You are on page 1of 36

‫نوفمبر ‪2017‬‬ ‫‪0‬‬ ‫تقارير‬

‫‪August 13, 2021‬‬

‫مقاصد ومعايير التنمية‪ :‬رؤية تأصيلية من املنظور املقاصدي (‪)1‬‬


‫د‪ /‬سيف الدين عبد الفتاح‬
‫مقدمة‪:‬‬
‫إن العملية االجتهادية في أصل مقصودها تتحرك صوب "املصلحة" و"اإلصالح"‪ ،‬ومن ثم فإنه ال يمكن تحريكها إلى‬
‫مفض لتقويض‬
‫ٍ‬ ‫مناطق هي ضد هذا القصد األصلي في العمران إلى عناصر "طغيان" أو "فساد" أو تخريب" أو "خلل"‬
‫األصول العمرانية‪.‬‬

‫وهذا –بدوره‪ -‬يولد سلسلة من القضايا البحثية على غرار مشروع مالك بن نبي حينما أسس مشروعه العمراني في‬
‫"مشكالت في بناء الحضارة"‪ .‬إن هذا امللف ال يزال في حاجة إلى تأصيل في بعض مفاهيمه واستثمار كافة القدرات‬
‫للتذكير ببعض مناطقه‪.‬‬

‫إن هذا االجتهاد العمراني حري به أن يواصل تأسيس قواعد املدرسة العمرانية‪ ،‬هذه املدرسة التي تجعل من النظام‬
‫ً‬
‫املعرفي العمراني أساسا لتعاملها مع مجمل القضايا املتعلقة باملناحي الحضارية املختلفة‪ ،‬وهذه املدرسة ستفرز‬
‫حتما أجندة بحثية واهتمامات علمية مهمة‪ ،‬يجري إهمالها أو إغفالها أو تهميشها على أجندة البحث املعاصر‪.‬‬

‫كما أنها ستؤصل مداخل وصف ورصد‪ ،‬وتقدم وحدات تحليل عمرانية متجددة‪ ،‬وتصنيفات حضارية عميقة ال‬
‫ً‬
‫تختزل أو تبسط‪ ،‬وتقدم قواعد تحليل وقدرات منهج ومداخل تفسير‪ ،‬وتنسج أصوال تنظيرية ضمن نسق تعميماتها‬
‫ومداخل تقويم تظن أهميتها في هذا املقام‪.‬‬

‫االجتهاد العمراني والتجديد العمراني حركتان متواصلتان تؤسسان دعوة املدرسة العمرانية ومواصلة جهودها‪.‬‬

‫وضمن هذا االجتهاد – الحضارة‪ ،‬تبرز عناصر االجتهاد السنني‪ ،‬إن اجتهاد الحضارة الفاعلة ال يمكن تحقيقه إال في‬
‫سياق الوعي بالسنن القاضية التي تحكم حالة العمليات الحضارية الكبرى‪ ،‬وتؤسس عناصر منهج تحليل وتفسير‬
‫وتقويم‪ ،‬يشير إلى السنن كقدرات منهجية‪ ،‬هذا املنهج للتعامل يتحرك ضمن هذه العمليات من مثل‪ :‬عمليات التغيير‬
‫الحضاري‪ ،‬أصول التعامل والتفسير الحضاري‪ ،‬اعتبار املآل الحضاري‪ ،‬عناصر تقويم املسيرة الحضارية‪ ،‬عناصر‬

‫‪Page 1 of 35‬‬
‫‪www.eipss-eg.org‬‬
‫‪August 13, 2021‬‬
‫ً‬
‫االجتهاد السنني‪ ،‬أي يجعل السنن موضوعا لالجتهاد البحثي من ناحية وتفعيل عناصر هذا االجتهاد السنني من ناحية‬
‫أخرى ضمن دراسة الكثير من القضايا البحثية‪.‬‬

‫واالجتهاد هنا حركة ممتدة وعملية متواصلة متعددة املجاالت‪ ،‬تسير في األفق املتعدد‪ ،‬من أفق الكون إلى أفق‬
‫ً‬
‫اإلنسان‪ ،‬إلى أفق املجتمع‪ ،‬إلى أفق التاريخ‪ ،‬ضمن عناصر ناظمة تجعل االجتهاد عملية متسقة تشد بعضها بعضا‪.‬‬

‫ويقع في الخاتمة اجتهاد املقاصد أو االجتهاد املقاصدي ليتوج كل العناصر السابق اإلشارة إليها‪ ،‬فاالجتهاد املقاصدي‬
‫فكرة حاضنة لكل العناصر السابقة بحيث توفر لها عناصر الحيوية والفاعلية‪ ،‬وهي ذات مقصود يفض ي إلى الرعاية‬
‫والحفاظ والحماية والصيانة‪ ،‬هذا االجتهاد يحرك عناصر أجندة بحثية وجهود علمية نظرية وتطبيقية‪.‬‬

‫إن أصول الفقه الحضاري تحدد الهدف الذي من أجله تحدثنا عن ضرورة آليات التشغيل‪ .‬وأصول الفقه الحضاري‬
‫هو تأصيل املنظور الحضاري بكل سعته وامتداده‪ ،‬وبكل سياقاته وتفاعالته‪ ،‬بكل فعله وفاعلياته‪.‬‬

‫فأصول الفقه الحضاري يجعل من النص‪/‬الوحي محوره كعلم أصول الفقه وكل العلوم التي كانت آليات الشرعة في‬
‫ً‬
‫الفهم‪ ،‬فإذا كان علم الفقه قد اهتم بدوره بوصف األفعال وفقا لحقيقة التكليف (افعل ال تفعل) ضمن نسق من‬
‫األفعال الجزئية‪( :‬أحكام األفعال)‪ ،‬فإن أصول الفقه الحضاري جعل من أهم أهدافه تضمين أهداف علمي األصول‬
‫والفقه ضمن منظومة أهدافه‪ ،‬مع الحرص على صياغتهما ضمن قواعد التفعيل والتوظيف في حقول العلوم‬
‫اإلنسانية واالجتماعية‪ ،‬وهو يسير خطوة أبعد بإضافة موضوعات نظن جدارتها بأن تنظم في كيان معرفي موحد‪،‬‬
‫يمكن أن تخرج على شاكلته قواعد أساسية لعلوم األمة والعمران (العلوم اإلنسانية واالجتماعية وتطبيقاتها)‬
‫وتؤصل هذه العلوم‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫وفي هذا السياق‪ ،‬فإن النموذج املقاصدي وباعتباره نموذجا إرشاديا معرفيا يمكن توظيفه في عمليات التنمية‬
‫والعمران (يوضح الشكل النموذج املقاصدي‪ :‬نموذج إرشادي) على ثالثة مستويات تتكامل في رؤيتها ملقاصد ومعايير‬
‫التنمية وتؤصل رؤية ال ندعي اكتمالها‪ ،‬ولكن قد تشير إلى أهميتها وربما مكانتها‪:‬‬

‫املستوى األول‪ -‬الدور التأصيلي والتنظيري في بناء مفهوم "التنمية" وذلك في ضوء صياغته "صياغة مقاصدية" وما‬
‫تصور ٍ‬
‫حاكم للعمليات اإلنمائية والعمرانية‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫يقتضيه ذلك من‬
‫‪Page 2 of 35‬‬
‫‪www.eipss-eg.org‬‬
‫‪August 13, 2021‬‬

‫املستوى الثاني‪ -‬الذي يركز على منظومة مقاربات تراثية وحديثة في عمليات التنمية تسهم وتستكمل عناصر تفعيل‬
‫وتشغيل للنموذج املقاصدي‪ .‬املقاربات وتنوعها بين التراث واملعاصرة يشير إلى التواصل والوصل واالتصال بين‬
‫اجتهادات الصيغة املقاصدية وأدوارها في تأصيل رؤية تنموية تعبر عن فاعليات املنظور من جهة‪ ،‬وخصوصية‬
‫تأثيراته على التنمية والعمران من جهة أخرى‪.‬‬

‫املستوى الثالث‪ -‬وهو يركز على "معايير التنمية" ال بمعنى قواعد االتفاق العام بين الجماعات‪ ،‬ولكن باعتبارها‬
‫تشير ‪-‬وكما هي التضمينات اللغوية‪ -‬إلى القياس وبناء املؤشرات‪ ،‬ضمن مقاربات تستشرف إحداها جدوى القياس‪،‬‬
‫والثانية تحاول قياس العالقة بين التنمية واإلسالم‪ ،‬والثالثة تهتم بتطور فكرة املؤشرات في ارتباطها بالتنمية‪،‬‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫والرابعة تشير إلى محاوالت شاعت في اآلفاق واستدعت حوارا أكاديميا وسياسيا وإعالميا تتعلق بتقريري التنمية‬
‫اإلنسانية العربية (‪.)2003 ،2002‬‬

‫ثم نقدم خاتمة تحاول بناء "تقرير النفير للتنمية" على أساس من املعمار املقاصدي‪.‬‬

‫‪Page 3 of 35‬‬
‫‪www.eipss-eg.org‬‬
‫‪August 13, 2021‬‬

‫أوالً‪ -‬مفهوم التنمية محاولة لصياغة مقاصدية‬


‫"التنمية" واحد من املفاهيم املختلف فيها وعليها‪ ،‬وهي إحدى الحاالت النموذجية على املستوى املفاهيمي التي تعاني‬
‫من أعراض "برج بابل"‪ ،‬والتي قد تشير إلى أننا قد نكون حيال فوض ى مفاهيمية فيما يخص الظاهرة اإلنمائية‪،‬‬
‫مفاهيم متعددة‪ ،‬وتخصصات تنازعته‪ ،‬وفي بعض أموره أيديولوجية تحكمت فيه وبه‪.‬‬

‫والحديث عن التنمية ‪-‬بما يستوعب كل فاعليات املفهوم وكماالته‪ -‬صار من األمور الواجبة التي لم يعد يصلح فيها‬
‫الكالم املرسل أو العام‪ ،‬خاصة أن هذا الكالم على كثرته‪ ،‬ظل ضمن الدائرة السجالية بين االتجاهات املختلفة‪،‬‬
‫ً‬
‫وظلت التنمية تعبيرا عن حالة قشرية لم تصل إلى عمق املجتمع وتكويناته االجتماعية واالقتصادية ُوبناه الثقافية‬
‫والسياسية‪ ،‬ولم تتحول إلى نسيج متكامل من الفاعليات والعالقات والسياسات‪.‬‬
‫ومن ثم فقد ظل الحديث عن التنمية معب ًرا عن رغبات غير محددة‪ ،‬أكثر من تعبيرها عن سياسات فاعلة ّ‬
‫وفعالة‪،‬‬
‫ومن هنا كان من الضروري استيعاب هذا املشروع التنموي ضمن رؤية حضارية وكلية شاملة؛ ألن االهتمام بجزء‬
‫على حساب العناصر األخرى أورث جملة من االختالالت ليس فقط في التصور واإلدراك‪ ،‬بل في العمل واملمارسة‪.‬‬
‫ً‬
‫وأهم عناصر التمثيل ملثل هذا الخلل في الرؤية والحركة معا‪ ،‬هو إهمال البعد الثقافي والقيمي للتنمية‪ ،‬ضمن تصور‬
‫لعوالم التنمية يقتصر على امتالك عالم األشياء‪ ،‬ال القدرة على تحويل املفهوم إلى عالم أفكار يشكل أصول وعناصر‬
‫للبناء التنموي العمراني‪ ،‬يهتم باألبعاد الثقافية الغائبة‪ ،‬والشروط القيمية املصاحبة للعملية اإلنمائية العمرانية‪،‬‬
‫كل ذلك إنما يقع فيما يمكن تسميته بمعايير ومقاصد التنمية‪.‬‬
‫ً‬
‫هذه األبعاد التي أهملت في النظر أو في العمل أو فيهما معا‪ ،‬كانت أهم الدوافع التي أشارت إلى تجديد زاوية االهتمام‬
‫التي يمكن االنطالق منها لو صنعها تحت مجهر االهتمام‪.‬‬

‫االهتمام باملوضوع بمفاصله األساسية والكلية وخريطته الشاملة بما يشير إليه من عناصر تأسيس وتأصيل‬
‫َّ‬
‫للنموذج املعرفي املولد للرؤية التنموية والعمرانية كمقدمة للعمليات التي تتعلق بالتفعيل والتشغيل‪.‬‬

‫‪Page 4 of 35‬‬
‫‪www.eipss-eg.org‬‬
‫‪August 13, 2021‬‬

‫ضمن مجهر اهتمام البحث وأغراض التفعيل والتشغيل نحاول أن نقدم صياغة مقاصدية ملفهوم التنمية‪ ،‬سواء‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫تعلق ذلك بصياغة مباشرة‪ ،‬استنادا لهذا النموذج‪ ،‬أو صياغة منظومية استنادا لوسط املفاهيم ملدخل سباعي‪،‬‬
‫تتفاعل مفاهيمه فيما بينها وتؤصل املعنى املنظومي للمفاهيم‪.‬‬

‫الصياغة املقاصدية املباشرة ملفهوم التنمية‪:‬‬


‫في إطار عملية بناء املفاهيم‪ ،‬هل يمكن أن تؤدي منظومة املقاصد ونموذجها إلى اإلسهام في صياغة مفهوم التنمية؟!‬

‫‪Page 5 of 35‬‬
‫‪www.eipss-eg.org‬‬
‫‪August 13, 2021‬‬

‫مفهوم التنمية بهذا االعتبار يتضمن‪:‬‬


‫‪ -‬مجاالت الفاعلية اإلنمائية (الدين والنفس والنسل والعقل واملال)‪.‬‬
‫‪ -‬نظريات الفعل السلبي واإليجابي (نظريات الضرر والضرورة واملصالح)‪.‬‬
‫‪( -‬الضرر الذي يحيق بالعمليات التنموية) (املصالح التي ّ‬
‫تتغياها التنمية)‪.‬‬
‫‪ -‬وصف الواقع التنموي املشكل لوسط الفاعليات للنشاط التنموي وطاقاته وفاعلياته‪.‬‬
‫‪ -‬نظرية األولويات التي تحدد املوازين التنموية (الضروري التنموي‪ ،‬الحاجي‪ ،‬التحسيني)‪.‬‬
‫‪ -‬نظرية املآالت ودراسة آثار الفعل التنموي واستشراق مستقبل التنمية‪.‬‬
‫‪ -‬االرتباط بين املقاصد التنموية والوسائل واآلليات التنموية والعمرانية‪.‬‬
‫‪ -‬نظرية الحفظ بكل مقتضياتها (الحفظ اإلنمائي والعمراني)‪.‬‬

‫الصياغة املقاصدية غيراملباشرة ملفهوم التنمية (املنظومة السباعية)‬

‫‪Page 6 of 35‬‬
‫‪www.eipss-eg.org‬‬
‫‪August 13, 2021‬‬

‫أنساق ستة (العقيدة‪ ،‬الشرعة‪ ،‬القيم‪ ،‬األمة‪ ،‬الحضارة‪ ،‬السنن)‪ ،‬تعتبر املقاصد سابع هذه األنساق‪ ،‬وهي النموذج‬
‫ً‬
‫"الحافظ" و"الحاضن" لها جميعا‪ ،‬والواصل بين حلقاتها‪ ،‬وتشكل بيئة املقاصد مجال فاعليتها وتفعيلها‪ :‬الدين الذي‬
‫تشكل لحمته (العقيدة والشرعة) والنفس والنسل والعقل واملال (التي تمثل مجال فعالية القيم واألمة والحضارة‬
‫والسنن)‪.‬‬

‫‪Page 7 of 35‬‬
‫‪www.eipss-eg.org‬‬
August 13, 2021

Page 8 of 35
www.eipss-eg.org
August 13, 2021

Page 9 of 35
www.eipss-eg.org
August 13, 2021

Page 10 of 35
www.eipss-eg.org
‫‪August 13, 2021‬‬

‫إن صياغة مفهوم التنمية في إطار فكرة املنظومة السباعية ووسطها باالعتبار "الواصل" و"الحاضن" لها من خالل‬
‫املقاصد‪ ،‬إنما يجعل من التنمية عملية كلية ممتدة‪.‬‬

‫‪Page 11 of 35‬‬
‫‪www.eipss-eg.org‬‬
‫‪August 13, 2021‬‬

‫الحفظ الضام الواصل الحاضن‬


‫هذه الصياغة الكلية ملفهوم التنمية من خالل املنظومة السباعية الواصلة بين العقيدة الدافعة والشرعة الرافعة‬
‫ُّ‬
‫والسنة اإللهية املاضية كل‬ ‫والقيم األساسية والتأسيسية الحاكمة واألمة الجامعة‪ ،‬والحضارة العمرانية الفاعلة‪،‬‬
‫ذلك يقع في مجال املقاصد (الحافظة‪ ،‬الحاضنة‪ ،‬العناقة‪ ،‬الواصلة) املقاصد ومراعاتها هي الكفيلة بمراعاة‬
‫الصفات التي أتبعناها بعناصر هذه املنظومة من‪ :‬دافعية ورافعية وحاكمية وجامعية وفاعلية وقاضية‪.‬‬

‫وتأتي املقاصد لتتوج عناصر رؤية سباعية‪ ،‬املقاصد الحافظة‪ ،‬الحاضنة الواصلة‪ :‬الحافظة ملجاالت نشاطها‬
‫الحيوي‪ ،‬وعناصر فعاليتها الجوهرية‪ ،‬والحاضنة (لعقيدتها الدافعة‪ ،‬وشرعتها الرافعة‪ ،‬ونسق قيمها الحاكمة‪،‬‬

‫‪Page 12 of 35‬‬
‫‪www.eipss-eg.org‬‬
‫‪August 13, 2021‬‬

‫واألمة الجامعة والحضارة الفاعلة والسنن القاضية‪ ،)..‬والواصلة بين واجب املقاصد ومقدماته وآلياته ووسائله‪،‬‬
‫فإنه القصد واملقصود‪ :‬ما ال يتم الواجب إال به فهو واجب‪.‬‬

‫إنها فاعليات املقاصد حينما نتعلق بمقصودها في الحفظ والوزن والوصف والبناء والتقويم‪ .‬إن مقاصد ال تحفظ‬
‫مجاالتها وال تحتضن عناصر وسط تفعليها وشروط فاعليتها‪ ،‬وال تصل بين املقاصد والوسائل واآلليات‪ ،‬ليست من‬
‫املقاصد في ش يء‪ ،‬ولكنها في حقيقة األمر الوصول بها إلى مضادات مقصودها من استدعاء الضرر ال املصلحة‪،‬‬
‫ظ أم َ‬ ‫َ َ‬
‫ض ّيع)‪ ،‬وإهدار معاني الواجب والواقع‪ ،‬واقتفاء ملوازين (األفكار‬ ‫وتوسل طرق التضييع ال الحفظ (ح ِف‬
‫واألحداث‪ ،‬واألشخاص‪ ،‬واألشياء‪ ،‬والنظم واملؤسسات‪ ،‬والرموز ‪..‬إلخ)‪ ،‬إنها في واقع األمر إهدار للوعي باملقاصد‬
‫والسعي بها ولها‪.‬‬

‫سباعية بعضها من بعض تتحقق منظوميتها ونظامها فتحدد بذلك مناط فاعليتها وتفعيلها‪:‬‬

‫• إنه الحفظ لدافعية العقيدة والواصل لعناصره والضام ملكوناته‪ .‬إن "عقيدة ال تدفع"‪ ،‬هو إهدار ملعنى‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫العروة الوثقى‪ ،‬وإهدار للعقيدة وعيا وسعيا‪.‬‬

‫• إنه الحفظ لرافعية الشرعة والواصل بين خصائصها التكوينية والقيام بين قواعده الكلية‪ .‬إن شريعة ال‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫ترفع‪ ،‬هو إهدار ملعنى مقاصد الشريعة حينما تأتي لتخرج املكلف عن داعية هواه فترفعه تكريما واستخالفا‬
‫وأمانة ومسئولية‪ ،‬فالشريعة الرافعة‪ :‬حكمة كلها وعدل كلها ورحمة كلها ومصلحة كلها‪ ،‬إن شرعة –وإن‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫سماها بعضهم باإلسالم‪ -‬زور أو غفلة ليست إال إهدار للشريعة وعيا وسعيا‪.‬‬

‫• إنه الحفظ لحاكمية قيم اإلسالم التأسيسية (التوحيد والتزكية والعمران) واألساسية (األمر باملعروف‬
‫والنهي عن املنكر‪ ،‬والشورى‪ ،‬واالختيار) والقيم العليا (املمثلة في العدل) الناظم ألصول منظومة القيم‬
‫ً‬
‫وتصاعدها وتكافلها وتفاعلها‪ .‬إن قيما ال تحكم هو إهدار ملعنى مقاصد القيم ألنه إهدار لعموم الدين‬
‫ً ً‬
‫(الدين القيم)‪( ،‬دينا قيما)‪( ،‬دين القيمة)‪( ،‬الصراط املستقيم)‪.‬‬

‫‪Page 13 of 35‬‬
‫‪www.eipss-eg.org‬‬
‫‪August 13, 2021‬‬

‫• إنه الحفظ ملعاني جامعية األمة والواصل بين معاني اعتصامها بحبل هللا وعصمتها (ال تجتمع أمتي على‬
‫ضالل)‪ ،‬والضام ملعاني خيريتها ووسطيتها وشهودها الحضاري‪ ،‬إن أمة ال تجمع هي فاقدة ألصول معانيها في‬
‫َ‬
‫والقبلة"‪ .‬إن أمة ال تجمع ليست من جامعية األمة‬
‫"الوجهة ِ‬
‫ِ‬ ‫في‬ ‫األمة‬ ‫ملقاصد‬ ‫إهدار‬ ‫وهو‬ ‫و"القصد"‪،‬‬ ‫م"‬‫"األ‬
‫في ش يء‪ ،‬وإن تحول جامعيتها إلى نقيض مقصودها في التنازع مقابل االعتصام‪ ،‬والفشل مقابل الفاعلية‪،‬‬
‫وذهاب الريح في مقابل األثر والتأثير والتمكين‪ ،‬إنما يعبر عن إهدار مفهوم األمة في الوعي والسعي‪.‬‬

‫• إنه الحفظ لفاعلية الحضارة والواصل بينها وبين عناصر شهودها وحضورها‪ ،‬والضام لفاعليات عمرانهما‬
‫ُ‬
‫الغياب في كل‬ ‫وعمارتها‪ ،‬فاعلية الحضارة في حضورها ال وجودها‪ ،‬وحضورها عنوان فاعليتها‪ ،‬ونقيض ذلك‬
‫أشكاله وكل معانيه‪ ،‬إن حضارة ال تفعل وال تتفاعل وال تملك تأثيرها وفاعليتها ليست من الحضارة في ش يء‬
‫إنما يعبر عن إهدار مفهوم الحضارة وحضورها في الوعي والسعي‪.‬‬

‫• إنه الحفظ لقضاء السنن والواصل بين "فعلها" و"شروطه" و"عاقبته" والقيام لعناصرها السننية (سنن‬
‫الكون والنفس والتاريخ واملجتمع)‪ ،‬ونقيض ذلك إغفال السنن أو االنحراف بها أو تزييفها في الواقع والرؤية‪.‬‬
‫إن سننا ال تقض ي‪ ،‬فتتحقق بشروطها‪ ،‬ليست من السنن في ش يء إنما يعبر ذلك عن إهدار مفهوم السنن‬
‫اإللهية القاضية في الوعي والسعي‪.‬‬

‫التنمية فعل حضاري ممتد‪ ،‬وحشد لإلمكانات والطاقات‪ ،‬وهي كذلك ضمن منظومة الفعل الحضاري بنياته‬
‫ومساراته‪ ،‬والتنمية حركة إحسان وكدح حضاري قادرة على بلوغ غايتها ومقصدها في الحياة الطيبة‪ ،‬ومفهوم‬
‫السياسة في جوهره مفهوم عمراني وإنمائي وتجديدي يتحرك صوب‪:‬‬

‫‪Page 14 of 35‬‬
‫‪www.eipss-eg.org‬‬
‫‪August 13, 2021‬‬

‫عمليات ومعايير ومقاصد بعضها من بعض تشكل املنظومة املتكاملة املتفاعلة‪ ،‬املتكافلة‪ ،‬الحافظة‪ ،‬إنها وعي وسعي‬
‫يحرك كماالت التنمية وطاقاتها صوب جامعية األمة وعمران الحضارة‪.‬‬
‫ً‬
‫ثانيا‪ -‬املقاربات املقاصدية ومفاهيم وعمليات التنمية‪:‬‬
‫ً‬
‫حاولنا آنفا تقديم صياغة مقاصدية مباشرة من خالل نموذج املقاصد‪ ،‬أو غير مباشرة في ضوء املنظومة السباعية‪،‬‬
‫ونحاول ضمن عملية التأصيل استدعاء مجموعة مهمة من املقاربات نحاول من خاللها‪ ،‬استكمال عملية الصياغة‬
‫املقاصدية‪.‬‬

‫وقد آثر الباحث أن يختط طريقة لها ما يسوغها في استعراض تلك املقاربات‪:‬‬

‫نقدم في النقطة األولى نماذج تراثية في عملية التشغيل (ابن خلدون والسنن واملدخل املقاصدي) و(الخيامي‪:‬‬
‫الوظائف واألدوار واملقاصد)‪.‬‬

‫‪Page 15 of 35‬‬
‫‪www.eipss-eg.org‬‬
‫‪August 13, 2021‬‬

‫أما النقطة الثانية‪ -‬فنحاول أن نستكمل عناصر مفهوم التنمية من خالل صياغات تراثية مقاصدية نقدم فيها‬
‫(املقاربة املاوردية‪ ،‬واملقاربة الشاطبية‪ ،‬واملقاربة الخلدونية واملقاربة األسدية)‪ .‬وقد ضمناها باعتبارها مقاربات‬
‫تراثية توضح امتداد وتراكم االجتهاد العمراني والتنموي في هذا املقام‪.‬‬
‫ً ً‬
‫أما النقطة الثالثة‪ -‬فنحدد مجموعة من املقاربات تمثل جميعا بيانا فيما نحن فيه من عناصر املنظومة السباعية‪،‬‬
‫خاصة إذا ما انضم إليها مقاربة ابن خلدون في الربط بين السنن واملقاصد وعملية العمران‪ ،‬واملقاربة الشاطبية والتي‬
‫تشير إلى نموذج ونسق املقاصد‪.‬‬

‫تشغيل املقاصد وتوظيفها يف ساحة الواقع اإلنمائي‪:‬‬


‫‪ )1‬نماذج تراثية في عملية التشغيل‪:‬‬
‫أ‪ -‬ابن خلدون والسنن واملدخل املقاصدي‪:‬‬

‫‪Page 16 of 35‬‬
‫‪www.eipss-eg.org‬‬
‫‪August 13, 2021‬‬

‫في إطار عملية التوظيف والتفعيل للمدخل املقاصدي في سياق الواقع‪ ،‬سواء ارتبط ذلك بالسنن الفاعلة فيه‪ ،‬أو‬
‫بالوظائف الناشطة في مجاالته‪ ،‬البد أن نشير إلى اجتهاد ابن خلدون‪ ،‬والذي مع قراءة معظم فصول مقدمته يستبين‬
‫ً‬
‫مع استبطانه ملدخل املقاصد في كتاباته‪ ،‬فهو حينا يتحدث عن حفظ الدين‪ ،‬وأخرى يتحدث عن حفظ النفس‬
‫والنسل‪ ،‬وتارة يتجه إلى حفظ العقل‪ ،‬وأخرى وبشكل مفصل تحدث عن حفظ املال‪ ،‬وسنن الحفظ املختلفة التي‬
‫ترتبط بكل مجال‪ ،‬وسنن اإلهدار والفقدان واالضطراب التي ترتبط بذلك املجال‪ ،‬فيضيع املقصود ويخرب العمران‬
‫بالجملة‪.‬‬

‫ففي الفصل الذي عنونه بأن الظلم مؤذن بخراب العمران يقول‪:‬‬
‫(اعلم أن العدوان على الناس في أموالهم ذاهب بآمالهم في تحصيلها واكتسابها ملا يرونه حينئذ من أن غايتها ومصيرها‬
‫انتهابها من أيديهم‪ ،‬وإذا ذهب آمالهم في اكتسابها وتحصيلها انقبضت أيديهم عن السعي في ذلك‪ .‬وعلى قدر االعتداء‬
‫ونسبته يكون انقباض الرعايا عن السعي في االكتساب‪ ...‬وال تحسن الظلم إنما هو أخذ املال أو ا ِمللك من يد مالكه‬
‫ملك أحد أو غصبه في عمله أو طالبه‬ ‫عن غير عوض وال سبب كما هو املشهور‪ ،‬بل الظلم أعم من ذلك‪ .‬وكل من أخذ َ‬
‫ً‬
‫بغير حق أو فرض عليه حقا لم يفرضه الشرع فقد ظلمه‪ .‬فجباة األموال وبغير حقها ظلمة‪ ،‬واملعتدون عليها ظلمة‪،‬‬
‫واملنتبهون لها ظلمة‪ ،‬واملانعون لحقوق الناس ظلمة‪ ،‬وغصاب األمالك على العموم ظلمة‪ .‬ووبال ذلك كله عائد على‬
‫الدولة بخراب العمران الذي يذهب بمادتها إلذهابه األموال من أهله واعلم أن هذه هي الحكمة املقصودة للشارع‬
‫في تحريم الظلم‪ ،‬وهو ما ينشأ عنه من فساد العمران وخرابه‪ ،‬وذلك مؤذن بانقطاع النوع البشري‪ ،‬وهي الحكمة‬
‫العامة املرعية للشرع في جميع مقاصده الضرورية الخمسة من حفظ الدين والنفس والعقل والنسل واملال‪.‬‬
‫ً‬
‫فما كان الظلم كما رأيت مؤذنا بانقطاع ملا أدى إليه من تخريب العمران كانت حكمة الحظر فيه موجودة فكان‬
‫ً‬ ‫تحريمه مهما‪ .‬وأدلته من القرآن ُّ‬
‫والسنة كثيرة أكثر من أن يأخذها قانون الضبط والحصر‪ .‬ولو كان واحد قادرا عليه‬
‫لوضع بإزائه من العقوبات الزاجرة ما وضع بإزاء غيره من املفسدات للنوع التي يقدر كل أحد على اقترافها من الزنا‬
‫والقتل والسكر‪ .‬إال أن الظلم ال يقدر عليه إال من يقدر عليه ألنه إنما يقع من أهل القدرة والسلطان‪ ،‬فبولغ في ذمه‬
‫َ َ َّ ّ ْ َ‬ ‫َ‬
‫يد‪[ ‬فصلت‪.)]46 :‬‬‫وتكرير الوعيد فيه عس ى أن يكون الوازع فيه للقادر عليه في نفسه ‪ ‬و َما َرُّبك ِبظال ٍم ِللع ِب ِ‬

‫‪Page 17 of 35‬‬
‫‪www.eipss-eg.org‬‬
‫‪August 13, 2021‬‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً ً‬
‫هذه رؤية ابن خلدون‪ ،‬فهو يربط السنن باملقاصد ربطا مهما وأكيدا‪ ،‬والبد أن يكون مؤثرا في فقه الواقع والوعي‬
‫بمحركاته نحو االنهيار أو نحو العمران‪.‬‬

‫ب‪ -‬الخيامي والوظائف واألدوار والمقاصد‪:‬‬


‫ً‬
‫أما عن االجتهاد الثاني فمثله الخيامي الذي يتطرق إلى مدخل املقاصد ليعتبره وظائف وأدوارا لكل فرد على حدة‪،‬‬
‫ولكل تشكيل جماعي أو مجتمعي‪ ،‬ولكل التكوينات الجمعية على اختالف طبقاتها وأدوارها‪ ،‬هذا االجتهاد الرابط بين‬
‫معان ترتبط بوظائف الدولة‬ ‫البنى واملؤسسات من جهة والوظائف واألدوار من جهة أخرى يمكن أن يسهم في تأصيل ٍ‬
‫ً‬
‫وتصورها (أدوارا وسياسات ومؤسسات)‪ ،‬وكذلك تقويم هذه السياسات‪ ،‬وفي مردودها وثمرتها؛ أو باملعنى املتداول‬
‫في تلك الكتابات‪" :‬مخرجات تلك السياسات"‪.‬‬

‫كما أنه يمكن أن يسهم في بناء أصول تنظير للسياسات العامة في مختلف املجاالت‪ ،‬وقدرة هذه السياسات على‬
‫ً‬
‫تحقيق الوظائف املتعلقة بحفظ الدين والنفس والنسل والعقل واملال وما يرتبط بذلك من قرارات‪ ،‬إسهاما في‬
‫عملية بنائها‪ ،‬وكذلك في عمليات تقويمها‪ .‬إن الخيامي وهو أحد املفكرين كتب رسالة حول "الراعي" يستلهم فيها‬
‫ً‬
‫املعاني التي تجعل من املقاصد الكلية وظائف وأدوارا في حركة اإلنسان الفردية‪ ،‬أو املؤسسات‪ ،‬والتكوينات‬
‫الجماعية واملجتمعية‪.‬‬

‫ففي مقدمة رسالته التي وضح بها "‪ ...‬الواجب على كل إنسان على حدته أي انفراده بدون نظر إلى متعلقاته‪ ،‬ثم وإن‬
‫كان راعية ملفرده أو ملنزله‪ ،‬بينت الواجب عليه عن نفسه وأهل منزله املكلف بواجباتهم تكليفه بنفسه‪ ،‬كي يكون ذلك‬
‫ً‬
‫البيان أصال يبني عليه‪ ،‬وجه بيان الواجب على القوة الحاكمة تجاه القوة املحكومة جميعها"‪..‬‬
‫ً ً‬ ‫ً‬
‫"‪ ..‬فالواجب عليه وجوبا شخصيا ذاتيا‪ ،‬فاجتهاده في كل نفس من بذل بغاية ما في وسعه إلى حفظ دينه‪ ،‬فعرضه‬
‫فنفسه فعقله فولده فنسبه‪ ."..‬هذه الرؤية تكتمل حينما يجعل أصول الحفظ املختلفة للمجاالت ال تعبر عن جوهر‬
‫الحفظ إذا أسهمت في حفظ الدين وحفظته‪ ،‬فحفظ املجاالت املختلفة ال تتم إال بمقتضاه أي بمقتض ى الدين وما‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫يؤكده للمجاالت جميعا في حفظ الدين؛ بحيث يشكل ذلك مركزا تستمد املجاالت منه عناصر الحفظ‪ ،‬وتعود إليه‪.‬‬

‫‪Page 18 of 35‬‬
‫‪www.eipss-eg.org‬‬
‫‪August 13, 2021‬‬

‫ج‪ -‬مفهوم التنمية وصياغات تراثية مقاصدية‪:‬‬


‫من الضروري في هذا املقام أن ننظر للتنمية باعتبارها رؤية للعالم تنبثق عنها رؤية لإلنسان والكون والحياة‪ ،‬ضمن‬
‫عناصر تأسيس عقدي‪ ،‬يستند إلى رؤية توحيدية للعالم‪ ،‬تستند إلى عقيدة التوحيد بكل تضميناتها وفاعليتها‪.‬‬

‫التنمية ‪-‬ضمن هذا التصور‪" -‬قيمة" شاملة وجامعة وواصلة بين عناصر هذه الرؤية الكلية‪ ،‬تتضمن رؤية عمرانية‬
‫واعية وفاعلة‪ ،‬تتضمن أصول وعي وحركات سعي متصلة ومتواصلة‪ ،‬ضمن أصول عناصر الكدح الحضاري ‪َ ‬يا‬
‫َ ً َ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ان ِإ َّن َك ك ِاد ٌح ِإلى َرِّب َك ك ْدحا ف ُمال ِق ِيه‪[ ‬االنشقاق‪ .]6 :‬قيمة تتحرك صوب عمارة الكون وتزكية اإلنسان‬ ‫َأ ُّي َها ْاإل َ‬
‫نس ُ‬
‫ِ‬
‫وترقية وتنمية الحياة‪ ،‬وتعتبر كل هذه العناصر بدورها قيما تحرك الفاعليات اإلنسانية وتمكينها في الواقع‪ ،‬إن‬
‫النظر إلى القيم الكونية واإلنسانية والحياتية‪ ،‬والنظر إلى الكون كقيمة‪ ،‬والحياة كقيمة إنما يحرك عناصر وعي‬
‫وسعي يقصد إلى االلتزام بأصول نظام للقيم ويحرك الطاقات والفاعليات في إطار ترجمة عناصره والقوة املؤمنة إلى‬
‫طاقات وإمكانية وتمكين‪" :‬املؤمن القوي خير وأحب إلى هللا من املؤمن الضعيف"‪.‬‬

‫والتنمية ضمن هذا التصور مفهوم حضاري شامل يشمل كل عناصر الحضارية وفاعليتها االجتماعية والثقافية‬
‫واالقتصادية والسياسية‪ ،‬ويشمل عمران العوالم املختلفة من عالم األفكار‪ ،‬وعالم األشخاص‪ ،‬وعالم األشياء‬
‫والنظم‪ ،‬وعالم األحداث‪ ،‬على تفاعل واستطراق فيما بينها ضمن عالقات التفاعل والتأثير والتأثر‪ .‬عمران تلك‬
‫العوالم هو الذي يضمن لها الحياة والفاعلية‪ ،‬وحينما يعبر مالك بن نبي عن "عالم األفكار امليتة والقاتلة" والتي‬
‫تعشش في أركان الكيان الحضاري وتفت في عضده‪ ،‬فإنه بذلك يدرك أن العوالم الحية غير العوالم امليتة أو القاتلة‪،‬‬
‫وأن هذا التصور الشامل هو الذي يحرك عناصر وأصول الوعي الدافع إلى فاعلية السعي ضمن إدراك يعي فعل‬
‫السنن ضمن هذه العوالم‪ّ ،‬‬
‫ويتغيا مقاصد كبرى هي في الحقيقة تمثل جوهر الرؤية العمرانية والتنموية‪.‬‬
‫ً‬
‫والتنمية كذلك مفهوم حضاري شامل بما يجعل الواقع في بؤرة اهتمامه وهمه‪ ،‬الواقع هنا أكثر اتساعا من نقطة‬
‫زمانية أو بقعة مكانية‪ ،‬إنه امتداد زمني وامتداد مكاني وعمق حضاري وذاكرة في الزمان واملكان‪ ،‬تستوعب كل‬
‫املجاالت بتفكيرها وفعلها‪ ،‬هادفة إلى عمرانها‪ ،‬بحيث تصير –وبحق‪ -‬عملية تربوية (التربية املستمرة)‪ ،‬ال تنفك عن‬
‫ً‬
‫التربية أبدا‪.‬‬

‫‪Page 19 of 35‬‬
‫‪www.eipss-eg.org‬‬
‫‪August 13, 2021‬‬

‫وضمن هذه السياقات فإن مفهوم التنمية‪ ،‬ليس أحد املفاهيم البسيطة في تكوينها أو السطحية في تأثيرها‪ ،‬بل هو‬
‫"مفهوم منظومة" يشير إلى منظومة متكاملة ومتكافلة ومتفاعلة من املفاهيم تستدعيها بحيث تكون عائلة مفاهيمية‬
‫واحدة ذات نسب واحد‪ ،‬أو شجرة مفاهيمية ذات فروع في جذر واحد‪.‬‬

‫وواقع األمر أنه بدون النظر إلى التنمية كمفهوم منظومة أو باعتباره شجرة مفاهيمية سيظل التعامل مع هذا‬
‫ً‬
‫املفهوم قاصرا في فهم الواقع والتعامل معه‪.‬‬

‫ومن ثم‪ ،‬فإن هذا املفهوم يشير إلى عمليات مستمرة ومتواصلة‪ ،‬وأدوات وإمكانيات وعالقات وتفاعالت ومجاالت‪،‬‬
‫ً‬
‫ومساقات بحثية‪ ،‬ومساقات ثقافية‪ ،‬ومساقات تربوية‪ ،‬ومساقات ملناهج دراسية‪ ،‬كل ذلك يشكل نظاما ومنظومة‬
‫متكاملة من املفاهيم تستوعب كل تلك املجاالت والفاعليات‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫كل ذلك قد يحيلنا إلى النظر إلى التنمية باعتبارها نموذجا إرشاديا ‪ Paradigm‬على ما يشير إليه ذلك من تأصيل‬
‫رؤية كلية للوجود وللعالم‪ ،‬واإلشارة إلى بناء نظري‪ ،‬وكذلك منظومة مفاهيمية‪ ،‬كما أنه يشير إلى أجندة بحثية شاملة‬
‫ومتكاملة‪ ،‬بما توجه إليه االهتمام من دراسة إشكاالت أجدر بالتناول‪.‬‬
‫ً‬
‫وقد يرتبط بذلك النظر إلى التنمية ضمن النموذج املقاصدي (املقاصد الكلية العامة)‪ ،‬وباعتبار التنمية تعبيرا عن‬
‫مقاصد كلية وعمرانية‪ ،‬وبما يشير إليه كل ذلك من حفظ الدين كعملية تنموية وحضارية تتعلق بعمارة الدين‪،‬‬
‫وكذلك حفظ النفس كعملية عمرانية ممتدة‪ ،‬وحفظ العقل بما يشير إليه ذلك من مهمات عمرانية في الصياغة‬
‫العمرانية للعقل وإعادة تشكيل العقل املسلم‪ ،‬وحفظ النسل بما يشير إليه من امتداد االهتمام ومواصلة العمل‬
‫ضمن عمليات التنمية البشرية والتربوية‪ ،‬وحفظ املال بما يشير إليه من عملية استخالفية عمرانية‪ ،‬وبما يوفر‬
‫عناصر البنية األساسية للعملية التنموية‪ ،‬املال هنا رمز لعناصر تنموية في جوانبها التأسيسية واملادية باعتباره من‬
‫أهم عناصر املادة العمرانية‪.‬‬

‫األمر هنا يشير ليس فقط إلى تلك املجاالت العمرانية على تفاعلها وتكافلها‪ ،‬بل يشير كذلك إلى عناصر األولويات‬
‫التنموية والعمرانية‪ ،‬وذلك في إطار التمييز والتحديد والتعيين والتفعيل ألصول الضرورات العمرانية واإلنمائية‪،‬‬

‫‪Page 20 of 35‬‬
‫‪www.eipss-eg.org‬‬
‫‪August 13, 2021‬‬
‫ً‬
‫وتحديد الحاجات اإلنمائية‪ ،‬وأخيرا العمل في حقل التحسينيات العمرانية‪ ،‬وذلك في سياق منظومة اهتمام تتعرف‬
‫على أصول عناصر الوزن والترجيح والتقويم‪.‬‬

‫وفي هذا املقام يجب أال يغيب ضمن هذه الرؤية الشاملة االهتمام بالرؤى االستشراقية ملستقبل التنمية‪ ،‬بحيث‬
‫نجعل عناصر هذه الرؤية ضمن جوهر مفهوم التنمية والعمران‪.‬‬

‫‪Page 21 of 35‬‬
‫‪www.eipss-eg.org‬‬
August 13, 2021

Page 22 of 35
www.eipss-eg.org
August 13, 2021

Page 23 of 35
www.eipss-eg.org
‫‪August 13, 2021‬‬

‫(‪ )2‬املقاربات التراثية‬


‫(أ)المقاربات الماوردية‪ :‬صالح الدنيا وعملية التنمية‪:‬‬
‫من األمور املهمة أن نبحث هنا في مجال تلك املقاربات في ذاكرة موضوع التنمية‪ ،‬والظواهر املتعلقة بها‪ ،‬فهل لم يكن‬
‫للمفكرين املسلمين رؤية حال عمران الدنيا؟ األمر يتأكد من خالل ضرورته في بناء الرؤية العمرانية العامة ملفهوم‬
‫حس عمراني يتحدث حول منهج النظر للعملية اإلنمائية‬ ‫اإلنماء‪ .‬املاوردي يقع على رأس هؤالء املهتمين في سياق ّ‬
‫وعناصر القيام على عمارتها وصالحها وإصالحها‪ ،‬فالنظر في أمور الدنيا الزم من أحوال تنميتها وعمرانها‪" .‬فواجب‬
‫ستر أحوالها‪ ،‬والكشف عن جهة انتظامها واختاللها‪ ،‬لنعلم أسباب صالحها وفسادها ومواد عمرانها وخرابها‪ ،‬لتنتفي‬
‫ُ‬
‫عن أهلها شبه الحيرة‪ ،‬وتتجلى لهم أسباب الخيرة‪ ،‬فيقصدوا األمور من أبوابها‪ ،‬ويعتمدوا على صالح قواعدها‬
‫وأسبابها‪."..‬‬

‫والتنمية والصالح معتبران من وجهين ‪"..‬أولهما ما ينتظم به أمور جملتها‪ ،‬والثاني ما يصلح به حال كل واحد من أهلها‪.‬‬
‫ً‬
‫فهما شيئان ال صالح ألحدهما إال بصاحبه"‪ ،‬إنها رؤية شاملة للتنمية تتحرك صوب الدوائر املتعددة بدا بعمران‬
‫اإلنسان الفرد‪ ،‬حتى تشمل العمارة الكونية‪" .‬فاعلم أن ما به تصلح الدنيا حتى تصير أحوالها منتظمة‪ ،‬وأمورها‬
‫ملتئمة‪ ،‬ستة أشياء هي قواعدها وإن تفرعت‪ ،‬وهي‪ :‬دين متبع وسلطان قاهر وعدل شامل وأمن عام وخصب دائم‬
‫وأمل فسيح"‪ ،‬وأما ما يصلح به حال اإلنسان ويرقى‪" :‬فثالثة أشياء‪ ،‬هي قواعد أمره ونظام حاله‪ ،‬وهي نفس مطيعة‬
‫إلى رشدها منتهية عن غيها‪ ،‬وألفة جامعة‪ ..‬ومادة كافية تسكن نفس اإلنسان إليها ويستقيم أوده بها"‪.‬‬

‫إننا أمام رؤية كلية شاملة للظاهرة العمرانية واإلنمائية تبحث في عناصر التنمية الشاملة والتنمية البشرية‪ ،‬فتؤصل‬
‫القاعدة وتحدد املجاالت‪.‬‬

‫* عالقة الدين بالظاهرة اإلنمائية هي أول هذه القواعد التي تحرك عناصر االلتزام والفاعلية في إطار عقدي يتحرك‬
‫فيه اإلنسان صوب مصلحته وإصالحه‪ .‬إنه يدرك حقيقة العالقة اإليجابية بين الظاهرة الدينية والظاهرة اإلنمائية‬
‫في إطار الفهم لصحيح الدين وما يؤثر به من فاعلية‪.‬‬

‫* عالقة الظاهرة السياسية بالظاهرة اإلنمائية من القواعد املهمة في هذا املقام‪ ،‬هيبة السلطة وقدرتها إنما تعبر‬
‫عن إحدى الضرورات للظاهرة اإلنمائية‪.‬‬
‫‪Page 24 of 35‬‬
‫‪www.eipss-eg.org‬‬
‫‪August 13, 2021‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫* ثم العدل كحالة شاملة للكيان أفرادا وجماعات‪ ،‬حكاما ومحكومين‪ ،‬ذلك أن هيبة السلطة ال تتأتى إال من عدلها‬
‫وقدرتها أن تجعل من الهيبة رضا بالعدل والسوية‪.‬‬
‫ً‬
‫* و"أمن عام" هي من أهم شروط عناصر االستقرار التي توفر قاعدة ووسطا للعملية العمرانية‪ ،‬فالفوض ى ضد‬
‫العمران‪ ،‬والتهارج ضد االجتماع‪ ،‬واألمن قرين العمران‪ ،‬معادالت مهمة‪ ،‬تؤسس أصول األمن العام املترتب على‬
‫العدل الشامل‪.‬‬

‫* "خصب دائم" هو عنوان وإشارة إلى عناصر اإلنماء املمتد والشامل والدائم‪ ،‬إنها مجاالت التنمية بأسرها وبتنوعها‬
‫وبتكافلها‪.‬‬

‫* وأمل فسيح يحدد أفق الرؤية ورحاباتها‪ ،‬رؤية لحال الجماعة والكيان في استقبالها‪ ،‬املتعلق باألمل املصاغ ضمن‬
‫أصول وعي وقواعد سعي‪.‬‬

‫وصالح الدنيا موصول بصالح اإلنسان وعمرانه‪ ،‬وما يتطلبه ذلك من مقتضيات عناصر ووسط التنمية البشرية‬
‫وعمرانها من أصول املاوردي‪ ،‬والتي يمكن إيجازها في الشكل التالي‪:‬‬

‫‪Page 25 of 35‬‬
‫‪www.eipss-eg.org‬‬
‫‪August 13, 2021‬‬

‫ب‪ -‬المقاربة الخلدونية‪ :‬أصول العمران وتأسيسه وخرابه وانهياره‪:‬‬


‫أردنا أن نضع ابن خلدون بمقاربته العمرانية ضمن سلسة من املقاربات التي سبقته أو لحقته حتى ال يتصور البعض‬
‫أن ابن خلدون فلتة ال تقبل التكرار‪ ،‬ومصادفة ال يقاس عليها‪ ،‬أو هو نتوء ضمن إسهامات معرفية أو منهجية أو‬
‫ً‬
‫علمية متواضعة‪ ،‬فإن هذا كما يحمل ظلما البن خلدون فإنه يعبر من جانب آخر عن ظلم فادح للحضارة التي‬
‫ً‬
‫أنجبته‪ ،‬فخرج من رحمها‪ ،‬وتغذى من مرجعيتها ما شاء‪ ،‬فكانت مقدمته التي ال تدعي انفصاال عن حضارته بل كانت‬
‫لبنة ضمن بنائها وضمن شبكتها املعرفية‪ ،‬وليس من غرضنا استعراض نصوص خلدونية في مقدمته‪ ،‬بل الغرض أن‬
‫نشير بما تميزت به مقاربته العمرانية‪ ،‬واملفاتيح التي دلف من خاللها إلى الظاهرة العمرانية والتعرف على عناصرها‬
‫ّ‬
‫وشبكة عالقاتها‪ ،‬واملستلزمات واملتطلبات التي يجب التسلح بها عند مقاربة ظاهرة العمران أو االقتراب منها‪ ،‬ومن‬
‫هنا فقد أشار ابن خلدون إلى‪:‬‬
‫‪Page 26 of 35‬‬
‫‪www.eipss-eg.org‬‬
‫‪August 13, 2021‬‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫فأسس َّ‬ ‫* ضرورة االعتبار بالتاريخ‪َّ ،‬‬
‫وأص َل فكرة أن للظاهرة االجتماعية والسياسية والعمرانية عمقا تاريخيا‪،‬‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫وللظواهر التاريخية عمقا حضاريا عمرانيا‪.‬‬

‫* ضرورة النظر إلى الظاهرة العمرانية ضمن امتدادها‪ ،‬وعناصر شمولها‪ ،‬لشؤون العمران ما يعرض له فيه من‬
‫العوارض الذاتية من امللك والسلطان (ظاهرة السلطة)‪ ،‬والكسب واملعاش والصنائع والعلوم (مجاالت العمران)‪،‬‬
‫وعمارة الحياة واألمة التي هي مقصد َع َ‬
‫الم عمران ابن خلدون (املقاصد العمرانية) وهو بذلك يشير إلى انتقادات‬
‫حادة إلى تفتيت الظاهرة العمرانية بدعوى التخصصات الدقيقة‪ ،‬وما يشير إليه من ضرورة إعادة النظر في تصنيف‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫العلوم معرفيا لغرض عمارة العلم بلوغا إلى جوهر العلم النافع الدافع‪.‬‬

‫فقد شرح ابن خلدون "من أحوال العمران والتمدن‪ ،‬وما يعرض في االجتماع اإلنساني من العوارض الذاتية ما‬
‫يمتعك بعلل الكوائن وأسبابها‪ ،‬ويعرفك‪ :‬كيف دخل أهل الدول من أبوابها؛ حتى تنزع من التقليد‪ ،‬وتقف على أحوال‬
‫ما قبلك من األيام واألجيال وما بعدك"‪.‬‬

‫وهي إشارات واضحة إلى التنبيه إلى علم االجتماع العمراني والسياس ي الذي يرى الظاهرة السياسية في جوف الظاهرة‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫االجتماعية والظاهرة التاريخية‪ ،‬وكل هذه الظواهر تجدل في مساق واحد‪ ،‬وتضفر عناصرها ومستوياتها وشبكة‬
‫عالقاتها بحيث تشكل الظاهرة العمرانية لها وبينها‪ ،‬والضابطة لتفاعالتها‪ ،‬واملكونة لتجلياتها‪.‬‬

‫* يكمل ذلك تصوره للعمران البشري ال في عالقته التأسيسية‪ ،‬بل في وسطه وسياقه‪ ،‬فيتحدث عن العمران البشري‬
‫واملقدمات املتعلقة به التي تتصل بالجغرافيا الطبيعية والبشرية‪ ،‬وأثر البيئة على أبدان البشر وأحوالهم وما ينشأ‬
‫من العمران‪ ،‬وهو يصنف أنواع العمران ويتحرك صوب وصف مفاصل كل نوع وسماته التي يتميز ُو ّ‬
‫يميز بها‪ ،‬من‬
‫عمران بدوي‪ ،‬ونشأة الدول وتطورها وقوتها ثم ضعفها‪ ،‬والعمران الحضري‪ ،‬ونشأة الهياكل العظمية وبنائها وخراب‬
‫األمصار إذا تراجع عمرانها أو إذا انقرضت الدول القائمة فيها‪ ،‬واملعاش وجوبه ووجوهه وأصنافه ومذاهبه‪ ،‬والعلوم‬
‫التي هي من أهم مقدمات العمران وأصنافها والتعليم‪ ،‬وطرائقه وسائر وجوهه‪.‬‬
‫ً‬
‫وعكف ابن خلدون يتحرى شبكة العالقات بين تلك املقدمات العمرانية محققا أصول تحليله وتصنيفه وتفسيره في‬
‫ضوء عناصر الترتيب املقترن بنظرية املقاصد الكلية العامة؛ من الضروري والحاجي والتحسيني‪ ،‬واألصلي واملكمل‬

‫‪Page 27 of 35‬‬
‫‪www.eipss-eg.org‬‬
‫‪August 13, 2021‬‬

‫فيقول ابن خلدون "وقد قدمت العمران البدوي ألنه سابق على جميعها‪ ،‬كما نبين لك بعد‪ ،‬وكذا تقديم امللك على‬
‫ُّ‬
‫البلدان واألمصار‪ ،‬وأما تقديم املعاش‪ ،‬فألن املعاش ضروري طبيعي‪ ،‬وتعلم العلم كمالي أو حاجي‪ ،‬والطبيعي أقدم‬
‫من الكمالي‪ ،‬وجعلت الصنائع مع الكسب ألنها منه ببعض الوجوه‪ ،‬ومن العمران كما نبين لك بعد"‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫• وفي هذا السياق ينتقل ابن خلدون إلى فكرة األطوار متبعا منهجا ُسننيا‪ ،‬فاألطوار الحضارية محكومة‬
‫بقوانينها وسننها‪ ،‬سنن تتعلق باملظاهر العمرانية تحولها إلى عالم أفكار تتعلق بالقيم املتعلقة بها‪ ،‬إن فهم‬
‫ابن خلدون لهذه األطوار ال يركن فيه إلى االنبهار بعالم األشياء أو املادة العمرانية‪ ،‬ولكنه يتحدث عما يكمن‬
‫تحت سطحها وفي عمقها ومكنونها من قيم وأفكار‪ ،‬وما ينتجه من تفاعل بين عالم األشياء واألفكار‬
‫واألشخاص من عالم أحوال جدير باملالحظة والبحث في مفاصله واستنباط قوانينه وسننه‪ ،‬إن هذه الرؤية‬
‫املتعمقة تفرض علينا أن نتخذ بعض ما تمليه علينا من منهج النظر إلى الظاهرة العمرانية واإلنمائي وما‬
‫يرتبط بها من عوالم‪.‬‬

‫• يعالج ابن خلدون كذلك أسباب االنهيار والتي عدد بعضها‪ ،‬إال أنه يؤكد على ُسنة ذهبية وناموس عمراني‪،‬‬
‫هما في غالب األحوال تعبير عن سنة تحذيرية‪" :‬أن الترف مؤذن بخراب العمران"‪ ،‬فالترف أو االنغماس في‬
‫ً‬
‫التمدن هو من أسباب انهيار الحضارة‪ ..‬إذا يعلمنا ابن خلدون من مقالته تلك في تأسيس رؤيتنا للتنمية‪،‬‬
‫ً‬
‫ويولد من سنته التأسيسية سننا مشتقة أو فرعية‪ ،‬فإن أكثر املترفين يترفع عن مباشرة حاجاته‪ ،‬أو أن‬
‫ُ‬ ‫ً‬
‫يكون عاجزا عنها ملا ُربي عليه من خلق التنعم والترف‪" ،‬فترك العمل ومباشرة الحاجات مؤذن بدوره بانهيار‬
‫الحضارة والعمران والتحول إلى مرحلة التمني والركون والدعة‪."..‬‬

‫وتعامل وتناو ٍل للظاهرة‬


‫ٍ‬ ‫نظر‬
‫مفاتيح عمرانية خلودنية يمكن أن تولد رؤية للتنمية على شاكلتها‪ ،‬وتؤصل منهج ٍ‬
‫َ‬
‫عناصر لفهم جوهر العالقة بين اإلسالم والتنمية‪.‬‬ ‫العمرانية واإلنمائية‪ ،‬وتحرك‬

‫ج‪ -‬المقاربة الشاطبية‪ :‬المقاصد الكلية وتأسيس قواعد الحفظ وأصول العمران‪:‬‬
‫إذ عبر املاوردي في رؤيته عن رؤية قيمة تؤسس للحركة واملمارسة في إطار عقلية فقهية صاغت تفكيره ورؤيته‪ ،‬وإذ‬
‫صاغ ابن خلدون رؤيته على قاعدة من علم العمران السياس ي الذي انطلق فيه من الواقع إلى السنن ولكن ضمن‬
‫وسط ُيشد إلى مرجعية التأسيس في تأصيل العلم السنني‪ ،‬فإن الشاطبي ‪-‬عالم اللغة‪ -‬قصد امل ِعين األصولي ليؤسس‬
‫‪Page 28 of 35‬‬
‫‪www.eipss-eg.org‬‬
‫‪August 13, 2021‬‬

‫الكليات العمرانية‪ ،‬حتى ليمكن أن ترى ضمن اختالف هذه املسالك في وجهات نظرها وتنظيرها كيف تتكامل وتتكافل‬
‫وتتفاعل‪ ،‬فقد خرجت من مشكاة واحدة تض يء النظر إلى الظاهرة العمرانية على اختالف جوانبها وعناصرها‬
‫ومستوياتها وعالقاتها‪.‬‬

‫املقاربة الشاطبية في املقاصد الكلية وتأسيس قواعد الحفظ وأصول العمران ال تتسع الصفحات بل الكتاب الواحد‬
‫ألن يستوعب مقاالته ومقوالته‪ ،‬قواعده ومناهجه في النظر والتعامل للظاهرة العمرانية‪ ،‬وحسبنا في هذا املقام أن‬
‫ّ‬
‫مظان التأصيل‪.‬‬ ‫نشير إلى بعض مفاتيحه العمرانية من غير استيعاب‪ ،‬وفي إجمال غير تفصيل‪ ،‬وفي حاالت إلى‬

‫إن النموذج املقاصدي ‪-‬في أصل بنيته‪ -‬تتفاعل ضمن منظومة عناصر ثالثة‪:‬‬

‫األول‪ -‬يتعلق بالحفظ كعملية تتضمن عناصر حفظ متوازنة ومتتالية‪ ،‬مستطرقة ومتفاعلة‪ ،‬والحفظ ضربان هما‬
‫حفظ دفع‪ ،‬أي حفظ سلبي (دفع املضار)‪ ،‬وحفظ جلبي إيجابي بنائي (جلب املنافع واملصالح)‪ ،‬الحفظ عملية تولد‬
‫جملة من العمليات كلها على وزن تفعيل‪ ،‬بما يشير إلى الوعي بعناصر الفعل‪ ،‬والوعي بأصول فاعلية‪ ،‬وأصول السعي‬
‫الحافظة والحاضنة لتلك األفعال‪ ،‬والوعي بضمان استمرارية الحفظ في عملياته املتولدة‪ ،‬يتحرك من الحفظ‬
‫كمنطلق ومبدأ‪ ،‬والحفظ كغاية ومقصد عام‪ ،‬الحفظ هنا عمليات وأدوات ووسائل‪ ،‬ومستويات‪ ،‬وعالقات وإمكانات‬
‫وقدرات‪.‬‬

‫الثاني‪ -‬يتعلق باملجاالت العمرانية‪ ،‬كساحة أساسية للفعل الحضاري وإعمال القواعد املقاصدية‪ ،‬فقه املجاالت‪،‬‬
‫َّ‬
‫عنصر تأسيس آخر في النموذج املقاصدي‪ ،‬فهي ُمتعلق الحفظ ومجاله الحيوي (حفظ الدين وحفظ النفس‬
‫وحفظ العقل وحفظ النسل وحفظ املال)‪ ،‬إنها مجاالت الحفظ العمراني‪ ،‬تستوعب كل مجاالت الفعل الحضاري‬
‫والعمراني على تفاعل بينها واستطراق في تفاعالتها‪.‬‬

‫الثالث‪-‬يتصرف ضمن بنية هذا النموذج بعمليات التصنيف والتكييف والترتيب والوزن‪ ،‬عمليات كلها تتعلق‬
‫بأصول فهم الواقع بغرض حفظ مجاالت عمارته وإنمائه‪ ،‬نحن أمام ‪-‬ليس فقط محاولة الوزن ضمن ترتيب‬
‫تصاعدي للمجاالت‪ -‬لكن ضمن ترتيب تتابع أفقي (الضروري‪ ،‬الحاجي‪ ،‬التحسيني)‪ ،‬إن فاعليات الحفظ ووزن‬

‫‪Page 29 of 35‬‬
‫‪www.eipss-eg.org‬‬
‫‪August 13, 2021‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫املجاالت ال يمكن أن تكتمل صورتهما إال ضمن منظومة تدخل في إطار عمليات التكييف ملا يعتبر ضروريا أو حاجيا‬
‫ً‬
‫أو تحسينيا‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫الضروري يتعلق بأصل الكيان والحفاظ عليه وجودا واستمرارا‪ ،‬والحاجي يتعلق بمحركات الفاعلية والتفاعل ضمن‬
‫عالقات‪ ،‬والتحسيني يحرك عناصر مهمة في إطار حركة إحسانية مفتوحة تعني طلب األحسن ضمن عناصر تجويد‬
‫ً‬
‫تضمن مزيدا في إطار الوجود التكريمي لإلنسان والوجود الفاعل املؤثر‪.‬‬

‫هذه تشكل بنية التأسيس وتتولد من تلك العناصر عناصر أخرى تحرك أصول تفكير منهجي في رؤية عناصر الحفظ‪،‬‬
‫وسعة املجاالت وقدرات الترتيب والوزن‪.‬‬

‫تكامل هذه العناصر الحفظ كفعل‪ ،‬واملجاالت التي تتعلق بالفاعلية والسعي‪ ،‬واملراتب التي ترتبط بأصول الفعل‬
‫ً‬
‫والفاعلية والحركة في سياق تحصيلها جميعا إنما يعبر عن قدرات مهمة ضمن هذا النموذج املقاصدي‪.‬‬

‫ماذا يريد الشاطبي أن يعلمنا ضمن مقاربته العمرانية؟!‬


‫الشاطبي ينقلنا إلى هدف العملية االنتمائية والعمرانية‪ ،‬وعناصر املادة العمرانية‪ ،‬ووسائل الحفظ العمراني وتكافل‬
‫عناصر الحفظ‪ ،‬وتنوع مستوياتها بين دفع الضرر وجلب املصالح وعناصر وزن وتكييف الحاالت واألفعال‬
‫(الضروري والحاجي والتحسيني)‪.‬‬

‫إنه يتحرك صوب عناصر فهم العملية العمرانية واإلنمائية وفق عناصر النموذج املقاصدي‪ ،‬والذي يؤصل بحق‬
‫تعامل وتناو ٍل مع أصول الظاهرة العمرانية‪ .‬كما أنه يلفت االنتباه إلى عناصر تقويم الفعل العمراني للمجاالت‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫منهج‬

‫وإن الخيامي أحد املفكرين في حقل التراث السياس ي اإلسالمي في العصر الحديث في رسالة "الراعي والرعية" يبين‬
‫كيف تعتبر املقاصد الكلية وظائف للدولة تحرك العناصر اإلنمائية والعمرانية‪.‬‬

‫(د)‪ -‬المقاربة األسدية‪ :‬فساد العمران وفساد سوق المال (االقتصاد السياسي‬
‫للعملية اإلنمائية)‬
‫األسدي يتحرك بنا في مقاربته ليعرض حالة محددة يتحرك فيها الفساد النقدي "سوق املال"‪ ،‬ليشير إلى العمراني‬
‫وهياكله وأبنيته ووظائفه وأدواره وغاياته‪.‬‬
‫‪Page 30 of 35‬‬
‫‪www.eipss-eg.org‬‬
‫‪August 13, 2021‬‬

‫فهو من جانب يعبر عن ضرورة الرؤية املتفحصة لتعلق الظواهر ببعضها البعض في العالقات والتفاعل في التأثير‬
‫واألثر‪ ،‬ويتخذ من معالجة األزمنة كدراسة حالة ضمن مقاربته العمرانية‪ ،‬وهو يتحرك صوب أن األزمات يمكن أن‬
‫تطول العمران ألسباب طبيعية وألسباب إنسانية‪ ،‬وأن العيب ليس في حدوث هذه األزمات التي تطول البناء العمراني‬
‫ً‬
‫أو بعضا من مادته أو معظم أدواره ووظائفه إنه يتحرك صوب عنصر مهم‪ :‬أن فساد الوسائل يقود إلى فساد‬
‫املقاصد‪ ،‬والعكس بالضرورة صحيح‪ ،‬ألن حكم الوسائل حكم املقاصد واألمور بمقاصدها‪ .‬والوسائل مقدمات‬
‫الواجب‪ ،‬وما ال يتم الواجب إال به فهو واجب‪ ،‬قواعد كلها تشكل منظومة في التفكير‪ .‬إن األزمة لحظة حرجة‬
‫ُ‬
‫وحاسمة تتعلق بمصير الكيان الذي أصيب بها‪ ،‬وبالتالي فهي تشكل خطورة وصعوبة أمام متخذ القرار تجعله في‬
‫حيرة بالغة لقصور املعرفة‪ ،‬فهي أشبه باألزمات الصحية التي يتعرض لها الفرد‪ ،‬فهي حادة ومفزعة وشديدة األلم‪،‬‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫إال أنها ‪-‬بسماتها تلك‪ -‬ال تخلو من نفع في االجتماع البشري والعمراني‪ ،‬فإن لهذه األزمات دورا تنبيهيا وتحذيريا هي‬
‫بحق قد تستحق ‪-‬إذا ما اعتبرنا وظيفتها تلك‪ -‬القول بأنها أزمات كاشفة ملكامن القصور‪ ،‬وعناصر الخلل‪ ،‬في البنية‬
‫والبيئة العمرانية‪ ،‬في عالم أفكارها وأشخاصها وأشيائها وأحوالها‪ .‬فإن األسدي في مقاربته ‪-‬ومع استدعاء مقاربة‬
‫ً‬
‫املقريزي‪ -‬يؤصل عناصر إدارة عمرانية لألزمة ال تقف أمامها حائرة‪ ،‬بل تبحث في عناصر األزمة أسبابا ومظاهر‬
‫واآلفات الدنيوية املرتبطة بها‪.‬‬

‫‪Page 31 of 35‬‬
‫‪www.eipss-eg.org‬‬
‫‪August 13, 2021‬‬

‫وتطرح هذه الرؤية منظومة مهمة من املفردات يجب تفهمها عند البحث في مصادر التهديد للبناء العمراني‪ :‬حفظ‬
‫الكيان واستمراره‪ ،‬الغمة واالبتالء (األزمة)‪ ،‬الرعية (الناس والجماهير)‪ ،‬الخليفة والسلطان والحاكم (السلطة‬
‫السياسية)‪ ،‬أولي األمر (النخبة السياسية والعملية)‪ ،‬الفتن والدسائس (الصراعات الداخلية) وعدم االستقرار‪،‬‬

‫‪Page 32 of 35‬‬
‫‪www.eipss-eg.org‬‬
‫‪August 13, 2021‬‬

‫األمة (الكيان االجتماعي العمراني)‪ ،‬الفسق واالنهماك في امللذات (الترف والفساد)‪ ،‬واآلفة (األسباب والعوامل‬
‫السلبية)‪ ،‬االستقامة والصالح (النسيج االجتماعي‪ ،‬واملقدرة القيادية)‪.‬‬

‫إن أصول الهندسة العمرانية في إطار مفاهيم عمرانية أصلية يحركها األسدي‪:‬‬

‫‪Page 33 of 35‬‬
‫‪www.eipss-eg.org‬‬
August 13, 2021

Page 34 of 35
www.eipss-eg.org
August 13, 2021

Page 35 of 35
www.eipss-eg.org

You might also like