الجامعات العربية لما لها من فوائد كثيرة في المشاركة بتقديم الخدمات‬
‫الفلسفية إلى جانب خدمات الطبيب والمرشد النفسي لألفراد الذين يعانون من مشكالت‬
‫نفسية‪ ،‬أرضيتها الصراع األخالقي والوجودي والقيمي‪ .‬ومن هذا‪ ،‬ال يمكن ألي شخص أن‬
‫يكون مرشدا فلسفيا؛ فالمرشد الفلسفي بحاجة تدريب خاص على درجة متقدمة في الفلسفة‪.‬‬
‫ويعني ذلك أنه يحتاج أن يكون لديه معرفة في العديد من الخطابات الفلسفية لتطبيقها‬
‫بطريقة مجدية في حل المشكالت المختلفة التي تواجه حالة المستنصح‪ ،‬وهذا اإلجراء هو‬
‫وسيلة رائعة للمرشد الفلسفي ليكون ناجحا في هذه الممارسة‪.‬‬
‫ويرى كوهين (‪ )Cohen,2014‬ليست كل مشكلة شخصية هي مرض نفسي‪ ،‬واذا كنت‬
‫مريضا جسديا أو انفعاال‪ ،‬فإنك تحتاج إلى طبيب عام أو طبيب نفسي‪ ،‬ولكن إذا كنت‬
‫ترغب في دراسة حياتك وقيمك‪ ،‬وأن فلسفتك في الحياة غير واضحة المعالم‪ ،‬فعليك الذهاب‬
‫إلى مرشد فلسفي‪ .‬فاإلرشاد الفلسفي‪ ،‬إذن‪ ،‬هو عالج لعاقل‪ ".‬وهذا أمر مؤسف للغاية ألنه‬
‫يشير إلى أن العاملين في مجال الصحة العقلية ال يعالجون إال المضطربين عقليا "مجنون"‪،‬‬
‫واذا كنت شخصا عاقال فعليك التحدث إلى الفيلسوف بدال من طبيب أو معالج نفسي‪.‬‬
‫وتستنكر الجمعة الوطنية األمريكية لإلرشاد الفلسفي(‪)NPCA‬مثل هذا االنقسام هو عمل‬
‫زائف أو مضلل‪ ،‬ومنفر‪ ،‬بدال من ذلك‪ ،‬يعمل علماء النفس وأطباء الصحة النفسية على‬
‫تقديم اإلرشاد النفسي واإلرشاد الفلسفي لتلك المشكالت دون خلق حواجز مصطنعة‪ ،‬بل‬
‫ينكرون أيضا أن يقوم المرشد الفلسفي ببعض هذه المهام بالنسبة لبعض األشخاص الذي‬
‫يواجهون مشكالت شخصية تتعلق بقيمهم وفلسفتهم غير الواضحة في الحياة‪ .‬في الواقع‪،‬‬
‫هذا األمر غير دقيق‪ ،‬ألن بعض المرشدين الفلسفيين تجاو از حدود الفلسفة النظرية وانتقلوا‬
‫إلى الميداني العملي من خالل تصميم برامج حديثة لها أسس مبادئ معترف بها‪ .‬فعلى‬
‫سبيل المثال قدمت الجمعية(‪ )NPCA‬برامج إرشادية قائمة على نظرية ألبرت إليس في‬

‫‪- 49 -‬‬
‫العالج العقالني االنفعالي السلوكي )‪Rational Emotive Behavior Therapy (REBT‬‬
‫تشمل بعض المدربين‪ .‬كما أن معهد التفكير الناقد)‪ (ICT‬قدم برامج تدريبية في نوع معين‬
‫من اإلرشاد الفلسفي المعروف باسم "العالج القائم على المنطق" ‪Logic Based‬‬
‫)‪Therapy(LBT‬وهي نظرية فلسفية طورها كوهين(‪ )Cohen,2003‬إذ تسعى إلى مساعدة‬
‫المستنصحين في التغلب على مشكالتهم السلوكية واالنفعالية‪ ،‬وتفحص المنطق بدال من‬
‫األسباب الكامنة وراء هذه المشكالت‪ .‬هذا النوع من اإلرشاد الفلسفي له جذوره في العالج‬
‫النفسي‪ ،‬وخاصة العالج المعرفي السلوكي‪ ،‬بالرغم من أن هذه البرامج تُعد في الوقت‬
‫الحاضر من أبرز أشكال اإلرشاد الفلسفي‪ ،‬وهذا يؤكد االرتباط الوثيق بين اإلرشاد النفسي‬
‫واإلرشاد الفلسفي‪.‬‬
‫وأخي ار‪ ،‬يمكن القول إن اإلرشاد الفلسفي مفهوم قديم قدم الفلسفة نفسها وخصوصا أنه‬
‫كان يمارس من قبل سقراط في سياق حواره مع السفسطائيين‪ ،‬وأنه متطلب من متطلبات‬
‫ممارسة الطب‪ .‬والهدف من الفلسفة بالمعنى الدقيق للكلمة‪ -‬حسب سقراط‪ -‬هو تحسين‬
‫النفس البشرية وتخليصها من األفكار الخاطئة التي تصيبها‪ .‬هذا األمر أصبح التحدي‬
‫األساسي للفلسفة‪ .‬وقد تولدت نتيجة لذلك العديد من المدارس السقراطية والهلنستية ‪Socratic‬‬
‫‪ and Hellenistic‬إيجاد حل لهذا التحدي ‪ .‬وظلت مدرستين فلسفيتين بارزتين إلنجاز هذا‬
‫المهمة (المنقذة للحياة) أو المهمة الفلسفية "المنقذة لألرواح"‪ .‬هما‪ :‬مدرسة أبيقور‪-‬‬
‫ابيقوريون ‪ Epicureanism‬والمدرسة الرواقية‪ -‬الرواقية ‪ Stoicism‬وقدمت هذه المدارس‬
‫محاوالت جادة لتشخيص المشكالت التي تعاني منها الحالة اإلنسانية وتقديم بعض‬
‫العالجات لهم‪ ،‬وذلك من خالل أسلوبهما المميز لهذا التوجه‪ ،‬بحيث أصبحت فلسفاتهم‬
‫أسلوبا عالجيا ألعداد كبيرة من المشكالت التي تحاصر حياة اإلنسان‪.‬‬
‫ويعتقد شعبيا أن أبيقور‪ ،‬مؤسس المدرسة األبيقورية (ابيقوريون) وضعت األساس للفلسفة‬
‫كعالج‪ ،‬جاء إلى الجمع بما يلي‪ :‬كلمات يقدمها الفيلسوف في العالج للتخفيف من المعاناة‬
‫اإلنسانية الذي ليس لديه أي خبرة طبية إذا كان ال يعالج األمراض الجسدية ‪ .‬فكذلك ال‬
‫يمكن استخدام العالجي ما لم تطرد أو تعالج معاناة الروح )‪.)Long & Sedley, 1987, 155‬‬
‫ويعتقد أبيقور بقوة أن الفلسفة يمكن أن تجلب الطمأنينة إلى النفوس المضطربة من‬
‫البشر‪ .‬مثل هذه األفكار والممارسات عمت الفلسفة الهلنستية وكذلك العديد من الفترة نشأت‬
‫باعتبارها استجابة لمتاعب اإلنسان‪ ،‬والتي اعتبرها سقراط ‪ Socrates‬رؤية رائدة لإلرشاد‬

‫‪- 50 -‬‬
‫الفلسفي‪ ،‬إذ يعتقد اعتقادا جازما بأن طريقة التواصل بين البشر يمكن أن تشكل البؤس في‬
‫حياتهم‪ .‬وأكد أن فلسفة ستساعدنا على تخليص حياتنا من هذه المآسي‪ .‬حيث وصل إلى‬
‫قناعة بأن "الحياة غير المدروسة أو المختبرة هي حياة تستحق العناء" وبالتالي يحض البشر‬
‫إلى "معرفة أنفسهم على نحو جيد للغاية ‪ .‬هذه هي الطريقة اإلرشاد الفلسفي التي تساعد في‬
‫إعطاء فكرة واحدة حول حياة الشخص والحياة عامة فيما يتعلق بمعانيها‪ .‬إنها تساعد في‬
‫توضيح القيم وقيمته كشخص في الحياة‪.‬‬

‫كان سينيكا‪ Seneca ،‬عضوا في المدرسة الرواقية الفلسفية الذي كان أيضا يشارك‬
‫بجدية في البحث عن المشكالت التي تعاني منها الحالة اإلنسانية‪ ،‬ويعتقد أن موضوع‬
‫الفلسفة هو محامي اإلنسانية ‪ .‬وقد أعرب في رسالته" ليسيليوس" ‪ Lucilius‬أنه في اإلرشاد‬
‫الفلسفي يمكن أن تنقض ما دمرته الكوارث في الكيان اإلنساني وجعلته أنقاض‪ ،‬وذلك من‬
‫خالل زرعة األمل والمساندة ألولئك الناس الذين عانوا سخط الحياة وتناقضاتها‪ ،‬العتقاده أن‬
‫الفلسفة تساعد الشخص على فهم وتقدير أكثر لقيم الحياة وذلك لمعرفة ما يستحق المتابعة‬
‫في حياة الهدوء للنفس البشرية‪ .‬وهكذا نرى أن فلسفة الرواقيين هي المدرسة الوحيدة التي‬
‫تحتوي على الدواء الشافي لتحقيق الهدوء‪ -‬طمأنينة ‪ .‬والفيلسوف الرواقي آخر‪ ،‬شيشرون‬
‫‪ Cicero‬في كتاب "مناقشات توسكوالن" ‪ ،Tusculan‬حافظ على أن الفلسفة هي فن شفاء‬
‫الروح‪ ،‬وشدد على أن هذا الفن يجب السعي إليه بكل ما أوتينا من الموارد والقوة بحيث‬
‫يمكننا أن نكون أطباء ألنفسنا وألجسادنا‪ ،‬ألن في جوهرها فن يمكن أن تساعد الشخص‬
‫لكي يصبح طبيبه الخاص أو على اآلخرين تقديم العون أو لعب دور طبيب آلخر من‬
‫خالل تقديم اإلرشاد الفلسفية‪.‬‬

‫وجهة النظر العالجية والمنهج الفلسفي واضمحل بطريقة أو بأخرى في فترة العصور‬
‫الوسطى عندما بدأت الفلسفة العقائدية األكثر تجريدا‪ .‬لكن هذا السعي عاد مرة أخرى إلى‬
‫الواجهة في العصر الحديث ليصبح أكثر تحديدا وتطبيقا على أرض الواقع‪ ،‬فقط الحظ‬
‫ديكارت‪ ،‬ونيتشه‪ ،‬وكانط‪ ،‬وديوي وفيتجنشتاين أن الفلسفة قد انحرفت وخرجت عن الواقع‬
‫العملي‪ ،‬وكانوا يرون أن الفلسفة يجب أن تواجه أسئلة هامة من الحياة اليومية ‪ .‬ويبدو أن‬
‫هذا طريق للعودة إلى التعقل من خالل مسار اإلرشاد الفلسفي الذي ُيعد موجها للفلسفة‬
‫وعودتها إلى المسار األصلي‪ ،‬وهكذا تتعامل الفلسفة مع المشكالت التي تواجه البشرية‪،‬‬
‫من خالل توضيح وجهات النظر التي قد تؤدي إلى االلتباس في ظروف اإلنسان ‪ .‬ومن ثم‬

‫‪- 51 -‬‬
‫الفلسفة لديها اآلن القدرة على المشاركة العملية خارج الجدران األربعة للمؤسسات األكاديمية‪،‬‬
‫وأصبح لديها اآلن البعد السريري بطريقة أو بأخرى‪ ،‬للتدخل العالجي لحاالت اإلنسان‬
‫المتناقضة‪.‬‬
‫أقرب الجهود الصارخة لجعل اإلرشاد الفلسفي حقال متمي از للممارسة الفلسفية مقارنة‬
‫بالفلسفة األكاديمية تمت في عام(‪ .)1970‬ووفقا لرابي (‪ )2002‬حفز هذا المسعى عن‬
‫طريق النشر بيتر ‪ Koestenbaum‬من كتابه "صورة جديدة للشخص"‪ :‬النظرية والممارسة‬
‫السريرية في الفلسفة في عام( ‪ )1978‬وهذا هو واحد من أقدم حمالت للحكم الذاتي‬
‫وممارسة المشورة الفلسفية كما حقل متميز‪.‬‬

‫ومنذ ذلك الحين بدأت العيادات الفلسفة الشهيرة في الغرب تقديم اإلرشاد الفلسفي الناشئ‬
‫وهناك مادة علمية وفيرة وأدلة مرجعية لهذا النوع من اإلرشاد‪ .‬ومن الكتب األكثر مبيعا في‬
‫أمريكا وأوروبا كتاب ليو مارينوف)‪ ) Marinoff,1999‬بعنوان "أفالطون‪ ،‬ليس بروزاك‪".‬‬
‫( بروزاك هو االسم التجاري للدواء النفسي‪ ،‬وهو دواء مضاد لالكتئاب)‪ .‬فقد أصبح وصفة‬
‫شعبية لحاالت اضطرابات المزاج والقلق‪ ،‬وبالتالي استنتج بعض المعالجين أن مثل هذه‬
‫الحاالت ترتبط بخلل في كيمياء الدماغ‪ ،‬وهناك حاجة االنعكاس من خالل هذه العقاقير مثل‬
‫نظر إلخفاق هذه األدوية في‬
‫بروزاك‪ ،‬والسيروتونين ‪ ،Seratonins‬ريتالين‪ ،Ritalin‬الخ‪ .‬ا‬
‫عالج مثل هذه األمراض‪ .‬وهناك اآلن خالف حول ما إذا كانت مثل هذه األمراض هي‬
‫نتيجة لعدم التوازن الكيميائي في الدماغ ‪ .‬وهكذا يبدو أن مثل مشكالت الحياة هذه ليست‬
‫تصور خاطئا عن الحياة ‪ .‬هذا هو أساس‬
‫ا‬ ‫مسائل كيمياء الجسم ولكن يمكن أن تكون‬
‫الموصى به في اإلرشاد الفلسفي الذي تحدث عنه مارينوف )‪ Marinoff (1999‬بدال من‬
‫األدوية النفسية‪ .‬وبالتالي يمكن للمرء أن يرى أن بعض مشكالت حالة اإلنسان قد تكون‬
‫راجعة إلى عدم وجود رؤية فلسفية سليمة‪ ،‬كما يمكن أن يشهد على ذلك روزنر ‪Rosner‬‬
‫‪(2004).‬كما يرى مارينوف )‪ Marinoff (1999‬المشورة الفلسفية باعتبارها ثاني أقدم مهنة‬
‫في العالم‪.‬‬
‫ولكي يصبح الفيلسوف مرشدا فلسفيا‪ ،‬يحتاج إلى تدريب خاص لدرجة متقدمة في‬
‫الفلسفة ‪ .‬ذلك يعني أنه يحتاج إلى أن يكون لديه خبرة واسعة في العديد من الخطابات‬
‫الفلسفية لتكون في وضع يمكنه من تطبيق رؤى مجدية لمثل هذه المشكالت المختلفة التي‬

‫‪- 52 -‬‬
‫تواجه حالة اإلنسان والذي سوف يقدمها لمختلف العمالء‪ .‬وهذه هي وسيلة رائعة للمرشد‬
‫الفلسفي ليكون ناجحا في هذه الممارسة‪.‬‬
‫هل اإلرشاد الفلسفي شكل من أشكال اإلرشاد النفسي؟‬
‫نوقشت العالقة بين اإلرشاد الفلسفي واإلرشاد النفسي كثي ار في التاريخ القصير لحركة‬
‫اإلرشاد الفلسفي؛ فاإلرشاد النفسي بالمعنى الواسع للكلمة هو أحد المجاالت التطبيقية المهمة‬
‫لعلم النفس الذي يهتم أساسا بالتوافق النفسي لألفراد في مجاالت حياتهم المختلفة ليكونوا‬
‫أفرادا فاعلين ومنتجين في المجتمع‪ ،‬وهو معني أساسا بمشكلة التوافق اإلنساني بهدف‬
‫مساعدة اإلنسان للعيش في حالة من السعادة واألمن النفسي بعيدا عن الصراعات‬
‫اإلحباطات النفسية التي تعكر صفاء حياته ورفاهيته (‪ .)Norcross et al,2003‬بينما ُيعرفه‬
‫هاينس وآخرون(‪ )Haynes,et al,1980,37‬بأنه "استخدام التدخل العالئقي بين شخصين‪،‬‬
‫معالج مدرب ومؤهل علميا وفنيا‪ ،‬وعميل أو مريض يعاني من مشكلة ما‪ ،‬يسعى المرشد من‬
‫خالل هذه العالقة لمساعدة المرضى على حل مشكالتهم اليومية‪ ،‬والتي تتضمن عادة زيادة‬
‫إحساس الفرد بالسعادة والحد من االنزعاج‪ .‬إذ يوظف المرشد مجموعة من التقنيات التي‬
‫تعتمد على العالقة البناءة بينهما‪ ،‬كالحوار‪ ،‬والتواصل‪ ،‬وتغيير السلوك‪ ،‬وذلك لتحسين‬
‫الصحة النفسية للمتعالج على المستوى الفردي واالجتماعي"‪.‬‬
‫ولقيام المرشدين النفسيين بمهامهم في دراسة اضطرابات السلوك وفهمها وعالجها‪ ،‬فهم‬
‫يتلقون عادة تدريبا خاصا في مجاالت ثالثة‪:‬‬
‫المجال األول‪ :‬قياس الذكاء والقدرات العقلية العامة‪ ،‬وذلك لمعرفة حالة الفرد أو إمكاناته‬
‫العقلية في الحاضر والمستقبل‪.‬‬
‫المجال الثاني‪ :‬قياس الشخصية‪ ،‬ووصفها‪ ،‬وتقويمها‪ ،‬وتشخيص السلوك الشاذ بغرض‬
‫معرفة ما يشكو منه الفرد‪ ،‬والظروف المختلفة التي أحاطت به‪ ،‬وأدت به إلى ظهور تلك‬
‫المشكلة‪ ،‬مما يساعد بالتالي على فهمها بدقة‪ ،‬وتمهيد الطريق إلى عالجها‪.‬‬
‫المجال الثالث‪ :‬اإلرشاد النفسي بأساليبه وطرائقه المختلفة‪ ،‬إذ يرمي إلى تخليص الفرد مما‬
‫يعانيه من اضطراب وسوء توافق‪.‬‬
‫بينما اإلرشاد الفلسفي من وجهة نظر جيرد أخينباخ ‪ Gerd Achenbach‬هو إرشاد‬
‫بديل لإلرشاد النفسي‪ .‬كذلك أشار براون)‪ )Brown,1983,29‬إلى أن اإلرشاد الفلسفي هو في‬

‫‪- 53 -‬‬
‫واقع األمر فلسفة تطبيقية( عملية)‪ ،‬وهو في حد ذاته ليس عالجا بكل معنى الكلمة بالمفهوم‬
‫الطبي‪.‬‬
‫والهدفالرئيس لنموذج أخينباخ الديالكتيكي لإلرشاد الفلسفي هو السؤال عن االفتراضات‪،‬‬
‫وتحفيز األفكار في المواقف الشخصية‪ ،‬وليس توفير الراحة لهؤالء المنكوبين أو المضطربين‬
‫عن طريق أولوية لعالقة مفتوحة‪ ،‬حيث يقوم المرشد الفلسفي بتقويض االفتراضات المريحة‬
‫واثارة األفكار المقلقة‪ .‬بينما يرى تيلمنس)‪ )Tillman,1995‬أن اإلرشاد الفلسفي يعد شكال من‬
‫أشكال اإلرشاد الفكري الذي يختلف تماما عن اإلرشاد النفسي التقليدية‪ .‬ووفقا لهذا‪ ،‬يكون‬
‫الهدف من اإلرشاد الفلسفي توضيح المفاهيم حول الحكمة‪ ،‬والمفاهيم األخرى المتعلقة بالقيم‬
‫دون اللجوء إلى توضيح أشكال االضطرابات النفسية أو مفاهيم الصحة النفسية‪ .‬ومع ذلك‪،‬‬
‫فمن المسلم به أن اإلرشاد الفلسفي قد يكون له آثار نفسية مفيدة كالتي يمكن وصفها على‬
‫نطاق واسع في العملية اإلرشادية‪.‬‬
‫اإلرشاد الفلسفي كبديل عن اإلرشاد النفسي‬
‫ال يمكن بأية حال أن يكون ذلك‪ ،‬ألن اإلرشاد الفلسفي يختلف عن اإلرشاد النفسي‪،‬‬
‫ويمكن أن يكون اإلرشاد الفلسفي مرحلة مهمة جدا في حياة المرء لفهم وتنمية ذاته‪ .‬فهناك‬
‫أنواع كثيرة من نظريات وأساليب اإلرشاد النفسي يمكن أن تقدم كوسائل مساعدة للمسترشدين‬
‫الذين يعانون من معضالت حياتية‪ .‬وفي الوقت نفسه يركز العديد من المرشدين النفسيين‪-‬‬
‫إن لم يكن معظمهم على االنفعاالت‪ ،‬مثل‪ :‬يونغ‪ ،‬وروجرز‪ ،‬واليس‪ ،‬وفرانكل‪ ،‬وفروم‪...‬‬
‫الذين انتقلوا نحو الطرق الفلسفية لإلرشاد‪ .‬ومعظم المرشدين الفلسفيين تناولوا الجوانب‬
‫األساسية لالنفعاالت‪ ،‬التي هي قوة ال يستهان بها في حياة المرء‪ ،‬والعديد من عمالء‬
‫اإلرشاد الفلسفي استكشفوا الجوانب المعقولة في علم النفس تمهيدا لالنتقال إلى الفلسفة‪،‬‬
‫والمثل يقول‪ ":‬تعلم السباحة في المياه الضحلة قبل الخوض في المياه العميقة"‪ .‬ومهما تكن‬
‫اآلراء حول هذه المسألة‪ ،‬فالجواب بال؛ فالناس الذين يعانون من األمراض العقلية والتي‬
‫يمكن أن تجعلهم مضطربين عقليا أو تشكل خط ار على أنفسهم وغيرهم قد يستفيدون من‬
‫الرعاية النفسية‪ .‬والمرشدون الفلسفيون‪ ،‬ومع ذلك‪ ،‬يشعرون بالقلق من أن الطب النفسي‬
‫يحتمل أن يصف كل المشكالت اإلنسانية بالسلوكيات المرضية التي تحتاج إلى عالج طبي‬
‫أو نفسي‪ .‬فقد نجد مثل هذا الرأي غير مقبول؛ فالناس الذين يعانون من مشكالت أخالقية‪،‬‬

‫‪- 54 -‬‬
‫وصراعات مهنية أخالقية‪ ،‬ومشكالت متعلقة بالقيم‪ ،‬المعنى أو الهدف‪ ،‬الصراعات في‬
‫العالقات‪ ،‬وعدم اليقين بشأن الهوية أو التغيير المهني‪ ،‬أو الصعوبة في التعامل مع الخسارة‪،‬‬
‫عادة ما تكون طبيعية جدا‪ ،‬وال تحتاج بالمطلق إلى تشخيص دقيق كمشكالت المرض‬
‫النفسي أو العقلي‪ ،‬واذا استخدم المرشد النفسي تقنيات اإلرشاد النفسي مع هذه الحاالت فإنها‬
‫يمكن أن تضر بالمستنصح أو المسترشد أكثر من نفعه‪ .‬فاألشخاص الذين يعانون من‬
‫اضطرابات عقلية‪ ،‬عاطفية‪ ،‬سلوكية شديدة قد يستفيدون من الطب النفسي‪ .‬أما األشخاص‬
‫الذين يعانون من مشكالت عادية يمكن أن يستفيدوا من اإلرشاد النفسي أو الفلسفي‪.‬‬
‫الفرق بني اإلرشاد الفلسفي واإلرشاد النفسي‪:‬‬

‫اإلرشاد الفلسفي ليس هو اإلرشاد النفسي‪ ،‬ولكن الفروق ليست واضحة تماما‪ .‬وكانت‬
‫الفلسفة وعلم النفس علم واحد من االنضباط مشترك؛ فقبل القرن الثامن عشر‪ ،‬كان علم‬
‫النفس فرع من فروع الفلسفة‪ .‬وقد الحظ الفالسفة دائما موضوعات الطبيعة البشرية‪ ،‬مثل‬
‫اإلدراك‪ ،‬والمعرفة‪ ،‬والوعي‪ ،‬والعواطف‪ -‬التي تعد اآلن من موضوعات علم النفس‪ -‬وقد‬
‫درس علم النفس ضمن في الفلسفة ألكثر من(‪ )2000‬سنة‪ .‬والعديد من العالجات النفسية‬
‫هي في الواقع لها جذور فلسفية تماما‪ ،‬مثل أسلوب كارل روجرز في العالج المتمركز حول‬
‫الشخص‪ " ،‬والعالج العقالني االنفعالي لـ ألبرت إليس‪ ،‬وتحليل المعامالت‪ ،‬فيكتور فرانكل‪،‬‬
‫والعالج الوجودي لـ رولو ماي)؛ وبعض المناهج النفسية هي فلسفية (الظواهر أو الوجودية)‪.‬‬
‫ويبدو من ذلك ال وجود لعلم النفس من دون التبصر الفلسفي‪ ،‬وال وجود للفلسفة من دون‬
‫التبصر النفسي‪ .‬لذلك ال يمكن التفريق بينهما من الناحية النظرية؛ وكذلك يشتركان ببعض‬
‫الوسائل واألهداف المشتركة‪ ،‬وكيفية حل المشكالت لدى اإلنسان‪ .‬فاالثنان مكمالن‬
‫لبعضهما بعضا‪ .‬غير أن هناك بعض االختالفات الملحوظة على الفور ما إذا كنا نميز‬
‫العالج النفسي بطريقة نمطية‪ .‬فاإلرشاد النفسي في العصر الحديث له سيادة واضحة على‬
‫الممارسة اإلرشادية النفسية‪ .‬فالمرشدون الفلسفيون يدافعون عن آرائهم التي تختلف ـ‪ -‬على‬
‫األقل – عن اإلرشاد النفسي إن لم يكن أفضل من الناحية النظرية‪ .‬فالتمييز بين اإلرشاد‬
‫الفلسفي واإلرشاد النفسي كما أشار الهاف)‪ ،)Lahv,2005‬إلى أن التحليل النفسي باعتباره‬
‫أفضل عالج يمكن اتهامه باألبوية كما أشرنا إليه أعاله‪ .‬ويؤكد كوهين)‪)Cohen,2005‬‬
‫بحق األسس الفلسفية في نظريات اإلرشاد النفسي‪ ،‬باعتبارها األساس في أي ممارسة‬
‫عالجية‪ .‬فقد نجد أن أسس اإلرشاد الوجودي قائمة على الفلسفة الوجودية‪ ،‬واإلرشاد العقالني‬

‫‪- 55 -‬‬
‫االنفعالي تم تأسيسه على المدرسة العقالنية (األبيقورية)‪ ،‬واإلرشاد المتمركز حول الشخص‬
‫أسس على الفلسفة اإلنسانية‪ ...‬الخ‪ .‬ومن الواضح أن معظم مدارس اإلرشاد النفسي تم‬
‫تأسيسها على المناهج الفلسفية‪.‬‬
‫ويؤكد المرشدون الفلسفيون بحق على كفاءة علماء النفس في التعامل مع بعض القضايا‬
‫الفلسفية التي تم إدراجها ضمن اإلرشادات النفسية‪ ،‬ونتيجة للحاجة لمعالجة هذا العجز يمكن‬
‫اعتبار اإلرشاد الفلسفي المشروع البديل لإلرشاد النفسي‪ .‬فالتعليم والتدريب النفسي الرسمي قد‬
‫يكون شرطا‪ ،‬لكنه غير كاف لتقديم المشورة الفلسفية‪ ،‬وبالتالي‪ ،‬تقديم المشورة الفلسفية‬
‫مطالبة باالستقالل التام عن الذات‪ ،‬وهذا ما نادى به الفالسفة في بداية القرن الماضي‪ ،‬لكن‬
‫ليس كل مرشد فلسفي مطالب باالنضمام إلى هذا التوجه‪ ،‬لكن االستثناء الملحوظ فيما طوره‬
‫كوهين حول المنهج الهجين يتضمن بعض تقنيات اإلرشاد العقالني االنفعالي وحتى نماذج‬
‫من اإلرشادات غير المعرفية‪ ،‬مثل عالج السلوك ضمن جسم اإلرشاد الفلسفي‪ .‬فبعض‬
‫المرشدين الفلسفيين يواجهون مشكلة الكفاءة النفسية من خالل استبعاد االنفعاالت في أثناء‬
‫ممارستهم الفلسفية‪ ،‬على اعتبار أن هذه االنفعاالت من الموضوعات المشروعة لإلرشاد‬
‫الفلسفي‪.‬‬
‫ومن الناحية النظرية‪ ،‬األنظمة الفلسفية ال تشمل العلوم النفسية‪ ،‬وبالفعل‪ ،‬ومن الصعوبة‬
‫بمكان كيف سيكون للفلسفة أي صلة بالحياة اإلنسانية إذا لم تتعامل أيضا مع االنفعاالت‪.‬‬
‫فمعظم الدراسات الفلسفية العملية تدين لهذه الحقيقة المهمة‪ .‬إن ترسيم الحدود بين اإلرشاد‬
‫الفلسفي واإلرشاد النفسي ال يمكن توضيحه من الناحية النظرية‪ .‬عالوة على ذلك‪ ،‬فإن‬
‫السياق االجتماعي قد يكون مطالبنا بذلك‪ ،‬فمعظم المستنصحون يأتون إلى المرشد الفلسفي‬
‫لحل مأزق شخصي في حياتهم‪ ،‬وليس لتوسيع آفاقهم الفلسفية‪ ،‬واكتشاف سيرتهم الفلسفية‪،‬‬
‫ورغم ذلك ال يمكن للمرشد الفلسفي استبعاد أي نقاش منهجي خال من االنفعاالت‪.‬‬
‫ويبدو هذا‪ ،‬من الناحية النظرية أيضا‪ ،‬أنه ليس هناك حاجة الستبعاد مناقشة‬
‫االنفعاالت في اإلرشاد الفلسفي من الناحية العملية‪ .‬فمن األهمية بمكان يمكن إدراج‬
‫االنفعاالت في المناقشة الفلسفية بالرغم من أهميتها‪ ،‬فإنها ليست سوى جانب واحد من‬
‫مشكلة إدراج علم النفس بالفلسفة‪ ،‬وبالتالي في الممارسة الفلسفية‪.‬‬

‫‪- 56 -‬‬
‫وتعكس مسألة ترسيم الحدود بين اإلرشاد الفلسفي واإلرشاد النفسي على المستوى‬
‫النظري والممارسة العملية‪ ،‬استخدام المعرفة والتجربة باعتبارهما جزءا من اإلرشاد الفلسفي‬
‫الذي يعبد الطريق للمرشد الفلسفي من خالل متاهة المعرفة الفلسفية ومساعدته على‬
‫اختيارات تحقيق الهدف‪.‬‬
‫قلة من البشر يدركون أن أكثر من)‪ (10،000‬فكرة مختلفة في مجال تقديم اإلرشاد‬
‫العلمي‪ ،‬وأكثر من (‪ )250‬أسلوب عالجي مختلف‪ ،‬والميدان كله حالة من الجريان والتغيير‬
‫المستمر‪ ،‬أساليب جديدة وأفكار عن كيفية مجيء اإلنسان على الساحة العلمية بانتظام‪ .‬إن‬
‫النظر في هذه المسائل لتقييم النظريات المختلفة يطرح مجموعة من التساؤالت‪ :‬كيف تقدم‬
‫الخطيئة؟ كيف نقترب من األنثروبولوجيا ؟ ألن وراء كل علم نفس علمي انثروبولوجيا غير‬
‫كتابية‪.‬‬
‫كيف يقدم علم النفس؟ ما هو األهم‪ ،‬الفلسفة‪ ،‬أو التدريب النفسي‪ ،‬أو التدريب الديني‪.‬‬
‫فقد يكون علم النفس مفيدا لفهم المشكلة (التشخيص) ولكن علم النفس الحديث هو سيئ‬
‫للغاية في إعطاء عالج لمشكالت الجنس البشري‪ ،‬ومن تلك التساؤالت التي يثيرها أصحاب‬
‫التوجه الفلسفي في اإلرشاد‪ ،‬إلى أنصار اإلرشاد والعالج النفسي‪ :‬كيف يتم تحديد المشكلة؟‬
‫ما مدى أهمية أنهم ال يعتبرون المشاعر كأساس لمشكالت المسترشد؟ ما الهدف من‬
‫اإلرشاد؟ ‪-‬ما هو دور المرشد؟ ما مصدر الحقيقة التي استخدمها المرشد؟ ما هي مشكلة‬
‫المسترشد للتحسن أو الشفاء أو التغيير؟ ما المنهجية التي يستخدمها المرشد ووجهة نظره‬
‫المعرفية في تقديم اإلرشاد؟ لكن المسألة كيف نقترح التعرف إلى ما يعرفونه؟ هل عن طريق‬
‫الحدس‪ ،‬المنطق‪ ،‬التجربة‪ ،‬الحواس‪ ،‬أم بواسطة الوحي؟ وهل إرشاد مرشد معين يختلف عن‬
‫اآلخرين؟ إذا كان األمر كذلك‪ ،‬لماذا؟ وهل يمكن إحالة الشخص ما إلى مرشدين آخرين؟‬
‫إذا كان األمر كذلك‪ ،‬فعلى أي أساس‪ ،‬ما المعايير‪ ،‬والحقائق؟ كيف يجب أن يكون المرشد‬
‫النفسي حذ ار في القراءة‪ ،‬واالستيعاب‪ ،‬وذلك باستخدام األفكار من الكتب الدينية في مجال‬
‫اإلرشاد‪ .‬هل معظمها انتقائي؟ كيف يمكن وزن القضايا‪ ،‬ومعرفة متى يمكن استخدم أفكار‬
‫يمكن استقاؤها من كتب مخلفة؟ كيف يمكن جعل جميع المسترشدين يفهمون األسلوب‬
‫اإلرشادي في تقديم المشورة ليفهموا الفرق‪ ،‬ولماذا؟‬
‫ويرى راسل )‪ )Russell,1997‬أن اإلرشاد النفسي ال يمكن تمييزه بدقة عن اإلرشاد‬
‫الفلسفي من خالل وجود مشكلة التركيز‪ .‬كما ال يمكن تمييز اإلرشاد الفلسفي بدقة عن‬
‫‪- 57 -‬‬
‫اإلرشاد النفسي من جانب غياب التركيز المزعوم على المشكل‪ .‬ويعني ذلك‪ ،‬عدم وجود فرق‬
‫ثابت وواضح بين اإلرشاد الفلسفي واإلرشاد النفسي فيما يتعلق بما يفعله كل منهما‪ ،‬ولماذا‬
‫يفعل ذلك لتوفير حجة ضد احتكار األنشطة للعالج النفسي من طرف علماء النفس‪،‬‬
‫واستبعادها من طرف الفالسفة‪ ،‬وأن وسائل اإلرشاد النفسي هي أكثر جدوى للعالج النفسي‬
‫من اإلرشاد الفلسفي‪ .‬وترى الجمعية الوطنية األمريكية لإلرشاد الفلسفي( ‪ )NPCA‬أنها ال‬
‫ترى في اإلرشاد الفلسفي بديال عن اإلرشاد النفسي وبناء على ذلك‪ ،‬فإنها تؤكد أن‬
‫المستنصحين قد يتشاورن مع الممارس الفلسفي للمساعدة في استكشاف المشكالت التي‬
‫تثير تساؤالت فلسفية مثل أزمات منتصف العمر‪ ،‬والتغيرات الوظيفية‪ ،‬ضغوط الحياة‬
‫اليومية‪ ،‬ومعنى الحياة‪ ،‬واألخالق‪ .‬ورغم هذا‪ ،‬فإن كل من علماء النفس والفالسفة‪ ،‬لديهم‬
‫اهتمام واضح بحماية الضعفاء من خالل تشجيع التمثيل الذاتي الصادق‪.‬‬
‫املرشد الفلسفي‬ ‫املرشد النفس ي‬ ‫املتغيشات‬
‫يعمل وفق طريقة( نظرية) معينة وشروط ليس لديه طريقة محددة‪ ،‬ونظرية أو أجوبة‬ ‫األسلوب‬
‫خاصة في تشخيص حالة املسرششد‪ ،‬ثم جاهزة‬
‫يحاول وضع اإلرشاد املناسب وفقا لذلك‪ .‬ول يحاول عن طريق اإلرشاد تطويع‬
‫املسننح ‪.‬‬
‫يركز على املشكلة النفسية(حسب مبدأ يركز على املشكلة الفلسفية‪ ،‬الوجودية‪ ،‬وأن‬ ‫املشكلة‬
‫املسننح هو ضحية أزمات حياتية تتعلق‬ ‫الحتمية)‪.‬‬
‫بالحرية واملسؤولية والقيم‬
‫غيش واضحة في كثيش من األحيان‪ ،‬وإنما قائمة‬ ‫واضحة وفق خطة مرسومة مسبقا‬ ‫األهداف‬
‫على العالقة‬
‫يركز على املشكلة والنشخيص‪ ،‬والعالج‪ ،‬يركز على الحوار مع العمالء بدل من تحليل‬ ‫الخطوات‬
‫املفاهيم والتفسيش‪ .‬والشفاء بعد ذلك يعد‬ ‫على اعتبار املشكلة هي نفسية‬
‫ننيجة لهذه العملية‪.‬‬
‫يسعى إلى النشخيص الذاتي‪.‬‬ ‫النشخيص املوضوعي‪.‬‬ ‫النشخيص‬
‫يستخدم مفهوم معنى الحياة وعالم‬ ‫من خالل التقنيات النفسية أو الدوائية‪.‬‬ ‫التدخل‬
‫املسننح من خالل التحليل والتفسيش‪.‬‬
‫الضطرابات الدماغية والنفعالية أو مشكالت الحياة العادية‪.‬‬ ‫مشكالت‬
‫السلوكية الشديدة‬ ‫املعالجة‬
‫أكثش شمولية في النظرة إلى اإلنسان ومشكالته‬ ‫الخرزال والرشكيز على األعراض املرضية‪.‬‬ ‫الشمولية‬

‫‪- 58 -‬‬
‫والخرزال‬
‫محاور الرشكيز دراسة املشاعر والنفعالت واألفكار اإلدراك دراسة األفكار وكيف تؤثر على حياة‬
‫الفرد‬ ‫والسلوكيات‪.‬‬
‫هناك تفاعل بين املرشد الفلسفي‬ ‫نشط في العملية اإلرشادية وخصوصا‬ ‫دور املرشد‬
‫واملسننح ‪ ،‬وقد يكون للمسننح دور نشط‬ ‫في التوجه املباشر‬
‫في العملية اإلرشادية‬
‫الفهم أو الحقيقة هو الهدف‬ ‫كيف يشعر املسرششد‬ ‫التغييش‬
‫الحاضر‪ ،‬وتحليل املشكلة الحالية‬ ‫يكون في املاض ي( حسب النظرية‬ ‫مفتاح‬
‫التحليلية)‬ ‫التغييش‬
‫قصيشة ومحدودة‬ ‫عدد الجلسات‪ :‬قد يطول‬ ‫الجلسات‬

‫يرى البعض أن اإلرشاد الفلسفي مجال واسع وغير واضح المعالم‪ ،‬بينما يرى آخرون أن‬
‫اإلرشاد الفلسفي هو أسلوب مأمون الجانب أو مكمل للعالج النفسي‪ ،‬ووسيلة لملء فراغ‬
‫اإلرشاد النفسي‪ .‬وتشير هذه الدالئل إلى أن هناك أدو ار واستراتيجيات مهمة يمكن أن يؤديها‬
‫اإلرشاد الفلسفي‪ .‬لذلك‪ ،‬هناك حاجة إلى‪:‬‬
‫‪ -1‬إضفاء الطابع المهني من خالل التدريب الرسمي للمعالجين الفلسفيين‪ ،‬حيث يعمل في‬
‫الغالب ـ كما هو الحال في أوروبا والواليات المتحدة ـ في عيادات األطباء النفسيين الستكمال‬
‫عمل األطباء في معالجة العمالء‪.‬‬
‫‪ - 2‬اإلرشاد الشامل لألمراض لدى اإلنسان يحتاج أحيانا إلى أسلوب تعاوني‪ ،‬وال يمكن‬
‫لهذين المجالين أن يكونا مستقلين عن بعضهما لما بينهما من عوامل مشتركة‪ ،‬ورؤية‬
‫متكاملة في عالج العمالء‪.‬‬
‫‪3‬ـ يجب التأكيد على أن يكون هناك تقري ار بأن الفلسفة هي أمر ضروري باعتبارها جانبا‬
‫مهما من مجال تطبيق الفلسفة‪ ،‬وهذا من شأنه تمكين المبتدئون من فهم التفكير المنطقي‬
‫الذي يقدم خالل المرحلة التمهيدية من التدريب‪.‬‬
‫‪ -4‬في المرحلة المتوسطة‪ :‬الحاجة إلى المعرفة‪ ،‬والتقدير مثل هذه الجلسات‪ ،‬وخصوصا‬
‫التي تتعلق بفلسفة الدين‪ ،‬واالنثروبولوجيا الفلسفية‪ ،‬واألخالقيات والتي من شأنها تمكين‬
‫الممارسين من فهم طبيعة العمل اإلكلينيكي‪.‬‬
‫‪5‬ـ المنهج التحليلي الموضوعي الواضح لألحداث والمواقف التي من شأنها أن تقدم للعميل‪.‬‬

‫‪- 59 -‬‬
‫‪6‬ـ‪ -‬التكاملية في الدراسات الشرقية والغربية التي تتعامل مع فلسفة الحياة والموت‪.‬‬
‫‪ -7‬تقدير طرق تقييم اإلرشاد الفلسفي‪.‬‬
‫ويشير فرانكل )‪ )Frankl,1974‬إلى أنه عندما تسأل األفراد عن السبب الذي من أجله‬
‫يعيشون حياتهم‪ ،‬فإنهم سيجيبون بأنهم يعيشون من أجل األطفال الذين يجب أن تُستكمل‬
‫تربيتهم‪ ،‬أو من أجل الصديق الذي يجب مساندته‪ ،‬أو من أجل العمل الذي ينبغي إنجازه أو‬
‫من أجل الحركة السياسية التي ينبغي أن تحظى بالتأييد‪ ،‬أو من أجل العمل الفني الذي لم‬
‫يزل قيد التطوير‪ .‬و كل هذه اإلجابات يمكن إيجازها في جملة واحدة مؤداها أن هناك‬
‫شخصا ما أو شيئا ما في حاجة إلى وجود‪ .‬وهنا يكمن جوهر اإلرشاد بالمعنى الذي يعلمنا‬
‫أن غاية سعينا ينبغي أن تكون من أجل معنى يدوم ويعمق مغزاه حتى في أحلك ساعات‬
‫المعاناة‪ ،‬وهذا ما حدث لفرانكل الذي جاهد ليبقى وينقل للبشرية خالصة تجربته وسط ذلك‬
‫القدر المهول من العذاب البدني والنفسي‪ .‬ومن هنا تتبلور صورة معنى الحياة كما أرادها‬
‫فرانكل في نظريته للمعنى؛ فالحياة بالنسبة ألي فرد ذات معنى تام وغير مشروط‪ ،‬يمكن‬
‫تحققها بغير شرط أو قيد‪ .‬وينبغي لإلنسان أال يتوقف عن بلوغ هذا المعنى في كافة األحوال‬
‫والظروف‪ .‬والمعنى الذي يقصده فرانكل ذاتي وموضوعي في آن واحد‪ ،‬فهو ذاتي من حيث‬
‫تناول اإلنسان له‪ ،‬وموضوعي من حيث إن لكل شيء معناه الحقيقي الخاص به‪ ،‬وألن‬
‫المعنى ال يمنح وانما يلزم أن يلتمسه اإلنسان ويسعى إليه‪ ،‬فإن هذا االلتماس‪ ،‬وهذا السعي‬
‫لبلوغ المعنى يجب أن يكون في إطار العام من المسؤولية وااللتزام األخالقي‪ ،‬وسعيا وراء‬
‫التطور واالبتكارية‪.‬‬
‫وقد أعطى روزنر مثالين لحاالت بعض الناس في منتصف العمر‪ :‬المثال األول‪ ،‬عميل‬
‫يقترب من سن الخمسين‪ ،‬ولديه شعور بأن حياته هي أكبر من النصف‪ ،‬حيث يشعر بأنه لم‬
‫يحقق ما يريده في فترة حياته‪ ،‬وبالتالي غير متأكد من النصف المتبقي من حياته‪ .‬والمثال‬
‫الثاني لعميل عمره (‪ )100‬سنة‪ ،‬قد أنجز بالفعل األهداف التي كان قد وضعها لنفسه‪ ،‬ولكن‬
‫ال يزال يجد في نفسه أنه لم يتم الوفاء بها‪ ،‬وبالتالي يبدأ بسؤال نفسه‪ ،‬فيما إذا كان هو كل‬
‫في األمر‪ .‬هذه هي األزمات التي تواجه الناس‪ ،‬غير أن بعضها غير واضح المعالم‪،‬‬
‫وبعضها اآلخر أكثر وضوحا‪.‬‬

‫‪- 60 -‬‬
‫اإلرشاد الفلسفي علم وفن ‪:‬‬
‫إذا أجبنا بأنه شكل من أشكال الفن‪ ،‬فإننا نكون قد وقعنا في ورطة‪ ،‬ألنه إذا كان‬
‫اإلرشاد الفلسفي فنا‪ ،‬واذا كان اإلرشاد الفلسفي علما فيمكن أن يكون أي شيء‪ .‬وهو ليس‬
‫كذلك‪ ،‬ثم مرة أخرى‪ ،‬فإنه من الصحيح أيضا أن الحديث عن اإلرشاد النفسي يعتمد إلى حد‬
‫ما على فن المرشد النفسي في عالقة إرشادية بين مرشد ومسترشد‪ ،‬قائمة على البصيرة‪،‬‬
‫والخيال واإلبداع في مساعيهما لتطبيق الفنية أو التقنية اإلرشادية‪ .‬في حين إن اإلرشاد‬
‫الفلسفي ليس على نحو دقيق شكل من أشكال الفن‪ ،‬بيد أن لديه بعض األشياء المشتركة‬
‫مع أشكال الفن‪ .‬ومن ناحية أخرى‪ ،‬إذا قلنا إنه علم‪ ،‬سنكون في ورطة أيضا‪ ،‬ألن العلم له‬
‫نظريات وأساليب تقدم لنا معرفة تراكمية أكثر وثوقية بمرور الوقت‪ ،‬كما هو الحال في مجال‬
‫العلوم الطبية‪ ،‬بينما بهذا المعنى‪ ،‬فاإلرشاد الفلسفي ليس بعلم‪ ،‬على اعتبار أن بعض‬
‫النظريات القديمة يمكن أن تكون أكثر فائدة في حالة معينة من النظريات األحدث منها‪ .‬إن‬
‫طريقة نيلسون في الحوار السقراطي هي بالتأكيد علمية بقدر ما هي موثوق بها‪ .‬وبطبيعة‬
‫الحال فقد وضعت العديد من الفلسفة الهندية أشكاال فعالة جدا للتأمل‪ ،‬والتي هي ‪ -‬على حد‬
‫سواء ‪ -‬ممارسات فلسفية‪ ،‬كعلوم لتطوير الذات‪ .‬في حين إن اإلرشاد الفلسفي ليس بالضبط‬
‫علما‪ ،‬بل لديه بعض األشياء المشتركة مع العلم‪ .‬فعوضا عن الفلسفة النظرية العقيمة التي‬
‫استبدت بالتعليم الفلسفي‪ ،‬تحظر الفلسفة اإلرشادية لتمنح لألشياء الهامشية قيمة‪ .‬فتعيد بذلك‬
‫االعتبار لعالم الحس‪ ،‬عالم الظواهر لألشياء البسيطة ردا على المثاليات الفلسفية التي ترفع‬
‫من شأن المطلق والمتعالي‪.‬‬
‫وهنا‪ ،‬ال ينبغي الخلط بين “الفلسفة باعتبارها "عالجا" وبين فلسفة اإلرشاد‪ .‬فهذه‬
‫األخيرة تحيل إلى التحليل االبستمولوجي( المعرفي) للمفاهيم والمناهج التي تخص الممارسة‬
‫الطبية‪ .‬ففلسفة اإلرشاد تصنف ضمن مباحث الفلسفة البيولوجية أو تاريخ العلوم‪ .‬أما الفلسفة‬
‫التي نقصدها هنا‪ ،‬فهي التي تعوض الفيلسوف النظري كما هو معروف في التصور‬
‫التقليدي بالفيلسوف الطبيب الذي تتحدد مهامه في منح الصحة الكبرى للفرد‪ ،‬واألفراد‬
‫وللمجتمع أيضا‪ .‬كما ال ينبغي الخلط بين “الفلسفة باعتبارها عالجا” وبين ما يتداوله بعض‬
‫المعاصرين من المهتمين باالشتغال من صيغ تعبيرية كـ “اإلرشاد بالفلسفة” أو “التداوي‬
‫بالفلسفة” (لحسن‪.(2012 ،‬‬

‫‪- 61 -‬‬
‫ودفعا لكل اعتراض مفترض على دعوانا‪ ،‬نشير إلى أن اعتماد الصيغة اللغوية‬
‫المتضمنة في عنوان هذه المحاولة‪ ،‬ال تعني الدمج التعسفي لمفهومين متباعدين اعتاد‬
‫الجمهور نسبتهما إلى مجالين متباينين أحدهما عملي وهو الطب واآلخر نظري هو الفلسفة‪.‬‬
‫وبالعكس فمفهوم اإلرشاد حاضر بمنطوق اللفظ في الكثير من الفلسفات على اختالف‬
‫العصور‪.‬‬
‫وأخير يمكن القول‪ :‬إن اإلرشاد النفسي قد انبثق من التصورات الفلسفية لإلنسان‪ ،‬حيث‬
‫نجد أن جميع النظرية العالجية والنفسية‪ ،‬مثل العالج العقالني االنفعالي التي ترجع إلى‬
‫الفلسفة العقلية األبيقورية‪ ،‬والعالج المتمركز على الشخص‪ ،‬تركز إلى الفلسفة اإلنسانية‪،‬‬
‫والعالج المعرفي وليدة فلسفة أرسطو‪ ،‬والعالج اإليجابي وليد أفكار أفالطون‪ .‬وبناء على‬
‫ذلك ال يمكن الفصل بين اإلرشاد والعالج النفسي والفلسفة‪ ،‬كون الفلسفة تعالج اإلنسان في‬
‫أفكاره وسلوكياته وانفعاالته بطريقة شمولية‪ .‬لذلك فبعض المشكالت النفسية واالنفعالية ال‬
‫يمكن لإلرشاد والعالج النفسي التصدي لها‪ ،‬إال من خالل اإلرشاد الفلسفي‪ ،‬كمعنى الحياة‪،‬‬
‫وسيكولوجية السعادة‪ ،‬والحكمة‪ ،‬واأللم الوجودي وغيرها من الفضائل اإلنسانية‪ ،‬ونرى أن‬
‫اإلرشاد الفلسفي هو أسلوب توجيهي في الحياة وفن معرفة الحياة بطريقة عقالنية‪ ،‬ألن‬
‫اإلرشاد الفلسفي يحتاج إلى االندماج بعمق مع فكرة الفلسفة كتوجه يتميز بقيم ومواقف معينة‬
‫تجاه الحياة ‪ .‬ويشير مفهوم الحكمة إلى العديد من الفضائل األخالقية وكذلك إلى وسائل‬
‫تحقيق حاالت مرضية شخصيا مثل الهدوء‪ ،‬ويجب أن يتصرف المرشدون في ضوء هذا‬
‫الفهم القائم على القيمة للحكمة‪ ،‬وأن يسعوا لتحديد ما سيفعله الشخص الحكيم في حالة‬
‫المرشد‪ .‬وتساعدنا تقاليدنا الفلسفية في اإلجابة على هذا السؤال‪ ،‬وفي معظم الحاالت تكون‬
‫مهمة المرشد هي العثور على األفكار والممارسات التاريخية التي تناسب ظروف حياة‬
‫المرشد الفريدة‪ .‬حقيقة أن اإلرشاد الفلسفي يتضمن مواقف قائمة على القيم تجاه الحياة قد‬
‫تستلزم أن نوع اإلرشاد الذي يريد المرء أن يقدمه ليس مناسبا لجميع المهتمين بالتأمالت‬
‫الفلسفية الشخصية‪ .‬وقد يكون من غير المجدي رؤية مرشد تختلف قيمه تماما عن قيم‬
‫المرء‪ ،‬ألن أسئلته وتعليقاته قد ال تعبر عن إحساس المرء بما ُيعد سببا وجيها للعمل ‪ -‬حتى‬
‫لو سمحنا بإخفاء هذا المعنى المحتمل فقط‪.‬‬
‫وأخي ار نرى أن نطاق المرشدين الفلسفيين ضيق النطاق‪ ،‬بالمناسبة على النقيض من ذلك‪،‬‬
‫قد تقدم خدمات مفيدة لألفراد ذوي االهتمامات الفلسفية‪ .‬والحدود بين علماء النفس و سيكون‬

‫‪- 62 -‬‬
‫المرشدون الفلسفيون أحيانا حادين وأحيانا ضبابيين‪ ،‬ألن مشاكل عمالء العالج النفسي غالبا‬
‫ما تنطوي على مشاكل القضايا الفلسفية‪ ،‬تماما مثل اهتمامات اإلرشاد الفلسفي بالعمالء‬
‫غالبا ما تتضمن مشكالت نفسية‪ .‬وضيق النطاق لإلرشاد الفلسفي يمكن أن تكون مفيدة في‬
‫ظل ظروف معينة ‪-‬عندما يتشاور المرشدون الفلسفيون مع علماء النفس أو غيرهم من‬
‫أخصائيي الصحة النفسية‪ ،‬يتم بدمج العلوم ذات الصلة يمكن الحصول على النتائج الفعالة‬
‫في الممارسة‪ ،‬وتقييم تدخالتهم‪ ،‬وتطوير تقدير أكثر تماسكا ألهدافهم وأساليبهم‪.‬‬
‫ماذا يجب أن يقول علماء النفس لعمالئهم أو أصدقائهم أو عائالتهم واألعضاء الذين‬
‫يسألون عن مدى مالءمة تقديم اإلرشاد الفلسفي؟ نجيب بإيجاز‪ :‬إذا كان لديهم ضيق قضية‬
‫تقع في منطقة تعتبر بشكل عام فلسفية بطبيعتها (على سبيل المثال‪ ،‬الفلسفة السياسية أو‬
‫األخالق)‪ ،‬ثم اإلرشاد الفلسفي قد يكون ذات قيمة‪ .‬من الناحية المثالية‪ ،‬سيكون المرشدون‬
‫الفلسفيون متخرجين لديهم دراية بالتدريب الفلسفي والتفاعالت الشخصية‪ ،‬وسوف تستخدم‬
‫السلطة التقديرية في إحالة القضايا خارج نطاق اختصاصهم‪ .‬أما إذا كانت المشكلة تعد‬
‫بشكل عام نفسية بطبيعتها (على سبيل المثال‪ ،‬المشاعر المختلة‪ ،‬السلوكيات اإلشكالية أو‬
‫القهرية‪ ،‬أو مشاكل العالقة) فمن األفضل لهم الذهاب إلى أخصائي الصحة النفسية‪ .‬لذلك‬
‫‪،‬‬

‫يمكن القول إن اإلرشاد النفسي واإلرشاد النفسي بينهما وشائج قربى ال يمكن فصلهما نظريا‬
‫وممارسة في تقديم الخدمات اإلرشادية للمحتاجين إليها‪ ،‬مثل هذا التكامل يشبه التكامل بين‬
‫العقل والجسد الذي ال يمكن النظر إليهما كحالتين منفصلتين بل متكاملتين‪.‬‬

‫‪- 63 -‬‬

You might also like