Professional Documents
Culture Documents
وهذا –بدوره -يولد سلسلة من القضايا البحثية على غرار مشروع مالك بن نبي حينما أسس مشروعه العمراني في
"مشكالت في بناء الحضارة" .إن هذا امللف ال يزال في حاجة إلى تأصيل في بعض مفاهيمه واستثمار كافة القدرات
للتذكير ببعض مناطقه.
إن هذا االجتهاد العمراني حري به أن يواصل تأسيس قواعد املدرسة العمرانية ،هذه املدرسة التي تجعل من النظام
ً
املعرفي العمراني أساسا لتعاملها مع مجمل القضايا املتعلقة باملناحي الحضارية املختلفة ،وهذه املدرسة ستفرز
حتما أجندة بحثية واهتمامات علمية مهمة ،يجري إهمالها أو إغفالها أو تهميشها على أجندة البحث املعاصر.
كما أنها ستؤصل مداخل وصف ورصد ،وتقدم وحدات تحليل عمرانية متجددة ،وتصنيفات حضارية عميقة ال
ً
تختزل أو تبسط ،وتقدم قواعد تحليل وقدرات منهج ومداخل تفسير ،وتنسج أصوال تنظيرية ضمن نسق تعميماتها
ومداخل تقويم تظن أهميتها في هذا املقام.
االجتهاد العمراني والتجديد العمراني حركتان متواصلتان تؤسسان دعوة املدرسة العمرانية ومواصلة جهودها.
وضمن هذا االجتهاد – الحضارة ،تبرز عناصر االجتهاد السنني ،إن اجتهاد الحضارة الفاعلة ال يمكن تحقيقه إال في
سياق الوعي بالسنن القاضية التي تحكم حالة العمليات الحضارية الكبرى ،وتؤسس عناصر منهج تحليل وتفسير
وتقويم ،يشير إلى السنن كقدرات منهجية ،هذا املنهج للتعامل يتحرك ضمن هذه العمليات من مثل :عمليات التغيير
الحضاري ،أصول التعامل والتفسير الحضاري ،اعتبار املآل الحضاري ،عناصر تقويم املسيرة الحضارية ،عناصر
Page 1 of 35
www.eipss-eg.org
August 13, 2021
ً
االجتهاد السنني ،أي يجعل السنن موضوعا لالجتهاد البحثي من ناحية وتفعيل عناصر هذا االجتهاد السنني من ناحية
أخرى ضمن دراسة الكثير من القضايا البحثية.
واالجتهاد هنا حركة ممتدة وعملية متواصلة متعددة املجاالت ،تسير في األفق املتعدد ،من أفق الكون إلى أفق
ً
اإلنسان ،إلى أفق املجتمع ،إلى أفق التاريخ ،ضمن عناصر ناظمة تجعل االجتهاد عملية متسقة تشد بعضها بعضا.
ويقع في الخاتمة اجتهاد املقاصد أو االجتهاد املقاصدي ليتوج كل العناصر السابق اإلشارة إليها ،فاالجتهاد املقاصدي
فكرة حاضنة لكل العناصر السابقة بحيث توفر لها عناصر الحيوية والفاعلية ،وهي ذات مقصود يفض ي إلى الرعاية
والحفاظ والحماية والصيانة ،هذا االجتهاد يحرك عناصر أجندة بحثية وجهود علمية نظرية وتطبيقية.
إن أصول الفقه الحضاري تحدد الهدف الذي من أجله تحدثنا عن ضرورة آليات التشغيل .وأصول الفقه الحضاري
هو تأصيل املنظور الحضاري بكل سعته وامتداده ،وبكل سياقاته وتفاعالته ،بكل فعله وفاعلياته.
فأصول الفقه الحضاري يجعل من النص/الوحي محوره كعلم أصول الفقه وكل العلوم التي كانت آليات الشرعة في
ً
الفهم ،فإذا كان علم الفقه قد اهتم بدوره بوصف األفعال وفقا لحقيقة التكليف (افعل ال تفعل) ضمن نسق من
األفعال الجزئية( :أحكام األفعال) ،فإن أصول الفقه الحضاري جعل من أهم أهدافه تضمين أهداف علمي األصول
والفقه ضمن منظومة أهدافه ،مع الحرص على صياغتهما ضمن قواعد التفعيل والتوظيف في حقول العلوم
اإلنسانية واالجتماعية ،وهو يسير خطوة أبعد بإضافة موضوعات نظن جدارتها بأن تنظم في كيان معرفي موحد،
يمكن أن تخرج على شاكلته قواعد أساسية لعلوم األمة والعمران (العلوم اإلنسانية واالجتماعية وتطبيقاتها)
وتؤصل هذه العلوم.
ً ً ً
وفي هذا السياق ،فإن النموذج املقاصدي وباعتباره نموذجا إرشاديا معرفيا يمكن توظيفه في عمليات التنمية
والعمران (يوضح الشكل النموذج املقاصدي :نموذج إرشادي) على ثالثة مستويات تتكامل في رؤيتها ملقاصد ومعايير
التنمية وتؤصل رؤية ال ندعي اكتمالها ،ولكن قد تشير إلى أهميتها وربما مكانتها:
املستوى األول -الدور التأصيلي والتنظيري في بناء مفهوم "التنمية" وذلك في ضوء صياغته "صياغة مقاصدية" وما
تصور ٍ
حاكم للعمليات اإلنمائية والعمرانية. ٍ يقتضيه ذلك من
Page 2 of 35
www.eipss-eg.org
August 13, 2021
املستوى الثاني -الذي يركز على منظومة مقاربات تراثية وحديثة في عمليات التنمية تسهم وتستكمل عناصر تفعيل
وتشغيل للنموذج املقاصدي .املقاربات وتنوعها بين التراث واملعاصرة يشير إلى التواصل والوصل واالتصال بين
اجتهادات الصيغة املقاصدية وأدوارها في تأصيل رؤية تنموية تعبر عن فاعليات املنظور من جهة ،وخصوصية
تأثيراته على التنمية والعمران من جهة أخرى.
املستوى الثالث -وهو يركز على "معايير التنمية" ال بمعنى قواعد االتفاق العام بين الجماعات ،ولكن باعتبارها
تشير -وكما هي التضمينات اللغوية -إلى القياس وبناء املؤشرات ،ضمن مقاربات تستشرف إحداها جدوى القياس،
والثانية تحاول قياس العالقة بين التنمية واإلسالم ،والثالثة تهتم بتطور فكرة املؤشرات في ارتباطها بالتنمية،
ً ً ً ً
والرابعة تشير إلى محاوالت شاعت في اآلفاق واستدعت حوارا أكاديميا وسياسيا وإعالميا تتعلق بتقريري التنمية
اإلنسانية العربية (.)2003 ،2002
ثم نقدم خاتمة تحاول بناء "تقرير النفير للتنمية" على أساس من املعمار املقاصدي.
Page 3 of 35
www.eipss-eg.org
August 13, 2021
والحديث عن التنمية -بما يستوعب كل فاعليات املفهوم وكماالته -صار من األمور الواجبة التي لم يعد يصلح فيها
الكالم املرسل أو العام ،خاصة أن هذا الكالم على كثرته ،ظل ضمن الدائرة السجالية بين االتجاهات املختلفة،
ً
وظلت التنمية تعبيرا عن حالة قشرية لم تصل إلى عمق املجتمع وتكويناته االجتماعية واالقتصادية ُوبناه الثقافية
والسياسية ،ولم تتحول إلى نسيج متكامل من الفاعليات والعالقات والسياسات.
ومن ثم فقد ظل الحديث عن التنمية معب ًرا عن رغبات غير محددة ،أكثر من تعبيرها عن سياسات فاعلة ّ
وفعالة،
ومن هنا كان من الضروري استيعاب هذا املشروع التنموي ضمن رؤية حضارية وكلية شاملة؛ ألن االهتمام بجزء
على حساب العناصر األخرى أورث جملة من االختالالت ليس فقط في التصور واإلدراك ،بل في العمل واملمارسة.
ً
وأهم عناصر التمثيل ملثل هذا الخلل في الرؤية والحركة معا ،هو إهمال البعد الثقافي والقيمي للتنمية ،ضمن تصور
لعوالم التنمية يقتصر على امتالك عالم األشياء ،ال القدرة على تحويل املفهوم إلى عالم أفكار يشكل أصول وعناصر
للبناء التنموي العمراني ،يهتم باألبعاد الثقافية الغائبة ،والشروط القيمية املصاحبة للعملية اإلنمائية العمرانية،
كل ذلك إنما يقع فيما يمكن تسميته بمعايير ومقاصد التنمية.
ً
هذه األبعاد التي أهملت في النظر أو في العمل أو فيهما معا ،كانت أهم الدوافع التي أشارت إلى تجديد زاوية االهتمام
التي يمكن االنطالق منها لو صنعها تحت مجهر االهتمام.
االهتمام باملوضوع بمفاصله األساسية والكلية وخريطته الشاملة بما يشير إليه من عناصر تأسيس وتأصيل
َّ
للنموذج املعرفي املولد للرؤية التنموية والعمرانية كمقدمة للعمليات التي تتعلق بالتفعيل والتشغيل.
Page 4 of 35
www.eipss-eg.org
August 13, 2021
ضمن مجهر اهتمام البحث وأغراض التفعيل والتشغيل نحاول أن نقدم صياغة مقاصدية ملفهوم التنمية ،سواء
ً ً
تعلق ذلك بصياغة مباشرة ،استنادا لهذا النموذج ،أو صياغة منظومية استنادا لوسط املفاهيم ملدخل سباعي،
تتفاعل مفاهيمه فيما بينها وتؤصل املعنى املنظومي للمفاهيم.
Page 5 of 35
www.eipss-eg.org
August 13, 2021
Page 6 of 35
www.eipss-eg.org
August 13, 2021
أنساق ستة (العقيدة ،الشرعة ،القيم ،األمة ،الحضارة ،السنن) ،تعتبر املقاصد سابع هذه األنساق ،وهي النموذج
ً
"الحافظ" و"الحاضن" لها جميعا ،والواصل بين حلقاتها ،وتشكل بيئة املقاصد مجال فاعليتها وتفعيلها :الدين الذي
تشكل لحمته (العقيدة والشرعة) والنفس والنسل والعقل واملال (التي تمثل مجال فعالية القيم واألمة والحضارة
والسنن).
Page 7 of 35
www.eipss-eg.org
August 13, 2021
Page 8 of 35
www.eipss-eg.org
August 13, 2021
Page 9 of 35
www.eipss-eg.org
August 13, 2021
Page 10 of 35
www.eipss-eg.org
August 13, 2021
إن صياغة مفهوم التنمية في إطار فكرة املنظومة السباعية ووسطها باالعتبار "الواصل" و"الحاضن" لها من خالل
املقاصد ،إنما يجعل من التنمية عملية كلية ممتدة.
Page 11 of 35
www.eipss-eg.org
August 13, 2021
وتأتي املقاصد لتتوج عناصر رؤية سباعية ،املقاصد الحافظة ،الحاضنة الواصلة :الحافظة ملجاالت نشاطها
الحيوي ،وعناصر فعاليتها الجوهرية ،والحاضنة (لعقيدتها الدافعة ،وشرعتها الرافعة ،ونسق قيمها الحاكمة،
Page 12 of 35
www.eipss-eg.org
August 13, 2021
واألمة الجامعة والحضارة الفاعلة والسنن القاضية ،)..والواصلة بين واجب املقاصد ومقدماته وآلياته ووسائله،
فإنه القصد واملقصود :ما ال يتم الواجب إال به فهو واجب.
إنها فاعليات املقاصد حينما نتعلق بمقصودها في الحفظ والوزن والوصف والبناء والتقويم .إن مقاصد ال تحفظ
مجاالتها وال تحتضن عناصر وسط تفعليها وشروط فاعليتها ،وال تصل بين املقاصد والوسائل واآلليات ،ليست من
املقاصد في ش يء ،ولكنها في حقيقة األمر الوصول بها إلى مضادات مقصودها من استدعاء الضرر ال املصلحة،
ظ أم َ َ َ
ض ّيع) ،وإهدار معاني الواجب والواقع ،واقتفاء ملوازين (األفكار وتوسل طرق التضييع ال الحفظ (ح ِف
واألحداث ،واألشخاص ،واألشياء ،والنظم واملؤسسات ،والرموز ..إلخ) ،إنها في واقع األمر إهدار للوعي باملقاصد
والسعي بها ولها.
سباعية بعضها من بعض تتحقق منظوميتها ونظامها فتحدد بذلك مناط فاعليتها وتفعيلها:
• إنه الحفظ لدافعية العقيدة والواصل لعناصره والضام ملكوناته .إن "عقيدة ال تدفع" ،هو إهدار ملعنى
ً ً
العروة الوثقى ،وإهدار للعقيدة وعيا وسعيا.
• إنه الحفظ لرافعية الشرعة والواصل بين خصائصها التكوينية والقيام بين قواعده الكلية .إن شريعة ال
ً ً
ترفع ،هو إهدار ملعنى مقاصد الشريعة حينما تأتي لتخرج املكلف عن داعية هواه فترفعه تكريما واستخالفا
وأمانة ومسئولية ،فالشريعة الرافعة :حكمة كلها وعدل كلها ورحمة كلها ومصلحة كلها ،إن شرعة –وإن
ً ً
سماها بعضهم باإلسالم -زور أو غفلة ليست إال إهدار للشريعة وعيا وسعيا.
• إنه الحفظ لحاكمية قيم اإلسالم التأسيسية (التوحيد والتزكية والعمران) واألساسية (األمر باملعروف
والنهي عن املنكر ،والشورى ،واالختيار) والقيم العليا (املمثلة في العدل) الناظم ألصول منظومة القيم
ً
وتصاعدها وتكافلها وتفاعلها .إن قيما ال تحكم هو إهدار ملعنى مقاصد القيم ألنه إهدار لعموم الدين
ً ً
(الدين القيم)( ،دينا قيما)( ،دين القيمة)( ،الصراط املستقيم).
Page 13 of 35
www.eipss-eg.org
August 13, 2021
• إنه الحفظ ملعاني جامعية األمة والواصل بين معاني اعتصامها بحبل هللا وعصمتها (ال تجتمع أمتي على
ضالل) ،والضام ملعاني خيريتها ووسطيتها وشهودها الحضاري ،إن أمة ال تجمع هي فاقدة ألصول معانيها في
َ
والقبلة" .إن أمة ال تجمع ليست من جامعية األمة
"الوجهة ِ
ِ في األمة ملقاصد إهدار وهو و"القصد"، م""األ
في ش يء ،وإن تحول جامعيتها إلى نقيض مقصودها في التنازع مقابل االعتصام ،والفشل مقابل الفاعلية،
وذهاب الريح في مقابل األثر والتأثير والتمكين ،إنما يعبر عن إهدار مفهوم األمة في الوعي والسعي.
• إنه الحفظ لفاعلية الحضارة والواصل بينها وبين عناصر شهودها وحضورها ،والضام لفاعليات عمرانهما
ُ
الغياب في كل وعمارتها ،فاعلية الحضارة في حضورها ال وجودها ،وحضورها عنوان فاعليتها ،ونقيض ذلك
أشكاله وكل معانيه ،إن حضارة ال تفعل وال تتفاعل وال تملك تأثيرها وفاعليتها ليست من الحضارة في ش يء
إنما يعبر عن إهدار مفهوم الحضارة وحضورها في الوعي والسعي.
• إنه الحفظ لقضاء السنن والواصل بين "فعلها" و"شروطه" و"عاقبته" والقيام لعناصرها السننية (سنن
الكون والنفس والتاريخ واملجتمع) ،ونقيض ذلك إغفال السنن أو االنحراف بها أو تزييفها في الواقع والرؤية.
إن سننا ال تقض ي ،فتتحقق بشروطها ،ليست من السنن في ش يء إنما يعبر ذلك عن إهدار مفهوم السنن
اإللهية القاضية في الوعي والسعي.
التنمية فعل حضاري ممتد ،وحشد لإلمكانات والطاقات ،وهي كذلك ضمن منظومة الفعل الحضاري بنياته
ومساراته ،والتنمية حركة إحسان وكدح حضاري قادرة على بلوغ غايتها ومقصدها في الحياة الطيبة ،ومفهوم
السياسة في جوهره مفهوم عمراني وإنمائي وتجديدي يتحرك صوب:
Page 14 of 35
www.eipss-eg.org
August 13, 2021
عمليات ومعايير ومقاصد بعضها من بعض تشكل املنظومة املتكاملة املتفاعلة ،املتكافلة ،الحافظة ،إنها وعي وسعي
يحرك كماالت التنمية وطاقاتها صوب جامعية األمة وعمران الحضارة.
ً
ثانيا -املقاربات املقاصدية ومفاهيم وعمليات التنمية:
ً
حاولنا آنفا تقديم صياغة مقاصدية مباشرة من خالل نموذج املقاصد ،أو غير مباشرة في ضوء املنظومة السباعية،
ونحاول ضمن عملية التأصيل استدعاء مجموعة مهمة من املقاربات نحاول من خاللها ،استكمال عملية الصياغة
املقاصدية.
وقد آثر الباحث أن يختط طريقة لها ما يسوغها في استعراض تلك املقاربات:
نقدم في النقطة األولى نماذج تراثية في عملية التشغيل (ابن خلدون والسنن واملدخل املقاصدي) و(الخيامي:
الوظائف واألدوار واملقاصد).
Page 15 of 35
www.eipss-eg.org
August 13, 2021
أما النقطة الثانية -فنحاول أن نستكمل عناصر مفهوم التنمية من خالل صياغات تراثية مقاصدية نقدم فيها
(املقاربة املاوردية ،واملقاربة الشاطبية ،واملقاربة الخلدونية واملقاربة األسدية) .وقد ضمناها باعتبارها مقاربات
تراثية توضح امتداد وتراكم االجتهاد العمراني والتنموي في هذا املقام.
ً ً
أما النقطة الثالثة -فنحدد مجموعة من املقاربات تمثل جميعا بيانا فيما نحن فيه من عناصر املنظومة السباعية،
خاصة إذا ما انضم إليها مقاربة ابن خلدون في الربط بين السنن واملقاصد وعملية العمران ،واملقاربة الشاطبية والتي
تشير إلى نموذج ونسق املقاصد.
Page 16 of 35
www.eipss-eg.org
August 13, 2021
في إطار عملية التوظيف والتفعيل للمدخل املقاصدي في سياق الواقع ،سواء ارتبط ذلك بالسنن الفاعلة فيه ،أو
بالوظائف الناشطة في مجاالته ،البد أن نشير إلى اجتهاد ابن خلدون ،والذي مع قراءة معظم فصول مقدمته يستبين
ً
مع استبطانه ملدخل املقاصد في كتاباته ،فهو حينا يتحدث عن حفظ الدين ،وأخرى يتحدث عن حفظ النفس
والنسل ،وتارة يتجه إلى حفظ العقل ،وأخرى وبشكل مفصل تحدث عن حفظ املال ،وسنن الحفظ املختلفة التي
ترتبط بكل مجال ،وسنن اإلهدار والفقدان واالضطراب التي ترتبط بذلك املجال ،فيضيع املقصود ويخرب العمران
بالجملة.
ففي الفصل الذي عنونه بأن الظلم مؤذن بخراب العمران يقول:
(اعلم أن العدوان على الناس في أموالهم ذاهب بآمالهم في تحصيلها واكتسابها ملا يرونه حينئذ من أن غايتها ومصيرها
انتهابها من أيديهم ،وإذا ذهب آمالهم في اكتسابها وتحصيلها انقبضت أيديهم عن السعي في ذلك .وعلى قدر االعتداء
ونسبته يكون انقباض الرعايا عن السعي في االكتساب ...وال تحسن الظلم إنما هو أخذ املال أو ا ِمللك من يد مالكه
ملك أحد أو غصبه في عمله أو طالبه عن غير عوض وال سبب كما هو املشهور ،بل الظلم أعم من ذلك .وكل من أخذ َ
ً
بغير حق أو فرض عليه حقا لم يفرضه الشرع فقد ظلمه .فجباة األموال وبغير حقها ظلمة ،واملعتدون عليها ظلمة،
واملنتبهون لها ظلمة ،واملانعون لحقوق الناس ظلمة ،وغصاب األمالك على العموم ظلمة .ووبال ذلك كله عائد على
الدولة بخراب العمران الذي يذهب بمادتها إلذهابه األموال من أهله واعلم أن هذه هي الحكمة املقصودة للشارع
في تحريم الظلم ،وهو ما ينشأ عنه من فساد العمران وخرابه ،وذلك مؤذن بانقطاع النوع البشري ،وهي الحكمة
العامة املرعية للشرع في جميع مقاصده الضرورية الخمسة من حفظ الدين والنفس والعقل والنسل واملال.
ً
فما كان الظلم كما رأيت مؤذنا بانقطاع ملا أدى إليه من تخريب العمران كانت حكمة الحظر فيه موجودة فكان
ً تحريمه مهما .وأدلته من القرآن ُّ
والسنة كثيرة أكثر من أن يأخذها قانون الضبط والحصر .ولو كان واحد قادرا عليه
لوضع بإزائه من العقوبات الزاجرة ما وضع بإزاء غيره من املفسدات للنوع التي يقدر كل أحد على اقترافها من الزنا
والقتل والسكر .إال أن الظلم ال يقدر عليه إال من يقدر عليه ألنه إنما يقع من أهل القدرة والسلطان ،فبولغ في ذمه
َ َ َّ ّ ْ َ َ
يد[ فصلت.)]46 :وتكرير الوعيد فيه عس ى أن يكون الوازع فيه للقادر عليه في نفسه و َما َرُّبك ِبظال ٍم ِللع ِب ِ
Page 17 of 35
www.eipss-eg.org
August 13, 2021
ً ً ً ً
هذه رؤية ابن خلدون ،فهو يربط السنن باملقاصد ربطا مهما وأكيدا ،والبد أن يكون مؤثرا في فقه الواقع والوعي
بمحركاته نحو االنهيار أو نحو العمران.
كما أنه يمكن أن يسهم في بناء أصول تنظير للسياسات العامة في مختلف املجاالت ،وقدرة هذه السياسات على
ً
تحقيق الوظائف املتعلقة بحفظ الدين والنفس والنسل والعقل واملال وما يرتبط بذلك من قرارات ،إسهاما في
عملية بنائها ،وكذلك في عمليات تقويمها .إن الخيامي وهو أحد املفكرين كتب رسالة حول "الراعي" يستلهم فيها
ً
املعاني التي تجعل من املقاصد الكلية وظائف وأدوارا في حركة اإلنسان الفردية ،أو املؤسسات ،والتكوينات
الجماعية واملجتمعية.
ففي مقدمة رسالته التي وضح بها " ...الواجب على كل إنسان على حدته أي انفراده بدون نظر إلى متعلقاته ،ثم وإن
كان راعية ملفرده أو ملنزله ،بينت الواجب عليه عن نفسه وأهل منزله املكلف بواجباتهم تكليفه بنفسه ،كي يكون ذلك
ً
البيان أصال يبني عليه ،وجه بيان الواجب على القوة الحاكمة تجاه القوة املحكومة جميعها"..
ً ً ً
" ..فالواجب عليه وجوبا شخصيا ذاتيا ،فاجتهاده في كل نفس من بذل بغاية ما في وسعه إلى حفظ دينه ،فعرضه
فنفسه فعقله فولده فنسبه ."..هذه الرؤية تكتمل حينما يجعل أصول الحفظ املختلفة للمجاالت ال تعبر عن جوهر
الحفظ إذا أسهمت في حفظ الدين وحفظته ،فحفظ املجاالت املختلفة ال تتم إال بمقتضاه أي بمقتض ى الدين وما
ً ً
يؤكده للمجاالت جميعا في حفظ الدين؛ بحيث يشكل ذلك مركزا تستمد املجاالت منه عناصر الحفظ ،وتعود إليه.
Page 18 of 35
www.eipss-eg.org
August 13, 2021
التنمية -ضمن هذا التصور" -قيمة" شاملة وجامعة وواصلة بين عناصر هذه الرؤية الكلية ،تتضمن رؤية عمرانية
واعية وفاعلة ،تتضمن أصول وعي وحركات سعي متصلة ومتواصلة ،ضمن أصول عناصر الكدح الحضاري َ يا
َ ً َ َ َ َ
ان ِإ َّن َك ك ِاد ٌح ِإلى َرِّب َك ك ْدحا ف ُمال ِق ِيه[ االنشقاق .]6 :قيمة تتحرك صوب عمارة الكون وتزكية اإلنسان َأ ُّي َها ْاإل َ
نس ُ
ِ
وترقية وتنمية الحياة ،وتعتبر كل هذه العناصر بدورها قيما تحرك الفاعليات اإلنسانية وتمكينها في الواقع ،إن
النظر إلى القيم الكونية واإلنسانية والحياتية ،والنظر إلى الكون كقيمة ،والحياة كقيمة إنما يحرك عناصر وعي
وسعي يقصد إلى االلتزام بأصول نظام للقيم ويحرك الطاقات والفاعليات في إطار ترجمة عناصره والقوة املؤمنة إلى
طاقات وإمكانية وتمكين" :املؤمن القوي خير وأحب إلى هللا من املؤمن الضعيف".
والتنمية ضمن هذا التصور مفهوم حضاري شامل يشمل كل عناصر الحضارية وفاعليتها االجتماعية والثقافية
واالقتصادية والسياسية ،ويشمل عمران العوالم املختلفة من عالم األفكار ،وعالم األشخاص ،وعالم األشياء
والنظم ،وعالم األحداث ،على تفاعل واستطراق فيما بينها ضمن عالقات التفاعل والتأثير والتأثر .عمران تلك
العوالم هو الذي يضمن لها الحياة والفاعلية ،وحينما يعبر مالك بن نبي عن "عالم األفكار امليتة والقاتلة" والتي
تعشش في أركان الكيان الحضاري وتفت في عضده ،فإنه بذلك يدرك أن العوالم الحية غير العوالم امليتة أو القاتلة،
وأن هذا التصور الشامل هو الذي يحرك عناصر وأصول الوعي الدافع إلى فاعلية السعي ضمن إدراك يعي فعل
السنن ضمن هذه العوالمّ ،
ويتغيا مقاصد كبرى هي في الحقيقة تمثل جوهر الرؤية العمرانية والتنموية.
ً
والتنمية كذلك مفهوم حضاري شامل بما يجعل الواقع في بؤرة اهتمامه وهمه ،الواقع هنا أكثر اتساعا من نقطة
زمانية أو بقعة مكانية ،إنه امتداد زمني وامتداد مكاني وعمق حضاري وذاكرة في الزمان واملكان ،تستوعب كل
املجاالت بتفكيرها وفعلها ،هادفة إلى عمرانها ،بحيث تصير –وبحق -عملية تربوية (التربية املستمرة) ،ال تنفك عن
ً
التربية أبدا.
Page 19 of 35
www.eipss-eg.org
August 13, 2021
وضمن هذه السياقات فإن مفهوم التنمية ،ليس أحد املفاهيم البسيطة في تكوينها أو السطحية في تأثيرها ،بل هو
"مفهوم منظومة" يشير إلى منظومة متكاملة ومتكافلة ومتفاعلة من املفاهيم تستدعيها بحيث تكون عائلة مفاهيمية
واحدة ذات نسب واحد ،أو شجرة مفاهيمية ذات فروع في جذر واحد.
وواقع األمر أنه بدون النظر إلى التنمية كمفهوم منظومة أو باعتباره شجرة مفاهيمية سيظل التعامل مع هذا
ً
املفهوم قاصرا في فهم الواقع والتعامل معه.
ومن ثم ،فإن هذا املفهوم يشير إلى عمليات مستمرة ومتواصلة ،وأدوات وإمكانيات وعالقات وتفاعالت ومجاالت،
ً
ومساقات بحثية ،ومساقات ثقافية ،ومساقات تربوية ،ومساقات ملناهج دراسية ،كل ذلك يشكل نظاما ومنظومة
متكاملة من املفاهيم تستوعب كل تلك املجاالت والفاعليات.
ً ً
كل ذلك قد يحيلنا إلى النظر إلى التنمية باعتبارها نموذجا إرشاديا Paradigmعلى ما يشير إليه ذلك من تأصيل
رؤية كلية للوجود وللعالم ،واإلشارة إلى بناء نظري ،وكذلك منظومة مفاهيمية ،كما أنه يشير إلى أجندة بحثية شاملة
ومتكاملة ،بما توجه إليه االهتمام من دراسة إشكاالت أجدر بالتناول.
ً
وقد يرتبط بذلك النظر إلى التنمية ضمن النموذج املقاصدي (املقاصد الكلية العامة) ،وباعتبار التنمية تعبيرا عن
مقاصد كلية وعمرانية ،وبما يشير إليه كل ذلك من حفظ الدين كعملية تنموية وحضارية تتعلق بعمارة الدين،
وكذلك حفظ النفس كعملية عمرانية ممتدة ،وحفظ العقل بما يشير إليه ذلك من مهمات عمرانية في الصياغة
العمرانية للعقل وإعادة تشكيل العقل املسلم ،وحفظ النسل بما يشير إليه من امتداد االهتمام ومواصلة العمل
ضمن عمليات التنمية البشرية والتربوية ،وحفظ املال بما يشير إليه من عملية استخالفية عمرانية ،وبما يوفر
عناصر البنية األساسية للعملية التنموية ،املال هنا رمز لعناصر تنموية في جوانبها التأسيسية واملادية باعتباره من
أهم عناصر املادة العمرانية.
األمر هنا يشير ليس فقط إلى تلك املجاالت العمرانية على تفاعلها وتكافلها ،بل يشير كذلك إلى عناصر األولويات
التنموية والعمرانية ،وذلك في إطار التمييز والتحديد والتعيين والتفعيل ألصول الضرورات العمرانية واإلنمائية،
Page 20 of 35
www.eipss-eg.org
August 13, 2021
ً
وتحديد الحاجات اإلنمائية ،وأخيرا العمل في حقل التحسينيات العمرانية ،وذلك في سياق منظومة اهتمام تتعرف
على أصول عناصر الوزن والترجيح والتقويم.
وفي هذا املقام يجب أال يغيب ضمن هذه الرؤية الشاملة االهتمام بالرؤى االستشراقية ملستقبل التنمية ،بحيث
نجعل عناصر هذه الرؤية ضمن جوهر مفهوم التنمية والعمران.
Page 21 of 35
www.eipss-eg.org
August 13, 2021
Page 22 of 35
www.eipss-eg.org
August 13, 2021
Page 23 of 35
www.eipss-eg.org
August 13, 2021
والتنمية والصالح معتبران من وجهين "..أولهما ما ينتظم به أمور جملتها ،والثاني ما يصلح به حال كل واحد من أهلها.
ً
فهما شيئان ال صالح ألحدهما إال بصاحبه" ،إنها رؤية شاملة للتنمية تتحرك صوب الدوائر املتعددة بدا بعمران
اإلنسان الفرد ،حتى تشمل العمارة الكونية" .فاعلم أن ما به تصلح الدنيا حتى تصير أحوالها منتظمة ،وأمورها
ملتئمة ،ستة أشياء هي قواعدها وإن تفرعت ،وهي :دين متبع وسلطان قاهر وعدل شامل وأمن عام وخصب دائم
وأمل فسيح" ،وأما ما يصلح به حال اإلنسان ويرقى" :فثالثة أشياء ،هي قواعد أمره ونظام حاله ،وهي نفس مطيعة
إلى رشدها منتهية عن غيها ،وألفة جامعة ..ومادة كافية تسكن نفس اإلنسان إليها ويستقيم أوده بها".
إننا أمام رؤية كلية شاملة للظاهرة العمرانية واإلنمائية تبحث في عناصر التنمية الشاملة والتنمية البشرية ،فتؤصل
القاعدة وتحدد املجاالت.
* عالقة الدين بالظاهرة اإلنمائية هي أول هذه القواعد التي تحرك عناصر االلتزام والفاعلية في إطار عقدي يتحرك
فيه اإلنسان صوب مصلحته وإصالحه .إنه يدرك حقيقة العالقة اإليجابية بين الظاهرة الدينية والظاهرة اإلنمائية
في إطار الفهم لصحيح الدين وما يؤثر به من فاعلية.
* عالقة الظاهرة السياسية بالظاهرة اإلنمائية من القواعد املهمة في هذا املقام ،هيبة السلطة وقدرتها إنما تعبر
عن إحدى الضرورات للظاهرة اإلنمائية.
Page 24 of 35
www.eipss-eg.org
August 13, 2021
ً ً
* ثم العدل كحالة شاملة للكيان أفرادا وجماعات ،حكاما ومحكومين ،ذلك أن هيبة السلطة ال تتأتى إال من عدلها
وقدرتها أن تجعل من الهيبة رضا بالعدل والسوية.
ً
* و"أمن عام" هي من أهم شروط عناصر االستقرار التي توفر قاعدة ووسطا للعملية العمرانية ،فالفوض ى ضد
العمران ،والتهارج ضد االجتماع ،واألمن قرين العمران ،معادالت مهمة ،تؤسس أصول األمن العام املترتب على
العدل الشامل.
* "خصب دائم" هو عنوان وإشارة إلى عناصر اإلنماء املمتد والشامل والدائم ،إنها مجاالت التنمية بأسرها وبتنوعها
وبتكافلها.
* وأمل فسيح يحدد أفق الرؤية ورحاباتها ،رؤية لحال الجماعة والكيان في استقبالها ،املتعلق باألمل املصاغ ضمن
أصول وعي وقواعد سعي.
وصالح الدنيا موصول بصالح اإلنسان وعمرانه ،وما يتطلبه ذلك من مقتضيات عناصر ووسط التنمية البشرية
وعمرانها من أصول املاوردي ،والتي يمكن إيجازها في الشكل التالي:
Page 25 of 35
www.eipss-eg.org
August 13, 2021
* ضرورة النظر إلى الظاهرة العمرانية ضمن امتدادها ،وعناصر شمولها ،لشؤون العمران ما يعرض له فيه من
العوارض الذاتية من امللك والسلطان (ظاهرة السلطة) ،والكسب واملعاش والصنائع والعلوم (مجاالت العمران)،
وعمارة الحياة واألمة التي هي مقصد َع َ
الم عمران ابن خلدون (املقاصد العمرانية) وهو بذلك يشير إلى انتقادات
حادة إلى تفتيت الظاهرة العمرانية بدعوى التخصصات الدقيقة ،وما يشير إليه من ضرورة إعادة النظر في تصنيف
ً ً
العلوم معرفيا لغرض عمارة العلم بلوغا إلى جوهر العلم النافع الدافع.
فقد شرح ابن خلدون "من أحوال العمران والتمدن ،وما يعرض في االجتماع اإلنساني من العوارض الذاتية ما
يمتعك بعلل الكوائن وأسبابها ،ويعرفك :كيف دخل أهل الدول من أبوابها؛ حتى تنزع من التقليد ،وتقف على أحوال
ما قبلك من األيام واألجيال وما بعدك".
وهي إشارات واضحة إلى التنبيه إلى علم االجتماع العمراني والسياس ي الذي يرى الظاهرة السياسية في جوف الظاهرة
ُ ُ
االجتماعية والظاهرة التاريخية ،وكل هذه الظواهر تجدل في مساق واحد ،وتضفر عناصرها ومستوياتها وشبكة
عالقاتها بحيث تشكل الظاهرة العمرانية لها وبينها ،والضابطة لتفاعالتها ،واملكونة لتجلياتها.
* يكمل ذلك تصوره للعمران البشري ال في عالقته التأسيسية ،بل في وسطه وسياقه ،فيتحدث عن العمران البشري
واملقدمات املتعلقة به التي تتصل بالجغرافيا الطبيعية والبشرية ،وأثر البيئة على أبدان البشر وأحوالهم وما ينشأ
من العمران ،وهو يصنف أنواع العمران ويتحرك صوب وصف مفاصل كل نوع وسماته التي يتميز ُو ّ
يميز بها ،من
عمران بدوي ،ونشأة الدول وتطورها وقوتها ثم ضعفها ،والعمران الحضري ،ونشأة الهياكل العظمية وبنائها وخراب
األمصار إذا تراجع عمرانها أو إذا انقرضت الدول القائمة فيها ،واملعاش وجوبه ووجوهه وأصنافه ومذاهبه ،والعلوم
التي هي من أهم مقدمات العمران وأصنافها والتعليم ،وطرائقه وسائر وجوهه.
ً
وعكف ابن خلدون يتحرى شبكة العالقات بين تلك املقدمات العمرانية محققا أصول تحليله وتصنيفه وتفسيره في
ضوء عناصر الترتيب املقترن بنظرية املقاصد الكلية العامة؛ من الضروري والحاجي والتحسيني ،واألصلي واملكمل
Page 27 of 35
www.eipss-eg.org
August 13, 2021
فيقول ابن خلدون "وقد قدمت العمران البدوي ألنه سابق على جميعها ،كما نبين لك بعد ،وكذا تقديم امللك على
ُّ
البلدان واألمصار ،وأما تقديم املعاش ،فألن املعاش ضروري طبيعي ،وتعلم العلم كمالي أو حاجي ،والطبيعي أقدم
من الكمالي ،وجعلت الصنائع مع الكسب ألنها منه ببعض الوجوه ،ومن العمران كما نبين لك بعد".
ً ً ً
• وفي هذا السياق ينتقل ابن خلدون إلى فكرة األطوار متبعا منهجا ُسننيا ،فاألطوار الحضارية محكومة
بقوانينها وسننها ،سنن تتعلق باملظاهر العمرانية تحولها إلى عالم أفكار تتعلق بالقيم املتعلقة بها ،إن فهم
ابن خلدون لهذه األطوار ال يركن فيه إلى االنبهار بعالم األشياء أو املادة العمرانية ،ولكنه يتحدث عما يكمن
تحت سطحها وفي عمقها ومكنونها من قيم وأفكار ،وما ينتجه من تفاعل بين عالم األشياء واألفكار
واألشخاص من عالم أحوال جدير باملالحظة والبحث في مفاصله واستنباط قوانينه وسننه ،إن هذه الرؤية
املتعمقة تفرض علينا أن نتخذ بعض ما تمليه علينا من منهج النظر إلى الظاهرة العمرانية واإلنمائي وما
يرتبط بها من عوالم.
• يعالج ابن خلدون كذلك أسباب االنهيار والتي عدد بعضها ،إال أنه يؤكد على ُسنة ذهبية وناموس عمراني،
هما في غالب األحوال تعبير عن سنة تحذيرية" :أن الترف مؤذن بخراب العمران" ،فالترف أو االنغماس في
ً
التمدن هو من أسباب انهيار الحضارة ..إذا يعلمنا ابن خلدون من مقالته تلك في تأسيس رؤيتنا للتنمية،
ً
ويولد من سنته التأسيسية سننا مشتقة أو فرعية ،فإن أكثر املترفين يترفع عن مباشرة حاجاته ،أو أن
ُ ً
يكون عاجزا عنها ملا ُربي عليه من خلق التنعم والترف" ،فترك العمل ومباشرة الحاجات مؤذن بدوره بانهيار
الحضارة والعمران والتحول إلى مرحلة التمني والركون والدعة."..
ج -المقاربة الشاطبية :المقاصد الكلية وتأسيس قواعد الحفظ وأصول العمران:
إذ عبر املاوردي في رؤيته عن رؤية قيمة تؤسس للحركة واملمارسة في إطار عقلية فقهية صاغت تفكيره ورؤيته ،وإذ
صاغ ابن خلدون رؤيته على قاعدة من علم العمران السياس ي الذي انطلق فيه من الواقع إلى السنن ولكن ضمن
وسط ُيشد إلى مرجعية التأسيس في تأصيل العلم السنني ،فإن الشاطبي -عالم اللغة -قصد امل ِعين األصولي ليؤسس
Page 28 of 35
www.eipss-eg.org
August 13, 2021
الكليات العمرانية ،حتى ليمكن أن ترى ضمن اختالف هذه املسالك في وجهات نظرها وتنظيرها كيف تتكامل وتتكافل
وتتفاعل ،فقد خرجت من مشكاة واحدة تض يء النظر إلى الظاهرة العمرانية على اختالف جوانبها وعناصرها
ومستوياتها وعالقاتها.
املقاربة الشاطبية في املقاصد الكلية وتأسيس قواعد الحفظ وأصول العمران ال تتسع الصفحات بل الكتاب الواحد
ألن يستوعب مقاالته ومقوالته ،قواعده ومناهجه في النظر والتعامل للظاهرة العمرانية ،وحسبنا في هذا املقام أن
ّ
مظان التأصيل. نشير إلى بعض مفاتيحه العمرانية من غير استيعاب ،وفي إجمال غير تفصيل ،وفي حاالت إلى
إن النموذج املقاصدي -في أصل بنيته -تتفاعل ضمن منظومة عناصر ثالثة:
األول -يتعلق بالحفظ كعملية تتضمن عناصر حفظ متوازنة ومتتالية ،مستطرقة ومتفاعلة ،والحفظ ضربان هما
حفظ دفع ،أي حفظ سلبي (دفع املضار) ،وحفظ جلبي إيجابي بنائي (جلب املنافع واملصالح) ،الحفظ عملية تولد
جملة من العمليات كلها على وزن تفعيل ،بما يشير إلى الوعي بعناصر الفعل ،والوعي بأصول فاعلية ،وأصول السعي
الحافظة والحاضنة لتلك األفعال ،والوعي بضمان استمرارية الحفظ في عملياته املتولدة ،يتحرك من الحفظ
كمنطلق ومبدأ ،والحفظ كغاية ومقصد عام ،الحفظ هنا عمليات وأدوات ووسائل ،ومستويات ،وعالقات وإمكانات
وقدرات.
الثاني -يتعلق باملجاالت العمرانية ،كساحة أساسية للفعل الحضاري وإعمال القواعد املقاصدية ،فقه املجاالت،
َّ
عنصر تأسيس آخر في النموذج املقاصدي ،فهي ُمتعلق الحفظ ومجاله الحيوي (حفظ الدين وحفظ النفس
وحفظ العقل وحفظ النسل وحفظ املال) ،إنها مجاالت الحفظ العمراني ،تستوعب كل مجاالت الفعل الحضاري
والعمراني على تفاعل بينها واستطراق في تفاعالتها.
الثالث-يتصرف ضمن بنية هذا النموذج بعمليات التصنيف والتكييف والترتيب والوزن ،عمليات كلها تتعلق
بأصول فهم الواقع بغرض حفظ مجاالت عمارته وإنمائه ،نحن أمام -ليس فقط محاولة الوزن ضمن ترتيب
تصاعدي للمجاالت -لكن ضمن ترتيب تتابع أفقي (الضروري ،الحاجي ،التحسيني) ،إن فاعليات الحفظ ووزن
Page 29 of 35
www.eipss-eg.org
August 13, 2021
ً ً
املجاالت ال يمكن أن تكتمل صورتهما إال ضمن منظومة تدخل في إطار عمليات التكييف ملا يعتبر ضروريا أو حاجيا
ً
أو تحسينيا.
ً ً
الضروري يتعلق بأصل الكيان والحفاظ عليه وجودا واستمرارا ،والحاجي يتعلق بمحركات الفاعلية والتفاعل ضمن
عالقات ،والتحسيني يحرك عناصر مهمة في إطار حركة إحسانية مفتوحة تعني طلب األحسن ضمن عناصر تجويد
ً
تضمن مزيدا في إطار الوجود التكريمي لإلنسان والوجود الفاعل املؤثر.
هذه تشكل بنية التأسيس وتتولد من تلك العناصر عناصر أخرى تحرك أصول تفكير منهجي في رؤية عناصر الحفظ،
وسعة املجاالت وقدرات الترتيب والوزن.
تكامل هذه العناصر الحفظ كفعل ،واملجاالت التي تتعلق بالفاعلية والسعي ،واملراتب التي ترتبط بأصول الفعل
ً
والفاعلية والحركة في سياق تحصيلها جميعا إنما يعبر عن قدرات مهمة ضمن هذا النموذج املقاصدي.
إنه يتحرك صوب عناصر فهم العملية العمرانية واإلنمائية وفق عناصر النموذج املقاصدي ،والذي يؤصل بحق
تعامل وتناو ٍل مع أصول الظاهرة العمرانية .كما أنه يلفت االنتباه إلى عناصر تقويم الفعل العمراني للمجاالت.
ٍ منهج
وإن الخيامي أحد املفكرين في حقل التراث السياس ي اإلسالمي في العصر الحديث في رسالة "الراعي والرعية" يبين
كيف تعتبر املقاصد الكلية وظائف للدولة تحرك العناصر اإلنمائية والعمرانية.
(د) -المقاربة األسدية :فساد العمران وفساد سوق المال (االقتصاد السياسي
للعملية اإلنمائية)
األسدي يتحرك بنا في مقاربته ليعرض حالة محددة يتحرك فيها الفساد النقدي "سوق املال" ،ليشير إلى العمراني
وهياكله وأبنيته ووظائفه وأدواره وغاياته.
Page 30 of 35
www.eipss-eg.org
August 13, 2021
فهو من جانب يعبر عن ضرورة الرؤية املتفحصة لتعلق الظواهر ببعضها البعض في العالقات والتفاعل في التأثير
واألثر ،ويتخذ من معالجة األزمنة كدراسة حالة ضمن مقاربته العمرانية ،وهو يتحرك صوب أن األزمات يمكن أن
تطول العمران ألسباب طبيعية وألسباب إنسانية ،وأن العيب ليس في حدوث هذه األزمات التي تطول البناء العمراني
ً
أو بعضا من مادته أو معظم أدواره ووظائفه إنه يتحرك صوب عنصر مهم :أن فساد الوسائل يقود إلى فساد
املقاصد ،والعكس بالضرورة صحيح ،ألن حكم الوسائل حكم املقاصد واألمور بمقاصدها .والوسائل مقدمات
الواجب ،وما ال يتم الواجب إال به فهو واجب ،قواعد كلها تشكل منظومة في التفكير .إن األزمة لحظة حرجة
ُ
وحاسمة تتعلق بمصير الكيان الذي أصيب بها ،وبالتالي فهي تشكل خطورة وصعوبة أمام متخذ القرار تجعله في
حيرة بالغة لقصور املعرفة ،فهي أشبه باألزمات الصحية التي يتعرض لها الفرد ،فهي حادة ومفزعة وشديدة األلم،
ً ً ً
إال أنها -بسماتها تلك -ال تخلو من نفع في االجتماع البشري والعمراني ،فإن لهذه األزمات دورا تنبيهيا وتحذيريا هي
بحق قد تستحق -إذا ما اعتبرنا وظيفتها تلك -القول بأنها أزمات كاشفة ملكامن القصور ،وعناصر الخلل ،في البنية
والبيئة العمرانية ،في عالم أفكارها وأشخاصها وأشيائها وأحوالها .فإن األسدي في مقاربته -ومع استدعاء مقاربة
ً
املقريزي -يؤصل عناصر إدارة عمرانية لألزمة ال تقف أمامها حائرة ،بل تبحث في عناصر األزمة أسبابا ومظاهر
واآلفات الدنيوية املرتبطة بها.
Page 31 of 35
www.eipss-eg.org
August 13, 2021
وتطرح هذه الرؤية منظومة مهمة من املفردات يجب تفهمها عند البحث في مصادر التهديد للبناء العمراني :حفظ
الكيان واستمراره ،الغمة واالبتالء (األزمة) ،الرعية (الناس والجماهير) ،الخليفة والسلطان والحاكم (السلطة
السياسية) ،أولي األمر (النخبة السياسية والعملية) ،الفتن والدسائس (الصراعات الداخلية) وعدم االستقرار،
Page 32 of 35
www.eipss-eg.org
August 13, 2021
األمة (الكيان االجتماعي العمراني) ،الفسق واالنهماك في امللذات (الترف والفساد) ،واآلفة (األسباب والعوامل
السلبية) ،االستقامة والصالح (النسيج االجتماعي ،واملقدرة القيادية).
إن أصول الهندسة العمرانية في إطار مفاهيم عمرانية أصلية يحركها األسدي:
Page 33 of 35
www.eipss-eg.org
August 13, 2021
Page 34 of 35
www.eipss-eg.org
August 13, 2021
Page 35 of 35
www.eipss-eg.org