Professional Documents
Culture Documents
تقديم
يظل الهدر المدرسي إحدى الخصائص الهيكلية التي تطبع النظام التعليمي
المغربي ،وهذه الظاهرة تعد من أكبر المعيقات التي تعرقل تطور العملية
التعليمية بجميع مراحلها ،والتي تسببت في نزيف كبير للموارد البشرية ،وهي
ظاهرة مركبة تشمل مجموعة من العوامل الثقافية والاجتماعية والاقتصادية.
وقد لاحظت العديد من الدراسات أن ظاهرة الهدر المدرسي تنتشر أكثر بالوسط
القروي ،تليه الأحياء الشعبية ،أي الأحياء الهامشية والفقيرة بالوسط الحضري ،مما
يعمق من نتائجه الخطيرة ،مثل انتشار الأمية والبطالة والجريمة في المجتمع وهدر
الموارد المالية للدولة ،كما يؤدي حتما إلى الانحراف والتهميش والإقصاء واستغلال
الأطفال في سوق العمل قبل سن الخامسة عشرة.
وقد كشفت الأرقام الرسمية أن ظاهرة الهدر المدرسي في تصاعد متزايد ،في
السنوات الأخيرة ،لذلك فمن المرتقب أن يكون هذا الملف حاضرا في مشروع
الإصلاح القريب الذي تباشره وزارة التربية الوطنية.
وبناء عليه ،فقد ارتأيت من خلال هذا المقال تسليط الضوء عن هذه الإشكالية،
التي بلا شك تؤرق بال المسؤولين عن القطاع التربوي في بلادنا ،وذلك لإبراز أبعاد
هذه الظاهرة وتلمس أسبابها ،مع وضع بعض المقترحات الكفيلة بالتصدي لها أو
الحد منها.
مهما تعددت الأسماء واختلفت المفاهيم والمصطلحات حول الهدر المدرسي ،فإن
هذه الظاهرة تحمل مدلولات ومسميات أخرى كالتسرب والفشل المدرسي ،والتخلف
الدراسي ،والانقطاع المدرسي ،وعدم التكيف الدراسي ،..وكثير من المفاهيم التي تعد
حقلا خصبا لسوسيولوجيا التربية هي نتيجة واحدة لشيء واحد ،هو ترك الدراسة قبل
إنهاء مرحلة معينة ،وهي آفة تسائل الدولة والمجتمع ،بل تسائل السياسة التعليمية
ببلادنا ككل.
لذا ينبغي علينا أن نعترف أننا أمام ظاهرة تؤرق المجتمعات العربية بشكل عام،
والمغرب بشكل خاص ،وتساهم في عدم تطور الفرد بل المجتمع برمته ،فهي من
العوامل القادرة على شل حركة المجتمع ووضعه في دائرة التخلف والتقهقر ،بعيدا
عن مواكبة لغة العصر في التقدم والانفتاح.
تبين الإحصائيات الرسمية الصادرة عن وزارة التربية الوطنية ،والتي أجريت خلال
سنة 2008أن أكثر من 300.000ألف تلميذ وتلميذة من الفئة العمرية (6-15سنة )
ينقطعون سنويا عن الدراسة ( ،) 1هذا الأمر الذي يتسبب في تأخر التعليم من جهة
وفي الرفع من نسبة الأمية من جهة ثانية ،والتي تصل نسبتها إلى حوالي ،%34
بينهم أكثر من مليون طفل يتراوح عمرهم 9و 14خارج المدرسة لا يعرفون القراءة
والكتابة حسب الإحصائيات الرسمية (.)2
كل هذا يجعل بلادنا تحتل مراتب متدنية في مؤشرات التنمية البشرية بالرغم من
المجهودات المبذولة.
فالهدر المدرسي يشكل آفة تؤثر سلبا في تنمية مجتمعنا ،حيث أظهرت دراسة من
طرف المجلس الأعلى للتعليم سنة 2008أن التلاميذ الذين ينقطعون عن الدراسة
بعد أربع سنوات يؤولون إلى الأمية ،مما يشكل استنزافا للموارد البشرية والمادية
للبلاد ،إذ يمكن تقدير تكلفة عدم التمدرس وا لانقطاع عن الدراسة بنسبة %2من
الناتج الداخلي الخام ،وهذه الظاهرة كما أسلفنا تنتشر بالعالم القروي ،مما يستنزف
التقدم الذي تحقق في تقليص الفوارق في نسب التمدرس بين الوسطين الحضري
والقروي ،وبين الجنسين فمعدل تمدرس الفتيات بين 12و 14سنة من العمر لم
يتجاوز 43%في الموسم الدراسي 2007-2006مقابل 75%كمعدل وطني بالنسبة
لهذه الفئة العمرية .وتضاف فئات التلاميذ المنقطعين عن الدراسة ،إلى صفوف
المستهدفين ببرامج محاربة الأمية وبرامج التربية غير النظامية ،التي تبقى المسلك
الوحيد لإعادة الإدماج في المنظومة ،علما أن الطاقة الاستيعابية لاستقبال
المستفيدين من هذه البرامج لا تكفي آلاف المنقطعين عن الدراسة.
في خلاصة تقرير منظمة اليونسكو ،وهي منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم
والثقافة ،والصادر سنة ، 2014جاء فيه أن المغرب احتل المرتبة ما قبل الأخيرة
عربيا في عدد الخريجين .كما أن %10من الأطفال لا يلتحقون بالمدرسة ،و حوالي
% 34.5فقط هي نسبة التلاميذ الذين يلتحقون بالتعليم بالثانوي ،هذا بالرغم من
كل الإمكانيات التي توظف في قطاع التربية والتعليم ،والتي تفوق % 5من الدخل
العام للبلد.
أما عن أسباب الهدر المدرسي ،فتتنوع بين أسباب اجتماعية ،وثقافية ،واقتصادية،
ونفسية ،وتربوية ،وجغرافية.
* أمية الآباء ،غياب علاقات التواصل مع الأسرة ،رفض بعض الآباء لتمدرس
الفتاة (خوفا من تعرضها للتحرش الجنسي ،أو من صدور أعمال عنها قد تسيء
إلى سمعة العائلة.)..
* سيادة بعض الأفكار الخاطئة حول تدريس الفتاة القروية ،حيث ترى بعض
الأمهات أن البنت يجب أن تتعلم الأعمال المنزلية وبعض الأنشطة الممارسة
في المنطقة ،وهذا كفيل لها بحياة زوجية ناجحة أما الدراسة فهي شيء ثانوي.
* مسألة الزواج المبكر ،والتي تعد من بين الأسباب التي توقف مسيرة الفتاة
الدراسية عند مراحلها الأولى.
أما الأسباب الثقافية فتتعلق أساسا بنظرة السكان القرويين للمدرسة ،فالعادات
والتقاليد تلعب دورا هاما ،فقد نجد أسرا أحيانا تشجع أبناءها وبناتها على التمدرس
خلال المرحلة الابتدائية فقط.
وتتجلى في الفقر والحاجة ،والدخل المحدود للأسر ،وضعف الموارد المالية للتكفل
بدراسة الأبناء .هذا إضافة إلى تشغيل البعض منهم لأطفاله في أعمال الفلاحة
وغيرها من الأعمال وتكليف الفتياة بأعمال البيت ،إلى جانب غياب النقل المدرسي
أو محدوديته في الوسط القروي.
* ضعف البنيات التحتية المدرسية ،وفي هذا الإطار لا تزال العديد من
المدارس بالمناطق القروية بالخصوص غير مرتبطة بشبكة الماء الصالح
للشرب أو لا تتوفر على مرافق صحية ،أو تفتقر للكهرباء .وقليلة هي
المؤسسات التعليمية التي تتوفر على سكن مخصص للمدرس ،ومن ثم فإن
عددا مهما من المدرسين يزاولون عملهم في ظروف غير ملائمة للعملية
التربوية؛
* حالات الغياب المتكررة لدى بعض المدرسين ،والتي تعود في الغالب إلى
ظروف العمل الصعبة ولاسيما بالوسط القروي (البعد ،السكن ،النقل،
التجهيزات )..؛
كل هذه الأسباب التربوية التي ذكرناها وأسباب أخرى ،تلعب دورا كبيرا في تراجع
دور المدرسة ورسالتها التربوية وتفقدها الثقة في المحيط الاجتماعي والأسري،
وتخلق نفورا في نفوس التلاميذ الذين يغادرون حجراتها وأقسامها دون استكمال
دراستهم .وهذه الوضعية المقلقة تسائل د ور الدولة والوزارة الوصية على القطاع،
وكذا دور الجماعات الترابية في توفير بنيات مدرسية بمواصفات جيدة ولائقة.
الفرع الثالث :الإجراءات المتخذة من طرف قطاع التربية الوطنية للحد من الهدر
المدرسي
إن هذه الظاهرة بحجم خطورتها والإشكالات التي تطرحها سواء على مستوى
المؤسسة التعليمية أو الفرد المتعلم أو الأسرة والمجتمع برمته ،دفعت بلا شك
وزارة التربية الوطنية إلى بدل جهود كبيرة من أجل الحد منها ،وذلك من خلال
توسيع نطاق برامج التدخل (محاربة الأمية ومدرسة الفرصة الثانية) ووضع مقاربة
وقائية عبر إرساء خلايا اليقظة خاصة في العالم القروي ،ووضع عدة برامج منها:
برنامج المواكبة التربوية لفائدة التلاميذ المتعثرين ،وبرنامج الدعم التربوي ،وبرنامج
الدعم الاجتماعي ،وبرنامج تأهيل المؤسسات التعليمية وتسريع وتيرة إنجاز مشاريع
البناءات المدرسية.
ويعد برنامج تيسير ،والذي يهدف إلى توفير منح دراسية لفائدة التلاميذ والتلميذات
المنتمين للأسر الفقيرة ،إلى جانب مشروع مليون محفظة ،أهم انجازات البرنامج
الاستعجالي في اتجاه الرفع من نسبة المتمدرسين والاحتفاظ بهم لأطول مدة
ممكنة ،تحقيقا ل هدف إلزامية التعليم ومجانيته إلى حدود 15سنة.
كل هذه الإجراءات وغيرها كانت تستهدف الحد من الهدر المدرسي ،لكن الواقع
يزكي ويبين أن الهدر لم يتم الحد منه ،ولازال نزيف الانقطاع المدرسي في تزايد.
وهذا يطرح تساؤلات عن محدودية البرامج المتبعة ،ومدى استفادة كل التلاميذ
الذين يعانون من وضعية هشة ،بل نتساءل عن مدى شمولية المواكبة التربوية،
هل هذه المنظومة تشمل البرامج الموجهة للتلاميذ العاديين والمتميزين أنفسهم
الذين هم أيضا بحاجة إلى برامج المواكبة التربوية .بل إن المؤسسات التعليمية
ذاتها ،بجميع مكوناتها بما فيها من أطر إدارية وتربوية وتقنية ،هي أيضا بحاجة إلى
تتبع ومواكبة وتقويم مستمر ،كما نتساءل عن عنصر الحكامة في هذه البرامج أي
عن مدى نجاعتها ،وإلى أي حد تم تفعيلها على أرض الواقع ،وكذا عن مسألة التتبع
والمراقبة والتقويم وسبل تدبير هذه الإجراءات.
ففي دراسة ميدانية أجرتها إحدى جمعيات التنمية البشرية بمدينة وزان
ونواحيها ( )3خلصت فيها إلى أن نسبة الهدر المدرسي ستستمر في الارتفاع في
السنوات المقبلة لأن الجهات المسؤولة تتعامل مع منشطي التربية غير النظامية
باللامبالاة وبأساليب متجاوزة ولا يتوصلون بمستحقاتهم الهزيلة إلا بعد مرور أكثر
من سنة .وتوصي هذه الدراسة بالعناية بالمنشطين واعتبارهم قوة اقتراحية علاوة
على إعادة وزارة التربية الوطنية النظر في مضامين مقررات التربية الغير النظامية،
وأن تكون هناك شراكة فعالة ما بين الوزارة المعنية وجمعيات المجتمع المدني
تقوم على مبادئ الحكامة الجيدة والتدبير العقلاني ،مع جعل الجماعات المحلية
شريكا أساسيا في هذا المجال.
ينبغي أن نعيد التأكيد على أن ظاهرة الهدر المدرسي تعتبر معضلة تربوية كبرى
تحول دون تطور المنظومة التعليمية ببلادنا خصوصا بالعالم القروي ،كما أن لها
آثارا وخيمة ،كارتفاع نسبة الأمية والبطالة وانحراف الشباب .لذا فإن الظاهرة تتطلب
حلولا ملموسة وعميقة وبعد نظر واعتماد مقاربات جديدة في مواجهتها،
سيكولوجية واقتصادية واجتماعية .وفي هذا الإطار ،يمكن تقديم بعض المقترحات
التي نراها مهمة من أجل الحد من الهدر المدرسي وهي كالتالي :
* بناء دور ملائمة للفتيات المنحدرات من الوسط القروي وضمان بيئة تربوية
مناسبة ،وتوفير مساعدات اجتماعيات لتقديم الدعم النفسي والاجتماعي.
إن ورش الإصلاح الذي تقوده وزارة التربية الوطنية اليوم في إطار مشاورات
جهوية مع الفرقاء والفاعلين الجهويين ،يتطلب بكل إلحاح إعادة النظر في الدور
الحالي للمدرسة العمومية في اتجاه تقوية إشعاعها وإبراز مكانتها ،وفي اتجاه
إعادة الاعتبار للمربي لأداء رسالته النبيلة والجسيمة في نفس الوقت ،لأنه يؤدي
أصعب مهمة وهي وظيفة تربية النشء والأجيال المتسلحة بالمعرفة الصحيحة
والبناءة التي تسهل انخراطه في الحياة العامة والإسهام قدر جهده في عملية
التنمية المأمولة ،وذلك من أجل ضمان مدرسة عمومية تعيد الثقة للأسر
المغربية ،وتكون فضاء جذابا ومستقطبا للتلميذ ،مدرسة عمومية تتوفر على بنيات
ت حتية جيدة ،وتقل فيها الإكراهات والصعوبات التي يعاني منها نظامنا التعليمي
منذ عقود ( الهذر المدرسي ،الرسوب ،الاكتظاظ ،التكرار،الأمية.)...
نظرة عامة عن الحالة الراهنة للمدرسة المغربية – تقرير المجلس العلى ][2
للتعليم لسنة 2008
هذه الدراسة أنجزت من طرف جمعية جدور للتنمية البشرية للتفصيل الإطلاع ][3
http://jedour.freehostia.com/على الرابط